تحفة العلية في شرح خطابات الحیدرية المجلد 3

هوية الکتاب

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

تحفة العلیة في الشرح خطابا الحیدریة

رقم الإیداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 3451 لسنة 2020

مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda

رقم تصنيف LC:

BP193.1.A2 125 2020

المؤلف الشخصي: ابن حبيب الله، محمد، كان حيا 881 للهجرة - مؤلف.

العنوان: تحفة العلية في شرح خطابات الحيدرية: شرح نهج البلاغة /

بيان المسؤولية: افصح الدين محمد بن حبيب الله بن أحمد الحسني الحسيني؛ تحقيق السيد علي الحسني؛ تقديم السيد نبيل الحسني الكربلائي.

بيانات الطبع: الطبعة الاولى.

بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2021 / 1442 للهجرة.

الوصف المادي: 7 مجلد: صور طبق الأصل؛ 24 سم.

سلسلة النشر: (العتبة الحسينية المقدسة؛ 762).

سلسلة النشر: (مؤسسة علوم نهج البلاغة، 190؛ سلسلة تحقيق المخطوطات، 13).

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن مراجع ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام) الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - حديث.

مصطلح موضوعي: الخطب الدينية الإسلامية.

مصطلح موضوعي: البلاغة العربية.

اسم مؤلف اضافي: شرح ل(عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

اسم مؤلف اضافي: الحسني، علي - محقق.

اسم مؤلف اضافي: الحسني، نبيل، 1384 للهجرة - مقدم.

اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق)، مؤسسة علوم نهج البلاغة. جهة مصدرة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 1

اشارة

رقم الإیداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 3451 لسنة 2020

مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda

رقم تصنيف LC:

BP193.1.A2 125 2020

المؤلف الشخصي: ابن حبيب الله، محمد، كان حيا 881 للهجرة - مؤلف.

العنوان: تحفة العلية في شرح خطابات الحيدرية: شرح نهج البلاغة /

بيان المسؤولية: افصح الدين محمد بن حبيب الله بن أحمد الحسني الحسيني؛ تحقيق السيد علي الحسني؛ تقديم السيد نبيل الحسني الكربلائي.

بيانات الطبع: الطبعة الاولى.

بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2021 / 1442 للهجرة.

الوصف المادي: 7 مجلد: صور طبق الأصل؛ 24 سم.

سلسلة النشر: (العتبة الحسينية المقدسة؛ 762).

سلسلة النشر: (مؤسسة علوم نهج البلاغة، 190؛ سلسلة تحقيق المخطوطات، 13).

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن مراجع ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام) الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - حديث.

مصطلح موضوعي: الخطب الدينية الإسلامية.

مصطلح موضوعي: البلاغة العربية.

اسم مؤلف اضافي: شرح ل(عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

اسم مؤلف اضافي: الحسني، علي - محقق.

اسم مؤلف اضافي: الحسني، نبيل، 1384 للهجرة - مقدم.

اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق)، مؤسسة علوم نهج البلاغة. جهة مصدرة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 2

سلسلة تحقيق المخطوطات

وحدة تحقيق الشروحات (13)

لأصفح الدین محمد بن حبیب الله بن أحمد الحسني الحسیني منأعلام القرن الثامن الهجري

الجزء الثالث

تحقیق

السید علي الحسیني الکربلائي

إصدار

مؤسسة علوم نهج البلاغة

العتبة الحسينية المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

العتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى 1442 ه - 2021 م

العراق - كربلاء المقدسة - مجاور مقام علي الأكبر (عليه السلام) مؤسسة علوم نهج البلاغة

الموقع الألكتروني:

www.inahj.org

الإيميل:

Inahj.org@gmail.com

ص: 4

ومنها في صفة الملائكة عليهم السلام:

الذين هم أشرف الموجودات: الممكنة بكمال العبوديّة للهَّ إذ كان في معرض تمجیده، ووصف عظمته، وقد سبق ذكر أنواع الملائكة، وإسكانهم أطباق السماوات، وبيّنا مقاصده بقدر الإمكان، ولنشر هاهنا إلى ما يختصّ بهذا الموضع.

«ثُمَّ خَلَقَ سُبْحَانَهُ لإِسْكَانِ سَمَاوَاتِهِ وعِمَارَةِ الصَّفِيحِ»: السطح: «الأَعْلَى»: يحتمل أن يشير إلى الفلك التاسع وهو: العرش لكونه أعظم الأجرام وأعلاها.

(1)«خَلْقاً بَدِيعاً مِنْ مَلَئِكَتِهِ»: المدبّرون له، ويحتمل أن يريد به محلّ عبادة الملائكة من حضرت جلال ربّ العالمين، وعالم الملكوت، ومقعدهم الصدق من معرفته فإنّ خلقهم إنّما كان لعمارة ذلك المحلّ، وهو البيت المعمور بجلال الله، وعبادتهم له، ولمّا كانوا من أشرف الموجودات كانوا هم الخلق البديع التامّ المعجب.

«ومَأَ بِهِمْ فُرُوجَ فِجَاجِهَا»: الطريق الواسع «وحَشَا بِهِمْ فُتُوقَ أَجْوَائِهَا»: جمع جو بمعنى المكان المتسع، وهنا أستعاره الفروج، والنجاح والفتوق لما يتصوّر بین أجزاء الفلك من التباين لولا الملائكة الَّذين هم أرواح؛ الأفلاك وبها قام وجودها وبقاء جواهرها محفوظة بهم، ووجه المشابهة ظاهر، ورشّح تلك الاستعارة بذکر الملء والحشو، وأمّا فجاجها وفروجها؛ فإشارة إلى ما يفعل بين أجزائها، وأحوالها المنتظمة من التباين لولا الناظم لها بوجود الملائكة؛ فيكون حشو تلك الفرج بالملائكة كناية عن نظامها بوجودها وجعلها مدبّرة له «وبَیْنَ فَجَوَاتِ تِلْكَ الْفُرُوجِ زَجَلُ الْمُسَبِّحِينَ مِنْهُمْ فِي حَظَائِرِ الْقُدُسِ»: استعار لكمال عبادتهم لربهم کما؛ أنّ کمال

ص: 5


1- ورد في بعض النسخ: مِنْ مَلَكُوتِهِ

عبادة الرجل في رفع صوته بالتضرّع، والتسبيح، والتهليل، وكذلك الحظائر لمنازل الملائكة من عالم الغيب، ومقامات عبادتهم، وظاهر كونها حظائر القدس لطهارتها وبراعتها عن نجاسات الجهل والنفس الأمّارة بالسوء.

«وسُتُرَاتِ الْحُجُبِ وسُرَادِقَاتِ الْمَجْدِ»: استعار لما نبّهنا عليه من حجب النور الَّتي حجبت بها من الأذهان؛ أو لتجرّدهم عن الموادّ والأوضاع المحسوسة، ووجه المشابهة كونهم محتجبين بذلك عن رؤية الأبصار والأوهام، وظاهر کون تلك الحجب سرادقات المجد لکمال ذواتهم، وشرفهم بها على من دونها.

«ووَرَاءَ ذَلِكَ الرَّجِيجِ»: الصوت العالي «الَّذِي تَسْتَكُّ»: يصم «مِنْهُ الأَسْمَاعُ

سُبُحَاتُ أنُوارٍ تَرْدَعُ الأَبْصَارَ عَنْ بُلُوغِهَا فَتَقِفُ خَاسِئَةً عَىَ حُدُودِهَا»: استعار الرجيج لعبادات الملائكة كالزجل مرشّحاً بالإستكاك كناية عن كمال عباداتهم، ويحتمل أن يشير بهما إلى ما تسمعه الأنبياء من أصوات الملائكة، وأشار بسبحات النور الإلهي وراء ذلك الرجيج إلى جلال، وجه الله وعظمته وتنزيهه أن تصل إليه أبصار البصائر، ونبّه بكون كذلك وراء رجيجهم على أنّ معارفهم لا تتعلَّق به کما هو، بل وراء علومهم، وعباداتهم أطوار أخرى من جلاله تقصر معارفهم عنها وتردع أبصار البصائر عن إدراكها، فترجع حسيرة متحيّرة؛ واقفة عند حدودها وغاياتها من الإدراك.

«وأَنْشَأَهُمْ عَلَى صُوَرٍ مُخْتَلِفَاتٍ وأَقْدَارٍ مُتَفَاوِتَاتٍ «أُولِي أَجْنِحَةٍ»(1) تُسَبِّحُ

جَلَالَ أوساط عِزَّتِهِ»: اختلاف صورهم كناية عن اختلافهم بالحقائق وتفاوت أقدارهم تفاوت مراتبهم في الكمال والقرب منه، ولفظ الأجنحة مستعار لقواهم

ص: 6


1- سورة فاطر: الآية 1

الَّتي بها حصلوا على المعارف الإلهيّة، وتفاوتها بالزيادة، والنقصان کما قال تعالى «أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ»(1) كناية عن تفاوت إدراكهم لجلال الله وعلومهم بما ينبغي له ولذلك جعل الأجنحة هي الَّتي تسبّح جلال عزّته «لَا يَنْتَحِلُونَ مَا ظَهَرَ فِي الْخَلْقِ مِنْ صُنْعِهِ»: أي لا ينسون بعض مصنوعاته إلى قدرتهم وإن كانوا وسائط «ولَا يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَخْلُقُونَ شَيْئاً معه مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ»: أي لا يدّعون أنّهم يقدرون على شيء منها إلَّا بإقداره لهم، بل غايتهم أنّهم وسائط في إفاضة الجود الإلهي على مستحقّه، وما لم يجعلهم وسائط فيه بل انفرد بذاته في إبداعه فلا يدّعون القدرة عليه أصلا وذلك لكمال معارفهم بأقدارهم ونسبتهم التي هي مبدأ مخالفة أمره والخروج عن طاعته إلى باريهم.

«بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ»: قد أكرمهم الله تعالى بالتقديس عن النفوس الأمارة بالسوء التي هي مبدأ مخالفة أمره والخروج عن طاعته «لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ»(2) جَعَلَهُمُ فِيماَ هُنَالِكَ أَهْلَ الَأمَانَةِ عَلَى وَحْيِهِ وحَمَّلَهُمْ إِلَی الْمُرْسَلِيَن وَدَائِعَ أَمْرِهِ ونَهْيِهِ:

أي: في مقاماتهم من حظرة قدسه وقد سبقت الإشارة إلى كل ذلك في الخطبة الأولى.

«وعَصَمَهُمْ مِنْ رَيْبِ الشُّبُهَاتِ»: منشائها كالزيغ هو معارضة النفس الأمارة للعقل وجذبها له إلى طرق الباطل والملائكة مبرؤون، عنها.

«فَمَا مِنْهُمْ زَائِغٌ عَنْ سَبِيلِ مَرْضَاتِهِ وأَمَدَّهُمْ بِفَوَائِدِ الْمَعُونَةِ»: أي زيادتهم في

ص: 7


1- سورة فاطر: الآية 1
2- سورة الأنبياء: الآية 27

کمالاتهم على غيرهم ودوام ذلك بدوام وجوده.

وأَشْعَرَ قُلُوبَهُمْ تَوَاضُعَ إِخْبَاتِ»: تذلل «السَّكِينَةِ»: استعارة لفظ التواضع والاستكانة لحالهم من الاعتراف بذلّ الحاجة، والإمكان إلى جوده والإنقهار تحت عظمته: أي جعل ذلك الاعتراف شعارا لازماً لذواتهم، أو من الشعور وهو الإدراك؛ «وفَتَحَ لَهُمْ أَبْوَاباً ذُلُاً إِلَ تَمَاجِيدِهِ»: الأبواب الذلل، وجوه معارفهم الإلهيّة الَّتي بها يمجّدونه حقّ تمجيده وهي أبوابهم ووسائلهم إلى تنزيهه، وتعظيمه وظاهر كونها سهلة إذ حصولها لهم ليس اکتساباً عن طرق توقرت بتراکم الشكوك والشبهات، ومنازعات الأوهام، والخيالات كما هو علومنا.

ونَصَبَ لَهُمْ مَنَاراً وَاضِحَةً عَلَى أَعْلَامِ تَوْحِيدِهِ»: قيل: استعار المنار الواضحة للوسائط من الملائكة المقرّبين بينهم، وبين الحقّ سبحانه؛ إذ أخباره عن الملائكة السماويّة، ولفظ الأعلام لصور المعقولات في ذواتهم المستلزمة لتوحيده، وتنزيهه عن الكثرة، ووجه المشابهة أنّ المنار، والأعلام کما یکون، وسائط في حصول العلم بالمطلوب كذلك الملائكة المقرّبون، والمعارف الحاصلة بواسطتهم يكون، وسائط في الوصول إلى المطلوب الأوّل محرّك للكلّ، عزّ سلطانه.

«لَمْ تُثْقِلْهُمْ مُؤْصِرَاتُ»: مثقلات «الآثَامِ»: لمّا لم يكن النفوس الأمّارة بالسوء موجودة لهم استلزم عدمها نفي آثارها عنهم من الآثام والشرور.

«ولَمْ تَرْتَحِلْهُمْ عُقَبُ اللَّيَالِي والأَيَّامِ»: أي لم يستلزم تعاقب الزمان رحيلهم عن الوجود، وذاك لتجرّدهم وبراءة المجردات عن لحوق الزمان والتغيژرات الحادثة بسببه كذا قيل.

ولَمْ تَرْمِ الشُّكُوكُ بِنَوَازِعِهَا عَزِيمَةَ إِيمَانِهِمْ ولَمْ تَعْتَرِكِ الظُّنُونُ عَلَی مَعَاقِدِ يَقِينِهِمْ»:

ص: 8

عزيمة إيمانهم مالزم ذواتهم من التصديق بمبدعهم وما ينبغي له، ومعاقد يقينهم اعتقاداتهم اليقينيّة واعتراك الشكوك والظنون منشأه الأوهام والخيالات وعلوم الملائكة المجرّدین مبرّأة عنها، ولفظ الرمي مستعار لانبعاث النفوس الأمّارة بالسوء وإلقائها الخواطر الفاسدة إلى النفس المطمئنّة، ومن روى النوازع بالعين المهملة فهو ترشيح للاستعارة وكذلك استعار لفظ الاعتراك لاختلاط الظنون والأوهام على القلوب وجولانها في النفوس، ووجه المشابهة ظاهرة.

«ولَا قَدَحَتْ قَادِحَةُ الإِحَنِ»: جمع إحنة وهي الحقد «فِيمَا بَيْنَهُمْ»: أي لم تثر الأحقاد شيئاً من الشرور بينهم کما تثير النار قادحها لبراعتهم عن قوى الغضب والشهوة.

«وَمَا سَلَبَتْهُمُ الْحَیرَةُ مَا لَاقَ»: ولصق «مِنْ مَعْرِفَتِهِ(1) بصائرهم: وسَكَنَ مِنْ عَظَمَتِهِ وهَيْبَةِ جَلَلَتِهِ فِ أَثْنَاءِ صُدُورِهِمْ»: لمّا كانت الحيرة تردّد العقل في أيّ الأمرين أولى بالطلب والاختيار وكان منشأ، ذلك هو معارضات الوهم والخيال للعقل، فحيث لا وهم ولا خيال، فلاحيرة تخالط معارفهم، وتزيل هيبة عظمته من صدورهم، والهيبة كناية عن استشعار عظمته، ولفظ الصدور مستعار لذواتهم.

«ولَمْ تَطْمَعْ فِيهِمُ الْوَسَاوِسُ فَتَقْتَرِعَ بِرَيْنِهَا عَلَى فِكْرِهِمْ»: قد مرّ تفسير الوسوسة، وفاعل الطمع هاهنا إمّا مضمر أي أهل الوساوس وهم الشياطين، أو هي وإسناد إليها مجازاً كقوله تعالى «وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا»(2) ورینها غلبة الشكوك اللازمة عنها على وجوه عقولهم، وأبصار ذواتهم الَّتي بها ينظرون إلى وجه ربّهم، وانتفاؤها عنهم لانتفاء أسبابها وهي النفوس الأمّارة.

ص: 9


1- ورد في بعض النسخ: بِضَمَائِرِهِمْ
2- سورة الزلزلة: الآية 2

«ومِنْهُمْ مَنْ هُوَ فِي خَلْقِ الْغَمَامِ الدُّلَّج»: جمع داجه وهي الثقال «وفِي عِظَمِ

الْجِبَالِ الشُّمَّخِ»: أي العالية وفِي قَتْرَةِ: جانب «الظَّلَامِ الأَیْهم»: الذي لا يهتدي إليه وهذا التقسيم يعود إلى جنس الملائكة؛ فأمّا الأوصاف السابقة؛ فكانت خاصّة بسکَّان السماوات، وقد وردت في الشريعة، أنّ في الغام ملائكة تسبّح الله، وتقدّسه وكذلك في الجبال والأماكن المظلمة، وهم من الملائكة الأرضيّة، وقد علمت ما قيل فيها في الخطبة الأولى.

«ومِنْهُمْ مَنْ قَدْ خَرَقَتْ أَقْدَامُهُمْ تُخُومَ الأَرْضِ السُّفْلَی»: جمع تخم وهو منتهی الأرض.

«فَهِيَ كَرَايَاتٍ بِيضٍ قَدْ نَفَذَتْ فِي مَخَارِقِ الْهَوَاءِ وتَحْتَهَا رِيحٌ»: ساكنة(1) «تْحَبِسُهَا

عَلَی حَيْثُ انْتَهَتْ مِنَ الْحُدُودِ الْمُتَنَاهِيَةِ»: يشبه أن يكون هذا القسم من الملائكة السماويّة أيضاً واستعار لفظ الأقدام لعلومهم المحيطة؛ بأقطار الأرض السفلى ونهاياتها، ووجه المشابهة كون العلوم قاطعة للمعلوم، وسارية فيه واصلة إلى نهايته كما أنّ الأقدام تقطع الطريق، وتصل إلى الغاية منها، وشبّهها بالرايات البيض النافذة في محارق الهواء من وجهين: أحدهما: في البياض؛ فإنّه لمّا استلزم الصفاء عن الكدر والسواد كذلك علومهم صافية من كدورات الباطل، وظلات الشَّبه.

الثاني: في نفوذها في أجزاء المعلوم کما تنفذ الرايات في الهواء، وأشار بالريح الَّتي تحبس الأقدام على حيث انتهت من الحدود إلى حكم الله الَّتي أعطت كلاماً يستحقّه وقصرت کلّ موجود على حدّه، و بهفوفها إلى لطف تصرّفها و جریانها في المصنوعات.

«قَدِ اسْتَفْرَغَتْهُمْ أَشْغَالُ عِبَادَتِهِ»: أي لم يجعل لهم فراغا لغيرها، وقد علمت

ص: 10


1- ورد في بعض النسخ: هَفَّافَةٌ

أنّ تحريك الملائكة السماويّة لأجرام الأفلاك الجارية لها مجرى الأبدان بحركة إرادیّة وشوقيّة للتشبّه بالملائكة المتوسّطة بينها وبين الحقّ سبحانه في كمال عبادتهم له وتلك الحركات الدائمة الواجبة مستفرغة لهم عن الاشتغال بغيرها كما قال «يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ»(1) «ووَصَلَتْ حَقَائِقُ الِإيمَانِ»: تصديقهم الحق بوجوده عن شاهد وجودهم.

«بَيْنَهُمْ وبَیْنَ مَعْرِفَتِهِ»: وظاهر كونه سبباً لإرادة معرفته التامة والدوام عليها وإبراز ما في قوّتهم من الكمال بها إلى الفعل؛ فإنّ التصديق بوجود الشيء الواجب تحصيله أقوى الأسباب الباعثة على طلبه؛ فصار الإيمان والتصديق الحقّ اليقين بوجوده وسيلة جامعة بينهم وبين معرفته والاستكمال بها.

«وقَطَعَهُمُ الإِيقَانُ بِهِ إِلَی الْوَلَهِ إِلَيْهِ»: والعشق له «ولَمْ تُجَاوِزْ رَغَبَاتُهُمْ مَا عِنْدَهُ إِلَی مَا عِنْدَ غَیْرِهِ قَدْ ذَاقُوا حَلَاوَةَ مَعْرِفَتِهِ وشَرِبُوا بِالْكَأْسِ الرَّوِيَّةِ مِنْ مَحَبَّتِهِ وتَمَكَّنَتْ مِنْ سُوَيْدَاءِ قُلُوبِهِمْ وَشِيجَةُ»: اختلاط «خِيفَتِهِ»: لا استعار الذوق لتعقّلاتهم، والشرب لما تمكَّن في ذواتهم من عشقه، و کمال محبّته رشّح الأولى بذکر الحلاوة، وكنّي بها عن كمال ما يجدونه من اللذّة بمعرفته کما یلتذّ ذایق الحلاواة بها، والثانية بذكر الكأس الرويّة إذ من كمال الشرب أن يكون بكأس روية: أي من شأنها أن تروی، وکی بها عن کمال معارفهم بالنسبة إلى غيرهم، وكذلك رشّح استعارة القلوب بذکر سويدائها إذ كان من کمال تمكَّن العوارض القلبيّة كالمحبّة، والخوف أن يبلغ إلى سویدائه، وأشار بوشيجة خيفته إلى العلاقة المتمكَّنة من ذواتهم لحيفته وهي: کمال علمهم بعظمته، ولفظها مستعار کما سبق لانقهارهم في ذلّ الإمكان عند اعتبار عزّه وقهره.

ص: 11


1- سورة الأنبياء: الآية 20

«فَحَنَوْا بِطُولِ الطَّاعَةِ اعْتِدَالَ ظُهُورِهِمْ»: تجوّز بانحناء الظهور في كمال خضوعهم في عبادتهم وهو إطلاق لاسم المسبّب على السبب.

«ولَمْ يُنْفِدْ طُولُ الرَّغْبَةِ إِلَيْهِ مَادَّةَ تَضَرُّعِهِمْ»: لمّا كان من شأن أحد إذا رغب في أمر إلى بعض الملوك وفزع فيه إليه بالتضرّع، والخدمة أن ينقطع تضرّعه بانقطاع مادّته، إمّا دواعي نفسه إلى الطلب، وميولها، وانقطاعها باستيلاء الملال على نفسه وضعفها عن تحمّل المشقّة، أو مطلوبه وتصوّره لإمكان تناوله، وانقطاعه إمّا بایاسه منه أو بإعطائه إيّاه وكانت مادّة تضرّعهم، وعبادتهم له تعالى على التقديرين بريئة عن القواطع أمّا من ذواتهم؛ فلأنّ الكلال، والملال من عوارض المركَّبات العنصريّة، وأمّا مطلوبهم؛ فلانّه کمال معرفة الله بعد تصورّهم لعظمة ذلك المطلوب، وعلمت أنّ درجات الوصول إليه غير متناهية لاجرم سلب عنهم في معرض مدحهم انقطاع مادّة تضرّعهم ليستلزم ذلك سبب انقطاع تضرّعهم وعبادتهم له.

ولَا أَطْلَقَ عَنْهُمْ عَظِيمُ الزُّلْفَةِ رِبَقَ خُشُوعِهِمْ»: لما كان من قرب من السلطان مثلاً من شأنه أن يقوى نفسه، ويخفّف هیبته منه، وكان ذلك لتناهي ملك ملوك الدنيا، وكونه مكتسباً لها، وتصوّر المتقرّب إليهم مثليّة لهم، وإمکان وصوله إلى ما وصلوا إليه، وكان سلطان الله لا يتناهی عظمة، وعزّة، وعرفاناً لم يتصوّر من العارف المتقرّب إليه أن يخفّف هیبته؛ أو ينقص خشوعه، وعبادته بل كلَّما ازدادت معرفته به ازدادت عظمته في نفسه؛ إذ كان يقدّر في سلوكه عظمة الله بقدر عرفانه به فكلَّما غيّر منزلاً من منازل المعرفة علم عظمة خالقه فكمل عقد يقينه بذلك وعلم نقصان ذاته فکمل خشوعه وصدن خضوعه، واستعار الربق لما حصلوا فيه من الخشوع.

ص: 12

«ولَمْ يَتَوَلُّهَمُ الإِعْجَابُ»: أي لم يستول عليهم هو: استعظام الإنسان نفسه عمّا يتصوّر أنّه فضيلة له، ومنشأ ذلك الحكم هو النفس الأمّارة فيتوهّم الإنسان أنّ تلك الفضيلة حصلت له عن استحقاق، وجب له بسعيه، وكدّه مع قطع النظر عن واهب النعم ومفيضها، والملائكة السماويّة مبرؤون عن الأوهام، وأحكامها غرقى في الوله إليه، ودوام مطالعة آلائه، والاستكانة تحت جلال عزّته.

«فَيَسْتَكْثِرُوا مَا سَلَفَ مِنْهُمْ ولَ تَرَكَتْ لَهُمُ اسْتِكَانَةُ الإِجْاَلِ نَصِيباً فِي تَعْظِيمِ

حَسَنَاتِهِمْ»: أي لم يستعظموا ما صدر عنهم من خير لما ذكر(1) «ولْمَ تَغِضْ» تنقص «رَغَبَاتُهُمْ فَيُخَالِفُوا عَنْ رَجَاءِ رَبِّهِمْ»: جدّهم تعبهم: قد ثبت أنّ الملائكة السماويّة دائمة التحريك لأجرامها حركة لا يتخلَّلها سکون ولا يكلَّها ويفترها إعياء وتعب، ولبيان ذلك بالبرهان أصول ممهّدة في مواضعها، وأمّا بالقرآن فلقوله تعالى «يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ»(2).

«ولَمْ تَغِضْ» تنقص «رَغَبَاتُهُمْ فَيُخَالِفُوا عَنْ رَجَاءِ رَبِّهِمْ»:(3) المخالفة عن الشيء العدول عنه، وقد سبق أنّ رغبات الملائكة السماويّة وأشواقها إلى کمالاتها دائمة ثابتة فكانت لذلك دائمة الرجاء لها من واهبها، ولفظ الغيض مستعار کما سبق.

«ولَمْ تَجِفَّ لِطُولِ الْمُنَاجَاةِ أَسَلَاتُ»: أطراف «أُلْسِنَتِهِمْ»: طول مناجاتهم يعود إلى توجيه وجوههم دائما إليه، واستعار لفظ الألسنة، ورشّح بذكر الأسلات ملاحظة للتشبيه بأحدنا في مناجاته، وكنّى بعدم جفاف ألسنتهم عن عدم؛ فتورهم وعدم الحقوق الإعياء والكلال لهم.

ص: 13


1- ورد في بعض النسخ: ولْمَ تْجَرِ الْفَتَرَاتُ فِيهِمْ عَلَ طُولِ دُءُوبِهِمْ
2- سورة الأنبياء: الآية 20
3- إعادة العبارة من المصنف رحمه الله لبيان شرح وتوضيح بمعنى آخر

«ولَا مَلَكَتْهُمُ الأَشْغَالُ فَتَنْقَطِعَ بِهَمْسِ الْجَؤَارِ إِلَيْهِ أَصْوَاتُهُمْ»: أي لم تضعفهم العبادة فتنقطع أصواتهم فتضعف فتخفى بالتضرّع إليه، وهو تنزية لهم عن الأحوال البشريّة، والعوارض البدنيّة من الضعف، والإعياء وكلال الأعضاء عند كثرة الأشغال، وقوّتها وقد مرّ أنّ الملائكة لا يجوز عليها شيء من تلك العوارض.

«ولَمْ تَخْتَلِفْ فِي مَقَاوِمِ الطَّاعَةِ مَنَاكِبُهُمْ ولَمْ يَثْنُوا»: ينصرفوا «إِلَی رَاحَةِ التَّقْصِیرِ

فِي أَمْرِهِ رِقَابَهُمْ»: استعار المقادم من ريش الطائر وهي عشر في كلّ جناح لما سبق وجوبه من طاعة الله، وكان أهمّ عباداته كمعرفته والتوجّه إليها، والمناكب وهي أربع ريشات بعد المقام في كلّ جناح لذواتهم، ووجه المشابهة أنّ المناكب تالية للمقادم وعلى نظامها، لا يخالف صفّها ونسقها كذلك الملائكة لا تختلف ذواتهم وأجرامهم في نسق ما أهمّ من عبادة ربّهم، ومعرفته بال صافّون لا يخالف بعضهم بعضاً في استقامة طريقهم إليه، ولا يخرجون عن ترتيبه نظام لهم في التوجّه إليه كما أُشير إليه في الخطبة الأولى: «و صافّون لا يتزایلون» وكذلك استعار الرقاب، والثني: أي لم يلتفتوا إلى الراحة من تعب العبادة؛ فيقصروا في أوامره، والمقصود نفي أحوال البشريّة عنهم من التعب، والراحة لكونهما من توابع هذه الأبدان.

«ولَ تَعْدُو عَلَى عَزِيمَةِ جِدِّهِمْ بَاَدَةُ الْغَفَلَاتِ ولَا تَنْتَضِلُ فِي هِمَمِهِمْ خَدَائِعُ الشَّهَوَاتِ»: قد عرفت معنى الغفلة فيما سبق، والبلادة هي طرف التفريط من فضيلة الذكاء وكلاهما من عوارض هذا البدن وبواسطته، وكذلك الشهوات والملائكة السماويّة بريئة عنها؛ فلم يجز أن يطرأ على قصودهم لما توجّهوا له غفلة وبلادة حتّى يكون ذلك سبباً لإعراضهم عن التوجّه فيه، ولم يجز أن ترمی الشهوات هممهم بسهام خدائعها، ولفظ الانتضال مستعار لنوادر جواذب الشهوة على النفس الناطقة مع كونها مؤدية لها و مردية في قرار الجحيم.

ص: 14

قَدِ اتَّخَذُوا ذَا الْعَرْشِ ذَخِرَةً لِيَوْمِ فَاقَتِهِمْ ويَمَّمُوهُ»: قصدوه «عِنْدَ انْقِطَاعِ

الْخَلْقِ إِلَی الْمَخْلُوقِینَ»: أشار بيوم فاقتهم إلى حال حاجتهم في الاستكمال إلى جوده، وإن كان ذلك دائما؛ فهو ذخرهم الَّذي إليه يرجعون، وكذلك الإشارة بقوله: عند انقطاع الخلق إلى المخلوقين إلى حال الحاجة أيضا؛ فإنه إنما يكون ذخيرة لهم الرجوعهم إليه؛ فيما يحتاجون وإنما يتحقق قصدهم له برغبتهم حال الحاجة إليه.

«بِرَغْبَتِهِمْ لَا يَقْطَعُونَ أَمَدَ غَايَةِ عِبَادَتِهِ ولَا يَرْجِعُ بِهِمُ الِسْتِهْتَارُ»: الحرص «بِلُزُومِ طَاعَتِهِ إِلَّا إِلَی مَوَادَّ مِنْ قُلُوبِهِمْ غَیْرِ مُنْقَطِعَةٍ مِنْ رَجَائِهِ ومَخَافَتِهِ»: لمّا كانت غاية عبادته هو الوصول إلى کمال معرفته، وكانت درجات المعارف الإلهيّة غير متناهية لم يكن قطعهم لتلك الغاية ممكناً، ولمّا كانوا غرقى في محبّته عالمين بكمال عظمته، وأنّ ما يرجونه من تمام جوده أشرف المطالب، وأربح المكاسب، وما يخشى من انقطاع جوده، ونزول حرمانه أعظم المهالك، والمعاطب لاجرم دام رجاؤهم له، وخضوعهم في رقّ الحاجة إليه، والفزع من حرمانه، وكان ذلك الرجاء، والخوف هو مادّة استهتارهم بلزوم طاعته؛ الَّتي يرجعون إليها من قلوبهم فلم ينقطع استهتارهم بلزومها.

«لَمْ تَنْقَطِعْ أَسْبَابُ الشَّفَقَةِ فِيهُمْ فَيَنُوا فِي جِدِّهِمْ»: أي لم ينقطع أسباب خوفهم له وأسبابه حاجتهم إلى القيام في الوجود إلى الاستكمال بجوده؛ فإن الحاجة الضروريّة إلى الغير في مطلوب يستلزم؛ الخوف منه في عدم قضائه، ويوجب الإقبال على الاستعداد بجوده بلزوم طاعته، وحاجتهم إليه دائمة؛ فجدّهم في عبادته دائم فالتواني فيه مفقود.

«ولَمْ تَأْسِرْهُمُ الأَطْمَاعُ فَيُؤْثِرُوا وَشِيكَ السَّعْيِ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ»: سلب لبعض أوصاف البشر عنهم؛ فإنّ كثيراً من العابدين قد يصرفهم عن الاجتهاد في طاعة

ص: 15

الله سبب ما يظهر لهم من کمالات الدنيا وزينتها؛ فيؤثرون ما قرب من السعي في تحصيله على ما يستبعدونه من تحصيل السعادة الأخرويّة الباقية، وقد عرفت أنّ ذلك من جوانب الشهوات والغفلة عمّا وراء هذه الدار، والملائكة مبرّؤون عن الشهوات وما يلزمها من أسر الأطماع الكاذبة لهم، ولفظ الأسر استعارة لقود الأطماع إلى ما يطمع فيه.

«لَمْ يَسْتَعْظِمُوا مَا مَضَى مِنْ أَعْمَلِهِمْ ولَوِ اسْتَعْظَمُوا ذَلِكَ لَنَسَخَ الرَّجَاءُ مِنْهُمْ

شَفَقَاتِ وَجَلِهِمْ»: معنى هذه الشرطيّة(1) أنهّم لو استعظموا ذلك لكان رجاؤهم الثواب عبادتهم عظيماً؛ فكان لقوّته ماحياً لإشفاقهم، وخوفهم منه، وهذا كما أنّ الإنسان إذا عمل لبعض الملوك عملاً يستعظمه؛ فإنّه يرى في نفسه استحقاق أتمّ جزاء له، ويجد التطاول به والدالَّة عليه؛ فيهوّن ذلك ما يجده من خوفه، وكلَّما ازداد استعظامه لخدمته از داد اعتقاده في قربه من الملك قوة، وبمقدار ذلك ينقص خوفه، ويقلّ هيبته لكنّ الملائكة خائفون أبداً كما قال عز وجل «يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ»(2) «وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ»(3) فينتج أنّهم لا يستعظمون سالف عبادتهم.

«ولَمْ يَخْتَلِفُوا فِي رَبِّهِمْ بِاسْتِحْوَاذ»: غلبة «الشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ»: أي في إثباته واستحقاقه کمال العبادة وذلك لعدم سلطان الشيطان عليهم وهو سلب لبعض أحوال البشر وكذلك قوله:

ص: 16


1- الشرطية: بمعنى القضية الشرطية: أي القضية المشروطة، وإن القضية المشروطة لها مقدم وتالي، فتحقق التالي متوقفٌ على حصول المقدم و تحققه: بمعنى إن التالي مشروط بالمقدم، والمقدم مشروط بلزوم التالي وهي من القياسات المنطقية
2- سورة النحل: الآية 50
3- سورة الرعد: الآية 13

«ولَمْ يُفَرِّقْهُمْ سُوءُ التَّقَاطُعِ»: وهو كتقاطع المتعادين وتباينهم الناشيء عن الغضب والشهوة.

«ولَا تَوَلَّهُمْ غِلُّ التَّحَاسُدِ»: وقد علمت أنّ الحسد رذيلة نفسانيّة تنبعث عن البخل والشره و منبعهما النفس الأمّارة.

«ولَا تَشَعَّبَتْهُمْ: فرقهم مَصَارِفُ الرِّيَبِ»: هي الأمور الباطلة الَّتي تنصرف أذهانهم إليها عن الشبه؛ أو تلك الشبهة والشكوك أنفسها، وتشعّبها لهم اقتسامها بحيث يذهب كلّ، واحد من شبهة إلى باطل، وقد علمت أنّ منشأ الشكوك والشبهات هو الأوهام والخيال، ولمّا كانوا مبرّئين عن النفس الأمّارة وجب تنزيههم عن هذه الأمور الثلاثة.

«ولَا اقْتَسَمَتْهُمْ أَخْيَافُ الْهِمَمِ»: مختلفاتها لمّا كان معبودهم واحدا وهو غاية مطلوبهم وكانت هممهم فيه واحدة فلم يلتفتوا إلى شيء آخر، ولم يفترقوا فيها.

«فَهُمْ أُسَرَاءُ إِيمَانٍ لَمْ يَفُكَّهُمْ مِنْ رِبْقَتِهِ زَيْغٌ ولَا عُدُولٌ(1) ولاَ فُتُورٌ»: استعار الأسر ورشّح بذكر الربقة ونزّههم عن أن يجذبهم عن الإيمان أحد الأمور الأربعة، وقد سبق وجه تنزيههم عنها.

«ولَيْسَ فِي أَطْبَاقِ السَّاَءِ مَوْضِعُ إِهَابٍ»: جلد «إِلَّا وعَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ أَوْ سَاعٍ

حَافِدٌ»: أراد أنها مملوءة بالملائكة قيل؛ فبين ساجد لوجه ربّه، وبين ساعي مجدّ في أمره، واعلم أنّ في السماء ملائكة مباشرة لتحريكها، وملائكة على رتبة من أولئك هم الآمرون لهم بالتحريك؛ فيشبه أن يكون الإشارة بالساجدين منهم إلى الآمرين، والسجود كناية عن کال عبادتهم وبالساعين إلى المتولَّين للتحريك.

ص: 17


1- ورد في بعض متون النهج: ولاَ وَنًی

«يَزْدَادُونَ عَلَى طُولِ الطَّاعَةِ بِرَبِّهِمْ عِلْماً وتَزْدَادُ عِزَّةُ رَبِّهِمْ فِي قُلُوبِهِمْ عَظَماً»: قد تحققت إنّ حركاتهم إنما هي شوقيّة للتشبّه بملائكة أعلى منهم رتبة في كمالهم بالمعارف الإلهيّة وظهور ما في ذواتهم من القوّة إلى الفعل، وزيادة عزّة ربّهم عندهم عظماً بحسب زیادتهم معرفتهم له تابعة لها كما نبّهنا عليه قبل له الحمد والمنّة.

«مِنْهَا في صِفَةِ الأرْضِ ودَحْوهَا عَلّى الماءِ»: وفي تمجيد الله تعالى باعتبار خلقها فيه وجملة من أحوالها «کَبَسَ»: بسط «الأَرْضَ عَلَى مَوْرِد»: تردد «أَمْوَاجٍ»: استعارة لفظ الكبس لخلقه لها غائصا معظمها في الماء كما يغوص بعض الزقّ المنفوخ و نحوه بالاعتماد عليه «مُسْتَفْحِلَةٍ»: استعارة الاستفحال للموج، ووجه المشابهة ما اشترك فيه الموج والفحل والاضطراب و الهيجان والصولة.

«وَلَجُجِ بِحَارٍ زَاخِرَةٍ تَلْتَطِمُ أَوَاذِيُّ أَمْوَاجِهَا»: جمع أذي بمعنى الموج والمراد هنا مجمع الماء «وتَصْطَفِقُ»: تضطرب «مُتَقَاذِفَاتُ أَثْبَاجِهَا»: أعاليها والثبج في اللغة ما بين الكاهل إلى الظهر فاستعيرت منه.

«وتَرْغُو زَبَداً»: تضج به «كَالْفُحُولِ عِنْدَ هِيَاجِها»: ما يظهر على رؤوس الموج عند اضطرابه وغليانه من رغوة الزبد کما يظهر من فم الفحل عند هياجها «فَخَضَعَ جِمَاحُ الْمَاءِ الْمُتَلَاطِمِ لِثِقَلِ حَمْلِهَا»: استعار الجماح لحركة الماء على غير نسق واضطراب لا يملك تصريفه كما يجمح الفرس.

«وسَكَنَ هَيْجُ ارْتِمَائِهِ»: اضطرابه «إِذْ وَطِئَتْهُ بِكَلْكَلِهَا»: صدرها «وذَلَّ

مُسْتَخْذِياً»: ذلیلاً خاضعاً «إِذْ تَمَعَّكَتْ عَلَيْهِ بِكَوَاهِلِهَا»: استعار أوصاف الناقة من الكلل والكاهل للأرض ورشح تلك الاستعارة بالوطيء والتمعك وإنما خص الصدور والكاهل لقوتهما وکنی بالجموح عن ألحاقها بالناقة.

ص: 18

«فَأَصْبَحَ بَعْدَ اصْطِخَابِ»: صياح «أَمْوَاجِهِ سَاجِياً»: ساکن «مَقْهُوراً وفِي حَكَمَةِ

الذُّلِّ مُنْقَاداً أَسِیراً»: استعار لفظ الاستحداء للماء والقهر ولفظ الحكمة والانقياد والعجز وکنی بها عن ألحاقه بحيوان صائلٍ قهر کالفرس وأضاف الحكة إلى الذل أضافة السبب إلى المسبب.

«وسَكَنَتِ الأَرْضُ مَدْحُوَّةً»: مبسوطة فِي «لُّجَةِ تَيَّارِهِ ورَدَّتْ مِنْ نَخْوَةِ بَأْوِهِ»: کبره «واعْتِلَئِهِ وشُمُوخِ أَنْفِهِ وسُمُوِّ غُلَوَائِهِ وكَعَمَتْهُ»: منعته «عَلَى کِظَّةِ جَرْيَتِهِ: امتلائها فَهَمَدَ»: سكن «بَعْدَ نَزَقَاتِهِ»: حركاته «ولَبَدَ بَعْدَ زَيفَانِ»: سرعة «وَثَبَاتِهِ» : استعار هذه الألفاظ للماء في هيجانه واضطرابه ملاحظة لشبهه بالإنسان المتجبر التياه في حركاته المؤذنة بتكبره وزهوه «فَلَاَّ سَكَنَ هَيْجُ الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ أَكْنَافِهَا»:

جوانبها «وحَمْلِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ(1) الْبُذَّخِ» جمع باذخ وهو العالي عَلىَ «أَكْتَافِهَا»: استعارها للأرض ووجه المشابه کون الأرض محلاً لحمل ماثقل من الجبال کما أن كتف الإنسان وغيره محل لحمل الأثقال «فَجَّرَ»: فتح «يَنَابِيعَ الْعُيُونِ مِنْ

عَرَانِینِ»: أوائل «أُنُوفِهَا»: استعار العرنين والأنف لأعالي رؤوس الجبال كناية عن ألحاقها بالإنسان «وَفَرَّقَهَا»: أي العيون «من سُهُوبِ بِيدِهَا»: جمع بیداء والسهوب جمع سهب وهو الأرض المستوية الواسعة «وأَخَادِيدِهَا»: شقوقها «وعَدَّلَ»: منع «حَرَكَاتِهَا بِالرَّاسِيَاتِ»: الجبال الثابتة «مِنْ جَلَامِيدِهَا»: جمع جلمود «وذَوَاتِ الشَّنَاخِيبِ الشُّمِّ»: العالية وأحدها شخوب وهي رؤس الجبال «مِنْ صَيَاخِيدِهَا»: الصخور الشديدة وأحدها صخور «فَسَكَنَتْ مِنَ الْمَيَدَانِ»: التحرك(2) «فِي قِطَعِ

أَدِيمِهَا وتَغَلْغُلِهَا مُتَسَرِّبَةً فِي جَوْبَاتِ»: أخدود «خَيَاشِيمِهَا»: کنّی بالتغلغل،

ص: 19


1- ورد في بعض متون النهج: الشُّمَّخِ
2- ورد في بعض النسخ: لِرُسُوبِ الْجِبَالِ

والتسرّب عمّا يتوهّم من نفوذ الجبال في الأرض وغوصها فيها، واستعار لفظ الخياشيم لتلك الأسراب الموهومة، ولا جعل للجبال أنوفاً جعل تلك الأسراب المتوهّم قيام الجبال والأعناق للأرض فيها خياشيم.

«ورُكُوبِهَا أَعْنَاقَ سُهُولِ الأَرَضِینَ وجَرَاثِيمِهَا»: أصولها استعار الركوب للجبال والأعناق للأرض كناية عن إلحاقهما بالقاهر والمقهور.

«وفَسَحَ بَیْنَ الْجَوِّ»: الهواء «وبَيْنَهَا وأَعَدَّ الْهَوَاءَ مُتَنَسَّماً»: محلاً للنسيم «لِسَاكِنِهَا

وأَخْرَجَ إِلَيْهَا أَهْلَهَا عَلَى تَمَامِ مَرَافِقِهَا»: منافعها «ثُمَّ لَمْ يَدَعْ جُرُزَ الأَرْضِ الَّتِي تَقْصُرُ مِيَاهُ الْعُيُونِ عَنْ رَوَابِيهَا»: استعار الوجدان والذريعة للجداول كناية عن إلحاقها بالإنسان عديم الوسيلة إلى مطلوبه.

«ولَا تَجِدُ جَدَاوِلُ الأَنْهَارِ ذَرِيعَةً إِلَی بُلُوغِهَا حَتَّى أَنْشَأَ لَهَا نَاشِئَةَ سَحَابٍ تُحْيِي

مَوَاتَهَا وتَسْتَخْرِجُ نَبَاتَهَا»: تجوّز في الإسناد إلى السحاب إذ المُخْرِج هو الملك الوهاب.

«أَلَّفَ غَمَمَهَا بَعْدَ افْتِرَاقِ لَمُعِهِ»: قطعة السحاب المتفرقة «وتَبَايُنِ قَزَعِهِ»: قطعة من السحاب رقيقة «حَتَّى إِذَا تَمَخَّضَتْ» تحركت «لُّجَةُ الْمَزْنِ»: السحاب «فِيهِ والْتَمَعَ»: أضاء «بَرْقُهُ فِي کُفَفِهِ»: جوانبه «ولَمْ يَنَمْ وَمِيضُهُ»: ضيائه «فِي كَنَهْوَرِ

رَبَابِهِ»: عظيم سحاب الأبيض کنی بعدم النوم عن عدم أخفاء ومیض البرق في السحاب کناية بالمستعار «ومُتَرَاكِمِ سَحَابِهِ أَرْسَلَهُ سَحّاً مُتَدَارِكاً»: أي ارسل السحاب صباً متتابعاً «قَدْ أَسَفَّ هَيْدَبُهُ»: أي دنا من الأرض سحابه ومطره المتدلي كالخيوط، ولاحظ في استعارة الهدب للمطر، وقطراتها المتصلة تتلوا بعضها بعضاً شبهها بالخيوط المتدلية «تَمْرِيهِ»: تجلبه «الْجُنُوبُ دِرَرَ أَهَاضِيبِهِ»: أمطاره استعار الدرر والأهاضيب وهي الجلباب للغمام كناية عن إلحاقها بالناقة.

ص: 20

«ودُفَعَ شَآبِيبِه»: شؤبوب الشبوب الدفعة من المطر، وجمعها والشآبيب، وأسناد المري إلى الجنوب مجازاً لأنّ لها سببيّة ما في نزول الغيث، وإنّما خصّ الجنوب لأنّها في أكثر البلاد حارّة رطبة أمّا الحرارة؛ فلأنّها تأتي من الجهة المتسخّنة بمقاربة الشمس، وأمّا الرطوبة فلأنّ البخار أكثرها جنوبيّة والشمس تفعل فيها بقوّة ويتبخّر عنها أبخرة تخالط الرياح وإذا كان كذلك كانت أولى بالذكر من وجهين: أحدهما: أنّه أكثر استصحاباً للأبخرة فلذلك كان السحاب أكثر انعقاداً معها و مصاحبة لها الثاني: أنّها لحرارتها تفتح المسام، ولرطوبتها ترخی فکان درور المطر عنها أكثر.

فَلَاَّ أَلْقَتِ السَّحَابُ بَرْكَ»: صدْر «بِوَانَیْهَا»: مايلي الصدر من الأضلاع وبَعَاعَ: نقل «مَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ مِنَ الْعِبْءِ الْمَحْمُولِ عَلَيْهَا»: استعار البرك والبواني للسحاب وأسند إليه الإلقاء كناية عن إلحاقه بالجمل الَّذي أثقله الحمل فرمی بصدره إلى الأرض.

«أَخْرَجَ بِهِ مِنْ هَوَامِدِ»: موات «الأَرْضِ النَّبَاتَ ومِنْ زُعْرِ الْجِبَالِ»: أي من جبال قليل نباتها «الأَعْشَابَ»: جمع عشب «فَهِيَ تَبْهَجُ بِزِينَةِ رِيَاضِهَا وتَزْدَهِي»: تعجب «بِمَا أُلْبِسَتْهُ مِنْ رَيْطِ أَزَاهِيرِهَا وحِلْيَةِ مَا سُمِطَتْ»: زینت ما يمسط وهو العقد ومن روي سُمطت بالمعجمة أراد خلطت «بِهِ مِنْ نَاضِرِ أَنْوَارِهَا»: نسب الابتهاج والازدهاء، واللبس إلى الأرض ذات الأزاهير مجازاً ملاحظة لشبهها بالمرأة المتبجّحة بما عليها من فاخر الملبوس وجميل الثياب.

«وجَعَلَ ذَلِكَ»: العشب «بَلَاغاً»: كفافاً «لِلأَنَامِ ورِزْقاً لِلأَنْعَامِ وخَرَقَ»: اظهر «الْفِجَاجَ»: الطرق في «آفَاقِهَا»: جوانبها «وأَقَامَ الْمَنَارَ لِلسَّالِكِينَ عَلَى جَوَادِّ طُرُقِهَا»: هذا واعلم أن مقتضى الكلام أنّه تعالى خلق الماء قبل الأرض دحاها فيه وسکن

ص: 21

بها مستفحل أمواجه، وهذا ممّا شهد به البرهان العقليّ؛ فإنّ الماء لمّا كان حاوياً لأكثر الأرض كان سطحه الباطن الممّاس لسطحه الظاهر مكانا لها، وظاهر أنّ للمكان تقدّماً باعتبار ما على المتمكَّن فيه، وإن كان اللفظ يعطى تقدّم خلق الماء على الأرض تقدّماً زمانيّاً كما هو المقبول عند السامعين، وحكم بكون الأرض مدحوّة لقوله «وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا»(1) وعلى تقدير کرويتها لا بدّ من التأويل، وقد نبّهنا عليه في قوله: اللهم «داحي المدحوّات»، وقد ورد في الخبر: أنّ الأرض دحيت من تحت الكعبة ؛ قال بعض العارفين: الإشارة بالكعبة إلى كعبة وجود واجب الوجود التي هي مقصد، وجوه المخلصين الَّتي جعلت هذه الكعبة في عالم الشهادة، ومثالاً لها ودحوها من تحتها عبارة عن وجودها عن ذلك المبدأ وللناس في تكوین ما تكوّن من الجبال فيها وجوه: أحدها: أنّه قد يكون عن بخار زالت مياهها.

الثاني: قد يكون عن زلزلة فصلت قطعة على ناحية فارتفعت.

الثالث: قد تكون عن ریاح جمعت بهبوبها تراباً فتراكم وعلا.

الرابع: قد تكون لعمارات تراكمت فتخرّبت، وقد سبقت الإشارة إلى كونها أسباباً لسكون الأرض في الخطبة الأولى، واعلم أنّ البرهان مطابق على الشهادة بسكونها کما أشير إليه، وقد أشار العلماء إلى أسباب تفجير ينابيع العيون في الجبال وغيرها.

فقالوا: إنّ الأدخنة والأبخرة ما يحتبس منها تحت الأرض، وفيه ثقب وفرج فيها هواء وبخار ومياه؛ فقد تبرّد الأبخرة والهواء؛ فيصير ماء فما له قوّة، ومدد يتفجّر عيوناً ويجري على الولاء لعدم مدخل الهواء بين الخارج، وما يتّصل به ويتبعه، وما

ص: 22


1- سورة النازعات: الآية 30

لا مدد له من العيون یرکد، وماله مدد إلَّا أنّ أجزاءه مبدّدة، والأرض، واهية لا تحتاج إلى مقاومة يتحصّل منه القنوات، وماء البئر أيضاً من قبيل ماله مدد لكنّه؛ أن لم يجد له سبيلاً إلى أحد الجوانب لعدم رخاوة أرضه فخالف القنوات، وإنّما خصّ الجبال بتفجّر العيون منها لأنّ العيون أكثر ما يتفجّر من الجبال، والأماكن المرتفعة، وذلك لشدّة احتقان الأبخرة تحتها بالنسبة إلى سائر الأماكن الهابطة الرخوة؛ فإنّها إذا كانت رخوة نفضت البخار عنها فلا يكاد يجتمع منه قدر یعتدّ به، ولأنّ هذا التخصيص أدّل على حكمة الصانع، وعنايته بالخلق و في معرض تمجيده، وتعديد آلائه واعلم أيضاً أنّه سبحانه کما جعل الهواء عنصراً لأبدان الحيوان وأرواحه البدنيّة كذلك جعله مدداً يصل إلى الأرواح ويكون علَّة صلاحها، وبقاءها بالتعديل، وذلك يكون بفعلين: أحدهما: الترويح، والثاني: التنقية.

أمّا الترويح فهو: تعدیل مزاج الروح الحارّ؛ إذا أفرط بالاحتقان في الأكثر فإنّ الهواء الَّذي يحيط بنا أبرد بكثير من ذلك المزاج؛ فإذا وصل إليه باستنشاق الرية، ومن مسامّ منافس النبض و صدمه، وخالطه منعه عن الاستحالة إلى الناريّة الاحتقانيّة المؤديّة إلى سوء مزاج يزول به عن الاستعداد لقبول التأثير النفسانيّ الَّذي هو سبب الحياة، وأمّا التنقية فهي: باستصحابه عند ردّ النّفس لما سلَّمته إليه القوّة المميّزة من البخار الدخانيّ الَّذي نسبته إلى الروح نسبة الخلط الفضلىّ إلى البدن؛ فكما أنّ التعديل هو بورود الهواء على الروح عند الاستنشاق، فالتنقية بصدوره عنه عند ردّ النفس، وذلك أنّ الهواء المستنشق؛ إنّما يحتاج إليه في تعديله أوّل وروده لكونه بارداً بالفعل؛ فإذا استحال إلى كيفيّة الروح بالتسخّن لطول مكثه بطلت؛ فائدته فاستغني عنه واحتيج إلى هواء جديد يدخل، ويقوم مقامه فدعت الضرورة إلى إخراجه لإخلاء المكان لمعاقبة، وليندفع معه فضول جوهر

ص: 23

الروح؛ فهذا معنى قوله عليه السّلام: وأعدّ الهواء متنسّماً لساكنه، واعتبار إعداده المنفعة الحيوان أعمّ ممّا ذكرنا؛ فإنّه أيضاً معدّ لسائر الأجزاء المعدنيّة والنباتيّة والحيوانيّة الَّتي يحتاج الإنسان في بقائه إليها، وكونه عنصراً لها ومعتبراً في بقائها، وعند ملاحظة هذه المنافع عن الهواء يظهر أثر نعمة الله به.

ومن كلامه أيضاً عليه السلام يفهم أنه سبحانه عند أخراج أهل الأرض إليها بعد تمام مرافقها كما قال عز من قائل «وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ»(1) والإشارة بأهلها المخرجين إليها إلى الحيوان مطلقا، وأعلم أنّ أوّل ارتفاقهم بها أن جعلها قراراً لهم صالحة للسكنى عليها كما قال تعالى «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا»(2) ولكونها فراشا شرائط: أحدها: أن تكون ساكنة ليصحّ الاستقرار عليها والتصرّف فيها بحسب الاختيار وموافقة المصلحة.

الثاني: أن تكون خارجة من الماء وذلك أنّ الإنسان وغيره من الحيوان البريّة لا يمكنه أن يعيش في الماء فاقتضت عناية الحقّ سبحانه بالحيوان أن أبرز بعضها من الماء ليعيش فيه ويتصرّف، لم یکن لينبت.

الثالث: أن لا يكون في غاية الصلابة كالحجر وإلَّا لكان النوم والمشي عليها مؤلماً، وأيضاً لم يكن لينبت فيها أنواع النبات والأشجار، وأيضاً لكانت تسخن في الصيف كثيراً وتبرد كثيراً في الشتاء فما كانت تصلح لسكنى الحيوان.

الرابع: أن لا يكون في غاية الرخاوة كالماء وغيره من المائعات الَّتي يغوص

ص: 24


1- سورة الحجر: الآية 20
2- سورة البقرة: الآية 22

فيها الإنسان.

الخامس: أنّه سبحانه لم يخلقها في غاية الشفّافيّة واللطافة؛ فإنّها إن كانت مع ذلك جسماً سیّالا كالهواء لم يتمكَّن من الاستقرار عليه، وإن كان جسماً ثابتاً صقيلاً برّاقاً احترق الحيوان، وما عليها بسبب انعکاس أشعّة الشمس عليها كما يحترق القطن إذا قرب من المرايا المحاذية للشمس لكنّه خلقها غبراء ليستقرّ النور على وجهها فيحصل فيها نوع من السخونة، وخلقها كثيفة لئلَّا تنعكس الأشعّة منها على ما فيها؛ فتحرقه فصارت معتدلة في الحرّ، والبرد تصلح أن تكون فراشاً ومسكناً للحيوان.

المنفعة الثانية: خلق الجبال فيها، وتفجيرها بالماء کما سبقت الإشارة إليه.

المنفعة الثالثة: ما يتولَّد فيها من المعادن، والنبات والحيوان وفي أنواع كلّ من هذه الموجودات، واختلاف أصنافه وألوانه وروائحه وطعومه ولينه وصلابته وملاسته وخشونته ما لا يحصى من المنافع الَّتي يحتاج إليها الإنسان في بقائه وصلاح حاله.

المنفعة الرابعة: كونها أصلاً لبدن الإنسان، وذلك أنّ الماء لرقّته، ورطوبته لا يحفظ الشكل والتصوير؛ فإذا خلط بالماء حصل له قوام، واستمساك وحصل قبول الأشكال والتخطيط قال عز من قائل «إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ»(1) المنفعة الخامسة: قبولها للحياة بعد الموت كما قال عز وجل «وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا»(2) ويفهم من ثم لم يدع، وجه الحكمة في إنشاء السحاب، وهو كونه

ص: 25


1- سورة ص: الآية 71
2- سورة يس: الآية 33

مادّة لما ينبت في الأرض الجرز ممّا هو قوام بدن الإنسان، وغذاء له وإلى ذلك أشار إليه «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ»(1).

ولما انتهى عليه السلام إلى تمجیده باعتبار تخريقه للفجاج في آفاقها أي الطرق الواسعة في نواحيها كما قال تعالى «وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ»(2) وباعتبار إقامته المنار للسالكين فيها، والإشارة بها إمّا إلى لنجوم كما قال تعالى «وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ»(3) أو إلى الجبال شرع في تمجيده تعالى؛ باعتبار خلقه لآدم واختياره له، وإتمام نعمته عليه، ومقابلته بالعصيان ومقابلة عصیانه بقبول توبته وإحباطه إلى الأرض وإكرام ذريّته بعده ببعثة الأنبياء منهم وإليهم و قسمته بينهم معيشتهم وآجالهم بالقلَّة، والكثرة وابتلائه لهم بذلك، وهو من قوله «فَلَمَّا مَهَدَ أَرْضَهُ»: جعلها مهادا كقوله تعالى «أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا»(4) أو مهداً كما قال تعالى «جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا»(5) وعلى التقدير الأوّل أراد أنّه خلقها بحيث يسهل على العباد أن يتصرّفوا فيها، وعلى التقدير الثاني يكون لفظ المهد استعارة لها ملاحظة لتشبيهها بمهد الصبيّ في كونه محلّ الراحة والنوم.

«وأَنْفَذَ أَمْرَهُ»: أي في إيجاد مخلوقاته، وإتمامها فحكم على العالم بالتمام باختيار نوع الإنسان الَّذي هو تمام دائرة الوجود فقال له کن فکان.

ص: 26


1- سورة السجدة: الآية 27
2- سورة الأنبياء: الآية 31
3- سورة النحل: الآية 16
4- سورة طه: الآية 53
5- سورة الزخرف: الآية 10

اخْتَارَ آدَمَ عليه السام خِرَةً مِنْ خَلْقِهِ: منصوب على الحال ويحتمل النصب على المصدرية، وشاهد على كونه خيرة اللهَّ من خلقه قوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ»(1) وقوله «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا»(2) وبيان هذا التكريم من وجهين: أحدهما: قال: البسطاميّ رحمه الله إنّ أنواع کرامات اللهَّ في حقّ البشر غير متناهية كما قال تعالى «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوه»(3) هذا على سبيل الإجمال أمّا التفصيل؛ فمن وجوه: الأوّل: أنّه سبحانه يمطر كلّ ساعة على المتوكَّلين مطر الكفاية كما قال تعالى «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ»(4).

الثاني: أنّه يمطر كلّ ساعة على المطيعين مطر المودّة كما قال تعالى «سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا»(5).

الثالث: أنّه يمطر على المجتهدين مطر الهداية كما قال تعالى «وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا»(6).

الرابع: أنّه يمطر على الشاکرین مطر الزيادة كما قال جل نعاؤه «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ»(7).

ص: 27


1- سورة آل عمران: الآية 33
2- سورة الإسراء: الآية 70
3- سورة إبراهيم: الآية 34
4- سورة الطلاق: الآية 3
5- سورة مريم: الآية 96
6- سورة العنكبوت: الآية 69
7- سورة إبراهيم: الآية 7

الخامس: أنّه يمطر على المتذکَّرين مطر البصيرة كما قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ»(1).

الثاني: أنّ التكريم لآدم عليه السّلام، وذريّته إمّا لأحوال داخلة في الإنسان أو خارجة عنه والداخلة فيها إمّا بدنيّة أو غيرها: أمّا البدنيّة الَّتي أكرم بها فأمور: الأوّل: الصورة الحسنة: «وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ»(2).

الثاني: حسن القامة والتعديل «وَلقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ»(3) وذلك أنّ الشيء كلَّما كان أكثر علوّا وارتفاعا كان أشرف في نوعه.

الثالث: أنّه أكرمه بتمكينه من القيام، وغيره وذلك أنّه تعالى رکَّب الخلق على أصناف أربعة: أحدها: ما يشبه القائمين کالأشجار، وثانيها: ما يشبه الساجدين كالحشرات الَّتي تدبّ على وجوهها و بطونها، ومنها ما يشبه القاعدين كالجبال، ثمّ إنّه سبحانه خلق الإنسان قادراً على جميع هذه الهيئات، ومكنّه من ذكره على جميع هذه الأحوال کما قال «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ»(4) وأمّا الأحوال الَّتي أكرم بها غير بدنيّة فأمور: أحدها: الروح الَّتي هي محلّ العلم بأشرف الموجودات، ومبدئها وهو اللهَّ تعالى كما قال «وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ»(5) وشرّفه بإضافة روحه إليه، وبهذا التشريف تميّز عن سائر الموجودات في هذا العالم.

الثاني: العقل وشرفه من وجوه: الأوّل: «روى أنّ اللهَّ تعالى أوحي إلى داود عليه

ص: 28


1- سورة الأعراف: الآية: 201
2- سورة غافر: الآية 64
3- سورة التين: الآية 4
4- سورة آل عمران: الآية 191
5- سورة السجدة: الآية 9

السّلام إذا رأيت عاقلاً فكن له خادماً»(1).

الثاني: قول الرسول صلى اللهَّ عليه وآله وسلَّم: «أوّل ما خلق اللهَّ العقل فقال له: أقبل فأقبل ثمّ قال له: أدبر فأدبر فقال: وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاً أكرم علىّ منك، بك آخذوا بك أعطى وبك أثيب وبك أعاقب»(2)، واعلم أنّ للعقل بداية ونهاية وكلاهما يسمّيان عقلاً: أمّا الأوّل: فهو القوّة المهيّئة للعلوم الكلَّيّة الضروريّة كما للطفل، وهو المشار إليه بقوله صلى اللهَّ عليه وآله وسلَّم له عليه السلام: «إذا تقرّب الناس إلى خالقهم بأبواب البرّ فتقرّب أنت بعقلك تسبقهم بالدرجات والزلفي عند الناس في الدنيا وعند اللهَّ في الآخرة»(3).

الثالث: العلم والحكمة الَّتي هي ثمرته كما قال جل ثناؤه «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ»(4) «يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ»(5) وسمّاه حياة ونوراً «أَوَ مَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ»(6).

ص: 29


1- ينظر الكشف والبيان عن تفسير القرآن للثعلبي: ص 334؛ ذیل تاریخ بغداد: لابن النجار البغدادي: ج 2 ص 4؛ وتاريخ جرجان: لحمزة بن يوسف بن إبراهيم السهمي: ص 495؛ وشرح نهج البلاغة لابن میثم البحراني ج 2 ص 378
2- ينظر من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق: ج 4 ص 369؛ وكذلك تحف العقول لابن شعبة الحراني: ص 15؛ وكنز الفوائد لأبي الفتح الكراجکي ص 14؛ ومكارم الأخلاق: للشيخ الطبرسي ص 442
3- التذكرة الحمدونية لابن حمدون: ج 3 ص 236؛ وإحياء علوم الدين للغزالي: ج 1 ص 146؛ وطبقات الشافعية لعبد الوهاب بن علي السبكي ج 3 ص 331
4- سورة المجادلة: الآية 11
5- سورة البقرة: الآية 296
6- سورة الأنعام: الآية 122

وأمّا التكرمة الخارجة عنه فأمور: أحدها: أنّه خلق ما سواه منفعة له بدليل قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا»(1) «وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ»(2) ففرش الأرض وجعل السماء سقفاً محفوظاً، وجعل ما أخرج من الأرض رزقاً له، وما أرسله من السحاب مادّة لذلك «وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ، وسخر لكم الفلك لتجرى في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار»(3) وأكرمه بخلق الشمس والقمر والنجوم «وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ»(4) «وَجَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبِّر والْبَحْرِ»(5) «وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ»(6) وأكرمه بخلق الأنعام؛ فجعل منها غذائه وملبوسه وراحته وجماله وزينته فقال «وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ»(7) «وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ»(8) «وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ»(9).

الثاني: روى عنه عليه السلام «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ»(10) أنّه قال:

ص: 30


1- سورة البقرة: الآية 29
2- سورة الجاثية: الآية 13
3- سورة إبراهيم: الآية 32
4- سورة إبراهيم: الآية 33
5- سورة الأنعام: الآية 37
6- سورة يونس الآية 5
7- سورة النحل: الآية 5
8- سورة المؤمنون: الآية 22
9- سورة النحل: الآية 8
10- سورة الإسراء: الآية 70

بالدعوة إلى الجنّة كما قال «وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَی دَارِ السَّلَامِ»(1).

الثالث: أنّه أكرمهم باختيار قلوبهم لمعرفته، وألسنتهم لشهادته، وأبدانهم الخدمته، فشّرفهم بتكليفه، وبعثة الأنبياء إليهم من أنفسهم كما قال تعالى «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ»(2) ثمّ جعل آدم، والأنبياء من ذريّته أكرم عباده لديه فحباهم بالنبوّة والرسالة «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ»(3).

«وجَعَلَهُ أَوَّلَ جِبِلَّتِهِ»: إشارة إلى أنّ آدم أول شخص تكوّن في الوجود من نوع الإنسان.

«وبديع فطرته»: خلقته «وأَسْكَنَهُ جَنَّتَهُ وأَرْغَدَ»: أوسع «فِيهَا أُكُلَهُ وأَوْعَزَ»: أمر «إِلَيْهِ فِيمَا نَهَاهُ عَنْهُ وأَعْلَمَهُ أَنَّ فِي الإِقْدَامِ عَلَيْهِ التَّعَرُّضَ لِمَعْصِيَتِهِ والْمُخَاطَرَةَ

بمِنَزْلِتَهِ»: أي عند الله وكونه مستحقاً للقرب منه «فَأَقْدَمَ عَلَى مَا نَهَاهُ عَنْهُ»: قيل أي على مكروه دون مخطور «مُوَافَاةً لِسَابِقِ عِلْمِهِ»: إشارة إلى أن وقوعه في الوجود بقدر عن ضابط القلم والقضاء الإلهيّ السابق.

«فَأَهْبَطَهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ لِيَعْمُرَ أَرْضَهُ بِنَسْلِهِ»: من قال: إنّ المراد بآدم هي نوع النفوس البشريّة، وقد ثبت أنّه حادث؛ أو الشخص الأوّل منها قال: إنّ التوبة قبل الإحباط هي التوبة بالقوّة المعلومة للهَّ من عصاة أولاده التائبين إليه قبل إحباط نفوسهم من درجات عرفانه، وألفات وجوههم إلى عمارة الأرض، والاشتغال

ص: 31


1- سورة يونس: الآية 25
2- سورة التوبة: الآية 128
3- سورة آل عمران: الآية 33 - 34

بالحرث والنسل، والأنبياء عليهم السّلام يرجعون عن المباحات إلى ما هو الأولى والأهمّ من عبادة اللهَّ، ومطالعة أنوار کبریائه، ويعدّون ما رجعوا عنه ذنوباً، ورجوعهم عنه توبة كما قال النبيّ صلى اللهَّ عليه وآله وسلَّم: «إنّه ليغان على قلبي؛ فأستغفر اللهَّ في اليوم سبعين مرّة»(1)، وليس ذلك المستغفر منه إلاَّ اشتغال ذهنه بتدبير أمور الأرض، وعمارتها واشتغاله بذلك عن الحلوة باللهَّ، واستشراق أنوار قدسه.

«ولِيُقِيمَ الْحُجَّةَ بِهِ عَلَى عِبَادِه»: الَّذين بعث آدم حجّة عليهم أمّا أولاده الموجودون في زمانه والمنقول أنّه مات عن أربعين ولداً، أو من بلغته سنّته منهم بعد وفاته، والمنقول أنّ اللهَّ تعالى أنزل من الأحكام تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وحروف المعجم في إحدى وعشرين ورقة.

«ولَمْ يُخْلِهِمْ بَعْدَ أَنْ قَبَضَهُ مِمَّا يُؤَكِّدُ عَلَيْهِمْ حُجَّةَ رُبُوبِيَّتِهِ»: يعني أنّ حجّة ربوبيّته قائمة عليهم في كيفيّة تخليقه لهم، وخلق ما يستدلَّون عليه من صنعه كما قال جل شأنه: «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» الآية(2) وغيره من الآيات، وإنّما يكون بعثة الأنبياء مؤكَّدة لتلك الحجج مذكَّرة للغافلين عنها بها، ومنبّهة على وجودها، وموصلة بينهم وبين معرفته بما جاءت به من الكتب المنزلة والسنن الشريفّة.

ص: 32


1- السنن الکبری للنسائي: ج 6 ص 116؛ تصحيفات المحدثين الحسن العسكري: ج 1 ص 185؛ معرفة علوم الحديث للحاكم النيسابوري: ص 115؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي في: ج 11 ص 184؛ أحكام القرآن لابن عربي: ج 3 ص 329؛ تفسير الرازي الفخر الدين الرازي: ج 3 ص 23؛ تفسير البيضاوي لعبد الله بن محمد الشيرازي الشافعي البيضاوي: ص 75
2- سورة فصلت: الآية 53

«ويَصِلُ بَيْنَهُمْ وبَیْنَ مَعْرِفَتِهِ بَلْ تَعَاهَدَهُمْ»: حدد عهدهم «بِالْحُجَجِ عَلَى أَلْسُنِ

الْخِیَرَةِ مِنْ أَنْبِيَائِهِ ومُتَحَمِّلِي وَدَائِعِ رِسَالَتِهِ قَرْناً فَقَرْناً حَتَّى(1) بِنَبِيِّنَا مَحُمَّدٍ صلى الله

عليه وآله وسلم حُجَّتُهُ وبَلَغَ الْمَقْطَعَ عُذْرُهُ ونُذُرُهُ»: أي إعذاره إلى الخلق وإنذاره لهم بلغ الغاية، ومقطع كلّ شيء غايته.

«وقَدَّرَ»: قسم «الأَرْزَاقَ فَكَثَّرَهَا وقَلَّلَهَا وقَسَّمَهَا عَلَى الضِّيقِ والسَّعَةِ»: وأعطى كلّ مخلوق ما كتب له في اللوح المحفوظ منها.

«فَعَدَلَ فِيهَا»: الأرزاق «لِيَبْتَلِيَ مَنْ أَرَادَ بِمَيْسُورِهَا ومَعْسُورِهَا»: غناها وفقرها «ولِيَخْتَبِرَ بِذَلِكَ الشُّكْرَ والصَّبْرَ مِنْ غَنِيِّهَا وفَقِيرِهَا ثُمَّ قَرَنَ بِسَعَتِهَا عَقَابِيلَ»: بقایا «فَاقَتِهَا وبِسَاَمَتِهَا طَوَارِقَ آفَاتِهَا وبِفُرَجِ أَفْرَاحِهَا غُصَصَ أَتْرَاجهَا»: قال الشاعر:

وبينما الإنسان في ملكه *** أصبح محتاجا إلى الفلس

«وخَلَقَ الآجَالَ»: وقدرها «فَأَطَالَهَا وقَصَّرَهَا وقَدَّمَهَا وأَخَّرَهَا ووَصَلَ بِالْمَوْتِ

أَسْبَابَهَا»: ولمّا كان الأجل عبارة عن وقت ضرورة الموت، وكانت أسباب حلول تلك الآفات هي بعض الأمراض؛ أو القتل مثلاً لا جرم صدق؛ أنّ الموت الَّذي هو عبارة عن مفارقة الأرواح لأجسادها متّصلاً بتلك الأسباب.

«وجَعَلَهُ خَالِاً لأَشْطَانِهَا»: أي جاذباً لأحبالها وهو الجذب جمع شطن، وهو الحبل استعار الخلج للموت، ورشح بذكر الأشطان، ووجه الاستعارة ما يستلزمه للموت من قرب؛ الأجل کما يستلزمه من قرب المجذوب إليه؛ فقدر الموت جاذباً للأجل بالجبال؛ كما يجذب بها الإنسان ما یرید.

ص: 33


1- ورد في بعض النسخ: تمَّتْ

وقَاطِعاً لِمَرَائِرِ أَقْرَانِهَا»: استعار أيضاً المرائر لأسباب العلاقة؛ كالصداقة والأخوة وغيرهما، وكونه قاطعاً لها ظاهراً، وأعلم أنه عليه السلام جعل قسمة الله تعالى الأرزاق، وتقديرهما بالكثرة، والقلة، والضيق، والسعة صورة ابتلاء من الله الشكر بالأغنياء، والصبر من الفقراء، وقد أشرنا في قوله: «ألا إنّ الدنيا دار لا يسلم منها إلَّا فيها».

إلى أنّ المراد بالابتلاء من اللهَّ معاملته تعالى لعباده معاملة المبتلين المختبرين؛ لأنّه سبحانه عالم الخفيّات والسرائر؛ فلا يتصوّر في حقّه الاختبار حقيقة، إلَّا أنا نزیده هاهنا بيانا فنقول: إنّ العبد إذا تمكَّن في خاطره؛ أنّ ما يفعله اللهَّ من إفاضة نعمه عليه؛ أو حرمانه لها ابتلاء لشکره؛ أو صبره فشكر، أو صبر جعل من شکره صبره على ملكات؛ فاضلة في نفسه؛ فيستعدّ بها المزيد الكمال، وتمام النعمة كما قال تعالى «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ»(1) «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِینَ»(2) «الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ»(3) «أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ»(4) وأمّا التحقيق في أمثال هذه القسمة المذكورة؛ فهو أنّ لكلّ واحد من هذه الأمور أسباب قد تخفى على من تعرّض اله، ولا بدّ من انتهائها إلى قضاء اللهَّ؛ فما عدّ منها خيراً؛ فهو داخل في الإرادة الكلَّيّة للخير المطلق بالذات، وما عدّ منها شرّاً؛ فداخل في القضاء الإلهيّ بالعرض والله خ رة قادمة ما سبحانه أعلم.

ص: 34


1- سورة إبراهيم: الآية: 7
2- سورة البقرة: الآية 155
3- سورة البقرة: الآية 156
4- سورة البقرة: الآية 157

ثم شرع في تمجيده تعالى باعتبار علمه بقوله: «عَالِمُ السِّرِّ مِنْ ضَمَائِرِ الْمُضْمِرِينَ

ونَجْوَى الْمُتَخَافِتِنَ»: أي أسرار الذين يتكلمون في الخفية.

«وخَوَاطِرِ رَجْمِ الظُّنُونِ»: لمّا كان الخاطر الظنيّ؛ للإنسان يتعلَّق بمظنون لا محالة بقدر أشبه تعلقه به الرجم؛ فاستعير لفظه له، وإنَّما خصّ الظنّ بذلك دون العلم لما أنّ كثيراً ما يظنّ ما لا يجوز ظنّاً غير مطابق کما یظنّ بعض الناس ما يقبح منه ويصل إليه بسببه أذى، وإن لم يكن صدقاً؛ فكان أشبه الأشياء برمیه بالحجر المستلزم لأذاه.

«وعُقَدِ عَزِياَتِ الْيَقِنِ»: ما انعقد في النفس من العزم عن يقين؛ «ومَسَارِقِ إِيمَاضِ الْجُفُونِ»: يقال ومضت المرأة؛ إذا سرقت النظر وهذا كقوله تعالى «يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ»(1) فاستعار الإيماض لزوره والمشارق المخارجه.

«ومَا ضَمِنَتْهُ أَكْنَانُ الْقُلُوبِ وغَيَابَاتُ الْغُيُوبِ»: استعار الإكنان للقلوب بالنسبة إلى ما أخفته من الأسرار، والغيابات للغيوب، ووجه المشابهة كون القلوب حافظة كالغيوب، وكون الظلمات مانعة من إدراك المبصرات کما تمنع الغيوب إدراك ما فيها.

«ومَا أَصْغَتْ»: أمالت «لِسْتِرَاقِهِ مَصَائِخُ الأَسْمَاعِ»: مسامعها «ومَصَايِفُ

الذَّرّ»: في الصيف.

«ومَشَاتِ الْهَوَامِّ»: مساكنهم في الشتاء: «ورَجْعِ الْحَنِینِ مِنَ الْمُولَهَاتِ»: تردید صوت الثكلى في مكانها وحنينها، والتوله أن يفرق بين المرأة وولدها.

ص: 35


1- سورة غافر: الآية 19

«وهَمْسِ الأَقْدَامِ ومُنْفَسَحِ الثَّمَرَةِ مِنْ وَلَائِجِ»: مداخل «غُلُفِ الأَكْمَامِ»: إنّما حسنت الإضافة هنا لأنّ كلّ كمّ غلاف ولا ينعکس؛ فجاز تخصيص العامّ بالإضافة إلى بعض جزئیّاتها.

«ومُنْقَمَعِ الْوُحُوشِ»: الموضع الذي تستتر فيه «من غير أن الجبال وأوديتها»: جمع وادي على غير قياس.

«ومُخْتَبَأِ الْبَعُوضِ بَیْنَ سُوقِ الأَشْجَارِ وأَلْحِيَتِهَا»: قشورها جمع لحاء «ومَغْرِزِ

الأَوْرَاقِ مِنَ الأَفْنَانِ»: الأغصان «ومَحَطِّ الأَمْشَاجِ»: ماء الرجل والمرأة «مِنْ مَسَارِبِ الأَصْاَبِ»: الأوعية الَّتي يتسرّب فيها المني، والأخلاط الَّتي تتولَّد عنها.

«ونَاشِئَةِ الْغُيُومِ ومُتَلَحِمِهَا»: متراكمها «ودُرُورِ قَطْرِ السَّحَابِ فِي مُتَرَاكِمِهَا»: بعضها فوق بعض «ومَا تَسْفِي الأَعَاصِرُ بِذُيُولَهِا»: أي ما وما تسقى الأعاصير بذيولها: أي ما تثيره من التراب مثلاً واستعار الذيول لما أخذ الأرض منها.

«وتَعْفُو»: تمحو «الأَمْطَارُ بِسُيُولَهِا وعَوْمِ»: غوص «بَنَاتِ الأَرْضِ»: هوامها «فِي كُثْبَانِ الرِّمَالِ ومُسْتَقَرِّ ذَوَاتِ الأَجْنِحَةِ بِذُرَا شَنَاخِيبِ الْجِبَالِ: رؤسها وتَغْرِيدِ

ذَوَاتِ الْمَنْطِقِ فِي دَيَاجِیرِ الأَوْكَار»: الوكر ماعلى الشجر، وبالنون على الجبل، ونحوه أسعار المنطق للطير، ووجه المشابهة أن مدلول تغريدها معلوم لله؛ فأشبه النطق المفيد من الإنسان.

«ومَا أَوْعَبَتْهُ الأَصْدَافُ»: كاللؤلؤ والمرجان «وماحَ ضَنَتْ عَلَيْهِ أَمْوَاجُ الْبِحَار»: لفظ الحضن مستعار للأمواج ملاحظة لشبهها بالحواضن في انطباقها على البيض والفراخ.

«ومَا غَشِيَتْهُ سُدْفَةُ»: ظلمه «لَيْلٍ أَوْ ذَرَّ عَلَيْهِ شَارِقُ نَهَارٍ»: أي ماطلعت عليه

ص: 36

الشمس «ومَا اعْتَقَبَتْ عَلَيْهِ أَطْبَاقُ الدَّيَاجِیرِ»: الظلام جمع دیجور «وسُبُحَاتُ النُّورِ»: وما تنزّه منه عن كدر الظلمة، ولفظ النور مستعار لمعارف جلال اللهَّ.

«وأَثَرِ كُلِّ خَطْوَةٍ وحِسِّ كُلِّ حَرَكَةٍ ورَجْعِ كُلِّ كَلِمَةٍ وتَحْرِيكِ كُلِّ شَفَةٍ ومُسْتَقَرِّ

كُلِّ نَسَمَةٍ ومِثْقَالِ كُلِّ ذَرَّةٍ»: خفي أصوات «وهَمَاهِمِ كُلِّ نَفْسٍ هَامَّةٍ»: ذات همة «ومَا عَلَيْهَا الأرض مِنْ ثَمَرِ شَجَرَةٍ أَوْ سَاقِطِ وَرَقَةٍ أَوْ قَرَارَةِ نُطْفَةٍ»: مستقرها من الأرحام «أَوْ نُقَاعَةِ دَمٍ»: استعارها المحل دم الحيض.

«ومُضْغَةٍ»: الولد في بعض أطوار خلقته «أَوْ نَاشِئَةِ خَلْقٍ»: ما أنشأ من مخلوقاته «وسُاَلَةٍ لَمْ يَلْحَقْهُ فِي ذَلِكَ كُلْفَةٌ ولَا اعْتَرَضَتْهُ فِي حِفْظِ مَا ابْتَدَعَ مِنْ خَلْقِهِ عَارِضَةٌ»: مانع «ولَا اعْتَوَرَتْهُ»: اصابته «فِي تَنْفِيذِ الأُمُورِ وتَدَابِرِ الْمَخْلُوقِینَ مَلَلَةٌ ولَ فَتْرَةٌ»: توضيحه أن الكلفة كون الفعل مستلزماً لفاعله نوع مشقّة، وهي إمّا لضعف قوّة الفاعل؛ أو ضعف آلته، و قصو علمه عن تصوّر ما يفعل الله سبحانه منزّه عن هذه الأمور لاستلزمها الحاجة، وكذلك العارضة من عوارض موانع العلوم و مفقودها يستلزم، وجود المقام والمثل، وقد تنزّه قدس الحقّ عنهما، وأمّا الملالة فالمفهوم منها انصراف النفس عن الفعل بسبب تحلَّل تلك الأرواح الدماء عنه وضعفها عن العمل؛ أو لعارض آخر لها، وقد علمت أنّها من لواحق الأجسام وكذلك الفترة وهو منزّه عنها.

«بَلْ نَفَذَهُمْ عِلْمُهُ»: أحاط عليهم «وأَحْصَاهُمْ عَدَدُهُ ووَسِعَهُمْ عَدْلُهُ وغَمَرَهُمْ

فَضْلُهُ»: كل واحدة من هذه القرائن الأربع مقابلة للأربع الَّتي نفاها: فنفاذ علمه فيهم مقابل الكلفة في علمه بهم، وإحصاؤهم مقابل الاعتراض له في تنفيذ أموره، وتدبير مخلوقاته إذ معنی عدله فيهم وضعه لكلّ موجود في مرتبته وهبته له ما يستحقّه من زيادة ونقصان مضبوطاً بنظام الحكمة واعتراض الملالة سبب

ص: 37

لاختلال نظام العقل وغمر فضله مقابل لنفي الفترة فإنّ فتور الفاعل عن الفعل مانع له عن تتمّة فعله وتمام وجوده وقوله «مَعَ تَقْصِيرِهِمْ عَنْ كُنْهِ مَا هُوَ أَهْلُهُ»: تنبيه على حقارة عبادتهم في جنب عظمته واستحقاقه لما هو أهله لیدوم شكرهم وثنائهم ولا يستكبروا شيئاً من طاعتهم، وباللهَّ التوفيق.

ثم أخذتمجیده خطاياه له ويدعوا ويطلب جزاء ما سبق من ثنائه وتعديد أوصافه الجميلة وهو رضاه عنه وإغناؤه عن غيره فقال:

«اللَّهُمَّ أَنْتَ أَهْلُ الْوَصْفِ الْجَمِيلِ والتَّعْدَادِ الْكَثِیرِ»: أشار إلى أنّه تعالى بحسب استحقاقه الوصف بأشرف طرفي النقيض كان أهل الوصف الجميل وباعتبار تعدّد ثنائه وحمده بالنظر إلى كلّ جزئيّ من جزئیّات نعمه هو أهل التعداد الكثيرة.

«إِنْ تُؤَمَّلْ فَخَيْرُ مَأْمُولٍ وإِنْ تُرْجَ فَخَيْرُ مَرْجُوٍّ»: حذف أنت ومعناه ظاهر.

«اللَّهُمَّ وقَدْ بَسَطْتَ لِي»: أي لساني «فِيمَا لَا أَمْدَحُ بِهِ غَیْرَكَ ولَا أُثْنِي بِهِ عَلَى

أَحَدٍ سِوَاكَ»: إشارة إلى إذنه له في شكره والثناء عليه بالأوصاف الجميلة الَّتي لا يستحقّها حقيقة إلَّا هو ولا ينبغي أن تطلق إلَّا له، ومعنى هذه الإذن إمّا إلهام حسن شكر المنعم ومدحه، وإذ لا منعم في الحقيقة إلَّا هو؛ فلا يستحقّ التمجيد المطلق إلَّا هو، ومخاطبته ما يخاف الشكر بقوله «وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ»(1) «فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى»(2) «وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا»(3).

«ولَا أُوَجِّهُهُ إِلَی مَعَادِنِ الْخَيْبَةِ ومَوَاضِعِ الرِّيبَةِ»: استعار المعادن للخلق ووجه

ص: 38


1- سورة الإسراء: الآية: 79
2- سورة طه: الآية 130
3- سورة الأحزاب: الآية 42

المشابهة أنّ معدن الشيء كما أنّه مظنّة المطلوب منها كذلك الخلق أرباب النعم الفانية مظانّ خيبة طالبها من أيديهم وحرمانها، وكذلك مواضع الشكّ في منعهم وعطائهم لها ولذلك فسّره بقوله: «وعَدَلْتَ»: صرفت «بِلِسَانِ عَنْ مَدَائِحِ الآدَمِيِّينَ والثَّنَاءِ عَلَى الْمَرْبُوبِینَ الْمَخْلُوقِینَ اللَّهُمَّ ولِكُلِّ مُثْنٍ عَلَى مَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ مَثُوبَةٌ مِنْ جَزَاءٍ أَوْ عَارِفَةٌ مِنْ عَطَاءٍ وقَدْ رَجَوْتُكَ دَلِيلًا عَلَى ذَخَائِرِ الرَّحْمَةِ وكُنُوزِ الْمَغْفِرَةِ»: أراد رجاؤه أن يسوقه بهدايته إلى وجوه الاستعدادات إلى رحمته ويستر عليه بتهيّئة للالتفات إليه عن كلّ خاطر سواه فإنه ذنب في حقّ مثله، والذخيرة والكنوز مستعاران لجوده .

«اللَّهُمَّ وهَذَا مَقَامُ مَنْ أَفْرَدَكَ بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ لَكَ ولَمْ يَرَ مُسْتَحِقّاً لَهِذِهِ الْمَحَامِدِ والْاَدِحِ غَیْرَكَ»: إشارة إلى مقامه بين يديه بهذا الذكر والتوحيد في خطبته، وهو توطئة لذكر مطلوبه ثمّ قال:

«وبِي فَاقَةٌ إِلَيْكَ»: فذكر وجه استحقاقه لجوده أوّلاً ثم قصر عليّ بيده تلك الفاقة على فضله فقال: «ولَ يَجْبُرُ مَسْكَنَتَهَا إِلَّا فَضْلُكَ»: إذ لم تكن فاقة في أمر دنیويّ يمكن المخلوقين الإتيان به.

«ولَا يَنْعَشُ»: أي لا يرفع «مِنْ خَلَّتِهَا إِلَّا مَنُّكَ وجُودُكَ»: ثمّ أردفه بذكر مطلوبه فقال: «فَهَبْ لَنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ رِضَاكَ وأَغْنِنَا عَنْ مَدِّ الأَيْدِي على من سِوَاكَ»: وظاهر أنّ حصولهما مستلزم لما جعل رجاء اللهَّ دليلاً عليه من ذخائر رحمته وكنوز مغفرته.

«إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(1) ختم بعموم قدرته تنبيهاً للغافلين على أن لا

ص: 39


1- سورة آل عمران: الآية 26

يعتصموا بأذيال المخلوقين وباللهَّ العصمة والتوفيق.

ومن كلام له عليه السّلام لما أراده الناس على البيعة بعد قتل عثمان.

اعلم أولاً أنّه لا بدّ لكلّ مطلوب على أمر من تعزّز فيه وتمنّع. والحكمة في ذلك أنّ الطالب له يكون بذلك أرغب فيما يطلب فإنّ الطبع حريص على ما منع سريع النفرة عمّا سورع إلى إجابته فيه فأراد علیه السّلام التمنّع عليهم لتقوى رغبتهم إليه فإنّه لم يصل إليه هذا الأمر إلَّا بعد اضطراب في الدين، فاحتاج في تقويم الخلق وردّهم إلى قواعد الحقّ إلى أنّ يزدادوا فيه رغبة بهذا الكلام ومثله فقال: «دَعُونِي والْتَمِسُوا غَیْرِي»: دعوني والتمسوا غيري، ألا ترى أنّه نبّههم بعد هذه التمنّع على أنّ هاهنا أموراً صعبة مختلفة يريد أن ينكرها عليهم ويقاوم ببعضهم فيها بعضا ويحملهم على الصلاح، وجعل استقباله لتلك الأمور الصعبة علَّة لاستقالته من هذا الأمر فقال: «فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَهُ وُجُوهٌ وأَلْوَانٌ لَا تَقُومُ لَهُ الْقُلُوبُ»: أي لا تصبر.

«ولَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْعُقُولُ»: بل تنكره وتأباه لمخالفته الشريعة ومعاداته لنظام العالم، وذلك الأمر هو ما كان يعلمه من اختلاف الناس عليه بضروب من التأويلات الفاسدة والشبهات الباطلة كتهمة معاوية وأهل البصرة له بدم عثمان وكتأويل الخوارج عليه في الرضا بالتحكيم ونحو ذلك، وهو المكنىّ عنه بالوجوه والألوان.

«وإِنَّ الآفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ والْمَحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ»: استعار الغيم لما غشى أقطار القلوب العازمة على الفساد من ظلمات الظلم، ووجه المشابهة ما تستلزمه هذه الظلمات من توقع نزول الشرور منها كما يتوقّع نزول المطر والصواعق من الغيم، وأشار بالمحجّة إلى واضح طريق الشريعة، وتنکَّرها جهل الناس بها وعدم سلوكهم

ص: 40

لها، ثم لما تمنع عليهم وعلم صدق رغبتهم مع تمنّع دوين الأوّل فأعلمهم أنه على تقدير إجابتهم إلى هذا الأمر يحملَّهم إلَّا ما يعلم من أمر الشريعة ولا يصغي إلى قول قائل خالف أمر اللهَّ لمقتضى هواه، ولا عتب عاتب عليه في أنّه لم يضله ولم يرضه بما يخالف ما يعلمه من أمر الشريعة إذ القائل والعاتب في ذلك مفتر على اللهَّ وعاتب عليه وذلك قوله: «واعْلَمُوا أَنِّ إِنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ»: حملتكم ما «أَعْلَمُ ولَمْ أُصْغِ إِلَ قَوْلِ الْقَائِلِ وعَتْبِ الْعَاتِبِ»: ولقد وفي عليه السّلام بها، وعدهم به من ذلك كما سنذكره في قصّة أخيه عقيل لمّا استماحه صاعاً من برّ أو شعير فحمی له حديدة وقرّبها منه.

وإِنْ تَرَكْتُمُونِ فَأَنَا كَأَحَدِكُمْ»: في الطاعة لأمير کم «ولَعَلِّي أَسْمَعُكُمْ وأَطْوَعُكُمْ

لِمَنْ وَلَّيْتُمُوهُ أَمْرَكُمْ»: أي لقوة علمه بوجوب طاعة الإمام، وإنَّما قال لعلِّي لأنَّه على تقدير أن يولوا حداً يخالف أمر الله لا يكون أطوعهم له بل أعصاهم، واحتمال توليتهم لمن هو كذلك قائم فاحتمال طاعته له، وعدم طاعته قائم فحسن إيراد لعلّ، والواو للحال في قوله: «وأَنَا لَكُمْ وَزِيراً خَیْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِیراً»: ووزيرًا وأميرًا حالان، والعاملان ما تعلَّق بهما الجار والمجرور، وأراد الوزير للقويّ وهو المعين ظاهر أنَّه عليه السلام كان وزيرًا للمسلمين وعضدًا لهم، والخير بهم هنا يعود إلى سهولة العبادة، الحال عليهم في أمر الدنيا، وإنّه إذا كان أميرا لهم حملهم على ما تكره طباعهم من المصابرة في الحروب، والتسوية في العطايا، ومنعهم ما يطلبون ممّا فيه للشريعة أدنی منع، ولا كذلك إذا كان وزيراً فإنّ حظَّ الوزير ليس إلَّا الشوّر والرأي الصالح والمعاضدة في الحروب وقد يخالف حيث لا يتمکَّن من إلزام العمل به وإنّما كان هذا التمنّع دوين الأوّل لأنّ قوله: «إن» أجبتكم، فيه أطماع لهم بالإجابة وباللهَّ التوفيق.

ص: 41

ومن خطبة له عليه السّلام:

«أَمَّا بَعْدَ أَيُّهَا النَّاسُ فَأَنَا فَقَأْتُ عَیْنَ الْفِتْنَةِ»: عورتها وإشارة إلى فتنة أهل البصرة وغيرها، واستعار لها العين، خصّها لأنّها أشرف عضو في الوجه، وبها تصرّف الشخص وحركته، ورشح تلك الاستعارة بالفقأ وكنّی به عن زوال فتنتهم بسيفه.

«ولَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَیْرِي»: أي إنّ الناس كانوا لا يتجاسرون على قتال أهل القبلة، ويخافون من ذلك الحرج، والإثم وهل يعلمون كيفيّة قتالهم هل يتّبعون مدبرهم، وهل يجهزون على جريحهم بشيء ذراريهم وتقسم أموالهم إذا بغوا أم لا؟ حتّى أقدم عليه السلام على فتنتهم؛ ففقأ عينها فسكنت بعد هياجها، ومبدأ ذلك حرب عائشة، وقد صرّح عليه السّلام بذلك في ألفاظ أخر؛ فقال: أمّا بعد؛ فأنا فقأت عين الفتنة شرقيّها، وغربیّها، و منافقها ومارقها لم يكن ليجترء عليها غيري، ولو لم يكن لما قتل أصحاب الجمل، ولا صفّين، ولا أصحاب النهر، ويحتمل أن يكون المراد؛ فقأت عين أهل الفتنة على حذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، ويكون فقهاؤه لعيونهم كناية عن قتلهم.

«بَعْدَ أَنْ مَاجَ غَيْهَبُهَا»: أي اضطراب ظلمتها كناية عن انتشار ظلمة الشبهة عن تلك الفتن في أذهان الناس فجهلوا أنّ خلاف طلحة، وخروج عائشة كان حقّاً و باطلاً كان ذلك سبباً لاضطرابهم وقتالهم وقتلهم وكذا.

«واشْتَدَّ کَلَبُهَا»: شرها والكلب داء معروف كناية عن شدة ما وقع منها من الشرور کلب أهلها وحرصهم على القتل والقتال کناية بالمستعار في موضعين.

«فَاسْأَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ فِيمَا بَيْنَكُمْ

ص: 42

وبَیْنَ السَّاعَةِ ولَا عَنْ طائفة(1) تْهَدِي مِائَةً وتُضِلُّ مِائَةً إِلاَّ أَنْبَأْتُكُمْ بِنَاعِقِهَا»: الداعي لها «وقَائِدِهَا وسَائِقِهَا ومُنَاخِ رِكَابِهَا»: بالضم محل النزول «ومَحَطِّ رِحَالَهِا ومَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَهْلِهَا قَتْلًا ومَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ مَوْتاً»: تعرض للأسئلة عمّا سيكون، ولم يكن اليجترئ على ذلك أحد غيره من بين سائر الصحابة والتابعين، ولو ادّعى غير ذلك لكذّبه العيان، وفضّحه الامتحان، روى أنّ قتادة دخل الكوفة؛ فالتفّت عليه الناس فقال: سلوني عمّا شئتم، وكان أبو حنيفة حاضراً وهو إذن غلام حدث السنّ فقال: سلوه عن نملة سليمان أكانت ذكراً أم أنثى، فسئلوه فانقطع فقال: أبو حنيفة كانت أنثى فقيل له: بم عرفت ذلك فقال: من كتاب اللهَّ، وهو قوله: «قَالَتْ نَمْلَةٌ» ولو كان ذكرالقال: قال نملة وذلك أنّ النملة تقع على الذكر والأنثى كالحمامة والشاة، وإنّما يميّز بينهما بعلامة التأنيث؛ فانظر إلى هذا المعجب بنفسه كيف انقطع عن سؤال يمكن الفطن؛ أن يجيب عنه بأدنى سعي؛ فكيف به إذا سئل عن الأمور المستقبلة الَّتي لا يتنها من عالم الغيب إلَّا من أيّد بقوّة إلهيّة تكشف لنور بصيرته معها حجب الأسرار، وقد بيّنا فيما سبق وجه تمكَّنه من الإخبار عمّا سيكون وكيفيّة ذلك، وأراد بالساعة القيامة، واستعار أوصاف الإبل ورعاتها، وأصحابها من الناعق، والقائد، والسائق، والمناخ، والركاب، والرحال للفئة المهديّة، والضالَّة، ومن يهديهم، ويضلَّهم ملاحظة شبههم بالإبل في الاجتماع والانقياد لقائد وداعي، والضمير في أهلها يعود إلى الفئة.

«ولَوْ قَدْ فَقَدْتُمُونِي ونَزَلَتْ(2) کَرَائِهُ الُأمُورِ»: ما يكرهون منها «وحَوَازِبُ

الْخُطُوبِ»: حرب خطبت أي صاب أمر عظيم والمراد ما يصيبهم من الأمور

ص: 43


1- ورد في بعض متون النهج: ولا عن فئة
2- ورد في بعض متون النهج: بِکُمْ

العظيمة المهمة «لأَطْرَقَ كَثِیرٌ مِنَ السَّائِلِينَ»: لحيرتهم في عواقب تلك الخطوب وما یکون منها وكيفيّة الخلاص «وفَشِلَ كَثِیرٌ مِنَ الْمَسْؤُولِينَ»: أي جنبوا عن ردّ الجواب لجهلهم بعواقبها ومايسکون عنه منها «وذَلِكَ»: الأطراق والفشل.

«إِذَا قَلَّصَتْ حَرْبُكُمْ وشَمَّرَتْ عَنْ سَاقٍ»: استعارة ووجهها تشبيهاً بالمجدّ في الأمر الساعي فيه، وكما أنّه إذا أراد أن يتوجّه قلَّص ثيابه وشمّرها عن ساقه لئلَّا تعوقه وتهيّأ وأجمع عليه كذلك الحرب في كونها مجتمعة عن الزوال بهم واللحوق لهم «وَكَانَتْ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ ضِيقاً»: عطف على شمّرت.

«تَسْتَطِيلُونَ مَعَهُ أَيَّامَ الْبَلَاءِ عَلَيْكُمْ»: منصوب على الحال محلاً.

«حَتَّى يَفْتَحَ اللُّهَ لِبَقِيَّةِ الأَبْرَارِ مِنْكُمْ»: الَّذين يسلمون من بني أميّة في دينهم وأعمارهم ويفتح اللهَّ لهم بهلاكهم وزوال دولتهم.

«إِنَّ الْفِتَنَ إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ»: أي يكون في مبدأها متشبّهة بالحقّ في أذهان الخلق.

«وإِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ»: الأذهان على كونها فتنة بعد وقوع الهرج، والمرج بين الناس، واضطراب أمورهم بسببها، وأكثر ما يكون ذلك عند إدبارها كالفساد في الدول مثلاً الَّذي يعرف به عامّه الخلق كونها فتنة، وضلالاً عن سبيل اللهَّ أكثر ما يكون في آخرها؛ فيكون مؤذناً بزوالها وعلامة مبشّرة.

«يُنْكَرْنَ مُقْبِلَاتٍ ويُعْرَفْنَ مُدْبِرَاتٍ»: تفسير له: أي لا يعرف في مبدأ الحال كونها فتنة، وتشتبه بكونها حقّاً ودعاء هدی؛ فإذا استعقبت عرفت أنّها عن الحقّ بمعزل وإنّ دعاتها كانوا دعاة ضلالة.

ص: 44

«يَحُمْنَ حَوْمَ الرِّيَاحِ»: استعار لها الحوم ملاحظة لشبهها في دورانها الموهوم ووقوعهاعن قضاء اللهَّ من دعاة الضلال في بلدة دون بلدة بالطائر والريح، ولذلك شبّهها بحومها.

«يُصِبْنَ بَلَداً ويُخْطِئْنَ بَلَداً»: ثم أخذ ما يريد أن يخبر به فقال: «أَلَا وإِنَّ خْوَفَ

الْفِتَنِ عِنْدِي عَلَيْكُمْ فِتْنَةُ بَنِي أُمَيَّةَ»: لشدّتها على الإسلام وأهله وكثرة بلوى أهل الدين فيها بالقتل وأنواع الأذى ويكفي في عظم تلك الفتنة هتكهم حرمة رسول اللهَّ صلى اللهَّ عليه وآله وسلَّم وقتل الحسين عليه السّلام وذريّته، وهتك حرمة الإسلام بهدم الكعبة وحرقها، وقتل ابن الزبير وسبّه عليه السّلام ثمانين سنة، وما انتشر من البلاء، وغير ذلك من منكراتهم المسطورة في كتب التاريخ، وأشار بقوله: «فَإِنَّهَا فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ مُظْلِمَةٌ»: إلى ذلك، واستعار لفظ العمى لها لجريانها على غير قانون حقّ كالأعمى المتصرّف في حركاته في غير جادّة، أو بكونها يسلك فيه سبيل الحقّ کما لا تهتدى العين العمياء وكذلك المظلمة.

«عَمَّتْ خُطَّتُهَا»: شدتها وأسرها لكونها ولاية عامة.

««وخَصَّتْ بَلِيَّتُهَا»: أي بأهل التقوى وشيعته عليه السّلام وبقي من الصحابة والتابعين الَّذين هم أعناق الإسلام.

«وأَصَابَ الْبَاَءُ مَنْ أَبْصَرَ فِيهَا وأَخْطَأَ الْبَلَاءُ مَنْ عَمِيَ عَنْهَا»: أي من اهتدى لكونها فتنة كان فيها في بلاء من نفسه ومنهم، أمّا من نفسه فالحزن الطويل من مشاهدة المنكر، وأمّا منهم فلأنّ المتّقي العالم بكونهم أئمّة ضلال منحرف عنهم وغير داخل في تصرّفهم الباطل، وكان من مساءتهم تتبّع من هذا حاله بالأذى والقتل وكان البلاء به أخصّ، وأمّا من لم يهتد لكونها فتنة؛ بل كان في عمر الجهل

ص: 45

عنها؛ فهو منقاد لدعوتهم الباطلة؛ منساق تحت رايات ضلالهم جار على وفق أوامرهم؛ فكان سالماً من بلائهم؛ ثمّ أردف ذلك بالقسم؛ البارّ ليجدنّهم الناس أرباب سوء لهم، وشبّههم في أفعالهم المضرّة لهم؛ بالناب الضروس لحالبها فقال: «وايْمُ اللِّهَ لَتَجِدُنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَكُمْ أَرْبَابَ سُوءٍ بَعْدِي كَالنَّابِ الضَّرُوسِ»: التي يعصر حالبها وأشار إلى وجه الشبه بقوله: «تَعْذِمُ»: تعض «بِفِيهَا وتَخْبِطُ بِيَدِهَا وتَزْبِنُ»: ترفع «بِرِجْلِهَا وتَمْنَعُ دَرَّهَا»: أشارة إلى جميع حركاتها المؤذية الرديئة وهي تشبه حرکاتهم في الحلق بالأذى والقتل، ومنع الوفد والاستحقاق من بیت المال ثمّ أردف ذلك بذكر غايتين لحركاتهم الشريّة فقال: «لَا يَزَالُونَ بِكُمْ»: ولا يتزاولون قبلكم «حَتَّى لَ يَتْرُكُوا مِنْكُمْ إِلَّ نَافِعاً لَهُمْ»: سالكاً مسلكهم أَوْ غَیْرَ ضَائِرٍ(1): من الا يضرهم بأنكار منکر عليهم ولا يخافونه علی دولتهم من سائر العوام.

«ولَا يَزَالُ بَلَاؤُهُمْ(2) حَتَّى لَا يَكُونَ انْتِصَارُ أَحَدِكُمْ مِنْهُمْ لا مثل انْتِصَارِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ والصَّاحِبِ مِنْ مُسْتَصْحِبِه»: أي كما لا يمكن للعبد أن ينتصر من سيّده والتابع المستصحب الَّذي من شأنه الضعف وعدم الاستقلال بنفسه فمّن يستصحبه كذلك لا يمكن لبقيّة هؤلاء أن ينتصروا من بني أميّة أصلاً، ويحتمل أن يريد هناك ما يشبه الانتصار من الغيبة ونحوها كما قال عليه السّلام في موضع آخر: ويكون نصرة أحدكم كنصرة العبد من نفسه إذا شهد أطاعه، وإذا غاب اغتابه.

«تَرِدُ عَلَيْكُمْ فِتْنَتُهُمْ شَوْهَاءَ»: قبيحة ومن روی فتنهم الجمع فأراد جزئیّات شرورهم في دولتهم.

ص: 46


1- ورد في بعض النسخ: بِهِمْ
2- ورد في بعض النسخ: عَنْکُمْ

«مَخْشِيَّةً وقِطَعاً جَاهِلِيَّةً»: واستعار الشوهاء لقبحها عقلاً و شرعاً، ووجه المشابهة كونها منفوراً عنها كما أنّ قبيحة المنظر كذلك، وكذلك استعار القطع لورودها عليهم دفعات كقطع الخيل المقبلة في الغارة والحرب، وأشار بكونها جاهليّة إلى كونها على غير قانون عدليّ كما أنّ حركات أهل الجاهليّة كانت كذلك، ولذلك قال: «لَيْسَ فِيهَا مَنَارُ هُدًى ولَا عَلَمٌ يُرَى»: أي ليس فيها أمام عدل ولا قانون حق يقتدى به «ونَحْنُ أَهْلَ الْبَيْتِ»: منصوب على الحال «مِنْهَا بِمَنْجَاةٍ ولَسْنَا فِيهَا بِدُعَاةٍ»: أي إنّا ناجون من آثامها والدخول فيها والدعوة إلى مثلها، وليس المراد أنّا سالمون من أذاهم غير داعين، فيها إلى الحقّ بشهادة دعوة الحسين عليه السّلام إلى نفسه وقتله وأولاده وهتك ذريّته، ويحتمل أن يريد أنّا بمنجاة من آثامها، ولسنا فيها بدعاة مطلقاً، والحسين عليه السّلام لم يكن داعياً متعيناً من نفسه للدعوة، وإنّما كان مدعوّا إلى القيام من أهل الكوفة ومجيباً لهم، ثم إشارة إلى زوال دولتهم بظهور بني العبّاس عليهم، وقلعهم واستيصالهم، وتتّبعهم لآثارهم فقال: «ثُمَّ يُفَرِّجُهَا اللَّهُ عَنْكُمْ كَتَفْرِيجِ الأَدِيمِ»: يشقّ عمّا فيه «بِمَنْ يَسُومُهُمْ خَسْفاً ويَسُوقُهُمْ عُنْفاً»: قهراً «ويَسْقِيهِمْ بِكَأْسٍ مُصَبَّرَةٍ»: من الخسف والعنف «لَا يُعْطيِهِمْ إِلَّا السَّيْفَ ولَا يُحْلِسُهُمْ»: أي لا يلبسه إلاَّ الخوف كل هذه الألفاظ مستعار ووجه الأخيرة أنَّهم جعلوا الخوف شعاراً لهم كما أن حلس البعير كذلك.

(1)«فَعِنْدَ ذَلِكَ»: الذل والهوان «تَوَدُّ قُرَيْشٌ بِالدُّنْيَا ومَا فِيهَا لَوْ يَرَوْنَنِي مَقَاماً وَاحِداً ولَوْ قَدْرَ جَزْرِ جَزُور لأَقْبَلَ مِنْهُمْ مَا أَطْلُبُ الْيَوْمَ بَعْضَهُ فَاَ يُعْطُونِيهِ»: أي أنّ حالهم في الرذالة، والضعف عن محاربتهم ينتهي إلى أن يحبّوا رؤیته مقاماً واحداً مع أنّه أبغض الخلق إليهم، ليقبل منهم حينئذ ما يطلب اليوم بغضه من نصرتهم

ص: 47


1- ورد في بعض النسخ: إلاَّ الْخَوْفَ

له، واتّباعهم لأمره، وانقيادهم هداه فيمنعونه إيّاه، وكنّی عن قصر ذلك المقام المتمنّی لهم بمقدار زمان جزر الجزور، وصدقه عليه السّلام في هذا الخبر ظاهر فإنّ أرباب السير قالوا: أنّ مروان بن محمّد آخر ملوك بني أميّة قال: يوم الراية حين شاهد عبد اللهَّ بن محمّد بن علىّ بن عبد اللهَّ بن العبّاس: مارّاً به في صفّ خراسان لوددت أنّ على بن أبي طالب؛ تحت هذه الرايات بدلاً من هذا الفتى، والقصّة مشهورة والله سبحانه أعلم.

ومن خطبة له عليه السّلام:

«فَتَبَارَكَ اللَّهُ الَّذِي لَا يَبْلُغُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ ولَا يَنَالُهُ حَدْسُ الْفِطَنِ»: قيل: تبارك مشتقّ من البروك المستلزم للمقام في موضع، واحد والثبات فيه، وقيل: من البركة وهو الزيادة، وبالاعتبار الأوّل یکون إشارة إلى عظمته باعتبار دوام بقائه واستحقاقه قدم الوجود لذاته وبقاء، وجوده لا عن استفتاح ولا إلى انقطاع، وبالاعتبار الثاني إشارة إلى فضله، وإحسانه ووجوه الثناء عليه، والحدس لعله الضن، واصطلاحا حركة الذهن إلى اقتناص الجد الأوسط من غير طلب و تحسم كلفه، ومماسبق يفهم قصوره عن تناول ذات الحق تعالی.

«الأَوَّلُ الَّذِي لَا غَايَةَ لَهُ فَيَنْتَهِي ولَا آخِرَ لَهُ فَيَنْقَضِيَ»: وقد مر تفسير أوليته وآخريته غير مرة وله الحمد والمنة. «فَاسْتَوْدَعَهُمْ فِي أَفْضَلِ مُسْتَوْدَعٍ وأَقَرَّهُمْ فِي

خَیْرِ مُسْتَقَرٍّ»: يعني حظائر قدسه، ومنازل ملائكته و محلهن خير مستقرّ أقرّهم فيه و محلّ کرامته «فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ»(1) والضمير للأنبياء عليهم السلام القائمين بدين الله تعالى، واعلم أن دين الله تعالى، واحد بعثت جميع الأنبياء

ص: 48


1- سورة القمر: الآية 55

ليسلك الخلق إياه وله أصل، وفرع فأصله الطريق إلى معرفته، والاستكمال بها وجماع مكارم الأخلاق ونظام أمر الخلق في معاشهم، ومعادهم وهذه الأمور هي المرادة من الشرع، وهو اصل لا يخالف فيه نبي نبياً، وأما اختلاف الواقعة في الشرائع فهي أمور جزئية بحسب مصالح جزئية يتعلق بوقت الرسول المعين، وحال الخلق المرسل إليهم يوقع عليها ذلك الأصل، ویکون المشخصات له والعوارض التي بها تختلف الطبيعية النوعية.

«تَنَاسَخَتْهُمْ»: نقلتهم «كَرَائِمُ الأَصْلَابِ»: ما کرم منها وحق لأصلاب سمحت بمثلهم أن يوصف بالكرم.

«إِلَی مُطَهَّرَاتِ الأَرْحَامِ»: ما ظهر منها وحق لما استعدت منها للإنتاج مثل هذه الأمزجة، وقبولها أن تكون ظاهرة من كدر الفساد، والسعة يطهرون أصول الأنبياء من طرق الآباء والأمهات عن الشرك، ونحوه قول الرسول صلى الله عليه [وآله] وسلم «تقلباً من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الزكية»(1)، ويحتمل أن يريد بأفضل مستودع، وخير مستقر أصلاب الآباء، وأرحام الأمهات، ويكون تناسخهم بياناً وتفسيراً له.

كُلَّمَا مَضَى مِنْهُمْ سَلَفٌ قَامَ مِنْهُمْ بِدِينِ اللَّهِ خَلَفٌ»: إشارة إلى ضرورة وجود الأنبياء عند الحاجة إليهم على التعاقب، وقد سبقت الإشارة إليه «حَتَّی»: إشارة إلى غاية سلسلة الأنبياء «أَفْضَتْ كَرَامَةُ اللِّهَ سُبْحَانَهُ إِلَی مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم»: وكنّی بكرامة اللهَّ عن النبوّة.

ص: 49


1- شرح نهج البلاغة لابن میثم البحراني: ج 2 ص 396؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 14 ص 67؛ الموضوعات لابن الجوزي: ج 1 ص 281؛ امتناع الأسماع للمقريزي: ج 3 ص 190؛ اختیار مصباح السالكين لابن میثم البحراني: ص 235

«فَأَخْرَجَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْمَعَادِنِ مَنْبِتاً وأَعَزِّ الأَرُومَاتِ»: الأصول «مَغْرِساً»: استعار هذه الألفاظ لطينة النبوة وهي مادته القريبة التي استعدت لقبول مثله ووجه الاستعارة؛ أنَّ تلك المادة منشأ لمثله كما أنَّ الأرض معدن الجواهر، ومغرس الشجر الطيّب، والظاهر أنّ أصلا سمح بمثله أفضل المعادن، وأعزّ الأصول، وقيل: أراد بذلك مكَّة وقيل: بيته، وقبيلته ثمّ ميّزه بما هو أخصّ وأشرف فقال: «مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي صَدَعَ مِنْهَا أَنْبِيَاءَهُ»: أراد إبراهيم عليه السلام ووجه الاستعارة حصول الأشياء النفيسة من كل منهما «وانْتَجَبَ»: اختار «مِنْهَا أُمَنَاءَهُ عِتْرَتُهُ خَیْرُ الْعِتَرِة وأُسْرَتُهُ»: جماعة «خَيْرُ الأُسَرِ»: بدء بالعترة لأنّها أخصّ وأقرب من الأسر، و مصداق أفضليّة عترته قوله صلى اللهَّ عليه وآله وسلَّم: «سادة أهل المحشر سادة أهل الدنيا أنا وعليّ وحسن وحسين وحمزة وجعفر»(1)، ووجه أفضليّة أسرته قوله صلى اللهَّ عليه وآله وسلَّم: «إنّ اللهَّ اصطفى من العرب مَعد، واصطفى من مَعد بني النضر بن کنانه، واصطفی هاشماً من بني النضر، واصطفاني من بنی هاشم»(2). وقوله صلى اللهَّ عليه وآله وسلَّم: قال لي جبرئیل: «یا محمّد قد طفت الأرض شرقاً، وغرباً فلم أجد فيها أكرم منك ولا بيتاً أكرم من بنی هاشم»(3) وغيره من الأحاديث.

«وشَجَرَتُهُ خَیْرُ الشَّجَرِ»: أراد بالشجر في الموضعين إبراهيم، وقیل: هاشماً

ص: 50


1- شرح نهج البلاغة لابن میثم البحراني: ج 2 ص 397؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 7 ص 64؛ اختیار مصباح السالكين لابن میثم البحراني: ص 235
2- صحیح مسلم: ج 7 ص 58، سنن الترمذي: ج 5 ص 245؛ فتح الباري لابن حجر: ج 6 ص 384؛ مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 2 ص 18
3- شرح النهج لابن میثم البحراني: ج 2 ص 379؛ وكذلك شرح النهج لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 7 ص 63؛ ولم أعثر على مصادر أخرى للحديث

وولده بقرينة قوله: «نَبَتَتْ فِي حَرَمٍ»: أراد مكّة، ورشّح تلك الاستعارة بالنبت والبسق.

«وبَسَقَتْ»: طالت «فِي كَرَمٍ»: كناية عن زكاء أصله وما استلزم من بوصفهم، بالطول عن بلوغهم في الشرف والفضل الغاية البعيدة، وهو ترشيح.

«لَهَا فُرُوعٌ طِوَالٌ»: كناية عن العلوم والأخلاق المتفرّعة عنه وعن أئمّة أمّته، وبكونها لا تنال عن شرفها، وغموض أسرارها لا يمكن أن تطاول فيها، ويصل الأذهان إليها.

(1)«فَهُوَ إِمَامُ مَنِ اتَّقَى وبَصِیَرةُ مَنِ اهْتَدَى سَرِاجٌ لَمَعَ»: برق «ضَوْؤُهُ وشِهَابٌ سَطَعَ»: ارتفع «نُورُهُ وزَنْدٌ بَرَقَ لَمْعُهُ» ضوؤه ووجه استعارة هذه الثلاثة كونه سبباً لهداية الخلق كما أنّ هذه الأمور كذلك ورشّح استعارة السراج بلمعان الضوء والشهاب بسطوع النور والزند ببروق اللمع، ويحتمل أن يكون وجه استعارة الزند كونه منيرالأنوار العلم والهداية.

«سِیرَتُهُ الْقَصْدُ»: أي طريقته العدل والاستواء على الصراط المستقيم وعدم الانحراف إلى أحد طرفي الإفراط والتفريط «وسُنَّتُهُ الرُّشْدُ»: أي سلوك طريق اللهَّ عن هدايته.

«وكَلَمُهُ الْفَصْلُ»: الفاصل بين الحقّ والباطل لقوله تعالى «إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ»(2).

«وحُكْمُهُ الْعَدْلُ»: الواسط بين رذيلتي الظلم والانظلام.

ص: 51


1- ورد في بعض النسخ: وثَمَرٌ لَا يُنَالُ
2- سورة الحاقة: الآية 40

«أَرْسَلَهُ عَلَى حِینِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ وهَفْوَةٍ»: زلة «عَنِ الْعَمَلِ وغَبَاوَةٍ»: وجهل مِنَ الأُمَمِ اعْمَلُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ عَلَى أَعْلَامٍ بَيِّنَةٍ»: استعار لأئمّة الدين وما بأيديهم من مصابيح الهدى، وكنّی بكونها بيّنة عن وجودها وظهورها بين الخلق.

«فَبالطَّرِيقُ»: أي الشريعة «ونَهْجٌ»: واضحٌ في زمانه عليه السّلام و قرب العهد بالرسول صلى اللهَّ عليه وآله وسلَّم. «يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ»(1) إسناد لطيف مجازي.

«وأَنْتُمْ فِي دَارِ مُسْتَعْتَبٍ عَلَى مَهَلٍ وفَرَاغٍ»: أي دار الدنيا الَّتي يمكن أن يستعتبوا فيعتبوا: أي يطلبوا رضاء اللهَّ بطاعته فرضي عنكم، وعلى مهل: أي إمهال وإنظار وفراغ من عوائق الموت وما بعده.

«والصُّحُفُ مَنْشُورَةٌ»: هذه الواو وما بعدها للحال والمراد صحائف الأعمال.

«والأَقْلَمُ جَارِيَةٌ»: أي أقلام الحفظة على أعمال الخلق.

«والأَبْدَانُ صَحِيحَةٌ والأَلْسُنُ مُطْلَقَةٌ والتَّوْبَةُ مَسْمُوعَةٌ والأَعْاَلُ مَقْبُولَةٌ»: وفائدة التذكر بهذه الأمور التنبيه على وجوب العمل معها وتذكر أضدادها مما لا يمكن العمل معه، ولا ينفع الندم من الموت وطي الصحف، وجفاف القلم، وفساد الأبدان، وخرس الألسنة، وعدم سماع التوبة كما قال تعالى «فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ»(2) وباللهَّ التوفيق.

ومن خطبة له عليه السلام في تقرير فضيلة الرسول: «بَعَثَهُ والنَّاسُ ضُاَّلٌ فِي

حَیْرَةٍ»: أي في حال ماهم ضالَّون عن سبيل اللهَّ في حيرة من أمرهم ماذا يتبعون.

ص: 52


1- سورة يونس: الآية 25
2- سورة الروم: الآية 57

«وحَاطِبُونَ فِي فِتْنَةٍ»: أي كانت حركاتهم على غير نظام في ضلال البدع، ومن روی حاطبون فهو استعارة، ووجهها كونهم يجمعون في ضلالهم وفتنتهم ما اتّفق من أقوال وأفعالهم كما يجمع الخاطب، ومنه المثل: خاطب ليل. لمن جمع الغثّ والسمين، والحقّ والباطل في أقواله.

«قَدِ اسْتَهْوَتْهُمُ الأَهْوَاءُ»: أي جذبتهم الآراء الباطلة إلى مهاوي الهلاك أو إلى نفسها.

«واسْتَزَلَّتْهُمُ الْكِبْرِيَاء»: أي قادتهم إلى الزلل، والخطل عن طريق العدل، واقتفاء آثار الأنبياء في التواضع ونحوه؛ «واسْتَخَفَّتْهُمُ الْجَاهِلِيَّةُ الْجَهْلَاءُ»: وطارت بهم إلى ما لا ينبغي من الغارات والفساد في الأرض ولفظ الجهلاء تأكيد للأوّل کما يقال: ليل أليل ووتد واند.

حَيَارَى فِي زَلْزَالٍ مِنَ الأَمْرِ وبَلَاءٍ مِنَ الْجَهْلِ»: أي لا يهتدون لجهلهم إلى مصالحهم فهو منشأ اضطراب أمورهم، و بلائهم بالغارات وسبی بعضهم بعضا و قتلهم.

«فَبَالَغَ صلى الله عليه وآله فِي النَّصِيحَةِ ومَضَى عَلَى الطَّرِيقَةِ ودَعَا إِلَی الْحِكْمَةِ»: سلوكه لسبيل اللهَّ بهما امتثالا لقوله تعالى «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ»(1) والدعوة بالحكمة الدعوة بالبرهان، وبالموعظة الدعوة بالخطابة.

ومن خطبة له عليه السلام «الْحَمْدُ للهَّ الأَوَّلِ فَلَا شَيْءَ قَبْلَه والآخِرِ فَلَا شَيْءَ

بَعْدَه والظَّاهِرِ فَلَا شَيْءَ فَوْقَه والْبَاطِنِ فَلَا شَيْءَ دُونَه»: أكَّد كلّ واحد من هذه الاعتبارات الأربعة بكماله؛ فكمال الأوّليّة بسلب قبليّة شيء عنه، وكال الآخريّة

ص: 53


1- سورة النحل: الآية 125

بسلب بعديّة شيء عنه، والظاهريّة بسلب فوقيّة شيء عنه، والباطنيّة بسلب شيء دونه، والمراد بالظاهر هنا العالي ولذلك حسن تأكيده بسلب فوقيّة الغير له، والباطن الَّذي بطن خفيّات الأمور علماً، وهو بهذا الاعتبار أقرب الأشياء؛ إليها فلذلك حسن تأكيده بسلب ما هو دونه: أي ما هو أقرب إليها منه وحصلت حينئذ المقابلة بين الداني والعالي، ويحتمل أن يريد بالظاهر البيّن ويكون معنی قوله: فلا شيء فوقه: أنه لا شيء يوازي وجوده ويحجبه عن خلقه «والْبَاطِنِ: الخفيّ فَلَا شَيْءَ دُونَه»: أي في الخفاء، وقد سبق بيان هذه الاعتبارات الأربعة غير مرّة واللهَّ سبحانه اعلم.

ومنها في ذكر الرسول صلى الله عليه [وآله] «مُسْتَقَرُّه خَیْرُ مُسْتَقَرٍّ»: وأشار إلى مكَّة وكونها خير مستقرّ لكونها أمّ القرى ومقصد خلق اللهَّ کعبته، ويحتمل أن یرید محلَّه من جود اللهَّ وعنايته و ظاهر کونه خير مستقرّ.

ومَنْبِتُه أَشْرَفُ مَنْبِتٍ فِي مَعَادِنِ الْكَرَامَةِ»: قدم بيان وجه الاستعارة.

«ومَمَاهِدِ السَّلَامَةِ»: جمع ممهد والميم زائدة وهي: كناية عن بکَّة المدينة وما حولها فإنّها محلّ لعبادة اللهَّ وهي مهاد السلامة من عذابه، وإنّما كانت كذلك لكونها دار القشف خالية عن المشتهيات، ويحتمل أن يريد مشاهد السلامة من سخط الله.

«قَدْ صُرِفَتْ نَحْوَه أَفْئِدَةُ الأَبْرَارِ»: تنبيه على أنّ الصارف عنايته بهم بالقاء قلوبهم إلى محبّته والاستضاءة بأنوار هداه «وثُنِیَتْ»: صرفت «إِلَيْه أَزِمَّةُ الأَبْصَار»: لمّا استعارها ملاحظة لشبهها بمقاود الإبل، ورشّح تلك الاستعارة بذكر الثني وکنّی بذلك عن التفات الخلق إليه بأبصار بصائرهم وتلقىّ الرحمة الإلهيّة.

ص: 54

دَفَنَ(1) بِه الضَّغَائِنَ»: الأحقاد و استعار الدفن لإخفائها بعد أن كانت ظاهرة مجاهراً بها.

«وأَطْفَأَ بِه النوائرَ»: جمع نار حقد والمراد إزالة العداوات بين العرب بالتأليف بين قلوبهم وإلى هذا أشار بقوله: «أَلَّفَ بِه إِخْوَاناً»: كما قال تعالى في إظهار المنّة على عباده «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا»(2) «وفَرَّقَ بِه أَقْرَاناً»: هم المتألفون على الشرك «أَعَزَّ بِه الذِّلَّةَ»: ذله الإسلام وأهله «وأَذَلَّ بِه الْعِزَّةَ»: عزّة الشرك وذويه، وبين كلّ قرينتين من هذه الستّ مقابلة يظهر باذني الثقات.

«كَلَمُه بَيَانٌ»: لما تعلق من أحكام كتاب الله لقوله تعالى «لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ»(3) «وصَمْتُه لِسَانٌ»: استعار اللسان لسكوته، ووجه المشابهة أنّ سكوته صلى اللهَّ عليه وآله وسلَّم مستلزم للبيان أحدهما: أنّه كان يسكت عمّا لا ينبغي من الحق فيعلَّم الناس السكوت عن الخوض؛ فيما لا يعينهم الثاني: من الصحابة كانوا إذا فعلوا فعلاً على سابق عادتهم فسکت عنهم، ولم ينكر عليهم علموا بذلك أنه على حكم الإباحة. فكان سكوته عنهم في ذلك بياناً له، وأشبه سكوته عنه باللسان المعرب عن الأحكام وباللهَّ العصمة.

ومن كلام له عليه السّلام في معرض التمديد لأهل الشام:

«ولَئِنْ أَمْهَلَ الله الظَّالِمَ فَلَنْ يَفُوتَ أَخْذُهُ وهُوَ: الله «لَهُ»: الظالم «بِالْمِرْصَادِ»:

ص: 55


1- ورد في بعض النسخ: الله
2- سورة آل عمران: الآية 103
3- سورة النحل: الآية 44

الرصيد الراقب على جميع حركاته «عَلَى مَجَازِ»: مسلك «طَرِيقِهِ»: التي سلكوها ضلالاً.

«وبِمَوْضِعِ الشَّجَى»: أي العصمة «مِنْ مَسَاغِ رِيقِهِ»: وهو الحلق، وفي ذكر الشجي وكون اللهَّ بالرصد تنبيه على أنّ اللهَّ تعالى في مظنّة أن يرى الظالم بعقوباته عند اطَّلاعه على ظلمه كما قال سبحانه «أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ»(1) ثمّ أردف ذلك بالقسم البارّ.

«أَمَا والَّذِي نَفْيِ بِيَدِهِ لَيَظْهَرَنّ»: ليغلبن «هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ»: اصحاب معوية علیکم تنفير الهم إلى مقاومتهم ثم نفي ما عساه يتوهم أنه علة غيلتهم لهم لیلاً يتجادلوا بسبب ذلك فقال:

«عَلَيْكُمْ لَيْسَ لأَنَّهُمْ أَوْلَ بِالْحَقِّ مِنْكُمْ ولَكِنْ لإِسْرَاعِهِمْ إِلَی بَاطِلِ صَاحِبِهِمْ»: أمره الباطل «وإِبْطَائِكُمْ عَنْ حَقِّي»: إذ كانت النصرة باجتماع الكلمة وطاعة الإمام باعتقاد حصة إمرته مع التخاذل عنه ثم اردف ذلك بتوبيخهم وتنفيرهم عما هم عليه من مخالفة أمره بقوله: «ولَقَدْ أَصْبَحَتِ الأُمَمُ تَخَافُ ظُلْمَ رُعَاتِهَا: جمع راعي وأَصْبَحْتُ أَخَافُ ظُلْمَ رَعِيَّتِي»: لأن شأن الرعية الخوف من سلطانها فإذا كان حاله مع رعيته بالعكس كانت اللائمة عليهم بعصيانه دون حجّة لهم عليه، ولقد أشفق عليه السّلام منهم في مواطن كثيرة كيوم التحكيم؛ إذ قالوا له: إن لم ترض فعلنا بك کما فعلنا بعثمان، ونحو ذلك، ثمّ أردف وجوه تقصيرهم ببيان ما فعل في حقّهم من الأيادي الجميلة والهداية إلى وجوه المصالح من استنفارهم لجهاد عدوّهم وحفظ بلادهم وإسماعهم الدعوة إلى مصالحهم سرّاً وجهراً ونصيحته

ص: 56


1- سورة النحل: الآية 46

لهم بالوجوه الصائبة من الرأي وذلك قوله: «اسْتَنْفَرْتُكُمْ لِلْجِهَادِ فَلَمْ تَنْفِرُوا

وأَسْمَعْتُكُمْ فَلَمْ تَسْمَعُوا ودَعَوْتُكُمْ سِرّاً وجَهْراً فَلَمْ تَسْتَجِيبُوا ونَصَحْتُ لَكُمْ فَلَمْ

تَقْبَلُوا»: تطير هذا الكلام ما قال الملك العلّام حكاية عن نوح عليه السّلام «قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا»(1).

«أَشُهُودٌ كَغُيَّابٍ»: ووجه الشبه أنّ الفائدة في شاهد الموعظة دون الغايب عنها هو سماعها والانتفاع بها فإذا ليسوا كذلك فهم كالغياب عنها في عدم الانتفاع بها.

«وعَبِيدٌ كَأَرْبَابٍ»: لأنهم رعيّة من شأنهم التعبّد لأوامر أمرائهم ثم إنّهم لتعزّزهم وشموخهم کبراً وعدم طاعتهم کالأرباب الَّذين من شأنهم أن يأمروا فلا يأتمروا ثمّ وبخهم بنفارهم عمّا يتلو عليهم من الحكمة وتفرّقهم من مواعظه البالغة لهم.

«أَتْلُو عَلَيْكُمْ الْحِكَمَ فَتَنْفِرُونَ مِنْهَا وأَعِظُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ الْبَالِغَةِ فَتَتَفَرَّقُونَ عَنْهَا

وأَحُثُّكُمْ عَلَى جِهَادِ أَهْلِ الْبَغْيِ»: أي أهل الشام.

«فَمَا آتِي عَلَى آخِرِ قَوْلِي حَتَّى أَرَاكُمْ مُتَفَرِّقِینَ أَيَادِيَ سَبَا»: مثل يضرب في شدة التفرّق وضربه لتفرقهم عن مجالس الذكر، وهما لفظان جعلا اسما واحداً كمعدي کرب، وسبأ قبيلة من أولاد سبأ ابن يشجب بن يعرب بن قحطان، وأصل المثل أنّ هذه القبيلة كانت بمأرب؛ فلمّا آن وقت انفتاح سدّ مأرب ورأت طريقة الكاهنة

ص: 57


1- سورة نوح: الآية 5 - 9

ذلك الأمر وعرفته عمرو بن عامر الملقب بمزيقيا؛ فباع أمواله بمأرب وارتحل إلى مكَّة فأصابت هؤلاء الحمى، وكانت لا يعرفونها ففزعوا إلى الكاهنة؛ فأخبرتهم بما سيقع، وقالت إنّه مفرّق بيننا؛ فاستشاروها في أمرهم فقالت: من كان منكم ذا همّ بعيد، وحمل شديد، ومزار جدید؛ فليلحق بقصر عمّان المشِيد، فكانت أزد عمّان، ثمّ قالت: ومن كان منكم ذا جلد وقسر، وصبراً على أزمات الدهر؛ فعليه بالإدراك من بطن نمر فكانت خزاعة، ثمّ قالت: ومن كان منكم يريد الراسيات في الوحل المطعمات في المحل؛ فليلحق بيثرب ذات النخل؛ فكانت الأوس والخزرج، ثمّ قالت: ومن كان منكم يريد الخمر، والخمير، والملك والتأمير، ويلبس الديباج، والحرير فليلحق بصری وغوير، وهما من أرض الشام؛ فكان الَّذين يسكنونها آل جفنية من غسان، ثمّ قالت: ومن كان منكم يريد الثياب الرقاق، والخيل العتاق، وكنوز الأرزاق، والدم المهراق؛ فليلحق بأرض العراق؛ فكانت آل جذيمة الأبرش، فضربت العرب بتفرقهم في البلاد هذا المثل، وسار فيمن يتفرّق بعد اجتماع «تَرْجِعُونَ إِلَی مَجَالِسِكُمْ وتَتَخَادَعُونَ عَنْ مَوَاعِظِكُمْ»: أي أنّهم إذا رجعوا من محل، وعظه أخذ كلّ منهم يستغفل صاحبه عن تذكَّير الموعظة، ويشغله بغير ذلك من الأحاديث، وإن لم يكن عن قصد خداع بل تقع منهم صورة المخادعة «أُقَوِّمُكُمْ غُدْوَةً»: بالحكمة والمواعظ «وتَرْجِعُونَ إِلَيَّ عَشِيَّةً كَظَهْرِ الْحَنِيَّةِ»: أي معوجين كظهر القوس وهو: تشبيه للمعقول من اعوجاجهم وانحرافهم عن جميل الأخلاق بالمحسوس وروي كظهر الحية.

«عَجَزَ الْمَقَوِّمُ»: إشارة إلى نفسه فاعترف بعجزه عن تقويمهم.

«وأَعْضَلَ الْمُقَوَّمُ»: أي أشكل أمرهم واعيته أدواءهم علاجاً، ثمّ عاد إلى ندائهم وتنبيههم بذكر معايبهم لينفر عقولهم عنها فقال: «أَيُّهَا الشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْ الْغَائِبَةُ

ص: 58

عُقُولُهُمْ الْمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ الْمُبْتَلَى بِهِمْ أُمَرَاؤُهُمْ»: ثم نبّههم على رذيلتهم من مخالفة كونه مطيعاً للهَّ عز وجل، وموافقة مخالفتهم لأمره مطيعاً لله عز وجل، وجعل ذلك معايشة بينهم ليظهر الفرق فتدركهم العبرة فقال: «صَاحِبُكُمْ يُطِيعُ اللَّهَ

وأَنْتُمْ تَعْصُونَهُ وصَاحِبُ أَهْلِ الشَّامِ يَعْصِيِ اللَّهَ وهُمْ يُطِيعُونَهُ» ثمّ أردفه بتحقيرهم وتفضيل عدوّهم عليهم في الناس والنجدة واستقامة الحال فأقسم أنّه ليودّ أن يصارفه معاوية بهم صرف الدينار بالدرهم وذلك قوله: «لَوَدِدْتُ واللَّهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ

صَارَفَنِي بِكُمْ صَرْفَ الدِّينَارِ بِالدِّرْهَمِ فَأَخَذَ مِنِّي عَشَرَةَ مِنْكُمْ و أَعْطَانِ رَجُلًا مِنْهُمْ: ثم أشار إلى ما ابتلي به منهم فقال: «يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ مُنِيتُ»: بلیت «مِنْكُمْ بِثَلَاثٍ

واثْنَتَیْنِ»: لم يقل بخمس خصال، لتناسب الثلاث وكون الثنتين من نوع آخر صُمٌّ «ذَوُو أَسْاَعٍ وبُكْمٌ ذَوُو كَلَمٍ وعُمْيٌ ذَوُو أَبْصَارٍ»: وجمعه هذه الثلاث مع أضدادها هو سبب التعجّب منهم والتوبيخ لهم وأراد بها عدم انتفاعهم في مصالحهم الدينيّة ونظام أمور دولتهم بآلة السمع واللسان والعين؛ فإنّ من لم يفده سمعه، وبصره عبرة ولم يكن كلامه فيما يعنيه كان كفاقد هذه الآلات في عدم الانتفاع بهابل كان فاقدها أحسن حالا منه لأنّ، وجودها إذا لم يفد منفعة أكتسب مضرّة قد أمنها فاقدها «لَا أَحْرَارُ صِدْقٍ عِنْدَ اللِّقَاءِ»: أي أنّهم عند اللقاء لا تصدق حريّتهم ولا تبقى نجدتهم من مخالطة الجبن والتخاذل والفرار إذا الحرّ الخالص من سور الرذائل والمطاعن.

ولَا إِخْوَانُ ثِقَةٍ عِنْدَ الْبَلَاءِ»: أي ليسوا ممّن يوثق باخوّتهم في الابتلاء بالنوازل، ثمّ عاد إلى الدعاء عليهم على وجه التضجّر منهم وتشبيههم بالنعم فقوله: «يَا

أَشْبَاهَ الإِبِلِ غَابَ عَنْهَا رُعَاتُهَا كُلّمَا جُمِعَتْ مِنْ جَانِبٍ تَفَرَّقَتْ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ»: ذكر المشبه والمشبّه به، ووجه الشبه أردفه بذکر رذيلة يظنّها منهم بإماراتها وهي

ص: 59

تفرّقهم عنه على تقديره اشتباك الحرب فقال: «واللِّهَ لَكَأَنِّ بِكُمْ فِيمَا إِخَالُ أَنْ لَوْ

حَمِسَ: اسد «الْوَغَى وحَمِيَ»: اشتد «الضِّرَابُ»: الحرب وأصله من الإضراب قَدِ «انْفَرَجْتُمْ عَنِ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ انْفِرَاجَ الْمَرْأَةِ»: البغية «عَنْ قُبُلِهَا»: إنهما شبه هذا التشبيه ليرجعوا إلى الأنفة، وتسليم المرأة لقبلها، وانفراجها عنه إمّا وقت الولادة أو وقت الطعان ثمّ عاد إلى ذكر فضيلته ليستثبت قلوبهم ويتألَّفها في قوله: «وإِنِّ لَعَىَ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي»: آيات اللهَّ تعالى وبراهينه الواضحة على وجوده والفقه بما هو عليه من سلوك سبيله وهو كقوله سبحانه «قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي»(1).

«ومِنْهَاجٍ مِنْ نَبِيِّي»: طريقه وسنّته(2) «لَعَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ»: الَّذي هو عليه سبيل اللهَّ تعالى و شريعة دينه.

«أَلْقُطُهُ لَقْطاً»: تتّبعه وتميزه عن طريق الضلال بالمسلوك له ثمّ أردف فضيلته بالأمر باعتبار أهل البيت ولزوم سمتهم واقتفاء أثرهم فقال: «انْظُرُوا أَهْلَ بَيْتِ

نَبِيِّكُمْ فَالْزَمُوا سَمْتَهُمْ»: طريقتهم.

«واتَّبِعُوا أَثَرَهُمْ فَلَنْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ هُدًى ولَنْ يُعِيدُوكُمْ فِي رَدًى»: الجاهلية والضلال القديم، وفيه اشارة إلى جهة وجوب اتّباعهم وإيماء إلى اتباع غیرهم يرد إلى ذلك.

«فَإِنْ لَبَدُوا فَالْبُدُوا»: فإن لبدوا: يقال لبد الطائر إذا لصق بالأرض يعني إن سكنوا وأحبّوا لزوم البيوت على طلب أمر الخلافة، والقيام فيه فتابعوهم في ذلك فإنّ سكونهم يكون لمصلحة یغیب علمها عن غيرهم.

ص: 60


1- سورة الأنعام: الآية 57
2- ورد في بعض النسخ: وإِنيِّ

«وإِنْ نَهَضُوا»: في ذلك «فَانْهَضُوا معهم(1) ولَا تَسْبِقُوهُمْ»: إلى أمر لم يتقدموکم فيه «فَتَضِلُّوا»: فأن متقدم الدليل شأنه الضلال عن القصد «ولَا تَتَأَخَّرُوا عَنْهُمْ»: أي عن متابعتهم في أوامرهم وأفعالهم بالمخالفة لهم.

«فَتَهْلِکُوا»: فتكونوا من الهالكين في تيه الجهل وعذاب الآخرة والإماميّة تخصّ ذلك بالإثني عشر من أهل البيت عليهم السّلام، ثم مدح خواص الصحابة، وذكر مكانهم من خشية الله تعالى في دينه ترغيباً في مثل ذلك الفضائل قال: «لَقَدْ

رَأَيْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صى الله عليه وآله» وقوله: «فَمَا أَرَى أَحَداً مِنْكُمْ يُشْبِهُهُمْ»: ما عساه يدرك السامعين من الغيرة على تلك الفضائل أن يختصّوا بها دونهم.

«لَقَدْ كَانُوا يُصْبِحُونَ شُعْثاً غُبْراً»: إشارة إلى فقرهم وتركهم زينة الدنيا.

«وقَدْ بَاتُوا سُجَّداً وقِيَاماً»: أي احيوا الليل بالصلوات وهو كقوله عز من قائل «وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا»(2) «يُرَاوِحُونَ بَیْنْ جِبَاهِهِمْ وخُدُودِهِمْ»: أي إذا تعبت جبهته من طول السجود راوح بينها، وبين جبهته أي يضعون الجباه على التراب مرة والخدود أخرى تواضعاً و تذللاً.

«ويَقِفُونَ عَلَى مِثْلِ الْجَمْرِ مِنْ ذِكْرِ مَعَادِهِمْ إشارة قلقهم ووجودهم من ذكر المعاد وأهوال يوم القيامة كما يقلق الواقف على الجمر ما يجده من حرارته».

«كَأَنَّ بَیْنَ أَعْيُنِهِمْ رُكَبَ الْمِعْزَى مِنْ طُولِ سُجُودِهِمْ»: وجه المشابهة أنّ محالّ سجودهم من جباههم كانت قد اسودّت وماتت جلودها وقست کما أنّ ركب المعزی كذلك، يقال ركبه المعزى وثفنت البعير يضرب بهما المثل في الشدة والمعزی

ص: 61


1- في بعض النسخ لم يرد: معهم
2- سورة الفرقان: الآية 64

ملحق بالرباعي.

«إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ هَمَلَتْ أَعْيُنُهُمْ»: سالت دموعها «حَتَّى تَبُلَّ جُيُوبَهُمْ»: ومن روی جباههم فذلك في حال سجودهم ممکن «ومَادُوا كَمَا يَمِيدُ الشَّجَرُ يَوْمَ الرِّيحِ

الْعَاصِفِ خَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ ورَجَاءً لِلثَّوَابِ»: فتارة يكون میدانهم وقلقهم عن خوف اللهَّ، وتارة يكون عن ارتياح واشتياق إلى ما عنده من عظيم ثوابه وهو كقوله تعالى «الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ»(1) وللهَّ الحمد.

ومن كلام له عليه السّلام: في بيان شأن بني أمية

«واللَّهِ لَا يَزَالُونَ»: أي ظالمين فحذف الخبر للعلم به «حَتَّى لَا يَدَعُوا للهَّ مُحَرَّماً

إِلَّا اسْتَحَلُّوهُ»: استعملوه کاستعمال الحلال في عدم التحرّج والتأثّم به «ولَا عَقْداً»: أي من عقود الإسلام الَّتي نظم بها أمر العالم من قوانين الشرع وضوابطه «إِلَّا

حَلُّوهُ»: كناية عن حزم تلك القواعد بمخالفتها «وحَتَّى لَا يَبْقَى بَيْتُ مَدَرٍ ولَا وَبَرٍ إِلَّا دَخَلَهُ ظُلْمُهُمْ ونزل به غيثهم»: فسادهم كناية عن عموم عداوتهم وبغيهم على جميع الحلق.

«ونَبَا بِهِ سُوءُ رَعْيِهِمْ»: يقال فلان سيء الرعة أي قليل الورع يعني أوجب سوء رعتهم لأهله بنوهم عنه وروي سوء رعيتهم أي جعل سوء رأيهم كل موضع ناسية متحافي لا يستقر فيه أهله.

«وحَتَّى يَقُومَ الْبَاكِيَانِ يَبْكِيَانِ بَاكٍ يَبْكِي لِدِينِهِ وبَاكٍ يَبْكِي لِدُنْيَاهُ وحَتَّى تَكُونَ

نُصْرَةُ أَحَدِكُمْ مِنْ أَحَدِهِمْ كَنُصْرَةِ الْعَبْدِ مِنْ سَيِّدِهِ»: ذكر المشبّه والمشبّه به ثمّ أشار إلى وجه الشبه بقوله: «إِذَا شَهِدَ أَطَاعَهُ وإِذَا غَابَ اغْتَابَهُ وحَتَّى يَكُونَ أَعْظَمَكُمْ فِيهَا

ص: 62


1- سورة الأنفال: الآية 2

عَنَاءً أَحْسَنُكُمْ بِاللَّهِ ظَنّاً فَإِنْ أَتَاكُمُ اللَّهُ بِعَافِيَةٍ فَاقْبَلُوا وإِنِ ابْتُلِيتُمْ فَاصْبِرُوا»: على ما ابتليتم به فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِنَ: وبالله التوفيق.

ومن خطبة له عليه السلام:

«نَحْمَدُهُ عَلَى مَا كَانَ ونَسْتَعِينُهُ»: خصّص الحمد بما كان لأنّ الشكر على النعمة مترتّب على وقوعها، والاستعانة على ما يكون لأنّ طلب العون على أمر هو بصدده أن يفعل.

(1)«عَلَى مَا يَكُونُ ونَسْأَلُهُ الْمُعَافَاةَ فِي الَأدْيَانِ كَمَا نَسْأَلُهُ الْمُعَافَاةَ فِي الَأبْدَانِ»: لأنّ لها سقماً هو في الحقيقة أشدّ، قيل لأعرابيّ: ما تشتكي قال: ذنوبي فقيل: ما تشتهي قال: الجنّة، قيل: أفلا ندعو لك طبيباً فقال: الطبيب أمرضني، وسمعت البصريّة رجلًا يقول: ما أشدّ العمى على من كان بصيراً فقالت: يا عبد اللهَّ غفلت عن مرض الذنوب واهتممت بمرض الأجساد، وعمى القلب عن اللهَّ أشد، والمعافاة فيها بإمداد العناية الإلهيَّة ببقائها سليمة أو بجذبهم إلى التوبة.

«أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللِّهَ بِالرَّفْضِ»: بالترك «لَهِذِهِ الدُّنْيَا التَّارِكَةِ لَكُمْ»: على كل حالٍ.

«وإِنْ لَمْ تُحِبُّوا تَرْكَهَا»: ومن أكبر المصالح ترك محبوب لا بدّ من مفارقته تركاً باستدراج النفس و استغفالها كي لا يقدحها مفارقته دفعة مع تمكَّن محبّته عن جوهرها فیبقی کمن نقل عن معشوقه إلى موضع ظلمانيّ شديد الظلمة. «والْمُبْلِيَةِ

لأَجْسَادكُمْ وإِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ تَجْدِيدَهَا»: وإبلائها بالأمراض والهرم، ومن شأن المؤذي أن يجتنب لا أن يحبّ إصلاحه ثمّ أردف ذلك بتمثيلهم في اللّون بها وقال: «فَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ ومَثَلُهَا كَسَفْرٍ»: أي مسافرين «سَلَكُوا سَبِيلً فَكَأَنَّهُمْ قَطَعُوهُ»: فالمشبّه

ص: 63


1- في بعض النسخ: ورد: مِنْ أَمْرِنَا

هم باعتبار سيرهم وقرب الآخرة منهم وقطع منازل الأعمال، والمشبّه به قاطع ذلك السبيل: أي من سلك سبيلًا أسرع في سرعة سيره من قطعه ثمّ لمّا كان لا بدّ لكلّ طريق سلك من غاية يقصد فمن سلك سبيلًا.

وأَمُّوا عَلَما»: قصدوا جبلًا «فَكَأَنَّهُمْ قَدْ بَلَغُوهُ»: تلك الغاية أي أشبهوا في قرب وصولها من بلغها وهو تخويف للموت، وما بعده، و تحقير لمدّة البقاء في الدنيا والمقام فيها.

«وكَمْ عَسَى الْمُجْرِي إِلَی الْغَايَةِ»: أي فرسه «أَنْ يَجْرِيَ إِلَيْهَا حَتَّى يَبْلُغَهَا»: تأكید الماسبق وهو استفهام في معنى التحقير لما يرجوه من مدّة الجري، وهي مدّة الحياة الدنيا، ولمّا لم يكن الغرض إلَّا ذكر الإجراء حذف المفعول، وقد يجيء لازما، وكذلك قوله: «ومَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَقَاءُ مَنْ لَهُ يَوْمٌ»: يوم الموت «لَا يَعْدُوهُ»: لا يتجاوزه أي: ومايرجو، ويؤمل أن يكون من ذلك البقاء، وكان هنا: تامّة استفهام على سبيل التحقير لما يرجي من البقاء في الدنيا والإنكار على المؤمّل الراجي له.

«وطَالِبٌ حَثِيثٌ»: سريع يعني الموت «یَحْدُوهُ»: يسوقه أسند إليه الطلب مجازاً واستعار له الحدو، وقد علمت ووجهها وکنّی بذلك الحدو عمّا يتوهّم من سوق الموت للبدن إليه، وإذا كانت الحال كذلك.

(1)«فَلاَ تَنَافَسُوا فِي عِزِّ الدُّنْيَا وفَخْرِهَا ولَ تَعْجَبُوا بِزِينَتِهَا ونَعِيمِهَا ولَا تْجَزَعُوا

مِنْ ضَرَّائِهَا وبُؤْسِهَا»: شدتها «فَإِنَّ عِزَّهَا وفَخْرَهَا»: ينتهيان «إِلَی انْقِطَاعٍ وزِينَتَهَا

ونَعِيمَهَا إِلَی زَوَالٍ وضَرَّاءَهَا وبُؤْسَهَا إِلَی نَفَادٍ وكُلُّ مُدَّةٍ فِيهَا إِلَی انْتِهَاءٍ وكُلُّ حَيٍّ

فِيهَا إِلَی فَنَاءٍ»: وما كان من شأنه الزوال والانقطاع فالواجب أن لا يتنافس فيه، ولا

ص: 64


1- فِ الدُّنْيَا حَتَّى يُفَارِقَهَا

يعجب به وإن عدّ نافعاً، وأن لا يجزع من وجوده وإن عدّ ضارّاً.

«أَوَ لَيْسَ لَكُمْ فِي آثَارِ الأَوَّلِنَ مُزْدَجَرٌ وفِي آبَائِكُمُ الأَوَّلِنَ تَبْصِرَةٌ ومُعْتَبَرٌ إِنْ

كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ»: ثمّ نبههم على وجه الاتّعاظ فقال: أَوَ لَمْ تَرَوْا: تنظر إِلَى الْمَاضِينَ «مِنْكُمْ لَا يَرْجِعُونَ وإِلَی الْخَلَفِ(1) لَا يَبْقَوْنَ»؟: فإن ذلك محل العبرة ثم نبههم على ما يرون من أحوال أهل الدنيا المختلفة ليستدلوا على عدم بقائها باختلاف أحوالها وعلى أنها لا تصلح قرار فقال: «أَوَ لَسْتُمْ تَرَوْنَ أَهْلَ الدُّنْيَاُ يمْسُونَ و يُصْبِحُونَ عَلَى أَحْوَالٍ شَتَّى فَمَيِّتٌ يُبْكَى وآخَرُ يُعَزَّى وصَرِيعٌ مُبْتَىً بالأمراض والأسقام وعَائِدٌ يَعُودُه»: مشغول الخاطر به «وآخَرُ بِنَفْسِهِ يَجُودُ»: يقال جاد فلان بنفسه إذا أشرف على الموت و السالم من تلك الأمور «وطَالِبٌ لِلدُّنْيَا والْمَوْتُ»: من ورائه «یَطْلُبُهُ وغَافِلٌ»: عمّا يراد به «ولَيْسَ بِمَغْفُولٍ عَنْهُ»: أي ليس الله غافل عنه «وعَلَى أَثَرِ الْمَاضِي مَا يَمْضِي الْبَاقِي»: أي مضيهم وما مصدرية وإنما قدم الميت في أقسام أهل الدنيا لأن ذكره اشد موعظة واستعار الجود ووجه المشابهة أنّه يسمح بنفسه ويسلَّمها كما يسلَّم الجواد ما يعطيه من مال ثمّ أمرهم بذكر الموت ووصفه بلوازمه المنفّرة عنه وذلك قوله: «أَلَا فَاذْكُرُوا هَادِمَ اللَّذَّاتِ»: الدنيوية «ومُنَغِّصَ

الشَّهَوَاتِ وقَاطِعَ الأُمْنِيَاتِ فيها عِنْدَ الْمُسَاوَرَةِ»: عيّن لهم وقت ذكره في الدنيا أي المواثبة «لِلأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ»: ليكون ذكره زجراً لهم عنها ثمّ بالرغبة إلى اللهَّ في طلب معونته بجواذب عنايته وجميل لطفه فقال: «واسْتَعِينُوا اللهًّ عَلَى أَدَاءِ وَاجِبِ حَقِّهِ»: الَّذي كلَّفنا القيام بها بالمواظبة عليه وأداء واجب «مَا لَا يُحْصَى مِنْ أَعْدَادِ نِعَمِهِ وإِحْسَانِهِ»: بدوام شكره والاعتراف عليها ملاحظين لجلال کبریائه باعتبار كلّ جزء منها وباللهَّ التوفيق.

ص: 65


1- ورد في بعض النسخ: الْبَاقِيَن

ومن خطبة له عليه السلام

«الْحَمْدُ للهَّ النَّاشِرِ فِي الْحَلْقِ فَضْلَهُ والْبَاسِطِ فِيهِم بِالْجُودِ يَدَهُ»: أكَّد ذلك الحمد بتعميمه باعتبار کلّ صادر عنه من رخاء وشدّة. إذ الشدائد اللاحقة من نعمه أيضا فإنّها إذا قوبلت بصبر جمیل استلزمت ثوابا جزيلا كما قال تعالى «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ»(1)، وظاهر أنّ أسباب النِّعم نعم والمؤكد قوله: «نَحْمَدُهُ فِي جِمِيعِ

أُمُورِهِ»: ولمّا حمده على ما لحق من نعمائه طلب منه المعونة على أداء الواجب فقال: «نَسْتَعِينُهُ عَلَى رِعَايَةِ حُقُوقِهِ ونَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهً غَیْرُهُ وأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بِأَمْرِهِ صَادِعاً»: واستعارة للرسول و وجهها أنَّه شقّ بأمر الله بيضة الشرك وقلوب المشركين فأخرج ما كان فيها من الكفر والجهل.

«وبِذِكْرِهِ نَاطِقاً»: فأودعها إيَّاه «فَأَدَّى ما أُمِر بهِ أَمِيناً ومَضَى رَشِيداً»: أي قبضه اللهَّ إليه مرشدا له إلى حضرة قدسه ومنازل الأبرار من ملائكته، وصادعًا وناطقًا وأمينًا ورشيدًا أحوال.

«وخَلَّفَ فِينَا رَايَةَ الْحَقِّ»: كتاب الله وسنته «مَنْ تَقَدَّمَهَا مَرَقَ»: خرج من طاعة الله لأنه على طرف الأفراط قد تعدى في الدين فيه على الجهل كما فعلت الخوارج.

«ومَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا»: كان على طرف التفريط والتقصير «زَهَقَ»: هلك في طرق الضلال والحيرة، ولفظ الراية مستعار، ووجه المشابهة كون الكتاب، والسنة مقصدين لتابعهما بيهتدي بهما في سبيل الله كما أن الراية كذلك «ومَنْ لَزِمَهَا لَحِقَ»: المقصد الأقصى والمطلب الأعلى أعني النزول في ساحة قرب المولى.

«دَلِيلُهَا»: راية وإشارة إلى نفسه استعارة، ووجهها أن الإمام مظهر، ومبين

ص: 66


1- سورة البقرة: الآية 155

لأحكام الكتاب، والسنة، وما خفي منهما للسالكين إلى الله کما یرفع الغاية حاملها التابعيه ليقتدوا به؛ ثم أشار إلى صفات ذلك الدليل، وكني بقوله «مَکِيثُ الْكَلَامِ»: عن تروّيه، وتثبّته في أقواله، وما يشير به، ويحكم وبقوله:

«بَطِيءُ الْقِيَامِ»: عن تأنيه في حركته في وجوه المصالح إلى حين استنباته الرأي الأصلح ووجه المصلحة وبقوله:

«سَرِيعٌ إِذَا قَامَ»: عن مبادرته إلى، وجوه المصلحة وانتهازه الفرصة؛ ثم أخذ بذكرهم تمويه وكني بقوله:

«فَإِذَا أَنْتُمْ أَلَنْتُمْ لَهُ رِقَابَكُمْ»: عن خضوعهم لطاعته وانقيادهم لأمره وبقوله: «وأَشَرْتُمْ إِلَيْهِ بِأَصَابِعِكُمْ»: عن اشتهاره فيهم وتعظيمهم له.

«جَاءَهُ الْمَوْتُ فَذَهَبَ بِه»: إشارة إلى أنه دائم الإسلام به يوفي ونبه بقوله:

«فَلَبِثْتُمْ بَعْدَهُ مَا شَاءَ اللَّهُ»: على أنهم يبخلون عن إمام يجمعهم مدة الإشارة إلى مدة بني أمية بقوله: «حَتَّى يُطْلِعَ اللُّهَ لَكُمْ مَنْ يَجْمَعُكُمْ ويَضُمُّ نَشْرَكُمْ»: على أنه لابد لهم بعد تلك المدة من شخص يجمعهم، وطلوعه ظهوره، وتعينه للرياسة بعد اختفاء فقيل هو الإمام المنتظر، وقيل هو قائم بني العباس بعد انقضاء دولة بني أمية «فَلَا تَطْمَعُوا فِي غَیْرِ مُقْبِلٍ»: أي لم يقبل على طلب هذا الأمر ممن هو أهله، ومتعين له واثر تركه إلى الحلوة باللهَّ فلا تطمعوا فيه؛ فإنّ له باللهَّ شغلاً عن كلّ شيء، وقيل: المراد بغير المقبل من انحرف عن الدين بارتكاب منکر؛ فإنّه لا يجوز الطمع في أن يكون أميراً لكم، وروى فلا تطعنوا في عين مقبل: أي من أقبل علیکم من أهل البيت طالباً لهذا الأمر وهو أهل له فكونوا معه، وكنّى بالطعن في عينه عن دفعه عمّا يريد.

ص: 67

«ولَا تَيْأَسُوا مِنْ مُدْبِرٍ فَإِنَّ الْدْبِرَ عَسَى أَنْ تَزِلَّ بِهِ إِحْدَى قَائِمَتَيْهِ وتَثْبُتَ الأُخْرَى

فَتَرْجِعَا حَتَّى تَثْبُتَا جَمِيعاً»: أراد أنّ من أدبر عن طلب الخلافة ممّن هو أهل لها فلا ينبغي أن يحصل الإياس من عوده، وإقباله على الطلب؛ فلعلَّه إنّما أدبر عن ذلك الاختلال بعض الشرائط الَّتي يتعيّن عليه معها القيام، وکنّی عن اختلال بعض أحواله من قلَّة ناصر ونحوه؛ بزوال إحدى قائمتيه، وبثبات الأخرى عن وجود بعض الشرائط كثبات أهليّته الطلب؛ أو بعض أنصاره معه، وبقوله: (فترجعا حتّى تثبتا) عن تكامل شرائط قيامه، ولا ينافي النهي عن الناس هاهنا النهي عن الطمع في غير المقبل بجواز أن ينهى عن الطمع فيه حال إعراضه، وإدباره عن الطلب لاختلال بعض شرائطه، والنهي عن الإياس منه بجواز حصول شرائط القيام فيها وتكاملها.

«أَلَا إِنَّ مَثَلَ آلِ مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وعليهم كَمَثَلِ نُجُومِ السَّاَءِ إِذَا خَوَى نَجْمٌ

طَلَعَ نَجْمٌ»: تعيين للأئمّة من آله محمّد قالت الإماميّة: هم الاثني عشر من أهل البيت عليهم السلام.

وشبّههم بالنجوم لأمرين: أحدهما: أنّهم يستضاء بأنوار هداهم في سبيل اللهَّ کما یستضيء المسافر بالنجوم في سفره ويهتدي بها، الثاني: ما أشار إليه بقوله: كلما (خوی نجم طلع نجم) وهو: كناية عن كونهم كلَّما خلا منهم سيّد قام سیّد، والإماميّة يستدلَّون بهذا الكلام منه عليه السّلام على أنّه لا يخلو زمان من وجود قائم من أهل البيت مهتدي به في سبيل اللهَّ إليه.

«فَكَأَنَّكُمْ قَدْ تَكَامَلَتْ مِنَ اللِّهَ فِيكُمُ الصَّنَائِعُ وأَرَاكُمْ مَا كُنْتُمْ تَأْمُلُونَ»: إيماء إلى منّة اللهَّ عليهم بظهور الإمام المنتظر، وإصلاح أحوالهم بوجوده، ووجدت له عليه السّلام في أثناء بعض خطبه في اقتصاص ما يكون بعده؛ فصلاً يجرى مجرى

ص: 68

الشرح لهذا الوعد، وهو أن قال: يا قوم اعلموا علماً يقيناً أنّ الَّذي يستقبل من أمر جاهليّتكم ليس بدون ما استقبل الرسول من أمر جاهلیّتکم، وذلك أنّ الأمة كلَّها يومئذ جاهليّة إلَّا من رحم اللهَّ؛ فلا تعجلوا فيجعل الحرق بکم، واعلموا أنّ الرفق بمن وفي الإناة بقاء وراحة، والإمام أعلم بما ينكر، ولعمري لينزعنّ عنكم قضاة السوء وليقبضنّ عنکم المُراضين، وليعزلنّ عنكم أمراء الجور، وليطهرنّ الأرض من كلّ غاش، وليعملنّ فيكم بالعدل، وليقومنّ بالقسطاس المستقيم، وليتمنى أحيائكم لأمواتكم رجعة الكرّة عمّا قليل، فيعيشوا إذن؛ فإنّ ذلك كائن للهَ أنتم بأحلامكم، كفّوا ألسنتكم وكونوا من وراء معايشكم؛ فإنّ الحرمان واصل إليكم، وإن صبرتم، وأحسنتم، وائتلفتم أنّه طالب، وِتْرِکُم ومدرك لثأركم، وآخذ بحقّكم، وأقسم باللهَّ قسمًا حقاً «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ»(1).

ومن خطبة له عليه السّلام

وهي من الخطب التي تشتمل على ذكر الملاحم: جمع ملحمة: الواقعة العظيمة في الفتنة في توحيد الله و تحذير السامعين عن عصيانه وعن المعاملة لدينه، فيما بينهم فيما كان يخبرهم به من الأمور المستقبلة.

«الأَوَّلِ قَبْلَ كُلِّ أَوَّلٍ والآخِرِ بَعْدَ كُلِّ آخِرٍ»: قد مضى تفسير هما «وبِأَوَّلِيَّتِهِ وَجَبَ أَنْ لَا أَوَّلَ لَهُ و بِآخِرِيَّتِهِ وَجَبَ أَنْ لَا آخِرَ لَهُ»: لمّا أراد بأولَّيته كونه مبدأ لكلّ شيء، وبآخریّته کونه غاية ينتهي إليها كلّ شيء في جميع أحواله، كان بذلك الاعتبار يجب أن لا يكون له أوّل هو مبدأه ولا آخر يقف عنده وينتهي.

«وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهً إِلَّا اللَّهُ شَهَادَةً يُوَافِقُ فِيهَا السِّرُّ الإِعْاَنَ والْقَلْبُ اللِّسَانَ»:

ص: 69


1- سورة النحل: الآية 128

إشارة إلى خلوصها عن شائبة النفاق والجحود باللهَّ ثم أبّه بالناس وحذّرهم من شقاقه وعصيانه وتكذيبه فيما يقول تقريعاً لمن ضعفت عين بصيرته عن إدراك فضيلته بقوله: «أَيُّهَا النَّاسُ، لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي»: أي لا يكسبنَّكم خلافي الإثم «ولَا يَسْتَهْوِيَنَّكُمْ عِصْيَانِي»: استهواه الشيطان استهانة «ولَا تَتَرَامَوْا بِالأَبْصَارِ عِنْدَ

مَا تَسْمَعُونَهُ مِنِّي فَوَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ»: أي وشق الحبة اليابسة فأخرج عنه ورقاً خضراً ثم زهراً مثمراً وبَرَأَ النَّسَمَةَ «إِنَّ الَّذِي أُنَبِّئُكُمْ بِهِ عَنِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ صلّى الله

عليه وآله»: منسوب(1) إلى أم القرى وهي مكة.

(2)«مَا كَذَبَ الْمُبَلِّغُ ولَا جَهِلَ السَّامِعُ»: تأكيد لشهادة صدقه وهي إسناد ما يريد أن يخبر إلى النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم وقدسه کيفية أخذه لهذه العلوم عنه في خطبة المسماة بالقاصعة فتذكر.

«لَكَأَنِّ أَنْظُرُ إِلَ ضِلِّيلٍ»: أي إلى رجل قد بالغ في الضلال «قَدْ نَعَقَ»: صاح «بِالشَّامِ»: قيل أنه أشار به إلى السفيانّي الدجّال وقيل: إلى معاوية وإنّ مبدأ ملکه بالشام ودعوته بها، وانتهت غاراته إلى نواحي الكوفة وإلى الأنبار في حياته عليه السّلام کما عرفت ذلك من قبل «وفَحَصَ»: بحث «بِرَايَاتِهِ فِي ضَوَاحِي كُوفَانَ»: صحاري کوفة كناية عن بلوغه إلى كوفة ونواحيها ملاحظة لتشبهه بالقطاة والمتخذة مفحصاً «فَإِذَا فَغَرَتْ فَاغِرَتُهُ»: انفتحت فيه الشديدة فاهاً كناية عن اقتحامه للناس کناية بالمستعار أيضاً ملاحظة لشبهه بالأسد في اقتحام فريسته «واشْتَدَّتْ شَكِيمَتُهُ»: كناية عن قوّة رأسه وشدّة بأسه، وأصله أنّ الفرس الجموح قوّى الرأس يحتاج إلى قوّة الشكيمة حديدة اللُّجام «وثَقُلَتْ فِي الأَرْضِ وَطْأَتُهُ»:

ص: 70


1- المنسوب هو كلمة الأميّ ومعناه أن النبي الأميّ نسبة إلى مكة أم القرى
2- ورد في بعض النسخ: والله

كناية عن شدة بأسه في الأرض وعلى النَّاس والأشبه إِنَّه أشار إلى عبد الملك وقد عرفت أحواله ونقل، وطأته في الأرض فيما سبق «عَضَّتِ الْفِتْنَةُ أَبْنَاءَهَا بِأَنْيَابِهَا» : واستعار لفظ العضّ للفتنة، ووجه المشابهة ما يستلزمانه من الشدّة والألم، ورشّح بذكر الأنياب، وأبناء الفتنة أهلها «ومَاجَتِ الْحَرْبُ بِأَمْوَاجِهَا»: كناية عن شدة الاختلاط الواقع فيها من القتل والأهوال «وبَدَا مِنَ الأَيَّامِ كُلُوحُهَا»: عبوسها كناية عمَّا يلقي فيها من السِّر «ومِنَ اللَّيَالِ كُدُوحُهَا»: الكدح فوق الحدس وهو استعارة لما يلقى فيها من المصائب الشبيهة بها «فَإِذَا أَيْنَعَ نضج زَرْعُهُ»: استعارة الأعماله ولفظ الإيناع ترشیح و کناية بلوغه غاية فعَّالة «وقَامَ عَلَى يَنْعِهِ»: إدراكه «وهَدَرَتْ»: صاحت «شَقَاشِقُهُ وبَرَقَتْ بَوَارِقُهُ»: استعارة لحركاته الهائلة وأقواله المخوفة تشبيهًا بالسِّحاب ذي الشقاشق والبروق.

«عُقِدَتْ رَايَاتُ الْفِتَنِ الْمَعْضِلَةِ»: أي: أنّ هذه الفتنة إذا قامت أثارت فتناً كثيرة بعدها يكون فيها الهرج والمرج، وشبّه تلك الفتن بالليل المظلم في إقبالها من حيث کون لا يهتدي في ظلمة الليل لما يراد، و بالبحر المتلاطم في عظمها، وخلطها للخلق بعضهم ببعض، وانقلاب قوم على قوم بما يلحق لهم، والهلاك كما يلتطم بعض أمواج البحر ببعض، وذلك قوله: «وأَقْبَلْنَ كَاللَّيْلِ الْمُظْلِمِ والْبَحْرِ الْمُلْتَطِمِ»: ثمّ أشار إلى ما يلحق الكوفة بسبب تلك الفتنة بعدها من الوقائع والفتن، وقد وقع فيها وفق أخباره وقائع جمّة وفتن كثيرة كفتة الحجّاج والمختار بن أبي عبيدة «هَذَا»: أي خذ هذا ومضى هذا «وكَمْ يَخْرِقُ الْكُوفَةَ مِنْ قَاصِفٍ ويَمُرُّ عَلَيْهَا مِنْ عَاصِفٍ»: واستعار هما من الريح لمَّا يمرّ بها من ذلك، ويجرى على أهلها من الشدائد.

«وعَنْ قَلِيلٍ تَلْتَفُّ الْقُرُونُ بِالْقُرُونِ»: أي عن قليل يلحق قرن من الناس

ص: 71

بقرون، وكنّی بالتفاف بعضهم ببعض عن اجتماعهم في بعض الأرض.

«ويُحْصَدُ الْقَائِمُ ويُحْطَمُ الْمَحْصُودُ»: واستعار لهم الحصد والحطم ملاحظة لمشابهتهم الزرع يحصد قائمة، ويحطم محصودة؛ فکنّی بحصدهم عن موتهم أو قتلهم، وبحطم محصودهم عن فنائهم، وتفرّق أوصالهم في التراب، وأعلم أنّه ليس في اللفظ دلالة واضحة على أنّ المراد بالضليل المذكور معاوية بل يحتمل؛ أن پرید به شخصاً آخر يظهر؛ فيها بعد الشام کما قيل: إنَّه السفيانيّ الدجّال وإن كان الاحتمال الأوّل أغلب على الظنّ وباللهَّ التوفيق.

ومن خطبة له عليه السّلام:

يجري هذا المجرى «وذَلِكَ يَوْمٌ يَجْمَعُ اللَّهُ فِيهِ الأَوَّلِینَ والآخِرِينَ لِنِقَاشِ

الْحِسَابِ وجَزَاءِ الأَعْمَالِ»: أشار باليوم إلى يوم القيامة ونقاش الحساب: المناقشة والتدقيق فيه، وقد عرفت كيفيّة ذلك اليوم فيما سبق ونحوه قوله تعالى «يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ»(1) «خُضُوعاً»: كما قال عز وجل «خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ»(2).

«قِيَاماً»: كقوله عز من قائل «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ»(3) وهما كناية عن کمال براءتهم من حولهم وقوّتهم إذن وتيقّنهم أن لا سلطان إلَّا سلطانه.

«قَدْ أَلْجَمَهُمُ الْعَرَقُ»: أي بلغ منهم مكان اللجام كناية عن بلوغهم الغاية من الجهد إذ كانت غاية التاعب أن يكثر عرقه.

ص: 72


1- سورة الزلزلة: الآية 6
2- سورة القمر: الآية: 7
3- سورة المطففين: الآية 6

«ورَجَفَتْ بِهِمُ الَأرْضُ»: كقوله سبحانه: «يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ»(1) أي الراجفة والمرتجّة أرض القلوب عن نزول خشية اللهَّ عليها وشدّة أهوال يوم القيامة، هكذا قال بعض الأذكياء تنشيطًا للأذهان، وقال آخرون: إنّ ذلك صرف الكلام عن ظاهره من غير ضرورة فلا يجوز، إذ كلّ ما أخبر الصادق عنه من جزئيّات أحوال القيامة أمور ممكنة، والقدرة الإلهيّة وافية بها أقول: لا جهة صحيحة لنفي كل منهما كلام الآخرين واعلم بذلك رؤى العين. «فَأَحْسَنُهُمْ حَالًا مَنْ وَجَدَ لِقَدَمَيْهِ

مَوْضِعاً ولِنَفْسِهِ مُتَّسَعاً»: حمله على ظاهره موافقة لظاهر الشريعة ممكن، كما يمكن أن يقال المراد به من وَجدتِ قدمَا عَقله مَوضعاً من معرفة اللهَّ سبحانه وعبادته، ومن وجد لنفسه متّسعاً في حظائر قدس اللهَّ وسعة رحمته، وظاهر أنّ أولئك أحسن الخلق حالا يوم القيامة.

ثم نبَّه على ما سيقع بعده من الفتن ويخص منها فتنة صاحب الزنج(2) بالبصرة ولذا قرره السيِّد عمَّا قبله، فقال: «منها» أي من هذه الخطبة «فِتَنٌ كَقِطَعِ

اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ»: وجه الشبه ظاهر.

«لَا تَقُومُ لَهَا قَائِمَةٌ»: أي لا يمكن مقابلتها بما يقاومها ويدفعها، وإنّما أنّث لكون القائمة في مقابلة الفتنة وقيل: لا تثبت لها قائمة فرس.

«ولَا تُرَدُّ لَهَا رَايَةٌ تَأْتِيكُمْ مَزْمُومَةً مَرْحُولَةً يَحْفِزُهَا قَائِدُهَا ويَجْهَدُهَا»: استعار

ص: 73


1- سورة المزمل: 14
2- صاحب الزنج: هو علي بن محمد العلوي، ویکنی بالبرقعي لأنه كان يمشي متبرقعًاً، وكان مولده بالري من قرية يقال لها (ورزنين)، وكان قد خرج فاضلًا بارعًا، ذهب إلى البصرة، ودعا الزنج إلى نفسه، وقرر مع كل واحد منهم أن يقتل سيده، ویز وجه بمولاته؛ فأطاعوه بأجمعهم على ذلك، وفعلوا ما فعلوا، وقصتهم مشهورة، وذلك مستلزم لاطلاعه على ما لم يكن؛ يُنظر: شرح مئة كلمة لأمير المؤمنين عليه السلام لابن میثم البحراني: ص 245

الزمام، والرحل، والحفز، والقائد، والراكب، وجهده لها ملاحظة لشبهها بالناقة، وکنّی بالزمام، والرحل عن تمام إعداد الفتنة، وتعبئتها كما أنّ كمال الناقة للركوب مزمومة مر حولة، وبقائدها عن أعوانها، وبراكبها عن منشئها المتبوع فيها، بحفزها وجهدهم عن سرعتهم فيها أهلها.

«رَاكِبُهَا أَهْلُهَا قَوْمٌ شَدِيدٌ كَلَبُهُمْ»: شرهم «قَلِيلٌ سَلَبُهُمْ»: أذ لم يكونوا أصحاب حرب وعدة وَحیّل کما يعرف ذلك من قصّتهم المشهورة کما سنذكر طرفاً منها فيما يستقبل من كلامه عليه السلام في فصل آخر.

يُجَاهِدُهُمْ فِي(1) سَبِيلِ اللِّهَ قَوْمٌ أَذِلَّةٌ عِنْدَ الْمُتَكَبِّرِينَ فِي الَأرْضِ مْجَهُولُونَ»: أي ليسوا من ابناء الدنيا المشهورين بنعيمها.

«وفِي السَّمَاءِ مَعْرُوفُونَ»: إشارة إلى كونهم من أهل العلم والايمان يعرفهم ربّهم بطاعتهم وتعرفهم ملائكته بعبادة ربّهم ثمّ أردف ذلك بأخبار البصرة مخاطباً لها والخطاب لأهلها بما سيقع بها من فتنة الزنج قال:

«فَوَيْلٌ لَكِ يَا بَصْرَةُ عِنْدَ ذَلِكِ مِنْ جَيْشٍ مِنْ نِقَمِ اللَّهِ لَا رَهَجَ لَهُ»: لا غبار له «ولَا حَسَّ»: أي ولا صوت له، وظاهر أنه لم يكن لهم غبار، ولا أصوات إذ لم يكونوا أهل خيل، ولا قعقعة لجم، فإذن لا رهج له، ولا حت، وظاهر أنهم من نقم اللهَّ للعصاة وإن عمّت الفتنة. إذ قلَّما تخصّ العقوبة النازلة بقوم کما قال تعالى «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً»(2).

«وسَيُبْتَلَ أَهْلُكِ بِالْمَوْتِ الأَحْمَرِ»: قيل: إشارة إلى قتلهم بالسيف من قبل الزنج

ص: 74


1- ورد في بعض النسخ: سبيل الله
2- سورة الأنفال: الآية 25

أو من قبل غيرهم، ووصفه بالحمرة كناية عن شدّته، وذلك لأنّ أشدّ الموت ما كان بسفك الدم، وقد فسره عليه السّلام بهلاكهم من قبل الغرق کما نحكيه عنه، وهو أيضاً في غاية الشدّة لاستلزامه زهوق الروح، وكذلك وصف الأغبر في قوله عليه السلام: «والْجُوعِ الأَغْبَرِ»: لأنّ أشدّ الجوع ما أغبرّ معه الوجه، وغبر السحنة الصافية لقلَّة مادّة الغذاء أو ردائه؛ فذلك سمّى أغبر، وقيل: لا يلصق بالغبراء، وهي الأرض، وقد أشار عليه السلام إلى هذه في فصل من خطبته خطب بها عند فراغه من حرب البصرة، وفتحها وهي خطبة طويلة حكينا منها فصولاً تتعلَّق بالملاحم، من ذلك فصل يتضمن حال غرق البصرة، فعند فراغه عليه السّلام من ذلك الفصل قام إليه الأحنف بن قيس فقال له: يا أمير المؤمنين ومتی يكون ذلك؟ قال عليه السلام: يا أبا بحر لن تدرك ذلك الزمان، وإنّ بينك وبينه لقروناً ولكن ليبّلغ الشاهد منكم الغائب عنكم، لكي يبلغوا إخوانهم إذا هم رأوا البصرة قد تحوّلت أجصاصها دوراً وأوجامها قصوراً؛ فالهرب الهرب فإنّه لا بصيرة لكم يومئذ؛ ثمّ التفت عن يمينه فقال: کم بینکم وبين الإبلَّة؟ فقال له المنذر بن الجارود: فداك أبي وأمّي أربعة فراسخ، قال له صدّقت فوالَّذي بعث محمّدا وأكرمه بالنبوّة، وخصّه بالرسالة، وعجّل روحه إلى الجنّة لقد سمعت منه کما تسمعون منّى أن قال: یا علىّ علمت أن بين الَّتي تسمى البصرة، والتي تسمّى الإبلَّة أربعة؛ فراسخ وسيكون في الَّتي تسمّى الإبلَّة موضع أصحاب القشور يقتل في ذلك الموضع من أُمّتي سبعون؛ ألفا شهیدهم يومئذ بمنزلة شهداء بدر؛ فقال: له المنذر: يا أمير المؤمنين ومن يقتلهم فداك أبي وأمي؟ قال: يقتلهم إخوان الجنّ وهم أجيل كأنّهم شياطين سود ألوانهم منتنة أرواحهم شدید کلبهم قليل سلبهم طوبى لمن قتلهم، وطوبى لمن قتلوه ينفر بجهادهم في ذلك الزمان قوم هم أذلَّة عند المتكبّرين من أهل ذلك الزمان مجهولون في الأرض معروفون في السماء

ص: 75

تبكي السماء عليهم، وسكَّانها والأرض وسكَّانها، ثمّ هملت عيناه بالبكاء ثمّ قال: ويحك يا بصرة ويلك يا بصرة من جيش لا رهج له، ولا حسّ قال له المنذر یا أمير المؤمنين: وما الَّذي يصيبهم من قبل الغرق ممّا ذكرت وما الويح، وما الويل فقال: هما بابان فالويح باب الزحمة، والويل باب العذاب يا ابن الجارود نعم ثارات عظيمة منها عصبة يقتل بعضها بعضاً، ومنها فتنة تكون بها خراب منازل، وخراب ديار، وانتهاك أموال، وقتل رجال، وسبی نساء يذبّحن ذبحاً یا ویل أمرهن حديث عجبت منها أن يضحك بها الدجّال الأكبر الأعور الممسوح العين اليمني، والأخرى كأنّها ممزوجة بالدم؛ لكأنّها في الحمرة علقة تأتي الحدقة كهيئة حبّة العنب الطافية على الماء فيتبعه من أهلها عدّة، من قتل بالإبلَّة من الشهداء أناجيلهم في صدورهم؛ يقتل من يقتل، ويهرب من يهرب؛ ثمّ رجف، ثمّ قذف؛ ثمّ خسف؛ ثمّ مسخ؛ ثمّ الجوع الأغبر؛ ثمّ الموت الأحمر، وهو الغرق يا منذر؛ إنّ للبصرة ثلاثة أسماء سوى البصرة في الزبر الأوّل لا يعلمها إلَّا العلماء منها الخريبة، ومنها تدمر، ومنها المؤتفكة يا منذر، والَّذي فلق الحبة، وبرئ النسمة لو أشاء لأخبرتكم بخراب العرصات عرصة عرصة، ومتى تخرب و متی تعمر بعد خرابها إلى يوم القيامة، قال: فقام إليه رجل فقال يا أمير المؤمنين: أخبرني من أهل الجماعة ومن أهل الفرقة، ومن أهل السنّة، ومن أهل البدعة فقال: ويحك إذا سألتني؛ فافهم عنّی، ولا عليك أن لا تسأل أحداً بعدي: أمّا أهل الجماعة؛ فأنا ومن اتّبعني، وإن قلَّوا، وذلك الحقّ عن أمر اللهَّ، وأمر رسوله، وأمّا أهل الفرقة فالمخالفون لي، ولمن اتّبعني، وإن كثروا، وأمّا أهل السنّة؛ فالمتمسّكون بما سنّه اللهَّ ورسوله لا العاملون برأيهم، وأهوائهم وإن كثروا، وقد مضى الفوج الأوّل، وبقيت أفواج، وعلى اللهَّ قصمها، واستئصالها عن جديد الأرض والله تعالى اعلم.

ص: 76

ومن خطبة له عليه السّلام:

«انْظُرُوا إِلَی الدُّنْيَا نَظَرَ الزَّاهِدِينَ فِيهَا الصَّادِفِینَ»: المعرضين «عَنْهَا»: أمر لهم بتركها واحتقارها إلَّا بمقدار الضرورة إلى ما تقوم به الضرورة ثمّ أردفه بذکر معايبها المنفرّة: فقال: «فَإِنَّهَا واللَّهِ عَمَّا قَلِيلٍ تُزِيلُ الثَّاوِيَ»: المقيم الساكن المطمئنّ إليها عمّا ركن إليه وامن عليه.

(1)«وتَفْجَعُ الْمُتَرْفَ الْآمِنَ»: أي المتنعّم بها الَّذي خدعته بأمانيها حتّى أمن فيها بسلب ما ركن إليه وأمن عليه. «لَا يَرْجِعُ مَا تَوَلَّی مِنْهَا فَأَدْبَرَ»: أعرض وولى الدبر من شباب وصحّة ومال وعمر ونحوه.

«ولَا يُدْرَى مَا هُوَ آتٍ مِنْهَا فَيُنْتَظَرَ»: أي من مصائبها فيحترز منه.

«سُرُورُهَا مَشُوبٌ بِالْحُزْنِ»: إذ كان مسرورها لا يعدم في كل أوان فوت مطلوب أو فقد محبوب.

«وجَلَدُ الرِّجَالِ»: قوتهم «فِيهَا»: ينتهي «إِلَی الضَّعْفِ والْوَهْنِ»: قال عز من قائل «ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً»(2) وزهّد بعض الصالحين في الدنيا فقال: عيش مشوب بسقم منساق إلى هرم مختوم بعدم مستعقب بندم هل يجوز التنافس فيه؟.

ثمّ نهى عن الاغترار بكثرة ما يعجبهم منها، وعلَّله بعلة ما يصحبهم منها ثمّ دعا لمن تفکَّر فأفاده فكره عبرة: أي انتقال دهن إلى ما هو الحقّ من، وجوب ترك الدنيا والعمل للآخرة؛ فإفادة ذلك الانتقال إدراكاً للحقّ، ومشاهدة ببصر

ص: 77


1- ورد في بعض النسخ: السَّاکِنَ
2- سورة الروم: الآية 54

البصيرة له وذلك قوله:

فَلَا يَغُرَّنَّكُمْ كَثْرَةُ مَا يُعْجِبُكُمْ فِيهَا لِقِلَّةِ مَا يَصْحَبُكُمْ مِنْهَا رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً تَفَكَّرَ

فَاعْتَبَرَ واعْتَبَرَ فَأَبْصَرَ»: ثمّ أردفه بتشبيه وجود متاع الدنيا الحاضر بعدمه تنبیهاً على سرعة لحوق عدمه بوجوده.

«فَكَأَنَّ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنَ الدُّنْيَا عَنْ قَلِيلٍ لَمْ يَكُنْ وكَأَنَّ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنَ الآخِرَةِ

عَمَّا قَلِيلٍ لَمْ يَزَلْ»: أي كأنّها لسرعة وجودها لم تزل موجودة، ونبّه بقوله: «وكُلُّ مَعْدُودٍ مُنْقَضٍ»: على انقضاء مدد الأعمار بكونها معدودة الأيّام والساعات والأنفاس و قوله: «وكُلُّ مُتَوَقَّعٍ آتٍ وكُلُّ آتٍ قَرِيبٌ دَانٍ»: في صورة الضرب الأوّل من الشكل الأوّل، ونتيجته فكلّ متوقّع قريب دان، والإشارة به إلى الموت وما بعده.

«منها الْعَالِمُ مَنْ عَرَفَ قَدْرَهُ»: مقداره من ملك اللهَّ و محلَّه من الوجود، ولمّا كان عرفانه بذلك مستلزماً لمعرفته بنسبته إلى مخلوقات اللهَّ تعالى في العالمين وأنّه أيّ شيء منها؟، ولأيّ شيء وجد؟ ومن موجده؟ لأجرم كان هو العالم اللازم بحدّه السالك لما أمر به غير المتعدّی من طوره المرسوم له في كتاب ربّه وسنن أنبيائه.

«وكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلًا أَلَّا يَعْرِفَ قَدْرَهُ»: لما كان العلم مستلزماً لمعرفة القدرة كان عدم معرفة القدر مستلزماً لعدم العلم وهو الجهل لأنّ نقيض اللازم يستلزم نقيض المستلزم(1)، وقوله: وكفى بذلك المرء الجهل إشارة إلى قوّته واستلزامه العذاب.

«وإِنَّ مِنْ أَبْغَضِ الرِّجَالِ إِلَی اللَّهِ تَعَالَی لَعَبْداً وَكَلَهُ اللُّهَ إِلَی نَفْسِهِ جَائِراً عَنْ قَصْدِ

ص: 78


1- نقيض اللازم يستلزم نقيض الملزوم: وذلك من القواعد المنطقية، فراجع

السَّبِيلِ»: قد سبق بيانه.

«سَائِراً بِغَیْرِ دَلِيلٍ»: کنّی بالدليل عن أئمّة الهدى والمرشدين إلى اللهَّ، ويدخل في ذلك الكتاب والسنّة؛ فإنّ من سار في معاملته للهَّ؛ أو لعباده بغير دليل منهما كان من الهالكين.

«إِنْ دُعِيَ إِلَی حَرْثِ الدُّنْيَا عَمِلَ وإِنْ دُعِيَ إِلَی حَرْثِ الآخِرَةِ كَسِلَ»: استعار لفظ الحرث لأعمال الدنيا والآخرة، ووجه المشابهة كونها مستلزمة للمكاسب الأخرويّة والدنيويّة كما أنّ الحرث كذلك، ثمّ شبه عمل له من حرث الدنيا بالواجب عليه في مبادرته إليه ومواظبته عليه، وشبّه ما قصّر عنه من حرث الآخرة بالساقط عنه فرضه في تكاسله؛ وقعوده عنه مع أنّ الأمر منه ينبغي أن يكون بالعکس.

«كَأَنَّ مَا عَمِلَ لَهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وكَأَنَّ مَا وَنَى فِيهِ سَاقِطٌ عَنْهُ منها وذَلِكَ زَمَانٌ لَا

يَنْجُو فِيهِ إِلَّا كُلُّ مُؤْمِنٍ نُوَمَةٍ»: بسكون الواو الرجل الضعيف وبفتحها كثير النوم.

«إِنْ شَهِدَ لَمْ يُعْرَفْ وإِنْ غَابَ لَمْ يُفْتَقَدْ أُولَئِكَ»: إشارة إلى كل مؤمن كذلك «مَصَابِيحُ الْهُدَى وأَعْلَامُ السُّرَي»: واستعار لهم المصابيح والأعلام لكونهم أسباب الهداية في سبيل اللهَّ، وقد سبق ذلك.

«لَيْسُوا بِالْمَسَايِيحِ ولَا الْمَذَايِيعِ الْبُذُرِ أُولَئِكَ يَفْتَحُ اللَّخُ لَهُمْ أَبْوَابَ رَحْمَتِهِ ويَكْشِفُ

عَنْهُمْ ضَرَّاءَ نِقْمَتِهِ»: سيفسر معناها «أَيُّهَا النَّاسُ سَيَأْتِ عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يُكْفَأُ: يقلب فِيهِ الإِسْلَامُ كَمَا يُكْفَأُ الإِنَاءُ بِمَا فِيهِ»: ووجه الشبه خروج الإسلام عن كونه مشفعاً به بعد تركهم العمل به كما يخرج ما في الإناء الذي کُب عن الانتفاع و أحسن بهذا التشبه؛ فان الزمان للإسلام كالإناء للماء، وأشار إلى أن ذلك ليس بظلم بقوله: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهً قَدْ أَعَاذَكُمْ مِنْ أَنْ يُجَورَ عَلَيْكُمْ»: كقوله تعالى «وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ

ص: 79

لِلْعَبِيدِ»(1) «ولْمَ يُعِذْكُمْ مِنْ أَنْ يَبْتَلِيَكُمْ وقَدْ قَالَ جَلَّ مِنْ قَائِلٍ «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ»(2) فمن صبر نفعه صبره ومن كفر فعليه كفره».

وقد عرفت معنی ابتلاء اللهَّ بخلقه وفائدته فلا وجه لإعادته، قال السيد رضي الله عنه قوله عليه السلام كل مؤمن نُوّمَه فإنما إليه أذ به الحامل الذكر، القليل الشر والمسابيح جمع مسياح وهو الذي تسيح: تجري بين الناس بالفساد: والنمامة والمذاييع جمع مذياع وهو الذي إذا سمع لغيره بفاحشة أذعها ونوه بها: رفعها والبدر جمع بدور وهو الذي يكبر سفهه ويلغوا منطقه: ولله المنة.

ومن خطبة له عليه السّلام:

أَمَّا بَعْدُ: «فَإِنَّ اللهًّ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً صلّى الله عليه وآله ولَيْسَ أَحَدٌ مِنَ

الْعَرَبِ يَقْرَأُ كِتَاباً ولَا يَدَّعِي نُبُوَّةً ولَا وَحْياً فَقَاتَلَ بِمَنْ أَطَاعَهُ مَنْ عَصَاهُ يَسُوقُهُمْ

إِلَی مَنْجَاتِهِمْ ويُبَادِرُ بِهِمُ السَّاعَةَ أَنْ تَنْزِلَ بِهِمْ»: أي يسارع إلى هديهم وتسليكهم السبيل اللهَّ كيلا تنزل بهم الساعة على عمى منهم من صراط اللهَّ فيقعوا في مهاوي الهلاك.

«يَحْسِرُ الْحَسِیرُ»: الذي أعيى في طريقه «ويَقِفُ الْكَسِرُ»: المكسور الدابة «فَيُقِيمُ عَلَيْهِ حَتَّى يُلْحِقَهُ غَايَتَهُ إِلَّا هَالِكاً لَا خَیْرَ فِيهِ»: إشارة إلى وصفه عليه السّلام بالشفقّة على الخلق في حال أسفارهم معه في الغزوات ونحوها: أي أنّه كان يسير في آخرهم، ويفتقد المنقطع منهم عن عياء، وانکسار مرکوب فلا يزال يلطف به حتّى يبلَّغه أصحابه؛ إلَّا ما لا يمكن إيصاله، ولا يرجى، قال بعض

ص: 80


1- سورة فصلت: الآية 46
2- سورة المؤمنون: الآية 30

السالكين: کنّی بالحسير عمن عجز ووقف قدم عقله في الطريق إلى اللهَّ لضعف في عين بصيرته، واعوجاج في آلة إدراكه، وبقيامه عليه حتّى يلحقه إلى غايته عن أخذه له بوجوه الحيل، والجواذب إلى الدين حتّى يوصله إلى ما يمكن من العقيدة المرضيّة، والأعمال الزكيّة الَّتي هي الغاية من طريق الشريعة المطلوب سلوكها.

وأراد بقوله: إلَّا هالكاً خير فيه.

من كان مأيوساً من رشده لعلمه بأنّ تقويمه غير ممكن كأبي لهب وأبي جهل ونحوهما.

«حَتَّى أَرَاهُمْ مَنْجَاتَهُمْ وبَوَّأَهُمْ»: ابر لهم «مَحَلَّتَهُمْ»: منزلتهم «فَاسْتَدَارَتْ

رَخَاهُمْ»: الرخاء قطعة من الأرض تستدير، وترتفع على ما حولها واستعار لهم لأحتماهم، وارتفاعهم على غيرهم کما ترفع القطيعة من الأرض تألَّف التراب ونحوه.

«واسْتَقَامَتْ قَنَاتُهُمْ وأيْمُ اللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ مِنْ سَاقَتِهَا»: ضميرها راجع إلى الحرب «حَتَّى تَوَلَّتْ بِحَذَافِيرِهَا واسْتَوْسَقَتْ»: اجتمعت واطردت في قيادها استعار لفظ الاتساق والانقياد ملاحظة لتشبههم بالإبل المجتمعية لساقها والمنتظمة «فِي

قِيَادِهَا» : لها.

«مَا ضَعُفْتُ ولَا جَبُنْتُ ولَا خُنْتُ ولَا وَهَنْتُ وأيْمُ اللَّهِ لأَبْقُرَنَّ الْبَاطِلَ حَتَّى

أُخْرِجَ الْحَقَّ مِنْ خَاصِرَتِهِ»: بطنه استعار لفظ الخاصرة للباطل، ورشّحها تلك بذكر البقر ملاحظة لشبهه بالحيوان المبتلع ماهو أعزّ قيمة منه، و کنّی به عن تمیّز الحقّ منه قال السيد رضي الله عنه.

ص: 81

ومن خطبة له عليه السّلام:

في الافتخار بمحمد صلى الله عليه [وآله] وسلم ومدحه عليه الصلاة والسلام ومدح له بالفقر في الدين، وتوبيخ بجمع الدنيا ومحبتها بعده وهو غاية لفصل سابق؛ كأنه ذكره فيه ما كانوا عليه من سوء الحال والعسف، والفقر، ومن عليهم بذكر هذه غاية لفضل سابق؛ كأنه ذكره فيه ما كانوا عليه من سوء الحال، والعسف، والفقر، ومن عليهم بذكر هذه الغاية الحسنة لتلك الأحوال «حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّداً صلّى الله عليه وآله وسلّم شَهِيداً علي الخلق ناعماً لهم يوم القيمة»: کما قال سبحانه «فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا»(1) وقد عرفت كيفيّة هذه الشهادة.

«وبَشِيراً»: للخلق بما أعد لهم من الثواب العظيم «ونَذِيراً»: لهم بما أعدّ للعصاة من العذاب الأليم، وينتظم هذه الأوصاف قوله جل شأنه: «إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا»(2) «خَیَرْ الْبِرَيَّةِ طِفْلاً»: لمّا علمت أنّ الأفضليّة إنّما هي بالأعمال الصالحة والتشديد لسلوك سبيل اللهَّ، وكان هو صلَّى اللهَّ عليه وآله وسلم منذ صباه و طفوليّته أفضل الخلق في لزوم ذلك القدم لا جرم كان خير الناس طفلاً.

«وأَنْجَبَهَا كَهْلاً»: ولمّا كانت النجابة مستلزمة لكرم الخصال والتقاط الفضائل وتتبّعها وكان صلَّى اللهَّ عليه وآله في كهولته وزهوته منبع كلّ فضيلة لا جرم وكان أنجبهم کهلاً، وطفلاً وكهلاً منصوبان على الحال.

«وأَطْهَرَ الْمُطَهَّرِينَ شِيمَةً»: خلقًا وعادةً، ولمّا كان عليه الصلاة والسلام متمّم

ص: 82


1- سورة النساء: الآية 41
2- سورة الأحزاب: الآية 45

مکارم الأخلاق الطاهرة وكلّ خلق فمنه مکتسب لاجرم كان أطهر الشِّيمة، وأكرم الخلق.

«وأَجْوَدَ الْمُسْتَمْطَرِينَ دِيمَةً»: استعار له وصف السحاب المرجوّ منه نزول الديمة وهي المطر الَّذي لا رعد فيه ولا برق، ورشّح بلفظ الديمة وكنّی بذلك عن غاية جوده وكرمه، وقد كان صلَّى الله عليه وآله وسلم إذا أمسى آوى إلى البيت فلا يجد فيه شيئًا من فضّة أو ذهب إلَّا تصدّق به، ولم يبت في بيته منه شيء، وشيمة وديمة مميزان.

«فَمَا احْلَوْلَتْ(1) الدُّنْيَا»: صارت حلوة جداً.

«فِي لَذَّتِهَا ولَا تَمَكَّنْتُمْ مِنْ رَضَاعِ أَخْلَفِهَا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا»: الخطاب لبني أُميّة ونحوهم وهو تبكیت لهم بتطعّمهم لذّة الدنيا، وابتهاجهم بها وتمكَّنهم منها بعد الرسول صلَّى اللهَّ عليه وآله، وتذكير لهم بمخالفتهم لسنّته في ذلك، واستعار لفظ الأخلاف، وكنّی به عن وجوه مكاسب الدنيا ولذّاتها، ورشّح بذكر الرضاع، وکنّی به عن تناولهم لها ملاحظة لتشبيهها بالناقة.

«صَادَفْتُمُوهَا جَائِاً خِطَامُهَا قَلِقاً»: وضنينها حراماً «وَضِينُهَا قَدْ صَارَ حَرَامُهَا

عِنْدَ أَقْوَامٍ بِمَنْزِلَةِ السِّدْرِ الْمَخْضُودِ وحَلَالَهُا بَعِيداً غَیْرَ مَوْجُودٍ»: استعار لها لفظ الخطام والوضين، ورشّحهما بالقلق والجولان، وکنّی بذلك عن مصادفتهم للدنيا بعد رسول اللهَّ صلَّى اللهَّ عليه وآله وسلم غير منظومة الحال، ولا مضبوطة على ما ينبغي لضعف، ولاتها عن إصلاح حالها كما أنّ الناقة قلقة الحزام، وجائلة الخطام غير منظومة الآلة، ولا مضبوطة الحالة؛ فهي بمعرض أن تمشي، وتنصرف على

ص: 83


1- ورد في بعض متون النهج: لَکُمُ

غیر استقامة فهلك راكبها، ثمّ ذكر رذيلة القوم فشبّه حرامها بالسدر المخضود معهم، ووجه الشبه أنّ نواهي اللهَّ، ووعيداته على فعل المحرّمات تجرى مجری الشوك للسدر في كونها مانعة منه كما يمنع شوك السدر جانبه من تناول ثمرته، ولمّا كان بعض الأُمّة قد طرح اعتبار النواهي والوعيد جانبا عن نفسه وفعل ما حرم عليه جرى ذلك عنده مجری تناوله للسدر الحالي عن الشوك في استسهاله تناوله وإقدامه عليه. وكون حلالها بعيداً غير موجود: أي بين أولئك المشار إليهم وجائلاً وقلقاً حالان.

«وصَادَفْتُمُوهَا واللَّهِ ظِلاًّ مَمْدُوداً إِلَی أَجْلٍ مَعْدُودٍ»: استعار لفظ الظلّ لها ورشّح بالممدود، وكنّی بذلك عن زوالها بعد حين تهدیداً هم به.

«فَالأَرْضُ لَكُمْ شَاغِرَةٌ»: خالية من شعر البلد أي خلا «وأَيْدِيكُمْ فِيهَا مَبْسُوطَةٌ»: كنّاية عن قدرتهم على التصرّف «وأَيْدِي الْقَادَةِ»: الأمراء «عَنْكُمْ مَكْفُوفَةٌ وسُيُوفُكُمْ عَلَيْهِمْ مُسَلَّطَةٌ»: كناية عن جرأتهم وحكمهم عليهم.

«وسُيُوفُهُمْ عَنْكُمْ مَقْبُوضَةٌ»: كناية عن عدم تمكنهم منهم.

«أَلَا وإِنَّ لِكُلِّ دَمٍ ثَائِراً ولِكُلِّ حَقٍّ طَالِباً وإِنَّ الثَّائِرَ فِي دِمَائِنَا كَالْحَاكِم فِي حَقِّ

نَفْسِهِ وهُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ مَنْ طَلَبَ ولَا يَفُوتُهُ مَنْ هَرَبَ»: تهديد باللهَّ لبنی أمية و تخویف بأخذه وعقابه، وهاتان الكلَّيّتان(1) ظاهرتا الصدق؛ فإنّه تعالى هو الثائر بكلّ دم معصوم، والطالب به إن عدم طالبه أو ضعف، ولمّا كان دم مثلهم عليهم السّلام، وسائر الصحابة ممّن عصم اللهَّ دمه، ومنع منه وحرّمه يجری مجری

ص: 84


1- الكليتان: بمعنى القضية المنطقية التي تحتمل الصدق أو الكذب کما یُبحث ذلك في علم المنطق فراجع

الحقّ الثابت المتعارف للهَّ في كونه يطلب به، ولا يهمله وهو الحاكم المطلق لا جرم استعار لفظ الثائر، وإنّما قال: بالحاكم لأنّ إطلاق لفظ الحقّ اللهَّ تعالى به لیس بحقيقة، إذ الحقّ من شأنه أن ينتفع بأخذه، ويتضرّر بترکه، والله سبحانه منزّه عن ذلك لكن لمّا جرى مجرى الحقّ له تعالى، وكان هو الآخذ به أشبه الحاكم منّا في استيفاء الحقّ، ووصفه تعالى بأنّه لا يعجزه مطلوب، ولا يفوته هارب في معرض التهديد لهم بأخذه وقوّته، ثمّ أردف ذلك بالقسم البارّ مخاطباً لبني أُميّة فقال:

«فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ يَا بَنِي أُمَيَّةَ عَمَّا قَلِيلٍ لَتَعْرِفُنَّهَا»: الدنيا أو أمرتها «فِي أَيْدِي غَيْرِكُمْ وفِي دَارِ عَدُوِّكُمْ أَلَا إِنَّ أَبْصَرَ الأَبْصَارِ مَا نَفَذَ فِي الْخَیْرِ طَرْفُهُ»: نظره «أَلَا إِنَّ أَسْمَعَ الأَسْاَعِ مَا وَعَى التَّذْكِیرَ وقَبِلَهُ»: أراد طرف البصر العقل وسمعه استعارة، أو حسّ البصر والسمع على معنى أنّ أفضل إبصار البصر وسماع السمع ماعاد على المبصر والسامع بالفائدة المطلوبة منهما وهي تحصيل الكمالات النفسانيّة من العلوم والأخلاق، ولمّا قدّم ذلك أمام مقصوده أيّه بالناس بعده إلى قبول قوله والاستصباح بنوره فقال: «أَيُّهَا النَّاسُ، اسْتَصْبِحُوا مِنْ شُعْلَةِ مِصْبَاحٍ وَاعِظٍ مُتَّعِظٍ وامْتَاحُوا»: استقوا «مِن صَفْو عَنْ قَدْ رُوِّقَتْ»: صفت «مِنَ الْكَدَرِ»: استعار لنفسه لفظ المصباح، ورشّح بذكر الشعلة والاستصباح، واستعار لفظ العين، ورشّح بذكر الصفو والترويق والمتح، ووجه الاستعارة الأولى كونه مقتدی به کالمصباح، ووجه الثانية كون المستفاد منه مادّة الحياة الأبديّة كما أنّ ماء العين مادّة الحياة الدنيويّة، وكنّى بترويقها من الكدر عن رسوخه، فيما علم بحيث لا يتطرّق إليه فيه شبهة تكدر يقينه، وهو أمر لهم بالاهتداء به، وأخذ العلوم والأخلاق عنه، ثمّ لّما أمر بأخذهما عنه أردفه بالنهي عن الجهل والركون إليه؛ ثمّ عن الانقياد للأهواء الباطلة المخرجة عن کرائم الأخلاق إلى رذائلها، وعن حقّ المصالح إلى

ص: 85

باطلها فقال:

«عِبَادَ اللِّهَ لَا تَرْكَنُوا إِلَی جَهَالَتِكُمْ، ولَا تَنْقَادُوا إِلَا أَهْوَائِكُمْ فَإِنَّ النَّازِلَ بِهَذَا

الْمَنْزِلِ نَازِلٌ بِشَفَا جُرُفٍ هَارٍ»: أراد منزل المشير المدّعى للنصيحة لهم عن جهل منه بوجوه المصالح، وذلك أنّه عليه السّلام كان يرى الرأي الصالح، ويشير عليهم به فإذا خلا بعضهم إلى بعض؛ فما كان من ذلك فيه مشقّة عليهم من جهاد أو مواظبة على عمل شاقّ أشار منافقوهم المبغضون المدّعون لأهليّتهم لمقامه بعكس ما رأي فيه وأشار به ردّ وهم عنه إلى ما يوافق أهوائهم، ويلائم طباعهم إفساداً في الدين، فأشار عليه السّلام إلى ما نزّل نفسه منزلة المشير الناصح مع أنّ كلّ ما يشير به عن هوى متّبع وجهل؛ فهو على شفا جرف هار، واستعار لفظ الجرف للآراء الفاسدة الصادرة؛ فإنّها لم تبن على نظام العقل، ولم ترخّص فيه الشريعة فكانت منهارة لا يبنى عليها إلَّا ما كان بصدد أن ينهار، وكأنّ المشير بها واقف على شفا جرف هار منها ينهار به في نار جهنّم أو في الملاك الحاضر، يقال لمن فعل فعلاً على غير أصل أو يتوقّع له منه عقوبة مثلاً: إنّه على شفا جرف هار، ونحوه قوله تعالى «أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ»(1).

«يَنْقُلُ الرَّدَى عَلَى ظَهْرِهِ مِنْ مَوْضِع إِلَی مَوْضِع»: لمّا كان الردى هو الهلاك وكان الرأي الفاسد يستلزم الهلاك للمشار عليه، وللمشير كان المشير على الخلق به عن هوی کالناقل للهلاك من شخص إلى غيره، والمقسّم له على من يشير عليهم به، وهو في معرض التنفير عنه.

«لِرَأْيٍ يُحْدِثُهُ بَعْدَ رَأْيٍ يُرِيدُ أَنْ يُلْصِقَ مَا لَا يَلْتَصِقُ»: ذكر غاية تنقّله من

ص: 86


1- سورة التوبة: الآية 109

موضع إلى آخر؛ فإنّ نقله للردى يستلزم أن ينقله وروی: لزاي بالواو، وعلى هذا يكون كلاماً مستأنف، والتقدير أنّ بسبب رأي يحدثه يريد إلصاق ما لا يلتصق، واستعار لفظ اللصق للصلح: أي يريد أن يصلح بينكم وبين أعدائكم وذلك أمر لا ينصلح، ووجه المشابهة كون الخصمين في طرفين يجمعهما الصالح ويوجب لهما الاتّحاد کما يجمع اللصاق بين الملتصقين، ويحتمل أن يريد أن يلصق بكم من الآراء الفاسدة ما لا ينبغي أن يلتصق بکم، وكذلك قوله:

«ويُقَرِّبَ مَا لَا يَتَقَارَبُ»: ويفهم من هذا أنّ من كان ينهاهم عن الركون إلى استشارته كان يخذلهم عن الحرب بذكر الصلح بينهم وبين معاوية والدخول فيه، ثم حذرهم الله وعقابه في أن يشكوا إلى من لا يشتكي حزنهم وقال:

«فَاللهًّ اللهَّ»: أي أخافوا «أَنْ تَشْكُوا إِلَی مَنْ لَا يُشْكيِ»: لا يريد الشكاية «شَجْوَکُمْ»: حربكم مفعول يشكوا، وذلك أنّ المشتكى؛ إليه والمستشار إذا لم يساهم الشاكي همّه لم يكن أهلاً للرأي في مثل ذلك الأمر المشكوك، وإن كان معروفاً بجودة الرأي والسرّ ذلك؛ أنّ الاهتمام بالأمر يبعث رائد الفكر على الاستقصاء؛ في تفتیش وجوه الآراء الصالحة فيه؛ فيكون بصدد أن يستخرج منها أصلحها، وأنفعها وإن كان دون غيره في جودة الرأي بخلاف الخلىّ العديم الباعث على طلب الأصلح، وأردفهم بنهيهم عن أن ينقض برأيه الفاسد ماقد أبرمه هو عليه السّلام لهم من الرأي الصائب في التجرّد للحرب قال:(1) «ومن يَنْقُضُ بِرَأْيِهِ مَا قَدْ أَبْرَمَ»(2): أحكم لكم ثمّ أردفه ببيان ما يجب على الإمام ممّا هو تكليفه بالنسبة إلى الرعيّة، وفائدة ذلك الإعذار إليهم فيما هم عساهم ينسبونه إليه من تقصيره؛ فيركنون إلى غيره في

ص: 87


1- ورد في بعض النسخ: (ومن): بدلاً (من ولاَ)
2- ورد في بعض النسخ: لَكُمْ

الرأي ونحوه، وأشار إلى أموز خمسة: في قوله: «إِنَّهُ لَيْسَ عَلَى الإِمَامِ إِلَّا مَا حُمِّلَ مِنْ أَمْرِ رَبِّهِ الإِبْلَاغُ فِي الْمَوْعِظَةِ والِجْتِهَادُ فِي النَّصِيحَةِ»: لهم «والإِحْيَاءُ لِلسُّنَّةِ»: سنة الله ورسوله فيهم «وإِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَی مُسْتَحِقِّيهَا»: بسبب جناياتها «وإِصْدَارُ السُّهْمَانِ عَلَى أَهْلِهَا»: جمع سهم وهو النصيب المستحقّ به للمسلم من بيت المال، ثمّ لمّا سبق نهيه عن الركون إلى الجهل أمر هنا بالمبادرة إلى العلم.

«فَبَادِرُوا إلى الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِ تَصْوِيحِ نَبْتِهِ»: نبتته: استعار له النبت، ورشّح بذكر التصويح، وكنّی به عن عدمه، بموته عليه السّلام.

«ومِنْ قَبْلِ أَنْ تُشْغَلُوا بِأَنْفُسِكُمْ»: أي بتخليصها من شرور الفتن الَّتي ستنزل بهم من بني أميّة ومعاناتها.

«عَنْ مُسْتَثَارِ الْعِلْمِ»: ما استشير منه واستخرج، وأهله هو عليه السّلام ومن في معناه من العلماء.

(1)«وانَهْوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وتَنَاهَوْا عَنْهُ»: أي غيركم عنه فإنما أمرتم بالنهي بعد التناهي أي النهي عن المشي بعد الانتهاء عنه؛ فأنه هو النهي المثمر المطابق للحكم إذ كان انفعال الطباع عن مشاهدة الأفعال، والاقتداء بها أقوى، وأسرع منها عن سماع الأقوال خصوصاً إذا خالفها فعل القائل وذلك أمر ظاهر شهدت به العقول السليمة والتجارب، وتوافقت عليه الآراء والشرائع، وإليه أشار الشاعر(2): لا تنه

ص: 88


1- ورد في بعض النسخ: مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ
2- الشاعر: هو أبو الأسود الدؤلي: وله هذه الأبيات: و إذا جريت مع السّفيه كما *** جرى فكلا كما في جريه مذموم و إذا عتبت على السّفيه *** في مثل ماتأتی فأنت ظلوم لاتنه عن خلق وتأتي مثله *** عار عليك إذا فعلت عظيم وابدأ بنفسك فانهها عن عيبها *** فإذا انتهيت عنه فأنت حکیم ونسب هذه الأبيات السيد حبيب الله الهاشمي في منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: ص 253

عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم؛ ولله الحمد والمنة.

ومن خطبة له عليه السّلام،

«الْحَمْدُ للهَّ الَّذِي شَرَعَ الإِسْلَامَ»: للعقول لتسلك بها إليه «فَسَهَّلَ شَرَائِعَهُ»: موارد العقول من أركانه، وتسهيله لها إيضاح قواعده و خطاباته بحيث يفهمهما الفصيح والألكن(1) ويشارك الغبيّ في مناهلها الفطن الذكيّ.

(2)«وأَعَزَّ أَرْكَانَهُ عَلَى مَنْ غَالَبَهُ»: إعزاز أركانه حمايتها ورفعها على من قصد هدمه وإطفاء نوره مغالبة من المشركين والجاهلين، ثمّ مدح الإسلام بأوصاف أسندها إلى مفيضه وشارعه سبحانه وتعالى أحدها.

«فَجَعَلَهُ أَمْناً لِمَنْ عَلِقَهُ»: وظاهر كونه أمنالمن تعلَّق به في الدنيا من القتل وفي الآخرة من العذاب.

«وسِلْماً لِمَنْ دَخَلَهُ»: أي مسالماً له، في الأوّل ملاحظة لتشبيهه بالحرم باعتبار دخوله، وفي الثاني ملاحظة لشبهه بالحرم باعتبار دخوله.

ص: 89


1- الألكن من اللكنة: عجمة الألكن، وهو الذي يؤنث المذكر، ويذكر المؤنث؛ ويقال: هو الذي لا يقيم عربيته، لعجمة غالبة على لسانه، وهو الألكن. ينظر: العين للخليل الفراهيدي: ج 5 ص 371
2- ورد في بعض متون النهج: لَمِنْ وَرَدَهُ

وفي الثاني ملاحظة لشبهه بالغالب من الشجعان باعتبار مسالميته، ومعنی مسالمة الإسلام له كونه محقون الدم مقرّراً على ما كان يملكه فكأنّ الإسلام سالمه أو صالحه لكونه لا يقتصّ ما يؤذيه بعد دخوله فيه.

«وبُرْهَاناً لِمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ»: أي فيه ماهو برهان «وشَاهِداً لِمَنْ خَاصَمَ به»(1): والشاهد أعمّ من البرهان لتناوله الجدل والخطابة.

الخامس: «ونُوراً لِمَنِ اسْتَضَاءَ بِهِ»: فاستعار له لفظ النور، ورشّحه بذكر الاستضاءة، ووجه المشابهة كونه مقتدی به في طريق اللهَّ إلى جنّته.

السادس: «وفَهْماً لِمَنْ عَقَلَ»: ولا كان الفهم عبارة عن جودة تهيّؤ الذهن القبول مايرد عليه كان الدخول في الإسلام، ورياضة النفس بقواعده، وأركانه سبباً عظيما لتهيّؤ الذهن لقبول الأنوار الإلهيّة، وفهم الأسرار لا جرم أطلق عليه لفظ الفهم مجازاً إطلاقاً لاسم المسبّب على السبب.

السابع: «ولُبّاً لِمَنْ تَدَبَّرَ»: ولا كان اللبّ هو العقل أطلق عليه لفظ العقل وإن كان مسبّباً له كالمجاز الأول، وأراد العقل بالملكة وما فوقه من مراتب العقل فإنّ الإسلام وقواعده أقوى الأسباب لحصول العقل بمراتبه.

الثامن: «وآيَةً لِمَنْ تَوَسَّمَ»: أي من تفرس طرق الخير ومقاصده فإنّ الإسلام آية وعلامة لذلك المتفرّس، إذ اهتدى بها فقد وقع في طريق الهدى.

«وتَبْصِرَةً لِمَنْ عَزَمَ»: أراد من عزم على أمر قصده فإنّ في الإسلام تبصرة لكيفيّة فعله على الوجه الَّذي ينبغي.

ص: 90


1- ورد في بعض متون النهج: عَنْهُ

وعِبَرَةً لِمَنِ اتَّعَظَ»: وذلك ظاهر فإنّ الإسلام نعم المعبر بنفس المتّعظ إلى حضرة قدس اللهَّ بما فيه من أحوال القرون الماضية وتصرّف الزمان بهم.

«ونَجَاةً لِمَنْ صَدَّقَ»: الرسول فيما جاء به، فإنّ دخوله في الإسلام سبب نجاته من سيوف اللهَّ في الدنيا وعذابه في الآخرة، وأطلق عليه اسم النجاة إطلاقا لاسم المسبّب على السبب أيضاً.

«وثِقَةً لِمَنْ تَوَكَّلَ»: أي هو سبب ثقة المتوکَّلين على اللهَّ لاشتماله على الوعد الكريم وبه یکون استعدادهم للتوكَّل.

«ورَاحَةً لِمَنْ فَوَّضَ»: أي من ترك البحث والاستقصاء في الدلائل وتمسّك بأحكام الإسلام ودلائل القرآن والسنّة المتداولة بين أهله، وفوّض أمره إليه استراح بذلك التفويض، وقيل: بل المراد أنّ فيه الندب إلى تفويض الأمور إلى اللهَّ وعلم ما لم يعلم منها وترك التكليف به وذلك راحته، وقيل: بل المراد أنّ المسلم إذا كمل إسلامه وفوّض أمره إلى اللهَّ كفاه اللهَّ جميع أموره وأراحه من الاهتمام بها.

«وجُنَّةً لِمَنْ صَبَرَ»: أي على العمل بقواعده وأركانه وظاهر كونه جنة له من عذاب الله ولفظ الجنة مستعار.

«فَهُوَ أَبْلَجُ الْمَنَاهِجِ»: الأبلج الواضح المشرق، ومناهج الإسلام طرقه، وأركانه التي يصدق على من سلكها أنه مسلم، وهي الإقرار باللهَّ ورسوله، والتصديق بما ورد به الشريعة کما سنفسّره هو ظاهر كونها أنوار واضحة الهدى.

«وأَوْضَحُ الْوَلَئِجِ»: أي واضح البواطن والأسرار لمن نضر إليه بعين الاعتبار.

«مُشْرَفُ الْمَنَارِ»: أي الأعمال الصالحات الَّتي يقتدى بها السالكون كالعبادات

ص: 91

الخمس ونحوها، وظاهر كونه مشرفة عالية على غيرها من العبادات السابقة.

مُشْرِقُ الْجَوَادِّ»: وهو قريب من أبلج المناهج «مُضِيِءُ الْمَصَابِيحِ»: وكنّى بها عن علماء الإسلام وأئمّته کناية بالمستعار، ورشّح بذكر الإضاءة، وكنّی بها عن ظهور العلم عنهم واقتداء الخلق بهم، ويحتمل أن يريد بالمصابيح أدلَّة الإسلام کالكتاب والسنّة.

«كَرِيمُ الْمِضْمَارِ»: المضمار محل تضمير الخيل للسباق ومضمار الإسلام الدنيا الإسلام الدنيا کما سنذكره، ولا شكّ في كونها كريمة باعتبار اقتباس الأنوار منها والعبور بها إلى اللهَّ تعالى، ولفظ المضمار مستعار لها، وقد سبق بيانه.

«رَفِيعُ الْغَايَةِ»: ولمّا كانت غايته الوصول إلى حضرة ربّ العالمين الَّتي هي جنّة المأوى لاجرم كان رفيع الغاية، إذ لا غاية أرفع منها وأعلى مرتبة.

«جَامِعُ الْحَلْبَةِ»: هي خيل يجتمع من مواضع متفرقه للسباق، وقد يطلق على مجمعها، وقد استعار الحلبة للقيامة؛ فأنها حلبة الإسلام کما سیبینه، ووجه الاستعارة كونها محل الأجماع بها للسباق للقيامة؛ فإنها حلبة الإسلام کما سیبینه ووجه الاستعارة؛ كونها محل الاجتماع بها للسباق إلى حضرة اللهَّ الَّتي هي الجنّة کاجتماع الخيل للسباق إلى الرهن.

«مُتَنَافِسُ السُّبْقَةِ»: ولمّا كانت سبقته الجنّة كانت أشرف ما يتنافس فيها شریف الفرسان، واستعار لفظ الفرسان العلماء الدين الَّذين هم فرسان العلوم ورجالها ملاحظة لشبههم بالفرس الجواد الَّذي يجاری راكبه، ثم فسر ما أهمل تفسيره فقال:

ص: 92

(1)«التَّصْدِيقُ مِنْهَاجُهُ والصَّالِحَاتُ مَنَارُهُ والْمَوْتُ غَايَتُهُ»: أي الغاية القريبة الَّتي هي سبب الوصول إلى اللهَّ تعالى، ويحتمل أن يريد الشهوات فإنّها غاية قريبة للإسلام أيضاً.

«والدُّنْيَا مِضْاَرُهُ والْقِيَامَةُ حَلْبَتُهُ والْجَنَّةُ سُبْقَتُهُ»: استعار لفظ السبقة للجنّة لكونها الثمرة المطلوبة والغاية من الدين كما أنّ السبقة غاية سعى المراهنين.

منها في ذكر النبي صلَّى اللهَّ عليه وآله: حَتَّی أَوْرَی»: اشتعل «قَبَساً لِقَابِسٍ

وأَنَارَ عَلَماً لِحَابِسٍ»: غاية لكلام مدح فيه النبيّ صلَّى اللهَّ عليه وآله وسلم وذكر فيه جهاده واجتهاده في الدين للغاية المذكورة، واستعار القبس لأنوار الدين المشتعلة منها نفوس الخلائق أنوار الهدى، وكذلك استعار لفظ العلم، وأسند إليه بنوره، ويفهم منه أمران: أحدهما: أنّه أظهر أنوارا جعلها؛ أعلاما يهتدى بها في سبيل اللهَّ من حبسته ظلمة الحيرة والشبهة عن سلوكها؛ فهو واقف على ساق التحيّر كقوله تعالى «وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا»(2) ولو شاء کنّی بتلك الأعلام عن آیات الكتاب والسنن.

الثاني: أن يكون المراد بالأعلام أئمّة الدين، وبتنويره تنویر قلوبهم بما ظهر عن نفسه القدسيّة من الكالات والعلوم.

«فَهُوَ أَمِينُكَ الْمَأْمُونُ»: على وحيك «وشَهِيدُكَ يَوْمَ الدِّينِ»: على خلقك «وبَعِيثُكَ نِعْمَةً»: أي مبعوثك إليهم نعمة عليهم بهدايتهم به إلى جنّتك.

«ورَسُولُكَ بِالْحَقِّ رَحْمَةً»: ورسولك بالحقّ رحمة لعبادك أن يقعوا في مهاوي

ص: 93


1- ورد في بعض متون النهج: شِرَيفُ الْفُرْسَانِ
2- سورة البقرة: الآية 20

الهلاك بسخطك «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ»(1) ثمّ أردفه بالدعاء له صلىَّ اللهَّ عليه وآله وسلم فدعا اللهَّ أن يقسم له مقسماً من عدله، ولمّا كان مقتضى عدل اللهَّ أن يبلغ نفساً هي محلّ الرسالة أقصى ما استعدّت له من درجات الكمال ويعدّها بذلك لكمال أعلى، دعا له أن يقسم له نصيبا وافرا من عدله يعدّه به للدرجات من رتب الوصول الغير المتناهية، وذلك قوله:

«اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَهُ مَقْسَماً مِنْ عَدْلِكَ»: ولمّا دعاله بما يستحقّه زاد على ذلك فدعا له بأن يتفضّل عليه بزيادة من فضله فيضاعف له ما يستحقه فقال: «واجْزِهِ

مُضَعَّفَاتِ الْخَیْرِ مِنْ فَضْلِكَ»: وقوله «اللَّهُمَّ أَعْلِ عَلَى بِنَاءِ الْبَانِنَ بِنَاءَهُ»: دعاه ليشيّد ما بناه من قواعد الدين على سائر بناء البانين للشرائع من الرسل قبله، وأراد ما بناه لنفسه من مراتب الكمال، ولفظ البناء مستعار، ثمّ دعاه أن يكرم لديه ما هيّأه له من الثواب الجزيل، وأن يشرّف مقامه في حضرة قدسه وأن يؤتيه ما يتوسّل به إليه ويقرّبه منه، وهو أن يكمّل استعداده لما هو أتمّ القوّة على الوصول إليه، وأن يعطيه الرفعة، ويشرّفه بالفضيلة التامّة، وأن يحشره في زمرته على أحوال: غیر خازین: أي بقبائح الذنوب، ولا نادمين على التفريط في جنب الله والتقصير في العمل بطاعته، ولا ناكبين منحرفين عن سبيله إلى أحد طرفي التفريط والإفراط، ولا ناكثين لعهوده، ومواثيقه الَّتي واثق بها خلقه أن يعبدوه، ويخلصوا له الدين، ولا ضالَّين عن سواء السبيل العدل، ولا مفتونين بشبهات الأباطيل، وذلك معنى قوله عليه السلام.

«وأَكْرِمْ لَدَيْكَ نُزُلَهُ وشَرِّفْ عِنْدَكَ مَنْزِلَهُ وآتِهِ الْوَسِيلَةَ وأَعْطِهِ السَّنَاءَ والْفَضِيلَةَ

واحْشُرْنَا فِي زُمْرَتِهِ غَیْرَ خَزَايَا ولَا نَادِمِينَ ولَا نَاكِبِینَ ولَا نَاكِثِينَ ولَا ضَالِّینَ ولَا مُضِلِّينَ

ص: 94


1- سورة الأنبياء: الآية 107

ولَا مَفْتُونِینَ»: قال السيد رضي الله عنه قد مضى هذا الكلام فيما تقدم إلا أنا كررناه هاهنا لما في الروايتين من الاختلاف منها في خطاب اصحابه: «وقَدْ بَلَغْتُمْ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ تَعَالَی لَكُمْ مَنْزِلَةً تُكْرَمُ بِهَا إِمَاؤُكُمْ وتُوصَلُ بِهَا جِيرَانُكُمْ ويُعَظِّمُكُمْ مَنْ لَا فَضْلَ لَكُمْ عَلَيْهِ ولَا يَدَ لَكُمْ عِنْدَهُ ويَهَابُكُمْ مَنْ لَا يَخَافُ لَكُمْ سَطْوَةً ولَا لَكُمْ عَلَيْهِ إِمْرَةٌ»: صدّر هذا الفصل بتذكيرهم المنزلة الَّتي أكرمهم اللهَّ بها من الإسلام والهداية للإيمان وما في تلك المنزلة من الفضل حتّى عمّت حرمتها إمائهم وجيرانهم، وإن كانوا غير مسلمين، وعظَّمهم من لا فضل لهم عليه ولا يدلهم عنده، وهابهم من لا يخاف سطوتهم، وظاهر أنّ سبب ذلك كلَّه هو كرامة اللهَّ لهم بالإسلام، والهداية للإيمان، ثمّ لمّا قرّر نعمة اللهَّ عليهم أردف ذلك بالتوبيخ لهم على التقصير في أداء واجب حقّه، وأشار إلى ارتكابهم لبعض مسبّبات كفران النعمة بقوله: «وقَدْ تَرَوْنَ عُهُودَ اللِّهَ مَنْقُوضَةً فَلَا تَغْضَبُونَ وأَنْتُمْ لِنَقْضِ ذِمَمِ آبَائِكُمْ تَأْنَفُونَ»: ولم ينكر منكر وسكت عليه ولم يغضب منه كالراضين بذلك، وأرد بذلك بغي البغاة وخروج الخوارج، ونكث أصحاب الجمل البيعة، وسائر المنكرات الَّتي وقعت من أهل الشام وغيرهم، خالفوا فيها أمر اللهَّ ونكثوا بيعته الَّتي هي عهد من عهود اللهَّ عليهم؛ فإنّ السكوت على مثل ذلك مع التمكَّن من إزالته وإنكاره بالجهاد منکر هم راكبوه، والواو في قوله: وأنتم للحال: أي وأنتم مع ذلك تأنفون لنقض ذمم آبائكم؛ فكان يجب منکم بطريق الأولى؛ أن تأنفوا لعهود اللهَّ أن تنقض وذمه أن تخفر، ثمّ ذکَّرهم تقريطهم، وتهاونهم في الأمور الَّتي كان اللهَّ سبحانه فرضها عليهم؛ وجعلهم موردها؛ ومصدرها من أمور الإسلام، وأحكامه والتسلَّط به على سائر الناس بقوله: «وكَانَتْ أُمُورُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ تَرِدُ وعَنْكُمْ تَصْدُرُ وإِلَيْكُمْ تَرْجِعُ فَمَكَّنْتُمُ الظَّلَمَةَ مِنْ مَنْزِلَتِكُمْ»: أراد بها معاوية وقومه «وأَلْقَيْتُمْ إِلَيْهِمْ أَزِمَّتَكُمْ»: والمراد بتمكينهم لهم تخاذلهم عنهم وإلقائهم أزمّة الأمور إليهم بذلك.

ص: 95

«وأَسْلَمْتُمْ أُمُورَ اللَّهِ فِي أَيْدِيهِمْ»: أحوال بلاد الإسلام.

«يَعْمَلُونَ بِالشُّبُهَاتِ ويَسِرُونَ فِي الشَّهَوَاتِ»: أي كل ذلك بالتقصير عن مجاهد تهم وعملهم بالشبهات: عملهم على وفق أوهامهم الفاسدة وآرائهم الباطلة الَّتي يتوهّمونها حججاً فيما يفعلون، وسيرهم في الشهوات: قطع أوقاتهم بالانهماك في مقتضيات الشهوة.

«وأيْمُ اللَّهِ لَوْ فَرَّقُوكُمْ تَحْتَ كُلِّ كَوْكَبٍ لَجَمَعَكُمُ اللَّهُ لِشَرِّ يَوْمٍ لَهُمْ»: تحذير هم وإنذار بما سيكون من بني أُميّة من جمع الناس في بلائهم وشرورهم وعموم فتنتهم، وكنّی باليوم عن مدّة خلافتهم الَّتي كانت شرّ الأوقات على الإسلام وأهله، وإنّما نسب التفريق إليهم، والجمع إلى اللهَّ تقريراً لما سينزل به قدره من ابتلاء الخلق بهم؛ فإنّهم لو فرّقوهم في أطراف البلاد لم يغنهم ذلك التفريق عن الحوق قدر اللهَّ لهم، ولم يمنعهم من نزوله بجميعهم بما یراد بهم من الابتلاء بدولة بني أُميّة وشرورها، وأحوال دولتهم مع الخلق خصوصاً الصالحين من عباد اللهَّ ظاهرة وباللهَّ التوفيق.

ومن خطبة له (عليه السلام): وهي من خطب الملاحم:

«الْحَمْدُ للهَّ الْمُتَجَلِّي لِخَلْقِهِ بِخَلْقِهِ»: وقد علمت غير مرّة أنّ تجلَّيه يعود إلى إجلاء معرفته من مصنوعاته لقلوب عباده حتّى أشبهت كلّ ذرّة من مخلوقاته مرآة ظهر فيها لهم، فهم يشاهدونه على قدر قبولهم لمشاهدته وتفاوت تلك المشاهدة بحسب تفاوت أشعّة أبصار بصائرهم فمنهم من يرى الصنيعة أوّلاً والصانع ثانياً، ومنهم من يراهما معاً، ومنهم من يرى الصانع أوّلاً، ومنهم من لا يرى مع الصانع غیره.

«والظَّاهِرِ لِقُلُوبِهِمْ بِحُجَّتِهِ»: أي الواضح وجوده لقلوب منکريه بأوهامهم

ص: 96

وألسنتهم بقيام حجّته عليهم بذلك، وهي إحكام الصنع وإتقانه في أنفسهم وإن احتاجوا إلى تنبيه ما كقوله تعالى «وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ»(1) وكذلك في ملكوت السماوات والأرض كقوله تعالى «أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ»(2) وهو قریب مّما مرّ.

«خَلَقَ الْخَلْقَ مِنْ غَیْرِ رَوِيَّةٍ»: وفكر في كيفيّة خلقه، وأشار إلى برهان سلبها عنه بقوله: «إِذْ كَانَتِ الرَّوِيَّاتُ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِذَوِي الضَّمَائِرِ»: أي بذي قلب و حواسّ بدنيّة، والباري تعالي ليس بذي ضمير في نفسه والقياس من الشكل الثاني(3)، وترتيبه كلّ روية فلذي ضمير، ولا شيء من واجب الوجود بذي ضمير، ينتج أنّه لا شيء من الرويّة لواجب الوجود سبحانه. والمقدّمتان جليّتان ممّا سبق غير مرّة.

(4)«خَرَقَ عِلْمُهُ بَاطِنَ غَيْبِ السُّتَرُاتِ»: إشارة إلى نفوذه في كلّ مستتر وغائب بحيث لا يحجبه ستر ولا يستره حجاب.

ص: 97


1- سورة الذاريات: الآية 21
2- سورة الأعراف: الآية 185
3- والقياس من الشكل الثاني: من المطالب المنطقية: وهو القياس ألاقتراني الذي يكون على صور أربع، وكل صورة تسمى شكل، فالشكل في اصطلاحهم على هذا هو «القياس ألاقتراني باعتبار كيفية وضع الأوسط من الطرفين. فالشكل الأول، وهو ما كان الأوسط فيه محمولًا في الصغری موضوعًا في الكبرى، الشكل الثاني وهو ما كان الوسط فيه محمولًا في المقدمتين معًا، فيكون الأصغر فيه موضوعًا في الصغرى والنتيجة؛ و الشكل الثالث وهو ما كان الأوسط فيه موضوعًا في المقدمتين معًا، فيكون الأكبر محمولًا في الكبرى والنتيجة معًا؛ الشكل الرابع وهو ما كان الأوسط فيه موضوعاً في الصغرى محمولًا في الكبرى عكس الأول». وما ذكرناه للتعريف، وما تركناه للتخفيف، رعاية للاختصار
4- ورد في بعض النسخ: ولَيْسَ بِذِي ضَمِيٍر فِي نَفْسِهِ

«وأَحَاطَ بِغُمُوضِ عَقَائِدِ السَّرِيرَاتِ»: أي بما دقّ من عقائد أسرار القلوب القوله عز علمه «يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى»(1).

منها في ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«اخْتَارَهُ مِنْ شَجَرَةِ الأَنْبِيَاءِ»: استعاره لصنف الأنبياء عليهم السّلام ووجه المشابهة كون ذلك الصنف ذا ثمر وفروع، ففروعه أشخاص الأنبياء، وثمره العلوم والكالات النفسانيّة كما أنّ الشجرة ذات غصون وثمر.

«ومِشْكَاةِ الضِّيَاءِ»: استعارها لآل إبراهيم لأنّ هؤلاء قد ظهرت منهم الأنبياء وسطع من بيتهم ضياء النبوّة ونور الهداية كما يظهر من نور المصباح من المشكاة.

«وذُؤَابَةِ الْعَلْيَاءِ: يشبه أن يشير به إلى قريش، ووجه المشابهة تدلَّيهم في أغصان الشرف والعلوّ عن آبائهم كتدلَّي ذؤابة الشعر عن الرأس.

«وسُرَّةِ الْبَطْحَاءِ»: هي بسيط واديها وسرة الوادي أشرف موضع فيه فأشار إلى خسارة من أفضل بيت في مكة «ومَصَابِيحِ الظُّلْمَةِ»: استعارها للأنبياء أيضاً ووجه المشابهة ظاهرٌ وقد مر غيرهم مرة كونهم مصابيح ظلمات الجهل؛ «ويَنَابِيعِ الْحِكْمَةِ»: استعارة ووجها فيضان العلم والحكمة عنهم کفیضان الماء عن ينابيعه.

ومنها: «طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ»: كناية عن نفسه کناية بالمستعار فإنّه طبيب مرضى الجهل و رذائل الأخلاق، وكنّی بدورانه بطبّه تعرّضه لعلاج الجهّال من دائهم ونصب نفسه كذلك.

«قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ»: استعارها لما عنده من العلوم ومكارم الأخلاق.

ص: 98


1- سورة طه: الآية 7

وأَحْمَى مَوَاسِمَهُ»: هي المسامير التي تكوى بها هنا استعاره لما يتمكَّن منه من إصلاح من لا ينفع فيه الموعظة والتعليم بالجلد وسائر الحدود وهو كالطبيب الكامل الَّذي يملك المراهم والأدوية والمكاوي لمن لا ينفع فيه المراهم.

«يَضَعُ كّل من ذَلِكَ»: أي واحد من أدويته ومواسمه «حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ مِنْ

قُلُوبٍ عُمْيٍ»: يفتح عماها بإعدادها لقبول أنوار العلم والهداية لسلوك سبيل اللهَّ.

«وآذَانٍ صُمٍّ»: بعدّها لقبول المواعظ، وتجوّز بلفظ الصمم في عدم انتفاع النفس بالموعظة من جهتها فهي كالصمّاء إطلاقا لاسم الملزوم على لازمه، إذ كان الصمم يستلزم ذلك العدم.

«وأَلْسِنَةٍ بُكْمٍ»: يطلقها بذكر اللهَّ والحكمة، وأطلق لفظ البكم مجازاً في عدم المطلوب منها بوجودها وهو التكلَّم بما ينبغي فإنّها لفقدها ذلك المطلوب کالبكم.

«مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ»: صفة طبيب «مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ ومَوَاطِنَ الْحَیْرَةِ»: كناية عن قلوب الجهّال ولذلك أشار إليهم بأنّهم «لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِأَضْوَاءِ الْحِكْمَةِ»: أي لم يكسبوا شيئا من العلوم والأخلاق.

«ولَمْ يَقْدَحُوا بِزِنَادِ الْعُلُومِ الثَّاقِبَةِ»: کنی بالزناد عن الفكر بالقدح عن الاكتساب به کناية بالمستعار ووجه المشابهة كون الفكريستخرج به العلوم الباقية التي سبقت سترات الحجب كما يستخرج الزناد النار.

«فَهُمْ فِي ذَلِكَ»: أي عدم استضوائهم بأضواء الحكمة «كَالأَنْعَامِ السَّائِمَةِ

والصُّخُورِ الْقَاسِيَةِ»: ووجه المشابهة بينهم وبين الأنعام استوائهم بالغفلة والانخراط في سلك الشهوات والغضب دون اعتبار شيء من حظ العقل وعدم التقيد به کما لا قيد للأنعام السائمة والحجارة بالقسوة للمبالغة.

ص: 99

«قَدِ انْجَابَتِ»: انكشفت «السَّرَائِرُ لأَهْلِ الْبَصَائِرِ»: إشارة إلى انکشاف ما يكون بعده لنفسه القدسيّة ولمن تفرّس من أولى التجارب والفطن السليمة ممّا يكون من ملوك بني أُميّة وعموم ظلمهم، ويحتمل أن یرید بالسرائر أسرار الشريعة وانکشافها لأهلها.

«ووَضَحَتْ مَحَجَّةُ الْحَقِّ لِخَابِطِهَا»: إشارة إلى وضوح الشريعة وبيان طريق اللهَّ، وفائدة القضيّة الأولى التنبيه على النظر في العواقب، وفائدة الثانية الجذب إلى اتّباع الدين وسلوك سبيل اللهَّ إذ لا عذر للخابطين في جهالاتهم بعد وضوح دین اللهَّ.

«وأَسْفَرَتِ السَّاعَةُ عَنْ وَجْهِهَا»: أي بدت مقبلة، ولمّا كان وجه الشيء أوّل ما يبدو منه وينظر کنّی به عمّا بدا من أمر الساعة وهي الفتن المتوقعة المتفرسة من بني امية، ومن بعدهم وذكره لأسفار الساعة وظهور علاماتها، تهدیداً و ترغیباً في العمل بها ومن فسر بأن معناه کشفت القيامة غطائها فقد سهي لأنه يقال سفرت المرأة عن وجهها أذا القت قناعها.

(1)«مَا لِي أَرَاكُمْ أَشْبَاحاً بِلاَ أَرْوَاحٍ»: شبّههم في عدم انتفاعهم بالعقول وعدم تحريك المواعظ والتذكير لهم بالجادات الخالية من الأرواح، كما قال تعالى «كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ»(2).

«وأَرْوَاحاً بِلَا أَشْبَاحِ»: قيل فيه وجوه: الأوّل: أنّ ذلك مع ما قبله إشارة إلى نقصانهم: أي أنّ منهم من هو شبح بلا أرواح کما سبق، ومن كان له روح وفهم فلا قوّة له بأمر الحرب ولا نهضة معه فهو كروح خلت عن بدن، فهم

ص: 100


1- ورد في بعض النسخ: وظَهَرَتِ الْعَلَمَةُ لِمُتَوَسِّمِهَا
2- سورة المنافقون: الآية 4

في طريق تفریط وإفراط. الثاني: قيل: کنّی بذلك عن عدم نهضة بعضهم إلى الحرب دون بعض إذا دعوا إليه كما لا يقوم البدن بدون الروح، ولا الروح بدون البدن. الثالث: قال بعضهم: أراد أنّهم؛ إن خافوا ذهلت عقولهم وطارت؛ ألبابهم فكانوا كالأجسام بلا أرواح وإن أمنوا تركوا الاهتمام بأمورهم، وضيّعوا الفرص ومصالح الإسلام حتّى؛ كأنّهم في ذلك أرواح لا تعلَّق لها بما يحتاج الأجسام إليه، وقيل معناه: أي شيء أعترض حتى أراكم أشخاصاً بلا أرواح وعقول، وأراکم أرواحاً خفيفة سفهاء بلا أشخاص رزان حلماء.

ونُسَّاكاً بِلَا صَلَاحٍ»: إشارة إلى أنّ من تزهّد منهم؛ فزهده ظاهريّ ليس عن صلاح سريرته، وقيل: أراد من تزهّد منهم عن جهل؛ فإنّه وإن عمل إلَّا أنّ أعماله لمّا لم تكن عن علم كانت ضائعة واقعة على غير الوجه المرضىّ والمأمور به، کما روی عن الرسول صلَّى اللهَّ عليه وآله وسلم: «الزاهد الجاهل مسخرة الشيطان»(1).

«وتُجَّاراً بِلَا أَرْبَاحٍ»: إشارة إلى أن منهم من يتّاجر الله بالأعمال الفاسدة وهو يعتقد كونها قربة إلى اللهَّ تعالى مستلزمة لثوابه وليس كذلك ولفظ التجّار والربح مستعاران، ووجه الاستعارتين ظاهر.

«وأَيْقَاظاً نُوَّماً»: کنّی بنومهم عن نوم نفوسهم في مراقد الطبيعة ومحاهد الغفلة فهم بهذا الاعتبار أيقاظ العيون نوّم العقول.

«وشُهُوداً غُيَّباً»: أي شهودا بأبدانهم غيّباً بعقولهم عن التفطَّن لمقاصد اللهَّ والتلقّي لأنواره من الموعظة والأوامر الإلهيّة.

ص: 101


1- معارج نهج البلاغة لعلي بن یزید البهيقي: ص 202؛ شرح نهج البلاغة لابن میثم البحراني: ج 3: ص 44؛ عوالي الليالي ابن أبي جمهور الأحسائي ج: 1: ص 272

«ونَاظِرَةً عَمْيَاءَ»: أراد وعيونا ناظرة عمياء: أي عن تصفّح آثار اللهَّ للعبرة بها والانتفاع في أمر الآخرة فهي تشبه العمى في عدم الفائدة بها.

«وسَامِعَةً صَمَّاءَ»: أي: وآذانا سامعة للأصوات صمّاء عن نداء اللهَّ والنافع من كلامه فهي تشبه الصمّ في عدم الفائدة المقصودة.

«ونَاطِقَةً بَكْاَءَ»: أي: وألسنة ناطقة بكماء عن النطق بما ينبغي فأشبهت البكم، ولفظ العمياء والصمّاء والبكماء مستعار للمشابهات المذكورة، وقد راعی في ذلك التضادّ في الألفاظ وأراد ذوي عيون وآذان، وألسنة بالصفات المذكورة: أي خالية عن الفائدة، وأراد ذوي عيون وأذان والسنة بالصفاة المذكورة أي خالية عن الفائدة ولما نبههم، وأيقظهم بالتوبيخ، والتقريع، والتنقيص ألقي اليهم ما ينبغي أن يجروا منه، ويأخذوا هبتهم له من ظهور الفتن المتوقعة لبني أمية، وكنّى عن ظهورها بقوله: «رَایَةُ ضَلَالٍ»: والتقدير هذه راية ضلال «قَدْ قَامَتْ عَلَى قُطْبِهَا»: عن اجتماع أهلها على قائد الفتنة ورئيسهم فيها.

«وتَفَرَّقَتْ بِشُعَبِهَا»: إشارة إلى انتشارها في الآفاق وتولَّد فتن أخرى عنها.

«تَكِيلُكُمْ»: ثمّ استعار لفظ الكيل لأخذهم وإهلاكهم زمرة زمرة ملاحظة التشبهها بالكيّال في أخذه لما يکیل جملة جملة، ورشّح بلفظ الصاع.

(1)«وتْخَبِطُكُمْ بِبَاعِهَا»: استعار الخبط لإيقاع السيف والأحكام الجائرة؛ فيهم على غير قانون دينيّ، ولا نظام حقّ لشبهها بالبكرة النفور من الإبل الَّتي تخبط ما تلقاه بيديها، ورشّح الاستعارة بذكر الباع، ولم يقل بيدها لأنّ ذكر الباع أبلغ في البعير عن قوّة الخبط.

ص: 102


1- ورد في بعض النسخ: بِصَاعِهَا

«قَائِدُهَا خَارِجٌ مِنَ الْمِلَّةِ»: عن الدين والشريعة فاسق عن أمر اللهَّ.

«قَائِمٌ عَلَی الضَّلَّةِ»: أي مقيم على الضلالة.

«فَلَا يَبْقَى يَوْمَئِذٍ مِنْكُمْ إِلَّا ثُفَالَةٌ كَثُفَالَةِ الْقِدْرِ أَوْ نُفَاضَةٌ كَنُفَاضَةِ الْعِكْمِ»: استعار لفظ الثفالة وكنّی به عمن لا خير فيه من الأرذال ومن لا ذكر له ولا شهرة، وشبّه أولئك بثفالة القدر في كونهم؛ غیر معتبرين ولا ملتفت إليهم، وكذلك نفاضة العرك وهو ما يبقى في أسفل العدل من أثر الزاد أو الحنطة ونحوها.

«تَعْرُكُكُمْ عَرْكَ الأَدِيمِ»: استعار العرك لتقليب الفتن هم ورميهم وتذليلهم بها كما يذلَّل ويليّن الأديم.

«وتَدُوسُكُمْ دَوْسَ الْحَصِيدِ»: وكذلك استعار لفظ الدوس لإهانتهم لهم وشدّة امتهانهم إيّاهم بالبلاء، وشبّه ذلك بدوس الحصيد وهو ظاهر.

«وتَسْتَخْلِصُ الْمُؤْمِنَ مِنْ بَيْنِكُمُ اسْتِخْلَصَ الطَّیْرِ الْحَبَّةَ الْبَطِينَةَ مِنْ بَیْنِ هَزِيلِ

الْحَبِّ»: ثمّ أشار إلى استقصاء أهل تلك الضلالة على المؤمنين، واستخلاصهم لهم الإيقاع المكروه بهم، وشبّه ذلك الاستخلاص باستخلاص الطير الحبّة السمينة الممتلية من الفارغة الهزيلة، وذلك أنّ الطير يرتاز بمنقاره سمين الحبّ من هزيله فيخلَّى عن الهزيل منه، ثمّ أخذ يسألهم على سبيل التهكَّم، والتقريع لهم ببقائهم على غوايتهم؛ فسألهم عن غاية أخذ مذاهب الضلال، وعمّا تتيه بهم ظلم الجهالات، وعمّا تخدعهم أوهامهم الكواذب جاذباً لهم إليه، منکراً عليهم مطلوباً آخر غير اللهَّ تعالى، رادعاً لهم من طريق غير شریعته وذلك قوله: «أَيْنَ تَذْهَبُ بِكُمُ الْمَذَاهِبُ وتَتِيهُ بِكُمُ الْغَيَاهِبُ»: أي يخبكم الظلمات «وتَخْدَعُكُمُ الْكَوَاذِبُ»: شبهات وآمال ثم سألهم عن الجهة التي يؤتون منها فقال: «ومِنْ أَيْنَ تُؤْتَوْنَ»:

ص: 103

أي من أين أتتكم هذه الأمراض، وهو عليه السّلام يعلم أنّ الداخل إنّما دخل عليهم من جهلهم لكن هذا وجه من البلاغة وذكرنا أنّه يسمّى تجاهل العارف وهو كقوله تعالى «فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ»(1) وكذلك قوله: «وأَنَّى تُؤْفَكُونَ»: أي متی یکون انصرافكم عمّا أنتم عليه من الغفلة وقوله:

«وَلِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ ولِكُلِّ غَيْبَةٍ إِيَابٌ»: تهديد بالإشارة إلى قرب الموت؛ فأنّهم بمعرض أن يأخذهم على غفلتهم فيكونوا من الأخسرين أعمالاً، ثمّ أمرهم بإسماع الموعظة منه بقوله:

«فَاسْتَمِعُوا مِنْ رَبَّانِيِّكُمْ»: العالم علم الربوبيّة المتبحّر فيه «وأَحْضِرُوهُ قُلُوبَكُمْ: وهو التفاتهم بأذهانهم إلى ما يقول:

واسْتَيْقِظُوا إِنْ هَتَفَ بِكُمْ»: صاح بكم أي عند ندائي لكم.

«ولْيَصْدُقْ رَائِدٌ أَهْلَهُ»: مثل نزّله هنا على مراده، وأصله: لا يكذب رائد أهله، واستعار لفظ الرائد للفكر، ووجه المثل أنّ الرائد لمّا كان هو الذي يبعثه القوم لطلب الكلاء، والماء أشبه الفكر في كونه مبعوثا من قبل النفس في طلب مرعاها وماء حياتها من العلوم وسائر الكمالات؛ فکنّی به عنه وأهله على هذا البيان هو النفس؛ فكأنّه عليه السّلام قال: فلتصدق أفكاركم ومتخيّلاتكم نفوسكم، وصدقها إيّاها تصرّفها على حسب إشارة العقل؛ فيما تقوله وتشير به دون التفات إلى مشاركة الهوى؛ فإنّ الرائد إذا أرسلته النفس عن مشاركة ميل شهوانيّ كذبها و دلَّيها بغرور، ويحتمل أن يريد بالرائد أشخاص من حضر عنده؛ فإنَّ كلَّا منهم له أهل، وقبيلة يرجع إليهم فأمرهم أن يصدقهم أمر لهم بتبليغ ما

ص: 104


1- سورة التكوير: الآية 26

سمع على الوجه الَّذي ينبغي والنصيحة به والدعوة إليه کما یرجع طالب الكلاء والماء الواجد لها إلى قومه فيبشّرهم به ويحملهم إليه.

«ولْيَجْمَعْ شَمْلَهُ»: أي ما تفرّق وتشعّب من خواطره في أمور الدنيا ومهمّاتها.

«ولْيُحْضِرْ ذِهْنَه»: أي وليوجّهه إلى ما يقول:

«فَلَقَدْ فَلَقَ لَكُمُ الأَمْرَ فَلْقَ الْخَرَزَةِ»: أي أوضح لكم أمر ما جهلتموه من الدين وأحكام الشريعة، وقيل: أمر ما سيكون من الفتن، وشقّ لكم ظلمة الجهل عنه كما يتّضح باطن الخرزة بشقّها.

«وقَرَفَهُ قَرْفَ الصَّمْغَةِ»: أي ألقى إليكم علمه بكلَّيّته والنصيحة فيه حتّى لم يدّخر عنكم شيئاً كما يقرف الصمغة قارفها، يقال: تركته على مثل مقرف الصمغة، إذا لم تترك له شيئا لأنّ الصمغة تقتلع من شجرها حتّى لا تبقي عليها علقة.

«فَعِنْدَ ذَلِكَ»: متّصل بقوله: بين هزيل الحبّ: أي فعندما تفعل بكم تلك الفتن وراية الضلال ما تفعل.

«قد أَخَذَ الْبَاطِلُ مَآخِذَهُ»: استحکم وثبت و أخذ مقارّه.

«وكذلك رَكِبَ الْجَهْلُ مَرَاكِبَهُ»: أي كان ذلك وقت حملته ملاحظة لتشبيهه بالمستعدّ للغارة قد ركب خيله، وكنّى بمراكبه عن الجهّال.

«وعَظُمَتِ الطَّاغِيَةُ»: أي الفتنة الطاغية الَّتي تجاوزت في عظمها الحدّ والمقدار، وقلَّت الراعية(1): أي رعاة الدين وأهله الَّذين يحمون حوزته: «وصَالَ الدَّهْرُ

ص: 105


1- وقَلَّتِ الدَّاعِيَةُ

صِيَالَ السَّبُعِ الْعَقُورِ»: الأسد التي تعقر استعار وصف الصيال للدهر ملاحظة لشبهه بالسبع، ووجه الاستعارة كون الدهر مبدأ قوّياً لتلك الشرور الواقعة فأشبه السبع الضاري العقور في شدّة صياله، ثمّ استعار لفظ الفنية للباطل ورشّح الاستعارة بذكر المدير والكظوم فقال:

«وهَدَرَ»: صوت «فَنِيقُ الْبَاطِلِ بَعْدَ كُظُومٍ»: فحل وجه المشابهة ظهور الباطل وإكرام أهله، وتمكَّنهم من الأمر والنهي كالفحل المکرّم ذي الشقشقة، وعنی بالهدير ظهورهم وتمكَّنهم وبالكظوم خفاء الباطل وخمول أهله في زمان ظهور الحقّ وقوّته.

«وتَوَاخَي النَّاسُ عَلَى الْفُجُور»: أي كان اتّصالهم ومحبة بعضهم لبعض على الفجور واتّباع الأهواء.

«وتَهَاجَرُوا عَلَی الدِّين»: أي من أحسّوا منه قوّة في دينه هجروه ورفضوه.

«وتَحَابُّوا عَلَى الْكَذِبِ وتَبَاغَضُوا عَلَى الصِّدْقِ»: واعلم أن الغرض من تعداد ذلك تنفير السامعين عن تلك الرذائل، وتخويفهم بوقوعها، فعد الهجر والتحاب على الكذب مع التواخي، وهما داخلان تحته والتباغض على الصدق مع التهاجر وهو داخل فيه.

«فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَانَ الْوَلَدُ غَيْظاً»: أي إذا أُحدث ذلك اشتغل كلّ أمرئ بنفسه لينجو بها فيكون الولد الَّذي هو أعزّ محبوب غيظاً لوالده: أي من أسباب محنته وغيظه، وأطلق لفظ الغيظ عليه إطلاقا لاسم السبب على المسبّب.

«والْمَطَرُ قَيْظاً»: جعل وقوع المطر قيظاً من علامات تلك الشرور وهو أيضاً ممّا يعد شرّاً لأنّه لا يثير نباتاً ولا يقوم عليه زرع ويفسد الثمار القائمة، وكأنّه کنّی

ص: 106

به عن انقلاب أحوال الخير شروراً.

«وتَقِیضُ»: تكثر «اللِّئَامُ فَيْضاً وتَغِيضُ»: تنقص «الْكِرَامُ غَيْضاً وكَانَ أَهْلُ

ذَلِكَ الزَّمَانِ ذِئَاباً وسَاَطِينُهُ سِبَاعاً وأَوْسَاطُهُ أُكَّالًا»: الجوهري: الأكال سادة الأحياء الذين يأخذون المرباع وغيره(1).

«وفُقَرَاؤُهُ أَمْوَاتاً»: أراد أهل كلّ زمان ينقسمون إلى ملوك أكابر، وأوساط وأداني، فإذا كان زمان العدل كان أهله في نظام سلکه، فيفيض عدل الملوك على من يليهم ثمّ بواسطتهم على من يليهم حتّى ينتهي إلى أداني الناس، وإذا كان زمان الجور فاض الجور كذلك؛ فكانت السلاطين سباعا ضارية مفترسة لكلّ ذي سمن، وكان أهل ذلك الزمان، وأكابره ذئابا ضارية أوساط الناس، وكانت الأوساط أکَّالا لهم، وكانت الفقراء أمواتاً لانقطاع مادّة حياتهم ممّن هو أعلى منهم رتبة، وتجوّز بلفظ الأموات عن غاية الشدّة والبلاء لكون الموت غاية ذلك إطلاقاً لاسم السبب الغائيّ على مسبّبه؛ ثمّ استعار لفظ الغيض لقلَّة الصدق والفيض لظهور الكذب وكثرته ملاحظة لشبهها بالماء فقال: وغَارَ الصِّدْقُ: قال غار الصدق سفل في الأرض «وفَاضَ الْكَذِبُ واسْتُعْمِلَتِ الْمَوَدَّةُ بِاللِّسَانِ»: إشارة إلى النفاق وهو التودّد بالقول مع التباعد بالقلوب، وعقدها على البغض، والحسد «وتَشَاجَرَ النَّاسُ بِالْقُلُوبِ»: استعار لفظ التشاجر بالقلوب ملاحظة لشبهها بالرماح فكما أنّ الرمح يشجر به؛ فكذلك قلوب بعضهم تعقد على هلاك بعض والطعن فيه بأنواع المهلكات.

«وصَارَ الْفُسُوقُ نَسَباً»: وكذلك لفظ النسب للفسوق، ووجه المشابهة كون

ص: 107


1- يُنظر: الصحاح للجوهري: ج 4 ص 1625

الفسق بينهم يومئذ هو سبب التواصل والتزاور والتحابّ کما أنّ النسب كذلك.

«والْعَفَافُ عَجَباً»: لقلَّة وجوده وندرته بينهم.

«ولُبِسَ الإِسْلَامُ لُبْسَ الْفَرْوِ مَقْلُوباً» من أحسن التشبيه وأبلغه والمشبّه به هاهنا هو لبس الفرو ووجه الشبه کونه مقلوباً، وبيانه أنّه لمّا كان الغرض الأصلي من الإسلام أن يكون باطناً ينتفع به القلب، ويظهر فيه منفعته فقلَّب المنافقون غرضه واستعملوه بظاهر ألسنتهم دون قلوبهم أشبه قلبهم له لبس الفرو، إذ كان أصله أن يكون حمله ظاهرا لمنفعة الحيوان الَّذي هو لباسه فاستعمله الناس مقلوباً وباللهَّ التوفيق.

ومن خطبة له عليه السّلام:

في توحيد الله وتنزيهه وأجلال له وتعظيمه وفيه اعتبارات ثبوتية وسلبية فعشرة أشار إليها بقوله «كُلُّ شَيْءٍ خَاشِعٌ لَهُ»: والخشوع مراد هنا بحسب الاشتراك اللفظيّ، إذ هو من الناس يعود إلى تطأ منهم(1) وخضوعهم للهَّ ومن الملائكة دؤوبهم في عبادتهم ملاحظة لعظمته، ومن سائر الممكنات انفعالها عن قدرته وخضوعها في رقّ الإمكان والحاجة إليه، والمشترك وإن كان لا يستعمل في جميع مفهوماته حقيقة فقد بيّنّا أنّه يجوز استعماله مجازا فيها بحسب القرينة وهي هنا إضافته إلى كلّ شيء أو لأنه في قوة المتعدد كقوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ»(2) فكأنّه قال: الملك خاشع له والبشر

ص: 108


1- إلى تطأ منهم: الظاهر أن المقصود منه هو: طَأْطَأة والُخشُوع قريب من الُخضُوع إلا أن الخُضُوع في البَدَن والخُشُوع في البَرَ والصَّوتِ، والإقناعُ رفعُ الرأس وإشْخاصُ البصر نحوَ الشيء لا يَصْرِفه عنه؛ ينظر: المُخصص لابن سيده ج 1 ق 1 (السفر الاول) ص: 120
2- سورة الأحزاب: الآية 56

خاشع له، وهذا الاعتبار يستلزم وصفه تعالى باعتبارين: أحدهما: كونه عظیماً، والثاني: كونه غنيّاً: أمّا العظيم فينقسم إلى ما یکبر حاله في النفس ولكن يتصوّر أن يحيط بكمالة العقول ويقف علی کنه حقیقته، وإلى ما يمكن أن يحيط به بعض العقول وإن فات أكثرها، وهذان القسان إنّما يطلق عليهما لفظ العظمة بالإضافة وقياس كلّ إلى ما دونه؛ فيما هو عظيم فيه، وإلى ما لا يتصوّر أن يحيط به العقل أصلاً، وذلك هو العظيم المطلق الَّذي جاوز حدود العقول، أن يقف على صفات کماله ونعوت جلاله، وليس هو إلَّا اللهَّ تعالى، وأمّا الغنىّ فسنذكره.

«وكُلُّ شَيْءٍ قَائِمٌ بِهِ»: اعلم أنّ جميع الممكنات إمّا جواهر أو أعراض وليس شيء منها يقوم بذاته في الوجود: أمّا الأعراض؛ فظاهر لظهور حاجتها إلى المحلّ الجوهريّ، وأمّا الجواهر؛ فلأنّ قوامها في الوجود إنّما يكون بقيام عللها، وتنتهي إلى الفاعل الأوّل جلَّت عظمته؛ فهو إذن الفاعل المطلق الَّذي به قوام كلّ موجود في الوجود، وإذ ثبت أنّه تعالى غنىّ عن كلّ شيء في كلّ شيء، وثبت أنّ به قوام كلّ شيء ثبت أنّه القيّوم المطلق إذ مفهوم القيّوم هو القائم بذاته المقيم لغيره فكان هذا الاعتبار مستلزماً لهذا الوصف.

«غِنَى كُلِّ فَقِرٍ»: يجب أن يحمل الفقر على ما هو أعمّ من الفقر المتعارف وهو مطلق الحاجة ليعمّ التمجيد كما أنّ الغنى هو سلب مطلق الحاجة، وإذ ثبت أنّ كلّ ممکن فهو مفتقر في طرفيه منته في سلسلة الحاجة إليه، وأنّه تعالى المقيم له في الوجود ثبت أنّه تعالى رافع حاجة كلّ موجود بل كلّ ممكن، وهو المراد بكونه غنی له، وأطلق عليه تعالى لفظ الغنى، وإن كان الغنی به مجازا إطلاقا الاسم السبب على المسبّب.

«وعِزُّ كُلِّ ذَلِيلٍ»: وقد سبق أنّ معنى العزيز هو الخطير الَّذي يقل وجود

ص: 109

مثله ويشتدّ الحاجة ويصعب الوصول إليه؛ فما اجتمعت فيه هذه المفهومات الثلاثة سمّى عزيزاً، وسبق أيضاً أنّ هذه المفهومات مقولة بالزيادة، والنقصان على ما تصدق عليه، وأنّه ليس الكمال في، واحد منها إلَّا للهَّ سبحانه، ويقابله الذليل، وثبت أنّه تعالى عزّ كلّ موجود لأنّ كلّ موجود سواه؛ إنّما يتحقّق فيه هذه المفهومات الثلاثة منه سبحانه الناظم لسلسلة الوجود، والواضع لكلّ من الموجودات في رتبته من النظام الكلَّىّ؛ فمنه عزّ كلّ موجود، وكلّ موجود ذليل في رقّ الإمكان والحاجة إليه في إفاضة المفهومات الثلاثة عليه؛ فهو إذن عزّ كلّ ذلیل وإطلاق لفظ العزّ عليه كإطلاق لفظ الغنی.

«وقُوَّةُ كُلِّ ضَعِيفٍ»: تطلق القوّة على كمال القدرة، وعلى شدّة الممانعة، والدفع ويقابلها الضعف وهما مقولان بالزيادة والنقصان على من يطلقان عليه، وإذ ثبت أنّه تعالى مستند جميع الموجودات، والمفيض على كلّ قابل ما يستعدّ له، ويستحقّه فهو المعطى لكلّ ضعيف عادم القوّة من نفسه كماله وقوّته فمنه قوّة كلّ ضعيف بالمعنيين المذكورين لها، وروى أنّ الحسن قال: واعجباً لنبيّ اللهَّ لوط عليه السّلام إذ قال لقومه: «لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ»(1) أتراه أراد ركناً أشدّ من اللهَّ تعالى، وإطلاق لفظ القوّة عليه كإطلاق لفظ الغني أيضاً.

«ومَفْزَعُ كُلِّ مَلْهُوف»: أي إليه ملجأ كلّ مضطرّ في ضرورته حال حزن أو خوف أو ظلم کما قال تعالى «وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ»(2) فكلّ مفزع وملجأ غيره؛ فلمضطرّ لا لكلّ مضطرّ ومجاز لا حقيقة وإضافّي لا حقيقيّ، وهذا الاعتبار يستلزم کمال القدرة للهَّ لشهادة؛ فطرة ذي الضرورة بنسبة

ص: 110


1- سورة هود الآية 80
2- سورة الإسراء: الآية 67

جميع أحوال وجوده إلى جوده، ويستلزم کمال العلم لشهادة فطرته باطَّلاعه على ضرورته، وكذلك كونه سمیعاً و بصيراً وخالقاً ومجيباً للدعوات وقيّوماً ونحوها من الاعتبارات.

«مَنْ تَكَلَّمَ سَمِعَ نُطْقَهُ ومَنْ سَكَتَ عَلِمَ سِرَّهُ»: وهما إشارتان إلى وصفی السميع والعليم، ولمّا كان السميع يعود إلى العالم بالمسموعات استلزم الوصفان إحاطته بما أظهر العبد، وأبداه وما أسرّه وأخفاه في حالتي نطقه وسكوته، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك.

«ومَنْ عَاشَ فَعَلَيْهِ رِزْقُهُ ومَنْ مَاتَ فَإِلَيْهِ مُنْقَلَبُهُ»: وهما إشارتان إلى كونه تعالى مبدأ للعباد في وجودهم ومايقوم به عاجلاً، ومنتهى وغاية لهم آجلا فإليه رجوع الأحياء منهم والأموات، وبه قيام وجودهم حالتي الحياة والممات.

الحادي عشر من الاعتبارات السلبيّة:

«لَمْ تَرَكَ الْعُيُونُ فَتُخْبِرَ عَنْكَ»: وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب كقوله تعالى «إِيَّاكَ نَعْبُدُ»(1) وهذا الالتفات وعكسه يستلزم شدّة عناية المتكلَّم بالمعنى المنتقل إليه، وحسنه معلوم في علم البيان، واعلم أنّ هذا الكلام لا بدّ فيه من تجوّز أو إضمار، وذلك إن جعلنا الرائي هو العيون کما عليه اللفظ، ويصدق حقيقة لزم إسناد قوله؛ فتخبر إليها مجازاً لكون الإخبار ليس لها، وإن راعينا عدم المجاز لزم أن يكون التقدير: لم ترك العيون؛ فتخبر عنك أربابها، أو لم ترك أرباب العيون فتخبر عنك، فيلزم الإضمار ويلزم التعارض بينه وبين المجاز لكن قد علمت في مقدّمات أصول الفقه: أنّهما سيّان في المرتبة، وغرض الكلام تنزيهه تعالى عن

ص: 111


1- سورة الفاتحة: الأية 5

وصف المشبّهة، ونحوهم وإخبارهم عنه بالصفات الَّتي من شأنها أن يخبر عنها الراؤن عن مشاهدة حسيّة مع اعترافهم بأنّ إخبارهم ذلك من غير رؤية، ولمّا كان الإخبار عن المحسوسات، وما من شأنه أن يحسّ إنّما يصدق؛ إذا استند إلى الحسّ لاجرم استلزم سلبه لرؤية العيون له سلب الإخبار عنه من جهتها وكذب الإخبار عنه بما لا يعلم إلَّا من جهتها، ويخبر وإن كان في صورة الإثبات إلَّا أنّه منفىّ لنفی لازمه وهي رؤية العيون له، إذ كان الإخبار من جهتها يستلزم رؤيتها، ونصبه بإضمار أن عقيب الفاء في جواب النفي، والكلام في تقدير شرطيّة متّصلة(1) صورتها لو صحّ إخبار العيون عنك لكانت قد رأتك لكنّها لم تراك فلم تصحّ أن تخبر عنك، فأمّا قوله:

«بَلْ كُنْتَ قَبْلَ الْوَاصِفِنَ مِنْ خَلْقِكَ»: فتعليل لسلب الرؤية المستلزم لسلب الإخبار عنها بقياس ضمير تقدير كبراه: وكلّ من كان قبل واصفيه لم يروه فلم يخبروا عنه، وهذه الكبرى من المظنونات المشهورات في بادي النظر، وهي کما علمت من موادّ قياس الخطيب، وإن كانت إذا تعقّبت لم يوجد كلَّيّة؛ إذ ليس كلَّما وجد قبلنا بطل إخبارنا عنه، ويمكن حمل هذا القول على وجه التحقيق وهو أن نقول: المراد بقبليّته تعالى للواصفين قبليّة، وجوده بالعليّة الذاتيّة، وهو بهذا

ص: 112


1- شرطيّة متّصلة: من القياسات المنطقية التي هي من الشكل الرابع: والتي تتضمن الاقتران الشرطي من جهة اشتماله على القضية الشرطية، والمعنى: يكون في القضية المتصلة الشرطية: إن تحقق التالي مشروط بتحقق المقدم و مثاله: النهار موجودًا بشرط طلوع الشمس، أو قولك في القضية الشرطية اللزومية: كلما كانت الشمس طالعة كان النهار موجود والظاهر هذا هو: مُراد المصنف: في التعليل لقوله عليه السلام ((لو صح إخبار العيون عنك لكانت قد رأتك»، وعلى القياس ألاقتراني المشروط، يكون المعني: إن العين التي تُخبر عنك حتى يَصُح الإخبار فشرطه رؤيتك وحينما لم تُخبر عينٌ بوصفك، فهي حتمًا لم تراك وكل وصفٍ عنك مالم يتحقق الشرط هو وهمٌ

الاعتبار مستلزمة لتنزيهه تعالى عن الجسميّة، ولواحقها المستلزم لامتناع الرؤية المستلزم لكذب الإخبار عنه من وجه المشابهة الحسيّة.

«لَمْ تَخْلُقِ الْخَلْقَ لِوَحْشَةٍ»: إشارة إلى تنزيهه عن الطبع المستوحش والمستأنس، وقد سبق بيان ذلك في الخطبة الأولى.

«ولَا اسْتَعْمَلْتَهُمْ لِمَنْفَعَةٍ»: أي لم يكن خلقه لهم المنفعة تعود إليه، وقد سبق بيان أنّ جلب المنفعة ودفع المضرّة من لواحق المزاج المنزّه قدس اللهَّ تعالى عنه «ولَا

يَسْبِقُكَ مَنْ طَلَبْتَ»: أي لا يفوتك هرباً.

«ولَا يُفْلِتُكَ مَنْ أَخَذْتَ»: أي لا يفلت منك بعد أخذه فحذف حرف الجرّ، وعدّي الفعل بنفسه كما قال تعالى «وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ»(1) وهذان الاعتباران يستلزمان کمال ملکه و تمام قدرته، وإحاطة علمه، إذ أيّ ملك فرض؛ فقد ينجو من يده الهارب، ويفلت من أسرة المأخوذ بالحيلة ونحوها.

«ولَا يَنْقُصُ سُلْطَانَكَ مَنْ عَصَاكَ ولَا يَزِيدُ فِي مُلْكِكَ مَنْ أَطَاعَكَ»: وهما تنزیه الله تعالى من أحوال ملوك الدنيا، إذ كان كمال سلطان أحدهم بزيادة جنوده وكثرة مطيعه وقلَّة المخالف والعاصي له، ونقصان ملکه بعكس ذلك، وهو سبب لتسلَّط أعدائه عليه وطمعهم فيه، فأمّا سلطانه تعالى فلما كان لذاته، و کمال قدرته مستولياً وهو مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممّن يشاء ويذلّ من يشاء بيده الخير وهو على كلّ شيء قدير لم يتصوّر خروج العاصي بعصيانه عن سلطانه حتّى يؤثّر في نقصانه، ولم يكن لطاعة الطائع تأثير في زيادة ملكه.

«ولَا يَرُدُّ أَمْرَكَ مَنْ سَخِطَ قَضَاءَكَ»: يريد بالأمر هنا القدر النازل على

ص: 113


1- سورة الأعراف: الآية 55

وفق القضاء الإلهيّ وهو تفصيل القضاء کما بيّناه، وهذا الاعتبار أيضاً يستلزم تمام قدرة اللهَّ وكمال سلطانه؛ إذ كان ما علم وجوده فلا بدّ من وجوده سواء كان محبوبا للعبد أو مكروهاله كما قال جل قدرته «وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ»(1) «إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ»(2) «وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ؛ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(3) وإنّما خصّص المستخطَّ للقضاء بالعجز عن ردّ الأمر، إذ كان من شأنه أن لو قدر لردّ القدر.

«ولَا يَسْتَغْنِي عَنْكَ مَنْ تَوَلَّی عَنْ أَمْرِكَ»: أراد بالأمر هاهنا ظاهره، وهو أمر عباده بطاعته وعبادته، وظاهر أنّ من تولَّى عن أمر اللهَّ؛ فهو إليه أشدّ فقرا وأنقص ذاتا ممَّن تولَّى أمره، وهذا الاعتبار يستلزم کمال سلطانه وغناه المطلق.

كُلُّ سِرٍّ عِنْدَكَ عَلَنِيَةٌ وكُلُّ غَيْبٍ عِنْدَكَ شَهَادَةٌ»: هذان الاعتبار ان يستلزمان کمال علمه وإحاطته بجميع المعلومات، ولمّا كانت نسبة علمه تعالى إلى المعلومات على سواء لا جرم استوى بالنسبة إليه السرّ والعلانية، وأيضا فإنّ السرّ والغيب إنّما يطلقان بالقياس إلى مخفىّ عنه، وغائب عنه وهي القلوب المحجوبة بحجب الطبيعة وأستار الهيئات البدنيّة والأرواح المستولي عليها نقصان الإمكان الحاكم عليها بجهل أحوال ما هو أكمل منها، وكلّ ذلك ممّا تنزّه قدس الصانع عنه.

«أَنْتَ الأَبَدُ فَلَا أَمَدَ لَكَ: وفي بعض النسخ بدون الفاء أي أنت الدائم فلا غاية لك يقف عندها وجودك، وذلك لاستلزام وجوب وجوده امتناع عدمه

ص: 114


1- سورة التوبة: الآية 32
2- سورة الطور: الآية 7 - 8
3- سورة الأنعام: الآية 17

وانتهائه بالغاية، وقال بعض الشارحين: أراد أنت ذو الأبد کما قيل: أنت خيال أي ذو خيال من الخيلاء وهو الكبر، وأقول في تقرير ذلك: إنّه لمّا كان الأزل والأبد لازمين لوجود اللهَّ تعالى أطلق الأبد على، وجوده مجازا للمبالغة في الدوام، وكان أحدهما هو بعينه الآخر كقولهم: أنت الطلاق، للمبالغة في البينونة.

«وأَنْتَ الْمُنْتَهَى فَلَا مَحِيصَ عَنْكَ وأَنْتَ الْمَوْعِدُ فَلَا مَنْجَى مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ»: أمّا أنّه تعالى المنتهى والموعد فلقوله تعالى «وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى»(1) وقوله «إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا»(2) والمنتهى في كلامه عليه السّلام الغاية، وقد سبق بيان أنّه تعالى غاية الكلّ ومرجعه، وأمّا أنّه لا معدل عنه ولا ملجأ منه إلَّا إليه فإشارة إلى ضرورة لقائه كقوله تعالى «وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ»(3).

«بِيَدِكَ نَاصِيَةُ كُلِّ دَابَّةٍ»: أي في ملكك و تحت تصريف قدرتك كقوله تعالى «مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا»(4)، وإنّما خصّت الناصية لحكم الوهم بأنّه تعالى في جهة فوق فيكون أخذه بالناصية، ولأنّها أشرف ما في الدابّة فسلطانه تعالى على الأشرف يستلزم القهر والغلبة وتمام القدرة.

«وإِلَيْكَ مَصِيرُ كُلِّ نَسَمَة»: نفس وقد سبق أنّه تعالى منتهى الكلّ، وإليه مصيره.

«سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ مَا نَرَى مِنْ خَلْقِكَ»: مفعول أعظم «ومَا أَصْغَرَ عِظَمَهُ فِي

جَنْبِ قُدْرَتِكَ ومَا أَهْوَلَ مَا نَرَى مِنْ مَلَكُوتِكَ ومَا أَحْقَرَ ذَلِكَ فِيمَا غَابَ عَنَّا مِنْ

سُلْطَانِكَ ومَا أَسْبَغَ نِعَمَكَ فِي الدُّنْيَا ومَا أَصْغَرَهَا فِي نِعَمِ الآخِرَةِ»: تنزیه و تقدیس

ص: 115


1- سورة النجم: الآية 42
2- سورة المائدة: الآية 48
3- سورة التوبة: الآية: 118
4- سورة هود الآية 56

للهَّ تعالى عن أحكام الأوهام على صفاته بشبهيّة مدركاتها، وتعجّب في معرض التمجيد من عظم مايشاهد من مخلوقاته كأطباق الأفلاك، والعناصر، وما يتركَّب عنها، ثمّ من حقارة هذه العظمة بالقياس إلى ما تعبّره العقول من مقدوراته، وما يمكن في كمال قدرته من الممكنات الغير المتناهية، وظاهر أنّ نسبة الموجود إلى الممكن في العظم، والكثرة يستلزم حقارته وصغره، ثمّ من هول ما وصلت إليه العقول من عظمة ملكوته، ثمّ من حقارته بالقياس إلى ماغاب عنها وحجبت عن إدراكه بأستار القدرة، وحجب العزّة من الملأ الأعلى، وسکَّان حظائر القدس وحال العالم العلوي، ثمّ من سبوغ نعمة اللهَّ تعالى على عباده في الدنيا، وحقارة تلك النعم بالقياس إلى النعمة الَّتي أعدّها لهم في الآخرة، وظاهر أنّ نعم الدنيا إذا اعتبرت إلى نعم الآخرة في الدوام، والكثرة والشرف كانت بالقياس إليها في غاية الحقارة، وباللهَّ التوفيق.

واعلم أنه عليه السلام لما شرع في بيان عظمة الله، وجلاله جعل مادة ذلك التعظيم تعديد مخلوقاته وذكر الأشرف؛ فالأشرف منها؛ فذكر الملائكة السماوية في فضل المرتضى عن ما مضى بقوله منها:

«مِنْ مَلَئِكَةٍ أَسْكَنْتَهُمْ سَاَوَاتِكَ ورَفَعْتَهُمْ عَنْ أَرْضِكَ هُمْ أَعْلَمُ خَلْقِكَ بِكَ»: وهو ظاهر، إذ ثبت أنّ كلّ مجرّد کان علمه أبعد عن منازعة النفس الأمّارة بالسوء الَّتي هي مبدأ الغفلة، والسهو، والنسيان كان أكمل في معارفه، وعلومه ممّن عداه، ولأنّ الملائكة السماويّة، وسائط لغيرهم في وصول العلم، وسائر الكمالات إلى الخلق، فكانوا كالاستادین لمن عداهم، وظاهر أنّ الأستاذ أعلى درجة من التلميذ، وقد عرفت في الخطبة الأولى أنّ المعارف مقولة بحسب التشكيك.

«وأَخْوَفُهُمْ لَكَ»: وذلك لكونهم أعلم بعظمة اللهَّ، وجلاله، وكلّ من كان أعلم

ص: 116

بذلك كان أخوف، وأشدّ خشية: أمّا الأولى: فلما مرّ، وأمّا الثانية: فلقوله تعالى «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ»(1) فحصر الخشية فيهم، وبحسب تفاوت العلم بالشدّة والضعف يكون تفاوت الخشية.

«وأَقْرَبُهُمْ مِنْكَ»: ليس المراد لا القرب المكانيّ لتنزّهه تعالى عن المكان بل قرب المنزلة والرتبة منه، وظاهر أنّ من كان أعلم به وأخوف منه كان أقرب منزلة عنده لقوله تعالى «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ»(2).

«لَمْ يَسْكُنُوا الأَصْاَبَ ولَمْ يُضَمَّنُوا الأَرْحَامَ ولَمْ يُخْلَقُوا مِنْ مَاءٍ مَهِنٍ ولَمْ يَتَشَعَّبْهُمْ رَيْبُ الْمَنُونِ»: لم يختلف عليهم حوادث الدهر، وظاهر كون هذه الأمور الأربعة، ناقصات تلزم الحيوان العنصريّ لاستلزامها التغيّر، ومخالطة المحالّ المستقذرة ومعاناة الأسقام والأمراض، وسائر الهيئات البدنية المانعة عن التوجّه إلى اللهَّ؛ فكان سلبها عمّن لا يجوز عليه من کمالاته.

«وإِنَّهُمْ عَلَى مَكَانِهِمْ مِنْكَ ومَنْزِلَتِهِمْ عِنْدَكَ واسْتِجْمَعِ أَهْوَائِهِمْ فِيكَ وكَثْرَةِ

طَاعَتِهِمْ لَكَ وقِلَّةِ غَفْلَتِهِمْ عَنْ أَمْرِكَ لَوْ عَايَنُوا كُنْهً مَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ مِنْكَ لَحَقَّرُوا

أَعْمَلَهُمْ ولَزَرَوْا: أعابوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ولَعَرَفُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ ولَمْ

يُطِيعُوكَ حَقَّ طَاعَتِكَ»: لمّا بيّن عظمة الملائكة بالنسبة إلى من عداهم شرع في المقصود وهو بيان عظمة اللهَّ تعالى بالنسبة إليهم، وحقارتهم على عظمتهم بالقياس إلى عظمته وكبريائه: أي أنّهم مع كونهم على هذه الأحوال الَّتي توجب لهم العظمة، والإجلال من قرب منزلتهم منك، وکمال محبّتهم لك، وغرقهم في أنوار کبریائك عن الالتفات إلى غيرك لو علموا كنه معرفتك لصغرت في أعينهم

ص: 117


1- سورة فاطر: الآية 28
2- سورة الحجرات: الآية 13

أعمالهم، وعلموا أن لا نسبة لعبادتهم إلى عظمتك، وجلال وجهك، ولمّا کان کمال العبادة ومطابقتها للأمر المطاع بحسب العلم بعظمته، وكان ذات الحقّ سبحانه أعظم من أن يطَّلع عليه بالكنه ملك مقرّب أو نبيّ مرسل لاجرم كانت عبادة الملائكة بحسب معارفهم القاصرة عن كنه حقيقته.

فكلّ من كانت معرفته أتمّ كانت عبادة من دونه مستحقرة في جانب عبادته حتّى لو زادت معارفهم به، وأمكن اطَّلاعهم على كنه حقیقته لزادت عبادتهم وكانت أكمل؛ فاستحقروا ما كانوا فيه، وعابوا أنفسهم بقصور الطاعة، والعبادة عمّا يستحقّه کماله المطلق، وعبّر بقلَّة الغفلة عن عدمها في حقّهم مجازاً إطلاقاً لاسم اللازم على ملزومه.

إذ كان كلّ معدوم قليل، ولا ينعكس، وجعل قلَّة الغفلة في مقابلة كثرة الطاعة، ويحتمل أن يريد بقلَّة الغفلة قوّة معرفة بعضهم بالنسبة إلى بعض مجازاً أيضا إطلاقاً لاسم الملزوم على لازمه إذ كانت قلَّة الغفلة مستلزمة لقوّة المعرفة وزيادتها، وقد سبق ذكر أنواع الملائكة السماويّة وغيرهم، وذكر نكت من أحوالهم في الخطبة الأولى؛ ثم شرع في فصل آخر فقال:

«سُبْحَانَكَ خَالِقاً ومَعْبُوداً»: حالان انتصبا عمّا في سبحانك من معنى الفعل أي أُسبّحك خالقاً ومعبوداً، وأشار بذلك إلى وجوب تنزيهه في هذين الاعتبارین أعني اعتبار کونه خالقاً للخلق؛ ومعبوداً لهم عن الشركاء والأنداد؛ فإنه لمّا تفرّد بالإبداع والخلق، واستحقّ بذلك التفرّد تفرّده بعبادة الكلّ له، وجب تنزيهه عن مشاركة في الاعتبارین.

«بِحُسْنِ بَلَئِكَ»: عطائك «عِنْدَ خَلْقِكَ خَلَقْتَ دَاراً»: الجارّ والمجرور متعلَّق

ص: 118

بخلقت، ولفظ الدار مستعار للإسلام من جهة أنه يجمع أهله ويحميهم کالدار.

«وجَعَلْتَ فِيهَا مَأْدُبَةً»: الطعام الذي يدعى إلى أكله، وهنا مستعار للجنة ووجهها أنّ الجنّة مجتمع الشهوات، ومنتجع اللذّات کالمأدبة زقد(1) جمعها الخبر بعض أمثاله صلى الله عليه [وآله] وسلم؛ أن الله جعل الإسلام دار، والجنة مأدبة، والداعي إليها محمد، ويحتمل أن يريد بالدار الآخرة باعتبار كونها مجمعاً، ومستقرّاً والمأدبة فيها الجنّة.

«مَشْرَباً ومَطْعَماً وأَزْوَاجاً وخَدَماً وقُصُوراً وأَنْهَاراً وزُرُوعاً وثِمَاراً»: مميّزات لتلك المأدبة، وظاهر أنّ وجود الإسلام، والجنّة والدعوة إليها بلاء حسن من اللهَّ لخلقه، وقد عرفت معنی ابتلائه تعالى، وقيل: قوله: بحسن بلائك متعلَّق سبحانك أو بمعبود وهو بعيد.

«ثُمَّ أَرْسَلْتَ دَاعِياً يَدْعُو إِلَيْهَا فَلَا الدَّاعِيَ أَجَابُوا»: شروع في شرح حَال العصاة الَّذين لم يجيبوا داعي اللهَّ، وبيان لعيوبهم، وغرقهم في حبّ الباطل من الدنيا وفائدته؛ أمّا للمنتهين اللازمين لأوامر اللهَّ المجيبين لدعوته؛ فتنفيرهم عن الركون إلى هؤلاء، والوقوع فيما وقعوا فيه، وأمّا هؤلاء فتنبيههم من مراقد غفلاتهم بتذكيرهم عيوبهم لعلَّهم يرجعون.

«ولَا فِيمَا رَغَّبْتَ رَغِبُوا ولَا إِلَی مَا شَوَّقْتَ إِلَيْهِ اشْتَاقُوا أَقْبَلُوا عَلَ جِيفَةٍ»: أراد بها الدنيا، ووجه المشابهة أنّ لذّات الدنيا، و قيناتها في نظر العقلاء، واعتبار الصالحين منفور عنها، ومهروب منها، ومستقذرة كالجيفة، وإلى ذلك أشار الواصف لها:

ص: 119


1- زقد: الزقد كلمة يمانية، زدق: و زدق لغة لهم في صدق؛ يُنظر العين للخليل الفراهيدي: ج 5، ص 89

وما هي إلَّا جيفة مستحيلة *** عليها كلاب همهنّ اجتذابها

فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها *** وان تجتنبها نازعتك كلابها(1)

ويمكن أخذ معنى البيت الثاني في وجه الاستعارة المذكورة.

«قَدِ افْتَضَحُوا بِأَكْلِهَا»: استعار الافتضاح للاشتهار باقتنائها، وجمعها والخروج بها عن شعائر الصالحين، ووجه الاستعارة؛ أنّه لمّا كان الإقبال على جمع الدنيا والاشتغال بها عن اللهَّ من أعظم الكبائر، والمساوي في نظر الشارع، والسالكين لطريق اللهَّ، وكان الافتضاح عبارة عن انکشاف المساوي المتعارف قبحها لاجرم أشبه الاشتهار بجمعها، وانکشاف الحرص عليها الافتضاح، ويمكن أن يصدق الافتضاح هاهنا حقيقة، وكنّى بأكلها عن جمعها.

«واصْطَلَحُوا عَلَى حُبِّهَا»: تجوّز بلفظ الاصطلاح في التوافق على محبّتها إطلاقا الاسم الملزوم على لازمه؛ فإنّ الاصطلاح عبارة عن التراضي بعد التغاضب ويلزمه الاتّفاق على الأحوال.

«ومَنْ عَشِقَ شَيْئاً أَعْشَى بَصَرَهُ وأَمْرَضَ قَلْبَهُ»: کبری قیاس دلّ على صغرا(2)

ص: 120


1- الأبيات لمحمد بن إدريس الشافعي وهي آخر ما أنشد لما طلع الشيب في لحيته من قصيدته التي مطلعها: خبت نار نفسي باشتعال مفارقي *** وأظلم ليلي إذ أضاء شهابها فلن تخرب الدنيا بموت شرورها *** ولكن موت الأكرمين خرابها كما أوردها بتامها عبد الوهاب الشعراني في العهود المحمدية: ص: 361
2- کبری قیاس دلّ على صغراه: من مطالب القياس الاقتراني لتكرر حد الأوسط کما ذكره الشيخ محمد رضا المظفر في المنطق: ص 243، وتركنا التفصيل رعاية للاختصار

قوله: واصطلحوا على حبّها، لأنّ الاصطلاح على محبّة الشيء يستلزم شدّة محبّته وهو معنى العشق، ونتيجته أنّ المذكورين في معرض الذمّ، قد أعشت الدنيا أبصارهم وأمرضت قلوبهم، واستعار لفظ البصر لنور البصيرة ملاحظة لشبه المعقول بالمحسوس، ولفظ العشاء لظلمة الجهل ملاحظة للشبه بالظلمة العارضة للعين بالليل، وإسناد الإعشاء إلى الدنيا يحتمل أن يكون حقيقة لما يستلزمه حبّها من الجهل، والغفلة عن أحوال الآخرة، ويحتمل أن يريد بالبصر حقيقته، ويكون لفظ العشاء مستعارا لعدم استفادتهم بأبصارهم عبرة تصرفهم عن حبّ الدنيا إلى ملاحظة أحوال الآخرة، ويؤيّده قوله:

«فَهُوَ يَنْظُرُ بِعَیْنٍ غَیْرِ صَحِيحَةٍ»: فهو ينظر بعين غير صحيحة، وكنّی بعدم صحِتها عمِا يلزم العين غير الصحيحة من عدم الانتفاع بها في تحصيل الفائدة.

«ويَسْمَعُ بِأُذُنٍ غَیْرِ سَمِيعَةٍ»: کنّی بذلك عن عدم إفادتها عبرة من المواعظ والزواجر الإلهيّة كما سبق.

«قَدْ خَرَقَتِ الشَّهَوَاتُ عَقْلَهُ»: استعار التخريق لتفرّق عقله في مهمّات الدنيا ومطالبها، ووجه الاستعارة أنّ العقل إذا استعمل، فيما خلق لأجله من اتّخاذ الزاد ليوم المعاد واقتباس العلم والحكمة من تصفّح جزئيات الدنيا، والاستدلال منها على وجود الصانع وما ينبغي له، ونحو ذلك ممّا هو كماله المستعدّ في الآخرة؛ فإنّه يكون منتظماً منتفعاً به، وأمّا إن استعمل؛ فيما لا ينبغي من جميع متفرّقات الدنيا وتوزيع الهمّة في تحصيل جزئيّاتها، وضبطها حتّى يكون أبداً في الحزن، والأسف على فوات ما فات، وفي الخوف من زوال ما يحصل، وفي الهمّة، والحرص على جمع ما لم يحصل بعد؛ فإنّه يكون كالثوب المخرّق الَّذي لا ينتفع به صاحبه، ونحوه قول الرسول صلَّى اللهَّ عليه وآله وسلم: «من جعل الدنيا أكبر همّه فرق اللهَّ عليه

ص: 121

همّه، وجعل فقره بين عينيه»(1)، الحدیث: ونسبة ذلك التخريق إلى الشهوات ظاهرة، إذ كان زمام عقله بید شهوته فهي تفرقه، وتمزّقه على حسب تصرفاتها وميولها إلى أنواع المشتهيات .

«وأَمَاتَتِ الدُّنْيَا قَلْبَهُ»: استعار لفظ الإماتة لقلبه، ووجه المشابهة خروجه عن الانتفاع به الانتفاع الحقيقيّ الباقي كالميّت «ووَلَهِتْ عَلَيْهَا نَفْسُهُ»: هنا ارجعه(2) إلى الدنيا: أي وولَّهت الدنيا على نفسها، وكنّى بالتولَّه عن شدّة المحبّة لها؛ وأطلقه مجازاً تسمية للشيء بما هو من غاياته.

«فَهُوَ عَبْدٌ لَها»: استعار العبدله باعتبار كونه محبّها، والمتجرّد لتحصيلها متصرّفاً بحسب تصريفها، ودائراً في حركاته حيث دارت؛ فإن كانت في يده أقبل عليها بالعمارة والحفظ، وإن زالت عنه أنصب إلى تحصيلها، وخدمة من كانت في يده لغرضها؛ فهو في ذلك كالعبد لها بل أخسّ حالاً كما قال عليه السّلام في موضع آخر: «عبد الشهوة أذلّ من عبد الرق»(3)؛ إذ الباعث لعبد الرقّ على الخدمة، والانقياد قد یکون قسریّاً، والباعث لعبد الشهوة طبيعيّ، وشتّان ما بينهما وإلى ذلك أشار بقوله.

«ولِمَنْ فِي يَدَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا حَيْثُاَ زَالَتْ زَالَ إِلَيْهَا وحَيْثُاَ أَقْبَلَتْ أَقْبَلَ عَلَيْهَا لَا

يَنْزَجِرُ مِنَ اللِّهَ بِزَاجِرٍ ولَا يَتَّعِظُ مِنْهُ بِوَاعِظٍ وهُوَ يَرَى الْمَأْخُوذِينَ عَلَى الْغِرَّةِ حَيْثُ

ص: 122


1- شرح النهج لابن میثم البحراني: ج 3 ص 63، وعوالي اللثالي لابن أبي جمهور الاحسائي: ج 1 ص 272
2- هنا أرجعه: بمعني هنا راجع الضمير الى الدنيا
3- عيون المواعظ والحكم لعلي بن محمد الليثي الواسطي: ص 341؛ وشرح مئة كلمة لأمير المؤمنين عليه السلام لابن میثم البحراني: ص 117

لَا إِقَالَةَ ولَا رَجْعَةَ»: الواو للحال، وهو شروع في وصف نزول الموت بالغافلين عن الاستعداد له، ولما ورائه من أحوال الآخرة، وكيفيّة قبض الموت لأرواحهم من مبدأ نزوله بهم إلى آخره، وكيفيّة أحوالهم مع أهليهم، وإخوانهم معه، وهو وصف لا مزيد على وضوحه، وبلاغته وفائدته تذكير العصاة بأهوال الموت، وتنبيههم من غفلتهم في الباطل بذلك على وجوب العمل له، وتثبيت للسالكين إلى اللهَّ على ما هم عليه.

«كَيْفَ نَزَلَ بِهِمْ مَا كَانُوا يَجْهَلُونَ»: لم يرد به الموت، فإنّه معلوم لكلّ أحد، بل تفصيل سكراته وأهواله.

«وجَاءَهُمْ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا مَا كَانُوا يَأْمَنُونَ»: يعني الموت وما بعده فإنّ الغافل حال انهماکه في لذّات الدنيا لا يعرض له خوف الموت بل يكون في تلك الحال آمنا منه.

«وقَدِمُوا مِنَ الآخِرَةِ عَلَى مَا كَانُوا يُوعَدُونَ فَغَیْرُ مَوْصُوفٍ مَا نَزَلَ بِهِمْ»: أي ليس ذلك ممّا يمكن استقصائه بوصف بل غايته التمثيل كما ورد في التوراة: «أنّ مثل الموت كمثل شجرة شوك أدرجت في بدن بن آدم فتعلَّقت كلّ شوكة بعرق وعصب ثمّ جذبها رجل شديد الجذب فقطع ماقطع وأبقى ما أبقى»(1).

«اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ وحَسْرَةُ الْفَوْتِ فَفَتَرَتْ لَهَا»: أي لسكرة الموت «أَطْرَافُهُمْ وتَغَیَّرَتْ لَهَا أَلْوَانُهُمْ ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ فِيهِمْ وُلُوجاً»: استعارة لما يتصوّر من فراق الحياة لعضو عضو فأشبه ذلك دخول جسم في جسم آخر.

ص: 123


1- المصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج 8 ص 312؛ معارج نهج البلاغة لعلي بن زید البيهقي: ص 323؛ إحياء علوم الدين للغزالي: ج 125 ص 129

«فَحِيلَ»: منع «بَیْنَ أَحَدِهِمْ وبَیْنَ مَنْطِقِهِ وإِنَّهُ لَبَیْنَ أَهْلِهِ يَنْظُرُ بِبَصَرِهِ ويَسْمَعُ

بأِذُنُهِ»: كائناً «عَلَى صِحَّةٍ مِنْ عَقْلِهِ وبَقَاءٍ مِنْ لُبِّهِ يُفَكِّرُ فِيمَ أَفْنَى عُمُرَهُ وفِيمَ أَذْهَبَ

دَهْرَهُ ويَتَذَكَّرُ أَمْوَالً جَمَعَهَا أَغْمَضَ فِي مَطَالِبِهَا وأَخَذَهَا مِنْ مُصَرَّحَاتِهَا»: خاصها «ومُشْتَبِهَاتِهَا»: أي ساهل فيها ولم يميز حلالاً من الحرام «قَدْ لَزِمَتْهُ تَبِعَاتُ»: عقبات «جَمْعِهَا وأَشْرَفَ عَلَى فِرَاقِهَا تَبْقَى لِمَنْ وَرَاءَهُ يَنْعَمُونَ فِيهَا ويَتَمَتَّعُونَ بِهَا

فَيَكُونُ الْمُهْنَأُ لِغَیْرِهِ»: هو المصدر من هنؤ بالضم وهنيء بالكسر «والْعِبْءُ عَلَى

ظَهْرِهِ» : بمعنى الحمل و استعارة للآثام التي تحملها النفس، ورشح بذكر الظهرة استعارة المحسوس للمعقول.

«والْمَرْءُ قَدْ غَلِقَتْ رُهُونُهُ بِهَا»: ضربه مثلاً لحصول المرء في تبعات ما جمع وارتباطه بها عن الوصول إلى كماله وانبعاثه إلى سعادته بعد الموت، وقد كان يمكنه فكاكها بالتوبة والأعمال الصالحة فأشبه ما جمع من الهيئات الرديئة في نفسه عن اكتساب الأموال، فارتهنت بها بما على الرهن من المال، وقال بعض الشارحين: أراد أنّه لا أشفي على الفراق صارت الأموال الَّتي جمعها مستحقّة لغيره، ولم يبق له فيها تصرّف؛ فأشبهت الرهن الَّذي غلَّق على صاحبه؛ فخرج عن كونه مستحقّاً لصاحبه، وصار مستحقّاً للمرتهن، وهذا وإن كان محتملاً إلَّا أنّه يضيّع فائدة قوله: بها لأنّ الضمير يعود إلى الأموال المجموعة، وهو إشارة إلى المال الَّذي تعلَّق الرهن به فلا تكون هي نفس الرهن.

«فَهُوَ يَعَضُّ يَدَهُ»: وفي بعض على يده «نَدَامَةً عَلَى مَا أَصْحَرَ»: اظهر له «لَه عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ أَمْرِهِ ويَزْهَدُ فِيمَا كَانَ يَرْغَبُ فِيهِ أَيَّامَ عُمُرِهِ»: ويعرض عنه «ويَتَمَنَّى أَنَّ الَّذِي كَانَ يَغْبِطُهُ بِهَا ويَحْسُدُهُ عَلَيْهَا قَدْ حَازَهَا دُونَهُ»: جمعها دون الجامع عض اليد كناية عمّا يلزم ذلك من الأسف، والحزن والندم على تفريطه في جنب اللهَّ

ص: 124

حيث انكشف له حال الموت انقطاع سببه من اللهَّ، وفوت ما كان يتوهّم بقائه عليه ممّا اشتغل به عن ربه، وحيث يتحسّر على ذلك التفريط كما قال سبحانه «أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ»(1) ويتمنّى هداية اللهَّ فيقول: لو أنّ اللهَّ هداني لكنت من المتّقين، أو الرجعة إلى الدنيا الامتثال ما فرّطت فيه من الأوامر الإلهيّة؛ فيقول حين يرى العذاب: لو أنّ لي كرّة؛ فأكون من المحسنين، وكما قال تعالى «وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا»(2) وقد نبّه عليه السّلام؛ في هذا الكلام على؛ أنِ آلة النطق تبطل من الإنسان حال الموت قبل التي السمع، والبصر بقوله: فحيل بين أحدهم، وبين منطقه، وإنّه لبين أهله ينظر ببصره ويسمع بأُذنه على صحّة من عقله، ثمّ نبّه على أن بطلان آلة السمع بعدها قبل آلة البصر تبطل بقوله:

«فَلَمْ يَزَلِ الْمَوْتُ يُبَالِغُ فِي جَسَدِهِ حَتَّى خَالَطَ لِسَانُهُ سَمْعَهُ فَصَارَ بَیْنَ أَهْلِهِ

لَا يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ ولَا يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ يُرَدِّدُ طَرْفَهُ بِالنَّظَرِ فِي وُجُوهِهِمْ يَرَى حَرَكَاتِ

أَلْسِنَتِهِمْ ولَا يَسْمَعُ رَجْعَ كَلَمِهِمْ»: أي جوابهم وذلك لعلمه عليه السّلام بأسرار الطبيعة، وليس كلامه ذلك مطلقاً بل في بعض الناس، وأغلب ما يكون ذلك فيمن تعرّض الموت الطبيعيّ لآلاته، وإلَّا فقد تعرّض الآفة لقوّة البصر وآلته قبل آلة السمع وآلة النطق، والَّذي يلوح من أسباب ذلك؛ أنّه لمّا كان السبب العامّ القريب للموت هو انطفاء الحرارة الغريزيّة عن فناء الرطوبة الأصليّة الَّتي منها خلقنا، وكان فناء تلك الرطوبة عن عمل الحرارة الغريزيّة فيها التجفيف والتحليل، وقد تعينها على ذلك الأسباب الخارجيّة من الأهوية، واستعمال الأدوية المجفّفة،

ص: 125


1- سورة الزمر: 56
2- سورة الفرقان: 27

وسائر المخفّفات كان كلّ عضو أيبس من طبيعته، وأبرد أسرع إلى البطلان وأسبق إلى الفساد، إذا عرفت ذلك فنقول: أمّا أنّ آلة النطق أسرع فسادا من آلة السمع؛ فلأنّ آلة النطق مبنيّة على الأعصاب المحرّكة، ومركَّبة منها، وآلة السمع من الأعصاب المفيدة للحسّ، واتّفق الأطبّاء على أنّ الأعصاب المحرّكة أيبس، و أبرد لكونها منبعثة من مؤخّر الدماغ دون الأعصاب المفيدة للحسّ، فإنَّ جلَّها منبعث من مقدّم الدماغ؛ فكانت لذلك أقرب إلى البطلان، ولأنّ النطق أكثر شرائط من السماع لتوقّفه مع الآلة، وسلامتها على الصوت، وسلامة مخارجه، ومجاري النفس، والأكثر شرطا أسرع إلى الفساد، وأمّا بطلان آلة السمع قبل البصر؛ فلأنّ منبت الأعصاب الَّتي هي محلّ القوة السامعة أقرب إلى مؤخّر الدماغ من منابت محلّ القوّة الباصرة الصماخ الَّذي رتّبت فيه قوّة السمع احتاج؛ أن يكون مکشوفاً غير مسدود عنه سبيل الهواء بخلاف العصب الَّذي هو آلة البصر؛ فكانت لذلك أصلب، والأصلب أيبس وأسرع فسادا، هذا مع أنّه قد يكون ذلك لتحلَّل الروح الحامل للسمع قبل الروح الحامل للبصر؛ أو لغير ذلك واللهَّ سبحانه أعلم.)

«ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ الْتِيَاطاً: التصاقاً فَقُبِضَ بَصَرُهُ كَمَا قُبِضَ سَمْعُهُ وخَرَجَتِ

الرُّوحُ مِنْ جَسَدِهِ فَصَارَ جِيفَةً بَیْنَ أَهْلِهِ قَدْ أَوْحَشُوا مِنْ جَانِبِهِ وتَبَاعَدُوا مِنْ

قُرْبِهِ»: سبب النفرة الطبيعيّة من الميّت، والتوحّش من قربه؛ فحكم الوهم على المتخيّلة بمحاكاة حالة في نفس المتوهّم، وعزل العقل في ذلك الوضع حتّى أنّ المجاور لميّت في موضع منفرد يتخيّل أنّ الميّت يجذبه إليه، ويصيّره بحالة مثل حالته المنفورة عنها طبعاً.

«لَا يُسْعِدُ بَاكِياً ولَا يُجِيبُ دَاعِياً ثُمَّ حَمَلُوهُ إِلَ مَخَطٌّ فِي الأَرْضِ حفرة فيها فَأَسْلَمُوهُ

فِيهِ إِلَی عَمَلِهِ وانْقَطَعُوا عَنْ زَوْرَتِهِ»: إشارة إلى أنّ كلّ ثواب، وعقاب أُخرويّ يفاض

ص: 126

على النفس فبحسب استعدادها بأعمالها السابقة الحسنة والسيّئة فعمل الإنسان هو النافع أو الضارّ له حين لا ناصر له، ولمّا كان میله عليه السّلام في هذا الكلام إلى الإنذار، والتخويف لا جرم ذكر إسلامهم له إلى عمله؛ لأنّ الإسلام إنّما يكون إلى العدوّ؛ فلمّا حاول أن ينفّر عن قبح الأعمال نبّه على؛ أنّ عمل الإنسان القبيح يكون كعدوّه القوىّ عليه يسلم إليه.

«حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ»: أشاره إلى غاية الناس في موتهم، وهو بلوغ الوقت المعلوم الذي يجمع له الناس وهو يوم القيامة.

«والأَمْرُ مَقَادِيرَهُ»: أراد بالأمر القضاء ومقاديره وتفاصيله من الآثار الَّتي توجد وفقه کما سبق.

«وأُلْحَقَ آخِرُ الْحَلْقِ بِأَوَّلِهِ»: إشارة إلى توافيهم في الموت، وتساويهم فيه كما نطقت الشريعة به.

«وجَاءَ مِنْ أَمْرِ اللِّهَ مَا يُرِيدُهُ مِنْ تَجْدِيدِ خَلْقِهِ»: بعثهم «أَمَادَ السَّمَاءَ»: حركها «وَفَطَرَهَا»: شقها «وأَرَجَّ الأَرْضَ وأَرْجَفَهَا»: أي حركها وجعلها مظر به «وقَلَعَ جِبَالَهَا ونَسَفَهَا»: فرقها «ودَكَّ»: دق «بَعْضُهَا بَعْضاً مِنْ هَيْبَةِ جَلَلَتِهِ ومَخُوفِ سَطْوَتِهِ»: عقابه وقهره وغضبه أي يری كذلك أو يخلقه فيها ما يدركها «وأَخْرَجَ مَنْ فِيهَا فَجَدَّدَهُمْ بَعْدَ إِخْلَقِهِمْ وجَمَعَهُمْ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ ثُمَّ مَيَّزَهُمْ لِمَا يُرِيدُهُ مِنْ مَسْأَلَتِهِمْ عَنْ خَفَايَا الأَعْمَالِ وخَبَايَا الأَفْعَالِ وجَعَلَهُمْ فَرِيقَیْنِ»: فريق في الجنة وفريق في السعير.

«أَنْعَمَ عَلَى هَؤُلَاءِ وانْتَقَمَ مِنْ هَؤُلَاءِ فَأَمَّا أَهْلُ الطَّاعَةِ فَأَثَابَهُمْ بِجِوَارِهِ وخَلَّدَهُمْ

فِي دَارِهِ حَيْثُ لَا يَظْعَنُ النُّزَّالُ ولَا تَتَغَیَّرُ بِهِمُ الْحَالُ ولَا تَنُوبُهُمُ الأَفْزَاعُ ولَ تَنَالُهُمُ

الأَسْقَامُ ولَا تَعْرِضُ لَهُمُ الأَخْطَارُ ولَا تُشْخِصُهُمُ الأَسْفَارُ»: أي ولا يحركهم «وأَمَّا

ص: 127

«أَهْلُ الْمَعْصِيَةِ فَأَنْزَلَهُمْ شَرَّ دَارٍ وغَلَّ الأَيْدِيَ إِلَا الأَعْنَاقِ وقَرَنَ النَّوَاصِيَ بِالأَقْدَامِ وأَلْبَسَهُمْ سَرَابِيلَ الْقَطِرَانِ ومُقَطَّعَاتِ النِّیرَانِ»: أي ثيابا منها والمقطعات من الثياب شبه الحساب ونحوها وقال أبو عمر فضارها «فِي عَذَابٍ قَدِ اشْتَدَّ حَرُّهُ وبَابٍ قَدْ أُطْبِقَ»: أغلق «عَلَى أَهْلِهِ فِي نَارٍ لَهَا كَلَبٌ»: شدة «وجَلبٌ»: صيحة «ولَهبٌ سَاطِعٌ وقَصِيفٌ: صوت شديد «هَائِلٌ لَا يَظْعَنُ مُقِيمُهَا ولَا يُفَادَي أَسِرُهَا ولَا تُفْصَمُ كُبُولَهُا لَا مُدَّةَ لِلدَّارِ فَتَفْنَى ولَا أَجَلَ لِلْقَوْمِ فَيُقْضَى»: وجب عليك إيها الحريص على ازدياد فضلك المنتصب لأقتداح زناد عقلك أن تيقن أن ظاهر الشريعة الناطق بحراك هذا العالم، ناطق بما ذكرناه من أماده السماء، وشقها وإرجاج الأرض ونسف الجبال وغيرها(1) وأما المأوّلون ربما عدلوا إلى التأويل، ويحتمل، وجوهاً أحدها: أنّ القيامة لمّا كانت عندهم عبارة عن موت الإنسان، ومفارقته لهذا البدن، ولما يدرك بواسطته من الأجسامن، والجسمانيّات ووصوله إلى مبدئه الأوّل كان عدمه عن هذه الأشياء مستلزم لغيبوبتها عنه، وعدمها، وخراجها بالنسبة؛ فيصدق عليه أنّه إذا انقطع نظره عن جميع الموجودات سوى مبدئه الأوّل جلَّت عظمته؛ أنّها قد عدمت، وتفرّقت، وكذلك إذا انقطع نظره عن عالم الحسّ، والخيال، ومتعلَّقاتهما من الأجسام، والجسمانيّات، واتّصل بالملأ الأعلى؛ فبالحريّ أن يتبدّل الأرض، والسماوات بالنسبة إليه؛ فيصير عالم الأجسام، والجسمانيّات أرضا له وعالم المفارقات سماء.

ص: 128


1- ونسف الجبال وغيرها: معناه يجب على العبد العاقل أن يحُرك عقله ليفكر ثم ليوصله التفكير إلى اليقين؛ بأن الله تعالى الذي نطقت الرسل بشرائعه، ودلت عليه هو الذي خلق الموت والحياة، واماد السماء وشقها، ورج الأرض، ونسف الجبال، وسيكون تقدير يوم القيامة بيده

الثاني: أنّ هذه الموجودات المشار إليها لمّا كانت مقهورة بلجام الإمكان(1) في قبض القدرة الإلهيّة كان ما نسب إليها من الانشقاق، والانفطار، والارجاج والنسف، وغيرها أمورا ممكنة في نفسها، وإن امتنعت بالنظر إلى الأسباب الخارجيّة فعبّر عمّا يمكن بالواقع مجازاً، أو حسنه في العربيّة معلوم، وفائدته التهويل بما بعد الموت والتخويف للعصاة بتلك الأهوال.

الثالث: قالوا: يحتمل أن یرید بالأرض القوابل للجود الإلهيّ استعارة؛ فعلى هذا إمادة السماء عبارة عن حركاتها، واتّصالات كواكبها الَّتي هي أسباب معدّة لقوابل هذا العالم، وانفطارها إفاضة الجود بسبب تلك المعدّات على القوابل، وارجاج الأرض إعداد الموادّ لإعادة أمثال هذه الأبدان؛ أو لنوع آخر بعد فناء النوع الإنسانيّ، وقلع الجبال، ونسفها ودقّها إشارة إلى زوال موانع الاستعدادات لنوع آخر إن كان، أولا عادة بناء هذا النوع استعارة، ووجهها أنّ الأرض بنسف الجبال يستوي سطحها ويعتدل؛ فكذلك قوابل الجود يستعدّ، ويعتدل لأن يفاض عليها صورة نوع أخرى لأبناء هذا النوع.

الرابع: قالوا: يحتمل أن يريد بالسماء سماء الجود الإلهيّ، وبالأرض عالم الإنسان، فعلى هذا يكون إمادة السماء عبارة عن ترتيب كلّ استحقاق لقابله في القضاء الإلهيّ، والفطر عبارة عن الفيض، وارجاج الأرض عبارة عن الهرج والمرج الواقع بين أبناء نوع الإنسان، وقلع جبالها ونسفها، ودكّ بعضها بالبعض عبارة عن إهلاك الجبابرة، والمعاندين للناموس الإلهيّ، وقتل بعضهم ببعض، كلّ ذلك بأسباب قهريّة مستندة إلى هيبة جلال اللهَّ وعظمته، وإخراج من فيها وتجديدهم

ص: 129


1- بلجام الإمكان: اللجام هو: الحبل الذي يُربط به الفرس والإمكان الخلق: والمعنى أن الخلائق كلها مربوطة بكونها مخلوقة ولها خالق ليس بالإمكان أن تَعْدوه

إشارة إلى ظهور ناموس آخر مجدّد هذا الناموس، والمتّبع له إذن قوم آخرون هم كنوع جديد، وتمييزهم فريقين منعم عليهم، ومنتقم منهم ظاهر؛ فإنّ المستعدّين لاتّباع الناموس الشرعيّ، والقائلين به هم المنعم عليهم المثابون، والتاركين له المعرضين عنه هم المنتقم منهم المعاقبون، فأمّا صفة الفريقين، وما أعدّ لكلّ منهم بعد الموت؛ فعلى ما نطق به الكتاب العزيز، ووصفته هذه الألفاظ الكريمة، وعلى تقدير التأويلات السابقة لمن عدل عن الظواهر؛ فثواب أهل الطاعة جوار بارئهم، وملاحظة الكمال المطلق لهم، وخلودهم في داره: بقائهم في تلك النعمة غير جائز عليهم الفناء کما تطابق عليه الشرع، والبرهان، وكونهم غير ظاعنين، ولا متغيّري الأحوال، ولا فزعين، ولا ينالهم سقم، ولا خطر، ولا يشخصهم سفر؛ فلأنّ كلّ ذلك من لواحق الأبدان، والكون في الحياة الدنيا؛ فحيث زالت؛ زالت عوارضها ولواحقها، وأمّا جزاء أهل المعصية؛ فإنزالهم شرّ دار، وهي جهنّم الَّتي هي أبعد بعيد عن جوار اللهَّ، وغلّ أيديهم إلى أعناقهم إشارة إلى قصور قواهم العقليّة عن تناول ثمار المعرفة، واقتران النواصي بالأقدام إشارة إلى انتكاس رؤسهم عن مطالعة أنوار الحضرة الإلهيّة، وإلباسهم سرابيل القطران: استعار لفظ السرابيل للهيئات البدنيّة المتمكَّنة من جواهر نفوسهم، ووجه المشابهة اشتمالها عليها وتمكَّنها منها كالسربال للبدن، ونسبتها إلى القطران إشارة إلى استعدادهم للعذاب، وذلك أنّ اشتغال النار فيما يمسح بالقطران أشدّ، و نحوه قوله تعالى «سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ»(1) وكذلك مقطَّعات النيران: إشارة إلى تلك الهيئات الَّتي تمكَّنت من جواهر نفوسهم، ونسبتها إلى النار لكونها ملبوس أهلها؛ فهي منها كما قال تعالى «قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ»(2) ولمّا كان سبب الخروج من النار هو الخروج إلى

ص: 130


1- سورة إبراهيم: الآية 50
2- سورة الحج: الآية 19

الله من المعاصي بالتوبة، والرجوع إلى تدبّر الآيات، والعبر النوافع، وكان البدن وحواسّه أبواب الخروج إلى اللهَّ؛ فبعد الموت تغلق تلك الأبواب؛ فلاجرم يبقى الكفّار وراء طبق تلك الأبواب في شدائد حرارة ذلك العذاب، وهب النار ولجبها، وأصواتها الهائلة: استعارة لأوصاف النار المحسوسة المستلزمة للهيبة، والخوف حسّا للنار المعقولة الَّتي هي في الحقيقة؛ أشدّ نعوذ باللهَّ منها، وإنّما عدل إلى المحسوس للغفلة عن صفات تلك النار، وعدم تصوّر أكثر الخلق لها إلَّا من هذه الأوصاف المحسوسة، وكونها لا يظعن مقيمها كناية عن التخليد، وذلك في حق الكفار، ولفظ الأسير، والفدية استعارة، وكذلك لفظ الكبول استعارة لقيود الهيئات البدنيّة المتمكَّنة من جواهر نفوس الكفّار؛ فكما لا ينفصم القيد الوثيق من الحديد ولا ينفكّ المكبّل به كذلك النفوس المقيّدة بالهيئات الرديئة البدنيّة عن المشي في بيداء جلال اللهَّ وعظمته، والتنزّه في جنان حظائر قدسه، ومقامات أصفيائه، ولمّا كان الأجل مفارقة البدن لم يكن لهم بعد موتهم أجل، إذ لا أبدان بعد الأبدان ولا خلاص من العذاب للزوم الملكات الرديئة لأعناق نفوسهم، وتمكَّنها منها؛ فهذا ما عساهم يتأوّلونه أو يعبّرون به عن الأسرار الَّتي يدّعونها تحت هذه العبارات الواضحة الَّتي وردت الشريعة بها؛ لكنّك قد علمت أنّ العدول إلى هذه التأويلات وأمثالها مبنىّ على امتناع المعاد البدنيّ، وذلك ممّا صرّحت به الشريعة تصريحاً لا يجوز العدول عنه، ونصوصاً لا يحتمل التأويل، وإذا حملنا الكلام على ما وردت به الشريعة؛ فهذا الكلام منه عليه السلام أفصح ما يوصف به حال القيامة، والمعاد، والتعرّض لشرحه يجرى مجرى إيضاح الواضحات وباللهَّ التوفيق.

منها في ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«قَدْ حَقَّرَ الدُّنْيَا وصَغَّرَهَا وأَهْوَنَ بِهَا»: أي لم يعتد بها «وهَوَّنَهَا»: أذلها إشارة إلى

ص: 131

ما كان يجذب الخلق به عنها من ذكر مذامّها وتعدید معايبها، وإهوانه بها إشارة إلى زهده فيها.

«وعَلِمَ أَنَّ اللهًّ زَوَاهَا»: قبضها «عَنْهُ اخْتِيَاراً»: إيماءً إلى أنّ زهده فيها كان عن علم منه باختيار اللهَّ له ذلك وتسبّب أسبابه وهو وجه مصلحته ليستعدّ نفسه بذلك لكمال النبوّة والقيام بأعباء الخلافة الأرضيّة.

«وبَسَطَهَا لِغَیْرِهِ احْتِقَاراً فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ وأَمَاتَ ذِكْرَهَا عَنْ نَفْسِهِ

وأَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ لِكَيْلَا يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً»: لباساً وزينة «أَوْ يَرْجُوَ

فِيهَا مَقَاماً»: جذب للعناية الإلهيّة له إلى الالتفات عنها إلى الكمالات المعلومة له، وعن أن ينحطَّ لمحبّتها عن مقامه الَّذي قضت العناية الإلهيّة بنظام العالم بسببه.

«بَلَّغَ عَنْ رَبِّهِ مُعْذِراً»: إلى خلقه «أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ»(1).

«ونَصَحَ لأُمَّتِهِ مُنْذِراً»: في عاقبة الإعراض عن اللهَّ «ودَعَا إِلَی الْجَنَّةِ مُبَشِّراً»: لمن سلك سبيل اللهَّ ونهجه المستقیم بما أعدّ له فيها من النعيم المقيم، وهذه الأحوال هي ثمرة النبوة التي هي ثمرة الزهد الحقيقي المشار إليه، ثمّ عقّب اقتصاص تلك الممادح بالإشارة إلى فضيلة نفسه، وذلك منه في معرض المفاخرة بينه وبين مشاجريه كمعاوية فأشار إلى فضيلته من جهة اتصاله بالرسول صلَّى اللهَّ عليه وآله وسلم فقال: «نَحْنُ شَجَرَةُ النُّبُوَّةِ ومَحَطُّ الرِّسَالَةِ(2) ومَعَادِنُ الْعِلْمِ ويَنَابِيعُ الْحِكْمِة»: وهو كان من هذا البيت بأفضل مكان بعد الرسول صلَّى اللهَّ عليه وآله وسلم،

ص: 132


1- سورة الأعراف: الآية 172
2- ورد في بعض النسخ: ومْخُتَلَفُ الْمَلَائِكَةِ

وإذا تحققت أن كل واحد من لفظ الشجرة والمعادن والينابيع مستعار وعلمت أن الكل غصن من الشجرة قسط من الثمرة بحسب قوته وقربه من الأصل وعناية الطبيعة به على مقدار فضيلته ونسبتها إلى الرسول صلَّى اللهَّ عليه وآله وسلم، وقوله بعد ذلك:

«نَاصِرُنَا ومُحِبُّنَا يَنْتَظِرُ الرَّحْمَةَ وعَدُوُّنَا ومُبْغِضُنَا يَنْتَظِرُ السَّطْوَةَ»: ترغيب في نصرته ومحبّته وجذب إليها بالوعد برحمة اللهَّ وإفاضة بركاته وتنفير عن عداوته وبغضه بلحوق سطوة اللهَّ، ولعلّ ذلك هو غايته هنا من ذكر فضيلته وله الحمد والمنة.

ومن خطبة له عليه السّلام

«إِنَّ أَفْضَلَ مَا تَوَسَّلَ بِهِ الْمُتَوَسِّلُونَ إِلَی اللَّهِ سُبْحَانَهُ الإِياَنُ بِالله»: هو التصديق بوجوده وهو اشارة إلى أصل الأيمان ثم له لواحق وكمالات أحدها التصديق برسوله ولذا قال: «وبِرَسُولِهِ»: وقد عرفت فضائل الجهاد فيما سلف، وأشار إلى وجه فضيلته بقوله.

«والْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ»: وقد عرفت فضائل الجهاد فيما سلف، وأشار إلى وجه فضيلته بقوله:

«فَإِنَّهُ ذِرْوَةُ الإِسْلَامِ»: واستعار لفظ الذروة له ملاحظة لشبهه في العلوّ والمرتبة في الإسلام بالسنام للبعير، وإنّما قدّمه على الصلاة لكون سالكه على يقين من لقاء اللهَّ، وقوّة من التصديق بما جاء به الرسول حيث يلقى نفسه إلى التهلكة الحاضرة الَّتي ربّما يغلب على ظنّه أو يتيقّنها، ولأنّه الأصل الأعظم في جمع العالم على الدين.

«وكَلِمَةُ الإِخْ اَلصِ»: وهي كلمة التوحيد المستلزمة لنفي الشركاء، والأنداد وهي معنى الإخلاص، ولذلك أضيفت إليه، وأشار إلى وجه الشبهة فضيلتها بقوله.

ص: 133

«فَإِنَّهَا الْفِطْرَةُ»: التي فطر الناس عليها، فإنّ العقول السليمة البريّة عن شوائب العلائق البدنيّة وعوارض التربية شاهدة ومقرّة بما أُخذ عليها من العهد القديم من توحید صانعها وبراءته عن الكثرة، وأطلق عليها اسم الفطرة وإن كانت الفطرة عليها مجازا إطلاقالاسم الملزوم على لازمه.

«وإِقَامُ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا اِلْمِلَّةُ»: إنّما جعلها الملَّة، وإن كانت بعض أركان الدين لأنّها الركن القوىّ من أركانه؛ فأطلق عليها ذلك اللفظ إطلاقاً لاسم الكلّ على الجزء، وأعلم أنّ للصلاة فضائل وأسرار يجب التنبيه عليها: أمّا فضيلتها فقد ورد فيها أخبار كثيرة بعد تأكيد القرآن الكريم للأمر بها كقوله صلى اللهَّ عليه وآله وسلم: «الصلاة عمود الدين من تركها فقد هدم الدين»(1)، وقوله: «مفتاح الجنّة الصلاة»(2)، وقوله «أمّا يخاف الَّذي يحوّل وجهه في الصلاة أن يحوّل اللهَّ وجهه وجه حمار»(3)، وقوله: «من صلىَّ ركعتين لم يحدث فيهما نفسه بشيء من الدنيا غفر اللهَّ له ذنوبه»(4)، وأمّا أسرارها فيقسم إلى عامّة وإلى خاصّة، أما العامّة فقد

ص: 134


1- المحاسن للبرقي: ج 1 ص 44 بزيادة يسيرة؛ شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي: ج 1 ص 133؛ والأمالي للشيخ الصدوق: ص 739؛ التوحيد كذلك للصدوق: ص 23؛ الأمالي للشيخ الطوسي: ص 529؛ عوالي الليالي لابن أبي جمهور الأحسائي: ج 1 ص 322
2- صحیح مسلم: ج 2 ص 29؛ عوالي الليالي لابن أبي جمهور الأحسائي: ج 1 ص 322؛ عمدة القاري: للعيني: ج 5 ص 233؛ إحياء علوم الدين: للغزالي: ج 2 ص 264
3- المصنف لعبد الرزاق الصنعاني: ج 1 ص 45؛ وأيضًا المصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج 2 ص 279؛ عمدة القاري: للعيني: ج 3 ص 7؛ إحياء علوم الدين: ج 2 ص 308 باختلاف يسير، ومثله الغزالي أيضًا في ج 8 شرح ص 79
4- الأمالي للشيخ المفيد: ج 2 ص 142؛ وشرح نهج البلاغة لابن میثم البحراني: ج 3 ص 76؛ عدة الداعي ونجاح الساعي لابن فهد الحلي: هامش ص 139؛ مکارم الأخلاق للشيخ الطبرسي: ص 318؛ الخرائج والجرائح للقطب الدين الراوندي ص 383؛ ومناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 3 ص 289؛ عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الحسائي؛ ج 1 ص 324

بيّنّا فيما سلف في ذكر الحجّ في الخطبة الأولى السرّ العامّ لجميع العبادات، وهي كونها متمّمة للغرض، ومعينة على تطويع النفس الأمّارة بالسوء للنفس المطمئنّة، و تمرینها على موافقتها، وإذا لاح لك هذا السرّ؛ فقد علمت أنّ جميع الآيات والأخبار الواردة في فضلها يرجع معناها إليه کنهيها عن الفحشاء والمنكر، إذ كان سببهما القوّة الروعيّة؛ إذا خرجت عن حكم العقل؛ فإذا كانت الصلاة هي الَّتي توجب دخولها تحت حكم العقل، والعقل ناه عن الفحشاء والمنكر؛ فقد كانت الصلاة هي السبب في الانتهاء فكانت ناهية، فظهر أيضاً معنی کونها عماد الدين. إذ قال: «بني الإسلام على خمس»(1)، فكلّ منها عماد بحسب شرائطه؛ فمن أخلّ بها فقد هدم بنيانه الَّذي يصعد به إلى اللهَّ، وكذلك كونها مفتاحاً للجنّة، إذ بها ينفتح باب من أبواب الوصول إلى اللهَّ، ولذلك ظهر ما أشار من التخويف لمن يحوّل وجهه في الصلاة؛ فإنّه نهی منه عن الغفلة عن الالتفات إلى اللهَّ، وملاحظة عظمته في حال الصلاة؛ فإنّ الملتفت يميناً، وشمالاً ملتفت عن اللهَّ، وغافل عن مطالعة أنوار کبریائه، ومن كان كذلك؛ فيوشك أن تدوم تلك الغفلة عليه؛ فيتحوّل وجه قلبه كوجه قلب الحمار في قلَّة عقليته للأمور العلويّة، وعدم إكرامه بشيء من العلوم والقرب إلى اللهَّ، وكذلك غفران ذنب المصلَّى بسبب ترکه حديث نفسه بشيء من الدنيا؛ فإنّه في تلك الحال يلتفت إلى اللهَّ تعالى غافل عن غيره، والالتفات إليه هو روح العبادة وخلاصتها، وعن عائشة قالت «كان رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم: يحدّثنا ونحدّثه؛ فإذا حضرت الصلاة؛ فكأنّه لم يعرفنا،

ص: 135


1- الخصال للشيخ الصدوق: ص 278، فضائل الأشهر الثلاث للشيخ الصدوق: ص 86؛ المعتبر للعلامة الحلي: ج 2 ص 11؛ وكذلك تذکرة الفقهاء للعلامة الحلي: ج 7 ص 9 ولمهذب البارع لابن فهد الحلي: ج 1 ص 277

ولم نعرفه شغلًا باللهَّ عن كلّ شيء»(1)؛ وكان علىّ علیه السّلام إذا حضر، وقت الصلاة يتململ، ويتزلزل، ويتلوّن فيقال له: مالك يا أمير المؤمنين فيقول:(2) جاء وقت أمانة عرضها اللهَّ على السماوات والأرض فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وكان عليّ بن الحسين عليهما السّلام إذا حضر للوضوء اصفرّ لونه فيقول أهله: ما هذا الَّذي يعتادك عند الوضوء فيقول: «ماتدرون بين يدي من أقوم»(3)؛ وكلّ ذلك إشارة إلى استحضار عظمة اللهَّ، والالتفات إليه حال العبادة، والانقطاع عن غيره، وأمّا ما يخصّها من الأسرار؛ فقد علمت أنّ الصلاة ليس إلَّا ذكر، وقراءة وركوع، وسجود، وقيام، وقعود: أمّا الذكر؛ فظاهر أنّه محاورة، ومناجاة للهَّ تعالى وغايتها استلزام الالتفات إليه، وتذکَّر ما ينجذب القوى الشيطانيّة تحت قياد العقل، ويستمرّ تعوّدها بذلك، وهو المقصود من القراءة، والأذكار، والحمد والثناء، والتضرّع، والدعاء، وليس المقصود منه الحرف، والصوت امتحاناً للَّسان بالعمل وإن حصلت الغفلة؛ فإنّ تحريك اللسان بالهذيان خفيف على الإنسان لا كلفة فيه من حيث إنّه عمل، وسنبيّن حال الذكر، وفضيلته، وفائدته في موضع أليق به إنشاء اللهَّ تعالى، وأمّا الركوع، والسجود، والقيام، والقعود؛ فالغرض بها التعظيم للهَّ تعالى المستلزم للالتفات إليه، وذكره أيضاً، إذ لو جاز أن يكون معظَّماً للهَّ بفعله، وهو غافل عنه لجاز؛ أن يعظَّم صنما موضوعا بين يديه، وهو غافل عنه،

ص: 136


1- ينظر: عدة الداعي وفلاح الساعي لابن فهد الحلي: ص 139، وعوالي الليالي لابن أبي جمهور الأحسائي: ج 1 ص 324
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 1 ص 389؛ إحياء علوم الدين للغزالي: ج 2 ص 270
3- إحياء علوم الدين للغزالي: ج 3 ص 424؛ اختیار مصباح السالكين لابن میثم البحراني: ص 263؛ تفسير المحيط الأعظم للسيد حيدر الآملي؛ المحكم لفخر الدين الرازي: ج 1 ص 83

ويؤيّد ذلك ما روي عن معاذ بن جبل «من عرف من على يمينه وشماله متعمّدا في الصلاة فلا صلاة له»(1)، وقال عليه السّلام: «إنّ العبد ليصلیَّ الصلاة لا يكتب له سدسها ولا عشرها وإنّما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها»(2)، ولمّا عرفت أنّ الأصل من أركانها هو الالتفات إلى اللهَّ تعالى؛ فاعلم أنّ الالتفات إليه مستلزم للتذكَّر، والتفهّم لأنّ الالتفات إليه إنّما يراد لمطالعة كبريائه وعظمته، والمطالعة ليس إلَّا الفكر الَّذي هو عين البصيرة، وحدقة العقل الإنسانيّ؛ ثمّ إنّ التذکَّر، والتفهّم مستلزم للتعظيم؛ فإنّ مطالعة عظمة اللهَّ أعظم من؛ أن لا يعظَّمها العارف بها، والتعظيم مستلزم للخوف، والرجاء؛ فإنّا نجد عند تصوّر عظمة ملك من ملوك الدنيا، وجدانا ضروریّا؛ أنّا ننقهر عن مكالمته، ومحاورته، ونلزم معه السكون، والخضوع، وربّما يتبع ذلك رعدة البدن، وتعثّم اللسان، ومنشأ كلّ ذلك الخوف الحادث عن تصوّر عظمته؛ فكيف يتصوّر جبّار الجبابرة، وملك الدنيا والآخرة، وكذلك الرجاء ؛ فإنّا عند تصوّر عظمة اللهَّ نتصوّر أنّ الكلّ منه، وذلك باعث على رجائه، خصوصاً وقد تأكَّد ذلك بالآيات الواردة في باب الخوف والرجاء، وكذلك يستلزم الحياء؛ لأنّ المتصوّر لعظمة الأمر لا يزال مستشعراً تقصيراً، ومتوهّماً ذنباً، وذلك يوجب الحياء من اللهَّ.

«وإِيتَاءُ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا فَرِيضَةٌ وَاجِبَةٌ»: أشار إلى وجه فضلها بكونها فريضة واجبة، قال قطب الدين الراوندي: أراد بالفريضة السهم المنقطع من المال للفقراء المستحقّين المسمّى زكاة، قال: وهو عرف شرعيّ لأنّ الفريضة بمعنى الواجب فإنّ

ص: 137


1- تفسير الرازي للفخر الرازي: ج 23 ص 79؛ إحياء علوم الدين للغزالي: ج ص 288، شرح النهج لابن میثم البحراني: ج 3 ص 79
2- ينظر تفسير الرازي للفخر الرازي: ج 29 ص 79، و عوالي الليالي لابن أبي جمهور الأحسائي: ج 1 ص 325، وفي ج 2 ص 288

كلّ العبادات الواجبة كذلك، ولأنّ الفرض والواجب بمعنی؛ فيكون قوله: فريضة واجبة تكراراً، وأقول: ما ذكره وجه حسن، وهو إشارة إلى بعض أسرارها نبیّنه، ولهذه العبادة مع السرّ العامّ الشامل لجميع العبادات، وهو الالتفات إلى اللهَّ تعالى ومحبّته أسرار:

الأوّل: أنّ المراد بكلمة الشهادة التوحيد المطلق، وإفراد المعبود بالتوجّه إليه وذلك لا يتمّ إلَّا بنفي كلّ محبوب عداه؛ فإنّ المحبّة لا يحتمل الشركة، والتوحيد باللسان قليل الفائدة في الباطن، وإنّما تمتحن درجة الحبّ بمفارقة المحبوبات، والأموال محبوبة عند الخلق لأنّها آلة تمتّعهم بالدنيا، وأُنسهم بها، ونفرتهم عن الموت؛ فامتحنوا بتصديق دعواهم في المحبوب، واستنزلوا عن المال الَّذي هو معشوقهم كما قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ»(1) ولمّا فهم الناس هذا المعنى انقسموا أقساما : فطائفة أخلصوا في حبّ معشوقهم، ووفوا بعهده؛ فبذلوا أموالهم، ولم يدّخروا منها شيئاً حتّى قيل لبعضهم: کم تجب من الزكاة في مائتي درهم قال: أمّا على العوّام؛ فبحكم الشرع خمسة دراهم، وأمّا علينا؛ فيجب بذل الجميع، ومنهم من قعد عن هذه المرتبة، وأمسكوا أموالهم، وراقبوا مواقيت الحاجة، ومواسم الخيرات، وجعلوا قصدهم في الادّخار الإنفاق على قصد الحاجة دون التنعّم، وصرف الفاضل عن الحاجة إلى وجوه البرّ، وهؤلاء لا يقتصرون على، واجب الزكاة كالنخعيّ، والشعبيّ ومجاهد، وقيل للشعبيّ: هل في المال حقّ سوى الزكاة فقال: نعم أما سمعت قوله تعالى «وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ، وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ

ص: 138


1- سورة التوبة: الآية 111

وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ»(1) الآية واستدلَّوا بقوله تعالى «وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ»(2) ولم يجعلوا ذلك مخصوصاً بآية الزكاة بل هو داخل في حقّ المسلم على المسلم، ومعناه أنّه يجب على المؤسر مهما وجد محتاجاً أن يزيل حاجته بما يفضل عن مال الزكاة، ومنهم من اقتصر على أداء الواجب من الزكاة من غير زيادة، ولا نقصان، وهي أدون الرتب، وقد اقتصر مع العوامّ على ذلك لجهلهم بسرّ البذل، وبخلهم المال وضعف حبّهم للآخرة، ويلزم لهذا السرّ تطهير ذوى الأموال عن رذيلة البخل فإنّها من المهلکات قال عليه السّلام: «ثلاث مهلکات: شحّ مطاع، وهوى متّبع، وإعجاب المرء بنفسه»(3)، ووجه كونه مهلكاً أنّه إنّما يصدر عن محبّة المال، وقد علمت أنّ الدنيا، والآخرة ضرّتان بقدر ما يقرّب من إحداهما يبعّد من الأخرى؛ فكانت محبّة المال صارفة عن التوجّه إلى اللهَّ، ومبعّدة منه، وذلك يستلزم الهلاك الأخروي کما بيّناه، وإنّما تزول هذه الرذيلة بتعوّد البذل؛ إذ حبّ الشيء لا ينقطع إلَّا بقهر النفس على مفارقته بالتدريج حتّى يصير ذلك عادة؛ فالزكاة بهذا المعنى طهور: أي تطهّر صاحبها عن خبث البخل المهلك، وإنّما طهارته بقدر بذله، و فرحه واستبشاره بصرفه في جنب اللهَّ طاعة، ومحبّة له وملاحظة لحذف كلّ محبوب عداه من سمت القبلة.

السرّ الثاني: شكر النعمة؛ فإنّ للهَّ على العبد نعمة في نفسه، وشكرها العبادات البدنيّة، ونعمة في مالیّه، وشكرها العبادات المالية، وليس أحد أخسّ، وأبعد عن

ص: 139


1- سورة البقرة: الآية 177
2- سورة الأنفال: الآية 3
3- ينظر: المصنف لعبد الرزاق الصنعاني: ج 11 ص 304، والخصال للشيخ الصدوق: ص 84، والمجازات النبوية للشريف الرضي: ص 196، وعدة الداعي ونجاح الساعي لابن فهد الحلي: ص 221؛ وعوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي: ج 1 ص 273

رحمة اللهَّ ممّن ينظر إلى؛ فقير قد ضيّق عليه الرزق؛ ثمّ اضطر إليه؛ فلم يسمح نفسه بأن يؤدّي شكر اللهَّ تعالى على ما أغناه عن السؤال، وأحوج غيره إليه بعشر ماله أو بربع عشره، السر الثالث: يتعلَّق بإصلاح المدن، وتدبير أحوال أهلها، وهو أن جعل اللهَّ هذا الفرض في أموال الأغنياء شركة للفقراء لأن يسدّ به خلَّتهم، وإليه أشار عليه السّلام بكونه فريضة واجبة، وفي هذا السرّ سرّان: أحدهما: أن يكون ذلك عوناً لهؤلاء على عبادة اللهَّ كي لا يشتغلوا بالطلب عنها؛ الثاني: أن تنكسر همّهم عن حسد أهل الأموال، والسعي بالفساد في الأرض؛ فلا ينتظم أمر المدنيّة، وتكون قلوبهم ساكنة إلى ذلك القدر معلَّقة به مستمدة من اللهَّ تعالى بالدعاء في حفظه متألَّفة مع أهل الأموال منجذبة؛ إليهم فيتمّ بذلك أمر المشاركة، والمعاونة والأُنس، والمحبّة الموجبات للألفة الموجبة لنظام العالم، وقوام أمر الدين، وبقاء نوع الإنسان لما لأجله وجد.

«وصَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ جُنَّةٌ مِنَ الْعِقَابِ»: إنما خصصه بكونه جنّة وأنّ سائر العبادات كذلك لما أنّه أشدّها وقاية، وبيان ذلك أنّه مستلزم لقهر أعداء اللهَّ الَّتي هي الشّياطين المطيفة بالإنسان، فإنّ وسيلة الشيطان هي الشهوات، وإنّما يقوّی الشهوة، ويثيرها الأكل والشرب، ولذلك قال رسول اللهَّ صلَّى اللهَّ عليه وآله وسلَّم: «إنّ الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم فضيّقوا مجاريه بالجوع»(1) وقال صلى اللهَّ عليه وآله وسلم لعائشة: «داومي قرع باب الجنّة فقالت: بماذا

ص: 140


1- ينظر: قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد لمكي بن أبي طالب: ص 175؛ والغزالي في إحياء علوم الدين: ج 3 ص 424؛ وابن عربي في الفتوحات المكية: ج 1 ص 604؛ واختيار مصباح السالكين لابن میثم البحراني: ص 263؛ أورده ابن أبي جمهور الأحسائي في: عوالي اللئالي: ج 1 ص 273

قال: بالجوع»(1). فكان الصوم على الخصوص أشدّ قمعاً للشيطان، وأسدّ المسالکه وتضييق مجاريه، ولمّا كان العقاب إنّما يلحق الإنسان، ويتفاوت في حقّه بالشدّة، والضعف بحسب تفاوت قربه من الشيطان، وبعده منه، وكانت هذه العبادة أبعد بعيد عن الشيطان كان بسببها أبعد بعيد عن العقاب؛ فلذلك خصّت بكونها وقاية منه، واعلم أنّ هذه العبادات، وإن كانت عدميّة إلَّا أنّها ليست عدماً صرفاً بل عدم ملكة يحرّك من الطبيعة تحريكاً شديداً ينبّه صاحبه أنّه على جملة من الأمر اليس هذراً؛ فيتذکَّر سبب ماينويه من ذلك، وأنّه التقرب إلى اللهّ سبحانه کما هو غاية للسرّ العامّ للعبادات.

«وحَجُّ الْبَيْتِ واعْتِاَرُهُ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ ويَرْحَضَانِ الذَّنْبَ»: أي يغسلانه جمع فيه بين منفعة الدنيا، ومنفعة الآخرة: أمّا منفعة الدنيا؛ فكونهما ينفيان الفقر وذلك بسبب التجارة الحاصلة في موسم الحجّ؛ وقيام الأسواق بمكَّة حينئذ، وأمّا منفعة الآخرة لكونهما يغسلان الذنب عن لوح النفس کما علمته في أسرار العبادات، وهذه هي المنافع المشار إليها في القرآن الكريم بقوله «لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ»(2) قال أكثر المفسرّين: هي منافع الدنيا من التجارة، وهو المنقول عن سعيد بن جبير، وابن عبّاس في رواية أبي رزين عنه، ومنهم من جعلها عامّة في منافع الدنيا والآخرة كالتجارة والثواب، وهو المنقول عن مجاهد وابن عبّاس في رواية و مل بح عطاء عنه.

«وصِلَةُ الرَّحِمِ فَإِنَّهَا مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ»: وذلك من وجهين أحدهما: أنّ العناية

ص: 141


1- ينظر: عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي: ج 1 ص 273، وطبقات الشافعية الكبرى العبد الوهاب بن علي السبكي: ج 6 ص 334، وإحياء علوم الدين للغزالي: ج 3 ص 424
2- سورة الحج: الآية 28

الإلهيّة قسمت لكلّ حيّ قسطاً من الرزق يناله مدّة الحياة الدنيا، وتقوم به صورة بدنه، وإذا أعدّت شخصاً من الناس للقيام بأمر جماعة، وكلَّفته بإمدادهم ومعونتهم، وجب في العناية إفاضته أرزاقهم على يده، وما يقوم بإمدادهم بحسب استعداده لذلك سواء كانوا ذوي أرحام أو مرحومين في نظره حتّى لو نوی قطع أحد منهم؛ فربّما نقص ماله بحسب رزق ذلك المقطوع، وذلك معنی کونه مثراة للمال.

الثاني: أنّها من الأخلاق الحميدة الَّتي يستمال بها طباع الخلق فواضل رحمه مرحوم في نظر الكلّ؛ فيكون ذلك سبباً لإمداده، ومعونته من ذوى الإمداد والمعونات كالملوك ونحوهم.

«ومَنْسَأَةٌ فِي الأَجَلِ»: من النسأ وهو التأخير وذلك أيضاً من وجهين: أحدهما: أنّه يوجب تعاطف ذوي الأرحام، وتوازرهم ومعاضدتهم لواصلهم؛ فيكون عن أذى الأعداد أبعد، وفي ذلك مظنّة تأخيره وطول عمره.

الثاني: أنّ مواصلة ذوي الأرحام توجب تعلَّق هممهم بقاء، واصلهم، وإمداده بالدعاء، ويكون دعائهم له، وتعلَّق هممهم ببقائه من شرائط بقائه، وإنساء أجله فكانت مواصلتهم منسأة في أجله.

«وصَدَقَةُ السِّرِّ فَإِنَّهَا تُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ»: وإنّما خصّها بذلك مع أنّ سائر العبادات كذلك لكونها أبعد عن الرياء، ومخالطة ما لا يراد به؛ إلَّا وجه اللهَّ تعالى، فكان الإخلاص فيها للهَّ أتمّ فكانت أولى بالتقريب من اللهَّ وبمحو الخطيئة.

«وصَدَقَةُ الْعَلَنِيَةِ فَإِنَّهَا تَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ»: الموت بلا توبة بيان ذلك أنّ صدقة العلانية تستلزم الشهرة بفعل الخيرات، وتوجب الذكر الجميل للمتصدّق، ولمّا

ص: 142

كانت ميتات السوء كالحرق، والغرق والصلب والقتل، ونحو ذلك من الأحوال الشنيعة الَّتي تكثر نفرة الناس عن الموت عليها، وكان قليلاً مايقع شيء منها بقصد من الناس لمن أحبّوه، واشتهر بالرحمة، واستجلاب قلوب الفقراء بالصدقة والإيثار، فلا جرم کانت تلك الصدقة مظنّة الدفع ميتات السوء عنه.

«وصَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ فَإِنَّهَا تَقِي مَصَارِعَ الْهَوَانِ»: تقريره قريب ممّا قبله؛ إذ كان اصطناع المعروف مستلزماً لتألَّیف قلوبهم، وجامعاً لهم على محبّة المصطنع، وقلَّما يقع من ذلك نسيبهم في مصرع هوان؛ ثمّ لمّا فرغ من تعداد کمالات الإيمان أمر بما یؤکَّده في القلوب ويثبّته فقال: «أَفِيضُوا فِي ذِكْرِ اللَّهِ»: اندفعوا فيه مرة بعد أخرى وهو من مؤکَّدات الإيمان به.

«فَإِنَّهُ أَحْسَنُ الذِّكْرِ»: لما يستلزمه من الحصول على الكمالات المسعدة في الآخرة والوصول إلى الله کما سنبيّن فائدته وفضيلته في موضع التوبة.

«وارْغَبُوا فِياَ وَعَدَ الْمُتَّقِینَ»: من ثواب الآخرة، وأنواعه وهو أيضاً من مؤكَّدات طاعته والعمل له.

«فَإِنَّ وَعْدَهُ أَصْدَقُ الْوَعْدِ»: أذ الخلف محال «واقْتَدُوا بِهَدْيِ نَبِيِّكُمْ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ

الْهَدْيِ واسْتَنُّوا بِسُنَّتِهِ فَإِنَّهَا أَهْدَى السُّنَنِ»: ولمّا كان أفضل الأنبياء كانت سنّته أشرف السنن والاقتداء به واتّباع سنّته أهدى الطرق إلى اللهَّ؛ «وتَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ»: وظاهر كونه من مؤکَّدات الإيمان باللهَّ ورسوله.

«وتَفَقَّهُوا فِيهِ فَإِنَّهُ رَبِيعُ الْقُلُوبِ»: وجه المشابهة كون القرآن جامعا لأنواع العلوم الشريفة والأسرار العجيبة اللطيفة الَّتي هي متنزّه القلوب كما أنّ زمن الربيع محلّ الأزهار الرايقة الَّتي هي مستمتع النظر ومطرح السرور.

ص: 143

«واسْتَشْفُوا بِنُورِهِ فَإِنَّهُ شِفَاءُ الصُّدُورِ»: من داء الجهل وهو ظاهر «وأَحْسِنُوا

تِلَوَتَهُ فَإِنَّهُ أَنْفَعُ الْقَصَصِ»: وذلك لأنّ حسن تلاوته مظنّة تفهّم معانيه وتدبّرها، وإنّما يكون أنفع القصص إذا تلي حقّ تلاوته، ثمّ أكَّد الأوامر المذكورة بقوله: فإِنَّ «الْعَالِمَ الْعَامِلَ بِغَیْرِ عِلْمِهِ كَالْجَاهِلِ الْحَائِرِ الَّذِي لَا يَسْتَفِيقُ مِنْ جَهْلِهِ»: في الجور عن قصد السبيل، وفي عدم الانتفاع بفائدة العلم، وثمرته وهي الأعمال الصالحة.

«بَلِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ»: عليه على العالم المذكور «أَعْظَمُ»: لأنّ للجاهلين أن يقولوا: إنا كنّا عن هذا غافلين، وليس للعالم ذلك، وروي عن الرسول صلَّى اللهَّ عليه وآله وسلَّم أنّه قال: «العلم علمان: علم على اللسان؛ فذلك حجّة اللهَّ على بن آدم، وعلم في القلب فذلك العلم النافع»(1). أي الَّذي يستلزم الطاعة بالعمل.

«والْحَسْرَةُ لَهُ أَلْزَمُ»: لأنّ النفوس الجاهلة غير عالمة بمقدار ما يفوتها من الكمال بالتفصيل؛ فإذا فارقت أبدانها فهي، وإن كانت محجوبة عن ثمار الجنّة، وما أعدّ اللهّ فيها لأوليائه العلماء إلَّا أنّها لم تجد لذّتها، ولم تطعم حلاوة المعارف الإلهيّة لم تكن لها كثير حسرة عليها، ولا أسف على التقصير في تحصيلها بخلاف العارف بها العالم بنسبتها إلى اللذّات الدنيويّة؛ فإنّه بعد المفارقة إذا علم، وانكشف له أنّ الصارف له والمانع عن الوصول إلى حضرة جلال اللهَّ هو تقصيره في العمل بما علم مع علمه بمقدار ما فاته من الكمالات، والدرجات كان أسفه، وحسرته على ذلك أشدّ الحسرات، وجرى ذلك مجری من علم قيمة جوهرة ثمينة يساوی جملة من المال، ثمّ اشتغل عن تحصيلها ببعض لعبه حتّى فاتته؛ فإنّه يعظم حسرته

ص: 144


1- مسند زيد بن علي لزيد بن علي: شرح ص 382؛ وعيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق: ج 2 ص 75؛ والدعوات (سلوة الحزين) لقطب الدين الراوندي: ص 283؛ منتهی المطلب للعلامة الحلي: ج 7 ص 127؛ ونهاية الأحكام للعلامة الحلي ج 2 ص 209؛ والمغني لعبد الله بن قدامة: ج 2 ص 302؛ و المجازات النبوية للشريف الرضي: ص 403

عليها، وندمه على التفريط فيها بخلاف الجاهل بقيمتها.

«وهُوَ عِنْدَ اللِّهَ أَلْوَمُ»: وأشدّ اللائمة له بعد المفارقة، وإنّما يكون ألوم لأنّ إقدام العالم على المعصية الَّتي علم قبحها إنّما يكون عن نفس في غاية الانقياد للنفس الأمّارة بالسوء، والطاعة لإبليس، وجنوده طاعة تفضل على طاعة الجاهل وانقياده لقيام الصارف في حقّ العالم، وهو علمه بقبحها، وترجّح للداعي إليها عليه، وعدم الصارف في حقّ الجاهل، ولا شكّ أنّ أشدّية اللائمة تابعة لأشدیّة الانقياد لإبليس خصوصاً مع العلم بما يستلزم متابعته من الهلاك، فظاهر إذن کونه ألوم عند اللهَّ وباللهَّ التوفيق.

ومن خطبته له عليه السّلام: في التحذير عن الدنيا والتنفير عنها بذكر معايبها.

«أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّ أُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ»: استعار لفظ الحلاوة والخضرة المتعلَّقين بحّسي: بالذائقة والبصر لما يروق منها، ويلتذّ النفس بها ووجه المشابهة المشاركة في الالتذاذ به، وإنّما خصّ متعلَّق هذين الحسّين لأكثريّة تأديتهما إلى النفس والالتذاذ بواسطتهما دون سائر الحواسّ.

«حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ»: وفي الخبر «حفّت الجنّة بالمكاره، وحفّت النار بالشهوات»(1).

قال: أصحاب المعاني وفي ذلك تنبيه على أنّ النار هي الدنيا، ومحبّتها بعد المفارقة وهو سبب عذابها قلت: إنّ ذلك غير مفهوم من كلامه عليه السّلام،

ص: 145


1- الغارات لإبراهيم بن محمد الثقفي الكوفي: ج 1 هامش ص 293؛ مسند أحمد بن حنبل: ج 2 ص 290؛ والمجازات النبوية للشريف الرضي: ص 378، وسنن الدارمي لعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي: ج 2 ص 339

وأمّا معنى الخبر فجاز أن يراد فيه النار المعقولة؛ فيكون قريباً ممّا قالوا، وجاز أنّ يراد بالنار المحسوسة، ويكون المعنى على التقديرين أنّ النار إنّما تدخل بالانهماك في مشتهيات الدنيا، ولذّاتها والخروج في استعمالها عمّا ينبغي إلى ما لا ينبغي؛ فكأنّها لذلك محفوفة، ومحاطة بالشهوات لا يدخل إليها شيء إلَّا منها.

«وتَحَبَّبَتْ بِالْعَاجِلَةِ»: أراد بالعاجلة اللذّات الحاضرة الَّتي مالت القلوب إلى الحياة الدنيا بسببها فأشبهت المرأة المتحبّبة بما لها وجمالها؛ فاستعير لها لفظ التحبّب، وكذلك قوله:

«ورَاقَتْ بِالْقَلِيلِ»: أي أعجبت بزينتها القليلة بالنسبة إلى متاع الآخرة كميّة وكيفيّة.

«وتَحَلَّتْ»: تزینت «بِالآمَالِ»: الكاذبة «وتَزَيَّنَتْ بِالْغُرُورِ»: فإنّه لولا الغرور والغفلة عن عاقبتها لما زانت في عيون طالبيها.

«لَا تَدُومُ حَبْرَتُهَا»: سرورها «ولَا تُؤْمَنُ فَجْعَتُهَا غَرَّارَةٌ ضَرَّارَةٌ»: أي كثيرة الاستغفال لأهلها والخداع لهم.

«حَائِلَةٌ زَائِلَةٌ نَافِدَةٌ بَائِدَةٌ»: هالكة «أَكَّالَةٌ غَوَّالَةٌ»: مهلكة كنى بالأولين عن کونها کالمخادعة في كونها كالسبع في افنائهم بالموت.

«لَا تَعْدُو إِذَا تَنَاهَتْ إِلَ أُمْنِيَّةِ أَهْلِ الرَّغْبَةِ فِيهَا والرِّضَاءِ بِهَا أَنْ تَكُونَ كَمَا قَالَ اللَّهُ

تَعَالَی سُبْحَانَهُ»: «وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا»(1): أن يكون كما قاله الله مفعول لا

ص: 146


1- سورة الكهف: الآية 45

تعدوه، وما مصدرية أي لا يجاور الدنيا كونها کما، وضفت الله في قوله کماء الآية وحاصله أن غاية صفائها للراغبين فيها، والراضين بها لا يتجاوز الميل، وهو أن يزهر في عيوبهم، ويروقهم محاسنها ثم عن قليل يزول عنهم؛ فكأنها لم يكن کما هو معنى المثل المضروب لها في القرآن الكريم.

«لَمْ يَكُنِ امْرُؤٌ مِنْهَا فِي حَبَرَةٍ إِلَّا أَعْقَبَتْهُ بَعْدَهَا عَبْرَةً: دمع، کنی بها عن الحزن المعاقب للسرور.

«ولَمْ يَلْقَ فِي سَرَّائِهَا بَطْناً إِلَّا مَنَحَتْهُ مِنْ ضَرَّائِهَا ظَهْراً»: تخصيص البطن بالسرّاء والظهر بالضرّاء، ويحتمل أمرين: أحدهم: أن يريد بطنّ المجنّ وظهره، وذلك من العادة في حال الحرب أن يلقي الإنسان ظهر المجنّ، وفي حال السلم أن يلقى المجنّ فیکون بطنه ظاهراً، فجرى المثل به في حقّ المتنکَّرین، والمخاصمين بعد سلم. فقيل: قلَّب له ظهر المجنّ. کما قال عليه السّلام لابن عبّاس في بعض كتبه إليه: قلَّبت لابن عمّك ظهر المجنّ، كذلك استعمل هاهنا لقائها للمرء ببطنها في إقبالها عليه، ولقائه منها ظهراً في إدبارها عنه، ومحاربتها له، الثاني: يحتمل أن یرید بطنها وظهرها، وذلك أنّ العادة، فيمن يلقى صاحبه بالبشر، والسرور أن يلقاها بوجهه، وبطنه، وفيمن يلقي بالتنكير، والإدبار أن يلقي بظهره مولَّياً عنه؛ فاستعير للدنيا وعبّر به عن إقبالها وإدبارها.

«ولَمْ تَطُلَّهُ»: تمطره «فِيهَا دِيمَةُ رَخَاءٍ إِلَّا هَتَنَتْ»: مطرت «عَلَيْهِ مُزْنَةُ بَلَاءٍ»: هي السحابة البيضاء «وحَرِيٌّ إِذَا أَصْبَحَتْ لَهُ مُنْتَصِرَةً أَنْ تُمْسِيَ لَهُ مُتَنَكِّرَةً»: متغيرة «وإِنْ جَانِبٌ مِنْهَا اعْذَوْذَبَ واحْلَوْ لَي»: أي صار إلى غاية العذوبة والحلاوة «أَمَرَّ مِنْهَا جَانِبٌ فَأَوْبَى»: أمرض وأهلك «لَا يَنَالُ امْرُؤٌ مِنْ غَضَارَتِهَا»: طراوتها «رَغَباً»: مرغوباً «إِلَّا أَرْهَقَتْهُ مِنْ نَوَائِبِهَا تَعَباً ولَ يُمْيِ مِنْهَا فِ جَنَاحِ أَمْنٍ إِلَّا أَصْبَحَ

ص: 147

عَلَى قَوَادِمِ خَوْفٍ»: إنّما خصّ أمنها بالجناح لأنّ القوادم هي رأس الجناح، وهي الأصل في سرعة حركته، وتغيّره، وهو في مساق ذمّها، والتخويف منها؛ فحسن ذلك التخصيص، ومراده أنّه وإن حصل فيها أمن؛ فهو في محلّ التغيّر السريع والخوف إليه أسرع.

«هي غَرَّارَةٌ غُرُورٌ» : فيه مبالغة «مَا فِيهَا فَانِيَةٌ فَانٍ مَنْ عَلَيْهَا لا خَیْرَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَزْوَادِهَا إِلَّا التَّقْوَى»: استثنی ماهو المقصود من خلق الدنيا ووجود هذا النوع فيها وهو التقوى الموصل إلى الله سبحانه وإنما كان من أزواد الدنيا لأنه لا يمكن تحصيله ألا فيها كما سبقت الإشارة إليه في قوله: فتزودوا من الدنيا في الدنيا ما تحررون به أنفسكم غداً وظاهراً أنه لا خير فيما عداه من لقائه ومضرته.

«مَنْ أَقَلَّ مِنْهَا اسْتَكْثَرَ مِمَّا يُؤْمِنُهُ»: أي من الزهد فيها وقد عرفت كيفية الأمان به من عذاب الله.

«ومَنِ اسْتَكْثَرَ مِنْهَا اسْتَكْثَرَ مِمَّا يُوبِقُهُ»: وهو ملكات السوء الحاصلة عن حب مقتنياتها ولذاتها الفانية الموجبة للهلاك بعد مفارقتها وزوالها.

«وزَالَ عَمَّا قَلِيلٍ عَنْهُ كَمْ مِنْ وَاثِقٍ بِهَا قَدْ فَجَعَتْهُ وذِي طُمَأْنِينَةٍ إِلَيْهَا قَدْ صَرَعَتْهُ

وذِي أُبَّهَةٍ: عظمة قَدْ جَعَلَتْهُ حَقِراً وذِي نَخْوَةٍ »: نكیر(1) «قَدْ رَدَّتْهُ ذَلِياً سُلْطَانَهُا

دُوَّلٌ»: من المال ودولة من الدولة يقال: الفيء دولة بينهم يتداولونه يكون لهذه مرة وهذا مرة «وعَيْشُهَا رَنِقٌ»: کدر «وعَذْبُهَا أُجَاجٌ وحُلْوُهَا صَبِرٌ»: استعار العذب والحلو للذاتها والأجاج والصبر لما تشوب لذاتها من الكدر بالأمراض والتغيرات ووجه الاستعارات الاشتراكات في الالتذاذ والإيلام وغِذَاؤُهَا سِمَامٌ: استعار لفظ

ص: 148


1- النكير: هو المجعول حقيراً

الغذاء وکنی به عن لذاتها أيضاً ولفظ السما له ووجه الاستعارة ما يستعقب الانهماك في لذاتها من الهلاك في الآخرة كما يستعقبه شرب السم.

«وأَسْبَابُهَا رِمَامٌ»: مالية «حَيُّهَا بِعَرَضِ مَوْتٍ وصَحِيحُهَا بِعَرَضِ سُقْمٍ: موضعه مُلْكُهَا مَسْلُوبٌ وعَزِيزُهَا مَغْلُوبٌ ومَوْفُورُهَا مَنْكُوبٌ وجَارُهَا»: مستجيرها مَحْرُوبٌ: محروم ثم أعقب التحذير منها بالتثنية على مصارع السابقين فيها السابقين فيها من كان أطول عمراً وأشد باساً فقال: «أَلَسْتُمْ فِي مَسَاكِنِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَطْوَلَ أَعْماَراً وأَبْقَى آثَاراً وأَبْعَدَ آمَالً وأَعَدَّ»: أكثر «عَدِيداً»: جمعاً «وأَكْثَفَ»: أكثر «جُنُوداً تَعَبَّدُوا لِلدُّنْيَا أَيَّ تَعَبُّدٍ»: كناية عن غاية محبتهم لها «وآثَرُوهَا أَيَّ إِيْثَارٍ ثُمَّ ظَعَنُوا»: سافروا عَنْهَا بِغَيْرِ زَادٍ مُبَلِّغٍ»: إلى جوار الله «ولَا ظَهْرٍ»: مظنة «قَاطِعٍ»: سبیله «فَهَلْ بَلَغَكُمْ أَنَّ

الدُّنْيَا سَخَتْ»: وهبت من السخاء «لَهُمْ نَفْسا بِفِدْيَةٍ أَوْ أَعَانَتهْهُمْ بِمَعُونَةٍ أَوْ أَحْسَنَتْ لَهُمْ صُحْبَةً بَلْ أَرْهَقَتْهُمْ»: أغشتهم بالثواقل(1) «وأَوْهَنَتْهُمْ بِالْقَوَارِعِ»: المحن «وضَعْضَعَتْهُمْ بِالنَّوَائِبِ»: حركتهم بالمصيبات «وعَفَّرَتْهُمْ لِلْمَنَاخِرِ ووَطِئَتْهُمْ بِالْمَنَاسِمِ»: أخفاف الأبل «وأَعَانَتْ عَلَيْهِمْ رَيْبَ الْمُنُونِ»: حوادث الدهر إسناد هذه الأفعال كلها إليها لتشبيهها بالمرآة المزينة بخداع الرجال عن أنفسهم وأموالهم ونحو ذلك «فَقَدْ رَأَيْتُمْ تَنَكُّرَهَا

لِمَنْ دَانَ لَهَا»: أطاع وذل للدنيا «وآثَرَهَا وأَخْلَدَ لَهَا حَتَّى ظَعَنُوا عَنْهَا لِفِرَاقِ الأَبَدِ»: لما فرغ من ذمها والتنفير عنها بتعدید مذامها استفهم السامعين على سبيل التقريع عن إيثارهم لها بهذه المذام، واطمئنانهم إليها وحرصهم عليها فقال: «وهَلْ زَوَّدَتْهُمْ إِلَّا السَّغَبَ»: الجوع «أَوْ أَحَلَّتْهُمْ إِلَّا الضَّنْكَ»: الضيق «أَوْ نَوَّرَتْ لَهُمْ: أضائت لهم إلَّا الظُّلْمَةَ أَوْ أَعْقَبَتْهُمْ إِلَّا النَّدَامَةَ أَفَهَذِهِ تُؤْثِرُونَ: يختارون «أَمْ إِلَيْهَا تَطْمَئِنُّونَ أَمْ عَلَيْهَا تَحْرِصُونَ»: ثم عاد إلى دمها مجملاً بقوله:

ص: 149


1- ورد في بعض متون النهج: بِالْقَوَادِحِ

فَبِئْسَتِ الدَّارُ لِمَنْ لَمْ يَتَّهِمْهَا»: وفي بعض النسخ لمن لم يتهمها أي لمن اعتقد بصحتها وإنّها مقصودة بالذات فركن إليها فأنها بذلك الاعتبار مذمومة في حقه إذ كانت سبب هلاكه في الآخرة.

«ولَمْ يَكُنْ فِيهَا عَلَى وَجَلٍ»: كالمتهم لها بالخديعة والغرور فأنه يكون فيها على وجل منها عاملاً لما بعدها فكانت محمودة له إذ كانت سبب سعادته في الآخرة ثم شرع بالأمر في العمل على وفق العلم بمفارقتها فقال:

(1)«فَاعْلَمُوا وأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ بِأَنَّكُمْ تَارِكُوهَا وظَاعِنُونَ عَنْهَا»: وذلك أن ترك العمل للآخرة أنما يكون للاشتغال بالدنيا؛ فالعالم بضرورة مفارقتها له، وما أعدّ لتاركي العمل من العذاب الأليم؛ إذا نبّه على تلك الحال كان ذلك صارفاً له عنها، ومستلزماً للعمل لغيرها، وأكدّ التنبيه على مفارقتها بالتذكَّر بأحوال المفارقين لها بعد مفارقتها المضادّة؛ للأحوال المعتادة للأحياء الَّتي؛ ألفوها و استراحوا إليها، إذ كان من عادتهم إذا حملوا أن يسمّوا ركباناً، وإذا نزلوا أن يدعوا ضيفاناً، وإذا تجاوروا أن يجيبوا داعيهم، ويمنعون عنه الضيم، وأن يفرحوا إن جادهم الغيث، ويقنطوا إن قحطوا منه، وأن يتزاوروا في التداني، ويحكموا عند وجود الأضغان، ويجهلوا عند قيام الأحقاد، ويخشوا ویرجوا، فسلبت عنهم تلك الصفات، وعرفوا بأضداد تلك السات، وإلى ما ذكنا أشار بقوله:

«واتَّعِظُوا فِيهَا بِالَّذِينَ قَالُو»: «مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً»(2) «حِمُلُوا إِلیَ قُبُورِهِمْ فَلاَ

يُدْعَوْنَ رُكْبَاناً وأُنْزِلُوا الأَجْدَاثَ فَلَا يُدْعَوْنَ ضِيفَاناً وجُعِلَ لَهُمْ مِنَ الصَّفِيحِ:

ص: 150


1- ورد في بعض النسخ: مِنْهَا
2- سورة فصلت: الآية 15

(1)أَجْنَانٌ»: جمع جنين جمع جنة وهي السترة «ومِنَ التَرُّابِ أَكْفَانٌ ومِنَ الرُّفَاتِ

جِیرَانٌ فَهُمْ جِرَةٌ»: جمع جار «لَا يُجِيبُونَ دَاعِياً ولَا يَمْنَعُونَ ضَيْماً»: ظلماً «ولَا يُبَالُونَ مَنْدَبَةً»: مناحة إِنْ جِيدُوا: مطروا(2) «لْمَ يَفْرَحُوا وإِنْ قُحِطُوا لْمَ يَقْنَطُوا جِمَيعٌ وهُمْ آحَادٌ وجِرَةٌ وهُمْ أَبْعَادٌ مُتَدَانُونَ»: متقاربون «لَا يَتَزَاوَرُونَ وقَرِيبُونَ لَا يَتَقَارَبُونَ حُلَاَءُ قَدْ ذَهَبَتْ أَضْغَانُهُمْ وجُهَاَءُ قَدْ مَاتَتْ أَحْقَادُهُمْ لَا يُخْشَى فَجْعُهُمْ ولَا

يُرْجَى دَفْعُهُمْ اسْتَبْدَلُوا بِظَهْرِ الأَرْضِ بَطْناً وبِالسَّعَةِ ضِيقاً وبِالأَهْلِ غُرْبَةً وبِالنُّورِ

ظُلْمَةً فَجَاءُوهَا كَمَا فَارَقُوهَا»: أي أشبه مجيئهم إليها ووجودهم فيها وخروجهم منها يوم مفارقتهم لها، ووجه الشبة قوله: «حُفَاةً»: جمع حاف وهو الذي بلا خفّ ولا نعل «عُرَاةً»: وهما کنایتان عن الفقر منها دل على ذلك استشهاده بالآية الكريمة(3) وموضوع قوله: «قَدْ ظَعَنُوا عَنْهَا»: النصب على الحال کما انتصب حفاة عراة «بِأَعْمَلِهِمْ إِلَی الْحَيَاةِ الدَّائِمَةِ والدَّارِ الْبَاقِيَةِ»: والعامل فارقوها ولايقدّر مثله بعد جاؤها وإن قدّر مثل الحالين السابقين قال الإمام الوبريّ(4): فراقهم من الدنيا إن خلقوا منها ومجيئهم إليها إن دفنوا فيها قال اللهَّ تعالى «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ»(5) ثم قلت: وكان الحامل له على هذا التأويل أنّه لو كان مراده مجيئهم إليها دخولهم فيها حين الولادة مع أنه في ظاهر الأمر هو المشبّه، ومفارقتهم هي المشبّه به لانعكس الفرض، إذا المقصود تشبيه المفارقة بالمجئ، وذلك يستلزم

ص: 151


1- لم يرد في الأصل: بَياض صحيْح
2- مطروا: طلبوا نزول المطر. ومطر وا: أيضاً: عبارة عن السعة
3- لم يرد ذكر الآية في المتن ووردت في شروحات أخرى وهو قوله تعالى «كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ»: سورة الأنبياء: الآية 104
4- الوبري: هو: أحمد بن إسحاق بن محمد الوبري: کما أخرجه الذهبي في سير أعلام النبلاء: ج 8 ص 368
5- سورة الروم: الآية 20

كون المشبّه هو المفارقة، والمشبّه به هو المجيء لكن ينبغي أن يعلم أن المشابهة إذا حصلت بين الشيئين في نفس الأمر جاز؛ أن يجعل أحدهما أصلاً، والآخر فرعاً، وجاز أن يقصد أصل المساواة بينهما من دون ذلك؛ فحمله هنا على الوجه الآخر أولى من التعسّف الَّذي ذكره، فإنّ: من فيها: لبيان الجنس فلا تدلّ على المفارقة والانفصال كما قال الله سبحانه «كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ»(1) وله الحمد والمنة.

ومن خطبة له عليه السّلام ذکر؛ فيها ملك الموت ذكر فيها ملك الموت توفيته وهي طويلة ذكره في معرض التوحيد، والتنزيه للهَّ تعالى عن اطَّلاع العقول البشريّة على كنه، وصفه فقدّم التنبيه بالاستفهام عن الإحساس على سبيل الإنكار به في دخوله منازل المتوفّين وذلك قوله: «هَلْ تُحِسُّ بِهِ إِذَا دَخَلَ مَنْزِلً أَمْ هَلْ تَرَاهُ إِذَا تَوَفَّ أَحَداً؟ بَلْ كَيْفَ يَتَوَفَّ الْجِنِینَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَيَلِجُ»: يدخل »عَلَيْه مِنْ بَعْضِ جَوَارِحِهَا»: راجعة إلى ألم، «أَمْ الرُّوحُ أَجَابَتْهُ بِإِذْنِ رَبِّهَا أَمْ هُوَ سَاكِنٌ مَعَهُ فِي أَحْشَائِهَا»: وجعل الحقّ من هذه الأقسام في الوسط، وهو إجابتها بإذن ربّها ليبقى الجاهل في محلّ الحيرة متردّداً، ثمّ لمّا بيّن أنّ ملك الموت لا يتمكَّن الإنسان من وصفه نبّه على عظمة الله عز وجل إليه، وأنّه إذا عجز الإنسان عن وصف مخلوق مثله فبالأولى أن يعجز عن صفة خالقه، ومبدعه الَّذي هو أبعد الأشياء عنه مناسبة، وذلك قوله: «كَيْفَ يَصِفُ إِلَهَهُ مَنْ يَعْجَزُ عَنْ صِفَةِ مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ»: وتقدير البيان بذلك التنبيه؛ أنّ العبد عاجز عن صفة مخلوق مثله؛ فهو عن صفة الخالق ذلك مخلوق مثله؛ فهو من صفة خالق ذلك المخلوق، ومبدعه أشدّ عجزاً.

ولنشر إشارة خفيفة إلى حقيقة الموت، وإلى ما عساه يلوح من، وصف ملك

ص: 152


1- سورة الروم: الآية 20

الموت إنشاء اللهَّ تعالى.

أمّا حقيقة الموت: فاعلم أنّ الَّذي نطقت به الأخبار، وشهد به الاعتبار أنّ الموت ليس إلَّا عبارة عن تغيّر حال، وهو مفارقة الروح لهذا البدن الجاري؛ فيها مجرى الآلة لذي الصنعة، وأنّ الروح باقية بعده كما شهدت به البراهين العقليّة في مظانّها، والآثار النبويّة المتواترة، ومعنى مفارقتهاله هو انقطاع تصرّفها فيه لخروجه عن حدّ الانتفاع به؛ فما كان من الأمور المدركة لها تحتاج في إدراكه إلى آلة فهي متعطَّلة عنه بعد مفارقة البدن إلى؛ أن تعاد إليه في القبر أو يوم القيامة، وما كان مدركا لها بنفسها من غير آلة؛ فهو باق معها يتنعّم به، ويفرح أو يحزن من غير حاجة إلى هذه الآلة في بقاء تلك العلوم، والإدراكات الكلَّيّة لها هناك، وقد ضرب للمفارقة الَّتي سميّناها بالموت مثلاً: فقيل: كما أنّ بعض أعضاء المريض متعطَّل بحسب، فساد المزاج يقع فيه؛ أو بحسب شدّة تعرّض للأعصاب فتمنع نفوذ الروح فيها فتكون النفس مستعملة لبعض الأعضاء دون ما استعصى عليها منها فكذلك الموت عبارة عن استقصاء جميع الأعضاء كلَّها وتعطَّلها، وحاصل هذه المفارقة يعود إلى سلب الإنسان عن هذه الأعضاء، والآلات والقينات الدنيويّة من الأهل والمال والولد ونحوها، ولا فرق بين أن تسلب هذه الأشياء عن الإنسان أو يسلب هو عنها؛ إذ كان المؤلم هو الفراق، وقد يحصل ذلك بنهب مال الرجل وسبي ذريّته، وقد يحصل بسلبه ونهبه عن ماله وأهله، فالموت في الحقيقة هو سلب الإنسان عن أمواله بإزعاجه إلى عالم آخر فإن كان له في هذا العالم شيء يستأنس ويستريح إليه فبقدر عظم خطره عنده يعظم تحسّره عليه في الآخرة وتصعب شقاوته في مفارقته، ويكون سبب عظم خطره عنده ضعف تصوّره لما أُعدّ للأبرار المتّقين في الآخرة ممّا يستحقر في القليل منه أكثر نفائس الدنيا، فأمّا إن

ص: 153

كانت عين بصيرته مفتوحة حتّى لم يفرح إلَّا بذكر اللهَّ تعالى ولم يأنس إلَّا به، عظم نعمته وتمّت سعادته؛ إذ خلَّى بينه وبين محبوبه فقطع علائقه، وعوائقه الشاغلة له عنه ووصل إليه، وانكشف له هناك ما كان يدركه من السعادة بحسب الوصف انکشاف مشاهدة كما يشاهد المستيقظة من نومه صورة ما رآه في النوم.

والناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا، إذا عرفت ذلك؛ فاعلم أن ملك الموت عبارة عن الروح المتولَّي لإفاضة صورة العدم على أعضاء هذا البدن، ومفارقة النفس له، ولعلَّه هو المتولَّي لإفاضة صورة الوجود عليها لكنّه بالاعتبار الأوّل يسمّى ملك الموت، ثمّ لمّا كانت النفوس البشريّة إنّما تدرك المجرّدات ما دامت في هذا العالم وتستثبتها بأن تستصحب القوّة المتخيّلة معها؛ فيتحاكي ما كان محبوباً؛ فيها للنفس ومستبشراً بلقائه بصورة بهيّة كتصورّها لجبرئيل في صورة دحية الكلبيّ وغيره من الصور البهيّة الحسنة، وما كان مستكرهاً مخوفاً منفوراً من لقائه بصورة هائلة لا جرم اختلف رؤية الناس لملك الموت؛ فمنهم من يراه على صورة بهيّة، وهم المستبشرون بلقاء اللهَّ الَّذين قلَّت رغبتهم في الدنيا، ورضوا بالموت ليصلوا إلى لقاء محبوبهم، وفرحوا به لكونه وسيلة إليه کما روى عن إبراهيم عليه السّلام أنّه قال: «لملك الموت فهل تستطيع أن تريني الصورة الَّتي تقبض فيها روح الفاجر فقال لا تطيق ذلك فقال: بلى فقال: فاعرض، فأعرض عليه ثم ألتفت فإذا هو رجل اسود قاتم الشعر منتن الريح أسود الثياب يخرج من فيه ومناخره النار والدخان فغشي على إبراهيم عليه السّلام ثمّ أفاق، وقد عاد ملك الموت إلى حالته الأولى فقال: يا ملك الموت لو لم يلق الفاجر عند موته إلَّا هذه الصورة الكفته))(1) وباللهَّ التوفيق.

ص: 154


1- يُنظر: مسائل علي بن جعفر : لعلي بن جعفر: ص 330؛ مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 2 ص 275؛ و شرح مئة كلمة لأمير المؤمنين لابن ميثم البحراني: ص 56؛ و تفسير البيان: للشيخ الطوسي: ج 10 ص 98؛ وتفسير مجمع البيان: للشيخ الط سيرب: ج 10 ص 107

ومن خطبة له عليه السّلام: في التحذير من الدنيا واستدراج معايبها وغيره.

«وأُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا مَنْزِلُ قُلْعَةٍ»: أي ليس بمستوطن كأنه يقلع ساكنه «ولَيْسَتْ بِدَارِ نُجْعَةٍ»: هي طلب الكلاء من موضعه كناية عما ينبغي أن يطلب من الخيرات الباقية التي هي محل الأمن والسرو الدائم «قَدْ تَزَيَّنَتْ بِغُرُورِهَا وغَرَّتْ بِزِينَتِهَا»: أزاد أن زينتها سببٌ لاستغفالها الحق، والاغترار بها سبب الاستحسانها، ولا عليك أن تقول سائلاً فقد جعل الزينة سبباً للغرور، والغرور سبباً للزينة وذلك دور لأنه مجاب بأنه جعل الزينة سبباً للاستغرار، والغرور سبباً لاستحسانها وعدم التنبّه لمعايبهافلا دور.

دار هَانَتْ عَلَى رَبِّهَا»: أي لم تكن العناية الآلهيّة إليها بالذات، فلم تكن خيراً محضاً بل كان كلّ ما فيها ممّا يعدّ خيراً مشوباً بشرّ يقابله.

«فَخَلَطَ حَلَلَهَا بِحَرَامِهَا وخَيْرَهَا بِشَّرِهَا وحَيَاتَهَا بِمَوْتِهَا وحُلْوَهَا بِمُرِّهَا لَمْ

يُصْفِهَا اللُّهَ تَعَالَ لأَوْلِيَائِهِ ولَمْ يَضِنَّ»: لم يبخل بِهَا «عَلَى أَعْدَائِهِ، خَيْرُهَا زَهِيدٌ»: قليل «وشَرُّهَا عَتِيدٌ»: مهیباً «وجَمْعُهَا يَنْفَدُ ومُلْكُهَا يُسْلَبُ»

«وعَامِرُهَا يَخْرَبُ فَمَا خَیْرُ دَارٍ تُنْقَضُ نَقْضَ الْبِنَاءِ وعُمُرٍ يَفْنَى فِيهَا فَنَاءَ الزَّادِ

ومُدَّةٍ تَنْقَطِعُ انْقِطَاعَ السَّیْرِ»: استفهام على سبيل الإنكار والتشبيه في سرعة العدة وقلت البقاء ثم أدبهم بقوله:

«اجْعَلُوا مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنْ طَلَبِكُمْ»: والغرض أن تصير محبوبة لهم کمحبتهم لما يسألونه من مال وغيره فيواظبوا على العمل بها.

ص: 155

«واسْأَلُوهُ مِنْ أَدَاءِ حَقِّهِ مَا سَأَلَكُمْ»: وذلك بالإعانة والتوفيق والإعداد لذلك کما سألهم أداء حقّه، والغرض أيضاً أن يصير الأداء مهمّاً لهم محبوباً إليهم، ونحوه في الدعاء المأثور: ألَّلهمّ إنّك سألتني من نفسي ما لا أملكه إلَّا بك فأعطني منها مايرضيك عنّي.

«وأَسْمِعُوا دَعْوَةَ الْمَوْتِ آذَانَكُمْ قَبْلَ أَنْ يُدْعَى بِكُمْ»: يصاح بكم أي اقصدوا استماع كلّ لفظ يخوّف الموت وأهواله، وذلك بالجلوس مجالس الذكر، ومحاضرة الزاهدين في الدنيا، وفائدة ذكر الموت تنغيص اللذّات الدنيوية، والانجذاب عن الركون إليها إلى العمل لما بعد الموت قال سيد المرسلين صلى الله عليه [وآله] وسلم: «أكثروا ذكر هادم اللذات»(1) شرح حال الزاهدين في الدنيا ليهتدي من عساه تجذبه العناية الإلهية كيفية طريقهم فيقتدي بهم فقال: «إِنَّ الزَّاهِدِينَ فِي

الدُّنْيَا المعرضن عنها تَبْكِي قُلُوبُهُمْ وإِنْ ضَحِكُوا»: وذلك إشارة إلى دوام حزنهم لملاحظتهم الخوف من اللهَّ فإن ضحكوا مع ذلك فمعاملة مع الخلق.

«ويَشْتَدُّ حُزْنُهُمْ وإِنْ فَرِحُوا»: وهو قريب ممّا قبله ويحتمل أن يريد وأن فرحوا بمطالعة أنوار الله تعالى و کرائم ما أعد لأوليائه الأبرار.

«ويَكْثُرُ مَقْتُهُمْ»: بغضهم أنفسهم فيتركون الالتفات إليها بالزينة وطاعتها فيما تدعوهم إليه من متاع الحياة الدنيا الحاضرة.

«وإِنِ اغْتَبَطُوا بِمَا رُزِقُوا»: وإن غبطتهم غيرهم بما قسّم لهم من رزق، أو بما على

ص: 156


1- کتاب سلیم بن قیس الهلالي الكوفي: ص 211؛ كذلك الإيضاح للفضل بن شاذان: هامش ص 314؛ مستطرفات السرائر لابن إدريس الحلي: ص 30، ومنتهى المطلب للعلامة الحلي: ج 1 هامش ص 22؛ علل الشرائع للشيخ الصدوق: ج 1 ص 176؛ کمال الدین وتمام النعمة للشيخ الصدوق: ص 60؛ كفاية الأثر للخزاز القمي: ص 71

ما هم عليه من طاعة الله تعالى، وفي ذلك إشارة إلى أن الزهد لا يجتمع مع محبة الدنيا والميل إليها لا مع وجودها؛ فأن بعض الأنبياء والأولياء لذو حظ عظيم ثم عنف السامعين على ما هم عليه من الأحوال المضرة في الآخرة بقوله:

«قَدْ غَابَ عَنْ قُلُوبِكُمْ ذِكْرُ الآجَالِ»: بسبب غفلتكم «وحَضَرَتْكُمْ كَوَاذِبُ

الآمَالِ»: فيجذبكم إلى جمع الدنيا وزخارفها «فَصَارَتِ الدُّنْيَا أَمْلَكَ بِكُمْ مِنَ الآخِرَةِ والْعَاجِلَةُ أَذْهَبَ بِكُمْ مِنَ الآجِلَةِ وإِنَّمَا أَنْتُمْ إِخْوَانٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ»: لقوله عز وجل «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» «مَا فَرَّقَ بَيْنَكُمْ إِلَّ خُبْثُ السَّرَائِرِ وسُوءُ الضَّمَئِرِ»: من قبيل العطف التفسيري ويجوز أن يحمل كل منهما بعض.

«فَلَا تَوَازَرُونَ»: أي لا يحمل بعظكم الثقل عن بعض ويجوز أن يكون من الوزر وهو الملجأوروي لا تزرون من الأزر وهو القوة «ولَا تَنَاصَحُونَ ولَا تَبَاذَلُونَ ولَا تَوَادُّونَ»: ثم استفهم على سبيل التقريع والتوبيخ لعلمهم ينزجروا بقوله:

«مَا بَالُكُمْ تَفْرَحُونَ بِالْيَسِرِ مِنَ الدُّنْيَا تُدْرِكُونَهُ»: منصوب على الحال كالفعلين بعده.

«ولَا يَحْزُنُكُمُ الْكَثِرُ مِنَ الآخِرَةِ تُحْرَمُونَهُ ويُقْلِقُكُمُ»: يزعجكم «الْيَسِیرُ مِنَ

الدُّنْيَا»: حين «یَفُوتُکُمْ»: نصیبکم.

«حَتَّى يَتَبَیَّنَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِكُمْ وقِلَّةِ صَبْرِكُمْ»: عطف على وجوهكم أي حين يتبين ذلك القلق في وجوهكم وفي قوله: صبركم «عَمَّا زُوِيَ»: عما غيب «مِنْهَا

عَنْكُمْ كَأَنَّهَا دَارُ مُقَامِكُمْ وكَأَنَّ مَتَاعَهَا بَاقٍ عَلَيْكُمْ ومَا يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ أَنْ يَسْتَقْبِلَ

أَخَاهُ بِمَا يَخَافُ مِنْ عَيْبِهِ إِلَّا مَخَافَةُ أَنْ يَسْتَقْبِلَهُ بِمِثْلِهِ»: أي ما يمنع أحدكم أن ينكر على أخيه منکراً هو عليه إلا الخوف أن يلقاه بمثل ما أنكره عليه لمشاركة أياه فيه

ص: 157

کما صرح به عليه السلام في قوله: «قَدْ تَصَافَيْتُمْ»: تخالصتم «عَلَى رَفْضِ الآجِلِ

وحُبِّ الْعَاجِلِ وصَارَ دِينُ أَحَدِكُمْ لُعْقَةً عَلَى لِسَانِه»: هي بالضم أسم لما يأخذه الملعقة استيعابه لما ينطق به من شعار الإسلام والدین کالشهادتين ونحوهما من دون أثبات ذلك في القلب.

«صَنِيعَ مَنْ قَدْ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ وأَحْرَزَ رِضَا سَيِّدِهِ»: أي صنعکم صنيع فهو منصوب على المصدر ووجه التشبيه الاشتراك في الترك والتقصير وبالله التوفيق.

ومن خطبة له عليه السّلام:

«الْحَمْدُ للهَّ الْوَاصِلِ الْحَمْدَ بِالنِّعَمِ والنِّعَمَ بِالشُّكْرِ»: يحتمل أن يريد أنه تعالى وصل حامدیه بإفاضة نعمه عليهم كما قال تعالى «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ» وذلك لأن العبيد يستعدّ بشكر النعمة، لمزيدها وصله النعم الَّتي يفيضها على عباده بإفاضة الاعتراف بها على أسرار قلوبهم، هو حقيقة الشكر؛ فيظهر إذن معنی وصله النعم بالشكر، وإنّ الشكر والتوفيق له نعم أخری کما سبقت الإشارة إليه في الخطبة الأولى، ويحتمل أن يريد الشكر أنه تعالى يصل نعمه على عباده بشکره بعضها بعضاً من سماء جوده.

«نَحْمَدُهُ عَلَى آلَئِهِ كَمَا نَحْمَدُهُ عَلَى بَلَئِهِ»: نبّه بتسويته بين حمده على النعماء وحمده على البلاء على وجوب الحمد على البلاء لأنه نعمة؛ أيضاً لكونه تستحق به الثواب الأجل، وسبب النعمة نعمة، وبهذا الاعتبار يجب الشكر عليه؛ أيضاً كما يجب عليها إذ الكل نعمة.

«ونَسْتَعِينُهُ عَلَى هَذِهِ النُّفُوسِ الْبِطَاءِ عَمَّا أُمِرَتْ بِهِ»: من سائر التكاليف وذلك الحاجة النفوس إلى مقاومة مقتضى الطبيعة إن لم يوافقها «السِّرَاعِ إِلَی مَا نُهِيَتْ عَنْهُ»:

ص: 158

من المعاصي، لموافقتها مقتضى الطبيعة، واستقرار النفس الأمارة بالسوء فيه ذكر ما لأجله الاستعانة عليها؛ ثم نبه على وجوب طلب المعونة من الله تعالى؛ لكل ذنب مما أحاط به عمله وأحصاه كتابه المبين ولوحة المحفوظ وذلك قوله: «ونَسْتَغْفِرُهُ مِمَّا أَحَاطَ بِهِ عِلْمُهُ وأَحْصَاهُ كِتَابُهُ عِلْمٌ غَیْرُ قَاصِرٍ وكِتَابٌ غَیْرُ مُغَادِر»: تاركٍ لشيء كقوله تعالى «وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ»(1) وقوله حكاية عن الكفار بلسان حالهم لما وجدوه وانكشفت لأعين بصائرهم حين انصبت عنهم جلابيب أبدانهم وأغطيتها وقالوا «يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا»(2).

«ونُؤْمِنُ بِهِ إِيمَانَ مَنْ عَايَنَ الْغُيُوبَ ووَقَفَ عَلَى الْمَوْعُود»: على ما وعد به المتقون بعين الكشف «إِيمَاناً نَفَى إِخْلَصُهُ الشِّرْكَ ويَقِينُهُ الشَّكَّ»: وإنما خص هذا الإيمان لكونه أقوى درجات الإيمان؛ فأن من الإيمان ما یکون بحسب التقليد، ومنه ما يكون بحسب البرهان؛ وهو علم اليقين، وأقوى منه الإيمان بحسب الكشف والمشاهدة، وهو عين اليقين، وذلك هو الإيمان الخالص، وبحسب الإخلاص فيه يكون نفيه للشرك فيه، وبحسب يقينه يكون نفي الشك، وقد علمت أنه صلى الله عليه [وآله] كان من رؤساء هذه المرتبة.

«ونَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهً إِلَّا اللُّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ شَهَادَتَيْنِ

يُسْعِدَانِ الْقَوْلَ»: أي كل واحد من هاتين الشهادتين شهادة بالقلب يساعد باللسان وروي تُصْعدان بالصّاد تأكيد لقوله:

«وتَرْفَعَانِ الْعَمَلَ»: وذلك أن إخلاص الشهادتين اصل القبول العبادات القولية والعمليّة لا يصعد إلى الله تعالى قول وعمل لا يكونان أصلاً له وأشار إلى

ص: 159


1- سورة البقرة: الآية 29
2- سورة الكهف: الآية 49

ذلك بقوله:

«لَا يَخِفُّ مِيزَانٌ تُوضَعَانِ فِيهِ ولَا يَثْقُلُ مِيزَانٌ تُرْفَعَانِ عَنْهُ»: وقد اشرنا إلى معنی الوزن فيما سبق وسنزیده بیاناً شاء الله تعالى «أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّتِي

هِيَ الزَّادُ»: أي الزاد المنتفع به في الآخرة «وبِهَا الْمَعَاذُ»: أي المعاد المنجح ولذلك قال: «زَادٌ مُبْلِغٌ ومَعَاذٌ مُنْجِحٌ»: تفسيراً لهما.

«دَعَا إِلَيْهَا أَسْمَعُ دَاعٍ»: أي أشدّ الدعاة إلى الله إسماعاً وإبلاغاً لرسالات الله وهو الرسول صلى الله عليه [وآله] وسلم.

«ووَعَاهَا خَیْرُ وَاعٍ»: أي حفضها خير حافظ قبل وهذا إشارة إلى قوله تعالى «وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ»(1) اتفق المفسرون أنها نزلت في شأنه عليه السلام.

(2)«عِبَادَ اللِّهَ إِنَّ تَقْوَى اللِّهَ حَمَتْ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ مَحَارِمَهُ وأَلْزَمَتْ قُلُوبُهَمْ مَخَافَتَهُ حَتَّى

أَسْهَرَتْ لَيَالِيَهُمْ وأَظْمَأَتْ هَوَاجِرَهُمْ»: أي حتى قاموا للصلوات طول الليالي وصاموا في الحر الشديد وصفها بهما مجاز لكونهما، فالليالي لقيام الصلوات والنهار للصوم فكان ذلك من باب أطلاق صفة المظروف على الظرف، وهو كقولهم نهاره صائم وليله قائم.

«فَأَخَذُوا الرَّاحَةَ»: في الأخرة «بِالنَّصَبِ»: بتعب الأبدان في العبادات والرِّيَّ: من السلسبيل «بِالظَّمَأِ»: بظمأ الصيام «واسْتَقْرَبُوا الأَجَلَ»: رواه قريباً.

«فَبَادَرُوا الْعَمَلَ وكَذَّبُوا الأَمَلَ فَلَحَظُوا الأَجَلَ»: الفاء فيهما للتعليل فان استقرار الأجل مستلزم للعمل له ولما بعده، وكذلك تكذيب الأمل هو انقطاعه

ص: 160


1- سورة الحاقة: الآية 12
2- ورد في بعض النسخ: فَأَسْمَعَ دَاعِيهَا وفَازَ وَاعِيهَا

ملازم لملاحظة الأجل.

ثم شرع في ذکر مذام الدنيا أجمالاً فقال:

«ثُمَّ إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ فَنَاءٍ وعَنَاءٍ وغِیْرٍ وعِبَرٍ»: جمع عمره ثم أعقب ذلك الأجمال بالتفضيل كل جملة من باب الطي والنشر وذلك قوله: ««فَمِنَ الْفَنَاءِ أَنَّ الدَّهْرَ مُوتِرٌ

قَوْسَه»: استعار لفظ الإيتار لإيتار الدهر، ورشح بذكر القوس، ووجهها أنّ الدهر يعد للرمي بالمصائب والإصابة بها كما يعد الرمي بالإيتار للإصابة.

«لَ تُخْطِئُ سِهَامُهُ ولَا تُؤْسَى»: أي لا يعالج جِرَاحُهُ: استعارة لنوائب الدهر وإيتارها في الناس ووجها اشتراكهما في الأذى والإيلام أيضاً ورشح بذکر عدم المطاولة.

«يَرْمِي الْحَيَّ بِالْمَوْتِ والصَّحِيحَ بِالسَّقَمِ والنَّاجِيَ بِالْعَطَبِ»: الهلاك «آكِلٌ لَا

يَشْبَعُ وشَارِبٌ لَا يَنْقَعُ»: أي يروي یُقال نقُعت بالماء رويّت، ونقع الماء العطش أي سكّنهُ فعلى هذا تقديره، وشارب لا ينفع نفسه، ووجه الاستعارة كونه يأبى على الخلق؛ فيعد لقائهم كما يأتي الأكل، والشارب على الطعام والشارب.

«ومِنَ الْعَنَاءِ أَنَّ الْمَرْءَ يَجْمَعُ مَا لَا يَأْكُلُ ويَبْنِي مَا لَا يَسْكُنُ ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَی اللَّهِ تَعَالَی

لَا مَالًا حَمَلَ، ولَا بِنَاءً نَقَلَ، ومِنْ غِيَرِهَا أَنَّكَ تَرَى الْمَرْحُومَ مَغْبُوطاً وهو»: أهل المسكنة والفقراء الذي يتبدل فقره بالغنى فيغبط «والْمَغْبُوطَ مَرْحُوماً»: أهل الغني المتبدل به فقراً بحسب تصاريف الدهر فيصير في محل الرحمة «لَيْسَ ذَلِكَ»: المذكور «إِلَّا نَعِيماً زَلّ» من المغبوطين «وبُؤْساً نَزَلَ»: بهم حتى صاروا مرحومين. «ومِنْ عِبَرِهَا أَنَّ الْمَرْءَ يُشْرِفُ عَلَى أَمَلِهِ فَيَقْتَطِعُهُ حُضُورُ أَجَلِهِ فَلَا أَمَلٌ يُدْرَكُ ولَا مُؤَمَّلٌ يُتْرَكُ فَسُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَعَزَّ سُرُورَهَا وأَظْمَأَ رِيَّهَا وأَضْحَى فَيْئَهَا»: أظهر التعجب من

ص: 161

احوال الدنيا ونزهه تعالی کما يفعل المتعجب، ونسب الغرور إلى سرورها، والظماء إلى ريّها و کنّی بهاعن استتمام لذّاتها، وبفيئها عن الركون إلى قنياتها، والاعتماد عليها، ووجه هذه النسب أنّ سرورها، وريها وفيئها هي الصوارف عن العمل للآخرة، والملفتات عن الإقبال على اللهَّ تعالى، فكان سرورها أقوى سبب للغرور بها، وريّها، وفيئها أقوى الأسباب لظماء المنهمك فيها من شراب الأبرار، وأوجب لأبراره إلى حرّ الجحيم في جنات النعيم؛ فلذلك جازت هذه النسب المذكورة.

«لَا جَاءٍ يُرَدُّ» أي من آفات الدهر کالموت والقتل ونحوهما.

«ولَا مَاضٍ يَرْتَدّ: أي من الأموات والفائت من القنيات.

«فَسُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَقْرَبَ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ لِلَحَاقِهِ بِهِ وأَبْعَدَ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ

لِانْقِطَاعِهِ عَنْهُ إِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ بِشَّرٍّ مِنَ الشَّرّ إِلَّا عِقَابُهُ ولَيْسَ شَيْءٌ بِخَیْرٍ مِنَ الْخَیْرِ إِلَّا ثَوَابُهُ»: يحتمل أن يريد الشرّ والخير المطلقين، ويكون ذلك للمبالغة، إذ يقال للأمر الشديد: هذا أشدّ من الشدائد، ويحتمل أن یرید شرّ الدنيا وخيرها؛ فإنّ أعظم شرّ في الدنيا مستحقر في عقاب اللهَّ، وأعظم خير فيها مستحقر بالنسبة إلى ثواب اللهَّ تعالى، ثمّ أكَّد ذلك بقوله:

«وكُلُّ شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا سَاَعُهُ أَعْظَمُ مِنْ عِيَانِهِ وكُلُّ شَيْءٍ مِنَ الآخِرَةِ عِيَانُهُ أَعْظَمُ

مِنْ سَمَاعِهِ»: مصداق کلامه عليه السّلام؛ أنّ أعظم شرّ يتصوّر الإنسان بالسماع ويستهوله، ويستنكره ممّن يفعله صورة القتل والجراح؛ فإذا، وقع في مثل تلك الأحوال، وشاهدها أو اضطرّ به إلى المخاصمة، والمحاربة سهل عليه ما كان يستصعبه منها، وهان في عينه ذلك الواقع والخوف خصوصاً، من يفرح في تلك الحال بلقاء ربه، ويكون عريقاً في مطالعة أنوار کبریائه کما نقل عن الحسن بن

ص: 162

منصور الحلاج انه كان يقطع أعضائه؛ وهو يقول لو قطعوني ارباً أرباً أزدت لك الا حباً وكذلك لا يزال الإنسان ينجوا من المثول بين يدي الملوك، ويتصور عظمتهم، وبطشهم إلى أن يصل مجالسهم؛ فأنه يجد من نفسه زوال ذلك الخوف فكانت مشاهدة ما كان يتصوره شراً عظيماً أهون عنده من نفسه زوال من، وصفه والسماع به وكذلك حال الخير، فأن الإنسان لا يزال يحرص على تحصيل الدرهم والدينار، وغيرها من سائر مطالب الدنيا، ويكون قلبه مشغولاً بتحصيله فرحاً بانتظار وصوله؛ فإذا وصل إليه هان عليه، وهو أمر وجداني وسببه أن الروح في الدنيا بحسب الذات طالبٌ للمحبوب لا الذات، وأما أحوال الآخرة؛ فالذي يسمعه من شرورها، وخيراتها إنما يلاحظها بالنسبة إلى خيرات الدنيا، وشرورها وربما كانت في اعتبار كثير من الخلق، أهون من خيرات الدنيا، وشرورهالقرب الخلق من المحسوس، وقرب الدنيا منهم، وذوقهم لها دون أحوال الآخرة؛ فلذلك كان أعيان أحوالها أعظم من سماعها، وإذا كانت الحال كذلك؛ فينبغي أن يكتفي من العيان بالسماع، ومن الغيب بالخبر حيث لا يمكن الاطلاع على الغيب، ومشاهدة العيان في هذا العالم؛ ثم نبه على أفضلية الآخرة؛ بأن ما زاد فيها مايقرب إلى الله تعالى، وان أستلم نقصان الدنيا من بذل مال؛ أو جاه خير من العكس، وذلك قوله:

«فَلْيَكْفِكُمْ مِنَ الْعِيَانِ السَّمَاعُ ومِنَ الْغَيْبِ الْخَبَرُ واعْلَمُوا أَنَّ مَا نَقَصَ مِنَ الدُّنْيَا

وزَادَ فِي الآخِرَةِ خَیْرٌ مِمَّا نَقَصَ مِنَ الآخِرَةِ وزَادَ فِي الدُّنْيَا»: وبيان هذه الخيرية كون خيرات الدنيا في معرض الزوال مشوبة بالأوجاع، والأوجال وكون تلك باقية على كل حال مع كونها على غلبته الكمال لهم الجنة، وبأكثرية المريد الخاسر الذين یکنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها.

ص: 163

«فَكَمْ مِنْ مَنْقُوصٍ»: من الدنيا رابح في الآخرة(1) «ومَزِيدٍ خَاسٍرِ»: الأول أولياء اللهَّ وأحبّائه الذين اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة، والثاني هم الَّذين يكنزون الذهب، والفضّة، ولا ينفقونها في سبيل اللهَّ؛ ثمّ أكَّد الحثّ على سلوك طريق الآخرة بيان اتّساعها بالنسبة إلى طريق الدنيا فقال:

«إِنَّ الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ أَوْسَعُ مِنَ الَّذِي نُهِيتُمْ عَنْهُ»: وذلك ظاهر، فإنّ مما نهينا عنه: القتل، وفي الحلم، والصبر الذيَّن هما أشرف الأخلاق المحمودة سعة، وعنه الظلم، وفي العدل الذي هو رأس الأخلاق الحميدة سعة عنه، والكذب الذي هو رأس النفاق، وعليه يبنی خراب العالم، وفي التعاريض، والصدق الذي هو بضدّه مندوحة عنه، ثمّ الزنا، وهو نکاح مخصوص على ما فيه من الشرور التي عددناها في مواضعها، وفي سائر، وجوه النكاحات مع كثرتها، وسلامتها عن تلك المفاسدسعة عنه، ثمّ شرب الخمر التي هي أُمّ الخبائث، ومنشأ كثير من الفساد، کما سنبينه.

فيما عساه يأتي من ذكرها ان شاء الله وفي العدول عنها إلى مايقارب فعلها من الأشربة المحمودة المباحة سعة عنها وكذلك قوله: «ومَا أُحِلَّ لَكُمْ أَكْثَرُ مِمَّا

حُرمِّ عَلَيْكُم»: فانّ الواجب، والمندوب، والمباح، والمكروه يصدق على جميعها اسم الحلال، وهي أكثر من الحرام الَّذي هو قسم، واحد من الأحكام؛ ثمّ لمّا نبّه على وجه المصلحة في ترك المنهيّ، والمحرّم أردف ذلك بالأمر بالترك فقال: «فَذَرُوا مَا قَلَّ لِمَا كَثُرَ ومَا ضَاقَ لِمَا اتَّسَعَ»: لأنّ العقل إذا لاحظ طريقاً مخوفاً، واحدا بين طرق كثيرة آمنة اقتضى العدول عن المخوفة بضرورته.

ص: 164


1- ورد في بعض النسخ: رَابِحٍ

«قَدْ تَكَفَّلَ لَكُمْ بِالرِّزْقِ وأُمِرْتُمْ بِالْعَمَلِ فَلَا يَكُونَنَّ الْمَضْمُونُ لَكُمْ طَلَبُهُ أَوْلَ

بِكُمْ مِنَ الْمَفْرُوضِ عَلَيْكُمْ عَمَلُهُ»: نبّه بالنهي عن ترجيح طلب الرزق على الاشتغال بفرائض اللهَّ، وعلى أنّ الاشتغال بها أولى بكون الرزق مضموناً، فالسعي في تحصيله يجرى مجرى طلب الحاصل، ثم أردف ذلك بما يجري مجرى التوبيخ اللسامعين على ترجيحهم طلب الرزق على الاشتغال بفرائض الله تعالى؛ فأقسم أنّ ذلك منهم عن اعتراض الشكّ لهم فيما تيقّنوه من تكفّل اللهَّ سبحانه بأرزاقهم ووعده و ضمانه لهم بقوله: «وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ» أي في سماء جوده وذلك قوله: «مَعَ أَنَّهُ واللَّهِ لَقَدِ اعْتَرَضَ الشَّكُّ ودَخَلَ: عيب الْيَقِنُ حَتَّى كَأَنَّ الَّذِي ضُمِنَ لَكُمْ قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ وكَأَنَّ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْكُمْ قَدْ وُضِعَ عَنْكُمْ»: وقد علمت أنّ الجدّ في طلب الرزق ينبعث عن توكَّل العبد على نفسه، وذلك مستلزم لضعف يقينه في باريه وسوء ظنّه به، المستلزم لعدم توكله عليه بإخلاص؛ ثم جعله في طلب الرزق كمن تيقّن المضمون له مفروضاً طلبه عليه، والمفروض عليه طلبه موضوعاً عنه، مبالغة في قلَّة احتفالهم بفرائض اللهَّ عليهم، واشتغالهم عنها بطلب رزق الدنيا؛ ثم نبه على وجوب المحافظة على العمر بالعمل للآخرة، وعلى أولويّة مراعاته بالنسبة إلى مراعاة طلب الرزق قال: «فَبَادِرُوا الْعَمَلَ وخَافُوا بَغْتَةَ الأَجَلِ فَإِنَّهُ لَا يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ الْعُمُرِ مَا يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ الرِّزْقِ»: فإنّ العمر في تقضّ ونقصان، وما فات منه غير عائد بخلاف الرزق فإنّه يرجى زيادته وجبران مانقص منه في الماضي وإليه أشار بقوله: «مَا فَاتَ الْيَوْمَ مِنَ الرِّزْقِ رُجِيَ غَداً

زِيَادَتُهُ ومَا فَاتَ أَمْسِ مِنَ الْعُمُرِ لَمْ يُرْجَ الْيَوْمَ رَجْعَتُهُ»: فیکون مراعاته أولى من مراعاة طلب الرزق، ولما كان العمر الذي من شأنه أن لا يعود ما فات منه طرفاً للعمل، ويفوت بفواته وجب تدارك العمل فيه بتدارکه.

ص: 165

«الرَّجَاءُ مَعَ الْجَائِي»: أي الرزق «والْيَأْسُ مَعَ الْمَاضِي»: أي العمر مؤكد لما قبله ثم ختم بالآية اقتباسا من نور القرآن فقال: «فَاتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ»(1) ووجه الاقتباس هنا أنّه لمّا كان الكلام في معرض حَذر السامعين إلى العمل الَّذي هو تطويع النفس الأمّارة بالسوء للنفس المطمئنّة الَّذي هو خير من الرياضة، وكان التقوى عبارة عن الزهد في الدنيا الَّذي تعود حقیقته حذف الموانع الداخليّة، والخارجيّة عن القلب، وهو الجزء الثاني من الرياضة، وكان الإسلام هو الدين الحقّ المركَّب من ذينك الجزئين لا جرم حسن إيراد الآية المشتملة على الأمر بالتقوى، والموت على الإسلام بعد الأمر بالعمل ليكون ذلك أمراً بإكمال الدين، وإتمامه وباللهَّ العصمة والتوفيق.

ومن خطبة له عليه السّلام: في الاستسقاء

«اللَّهُمَّ قَدِ انْصَاحَتْ»: انشقت من اليبس «جِبَالُنَا واغْبَرَّتْ أَرْضُنَا وهَامَتْ»: عطشت «دَوَابُّنَا وتَحَیَّرَتْ فِي مَرَابِضِهَا وعَجَّتْ»: صاحت «عَجِيجَ الثَّكَالَی عَلَى

أَوْلَدِهَا ومَلَّتِ التَّرَدُّدَ فِي مَرَاتِعِهَا، والْحَنِینَ إِلَی مَوَارِدِهَا اللَّهُمَّ فَارْحَمْ أَنِنَ الآنَّةِ

وحَنِینَ الْحَانَّةِ اللَّهُمَّ فَارْحَمْ حَيْرَتَهَا فِي مَذَاهِبِهَا وأَنِينَهَا فِي مَوَالِجِهَا»: مداخلها «اللَّهُمَّ خَرَجْنَا إِلَيْكَ حِنَ اعْتَكَرَتْ»: اختلطت علينا «عَلَيْنَا حَدَابِرُ السِّنِينَ وأَخْلَفَتْنَا مَخَايِلُ

الْجُودِ»: جمع مخيلة وهي السحاب التي يرخي المطر والجودة المطر العظيم «فَكُنْتَ الرَّجَاءَ لِلْمُبْتَئِسِ»: الحزين «والْبَلَاغَ لِلْمُلْتَمِسِ نَدْعُوكَ حِینَ قَنَطَ الأَنَامُ ومُنِعَ الْغَمَامُ وهَلَكَ السَّوَامُ أَلَّا تُؤَاخِذَنَا بِأَعْمَلِنَا ولَا تَأْخُذَنَا بِذُنُوبِنَا»: فيه تنبيه على أنّ للذنوب، والأعمال الخارجة عن أوامر اللهَّ تأثيراً في رفع الرحمة، وسرّ ذلك أنّ الجود الإلهيّ الا بخل فيه، ولا منع من قبله، وإنّما يكون ذلك بحسب عدم الاستعداد له

ص: 166


1- سورة آل عمران: الآية 102

وقلَّته وكثرته، وظاهر أنّ المقبلين على الدنيا المرتكبين المحارم اللهَّ معرضون عنه غیر متلقّين لآثار رحمته بل مستعدّون لضدّ ذلك أعني سخطه، وعذابه بحسب استعدادهم بالانهماك في محارمه، والجور عن سبيله، وحريّ بمن كان كذلك أن لا تناله بركة، ولا يفاض عليه الرحمة، والأخذ أخص من المؤاخذة لأنه هو الإهلاك وهي قد تكون بدون ذلك.

«وانْشُرْ عَلَيْنَا رَحْمَتَكَ بِالسَّحَابِ الْمُنْبَعِقِ»: المنصب بشدة «والرَّبِيعِ الْمُغْدِقِ»: المطر الكثير الماء والنَّبَاتِ الْمُونِقِ سَحّاً وَابِلاً»: نصب على الحال والعامل أنشر تُحْيِي بِهِ مَا قَدْ مَاتَ وتَرُدُّ بِهِ مَا قَدْ فَاتَ اللَّهُمَّ سُقْيَاً»: بضم السم من سقاه الله أي اللهم ارزقنا سقياً «مِنْكَ مُحْيِيَةً مُرْوِيَةً تَامَّةً عَامَّةً طَيِّبَةً مُبَارَكَةً هَنِيئَةً مَرِيعَةً زَاكِياً نَبْتُهَا ثَامِراً

فَرْعُهَا نَاضِاً وَرَقُهَا تُنْعِشُ»: ترفع «بِهَا الضَّعِيفَ مِنْ عِبَادِكَ وتُحْيِي بِهَا الْمَيِّتَ مِنْ

بِلَادِكَ اللَّهُمَّ سُقْيَا مِنْكَ تُعْشِبُ بِهَا نِجَادُها»: جمع نجد وهو المرتفع من الأرض «وتَجْرِي بِهَا وِهَادُنَا»: جمع وهد وهو: الأرض المنخفضة «ويُحْصِبُ بِهَا جَنَابُنَا»: أي صار بها خصاباً حثيثاً «وتُقْبِلُ بِهَا ثِمَرُنَا وتَعِيشُ بِهَا مَوَاشِينَا وتَنْدَى»: تجود «بِهَا أَقَاصِينَا وتَسْتَعِينُ بِهَا ضَوَاحِينَا»: نواحينا بحذف المضاف كما في قوله تعالى «وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ»(1) «مِنْ بَرَكَاتِكَ الْوَاسِعَةِ وعَطَايَاكَ الْجَزِيلَةِ عَلَى بَرِيَّتِكَ الْمُرْمِلَةِ»: الفقرة «ووَحْشِكَ الْمُهْمَلَةِ»: التي لا أرباب لها فتقوموا بکفایتها وقد احملتْها يارب في فلواتها ولا ذنوب لها «وأَنْزِلْ عَلَيْنَا سَمَاءً مُخْضِلَةً رطبة»: أراد المطر وإنما أتت على نية الأمطار والسحاب والعرب يقول: كلما علاك فهو سماؤك «مِدْرَاراً هَاطِلَةً»: سائلة «يُدَافِعُ الْوَدْقُ مِنْهَا الْوَدْقَ»: هو المطر «ويَحْفِزُ الْقَطْرُ مِنْهَا الْقَطْرَ»: أي يدفع دفعاً شديداً «غَیْرَ خُلَّبٍ بَرْقُهَا»: الذي يكذب الظن فيه «ولَا جَهَامٍ عَارِضُهَا»: هو

ص: 167


1- سورة يوسف: الآية 82

المظلم الذي لا ماء فيه «ولَا قَزَعٍ أرَبَابُهَا»: سحابها «ولَا شَفَّانٍ ذِهَابُهَا حَتَّى يُخْصِبَ لإِمْرَاعِهَا»: لأكلائها «الْمُجْدِبُونَ»: الذين يكونون في الجدب وهو القحط: «ويَحْيَا بِبَرَكَتِهَا الْمُسْنِتُونَ»: الذين أصابتهم شدة السنة وقد اقتبس من أنوار القرآن العظيم ختام هذا الفصل فقال: «فَإِنَّكَ تُنْزِلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وتَنْشُرُ رَحْمَتَكَ وأَنْتَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ»: وجه المناسبة للآية ظاهر قال: السيد تفسير ما في هذه الخطبة من الغريب قوله عليه السلام «انصاحت جبالنا» أي تشققت من المحول: الجدب ويقال: أناح الثوب إذا تشقق ويقال أيضاً اتضّاح النبت وضاح وضوح إذا جف ويبس: الجوهري: صوحتهُ الريح: أيسته وضحت الشيء فإنضاح أي شققته فأنشق قال أبو عبيدة إذا أنشق الثوب من قبل نفسه قيل: قد إنضاح.

وقوله: «هامت دوابنا» أي: عطشت والهيام العطش وقوله: «حدابير السنين جمع حدبار وهي الناقة التي أنضاها السير»: أي هزها «فشتة بها السنة التي فشا فيها الجدب»، من حيث إنها معروضة للهزال المعنوي كما أن الناقة للحيي وأيضاً يشتركان في الأتعاب والله اعلم بالصواب هذا واعلم أنه ليس بتشبيه ولكنه استعار لها لفظها ملاحظة لذلك التشبيه المذكور.

قال: ذو الرمة حدابير النوق التي يبس لحمها من الهزال.

ما تنفك إلا مناحة على الخشف»: الظلم والذل «أو يرمي بها بلداً»: مفازة «قفراً»: خالياً، أحد على قائله وقيل: (إلا) لا يجوز اقحامها، هنا: كما لا يجوز أن يقال: مانزال إلا قائماً وعذره أن (أنّفك) هنا ليس ناقصاً بل بمعنى الانفصال فألا على هذا في مكانه أي لا يفارق أوطانها إلا مساحة على الخسف.

«ولا قزع رباما»: القزع: القطع الصغار المتفرقة من السحاب الرقيقة الواحدة

ص: 168

قزعة.

قال الشاعر: رعاله قزع الجهام وقوله: «فأن تقديره ولا ذات شفان ذهابها والشفان الريح الباردة والذهاب: الأمطار اللينة: جمع ذهبة فحذف ذات العلم السامع به.

الجوهري: والشفان: برد ريح في ندوة. والشفشاف: الريح اللينة البرد(1)، والله الموفق.

ومن خطبة له عليه السّلام

«أَرْسَلَهُ دَاعِياً إِلَی الْحَقِّ وشَاهِداً عَلَى الْحَلْقِ فَبَلَّغَ رِسَالَتِ رَبِّهِ غَیْرَ وَانٍ»: واهن

«ولَا مُقَصِّرٍ وجَاهَدَ فِي اللَّهِ أَعْدَاءَهُ غَیْرَ وَاهِنٍ»: ضعيف ولَا مُعَذِّر»: مقصر.

أعلم أن الأوصاف التي ذكرهاله صلى الله عليه [وآله] ظاهرة وقد سبق الإشارة إليها غير مرة.

«إِمَامُ مَنِ اتَّقَى»: لا أسناد أهل التقوى إليه في معرفة كيفية سلوك سبيل الله «وبَصَرُ مَنِ اهْتَدَى»: قد استعار له لفظ البصر، ووجهها كونه سبباً لاهتداء الخلق إلى سبيل الرشاد کما يهتدی صاحب البصر في طريقه المحسوس ببصره.

منها: متن خطب له بالكوفة يستنهض فيها أصحابه إلى حرب الشام ويتبرم من تقاعدهم عن صونه فنبههم أولاً على جهلهم بما سيقع من الفتن في الإسلام والوقائع ممّا غاب علمه وعلمه هو من اللهَّ ورسوله بحيث لو تصوّروا ما علمه منها لاحتال كلّ منهم في الخلاص لنفسه، ولهاموا على وجه الأرض باكين من

ص: 169


1- ينظر الصحاح للجوهري: ج 4 ص 1282

تقصيرهم في أعمالهم على وفق أوامره عليه السلام الَّتي بها نظام العالم إلى الأبد، ولكنّهم نسوا ما ذکَّروا به من آیات تعالى اللهَّ وأمنوا التحذير فضلَّت عنهم آراؤهم الصالحة الَّتي يكون بها نظام العالم فاستعقب ذلك تشتّت أمورهم وغلبة العدوّ على بلادهم وذلك قوله:

«ولَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ مِمَّا طُوِيَ عَنْكُمْ غَيْبُه إِذاً لَخَرَجْتُمْ إِلَ الصُّعُدَاتِ»: جمع صعْد وهو وجه الأرض قبل أراد ما يلقى المقصرون من أهوال الآخرة والأول أنسب بسياق الكلام «تَبْكُونَ عَلَى أَعْمَلِكُمْ وتَلْتَدِمُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ»: أي يضربون وجوهكم وصدوركم بالأكف «ولَتَرَكْتُمْ أَمْوَالَكُمْ لَا حَارِسَ لَهَا ولَا خَالِفَ عَلَيْهَا

ولَهَمَّتْ كُلَّ امْرِئٍ مِنْكُمْ نَفْسُه لَا يَلْتَفِتُ إِلَی غَيْرِهَا ولَكِنَّكُمْ نَسِيتُمْ مَا ذُكِّرْتُمْ وأَمِنْتُمْ

مَا حُذِّرْتُمْ فَتَاه عَنْكُمْ رَأْيُكُمْ وتَشَتَّتَ عَلَيْكُمْ أَمْرُكُمْ»: ثم عقب ذلك بالتبرم منهم وطلب فراقهم واللحاق بإخوانه من أوليائي الله الله مباركي الآراء، ثقال الحلوم لا يستخفنّهم جهل الجهّال، ملازمي الصدق، ونصيحة من شأنهم ترك البغي على أنفسهم وغيرهم، مضوا على الطريقة الحميدة، سالكين لمحجّة اللهَّ غير ملتفتين عنها فوصلوا إلى الثواب الدائم والنعيم المقيم قال: «ولَوَدِدْتُ أَنَّ اللَّه فَرَّقَ بَيْنِي

وبَيْنَكُمْ وأَلْحَقَنِي بِمَنْ هُوَ أَحَقُّ بِي مِنْكُمْ قَوْمٌ»: أي هم قوم «واللَّه مَيَامِنُ الرَّأْيِ

مَرَاجِيحُ الْحِلْمِ مَقَاوِيلُ بِالْحَقِّ مَتَارِيكُ لِلْبَغْيِ مَضَوْا قُدُماً عَلَى الطَّرِيقَةِ»: أي مضوا على الحميدة «وأَوْجَفُوا»: اسرعوا «عَلَىَ الْمَحَجَّةِ فَظَفِرُوا بِالْعُقْبَى الدَّائِمَةِ والْكَرَامَةِ الْبَارِدَةِ»: الطيبة والعرب تصف النعمة والكرامة بالبرد، ثم بيّن لهم بعض ما سيلحقهم من الفتن العظيمة ممّا طوى عنهم غيبه وهي فتنة الحجّاج فقال:

«أَمَا واللَّه لَيُسَلَّطَنَّ عَلَيْكُمْ غُاَمُ ثَقِيفٍ الذَّيَّالُ الْمَيَّالُ»: أشار إلى الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن مسعود بن عامر بن معتب بن ملك بن

ص: 170

كعب من الأجلاف وهو من قوم من ثقيف وكان ضعیف العين، دقيق الصوت، ذيّالا: أي طويل الذيل يصحبه تبخترا، میّالاً: كثر التمایل کبراً «يَأْكُلُ خَضِرَتَكُمْ»: استعارة لما هم عليه من الأبّهة، وسلامة الأموال، والنفوس، وكنى بأكله لها عن إزالته لتلك الحال، واستيلائه على ما فيه أيديهم، وأحوالهم وكذا استعار الشحمة في قوله: «ويُذِيبُ شَحْمَتَكُمْ»: لثرائهم وقوّتهم، ورشح بذكر الإذابة و أزاد بها أضغاثهم بالقتل والإهانة قال: «إِيه أَبَا وَذَحَة»:

قال الشريف: «الوذحة الخنفساء وهذا القول يومئ به إلى الحجاج وله مع الوذحة حديث»: كلمته إيه اسم من أسماء؛ فعل الأمر يستدعي بها الحديث المعهود، أو الفعل المعهود من الغير إن سكنت، وإن نوّنت كانت لاستدعاء قول أو فعل ما، وقيل: التسكين للوقف، والتنوين للدرج؛ فأمّا تلقيبه له بأبي وذحة فروي له قصتان أحداهما؛ أنه كان يوماً يصلَّی على سجّادة له؛ فدبّت إليه خنفساء، فقال: نحوّها؛ فإنّها وذحة من وذح الشيطان. وروي أنّه قال: قاتل اللهَّ قوما يزعمون أنّ هذه من خلق اللهَّ، فقيل له: ممّ هي؟ فقال: من وذح إبليس، وكأنّه شبّهها بالوذحة المتعلَّقة بذنب الشاة في حجمها أو شكلها فاستعار لها لفظها ونسبته لها إلى إبليس لاستقذاره إيّاه واستکراهه لصورتها أو لأنّها مشوّشه له في الصلاة، وروى أبو عليّ بن مسکویه: أنّه نحّاها بقصبته فقال: لعنك اللهَّ وذحة من وذح الشيطان، وقال بعض: أنه كان محثاً ولعله كان يأخذها، ويجعلها على مقعده ليغص ذلك الموضع، فيسكن بعض علته کما كان أبو جهل يفعل، ونُقل ودجة بالدال والجيم، وقیل وكنّي بذلك عن كونه سفّاكاً للدماء قطَّاعا للأوداج، وفيه بعد قال السيد الرضي: الودجة الخنفساء. ولم ينقل في المشهور من كتب اللغة، وإنما هي القطعة من بعرة الشاة وبوها ينعقد على أصواف أذنابها وأرساغها.

ص: 171

قال رضي الله عنه هو ذا القول يومي به إلى الحجاج وله مع الودجة حديث ليس هذا موضع ذكره.

ومن كلام له عليه السّلام في التوبيخ بالبخل بالأموال والأنفس.

«فَلَا أَمْوَالَ بَذَلْتُمُوهَا لِلَّذِي رَزَقَهَا ولَا أَنْفُسَ خَاطَرْتُمْ بِهَا لِلَّذِي خَلَقَهَا»: فيه استدراج حسن؛ فإنّ البخيل إنّما يستقبح بذله لملاحظة أمرين: أحدهما: خوف الفقر، والثاني: أنّه كثيراً ما يتوهّم الإخساء أن لا مستحقّ للمال إلَّا هم؛ فيكون ذلك، وأمثاله عذراً لهم مع أنفسهم في عدم البذل، وكذلك الشحيح بنفسه؛ إنّما يشحّ بها خوف الموت، وأن لا يكون له من هذه الحياة عوض يساويها؛ فإذا علم أنّ بذل المال لرازقه؛ إيّاه بعد أن يكون حسن الظنّ به زال عمله في البخل لعلمه بتعويضه خيراً منه، وبأنّه أحقّ منه. إذ كان المملوك، وما يملك لمالكه، وكذلك يزول عذر الشحيح بنفسه لعلمه أنّ خالقه إنما يطلب مبذلة نفسه في سبيله ان يوصله إلى ما هو خير له من هذه الحياة الفانية، وفي انقطاع يتوهّمونه عذراً في البخل بالمال والنفس يكون سهولة بذلها في سبيل اللهَّ تعالى.

«تَكْرُمُونَ بِاللِّهَ عَلَىَ عِبَادِهِ ولَا تُكْرِمُونَ اللَّهً فِي عِبَادِه»: أي تشرفون وتعجزون على الخلق بنسبتكم إلى دين الله وإظهار شعار الإسلام، وأنكم عباده ثم لا تكرمونه فيما يدعوكم إليه من إكرام عباده، والالتفات إلى فقرائهم باليسير مما رزقکم؛ ثم أمرهم باعتبار نزولهم منازل الدارجين، وانقطاعهم عن، وصل إخوانهم تنبيهاً لهم على انهم أمثالهم في اللحاق بمن سلف والانقطاع عمن يبقى فقال:

«فَاعْتَبِرُوا بِنُزُولِكُمْ مَنَازِلَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وانْقِطَاعِكُمْ عَنْ أَوْصَلِ إِخْوَانِكُمْ»: وروي عن أصل إخوانكم أي أقرب أصلاً أليكم وفائدة هذا الاعتبار تذكر الموت

ص: 172

والعمل له ولما بعده وبالله التوفيق.

ومن كلام له عليه السلام في اشتماله طباع أصحابه إلى مناصحته في الحرب بمدحهم:

«أَنْتُمُ الأَنْصَارُ عَلَى الْحَقِّ والإِخْوَانُ فِي الدِّينِ والْجَنَنُ يَوْمَ الْبَأْسِ والْبِطَانَةُ دُونَ

النَّاسِ»: أي أنهم من أهل خاصته الذين يعتمد عليهم في الأمور.

«بِكُمْ أَضْرِبُ الْمُدْبِرَ وأَرْجُو طَاعَةَ الْمُقْبِلِ فَأَعِينُونِ بِمُنَاصَحَةٍ خَلِيَّةٍ مِنَ الْغِشِّ

سَلِيمَةٍ مِنَ الرَّيْبِ»: والشكّ في صحّة إمامته وأنّه أولى بالأمر من غيره ولذلك أقسم أنّه كذلك فقال: «فَوَاللَّهِ إِنِّ لأَوْلَ النَّاسِ بِالنَّاسِ»: وقد سبق بيانه والله الموفق.

ومن كلام له عليه السّلام

وقد جمع الناس وحضهم على الجهاد فسكتوا ملياً: ساعة فقال عليه السّلام: «أمخرسون أنتم» فقال قوم منهم: يا أمير المؤمنين، إن سرت سرنا معك، فقال: عليه السّلام «مَا بَالُكُمْ لَا سُدِّدْتُمْ»: وفقتم «لِرُشْدٍ ولَا هُدِيتُمْ لِقَصْدٍ»: دعاء عليهم «أَفِي مِثْلِ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ أَخْرُجَ وإِنَّمَا يَخْرُجُ فِي مِثْلِ هَذَا رَجُلٌ مِمَّا أَرْضَاهُ»: اختاره «مِنْ شُجْعَانِكُمْ وذَوِي بَأْسِكُمْ ولَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَدَعَ الْجُنْدَ والْمِصْرَ وبَيْتَ الْمَالِ وجِبَايَةَ» خراج الأَرْضِ «والْقَضَاءَ بَیْنَ الْمُسْلِمِينَ والنَّظَرَ فِي حُقُوقِ الْطَالِبِینَ ثُمَّ أَخْرُجَ فِي كَتِيبَةٍ»: جيش ««أَتْبَعُ كتيبةٍ أُخْرَى أَتَقَلْقَلُ تَقَلْقُلَ الْقِدْحِ»: السَّهم قبل أن يراش «فِي الْجَفِيرِ»: كالكنانة أوسع منها «الْفَارِغِ»: اعلم أنَّه عليه السَّلَام بين وجه المفسدة في خروجه بنفسه، وهو تركه للمصالح الَّتي عدّدها ممّا يقوم بها أمر الدولة ونظام العالم، وشبّه نفسه في خروجه معهم بالقدح ووجه الشبه أنّه كان قد نفذ الجيش قبل ذلك إلى الشَّام وأراد أن يتبعه بمن بقي من الناس في كتيبة أخرى؛ فشبّه نفسه

ص: 173

في خروجه، وحده على شرفة مع تلك الكتيبة على قلتها و تخليته للمصالح المذكورة بالقدح في الجفير الفارغ في كونه يتقلقل، وفي العرف أن يقال للشريف الكبير إذا مشى في حاجة يرتفع محلَّه عنها وسور عنه من هو دونه فيها، وترك المهامّ الَّتي لا تقوم إلَّا به أنَّه ترك المهممّ الفلانيّ ومشی مقلقلاً على كذا، «وإِنَّمَا أَنَا قُطْبُ الرَّحَى تَدُورُ عَلَيَّ وأَنَا بِمَكَانِي فَإِذَا فَارَقْتُهُ اسْتَحَارَ مَدَارُهَا واضْطَرَبَ ثِفَالَهُا»: لاحظ في هذه الاستعارة دوران الإسلام ومصالح عليه کما تدور الرَّحي على قطبها وذلك هو وجه الاستعارة، واستلزم ذلك تشبيهه الإسلام وأهله بالرَّحي، وأنّه إذا أخرج وأهملهم بخروجه اضطربت أمورهم كاضطراب الرَّحى وخروج مدارها عن الحركة المستديرة إلى المستقيمة إلى غيرها، ولمّا بيّن وجه المفسدة في رأيهم حكم يراد به، وأكَّد ذلك بالقسم البار فقال: «هَذَا لَعَمْرُ اللَّهِ الرَّأْيُ السُّوءُ»: ثمّ أقسم أنّه لولا رجائه لقاء اللهَّ بالشهادة في لقاء العدوّ لو قدّر له لقاءه و مناحرته لفارقهم غير متأسّف، ولا طالب للعود إليهم أبدا تبرّما من سوء صنيعهم وكثرة مخالفتهم الأوامره فقال: «واللِّهَ لَوْ لَا رَجَائِي الشَّهَادَةَ عِنْدَ لِقَائِي الْعَدُوَّ ولَوْ قَدْ حُمَّ: قدَّر لِي لِقَاؤُهُ لَقَرَّبْتُ رِكَابِ ثُمَّ شَخَصْتُ»: ذهبت عَنْکُمْ «فَلَا أَطْلُبُكُمْ مَا اخْتَلَفَ جَنُوبٌ

وشَمَالٌ»: أي جأت وذهبت یعني مدّة هبوبها كناية عن الأبد وقیل: مادام هاتان الريحان تخالفا في الحبوب وجواب لو يشبه أن يكون هولولا مع جوابها والقسم الدَّاخل عليها مقدماً «طعانين عيانين: جادین رواعين»: أي حالكم أنَّكم يطعنون باللّسان فيمن هو فوقكم تُعيبون من هو مثلكم تحيدون عن الحق وتروعون روعان الثعلب، «إِنَّهُ لَا غَنَاءَ فِي كَثْرَةِ عَدَدِكُمْ مَعَ قِلَّةِ اجْتِاَعِ قُلُوبِكُمْ»: حلف إنَّه يكره المقام بين أهل الكوفة لما ذكر «لَقَدْ حَمَلْتُكُمْ عَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ الَّتِي لَا

يَهْلِكُ عَلَيْهَا إِلَّا هَالِكٌ مَنِ اسْتَقَامَ فَإِلَی الْجَنَّةِ ينتهي ومَنْ زَلَّا فَإِلَ النَّارِ».

ص: 174

ومن كلام له عليه السَّلَام في ذكر فضيلته وغيره:

«تَاللِّهَ لَقَدْ عُلِّمْتُ تَبْلِيغَ الرِّسَالَتِ وآدابها وإِتْمَامَ الْعِدَاتِ»: ما وعد به المتقين في دار القرار، «وتَمَامَ الْكَلِاَتِ»: كلمات الله تعالى فتمام وعده و وعیده أن لا يخلف فيه وتمام أخباره أن لا كذب فيها وتمام أوامره ونواهيه واشتمالها على المصالح الخالصة والغالبة على الحكم البالغة ومبالغ تلك الأوامر والنَّواهي وغاياتها وهكذا ينبغي أن يكون أوصياء الأنبياء وخلفاهم في ارض الله وعباده ثم أردف ذلك بالإشارة إلى فضل أهل البيت عاماً فقال: «وعِنْدَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ»: نصبٌ على المدح «أَبْوَابُ الْحُكْمِ وضِيَاءُ الأَمْرِ»: أنوار العلوم الَّتي يبتنى عليها الأمور والأعمال الدينيّة الدنيويَّة، وما ينبغي أن يهتدى الناس به من قوانين الشرع في حركاتهم وما يستقيم به نظام الأمر من قوانين السياسات، وتدبير المدن والمنازل الحروب، إذ كان كلّ أمر شرع فيه على غير ضياء من اللهَّ ورسوله أو أحدٍ أهل بيته فهو محلّ التيه والزيغ عن سبيل اللهَّ، «أَلَا وإِنَّ شَرَائِعَ الدِّينِ وَاحِدَةٌ»: واستعار الشرائع لأهل البيت ووجها كونهم موارد الحِلم العِلم الشرائع التي هي موارد الماء، وكونها واحدة إشارة إلى أنهم لا تختلف أقوالهم في الدين، بل لمّا علموا أسراره لم تختلف أقوالهم فيه فكلَّهم کالشريعة الواحدة «وسُبُلَهُ قَاصِدَةٌ»: عادلة مستوية وجه هذه الاستعارة أيضاً كونهم موصلين إلى المطالب على بصيرة وقصد کما يوصل الطريق الواضح «مَنْ أَخَذَ بِهَا»: أي من أخذ عنهم وأقتدي بهم «لَحِقَ»: بالسابقين من سالكي سبيل الله تعالى «وغنم»: وفاز بالمطالب الحقيقيَّة الباقية «ومَنْ وَقَفَ عَنْهَا»: أي من تخلف عنها «ضَلَّ»: عن سواء السَّبيل، «ونَدِمَ»: على تفريطه بتخلَّفه ويحتمل أن يريد بشرائع الدين وسيلة قوانينه الكلَّيّة فإنّ أيّ قانون عمل به منها مستلزم لثواب اللهَّ؛ فهي واحدة في ذلك و موصل إلى الجنّة من غير جور ولا عدول وذلك معنی کونها

ص: 175

قاصدة، والأوّل أظهر لكونه في معرض ذكر فضيلة أهل البيت عليهم السَّلَام. ولمّا كان غرض الخطيب من إظهار فضيلته قبول قوله شرع في الأمر بالعمل ليوم القيامة؛ فقال: «اعْمَلُوا لِيَوْمٍ تُذْخَرُ لَهُ الذَّخَائِرُ»: الأعمال الصَّالحة «وتُبْلَى تختر فِيهِ السَّرَائِرُ»: الضَّمائر «ومَنْ لَا يَنْفَعُهُ حَاضِرُ لُبِّهِ فَعَازِبُهُ»: بعيدة «عَنْهُ أَعْجَزُ وغَائِبُهُ أَعْوَزُ اشق»: أي اعتبروا الآن حال حضور عقولكم فإنّها إن لم ينفعكم الآن كانت أعوز وأعجز عن نفعكم إذا عزبت عند حضور الموت ومقاساة أهواله وما بعده من أحوال الآخرة، ثمّ أكَّد التخويف بمناقشة الحساب بالتخويف بالنار، قال: «واتَّقُوا نَاراً حَرُّهَا شَدِيدٌ وقَعْرُهَا بَعِيدٌ»: يعني ما أعدَّ فيها للعصاة من الأغلال والأصفاد المعقولة، والمحسوسة بالحلية، وهو كقوله تعالى: «وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ»(1)، «وشَرَابَهُا صَدِيدٌ»(2): في نسخة وعذابها كل يوم حدید صديد الجرح ماؤه الرقيق المختلط بالدَّم، «أَلَا وإِنَّ اللِّسَانَ الصَّالِحَ يَجْعَلُهُ اللَّهُ لِلْمَرْءِ فِي النَّاسِ خَیْرٌ لَهُ مِنَ الْمَالِ يُورِثُهُ مَنْ لَا يَحْمَدُهُ»: فيه تنبيه لهم على طلب الذكر الجميل بين الناس في العقبي وتهوين للمال، وقد سبقت الإشارة إلى هذا في قوله: أمّا بعد فإنّ الأمر ينزل من السماء إلى الأرض، وبالله التوفيق.

ومن خطبة له عليه السّلام بصفين حين أمرهم بالحكومة بعد أن نهاهم عنها،

والسَّبب أنَّ معاوية لمَّا أحسَّ بالعجز ظفره عليه السَّلَام ليلة الحرير راجع عمرو بن العاص في الرَّأي فقال له: خبأت لك رأياً لمثل هذا الوقت؛ فالرأي أن تناصر أصحابك برفع المصاحف على الأرماح، ودعوه أصحاب عليّ صلوات الله

ص: 176


1- سورة الحج: الآية 21
2- ورد في بعض النسخ: وحِلْيَتُهَا حَدِيدٌ

عليه إلى محاكمته إلى كتاب الله؛ فأنّهم إن فعلوا افترقوا، وإن لم يفعلوا افترقوا، وكان الأشتر صيحته تلك الليلة قد أشرف على الظفر؛ فلمَّا اصبحوا رفعوا المصاحف، والمصحف الكبير بالجامع الأعظم على عشرة أرماح، وهم يستغيثون معاشر المسلمين الله الله في إخوانكم في الآية حاکمونا إلى كتاب اللهَّ، اللهَّ اللهَّ في النساء والبنات؛ فقال: أصحابه عليه السّلام: إخواننا وأهل دعوتنا استقالونا، و أستراحونا إلى کتاب اللهَّ، والرأي النفيس عنهم؛ فغضب عليه السّلام من هذا الرأي، وقال: إنّها كلمة حقّ يراد بها باطل کما سبق القول فيه؛ فافترق أصحابه فريقين: منهم من رأى رأيه عليه السّلام في الإصرار على الحرب، ومنهم من رأى ترك الحرب، والرجوع إلى الحكومة وكانوا كثيرين؛ فاجتمعوا إليه عليه السّلام، وغلبوا رأيه عليه، وقالوا إن لم تفعل قتلناك کما قتلنا عثمان فرجع إلى قولهم، وأمر بردّ الأشتر عن الحرب، ثمّ كتبوا کتاب الصلح، وطافوا به في أصحابه عليه السّلام واتّفقوا عليها، خرج بعض أصحابه عن هذا الأمر وقد قام رجل من أصحابه فقال: «نَهَيتنا عن الحكُومة ثمّ أَمرتنا بِهَا فَاَ نَدْرِي أيّ الأمْرين أَرشَد»: وهذا يدل عل أنَّك شاك في إمامة نفسك «فصَفَق عليه السَّلَام إحْدَى يَدَيه عَلَى الأخْرَى»، فعل النَّادم الحق غضباً من قولهم، «قَال: هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الْعُقْدَةَ»: أي عقدة الأمر الَّذي عقده واستحكمه، وهو الرأي في الحرب والإصرار عليها، «أَمَا واللَّهِ لَوْ أَنِّ حِینَ أَمَرْتُكُمْ بِمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ»: من البقاء على الحرب «حَمَلْتُكُمْ عَلَى الْمَكْرُوهِ الَّذِي يَجْعَلُ اللَّهُ فِيهِ خَیْراً»: من الظفر وسلامة العاقبة؛ «فَإِنِ اسْتَقَمْتُمْ هَدَيْتُكُمْ وإِنِ اعْوَجَجْتُمْ قَوَّمْتُكُم»: بالقتل والضرب ونحوه، كما يفعل أمراء الجور، «وإِنْ أَبَيْتُمْ تَدَارَكْتُكُمْ»: بما ذُکر لَکَانَتِ «الْوُثْقَی»: جواب أي لو كانت الغفلة المحكمة، «ولَکِنْ بِمَنْ»: كنت أستعين عليكم «وإِلَى مَنْ»: أرجع في ذلك «أُرِيدُ أَنْ أُدَاوِيَ بِكُمْ بعضكم بعض وأَنْتُمْ دَائِي»: فأكون في ذلك «كنَاقِشَ»: مستخرج «الشَّوْكَةِ بِالشَّوْكَةِ وهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ

ص: 177

ضَلْعَهَا مَعَهَا»: وهذا مثل تضرب به العرب لمن يستعان به في إصلاح من يراد إصلاحه وميله إلى المستعان عليه يقال: لا تنقش الشوكة بالشوكة؛ فإنّ ضلعها معها يقول: إنّ استعانتي بكم في إصلاح بعضکم کنقش الشوكة بالشوكة، ووجه الشَّبَهة أنّ طباع بعضكم يشبه طباع بعض، ويميل إليها في ترك أمره کما إن شَبَّه الشوكة فربّما انكسرت معها في العضو واحتاجت إلى منقاش آخر، ثمّ رجع إلى الشكاية إلى اللهَّ فقال: «اللَّهُمَّ قَدْ مَلَّتْ أَطِبَّاءُ هَذَا الدَّاءِ الدَّوِيِّ»: الشَّدید کما تقول ليل کليل، وأراد به ما هم عليه من اعتياد المخالفة لأمره وتثاقلهم عن صوته وبالأطبّاء نفسه؛ فإنّ داء الجهل وما يستلزمه أعظم من الأدواء المحسوسة، وفضل أطبّاء النفوس على أطبّاء الأبدان بقدر شرف النفوس على الأبدان، وهي استعارة تقارب حقيقة في كثرة الاستعمال، «وكَلَّتِ النَّزَعَةُ»: جمع نازع وهو أخذ الماء من البئر بآلته «بِأَشْطَانِ الرَّكِيِّ»: الشيطان: الجبل، والرَّكي: البئر، وههنا استعار النَّزعة له وهو مثل له ضربه لنفسه معهم؛ فكأنَّهم في تقاعدهم عن الانجذاب إلى ما يدعوهم إليه كالماء البعيد في البئر العميق الّذي يكلّ المستقون عن جذبه ثمّ أخذ في السؤال عن إخوانه من أكابر الصحابة الَّذين بذلوا جهدهم في نصرة الدين وأعرضوا عن الدنيا استفهاما على سبيل التوبيخ لفقدهم؛ فقال: «أَيْنَ الْقَوْمُ الَّذِينَ دُعُوا إِلَی الإِسْلَامِ فَقَبِلُوهُ، وقَرَأُوا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ»: عملوا بمقتضاه، «وهِيجُوا إِلَی الْقتال فَوَلُهِوا وَلَهِ اللِّقَاحِ»: جمع لقوح الإبل الحلوبة «إِلَى أَوْلَادِهَا»: وله غیر متعدّى إلى مفعولين بنفسه، وفي الحديث: ((لا توله والدة بولدها))(1) وتولَّههم لها بركونها عند دعائهم إلى الجهاد.

ص: 178


1- المدونة الكبرى لمالك بن أنس الأصبحي: ج 4 ص 281؛ المبسوط للسرخسي: ج 13 ص 129؛ المغني لعبد الله بن قدامة: ج 4 ص 307

«وسَلَبُوا السُّيُوفَ أَغْمَدَهَا وأَخَذُوا بِأَطْرَافِ الأَرْضِ»: كناية عن بلوغهم بالجهاد الحق عن عزم صادق أطراف المعمورة «زَحْفاً زَحْفاً وصَفّاً صَفّاً»: نصب على الخيال مصدران مؤكدان وصفهم بالأوصاف الحمدية ترغیباً للسامعين في مثل حالهم وإزراء عليهم حيث لم يكونوا بهذه الأوصاف وذلك بطريق المفهوم.

«بَعْضٌ هَلَكَ وبَعْضٌ نَجَا لَا يُبَشَّرُونَ بِالأَحْيَاءِ ولَا يُعَزَّوْنَ عَنِ القتى»: أي كانوا في تلك الحال غير ملتفتين إلى حيي، ولا مراعين لمصلحة حتّى يبشّرون ببقائه، ولا جزعين بموته فيعزون عليه بل مجردون للجهاد في سبيل الله لعلهم يفرحون بقتل من يقتلونه کافراً يومئذٍ وإن كان، ولداً لواده، و بالعکس کما قال: عليه السلام: ولقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم آبائنا نقتل، وأبنائنا، وإخواننا وعمامنا ما يريدنا بذلك إلا إيماناً وتسليماً.

«مُرْهُ الْعُيُونِ مِنَ الْبُكَاء»: أي قرحها من مرهت تمرة إذا فسدت لترك الكحل وهي عين مرهاء «خُمْصُ الْبُطُونِ مِنَ الصِّيَامِ ذُبُلُ الشِّفَاهِ مِنَ الدُّعَاءِ»: جمع ذابل الذي جفت شفتاه «صُفْرُ الأَلْوَانِ مِنَ السَّهَرِ»: وإنما كان موجب لها لميله إلى السنن واحتراق الأخلاط، «عَلَىَ وُجُوهِهِمْ غَبَرَةُ الْخَاشِعِينَ»: قشف الزاهدين الخائفين من الله لعدم بخلهم بالدنيا «أُولَئِكَ إِخْوَانِي الذَّاهِبُونَ فَحَقَّ لَنَا أَنْ نَظْمَأَ إِلَيْهِمْ»: استعار الظماء لشدة الشوق إليهم ملاحظة لمشابهة شوقه إليهم بالعطش من الماء في الإيلاء، «ونَعَضَّ الأَيْدِي عَلَى فِرَاقِهِمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ يُسَنِّي»: يسهل «لَكُمْ طُرُقَهُ ويُرِيدُ أَنْ يَحُلَّ دِينَكُمْ عُقْدَةً عُقْدَةً»: أي ما حكم من القوانين والقواعد وحل الشيطان لها تنبیه لهم بترك قانون قانون وسنة الاجتماع عقدة عقد الشارع صلوات الله عليه لماسبق فيها من المصالح، «ويُعْطِيَكُمْ بِالْجَمَاعَةِ الْفُرْقَةَ»: فكانت الفرقة جلاء لتلك العقيدة؛ «فَاصْدِفُوا»: أعرضوا «عَنْ نَزَغَاتِهِ» حركاته بالإفساد «ونَفَثَاتِهِ»: إلقائه الوسوسة في

ص: 179

القلوب مرة بعد أخرى، «واقْبَلُوا النَّصِيحَةَ مِمَّنْ أَهْدَي إِلَيْكُمْ»: أراد نفسه «واعْقِلُوا عَلَى أَنْفُسِكمُ»: وبالله العصمة.

ومن كلام له عليه السّلام للخوارج:

وقد خرج إلى معسكرهم وهم مقيمون على إنكار الحكومة أكثر هذا الفصل ظاهر مما سبق.

فقال عليه السَّلَام: «أَكُلُّكُمْ شَهِدَ مَعَنَا صِفِّینَ فَقَالُوا: مِنَّا مَنْ شَهِدَ ومِنَّا مَنْ

لَمْ يَشْهَدْ، قَالَ: فَامْتَازُوا فِرْقَتَیْنِ فَلْيَكُنْ مَنْ شَهِدَ صِفِّنَ فِرْقَةً ومَنْ لَمْ يَشْهَدْهَا فِرْقَةً

حَتَّى أُكَلِّمَ كُلاًّ مِنْكُمْ بِكَلَمِهِ ونَادَى النَّاسَ فَقَالَ: أَمْسِكُوا عَنِ الْكَلَمِ وأَنْصِتُوا

لِقَوْلِي وأَقْبِلُوا بِأَفْئِدَتِكُمْ إِلَيَّ فَمَنْ نَشَدْنَاهُ شَهَادَةً فَلْيَقُلْ بِعِلْمِهِ فِيهَا ثُمَّ كَلَّمَهُمْ

عليهم السّلام بِكَلَامٍ طَوِيلٍ أَلَمْ تَقُولُوا رَفْعِهِمُ الْمَصَاحِفَ حِيلَةً وغِيلَةً»: غفلة

«ومَكْراً وخَدِيعَةً»: مفعول له والعامل رفعهم «هم إِخْوَانُنَا وأَهْلُ دَعْوَتِنَا اسْتَقَالُونَا

واسْتَرَاحُوا إِلَی كِتَابِ اللِّهَ سُبْحَانَهُ»: أي أفرعوا إليه طلباً للراحة؛ «فَالرَّأْيُ الْقَبُولُ

مِنْهُمْ والتَّنْفِيسُ عَنْهُمْ فَقُلْتُ لَكُمْ: هَذَا أَمْرٌ ظَاهِرُهُ إِيمَانٌ وبَاطِنُهُ عُدْوَانٌ»: أي رفع أولئك المصاحف وطلبهم للحكومة؛ فإن ظاهره الاجتهاد في الدِّين بالرجوع إلى كتاب الله، وباطنه حيلة للظلم والغيلة، «وأَوَّلُهُ رَحْمَةٌ»: منكم لهم برجوعكم إلى ما طلبوا، «وآخِرُهُ نَدَامَةٌ»: لكم عند تمام الحيلة عليکم؛ «فَأَقِيمُوا عَىَ شَأْنِكُمْ :»

ما كنتم عليه من الاجتهاد في الحرب، «والْزَمُوا طَرِيقَتَكُمْ وعَضُّوا عَلَى الْجِهَادِ

بَنَوَاجِذِكُمْ ولَا تَلْتَفِتُوا إِلَی نَاعِقٍ نَعَقَ»: إشارة إلى طالبي الحكومة أو إلى المشير اليهم بذلك الرأي وهو عمرو بن العاص وأخرجه في أوصاف إبليس فقال «إِنْ أُجِيبَ أَضَلَّ وإِنْ تُرِكَ ذَلَّ»: ثم شرح حاله وحال الصحابة حيث كانوا في الجهال مع رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم على الحالة التي شرحها لعلمهم يتأسّون

ص: 180

بالماضين فيها فقال: «فَلَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وإِنَّ الْقَتْلَ

لَيَدُورُ عَلَى الآباءِ والأَبْنَاءِ والإِخْوَانِ والْقَرَابَاتِ فَمَا نَزْدَادُ عَلَى كُلِّ مُصِيبَةٍ وشِدَّةٍ إِلَّا إِيمَاناً ومُضِيّاً عَلَى الْحَقِّ وتَسْلِيماً لِلأَمْرِ وصَبْراً عَلَى مَضَضِ الْجِرَاحِ»: شدة الآلام والجواب عنه وهو أن يقولوا إنما فعل إخواننا غلبة من الدين الحق وتيقنهم ضلال الكفار والمحاربين لهم وأما نحن فإنا نقاتل بعضنا بعضاً فكيف يجوز لنا قتل قوم مسلمين استسلموا ودعونا إلى المحاكمة فأتينا إليها بقوله: ولَكِنَّا «إِنَّمَا أَصْبَحْنَا نُقَاتِلُ إِخْوَانَنَا فِي الإِسْلَامِ عَلَى مَا دَخَلَ فِيه مِنَ الزَّيْغِ والِعْوِجَاجِ والشُّبْهَةِ والتَّأْوِيلِ فَإِذَا طَمِعْنَا فِي خَصْلَةٍ يَلُمُّ اللَّه بِهَا شَعَثَنَا»: أي يجمع الله بمدارتنا معهم تفرقهم معنا «ونَتَدَانَى»: بتلك الخصلة «إِلَی الْبَقِيَّةِ»: الإبقاء «فِيمَا بَيْنَنَا رَغِبْنَا فِيهَا وأَمْسَكْنَا عَمَّا سِوَاهَا»: معناه إنّا إنّما نقاتل في مبدأ الأمر، ومنتهاه دعوة إلى الإسلام ورغبة في رسوخ قواعده، ففي المبدأ قاتلنا لتحصل ماهيّته في الوجود، وفي الثاني قاتلنا لحفظ ماهيّته وبقائها، وحيث دخل فيه من الزيغ، والاعوجاج، والشبهة والتأويل ما دخل؛ فإذا طمعنا في خلَّة محمودة يجمع اللهَّ بها تفرّقنا، وتتقارب بها إلى ما بقي فيما بيننا من الإسلام، والدين رغبنا فيها، ورضينا بها، وامسكنا بفرقتناعا وراها من الحرب، وعني بالخصلة الاتفاق على تحکیم کتاب الله، والرضاء به وكونها محمودة باعتبار کون ذلك طمعاً في رجوع محاربته إلى طاعته، واتفاقهم عليه وهذا الكلام في قوة صغرى قياس ضمير إجابتهم به وتقديرها، وكل من أجاب أنكم حين قلت لكم أن رفعهم المصاحف خدعة منهم أجبتموني هذا الجواب، و تقدیر الكبرى، وكل من أجاب بهذا الجواب؛ فليس له أن ينكر الحكومة إذ كان قد رضي بها فينتج أنه ليس لهم أن يأبوا الحكومة وبالله التوفيق.

ص: 181

ومن كلام له عليه السّلام قاله لأصحابه في ساعة الحرب:

قاله في حرب الجمل بالبصرة «وأَيُّ امْرِئٍ مِنْكُمْ أَحَسَّ»: وجد «مِنْ نَفْسِهِ

رَبَاطَةَ جَأْشٍ»: ثبات قلب «عِنْدَ اللِّقَاءِ ورَأَى مِنْ أَحَدٍ مِنْ إِخْوَانِهِ فَشَلًا فَلْيَذُبَّ

عَنْ أَخِيهِ بِفَضْلِ نَجْدَتِهِ»: شجاعته «الَّتِي فُضِّلَ بِهَا عَلَيْهِ كَمَا يَذُبُّ عَنْ نَفْسِهِ فَلَوْ

شَاءَ اللُّهَ لَجَعَلَهُ مِثْلَهُ»: المفهوم من هذا الفصل أنه أمرهم بمساعدة بعض لبعض في الحرب ومنع بعضهم عن بعض منعاً صادقاً كما يمنع نفسه، وبذلك يكون انعقاد الاجتماع، وتعاون الهمم حتّى يكون الجميع كنفس واحدة، وبذلك يكون الظفر والغلبة، واستمال ذوي النجدة بذکر فضيلة تخصّهم دون من يذبّون عنه استثارة لنجدتهم وتعطيفالهم ثم سهل الموت، والقتل عليهم بأنه لا بد منه فقال: «إِنَّ الْمَوْتَ طَالِبٌ حَثِيثٌ»: سريع «لَا يَفُوتُهُ الْمُقِيمُ ولَا يُعْجِزُهُ الْهَارِبُ»: قال عز من قائل «أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ»(1) «قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ»(2).

«إِنَّ أَكْرَمَ الْمَوْتِ الْقَتْلُ والَّذِي نَفْسُ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ بِيَدِهِ لأَلْفُ ضَرْبَةٍ بِالسَّيْفِ

أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ مِيتَةٍ عَلَى الْفِرَاشِ»: وصدق ذلك في حقّ من نظر إلى الدنيا بعين الاستحقار في جنب نعيم الأبد في الآخرة والذكر الجميل في الدنيا و حصلت له ملكة الشجاعة ظاهر وباللهَّ التوفيق.

ومن كلام له عليه السّلام

«وكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْكُمْ تَكِشُّونَ كَشِيشَ الضِّبَابِ»: حق جلودها بعضها بالبعض

ص: 182


1- سورة النساء: الآية 78
2- سورة الجمعة: الآية 8

عند الازدحام. «لَا تَأْخُذُونَ حَقّاً ولَا تَمْنَعُونَ ضَيْماً»: وأشار بهذا الكلام إلى أنّه ستلحقهم غلبة من العدوّ، وتعضّهم الحروب بحيث يضعفون ويأخذون في الهرب، والتخفيّ فلا ينتفع بهم في أخذ حقّ أو دفع ضيم، ووصف الكشیش مستعار لهم باعتبار هیئاتهم في الحيد عن العدوّ والهرب منه، وهو وجه الشبه بکشیش الضباب «قَدْ خُلِّيتُمْ والطَّرِيقَ»: والطريق منصوب على المفعول معه أي تركتم مع طريق الآخرة «فَالنَّجَاةُ لِلْمُقْتَحِمِ: داخلها والمبادر إلى سلوكها «والْهَلَكَةُ

لِلْمُتَلَوِّم»: للمتوقف عن ذلك ولله الحمد.

ومن كلام له عليه السّلام في حث أصحابه على القتال

قال: بصفين «فَقَدِّمُوا الدَّارِعَ وأَخِّرُوا الْحَاسِرَ»: أمر بتقديم الدراع وهو ذو الدرع في الحرب وتأخير الحاسر وهو الذي لا مغفر عليه ولا درع والمصلحة فيه ظاهرة «وعَضُّوا عَلَى الأَضْرَاسِ فَإِنَّهُ أَنْبَى لِلسُّيُوفِ»(1): قد سبق بيانه في قوله: معاشر المسلمين، وفي قوله لابنه محمّد بن الحنفيّة.

«والْتَوُوا فِي أَطْرَافِ الرِّمَاحِ فَإِنَّهُ»: الالتواء «أَمْوَر»: أكثر حركة ونفوذاً «للِأَسِنَّةَّ»: أراد أنه إذا التوى الإنسان في ناحية الرّمح حين ترسل عليه مار عَنه سنانه وسَلِم منه ونحوه قول الأسر رحمه الله لأصحابه في بعض أيام صفين، وإذا أتالكم الرّماح فالتووا فيها إنَّما قال أمور بلفظ أفعل لأنَّه وإن جاز إن تمور عنه عند عدم البوابة إلَّا أنَّه عند التنويه يكون أكثر موراً، «وغُضُّوا الأَبْصَارَ فَإِنَّهُ أَرْبَطُ

لِلْجَأشْ»: روعة القلب واضطرابه عند الخوف، «وأَسْكَنُ لِلْقُلُوبِ»: وبضدّ ذلك مدّ البصر فإنّه مظنّة الخوف والفشل وعلامة لهما عند العدوّ، «وأَمِيتُوا الأَصْوَاتَ

ص: 183


1- ورد في بعض النسخ: عَنِ الَهْامِ

فَإِنَّهُ أَطْرَدُ لِلْفَشَلِ»: إذا كانت كثرة الصياح علامة لخوف الصائح، وذلك مستلزم الطمع العدوّ فيه، وجرأته عليه وروي؛ أن عائشة لما سمعت أصوات جندها، وكثرة لغطهم يوم الجمل قالت هذا أوان الفشل، «ورَأيَتَكُمْ فَلَا تُيِلُوهَا»: فإنّ إمالتها ممّا يظنّ به العدوّ تشویشاً و اضطراب حال فيطمع ويقدم، ولأنّها إذا أميلت تغيب عن عيون الجيش فربّما لا يهتدى كثير منهم للوجه المطلوب، «ولَا تُخِلُّوهَا»: وسيفسّر هو التخلية، «ولَا تَجْعَلُوهَا إِلَّا بِأَيْدِي شُجْعَانِكُمْ والْمَانِعِینَ الذِّمَارَ مِنْكُمْ»: وذلك أنّها أصل نظام العسكر وعليها يدور في التقدم والتأخر وبها يقوم قلوبهم ما دامت قائمة فيجب في ترتيب الحرب أن يكون حاملها أشجع القوم؛ «فَإِنَّ الصَّابِرِينَ عَلَى نُزُولِ الْحَقَائِقِ»: أي الشدائد الحقّة المتيقّنة الَّتي لا شكّ في نزولها، كي يسارعوا إلى حفظها والإحاطة بها رغبة في تلك المحمدة «هُمُ الَّذِينَ يَحُفُّونَ بِرَايَاتِهِمْ»: أي يطوفون بها ويكون حولها، «ويَكْتَنِفُونَهَا حِفَافَيْهَا»: جانبيها «ووَرَاءَهَا

وأَمَامَهَا لَا يَتَأَخَّرُونَ عَنْهَا فَيُسْلِمُوهَا ولَا يَتَقَدَّمُونَ عَلَيْهَا فَيُفْرِدُوهَا»: نصب الفعلين بإضمار أن عقيب الفاء في جواب النفي.

«أَجْزَأَ امْرُؤٌ قِرْنَهُ وآسَى أَخَاهُ بِنَفْسِهِ»: فعلان ماضيان في معنى الأمر والتقدير ليجزي أمر قرنه وهو خصمه، ولقوه في الحرب أي لتقومه وليواسي أخاه بنفسه في الذبّ «ولَمْ يَكِلْ قِرْنَهُ إِلَی أَخِيهِ»: أي ثم ذكرهم ولا يفر من قرنه أعتماداً على أخيه في دفعه «فَيَجْتَمِعَ عَلَيْهِ»: على أخيه «قِرْنُهُ وقِرْنُ أَخِيهِ»: ثم ذكرهم عدم الفائدة في الفرار بقوله: «وأيْمُ اللَّهِ لَئِنْ فَرَرْتُمْ مِنْ سَيْفِ الْعَاجِلَةِ لَا تَسْلَمُوا مِنْ سَيْفِ الآخِرَةِ»: أراد أن غايته الفرار السلام من الموت وهو لا بد منه لقوله: «قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا»(1) وأستعار لفظ

ص: 184


1- سورة الأحزاب: الآية 16

سیف الآخرة للموت ووجه المشابه کونهما مبطلين للحياة ثم مدحهم بأوصاف يستقبح معها الفرار قال:

«وأَنْتُمْ لَهَامِيمُ الْعَرَبِ»: أجوادها «والسَّنَامُ الأَعْظَمُ»: استعار لهم لفظ السنام لمشاركتهم إيّاه في العلوّ والرفعة، ثمّ أكَّد تقبيح الفرار بذكر معايبه وأنّه لا فائدة فيه أيضاً بقوله:

«إِنَّ فِي الْفِرَارِ مَوْجِدَةَ اللَّهِ»: سخطه فإن الفار من الجهاد في سبيله عاص لأمره والعاصي له مستحق لغضبه وعقابه «والذُّلَّ الاَّزِمَ والْعَارَ الْبَاقِيَ»: في الأعقاب وهو ظاهر ثم أشار إلى أنه لا فائدة فيه بقوله:

«وإِنَّ الْفَارَّ غَیْرُ مَزِيدٍ فِي عُمُرِهِ بفراره»: إذ علمنا بفراره أنه لم يبلغ أجله المكتوب له فكان بقاؤه في مدة الفرار لا زيادة فيه «ولَا مَحْجُوزٍ»: ممنوع «بَيْنَهُ وبَیْنَ يَوْمِهِ: أي أن له يوماً في القضاء الإلهي لا يحتجز بينه وبينها فرار.

«من الرَّائِحُ إِلَی اللَّهِ كَالظَّمْآنِ يَرِدُ الْمَاءَ»: استفهام عمّن يسلك سبيل اللهَّ ويروح إليه كما يروح الظمآن استفهاماً على سبيل العرض لذلك الرواح، ووجه الشبه القوّة في السير والسير الحثيث، وأشار بقوله: «الْجَنَّةُ تَحْتَ أَطْرَافِ الْعَوَالِي»: إلى أنّ مطلوبه الرواح إلى اللهَّ تعالى بالجهاد، وجذب إليه بذكر الجنّة، وخصّها بجهة تحت لأنّ دخولها غاية من الحركات بالرماح في سبيل اللهَّ، وتلك الحركات إنّما هي تحت العوالي جمع عاله وقد أطلق الجنّة على تلك الأفعال الَّتي هي غاية منها مجازاً تسمية للشيء باسم غايته:

«الْيَوْمَ تُبْلَى الأَخْبَارُ واللَّهِ لأَنَا أَشْوَقُ إِلَی لِقَائِهِمْ مِنْهُمْ إِلَی دِيَارِهِمْ»: معناه ظاهر غني عن الشرح ثم اعقب ذلك بدعاء الله على محاربته أن ردوا دعوته بالحق

ص: 185

بالتفريق والإهلاك وذلك:

«اللَّهُمَّ فَإِنْ رَدُّوا الْحَقَّ فَافْضُضْ جَمَاعَتَهُمْ»: أي فرق أصحاب معاوية «وشَتِّتْ كَلِمَتَهُمْ وأَبْسِلْهُمْ»: اسلمهم إلى الملكة «بِخَطَايَاهُمْ»: ثم حكم على سبيل التهدید والوعيد لهم بقوله: «إِنَّهُمْ لَنْ يَزُولُوا عَنْ مَوَاقِفِهِمْ دُونَ طَعْنٍ»: أي من غيره دِرَاكٍ: متدارك «يَخْرُجُ مِنْهُ النَّسِيمُ»: الروح وروي النسم وکنی بخروجه منه عن كونه يحرق الجوف بحيث يتنفس المطعون من الطعن ويروى القشم وهو اللحم والشحم «وضَرْبٍ يَفْلِقُ الْهَامَ ويُطِيحُ»: يرمي «الْعِظَامَ ويُنْدِرُ»: يسقط «السَّوَاعِدَ والأَقْدَامَ وحَتَّى يُرْمَوْا بِالْمَنَاسِرِ تَتْبَعُهَا الْمَنَاسِرُ»: جمع منسر وهو قطعة من الجيش «ويُرْجَمُوا بِالْكَتَائِبِ»: جمع نحيرة وهي آخر ليلة من الشهر مع يومها كأنّها تنحر الشهر المستقبل فيكون مراده بنواحر أرضهم أقاصيها فتأمل.

«تَقْفُوهَا الْحَلَائِبُ وحَتَّى يُجَرَّ بِبِلَادِهِمُ الْخَمِيسُ»: الجيش «يَتْلُوهُ الْخَمِيسُ وحَتَّى

تَدْعَقَ الْخُيُولُ فِي نَوَاحِرِ أَرْضِهِمْ وبِأَعْنَانِ مَسَارِبِهِمْ»: مذاهبهم «ومَسَارِحِهِمْ».

قال السيد الرضي الدعق الدق أي تدق الخيول بحوافرها أرضهم ونواحر أرضهم متقابلاتها فقال منازل بني فلان تتناحر أي تتقابل والله سبحانه أعلم.

ومن كلام له عليه السّلام: بعد سماعه الأمر الحكمين وخدعة عمرو بن العاص لأبي موسى

إِنَّا لَمْ نُحَكِّمِ الرِّجَالَ وإِنَّاَ حَكَّمْنَا الْقُرْآنَ هَذَا الْقُرْآنُ إِنَّمَا هُوَ خَطٍّ مَسْطُورٌ بَیْنَ الدَّفَّتَیْنِ لَا يَنْطِقُ بِلِسَانٍ ولَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَرْجُمَانٍ وإِنَّمَا يَنْطِقُ عَنْهُ الرِّجَالُ ولَّمَا دَعَانَا الْقَوْمُ إلَی أَنْ نُحَكِّمَ بَيْنَنَا الْقُرْآنَ لَمْ نَكُنِ الْفَرِيقَ الْمُتَوَلِّيَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ قَالَ اللَّهُ

ص: 186

سُبْحَانَهُ»: «فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ»(1) «فَرَدُّهُ إِلَی اللَّهِ أَنْ نَحْكُمَ بِكِتَابِهِ ورَدُّهُ إِلَی الرَّسُولِ أَنْ نَأْخُذَ بِسُنَّتِهِ فَإِذَا حُكِمَ بِالصِّدْقِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَنَحْنُ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ وإِنْ حُكِمَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم فَنَحْنُ أَوْلَهُمْ بِهِ»: من أول الفصل إلى هاهنا جواب له عن شبهة التحكيم للخوارج عن أمره بالحرب بعد أن رضي بالتحكيم، و تقدير الشبهة أنّك رضيت بتحکیم رجلين في هذا الأمر وعاهدت على ذلك، وكلّ من رضي بأمر لم يحكم الرجال بكون رجالاً وعاهد عليه؛ فليس له أن ينقض عهده؛ فقدح في صغرى هذه الشبهة بقوله: إنّا لم نحکَّم الرجال:

وإنّما حكَّمها القرآن لكن لمّا كان القرآن لابدّ له من ترجمان يبيّن مقاصده، ودعانا القوم إلى حكمه لم نكن نحن الفريق الكاره لكتاب اللهَّ، المتولَّي عنه بعد أمره تعالى بالرجوع إليه وإلى رسوله في الكتاب والسنّة فيما اشتبه أمره بقوله: «فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ»(2). فإذا حكم بالصدق عن علم بكتابه فنحن أحقّ الناس به: أي أولاهم باتّباعه وأولاهم بأن ينصّ على كون الأمر لنا كما في قوله تعالى «وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» که وظاهر كون أولئك بعد عقد الإمامة بغاة عليه فوجب بنصّ الكتاب قتالهم، وكذلك الآيات الدالَّة على وجوب الوفاء بالوفاء والعقود وكان هو أولى بالحقّ الَّذي يجب قتالهم عليه فكان الحاكم لهم مخطئاً مخالفاً لكتاب اللهَّ غير عامل به فوجبت مخالفة حكمه، وإن حكم بسنّة رسول اللهَّ فنحن أولاهم به للقرابة وبالعمل بسنّته لموافقتها الكتاب ونصّه على وجوب متابعة الإمام العادل فكان الحكم لغيره مخالفا للسنّة أيضا؛ فصارت خلاصة هذا الجواب أنّا لم

ص: 187


1- سورة النساء: الآية 59
2- سورة النساء: الآية 59

نرض بتحكيم الرجلين لكونهما رجلين ولكن بتقدير حكمهما بكتاب اللهَّ الَّذي هما ترجمان عنه وهو الحاكم الَّذي دعانا الخصم إليه وحيث خالفاه لم يجب علينا قبول قولهما، و قوله: «وأَمَّا قَوْلُكُمْ لِمَ جَعَلْتَ بَيْنَكَ وبَيْنَهُمْ أَجَلَا فِي التَّحْكِيمِ؛ فَإِنَّمَا جعَلْتُ ذَلِكَ لِيَتَبَیَّنَ الْجَاهِلُ ويَتَثَبَّتَ الْعَالِمُ ولَعَلَّ اللَّهً أَنْ يُصْلِحَ فِي هَذِهِ الْمُدْنَةِ أَمْرَ هَذِهِ الأمُّةَ ولَا تُؤْخَذَ»: مخارج نفسها «أَكْظَامِهَا؛ فَتَعْجَلَ عَنْ تَبَیُّنِ الْحَقِّ وتَنْقَادَ لأَوَّلِ الْغَيِّ»: فتقدیر سؤال آخر لهم مع جوابه، وذلك أنّهم حين اتّفقوا على التحكيم كتبوا کتاب الصلح وضربوا لحكم الحكمين مدّة سنة، وصورة الكتاب هذا ما تقاضى عليه عليّ بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان قاضي عليّ بن أبي طالب على أهل العراق، ومن كان معه من شيعته من المؤمنين والمسلمين، وقاضي معاوية بن أبي سفيان على أهل الشام، ومن كان معه من شيعته من المؤمنين، والمسلمين إنّما ننزل عند حكم اللهَّ تعالى، وكتابه ولا يجمع بيننا إلا إيّاه، وإنّ كتاب اللهَّ سبحانه بيننا من فاتحته إلى خاتمته نحي ما احيي القرآن، ونمیت ما أمات القرآن، فإن وجد الحكمان ذلك في كتاب اللهَّ اتَّبعاه، وإن لم يجداه أخذا بالسنّة العادلة غير المفرّقة، والحكمان عبد اللهَّ وعمرو بن العاص، وقد أخذ الحكمان من عليّ، ومعاوية و الجندين أنّهما آمنان على أنفسهما، وأموالهما وأهلهما والأمّة لهما أنصار، وعلى الَّذي يقضيان عليه، وعلى المؤمنين، والمسلمين من الطائفتين عهد اللهَّ؛ أن يعمل بما يقضيان عليه ممّا وافق الكتاب والسنّة، وإنّ الأمن والموادعة، ووضع السلاح متّفق عليه من الطائفتين إلى أن يقع الحكم، وإلى كلّ واحد من الحكمين عهد اللهَّ ليحكمنّ بين الأمّة بالحقّ لا بما یهوى، وأجل الموادعة سنة كاملة؛ فإن أحبّ الحكمان أن يعجل الحكم عجّلاه، وإن توفّی أحدهما؛ فلأمير شيعته أن يختار مكانه رجلا لا يألو الحقّ والعدل، وإن توفّي أحد الأميرين کان نصب غيره إلى أصحابه ممّن يرتضون أمره ويحمدون طريقته، اللَّهم إنّا نستقرك على من ترك ما في هذه الصحيفة، وأراد

ص: 188

فيها إلحاداً وظلماً، وشهد فيه من أصحاب عليّ عشرة، ومن أصحاب معاوية عشرة، وذلك معنى الأجل في التحكيم، وتقدير هذا السؤال إنّك حين رضيت بالتحكيم لم ضربت بينك وبينهم أجلاً، وما الحكمة في ذلك؛ فأجاب إنّما فعلت ذلك ليتبيّن الجاهل: أي في وجه الحقّ، ويتثبّت العالم أي في أمره بحيث يخلص من الشبهة، ورجاء لصلاح هذه الأمّة بهذا الصلح، وعبر بأخذ الكظم عن الأخذ بغتة، وعلى غرّة، وهؤلاء القوم لمّا أخذوا لأوّل شبهة عرضت من رفع المصاحف، وهو أوّل الغيّ ولم يتثبّتوا في أمرهم أشبهوا من أخذ بمجرى نفسه فلم يتمكَّن من الاستراحة إلى التنفيس؛ فاستعير وصف الكظم لهم، وإليه الإشارة بقوله: فتعجل عن تبين الحق وتنقاد لأول الغي.

«إِنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْ كَانَ الْعَمَلُ بِالْحَقِّ أَحَبَّ إِلَيْهِ وإِنْ نَقَصَهُ وكَرَثَهُ»: اشتد غمه «مِنَ الْبَاطِلِ»: متعلَّق بأحبّ إليه، وهذه الجملة اعتراض بينهما.

«وإِنْ جَرَّ إِلَيْهِ(1) وزَادَهُ»: هذا الكلام منه عليه السلام جذب الخلق إلى الحق، وأن أدى إلى الغاية المذكورة وتنفير عن الباطل وأن استلزم الغاية المذكورة بذکر الأفضل عند الله والحكم في هذه القصة ظاهر الصدق لأن ملازم الحق اتقی الخلق، والأتقي افضل عند الله كما قال تعالى «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ»(2).

«فَأَيْنَ يُتَاهُ بِكُمْ»: يريد إلى أيّ غاية يكون هذا التيه الَّذي أخذتم فيه، وفيه تنبيه على أنّ ذلك التيه فعل الغير بهم.

«ومِنْ أَيْنَ أُتِيتُمْ» أي من أيّ وجه دخلت عليكم الشبهة، ويشبه هذا السؤال

ص: 189


1- ورد في بعض النسخ: فَائِدَةً
2- سورة الحجرات: الآية 13

تجاهل العارف إذ كان يعلم وجه الداخل عليهم ثمّ أعقب ذلك التعنيف لهم بالأمر بالمسير إلى أهل الشام فقال:

«اسْتَعِدُّوا لِلْمَسِرِ إِلَی قَوْمٍ حَيَارَى عَنِ الْحَقِّ لَا يُبْصِرُونَهُ ومُوزَعِنَ بِالْجَوْرِ: أي مولعين به.

«لَا يَعْدِلُونَ بِهِ جُفَاةٍ عَنِ الْكِتَابِ نُكُبٍ عَنِ الطَّرِيقِ»: عادلين عنه كل ذلك إغراء بهم «مَا أَنْتُمْ بِوَثِيقَةٍ»: أي بغزوة وثيقه «يُعْلَقُ بِهَا ولَا زَوَافِرَ»: أنصار(1) «يُعْتَصَمُ»: يلجأ «إِلَيْهَا لَبِئْسَ حُشَّاشُ نَارِ الْحَرْبِ أَنْتُمْ»: ما يحس به کالضرام وروي حشاش جمع حاش من حششت النار: أوقدتها «أُفٍّ لَكُمْ»: تباً لكم «لَقَدْ لَقِيتُ مِنْكُمْ بَرْحاً»: شدة وروي بالتاء بمعنى حرباً «يَوْماً أُنَادِيكُمْ»: ادعوكم إلى النصرة واستغيثُ بكم «ويَوْماً أُنَاجِيكُمْ»: أعاتبكم وأخاذلكم على تقصيركم «فَلَا أَحْرَارُ صِدْقٍ عِنْدَ اللقاء»: وروي عند البدا، لأن الحر من شأنه إجابة الداعي والوفاء بالوعد ولستم كذلك «ولَا إِخْوَانُ ثِقَةٍ عِنْدَ النَّجَاء»: المناجاة لأن أخا الثقة إذا زل وعوتب من أخيه أنعتب، وإذا أخرج أعتذر إليه رجع إلى صفاء الأخوة لمكان وثاقتها ولستم من ذلك في شيء وبالله التوفيق.

ومن كلام له عليه السّلام لما عوتب على التسوية في العطاء:

وفي نسخة مصححة على تصير الناس أسوة في العطاء من غير تفضيل أولى السابقات والشرف واعلم أن التسوية من سنة الرسول صلى الله عليه [وآله] وسلم وكان أبو بكر كذلك عليها فلما فضل من بعدهما أهل السابقة والشرف في العطاء على غيرهم اعتاد المفضلون بذلك إلى زمانه عليه السلام ولما كان سالكاً

ص: 190


1- ورد في بعض متون النهج: عِزٍّ

مسالك الرسول ومقتفياً أثر سنته لم يمكنه إلا التسوية فطلب المفضلون عادتهم من التفضيل عند ولايته لهذا الأمر فقال: «أَتَأْمُرُونِّ أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ

وُلِّيتُ عَلَيْهِ»: جواب لمن أشار عليه بالتفضيل، وكأنّ المشير قال له: إن فضّلت هؤلاء كانوا معك بقلوبهم ونصروك. فأجابهم بذلك . والجور: العدول عن سبيل اللهَّ بالتفضيل حيث كان خارجاً عن سنّة الرسول. ثمّ أقسم أنّه لا يقربه أبداً، وأنّ المال لو كان له لكان من العدل أن يسوّى بينهم فيه فكيف والمال للهَّ ولهم وذلك قوله: «واللِّهَ لَا أَطُورُ بِهِ»: لا أدور حوله مَا سَمَرَ سَمِیرٌ: يعني الدهر «ومَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْاً لَوْ كَانَ الْمَالُ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ فَكَيْفَ وإِنَّمَا الْمَالُ لهم»: ووجه ذلك أنّ التسوية هي العدل الَّذي تجتمع به النفوس على النصرة وتتألَّف الهمم على مقاومة العدوّ دون التفضيل المستلزم لانكسار قلوب المفضولين مع كثرتهم فلو كان المال له مع كونه بطباع البشريّة الميّالة إلى شخص دون شخص لم يسوّ بينهم فكيف والمال للهَّ الَّذي تساوی کنسبة الخلق إليه، وما لهم الَّذي فرضه اللهَّ لهم على سواء، وهو كالاعتذار الحاسم لمادّة الطمع في التفضيل، ثمّ نبّه على قبح وضع المال في غير أهله وعلى غير وجهه فقال:

«أَلَا وإِنَّ إِعْطَاءَ الْمَالِ(1) فِة غَيِرْ حَقِّهِ»: الذي لم يفرضه الشارع.

«تَبْذِيرٌ وإِسْرَافٌ وهُوَ يَرْفَعُ صَاحِبَهُ فِي الدُّنْيَا»: أي يحصل له به ذکر الكرم بين العوّام، ومن لا يعرف الكرم، «ويَضَعُهُ فِي الآخِرَةِ»: إذا كان به على رذيلة «ويُكْرِمُهُ فِي النَّاسِ ويُهِينُهُ عِنْدَ اللِّهَ ولَمْ يَضَعِ امْرُؤٌ مَالَهُ فِي غَیْرِ حَقِّهِ ولَا عِنْدَ غَیْرِ أَهْلِهِ إِلَّا حَرَمَهُ اللَّهُ شُكْرَهُمْ وكَانَ لِغَیْرِهِ وُدُّهُمْ فَإِنْ زَلَّتْ بِهِ النَّعْلُ»: کنی به عن أخطائه

ص: 191


1- ورد في بعض متون النهج: مَالُ اللهَّ

وعقاره في المصائب (1)«فَاحْتَاجَ إِلَی مَعُونَتِهِمْ فَشَّرُ خَلِيلٍ وأَلَأمُ»: من اللوم خَدِینٍ: صديق هذا حكم يحصل بالاستقراء وربما بلغ بالتجربة وإمام سر ذلك فيحتمل أن يكون لأنهم لما كانوا غير أهل الوضع المعروف لم يكونوا أهلاً للاعتراف به، أما لجهلهم وغفلتهم، وأما لاعتقادهم أن المسدي إليهم غير أهل لشکرهم، أو أنهم على مرية منه واحق بالمال منه وأكثر ما يكون عدم الشكر من هؤلاء لنضر كل منهم إلى أن غيره من المسدي إليه غير أهله وهو أنه احق فيرى نفسه دائماً منحوس الحظ باذل المعروف؛ فلا يزال متسخطاً عاتباً عليه ذاماً للزمان، وحينئذ لا يتحقق اعترافه بنعمة الباذل؛ فإذا أصابه من غيره أدني معروف؛ أم لم يصبه بل سمع مدح أحد، وشكر الناس له ساعد على مدحه وأظهر فضله وقال انه ممن يصنع المعروف في أهل؛ فيكون في ذلك المستنهض لهمة الباذل؛ أو كالمروي عليه والمغائر له وبالله التوفيق.

ومن كلام له عليه السّلام للخوارج أيضاً: في مشاجرته معهم؛

وهو منع لشبهتم التي بها كفروا أصحابه عليه السلام وصورتها أنكم ضللتم بالتحكيم، و كل ضال کافر، ينتج انهم كفار قال عليه السلام:

«فَإِنْ أَبَيْتُمْ إِلَّا أَنْ تَزْعُمُوا أَنِّ أَخْطَأْتُ وضَلَلْتُ»: وهذا يجري مجری تسلیم جدل لما منعه أوّلا في الفصول السابقة من صغری شبههم وبين أنّ التحكيم لم يكن منه خطأ ولا ضلالاً، كأنّه يقول: وهبْ أني أخطأت کما زعمتم.

«فَلِمَ تُضَلِّلُونَ عَامَّةَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم بِضَاَلِي وتَأْخُذُونَهُمْ

بِخَطَئِيِ»: منع هذه الشبهة، «وتُكَفِّرُونَهُمْ بِذُنُوبِ سُيُوفُكُمْ عَلَى عَوَاتِقِكُمْ تَضَعُونَهَا

ص: 192


1- ورد في بعض متون النهج: يَوْماً

مَوَاضِعَ الْبُرْءِ والسُّقْمِ وتَخْلِطُونَ مَنْ أَذْنَبَ بِمَنْ لَمْ يُذْنِبْ»: منع الكبرى فكأنه يقول وهب أنّكم ضلَّلتمون بضلالي فلم تكفّرونهم وتقتلونهم بسبب تكفيرهم، المذنب وغير المذنب، «وقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم رَجَمَ الزَّانِيَ ثُمَّ وَرَّثَهُ أَهْلَهُ، وقَتَلَ الْقَاتِلَ ووَرَّثَ مِيرَاثَهُ أَهْلَهُ»: استشهاد عليهم بفعل الرسول صلَّى اللهَّ عليه وآله وسلَّم فيمن أخطأ، وأنّه لم يكفّرهم بذنوبهم بل أجرى عليهم أحكام الإسلام، ولم يسلبهم اسمه، وهذا استشهاد يجری مجری ذکره مستند المنع، والزاني الَّذي رجمه هو المحصن، ولم يمنعه استحقاقه الرجم صدق الإسلام عليه، ولحوق أحكامه له من الصلاة عليه و توريث ماله لأهله، «وقَطَعَ السَّارِقَ»: أي ید«وجَلَدَ الزَّانِيَ غَیْرَ الْمُحْصَنِ ثُمَّ قَسَمَ عَلَيْهِاَ مِنَ الْفَيْءِ ونَكَحَا»: يعني السَّارق والزَّاني «الْمُسْلِمَاتِ؛ فَأَخَذَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم بِذُنُوبِهِمْ، وأَقَامَ

حَقَّ اللِّهَ فِيهِمْ، ولَمْ يَمْنَعْهُمْ سَهْمَهُمْ مِنَ الإِسْاَمِ ولَمْ يُخْرِجْ أَسْاَءَهُمْ مِنْ بَیْنِ أَهْلِهِ: ثمّ لمّا فرغ من غلطهم ذمّهم ونسبهم إلى الانفعال عن الشيطان، إذ كانت وساوسه مبادي الأغلاط والشبه؛ فقال: «ثُمَّ أَنْتُمْ شِرَارُ النَّاسِ، ومَنْ رَمَى بِهِ الشَّيْطَانُ

مَرَامِيَهُ وضَرَبَ بِهِ تِيهَهُ»: أي أنتم الذين رمي بكم الشَّيطان، التي هي من مراميه وضرب بكم تيهه أي حيركم ثم عقب ذلك بالإخبار عن هلاك من سلك طريق الإفراط في حبّه أو بغضه لخروجهما عن الحقّ والعدل إلى الباطل والجور؛ فقال: «وسَيَهْلِكُ فيَّ صِنْفَانِ مُحِبٌّ مُفْرِطٌ يَذْهَبُ بِهِ الْحِبُّ إِلَی غَیْرِ الْحَقِّ، ومُبْغِضٌ مُفْرِطٌ

يَذْهَبُ بِهِ الْبُغْضُ إِلَی غَیْرِ الْحَقِّ»: وإفراط الحبّ أن جعل إلهاً، وإفراط البغض أن نسب إلى الكفر، «وخَیْرُ النَّاسِ فِيَّ حَالًا النَّمَطُ الأَوْسَطُ في المحبَّة»: وهم أهل العدل فيه، والنمط الأوسط الجماعة من الناس أمرهم واحد، في الحديث خير هذه الأُمّة النَّمط الأوسط يلحق بهم التالي ويرجع إليهم الغالي؛ فالتالي هو المقصّر الواقف في طرف التفريط، والغالي هو العابر إلى طرف الإفراط؛ «فَالْزَمُوهُ»: أي النَّمط

ص: 193

«والْزَمُوا السَّوَادَ الأَعْظَمَ»: أي أكثر المسلمين المثقفين على رأي واحد ورَغبّ في لزوم طريقتهم بأن قال: «فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ»: فتجوّز باليد في قدرة اللهَّ تعالى في حراسته للجماعة، فأنهم لكثرة آرائهم واتّفاقها لا تكاد تتّفق على أمر لا مصلحة فيه مع كثرتها واختلافها، وحذّر من الشذوذ عنها.

«وإِيَّاكُمْ والْفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّاذَّ مِنَ النَّاسِ»: أي المتفرد المستبد برأيه: «لِلشَّيْطَانِ» أي محل الطريقة.

«كَمَا أَنَّ الشَّاذَّ مِنَ الْغَنَمِ لِلذِّئْبِ»: ووجه الشبه کون انفراده محلَّلاً لتطرّق الهلاك إليه بإستغواء الشيطان له کمان أنّ الشاة المنفردة في مظنّة الهلاك لانفرادها ووحدتها اللذئب.

«أَلَا مَنْ دَعَا إِلَی هَذَا الشِّعَارِ»: وهو مفارقة الجماعة والاستبداد بالرأي .

«فَاقْتُلُوهُ ولَوْ كَانَ تَحْتَ عِمَمَتِي هذه»: مبالغة في الكلام کنّی بها عن أقصى القرب من عنايته: أي ولو كان ذلك الداعي إلى هذا الحدّ من عنايتي به، وقيل: أراد ولو كان ذلك الداعي أنا ثم أعتذر عن شبهة التحكيم وقال: «فَإِنَّاَ حُكِّمَ

الْحَكَمَانِ لِيُحْيِيَا مَا أَحْيَا الْقُرْآنُ ويُمِيتَا مَا أَمَاتَ الْقُرْآنُ»: أسند إليها الإحياء والإماتة مجازاً باعتبار کونهما في الاجتماع عليه، والعمل به مظهرين لمنفعته وفائدته کما يفعل موجد الحياة، وكونهما في تركه والإعراض عنه سبباً لبطلان منفعته وعدم منفعته كما يفعله مميت الشيء ومبطل حياته.

«وإِحْيَاؤُهُ الِجْتِاَعُ عَلَيْهِ وإِمَاتَتُهُ الِافْتِرَاقُ عَنْهُ فَإِنْ جَرَّنَا الْقُرْآنُ إِلَيْهِمُ اتَّبَعْنَاهُمْ

وإِنْ جَرَّهُمْ إِلَيْنَا اتَّبَعُونَا فَلَمْ آتِ لَا أَبَا لَكُمْ»: يجرى شراً وأمراً عظيماً «ولَا خَتَلْتُكُمْ

عَنْ أَمْرِكُمْ»: الختل الخديعة.

ص: 194

«ولَا لَبَّسْتُهُ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا اجْتَمَعَ رَأْيُ مَلَئِكُمْ عَلَى اخْتِيَارِ رَجُلَیْنِ أَخَذْنَا عَلَيْهِمَا أَلَّا

يَتَعَدَّيَا الْقُرْآنَ فَتَاهَا عَنْهُ وتَرَكَا الْحَقَّ وهُمَا يُبْصِرَانِهِ وكَانَ الْوْرُ هَوَاهُمَا فَمَضَيَا عَلَيْهِ

وقَدْ سَبَقَ اسْتِثْنَاؤُنَا عَلَيْهِاَ فِي الْحُكُومَةِ بِالْعَدْلِ والصَّمْدِ لِلْحَقِّ سُوءَ رَأْيِهِمَا وجَوْرَ

حُكْمِهِمَا»: توضيح هذا الكلام على وجه يتلألأ في ساحات قلوب الأنام أنه لمّا بيّن وجه عذره في التحكيم أنكر أن يكون؛ فعله ذلك مشتملاً على قصد شرّ؛ أو خديعة لهم؛ أو تلبيساً عليهم في التحكيم من غير اتّفاق منهم، ومراجعة لهم بل إنّما كان ذلك عن اجتماع آراء قومهم على اختيار حكمين أخذت عليهما الشرائط المعدودة في كتاب الصلح، وفي نسبته اختيار الحكمين إلى ملائهم، ونسبته أخذ العهد عليهما في اتّباع الكتاب إلى نفسه؛ أو إلى جماعة هو أحدهم تنبيه على أنّ أخذ العهد عليهما كان منه؛ أو بشرکته دون تعيينهما للحكومة؛ لما نقل إنّه كان غير راض بنصب أبی موسی نائباً عنه، وإنّما اکره على ذلك، وكان میله واختياره في ذلك لابن عبّاس، وتلخيص الكلام: أنّا إنّما رضينا بالحكمين بشرط أن يعملا بکتاب اللهَّ، والمشروط بشرط عدم عند عدم ذلك الشرط؛ فحيث خالفا الشرط عمداً بعد أن سبق استثناؤنا عليهما سوء رأيهما وجبت مخالفتهم وانتصب سوء رأيهما لأنّه مفعول به عن سبق وباللهَّ التوفيق والعصمة.

ومن كلام له عليه السّلام وهو مما يخبر به عن الملاحم:

الملحمة الواقعة العظيمة «بالبصرة» : بعد وقعة الجمل ذكرنا منها فصولاً فيما سبق «یَا أَحْنَفَ»: خصه بالخطاب لأنّه كان رئيساً ذا عقل وسابقة في قومه، واسمه صخر بن قيس، وقيل: اسمه الضحّاك، وكنيته أبو بحر وبسببه كان إسلام بنی تمیم حین دعاهم رسول اللهَّ صلى الله عليه وآله وسلَّم فلم يجيبوا، فقال لهم الأحنف: إنّه يدعوكم إلى مكارم الأخلاق وينهاكم عن ملاعبها فأسلموا، وأسلم

ص: 195

الأحنف وشهد مع علىّ عليه السلام صفّين.

«كَأَنِّي بِهِ»: الضمير لصاحب الزنج عليّ بن محمّد علويّ النسب «وقَدْ سَارَ بِالْجَيْشِ الَّذِي لَا يَكُونُ لَهُ غُبَارٌ ولَا لَجَبٌ»: صياح «ولَا قَعْقَعَةُ لُهُمٍ»: هي حكاية صوت السلاح ونحوه «ولَا حَمْحَمَةُ خَيْلٍ»: يومي بذلك الجيش إلى الريح وواقعتهم بالبصرة مشهورة وأخبارهم، وبيان أحوالهم، وتفصيل، واقعتهم يشتمل عليه كتاب مفرد في نحو من عشرین کراسة، فليطلب علمها من هناك، وأما وصف ذلك بالأوصاف مع قوله: «يُثِرُونَ الأَرْضَ بِأَقْدَامِهِمْ كَأَنَّهَا أَقْدَامُ النَّعَامِ»: فكناية عن كونهم حفاة في الأغلب مشققي الأقدام؛ فهي في اعتیاد الحفاة، ومباشرة الأرض كالخشب، ونحوه فكانت إثارة التراب عوضاً من حوافر الخيل، ووجه شبهها بأقدام النعام؛ أنّ أقدامهم في الأغلب قصار عراض منتشرة الصدور، ومفرّقات الأصابع فهي من عرضها لا يتبيّن لها طول؛ فأشبهت أقدام النعام في بعض تلك الأوصاف، ثمّ أخبر بالويل لمحالّ البصرة، ودورها المزوّقة من أولئك فقال: (1)«وَيْلٌ لِسِكَكِكُمُ الْعَامِرَةِ والدُّورِ الْمُزَخْرَفَةِ الَّتِي لَهَا أَجْنِحَةٌ كَأَجْنِحَةِ النُّسُورِ»: واستعار لدورها لفظ الأجنحة، وأراد بها القطانيّات الَّتي تعمل من الأخشاب والبواري بارزة عن السقوف کالوقاية للمشارف والحيطان عن آثار الأمطار، وهي أشبه الأشياء في هيئتها وصورة وضعها بأجنحة كبار الطير كالنسور، «وخَرَاطِيمُ كَخَرَاطِيمِ الْفِيَلَةِ»: استعارها للميازيب التي تعمل شكل خرطوم الفيل وتطلي بالقار یكون نحوا من خمسة أذرع أو أزيد تدلى من السطوح حفظاً للحيطان من أذى السيل، إذ صار هي أشبه الأشياء في صورتها بخراطيم الفيلة، «مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَا يُنْدَبُ قَتِيلُهُمْ ولَا يُفْقَدُ غَائِبُهُمْ»: قبل ذلك الوصف،

ص: 196


1- ورد في بعض متون النهج: يومئ بذلك إلى صاحب الزنج ثُمَّ قَالَ عليه السّلام

وصف لهم بشدّة البأس والحرص على الحرب والقتال، وأنّهم لا يبالون بالموت، ولا يأسفون على من يفقد منهم، وأقول: والأشبه أنّ ذلك لكونهم لا أصول لهم، ولا أهل لأكثرهم من؛ أُمّ؛ أو أخت، أو غير ذلك ممّن عادته؛ أن ينوح ويندب قتيله، ويفتقد غائبه لكون أكثرهم غرباء بالبصرة؛ فمن قتل منهم لا يكون لهم من هدنة، ومن غاب لا يكون له من يفتقده، ثم أشار إلى زهده، ونبّه على فضيلته بقوله: «أَنَا كَابُّ الدُّنْيَا لِوَجْهِهَا»: يقال: كبت فلانا لوجهها إذا تركته، «وقَادِرُهَا بِقَدْرهَا»: أي ومعامل لها بمقدارها، ولمّا كان مقدارها حقيراً عنده كان التفاته إليها التفاتا حقيرة حسب صورة البقاء بها، ونَاظِرُهَا بِعَيْنِهَا: أي معتبرها بعين الَّتي ينبغي أن تعتبر بها الدنيا من كونها غرّارة غدّارة زائلة حائلة إلى غير ذلك من أوصافها، وأنّها مزرعة الآخرة وطريق إليهاغير مطلوبة لذاتها. وباللهَّ التوفيق.

ومنه يؤمی به إلى وصف الأتراك: كَأَنِّي أَرَاهُمْ قَوْماً كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ: جمع مجنّ بكسر الميم وهي الترس، والمطرقة الَّتي تطبق كطبقات النعل واعلم أنّه عليه السَّلَام من عادته إذا أراد الإخبار عن أمر سيكون؛ فإنّه يصدّره بقوله: كأنّي کما سبق من إخباره عليه السَّلَام عن الكوفة كأنّي بك یا کوفه، وكقوله: كأنّي به وقد نعق بالشام، ووجه ذلك أنّ مشاهدته بعين بصيرته لمّا أفيض على نفسه القدسيّة من أنوار الغيب على سبيل الإلهام بواسطة الأستاذ المرشد صلَّى اللهَّ عليه وآله وسلَّم تشبه المشاهدة بعين البصر في الجلاء والظهور الحالي عن الشكّ فلذلك؛ حسن حرف التشبيه صدرا، وضمائر الجمع في الفصل تعود إلى الأتراك، وشبّه وجوههم بالتروس المطرقة، ووجه الشبه الاستدارة والعظم والانبساط والخشونة و الغلظ، وهو تشبيه للمحسوس بالمحسوس، «يَلْبَسُونَ السَّرَقَ»: شفق الحرير، «والدِّيبَاجَ ويَعْتَقِبُونَ»: يحبسون «الْخَيْلَ الْعِتَاقَ»: کرائمها وأحوالهم يشهد

ص: 197

بصدقه، «ويَكُونُ هُنَاكَ اسْتِحْرَارُ قَتْلٍ»: أي شدته يقال: استحرَّ القتل وحرَّ: اشتدَّ، «حَتَّى يَمْشِيَ الْمَجْرُوحُ عَلَى الْمَقْتُولِ ويَكُونَ الْمُفْلِتُ»: ضد الأسير «أَقَلَّ مِنَ

الْمَأْسُور»: يشهد بصدقه التواريخ بالوقائع المشهورة بينهم وبين العرب، وغيرهم من المسلمين في أيام عبد الله بن الزبير، وفي أيام قتيبة بن مسلم؛ «فَقَالَ لَهُ بَعْضُ

أَصْحَابِهِ: لَقَدْ أُعْطِيتَ يَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ عِلْمَ الْغَيْبِ؛ فَضَحِكَ عليه السّلام وقَالَ: «لِلرَّجُلِ وكَانَ كَلْبِيّاً يَا أَخَا كَلْبٍ لَيْسَ هُوَ بِعِلْمِ غَيْبٍ»: إذ المراد به هو العلم الذي لا يكون مستفاداً عن سبب يفيده وذلك إنَّما يصدق في حق الله تعالى أذى في كل علم لذي علم عاداه؛ فهو مستفاد من وجوه أمَّا بواسطة أو بغير واسطة، ولا يكون غيب بل اطلاعاً على أمر غيبي لا يتأهل للاطلاع عليه كل النَّاس بل يختص بنفوس خصَّت بعناية إلاهيَّة كما قال تعالى عالم الغيب فلا يظهر على غيبةٍ أحداً إلَّا من ارتضی من رسول وإلى ذلك أشار بقوله: (1)«وإِنَّماَ عِلْمُ الْغَيْبِ عِلْمُ السَّاعَةِ

(2)عَدَّدَهُ اللُّهَ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ»(3) الآيَةَ فيعلم فَيَعْلَمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَا فِي الأَرْحَامِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وقَبِيحٍ أَوْ جَمِيلٍ وسَخِيٍّ أَوْ بَخِيلٍ وشَقِيٍّ أَوْ سَعِيدٍ ومَنْ يَكُونُ فِي النَّارِ حَطَباً أَوْ فِي الْجِنَانِ لِلنَّبِيِّنَ مُرَافِقاً»: روي أنَّ أبا بكر العبَّاس دخل على موسی بن جعفر عليه السَّلَام وقال: لو رأيت البارحة كأنِّي قلت لكم کم بقي من عمري؟ فرفعت إليَّ كفك اليمنى مفرّجاً أصابعها الخمس مشيراً بها إلَّي ولا أدري أردت بذلك خمس سنة أو خمسة أشهر؟ فقال: «ذلك إشارة إلى خمسة أشياء التي هي في قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ»(4)،

ص: 198


1- ورد في بعض النسخ: وإِنَّمَا هُوَ تَعَلُّمٌ مِنْ ذِي عِلْمٍ
2- ورد في بعض النسخ: ومَا
3- سورة لقمان: الآية 34
4- سورة لقمان: الآية 34

وكأنِّي قلت لك الَّذي سألته عنِّي علم الغيب لا يعلم إلّا الله»(1)، وروي مکحول عن النَّبي صلى الله عليه [وآله] لمَّا نزل قوله تعالى: «وتعيها أذن واعية»(2) قال: «اللهم اجعلها أذن علي»(3) ثم قال: أمير المؤمنين عليه السلام «فما سمعت شيئاً من رسول الله فنسيته»(4).

«فَهَذَا عِلْمُ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ(5) إِلاَّ اللُّهَ ومَا سِوَى ذَلِكَ عَلّمٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ رسوله(6) صلّی الله عليه وآله وسلّم فَعَلَّمَنِيهِ»: يعني أن يعلم أن التعلم الحاصل من قبله صلى الله عليه [وآله] وسلم ليس في صورة جزئية، ووقائع جزئيته بل معناه أعداد نفسه القدسية على طوال الصحبة من حيث كان طفل إلى أن توفي الرسول صلى الله عليه [وآله] وسلم هذه العلوم الرياضة التامة وكيفية تعليم السلوك وأسباب تطويع النفس الأمارة بالسوء، النفس المطمئنة حتى استعدت نفسه الشريفة للإنتقاش بالأمور الغيبية وانتقشت فيها الصور الكلية فأمكنه الأخبار عنها وبها ولذلك قال: «ودَعَا لِي بِأَنْ يَعِيَهُ صَدْرِي وتَضْطَمَّ عَلَيْهِ جَوَارحِي» وروي جوانحي وانتقشت فيها الصور الكلَّيّة؛ فأمكنه الإخبار عنها وبها، ولذلك قال: ودعا لي بأن يعيه صدري، وتضطم عليه جوانحي: أي يضبطه قلبي، ويشتمل

ص: 199


1- شرح نهج البلاغة لقطب الدين الراوندي: ص 45: ولم أعثر على مصدر آخر للحديث
2- سورة الحاقة: الآية 12
3- ينظر معراج البراعة لعلي بن زید البهيقي: ص 223؛ وعوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي: ج 1 ص 276؛ وشرح نهج البلاغة لابن میثم البحراني: ج 3 ص 175؛ اختیار مصباح السالكين لابن میثم البحراني: 293
4- ينظر: جامع البيان عن تأویل آي القرآن لمحمد بن جرير الطبري: ص 69، كذلك قاله التستري باختلاف في اللفظ في تفسير قوله تعالى «لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ»: ج 28 ص 507
5- ورد في بعض النسخ: أَحَدٌ
6- في بعض النسخ: ورد نبيه بدلاً من رسوله

عليه، فعلى هذه كناية عن القلب لاشتمالها عليه، ولو كانت تلك العلوم صوراً جزئيّة لم يحتج إلى مثل هذا الدعاء؛ فإنّ فهم الصور الجزئيّة، والإخبار عنها ممکن لكلّ الصحابة من العوامّ وغيرهم، وإنّما الصعب المحتاج إلى الدعاء بأن يعيه الصدر ويستعدّ الأذهان لقبوله هو: القوانين الكلَّيّة، و كيفيّة انشعابها، وتفصيلها وأسباب تلك الأمور المعدّه لإدراكها حتّى إذا استعدّت النفس بها أمكن أن ينتقش بالصور الجزئيّة من مفيضها والله سبحانه اعلم.

ومن خطبة له عليه السّلام: في التنفير عن الدنيا بذكر عدة من معايبها.

«عِبَادَ اللَّهِ، إِنَّكُمْ ومَا تَأْمُلُونَ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا أَثْوِيَاءُ»: جمع ثوىّ على وهو الضيف ووجه الاستعارة مشابهتهم للضيف في تأجيل الإقامة والانقطاع وقته وقرب رحيله.

«مُؤَجَّلُونَ»: ترشيح للاستعارة «ومَدِينُونَ مُقْتَضَوْنَ»: استعارة المدين باعتبار وجوب الفرائض المطلوبة منهم وعهد اللهَّ المأخوذ عليهم أن يرجعوا إليه طاهرین عن نجس الملحدين، ورشّح بذكر المقتضين لما أنّ شأن المدين أن يقتضي منه الدين، ثمّ لمّا ذكر كونهم مؤجّلين ومدينين كرّر ذكر الأجل بوصف النقصان فقال:

«أَجَلٌ مَنْقُوصٌ»: ولا شكّ في نقصان ما لا يبقى، وذكر العمل الَّذي خالصه وصالحه هو الدين المقتضى بوصف كونهم محفوظاً عليهم بقوله: «وعَمَلٌ مَحْفُوظٌ»: ليجذب بنقصان الأجل إلى العمل، وبحفظ العمل إلى إصلاحه، والإخلاص فيه، وأجل وعمل: خبران حذف مبتدئهما: أي أجلكم وعملكم ونبّه بقوله: على أنّ العمل وإن قصد فيه الصلاح أيضاً إلَّا أنّه قد يقع على وجه الغلط، فيحصل بذلك انحراف عن الدين، وضلال عن الحقّ؛ فيضيّع العمل ويخسر الكدح کدأب

ص: 200

الخوارج ونحوهم؛ فربما دخل الكادح في قوله تعالى «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا» وذلك ككدح أهل الكتاب ونحوهم.

«دَائِبٍ»(1): عاجل «مُضَيَّعٌ ورُبَّ كَادِحٍ»: مجد «خَاسٌرِ»: على أنّ العمل وإن قصد فيه الصلاح أيضاً إلَّا أنّه قد يقع على وجه الغلط، فيحصل بذلك انحراف عن الدين وضلال عن الحقّ فيضيّع العمل ويخسر الكدح كدأب الخوارج ونحوهم فربما دخل الكادح في قوله تعالى «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا» وذلك ككدح أهل الكتاب ونحوهم.

«وقَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي زَمَنٍ لَا يَزْدَادُ الْخَیْرُ فِيهِ إِلَّا إِدْبَاراً والشَّرُّ(2) إِلَّا إِقْبَالًا»: ذم للزمان كقوله: إنّا قد أصبحنا في زمن كنود، ودهر عنود. وذلك لأخذ الزمان في البعد عن وقت ظهور الشريعة وطراوتها وجرأة الناس على هتك الدين وارتكاب مناهي اللهَّ.

«والشَّيْطَانُ فِي هَلَاكِ النَّاسِ إِلَّا طَمَعاً»: لذلك أي في هلاك دينهم الَّذي يكون غايته هلاكهم في الآخرة، وأشار إلى أن ذلك الوقت هو: أوان قوّة عدّته وعموم مکیدته بقوله: «فَهَذَا أَوَانٌ قَوِيَتْ عُدَّتُهُ، وعَمَّتْ مَكِيدَتُهُ وأَمْكَنَتْ فَرِيسَتُهُ»: وإمكان عمله فما ظنّك بزماننا هذا وما بعده، واستعارها لمطاوعي الشيطان والمنفعلين عنه، ووجه الاستعارة بلوغه منهم مراده، وتصريفه لهم لغاية هلاكهم کالأسد مع فريسته.

ص: 201


1- ورد في بعض متون النهج: فَرُبَّ
2- ورد في بعض متون النهج: فيه

ثم شرح ما أجمله أوّلا من ازدياد إقبال الشرّ، وإدبار الخير بقوله: «اضْرِبْ

بِطَرْفِكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ النَّاسِ؛ فَهَلْ ينظر(1) إِلَّا فَقِراً يُكَابِدُ فَقْراً أَوْ غَنِيّاً بَدَّلَ

نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً»: ترکه وإعراضه عن شکر نعم اللهَّ سبحانه، «أَوْ بَخِياً اتَّخَذَ الْبُخْلَ بِحَقِّ اللَّهِ وَفْراً»: أي: أنِ البخيل يقصد ببخله بحقِ اللهَّ على مستحقّه توفير المال والزّيادة فيه، «وْمُتَمَرِّداً كَأَنَّ بِأُذُنِهِ عَنْ سَمْعِ الْمَوَاعِظِ وَقْراً»: أي نقلاً وقوله: «أَيْنَ أَخْيَارُكُمْ وصُلَحَاؤُكُمْ، وأَيْنَ أَحْرَارُكُمْ وسُمَحَاؤُكُمْ؟ وأَيْنَ الْمُتَوَرِّعُونَ فِي مَكَاسِبِهِمْ والْمُتَنَزِّهُونَ فِي مَذَاهِبِهِمْ»؟ سؤال من باب تجاهل العارف تنبيهاً لهم على ما صاروا إليه من فراغ الدنيا وعلى أنهم لم فيهم من أولي الأعمال الصالحة وأراد بالأحرار الكرماء والمتورّعون في مكاسبهم الملازمون للأعمال الجميلة فيها من التقوى والمسامحة، وإخراج حقوق الله والمتنزهون في مذاهبهم الممتنعون عن ولوج أبواب المحارم والشبهات في مسالكهم وحركاتهم، «أَلَيْسَ قَدْ ظَعَنُوا جَمِيعاً عَنْ هَذِهِ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ والْعَاجِلَةِ الْمُنَغِّصَةِ»؟ سؤال على سبيل التقرير لما نبّههم عليه من فراق الدنيا ودنائتها بالنسبة إلى عظيم ثواب الآخرة، وتنغيصها بالآلام ونحوها حتّى قال بعض الحكماء: إنّ كلّ لذّة في الدنيا فإنّما هي خلاص من ألم، «وهَلْ خُلِقْتُمْ إِلَّا فِي حُثَالَةٍ لَا تَلْتَقِي بِذَمِّهِمُ الشَّفَتَانِ»؟ الحثالة النعل والرَّديء من كلّ شيء، أي إنّهم أحقر من أن يشتغل الإنسان بذمّهم، ««اسْتِصْغَاراً لِقَدْرِهِمْ وذَهَاباً عَنْ ذِكْرِهِمْ»: سؤال على التقرير لما ذكر أيضاً، واستعار الحثالة لرعاع النَّاس و همجهم؛ «فَإِنَّا للهَّ وإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ»: وحسن اقتباس القرآن هنا لما أنّ هذه الحال التي الناس عليها من فقد خيارهم وبقاء شرارهم مصيبة، ومن آداب اللهَّ للصابرين على نزول المصائب أن يسلَّموا أنفسهم وأحوالهم فيه؛ فيقولوا عندها: إنّا للهَّ وإنّا إليه

ص: 202


1- ورد في بعض: تبْصُرِ

راجعون كما قال سبحانه: «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ»(1) ثمّ حكم على سبيل التوجّع والأسف بقوله: «ظَهَر الْفَسَادُ فَلَا مُنْكِرٌ مُغَیِّرٌ، ولَا زَاجِرٌ مُزْدَجِرٌ»: تنبيها لهم على أنّهم وإن كان فيهم من ينكر ويزدجر إلَّا أنّه بغيّر ماینکره ولا يزدجر عن مثله، وذلك من قبائح؛ «أَفَبِهَذَا تُرِيدُونَ أَنْ تُجَاوِرُوا اللهَ فِي دَارِ قُدْسِهِ وتَكُونُوا أَعَزَّ أَوْلِيَائِهِ عِنْدَه»؟ أي: بأعمالكم هذه المدخولة وبتقصيركم ومجاورة اللهَّ: الوصول إليه والمقام معه في جنّته الَّتي هي مقام الطهارة عن نجاسات الهيئات البدنيّة، وهو استفهام الإنكار ولذا عقبّه بقوله: «هَيْهَاتَ لَا يُخْدَعُ اللُّهَ عَنْ جَنَّتِهِ، ولَا تُنَالُ مَرْضَاتُهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ»: الحقيقيّة الخالصة دون الظاهرة، ولما كان ذلك يجري مجرى الزهد الظاهر مع النفاق في الباطن أعني عمالهم المدخولة من ارتكاب المنكر، وارتكابه نبههم على أن فعلهم كخداع الله عن جنته، وصرح بأن الله لا يخدع لعلمه بالسرائر؛ ثم ختم بلعن الآمريَّن بالمعروف مع تركهم للعمل به ويلعن أخونهم فقال:

«لَعَنَ اللُّهَ الآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ التَّارِكِنَ لَهُ والنَّاهِنَ عَنِ الْمُنْكَرِ الْعَامِلِينَ له»: لأنّهم منافقون مغرورون بذلك لمن يقتدى بهم والنفاق مستلزم اللعن والبعد عن رحمة اللهَّ وباللهَّ التوفيق.

ومن كلام له لأبي ذر: لما أُخرج إلى الرَّبذة

«یَا أَبَا ذَرٍّ»: أسمهُ جُندب بن جنادة وهو من بني عقار قبيلة من كنانة واسلم بمكة وكان يتوالى علياً وأهل بيته (عليه الصَّلَاة و السَّلَام)، وهو الذي قال الرَّسول صلى الله عليه [وآله] وسلم في حقه: «ما أقلت الغبراء، ولا ظلت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذَرّ»، وروى ابن المعمّر عنه قال: «رأيت أبا ذرّ آخذاً بحلقة

ص: 203


1- سورة البقرة: الآية 155

باب الكعبة وهو يقول: أنا أبو ذرّ الغفاريّ فمن لم يعرفني فأنا جُندب صاحب رسول اللهَّ صلَّى اللهَّ عليه وآله وسلَّم سمعت رسول اللهَّ صلَّى اللهَّ عليه وآله وسلم يقول: «مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجی ومن تخلَّف عنها غرق»(1)، وكان قد أخرجه عثمان إلى الربذة، وهي موضع قريب إلى المدينة. واختلف في سبب إخراجه فروى عن زيد بن وهب أنّه قال: «قلت لأبي ذرّ رحمه اللهَّ وهو بالربذة: ما أنزلك هذا المنزل؟ قال: أُخبرك أنّي كنت بالشام في أيّام معاوية فذكرت قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ»(2) فقال معاوية: هذه نزلت في أهل الكتاب، قلت: بل فينا وفيهم؛ فكتب معاوية إلى عثمان يشكو منّى في ذلك فكتب إلىّ أن أقدم عليّ؛ فقدمت عليه فأمثال الناس عليّ كأنّهم لم يعرفوني فشكوت ذلك إلى عثمان فخيّرني وقال: أنزل حيث شئت فنزلت الربذة، وقيل: بل كان يغلظ القول في إنكار ما يراه منكراً، وفي حق عثمان يقول: لم يبقَ أصحاب رسول الله على ما عهد وینفر بهذا القول وأمثاله عنه فأخرجه لذلك»(3) وخطابه عليه السَّلَام لأبي ذر أليق بالثاني: «إِنَّكَ غَضِبْتَ للهَّ»: شهادة أنّ إنكاره لما كان ينكره إنّما يقصد به وجه اللهَّ تعالى «فَارْجُ مَنْ غَضِبْتَ لَهُ إِنَّ الْقَوْمَ خَافُوكَ عَلَى دُنْيَاهُمْ»: أي على أمر الخلافة بالتنفير عنهم، وخِفْتَهُمْ عَلَى دِينِكَ»: باجتناب موافقتهم وأخذ عطائهم على غير السنّة؛ «فَاتْرُكْ فِي أَيْدِيهِمْ مَا خَافُوكَ عَلَيْهِ واهْرُبْ بِمَا خِفْتَهُمْ عَلَيْهِ فَمَا أَحْوَجَهُمْ إِلَی مَا مَنَعْتَهُمْ ومَا أَغْنَاكَ عَمَّا مَنَعُوكَ وسَتَعْلَمُ مَنِ

ص: 204


1- بصائر الدرجات لمحمد بن حسن الصفار: ص 317؛ قرب الأسناد للحميري القمي: مقدمة صفحة التحقيق: ص 8؛ دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي: ج 1 ص 28؛ كذلك الأمالي للشيخ الصدوق: ص 3
2- سورة التوبة: آية: 34
3- الشافي في الإمامة للشريف المرتضى: ج 4 ص 289؛ نهج الحق وكشف الصدق للعلامة الحلي: ص 300

الرَّابِحُ غَداً والأَكْثَرُ حُسَّداً»: أي يوم القيامة و ظاهر کون تارك الدنيا أربح من المقبل عليها، وأكثريّة الحسّد من لواحق أكثريّة الذّل، «ولَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ والأَرَضِينَ كَانَتَا عَلَى عَبْدٍ رَتْقاً ثُمَّ اتَّقَى اللَّهً لَجَعَلَ اللُّهَ لَهُ مِنْهُاَ مَخْرَجاً»: بشارة له بخلاصه ممّا هو فيه من ضيق الحال بسبب الإخراج، وشرط في ذلك تقوى اللهَّ إشارةً إلى قوله تعالى: «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا»(1)، قال ابن عبّاس: قرء رسول اللهَّ صلىَّ اللهَّ عليه وآله وسلَّم: «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا»، قال: من شبهات الدنيا، ومن غمرات الموت وشدائد يوم القيامة، وظاهر كون التقوى عند استشعارها سبباً قاطعاً لطمع المتّقى من الدنيا و قيناتها، وهو مستلزم لراجيه من مجاذبة النفس الأمّارة بالسوء و الوقوع في شبهات الدنيا، وهي في استلزام الخلاص من غمرات الموت وشدائد يوم القيامة أظهر، وکنّی علیه السّلام بالغاية المذكورة وهي: رتق السماوات والأرض على العبد عن غاية الشدّة مبالغة ليتبيّن فضل التقوى، ثمّ أمره بالاستیناس بالحقّ وحده، والاستيحاش من الباطل وحده، «لَا يُؤْنِسَنَّكَ إِلَّا الْحَقُّ

ولَا يُوحِشَنَّكَ إِلَّا الْبَاطِلُ»: وأكَّد الحصر في الموضعين بقوله: وحده على ما في كثير من النسخ، تنفيراً عن أن يستوحش من حقّ ما فيترك وينفر عنه وإن صعب وشقّ على النفس، أو يستأنس بباطل ما؛ فيفعل أو يسكت عليه ونبّه على علَّة بغضهم فقال: «فَلَوْ قَبِلْتَ دُنْيَاهُمْ لأَحَبُّوكَ ولَوْ قَرَضْتَ مِنْهَا لأَمَّنُوكَ»: وكنّى بالقرض من الدنيا عن الأخذ منها. وباللهَّ التوفيق.

ومن كلام له عليه السّلام:

«أَيَّتُهَا النُّفُوسُ الْمُخْتَلِفَةُ والْقُلُوبُ الْمُتَشَتِّتَةُ»: أي المتفرّقة عن مصالحها وما خلقت لأجله، «الشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْ والْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ»: أراد ذهولها عن رشدها،

ص: 205


1- سورة الطلاق: أية: 2

وإصابة وجه الحقّ بانصرافها عن دعائه إلى ما ينبغي «أَظْأُرُكُمْ»: أعطفكم «عَلَى

الْحَقِّ وأَنْتُمْ تَنْفِرُونَ عَنْهُ نُفُورَ الْمِعْزَى مِنْ وَعْوَعَةِ الأَسَدِ»: صوته، وجه التشبيه شدّة نفارهم عن طلب الحقّ، ثمّ استبعد إظهاره للعدل وإقامة الدين بمثلهم على ما هم عليه من قلَّة طاعته بقوله: «هَيْهَاتَ أَنْ أَطْلَعَ بِكُمْ سَرَارَ الْعَدْلِ»: ماخفي منه، «أَوْ أُقِيمَ اعْوِجَاجَ الْحَقِّ»: ثم عقب ذلك باستشهاد اللهَّ سبحانه على أنّ قصده بمنافسته في أمر الخلافة؛ لم يكن في سلطان، ولا لفضل حطام دنيويّ، ولكن للغاية الَّتي ذكرها بقوله: «اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلْطَانٍ ولَا الْتِمَاسَ شَيْءٍ مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ ولَكِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ»: وهي الآثار الَّتي يهتدى بها، «ونُظْهِرَ الإِصْلَاحَ فِي بِلَادِكَ فَيَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ وتُقَامَ الْمَعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ»: ثمّ استشهد على أوليته في إنابته بقوله: «اللَّهُمَّ إِنِّ

أَوَّلُ مَنْ أَنَابَ»: أي رجع إلى الله تعالى عمَّا لعلَّه كان يعد في حقه ذنباً، وسَمِعَ: أي

أطاع الله «وأَجَابَ»: أي دعا الله «لَمْ يَسْبِقْنِي إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم بِالصَّلَاةِ»: وذلك أمر معلوم من حاله، وإنّما يقول خصمه إنّه حين تبع الرسول صلَّى اللهَّ عليه وآله وسلَّم كان طفلاً لا اعتداد بإسلامه، وسنذكر ذلك في موضعه من الخطبة المسمّاة بالقاصعة، وغرضه من هذا الاستشهاد مع ما بعده من الإشارة إلى الرذائل الَّتي ينبغي أن يكون الإمام منزّها عنها تقرير فضيلته، ونبّه على أنّ فيه من الفضائل مايقابل تلك الرذائل بتعدیدها، ونفيها عن الإمام الوالي لأمور المسلمين بقوله: «وقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ(1) عَلَى الْفُرُوجِ والدِّمَاءِ والْمَغَانِمِ والأَحْكَامِ وإِمَامَةِ الْمُسْلِمِينَ الْبَخِيلُ؛ فَتَكُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ نَهْمَتُهُ»: حرصه على ما في أيدي الرعيّة وقد عرفت ما يستلزمه من نفارهم عنه وعدم انتظام الأحوال به.

ص: 206


1- ورد في بعض النسخ: الْوَالِي

«ولَا الْجَاهِلُ فَيُضِلَّهُمْ بِجَهْلِهِ»: بقوانين الدين وتدبير أمور العالم، وذلك ضدّ مقصود الشارع، «ولَا الْجَافِي فَيَقْطَعَهُمْ بِجَفَائِهِ»: جفاؤه يستلزم النفرة والانقطاع عنه وذلك ضدّ الألفة والاجتماع المطلوب للشارع، «ولَا الْخَائِفُ لِلدُّوَلِ فَيَتَّخِذَ

قَوْماً دُونَ قَوْمٍ»: إذ هو تخصّص بعنايته من يخافه دون غيره وذلك ظلم لا ينتظم معه نظام العالم، «ولَا الْمَرْتَشِيِ فِي الْحُكْمِ؛ فَيَذْهَبَ بِالْحُقُوقِ ويَقِفَ بِهَا دُونَ الْمَقَاطِعِ»: الحقّة فترى أحد هؤلاء إذا أراد فصل قضيّة دافع بها طويلاً، وصعّب الحقّ وعرّض بغموضه، وأشار بالصلح بين الخصمين مع ظهور الحقّ لأحدهما، وكانت غايته من ذلك تخويف صاحب الحقّ ليجنح إلى الصلح، والرضى ببعض حقّه مع أنّه قد يأخذ منه رشوة أيضاً، وربّما كانت في المقدار کرشوة المبطل منهما، وهم في ذلك حيل يعرفها من عاناهم، واللهَّ المستعان على ما يصفون.

«ولَا الْمُعَطِّلُ لِلسُّنَّةِ فَيُهْلِكَ الأُمَّةَ»: لأنه صنع قوانين الشريعة وهو مستلزم لفساد النظام في الدنيا والهلاك الدائم في الأخرى وبالله التوفيق.

ومن خطبة له عليه السّلام:

«نَحْمَدُهُ عَلَى مَا أَخَذَ وأَعْطَى وعَلَىَ مَا أَبْلَى»: من النّعم «وابْتَلَى»: من النقم قد علَّم شكر الله تعالى على أحده، وعطائه، وعلى إبلائه بالخير، و ابتلائه بالشر ونبَّه بذلك على وجوب شكره تعالى في طوري السراء والضراء وحالتي الشدة والرخاء «الْبَاطِنُ لِكُلِّ خَفِيَّةٍ والْحَاضِرُ لِكُلِّ سَرِيرَةٍ الْعَالِمُ بِمَا تُكِنُّ الصُّدُورُ ومَا

تُخَونُ الْعُيُونُ»: و مصداق الأخيرين قوله تعالى «يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ»(1).

ص: 207


1- سورة غافر: الآية 19

«ونَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهً إلا الله غَیْرُهُ وأَنَّ مُحَمَّداً صلّى الله عليه وآله وسلّم نَجِيبُهُ

وبَعِيثُهُ»: نجیبه و مبعوثه فعيل بمعنی مفعول.

«شَهَادَةً يُوَافِقُ فِيهَا السِّرُّ الإِعْلَانَ والْقَلْبُ اللِّسَانَ»: أي شهادة خالصة من النفاق، منها فَإنَّهُ: أما أن يرجع إلى مذكور سابق أو إلى معنی کلامه وهو التحذير والإنذار.

«واللِّهَ الْجِدُّ لَا اللَّعِبُ والْحَقُّ لَا الْكَذِبُ ومَا هُوَ»: مرجعه کما سبق على تقدير الثاني معنا وما الذي أحذركم هجومه علیکم «إِلَّا الْمَوْتُ قَدْ أَسْمَعَ دَاعِيهِ وأَعْجَلَ

حَادِيهِ»: محلها النصب على الحال من معنى الإشارة.

«فَلَا يَغُرَّنَّكَ سَوَادُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِكَ»: أي فلا يغرّنّك من نفسك الأمّارة بالسوء وسوستها و استغفالها لك عن ملاحظة الموت برؤية سواد الناس: أي كثرتهم. إذ كثيراً ما يرى الإنسان الميّت محمولاً فيتداركه من ذلك رقّة وروعة، ثمّ يعاوده الوسواس الخنّاس ويأمره باعتبار كثرة المشيّعين له من الناس وأن يجعل نفسه من الأحياء الكثيرين بملاحظة شبابه وصحّته ويأمره باعتبار أسباب ذلك الميّت من القتل وسائر الأمراض وباعتبار زوال تلك الأسباب في حقّ نفسه، وأسند الغرور إلى سواد الناس لأنّه مادّته، ثمّ نبّههم على كذب تلك الخديعة: بقوله: «فَقَدْ رَأَيْتَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِمَّنْ جَمَعَ الْمَالَ»: من بدل البعض من الكل «وحَذِرَ الإِقْاَلَ»: الفقر «وأَمِنَ الْعَوَاقِبَ طُولَ أَمَلٍ واسْتِبْعَادَ أَجَلٍ»: نصب على المفعول له أي فعلوا ذلك لأجل طول الأمل، ويحتمل أن يكون مصدرا سدّ مسدّ الحال، ويحتمل أن يكون ظرفاً، وقيل: هو بدل من كان قبلك: أي رأيت طول أمل من كان قبلك، ويروى بطول أمل.

ص: 208

«كَيْفَ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ فَأَزْعَجَهُ عَنْ وَطَنِهِ وأَخَذَهُ مِنْ مَأْمَنِهِ مَحْمُولًا عَلَى أَعْوَادِ

الْمَنَايَا: النعوش يَتَعَاطَى بِهِ الرِّجَالُ الرِّجَالَ»: أي يسلمه الحاملون له بعضهم على بعض «حَمْلًا عَلَى الْمَنَاكِبِ وإِمْسَاكاً بِالأَنَامِلِ» ثم قرر ذلك بقوله: «أَمَا رَأَيْتُمُ

الَّذِينَ يَأْمُلُونَ بَعِيداً ويَبْنُونَ مَشِيداً ويَبْمَعُونَ كَثِیراً كَيْفَ أَصْبَحَتْ بُيُوتُهُمْ قُبُوراً

ومَا جَمَعُوا بُوراً»: هلكى وصَارَتْ «أَمْوَالُهُمْ لِلْوَارِثِنَ وأَزْوَاجُهُمْ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَا فِي حَسَنَةٍ يَزِيدُونَ ولَا مِنْ سَيِّئَةٍ يَسْتَعْتِبُونَ لأنّ محلّ الأعمال هي الدنيا دون ما بعدها.

«فَمَنْ أَشْعَرَ التَّقْوَى قَلْبَهُ»: أي من اتّقى تقوى حقيقة.

«بَرَّزَ مَهَلُهُ»: تؤدته أي ظهرت عليه آثار الرحمة الإلهيّة في السكينة والوقار والحلم والأناة عن التسرع إلى مطالب الدنيا، وعلم راحته في الآخرة.

«وفَازَ عَمَلُهُ»: بالجزاء الأوفي «فَاهْتَبِلُوا هَبَلَهَا»: الإهبال في الأمر السعي في أحكامه، وهبلتها مصدر مضاف إلى الضمير التقوی مؤكد للفعل الإهبال احكموها أحكاماً، وأعملوا للجنة بقوله:

«واعْمَلُوا لِلْجَنَّةِ عَمَلَهَا»: الذي يستحق بها الثواب الدائم ثم نبههم على وجوب العمل للجنة بقوله:

«فَإِنَّ الدُّنْيَا لَمْ تُخْلَقْ لَكُمْ دَارَ مُقَامٍ بَلْ خُلِقَتْ لَكُمْ مَجَازاً»: طريقاً يعبر بها إلى الآخرة كما يعبر بها المسافرون. «لِتَزَوَّدُوا مِنْهَا الأَعْمَالَ إِلَی دَارِ الْقَرَارِ فَكُونُوا مِنْهَ عَلَى أَوْفَازٍ»: عجلة أي كونوا على سرعة في قطع عقباتها وعجل في الارتحال عنها لأنّ التأنّي فيها يستلزم الالتفات إلى لذّاتها والغفلة عن المقصد الحقّ.

«وقَرِّبُوا الظُّهُورَ لِلزِّيَالِ»: استعار الظهور وهي الركوب المطايا الآخرة وهي الأعمال الصالحة، وتقريبها للزيال هو العناية الإلهيّة بالأعمال المقدمة إلى الآخرة

ص: 209

المستلزمة للبعد عن الدنيا، والإعراض عنها ومفارقتها وبالله التوفيق.

ومن خطبة له عليه السّلام:

«وانْقَادَتْ لَهُ الدُّنْيَا والآخِرَةُ بِأَزِمَّتِهَا»: عبارة عن دخولها في ذلّ الإمكان والحاجة «وقَذَفَتْ إِلَيْهِ السَّمَاوَاتُ والَأرَضُونَ مَقَالِيدَهَا: كقوله تعالى» «لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ»(1) قال ابن عبّاس ومقاتل: المراد بمفاتيح السماوات والأرض الرزق والرحمة، وقال الليث: المقلاد: الخزانة: ومقاليد السماوات والأرض خزائنهما، و لفظ القذف مجاز في تسليمها، وانقيادها بزمام الحاجة والإمكان إلى قدرته مع جميع ما هي سبب في، وجوده في هذا العالم ممّا هو رزق ورحمة للخلق، وكذلك لفظ المفاتيح على رأي ابن عبّاس استعارة للأسباب المعدّة للأرزاق والرحمة، وتلك الأسباب كحركات السماوات، واتّصالات بعض الكواكب ببعض، وكاستعدادات الأرض للنبات، وغيره، ووجه الاستعارة؛ أنّ هذه الأسباب بأعدادها الموادّ الأرضيّة تفتح بها خزائن الجود الإلهيّ کما تفتح الأبواب المحسوسة بمفاتيحها، وكلَّها مسلَّمة إلى حكمه وجريانها بمشيئته، وعلى قول الليث؛ فلفظ الخزائن استعارة في موادّها و استعدادتها، ووجه الاستعارة أنّ تلك الموادّ، والاستعدادات تكون فيها بالقوّة، والفعل جميع المحدثات من الأرزاق، وغيرها کما یکون في الخزائن ما يحتاج إليه.

«وسَجَدَتْ لَهُ بِالْغُدُوِّ والآصَالِ الأَشْجَارُ النَّاضِرَةُ»: سجودها خضوعها وذلَّها تحت قدرته وحاجتها إلى جوده «وقَدَحَتْ لَهُ مِنْ قُضْبَانِهَا النِّرَانَ الْمُضِيئَةَ»: ونسب قدح النيران إليها لما أنّها السبب القريب، وجعل ذلك له تعالى لأنّه الفاعل

ص: 210


1- سورة الزمر: الآية 63

الأوّل «وآتَتْ»: أعطت(1) «بِكَلِماَتِهِ»: أوامره وأحكام قدرته المعبرّ عنها بقوله: کن وإطلاق الكلمات عليها استعارة وجهها نفوذ تلك الأحكام في المحكومات کنفوذ الأوامر القوليّة في المأمورات.

«الثِّمَارُ الْيَانِعَةُ»: المدركة وأراد بإتيان الثمار دخولها طوعا في الوجود المعبّر عنه بقوله تعالى «فَيَكُونُ»(2) وباللهَّ التوفيق والعصمة.

منها: في معرض التوبيخ على ترك أوامر الله ومخالفته أحكامه «وكِتَابُ اللَّهِ بَیْنَ أَظْهُرِكُمْ نَاطِقٌ»: يشبه أن يكون الواو للحال كأنه يقول: يفعلون ويشبه أن يكون الواو للحال كأنّه يقول: تفعلون كذا، وكتاب اللهَّ بين أظهركم ناطق، وهو كناية عن وجوده بينهم مع أنّ من شأنه أن يستند إليه، واستعار لفظ الناطق للكتاب باعتبار أن المكتوب يعبّر عن المقصود كما أنّ الناطق كذلك و قوله: «لَا يَعْيَا لِسَانُهُ»: ترشيح لها کنّی بها عن بيان الكتاب على مرور الأوقات، ويحتمل أن يريد باللسان نفسه عليه السّلام مجازاً، إذ كان هو لسان الكتاب الَّذي لا يفتر، ولا يقصر عن بیان مقاصده، وكذلك استعار لفظ البيت باعتبار کونه حافظاً لحافظيه، والعاملين به کما يحفظ البيت أهله وأركانه؛ قواعده الكلَّيّة الَّتي يبنى عليها نظام العالم من الأوامر، والنواهي، والمواعظ، والحكم الكلَّيّة صالحة لجميع الأوقات. «وبَيْتٌ لَا

تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ وعِزٌّ لَا تُهْزَمُ أَعْوَانُهُ»: إطلاقا العز مجازاً من قبيل إطلاق اللازم على ملزومه، وأعوانه هم اللهَّ وملائكته ورسله وأولياؤه، وأولئك أعوان لا خوف عليهم ولا انهزام لجمعيّتهم من أمر وباللهَّ التوفيق.

ص: 211


1- ورد في بعض النسخ: أُكُلَهَا
2- سورة البقرة: الآية 117

منها: في الثناء على الرسول صلَّى الله عليه - وآله - وسلَّم.

«أَرْسَلَهُ عَلَى حِینِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ وتَنَازُعٍ مِنَ الأَلْسُنِ»: بيان لبعض أمارات النبوّة؛ فإنّ منها الزمان المتطاول الَّذي تندرس؛ فيه الشريعة السابقة، والقوانين الَّتي بها نظام العالم، ويحتاج الخلق إلى قوانين مجدّدة لنظام أحوالهم، وحينئذ بعثة رسول، وكان الفترة بين عيسى، ومحمّد عليهما السّلام ستّة مأة وعشرين سنة، ومنها تنازع الألسن، واختلاف الخلق في الآراء والمذاهب، وقلَّة الاتّفاق على قانون شرعيّ جامع لهم فقوله: «فَقَفَّي بِهِ الرُّسُلَ»: بيان لبعض أمارات النبوّة؛ فإنّ منها الزمان المتطاول الَّذي تندرس فيه الشريعة السابقة، والقوانين الَّتي بها نظام العالم، ويحتاج الخلق إلى قوانين مجدّدة لنظام أحوالهم، وحينئذ بعثة رسول، وكان الفترة بين عيسى، ومحمّد عليهما السّلام ستّة مأة، وعشرين سنة، ومنها تنازع الألسن، واختلاف الخلق في الآراء، والمذاهب، وقلَّة الاتّفاق على قانون شرعيّ جامع لهم فقوله: كقوله تعالى «وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ»(1) «وخَتَمَ بِهِ الْوَحْيَ»: كقوله وخاتم النبين، وهذا الختام مستفاد من الشريعة، وليس للعقل في الحكم بانقطاع الرسل؛ فيما بعد مجال بل ذلك من الأمور الممكنة عنده.

«فَجَاهَدَ فِي اللَّهِ الْمُدْبِرِينَ عَنْهُ»: المعرضون عن اتّباع أوامره ونواهيه.

«والْعَادِلِینَ بِهِ»: الجاعلين له عديلاً، وهو الندّ والمثل کالمشركين تعالى عمّا يقولون علوّا كبيراً، ونسبة المجاهدة إلى اللهَّ تعالى استعارة، ووجهها أنّه تعالى رمی بمحمّد صلَّى اللهَّ عليه وآله وسلَّم المشرکین کما يرمى المجاهد بنفسه، وأعوانه مجاهدته وباللهَّ التوفيق.

ص: 212


1- سورة البقرة: الآية 87

منها: فصل مع قلَّة ألفاظه مشتمل على الطائف وهي مضمون قوله: «وإِنَّمَا

الدُّنْيَا مُنْتَهَى بَصَرِ الأَعْمَى لَا يُبْصِرُ مِمَّا وَرَاءَهَا شَيْئاً»: استعار الأعمى للجاهل كقوله تعالى: «إِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ»(1)، ووجهها أن الجاهل بعين بصيرته الحقّ كما لا يدرك الأعمى من المبصرات، وفيه أشارة إلى جهله بأحوال الموت، وما بعده من سعادة الآخرة، وشقاوتها، ولا تغفل عمَّا ذكرته لئلَّا يتوهم أن في كلامه عليه السَّلَام مناقضة بناءً على أنه أثبت للأعمى وأثبت أنه يبصر الدنيا، ويحتمل أن یرید ببصره أيضاً بصر بصيرة أيضاً استعارة وظاهر أن منتهاه التصرّف في أحوال الدنيا وكيفيّة تحصيلها، والتمتّع بها دون أن يفيده غيره لما ورائها من أحوال الآخرة، «والْبَصِیرُ»: أي العالم «يَنْفُذُهَا

بَصَرُهُ: كناية عن إدراكه ماورائها الدنيا من أحوال الآخرة وعلمه أنّها دار قرار، «ويَعْلَمُ أَنَّ الدَّارَ وَرَاءَهَا فَالْبَصِرُ مِنْهَا شَاخِصٌ»: راحل جعلها طريقاله إلى الآخرة، «والأَعْمَى إِلَيْهَا شَاخِصٌ»: أي متطلَّع إليها بعين بصيرته ووهمه وإن كان أعمى عن مصالحه الحقيقيّة وعن آفاتها وطرقها المخوفة، وفي هذه الكلمة مع الَّتي قبلها من أقسام البديع التجنيس التامّ والمطابقة بين الأعمى والبصير، «والْبَصِیرُ مِنْهَا تَزَوِّدٌ»: بالتقوى وبالأعمال الصالحة في سفره إلى اللهَّ سبحانه، «والأَعْمَى لَهَا يَزوَدِّ»: متخذ للذاتها و قيناتها زادا له في قطعها مدّة عمره وقد جعل ذلك هو الزاد الحقيقيّ الذي ينبغي له وهي في البديع كالَّتي قبلها. وباللهَّ التوفيق.

منها: «واعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا ويَكَادُ صَاحِبُهُ يَشْبَعُ مِنْهُ ويَمَلُّهُ إِلَّا الْحَيَاةَ

فَإِنَّهُ لَا يَجِدُ فِي الْمَوْتِ رَاحَةً»: فقدان الراحة في الموت مخصوص بأهل الشقاوة في الآخرة فأمّا أولياء اللهَّ وعباده الصالحون فلا كما أشار إليه سيّد المرسلین صلَّی

ص: 213


1- سورة الحج: الآية 46

اللهَّ عليه وآله وسلَّم: «ليس للمؤمن راحة دون لقاء الله تعالى»(1)، وقيل: يحمل على العموم مراعاة لظاهر الكلام وذلك من وجهين: أحدهما: أنّ بالموت يفوت متجر الآخرة وينقطع الاستعداد لكمال أشرف ممّا حصل عليه الميّت وإن كان وليّاً فلا جرم لا يجد الراحة الَّتي تلحقه بما يفوته من ذلك الكمال، الثاني: أنّ النفوس البشريّة لمّا لم يكن معارفها ضروريّة ولم يتمکَّن ما دامت في هذه الأبدان من الاطَّلاع على ما بعد الموت من سعادة أو شقاوة فبالحريّ أن لا تجد لها راحة تتصوّرها في الموت، وذلك لا ينافي الخبر المذكور، أما على الأول فلأن الراحة الحاصلة من الكمال للفائت بالموت لا تحصل إلَّا له، و إن حصل على راحة ما بحسب طاعته السَّابقة، وأمَّا على الثاني: فلأن الموت لا يجد له ما دام في الدنيا راحة في الموت وذلك لا ينافي أن يحصل الراَّحة عند لقاء الله تعالى، كما أنه نقل أنَّ الحسن عليه السّلام لمّا علم آن سفره إلى الآخرة بكي؛ فقال له أخوه الحسين عليه السّلام: ما لي أراك تكاد تجزع مع يقينك بأنّك مقدم حيث تقدم على جدّك وأبيك؟ فقال: نعم يا أخي لا شكّ في ذلك إلَّا أنّني سالك مسلكاً لم أسلكه من قبل.

وأقول: إن كان مراده عليه السّلام: أنَّه لا يجد الراحة في نفس الموت مع قطع النظر عن غيره من أحوال الآخرة فالحقّ قول من عمّم فقدان الراحة في حق الجميع إذ الموت من حيث هو موت لا راحة فيه لأحدٍ من النَّاس كافّة، وإن كان مراده فقدان الرَّاحة في الموت وما بعده فالحقّ التخصيص أهل الشقاوة الدائمة؛ فإنّ شدّة محبّة الحياة ونقصانها متفاوتة بحسب تصوّر زيادة الراحة في الآخرة مقبلين عليها بالكلَّيّة، ومن بينهم من طبقات السالكين.

ص: 214


1- يُنظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور لجلال الدين السيوطي: ج 4 ص 109؛ كذلك اختيار مصباح السالكين لابن میثم البحراني: ص 293؛ کنز العمال للمتقي الهندي: ج 15 ص 551؛ عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي: ج 1 ص 276

«وإِنَّمَا ذَلِكَ»: أي الأمر الَّذي هو أحقّ بأن لا يملّ ولا يشبع منه «بمنْزِلَةِ

الْحِكْمَةِ»: وهي في لسان الشريعة العلم النافع في الآخرة، وقد يطلق على ما هو أعمّ من ذلك، ثمّ ذكر لها أوصافاً فقال: «الَّتِي هِيَ حَيَاةٌ لِلْقَلْبِ الْمَيِّتِ»: وقد مرّ أنّ القلب في عرف العارفين هي النفس الإنسانيّة، واستعار للحكمة الحياة، ووجه المشابهة كون الحياة وجود القلب، وبقاؤه کما أنّ الحكمة بها بقاء الإنسان وسعادته في الدَّارين، وكذلك استعار لفظ للقلب الجاهل باعتبار؛ أنّه غير متطَّلع على وجوه مصالحه، ومفاسده في الدارين غير مهتد لانتفاع؛ أو دفع تضرّر کالميّت، «وبَصَرٌ لِلْعَیْنِ الْعَمْيَاءِ»: إذ بالحكمة يبصر الإنسان مقاصده، ويهتدي وجوه مصالحه الدنيويّة، والآخرويّة كما يهتدى البصير بعينه، وجوه مسالكه، ومقاصده، ووجه الثانية: أنّ بصيرة الجاهل لا تهتدي لتلك الوجوه کما يهتدى البصير بعينه، وجوه مسالكه، ولمَّا كان بصر الجاهل تابعاً لبصيرته؛ فإقدامه وإحجامه، وتصرّفاته المنسوبة إلى حسّ البصر، وغيره تابعة لما يتصوّره، و تلك التصرّفات غير نافعة في الأكثر بل قد تكون ضارّة لا جرم أشبهت عينه الباصرة الَّتي وقع بها سوء ذلك التصرف العين العمياء؛ فاستعير لها لفظها، ووجه الثابت أنَّ بصيرة الجاهل لا تهتدي لتلك الوجوه کما لا تهتدي العين العمياء إلى شيء، «وسَمْعٌ لِأُذُنِ الصَّمَّاءِ»: استعار لها لفظ السَّمع، ولفظ الصَّمَّاء ووجه الاستعارتين ما سبق، فإن المراد بالسَّمع إدراك البصيرة الأذن يحتمل أن يراد بها البصيرة استعارة أو الأذن المحسوسة، «ورِيٌّ لِلظَّمْآنِ»: استعار الرّي للحكمة والظمآن للجاهل، ووجه الأولى: أنّها تملأ النفس وتجدها شفاءً لها من داء الجهل کا يملأ الماء جوف الظمآن وينقع غلَّته ويشفي من ألم الظماء، «وفِيهَا الْغِنَى كُلُّهُ والسَّاَمَةُ»: أراد بالغنى غنى النفس عن كلّ شيء وكمالها بها فإنّ غاية الحكمة الوصول إلى الحقّ سبحانه، والغرق في بحار معرفته وفي ذلك غنى العارف عن كلّ شيء، وأراد بالسلامة سلامة النفوس من عذاب

ص: 215

الجهل، إذ ثبت في أصول الحكمة أنّه السبب الأكبر في الهلاك الآخرويّ، وقوله: «كِتَابُ اللَّهِ»: خبر مبتدأ: إمّا خبر ثان لذلك، أو خبر مبتدأ محذوف، ويحتمل أن يكون عطف بيان لما كان بمنزلة الحكمة، وذكر له أوصافا، «تُبْصِرُونَ بِهِ»: إشارة إلى اشتمال الكتاب على الحكمة، ووجه شبهه بها، فأنّ به إبصار الجاهلين لمقاصدهم الدنيويّة والأُخرويّة لما فيه من الحكمة، «وتَنْطِقُونَ بِهِ وتَسْمَعُونَ بِهِ ويَنْطِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ»: أي يفسّر بعضه ببعض کالمبيّن المفسّر للمجمل، والمقيّد المبيّن للمطلق والمخصّص المبيّن للعامّ، «ويَشْهَدُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ»: أي يستشهد ببعضه على أنّ المراد بعض آخر وهو قريب مّا قبله، «لَا يَخْتَلِفُ فِي اللَّه»: أي لمّا كان مدار الكتاب على بيان القواعد الكلَّيّة الَّتي بها يكون صلاح حال نوع الإنسان في معاشه، ومعاده، وكانت غاية تلك الجذب إلى اللهَّ سبحانه، والوصول إلى جواره لم يكن فيه لفظ يختلف في الدلالة على هذه المقاصد بل كلَّه متطابق الألفاظ على مقصود واحد، وهو: الوصول إلى الحقّ سبحانه بصفة الطهارة عن نجاسات هذه الدَّار، وإن تعدّدت الأسباب الموصلة إلى ذلك المقصود، «ولَا يُخَالِفُ بِصَاحِبِهِ عَنِ

اللَّهِ»: أي لا يجوز بالمهتدين بأنواره في سلوك سبيل اللهَّ عن الغاية الحقيقيّة وهو اللهَّ سبحانه، ثم يوبخ السامعين على ارتكاب رذائل الأخلاق فقال: «قَدِ اصْطَلَحْتُمْ عَلَى الْغِلِّ فِيمَا بَيْنَكُمْ»: واستعار الاصطلاح لسكوتهم عن ارتكاب بعضهم على بعض ما يصدر عنه من المنكر كالغشّ والحقد والحسد، واشتراكهم في تلك الرذائل، «ونَبَتَ الْمَرْعَى عَلَى دِمَنِكُمْ»: يضرب مثلا للمتصالحين في الظاهر مع غلّ القلوب فيما بينهم، ووجه مطابقة المثل أنّ ذلك الصّلح سريع الزوال لا أصل له کما یسرع جفاف النبات في الدمن، «وتَصَافَيْتُمْ عَلَىَ حُبِّ الآمَالِ»: إشارة إلى وجه الصلح الَّذي ذكره ولذلك اسقط حرف العطف هنا، «وتَعَادَيْتُمْ فِي كَسْبِ الأَمْوَالِ»: إشارة إلى وجه الغلّ الَّذي أشار إليه، أمّا الأوّل: فلأنّ الجامع للناس في

ص: 216

الظاهر هو ما يؤمّل كلّ من صاحبه من الانتفاع به أو دفع شرّه؛ فيما هو بصدده من المأمولات الدنيويّة، وإن انطوى له على غلّ كما هو المتعارف في زماننا، وأمّا الثاني: فلأنّ الأحقاد والعداوات أكثر ما تكون على مجاذبة أموال الدنيا و قيناتها.

«لَقَدِ اسْتَهَامَ بِكُمُ الْخَبِيثُ»: أي اشتدّ عشق إبليس لكم ولازمكم، وذلك تنبيه على ما يظهر عنهم من آثار وسوسته و ملازمتهم لما ينهون عنه، وكذلك قوله: «وتَاهً بِكُمُ الْغُرُورُ»: أي استغفلكم فتهتم في استغفاله لكم عن سواء السبيل، والغرور هو الشيطان كما قال عزّ من قائل: «وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ»(1)، ثمّ ختم باستعانة اللهَّ تعالى له ولهم على النفوس الأمّارة بالسوء، أمّا في حقّه عليه السّلام ففي دوامها مقهورة لعقله، وأمّا في حقّهم ففي قهرها وقمعها، وذلك قوله: «واللُّهَ الْمُسْتَعَانُ عَلَى نَفْيِ وأَنْفُسِكُمْ»؛ وبالله التوفيق.

ومن كلام له عليه السّلام وقد مشاوره عمر في الخروج إلى الروم

حين خرج قيصر الروم إلى جماهير أهلها إلى المسلمين، وانزوى خالد بن الوليد فلازم بيته وصعب الأمر على أبي عبيدة بن الجرّاح وشرحبيل بن حسنة وغيرهما من أُمراء سرايا الإسلام، «وقَدْ تَوَكَّلَ اللَّهُ لأَهْلِ هَذَا الدِّينِ بِإِعْزَازِ الْحَوْزَةِ»: أي تكفل اللهَّ المسلمين أن يعز حوزة الدين وبيضته، فيه تنبيه على وجوب التوكَّل على الله والاستناد إليه في هذا الأمر.

«وسَتْرِ الْعَوْرَةِ»: كنا بها عن هتك الستر في النساء ويحتمل أن يكون استعارة لما يظهر عليهم من الذل والقهر لو أُصيبوا فضمن سبحانه ستر ذلك بإفاضة البصر عليهم وهذا الحكم من قوله تعالى «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا

ص: 217


1- سورة لقمان: الآية 33

الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا»(1).

«والَّذِي نَصَرَهُمْ وهُمْ قَلِيلٌ لَا يَنْتَصِرُونَ ومَنَعَهُمْ وهُمْ قَلِيلٌ لَا يَمْتَنِعُونَ حَيٌّ

لَا يَمُوتُ»: يمكن أن يكون تمثيلاً، وتلخيصه أنّ الَّذي نصرهم حال قلَّتهم حيّ لا يموت فهو ينصرهم حال کثرتهم؛ فأصل التمثيل هو حال قلَّتهم، ووقوعه حال كثرتهم، و حكمه النصر، وعلَّة ذلك الحكم هو حياته الباقية؛ ثم أشار إلى نفس الرأي وخلاصته المشورة بعدم خروجه بنفسه بقوله: «إِنَّكَ مَتَى تَسِرْ إِلَی هَذَا الْعَدُوِّ بِنَفْسِكَ فَتَلْقَهُمْ فَتُنْكَبْ لَا تَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ كَانِفَةٌ»: حافظة «دُونَ أَقْصَى بِلَدِهِمْ»: أشارة إلى وجه لرأي وهو تجويز النكبة وانقهاره عند ملاقاة العدوّ مع أنّه يومئذ ظهر المسلمين الَّذين يلجؤون إليه. فلو انكسر لم تبق لهم كانفة قوام محوطهم، ولا جمع يستندون إليه، ثمّ أشار إلى إخراج ما يقوم مقامه ممّن أهل النجدة ممن عرف بكثرة الوقائع والحروب بقوله: المختبرين في النصيحة والمجرّبين للوقائع.(2) «فَابْعَثْ إِلَيْهِمْ رَجُلًا مْحِرَباً واحْفِزْ»: اتعب «مَعَهُ أَهْلَ الْبَلَاءِ والنَّصِيحَةِ الم فَإِنْ أَظْهَرَ اللُّهَ فَذَاكَ مَا تُحِبُّ وإِنْ تَكُنِ الأُخْرَى كُنْتَ رِدْءاً»: عوناً «لِلنَّاسِ ومَثَابَةً»: مرجعاً «لِلْمُسْلِمِيِنَ» وبالله التوفيق.

ومن كلام له عليه السّلام قد وقعت مشاجرة بينه وبين عثمان:

زمن ثوران الفتنة عليه في خلافته وكان الناس يستنفرونه عليه السلام فقال المغيرة ابن أخنس لعثمان: أنا أكفيكه، فقال أمير المؤمنين: «يَا ابْنَ اللَّعِنِ الأَبْتَرِ»: هو كل أمرٍ انقطع عن الخیر أثره «والشَّجَرَةِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا ولَا فَرْعَ»: كناية عن

ص: 218


1- السورة النور الآية 55
2- ورد في بعض متون النهج: لَيْسَ بَعْدَكَ مَرْجِعٌ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ

سقوط بیته ودناءته وحقارته في الناس «أَنْتَ تَكْفِينِي»: استفهاما على سبيل الإنكار والاستحقار له.

«فَوَ اللَّهِ مَا أَعَزَّ اللَّهُ مَنْ أَنْتَ نَاصِرُهُ»: وإنّما يعزّ اللهَّ من نصره أولياء اللهَّ وأهل عنایته.

«ولَا قَامَ مَنْ أَنْتَ مُنْهِضُهُ»: أي ومن لم يعزّ اللهَّ لم يقم من نهضته كقوله تعالى «إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ»(1) «اخْرُجْ عَنَّا أَبْعَدَ اللُّهَ نَوَاكَ»: ثمّ دعا عليه بإبعاد اللهَّ مقصده.

«ثُمَّ أُبْلُغْ جَهْدَكَ»: أي في الأذى «فَلَا أَبْقَى اللَّهُ عَلَيْكَ إِنْ أَبْقَيْتَ»: أي لا رعاك ولا رحمك إن رعيتني وبالله التوفيق.

ومن كلام له عليه السّلام

«لَمْ تَكُنْ بَيْعَتُكُمْ إِيَّايَ فَلْتَةً»: أي أنّها ولمّا كانت عن اجتماع رأى منكم لم یکن الأحدكم بعدها أن يخالف أو يندم عليها، أوفيه تعريض ((بيعة أبي بكر فلتة وقی اللهَّ شرّها))(2).

«ولَيْسَ أَمْرِي وأَمْرُكُمْ وَاحِداً»: إشارة إلى الاختلاف بين حركاته ومقاصدهم، ثمّ بيّن الفرق بقوله:

«إِنِّي أُرِيدُكُمْ للهَّ وأَنْتُمْ تُرِيدُونَنِي لأَنْفُسِكُمْ»: أي لحظوظ أنفسكم من العطاء

ص: 219


1- سورة آل عمران: الآية 160
2- القول: لعمر بن الخطاب: قال: (كانت بيعة أبي بكر فلتة وقي الله شرها، فمن عاد إلى مثلها فأقتلوه) راجع الاقتصاد للشيخ الطوسي: ص 208؛ الرسائل العشرة للشيخ الطوسي: ص 123؛ ينظر دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي ج 1 ص 85

والتقريب وسائر منافع الدنيا ثمّ لمّا وبّخهم بذلك أيّه بهم، وطلب منهم الإعانة على أنفسهم: أي بالطاعة وأمساك أوامره فقال: «أَيُّهَا النَّاسُ أَعِينُونِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ

وأيْمُ اللَّهِ لأُنْصِفَنَّ الْمَظْلُومَ مِنْ ظَالِمِهِ ولأَقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهِ»: زمامه واستعار وصف القود تذليل الظالم، وادعائه للحق رشح بذكر الخزامة «حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ

الْحَقِّ وإِنْ كَانَ كَارِهاً»: وجه هذه الاستعارة كونه مورداً يشتفي به الم المظلوم کما يشتفي ألم العطشان ولله الحمد.

ومن كلام له عليه السّلام في معنى طلحة والزبير،

«واللَّهِ مَا أَنْكَرُوا عَلَيَّ مُنْكَراً ولَا جَعَلُوا بَيْنِي وبَيْنَهُمْ نِصْفاً وإِنَّهُمْ لَيَطْلُبُونَ حَقّاً

هُمْ تَرَكُوهُ ودَماً هُمْ سَفَكُوهُ فَإِنْ كُنْتُ شَرِيكَهُمْ فِيهِ فَإِنَّ لَهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنْهُ وإِنْ

كَانُوا وَلُوهُ دُونِي فَمَا الطَّلِبَةُ إِلَّا قِبَلَهُمْ وإِنَّ أَوَّلَ عَدْلِهِمْ لَلْحُكْمُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وإِنَّ مَعِي

لَبَصِرَتِي مَا لَبَسْتُ ولَا لُبِسَ عَلَيَّ»: ذكر طلحة والزبير وخروجهما عليه وطلبهما دم عثمان منه وكانا من جملة قاتليه وكانا يقولان في هذا الوقت أنه قتل ظلماً؛ فكأنهما حكماً على أنفسهما بذلك لأنهما كانا منهم وكانا يلبسان على أهل البصرة وغيره وليس الشيطان عليهما هذا كلام أجمالي وإما التفصيل فقد تقدم تفسيره في قوله إلا، وأن الشيطان قد ذمّر حزبه وفي فصل قبله برواية أخرى فلا حاجة إلى إعادته.

«وإِنَّهَا لَلْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ فِيهَا الْحَمَأُ والْحُمَّةُ»: الطن الأسود المنتن «والشُّبْهَةُ

الْمُغْدِفَةُ»: الحقيقة قيل: في تعريف الفئة بالألف واللام تنبيه على أنّه كان عنده علم الرسول صلَّى اللهَّ عليه وآله وسلَّم؛ أنّه ستبغي عليه فئة من غير تعيين لها، فلمّا خرجت هذه الفئة علمها بإماراتها، وقد سبق أيضاً تفسير الحمأ، والحمة على بعض الروايات، وأمّا على هذه الرواية؛ فاستعارة للغلّ، والفساد الَّذي كان في صدور هذه الفئة، ووجه الاستعارة استلزامه لتكدير الإسلام، وإثارة الفتنة بين

ص: 220

المسلمين كما تكدّر الحمأ الماء وتخبثه، واستلزامه للأذى، والقتل كما يستلزم ذلك سم العقرب، وأشار بالشبهة المغدفة إلى شبهتهم في الطلب بدم عثمان، واستعار لها وصف الظلمة لعدم اهتداء أكثر الخلق فيها حتّى قتلوا بسببها كما لا يهتدى في لليل المظلم «وإِنَّ الأَمْرَ لَوَاضِحٌ»: لا أصل للباطل فيه.

«وقَدْ زَاحَ الْبَاطِلُ عَنْ نِصَابِهِ وانْقَطَعَ لِسَانُهُ عَنْ شَغْبِهِ»: لفظة اللسان استعارة،

والشغب ترشيح لها، وباقي الفصل قد تقدّم تفسره.

«وأيْمُ اللِّهَ لأُفْرِطَنَّ لَهُمْ حَوْضاً أَنَا مَاتِحُهُ»: بنقطتين من فوق: المستقى، وبنقطتين من تحت: الَّذي يملا الدلو في البئر «لَا يَصْدُرُونَ عَنْهُ بِرِيٍّ ولَا يَعُبُّونَ بَعْدَهُ فِي حَسْيْ»: الماء الَّذي يشربه فينتهي إلى أرض صلبة تحفظه ثمّ يحفر عنه فيستخرج أي لا يشربون قليلاً، والعب الشرب وبالله التوفيق.

منها: في احتجاج على طلحة والزبير ومن تابعهما على نكث بيعته.

«فَأَقْبَلْتُمْ إِلَيَّ إِقْبَالَ الْعُوذِ الْمَطَافِيلِ»: جمعاً عوذة ومطفل وهي الناقة المسنّة

القريبة العهد بالنتاج.

«عَلىَ أَوْلَدِهَا تَقُولُونَ الْبَيْعَةَ الْبَيْعَةَ قَبَضْتُ كَفِّي فَبَسَطْتُمُوهَا ونَازَعْتُكُمْ يَدِي

فَجَاذَبْتُمُوهَا» يجرى مجرى صغرى قياس ضمير من الشكل الأوّل(1)، وتلخيصها أنّكم

ص: 221


1- يجرى مجرى صغرى قياس ضمير من الشكل الأوّل: وهذه من العبارات المنطقية لقياس القضايا وقد أُستعمل المفهوم والمحمول في مقدمة القضية وتاليها، فمرةً يكون المحمول في المقدمة، والمفهوم في التالي ومرة بالعكس، وهذه تسمى في المنطق بالقياس ألاقتراني الذي له حدود ثلاثة؛ أوسط وأصغر وأكبر، وهذه الحدود ينتهي إليها القياس ألاقتراني، أما في القياس ألاقتراني الشرطي فهو لا يختلف عن القياس ألاقتراني الحملي إلا من جهة اشتماله على القضية الشرطية، وأما عبارة المصنف وهي: (قياس ضمير) من الشكل الأول؛ فلم يرد في المنطق عبارة بهذا النص وهي: (قياس ضمير)، نعم ورد قياس الأشكال الأربعة في المنطق؛ يُنظر المنطق للشيخ محمد رضا المظفر: ص 242 مسألة: القواعد العامة للاقتراني، والإشكال الأربعة، والظاهر أن عبارة (قياس ضمير) المراد منها: هو: الشكل الأول: وهو ما كان الأوسط فيه محمولًا في الصغرى موضوعًا في الك ربى بمعنى: إن بيعتكم مسلَّمةٌ إليَّ لا محال إذ هي - أي البيعة - عهدٌ سبق منكم في يوم الغدير، وأُمرتم به في كتاب الله في آيتي العقود، والعهود، ومفهوم البيعة محمولٌ؛ في تصريح كتاب الله، وهو ما ع رب عنه ببرهان الكبری كما كان مفهوم البيعة منطوقاً لا يحتاج الى محمول حين تسليمهم وفعلهم يوم غدير خم

اجتهدتم عليّ في طلب البيعة حتّى بايعتكم، وأخذت عهودكم، وتقدير الكبرى: (وكلّ من اجتهد اجتهادكم إلى تلك الغاية فيجب عليه الوفاء بعهده). فالصغرى مسلَّمة منهم، وبرهان الكبرى الكتاب «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»(1) «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ»(2)، وقد شبّه إقبالهم عليه طالبين للبيعة بإقبال مسنّات النوق على أطفالها، ووجه التشبيه شدّة الإقبال والحرص على مبايعته، وخصّ المسنّات لأنّها أقوى حنّة(3) على أولادها، ونصب البيعة على الإغراء، وفائدة التنكر في الإغراء تأكيد الأمر على شدّة الاهتمام بالمأمور به، وقيل: فائدة التكرار دلالة المنصوب الأوّل على تخصيص الأمر بالحال، ودلالة الثاني على تخصيص الأمر الثاني بالمستقبل: أي خذ البيعة في الحال وخذها في الاستقبال، قال: وكذلك قوله: اللهَّ اللهبَ: أي اتّقوا اللهَّ في الحال والاستقبال، إنّ ذلك غير مستفاد من اللفظ بإحدى الدّلالات.

«اللَّهُمَّ إِنَّهُمَا قطَعَانِي وظَلَمَانِي ونَكَثَا بَيْعَتِي وأَلَّبَا النَّاسَ عَلَيَّ»(4): شكاية إلى اللهَّ

ص: 222


1- سورة المائدة: الآية2
2- سورة النحل: الآية 91
3- الحنة: بمعنى الحنية: وهي جزء من الحنان والرأفة
4- المراد من اللذان يشكوهما الى الله تعالى هما طلحة والزبير إذ يذكر ما فعلا، وإنه عليه السلام أراد منها التوبة والثبات قبل القتال في معركة الجمل

منهم في أمور ثلاثة: قطع رحمه وظلمهما له بمطالبتها له بغير حقّ لهما عنده، ثمّ نكث بيعته، ثمّ جمع الناس على قتاله.

«فَاحْلُلْ مَا عَقَدَا»: من العزوم الفاسدة الَّتي فيها هلاك المسلمين، «ولَا تُحْكِمْ

مَا لَهُمَا أَبْرَمَاه»: من الآراء في حربه.

«وأَرِهِمَا الْمَسَاءَةَ فِيمَا أَمَّاَ وعَمِلَا»: أي عكس أغراضهما فيهما، واستجابة دعاءه ظاهر بقتلهما.

«ولَقَدِ اسْتَثَبْتُهُمَ قَبْلَ الْقِتَالِ واسْتَأْنَيْتُ بِهِمَا أَمَامَ الْوِقَاعِ»: إظهار لعذره مع الناس في حقّهما قبل، وقاع الحرب بتأنّيه فيه في حقّهما، واستعطافه لهما في الرجوع إلى الحق وإستتابته لهما من ذنبهما في نكث البيعة، وقوله: «فَغَمَطَا النِّعْمَةَ»: اي: حقراها «ورَدَّا الْعَافِيَةَ»: لجوابهم بيان عن إعذاره إليهم وهو مقابلتهم نعمة اللهَّ قسمهما من الفيء بالاحتقار لها والنظر إليها، إذ كان أحد الأسباب الباعثة لهما على منافرته هو التسوية بينهم، وبين غيرهم في العطاء، وكذلك مقابلتهم للسلامة والعافية من بلاء الحرب، والشقاق وهلاك الدين، والنفس في عاقبة فعلهما بردّهما والإصرار على الحرب، والمنابذة من غير نظر في عاقبة أمرها وباللهَّ التوفيق.

ومن خطبة له عليه السّلام يوميء فيها إلى ذكر الملاحم، ووصف الإمام المنتظر في آخر الزمان الموعود به في الخبر والأثر.

«يَعْطِفُ الْهَوَى عَلَى الْهُدَى إِذَا عَطَفُوا الْهُدَى عَلَى الْهَوَى»: أي يردّ النفوس الحايرة عن سبيل اللهَّ المتبعة لظلمات أهوائها عن طرقها الفاسدة، ومذاهبها المختلفة إلى سلوك سبيله واتّباع أنوار هداه، وذلك إذا ارتدّت تلك النفوس عن اتّباع أنوار هدى اللهَّ في سبيله الواضح إلى اتّباع أهوائها في آخر الزمان، وحين

ص: 223

ضعفت الشريعة، ويَعْطِفُها الرَّأْيَ عَلَى الْقُرْآنِ إِذَا عَطَفُوا الْقُرْآنَ عَلَى الرَّأْيِ»: أي يردّ على كلّ رأي رأيه غيره إلى القرآن؛ فيحملهم على ما وافقه منها دون ما خالفه، وذلك إذا تأوّل الناس القرآن وحملوه على آرائهم وردّوه إلى أهوائهم كما عليه أهل المذاهب المختلفة المتفرقة من فرق الإسلام كل على ما خيل إليه، وكل يزعم أن الحقّ الَّذي يشهد به القرآن هو ما رآه وأنّه لا حقّ وراه سواه، والله أعلم.

منها: «حَتَّى تَقُومَ الْحَرْبُ بِكُمْ عَلَى سَاقٍ»:

كناية عن بلوغ الغاية في الشدة، بادياً: ظاهراً، نَوَاجِذُهَا: كناية عمّا يستلزمه من الشدّة والأذى، وهو من أوصاف الأسد عند غضبه؛ كأنّه حاول أن يستعير لها لفظ الأسد فأتى بوصفه، وقيل: أي: تبلغ بكم الحرب الغاية كما أنّ غاية الضحك أن تبدو النواجذ وهي أقصى الأضراس.

فكنّى بذلك عن إقبالها، قلت: هذا وإن كان محتملاً إلَّا أنّ الحرب مظنّة إقبال الغضب لا إقبال الضحك؛ فكان الأوّل أنسب، وكذلك قوله: «مَمْلُوءَةً أَخْلَفُهَا»: استعارة لوصف الناقة لحال استعداد الحرب، واستكمالها عدّتها ورجالها كاستكمال ضرع الناقة اللبن.

«حُلْواً رَضَاعُهَا»: استعارة لوصف المرضع لها، وكنّى بحلاوة رضاعها عن إقبال أهل النجدة في أوّل الحرب عليها، فكلّ منهم يحبّ أن يناجز قرنه ويستحلي مغالبته كما يستحلي الراضع لبن أُمّه.

«عَلْقَاً عَاقِبَتُهَا»: ووجه الاستعارة المشابهة بين المرارتين الحسيّة والعقليّة، والمنصوبات الأربعة أحوال، والمرفوعات بعد كلّ منها فاعله، وإنّما ارتفع عاقبتها عن علقما مع أنّه اسم صريح لقيامه مقام اسم الفاعل كأنّه قال: مريرة عاقبتها،

ص: 224

«أَلَا فِي غَدٍ»: إخبار عن بعض الأمور الَّتي ستكون، «وسَيَأْتِ غَدٌ بِمَا لَا تَعْرِفُونَ»: المراد به تعظيم شأن الموعود بمجيئه، وبيان لفضيلته عليه السَّلَام بعلم ما جهلوه، وهو جملة اعتراضيّة كقوله تعالى «فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ»(1)؛ فقوله: وإنّه لقسم اعتراض، وقوله: «يَأْخُذُ الْوَالِ مِنْ غَيْرِهَا عُمَّلَهَا عَلَى مَسَاوِئِ أَعْمَلَهِا»: يشبه أن يكون قد سبقه ذكر طائفة من الناس ذات ملك وإمرة فأخبر عليه السَّلَام أنّ الوالي من غير تلك الطائفة، و يومئ به إلى الإمام المنتظر يأخذ عمّالها على مساوي أعمالهما: أي يؤاخذهم بذنوبهم، «وتُخْرِجُ لَهُ الأَرْضُ أَفَالِيذَ كَبِدِهَا»: استعار لفظ الكبد لما في الأرض من الكنوز والخزائن، ووجهها مشابهة الكنوز للكبد في العزّة والخفاء، ورشّح بذكر الأفاليذ، وقد ورد ذلك في الخبر المرفوع، ومن لفظه: وفادت له الأرض أفلاذ كبدها، وفسّر بعضهم قوله تعالى «وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا»(2) بذلك فأمّا كيفية ذلك الإخراج : فقال بعض المحقّقين: هو إشارة إلى أنّ جميع ملوك الأرض تسلَّم إليه مقاليد ممالكها طوعاً وكرها وتحمل إليه الكنوز والذخائر، وأسند الإخراج إلى الأرض مجازاً لأنّ المخرج أهلها، واستبعد أن يكون الأرض بنفسها هي المخرجة لكنوزها، ولأهل الظاهر أن يقولوا إن المخرج يكون هو الله تعالى، ويكون ذلك من معجزات الإمام ولا مانع له. «وتُلْقِي إِلَيْهِ سِلْماً»: صلحاً «مَقَالِيدَهَا»: أسناد الإلقاء إلى الأرض مجازاً أيضاً وكنى بذلك عن طاعتهم، وانقيادهم أجمعين تحت حكمه، وسلما مصدر سدّ مسدّ الحال؛ ثمّ أخبر أنّه سيريهم عدل سيرته بقوله:

«فَيُرِيكُمْ كَيْفَ عَدْلُ السِّرَةِ ويُحْيِي مَيِّتَ الْكِتَابِ والسُّنَّةِ»: لفظ الميت استعارة

ص: 225


1- سورة الواقعة: الآية 75
2- سورة الزلزلة: الآية 2

لما ترك منهما؛ فانقطع أثره والانتفاع به كما ينقطع أثر الميت، وذلك أن تقول: ويريكم يدل على أن المخاطبين يدركون المخبر عنه، ويرون عدله مع أنّكم قلتم أنّه يكون في آخر الزمان، فكيف وجه ذلك.

أقول: خطاب الحاضرين من الأمّة كالعامّ لكلّ الأُمّة، وذلك كسائر خطابات القرآن الكريم مع الموجودين في عصر الرسول صلَّى اللهَّ عليه وآله وسلَّم؛ فإنّه يتناول الموجودين إلى يوم القيامة؛ ثمّ يخرج المخاطبون بدليل العادة، إذ من عادتهم أن لا تمتدّ أعمارهم إلى، وقت ظهوره؛ فبقي الموجودون في زمانه وباللهَّ التوفيق.

منها: «كَأَنِّي بِهِ قَدْ نَعَقَ بِالشَّامِ»:

قد أخبر في هذا الفصل انه سيظهر رجل بهذه الصفاة وسار لقتال مصعب بن الزبير بالكوفة بعد أن مصعب المختار بن أبي عبيدة الثقفيّ فالتقوا بأرض مسكن بكسر الكاف من نواحي الكوفة؛ ثمّ قتل مصعباً، ودخل الكوفة؛ فبايعه أهلها، وبعث الحجّاج بن يوسف إلى عبد الله بن الزبير بمكَّة فقتله، وهدم الكعبة، وذلك سنة ثلاث، وسبعين من الهجرة، وقتل خلقاً عظيماً من العرب في، وقائع عبد الرحمن بن الأشعث، ورمى الناس بالحجّاج بن يوسف، أطلق النعيق لظهور أوامره ودعوته بالشام مجازاً.

«وفَحَصَ»: قلب «بِرَايَاتِهِ فِي ضَوَاحِي»: نواحي «كُوفَانَ»: اسم الكوفة استعار الفحص لقلة أهل الكوفة؛ استعار الفحص لقلبه أهل الكوفة بعضهم على بعض، ونقصه لحالاتهم التي كانوا عليها ثم شبّه عطفه، وحمله عليها بعطف الناقة الضروس يقال: ناقة سيئة الخلق بعض حالها ووجه التشبيه شدّة الغضب والحنق والأذى.

ص: 226

«وفَرَشَ الأَرْضَ بِالرُّؤُوسِ»(1): كناية عن كثرة قتلة فيها.

«قَدْ فَغَرَتْ فَأغِرَتُهُ»: انفتح فوه وأكد الفعل بذكر الفاعل من لفضه وهذه استعارة لبعض أوصاف السبع الضاري، وكنّاية عن شدّة إقدامه على القتل وإقباله على الناس بشدّة الغضب والأذى، وكذلك ثقل وطأته المشار إليه بقوله: وثَقُلَتْ فِي الأَرْضِ وَطْأَتُهُ»: كناية عن شدّة بأسه وتمكَّنه في الأرض، «بَعِيدَ الْجَوْلَةِ

«عَظِيمَ الصَّوْلَةِ»: كناية عن اتّساع ملكه وجولان خيله ورجله في البلاد البعيدة، وبعيد وعظيم حالان، ومن روى بالرفع فهما خبر مبتدأ محذوف، ولما فرغ من صفاته العامة بين لهم ما سيفعله معهم؛ فقال: «واللِّهَ لَيُشَرِّدَنَّكُمْ فِي أَطْرَافِ الأَرْضِ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْكُمْ إِلَّا قَلِيلٌ كَالْكُحْلِ فِي الْعَیْنِ»؛ وجه التشبيه الاشتراك في القلة، وذلك إشارة إلى ما فعله عبد الملك ومن ولى الأمر من ولده في باقي الصحابة والتابعين، وأحوالهم معهم في الانتقاض، والاحتقار والطرد والقتل ظاهرة؛ «فَلَا تَزَالُونَ كَذَلِكَ»: أي بالحال الموصوفة مع عبد الملك ومن بعده من أولاده، «حَتَّى تَؤُوبَ: ترجع «إِلَی الْعَرَبِ عَوَازِبُ أَحْلَمِهَا»: أي ما كان ذهب من عقولها العمليّة في نظام أحوالهم، والعرب هم بنو العبّاس، ومن معهم العبّاس، ومن معهم من العرب أيّام ظهور الدولة؛ كقحطبة بن شبيب الطائيّ وابنيه حميد والحسن، وكبني زريق أبى طاهر بن الحسين، وإسحاق بن إبراهيم المصعبيّ، وعدادهم في خزاعة، وغيرهم من العرب من شيعة بني العباس، وقيل: إنّ أبا مسلم أصله عربيّ، وكلّ هؤلاء كانوا مستضعفين مقهورين مقمورين في دولة بنى أميّة لهم ينهض منهم ناهض إلى أن أفاء اللهَّ تعالى عليهم ما كان عزب عنهم من حميّاتهم؛ فغاروا للدين، وللمسلمين من جور بنى مروان، وأقاموا الأمر وأزالوا تلك الدولة، وكأني بك تقول قوله:

ص: 227


1- ورد في بعض النسخ: فَعَطَفَ عَلَيْهَا عَطْفَ الضُرَّوسِ

حتى تؤوب: يدلّ على أنّ انقطاع تلك الدولة بظهور العرب، وعود عوازب أحلامها، وعبد الملك مات، وما قامت بنوه بعده بالدولة، ولم يزل الملك عنه بظهور العرب فأين فايدة الغاية؟؛ فالجواب: إنّها ليست غاية لدولة عبد الملك، بل غاية من كونهم لا يزالون مشرّدين في البلاد، وذلك الانقهار، وإن كان أصله منه إلَّا أنّه استمرّ في زمن أولاده إلى حين انقضاء دولتهم، و كانت غايته ما ذكر، وقيل في الجواب: إنّ ملك أولاده ملكه، وما زال الملك عن بنى مروان حتى آتت إلى العرب عوازب أحلامها، وهذا جواب من لم يتدبّر كلامه عليه السَّلَام، ولم يتتبّع ألفاظ الفصل حتّى يعلم أنّ هذه الغاية لأيّ شيء منه فيلحقها به؛ «فَالْزَمُوا السُّنَنَ الْقَائِمَةَ»: أي: سنن اللهَّ ورسوله القائمة فيهم من بعده، «والْثَارَ الْبَيِّنَةَ: فيهم، «والْعَهْدَ الْقَرِيبَ الَّذِي عَلَيْهِ بَاقِي النُّبُوَّةِ»: أي: عهده القريب بينهم وبينه ووجه عليهم ذلك الأمر في الحال، وعند نزول تلك الشدائد: أي إذا نزل بكم منه ما وصف؛ فلنكن وظيفتكم لزوم ما ذكرت ثمّ نبّههم على ما في سهولة المعاصي وفي تسهيل نفوسهم الأمّارة بالسوء عليهم طرق المحارم من المحذور وهو أن تنقاد لها النفوس العاقلة فتضلَّها عن سبيل اللهَّ ويقودها الضلال إلى الهلاك الأُخرويّ «واعْلَمُوا أَنَّ الشَّيْطَانَ إِنَّمَا يُسَنِّي لَكُمْ طُرُقَهُ لِتَتَّبِعُوا عَقِبَهُ» وبالله التوفيق.

ومن كلام له عليه السّلام في وقت الشورى: أي هذا من جملة كلام قاله عليه السّلام لأهل الشورى، وقد ذكرنا طرفا من أخبارها.

«لَنْ يُسْرِعَ أَحَدٌ قَبْلِي إِلَی دَعْوَةِ حَقٍّ وصِلَةِ رَحِمٍ وعَائِدَةِ كَرَمٍ»: الأولى من هذه الفضائل ثمرة العدالة، والإخيريتان تحت ملكة العفّة، وهذا تقرير لفضله ليسمع قوله ولذلك قال بعده.

«فَاسْمَعُوا قَوْلِ وعُوا مَنْطِقِي عَسَى أَنْ تَرَوْا هَذَا الأَمْرَ مِنْ بَعْدِ هَذَا الْيَوْمِ

ص: 228

تُنْتَضَى»: تجرده «فِيهِ»: أي في طلبه «السُّيُوفُ وتُخَانُ فِيهِ الْعُهُودُ»: إشارة إلى ما علمه من حال البغاة والخوارج عليه والناكثين لعهود بيعت-ه.

«حَتَّى يَكُونَ بَعْضُكُمْ أَئِمَّةً لأَهْلِ الضَّلَلَةِ وشِيعَةً لأَهْلِ الْجَهَالَةِ»: غاية للتغالب على هذا الأمر، وأشار بالأئمة إلى طلحة والزبير، وبأهل الضلالة إلى أتباعهم، وبأهل الجهالة إلى معاوية ورؤساء الخوارج وسائر أُمراء بني أميّة، وبشيعة أهل الجهالة إلى أتباعهم وباللهَّ التوفيق.

ومن كلام له عليه السّلام في النهي عن غيبة الناس

«وإِنَّمَا يَنْبَغِي لأَهْلِ الْعِصْمَةِ»: هم الَّذين أعانهم اللهَّ سبحانه على قهر نفوسهم الأمّارة بالسوء حتّى صارت أسيرة في أيدي أنفسهم العاقلة فحصلوا من ذلك على ترك ملكة الذنوب والانزجار عن ولوج أبواب المحارم، وهم «الْمَصْنُوعِ

إِلَيْهِم»: والمنعم عليهم «فِي السَّلَاَمَةِ»: من الانحراف عن سبيله والوقوع في مهاوي الهلاك «أَنْ يَرْحَمُوا أَهْلَ الذُّنُوبِ والْمَعْصِيَةِ»: وحصول وحصول تلك الرحمة منهم باعتبارهم حال العصاة ووقوعهم في مهاوي الهلاك، ومن عادة عباد اللهَّ الرحمة لمن يرونه في مهلكة بإنقاذه وإعانته على الخروج منها «وأن يَكُونَ الشُّكْرُ هُوَ الْغَالِبَ عَلَيْهِمْ والْحَاجِزَ(1) عَنْهُمْ»: وذلك باعتبارهم عند مشاهدة أهل المعاصي لما أنعم اللهَّ به عليهم من إعانته لهم على قهر شياطينهم الَّتي هي موادّ الذنوب «فَكَيْفَ بِالْعَائِبِ»: شروع في تنبيه ممّن هو دون أهل العصمة ممن يرتكب كبيرة؛ أو صغيرة على ما ينبغي له من ترك الغيبة فكأنه قال: فهذا هو ما ينبغي لأهل العصمة؛ فكيف يليق بغيرهم ممّن يعيب أخاه ويعيره ببلواه بل ينبغي لمثله أن يترك الغيبة

ص: 229


1- ورد في بعض النسخ: لَهُمْ: وذلك على أن لهم السيطرة من أنفسهم على انفسهم فورد: لهم عنهم

ويشكر اللهَّ بالطريق الأولى «الَّذِي عَابَ أَخَاهُ وعَیَّرَهُ بِبَلْوَاهُ أَمَا ذَكَرَ مَوْضِعَ سَتْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ ذُنُوبِهِ مِمَّا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي عَابَهُ بِهِ»: وأشار بموضع ستر اللهَّ ابسته عليه إلى النعمة المصطنعة عنده وهى تأهيله وإعداده له، والاستفهام على سبيل الإنكار أخذ بالتعجّب من ذمّ العائب لأخيه على ذنب، وهو في صورة احتجاج عليه في ارتكابه لهذا الذنب، وذلك قوله: «وكَيْفَ يَذُمُّهُ بِذَنْبٍ قَدْ رَكِبَ مِثْلَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَكِبَ ذَلِكَ الذَّنْبَ بِعَيْنِهِ فَقَدْ عَلَى اللَّهً فِيمَا سِوَاهُ مِمَّا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ وأيْمُ اللَّهِ لَئِنْ لَمْ يَكُنْ عَصَاهُ فِي الْكَبِرِ وعَصَاهُ فِي الصَّغِرِ لَجُرْأَتُهُ عَلَى عَيْبِ النَّاسِ أَكْبَرُ»: ما توضيح كلامه عليه السلام على وجه يكشف وجه المرام لا يجوز لأحد أن يعيب أخاه لأنّه إمّا أن يكون بذنب قد ركب العائب مثله أو أکبر منه أو أصغر، فإن كان بذنب قد ركب مثله أو أكبر كان له في عيبه لنفسه شغل عن عيب غيره، وإن كان ارتكب أصغر منه فهو ممنوع على تقدير جرأته على الغيبة، وصدوره عنه لأنّها من الكبائر، وإنّما قال: هي أكبر ما عند اللهَّ، وإمّا مبالغة أو لأنّ المفاسد الَّتي يشتمل عليها ارتكاب سائر المنهيّات جزئيّة، ومفسدة الغيبة كلَّيّة لأنّه لمّا كان من المقاصد المهمّة للشارع اجتماع النفوس على همّ، واحد وطريقة، واحدة وهي سلوك سبيل الله بساير وجوه الأوامر والنواهي ولن يتمّ ذلك إلَّا بتعاون هممهم وتصافي بواطنهم واجتماعهم على الألفة، والمحبّة حتّى يكونوا بمنزلة عبد، لا واحد في طاعة مولاه، ولن يتمّ ذلك إلَّا بنفي الضغائن والأحقاد والحسد ونحوه لیا وكانت الغيبة من كلّ منهم لأخيه مشيرة لضغنه، ومستدعية منه مثلها في حقّه لا جرم كانت ضدّ المقصود الكلَّيّ للشارع فكانت مفسدة كلَّيّة، ولذلك أكثر اللهَّ تعالى ورسوله من النهي عنها كقوله تعالى «وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا»(1) حتّى

ص: 230


1- (1) سورة الحجرات: الآية 12

استعار لما يقترضه الغائب من عرض أخیه لفظ اللحم وزاده تقبيحاً وتكريهاً بصفة الميّت فقال: «أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا»(1) وقال صلىَّ اللهَّ عليه وآله وسلَّم: «إيّاكم والغيبة فإنّ الغيبة أشدّ من الزنا إنّ الرجل يزني فيتوب اللهَّ عليه وإنّ صاحب الغيبة لا يغفر له حتّى يغر له صاحبه»(2) وعنه صلىَّ اللهَّ عليه وآله وسلَّم «مررت ليلة أسرى بي فرأيت قوماً يخمشون وجوههم بأظافيرهم فسألت جبرئيل عنهم فقال: هؤلاء الذين يغتابون الناس»(3) وفي حديث البراء بن عازب قال: خطبنا رسول اللهَّ صلَّى اللهَّ عليه وآله وسلَّم حتّى أسمع العواتق في بيوتهنّ فقال: «ألا لا تغتابوا المسلمين ولا تتّبعوا عوراتهم فمن تتبع عورة أخيه تتّبع الله عورته ومن تتّبع اللهَّ عورته يفضحه في جوف بيته ثمّ نهى عن الاستعجال والتسرّع إلى العيب»(4).

ونبّه على وجوب ذلك الانتهاء باحتمال أن يكون مغفوراً له وإن كان كبيراً بقوله: وذلك لاحتمال أن يكون حالة لم تتمكن من جوهر نفسه.

ص: 231


1- سورة الحجرات: الآية 12
2- شعب الإيمان لأحمد بن الحسين البيهقي: ج 5 ص 306؛ تاريخ الذهبي: ج 9 ص 450
3- الصمت وآداب اللسان لابن أبي الدنيا: ص 105؛ مسند أحمد بن حنبل: ج 4 ص 421؛ سنن أبي داود لسليمان بن الأشعث السجستاني: ج 2 ص 451؛ سنن الترمذي: ج 3 ص 255؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 8 ص 93؛ المعجم الأوسط للطبراني: ج 4 125؛ ومثله أيضًا المعجم الكبير للطبراني: ج 11 ص 149؛ شعب الإيمان لأحمد بن الحسين البهيقي: ج 5 ص 296
4- المحاسن لأحمد بن محمد بن خالد البرقي: ج 1 ص 104؛ الكافي للكليني: ج 2 ص 345؛ ثواب الأعمال الصدوق: ص 241، الاختصاص المفيد: ص 225

(1)«لَا تَعْجَلْ فِي عَيْبِ(2) بِذَنْبِهِ فَلَعَلَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ»: وذلك الاحتمال أن يكون حاله لم يتمكن من جوهر نفسه.

«ولَا تَأْمَنْ عَلَى نَفْسِكَ صَغِرَ مَعْصِيَةٍ فَلَعَلَّكَ مُعَذَّبٌ عَلَيْهِ»: الاحتمال أن يعذّب عليها لصيرورتها ملکة متمكَّنة من جوهر نفسه، ثمّ عماد إلى الأمر بالكفّ عن العيب باعتبار ما يعلم الإنسان من عيب نفسه، وأن يكون الشكر للهَّ دأبه على السلامة من التورّط في مورد الهلكة الَّذي سلكه صاحب الذنب وابتلاه اللهَّ به وذلك قوله.

«فَلْيَكْفُفْ مَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ عَيْبَ غَیْرِهِ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ عَيْبِ نَفْسِهِ ولْيَكُنِ الشُّكْرُ

شَاغِلً لَهُ عَلَى مُعَافَاتِهِ مِمَّا ابْتُلِيَ بِهِ غَیْرُهُ»: هذا واعلم أنه قد وردت الرخصة في غيبة الفاسق المجاهر بفسقه كالحمار، والعشار الذي ربما يفتخر بنفسه ولا يستحي منه قال النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم «من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له»(3) لكن تركها إلى السكوت أولى والله تعالى أعلم.

ومن كلام له عليه السّلام: في النهي عن التسرع إلى التصديق بما يقال في حق مستور الظاهر والمشهور بالصَّلاح والتدين من العيب والقدح في دينه:

«أَيهَا النَّاسُ مَنْ عَرَفَ من أَخِيهِ وَثِيقَةَ دِينٍ(4) فَلَا يَسْمَعَنَّ فِيهِ أَقَاوِيلَ الرِّجَالِ»:

ص: 232


1- ورد في بعض النسخ: يَا عَبْدَ اللهِ
2- ورد في بعض النسخ: أَحَدٍ
3- الخصال الصدوق: ص 213؛ وكذلك تحف العقول لابن شعبة الحراني: ص 45؛ والاختصاص للشيخ المفيد: ص 242؛ ومشكاة الأنوار لعلي الطبرسي: ص 412؛ عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي: ج 1 ص 246؛ وأجمعها باختلاف يسير في اللفظ
4- ورد في بعض متون النهج: وسَدَادَ طَرِيقٍ

وهو نهى عن سماع الغيبة بعد نهيه عنها نفسها، وإليه الإشارة بقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ»(1)، ثمّ نبّه على جواز الخطأ على المتّسرعين إلى الغيبة بالمثل؛ فقال: «أَمَا إِنَّهُ قَدْ يَرْمِي الرَّامِي وتُخْطِئُ السِّهَامُ»: ووجه المطابقة في هذا الا المثل أنّ الَّذي يرمى بعيب قد يكون بريئا منه فيكون الكلام في حقّه غير مطابق ولا صائب كما لا يصيب السهم الَّذي يرمى به فيخطئ الغرض، «ويُحِيلُ»: يؤثر «الْكَلَامُ»: يعني أنّ السهم قد يخطئ فلا يؤثّر، والكلام يؤثّر على كلّ حال، وإن لم يكن حقّا فإنّه يسوّد العرض و يلطخه في نظر من لا يعرفه، وقوله: «وبَاطِلُ ذَلِكَ يَبُور»: يهلكُ، «واللَّهُ سَمِيعٌ وشَهِيدٌ»: يجرى مجرى التهديد وتحقير ثمرة ذلك القول الكاذب الَّذي لا يبقى من مال أو جاه أو نحوهما بالنسبة إلى عظم عقوبة اللهَّ وغضبه الباقي، وإنّ سمعه وشهادته مستلزمان لغضبه المستلزم لعقوبته.

«أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ بَیْنَ الْبَاطِل والْحَقِّ إِلَّا أَرْبَعُ أَصَابِعَ»؛ فيسأل عليه عن معنى هذا فجمع أصابعه ووضعها بين أذنه وعينه، ثم قال: تفسيراً للفعل المفسر لقوله: الباطل أن تقول: سمعت، والحقّ أن تقول: رأيت، ثمّ هاهنا لطيفتان: فالأولى: أنّ قوله: الباطل أن تقول سمعت، لا يستلزم الكلَّيّة حتّى يقول كلّما سمعه باطلًا فإنّ الباطل والمسموع مهملان؛ الثانية: أنّ الحقّ المرئيّ، والباطل القول المسموع له؛ فأقام هذين الخبرين مقام المخبر عنها مجازاً. وباللهَّ التوفيق.

ومن كلام له عليه السّلام:

«ولَيْسَ لِوَاضِعِ الْمَعْرُوفِ فِي غَیْرِ حَقِّهِ وعِنْدَ غَیْرِ أَهْلِهِ مِنَ الْحَظِّ فِيمَا أعطا(2) إِلاَّ

ص: 233


1- سورة الحجرات: الآية 6
2- ورد في بعض متون النهج: أَتَى

مَحْمَدَةُ اللِّئَامِ وثَنَاءُ الأَشْرَار»: لعدم معرفتهم وضع الأشياء في مواضعها الَّتي هي مقتضى العقل الَّذي به نظام أمور الدنيا وقوام نوع الإنسان في وجوده، «ومَقَالَةُ الْجَهَّالَ مَا دَامَ مُنْعِاً عَلَيْهِمْ مَا أَجْوَدَ يَدَهُ وهُوَ عَنْ ذَاتِ اللهَّ»: طاعتهِ «بِخَيْلٌ»: أي عند أولى الألباب العارفين بمواقع المعروف بخيل في جنب اللهَّ، وإنّما قيّد قولهم ما أجوديده بهذا القيد لأنّ الجاهل قد يعتقد أنّ ما يسدي إليه حقّ له؛ فربّما دام حمده بدوام ذلك الإنعام لكن ينقطع بانقطاعه، وأمّا الجاهل الشرير؛ فكثيرا ما يعتقد أنّه إنّما يسدي إليه لشرّه وخوف أذاه فربّما يشكر المنعم ما دام منعاً حتّى إذا انقطع إنعامه جعل شرّه عوض شكره إستجلاًبا لذلك الإنعام المنقطع واستعادة له، ثمّ نبّه على مواضع المعروف فقال: «فَمَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلْيَصِلْ بِهِ الْقَرَابَةَ ولْيُحْسِنْ مِنْهُ الضِّيَافَةَ ولْيَفُكَّ بِهِ الأَسِرَ والْعَانِيَ»: معناهما واحد، «ولْيُعْطِ

مِنْهُ الْفَقِرَ والْغَارِمَ»: وهو من عليه دين، «ولْيَصْبِرْ نَفْسَهُ عَلَىَ أدَاءِ الْحُقُوقِ»: على أهلها كالزكاة، والمستحبّة كالصدقات، «والنَّوَائِبِ»: إشارة إلى ما يلحق الإنسان من المصادرات والغرامات الَّتي يفكّ بها الإنسان نفسه من أيدي الظالمين وألسنتهم، والإنفاق في ذلك من الحقوق الواجبة على الإنسان، والفضائل الخمس داخلة تحت فضيلة الكرم، «ابْتِغَاءَ الثَّوَابِ»: نبّه بهذه الغاية أعني المفعول له على أنّ الإنفاق في هذه الوجوه إنّما يكون وضعاً للمعروف في موضعه إذا قصد به وجه اللهَّ تعالى فأمّا إذا قصد به الرياء والسمعة فهو وإن عدّ في ظاهر الشريعة مجزيا إلَّا أنّه غير مجز ولا مقبول في باطنها ثمّ أشار بقوله: «فَإِنَّ فَوْزه بِهَذِهِ الْخِصَالِ شَرَفُ مَكَارِمِ الدُّنْيَا ودَرْكُ فَضَائِلِ الآخِرَةِ»: إلى ما يتميّز به وضع المعروف في أهله، وهو الذكر الجميل بين الناس، والجاه العريض في الدنيا، و درجات الثواب الجزيل الموعود لأولى الفضائل النفسانيّة، وإنّما نکَّر الفوز لأنّ تنكيره يفيد نوع الفوز فقط الَّذي يحصل بأيّ شخص كان من أشخاصه، وهذا وإن كان حاصلاً مع الألف، واللام

ص: 234

لتعريف تلك الطبيعة إلَّا أنّ ذلك التعريف مشترك بين تعريف الطبيعة، والمعهود الشخصيّ؛ فكان موهما لفوز شخصيّ؛ فلذلك كان الإتيان به منكَّراً أفصح وأبلغ وباللهَّ التوفيق.

ومن كلام له عليه السّلام في الاستسقاء:

واعلم أولاً أنّا بيّنا فيما سبق أنّ الجود الإلهيّ لا بخل فيه ولا منع من جهته،

وإنّما يكون منع الكمالات في هذه الحياة بعدم الاستعداد لها؛ فكلّ مستعدّ لأمر

ملاق له فائض عليه إذا عرفت؛ فاعلم أنّه عليه السَّلَام صدّر هذا الفصل بتنبيه

العباد على وجوب الاستعداد لرحمة اللَّه الَّتي ارتفعت عنهم بحبس المطر، وذلك

في قوله:

«أَلَا وإِنَّ الأَرْضَ الَّتِي تحلمكُمْ والسَّمَاءَ الَّتِي تُظِلُّكُمْ»: وأشار بها إلى السحاب

أو إلى السماوات لكونها بحركاتها أسباباً معدّة لكلّ ما في هذا العالم من الحوادث،

مطيعان لربّكم أي: تحت حكم القدرة الإلهيّة، «مُطِيعَتَانِ لِرَبِّكُمْ ومَا أَصْبَحَتَا

تَجُودَانِ لَكُمْ بِبَرَكَتِهِاَ تَوَجُّعاً لَكُمْ ولَا زُلْفَةً إِلَيْكُمْ ولَا لِخَیْرٍ تَرْجُوَانِهِ مِنْكُمْ»: إشارة

إلى لطيفة: وهي أنّ الحوادث الجاذبة في هذا العالم من العاليات ليست مقصودة

بالذات لها؛ فيكون ذلك منها لأجل توجّع للناس؛ أو لأجل قرابة ومنزلة بينهم

وبينها، ولا لخر ترجونه منهم كما هو المتعارف من منافع الناس بعضهم لبعض؛

لأنّ السماوات، والأرض غنيّة عنّا لكنّ لمّا كانت السماوات متحرّكة دائماً طلباً

لكمالاتها اللائقة بها من واهبها جلّ، وعلا مسخّرة بأمره عرض عن هذه الحركات

والاتصالات إعداد الأرض لقبول النبات، والزرع ووجود الحيوانات الَّتي هي

أرزاق لها وبها قوام وجودها؛ فكانت مصالح هذه الحيوانات إذن مربوطة بتلك

الحركات وجارية على وفقها بإذن المدبّر الحكيم سبحانه، وإلى ذلك أشار بقوله:

ص: 235

«ولَكِنْ أُمِرَتَا بِمَنَافِعِكُمْ فَأَطَاعَتَا وأُقِيمَتَا عَلَىَ حُدُودِ مَصَالِحِكُمْ فَقَامَتَا»: غرضه ممّا

سبق إلى هاهنا أن يقرّر في النفوس عظمة اللَّه سبحانه، وتعالى وأنّ الأرزاق وأسبابها منسوبة إليه، ومنه حتّى تتوجّه النفوس إليه بالإقاع عن الذنوب الَّتي هي حجة لها عن إفاضة الرحمة عليها منه.

«إِنَّ اللَّهً يَبْتَلِي عِبَادَهُ عِنْدَ الأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ بِنَقْصِ الثَّمَرَاتِ وحَبْسِ الْبَرَكَاتِ

وإِغْاَقِ خَزَائِنِ الْخَیْرَاتِ»: عن الخلق عندها كما قال عزَّ من قائل: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ»(1)، وقد علمت معنى ابتلائه لهم، ثمّ بنّ أنّ غاية العناية الإلهيّة من ذلك الابتاء رفع حجب النفوس الَّتي هي الذنوب والمعاصي واستعدادها

بذلك لقبول رحمة اللَّهَّ بالتوبة والإقاع منها و الإزدجار عنها والتذكَّر للمبدأ

الأوّل جلَّت عظمته وما أعدّ لأوليائه الأبرار في دار القرار ولأعدائها الأشرار في دار البوار؛ فقال: «لِيَتُوبَ تَائِبٌ ويُقْلِعَ مُقْلِعٌ ويَتَذَكَّرَ مُتَذَكِّرٌ ويَزْدَجِرَ مُزْدَجِرٌ وقَدْ

جَعَلَ اللَّهُ الِسْتِغْفَارَ سَبَباً لِدُرُورِ الرِّزْقِ ورَحْمَةِ الْخَلْقِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ»: «فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا؛ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا(2)»(3): ولمّا كان الاستغفار هو طلب غفر الذنوب وسترها على العبد أن يفتضح بها، وذلك إنّما يكون بمحوها من لوح نفسه لا جرم كان المستغفر المخلص ماحيا لخطيئته باستغفاره عن لوح نفسه، وبذلك يكمل استعداده لإفاضة رحمة اللَّه عليه في الدنيا بإنزال الركات وفي الآخرة برفع الدرجات، والشاهد العدل بذلك قوله تعالى: ««فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا

ص: 236


1- سورة البقرة: الآية 155
2- ورد في بعض النسخ: «وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ»
3- سورة نوح: الآيتان: 10 - 11

رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا»(1)، وقوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ»(2)، وقوله: «وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ»(3)، وقوله: «وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا»(4)، ثمّ دعا لمن استقبل توبته وشرع في الاستعداد بها، ولمن استقال خطيئته؛ فقال: «فَرَحِمَ اللهُّ امْرَأً اسْتَقْبَلَ تَوْبَتَهُ واسْتَقَالَ خَطِيئَتَهُ»: أي: طلب الإقالة من الإلزام بعاقبتها، وثمرتها وهو العقاب عليها والمؤاخذة بها، «وبَادَرَ مَنِيَّتَهُ»: أي: واثبها وعاجلها قبل إدراكها له بالتوبة، كلّ ذلك تنبيه على الاستعداد وطلب منهم، إذ كان لا يتمّ المطلوب بدونه، ولفظ الإقالة: استعارة، ووجهها أنّ المخطئ كالمعاهد والملتزم لعقاب أُخرويّ بلذّة عاجلة لما علم من استلزام تلك اللذّة المنهيّ عنها للعقاب؛ فهو يطلب الإقالة من هذه المعاهدة كما يطلب المشتري الإقالة من البيع، ولمّا قدّم الأمر بالاستعداد لرحمة اللهَّ رجع إليه في استنزالها عليهم؛ فقدّم في الدعاء ما عادته أن يقدّم بين يدي الملوك من الكلام المرفق للطباع والموجب للعطف والرحمة؛ فقال: «اللَّهُمَّ إِنَّا خَرَجْنَا إِلَيْكَ مِنْ تَحْتِ الأَسْتَارِ والأَكْنَانِ»: الَّتي ليس من شأنها أن يفارق إلَّا لضرورة، «وبَعْدَ عَجِيجِ الْبَهَائِمِ والْوِلْدَانِ»: أصواتها

المرتفعة بالبكاء، «رَاغِبِنَ فِي رَحْمَتِكَ ورَاجِنَ فَضْلَ نِعْمَتِكَ وخَائِفِنَ مِنْ عَذَابِكَ

ونِقْمَتِكَ»: هذه هي جهات المساعي البشريّة، ثمّ سأل بعد ذلك المطالب؛ فقال: «اللَّهُمَّ فَاسْقِنَا غَيْثَكَ»: أي أنظر حالنا فأسقنا، «ولَا تَجْعَلْنَا مِنَ الْقَانِطِینَ» الخائبين،

ص: 237


1- سورة نوح: الآيتان: 10 - 11
2- سورة الأعراف: 96
3- سورة المائدة: الآية 106
4- سورة الجن: الآية 16

«ولَا تُهْلِكْنَا بِالسِّنِينَ ولَا تُؤَاخِذْنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِینَ»: كقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السّلام: «أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا»(1)، ثمّ عاد إلى تكرير شكوى الجدب بذكر أسبابها الحاملة عليها ليكون أقوم للعذر؛ فقال: «اللَّهُمَّ إِنَّا خَرَجْنَا إِلَيْكَ نَشْكُو إِلَيْكَ مَا لَا يَخْفَى عَلَيْكَ حِینَ أَلْجَأَتْنَا الْمَضَايِقُ الْوَعْرَةُ وأَجَاءَتْنَا»: الجانيا «الْمَقَاحِطُ»: أماكن القحط أو سني القحط،(2) «وأَعَتدنَا الْمَطَالِبُ الْمُتَعَسِّرَةُ وتَلَحَمَتْ عَلَيْنَا الْفِتَنُ الْمُسْتَصْعِبَةُ»: وظاهر كون الجوع والعرى وسائر المسبّبات عن القحط فتنة: أي صارفة للقلوب عمّا يراد بها، ثمّ عاد إلى طلب إجابة دعائه؛ فقال: «اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَلَّا تَرُدَّنَا خَائِبِنَ ولَا تَقْلِبَنَا وَاجِمِینَ»: ساكنين من شدَّة الحزن، «ولَا تُخَاطِبَنَا بِذُنُوبِنَا»: أي لا تجعل جوابنا الاحتجاج علينا بذنوبنا، «ولَا تُقَايِسَنَا بِأَعْمَلِنَا»: أي لا تجعل فعلك بنا مقايسا لأعمالنا السيّئة، ثمّ عاد إلى طلب أنواع ما يطلب منه سبحانه بأتم ما ينبغي على الوجه الَّذي ينبغي؛ فقال: «اللَّهُمَّ انْشُرْ عَلَيْنَا غَيْثَكَ وبَرَكَتَكَ ورِزْقَكَ ورَحْمَتَكَ واسْقِنَا سُقْيَا نَاقِعَةً مُرْوِيَةً مُعْشِبَةً تُنْبِتُ بِهَا مَا قَدْ فَاتَ وتُحْيِي بِهَا مَا قَدْ مَاتَ نَافِعَةَ الْحيَا»: أي: سقياً مجتمعة المطر، كَثِیرَةَ الْمُجْتَنَى: ما يجتني منها من الخر والبركة، «تُرْوِي بِهَا الْقِيعَانَ وتُسِيلُ به الْبُطْنَانَ»: القيعان جمع قاع و هو المستوي من الأرض والبطنان جمع بطن وهو الغامض منها، «وتَسْتَوْرِقُ الأَشْجَارَ وتُرْخِصُ الأَسْعَارَ إِنَّكَ عَلَى مَا تَشَاءُ

قَدِيرٌ»: معناه ظاهر. وبالله التوفيق.

ومن خطبة له عليه السّلام: في منافرة بينه وبين جمع من الصحابة الَّذين كانوا ينازعونه الفضل:

ص: 238


1- سورة الأعراف: الآية 155
2- ورد في بعض متون النهج : الْمُجْدِبَةُ. 238

«بَعَثَ اللَّهُ رُسُلَهُ بِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ وَحْيِهِ وجَعَلَهُمْ حُجَّةً لَهُ عَلَى خَلْقِهِ لِئَلَّا تَجِبَ»: تسقط «الْحُجَّةُ لَهُمْ بِتْرَكِ الِإعْذَارِ إِلَيْهِمْ: قال عزَّ من قائل: «رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ»(1)؛ «فَدَعَاهُمْ بِلِسَانِ الصِّدْقِ»: لسان الشريعة الناطقة عن مصباح النبوّة المشتعل عن نور الحقّ سبحانه، «إِلَى سَبِيلِ الْحَقِّ»: الطريق الموصِّل إليه تعالى التي تطابقت على الهداية إليها السنَة الرُّسل والأولياء وصدر الفصل بذلك؛ لاشتماله على فضيلة الأنبياء ليبني عليه فضيلة تنبيه، «أَلَا إِنَّ اللَّهً تَعَالَی قَدْ كَشَفَ الْخَلْقَ كَشْفَةً لَا أَنَّهُ جَهِلَ مَا

أَخْفَوْهُ مِنْ مَصُونِ أَسْرَارِهِمْ ومَكْنُونِ ضَمَائِرِهِمْ ولَكِنْ لِيَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَاً

فَيَكُونَ الثَّوَابُ جَزَاءً والْعِقَابُ بَوَاءً»: سواء ومثلاً وهذا الكلام يجرى مجرى التهديد لمن نافره باطَّلاع اللهَّ على أسرارهم، وأنّ ما كلَّفهم به إنّما هو ابتلاء منه لهم أيّهم أحسن عملاً، وقد عرفت معنى ابتلاء اللهَّ لخلقه غير مرّة، وأراد بالكشف الاختبار والابتلاء أيضاً، ثمّ عقّب ذلك بالاستفهام عن الَّذين زعموا أنّهم أفضل منه، وذلك أنّ قوماً من الصحابة كان منهم من يدّعى الأفضليّة في فنّ من العلم؛ فمنهم من كان يدّعى أنّه أفرض، ومنهم من كان يدّعى أنّه أقرء، ومنهم من كان يدّعى أنّه أعلم بالحلال والحرام، ورووا أفرضكم زيد بن ثابت وأقرأكم أبيّ، ورووا مع ذلك أقضاكم عليّ، فاستفهم منكراً عليهم بقوله: «أَيْنَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ دُونَنَا كَذِباً وبَغْياً عَلَيْنَا»: ثمّ إن كان ما رووه حقّا مع أنّ القضاء يحتاج إلى جميع ما ادّعوه فضيلة لهم ثبت أنّه عليه السَّلَام أفضله-م لاستجماعه ما تفرّق فيهم من الفضائل فيهم، وإن لم يكن حقّاً مع أنّ الوارد فضائله مستطيرة في آفاق الصدور؛ فقد ظهر فضله عليهم، وذلك وجه التكذيب لهم: «ووَضَعَهُم

ص: 239


1- سورة النساء: الآية 165

دُوننَا»: أي لأن رفع الله درجاتنا في الدّنيا والآخرة، (1)«ووَضَعَهُمْ»: دوننا أوان وما بعدها نصب على المفعول له «وأَعْطَانَا»: الملك والنبوة «وحَرَمَهُمْ» ذلك «وأَدْخَلَنَا»: بعنايته الخاصة بنا فيما أعطانا «وأَخْرَجَهُمْ»: من ذلك «بِنَا يُسْتَعْطَى الْهُدَى ويُسْتَجْلَ الْعَمَى»: استعار لفظ العمى للجهل، ورشّح بذكر الاستجلاء، ولمّا كانوا عليهم السّلام المعدّين لأذهان الخلق لقبول أنوار اللهَّ والمرشدين لنفوسهم إلى سبيل اللهَّ لا جرم كأن بهم يستعطى الهدى من اللهَّ إذ بواسطة استعدادهم يفاض على النفوس هداها، وبواسطة أعدادهم يفاض على النفوس هداها وبواسطة أعدادهم يفاض على النفوس هداها وبواسطة إعطائهم القوانين الشرعيّة الكلَّيّة والجزئيّة يستجلي الجهل من واهب ذلك الجلاء وهو كناية عن الاستعداد أيضاً.

«إِنَّ الأَئِمَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ غُرِسُوا فِي هَذَا الْبَطْنِ مِنْ هَاشِمٍ لَا تَصْلُحُ»: الإمامة «عَلَی

سِوَاهُمْ»: أي لا يكون لها صلاح على يده غيرهم «ولَا تَصْلُحُ الْوُلَةُ مِنْ غَيْرِهِمْ»: لفظ النصّ عن الرسول صلَّى اللهَّ عليه وآله وسلَّم الأئمّة من قريش وتخصيصه ذلك بهذا البطن من هاشم: أمّا على مذهب الشيعة، فهو نصّ يجب اتّباعه كما يجب اتّباع نصّ الرسول صلَّى اللهَّ عليه وآله وسلَّم لاعتقادهم عصمته، وأمِا على مذهب الباقين من المسلمين؛ فواجب الاتّباع أيضاً لقوله عليه الصلاة والسلام: إنّه لمع الحقّ وأنّ الحقّ معه يدور حيث دار ومراده بذلك البطن: أمّا على مذهب الإثني عشريّة؛ فنفسه مع الأحد عشر من ولده بنصّ كلّ منهم على من بعدهم من كونهم معصومين، وأمّا على مذهب الباقين من الإماميّة؛ فكلّ منهم يحمل هذا الكلام على من اعتقد إمامته.

ص: 240


1- ورد في بعض متون النهج: أَنْ رَفَعَنَا اللهُ

منها: «آثَرُوا عَاجِلًا وأَخَّرُوا آجِلًا»:

ثواب الأخرة فنبذوه وراء ظهره «وتَرَکُوا صَافِياً»: ما وعد الله من تلك اللذات الصافية عن لدورات الدنيا والعلائق البدنية إلى اللذات الوهمية تشوب الإعراض والإمراض والتغير الزوال.

«وشَرِبُوا آجِناً»: واعلم أنّ ضمير الجمع في آثروا وأخّروا وما بعدهما ضمائر مهملة يصدق إطلاقها على الجماعة، وإن كان المعنيّ بها بعضهم، وهذا الكلام يصدق على من تخلَّف من الناس إلى زمانه ممّن هو غير مرضيّ الطريقة وإن كان معدودا من الصحابة بالظاهر کالمغيرة بن شعبة، وعمرو بن العاص، ومروان بن الحكم، ومعاوية، ونحوهم من أُمراء بني أُميّة ممّن آثر عاجل الدنيا، وثاور إليه وأخّر آجل ثواب الأخرى؛ فنبذہ وراء ظهره، وترك ما، وعد به من تلك اللذّات الصافية عن كدورات الدنيا، والعلاية البدنيّة إلى اللذّات الوهميّة الأجنة بشوب الأعراض، والأمراض، والتغيّر والزوال، واستعار للذّات للدنيا ملاحظة لتشبيهها بالماء الَّذي لا يسوغ شربه لتغيّر طعمه، ورشّح بذكر الشوب، واعلم أن الضمير الجمع في اثروا، وما بعدها ضمائر مهملة يصدق إطلاقاً على الجماعة، وأن كان المعني بها بعضهم، وهذا الكلام يصدق على من تخلف من الناس في زمانه من هو غير مرضى الطريقة، وأن كان معدوداً من الصحابة بالظاهر؛ کالمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص، ومروان بن الحكم، ومعاوية، ونحوهم من أمراء بني أمية.

«كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَی فَاسِقِهِمْ»: يحتمل أن يريد فاسقاً معيناً كعبد الملك بن مروان ويكون الضمير عائداً إلى بن أمية، ومن تابعهم، ويحتمل أن يريد مطلق الفاسق من هؤلاء؛ فيما بعد ويكون بالصفات التي ذكرها بقوله:

ص: 241

«وقَدْ صَحِبَ الْمُنْكَرَ فَأَلِفَهُ وبَسِئَ بِهِ»: استأنس به «ووَافَقَهُ حَتَّى شَابَتْ عَلَيْهِ

مَفَارِقُهُ»: أي كانت بالصفات المذكورة إلى غاية عمره، وكني عنها بسبب المفارق

«وصُبِغَتْ بِهِ خَلَئِقُهُ»: جمع خليقة أي صار المنكر ملكة له، وخلقاً من قوله تعالى صبغة الله «ثُمَّ أَقْبَلَ مُزْبِداً كَالتَّيَّارِ»: موج البحار «لَا يُبَالِي مَا غَرَّقَ»: استعار له الإرباد تشبيهاً له بالبحر الطافي، وجهه كونه عند غضبه لا يحفل بما يفعله في الناس من المنكرات، والظلامات بوقع النار في الحطب «أَوْ كَوَقْعِ النَّارِ فِي الْهَشِيمِ»: دقاق الحطب «لَا يَحْفِلُ»: لا يبالي «مَا حَرَّقَ»: أشارة إلى وجه الشبهة، وهو كونه لا يبالي بتلك الحركات کما لا تبالي النار بما أحرقت، وفي ضمن هذا التشبيه تشبيهات أخر تظهر بالتأمل، ثم أخذ يسأل عن العقول المستكملة بأنوار الله فقال: «أَيْنَ الْعُقُولُ الْمُسْتَصْبِحَةُ بِمَصَابِيحِ الْهَدَى»: استعارة المنار کاستعارة المصابيح.

(1)«أَيْنَ الْقُلُوبُ الَّتِي وُهِبَتْ للهَّ»: أي جعلوا هممهم مطالعة أنوار کبریائه والتوجّه إلى كعبة وجوب وجوده.

«وعُوقِدَتْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ»: أي أخذ خلفاء اللهَّ عليهم العهد بطاعته والمواظبة عليها ثمّ عاد إلى ذم السابقين وتوبيخهم بازدحامهم على حطام الدنيا فقال:

«ازْدَحَمُوا عَلَى الْحُطَام»: وجه استعارة الحطام لمقتنيات الدنيا سرعة؛ فنائها وفسادها كما يسرع فساد النبت اليابس «وتَشَاحُّوا عَلَى الْحَرَامِ»: أي كلّ واحد يشاحّ صاحبه على الحرام ويبخل به عليه.

«ورُفِعَ لَهُمْ عَلَمُ الْجَنَّةِ»: قانون الشريعة القائد إليها.

ص: 242


1- ورد في بعض متون النهج: والَأبْصَارُ اللَّمَحِةُ إِلَی مَنَارِ التَّقْوَى

«وعلم النَّارِ»: الجنّة وبعلم النار إلى الوساوس المزيّنة لقينات الدنيا، والعلم الأوّل بيد الدعاة إلى اللهَّ وهم الرسول صلَّى اللهَّ عليه وآله وسلَّم، ومن بعده من أولياء اللهَّ من أهل بيته، والتابعين لهم بإحسان، والعلم الثاني بيد إبليس وجنوده من شياطين الجنّ والإنس الداعين إلى النار.

«فَصَرَفُوا عَنِ الْجَنَّةِ وُجُوهَهُمْ وأَقْبَلُوا إِلَی النَّارِ بِأَعْمَلِهِمْ»: ثمّ ذمّهم بصرفهم وجوههم عن الجنّة وإقبالهم بأعمالهم على النار حين رفع العلمين من قبل الدعاة: وإنّما قال: وأقبلوا بأعمالهم، ولم يقل بوجوههم، كما قال: فصرفوا وجوههم لأنّ إقبالهم بوجوه نفوسهم على لذّات الدنيا واقتنائها يستلزم صرفها عن الأعمال الموصلة إلى الجنّة وذلك يستلزم إعراضها عن الجنّة، ثمّ لمّا كانت الغاية الَّتي يطلبها الإنسان من الدنيا هو الحصول على لذّاتها وكانت النار لازمة للأعمال الموصلة إلى تلك الغاية لزوماً عرضیّا لم تكن النار غاية ذاتيّة قد أقبلوا بوجوههم عليها بل كان إقبالهم عليها بأعمالهم إذ كانت هي المستلزمة لها، ثمّ أخبر في معرض الذمّ لهم عن مقابلتهم لدعاء ربّهم لهم بالنفار عنه، ولدعاء الشيطان لهم باستجابتهم الدعوته وإقبالهم إليه فقال:

«دَعَاهُمْ رَبُّهُمْ فَنَفَرُوا ووَلَّوْا ودَعَاهُمُ الشَّيْطَانُ فَاسْتَجَابُوا وأَقْبَلُوا»: وفيه تنبيه أنّ الرافع العلم الجنّة هو اللهَّ بأيدي خلفائه، والرافع لعلم النار هو الشيطان بأيدي أوليائه وباللهَّ التوفيق.

ومن خطبة له عليه السّلام

«أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّاَ أَنْتُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا غَرَضٌ»: هدف: استعار هم لفظ الغرض، ووجه الاستعارة كونهم مقصودين بسهام المنيّة من سائر الأمراض والأغراض کما

ص: 243

يقصد الغرض بالسهام.

«تَنْتَضِلُ فِيهِ»: يترامى «الْمَنَايَا»: وروي تنضل إسناد مجازي لأن القاصد لهم بالإمراض وهو فاعلها بهم فكان المجاز هنا في التركيب والأفراد.

«مَعَ كُلِّ جَرْعَةٍ شَرَقٌ»: شرق بالماء المنزلة غص الطعام.

«وفِي كُلِّ أَكْلَةٍ غَصَصٌ»: کنی بالجرعة عن لذات الدنيا وبالشرق، والغصص عما في كل منها من شوب الكدورات الأزمة لها طبعاً من الأمراض، والمخاوف وسائر المنغصات لها.

«لَا تَنَالُونَ مِنْهَا نِعْمَةً إِلَّا بِفِرَاقِ أُخْرَى: فيه لطف»: وهو إشارة إلى أنّ كلّ نوع من نعمة؛ فإنّما يتجدّد شخص منها، ويلتذّ به بعد مفارقة مثله کلذّة اللذة مثلا؛ فإنّها تستدعى؛ فوت اللذّة بأختها السابقة، وكذلك لذّة ملبوس شخصيّ أو مرکوب شخصيّ، وسائر ما يعدّ نعما دنيويّة ملتذّا؛ فإنّها إنّما تحصل بعد مفارقة ما سبق من أمثالها بل، وأعمّ من ذلك فإنّ الإنسان لا يتهيّأ له الجمع بين الملاذّ الجسمانيّة في وقت واحد بل ولا اثنين منها؛ فإنّه حال ما يكون خالياً عن فراشه الوثير لا يكون راكبا للنزهة، ونحو ذلك، وبالجملة لا يكون مشغولا بنوع من الملاذّ الجسمانيّة إلَّا وهو تارك لغيره، وما استلزم مفارقة نعمة أخرى لا يعدّ في الحقيقة نعمة ملتذّا بها، وكذلك قوله: «ولَا يُعَمَّرُ مُعَمَّرٌ مِنْكُمْ يَوْماً مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا بِهَدْمِ آخَرَ مِنْ أَجَلِهِ»: لأنّ السرور بالبقاء إلى يوم معيّن لا يصل إليه إلَّا بعد انقضاء ما قبله من الأيّام المحسوسة من عمره؛ فإذا قد هدم من عمره يوماً؛ فيكون لذاته في الحقيقة ببقائه مستلزمة لقربه من الموت وما استلزم القرب منه فلا لذّة فيه عند الاعتبار، وكذلك قوله: «ولَا تُجَدَّدُ لَهُ زِيَادَةٌ فِي أَكْلِهِ إِلَّا بِنَفَادِ مَا قَبْلَهَا مِنْ

ص: 244

رِزْقِه»: المعلوم أنّه رزقه وهو ما وصل إلى جوفه مثلا فإنّ ما لم يصل جاز أن يكون رزقاً لغيره، وقد علمت أنّ الإنسان لا يأكل لقمة حتّى يفنى ما قبلها؛ فهو إذن لا يتجدّد له زيادة في أكله إلَّا بنفاد رزقه السابق، وما استلزم نفاد الرزق لم يكن لذيذاً في الحقيقة، وروى: أكلة، ويحتمل أن یرید أنّه إذا تجدّدت له جهة رزق فتوجّه فيها طالباً له كان ذلك التوجّه مستلزماً لانصرافه عمّا قبلها من الجهات وانقطاع رزقه من جهتها، واللفظ يصدق ولو في بعض الناس فلا تجب الكلَّيّة، وكذلك قوله: «ولَا يَحْيَى لَهُ أَثَرٌ»: الذكر والفعل، «إِلَّا مَاتَ لَهُ أَثَرٌ»: فإنّ كل ما يعرف به الإنسان في وقت ما من فعل محمود أو مذموم أو ذكر حسن أو قبيح ويحيى له بين الناس يموت منه ما كان معروفاً به قبله من الآثار وینسی، و كذلك ولَا يَتَجَدَّدُ «لَهُ جَدِيدٌ»: من زيادات بدنه ونقصانه وأوقاته «إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَخْلَقَ لَهُ جَدِيدٌ: بتحلَّل بدنه ومعاقبة شيخوخته لشبابه ومستقبل أوقاته لسالفها، وكذلك قوله: «ولَا تَقُومُ لَهُ نَابِتَةٌ إِلَّا وتَسْقُطُ مِنْهُ مَحْصُودَةٌ: النابتة لمن ينشأ من أولاده وأقربائه، و المحصودة لمن يموت من آبائه وأهله، ولذا قال: «وقَدْ مَضَتْ أُصُولٌ»: آباء «نَحْنُ فُرُوعُهَا»: ثم استفهم على التعجب؛ فقال: «فَمَا بَقَاءُ فَرْعٍ بَعْدَ ذَهَابِ أَصْلِهِ»: وقد صرّح أبو العتاهيّة بهذا المعنى حيث قال:

كلّ حياة إلى ممات *** وكلّ ذي جدّة يحول

كيف بقاء الفروع يوما *** وقد ذوّب قبلها الأصول

ولله الحمد.

ص: 245

منها: في وجه ترك البدعة:

«ومَا أُحْدِثَتْ بِدْعَةٌ»: كلّ ما أحدث ممّا لم يكن على عهد الرَّسول صلَّى اللهَّ عليه وآله وسلَّم، «إِلَّا تُرِكَ بِهَا سُنَّةٌ»: برهانه أن عدم إحداثها سنّته لقوله صلى اللهَّ عليه وآله وسلم: كلّ بدعة حرام، فكان إحداثها مستلزماً لترك تلك السنّة؛ «فَاتَّقُوا الْبِدَعَ والْزَمُوا الْمَهْيَعَ»: الجادة الواسعة يعني: سبيل الله وشريعته، «إِنَّ عَوَازِمَ

الأُمُورِ أَفْضَلُهَا»: أراد بها إمّا قدیمها وهو ما كان عليه عهد النبوّة، وإمّا جوازمها وهي المقطوع بها دون المحدثات منها الَّتي هي محل الشبهة والشكّ، ويرجّح الأوّل قوله: «وإِنَّ مُحْدَثَاتِهَا شِرَارُهَا»: وجهة وصفها بكونها شراراً كونها محلّ الشبهة وخارجة عن قانون الشرع فكانت مستلزمة للهرج والمرج وأنواع الشرور وباللهَّ التوفيق .

ومن كلام له عليه السّلام وقد استشاره عمر بن الخطاب في الشخوص:

الرحيل لقتال الفرس بنفسه: وقد اختلف الناقلون لهذا الكلام في الوقت الَّذي قاله لعمر فيه.

فقيل: إنّه قال: في غزاة القادسيّة، وهو المنقول عن المدائني في كتاب المعروف بالفتوح، وقيل: في غزاة نهاوند، وهو نقل محمّد بن جرير الطبريّ.

فأمّا وقعة القادسيّة فكانت سنة أربع عشرة من الهجرة استشار عمر المسلمين في خروجه بها بنفسه فأشار عليه عليّ عليه السّلام بالرأي المسطور فأخذ عمر به ورجع عن عزم المسير بنفسه، وأمّر سعد بن أبي وقّاص على المسلمين، ویروی في تلك الواقعة أنّ رستم أمير العسكر من قبل یزدجرد أقام بريداً من الرجال الواحد منهم إلى جانب الآخر من القادسيّة إلى المدائن كلَّما تكلَّم رستم بكلمة

ص: 246

أدّاها بعضهم إلى بعض حتّى يصل إلى سمع یزدجرد، وقصص الواقعة مشهورة في التواريخ، وأمّا وقعة نهاوند فإنّه لمّا أراد عمر أن يغزو العجم، وجيوش کسری قد اجتمعت بنهاوند استشار أصحابه فأشار عثمان عليه بأن يخرج بنفسه بعد أن يكتب إلى جميع المسلمين من أهل الشام واليمن والحرمين والكوفة والبصرة ويأمرهم بالخروج، وأشار عليه عليه السّلام بالرأي المذكور: وقال: أمّا بعد وإنّ هذا الدين لم یکن نصره ولا خذلانه. الفصل. فقال: عمر أجل هذا الرأي، وقد كنت أُحبّ أن أبايع عليه فأشيروا عليّ برجل أولَّيه ذلك الثغر، فقالوا: أنت أفضل رأياً.

فقال: أشيروا عليّ به واجعلوه عراقيّاً. فقالوا: له أنت أعلم بأهل العراق وقد وفدوا عليك فرأيتهم وكلَّمتهم. فقال: أما واللهَّ لأولينّ أمرهم رجلاً يكون غدا لأوّل الأسنّة، قيل: ومن هو فقال: النعمان بن مقرن، قالوا: هولها. وكان يومئذ بالبصرة فكتب إليه فولَّاه أمر الجيش.

ولنرجع إلى المتن.

قال عليه السلام: «إِنَّ هَذَا الأَمْرَ»: مر الإسلام «لَمْ يَكُنْ نَصْرُهُ ولَا خِذْلَنُهُ

بِكَثْرَةٍ ولَا بِقِلَّةٍ»: وبه على صدق هذه الدعوى بقوله: «وهُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي أَظْهَرَهُ وجُنْدُهُ الَّذِي أَعَدَّهُ وأيده»: بالملائكة والناس «حَتَّى بَلَغَ مَا بَلَغَ وطَلَعَ في آفاق البلاد حَيْثُ طَلَعَ ونَحْنُ عَلَىَ مَوْعُودٍ»: هو النصر والغلبة والاستخلاف في الأرض مِنَ اللهَّ: كما قال الله تعالى «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ»(1) «واللُّهَ مُنْجِزٌ وَعْدَهُ»: لعدم الخلف

ص: 247


1- سورة النور: الآية 55

في خيره ونَاصِرٌ جُنْدَهُ: يجري مجرى النتيجة إذ من جملة وعده نصر جنده وهم المؤمنون فهم منصورون على كل حال سواء كانوا قليلين أو كثيرين.

«ومَكَانُ الْقَيِّمِ بِالأَمْرِ مَكَانُ النِّظَامِ مِنَ الْخَرَزِ»: شبهه بمكان الخيط من العقد ووجه قوله:

«جْمَعُهُ ويَضُمُّهُ فَإِنِ انْقَطَعَ النِّظَامُ تَفَرَّقَ(1) وذَهَبَ ثُمَّ لْمَ يْجَتَمِعْ بِحَذَافِرِهِ»: بأسره أَبَداً، وذلك أنّهم عند فسادهم نظامهم بقتل الإمام مثلاً يقع بهم طمع العدوّ وظفره فيكون ذلك سبب استيصالهم.

ثمّ رفع عنه الشبهة في عدم الحاجة إلى اجتماع كلّ العرب في هذه الواقعة فقال:

«والْعَرَبُ الْيَوْمَ وإِنْ كَانُوا قَلِياً فَهُمْ كَثِرُونَ بِالإِسْاَمِ وعَزِيزُونَ بِالِجْتِاَعِ»: اجتماع الرأي واتفاق القلوب الذي هو خير من كثرة الأشخاص وأراد بالكثرة القوة والغلبة به مجازاً إطلاقاً لأسم مظنة الشيء على الشيء لما فرغ عما بني عليه الرأي شرع في الرأي الخاص بعمر فأشار عليه أن يجعل نفسه مرجعاً للعرب تؤول إليه وتدور عليه فاستعار له لفظ القطب وهم الرحى وقال: «فَكُنْ قُطْباً واسْتَدِرِ الرَّحَى بِالْعَرَبِ»: ورشّح تلك الاستعارة بالاستدارة، وكنّی بذلك عن جعل العرب دربة دونه وحيطة له، ولذلك قال:

«وأَصْلِهِمْ دُونَكَ نَارَ الْحَرْبِ»: أي أحرقهم غيرك بها لأنّهم إن سلموا وغنموا فذلك الَّذي ينبغي، وإن انقهروا كان هو مرجعاً لهم وسيداً يقوى ظهورهم به بخلاف شخوصه معهم فإنهم إن ظفروا فذاك وإن انقهروا لم يكن لهم ظهر يلجئون إليه کا سبق بيانه، ثم أخذ تبيّن المفسدة في خروجه بنفسه فقال:

ص: 248


1- ورد في بعض النسخ: الَخْرَزُ

«فَإِنَّكَ إِنْ شَخَصْتَ مِنْ هَذِهِ انْتَقَضَتْ عَلَيْكَ مِنْ أَطْرَافِهَا الأَرْضِ وأَقْطَارِهَا

حَتَّى يَكُونَ مَا تَدَعُ وَرَاءَكَ مِنَ الْعَوْرَاتِ أَهَمَّ إِلَيْكَ مِمَّا بَیْنَ يَدَيْكَ، إِنَّ الأَعَاجِمَ إِنْ

يَنْظُرُوا إِلَيْكَ غَداً يَقُولُوا هَذَا أَصْلُ الْعَرَبِ فَإِذَا اقْتَطَعْتُمُوهُ اسْتَرَحْتُمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ

أَشَدَّ لِكَلَبِهِمْ عَلَيْكَ وطَمَعِهِمْ فِيكَ»: ملخص هذا الكلام بيان للمفسدة المذكورة من وجهين: أحدهما: أنّ الإسلام كان في ذلك الوقت غضّاً، وقلوب كثير ممّن العرب ممن أسلم غير مستقرّة بعد؛ فإذا انضاف إلى من لم يسلم منهم وعلموا خروجه وتركه للبلاد كثر طمعهم وهاجت فتنتهم على الحرمين وبلاد الإسلام فيكون ما ترکه ورائه أهمّ عنده مما يستقبله ويطلبه ويلتقي عليه الفريقان من الأعداء، الثاني: أنّ الأعاجم إذا خرج إليهم بنفسه طمعوا فيه وقالوا المقالة؛ فكان خروجه محرّضا هم على القتال وهم أشدّ عليه كلبا وأقوى فيه طمعاً؛ «فَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ مَسِرِ الْقَوْمِ إِلَی قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ»: كأنّه قال له: إنّ هؤلاء الفرس قد قصدوا المسير إلى المسلمين وقصدهم إيّاهم دلیل قوّتهم، وأنا أكره أن يغزونا قبل أن نغزوهم، فأجابه بقوله:

«فَإِنَّ اللَّهً سُبْحَانَهُ هُوَ أَكْرَهُ لِمَسِیرِهِمْ مِنْكَ وهُوَ أَقْدَرُ عَلَى تَغْيِرِ مَا يَكْرَهُ»: فينبغي أن يدفع المفسدة العظمی وبكل دفع المفسدة الأخرى إلى اللهَّ تعالى فإنّه کاره لها ومع كراهيّته لها فهو أقدر على إزالتها، «وأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ عَدَدِهِمْ فَإِنَّا لَمْ نَكُنْ نُقَاتِلُ فِيمَا مَضَى»: أي: في صدر الإسام «بِالْكَثْرَةِ وإِنَّمَا كُنَّا نُقَاتِلُ بِالنَّصْرِ والْمَعُونَةِ مِن اَلله»: فينبغي أن يكون الحال الآن كذلك وهو يجري مجرى التمثيل کما أشرنا إليه في المشورة الأولى، وبوعد اللهَّ تعالى المسلمين بالاستخلاف في الأرض وتمکین دینهم الَّذي ارتضى لهم وتبديلهم بخوفهم أمنا كما هو مقتضى الآية. وبالله التوفيق.

ص: 249

ومن خطبة له عليه السَّلام: في بيان بعثة الرَّسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وبيان غايتها وغاية غايتها:

«فَبَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّداً صلّى الله عليه وآله وسلّم بِالْحَقِّ لِيُخْرِجَ عِبَادَهُ مِنْ عِبَادَةِ

الأَوْثَانِ إِلَی عِبَادَتِهِ ومِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ إِلَی طَاعَتِهِ»: وقد علمت أن طاعته بسلوك الصراط المستقيم في الدنيا وهو اتباع الدين القيم، والعدول عن طاعة الشيطان الَّتي هي بالخروج إلى أحد طرفي الإفراط والتفريط «بِقُرْآنٍ قَدْ بَيَّنَه وأَحْكَمَهُ»: هو مشتمل على الجوانب الإلهيّة إلى طاعة اللهَّ، وسلوك صراطه المستقيم، «لِيَعْلَمَ الْعِبَادُ رَبَّهُمْ إِذْ جَهِلُوهُ ولِيُقِرُّوا بِهِ بَعْدَ إِذْ جَحَدُوهُ ولِيُثْبِتُوهُ بَعْدَ إِذْ أَنْكَرُوهُ»: وهما مسألتان من أُمّهات العلم الإلهيّ، الُأولى: معرفتهم له بعد جهلهم، الثانية: الإقرار به بعد جحدهم له، وإثباتهم له بعد إنكارهم إيّاه، والمعنى واحد وإن اختلفت العبارتان، وهو التصديق بوجوده إلَّا أن يحمل الأمرار على الإقرار باللسان والجحدبه، ويحمل الإثبات والإنكار على إثباته بالقلب بعد الإنكار به؛ «فَتَجَىَّ لَهُمْ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ غَیْرِ أَنْ يَكُونُوا رَأَوْهُ بِمَا أَرَاهُمْ الله»: عجائب مصنوعاته(1) «وخَوَّفَهُمْ مِنْ سَطْوَتِهِ وكَيْفَ مَحَقَ مَنْ مَحَقَ»: من القرون الماضية، «بِالْمُثُلَاتِ و احْتَصَدَ مَنِ احْتَصَدَ بِالنَّقِمَاتِ»: لبلايا و كلّ ذلك الجلاء من غير رؤية له، إذ تعالى عن إدراك الحواسّ، وقيل: يحتمل أن يريد بتجلَّيه سبحانه في كتابه ظهوره في عجائب مصنوعاته ومكنوناته، ويكون لفظ الكتاب مستعار للعالم، ووجه المشابهة كونه محلَّاً قابلاً لآثار الصّنع المختلفة وعجائب الصور المنقوشة فيه كما أنّ الكتاب محلّ لنقش الحروف كلّ ذلك من غير رؤية بحاسّة البصر له لتعاليه وتقدّسه عن ذلك.

«وإِنَّمَا سَيَأْتِ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي زَمَانٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ أَخْفَى مِنَ الْحَقِّ ولَا أَظْهَرَ

ص: 250


1- ورد في بعض النسخ: مِنْ قُدْرَتِهِ

مِنَ الْبَاطِلِ ولَا أَكْثَرَ مِنَ الْكَذِبِ عَلَىَ اللِّهَ ورَسُولِهِ»: فيها مبالغة، روى عن شعبة أنّه قال: تسعة أعشار الحديث كذب، وعن الدارقطني، ما الحديث الصحيح إلَّا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، «ولَيْسَ عِنْدَ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ سِلْعَةٌ أَبْوَرَ»:

أكسد «مِنَ الْكِتَابِ إِذَا تُحِيَ حَقَّ تِلَوَتِهِ ولَا أَنْفَقَ مِنْهُ»: وأغى «إِذَا حُرِّفَ عَنْ

مَوَضِعِهِ ولَا فِي الْبِاَدِ شَيْءٌ أَنْكَرَ مِنَ الْمَعْرُوفِ ولَا أَعْرَفَ مِنَ الْمُنْكَرِفَقَدْ نَبَذَ»: طرح «الْكِتَابَ حَمَلَتُهُ»: إشارة عن إعراض قرّائه عن تدبّر مناقبه والعمل به، «وتَنَاسَاهُ حَفَظَتُهُ أَيْضاً»: إعاضهم عن أوامره ونواهيه وتغافلهم عن إتباعها؛ «فَالْكِتَابُ يَوْمَئِذٍ وأَهْلُهُ طَرِيدَانِ مَنْفِيَّانِ»: مطرودان «وصَاحِبَانِ مُصْطَحِبَانِ»: متفقان «فِي طَرِيقٍ وَاحِدٍ لَا يُؤْوِيهِمَا مُؤْوٍ»: تقول: أويت الغريب إذا أضمته إليك مكرماً فأنا موا؛ «فَالْكِتَابُ وأَهْلُهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فِي النَّاسِ ولَيْسَ فِيهِمْ ومَعَهُمْ ولَيْسَ مَعَهُمْ لأَنَّ الضَّلَلَةَ لَا تُوَافِقُ الْهُدَى وإِنِ اجْتَمَعَا»: توضيحه: أن أهل الكتاب الملائمون للعمل به و حيث كان أهل ذلك الزَّمان المشار إليه غير ملتفتين إلى الكتاب كانوا أيضاً غير ملتفتين إلى أهله، ومن يعمل به مؤذن لهم فيما يخالفونهم فيه مما تقتضيه أحكام الكتاب ويوجبه إتباعه فكان إعراضهم عنه إبعاداً لهم ونفياً وطرداً والطريق الذي اصطحب فيه الكتاب و أهله هو طريق الله تعالى الواحد، وصدق إذن إنَّه لا يؤويهما مؤوَّ من أهل ذلك الزمان اللَّهم إلَّا إذا وافقتا غرضه لكن ذلك ليس للكتاب وللعامل به بل لموافقتهما الغرض. وكونهما في الناس: أي بوجودهما، وكونهما ليسا فيهم لعدم اتّباعهما وإلغاء فائدتهما فأشبها ما ليس بموجود، ولأنّ فائدة الموجود أن ينتفع به، وكذلك معهم بالمصاحبة بالاتّفاقيّة في الوجود، وليسا معهم؛ لأنّ ضلالتهم لا تجامع هدى الكتاب وأهله فكانا مضادّين لهم وإن اجتمعا في الوجود؛ فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ عَىَ الْفُرْقَةِ وافْتَرَقُوا عَنِ الْجَمَاعَةِ»: أي اتّفقوا على مفارقة الاجتماع وما عليه الجماعة أمّا في زمانه عليه السَّلَام فكالخوارج والبغاة، وأمّا فيها

ص: 251

يستقبل من الزمان بعده فكالآخذين بالآراء والمذاهب المتفرّقة المحدثة في الدين، «كَأَنَّهُمْ أَئِمَّةُ الْكِتَابِ ولَيْسَ الْكِتَابُ إِمَامَهُمْ»: تشبيه لهم بالأئمّة له في الجرأة على مخالفة ظواهره والاختلاف فيه وتفريعه على حسب أغراضهم، إذ شأن الإمام على المأموم ذلك مع أنّه إمامهم الَّذي يجب أن يتّبعوه ويقتفوا أثره، وإذ خالفوه ونبذوه وراء ظهورهم؛ «فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ من ممسكهم به: ولا(1) ولَا يَعْرِفُونَ إِلَّا خَطَّهُ وزَبْرَهُ: كتابته دون اتّباع مقاصده. «ومِنْ قَبْلُ مَا مَثَّلُوا بِالصَّالِحِینَ»: من الصحابة والتابعين. «كُلَّ مُثْلَةٍ وسَمَّوْا صِدْقَهُمْ عَلَى اللِّهَ فِرْيَةً وجَعَلُوا فِي الْحَسَنَةِ عُقُوبَةَ السَّيِّئَةِ»: ووصفه لمن سيأتي في ذلك الزمان بالأوصاف المذكورة لا ينافي وصف من قبلهم من بني أميّة بمثل تلك الأوصاف.

وما مع الفعل في حكم المصدر ومحلَّها الرفع بالابتداء و خبرها من قبل.

«وإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِطُولِ آمَالِهِمْ وتَغَيُّبِ آجَالِهِمْ»: تنبيه على وجوب تقصير الآمال في الدنيا لاستلزام طلبها الهلاك الأُخرويّ، وأشار إلى القرون الماضية من قبل، وأراد الهلاك الأُخرويّ، وجعل سبب هلاكهم طول آمالهم في الدنيا الموجب للاستغراق في لذّاتها المبعّدة عن اللهَّ تعالى مع تغيّب آجالهم عنهم: أي غفلتهم عنها، وقلَّة فكرهم فيها وعدم علمهم بتعيينها فإنّ استشعار الأجل موجب للإقلاع عن الانهماك في اللذّات الحاضرة، ومنغّص لها «حَتَّى نَزَلَ بِهِمُ

الْمَوْعُودُ»: وهو الموت «الَّذِي تُرَدُّ عَنْهُ الْمَعْذِرَةُ.

«وتُرْفَعُ عَنْهُ التَّوْبَةُ»: التي ينسدّ بابها حين نزوله كقوله تعالى «وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ

ص: 252


1- ورد في بعض متون النهج: إِلاَّ اسمُهُ

يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا» الآية(1).

«وتَحُلُّ مَعَهُ الْقَارِعَةُ والنِّقْمَةُ»: أي تنزل بمن نزل به الشدائد والأهوال وتتبعها العقوبات الأُخرويّة، ثمّ عاد إلى الرأي الصالح للسامعين: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ»: الشأن «مَنِ اسْتَنْصَحَ اللَّهً»: اتّخاذه ناصحاً في قبول أوامره ونواهيه: «وُفِّقَ»: فإنّ استنصاحه يستلزم التوفيق.

«ومَنِ اتَّخَذَ قَوْلَهُ دَلِيلًا هُدِيَ»: للطريق الَّتي هي أقوم الطرق ثمّ نبّه على حسن جوار اللهَّ بالأمن الَّذي هو غاية الجوار، وعلى قبح عداوته بذكر الخوف الَّذي هو غاية عداوة الملوك خصوصاً جبّار الجبابرة وملك الدنيا والآخرة فقال:(2) «فَإِنَّ جَارَ اللَّهِ آمِنٌ وعَدُوَّهُ خَائِفٌ»: وأراد بجواره القرب منه بطاعة وبعداوته البعد عنه بالمعصية ومخالفة أوامره، ولا شكّ في كون الأوّل أمنا من أهوال الآخرة وفي كون الثاني في محلّ الخوف والخطر، ثم أخذ يرشدهم إلى التواضع للهَّ ولمن أرشد إلى طريقه فقال:

«وإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِمَنْ عَرَفَ عَظَمَةَ اللَّهِ أَنْ يَتَعَظَّمَ فَإِنَّ رِفْعَةَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَا

عَظَمَتُهُ أَنْ يَتَوَاضَعُوا لَهُ وسَاَمَةَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَا قُدْرَتُهُ أَنْ يَسْتَسْلِمُوا لَهُ»: خاطب من يعرف عظمة اللهَّ لاحتقاره نفسه عند ملاحظته لنفسه ونسبته لها إلى جلال اللهَّ فهو أسرع انفعالا وأحقر في نفسه أن يتكبّر على اللهَّ، ونبّه على حسن التواضع له بذكر عظمته ورفعته للعالمين بعظمته، فإنّه لمّا كان هو العظيم المطلق، وكلّ عظمة ورفعة لعظيم، فمستفادة من جوده والقرب منه، وكانت العادة جارية من الملوك في حقّ من يتواضع لهم، ويوفّيهم حقّهم من الإجلال، والإكرام وحسن الانقياد

ص: 253


1- سورة النساء: الآية 18
2- ورد في بعض النسخ: (لِلَّتِي هِيَ أَقُومُ)

أن يرفعوه ويعظَّموه فبالحرّي أن یکون رفعة المتواضع للملك المطلق والعظيم المطلق لازمة عن التواضع له، وكذلك العادة جارية منهم بسلامة من استسلم لهم عن معرفته باقتدارهم، فبالحرّي أن يكون سلامة المستسلم للهَّ عن العلم بغلبة قدرته واستيلاء سلطانه لازمة عن استسلامه له، وإذ أدّبهم بالتواضع للهَّ ولأوليائه ندبهم إلى قبول الحقّ منهم قال: «فَلَا تَنْفِرُوا مِنَ الْحَقِّ نِفَارَ الصَّحِيحِ مِنَ الأَجْرَبِ

والْبَارِئِ»: صحيح الجسم «مِنْ ذِي السَّقَمِ»: ثمّ عاد إلى تنفيرهم عن أئمّة الضلال، وذلك بتنبيههم على أنّهم ليسوا عارفين بالرشد، والمعرفة الصحيحة، ولا آخذين بميثاق الكتاب، ولا متمّسكين به الأخذ، والتمسّك التامّ ما لم يعرفوا أولئك الضالَّين وذلك قوله:

«واعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَعْرِفُوا الرُّشْدَ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي تَرَكَهُ»: لأنّ المعرفة التامّة للرشد بل لكلّ شيء تستدعي معرفة ما عليها من الشكوك والشبهات الَّتي هي سبب التشكيك فيها وترك العمل على وفقها، ولمّا كان الرشد وهو الحقّ الَّذي هو عليه وتابعوه، وكان التارك لذلك هم مخالفوه، وخصومه في الأمر من أئمّة الضلال لا جرم کان من تمام معرفة الحقّ الَّذي في يده، والرشد الَّذي يدعو إليه معرفة خصومة وأنّهم على شبهة إذا عرفها طالب الحقّ تمّت معرفته بطريق الرشد فسلكها ونفر عن مّن نكب عنها.

«ولَنْ تَأْخُذُوا بِمِيثَاقِ الْكِتَابِ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي نَقَضَهُ»: من خصومه: أي إنّ أخذهم بما يعمل به عليه السَّلَام منه لا يتمّ منهم إلَّا أن يعرفوا شبهة ناقضه وهو العامل بخلاف حكمه عليه السَّلَام على وفق الكتاب لشبهة حتّى إذا اطَّلعوا على كيفيّة فسادها وضلاله بها أخذوا بميثاق الكتاب على بصيرة، وعلموا أنّه ناقض له فنفروا عنه، «ولَنْ تَمَسَّكُوا بِهِ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي نَبَذَهُ»: وأنّه ضالّ لتحصيل

ص: 254

النفرة عنه فيتمّ التمسّك به ويتأكَّد لزوم میثاقه، وغاية كلّ ذلك التنفير عن أئمّة الضلال بمعرفتهم ومعرفة ما هم عليه من الشبه والتبرّي منهم، ثمّ بعد أن نبّه على تلك المعرفة أمر بالتباسها من عند أهلها، والإشارة بهم إلى نفسه وأهل بيته عليهم السَّلَام، فقال: «فَالْتَمِسُوا ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ فَإِنَّهُمْ عَيْشُ الْعِلْمِ»: أي حياته، وموت الجهل، وجه الاستعارة الأولى: أنّ بهم یکون وجود العلم والانتفاع به کما یکون بحياة الشيء وجود والانتفاع به، ووجه الثانية: أنّ بهم يكون عدم الجهل وعدم التضرّر به کما یکون بموت الشرير سيرتهم على وفقها علی کمال نفوسهم بالعلوم،(1) «وصَمْتُهُمْ منْ مَنْطِقِهِمْ»: فإن الصمت المطبق اللسن ذي الحكمة العزيزة وقتا وهيئة وحالة تكون قرائن دالَّة على حسن منطقه وعلمه بما يقول: «وظَاهِرُهُمْ عَنْ بَاطِنِهِمْ لَا يُخَالِفُونَ الدِّينَ»: إشارة لزومهم لأوامر الله وطريق شريعته، «ولَا يَخْتَلِفُونَ»: فيه إشارة إلى اتّفاق آرائهم على أحكامه عن کمال علومهم به کما كان طريقاً واحداً واتّفقوا على معرفته وجب أن لا يختلفوا فيه ولا يضلّ أحدهم عن حكم من أحكامه حتّى يخالف صاحبه «فِيهِ فَهُوَ بَيْنَهُمْ شَاهِدٌ

صَادِقٌ»: أي شاهد يستدلَّون به على الأحكام والوقائع النازلة بهم وبغيرهم، لا يكذب من حيث هو شاهد، «وصَامِتٌ نَاطِقٌ»: لكونه حروفاً وأصواتاً، وإنّما ينطق بألسنتهم فهو بمنزلة الناطق، واللفظان استعارة، ووجهها الإفادة مع النطق به وعدمها مع السّكوت عنه كإفادة الناطق وعدم إفادة الصامت، والله الموفق.

ومن كلام له عليه السّلام في ذكر البصرة:

«كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُاَ»: طلحة والزبير «يَرْجُو الأَمْرَ»: أمر الخلافة لَهُ، وذلك حين خرجا إلى البصرة مع عائشة، «ويَعْطِفُهُ عَلَيْهِ»: أي: يجذبه إلى نفسه، «دُونَ صَاحِبِهِ»:

ص: 255


1- ورد في بعض متون النهج: (ومَوْتُ الْجَهْلِ هُمُ الَّذِينَ يْخُبُرِكُمْ حُكْمُهُمْ عَنْ عِلْمِهِمْ)

ويزعم أنَّه أحق من صاحبه، «لَا يَمُتَّانِ إِلَی اللَّهِ بِحَبْلٍ، ولَا يَمُدَّانِ إِلَيْهِ بِسَبَبٍ»: أي بلا حجّة لهما يعتذران إلى اللهَّ تعالى بها في قتالهما له عليه السَّلَام وهلاك المسلمين فيما بينهم، «كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُاَ حَامِلُ ضَبٍّ لِصَاحِبِهِ»: أي في صدره عليه، «وعَمَّا قَلِيلٍ يُكْشَفُ قِنَاعُهُ بِهِ»: استعار القناع لظاهره الساتر لباطنه، وذلك مثل يضرب لمن ينافق صاحبه ويظهر له الصداقة مع حسده وعقوقه له في الباطن، والعرب تضرب بالضبّ المثل في العقوق؛ فيقول: أعقّ من الضَّبّ؛ وذلك أنّه ربّما أكل حسوله، «واللِّهَ لَئِنْ أَصَابُوا الَّذِي يُرِيدُونَ لَيَنْتَزِعَنَّ هَذَا نَفْسَ هَذَا، ولَيَأْتِیَنَّ هَذَا عَلَى هَذَا»: أي: يسعى كلّ منهما في قتل صاحبه، وهذا ممّا لا شكّ فيه فإنّ العادة جارية بعدم قيام الأمر برئيسين معاً، وسرّه أنّ الطباع البشريّة متشاحّة على الكمال ويتفاوت ذلك التشاحّ بحسب تفاوت ذلك الکمال في تصوّر قوّته وضعفه ولا شيء في نفوس طالبي الدنيا أعظم من الملك خصوصاً في نفس من يعتقد أنّه يقدر على تحصيل الآخرة فيه أيضاً فإنّ تحصيل الدنيا، والآخرة هي أكمل الكمالات المطلوبة للإنسان، ولا شيء يقاوم هذا المطلوب في النفوس؛ فهي تسعى بكلّ ممكن من قتل الولد أو الوالد أو الأخ؛ ولذلك قيل: الملك عقيم، وقد نقل عن هذين الرجلين الاختلاف قبل إصابتهما، وقبل وقوع الحرب فاختلفا في الأحقّ بالتقديم في الصلاة فأقامت عايشة محمّد بن طلحة وعبد اللهَّ بن الزبير يصلَّى هذا يوماً وهذا يوماً إلى أن ينقضي الحرب، ثمّ إنّ عبد اللهَّ بن الزبير ادّعى أنّ عثمان نصّ عليه بالخلافة يوم الدّار واحتجّ على ذلك باستخلافه له في الصلاة، واحتجّ تارة بنصّ صريح ادّعاه، وطلب طلحة أن يسلَّم الناس عليه بالإمرة وأدلى إليها بالتميميّة، وأحلى الزبير إليها الزبير بأختها أسماء؛ فأمرت الناس أن يسلَّموا عليهما جميعاً بالإمرة، واختلفا في تولَّى القتال فطلبه كلّ واحد منهما ثمّ نكل عنه، وأحوالهم في ذلك ظاهرة.

ص: 256

«قَدْ قَامَتِ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ»: إشارة إليهم وهم الناكثون الذين نقل فيما سبق فيهم الخبر أمرت أن أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين؛ «فَأَيْنَ الْمُحْتَسِبُونَ فَقَدْ

سُنَّتْ لَهُمُ السُّنَنُ»: أي: أين الطالبون للثواب من الله بعد وضوح الطريق وروي فأين المحسبون؟ «وقُدِّمَ لَهُمُ الْخَبَرُ»: أي أخبرهم الرَّسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عن خروج فئة باغية وناكثة ومارقة فبالحريّ أن يحذر هؤلاء أن يكونوا ممّن أخبر عنهم، «ولِكُلِّ ضَلَّةٍ عِلَّةٌ»: أي: لكلّ خروج عن سبيل اللهَّ علَّة، وأشار إلى علة خروج هذه الفرقة وهي البغي والحسد، «ولِكُلِّ نَاكِثٍ شُبْهَةٌ»: تغطَّى عين بصيرته عن النظر إلى وجه الحقّ كطلبهم بدم عثمان، «واللِّهَ لَا أَكُونُ كَمُسْتَمِعِ

اللَّدْمِ»: ضرب الصدر تأكيداً قسم أنه لا يكون بعد سماعه لغلبة هؤلاء وجلبهم عليه وتهديدهم إيّاه ينام عنهم ويصبر لهم حتّى يوافوه فيكون في الغرور، «يَسْمعَ النَّاعِيَ»: أي: يسمع الضرب والبكاء الَّذي هو مظنّة الخطر ثمّ لا يصدّق حتّى يجيء لمشاهدة الحال، «ويَحْضُرُ الْبَاكِيَ»: وقد كان الأولى أن يكتفي بذلك السماع لظهور دلالته أو الهرب منه، والله الموفق.

ومن كلام له عليه السَّلَام قبل موته في والوعظ والاعتبار:

«أَيُّهَا النَّاسُ كُلُّ امْرِئٍ لَقٍ مَا يَفِرُّ مِنْهُ فِي فِرَارِه: تنبيه على لحوق ضرورة الموت المنفور عنه طبعاً، وأحسن بقوله»: في فراره؛ فإنّه لمّا كان الإنسان دائما فارّاً من الموت و متوقیّاً له، وكان لابدّ منه لاجرم كان ضروريّ اللقاء له في فراره، «الأَجَلُ

مَسَاقُ النَّفْسِ»: أراد مدّة عمر الإنسان؛ فإنّ مدّة بقائها في هذا البدن هو مساقها إلى غايتها لا محلّ فرارها، «والْهَرَبُ مِنْهُ مُوَافَاتُهُ»: في غاية اللطف، وذلك أنّ الفارّ من الموت مثلاً بالحركات والعاجلات ونحوها يستلزم حرکاته في ذلك فناء الأوقات وتصرّمها، وقطع تلك الأوقات مستلزم لملاقاته وموافاته فأطلق على الهرب مجازاً

ص: 257

إطلاقاً لاسم اللازم على ملزومه، «كَمْ أَطْرَدْتُ الأَيَّامَ»: أي: صيّرتها طريدة لي أتّبع بعضها بعضا، «أَبْحَثُهَا عَنْ مَكْنُونِ هَذَا الأَمْرِ»: أي: صيرتها طريدةً لي اتبع بعضها أي لمعرفة، وأراد بهذا الأمر الَّذي وقع له من القتل بالمكنون وقته المعين بالتفصيل؛ «فَأَبَى اللُّهَ إِلَّا إِخْفَاءَهُ»: فإنّ ذلك ممّا استأثر اللهَّ تعالى بعلمه لقوله «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ»(1)، فإن كان قد أخبره الرسول صلىَّ اللهَّ عليه وآله وسلَّم بكيفيّة قتله مجملًا کما روى عنه أنّه قال: ستضرب على هذه وأشار إلى هامّته فتخضب منها هذه وأشار إلى لحيته، وعنه أنّه قال: أتعلم من أشقى الأوّلين؟ قال: نعم عاقر الناقة؛ فقال له: أتعلم من أشقى الآخرين؟ قال: لا، قال: من يضربك هاهنا فيخضب هذه، وأمّا بحثه هو تفصيل الوقت والمكان ونحوهما من القرائن المشخّصه؛ وذلك البحث إمّا بالسؤال من الرسول صلَّى اللهَّ عليه وآله وسلَّم مدّة حياته، وكتمانه إيّاه أو بالفحص والتفرّس من قرائن أحواله في سائر أوقاته مع الناس؛ فأبى اللهَّ إلَّا أن تخفي عنه تلك الحال، «هَیْهَاتَ»: بعد ذلك العلم فهو «عِلْمٌ مَخْزُونٌ»: ثمّ شرع في الوصيّة وبدا بالأهمّ فالأهمّ، قال: «أَمَّا وَصِيَّتِي فَاللهٍّ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً»: هو الإخلاص للهَّ بالإعراض عن كلّ جاه، وفي ذلك لزوم أوامره ونواهيه وسائر ما نطق به القرآن العزيز، «ومُحَمَّداً صلَى الله عليه وآله فَلَا تُضَيِّعُوا سُنَّتَهُ»: أراد لزومها وعدم إهمالها، ثمّ أكَّد القول في الأمر بالاتّباع التوحيد المطلق والسنّة النبويّة؛ فقال: «أَقِيمُوا هَذَيْنِ الْعَمُودَيْنِ وأَوْقِدُوا هَذَيْنِ الْمِصْبَاحَیْنِ»: استعارتان مرشّحتان وجه الأولى أنّ مدار الإسلام ونظام أمور المسلمين في معاشهم ومعادهم على توحيد اللهَّ ولزوم ما جاء به رسوله كما أنّ مدار الخيمة وقيامها بالعمود، ووجه الثانية: أنّ توحيد اللهَّ والاقتداء بما جاء به رسوله مستلزمان للهداية في طريقه من

ص: 258


1- سورة لقمان: الآية 34

ظلمات الجهل قائدان إلى جواره في جنّات النعيم وهو المطلوب الحقيقيّ كما يهدی المصباح في الظلام على الطريق إلى المطلوب، «وخَلَاکُمْ ذَمٌّ»: أي عداكم، وهي كلمة تجري مجرى المثل: أي عند لزومکم لتوحيد اللهَّ وسنّة رسوله لا ذمّ علیکم، وأوّل من قالها قصير مولى جذيمة حين حثّ عمرو بن عديّ ابن أخت جذيمة على طلب ثاره من الزباء؛ فقال له عمرو: كيف لي بذلك والزباء أمنع من عقاب الجوّ؟ فقال له قصير: اطلب الأمر وخلاك ذمّ، «مَا لَمْ تَشْرُدُوا»: استثناء من نفی لحوق الذمّ لهم، أي: أوقدوا هذين المصباحين فما دمتم كذلك فلا ذمّ يلحقكم إلَّا أن تشردوا، أي: تتفرّقوا عمّا أنتم عليه، ثمّ لما كان قد أمرهم بلزوم هذين الأمرين اللذين يدور عليهما التكليف بيّن لهم بقوله: «حُّمِلَ كُلُّ(1) مِنْكُمْ مْجَهُودَهُ وخُفِّفَ

عَنِ الْجَهَلَةِ»: أنّ التكليف بذلك يتفاوت بكلّ أمريء من العلماء وأهل النباهة ومن هو يصدر العلم يحمل مجهوده وطاقته منه بالتنبيه على الأدلَّة وتعليمها، وأمّا الجهّال كالنساء، وأهل البادية والزنج ونحوهم من أهل الغباوة؛ فتكليفهم دون ذلك وهو بالمحسوس من العبادات دون الأمر بالتفكَّر في مقاصدها، ثمّ ذكر وصف الرحمة للربّ لمناسبة ما سبق من ذكر التخفيف عن الجهلة؛ فقال: «رَبٌّ

رَحِيمٌ ودِينٌ قَوِيمٌ»: لا عوج فيه ولا زيغ عن القصد الحقيقيّ، وإِمَامٌ عَلِيمٌ: إشارة إلى الرسول صلَّى اللهَّ عليه وآله وسلَّم العالم بكيفيّة سلوك طريق اللهَّ، ومراحلها ومنازلها، والهادي فيها بما يقتضيه حكمته من القول والعمل، أو إلى نفسه لكونه وارث علمه وسالك مسالكه، وربّ: خبر مبتدأ محذوف وتقديره وذلك المكلَّف ربّ رحيم، ويجوز أن يكون فاعلاً لفعل يفسّره حمل، أي: يحملكم ربّ كقوله: «يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ لِلرِّجالِ»(2)، ثمّ ختم الوصيّة بالدعاء لهم وله

ص: 259


1- ورد في بعض متون النهج: امْرِئٍ
2- سورة النور: الآية 36

بطلب المغفرة على ما في بعض النسخ، «غَفَرَ الله لِّي وَلَكُم»: ثم تمم بالتنبيه لهم على وجه الاعتبار، وهو تصرف حالات و تحت الأزمان، فقال: «أَنَا بِالأَمْسِ صَاحِبُكُمْ»: في الحرب ومنازعة الأقران و صاحب الأمر والنهي فيهم، «وأَنَا الْيَوْمَ عِبْرَةٌ لَكُمْ: أي: بحال مصرعه وضعفه عن الحراك، «وغَداً مُفَارِقُكُمْ»: وكلّ هذه التغييرات محلّ الاعتبار يجب التنبيه لها، وغداً إمّا حقيقة إن كان قد غلب على ظنّه موته في تلك الواقعة، أو ما يستقبل من الزمان وإن بعد، وهذا أرجح لقوله: «إِنْ تَثْبُتِ الْوَطْأَةُ فِي هَذِهِ الْمَزَلَّةِ»: أي: إن يكن لي ثبات في الدنيا وبقاء في هذه المزلَّة، أي: محلّ زوال الحياة فَذَاكَ المرجوّ، وكنّى بثبات الوطأة عمّا ذكرناه، وبدحض القدم عن عدم ذلك بالموت في قوله: «وإِنْ تَدْحَضِ الْقَدَمُ فَإِنَّا كُنَّا فِي أَفْيَاءِ»: ضلال «أَغْصَانٍ ومَهَبِّ رِيَاحٍ وتَحْتَ ظِلِّ غَمَامٍ، اضْمَحَلَّ فِي الْجَوِّ مُتَلَفَّقُهَا وعَفَا فِي الأَرْضِ مَخَطُّهَا»: أي وإن نمت فإنّا كنّا فيها، وكنّی بالأمور المذكورة عن أحوال الدّنيا وملذّاتها، وبقائه فيها ومتاعه بها، وقيل: استعارة لفظ الأغصان للأركان الأربعة من العناصر، ولفظ الأفياء لما تستريح فيه النفوس من تركيبها في هذا العالم، ووجه الاستعارة الأولى: أنّ الأركان في مادّتها كالأغصان للشجرة، ووجه الثانية: أنّ الأفياء محلّ الاستعارة واللذة كما أنّ الكون في هذا البدن حین صحّة التركيب، واعتدال المزاج من هذه الأركان كذلك، وكذلك استعار مهابّ الرياح للأبدان، ولفظ الرياح للأرواح، والنفحات الإلهيّة عليها في هذه الأبدان، ووجه الأولى: قبول الأبدان لنفحات الجود كقبول مهابّ الرياح لها استعارة المحسوس للمعقول، ووجه الثانية: أظهر من أن يذكر، وكذلك لفظ الغمام للأسباب العلويّة من الحركات السماويّة والاتّصالات الكوكبيّة والأرزاق المفاضة على الإنسان في هذا العالم الَّتي هي سبب بقائه، ووجهها الاشتراك في الإفاضة والسببيّة، وكنّی بظلَّها عمّا يستراح إليه منها كما يقال: فلان يعيش في ظلّ فلان، أي: في عيشه، وعنايته،

ص: 260

وكنّى باضمحلال متلفّقها في الجوّ عن تفرّق الأسباب العلويّة للبقاء وفنائها، وبعفاء مخطَّها في الأرض عن فناء آثارها في الأبدان، والضمير في متلفّقها يعود إلى الغمام، وفي مخطَّها إلى مهابّ الرياح، «وإِنَّمَا كُنْتُ جَاراً جَاوَرَكُمْ بَدَنِ أَيَّاماً»: فيه تنبيه على أنّ نفسه القدسيّة كانت متّصلة بالملأ الأعلى، ولم يكن لها ميل إلى البقاء في الدنيا ومجاورة أهلها؛ فيها فكانت مجاورته لهم بدنه فقط، وأيضا فإنّ المجاورة من عوارض الجسميّة فيحتمل أن يكون ذلك تنبيها منه على وجود أمر آخر غير البدن وهو النفس، وكنّى بالأيّام عن مدة حياته الدنيا، «وسَتُعْقَبُونَ مِنِّي

جُثَّةً خَلَاءً»: من الرُّوح، «سَاكِنَةً بَعْدَ حَرَاكٍ»: حركة «وصَامِتَةً»: أي توجدون في عاقبة أمركم منّى جثّة خالية لا روح فيها ولا حراك قد أفقرت من تلك المعاني المعهودة لكم من العقل والنطق والقوّة فهي متبدّلة بالحراك السكون، وبالنطق السكوت،(1) «لِيَعِظْكُمْ هُدُوِّي»: سكوني، «وخُفُوتُ»: سكون «إِطْرَاقِي»: أطرق فلان أرخى عينيه ينظر إلى الأرض، «وسُكُونُ أَطْرَافِي»: كأنَّه قال: إنِّي أعظكم اليوم بالكلمات اللّطاف، وإذا متّ فأعظكم بما ذكر: «فَإِنَّهُ أَوْعَظُ لِلْمُعْتَبِرِينَ مِنَ الْمَنْطِقِ

الْبَلِيغِ»: صاحب اللّسان والفصاحة، «والْقَوْلِ الْمَسْمُوعِ»: كلام حقّ فإنّ الطباع أكثر انفعالاً واعتباراً مشاهدة ما فيه العرة من الوصف له بالقول المسموع، ولو بأبلغ عبارة، ثمّ أخذ عليه السَّلَام في توديعهم بقوله: «وَدَّعَتَكُم»: أنشأ لأخبر،(2) «وَدَاعُ امْرِئٍ مُرْصِدٍ لِلتَّلَقِي»: أي معدّ ومهيّأ للقاء اللهَّ تعالى،(3) «تَرَوْنَ أَيَّامِي ويُكْشَفُ لَكُمْ عَنْ سَرَائِرِي وتَعْرِفُونَنِي بَعْدَ خُلُوِّ مَكَانِ وقِيَامِ غَیْرِي مَقَامِي»: تذكير لهم بفضيلته وتنبيه عليها ليثبت متبعوه على اتّباعه، والغافلون عن فضله إذا فارقهم

ص: 261


1- ورد في بعض النسخ: بَعْدَ نُطُوقٍ
2- ورد في بعض النسخ: وَدَاعِي لَكُمْ
3- ورد في بعض النسخ: غَدًا

وولَّی أمرهم الظالمون؛ فلا بدّ أن ينكشف لهم ما كان مغطَّى عن أعين بصائرهم من لزومه للقصد في سبيل اللهَّ، ويعرفون منزلته وفضله حين مشاهدة المنكرات ممّن يقوم مقامه خلفا في الناس، وإنّ وقائعه وحروبه وحرصه على هذا الأمر لم يكن لنيل دنياً، بل لإقامة السُّنن ورضا اللهَّ تعالى، وبالله التوفيق.

ومن خطبة له عليه السّلام يومي مع فيها إلى الملاحم

«وأَخَذُوا يَمِيناً وشِاَلً ظَعْناً فِي مَسَالِكِ الْغَيِّ وتَرْكاً لِمَذَاهِبِ الرُّشْدِ»: إشارة إلى من ضلّ من فرق الإسلام عن طريق الهدى الَّتي عليها الكتاب والسنّة وسلكوا طرفي الإفراط والتفريط منها كما قال عليه السَّلَام فيها قبل: اليمين والشمال مضلَّة والطريق الوسطى هي الجادّة، وقد سبق تفسير ذلك مستوفي، ومسالك الغيّ: أطراف الرذائل من الفضائل الَّتي عدّدناها كالحكمة والعفّة والشجاعة والعدالة وما تحتها، ومذاهب الرشد: هي تلك الفضائل، و ظعنا وتر کا مصدران قاما مقام الحال؛ «فَلَا تَسْتَعْجِلُوا مَا هُوَ كَائِنٌ مُرْصَدٌ»: ذلك إشارة إلى ما كانوا يتوقّعونه من الفتن الَّتي أخبر الرَّسول (صلَّى اللهَّ عليه وآله وسلَّم) عن وقوعها في المستقبل، وكانوا في أكثر الوقت يسألونه عليه السَّلَام عنها؛ فقال: لا تستعجلوا ما هو كائن، أي: لا بدّ من وقوعه وهو مرصد معدّ، «ولَا تَسْتَبْطِئُوا مَا يَجِيءُ بِهِ الْغَدُ»: من الفتن والوقائع؛ «فَكَمْ مِنْ مُسْتَعْجِلٍ بِمَا إِنْ أَدْرَكَهُ وَدَان لَمْ يُدْرِكْهُ»: ذمّ للاستعجال والاستبطاء بهذا الموعود كقوله: «وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ»(1)، «ومَا أَقْرَبَ الْيَوْمَ مِنْ تَبَاشِیرِ غَدٍ»: أي: من البشري بعد لقربه، كقوله: غدماغدما أقرب اليوم من غد، وكقوله: وإن غدا للناظرين قريب، ثمّ أخذ في تقريب ذلك الموعود من الفتن؛ فقال: «یَا

ص: 262


1- سورة البقرة: الآية 225

قَوْمِ هَذَا إِبَّانُ»: وقت «وُرُودِ كُلِّ مَوْعُود ودُنُوٍّ مِنْ طَلْعَةِ مَا لَا تَعْرِفُونَ»: قيل: أراد المهدي عليه السَّلَام، والأظهر أنَّ المراد وقت دنو ظهوره مالا يعرفون من الأُمور بالتَّفصيل، «أَلَا وإِنَّ مَنْ أَدْرَكَهَا مِنَّا»: أي: من أدرك تلك الفتن من أهل بيته الأئمّة الأطهار عليهم الصَّلَاة والسَّلَام، «يَسْرِي فِيهَا بِسِرَاجٍ مُنِیرٍ»: استعار لفظ السراج لکمالات نفسه الَّتي استضاءت بها في طريق اللهَّ من العلوم والأخلاق الفاضلة، ولفظ المنير ترشيح، وهو إخبار عن معرفته للحقّ وتمييزه من الباطل، وأنّ تلك الفتن لا توقع له شبهة ولا تأثير لها في عقيدته الصادقة الصافية، بل يتصرّف فيها منقاداً لأنوار اللهَّ على صراطه المستقيم لا يلويه عنه ملو، بل يقتفى فيه أثر آبائه الصالحين ويلتزم مکارم الأخلاق، فيحلّ ما انعقد فيها وأشكل على الناس من الشبه، ويفكّ ربق أسرهم، ويعتقهم، واصدع ما انشعب، والتأم من ضلال يمكنه صدعه، ويشعبه بما انصدع من أمر الدِّين ما أمكنه شعبه في ستره عن الناس، وإلى ذلك أشار بقوله: «ويَحْذُو فِيهَا عَلَى مِثَالِ الصَّالِحِینَ لِيَحُلَّ فِيهَا رِبْقاً»: فيه عدة عرى يشدّ به إليهم، «ويُعْتِقَ(1) رِقّاً ويَصْدَعَ شَعْباً»: نسق اجتماع المنافق، «ويَشْعَبَ صَدْعاً فِي سُتْرَةٍ منِ النَّاسِ، لَا يُبْصِرُ الْقَائِفُ أَثَرَهُ ولَوْ تَابَعَ»: إليه «نَظَرَهُ»: وما زالت أئمّة أهل البيت عليهم السَّلَام مغمورين في النَّاس لا يعرفهم إلَّا من عرّفوه أنفسهم، حتّى لو تعرّفهم من لا يريدون معرفته لهم لم يعرّفهم، ولست أقول لم يعرف أشخاصهم، بل لا يعرف أنهم أهل الحقّ و الأحقّون بالأمر، «ثُمَّ لَيُشْحَذَنّ»: شحذت السّكين: حددتها، «فِيهَا قَوْمٌ»: أي: في أثناء ما يأتي من الفتن تشحذ أذهان قوم، وتعدّ لقبول العِلم والحكمة، «شَحْذَ الْقَيْنِ»: أي: کما يشحذ الحدّاد «النَّصْلَ»: ولفظ الشحذ مستعار لإعداد الأذهان، ووجه الاستعارة

ص: 263


1- ورد في بعض النسخ: فِيهَا

الاشتراك في الإعداد التامّ النافع فهو يمضى في مسائل الحكمة والعلوم كمضيّ النصل فيما يقطع به، وهو وجه التشبيه المذكور، ثمّ أخذ في تفسير ذلك الشّحذ والإعداد؛ فقال: «تُجْلَى بِالتَّنْزِيلِ أَبْصَارُهُمْ»: أي: تعدّ بالقرآن الكريم ودراسته وتدبره أبصار بصائرهم لإدراك الحكمة وأسرار العلوم وذلك لاشتمال التنزيل الإلهيّ عليها، «ويُرْمَى بِالتَّفْسِرِ فِي مَسَامِعِهِمْ»: أي يلقى إليهم تفسيره على وجهه من إمام الوقت، «ويُغْبَقُونَ كَأْسَ الْحِكْمَةِ بَعْدَ الصَّبُوحِ»: عبّر عن أخذهم الحكمة ومواظبته على تلقّفها بعد استعدادهم لها بالغبوق والصبوح، وهما مستعارتان؛ لكونهما حقيقتين في الشرب المخصوص المحسوس، وهؤلاء المشار إليهم بالاستعداد للحكمة وأخذها هم علماء الأمّة من جاء منهم قبلنا ومن جاء آخر الزمان من المستجمعين لكمالات النفوس السالكين لسبيل اللهَّ المرتضين في نظره ونظر الأئمّة من ولده بعده عليه وعليهم أفضل الصَّلاة والسَّلَام.

منها: «وطَالَ الأَمَدُ بِهِمْ لِيَسْتَكْمِلُوا الْخِزْيَ»:

كقوله تعالى: «وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ»(1)، وقوله تعالى: «وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا»(2)، واعلم أن هذا الفصل يستدعي كلاماً منقطعاً قبله لم يذكره الرَّضي رحمه اللهَّ وقد وصف فيه فئة ضالَّة قد استولت وملكت وأملي لها اللهَّ سبحانه لها، «ويَسْتَوْجِبُوا الْغِیَرَ حَتَّى إِذَا

اخْلَوْلَقَ الأَجَلُ»: أي صار خلقاً وهو كناية عن بلوغهم غاية مدتهم المكتوبة بقلم لقضاء الإلهي في اللوح المحفوظ، «واسْتَرَاحَ قَوْمٌ إِلَی الْفِتَنِ»: إشارة إلى من يعتزل

ص: 264


1- سورة آل عمران: الآية 178
2- سورة الإسراء: الآية 16

الوقائع الَّتي تقع في آخر الزمان من شيعة الحقّ وأنصاره، ويستريح إليها: أي: يجد في اشتغال القوم بعضهم ببعض راحة لهم في الانقطاع والعزلة والخمول، «وأَشَالُوا عَنْ لَقَاحِ حَرْبِهِمْ»: هو رفعهم لأنفسهم عن تهييجها، واستعار لفظ اللقاح بفتح اللام لإثارة الحرب ملاحظة لشبهها بالناقة، «لَمْ يَمُنُّوا عَلَىَ اللَّهِ بِالصَّبْرِ ولَمْ يَسْتَعْظِمُوا بَذْلَ أَنْفُسِهِمْ فِي الْحَقِّ حَتَّى إِذَا وَافَقَ وَارِدُ الْقَضَاءِ انْقِطَاعَ مُدَّةِ الْبَاَءِ حَمَلُوا بَصَائِرَهُمْ عَلَى أَسْيَافِهِمْ ودَانُوا لِرَبِّهِمْ بِأَمْرِ وَاعِظِهِمْ»: لم يمنّوا: جواب حتى إذا اخلولق، والضمير في يمنّوا وقيل: إنّه عائد إلى العارفين الَّذين تقدّم ذكرهم في الفصل السابق، يقول: إذا ألقي هؤلاء السلَّم إلى هذه الفئة الضالَّة وعجزوا واستراحوا من منابذتهم إلى فتنتهم تقيّة منهم أنهض اللهَّ أولئك الَّذين خصّهم بحكومته وأطَّلعهم على أسرار العلوم؛ فنهضوا ولم يمنّوا على اللهَّ تعالى بالصبر في طاعته، وفي رواية بالنصر: أي: بنصرهم، ولم يستعظموا ما بذلوه من نفوسهم في طلب الحقّ حتّى إذا وافق القدر الَّذي هو وارد القضاء وتفصيله انقطاع مدّة هذه الفئة وارتفاع ما كان شمل الخلق من بلائهم حمل هؤلاء العارفون بصائرهم على أسيافهم، وفيه معنی لطیف یرید أنهم أظهروا عقائد قلوبهم للناس وكشفوها، وجردوها مع تجريد سيوفهم؛ فكأنّهم حملوها على سيوفهم فترى في غاية الجلاء والظهور کما ترى السيوف المجرّدة، ومنهم من قال: أراد بالبصائر جمع بصيرة، وهي الدم فكأنّه أراد طلبوا ثأرهم والدماء الَّتي سفكتها تلك الفئة؛ فكانت تلك الدماء المطلوب ثأرها محمولة على أسيافهم المجرّدة للحرب، وأشار بواعظهم إلى الإمام القائم، وأقول: يحتمل أن يريد بالضمير في يمنّوا، وما بعده القوم الَّذين استراحوا إلى الفتنة، واشتالوا عن لقاح الحرب، وذلك أنّهم لم يفعلوا ذلك إلَّا لأنّه لم يؤذن لهم في القيام حين استراحتهم وإلقائهم السلَّم لهذه الفئة، ولم يتمكَّنوا من مقاومتهم لعدم قيام القائم بالأمر؛ فكانوا حين مسالمتهم صابرين على مضض من

ص: 265

ألم المنكر الَّذي يشاهدونه غير مستعظمين لبذل أنفسهم في نصرة الحقّ لو ظهر من يكون لهم ظهرا يلجئون إليه حتّى إذا ورد القضاء الإلهيّ بانقطاع مدّة بلاء هذه الفتنة وظهور من يقوم بنصر الحقّ ودعا إليه حمل هؤلاء بصائرهم على أسيافهم، وقاموا لربّهم بأمر من يقوم فيهم واعظاً و مخوّفاً وداعياً، وهذا الحمل يرجّحه عود الضمير إلى الأقرب وهم القوم، والله سبحانه أعلم، قوله: «حَتَّى إِذَا قَبَضَ اللَّهُ رَسُولَهُ صىّ الله عليه وآله وسلّم»: الفصل أيضاً منقطع عمّا قبله لأنّ صریح ذكره غاية لاقتصاص حال حياة الرسول صلَّى اللهَّ عليه وآله وسلَّم وحال الناس قبله ومعه، ولا في الكلام المتقدّم شيء من ذلك: اللَّهم إلَّا أن يحمل من طال الأمد بهم في الكلام المتقدّم على من كان أهل الضلال، قبل الإسلام حتّى إذا اخلولق أجلهم واستراح قوم منهم إلى الفتن والوقائع بالنهب والغارة واشتالوا عن لقاح حربهم : أي: أعدّوا أنفسهم لها كما تعدّ الناقة نفسها بشول ذنبهاللقاحها: أي برفعه، وتسمّى شائلاً، ويكون الضمير في قوله: لم يمنّوا راجعاً إلى ذكر سبق للصحابة في هذه الخطبة حين قام الرسول صلَّى اللهَّ عليه وآله وسلَّم فيهم و بهم للحرب فلم يمنّوا على اللهَّ بصبرهم معهم وفي نصرة الحقّ، ولم يستعظموا بذل أنفسهم، حتى إذا وافق وارد القضاء انقطاع مدّة البلاء بدولة الجاهليّة والكفر حمل هؤلاء الَّذين لم يمنّوا على اللهَّ بنصرهم بصائرهم: أي ما كانوا يخفونه من الإسلام في أوّله على سيوفهم: أي كشفوا عقائدهم کما سبق القول فيه أو دمائهم وثاراتهم من الكفّار، ودانوا لربّهم بأمر واعظهم وهو الرسول صلَّى اللهَّ عليه وآله وسلَّم وحينئذ يصلح قوله: حتّى إذا قبض اللهَّ رسوله: غاية لذلك الكلام على هذا التأويل، «رَجَعَ قَوْمٌ عَلَى الأَعْقَابِ»: إشارة إلى عدول الصحابة بالخلافة عنه وعن أهل بيته عليهم السَّلَام إلى الخلفاء الثلاثة، على مذهب الأمامية وعلى مذهب غيرهم فيحتمل أن يريد بالقوم الراجعين على الأعقاب من خرج عليه في زمن خلافته من الصحابة

ص: 266

كمعاوية وطلحة والزبير وغيرهم، وزعموا أنّ غيرها أحقّ بها منه ومن أولاده.

والرجوع على الأعقاب كناية عن الرجوع عمّا كانوا عليه من الانقياد للشريعة وأوامر اللهَّ ورسوله ووصيّته بأهل بيته «وغَالَتْهُمُ السُّبُلُ»: كناية عن اشتباه طرق الباطل بالحقّ واستراق طرق الباطل لهم وإهلاكها إيّاهم، وهي الشبه المستلزمة للآراء الفاسدة كما يقال في العرف: أخذته الطريق إلى مضیق، وهي مجاز في المفرد والمركَّب: أمّا في المفرد؛ فلأنّ سلوكهم لسبل لمّا الباطل لمّا كان عن غير علم منهم بكونه باطلاً ناسب الغيلة فأطلق عليها لفظها، وأمّا في المركَّب فلأنّ إسناد الغيلة إلى السبل ليس حقيقة، إذ هي من فعل العقلاء.

«واتَّكَلُوا عَلَى الْوَلَئِجِ»: جمع وليجة وهي خاصة الرجل وعشيرته أي اعتمد كل من رأى منهم رئياً فاسداً على أهله وخواصه في نصرة ذلك الرأي ووَصَلُوا

غَیْرَ الرَّحِمِ»: رحم الرسول صلى الله عليه [وآله] وسلم وترك المضاف أليه للعلم به وكذلك «وهَجَرُوا السَّبَبَ الَّذِي أُمِرُوا بِمَوَدَّتِهِ»: ولزومه يريد أهل البيت أيضا، وظاهر كونهم سبباً لمن اهتدى بهم في الوصول إلى اللهَّ سبحانه كما قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلَّم: خلفت فيكم الثقلين: كتاب اللهَّ وعترتي أهل بيتي حبلان ممدودان من السماء إلى الأرض لم يفترقاً حتّى يردا عليّ الحوض. فاستعار لهم لفظ الحبل، والسبب في اللغة الحبل وأمرهم بمودّته كما في قوله تعالى «قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى»(1)؛ «ونَقَلُوا الْبِنَاءَ عَنْ رَصِّ أَسَاسِهِ فَبَنَوْهُ فِي غَرْ مَوْضِعِه»: إشارة إلى العدول بأمر الخلافة عنه وعن أهل بيته إلى غيرهم، ثم وصفهم وصفاً إجمالياً فقال: «أنهم مَعَادِنُ كُلِّ خَطِيئَةٍ»: أي إنّهم مستعدّون لفعل كلّ خطيئة، ومهيّؤون لها فهم مظانّها، ولفظ المعادن استعارة.

ص: 267


1- سورة الشورى: الآية 23

«وأَبْوَابُ كُلِّ ضَارِبٍ فِي غَمْرَةٍ»: وجه استعار الأبواب لهم باعتبار أنّ كلّ من دخل في غمرة جهالة أو شبهة يثير بها فتنة، واستعان بهم فتحوا له ذلك الباب وساعدوه وحسّنوا له رأيه فكأنّهم بذلك أبواب له إلى مراده الباطل يدخل منها.

«قَدْ مَارُوا فِي الْحَیْرَةِ»: أي تردّدوا في أمرهم فهم حائرون لا يعرفون جهة الحقّ فيقصدونه، «وذَهَلُوا فِي السَّكْرَةِ»: أي غابت أذهانهم في سكرة الجهل فهم.

«عَلَى سُنَّةٍ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ»: وطريقته، وإنّما نکَّر السنّة لأنّه يريد بها مشابهتهم في بعض طرائقهم، وآل فرعون أتباعه.

«مِنْ مُنْقَطِعٍ إِلَی الدُّنْيَا رَاكِنٍ أَوْ مُفَارِقٍ لِلدِّينِ مُبَايِنٍ»: تفصيل لهم باعتبار كونهم على سنّة من آل فرعون فمنهم المنقطع إلى الدنيا المنهمك في لذّاتها المكبّ على تحصيلها، ومنهم المفارق للدين المباين له، وإن لم يكن له دنيا، والمنفصلة مانعة الخلوّ بالنسبة إلى المشار إليهم، ويحتمل أن یرید مانعة الجمع، ويشير بمفارق الدين إلى من ليس براکن إلى الدنيا ككثير ممّن يدعي الزهد مع كونه جاهلاً بالطريق فتراه ينفر من الدنيا، ويحسب أنّه على شيء مع أنّ جهله بكيفيّة سلوك سبيل اللهَّ يقوده يمينا وشمالا عنها وباللهَّ التوفيق.

ومن خطبة له عليه السّلام:

«وأَسْتَعِينُهُ عَىَ مَدَاحِرِ»: مطارح «الشَّيْطَانِ ومَزَاجِرِهِ»: من الأعمال الصالحة المستلزمة لطرده وزجره وتطويعه: «والِعْتِصَامِ مِنْ حَبَائِلِهِ»: هي الشهوات واللذّات الدنيويّة، واستعار لها الحبائل وهي أشراك الصائد المشابهتها إيّاها في استلزام الحصول فيهما للبعد عن السلامة والحصول في العذاب.

«ومَخَاتِلِهِ»: مكائد ««وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ ونَجِيبُهُ»: مختاره «وصَفْوَتُهُ»:

ص: 268

عطف تفسیري «لَا يُؤَازَى فَضْلُهُ»: أي لا يحصل مثله في أحد، إذ كان كماله في قوتيه النظريّة والعمليّة غير مدرك لأحد من الخلق.

«ولَا يُجْبَرُ فَقْدُهُ»: إذ ليس إلا بقيام مثله من الناس وإذ لا مثل له فيهم فلا جبران لفقده.

«أَضَاءَتْ بِهِ الْبِاَدُ بَعْدَ الضَّلَلَةِ»: للكفر المظلمة لعدم الاهتداء فيها للحقّ في معاشهم ومعادهم، وإسناد الإضاءة إلى البلاد مجازاً.

«والْجَهَالَةِ الْغَالِبَةِ»: على أكثر الخلق، وأراد الجهل بالطريق إلى اللهَّ تعالى وبكيفية نظام المعاش ممّا بيّنه هو وكشفه بشريعته.

«والْجَفْوَةِ الْجَافِيَةِ»: یرید غلظة العرب وما كانوا عليه من قساوة القلوب وسفك الدماء، ووصفها بما اشتقّ منها مبالغة وتأكيداً لها، وأراد الجفوة القويّة.

«والنَّاسُ يَسْتَحِلُّونَ الْحَرِيمَ»: الواو للحال والعامل أضاءت.

«ويَسْتَذِلُّونَ الْحَكِيمَ»: وظاهر من عادة العرب استدلال من عقل منهم وحلم عن الغارة والنهب وإثارة الفتن، واستنهاضه بنسبته إلى الجبن والضعف، «يَحْيَوْنَ عَلَى فَتْرَةٍ»: أي على حالة انقطاع الوحي والرسل، وتلك حال انقطاع الخير وموت النفوس بداء الجهل، «ويَمُوتُونَ عَلَى كَفْرَةٍ»: فعلة من الكفر لأهل كلّ قرن حيث لا هادي لهم، ثمّ أخذ عليه السّلام في إنذار السامعين باقتراب حوادث الوقائع المستقبلة الَّتي يرمون بها كما يرمى الغرض بالسهام؛ فقال: «ثُم إِنَّكُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ أَغْرَاضُ بَلَيَا قَدِ اقْتَرَبَتْ»: لأسباب معدة لها وأكثرها الغفلة عن ذكر الله بالانهماك في نعم الدّنيا ولذَّاتها، «فَاتَّقُوا سَكَرَاتِ النِّعْمَةِ»: استعار اللغفلات لفظ السَّكرات، «واحْذَرُوا بَوَائِقَ»: دواهي، «النِّقْمَةِ»: بسبب كفران

ص: 269

النّعمة، «وتَثَبَّتُوا فِي قَتَامِ الْعِشْوَةِ»: بفتح العين وضمها وكسرها عند اشتباه الأمور وظهور الشبهة المثيرة للفتن كشبهة قتل عثمان الَّتي نشأت منها، وقائع الجمل، وصفّين، والخوارج، واستعار القيام لذلك الأمر المشتبه، ووجه المشابهة كون ذلك الأمر ممّا لا يهتدى فيه خائضوه كما لا يهتدى القائم عند ظهوره وخوضه، «واعْوِجَاجِ الْفِتْنَةِ»: إتيانها على غير وجهها، «عِنْدَ طُلُوعِ جَنِينِهَا»: يحتمل أن يكون حقيقة: أي عند ظهور ما اجتنّ منها وخفى عليكم، وكذا، «وظُهُورِ كَمِينِهَا»: أي: ما كمن منها واستتر، ويحتمل أن يكون استعارة، «وانْتِصَابِ قُطْبِهَا»: من تدور عليه من البغاة المتآمرين، وانتصابه: قيامه لذلك الأمر، «ومَدَارِ رَحَاهَا»: استعار لدورانها على من تدور عليه من أنصار ذلك القطب وعسكره الَّذين تدور عليهم الفتنة، «تَبْدَأُ فِي مَدَارِجَ خَفِيَّةٍ»: أي: صور من ينوى القيام فيها و يعقد على إثارتها، وكان هذه إشارة إلى فتنة بني أمية، وقد كان مبدأها شبهة قتل عثمان، ولم يكن أحد من الصحابة يتوهّم خصوصيّة هذه الفتنة وإنّما كانوا علموا من الرسول صلَّى اللهَّ عليه وآله وسلَّم حدوث فتن ووقائع غير معيّنة الأزمان، ولا من يثيرها ويكون قطبا لها؛ فخفاء مدارجها كتمان معاوية وطلحة والزبير وغيرهم لأمورهم وما عزموا عليه من إقامة الفتنة والطمع في الملك والدولة حتّى آل ذلك الطمع إلى الأمور القطعيّة الواضحة بعد الخفاء كما قال: «وتؤول إِلَی فَظَاعَةٍ جَلِيَّةٍ شِبَابُهَا كَشِبَابِ الْغُلَامِ»: أي: في السرعة، ومع سرعتها لها آثار في هدم الإسلام، «وآثَارُهَا كَآثَارِ السِّلَامِ»: الحجارة الصم في الجلد، وجه الشبه إفسادها للدين ولنظام المسلمين؛ كإفساد الحجر ما يقع علیه بالرضّ والكسر، «يَتَوَارَثُهَا الظَّلَمَةُ بِالْعُهُودِ»: إشارة إلى بني أُميّة بعهد الأب لابنه إلى آخرهم، «أَوَّلُهُمْ قَائِدٌ لِخِرِهِمْ»: إلى النار والدخول في الظلم والضلالة وإثارة تلك الفتن، «وآخِرُهُمْ مُقْتَدٍ بِأَوَّلِهِمْ»: واستعار لفظ القود لتهيئة الأول منهم أسباب الملك لمن بعده،

ص: 270

وضمير المفعول في يتوارثونها يرجع إلى تلك الفتنة، ثمّ أشار إلى صفة حالهم في إثارة تلك الفتن وتوارثها؛ فقال: «يَتَنَافَسُونَ»: يرغبون «فِي دُنْيَا دَنِيَّةٍ»: في نظر العقلاء، «ويَتَكَالَبُونَ عَلَى جِيفَةٍ مُرِيحَةٍ منبعثة»: استعار وصف التكالب لمجاذبة بعضهم لبعض عليها كالمجاذبة بين الكلاب على الميتة، واستعار لها لفظ الجيفة، ورشّح بذكر المريحة للتنفير عنها، ووجهها كونها مستلزمة لأذى طالبها مهروباً منها للعقلاء کما يهرب من الجيفة المنتنة، ثم أخبر بانقضائها عن قليل؛ فقال: «وعَنْ قَلِيلٍ يَتَبَرَّأُ التَّابِعُ مِنَ الْمَتْبُوعِ والْقَائِدُ مِنَ الْمَقُودِ»: أي: يتبرأ كلّ من الفريقين من الآخر كما قال تعالى: «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا»(1)، وقوله: «قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا»(2)، وذلك التبّرء قيل عند ظهور الدولة العباسيّة؛ فإنّ العادة جارية بتبرّأ الناس من الولاة والمعزولين خصوصاً عند الخوف ممّن تولَّى عزل أولئك أو قتلهم؛ «فَيَتَزَايَلُونَ بِالْبَغْضَاءِ»: أي يتفارقون إذ لم تكن ألفتهم ومحبّتهم إلا لغرض دنیاويّ زال، «ويَتَلَعَنُونَ عِنْدَ اللِّقَاءِ»: وقيل ذلك يوم القيامة قوله: وعن قليل إلى قوله: عند اللقاء: جملة اعتراضيّة مؤكَّد بها معنی تعجبّه منهم؛ فكأنّه قال: إنّهم على تكالبهم عليها، «ثُمَّ يَأْتِ بَعْدَ ذَلِكَ طَالِعُ

الْفِتْنَةِ الرَّجُوفِ والْقَاصِمَةِ»: المهلكة «الزَّحُوفِ»: كان هذه الفتنة هي فتنة الثأر إذ الدائرة فيها على العرب، وقيل: بل ذلك إشارة إلى الملحمة الكائنة في آخر الزّمان کفتنة الدّجال، وکنّی عن أهوالها واضطراب أمر الإسلام فيها بكونها رجوفاً: أي: كثيرة الرجف، وطالعها مقدّماتها وأوائلها، وكنّی بقصمها عن إهلاك الخلق فيها، واستعار لها لفظ الزحوف ملاحظة لشبهها بالرجل الشجاع کثير الزحف في الحرب إلى أقرانه: أي: يمشي إليهم قدماً، ثمّ شرع في بيان أفعالها بقوله: «فَتَزِيغُ قُلُوبٌ بَعْدَ

ص: 271


1- سورة البقرة: الآية 166
2- سورة الأعراف: الآية 155

اسْتِقَامَةٍ»: أي: قلوب قوم عن سبيل اللهَّ تعالى بعد استقامتها عليه، «وتَضِلُّ رِجَالٌ

بِعْدَ سَلَامةَ»: أي يهلك في الآخرة بالمعاصي بعد سلامة منها، وتَخْتَلِفُ الأَهْوَاءُ عِنْدَ هُجُومِهَا»: هو الإتيان غفلة بشر، «وتَلْتَبِسُ الآرَاءُ»: الصحيحة والفاسدة، «عِنْدَ نُجُومِهَا»: طلوعها على الناس فلا يعرفون وجه المصلحة من غيره، «مَنْ أَشْرَفَ لَهَا: انتصب لدفعها «قَصَمَتْه ومَنْ سَعَى فِيهَا حَطَمَتْه يَتَكَادَمُونَ»: يتعارضون «فِيهَا

تَكَادُمَ الْحُمُرِ فِي الْعَانَةِ»: القطيعة من حمر الوحش استعار لفظ التكادم أما المغالبة مشتري هذه الفتنة ببعضهم لبعض أو لمغالبتهم لغيرهم وشبه ذلك بتكادم الحمر في العانة، ووجه التشبيه المغالبة مع الإيماء: إلى خلعهم ربق التكليف من أعناقهم وكثرة غفلتهم عمّا يراد بهم في الآخرة، ««قَدِ اضْطَرَبَ مَعْقُودُ الْحَبْلِ»: استعارة لما كان انبرم من دولة الإسلام واستقام الحبل للدين، وكنّی باضطرابه عن عدم استقرار قواعد الدِّين عند ظهور أوّل هذه الفتنة، «وعَمِيَ وَجْه الأَمْرِ»: أي: عدم الاهتداء إلى وجه المصلحة والتعبير عن المستقبل بالماضي لتحقيقه، تَغِیضُ «فِيهَا الْحِكْمَةُ»: الخلقيّة الَّتي عليها مدار الشريعة وتعليمها، واستعار لفظ الغيض العدم ظهورها والانتفاع، «وتَنْطِقُ فِيهَا الظَّلَمَةُ»: بالأمر والنهي، وما يقتضيه آراؤهم الخارجة عن العدل، «وتَدُقُّ أَهْلَ الْبَدْوِ بِمِسْحَلِهَا»: واستعارة لما تؤذي به العرب وأهل البادية، ووجه المشابهة اشتراك المبرد أو شكيمة اللجام وما تؤذي به العرب من هذه الفتنة في الإيذاء فكأنّها شجاع ساق عليهم قذفهم بشكيمة فرسه أو نحو ذلك، «وتَرُضُّهُمْ»: تدقهم «بِكَلْكَلِهَا»: صدرها استعار لمايدهم البدو منها ملاحظة لشبهها بالناقة التي تبرك على الشيء فتستحقه؛ «يَضِيعُ فِي غُبَارِهَا الْوُحْدَانُ ويَهْلِكُ فِي طَرِيقِهَا الرُّكْبَانُ»: كناية عن عظمتها: أي لا يقاومها أحد ولا يخلص منها الوحدان والركبان، ولفظ الغبار مستعار للقليل اليسير من حركة أهلها: أي: أن القليل من الناس إذا أرادوا دفعها هلكوا في غبارها من دون

ص: 272

أن يدخلوا في غمارها، وأمّا الركبان وکنّی بهم عن كثير من الناس فإنّهم يهلكون في طريقها وعند خوضها، وقيل: أراد بالوحدان فضلاء الوقت، إذ يقال: فلان واحد وقته، وبالغبار الشَّبهة الَّتي تغطي الحقّ عن أعينهم، ويكون الركبان كناية عن الجماعة أهل القوّة، وإذا كان هؤلاء يهلكون في طرائقها؛ فكيف تعتريهم؟ «تَردِ بِمُرِّ الْقَضَاء»: وكنّاية عن القتل والأسر ونحوهما، وظاهر كون الواردات المؤذية أو النافعة واردة عن القضاء الإلهيّ معلومة الكون، «وتَحْلُبُ عَبِيطَ الدِّمَاءِ»: الخالص الطَّري منها، استعار وصف الحلب لها ملاحظة لشبهها بالناقة، وكنَّى بذلك عن سفك الدماء فيها، «وتَثْلِمُ مَنَارَ الدِّينِ»: علامة وهم علماؤه، ويحتمل أن یرید قوانينه الكلية و ثلمها عبارة عن قتل العلماء وهدم قواعده الدِّين وترك العمل به، «وتَنْقُضُ عَقْدَ الْيَقِنِ»: هو الاعتقاد المُوصِل إلى علم اليقين أو إلى عين اليقين وهو اعتقاد الشريعة وإيصال ذلك إلى جوار اللهَّ تعالى ونقضه هو ترك العمل على وفقه عن تغيّره وتبدّله، «يَهْرُبُ مِنْهَا الأَكْيَاسُ»: هم العلماء وأهل العقول السَّليمة، «ويُدَبِّرُهَا الأَرْجَاسُ»: وكل هذه الإشارات معلومة من فتنة من ذكرنا، وظاهر كونهم أرجاس النفوس پر جس الشيطان أنجاسها بالهيئات البدنيّة، والملكات الرديئة أنجاس الأبدان بحکم الشريعة، «مِرْعَادٌ مِبْرَاقٌ»: کنّی عن شدّتها وكونها محلّ المخاوف بو صيفي المرعاد والمبراق المستعارين ملاحظة لشبهها بالسحابة كثيرة البروق والرعود، «كَاشِفَةٌ عَنْ سَاقٍ»: كناية عن إقبالها مجردة؛ كالمشمر للحرب أو لأمرهم، «تُقْطَعُ فِيهَا الأَرْحَامُ ويُفَارَقُ عَلَيْهَا الإِسْلَامُ بَرِيئُهَا سَقِيمٌ وظَاعِنُهَا مُقِيمٌ»: أشار بريّها إلى من يعتقد في هذه الدولة أنّه ذو صلاح برئ من المعاصي والآثام مع کونه ليس كذلك، إذ من الظاهر أنّ السَّالم في هذه الفتنة من معصية اللهَّ قليل، بل أقلّ من القليل، ولعلم عند الاستقراء لا يوجد، وأشار بظاعنها إلى من يعتقد أنّه متخلَّف عنها، وغير داخل فيها وظاهر كونه غير منحرف عنها، ويحتمل أن یرید

ص: 273

به أنّ من ارتحل عنها خوفاً لا ينجو منها، وباللهَّ التوفيق.

«منها بَيْنَ قَتِيلٍ مَطْلُولٍ وخَائِفٍ مُسْتَجِير»:

يشبه أن يكون صفة حال المتمسّكين بالدين في زمان الفتنة الأولى، «يَخْتِلُونَ

بِعَقْدِ الأَيْمَانِ وبِغُرُورِ الإِيمَانِ»: صفة حال استجلاب هؤلاء المقتولين: أي: أنّهم يخدعون بإعطاء الأقسام والعهود الكاذبة، وذلك كخداع الحسين عليه السّلام عن نفسه وأصحابه، يرْوي يختلون بالبناء للفاعل فيكون وصف حال أهل الفتنة وأتباعهم، ثمّ أخذ في نهي السَّامعين أن يكونوا أنصاراً للفتن الَّتي يدركونها؛ فقال: «فَلَا تَكُونُوا أَنْصَابَ الْفِتَنِ وأَعْاَمَ الْبِدَعِ»: أي: رؤساء يشار إليكم فيها، ويقتدي بکم کما یشار إلى الأعلام البينة ويقتدي بها، وفي الخبر کن في الفتنة؛ كابن لبون لا ظهر فيركب ولا ضرع فيحلب، «والْزَمُوا مَا عُقِدَ عَلَيْه حَبْلُ الْجَمَاعَةِ وبُنِيَتْ عَلَيْه

أَرْكَانُ الطَّاعَةِ»: معناه ظاهر، «واقْدَمُوا عَلَى اللَّه مَظْلُومِنَ ولَا تَقْدَمُوا عَلَيْه ظَالِمِینَ»: ليس المراد منه الأمر بالإظلام، فإنّ ذلك طرف التفريط من فضيلة العدالة، وهي رذيلة بل المراد إنكم إذا كانت لكم مكنة من الظلم فلا تظلموا ولو استلزم ترك الظلم أن ظلامكم وهو كسر للنفوس عن رذيلة الظلم خصوصاً نفوس العرب؛ فإنّها أكثر تطاولا إلى الظلم وأمنع عن قبول الانظلام والانفعال عنه وإن استلزم الظلم كما أشار إليه العربيّ:

ومن لم يذد عن حوضه بسهامه *** يهدم ومن لا يظلم القوم يظلم(1)

ص: 274


1- البيت الشعري لزهير بن أبي سلمى، أخرجه محمد بن أبي الخطاب القرشي في جمهرة أشعار العرب، ص 110، وينظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 20، ص 108، ونقله الحموي في خزانة الأدب، ص 192

واتَّقُوا مَدَارِجَ الشَّيْطَانِ: طرقه، ومَهَابِطَ الْعُدْوَانِ: وهي طرق الشيطان أيضاً،

ولَا تُدْخِلُوا بُطُونَكُمْ لُعَقَ الْحَرَامِ: كناية عمّا یکتسبه الإنسان من الدنيا ومتاعها على غير الوجه الشرعيّ، ونبّه باللعق على قلتها وحقارتها بالنسبة إلى متاع الآخرة، ونبّه على وجوب الانتهاء عمّا نهى عنه بقوله: فَإِنَّكُمْ بِعَیْنِ مَنْ حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَعْصِيَةَ وسَهَّلَ لَكُمْ سُبُلَ الطَّاعَةِ: يقال: فلان من فلان بمرآ وبمسمع وبعين منه إذا كان مطَّلقاً على أمره؛ فإنّ الَّذي حرّم علیکم المعصية وأوجب عليكم طاعته مطَّلع علیکم وعالم بما تفعلون، وذلك أردع لهم من النهى المجرّد، ولفظ العين مجاز في العلم، والله سبحانه أعلم.

ومن خطبة له عليه السّلام وفيها أبحاث من العلم الإلهي:

الْحَمْدُ للهَّ الدَّالِّ عَلَى وُجُودِهِ بِخَلْقِهِ»: اعلم أنَّ للناس في إثباته طريقان: أحدهما إثبات وجوده بالنظر في نفس الوجود، و قسمته إلى أقسام حاصرة، وتقرير هذه الطريقة أن يقال: لا شكّ في وجود موجود؛ فذلك الموجود إن كان واجب الوجود فهو المطلوب، وإن كان ممكناً افتقر إلى مؤثّر بناء على أنّ العلَّة المحوجة إلى المؤثّر هي الإمكان، وذلك الممكن إن كان ممكنا افتقر إلى غيره ولزم الدور أو التسلسل وكلاهما باطل، أمّا الأوّل: فلأنّه لو افتقر كلّ واحد من الأمرين إلى الآخر باعتبار واحد لزم تقدّم كلّ منهما على المتقدّم على نفسه فيلزم تقدّمه على نفسه بمراتب، وأمّا الثاني: فلأنّه ولو كانت سلسلة من علل، و معلولات لا نهاية لها في الوجود الكان مجموعها ممكناً لافتقاره إلى الأجزاء الَّتي هي غيره و فلمجموعها علَّة تامّة؛ فهي وإمّا نفسه وهو محال بالبديهة؛ أو أمر داخل فيه وهو باطل، لأنّ العلَّة التامّة للمركَّب علَّة تامة أوّلاً لأجزائه وإلَّا لتوقّف على علَّة أجزائه فلم تكن علَّة تامّة له، بل هي مع علَّة أجزائه هذا خلف، وإذا كانت علَّة المرکَّب علَّة أوّلا لأجزائه

ص: 275

يلزم کون ذلك الجزء المؤثّر في المجموع مؤثّرا في نفسه أوّلا، وفي علله السابقة عليه فيلزم تقدّمه على نفسه بمراتب غير متناهية، وذلك باطل بالبديهة؛ فبقي أن يكون المؤثّر في ذلك المجموع إمّا أمرا خارجاً عنه أو ما يتركَّب من الدَّاخل والخارج عنه، لكن القسم الثاني أيضاً باطل؛ لأن ما كان جزءً من العلة التامة فله تقدم عليها، وهي متقدِّمة على مجموع الممكنات؛ فلهذا تقدّم عليه وعلى أجزائه؛ فجزئها كذلك؛ فله تقدّم على نفسه، وعلى علله وهو باطل؛ فبقي الأوّل لكن الموجود الخارج عن كلّ الممكنات لا يكون ممكناً بل، واجب الوجود، وهو المطلوب، وهذه طريق العلَّيّين الذين يستدلَّون به على مخلوقاته، ويسمّونه برهان اللمّ، وأمّا الطريق الثانية: فهي الاستدلال بالنظر في المخلوقات، وطبائعها وإمكانها وتكوينها وقبولها للتغيّر والتركيب على مباديها، ثمّ على المبدأ الأوّل جلَّت عظمته، وهي طريق الطبيعيّين، وهي الَّتي أشار إليها عليه السّلام بقوله الدال على وجوده بخلقه، والمتكلَّمون فرّعوا هذه الطريق إلى أربع طرق: أحدها: أنّهم استدلَّوا بحدوث هذه الذوات على وجود إمكانها، وبإمكانها على حاجتها إلى موجد ومؤثّر، وهي طريق الأشعريّ، وأبي الحسن البصري، والمتأخّرين من المتكلَّمين، الثانية: استدلَّوا بحدوث هذه الذوات؛ فقط على وجود محدث لها من غير نظر إلى الإمكان فقالوا: الأجسام محدثة وكلّ محدث فله محدث، والمقدّمة الأولى استدلاليّة، والثانية عندهم بديهيّة، الثالثة: استدلالهم بإمكان الصفات، وذلك أن يثبتوا أن الأجسام الفلكيّة، والعنصريّة متماثلة، ثمّ قالوا: رأينا بعضها قد اختصّ بصفات ليست للآخر؛ فذلك التخصيص ليس للجسميّة ولا للوازمها، وإلَّا لوجب في كلّ جسم كذلك، ولا لعارض من عوارضها لأنّ الكلام في تخصيص ذلك العارض کالكلام في الأوّل ويلزم التسلسل، ولا للطبيعة كما يقول بعض الناس لأنّها لا تفعل في المادّة البسيطة كالنقطة مثلاً فعلاً مختلفاً؛ فبقي أن يكون ذلك التخصيص

ص: 276

لمدبّر حکیم وهو مرادنا بالصانع، الرابعة: الاستدلال بحدوث الصفات وهو ظاهر، وتقرير هذه الطرق وما لها وعليها في الكتب الكلاميّة، وينبغي أن يخصّص المتكلَّم قوله عليه السَّلَام: الدالّ على وجوده بخلقه الطريقة الأولى لهم، والثانية فإنّه عليه السَّلَام جعل الحدوث دليلاً على أزليّة.

«وبِمُحْدَثِ خَلْقِهِ عَلَى أَزَلِيَّتِهِ»: وتقرير هذه الدلالة أنّه قد ثبت في موضعه أنّ جميع المحدثات صادرة عن قدرته، ومشيئته عندها فلو كان هو محدثا لكان محدثا لنفسه، وهو محال، وباطل بالضرورة.

«وبِاشْتِبَاهِهِمْ عَلَى أَنْ لَا شَبَهً لَهُ ولا مثل»: بيانه أن الاشتباه، والمشابهة عبارة عن الاتفاق بالكيفية، فلو كان تعالى مشابهاً لغيره لكان موصوفاً بكيفية ما يشابهون وقد سبق أن وصفه يستلزم عدم، وحدته قال: فمن وصفه فقد قرنه ومن قرنه فقد ثناه، وقيل ادار اشتباههم في الحاجة إلى المؤثّر والمدبّر، وتقرير هذه الطريق أن نقول: لو كان تعالى ذا شبه من خلقه لكان محتاجاً إلى المؤثر، والمدبر لكن التالي باطل فالمقدم مثله، وقيل أراد اشتباههم في الجسمية، والجنس، والنوع، والأشكال والمقادير والألوان، ونحو ذلك، وإذ ليس داخلاً تحت جنس لبراءته عن التركيب المستلزم للإمكان، ولا تحت النوع لافتقاره في التخصيص بالعوارض إلى غيره، ولا بذي مادّة لاستلزامها التركيب أيضاً والحاجة إلى المركب فليس بذي شبيه في شيء من الأمور المذكورة، والأوّل أعمّ في نفي التشبيه «لَا تَسْتَلِمُهُ الْمَشَاعِرُ»: الحواس لأن استلامها مستلزم للجسميّة والأعراض القائمة بها، وإذ قد تنزّه قدسه تعالى عن الجسميّة ولواحقها فقد تنزّه عن إدراك المشاعر ولمسها «ولَا تَحْجُبُهُ السَّوَاتِرُ»: لأن الحجاب والستر من لواحق ذي الجهة والجسميّة، وإذ تنزّه قدسه عنها فقد تنزّه عن الحجب، والستر المحسوسين وإلى تعليل الجمل المتقدمة أشار بقوله:

ص: 277

«لِفْتِرَاقِ الصَّانِعِ والْمَصْنُوعِ والْحَادِّ والْمَحْدُودِ والرَّبِّ والْمَرْبُوبِ»: أراد أن لكلّ من الصانع والمصنوع صفات تخصّه ويتميّز بها وهي أليق به، وبها يفارق الآخر فالمخلوقيّة، والحدوث، والاشتباه، والملموسیّة بالمشاعر، والحجب بالسواتر من لواحق الأمور الممكنة المصنوعة، وممّا ينبغي لها ويليق بها، والوجود الأزليّ الَّذي لا شبيه له المنزّه عن المشاعر وحجب السواتر من لواحق الصانع الأول الواجب وهو الَّذي ينبغي له ويليق به، ويضادّ ما سبق من أوصاف الممكنات، وأراد بالحادّ خالق الحدود والنهايات وهو الصانع، واعتبار الصانع غير اعتبار الربّ لدخول المالكيّة في مفهوم الربوبيّة دون الصنع.

«الأَحَدِ بِلَا تَأْوِيلِ عَدَدٍ»: أراد أو حديته ليست بمعنی کونه مبدأ لكثرة تعدّ به ويكون معدوداً من جملتها وقد سبق برهانه، والذي يزیده بیاناً هو: لوكان واحداً بمعنى انه من جملة الأحاد المعدودة لكان داخلاً في الكم المنفصل موصوفاً بالعرض، وكل موصوف؛ فمقترن وكل مقرون؛ فمثني على ما سبق أن الواحد يقال: بالاشتراك اللفظي على معاني عدة عرفتها، وعرفت أن طلاق الواحد عليه تعالى بأي معنی هو، وأنه لا يجوز أن يكون مبدأ للعدد بل هو تعالى، واحد بمعنى أنه لا ثاني له في الوجود، وبمعنى أنّه لا كثرة في ذاته بوجه لا ذهناً، ولا خارجاً، وبمعنى أنّه لم يفته من کماله شيء بل كلّ ما ينبغي أن يكون له؛ فهو بالذات والفعل.

«والْخَالِقِ لَا بِمَعْنَى حَرَكَةٍ ونَصَبٍ»: قد عرفت لميّة تنزيهه عن الحركات والمتاعب في الخطبة الأولى، وهو كونهما من لواحق الأجسام المنزّه قدسه عنها.

«والسَّمِيعِ لَا بِأَدَاةٍ»: أي لا بسمع، وقد سبق بيانه في الخطبة الأولى.

ص: 278

«والْبَصِرِ لَا بِتَفْرِيقِ آلَةٍ»: وهو إمّا عبارة عن بعث القوة الباصرة وتوزيعها على المبصرات، وهذا المعنى على قول من جعل الإبصار بالة الشعاع الخارج من العين المتّصل بسطح المرئي أظهر فإنّ توزيعه أوضح من توزيع الآلة على قول من يقول: الإدراك يحصل بانطباع صورة المرئي في العين، ومعنى التفريق على القول الثاني هو تقليب الحدقة، وتوجيهها مرّة إلى هذا المبصر، ومرّة إلى ذاك كما يقال: فلان مفرّق الهمّة والخاطر إذا وزع فكره على حفظ أشياء متباينة ومراعاتها كالعلم وتحصيل المال، وظاهر تنزيهه تعالى عن الإبصار بآلة الحسّ لكونها من توابع الجسميّة ولواحقها.

«والشَّاهِدِ لَا بِمُمَسَّةٍ»: أي حاضرا لا بممّاسة شيء، والمراد تنزية حضوره عن مماثلة حضور الجسمانيّات المستلزم للقرب المستلزم لمماسّة الأجسام وتقارب أين من أين فهو تعالى الحاضر بعلمه عند كلّ شيء والشاهد لكلّ شيء من غير قرب ولا مماسّة ولا أين مطلقاً لتنزّهه عن الجسميّة ولواحقها.

«والْبَائِنِ لَا بِتَرَاخِي مَسَافَةٍ»: أي أنّ مباينته للأشياء لا تستدعي التَّميز بالأين والوضع بل بذاته فقط، وقد سبق تقرير ذلك في الخطبة الأولى، «والظَّاهِرِ لَا بِرُؤْيَةٍ والْبَاطِنِ لَا بِلَطَافَةٍ»: وذلك أنّ الظاهر من الأجسام ما كان منها مرئيّا بحاسّة البصر والباطن منها ما كان لطيفا إمّا لصغر حجمه أو لطافة قوامه كالهواء، وظهوره تعالى وبطونه منه من هاتين الكيفيتين، وقد شرحنا هذين الوصفين غير مرّة، «اَنَ مِنَ الأَشْيَاءِ بِالْقَهْرِ لَهَا والْقُدْرَةِ عَلَيْهَا وبَانَتِ الأَشْيَاءُ مِنْهُ بِالْخُضُوعِ والرُّجُوعِ إِلَيْهِ»: ذكر في بینونته تعالى من مخلوقاته ما ينتفي له من الصفات، وفي بينونتها منه ما ينبغي لها؛ فالَّذي ينبغي له كونه قاهراً لها غالبا عليها ومستوليا، وكونه قادراً على إيجادها وإعدامها، والَّذي ينتفي لها كونها خاضعة في ذلّ الإمكان والحاجة لعزّته

ص: 279

وقهره وراجعة في وجودها و کمالاتها إلى وجود، وبذلك حصل التباين بينها وبينه، «مَنْ وَصَفَهُ فَقَدْ حَدَّهُ ومَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ»: قد أوضحنا هذا القياس في الخطبة الأولى بأتمّ تقریر، وأبلغ تحقيق غير أنّه قال هناك: ومن أشار إليه فقد حدّه، وهنا قال: من وصفه فقد حدّه لكن المراد بوصفه هنا هو إشارة الوهم إليه واستنباته بكيفيّات و صفات؛ فيكون معنى العبارتين واحد.

«ومَنْ عَدَّهُ فَقَدْ أَبْطَلَ أَزليّته»: لمّا كان عدّه أمَّا عبارة عن جعله مبدأ لكثرة معدودة أو عن كونه أجزاء معدودة، وكان ذلك من لواحق الممكنات، والمحدثات الغير المستحقّة للأزليّة بالذات لا جرم كان من عدّه بأحد الاعتبارين مبطلاً أزليَّته الَّذي يستحقّه لذاته، «ومَنْ قَالَ كَيْفَ فَقَدِ اسْتَوْصَفَهُ»: لأنّها سؤال عن الكيفيّة والصفة، وقد بيّنا تنزيهه تعالى عن الكيفيّات والصفات، «ومَنْ قَالَ أَيْنَ فَقَدْ حَيَّزَهُ»: وذلك لأنّها سؤال عن الحيّز، والجهة اللَّذين هما من لواحق الأجسام، وقد بيّنا تنزيهه سبحانه و تعالى عن الجسميّة وما ينبغي لها، وليس هو سبحانه في مكان وهو في كلّ مكان بعلمه وإحاطته، «عَالِمٌ إِذْ لَا مَعْلُومٌ ورَبٌّ إِذْ لَا مَرْبُوبٌ وقَادِرٌ إِذْ لَا مَقْدُورٌ»: وقد علمت معنی علمه وربوبيّته وقدرته، وعلمت أنّ الإشارة باد إلى اعتبار يقدّمه بذاته على معلوماته، ومعلولاته، و ظاهر عند ذلك الاعتبار أنّه لا معلوم في الوجود سوى ذاته لذاته، ولا مربوب ولا مقدور هناك، بل هي واجبة التأخّر عن ذلك الاعتبار سواء كانت بعد ذلك محدثة كلَّها کما عليه المتكلَّمون أو بعضها كما عليه الأولون، وباللهَّ التوفيق.

منها: «قَدْ طَلَعَ طَالِعٌ»: وأشار إلى ظهور الإمرة والخلافة عليه، وانتقالها إليه، «و لَمَعَ لَمِعٌ»: إلى ظهورها من حيث هي حقّ له، وسطوع أنوار العدل بصيرورتها إليه، «ولَحَ لَئِحٌ»: إلى ما انتقالها إليه من الفتن والحروب الَّتي لاحت أماراتها

ص: 280

يومئذ، وقيل: المراد بالثلاثة معنى واحد، وهو انتقال الخلافة، «واعْتَدَلَ مَائِلٌ»: هو الخلافة فيمن كان قبله في نظره، إذ كان اعتقاده الصواب أنّه أولى بها وأنّ العدل أن يكون فيه، واعتدل ذلك المائل بانتقالها إليه، «واسْتَبْدَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ»: أي: من سبق عليه قَوْماً: أي: هو وتابعوه، «وبِيَوْمٍ يَوْما»: كناية عن زمانهم بزمانهم، «وانْتَظَرْنَا الْغِیَرَ انْتِظَارَ الْمُجْدِبِ الْمَطَرَ»: إشارة إلى ما كان يتوقّعه من انتقال هذا الأمر إليه، وأراد بالغير تغيّرات الدهر وتقلبات الأحوال، كأني بك تقول: أليس هو المطلَّق للدنيا فأين هذا القول من طلاقها؟ فأقول: إنّه طلَّقها من حيث هي دنيا، لم يردها ولذاتها، ولم يطلَّقها من حيث يعمر بها الآخرة بإنكار المنكرات، وإقامة عمود الدين وحراسته؛ فإنّ طلبه لها إنّما كان لذلك كما سبق في قوله لابن عبّاس بذي قار وهو يخصف نعله، وشبّه انتظاره للغير بانتظار المجدب للمطر، وجه الشبه شدّة التوقّع والانتظار، ويمكن أن يلاحظ في وجهه لواحق الأمرين المنتظرين، إذ من لواحق ما انتظره هو من الغير وانتقال الأمر إليه شمول العدل وظهور الحقّ في موارده المشبّه بوقوع المطر في الأرض المجدبة، واستلزامه للخير والبركة، ثم شرع في تعريف حال الأئمّة وما نصُوا به فقال: «وإِنَّمَا الأَئِمَّةُ قُوَّامُ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ»: بهم انتظامهم، «وعُرَفَاؤُهُ عَلَىَ عِبَادِهِ»: العريف: النَّقيب، «ولَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ عَرَفَهُمْ وعَرَفُوهُ»: معناه أنّ أهل كلّ عصر لا يدخلون الجنّة إلَّا بمعرفة إمامهم ومعرفته لهم، وأراد بالأئمّة من ولده عليهم السّلام و معرفتهم معرفة حقّ ولايتهم وصدق إمامتهم، وبيان الحصر من وجهين: أحدهما: أنّ دخول الجنّة لا يمكن لأحد من هذه الأمّة إلا باتّباع الشريعة، ولزوم العمل بها ولا يمكن ذلك إلَّا بمعرفتها ومعرفة كيفيّة العمل بها، ولا يمكن ذلك إلَّا ببيان صاحب الشريعة والقائم بها، وإرشاده وتعليمه، ألا وذلك لا يمكن إلَّا بمعرفة المأموم للإمام وحقيّة إمامته وصدق ولايته له ليقتدي به، ومعرفة الإمام

ص: 281

للمأموم ليهديه؛ فإذن دخول الجنّة مستلزم بمعرفة الإمام للمأمومين ومعرفتهم له، الثاني: أنّ معرفة هؤلاء الأئمّة على رأيهِ عَلَيهِ السَّلَام، وهو المشهور المنقول عنه، ومعرفة حقيّة إمامتهم وصدق ولايتهم ركن من أركان الدين، لا يدخل الجنّة إلَّا من أقامه، ومن عرفهم كذلك، وجبت معرفتهم له بذلك، واعلم أنَّه لا يشترط في معرفتهم لمحبّيهم، ومعرفة محبّيهم هم المعرفة الشخصيّة العينيّة، بل الشرط المعرفة على وجه كلَّيّ، وهو أن يعلموا أنّ كلّ من اعتقد أحقّيّة إمامتهم واهتدی بما انتشر من هديهم فهو، وليّهم، ومقيم لهذا الركن من الدين؛ فيكونون من يتولَّاهم على هذا الوجه ومن يتولَّاهم عارفاً بهم لمعرفته بحقيّة،، ولايتهم، واعتقاد ما يقولون وإن لم يشترط المشاهدة والمعرفة الشخصيّة، وفيما ذكر دفع لما يتوهم من أنبأنرى كثيراً من السّعة لهؤلاء الأئمة ومحبتهم، لا يعرفهم ولا يرون أشخاصهم، «ولَا يَدْخُلُ النَّارَ إِلَّا مَنْ أَنْكَرَهُمْ وأَنْكَرُوهُ»: وهو أيضا حقّ، وذلك أنّ دخول الجنة مستلزم لمعرفتهم على الوجه الَّذي قرّرناه، و منحصر فيه فكلّ واحد ممّن يدخل الجنّة عارف بهم، وذلك يستلزم أنّه لا واحد ممّن يدخل الجنّة بمنكر لهم لأنّ معرفتهم وإنكارهم ممّا لا يجتمعان في ملزوم، واحد إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ من أنكرهم، وأنكروه لا يجوز أن يكون أعمّ ممّن يدخل النار: أمّا أوّلاً؛ فللخبر المشهور من مات، ولم يعرف إمام وقته مات ميتة جاهليّة دلّ الخبر على أنّ إنكارهم مستلزم للميتة الجاهليّة المستلزمة لدخول النار، وأمّا ثانياً فلأنّه لو كان أعمّ لصدق على بعض من يدخل الجنّة فبعض المنكر لهم يدخل الجنّة، فينعكس بعض ما يدخل الجنّة منكر لهم، وقد بيّنا أنه لا، واحد ممّن يدخل الجنّة بمنكر لهم هذا خلف، وكذلك لا يجوز أن يكون أخصّ، وإلَّا لصدق على بعض من يتولَّاهم، ويعترف بصدق إمامتهم أنّ يدخل النار لكن ذلك باطل لقول

ص: 282

الرسول صلَّى اللهَّ عليه وآله وسلَّم: «يحشر المرء مع من أحبّ»(1)، ولقوله: «لو أحبّ أحدكم حجرا لحشر معه»(2)، دلّ الخبر على أنّ محبّة الإنسان لغيره مستلزمة لحشره معه، وقد ثبت أنّهم عليهم السَّلَام إلى الجنّة يحشرون؛ فكذلك من أحبّهم واعترف بحقيّة إمامتهم، ودخول الجنة مع دخول النار ممّا لا يجتمعان فثبت أنّه الا واحد ممّن يحبّهم ويعترف بحقّهم يدخل النار فقد ظهر إذن صدق هذه الكلَّيّة أيضاً، ووجه الخصر فيها، ثمّ أخذ في إظهار منّة اللهَّ تعالى عليهم بالقرآن الكريم وتخصيصهم به من سائر الكتب واستخلاصهم له، وإعدادهم لقبوله من سائر الأمم فقال: «إِنَّ اللَّهً تَعَالَی خَصَّكُمْ بِالإِسْلَامِ واسْتَخْلَصَكُمْ لَهُ»: طلب الإخلاص منكم له، «وذَلِكَ»: التَّخصِيص؛ «لأَنَّهُ»: الإسلام «اسْمُ سَلَامَةٍ»: مشتق منها وهي بمعنى الدخول في الطَّاعة؛ ففيه كرامة تعالي لهم من جهة اسمه، وأما من جهة معناه فهي وجوه أحدها أشار إليه بقوله: «جِمَاعُ كَرَامَةٍ اصْطَفَى اللَّهُ تَعَالَی مَنْهَجَهُ»: وهو طريقته الواضحة المؤدية للسالكين بأيسر سعي إلى رضوان الله تعالى، «وبَیَّنَ

حُجَجَهُ»: وهي الأدلة والأمارات ومن في «مِنْ ظَاهِرِ عِلْمٍ وبَاطِنِ حُكْمٍ»: للتمييز والتقسيم هنا تقسيم الحجج إلى ظاهر علم، وأشار به إلى ما يشتمل عليه الكتاب العزيز من الحكمة الإلهيّبة وأسرار التوحيد وعلم الأخلاق والسياسات وغيرها، وقيل من يتعلق بقوله بين والمراد بالحجج محمَّد وأوصياء الإثني عشر من عترته عليه، وعليهم أفضل الصَّلَاة والسَّلَام الذين يدّل عليهم ظاهر آیات كثيرة من

ص: 283


1- الثاقب في المناقب لابن حمزة الطُّوسي، ص 260، العهود المحمَّدية لعبد الوهاب الشعراني، ص 42، و شرح نهج البلاغة لابن میثم البحراني، ج 3، ص 237
2- تفسیر ابن عربي: ج 1 ص 42؛ شرح النهج لابن میثم البحراني: ج 4 ص 82. ولم أعثر على مصادر أخرى تثبت الحديث أنه عن النبي صلی الله علیه وآله وسلم: حيث لم يرجع كل من المصادر التي ذكرت الحديث إلى مضانه

القرآن، وباطن أحكام القرآن يدل عليهم أيضاً؛ فهم عالمون بها دون غيرهم، «لَا

تَفْنَى غَرَائِبُهُ»: ويروی عزائمه، أي: آياته المحكمة وبراهينه العازمة، أي: القاطعة، وعدم فنائها إشارة إمّا إلى ثباتها واستقرارها على طول المدّة وتغيّر الإعصار، وإمّا إلى كثرتها عند البحث والتفتيش عنها، «ولَا تَنْقَيِ عَجَائِبُهُ»: وذلك أنَّه كلَّما تأمله الإنسان استخرج منه بفكره لطائف معجبة من أنواع العلوم لم عنده من قبل، «فِيهِ مَرَابِيعُ النِّعَمِ»: استعار المرابيع، وهي الأمطار تأتي زمن الربيع؛ فتحیی الأرض وتنبت الكلاء لما يحصل عليه الإنسان من النعم ببركة القرآن، ولزوم أوامره ونواهيه وحكمه وآدابه: أمّا في الدنيا فالنعم الَّتي تحصل ببركته لحامليه من القرّاء والمفسّرين وغيرهم ظاهرة الكثرة، وأمّا بالنسبة إلى الآخرة؛ فما يحصل عليه مقتبسوا أنواره من الكمالات المستعدة في الآخرة من العلوم والأخلاق الفاضلة أعظم نعمة وأتمّ فضلاً، ووجه الاستعارة ظاهر كما في قوله: «ومَصَابِيحُ الظُّلَمِ»: أي: قوانينه وقواعده الهادية إلى اللهَّ في سبيله، «لَا تُفْتَحُ الْخَیْرَاتُ»: الحقيقة الباقية، «إِلَّا بِمَفَاتِيحِهِ»: لمفاتحه وطرقها الموصلة إليها ووجه الاستعارة كونها وجه الاستعارة كونها مُوصلة إليها كما أنَّ المفاتيح أسباب مُوصلة إلى خيرات الخزائن، «ولَا تُكْشَفُ الظُّلُاَتُ»: ظلمات الجهل، «إِلَّا بِمَصَابِيحِهِ»: قوانینه کما سبق استعارة، «قَدْ أَحْمَى حِمَاهُ»: أي هيّأه وعرّضه لأن يحمی کما يقال: أقتلت فلاناً وأضربته؛ إذا هيأته للقتل، وعرّضته للضرب، واستعار الحمي لحفظه، وتدبّره والعمل بقوانينه، وجه الاستعارة أنّ بذلك يكون حفظ الشخص وحراسته: أمّا في الدنيا؛ فمن أيدي كثير من الظالمين لاحترامهم حملة القرآن، ومفسّر به، ومن يتعلَّق به، وأمّا في الآخرة، فلحمايته حفظته، ومتدبّريه، والعامل به من عذاب اللهَّ كما يحمي الحماء من يلوذ به، ونسبة الإحماء إليه مجاز إذ المعرض له أن يتدبّر، ويعمل به هو اللهَّ تعالى، ورسوله صلَّى اللهَّ عليه وآله وسلَّم وحملته، وقيل: أراد بحماه محارمه، وأحماه:

ص: 284

أي: منع بنواهيه وزواجره أن يستباح محارمه، وهو أخص ممّا قلناه أوّلاً، «وأَرْعَى مَرْعَاهُ»: أي هيّأه لأن يرعی، استعارة للعلوم والحكم، والآداب الَّتي يشتمل عليها القرآن، ووجه المشابهة أنّ هذه مرعى النفوس الإنسانيّة، وغذاؤها الَّذي يكون به نشأها العقليّ، وتمامها الفعليّ كما أنّ المراعي المحسوسة من النبات، والعشب غذاء للأبدان الحيوانيّة الَّتي بها يقوم وجودها، فِيهِ شِفَاءُ الْمُشْتَفِي: أي طالب الشفاء منه: أمّا في الأبدان فبالعود به مع صدق النية فيه وسلامة الصدور، وأمّا في النفوس فلشفائه بها من أمراض الجهل، وكِفَايَةُ الْمُكْتَفِي: أي: طالب الكفاية: أمّا من الدنيا فلانّ حملة القرآن الطالبين به المطالب الدنيويّة هم أقدر أكثر الناس على الاحتيال به في تحصيل مطالبهم وكفايتهم بها، وأمّا في الآخرة؛ فلأنّ طالب الكفاية منها يكفيه تدبّر القرآن ولزوم مقاصده في تحصيل مطالبه منها، وباللهَّ التوفيق.

ومن خطبة له عليه السّلام في بيان صفة مطلق الضَّال،

«وهو يصف الغاني فِي مُهْلَةٍ مِنَ اللَّهِ: مدة عمره «يَهْوِي مَعَ الْغَافِلِینَ»: ينخرط في سلكهم بسبب مهله وغفلته عمّا يراد به، واستعار لفظ الهوى لذلك الانخراط، ووجه المشابهة أنّ المنهمك في مجاري الغفلة ومسالك الجهل ينحطَّ بها عن درجة أهل السلامة، ويهوي في مهابط أهل الهلاك، وهي الرذائل المبعدة عن اللهَّ تعالى كما أنّ من علوّ كذلك، «ويَغْدُو مَعَ الْمُذْنِبِینَ بِلَا سَبِيلٍ قَاصِدٍ ولَا إِمَامٍ قَائِدٍ»: أراد بغدوه موافقته معهم فيما هم فيه، ومسارعته إلى المعاصي من غير أن يسلك سبيلاً قاصدا للحقّ ويتّبع إماما يقوده إليه من أستاذ مرشد أو كتاب أو سنّة، واللهَّ سبحانه أعلم.

منها: في صفة غاية الغافلين عن أحوال الآخرة المشمّرين في طلب الدنيا: «حَتَّى إِذَا كَشَفَ الله لَهُمْ عَنْ جَزَاءِ مَعْصِيَتِهِمْ واسْتَخْرَجَهُمْ مِنْ جَلَبِيبِ غَفْلَتِهِمُ

ص: 285

اسْتَقْبَلُوا مُدْبِراً واسْتَدْبَرُوا مُقْبِلًا فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِمَا أَدْرَكُوا مِنْ طَلِبَتِهِمْ ولَا بِمَا قَضَوْا مِنْ وَطَرِهِمْ»: وقد علمت أنّ النفس ذات جهتين: جهة تدبير أحوالها البدنيّة بما لها من القوّة العمليّة، وجهة استكمالها بقوّتهما النظريّة الَّتي تتلقّى بها من العالیات کمالها، وقد علمت أنّ بقدر خروجها عن حدّ العدل في استكمال قوّتها العمليّة تنقطع عن الجهة الأخرى بالانصباب إلى ما يقتنيه ممّا يعد خيراً في الدنيا، وبحسب انصبابها في هذه الجهة، وتمكَّن تلك الهيئات البدنيّة منها يكون بعدها عن بارئها ونزولها في دركات الجحيم عن درجات النَّعيم، و بالعکس کما قال صلَّى اللهَّ عليه وآله وسلَّم: «الدنيا والآخرة ضرّتان بقدر ما تقرب من احدهما تبعد من الأخرى»(1)، وظاهر أنّ بالموت تنقطع تلك الغفلة، وتنكشف تلك الحجب فيومئذ يتذكَّر الإنسان وأنّى له الذكرى، ويكون ما أثيبه يومئذ من تعلَّق تلك الهيئات بنفسه، وحطَّها له عن درجات الكمال، ومامنا هذه السلاسل، والأغلال هو جزاء معصيتهم المنكشف لهم، ولفظ الجلابیب استعارة المحسوس للمعقول، ووجه المشابهة حجب الغفلة لاغير بصائرهم عن التنوَّر بأنوار اللهَّ كحجب الوجه بالجلباب، والمقبل الَّذي استقبلوه هو العذاب الأُخرويّ، والأهوال الَّتي كانت غائبة عنهم، والمدير الَّذي استدبروه هو ما كانوا فيه من موالاتهم، وأحوالهم الدنيويّة، وظاهر أنّهم لم ينتفعوا إذن؛ بما أدركوا من طلباتهم الدنيويّة، ولا بما قضوا من أوطارهم وحاجاتهم الحاضرة فيها، ثمّ «فإِنِّي أُحَذِّرُكُمْ ونَفْيِ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ»: الحالة الَّتي هؤلاء الموصوفون عليها من الغفلة فإنّها مقام صعب ومزلَّة قدم، و شرك نفسه عليه السَّلَام في التحذير؛ لأنّه أدخل في جذب نفوس السامعين إلى

ص: 286


1- الهم والحزن لابن أبي الدنيا: ص 32 بلفظ مختصر؛ إحياء علوم الدين للغزالي: ج 9 ص 117؛ عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي: ج 1 ص 277؛ شرح النهج لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 19 ص 292، تفسير المحيط الأعظم للسيد حيدر الآملي: ج 2 ص 333

طاعته؛ «فَلْيَنْتَفِعِ امْرُؤٌ بِنَفْسِهِ»: وشرح كيفيّة الانتفاع بشرح حال البصير؛ لأنّه لا ينتفع بنفسه إلَّا البصير؛ فقال: «فَإِنَّاَ الْبَصِرُ مَنْ سَمِعَ كَلَم اَلله»: والمواعظ البالغة؛ «فَتَفَكَّرَ»: فإنّه لا ينتفع بها دون الفكر کما علمت، «ونَظَرَ»: بعین حسّه، وبصيرته فيتوخى المنافع النافعة؛ «فَأَبْصَرَ»ها، «وانْتَفَعَ بِالْعِبَرِ»: بإدراك العقل منها وذلك بالعمل على وفق ما علم وأدرك، ثُمَّ سَلَكَ جَدَداً: طرقاً وَاضِحَاً»: يعني السّراط المستقيم الذي وردت الشريعة «بتَجَنَّبُ فِيهِ الصَّرْعَةَ فِي الْمَهَاوِي»: محارم الله، «والضَّلَالَ فِي الْمَغَاوِي»: أي: العدول والانحراف فأنّ من انحرف عنه، ولو باليسير انصرع في مهواة وضلّ في مغواة، وقد نبّهناك فيما سلف على ذلك بالمثل الَّذي ضربه النبيّ صلَّى اللهَّ عليه وآله وسلَّم حيث قال: «ضرب اللهَّ مثلا ضراً مستقیما»(1) «ولَا يُعِینُ»: الإنسان «عَلَى نَفْسِهِ الْغُوَاةَ بتِعَعَسُّفٍ فِي حَقٍّ أَوْ تَحْرِيفٍ فِي نُطْقٍ أَوْ تَخَوُّفٍ مِنْ الصِدْقٍ»: أي لا تحملهم على مرّ الحقّ وصعبه؛ فإنّ الحقّ له درجات و بعضها أسهل من بعض؛ فالاستعصاء فيه على غير أهله يوجب لهم النفرة عمّن يقوله ويأمره به، والعداوة له والقول فيه، ويحتمل أن يريد بالتعسّف في الحقّ التكلَّف في العمل به مع نوع من التقصير فيه؛ فإنّ الغواة هم تاركوا الحق فإذا وجدوا رکیکاً فيه أو متكلَّفاً للعمل به مقصّرا طمعوا في الابنة للباطل؛ فكان قد أعانهم على نفسه بذلك، وكذلك إذا آنسوا منه الكذب والتحريف في القول أو الخوف من الصدق كأن ادعى لهم إلى الطَّمع في انفعاله لباطلهم وإدخاله فيه كان معيناً

ص: 287


1- المستدرك للحاكم النيسابوري: ج 1 ص 73؛ عمدة القاري للعيني: ج 8 ص 275؛ الترغيب والترهيب من الحديث الشريف لعبد العظيم المنذري: ص 244؛ جامع البيان عن تأویل آیات القرآن لمحمد بن جرير الطبري: ج 1 ص 112؛ الكشف والبيان عن تفسير القرآن (تفسير الثعلبي) ص 121؛ تفسیر ابن کثیر ج 1 ص 29. الحديث وقع فيه تصحیف حيث إن سياقه في الجملة مما لا ينسجم مع المصادر التي تقدمت، ففي الأصل جاء (ضرب الله مثلا ضراً مستقيما) وفي المصادر التي وردت صراطاً مستقيما

لهم على إغوائه بذلك؛ «فَأَفِقْ أَيُّهَا السَّامِعُ مِنْ سَكْرَتِكَ»: أي: من سكرة الجهل استعارة وجهها كون الغفلة مستلزمة لترك إعمال العقل كما أنّ السكر كذلك، «واسْتَيْقِظْ مِنْ غَفْلَتِكَ واخْتَصِرِ مِنْ عَجَلَتِكَ»: أي: خفف سرعة الحركة في طلب الدنيا والاهتمام بها، «وأَنْعِمِ الْفِكْرَ فِيمَا جَاءَكَ عَلَىَ لِسَانِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ صلّى الله عليه وآله وسلّم مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ ولَا مَحِيصَ عَنْهُ»: من الموت وعرض النفوس على ديّانها، وإنعام الفكر في ذلك تدقيق النظر في حال الموت وما بعده، والاعتبار بما لا بدّ منه ولا محيص عنه من ذلك، «وخَالِفْ مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ»: ونظر في غيره ممّا عنه بد من أحوال الدنيا وزينتها.

«ودَعْهُ»: أي من خالفه «ومَا رَضِيَ لِنَفْسِهِ»: من التعرّض بالأمور الفانية عن الأمور الباقية، وما يستلزم ذلك من الشقاوة الأُخرويّة.

«وضَعْ فَخْرَكَ واحْطُطْ كِبْرَكَ»: وقد سبق بيان ما في الكبر من الآفات، والفخر مستلزم له. إذ كلّ مفتخر متكبّر أو متلازمان. «واذْكُرْ قَبْرَكَ»: لأن في ذكره عبرة تامة وقوله:

«فإِنَّ عَلَيْهِ مَمَرَّكَ»: تنبيه له على وجوب الذكر فإنّ السّالك لطريق لا بدّ من سلوكها وإذ كان فيها منزل موحش مظلم، وجب الاستعداد له بحمل الضوء للاستنارة فيه، والإنسان في سلوكه لطريق الآخرة لا بدّ منه من المرور بالقبر وأحكام الشارع أكثرية، «وكَمَا تَدِينُ تُدَانُ وكَمَا تَزْرَعُ تَحْصُدُ»: فيه تنبيه على وجوب حسن المعاملة مع الله سبحانه إذ كان حسن جزائه بقدر حسن معاملته له وفتحه بفتحها، ولفظ الزرع مستعار لما يفعله الإنسان فيكتسب لنفسه ملكة خيّرته أو شرته وكذلك الحصد للحصول على ما يثمره تلك الآثار وما يستلزمه من ثواب أو عقاب، ووجه الاستعارة بيّن ظاهر.

ص: 288

«ومَا قَدَّمْتَ الْيَوْمَ تَقْدَمُ عَلَيْهِ غَداً»: ظاهر فإنّ الهيئات النفسانيّة الَّتي هي ثمرات الأعمال المستلزمة للسعادة و الشقاوة وإن كان مستصحبة للنفس مدّة بقائها في الدنيا أيضاً إلَّا أنّها لا تنكشف لها إلَّا بعد المفارقة كما سبق بيانه؛ فتكون حينئذ حالة الانكشاف بمنزلة من قدم على أمر لم يكن معه؛ فإذا كان كذلك، «فَامْهَدْ

لِقَدَمِكَ»: أي يوطى موضع قدمك في الآخرة بطيب الأعمال، «وقَدِّمْ»: صالحها، «لِيَوْمِكَ»: يوم قیامتك؛ «فَالْحَذَرَ فَالْحَذَرَ»: أي خذه فيما فعلت في الماضي وفيها يفعله في الآتي «أيّهَا المُستَمِعُ» للموعظة و الزم «الْجِدَّ الْجِدَّ أَيُّهَا الْغَافِلُ»: في العمل لما بعد الموت عن أهوال الآخرة، «وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِرٍ»: نبَّهه باقتباس الآية على أن الواعظ له خبير بأحوال طريق الآخرة وأهوالها ولا يخبر بحقائق الأمور كالعارف بها، ثمّ عاد إلى التحذير من بعض الكبائر الَّتي نصّ القرآن المجيد وأنّها ملزمة للعقاب لا محالة فقال: «إِنَّ مِنْ عَزَائِمِ اللَّهِ فِي الذِّكْرِ الْحَكِيمِ»: القرآن وقد سبق بيانه أن العزائم منه وقيل هو اللوح المحفوظ، «الَّتِي عَلَيْهَا يُثِيبُ ويُعَاقِبُ ولَهَا يَرْضَ

ويَسْخَطُ، أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ عَبْداً»: فاعل ينفع اسم أن والضمير ضمير الشأن، «وإِنْ

أَجْهَدَ نَفْسَهُ وأَخْلَصَ فِعْلَهُ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا لَقِياً رَبَّهُ»: حال معناه أنّ من جملة نصوص اللهَّ سبحانه الَّتي هي في محكم كتابه العزيز الَّتي باعتقادها والعمل على بها يثبت ويرضى، وبترکها يسخط ويعاقب أنّه لا ينفع عبدا خروجه من الدنيا لاقياً ربّه وإن جهد نفسه في العمل وأخلص فيه تحصيله من هذه الخصال.

(1)«لْمَ يَتُبْ مِنْهَا»: هي «أَنْ يُشِرْكَ بِاللِّهَ فِيمَا افْتَرَضَ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَتِهِ»: قد سبق منا بیان درجات الشرك، في الرياء بالعبادة لا اتحاداً له(2) وفي هذه الآفة يلحق

ص: 289


1- ورد في بعض النسخ: بِخَصْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ
2- لا اتحاداً له: بمعنى إن الرياء يُعد شركاً خفیًّاً وإن لم يتحد مع الشرك الظاهر، بل هو يتحد مع العمل فيكون اشتراك في القصد واختلاف في الظاهر، مثل الرياء في الصلاة فإن الاتحاد يقع في القصد والاختلاف في الظاهر، فظاهر الصلاة يختلف عن ظاهر العبادة للأوثان وباقي المظاهر العبادية التي يستعملها المشركون

النفس تارة من غلبة الجهل عليها واستيلاء الغفلة، وترك النظر في المعرفة والتوحيد، وتارة من غلبة الشهوة کما تلحق نفس المرائي بعبادته لطلب الدنيا.

«أَوْ يَشْفِيَ غَيْظَهُ بِهَلَاكِ نَفْسٍ»: وفي نسخة نفسه، والأول أعمّ وذلك الهلاك تارة في الدنيا يستلزمه السعي بالنميمة إلى الملوك ونحوه، وتارة في الآخرة باكتساب الآثام المستلزم لشفاء الغيظ، والنصّ فيه قوله تعالى «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا»(1) الآية، وهذه الآفة تلحقها بواسطة القوّة الغضبيّة.

«أَوْ يَعُرَّ بِأَمْرٍ فَعَلَهُ غَیْرُهُ»: فيستلزمه إهلاکه وأذاه فيدخل فيمن يسعى في الأرض فسادا، والنصّ عليه قوله «إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ»(2)، وروی يعرّ بالعين المهملة، ومعناه أن يقذف غيره بأمر قد فعله هو فيكون غيره منصوباً مفعولاً به، والعامل يعرّ يقال عرّه یعرّه عرّا: أي غابه ولطخه فعلى هذا يكون داخلاً في جملة الفاسقين والكاذبين والمؤذين للمؤمنين بغير ما اكتسبوا، وهذه الآفة تلحق النفس بشركة من الشهوة والغضب.

«أَوْ يَسْتَنْجِحَ حَاجَةً إِلَی النَّاسِ بِإِظْهَارِ بِدْعَةٍ فِي دِينِهِ»: لشاهد الزور لغاية قصد إليها، والمرتشي في الحكم والقضاء.

ص: 290


1- سورة النساء: الآية 93
2- سورة المائدة: الآية 33

«أَوْ يَلْقَى النَّاسَ بِوَجْهَیْنِ أَوْ يَمْشِيَ فِيهِمْ بِلِسَانَيْنِ»: أي يلقي كلَّا من الصديقين مثلاً بغير ما يلقى به الآخر ليفرّق بينهما أو بين العدوّين ليضری بینهما، وبالجملة أن يقول بلسانه ما ليس في قلبه فيدخل في زمرة المنافقين، ووعيد المنافقين في القرآن «إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ»(1) ومطابقة ذلك من العقل أنّ من انتقش لوح نفسه بهیئات السوء ولم يمحها بالتوبة ألحقه فهو من أصحاب النار.

«أعْقِلْ ذَلِكَ»: أي أعقل ما أضربه لك من المثل، واحمل عليه ما يشبهه:

«فَإِنَّ الْمِثْلَ دَلِيلٌ عَلَى شِبْهِهِ»: فان المثل دليل على شبهه «إِنَّ الْبَهَائِمَ هَمُّهَا

بُطُونُهَا»: إشارة إلى أنّ الإنسان المتّبع لشهوته بمنزلة البهيمة في اتّباع قوّته الشهویّة، والاهتمام بالطعام والشراب دون المطالب الحقيقيّة.

«وإِنَّ السِّبَاعَ هَّمُّهَا الْعُدْوَانُ عَلَى غَيْرِهَا»: إشارة إلى أنّ النساء مبتغات للقوّتين: الشهوية والغضبيّة، ولها كإن همّهنّ زينة الحياة الدنيا والغضبيَّة ولذا كان همهمن الفساد فيها، وتابعها لاحق بالنساء في ذلك؛ ثم لما حصر متابع الشر قوّتي الشهوة والغضب ذكر المؤمنين بصفات ثلاث كلّ منها يستلزم کسر تينك القوّتين فقال:

(2)«إِنَّ الْمُؤْمِنِینَ مُسْتَكِينُونَ إِنَّ الْمُؤْمِنِینَ مُشْفِقُونَ إِنَّ الْمُؤْمِنِینَ خَائِفُونَ»: وظاهر کون كلّ واحد من هذه الصفات جاذباً لهم عن طرف الأفراط في القوّتين، والخروج عن حدّ العدل فيها، وغاية هذا المثل التنفير عن طاعة الشهوة والغضب بالتنبيه على أنّ الخارج فيهما عن حدّ العدل إلى ما لا ينبغي إمّا أن يشبه البهيمة أو

ص: 291


1- سورة النساء: الآية 145
2- ورد في بعض متون النهج: وإِنَّ النِّسَاءَ هَمُّهُنَّ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا والْفَسَادُ فِيهَا

السبع أو المرأة، وكلّ منها ممّا يرغب العاقل عنه، وهو الَّذي أمر بعقليّته؛ فانظر إلى ما اشتمل عليه هذا الكلام من الإشارة اللطيفة الَّتي يشهد عليه السّلام بمشاهدة الحقّ كما هو، وإذا اعتبرت ذلك، وأمثاله من الحكم البالغة، ونظرت إلى أنّه عليه السّلام لم يرجع فيه إلى مطالعة كتاب أو استفادة بحث علمت أنّه فيض ربّانيّ بواسطة إعداد سيّد البشر والأُستاذ المرشد صلَّى اللهَّ عليه وآله وسلَّم، قيل إنَّما رمز بباطن هذا الكلام إلى الرؤساء يوم الجمل؛ لأنّهم حاولوا أن يشفوا غيظهم بإهلاكه وإهلاك غيره من المسلمين وعيّروه عليه السّلام بأمرهم فعلوه، وهو التأليب على عثمان وحصره واستنجحوا حوائجهم إلى أهل البصرة بإظهار البدعة والفتنة ولقوا الناس بوجهين ولسانين لأنّهم بايعوه وأظهروا الرضا به. ثمّ نكثوا من وجه آخر فجعل ذنوبهم هذه بمنزلة الشرك في أنّها لا تغفر إلَّا بالتوبة. قال: وهذا معنى قوله: أعقل ذلك فإنّ المثل دليل على شبهه وباللهَّ التوفيق.

ومن خطبة له عليه السّلام:

«ونَاظِرُ قَلْبِ اللَّبِيبِ: عن بصيرته(1) يُبْصَرِ أَمَدَهُ»: غايته «ويَعْرِفُ نَجْدَه

وغَوْرَه»(2): وظاهر أنه يبصر بها طريقه وغايته التي هي متوجهة نحوها ومطلوبة منها وعورته وبحده طرقاً للخير والشر وهما النجدان «في قوله تعالى»: «وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ»(3)، وعبارة القرآن المجيد أحصر، وهذه العبارة أنسب إلى المعنى فإنّ الغور هو المنخفض والمستقل أنسب إلى أن يعبّر به عن رتبة النازلين في دركات الجحيم من النجد، «دَاعٍ دَعَا»: وأشار إلى الرسول صلَّى اللهَّ عليه وآله وسلَّم وما

ص: 292


1- ورد في بعض متون النهج: بِهِ
2- ورد في بعض النسخ: ويَعْرِفُ غَوْرَه ونَجْدَه
3- سورة البلد: الآية 10

جاء به من القرآن الكريم والسنّة، «ورَاعٍ رَعَی»: أشار به إلى نفسه؛ «فَاسْتَجِيبُوا الدَّاعِي واتَّبِعُوا الرَّاعِيَ»: لقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ»(1)؛ فيجب اتّباع من أوجبا اتّباعه، «قَدْ خَاضُوا بِحَارَ الْفِتَنِ»: يحتمل أن يكون التفاتا إلى قوم مقهورين للسامعين كمعاوية وأصحاب الفتن الجمل والخوارج، ويحتمل أن يكون منقطعاً عمّا قبله متّصلاً بكلام لم يحكه الرضيّ رضوان اللهَّ عليه وإليه ذهب بعض، وهو قال : وهو ذكر قوم من أهل الضلال قد كان أخذ في ذمّهم وعيبهم، ولفظ البحار مستعار لما عظم من الحروب والفتن، وقد عرفت وجه الاستعارة ورشّح بذكر الخوض، «وأَخَذُوا بِالْبِدَعِ دُونَ

السُّنَنِ»: قد يراد بها ترك السنّة، وقد يراد بها أمر آخر يفعل مع ترك السنّة، وهو الأظهر في العرف، «وَأَرَزَ»: انقبض وانظم المؤمنون، «الْمُؤْمِنُونَ ونَطَقَ الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ»: ثمّ التفت إلى ذكر فضيلته؛ فقال: «نَحْنُ الشِّعَارُ»: استعارة لنفسه وأهل بيته، ووجههاً ملازمتهم للرسول صلى اللهَّ عليه وآله وسلم واختصاصهم به کما يلزم الشعار الجسد، «والأَصْحَابُ والْخَزَنَةُ»: لعلمه نقل عن رسول صلَّى اللهَّ عليه وآله وسلَّم أنه قال: «وهو خازن علمي»(2)، وفي رواية: «عيبة علمي»، وقيل: خزنة الجنّة على معنى أنّ من جاء يوم القيامة بولايتهم دخل الجنّة وإلَّا فلا، ولفظ الحزن على التقديرين مستعار، ووجه المشابهة تصرّفهم بمنع العلم وإعطائه أو بمنع الجنّة بسببهم، وإعطائها كما أنّ الخازن للشيء كذلك، والأبواب: أي للعلم

ص: 293


1- سورة الأنفال: الآية 24
2- ينظر: الهم والحزن لابن أبي الدنيا: ص 32؛ و صحیح ابن حبان لابن حبان: ج 13 ص 375 وعدة الداعي ونجاح الساعي لابن فهد الحلي: هامش ص 195؛ وعوالي الليالي لابن أبي جمهور الأحسائي: ج 1 ص 277؛ وتفسير المحيط الأعظم والبحر الخضم في تأويل کتاب الله العزيز المحكم للسيد حيدر الآملي؛ و تنبیه الخواطر ونزهة النواظر لورام بن أبي فراس المالكي الاشتري ( مجموعة ورام ) 146

کما قال صلَّى اللهَّ عليه وآله وسلَّم: «أنا مدينة العلم وعليّ بابها»(1) أو أبواب للجنّة على الاستعارة السابقة، «ولَا تُؤْتَى الْبُيُوتُ إِلَّا مِنْ أَبْوَابِهَا»: وذلك لوجوه: أحدها: العادة الجارية على وفق الحكمة، الثاني: النصّ ومراده أن من طلب العلم والحكمة وأسرار الشريعة فليرجع إلينا، وآتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله، الثالث: العرف وهو: أن من أتاها من غير أبوابها سمّی سارقا، والتقبيح العرفي يستسلم الترك إلى ذلك أشار بقوله: «فَمَنْ أَتَاهَا مِنْ غَیْرِ أَبْوَابِهَا سُمِّيَ سَارِقاً»: وبالله العصمة.

منها: في الاشارة إلى فضائل أهل البيت عليهم السَّلَام:

«فِيهِمْ كَرَائِمُ الإيمَان»(2): أي نفائسه المستلزم لأشديّة القرب من اللهَّ تعالى؛ کالأخلاق الفاضلة والاعتقادات الحقة المطابقة لما عليه نفس الأمر، «وهُمْ كُنُوزُ

الرَّحْمَنِ»: أي خزائن علمه وسائر ما أمر به من مكارم الأخلاق، «إِنْ نَطَقُوا صَدَقُوا

وإِنْ سَكَتُوا(3) لْمَ يُسْبَقُوا»: فيه تنبيه على اختصاصهم بالحكمة الَّتي لا يتمکَّن غيرهم من النطق بها والسبق إليها حال سکوتهم فهم إن نطقوا فبحكمة وإن صمتوا فلحكمة ووضع الضمير في موضعه، وإنّما ذكر هذه الفضائل لتفسير أهل بيته جذباً إلى سماع قوله ودعوته إلى اللهَّ ولذلك عقّب بالمثل، «فَلْيَصْدُقْ رَائِدٌ أَهْلَهُ»: وأشار به إلى من يحضرنا طلباً لاختيارنا فلیصدق من يعينه أمره إنّنا أهل الحقّ وينابيع

ص: 294


1- ينظر: الأمالي للشيخ الصدوق: ص 25؛ والتوحيد للشيخ الصدوق: ص 307؛ الخصال للشيخ الصدوق: ص 574؛ عيون أخبار الرضا للصدوق: ج 1 ص 211؛ تحف العقول لابن شعبة الحراني: ص 430؛ المجازات النبوية للشريف الرضي: 208 باختلاف يسير؛ والمستدرك للحاكم النيسابوري: ج 3 ص 126؛ و مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9 ص 114؛ ومسند أبي يعلى لأبو يعلى الموصلي: ج 2 ص هامش ص 58
2- ورد في بعض النسخ: الْقُرْآنِ
3- ورد في بعض النسخ: صَمَتُوا

العلوم والحكم والأدلَّاء إلى اللهَّ کما يصدق الرائد لطلب الكلاء والماء أهله مبشّرا بهما، «ولْيُحْضِرْ عَقْلَهُ لِمَا يَقُوله»: ليعرف صحّة ما ادعيناه، ثمّ شرع فيما ينبغي أن يقوله أمثاله، وهو التنبيه على أحوال الآخرة؛ فقال: «ولْيَكُنْ مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ فَإِنَّهُ مِنْهَا قَدِمَ وإِلَيْهَا يَنْقَلِبُ»: استعارة إلى وجه استعارة النبوّة منها أي: كما أنّ الابن ينقلب عن الأُمّ فإليها وله ورجوعه كذلك الإنسان مبدأه الحضرة الإلهيّة فعنها ينقلب وإليها يعود؛ فينبغي أن يكون من ابنائها بالرغبة فيها والوله إليها والعمل لها؛ «فَالنَّاظِرُ بِالْقَلْبِ الْعَامِلُ بِالْبَصَرِ يَكُونُ مُبْتَدَأُ علِمهِ أَنْ يَعْلَمَ أَعَمَلُهُ عَلَيْهِ أَمْ لَهُ؛ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَضَى فِيهِ وإِنْ كَانَ عَلَيْهِ وَقَفَ»(1): وفيه تنبيه على العامل ذا الفكر السليم الناظر بعين بصيرته على ما ينبغي له أن يبدأ به في حركاته وسكناته وهو أن يعتقد أحوال نفسه فيما یهمّ به وينبعث في طلبه أو تركه، ويعلم أذلك الخاطر أو تلك الحركة مقرّبة إلى اللهَّ تعالى فيكون له؛ فينبغي أن يمضى فيها أو مبعدة له عن رضاه ومستلزمة لسخطه؛ فيكون عليه فيقف عنها، ثمّ شبّه الجاهل في حركاته وسكناته بالسائر على طريق؛ فقال: «فَإِنَّ الْعَامِلَ بِغَیْرِ عِلْمٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَیْرِ طَرِيقٍ»: وأشار إلى وجه الشبه بقوله: «لَا يَزِيدُهُ بُعْدُهُ عَنِ الطَّرِيقِ(2) إِلَّا بُعْداً مِنْ حَاجَتِهِ»: إذ كان بعده عن مطلوبه بقدر بعده عن طريق ذلك المطلوب، وبضدّه العامل بالعِلْم في سُلوکه وقربه من مطلوبه، و نفر بذلك التشبيه عن الجهل وزاد في التنفير بقوله:(3) «فَلْيَنْظُرْ(4) أَسَائِرٌ هُوَ أَمْ رَاجِعٌ»: فإنّه إذا علم أنّه سائر وجب أن يعلم كيف يسير ويشعل مصباح العلم؛ ليسلم من الضلال والصرعة في مهاوي الهلاك، «واعْلَمْ

ص: 295


1- ورد في بعض النسخ: عَنْهُ
2- ورد في بعض النسخ: الْوَاضِحِ
3- ورد في بعض النسخ: والْعَامِلُ بِالْعِلْمِ كَالسَّائِرِ عَلیَ الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ
4- ورد في بعض النسخ: نَاظِرٌ

أَنَّ لِكُلِّ ظَاهِرٍ بَاطِناً عَلَى مِثَالِهِ فَمَا طَابَ ظَاهِرُهُ طَابَ بَاطِنُهُ ومَا خَبُثَ ظَاهِرُهُ

خَبُثَ بَاطِنُهُ وقَدْ قَالَ الرَّسُولُ الصَّادِقُ صلّى الله عليه وآله وسلّم إِنَّ اللَّهً يُحِبُّ

الْعَبْدَ ويُبْغِضُ عَمَلَهُ ويُحِبُّ الْعَمَلَ ويُبْغِضُ بَدَنَهُ»: بيان هذه القضيّة الكلَّيّة أنّه لمّا صدر عن الجود الإلهيّ عالم الغيب والشهادة وإن سبب عالم الخلق والأمر وإن سبب العالم الروحانيّ، والجسمانيّ اقتضت الحكمة الإلهيّة كون عالم الشهادة طريقاً للنفوس البشريّة إلى عالم الغيب ولولاها لتعذّر السفر إلى الحضرة الإلهيّة وانسدّ طريق الترقّي إلى اللهَّ؛ فكان جميع ما ظهر في عالم الشهادة مثالا لأمر باطن من عالم الغيب هو الطريق إليه، والدليل عليه غير أنّ المفهوم من كلامه عليه السّلام هنا تخصيص تلك الكلَّيّة بأحد الأمرين؛ فإمّا أن يشير بالظاهر إلى أشخاص الناس أو إلى أفعالهم الظاهرة، وبالباطن إلى الأخلاق وأعمال القلوب وما في الأمزجة المختلفة من الخير والشرّ، وقيل: إشارة إلى ما يخفى من الثواب والعقاب في الآخرة، وقد دلّ الاستقراء والقياس على أنّ حسن الصورة أو حسن الأعمال الظاهرة الَّتي تبدو من الإنسان حسن الأخلاق وطيّب العشرة مستقيم السيرة، وعلى أنّ قبيحها سيء الأخلاق شرير أمّا الاستقراء فظاهر، وأمّا القياس، فلأنّ حسن الأخلاق وقرب النفس من الاستقامة على طلب الحقّ مقتضى قرب المزاج من الاعتدال، وكذلك حسن الصورة فيترتّب قياس هكذا: حسن الصورة معتدل المزاج، وكلّ معتدل المزاج حسن الأخلاق، وإن شئت هكذا: معتدل المزاج حسن الصورة، ومعتدل المزاج حسن الأخلاق والقضيتان أكثريّتان فإنّ بعض حسن الصورة قبيح الباطن، وبعض خبيث الظاهر حسن الباطل، ولذلك استشهد بما رواه عن الرسول صلَّی اللهَّ عليه وآله وسلَّم: «فإنّ اللهَّ يحب العبد من حيث صورته الحسنة»(1) لكونها

ص: 296


1- اختیار مصباح السالكين لابن میثم البحراني: ص 326، وشرح نهج البلاغة: ج 3 ص 251؛ ولم نعثر عليه في مصادر أخرى

مقتضى الحكمة الإلهيّة وأنسب إلى الوجود من القبيحة الَّتي هي أنسب إلى العدم الَّذي هو الشرّ المحض ويبغض عمله من جهة ما هو شرّ، وكذلك يحبّ العمل الباطن الطيب، ويبغض بدنه القبيح لنسبته إلى العدم الَّذي هو شرّ، وأمّا النصّ في دلالة الظاهر على الباطن فما نطق به القرآن الحكيم: «وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا»(1)، أي: عسراً مشوماً، ابن عبَّاس ومجاهد والحسن وقتادة والسدي هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر بالأرض العذبة التربة وبالأرض المالحة، شبّه المؤمن الَّذي إذا سمع القرآن، وعاه وقلبه وانتفع به فبان أثره عليه بحسن الأعمال، وطيّبها بالبلد الطيّب، إذ كان البلد الطيّب يمر به ریح، ويخصب ويحسن أثر المطر عليه، وشبّه الكافر الَّذي يسمع القرآن؛ فلا يؤثّر فيه أثرا محمودا بالبلد الخبيث، إذ كان لا يمرع ولا يخصب ولا يتبيّن أثر المطر فيه، وأمّا البغض والمحبّة كما علمت تعودان في حق اللهَّ سبحانه إلى إرادته، وكراهته؛ فما كان محضاً أو الخير غالبٌ عليه؛ فهو مراد له بالذات، وما كان شرّاً محضاً أو غالباً فهو مراد له بالعرض مكروه له بالذات، «واعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ نَبَاتاً وكُلُّ نَبَاتٍ لَا غِنَى بِهِ عَنِ الْمَاءِ واِلْمِيَاهُ مُخْتَلِفَةٌ»: استعار لفظ النبات لزيادة الأعمال ونموّها، ورشّح تلك الاستعارة بذكر الماء وكنّی به عن المادّة القلبيّة للأعمال، ووجه المشابهة أنّ الحركات في العبادة إنّما تكون بالمثول القلبيّة والنيّات كما أنّ حركة النموّ للنبات إنّما تكون بالماء، وظاهر أنّ اختلاف المياه في الحلاوة والملوحة سبب لاختلاف استعداد النبات لطيب المغارس والثمار؛ «فَمَا طَابَ سَقْيُهُ»: أي: نصيبه من الماء، «طَابَ غَرْسُهُ وحَلَتْ»: من الحلوة، «ثَمَرَتُهُ ومَا خَبُثَ سَقْيُهُ خَبُثَ غَرْسُهُ وأَمَرَّتْ ثَمَرَتُهُ»: فكذلك ما يشبه النباتات وهي الأعمال یكون طيب ثمارها وهي ثمار

ص: 297


1- سورة الأعراف: الآية 58

الجنّة وأنواع لذّاتها بحسب طيب مادّتها من الإخلاص من اللهَّ، وخبثها بحسب خبث مادّتها من الرياء، وحبّ الشهرة وتكون ثمرتها أمرّ الثمار، إذ لا أمرّ مذاقاً من عذاب النار، واللهَّ تعالى أعلم.

ومن خطبة له عليه السّلام يذكر فيها بديع خلقة الخفاش:

«الْحَمْدُ للهَّ الَّذِي انْحَسَرَتِ الأَوْصَافُ»: قلت «عَنْ كُنْهِ مَعْرِفَتِهِ»: ولمَّا كانت ذاته تعالى برية عن انحناء التَّركيب لم يكن للعقول ادراکها بشيء من الأوصاف بالكنه وقد سبق ذلك مراراً: «ورَدَعَتْ»: كفَّت، «عَظَمَتُهُ الْعُقُولَ فَلَمْ تَجِدْ مَسَاغاً»: طريقاً، «إِلَی بُلُوغِ غَايَةِ مَلَكُوتِهِ»: وذلك ظاهر لأنّ الإدراك للأشياء بحقائقها إنّما يتمّ بإدراك حقائق عللها، وإذا استلزمت عظمته ارتفاعه عن إدراك العقول بردعها عن معرفة كنهه وظاهر أنّها لا تجد مسلكاً إلى غاية ملكوته، وما عليه نظام الوجود الأعلى والأسفل كما هو «هُوَ اللهَّ»: اعلم أنَّه هُو الهو المطلق، وهو الَّذي لا يكون هويّته موقوفة على غيره ومستفادة منه؛ فإنّ كلّ ما كان مستفاداً من الغير مالم يعتبر غيره لم يكن هو هو المطلق وكل ما كان هو هو لذاته فسواء اعتبر غيره او لم يعتبر فهو هو لكن كل ممكن؛ فوجوده من غيره؛ فكل ما وجوده من غيره فخصوصية وجوده وبعينه من غيره وهو الهوية؛ فأذن كل ممکن فوجوده من غيره؛ فكل ما وجوده من غيره؛ فخصوصية وجوده وبعينه من غيره، وهو الهوية؛ فأذن كل ممكن فهويته من غيره؛ فلا يكون هو هو لذاته لكن المبدأ الأول هو هو لذاته؛ فلا يكون من غيره؛ فلا يكون ممكناً فهو واجب لذاته؛ فأذن واجب الوجود هو الذي لذاته هو هو وعقبه باسم الله، وذلك أنه لما كانت تلك الهوية، والخصوصية عدیم الاسم لا يكون شرحها الا بلوازمها، واللوازم منها اضافية ومنها سلبية، واللوازم الإضافية اشد تعريفاً، والأكمل في التعريف هو الازم الجامع لنوعي

ص: 298

الإضافة، والسلب وذلك كون تلك الهواية الهاً؛ فأن الإله هو الذي ينسب إلى غيره، ولا ينسب هو إلى غيره؛ فانتساب غيره إليه أضافي وعدم انتسابه إلى غيره سلبي؛ فلا جرم عقب ذکر الهوية بما يدل على ذلك الازم لا كمليته في التعريف من غيره ليكون كالكاشف لما دل عليه لفظ هو وفيه سر آخر وهو أنه لما عرف تلك الهوية تلازماها، وهو الإلاهية نبه على أنه لأجزاء لتلك الهوية وإلا لكان العدول عنه إلى التعريف بالازم قصوراً الحق وهو الثابت الموجود. «الْمُبِينُ»: ظاهر (1)«أَحَقُّ وأَبْیُنَ مِمَّا تَرَى الْعُيُونُ»: وذلك واضح؛ فإنّ العلم بوجود الصانع جلَّت عظمته نطريّ للعقول، وإن احتاج إلى بيّنة ما، والعلوم الَّتي مستندها الحس قد يقع الخلل فيها بسبب ما يقع الوهم من اشتباه المحسوسات، وعدم ضبطها أو بسبب تقصير الحسّ في كيفيّة الأداء لصورة المحسوس؛ فكانت المعقولات الصرفة أحقّ لإدراك العقل لها بذاته.

«لَمْ تَبْلُغْهُ الْعُقُولُ بِتَحْدِيدٍ فَيَكُونَ مُشَبَّهاً»: وفيه إشارة لطيفة تدل على کمال علمه عليه السّلام، وذلك أنّك علمت في المقدّمات أنّ العقول إذا قويت على الاتّصال بالأمور المجرّدة، وكانت القوّة المتخيّلة بحيث تقوى على استخلاص الحسّ المشترك، وضبطه عن الحواسّ الظاهرة؛ فإنّ النفس، والحال هذه إذا توجّهت لاقتباس أمر معقول وانجذبت القوى النفسانيّة أثرها انتقشت بذلك المعقول، ثمّ إنّها تستعين في ضبط ذلك الأمر بالقوّة المتخيّلة فتحاكيه بما يشبهه من الأمور المحسوسة، ثمّ تحطَّه إلى خزانة الخيال فيصير مشاهداً مثّلاً، إذا عرفت ذلك فنقول: لو كان الباري تعالى مما تدركه العقول، وتشتبه بحدّ وصفة لكان استثباتها له على النحو المذكور، فيلزم أن يكون مشبّها بغيره من الأجسام، والجسمانیّات

ص: 299


1- ورد في بعض النسخ: أحق

ليثبت صورته عند الذهن، وقد تنزّه قدس اللهَّ عن التشبيه بشيء منها.

«ولَمْ تَقَعْ عَلَيْهِ الأَوْهَامُ بِتَقْدِيرٍ فَيَكُونَ مُمَثَّلاً»: إذ الوهم لا يدرك إلَّا المعاني الجزئيّة المتعلَّقة بالمحسوسات، ولا بدّ له في إدراك ذلك المدرك من بعث المتخيّلة على تشبيهه بمثال من الصور الجسمانيّة، فلو وقع عليه وهم لمثّله في صورة حسّية حتّى أنّ الوهم إنّما يدرك نفسه في مثال من صورة وحجم ومقدار.

خَلَقَ الْخَلْقَ عَلَى غَیْرِ تَمْثِيلٍ ولَا مَشُورَةِ مُشِیرٍ ولَا مَعُونَةِ مُعِینٍ»: وقد سبق أيضًا بيانه في الخطبة الأولى وغيرها.

«فَتَمَّ خَلْقُهُ بِأَمْرِهِ»: بلغ إلى غايته الممكن في الكمال له أذ نطقت البراهين العقليّة أنّ كلّ ما أمكن لشيء وصل إليه من الجود الإلهي المنزّه عن البخل والمنع من جهته.

«وأَذْعَنَ لِطَاعَتِهِ»: بلغ إلى غايته الممكن في الكمال له أذ نطقت البراهين العقليّة أنّ كلّ ما أمكن لشيء وصل إليه من الجود الإلهي المنزّه عن البخل والمنع من جهته.

«فَأَجَابَ ولَمْ يُدَافِعْ وانْقَادَ ولَمْ يُنَازِعْ»: ثم شرع في مقصود الخطبة قائلاً «ومِنْ

لَطَائِفِ صَنْعَتِهِ وعَجَائِبِ خِلْقَتِهِ مَا أَرَانَا مِنْ غَوَامِضِ الْحِكْمَةِ فِي هَذِهِ الْخَفَافِيشِ

الَّتِي يَقْبِضُهَا الضِّيَاءُ الْبَاسِطُ لِكُلِّ شَيْءٍ ويَبْسُطُهَا الظَّاَمُ الْقَابِضُ لِكُلِّ حَيٍّ»: ثم نبه على العلة الطبيعية لذلك فقال: «وكَيْفَ عَشِيَتْ»: اظلمت «أَعْيُنُهَا عَنْ أَنْ تَسْتَمِدَّ

مِنَ الشَّمْسِ الْمُضِيئَةِ نُوراً تَهْتَدِي بِهِ فِي مَذَاهِبِهَا»: والَّذي ذكر في علَّة ذلك الضعف هو إفراط التحلَّل في الروح الحامل للقوّة الباصرة من هذا الحيوان إذا لقي حرّ النهار فيصيبه لذلل التحلَّل ضعف يحتاج معه إلى التعوّض عمّا يتحلَّل فيرجع إلى

ص: 300

العضو الباصر منها طلباً لبدل ما يتحلَّل فيستكمل البدل بقرب الليل لمكان برده وضعف حرارة النهار فيعود الإبصار، ووصفه عليه السّلام بهذه الخاصيّة منها وكيفيّة حاله فيها وصف لا مزيد على فصاحته.

«تَتَّصِلُ بِعَلَانِيَةِ بُرْهَانِ الشَّمْسِ إِلَی مَعَارِفِهَا»: ومعارفها ما تعرفه من مذاهبها ووجوه تصرّفاتها وتتصل عطف على تستمد، «ورَدَعَهَا بِتَلأْلُؤِ ضِيَائِهَا عَنِ الْمُضِيِّ فِي سُبُحَاتِ إِشْرَاقِهَا»: جلالته وبهاؤه، «وأَكَنَّهَا فِي مَكَامِنِهَا عَنِ الذَّهَابِ فِي بُلَجِ ائْتِلَاقِهَا»: ضوؤها؛ «فَهِيَ مُسْدَلَةُ الْجُفُونِ بِالنَّهَارِ عَلَى حِدَاقِهَا»: لأن تحلَّل الروح الحامل للقوّة الباصرة سبب للنوم أيضاً فيكون ذلك الآل ضربا من اليوم وكثيراً مايلحق كثيرا من الحيوان وسببه ما ذكر، «وجَاعِلَةُ اللَّيْلِ سِرَاجاً تَسْتَدِلُّ بِهِ فِي

الْتِاَسِ أَرْزَاقِهَا فَلَا يَرُدُّ أَبْصَارَهَا إِسْدَافُ ظُلْمَتِهِ»: مصد أسدف بمعنى أظلم واضافة إليها للتخصيص كقولهم كدي النوم واسدف الليلك أظلم إظلاماً مخصوصاً أبو عبيد هو اختلاط الظلام بالضوء کما تكون بعد طلوع الشَّمس الظلمة وعند غيرهم الضوء وهو من الأضداد، «ولَا تَمْتَنِعُ مِنَ الْمُضِيِّ فِيهِ لِغَسَقِ دُجُنَّتِهِ»: أي: لظلامه وهذه الإضافة أيضاً لتأكيد الوصف بالظلمة، «فَإِذَا أَلْقَتِ الشَّمْسُ قِنَاعَهَا»: استعارة لها ملاحظة لشبهها بالمرأة ذات القناع وکنی بالقناع عن بروزها من حجاب الأرض، «وبَدَتْ أَوْضَاحُ نَهَارِهَا»: وضح النهار وضوؤه، ودَخَلَ مِنْ إِشْرَاقِ نُورِهَا عَلَى الضِّبَابِ فِي وِجَارِهَا»: بيتها، «أَطْبَقَتِ الأَجْفَانَ عَلَى مَآقِيهَا»: موق العين طرفها مما يلي الأنف والأذن وما في لغته فيه، «وتَبَلَّغَتْ»: اقتنعت «فِي ظُلَمِ لَيَالِيهَا فَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ اللَّيْلَ لَهَا نَهَاراً ومَعَاشاً والنَّهَارَ سَكَناً وقَرَاراً وجَعَلَ لَهَا أَجْنِحَةً مِنْ لَحْمِهَا»: بلا ریش وقصب كسائر أجنحة الطير بل من عروق ورق تبسطه و تقبضه على مفاصل مقبوضة من رقة يوجب لها الاتساق

ص: 301

عند الطيران ولا غلط توجب لها الثقل وإليه أشار بقوله: «تَعْرُجُ بِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ

إِلَی الطَّیَرَانِ كَأَنَّهَا شَظَايَا الْآذَانِ»: قطعها، «غَیْرَ ذَوَاتِ رِيشٍ ولَا قَصَبٍ»: أي: لا ریش ولا للخفاش ولا عظم فيها ولا عرق کا یكون لسائر الطيور، «إِلَّا أَنَّكَ

تَرَى مَوَاضِعَ الْعُرُوقِ بَيِّنَةً أَعْلَماً لَهَا جَنَاحَانِ لَّمَا يَرِقَّا فَيَنْشَقَّا ولَمْ يَغْلُظَا فَيَثْقُاَ»: ثم ثلث التعجب فعجبت حالها مع ولدها، «تَطِیرُ ووَلَدُهَا لَصِقٌ بِهَا لَاجِئٌ إِلَيْهَا

يَقَعُ إِذَا وَقَعَتْ ويَرْتَفِعُ إِذَا ارْتَفَعَتْ لَا يُفَارِقُهَا حَتَّى تَشْتَدَّ أَرْكَانُهُ ويَحْمِلَهُ لِلنُّهُوضِ

جَنَاحُهُ ويَعْرِفَ مَذَاهِبَ عَيْشِهِ ومَصَالِحَ نَفْسِهِ»: وذلك أمر يخالف به سائر الحيوان وهو محلّ التعجّب أيضاً، ومن للعامة الأمثال: قيل للخفّاش: لماذا لا جناح لك؟ قالت: لأنّي تصوير مخلوق، قيل: فلماذا لا تخرج نهارا؟ قال: حياء من الطيور، يريدون أنّ المسيح عليه السّلام صوّره، وإنّ إليه الإشارة بقوله تعالى: «إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ»(1) وفي الطير عجائب لا تهتدي لها العقول بل وفي كلّ ذرّة من ذرّات مبدعاته ومكوّناته لطائف وأسرار کالنحل والبعوض والنمل تعجز عن إدراكها واستقصاء أوصافها ألباب الألبّاء وحكمة الحكماء فسبحانه ما أعظم شأنه وأبهر برهانه؛ فَسُبْحَانَ الْبَارِئِ لِكُلِّ شَيْءٍ

عَلَى غَیْرِ مِثَالٍ خَلَا: مضى، مِنْ غَیْرِهِ: مضى، من غيره: أي: لا احتیاج له إلى سواه بل إذا أراد شيئاً فحسبه أن يقول له: کن فیکون بلا مانع ولا منازع وبالله التوفيق.

ومن خطبة له عليه السّلام خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم:

«فَمَنِ اسْتَطَاعَ عِنْدَ ذَلِكَ»: هذا الكلام يقتضي أنَّه سبق منه قبل هذا الفصل ذكر فتن وحروب تقع بين المسلمين وحث على من أدركها أن يحبس نفسه على طاعة الله دون مخالطتها والدخول فيها، «أَنْ يَعْتَقِلَ»: يحبس «نَفْسَهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ

ص: 302


1- سورة المائدة: الآية 110

فَلْيَفْعَلْ وإنْ أَطَعْتُمُونِ فَإِنِّي حَامِلُكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَى سَبِيلِ الْجَنَّةِ»: هو الدين القيم وظاهر شرط حمله لهم عليه بالطاعة إذ لا رأي لمن لا يطاع، «وإِنْ كَانَ ذَا مَشَقَّةٍ

شَدِيدَةٍ ومَذَاقَةٍ مَرِيرَةٍ»: فيه تنبيه على أنّ من الدين ما هو كذلك كالجهاد، وكذلك سائر التكاليف، «وأَمَّا فُلَانَةُ»: كناية عن عائشة: «فَأَدْرَكَهَا رَأْيُ النِّسَاءِ»: في حربها بالبصرة، وقد علمت أنّ رأى النساء يرجع إلى أفن و ضعف وفي الخبر لا يفلح قوم اسندوا أمرهم إلى امرأة وجاء انهن قليلات عقل و دین کما سبق بيان أخلاقهن، «وضِغْنٌ غَلَا فِي صَدْرِهَا كَمِرْجَلِ الْقَیْنِ»: أي: كقدر الصَّباغ قد نقل اسباب عدة منها ما كان بينها وبين فاطمة عليها السَّلَام بسبب تزويج رسول الله صلى الله عليه [وآله] سلَّم لها عقيب موت خديجة، ومن المعتاد ما يقع بين المرأة وابنة زوجها من غيرها من الكدر وكان سبب البغض من المرأة لبنت الزَّوج حركة المتخيلة بإقامة البنت مقام الأم التي هي ضرة لها وبسببها بها فيقيمها مقام الضرة ويتوهم فيها العداوة والبغضاء ثم ينشأ ذلك الخيال ويقوى بأسباب أخرى فيتأكد البغض خصوصاً إن كان للزوج إكرام لبنته كما هو المنقول من الرَّسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في حق فاطمة عليها السَّلَام ومنها ما كان من أمر قذف عائشة ثقل عنه عليه السَّلَام كان من المشيرين بطلاقها تنزيهاً لعرض رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من أقوال المنافقين وقال له لمَّا اسْتَشَارَهُ أن هي الأشسع نعلك، وقال: اسأل الخادمة وخوفها فإن قامت على الجحود فإضربها وبلغها كل ذلك الكلام وسمعت إضافة من الغير مما جرت عادة النَّاس أن يتداولوه مثل هذه الواقعة ونقل إليها أنَّ عَليِّاً عليه السَّلَام وفاطمة عليها السَّلَام سراً بذلك؛ فتفاقم الأمر وغلظ ومنها كون النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم سدّ باب أبي بكر من المسجد وفتح باب صهره، ومنها بعثه إيّاها بسورة براءة، ثمّ أخذها منها ودفعها إليه عليه السَّلَام إلى غير ذلك من الأسباب الجزئيّة الَّتي تشهد بها قرائن الأحوال ولا تكاد

ص: 303

تتبيّن بالأقوال؛ فكلّ ذلك ممّا يثير الأحقاد ویؤکَّد الأضغان، «ولَوْ دُعِيَتْ لِتَنَالَ

مِنْ غَیْرِي مَا أَتَتْ إِلَيَّ: أي: الذي فعلت، «لَمْ تَفْعَلْ»: المكان الباعث لها في حقِّه دون غيره، «ولَهَا بَعْدُ حُرْمَتُهَا»: وجه اعتذاره في الكفّ عن أذاها بعد استحقاقها له في نظره، وحرمتها بكونها زوجة للرسول اللهَّ صلَّى اللهَّ عليه وآله وسلَّم، «الأُولَی والْحِسَابُ عَلَى اللهَّ»: تنبيه على أنّه وإن سامحها في الدنيا بما فعلت فإنّ اللهَّ تعالى هو المتولَّي لحسابها في الآخرة، ولعلّ هذا الكلام منه عليه السَّلَام قبل إظهارها للتوبة وعلمه بذلك؛ لأنّه في معنى إظهار الوعيد لها من اللهَّ تعالى.

منها: في ضعف الإيمان:

سَبِيلٌ أَبْلَجُ الْمِنْهَاجِ»: واضح المسالك إلى الجثة، «أَنْوَرُ السِّرَاجِ»: في ظلمات الجهل ولفظ السّراج مستعار؛ «فَبِالإِيمَانِ يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحَاتِ»: وهي الأعمال الصالحات من سائر العبادات و مکارم الأخلاق الَّتي وردت بها الشريعة، وظاهر كونها معلولات للتصديق القلبي وثمرات له يستدلّ بوجوده في قلبه على ملازمته ها استدلالاً بالعلَّة على المعلول، «وبِالصَّالِحَاتِ يُسْتَدَلُّ عَلَى الإِيمَانِ»: ويستدلّ بصدورها منه على وجوده في قلبه استدلالا بالمعلول على العلّة، «وبِالإِيمَانِ يُعْمَرُ الْعِلْمُ»: لأنَّ الإيمان أعني التصديق القلبي بالتوحيد بما جاء به الرسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، إذا عضده البرهان کان علماً وهو روح العلوم ويطلق اسم الإيمان عليه مع ثمراته وهي الأعمال الصَّالحة لأنها من كمالاته ولا تمام ولا منفعة بدونها؛ فإن العلم إذا لم يعضد بالعمل فهو قليل الفائدة في الآخرة بل لا ثمرة له؛ فهو كالخراب الغير الصَّالح للاقتناء فكما لا يصلح الخراب للسکنی؛ فكذلك العلم الحالي عن الأعمال الصالحة ولذلك قال عليه السّلام: العلم مقرون بالعمل، والعلم يهتفّ بالعلم فإن جاء به وإلَّا ارتحل، «وبِالْعِلْمِ يُرْهَبُ الْمَوْتُ»: لأنّ العلم باللهَّ تعالى غاية

ص: 304

خلقه للإنسان وملاحظة نسبة الدنيا إلى الآخرة والعلم بأحوال المعاد يستلزم ذکر الموت ودوام ملاحظته وذلك مستلزم لرهبته والعمل له لما بعده، «وبِالْمَوْتِ تُخْتَمُ الدُّنْيَا وبِالدُّنْيَا تُحْرَزُ الآخِرَةُ»: إشارة إلى أنّ الدنيا محلّ الاستعداد لتحصيل الزاد اليوم المعاد، وفيها يحصل كمال النفوس الَّذي تحرز به سعادة الآخرة وقد سبق بیانه، «بالقِيَامَة تَزلف الجَنَّة للمتَّقِن وتَرْز الجَحِيم لِلْغَاوِين»: إشارة إلى لطيفة ذكرناها غير مرّه، وهو أنّ بالموت وطرح جلباب البدن يتبيّن ما للإنسان وما عليه ممّا قدّم من خیر و شرّ وإن كانت ثمرة ذلك أثراً حاصلاً للنفس في الدّنيا لأنّ التألَّم به والالتذاذ إنّما يحصل لها بعد طرح البدن، وإليه الإشارة بقوله تعالى: «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا»(1)، ولفظ الإزلاف والبروز يشهد بذلك لأنّ فيه معنی الظهور: أي ظهور الإدراك إذن، «وإِنَّ»: بالفتح والكسر، «الْخَلْقَ لَا مَقْصَرَ لَهُمْ عَنِ الْقِيَامَةِ مُرْقِلِینَ»: مسرعين «فِي مِضْمَرِهَا إِلَی الْغَايَةِ الْقُصْوَى»: كلام في غاية الحسن مع غزارة الفائدة، وهو إشارة إلى أنّها لا بدّ لهم من ورود القيامة ومضمارها: مدّة الحياة الدنيا وهولفظ مستعار، وقد سبق بيان وجهها في قوله: ألا وإنّ اليوم المضمار ومرقلين: حال، وإرقاهم كناية عن سيرهم المتوهّم في مدّة أعمارهم إلى الآخرة، والغاية القصوى هي السعادة والشقاوة الأُخرويّة، «مِنهُ» في صفة حال أهل القُبُور وغيرها، «قَدْ شَخَصُوا»: خرجوا «مِنْ مُسْتَقَرِّ الأَجْدَاثِ وصَارُوا إِلَی

مَصَايِرِ الْغَايَاتِ»: الجنة والنار لِكُلِّ دَارٍ «أَهْلُهَا لَا يَسْتَبْدِلُونَ بِهَا ولَا يُنْقَلُونَ عَنْهَا»: والمراد بأهل النار الكفار فأن العصاة من أهل القبلة وأن صح أنهم يعذبون لكن ثبت أنهم ينتقلون عنها.

ص: 305


1- سورة آل عمران: الآية 30

«وإِنَّ الأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ لَخُلُقَانِ مِنْ خُلُقِ اللَّهِ»: إطلاق الخلق على اللهَّ استعارة لأنّ حقيقته ملكة نفسانيّة تصدر عن الإنسان بها أفعال خيريّة أو شرّيّة، وإذ قد تنزّه قدسه تعالى عن الكيفيّات، والهيئات لم يصدق هذا اللفظ عليه حقيقة لكن لمّا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأخلاق الفاضلة أشبه ما نعتبره له تعالى من صفات الكمال من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأفعال الخيريّة الَّتي بها نظام العالم وبقاؤه لحكمته وقدرته وجوده وعنايته، وعدم حاجته ما يتعارف من الأخلاق الفاضلة الَّتي تصدر عنها الأفعال الخيريّة البشرّيّة فاستعير لها لفظ الأخلاق.

(1)«لَا يُقَرِّبَانِ مِنْ أَجَلٍ ولَا يَنْقُصَانِ مِنْ رِزْقٍ»: أنما قاله لأن كثيراً من ضعفاء الاعتبار العقليّ يمنعهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنکر توهّم أحد الأمرين، وخصوصاً ترك نهى الملوك من المنكرات.

وعَلَيْكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّهُ الْحَبْلُ الْمَتِینُ»: ووجه المشابهة في هذه الاستعارة كونه سبباً لنجاة المتمسّك به من الهوى في دركات الجحيم کالحبل في نجاة المتمسّك به، ورشّح بذكر المتانة.

«والنُّورُ الْمُبِینُ»: وهذه الاستعارة اعتبر الاهتداء به إلى المقاصد الحقيقية في سبيل الله، «والشِّفَاءُ النَّافِعُ»: من الم الجهل، «والرِّيُّ النَّاقِعُ»: السَّاكن للعطشان من ماء الحياة الأبدية كالعلوم والملكات الباقية، «والْعِصْمَةُ لِلْمُتَمَسِّكِ والنَّجَاةُ لِلْمُتَعَلِّقِ»: معناه كالَّذي سبق في كونه حبلاً، «لَا يَعْوَجُّ فَیُقَامَ»: إذ ليس هو كسائر الآلات المحسوسة، «ولَا يَزِيغُ فَيُسْتَعْتَبَ»: أي: يطلب منه العقبي والرجوع إلى الحقّ

ص: 306


1- ورد في بعض النسخ: سُبْحَانَهُ وإِنُهَّمَا

كما يفعله سائر الحكام من الناس، «ولَا تُخْلِقُهُ كَثْرَةُ التَّديد»: في الألسنة، «ووُلُوجُ

السَّمْعِ»: وهو من خصائص القرآن الكريم؛ فإنّ كلّ كلام نثراً أو نظماً إذا كثرت تلاوته محّته الأسماع واستهجن إلَّا القرآن الكريم؛ فإنّه لا يزال غضّاً طريّاً يزداد على طول التكرار في كرور الأعصار محبّة في القلوب و حسناً، والَّذي يلوح من سرّ ذلك كثرة أسراره وغموضها حتَّى لا يطَّلع عليها إلَّا الأفراد مع كونه في الغاية من فصاحة الألفاظ وعذوبة المسمع، «مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ ومَنْ عَمِلَ بِهِ سَبَقَ، وقام إليه رجل وقال: أخبرنا يا أمير المؤمنين عن الفتنة، وهل سألت عنها رسول اللهَّ صلَّى اللهَّ عليه وآله وسلَّم؟ فقال عليه السّلام: لَّمَا أَنْزَلَ اللُّهَ سُبْحَانَهُ قَوْلَهُ: «ألم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وهُمْ لا يُفْتَنُونَ» عَلِمْتُ أَنَّ الْفِتْنَةَ لَا تَنْزِلُ بِنَا ورَسُولُ اللَّهِ صلّی الله عليه وآله وسلّم بَیْنَ أَظْهُرِنَا فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الْفِتْنَةُ الَّتِي أَخْبَرَكَ اللَّهُ بِهَا تَعَالَی؟ فَقَالَ يَا عَلِيُّ إِنَّ أُمَّتِي سَيُفْتَنُونَ من بَعْدِي فَقُلْتُ يَا رَسُولُ اللَّهِ أَوَ لَيْسَ قَدْ قُلْتَ لِي يَوْمَ أُحُدٍ حَيْثُ اسْتُشْهِدَ»: صار شهيداً، «مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وحِيزَتْ: منعت، «عَنِّي الشَّهَادَةُ فَشَقَّ ذَلِكَ»: المنع «عَلَيَّ فَقُلْتَ لِي أَبْشِرْ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ وَرَائِكَ؟ فَقَالَ لِي: إِنَّ ذَلِكَ لَكَذَلِكَ فَكَيْفَ صَبْرُكَ إِذاً؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللِّهَ لَيْسَ هَذَا مِنْ مَوَاطِنِ الصَّبْرِ ولَكِنْ مِنْ مَوَاطِنِ(1) الشُّكْرِ»: قد علمت فيما سبق أنّ الصبر والشكر من أبواب الجنة والمقامات العالية للسالك إلى الله تعالى، لكن علمت أن مقام الشكر أرفع من مكان الصَّبر، ولمّا كان هو عليه السَّلَام سیّد العارفين بعد سیّد المرسلین صلَّی اللهَّ عليه وآله وسلَّم لا جرم كان أولى من صدرت عنه هذه الإشارة، وقَالَ: «يَا عَلِيُّ إِنَّ الْقَوْمَ سَيُفْتَنُونَ بِأَمْوَالِهِمْ ويَمُنُّونَ بِدِينِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ ويَتَمَنَّوْنَ رَحْمَتَهُ(2) ويَسْتَحِلُّونَ حَرَامَهُ بِالشُّبُهَاتِ الْكَاذِبَةِ والَأهْوَاءِ

ص: 307


1- ورد في بعض النسخ: الْبُشَرْی
2- ورد في بعض النسخ: ويَأْمَنُونَ سَطْوَتَهُ

السَّاهِيَةِ فَيَسْتَحِلُّونَ الْخَمْرَ بِالنَّبِيذِ»: وهو ضربان حلال و حرام قيل: كان ماء المدينة مرّ لا يستطاع ليظهر به؛ فأمر رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أصحابه أن يتخذ كلّ واحدٍ منهم شيئاً أو قربةً وتملأ بالماء ویُجعل فيه تميرات؛ فیر می كلّ رجل بحفنة من التمر في الماء الملح فیزیل ملوحته ويستطاب عند الصَّباح؛ فإذا ترك مدَّة مديدة؛ فيتغير ويصير مسكراً كان حراماً؛ فمن قال على سبيل القياس تمرة طيّبة وماء طهور؛ فاتخذه وتطهَّر به فقد باء بغضبٍ من الله واستحلّ الذي حُکمه حُکم الخمر، «والسُّحْتَ»: الرَّشوة، «بِالْهَدِيَّةِ والرِّبَا بِالْبَيْعِ»: كلّ ذلك مشاهد في زماننا وقله بقرون؛ فقُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَيِّ الْمَنَازِلِ أُنْزِلُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ أَبِمَنْزِلَةِ فتنة أَمْ بِمَنْزِلَةِ ردَّة(1)؟ فَقَالَ: بِمَنْزِلَةِ فِتْنَةٍ»: لأنهم على الإقرار بالشهادتين وإن ارتكبوا من المحارم ما ارتكبوا لشبه غطَّت على أعين بصائرهم هذا وقد روي كثير من المحدثين عنه عليه السَّلَام عن النَّبيّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أنَّه قال: «إنّ الله قد كتب عليك جهاد المفتونين ما كتب عليّ جهاد المشركين، قال: فقلت: یا رسول اللهَّ وما هذه الفتنة الَّتي كتب عليّ فيها الجهاد؟ قال: فتنة قوم يشهدون أن لا إله إلَّا اللهَّ وأنّي رسول اللهَّ وهم مخالفون للسنّة؛ فقلت: يا رسول اللهَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: فعلام أقاتلهم وهم يشهدون کما أشهد؟، قال: على الإحداث في الدين ومخالفة الأمر؛ فقلت: يا رسول اللهَّ إنّك كنت وعدتني بالشهادة فاسأل اللهَّ أن يعجّلها لي بين يديك، قال: فمن يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين أما إنّي وعدتك الشهادة وستستشهد تضرب على هذا فتخضب هذه فكيف صبرك إذاً؟؛ فقلت: يا رسول اللهَّ ليس ذا بموطن صبر هذا موطن شكر قال: أجل أصبت فأعتدّ للخصومة فإنّك مخاصم فقلت: يا رسول اللهَّ لو بيّنت لي قليلاً. فقال:

ص: 308


1- ورد في بعض النسخ: أَبِمَنْزِلَةِ ردَّة أَمْ بِمَنْزِلَةِ فتنة

إنّ أُمّتي ستفتن من بعدي فتتأوّل القرآن وتعمل بالرأي وتستحلّ الخمر بالنبيذ والسحت بالهدية والربا بالبيع وتحرّف الكتاب عن مواضعه وتغلب كلمة الضلال فكن جلیس بیتك حتّى تقلَّدها فإذا قلَّدتها جاشت عليك الصدور وقلبت لك الأمور فقاتل حینئذ على تأويل القرآن کما قاتلت على تنزيله فليست حالهم الثانية دون حالهم الأولى فقلت: يا رسول اللهَّ فبأيّ المنازل أُونزل هؤلاء المفتونين أبمنزلة فتنة أم بمنزلة ردّة، فقال: بمنزلة فتنة يعمهون فيها إلى أن يدركهم العدل، فقلت: یا رسول اللهَّ أيدركهم العدل منّا أم من غيرنا؟ قال: بل منّا، فبنا فتح وبنا يختم وبنا ألَّف اللهَّ بين القلوب بعد الشرك، وبنا تألف القلوب بعد الفتنة؛ فقلت: الحمد للهَّ على ما وهب لنا من فضله»(1).

ص: 309


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة لقطب الدين الراوندي: ص 98؛ و شرح نهج البلاغة الابن أبي الحديد المعتزلي: ج 9 ص 205؛ اختيار مصباح السالكين لابن میثم البحراني: ص 330. الفصول المهمة في معرفة الأئمة لعلي بن محمد أحمد المالكي (ابن الصباغ): ص 4289؛ شرح نهج البلاغة لابن میثم البحراني: ج 3 ص 265؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 9 ص 206

ص: 310

المحتويات

ومنها في صفة الملائكة عليهم السّلام:...5

و من كلام له عليه السّلام لما أراده الناس على البيعة بعد قتل عثمان...40

ومن خطبة له عليه السّلام:...42

و من خطبة له عليه السّلام:...48

ومن كلام له عليه السّلام في معرض التهديد لأهل الشام:...55

ومن كلام له عليه السّلام: في بيان شأن بني أمية...62

ومن خطبة له عليه السلام:...63

ومن خطبة له عليه السلام...66

ومن خطبة له عليه السّلام...69

ومن خطبة له عليه السّلام:...72

ومن خطبة له عليه السّلام:...77

ومن خطبة له عليه السّلام:...80

ومن خطبة له عليه السّلام:...82

ومن خطبة له عليه السّلام،...89

و من خطبة له (عليه السلام): وهي من خطب الملاحم:...96

منها في ذكر النبي صلى اللهَّ عليه وآله وسلم:...98

ص: 311

ومن خطبة له عليه السّلام:...108

منها في ذكر النبي صلى اللهَّ عليه وآله وسلم:...131

ومن خطبة له عليه السّلام...133

ومن خطبة له عليه السّلام: في التحذير من الدنيا واستدراج معايبها وغيره...155

ومن خطبة له عليه السّلام:...158

ومن خطبة له عليه السّلام: في الاستسقاء...166

ومن خطبة له عليه السّلام...169

ومن كلام له عليه السّلام في التوبيخ بالبخل بالأموال والأنفس...172

ومن كلام له عليه السّلام في اشتماله طباع أصحابه إلى مناصحته في الحرب بمدحهم:...173

ومن كلام له عليه السّلام...173

ومن كلام له عليه السَّلَام في ذكر فضيلته وغيره:...175

ومن خطبة له عليه السّلام بصفين حين أمرهم بالحكومة بعد أن نهاهم عنها،...176

ومن كلام له عليه السّلام للخوارج:...180

ومن كلام له عليه السّلام قاله لأصحابه في ساعة الحرب:...182

و من كلام له عليه السّلام...182

و من كلام له عليه السّلام في حث أصحابه على القتال...183

ومن كلام له عليه السّلام: بعد سماعه لأمر الحكمين وخدعة عمرو بن العاص لأبي موسی...189

ومن كلام له عليه السّلام لما عوتب على التسوية في العطاء:...190

ص: 312

ومن كلام له عليه السلام للخوارج أيضاً: في مشاجرته معهم؛...192

ومن كلام له عليه السلام وهو مما يخبر به عن الملاحم:...195

ومن خطبة له عليه السّلام: في التنفير عن الدنيا بذكر عدة من معايبها...200

ومن كلام له لأبي ذر: لما أُخرج إلى الرَّبذة...203

ومن كلام له عليه السّلام:...205

ومن خطبة له عليه السّلام:...207

ومن خطبة له عليه السّلام:...210

منها: في الثناء على الرسول صلَّى الله عليه - وآله - وسلَّم...212

ومن كلام له عليه السّلام وقد شاوره عمر في الخروج إلى الروم...217

و من كلام له عليه السّلام قد وقعت مشاجرة بينه وبين عثمان:...218

ومن كلام له عليه السّلام...219

ومن كلام له عليه السّلام في معنى طلحة والزبير،...220

منها: في احتجاج على طلحة والزبير ومن تابعهما على نكث بیعته...221

ومن خطبة له عليه السّلام يوميء فيها إلى ذكر الملاحم، ووصف الإمام المنتظر في آخر الزمان الموعود به في الخبر والأثر...223

منها: «حَتَّى تَقُومَ الْحَرْبُ بِكُمْ عَلَی سَاقٍ»:...224

منها: «كَأَنِّ بِهِ قَدْ نَعَقَ بِالشَّامِ»:...226

و من كلام له عليه السّلام في النهي عن غيبة الناس...229

ومن كلام له عليه السّلام: في النهي عن التسرع إلى التصديق بما يقال في حق مستور الظاهر

ص: 313

والمشهور بالصَّلاح والتدين من العيب والقدح في دينه:...232

ومن كلام له عليه السّلام:...233

ومن كلام له عليه السّلام في الاستسقاء:...235

ومن خطبة له عليه السّلام: في منافرة بينه وبين جمع من الصحابة الَّذين كانوا ينازعونه الفضل:...238

منها: «آثَرُوا عَاجِلًا وأَخَّرُوا آجِلًا»:...241

ومن خطبة له عليه السّلام...243

منها: في وجه ترك البدعة:...246

ومن كلام له عليه السّلام وقد استشاره عمر بن الخطاب في الشخوص:...246

ومن خطبة له عليه السّلام: في بيان بعثة الرَّسول صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وبيان غايتها وغاية غايتها...250

ومن كلام له عليه السّلام في ذكر البصرة:...255

ومن كلام له عليه السَّلَام قبل موته في والوعظ والاعتبار:...257

ومن خطبة له عليه السّلام يوميء فيها إلى الملاحم...262

منها: «وطَالَ الأَمَدُ بِهِمْ لِيَسْتَكْمِلُوا الْخِزْيَ»:...264

ومن خطبة له عليه السّلام:...268

«منها بَيْنَ قَتِيلٍ مَطْلُولٍ وخَائِفٍ مُسْتَجِير»:...274

ومن خطبة له عليه السّلام وفيها أبحاث من العلم الإلهي:...275

ومن خطبة له عليه السّلام في بيان صفة مطلق الضَّال،...285

ص: 314

ومن خطبة له عليه السلام:...292

منها: في الاشارة إلى فضائل أهل البيت عليهم السَّلَام:...294

ومن خطبة له عليه السّلام يذكر فيها بديع خلقة الخفاش:...298

ومن خطبة له عليه السّلام خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم:...302

منها: في ضعف الإيمان:...304

ص: 315

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.