تحفة العلية في شرح خطابات الحیدرية المجلد 5

هوية الکتاب

رقم الإيداع في دارالكتب والوثائق ببغداد 3453 لسنة 2020

مصدر الفهرسة: IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda

رقم تصنيف LC:

2020 BP193.1.A2 I25

المؤلف الشخصي: ابن حبيب الله، محمد، كان حيا 881 للهجرة - مؤلف.

العنوان: تحفة العلية في شرح خطابات الحيدرية: شرح نهج البلاغة /

بيان المسؤولية: افصح الدين محمد بن حبيب الله بن أحمد الحسني الحسيني؛ تحقيق السيد علي الحسني؛ تقديم السيد علی نبيل الحسني الكربلائي.

بيانات الطبع: الطبعة الاولى.

بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2021 / 1442 للهجرة.

الوصف المادي: 7 مجلد: صور طبق الاصل؛ 24 سم.

سلسلة النشر: (العتبة الحسينية المقدسة؛ 762).

سلسلة النشر: (مؤسسة علوم نهج البلاغة، 190؛ سلسلة تحقيق المخطوطات، 13).

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن مراجع ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام) الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - حديث.

مصطلح موضوعي: الخطب الدينية الإسلامية.

مصطلح موضوعي: البلاغة العربية.

اسم مؤلف اضافي: شرح ل (عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

اسم مؤلف اضافي: الحسني، علي - محقق.

اسم مؤلف اضافي: الحسني، نبيل، 1384 للهجرة - مقدم.

اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق)، مؤسسة علوم نهج البلاغة. جهة مصدرة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 1

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

رقم الإيداع في دارالكتب والوثائق ببغداد 3453 لسنة 2020

مصدر الفهرسة: IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda

رقم تصنيف LC:

2020 BP193.1.A2 I25

المؤلف الشخصي: ابن حبيب الله، محمد، كان حيا 881 للهجرة - مؤلف.

العنوان: تحفة العلية في شرح خطابات الحيدرية: شرح نهج البلاغة /

بيان المسؤولية: افصح الدين محمد بن حبيب الله بن أحمد الحسني الحسيني؛ تحقيق السيد علي الحسني؛ تقديم السيد علی نبيل الحسني الكربلائي.

بيانات الطبع: الطبعة الاولى.

بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2021 / 1442 للهجرة.

الوصف المادي: 7 مجلد: صور طبق الاصل؛ 24 سم.

سلسلة النشر: (العتبة الحسينية المقدسة؛ 762).

سلسلة النشر: (مؤسسة علوم نهج البلاغة، 190؛ سلسلة تحقيق المخطوطات، 13).

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن مراجع ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام) الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - حديث.

مصطلح موضوعي: الخطب الدينية الإسلامية.

مصطلح موضوعي: البلاغة العربية.

اسم مؤلف اضافي: شرح ل (عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

اسم مؤلف اضافي: الحسني، علي - محقق.

اسم مؤلف اضافي: الحسني، نبيل، 1384 للهجرة - مقدم.

اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق)، مؤسسة علوم نهج البلاغة. جهة مصدرة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 2

سلسلة تحقیق المخطوطات

وحدة تحقیق الشروحات (13)

تحفة العلیة في شرح خطابا الحیدریة

لأفصح الدين محمد بن حبيب الله بن احمد الحسني الحسيني من اعلام القرن الثامن الهجري

الجزء الخامس

تحقیق

السید علي الحسیني الکربلائي

إصدار

مؤسسة علوم نهج البلاغة العتبة الحسینیة المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

العتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى

1442 ه - 2021 م

العراق - كربلاء المقدسة - مجاور مقام علي الأكبر (عليه السلام) مؤسسة علوم نهج البلاغة

الموقع الألكتروني: www.inahj.org

الإيميل: Inahj.org@gmail.com

ص: 4

ومن خطبة له عليه السّلام: في التحذير من الدنيا والاشتغال بها عن الله

والتنفير عن ذلك بذكر معايبها، والجذب به إلى استعمالها على الوجه المطلوب الَّذي لأجله وجدت.

فقوله: «دَارٌ بِالْبَاَءِ مَعْرُوفَةٌ»: خبر مبتدأ محذوف هو الدنيا، ومعناه أنها مقرونة بالبلاء وعبَّر عنه بالحفوف الذي هو الإحاطة من كل جانب لأنَّه أبلغ.

«وبِالْغَدْرِ مَعْرُوفَةٌ»: استعار لفظ الغدر لغيرهما عمّا يتوهّم الإنسان دوامها عليه في حقّه من أحوالها المعجبة له كالمال والصحّة والشباب فكأنّه في مدّة بقاء تلك الأحوال عليه قد أخذ منها عهداً فكان التغير العارض لها المستلزم لزوال تلك الأحوال عنه أشبه شيء بالغدر ولمّا كان كثر منها ذلك صارت معروفة به.

«لَا تَدُومُ أَحْوَالَهُا ولَا تسْلَمُ زَّالَهُا»: أي من آفاتها «أَحْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ»: أي أحوالها أحوال كذلك «وتَارَاتٌ مُتَصَّرِفَةٌ»: هو تغير أحوالها تارة بعد أخرى.

«الْعَيْشُ فِيهَا مَذْمُومٌ»: ولمّا كان العيش فيها كناية عن الالتذاذ بها والتنعّم فيها واستلزم ذلك العاقبة المهلكة لا جرم لزم الذمّ، ولأنّه مشوب بتكدير الأمراض والأعراض فلا يزال مذموماً في الألسنة حتّى في لسان صاحبه والمستريح إليه عند معاناته بعض شوائب الكدر.

«والأَمَانُ فِيهَا مَعْدُومٌ»: أي مخاوفها، وما يلزم تصرّفاتها من البلاء وكلّ ذلك من ضرورات واختلاف استعدادات القوابل فيها عن حركات الأفلاك وكواكبها، وكون المبادي المفارقة مفيضة على كلّ قابل منها ما استعدّ له.

«وإِنَّمَا أَهْلُهَا فِيهَا أَغْرَاضٌ مُسْتَهْدَفَةٌ تَرْمِيهِمْ بِسِهَامِهَا»: استعار لهم لفظ الأغراض، ورشّح بذكر الاستهداف، كذلك استعار لفظ الرمي لإيقاع المصائب

ص: 5

بهم ورشّح بذكر السهام.

«وتُفْنِيهِمْ بِحِمَمِهَا»: موتها: «واعْلَمُوا عِبَادَ اللهِ أَنَّكُمْ ومَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا

عَلَى سَبِيلِ مَنْ قَدْ مَضَى قَبْلَكُمْ مِمَّنْ كَانَ أَطْوَلَ مِنْكُمْ أَعْمَاراً وأَعْمَرَ دِيَاراً وأَبْعَدَ آثَاراً أَصْبَحَتْ أَصْوَاتُهُمْ هَامِدَةً»: ساكنة «ورِيَاحُهُمْ رَاكِدَةً»: واقفة «وأَجْسَادُهُمْ بَالِيَةً ودِيَارُهُمْ خَالِيَةً وآثَارُهُمْ عَافِيَةً»: مندرسة «فَاسْتَبْدَلُوا بِالْقُصُورِ الْمَشَيَّدَةِ»: المطولة «والنَّمَارِقِ الْمُمَهَّدَةِ»: الفروش المبسوطة «الصُّخُورَ والأَحْجَارَ الْمُسْنَدَةَ والْقُبُورَاللَّطِئَةَ»: اللاصقة بالأرض.

«الْمُلْحَدَةَ الَّتِي قَدْ بُنِيَ عَلَىَ الْخَرَابِ فِنَاؤُهَا»: فناء الدار ما امتدت من جوانبها وروي قد بني على الخراب أي على خراب ما كان معموراً من الأبدان والمساكن وظاهر أن القبور بنيت عُلَّةْ.

«وشُيِّدَ بِالتُّرَابِ بِنَاؤُهَا فَمَحَلُّهَا مُقْتَرِبٌ وسَاكِنُهَا مُغْتَرِبٌ»: أني ساكنها وإن

اقرب محله فهو غريب عن أهله.

«بَیْنَ أَهْلِ مَحَلَّةٍ مُوحِشِنَ وأَهْلِ فَرَاغٍ مُتَشَاغِلِينَ لَا يَسْتَأْنِسُونَ بِالأَوْطَانِ ولَا

يَتَوَاصَلُونَ تَوَاصُلَ الْجِیرَانِ عَلَى مَا بَيْنَهُمْ مِنْ قُرْبِ الْجِوَارِ ودُنُوِّ الدَّارِ»: فيه تنبيه

عى أنّ أحوالهم من تجاورهم وفراغهم ليس كأحوال الدنيا المألوفة لهم ليخوّف

بها وينفرّ عنها ثم أشار إلى عدم المزاورة فقال:

«وكَيْفَ يَكُونُ بَيْنَهُمْ تَزَاوُرٌ وقَدْ طَحَنَهُمْ بِكَلْكَلِهِ الْبِلَى»: صدرة أستعارة لفظ

لأفساد البى لأجسادهم ورشح بالكلكل.

«وأَكَلَتْهُمُ الْجَنَادِلُ»: الحجارة «والثَّرَى»: فيه استعارة لفظ الأكل لأفنائها.

ص: 6

«وكَأَنْ قَدْ صِرْتُمْ إِلَی مَا صَارُوا إِلَيْهِ»: أي وكأنه وهي المخفّفة من الثقيلة، واسمها ضمير الشَّأن، والتقدير فيشبه أنّكم قد صرتم إلى مصيرهم وأحوالهم ويقرب من ذلك لأنّ مشابهة الأحوال يستلزم قرب بعضها من بعض.

«وارْتَهَنَكُمْ ذَلِكَ الْمَضْجَعُ»: أي صار لكم داراً «وضَمَّكُمْ ذَلِكَ الْمُسْتَوْدَعُ:» اطلاقة باعتبار كونهم سيخرجون منه يوم القيامة.

«فَكَيْفَ بِكُمْ لَوْ تَنَاهَتْ بِكُمُ الأُمُورُ وبُعْثِرَتِ الْقُبُورُ»: سؤال لهم عن كيفية حالهم عند تناهى أمورهم وأحوالهم في يوم البعث سؤالاً على سبيل التذكير بتلك الأحوال والمتخوف بها لتذكر وأشدّتها فيفزعوا إلى العمل، وذكر منها أمراً واحداً وهو اطلاع النفوس على ما قدّمت وأسلفت في الدنيا من خير وشرّ قدّمت وأسلفت في الدنيا من خر وشرّ والرد إلى الموت الحقّ الَّذي ضلّ مع الرجوع إليه كلّ ما كان يفري من دعوى حقيقة سائر الأباطيل المعبودة بحكاية القرآن الكريم «هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ»(1) وبالله التوفيق.

ومن دعاء له عليه السّلام:

«اللهُمَّ إِنَّكَ آنَسُ الآنِسِنَ بأَوْلِيَائِكَ»: وقد علمت أنّ أوليائه هم السالكون لطريقة عن المحبّة الصادقة له والرغبة التامّة عمّا عداه، ولمّا كان الأنيس هو الَّذي يرفع الوحشة وتسكن إليه النفس في الوحدة والغربة وكانت أولياء الله في الحياة الدنيا غرباء في أبنائها منفردين عنهم في سلوك سبيل الله مولَّين وجوههم شطر كعبة وجوب وجوده مبتهجين بمطالعة أنوار كبريائه لا جرم كان أشدّ الآنسين لهم أُنساً إذ ما من عبد تعبد لغير الله واستأنس به كالولد بوالده، إلَّا كان لكلّ

ص: 7


1- سورة يونس: الآية 30

واحد منهما مع صاحبه نفرة من وجه واستيحاش؛ فلم يكن لهم أنيس في الحقيقة

إلَّا هو إن كانوا في الالتفات إليه منقطعن عمّا عداه مستوحشن من غیره.

«وأَحْضَرُهُمْ بِالْكِفَايَةِ لِلْمُتَوَكِّلِنَ عَلَيْكَ»: إذ كان تعالى هو الغنيّ المطلق والجواد

الَّذي لا بخل من جهته ولا منع، والعالم المطلق بحاجّة المتوكَّلین، واستعدادهم؛

فإذا استعدّ المتوكَّلون عليه لحسن توكَّلهم لقبول رحمته أفاض عى كلّ منهم قدر

كفايته من الكمالات النفسانيّة؛ والبدنيّة بلا تعويق عائق من تردّد في استحقاق

مستحقّ أو مقدار كفايته أو حاجة إلى تحصيل ذلك المقدار؛ إلى غر ذلك ممّا هو

منسوب إلى غره تعالى من سلوك الدنيا. فا جرم كان أقوم من توكل عليه

بكفاية المتوكلین، وأسرعهم إحضارا لما استعدّ كلّ منهم له من الكمالات.

«تُشَاهِدُهُمْ فِي سَرَائِرِهِمْ وتَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ فِي ضَمَائِرِهِمْ وتَعْلَمُ مَبْلَغَ بَصَائِرِهِمْ

فَأَسْرَارُهُمْ لَكَ مَكْشُوفَةٌ »: إشارة إلى علمه تعالى بأحوالهم الباطنة الَّذي هو من

لوازم كونه أحر لكفايتهم كما بيّناه، واطَّلاعه عليهم في ضمائرهم اعتبار لكمال علمه تعالى وبراءته عن النقصان، وكذلك علمه بمبلغ بصائرهم: أي بمقادير

عقولهم وتفاوت استعداد نفوسهم لدرك الكمالات، وأكَّد بقوله: فأسرارهم لك

مكشوفة. ما سبق من الإشارة إلى إحاطة علمه تعالى بأحوالهم الباطنة في معرض

الإقرار بكمال العبوديّة، والخضوع له والاعراف بأنّه لا يخفى عليه منهم شيء.

«وقُلُوبُهُمْ إِلَيْكَ مَلْهُوفَةٌ»: لهف قلوبهم إليه بتحسّرها على الوصول إليه والحضور بن يديه، وهو اعتبار لكمال محبّتهم له ورغبتهم فيما عنده.

«إِنْ أَوْحَشَتْهُمُ الْغُرْبَةُ آنَسَهُمْ ذِكْرُكَ»: أي الغربة في هذه الدار كما هنا، وهو اعتبار

لحصول الاستئناس من جهتهم به، والأوّل اعتبار لكونه تعالى أنيساً لهم وقوله.

ص: 8

«وإِنْ صُبَّتْ عَلَيْهِمُ الْمَصَائِبُ لَجَئُوا إِلَی الِاسْتِجَارَةِ بِكَ»: لجئوهم إلى الاستجارة

به يعود إلى توجيه وجوه نفوسهم إليه تعالى في دفع ذلك المكروه دون غره وهو

التوكَّل الخالص.

«عِلْماً بِأَنَّ أَزِمَّةَ الأُمُورِ بِيَدِكَ ومَصَادِرَهَا عَنْ قَضَائِكَ»: أي لأجل علمهم بأنّ

الأمور كلها مربوطة بأسبابها تحت تعريف قدرتك، وأنّ مصادرها وهى أسبابها القريبة منتهية إلى قضائك، وهو حكم علمك. إذ به ومنه كانت أسبابها ومصادر لتلك المصائب كان لجئوهم في الاستجارة بك. ويحتمل أن يكون علماً مصدراً سدّ مسدّ الحال، وهو يستلزم كونهم في عباراتهم ووجه المشابهة واحوالهم مقطوعي النظر عن غیره تعالى ولفظ الأزمة مستعار لأسباب الأمور ووجه المشابهة كونها ضابطة لها وبها يكون نظام وجودها كالأزمّة، ولفظ اليد مجاز في القدرة.

«اللهُمَّ إِنْ فَهِهْتُ عَنْ مَسْأَلَتِي أَوْ عَمِيتُ»: تحیرت «عَنْ طِلْبَتِي فَدُلَّنِي عَلَى

مَصَالِحِي وخُذْ بِقَلْبِي إِلَی مَرَاشِدِي فَلَيْسَ ذَلِكَ بِنُكْرٍ»: تعجب «مِنْ هِدَايَاتِكَ ولَا

بِبِدْعٍ مِنْ كِفَايَاتِكَ»: فيه طلب دلالته على مصالحه في أيّ أمرٍ كان وجذب قلبه

بالهداية إلى مواضع رشده من العقائد والآراء الصحيحة التامّة علی تقدير إن عيّ عن مسئلته أو تحیّر في وجه معرفة مصالحه وقوله: فليس ذلك إلى قوله: كفاياتك. استعطاف بما في العادة أن يستعطف به أهل العواطف والرحمة من الكلام: أي أنّ هداياتك لخلقك إلى وجوه مصالحهم، وكفاياتك لهم ما يحتاجون إليه أمور متعارفة جرت عادتك بها، وألفك منك عبادك وقوله:

«اللهُمَّ احْمِلْنِي عَلَى عَفْوِكَ ولَل تَحْمِلْنِي عَلَى عَدْلِكَ»: سؤال أن تحمله تعالى على

عفوه عمّا عساه صدر عنه من ذنب، ولا يحمله على عدله فيحرمه بما فعل حرماناً أو عقوبة، وهو من لطيف ما تستعدّ به النفس لاستنزال الرحمة الإلهيّة، وبالله التوفيق.

ص: 9

ومن كلام له عليه السّلام:

«للهِ بِلَادُ فُلَانٍ»: لفظ يقال في معرض المدح كقولهم: لله درّه، ولله أبوه. وأصله

أنّ العرب إذا أرادوا مدح شيء وتعظيمه نسبوه إلى الله تعالى بهذا اللفظ، وروى:

لله باء فان: أي عمله الحسن في سبيل الله، والمنقول أنّ المراد بفان عمر، وعن

القطب الراوندي أنّه إنّما أراد بعض أصحابه في زمن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ممّن مات قبل، وقوع الفتن وانتشارها، وقال: ابن أبى الحديد إنّ ظاهر الأوصاف المذكورة في الكلام يدلّ على أنّه أراد رجا ولَّ أمر الخلافة قبله.

لقوله: قوم الأود وداوي العمد، ولم يرد عثمان لوقوعه في الفتنة، ولا أبا بكر لقصر مدة خلافته، بعد عهده عن الفتن؛ فكان الأظهر أنّه أراد عمر.

أقول: إرادته لأبي بكر أشبه من إرادته لعمر لما ذكره في خلافة عمر وذمها به في خطبتها المعروفة بالشقشقية كما سبقت الإشارة إليه، وقد وصفه بأمور: فقال:

«فَلَقَدْ قَوَّمَ الأَوَدَ»: كناية عن تقويمه لا عوجاج الخلق عن سبل الله إلى

الاستقامة فيها «ودَاوَي الْعَمَدَ»: استعار لفظ العمد للأمراض النفسانيّة باعتبار

استلزامها لأذى كالعمد، ووصف المداواة لمعالجة تلك الأمراض بالمواعظ البالغة

والزواجر القارعة القوليّة والفعليّة.

«وأَقَامَ السُّنَّةَ وخَلَّفَ الْفِتْنَةَ»: أي مات قبلها ووجه كون ذلك مدحاً له هو

باعتبار عدم وقوعها بسببه وفي زمانه بحسن تدبیره.

«ذَهَبَ نَقِيَّ الثَّوْبِ»: استعار لفظ الثوب لعرضه، ونقاه لسامته عن دنف

الملام.

ص: 10

«قَلِيلَ الْعَيْبِ أَصَابَ خَيْرَهَا وسَبَقَ شَرَّهَا»: والضمير في الموضعين يشبه أن يرجع إلى المعهود ممّا هو فيه من الخلافة، أي أصاب ما فيها من الخير المطلوب وهو العدل وإقامة دين الله الَّذي به یکون الثواب الجزيل في الآخرة والشرف الجليل في الدنيا، وسبق شرّها: أي مات قبل وقوع الفتنة فيها وسفك الدماء الأجلها.

«أَدَّى إِلَی اللهِ طَاعَتَهُ واتَّقَاهُ بِحَقِّهِ»: أي أدّى خوفاً من عبادته.

«رَحَلَ وتَرَكَهُمْ فِي طُرُقٍ مُتَشَعِّبَةٍ»: من الجهالات «لَا يَهْتَدِي فيهَا الضَّالُّ»: من ضلّ عن سبيل الله.

«ولَا يَسْتَيْقِنُ الْمُهْتَدِي»: في سبيل الله أنّه على سبيله لاختلاف طرق الضلال وكثرة المخالف له إليها والواو في قوله: وتركتم للحال.

وأعلم أنّ الشيعة قد أوردوا هنا سؤالا فقالوا: إنّ هذه الممادح الَّتي ذكرها عليه السّلام في حقّ أحد الرجلين تنافي ما أجمعنا عليه من تخطئتهما، وأخذهما لمنصب الخلافة. فإمّا أن لا يكون هذا الكلام من كلامه عليه السّلام أو أن يكون ذلك المدح منه عليه السلام على وجه استصلاح من يعتقد خلافة الشيخين واستجلاب قلوبهم بمثل هذا الكلام.

الثاني: أنّه جاز أن يكون مدحه ذلك لأحدهما في معرض توبيخ عثمان بوقوع الفتنة في خلافته واضطراب الأمر عليه، واستئثاره ببيت مال المسلمين هو وبنو أبيه حتّى كان ذلك سبباً لثوران المسلمين من الأمصار إليه وقتلهم له، ونبّه على ذلك بقوله: وخلَّف الفتنة وذهب نقيّ الثوب قليل العيب أصاب خيرها وسبق شرّها.

ص: 11

وقوله: وتركهم إلى آخره، فإنّ مفهوم ذلك يستلزم أنّ الوالي بعد هذا الموصوف قد اتّصف بأضداد هذه الصفات، والله أعلم(1).

ص: 12


1- هذه الخطبة من الخطب التي حوت مضامین کثيره: لم يوضحها المصنف في المتن، ولا غيره من الشراح بل اختلفوا في تقدير معنى الكلام؛ كما ويؤيد ذلك ما نقله حبيب الله الهاشمي الخوئي في شرح النهج: ص 373 قال: اعلم أنه قد اختلف الشارحون في المشار إليه بهذا الكلام والمکنّی به عنه؛ قال: الشارح المعتزلي المكنى عنه عمر بن الخطاب، وقد وجدَّت النّسخة الَّتي بخطَّ الرّضي جامع نهج البلاغة، وتحت عبارة فلان، والمعني به: عمر بن الخطاب، قال: حدّثني بذلك فخار بن معد الموسوي. وسألت عن النقيب أبی جعفر يحيى بن أبي زيد العلوي فقال لي: هو عمر، فقلت له أثنی عليه أمير المؤمنين هذا الثناء؟ فقال: نعم. أمّا الاماميّة فيقولون: إن ذلك من التقية واستصلاح أصحابه، وأما الصالحيون من الزيدية فيقولون: انّه أثنى عليه حقّ الثّناء، ولم يضع المدح إلَّا في موضعه ونصابه، وأمّا الجاروديّة من الزّيدية فيقولون: إنّه كلام قاله في أمر عثمان؛ أخرجه مخرج الذّم، والتنقص لاعماله؛ کما يُمدح الآن الأمير الميت في أيّام الأمير الحيي بعده، فيكون ذلك تعريضاً به، فقلت له: إلَّا أنّه لا يجوز التعريض للحاضر بمدح الماضي؛ إلَّا إذا كان ذلك المدح صدقاً لا يخالطه ريب ولا شبهة؛ فإذا اعترف أمير المؤمنين؛ بأنّه أقام السّنة، وذهب نقىّ الثوب قليل العيب، وأنّه أدّى إلى الله طاعته، واتّقاه بحقّه، فهذا غاية ما يكون من المدح؛ فلم يجبني بشئ وقال: هو ما قلت لك، قال: وقال: الرّاوندي إنّه عليه السّلام؛ مدح بعض أصحابه بحسن السيرة، وأنّ الفتنة هي التي وقعت بعد رسول الله صلَّى الله عليه وآله؛ من الاختيار والأثرة، وهذا بعيد، لأنّ لفظ أمير المؤمنين يُشعر إشعاراً ظاهر بأنّه يمدح والياً ذا رعيّة وسيرة. ثمّ ذكر الشّارح مؤيّدات أخرى لكون المراد به عمر؛ إلى أن قال في آخر كلامه: وهذه الصّفات إذا تأملها المنصف، وأماط عن نفسه الهوى علم أنّ أمير المؤمنين لم يعني بها إلَّا عمر؛ لو لم يكن قد روى لنا توفيقاً، ونقلاً؛ أنّ المعني بها عمر؛ فكيف وقد رويناه عمّن لا يتّهم في هذا الباب، انتهی. وأقول: وأن كان الظاهر من كلامه عليه السلام؛ المدح وبيان حُسن السيرة، إلا إن النسخة التي بخط الشريف الرضي لم يرد فيها تصريح بأسم عمر بن الخطاب؛ بل ورد كلمة فلان، ولا أحد يعلم من هو المعني بفلان أعمر أم غيره؟!؛ ثم وإن صح أن يكون المعنى عمر فلغرض جمع كلمة المسلمين على مبدأ التوحيد، ونبذ التفرقة التي تعمل على أنعاش أهداف العدو؛ هذا من جانب ومن جانب آخر لم ولن يرد التناقض في كلام الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام فيذم من مضى قبله في خطبته الشقشقية؛ ثم يمدحه في خطبة أخرى بُحسن السيرة والعمل الصالح؛ أم كيف يثني على عمر وهو يدعوا عليه وعلى صاحبه أبي بكر في قنوت الصلاة بدعائه المعروف (دعاء صنمي قريش)، ولعل البعض قد يلتبس عليه أن دعاء الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام على صنمي قريش الات والعزى؛ أو هبل ومناة، ولا يعقل أن الإمام علي يدعوا على حجارة ولى زمانها وانتهى، أضف إلى ذلك في دعاء صنمي قريش قرائن كثيرة تدل على أن المدعوا عليهم هم أبا بكر وعمر كقرينة (العن صنمي قريش، وجبتيها، وطاغوتيهما، وإفكيهما، وابنتيهما)) ينُظر المحتظر لحسن بن سليمان الحلي: ص 111؛ ثم يجب بيان حقيقة عمر؛ المغطاة بظاهر حُسن السيرة؛ التي ألتبست على كثير من القراء لهذا النص، وإن أمعنت النظر بكلامه عليه السلام في الشقشقية لعرفت أن الإمام أمير المؤمنين لا يجامل أو يساوم في الحق، وأنه أفتضح فعال أبي بكر وعمر وعثمان، والتأمل في النص يدفع بنا إلى أن المعني بالخطبة هو غير عمر؛ إذ لا تنسجم الأفعال المذكورة في الخطبة كقوله «فَلَقَدْ قَوَّمَ الأَوَدَ، ودَاوَي الْعَمَدَ، وأَقَامَ السُّنَّةَ، مع البدع التي زادت على أكثر من اربع وعشرين بدعة، كسن التكتف في الصلاة، و تحریم متعتي النساء والحج، وتغير بعض فصول الآذان؛ کفصل (الصلاة خيرٌ من النوم) بدلاً من (حي على خير العمل) في آذان الفجر، وحذف (حي على خير العمل) من كل آذان، وتحديد مهور النساء، وجعل الطبقية في المسلمين عند توزیع مستحقات المسلمين من نفقات بیت المال، وفي مثل ذلك الكثير من البدع، أضف إلى ذلك مصادرة أرض فدك التي نحلها النبي صلى الله عليه وآله لابنته فاطمة الزهر عليها السلام؛ أيام حياته، وحرق باب دار السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء عليه السلام، وقتلها بسبب كسر ظلعها، وسقوط جنينها، فما هي السيرة الحسنة التي جاء بها عمر وظهر بها للناس؟!، ومن خلفها شر لا يعلم به إلا الله تعالى، وأن كل الذي ذكره الإمام علي بن أبي طالب من مدح عمر؛ إن كان هو المعني في خطابه إنما هو نظرة أتباعه ومحبيه، ومن سن سنته، وسار وراء آرائه وأفكاره؛ التي خالفة الكتاب والسنة، أضف إلى ذلك أن أبا بكر وعمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسالم مولى أبي حذيفة ويخرون ممن تخلفوا عن سرية أسامة بن زيد؛ التي لعن النبي صلى اله عليه وآله من تخلف عنها؛ ورزية يوم الخميس التي قال فيها عمر عن النبي صلى الله عليه - وآله -، «أن الرجل ليهجر حسبنا کتاب الله» يُنظر الشفا للقاضي العياش: ج 2 ص 197؛ تاريخ الطبري لمحمد بن جرير الطبري: ج 2 ص 437؛ مسند أحمد بن حنبل: ج 1 ص 355؛ وغير ذلك من المصادر. وأما قوله عليه السلام «فَلَقَدْ قَوَّمَ الأَوَدَ: ودَاوَي الْعَمَدَ: وأَقَامَ السُّنَّةَ وخَلَّفَ الْفِتْنَةَ: ذَهَبَ نَقِيَّ الثَّوْبِ: قَلِيلَ الْعَيْبِ أَصَابَ خَيْرَهَا وسَبَقَ شَرَّهَا: أَدَّى إِلَی اللهِ طَاعَتَهُ واتَّقَاهُ بِحَقِّهِ» إلى هنا ما خطط إليه ورسمه عمر لنفسه، من جانب ومن آخر نضرة الناس إليه وما روجه له أتابعه من بعده وأما قوله عليه السلام ((رَحَلَ وتَرَكَهُمْ فِي طُرُقٍ مُتَشَعِّبَةٍ: لَا يَهْتَدِي فيهَا الضَّالُّ: ولَا يَسْتَيْقِنُ الْمُهْتَدِي)) هو عن عبارته عي السام في الشقشقية «أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ، يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِیرُ ويَشِيبُ فِيهَا الصَّغِرُ، ويَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّه: ترجيح الصبر، فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى، فَصَبَرْتُ وفِي الْعَیْنِ قَذًى وفِي الْحَلْقِ شَجًا أَرَى تُرَاثِي نَهْباً حَتَّى مَضَى الأَوَّلُ لِسَبِيلِه، فَأَدْلَ بِهَا إِلَی فُاَنٍ بَعْدَه، ثُمَّ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ الأَعْشَى: شَتَّانَ مَا يَوْمِي عَلَی كُورِهَا *** و يَوْمُ حَيَّانَ أَخِي جَابِرِ فَيَا عَجَباً بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِه، إِذْ عَقَدَهَا لِخَرَ بَعْدَ وَفَاتِه لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا، فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَغْلُظُ كَلْمُهَا، ويَخْشُنُ مَسُّهَا ويَكْثُرُ الْعِثَارُ فِيهَا والِعْتِذَارُ مِنْهَا، فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ، إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ وإِنْ أَسْلَسَ هَا تَقَحَّمَ، فَمُنِيَ النَّاسُ لَعَمْرُ الله بِخَبْطٍ وشِمَاسٍ وتَلَوُّنٍ واعْتِرَاضٍ، فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ وشِدَّةِ الْمِحْنَةِ حَتَّى إِذَا مَضَی لِسَبِيلِه، جَعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنِّ أَحَدُهُمْ فَيَا للهَ ولِلشُّورَى، مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الأَوَّلِ مِنْهُمْ، حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَی هَذِه النَّظَائِرِ، لَكِنِّي أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا وطِرْتُ إِذْ طَارُوا، فَصَغَا رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِه، ومَالَ الآخَرُ لِصِهْرِه مَعَ هَنٍ وهَنٍ إِلَی أَنْ قَامَ ثَالِثُ الْقَوْمِ نَافِجاً حِضْنَيْه، بَیْنَ نَثِيلِه ومُعْتَلَفِه، وقَامَ مَعَه بَنُو أَبِيه يَخْضَمُونَ مَالَ الله، خِضْمَةَ الإِبِلِ نِبْتَةَ الرَّبِيعِ، إِلَی أَنِ انْتَكَثَ عَلَيْه فَتْلُه وأَجْهَزَ عَلَيْه عَمَلُه، وكَبَتْ بِه بِطْنَتُه» فها هي حقيقة عمر ومن كان قبله ومن هو بعده، التي خُفيت على الناس وأن الذي ترکه عمر من بعده لهو حقاً کما قاله عليه السلام «لَا يَهْتَدِي فيهَا الضَّالُّ: ولَا يَسْتَيْقِنُ الْمُهْتَدِي» أنتهى ما أقول فتأمل

ص: 13

ومن كلام له عليه السّلام في وصف بيعته: وقد تقدم مثله بألفاظ مختلفة.

«وبَسَطْتُمْ يَدِي فَكَفَفْتُهَا ومَدَدْتُمُوهَا فَقَبَضْتُهَا ثُمَّ تَدَاكَكْتُمْ عَلَيَّ: ازدحمتم «تَدَاكَّ

الإِبِلِ الْهِيمِ عَلَى حِيَاضِهَا يَوْمَ وِرْدِهَا»: حاصل الفصل الاحتجاج على من خالفه من أهل البغي فذكر الناس في بيعتهم له وكيفیّتها الدالَّة على شدة حرصهم عليه

ص: 14

واجتماعهم عن رضى، وشبّه ازدحامهم عليه بازدحام الإبل العطاش يوم ورودها على الحياض، ووجه الشبه الازدحام، ويمكن أن يلاحظ في وجه هذا التشبیه کون ما عنده من الفضائل الجمّة العلميّة تشبه الماء وكون المزدحمين عليه في حاجتهم وتعطَّشهم إلى استفادة تلك الفضائل النافعة لغليلهم كالعطاش من الإبل حين ورودها.

«حَتَّى انْقَطَعَتِ النَّعْلُ وسَقَطَ الرِّدَاءُ ووُطِئَ الضَّعِيفُ»: كقوله: في الشقشقيّة حتّى لقد وطئ الحسنان وشقّ عطفاي.

«وبَلَغَ مِنْ سُرُورِ النَّاسِ بِبَيْعَتِهِمْ إِيَّايَ أَنِ ابْتَهَجَ بِهَا الصَّغِيرُ وهَدَجَ»: مشی.

«إِلَيْهَا الْكَبِیرُ»: والهدجان مشية الشيخ «وتَحَامَلَ نَحْوَهَا الْعَلِيلُ وحَسَرَتْ إِلَيْهَا

الْكِعَابُ»: بفتح الكاف أي كعب، ومشت لي تلك البيعة النساء الشواب، ویکمن أن يكون حَسر هنا بمعنی: کشف أي أن الكعاب وهي المرأة التي كعب ثديها يحسر عن ثديها يحسر عن يدها للبيعة وروي بكسر الكاف جمع کعب أي كعب الأقدام، وهذا الكلام في قوة الصغرى قياس من الشكل الأول وتلخيصها: أنكم بلغتم في طلبكم وحرصكم على بيعتي إلى هذه الغاية حتى أجبتكم وتقدير الكبرى وكل من كان كذلك فليس له أن ينكث ويغدر والله سبحانه أعلم.

ومن خطبة له عليه السّلام: في التنبيه على فضيلة تقوى الله بأوصاف أحدها وقوله:

«فَإِنَّ تَقْوَى اللهِ مِفْتَاحُ سَدَادٍ»: ولمّا كان السَّداد هو الصَّواب، والعدل في القول والعمل، وكان ذلك هو غاية الدَّين والطريق المسلوك إلى الله، وكانت تقوى الله تعود إلى خشيته المستلزمة للإعراض عن مناهيه استعار لها لفظ المفتاح باعتبار

ص: 15

كونها سبباً للاستقامة على الصواب، والقصد في صراط الله المستقيم إلى ثوابه المقيم الَّذي هو أفضل المطالب کما أنّ المفتاح سبب الوصول إلي ما يخزن من الأموال النفيسة.

«وذَخِیرَةُ مَعَادٍ»: وظاهر أنّ الاستعداد لخشية الله وما يستلزمه من الكمالات النفسانيّة من أنفس الذخائر المشفّع بها في المعاد.

«وعِتْقٌ مِنْ كُلِّ مَلَكَةٍ»: ملك، استعار لفظ العتق لخلاص النفس العاقلة من استیلاء حكم شياطينها المطيفة لهالخلاص العبد من استيلاء سيّده، ثمّ جعل التقوى نفسها عتقاً مجازاً إطلاق لأسم السبب على المسبّب، إذ كانت التقوى سببا لذلك الخلاص المستعار له لفظ العتق.

«ونَجَاةٌ مِنْ كُلِّ هَلَكَةٍ»: فيه تجوزاً أيضاً لكونها سببا النجاة لها من المهلكات الآخرويّة وعقوبات الآثام، وربّما كانت التقوى سبباً للنجاة من مخاوف دنيويّة لو الا لحقت.

«بِهَا يَنْجَحُ الطَّالِبُ»: أمّا لثواب الله في الآخرة؛ فظاهر، وأمّا في الدنيا فلما نشاهده من اتّخاذ كثير من الناس شعار المتّقين ذريعة إلى مطالبها، ونجاح مساعيهم عليهم «ويَنْجُو الْهَارِبُ»: أي من عذاب الله وهو ظاهر.

«وتُنَالُ الرَّغَائِبُ»: هو كقوله: ينجح الطالب، وفي كلّ قرينة من القرائن الستّ السجع المتوازي، ثم نبه على وجه العمل الصالح المطلوب لله ومبادرته فقال:

«فَاعْمَلُوا والْعَمَلُ يُرْفَعُ والتَّوْبَةُ تَنْفَعُ»: والواو للحال أي في وقت العمل أو مکان رفعه إلى الله دون ما بعد الموت، وفي وقت قبول التوبة منهم، والإقلاع عن موبقات الآثام.

ص: 16

«والدُّعَاءُ يُسْمَعُ»: أي وفي وقت سماع الدعاء وقبوله فأن شيأً من ذلك لا ينفع بل لا يمكن بعد الموت.

«والْحَالُ هَادِئَةٌ»: أي حال الإنسان في الدنيا فإنّ حاله حين الموت وما بعده في غاية الاضطراب.

«والأَقْاَمُ جَارِيَةٌ»: أي أقلام الحفظة، وفائدة الإعلام بالعمل في حال جریان القلم التنبيه على وقت الأعمال الخيريّة، وإمكانها حين تُكتب وترفع إلى الله، أي فاعملوا في الحال المذكورة ما دامت أقلام الكرام الكاتبين جارية لتكتب أعمالكم.

ثم حثّهم على المبادرة إلى الأعمال الخيريّة باعتبارات: فقال:

«وبَادِرُوا بِالأَعْاَلِ عُمُراً نَاكِساً»: فيه تنبيه على أنّ أعمارهم الَّتي هي محل الأعمال في معرض الانتكاس، والرجوع إلى الحالة المنافية للتكليف، وهي الهرم المستلزم لضعف العقل، والبنية، ونقصانهما، والرجوع إلى حال الطفل في ذلك كقوله تعالى «وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ»(1) فينبغي أن يبادر ذلك بالأعمال الصالحة الممكنة فيه قبل انتكاسه.

«أَوْ مَرَضاً حَابِساً»: أراد أن أبدان الإنسان في معرض التغيير، والتبديل بالصحة الَّتي هي مظنّة العمل فرضاً، وهو مظنّة بطلان، وامتناعه؛ فينبغي أن يبادر الصحّة بالعمل قبل الحبس عنه بالمرض.

«أَوْ مَوْتاً خَالِساً»: أي بادروا ما هو أعظم من ذلك، وهو الموت الَّذي لا بدّ منه، واستعار لفظ الخالس له باعتبار أخذه للأعمار على غرّة، وغفلة من أهلها

ص: 17


1- سورة يس: الآية 68

کالمختلس للشيء عن يد غيره؛ ثمّ نبّه على وجوب العمل للموت، ولما بعده بأوصافه المخوفة قال:

«فَإِنَّ الْمَوْتَ هَادِمُ لَذَّاتِكُمْ»: وهو ظاهر ونحوه قول الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أكثروا من ذكر هادم اللذّات»(1) الموت.

«ومُكَدِّرُ شَهَوَاتِكُمْ ومُبَاعِدُ طِيَّاتِكُمْ»: وفي بعض النسخ طیباتكم أي: منازل السفر إلى الآخرة بالموت عن الدنيا، وأهلها فإنّ الآخرة أبعد منزل عن الدنيا.

«زَائِرٌ غَیْرُ مَحْبُوبٍ»: استعار لفظ الزائر باعتبار هجومه على الإنسان، ولمّا كان من شأن الزائر أن يكون محبوباً ميّزه بكونه غير محبوب له ليحصل النفرة عنه وتفرغ إلى العمل له.

«وقِرْنٌ غَیْرُ مَغْلُوبٍ»: استعار له لفظ القرن بوصف کونه غير مغلوب ليهتّم بالاستعداد له.

«ووَاتِرٌ غَیرُ مَطْلُوبٍ»: الواتر الذي قبل رجلاً، والموتور الذي قتل له من قبيل فلم يدرك بدمه أراد أن شأن الموت أن يوتر القلوب، ولا يمكن أن يطلب بوتر ولا ينتصف منه ملاحظة لشبهه بالرجل البالغ في الشجاعة بحيث لا يغلب.

«قَدْ أَعْلَقَتْكُمْ حَبَائِلُهُ»: استعار للأوصاف والأمراض البدنية الَّتي هي داعية الموت، ومؤديّة إليه كحبالة الصائد، ورشّح بوصف الإغلاق.

«وتَكَنَّفَتْكُمْ غَوَائِلُهُ»: أي أحاطت بكم مصائبه.

ص: 18


1- عیون أخبار الرضا للشيخ الصدوق: ج 2 ص 75؛ المجازات النبوية للشريف الرضي: ص 403؛ الأمالي للشيخ الطوسي: ص 28؛ شعب الإيمان أحمد بن الحسين البيهقي: ج 7 ص 354

«وأَقْصَدَتْكُمْ مَعَابِلُهُ»: المعبلة نصل عريض طويل والجمع معابل وهي هاهنا استعارة للآفات الداعية إلى الموت أيضاً باعتبار کونها مؤذية أو قاتلة كالنصال، ورشّح بذكر الإقصاد.

«وعَظُمَتْ فِيكُمْ سَطْوَتُهُ»: استعارها له ملاحظة لشبهة بالسلطان القاهر أو السبع الضاري في قوة أخذه وشدّة بطشه.

«وتَتَابَعَتْ عَلَيْكُمْ عَدْوَتُهُ»: تجاوز الحد في الشر وفي هذه الاستعارة اعتبار کون أخذه على غير حقّ له كالظالم، ولا تظن أن أطلاق العدوة هنا حقيقة نبأ على أن حقيقة الظلم الأخذ بغير حق لأنه؛ إنما يصدق حقيقة على ذي الحياة وأن سلمنا صدقه على غير لكن الأخذ المذكور ليس هو حقيقة الظلم بل الآخذ بغير الحق ممن يكون من شأنه أن يكون له حق وذلك مختص بالعقلاء.

«وقَلَّتْ عَنْكُمْ نَبْوَتُهُ»: نبوة السيف أن يضرب فلا يعمل، وهنا استعارة لعدم تأثيره ملاحظة لشبهها بالسيف القاطع، ووصفها بالقلة، وراعي في كل ثلاث قرائن من هذه التسع السجع المتوازي.

«فَيُوشِكُ»: يقرب «أَنْ تَغْشَاكُمْ دَوَاجِي ظُلَلِهِ»: أول سحابة تظل، والجمع ظلل وهنا استعارة للأمراض، والعلل الداعية إلى الموت استعارة لفظ المحسوس بالبصر للمتخيل ملاحظة لشبهها بالسحاب المظل، واصفا لها بالدواجي أذ كان الكلام في معرض التخويف والسحاب المظلم أشد رهبة في القلوب، ويقرب منه قوله تعالى «وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ»(1) «واحْتِدَامُ»: اصطدام «عِلَلِهِ استعار لما يتوهمه الإنسان من الظلم من غمرات الموت وسكراته والغواشي لما

ص: 19


1- سورة لقمان: الآية 32

يعرض عند سكراته من العوارض المانعة من الإدراك المغشية.

«وحَنَادِسُ»: ظلم «غَمَرَاتِهِ»: استعارة لما يتوهمه الإنسان من الظلم من غمرات الموت وسكراته.

«وغَوَاشِي»: لما يعرض عند «سَکَرَاتِهِ»: من العوارض المانعة من الأدراك المغشية.

«وأَلِيمُ إِرْهَاقِهِ»: أي أعجاله المؤلم «ودُجُوُّ أَطْبَاقِهِ»: استعار الأطباق لحالاته المتزایده وسكراته المتضاعفة الَّتي بتضاعفها يزداد آلات إدراکه بعداً وانقطاعاً عن المدركات الدنيويّة، وباعتبار انقطاع الإدراك بسبب تلك الحالات وصفها بالدجوّ وشدّة الظلمة، ويحتمل أن یرید بإطباقة إطباق العيون الحاصلة بسببه.

«وجُشُوبَةُ مَذَاقِهِ»: استعار لفظ مذاقه لوجدانه باعتبار المشاركة في الإدراك وباعتبار شدة إيلامه وصفه بالجشوبة.

«فَكَأَنْ قَدْ أَتَاكُمْ بَغْتَةً»: هي المخفّفة من كأنّ والاسم ضمير الشأن، ولمّا كانت كأنّ للتشبيه يستلزم المقارنة من المشبّه به في وصف ما وهو وجه الشبّه كان المشبه هنا هو حال الموت من جهة ما هو منتظر لا بدّ منه، والمشبّه به هو باعتبار إتيانه وموافاته لهم، ووجه الشبه هو القرب: أي قرب المنتظر الَّذي لا بدّ منه من الواقع الموجود؛ إذ كلّ ما هو آت قريب؛ ثمّ أردف التخويف منه بذكر لوازمه المخوّفة، وهي إسكات المتناجين، وتفريق المجتمعين وغيرهما فقال: «فَأَسْكَتَ نَجِيَّكُمْ وفَرَّقَ نَدِيَّكُم»: الندي والنادي المجلس.

«وعَفَّى آثَارَكُمْ وعَطَّلَ دِيَارَكُمْ وبَعَثَ وُرَّاثَكُمْ يَقْتَسِمُونَ تُرَاثَكُمْ»: میراثكم وسنداً إليه البعث باعتبار أنه سبب يلزمه انبعاث وداعي الورثة إلى اقتسام التراث

ص: 20

عرضياً «بَيْنَ حَمِيمٍ»: صدیق، متعلق يأتكم بغته مع ما بعده من الأفعال أي كأنه قد أتاكم بغتة ففعل ما فعل بكم من إسكات المتشاحنين وغيره.

«خَالصٍّ»: لأحدكم «لَمْ يَنْفَعْ»: صداقته «وقَرِيبٍ مَحْزُونٍ لَمْ يَمْنَعْ»: حزنه ولم يقدر على المنع «وآخَرَ شَامِتٍ» الذي يفرح بسوء الغير.

«لَمْ يَجْزَعْ»: عليه ثم أردف ذكر الموت ولوازمه بالحث على العمل والجد فيه والتأهب والاستعداد لنزول الموت وما بعده فقال:

«فَعَلَيْكُمْ بِالْجَدِّ والِجْتِهَادِ والتَّأَهُّبِ والِسْتِعْدَادِ والتَّزَوُّدِ فِي مَنْزِلِ الزَّادِ»: وهو الدنيا لأنّها المنزل الَّذي لا يمكن تحصيل الزاد إلى الآخرة إلا فيه، ولذلك أضافه إليه، ثمّ بالنهي عن الانخداع لغرور الدنيا کانخداع السابقين و القرون الماضين فقال:

«ولَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاة الدُّنْيَا كَمَا غَرَّتْ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ الْمَاضِيَةِ والْقُرُونِ

الْخَالِيَةِ الَّذِينَ احْتَلَبُوا دِرَّتَهَا»: هو اللبن الذي يجيء من الضرع وهاهنا استعارة لمنافع الدنيا وخيراتها والاجتلاب بجمعها واقتنائها الذين فازوا بخيراتها وحصلوا ع عليها.

«وأَصَابُوا غِرَّتَهَا»: استعارها لعدم، وصول حوادثها إليهم في مدة استماعها بها وكأنها غافلة عنهم لا ترميمهم بشيء من المصائب؛ فلما وجدوا ذلك منها أخذوا منها ما أخذوا وحصلوا على ما حصلوا.

«وأَفْنَوْا عِدَّتَهَا»: أي ماتعدد فيها من مأكول أو ملبوس وغيرهما مما يستمتع به فيفنی.

ص: 21

«وأَخْلَقُوا جِدَّتَهَ»: كناية عن استمتاعهم بما أخذوا منها من صحّة ومال وغيرهما إلى انقضائه وانتهاء مدّته حتّى كأنّهم لم يبقوا من محاسنها شيئا إلَّا أخلقوه. ولمّا وصف حالهم فيها بما وصف أردف ذلك بذكر غايتهم منها وهي الأحوال المذكورة بقوله:

«وأَصْبَحَتْ مَسَاكِنُهُمْ أَجْدَاثاً وأَمْوَالُهُمْ مِيرَاثاً لَا يَعْرِفُونَ مَنْ أَتَاهُمْ ولَا يَحْفِلُونَ

مَنْ بَكَاهُمْ ولَا يُجِيبُونَ مَنْ دَعَاهُمْ»: خلاصة الكلام أنكم لا تغتروا بالدنيا کما اغترّ بها من كان قبلكم فإنّ أولئك مع أنّهم كانوا قد صادفوا غرّتها وحصّلوا منها على ما حصّلوا من خيراتها كانت غايتهم منها أن وصلوا إلى ما وصلوا من العدم فكذلك أنتم بطريق أولى؛ ثم أكَّد التحذير منها بذكر أوصافها المنفّرة عنها فقال:

«فَاحْذَرُوا الدُّنْيَا فَإِنَّهَا غَدَّارَةٌ غَرَّارَةٌ خَدُوعٌ»: قد تقد أن إطلاق الغرار عليها باعتبار كونها سبباً مادياً للاغترار ولمّا كان الخداع هو المشورة بأمر ظاهره مصلحة وباطنه مفسدة، وكان ظهور زينة الحياة الدنيا للناس يشبه الرأي المحمود في الظاهر اتّباعها، وكانت تلك الزينة، واتّباعها لما فيها من الفتنة بها عن سبيل الله الَّذي هو عين المفسدة تشبه المفسدة في باطن الرأي لا جرم أشبه ظهور زينتها الخداع فاستعار لها لفظ الخدوع بذلك الاعتبار.

«مُعْطِيَةٌ مَنُوعٌ»: وجه أطلاقهما كونها سبباً ماديّاً للانتفاع بما فيها من خيراتها وسبباً ماديّاً لمنعه وكذلك.

«مُلْبِسَةٌ نَزُوعٌ»: وراعي في هاتين القريتين المقابلة، وفائدتها ههنا التنفير عمّا يتوهّم فيها خيراً ممّا تعطيه، وتلبسه بذکر استعقابها لمقابلتها من منعها لما تعطيه ونزعها ممّا تلبسه، ولذلك أكَّده بقوله: «لَا يَدُومُ رَخَاؤُهَا ولَا يَنْقَيِ عَنَاؤُهَا ولَا

ص: 22

يَرْكُدُ بَلَؤُهَا» ولمّا كان رخاؤها من صحّة وشباب، ومال وجاه، ونحوها من سائر الملذّات البدنيّة حوادث مشروطة باستعدادات سابقة عليها، ومعدّات غير مضبوطة كثيرة حادثة وغير حادثة سريعة التغيّر؛ أو بطيئة لاجرم كان من شأن ذلك الرخاء التغيّر، والانقطاع، وظاهر أنّ انقطاع رخائها حالا فحالا مستلزم لعدم انقضاء عنائها ومتاعبها، وتواتر بلائها، واستعار لبلاء الدنيا، وصف عدم الركود ملاحظة لشبهه بالريح دائمة الحركة لكونه دایماً ولله الحمد والمنة.

منها في صفة الزهاد: «كَانُوا قَوْماً مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ولَيْسُوا مِنْ أَهْلِهَا»: قضيّتان ظاهرهما التناقض لكن قد علمت أنّ المطلقتين لا يتناقضان، واختلافهما يحتمل أن يكونا بالموضوع؛ أو بالإضافة فإنّهم من أهل الدنيا بأبدانهم، ومشاركاتهم الضروريّة الأهلها في الحاجة إليها وليسوا من أهلها بقلوبهم، إذ خرجوا عن ملاذّها، ونعيمها واستغرقوا في محبّة الله، وما أعدّ لأوليائه الأبرار في دار القرار؛ فهم أبداً متطلَّعون إليه، وشاهدون الأحوال الآخرة بعيون بصائرهم كما قال: عليه السّلام فيها قبل في صفتهم: فهم والجنّة كمن قد رآها فهم فيها متنعّمون، وهم والنار من قد رآها فهم فيها معذّبون، ومن كان كذلك فحضوره القلبيّ إنّما هو في تلك الدار فكان بالحقيقة من أهلها.

«فَكَانُوا فِيهَا كَمَنْ لَيْسَ مِنْهَا عَمِلُوا فِيهَا بِمَا يُبْصِرُونَ»: أي كان سعيهم وحركاتهم البدنيّة، والنفسانيّة في سبيل الله بصيرة، ومشاهدة لأحوال تلك الطريق وما تفضي إليه من السعادة الباقية، وعلم بما يستلزمه الانحراف عنها من الشقاوة اللازمة الدائمة، والباء للتسبب، وما مصدريّة، ويحتمل أن تكون بمعنى الَّذي: أي بالَّذي يبصرونه ويشاهدونه من تلك الأحوال فإنّ علمهم اليقين بها هو السبب القائد والحامل لهم في تلك الطريق وعلى سلوكها.

ص: 23

وبَادَرُوا فِيهَا مَا يَحْذَرُونَ»: المبادرة المسابقة، والمعاجلة وهي مفاعلة من الطرفين، والمراد أنّهم سابقوا مايحذرون من عذاب الله المتوعّد في الآخرة كأنّه سابق لهم إلى أنفسهم وهم مسابقوه إلى خلاصها فسبقوه إلى النجاة، إذ كانوا راكبين لمطاياها، ومتمسّكين بعصمها وهي أوامر الله وحدوده.

«تَقَلَّبُ»: أي تتقلَّب فحذف إحدى التائين تخفيفاً.

«أَبْدَانِهِمْ بَیْنَ ظَهْرَانَيْ أَهْلِ الآخِرَةِ»: والمعنى أنّ دأبهم معاشرة أهل الآخرة والعاملين لها دون أهل الدنيا، وقيل: يحتمل أن يريد بأهل الآخرة سائر الناس لأنّ مستقرّهم الأصلي ودار قرارهم هي الآخرة كما قال تعالى «وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ»(1) والمعنى على هذا الوجه أنّهم مع الناس بأبدانهم فقط تتقلَّب بينهم وأرواحهم في مقام آخر.

«ويَرَوْنَ أَهْلَ الدُّنْيَا يُعَظِّمُونَ مَوْتَ أَجْسَادِهِمْ وهُمْ أَشَدُّ إِعْظَاماً لِمَوْتِ قُلُوبِ

أَحْيَائِهِمْ»: الغرض الفرق بينهم، وبين أهل الدنيا؛ إذ كان أهل الدنيا لا يرون أنّ وراء أبدانهم کمالا آخر وكانوا غافلين عن أحوال الآخرة من سعادة أو شقاوة فكان أعظم محبوباتهم بقاء أجسادهم وتكميلها، وأعظم منفور عنه هم نقصانها وموتها: وأمّا المتّقون؛ فهم وإن كانوا يرونهم بتلك الحال؛ إلَّا أنّهم يرون أفضل لهم أنّ موت قلوبهم، وفقدانها للحياة بالعلم، والحكمة أعظم من موت أجسادهم، وذلك لعلمهم بفساد الحياة البدنيّة وانقطاعها وكدرها بعوارض الأمراض وسائر المغضبات الدنيويّة، وبقاء الحياة النفسانيّة وشرف کمالها وصفاء لذّاتها عن الأقدار والأكدار، وإنّما قال: قلوب أحيائهم، ولم يقل: قلوبهم لأنّ موت القلوب قد يكون

ص: 24


1- سورة غافر: الآية 39

حقيقة بموت الأجساد، وقد يكون مجازاً وهو موتها بفقدان العلم، ونور الحكمة مع حياة أجسادها، فكان ذكر الأحياء كالقرينة المعيّنة لمراده بذلك الموت مجازاً، والضمير في قوله: أحيائهم يعود إلى أهل الدنيا لأنّ موت القلوب هو الواقع بهم حال حياة أبدانهم، ويحتمل عوده إلى قوله: وهم الَّذي هو ضمير المتّقين وبالله التوفيق.

ومن خطبة له عليه السّلام خطبها بذي قار:

اسم موضع قريب من البصرة وفيه كانت وقعة العرب مع الفرس قبل الإسلام، «وهو متوجه إلى البصرة وذكرها الواقدي في كتاب الجمل فَصَدَعَ بِمَا أُمِرَ بِهِ»: من تبليغ الوحي واستعار له الصدع من حيث أنه شق بما جاء به من الرسالة عصا الكفر وكلمة أهله وفرق ما اتصل من أغشية الجهل على نفوس الكافرين وحجب الغفلة التي رانت على قلوبهم كما يصدع الحجر بالمعول و نحوه.

«وبَلَّغَ رِسَالَتِ رَبِّهِ»: ذكر في معرض مدحه لكونه أداء أمانة عظم تبليغها وقدرها، وذلك فضيلة تحت ملكة العفّة.

«فَلَمَّ اللهُ بِهِ الصَّدْعَ ورَتَقَ بِهِ الْفَتْقَ»: استعارتهما لما كان بين العرب من الافتراق وتشتّت الأهواء واختلاف الكلمة، والعداوات والأحقاد حتّى أنّ أحدهم كان يقتل أباه وابنه، وذوي رحمه لهوى يقوده، أو ضغن يحمله فجمع الله بمقدمه صلَّی الله عليه وآله وسلَّم أشتاتهم.

«وأَلَّفَ بِهِ»: الشَّمْلَ «بَیْنَ ذَوِي الأَرْحَامِ بَعْدَ الْعَدَاوَةِ الْوَاغِرَةِ فِي الصُّدُورِ»: وصفهابها استعارة من قولهم: فلان واعز الصدر على أي متوقد من الغيظ وكذلك.

ص: 25

«والضَّغَائِنِ الْقَادِحَةِ فِي الْقُلُوبِ»: وألَّف بين قلوبهم حتّى جعل ذلك في معرض امتنانه عليه. إذ يقول: وألَّف بين قلوبهم ولو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألَّفت بين قلوبهم ولكنّ الله ألَّف بينهم، وكذلك استعار، وصف القادحة للضغائن لاستلزامها إثارة الغضب والشرور کما يثير القادح النار وبالله التوفيق.

ومن كلام له عليه السّلام کلم به عبد الله بن زمعة، بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي.

وكان له شیعته: أي من أصحابه وشیعته.

وذلك: الكلام تکلم به عليه السلام زمان.

أنه قدم عليه في خلافته يطلب منه مالاً، فقال: «إِنَّ هَذَا الْمَالَ لَيْسَ لِي ولَا لَكَ

وإِنَّاَ هُوَ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ وجَلْبُ»: بفتح اللام وسكونها.

«أَسْيَافِهِمْ»: وظاهر الكلام يقتضي أنّه إستماحه عليه السّلام مالاً فاعتذر إليه، ووجه العذر أنّه لم يكن ليجمع لنفسه مالاً يخصّه وإنّما يجمع ما كان لبيت مال المسلمين من فيئهم، وهو جلبة أسیافهم من مال الكفّار غنيمة، ونطق القرآن الكريم بقسمة خمسه بين من ذكر في قوله «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ»(1) والأقسام الأربعة الباقية للغانمين الَّذين باشروا القتال.

فمذهب أهل البيت عليهم السلام و تابعهم الشافعي للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم، وعند أبی حنیفة للفارس سهمان وللراجل سهم، وهو مذهب أهل البيت عليهم السّلام، ويحمل منعه عليه السّلام له من الخمس على أنّه طلب

ص: 26


1- سورة الأنفال: الآية 41

من مال المقاتلة أو على أنّ الخمس كان قد قسّم؛ أو على أنّه لم يكن من المساكين وهم أهل الفاقة والفقر ولا ابن السبيل وهو المنقطع في سفره، وأمّا سهم الله فأجمع المفسّرون على أنّ ذكر الله هنا للتعظيم وإن اختلفوا في قسمة الخمس؛ فمنهم من قال: يقسّم خمسة أقسام لأنّ سهم الله، وسهم الرسول للرسول فهو قسم واحد، وهو المرويّ عن ابن عبّاس وقتادة، وجماعة من أهل التفسير، ومنهم من قال: يقسّم أربعة أقسام، ومنهم من قال: ثلاثة أقسام، والمرويّ عن أهل البيت عليه السّلام أنّه ينقسم ستّة أقسام فسهم الله وسهم رسوله للرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وهما بعده مع سهم ذوي القربى للقائم مقامه ينفقها على نفسه وأهل بيته من بني هاشم، والثلاثة الأسهم الباقية لليتامى، والمساكين، وأبناء السبيل من أهل بيت الرسول لا يشركهم؛ فيها باقي الناس عوضاً من الصدقات المحرّمة عليهم. والأئمّة الأربعة على أنّ سهم الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كان تصرف بعد عهده إلى ما أهمّ به من مصالح المسلمين من السلاح والكراع؛ فإذن لم يكن له أن يعطيه من سهم الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وظاهر أنّه ليس من أولي القربى ولا اليتامى، وأمّا منعه من الأخماس الأربعة؛ فلأنّها كانت للمقاتلة خاصّة ولم يكن هو منهم، ولذلك قال له: وإنّما هو فيء للمسلمين وجلب أسيافهم.

«فَإِنْ شَرِكْتَهُمْ فِي حَرْبِهِمْ كَانَ لَكَ مِثْلُ حَظِّهِمْ»: نطق كلامه عليه السّلام ها هنا بأنّ الفيء، والغنيمة واحد وإن كان قد يختصّ ألف عند بعضهم بما أُخذ من مال الكفّار بغير قتال وهو قول الشافعي والمرويّ في أخبار الإمامية.

وقوله: «وإِلَّا»: أي وإن لا تكن قد شركتهم.

«فَجَنَاةُ أَيْدِيهِمْ لَا تَكُونُ لِغَیْرِ أَفْوَاهِهِمْ»: استعار الجناة لما اكتسبوه بأيديهم من ذلك المال ملاحظة لمشابهته باقتطاف الثمرة، واجتنائها وهو من أفصح

ص: 27

الاستعارات، ويجري مجرى المثل يضرب لمن يطلب مشاركة غيره في ثمرة فعل فعله ذلك الغير وتعب فيه، ولمّا كان قوله: وإلَّا دالَّا على مقدّم شرطيّة متّصلة تقديره وإلَّا تكن قد شركتهم في حربهم، فلا يكون ذلك نصيب فما كسبته أيديهم والفاء لجواب الشرط المقدم والله تعالى أعلم.

ومن كلام له عليه السّلام:

«لَا وإِنَّ اللِّسَانَ بَضْعَةٌ مِنَ الإِنْسَانِ»: روى أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام قال هذا الكلام في واقعة اقتضت ذلك، وهي أنّه أمر ابن أخته جعدة بن هبيرة المخزومي يوماً أن يخطب الناس فصعد المنبر فحصر فلم يستطع الكلام فقام عليه السّلام: وتسنّم ذروة المنبر.

ثمّ خطب خطبة طويلة. ذكر الرضى رضي الله عنه منها هذا الفصل. والبضعة:

«فَلَا يُسْعِدُهُ الْقَوْلُ إِذَا امْتَنَعَ ولَا يُمْهِلُهُ النُّطْقُ إِذَا اتَّسَعَ»: والمعنى أنّ اللسان لمّا كان آلة للإنسان يتصرّف بتصريفه إيّاه؛ فإذا امتنع الإنسان عن الكلام لشاغل أو صارف لم يسعد اللسان القول ولم يواته، وإذا دعاه الداعي إلى الكلام وحضره واتّسع الإنسان له لم يمهله النطق به أي فلا يسعد القول اللسان إذا امتنع القول من الإنسان ولم يحضره لوهم أو نحوه أوجب حصره وعيّه، ولم يمهله النطق إذا اتّسع عليه وحضره.

«وإِنَّا لأُمَرَاءُ الْكَلَمِ وفِينَا تَنَشَّبَتْ»: علقت «عُرُوقُهُ»: واستعار الأُمراء لنفسه وأهل بيته ملاحظة لكونهم مالكين لأزمّة الكلام يتصرّفون فيه تصرّف الأُمراء في ماليكهم، والعروق لموادّ الكلام، وأصوله وملكاته المتمكَّنة في قلوبهم ورشّح

ص: 28

بذكر التهدّل لأنّ من شأن الغصن ذلك؛ ثمّ عقّب بذكر الزمان وأهله، ويشبه أن يكون هذا فصلا منقطعا عمّا قبله فقال:

«وعَلَيْنَا تَهَدَّلَتْ غُصُونُهُ»: استعار الغصون لما أمكنهم من تناوله وقوله: ورشح بذكر التهدل لأن من شأن الغصن ذلك ثم عقب بذکر الزمان وأهله ويشبه أن يكون هذا الفصل منقطعاً عما قبله فقال:

«واعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أَنَّكُمْ فِي زَمَانٍ الْقَائِلُ فِيهِ بِالْحَقِّ قَلِيلٌ واللِّسَانُ عَنِ الصِّدْقِ كَلِيلٌ»: عبئ والسبب القريب للوصفين استيلاء الجهل والظلم على أكابره وأهل الدنيا فيه.

«واللَّزِمُ لِلْحَقِّ ذَلِيلٌ أَهْلُهُ مُعْتَكِفُونَ عَلَی الْعِصْيَانِ»: وأكثر الناس كذلك.

«مُصْطَلِحُونَ عَلَى الإِدْهَانِ»: المصانعة باللسان دون الاتفاق بالقلوب ويحتمل أن يريد بالأدهان الغش وهو لغة ثم ذمهم بحسب أصنافهم فقال:

«فَتَاهُمْ عَارِمٌ»: الجاهل القليل الحياء

«وشَائِبُهُمْ»: ذو الشيبة «آثِمٌ»: لجهله وغفلته عما يراد به.

«وعَالِمُهُمْ مُنَافِقٌ»: لاستعماله فطنته في طرق الشر، وإعراضه عن أوامر الله وطرق الآخرة.

«وقَارِئُهُمْ»: زاهد «مُمَاذِقٌ»: يظهر التودد للناس وليس به.

«لَا يُعَظِّمُ صَغِيرُهُمْ كَبِيرَهُمْ»: وذلك لنشوئهم على قلة الآداب الشرعية.

«ولَا يَعُولُ غَنِيُّهُمْ فَقِيرَهُمْ»: وصف لهم بالإمساك والبخل.

ص: 29

ومن كلام له عليه السّلام: في ذكر اختلاف الناس

روى اليماني عن أحمد بن قتيبة عن عبد الله بن يزيد عن مالك بن دحية: هم من رجال السبعة ومحدثيهم:

قال: كنا عند أمير المؤمنين عليه السّلام وقد ذكر عنده اختلاف الناس فقال: «إِنَّمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمْ مَبَادِئُ طِينِهِمْ وذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِلْقَةً مِنْ سَبَخِ أَرْضٍ وعَذْبِهَا وحَزْنِ تُرْبَةٍ وسَهْلِهَا فَهُمْ عَىَ حَسَبِ قُرْبِ أَرْضِهِمْ يَتَقَارَبُونَ وعَلَى قَدْرِ اخْتِلَفِهَا

يَتَفَاوَتُونَ»: أراد التربة الَّتي أشار إلى جمعها الله في قوله: في الخطبة الأولى: ثمّ جمع سبحانه من سهل الأرض، وحزنها وسبخها، وعذبها تربة إلى قوله: وأصلدها حتّى استمسكت، والمعنى أنّ تفاوتهم في الصور، والأخلاق، واقع لتقارب طينهم وتقارب مباديه وهي السهل، والحزن والسبخ والعذب، و تفاوتهم فيها تابع لتفاوت طينهم ومباديه المذكورة قال أهل التأويل: إضافة المبادي هنا إلى الطين إضافة بمعنى اللام: أي المبادي لطينهم، والإشارة بطينهم إلى أصولهم، وهي الممتزجات المنتقلة في أطوار الحلقة كالنطفة، وما قبلها من موادها، وما بعدها من العلقة والمضغة والعظم، والمزاج الإنسانيّ القابل للنفس المدبّرة قالوا: ولمّا كانت مبادي ذلك الطين في ظاهر کلامه عليه السّلام هي السبخ، والعذب، والسهل والحزن كان ذلك كناية عن الأجزاء العنصريّة الَّتي هي مبادي الممتزجات ذوات الأمزجة كالنبات، والغذاء، والنطفة، وما بعدها؛ إذ كلّ ممتزج منها لا بدّ فيه من أجزاء يتفاعل فيحصل بواسطتها استعداداتها، وتفاعلها ذو مزاج هو: نطفة وغيرها فتلك الأجزاء المتفاعلة المستعدّة لمزاج مزاج هي مبادي تلك الأمزجة، والممتزجات، ولمّا كانت السبخيّة، والعذوبة، والسهولة، والحزونة أمورا تلحق الممتزجات الأرضيّة الَّتي هي مبادئ الطين، ولها أثر في اختلاف مزاجه، وسائر الأمزجة المترکَّبة عنه،

ص: 30

وكان اختلاف استعدادات تلك الأمور الممتزجة لقبول الأمزجة الَّتي هي السبب في اختلاف الأمزجة واستعداداتها لقبول الأخلاق والصور هو السبب في اختلاف الأخلاق والصور لاجرم كان السبب في تفرّق الناس في أخلاقهم، وخلقهم إنّما هو اختلاف مبادئ طينهم، وقد علمت ممّا سلف في الخطبة الأولى لميّة تخصیصه عليه السّلام بعض الأجزاء العنصريّة بالتركَّب عنها، ويحتمل أن يشير بالسبخ، والعذب، والسهل، والحزن إلى الأجزاء الأرضيّة من حيث هي ذوات أمزجة متعادلة الكيفيّات، فالسبخ كناية عن الحارّ اليابس منها، والعذب کناية عن الحارّ الرطب، والسهل كناية عن البارد الرطب، والحزن كناية عن البارد اليابس قالوا: وعلى هذا حمل قول الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إنّ الله سبحانه لمّا أراد خلق آدم أمر أن يؤخذ قبضة من كلّ أرض فجاء بنو آدم على قدر طينها الأحمر، والأبيض، والسهل، والحزن، والطيّب، والخبيث»(1). والقبضة من كلّ أرض إشارة إلى الأجزاء الأرضيّة المذكورة، وكون الناس مختلفين عنها بالأبيض، والأحمر إشارة إلى اختلاف خلقهم، وكونهم مختلفين بالسهولة والحزونة والطيّب والخبيث إلى اختلاف أخلاقهم عن اختلاط تلك الاستعدادات السابقة على كلّ مزاج في أطوار خلقهم قالوا: وقد بان بذلك معنى قوله: فهم على حسب قرب أرضهم يتقاربون: أي على حسب قرب مبادي طينهم المذكورة و تشابهها في استعداداتها وإعدادها يتقاربون ويتشابهون في الصور والأخلاق، وعلى قدر اختلاف تلك المبادي وتباينها في ذلك يتفاوتون وتتضادّ أخلاقهم وتتباين خلقهم قالوا: ويجب التأويل هنا لأنّا لو حملنا الكلام على ظاهره لاقتضى أنّ كلَّا منهم قد خلق من الطين.

ص: 31


1- المحرر الوجيز في تفسير كتاب الله العزيز: لأبن عطية اندلسي ص 119؛ معارج نهج البلاغة: لعلي بن زید البيهقي 331؛ شرح نهج البلاغة لأبن میثم البحراني: ج 4 ص 116، ولم يرجع كل من هذه المصادر الحديث إلى مضانه

ثم فصلهم بحسب تفاوتهم وذكر أقساماً سبعة وبدأ بالأقسام التي تضاد خلقها لأخلاقها أو بعض أخلاقها لبعض وهي خمسة:

الأوّل: من استعدّ مزاجه لقبول صورة كاملة حسنة وعقل ناقص وإلى ذلك أشار بقوله:

«فَتَامُّ الرُّوَاءِ»: أي حسن المنظر.

«نَاقِصُ الْعَقْلِ»: وهو داخل في رذيلة الغباوة الثاني: المستعدّ لامتداد القامة وحسنها أيضاً لكنه ناقص في همّته وإليه الإشارة بقوله: «ومَادُّ الْقَامَةِ قَصِرُ الْهِمَّةِ»: فهو داخل في رذيلة الجبن، وكلاهما يشتركان في مخالفة ظاهرهما لباطنهما، ويتفاوتان في الاستعداد. الثالث: المستعدّ لقبح صورته الظاهرة وحسن باطنه باعتدال مزاج ذهنه المستلزم للأعمال الزكية وإلى ذلك أومأ بقوله:

«وزَاكِي الْعَقَلِ قَبِيحُ الْمَنْظَرِ»: الرابع «وقَرِيبُ الْقَعْرِ»: أي قصير.

«بَعِيدُ السَّبْرِ»: أي لا يتمكن اختیار باطنه والوقوف على أسراره ولما كان أسفل القصير قريباً من أعلاه، ومخالفة ظاهر هذين القسمين لباطنهما ظاهر.

«ومَعْرُوفُ الضَّرِيبَةِ»: الخليفة «مُنْكَرُ الْجَلِيبَةِ»: أي يكون له خلق معروف يتكلَّف ضدّه فيستنكر منه، ويظهر عليه تكلَّفه كأن يكون مستعدّاً للجبن فيتكلَّف الشجاعة أو بخيلاً فيتكلَّف السخاوة فيستنكر منه ما لم يكن معروفا منه فهذه هي الأقسام الخمسة، والقسم الأوّل، والثالث قليلان فإنّ؛ الأغلب على المستعدّ لحسن الصورة، وجمالها، واعتدال الخلقة أن يكون فطناً ذكيّاً لدلالة تلك العوارض على استواء التركيب، واعتدال المزاج، والأغلب على المستعدّ لقبح الصورة عكس ذلك، وأما القسم الثاني، والرابع؛ فهو أكثر، فإنّ الأغلب على طویل القامة

ص: 32

نقصان العقل، والبلادة، ويتبع ذلك؛ فتور العزم، وقصور الهمة، وعلى القصير الفطنة، والذكاء، وحسن الآراء، والتدابير، وقد نبّه بعض الحكماء على علَّة ذلك فقال حين سئل ما بال القصار من الناس أدهى وأحذق: لقرب قلوبهم من أدمغتهم، ومراده أنّ القلب لمّا كان مبدأ للحار الغريزيّ، وكان الأعراض النفسانيّة الفطنة، والفهم، والإقدام، والوقاحة، وحسن الظنّ، وجودة الرأي، والرجاء والنشاط، ورجوليّة الأخلاق وقلَّة الكسل وقلَّة الانفعال وغيرها من الأشياء وكان ذلك يدلّ على الحرارة وتوفّرها، وأضداد هذه الأمور يدلّ على الرودة لا جرم كان قرب القلب من الدماغ في القصر لكونه سبباً لتوفّر الحرارة في الدماغ وجودة استعداد القوى النفسانيّة فيه للأعراض المذكورة، وكان بعده منه في الطويل سبباً لقلَّة الحرارة فيه وضعف استعداد القوى النفسانيّة فيه للأعراض، واستعدادها لأضدادها وإن كانت الحرارة ليست هي كمال السبب الماديّ، والقسم الخامس أكثري وذلك لمحبّة النفوس للكمالات فترى البخيل يحبّ أن يعدّ كريماً فيتكلّف الكرم، وكذلك الجبان يحبّ أن يكون شجاعاً فيتكلَّف الشجاعة، وقد راعى في هذه القرائن المطابقة فالتامّ بإزاء الناقص، ومادّ القامة بإزاء القصير، والذكيّ بإزاء القبيح، والقريب بإزاء البعيد، والمعروف بإزاء المنكر، وأمّا القسمان الباقيان المشار إليهما بقوله: «وتَائِهُ الْقَلْبِ مُتَفَرِّقُ اللُّبِّ وطَلِيقُ اللِّسَانِ حَدِيدُ الْجَنَانِ»: فأحدهما تائه القلب متفرّق اللبّ، وهم العوامّ أتباع كل ناهق في تيه الجهل المتفرّقة

أهواؤهم بحسب كلّ سانح من المطالب الدنيويّة والخواطر الشيطانيّة، والثاني:

طليق اللسان حديد الجنان، وهو اللسن الزكيّ، وهذان القسمان مخالفان للأقسام

الأولى في مناسبة ظاهرهما لباطنهما، وراعى في كلّ قرينتن من هذين القسمين

السجع المتوازي. وبالله التوفيق.

ص: 33

ومن كلام له عليه السّلام وهويلي غسل رسول الله صلَّى الله عليه وآله وتجميزه:

«بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي»: متعلق بمحذوف تقديره أفديك «يَا رَسُولَ اللهِ لَقَدِ انْقَطَعَ

بِمَوْتِكَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَیْرِكَ مِنَ النُّبُوَّةِ والإِنْبَاءِ وأَخْبَارِ السَّاَءِ»: لأنّه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم خاتم الأنبياء، وأراد بأخبار السماء الوحي، قال أهل التأويل: ولفظ السماء مستعار لماعلا في المعنى من سماء عالم الغيب و مقامات الملأ الأعلى.

«خَصَّصْتَ حَتَّى صِرْتَ مُسَلِّياً عَمَّنْ سِوَاكَ وعَمَّمْتَ حَتَّى صَارَ النَّاسُ فِيكَ

سَوَاءً»: أي خصصت في مصيبتك من حيث إنّها مصيبة خاصّة عظيمة لا يصاب الناس في الحقيقة بمثلها، فلذلك كانت مسلَّية لهم عن المصائب بمن سواك وعمّتهم بمصيبتك حتّى استووا فيها، وأضاف الخصوص والعموم إليه، وإن كانا للمصيبة لكونها بسببها.

«ولَوْ لَا أَنَّكَ أَمَرْتَ بِالصَّبْرِ ونَهَيْتَ عَنِ الْجَزَعِ لأَنْفَدْنَا عَلَيْكَ مَاءَ الشُّؤُون»:

مجاري الدموع «ولَكَانَ الدَّاءُ مُمَاطِلَاً»: دائماً «والْكَمَدُ»: الحزن «مُخالِفاً وقَلَّا لَكَ»: إشارة إلى العذر في ترك البكاء الكثير ومماطلة الداء وملازمة الحزن، وهو أمره صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بالصبر في مواطن المكروه والنهي عن الجزع عند نزول الشدائد، وکنّی عن كثرة البكاء بإنفاد ماء الشؤون، وبالداء عن ألم الحزن بفقده صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، واستعار له لفظ المماطلة كأنّ الحزن، وألمه لثباته، وتمكَّنه لا يكاد يفرق مع أنّ من عادته أن يفارق فهو كالمماطل بالمفارقة، والضمير في قوله: وقلَّا لك يعود إلى إنفاد ماء الشؤون الَّذي دلّ عليه أنفدنا، وإلى الكمد المخالف.

«ولَکِنَّهُ»: أي الذي لأجل البكاء والحزن «مَا لَا يُمْلَكُ رَدُّهُ ولَا يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ»: فلم يكن في البكاء والجزع فأيده فكان لزوم الصبر أولى ثم عاد إلى التفدية.

ص: 34

«بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي»: وهي كلمة معتادة للعرب تقال لمن يعزّ عليهم، ولا يختلج في وهمك ما قيل من أنه كيف يحسن التفدية هنا بعد الموت وهي غير ممكنة لأنه لا يشترط في إطلاقها في عرفهم؛ أمكان الفدية؛ وليس الغرض منها تحقيق الفدية بل تخييل الفدية وإيهامها للأسترقاق و تخييل المقول له أنّه عزيز في نفس القائل إلى غاية أنّه أرجح من أبيه وأُمّه بحيث يفديه بهما، وظاهر أنّها ممّا يفعل في الطبع میلاً من المفعول له؛ ثمّ سأله أن يذكره عند ربّه، وأن يجعله من باله فقال:

«أذْكُرْنَا عِنْدَ رَبِّكَ واجْعَلْنَا مِنْ بَالِكَ»: إذ هو السابق إليه مع كونه رئیس الخلق ومقدّمهم فكان أولى من سئل ذلك منه، وأراد: أُذكرنا عنده بما نحن عليه من طاعته؛ فهو كأمير بعثه الملك إلى أهل مدينة ليصلح حالهم؛ وينظَّمهم في سلك طاعة الملك بالترهيب من وعيده، والترغيب فيما عنده من الكرامة فلا بدّ أن يعلمه طاعة المطيع وعصيان العاصي؛ إذا حان رجوعه إلى خدمة الملك، أحبّ عقلاؤهم، وأهل الطاعة منهم؛ أن يذكر طاعتهم عند الملك بين يديه؛ فيتقرّبون إلى قلب أميرهم، ويسألونه أن يجعلهم من باله: أي من مهمّاته، يقال: هذا من بال فلان: أي مما يباليه ويهتمّ به، ويحتمل أن يريد من مهمّات بالك؛ فحذف المضاف، وقبض صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بعد الهجرة بعشر سنين، وكان مولده عام الفيل، وبعث وهو ابن أربعين سنة بعد بنيان الكعبة، وهاجر إلى المدينة، وهو ابن ثلاث، وخمسين سنة، وكان سنّه يوم قبض ثلاث وستّين سنة، ويقال: إنّه ولد يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، وقبض يوم الاثنين، ودفن ليلة الأربعاء بحجرة عايشة و فيها قبض(1)، وتولىَّ تغسيله عليّ عليه السّلام والعبّاس بن عبد

ص: 35


1- وهذا شياع فيه نظر؛ ورب مشهور لا صحة له، وأن النبي صلى الله عليه وآله قبض في بیت فاطمة ودفن فيها؛ حيث يستوقف المتأمل في كلام الأمام علي عليه السلام «ولَقَدْ عَلِمَ الْمُسْتَحْفَظُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله أَنِّي لَمْ أَرُدَّ عَلَى الله ولَا عَلَى رَسُولِه سَاعَةً قَطُّ ولَقَدْ وَاسَيْتُه بِنَفْسِيِ فِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي تَنْكُصُ فِيهَا الأَبْطَالُ وتَتَأَخَّرُ فِيهَا الأَقْدَامُ نَجْدَةً أَكْرَمَنِي الله بِهَا ولَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وإِنَّ رَأْسَه لَعَلَى صَدْرِي ولَقَدْ سَالَتْ نَفْسُه فِي كَفِّي فَأَمْرَرْتُهَا عَلَى وَجْهِي ولَقَدْ وُلِّيتُ غُسْلَه والْمَلَائِكَةُ أَعْوَانِي»؛ يُنظر نهج البلاغة الخطبة 197

المطَّلب وولده الفضل، وقد أشرنا إلى ذلك في كيفيّة دفنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في قوله: ولقد علم المستحفظون، وبالله التوفيق.

ومن خطبة له عليه السّلام:

«الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَا تُدْرِكُهُ الشَّوَاهِدُ»: أي الحواس وسمّاها شواهد لكونها تشهد ما تدركه وتحضر معه، وقد علمت تنزيهه عن إدراك الحواسّ غير مرّة «ولَا تَحْوِيهِ

الْمَشَاهِدُ»: قد علمت تنزيهه تعالى عن الأمكنة والأحياز.

«ولَا تَرَاهُ النَّوَاظِرُ»: أي نواظر الأبصار، وإنّما خصّص البر بالذكر بعد ذكر الشواهد لظهور تنزيهه تعالى عن سائر الحواسّ، ووقوع الشبهة وقوّتها في أذهان كثیر من الخلق في جواز إدراكه تعالى بهذه الحاسّة حتّى أنّ مذهب كثر من العوامّ أن تنزيهه تعالى عن ذلك ضلال بل كفر تعالى الله عمّا يقول العادلون.

«ولَا تَحْجُبُهُ السَّوَاتِرُ: قد علمت أن السواتر الجسمانية إنا تعرض لأجسام

وعوارضها وعلمت تنزيهه تعالى عن ذلك».

«الدَّالِّ عَلَى قِدَمِهِ بِحُدُوثِ خَلْقِهِ وبِحُدُوثِ خَلْقِهِ عَلَى وُجُودِهِ»: جعل عليه

السّلام هنا حدوث خلقه دالَّاً على الأمرين:

أحدهما: قدمه تعالى، والثاني: وجوده وقد سبق تقرير ذلك في قوله عليه

السّلام: الحمد لله الدالّ عى وجوده بخلقه غر أنّه جعل هناك الدليل عى الوجود

ص: 36

هو نفس الخلق وجعله هنا هو الحدوث، ولمّا كان مجرد الوجود للممکنات و خلقها يدلّ على وجود صانع لها فأولى أن يدلّ حدوثها عليه. وقدمه وأزليّته واحد.

«وبِاشْتِبَاهِهِمْ عَلَى أَنْ لَا شَبَهً لَهُ»: قد سبق أيضاً تقريره في الخطبة المذكورة «الَّذِي صَدَقَ فِي مِيعَادِهِ»: في ميعاده يعود إلى مطابقة ما نطقت به كتبه على ألسنه رسله الصادقين عليهم السّلام الواقع في الوجود ممّا وعد به أمّا في الدنيا کما وعد به رسوله والمؤمنين بالنصر أو الاستحلاف في الأرض كقوله «وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا» الآية(1) وقوله «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ»(2) وأمّا في الآخرة كما وعد عباده الصالحين بما أعدّ لهم في الجنّة من الثواب الجزيل، والخلف في الوعد كذب وهو على الله سبحانه محال، وهو كقوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ»(3).

«وارْتَفَعَ عَنْ ظُلْمِ عِبَادِهِ»: تنزیه له عن حال ملوك الأرض الَّذين من شأنهم ظلم رعيّتهم إذا رأوا أنّ ذلك أولى بهم، وأنّ فيه منفعة ولدّة أو في ترکه ضرر وتألَّم، وكلّ ذلك من توابع الأمزجة وعوارض البشريّة المحتاج إلى تحصيل الكمال الحقيقي والوهميّ، وحظرة الله سبحانه منزه عن ذلك.

«وقَامَ بِالْقِسْطِ فِي خَلْقِهِ»: هو العدل فيهم إجراؤه لأحكامه في مخلوقاته على وفق الحكمة والنظام الأكمل وهو أمر ظاهر كذلك.

ص: 37


1- سورة الفتح: الآية 20
2- سورة النور: الآية 55
3- سورة الرعد: الآية 31

«وعَدَلَ عَلَيْهِمْ فِي حُكْمِهِ مُسْتَشْهِدٌ بِحُدُوثِ الأَشْيَاءِ عَلَى أَزَلِيَّتِهِ»: عبارة عن عدم القدرة عمّا من شأنه أن يقدر إذ لا يقال مثلاً للجدار: إنه عاجز، وقد علمت أنّ كلّ موجود سواه فهو موصوف وموسوم بعدم القدرة على ما يختصّ به قدرته تعالى من الموجودات بل بعدم القدرة على شيء أصلاً إذ كلّ موجود فهو منته في سلسلة الحاجة إليه وهو تعالى مبدأ وجوده و سایر مایعدّ سبباً له فإنّما هو واسطة معدّة کما علم تحقيقه في موضع آخر فإذن لا قدرة في الحقيقة إلَّا له والاستدلال أنّه لو كان موسوماً بالعجز عن شيء لما كان مبدأ له لكنّه مبدأ لكلّ موجود فهو ثابت القدرة تامّها؛ (1)«وبِمَا اضْطَرَّهَا إِلَيْهِ مِنَ الْفَنَاءِ عَلَى دَوَامِهِ»: فاضطراره لها إلى الفناء حکم قدرته القاهرة على ما استعدّ منها للعدم بإفاضة صورة العدم عليه حين استعداده لذلك على وفق قضائه تعالى بذلك، وهو المشار إليه بقوله تعالى «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ»(2) ووجه الاستدلال أنّه تعالى لو كان مضطرّاً إلى الفناء كسائر الأشياء لكان جائز الفناء فكان ممكناً لكن التالي باطل فهو واجب الوجود دائماً.

«وَاحِدٌ لَا بِعَدَدٍ»: أي أنّه ليس واحداً بمعنى أنّه بدأ كثرة یکون عادّاً لها ومكيالا، وقد سبق بيان ذلك، وبيان وجه إطلاق وجه الوحدة عليه، وبأيّ معنی هوغير مرّة فلا وجه لإعادته.

«ودَائِمٌ لَا بِأَمَدٍ»: وقد سبق أيضاً بيان أنّ كونه دائماً بمعنى أنّ وجوده مساوق لوجود الزمان؛ إذ كان تعالى هو موجد الزمان بعد مراتب من خلقه، ومساوقة الزمان لا يقتضي الكون في الزمان، ولمّا كان الأمد هو الغاية من الزمان، ومنتهی

ص: 38


1- ورد في بعض النسخ: وبِمَا وَسَمَهَا بِهِ مِنَ الْعَجْزِ عَلَی قُدْرَتِهِ
2- سورة الزمر: الآية 68

المدّة المضروبة لذي الزمان من زمانه، وثبت أنّه تعالى ليس بذي زمان يعرض له الأمد ثبت أنّه دائم لا أمد له.

«وقَائِمٌ لَا بِعَمَدٍ»: أي ثابت الوجود من غر استناد إلى سبب يعتمد عليه

ويقيمه في الوجود كسائر الموجودات الممكنة، وذلك هو معنى كونه واجب

الوجود، وقد أشرنا إلى برهان ذلك في قوله: الحمد لله الدالّ عى وجوده بخلقه.

وكثر من قرائن هذا الفصل موجود هناك؛ (1)«وتشهد له الَأذْهَانُ لَا بِمُشَاعَرَةٍ»: تتلقّى الأذهان له يعود إلى استقبالها، وتقبّلها لما يمكنها أن يتصوّره به من صفاته

السلبيّة والإضافيّة، وكون ذلك لا بمشاعرة: أي ليس تلقّيها لتلك التصوّرات

من طريق المشاعرة وهي الحواسّ، ولا عى وجه شعورها بما يشعر به منها، بل

تتلقّاها على وجه أعلى وأشرف بتعقّل صرف بريّ عن علايق الموادّ مجرّد عن إدراك الحواسّ وتوابع إدراكاتها من الوضع والأين والمقدار والكون وغر ذلك.

«وتَشْهَدُ لَهُ الْمَرَائِي لَا بِمُحَاضَرَةٍ»: إشارة إلى كون المرائي والنواظر طرقاً للعقول لا إلى الشهادة بوجوده تعالى في آثار قدرته، ولطائف صنعه وما يحسّ البصر منها، ولما كان وضوح العلم به تعالى، وشهادة العقول بوجوده في المدركات بهذه الآلة قال: لا بمحاضرة له أي لا يتعلّق إدراكها به، ويحتمل أن يريد بالمرائي المرئيّات أي مجال أبصار الناظرين ومواقعها، وذلك أنّ وجودها وما اشتملت عليه من الحكمة شاهد بوجود الصانع سبحانه من غير حضور ومحاضرة حسيّة كما عليه الصنّاع في صنائعهم من محاضرتها ومباشرتها.

«لَمْ تُحِطْ بِهِ الأَوْهَامُ»: لما كان تعالى غير مركَّب لم يمكن الإحاطة به بعقل

ص: 39


1- ورد في بعض النسخ: تَتَلَقَّاهُ

أو وهم البتّة، والأوهام أولى بذلك؛ إذ كانت إنّما يتعلَّق بالمعاني الجزئيّة المتعلَّقة بالمحسوسات والموادّ الجسمانيّة فيترتّب في تنزيهه تعالى عن إحاطة الأوهام به قياسها هكذا: لا شيء من مسمّى واجب الوجود بمدرك بمادّة ووضع ينتج لا شيء ممّا هو بواجب الوجود بمدرك للأوهام أصلاً فضلاً أن يحيط به ويطَّلع على حقيقته، وقد مرّ ذلك مراراً.

«بَلْ تَجَلَّى لَهَا بِهَا»: ولمّا ثبت أنّها لا تدرك إلَّا ما كان معنى جزئيّاً في محسوس فمعنى تجلَّيه لها هو ظهوره لها في صورة وجودها سائر مدركاتها من جهة من هو صانعها وموجدها؛ إذ كانت الأوهام عند اعتبار لأحوال أنفسها من، وجوداتها وعوارض وجوداتها، والتغيّرات اللاحقة بها مشاهدة لحاجتها إلى موجد، ومقيم ومغيّر ومساعدة للعقول على ذلك، وأنّ إدراكها لذلك في أنفسها على وجه جزئيّ مخالف لإدراك العقول، فكانت مشاهدة له بحسب ما طبعت عليه، وبقدر إمكانها وهو متجلَّي لها كذلك. والباء في بها للسببيّة؛ إذ وجودها هو السبب الماديّ في تجلَّيه لها، ويحتمل أن يكون بمعنى في: أي تجلَّى لها في وجودها، وبل هنا للإضراب عمّا امتنع بها من المحاضريه والأثبات لما أمكن ووجود من من تجلَّيه لها.

«وبِهَا امْتَنَعَ مِنْهَا»: الامتناع عن إدراكهاله وإن كان لذلك الامتناع أسباب أُخر أولها: كونه بريئاً عن أنحاء التراكيب، ويحتمل أن يريد بقوله: بها: أي أنّها لمّا خلقت على ذلك القصور وكان هو تعالی ممتنع الإدراك بالكنه اعترفت عند توجّهها إليه وطلبتها لمعرفته بالعجز عن إدراكه وأنّه ممتنع عنها فيها: أي باعترافها امتنع.

«وإِلَيْهَا حَاكَمَهَا»: أي جعلها حكماً بينها وبينه عند رجوعها من توجّهها في طلبه منجذبة خلف العقول حسرة معترفة بأنّه لا تنال بجود الاعتساف کنه

ص: 40

معرفته، ولا يخطر ببال أولى الرويّات خاطر من تقدير جلاله مقرّة بحاجتها واستغنائه، ونقصانها وكماله ومخلوقيّتها وخالقيّته، إلى غير ذلك بما لها من صفات المصنوعيّة، وله من صفات الصانعيّة موافقة للعقول في تلك الأحكام.

واستناد المحاكمة إليها مجاز لمناسبته ما ذكرناه، وقال بعض الشارحين: أراد بالأوهام هاهنا العقول، وظاهر أنّها لا تحيط به لكونه غير مرکَّب محدود، وتجلَّيه لها هو کشف ما يمكن أن يصل إليه العقول من صفاته الإضافيّة والسلبيّة.

وقوله: وبها امتنع منها أي بالعقول ونظرها علم أنّها لا تدرکه.

وقوله: إليها حاكمهاً: أي جعل العقول المدّعية أنّها أحاطت به وأدركته کالخصوم له سبحانه. ثمّ حاكمها إلى العقول السليمة الصحيحة، فحكمت له العقول السليمة على المدّعية لما ليست أهلا له؛ وما ذكره هذا الفاضل محتمل إلَّا أنّ إطلاق الأوهام على العقول إن صحّ فمجاز بغیر قرينة، وعدول عن الحقيقة من غير ضرورة، وقيل أراد لم تحط به أهل الأوهام؛ فحذف المضاف، وعند تأمّل ما بيّناه يلوح أنّه هو مراده عليه السّلام أو قريب منه، وهذه الألفاظ اليسيرة من الطائف إشاراته عليه السلام وإطلاقه على أسرار الحكمة.

«لَيْسَ بِذِي كِبَرٍ امْتَدَّتْ بِهِ النِّهَايَاتُ فَكَبَّرَتْهُ تَجْسِيماً»: الكبير يقال لعظيم الحجم والمقدار، ويقال لعالي السنّ من الجنس، ويقال لعظيم القدر ورفيعه، ومراده نفی الكبر عنه بالمعنى الأوّل، إذ من لوازم ذلك كون الكبر ممتدّاً في الجهات الثلاث طولاً وعرضاً، وعمقاً فيحصل الكبير الجسميّ، وقد تقدّس تعالى عن ذلك، وتقدّسه عن الكبر بالمعنى الثاني ظاهر، وتجسيماً مصدر في موضع الحال: أي فكبّرته مجسّماً له أو مجسّمة، وإنّما أسند الامتداد به إلى النهايات لأنّها غاية الطبيعة بالامتداد يقف

ص: 41

عندها، وينتهي بها فكانت من الأسباب الغائية فلذلك أسند إليها، وكذلك إسناد التكبير إليها؛ إذ كان التكبير من لوازم الامتداد إليها.

«ولَا بِذِي عِظَمٍ تَنَاهَتْ بِهِ الْغَايَاتُ فَعَظَّمَتْهُ تَجْسِيداً»: والعظم يقال على الكبير بالمعنى الأوّل والثالث دون الثاني، ومراده سلب العظيم عنه بالمعنى الأوّل لما مرّ، وإسناد التناهي إلى الغايات ظاهر، إذ كانت سبباً لوقوفه وبها ينقطع وإليها يبلغ، وكذلك إسناد التعظيم إليها كإسناد التكبير وإن أسند التناهي إليه بها جاز «بَلْ كَبُرَ شَأْناً وعَظُمَ سُلْطَاناً»: لمّا سلب الكبر والعظم عنه بالمعنيين الأوّلين أشار إلى أنّ إطلاقهما عليه بالمعنى الثالث. ونصب شأناً وسلطاناً على التميز؛ فهو الكبير شأناً إذ لا شأن أعلى من شأنه، و العظيم سلطانا إذ لا سلطان أرفع من سلطانه، وهو مبدأ شأن كلّ ذي شأن، ومنتهی سلطان كلّ ذي سلطان لا إله إلَّا هو الكبير المتعال ذو الكبرياء والعظمة والجلال. ثمّ أردف تمجیده تعالى بما هو أهله بالكلمة المتمّمة الكلمة الإخلاص فقال:

«وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ الصَّفِيُّ وأَمِينُهُ الرَّضِّيُّ صلى الله عليه وآله»: وظاهر كونه أميناً على وحيه ومرتضى لذلك. ثمّ أردف ذلك بالإشارة إلى كونه رسولا، وإلى وجوه ما أرسل به فقال: «أَرْسَلَهُ بِوُجُوبِ الْحُجَجِ»: وأراد بها إمّا المعجزات أو ما هو أعمّ من ذلك وهو ما یکون حجّة لله على خلقه في تكليفهم أن يقولوا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتّبع آياتك ويدخل في ذلك دلائل الأحكام وطرق الدين التفصيليّة. وكونه أرسل بوجوبها: أي وجوب قبولها على الخلق ووجوب العمل على وفقها.

«وظُهُورِ الْفَلَجِ»: هو الظهور على سائر الأديان والظفر بأهلها وبالعادلين بالله والجاحدين له.

ص: 42

«وإِيضَاحِ الْمَنْهَجِ»: هي طريق الله وشريعته، و ظاهر کونه موضحاً لها ومبيّناً، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ»(1) إشارة إلى بعض غایات بعثته وهي المراد بظهور الفلج، وروی بضمّ الفاء واللام وهو بضمّ الفاء وسكون اللام للفوز، ويجوز ضمّ اللام للشاعر والخطيب.

«فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ صَادِعاً بِهَا»: صدعه بالرسالة اظهر ما عليها والمجاهرة بها، وقد علمت أن أصل الصدع الشقّ وكأنّه شقّ بالمجاهرة بها عصا المشركين وفرّق ما اجتمع من شملهم.

«وحَمَلَ عَلَى الْمَحَجَّةِ دَالاًّ عَلَيْهَا»: هي طرائق الله الواضحة وشريعته دعوته إليها وجذبه للخلق إلى سلوكها بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالَّتي هي أحسن. ثمّ بالسيف لمن لم تنفعه المجادلة.

«وأَقَامَ أَعْلَمَ الِهْتِدَاءِ»: أدلَّته وهي المعجزات وقوانين الدين الكلَّيّة.

«ومَنَارَ الضِّيَاءِ»: إقامته له إظهارها وإلقاؤها إلى الخلق، ولفظ المحجّة والأعلام والمنار مستعارة کما سبق غير مرّة وصادعاً ودالَّاً نصب على الحال.

«وجَعَلَ أَمْرَاسَ الإِسْاَمِ مَتِينَةً وعُرَى الإِياَنِ وَثِيقَةً»: واستعار الأمراس والعرى لما يتمسّك به من الدين والإيمان، ورشّح بذكر المتانة والوثاقة، وأشار بجعله كذلك إلى تثبيت قواعد الإسلام وغرسها في قلوب الحلق واضحة جليّة بحيث تكون عصمة للتمسّك بها في طلب النجاة من مخاوف الدارين، وسبباً لا ينقطع دون الغاية القصوى وبالله التوفيق.

ص: 43


1- سورة التوبة: الآية 33

منها: في صفة عجیب خلق أصناف من الحيوانات:

«ولَوْ فَكَّرُوا فِي عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وجَسِيمِ النِّعْمَةِ لَرَجَعُوا إِلَی الطَّرِيقِ وخَافُوا عَذَابَ

الْحَرِيقِ ولَكِنِ الْقُلُوبُ عَلِيلَةٌ والْبَصَائِرُ مَدْخُولَةٌ»: معيبة وضع حرف لو: ليدلّ على امتناع الشيء لامتناع غيره لكن الأغلب عليه أن يستعمل للدلالة على امتناع اللازم لامتناع ملزومه، وذلك على وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك اللازم مساوياً الملزومه إمّا حقيقة أو وضعاً.

والثاني: أن يكون الملزوم علَّة لذلك ليلزم من رفع الملزوم رفع اللازم ويمكن الاستدلال به فأمّا إذا لم يكونا كذلك جاز أن يدلّ به على امتناع الملزوم لامتناع لازمه كما في قوله تعالى «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا»(1) وقد استعمله عليه السّلام هنا بالوجه الثاني من الوجهين الأوّلين، واستدلّ على أنّ الخلق لم يرجعوا إلى طريق الله عن غيّهم وجهالاتهم ولم يخافوا من وعيده بعذاب الحريق في الآخرة لأنّهم لم يفكَّروا فيها عظم من قدرته في خلق مخلوقاته وعجائب مصنوعاته وما جسم من نعمته على عباده، ويحتمل أن يريد بالقدرة المقدور مجازاً إطلاقاً لاسم المتعلَّق على المتعلَّق، وكان ذلك من باب الاستدلال بعدم العلَّة على عدم المعلول. إذ كان الفكر في ذلك سبباً عظيماً في الجذب لهم إلى اتّباع شریعته وسلوك سبيله إليها، وإليه الإشارة بقوله تعالى «أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ»(2) «أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ» الآیة(3).

ص: 44


1- سورة الأنبياء: الآية 22
2- سورة الأعراف: الآية 185
3- سورة ق: الآية 6

ولكنّ القلوب إلى قوله: مدخولة بيان لعدم العلَّة المذكورة منهم وهو الفكر، وأشار إلى عدمها بوجود ما ينافي وجود شرطها إذ كان كون القلوب عليلة وكون الأبصار معيبة ينافيان صحّتها، وسلامتها الَّذين هما شرطان في وجود الفكر الصحيح، ومع وجود المنافي لصحّة قلوبهم، وسلامة أبصار بصائرهم لا يحصل الصحّة الَّتي هي شرط الفكر فلا يحصل الفكر فلا يحصل معلوله، وهو الرجوع إلى الله، وعلى القلوب، وما يلحق إبصار البصائر من العيوب يعود إلى الجهل، وأغشية الهيئات البدنيّة والأخلاق الرديئة المكتسبة من جواذب الشهوات إلى خسائس اللذّات المغطَّية لأنوار البصائر الحاجبة عن إدراك واضح الطريق الحقّ.

«أَلَا يَنْظُرُونَ إِلَی صَغِیرِ مَا خَلَقَ كَيْفَ أَحْكَمَ خَلْقَهُ وأَتْقَنَ تَرْكِيبَهُ وفَلَقَ لَهُ

السَّمْعَ والْبَصَرَ وسَوَّى لَهُ الْعَظْمَ والْبَشَرَ»: تنبيه لهم على بعض مخلوقاته الَّتي أشار إلى عظم القدرة فيها. وأحسن بهذه الترتيب والتدريج الحسن فإنّ من آداب الخطيب إذا أراد القول في أمر نبّه عليه أوّلاً على سبيل الإجمال بقول كلَّيّ ليستعدّ السامعون بذلك لما يريد قوله وبيانه، ثمّ يشرع في تفصيله، ولمّا أراد عليه السّلام أن ينبّه على عظمة الله بتفصيل بعض مخلوقاته كالنمل، والجراد و نحوه أشار أوّلاً إلى عظيم القدرة، ووبّج السامعين على إغفالهم الفكر فيها ليعلم أنّه يريد أن ينبّه على تفصيل أمر؛ ثمّ تلاه بالتنبيه على لطيف الصنع في صغير ما خلق، وكيف أحكم خلقه وأتقن تركيبه على صغره، وفلق له البصر وسوّى له العظم، ولم يعيّن إلى أن استعدّت بذلك لتعظيم الله القلوب، وأقبلت بإفهامها النفوس فتلاه بذكر النملة وقال:

«انْظُرُوا إِلَی النَّمْلَةِ فِي صِغَرِ جُثَّتِهَا ولَطَافَةِ هَيْئَتِهَا»: كيفيتها التي عليها صورتها وصورة أعضائها.

ص: 45

«لَا تَكَادُ تُنَالُ بِلَحْظِ الْبَصَرِ ولَا بِمُسْتَدْرَكِ الْفِكَرِ»: وظاهر أنّ الإنسان لا يدركها بلحظ البصر إلى أن يعيد إليها بعناية، ولا يكاد عند مراجعة فكره، واستدراك أوّله وبادیه بإمعان فيه وتدقيق يعلم حقيقتها وكيفية خلقها وتشريح أعضائها تنظر في ذلك ولا تنال بمستدرك الفكر أي صورتها الظاهرة التي تدركها البصر فربما يسبق ذلك إلى بعض الأوهام لمكان الضعف بل فيما ذكرناه من شرح حقيقتها فأنه ليس حظ الفكر أن تدرك صورتها المحسوسة بالبصر وله أن يبحث عن عجائب صنعتها ليستدلّ بذلك على حكمة صانعها جلَّت عظمته ومحل قوله: لا تكاد تنال يحتمل أن يكون نصباً على الحال والعامل انظروا، ويحتمل أن يكون مستأنفاً.

«وكَيْفَ دَبَّتْ عَلَى أَرْضِهَا»: في محلّ الجرّ بدل من النملة، ويحتمل أن يكون کلاماً مستأنفاً و فيه معنى التعجّب.

«وصُبَّتْ عَلَى رِزْقِهَا»: أي ألقيت على رزقها وبعثت علیه بهداية وإلهام، وقيل: ذلك على العكس: أي صبّ عليها رزقها، ولفظ الصبّ مستعار لحركتها في طلبه ملاحظاً لشبهها بالماء المصبوب.

واعلم أنه عليه السلام لم يجعل محل التعجب هو: دبيبها من حيث هو دبيب فقط بل مع الاعتبارات الأُخر المذكورة فإنّك إذا اعتبرتها من حيث هي في غاية اللطافة ثمّ اعتبرت قوائمها و حرکات مفاصلها وخفضها ورفعها وبعد ذلك من استثبات الحسّ له ونسبتها إلى جرمها وإلى آخر المسافة الَّتي تقطعها بل جزء من حركتها، وكذلك انصبابها على رزقها بهداية تامّة إليه ونقلها إلى جحرها المشار إليه بقوله:

«تَنْقُلُ الْحَبَّةَ إِلَی جُحْرِهَا وتُعِدُّهَا فِي مُسْتَقَرِّهَا»: موضع قرارها فإنّك إذا اعتبرت

ص: 46

ذلك منها وجدت لنفسك منه تعجّباً وتفکَّراً في لطف جزئیّات صنعتها وحكمة خالقها ومدبّرها.

«تَجْمَعُ فِي حَرِّهَا لِبَرْدِهَا»: أي في الصيف للشتاء.

«وفِي وِرْدِهَا لِصَدَرِهَا»: أي في أيّام ورودها وتمكَّنها من الحركة لأيّام صدورها ورجوعها عن الحركة للعجز فإنّها تعجز في أيّام الشتاء عن ملاقاة البرد فتطلب بطن الأرض لكمون الحرارة فيه. ومن العجائب الَّتي حكاها أهل التجارب من أفعال النمل وإلهاماتها ما حكاه أبو - عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في كتاب «الحيوان» بفصیح عباراته قال: «إنّ النملة تدّخر في الصيف للشتاء فتقدم في أيّام المهملة ولا تضيّع أوقات إمكان الحزم»(1)، ومن عجب أدراكها وصحة وتميزها والنظر في عواقب أمورها أنها تخاف على الحبوب الَّتي ادّخرتها للشتاء أن تعفّن وتسوس في بطن الأرض، فتخرجها إلى ظهرها لتنشرها وتعيد إليها جفافها ويضربها النسيم فينفي عنها العفن والفساد. قال: وربّما تختار في الأكثر أن يكون ذلك العمل ليلاً ليكون أخفى، وفي القمر لأنّها فيه أبصر. فإن كان مکانها ندیّا وخافت أن تنبت الحبّة نقرت موضع القطمير(2) من وسطها لعلمها أنّها من ذلك الموضع تنبت، وربّما فلقت الحبّة بنصفين.

فأمّا إن كان الحبّ من الكزبرة فإنّها تفلقه أرباعاً لأنّ أنصاف حبّ الكزبرة ينبت من بين جمع الحبّ. فهي بهذا الاعتبار مجاوزة لفطنة جميع الحيوان. قال:

ص: 47


1- شرح نهج البلاغة لأبن میثم البحراني: ج 4 ص 134، ولم أعثر على مصدر آخر غير الذي أشار إليه المصنف في شرحه
2- القطمير: الذي تعلق به النواة مع القمع إذا أخرجتها من التمر: يُنظر العين للخليل الفراهيدي: ج 2 ص 797

ونقل إليّ بعض من أثق به أنّه احتفر بيت النمل فوجد الحبوب الَّتي جمعتها كلّ نوع وحدة. قال: ووجدنا في بعضها أنّ بعض الحبوب فوق بعض وبينها فواصل حائله من التبن ونحوه. ثمّ إنّ لها مع لطافة شخصها وخفّة حجمها في الشمّ والاسترواح ما ليس لسائر الحيوان، وذلك أنّه ربّما سقط من يد الإنسان جرادة أو عضو منها مثلاً في موضع ليس بقربه ذرّ ولا عهد لذلك المنزل به فلا يلبث أن يقبل ذرّة قاصدة إلى تلك الجرادة فتروم حملها فإذا أعجزتها بعد أن تبلى عذراً مضت إلى جحرها راجعة فلا يلبث الإنسان أن يجدها وقد أقبلت وخلفها كالخيط الأسود من أخواتها حتّى يتعاونّ عليها ليحملنها فأعجب من صدق شمّها لما يشمّه الإنسان الجائع. ثمّ انظر إلى بعد همّتها في ذلك وجرأتها على محاولة نقل شيء في وزن جسمها مائة مرّة وأضعافها، وليس من الحيوان ما يحمل أضعاف وزنه مراراً كثيرة كالنملة. قال: والَّذي ينبّه على إعلامها لأخواتها وإشعارها بمثل ما أشرنا إليه قصّة سليمان عليه السّلام مع النمل حيث حكى القرآن الكريم عنها «قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا»(1) فإنّ القول المشار إليه منها وإن لم يحمل على حقيقته فهو محمول على مجازه، وهو إشعارها لأخواتها بالحال المخوّفة للنمل من سليمان وجنوده.

قال: ومن عجيب ما يحكي عن النمل ما یحكي عن بعض من يعمل الإسطرلاب(2) أنّه أخرج طوقاً من صفر من الكير بحرارته فرمی به على الأرض

ص: 48


1- سورة النمل: الآية 18
2- الأسطرلاب من الأصل اليوناني: استرولابون، وهو في اللاتينية: استر ولابيوم، ومنه اسطرلبون في السريانية: آلة فلكية كانت تستعمل قديماً في رصد الأجرام السماوية، ثم اطلق الاسم على آلة كان يستعملها الملاحون لقياس الزوايا في القرن الثامن عشر الميلادي، ويقال له أصطرلاب، قال الخوارزمي: هو مقياس النجوم، وأنواعه كثیرة، وأسماؤها مشتقة من صورها كالهلالي من الهلال، والكروي من الكرة، والزورقي، والصدفي، والمسرطن والمبطح. عن تكملة المعاجم العربية؛ يُنظر السرائر لأبن ادريس الح يل: هامش ص: 313

ليبرد فاشتمل على نملة فكانت كلَّما طلبت جانباً منه لتخرج منعتها الحرارة فكانت مقتضى هروبها من الجوانب أن استقرّت ثم ماتت فوجدها قد استقرت في موضع رجل كاد من نقطة المركز وما ذاك إلا لطف حسها وقوة وهمها أن ذلك الموضع هو أبعد الأمكنة عن الخط المحيط قال: ومن عجائبها إلهامها أنّها لا تعرض لجعل(1) ولا جرادة ولا خنفساء ولا نحوها، ما لم يكن بها خبل(2) أو عقراً(3) أو قطع يد أو رجل فإذا وجدت شيئاً من ذلك وثبت عليها وكل ذلك من الإلهامات الَّتي إذا فکَّر اللبيب فيها كاد أن يحكم بكونها أعلم بقوانين معاشها وتدبير أحوال وجودها من كثير من الناس فإنّ الإنسان قد تهمل ذلك التدبير فلا يضبطه، ويستمرّ فيه على قانون واحد.

«مَكْفُولٌ بِرِزْقِهَا مَرْزُوقَةٌ بِوِفْقِهَا»: بمرادها نصب على الحال أي موافق و مطابق القوتها وعلى قدر کفایتها ويروي مكفول برزقها مرزوقة بوقفها ثم ذكر نسبية ذلك إلى ربها فقال:

ص: 49


1- الجعل من صف حشرة الخنفساء، وهو أسود اللون، له صدف على ظهر يفتحه ويطير قليل ثم يسقط، وإذا أنقلب على ظهر يبقى لا يستطيع الرجوع على بطنه إلا نادراً وهو: من ضمن حشرات التربة الباردة
2- خبل بمعنی جنون: يصيب بعض الحشرات اضطراب أشبه بالجنون وفقد السيطرة على توازنها وذلك جراء شمها لبعض لسموم أو تلقيها صدمة معينة من فريسة أو ما شابه، وهذا الخلل الحاصل لها تستشعر النملة وتستغله للهجوم على تلك الحشرة لأكلها
3- العقر: الثقب والجرح الذي يصيب جسم الحيوانات والحشرات وما شابه مما يساعد النملة على الدخول إلى جوف تلك الفريسة لأكلها

«لَا يُغْفِلُهَا الْمَنَّانُ»: أي لا يتركها من لطفه وعنايته فإنّه باعتبار ما هو منّان على خلقه لا يجوز في حكمته إهمال بعضها من رزق يقوم به في الوجود.

«ولَا يَحْرِمُهَا الدَّيَّانُ»: المجازي ووجه ذكر المجازاة هنا أنّها حيث دخلت في الوجود طائعة أمره وقامت فيه منقادة لتسخيره وجب في الحكمة الإلهيّة جزاؤها ومقابلتها بما يقوم بوجودها فلا يكون محرومة من مادّة بقائها على وفق تدبيره؟

«ولَوْ»: كانت «فِي الصَّفَا الْيَابِسِ»: الحجر الأملس «والْحَجَرِ الْجَامِسِ»: أي رزقها الله مع ضعفها وأن كانت في جوف حجراً يابس صلب وفيه من التأكيد والمبالغة ما لا يخفی بل له أبوب معاشها في كل مكان ثم نبه على محال آخر للفكر في النملة فقال:

«ولَوْ فَكَّرْتَ فِي مَجَارِي أَكْلِهَا»: وما يأكله وتلك كل الخلق والأمعاء «فِي عُلُوِهَا»: رأسها وما يليه إلى الجزء المتوسط منها.

«وسُفْلِهَا ومَا فِي الْجَوْفِ مِنْ شَرَاسِيفِ بَطْنِهَا»: هي أطراف الضلع التي تشرف على البطن والواحد شر سوف «ومَا فِي الرَّأْسِ مِنْ عَيْنِهَا وأُذُنِهَا»: وهي محل القوة السامعة منها «لَقَضَيْتَ مِنْ خَلْقِهَا عَجَباً ولَقِيتَ مِنْ وَصْفِهَا تَعَباً»: أراد أن ذلك على غاية صغره ولطافته محل العجب ومجال النظر اللطيف المستلزم للشهادة بحكمته الصانع ولطف تدبيره الذي يقضي الإنسان من تأمله عجب والقضاء بمعنى الأداء هنا أي لأديت عجباً، ويحتمل أن يكون بمعنى الموت: أي لقضيت نحبك من شدّة تعجّبك، ويكون عجبانصب على المفعول له. ثمّ لمّا نبّه على محال الفكر ووجوه الحكمة فيها أردف ذلك بتنزيه صانعها وتعظيمه تعالى، وقرن ذلك بنسبته إلى بعض صنعه بها قال:

ص: 50

«فَتَعَالَی الَّذِي أَقَامَهَا عَلَى قَوَائِمِهَا وبَنَاهَا عَلَى دَعَائِمِهَا»: أي ما يقوم به بدنها من الأمور التي تقوم مقام العظام والعصب والأوتار ونحوها ليتحصل التنبيه على عظمته.

«لَمْ يَشْرَكْهُ فِي فِطْرَتِهَا فَاطِرٌ ولَمْ يُعِنْهُ عَلَى خَلْقِهَا قَادِرٌ»: أي لوسارت نفسك في طرق فکرها و مذاهب نظرها، وهي الأدلَّة وأجزاء الأدلَّة من المقدّمات و أجزائها المستنبطة من عالم الخلق والأمر لتصل إلى غايات فكرك في الموجودات لم يمكن أن يدلَّك دليل إلَّا على أنّ خالق النملة على غاية صغرها وخالق النخلة على عظمها وطولها واحد وهو المدبّر الحكيم.

«ولَوْ ضَرَبْتَ»: ذهبت «فِي مَذَاهِبِ فِكْرِكَ لِتَبْلُغَ غَايَاتِهِ مَا دَلَّتْكَ الدَّلَلَةُ إِلَّا عَلَى

أَنَّ فَاطِرَ النَّمْلَةِ هُوَ فَاطِرُ النَّخْلَةِ»: أي لوسارت نفسك في طرق فكرها ومذاهب نظرها، وهي الأدلَّة وأجزاء الأدلَّة من المقدّمات وأجزائها المستنبطة من عالم الخلق والأمر لتصل إلى غايات فكرك في الموجودات لم يمكن أن يدلَّك دليل إلَّا على أنّ خالق النملة على غاية صغرها وخالق النخلة على عظمها وطولها واحد وهو المدبّر الحكيم «لِدَقِيقِ تَفْصِيلِ كُلِّ شَيْءٍ وغَامِضِ اخْتِاَفِ كُلِّ حَيٍّ»: إشارة إلى وسط الحجج ما أدعاه من أشتراك النملة والنخلة في الاستناد إلى صانع واحد مدبّر حکیم، ومعنى ما ذكر أنّ لكلّ شيء من الموجودات الممكنة تفصيل لطيف دقيق واختلاف شكل وهيئة ولون ومقدار ووجوه من الحكمة تدلّ على صانع حکیم خصّصه بها دون غيره، وتقرير الحجّة أنّ وجود النملة والنخلة اشتمل كلّ منهما على دقيق تفصيل الخلقة وغامض اختلاف شكل، وهيئة وكلّ ما اشتمل على ذلك فله صانع مدبّر حکیم خصّ کلاً منهما با يشتمل عليه، وهذه الحجّة هي المسمّاة في عرف المتكلَّمين بالاستدلال بإمكان الصفات کما بيّناه قبل في قوله:

ص: 51

الحمد لله الدالّ على وجوده بخلقه.

ومَا الْجَلِيلُ واللَّطِيفُ والثَّقِيلُ والْخَفِيفُ والْقَوِيُّ والضَّعِيفُ فِي خَلْقِهِ إِلَّا سَوَاءٌ»: مؤكَّد لما سبق من الدعوى، وكاسر لما عساه يعرض لبعض الأوهام من استبعاد نسبة الحلقة العظيمة والخلقة اللطيفة الحقيرة كالنملة إلى صانع واحد؛ فأشار إلى أنّ كلّ المخلوقات وإن تباينت أوصافها و تضادّت صورها وأشكالها؛ فإنّه لا تفاوت بالنظر إلى قدرته، وكمالها بين أن يفيض عنه صورة النخلة؛ أو صورة الذرّة، وليس بعضها بالنسبة إليه؛ أولى وأقرب من بعض، ولا هو أقوى بعضها من بعض وإلَّا لكان ناقصاً في ذاته، وكان بما هو أولى به مستفيداً كما لا يفوته بعدمه عنه، وقد ثبت تنزيه جنابه المقدّس عن ذلك في مظانّه من الكتب الحكمیّة والكلاميّة بل إن كان فيهما تفاوت، واختلاف فمن جانب القابل، واختلاف استعدادات الموادّ بالشدّة والضعف والأقدم، والأحدث على ما أشرنا إليه غير مرة، واللطيف کما يراد به صغر الحلقة كذلك قد يراد به دقيق الصفة، وقد يراد به الشفّاف كالهواء، والأوّل هو مراده ولذلك جعله مقابلاً للجليل.

«وكَذَلِكَ السَّمَاءُ والْهَوَاءُ والرِّيَاحُ والْمَاءُ»: وجه الشبه حاجتها في خلقتها وتركيبها وأحوالها المختلفة والمتّفقة إلى صانع حکیم، وأشار إلى الأمور المتضادّة أوّلاً ونسبها إلى قدرته تعالى باعتبار تضادّها بل باعتبار ما اشتمل عليه كلّ منها من الحكمة، والمنفعة، وكونها موادّ الأجسام المركَّبات، والهواء أعمّ من الرياح التخصيص مسمّى الرياح بالحركة دون الهواء.

«فَانْظُرْ إِلَی الشَّمْسِ والْقَمَرِ والنَّبَاتِ، والشَّجَرِ والْمَاءِ والْحَجَرِ واخْتِلَافِ هَذَا

اللَّيْلِ والنَّهَارِ، وتَفَجُّرِ هَذِهِ الْبِحَارِ، وكَثْرَةِ هَذِهِ الْجِبَالِ وطُولِ هَذِهِ الْقِلَالِ، وتَفَرُّقِ

هَذِهِ اللُّغَاتِ، والأَلْسُنِ الْمُخْتَلِفَاتِ»: امر باعتبار حال ما عدّد من المخلوقات وما

ص: 52

اختصّ به كلّ منها من الصفات، والأشكال والمقادير، والأضواء، والألوان والمنافع إلى غير ذلك ممّا يدلّ على حاجة كلّ منها إلى مخصّص حكيم يخصّصه بما هو أليق به وأوفق للحاجة اللازمة له، وأنسب إلى استعداده بعد اشتراك جميعها في الجسميّة، وهو أمر بتقرير الحجّة الَّتي ذكرناها في كلّ واحد من الأمور المذكورة، ولمّا كان حال أكثر هذه الأجسام المذكورة مفتقراً إلى تقديم النظر البصريّ لغاية التفکَّر والاعتبار فيها أمر به، وأمّا وجوه الاعتبارات؛ فأكثر من أن يحصر؛ فإنّك إذا اعتبرت حال الشمس، والقمر في عظم أجرامهما، والضياء الصادر عنهما وحركاتهما وتنقّلهما في منازلهما، وما تستلزمه تلك الحالات من التأثيرات، والإعدادات لوجود المركَّبات العنصريّة من المعدن، والنبات والحيوان؛ ثمّ اعتبرت ما ينفصل به أحدهما عن الآخر من الجرم وزمان السير، وكون القمر مستفيداً للنور من الشمس وغير ذلك ممّا لا يعلم إلَّا الله سبحانه، وكذلك إذا نظرت إلى النبات والشجر وجواهرهما وأشكالهما واختلاف أجزائهما في الألوان والمقادير، والثمار وما يستلزمه من المنفعة لوجود الحيوان والمضرّة لبعضها إلى غير ذلك ممّا علمته فيما سلف، وكذلك الماء في كونه على غاية من الدقّة واللطافة، وكون الحجر بعكس الوصفين مع أنّ أكثر المياه إنّما نبع من الأحجار ثمّ نظرت إلى المنافع الموجودة؛ فيهما والمضارّ العارضة عنهما، وكذلك النظر إلى هذا الليل والنهار، واختلافهما في هذا العالم، وتعاقبهما، وما يستلزمانه من المنفعة المختصّة بكلّ منهما ممّا امتنّ الله تعالى على عباده بها حيث قال: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ»(1) وقال «يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ»(2) الآية وقال «قُتِلَ

ص: 53


1- سورة يونس: الآية 5
2- سورة النحل: الآية 11

الِإنْسانُ ما أَكْفَرَهُ»(1) إلى قوله «مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ»(2) إلى غير ذلك من الآيات وقال «أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ»(3) وقال «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا» إلى قوله «أَلْفَافا»(4) وكذلك أذا اعتبرت تفجير هذه البحار وما يستلزمه من المنفعة كما قال تعالى «مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ»(5) «وَبَنَيْنَا

فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا * وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا * وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا»(6) وكذلك إذا اعترت تفجر هذه البحار «مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ»(7) وقال «يْخَرُجُ مِنْهُاَ اللُّؤْلُؤُ والْمَرْجانُ»(8) وكذلك إذا اعتبرت كثرة الجبال وقلالها وعروضها وأطوالها وما اشتملت عليه من معادن الجواهر وغيرها، وكذلك تفرق اللغات، واختلاف الألسنة، وجدت ذلك النكر والاختلاف مشاهداً بوجود صانع حكيم، وتقريرها كما علمت أن تقول: إنّ هذه الأجسام كلها مشتركة في الجسميّة، واختصاص كلّ منها بما يميّز به من الصفات المتعدّدة ليس للجسميّة، ولوازمها، وإلَّا وجب لكلّ منها ما وجب للآخر ضرورة اشتراكها في علَّة الاختصاص فلا مميّز له، هذا خُلفٌ، ولا لشيء من عوارضها الجسميّة لأن الكلام في اختصاص كلّ منها بذلك العارض کالكلام في الأوّل ويلزم التسلسل فيبقى أن يكون الأمر خارج عنها هو الفاعل الحكيم المخصّص

ص: 54


1- سورة عبس: 17
2- سورة النازعات: الآية 33
3- سورة الزمر: الآية 21
4- سورة النبأ: الآيات: 10 - 11
5- سورة الرحمن: 19
6- سورة النبأ: الآيات: 10 - 16
7- سورة الرحمن: 19
8- سورة الرحمن: 22

لكلّ منها بحدّ من الحكمة والمصلحة، وقد مرّ تقرير هذه الحجّة مراراً؛ ثمّ لمّا نبّه على وجود الصانع سبحانه؛ أردف ذلك بالدعاء على من جحده، أو الإخبار عن لحوق الويل فقال: «فَالْوَيْلُ لِمَنْ(1) جَحَدَ الْمُقَدِّرَ أَنْكَرَ الْمُدَبِّرَ»: قال: سیب ویه: الويل مشترك بين الدعاء والخبر، ونقل عن عطاء بن يسار أنّ الويل واد في جهنّم لو أرسلت فيه الجبال لماعت من حرّه. ورفعها بالابتداء، والخبر لمن أنكر والمدبّر: هو العالم بعاقبة الأمر وما يشتمل عليه من المصلحة ويعود إلى القضاء، والقدر هو الموجد على وفق ذلك العلم کما سبق بيانه، وتأخير الدعاء على الجاحدين بعد إيضاح الحجّة عليهم هو الترتيب الطبيعي، والإشارة بالجاحدين إلى صنف من العرب أنكروا الخالق والبعث، وقالوا: بالدهر المفني؛ کما حكيناه عنهم في الخطبة الأولى، وهم الَّذين أخبر القرآن المجيد عنهم بقوله «وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ»(2).

«زَعَمُوا أَنَّهُمْ كَالنَّبَاتِ مَا لَهُمْ زَارِعٌ ولَا لِخْتِاَفِ صُوَرِهِمْ صَانِعٌ»: إشارة إلى أن شبهتهم وهي من باب التمثيل فالأصل فيها هو النبات، والفرع أنفسهم، والحكم هو ما توهموه من كونهم بلا صانع كما أنّ النبات بلا زارع، ولعلّ الجامع في اعتبارهم هو اختلاف الحياة والموت عليهم كما أشار إليه القرآن الكريم حكاية عنهم «نَمُوتُ وَنَحْيَا»(3) أو نحوه من الأمور المشتركة وإن كانوا لا يلتفتون الفتات الجامع، إذ مراعاة هذه الأمور وتحقيق أجزاء التمثيل من صناعة هم عنها بمعزل، وقد علمت أنّ التمثيل بعد تمام أجزائه إنّما يفيد ظنّاً مختلف بالشدّة والضعف،

ص: 55


1- ورد في بعض النسخ: أَنْكَرَ
2- سورة الجاثية: الآية 24
3- سورة الجاثية: الآية 24

وعلمت وجوه الفساد فيه؛ «ولَمْ يَلْجَئُوا إِلَی حُجَّةٍ فِيمَا ادَّعَوْا ولَا تَحْقِيقٍ لِمَا أَوْعَوْا»: جعلوه في الوغا.

«وهَلْ يَكُونُ بِنَاءٌ مِنْ غَیْرِ بَانٍ أَوْ جِنَايَةٌ مِنْ غَیْرِ جَانٍ»: إنكار ومنع لما ادّعوه وأنّهم لم يأتوا فيه بحجّة ولا تحقیق برهان، ويحتمل أن يكون قوله: (وهل إلى جان)، تنبيهاً على وجود نقيض الحكم المدّعی، وهو كون خلقهم وخلقة النبات شاهدة بوجود صانع لها، وذلك التنبيه بالإشارة إلى أوسط قياس من الشكل الأوّل، وكبراه في صورة الاستفهام.

وتقرير القياس: أنّهم صنعة ولا شيء ممّا هو صنعة بلا صانع ينتج فلا شيء منها بلا صانع وهو نقيض المدّعى، ولمّا كانت الكبرى ضروریّة اقتصر على التنبيه عليها بامتناع وجود البناء من غير بان والجناية من غير جان فإنّ ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر من غير مرجّح محال بالبديهة وممتنع في فطن الصبيان والبهائم؛ إذ كان الحمار عند صوت الخشبة يعد، وخوفاً من الضرب، وذلك لما تقرّر في فطرته أنّ حصول صوت الخشبة بدونها محال؛ ثمّ لو سلَّم لهم ثبوت الحكم في الأصل، وهو كون النبات بلا زارع فلم كان عدم الزارع يدلّ على أنّ النبات لا فاعل له، وإنّما يلزم ذلك أن لو كان الفاعل؛ إنّما هو الزارع، وذلك من الأوهام الظاهرة كذبها بأدنى تأمّل إذا أستعقب بالنظر؛ إذ كان الزارع ليس إلَّا إعدادا ماللأرض والبذر: وأمّا وجود الزرع، والنبات فمستند إلى مدبّر حکیم متعال عن الحسّ، والمحسوس لا تدركه الأبصار، ولا تكتنفه الأوهام، والأفكار سبحانه وتعالى عمّا يقول الظالمون علوّا كبيراً.

«وإِنْ شِئْتَ قُلْتَ فِي الْجَرَادَةِ إِذْ خَلَقَ لَهَا عَيْنَیْنِ حَمْرَاوَيْنِ وأَسْرَجَ لَهَا حَدَقَتَیْنِ

قَمْرَاوَيْنِ»: مضيئن «وجَعَلَ لَهَا السَّمْعَ الْخَفِيَّ وفَتَحَ لَهَا الْفَمَ السَّوِيَّ وجَعَلَ لَهَا

ص: 56

«الْحِسَّ الْقَوِيَّ ونَابَیْنِ بِهِاَ تَقْرِضُ»: تقطع «ومِنْجَلَیْنِ بِهِمَا تَقْبِضُ يَرْهَبُهَا الزُّرَّاعُ فِي

زَرْعِهِمْ ولَا يَسْتَطِيعُونَ ذَبَّهَا ولَوْ أَجْلَبُوا»: أجمعوا «بِجَمْعِهِمْ حَتَّى تَرِدَ الْحَرْثَ فِي

نَزَوَاتِهَا وتَقْضِيَ مِنْهُ شَهَوَاتِهَا» : هذا تنبيه آخر على وجود الصانع الحکیم جلَّت عظمته في وجود بعض جزئیات مخلوقاته وصغيرها وهي الجرادة: أي وإن شئت قلت فيها ما قلت في النملة وغيرها قولاً بيّناً كاشفاً عن وجوه الحكمة فيها بحيث يشهد ذلك بوجود صانعٍ حکیم لها فنبّه على بعض دقائق الحكمة في خلقها وهي خلق العينين الحمراوين مع كون حدقتها قمراوين، واستعار السراج للحدقتين باعتبار الحمرة النارية والإضاءة.

ثمّ خلق السمع الخفيّ: أي عن أعين الناظرين، وقيل: أراد بالخفيّ اللطيف السامع لخفيّ الأصوات فوصفه بالخفاء مجازاً إطلاقاً لاسم المقبول على قابله. ثمّ فتح له الفم السويّ السويّ: فعيل بمعنى مفعول: أي المسويّ والتسوية: التعديل بحسب المنفعة الخاصّة بها؛ ثمّ خلق الحسّ القويّ، وأراد بحسّها قوّتها الوهميّة وبقوّته حذقها فيما أُلهمت إيّاه من وجوه معاشها وتصرّفها؛ يقال: لفلان حسّ حاذق إذا كان ذكيّاً فطناً درّاكاً؛ ثمّ خلق النابين، واستعار لها المنجلين ليديها، ووجه المشابهة تعوّجهما وخشونتهما، وقرن بذكر النابين والمنجلين ذكر غايتهما وهما القرض والقبض، ومن لطيف حكمته تعالى في الرجلين أن جعل نصفهما الَّذين تقع عليها اعتمادها و جلوسها شوکاً کالمنشار ليكون لها معيناً على الفحص ووقاية لذنبها عند جلوسها وعمدة لها عند الطيران.

وإذا توجّهت بعساکرها من أبناء نوعها إلى بقعة وهجمت على زرعها وأشجارها أمحته، ولم يستطع أحد دفعها حتّى لو أنّ ملكاً من الملكوت أجلب عليها بخيله ورجله ليحمي بلاده منها لم يتمکَّن من ذلك، وفي ذلك تنبيه على

ص: 57

عظمة الخالق سبحانه وتدبير حکمته؛ إذ كان يبعث أضعف خلقه على أقوى خلقه، ويهيّئ للضعيف من أسباب الغلبة ما لا يستطاع دفعه معها حتّى ترد ما ترید وروده وتقضى منه شهواته؛ فيحلّ باختيار منه وترحل باختيار، ومن عجائب الخواصّ المودعة في الجراد أنّها تلتمس لبيضها الموضع الصلد والصخور الملس ثقة بأنّها إذا ضربت فيها بأذنابها انفرجت لها، ومعلوم أنّ ذلك ليس بقوّة إذ ليس في ذنب الجرادة من القوّة أن يخرق الحجر الَّذي يعجز عنه المعول بمجرّد قوّته لولا خاصيّة لها هناك؛ ثمّ إذا ضربت في تلك البقاع، وألقت بيضها، وأنظمّت عليها تلك الأخاديد الَّتي أحدثتها وصارت لها؛ كالأفاحيص صارت حاضنة لها، ومربّية، وحافظة، وواقية حتّى إذا جاء، وقت دبيب الروح خرجت من البيض صهباء إلى البياض؛ ثمّ تصفر وتتلوّن فيه خطوط إلى السواد؛ ثمّ يصير فيه خطوط سود وبيض، ثمّ يبدو حجم جناحیه؛ ثمّ يستقلّ فيموج بعضه في بعض، وقيل: إنّ الجراد إذا أراد الخضرة، ودونه نهر جار صار بعضه جسر البعض ليعبر إليها؛ فمن الناس من جعل ذلك حيلة لها أُلهمت إيّاها، وأباه قوم، وقالوا: بل الزحف الأوّل من الدبي؛ إذا أراد الخضرة، ولا يقدر عليها إلَّا بالعبور إليها عبر؛ فإذا صارت تلك القطعة فوق الماء طافية صارت للزحف الثانية الَّتي يريد الخضرة كالأرض، ولربّما نقل لها خواصّ أخرى؛ لا تعلَّق لها بما نحن بصدده قوله:

«وخَلْقُهَا كُلُّهُ لَا يُكَوِّنُ إِصْبَعاً مُسْتَدِقَّةً»(1): الواو للحال: أي أنّه تعالى خلقها على ما وصفت وأودعها من عجائب الصنع ما ذكرت بحيث يخاف منها الزرّاع مع أنّ خلقها كله دون الإصبع المستدقّة، وهذه الكلمة مستلزمة لتمام التعجّب من خلق الله فيها الأمور الموصوفة حتّى لو قدّرنا أنّها وصفت لمن لم يرها فربّما اعتقد

ص: 58


1- أي أن حجم الجرادة خلقها الله تعالى وهي لا تتجاوز في خلقها الأصبع الرفيع

أنّ لها خلقا عظيما تستند إليه هذه الأوصاف، ولم يكن عنده تعجّب حتّى نتبيّن مقدار خلقها، وصغر صورتها؛ ثمّ لما بيّن بعض مبدعاته، ومكوّناته نوّه بزيادة عظمته تعالى وبركته بقوله:

«فَتَبَارَكَ اللهُ الَّذِي يَسْجُدُ لَهُ «مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا»(1): كلٌ بسجود لا يمكن من غيره مع اشتراك الكلّ في الدخول تحت ذلّ الحاجة إلى کمال قدرته وخضوع الإمكان بين يدي رحمته، وإليه الإشارة بقوله تعالى «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا»(2) وكذا.

«ويُعَفِّرُ»: يلقى في العفر وهو التراب.

«لَهُ خَدّاً ووَجْهاً»: فما كان ذا وجه وخدّ حقيقة فلفظ التعفير صادق عليه حقيقة، وما لم يكن السجود صادق عليه استعارة لخضوعه الخاصّ به، ولفظ التعمير والخدّ والوجه ترشيحات على أنّ موضوع السجود في اللغة هو الخضوع.

«ويُلْقِي إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ إِلَيْهِ سِلْماً»: أي صلحاً وانقياداً «وضَعْفاً ويُعْطِي لَهُ الْقِيَادَ

رَهْبَةً وخَوْفاً»: ونصبهما على المفعول له.

«فَالطَّیْرُ مُسَخَّرَةٌ لَأمْرِهِ»: لقوله تعالى «أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ»(3) وكونها مسخّرة يعود إلى دخولها تحت حكم تصرّفه العامّ فيها قدرةً وعلماً والخاصّ تخصيصاً وتعييناً.

«أَحْصَى عَدَدَ الرِّيشِ مِنْهَا والنَّفَسِ»: إحصاؤهما باعتبار تسخيرها تحت تصرّفه

ص: 59


1- سورة الرعد: الآية 15
2- سورة الرعد: الآية 15
3- سورة النحل: الآية 79

العامّ بعلمه تعالى.

«وأَرْسَى قَوَائِمَهَا عَلَى النَّدَى والْيَبَسِ»: وإرساؤها: أي تثبتها على قوائمها في الندى كطير الماء واليبس كطير البرّ باعتبار دخولها تحت قدرته وخلقها كذلك.

«وقَدَّرَ أَقْوَاتَهَا وأَحْصَى أَجْنَاسَهَا»: تقدير أوقاتها وما يصلح لكل منها وما يكفيه باعتبار دخولها تحت قدرته، وعلمه معاً إذ كان التقدير هو إنزال تلك المقادير وإعدادها على وفق العلم الإلهيّ، وإحصاء أجناسها باعتبار علمه تعالى.

وإذا أردت تفصيل الأنواع.

«فَهَذَا غُرَابٌ وهَذَا عُقَابٌ وهَذَا حَمَامٌ وهَذَا نَعَامٌ»: لم يرد الجنس بالاصطلاح الخاصّ بل اللغويّ وهو النوع في المصطلح العلميّ، وراعي في كلّ قرينتين من الأربع السجع المتوازي.

«دَعَا كُلَّ طَائِرٍ بِاسْمِهِ وكَفَلَ لَهُ بِرِزْقِهِ»: الدعاء استعارة في أمر كلّ نوع بالدخول في الوجود، ووجه الاستعارة ما يشترك فيه معنى الدعاء، والأمر من طلب دخول ماهية المطلوب بالدعاء، والأمر في الوجود وهو كقوله تعالى «فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ» الآي(1)ة، ولما استعار لفظ الدعاء رشّح بذكر الاسم لأنّ الشيء إنّما يدعى باسمه، ويحتمل أن يريد الاسم اللغويّ، وهو العلامة؛ فإنّ لكلّ نوع من الطير خاصّة وسمة ليست للآخر، ويكون المعنى أنّه تعالى أجرى عليها حكم القدرة بمالها من السمات، والخواص في العلم الإلهيّ، واللوح المحفوظ، كل لغة

ص: 60


1- سورة فصلت الآية 12

تواضع عليها العباد في المستقبل، وذكر الأسماء الَّتي يتواضعون عليها، وذكر لكلّ اسم مسمّاه؛ فعند إرادة خلقها نادي كلّ نوع باسمه؛ فأجاب داعيته وأسرع في إجابته، واعلم أنّك إذا تأمّلت حكمة الصانع في خلق الطير شاهدت عجباً، حين اقتضت الحكمة الإلهيّة أن يكون طائراً في الجوّ خفّف جسمه، وأدمج خلقه؛ فاقتصر من القوائم على اثنتين ومن الأصابع على أربع من منفذين للزبل والبول على منفذ، ثمّ خلقه تعالى على جؤجؤ محدّب ليسهل عليه خرق الهواء کما يجعل صدر السفينة بهذه الهيئة ليشقّ الماء، وخلق في جناحيه وذنبه ريشات طوال لينهض بها إلى الطيران، و کسی جسمه كله ريشاً ليتداخله الهواء فيقيله، ولمّا كان طعامه الحبّ أو اللحم يبلعه بلعاً من غير مضغ نقص من خلقه الأسنان، وخلق له منقاراً صلباً، وأعانه بفضل حرارته في جوفه يستغني بها عن المضغ، ثمّ خلقه تعالى يبيض بيضاً ولا يلد لكيلا يثقل بكون الفراخ في جوفه عن الطيران، وجعل عوض استعداد الولد في البطن استعداده في البيضة بحرارة الحضن بمشاركة من الذكر والأنثى في ذلك، ومن العناية الإلهيّة بدوام نسله وبقائه أن ألهمه العطف على فراخه فیلتقط الحبّ فيغذوبه فراخه بعد استقراره في حوصلته ليلين، وإذا فكَّرت في الحوصلة وجدتها كالمخلاة المعلَّقة أمامه فهو يعبّي فيها ما أراد من الطعم بسرعة ثمّ ينفذ إلى القانصة على مهل، وذلك أنّ مسلك الطعم إلى القانصة ضيّق لا ينفذ فيه الطعم إلَّا قليلاً؛ فلو كان هذا الطائر لا يلتقط حبّة ثانية حتّى تصير الأولى إلى القانصة لطال ذلك عليه؛ فخلق تعالى له الحوصلة لذلك؛ ثمّ انظر إلى الريش الَّذي تراه في الطواويس والدراريج وغيرهاعن استواء ومقابلة على نحو ما يخطَّ بالأقلام، وكذلك انظر إلى العمود الجامع للريشة الَّذي يجری مجرى الجدول الممدّ للريشة والمغذّي لها، وخلق عصبيّ الجوهر من منبت الريش صلباً متيناً ليحفظ الريش، ويمسكه لصلابته؛ فسبحان الَّذي خلق الأزواج كلها،

ص: 61

وأحصى كلّ شيء عددا، وأحاط بكلّ شيء علماً.

«وأَنْشَأَ السَّحَابَ الثِّقَالَ فَأَهْطَلَ دِيَمَهَا وعَدَّدَ قِسَمَهَا فَبَلَّ الأَرْضَ بَعْدَ جُفُوفِهَا»:

يبسها «وأَخْرَجَ نَبْتَهَا بَعْدَ جُدُوبِهَا»: فخطوطها فيه إشارة إلى کمال قدرته باعتبار خلقه السحاب الثقال بالماء، وإرسال دیمها وهي أمطارها، وتعدید قسمها وهو مايصيب كلّ بلد وأرض منها من القسم.

وظاهر أنّه تعالى يعدّ الأرض بتلك البله بعد الجفاف لأن يخرج منها النبات بعد الجدب وإليه الإشارة بقوله تعالى «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ»(1) وبالله التوفيق.

ومن خطبة له عليه السّلام في التوحيد، وتجمع هذه الخطبة من العلم ما لا تجمعه خطبة:

واعلم أنّ مدار هذه الخطبة على التوحيد المطلق والتنزيه المحقّق، وقد أشار إلى توحيده تعالى وتنزيهه باعتبارات من الصفات الإضافيّة والسلبيّة.

فالأوّل: قوله: «مَا وَحَّدَهُ مَنْ كَيَّفَهُ»: دلَّت هذه الكلمة بالمطابقة على سلب التوحيدله تعالى عمّن وصفه بكيفيّة، وبالالتزام على أنّه لا يجوز وصفه بها. فنقول: أمّا رسمها فقيل: إنّها هيئة قارّة في المحلّ لا يوجب اعتبار وجودها فيه نسبة إلى أمر خارج عنه ولا قسمة في ذاته ولا نسبة واقعة في أجزائه.

وبهذه القيود يفارق سائر الأعراض، وأقسامها أربعة: فإنّها إمّا أن تكون مختصّة بالكمّ من جهة ماهو كمّ كالمثلثيّة، والمربعيّة، وغيرها من الأشكال للسطوح، وكالاستقامة، والانحناء للخطوط، و كالفرديّة، والزوجيّة للأعداد، وهذا

ص: 62


1- سورة السجدة: الآية 27

قسم أول، وأما أن لا يكون مختصة به، وأما أن يكون محسوسة كالألوان، والطعوم والروائح، والحرارة، والبرودة، وهذه تنقسم إلى راسخة كصفرة الذهب، وحلاوة العسل، وتسمّى هذه کیفیّات انفعالية؛ إمّا لانفعال الحواسّ عنها، وإمّا لانفعالات حصلت في الموضوعات عنها، أو غير راسخة إمّا سريعة الزوال کحمرة الخجل، وتسمّى انفعالات لكثرة انفعالات موضوعاتها بسببها سرعة، وهذا قسم ثانٍ.

وإمّا أن لا تكون محسوسة، وهي إمّا استعدادات أما لکمالات کالاستعداد للمقاومة والدفع، وإمّا لانفعالات، وتسمّى قوّة طبيعيّة كالمصاحبة والصلابة، أو النقائص وهي مثل الاستعداد بسرعة الإدغان والانفعال، ويسمّى ضعفاً؛ ولا قوّة طبيعيّة كالممراضيّة، وإمّا أن لا يكون استعداد الكال والنقصان، في أنفسها كمالات أو نقائص، وهي مع ذلك غير محسوسة بذواتها فما كان منها ثابتاً يسمّى ملكة كالعلم والعفّة والشجاعة، وما كان سريع الزوال يسمّى حالاً كغضب الحليم ومرض الصحاح. فهذه أقسام الكيف.

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّما قلنا: إنّه يلزم من وصفه بالكيفيّة عدم توحيده لما نبّه في الخطبة الأولى من قوله عليه السّلام في وصف الله سبحانه: فقد قرنه ومن قرنه فقد ثنّاه، وكما سبق تقريره؛ فينتج أنّ من وصف الله سبحانه فقد ثنّاه. وحينئذ تبيّن أنّ من كيّفه لم يوحّده لأنّ توحيده وتثنيته ممّا لا يجتمعان.

«ولَا حَقِيقَتَهُ أَصَابَ مَنْ مَثَّلَهُ»: أي لم يصب حقیقته من جعل له مثلاً، وذلك أنّ كلّ ماله مثل؛ فليس بواجب الوجود لذاته لأنّ المثليّة إمّا أن يتحقّق من بعض الوجوه وحينئذٍ ما به التماثل، إمّا الحقيقة أو جزؤها أو أمر خارج عنها؛ فإن كان الأوّل كان ما به الامتياز عرضيّاً للحقيقة لازماً أولاً لكن ذلك باطل لأنّ المقتضي لذلك العرضيّ إمّا الماهيّة؛ فيلزم أن يكون مشتركاً بين المثليّن لأنّ مقتضى الماهيّة

ص: 63

الواحدة لا يختلف؛ فما به الامتياز لأحد المثلين عن الآخر حاصل للآخر هذا خُلٌف.

أو غيرها فتكون ذات واجب الوجود مفتقرة في تحصيل ما تميّزها من غيرها إلى غيرها خارجي هذا محال، وإن كان ما به التماثل، والاتّحاد جزء من المثلين لزم كون كلّ منهما مركَّباً فكلّ منهما ممکن هذا خُلفٌ.

فيبقي أن يكون التماثل بأمر خارج عن حقيقتهما مع اختلاف الحقیقتين لكن ذلك باطل أمّا أوّلاً فلامتناع وصف واجب الوجود بأمر خارج عن حقيقته الاستلزام إثبات الصفة له تثنيته وترکَّیبه على ما مرّ، وأمّا ثانياً فلأنّ ذلك الأمر الخارجي المشترك إن كان كمالا لذات واجب الوجود فواجب الوجود لذاته مستفيد للكمال من غيره هذا خُلف، وإن لم یکن کمالا كان إثباته له نقصاً لأنّ الزيادة على الكمال نقص، فثبت أنّ كلّ ماله مثل؛ فليس بواجب الوجود لذاته؛ فالطالب لمعرفته إذا أصاب ماله مثل فقد أصاب ما ليس بواجب الوجود لذاته فلم يصب صانع العالم، في مقام التوجّه إليه والنظر لطلب معرفته، ومقصود الكلمة نفي المثل له تعالى.

«ولَا إِيَّاهُ عَنَى مَنْ شَبَّهَهُ»: ومعنى هذه القرينة كالَّتي قبله.

«ولَا صَمَدَهُ»: قصَدَهُ «مَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ وتَوَهَّمَهُ»: وذلك لأنّ الإشارة إليه إمّا حسيّة أو عقليّة، والأولى مستلزمة للوضع والهيئة والشكل والتحيّز کما علم في غير هذا الموضع، وذلك على واجب الوجود محال، وأمّا الثانية فقد علمت أنّ النفس الإنسانيّة ما دامت في عالم الغربة إذا توجّهت لاقتناص أمر معقول من عالم الغيب فلا بدّ أن تستتبع القوّة الخياليّة، والوهميّة للاستعانة بهما على استثبات

ص: 64

المعنى المعقول وضبطه؛ فإذن يستحيل أن يشير العقل الإنسانيّ إلى شيء من المعاني الإلهيّة إلَّا بمشاركة من الوهم، والخيال واستنباته حدّاً وكيفيّة يكون عليها لكن قد علمت تنزيهه تعالى عن الكيفيّات، والصفات، والحدود والهيئة فكان المشير إليه، والمدّعى لإصابة حقيقته قاصداً في تلك الإشارة إلى ذي كيفيّة، وحال ليس هو واجب الوجود فلم یکن قاصداً لواجب الوجود، وقد بيّنا فيما سلف امتناع الإشارة عليه.

«كُلُّ مَعْرُوفٍ بِنَفْسِهِ مَصْنُوعٌ»: عنى بالمعروف بنفسه جنس الجواهر لأنها تعرف بان تشاهد أو تلمس وهي صغری ضمير من الشكل الأوّل استغني معها عن ذكر الكبرى لدلالتها عليها، وهي أنّه تعالى ليس معلوماً بنفسه: أي ليس معلوم الحقيقة بالكنه، وتقدير الكبرى: ولا شيء ممّا هو مصنوع بإله للعالم واجب الوجود لذاته دائماً. ينتج أنّه لا شيء من المعلوم بنفسه بواجب الوجود وإله العالم دائماً، وينعكس لا شيء من واجب الوجود معلوم بنفسه، أو من الشكل الثاني، ويكون تقدير الكبرى: ولا شيء ممّا هو واجب الوجود بمصنوع. وينتج النتيجة المذكورة، وينعكس. ويحتمل أن تكون المقدّمة المذكورة هي الكبرى من الشكل الثاني ولا حاجة إلى العكس المذكور، ويحتمل أن يبيّن المطلوب المذكور بقياس استثنائي متّصل، وتكون المقدّمة المذكورة تنبيهاً على ملازمة المتّصلة، وبياناً بما لها وتقديرها: لو كان تعالى معلوماً بنفسه لكان مصنوعاً لأنّ كلّ معلوم بنفسه مصنوع لكن التالي باطل فالمقّدم مثله كذلك فأمّا بيان أنّ كلّ معلوم بحقيقته مصنوع فهو: أنّه إنّما يُعلم من جهة أجزائه، وكلّ ذي جزء فهو مرکَّب فكلّ مرکَّب؛ فمحتاج إلى مرکَّب یرکَّبه، وصانع يصنعه فإذن كلّ معلوم الحقيقة فهو مصنوع، وأمّا بطلان التالي فلأنّه تعالى لوكان مصنوعاً لكان ممكناً مفتقراً إلى الغير فلا يكون واجب

ص: 65

الوجود لذاته هذا خُلفٌ(1).

وكُلُّ قَائِمٍ فِي سِوَاهُ مَعْلُولٌ: کالمقدمة التي قبلها في أنها يحتمل أن تكون صغری قیاس ضمير من الشكل الأوّل أو الثاني دلّ به على أنّه تعالى ليس بقائم في سواه: أي ليس بِعرَض(2) فيحتاج إلى محلّ يقوم به. وتقديره أنّ كلّ قائم في نفسه سواه فهو معلول، ولا شيء من المعلول بواجب الوجود أو لاً شيء من واجب الوجود بمعلول فينتج أنّه لا شيء من القائم في سواه بواجب الوجود، وينعکس کنفسها لا شيء من واجب الوجود بقائم في سواه.

ويحتمل أن يكون كبرى القياس ولا حاجة إلى عكس النتيجة، ويحتمل أن يكون ذکرها تنبيهاً على ملازمة قياس استثنائيّ: أي لو كان قائماً في سواه لكان معلولاً ولكن التالي باطل فالمقدّم كذلك، وبيان الملازمة أنّ القائم بغيره مفتقر إلى محلّ وكلّ مفتقر إلى غيره ممكن فكلّ ممکن معلول في وجوده وعدمه، وأمّا بطلان التالي فلأنّه لو كان معلولا لما كان واجب الوجود.

فَاعِلٌ لَا بِاضْطِرَابِ آلَةٍ: أمّا أنّه فاعل فلأنّه موجد العالم، وأمّا أنّه منزّه في فاعليّته عن اضطراب الآلة فلتنزّهه عن الآلة الَّتي هي من عوارض الأجسام، وقد سبق بيانه.

«مُقَدِّرٌ لَا بِجَوْلِ فِكْرَةٍ»: أي معطياً لكلّ موجود المقدار الَّذي تستحقّه من

ص: 66


1- هذا خُلفٌ: كثير ما تتكرر هذه الكلمة والمراد منها: هو: تعبير لتثبيت القياس في القضايا المنطقية، وحينما يقول: هذا خُلفٌ بمعنی مخالف للقاعدة او مخالف للقياس
2- العَرض: العرض هو الحال في الموضوع، والمادة محل للصورة متقومة بالحال: يُنظر الجوهر النضيد في شرح منطق التجريد ويليه رسالة التصور والتصديق: ص 2 خواجه نصير الدين الطوسي (صدر الدين محمد الشيرازي) ص 24

الكمال من الوجود ولواحق الوجود کالأجل، والرزق، ونحوهماعلى، وفق القضاء الإلهي، وكون ذلك لا يحول فكرة لأنّ الفكر من لواحق النفوس البشريّة بآلة بدنيّة، وقد تنزّه قدسه تعالى عن ذلك.

«غَنِيٌّ لَا بِاسْتِفَادَةٍ»: أي لا يحتاج في شيء ما إلى شيء ما إذا لو حصل له شيء ما استفادة لكان موقوفاً على حصول سببه فكان ممكناً هذا خُلفٌ وهو تنزیه له عن الغني المشهور المتعارف.

«لَا تَصْحَبُهُ الأَوْقَاتُ»: وذلك أنّ الصحبة الحقيقيّة تستدعي المعيّة، والمقارنة اللذين هما من لواحق الزمان الَّذي هو من لواحق الحركة الَّتي هي من لواحق الجسم المتأخّر وجوده عن وجوده بعض الملائكة المتأخّر وجوده عن وجود الصانع الأوّل جلَّت عظمته؛ فكان وجود الزمان، والوقت متأخَّراً عن وجوده تعالى بمراتب من الوجود، فلم يصدق صحبة الأوقات لوجوده، ولكونها ظرفاً له وإلَّا لكان مفتقراً إلى وجود الزمان، فكان يمتنع استغناؤه عنه لكنّه سابق عليه فوجب استغناؤه عنه؛ نعم قد يحكم الوهم بصحبة الزمان للمجرّدات، ومعيّته لها حيث تقسمها إلى الزمانيّات إذ كان لا تعقل المجرّدات إلَّا كذلك.

«ولَا تَرْفِدُهُ »: تعينه «الأَدَوَاتُ»: وظاهر أنّ المفتقر إلى المعونة بأداة، وغيرها ممكن لذاته، فلا يكون واجب الوجود لأنّه تعالى خالق الأدوات فكان سابقاً عليها في تأثيره فكان غنيّاً عنها فيمتنع عليه الحاجة إلى الاستعانة بها.

«سَبَقَ الأَوْقَاتَ كَوْنُهُ»: وجوده وقد سبق بيانه.

«والْعَدَمَ وُجُودُهُ» أي وسبق وجوده العدم بيانه أنّه تعالى مخالف لسائر الموجودات الممكنة فإنّها محدثة؛ فيكون عدمها سابقاً على وجودها؛ ثمّ إن لم تكن

ص: 67

كذلك، فوجودها، وعدمها بالنسبة إلى ذواتها على سواء کما بيّن في مظانّه، ولها من ذواتها أنّها لا تستحقّ، وجوداً أو عدماً لذواتها كذلك عدم سابق على وجودها، فعلى كلّ تقدير فوجودها يكون مسبوقاً بعدم بخلاف الموجود الأوّل جلَّت عظمته فإنّه لمّا كان واجب الوجود لذاته كان لما هو هو موجوداً فكان لحوق العدم له محالاً فكان، وجوده سابقاً على العدم المعتبر لغيره من الممكنات، ولأنّ عدم العالم قبل وجوده؛ كان مستنداً إلى عدم الداعي إلى إيجاده المستند إلى، وجوده فكان، وجوده تعالى سابقاً على عدم العالم ثمّ تبيّن.

«والِبْتِدَاءَ أَزَلُهُ»: وذلك أنّ الأزل عبارة عن عدم الأوّليّة، والابتداء وذلك أمر يلحق، واجب الوجود لما هو بحسب الاعتبار العقليّ وهو ينافي لحوق الابتداء والأوّليّة لوجوده تعالى، فاستحال أن يكون مبدأ الامتناع اجتماع النقيضين بل سبق في الأزليّة ابتداء ما كان له ابتداء وجود من الممكنات وهو مبدأها ومصدرها.

«بِتَشْعِيرِهِ الْمَشَاعِرَ عُرِفَ أَنْ لَا مَشْعَرَ لَهُ»: وذلك أنّه تعالى لما خلق المشاعر وأوجدها وهو المراد بتشعيره لها امتنع أن يكون له مشعر وحاسة وإلَّا لكان وجودها له إمّا من غيره وهو محال: أمّا أولاً فلأنّه مشعّر المشاعر وأمّا ثانياً فلأنّه يكون محتاجاً في كماله إلى غيره؛ فهو ناقص بذاته هذا محال، وإمّا منه وهو أيضاً محال لأنّها إن كانت من الكمالات الوهميّة كان موجداً لها من حيث هو فاقد کمالاً فكان ناقصاً بذاته هذا محال، وإن لم يكن كمالاً كان إثباتها له نقصاً لأنّ الزيادة على الكمال نقصان فكان إيجاده لها مستلزماً لنقصانه وهو محال.

«وبِمُضَادَّتِهِ بَیْنَ الأُمُورِ عُرِفَ أَنْ لَا ضِدَّ لَهُ»: لأنّه لمّا كان خالق الأضداد فلو كان له ضدّ لكان خالقاً لنفسه، ولضدّه وذلك محال، ولأنّ المضادّة من باب الإضافية، والمضاف ينقسم إلى حقيقيّ الَّذي لا تعقل ماهيّته إلَّا بالقياس إلى غيره،

ص: 68

وغير الحقيقيّ هو الَّذي له في ذاته ماهيّة غير الإضافة تعرض لها الإضافة، وكيف ما كان لا بدّ من وجود الغير حتّى يوجد المضاف من حيث هو مضاف فيكون وجود أحد المضافين متعلَّقاً بوجود الآخر فلو كان لواجب الوجود ضدّ لكان متعلَّق الوجود بالغير فلم يكن واجب الوجود لذاته هذا خلف، ولأنّ الضدّين هما الأمران الثبوتيان اللذان يتعاقبان على محلّ واحد، ويمتنع اجتماعهما فيه؛ فلو كان بينه وبين غيره مضادّة لكان محتاجاً إلى محلّ يعاقب ضدّه عليه، وقد ثبت أنّه تعالي غنيّ من كلّ شيء.

«وبِمُقَارَنَتِهِ(1) الَأشْيَاءِ عُرِفَ أَنْ لَا قَرِينَ لَهُ»: برهانه أمّا أوّلاً فلأنّه تعالى خلق المقترنات، ومبدأ المقارنة بينها؛ فلو كان تعالى مقارناً لغيره لكان خالقاً لنفسه ولقرينه وذلك محال، ولأنّ المقارنة من باب المضاف، ويمتنع أن يلحقه. على ما تقدّم.

«ضَادَّ النُّورَ بِالظُّلْمَةِ»: تأكيد لقوله وبمضادته للأشياء وفي كونهما ضدین خلاف بين العلماء مبني على كون الظلمة أمراً وجودياً أو عدمياً والأقرب أنها أمر وجودي مضاد للنور وقال بعضهم أنها عبارة عن عدم الضوء عما من شأنه أن يضيء وليست على هذا القول عدماً صرفاً فجاز أن يطلق عليها أنها ضد مجازاً.

«والْوُضُوحَ»: البياض «بِالْبُهْمَةِ»: السواد «والْجُمُودَ»: اليبوسة بِالْبَلَلِ: الرطوبة

والْحُرُورَ: الحرارة بِالصَّرَدِ: الرودة مُؤَلِّفٌ بَیْنَ مُتَعَادِيَاتِهَا: متضاداتها.

(2)«مُقَرِّبٌ بَیْنْ مُتَبَاعِدَاتَهِا»: في أمزجة المركبات من العناصر الأربعة؛ فأنه جمع بينها فيها على وجه الامتزاج حتى حصل بينها كيفية متوسطة هي المزاج على ما

ص: 69


1- ورد في بعض متون النهج: بَيَنْ
2- مُقَارِنٌ بَيَنْ مُتَبَايِنَاتَهِا

مربیانه في الخطبة الأولى.

«مُفَرِّقٌ بَیْنَ مُتَدَانِيَاتِهَا»: أي بالموت والفناء لهذه المركبات وبطلان تركيبها والمشار إلى استناد کون هذه المركبات في هذا العالم إليه أشار إلى استناد فسادها اليه إذ هو مسبب الأسباب وقد طاوعته عليه السلام المطابقة في هذه القرائن فالتأليف بإزاء المعاداة والمقارنة بإزاء المباينة البعد والتفريق بإزاء التداني.

«لَا يُشْمَلُ بِحَدٍّ»: أما الاصطلاحي فظاهر کونه تعالى لا حدّ له، إذ لا أجزاء له فلا يشمل ويحاط حقيقته بحدّ، وإمّا الحدّ اللغويّ وهي النهاية الَّتي تحيط بالجسم مثلاً فيقف عندها، وينتهي بها وذلك من لواحق الكمّ المتّصل والمنفصل وهما من الأعراض ولا شيء من الواجب الوجود بعرض أو محلّ له فامتنع أن يوصف بالنهاية، وأمّا وصفه بلا نهاية؛ فعلى سبيل سلب النهاية عنه لسلب معروضها کالمقدار مثلاً له على سبيل العدول بمعنى أنّه معروض النهاية واللانهاية لكن ليست النهاية حاصلة له.

«ولَا يُحْسَبُ بِعَدٍّ»: أي لا يدخله الحساب، والعد فيدخل في جملة المحسوبات المعدودة وذلك أن العد من لواحق الكم المنفصل الذي هو العدد کما هو معلوم في مضانه والكم عَرَض وقد ثبت أنه تعالى ليس عرَض، وقد ثبت أنه تعالى ليس بعرض ولا محل له فاستحال أن يكون معدوداً.

«وإِنَّمَا تَحُدُّ الأَدَوَاتُ أَنْفُسَهَا»: هي إشارة إلى الآلات البدنيّة، والقوى الجسمانيّة، وظاهر أنّه لا يتعلَّق إدراكها إلَّا بما كان جسماً أو جسمانيّاً على ما علم في موضعه فمعنى: أي إنّما يدرك الأجسام، والجسمانیّات ما هو مثلها من الأجسام والجسمانيّات، ومثل الشيء هو هو في النوع والجنس، ويحتمل أن يدخل في ذلك

ص: 70

العقل لامتناع انفكاكه عن الوهم، والخيال حن توجّهه إلى المعقولات لما بيّناه من

حاجته إليهما في التصوير والشبح؛ فكان لا يتعلَّق إلَّ بمماثل ممكن، ولا يحيط إلَّا بما هو في صورة جسم أو جسمانيّ، وكذلك قوله:

«وتُشِیرُ الْلَتُ إِلَی نَظَائِرِهَا مَنَعَتْهَا مُنْذُ الْقِدْمَةَ وحَمَتْهَا قَدُ الأَزَلِيَّةَ وجَنَّبَتْهَا لَوْلَا

التَّكْمِلَةَ»: الضمائر المتّصلة بالأفعال الثلاثة تعود إلى الآلات، وهي معقولات أولى والقدميّة والأزليّة التكملة مفعولات ثانية، ومنذ وقد ولولا محلها الرفع بالفاعلیّة، ومعنى الكلمة الأولى أنّ إطلاق لفظة منذ على الآلات والأدوات في مثل قولنا: هذه الآلات وجدت منذ كذا يمنع كونها قديمة.

إذ كان وصفها لابتداء الزمان فكانت لإطلاقها عليها متعيّنة الابتداء ولا من القديم بمتعنّ الابتداء فينتج أنّه لا شيء من الآلات بقديم، وكذلك إطاق

لفظة قد، عليها يحميها، ويمنعها من كونها أزليّة إذ كانت قد تفيد تقريب الماضي

من الحال ولا شيء قولك: قد وجدت هذه الآلة وقت كذا. يحكم بقربها من الحال

وعدم أزليّتها ولا شيء من الأزليّ بقريب من الحال فا شيء من هذه الآلات بأزليّ.

وكذلك إطلاق لولا على هذه الكمالات تجنّبها التكملة. إذ كان وضع لولا دالَّاً على امتناع الشيء لوجود غيره فإطلاقها عليها في مثل قولك عند نظرك إلى بعض الآلات المستحسنة والخلقة العجيبة والأذهان المتوقدة: ما أحسنها وأكملها لولا أنّ فيها كذا.

فيدلّ بها على امتناع كمالها لوجود نقصان فيها فهي مانعة لها من الكمال المطلق، وإنّما أشار إلى حدوثها ونقصانها ليؤكَّد كونها غير متعلَّقة بتحديده سبحانه، وأنّها في أبعد بعيد عن تقديره والإشارة إليها.

ص: 71

إذ كان القديم الكامل في ذاته التامّ في صفاته أبعد الأشياء عن مناسبته المحدَث

الناقص في ذاته فكيف يمكن أن تدركه أو يليق أن يطمع في ذلك، وقال بعض

الشارحين: المراد بالآلات أهلها.

وقد روى برفع القدميّة والأزليّة والتكملة على الفاعليّة.

والضمائر المتّصلة بالأفعال مفعولات أولى، ومنذ وقد ولولا مفعولات ثانية،

ويكون المعنى أنّ قدمه تعالى وأزليّته وكماله منعت الأدوات والآلات من إطلاق، قد و منذو، ولو لا سبحانه عَليه سبحانه لدلالته عى الحدوث والابتداء المنافيین لقدمه وأزليّته وكماله.

قيل، والرواية الأولى أولى لوجودها في نسخة الرضيّ رضي الله عنه بخطَّه.

«بِهَا تَجَلَّى صَانِعُهَا لِلْعُقُولِ»: أي بوجود هذه الآلات ظهر وجوده تعالى للعقول،

إذ كان وجوده مستلزماً لوجود صانعها بالرورة، وإحكامها وإتقانها شاهد لعلمه

وحكمته شهادة تضطرّ إلى الحكم بها العقول، وكذلك تخصيصها بما تخصّصت

به من الكمالات شاهد بإرادته، وكمال عنايته؛ فيكون ما شهد به وجودها من،

وجودها صانعها أجى، وأوضح من أن يقع فيه شكّ؛ أو يلحقه شبهة، ويتفاوت

ذلك الظهور والتجلَّي بحسب تفاوت صقال النفوس، وجلائها فمنها من يراه

بعد، ومنها من يراه معه، ومنها من يراه قبل، ومنها من يراه لا شيء معه «أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ»(1).

«وبِهَا امْتَنَعَ عَنْ نَظَرِ الْعُيُونِ»: أي بإيجادها، وخلقها بحيث تدرك بحاسّة

البر علم أنّه تعالى يمتنع أن يكون مرئيّاً مثلها، وبيانه أنّ تلك الآلات إنّما

ص: 72


1- سورة البقرة: الآية 145

كانت متعلَّقة حسّ البصر باعتبار أنّها ذات وضع وجهة ولون، وغيره من شرائط الرؤية، ولمّا كانت هذه الأمور ممتنعة في حقّه تعالى لا جرم امتنع أن يكون محلَّاً النظر العيون، وقال بعض الشارحين في بيان ذلك: إنّه لمّا كان بالمشاعر والحواسّ التي هي الآلات المشار إليها أكملت عقولنا، وبعقولنا استخرجنا الدليل على أنّه لا يصحّ رؤيته فإذن بخلق هذه الأدوات والآلات لنا عرفناه عقلاً وعرفنا أنّه يستحيل أن يعرف بغير العقل.

«ولَا يَجْرِي عَلَيْهِ السُّكُونُ والْحَرَكَةُ»: وقد أشار عليه السلام إلى بيان امتناعهما عليه من أوجه أحدها قوله: «وكَيْفَ يَجْرِي عَلَيْهِ مَا هُوَ أَجْرَاهُ ويَعُودُ فِيهِ مَا هُوَ

أَبْدَاهُ ويَحْدُثُ فِيهِ مَا هُوَ أَحْدَثَهُ»: استفهام على سبيل الاستنكار لجريان ما أجراه عليه وعود ما أبداه وأنشأه إليه وحدوث ما أحدثه فيه، وبيان بطلان ذلك أنّ الحركة والسكون من آثاره سبحانه في الأجسام وكلّ ما كان من آثاره يستحيل أن يجرى عليه ويكون من صفاته: أمّا المقدّمة الأولى فظاهرة، وأمّا الثانية فلأنّ المؤثّر واجب التقدّم بالوجود على الأثر فذلك الأثر؛ إمّا أن يكون معتبراً في صفات الكمال فيلزم أن يكون تعالى باعتبار ماهو موجد له، ومؤثّر فيه ناقصاً بذاته مستكملاً بذلك الأثر، والنقص عليه تعالى محال، وإن لم يكن معتبراً في صفات کماله فله الكمال المطلق بدون ذلك الأثر؛ فكان إثباته صفة له نقصاً في حقّه لأنّ الزيادة على الكمال المطلق نقصان، وهو عليه تعالى محال، الثاني لو كان كذلك اللزم التغيّر في ذاته تعالى ولحوق الإمكان له، ودلّ على ذلك بقوله:

«إِذاً لَتَفَاوَتَتْ ذَاتُهُ»: أي تغیّرت بطريان الحركة عليها تارة والسكون أخرى لأنّ الحركة والسكون من الحوادث المتغيّرة؛ فيكون تعالى بقوله: لتعاقبهما محلَّاً للحوادث والتغيرات فكان متغيّراً لكن التغيّر مستلزم للإمكان؛ فالواجب لذاته

ص: 73

ممكن لذاته هذا خُلفٌ.

«و»: لو كان كذلك بقوله: «لَتَجَزَّأَ كُنْهُهُ»: أي للزم حقيقته التجزئة والتركيب لا لكنّ التالي باطل فالمقدّم مثله.

أمّا الملازمة؛ فأنّ الحركة، والسكون من عوارض الجسم الخاصّة به؛ فلو

اتصف بهما تعالى لكان جسماً، وكلّ جسم؛ فهو مركَّب قابل للتجزئة، وأمّا بطلان التالي؛ فأنّ كلّ مركَّب مفتقر إلى أجزائه، وممكن فالواجب ممكن هذا خُلفٌ.

الرابع: «و»: لو كان كذلك: «ولَمْتَنَعَ مِنَ الأَزَلِ مَعْنَاهُ»: أما على طريق المتكلَّمين فظاهر لأنّ الحركة، والسكون من خواصّ الأجسام الحادثة؛ فكان الموصوف بهما

حادثاً؛ فلو كان تعالى موصوفاً بهما لبطل من الأزل معناه ولم يكن أزليّاً.

وأمّا عى رأى الحكماء؛ فلأنّه تعالى لكونه، واجب الوجود لذاته يستحقّ

الأزليّة، ولكون الممكن ممكناً لذاته؛ فهو إنّما يستحقّ الأزليّة لا لذاته بل لأزليّة

علَّته، وتمامها أزلاً حتّى لو توقّف على أمر ما في مؤثريّتها لزم حدوث الممكن، ولم يكن له من ذاته إلَّ كونه لا يستحقّ لذاته، وجودا ولا عدما، وهو معنى الحدوث الذاتيّ عندهم؛ فعلى هذا لو كان تعالى قابا للحركة، والسكون لكان جسما ممكناً لذاته؛ فكان مستحقّا للحدوث الذاتيّ بذاته؛ فلم يكن مستحقّا للأزليّة بذاته

فيبطل من الأزليّة معناه، وهو استحقاقه الأزليّة بذاته لكن التالي باطل لما مرّ.

الخامس: «و»: لو كان كذلك: «لَكَانَ لَهُ وَرَاءٌ إِذْ وُجِدَ لَهُ أَمَامٌ»: وجه الملازمة

أنّه لو جرت عليه الحركة لكان له أمام يتحرّك إليه وحينئذ يلزم أن يكون له وراء

إذ له أمام لأنّهما إضافيّتان لا تنفكّ إحداهما عن الأخرى لكن ذلك محال لأنّ كلّ ذي جهن فهو منقسم وكلّ منقسم ممكن لما ما مرّ.

ص: 74

السادس: «ولَلْتَمَسَ التَّمَامَ إِذْ لَزِمَهُ النُّقْصَانُ»: وبيان الملازمة أنّ جريان الحركة عليه مستلزم لتوجّهه بها إلى غاية إمّا جلب منفعة أو دفع مرّة. إذ من لوازم

حركات العقاء ذلك، وعى التقديرين فهما كمال مطلوب له لنقصان لازم لذاته

لكنّ النقصان بالذات والاستكمال بالغیر مستلزم الإمكان فالواجب ممكن، هذا

خُلفٌ.

السابع: «وإِذاً لَقَامَتْ آيَةُ الْمَصْنُوعِ فِيهِ»: وبيان الملازمة أنّه حينئذ يكون قادرا

على الحركة والسكون فقدرته عليهما ليست من خلقه، وإلَّا لافتقر إيجاده لها إلى

قدرة أخرى سابقة عليها ولزم التسلسل وكان قادراً قبل أن كان قادراً وهما محالان فهي إذن من غره؛ فهو إذن مفتقر في كماله إلى غره فهو مصنوع وفيه آيات الصنع وعلامات التأثر فليس هو بواجب الوجود هذا خُلفٌ.

الثامن: «و»: ولو كان كذلك «لَتَحَوَّلَ دَلِيلًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَدْلُولً عَلَيْه»: وذلك أن يكون مصنوعاً على ما مرّ وكلّ مصنوع فيستدلّ به على صانعه كما هو المشهور

في الاستدلال بوجود العالم وحدوثه على وجود صانعه، ولأنّه يكون جسماً فيكون

مصنوعاً فكان دليلًا على الصانع لكنّه هو الصانع الأوّل للكلّ وهو المدلول عليه

فاستحال أن يكون دليلًا من جهة آثار الصنع فيه فاستحال أن يكون قابلاً للحركة

والسكون فاستحال أن يجريا عليه؛ فانظر إلى هذه النفس الملكيّة له عليه السّلام

كيف يفيض عنها هذه الأسرار الإلهيّة فيضا من غر تقدّم مزاولة الصنائع العقليّة

وممارسة البحث في هذه الدقائق الإلهيّة.

«وخَرَجَ بِسُلْطَانِ الِمْتِنَاعِ مِنْ أَنْ يُؤَثِّرَ فِيه مَا يُؤَثِّرُ فِي غَیْرِه»: فقد يسبق إلى

الوهم عطفه على الأدلَّة المذكورة، وظاهر أنّه ليس كذلك، بل هو عطف على

قوله: امتنع أي بها امتنع عن نظر العيون، وخرج ذلك الامتناع: أي امتناع أن

ص: 75

يكون مثلها في كونها مرئيّة للعيون ومحلَّاً للنظر إليها عن أن يؤثّر فيه ما يؤثر في غيره من المرئيّات، وهي الأجسام والجسمانیّات، وظاهر أنّه تعالى لمّا امتنع عن نظر العيون إذ لم يكن جسماً ولا قائماً به فخرج بسلطان استحقاق ذلك الامتناع عن أن يؤثّر فيه ما يؤثّر في غيره من الأجسام و الجسمانيّات وعن قبول ذلك. وقال بعض الشارحين: إنّه عطف على قوله: تجلَّى: أي بها تجلَّى للعقول وخرج بسلطان الامتناع كونه مثلاً لها: أي يكون واجب الوجود ممتنع العدم عن أن يكون ممكنا فيقبل أثر غيره کما تقبله الممكنات.

«الَّذِي لَا يَحُولُ»: لا يتغيّر من حال إلى حال: «ولَ يَزُولُ»: عما هو عليه لما علمت من استلزام التغيّر للإمكان الممتنع عليه.

«ولَا يَجُوزُ عَلَيْه الأُفُولُ»: أي الغيبة بعد الظهور لما يستلزم من التغيّر أيضاً.

«لَمْ يَلِدْ فَيَكُونَ مَوْلُوداً ولَمْ يُولَدْ فَيَصِیرَ مَحْدُوداً»: فالجملة الأولى تشتمل على دعوی والإشارة إلى البرهان، وهو في صورة قياس استثنائيّ تقديره: لو كان له ولد لكان مولودا وحينئذ يكون الجملة الثانية وهي قوله: ولم يولد. في قوّة استثناء نقيض التالي، وقوله: فیکون محدودا في قوّة قياس استثنائيّ يدلّ على بطلان التالي وتقديره: لأنّه لو كان مولودا لكان محدودا، واعلم أنّه يحتمل أن يريد بقوله: مولوداً، ما هو المتعارف؛ فيكون قد سلك في ذلك مسلك المعتاد الظاهر في بادي النظر بحسب الاستقراء أنّ كلّ ماله ولد؛ فإنّه يكون مولودا وإن لم يجب ذلك في العقل، وقد علمت أنّ الاستقراء ممّا يستعمل في الخطابة ويحتجّ به فيكون مقنعاً؛ إذ كانت غايتها الإقناع، ويحتمل أن يريد به ماهو أعمّ من المفهوم المتعارف أعني التولَّد عن آخر مثله من نوعه؛ فإنّ ذلك غير واجب کما في أصول أنواع الحيوان الحادثة، وحينئذ يكون بيان الملازمة الأولى على الاحتمال الأوّل ظاهر، وأمّا

ص: 76

على تقدير الثاني؛ فنقول في بيانها: إنّ مفهوم الولد هو الَّذي يتولَّد وينفصل عن

آخر مثله من نوعه لكن أشخاص النوع الواحد لا يتعنّ في الوجود مشخّصاً

إلَّا بواسطة المادّة وعلاقتها على ما علم ذلك في مظانّه من الحكمة، وكلّ ما كان

ماديّا وله علاقة بالمادّة كان متولَّداً عن غره وهو مادّته وصورته وأسباب وجوده

وتركيبه، وأمّا بيان الملازمة الثانية في برهان بطان التالي؛ فلأنّه لمّا لزم من كونه

ذا ولد أن يكون مشاركاً في النوع لغیره ثبت أنّه متولَّد من مادّة وصورة ومركَّب

عنهما، وعن جزئین بأحدهما يشارك نوعه، وبالآخر ينفصل؛ فهو إذن منته إلى

حدود وهي أجزاؤه الَّتي يقف عندها وينتهي في التحليل إليها؛ فثبت أنّه تعالى لو

كان مولودا لكان محدودا لأنّه لو كان مولوداً لكان محاطاً ومحدوداً بالمحلّ المتولَّد منه لكن كلّ محدود على الاعتبارين مركَّب وكلّ مركَّب ممكن هذا خلف. فإذن ليس هو بمحدود فليس هو بمولود فليس هو بذي ولد، وإن شئت أن تجعل المقدّمتین في قوّة قياس حمليّ مركَّب من شرطيّتن متّصلتین والشركة بينهما في جزء تامّ(1)، وتقديره: لو كان تعالى ذا ولد لكان مولودا ولو كان مولودا لكان محدودا، والنتيجة لو كان ذا ولد لكان محدودا. ثمّ يستنتج من استثناء نقيض تالي هذه النتيجة عن المطلوب.

وبيان الملازمتين ونقيض تالي النتيجة ما سبق.

«جَلَّ عَنِ اتِّخَاذِ الأَبْنَاءِ»: أي علا وتقدّس عن ذلك، وهو تأكيد لما سبق. وبيانه أنّه يستلزم لحوق مرتبته بمراتب الأجسام الَّتي هي في معرض الزوال وقبول التغیّر والاضمحال.

ص: 77


1- شرطيّتين متّصلتين والشركة بينهما في جزء تامّ: من القياسات المنطقية التي تستعمل لتثبيت القضايا. فمن شاء التفصيل فليراجع

«وطَهُرَ عَنْ مُلَامَسَةِ النِّسَاءِ»: وذلك لما يستلزمه الملامسة من الجسميّة

والتركيب الَّذي تنزّه قدسه عنه، وطهارته تعود إلى تقدّسه عن الموادّ وعلائقها

من الملامسة والمماسّة وغيرها.

«لَ تَنَالُه الأَوْهَامُ فَتُقَدِّرَه»: أي لو نالته الأوهام لقدّرته لكنّ التالي باطل فالمقدّم

كذلك.

بيان الملازمة: أنّك علمت أنّ الوهم إنّما يدرك المعاني المتعلَّقة بالمادّة ولا ترتفع

إدراكه عن المعاني المتعلَّقة بالمحسوسات، وشأنه فيما يدركه أن يستعمل المتخيّلة في تقديره بمقدار مخصوص وكميّة معيّنة وهيئة معيّنة ويحكم بأنّها مبلغه ونهايته. فلو أدركته الأوهام لقدّرته بمقدار معیّن وفي محلّ معیّن. فأمّا بطان التالي فلأنّ المقدار محدود ومركَّب ومحتاج إلى المادّة والتعلَّق بالغر، وقد سبق بيان امتناعه.

«ولَا تَتَوَهَّمُه الْفِطَنُ فَتُصَوِّرَه»: وفطن العقول: سرعة حركتها في تحصيل الوسط في المطالب، وإنّما قال: لا يتوهّه الفطن لأنّ القوّة العقليّة عند توجّهها في تحصيل المطالب العقليّة المجرّدة لا بدّ لها من استتباع الوهم والمتخيّلة والاستعانة بها في استثباتها بالشبح والتصوير بصورة يحطَّها إلى الخيال على ما علم ذلك في موضعه. ولذلك ما كانت رؤيتها لجبرئيل في صورة دحية الكلبيّ. وكذلك المعاني المدركة للنفوس في النوم من الحوادث فإنّها لا يتمكَّن من استثباتها عند اقتناصها من عالم التجريد وبقائها إلى حال اليقظة في صورة خياليّة مشاهدة كما علمت ذلك في صدر الكتاب. فظهر إذن معنى قوله: لا يتوهّمه الفطن فتصوّره: أي لو أدركته لكان ذلك بمشاركة الوهم فكان يلزم أن يصوّره بصورة خياليّة لكنّه تعالى منزّه عن الصورة فكان منزّها عن إدراكها.

ص: 78

«ولَا تُدْرِكُه الْحَوَاسُّ فَتُحِسَّه»: أراد لو أدركته الحواسّ لصدق عليه أنّها تحسّه ولزم کونه محسوساً، وبيان ذلك أنّ الإدراك وإن كان أعمّ من الإحساس لكن بإضافته إلى الحواسّ صار مساوياً و ملازماً له.

وكأني أظن كأنك أنك تقول: لا معنى للإحساس إلَّا إدراك الحواسّ فیکون كأنه قال: لا تحسّه الحواسّ فتحسّه. وذلك تكرار غير مفيد.

فأقول: ليس مقصوده أنّه يلزم من معنى الإدراك معنى الإحساس بل مراده أنّ الَّذي يصدق عليه أنّه إدراك الحواسّ هو المسمّى بالإحساس فيكون التقدير أنّ الحواس لو أدركته لصدق أنّها أحسّته أي لصدق هذا الاسم ولزم من صدقه عليها أن يصدق عليه كونه محسوساً، وإنّما ألتزم ذلك كون الإحساس أشهر وأبين في الاستحالة عليه تعالى من الإدراك فجعله كالأوسط في نفی إدراكها عنه لشنعته، وأمّا بيان أنّه تعالى ليس بمحسوس، فلأنه تعالى ليس بجسم ولا جسماني وكل محسوس فأما جسم أو جسماني فينتج أنه تعالى ليس بمحسوس.

ولَا تَلْمِسُه الأَيْدِي فَتَمَسَّه: أي لو صدق أنها تماسه لصدق إنها تمسه وهو ظاهر إذ كان المس أعم من اللمس وكلاهما ممتنعان عليه لاستلزامهما الجسمية عليه.

«ولَا يَتَغَيَّرُ بِحَالٍ»: أي لا يتغير ذاته وصفاته أبداً على وجه من الوجوه.

«ولَا يَتَبَدَّلُ فِي الأَحْوَالِ»: أي لا ينتقل من حال إلى حال وقد سبق بيان ذلك.

«ولَا تُبْلِيه اللَّيَالِي والأَيَّامُ ولَا يُغَيِّرُه الضِّيَاءُ والظَّلَمُ»: وذلك لامتناع التغيّر عليه.

«ولَا يُوصَفُ بِشَيْءٍ مِنَ الأَجْزَاءِ»: لأنّ كلّ ذي جزء مفتقر إلى جزئه الَّذي هو غيره فكان مفتقراً إلى غيره فكان ممكناً في ذاته. هذا خُلفٌ.

ص: 79

«ولَا بِالْجَوَارِحِ والأَعْضَاءِ»: لما يلزم من الجسميّة والتركيب والتجزئة.

«ولَا بِعَرَضٍ مِنَ الأَعْرَاضِ»: أقول: الأعراض منحر في تسعة أجناس كما

هو معلوم في مظانّه، وذلك أنّ كلّ الموجودات سوى الله تعالى مقسوم بعشرة أقسام واحد منها جوهر والتسعة الباقية أعراض، ويظهر التقسيم هكذا: كلّ ما عداه سبحانه فوجوده زائد عى ماهيّته بالبراهن القاطعة فماهيّته إمّا أن تكون بحيث إذا وجدت كان وجودها لا في موضوع. وهو المعنيّ بالجوهر، أو يكون وجودها في موضوع وهو المعنيّ بالعرض.

ونعني بالموضوع المحلّ الَّذي لا يتقوّم بما يحلّ فيه بل يبقى حقيقته كما كانت

قبل حلوله كالجسم الَّذي يحله السواد.

ثمّ العرض ينقسم إلى أقسامه التسعة وهي الكم، والكيف، والمضاف، وأين،

والوضع، والملك، وأن يفعل، وأن ينفعل، وتسمّى هذه الأقسام مع القسم العاشر

وهو الجوهر المقولات العر والأجناس العالية، ولنرسم كلّ واحد منها ليظهر

أنّه تعالى منزّه عن الوصف بيء منها. فنقول، أمّا الجوهر فقد عرفت رسمه،

وأمّا الكمّ فرسم بأنّه العرض الَّذي يقبل لذاته المساواة والا مساواة والتجزّي.

ويقبل الجوهر بسببه هذه الصفات، وأمّا الكيف فقد عرفته وعرفت أقسامه، وأمّا

الإضافة فهي حالة للجوهر تعرض بسبب كون غره في مقابلته ولا يعقل وجودها

إلَّا بالقياس إلى ذلك الغر كالأُبّوة والبنوّة وقد عرفتها وعرفت أيضاً أقسامها من

قبل، وأمّا الابن فهو حالة تعرض للشيء بسبب نسبته إلى زمانه وكونه فيه أو

في ظرفه وهو الآن، وأمّا الوضع فهو هيئة يعرض للجسم بسبب نسبة أجزائه

بعضها إلى بعض نسبة يختلف الأجزاء لأجلها بالقياس إلى سائر الجهات كالقيام

والقعود، وأمّا الملك فقد عرفت بأنّه نسبة إلى ملاصق ينقل بانتقال ما هو منسوب

ص: 80

إليه كالتسلَّخ والتقمّص، وأمّا أن يفعل فهو كون الشيء بحيث يؤثّر في غيره ما دام متأثراً فيه كالتقطيع حالة التأثير، وأمّا أن ينفعل فهو كون الشيء متأثّراً عن غيره ما دام متأثّراً كالتقطع.

إذا عرفت ذلك فنقول: أمّا البرهان الجمليّ على امتناع اتّصافه تعالى بهذه الأعراض واستحالة كونه موضوعاً لما سبق بيانه عليه السّلام بقوله: فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ومن قرنه فقد ثنّاه، وكذلك ما بيّناه من استلزام وصفه بشيء حصول التغيّر في ذاته وامتناع التغيّر عليه، وأمّا التفصيليّ فأمّا امتناع وصفه بالكمّ فلأنّه لو صدق عليه الكمّ لصدق عليه قبول المساواة والمقارنة والتجزّي وكلَّما قبل التجزية كان متكثّراً وقابلاً للكثرة وقد ثبت أنّه تعالى واحد من كلّ وجه فيمتنع عليه الكمّ، وأمّا امتناع وصفه بالكيف فقد علمته في أوّل الخطبة، وكذلك امتناع وصفه بالمضاف، وأمّا وصفه بالأين فلأنّه يستلزم أن يكون متحيّزاً محتوياً لكن كونه كذلك محال فكونه في المكان محالاً، وأمّا وصفه بمتی فقد عرفت أنّه تعالى ليس بزمانيّ فاستحال أن يوصف بالنسبة إلى زمان يكون له، وأمّا وصفه بالوضع فلأنّ الوضع من خواصّ المحيّزات فإنّ الجسم المتناهي يحيط به سطح لا محالة أو سطوح ينتهي عندها فيكتنف حدودا ونهايات ويكون له شكل وهيئة لكنّه تعالى ليس بمتحيّز فاستحال أن يكون ذا وضع، وأما الملك فلأنّه أيضاً من خواصّ الأجسام المحاط بها إذ ما ليس بجسم ولا يحاط به بشيء ينتقل بانتقاله وقد تنزّه تعالى عن الجسميّة وأن يحيط به شيء، وأمّا أن يفعل فلأنّ الفعل لا يصدق عليه إلَّا بطريق الإبداع ومحض الاختراع والإبداع هو أن يكون للشيء وجود من غيره متعلَّق به فقط دون توسّط مادّة أو آلة أو زمان والفعل أعمّ من الإبداع إذ المفهوم من الفعل هو أن يوجد بسبب وجوده شيء آخر سواء كان ذلك

ص: 81

لسبب حركة من الفاعل أو آلة أو مادّة أو زمان أو قصد اختياريّ فيقال للنجّار: إنّه فاعل وللسرير إنّه فعل، ويقال: لا بتوسط شيء من ذلك بل بطبع وتولَّد كالشمس فإنّها فاعلة للنور والنور فعلها فالفعل إذن ينقسم إلى ما يكون بقصد واختيار وإلى ما لا يكون كذلك بل يصدر عنه لأنّه ذات تفيض عنها ذلك الشيء. ثمّ إن كان عالماً بفيضان الشيء عنه سمیّت تلك الإفاضة جوداً والفاعل بذلك الاعتبار جواداً وإن لم يكن عالماً به تسمّى تلك الإفاضة طبعاً وتولَّداً کفیضان النور عن الشمس فالفاعل إمّا أن يفعل بالقصد والغرض أو بالجود المحض أو بالطبع المحض، والباري تعالى لا يجوز أن يفعل لغرض لأنّ الغرض والقصد إن كان أولى به لذاته كانت ذاته مستكملة بتلك الأوليّة ناقصة بعدمها هذا محال، وإن لم تكن أولى به كان ترجیحاً بلا مرجّح. ثمّ لا يجوز أن يكون أولى بالنظر إلى العبد لأنّ تلك الأوليّة وعدمها إن كانا بالنسبة إليه على سواء فلا ترجيح أولاً على سواء فيعود حديث النقصان والكمال فكان تعالى منزّهاً عن الفعل بهذا الوجه بل إنّما يصدر منه على وجه الإبداع بجوده المحض. وفي هذه المسألة بحث طويل ليس هذا موضعه، وقد تنزه قدسه عنه.

«ولَا بِالْغَيْرِيَّةِ والأَبْعَاضِ»: أي ليس له أبعاض يغاير بعضها بعضاً لأنّ ذلك مستلزم للتجزئة والتركيب الممتنعين عليه وامتناع اللازم يستلزم امتناع الملزوم.

«ولَا يُقَالُ لَه حَدٌّ ولَ نِهَايَةٌ»: لأنّهما من عوارض الأجسام ذوات الأوضاع ولواحقها على ما سبق.

«ولَا انْقِطَاعٌ»: لوجوده «ولَا غَايَةٌ»: وذلك لأنّ الانقطاع عند الغايات من لواحق الأمور الزمانيّة المحدثة الكائنة الفاسدة، وقد بيّنا امتناع کونه تعالی زمانیّا وكونه ماديّاً، ولأنّه تعالى واجب الوجود فيستحيل أن يلحقه العدم أو يتناهی

ص: 82

وجوده وينقطع عند غاية.

«ولَا أَنَّ الأَشْيَاءَ تَحْوِيه فَتُقِله أَوْ تُهْوِيَه»: وروي ما بعد الفاء منصوباً وعليه نسخه الرضي رحمه الله وذلك بإضمار أن عقيبها في جواب النفي، وروي مرفوعاً على العطف. والمعنى أنّه ليس بذي مكان يحويه فيرتفع بارتفاعه وينخفض بانخفاضه لما أنّ ذلك من لواحق الجسميّة، وكذلك.

«أَوْ أَنَّ شَيْئاً يَحْمِلُه فَيُمِيلَه أَوْ يُعَدِّلَه لَيْسَ فِي الأَشْيَاءِ بِوَالِجٍ ولَا عَنْهَا بِخَارِجٍ»: لأنّ الدخول والخروج من لواحق الأجسام أيضاً فما ليس بجسم ولا جسمانيّ فهما مسلوبان عنه سلباً مطلقاً لا السلب المقابل للملكة.

«يُخْبِرُ لَا بِلِسَانٍ ولَهَوَاتٍ»: جمع لهات، وذلك لأنّ اللسان واللهوات من لواحق الأجسام الحيوانيّة المنزّه قدسه عنها، والسلب هاهنا كالَّذي قبله. والأخبار هو النوع الأكبر في الكلام فلذلك خصّه هنا بالذكر، وزعمت الأشعريّة أنّ الخبر هو أصل الكلام كله وإليه يرجع أنواعه کالأمر والنهي والاستفهام والتمنيّ والترجيّ وغيرها.

واختلف المتكلَّمون في حقيقة الكلام فاتّفقت المعتزلة على أنّه المركَّب من الحرف والصوت، وجمهور الأشعريّة: أنّ وراء الكلام اللسانيّ معنی قائم بالنفس يعبّر عنه بالكلام النفسانيّ ولفظ الكلام حقيقة فيه وفي اللسانيّ مجاز، ومنهم جعله حقيقة في اللسانيّ مجازً في النفسانيّ، ومنهم من جعله مشتركاً فيهما فكون الله تعالى متكلَّماً يعود إلى خلقه الكلام في جسم النبي عند المعتزلة، وعند الأشعريّة أنّه معنی قائم بذاته وهذه الأصوات والحروف المسموعة دلالات عليه. وسيفسّر عليه السّلام معنی کلامه تعالی.

ص: 83

«ويَسْمَعُ لَا بِخُرُوقٍ»: وشقوق الآذان «وأَدَوَاتٍ: أي ليس سمعه بأداة هي الأُذن والصماخات كما يسمع الإنسان لتنزّهه تعالى عن الآلات الجسمانيّة، وقد كان هذا البرهان كافياً في منع إطلاق السميع عليه تعالى لكن لمّا ورد الإذن الشرعيّ بإطلاقه عليه ولم يمكن حمله على ظاهره وحقيقته، وجب صرفه إلى مجازه، وهو العلم بالمسموعات إطلاقاً لاسم السبب على المسبّب؛ إذ كان السمع من أسباب العلم فإذن كونه تعالى سميعاً يعود إلى علمه بالمسموعات.

«يَقُولُ ولَا يَلْفِظُ»: إطلاق القول عليه كإطلاق الكلام، وأمّا التلفظ؛ فلمّا كان عبارة عن إخراج الحرف من آلة النطق، وهي اللسان والشفه لاجرم لم يصدق في حقّه لعدم الآلة هنالك، وكان الشارع لم يأذن في إطلاقه عليه تعالى لما أنّ دلالته على الآلة المذكورة أقوى من الكلام.

«ويَحْفَظُ ولَا يَتَحَفَّظُ»: حفظه يعود حفظه يعود إلى علمه بالأشياء، ولمّا كان المعروف من العادة أنّ الحفظ يكون بسبب التحفّظ وكان ذلك في حقّه تعالى محالاً الاستلزامه الآلات الجسمانيّة لاجرم احترز عنه، وقيل أنه: يريد أنّ يحفظ عباده أي يحرسهم، ولا يتحفّظ منهم: أي لا يحتاج إلى حراسة ذات منهم، وهذا بعيد الإرادة هنا.

«ويُرِيدُ ولَا يُضْمِرُ»: إرادته تعالى يعود إلى اعتبار کونه تعالى عالماً بما في الفعل من الحكمة والمصلحة الَّذي هو مبدأ فعله، ولا فرق في حقّه تعالى بين الإرادة والداعي، ولمّا كان المتعارف من الإرادة أنّها میل القلب نحو ما يتصوّر کونه نافعاً ولذيذاً، وذلك الميل من المضمرات المستكنّة في القلب لاجرم كان إطلاق الإرادة في حقّه يستلزم تصوّر الإضمار، ولمّا تنزّه سبحانه عن الإضمار لأجرم احترز عنه في إطلاق المريد عليه تعالى فكان ذلك الاحتراز کالقرينة الصارفة للفظ عن حقيقته

ص: 84

إلى مجازة وهو الاعتبار المذكور.

«يُحِبُّ ويَرْضَ مِنْ غَیْرِ رِقَّةٍ»: فالمحبّة إرادة هي مبدأ فعل ما فمحبّته للعبد إرادته لثوابه وتكميله وما هو خير له، وأمّا من العبد فهي إرادة تقوى، وتضعف بحسب تصوّر المنفعة، واللذّة، واعتقاد کمالها ونقصانها، ومحبّته لله هي إرادة طاعته، وأمّا الرضا فقريب من المحبّة ويشبه أن يكون أعمّ منها لأنّ كلّ محبّ راض عمّا أحبّه ولا ينعكس، فرضاه تعالى عن العبد يعود إلى علمه تعالى بموافقته لأمره وطاعته له، والمفهوم منه في حقّ العبد هو سکون نفسه بالنسبة إلى موافقة، وملائمه عند تصوّر کونه موافقاً و ملائماً، ولمّا كان الرضا والمحبّة من الإنسان الغيره يستلزم الرقّة القلبيّة له، والانفعال النفسانيّ عن تصوّر المعنى الَّذي لأجله حصلت المحبّة، والميل إليه، والداعي إلى الرضا عنه، وكان الباري سبحانه منزّهاً عن الرقّة، والانفعال لتنزّهه عن قوابلها لاجرم احترز بقوله: من غير رقّة.

«ويُبْغِضُ ويَغْضَبُ مِنْ غَیْرِ مَشَقَّةٍ»: فالبغض منه تعالى للعبد يضادّ محبّته له ويعود إلى كراهته لثوابه، وكراهته يعود إلى علمه بعدم استحقاقه للثواب وأنّه لا مصلحة لثوابه ويلزمها إرادة إهانته وتعذيبه، والبغض من العبد في كراهته للغير ومیل نفسه عنه لتصوّر کونه مضرّاً ومؤلماً ويلزم ذلك النفرة الطبعیّة منه، وثوران القوّة الغضبيّة عليه وإرادة إهانته، وأمّا الغضب؛ فيعود من الله تعالى إلى علمه بمخالفة أوامره، وعدم طاعته له، والمفهوم منه في حقّ العبد ثوران النفس، وحركة قوّتها الغضبية عن تصوّر المؤذي، والضارّ لإرادة مقاومته ورفعه.

ولمّا كان البغض والغضب يستلزمان ثوران دم القلب؛ وكان أذى النفس يستلزم مشقّة وكلفة لا جرم احترز عنها في إطلاق البغض، والغضب عليه فقال: من غير مشقّة.

ص: 85

واعلم أنّ إطلاق المحبّة والرضا على ما ذكرنا من الاعتبارات في حقّه مجاز. إذ كانت حقيقة الرضاهي سكون النفس الإنسانيّة، والمحبّة ميلها إلى النافع فإطلاقهما على العلم إطلاق لاسم اللازم على الملزوم، وكذلك إطلاق لفظي الغضب والبغض في حقّه تعالى على علمه المخصوص.

«يَقُولُ لِمَا أَرَادَ كَوْنَه»: وجوده «كُنْ فَيَكُونُ»: فإرادته لكونه هو عمله بما في وجوده من الحكمة، وقوله: کن، إشارة إلى حكم قدرته الأزليّة عليه بالإيجاد ووجوب الصدور عن تمام مؤثریّته، وقوله: فیکون؛ إشارة إلى وجوده؛ ودلّ على اللزوم، وعدم التأخّر والتراخي بالفاء المقتضية للتعقيب بلا مهلة.

«لَا بِصَوْتٍ يَقْرَعُ»: أي ليس بذي حاسّة للسمع فيقرعها الصوت، وذلك أنّ الصوت كيفيّة يحدث في الهواء عن قلع أو قرع، وقوعه لما يصل إليه من الصماخ أو جسم آخر هو وقع عليه بشدّة وعنف، وذلك حال تعرض الأجسام فلو كان له تعالى آلة سمع لكان جسماً لكن التالي باطل فالمقدّم مثله.

«ولَا بِنِدَاءٍ يُسْمَعُ»: أي لمّا بيّن في القرينة الأولى أنّه لا سمع له يقرع بصوت بيّن في الثانية أنّه لا يخرج منه الصوت لأنّ النداء صوت مخصوص، والصوت مستلزم المصوّت، وهو جسم لما مرّ من استلزام الصوت القرع؛ أو القلع المستلزمین الجسميّة.

«وإِنَّمَا كَلَمُه سُبْحَانَه فِعْلٌ مِنْه أَنْشَأَه ومَثَّلَه لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ كَائِناً ولَوْ كَانَ

قَدِياً لَكَانَ إِلَاً ثَانِياً»: فاعلم أنّ هذا الكلام يدل على أن كلامه محدث کما ذهب إليه المعتزلة؛ فمعنى قوله فعل منه

أنشأه: أي أوجده في لسان النبيّ. فأمّا قوله: ومثله؛ فأراد صوّره في لسان النبيّ

ص: 86

وسوّى مثاله في ذهنه. وقيل: مثله لجبرئيل في اللوح المحفوظ حتّى بلَّغه محمّدا صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وسائر الرسل عليهم السّلام ودلّ بقوله: لم يكن من قبل ذلك كائناً.

قیاس استثنائيّ وتقريره: لو كان كلامه تعالى قديماً لكان كلامه إلها ثانياً لكن التالي باطل فالمقدّم مثله.

فأمّا بیان الملازمة؛ فلأنّه لو كان قدیماً لكان إمّا واجب الوجود، وإمّا ممکن الوجود، والتالي باطل لأنّه لو كان ممكناً مع أنّه موجود في الأزل لكان وجوده مفتقراً إلى مؤثّر فذلك المؤثّر إن كان غير ذاته فهو محال لوجهين:

أحدهما: أنّه يلزم افتقاره تعالى في تحصيل صفته إلى غيره فهو محال.

الثاني: أنّه يلزم أن يكون في الأزل مع الله غيره يكون مستنداً إليه في حصول تلك الصفة فيكون إلهاً ثانياً بل هو أولى بالإلهيّة هذا محال، وإن كان المؤثّر في كلامه ذاته فهو محال أيضاً لأنّ المؤثّر واجب التقدّم بالوجود على الأثر؛ فالکلام إمّا أن يكون من صفات کماله أولاً يكون فإن كان الأوّل فتأثيره فيه أن كان حال اتصافه بصفة الكلام فقد كان وصف الكلام حاصلاً له قبل هذا خُلفٌ، وإن كان تأثيره فيه حال ما هو خالياً عن صفة الكلام بالفعل؛ فقد كان خالياً عن صفة كماله فكان ناقصاً بذاته وهذا محال، وإن لم يكن الكلام من صفات کماله كان إثباته له في الأزل إثباتاً لصفة زائدة على كماله والزيادة على الكمال نقصان؛ فتعيّن أنّه لو كان قديماً لکان واجب الوجود لذاته فكان إلها ثانياً، وأمّا بطلان التالي فلمّا بيّنا من کونه تعالى واحداً؛ فثبت بهذا الدليل الواضح أنّه لا يجوز أن يكون كلامه قدیماً.

وهذا البحث من مطارح الأذكياء فتأمل.

ص: 87

«لَا يُقَالُ كَانَ: الله بَعْدَ أَنْ لَا يَكُنْ»: إشارة إلى أنّه ليس بمحدث لأنّ كون الشيء بعد أن لم يكن هو معنی حدوثه.

«فَتَجْرِيَ عَلَيْه الصِّفَاتُ الْمُحْدَثَاتُ»: الفاء في جواب النفي لتقدير الشرط: أي لو صدق عليه أنّه محدث للحقته الصفات المحدثة وإلَّا لكانت صفاته قديمة فكان الموصوف بها قدیماً. هذا خُلفٌ.

والتقدير لكن لحوق الصفات المحدثة له باطل فكونه محدثا باطل، وأشار إلى بطلان التالي بقوله: «ولَا يَكُونُ بَيْنَه»: الله «وبَيْنَهَا»: المحدثات: «فَصْلٌ ولَا لَه عَلَيْهَا

فَضْلٌ فَيَسْتَوِيَ الصَّانِعُ والْمَصْنُوعُ ويَتَكَافَأَ الْمُبْتَدَعُ والْبَدِيعُ»: أي لو لحقته الصفات المحدثات وجرت عليه على تقدير كونه محدثاً لكانت ذاته مساوية لها في الحدوث المستلزم للإمكان المستلزم للحاجة إلى الصانع فلم يكن بينها وبينه فصل في ذلك، ولا له عليها فضل لاشتراكه معها في الحاجة.

وقوله: «فيستوي» إلى قوله: البديع.

إشارة إلى ما يلزم تلك المساواة من المحال. إذ كان استواء الصانع ومصنوعه ظاهر الفساد. وأصل البديع من الفعل ما لم يسبق فاعله إلى مثله، وسمّى الفعل الحسن بديعاً المشابهته ما لم يسبق إليه في كونه محلّ التعجب منه، والمبدع هو فاعل البديع، والمصدر الإبداع، وقد عرفت معناه فيما قبل، وفي نسخه الرضي رضي الله عنه البَدَع بفتح الدال، وهو البديع بالمعنى الَّذي ذكرناه، ومراده بالبديع الصانع فعيل بمعنی فاعل كقوله تعالى «بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ»(1) وإذا ثبت أنّه لا يجرى عليه الأمور المحدثة ولواحق الحدوث من سبق العدم والتغيّر والإمكان

ص: 88


1- سورة البقرة: الآية 117

والحاجة إلى المؤثّر وغير ذلك وإلَّا يلزم المحال المذكور أوّلاً والنسخة الأولى بخط الرضيّ رضي الله عنه.

«خَلَقَ الْخَلَائِقَ عَلَى غَیْرِ مِثَالٍ خَلَا مِنْ غَیْرِه»: قد سبق بيانه في الخطبة الأولى، وهو تنزیه له عن صفات الصانعين من البشر فإن صنائعهم تحذو حذو أمثلة سبقت من غيرهم أو حصلت في أذهانهم.

«ولَمْ يَسْتَعِنْ عَلَى خَلْقِهَا بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِه»: وإلَّا لكان ناقصاً بذاته مفتقراً إلى ما كان هو مفتقراً إليه وهو محال.

«وأَنْشَأَ الأَرْضَ فَأَمْسَكَهَا»: أي أوجدها فقامت في حيّزها بمساك قدرته، ولمّا كان شأن من تمسك شيئا ويحفظه من سائر الفاعلين لا يخلو عن كلفة ومشقّة في حفظه و اشتغال بحفظه عن غيره من الأفعال نزّه حفظه تعالى لها عمّا يلزم حفظ غيره لما يحفظه من تلك الكلفة والاشتغال بحفظها فقال:

«مِنْ غَیْرِ اشْتِغَالٍ وأَرْسَاهَا»: أثبتها في حيزها «عَلَى غَیْرِ قَرَارٍ»: اعتمدت عليه

فأمسكها وكذلك «وأَقَامَهَا بِغَیْرِ قَوَائِمَ ورَفَعَهَا بِغَیْرِ دَعَائِمَ» : بل بحسب قدرته.

«وحَصَّنَهَا مِنَ الأَوَدِ»: وهو: «الِعْوِجَاجِ»: أي من الميل إلى أحد جوانب العالم عن المركز الحقيقيّ وذلك ممّا ثبت في موضعه من الحكمة.

««ومَنَعَهَا مِنَ التَّهَافُتِ»: التساقط «والِنْفِرَاجِ»: أي جعلها كرة واحدة ثابتة في حيّزها، ومنعها أن يتساقط قطعاً أو ينفرج بعضها عن بعض.

«أَرْسَی»: اثبت «أَوْتَادَهَا وضَرَبَ»: بين «أَسْدَادَهَا»: وأراد بأسدادها ما أحاط بها من الجبال أو الَّتي يحجز بين بقاعها وبلادها.

ص: 89

«واسْتَفَاضَ عُيُونَهَا»: استفاض بمعنى أفاض كما قال تعالى «وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا»(1) وقد سبقت الإشارة إلى ذلك.

«وخَدَّ أَوْدِيَتَهَا»: أي شقّها وبيّن جبالها وتلالها.

«فَلَمْ يَهِنْ مَا بَنَاه ولَا ضَعُفَ مَا قَوَّاه»: بعد تعديد ما عدّد من الآثار العظيمة إشارة إلى کمال هذه المخلوقات وقوّتها ليبيّن عظمة الله سبحانه بالقياس إليها.

«هُوَ الظَّاهِرُ»: الغالب «عَلَيْهَا بِسُلْطَانِه وعَظَمَتِه»: قيل أشار بقوله: هو إلى هويّته الَّتي هي محض الوجود الحقّ الواجب، ولمّا لم يكن تعريف تلك الهويّة إلَّا بالاعتبارات الخارجة عنها أشار إلى تعريفها بكونه ظاهراً عليها: أي غالباً قاهراً لها، ولمّا كان الظهور يحتمل الظهور الحسّيّ؛ لا جرم قيّده بسلطانه وعظمته؛ إذ كان ظهوره عليها ليس ظهوراٍ مکانیّاً حسّياً بل بمجرّد ملکه، واستيلاء قدرته وعظمة سلطانه.

«وهُوَ الْبَاطِنُ لَهَا»: أي الداخل في بوطنها «بِعِلْمِه ومَعْرِفَتِه»: ولمّا كان البطون يحتمل الحسّيّ قيّده بعلمه تنزيهاً له عن سوء الأفهام وأحكام الأوهام. والضمائر في قوله لها يعود إلى الأرض وما بناه وما قوّاه.

«والْعَالِي»: أي الغالب «عَلَی كُلِّ شَيْءٍ مِنْهَا»: أي من الأرض و سایر مخلوقاته بها.

«بعِزَّتِه وِجَلَلِه»: فجلاله وعزّته

بالنسبة إليها هو اعتبار کونه تعالى منزّها عن كلّ مالها من الصفات المحدثة والكمالات المستفادة من الغير المستلزمة للنقصان الذاتيّ، ولمّا كانت هذه

ص: 90


1- سورة القمر: الآية 12

الاعتبارات الَّتي تنزّه عنها في حضيض النقصان كان هو باعتبار تنزيهه عنها في أوج الكمال الأعلى فكان عالية بذلك الاعتبار ولأنّه تعالى خالقها وموجدها فعلوّه عليها بجلال سلطان، وعزّته عن خضوع الحاجة وذلَّتها.

«لَا يُعْجِزُه شَيْءٌ مِنْهَا طَلَبَه»: الضمير المرفوع لله والمنصوب للشيء.

«ولَا يَمْتَنِعُ عَلَيْه فَيَغْلِبَه ولَا يَفُوتُه السَّرِيعُ مِنْهَا»: بحركة: «فَیَسْبِقَه»: وذلك لكونه تعالى واجب الوجود تامّ العلم والقدرة لا نقصان فيه باعتبار، وكون كلّ ما عداه مفتقراً في وجوده وجميع أحوال وجوده إليه فلا جرم لم يتصوّر ما ذكرت المايستلزمه ذلك العجز عن الحاجة والإمكان الممتنعين عليه.

«ولَا يَحْتَاجُ إِلَی ذِي مَالٍ فَيَرْزُقَه خَضَعَتِ الأَشْيَاءُ لَه وذَلَّتْ مُسْتَكِينَةً لِعَظَمَتِه»: فخضوعها وذها يعود إلى دخولها في ذلّ الإمكان تحت سلطانه وانقيادها في أسر الحاجة إلى کمال قدرته، وبذلك الاعتبار.

لَا تَسْتَطِيعُ الْحَرَبَ مِنْ سُلْطَانِه»: للزوم الحاجة لذواتها إليه واستناد کمالاتها إلى وجوده.

(1)«فَتَمْتَنِعَ مِنْ نَفْعِه وضَرِّه»: فهو النافع لها بإفاضة كمالاتها والضارّ لها بمنع ذلك.

وأراد بذلك سلب قدرته عليها على تقدير امتناعها منه، وهذا كما تقول لمن عجز عنك: إنّ فلاناً لا يقدر على نفع ولا ضرّ، وأيضاً النفع جاز أن يمتنع منه الأنفة واستغناء بالغير، ولا شيء من الموجودات يمتنع من سلطانه ونفعه باستغناء عنه وأنفة ونحوها.

ص: 91


1- ورد في بعض متون النهج: إِلىَ غَيِرْه

«ولَا كُفْءَ لَه فَيُكَافِئَه»: أي ليس له مثل فيقابله ويفعل بإزاء فعله، وقد علمت تنزيهه تعالى عن المثل.

«ولَا نَظِرَ لَه فَيُسَاوِيَه هُوَ الْمُفْنِي لَهَا بَعْدَ وُجُودِهَا حَتَّى يَصِرَ مَوْجُودُهَا

كَمَفْقُودِهَا»: عرف هويته باعتبار کونه معدماً للأشياء بعد وجودها، وقد ورد في القرآن الكريم إشارات إلى ذلك كقوله تعالى «يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ»(1) ومعلوم أنّ الإعادة إنّما تكون بعد العدم، وقوله: «إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ «وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ»(2) وأمثالها وقد أجمعت الأنبياء على ذلك، وعلم التصريح من دین محمّد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بأنّه سيكون، وهو الَّذي عليه جمهور المتكلَّمين والخلاف في جواز خراب العالم مع الحكماء، فإنّهم اتّفقوا على أنّ الأجرام العلويّة، والعقول والنفوس الملكيّة، وكذلك هيولى العالم العنصريّ وأجرام العناصر، وما ثبت قدمه امتنع عدمه لا لذاته بل لدوام علَّة وجوده، وما عدا ذلك فهو حادث وليس كله ممّا یعاد بالاتّفاق، بل الخلاف في المعاد الإنساني البدني فأنكره بعضهم، والإسلاميّون منهم قالوا: ليس للعقل في الحكم بوجوده أولا وجوده محال، بل إنّما يعلم بالسمع، هذا مع اتّفاقهم على القول بامتناع إعادة المعدوم، فإن أمكن الجمع بين القول بجواز المعاد الجسمانيّ مع القول بامتناع إعادة المعدوم؛ فليكن على ما ذهب إليه أبو الحسين البصريّ من المعتزلة وهو قوله: إنّ الأجزاء يتشذّب، ويتفرّق بحيث يخرج عن حدّ الانتفاع بها ولا مدخل في العدم الصرف. لكن في ذلك نظر لأنّ بدن زید مثلا ليس عبارة عن تلك الأجزاء المتشذّبة والمتفرقة فقط فإنّ القول بذلك مكابرة للعقل بل عنها

ص: 92


1- سورة الأنبياء: الآية 104
2- سورة سورة الانفطار: الآية 1 - 2

مع سائر الأعراض، والتأليفات المخصوصة والأوضاع فإذا شذب البدن وتفرّق فلا بدّ أن يعدم تلك الأعراض وتفني، وحينئذ يلزم فناء البدن من حيث هو ذلك البدن فعند الإعادة إن أعيد بعينه وجب إعادة تلك الأعراض بعينها فلزمت إعادة المعدوم، وإن لم يعد بعينه عاد غيره فیکون الثواب والعقاب على غيره وذلك تكذّيب القرآن الكريم في قوله «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى» اللهمّ إلَّا أن يقال: إنّ الإنسان المثاب والمعاقب إنّما هو النفس الناطقة وهذا البدن كالآلة فإذا عدم لم يلزم عوده بعينه بل جاز عود مثله. لكن هذا إنّما يستقيم على مذهب الحكماء القائلين بالنفس الناطقة، وأمّا على رأي أبي الحسين البصريّ فلا، ومذهب أكثر المحقّقين من علماء الإسلام يؤول إلى هذا القول.

«ولَيْسَ فَنَاءُ الدُّنْيَا بَعْدَ ابْتِدَاعِهَا بِأَعْجَبَ مِنْ إِنْشَائِهَا واخْتِرَاعِهَا»: دفع لما يعرض لبعض الأذهان من التعجّب بفناء هذا العالم بعد ابتداعه وخلقه بالتنبيه على حال إنشائه واختراعه: أي ليس صيرورة ما خلق إلى العدم بقدرته بعد الوجود بأعجب من صيرورته إلى الوجود بعد العدم عنها؛ إذ كانت كلها ممكنة قابلة للوجود والعدم لذواتها، بل صيرورتها إلى الوجود المشتمل على أعاجيب الحلقة وأسرار الحكمة الَّتي لا يهتدي لها، ولا يقدر على شيء منها أعجب وأغرب من عدمها الَّذي لا كلفة فيه.

«وكَيْفَ ولَوِ اجْتَمَعَ جَمِيعُ حَيَوَانِهَا مِنْ طَيْرِهَا وبَهَائِمِهَا ومَا كَانَ مِنْ مُرَاحِهَا»: التي يراح إلى بؤسها.

«وسَائِمِهَا وأَصْنَافِ أَسْنَاخِهَا»: أصولها «وأَجْنَاسِهَا ومُتَبَلِّدَةِ»: متحيرة.

«أُمَمِهَا وأَكْيَاسِهَا عَلَى إِحْدَاثِ بَعُوضَةٍ مَا قَدَرَتْ عَلَى إِحْدَاثِهَا ولَا عَرَفَتْ كَيْفَ

ص: 93

السَّبِيلُ إِلَی إِيجَادِهَا ولَتَحَیَّرَتْ عُقُولَهُا فِي عِلْمِ ذَلِكَ وتَاهَتْ وعَجَزَتْ قُوَاهَا وتَنَاهَتْ:

انتهت ورَجَعَتْ خَاسِئَةً»: صاغرة «حَسِرَةً»: كليلة «عَارِفَةً بِأَنَّهَا مَقْهُورَةٌ مُقِرَّةً

بِالْعَجْزِ عَنْ إِنْشَائِهَا مُذْعِنَةً بِالضَّعْفِ عَنْ إِفْنَائِهَا»: هذه تأكيد لنفی کون عدمها بعد وجودها أعجب من إيجادها بالتنبيه على عظم مخلوقاته تعالى ومكوّناته وما اشتملت عليه من أسرار الحكمة المنسوبة إلى قدرته.

والمعنى وكيف يكون عدمها أعجب و في إيجاده أضعف حيوان وأصغره ممّا خلق کالبعوضة من العجائب والغرائب والإعجاز ما يعجز عن تكوينه وإحداثه قدرة كلّ من تنسب إليه القدرة، وتقصر عن معرفة الطريق إلى إيجادها ألباب الألبّاء، ويتحيّر في كيفيّة خلقها حكمة الحكماء، ويقف دون علم ذلك ويتناهی عقول العقلاء، وترجع خاسئة حسيرة مقهورة معترفة بالعجز عن الاطَّلاع على کنه صنعه في إنشائها مقرّة بالضعف عن إفنائها. فإن قلت: كيف تقرّ العقول بالضعف عن إفناء البعوضة مع إمكان ذلك وسهولته.

فأجيب: بإنّ العبد إذا نظر إلى نفسه بالنسبة إلى قدرة الصانع الأوّل جلَّت عظمته وجد نفسه عاجزة عن كلّ شيء إلَّا بإذن إلهيّ، وأنّه ليس له إلَّا الإعداد لحدوث ما ينسب إليه من الآثار. فأمّا نفس وجود الأثر فمن واهب العقل عزّ سلطانه فالعبد العاقل لما قلناه يعترف بالضعف عن إيجاد البعوضة وإعدامها، وما هو أيسر من ذلك عند مقایسة نفسه إلى موجده وواهب کماله کما عرفت ذلك في موضعه، وأيضا فإنّ الله سبحانه کما خلق للعبد قدرة على الفعل والترك والإيذاء والإضرار بغيره كذلك خلق للبعوضة قدرة على الامتناع والهرب من ضرره بالطيران وغيره بل أن تؤذيه ولا يتمكن من دفعها عن نفسه فكيف يستسهل العاقل أفناها من غير معونة صانعهاله عليها.

ص: 94

«وإِنَّ الله سُبْحَانَه يَعُودُ بَعْدَ فَنَاءِ الدُّنْيَا وَحْدَه لَا شَيْءَ مَعَه كَمَا كَانَ قَبْلَ ابْتِدَائِهَا

كَذَلِكَ يَكُونُ بَعْدَ فَنَائِهَا بِلَا وَقْتٍ ولَا مَكَانٍ ولَا حِینٍ ولَا زَمَانٍ»: إشارة إلى كونه تعالى باقيا أبدا فيبقى بعد فناء الأشياء وحده لا شيء معه منها كما كان قبل وجوده كذلك بريئا عن لحوق الوقت والمكان والحيّز والزمان.

وقوله: يعود بعد: إشعار بتغيّر من حالة سبقت إلى حالة لحقت، وهما يعودان إلى ما يعتبره أذهانناله من حالة تقدّمه على وجودها وحالة تأخّره عنها بعد عدمها، وهما اعتباران ذهنيّان يلحقانه بالقياس إلى مخلوقاته.

«عُدِمَتْ عِنْدَ ذَلِكَ»: أي عند وجود وعوده بعد فناء الدنيا.

«الآجَالُ والأَوْقَاتُ وزَالَتِ السِّنُونَ والسَّاعَاتُ»: هذا الحكم ظاهر لأنّ كلّ ذلك أجزاء للزمان الَّذي هو من لواحق الحركة الَّتي هي من لواحق الجسم فيلزم من عدم الأجسام عدم عوارضه.

«فَلَا شَيْءَ»: أي لا يبقى بعد فناء هذا العالم شيء «إِلَّا الله الْواحِدُ الْقَهَّارُ»: ذكر الواحد لبقائه كذلك، والقهّار باعتبار کونه قاهراً لها بالعدم والفناء.

«الَّذِي إِلَيْه مَصِرُ جَمِيعِ الأُمُورِ»: فمعني مصيرها إليه أخذه لها بعد هبته لوجودها.

«بِلَا قُدْرَةٍ مِنْهَا كَانَ ابْتِدَاءُ خَلْقِهَا وبِغَیْرِ امْتِنَاعٍ مِنْهَا كَانَ فَنَاؤُهَا»: إشارة إلى أنّه لا قدرة لشيء منها على إيجاده نفسه، ولا على الامتناع من لحوق الفناء له.

«ولَوْ قَدَرَتْ عَلَى الِمْتِنَاعِ لَدَامَ بَقَاؤُهَا»: استدلال بقياس شرطيّ متّصل على عدم قدرة شيء منها على الامتناع من الفناء، وإنّما خص الحكم بالاستدلال دون

ص: 95

الأوّل لكون الأوّل ضروريّاً، وبيان الملازمة: أنّ الفناء مهروب منه لكلّ موجود فإمكان الامتناع منه مستلزم للداعي إلى الامتناع المستلزم للامتناع منه المستلزم للبقاء، وأمّا بطلان التالي(1) فلمّا ثبت أنّه تعالى يفنيها فلزم أن لا يكون لها قدرة على الامتناع.

«لَمْ يَتَكَاءَدْه»: لم تنقله: «صُنْعُ شَيْءٍ مِنْهَا إِذْ صَنَعَه ولَمْ يَؤُدْه»: لم تنقله.

«مِنْهَا خَلْقُ مَا خَلَقَه وبَرَأَه»: من قبيل عطف التفسير وهذا الحكم أيضاً لأن المستقر في الفعل وثقله بّما يعرض لذي القدرة الضعيفة من الحيوان لنقصانها. وقدرته تعالى بريئّة عن أنحاء النقصان لاستلزامه الإمكان والحاجة إلى الغير.

ثم أشار غلى تعدد وجوه الأعراض المتعارفة للفاعلين في أيجاد ما يوجدونه وأعدَاهَم بحسب الظاهر وتبقى تلك الأعراض عن فعله في إيجاد ما أوجده وإعدَام ما أعدَمَه من الأشياء فقال: «ولَمْ يُكَوِّنْهَا لِتَشْدِيدِ سُلْطَانٍ ولَا لِخَوْفٍ مِنْ

زَوَالٍ ونُقْصَانٍ ولَا لِلاسْتِعَانَةِ بِهَا عَلَى نِدٍّ مُكَاثِرٍ ولَا لِلاحْتِرَازِ بِهَا مِنْ ضِدٍّ مُثَاوِرٍ

ولَا لِلازْدِيَادِ بِهَا فِي مُلْكِه ولَا لِمُكَاثَرَةِ شَرِيكٍ فِي شِرْكِه ولَا لِوَحْشَةٍ كَانَتْ مِنْه فَأَرَادَ أنَ يَسْتَأْنِسَ إِلَيْهَا»: توضیح: المرام في هذا المقام: أن الأعراض المتعلَّقة بالإيجاد فهو إمّا جلب منفعة كتشديد السلطان وجمع الأموال، والقينات وتکثير الجند والعدّة والازدياد في الملك بأخذ الحصون والقلاع و مكابرة الشريك في الملك كما يكابر الإنسان غيره ممّن يشاركه في الأموال، والأولاد أو رفع مضرّة كالتخوّف من العدم والزوال فخلقها ليتحصّن بها من ذلك؛ أو خوف النقصان فخلقها ليستكمل بها أو خوف الضعف عن مثل تكاثره فخلقها ليستعين بهما عليه أو خوف ضدّ

ص: 96


1- بطلان التالي: تقدم في اكثر من موضع بیان معنى القياس الشرطي وتوضیح الملازمة في المقدم والتالي من القياس المنطقي

يقاومه فأوجدها ليختزل منه ويدفع مضرّته أو لوحشة كانت له قبل إيجادها فأوجد ليدفع ضرر استيحاشه بالأُنس بها، وقدس کماله سبحانه منزه عن غبار شيء منها ثم أشار إلى الأعراض المتعلَّقة بعدمها فقال:

«ثُمَّ هُوَ يُفْنِيهَا بَعْدَ تَكْوِينِهَا لَا لِسَأَمٍ»: لملال.

«دَخَلَ عَلَيْه»: ولحق له «فِي تَصْرِيفِهَا وتَدْبِيرِهَا ولَا لِرَاحَةٍ وَاصِلَةٍ إِلَيْه ولَا لِثِقَلِ

شَيْءٍ مِنْهَا عَلَيْه»: لأنها إمّا لدفع المضرّة أو جلب المنفعة وهما من لواحق الإمكان

الَّذي تنزّه قدسه ذاته عنه فظهر صحة قوله: «لَا يُمِلُّه طُولُ بَقَائِهَا فَيَدْعُوَه إِلَی

سُرْعَةِ إِفْنَائِهَا ولَكِنَّه سُبْحَانَه دَبَّرَهَا بِلُطْفِه»: إشارة إلى إيجاده لها على وجه الحكمة والنظام الأتمّ الأكمل الَّذي ليس في الإمكان أن يكون جملتها على أتمّ منه ولا ألطف.

«وأَمْسَكَهَا بِأَمْرِه»: بقائها في الوجود بحکم سلطانه.

«وأَتْقَنَهَا بِقُدْرَتِه»: إحكامها على وفق منفعتها وإن كان عن قدرته فعلى وفق علمه بوجوه الحكمة. كلّ ذلك بمحض الجود من غير غرض من الأغراض المذكورة تعود إليه.

«ثُمَّ يُعِيدُهَا بَعْدَ الْفَنَاء»: فيه تصريح بإعادة الأشياء بعد فنائها. وفناؤها إمّا عدمها كما هو مذهب من جوّز إعادة المعدوم، أو تشذّبها، و تفرّقها وخروجها عن حدّ الانتفاع بها كما هو مذهب أبي الحسين البصريّ ومن بايعه ثم ذكر وجوه الأغراض الصالحة في الإعادة وأشار إلى نفيها عنه تعالى فقال: «مِنْ غَیْرِ حَاجَةٍ

مِنْه إِلَيْهَا ولَا اسْتِعَانَةٍ بِشَيْءٍ مِنْهَا عَلَيْهَا»: أي ببعضها على بعض «ولَا لِانْصِرَافٍ مِنْ حَالِ وَحْشَةٍ إِلَی حَالِ اسْتِئْنَاسٍ ولَا»: لانراف «مِنْ حَالِ جَهْلٍ وعَمًى إِلَی حَالِ

ص: 97

عِلْمٍ والْتِمَاسٍ ولَا مِنْ فَقْرٍ وحَاجَةٍ إِلَی غِنًى وكَثْرَةٍ ولَا مِنْ ذُلٍّ وضَعَةٍ»: ملالة «إِلَی عِزٍّ وقُدْرَةٍ»: وقد عرفت أن كل هذه الأغراض من باب دفع المضرة المنزه قدسه تعالى عنها، وقد بينا فيما سلف البرهان الإجمالي على تنزيهه تعالى في أفعاله من الأغراض بل إيجاده لما يوجد لمحض الجود الإلهيّ الَّذي لا بخل فيه ولا منع من جهته. فهو الجواد المطلق والملك المطلق الذي يفيد ما ينبغي لا لغرض ويوجد ما يوجد لا لفائدة تعود إليه ولا غرض. وهو مذهب جمهور أهل السنّة والفلاسفة، والخلاف فيه مع المعتزلة.

فإن قلت: ظاهر کلامه عليه السلام مشعر بأنّ الدنيا کما تفنی تعاد، والَّذي وردت به الشريعة، وفيه الخلاف بين جمهور المتكلَّمين والحكماء هو إعادة الأبدان البشريّة.

فافتح عين البصيرة حتى يرى أن الضمير في تعيدها، سواء كان راجعاً إلى الدنيا أو إلى الأمور في قوله: مصير جميع الأمور. فإنّه مهمل كما يرجع إلى الكلّ جاز أن يرجع إلى البعض وهي الأبدان البشريّة. قال بعضهم: إنّ للسالكين في هذا الكلام تأويلاً عقليّاً وإن جزموا بكون مراده عليه السّلام هو ما ذكرناه من الظاهر فإنّهم قالوا يحتمل أن يشار بقوله: وإنّه يعود سبحانه. إلى قوله: الأمور. إلى حال العارف إذا حقّ له الوصول التامّ حتّى غاب عن نفسه فلحظ جناب الحقّ سبحانه بعد حذف كلّ قید دنیاويّ أو أُخرويّ عن درجة الاعتبار فإنّه صحّ کما يفنى هو عن كلّ شيء كذلك يفني عنه كلّ شيء حتّى نفسه فلا يبقى بعد فنائها عنه إلَّا وجه الله ذو الجلال والإكرام فكما كانت الأشياء عند اعتبار ذواتها غير مستحقّة للوجود ولواحقه كذلك يكون عند حذفها عن درجة الاعتبار وملاحظة جلال الواحد القهّار ليس إلَّا هو، ثم يعيدها بعد الفناء.

ص: 98

فعودها إعتبار أذهان العارفين لها عند عرجهم من الجناب المقدّس إلى الجنبة السافلة واشتغالهم بمصالح أبدانهم، والكلّ منسوب إلى تصريف قدرته تعالى بحسب استعداد الأذهان لقبولها وصدقها. وقد علمت من بيانها لهذه الخطبة صدق كلام السيّد الرضي رضي الله عنه في مدحها حيث قال: وتجمع هذه الخطبة من أصول العلم ما لا تجمعه غيرها؛ فإنّها بالغة في علم التوحيد كاملة في علم التنزيه والتقديس لجلال الواحد الحقّ جلَّت عظمته وبالله التوفيق والعصمة.

ومن خطبة له عليه السّلام يختص بذكر الملاحم:

قد عرفت أنها جمع ملحمة وهي الوقعة العظمة في الفتنة.

«أَلَا بِأَبِ وأُمِّي هُمْ مِنْ عِدَّةٍ أَسْمَاؤُهُمْ فِي السَّمَاءِ مَعْرُوفَةٌ وفِي الأَرْضِ مَجْهُولَةٌ»: بأبي وأُمّي تسمّى الباء باء، والجار والمجرور في تقدير خبر المبتدأ وهو قوله: هم. وقد سبقت الإشارة إلى مثله في قوله مخاطباً للرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم عند تولية غسله، والضمير إشارة إلى أولياء الله فيما يستقبل من الزمان بالنسبة إلى زمانه عليه السّلام وقالت الشيعة: إنّه أراد الأئمة من ولده عليهم السّلام.

وقوله: أسماؤهم في السماء معروفة.

إشارة إلى علوّ درجتهم في الملأ الأعلى وإثبات أسمائهم وصفاتهم الفاضلة في ديوان الصدّيقين، وفي الأرض مجهولون بين أهل الدنيا الَّذين يرون أنّه ليس وراءها کمال. ومن سماء الصالحين بمجرى العادة القشف، والإعراض عن الدنيا وذلك يستلزم قلَّة مخالطة أهلها ومكاثرتهم وهو مستلزم لجهلهم بهم وعدم معرفتهم لهم. ثمّ شرع في التنبيه على الأحوال الرديئة المستقبلة المعتادة لمصالح العالم الَّتي تجمعها سوء التدبّر وتفرّق الكلمة فقال:

ص: 99

«أَلَا فَتَوَقَّعُوا مَا يَكُونُ مِنْ إِدْبَارِ أُمُورِكُمْ وانْقِطَاعِ وُصَلِكُمْ واسْتِعْمَلِ صِغَارِكُمْ»: الوصل: جمع وصلة وهي الانتظامات الحاصلة لأسبابهم في المعاش والمعاد بوجود الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وتدبيره؛ ثمّ استعمال أهل الشرف وأكابر الناس على الأعمال، ومن كلامه عليه السّلام في ذلك قوله لمالك الأشتر في عهده إليه يشير إلى العمّال: «وتَوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ والْحَيَاءِ مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ والْقَدَمِ فِي الإِسْلَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَإِنَّهُمْ أَكْرَمُ أَخْلَقاً وأَصَحُّ أَعْرَاضاً وأَقَلُّ فِي

الْمَطَامِعِ إِشْرَاقاً وأَبْلَغُ فِي عَوَاقِبِ الأُمُورِ نَظَراً»(1).

وصغار الناس مظنة أضداد الأمور المذكورة.

ذَاكَ: المذكور من التوقع وما بعده.

«حَيْثُ تَكُونُ ضَرْبَةُ السَّيْفِ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَهْوَنَ»: وأقل عنده مشقّة من المشقّة الحاصلة في اكتساب درهم حلال فقوله:

«مِنَ الدِّرْهَمِ مِنْ حِلِّهِ»: أي من كسبه فحذف المضاف وذلك لأنّ المكاسب حينئذ يكون قد اختلطت وغلب الحرام الحلال فيها وذاك.

«حَيْثُ يَكُونُ الْمُعْطَى أَعْظَمَ أَجْراً مِنَ الْمُعْطِي»: وذلك لأن أكثر من يعطى حينئذ ويتصدق يكون ماله حراماً فيقل أجره، ولن أكثرهم يقصد الرياء والسمعة والهوى نفسه، أو لخطرة من خطرات من غير خلوصٍ لله سبحانه في ذلك وأما المعطي فقد يكون فقيراً مستحقاً للزكاة ذا عيال لا يلزمه أن تحجب عن أصل ما يعطياه؛ فإذا أخذه لسد حلقة كان ذلك أعظم أجراً ممن يعطيه أو لأن المعطي يكون أكثر ما ينفق ماله في غير طاعة له في الوجوه المحظورة؛ فإذا أخذ الفقير

ص: 100


1- يُنظر النهج: رسالة رقم 53 وهي عهده الشريف الى مالك الأشتر النخعي

منه على وجه الصدقة فوّت على المعطی صرف ماله في تلك الوجوه فكان للفقير بذلك المنّة عليه. إذ كان سبباً في منعه عن صرف ماله فيما لا ينبغي فكان أعظم أجراً منه.

«ذَاكَ حَيْثُ تَسْكَرُونَ مِنْ غَیْرِ شَرَابٍ»: استعار وصف السكر لهم باعتبار غفلتهم عمّا ينبغي لهم اللازمة عن استغراقهم في اللذّات الحاضرة کما يلزم السكر الغفلة عن المصالح، وقرينة الاستعارة قوله: من غير شراب.

«بَلْ مِنَ النِّعْمَةِ»: التنعم بالحرام «والنَّعِيمِ»: النعمة فأن السكر حقيقته أنما يكون من الشراب و: ذاك حيث «تَحْلِفُونَ مِنْ غَیْرِ اضْطِرَارٍ»: إلى اليمين بل غفلة عن عظمة الله سبحانه حتّى يتوصّلوا باليمين به إلى أحسّن المطالب.

و: ذاك حيث يكْذِبُونَ مِنْ غَیْرِ إِحْرَاجٍ»: أي من غير أن يلجئهم إلى الكذب ضرورة، بل يصير الكذب ملكة وخلقاً.

«وذَاكَ إِذَ اعَضَّكُمُ الْبَاَءُ كَمَا يَعَضُّ الْقَتَبُ»: الرجل الصغير «غَارِبَ الْبَعِیرِ»: ما بين السنام والعنو استعار العض لإيلام البلاء الذي ينزل بقلوبهم وشبهه بعض القت لغارب البعير ووجه المشابهة شدة الإيلام وهذا الشبه هو وجه استعارة العض للبلاء.

«مَا أَطْوَلَ هَذَا الْعَنَاءَ»: التعب «وأَبْعَدَ هَذَا الرَّجَاءَ»: كلام منقطع عما قبله کما هو عادة الرضي رضي الله عنه في النقاط الفصول وألحاق بعضها بعض إذا الظاهر أن قوله ما اطول إلى قوله الرجاء كلام شيعته أو أن نزول عليهم من البؤس والقنوط، ومشقة أنصار الفرج؛ فعلى هذا يكن المعنى أنهم يصابون بالبلاء حتى يقولون ما أطول التعب الذي نحن فيه، وما أبعد رجاؤنا للخلاص من بقيام القائم المنتظر

ص: 101

ويحتمل أن يكون الكلام متصلاً ويكون قوله: «ما أطول هذا العنا» کلاماً مستأنفاً في معنى التوبيخ لهم عنها، وما أبعد هذا الرجاء الذي يرجوابه منها وظاهر أن متاعب الدنيا لطالبها أطول المتاعب، ومطالبها لرجاحتها أبعد المطالب کما قال عليه السلام فيما قبل من شائها فأته وكما قال: الرسول صلى الله عليه [وآله] وسلم «من جعل الدنيا أكبر همه فرق الله علیه همه وجعل الله فقره بين عينيه ولم يأته منه إلا ما كتب له»(1) وهذا وهذا الكلام يقتضي أنّ المتجرّد لطلب الدنيا لا يزال ملاحظا لفقره مستحضراً له؛ فهو حامل له على التعب في تحصيلها والكدح لها، ويحتمل أن يريد بالعناء المشار إليه عناؤه في جذبهم إلى الله ودعوته لهم إلى الآخرة في أكثر أوقاته؛ فإنهم لا يرجعون إلى دعوته ولا يتّفقون على كلمته، وظاهر أنّه عناء طويل وتعب عظيم. وبالرجاء المشار إليه رجاؤه لصلاحهم واستبعده ثمّ أيّه بهم فقال: «أَيُّهَا النَّاسُ أَلْقُوا هَذِهِ الأَزِمَّةَ الَّتِي تَحْمِلُ ظُهُورُهَا الأَثْقَالَ مِنْ

أَيْدِيكُمْ»: استعار الأزمّة للآراء الفاسدة المتّبعة والأهواء القائدة لهم إلى المأثم. ووجه المشابهة كونها قائدة لهم كما تقود الأزمّة الجمال، والإلقاء للأعراض عن تلك الآراء الباطلة وترك العمل لها. ولفظ الظهور لأنفسهم، والأثقال للمعقول من أثقال الذنوب، ووجه المشابهة الأولى كونها حاملة لأثقال الخطايا والأوزار کما يحمل الظهور الأثقال المحسوسة كما قال تعالى «وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ»(2) وقوله «وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ»(3) ووجه الاستعارة

ص: 102


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 5 ص 183؛ عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي: ج 1 ص 272؛ سنن الدارمي لعبد الله بن الرحمن الدارمي: ج 1 ص 96؛ سنن الترمذي: ج 4 ص 57؛ والهيثمي في مجمع الزوائد ج 10 ص 247؛ على أن بعض المصادر: ذكرت الحديث قريباً منه مع أخلاف يسير
2- سورة الأنعام: الآية 31
3- سورة العنكبوت: الآية 13

الثانية أنّ الملكات الرديئة الحاصلة من اقتراف المآثم تثقّل النفوس عن النهوض إلى حظائر القدس ومنازل الأبرار کما تثقّل الأثقال المحسوسة الظهور الحاملة لها. ولمّا استعار لفظ الإلقاء والأزمّة اللذين من شأنهما أن يكونا باليد وفي اليد رشّح بذكر الأيدي فقال: من أيديكم. والحاصل أنّه أمرهم بترك الآراء الفاسدة ونهاهم عن متابعتها، ونبّه على وجوب ترکها بأنهم إذا ألزموها وعملوا على وفقها قادتهم إلى حمل أثقال الخطايا. ثمّ أردف ذلك بالنهي عن التفرّق عنه بعد تقديم النهى عن اتّباع الآراء الفاسدة المستلزمة للهلاك تنبيهاً على أنّ آراءهم في التصدّع عنه من تلك الآراء غير المحمودة فقال:

«ولَا تَصَدَّعُوا»: تتفرقوا عَلَی «سُلْطَانِكُمْ»: أمامكم.

«فَتَذُمُّوا غِبَّ فِعَالِكُمْ»: تنفير عن التفرّق عنه بذكر ما يلزمه من العاقبة المذمومة، وهي غلبة العدوّ عليهم واستيلائه على أحوالهم، وتعوّضهم عن عزّتهم ذلَّا، ورخائهم ونعمتهم بؤساً ونقمة، والفاء هي الَّتي في جواب النهي: أي إن تصدّعتم عن سلطانكم ذممتم غبّ فعالكم، ثمّ أردف النهي عن التفرّق عنه بالنهي عن اقتحام ما استقبلوا من الفتنة المنتظرة تشبيهاً على أنّ التفرّق عنه سبب للدخول في نار الفتنة، وتنفيراً عن مخالفته بكونها اقتحاماً لنار الفتنة وتسرّعاً إلى دخولها فقال:

«ولَا تَقْتَحِمُوا مَا اسْتَقْبَلْتُمْ مِنْ فَوْرِ نَارِ الْفِتْنَةِ»: لفظ النار مستعار لأحوال الفتنة من الحروب والقتل والظلم، ووجه المشابهة كونها مستلزمة للأذى كالنار. ووصف الاقتحام لمخالفته والتفرّق عنه، ووجه الاستعارة إسراع تفرقهم عنه إلى الوقوع في الفتنة كإسراع المقتحم. ورشّح باستعارة النار بالفور مبالغة في التنفير، ثمّ أمرهم بالنهي عن قصدها وطريقها وتخلية قصد السبيل لها: أي خلوّها لقصد سبيله.

ص: 103

«وأَمِيطُوا»: أبعدوا «عَن سَننَهِاَ»: طرقها «وخَلُّوا»: أتركوا «قَصْدَ السَّبِيلِ لَهَا»: استقامته للفتنة أي لا تتعرضوا لها فتقتحموها فتكونوا حطباً لنارها. ثمّ أقسم بقوله:

«فَقَدْ لَعَمْرِي يَهْلِكُ فِي لَهَبِهَا الْمُؤْمِنُ ويَسْلَمُ فِيهَا غَیْرُ الْمُسْلِمِ»: وذلك ظاهر الصدق، وهو من كراماته عليه السّلام وإخباره عمّا سيكون فإنّ الدائرة في دولة بني أُميّة كانت على من لزم دينه واشتغل بعبادة ربّه دون من وافقهم على أباطيلهم وأجاب دعوتهم وتقرّب إلى قلوبهم بالكذب على رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وتقريبهم للمنافقين وتوليتهم للأعمال، واعلم أنّه ليس مراده آنه يهلك فيها كلّ مؤمن، ولا يسلم فيها إلَّا غیر مسلم، بل القضيّتان مهملتان، والغرض منهما أن أكثر من يهلك فيها المؤمنون، وأكثر من سلم فيها المنافقون ومن ليس له قوّة في الإسلام، ولفظ اللهب ترشيح للاستعارة لفظ النار، ثمّ مثّل نفسه بينهم بالسراج في الظلمة فقال: «إنِّاَ مَثَلِي بَيْنَكُمْ كَمَثَلِ السِّرَاجِ فِي الظُّلْمَةِ». وأشار إلى وجه مشابهته للسراج بقوله:

(1)«فَاسْمَعُوا أَيَّهُا النَّاسُ وعُوا وأَحْضُرِوا آذَانَ قُلُوبِكُمْ تَفْهَمُوا»: وتقريره أنّ الطالبين للهداية منه عليه السلام والمتّبعين له يستضيئون بنور علومه وهدايته إلى الطريق الأرشد کما يهتدى السالكون في الظلمة بالسراج.

ثم أردفه بأمرهم بساع قوله، وأن يحضروا قلوبهم لفهم ما بلغت إليهم من الحكمة والموعظة الحسنة كما هو المعلوم من حال الخطيب فقال: «فَاسْمَعُوا أَيُّهَا

النَّاسُ وعُوا وأَحْضِرُوا آذَانَ قُلُوبِكُمْ تَفْهَمُوا»: استعار الآذان هنا للقلوب.

ص: 104


1- ورد في بعض متون النهج: يَسْتَضيِءُ بِهِ مَنْ وَلَجَهَا

ووجه أنّ الآذان لمّا كانت مدركة للأقوال أشبهتها أفهام القلوب المدركة الأقواله، وطلب إحضارها إذ كان هو المنتفع به دون إحضار الآذان المحسوسة.

وظاهر أنّ إحضار العقول، وتوجّهها إلى الفكر في المسموع مستلزم لحصول الفهم وبالله التوفيق.

ومن خطبة له عليه السّلام

«أُوصِيكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ بِتَقْوَى الله»: لأنها العمدة الكبرى فيما يوصی به.

«وبكَثْرَةِ حَمْدِهِ عَلَی آلَئِهِ إِلَيْكُمْ ونَعْمَئِهِ عَلَيْكُمْ»: أراد النعم الظاهرة والباطنة.

«وبَلَئِهِ لَدَيْكُمْ»: قال عز من قائل «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً»(1) ثم أردف ذلك بتقرير تخصيصهم بنعمته تعالى عليهم وتذكيرهم برحمته فقال:

«فَكَمْ خَصَّكُمْ بِنِعْمَةٍ وتَدَارَكَكُمْ»: أدرككم «بِرَحْمَةٍ»: والرحمة كما يراد بها صفة الله تعالى كذلك يراد بها آثاره الحسنة الخيريّة كما هو مراده هنا في حقّ عباده. وأتی بلفظ کم للتكثير ثمّ أردفه بضروب الرحمة والمنعمة فقال:

«أَعْوَرْتُمْ»: أبديتم عوراتكم والعورة السوءة وكل ما يستحي منه.

«فَسَتَرَكَمُ»: حيث مجاهرتهم له بالمعصية الَّتي ينبغي أن يستحيوا منها وموافقتهم لها بمرأى منه ومسمع.

«وتَعَرَّضْتُمْ لأَخْذِهِ»: أي لأخذ الله إياكم بارتكاب مناهيه ومخالفة أوامره.

«فَأَمْهَلَكُمْ»: لم يبادركم بالنقمة ويعاجلهم بالعقوبة.

ص: 105


1- سورة الأنبياء: الآية 35

«وأُوصِيكُمْ بِذِكْرِ الْمَوْتِ وإِقْاَلِ الْغَفْلَةِ عَنْهُ»: حيث تعرضوا لأخذه بارتكاب مناهيه ومخالفة أوامره.

الثاني: ممّا أوصاهم به ذكر الموت وإقلال الغفلة عنه.

وذلك لأنه يستلزم ذكره من الانزجار عن المعاصي، وذكر المعاد إلى الله سبحانه ووعده و وعیده، والرغبة عن الدنيا وتنقیص لذاتها كما قال الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أكثروا من ذكر هادم اللذّات»(1).

وإنّما استلزم ذكره ذلك لكونه ممّا يساعد العقل فيه الوهم على ضرورة وقوعه مع مساعدته على ما فيه من المشقّة الشاقّة؛ ثمّ استفهمهم عن غفلتهم عنه وطمعهم فيه مع كونه لا يغفلهم ولا يمهلهم استفهام توبيخ على ذلك فقال:

«وكَيْفَ غَفْلَتُكُمْ عَمَّا لَيْسَ يُغْفِلُكُمْ»: أي لا يترككم غافلاً عنكم.

«وطَمَعُكُمْ فِيمَنْ لَيْسَ يُمْهِلُكُمْ»: يعني ملك الموت عليه السلام وهو مأمور بأن لا ينظرهم ولأجل ما فيه من شدّة الاعتبار قال:

«فَكَفَى وَاعِظاً بِمَوْتَى عَايَنْتُمُوهُمْ حُمِلُوا إِلَی قُبُورِهِمْ غَیْرَ رَاكِبنَ وأُنْزِلُوا فِيهَا

غَیْرَ نَازِلِنَ فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا لِلدُّنْيَا عُمَّاراً وكَأَنَّ الآخِرَةَ لَمْ تَزَلْ لَهُمْ دَاراً أَوْحَشُوا مَا

كَانُوا يُوطِنُونَ»: يتخذون وطناً «وأَوْطَنُوا مَا كَانُوا يُوحِشُونَ واشْتَغَلُوا بِمَا فَارَقُوا

وأَضَاعُوا مَا إِلَيْهِ انْتَقَلُوا»: في هذا الكلام زيادة موعظة على ذكر الموت وهی شرح أحوال من عاينوه من الموتى، وذكر منها أحوالاً أحدها كيفيّة حملهم إلى قبورهم

ص: 106


1- عیون أخبار الرضا: للشيخ الصدوق: ج 2 ص 70؛ المجازات النبوية للشريف الرضي: ص 403؛ الأمالي: للشيخ: ص 82، و تاريخ مدينة دمشق لأبن عساكر الدمشقي: ج 32 ص 42

غير راكبين مع كونهم في صورة ركوب منفور عنه الثانية: إنزالهم إلى القبور على غیر عادة النزول المتعارف المقصود؛ فكأنّهم في تلك الحال مع طول مددهم في الدنيا وعمارتهم لها وركونهم إليها لم يكونوا لها عمّارة وكان الآخرة لم تزل داراً. ووجه التشبيه الأوّل انقطاعهم عنها بالكلَّيّة، وعدم خيرهم فيها؛ فأشبهوا لذلك من لم يكن فيها ووجه الثاني كون الآخرة هي مستقرّهم الدائم الثابت الَّذي لا معدل عنه؛ فأشبهت في ذلك المنزل الَّذي لم يزل له دارا الثالثة: إيحاشهم ما كانوا يوطنون من منازل الدنيا ومساكنها الرابعة: إيطانهم ما كانوا يو حشون من القبور الَّتي هي أوّل منازل الآخرة الخامسة: اشتغالهم بما فارقوا وذلك أنّ النفوس الراكنة إلى الدنيا العاشقة لها المقبلة على الاشتغال بلذّاتها يتمكَّن في جواهرها ذلك العشق لها، وتصير محبّتها ملكة، وخلقاً فيحصل لها بعد المفارقة لما أحبّته من العذاب به والشقاء الأشقى بالنزوع إليه، وعدم التمكَّن من الحصول عليه أعظم شغل وأقوى شاغل، وأصعب بلاء هائل بل تذهل فيه كلّ مرضعة عمّا أرضعت وتضع فيه كلّ ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، ولكنّ عذاب الله شديد. السادسة: إضاعتهم ما إليه انتقلوا وهي دار الآخرة ومعنى إضاعتهم لها تركهم الأسباب الموصلة إلى ثوابها والمبعدة من عقابها السابعة:

«لَا عَنْ قَبِيحٍ يَسْتَطِيعُونَ انْتِقَالًا»: أي عمّا حصلوا عليه من الأفعال القبيحة الَّتي ألزمتهم العذاب، و أكسبت نفوسهم ملكات السوء، وذلك ظاهر إذا لانتقال عن ذلك لا يمكن إلَّا في دار العمل وهي الدنيا. الثامنة:

«ولَا فِي حَسَنٍ يَسْتَطِيعُونَ»: أي من الأعمال الحسنة الموجبة للملكات الخيريّة والثواب الدائم:

«ازْدِيَاداً»: قال جل وعلا حكاية عنهم «قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ

ص: 107

صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ»(1) التاسعة:

«أَنِسُوا بِالدُّنْيَا فَغَرَّتْهُمْ»: العاشرة «ووَثِقُوا بِهَا فَصَرَعَتْهُمْ»: والسبب في الاغترار بها وغرورهاهم حصول لذّاتها المحسوسة مع قربهم من المحسوس، وهو مستلزم للأُنس بها المستلزم للغرور بها، والغفلة عمّا وراها، وهو مستلزم للوثوق، وهو مستلزم لصرعتهم في مهاوي الهلاك حيث لا يقال عثرة، ولا ينفع ندامة. وأعلم أنّ ذكر الموت وإن كان يستلزم الاتّعاظ، والانزجار إلَّا أنّ شرح الأحوال الَّتي تعرض للإنسان في موته أبلغ في ذلك لما أنّ كلّ حال فيها منفور عنها طبعاً، وإن كانت إنّما تحصل النفرة عنها لكونها حالة تعرض للميّت والمقرون بالمؤلم والمكروه مکروه ومؤلم ومنفور عنه طبعاً.

«فَسَابِقُوا رَحِمَكُمُ اللهُ إِلَی مَنَازِلِكُمُ الَّتِي أُمِرْتُمْ أَنْ تَعْمُرُوهَا والَّتِي رَغِبْتُمْ فِيهَا

ودُعِيتُمْ إِلَيْهَا»: وهي منازل الجنّة، ومراتب الأبرار فيها وعمارتها بالأعمال الصالحة الموافقة لمقتضى النواميس الإلهيّة، وتحصيل الكمالات النفسانيّة عنها والمعنی ليسابق بعضکم بعضا إلى منازلكم، ومراتب درجاتكم من الجنّة وعمارتها بتحصیل الكمالات النفسانيّة، وموافقة الشرع الإلهيّة وإليه الإشارة بقوله تعالى «وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ»(2) والترغیب فيها لقوله: «واسْتَتِمُّوا نِعَمَ اللهِ عَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى طَاعَتِهِ والْمُجَانَبَةِ لِمَعْصِيَتِهِ»: وكذا وقع في النسخ ورغَّب فيه بكونه سبباً يستتمّ به نعمة الله عليهم. ولمّا كان استلزامه لها كالثمرة له وكانت ثمرة الصبر حلاوة قدّمها ليحلو الصبر بذكرها.

ص: 108


1- سورة المؤمنون: الآية 99 - 100
2- سورة آل عمران الآية 133

«فَإِنَّ غَداً مِنَ الْيَوْمِ قَرِيبٌ»: تخويف من الساعة وقربها، ولم يرد بغد ولا اليوم حقيقتهما بل أراد بعد القيامة وباليوم مدّة الحياة كقوله فيما سبق: ألا وإنّ اليوم المضمار وغدا السباق، وهو يجري مجري المثل كقوله: غدما أقرب اليوم من غد.

«مَا أَسْرَعَ السَّاعَاتِ فِي الْيَوْمِ وأَسْرَعَ الأَيَّامَ فِي الشَّهْرِ وأَسْرَعَ الشُّهُورَ فِي السَّنَةِ وأَسْرَعَ السِّنِينَ فِي الْعُمُرِ»: بيان لقرب الغد الَّذي کنّی به عن القيامة من اليوم فإنّ الساعات سريعة الإتيان والانقضاء، وسرعتهما مستلزم لسرعة مجيء اليوم وانقضائه، وسرعتهما مستلزم لسرعة مجيء الشهر، وانقضائه المستلزمين لسرعة مجيء السنة، وانقضائها المستلزمین لسرعة انقضاء عمر العاملين فيه لكنّ انقضاؤه بالقيامة، فإذن الساعات مستلزمة لسرعة انقضاء العمر وقرب غده من يومه. وأتى في الكلّ بلفظ التعجّب تأكيداً لبيان تلك السرعة، وهو كلام شريف بالغ في الفصاحة والموعظة وبالله التوفيق.

ومن خطبة له عليه السّلام:

«فَمِنَ الإِيمَانِ مَا يَكُونُ ثَابِتاً مُسْتَقِرّاً فِي الْقُلُوبِ ومِنْهُ مَا يَكُونُ عَوَارِيَّ: جمع

عارية بَیْنَ الْقُلُوبِ والصُّدُور إِلَی أَجَلٍ مَعْلُومٍ»: قسم للإيمان إلى قسمين، ووجه الحصر فيهما أنّه لمّا كان عبارة عن التصديق بوجود الصانع سبحانه وماله من صفات الكمال ونعوت الجلال، والاعتراف بصدق الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وما جاء به؛ فتلك الاعتقادات إن بلغت حدّ الملكات في النفوس فهي الإيمان الثابت المستقر في القلب، وإن لم يبلغ حدّ الملكة بل كانت بعد حالات في معرض التغيّر والانتقال فهي العواريّ المتزلزلة، واستعار لها لفظ العواريّ باعتبار کونها في معرض الزوال کما أنّ العواريّ في معرض الاسترجاع والردّ. وکنّی بكونها بين القلوب والصدور عن كونها غير مستقرّه في القلوب ولا متمكَّنة

ص: 109

من جواهر النفوس، وقال بعض الشارحين: أراد أنّ من الإيمان ما یکون على سبيل الإخلاص ومنه ما يكون على سبيل النفاق.

وقوله: إلى أجل معلوم ترشيح لاستعارة(1)؛ إذ كانت من شأنها أن تستعار إلى وقت معلوم ثمّ ترد فكذلك ما كان بمعرض الزوال والتغيّر من الإيمان، وهذه القسمة إلى هذين القسمين هي الموجودة في نسخة الرضى بخطَّه وفي نسخ كثير من الشارحين ونسخ كثيرة معتبرة، ونقل الشارح عبد الحميد بن أبي الحديد رحمه الله في النسخة الَّتي شرح الكتاب عليها ثلاثة أقسام هكذا: فمن الإيمان ما يكون ثابتاً مستقرّاً في القلوب، ومنه ما يكون عواريّ في القلوب، ومنه ما یکون عواريّ بين القلوب والصدور إلى أجل معلوم؛ ثمّ قال في بيانها ما هذه خلاصته: إنّ الإيمان إمّا أن يكون ثابتاً مستقرّاً في القلوب بالبرهان وهو الإيمان الحقيقيّ، أو ليس ثابت بالبرهان بل بالدليل الجدليّ کإیمان كثير ممّن لم تحقّق العلوم العقليّة ويعتقد ما يعتقده من أقيسة جدليّة لا تبلغ درجة البرهان، وقد سمّاه عليه السّلام عواريّ في القلوب: أي أنّه وإن كان في القلب الَّذي هو محلّ الإيمان الحقيقيّ إلَّا أنّ حكمه حكم العارية في البيت فإنّها في معرض الخروج منه، وإمّا أن لا يكون مستنداً إلى برهان، ولا إلى قياس جدليّ بل على سبيل التقليد وحسن الظنّ بالأسلاف أو بإمام يحسن الظنّ به وقد جعله عليه السّلام عواريّ بين القلوب، والصدور لأنّه دون الثاني فلم يجعله حالَّاً في القلب لكونه أضعف ممّا قبله وأقرب إلى الزوال؛ ثمّ ردّ قوله: إلى أجل معلوم؛ إلى القسمين الأخيرين لأنّ من ثبت إيمانه بالقياس الجدليّ قد يبلغ إلى درجة البرهان(2) إذا أمعن النظر ورتّب المقدّمات اليقينيّة ترتيباً منتجاً،

ص: 110


1- لاستعارة: العواري
2- القياس الجدلي: وهو من أقسام المناظرة؛ ويطلق عليه أحياناً بالحجة الجدلية؛ أو القول الجدلي، وكلمة (الجدل) لغة هو: اللدد واللجاج في الخصومة بالكلام، مقارنا غالبا لاستعمال الحيلة الخارجة أحيانا عن العدل والإنصاف، ولذا نهت الشريعة الإسامية عن المجادلة، لا سيما في الحج والاعتكاف؛ يُنظر المنطق للشيخ محمد رضا المظفر: 282

وقد يضعف مقدّماته في نظره فينحطَّ إلى درجة المقلَّد فيكون إيمان كلّ منهما إلى أجل معلوم لكونه في معرض الزوال. وأقول: إن صحّت هذه الرواية فالمعنى يعود إلى ما قلناه من القسمة فإنّ العلم بما يستلزمه البرهان أو غيره من الإيمان إن بلغ إلى حدّ الملكة فهو الثابت المستقر، وإلَّا فهو العارية والَّذي أراه أنّ القسم الثاني تکرار وقع من قلم الناسخ سهواً. والله سبحانه وتعالى أعلم.

فَإِذَا كَانَتْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ مِنْ أَحَدٍ فَقِفُوهُ حَتَّى يَحْضُرَهُ الْمَوْتُ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقَعُ حَدُّ

الْبَرَاءَةِ: معناه أنّكم إذا أردتم التبريّ من أحد من أهل الكتاب فقفوه: أي اجعلوه موقوفاً إلى حال الموت ولا تسارعوا إلى البراءة منه قبل الموت فإنّ أشدّ الكبائر وأعظمها الكفر وجائز من الكافر أن يسلم فإذا بلغ منتهى الحياة وحدّها ولم يقلع عن كبيرته فذلك الحدّ هو حد البراءة الَّذي يجوز أن يوقعوها معه. إذ ليس بعد الموت حالة ترجی وتنتظر. وقيل: البراءة الَّتي أشار عليه السّلام إليها هي البراءة المطلقة لا كلّ براءة، إذ يجوز لنا أن نبرأ من الفاسق وصاحب الكبيرة في حياته براءة مشروطة: أي ما دام مصرّاً على كبیرته.

«والْهِجْرَةُ قَائِمَةٌ عَلَى حَدِّهَا الأَوَّلِ»: لمّا كانت حقيقة الهجرة ترك منزل إلى منزل آخر لم تكن تخصيصها عرفاً بهجرة الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ومن تبعه وهاجر إليه من مكَّة إلى المدينة مخرجاً لها عن حقيقتها وحدّها اللغوي؛ إذ كان أيضاً كلّ من ترك منزله إلى منزل آخر مهاجرا إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ مراده عليه السّلام من بقاء الهجرة على حدّها بقاء صدقها على من هاجر إليه، وإلى الأئمّة من أهل بيته في طلب دين الله، وتعرّف كيفيّة السلوك لصراطه المستقیم کصدقها

ص: 111

على من هاجر إلى الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وفي معناها ترك الباطل إلى الحقّ، وبيان هذا الحكم بالمنقول والمعقول: أمّا المنقول؛ فمن وجهن: أحدهما: قوله تعالى «ومَنْ يُاجِرْ فِي سَبِيلِ الله يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُراغَماً كَثِیراً وسَعَةً»(1) فقد سمّى من فارق وطنه، وعشرته في طلب دين الله وطاعته مهاجراً.

وقد علمت في أصول الفقه أنّ مِن للعموم؛ فوجب أن يكون كلّ من سافر

لطلب دين الله من معادنه مهاجراً. الثاني: قول الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم:

«المهاجر من هاجر ما حرّم الله عليه»(2)، وأمّا المعقول فأنّ المفارق إلى الرسول

صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مهاجر فوجب أن يكون المفارق لوطنه إلى من يقوم

مقامه من ذريّته الطاهرين مهاجراً لصدق حدّ الهجرة في الموضعن، ولأنّ المقصود

من الهجرة ليس إلَّ اقتباس الدين، وتعرّف كيفيّة سبيل الله، وهذا المقصود حاصل

ممّن يقوم مقام الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من الأئمّة الطاهرين عليهم

السّلام بحيث لا فرق إلَّا النبوّة والإمامة، ولا يدخل لأحد هذين الوصفن في

تخصيص مسمّى الهجرة بمن قصد الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم دون من قصد الأئمّة فوجب عموم صدقه على من قصدهم فإن قلت: هذا معارض بقوله

صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: لا هجرة بعد الفتح حتّى شفّع عمّه العبّاس في نعيم بن

مسعود الأشجعي أن يستثنيه فاستثناه.

فأقول: يحمل ذلك عى أنّه لا هجرة من مكَّة بعد فتحها إلى المدينة توفيقاً

ص: 112


1- سورة النساء: الآية 100
2- شرح النهج لابن ميثم البحراني: ج 3 ص 516؛ اختيار مصباح السالكين كذلك لابن ميثم البحراني: ص 442، ولم يرجع الحديث إلى مضانه، وللحديث مصادر كثره تناولته باختلاف يسر كمسند أحمد بن حنبل: ج 2 ص 205، مجمع الزاوائد للهثمي: ج 2 ص 268 وغیر ذلك

بین الدليلین. وسلب الخاصّ لا يستلزم سلب العامّ، واعلم أنّ فائدة هذا القول

الدعوة إلى الدين، واقتباسه منه، ومن أهل بيته عليهم السّلام بذكر الهجرة، والتنبّه

بها وما يستلزمه من الفضيلة على أنّ التارك لأهله، ووطنه إليهم طلباً للدين منهم يلحق بالمهاجرين الأوّلن في مراتبهم وثوابهم.

«مَا كَانَ للهِ فِي أَهْلِ الأَرْضِ حَاجَةٌ مِنْ مُسْتَسِرِّ الأمَّةِ ومُعْلِنِهَا»: قال قطب الدين

الراوندي رحمه الله: ما هاهنا نافية: أي لم يكن لله في أهل الأرض ممّن أسرّ دينه أو أعلنه وأظهره حاجة وَمن هنا لبيان الجنس، وأنكر الشارح عبد الحميد بن أبي

الحديد كون ما نافية، وقال: يلزم منه كون الكلام منقطعاً بن كلامن متواصلین

وجعلها هو بمعنى المدّة: أي والهجرة قائمة على حدّها ما دام لله في أهل الأرض ممّن أسرّ دينه أو أعلنه حاجة: أي ما دامت العبادة مطلوبة لله تعالى من أهل الأرض بالتكليف وهو كقولك في الدعاء: اللهمّ أحيني ما كان الحياة خرا لي.

ولفظ الحاجة مستعاراً في حقّه تعالى باعتبار طلبه للعبادة بالأوامر، وغيرها

كطلب ذي الحاجة لها، وأقول: إنّه غر بعيد أن يكون نافية مع اتّصال الكلام

بما قبله، ووجهه أنّه لمّا رغَّب الناس في طلب الدين، والعبادة فكأنّه أراد أن يرفع

حكم الوهم بما عساه يحكم به عند تكرار طلب الله للدين والعبادة من حاجته

تعالى إليها من خلقه حيث كرّر طلبه منهم بتواتر الرسل والأوامر الشرعيّة،

ويصیر معنى الكلام أنّ الهجرة باقية على حدّها الأوّل في صدقها على المسافرين

لطلب الدين فينبغي للناس أن يهاجروا في طلبه إلى أئمّة الحقّ وليس ذلك لأنّ لله

تعالى إلى أهل الأرض ممن أسرّ دينه أو أظهره حاجة فإنّه تعالى الغنيّ المطلق الَّذيلا حاجة به إلى شيء.

«لَا يَقَعُ اسْمُ الْهِجْرَةِ عَلَی أَحَدٍ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ الْحُجَّةِ فِي الأَرْضِ فَمَنْ عَرَفَهَا وأَقَرَّ بِهَا

ص: 113

فَهُوَ مُهَاجِرٌ ولَا يَقَعُ اسْمُ الِسْتِضْعَافِ عَلَى مَنْ بَلَغَتْهُ الْحُجَّةُ فَسَمِعَتْهَا أُذُنُهُ ووَعَاهَا

قَلْبُهُ»: اشار بالحجة في الأرض إلى إمام الوقت لأنّه حجّة الله في أرضه على عباده يوم القيامة وشاهده عليهم، وهذا الكلام تفسير المواقع اسم الهجرة، وبيان لمن تصدق عليه؛ فشرط صدقها على الإنسان بمعرفته لإمام وقته، وذلك لأنّ الإمام هو الحافظ للدين، ومعدنه الَّذي يجب أخذه عنه فیکون قصده لذلك مشروطاً بمعرفته فإذن إطلاق اسم الهجرة عليه مشروط بمعرفة إمام الوقت فلذلك قال: لا يقع اسم الهجرة على أحد إلَّا بعد معرفة الحجّة في الأرض وقوله: فمن عرفها وأقرّ بها فهو مهاجر يحتمل أن یرید به أنّ شرط إطلاق اسم المهاجرة على الإنس ان مشروط بمعرفة إمام الوقت المستلزمة للسفر إليه كما هو الظاهر من لفظ المهاجرة. ويحتمل أن يريد أنّ مجرّد معرفة الإمام والإقرار بوجوب اتّباعه والأخذ عنه وإن كان بالإخبار عنه دون المشاهدة كاف في إطلاق اسم الهجرة على من عرفه كذلك دون السفر إليه کما کفی في إطلاقه على ترك ما حرّم الله بمقتضى قول الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «والمهاجر من ترك ما حرّم الله عليه»(1).

وقوله: ولا يصدق اسم الاستضعاف على من بلغته الحجّة على حذف المضاف.

ويحتمل أن يريد بالحجة نفس الأخبار الَّتي ينقل عن الإمام ويجب العمل بها قال قطب الدين الراوندي: يمكن أن يشير بهذا الكلام إلى أحد آيتين: إحداهما: قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ

ص: 114


1- تقدم ذكر المصدر

جَهَنَّمُ»(1) فيكون مراده عليه السّلام على هذا أنّه لا يصدق اسم الاستضعاف

على من عرف الإمام وبلغته أحكامه ووعاها قلبه وإن بقي في وطنه ولم يتجشّم السفر إلى الإمام كما لا يصدق على هؤلاء المذكورين في الآية. والثانية: قوله تعالى بعد ذلك «إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ»(2) فيكون مراده على هذا أنّ من عرف الإمام وسمع مقالته ووعاها قلبه لا يصدق عليه الاستضعاف كما صدق على هؤلاء. إذ كان المفروض عى الموجودين في عصر الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم المهاجرة بالأبدان دون من بعدهم بل يقنع منه بمعرفته والعمل بقوله بدون المهاجرة إليه بالبدن: وأقول: يحتمل أن يريد بقوله ذلك أنّه لا عذر لمن بلغته دعوة الحجّة وسمعها في تأخّره عن النهوض، والمهاجرة إليه مع قدرته على ذلك، ولا يصدق عليه اسم الاستضعاف كا يصدق المستضعفين من الرجال، والنساء، والولدان حتّى يكون ذلك عذرا له بل يكون في تأخّره ملوماً مستحقّاً للعذاب كالَّذين قالوا إنّا كنّا مستضعفين في الأرض، ويكون مخصوصاً بالقادرين على النهوض كما قلناه دون العاجزين فإنّ اسم الاستضعاف صادق عليهم، وهذا الاحتمال إنّما يكون جايز الإرادة من هذا الكلام عى تقدير أن يكون إطاق اسم المهاجر على الإنسان في الكلام المقدّم مشروطاً بمعرفة الإمام بالمشاهدة والسفر إليه.

إذ لو جاز عليه أن يطلق عليه المهاجرة مع عدم السفر إلى الإمام لما كان ملوماً

عنه في تأخّره.

ص: 115


1- سورة النساء: الآية 97
2- سورة النساء الآية 98 - 99

«إِنَّ أَمْرَنَا صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ لَا يَحْمِلُهُ إِلَّا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ امْتَحَنَ اللهُ قَلْبَهُ لِلإِيمَانِ ولَا

يَعِي حَدِيثَنَا إِلَّا صُدُورٌ أَمِينَةٌ وأَحْاَمٌ رَزِينَةٌ»: أراد أن شأنهم وما نحن عليه من الكمال الخارج عن كمالات من عداهم من الأُمّة والأطوار الَّتي يختصّ بها عقولهم وراء عقول غيرهم فيكون لهم عن ذلك القدرة على ما لا يقدر عليه غيرهم والإدراكات الغيبيّة بالنسبة إلى غيرهم والإخبار عنه كالوقائع الَّتي حكى عنها عليه السّلام؛ ثمّ وقعت على، وفق قوله وكالأحكام والقضايا الَّتي اختصّ بها، ونقلت عنه فإنّ هذا الشأن صعب في نفسه لا يقدر عليه إلَّا الأنبياء وأوصياء الأنبياء ومستصعب الفهم على الخلق معجوز عن احتمال ما يلقى منه من الإشارات والإخبارات عمّا سيكون والقدرة على ما يخرج عن وسع مثلهم ولا تحتمله ولا تقبله إلَّا نفس عبد امتحنها الله للإيمان كقوله تعالى «أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى»(1) أي أعدّها بالامتحان والابتلاء بالتكاليف العقليّة والنقليّة لحصول الإيمان الكامل اليقينيّ بالله ورسوله وكيفيّة سلوك سبيله، وتجلَّت بالكمالات العلميّة والفضائل الخلقيّة حتّى عرفت مبادي كمالاتهم ومقاديرها وكيفيّة صدور مثل هذه الغرائب عنها فلا يستنكر ما يأتون به من قول أو فعل ولا يلقاه بالتكذيب كما كانت جماعة من أصحابه عليه السّلام يفعلون ذلك معه فيما كان يخر به عن الفتن حتّى فهم ذلك منهم فقال: يقولون: يكذب قاتلهم الله تعالى فعلى من أكذب أعلى الله وأنا أوّل من آمن به أو على رسوله وأنا أوّل من صدّقه كما حكينا ذلك فيما سبق عنه، بل يحتمل كلّ ما يأتون به على وجهه ونسبته إلى ميدانه ويفرح بوصول ما يرد

عليها من أسرارهم الإلهيّة؛ فأولئك وأمثالهم هم أصحاب الصدور الآمنة الَّتي

تعي ما يلقى إليها من تلك الأسرار ويصونها عن الإذاعة إلى من لا ينتفع بها

ص: 116


1- سورة الحجرات: الآية: 3

وليس بأهل لها فهي مأمونة عليها، وأولو الأحلام الرزينة الَّتي لا يستفزّها سماع تلك الغرائب و مشاهدتها منهم؛ فيحملهم ذلك على إذاعتها، واستنكارها بل يحملها على الصواب ما وجدت لها محملاً؛ فإذا عجزت عن معرفتها ثبتت فيها وآمنت بها على سبيل الإجمال وفوّضت علم کنهها إلى الله سبحانه وتعالى، وأراد قلوب صدور أمينة أو أصحاب صدور أمينة، وأصحاب أحلام رزينة فحذف المضاف.

ويحتمل أن يكون قد أطلق اسم الصدور والأحلام مجازاً عن أهلها إطلاقاً الاسم المتعلَّق على المتعلَّق، ونقل عنه عليه السّلام مثل هذا الكلام في غير هذا الموضع من جملة خطبة له: أنّ قريشاً طلبت السعادة فشقيت. وطلبت النجاة فهلكت. وطلبت الهدى فضلَّت ألم يسمعوا ويحهم قوله تعالى «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ»(1) فأين العدل والنزع عن ذرّيّة الرسول الَّذين شیّد الله بنيانهم فوق البنيان وأعلى رؤوسهم واختارهم عليهم. ألا إنّ الذّريّة أفنان أنا شجرتها ودوحة أنا ساقها، وإنّي من أحمد بمنزلة الضوء من الضوء كنّا إظلالاً تحت العرش قبل خلق البشر وقبل خلق الطينة الَّتي كان منها البشر أشباحاً عالية لا أجساماً نامية، إنّ أمرنا صعب مستصعب لا يعرف کنهه إلَّا ملك مقرّب؛ أو نبيّ مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان فإذا انكشف لكم سرّا ووضح لكم أمر فاقبلوه وإلَّا فأمسكوا تسلموا وردّوا علمها إلى الله فإنّكم في أوسع ما بين السماء والأرض وفي قوله: وإنّي من أحمد بمنزلة الضوء من الضوء، وقوله: کنّا إظلالاً إلى قوله: نامية إشارة لطيفة: أمّا الأوّل: فأشار إلى أنّ الكمالات الَّتي حصلت لنفسه القدسيّة بواسطة كمالات نفس النبيّ صلَّى الله

ص: 117


1- سورة الطور: الآية 21

عليه وآله وسلَّم أشبه الأشياء بصدور الضوء عن الضوء، كشعلة مصباح اقتبست من شعلة مصباح أكر وأعلى، ومن العادة في عرف المجرّدين، وأولياء الله وكتابه تمثيل النفوس الشريفة والعلوم بالأنوار والأضواء لمكان المشابهة بينهما في حصول الهداية عنها مع لطفها وصفائها، وأمّا الثاني فيحمل أن يكون قد أشار بكونهم أظلَّة تحت العرش قبل خلق البر أشباحاً بلا أجسام إلى وجودهم في العلم الكلَّيّ فإنّه قد يعرّ عنه في بعض المواضع بالعرش.

واستعار لفظ الإضال لهم باعتبار كونهم مرجعاً للخلق وملجأ كالإضال،

وقد سبقت الإشارة إلى ذلك أو ما قرب منها ببيان أوضح في الخطبة الأولى ثم أيّه بالناس قال:

«أَيُّهَا النَّاسُ سَلُونِ قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِ فَلأَنَا بِطُرُقِ السَّمَاءِ أَعْلَمُ مِنِّي بِطُرُقِ الأَرْضِ»: أجمع الناس على أنّه لم يقل أحد من الصحابة وأهل العلم: سلوني غیر

عليّ عليه السّلام ذكر ذلك ابن عبد البرّ في كتاب الاستيعاب(1) وأراد بطرق

السماء وجوه الهداية إلى معرفة منازل سكَّان السماوات من الملأ الأعلى ومراتبهم من حرة الربوبيّة، ومقامات أنبياء الله، وخلفائه من حظائر القدس، وانتقاش نفسه القدسيّة عنهم بأحوال الأفاك، ومدبّراتها والأمور الغيبيّة ممّا يتعلَّق بالفتن والوقائع المستقبلة؛ إذ كان له عليه السّلام الاتّصال التامّ بتلك المبادئ فبالحريّ أن يكون علمه بما هناك أتمّ وأكمل من علمه بطرق الأرض إلى منازلها، وقد سبق مثله لقوله: سلوني قبل أن تفقدوني فو الله لا تسألوني عن فئة تضلّ مائة وتهدى مائة إلَّا أنبأتكم بسائقها وقائدها.

ص: 118


1- الاستيعاب لأبن عبد البر: ج 3 ص 889

وقد حمله قوم عى وجه آخر وقالوا: أراد بطرق السماء الأحكام الشرعيّة والفتاوى الفقهيّة: أي أنا أعلم بها من الأمور الدنيويّة فعبّر عن تلك بطرق السماء

لكونها أحكاماً إلهيّة، وعبّر عن هذه بطرق الأرض لأنّها من الأرضيّة. ونحوه ما

نقل عن الإمام الوبريّ: أنّه قال: أراد أنّ علمه بالدين أوفر من علمه بالدنيا وأراد

بقوله:

«قَبْلَ أَنْ تَشْغَرَ»: ترفع «بِرِجْلِهَا فِتْنَةٌ تَطَأُ فِي خِطَامِهَا وتَذْهَبُ بِأَحْلَامِ قَوْمِهَا»: بني أُميّة وأحكامهم العادلة عن العدل وما يلحق الناس في دولتهم من الباء.

وكنّى بشغر رجلها عن خلوّ تلك الفتنة عن مدبّر يدبّرها ويحفظ الأمور وينتظم

الدين حن وقوع الجور.

وقوله: تطأ في خطامها.

استعارة لوصف الناقة الَّتي أرسل خطامها وخلت عن القائد في طريقها فهي

تخبط في خطامها وتعثر فيه وتطأ من لقيت من الناس عى غر نظام عن حالها،

وهذا هو وجه الاستعارة؛ إذ كانت هذه الفتنة تقع في الناس عى غر قانون

شرعيّ.

ولا طريق مرضيّ ولا قائد ينتظم أمور الخلق فيه.

وقوله: ويذهب بأحام قومها قال بعض الشارحين: أي تحیّر أهل زمانها

وتذهلهم بشدّتها حتّى لا يثبتون فيها بل تطيش ألبابهم فا يهتدون إلى طريق

التخلَّص عنها ووجه السامة فيها.

ويحتمل أن يريد بذلك أنّها يستخفّ أهل زمانها؛ فيأتون إليها سراعاً ويجيئون

الناعق بها والداعي إليها رغبة ورهبة فا يبالون في ذلك ولا يفحّصون عن كونها

ص: 119

فتنة لغفلتهم عن وجه الحقّ فيها وشدّة وقوعها على الناس وبالله التوفيق.

ومن خطبة له عليه السّلام:

«أَحْمَدُهُ شُكْراً لإِنْعَامِهِ»: نصب على المصدر من غير لفظه إذ المراد: بالحمد الشكر بقرينة ذكر الأنعام.

«وأَسْتَعِينُهُ عَلَى وَظَائِفِ حُقُوقِهِ»: واجباتها ونوافلها كالصلوات والعبادات الَّتي ارتضاها منهم شكرا لنعمائه، وإن كانت نعماً تستحقّ الشكر لما يستلزمه المواظبة عليها من السعادة الحقيقيّة الباقية كما سبق بيانه.

«عَزِيزَ الْجَنْدِ عَظِيمَ الْمَجْد»: نصب على الحال والإضافة غير محضة والعامل أستعينه، وكذلك قوله: عظیم المجد: أي أستعينه على أداء حقوقه حال ماهو بذینك الاعتبارين فإنّه باعتبار ماهو عزيز الجند عظیم المجد يكون مالك الملك قديراً على ما يشاء فكان مبدأ لا استعانة به على أداء وظائف حقوقه.

ثمّ أردفه بشهادته برسالة نبيّه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وذكر أحواله الَّتي كانت مبادئ لظهور الدين الحقّ ليقتدي السامعون به صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في تلك الأحوال فقال:

«وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ دَعَا إِلَی طَاعَتِهِ وقَاهَرَ أَعْدَاءَهُ جِهَاداً عَلَى

دِينِهِ»: الله وهم الكفّار على أصنافهم، ونصب جهاداً على أنّه مصدر سدّ مسدّ الحال، أو نصب المصادر عن قوله: قاهر من غير لفظه إذ في قاهر معنی جاهدو عن دينه متعلق بجهاد أعمالاً لأقرب ويحتمل التعليق بقاهر.

«لَا يَثْنِيهِ»: لا يصرفه «عَنْ ذَلِكَ: عن دعوته ومقاهرته لأعدائه «اجْتِمَاعٌ»: أي

ص: 120

اجتماع الخلق.

«عَلَى تَكْذِيبِهِ والْتِمَاسٌ» أي التماسهم «لإِطْفَاءِ نُورِهِ»: وهو مستعار لما جاء به من الكمالات الهادية إلى سبيل الله. ثمّ لمّا نبّههم على تلك الأحوال الَّتي مبدؤها تقوى الله تعالى أمرهم بالاعتصام بها فقال: «فَاعْتَصِمُوا بِتَقْوَى اللهِ»: أي اعتصموا بتقوى الله کما اعتصم نبیّکم بها في إظهار دينه ومواظبته على ذلك، ولا تخافوا من عدوّ مع کثرتكم كما لا يخفّ هو مع وحدته.

«فَإِنَّ لَهَا»: للتقوى «حَبْلًا وَثِيقاً عُرْوَتُهُ»: من تمسّك به واعتصم لم يضرّه عدوّ.

«ومَعِقلاً»: ملجأ «مَنِيعاً»: محفوظة «ذِرْوَتُه»: من لجأ إليه لم يصل إليه سوء ولفظ الحبل والمعقل مستعاران للتقوى، وقد سبق بيان هذه الاستعارات؛ ثمّ أكَّد ذلك الأمر بالأمر بمبادرة الموت وغمراته قال عليه السلام:

«وبَادِرُوا الْمَوْتَ وغَمَرَاتِه»: ومعنی مبادرته مسابقته إلى الاستعداد بالأعمال الصالحة كأنّهم يسابقون الموت و غمراته، وما يلحقهم من العذاب فيه، وفيما بعده إلى الاستعداد بالأعمال الصالحة.

«وامْهَدُوا لَه قَبْلَ حُلُولِه وأَعِدُّوا لَه قَبْلَ نُزُولِه»: أي حصّلوا منها ملكات صالحة يكون مهاداً له قبل حلوله بهم کیلا يقر حکم قرحاً، واجعلوها عدّة الأنفسهم قبل نزوله عليهم يلتقونه بها کیلا يؤثّر في نفوسكم ما كأنه بسابقكم إلى أنفسكم ذلك الاستعداد فيكون سبباً لوقوع العذاب بکم وقوله:

«فَإِنَّ الْغَايَةَ الْقِيَامَةُ»: تحذير بذكر الغاية وتذكير بأهوالها الموعودة: أي فإنّ غايتكم القيامة لا بدّ لكم منها.

ص: 121

ولمّا كانت تلك الغاية هي لازمة الموت كما قال عليه السّلام: «من مات فقد قامت قيامته»(1). كان أمره بالاستعداد للموت أمر بالاستعداد لها، ولذلك أتی بعد الأمر بالاستعداد له بقوله: فإنّ الغاية. منبّها على وجوب ذلك الاستعداد بضمير ذكر صغراه، وتقدير الكبری(2): وكلّ من كانت غايته القيامة فواجب أن يستعدّ لها.

«وكَفَى بِذَلِكَ»: أي الموت وغمراته والقيامة وأهوالها «وَاعِظاً لِمَنْ عَقَلَ»: وخصّص لكونه المقصود بالخطاب الشرعيّ.

«ومُعْتَبَراً»: محلاً لاعتبار «لِمَنْ جَهِلَ»: وظاهر كون الموت ونزوله بهذه البنية التامّة الَّتي احكم بنیانها ووضعت بالوضع العجيب والترتيب اللطيف وهدمه لها واعظاً بليغاً يزجر النفوس عن متابعة هواها ومعتبراً تقف منه على أنّ وراء هذا الوجود وجود أعلى وأشرف منه لولاه لما غلظت هذه البنية المحكمة المتقنة ولكان ذلك بعد إحكامها سفهاً ما في الحكمة كما أنّ الإنسان إذا بنی داراً و أحكمها وزيّنها بزينة الألوان المعجبة فلمّا تمّت وحصلت غايتها عمد إليها فهدمها فإنّه يعدّ في العرف سفيهاً عابثاً.

أمّا لو كان غرضه من ذلك الوصول إلى غاية يحصل بوجودها وقتاً مالم يستغني عنها جاز هدمها.

ص: 122


1- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر الدمشقي: ج 27 ص 214؛ الكامل في التاريخ لأبن الأثير ج 8 ص 332؛ عوالي اللئالي لأبن أبي جمهور الأحسائي: ج 1 هامش ص 145؛؛ تفسیر السمعاني: ج 1 ص 101؛ وتفسير الرازي: ج 1 ص 241
2- تقدم بيان معنى الصغرى والكبرى، وهي: من اقسام القياس الاقتراني؛ يُنظر المنطق للشيخ محمد رض المظفر: 242

فكذلك هذه البنية لمّا كان الغرض منها استكمال النفوس البشريّة بالكمالات الَّتي يستفاد من جهتها وهي العلوم ومكارم الأخلاق ثمّ الانتقال منها إلى عالمها جاز لذلك خرابها وفسادها بعد حصول ذلك الغرض.

وقَبْلَ بُلُوغِ الْغَايَةِ مَا تَعْلَمُونَ: عطف على قوله: قبل نزل موته.

مِنْ ضِيقِ الأَرْمَاسِ: القبور جمع رمس.

وشِدَّةِ الإِبْلَسِ: الخيبة اليأس وهَوْلِ الْمُطَّلَعِ: رؤية ملك الموت.

ورَوْعَاتِ الْفَزَعِ واخْتِلَافِ الأَضْاَعِ: الأقارع الشديدة واختلاف الأضلاع إطرابها وتدخل بعضها في بعض واستكمال الأسماع صممها.

واسْتِكَاكِ الأَسْمَاعِ: صممها وظُلْمَةِ اللَّحْدِ وخِيفَةِ الْوَعْدِ وغَمِّ الضَّرِيحِ: كرب

القبر ورَدْمِ الصَّفِيحِ: شدة بالحجر العريض تفصيل لما يعلمونه من أحوال الموت وأهواله، وظاهر أنّ القبور ضيّقة بالقياس إلى مواطن الدنيا، وأنّ للنفوس عند مفارقتها غمّاً شديداً وحزناً قويّا على ما فارقته وممّا لاقته من الأموال التي كانت غافلة عنها، وأنّ لما أشرفت عليه من أحوال الآخرة هولاً وفزعاً تطير منه الألباب وفي المرفوع: وأعوذ بك من هول المطَّلع.

وإنّما حسن إضافة روعات إلى الفزع وإن كان الروع هو الفزع باعتبار تعدّدها وهي من حيث هي آحاد مجموع أفراد ماهيّة تداخل الأضلاع واختلافها، واستكاك الأسماع ذهابها بشدّة الأصوات الهائلة ويحتمل أن یرید به ذهابها بالموت.

واعلم أن الوعد قد يستعمل في الشرّ والخير عند ذكرهما قال: ولا تعداني، الشر والخير مقبل. فإذا أسقطوا ذكر هما قالوا في الخير: العدة والوعد، وفي الشرّ

ص: 123

الإيعاد والوعيد. وهاهنا وإن سقط ذكرهما إلَّا أنّ قوله: خيفة. تدلّ على وجود الشرّ فكان كالقرينة، وغمّ الضريح: الغمّ الحاصل والوحشة المتوهّمة فيه. إذ كان للنفوس من الهيئات المتوهّمة كونها مقصورة مضيّقاً عليها بعد فسحة المنازل الدنيويّة وسائر ما ذكره عليه السّلام من الأهوال، وإنّما عدّد هذه الأهوال لكون الكلام في معرض الوعظ والتخويف وكون هذه الأمور مخوفة منفوراً عنها طبعاً.

ثمّ أكَّد ذلك التخويف بالتحذير من الله وعلَّل ذلك التحذير بكون الدنيا ماضية على سنن قال: الله الله عِبَادَ الله فَإِنَّ الدُّنْيَا مَاضِيَةٌ بِكُمْ عَلَى سَنَنٍ: طريقة واضحة لا يختلف حكمها وكما كان من شأنها أن أهلكت القرون الماضية وفعلت بهم وبآثارهم ما فعلت وصيرتهم إلى الأحوال الَّتي عددناها فكذلك فعلها بكم.

وأَنْتُمْ والسَّاعَةُ فِي قَرَنٍ: كناية عن قربها القريب منهم حتى كأنهم معها في قرن واحد.

وكَأَنَّهَا قَدْ جَاءَتْ بِأَشْرَاطِهَا: تشبيه لها في سرعة مجيئها بالَّتي جاءت و حضرت. وأكد ذلك التشبيه بقيد المفيدة لتحقيق المجيء.

وعلاماتها كظهور الدجال، ودابة الأرض، وظهور المهديّ وعيسى عليهما السّلام إلى غير ذلك، قوله:

وأَزِفَتْ: قربت بِأَفْرَاطِهَا ووَقَفَتْ بِكُمْ عَلَى صِرَاطِهَا وكَأَنَّهَا قَدْ أَشْرَفَتْ بِزَلَزِلَهِا

وأَنَاخَتْ بِكَلَكِلِهَا: بصدورها وانْصَرَمَتِ الدُّنْيَا بِأَهْلِهَا وأَخْرَجَتْهُمْ مِنْ حِضْنِهَا

وَكَانَتْ كَيَوْمٍ مَضَى أَوْ شَهْرٍ انْقَىَ وصَار جديدها رثاً وسَمينها غثاً: أي وتحقيق وقوفها بكم على صراطها، وهو الصراط المعهود فيها.

وكأنها أي أشبهت فيما يتوقّع منها من هذه الأحوال في حقّكم حالها في إيقاعها

ص: 124

بكم وتحقيقها فيكم، واستعار لفظ الكلاكل لأهوالها الثقيلة. ووصف الإناخة لهجومها بتلك الأهوال عليهم ملاحظاً في ذلك تشبّهها بالناقة. وإنّما حسن تعدید الكلاكل لها باعتبار تعدّد أهوالها الثقيلة النازلة بهم. ولمّا كانت الأفعال من قوله: وأناخت، إلى قوله: فصار سمينها غثّاً، معطوفاً بعضها على بعض دخلت في حكم التشبيه: أي وكانت الدنيا قد انصرفت بأهلها وكأنكم قد أخرجتم من حصنها إلى آخر الأفعال.

والمشبّه الأول: هو الدنيا باعتبار حالها الحاضرة والمشبّه به انصرافها بأهلها وزوالهم ووجه الشبه سرعة المضيّ. أي كأنّها من سرعة أحوالها الحاضرة كالَّتي وقع انصرافها. وكذلك الوجه في باقي التشبيهات. واستعار لفظ الحصن لها ملاحظة لشبهها بآلام الَّتي تحضن ولدها فينتزع من حضنها. والغثّ والسمين تحتمل أن يريد بهما الحقيقة ويحتمل أن یکنّی به عن ما كثر من لذّاتها وخيراتها وتغيّر ذلك بالموت وزواله.

فِي مَوْقِفٍ ضَنْكِ الْمَقَامِ: يتعلَّق [بصار] وهو موقف القيامة. وظاهر أنّ كلّ جديد الدنيا يومئذ رثّ. وكلّ سمين كان بها غثّ. وضيق الموقف إمّا لكثرة الخلق يومئذ و ازدحامهم أو لصعوبة الوقوف به وطولهم مع ما يتوقّع الظالمون لأنفسهم من إنزال المكروه بهم.

وأُمُورٍ مُشْتَبِهَةٍ عِظَامٍ: یعنی أهوال الآخرة و واشتباهها كونها ملبسة يتحيّر في وجه الخلاص منها، والاعتبار يحكم بكونها عظيمة.

ونَارٍ شَدِيدٍ كَلَبُهَا عَالٍ لَبُهَا سَاطِعٍ لَهَبُهَا مُتَغَيِّظٍ زَفِيرُهَا: وظاهر كونها شديدة الشرّ وكذا البواقي وقد نطق القرآن الكريم بأكثر مّا وصفها عليه السّلام به

ص: 125

هاهنا من علوّ أصواتها، وسطوح لهبها، وتغيّظ زفيرها كقوله تعالى «إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ»(1) «تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ»(2) وقوله «سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا»(3) ولفظ التغيّظ مستعار للنار باعتبار حركتها بشدّة وعنف كالغضبان أو باعتبار استلزام حرکتها ظاهر للأذى والشرّ.

مُتَأَجِّجٍ: متوقد سَعِيرهَا بَعِيدٍ خُمُودُهَا ذَاكٍ: متوقد.

وُقُودُهَا مَخُوفٍ وَعِيدُهَا غَمٍ: مظلمة قَرَارُهَا: مستقرها أسند الغم إلى قرارها مجازاً باعتبار أنّه لا يهتدي فيه لظلمته ومن عمقها لا يوقف عليه لبعدها.

مُظْلِمَةٍ أَقْطَارُهَا: جوانبها حَامِيَةٍ: حارة قُدُورُهَا فَظِيعَةٍ أُمُورُهَا: ولمّا استعار لفظ الحمی رشّح بذكر القدور، وظاهر فظاعة تلك الأمور وشدّتها.

وكلّ تلك الأمور عدّدها في معرض التخويف لكونها مخوفة تنفيراً عما يلزم عنه من ترك التقوى واتّباع الهوى ثمّ ساق الآية اقتباساً ونسق بعدها أحوال المتقيّن في الآخرة اللازمة عن تقواهم فقال: «وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا»(4) قَدْ أُمِنَ الْعَذَابُ وانْقَطَعَ الْعِتَابُ وزُحْزِحُوا: ابعدوا عَنِ النَّارِ واطْمَأَنَّتْ:

استقرت بِهِمُ الدَّارُ»: التي هي الجنة.

«ورَضُوا الْمَثْوَى»: والمنزل «والْقَرَارَ»: لمن عساه لا يعرفها فقال: هم

«الَّذِينَ كَانَتْ أَعْمَلُهُمْ فِي الدُّنْيَا زَاكِيَةً»: ظاهرة من الرياء والشرك الخفي.

ص: 126


1- سورة الملك: الآية 7
2- سورة الملك: الآية 8
3- سورة الفرقان: الآية 12
4- سورة الزمر الآية 73

«وأَعْيُنُهُمْ بَاكِيَةً»: من خشية الله وخوف عقابه وحرمانه.

«وكَانَ لَيْلُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ نَهَاراً تَخَشُّعاً واسْتِغْفَارًا»: أي جعلوه نهاراً في كونه محلّ حرکاتهم في عبادة ربّهم وتخشّعهم له واستغفاهم إيّاه فأشبه النهار الَّذي هو محلّ حركات الخلق. ولهذا الشبه استعار لفظ النهار للَّيل.

«وكَانَ نَهَارُهُمْ لَيْلًا تَوَحُّشاً»: للخلوة من الخلق «وانْقِطَاعاً»: عنهم واعتزالهم إيّاهم كالليل الَّذي هو محل انقطاع الناس بعضهم عن بعض وافتراقهم، وفي نسخه الرضيّ رحمه الله بخطَّه: كأنّ للتشبيه رفع نهاراً في القرينة الأولى، ورفع ليلاً في الثانية ووجه التشبيه هو ما ذكرناه، وكأنّه يقول: فلمّا استعدوا بتلك الصفات للحصول على الفضائل، والكمالات واستوجبواً رضى الله تعالى عنهم.

«فَجَعَلَ الله لَهُمُ الْجَنَّةَ ثَوَاباً»: ومرجعاً وثواباً «وكانُوا أَحَقَّ بِها وأَهْلَها»: وهو اقتباس من القرآن الكريم.

«فِي مُلْكٍ دَائِمٍ ونَعِيمٍ قَائِمٍ»: تفسير لها، ثمّ أكَّد الأمر بالتقوى ورعايتها في عبارة أخرى فقال: «فَارْعَوْا عِبَادَ الله مَا بِرِعَايَتِه يَفُوزُ فَائِزُكُمْ وبِإِضَاعَتِه يَخْسَرُ

مُبْطِلُكُمْ»: هو الخارج عن دائرة التقوى ويلحقكم الخسران بالخروج عنها.

«وبَادِرُوا آجَالَكُمْ بِأَعْمَلِكُمْ»: كقوله: وبادروا الموت: أي وسابقوا آجالكم بالأعمال الصالحات إلى الاستعداد بها قبل أن يسبقكم إلى أنفسكم فيقطعكم عن الاستعداد بتحصيل الأزواد ليوم المعاد، ونبّههم بقوله: «فَإِنَّكُمْ مُرْتَهَنُونَ»: مأخوذون رهناً.

«بِمَا أَسْلَفْتُمْ»: قدمتم من العمل «ومَدِينُونَ بِمَا قَدَّمْتُمْ»: على ارتهانهم بذنوبهم السالفة والجزاء عليها في القيامة ليسارعوا إلى فكاكها بالأعمال الصالحة والسلامة

ص: 127

من الجزاء عليها، ولفظ المرتهن مستعار للنفوس الآثمة باعتبار تقيّدها بالسيّئة وإطلاقها بالحسنة كتقيّد الرهن المتعارف بما عليه من المال وافتكاكه بأدائه وإطلاق لفظ الجزاء على العقاب مجاز إطلاقا لاسم أحد الضدّين على الآخر.

«وكَأَنْ قَدْ نَزَلَ بِكُمُ الْمَخُوفُ»: هي المخفّفة من كأنّ للتشبيه، واسمها ضمير الشأن، والمقصود تشبيه حالهم وشأنهم الحاضر بحال نزول المخوف وهو الموت بهم وتحقّقه في حقهم الَّذي يلزمه ويترتب عليه عدم نيلهم للرجعة وإقالتهم للعثرة المشار إليها بقوله:

«فَلَا رَجْعَةً تَنَالُونَ ولَا عَثْرَةً تُقَالُونَ»: ثمّ عقّب بالدعاء لنفسه ولهم باستعمال الله إيّاهم في طاعته وطاعة رسوله فقال:

«اسْتَعْمَلَنَا الله وإِيَّاكُمْ بِطَاعَتِه وطَاعَةِ رَسُولِه»: وذلك الاستعمال بتوفيقهم الأسباب الطاعة وإعدادهم لها وإفاضة صورة اطاعته على قواهم العقليّة والبدنيّة وجوارحهم الَّتي بسببها تكون السعادة القصوى، ثمّ بما يلزم ذلك الاستعمال من العفو عن جرائمهم فقال:

«وعَفَا عَنَّا وعَنْكُمْ بِفَضْلِ رَحْمَتِه»: نسبها إليه لكونه مبدأ للعفو والمسامحة من جهة ما هو رحيم وذلك من الاعتبارات الَّتي تحدثها عقولنا الضعيفة وتجعلها من صفات کماله کما سبق بيانه في الخطبة الأولى، ثمّ عقّب، وعظهم، وتحذيرهم والدعاء لهم بأمرهم أن يلزموا الأرض، ويصبروا على ما يلحقهم من بلاء أعدائهم و مخالفيهم في العقيدة كالخوارج والبغاة على الإمام بعده من ولده قال:

«الْزَمُوا الأَرْضَ واصْبِرُوا عَلَى الْبَاَءِ»: والخطاب خاصّ بمن يكون بعده بدلالة سياق الكلام ولزوم الأرض كناية عن الصبر في مواطنهم وقعودهم عن

ص: 128

النهوض لجهاد الظالمين في زمن عدم قيام الإمام الحقّ بعده عليه السّلام.

«ولَا تُحَرِّكُوا بِأَيْدِيكُمْ وسُيُوفِكُمْ فِي هَوَى أَلْسِنَتِكُمْ»: نهي عن الجهاد من غير أحد من الأئمّة من ولده بعده، وذلك عند عدم قيام من يقوم منهم لطلب الأمر فإنّه لا يجوز إجراء هذه الحركات؛ إلَّا بإشارة من إمام الوقت وهوى ألسنتهم میلها إلى السبّ والشتم موافقة لهوى النفوس. والباء في بأیدیکم زائدة، ويحتمل أن يكون مفعول تحرّكوا محذوفاً تقديره شيئاً: قيل ولا تحرّكوا بهوى ألسنتكم.

«ولَا تَسْتَعْجِلُوا بِمَاَ لَمْ يُعَجِّلْه الله لَكُمْ»: من ذلك الجهاد «فَإِنَّ مَنْ مَاتَ مِنْكُمْ

عَلَى فِرَاشِه وهُوَ عَلَى مَعْرِفَةِ حَقِّ رَبِّه وحَقِّ رَسُولِه وأَهْلِ بَيْتِه مَاتَ شَهِيداً وَقَعَ

أَجْرُه عَلَىَ الله، واسْتَوْجَبَ ثَوَابَ مَا نَوَى مِنْ صَالِحِ عَمَلِه وقَامَتِ النِّيَّةُ مَقَامَ إِصْلَتِه

لِسَيْفِه»: بيان لحكمهم في زمن عدم قيام الإمام الحقّ بعده لطلب الأمر، وتنبيه لهم على ثمرة الصبر، وهو أنّ من مات منهم على معرفة حقّ ربّه وحقّ رسوله، وأهل بيته والاعتراف بكونهم أئمّة الحقّ، والاقتداء بهم لحق بدرجة الشهداء، ووقع أجره على الله بذلك واستحقّ الثواب منه على ما أتی به من الأعمال، والصبر على المكاره من الأعداء، وقامت نيّته أنّه من أنصار الإمام لوقام لطلب الأمر وأنّه معينه مقام تجرّده بسيفه معه في استحقاق الأجر.

«فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ مُدَّةً وأَجَاً»: تنبيه على أنّ لكلّ من دولة العدوّ الباطلة، ودولة الحقّ العادلة مدّة تنقضي بانقضائها وأجل تنتهي به فإذا حضرت مدّة دولة عدوّ فليس ذلك، وقت قيامكم في دفعها فلا تستعجلوا به، هذا هو المتبادر إلى الفهم من هذا الكلام، والخطبة من فصيح خطبه عليه السّلام، ومن بعده من الخطباء آخذ منها ما وجدوه ورضع بها كلامه وبالله التوفيق.

ص: 129

ومن خطبة له عليه السّلام

«الْحَمْدُ للهِ الْفَاشِي(1) حْمَدُهُ» : وقد حمد الله سبحانه باعتبارات لا ينبغي إلاَّ له:

أحدها: الفاشي حمده: أي في جميع خلقه ومخلوقاته، إذ كان شيء منها لا يخلو من نعمة له وأظهرها وجودها فلا يخلو من حمده بلسان الحال أو المقال وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون.

«والْغَالِبِ جُنْدُهُ»: وجند الله ملائكته وأعوان دينه من أهل الأرض كقوله تعالى «وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ»(2) وكقوله «وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا»(3) و ظاهر کونه غالباً لقوله «وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ»(4) و في هذه القرينة جذب للسامعين إلى نصرة الله ليكونوا من جنده و تثبيت لهم على ذلك.

«والْمُتَعَالِي جَدُّهُ»: علاوه وعظمته كقوله تعالى «وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا»(5) وهذه القرينة تناسب ما قبلها لما في تلك من إيهام الحاجة إلى الجند والنصرة، وفي الثانية تعاليه، وعظمته عن كلّ حال يحكم بها في حقّه الرافع لذلك الإيهام، ثمّ عقّب بذكر سبب الحمد، وهو نعمه التؤام، وآلاؤه العظام فقال:

«أَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ التُّؤَامِ»: جمع توأم وحقيقته الولد يقاربه ولدا آخر في بطن واحد، قال: الخليل: أصله ووأم فابدلوا من أحدى الواوين تاء هنا ترادفها على

ص: 130


1- ورد في بعض متون النهج: فِي الْخَلْقِ
2- سورة الفتح: الآية 7
3- سورة التوبة: الآية 40
4- سورة الصافات: الآية 173
5- سورة الجن: الآية 3

العبد وتواترها فإنه ما من وقت يمرّ عليه إلَّا وعنده أنواع من نعمة الله تعالى لا تكافؤ بحمد.

«وآلَائِهِ الْعِظَامِ»: هي النعم وأحدها إلى بالفتح «الَّذِي عَظُمَ حِلْمُهُ فَعَفَا»: الحلم في الإنسان فضيلة تحت الشجاعة يعسر معها انفعال النفس عن الواردات المكروهة المؤذية له، وأمّا في حقّ الله سبحانه؛ فتعود إلى اعتبار عدم انفعاله عن مخالفة عبیده الأوامره ونواهيه، وكونه لا يستفزّه عند مشاهدة المنكرات منهم غضب ولا يحمله على المسارعة إلى الانتقام منهم مع قدرته التامّة على كلّ مقدور والفرق بينه تعالى وبين العبد في هذا الوصف أنّ سلب الانفعال عنه سلب مطلق وسلبه عن العبد عمّا من شأنه أن يكون له ذلك الشيء؛ فكان عدم الانفعال عنه تعالى أبلغ، وأتمّ من عدمه عن العبد، و بذلك الاعتبار كان أعظم، ولمّا كان الحلم يستلزم العفو عن الجرائم، والصفح عنها سمّى إمهاله تعالى للعبد، وعدم مؤاخذته بجرائمه عفواً فلذلك أردف وصفه لعظمة الحلم بذكر العفو، وعطفه بالفاء لاستعقاب الملزوم لازمه بلا مهلة.

«وعَدَلَ فِي كُلِّ مَا قَضَى»: ولمّا كان العدل عبارة عن التوسّط في الأفعال، والأقوال بين طرفي التفريط والإفراط، وكان كلّ ما قضاه تعالى وحكم عليه بوقوعه أو عدم، وقوعه جارياً على، وفق الحكمة، والنظام الأكمل لما بيّن ذلك في مظانّه من العلم الإلهيّ لا جرم لم يكن أن يقع في الوجود شيء من أفعاله أو أقواله منسوباً إلى أحد طرفي التفريط، والإفراط بل كان على حاقّ الوسط منهما وهو العدل. وقيل: قضى بمعنى أمر كقوله تعالى «وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ»(1) وهو داخل فيما قلناه فإنّ ما أمر بإيجاده أو نهی عنه داخل فيما حکم

ص: 131


1- سورة يوسف الآية 40

عليهم بوقوعه أو عدم وقوعه:

«وعَلِمَ مَا يَمْضِيِ ومَا مَضَى»: إشارة إلى أشرنا إلى علمه بكل الأمور مستقبلها وماضيها و کليها وجزئيها وقد اشرنا إلى فيما قبل.

«مُبْتَدِعِ الْخَلَائِقِ بِعلمه»: ظاهر كلامه عليه السّلام ناطق بأنّ العلم هنا سبب لما ابتدع من خلقه، ولا شكّ أنّ السبب له تقدّم على المسبّب من جهة ما هو سبب وهذا هو مذهب جمهور الحكماء، والخلاف فيه مع المتكلمين إذ قالوا أن العلم تابع للمعلوم والتابع يمتنع أن يكون سبباً فالباء أذن لاستصحاب وعلى الرأي الأول للتسبب قال: بعض العلماء ونحن أذا حققنا القول وقلنا انه لا صفة له تعالى تزيد على ذاته وعلمه وقدراته وأرادته شيئاً واحد وإنما يختلف بحسب اعتبارات تحدثها عقولنا الضعيفة له بالقياس إلى مخلوقاته کما سبق بيانه في الخطبة الأولى لم يبق تفاوت في أن يسند المخلوقات إلى ذاته وعلمه أو إلى قدرته وغيرهما وأما بیان أن العلم تابع للمعلوم حتى يمتنع بدونه أن يكون سبباً له أو متبوع حتى يمتنع بدونه کما حُققَ في مضانه والمسالة مما طال البحث فيها بينهم وقيل بعلمه أي بالاستغاثة، وقيل: بعلمه أي عالماً بهم وهو نصب على الحال، ويحتمل أن يريد بالأبداع أحكاماً شيئاً، وإتقانها بحيث يكون محل التعجب يقال هذا فعل بدیع ومنضر بديع أي معجب حسن وظاهر أن ذلك منسوب إلى العلم ولذلك يستبدل بأحكام الفعل وإتقانه على العلم فاعله.

«ومُنْشِئِهِمْ بِحُكْمِهِ»: بحكمته قريب من الَّذي سبق، ويحتمل أن يريد حكم قدرته على الموجودات بالوجود وهو ظاهر «بِلَا اقْتِدَاءٍ ولَا تَعْلِيمٍ»: أي لم يكن إبداعه وإنشاءه للخلق على وجه اقتدائه بغيره ممن سبقه إلى ذلك، ولا على وجه التعلَّيم منه، والاقتداء أعمّ «ولَا احْتِذَاءٍ لِمِثَالِ صَانِعٍ حَكِيمٍ»: أحتذى به أقتدي.

ص: 132

«ولَا إِصَابَةِ خَطَأٍ»: أي لم يكن للخلق أوّلاً اتّفاقاً على سبيل الاضطراب والخطأ من غير علم منه ثمّ علمه بعد ذلك، فاستدرك فعله وأحكمه فأصاب وجه المصلحة فيه. والإضافة بمعنى اللام لما أنّ الإصابة من لواحق ذلك الخطأ. وبمثل هذا اعترض المتكلَّمون على أنفسهم حيث استدلَّوا على كونه تعالى عالماً بكلّ معلوم فقالوا: إنّه تعالى علم بعض الأشياء لا من طريق أصلاً لا من حسّ ولا نظر و استدلال فوجب أن يعلم سائرها كذلك لأنّه لا تخصیص، ثمّ سألوا أنفسهم فقالوا: لم زعمتم ذلك ولم لا يجوز أن يكون قد فعل أفعاله مضطربة ثمّ أدركها فعلم كيفيّة صنعها بطريق كونه مدركاً لها؛ فأحكمها بعد اختلافها واضطرابها ثمّ أجابوا عن ذلك بأنّه لا بدّ أن يكون قبل ذلك عالماً بمفرداتها قبل فعلها مصادرة على المطلوب.

والجواب الحق أنه لو علمها بعد ان يعلمهالكان علمه بها حادثاً في ذاته فكان محلاً للحوادث وهو محال لما سبق.

«ولَا حَضْرَةِ مَلأٍ»: أي ولم یکن خلقه لما خلق بحضرة جماعة من العقلاء بحيث يشير كلّ منهم عليه برأي، ويعينه بقول في كيفيّة خلقه حتّى يكون أقرب إلى الصواب لأنّ كلّ جماعة فرضت فهي من خلقه فلا بد أن تصدر عنه الأمور لا بحضرة أحد، ولأنّ ذلك يستلزم حاجته إلى المعين، والظهير والحاجة يستلزم الإمكان المنزّه قدسه عنه وإليه الإشارة بقوله تعالى «مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا»(1) وكلّ ذلك تنزیه لفعله عن كيفيّات أفعال عباده. ثمّ أردف ذلك باقتصاص أحوال الخلق حال انبعاث الله رسوله فقال:

ص: 133


1- سورة الكهف الآية 51

«وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ ابْتَعَثَهُ والنَّاسُ يَضْرِبُونَ فِي غَمْرَةٍ»: الواو للحال: أي والناس يسيرون عند مقدمه في جهالة. وهو كناية عن تصرّفاتهم على جهل منهم بما ينبغي لهم من وجوه التصرّف، ويحتمل أن يريد وتسيرون في شدّة وذلك أنّ العرب كانت حينئذ في شدائد من ضيق المعاش والنهب والغارات وسفك الدماء كما قال عليه السّلام فيها قبل: إنّ الله بعث محمّدا صلَّى الله عليه وآله وسلَّم نذيراً للعالمين، وأميناً على التنزيل، وأنتم معشر العرب على شرّ دین وفي شرّ دار الفصل.

«ويَمُوجُونَ فِي حَیْرَةٍ»: كناية عن تردّدهم في حيرة الضلال والجهل أو في حيرة من الشدائد المذكورة.

«قَدْ قَادَتْهُمْ أَزِمَّةُ الْحَیْنِ»: أي قد تداعوا للموت والفناء من كثرة الغارات وشدائد سوء المعاش و ظلم بعضهم لبعض لأنّ الناس إذا لم يكن بينهم نظام عدليّ ولم يجر في أمورهم قانون شرعيّ أسرع فيهم ظلم بعضهم البعض واستلزم ذلك فناؤهم، ولمّا استعار لفظ الأزمّة رشّح بذكر القود.

«واسْتَغْلَقَتْ عَلَى أَفْئِدَتِهِمْ أَقْفَالُ الرَّيْنِ»: أراد رين الجهل و تغطيته لقلوبهم عن أنوار الله تعالى والاستضاءة بأضواء الشريعة.

واستعار لفظ الأقفال لغواشي الجهل، والهيئات الرديئة المكتسبة من الإقبال على الدنيا، ووجه المشابهة أنّ تلك مانعة للقلب وحاجبة له عن قبول الحقّ والاهتداء به کما تمنع الأقفال ما يغلق عليه من التصرّف، ورشّح بذكر الاستغلاق وإنّما أتی بلفظ الاستفعال لأنّ ذلك الرين كان أخذ في الزيادة و منتقلا من حال إلى حال فكأنّ فيه معنى الطلب للتمام، ثمّ عقّب بالوصيّة بتقوى الله على جرى عادته

ص: 134

لأنّها رأس كلّ مطلوب، ورغَّب فيها بكونها حقّ الله عليهم فقال: «أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللهِ بِتَقْوَى اللهِ فَإِنَّهَا حَقُّ اللهِ عَلَيْكُمْ»: أي الأمر المطلوب من المستحق عليهم.

«والْمُوجِبَةُ عَلَى اللهِ حَقَّكُمْ»: وهو جزاء طاعتهم له الَّذي أوجبه على نفسه ولزم عن کمال ذاته الفياضة بالخيرات بحسب استعدادهم له بالتقوى، ثمّ أشار إلى ما ينبغي للمتصدّي إلى التقوى فقال: «وأَنْ تَسْتَعِينُوا عَلَيْهَا بِالله»: على قطع عقباتها بالله: والانقطاع إليه أن يعينه عليها ويوفّقه بها فإنّ الانقطاع إلى معونته والالتفات إليه مادّة كلّ مطلوب، ثمّ إلى فائدتها وهي الاستعانة بها على الله تعالى وذلك قوله:

«وتَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى اللهِ»: ولمّا كان المطلوب منه الوصول إلى ساحل عزّته والنظر إلى وجهه الكريم، والسلامة من غضبه، ونقاش حسابه إذ هو تعالى الحاكم الأوّل كانت التقوى أجلّ ما يستعدّ به لحصول تلك المطالب، وكان السعيد من استعان بها على دفع شدائده تعالى في الآخرة من المناقشة؛ فإنّه لإخلاص منها إلَّا بها، ثمّ عقّب ذکرها بیان ما يستلزمه من الأمور المرغوب فيها: «فَإِنَّ التَّقْوَى فِي الْيَوْمِ»: أي في مدة الحياة.

«الْحِرْزُ والْجُنَّةُ»: من المكاره الدنيويّة لقوله تعالى «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ»(1).

«وفِي غَدٍ»: القيامة «الطَّرِيقُ إِلَی الْجَنَّةِ»: وهو: ظاهر.

«مَسْلَكُهَا وَاضِحٌ»: وواضح أن الشارع صلوات الله وسلامه عليه أوضح طريق التقوی و کشف سبلها حتى لا يجهلها إلا الجاهل.

ص: 135


1- سورة الطلاق: الآية 3

«وسَالِكُهَا رَابِحٌ»: استعار الربح لما يحصل عليه المتقي من ثمرات التقوى في الدنيا والآخرة ووجه الاستعارة أنه بحركاته وتقواه التي تشبه رأس ماله تستفيد الثواب کما يستفيد التاجر مكاسبه.

«ومُسْتَوْدَعُهَا حَافِظٌ»: بفتح الدال قابل الوديعة وبكسرها فاعلها، والمراد على الرواية بالفتح کون قابلها حافظاً لنفسه بها من عذاب الله أو يكون حافظ بمعنی محفوظ، وعلى الثانية فالمستودع لها إمّا الله سبحانه؛ إذ هي الأمانة الَّتي عرضها على السماوات والأرض؛ فأبين أن يحملها وأشفقن منها وحملها الإنسان وظاهر کونه تعالى حافظاً على العبد المستودع أحواله فيها من تفريطه وتقصيره أو أمانته ومحافظته عليها، وإمّا الملائكة الَّتي هي وسائط بين الله تعالى وبين خلقه. وظاهر كونهم حفظة كما قال تعالى «وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً»(1) «وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ»(2).

«لَمْ تَبْرَحْ عَارِضَةً نَفْسَهَا عَلَى الأُمَمِ الْمَاضِینَ والْغَابِرِينَ»: كلام لطيف، واستعار وصف كونها عارضة نفسها. ووجه الاستعارة كونها مهيّئة لأن تقبل، وبصدد أن ينتفع بها كالمرأة الصالحة الَّتي تعرض نفسها للتزويج والانتفاع بها؛ ثمّ علَّل كونها لم تبرح كذلك:

«لِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا غَداً»: أي يوم القيامة ترغيباً فيها بكونها محتاجاً إليها، ويحتمل أن يدخل ذلك في وجه الشبه.

«إِذَا أَعَادَ اللهُ مَا أَبْدَى وأَخَذَ مَا أَعْطَى وسَأَلَ عَمَّا أَسْدَى»: كالقرينة المخرجة

ص: 136


1- سورة الأنعام: الآية 61
2- سورة الانفطار: الآية 10 - 12

لغد عن حقيقته إلى مجازه وهو يوم القيامة، وتعيين له بأنّه الوقت الَّذي يعيد الله فيه ما كان أبداه من الخلق ويأخذ فيه ما كان أعطاهم من الوجود الدنيويّ ولواحقه ويقول: لمن الملك اليوم لله الواحد القهّار وفي الحديث: إنّ الله تعالى يجمع كلّ ما كان في الدنيا من الذهب، والفضّة فيجعله أمثال الجبال ثمّ يقول: هذا فتنة بني آدم. ثمّ يسوقه إلى جهنّم؛ فيجعله مكاوي لجباه المجرمين، ويسألهم فيه عمّا أسدى إليهم فيه من نعمه؛ فيسأل من ادّخرها لم ادّخرها، ولم ينفقها في وجوهها المطلوبة لله، ويسأل من أنفقها في غيره وجهها فيقول؛ أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها ويجازي الأوّلين بادّخارها كما قال: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ»(1) الآية، ويجازي الآخرين بصرفها في غير وجهها كما قال «فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»(2).

«فَمَا أَقَلَّ مَنْ قَبِلَهَا»: تعجّب من قلَّة من قبل التقوى منهم «وحَمَلَهَا حَقَّ

حَمْلِهَا»: أي أخذها وحفظها بشرائطها واستعدّ بها ليؤدّي أمانة الله فيها.

إذ هي الأمانة المعروضة؛ ثمّ حكم بكون قابلها وحاملها أقلّ الناس عدداً فقال:

«أُولَئِكَ الَأقَلُّونَ عَدَداً وهُمْ أَهْلُ صِفَةِ اللهِ سُبْحَانَهُ إِذْ يَقُولُ «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ»(3) أي الَّذين وصفهم الله تعالى بقوله المذكور ثمّ أمرهم فيهما بأمور قال:

ص: 137


1- سورة التوبة: الآية 34 - 35
2- سورة الجاثية: الآية 28
3- سورة سبأ: الآية 13

«فَأَهْطِعُوا»: اسرعوا «بِأَسْمَاعِكُمْ إِلَيْهَا»: إلى سماع وصفها وشرحها ليعرفوها أو تعملوا على بصيرة.

«وأكظوا بِجِدِّكُمْ عَلَيْهَا»: أي داوموا عليها ولازموها باجتهادٍ منکم، وروى وانقطعوا بأسماعكم إليها: أي انقطعوا عن علائق الدنيا واستصحبوا أسماعهم إلى سماع وصفها. فكأنّ أحد الروايتين تصحيف الأخرى لأنّ النون والقاف إذا تقارنا أشبها الهاء في الكتابة.

«واعْتَاضُوهَا مِنْ كُلِّ سَلَفٍ خَلَفاً»: أي من كلّ محبوب في الدنيا سلف لكم ونعم الخلف ممّا سلف إذ كانت المطالب الحاصلة بها أنفس المطالب وهي السعادة الأبديّة، وخلفاً مصدر سدّ مسدّ الحال.

«ومِنْ كُلِّ مُخَالِفٍ مُوَافِقاً»: والمراد أنّ كلّ من كان موافقاً لك ثمّ خالفك فإنّ التقوى نعم العوض ممّن خالفك.

ونحوه ماقال: أفلاطون الحكيم: (سقراط حبيبنا والحقّ حبيبنا وإذا اختلفا كان الحقّ أحبّ إلينا)(1).

«أَيْقِظُوا بِهَا نَوْمَكُمْ»: قيل: ايقظوا بها نوّامكم فأقام المصدر مقام اسم الفاعل مجازاً لما فيه من التضادّ في القرينة. أقول: ويحتمل أن يريد بقوله: أيقظوا: أي اطردوا بتقوى الله وعبادته نومكم في ليلكم وأحيوه بها. واستعمل الإيقاظ لإفادته ذلك المعنى إذ كان الأمر بإيقاع أحد الضدّين في محلّ يستلزم الأمر بنفي الضدّ الآخر عن ذلك المحلّ مجازاً من باب إطلاق اسم الملزوم على لازمه ولما فيه من التضادّ، ويحتمل أن يريد بالنوم نوم الغفلة، والجهل وبإيقاظ النائمين منها

ص: 138


1- لابن میثم البحراني في شرح النهج: ج 4 ص 221؛ الشهيد الثاني في رسائله: ج 1 ص 8

بها تنبيههم بها من مراقد الطبيعة وإعدادهم بإجراء العبادة وقوانينها لحصول الكمالات العلميّة والعمليّة على سبيل الاستعارة، ووجهها ظاهر ممّا سبق.

«واقْطَعُوا بِهَا يَوْمَكُمْ»: أي يقطعوا بالاشتغال بها نهاركم.

«وأَشْعِرُوهَا قُلُوبَكُمْ»: أي اجعلوها شعاراً لقلوبكم والبسوها إيّاه كما يلبس الشعار، ولفظ الشعار مستعار لها، ووجه الاستعارة كون التقوى الحقيقيّة تلازم النفس، وتتّصل بالقلب کما يتّصل الشعار بالجسد، ويحتمل أن يريد اجعلوها آية القلوبكم ليتميّز بها عن قلوب الظالمين، ويحتمل أن يريد أشعروها قلوبكم: أي أعلموها بها واجعلوها شاعرة بتفاصيلها ولوازمها.

«وارْحَضُوا بِهَا ذُنُوبَكُمْ»: أي اغسلوها بالاشتغال بالتقوى الرحض مستعار باعتبار کون التقوى ماحية لدرن الذنوب والهيئات البدنيّة عن ألواح النفوس کما يمحق الغسل درن الثوب وأوساخه.

«ودَاوُوا بِهَا الأَسْقَامَ»: أي أسقام الذنوب وأمراض القلوب کالجهل، والشكّ والنفاق والرياء والحسد والكبر والبخل، وجميع رذائل الأخلاق الَّتي هي في الحقيقة الأسقام المهلكة، ولاشتمال التقوى على جميع الأعمال الجميلة والملكات الفاضلة كانت دواء لهذه الأسقام وشفاء لا يعقبه داء.

«وبَادِرُوا بِهَا الْحِمَامَ»: الموت أي يسارعوه ويسابقوه بها، وقد سبق بيانه في الخطبة.

«واعْتَبِرُوا بِمَنْ أَضَاعَهَا»: أي ينظروا إلى الأمم السابقة قبلكم ممّن أضاع التقوى، ويتفكَّروا في حاله كيف أضاعها لأمر لم يبق له ففاته ما طلب ولم يدرك ما فيه رغب ثمّ حصل بعد الهلاك على سوء المنقلب فيحصّلوا من ذلك عبرة

ص: 139

لأنفسهم، فيحملوها على التقوى خوفا ممّا نزل بمن أضاعها من الخيبة، والحرمان والرجوع إلى دار الهوان.

«ولَا يَعْتَبِرَنَّ بِكُمْ مَنْ أَطَاعَهَا»: أي لا تجعلوا أنفسكم عبرة لمن أطاعها: أي انقاد للتقوى ودخل فيها؛ أو أطاع موجبها فحذف المضاف، والمراد نهيهم أن يدخلوا في زمرة من أضاعها فيكونوا عبرة لمن أطاعها فنهی عن لازم الإضاعة وهو اعتبار غيرهم بهم، وصورة ذلك النهى، وإن كانت متعلَّقة بغيرهم إلَّا أنّه كناية عن نهيهم عمّا يستلزم عبرة الغير بهم وهو إضاعة التقوى لأنّ النهي عن اللازم يستلزم النهي عن الملزوم، وهذا كما تقول لمن تنصحه: لا يضحك الناس منك: أي لا تفعل ما يستلزم ذلك ويوجبه منك.

«أَلَا وصُونُوهَا»: وصيانتها شدّة التحفّظ فيها من خلطها برياء أو سمعة ومزجها بشيء من الرذائل والمعاصي.

«وتَصَوَّنُوا بِهَا»: أي يتحفّظوا بها عن الذنوب، والرذائل، وثمرتها، ويتحرّزوا بالاستعداد لها من لحوق العذاب في الآخرة.

«وكُونُوا عَنِ الدُّنْيَا نُزَّاهاً»: أي متنزّهين عمّا حرّم الله عليهم، وكرهه ممّا يوجب لهم الذمّ عاجلاً والعقاب آجلاً وهو أمر بالتقوى أيضاً.

«وإِلَی الآخِرَةِ وُلَّهاً»: أي متحيّرين من شدّة الشوق إليها وذلك مستلزم للأمر بالتقوى والانقطاع عن الدنيا إلى الأعمال الصالحة لأنّها هي السبب في محبّة الآخرة والرغبة التامّة فيما عند الله .

«ولَا تَضَعُوا مَنْ رَفَعَتْهُ التَّقْوَى»: إمّا بقول کرهه والاستهزاء به، أو بفعل کضربه، أو فعل ما يستلزم إهانته، أو ترك قول، أو ترك فعل يستلزم ذلك، وممّا

ص: 140

كان كلّ ذلك منافياً للتقوى وداخلاً في أبواب الرذائل لاجرم نهی عن لازمه وهو وضع من رفعته التقوى لاستلزام رفع اللازم رفع الملزوم.

«ولَا تَرْفَعُوا مَنْ رَفَعَتْهُ الدُّنْيَا»: وأراد من ارتفاعه وجاهته عند الخلق بسبب الدنيا واقتناء شيء منها، والتقدير: من رفعته أهل الدنيا؛ فحذف المضاف، أو اسند الرفع إلى الدنيا مجازاً لأنّ الرافع والمعظم له هم الناس، ولمّا كان من رفعته الدنيا عادلا عن التقوى كان الميل إليه، واحترامه، ومحبّته يستلزم المحبّة للدنيا، والميل إليها وكان منهيّا عنه، وكان الانحراف عنه، وعدم توقيره زهدا في الدنيا وأهلها هو من جملة التقوى فكان مأمورا به.

«ولَا تَشِيمُوا بَارِقَهَا»: استعار البارق لما يلوح للناس في الدنيا من مطامعها ومطالبها، ووصف الشيم لتوقّع تلك المطالب، وانتظارها، والتطَّلع إليها على سبيل الكناية عن كونها کالسحابة الَّتي يلوح بارقها فيتوقّع منها المطر.

«ولَا تَسْمَعُوا نَاطِقَهَا»: وكنّی بناطقها عن مادحها، وما كشف، وصفها، وزينها من القول أو فعل؛ أو زينة أو متاع، وبسماعه عن الإصغاء، والميل إليه وتصديق مقاله، وتصويب شهادته؛ فإنَّها هي الَّتي ينبغي أن يقتني، ويدّخر، ويعتني بها إلى غير ذلك، فإنّ كلّ ذلك سبب للعدول عن التقوى وطريق الآخرة إلى طرق الهلاك.

«ولَا تُجِيبُوا نَاعِقَهَا»: وکنّی بناعقها عن الداعي إليها، والجاذب ممّا ذكرنا، وبإجابته عن موافقته ومتابعته.

«ولَا تَسْتَضِيئُوا بِإِشْرَاقِهَا»: استعار الإشراق لوجوه المصالح الداعية إليها والآراء الهادية إلى طرق تحصيلها وكيفيّة السعي فيها، ووصف الاستضاءة للاهتداء بتلك

ص: 141

الآراء في طلبها، ووجه المشابهة أنّ تلك الآراء يهتدى بها في تحصيلها كما يهتدی بالإشراق المحسوس، وهذه القرينة قريبة المعنى من القريتين قبلها، ويحتمل أن پرید بإشراقها ما يبتهج به من زينتها وأنوار جنابها، وبالاستضاءة ذلك الابتهاج والالتذاذ على سبيل الاستعارة، ووجهها مشاركة زينتها للضياء في كونه سببا ممدّا للأرواح باسطا لها.

«ولَا تُفْتَنُوا بِأَعْلَقِهَا»: جمع علق وهو الشيء لنفيس من الدنيا وهو مستلزم للنهي لهم عن محبّة الدنيا، والانهماك في لذّاتها لأنّ ذلك هو الفاتن لهم والمضلّ عن سبيل الله وهو سبب بلائهم ومحنتهم، وإليه الإشارة بقوله تعالى «إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ»(1) قال المفسرّون: بلاء ومحنة واشتغال عن الآخرة، والإنسان بسبب المال والولد يقع في العظائم، ويتناول الحرام إلَّا من عصمه الله، وعن أبي بريدة قال: (كان رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يخطبنا يوماً فجاء الحسن والحسين عليهما السّلام وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من المنبر؛ فحملهما فوضعهما بين يديه، ثمّ قال: صدق الله عزّ وجلّ «إِنّما أموالكم وأولادكم فتنة»)(2) نظرت إلى هذين الصبيّين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتّى نزلت إليهما ورفعتهما؛ ثمّ أردف ذلك بتعداد معایب وأوصاف لها منفّرة عنها معلَّلاً بها ما سبق من نواهيه عنها فقوله:

«فَإِنَّ بَرْقَهَا خَالِبٌ»: تعليل لنهيه عن شيم بارقها، واستعار وصف الحالب لما لاح من مطامعها، ووجه المشابهة كون مطامعها، وآمالها غير مدركة، وإن أدرك

ص: 142


1- سورة الأنفال: الآية 28
2- مسند أحمد بن حنبل: ج 5 ص 354؛ شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي: ج 2 ص 106؛ مناقب آل أبي طالب: لأبن شهر آشوب في: ج 3 ص 165

بعضها ففي معرض الزوال كأن لم يحصل؛ فأشبهت البرق الَّذي لا ماء فيه وإن حصل معه ضعيف؛ فغير منتفع به فلذلك لا ينبغي أن يشام بارقها.

«ونُطْقَهَا كَاذِبٌ»: تعليل لنهيه عن سماع نطقها: أي النطق الحاصل في معناها، وفي مدحها، وأنّها ممّا ينبغي أن يطلب ويدخّر، ووصف نفسها ولذّاتها بلسان حالها الَّذي تغربه الأوهام الفاسدة. وكونه كذباً كناية عن عدم مطابقة ذلك الوصف بحالها في نفس الأمر.

«وأَمْوَالَهَا مَحْرُوبَةٌ»: كالتعليل لنهيه عن الاستضاءة بإشراقها: أي لا ينبغي أن تستعمل الآراء الحسنة والحيل في تحصيل أموالها، أو لا ينبغي أن تحبّ زينتها وأموالها ويبتهج بها فإنّها مأخوذة.

«وأَعْلَقَهَا مَسْلُوبَةٌ»: تعليل لنهيه عن الافتنان بأعلاقها، ويحتمل أن تكون هذه القرينة مع الَّتي قبلها تعليل للنهي عن الفتنة بأعلافها.

ثمّ أردف تلك الأوصاف بالتنبيه على أوصاف أخرى، ونقايض لها مستعارة نفرّ بها عنها فقال:

«أَلَا وهِيَ الْمُتَصَدِّيَةُ الْعَنُونُ»: قيل: هو استعارة وصف المرأة الفاجرة الَّتي من شأنها التعرّض للرجال لتخدعهم عن أنفسهم، ويحتمل أن يكون استعارة لوصف الفرس أو الناقة الَّتي تمشي في الطريق معترضة خابطاً.

والعنون: استعارة لوصف الدابة المتقدمة في السير .

کنّی بهما عن لحوق الدنيا بالدابّة تكون كذلك، ووجه المشابهة في الوصف الأوّل أنّ الدنيا في تغيّراتها، وأحوالها وحركاتها غير مضبوطة، ولا جارية مع

ص: 143

الإنسان على حال واحد؛ فأشبهت الناقة الَّتي تعترض في طريقها، وتمشي على غیر استقامة، ووجهها في الثاني أنّ مدّة الحياة الدنيا في غاية الإسراع، وشدّة السير بأهلها إلى الآخرة فأشبهت السريعة من الدوابّ المتقدّمة في سيرها.

«والْجَامَحِةُ الْحَرُونُ»: استعار وصف الجماح لها باعتبار كونها لا تملك لأهلها ولا ينقاد لهم كما لا ينقاد الحرون لراكبها وكذلك وصف الحرون باعتبار عدم انقيادها لأهلها وعدم قدرته على تصريفاتها أحرج ما يكونون إليها.

«والْمائِنَةُ الْخَؤُونُ»: استعار وصف الكاذبة لها باعتبار لها باعتبار عدم مطابقة اغترارها للناس بزينتها ومتاعها وتوهم عن ذلك بقاؤها، ونفعها لما عليه من الأمر في نفسه اذا كان عن قليل ينكشف كذبها فيما غرتهم به وكذب أوهامهم فيها وكذلك وصف الحرون باعتبار عدم، وفائها لمن غرته وخدعته عن نفسه بزينتها فكأنها لذلك أعطته عهدا بدوامهاله فخانته بزوالها عنه ولم تف بعهده.

والْجَحُودُ الْكَنُودُ»: استعار لها هذين الوصفين ملاحظة لشبهها بالمرأة الَّتي تكفر نعمة زوجها وتنكر صنيعه، ويكون من شأنها العداوة، وكذلك أنّ الدنيا من شأنها أن تنفر عمّن رغب فيها وسعي لها، واجتهد في عمارتها وإظهار زينتها، ويكون سبب هلاكه ثمّ ينتقل عنه إلى غيره.

«والْعَنُودُ الصَّدُودُ»: استعار وصف العنود لها باعتبار عدولها عن حال استقامتها على الأحوال المطلوبة للناس، وانحرافها عن سنن قصودهم منها کالناقة الَّتي ينحرف عن المرعى المعتاد للإبل وترعی جانبا، وكذلك الصدود باعتبار كثرة إعراضها عمّن طلبها ورغب فيها.

«والْحَيُودُ الْمَيُودُ»: فاستعارة وصف الحيود ظاهرة، وأمّا وصف الميود فباعتبار

ص: 144

ترددها في ميلها بالنسبة إلى بعض أشخاص الناس من حال إلى آخر فتارة لهم وتارة عليهم. ويحتمل أن لا يكون قد اعتبر قيد التردد بل أراد مطلق الحركة استعارة لكثرة تغيرها وانتقالها.

«حَالَهُا انْتِقَالٌ»: أي من شخص إلى آخر ومن حال إلى حال؛ فظاهر أنّها كذلك، قال بعض الشارحين: يجوز أن يريد به أنّ شيمتها وسجيّتها الانتقال والتغيّر. ويحتمل أن یعنی بالحال الحاضرة من الزمان وهو الآن، ويكون مراده أنّ الَّذي يحكم عليه العقلاء بالحضور منها ليس بحاضر بل هو سیّال متغيّر لا ثبوت له في الحقيقة كما لا ثبوت للماضي والمستقبل.

«ووَطْأَتُهَا زِلْزَالٌ»: استعار الوطأة لإصابتها ببعض شدائدها، ووجه الاستعارة استلزام إصابتها بذلك إهانة من أصابته والثقل عليه كما يستلزم وطأة الثقيل من الحيوان ذلك، واستعار لفظ الزلزال لاضطراب أحوال من تصيبه بمكروهها کاضطراب الأرض بالزلزال.

«وعِزُّهَا ذُلٌّ»: أي العزّ الحاصل عنها لأهلها بسبب كثرة قيناتها كعزّة ملوكها و منفعتهم ذلّ في الآخرة، وأطلق عليه لفظ الذلّ إطلاقا لاسم الملزوم على لازمه أو تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه؛ إذ كان العين بالدنيا وأموالها مستلزما للانحراف عن الدين والتقوى الحقة، وذلك مستلزم للذلّ الأكبر عند لقاء الله وإليه الإشارة بقوله تعالى حكاية عن المنافقين «لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ»(1) ونقل المفسرّون أنّ القائل لذلك عبد الله بن أبيّ، والأعزّ یعنی نفسه والأذل یعنی رسول الله صلَّى الله

ص: 145


1- سورة المنافقون: الآية 8

عليه وآله وسلَّم فرد الله تعالى عليه بقوله «يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ» الآية(1).

«وجِدُّهَا هَزْلٌا»: استعار لفظ الجدّ وهو القيام في الأمر بعناية واجتهاد لإقبالها على بعض أهلها بخيراتها كالصديق المعتنی بحال صديقه، ولإدبارها عن بعضهم وإصابتهاله بمكروهها کالعدوّ القاصد لهلاك عدوّه، واستعار لجدّها لفظ الهزل الَّذي هو ضدّه، ووجه الاستعارة كونها عند إقبالها على الإنسان كالمعتنية بحالها أو عند إعراضها عنه ورميه بالمصائب كالقاصدة لذلك ثمّ يسرع انتقالها عن تلك الحال إلى ضدّها فهي في ذلك كالهازل اللاعب، ويحتمل أن يريد جدّ أهلها هزل: أي عنايتهم بها واجتهادهم في تحصيلها يشبه الهزل واللعب في سرعة تغيّره والانتقال عنه بزوالها فاستعار له لفظه.

«وعُلْوُهَا سُفْلٌ» كقوله: أموالها محروبة، وأراد كونها مظنّة أن تسلب قيناتها عن أهلها بالموت وغيره، واستعار لفظ السلب لما فيها من القينات. ووجه المشابهة کون ما فيها يسلب عن أهلها في كلّ زمان ويصير إلى من بعدهم كدار حرب وكذا.

(2)«ونْهَبٍ وعَطَبٍ»: هلال «أَهْلُهَا عَلَى سَاقٍ»: أي على شدّة وهو ظاهر إذ كلّ ما عدّد من أوصافها من الحرب والسلب والعطب شدائد عليها أهلها. وقال قطب الدين الراونديّ: أراد بكونها على ساق أنّ بعضهم يتبع أثر بعض إلى الآخرة فأشبه ذلك قولهم: ولدت فلانة ثلاثة بنين على ساق: أي ليس بينهم أنثى. وأنكره ابن أبي الحديد.

ص: 146


1- الآية نفسها
2- ورد في بعض النسخ: دَارُ حَرْبٍ وسَلَبٍ

«وسِيَاقٍ»: وکتی بالساق عن الأمر الشديد، قال بعض الشارحين: ويحتمل أن يكون مصدر قولك ساقه سياقا: أي أنهم مساقون إلى الآخرة.

»ولحَاقٍ»: ولحاق: بفتح اللام: أي يلحق بعضهم بعضاً في الوجود والعدم.

«وفِرَاقٍ»: يفارق بعضهم عن بعض كقولهم الدنيا مولود بولد ومفقود بفقد ويحتمل أن يريد باللحاق لحاق الأحياء للموتی بالعدم.

«قَدْ تَحَیَّرَتْ مَذَاهِبُهَا»: لم يرد بمذاهبها طرقها المحسوسة ولا الاعتقادات بل الطرق العقليّة في تحصيل خيرها ودفع شرّها، وأسند الحيرة إلى المذاهب مجازاً إقامة للعلَّة القابلة مقام العلة الفاعلة؛ إذ الأصل تحيّر أهلها في مذاهبها.

«وأَعْجَزَتْ مَهَارِبُهَا»: أي وأعجزت من طلبها، فحذف المفعول لأنّ الغرض ذكر الإعجاز، ومهاربها مواضع الهرب من شرورها.

«وخَابَتْ مَطَالِبُهَا»: بالنون استعار الحيابة للمطالب، ووجه المشابهة عدم حصولها بعد ظهورها للأوهام وتعلَّق الآمال بها فأشبهت من وعد بحصول شيء لم يف به؛ ثمّ عقّب بذکر بعض لوازم خیابتها.

«فَأَسْلَمَتْهُمُ الْمَعَاقِلُ»: المواضع التي يلجأ إليه استعار لها لفظ الإسلام باعتبار كونها لا تحفظهم من الرزايا ولا تحصنهم من سهام المنايا فأشبهت في ذلك من أسلم الملتجئ إليه وخلَّى عنه لعدّوه، ولكون ذلك لازما عطفه بالفاء.

«ولَفَظَتْهُمُ الْمَنَازِلُ»: وجه هذه الاستعارة باعتبار خروجهم منها بالموت فهي كاللافظة الملقية لهم.

«وأَعْيَتْهُمُ الْمَحَاوِلُ»: المطالب ثم قسّمهم باعتبار لحوق شرّها لأحيائهم

ص: 147

وأمواتهم إلى أصناف قال: «فَمِنْ نَاجٍ مَعْقُورٍ»: مجروح، أراد الباقين فيها، وكنّی بالمعقور عن من رمته بالمصائب فيها المشبهة بالمعقور.

«ولَحْمٍ مَجْزُورٍ»: أراد منهم من صار لحماً مجزورا.

«وشِلْوٍ مَذْبُوحٍ«: أراد ذي شلو مذبوح: أي صار بعد الذبح أشلاء متفرّقه، ويحتمل أن يكون مذبوح صفة للشلو، وأراد بالذبح مطلق الشقّ کما هو في أصل اللغة.

«ودَمٍ مَسْفُوحٍ»: أي ذي دم ««وعَاضٍّ عَلَى يَدَيْهِ»: كناية عن ندم الظالمين بعد الموت على التفريط والتقصير؛ إذ كان من شأن النادم ذلك.

«وصَافِقٍ بِكَفَّيْهِ»: أي ضارب إحداهما على الأخرى ندماً.

«ومُرْتَفِقٍ بِخَدَّيْهِ»: أي جاعل مرفقيه تحت خدّيه فعل النادم.

«وزَارٍ عَلىَ رَأْيِهِ»: أي رأيه الَّذي اقتضى له السعي في جمع الدنيا، والالتفات إليها بكلَّيّته حتى لزم من ذلك إعراضه عن الآخرة فحاق به سیّئ ما کسب؛ فإذا انكشف له بعد الموت لزوم العقاب، وظهرت له سلاسل الهيئات البدنيّة وأغلالها في عنقه علم أنّ كلّ ذلك ثمرة ذلك الرأي الفاسد؛ فأزری علیه وعابه وأنكره.

«ورَاجِعٍ عَنْ عَزْمِهِ»: أي ما كان عزم من عمارة الدنيا والسعي في تحصيلها، وبالموت تنجلي تلك العزوم ويرجع عنها.

«وقَدْ أَدْبَرَتِ الْحِيلَةُ»: الواو للحال من الضمير في راجع: أي وراجع عن عزمه حال ما قد أدبرت حيلته وهذه الحال مفسّرة لمثلها عن الضمائر المرفوعة في عاضّ، وصافق، ومرتفق وزار.

ص: 148

«وأَقْبَلَتِ الْغِيلَةُ»: أي أخذهم إلى جهنّم وإهلاكهم فيها على غرّة منهم بذلك الأخذ، وقال بعض الشارحين: يحتمل بالغيلة الشرّ بمعنى العائلة.

«ولَاتَ حِینَ مَنَاصٍ»: في موضع الحال والعامل أقبلت: أي وأقبل الهلاك والشّر حال ما ليس لهم وقت فرار ولا تأخّر عنه كقوله تعالى «كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ»(1) أي فنادوا مستغيثين حال ما ليس الوقت وقت مخلص ومفرّ.

«هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ»: أي بعد الفرار والخلاص وأتی به مكرّراً للتأكيد، وهو في مقابلة قول الكفّار المنكرين لأحوال المعاد «هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ»(2) من الجزاء له بعد الموت «قَدْ فَاتَ مَا فَاتَ وذَهَبَ مَا ذَهَبَ»: أي فات ما کنتم فيه من أحوال الدنيا الَّتي يتمنّون الرجعة إليها فلا رجوع لها، ونحوه قوله تعالى «قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا» الآية(3).

«ومَضَتِ الدُّنْيَا لِحَالِ بَالَهِا»: كلمة يخبر بها عمّن مضى، أو يأمر بالمضيّ: أي ومضت عنهم الدنيا لحال بالها. ونحوه قوله عليه السّلام: حتّى إذا مضى الأوّل لسبيله.

وقوله: امض لشأنك.

واللام للغرض فكأنّه استعار لها لفظ البال بمعنى القلب ملاحظة لشبهها بمن يمضى لغرض نفسه وما يهواه قلبه، ويحتمل أن يريد بالبال الحال أيضاً

ص: 149


1- سورة ص: الآية 3
2- سورة المؤمنون: الآية 36
3- سورة المؤمنون: الآية 99 - 100

وجواز الإضافة لاختلاف اللفظين، وقيل: أراد بحال بالها ما كانت عليه من رخائها وسهولتها على أهلها.

أي مضت الدنيا برحابها وسهولهتها واقبلت الآخرة بشدتها وصعوبتها ثم ختم الآية بالآية اقتباساً فقال: ««فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ»»(1).

والمعنى أنّهم لمّا ركنوا إلى الدنيا فعلت بهم ما فعلت، وحصلوا على ما حصلوا عليه من البداهة، وولَّت عنهم لشأنها «فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ» قال بعض المفسّرين: أراد أهل السماء وهم الملائكة وأهل الأرض فحذف المضاف وهو كناية عن كونهم لا يستحقّون أن يتأسّف عليهم ولا أن يبكون، وقيل: أراد المبالغة في تحقير شأنهم لأنّ العرب كانت تقول في عظيم القدر يموت: بكته السماء والأرض. فنفى عنهم ذلك، وأراد ليسوا ممّن يقال فيهم مثل هذا القول.

وعن ابن عبّاس رضي الله عنه لمّا قيل له: أتبكي السماء والأرض على أحد فقال: يبكيه مصلَّاه في الأرض ومصعد عمله في السماء.

فيكون نفى البكاء عنهم كناية عن أنّه لم يكن لهم في الأرض موضع عمل صالح حتّى يكون له مصعد في السماء فلم تبك عليهم، ونحوه عن أنس قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «ما من مسلم إلَّا وله بابان: باب تصعد فيه عمله، وباب ينزل منه رزقه إلى الأرض فإذا مات بكيا عليه». فذلك قوله عزّ وجلّ «فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ»(2) واعلم أنّ إطلاق لفظ البكاء

ص: 150


1- سورة الدخان: الآية 29
2- أوائل المقالات للشيخ المفيد: ص 223؛ الأمالي للشريف المرتضى: ج 1 ص 39؛ کنز الفوائد لأبي الفتح الكراكجي: ص 291؛ وسنن الترمذي: ج 5 ص 7؛ و شعب الإيمان أحمد بن الحسين البيهقي: ج 3 ص 183؛ وتفسير السمعاني للسمعاني: ج 5 ص 127

على السماء والأرض مجاز في فقدهما لما ينبغي أن يكون فيهما من مساجد المؤمنين ومصاعد أعمالهم قياسا في ذلك من فقد شيئا يحبّه ويبكي له فاطلق عليه إطلاقا الاسم الملزوم على لازمه وبالله التوفيق.

ومن خطبة له عليه السّلام ومن الناس من يسمي هذه الخطبة بالقاصعة:

ونقل في سبب هذه الخطبة أن أهل الكوفة كانوا في آخر خلافته عليه السلام قد فسدوا وكانوا قبائل متعددة وكان الرجل يخرج من منازل قبيلته فيمرّ بمنازل قبيلة أخرى فيقع به أدني مكروه فيستعدی قبيلته، وينادي باسمها مثلاً يا للنخع أو بالکنده نداءً عالياً يقصد به الفتنة، وإثارة الشرّ فيتّألب عليه فتيان القبيلة الَّتي قد مرّ بها وينادون یا لتميم يا لربيعة فيضربونه فيمرّ إلى قبيلته ويستصرخ بها وتسّل بينهم السيوف وتثور الفتنة، ولا يكون لها أصل في الحقيقة ولا سبب يعرف إلَّا تعرّض الفتيان بعضهم ببعض، وكثر ذلك منهم فخرج عليه السّلام إليهم على ناقة فخطبهم هذه الخطبة. إذا عرفت ذلك فنقول:

القصع: ابتلاع الماء والجرّة، وقصعت الرجل قصعاً: صغّرته وحقّرته، وقصعت هامّته: إذا ضربتها ببسط كفّك، وقصع الله شبابه: إذا بقي قميئا. فهو مقصوع لا يزداد. وأصل هذه الكلمة التحقير.

وإنما سميت هذه الخطبة قاصعة لأحد الوجوه الثلاثة: أحدها لأن المواعظ والزواجر فيها مردوده من أولها إلى آخرها من قولهم قصعت الناقة بحركتها أي ردد بها إلى جوفها وأخرجتها فملات فاهها فكانت هذه الخطبة تكرر الوعد والوعيد وتردد الأوامر والنواهي.

ص: 151

الثاني: أن يكون قصع العملة أي قبلها فكأنها هي القائلة لإبليس.

والثالث: أن یکون قصعت الرجل قصعا صغرته، وحقرته؛ فكأنها صغرت كل جبار، وكل عنيد متكبر، ومدارها على النهي، والتكبر، والتوبيخ عليه وعلى من يلزمه، ومن الحمية، والعصبية لغير الله تعالى ليكون الناس على ضد ذلك من التواضع والرفق.

وأنت خبير بأن من شأن الخطيب أن يورد في صدر الخطبة بنسبة العز والكبرياء والعظمة إلى من هو أولى به وهو الله سبحانه وتعالى.

وأشار إلى أن ذلك خاصة له وحرام على غيره بقوله:

وهي تتضمن ذم إبليس على استکباره و ترکه السجود لآدم عليه السّلام وأنه أول من أظهر العصبية وتبع الحمية، وتحذير الناس من سلوك طريقته و فيها فصول:

الفصل الأوّل: قوله:

«الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَبِسَ الْعِزَّ والْكِبْرِيَاءَ واخْتَارَهُمَا لِنَفْسِهِ دُونَ خَلْقِهِ»: وإذا كان مدار هذه الخطبة على النهي عن الكبر، والتوبيخ، والنهي عنه فلنشر إلى حقيقة في الإنسان أولاً ثم إلى مال يلزمه من الآفات؛ ثم الذام الواردة فيه فنقول:

أمّا حقیقته فهي هيئة نفسانيّة تنشأ عن تصوّر الإنسان نفسه أكمل من غيره وأعلى رتبة وتلك الهيئة تعود إلى ما يحصل للنفس عن ذلك التصوّر من النفخ والهزّة والتعزّز والتعظَّم والركون إلى ما تصوّرته من کمالاتها وشرفها على الغير، ولذلك قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أعوذ بك من نفخة الكبر»(1).

ص: 152


1- لم أعثر على النص نفسه ألا ضمن الإستعاذة من الشيطان الرجيم، المصنف لابن أبي شيبة الكوفي في المصنف: ج 1 ص 262؛ مسند أحمد بن حنبل: ج 4 ص 85؛ سنن ابن ماجة لمحمد بن يزيد القزوني: ج 1 ص 265؛ سنن أبي داود لسليمان بن أشعث السجستاني: ج 1 ص 180؛ المجموع للنووي: ج 3 ص 319

وهي رذيلة تحت الفجور تقابل فضيلة التواضع. وما يلزم عن ذلك التصور أعني تصوّر الإنسان فضيلته على الغير إن قطع النظر فيه عن قياسه على متکبّر عليه وعن إضافته إلى الله تعالى باعتبار أنّه منه، ولم يكن خائفاً من فوت تلك الفضيلة بل كان ساكناً إليها مطمئنّاً فذلك هو العجب؛ فإذن العجب هيئة تلزم عن تصوّر الكمال في النفس واستقطاعه عن المنعم به والركون إليه والفرح به مع الغفلة عن قياس النفس إلى الغير بكونها أفضل منه، وبهذا الفصل الأخير ينفصل عن الكبر؛ إذ كان لا بدّ في الكبر من أن يرى الإنسان لنفسه مرتبة، وللغير مرتبة ثمّ یری مرتبته فوق مرتبة غيره. وأمّا آفاته وهي ثمراته، وما يلزم عنه من الأعمال، والتروك فإنّ هذا الخلق يوجب أعمالاً إذا ظهرت على الجوارح قد تسمّی کبرا: فمنها باطنة كتحقير الغير وازدرائه، واعتقاد أنّه ليس أهلاً للمجالسة والمواكلة والأنفة عن ذلك. واعتقاد أنّه يصلح أن يكون ماثلاً بين يديه قائماً، بل قد يعتقد من هو أشدّ کبرا أنّ ذلك لا يصلح للمثول بين يديه، وكحسده والحقد عليه، وكنظر العالم المتكبّر إلى الجاهل العامّي بعين الاستخفاف والإستجهال، وأمّا الظاهرة فكالتقدّم عليه في الطرق، والارتفاع عليه في المجالس، و كإبعاده عن مجالسته و مؤاكلته، والعنف به في النصح، والغضب عند ردّ قوله، والغلظة على المتعلَّمين وإذلالهم واستخدامهم، والغيبة والتطاول بالقول، وأمّا التروك: فکترك التواضع والاستنكاف عن مجالسة من دونه و معاشرته وعدم الرفق بذوي الحاجات ونحو ذلك ممّا لا يحصى من الرذائل.

وأمّا المذامّ الواردة فيه: فهي كثيرة في القرآن الكريم والسنّة النبويّة كقوله

ص: 153

تعالى «كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ»(1) وقوله: «وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ»(2) وقول الرسول صلىَّ الله عليه وآله وسلَّم: «يقول الله عزّ وجلّ الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في جهنّم»(3).

وقوله عليه السّلام: لا يدخل الجنّة من في قلبه مثقال ذرّة من كبر، وإنّما صار حجاباً عن الجنّة لأنّه يحول بين العبد وبين أخلاق المؤمنين الَّتي هي أبواب الجنّة. فالكبر، والعجب يغلق تلك الأبواب كلها لأنّها لا تقدر على أنّ يحبّ للمؤمن ما يحبّ لنفسه، وفيه شيء من العزّة، ولا يتمكَّن من ترك هذه الرذائل، وفعل أضدادها من الفضائل التواضع، وكظم الغيظ، وقبول النصح، والرفق في القول وغيرها وفيه شيء من العزّة والكبرياء.

وما من خلق ذميم إلَّا، وصاحب العزّة، والكبر مضطرّ إليه ليحفظ به عزّه. وما من خلق فاضل إلَّا وهو عاجز عنه خوفاً أن يفوته عزّه فلذلك لم يدخل الجنّة من في قلبه مثقال حبّة من كبر، وبعض الأخلاق الذميمة مستلزم للبعض، وشرّ أنواع الكبر ما منع العلم واستعماله وقبول الحقّ والانقياد له.

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّه عليه السّلام حمد الله تعالى باعتبارات:

أحدها: لبسه للعزّ والكبرياء.

ولمّا علمت أنّ الكبرياء لا بدّ فيه من أمرين: أحدهما: العلم بكمال الذات.

ص: 154


1- سورة غافر: الآية 35
2- سورة ابراهيم: الآية 15
3- التواضع والخمول لأبن أبي الدنيا: ص 245؛ سنن أبي داود لسليمان بن أشعث السجستاني ج 2 ص 268؛ المستدرك للحاكم النيساوبري: ج 1 ص 61؛ فتح الباري لابن حجر: ج 13 ص 364؛ عمدة القاري للعيني ج 5 ص 134؛ صحيحة أبن حبان في صحيحه: ج 2 ص 35

والثاني: اعتبار الشرف، والعلوّ على الغير فكان هذان الاعتباران صادقين عليه تعالى أتمّ من صدقهما على كلّ موجود لا جرم کان بالكبرياء، والعظمة أحقّ من كلّ موجود أمّا الأوّل: فلأنّه لمّا كان كمالات الذات عبارة عن الوجود وكماله فكان وجوده تعالى أتمّ الوجودات بحيث لم يفته من کماله شيء بل كلّ ما ينبغي له فهو حاصل بالفعل لا جرم صدق عليه هذا الاعتبار أتمّ صدق وأمّا الثاني: فلأنّ وجوده تعالى هو الوجود الَّذي يصدر عنه وجود کلّ موجود عداه، وهو تعالى عالم بجميع المعلومات كلَّیّها وجزئيّها فهو إذن عالم بكماله وشرفه على عبيده. واستعار لفظ اللبس باعتبار إحاطة كماله بكلّ اعتبار له كما يحيط القميص والرداء بجسد لابسه.

ومعنى اختياره هنا تفرده باستحقاقهما لذاته؛ فإنّ المستحقّ للعزّ والكبرياء بالذات ليس إلَّا هو، ودلّ على ذلك المنقول والمعقول، وأمّا المنقول: فقوله تعالى «عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ»(1) والألف واللام هنا يفيد حصر الكبرياء والعلوّ فيه، وأمّا المعقول؛ فلأنّه تعالى لمّا استحقّ ذلك الاعتبار لذاته لا بأمر خارج وإلَّا لكان مفتقراً إلى الغير؛ ثمّ ذمّ المتكبّرين وتوعدهم في كتابه العزيز وعلى لسان نبيّه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حيث قال: حكاية عنه الكبرياء ردائي الخبر علمنا أنّه قد اختار الاختصاص بهما دون خلقه.

«وجَعَلَهُاَ حِمًى وحَرَماً عَلَى غَیْرِهِ»: استعار لفظ الحمى والحرم باعتبار اختياره لها وتحريمهما على غيره من خلقه كما يحمى الملك المرعي والحرم.

باعتبار اختياره لهما، وتحريمهما على غير من خلقه كما يحمي المرعى والحرم.

ص: 155


1- سورة الرعد: الآية 9

«واصْطَفَاهُمَا لِجَلَالِهِ»: أشار إلى تقديسه وعلوّه عن شبه المخلوقات استحقّ الانفراد بهاذين الوصفين فتفرد بها وهو معنی اصطفائه لهما.

«وجَعَلَ اللَّعْنَةَ عَلَى مَنْ نَازَعَهُ فِيهِاَ مِنْ عِبَادِهِ»: إشارة إلى نحو قوله تعالى في الخبر المذكور: فمن نازعني فيهما ألقيته في جهنّم. ولا شكّ أنّ الملقي في جهنّم مبعّد مطرود عن الخير والرحمة، ولفظ المنازعة في الخبر مجاز في محادّة المتكبّرين ومجانبتهم له ومخالفتهم لأمره في الاتّصاف بالكبر؛ فكأنّهم يتجاذبونه ما اختص به ومن لوازم المجاذية المنازعة القوليّة فأطلقت هنا إطلاقاً لاسم اللازم على ملزومه.

«ثُمَّ اخْتَبَرَ بِذَلِكَ مَلَئِكَتَهُ الْمُقَرَّبِینَ»: أي ابتلاهم بالتكبّر وعدمه، وقد علمت معنی ابتلائه واختباره تعالى لخلقه فيما سبق. ونزیده بیانا. فنقول لمّا كانت حقيقة الاختبار طلب الخبر بالشيء ومعرفته لمن لا يكون عارفا به، وكان هو تعالى عالما بمضمرات القلوب وخفيّات القلوب فيميّز المطيعين من عبيده من العصاة لم يكن إطلاق هذا اللفظ في حقّه حقيقة بل على وجه الاستعارة باعتبار أنّه لمّا كان ثوابه وعقابه للخلق موقوفين على تكليفهم بما كلَّفهم به فإن أطاعوه فيما أمرهم أثابهم وإن عصوه عاقبهم أشبه ذلك اختبار الإنسان لعبيده وتمييزه لمن أطاعه منهم ممّن عصاه، فأطلق لفظه عليه وقوله:

«فَقَالَ سُبْحَانَهُ وهُوَ الْعَالِمُ بِمُضْمَرَاتِ الْقُلُوبِ ومَحْجُوبَاتِ الْغُيُوبِ»: قرينة مخرجة للاختبار عن حقيقته، وهي جملة معترضة بين القول والمقول للملائكة وهو قوله تعالى: «إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ»(1) وهذا هو المختبر به.

ص: 156


1- سورة ص الآية 71 - 72

قيل: إنّما اختبرهم مع علمه بمضمراته لأنّ اختباره تعالى ليس الا ليعلم غيره من خلقه طاعة من يطيع وعصيان من يعصي وقوله: وقوله تعالى «لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ»(1) وقوله «لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ»(2) أي لتعلم أنت وغيرك. كما أنا عالم وفيه بعد.

«فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ» اعْتَرَضَتْهُ الْحَمِيَّةُ: وقد شرحنا قصّة الملائكة وإبليس و آدم في الخطبة الأولى بقدر الوسع فلا حاجة إلى التطويل بالإعادة غير أنّ هاهنا ألفاظا يحتاج إلى الإيضاح.

«فَافْتَخَرَ عَلَى آدَمَ بِخَلْقِهِ وتَعَصَّبَ عَلَيْهِ لَأصْلِهِ»: في قوله «خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ»(3) «لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ»(4)

«فَعَدُوُّ اللهِ إِمَامُ الْمُتَعَصِّبِینَ»: باعتبار كونه المنشأ لرذيلة العصبيّة في غير الحقّ والمعتدي به فيها. وأمّا العصبية في الخلقّ فهي محمودة كما جاء في الخبر: العصبيّة في الله تورث الجنّة، والعصبية في الشيطان تورث النار.

«وسَلَفُ الْمُتَكْبِرِينَ»: بالاستكبار على آدم إذ السلف هو المتكبر المتقدم.

«الَّذِي وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِيَّةِ»: إذ كانت عصبيّته لأصله کالأساس بني عليه الخلق سائر العصبيّات ويقتدي به فيها.

«ونَازَعَ اللهَ رِدَاءَ الْجَبْرِيَّةِ»: أي بتجبّره وتكبّره. وقد عرفت وجه الاستعارة في

ص: 157


1- سورة الكهف: الآية 12
2- سورة البقرة: الآية 134
3- سورة الأعراف: الآية 12
4- سورة الحجر: الآية 33

المنازعة في الرداء.

«وادَّرَعَ لِبَاسَ التَّعَزُّزِ»: لا استعار لفظ الأدّراع لإبليس من جهة اشتماله وتلبّسه بالتعزّز رشّح بذكر اللباس.

«وخَلَعَ قِنَاعَ التَّذَلُّلِ»: استعارة الخلع، ورشح القناع.

«أَلَا تَرَوْنَ كَيْفَ صَغَّرَهُ اللهُ بِتَكَبُّرِهِ؟ ووَضَعَهُ بِتَرَفُّعِهِ»: تنبيه على كيفيّة تصغير الله إيّاه ووضعه له بسبب تكبّره وتعظَّمه، وذلك التصغير والوضع هو جعله في الدنيا مدحورا بعد إخراجه من الجنّة بقوله تعالى «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ»(1) ونحوه کما أشار إليه بقوله:

«فَجَعَلَهُ فِي الدُّنْيَا مَدْحُوراً وأَعَدَّ لَهُ فِي الآخِرَةِ سَعِيراً».

«ولَوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ مِنْ نُورٍ يَخْطَفُ الأَبْصَارَ ضِيَاؤُهُ ويَبْهَرُ»: يغلب

الْعُقُولَ رُوَاؤُهُ: منظره «وطِيبٍ يَأْخُذُ الأَنْفَاسَ عَرْفُهُ»: رائحته الطيبة.

«لَفَعَلَ ولَوْ فَعَلَ لَظَلَّتْ»: لصارت «لَهُ الأَعْنَاقُ خَاضِعَةً ولَخَفَّتِ»: سهلت

«الْبَلْوَى فِيهِ»: في السجود «عَلَى الْمَلَائِكَةِ»: هذا الكلام في صورة قیاس اقترانيّ مرکَّب من متّصلين صغراهما قوله: ولو أراد الله إلى قوله: لفعل وكبراهما:

قوله: ولو فعل إلى آخره وتالي الكبری مرکَّب من جملتين عطفت إحداهما على الأخرى ومعنى الصغرى أنّه تعالى لو أراد قبل خلق آدم أن يخلقه من نور شفّاف الطيف يخطف الأبصار، ويبهر العقول حسنه، وطيب يأخذ الأنفاس رائحته ولم يخلقه من طين ظلماني كثيف لفعل لأنّ ذلك أمر ممكن مقدور له، ويحتمل أن

ص: 158


1- سورة ص: الآية 85

یرید بخلقه من النور خلقه روحانیّا مجرّدا عن علاقة الموادّ المظلمة، وقد يوصف المجرّدات بالنور فيقال: أنوار الله، وأنوار جلاله، وأنوار حضرته، وقد أضاءنا بنور علمه ويوصف بالرائحة أيضاً فيقال: فلان لم يشمّ رائحة العلم وبالطعم فيقال: فلان لم يذق حلاوة اليقين، وكلّ ذلك استعارة المحسوس للمعقول تقريباً للأفهام.

ومعنى الكبرى أنّه لو فعل ذلك و خلقه كذلك لظلَّت أعناق الملائكة وإبليس خاضعة له، وذلك لشرف جوهره على الطين وفضل خلقته على ما يخلق منه ولم يكن ممّن يفسد في الأرض ويسفك الدماء، ولا من طين منتن حتّى يفخر عليه إبليس بأصله يقول: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين، أأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون ولخفّت البلوى فيه على الملائكة، وبيان الخفّة من وجهين: أحدهما: لشرف جوهره؛ فإنّه من العادة أن يستنكف الشريف من الخضوع لمن هو دونه في أصله، ويشقّ عليه التكليف بذلك في حقّه؛ فأمّا إذا كان أصله مناسبا لأصله ومقارنا في الشرف؛ فلا شكّ أنّ تكليفه بخدمته يكون عليه أسهل وأخفّ.

والثاني: أنّهم ما كانوا عالمين بالسرّ الَّذي خلق له آدم وهو كونه صالحا لخلافة الله سبحانه في عمارة الأرض وإصلاح أبناء نوعه، وإعدادهم للكمالات، وغير ذلك ممّا لا يعلمونه کما قال تعالى في جواب قولهم «أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا»(1) «إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ»(2) وکما علَّمه الأسماء وأمره بعرضها عليهم فقال «فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ»(3) وظاهر أنّ تكليف النفس بما يطَّلع على سره ويعلم وجه الحكمة فيه أسهل عليها من تكليفها بما تجهله.

ص: 159


1- سورة البقرة: الآية 30
2- الآية نفسها
3- سورة البقرة: الآية 31

فلو خلقه تعالى من نور مناسباً لخلقهم لعلموا نوعيّته وسرّ خلقه فلم يشقّ عليهم التكليف بالسجود له. ويؤيّد هذا الوجه قوله:

«ولَكِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ ابْتَيَ خَلْقَهُ بِبَعْضِ مَا يَجْهَلُونَ أَصْلَهُ» : وفي هذا الاستثناء تنبيه على عدم إرادة خلق آدم من نور. وذلك العدم هو نقيض مقدّم نتيجة القياس المذكور اللازم عن استثناء نقيض تاليها وتقدير النتيجة أنّه لو أراد خلقه من نور لظلَّت الأعناق له خاضعة، وخفّت البلوى على الملائكة لكن لم يكن الأمر كذلك فاستلزم أنّه لم يرد خلقه من نور.

فكان معنى قوله: ولكنّ الله ابتلى خلقه. أنّه لم يرد خلقه من نور بل أراد أن يبتلى خلقه ببعض ما يجهلون أصله وهو تكليفهم بالسجود لآدم مع جهلهم بأصل ذلك التكليف والغرض منه أو جهلهم بآدم وسرّ خلقته الَّذي هو أصل لذلك التكليف.

«تَمْيِيزاً بِالِخْتِبَارِ لَهُمْ ونَفْياً لِلاسْتِكْبَارِ عَنْهُمْ وإِبْعَاداً لِلْخُيَاَءِ مِنْهُمْ»: منصوبان على المفعول له: أي ليميّز بذلك التكليف وبما يستلزم من الذلَّة والانقياد والخضوع المطيع من العاصي، ولينفي رذيلة الكبر والخيلاء عنهم.

ثم أمر السامعين بالاعتبار بحال إبليس وما لزمه من اللعنة وبطلان أعماله الصالحة في المدّة المتطاولة بسبب التكبّر والعصبيّة الفاسدة، والتحذير من سلوك طريقته واقتفاء أثره في الكبر ولوازمه من الرذائل الَّتي عدّدناها وذلك قوله:

«فَاعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اللهِ بِإِبْلِيسَ إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ الطَّوِيلَ وجَهْدَهُ الْجَهِيدَ

وكَانَ قَدْ عَبَدَ اللهَ سِتَّةَ آلَفِ سَنَةٍ لَا يُدْرَى أَمِنْ سِنِي الدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِي الآخِرَةِ عَنْ

كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ»: أمر للسامعين باعتبار حال إبليس في الكبر بعد شرح حاله

ص: 160

في طاعة الله وطول مدة عبادته له وما لزمه بسبب كبر ساعة واحدة من إحباط عمله ولعنته والبعد عن رحمة الله ليتنبّهوا للتخلَّي عن هذه الرذيلة، وجه الاعتبار أن يقال: إذا كان حال من تكبّر من الملائكة بعد عبادة ستّة آلاف سنة كذلك فكيف بالمتكبّرين من البشر على قصر مدّة عبادتهم وكونهم بشراً؛ فبطريق الأولى أن يكونوا كذلك، وجهده الجهيد: أي اجتهاده الَّذي جهده وشقّ عليه.

ويشبه أن يكون قد أشار بسني الآخرة إلى سنين موهومة عن مثل اليوم المشار إليه بقوله تعالى «وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ»(1) وقوله «تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ»(2) وتقريره أنّ الأيّام في الآخرة مّما لا يمكن حملها على حقائقها لأنّ اليوم المعهود عبارة عن زمان طلوع الشمس إلى مغيبها، وبعد خراب العالم على ما نطقت به الشريعة لا يبقى ذلك الزمان، وعلى رأى من أثبت بقاء الفلك تكون القيامة؛ عبارة عن مفارقة النفوس لأبدانها؛ أو عن أحوال تعرض لها بعد المفارقة، والمجرّدات المفارقات لا يكون لأحوالها زمان، ولا مكان حتّى تجرى في يوم أو سنة فتعيّن حمل اليوم على مجازه وهو الزمان المقدّر بحسب الوهم القايس الأحوال الآخرة إلى أحوال الدنيا وأيامها إقامة لما بالقوة مقام ما بالفعل.

وكذلك السنة، وهذه الأزمنة هي الَّتي أشار إلى مثلها المتكلَّمون بقولهم: إنّ تقدّم الباري تعالى على وجود العالم بتقدير أزمنة لا نهاية لها إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ قوله تعالى «فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ»(3) وفي موضع «مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ»(4)

ص: 161


1- سورة الحج: الآية 47
2- سورة المعارج: الآية 4
3- سورة المعارج: الآية 4
4- سورة السجدة: الآية 5

إشارة إلى تفاوت تلك الأزمنة الموهومة بشدّة أهوال أحوال أهل الآخرة وضعفها وطولها وقصرها وسرعة حساب بعضهم وخفّة ظهره وثقل أوزار قوم آخرین و طول حسابهم کما روي عن ابن عباس في قوله: «تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ»(1) قال: هو يوم القيامة جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة، وأراد أنّ أهل الموقف لشدّة أهوالهم يستطيلون بقاهم فيها وشدّتها عليهم حتّى يكون في قوّة ذلك المقدار، وعن أبي سعيد الخدريّ قال: قيل لرسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، في يوم القيامة كان مقداره خمسين ألف سنة: ما أطول هذا اليوم فقال: «والَّذي نفسي بيده إنّه ليخفّ على المؤمن حتّى يكون عليه أخفّ من صلاة مكتوبة يصلَّيها في الدنيا»(2)، وهذا يدلّ على أنّه يوم موهوم وإلَّا لما تفاوت في الطول والقصر إلى هذه الغاية؛ إذا ثبت هذا فنقول: يحتمل أن يكون مراده عليه السّلام أنّ عبادة إبليس، والملائكة الَّذين نقلنا في الخبر في الخطبة الأولى: أنّهم اهبطوا إلى الأرض، وطردوا الجنّ إلى البحار، ورؤس الجبال، وعبد الله في الأرض زماناً كانت عبادة روحانيّة لا يستدعي زماناً موجوداً بل أحوالاً موهومة تشبه الزمان، وأنّ إبليس عبد الله في تقدير أزمنة مبلغها ستّة آلاف سنة قبل خلق آدم، ويحتمل أن يقال: إنّها كانت جسمانيّة في زمان من أزمنة الدنيا، ولكن يكون في كميّة كمقدار خمسين ألف سنة من سنى الدنيا.

فأمّا قوله: لا يدرى؛ ففي نسخة الرضى بالبناء للفاعل، وفي غيرها من النسخ بالبناء للمفعول.

والرواية الأولى تستلزم أنّه ممن لا يدرى أنّ تلك السنين من أيّ السنين، والثانية

ص: 162


1- سورة السجدة: الآية 5
2- يُنظر: مسند أحمد بن حنبل: ج 3 ص 70؛ والهيثمي في مجمع الزوائد: ج 10 ص 337؛ صحیح أبن حبان: ج 1 ص 329؛ شعب الإيمان أحمد بن الحسين البيهقي: ج 1 ص 324

يحتمل فيها كونه ممّن يدرى ذلك، وبالجملة فلمّا كانت مدة عبادة إبليس قبل آدم يحتمل أن يكون روحانيّة، وأن يكون جسمانيّة، ويحتمل أن يكون بحسب ذلك في زمان موهوم أو موجود، وعلى تقدير أن يكون موجودا يحتمل أن يكون ستّة آلاف سنة من السنين المعهودة المتعارفة لنا، ويحتمل أن يكون من سنين كانت قبل ذلك مصطلحا على تقدير كلّ منها بألف سنة أو بخمسين ألف سنة من سنينا لا جرم لم يمكن الجزم بواحد من هذه الاحتمالات فلذلك قال: لا يدري قال بعض الشارحين: ويفهم من تقديره عليه السّلام تلك المدّة بستّة آلاف سنة لا يدری من أيّ السنين هي أنّه سمع فيه نصّاً من رسول الله صلَّى الله عليه - وآله - وسلَّم مجملاً ولم يفسّره له، أو أنّه سمعه، وعلم تفصيله لكنّه لم يفصّله للناس بل أهم القول عليهم في تعيينه لعلمه أنّ تعيين سني الآخرة ممّا يستعظمونه، ولا يحتمله أذهانهم؛ فإنّ عبادته إذا كانت ستّة آلاف سنة، وكل يوم منها خمسين ألف سنة من سني الدنيا كان مبلغ ذلك ممّا يخرج من ضرب ستّة آلاف سنة في ثلاث مائة، وستّين مضروبة في خمسين ألفاً، وهو مائة وثمانية ألف ألف ألف بتكرير لفظ الألف ثلاث مرات، وعلى تقدير أن يكون مقدار كلّ يوم ألف سنة يكون مبلغها ما يخرج من ضرب ستّة آلاف في ثلاث مائة، وستّين ألفا وهو ألف ألف ألف سنة بتكرير الألف ثلاث مرات، وتثنية الأوّل ومائة ألف ألف بلفظتين، وستّون ألف ألف بلفظتين أيضاً، وذلك مما لا يحتمله أذهان السامعين؛ فلذلك أهم القول فيه.

«فَمَنْ ذَا بَعْدَ إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَىَ اللهِ بِمِثْلِ مَعْصِيَتِهِ»: استفهام إنکار لوجود من يسلم من لعنة الله وعقوبته ممّن يكون فيه رذيلة الكبر.

ويسلم على الله، في معنى يرجع إليه سالماً من طرده، ولعنته، وعذابه تقول: سلم عليّ هذا الشيء إذا رجع إليك سالماً، ولم يلحقه تلف، والباء في قوله: بمثل

ص: 163

معصيته، للاستصحاب: أي فمن يرجع إلى الله سالما من عذابه، وقد استصحب مثل معصية إبليس: أي تکبّر کتکبّره وخالف أمر ربّه.

«کَلَّا»: ردّ لما عساه يدّعى من تلك السلامة الَّتي استنكر وقوعها باستفهامه. وفسّر ذلك الردّ بقوله: «مَا كَانَ اللهُ سُبْحَانَهُ لِيُدْخِلَ الْجَنَّةَ بَرَاً بِأَمْرٍ أَخْرَجَ بِهِ مِنْهَا

مَلَكاً»: والباء فيه أيضاً بأمر للاستصحاب أيضاً: أي ما كان ليدخل الجنّة بشراً مستصحباً لأمر أخرج به منها ملكاً، وذلك الأمر هو رذيلة الكبر الَّتي يستصحبها الإنسان بعد الموت ملكة، وخلقاً في جوهر نفسه، والقضيّة سالبة عرفيّة عامة: أي لا يدخل الجنّة بشر بوصف الكبر ما دام له ذلك الوصف.

فإن كان ذلك الوصف يدوم کما في حقّ الكافر لم يدخل الجنّة أبداً، وإن كان لا يدوم جاز أن يدخل بعد زواله الجنّة؛ فإذن لا مسكة للرعية به قول القائلين بتخليد الفاسق من أهل القبلة في هذا الكلام، وأمّا حديث الإحباط فيقول: إنّما كان بسبب الكفر كما قال تعالى «إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ»(1).

فإن قلت: الكلام يقتضي أنّ إحباط عمله، وإخراجه من الجنّة كان بسبب تكبّره لا بسبب كفره، قلت: الأصل هو الكبر إلَّا أنّ تكبّره کان تكبّراً على الله وإباء لطاعته، واستصغاراً لما أمر به حيث قال: أأسجد لبشر خلقته من صلصال، أأسجد لمن خلقت طيناً، وذلك محادة لله، وكفر به مصارحة؛ فكان ذلك مستلزماً الكفره، ولا شكّ أنّ الكفر يستلزم إحباط العمل، واللعن والخروج من الجنّة.

«إِنَّ حُكْمَهُ فِ أَهْلِ السَّاَءِ وأَهْلِ الأَرْضِ لَوَاحِدٌ»: أي في إفاضته للخير والشرّ على من يستعدّ لأحدهما فمن استعد من أهل السماء أو أهل الأرض لخير أو شرّ

ص: 164


1- سورة ص: الآية 74

فحكمه فيه أن يفيض على ما استعدّ له وذلك حكم لا يختلف اعتباره من جهته تعالى.

«ومَا بَیْنَ اللهِ وبَیْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ هَوَادَةٌ فِي إِبَاحَةِ حِمًى حَرَّمَهُ عَلَى الْعَالِمِینَ»: أي ليس بينه، وبين أحد من خلقه صلح؛ فيخصّصه بإباحة حكم حرّمه على سائر خلقه فيختلف بذلك حكمه فيهم لأنّ الصلح من عوارض الحاجة أو الخوف المحالين عليه تعالى. وقال بعض الشارحين: كلّ ما جاء من الإحباط في القرآن والأثر؛ فمحمول على أنّ ذلك الفعل المحبط قد أخلّ فاعله ببعض شرائطه اللازمة إذ لم يوقعه على الوجه المأمور به المرضيّ، أو فعله لاعلى بصيرة، ويقين بل على ظنّ و تخمین.

وبالجملة فحيث يقع لا على وجه يستحقّ به ثواباً، لا على أنّه استحقّ به شيئا ثمّ أحبط؛ فإنّ ذلك ممّا قام البرهان على استحالته؛ ثمّ حذّرهم من إبليس باعتبار کونه عدوّ الله بعد أمرهم باعتبار حاله، وما لزمه من الشقاوة بسبب معصية له أن يعديهم بذلك الداء وهو الكبر الَّذي بسببه لزمته تلك الشقاوة فقال:

«فَاحْذَرُوا(1) عَدُوَّ الله»: ومعنی عداوته الله مجانبته لأوامره و مجاوزته لطاعته إلى معصيته.

«أَنْ يُعْذبِكُمْ بِدَائِهِ»: منصوب على البدل من عدوّ، وقيل مفعول لأحذروا وهو سهو. إذ هذا الفعل لا يتعدّى إلى مفعولين ولفض الداء مستعار للكبر بقرب من الحقيقة فان أدواء النفوس أشد من أدواء الأبدان.

ص: 165


1- ورد في بعض متون النهج: عِبَادَ اللهِ

«وأَنْ يَسْتَفِزَّكُمْ»: يزعجكم(1) «بخَيْلِهِ ورَجْلِهِ»: كناية عن أعوانه من الضالَّين المضلَّين الَّذين يستحفّون الناس بالوسوسة والدعوة إلى طرق الضلال.

«فَلَعَمْرِي لَقَدْ فَوَّقَ لَكُمْ سَهْمَ الْوَعِيدِ»: يقال: فوق السهم إذا جعل له فوقاً وهو موضع الوتر استعار السهم لوساوسه و تزییناته في الوعيد المحكيّ عنه بقوله تعالى: «لأزيّنن لهم في الأرض ولأغوينّهم أجمعین»(2) ووجه الاستعارة كونه یرمی بتلك الوساوس وجوه نفوسهم فيكون سبباً هلاكها في الآخرة كما يكون السهم سبباً للقتل، ورشّح بذكر التفويق، والإغراق والنزع، والرمي، وأمّا مكانه القريب فكما نطق به الخبر النبويّ في قوله: إنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم.

وقوله: «لولا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملکوت السماوات»(3) وقوله: فلعمري في معرض الإغراء بعداوته والتنفير عنه وقوله:

«لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ»(4) اقتباس للآية وهو من جملة الأغراء به وفي الباء وما يتعلق به وجوه: أحدها:

قوله: أبو عبيد: معناها القسم.

وكأني تقول: كيف نسب الإغواء إليه تعالى وكيف يصلح الإغواء مقسماً به.

فأقول: على الأوّل لمّا كان تعالى خالق أسباب الغواية فيه كالقدرة والعلم

ص: 166


1- ورد في بعض متون النهج: بِنِدَائِهِ وأَنْ يْجُلِبَ عَلَيْكُمْ
2- سورة الحجر: الآية 39
3- إحياء علوم الدين للغزالي في: ج 2 ص 4؛ كذلك: شرح النهج: لابن میثم البحراني: ج 1 ص 212؛ عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي: ج 4 ص 113؛ بلفظ مقارب
4- سورة الحجر: الآية 39

وغيرهما كانت له تعالى سببيّة في إيجاد الغواية، وإن كانت بعيدة؛ فلذلك صحّ إسناد؛ فعلها إليه تعالى، وعلى الثاني أنّه يجوز أن يكون ما بمعنى الَّذي، والعائد من الصلة محذوف وتقديره بالَّذي أغويتني به لأُزيّننّ لهم، وذلك هو الأمر بالسجود لآدم إذ كان بسببه استكبر وعصى فغوى، والقسم جائز بأمره تعالى وتكليفه؛ ومن جعل ما مصدريّة فله أن يقول: إنّ إبليس أطلق على الأمر، والتكليف الَّذي حصل له بسببهما الغواية لفظ الإغواء مجازاً إطلاقاً لاسم المسبّب على السبب؛ ثمّ أقسم به باعتبار ما هو أمر وتكليف لا باعتبار ما هو غواية.

الثاني: قال غيره: هي للسببيّة: أي بكوني غاوياً لأُزيّننّ كما يقول: بطاعته ليدخلنّ الجنّة وبمعصيته ليدخلنّ النار، ومفعول لأُزيّننّ لهم الباطل حتّى يقعوا فيه.

الثالث: قال بعضهم: يجوز أن يكون الباء للسببيّة ويقدّر قسم محذوف.

والمعنى بسبب ما كلَّفتني فاستلزم غوايتي اقسم لأُزيّننّ لهم.

(1)«قَذْفاً بِغَيْبٍ بَعِيدٍ»: كقوله تعالى «وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ»(2) وهو مصدر حذف فعله وسدّ مسدّ الحال قال المفسّرون: والغيب هنا بمعنی الظنّ، وفيه نظر لأنّ إطلاق لفظ الغيب على الظنّ مجاز والعدول عن الحقيقة إنّما يكون بعد تعذّر حمل اللفظ عليها، ولا تعذّر هاهنا في ذلك لأنّ مفهوم الغيب هو ماغاب عن الخلق فلم يعلموه؛ فكان القذف بكلّ ما لا يعلم، والحكم به قذفاً بالغيب و حکما به، ولمّا كان إبليس لا يعلم ما حکم به؛ بأنّه يفعله في الخلق

ص: 167


1- ورد في بعض متون النهج: وأَغْرَقَ إِلَيْكُمْ بِالنَّزْعِ الشَّدِيدِ ورَمَاكُمْ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ فَقَالَ «بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ»
2- سورة سبأ: الآية 53

من التزيين، والإغواء، وهو بعيد عن علمه؛ ثمّ حكم به كان حاکماً بما هو غائب عن علمه وعازب عنه وهو معنى قذفه بالغيب البعيد. وفي نسخة الرضيّ رضي الله عنه.

«ورَجْماً بِظَنٍّ(1) مُصِيبٍ»: وفي أكثر النسخ غير مصیب وهو المناسب لقوله: بغيب بعيد.

لأنّ ما يقال عن غيب بعيد قلَّما يصيب ظنّه.

لا يقال: إبليس صدّق ظنه في إغواء الناس وتمّ له ما ظنّ كما قال تعالى «وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» الآية(2).

فلا يصح أن يقال: غير مصیب لأنا نقول: أراد بالضن المصيب المصيب الحقّ فكأنّه قال: بظنّ ليس بعلم.

أو نقول كما قيل الثاني: إنّما كان غير مصیب لأنّه ظنّ أنّ إغوائهم يكون منه فقال: لأغوينّهم، وهذا ظنّ فاسد لأنّ إغواءهم كان منهم اختیارا لأنّهم اختاروا العمى على الهدی فغووا عن طريق الله، وتصديق أبناء الحميّة له في ذلك يعود إلى وقوع الغواية منهم، وفق ظنّه لأنّه لمّا ظنّ أنّه يغويهم؛ فقد ظنّ أنّ الغواية تلحقهم منه فصدّقوه في الغواية، وأخطأ ظنّه في تسببّها إليه الثالث: أنّ الكلام لمّا كان في معرض ذمّ إبليس، وإغراء الخلق بعداوته، وقف عليه السّلام في الآية على قوله: أجمعين؛ فيكون المعنى أنّ إبليس ظنّ أنّه يغوى جميع الخلق.

وأمّا استثنائه لعباد الله المخلصين فذاك ليس بحسب ظنّه بل تصديقاً لقوله

ص: 168


1- ورد في بعض النسخ: غَيِرْ
2- سورة سبأ: الآية 20

تعالى «إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ»(1) ومعلوم أنّ ذلك الظنّ فاسد وغير مصیب. إذ كان إنّما قدر على إغواء البعض الرابع: قال بعض الشارحين: يحتمل أن يكون أراد بالإغواء الَّذي ظنّ أنّه يفعله بالخلق هو إغواء الشرك، وبالإخلاص في قوله «إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ»(2) العصمة من المعاصي؛ فيكون الناس إذن في ظنّه؛ إمّا معصوم؛ أو مشرك، وهذا ظنّ غير مصیب؛ إذ وجد من ليس بمشرك ولا معصوم.

«صَدَّقَهُ بِهِ أَبْنَاءُ الْحَمِيَّةِ وإِخْوَانُ الْعَصَبِيَّةِ»: لازم من لوازم الكبر لأنّها مأخوذة من قولك: حمیت؛ إذا غضبت؛ فكانت حقيقتها تعود إلى الغضب عن تصوّر المؤذي مع الترفّع على فاعله، و اعتقاد الشرف عليه.

واستعار لفظ الأبناء لأصحاب هذه الرذيلة، وأهل الكبر من الناس، ووجه الاستعارة ملازمتهم لها كما يلازم الولد أُمّه حتّى صاروا كأنّهم خلقوا منها وهي أصل لهم.

وتصديقهم له بذلك الظنّ هو ارتكابهم للرذائل، والمعاصي اتّباعاله، وغوايتهم لها عن سبيل الله قال بعض الشارحين: والباء في به. بمعنى في: أي صدّقه فيه.

وصدّقه في موضع الجرّ صفة لظنّ. وقوله: وإخوان العصبيّة.

يحتمل أن يريد إخوانها فيكون قد جعل لها إخوانا على سبيل الاستعارة وهم ملازموها کما جعل للحميّة أبناء، ويحتمل أن يريد الإخوان فيها: أي الَّذين عقدوا

ص: 169


1- سورة الحجر: الآية 42
2- سورة ص: الآية 82

الأُخوّة بينهم على العصبيّة الباطلة فيها.

«وفُرْسَانُ الْكِبْرِ والْجَاهِلِيَّةِ»: يحتمل أن يكون قد استعار لفظ الفرسان لمرتكبي الكبر والأفعال الجاهليّة، ووجه الاستعارة ظاهر، ويحتمل أن يريد فرسان الجاهليّة الموصوفين بالكبر.

«حَتَّى إِذَا انْقَادَتْ لَهُ الْجَامَحِةُ مِنْكُمْ»: التي تركب هواها ولا يمكن ولا يمكن ردها.

«واسْتَحْكَمَتِ الطَّمَعِيَّةُ مِنْهُ فِيكُمْ»: أي صار الطمع محكماً فيكم.

«فَنَجَمَتِ الْحَالُ مِنَ السِّرِّ الْخَفِيِّ إِلَی الأَمْرِ الْجِلِيِّ»: غاية من قوله: فوّق وأغرق ورماكم. واستعار وصف الجامحة للنفوس الَّتي كانت عاصية لإبليس آبية عن الانقياد له، فنجمت ظهرت الحال الَّتي كان يرومها منكم ويظنَّها فیکم وهي الغواية، والضلال من السرّ الخفيّ إلى الأمر الجليّ أي من القوة فيكم إلى الفعل.

«اسْتَفْحَلَ سُلْطَانُهُ عَلَيْكُمْ»: استعار الاستفحال لشدّة سطوته، وسلطانه إشارة إلى کمال قدرته على تطويع النفوس و قهرها.

«ودَلَفَ بِجُنُودِهِ نَحْوَكُمْ»: ودلفه بهم دخولهم بالفساد على الناس وتزيينهم لهم رذائل الأخلاق وإغواؤهم إيّاهم. ومن لوازم ذلك التحاسد والتباغض والتقاطع والتدابر وتفرّق الكلمة، ومن لوازم تفرّق الكلمة أن يقحمهم العدوّ ويحلهم ورطات القتال وغيرها كما أشار إليه بقوله: «فَأَقْحَمُوكُمْ»: أدخلوكم «وَلَجاتِ»: مداخل «الذُّلِّ وأَحَلُّوكُمْ وَرَطَاتِ»: خطرات «الْقَتْلِ وأَوْطَأُوكُمْ إِثْخَانَ

الْجِرَاحَةِ»: هذا ويحتمل أن يريد بسلطانه الَّذي استفحل عليه هو سلطان عدوّهم، ومن خالفهم كمعاوية، وغيره، وقوّتهم عليهم بعد تفرّق كلمتهم، وقلَّة طاعتهم

ص: 170

له عليه السّلام، وإضافة ذلك السلطان وجنوده إلى الشيطان ظاهرة لأنّ سلطان الحقّ، وجنوده يقال له سلطان الله وجنود الله، وسلطان الباطل يقال له سلطان الشيطان وجنوده جنود الشيطان وأوليائه وأعوانه، وظاهر أنّهم عند تفرّق كلمتهم قد استفحل عليهم سلطان إبليس ودلف بجنوده إليهم وهم مخالفوه عليه السّلام، وانتصب إثخان الجراحة على أنّه مفعول ثان لأوطأو كم، ولفظ الولجات والورطات مستعار أن للأحوال الَّتي هي مظانّ الذلّ والقتل کالأماكن الَّتي يفرّون إليها من عدوّهم ذلا والمواطن الَّتي قتلوا فيها، أو لطاعتهم والاستسلام لهم، وإقحامهم وإحلالهم إيّاها إلجاؤهم لهم إلى تلك الأحوال والأماكن، ولذلك استعار وصف إيطائهم إثخان الجراحة ملاحظة لمشابهة وقوعهابهم للوطء في استلزامه للأذى، وکنّی بذلك المستعار عن إيقاعهم في حرارات الجراح، ومعنی الإثخان كثرة القتل والمبالغة فيه.

«طَعْناً فِي عُيُونِكُمْ وحَزّاً فِي حُلُوقِكُمْ ودَقّاً لِمَنَاخِرِكُمْ وقَصْداً لِمَقَاتِلِكُمْ»: جعل محلّ الطعن العيون، والحزّ الخلوق، والدقّ المناخر، والقصد المقاتل لأنّها محالها المتعارفة عند إرادة الإذلال والإهانة والإهلاك، لأنّ الطعن وإن كان قد يقع في سائر البدن إلَّا أنّه أبلغ في العيون وأفحش، وكذلك في باقيها، قال بعض الشارحين: انتصب طعناً، وحزّاً ودقّاً، وقصداً، وسوقاً على المصادر عن أفعالها المقدّرة، ومن روی: لإثخان الجراحة بوجود اللام؛ فيحتمل أن يجعل طعناً مفعولاً ثانياً لأوطأوكم، ويكون اللام في الإثخان لام الغرض: أي أوطأوكم طعناً، وحزّاً، ودقّاً ليثخنوا الجراحة فيكم قال: ویکون قصداً، وسوقاً خالصّين للمصدريّة لبعدهما عن المفعول به، والأظهر هو الوجه الأوّل أعني كون كلّ منها مصدراً الفعله، ولمّا كان الفاعل بهم هذه الأفعال كلها هو إبليس، وجنوده فإن كان المراد

ص: 171

بجنوده الساعين بين الناس بالوسوسة، والفساد في الأرض؛ فمعنى فعلهم هم هذه الأفعال كونهم أسبابا معدة لهم بالوسوسة المستلزمة لتفريق الكلمة، ومخالفة الإمام لوقوع هذه الأفعال بهم من أعدائهم ومحاربيهم؛ ثمّ يتبع فعل العدو لهم أن يسوقوهم إلى النار بخزائم القهر کما قال:

«وسَوْقاً بِخَزَائِمِ الْقَهْرِ إِلَی النَّارِ»: المعدة لهم واستعار الخزائم لما تمكَّن في جواهر نفوسهم من الرذائل الموبقة، وملكات السوء الَّتي لا محيص لهم من النار بسببها لمشابهتها الخزائم الَّتي يقاد بها الإبل في كونها لا مخلص عمّا يقاد إليه بسببها، ولفظ السوق ترشيح للاستعارة، وإن كان المراد بجنوده هم المخالفون له عليه السّلام والمحاربون لأصحابه؛ ففعلهم بهم تلك الأفعال ظاهر، وأمّا السائق لهم إلى النار فيحتمل أن يكون هؤلاء، وذلك بإذلالهم لهم، وإدخالهم في باطلهم عن قهر وذلَّة. ولا شكّ أنّ الدخول في باطلهم سبب جاذب إلى النار، ولفظ الخزائم مستعار إذن إمّا لما يتمكَّن من باطلهم، وعبثهم في النفوس، وإمّا لأوامرهم بالباطل، وحملهم على ارتكاب المنكر، ويحتمل أن يكون السائق لهم هو إبليس، وجنوده من أهل الوسوسة؛ ثمّ رجع إلى إفراده بالفعل نظراً إلى قوله: ودلف بجنوده فقال بعده: فأصبح أعظم في دينكم جرحاً؛ فاستعار لفظ الجرح للفساد المعقول الحاصل بسبب إبليس في دينهم، ووجه المشابهة كون الجرح فساداً في العضو أيضاً.

(1)«فِي دُنْيَاكُمْ قَدْحاً»: وروي الزند أي خرجت ناره و أروي افعل منه للمبالغة واستعار القدح لوساوس إبليس المستلزمة لوجود الإحن، والتباغض والتحاسد بينهم الموجب لتفريق كلمتهم المستلزم لتشتّت سلطانهم، وفساد نظامهم وماهم عليه من الأُبّهة واستقامة المعاش في الدنيا، ووجه المشابهة إفساد تلك الوساوس

ص: 172


1- ورد في بعض النسخ: الْمُعَدَّةِ لَكُمْ فَأَصْبَحَ أَعْظَمَ فِ دِينِكُمْ حَرْجاً وأَوْرَى

لأحوال معاشهم كإفساد قدح النار ما يقدح فيه، وجعله في حرج دينهم وإفساد دنیاهم أشدّ من أعدائهم الَّذين هم مناصبون لهم والحكم ظاهر الصدق.

إذ كانت فتنة إبليس لهم في دينهم ودنياهم أصلا لكلّ فتنة تلحقهم من أعدائهم باعتبار أنّها سبب تفرقهم كما سبق وإلى ذلك أشار بقوله:

«مِنَ الَّذِينَ أَصْبَحْتُمْ لَهُمْ مُنَاصِبِینَ»: معادين «وعَلَيْهِمْ مُتَأَلِّبِینَ»: مجتمعين «فَاجْعَلُوا عَلَيْهِ حَدَّكُمْ»: بأسكم وسطوكم لأنّ حدّ الرجل بأسه وسطوته، أو منعكم ودفعكم.

«ولَهُ جِدَّكُمْ»: أي يجتهدوا للخلاص من فتنته بمقاومته وقهره.

ثم عاد إلى الإغراء بعداوته يذكر أسباب العداوة بقوله:

«فَلَعَمْرُ اللهِ لَقَدْ فَخَرَ عَلَى أَصْلِكُمْ»: و «قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ»(1) «ووَقَعَ فِي حَسَبِكُمْ ودَفَعَ فِي نَسَبِكُمْ»: «قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ»(2) فبيّن بذكر أصلهم وهو الصلصال والحمأ المسنون المنتن ونسبهم منه أنّه ساقط عن درجة الافتخار به.

«وأَجْلَبَ بِخَيْلِهِ عَلَيْكُمْ»: أي صاح بكم وحثكم على المعاصي «وقَصَدَ بِرَجِلِهِ

سَبِيلَكُمْ»: كناية عن جنوده من أهل الباطل، وإجلابه بخليه عليهم جمعه لجنوده على محاربتهم أو على الوسوسة لهم والإضلال، وقصده لسبیلهم: أي السبيل الحق الَّذي هم سالكوه إلى الله كقوله تعالى حكاية عنه «لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ

ص: 173


1- سورة الأعراف: الآية 12
2- سورة الحجر: الآية 26

الْمُسْتَقِيمَ»(1) وهو كناية عن جذبه لهم إلى طرف الباطل عند توجّههم إلى طرف الحق وسبيل الدين.

«يَقْتَنِصُونَكُمْ بِكُلِّ مَكَانٍ» كقوله «ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ» الآیة(2) وهو كناية عن أخذه بوسوسته لهم من كلّ وجه وإغوائه لهم عن كلّ سبيل حقّ.

«ويَضْرِبُونَ مِنْكُمْ كُلَّ بَنَانٍ»: كناية أيضاً عن كونه هو وجنوده أسباباً معدة لقتلهم وقطعهم بأدي أعدائهم وعلى احتمال أن يراد بجنوده مخالفوه عليه السلام من أهل الضلال؛ فمعنی قصده: سبيلهم ابتلائهم بالفتن، والقتل، ومنعهم لهم بذلك عن إقامة حدود الله والاستقامة على سبيله واقتناصهم لهم بكل مكان وحيرتهم منهم كل بنان كناية عن استقصائهم وقتلهم، وإيذائهم ولفظ الاقتناص مستعار.

«لَا تَمْتَنِعُونَ بِحِيلَةٍ ولَا تَدْفَعُونَ بِعَزِيمَةٍ»: عن أنفسهم أي جدّ واجتهاد و صرامة في أمر لما سبق منهم من التخاذل والانفعال، وظاهر أنّهم لا يمتنعون من أفعاله بعد استحکام طمعه فيهم واستفحال سلطانه عليهم بحيلة.

«فِي حَوْمَةِ ذُلٍّ وحَلْقَةِ ضِيقٍ وعَرْصَةِ مَوْتٍ وجَوْلَةِ بَلَاءٍ»: كنّى بها عن الدنيا، إذ كانت محلّ ذهم والضيق عليهم وعرصة موتهم ومنصة بلائهم، والإضافات الأربع بمعنى اللام؛ ثمّ عاد إلى أمرهم بتطهير قلوبهم من رذيلة العصبية وأحقاد الجاهليّة فقال:

ص: 174


1- سورة الأعراف: الآية 16
2- سورة الأعراف: الآية 17

فَأَطْفِئُوا مَا كَمَنَ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ نِیرَانِ الْعَصَبِيَّةِ وأَحْقَادِ الْجَاهِلِيَّةِ»: استعار لفظ النيران لما يثور من حرارة الغضب وعنه العصبيّة، وقد علمت أنّ مبدأ تلك الحرارة القلب، ورشّح بذكر الإطفاء، ولك أن تسمّى تلك النيران حميّة كما سبق فلذلك فسرّها بها.

«فَإِنَّمَا تِلْكَ الْحَمِيَّةُ تَكُونُ فِي الْمُسْلِمِ مِنْ خَطَرَاتِ الشَّيْطَانِ ونَخَوَاتِهِ ونَزَغَاتِهِ

ونَفَثَاتِهِ»: والحميّة خبر المبتدأ، ويحتمل أن يكون صفة لتلك والخبر تكون، وظاهر أنّ الحميّة والعصبيّة الباطلة من خطرات الشيطان الَّتي يخطرها للنفوس، ونخواته الَّتي يحدثها فيها بتحسينه الغلبة والانتقام والترفّع والترأس على الخلق، ومن نزغاته الَّتي يفسد بها الناس، ونفثاته الَّتي يلقيها إلى أذهانهم لغرض الإفساد والإضلال، وأراد بإضافتها إلى الشيطان التنفير عنها. ثمّ أردفه بالأمر بالتذلل وأراد به التواضع فقال:

«واعْتَمِدُوا وَضْعَ التَّذَلُّلِ عَلَى رُءُوسِكُمْ»: كناية عن إطراحه وعدم العناية به لكونه رذيلة.

«وإِلْقَاءَ التَّعَزُّزِ تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ»: كناية عن إطراحه، وعدم العناية به لكونه فضيلة.

«وخَلْعَ التَّكَبُّرِ مِنْ أَعْنَاقِكُمْ»: استعار الخلع لطرح التكبر ونسبه إلى الأعناق ملاحظة لشبهه بما يلبس من قميص أو طوق فأمرهم بخلعه إذ ليسوا أهلاً له وليس مما ينبغي لهم وأن يلزموا التواضع بقوله: «واتَّخِذُوا التَّوَاضُعَ مَسْلَحَةً بَيْنَكُمْ وبَیْنَ عَدُوِّكُمْ إِبْلِيسَ وجُنُودِهِ»: لفظ المسلحة، ووجه المشابهة أنّه لمّا كان المتواضعون بسبب تواضعهم، وتخلَّقهم به حافظين لدينهم، وأنفسهم من دخول

ص: 175

إبليس وجنوده عليهم برذيلة الكبر وما يلزمها من سائر الرذائل المعدودة المهلكة أشبه تواضعهم المسلحة الَّتي هي محلّ الحفظ بها من غارات العدوّ، ولمّا علمت ما يلزم الكبر من الرذائل فلا يخفى عليك ما يلزم التواضع من أضدادها ونقائضها.

«فَإِنَّ لَهُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ جُنُوداً وأَعْوَاناً ورَجْلًا وفُرْسَاناً»: بيان لجنوده وإشارة إلى أنّ له من هذه الأُمّة جنوداً وأعواناً، ورجلاً وفرساناً اتّصفوا بصفته واستشعروا شعاره وهو الكبر فينبغي أن يجتنبوهم ويطرحواشعارهم.

«ولَا تَكُونُوا كَالْمُتَكَبِّرِ عَلَى ابْنِ أُمِّهِ مِنْ غَیْرِ مَا فَضْلٍ جَعَلَهُ اللهُ فِيهِ سِوَى مَا

أَلْحَقَتِ الْعَظَمَةُ بِنَفْسِهِ مِنْ عَدَاوَةِ الْحَسَدِ وقَدَحَتِ الْحَمِيَّةُ فِي قَلْبِهِ مِنْ نَارِ الْغَضَبِ

ونَفَخَ الشَّيْطَانُ فِي أَنْفِهِ مِنْ رِيحِ الْكِبْرِ»: أراد بالمتكبّر قابيل حين قتل أخاه هابيل عن كبر وحسد، وهو نهي عن الكبر أيضاً من بعضهم على بعض. وإلى قصّة قابيل وهابيل أشار القرآن الكريم بقوله «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا» إلی قوله «جَزَاءُ الظَّالِمِينَ»(1) والمنقول؛ في السبب أنّ حوّاء كانت تلد في بطن اثنين ذكراً وأنثى؛ فولدت في أوّل بطن قابیلن وأخته ثمّ مكثت سنين فولدت هابيل وأخته؛ فلمّا أدركوا أمر الله آدم أن ينكح قابيل أخت هابيل، وینکح هابيل أخت قابيل فرضي هابیل بذلك ولم يرض قابيل لأنّ أخته كانت أحسنهما فقال آدم: قرّبا قرباناً فأيّكما تقبّل قربانه زوّجتها منه(2)؛ وقيل: بل قال آدم هابیل و قابیل: إنّ ربّی

ص: 176


1- سورة المائدة: الآية 27 - 29
2- وهذا من بعض معتقدات جمهور المخالفين الذين ما زالوا عليها لهذا اليوم، دون النظر والتحقيق؛ ووردت في بعض مصادرهم کتفسير أبن زمنين: ج 2 ص 22. والغريب عندي أن الشيخ الطبرسي يروي هذا الخبر بعينه عن ابن عباس، ولم يرجع الخبر إلى مضانه؛ بل يورده مرسلاً في تفسير مجمع البيان: ج 3 ص 315؛ والأعجب من ذلك نقل الخبر بعينه الفيض الكاشاني في تفسير الصافي: ج 1 ص 417 عن المجمع برواية الإمام الباقر عليه السلام، في حن أن صاحب المجمع ينقل الرواية عن أبن عباس مرسلة، وعليه أيضاً اعتمد الشيخ الحويزي في تفسر نور الثقلین: ج 1 ص 436 وينسب أيضاً الرواية للإمام الباقر عليه السام؛ وكذلك الشيخ محمد بن محمد رضا القمي المشهدي في: تفسر كنز الدقائق وبحر الغرائب: ص 316 ؛ إلا أنه يذكر في نفس الصفحة رواية عن الإمام الرضا في قرب الأسناد: ص 161؛ وهو: «عن الرّضا عليه السّلام قال: حملت حوّاء هابيل، وأختاً له في بطن، ثمّ حمل في البطن الثّاني قابيل وأختا له في بطن، فزوّج هابيل الَّتي مع قابيل وتزوّج قابيل الَّتي مع هابيل، ثمّ حدث التّحريم بعد ذلك. وفي من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق رواية بوجه: ج 3 ص: 382 عن الإمام الباقر عليه السّلام «أنّ الله عزّ وجلّ أنزل على آدم حوراء من الجنّة فزوّجها أحد ابنيه وتزوّج الآخر ابنة الجانّ، فما كان في النّاس من جمال كثیر وحسن خلق فهو من الحوراء، وما كان فيهم من سوء خلق فهو من ابنة الجانّ». وأقول: الحق قول الإمام أمر المؤمنین عليه السام، وهو أفضل ما يستدل به: في وصف الأنبياء وطهارة مولدهم ونزاهة أصولهم مما يحقق كل البعد عن ما ذهب إليه جمهور المخالفن من الاعتقاد الفاسد. فقال: في وصفهم «فَاسْتَوْدَعَهُمْ فِي أَفْضَلِ مُسْتَوْدَعٍ وأَقَرَّهُمْ فِي خَیْرِ مُسْتَقَرٍّ تَنَاسَخَتْهُمْ كَرَائِمُ الأَصْلَابِ إِلَی مُطَهَّرَاتِ الأَرْحَامِ كُلَّاَ مَضَى مِنْهُمْ سَلَفٌ قَامَ مِنْهُمْ بِدِينِ الله خَلَفٌ»: نهج البلاغة الخطبة: رقم 94. وعى هذا تضمحل شبهة زواج الأختن من الأخوية، وإلا فعليه: يكون تناسل الأنبياء من سفاح والعياذ بالله تعالى عما يصفون

أوحي إليّ أنّه يكون من ذرّيّتي من يقرّب القربان فقرّبا قرباناً حتى تقرّ عيني إذا تقبّل قربانکما، وكان قابیل صاحب زرع وهابیل صاحب ضرع. فتقرّب قابیل بأردأ قمح عنده، وتقرّب هابيل بأجود حمل عنده و وضعا قربانهما على الجبل فدعا آدم فنزلت نار بيضاء من السماء فدفعت قربان هابيل دون قابيل لأنّ نيّته لم تكن خالصة في قربانه.

وقيل: لأنّه كان مصرّاً على كبيرة لا يقبل الله معها طاعة. فذلك قوله تعالى «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ

ص: 177

الآخَرِ»(1) فحسده قابيل وكان أكبر منه سنّاً.

فقال: لأقتلنّك قال هابيل: إنّما يتقبّل الله من المتّقين لئن بسطت إليّ يدك. الآية. إلى قوله «فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ»(2) أي لأخيه في الدنيا وللجنّة في الآخرة. وروى أنّه بقي زمانا يحمله على ظهره لا يدري ماذا يصنع به حتّى بعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواری سوأة أخيه، وروى أنّه كان غرابان قتل أحدهما الآخر واحتفر له ودفّته. فقال قابيل: «يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ» الآیة(3)، إذا عرفت ذلك فنقول: قال الثعلبي: إنّما أضافه إلى الأُمّ دون الأب لأنّ الولد في الحقيقة من الأُمّ: أي الولد بالفعل فإنّ النطفة في الحقيقة ليست ولدا بل جزء مادّي له ونسبة الولد إليه في الحكم دون الحقيقة، وقيل: لأنّ قابيل لقتله هابيل؛ فإنّه قطع نسبه عن أبيه كما قال تعالى في ولد نوح «إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ» وقيل: لأنّ شفقّة الأخ من الأُمّ أزيد من شفقّة الأخ من الأب لزيادة شفقّة الأمّ والأوّل أليق. وقد أشار بهذه الإضافة إلى جهة مساواته له في كونها من محلّ واحد لتبيّن قبح تكبّره عليه ليتنبّه السامعون لنهى الإنسان عن التكبّر على غيره من أبناء نوعه. وأكَّد ذلك بقوله: من غير ما فضل جعله الله فيه.

وفي قوله: سوى إلى ريح الكبر.

إشارة إلى جهات تكبّره عليه، وأسبابه، وهي العداوة عن حسد، وجعل تلك العداوة مسبّبة عن العظمة، وهو ظاهر کما علمت؛ فإنّ المتعظَّم معتقد لكمال

ص: 178


1- سورة المائدة: الآية 27
2- سورة المائدة: الآية 30
3- سورة المائدة: الآية 31

نفسه وأنّه أولى بكلّ كمال يليق به من غيره، وأنّه لا ينبغي أن تشاركه فيه أحد، وذلك يستلزم حسده للغير على ما يعتقده کالا يصل إليه كماعتقاد قابيل أنّه أولى بالأخت الحسناء من أخيه لكونه أكبر سنّاً منه إلى غير ذلك من الأسباب، وعن ذلك الحسد تكون الحميّة وثوران نار الغضب والعصبيّة، ولفظ النار مستعار کما سبق، ولفظ القدح ترشيح، وكذلك لفظ الريح مستعار لتلك الوساوس والخطرات الَّتي يلقيها إبليس في روع المتكبّر من كونه أولى فأحقّ بذلك الكمال ونحوه، وكذلك لفظ النفخ لإلقاء تلك الخطرات و نفثها.

«الَّذِي أَعْقَبَهُ اللهُ بِهِ النَّدَامَةَ»: المشار اليه كما ذكرناه.

«وأَلْزَمَهُ آثَامَ الْقَاتِلِنَ إِلَی يَوْمِ الْقِيَامَةِ»: إشارة إلى مقتضى قوله تعالى «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا»(1) أي يكون عقابه في الغلظ، والشدّة، والتأبيد كعقاب قاتل الناس جميعاً كما قال تعالى «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا»(2) الآية، وكذلك مقتضى قول الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «من سنّ سنّة سيّئة فعليه وزرها ووزر من يعمل بها إلى يوم القيامة»(3). وقابيل هو من أوّل من سنّ القتل؛ فلا جرم لزمه آثام القاتلين إلى يوم القيامة، وكذلك قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: ما من نفس فقتل ظلما إلَّا كان على ابن آدم الأوّل كفل منها ذلك بأنّه أوّل من سنّ القتل؛ ثمّ شرع في تنبيههم على إمعانهم وتشمّرهم في البغي والإفساد في الأرض فقال:

ص: 179


1- سورة المائدة: 32
2- سورة النساء: الآية 93
3- المصنف لأبن أبي شيبة الكوفي: ج 3 ص 3؛ الأمالي للشيخ المفيد: ص 251؛ إحياء علوم الدين للغزالي: ج 11 ص 197؛ شفاء السقام للسبكي: ص 331

«أَلَا وقَدْ أَمْعَنْتُمْ فِي الْبَغْيِ وأَفْسَدْتُمْ فِي الأَرْضِ مُصَارَحَةً للهِ»: والخطاب أشبه أن يكون للبغاة من أصحاب معاوية وهم الَّذين كاشفوا الله بمحادّة أوليائه ومعاداة دينه وبارزوا المؤمنين بالمحاربة، مصارحة من الصريح أي الظاهر لله.

«بِالْمُنَاصَبَةِ ومُبَارَزَةً لِلْمُؤْمِنِنَ بِالْمُحَارَبَةِ»: وهما مصدران سدّا مسدّ الحال؛ ثمّ كرّر التحذير من الله تعالى في الكبر وأضافه إلى الحميّة ليتميّز الكبر المحمود.

«فَاللهَ اللهَ فِي كِبْرِ الْحَمِيَّةِ وفَخْرِ الْجَاهِلِيَّةِ»: فإنّ من التكبّر والفخر ما هو محمود کتکبّر الفقراء على أهل الدنيا وفخرهم كما ورد في الخبر مرفوعاً ما احسن تواضع الأغنياء للفقراء وأحسن منه تكبر الفقراء على الأغنياء ثم أخذ في ذكر ما نفرّ عنه من الأوصاف فقال: «فَإِنَّهُ مَلَقِحُ الشَّنَئَانِ»: وهو البغض والعداوة، ولفظ الملاقح مستعار من الفحول للكبر والفخر، ووجه المشابهة كونهما مظنّة وجود البغضاء بين الناس وسبب له كما أنّ الفحول سبب الإلقاح، وأمّا على تقدير كونه مصدراً فاستعارة لإثمار الفخر للبغضاء للمشابهة المذكورة.

ثمّ إنّه أخبر بذلك المصدر نفسه عن الفخر حيث جعله خبر إنّ فكأنّه قال: فإنّ الفخر لقح الشنئان، ولقح الشنئان نفسه ليس عين الفخر بل من ثماره ولوازمه فكان إطلاقاً لأسم السبب على المسبّب وهو في الدرجة الثانية، وإنّما ذكره بلفظ الجمع نظراً إلى تكثّر معنى الفخر في موارده وهي أذهان المتكبّرين.

«ومَنَافِخُ الشَّيْطَانِ»: جمع منفخ مصدر نفخ، وظاهرٌ أن أفراد ماهيّة الفخر المنتشرة في الأدمغة نفخات ونفثات من إبليس ويقال في المتكبر والمترّفع قدره: قد نفخ الشيطان في أنفه ووصف تلك المنافخ بقوله: «الَّتِي خَدَعَ بِهَا الأُمَمَ الْمَاضِيَةَ والْقُرُونَ الْخَالِيَةَ»: وصورة الخداع هاهنا كونهم أراهم الباطل في صورة

ص: 180

الحقّ کترینه الكبر وتحسينه للوازمه، وتخييل أنّ ذلك هو الأصلح، والأنفع مع أنّه في نفس الأمر ليس بحقّ حتّى كأن ذلك سبباً لارتكابهم في ظلمات الجهالات ومهاوي الضلالات وإلى ذلك أشار بقوله:

«حَتَّى أَعْنَقُوا فِي حَنَادِسِ جَهَالَتِهِ ومَهَاوِي ضَلَلَتِهِ»: استعار وصف الإعناق لما يتوهّم من شدّة دخولهم في ظلمات الجهالات وقوّة سيرهم فيها، وكذلك لفظ الحنادس مستعار لما يتخيّل من ظلمة الجهل، ولفظ المهاوي مستعار لما يتخيّل من کون الضلالة وطرقها محالّ للهويّ عن أفق الكمال ومدارج السعادة، وأضاف الجهالة والضلالة إليه إضافة للمسبّب إلى السبب.

«ذُلُاً عَنْ سِيَاقِهِ سُلُساً فِي قِيَادِهِ»: انتصابهما على الحال من الضمير في أعنفوا: أي أسرعوا سهلي الانقياد لسوقه.

«أَمْراً»: منصوب بفعل مضمر تقديره فاعتمد أمراً.

«تَشَابَهَتِ قُلُوبُ فِيهِ وتَتَابَعَتِ الْقُرُونُ عَلَيْهِ»: وهو الفخر ونفخ الشيطان والإعناق في جهالته وضلالته.

«وكِبْراً تَضَايَقَتِ الصُّدُورُ بِهِ»: کنی به عن كثرته وعظمته ثم عقب التحذير من طاعته ساداتهم وكبرائهم على طاعتهم فيما حرم الله عليهم وخروجهم بذلك عن سبيل الله وذلك قوله: «أَلَا فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ طَاعَةِ سَادَاتِكُمْ وكُبَرَائِكُمْ الَّذِينَ تَكَبَّرُوا عَنْ حَسَبِهِمْ وتَرَفَّعُوا فَوْقَ نَسَبِهِمْ»: قال عز من قائل حكاية لما يقولونه يوم القيامة «وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا»(1) والتابعين على متابعة متبوعهم في

ص: 181


1- سورة الأحزاب: الآية 67

قوله حكاية عنهم «تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ»(1) وحسبهم ونسبهم إشارة إلى الطين، والصلصال من الحمأ المسنون، والماء المهين الَّذي هو أصلهم، ولمّا كان من شأنه أن لا فخر فيه، ولا تكبّر لمن هو أصل له ثمّ تكبّروا فقد تكبّروا عن ذلك الأصل وترفّعوا عليه وتركوا ما ينبغي لهم من النظر إليه والتواضع لحسبه، وإليه أشار القائل: ما بال من أوّله نطفة، وآخره جيفة يفخر، يصبح لا يملك فقدهم مايرجوا ولا تأخير مايحذر.

«وأَلْقَوُا الْهَجِينَةَ عَلَى رَبِّهِمْ»: أي نسبوا ما في الإنسان من القبائح بزعمهم إلى ربّهم كما قيل:

كأن أحدهم يقول: في الافتخار على غيره: أنا عربي وأنت أعجميّ؛ فإنّ ذلك عيب وإزراء لخلق الله فهو عيب على الله ونسبة للقبح إليه، وهم في ذلك مقتفون الأثر إبليس حيث قال: أأسجد لبشر خلقته من صلصال؛ إذ كان ذلك عيباً خلق الله ونسبة الفعل القبيح إليه.

«وجَاحَدُوا اللهَ عَلَىَ مَا صَنَعَ بِهِمْ»: ووجه المجاحدة هنا أنّهم لمّا غفلوا عن الله تعالى وجحدوا حقّه لم يشكروه على نعمائه وصنيعه بهم، ولمّا كان الشكر يعود إلى الاعتراف بالنعمة كان الجحد والإنكار منهم عبارة عن عدم ذلك الاعتراف لغفلتهم، وأيضاً؛ فإنّ الشکر کما يكون بالاعتراف بالنعمة كذلك يكون بالإتيان بما يوافق ذلك الاعتراف، ويدلّ عليه من الأقوال، والأفعال الصالحة المطلوبة للمنعم والموافقة لأوامره، ونواهيه، ويسمّيان شكراً أيضاً فكان الإصرار على تركهما وعدم الأتيان بهما جحداً لنعمة الله، وذلك هو مجاحدتهم لله ؛ فأما مجاحدة الله لهم فيعود

ص: 182


1- سورة سورة الشعراء: الآية 98

إلى ما يتخيل من إنكاره عليهم جحدهم، وتقريره عليهم صنعه بهم، وتذكير نعمته في حقّهم، وما مصدريّة، ويحتمل أن تكون بمعنى الَّذي والعائد من الصلة محذوف: أي ما صنعه بهم.

«مُكَابَرَةً لِقَضَائِهِ»: أي مقابلة لحكمه عليهم بوجوب شكره؛ ولزوم طاعته بردّ ذلك الحكم وإنكاره، وعدم الانقياد له، وحقيقة المكابرة يعود إلى المقابلة بالقول في الأمر والمنازعة فيه على وجه المغالبة والتكبّر على مقابلة له.

«ومُغَالَبَةً لِآلَائِهِ»: والمغالبة هنا لشبه الغاية من المجاحدة وليست غاية على الحقيقة، وبيان ذلك أنّه لمّا كان من لوازم المجاحدة، وكفران النعمة زوالها، وانقطاعها كانوا بفعلهم لتلك المجاحدة وذلك الكفران کالمغالبين للنعم والقاصدين لزوالها وعدمها؛ إذ كان زوالها لازما لفعلهم؛ «فَإِنَّهُمْ قَوَاعِدُ أَسَاسِ الْعَصَبِيَّةِ ودَعَائِمُ أَرْكَانِ الْفِتْنَةِ وسُيُوفُ اعْتِزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ»: فيه تنبيه على مايلزم ساداتهم من الرذائل المنقرة، واستعار لفظ الأساس للكبر.

إذ كان مبدأ للعصبيّة وأصلاً لها، ولفظ القواعد لهم باعتبار قيام الكبر بهم وثباته فيهم كما يقوم الأساس بقواعده وهي الصخور العظيمة ونحوها. وكذلك استعار لفظ الأركان الأجزاء الفتنة وأبعاضها، ولفظ الدعائم لهم باعتبار قیام الفتن بهم واعتمادها عليهم كما يعتمد أركان البيت و جوانبه بدعائمه، واستعار لفظ السيوف لهم باعتبار صرامة عزومهم ومضیّهم عند الإعتزاء فيما يعتزي له کمضيّ السيوف وصرامتها في مضاربها. قيل: ويحتمل أن يريد وأصحاب سيوف إعتزاء الجاهليّة، وذلك عند قولهم: يا لفلان کما نقل في سبب الخطبة، والاعتزاء منهيّ عنه لكونه مبدأ للفتن، وروى أنّ أبيّ بن كعب سمع رجلاً يقول: يا لفلان فقال: عضضت بهن أبيك فقيل له: يا أبا المنذر ماکنت فاحشاً. قال: سمعت

ص: 183

رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول: «من تعزّی بعزاء الجاهليّة فأعضّوه بهن أبيه ولا تكنّوا، والعزاء الاسم من الاعتزاء، ثمّ عاد إلى الأمر بتقوى الله»(1)

«فَاتَّقُوا اللهَ ولَا تَكُونُوا لِنِعَمِهِ عَلَيْكُمْ أَضْدَاداً»: نهي لهم عن ارتكاب ما يزيل نعمة الله عنهم وتضادها فلا يجامعها من كفر انها ومقابلتها بسائر المعاصي الَّتي يستلزم تبديل النعمة نقمة.

«ولَا لِفَضْلِهِ عِنْدَكُمْ حُسَّاداً»: استعار الحسّاد هنا باعتبار کفرهم للنعم المزيل بها لحساد النعمة باعتبار حسدهم المزيل لها.

«ولَا تُطِيعُوا الأَدْعِيَاءَ»: قيل مراده الَّذين ينسبون إلى الإسلام ظاهراً، وهم منافقون.

أقول ويحتمل أن يريد بهم حقيقة الأدعياء، وهم الَّذين ينتسبون إلى غير آبائهم ممّن لا دين له وقد ترأس في قبيلته التي انتسب إليها ثمّ وصفهم فقال:

«الَّذِينَ شَرِبْتُمْ بِصَفْوِكُمْ كَدَرَهُمْ»: فاستعار الصفو، وهو خالص الشرب إمّا دينهم وإيمانهم؛ أو لخالص دنیاهم وصافيها، ولفظ الكدر للنفاق، وسائر الرذائل النفسانيّة الَّتي تخالط إيمان المرء كالحسد، ونحوه فتكدّره، وتكدّر بسبب ذلك ما صفی من دنياه لسبب ثوران الفتنة عنها، ورشّح بذكر الشرب، والمعنى أنّكم مزجتم بایمانكم نفاقهم فشربتموه به کما يمزج بالماء الشراب فیساغ به، وإنّما قال:

ص: 184


1- الظاهر أن في الحديث تصحيف: يُنظر: مسند احمد بن حنبل؛ فيه بلفظ مغایر قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا إذا سمعتم من يعتزي بعزاء الجاهلية فاعضوه ولا تکنوا: کما هو نصه في المسند: ج 5 ص 136؛ السنن الكبرى للنسائي: ج 2 ص 242، وبعظ المصادر ذكرت الحديث، ولعل المراد منها: أن الموعظة تكون بالكلمات؛ (هّن) (وبأبيه) وليست بالكنية والله أعلم

شربتم بصفوکم کدرهم، ولم يقل: بکدرهم صفوكم لأنّ غرضه أن يقرر عليهم شرب الكدر بالقصد الأوّل، ولا يتمّ ذلك الغرض إلَّا بعبارته عليه السّلام، والباء هنا للمصاحبة، وكذلك قوله: «وخَلَطْتُمْ بِصِحَّتِكُمْ مَرَضَهُمْ»: وأراد بمرضهم نفاقهم وكبرهم وسائر الرذائل النفسانيّة فيهم، وبالصحّة سلامة نفوس المؤمنين بأيمانهم عن شوب تلك الرذائل ووبّخهم بتخليطهم إيمانهم بها.

«وأَدْخَلْتُمْ فِي حَقِّكُمْ بَاطِلَهُمْ»: أراد بالحقّ الإيمان والجدّ في العمل الصالح أو ما يستحقّونه من الملك والخلافة في الأرض، وبباطل أولئك الكذب والنفاق واللعب وسائر الرذائل أو ما لا يستحقّ لهم من أمر الدنيا، وذلك الخلط، والإدخال بسبب تخاذهم عن نصرته عليه السّلام وعدم اجتماعهم على ما ينبغي لهم من طاعته. ثمّ عاد إلى وصف أولئك الكبراء بأوصاف فقال:

«وهُمْ أَسَاسُ الْفُسُوقِ»: وجه الاستعارة كونهم أصلاً للفسوق يقوم بهم کما يقوم البناء بأساسه.

«وأَحْاَسُ الْعُقُوقِ»: الأحلاس جمع حلس وهو كأس رقيق تحت الردعة يكون على ظهر البعير، ووجهه ملازمتهم للعقوق و قطع الرحم کما يلزم حلس البعير ظهره وروي أساس بسكون السين بوزن أحلاس وهو جمع أسس کحمل وأحمال، وهو الأُس(1).

«اتَّخَذَهُمْ إِبْلِيسُ مَطَايَا ضَلَالٍ»: استعارهم المطايا باعتبار كونهم أسباباً موصلة إلى الضلال لمن اتّبعهم، واعتمد أقوالهم نيابة عن إبليس، فكانوا في ذلك

ص: 185


1- الأس: أصل البناء، وكذلك الأساس، والأسس مقصور منه، وجمع الأس إساس مثل عس وعساس، وجمع الأساس أُسس مثل قذال وقذل، وجمع الأسس آساس مثل سبب وأسباب. وقد أسست البناء تأسیساً؛ يُنظر الصحاح للجوهري: ج 3 ص 903

المطايا الَّتي يركبها الناس ويقودها في طرق الضلال.

«وجُنْداً بِهِمْ يَصُولُ»: يحمل «عَلَى النَّاسِ»: وذلك باعتبار كونهم جاذبين للخلق إلى طريقته داعين لهم إلى الهلاك الأبد من جهته.

«وتَرَاجِمَةً يَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ»: ولفظ التراجمة مستعار لهم باعتبار نطقهم بما يريده إبليس من الوساوس للناس فأشبهوا التراجمة له. ثمّ أشار إلى کیفیّات اتّخاذهم مطايا وجنداً وتراجمة فقال: «اسْتِرَاقاً لِعُقُولِكُمْ»: بالأقوال الكاذبة والأفعال الباطلة، والعادات المضلَّة جذباً إلى محبّة الدنيا، وباطلها، والتفاتاً لهم إليها عمّا لأجله خلقوا وإليه دعوا.

«ودُخُولً فِي عُيُونِكُمْ»: بزينة الحياة الدنيا أيضاً وسائر ما يجذب إليها من جهة حسن البصر.

«ونَفْثاً فِي أَسْاَعِكُمْ»: وهو إلقاء الوساوس بالأقوال الواصفة للدنيا وباطلها والمنفّرة عن الآخرة وسائر ما يجذب عن الأفق الأعلى من الجواذب السمعيّة. وانتصب استراقاً ودخولاً ونفثاً على المصدر كلّ عن فعله: أي يسترق عقولكم استراقاً. وكذلك الآخران.

فَجَعَلَكُمْ مَرْمَى نَبْلِهِ: أي غرضاً، واستعار النبل لجزئيّات وساوسه الرادية لكلّ من أصابته إلى مهاوي الهلاك کما یردي النيل من رمى به، ولفظ المرمى باعتبار كونهم مقصداً لوساوسه کالهدف.

ومَوْطِئَ قَدَمِهِ: استعير لهم باعتبار كونهم مظنة إذلاله والآهانة منه ورشح بذكر القدم إذ الموطئ يستدعي موطأ به هو القدم.

ص: 186

ومَأْخَذَ يَدِهِ: استعار المأخذ باعتبار كونهم مقتنصين في حبائل وساوسه، ورشّح باليد إذ من شأن المأخوذ أن يكون أخذه باليد، ثم أخذ بأمرهم، بالاعتبار بحال الماضين، وما أصاب الأمم المستكبرين منهم من بأس الله وصولاته وعقوباته ومصارعهم، وبحال الأنبياء على جلالة قدرهم في التواضع لمن ارسلوا إليه من المتكبّرين، وحال اختیار الله تعالى خلقه بأحجار نصبها بيتاً لعبادته اختباراً للمتواضعين له وتميزاً لهم من المستكبرين عن عبادته.

إلى غير ذلك، وذلك قوله: فَاعْتَبِرُوا بِمَا أَصَابَ الأُمَمَ الْمُسْتَكْبِرِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ

بَأْسِ اللهِ وصَوْلَتِهِ ووَقَائِعِهِ ومَثُلَاتِهِ: جمع وقيعة وهي القتال حاصلة أمره بالاعتبار بما أصاب المستكبرين من سابق الأمم من عقوبات الله ووجه الاعتبار أن يتفکَّر العاقل في حال أولئك فيرى ما أصابهم إنّما هو بسبب استعدادهم بالاستكبار عن طاعة الله والرفع على عباده كما أشار إليه تعالى «قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ» إلى قوله «فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ»(1) ونحوه في القرآن كثير فينتقل ذهنه منه إلى نفسه ويقيس حال استکباره على استكبارهم فيما يلزمه من أمثال العقوبات التي نزلت بهم.

واتَّعِظُوا بِمَثَاوِي خُدُودِهِمْ ومَصَارِعِ جُنُوبِهِمْ: من التراب ومحالّ انصراعهم في القبور ليحصل لهم بذلك الانزجار عن الكبر.

إذ كانت عاقبته وغايته ذلك الهوان والذل في تلك المثاوي والمصارع.

واسْتَعِيذُوا بِاللهِ مِنْ لَوَاقِحِ الْكِبْرِ كَمَا تَسْتَعِيذُونَهُ مِنْ طَوَارِقِ الدَّهْرِ: استعار اللواقح لما يستلزم الكبر من أسبابه، وأراد استعاذة كثيرة خالصة كاستعاذتكم من

ص: 187


1- سورة الأعراف: الآية 76 - 78

طوارق الدهر وآفاته.

فَلَوْ رَخَّصَ اللهُ فِي الْكِبْرِ لأَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ لَرَخَّصَ فِيهِ لِخَاصَّةِ أَنْبِيَائِهِ ومَلائِكَتِهِ

ولَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَرَّهً إِلَيْهِمُ التَّكَابُرَ: التعاظم ورَضِيَ لَهُمُ التَّوَاضُعَ: استدلال على تحريم الكبر مطلقاً، وأنّه لا رخصة فيه لأحد من خلق الله بقياس شرطيّ متّصل(1)، ووجه الملازمة فيه أنّ الأنبياء خواصّ الله وأحبّاؤه وأهل طاعته فلو كان له فيه رخصة لم يجعلها إلَّا لهم، وتقدير الاستثناء فيه لنقيض التالي: لكنّه لم يرخّص فيه لهم فينتج أنّه لم يرخص فيه لأحد من عباده، لكنّه حذف هنا استثناء النقيض واستثنی بعض لوازمه وهو تكريهه التكابر إليهم، وذلك بوعيده للمستکبرین على الكبر؛ ثمّ برضى التواضع لهم، وذلك بأمرهم فيه كما قال تعالى «وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ»(2) ونحوه.

ثم أشار إلى امتثالهم لما أمرهم به من التواضع فقال:

«فَأَلْصَقُوا بِالأَرْضِ خُدُودَهُمْ وعَفَّرُوا فِي التُّرَابِ وُجُوهَهُمْ»: فإلصاق خدودهم بالأرض وتعفر وجوههم إشارة إلى معاملتهم له في عبادة أنفسهم.

«وخَفَضُوا أَجْنِحَتَهُمْ لِلْمُؤْمِنِنَ وكَانُوا قَوْماً مُسْتَضْعَفِينَ»: إشارة إلى امتثالهم ومعاملتهم له في خلقه، ولفظ الأجنحة مستعار من الطائر ليد الإنسان و جانبه باعتبار ما هو محلّ البطش والنفرة.

وخفض الجناح كناية عن لين الجانب. وقال ابن عبّاس في قوله تعالى

ص: 188


1- قياس الشرط المتصل من القياسات المنطقية: باب المؤلف من المنفصلات والمتصلات / تحويل المتصلت إلى منفصله: يُنظر المنطق المظفر: ص 278
2- سورة الحجر: الآية 88

«وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ»(1) أي ارفق بهم ولا تغلظ عليهم قال: والعرب تقول لمن كان ساکناً وقورا: إنه خافض الجناح.

(2)«فاخْتَبَرَهُمُ اللهُ بِالْمَخْمَصَةِ»: المجاعة(3) «وامْتَحَنَهُمْ بِالْمَخَاوِفِ ومَّحَصَهُمْ بِالْمَكَارِهِ»: فيه إشارة إلى أنّه أعدّهم بأنواع الشقاوة الدنيويّة من الجوع والمشاقّ والمخاوف والمكاره، والتنفير بها عن الدنيا للإقبال عليه تعالى ومحبّة ما عنده من الثواب الجزيل وقد علمت معنی ابتلائه تعالى لعباده واختباره لهم غير مرّة.

«فَلَا تَعْتَبِرُوا الرِّضَا والسُّخْطَ بِالْمَالِ والْوَلَدِ جَهْلًا بِمَوَاقِعِ الْفِتْنَةِ والِخْتِبَارِ فِي مَوْضِعِ الْغِنَى والِقْتِدَارِ»: أي لا تعتبروا رضاه تعالى عن عباده بإعطائه لهم المال والولد وسخطه عليهم بمنعه لهم ذلك، وكأنّه جواب اعتراض مقدّر كأنّ قائلاً قال: فإذا كانوا هؤلاء خواصّه وأهل طاعته ورضاه فلم امتحنهم بالشدائد وابتلاهم بالمخاوف والمكاره ولم يعطهم الأموال والأولاد کما قال فرعون لموسى عليه السلام: فلو لا ألقى عليه أساورة من ذهب، وكما قالت كفّار قريش: أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنّة نأكل منها فأجاب عليه السّلام بأنّ ذلك الوهم للجهل بمواقع الفتنة والاختبار في مواضع الغنى والإقتار: أي أنّ الاختبار کما يكون بالفقر والمشاقّ والمكاره كذلك يكون بالمال والولد، وليس المال والولد من الخيرات الَّتي تعجّل في الدنيا لمن يعطي إيّاهما كما يزعمون، واستشهد على ذلك بقوله:

ص: 189


1- سورة الحجر: الآية 88
2- ورد في بعض متون النهج: قَدِ
3- ورد في بعض متون النهج: وابْتَلَاهُمْ بِالْمَجْهَدَةِ

فقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَ «أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ»(1)»: أي يحسبون أنّا نعجّل في تقديم ثواب أعمالهم لرضانا عنهم حتّى بسطناهم الرزق وأكثرنا لهم أولادهم بل لا يعلمون أنّ ذلك استدراج هم من الله، ومحنة، وبلاء، وجهلاً نصب على المفعول له.

«فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ الْمُسْتَكْبِرِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ بِأَوْلِيَائِهِ الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي

أَعْيُنِهِم»: كلام منقطع يستدعی ابتداء يكون معلَّلاً به. وقد فصّل الرضيّ رحمه الله، بينه وبين ما قبله، وفيه تنبيه على بعض اسراره تعالى في خلقه لسائر أنبيائه وأوليائه المستضعفين، وهو أن يبتلى بهم المستكبرين عن عبادته في أرضه کما سيشير إليه عليه السّلام في الحكمة في خلقهم كذلك.

ثمّ ضرب مثل ذلك الابتلاء في موسى وهارون عليهما السّلام حين دخلا على فرعون يدعوانه إلى الله فقال: «ولَقَدْ دَخَلَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ ومَعَهُ أَخُوهُ هَارُونُ

عَلَى فِرْعَوْنَ وعَلَيْهِاَ مَدَارِعُ الصُّوفِ»: جمع مدرعة وهو الكساء «وبِأَيْدِيهِاَ الْعِصِيُّ

فَشَرَطَا لَهُ إِنْ أَسْلَمَ بَقَاءَ مُلْكِهِ ودَوَامَ عِزِّهِ فَقَالَ أَلَی تَعْجَبُونَ مِنْ هَذَيْنِ يَشْرِطَانِ

لِي دَوَامَ الْعِزِّ وبَقَاءَ الْمُلْكِ وهُمَا بِمَا تَرَوْنَ مِنْ حَالِ الْفَقْرِ والذُّلِّ فَهَاَّ أُلْقِيَ عَلَيْهِمَا

أَسَاوِرُ مِنْ ذَهَبٍ إِعْظَاماً لِلذَّهَبِ وجَمْعِهِ واحْتِقَاراً لِلصُّوفِ ولُبْسِهِ»: روى الطبريّ في تاريخه: أنّ موسى وهارون قدماً مصر حين بعثهما الله إلى فرعون؛ فمكثا سنتين يغدوان على بابه ویر وحان يلتمسان الإذن عليه؛ فلا يعلم بهما، ولا يجتري أحد أن يخبره بشأنهما وكانا يقولان في الباب: إنّا رسولا ربّ العالمين إلى فرعون حتّی دخل عليه بطَّال له يلاعبه، ويضحکه فقال: أيّها الملك إنّ ببابك رجلاً يقول قولاً عجيباً، ويزعم أنّ له إلهاً غيرك، فقال: أدخلوه. فدخل وبيده عصاه ومعه

ص: 190


1- سورة المؤمنون: الآية 55 - 56

أخوه هارون فقال: أنا رسول ربّ العالمین، وذكر تمام الخبر(1)؛ وصريح قصّتهما

ومحاورتهما مستوفي في القرآن الكريم كسورة الشعراء والقصص وغيرهما، والَّذي ذكره عليه السّلام منها واضح بیّن، وقال كعب: كان موسى عليه السّلام من

رجال شنوءة(2)، وكان آدم طوالا، وكان أخوه هارون أطول منه وأكثر لحا وأشدّ

بياضا وأغلظ ألواحا وأسنّ من موسى بثاث سنين، وكانت في جبهة هارون

شامة وفي طرف أرنبة موسى شامة وعى طرف لسانه شامة، ولم يعرف أحد قبله

ولا بعده كذلك. قال: وهى العقدة الَّتي ذكرها الله تعالى. قال: وفرعون موسى

هو فرعون يوسف عليه السّلام عمّر أكثر من أربع مائة سنة. واسمه الوليد بن مصعب، وأنكر غيره ذلك، وقالوا: هو غيره، وقبض هارون قبل موسى وهو ابن مائة وسبع عشره سنة، وبقى موسى بعده ثاث سنين، ومات موسى في سنّه يوم مات. فأمّا شرطهما له بقاء ملكه بإسامه فلما علمته من كون النواميس الشرعيّة، والتمسّك بها، والعمل بقوانينها ناظماً لحال أبناء النوع الإنسانيّ وسبباً لصاح معاشهم ومعادهم.، وبانتظام شمل مصلحتهم باستعمال تلك القوانین تكون بقاؤهم، وثبات دولهم، وملكهم، ودوام عزّهم؛ فأمّا استبكاره لشرطهما له دوام العزّ والملك بإسلامه، وتعجّبه منهما في ذلك فمستنده اعتقاده الجهل أنّ مبدأ التمكَّن من ذلك الشرط، والقدرة عى الوفاء به هو الغنى، وجمع المال؛ فلذلك احتقرهما من حيث كانا بزيّ الفقر، والذلّ، ولبس الصوف، وليس عليهما آثار

ص: 191


1- تاريخ الطبري لمحمد بن جرير الطبري: ج 1 ص 285
2- شنوءة: (الرجل الرأس) بفتح الراء وكسر الجيم دهين الشعر مسترسله وقال: ابن السكيت شعر رجل أي غير جعد (كأنه من رجال شنوءة) بفتح المعجمة وضم النون وسكون، الواو بعدها همزة؛ ثم هاء تأنيث حي من اليمن ينسبون إلى شنوءة وهو عبد الله بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نر بن الأزد، ولقب شنوءة لشنئان كان بينه وبن أهله، والنسبة إليه شنوئي بالهمز بعد الواو وبالهمز بغر؛ تحفة الأحوذي المباركفوري: ص 446

الغني، والمال وهو التحلَّي بأساورة الذهب؛ فكان إعظام الذهب، ولبسه الَّذي هو شعار الغنيّ، واحتقار الصوف، ولبسه ممّا هو شعار الفقر سبباً حاملا له على ذلك الاستكبار والتعجّب.

«ولَوْ أَرَادَ اللهُ سُبْحَانَهُ بأَنْبِيَائِهِ حَيْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ كُنُوزَ الذِّهْبَانِ»: بفتح الدال و کسرها: جمع ذهب «ومَعَادِنَ الْعِقْيَانِ»: الذهب «ومَغَارِسَ الْجِنَانِ وأَنْ يَحْشُرَ

مَعَهُمْ طُيُورَ السَّمَاءِ ووُحُوشَ الأَرَضِ لَفَعَلَ ولَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ الْبَاَءُ وبَطَلَ الْجَزَاءُ واضْمَحَلَّتِ الأَنْبَاءُ ولَمَا وَجَبَ لِلْقَابِلِینَ أُجُورُ الْمُبْتَلَیْنَ ولَا اسْتَحَقَّ الْمُؤْمِنُونَ ثَوَابَ الْمُحْسِنِينَ ولَا لَزِمَتِ الأَسْاَءُ مَعَانِيَهَا»: قياس إقترانيّ(1) من الشكل الأوّل من متّصلتين: إحداهما: قوله: ولو أراد الله إلى قوله: لفعل.

والثانية: قوله: (ولو فعل لسقط البلاء) إلى آخره، والنتيجة أنّه لو أراد الله بأنبيائه ذلك لزمت المحالات المذكورة بيان الملازمة في الصغرى أنّ الأمور المعدودة وهي فتح کنوز الذهب و معادنه ومغارس الجنان وحشر الطير والوحش أمور ممكنة في أنفسها، والله سبحانه قادر على جميع الممكنات وعالم بها فلو حصل مع قدرته عليها إرادة وقوعها عن قدرته كان مجموعها مستلزماً لوقوعها عنها، وأمّا الكبرى فإنّه جعل مقدّمتها وهو فعله لتلك الأمور ملزوماً لأمور خمسة: أحدها: أنّه كان يسقط البلاء: أي ذلك البلاء المشار إليه، وهو بلاء المتكبّرين بالمستضعفين من أولياء الله وهو ظاهر إذ لا مستضعف يبتلون به إذن، وذلك أنّ الأنبياء عليه السّلام كانوا ينقطعون إلى الدنيا حينئذ عن جناب الله فينقطع عنهم الوحي کما سیشير إليه عليه السّلام وحينئذ ينقطع الابتلاء بهم، وبما أتوا به من التكليف، وكذلك يسقط

ص: 192


1- قیاس اقتراني: وهو من القياسات المنطقية: باب اقسام القياس بحسب مادته؛ يُنظر: المنطق للشيخ محمد رضا مظفر ص: 239

بلاء الأنبياء بالفقر، والصبر على أذى المسكنة من المكذّبین لهم بالرب والقتل.

الثاني: وكان يبطل الجزاء: أي جزاء العبادات، والطاعات إمّا لسقوط الباء بها أو

لأنّ الطاعات إذن تكون عن رهبة أو رغبة فيسقط الجزاء الأُخرويّ عليها وكذلك

يبطل جزاء الأنبياء الَّذي كانوا يستحقّونه بحسب فقرهم وصبرهم عليه.

الثالث: وكان تضمحلّ الأنباء: أي الأخبار الواردة من قبل الله تعالى على ألسنة رسله والوحي إليهم، وذلك أنّك علمت أنّ الدنيا والآخرة ضرّتان بقدر ما يقرب من إحداهما يبعد من الأخرى، والأنبياء عليهم السّلام وإن كانوا أكمل الخلق نفوساً وأقواهم استعدادا لقبول الكمالات النفسانيّة كما أشرنا إليه إلَّا أنّهم محتاجون أيضاً إلى الرياضة التامّة بالإعراض عن الدنيا وطيّباتها وهو الزهد الحقيقيّ، وإلى تطويع نفوسهم الأمّارة بالسوء لنفوسهم المطمئنّة بالعبادة التامّة كما هو المشهور من أحوالهم عليهم السّلام فإنّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كان يربط على بطنه الحجر من الجوع ويسمّيه المشبع لا لأنّه كان لا يقدر على شيء يأكله، وكان يرقع ثوبه لا لعدم قدرته عى ثوب يلبسه، وكان يركب الحمار العاري ويردف خلفه لا لعجزه عن فرس يركبه وغام يمشى معه، وكيف وقد

توفّی وبيده هذه القطعة العظيمة من المعمورة، بل ذلك وأمثاله ممّا سيحكيه عنه

صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في آخر هذه الخطبة زهادة في الدنيا وإعراض عن متاعها وزينتها لأنّه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وجد من الكالات العقليّة والموعودة ما

هو أشرف وأعلى من هذه الكمالات الحسيّة الفانية، واعلم أنّ الوصول إلى تلك

الكمالات لا يتمّ ولا يتحقّق إلَّا بالإعراض عن هذه فرفض به ما هو أخسّ في

جنب ما هو أشرف ولذلك قام صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في العبادة حتّى تورّمت

قدماه.

ص: 193

فقيل له: يا رسول الله أليس قد بشّرك الله بالجنّة فلم تفعل ذلك قال: «أفلا

أكون عبدا شكوراً»(1).

وذلك لعلمه أن الاستعداد بالشكر يفيد كمالاً أعلى وأزيد ممّا أوتى.

وإذا كان حال أشرف الأنبياء وأكملهم كذلك فما ظنّك بسائرهم وحينئذ تعلم أنّ تركهم للدنيا وعدم اشتغالهم بها شرط في بلوغهم درجات الوحي والرسالة

وتلقّى أخبار السماء، وأنّهم لو خلقوا منغمسن في الدنيا وفتحت عليهم أبوابها

فاشتغلوا بقيناتها لا نقطعوا إليها عن حرة جال الله واضمحلّ بسبب ذلك

عنهم الأنباء وانقطع عنهم الوحي وانحطَّوا عن مراتب الرسالة، وقال بعض

الشارحين: أراد باضمحال الأنباء سقوط الوعد والوعيد والإخبار عن أحوال

الجنّة والنار وأحوال القيامة، وهو لازم من لوازم سقوط النبوّة فيكون راجعا

إلى ما قلناه الرابع، ولكان لا يجب للقابلین أجور المبتلین أي: لقابي كلام الأنبياء

لأنّه إذا سقط الباء عنهم لم يكن لهم أجر المبتلن، وكذلك لا يجب لقابي النبوّة

منهم أجور المبتلن بالتكذيب والأذى الخامس: وكان لا يستحقّ المؤمنون ثواب

المحسنين إلى أنفسهم بمجاهدة الشيطان عنها وتطهيرها عن الرذائل وتحليتها

بالفضائل، وذلك لأنّ إيمانهم بهم يكون عن رغبة؛ أو رهبة كما علمته لا عن حقيقة

وإخاص لله. السادس: ولا لزمت الأسماء معانيها روى بنصب الأسماء على أن

تكون هي المفعول ومعانيها الفاعل، والمعنى أنّه لم تكن المعاني لازمة الأسماء فيمن سمّى بها، مثلاً من سمّي مؤمناً لا يكون معنى الإيمان الحقّ لازماً لاسمه فيه. إذ

ص: 194


1- علل الدارقطني: ج 8 ص 172؛ الكافي للشيخ الكليني: ج 2 ص 95؛ الأمالي للشيخ الطوسي: ص 404؛ الاحتجاج للشيخ الطبرسي: ج 1 ص 326؛ مقدمة فتح الباري لأبن حجر: ص 137

كان إيمانه بلسانه فقط عن رغبة أو رهبة، وكذلك من سمّى مسلماً أو زاهد، بل من سمّى نبيّاً أو رسولاً لا يكون في الحقيقة كذلك لانقطاع النبوّة والرسالة عنه، وفي نسخة الرضيّ رحمه الله برفع الأسماء، والمراد أنّها كانت تنفكّ عنها فتصدق الأسماء بدون مسمّياتها وهو كالأوّل، وببيان هذه اللوازم ظهرت كبرى القياس والنتيجة إذن متّصلة مقدّمها قوله: لو أراد الله إلى قوله: الأرض، وتاليها قوله: لسقط البلاء. إلى قوله: معانيها، وحاصل النتيجة أنّه كان يلزم من إرادته تعالى بأنبيائه تلك الأمور وقوع جميع هذه المفاسد. ثمّ يرجع البيان إلى استثناء نقيض تالي هذه النتيجة لاستثناء نقيض مقدّمها وهو أنّ هذه المفاسد لم توجد وليست ممّا ينبغي أن توجد فلذلك لم يرد بهم تلك الأمور.

«ولَكِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُسُلَهُ أُولِ قُوَّةٍ فِي عَزَائِمِهِمْ وضَعَفَةً فِيمَا تَرَى الأَعْیُنُ

مِنْ حَالَتِهِمْ مَعَ قَنَاعَةٍ تَمْلَأُ الْقُلُوبَ والْعُيُونَ غِنًى وخَصَاصَةٍ تَمْلأُ الأَبْصَارَ والأَسْمَاعَ

أَذًى»: كاللازم لنقيض مقدّم النتيجة المذكورة ذكره بعد بیانه؛ إذ كان الله تعالى لمّا لم يرد بعث أنبيائه على ذلك الوجه أراد بعثهم على هذا الوجه، وهو أن جعلهم أصحاب قوّة في عزائمهم وإجماع على إنفاذ ما أمروا به وتبلیغ رسالات ربّهم، ولذلك سمّوا أولي العزم لمضاء عزائمهم وقوّتهم في دين الله بالقتال والمجاهدة والصبر على الأذى، وجعلهم مع ذلك ضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم من المسكنة والذلّ والفقر والقناعة والصبر على العري والجوع. واستعار وصف الملأ للقناعة باعتبار استلزامها لقوّة غنائهم وقلَّة حاجتهم إلى شيء من متاع الدنيا بحيث لا تميل نفوسهم ولا عيونهم إلى شيء من زينتها و قيناتها فكأنّها قد امتلأت فلا تتّسع لشيء من ذلك فتطلبه، وكذلك للخصاصة باعتبار استلزامها لقوّة الأذى في أسماعهم وأبصارهم. إذ الجوع المفرط مستلزم لأذي هاتين القوّتين لتحلَّل

ص: 195

الأرواح الحاملة لها وضعفهما فكان الأذى حشو أبصارهم وأسماعهم بحيث لا

يتّسع لغره كلّ ذلك طلب لكمال الاستعداد لما علمت أنّ البطنة تذهب الفطنة

وتورث القسوة وتزيل الرقّة وتستلزم رذائل كثرة لا دواء لها إلَّ بالخصاصة

والقناعة فضيلة تحت العفّة.

«ولَوْ كَانَتِ الأَنْبِيَاءُ أَهْلَ قُوَّةٍ لَا تُرَامُ وعِزَّةٍ لَا تُضَامُ ومُلْكٍ تُمَدُّ نَحْوَهُ أَعْنَاقُ الرِّجَالِ وتُشَدُّ إِلَيْهِ عُقَدُ الرِّحَالِ لَكَانَ ذَلِكَ أَهْوَنَ عَلَى الْخَلْقِ فِي الِعْتِبَارِ وأَبْعَدَ لَهُمْ فِي الِسْتِكْبَارِ ولَمَنُوا عَنْ رَهْبَةٍ قَاهِرَةٍ لَهُمْ أَوْ رَغْبَةٍ مَائِلَةٍ بِهِمْ فَكَانَتِ النِّيَّاتُ مُشْتَرَكَةً والْحَسَنَاتُ مُقْتَسَمَةً»: متّصلة أخرى هي كرى قياس من الشكل الأوّل أيضاً من متّصلتین مقدّم الصغرى منها هو من مقدّم كرى القياس الأوّل، وهو قوله: ولو فعل، ونبّه على تاليها بمقدّم هذه الكرى، وتقدير الكلام: ولأنّه تعالى لو فعل بأنبيائه ما ذكرناه لكانوا أهل قوّة لا ترام وعزّة لا تضام وملك تمتدّ نحوه الأعناق، ولو كانوا كذلك لكان في كونهم كذلك مفاسد أخرى فينتج أنّه لو فعل بأنبيائه ما ذكرناه للزمت مفاسد أخرى: أحدها: أنّه لكان ذلك أي ما حصلوا عليه من العزّ والملك أهون على الخلق وأسهل من حيث إنّ اعتبارهم لما يدعوهم إليه أسهل وإجابتهم إلى دعوتهم أسرع، إذ كانت الملوك في اعتبار الخلق أها لأن يطاعوا فلا تصعب عليهم إجابتهم كما تصعب إجابة الفقراء على من يدعونه

من المتكبّرين الثاني: وأبعد لهم عن الاستكبار، وهو ظاهر لأنّ الملوك أبعد من

أن يتكبّر عليهم الناس ويأنفوا من طاعتهم وحينئذ لم يكن للخلق ثواب من ترك

رذيلة الكبر عن مجاهدة نفسه في ترك الرذيلة الثالث: ولآمنوا عن رهبة قاهرة

لهم. أي على الإيمان أو رغبة مايلة بهم إليه فلم يكن نيّاتهم ولا حسناتهم خالصة

لله بل هي مشركة ومقتسمة بعضها له وبعضها للرغبة وبعضها للرهبة، وحينئذ

ص: 196

لا يكون لهم ثواب من جاهد إبليس فقهره وقمع نواجم وسوسته الجاذبة عن

سبيل الله، واستعدّ بذلك للخرات الباقية.

وقوله: وملك تمتدّ نحوه أعناق الرجال، وتشدّ إليه عقد الرحال.

كنايتان عن قوّته وعظمته لأنّ الملك إذا كان عظيما قويت الآمال فيه وتوجّهت

نحوه وامتدّت أعناق الرجال إليه بالرجاء وشدّت عقد الرحال إليه.

«ولَكِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الِتِّبَاعُ لِرُسُلِهِ والتَّصْدِيقُ بِكُتُبِهِ والْخُشُوعُ

لِوَجْهِهِ والِسْتِكَانَةُ لأَمْرِهِ والِسْتِسْاَمُ لِطَاعَتِهِ أُمُوراً لَهُ خَاصَّةً لَا يَشُوبُهَا مِنْ غَيْرِهَا

شَائِبَةٌ»: كالمقدّمة الصغرى في بيان أنّ القسم القسم الأخر من التالي ليس ممّا ينبغي أن يكون ويراد لله تعالى. كأنّه قال لو جعل الله تعالى الأنبياء أهل الملك والعزّ لكان إيمان الخلق بهم إمّا لرغبة أو رهبة فكانت النيّات والإيمان والعبادة منهم مشتركة غیر خالصة لله وذلك مفسدة ليس ممّا ينبغي أن تكون ولا أن تراد لله تعالى لأنّه تعالى إنّما أراد أن يكون إيمانهم بالرسل واتّباعهم وتصديقهم لما جاؤوا به من كتبه وأمروا به من الخشوع لوجهه والاستكانة لأمره والاستسام لطاعته أمورا له خاصّة لا يشوبها من غيرها شائبة رغبة ورهبة وتقدير الكرى: وكلّ ما أراد الله إخلاصه له فليس ممّا ينبغي أن يكون مشركاً أو مشوباً بشائبة رغبة أو رهبة.

«وكُلَّمَا كَانَتِ الْبَلْوَى والِخْتِبَارُ أَعْظَمَ كَانَتِ الْمَثُوبَةُ والْجَزَاءُ أَجْزَلَ»: يحتمل أن يكون كرى قياس بیّن به أنّ الأجزاء الثلاثة للتالي وهو قوله: لكان ذلك أهون.

إلى آخره ليس ممّا ينبغي أن يكون، وتقدير البيان أنّ ذلك مستلزم كون الاعتبار

معه أهون عى الخلق وأن يكونوا معه أبعد عن الاستكبار وأن يؤمنوا عن رغبة

أو رهبة وهذه الأمور ليس ممّا ينبغي أن تكون، وإنّما قلنا ذلك لأن نقايضها وهي

ص: 197

مشقّة الاعتبار على الخلق وقربهم من الاستکبار و خلوص إيمانهم لله ممّا ينبغي أن يكون، وبيان ذلك أنّ مع هذه الأمور يكون البلوى والاختبار عليهم أعظم. وذلك هو صغرى القياس؛ ثمّ نقول: وكلَّما كانت البلوى والاختبار لهم أعظم كانت المثوبة والجزاء على الإيمان والطاعة موافقة لتلك البلوى أجزل فينتج أنّ مع مشقّة الاعتبار والقرب من الاستكبار وإخلاص الإيمان تكون المثوبة لهم والجزاء على الإيمان والطاعة أجزل، ويحتمل أن يكون من تمام البيان الأوّل كأنّه قال: ولكنّه تعالى أراد أن تكون هذه الأمور خالصة له لا يشوبها شائبة، وذلك الإخلاص وإن كانت فيه مشقّة وكانت البلوى فيه عظيمة إلَّا أنّه كلَّما كانت البلوى أعظم كان الثواب فيها أجزل؛ ثمّ أردف ذلك بالتنبيه على صدق هذه المقدّمة بالمثال فقال:

«أَلَا تَرَوْنَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ اخْتَبَرَ الأَوَّلِینَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ ص إِلَی الْخِرِينَ مِنْ هَذَا

الْعَالَمِ بِأَحْجَارٍ لَا تَضُرُّ ولَا تَنْفَعُ ولَا تَسْمَعُ ولَا تُبْصِرُ فَجَعَلَهَا بَيْتَهُ الْحَرَامَ الَّذِي جَعَلَهُ

لِلنَّاسِ قِيَاماً»: مقيماً لأحوالهم في الآخرة يقال: فلان قيام أهله و قوام بيته، إذا كان منه استقامة أحوالهم في الآخرة.

«ثُمَّ وَضَعَهُ بِأَوْعَرِ»: صعب «بِقَاعِ الأَرْضِ حَجَراً وأَقَلِّ نَتَائِقِ»: بقاع «الدُّنْيَا

مَدَراً»: قيل لأن الحجرية عليه أغلب «وأَضْيَقِ بُطُونِ الأَوْدِيَةِ» قُطْراً جانباً.

«بَیْنَ جِبَالٍ خَشِنَةٍ ورِمَالٍ دَمِثَةٍ»: وإنّما أتی بالرمال الليّنة في معرض الذمّ لأنّها أيضاً ممّا لا يزكو بها الدوابّ لأنّ ذوات الحافر ترسغ فيها وتتعب في المشي بها.

«وعُيُونٍ وَشِلَةٍ»: قليلة الماء: «وقُرًى مُنْقَطِعَةٍ لَا يَزْكُو بِهَا خُفٌّ ولَا حَافِرٌ ولَا

ظِلْفٌ»: قيل أراد بها الجمال والخيل، والغنم، والبقر مجازاً إطلاقاً لاسم الجزء على الكلّ أو على تقدير إرادة المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وأراد بكونها لا تزكو:

ص: 198

أي لا تسمن، وتزيد للجدب وخشونة الأرض، والضمر في بها راجع إلى ما دلّ

عليه أوعر من الموصوف فإنّه أراد بواد أوعر بقاع الأرض حجرا كما قال: «رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ»(1).

«ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ عيله السلام ووَلَدَهُ أَنْ يَثْنُوا أَعْطَافَهُمْ نَحْوَهُ»: دلّ على أنّ البيت الحرام الحرام كان منذ آدم عليه السّلام والتواريخ شاهدة بذلك، وقال الطري: روى

عن ابن عبّاس أنّ الله تعالى أوحى إلى آدم لما اهبط إلى الأرض أنّ لي حرماً حيال عرشي فانطلق فابن لي بيتاً فيه ثمّ طف به كما رأيت ملائكتي تحفّ بعرشي

فهنالك استجيب دعاك ودعاء من تحفّ به من ذرّيّتك فقال آدم: إنّ لست أقوى على بنيانه ولا اهتدى إليه. فبعث الله تعالى ملكاً فانطلق به نحو مكَّة فكان آدم

كلَّما رأى روضة أو مكاناً يعجبه سأل الملك أن ينزل به هنالك لتبنى فيه فيقول

له الملك: ليس هاهنا. حتّى أقدمه مكَّة فبنى البيت من خمسة جبال طور سيناء وطور زيتون ولبنان والجوديّ، وبنى قواعده من حرّاء؛ فلمّا فرغ من بنيانه خرج به الملك إلى عرفات وأراه المناسك كلها الَّتي يفعلها الناس اليوم، ثمّ قدم به مكَّة

وطاف بالبيت أسبوعا، ثمّ رجع إلى أرض الهند وقيل: إنّه حجّ على رجليه إلى

الكعبة أربعن حجّة وروى عن وهب بن مبنّة أنّ آدم دعا ربّه فقال: يا ربّ أما

لأرضك هذه عامر يسّبحك فيها ويقدّسك غیرى فقال له تعالى: إنّي سأجعل

فيها من ولدك من يسبّح بحمدي ويقدّسني، وسأجعل فيها بيوتا ترفع لذكرى

يسبّحني فيها خلقي ويذكر فيها اسمي، وسأجعل من تلك البيوت بيتا اختصّه

بكرامتي وأوثره باسمي فأُسميّه بيتي وعليه وضعت جلالتي وعظَّمته بعظمتي،

ص: 199


1- سورة إبراهيم: الآية 37

وأنا مع ذلك في كلّ شيء ومع كلّ شيء، أجعل ذلك البيت حرما آمنا يحرم بحرمته

من حوله وما حوله ومن تحته ومن فوقه فمن حرّمه بحرمتي استوجب كرامتي

ومن أخاف أهله فقد أباح حرمتي واستحقّ سخطي، وأجعله بيتا مباركا يأتيه

بنوك شعثا غر أعى كلّ ضامر من كلّ فجّ عميق يزجّون بالتلبية زجيجاً ويعجّون

بالتكبر عجيجاً، من اعتمده لا يريد غیره ووفد إليّ وزارني واستضاف بي أسعفته

بحاجته، وحقّ على الكريم أن يكرم وفده وأضيافه.

تعمره يا آدم ما دمت حيّاً ثمّ تعمره الأمم والقرون والأنبياء من ولدك أُمّة

بعد أُمّة وقرناً بعد قرن.

ثمّ أمر آدم إلى أن يأتي البيت الحرام فيطوف به كما كان يرى الملائكة تطوف

حول العرش. وبقى أساسه بعد طوفان نوح فبوّأه الله لإبراهيم فبناه. ولنرجع إلى

المتن فنقول: إنّه كنّى بثني أعطافهم نحوه عن التفاتهم إليه وقصدهم له.

«فَصَارَ مَثَابَةً لِمُنْتَجَعِ أَسْفَارِهِمْ»: أي يطلب منه النجعة والخصب كما قال تعالى «وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا»(1) وكقوله تعالى «لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ»(2) وذلك أنّه مجمع الخلق وبه يقام الموسم أيّام الحجّ فيكون

فيه التجارات والأرباح كما أشرنا إليه في الخطبة الأولى.

«وكذا غَايَةً لِمُلْقَى رِحَالِهِمْ»: أي مقصداً يقصد «تَهْوِي إِلَيْهِ ثِمَارُ الأَفْئِدَةِ»: أي

تميل وتسقط وهوى الأفئدة ميولها ومحبّتها إلَّا أنّه لمّا كان الَّذي يميل إلى الشيء

ويحبّه كأنّه يسقط إليه ولا يملك نفسه استعير لفظ الهوى للحركة إلى المحبوب

ص: 200


1- سورة البقرة: الآية 125
2- سورة الحج: الآية 28

والسعي إليه، وأمّا ثمار الأفئدة فقيل: ثمرة الفؤاد سرائر القلب.

ولذلك يقال للولد: ثمرة الفؤاد وأقول: يحتمل أن يكون لفظ الثمار مستعاراً للخلق باعتبار أنّ كلَّا منهم محبوب لأهله و آبائه فهو كالثمرة الحاصلة لأفئدتهم من حيث هو محبوب لهم كأنّ أفئدتهم ومحبّتهم له قد أثمرته من حيث إنّها أفادت تربيته والعناية به حتّى استوى إنسانا کاملاً، ويحتمل أن یرید بثمار الأفئدة الأشياء المجبيّة المعجبة من كلّ شيء كما قال تعالى «يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ»(1) ووجه إضافتها إلى الأفئدة أنّها لمّا كانت محبوبة مطلوبة للأفئدة الَّتي حصلت عن محبّتها کما تحصل الثمرة عن أصلها أضيفت إليها، والإضافة تكفي فيها أدنى سبب ونحوه قوله تعالى «فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ»(2) ولمّا استعار لفظ الهوى رشّح بذكر المهاوي إذ من شأن الهوى أن يكون له موضع فقال:

«مِنْ مَفَاوِزِ قِفَارٍ»: خالية «سَحِيقَةٍ»: بعيدة «ومَهَاوِي»: مساقط «فِجَاجٍ

عَمِيقَةٍ»: صفة لفجاج کما قال جل سلطانه «يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ»(3) ووصف العمق له باعتبار طوله والانحدار فيه من أعالي البلاد إلى مثله.

«وجَزَائِرِ بِحَارٍ مُنْقَطِعَةٍ»: وصف الجزائر بالانقطاع لأنّ البحر يقطعهاعن سائر الأرض والبحار يحيط بها.

«حَتَّى يَهُزُّوا مَنَاكِبَهُمْ»: جمع منكب أي حتى حركوها و حتى غاية من تهوي وکنی بهز ومناكبهم عن حركاتهم في الطواف بالبيت إذ كان ذلك من شأن المتحرك بسرعة .

ص: 201


1- سورة القصص: الآية 57
2- سورة ابراهيم: الآية 37
3- سورة الحج: الآية 27

«ذُلَلًا»: جمع ذلول نصب على الحال من الضمير في بهزوا وقيل من مناكبهم «يُهَلِّلُونَ للهِ حَوْلَهُ»: أي يقولون لا اله إلا الله «ويَرْمُلُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ»: أي يهرولون ويمشون مشياً فيه تحرك «شُعْثاً غُبْراً لَهُ»: منصوبات على الضمير من يزيلون.

«قَدْ نَبَذُوا السَّرَابِيلَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ»: كناية عن طرحها وعدم لبسها «وشَوَّهُوا»: غيروا وفتحوا «بِإِعْفَاءِ الشُّعُورِ مَحَاسِنَ خَلْقِهِمُ»: لأن حلق شعر المحرم أو نتفه، والتنظيف منه حرام تجب فيه الفدية، وظاهر أنّ إعفاء الشعور يستلزم تقبيح الخلقة وتشويهها و تغییر ماهو معتاد من تحسينها بحلقه وإزالته «ابْتِلَاءً عَظِيماً وامْتِحَاناً شَدِيداً واخْتِبَاراً مُبِيناً وتَمْحِيصاً»: تطهيراً

«بَلِيغاً»: منصوبات على المفعول له، والعامل فيه قوله: أمر الله آدم، ويحتمل أن يكون على المصدر كلّ من فعله. وعدّد هذه الألفاظ وإن كانت مترادفة على معنی واحد تأكیداً وتقريراً لكون الله تعالى شدّد عليهم في البلوى بذلك ليكون استعدادهم بتلك القوى العظيمة للثواب أتمّ وأشدّ فيكون الجزاء لهم أفضل وأجزل فلذلك قال:

«جَعَلَهُ اللهُ سَبَباً لِرَحْمَتِهِ ووُصْلَةً إِلَی جَنَّتِهِ»: أي سبباً معدّاً لإفاضة رحمة تستلزم الوصول إلى جنّته وقد تأكَّد بهذا المثال صدق قوله: وكلَّما كانت البلوى والاختبار أعظم كان الثواب أجزل لأنّ الله سبحانه لمّا اختبر عباده بأمر الحجّ ومناسكه الَّتي يستلزم شقاء الأبدان و احتمال المشاقّ الكثيرة المتعبة في الأسفار من المسافات البعيدة وترك مفاخر الدنيا عنده ونزع التكبّر حتّى كأنّه لم يوضع إلَّا لخلع التكبّر من الأعناق مع ما في جزئيّات مناسکه ومباشرته من المشاقّ المتكلَّفة مع كونه کما ذکر أحجارا لا تضرّ ولا تنفع ولا تسمع ولا تبصر لا جرم كان الاستعداد به لقبول آثار الله وإفاضة رحمته أتمّ من أكثر وجوه الاستعدادات لسائر العبادات فكان

ص: 202

الثواب عليه والرحمة النازلة بسببه أتمّ وأجزل.

«ولَوْ أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَضَعَ بَيْتَهُ الْحَرَامَ ومَشَاعِرَهُ الْعِظَامَ بَيْنَ جَنَّاتٍ وأَنْهَارٍ وسَهْلٍ

وقَرَار»: مستقر للأنام «جَمَّ الأَشْجَار»: كثيرها «دَانِيَ الثِّمَارِ»: قريبها «مُلْتَفَّ الْبُنَی»: جمع بنيان «مُتَّصِلَ الْقُرَى»: جمع قرية «بَیْنَ بُرَّةٍ سَمْرَاءَ ورَوْضَةٍ خَضْرَاءَ وأَرْيَافٍ»: سواد وخضرة «مُحدَقَةٍ»: محيطة وثيل الساحل وقيل مواضع الشجر والماء.

«وعِرَاصٍ مُغْدِقَةٍ»: كثيرة الماء ورِيَاضٍ نَاضِرَةٍ»: حسنه.

«وطُرُقٍ عَامِرَةٍ لَكَانَ قَدْ صَغُرَ قَدْرُ الْجَزَاءِ عَلَى حَسَبِ ضَعْفِ الْبَاَءِ»: صغری قياس ضمير استثنائي حذف استثنائه. وهي نتيجة قياس آخر من متّصلتين تقدیر صغر اهما: أنّه لو أراد أن يضع بيته الحرام بين هذه المواضع الحسنة المبهجة لفعل، وتقدير الكبرى: ولو فعل لكان يجب منه تصغير قدر الجزاء على قدر ضعف البلاء، وتقدير استثناء هذه المتّصلة: لكنّه لا يجب منه ذلك ولا يجوز لأنّ مراد العناية الإلهيّة مضاعفة الثواب وبلوغ كلّ نفس غاية كمالها وذلك لا يتمّ إلَّا بكمال الاستعداد بالشدائد والميثاق فلذلك لم يرد أن يجعل بيته الحرام في تلك المواضع الاستلزامها ضعف البلاء وکنّی بدنوّ الثمار عن سهولة تناولها وحضورها، وبالتفاف البنى عن تقارب بعضه من بعض والبرّة: واحدة البرّ وقد يقام مقام اسم الجنس فيقال: هذه برّة حسنة، ولا يراد بها الحبّة الواحدة واعتبار السمرة لها لأنّ وصفها بعد الخضرة السمرة.

«ولَوْ كَانَ الأَسَاسُ الْمَحْمُولُ عَلَيْهَا والأَحْجَارُ الْمَرْفُوعُ بِهَا بَیْنَ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ ويَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ ونُورٍ وضِيَاءٍ لَخَفَّفَ ذَلِكَ مُصَارَعَةَ الشَّكِّ فِي الصُّدُورِ ولَوَضَعَ مُجَاهَدَةَ إِبْلِيسَ عَنِ الْقُلُوبِ ولَنَفَى مُعْتَلَجَ الرَّيْبِ مِنَ النَّاسِ»: في تقدير قياس ضمير آخر

ص: 203

استثنائي كالذي قبله، وتلخيصه أنّه تعالى لو جعل الأساس المحمول عليها بيته الحرام بين هذه الأحجار المنيرة المضيئة لخفّف ذلك مسارعة الشكّ في الصدور. وأراد شكّ الخلق في صدق الأنبياء وعدم صدقهم وشكَّهم في أنّ البيت بيتاً لله أو ليس. فعلی تقدیر کون الأنبياء عليهم السّلام بالحال المشهورة من الفقر والذلّ وكون البيت وعلى تقدير كونهم في الملك والعزّ وكون البيت من الأحجار النفيسة المذكورة ينتفي ذلك الشكّ.

إذ يكون ملكهم ونفاسة تلك الأحجار من الأمور الجاذبة إليهم والداعية إلى محبّتهم والمسارعة إلى تصديقهم والحكم بكون البيت بيت الله لمناسبته في كماله ما ينسبه الأنبياء إلى الله سبحانه من الوصف بأكمل طرفي النقيض ولكون الخلق أميل إلى المحسوس، واستعار لفظ المسارعة هنا للمغالبة بين الشكّ وصدق الأنبياء والشكّ في كذبهم فإنّ كلَّا منهما يترجّح على الآخر وكذلك كان وضع مجاهدة إبليس عن القلوب لأنّ الإيمان بکونه بیتا لله ينبغي حجّه والقصد إليه لا يكون عن مجاهدة إبليس في تصديق الأنبياء في ذلك وفي وجوب عبادة الله بل لعزّة البيت و حسن بنيانه وميل النفوس إلى شريف جواهره لكن هذه الأمور وهي مسارعة الشكّ ومجاهدة إبليس ومعتلج الريب لا تخفّف ولا تنتفي لكونها مرادة من الحكمة الإلهيّة لإعداد النفوس بها لتدرك الكمالات الباقية والسعادات الدائمة فلذلك لم يجعل تعالى بنيان بيته من تلك الأحجار النفيسة.

«ولَكِنَّ اللهَ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِأَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ ويَتَعَبَّدُهُمْ بِأَنْوَاعِ الْمَجَاهِدِ ويَبْتَلِيهِمْ

بِضُرُوبِ الْمَكَارِهِ»: استثناء لعلَّة النقائض المذكورة فيقوم مقام استثناء معارضة الشكّ ومجاهدة إبليس من جملة أنواع الشدائد وألوان المجاهد والمشاقّ واختباره العباده بها علَّة لوجودها.

ص: 204

«إِخْرَاجاً لِلتَّكَبُّرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ وإِسْكَاناً لِلتَّذَلُّلِ فِي نُفُوسِهِمْ ولِيَجْعَلَ ذَلِكَ أَبْوَاباً

فُتُحاً إِلَی فَضْلِهِ وأَسْبَاباً ذُلُلًا لِعَفْوِهِ»: إشارة إلى كونها أسباباً غائيّة من العناية الألوهية لإعداد النفوس لإخراج الكبر منها وإفاضة ضدّه وهو التذلَّل والتواضع عليها وإلى كونها أسباباً معدّة لفضله وعفوه، واستعار لفظ الأبواب لها باعتبار الدخول منها إلى رضوان الله وثوابه.

والذلل لكون الدخول منها إلى ذلك سهلاً للمستعدّين لها. ثمّ عاد إلى التحذير من الله تعالى في البغي والظلمة فقال: «فَاللهَ اللهَ فِي عَاجِلِ الْبَغْيِ وآجِلِ وَخَامَةِ الظُّلْمِ

وسُوءِ عَاقِبَةِ الْكِبْرِ فَإِنَّهَا»: البغي والظلم والكبر وهو تأنيبه باعتبار جعله مصيدة إبليس باعتبار أنه يصير الداخل فيه من حرب إبليس وقبضته کالشبكة وحبائل الشيطان فلذا قال:

«مَصْيَدَةُ إِبْلِيسَ الْعُظْمَى»: ووصفها بالعظمة باعتبار قوته وكثرته ما يستلزمه من الرذائل.

«ومَكِيدَتُهُ الْكُبْرَى»: وجه الاستعارة أنه سبب قويّ في جذب الخلق إلى الباطل وضلالهم عن طريق الله الحيلة والخدعة، واستعار وصف المساورة له فقال:

«الَّتِي تُسَاوِرُ»: تواثب «قُلُوبَ الرِّجَالِ مُسَاوَرَةَ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ»: باعتبار مواثبته النفوس ومغالبته لها بالكبر وذلك أنّه تارة يلقى إليها تحسين الكبر وتزيينه فتنفعل عنه وتقبل الكبر وتلك هي الوثبة من جانبه. وتارة تقوى النفس عليه فترذّ وسوسته بقهره وتلك الوثبة من قبلها. ثمّ شبّه مساورته للقلوب بالكبر بمساورة السموم القاتلة للطبيعة البدنيّة، وكنّی عن وجه الشبه بقوله:

«فَمَا تُكْدِي أَبَداً ولَا تُشْوِي أَحَداً»: أي لا يصيب سوى اليدين والرجلين

ص: 205

بل يصيب المقل ومعناه: أيّ إنّ مساورته بالكبر لا تكاد يقابلها ما يقاومها من العقول ويمنع تأثيرها في النفوس کما لا يكاد يقاوم مواثبة السموم القاتلة من طبائع الحيوان ولا تكاد تخطئ المقاتل کما لا يخطئ السموم وحركاتها في الأبدان مقاتلها، ويحتمل أن يكون وجه الشبه کون مساورته غالبة قويّة كمشاورة السموم للأبدان، ويكون قوله: لا تكدي أبداً ولا تشوی أحداً استعارتين لوصفي السمّ الَّذي لا يكاد يقف دون المقاتل، ولا يخطئها لتلك المساورة باعتبار أنّها لا يخطئ رميتها القلوب بسهام الكبر، والبغي وسائر ما يلقي من الوساوس المهلكة.

«لَا عَالِماً بعِلْمِهِ ولَا مُقِلاًّ طِمْرِهِ»: أي هذه الرذيلة تؤثّر في نفس العالم في علمه والفقير في فقره فلا يردّها العالم بعلمه أنّها رذيلة ولا المقلّ المفتقر في طمره لمنافاة حاله في قلَّته وفقره الكبر.

«وعَنْ ذَلِكَ»: مكابدة «مَا حَرَسَ اللهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِینَ بِالصَّلَوَاتِ والزَّكَوَاتِ

ومُجَاهَدَةِ الصِّيَامِ فِي الأَيَّامِ الْمَفْرُوضَاتِ»: تنبيه على الأمور الَّتي حرس الله تعالى بها عبادة من هذه الرذيلة وجعلها أسباب للتحرّز من نزغات الشيطان بها، وأشار إلى ثلاثة منها وهي الصلوات والزكوات ومجاهدة الصيام في الأيّام المفروض صومها. أمّا الصلوات فلكونها بأجزائها وأوضاعها منافية للكبر. إذ كان مدارها على تضرّع وخضوع و خشوع وركوع.

وكلّ واحد من هذه الأجزاء بكيفيّاته وهيئاته موضوع على المذلَّة والتواضع والاستسلام لعزّة الله وعظمته وتصوّر کماله وتذكَّر وعده و وعیده وأهوال الموقف بين يديه وكلّ ذلك ينافي التكبّر والتعظَّم، وإلى ذلك أشار بقوله:

«تَسْكِيناً لأَطْرَافِهِمْ وتَخْشِيعاً لأَبْصَارِهِمْ وتَذْلِياً لِنُفُوسِهِمْ وتَخْفِيضاً»: تسكيناً

ص: 206

«لِقُلُوبِهِمْ وإِذْهَاباً لِلْخُيَاَءِ عَنْهُمْ»: هذه المنصوبات، منصوبات على لمفعول له والعامل مادله عليه قوله حرس من معنى الأمر وكذا تواضعاً وتصاغراً.

«ولِمَا فِي ذَلِكَ»: المذكور «مِنْ تَعْفِیرِ عِتَاقِ الْوُجُوهِ بِالتُّرَابِ»: کرائمها جمع عتيقة وهي الكريمة والخيار من كل شيء: «تَوَاضُعاً والْتِصَاقِ كَرَائِمِ الْجَوَارِحِ بِالأَرْضِ تَصَاغُراً»: تذلاً وتحافراً(1) و العامل فيهما المصدران قبلهما «ولُحُوقِ الْبُطُونِ بِالْمُتُونِ»: الظهور.

«مِنَ الصِّيَامِ تَذَلُّاً مَعَ مَا فِي الزَّكَاةِ مِنْ صَرْفِ ثَمَرَاتِ الأَرْضِ وغَیْرِ ذَلِكَ إِلَی

أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ والْفَقْرِ»: أعلم أن وجه منفعة الزكوات في دفع هذه الرذيلة أمران احدهما أنها شكر النعمة المالية كما أن العبادات البدنية شكر للنعمة البدنية، وظاهر أن شكر النعمة مناف للتكبر على المنعم، والاستكشاف عن عبادته، والثاني أن أوجب عليه الزكاة يتصور قدرة موجبها وسلطانه وقهره عن إخراجها فينفعل عن حكمته وينقهر تحت أوامره، ومع تصور لعناية المطلق، وذلك مناف لتكبره، واستنكافه عن عبادته، وأما مجاهدة الصيام فلما فيها من المشقة الشاقة ومكابدة الجوع والعطش في الأيام الصيفية كما کنی علیه السلام عنه بقوله: وإلصاق البطون بالمتون من الصيام والإنسان في تلك الأحوال منظور لجلال الله وعظمته وإنما يفعل ذلك أمتثالاً لواجب أمره وخضوعاً تحت سلطانه وذلك مناف للتكبر، والترفع وقد علمت ما في الصوم من كسر النفس الأمارة بالسوء کما قال صلى الله عليه [وآله] وسلم: «أن الشيطان ليجري من أبن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع»(2) وذلك أن وسيلة الشيطان هي الشهوات، ومبدأ الشهوات،

ص: 207


1- تحافرا: هو مسح الوجه بالتراب وتعفير الجبين والخدين
2- احياء علوم الدين للغزالي: ص 424؛ عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي: ج 2 ص 273

وقوتها مداومة الأكل والشرب وبتصديق مجاريه ينقهر وتنکسر نواجم وسوسته بالرذائل عن العبد ويسكن حركات الأطراف التي مبدئها تلك الوساوس، ويخشع الأبصار، وتذل النفوس، وتنخفض القلوب، وفي قوله مع ما في الزكاة إلى آخره إشارة إلى سر آخر من الزكوة، وهو ظاهر وقد ذكرنا أسرارها مستقصات في التفضيل الذي أوله: أن أفضل ما توسل به المتوسلون إلى آخره..

ثم أمر في هذه الأفعال أي التي تقع في الصلاة والصيام والزكاة من تعفر عنائق الوجوه، والصاق کرائم الجوارح، وهي الأيدي، والأرجل، ولحوق البطون بالمتون، وغير ذلك من الأفعال المستلزمة للتواضع والتذلل فقال:

«انْظُرُوا إِلَی مَا فِي هَذِهِ الأَفْعَالِ مِنْ قَمْعِ نَوَاجِمِ الْفَخْرِ وقَدْعِ(1) طَوَالِعِ الْكِبِرْ»: تأكيد لما قرره أولا من كون هذه العبادات حارسته لعباد الله عن رذيلة الكبر وبالله التوفيق.

ثم شرع في توبيخهم على المعصية من غير سبب أو حجة يقبلها عقل وأمرهم بالتعصب المحامد الأخلاق و مکارمها و تحذيرهم من العقوبات النازلة بمن قبلهم من الأمم والنظر في عاقبة أمرهم وغير ذلك من الأمور الواعظة وذلك قوله:

«ولَقَدْ نَظَرْتُ فَمَا وَجَدْتُ أَحَداً مِنَ الْعَالِمَینَ يَتَعَصَّبُ لِشَيْءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ إِلَّا عَنْ عِلَّةٍ تَحْتَمِلُ تَمْوِيهً الْجَهَلَاءِ»: وتلبيسهم(2) «أَوْ حُجَّةٍ تَلِيطُ»: تلصق «بِعُقُولِ السُّفَهَاءِ

غَيْرَكُمْ فَإِنَّكُمْ تَتَعَصَّبُونَ لأَمْرٍ مَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ ولَا عِلَّةٌ»: أي سبب يحتمل التمويه على الجهلاء وعلة تلتصق بعقول السفهاء ولم يرد نفي مطلق السبب تعصبهم

ص: 208


1- والتقادع: التهافت في الشيء كتهافت الفراش في النار. وتقادع القوم: إذا مات بعضهم في إثر بعض
2- تلبيسهم: أي جعلهم في حالة اللبس والك والحيرة

وثوران الفتنة بينهم هو الإغتراء الذي كان بينهم وكان يقوم من حالهم ما ذكرنا في سبب الخطبة لأكنه ترك الوصف هنا لتقدمه وفي هذا الكلام في معرض التوبيخ لهم على تعصبهم الباطل الذي يثور به الفتن مع أنه ليس لأمر يعرف له سبباً عن علة يحتمل تمويه الأمر علة أهل الجهل بحيث يظن سبباً صحيحاً للتعصب أو عن حجة يلتصق بعقول السفهاء فيقبلها، وهذا هو مقتضى العقل إذا كان الترجيح من غير مرجح محال في بداية العقول، وتقدير الكلام فما وجدت احد يتعصب إلا وجدته يتعصب عن علة وقوله: غيركم استثناء من معنى الأثبات في الجملة المفيدة للحصر كأنه قال: وجدت كل أحداً يتعصب عن علة؛ ثم أخذ في تفصيل وجوه العصبيّة وأسبابها فبدأ بذكر مبدأ العصبيّة لإبليس فقال:

«أَمَّا إِبْلِيسُ فَتَعَصَّبَ عَلَى آدَمَ لأَصْلِهِ وطَعَنَ عَلَيْهِ فِ خِلْقَتِهِ فَقَالَ: أَنَا نَارِيٌّ

وأَنْتَ طِينِيٌّ»: وسبب عصبيّته لأصله اعتقاده لطف جوهره وشرفه، إذ النار أشرف من الطين مع جهله بسرّ البشريّة ووضع آدم على هذه الحلقة وخلقته الَّتي وضع عليها خلقه فلذلك فضّل نفسه قياساً للفرع على الأصل في الشرف والخسّة فقال: أنا ناريّ وأنت طينيّ ولذلك قال: أوّل من قاس إبليس في العصبيّة، مشير إلى علَّة تعصّبهم فقال:

«وأَمَّا الأَغْنِيَاءُ مِنْ مُتْرَفَةِ الأُمَمِ»: المترف الذي أطغته النعمة.

« فَتَعَصَّبُوا لِآثَارِ مَوَاقِعِ النِّعَمِ»: وهي الأموال والأولاد وسائر ماينتفع به «وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ»(1): وآثار تلك المواقع هي الغني والترفّه بها والتنعّم والالتذاذ، وكان تعصّبهم لذلك وفخرهم به، ويجب أن

ص: 209


1- سورة سبأ: الآية 35

يعلم أنّ الأموال، والأولاد أنفسها لیست نعماً مطلقاً لذلك، ولا الولد باعتبار أنه بل أنما يطلق عليها لفظة النعمة باعتبار انتفاع الإنسان بهما حتى لو كان ناسياً لهلاكه أو أذاه لم يكونا بذلك الاعتبار إلا نقمة عليه، وفتنة له فلذلك جعلها مواقع النعم أي أي محالًّا قابلة لكونها أنعماً ويحتمل أن يريد بالنعم الأموال والأولاد وبمواقعها وقوعها فإنّه كثيراً ما یرید بمفعل المصدر وآثارها هي الغني والترفّه کما قدّمناه.

ثمّ لمّا وبّخهم على التعصّبات الباطلة نبّههم على مواقع العصبيّة وما ينبغي أن يكون له وهي مكارم الأخلاق ومحامد الأفعال و محاسن الأمور الَّتي تفاضلت فيها أهل المجد والشرف والنجدة من بيوتات العرب وسادات القبائل قال عليه السلام.

«فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُكُمْ لِمَكَارِمِ الْخِصَالِ ومَحَامِدِ الأَفْعَالِ

ومَحَاسِنِ الأُمُورِ الَّتِي تَفَاضَلَتْ فِيهَا الْمُجَدَاءُ والنُّجَدَاءُ»: المجد أجمع ماجد وهو كنزهم الإباء، شريفهم، والنجد أجمع نجيد وهو ذو النجدة، وهي فضيلة تحت الشجاعة.

«مِنْ بُيُوتَاتِ الْعَرَبِ ويَعَاسِيبِ القَبَائِلِ»: ساداتهم «بِالأَخْلَاقِ الرَّغِيبَةِ»: المرغوب فيها، متعلق بتفاضلت فأن المذكورين تفاضلوا في محاسن الأمور وقد بينا فيما سبق أصول الأخلاق الفاضلة وما تحتها متن أنواعها.

«والأَحْلَامِ الْعَظِيمَةِ»: الحلم ملكة تحت الشجاعة وهي الإبانة والرزانة عند الغضب و موجباته.

«والأَخْطَارِ الْجَلِيلَةِ والْثَارِ الْمَحْمُودَةِ»: يعود إلى ملازمة الأفعال الجميلة الموافقة للأخلاق النفسانيّة كفعل البذل عن السخاء وكقتل القريب مثلاً مراعاة للعدل والوفاء. ثمّ أمرهم بعد التنبيه على تلك المكارم بالعصبيّة لها فقال:

ص: 210

«فَتَعَصَّبُوا لِخِلَالِ الْحَمْدِ»: ثم أشار إلى تفضيل خصاله فقال:

«مِنَ الْحِفْظِ لِلْجِوَارِ»: وهي فضيلة تتشعّب عن فضيلتن لأنّ حفظه يكون

بالكفّ عن أذاه وذلك فضيلة تحت العدل، ويكون بالإحسان إليه ومصادقته

ومسامحته ومواساته وتلك أمور تحت العفّة.

«والْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ»: العهد وهو تحت العفة.

«والطَّاعَةِ لِلْبِرِّ»: الأولى أن يريد بالبرّ هنا ما أراد به القرآن الكريم «لَيْسَ

الْبرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ، والْمَغْرِبِ ولكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِالله.. إلى

قوله «وأُلئك هم المتّقون» «وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى» فإنّ المراد في هاتن القرينتن

بالبرّ كمال الإيمان، والتقوى، والأعمال الجميلة، ومعنى طاعة البرّ التلبّس بهذه

الأفعال وملازمتها واعتقاد وجوبها، ويحتمل أن يريد، والطاعة للأمر بالبرّ فحذف الأمر للعلم به، وقد يطلق البرّ ويراد به العفّة، وبذلك الاعتبار يقابله الفجور، ويحتمل أن يريد هاهنا ما يقابل العقوق وهو الشفقّة على ذوى الرحم والإحسان إلى الوالدين، وهو داخل تحت العفّة ومنها: المعصية للكر والمراد بمعصية الكبر مجانبته مجازا إطلاقا لاسم السبب عى المسبّب أو معصية الأمر بالكر وهو كناية عن التواضع وهو فضيلة تحت العفّة، والمعصية هنا في مقابلة الطاعة.

«والْمَعْصِيَةِ لِلْكِبْرِ والأَخْذِ بِالْفَضْلِ»: أراد استكمال الفضيلة ولزومها، ويحتمل أن يريد الفضل التفضّل على الغیر والإحسان إليه والأخذ به فيكون أمراً بالإحسان

وهو فضيلة تحت العفة.

«والْكَفِّ عَنِ الْبَغْيِ والإِعْظَامِ لِلْقَتْلِ»: وتعظيمه وهو كناية عن تركه لما يستلزمه

من رذيلة الظلم ثمّ للوعيد عليه في الآخرة، ويعود إلى فضيلة العدل أيضاً.

ص: 211

«والإِنْصَافِ لِلْخَلْقِ»: هو لزوم العدل في معاملاتهم.

«والْكَظْمِ لِلْغَيْظِ»: وهو فضيلة الشجاعة.

«واجْتِنَابِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ»: من لوازم فضيلة العدل، ثمّ لمّا أمر بلزوم مكارم الأخلاق والأعمال الجميلة أردفه بالتنفير عن الكون على ذلك من رذائلها وذمائمها.

«فاحْذَرُوا مَا نَزَلَ بِالأُمَمِ قَبْلَكُمْ مِنَ الْمَثُلَاتِ بِسُوءِ الأَفْعَالِ وذَمِيمِ الأَعْمَالِ

فَتَذَكَّرُوا فِي الْخَیْرِ والشَّرِّ أَحْوَالَهُمْ واحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ»: أي في ذلك الانقلاب واستبدال الخیر بالشر.

«فَإِذَا تَفَكَّرْتُمْ فِي تَفَاوُتِ حَالَيْهِمْ»: اختلافها «فَالْزَمُوا كُلَّ أَمْرٍ لَزِمَتِ الْعِزَّةُ

«بِهِ شَأْنَهُمْ وزَاحَتِ»: بعدت «الأَعْدَاءُ لَهُ عَنْهُمْ ومُدَّتِ الْعَافِيَةُ فيه بِهِم»: والباء

للاستصحاب: أي مدّت مستصحبة لهم وفي نسخة الرضى رحمه الله، ومدّت بالفتح على البناء للفاعل كقولك مدّ الماء: أي جرى وسال.

وكذلك انقادت النعم لذلك الأمر معهم: أي بسببه. إذ كان سببا معدّا لإفاضة

النعم عليهم، ووصلت الكرامة عليه حبلهم. واستعار لفظ الوصل لاجتماعهم

عن كرامة الله لهم حال كونهم عى ذلك الأمر، ورشّح بذكر الحبل.

(1)«وانْقَادَتِ النِّعْمَةُ لَهُ»: لذلك الأمر «مَعَهُمْ»: أي بسببه أذ كان سبباً معداً

لإفاضة النعمة عليهم.

«ووَصَلَتِ الْكَرَامَةُ عَلَيْهِ حَبْلَهُمْ»: استعار الوصل لاجتماعهم عن كرامة الله

لهم حال كونهم عى ذلك الأمر ورشح بذكر الحبل وقوله:

ص: 212


1- ورد في بعض متون النهج: عَلَيْهِمْ

«مِنَ الِجْتِنَابِ لِلْفُرْقَةِ واللُّزُومِ لِلأُلْفَةِ والتَّحَاضِّ عَلَيْهَا والتَّوَاصِ بِهَا»: وظاهر

لزوم الألفة بها سبب الأمور التي عددها.

«واجْتَنِبُوا كُلَّ أَمْرٍ كَسَرَ فِقْرَتَهُمْ وأَوْهَنَ مُنَّتَهُمْ»: قوتهم «مِنْ تَضَاغُنِ الْقُلُوبِ

وتَشَاحُنِ الصُّدُورِ وتَدَابُرِ النُّفُوسِ وتَخَاذُلِ الأَيْدِي»: أي اجتنبوا كلّ أمر استبدلوا

به تلك الأمور الَّتي أوجبت لهم العزّة والكرامة وكان سبباً لكر فقرتهم ووهن

قوّتهم وهو التصاغر، والتشاحن والتقاطع، والتخاذل لأنّا أمور تضادّ الألفة وتنافيها فكانت مضادّة لما يستلزمه الألفة، وأراد التخاذل المطلق.

وإضافته إلى الأيدي كناية لأنّ الأغلب أن يكون التناصر بالأيدي، وهؤلاء

الَّذين أمر باعتبار حالهم لا يريد بهم أُمّة معيّنة بل الحال عامّ في كلّ أُمّة سبقت

فإنّ كلّ أُمّة ترادفت أيديهم، وتعاونوا وتناصروا كان ذلك سبباً لعزّة حالهم، ودفع الأعداء لهم.

«وتَدَبَّرُوا أَحْوَالَ الْمَاضِینَ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ قَبْلَكُمْ كَيْفَ كَانُوا فِي حَالِ التَّمْحِيصِ

والْبَاَءِ أَلَمْ يَكُونُوا أَثْقَلَ الْخَلَائِقِ أَعْبَاءً وأَجْهَدَ الْعِبَادِ بَلَاءً وأَضْيَقَ أَهْلِ الدُّنْيَا حَالًا

اتَّخَذَتْهُمُ الْفَرَاعِنَةُ عَبِيداً فَسَامُوهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وجَرَّعُوهُمُ الْمُرَارَ»: أي أطعموهم كل من جرعه جرعة «فَلَمْ تَبْرَحِ الْحَالُ بِهِمْ فِي ذُلِّ الْهَلَكَةِ وقَهْرِ الْغَلَبَةِ لَا يَجِدُونَ

حِيلَةً فِي امْتِنَاعٍ ولَا سَبِيلً إِلَی دِفَاعٍ حَتَّى إِذَا رَأَى اللهُ جِدَّ الصَّبْرِ مِنْهُمْ عَلَى الأَذَى

فِي مَحَبَّتِهِ والِحْتِمَالَ لِلْمَكْرُوهِ مِنْ خَوْفِهِ جَعَلَ لَهُمْ مِنْ مَضَايِقِ الْبَاَءِ فَرَجاً فَأَبْدَلَهُمُ

الْعِزَّ مَكَانَ الذُّلِّ والأَمْنَ مَكَانَ الْخَوْفِ فَصَارُوا»: جمع علم وهو الدليل على الحق والحجة على الخلق «مُلُوكاً حُكَّاماً وأَئِمَّةً أَعْلَماً وقَدْ بَلَغَتِ الْكَرَامَةُ مِنَ اللهِ لَهُمْ مَا لَمْ تَذْهَبِ الْآمَالُ إِلَيْهِ بِهِمْ»: حاصل الكلام أمر لهم باعتبار هذه الأحوال فيمن هو أخصّ وهم المؤمنون من الماضین في أزمان الأنبياء السابقين فإنّهم حيث كانوا مع

ص: 213

كلّ شيء في مبدء أمرهم في حال التمحيص والاستخلاص لقلوبهم بالبلاء أثقل أهل الأرض أعباء قد اتّخذتهم الفراعنة عبيدا يسومونهم سوء العذاب وهؤلاء كيوسف عليه السّلام مع فرعون زمانه، وكموسى وهارون ومن آمن معهما من بني إسرائيل في مبدء أمرهم فإنّهم كانوا حال التمحيص، والباء بالصفات الَّتي

ذكرها عليه السّلام قد اتّذتهم الفراعنة عبيدا يسومونهم سوء العذاب ويجرّعونهم

المرار فلم يزالوا كذلك مقهورين حتّى إذا رأى استعدادهم بالصر عى دينه

لإفاضة رحمته عليهم أفاضها عليهم وجعل لهم من مضايق الباء فرجا فأبدلهم

بالعزّ مكان الذلّ والأمن مكان الخوف كما امتنّ عليهم تعالى في كتابه حيث قال «وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ * وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ» الآية(1) وهم المؤمنون كانوا مع نوح وإبراهيم عليهما السّلام وغيرهما؛ فأمّا كونهم ملوكاً، وحكَّاماً، وأئمّة أعلاماً، وبلوغهم الكرامة من الله لهم ما لم يذهب آمالهم إليه؛ فإنّ موسى وهارون عليهما السّلام بعد هاك فرعون، ورثا مصر، واستقرّ لها الملك، والدين، وكطالوت وقتله، وذلك أنّ طالوت لمّا جاوز النهر هو، ومن معه لقتال جالوت كان معه داود عليه السّلام فرماه من مقلاعه بحجر فقتله وانكر أصحابه؛ فكان الملك والغلبة لطالوت وأصحابه وكان الملك بعده لداود عليه السّلام كما قال تعالى «وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ»(2) وكذلك لم يزل الملك والنبوّة في سليمان وولده وأولادهم إلى الأعرج من ولده فطمعت الملوك في بيت المقدس لضعفه وزمنه وأنّه لم يكن نبيّا فسار إليه ملك الجزيرة وكان يسكن بريّة سنجار وكان بخت نر كاتبه فأرسل الله تعالى

ص: 214


1- سورة البقرة: الآية 49 - 50
2- سورة البقرة: الآية 251

عليه ريحاً فأهلكت جيشه، وأفلت هو وكاتبه فقتله ابنه فغضب له بخت نر

فاغترّه حتّى قتله وملك بعده وكان ذلك أوّل ملك بخت نصر.

«فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانُوا حَيْثُ كَانَتِ الأَمْلَاءُ مُجْتَمِعَةً والأَهْوَاءُ مُتَّفَقَةً والْقُلُوبُ

مُعْتَدِلَةً والأَيْدِي مُتَرَادِفَةً»: متعاونة «والسُّيُوفُ مُتَنَاصِرَةً والْبَصَائِرُ نَافِذَةً والْعَزَائِم وَاحِدَةً أَلَمْ يَكُونُوا أَرْبَاباً فِي أَقْطَارِ الأَرَضِینَ ومُلُوكاً عَلَى رِقَابِ الْعَالِمَینَ فَانْظُرُوا إِلَی مَا صَارُوا إِلَيْهِ فِي آخِرِ أُمُورِهِمْ حِينَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ وتَشَتَّتَتِ الأُلْفَةُ واخْتَلَفَتِ الْكَلِمَةُ والأَفْئِدَةُ وتَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِینَ وتَفَرَّقُوا مُتَحَارِبِینَ وقَدْ خَلَعَ اللهُ عَنْهُمْ لِبَاسَ كَرَامَتِهِ وسَلَبَهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِهِ وبَقِيَ قَصَصُ أَخْبَارِهِمْ فِيكُمْ عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ مِنْكُمْ»: أمر لهم باعتبار حالهم في ألفتهم واجتماعهم، وإشارة إلى أنّ المستلزم لتلك الخیرات كلها إنّما كان هو الألفة، والاجتماع وباعتبار ما صاروا إليه في آخر أمورهم حن وقعت الفرقة بينهم، وتشتّت ألفتهم واختلفت كلمتهم وأفئدتهم فخلع الله عنهم لباس كرامته وسلبهم غضارة نعمته، وبقى قصص أخبارهم عرة للمعتبرين، وهو إشارة إلى أنّ المستلزم لتلك الرور هو ما حصلوا عليه من تفرّق الكلمة وذلك صادق على كلّ قرن قرن وأُمّة أُمّة آمنوا ولحلقتهم المجاهد من الفراعنة والجبابرة؛ ثمّ صبروا فانتصروا على أعدائهم، وأراد باعتدال القلوب استقامتها على الحقّ.

وقيل: أراد أهل السيوف فحذف المضاف، ويحتمل أن يكون قد استعار

وصف التناصر لها باعتبار كونها أسبابا يقوّى بعضها بعضا فصارت كالجماعة

الَّتي ينر بعضها بعضا، ونفوذ البصائر خرقها حجب الشبهات عن الحقّ واصلة

إليه. واتّحاد العزائم اتّفاق الإرادات الجازمة على طلب الحقّ، ومختلفین ومتحاربین منصوبان على الحال، وكذلك موضع قوله: قد خلع، وكذلك عبرتاً.

ص: 215

«فَاعْتَبِرُوا بِحَالِ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وبَنِي إِسْحَاقَ وبَنِي إِسْرَائِيلَ ع فَمَا أَشَدَّ اعْتِدَالَ

الأَحْوَالِ وأَقْرَبَ اشْتِبَاهً الأَمْثَالِ تَأَمَّلُوا أَمْرَهُمْ فِي حَالِ تَشَتُّتِهِمْ وتَفَرُّقِهِمْ لَيَالِيَ كَانَتِ الأَكَاسِرَةُ والْقَيَاصِرَةُ أَرْبَاباً لَهُمْ يَحْتَازُونَهُمْ عَنْ رِيفِ الْآفَاقِ»: الخصب والسواد «وبَحْرِ الْعِرَاقِ وخُضْرَةِ الدُّنْيَا إِلَی مَنَابِتِ الشِّيحِ ومَهَا فِي الرِّيحِ ونَكَدِ الْمَعَاشِ فَتَرَكُوهُمْ عَالَةً»: فقراء «مَسَاكِينَ إِخْوَانَ دَبَرٍ»: الدبرة الهزيمة في القتال «ووَبَرٍ أَذَلَّ الأُمَمِ دَاراً وأَجْدَبَهُمْ قَرَاراً»: كناية عن القحط «لَا يَأْوُونَ إِلَی جَنَاحِ دَعْوَةٍ يَعْتَصِمُونَ بِهَا ولَا إِلَی ظِلِّ أُلْفَةٍ يَعْتَمِدُونَ عَلَيها(1) فَالَأحْوَالُ مُضْطَرِبَةٌ والَأيْدِي مْخُتَلِفَةٌ والْكَثْرَةُ مُتَفَرَّقَةٌ فِي بَلَاءِ أَزْلٍ»: قحط «وأَطْبَاقِ جَهْلٍ مِنْ بَنَاتٍ مَوْءُودَةٍ»: كانوا دفنوها أحياء

«وأَصْنَامٍ مَعْبُودَةٍ وأَرْحَامٍ مَقْطُوعَةٍ وغَارَاتٍ مَشْنُونَةٍ»: مصبوبة «فَانْظُرُوا إِلَی مَوَاقِعِ نِعَمِ اللهِ عَلَيْهِمْ حِینَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا فَعَقَدَ»: الله «بِمِلَّتِهِ طَاعَتَهُمْ وجَمَعَ عَلَى دَعْوَتِهِ أُلْفَتَهُمْ كَيْفَ نَشَرَتِ النِّعْمَةُ عَلَيْهِمْ جَنَاحَ كَرَامَتِهَا وأَسَالَتْ لَهُمْ جَدَاوِلَ نَعِيمِهَا والْتَفَّتِ الْمِلَّةُ بِهِمْ فِي عَوَائِدِ بَرَكَتِهَا فَأَصْبَحُوا فِي نِعْمَتِهَا غَرِقِنَ وفِي خُضْرَةِ عَيْشِهَا فَكِهِینَ قَدْ تَرَبَّعَتِ الأُمُورُ بِهِمْ»: أي وقفت وتحسنت «فِي ظِلِّ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ وآوَتْهُمُ الْحَالُ إِلَی كَنَفِ عِزٍّ غَالِبٍ وتَعَطَّفَتِ الأُمُورُ عَلَيْهِمْ فِي ذُرَى مُلْكٍ ثَابِتٍ»: أعاليه أعاليه جمع ذروة وهي أعلى السنام «فَهُمْ حُكَّامٌ عَلَى الْعَالِمَینَ ومُلُوكٌ فِي أَطْرَافِ الأَرَضِینَ يَمْلِكُونَ الأُمُورَ عَلَی مَنْ كَانَ يَمْلِكُهَا عَلَيْهِمْ ويُمْضُونَ الأَحْكَامَ فِيمَنْ كَانَ يُمْضِيهَا

فِيهِمْ لَا تُغْمَزُ لَهُمْ قَنَاةٌ ولَا تُقْرَعُ لَهُمْ صَفَاةٌ»: من آل قحطان وآل معد، ومن بنى

إسحاق أولاد روم بن عيص بن إسحاق وبنو إسرائيل وهو يعقوب ابن إسحاق؛

فأمّا تشتّتهم وتفرّقهم، واستيلاء الأكاسرة، والقياصرة عليهم، وفعلهم بهم ما ذكر

فتفرّق كلمة العرب قبل ظهور محمّد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أمر ظاهر معلوم

ص: 216


1- ورد في بعض متون النهج: على عِزِّهَا

لكلّ من طالع كتب السیر، وبسبب ذلك كانت الأكاسرة أرباباً لهم يحتازونهم

ويبعّدونهم عن ريف الآفاق وبحر العراق وخرة الدنيا إلى البادية، وأمّا حال

بني إسحاق وإسرائيل في ذلك فنحو ما جرى لأولاد روم بن عيص من اختاف

النسطوريّة واليعقوبيّة والملكاتيّه حتّى كان ذلك سبباً لضعفهم واستيلاء القياصرة

عليهم في الروم وعى بني إسرائيل في الشام وإزعاج بخت نر لهم عن بيت

المقدس حتّى غزاهم المرّة الثانية كما أشار إليه القرآن الكريم بقوله «فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا» الآية(1).

وقد كان غزاهم مرّة أولى حن أحدثوا وغیّروا فرغبوا إلى الله تعالى وتابوا

فردّه عنهم وهي المرّة الأولى الَّتي حكى الله تعالى بقوله «فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا» الآية(2) ثمّ أحدثوا بعد ذلك فبعث الله إليهم أرميا فقام فيهم بوحي الله فضربوه

وقيّدوه وسجنوه فغضب الله عليهم فبعث إليهم عند ذلك بخت نصر فقتل منهم وصلب وأحرق وجدع وباع ذراريهم ونسائهم وسارت منهم طائفة إلى

مر ولجأوا إلى ملكها فسار إليه بخت نصر فأسره وأسر بني إسرائيل والَّذين

فرّوا منهم ارتحلوا إلى حدود المدينة كيهود خير وبنى قريظة والنضر ووادي

قرى وقينقاع. إذا عرفت ذلك فنقول: إنّه عليه السّلام أمر باعتبار حالهم وتأمّل

أمرهم في حال تشتّتهم وتفرّقهم قبل بعثة الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وفعل

أعدائهم ما كانوا يفعلون كيف فرجّ الله عنهم من تلك الشدائد بظهور محمّد صلَّى

ص: 217


1- سورة الإسراء: الآية 7
2- سورة الإسراء: الآية 5

الله عليه وآله وسلَّم لهم نبيّاً.

واعلم أنّ غايته عليه السّلام عن أمره باعتبار حال المؤمنن من الأمم الماضية

قبلهم اقتدائهم في الصر عى المكاره ولزوم الألفة والاجتماع مع ذلك وانتظار

الفرج به.

وقوله: فما أشدّ اعتدال الأحوال.

أي تساويها، وأراد أنّ أحوالكم الشبه والمساواة لأحوالهم، وكذلك ما أقرب

اشتباه الأمثال: أي إنّ أحوالكم شديدة المماثلة لأحوالهم لأنّكم أمثالهم.

وهو إشارة إلى وجه علَّة الاعتبار؛ فإنّهم إذا كانوا أمثالهم واعتدلت أحوالهم

وتشابهت أمورهم وجب اعتبار حالهم بحالهم ولذلك أتى بالفاء للتعليل.

وقوله: تأمّلوا أمرهم في حال تشتّتهم. إلى آخر الكلام.

إشارة إلى حال شدّتهم ورخائهم لتنقل أذهان السامعين إلى إثبات تلك الحال

لأنفسهم؛ فالماضون أصل ذلك الاعتبار، والسامعون فرعه، وحكم الأصل

أحوالهم الخيريّة والشريّة، وعلَّة ذلك الحكم كونهم أمثالا لهم.

وقوله: الثاني: كانت الأكاسرة والقياصرة أرباباً لهم.

أي مالكون لأمورهم يحتازونهم: أي كانت القياصرة يحتازون بني إسرائيل

وبني إسحاق، والأكاسرة يحتازون بني إسرائيل ويمنعونهم من أعمال العراق

فصار الجميع مطرودا للجميع عن خضرة الآفاق وجنان الشام وبحر العراق،

أراد دجلة الفرات.

ومنابت الشيح ومها في الريح.

ص: 218

كنايتان عن البريّة وظاهر أنّها محلّ نكد العيش وضيقه كما وبّخهم عليه

السّلام بوصف معاشهم في الفصول السابقة، ويختصّ الأكاسرة وهو جمع كرى بملوك الفرس والقياصرة بملوك الروم وهو جمع على غیر قياس.

وكنّى بالدبر والوبر عن الجمال، وفيه إيماء إلى فقرهم وضيق معاشهم لأنّ دبر

الجمال واستعمال الوبر وأكله بالدم من لوازم الفقر وضيق الحال، وعلى الرواية

الأخرى فالدبر كناية عن الفقر أيضاً، وظاهر أنّهم أذلّ الأمم دارا لأنّ أهل البادية

ليسوا أصحاب حصون وقاع يعتصم بها وإن كان لبعضهم حصون فعساهم

يحميهم عن أمثالهم فيما يجرى بينهم من الغارات، وليس ذلك ممّا يدفع عدوّاً ذا

قوّة أو يحتمل حصارا.

وقوله: وأجد بهم قرارا.

أي مستقرّاً: إذ كانت البادية لا تقاس إلى المدن في الخصب، واستعار لفظ

الجناح لما ينهض به دعوتهم ويقوى إذا دعوا، وكنّى بذلك عن كونهم لا يأوون

إلى من يجيب دعوتهم فيعتصمون به، وكذلك استعار لفظ الظلّ لما يستلزمه الألفة من التعاون والتعاضد والتناصر، ووجه المشابهة هو ما يستلزمه هذه الأمور من الراحة والسامة من حرارة نار العدوّ والحرب كما يستلزمه الظلّ من الراحة من حرّ الشمس.

وقوله: فالأحوال مضطربة.

شرح لحالهم يومئذ وكونهم على غیر نظام، وكنّى باختاف أيديهم عن عدم

اتّفاقهم على التناصر وبتفرّق كلمتهم عن عدم ألفتهم واجتماعهم على مصالحهم.

ص: 219

وإضافة بلاء إلى الأزل بمعنى من، وكذلك إضافة أطباق، وقد علمت أنّ

للجهل صفات ودركات متراكم بعضها فوق بعض أولاها عدم العلم بالحقّ،

وفوقها الاعتقاد بغیر الحقّ، وفوقها اعتقاد شبهة يقوى ذلك ويعضده مع تجويز

نقيضه، وفوقها اعتقاد تلك الشبهة جزما وفي نسخه الرضى رحمه الله، وإطباق

بكر الهمزة عى أنّه مصدر والمعنى وجهل مطبق عليهم.

وقوله: من بنات تفصيل للوازم ذلك الجهل، وذكر منها أربعة أنواع: أحدها:

وءد البنات، وأشار إليه القرآن الكريم «وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَ»(1) قيل كان ذلك في بنى تميم وقيس وأسد وهذيل وبكر بن وابل، قالوا: والسبب في

ذلك أنّ رسول الله دعا عليهم فقال: ((اللهمّ اشدد وطأتك عى مر واجعلها

عليهم سنين كسني يوسف))(2) فأجدبوا سبع سنين حتّى أكلوا الوبر بالدم كانوا

يسمّونه العلهز فوءدوا البنات لإملاقهم وفقرهم ويؤيّد ذلك قوله تعالى «وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ»(3) وقال قوم: بل كان وءدهم للبنات أنفة، وذلك أنّ تميما منعت النعمان الإمارة سنة من السنين فوجّه إليهم أخاه الريّان بن المنذر وجلّ من معه من بكر بن وأيل فاستاق النعم وسبا الذراري فوفدت بنو تميم إلى

النعمان فاستعطفوه فرقّ لهم وأعاد عليهم السبي وقال: كلّ امرأة اختارت أباها

ردّت إليه وإن اختارت صاحبها تركت عليه؛ فكلهنّ اخرن أباهنّ إلَّا ابنة قيس

بن عاصم فإنّها اختارت من سباها؛ فنذر قيس بن عاصم التميميّ أنّه لا تولد

له بنت إلَّا وءدها؛ ففعل ذلك، ثمّ اقتدى به كثر من بنى تميم. الثاني: عبادة

ص: 220


1- سورة التكوير: الآية 8 - 9
2- مسند أحمد بن حنبل: ج 2 ص 239؛ سنن الدارمي لعبد الله بن الرحمن الدارمي: ج 1 ص 374؛ الخاف للشيخ الطوسي: ج 1 ص 375
3- سورة الإسراء: الآية 31

الأصنام، وقد كان لكلّ قبيلة صنم يعبدونه فكان هذيل سواع، ولبني كلب ودّ، ولمذحج يغوث و كان بدومة الجندل، ولذي الكلاع نسر، و همدان یعوق، ولثقيف اللات والعزّى، ولقريش وبنی کنانة والأوس والخزرج مناة، وكان هبل على الكعبة وإساف ونائلة كانا على الصفا والمروة ومن نوادر جهلهم المشهورة أنّ بنی حنيفة اتّخذوا في الجاهليّة صنماً من خبش(1) فعبدو دهراً طويلاً ثمّ أصابتهم مجاعة فأكلوه فقال بعضهم في ذلك:

أكلت حنيفة ربّها *** زمن التقحّم والمجاعة

لم يحذروا من ربّهم *** سوء العواقب والتباعة

الثالث: قطع أرحامهم وقد كان أحدهم يقتل أباه وأخاه عند الحميّة لأدنى سبب كما هو معلوم من حالهم.

الرابع: الغارات والحروب كيوم ذي قار وكأيّام حرب بكر وتغلب في بني وابل وكحرب داحس وغير ذلك من الأيّام المشهورة.

ومقاماتهم في الحروب والغارات أكثر من أن تحصر وكلّ ذلك من لوازم الجهل.

وقوله: فانظروا إلى مواقع نعم الله عليهم.

أمر باعتبار حالهم عند مقدم محمّد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وبعثته فيهم بعد تلك الأحوال الشريّة.

ص: 221


1- الحبش: خبش: خَبَش الشيءً: جمعه من ههنا وههنا. لسان العرب لابن: ج 6 ص 292 والظاهر أن صنم بني حنيفة كان قد جمعوه وصمموا شكله من أشياء متعدده کالخشب والحجارة والحديد والنحاس

والضمير في عقد وجمع راجعان إلى الله تعالى لشهادة القرآن الكريم بنسبة الألفة بينهم إليه في قوله «لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»(1) ومعنی عقده لطاعتهم بملَّته جمعها بعد الانتشار ونظمها بعد التفرّق؛ إذ كانت طاعاتهم في الجاهليّة موافقة لأهوائهم المختلفة ومنتشرة بحسب اختلافها، واستعار لفظ الجناح لما أسبغت عليهم رحمة الله من النعمة وعمّتهم به من الكرامة، ورشّح بذکر النشر، وکنّی به عن عمومهم بها وكذلك استعار لفظ الجداول وهي الأنهار لأنواع نعيمها وسيول الخيرات الَّتي جرت عليهم من الكمالات النفسانيّة والبدنيّة ملاحظة لشبه تلك الطرق والأسباب بالجداول في جريان الماء بها، ورشّح بذكر الإسالة.

وقوله: والتقت الملَّة بهم في عوائد بركتها.

أي اجتمعت بهم ولقيتهم في منافعها الَّتي حصلت ببركتها. يقال: التقيت بفلان في موضع كذا: أي لقيته. وقيل: قوله: في موضع عواید نصب على الحال: أي الحال كونها كذلك، ولفظ الالتقاء كناية عن ورود الدين عليهم وتلبّسهم به، ولذلك استعار لفظ الغرقى ملاحظة لشبههم بالغرقى في شمول نعمة الدين لهم وغمر نعمة الإسلام إيّاهم حتّى كأنّهم لاستيلائها عليهم كالغرقى فاستلزم ذلك لملاحظة تشبيهها بالبحر الزاخر، وکنّی بخضرة عيشها عن سعة المعاش بسبب الملَّة وطيبه، وأراد بالسلطان هنا إمّا الحجّة والبرهان، والاقتداء، أو الغلبة والدولة. واستعار لفظ الظلّ لما يستلزمه ذلك السلطان من النعمة: أي وتمکَّنت بهم الأمور والأسباب الَّتي أعدّتهم لنعمة الله في ذلك الظلّ، وكذلك قوله: وآوتهم الحال: أي ألجأتهم وضمنتهم الحال الَّتي كانوا عليها إلى عزّ غالب، وهو عزّ الإسلام، ودولته

ص: 222


1- سورة الأنفال: الآية 63

ملاحظة لشبهه بأعالي الجبل المنيع في علوّه ومنعته وكذلك استعار لفظ التعطَّف الإقبال السعادات الدنيويّة والأُخرويّة عليهم بالإسلام وهي الَّتي عني بالأمور. ولا حظ في ذلك مشابهة ذلك الإقبال بتعطَّف ذي الرحمة والشفقّة على غيره.

وقوله: فهم حکَّام. إلى قوله: يمضيها فيهم؛ ظاهر، وكنّی بكونهم لا تغمز قناتهم عن قوّتهم وعدم انقهارهم للغير، وكذلك لا يقرع لهم صفاة، وهما يجریان مجرى المثل؛ ثمّ عقّب بتوبيخهم على قلَّة طاعتهم له فقال:

«أَلَا وإِنَّكُمْ قَدْ نَفَضْتُمْ أَيْدِيَكُمْ مِنْ حَبْلِ الطَّاعَةِ»: واستعار الحبل لما نظم بينهم من طاعتهم لله ورسوله، وكنّى بوصف نفض الأيدي عن خروجهم من الطاعة وشدة إطراحهم لها بكثير من أفعالهم.

«وثَلَمْتُمْ حِصْنَ اللهِ الْمَضْرُوبَ عَلَيْكُمْ بِأَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ»: استعار لفظ الحصن للإسلام ووجه المشابهة كونه حافظاً لهم من أعدائهم الظاهرة والباطنة كالحصن المضروب على أهله، ورشّح بذكر المضروب، وكذلك استعار لفظ الثلم لكسرهم الإسلام بأحكامهم الجاهليّة ومخالفتهم لكثير من أحكامه، ونقر عن تلك المخالفة بما يستلزمه من ذلك الثلم.

«وَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ قَدِ امْتَنَّ عَلَى جَمَاعَةِ هَذِهِ الأُمَّةِ فِيمَا عَقَدَ بَيْنَهُمْ مِنْ حَبْلِ هَذِهِ

الأُلْفَةِ الَّتِي يَنْتَقِلُونَ فِي ظِلِّهَا ويَأْوُونَ إِلَی كَنَفِهَا بِنِعْمَةٍ لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنَ الْمَخْلُوقِینَ

لَهَا قِيمَةً لأَنَّهَا أَرْجَحُ مِنْ كُلِّ ثَمَنٍ وأَجَلُّ مِنْ كُلِّ خَطَرٍ»: ترغيب في لزوم حبل الألفة والتمسّك به.

والنعمة الَّتي امتنّ الله تعالى بها في عقد حبل الألفة الَّتي لا يعرف أحد لها قيمة هي الألفة نفسها باعتبار ما استلزمه من المنافع العظيمة ودفع المضارّ

ص: 223

وعلَّل عدم معرفة الخلق لقيمتها بكونها أرجح من كلّ ثمن وأجلّ من كلّ خطر وهي صغري قياس ضمير تقدير كبراه: وكلّ ما كان كذلك لم يعرف أحد قيمته، وصدق الصغرى ظاهر؛ إذ كانت تلك الألفة والاجتماع على الدين سبباً عظيماً في استعدادهم لسعادتي الدنيا والآخرة.

«واعْلَمُوا أَنَّكُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَعْرَاباً وبَعْدَ الْمُوَالَةِ أَحْزَاباً مَا تَتَعَلَّقُونَ مِنَ

الإِسْلَامِ إِلَّا بِاسْمِهِ ولَا تَعْرِفُونَ مِنَ الإِيمَانِ إِلَّا رَسْمَهُ قُولُونَ النَّارَ ولَا الْعَارَ كَأَنَّكُمْ

تُرِيدُونَ أَنْ تُكْفِئُوا الإِسْاَمَ عَلَى وَجْهِهِ انْتِهَاكاً لِحَرِيمِهِ ونَقْضاً لِمِيثَاقِهِ الَّذِي وَضَعَهُ اللهُ لَكُمْ حَرَماً فِي أَرْضِهِ وأَمْناً بَیْنَ خَلْقِهِ»: توبيخ لهم بانتقالهم عن الأحوال والأقوال الإسلاميّة إلى الأحوال الجاهليّة: أي قد صرتم بعد کونکم مهاجرين أعراباً، ولمّا كانت الأعراب أنقص رتبة من المهاجرين وأهل المدن الجفاهم وقسوتهم وبعدهم عن الفضائل النفسانيّة وتعلَّمها وعن سماع ألفاظ الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ومجالسته واقتباس الآداب من أهل الحضارة كما قال تعالى «الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا» الآية لا جرم وبخهم لصيرورتهم كذلك. وليس كلّ الأعراب بالصفة المذكورة لقوله تعالى «وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» الآية والأحزاب الفرق الَّتي ينقسم لمحاربة الرسل وأوصيائهم ويجتمع لمخالفتهم وظاهر أنّ هؤلاء كذلك لانقسامهم وتشعّبهم إلى ناکثین ومارقين وقاسطين و منافقین و محاربتهم له حتّى ليس لهم إذن جامع في الإسلام يتعلَّقون به إلَّا اسم الإسلام ولا يعرفون من الإيمان إلَّا رسمه وأثره وشعاره الظاهر بالشهادتين وحضور الصلاة دون الشرائط أُلحقّه وما ينبغي له.

وقولهم: النار ولا العار كلمة يقولها أهل الكبر والأنفة من احتمال الأذى والضيم لأنفسهم أو لقومهم في الاستنهاض إلى الفتنة والنار والعار منصوبان

ص: 224

بفعلين مضمرین تقدیر هما ادخلوا النار ولا تحتملوا العار. ثمّ شبّههم في حالهم وقولهم ذلك بمن يقصد أن يقلَّب الإسلام على وجهه، وکنّی بذلك عن إفساده کناية بالمستعار ملاحظة لشبههه بالإناء يقلب فيخرج ما فيه عن الانتفاع به، ووجه التشبّه المذكور أنّ أفعالهم المذكورة كأفعال من يقصد ذلك من أعداء الإسلام لإرادة إفساده.

وقوله: انتهاكاً ونقضاً.

منصوبان على المفعول له والعامل قوله: تكفؤوا، ويصلحان غايتين عقيب كلّ فعل نسبه إليهم يفسرّهما ذكرهما هاهنا، و میثاقه ما أخذ عليهم فيه وأسلموا من جزئيّاته وهى الإيمان الصادق بالله ورسوله وما جاء به من القوانين الشرعيّة. ثمّ وصف ذلك الميثاق بكون الله تعالى قد وضعه لهم حرما في أرضه يمنعهم من كلّ عدوّ وأمنا بين خلقه لمن دخله وأراد محلّ أمن فحذف المضاف أو تجوّز بلفظ الأمن في المأمن إطلاقا لاسم الحال على المحلّ.

وإِنَّكُمْ إِنْ لَجَأْتُمْ إِلَی غَيْرِهِ حَارَبَكُمْ أَهْلُ الْكُفْرِ ثُمَّ لَا جَبْرَائِيلُ ولَا مِيكَائِيلُ ولَا

مُهَاجِرُونَ ولَا أَنْصَارٌ يَنْصُرُونَكُمْ إِلَّا الْمُقَارَعَةَ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَكُمْ»: تحذير من الاعتماد على غير الإسلام واللجأ إليه من شجاعة أو حميّة أو كثرة في قبيلة مع الخروج عن طاعة سلطان الإسلام والتفرّق فيه؛ فإنّ ذلك يستلزم طمع الكفّار فيهم.

وعدم نصرة الملائكة والمهاجرين والأنصار حینئذ لهم إمّا لأنّ النصرة كانت مخصوصة بوجود الرسول والاجتماع على طاعته وقد زالت بفقده أو لأنّها مشروطة بالاجتماع على الدين والألفة فيه والذبّ عنه وإذا التجئوا إلى غيره وحاربهم الكفّار لم يكن ناصر من الملائكة لعدم اجتماعهم على الدين، ولا من المهاجرين والأنصار

ص: 225

لفقدهم وهذا اللازم مخوف ينبغي أن يحذر منه فالملزوم وهو الالتجاء إلى غير الإسلام يجب أن يكون كذلك؛ والضمير المضاف إليه في حريمه وميثاقه يعود إلى الإسلام، وقال بعض الشارحين: الضمير في قوله يعود إلى الله والأوّل أليق بسياق الكلام، والنصب في جبرئیل و میکائیل على أنّهما اسمان ملاحظاً فيهما التنكير ولذلك أتى عقيبهما بعد لا بالنكرة، وينصرونكم هو خبرها مفسّراً لمثله عقيب ما يكون منها.

وقوله: إلَّا المقارعة بالسيف.

استثناء منقطع، و حكم الله الَّذي جعله غاية للمقارعة هو إفاضة لصورة النصر على أحد الفريقين والانقهار على الآخر.

«وإِنَّ عِنْدَكُمُ الأَمْثَالَ مِنْ بَأْسِ اللهِ وقَوَارِعِهِ وأَيَّامِهِ ووَقَائِعِهِ»: تذكير لهم بما ضرب الله لهم من الأمثال بالقرون الماضية وما أصابهم من بأس الله وقوارعه وهی الدواهي العظام وأيّامه وهي كناية عن الأيّام الَّتي أوقع بهم فيها عقوباته وبأسه حين استعدّوا لذلك بمعصيته وتهديد لهم بذلك إن خالفوا أمره.

«فَلَا تَسْتَبْطِئُوا وَعِيدَهُ جَهْاً بِأَخْذِهِ وتَهَاوُناً بِبَطْشِهِ ويَأْساً مِنْ بَأْسِهِ»: تهدید هم أيضاً بقرب العقوبة على المعصية، وإطلاق لفظ الاستبطاء هنا مجاز لأنّ الاستبطاء للشيء استبعاد لوقوعه مع انتظار، وقوعه المستلزم لطلبه وطلب تحقيق الوعيد ليس من مقاصد العقلاء حتّى ينهون عنه لكن لمّا كان الإنسان إذا همّ بالمعصية قد يستبعد تحقيق الوعيد، وقربه فيكون ذلك ممّا يقوّی معه داعيته، وشهوته لفعلها كان لذلك الاستبعاد سببيّة بوجه ما للمعصية، ولمّا كان ذلك الاستبطاء أطلق عليه إطلاقا لاسم الجزء على الكلّ؛ فيكون التهديد والتوبيخ عليه أبلغ،

ص: 226

ولأنّ الَّذي يقدم على المعصية مع علمه بما يستلزمه من الإعداد لنزول العذاب يناسب في الحقيقة من يستبطئ العقوبة، ويطلب تعجيلها بفعله، وكانوا بمعصيتهم کالمستبطئين للوعيد فأطلق في حقّهم لفظة الاستبطاء ونهاهم عنه.

ونصب جهلاً وتهاوناً وبأساً على المفعول له لصلوح الثلاثة عللاً غائية الاستبطاء الوعيد بمعنی استبعاده لأنّ جهل العبد بكيفيّة أخذه تعالى له بالموت وأهواله وشدائد الآخرة ممّا يستبعد معه وقوع تلك الأمور في حقّه كما هي.

وكذلك يأسه من بأسه بسبب ذلك الجهل وذلك البسط ممّا يحمله على ذلك الاستبعاد أيضاً.

«فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَلْعَنِ الْقَرْنَ الْمَاضِيَ بَیْنَ أَيْدِيكُمْ إِلَّا لِتَرْكِهِمُ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ

والنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَلَعَنَ اللهُ السُّفَهَاءَ لِرُكُوبِ الْمَعَاصِي والْحُلَمَاءَ لِتَرْكِ التَّنَاهِي»: تنبيه هم على أنّ لعنة الله للقرن الماضي بين أيديهم قبل الإسلام كان لازما مساوياً لتركهم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر منحصراً فيه، وكانت لعنته لسفهائهم وناقصي عقولهم لركوبهم المعاصي المنكرة، وأمّا للحكماء منهم ولذوي العقول فلعدم إنكارهم وتناهيهم عمّا يشاهدونه من ذلك المنكر، وذلك اللعن في قوله تعالى «لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ»(1).

«أَلَا وقَدْ قَطَعْتُمْ قَيْدَ الإِسْلَامِ وعَطَّلْتُمْ حُدُودَهُ وأَمَتُّمْ أَحْكَامَهُ»: تنبيه على أنّهم من اتّصف بذلك الملزوم أعني ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وركوب المعاصي؛ فلزمهم الدخول في زمرة من لعنه الله بذلك الترك، وغاية هذا الشبه

ص: 227


1- سورة المائدة: الآية 78 - 79

الجذب عن ركوب المعاصي إلى الانتهاء والتناهي عنها.

واستعار لفظ قيد الإسلام للألفة والاجتماع عليه وعلى امتثال أوامر الله فيه باعتبار کون ذلك حافظاً للإسلام عليهم ومانعاً له من التشرد والذهاب کما يمنع الجمل قيده من الشرود والتشتّت، وحدود الله: أحكامه الَّتي حدّها للناس ومنعهم من تجاوزها، وتعطيلهم لهم بإطراحها وتجاوزها، وكذلك إماتة أحكامه عدم العمل بها ووصف الإماتة مستعار لتركها وإهمالها لاعتبار أنهم أخرجوها بذلك الإهمال عن انتفاعهم بها كما أنّ مميت الشيء يخرجه عن حدّ الانتفاع به.

ثم شرع عليه السلام في اقتصاصه لحاله في تكليفه وموافقته لأوامر الله ببلائه الحسن في سبيله، وشرح حاله مع رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم والتنبيه على موضعه منه وكيفيّة تربيته له من أوّل عمره، والإشارة إلى قوته في دين الله. وذلك قوله:

«أَلَا وقَدْ أَمَرَنِيَ اللهُ بِقِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ والنَّكْثِ والْفَسَادِ فِي الأَرْضِ»: أي بلسان رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم، وذلك الأمر أما من القرآن الكريم في قوله تعالى «فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ»(1) ومن السنّة بأمر خاصّ وهو من أوامر الله أيضاً.

وقد ثبت عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنّه قال: «سيقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين»(2).

ص: 228


1- سورة الحجرات: الآية 9
2- الإفصاح للشيخ المفيد: ص 135؛ شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي: ج 1 ص 207؛ و المسترشد لمحمد بن جرير الطبري الشيعي: هامش ص 295؛ کنز الفوائد لأبي الفتح الكراجكي: ص 279

وكان الناكثون أصحاب الجمل لنكثهم بیعته عليه السّلام، وكان القاسطون أهل الشام، والمارقون الخوارج بالنهروان والفرق الثلاث يصدق عليهم أنّهم أهل البغي وقاسطون لخروجهم عن سواء العدل إلى طرف الظلم والجور، وتخصيص كلّ فرقة منهم بما سميّت به عرف شرعيّ.

فأمّا وصف الخوارج بالمارقين فمستنده قول الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لذي الثدية: «يخرج من ضئضئ هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية»(1) وقد ذكرناه قبل. والضئضئ: الأصل. وهذا الخبر من أعلام نبوّته صلَّى الله عليه وآله وسلَّم. ودلّ(2).

«فَأَمَّا النَّاكِثُونَ فَقَدْ قَاتَلْتُ وأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَقَدْ جَاهَدْتُ وأَمَّا الْمَارِقَةُ فَقَدْ دَوَّخْتُ»: هذه الخطبة كانت في آخر خلافته بعد وقائع صفّين والنهروان.

«وأَمَّا شَيْطَانُ الرَّدْهَةِ فَقَدْ كُفِيتُهُ بِصَعْقَةٍ سُمِعَتْ لَهَا وَجْبَةُ قَلْبِهِ»: اظطرابه

ورَجَّةُ صَدْرِهِ»: اظطرابه وجه صدري: حرك الشديدة، الأشبه: أنّ المراد به ذو الثدية من الخوارج لما ورد في الحديث أنّ النبيّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ذكره فقال: «شيطان الردهة يحتذره رجل من بجيلة».

فأمّا كونه شیطان فباعتبار كونه ضالَّا مضلَّا، وأمّا نسبته إلى الردهة فيشبه أن يكون لما روى أنّه حين طلبه عليه السّلام في القتلى وجده في حفرة دالية فيها خرير الماء فنسبه رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إليها لما كان يعلم من كيفيّة حاله

ص: 229


1- الخصال للشيخ الصدوق: ص 574؛ وباختلاف يسير: کمال الدین وتمام النعمة؛ وكذلك للشيخ الصدوق في من لا يحظره الفقيه: ج 1 ص 124؛ مناقب الإمام علي لأبن المغازلي في ص 65
2- ودل: قوله عليه السلام

في مقتله. وروي عن یزید بن رويم قال: قال لي على عليه السّلام في ذلك اليوم: يقتل اليوم أربعة ألف من الخوارج أحدهم ذو الثدية فلمّا طحن القوم ورام إخراج ذي الثدية فأتعبه أمرني أن أقطع أربعة ألف قصبة وركب بغلة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ثمّ أمرني أن أضع على كلّ رجل منهم قصبة فلم أزل كذلك وهو راكب خلفي والناس حوله حتّى بقيت في يدي واحدة فنظرت إليه وقد أربدّ وجهه وهو يقول والله ما كذبت ولا كذّبت.

فإذا نحن بخرير الماء في حفرة عند موضع دالية.

فقال لي: فتّش هذا. ففتشّته فإذا قتيل قد صار في الماء وإذا رجله في يدي فجذبتها وقلت: هذه رجل إنسان. فنزل عن البغلة مسرعاً فجذب الرجل الأخرى وجرّرناه فإذا هو المخدج. فكبّر عليه السلام ثمّ سجد وكبّر الناس بأجمعهم.

وأمّا الصعقة الَّتي أشار إليها فهي ما أصاب ذا الثدية من الغشي والموت بضربته عليه السّلام حتّى استلزم ذلك ما حكاه من سماعه لرجّة صدره و وجيب قلبه. وقال بعضهم المراد بالصعقة هنا الصاعقة وهي صيحة العذاب وذلك أنّه روى أنّ عليّاً عليه السّلام لمّا قابل القوم صاح القوم فكان ذو الثدية ممّن هرب من صيحته حتّى وجد قتيلا في الحفرة المذكورة. وقال بعضهم: يحتمل أن يشير بالشيطان إلى إبليس المتعارف کما أشرنا إليه في الخطبة الأولى وهو القوّة الوهميّة فاستعار لفظ الردهة وهي النقرة في الجبل للبطن الأوسط من الدماغ الَّذي هو محلّ هذه القوّة لمكان المشابهة، وقد يعبّر بالجبل عن الدماغ في عرف المجرّدین وعن القوى فيه، وبالجنّ الشياطين تارة وبالملائكة أخرى. ولمّا كانت الأنبياء عليهم السّلام والأولياء قد يشاهدون الأمور المجرّدة والمعاني المقبولة كالملائكة والجنّ والشياطين في صورة محسوسة باستعانة من القوّة المحصّلة كما علمت

ص: 230

في المقدّمات و کما سنشير إليه عن قرب احتمل أن يقال أنّه عليه السلام رأي الشيطان المذكور بصورة محسوسة ذات صدر وقلب وأنّه عليه السّلام لمّا كان في مقام العصمة وملكة للنصر على الشيطان وقهره وإبعاده سمع من الجناب الإلهيّ صيحة العذاب أرسلت على الشيطان فسمع لها وجيب قلبه ورّجة صدره کما سمعت رنّته فيما يحكيه في باقي الكلام. والله أعلم.

«وبَقِيَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ»: معاوية ومن بقي من جند الشام حيث وقعت الحرب بينهم وبينه بمكيدة التحكيم.

«ولَئِنْ أَذِنَ اللهُ فِي الْكَرَّةِ»: الرجعة «عَلَيْهِمْ لأُدِيلَنَّ»: من الأداله بمعنى الغلبة:

«مِنْهُمْ إِلَّا مَا يَتَشَذَّرُ»: يتفرق «فِي أَطْرَافِ الْبِلَادِ تَشَذُّراً»: تفرقاً وحكمه عليه السّلام بأنّه إن أذن الله سبحانه في الرجوع إليهم ليغلبنّهم ولتكونّن الدائرة عليهم ثقة بعموم توعّده تعالى في قوله ومن بغى عليه لينصرنّه الله وقوله تعالى «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ»(1) «إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ»(2) وأمثاله. وکنّی بإذن الله عن توفيق أسباب العود إليهم وإتمامها من الفسحة في الأجل وغيرها.

واستعمل ما هاهنا بمعنی من إطلاقا لاسم العامّ على الخاصّ أو تكون بمعنى الَّذي.

«أَنَا وَضَعْتُ فِي الصِّغَرِ بِكَلَكِلِ الْعَرَبِ»: أي قتلت صنادیدهم.

«وكَسَرْتُ نَوَاجِمَ قُرُونِ رَبِيعَةَ ومُضَرَ»: فيه تنبيه على فضيلته في الشجاعة والنجدة لغاية أن يخافه أعداؤه وتقوی به قلوب أوليائه لاعلى سبيل الفخر

ص: 231


1- سورة يونس: الآية 23
2- سورة محمد: الآية 7

المجرّد فإن ذلك رذيلة قد بنی الخطبة على النهی عنها، واستعار الكلكل للجماعة من أكابر العرب الَّذين قتلهم في صدر الإسلام وفرّق جمعهم، ووجه المشابهة كونهم محلّ قوّة العرب ومقدّميهم کما أنّ الصدر من الحيوان كذلك. ومن روی کلاكل بلفظ الجمع فهو أيضاً استعارة لساداتهم وأشرافهم ممّن قاتلهم وقتلهم، ووجه الاستعارة ما ذكرناه. ويحتمل أن يكون مجازاً من باب إطلاق اسم الجزء على الكلّ.

والباء زائدة في قوله: والمراد بوضعهم إذلالهم وإهانتهم.

يقال: وضعه فاتّضع: إذا غضّ منه وحطَّ منزلته. ويحتمل أن يكون للإلصاق: أي فعلت بهم الوضع والإهانة. وكذلك استعار القرون الأكابر ربيعة ومضر ممّن قاتلهم وقتلهم، ووجه الاستعارة كون كلّ واحد منهم لقبيلته كالقرون يظهر فيها فيصول به ويمنع من عدوّها كذي القرن من الحيوان بقرنه. وأراد بالنواجم من علا منهم وظهر أمره، ورشّح بذكر الكسر، وكنّی به عن قتلهم. وقتله للأكابر من مضر معلوم في بدو الإسلام فأمّا القرون من ربيعة فإشارة إلى من قتله منهم في وقائع الجمل وصفّين بنفسه وجيشه کما يقف على أسمائهم من يقف على تلك الوقائع.

ثم شرح تربية الرسول صلَّى الله عليه - وآله - وسلَّم من أوّل عمره وإعداده بتلك التربية للكمالات النفسانيّة من العلوم والأخلاق الفاضلة.

وعدّ أحواله الَّتي هي وجوه ذلك الاستعداد وأسبابه فقال:

«وقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللهِ ص بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ»: أشار بها إلى النسبة القريبة منه وكان عليه السلام أبن عمه دنیا و أبواهما أخوان لأب وأمّ دون غيرهما من بني عبد المطلب إلَّا الزبير.

ص: 232

«والْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ»: وأشار بها إلى ما شرحه من فعله به صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وهو وضعه له في حجره وليداً وسائر ما ذكره.

ومبدأ ذلك ما روي عن مجاهد قال: كان من نعمة الله على عليّ عليه السّلام ما صنعه الله له وأراد به من الخير أنّ قريشاً أصابتهم أزمّة شديدة وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة فقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لعمّه العبّاس وكان أيسر بنی هاشم: يا عبّاس إنّ أخاك أبا طالب كثير العيال وقد ترى ما أصاب الناس من هذه الأزمّة فانطلق بنا لنخفّف عنه من عياله فآخذ واحداً من بنيه وتأخذ واحداً فنكفيهم عنه فانطلقا إليه وقالا له.

فقال: إن تركتما لي عقيلاً فاصنعا ما شئتما فأخذ رسول الله صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم عليّاً عليه السلام وأخذ العبّاس جعفراً فكفّلاهما.

وقد كان أبو طالب كقل رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم دون غيره من أعمامه وربّاه في حجره ثمّ حماه من المشركين في مبدأ أمره ونصره عند ظهور دعوته وذلك ممّا يؤكَّد اختصاص منزلة عليّ عليه السّلام عنده. ومن منزلته الخصيصة به ما كان بينهما من المصاهرة الَّتي أفضت إلى النسل الأطهر دون غيره من الأصهار، قال عليه السلام:

«وَضَعَنِي فِي حَجْرِهِ وأَنَا وَلِيدٌ يَضُمُّنِي إِلَی صَدْرِهِ ويَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ»: أي يصونني «ويُمِسُّنِي جَسَدَهُ ويُشِمُّنِي عَرْفَهُ»: الرائحة الطبية «وكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ»: وفي معناه ما رواه: الحسن بن زید بن عليّ بن الحسين عليهم السّلام قال: سمعت زيداً أبي يقول: كان رسول الله صلَّى الله عليه - وآله - وسلَّم يمضغ اللحمة أو التمرة حتّى تلين ويجعلها في فم عليّ عليه السّلام وهو صغير في حجره.

ص: 233

«ومَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ ولَا خَطْلَةً»: خطاء «فِي فِعْلٍ»: وذلك لما استعدّ به من تربيته صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وسایر متمّمات الرياضة وأعراضها لاستيلاء قوّته العاقلة على قوّتي الشهویّة والغضبيّة وقهر نفسه الأمّارة الَّتي هي مبدأ خطأ الأقوال وخطل الأفعال حتّى حصلت له عن ذلك ملكة في ترك الرذائل واجتناب المآثم والمعاصي فصار له ذلك خُلقاً وطبعاً.

وإذا حقّق معنى العصمة في حقّه عليه السّلام وفي حقّ من ادّعيت له العصمة من أولاده يعود إلى هذه الملكة. فليس لاستكبارها في حقّهم عليه السّلام معنی.

«ولَقَدْ قَرَنَ اللهُ بِهِ»: الرسول «صلى الله عليه وآله مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِياً»: أي من حين كونه صبياً «أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَئِكَتِهِ»: أشار إلى جبرئيل وهو العقل الفعّال في عرف قوم.

واقترانه به إشارة إلى تولَّيه بتربية نفسه القدسيّة بإفاضة العلوم ومکارم الأخلاق وسائر الطرق المؤدّية إلى الله سبحانه من حين صغره صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بحسب حسن استعداد مزاجه وقوّة عقله.

ثمّ أشار في ذكر معرض أحواله معه إلى تربية الملك له صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ليعلم أنّه حصل بتبعيّته له على تلك المكارم، وممّا روى في حاله مع الملك وعصمته به ما روى الباقر محمّد بن علّي عليهما السّلام أنّه قال: «وکَّل الله بمحمّد صلَّى الله عليه - وآله - وسلَّم ملكاً عظيماً منذ فصل عن الرضاع یر شده إلى الخيرات ومكارم الأخلاق ويصدّه عن الشرّ ومساوي الأخلاق وهو الَّذي كان يناديه السلام عليك يا محمّد یا رسول الله وهو شابّ لم يبلغ درجة الرسالة

ص: 234

بعد فيظنّ أن ذلك من الحجر والأرض فيتأمّل فلا يرى شيئاً»، وروى أنّه صلىَّ الله عليه وآله وسلَّم قال: أذكر وأنا ابن سبع سنين وقد بنی ابن جدعان دارا بمكَّة فجئت مع الغلمان نأخذ التراب والمدر في حجورنا فننقله فملأت حجري تراباً فانكشفت عورتي فسمعت نداء من فوق رأسي يا محمّد أرخ إزارك فجعلت أرفع رأسي فلا أرى شيئاً إلَّا أنّني أسمع الصوت فتماسكت ولم أرخه فكأنّ إنساناً ضربني على ظهري فخررت لوجهي فانحلّ إزاري فسترني وسقط التراب إلى الأرض فقمت إلى دار عمّی أبي طالب ولم أعد.

ثم أشار إلى اتّباعه له وملازمته إيّاه بقوله: ولقد كنت أتبعه اتّباع الفصيل أثر أُمّة، ووجه الشبه في اتّباعه كونه لا ينفكّ عنه كالفصيل لامّه.

وأشار إلى ثمرة ذلك الاتباع بقوله: «ولَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ»: وجه الشبهة في اتباعه كونه لا ينفك عنه كالفصيل لأمه وأشار إلى ثمرة ذلك الأتباع بقوله: «يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَقِهِ عَلَماً ويَأْمُرُنِ بِالِقْتِدَاءِ بِهِ»: استعار العلم لكل من أخلاقه باعتبار کونه هادياً إلى سبيل الله کما مهدي العلم: «ولَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ فَأَرَاهُ ولَا يَرَاهُ غَیْرِي»: روي في الصحاح أنّه كان يجاور معه في كل سنة بحراء فيراه دون غيره، وروى في الصحاح: أنّه كان صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يجاور بحراء في كلّ سنة شهراً وكان يطعم في ذلك الشهر من جاءه من المساكين؛ فإذا قضى جواره انصرف إلى مكَّة، وطاف بها سبعاً قبل أن يدخل بيته حتّى جاءت السنة الَّتي أكرمه الله فيها بالرسالة فجاء في حراء في

(1) نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج: 13 ص 207؛ ولم يرجع الحديث إلى مضانه، حلية الأبرار لابن میثم البحراني في: ج 1 ص 34.

(2) وفي نسخة ورد: يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ ومَحَاسِنَ أَخْلَقِ الْعَالِمَ لَيْلَهُ ونَهَارَهُ.

ص: 235

شهر رمضان ومعه أهله خديجة وعليّ وخادم وروى الطبريّ وغيره: أنّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قبل مبعثه كان إذا حضرت الصلاة يخرج إلى شعاب مكَّة ويخرج معه عليّ مستخفين عن أبي طالب ومن سائر أعمامه وقومه يصلَّيان الصلاة فإذا أمسيا رجعا؛ فمكثا كذلك ما شاء الله ، ثمّ إنّ أبا طالب عثر عليها يوما وهما يصلَّيان. فقال لرسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: يا بن أخي ما هذا الَّذي أراك تدين به فقال: يا عمّ هذا دين الله ودين ملائكته ورسله ودين أبينا إبراهيم بعثني الله رسولاً إلى العباد وأنت يا عمّ أحقّ من بذلت له النصيحة ودعوته إلى الهدى وأحقّ من أجابني إليه وأعانني عليه؛ فقال أبو طالب: يابن أخي إنّي لا أستطيع أن أفارق ديني ودين آبائي وما كانوا عليه ولكن والله لا يخلص إليك شيء تكرهه ما بقيت(1) وروى أنّه قال لعلّي: يا بنيّ ما هذا الَّذي تدین به فقال يا أبه:

ص: 236


1- كثر الكلام عن إيمان أبي طالب رضوان الله تعالى عليه، ولا شك في أنه مات على دين النبي صلى الله عليه وآله والدليل عى ذلك قوله أعلاه «لا استطيع ان افارق ديني ودين آبائي» وجميع آباء النبي وأجداده كانوا موحدين لله تعالى علي ملة ودين خليل الرحمن أبراهيم عليه السام؛ وفي ذلك قوله تعالى «وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ»؛ سورة الشعراء: الآية 219؛ وقد ذكر الشيخ المفيد في الفصول المختارة: ص 285؛ جملة من قصيدة اللامية التي فيها اعتراف أبي طالب رضوان الله تعالى عليه؛ بنبوة النبي صلى الله عليه وآله؛ ألم تعلموا أن ابننا لا مكذب - لدينا ولا يعني بقول الأباطل وأبيض يستسقي الغمام بوجهه - ثمال اليتامى عصمة للأرامل فشهد بتصديق رسول الله؛ شهادة ظاهرة لا تحتمل تأويلا ونفى عنه الكذب على كل وجه، وهذا هو حقيقة الإيمان ومنه قوله: ألم تعلموا أن النبي محمدا - رسول أمين خط في سالف الكتب وهذا إيمان لا شبهة فيه لشهادته له في الإيمان برسول الله، وقد روى أصحاب السير أن أبا طالب رضوان الله عليه لما حضرته الوفاة اجتمع إليه أهله فأنشأ يقول: أوصي بنصر النبي الخير مشهده *** عليا ابني وشيخ القوم عباسا وحمزة الأسد الحامي حقيقته *** وجعفرا أن يذودوا دونه الناسا كونوا فداء لكم أمي وما ولدت *** في نصر أحمد دون الناس أتراسا فأقر للنبي بالنبوة عند احتضاره، واعرف له بالرسالة قبل مماته، وهذا أمر يزيل الريب في إيمانه بالله عز وجل وبرسوله (صلى الله عليه وآله) وبتصديقه له وإسامه؛ وكذلك قوله: والله لا وصلوا إليك بجمعهم *** حتى أغيب في التراب دفينا فامض ابن أخ فما عليك *** غضاضة وأبشر بذاك و ودعوتني وزعمت أنك ناصح *** ولقد صدقت وكنت ثم أمينا لولا المخافة أن تكون معرة *** لوجدتني سمحا بذاك مبينا وقد ذكرت هذه الآبيات جملة من المصادر منها: أسباب نزول الآيات للواحدي النيسابوري: ص 144؛ تفسير السمعاني: ج 2 ص 96؛ تاريخ الاسام للذهبي: ج 1 ص 150

إنّي آمنت بالله ورسوله وصدّقته فيما جاء به وصلَّيت الله معه قال: فقال له: أما إنّه لا يدعو إلَّا إلى خير فألزمه.

«ولَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الإِسْلَامِ غَیْرَ رَسُولِ اللهِ ص وخَدِيجَةَ وأَنَا

ثَالِثُهُمَا» : فيه اشار إلى كونه أوّل من أسلم من الذكور بقوله: وقد مضى منه عليه السّلام مثل ذلك حيث قال: أكذب على الله وأنا أوّل من آمن به وقوله: فلا تتبّروا منّى ولدت على الفطرة وسبقت إلى الإسلام والهجرة. وروي الطبري في تاريخه عن عباد بن عبد الله قال: سمعت عليّاً عليه السّلام يقول: «أنا عبد الله وأخو رسول الله وأنا الصدّيق الأكبر لا يقولها بعدي إلَّا كاذب مفتر صلَّيت قبل الناس لسبع سنين»(1)، وفي رواية أخرى: «أنا الصدّيق والفاروق الأوّل أسلمت قبل إسلام أبي

ص: 237


1- تاریخ: الطبري لمحمد بن جرير الطبري: ج 2 ص 56

بکر وصلَّیت قبل صلاته لسبع سنين»(1)، وروي ذلك أيضا من وجوه:

أحدها: عن ابن مسعود قال: قدمت إلى مكَّة فانتهيت إلى العبّاس بن عبد المطَّلب وهو يومئذ عطَّار جالس إلى زمزم ونحن عنده إذ أقبل رجل من باب الصفا عليه ثوبان أبيضان، عليه، وفرة جعدة إلى أنصاف أُذنيه، أشم أقني، أدعج العينين، كثّ اللحية، أبلج برّاق الثنايا، أبيض تعلوه حمرة، وعلى يمينه غلام مراهق أو محتلم حسن الوجه، تقفوهم امرأة قد سترت محاسنها. فقصدوا نحو الحجر فاستلمه الرجل ثمّ الغلام ثم طافوا بالبيت ثمّ استقبلوا الحجر وقام الغلام إلى جانب الرجل والمرأة خلفهما فأتوا بأركان الصلاة مستوفاة فلمّا رأينا ما لا نعرفه بمكَّة قلنا للعباس: إنّا لا نعرف هذا الدين فيكم. فقال: أجل والله . فسألناه عن هؤلاء فعرّفنا إيّاهم ثمّ قال: والله ما على وجه الأرض أحد يدين بهذا الدين إلَّا هؤلاء الثلاثة. وروى مثله عن عفيف بن قيس. الثاني: روى عن معقل بن يسار قال: كنت عند النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فقال لي: هل لك أن تعود فاطمه فقلت: نعم يا رسول الله فقمنا فدخلنا عليها فقال لها صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «كيف تجدينك قالت: والله لقد طال سقمي واشتدّ حزني وقال لي النساء: زوّجك أبوك فقيراً لا مال له فقال لها: أما ترضين أنّي زوّجتك أقدم أُمتي سلماً وأكثرهم علماً وأفضلهم حلماً قالت: بلی رضیت یا رسول الله»(2).

وروى هذا الخبر عن أبي أيّوب الأنصاريّ، وعن الصادق جعفر بن محمّد عليهما السّلام، والسدي، وابن عبّاس، وجابر بن عبد الله الأنصاريّ، وأسماء بنت

ص: 238


1- العثمانية للجاحظ: ص 300، المعارف لابن قتيبة الدينوري: ص 296؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 4 ص 122
2- المصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج 8 ص 739؛ البداية والنهاية لأبن كثير: ج 6 ص 243؛ الصحاح للجوهري: ج 6 ص 232؛ لسان العرب لابن منظور: ج 13 ص 491

عميس، وأُمّ أيمن. الثالث: روي عن أبي رافع قال: أتيت أبا ذرّ بالربذة أودّعه. فقال لي: ستكون فتنة فاتّقوا الله وعليكم بالشيخ عليّ بن أبي طالب فاتّبعوه فإنّي سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم يقول له: «أنت أوّل من آمن بي وأوّل من يصافحني يوم القيامة وأنت الصدّيق الأكبر وأنت الفاروق الَّذي يفرّق بين الحق والباطل وأنت یعسوب المؤمنين»(1). الرابع: عن أبي أيّوب الأنصاريّ أنّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال:

«لقد صلَّت الملائكة عليّ وعلى عليّ سبع سنينّ»(2) وذلك أنّه لم يصلّ معي رجل فيها غيره. واعلم أنّه ربمّا اعترض بعض الجهّال فقال: إنّ إسلامه عليه السّلام لم يكن معتبرا لكونه كان دون البلوغ. فجوابه من وجوه: أحدها: لا نسلَّم أنّه كان دون البلوغ. و مستند هذا المنع وجوه: أحدها: رواية شدّاد بن أوس قال سألت خباب بن الأرتّ عن سنّ عليّ يوم أسلم. وقال أسلم وهو ابن خمس عشرة سنة وهو يومئذ بالغ مستحکم البلوغ. الثاني: ما رواه أبو قتادة عن الحسن أنّ أوّل من أسلم عليّ بن أبي طالب وهو ابن خمس عشرة سنة. الثالث: عن حذيفة بن اليمانيّ قال كنّا نعبد الحجارة ونشرب الخمر وعليّ من أبناء أربع عشرة سنة يصلَّى مع رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ليلاً ونهاراً وقريش يومئذ تسافهه ما يذبّ عنه إلَّا عليّ. الرابع: أنّ المتبادر إلى الفهم من إطلاق لفظ المسلم والكافر إنّما

ص: 239


1- مسند زيد بن علي: ص 453؛ الأمالي للشيخ الصدوق: ص 383؛ مناقب الإمام أمير المؤمنين لمحمد بن سليمان الكوفي ص 284؛ شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي: ج 2 ص 278؛ المسترشد لمحمد بن جریر الطبري الشيعي: هامش ص 215
2- العثمانية للجاحظ: ص 292؛ مناقب الإمام أمير المؤمنين لمحمد بن سليمان الكوفي: ص 283؛ الإرشاد للشيخ المفيد: ج 1 ص 30؛ الفصول المختار للشيخ المفيد: ص 275؛ کنز الفوائد لأبي الفتح الكراجكي: ص 125؛ مناقب الإمام أمير المؤمنين لأبن المغازلي: ص 32

هو البالغ دون الصبي والمبادرة إلى الَّذهن دليل الحقيقة فالواجب إذن أن يرجع إلى إطلاق قولهم أسلم عليّ؛ فإنّ ذلك يشهد بكونه بالغاً عاقلاً لما يفعله خصوصاً في البلاد الحارّة مثل مكَّة فإنّ العادة في المزاج الصحيح فيها أن يبلغ صاحبه فيما دون خمس عشرة سنه وربّما احتلم وهو ابن اثنی عشرة سنة. الخامس: وهو الحاسم لمادّة الشبهة أنّه عليه السّلام إمّا أن يكون أسلم وهو بالغ أو لم يكن فإن كان الأوّل فقد حصل الغرض وإن لم يكن فلا معنى للكفر في حقّه إذ كان عليه السّلام مولوداً على الفطرة فمعنى الإسلام في حقّه إذن دخوله في طاعة الله ورسوله والاستسلام الأوامرهما فله إذن الإسلام الفطريّ والإيمان الخالص الوارد على نفس قدسيّة لم تتدّنس بأدناس الجاهليّة وعبادة الأصنام والاعتقادات الباطلة المضادّة للحقّ الَّتي صارت ملكات في نفس من أسلم بعد علوّ السنّ؛ فكان إيمانه بالله ورسوله واردا على نفس صاف لوحها عن كدر الباطل فهي المنتقشة بالحق متمثلة به؛ وكانت غاية إسلام غيره أن يمحو على طول الرياضة من نفوسهم الآثار الباطلة وملكات السوء فأين أحدهما من الآخر.

«أَرَى نُورَ الْوَحْيِ والرِّسَالَةِ وأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ ولَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ:

صوته حِینَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ صلى الله فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ مَا هَذِهِ الرَّنَّةُ فَقَالَ هَذَا

الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وتَرَى مَا أَرَى إِلَّ أَنَّكَ لَسْتَ

بِنَبِيٍّ ولَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ وإِنَّكَ لَعَلَى خَیْرٍ»: أعلم أن هذه أعلى مراتب الأولياء، واستعار النور لما يشاهده بعين بصيرته الباقية من أسرار الوحي والرسالة وعلوم التنزيل ودقائق التأويل وإشراقها على لوح نفسه القدسيّة، ووجه الاستعارة كون هذه العلوم والأسرار هادية في سبيل الله إليه من ظلمات الجهل کما يهدى النور من الطرق المحسوسة، ورشّح تلك الاستعارة بذكر الرؤية لأنّ النور حظَّ البصر، وكذلك استعار لفظ الريح لما أدركه من مقام النبوة وأسرارها، ورشّح بذكر الشمّ

ص: 240

لأنّ الريح حظَّ القوّة الشاقة، وأمّا سمّاعه لرنّة الشيطان فقد علمت كيفيّة سماع الإنسان لصوت الملك والشيطان وكيفيّة رؤيته لصورته وأنّ ذلك باستعانة من النفس بالقوّة المتخيّلة في اقتناص المعاني المعقولة وحطَّها إلى لوح الخيال مشاهدة للحسّ المشترك مسموعة.

وقد استلزمت هذه الإشارة أنّه عليه السّلام استعدّ لسماع صوت الشيطان في حزنه حين أيس من اتّباع الخلق له وانقيادهم لأمره وهو معنی عبادته إذ أصل العبادة الخضوع.

وكيفيّة ذلك أنّ نفسه القدسيّة أخذت معنى الشيطان مقروناً بمعنى اليأس والحزن، وكسته المتخيّلة صورة حزين صارخ، وحطَّته إلى لوح الخيال فصار مسموع الرنّة له، ويؤيد ذلك قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم حين سأله عن ذلك: «إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبيّ»(1)، فإنّه شهد له في ذلك بالوصول إلى مقام سماع الوحي وكلام الملك وصوت الشيطان وسائر ما يراه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ويسمعه ممّا قويت عليه نفسه القدسيّة إلا كونه نبيّاً فإنّ مقام النبوّة لا يتحقّق للإنسان إلَّا بالشرط الَّذي أشرنا إليه في موضعه.

وفرّقنا بين النبيّ وغيره من سائر النفوس الكاملة، وهو كون الإنسان مخاطباً من السماء بإصلاح أمر أبناء نوعه في معاشهم ومعادهم وذلك مقام أعلى وأكمل من كلّ مقام يبلغه إنسان بقوّته، وروي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «كان عليّ عليه السّلام يرى مع النبيّ صلَّى الله عليه - وآله - وسلَّم قبل الرسالة

ص: 241


1- عمدة عيون صحاح الإخبار في مناقب إمام الأبرار لابن البطريق: ص تقدیم 12، وأيضاً الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف للسید بن طاووس: ص 415 شرح مئة كلمة لأمير المؤمنين عليه السلام لابن میثم البحراني: ص 220

الضوء ويسمع الصوت»(1)، وقال له الرسول صلىَّ الله عليه - وآله - وسلَّم: «لولا أنّي خاتم الأنبياء لكنت شريكاً في النبوّة فإن لا تكن نبيّاً فأنت وصيّ نبيّ ووارثه بل أنت سيّد الأوصياء وإمام الأتقياء»(2)، ثمّ لمّا نفی عنه مقام النبوّة جبره به مقام الوزارة إشارة إلى أنّه الصالح لتدبير أحوال الخلق في معاشهم ومعادهم من ورائه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وبعده المعين له على ذلك.

ثمّ شهد له بأنّه على خير. وأشار به إلى ما هو عليه من الطريقة المحمودة واستقامة السيرة في خدمته وتربيته، وذلك خير كثير، وفي مسند أحمد بن حنبل عن عليّ قال: «كنت مع رسول الله صلَّى الله عليه - وآله - وسلَّم الليلة الَّتي أسري به فيها وهو بالحجر يصلَّی فلمّا قضى صلاته وقضيت صلاتي سمعت رنّة شديدة فقلت: يا رسول الله ما هذه الرئة وقال ألا تعلم هذه رنّة الشيطان علم أنّی أسرى الليلة إلى السماء فأيس من أن يعبد في هذه الأرض»(3).

ص: 242


1- مناقب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لمحمد بن سليمان الكوفي: ص 286؛ الإرشاد للشيخ المفيد: ج 1 ص 30؛ الفصول المختارة للشيخ المفيد: ص 266؛ کنز الفوائد لابي الفتح الكراجكي: ص 135؛ مناقب علي بن أبي طالب لأبن المغازلي: ص 32؛ و مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 1 ص 291؛ عمدة عيون صحاح الأخبار في مناقب إمام الأبرار: لأبن بطريق ص 65
2- خصائص الوحي المبين لابن بطريق: ص 28؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 13 ص 210؛ شرح النهج لابن میثم البحراني: ج 4 ص 318، ولم يرجع كل منهم الحديث إلى مضانه
3- مسند أحمد بن حنبل: ج 1 ص 111، بعبارة مختصرة؛ أما التفصيل لبقيت الحديث في مناقب الأمام أمير المؤمنين عليه السلام لمحمد بن سليمان الكوفي في هامش ص 380؛ الهداية الكبرى للحسين بن حمدان الخصيبي: ص 68؛ شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي: ج 1 ص 107؛ الأمالي للشيخ الطوسي: ص 583

وأمّا حديث الوزارة فروى أنّه لمّا نزل قوله «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ»(1) دعاني رسول الله صلَّى الله عليه - وآله - وسلَّم وأمرني أن أصنع صاعاً من طعام وأجعل عليه رجل شاة وأملا له عسّا من لبن ففعلت ما أمرني به. ثمّ أمرني بجمع بنی عبد المطَّلب فجمعتهم يومئذ وهم أربعون رجلاً فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعبّاس وأبو لهب فلمّا اجتمعوا دعا بالطعام الَّذي صنعه فوضعه ثمّ تناول مضغة من لحم فشقّها بأسنانه؛ ثمّ ألقاها في نواحي الصحفة وقال: كلوا باسم الله فأكلوا حتّى ما بهم إلى شيء من حاجة، والَّذي نفس محمّد بيده كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدّمته لجميعهم؛ ثمّ قال اسق القوم يا عليّ. فجئتهم بذلك العسّ فشربوا منه حتّى رووا جميعاً، وأيم الله كان الرجل الواحد ليشرب منه مثله؛ ثمّ قال لهم: يا بني عبد المطَّلب إنّي والله ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ما جئتكم به إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم فأحجم القوم عنها جميعاً فقلت، وإنّي لأحدثهم سنّاً وأرمصهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً: أنا یا رسول الله أكون وزیرك عليهم فأعاد القول. فأمسكوا. وأعدت ما قلت. فأخذ برقبتي ثمّ قال لهم: هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا. فقام القوم يضحكون يقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع»(2).

ص: 243


1- سورة الشعراء: الآية 214
2- مسند أحمد بن حنبل: ج 1 ص 111، بعبارة مختصرة؛ أما التفصيل لبقيت الحديث في مناقب الأمام أمير المؤمنين عليه السلام: لمحمد بن سليمان الكوفي هامش ص 380؛ الهداية الكبرى للحسين بن حمدان الخصيبي: ص 68؛ والقاضي النعمان المغربي في شرح الأخبار: ج 1 ص 107؛ والأمالي للشيخ الطوسي: ص 583

ثم أشار إلى كونه معه صلى الله عليه [وآله] وسلم حين أتاه الملأ من قریش وسألوه ماسألوا من دعوة الشجرة، وتصديقه عليه السّلام له في ذلك وإيمانه به.

وقد علمت فيما سلف أنّ نفوس الأنبياء عليهم السّلام لها تصرّف في هيولى عالم الكون والفساد فيستعدّ عن نفوسهم لقبول الأمور الخارقة للعادات الخارجة عن وسع غيرهم من أبناء نوعهم، وصورة الحال في سؤالهم وكيفيّة دعوته صلَّى الله عليه وآله وسلَّم للشجرة وإجابتهم وتكذيبهم بذلك وتصديقه عليه السّلام له مستوفي في كلامه، وذلك من قوله:

«ولَقَدْ كُنْتُ مَعَهُ صلى الله عليه وآله وسلم، لَّمَا أَتَاهُ الْمَلأُ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالُوا لَهُ يَا

مُحَمَّدُ إِنَّكَ قَدِ ادَّعَيْتَ عَظِياً لَمْ يَدَّعِهِ آبَاؤُكَ ولَا أَحَدٌ مِنْ بَيْتِكَ ونَحْنُ نَسْأَلُكَ أَمْراً

إِنْ أَنْتَ أَجَبْتَنَا إِلَيْهِ وأَرَيْتَنَاهُ عَلِمْنَا أَنَّكَ نَبِيٌّ ورَسُولٌ وإِنْ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْنَا أَنَّكَ سَاحِرٌ

كَذَّابٌ فَقَالَ صلى الله عليه وآله وسلم، ومَا تَسْأَلُونَ قَالُوا تَدْعُو لَنَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ

حَتَّى تَنْقَلِعَ بِعُرُوقِهَا وتَقِفَ بَیْنَ يَدَيْكَ فَقَالَ: إِنَّ الله عَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَإِنْ فَعَلَ

اللهُ لَكُمْ ذَلِكَ أَتُؤْمِنُونَ وتَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ قَالُوا نَعَمْ قَالَ فَإِنِّ سَأُرِيكُمْ مَا تَطْلُبُونَ

وإِنِّ لأَعْلَمُ أَنَّكُمْ لَا تَفِيئُونَ»: لا ترجعون «إِلَی خَیْرٍ وإِنَّ فِيكُمْ مَنْ يُطْرَحُ فِي الْقَلِيبِ

ومَنْ يُحَزِّبُ الأَحْزَابَ ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وآله وسلم، يَا أَيَّتُهَا الشَّجَرَةُ إِنْ كُنْتِ

تُؤْمِنِینَ بِاللهِ والْيَوْمِ الْخِرِ وتَعْلَمِینَ أَنِّ رَسُولُ اللهِ فَانْقَلِعِي بِعُرُوقِكِ حَتَّى تَقِفِي بَیْنَ يَدَيَّ بِإِذْنِ اللهِ والَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَنْقَلَعَتْ بِعُرُوقِهَا وجَاءَتْ ولَهَا دَوِيٌّ»: صوت «شَدِيدٌ وقَصْفٌ كَقَصْفِ أَجْنِحَةِ الطَّیْرِ»: القصف: الكسر، ورعد شديد الصوت والمراد هنا الصوت.

«حَتَّى وَقَفَتْ بَیْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ص مُرَفْرِفَةً»: رفرف الطائر إذا حرك جناحه حول شيء يريد أن يقع عليه.

ص: 244

«وأَلْقَتْ بِغُصْنِهَا الأَعْلَى عَلَى رَسُولِ اللهِ ص وبِبَعْضِ أَغْصَانِهَا عَلَی مَنْكِبِي وكُنْتُ

عَنْ يَمِينِهِ صلى الله عليه وآله وسلم، فَلَمَّا نَظَرَ الْقَوْمُ إِلَی ذَلِكَ قَالُوا عُلُوّاً واسْتِكْبَاراً

فَمُرْهَا فَلْيَأْتِكَ نِصْفُهَا ويَبْقَى نِصْفُهَا فَأَمَرَهَا بِذَلِكَ فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ نِصْفُهَا كَأَعْجَبِ إِقْبَالٍ وأَشَدِّهِ دَوِيّاً فَكَادَتْ تَلْتَفُّ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالُوا كُفْراً

وعُتُوّاً فَمُرْ هَذَا النِّصْفَ فَلْيَرْجِعْ إِلَی نِصْفِهِ كَمَا كَانَ فَأَمَرَهُ ص فَرَجَعَ فَقُلْتُ أَنَا لَا إِلَهً إِلَّا اللهُ إِنِّ أَوَّلُ مُؤْمِنٍ بِكَ يَا رَسُولَ اللهِ وأَوَّلُ مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَی تَصْدِيقاً بِنُبُوَّتِكَ وإِجْاَلً لِكَلِمَتِكَ»: دعوتك للإسام «فَقَالَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ بَلْ ساحِرٌ كَذَّابٌ عَجِيبُ السِّحْرِ خَفِيفٌ فِيهِ وهَلْ يُصَدِّقُكَ فِي أَمْرِكَ إِلَّا مِثْلُ

هَذَا يَعْنُونَنِي»: أعلم أن حكمه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم بأنهم لا يفيئون إلى خير وأنّ منهم من يطرح في القليب ومنهم من يحزّب الأحزاب فمن غيب الله الَّذي اطَّلعه عليه وارتضاه له فعلمه بحسب قوّته الحدسيّة القدسيّة.

والقليب هو قليب بدر، ومن طرح فيه عتبة وشيبة ابني ربيعة وأُميّة بن عبد شمس وأبي جهل والوليد بن المغيرة وغيرهم طرحوا فيه بعد انقضاء الحرب وكان ذلك الخبر من أعلام نبوّته صلَّى الله عليه [وآله] وسلم ومن يحزّب الأحزاب هو أبو سفيان وعمرو بن عبد ودّ و صفوان بن أُميّة وعكرمة بن أبي جهل وسهل بن عمرو وغيرهم.

وأمّا حديث الشجرة فمشهور مستفاض رواه المحدّثون في كتبهم، وذكره المتكلَّمون في معجزاته صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ومنهم من روى ذلك مختصرا أنّه دعا شجرة فأقبلت تخدّ الأرض خدّا. ونقله البيهقيّ في كتاب دلائل النبوّة(1)، وأمّا نداؤه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم للشجرة، وقوله لها: إن کنت تؤمنين بالله.

ص: 245


1- دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة: لأحمد بن الحسين البيهقي في ص 14

إلى قوله: بإذن الله. فقد علمت أنّ الخطاب مخصوص في عرف العقلاء لمن يعقل لكنّه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لمّا وجّه نفسه القدسيّة من إعداد الشجرة لما يروم منها وعلم أنّه واجبة الاستعداد بذلك لقبول أمر الله بما أراد منها خاطبها خطاب من يعقل استعارة ملاحظة لشبهها بمن يعقل في إجابة ندائه وإتيانه، وفائدة ذلك الخطاب أن يكون وجود ما رام منها عقيب خطابه أغرب وفي نفوس الحاضرين أبلغ وأعجب فإذا كان وقوع تلك الحال بها غريباً كان كونها على تلك الحال وفق خطابه ودعائه لها أغرب لزيادة إيهام كونها سمعت ذلك النداء وعقلت ذلك الخطاب مع أنّها ليس من شأنها ذلك، وأعجب في نفوس السامعين. ولذلك خرج هذا عن كونه سفهاً وعبثاً.

ونحو ذلك قوله تعالى «وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي»(1).

واعلم أنّ ذلك على رأى الأشعريّة أمر ظاهر لأنّ البنية المخصوصة ليست شرطا في حصول الحياة وما یکون مشروطا بها من السمع والفهم فلذلك جاز أن يكون الله تعالى خلق في الشجرة علماً وسمعاً قبلت بها خطابه عليه السّلام.

وقيل: الخطاب في الأصل لله تعالى فكأنّه قال: اللهم إن كانت هذه الشجرة من آثارك الشاهدة بوجودك وأنت مرسل لي فاجعل ماسألت منها شاهداً على صدق دعواي. ولمّا كانت الشجرة محلّ ما سأل من الله خاطبها لذلك؛ فعلى هذا يكون مجازاً من باب إقامة المسبب مقام السبّب قال: ويحتمل أن يكون الخطاب في الأصل للملائكة الموکَّلين بالشجر.

ص: 246


1- سورة هود: الآية 44

«وإِنِّي لِمَنْ قَوْمٍ لَا تَأْخُذُهُمْ فِي اللهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ»: كناية عن بلوغه في طاعة الله الغاية المطلوبة منه فإنّه عليه السّلام لم يقف دون غاية منها حتّى يلام على التقصير فيها.

ثم وصف المتّقين الَّذين سأله همّام عن صفتهم. والصفات المذكورة بعض صفاتهم وقد سبقت مستوفاة في خطبة مفردة وذكر هاهنا عشراً فقال:

«سِيمَاهُمْ سِيمَا الصِّدِّيقِنَ»: الملازمين للصدق في أقوالهم وأفعالهم طاعة لله تعالى وقد عرفت علاماتهم في خطبة همّام.

«وكَلَمُهُمْ كَلَامُ الأَبْرَارِ عُمَّارُ اللَّيْلِ»: من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والذكر الدائم لمعبودهم الحقّ.

«ومَنَارُ النَّهَار»: كناية بعمارتهم له عن قيامهم فيه بالعبادة. روى أنّ أحدهم كان إذا کسل عن العمل علَّق نفسه بحبل حتّى يصبح عقوبة لها.

«مُتَمَسِّكُونَ بِحَبْلِ الله الْقُرْآنِ»: استعار الحبل للقرآن باعتبار كونه سبباً لمتعلَّميه ومتدبّريه إلى التروّي من ماء الحياة الباقية كالعلوم والأخلاق الفاضلة كالحبل الَّذي هو سبب الارتواء والاستقاء من الماء، أو باعتبار كونه عصمة لمن تمسّك به صاعداً من دركات الجهل إلى أقصى درجات العقل کالحبل يصعد فيه من السفل إلى العلوّ.

وفي بعض النسخ القرآن مجرور بعطف البيان.

«يُحْيُونَ سُنَنَ اللهِ وسُنَنَ رَسُولِهِ»: استعار وصف إحياء السنن لهم باعتبار إقامتها وإبقاء العمل بها.

ص: 247

«لَا يَسْتَكْبِرُونَ ولَا يَعْلُونَ»: ولما كان الاستكبار في الإنسان رذيلة كان عدمه عنه فضيلة.

«ولَا يَغُلُّونَ»: عدم الغلول فضيلة، لكون الغلول مستلزماً لرذائل کالشره والخيانة والحرص والدنائة وغيرها.

«ولَا يُفْسِدُونَ»: ولمّا كان كلّ فساد مستلزم رذيلة أو رذائل کالزنا المستلزم الرذيلة الفجور وكالقتل المستلزم لرذيلة الظلم وكذلك سائرها كان عدمه کمالاً.

«قُلُوبُهُمْ فِي الْجِنَانِ»: جمع جنة وذلك أنك علمت أن أعلى غرف الجنان ودرجاتها هو المعارف الإلهية والقعود في مقاعد الصدق عند مليك مقتدر وذلك من مقام العارفين وأولياء الله الصادقين.

«وأَجْسَادُهُمْ فِي الْعَمَلِ»: يحتمل أن يكون للحال أي أن قلوبهم في الجنان ما يكون أجسادهم مستغرقة الحركات والسكنات في الأعمال الصالحات «أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ»(1).

ومن كلام له عليه السّلام قاله لعبد الله بن عباس وقد جائه برسالة من عثمان وهو محصور:

وسبب الرسالة، أن القوم الذين حصروه کانوا یکررون ندائه والصباح به وتوبيخه على أحداثه من تفريق بيت المال على غير مستحقيه ووضعه في غير مواضعه وسائر الأحداث التي ذكرنا أنها نسبت إليه:

يسأله منها الخروج إلى ماله بينبع: قرية صغيرة من أعمال المدينة.

ص: 248


1- سورة البقرة: الآية 177

ليقل هتف الناس: صياحهم ودعاؤهم باسمه للخلافة بعد أن كان سأله مثل ذلك من قبل، فقال عليه السّلام: «يَا ابْنَ عَبَّاسٍ مَا يُرِيدُ عُثْاَنُ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَنِي جَمَلًا

نَاضِحاً»: يستقي عليها «بِالْغَرْب»: الدلو العظيمة، استعار الجمل الناضح ورشح بذكر الغرب وأشار إلى وجه المشابهة بقوله: «أَقْبِلْ وأَدْبِرْ»: وقوله: «بَعَثَ إِلَيَّ أَنْ أَخْرُجَ ثُمَّ بَعَثَ إِلَيَّ أَنْ أَقْدُمَ ثُمَّ هُوَ الْآنَ يَبْعَثُ إِلَيَّ أَنْ أَخْرُجَ»: شرح لكيفيّة تصريفه في حال حصره و مضايقة الناس له وبعثه إلى الناس في أمره کما أشرنا إليه من قبل.

وقد كان قصده بتلك الرسالة من بين سائر الصحابة لأحد أمرين: أحدهما: اعتقاده أنّه كان أشرف الجماعة والناس له أطوع، وأنّ قلوب الجماعة معه حينئذ. والثاني: أنّه كان يعتقد أنّ له شركة مع الناس في فعلهم به وكانت بينهما هناة فكان بعثه له من بين الجماعة متعيّناً لأنّهم إن رجعوا بواسطته فهو الغرض وإن لم يرجعوا حصلت بعض المقاصد أيضاً وهو تأكَّد ما نسبه إليه من المشاركة في أمره، وبقاء ذلك حجّة عليه لمن بعده ممّن يطلب بدمه حتّى كان لسبب هذا الغرض الثاني ما كان من الوقائع بالبصرة وصفّين وغيرهما.

«واللهِ لَقَدْ دَفَعْتُ عَنْهُ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ آثِماً»: يحتمل وجوهاً: أحدها: قال بعض الشارحين: إنّي بالغت في الذبّ عنه حتّی خشيت لكثرة أحداثه أن أكون آثما في الذبّ عنه، والاجتهاد في ذلك، والثاني: يحتمل أن يريد أنّی خشيت الإثم في تغريري بنفسي لأن دفع الجمع العظيم في هذا الأمر العظيم مظنّة الخوف على النفس فيكون الإقدام علیه مظنّة إثم الثالث: يحتمل أنّه يريد أنّه خشي الإثم من الإفراط في حقّهم كأن يضرب أحدهم بسوطه ويغلظ له في القول والشتم. وبالله التوفيق.

ص: 249

ومن كلام له عليه السّلام: اقتصر فيه ذكر ما كان منه بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله، ثم لحاقه به

«فَجَعَلْتُ أَتْبَعُ مَأْخَذَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم «فَأَطَأُ ذِكْرَهُ حَتَّى

انْتَهَيْتُ إِلَی الْعَرَجِ مِن كَلَمٍ طَوِيلٍ»: هذا الفصل من كلام يحكى فيه ما كان يجري من حاله في خروجه من مكة إلى بعدما هاجر إليها رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم.

وذلك أنّه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم لمّا عزم على الهجرة أعلم عليّاً عليه السّلام بخروجه وأمره أن يبيت على فراشه خدعة للمشركين الَّذين كانوا عزموا على قتله في تلك الليلة وإيهاماً لهم أنّه لم يبرح فلا يطلبونه حتّى يبعد مسافته عنهم، وأن يتخلَّف بعده بمكَّة حتّى يؤدّى عنه الودائع الَّتي كانت عنده للناس فإنّ جماعة من أهل مكَّة استودعوه ودائع لما رأوا من أمانته.

وكانوا قد أجمعوا على أن يضربوه بأسيافهم من أيدي جماعة من بطون مختلفة ليضيّع دمه بين بطون قريش فلا يطلبه بنو عبد مناف وكان ممّن أجمع على ذلك النضر بن الحرث من بني عبد الدار، وأبو البختري بن هشام، وحکیم بن حزام، وزمعة بن الأسود بن عبد المطَّلب الثلاثة من بني أسد بن عبد العزّی وأبو جهل بن هشام، وأخوه الحرث، وخالد بن الوليد بن المغيرة، والثلاثة من بنی مخزوم وبنية ومنية ابنا الحجّاج، وعمرو بن العاص والثلاثة من بني سهم وأُميّة بن خلف، وأخوه أبّي من بني جمح فنما هذا الخبر من اللَّيل إلى عتبة بن ربيعة فلقي قوماً منهم ونهاهم عن ذلك وقال إنّ بنی عبد مناف لا تسكت عن دمه ولكن صفّدوه في الحديد واحبسوه في دار من دوركم وتربّصوا به أن يصيبه من الموت ما أصاب أمثاله من الشعراء وكان عتبة بن ربيعة سیّد بنی عبد شمس فأحجم أبو

ص: 250

جهل وأصحابه تلك الليلة عن قتله إحجاما ثمّ تسوّروا عليه وهم يظنّونه في الدار فرأوا إنساناً مسجّی بالبرد الحضرميّ فلم يشکَّوا أنّه هو فكانوا يهمّون بقتله ثمّ يحجمون لما يريد الله من سلامة عليّ عليه السّلام. ثمّ قال بعضهم لبعض: ارموه بالحجارة. فرموه فجعل عليّ يتصوّر منها ويتأوّه تأوّها خفيّاً ولا يعلمهم بحاله خوفاً على رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أن يُطلب فيدرك.

فلم يزالوا حتّى الصباح فوجدوه عليّاً، ثمّ تخلَّف عنه عليه السلام بمكة لقضاء ما أمره به. ثمّ لحق به فجاء إلى المدينة راجلاً قد تورّمت قدماه و تصادف رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم نازلاً بقبا على كلثوم بن المقدم فنزل معه في منزله. ثمّ خرج معه من قبا حتّى نزلا بالمدينة على أبي أيّوب الأنصاري.

وإلى ذلك أشار بقوله: فجعلت أتّبع مأخذ رسول الله. أي الجهة والطريق الَّتي أخذ فيها وسار حتّى انتهيت إلى الموضع المعروف بالعرج.

قال السيد رضي الله عنه:

وقوله: فأطأ ذكره.

من الكلام الذي رمى إلى غايتي الإيجاز والفصاحة واراد أني كنت أعطي خیره من بدأ خروجي إلى أن انتهيت إلى هذا الموضع فکنی عن ذلك بهذه الكناية العجيبة: أقول استعار وصف الوطئ لوقوع ذهنه على ذكره صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وخبره من الناس في تلك الطريق كوقوع القدم على الأرض، ووجه المشابهة أنّ الخبر عنه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وذكره طریق حرکات قدم عقله إلى معرفة حسّه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كما أنّ المحسوس طریق لحركات قدمه إلى الوصول إليه.

ص: 251

وقيل: أراد بذكره ما ذكره لي ووصفه من حال الطريق والأوّل أسبق إلى الفهم وبالله التوفيق.

ومن خطبة له عليه السّلام: في أمرهم بالعمل حال ما هم في مهلته على الأحوال الَّتي أشار إليها:

«فَاعْمَلُوا وأَنْتُمْ فِي نَفَسِ الْبَقَاءِ والصُّحُفُ مَنْشُورَةٌ والتَّوْبَةُ مَبْسُوطَةٌ»: أي صحف الأعمال فإنّها إنّما تطوى بانقطاع الأعمال بالموت.

تطوى بالموت كما قال تعالى: «وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ»(1).

«والْمُدْبِرُ يُدْعَى»: أي حال كون المدبر عن طاعة الله المعرض عنها يدعى إليها من الأنبياء والرسل والنواميس الشرعيّة، وذلك منقطع بالموت.

«والْمُسِئُ يُرْجَى»: أي يرجى إصلاحه ودعوة ذلك حال البقاء في الدنيا ولما ذكر هذه الأحوال للرغيب في العمل عليها وذلك حال البقاء في الدنيا ولما ذكر هذه الأحوال للترغيب في العمل عليها والتذكير بكونها أحولا يمكن معها أردفها بأحوال يمتنع معها العمل تنفيرة عنها فقال: «قَبْلَ أَنْ يَمُدَ الْعَمَلُ»: استعار الجمود لوقوفه ملاحظة لشبهه بالماء في جوده عن الجريان.

«ويَنْقَطِعَ الْمَهَلُ وتنْقَضِيَ(2) المدة»: مدة البقاء «ويُسَدَّ بَابُ التَّوْبَةِ»: استعار الأبواب لطرق الاعتبار الَّتي يرجع منها إلى الله تعالى، وكذلك الملائكة: أي الكرام الكاتبين فإنّ الملائكة الموكلين تضبط أعمال كلّ شخص يصعدون إلى السماء بعد

ص: 252


1- سورة النساء: الآية 18
2- ورد: في نسخة: الَأجَل

بطلان الأعمال.

«وتَصْعَدَ الْمَلَائِكَةُ»: أي الكرام الكاتبين فأن الملائكة الموكلين بضبط اعمال كل شخص يصعدون في السماء بعد بطلان الأعمال.

«فَأَخَذَ امْرُؤٌ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ»: أمر في صورة الخبر: أي فليأخذ المرء من نفسه: أي بعض نفسه بالاجتهاد والنصب في العبادة فإنّهما يهزلان البدن ويأخذان من النفس لذّاتها ومشتهياتها البدنيّة، ويجوز أن يريد بالنفس هنا الشخص، والأخذ منه ظاهر.

وقوله: لنفسه، أي: ليكون ذلك کمالا لنفسه وذخراً لها في معادها.

«وأَخَذَ مِنْ حَيٍّ لِمَيِّتٍ ومِنْ فَانٍ لِبَاقٍ ومِنْ ذَاهِبٍ لِدَائِمٍ»: أمر أيضاً في صورة الخبر. وفاعل أخذ هو قوله: امرء. والحيّ والميّت هو المرء نفسه: أي فليأخذ امرء من نفسه باعتبار ما هو حيّ لنفسه باعتبار ما يصير إليه من حال الموت.

وقوله: من فان لباق؛ أي فليأخذ من الأمر الفاني وهي دنياه ومتاعها للأمر الباقي وهو النعيم الباقي الأبديّ في الآخرة، ومعنى ذلك الأخذ أنّ الإنسان مکتسب من الدنيا، ومتاعها الفاني کمالاً باقياً يوصل إلى نعيم دائم وذلك بالصدقات والزكوات(1).

ثم أخذ في وصف ذلك المرء كأنه سئل عنه فقال:

«امْرُؤٌ خَافَ اللهَ وهُوَ مُعَمَّرٌ إِلَی أَجَلِهِ ومَنْظُورٌ إِلَی عَمَلِهِ جملة»: خالية، ونبّهه العلة أجله وكون عمله منظوراً إليه أي منظوراً لله ومرئيّاً له تخويفاً من هجوم

ص: 253


1- الزكوات: جمع زكاة

الأجل وجذباً إلى صالح الأعمال الله تذکیر اطَّلاعه عليها وعلمه بها.

«امْرُؤٌ أَلْجَمَ نَفْسَهُ بِلِجَامِهَا»: بدل من امرء الأوّل، واستعار اللجام للزهد الحقيقيّ والعفّة. ووجه المشابهة كونهما مانعين للنفس الأمّارة من جماحها في تيه الهوى ومعاصي الله کما يمنع اللجام الدابّة عن الجماح، ورشّح بذكر الإلجام، وکنّی به عن ورع النفس بالزهد، وأشار إلى ذلك الوجه من المشابهة بقوله:

«وزَمَّهَا بِزِمَامِهَا فَأَمْسَكَهَا بِلِجَامِهَا عَنْ مَعَاصِ اللهِ»: واستعار الزمام للعبادة باعتبار ما هي قائدة للنفس الأمّارة بالسوء إلى موافقة النفس المطمئنّة في طاعة الله كما تقاد الناقة بزمامها إذ علمت أنّ العبادة إنّما وضعت لتطويع النفس الأمّارة للعقل وانقيادها تحت أسره وانجذابها خلفه عند توجّهه في المعارج القدسيّة إلى حضرة ذي الجلال والإكرام، وإلى ذلك الوجه من المشابهة أشار بقوله: «وقَادَهَا بِزِمَامِهَا إِلَی طَاعَةِ اللهِ»: ورشّح بذکر الزمام والقود، وكنّی بهما عن إيقاع العبادة وتطويع النفس لها وبالله التوفيق.

ومن خطبة له عليه السّلام في ذم أهل الشام وشان الحكمين:

تنفيراً عنهم «جُفَاةٌ»: أي هم جفاة: جمع جافي وهو غليظ الطبع قاسي القلب. «طَغَامٌ»: الواحد، والجمع فيه سواء والمراد: أوغاد الناس وأراذلهم. «عَبِيدٌ(1) أقران»: جمع قرن بفتح الراء وهو الرذال الداني من الناس ويطلق على الواحد والجمع والذكر والأنثى ووصفهم بكونهم عبيداً أما لأنهم عبيد الدنيا وأهلها أو لأن منهم عبيداً و المرفوعات الأربعة الأولى أخبار المبتدأ المحذوف أي هم جفاة ومحل.

«جُمِعُوا مِنْ كُلِّ أَوْبٍ»: أي من كلّ ناحية.

ص: 254


1- ورد في نسخة: أَقْزَامٌ

والرفع صفة الأقوام ويحتمل أن يكون خبراً خامساً.

«وتُلُقِّطُوا مِنْ كُلِّ شَوْبٍ»: بمعنى الخلط «مِّمَنْ يَنْبَغِي أَنْ يُفَقَّهً ويُؤَدَّبَ ويُعَلَّمَ

ويُدَرَّبَ ويُوَلَّي عَلَيْهِ ويُؤْخَذَ عَلَى يَدَيْهِ»: كناية عن كونهم سفهاء لا يصلحون لأنّ يلوا أمرا ويفوّض إليهم بل ينبغي أن تحجر عليهم ويمنعون من التصرّف لغباوتهم وسفههم.

«لَيْسُوا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ والَأنْصَارِ و «وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ» ذكر ذلك في معرض الذمّ لهم لكون ذلك نقصاناً لهم من تلك الجهة بالنسبة إليهم وأراد بالدار مدينة الرسول صلى الله عليه [وآله] وسلم، والذين تبوؤها هم الأنصار من أهلها الذين أسلموا بها قبل هجرة الرسول صلى الله عليه [وآله] وسلم أليهم بسنتين وأبنوا بها المساجد وإليه أشار بقوله تعالى في كتابه العزيز واثنی عليهم «وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(1)، وفي نسخة الرضي رضي الله عنه تبوؤ الدار فقط وفي أكثر النسخ والأيمان ووصف الإيمان لكونه مبوأهم مستعار ملاحظة لشبهه بالمنزل باعتبار أنهم ثبتوا عليه واطمأنّت قلوبهم به، ويحتمل أن يكون نصب الإيمان هنا كما في قوله:

متقلَّدا سيفا ورمحا *** أي لازموا الإيمان

«أَلَا وإِنَّ الْقَوْمَ اخْتَارُوا لأَنْفُسِهِمْ أَقْرَبَ الْقَوْمِ مِّمَا يُحِبُّونَ وإِنَّكُمُ اخْتَرْتُمْ لأَنْفُسِكمُ أَقْرَبَ الْقَوْمِ مِمَّا تَكْرَهُونَ»: والقوم هم أهل الشام.

ص: 255


1- سورة الحشر الآية 9

والَّذي اختاروه لأنفسهم وكان أقرب القوم ممّا يحبّون هو عمرو بن العاص فإنّهم اختاروه للحكومة وعيّنوا عليه من قبلهم، وكونه أقرب القوم ممّا يحبّون لكثرة خداعه وليله إلى معاوية وعطائه، والَّذي يحبونه ممّا هو أقرب إليه هو الانتصار على أهل العراق وصيرورة الأمر إلى معاوية والَّذي اختاره أهل العراق للحكومة هو أبو موسى الأشعري، وكان أقرب القوم ممّا يكرهون من صرف الأمر عنهم، وكونه أقرب إلى ذلك إمّا لغفلته وبلاهته أو لانّه كان منحرفاً عن عليّ عليه السّلام، وذلك أنّه كان في زمن الرسول صلَّى الله عليه - وآله - وسلَّم والياً من قبله على زبيد من أعمال اليمن ثمّ ولَّاه عمر البصرة لمّا عزل المغيرة عنها فلمّا عزله عثمان سکن بالكوفة فلمّا كره أهلها سعید بن العاص ودفعوه عنها ولَّوا أبا موسی وكتبوا إلى عثمان يسألونه أن يولَّيه فأقرّه على الكوفة فلمّا قتل عثمان عزله عليّ عليه السّلام فلم يزل واجداً لذلك عليه حتّى كان منه ما كان في الكوفة.

وإِنَّمَا عَهْدُكُمْ بِعَبْدِ اللهِ بْنِ قَيْسٍ بِالأَمْسِ يَقُولُ إِنَّمَا فِتْنَةٌ فَقَطِّعُوا أَوْتَارَكُمْ وشِيمُوا سُيُوفَكُمْ فَإِنْ كَانَ صَادِقاً فَقَدْ أَخْطَأَ بِمَسِیرِهِ غَیْرَ مُسْتَكْرَهٍ وإِنْ كَانَ كَاذِباً فَقَدْ لَزِمَتْهُ التُّهَمَةُ»: احتجاج عليهم في اختيارهم لعبد الله ابن قيس وهو أبو موسى الأشعري للحكومة وصورة الاحتجاج: أنّ أبا موسى كان يقول: لكم يا أهل الكوفة عند مسيري إلى أهل البصرة: إنّها فتنة من الفتن الَّتي وعدنا بها وأمرنا باعتزالها فقطَّعوا أوتار قسیّكم وأغمدوا سيوفكم، فلا يخلوا إمّا أن يكون صادقا في ذلك فقد لزمه الخطأ بمسيره معنا غير مستكره إلى فتنة أمرنا بالاعتزال عنها وحضوره صفوف أهل العراق وتكثير سوادهم، وإن كان كاذبا فقد لزمته التهمة وصار فاسقا بكذبه، وعلى التقديرين لا ينبغي أن يعتمد عليه في هذا الأمر الجليل.

ص: 256

وأقول: وممّا يناسب هذا الاحتجاج ما روى عنه سويد بن غفلة قال: كنت مع أبي موسى على شاطئ الفرات في خلافة عثمان فروى لي خبراً قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه - وآله - وسلَّم يقول: «إنّ بني إسرائيل اختلفوا ولم يزل الاختلاف بينهم حتّى بعثوا حكمين ضالَّين ضلَّا وأضلَّا اتّبعهما، ولا ينفكّ أمر أمّتي تختلف حتّى يبعثوا حكمين يضلَّان ویضلَّان من اتبعهما».

فقلت له: احذر أبا موسى أن تكون أحدهما. قال: فخلع قميصه وقال: أبرء إلى الله من ذلك كما أبرء من قميصي هذا. فنقول: لا يخلو إما أن يكون صادقاً في ذلك الخبر أو كاذباً فإن كان صادقا فقد أخطأ في دخوله في الحكومة وشهد على نفسه بالضلال والإضلال، وإن كان كاذباً فقد لزمته التهمة فلا ينبغي أن يعتمد عليه في هذا الأمر.

«فَادْفَعُوا فِي صَدْرِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بِعَبْدِ اللهِ بْنِ الْعَبَّاسِ»: كناية عن جعله مقابلاً في الحكومة دافعاً له عمّا یرید.

ولمّا قدح في أبي موسى وأشار إلى عدم صلاحيّته لهذا الأمر كان رأيه أن يبعث الحكم من قبله عبد الله بن عبّاس فأبى قومه عليه وروى بعبارة أخرى أنّه قال: لما لجّوا في بعث أبي موسى وتعيينه حکماً: إنّ معاوية لم يكن ليختار لهذا الأمر أحدا هو أوثق برأيه ونظره إلَّا عمرو بن العاص وإنّه لا يصلح للقرشيّ إلَّا قرشيّ وهذا عبد الله بن عبّاس فارموه به فإن عمروا لا يعقد عقدة إلَّا حلها ولا يبرم أمرا إلَّا نقضه ولا ينقض أمرا إلَّا أبرمه فقال الأشعث ومن معه: لا والله لا يحكم فيها مضریّان أبدا حتى تقوم الساعة ولكن يكون رجل من مضر ورجل من اليمن فقال عليه السّلام: إني أخاف أن يخدع یمانیّکم وإنّ عمرو بن العاص ليس والله قرشيّ. فقال الأشعث: والله لئن يحكمان بما نكره وأحدهما من اليمن أحبّ

ص: 257

إلينا أن يكون ما نحبّ وهما مضریّان. فقال عليه السّلام: وإن أبيتم إلَّا أبا موسی فاصنعوا ما شئتم اللهم إنّي أبرء إليك من صنيعهم.

«وخُذُوا مَهَلَ الأَيَّامِ»: أمر لهم باغتنام مهل الأيّام عنهم وفسحتها عمّا ينبغي أن يعملوا فيها ويدبّروه في أحوالهم على وفق الآراء الصالحة، وكذلك أمرهم بحياطة قواصي الإسلام وهي أطراف العراق والحجاز والجزيرة وما كان في يده عليه السّلام من البلاد بقوله: «وحُوطُوا»: أحفظوا «قَوَاصِيَ الإِسْلَامِ».

ومن خطبة له عليه السّلام يذكر فيها آل محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم:

«هُمْ عَيْشُ الْعِلْمِ»: أي حياته، وقد جعل له حياة ملاحظة لشبهه بالحيّ في وجوده والانتفاع به ثمّ أطلق عليهم لفظ الحياة مجازاً إطلاقاً لاسم السبب على المسبّب.

«ومَوْتُ الْجَهْلِ»: جعل للجهل موتاً استعارة باعتبار عدمه بهم. وأطلق عليهم لفظه مجازاً أيضاً كالَّذي قبله.

«يُخْبِرُكُمْ حِلْمُهُمْ عَنْ عِلْمِهِمْ»: لعلمهم بمواقع الحلم، وفي ذلك إشارة إلى تلازم فضيلتي الحلم والعلم فيهم فهم لا يحلمون إلَّا عن علم بمواقع الحلم.

«وصَمْتُهُمْ عَنْ حِكَمِ مَنْطِقِهِمْ»: إشارة إلى سكوتهم يكون في مواضع السكوت، وعما ينبغي أن يسكت عنه وذلك يستلزم حكمة نفوسهم في منطقتهم أذا تكلموا، لأنّ من علم مواقع السكوت، وما ينبغي أن يسكت عنه علم النطق، وما ينبغي أن يتكلم به ولو لم يعلم ذلك لجاز أن يتكلَّم بما لا ينبغي، وذلك هو موضع السكوت فلا يكون عالماً بمواضع السكوت وقد فرض كذلك. هذا خُلفٌ.

ص: 258

«لَا يُخَالِفُونَ الْحَقَّ»: أي لعلمهم به وبطرقه وذوقهم له فلا يتجاوزونه إلى رذيلة الإفراط، ولا يقفون دونه في مقام رذيلة التفريط.

«ولَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ»: لعلمهم بحقيقته: «وهُمْ دَعَائِمُ الإِسْلَامِ»: استعار لهم لفظ الدعائم باعتبار حفظهم له بعلمهم وحراسته وقيامه في الوجود بهم كما يحفظ البيت بالدعائم ويقوم بها.

«ووَلَائِجُ الِعْتِصَامِ»: جمع وليجة فعلية بمعنى مفعولة وهي الموضع يعتصم بدخوله.

استعارها لهم باعتبار كونهم مرجعاً للخلق يعتصمون بعلمهم وهدايتهم واتباعهم من الحَيل ولواحقه وعذاب الله فالآخرة كما يعتصم بالوليجة من دخلها.

«بِهِمْ عَادَ الْحَقُّ إِلَی نِصَابِهِ»: أي بولايته عليه السلام وخلافته عاد الحق إلى أهله وأنزاح الباطل عن مقامه وهو إشارة إلى الأحكام كانت قبله في أيام عثمان جارية على غير قانون شرعي لما نقل عنه من الأحداث واستعلاء بني أمية في زمانه على بيت مال المسلمين وكلمهم له بغير حق کما سبق شرحه فعاد بولايته عليه السلام كل حق إلى أهله وهو أصله ومستقره والحق إذا كان في غير أهله فهو الباطل ومقامه غير أهله وبولايته عليه السلام.

«وانْزَاحَ الْبَاطِلُ عَنْ مَقَامِهِ وانْقَطَعَ لِسَانُهُ»: أي لسان الناظر للباطل والناطق به واستعار وصف الانقطاع له باعتبار سکوته ملاحظة لشبهه بالمنقطع القول ورشح بقوله:

«عَن منَبْتِهِ»: تأكيدا لذلك الانقطاع «عَقَلُوا الدِّينَ عَقْلَ وِغايَةٍ ورِعَايَةٍ لَا عَقْلَ

سَمَاعٍ ورِوَايَةٍ»: وذلك أنك علمت أن للإدراك ثلاث مراتب أدناها تصوّر الشيء

ص: 259

بحسب اسمه، وأعلاها تصوّر الشيء بحسب حقیقته وكنهه، وأوسطها بعقله بحسب صفاته ولوازمه الخاصّة به وبها مع بعض أجزائه. فكان عقلهم للدين وعلمهم به على أكمل المراتب وهو معنى الرعاية، ورعايتهم له بدراسته وتذكَّره والاحتياط عليه، وليس علما به من جهة اسمه وسماع ألفاظه فقط.

«فَإِنَّ رُوَاةَ الْعِلْمِ كَثِيرٌ ورُعَاتَهُ قَلِيلٌ»: سيجيء في الحكم بعد الكلمة أيضاً.

ومن خطبة له عليه السّلام يحث أصحابه على الجهاد:

في غاية من الفصاحة والجزالة، والحثّ على الاستعداد ليوم المعاد.

«واللهُ مُسْتَأْدِيكُمْ شُكْرَهُ»: أي طالب منكم أداء شكره على نعمه، وذلك في أوامر القرآن كثير كقوله تعالى «وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ»(1)، «وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ»(2).

«ومُوَرِّثُكُمْ أَمْرَهُ»: أي سلطانه في الأرض الَّذي كان فيمن سلف من أهل طاعته من الأمم السابقة كقوله تعالى «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ»(3) الآية وقوله «وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ»(4) الآية.

«ومُمْهِلُكُمْ فِي مِضْاَرٍ مَحْدُودٍ لِتَتَنَازَعُوا سَبَقَه»: استعار المضمار لمدّة الحياة الدنيا، ووجه المشابهة أنّ الناس يستعدّون في مدّة حياتهم بالرياضات والمجاهدات في الحي

ص: 260


1- سورة البقرة: الآية 172
2- سورة البقرة: الآية 152
3- سورة النور: الآية 55
4- سورة الأحزاب: الآية 27

سبيل الله وتحصيل الكمالات النفسانيّة لغاية السبق إلى حضرة جلال الله كما تضمر الخيل لغاية السبق، وأشار إلى علَّة ذلك الإمهال وهي تنازع السبق إليه تعالى وأراد به ما يعرض للسالكين في حال إعدادهم لأنفسهم بالرياضات وجدّهم وتشميرهم في طاعة الله من منافسة بعضهم لبعض في التقدّم بالفضيلة، وسبقه بذلك وحرص كلّ امرأ منهم على أن يكون هو الأكمل ليفوز بقصب السبق إلى حرة قدسه تعالى والمنافسة في الفضائل، والغبطة بها محمودة لأدّائها بالغابط إلى كماله، وذلك هو أقصى مطلوب الشارع من أمّته، ويحتمل أن يريد بالسبق ما يسبق إليه من

الفضيلة أو الجنّة كما سبقت الإشارة إلى مثل ذلك، ولفظ التنازع ترشيح لاستعارة

المضار والمسابقة لأنّ من شأن ذلك التنازع على السبق، والمجاذبة على الفوز بالسبقة، وخلاصة المعنى أنّه تعالى أمهلكم في الدنيا للاستعداد فيها وتجاذب

السبق إليه.

«فَشُدُّوا عُقَدَ الْمَآزِرِ»: كناية عن الأمر بالتشمير والاجتهاد في طاعة الله

والاستعداد بها بعد أنّ بیّن أنّ ذلك الغاية من الإمهال في الدنيا إذ كان من شأن

من يهتمّ بالأمر، ويتحرّك فيه أن يشدّ عقدة مئزره كيلا يشغله عمّا هو بصدده.

«واطْوُوا فُضُولَ الْخَوَاصِرِ»: كناية عن الأمر برك ما يفضل من متاع الدنيا على

قدر الحاجة من ألوان الطعوم والملابس وسائر قينات الدنيا، وأصله أنّ الخواصر

والبطون لها احتمال أن يتّسع لما فوق قدر الحاجة من المأكول فذلك القدر المتّسع لما فوق الحاجة هو فضول الخواصر. وكنّى بطيّها عمّا ذكرناه، إذ كان من لوازم ذلك الطيّ ترك تلك الفضول.

«لَا تَجْتَمِعُ عَزِيمَةٌ ووَلِيمَةٌ»: أراد بالعزيمة العزيمة على اقتناء الفضائل واكتسابها والعزيمة هي الإرادة الجازمة للأمر بعد اختياره، وكنّى بالوليمة وهي طعام العرس

ص: 261

ونحوه عن خفض العيش والدعة لاستلزام الوليمة ذلك، والمعنى أنّ العزيمة على تحصيل المطالب الشريفة، وكرائم الأمور ينافي الدعة، وخفض العيش ولا يحصل مع اللهو، لما يستلزمه تحصيل تلك المطالب والعزم عليها من المشاقّ وإتعاب النفس وكذا البدن بالرياضات والمجاهدات المنافية للدعة والراحة، ويقرب منه قوله تعالى «لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ»(1) ثمّ أكدّ ذلك بقوله: «مَا أَنْقَضَ النَّوْمَ لِعَزَائِمِ الْيَوْمِ»: وأصله أنّ الإنسان يعزم في النهار عى المسیر بالليل ليقرب المنزل فإذا جاء الليل نام إلى الصباح فانتقض بذلك عزمه فضربه مثا لمن يعزم على تحصيل الأمور الكبار والسعي فيها؛ ثمّ يلزم الإنابة والدعة، ومراده أنّكم مع هذه الدعة وحبّ الراحة من المتاعب والجهاد لا يتمّ لكم ما تريدونه وتعزمون عليه من تحصيل السعادة في دينا أو آخرة وكذا.

«وأَمْحَى الظُّلَمَ لِتَذَاكِرِ الْهِمَمِ»: وأصله أنّ الرجل يبعثه همّته في مطالبه على

المسر بالليل فإذا جنّ الظام أدركه الكسل وغلبه حبّ النوم عن تذكار مطالبه،

وصرفه عنها، فكان الظام سبباً ما لمحو ذلك التذكار من لوح الفكر.

فضربه مثاً لمن يدعوه الداعي إلى أمر ويهتمّ به ثمّ يعرض له أدنى أمر

فينرف به عنه، وهو كالَّذي قبله، وبالله التوفيق. تمّت. هذا آخر الخطب

والأوامر ويتلوه المختار من الكتب والرسائل إنشاء الله تعالى بعونه وعصمته وتوفيقه وهدايته

بسم الله الرحمن الرحيم باب المختار من كتب مولانا أمر المؤمنن عليه السّلام

إلى أعدائه وأمراء بلاده.

ص: 262


1- سورة آل عمران: الآية 92

ويدخل في ذلك ما اختر من عهوده إلى عماله، ووصاياه لأهله وأصحابه عليه

وعليهم السلام.

من كتاب له عليه السّلام لأهل الكوفة، عند مسيره من المدينة إلى البصرة:

حین نزل بماء العذيب متوجّها إلى البصرة وبعثه مع الحسن عليه السّلام

وعمّار بن ياسر.

«مِنْ عَبْدِ اللهِ عَلِيٍّ أَمِیرِ الْمُؤْمِنِینَ إِلَی أَهْلِ الْكُوفَةِ جَبْهَةِ الأَنْصَارِ وسَنَامِ الْعَرَبِ»: صدّر الفصل بمدحهم جذباً لهم إلى ما يريدهم له من نصرته على أهل البرة، واستعار لهم لفظ الجبهة باعتبار أنّهم بالنسبة إلى الأنصار كالجبهة بالنسبة إلى الوجه في العزّة والشرف والعلوّ، وكذلك استعار لفظ السنام باعتبار علوّهم وشرفهم في العرب بالإسلام والقوّة في الدين كرف السنام وعلوّه في الجمل، وقال قطب الدين الراونديّ: المراد بجبهة الأنصار جماعتهم، وسنام العرب نجدهم ومن ارتفع منهم حقيقة في الموضعین، والمعنى قريب ممّا قلناه إلَّا أنّ اللفظن ليسا حقيقة لأنّ من علامات الحقيقة السبق إلى الفهم، ثمّ ثنيّ بذكر الشبهة الَّتي جعلها أصحاب الجمل وأهل الشام ومن أراد الفساد في الأرض حجّة له حتّى كانت مبدء الكلّ فتنة نشأت في الإسام وهي شبهة قتل عثان مع الجواب عنها، وهو قوله: أمّا بعد. إلى قوله: عيانه، وأمر عثان شأنه وحاله الَّتي جرت له.

«أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّ أُخْبِرُكُمْ عَنْ أَمْرِ عُثْمَانَ حَتَّى يَكُونَ سَمْعُهُ كَعِيَانِهِ»: كناية عن

تمام إيضاح ذلك الأمر لمن لم يشهده من أهل الكوفة.

«إِنَّ النَّاسَ طَعَنُوا عَلَيْهِ»: إشارة إلى مبدأ قتله وهو طعن الناس عليه بالأحداث

ص: 263

الَّتي نقموها منه، يقال: طعن فيه بالقول وطعن عليه إذا ذكر له عيباً، وقد ذكرنا

تلك المطاعن، وهذا القول كالمقدّمة للجواب عن نسبته إلى قتله، وكذا قوله:

«فَكُنْتُ رَجُاً مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أُكْثِرُ اسْتِعْتَابَهُ وأُقِلُّ عِتَابَهُ»: كصغرى قياس

ضمر من الشكل الأوّل مبیّن فيه أنّه أبرء الناس من دم عثمان. ومعنى قوله: أكثر استعتابه: أي أكثر طلب العتبى منه والرجوع إلى ما يرضى به القوم منه،

وأقلّ عتابه: أي ذكر ما أجده منه. قال الخليل(1): العتاب مخاطبة الإدلال ومذاكرة

المأخوذة. إنّما كان يقلّ عتابه لأنّه عليه السّلام كان يخاطبه فيما هو أهمّ من ذلك

وهو إرضاؤه للقوم واستعتابه لهم ليدفعوا عنه ويطفئوا نار الفتنة، أو لأنّ حوله

جماعة كمروان وغره فكان عليه السّلام إذا عاتبه، وصفا ما بينهما كدّرته تلك

الجماعة.

وقيل: أراد أنّى كنت أكثر طلب رضاه وأقلّ لائمته.

وتقدير كبرى القياس: وكلّ من كان من المهاجرين بالصفة المذكورة معه فهو

أبرء الناس من دمه وأقواهم عذرا في البعد عن قتله.

«وكَانَ طَلْحَةُ والزُّبَیْرُ أَهْوَنُ سَیْرِهِمَا فِيهِ»: عثمان «الْوَجِيفُ»: سر سريع،

«وأَرْفَقُ»: أسهل «حِدَائِهِمَا»: ما يغني به الإبل «الْعَنِيفُ»: الشديد.

«وكَانَ مِنْ عَائِشَةَ فِيهِ فَلْتَةُ»: فجأة «غَضَبٍ»: كصغرى قياس ضمير أيضاً من الأولى ألزم فيه القوم السائرين إلى حربه وهم طلحة والزبر وعائشة غیر ما نسبوه

إليه من الدخول في دم عثمان، وكنّى بقوله: أهون سرهما فيه الوجيف إلى قوله:

ص: 264


1- العتاب، والعتب: والعتب: الموجدة هذا ما أخرجه الخليل الفراهيدي بلفظ مقارب في العين: ج 2 ص 76

العنيف. عن قوّة سعيهما في قتله وشدّة تلبّسهما بذلك وقد ذكرنا طرفاً من حال

طلحة معه وجمعه للناس في داره ومنعه من ذويه، وروى أنّ عثمان قال وهو محصور: ويي على ابن الحضرميّة يعني طلحة أعطيته كذا وكذا نهارا ذهباً وهو يروم دمى ويحرّض علّي اللهمّ لا تمتّعه به ولقّه عواقب بغيه وروى: أنّه لمّا امتنع على الَّذين حصروه الدخول من باب الدار حملهم طلحة إلى دار بعض الأنصار وأصعدهم إلى سطحها وتسوّروا منها عليه،، وروى: أن مروان قال يوم الجمل: والله لا أترك ثاري من طلحة وأنا أراه ولأقتلنّه بعثمان، ثمّ رماه بسهم فقتله، وأمّا الزبر فروى أنّه كان يقول: اقتلوه فقد بدّل دينكم فقالوا له: ابنك تحامى عنه بالباب. فقال: والله ما أكره أن يقتل عثمان ولو بدى بابني. وحالهما في التحريض مشهور، وأمّا

عايشه فروى أنّها كانت تقول: اقتلوا نعثلاً قتل الله نعثلاً، وأمّا الغضب الَّذي

وقع منها فلتة في حقّه فالسبب الظاهر فيه هو اختصاصه بمال المسلمين قرابته

وبني أبيه وهو السبب العامّ في قيام الناس عليه ونفرتهم منه، وسائر الأحداث

مقوّيات لذلك، وروى أنّه صعد المنبر يوما، وقد غصّ المسجد بأهله فمدّت يدها

من وراء ستر فيها نعان وقميص، وقالت: هذان نعا رسول الله صلَّى الله عليه

وآله وسلَّم وقميصه بعد لم تبل، وقد بدّلت دينه وغیّرت سنّته، وأغلظت له في

القول فأغلظ لها، وكان ذلك القول منها من أشدّ ما حرّض الناس عى قتله.

وبالجملة فحال هؤلاء الثلاثة في التحريض عى قتله كان أشهر من أن يحتاج إلى ذكر، وتقدير كرى القياس: وكلّ من كان كذلك كان أولى بالدخول في دمه وأنسب إلى التحريض عليه.

«فَأُتِيحَ لَهُ»: قدر لعثمان «قَوْمٌ فَقَتَلُوهُ»: يفهم منه نسبته لاجتماع الناس على

قتله إلى التقدير الإلهي لينرف أذهان السامعين بهذه النسبة الصادقة عن نسبة

ص: 265

ذلك إليه عليه السّلام، وأفاد القطب الراوندي أنّه عليه السّلام إنّما بنى الفعل

للمفعول ولم يقل: أتاح الله له أو أتاح الشيطان لرضى بذلك الفريقین.

«وبَايَعَنِي النَّاسُ غَیْرَ مُسْتَكْرَهِينَ ولَا مُجْبَرِينَ بَلْ طَائِعِینَ مُخَيَّرِينَ»: قياس بیّن فيه خروج أصحاب الجمل عن طاعة الله ودخولهم في رذيلة الغدر ونكث العهد المستلزم لدخولهم في عموم قوله تعالى «وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ، وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ» الآية(1)، وقوله «فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا»(2) الآية وتقدير الكبرى: وكلّ من بايعه

الناس طائعن مخيّرين فا يجوز لهم أن ينكثوا بيعته ويحاربوه للآيتن المذكورتن.

وفي نسخه الرضى رحمه الله مستكرهين بكر الراء بمعنى كارهین يقال

استكرهت اليء أي كرهته.

«واعْلَمُوا أَنَّ دَارَ الْهِجْرَةِ قَدْ قَلَعَتْ بِأَهْلِهَا وقَلَعُوا بِهَا وجَاشَتْ»: غلت «جَيْشَ

الْمِرْجَلِ»: فيه إعلام لأهل الكوفة باضطراب حال المدينة، وأهلها

حن علموا بمسر القوم إلى البرة للفتنة وغرض ذلك الإعام أن يهتمّوا همّة

إخوانهم المؤمنین وقيل: يحتمل أن يريد بدار الهجرة دار الإسلام وبلادها، وكنّى

بقلعها بأهلها وقلعهم بها عن اضطراب أمورهم بها وعدم استقرار قلوبهم من

ثوران هذه الفتنة، واستعار لفظ الجيش ملاحظة لشبهها بالقدر في حال غليانها

فإنّ اضطراب الناس وحركاتهم من هذه الفتنة يشبه ذلك.

ص: 266


1- سورة البقرة: الآية 27
2- سورة الفتح: الآية 10

«وقَامَتِ الْفِتْنَةُ عَلَى الْقُطْبِ»: نبّههم بقيامها كذلك ليستعدّوا لها وينفروا

إليها، ولذلك أردفه بقوله: «فَأَسْرِعُوا إِلَی أَمِيرِكُمْ »: يعني نفسه عليه السلام.

«وبَادِرُوا جِهَادَ عَدُوِّكُمْ إِنْ شَاءَ اللهُ»: وذكر لفظ القطب وقيامها عليه تنبيهاً به على المقصود وعلمت أنّ وجه استعارة الرحى للحرب هو مشابهتها في دورانها على من تدور علیه كما يشتمل دوران الرحى على الحبّ، وتطحنه وبالله التوفيق.

ومن كتاب له عليه السّلام إليهم، بعد فتح البصرة:

«وجَزَاكُمُ اللهُ مِنْ أَهْلِ مِصْرٍ عَنْ أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ أَحْسَنَ مَا يَجْزِي الْعَامِلِینَ

بِطَاعَتِهِ والشَّاكِرِينَ لِنِعْمَتِهِ»: يشبه أن يكون الخطاب لأهل الكوفة.

و(من) هنا لبيان الجنس من الضمير المنصوب في جزاكم الله.

وقد دعا الله لهم أن يجزيهم بنرة أهل بيت نبيّه أحسن الجزاء، وشكرهم

لنعمته من جهة علمهم بطاعته.

«فَقَدْ سَمِعْتُمْ»: أمر الله «وأَطَعْتُمْ»: إياه «ودُعِيتُمْ»: إلى نرة دينه «فَأَجَبْتُمْ»: فأجبتم داعيته، وإنّما حذف المفعولات هنا لأنّ الغرض ذكر الأفعال دون نسبتها

إلى مفعولاتها، أو للعلم بها وباله التوفيق.

ومن كتاب له عليه السّلام كتبه لشريح بن الحارث:

هو شريح بن الحارث الكندي استقصاه عمر عى الكوفة ولم يزل بها بعد

ذلك فأصابه خمس وسبعون سنة لم يتعطل فيها إلا سنتن، أستعفى الحجاج من القضاء في فتنة أبن الزبر فاعفاه.

ص: 267

اشرى عى عهده داراً بثمانن دينارا فبلغه ذلك، فاستدعاه وقال له: «بلغني

إنك ابتعت»: اشريت «دارا بثمانن ديناراً وكتبت كتاباً وأشهدت فيه شهوداً»:

أعلم أن غرض الفصل التنفیر من متاع الدنيا وعن الركون إلى فضولها وبدا

قبل توبيخه باستئناف الأمر منه.

فقال شريح: قد كان ذلك يا أمير المؤمنين: كان تامة؛ ثم أخذه في تنفره عن

محبة هذه اللذة واقتنائها بتذكره الموت ووعده بإتيانه وأنه يخرجه منها ويشخصه

فيسلَّمه إلى قره خالصاً مجرّداً من تلك الدار وعن كلّ قينة اقتناها من الدنيا فقال:

فنظر إليه عليه السام نظر مغضب ثم قال له: «يَا شُرَيْحُ أَمَا إِنَّهُ سَيَأْتِيكَ مَنْ لَا

يَنْظُرُ فِي كِتَابِكَ ولَا يَسْأَلُكَ عَنْ بَيِّنَتِكَ حَتَّى يُخْرِجَكَ مِنْهَا شَاخِصاً ويُسْلِمَكَ إِلَی

قَبْرِكَ خَالِصاً»: منفرداً عن دارك ومالك، ثمّ خوّفه من دخيلة ثمنها وأن يكون

فيه شائبة حرام وارتشاء عى الأحكام بما يستلزمه ذلك من خران الدنيا بالموت

وخران الآخرة ونعيمها باعتبار ما لزمه من الآثام بأكل الحرام.

قال عليه السام: «فَانْظُرْ يَا شُرَيْحُ لَا تَكُونُ ابْتَعْتَ هَذِهِ الدَّارَ مِنْ غَیْرِ مَالِكَ

أَوْ نَقَدْتَ الثَّمَنَ مِنْ غَيْرِ حَلَالِكَ فَإِذَا أَنْتَ قَدْ خَسِرْتَ دَارَ الدُّنْيَا ودَارَ الآخِرَةِ»: أي

أن فعلت يكون كذلك.

«أَمَا إِنَّكَ لَوْ كُنْتَ أَتَيْتَنِي عِنْدَ شِرَائِكَ مَا اشْتَرَيْتَ لَكَتَبْتُ لَكَ كِتَاباً عَلَى هَذِهِ

النُّسْخَةِ فَلَمْ تَرْغَبْ فِي شِرَاءِ هَذِهِ الدَّارِ بِدِرْهَمٍ فَمَا فَوْقُه»: ولئن سالت قائلاً: فكيف قال: فما فوقه ومعلوم أنّه إذا لم يرغب فيها بالدرهم فبالأولى أن لا يرغب فيها بما فوقه.

ص: 268

قلت: لمّا كان الدرهم هنا أقلّ ما يحسن التملَّك به في القلَّة وكان الغرض أنّك

لو أتيتني عند شرائك هذه الدار لما شريتها بيء أصلاً لم يحسن أن يذكر وراء الدرهم ما فوقه. ونحوه قول المتنبّي:

ومن جسدي لم يترك السقم شعرة *** فما فوقها إلَّا وفيها له فعل

وكان قياسه أن يقول: فما دونها.

(1)«هذا اشْتَرَى مِنْهُ دَاراً مِنْ دَارِ الْغُرُورِ»: خصّ المشري بصفة العبوديّة والذلَّة

كسراً لما عساه يعرض لنفسه من العجب والفخر براء هذه الدار.

وأطلق لفظ الميّت على من سيموت يعني البائع مجازاً إطلاقاً لما بالفعل على

ما بالقوّة، وتنزيلاً للمقتى منزلة الواقع لغرض التحذير من الموت وإزعاجه

للرحيل إلى الآخرة إمّا ترشيح الاستعارة أو إشارة إلى إيقاظه وتنبيهه بالأعراض

والأمراض وكلّ مذكَّر له بالعبر.

«واشْتَرَى مِنْهُ دَاراً مِنْ دَارِ الْغُرُورِ»(2): كنّى بها عن الدنيا باعتبار غرور الخلق

بها وغفلتهم بما فيها عمّا وراها.

«مِنْ جَانِبِ الْفَانِينَ»: أخصّ من دار الغرور وكذا.

«وخِطَّةِ الْهَالِكِینَ»: أخص من جانب الفانن عى ما جرت العادة في كتب

البيع من الابتداء بالبيع والانتهاء في تخصيص المبيع إلى أمور تعيّنه وإن لم يكن

ص: 269


1- ورد في بعض متون النهج: هَذِهِ: بسم الله الرحمن الرحيم: هَذَا مَا اشْتَرَى عَبْدٌ ذَلِيلٌ مِنْ مَيِّتٍ قَدْ أُزْعِجَ لِلرَّحِيلِ
2- ما بين معقوفين: تكرار لبيان وجه آخر لمعنى العبارة

هنا غرض في ذكر التخصيص في ذكر الفانین، والهالكین التذكر بحالهم، وأنّ هذه

الدار من جانب كانوا يسكنونه وخطَّة كانت لهم.

ثم أشار إلى حدودها الأربعة وجعلها كنايات عمّا يلزمها من الأمور المنفّرة

عنها وينتهي إليه منها.

(1)«الْحَدُّ الَأوَّلُ يَنْتَهِي إِلَی دَوَاعِي الْفَاتِ»: أشار بها إلى أنّ تلك الدار لمّا كانت

يلزمها كمالات لا بدّ منها وعلاقات كالمرأة والخادم والدابّة وما يلزم أولئك ويكون بسببهم من الأولاد والأتباع والقينات وسائر فضول الدنيا الَّتي يعدّ بعضها للحاجة إلى بعض حتّى يكون أغنى الناس فيها أكثرهم حاجة وفقراً وكان كلّ واحد من هذه الأمور في معرض الآفات كالأمراض والموت كانت تلك الأمور هي دواعي الآفات الَّتي تقود إليها وتستلزمها، وهي ممّا ينتهي إليه الدار وتستلزمه، وإنّما جعله حدّاً أوّل لأنّها أوّل اللوازم الَّتي تحتاج إليها الدار وتعود إليها.

«والْحَدُّ الثَّانِي يَنْتَهِي إِلَی دَوَاعِي الْمُصِيبَاتِ»: أشار بها إلى الأمور الأولى الَّتي تحتاج الدار إليها وتستلزمها لكن باعتبار كونها مستلزمة بما يعرض لها من الآفات لما يلحق بسبب ذلك من المصيبات؛ فإنّ كلّ واحد منها لمّا كان في معرض الآفة كان المقتني له في معرض نزول المصيبات به وكان داعياً له وقائداً إليها، ولاستلزام دواعي الآفات لدواعي المصيبات أردفها بها وجعلها حدّاً ثانياً منها، ويحتمل أن يكون تسميتها في الموضعن دواعي باعتبار أنّ شهواتها تدعو إلى فعلها وإيجادها وذلك الإيجاد يلزمه الآفات والمصيبات.

والْحَدُّ الثَّالِثُ «يَنْتَهِي إِلَی الْهَوَى الْمُرْدِي»: المهلك واتّباعه، إذ كان اقتناء الدار في

ص: 270


1- ورد في بعض متون النهج: وتْجَمَعُ هَذِهِ الدَّارَ حُدُودٌ أَرْبَعَةٌ

الدنيا مستلزماً لمحبّتها ومحبّة كمالاتها، ومتابعة الميول الشهویّة بغير هدى من الله وهو المراد بالهوى، وظاهر كونه مردياً في حضيض جهنّم ومهلكاً فيها. وجعل الهوى الحدّ الثالث لكون تلك الدار و کمالاتها وما تدعو إليه كلها أمورا مستلزمة للهوى والميول الطبيعيّة المهلكة الَّتي لا تزال يتأكَّد بعضها بالبعض ويدعو بعضها إلى البعض.

«والْحَدُّ الرَّابِعُ يَنْتَهِي إِلَی الشَّيْطَانِ الْمُغْوِي»: وإنّما جعله هو حداً الأخير لأنّه الحدّ الأبعد الَّذي ينتهي إليه تلك الحدود والدواعي، وهو بعد الحدّ الثالث. إذ كان الشيطان من جهة الغواية مبدأ ميل النفس إلى الدنيا، ولبعثها على متابعة هواها وإغواوه يعود إلى إلقائه إلى النفس أنّ الأصلح لها كذا ممّا هو جاذب عن سبيل الله.

«وفِيهِ يُشْرَعُ بَابُ هَذِهِ الدَّارِ»: أشار إلى كونه مبدأ بإغوائه الدواعي الباعثة له المستلزمة للدخول في شرائها واقتنائها واقتناء ما يستلزمه ويدعو إليه والدخول في متاع الدنيا وباطلها. فالشيطان كالحدّ وما صدر عنه وأنفتح بسبه من الدخول في أمر الدار وشرائها کالباب؛ فانظر إلى ما اشتمل عليه هذا الترتيب في كلامه عليه السّلام من الحكمة الَّتي بها يتميّز عن كلام من سواه وهو في غاية التنفير عن الدنيا وسدّ أبواب طلبها، والجذب إلى الله تعالى والإرشاد إلى لزوم الزهد الحقيقيّ.

«اشْتَرَى هَذَا الْمُغْتَرُّ بِالأَمَلِ»: وصفه به باعتبار أنّ نظره إلى أمله في الدنيا هو الَّذي استلزم غفلته عن الآخرة وما خلق لأجله، وكان ذلك الاغترار سبباً لشرائه لتلك الدار.

ص: 271

«مِنْ هَذَا الْمُزْعَجِ بِالأَجَلِ»: أزعجه: قلقه، وقلعه من مكانه «هَذِهِ الدَّارَ

بِالْخُرُوجِ مِنْ عِزِّ الْقَنَاعَةِ والدُّخُولِ فِي ذُلِّ الطَّلَبِ والضَّرَاعَةِ»: جعلهما الثمن باعتبار استلزام شرائه لذلك كما يستلزمه الثمن، ووجه استلزامه لما ذكر أنّ تلك الدار كانت بالنسبة إلى شريح فضلة زائدة على قدر الحاجة، وكلّ فضل اقتناه الإنسان زيادة على قدر ضرورته فقد خرج به عن حدّ القناعة إذ القناعة هي الرضا والاقتصار على مقدار الحاجة من المال وما يحتاج إليه، وعلمت أنّ القناعة مستلزمة لقلَّة الاحتياج إلى الخلق، والغنى عنهم وبحسب الغني، وأقليّة الحاجة يكون عزّ القناعة والخارج عن القناعة خارج عن عها وداخل في ذلّ الطلب والضراعة للخلق لأنّه باعتبار ماهو خارج عن القناعة يكون كثير الحاجة إلى الخلق وباعتبار ذلك يكون داخلا في الذلّ والضراعة إليهم. وغاية ذلك التنفير عن اقتناء فضول الدنيا بما يستلزمه من ذلّ الحاجة إلى الخلق.

«فَمَا أَدْرَكَ هَذَا الْمُشْتَرِي(1) مِنْ دَرَكٍ»: علَّق الدرك والتبعية اللازمة في هذا البيع بملك الموت قطعاً لأمل الدرك وتذكيراً بالموت لغاية الأمل له والاقتصار على قدر الحاجة من متاع الدنيا، وكنّى عنه: «فَعَلَى مُبَلْبِلِ»: مستأصل «الأجْسَامِ الْمَلُوكِ وسَالِبِ نُفُوسِ الْجَبَابِرَةِ ومُزِيلِ مُلْكِ الْفَرَاعِنَةِ»: العتاة تسليته لنفوسهم وهم: «مِثْلِ كِسْرَى»: لقب ملوك الفرس كأسم الجنس لكل منهم «وقَیْصَرَ»: ملك الروم «وتُبَّعٍ»: ملك اليمن «وحِمْيَرَ»: من قبيلة من اليمن وهو حمير بن سنان يسحب بن یعمر بن قحطان، ومنه كانت الملوك في الدهر الأول، وفي تخصيص مثل هؤلاء ولم يدركوا معه تبعة فبالأولى أنت أيّها القاضي السامع.

«ومَنْ جَمَعَ الْمَالَ عَلَی الْمَالِ فَأَكْثَرَ ومَنْ بَنَى وشَيَّدَ»: طول البناء ورفعه.

ص: 272


1- ورد في نسخة: فِيمَا اشْتَرَى مِنْهُ

«وزَخْرَفَ»: ذَهَبَ جدرانه «ونَجَّدَ»: زين أرضه بالفرش والنجاد والوسادة.

«وادَّخَرَ واعْتَقَدَ ونَظَرَ بِزَعْمِهِ لِلْوَلَدِ»: أي نظر في جمع المال لولده ورآه مصلحة له بظنّه وزعمه. والباء للسبيّة. إذ كان ظنّ وجود الرأي الأصلح سبباً له.

إِشْخَاصُهُمْ جَمِيعاً إِلَی مَوْقِفِ الْعَرْضِ والْحِسَابِ ومَوْضِعِ الثَّوَابِ والْعِقَابِ»: ذكر إشخاصهم و منتهاه وهو موقف العرض والحساب و موضع الثواب والعقاب ترهيباً من تلك الأمور والمقامات وترغيباً في العمل للآخرة والأمن من شرورها.

«إِذَا وَقَعَ الأَمْرُ بِفَصْلِ الْقَضَاءِ»: أي إذا وقع أمر الله في محفل القيامة بفصل القضاء وقطع الحكم بين أهل الحق والباطل منهم وربح المحقون.

«وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ»(1): وهذا الختام مقتبس من القرآن الكريم.

«شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ الْعَقْلُ إِذَا خَرَجَ مِنْ أَسْرِ الْهَوَى وسَلِمَ مِنْ عَلَئِقِ الدُّنْيَا»: أي إلى الآخرة في غاية الشرف، وذلك أنّ الشاهد بما ذكره في هذا الكتاب من أوصاف المتبايعين، وحدود المبيع ومن يلحقه درکه، وغير ذلك ممّا عدّده ليس إلَّا صرف العقل المبرّء عن خطر الوسواس، المطلق من أسر الهوى، السالم من محبّة الدنيا وما يتعلَّق به منها. إذ كان بتجرّده من هذه العلائق صافياً من كدر الباطل فیری الحقّ کما هو أهله ويحكم به فأمّا إذا كان أسيراً في يد الهوى مقهوراً تحت سلطان النفس الأمّارة لم يكن نظره إلى الحقّ بعين صحيحة بل بعين غشت ظلمات الباطل أنوارها فلذلك لم يشهد بمحض الحقّ إذ لم يره من حيث هو حقّ خالص بل شهد بالباطل في صورة الحقّ کشهادته بالمصلحة في اقتناء الدنيا نظراً لعاقبة الولد أو خوف الفقر و نحوه ممّا يباح لأجله الطلب في ظاهر الشرع ولو إلى الحقّ بعين الصدق لعلم أنّ

ص: 273


1- سورة غافر: الآية 78

الجمع للولد ليس تكليفاً له لأنّ رازق الولد هو خالقه، وأنّ الجمع لخوف الفقر تعجیل فقر و اشتغال عن الواجب عليه بغيره وبالله التوفيق.

ومن كتاب له عليه السّلام إلى بعض أمراء جيشه:

روي أن الأمير الذي كتب إليه عثمان بن حنیف عامله على البصرة وذلك حين انتهت أصحاب الجمل إليها وعزموا على الحرب فكتب عثمان يخبر بحاله فكتب عليه السلام کتاباً فيه المفصل المذكور وأعلم أنه لما كان مقصوده عليه السلام ليس إلا اجتماع الخلق على طاعته ليسلك بهم سبيل الحق کما هو مقصوده عليه السلام ليس إلا اجتماع الخلق على طاعته ليسلك بهم سبيل الحق كما هو مقصود الشارع صلى الله عليه [وآله] وسلم ونبه على ذلك بقوله:

«فَإِنْ عَادُوا إِلَی ظِلِّ الطَّاعَةِ فَذَاكَ الَّذِي نُحِبُّ»: وذلك يعود إلى المصدر الَّذي دلّ عليه عادوا، ويفهم حصر محبوبه في عودهم: أي لا نحبّ إلَّا ذلك، ولذلك أمره بمحاربة العصاة والاستعانة بمن أطاعه عليهم على تقدير مشاقّتهم وعصيانهم قال:

«وإِنْ تَوَافَتِ»: جائت «الأُمُورُ بِالْقَوْمِ إِلَی الشِّقَاقِ والْعِصْيَانِ فَانْهَدْ»: قم «بِمَنْ

أَطَاعَكَ إِلَی مَنْ عَصَاكَ واسْتَعْنِ بِمَنِ انْقَادَ مَعَكَ عَمَّنْ تَقَاعَسَ»: تأخر «عَنْكَ»: وعلَّل تعيين النهوض بالمطيعين دون المتكارهين، وبالمنقادين دون المتقاعسين بقوله:

«فَإِنَّ الْمُتَكَارِهً مَغِيبُهُ خَیْرٌ مِنْ مَشْهَدِهِ وقُعُودُهُ أَغْنَى مِنْ نُهُوضِهِ»: وذلك لما يقع بسبب المتكاره من تخاذل الناس عند رؤيته كذلك واقتدائهم بحاله حتّى ربّما لا يكتفي بعدم منفعته بل بذكر المفاسد في الحرب وما يستلزمه من هلاك المسلمين، وكون ذلك منه ونحوه کما وقف بسببه كثير من الصحابة والتابعين عن وقائع

ص: 274

الجمل وصفّين، والنهروان فیکون في حضوره عدم المنفعة ومفسدة هي تخاذل الناس بسببه بخلاف مغيبه. إذ ليس فيه إلَّا عدم الانتفاع به، وروي: خير من شهوده وكلاهما مصدر وبالله التوفيق.

ومن كتاب له عليه السّلام إلى الأشعث بن قيس، وهو عامل أذربيجان:

روي عن الشعبيّ: أنّ عليّاً عليه السّلام لمّا قدم الكوفة وكان الأشعث بن قيس على ثغر آذربيجان من قبل عثمان بن عفّان فكتب إليه بالتبعة وطالبه بمال آذربیجان مع زياد بن مرحب الهمدانيّ. وصورة الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى الأشعث بن قيس.

أمّا بعد فلولا هنات کنّ منك كنت المقدّم في هذا الأمر قبل الناس ولعلّ آخر أمرك يحمد أوّله وبعضه بعضاً إن أتّقيت الله. إنّه قد كان من بيعة الناس إيّاي ما قد بلغك وكان طلحة والزبير أوّل من بايعني ثمّ نقضا بيعتي عن غير حدث وأخرجا عائشة فساروا بها إلى البصرة فصرت إليهم في المهاجرين والأنصار فالتقينا فدعوتهم إلى أن يرجعوا إلى ما خرجوا منه فأبوا فأبلغت في الدعاء وأحسنت في البيعة.

«وأعلم إِنَّ عَمَلَكَ لَيْسَ لَكَ بِطُعْمَةٍ»: ما يطعم «ولَكِنَّهُ فِي عُنُقِكَ أَمَانَةٌ وأَنْتَ

مُسْتَرْعًى لِمَنْ فَوْقَكَ»: أي من جعلته راغباً «لَيْسَ لَكَ أَنْ تَفْتَاتَ فِي رَعِيَّةٍ»: أي

تعمل شيئاً دون أمري «ولَا تُخَاطِرَ إِلَّا بِوَثِيقَةٍ»: المخاطر: التقدم في الأمور العظام والأشراف فيها على هلاك والتفقه في مايوثق به الدين وهو: إشارة إلى قياس ضمير من الشكل الأوّل بيّن فيه أنّه ليس له أن يستبدّ في رعيّته بأمر من الأمور دون من استرعاه ولا أن يخاطر إلَّا بوثيقة تخلصه ويثق بها ثم بين له بعض ما لا

ص: 275

يجوز له الاستبداد والمخاطرة فيه وهو مال تلك البلاد ونبه على وجوب حفظه بقوله: «وفِي يَدَيْكَ مَالٌ مِنْ مَالِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ»: أي الذي أفاه على عباده المؤمنين.

«وأَنْتَ مِنْ خُزَّانِهِ حَتَّى تُسَلِّمَهُ إِلَيَّ»: ومن شأن الخازن الحفظ وعدم التصرّف فيما يخزنه إلَّا بإذن وأمر وثيق يلقى به ربّه، وقد كان الأشعث متخوّفاً من عليّ عليه السّلام حين ولى الأمر، وجازما بأنّه لا يبقى العمل في يده لهنات سبقت منه في الدين وفي حقّه عليه السّلام قد أشرنا إلى بعضها فيما سبق في قوله: وما يدريك ما عليّ ممَّا لي. ثمّ أراد علیه السّلام تسکینه فقال: «ولَعَيِّ أَلَّا أَكُونَ شَرَّ وُلَتِكَ لَكَ والسَّلَامُ»: أي شرّ من ولى عليك وأتی بلفظ الترجّي ليقيمه بين طوري الخوف والرجاء، وإنّما يكون شرّ ولاته عليه لو خالف الدين والأشعث يعلم ذلك منه فكان ذلك جاذباً له إلى لزوم الدين، وروي أنّه لمّا أتاه کتاب عليّ عليه السّلام دعا بثقاته وقال لهم: إنّ عليّ بن أبي طالب قد أوحشني وهو آخذي بمال آذربيجان على كلّ حال وأنا لا حق بمعاوية. فقال له أصحابه: الموت خير لك من ذلك تدع مصرك وجماعة قومك وتكون ذنباً لأهل الشام. فاستحيا من ذلك. وبلغ قوله أهل الكوفة فكتب إليه عليه السّلام کتابا يوبّخه فيه ويأمره بالقدوم عليه. وبعث به حجر بن عديّ الكنديّ فلامه حجر على ذلك وناشده الله وقال له: أتدع قومك وأهل مصرك وأمير المؤمنين ويلحق بأهل الشام ولم يزل به حتّی أقدمه إلى الكوفة فعرض على عليّ عليه السّلام أثقله فوجد فيها مائة ألف درهم وروى أربع مائة ألف فأخذها.

وكان ذلك بالنخيلة؛ فاستشفع الأشعث بالحسن والحسين عليهما السّلام وبعبد الله بن جعفر فأطلق له منها ثلاثين ألفا فقال: لا يكفيني؛ فقال: لست بزائدك درهماً واحدا، وأيم الله لو تركتها لكان خيرا ممّا لك، وما أظنّها تحلّ لك، ولو

ص: 276

تيقّنت ذلك لما بلغتها من عندي، فقال: الأشعث: خذمن خدعك ما أعطاك.

ومن كتاب له عليه السّلام إلى معاوية:

مع جرير بن عبد الله البجليّ حين نزعه من همدان. وصدره: أمّا بعد فإنّ بيعتي يا معاوية لزمتك وأنت بالشام، صورة دعوى.

«إِنَّهُ بَايَعَنِي الْقَوْمُ الَّذِينَ بَايَعُوا أَبَا بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمَانَ عَلَى مَا بَايَعُوهُمْ عَلَيْهِ»: صورة صغرى قياس ضمير من الشكل الأوّل يستنتج منه ملزوم تلك الدعوى الغاية صدقها بصدق ملزومها، وتقدير الكبرى: وكلّ من بایعه هؤلاء القوم فلیس لمن شهد بیعتهم أن يختار غير من بايعوه ولا للغائب عنها أن يردّها ينتج أنّه ليس الأحد ممّن حضر أو غاب أن يردّ بیعتهم له، وذلك يستلزم كونها لازمة لمن حضر أو غاب وهذه النتيجة هي قوله:

«فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَخْتَارَ ولَا لِلْغَائِبِ أَنْ يَرُدَّ»: ثم قرر کبراه بقوله:

«وإِنَّمَا الشُّورَى لِلْمُهَاجِرِينَ والأَنْصَارِ»: حصرها فيهم لأنّهم أهل الحلّ والعقد من أُمّة محمّد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فإذا اتّفقت كلمتهم على حكم من الأحكام کاجتماعهم على بيعته وتسميته إماما كان ذلك إجماعاً حقّاً إليه الإشارة بقوله:

«فَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى رَجُلٍ وسَمَّوْهُ إِمَاماً كَانَ ذَلِكَ للهِ رِضًا»: أي مرضيّ له، وسبيل المؤمنين الَّذي يجب اتّباعه.

«فَإِنْ خَرَجَ عَنْ أَمْرِهِمْ خَارِجٌ بِطَعْنٍ»: فيهم أو فيمن أجمعوا عليه كخلاف معاوية وطعنه فيه عليه السّلام بقتل عثمان و نحوه.

«أَوْ بِدْعَةٍ»: كخلاف أصحاب الجمل وبدعتهم في نكث بیعته.

ص: 277

«رَدُّوهُ إِلَی مَا خَرَجَ مِنْهُ فَإِنْ أَبَى قَاتَلُوهُ عَلَىَ اتِّبَاعِهِ غَیْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِینَ»: حتّی يرجع إليه «ووَلَّاهُ اللهُ مَا تَوَلَّی»: وأصلاه جهنّم وساءت مصيراً. ثمّ أقسم أنّه على تقدير نظره بعقله دون هواه يجده أبرء الناس من دم عثمان قال:

«ولَعَمْرِي يَا مُعَاوِيَةُ لَئِنْ نَظَرْتَ بِعَقْلِكَ دُونَ هَوَاكَ لَتَجِدَنِّ أَبْرَأَ النَّاسِ مِنْ دَمِ

عُثْمَانَ ولَتَعْلَمَنَّ أَنِّي كُنْتُ فِي عُزْلَةٍ عَنْهُ»: والملازمة واضحة فإنّ القتل إمّا بفعل أو بقول ولم ينقل عن عليّ عليه السلام في أمر عثمان إلَّا أنّه لزم بيته وانعزل عنه بعد أن دافع عنه طويلاً بيده ولسانه فلم يمكن الدفع.

«إِلَّا أَنْ تَتَجَنَّى فَتَجَنَّ مَا بَدَا لَكَ»: استثناء منقطع: أي إلَّا أن يدّعى عليّ ذنباً لم أفعله فادّع ما بدا لك: أي ما ظهر في خيالك من الذنوب والجنايات فإنّ ذلك باب مفتوح لكلّ أحد ومحلّ ما النصب بالمفعوليّة وإنّما احتجّ عليهم بالإجماع والاختيار هنا على حسب اعتقاد القوم أنّه المعتبر في نصب الإمام. إذ لم یکن عندهم أنّه منصوص عليه، ولو ادّعى ذلك لم يسلَّم له «والسَّلَامُ»: أي على من أتبع الهدى وبالله التوفيق.

ومن كتاب له عليه السّلام: في جواب کتاب کتبه معاوية إليه وصورته:

من معاوية بن أبي سفيان إلى عليّ بن أبي طالب أمّا بعد فلو كنت على ما كان عليه أبو بكر وعمر إذن ما قاتلتك ولا استحللت ذلك ولكنّه إنّما أفسد عليك بيعتي خطيئتك في عثمان بن عفّان، وإنّما كان أهل الحجاز الحكَّام على الناس حين كان الحقّ فيهم فلمّا ترکوه صار أهل الشام الحكَّام على أهل الحجار، وغيرهم من الناس، ولعمري ما حجّتك على أهل الشام كحجّتك على أهل البصرة ولا حجّتك عليّ كحجّتك على طلحة والزبير لأنّ أهل البصرة قد كانوا بایعوك ولم

ص: 278

يبايعك أهل الشام وإنّ طلحة والزبير بایعاك ولم أبايعك.

وأمّا فضلك في الإسلام وقرابتك من رسول الله صلَّى الله عليه - وآله - وسلَّم وموضعك من هاشم فلست أدفعه والسلام؛ فكتب عليه السّلام جوابه من عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى معاوية بن صخر أمّا بعد فإنّه أتاني کتاب کتاب امرئ. إلى قوله: خابطاً؛ ثمّ يتّصل به أن قال: زعمت أنّه إنّما أفسد عليّ بيعتك خطيئتي في عثمان، ولعمري ما كنت إلَّا رجلاً من المهاجرين أوردت كما أوردوا وصدرت کما صدروا وما كان الله ليجمعهم على ضلال ولا يضربهم بعمى، وأمّا ما زعمت أنّ أهل الشام الحكَّام على أهل الحجاز فهات رجلين من قريش الشام يقبلان في الشورى أن تحلّ لهما الخلافة فإن زعمت ذلك كذّبك المهاجرون والأنصار. وإلَّا فأنا آتيك بهما من قريش الحجاز، وأمّا ما ميّزت بين أهل الشام وأهل البصرة وبينك وبين طلحة والزبير فلعمري ما الأمر في ذلك إلَّا واحد؛ ثمّ يتّصل به قوله: لأنّها بيعة عامّة. إلى آخره؛ ثمّ يتّصل به: وأمّا فضلي في الإسلام وقرابتي من الرسول وشرفي في بني هاشم فلو استطعت دفعه لفعلت. والسلام. وأمّا قوله، أمّا بعد فقد أتتني. إلى قوله: بسوء رأيك.

فهو صدر كتاب آخر أجاب به معاوية عن كتاب كتبه إليه بعد الكتاب الَّذي ذكرناه. وذلك أنّه لمّا وصل إليه هذا الكتاب من عليّ عليه السلام كتب إليه كتاباً يعظه فيه. وصورته: أمّا بعد فاتّق الله يا عليّ ودع الحسد فإنّه طالما لم ينتفع به أهله، ولا تفسد سابقة قديمك بشره من حديثك؛ فإنّ الأعمال بخواتيمها، ولا تلحدنّ بباطل في حقّ من لا حقّ لك في حقّه فإنّك إن تفعل ذلك لا تضلل إلَّا نفسك ولا تمحق إلَّا عملك، ولعمري إنّ ما مضى لك من السوابق الحسنة لحقيقة أن تردّك و تردعك عمّا قد اجترأت عليه من سفك الدماء وإجلاء أهل الحقّ عن الحلّ والحرام، فاقرأ

ص: 279

سورة الفلق وتعوّذ بالله من شرّ ما خلق ومن شرّ نفسك الحاسد إذا حسد قفل الله بقلبك و أخذ بناصيتك وعجّل توفيقك فإني أسعد الناس بذلك والسلام.

فكتب إليه عليّ عليه السلام أمّا بعد فقد أتتني منك موعظة. إلى قوله: سوء رأيك.

ثمّ يتّصل به: وكتاب ليس ببعيد الشبه منك حملك على الوثوب على ما ليس لك فيه حقّ. ولولا علمي بك وما قد سبق من رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فيك ممّا لا مردّ له دون إنفاذه إذن لوعظتك ولكن عظتي لا تنفع من حقّت عليه كلمة العذاب، ولم يخف العقاب ولم يرج لله وقارا ولم يخف له حذاراً. فشأنك وما أنت عليه من الضلالة والحيرة والجهالة تجد الله في ذلك بالمرصاد من دنياك المنقطعة وتمنّيك الأباطيل.

وقد علمت ما قال النبيّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم فيك وفي أُمّك وأبيك. والسلام. وممّا ينبّه على أنّ هذا الفصل المذكور ليس من الكتاب الأوّل أنّ الأوّل لم يكن فيه ذكر موعظة حتّى يذكرها عليه السّلام في جوابه غير أنّ السيّد رضي الله عنه أضافه إلى هذا الكتاب كما هو عادته في مراعاة عدم ذلك وأمثاله، وأرجع إلى المقصود فأقول:

«أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ أَتَتْنِي مِنْكَ مَوْعِظَةٌ مُوَصَّلَةٌ»: ملتقطه من كلام الناس ملفقة وقد رتبت بالكتابة.

«ورِسَالَةٌ مُحَبَّرَةٌ»: مرتبة «نَمَّقْتَهَا»: رتبتها بالكتابة بِضَلَلِكَ: إنما نسب تنميقها إلى ضلالة لأنّ موعظته وتكلَّفه إيّاها لمثله عليه السّلام عن اعتقاد منه أنّه على طرف الحقّ وأنّه عليه السلام مخطئ کما زعم، وظاهر أنّ ذلك الاعتقاد ضلال

ص: 280

عن سبيل الله أوجب له تكلَّف تلك الموعظة، ولأنّه لمّا كان جاهلاً بسبك الكلام ووضعه مواضعه جائت موصّلة منمقة بحسب ذلك الجهل ظهر عليها أثر الكلفة في التنميق فاستدلّ به على ضلاله.

«وأَمْضَيْتَهَا بِسُوءِ رَأْيِكَ وكِتَابُ امْرِئٍ لَيْسَ لَهُ بَصَرٌ يَهْدِيهِ»: إنما نسب تنميقها إلى ضلالة لأنّ موعظته وتكلَّفه إيّاها لمثله عليه السّلام عن اعتقاد منه أنّه على طرف الحقّ وأنّه عليّه السلام مخطئ کما زعم، وظاهر أنّ ذلك الاعتقاد ضلال عن سبيل الله أوجب له تكلَّف تلك الموعظة، ولأنّه لمّا كان جاهلاً بسبك الكلام ووضعه مواضعه جائت موصّلة منمقة بحسب ذلك الجهل ظهر عليها أثر الكلفة في التنميق فاستدلّ به على ضلاله.

«ولَا له قَائِدٌ»: من إمام حق أو رأي صالح «يُرْشِدُهُ»: إلى سبيل الله فلاجرم.

«قَدْ دَعَاهُ الْهَوَى فَأَجَابَهُ وقَادَهُ الضَّلَالُ فَاتَّبَعَهُ»: أي أراد الجائرة المخبطة لوجه المصلحة المطلوبة لله تعالى.

«فَهَجَرَ»: لستلزامه ذلك فنقول ما لا ينبغي من القول «لَاغِطاً»: صائتاً مجلباً «وضَلَّ»: عن سبيل الله «خَابِطاً»: في التيه لا يتقي مصارع الهوان في دين الله ولا غطا و خابطاً حلان.

«ومِنْ هَذَا الْكِتَابِ لأَنَّهَا بَيْعَةٌ وَاحِدَةٌ» من الإضمار قبل الذكر لأنّه ضمير البيعة كقوله تعالى «فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ» ولاكن تعمى القلوب التي في الصدور.

ويحتمل أن يرجع إلى ما علم من حالها في قوله: فلعمري ما الأمر في ذلك إلَّا واحد. یعنی ما شأن أهل البصرة وشأن أهل الشام وشأن طلحة والزبير في بيعتي إلَّا واحدا.

ص: 281

والمعنى أنّها كما لزمت أولئك فقد لزمتكم أيضاً. ثم أشار إلى الحجّة في ذلك بقياس ضمير من الشكل الأوّل صغراه: وهي كونها بيعه واحدة باتّفاق المهاجرين والأنصار الَّذين هم أهل الحلّ والعقد من أمّة محمّد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وتقدير كبراه: وكلّ بيعة وقعت كذلك.

لَا يُثَنَّى فِيهَا النَّظَرُ ولَا يُسْتَأْنَفُ فِيهَا الْخِيَارُ: وبيان الكبرى ما سبق من حال الأئمّة الثلاثة قبله عليه السّلام إذ لم يكن لأحد أن يثّني في بيعتهم نظراً ولا يستأنف خياراً بعد أن عقدها المهاجرون والأنصار لأحدهم.

ثمّ أشار إلى حكم من لم يدخل في بيعته وهم قسمان لأنّ من لم يدخل فيها إمّا أن يخرج عنها أو يقف فيها.

الْخَارِجُ مِنْهَا طَاعِنٌ: في صحّتها وانعقادها فيجب أن يجاهد ويقاتل حتّى يرجع إليها كما سبق.

والْمَرَوِّي: المفكر مُدَاهِنٌ: في صحتها، مصانع وهو نوع من النفاق ومستلزم للشك في سبيل المؤمنين ووجوب أتابعه وبالله التوفيق.

ص: 282

المحتويات

ومن خطبة له عليه السّلام: في التحذير من الدنيا والاشتغال بها عن الله...5

ومن دعاء له عليه السّلام:...7

ومن كلام له عليه السّلام:...10

ومن كلام له عليه السّلام في وصف بیعته: وقد تقدم مثله بألفاظ مختلفة...14

ومن خطبة له عليه السّلام: في التنبيه على فضيلة تقوى الله بأوصاف أحدها وقوله...15

ومن خطبة له عليه السّلام خطبها بذي قار:...25

ومن كلام له عليه السّلام کلم به عبد الله بن زمعة، بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزي بن قصي...26

و من كلام له عليه السّلام:...28

ومن كلام له عليه السّلام: في ذكر اختلاف الناس...30

ومن كلام له عليه السّلام وهو يلي غسل رسول الله صلَّى الله عليه و آله و تجهيزه:...34

ومن خطبة له عليه السّلام:...36

ومن خطبة له عليه السّلام في التوحيد، وتجمع هذه الخطبة من العلم ما لا تجمعه خطبة...62

ومن خطبة له عليه السّلام يختص بذكر الملاحم...99

ص: 283

ومن خطبة له عليه السّلام...105

ومن خطبة له عليه السّلام:...109

ومن خطبة له عليه السّلام:...120

ومن خطبة له عليه السّلام:...130

ومن خطبة له عليه السّلام ومن الناس من يسمي هذه الخطبة بالقاصعة:...151

ومن كلام له عليه السّلام قاله لعبد الله بن عباس وقد جائه برسالة من عثمان وهو محصور:...248

ومن كلام له عليه السّلام: اقتصر فيه ذكر ما كان منه بعد هجرة النبي صلَّى الله عليه وآله، ثم لحاقه به...250

ومن خطبة له عليه السّلام: في أمرهم بالعمل حال ما هم في مهلته على الأحوال الَّتي أشار إليها:...252

ومن خطبة له عليه السّلام في ذم أهل الشام وشان الحكمين:...254

و من خطبة له عليه السّلام يذكر فيها آل محمد صلَّى الله عليه وآله وسلَّم:...208

ومن خطبة له عليه السّلام يحث أصحابه على الجهاد:...260

من كتاب له عليه السّلام لأهل الكوفة، عند مسيره من المدينة إلى البصرة:...263

ومن كتاب له عليه السّلام إليهم، بعد فتح البصرة:...267

ص: 284

ومن كتاب له عليه السّلام كتبه لشريح بن الحارث:268

ومن كتاب له عليه السّلام إلى بعض أمراء جيشه:...274

ومن كتاب له عليه السّلام إلى الأشعث بن قیس، وهو عامل أذربيجان:...275

ومن كتاب له عليه السّلام إلى معاوية:...277

ومن كتاب له عليه السلام: في جواب کتاب کتبه معاوية إليه وصورته:...278

ص: 285

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.