تحفة العلية في شرح خطابات الحیدرية المجلد 2

هوية الکتاب

بسم الله الرحمن الرحیم

تحفة العلیة

في شرح خطاي باالحیدریة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 1087 لسنة 2019

مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda

رقم تصنيف BP193.1.A2 125 2020 :LC

المؤلف الشخصي: ابن حبيب الله، محمد، كان حيا 881 للهجرة - مؤلف.

العنوان: تحفة العلية في شرح خطابات الحيدرية: شرح نهج البلاغة /

بيان المسؤولية: افصح الدين محمد بن حبيب الله بن أحمد الحسني الحسيني؛ تحقيق السيد علي الحسني؛ تقديم السيد نبيل الحسني الكربلائي.

بيانات الطبع: الطبعة الأولى.

بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2021 / 1442 للهجرة.

الوصف المادي: 7 مجلد: صور طبق الأصل؛ 24 سم.

سلسلة النشر: (العتبة الحسينية المقدسة؛ 762).

سلسلة النشر: (مؤسسة علوم نهج البلاغة، 190؛ سلسلة تحقيق المخطوطات، 13).

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن مراجع ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام) الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - حديث.

مصطلح موضوعي: الخطب الدينية الإسلامية.

مصطلح موضوعي: البلاغة العربية.

اسم مؤلف اضافي: شرح ل (عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

اسم مؤلف اضافي: الحسني، علي - محقق.

اسم مؤلف اضافي: الحسني، نبيل، 1384 للهجرة - مقدم.

اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق)، مؤسسة علوم نهج البلاغة.

جهة مصدرة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 1

اشارة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 1087 لسنة 2019

مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda

رقم تصنيف BP193.1.A2 125 2020 :LC

المؤلف الشخصي: ابن حبيب الله، محمد، كان حيا 881 للهجرة - مؤلف.

العنوان: تحفة العلية في شرح خطابات الحيدرية: شرح نهج البلاغة /

بيان المسؤولية: افصح الدين محمد بن حبيب الله بن أحمد الحسني الحسيني؛ تحقيق السيد علي الحسني؛ تقديم السيد نبيل الحسني الكربلائي.

بيانات الطبع: الطبعة الأولى.

بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2021 / 1442 للهجرة.

الوصف المادي: 7 مجلد: صور طبق الأصل؛ 24 سم.

سلسلة النشر: (العتبة الحسينية المقدسة؛ 762).

سلسلة النشر: (مؤسسة علوم نهج البلاغة، 190؛ سلسلة تحقيق المخطوطات، 13).

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن مراجع ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام) الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - حديث.

مصطلح موضوعي: الخطب الدينية الإسلامية.

مصطلح موضوعي: البلاغة العربية.

اسم مؤلف اضافي: شرح ل (عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

اسم مؤلف اضافي: الحسني، علي - محقق.

اسم مؤلف اضافي: الحسني، نبيل، 1384 للهجرة - مقدم.

اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق)، مؤسسة علوم نهج البلاغة.

جهة مصدرة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 2

سلسلة تحقيق المخطوطات وحدة تحقيق الشروحات (13)

تحفة العلیة

في شرح خطاي باالحیدریة

لا فصح الدین محمد بن حبیب الله بن احمد الحسني الحسیني

من اعلام القرن الثَّامن الهجري

الجزء الثَّاني

تحقیق

السید علي الحسني الکربلائي

اصدار

مؤسسة علوم نهج البلاغة

العتبة الحسينية المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

العتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى

1442 ه - 2021 م

العراق - كربلاء المقدسة - مجاور مقام علي الأكبر (عليه السلام)

مؤسسة علوم نهج البلاغة

الموقع الألكتروني:

www.inahj.org

الإيميل:

Inahj.org@gmail.com

موبایل: 078150196933 - 07728263600

ص: 4

ومن كلام له عليه السّلام؛ «في معنى قتل عثمان»:

تبرّؤه عليه السّلام من الدخول في دمه؛ بأمر أو نهي؛ کما نسبه إليه معاوية وغيره «لو أمرت به لکنت قاتلا»: قضيّة شرطيّة(1)بينّ فيها لزوم كونه قاتلًا لكونه آمرا، وهذا اللزوم عرّفي، إذ يقال في العرف للآمر بالقتل قاتل. والآمر شريك الفاعل وإن كان القاتل في اللغة هو المباشر للفعل والَّذي صدر عنه، وكذلك بيّن في قوله: «أو نهيت عنه لکنت ناصرا»: لزوم كونه ناصراً لكونه ناهياً، وهو ظاهر وقد عرفت أنّ استثناء نقيض اللازم يستلزم نقيض الملزوم(2)، واللازمان في هاتين القضيّتين هما القتل والنصر، ومعلوم أنّ القتل لم يوجد منه عليه السّلام بالاتّفاق فإنّ غاية ما يقول الخصم أنّ قعوده عن نصرته دليل على إرادته لقتله، وذلك باطل، لأنّ القعود عن النصرة قد يكون لأسباب أخری کما سنبيّنه، ثمّ لو سلَّمنا أنّ القعود عن النصرة دليل إرادة القتل لكن إرادة القتل ليس بقتل، فإنّ كلّ أحد يحبّ قتل خصمه لكن لا يكون بذلك قاتلا. وكذلك ظاهر کلامه يقتضي أنّ النصرة لم توجد منه، وإذا انتقي اللازمان استلزم نفي أمره أو نهيه عنه. ويحتمل أن يريد في القضيّة الثانية استثناء عين مقدّمها لينتج تاليها: أي لكنّي نهيت عنه فكنت ناصر ولا عليك أن تقول على سبيل الاستفسار، أما أن يكون مرتکب المنكر أو فيجب عليه السلام القيام والأنكار أما على عثمان بالمساعدة عليه أن كان هو مرتكب المنكر أو على قاتليه بالأنكار عليهم ونصرته فقعوده عن أحد الأمرين

ص: 5


1- القضية الشرطية: هي ما حكم فيها بوجود نسبة بين قضية وأخرى، وهي تنقسم إلى شرطية متصلة، ومنفصلة؛ فالمتصلته: هي التي تكون النسبة بين القضيتين متعلقة أحدهما على الأخرى، والمنفصلة: هي التي لا نسبة بينمها، ولا تتعلق أحداهما بالأخرى؛ يُنظر المنطق لمحمد رضا المظفر: ص 155
2- اللازم والملزوم من القواعد المنطقية المستعملة في قياس القضايا، ومنها (إذا ثبت اللازم ثبت الملزوم، ونقيضه كذلك إذا ثبت في قضية فأنه يرتفع في غيرها

يستلزم الخطأ فلم یکن تاركاً لأحد الأمرين فلا يثبت التبري والجواب أن البريء من العصبية في هذا الموضع أن عثمان أحدث أموراً نفاها جمهور الصحابة عليه وقاتلوه، احدثوا حداثاً يجب أنکاره، أما أحداثه فلم ينته في نضره عليه السلام إلى حد يستحق بها القتل، وإنما أستحق في نضره أن ينبهه عليها؛ فلذلك ورد في النقل أنه أنكرها عليه، وحذره من الناس غير مرّة؛ کما سيجيء في كلامه عليه السّلام؛ فإن صحّ ذلك النقل؛ ثبت أنّه أنكر عليه ما أحدثه لكنه لا يكون بذلك داخلاً في دمه لاحتمال أنّه لمّا حذّره الناس ولم ينته اعتزله، وإن لم يثبت ذلك النقل؛ فالإنكار ليس من فروض الأعيان؛ بل هو من فروض الكفايات إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وقد ثبت أنّ جمهور الصحابة أنكروا تلك الأحداث من عثمان فلا يتعيّن وجوب الإنكار على عليّ عليه السّلام، وأمّا حدث قاتليه فهو مثله، فإن ثبت أنّه عليه السّلام ما أنكر عليهم، قلنا: إنّ من جملة شروط إنكار المنكرات أن يعلم المنكر، أو يغلب على ظنّه قبول قوله، أو تمكَّنه من الدفع بيده فلعلَّه عليه السّلام علم من حالهم أنّه لا يفيد إنكاره معهم، وظاهر أنّ الأمر كان كذلك أما عدم؛ فائدة إنكاره بالقول معهم، فلأنه ثقل عنه عليه السلام أنه كان يعد الناس إصلاح الحال بينهم، وبينه، وأزالته عما نقموه عليه، وتكرر منه، وعده لهم بذلك ولم يتمكن منه؛ فظاهره أنهم بعد تلك المواعيد لا يلتفتون إلى قوله، وأمّا إنكاره بيده فمعلوم بالضرورة أنّ الإنسان الواحد أو العشرة لا يمكنهم دفع الجمع العظيم من عوامّ العرب، ودعاتهم خصوصاً عن طباع ثارت، وتألَّفت وجمعها أشدّ جامع وهو ما نسبوه إليه حقّاً وباطلاً؛ ثمّ من المحتمل أن يكون قد غلب على ظنّه أنّه لو قام في نصرته لقتل معه، ولا يجوز للإنسان أن يعرض نفسه للأذى والقتل في دفع بعض المنكرات الجزئيّة؛ وأمّا إن ثبت أنّه أنكر عليهم کما نقل حملنا ذلك النهي على نهيه لهم حال اجتماعهم لقتله قبل حال قتله، وقوله: ولو نهیت

ص: 6

عنه لكنت ناصراً، على عدم المنع من قتله حال قتله لعدم تمكَّنه من ذلك، وعدم إفادة قوله؛ قال بعض الشارحين: هذا الكلام بظاهره يقتضي أنّه ما أمر بقتله ولا نهی عنه؛ فيكون دمه عنده في حكم الأمور المباحة أقول هذا سهو لأنّ التبرؤ من الأمر بالشيء، والنهي عنه ما يفهم منه عدم الدخول؛ فيه ولا يلزم من ذلك الحكم بأنّه من الأمور المباحة؛ لاحتمال أنّ اعتزاله هذا الأمر لأحد ما ذكرناه. وبالجملة؛ فإنّ أهل التحقيق متّفقون على أنّ السكوت على الأمر لا يدلّ على حال الساکت بمجرّده وإن دلّ بقرينة أخرى.

وممّا يدلّ على أنّه كان متبرّئاً من الدخول في دم عثمان بأمر، أو نهی ما نقل عنه لمّا سئل أساءك قتل عثمان أم سرّك فقال: ما ساءني ولا سرّني وقيل: أرضيت بقتله فقال: لم أرض فقيل: أسخطت قتله؛ فقال: لم أسخط، وهذا كلَّه كلام حقّ يستلزم عدم التعرّض بأمره؛ فإنّ من أعرض عن شيء، ولم يدخل فيه يصدق أن يقول: إنّي لم أسخط به، ولم أرض ولم أسأبه ولم أسرّ؛ فإنّ السخط والرضا والإساءة والسرور حالات تتوارد على النفس؛ بأسباب تتعلَّق بها؛ فخالع تلك الأسباب عن نفسه في أمر من الأمور كيف يعرض له أحد هذه الحالات فيه؛ فأن عدت سائلاً قاتلاً أن كان إن كان قتل عثمان منكراً كان مستلزماً لسخطه عليه السّلام، ومساءته منه، وقد نقل عنه أنّه لم يسخط له، وذلك يقتضى أحد الأمرين: أحدهما أنّه عليه السّلام لا يسخط للمنكر، وهو باطل بالاتّفاق، والثاني أن قتل عثمان لم يكن عنده منکراً، والتقدير أنّه منکر عدت مجيباً بأن قتله، إنّ قتل عثمان مستلزماً لسخطه عليه السلام ومسائه(1)، منه وقد عنه أنه لم يسخط، وذلك يقتضي أحد أمرين أحدهما: أنه عليه السلام لا يسخط للمنكر، وهو باطل بالاتفاق، والثاني أن قتله لم يكن

ص: 7


1- مسائه: بمعنى إستيائه

عنده، والتقدير أنه منكراً، عدت مجيباً بأن قتله يستلزم سخطه لكن لا من حيث أن قتله بل من جهة كونه منكراً، والمنقول أنه لم يسخط لقتله، ولا ساءه ذلك من جهة كونه قتله، وذلك لا ينافي أن يسوؤه ويسخطه، وفي الجواب غموض؛ فليتفطن له ولأجل اشتباه هذا الحال خبط الجهال، وفيها يقول شاعر اهل الشام:

وما في عليّ لمستعتب ٭٭٭ مقال سوى صحبة المحدثينا

وایثاره اليوم أهل الذنوب ٭٭٭ ورفع القصاص عن القاتلینا

إذا سئل عنه حدا شبهة ٭٭٭ وعمّى الجواب على السائلينا

فأمّا تفصيل الاعتراضات، والأجوبة في معنى قتل عثمان، وما نسب إلى علىّ عليه السّلام من ذلك؛ فمبسوط في كتب المتكلَّمين؛ فلا نطول بذكرها ربما أشير إلى شيء من ذلك فيما بعد «غير أن من نصره لا يستطيع أن يقول خذله من أنا خير من ومن خذله لا يستطيع أن يقول نصره من هو خير مني»: واعلم أن هذا الفصل ذکر عليه السلام جواباً لبعض من أنكر بحضرته قعود عن نصرة عثمان، وجعلهم منشأ الفتنة؛ فقال أنهم لو نصروه، وهم أكابر الصحابة لما اجترأ عليه طغام الأمة، وجهالها، وأن كانوا راؤا أن قتله، وقتالهم هو الحق؛ فقد كان تعين عليهم أن يعرفوا الناس ذلك حتى يرتفع عنهم الشبهة، وفهم عليه السلام أن القاتل بعينه بذلك؛ فأجاب بهذا الكلام تلويحاً لا تصريحاً إذا كان في محل يلزمه التوقي؛ فقرر أولاً أنه ما أمر بذلك؛ فأجاب بهذا الكلام تلويحاً لا تصريحاً، إذ كان في محل يلزمه التوقي؛ فقرر أولاً أنه ما أمر في ذلك، ولا نهی ثم عاد إلى الاستثناء؛ فقرّرها في هاتين القضيّتين؛ إنّ الَّذين خذلوه كانوا أفضل من الناصرين له إذ لا يستطيع ناصروه کمروان، وأشباهه أن يفضّلوا أنفسهم على خاذلیه کعلىّ عليه

ص: 8

السّلام؛ بزعم المنكر، وكطلحة، وسائر أكابر الصحابة إذا العقل، والعرف يشهد بأفضليّتهم، وكذلك لا يستطيع الخاذلون أن يفضّلوا الناصرين على أنفسهم، اللَّهمّ إلَّا على سبيل التواضع، وليس الكلام فيه؛ فكأنّه عليه السّلام سلَّم تسليم جدل أنّه دخل في أمر عثمان، وكان من الخاذلين له.

ثمّ أخذ في الردّ على المنكر بوجه آخر فقال: غير أنّي لو سلَّمت أنّی ممّن خذله، لكنّ الخاذلين له أفضل من الناصرين، وأثبت المقدّمة بهاتين القضيّتين وحذف الثانية للعلم بها وتقديرها، والأفضل يجب على من عداه اتّباعه والاقتداء، فينتج هذا القياس أنّه كان يتعيّن على من نصره أن يتبع من خذله، وهذا عكس اعتقاد المنكر، وقال بعض النقّاد: إنّ هذه كلمة قرشيّة، وأراد بذلك أنّه عمّي على الناس في كلامه قال: ولم يرد التبرّء من أمره، وإنّما أراد أنّ الخاذلين لا يلحقهم المفضوليّة بكونهم خاذلين له، وإنّ الناصرين له لا يلحقهم الأفضليّة بنصرته، والَّذي ذكره بعيد الفهم من هذا الكلام، ويمكن أن يحمل على وجه آخر، وذلك إنّما قرّر أفضليّة الخاذلين على الناصرين ليسلم هو من التخصيص باللائمة في القعود عن النصرة؛ فكأنّه قال: وإذا كان الخاذلون له أفضل ممّن نصره ويتعيّن عليهم السؤال عن التخلَّف، وأن يستشهد عليهم بحال الناصرين له مع كونهم مفضولين؛ فلم خصصت بالأئمة من بينهم، والمطالبة بدمه لولا الأغراض الفاسدة «وأنا جامع لكم أمره أستأثر»: استبد برأيه فيما الأمة شركاء فيه والخروج في ذلك إلى حد الأفراط، الَّذي فسد معه نظام الخلافة عليه وأدّى إلى قتله، وأمّا قاتلوه؛ فلخروجهم في الجزع من فعله إلى طرف التفريط عمّا كان ينبغي لهم من التثبّت، وانتظار إصلاح الحال بينهم وبينه بدون القتل، حتّى استلزم ذلك الجزع ارتكابهم لرذيلة الجور في قتله؛ فلذلك كان فعله إساءة للاستیثار، وفعلهم إساءة

ص: 9

للجزع وقيل: أراد أنّكم أسأتم الجزع عليه بعد القتل، وقد كان ينبغي منكم ذلك الجزع له قبل قتله، «ولله حکم واقع في المستأثر والجازع»: المفهوم من ذلك أنه يريد بالحكم الواقع لله في المسألة؛ لله في المستأثر هو الحكم المقدر اللاحق لعثمان بالقتل المكتوب بقلم القضاء والقدر الإلهي في اللوح لمحفوظ، وفي الجازع هو الحكم اللاحق لقاتليه من كونهم قاتلين؛ أو قائلين وجازعين، وفي نسبة هذه الأحكام إلى اللهَّ تنبيه على تبرّئه من الدخول في أمر عثمان، وقاتليه بعد الإشارة إلى السبب المعدّ لوقوعها في حقّهم، وهو الإساءة في الاستيثار والجزع، ويحتمل أن يريد الحكم في الآخرة اللاحق للكلّ من ثواب؛ أو عقاب عمّا ارتكبه، من خطايا أو صواب کما قال: الملك الوهاب «فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ»(1)فتميز كلًا بما يستحقه من سعادة أو شقاوة والله سبحانه أعلم.

ومن كلام له قاله صلوات الله عليه

لما أنفذ: أرسل عبد الله بن العباس رحمة الله عليه إلى الزبير قبل وقوع الحرب يوم الجمل ليستفيه: ليسترجعه إلى طاعته: أعلم أنه عليه السلام لما نهی ابن عباس عن لقاء طلحة؛ بحسب ما رأى في ذلك من المصلحة بقوله: «لا تلقيّن طلحة»: نبهه على علة «وجه نهية عنه فأنك أن تلقه؛ تجده كالثور عاقصاً قرنه» العقص: الاعوجاج، وعقص بالكسر لازم، وبالفتح متعد(2)«تركب الصعب»: الدابة الجموح «ويقول هو الذلول»: السهلة الساكنة، وقد شبهة بالثور وأشار إلى وجه الشبهة بعقص القرن، واستعار لفظ القرن، وکنی به عن الشجاعة، ولفظ

ص: 10


1- سورة البقرة: الآية 113
2- وعقص إذا لفظة بالكسر فستكون: عَقِصْ: فعل لازم اكتفى بفاعله؛ وإذا لفظة بالفتح فستكون عَقْصَ: فعل متعدي

العقص لما تعاطيه بالقوة التي قد تعرض للشجاع، وجه الاستعارة الأولى أن القرن للثور، ومنيع ما يراد به عن نفسه كذلك الشجاعة يلزمها الغلبة والقوة ومنع الجانب، ووجه الثانية أنّ الثور عند إرادة الخصام يعقص قرنيه أي: يرخي رأسه ويعطف قرنيه ليصوّبهما إلى جهة خصمه، ويقارن ذلك منه نفح صادر عن توهّم غلبته لمقاومة، وأنه لا قدر له عنده، كذلك المشبه ها هنا علم منه عليه السلام، أنه عند لقائه بن عباس له يكون مانعاً جانبه متهيئاً للقتال مقابلاً بالخشونة، وعدم الانقياد الصادر عن عجبه بنفسه، وغروره بشجاعة فلذلك حسن التشبيه به، ويحتمل أن يكون وجه الشبهة هو التواء طلحة في رأيه وانحرافه عنه عليه السلام المشبه بالتواء القرن، وهو تشبيه المعقول بالمحسوس ثم أشار إلى بن عبّاس بلقاء الزبير، وأشار إلى وجه الرأي في ذلك، «ولكن القِ الزبير فأنه الين عريكة»: أعلى السنام، ویکنّی بالعريكة عن الطبع والخلق كناية بالمستعار فيقال: فلان ليّن العريكة إذا كان سهل الجانب لا يحتاج فيما يراد منه؛ إلى تكلَّف ومجاذبة قويّة كالجلد الليّن الَّذي يسهل عرکه، وفلان شديد العريكة: إذا كان بالضدّ من ذلك، وظاهر أنّ الزبير كان سهل الجانب؛ فلأجل ذلك أمره بلقائه لما عهد من طبيعته أنّها أقبل للانسلاخ، وأقرب إلى الانفعال عن الموعظة، وتذكَّر الرحم. وأحسن بهذه الاستمالة له بذكر النسب المستلزم لصوّره للميل، والانعطاف من الطبائع السليمة قال: فقل له يقول لك ابن خالك عرفتني بالحجار «فَقُلْ لَه يَقُولُ لَكَ ابْنُ خَالِكَ عَرَفْتَنِي بِالْحِجَازِ وأَنْكَرْتَنِي بِالْعِرَاقِ»: «يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي»(1)«ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي»(2)فأن فيه من الاستمالة فأن يتذکره حق الأخوة مما يدعو إلى عطفه إليه ما لا يوجد

ص: 11


1- سورة طه: الآية 95
2- سورة الأعراف: الآية 150

من کلام آخر فأما كونه عليه السلام ابن خال الزبير فلأن أبا طالب رضعته أم الزبير من أولاد عبد المطلب بن هاشم «فما عدا مما بدا»: قال السيد رضي الله عنه هو عليه السلام أول ما سمعت منه هذه الكلمة: أعني فما عدى مما بدي أي ما صرفك عن طاعتي بعد أضهارك لها وحذف الضمير المفعول كثير كقوله تعالى: «وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا»(1)الراوندي(2): له معنيان: أحدهما: ما الَّذي منعك عمّا كان بدا لك من نصرتي.

أقول: هذه الوجوه وأن احتملت أن يكون تفسيراً إلا أن في كل واحد عدولاً عن الظاهر من وجه أما الذي ذكره المدائني فلأنه لما حمل عدا على حقيقتهما وهي المجاوزة حمل ما بدا على الطاعة السابقة فاحتاج أن يجعل من بمعنی عن وهو خلاف الظاهر وأما الراوندي فأنه فسر عدا بمعنی: منع أو عاق أو شغل، وحمل ما بدا على الطاعة السابقة أو على البيعة فلا يتمّ ذلك إلَّا أن يكون من بمعنی عن.

والحقّ: أن عدا بمعنی جاوز، ومن لبيان الجنس والمراد الذي جاوز بك عن بيعتي مما بدا لك بعدها من الأمور التي ظهرت لك ويبقى الألفاظ على أوضاعها الأصلية مع استقامة المعنى وحسنه: روي عن صادق جعفر بن محمد عليهما السلام عن أبيه عن جده قال: «سالت ابن عباس رضي الله عنهما عن تلك الرسالة فقال بعثني فأتيت الزبير فقلت له فقال أني أريد ما تريد ولم يزدني على ذلك وعنه أيضاً أنه لم يزدني على أن قال: إلا مع الخوف الشديد ليطمع وسل عنه عما عنا بقوله فقال نقول أنا على الخوف ليطمع أن يغفر لنا هذا الذنب والله تعالى أعلم»(3).

ص: 12


1- سورة الزخرف: الآية 45
2- الراوندي هو: قطب الدين الراوندي وله المعنيان ذكرهما في شرح نهج البلاغة: ص 227
3- ينظر: الشافي في الإمامة للشريف المرتضى: ج 4 هامش ص 338؛ وذكره ابن میثم البحراني في شرح نهج البلاغة: ج 2 ص 61؛ ونقل عنه العلامة المجلي في بحار الأنوار: ج 32 ص 76؛ وابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة: ج 2 ص 165؛ ولم أعثر على مصدر آخر للحديث

ومن خطبة له صلوات الله عليه:

أعلم أنه عليه السلام أبتدأ أول الخطبة بنوع من الموعظة، وختمها بمثل ذلك وذكر أصناف الخلق فقال: اربع m منهم على ظلال وواحد ناج «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا

قَدْ أَصْبَحْنَا فِي دَهْرٍ عَنُودٍ: عنود وزَمَنٍ كَنُودٍ يُعَدُّ فِيهِ الْمُحْسِنُ مُسِيئاً ويَزْدَادُ الظَّالِمُ فِيهِ عُتُوّاً»: أكبر؛ أعلم أولاً أن نسبة الخير إلى بعض الأزمنة، والشر إلى بعض آخر، وتفضيل بعضها على بعض لنسبة صحيحة؛ لأن الزمان من الأسباب المعدة لحصول ما يحصل في هذا العالم من الامتزاجات، وما يتبعها مما يُعد خيراً، أو شر، أو قد تتفاوت الأزمنة في الأعداد لقبول الخير، والشر، وفي بعضها يكون مما يعد خيراً أكثر؛ فيقال زمان حسن، وزمان عادل، وهو الزمان الذي يكون أحوال الخلق فيه منتظم؛ خصوصاً زمان قوة الدين، وظهوره، وهذا كثير بتفاوت بين الأزمنة؛ فيما يعد خيراً فيها، وشراً ولذلك قال: «افلاطون(1)الناس يموتون بكل

ص: 13


1- أفلاطون: هو الحكيم الفيلسوف المتأله، وهو: ابن أرسطن اليوناني، الذي إليه انتهت رئاسة الفنون العقلية، وتلميذ لدی سقراط الحكيم، وعنه أخذ أرسطو، وتشعبت تلاميذ أفلاطون على فرقتين، المشائيين والإشراقيين، قال: الأشكوري في محبوب القلوب: «إنه ولد في زمان أردشير بن دارا بعد ما مضت ستة عشر عاما من ملكه، فكان أبوه أشرف اليونانيين من ولد اسقيلبوس وأمه من نسل اسولون صاحب الشرایع، وبالجملة كان أفلاطون من نوابغ عصره في الحكمة وسائر العلوم العقلية، وله تصانیف کثیرة ترجمت أكثرها زمن المأمون العباسي، وأكثر تلك التراجم من آثار أحمد بن متوية، فمن تصانيف أفلاطون کتاب طيماوس الروحاني في علم النفس والعقل والربوبية وكتاب طيماوس الطبيعي في ترتیب عالم الطبيعة، وكتاب في المُثل الأفلاطونية، وكتاب قاذن في النفس، وكتاب في الروح وغيرها، عاش 81 سنة وتوفي في السنة التي ولد فيها إسكندر الرومي، ويقال: إن قبره في بلدة مقدونية (ماكدونية) محفوظ إلى الآن سنة 1376 والله أعلم، ومجسماته كثيرة في بلاد يونان وأوربا، وتوصيفه بالإلهي ليمتاز عن سميه أفلاطون الطبيعي؛ للسيد المرعشي في شرح إحقاق الحق: ج 1: شرح ص 74؛ كذلك الملل والنحل للشهرستاني قريباً من هذا: ج 2 ص 88، فهرست ابن النديم لابن النديم البغدادي: ص 306

زمان أنه أخر الأزمنة ويثبتون تقصيراً عمّا تقدّمه وليس يوفون الزمان الماضي والمقيم حقّيهما من التأمّل، وذلك أنّهم يقيسون الأحداث في الزمان المقيم إلى من تناهت سنّه، وتجاريبه في الزمان الماضي، وينظرون إلى قصور المروّات في الزمان المقيم، واتّساعها في الماضي من غير أن ينظروا إلى الأغراض في الزمانين، وما يوجبه كلّ واحد منهما، وإذا تتّبع هذا بعدل واستقصى تصريف الزمانين من القوى والجدات، والأمن والخوف، والأسباب والأحوال كانا متقاربين، إذا عرفت هذا فنقول: قوله عليه السلام: أن قد أصبحنا ذم الزمان بوصفي الجور والشدّة؛ لمّا أعدله ممّا عدّد فيه من الأوصاف المعدودة؛ شرّاً بالقياس إلى نظام العالم وبقائه، وذكر من تلك الأوصاف خمسة: أوّلها: أنّه «يعدّ فيه المحسن مسيئاً»، وذلك من حساب الكسالى عن القيام بطاعة الله؛ فيعدون أتفاق المحسن لماله رياء وسمعه؛ أو خوفاً ورغبة في مجازاة، وكذلك سایر فضائله، رذائل كل ذلك طعناً في فضيلة حسداً أن ينال رتبة أعلى؛ فيلحقونه بدرجاتهم ب - «أنه يزداد الظالم عتواً» وذلك أن منشأ الظلم هو: النفس الأمارة بالسوء وهي: في زمان العدل تكون مقهورة دائماً أو أكثر في الأحوال، وثوراتها في ذاك الوقت؛ فالظالم في زمن العدل أن ظلم أو تجاوز حده؛ فكالسارق الذي لا يامن في كل لحظة أن يقع به المكروه؛ فكذلك الظالم في زمانه مقموع بحرسه الشريعة مرصود بعيون ظلائعها أما زمان ضعف الشريعة؛ فالظالم فيه کناهب معطٍ لقوته سؤلها غير ملتفت إلى وازع الدين؛ فلا جرم کان عتوّه فيه أزيد، وقد كان في زمانه بالنسبة إلى عهد الرسول صلى الله عليه [وآله] وسلَّم كذلك.

ص: 14

ج - «لَ ينتِفع بَما عَلمنا»: وهو توبيخ للمقصّرين؛ في أعمال الآخرة على وفق ما علموا من الشريعة ممّا ينبغي أن يعمل لها؛ إذ الانتفاع بالعلم؛ إنّما يكون إذا وافقه العمل، وإليه الإشارة بقوله عليه السّلام في موضع آخر: «العلم مقرون بالعمل»، «والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلَّا ارتحل»؛ فإنّ المراد بارتحال العلم هو عدم الانتفاع به وبهتفه بالعمل اقتضاؤه ما ينبغي من مقارنه العمل له.

د - «ولا نسأل عما جَهِلْنا»: وهو توبيخ للمقصّرين في طلب العلم بعدم السؤال عمّا جهلوا منه، وقلَّة الالتفات لقصور أفهامهم عن فضيلته، واشتغالهم بحاضر اللذّات الحسيّة.

ه - «ولا نتخوف قَارعة»: الخطب العظيم «حتى تحلّ بنا»: وهو توبیخ للمقصّرين في أمر الجهاد، وتنبيه لهم بذكر القارعة، وحلولها بهم، وذلك لعدم فكرهم واشتغالهم بحاضرها عن الالتفات إلى مصالحهم، وتدبيرها وكل هذه أمور مضادة لمصلحة العالم؛ فلذلك عدّ الزمان الواقعة فيه عنوداً وشديداً.

«فالناسُ على أربعةِ أصناف»: وجه هذه القسمة أنّ الناس إمّا مریدون للدنيا أو للهَّ، والمريدون لها؛ فإمّا قادرون عليها أو غير قادرين، وغير القادرين إمّا غير محتالين لها؛ أو محتالون، والمحتالون؛ إمّا أن يؤهّلوا نفوسهم للإمرة والملك، أو لما هو دون ذلك؛ فهذه أقسام خمسة مطابقة لما ذكره عليه السّلام من الأوصاف الأربعة الَّذين عرضهم للذمّ مع الصنف الخامس الَّذين أفردهم بالمدح.

فإلى الصنف الثاني: أعني المريدين لها غير القادرين عليها، وغير المحتالين لها أشار بقوله منهم: «من لا يمنعه الفساد في الأرض إلا مهانة نفسه وكلالُ جده»:

ص: 15

کنی به عدم صرافته في الأمور وضعفه عنها «ونَصيصُ وَفرِهِ»: قليل ماله وظاهر أن المريد للدنيا المعرض عن الله لو خلا عن الموانع المذكورة ووجد الدنيا لم يكن سعيه فيها إلا فساداً وإلى «الصنف الأول»: وهم المريدون للدنيا القادرون عليها أشار بقوله: «ومنهم المُصْلتُ لنفسه»: كناية عن التغلَّب وتناول ما أمكن تناوله بالغلبة والقهر «وَالمعُلن بِشرّه» أي المجاهر بالظلم، وغيره من رذائل الأخلاق «وَالمجْلبُ بخيِلهِ ورَجلِهِ»: كناية عن جمع أسباب الظلم والغلبة، والاستعلاء على الغير «قد أشرط نفسهُ»: أهلها وأعدها للفساد وَأوبقَ دينَه أهلکه وأفسده «لحُطَام يَنَتهِزُه» استعار للمال ووجه المشابهة أن معناه، وهو اليبس من النبات کما أنهي لا نفع له بالقياس إلى ما يبقى خضرته، ونضارته ويكون ذا ثمرة كذلك المال بالنسبة إلى الأعمال الصالحة الباقي نفعها في الآخرة، «أَو مقَنْبٍ»: ما بين الثلاثين والأربعين من الخيل «يقوده أو منبر يفزعه»: يعلوه وإنما خصص هذه الأمور الثلاثة لأنها الأغلب؛ فيما يسعى أهل الدنيا لأجله إذ الغالب أن السعي؛ فيها أما لجمع المال أو لرئاسة دنيويه بإفشاء الخيل والنعم؛ أو دينيّة كافتراع المنابر، والترأس بناموس الدين مع قصد الدنيا.

«ولَبِئْسَ الْمَتْجَرُ أَنْ تَرَى الدُّنْيَا لِنَفْسِكَ ثَمَناً ومِمَّا لَكَ عِنْدَ الله عِوَضاً»: تنبيه لهذا الصنف من الناس على خسرانهم في؛ أفعالهم الشبيهة ببئ الخاسرة فإنّ طالب الدنيا المحصّل لها كيف ما اتّفق هالك في الآخرة؛ فهو کالبائع لها بما حصل له من دنياه، والمعتاض بما له عند الله من الأجر الجزيل لو أطاعه حطاما تفنى عينه وتبقى تبعته. ولذلك استعار لفظ التجارة لها.

وإلى الصنف الثالث الغير قادرين على الدنيا مع احتيالهم لها، واعداد أنفسهم

ص: 16

لا مورد دون الملك أو ماء بقوله «ومنُهْم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة»: اشار إلى الحيلة للدنيا کالریاء والسمعة «ولاَ يَطلبُ الآخرة بَعمل الدُنيا»: يعني أنه مريد للدنيا فقط؛ ثم فصل كيفية الحيلة بقوله: «قَدْ طَامَنَ»: خفض «مِنْ شَخْصِه وقَارَبَ مِنْ خَطْوِه وشَمَّرَ»: قصر «مِنْ ثَوْبِه وزَخْرَفَ»: زین «مِنْ نَفْسِه لِلأَمَانَةِ واتَّخَذَ سِتْرَ الله» طاعته «ذَرِيعَةً إِلَی الْمَعْصِيَةِ»: فأن خضوع الإنسان، وتطامن شخصه والمقاربة بين خطوته، وتشمير ثوبه وزخرفه لنفسه؛ مما هو شعار الصالحين من عباد الله وستر الله الذي غمر بعه أهل التقوى؛ أن يردوا موارد الهلكة تقع من صنف من الناس لدخولهم في عيون أهل الدنيا الفانية؛ فيكون أتخذوا ستر الله وظاهر دينه وسيلة إلى معصيته وإلى الصنف الرابع: الغير القادرين عليها المحتالون لها: المؤهّلون أنفسهم للملك والإمرة أشار بقوله: «ومِنْهُمْ مَنْ أَقْعَدَه عَنْ طَلَبِ الْمُلْكِ ضُئُولَةُ»: حقارة «نَفْسِه وانْقِطَاعُ سَبَبِه»: من قلَّة المال، وعدم الأعوان، والأنصار في الطلب؛ فلذلك وقفت به حال القدر على حالتها الَّتي لم يبلغ معها ما أراد «فَقَصَرَتْه الْحَالُ عَلَى حَالِه»: وحبسته حاله السيئة على ضعفه؛ فعدل لذلك إلى الحيلة الجاذبة لرغبات الخلق إليه «فَتَحَلَّى بِاسْمِ الْقَنَاعَةِ»: ولقد أعجب إيراد الإسم في هذا الموضع أعلاماً؛ بأن بينهم وبينها بون بعيد «وتَزَيَّنَ بِلِبَاسِ أَهْلِ

الزَّهَادَةِ»: من المواظبة على العبادات، ولزوم ظواهر أوامر الله، وأن لم يكن ذلك عن أصل واعتقاد قاده إليه «ولَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي مَرَاحٍ»: المكان الذي يأوي إليه الماشية في الليل «ولَا مَغْدًى»: مايؤوي إليه في النهار كناية عن أنه ليس من القناعة والزهد في شيء اصلاً «الصنف الخامس» المريدون لله تعالى هو المشار إليه بقوله: «وبَقِيَ رِجَالٌ غَضَّ»: كف «أَبْصَارَهُمْ ذِكْرُ الْمَرْجِعِ»: وذلك أن المريد لله إذا التفت إلى جنابه المقدس، واستحضر أنه راجع إليه؛ بل ماثل بين يديه فلا بد أن

ص: 17

يعترض عن غيره حياء، وابتهاجا بمطالعة أنواره، وخوفاً أن يجمح به بصره؛ عن صعود مراتب الأملاك إلى مهاوي الهلاك؛ لأن الحسن نابع للقلب؛ فإذا كان بصر القلب مشغولاً غريقاً في جلال الله كان مستتبعاً للحس؛ فلم يكن له التفات من طريقه إلى أمر آخر، وهو المراد بالغض «وأَرَاقَ دُمُوعَهُمْ خَوْفُ الْمَحْشَرِ»: واعلم أنّ خوف الخائفين قد يكون لأمور مكروهة لذاتها، وقد يكون لأمور مكروهة لأدائها إلى ما هو مكروه لذاته، وأقسام القسم الثاني كثيرة كخوف الموت قبل التوبة، أو خوف نقض القربة، أو خوف الانحراف عن الفضل في عبادة الله؛ أو خوف أبتلاء القوى الشهوانية بحسب مجرى العادة في استعمال الشهوات المألوفة؛ أو خوف سوء الخاتمة؛ أو خوف سوء الشقاوة في علم الله، وأغلبها على المتيقن خوف الخاتمة؛ فأن الأمر فيه خطير؛ أو على الأقسام وادلها على کمال المعرفة السابقة؛ لكون الخاتمة برجلين وقع لهما ملك بتوقيع يحتمل أن يكون لهما فيه عناء؛ أو هلاك فيعلق قلب أحد بحال نشر التوقيع، وما يظهر فيه من خير أو شر، ويتعلق قلب الآخر بما حضر للملك حالة التوقيع، وما يظهر فيه من رحمة أو غضب، وهذا الالتفات إلى السبب؛ فكان أعلى؛ فكذلك الالتفات إلى القضاء الأزلي الذي جري بتوقعه القلم؛ الإلهي في اللوح المحفوظ من أعلى الالتفات إلى الأبد، وإلى ذلك أشار الرسول صلى الله عليه [وآله] وسلم؛ فقبض كفّه اليمنى ثمّ قال: «هذا كتاب الله كتب فيه أهل الجنّة بأسمائهم، وأسماء آبائهم لا يزاد فيه، ولا ينقض، وليعمل أهل السعادة بعمل أهل الشقاوة حتّى يقال: كأنّهم منهم بل هم؛ ثمّ يستخرجهم الله قبل الموت ولو بفواق ناقة، وليعمل أهل الشقاوة بعمل أهل السعادة حتّى يقال: كأنّهم منهم بل هم هم ثمّ يستخرجهم الله قبل الموت ولو بفواق ناقة؛ السعيد من سعد بقضاء الله، والشقيّ من شقی بقضاء الله، والأعمال بالخواتيم»(1)وأمّا أقسام القسم

ص: 18


1- إحياء علوم الدين: للغزالي: ج 13: ص 9، شرح نهج البلاغة لابن میثم البحراني: ص 69

الأوّل؛ فمثل أن يتمثّل في نفوسهم ما هو المكروه لذاته كسكرات الموت وشدّته، أو سؤال منكر ونكير، أو عذاب القبر، أو هول الموقف بين يدي الله تعالى والحياء من کشف السرّ والسؤال عن النقير والقطمير، أو الخوف من الصراط وحدّته وكيفيّة العبور عليه، أو من النار وأغلاها واهوالها أو من حرمان الجنّة له أو من نقصان الدرجات فيها، أو خوف الحجاب من الله؛ فكل هذه الأسباب مكروهة في نفسها، ومختلف حال السالكين إلى الله فيها، وأعلاها رتبة خوف الفراق، والحجاب عن الله تعالى، وهو خوف العارفين، وما قبل ذلك وهو خوف العابدين، والصالحين والزاهدين، ومن لم تكمل معرفته بعد.

إذا عرفت ذلك فنقول: الخوف الَّذي أشار إليه عليه السّلام من هذا القسم إذ خوف المحشر يشمل ما ذكرناه من أقسامه، والله سبحانه أعلم.

«فَهُمْ بَیْنَ شَرِيدٍ نَادٍّ»: مطرود: «ناد»: ذاهب على وجهه أما لكثرة انکار المنكر أو قلة الصبر على مشاهدته «وخَائِفٍ مَقْمُوعٍ»: الأذلال «وسَاكِتٍ مَكْعُومٍ»: الذي سد فوه بالعكام، وهو شيء يجعل في؛ فم البعير عند الهياج؛ كأن اللقمة سدت فاه عن الكلام وهو باب الاستعارة «ودَاع مُخلص»: لله وثكلان: محروم موجع أما المصابة في الدين؛ أو من كثرة أذى الظالمين، وهذا تفضيل الحال؛ أحاد المتقين، ويحتمل أن يكون ذلك تفصيلاً لمحشر حالهم؛ بالنسبة إلى خوف المحشر أراق دموعهم، وفعل بكل واحد منهم ما ذكر عنه من الحالة التي هو عليها «قَدْ

أخْمَلَتْهُمُ»: أسقطتهم «التَّقِيَّةُ»: أي الخوف الظالمين هو توكيد لما سبق، وشملهم الذلة بسبب التقية؛ فهم في بحر أحاج استعار البحر بوصف الأجاج لما هم؛ فيه من أحوال الدنيا الباطلة ووجها أن الدنيا كما لا تصلح الاقتناء، والاستمتاع بها بل يكون سبباً للعذاب في الآخرة، كذلك البحر لا يمكن لسابحه، وإن بلغ به جهد

ص: 19

العطش مبلغه شربه والتروّي به، ولمّا فطموا أنفسهم عن لذّاتها، ومخالطة أهلها فيما هم فيه من الانهماك فيها، لا جرم کانت «أفواهُهُم ضامرة»: لكثرة صيامهم بعيدة العهد بالمضغ، «وقلوبهم قرحة»: جوعاً أو خوفاً من الله أو عطشاً إلى رحمته ورضوانه أو لما يشاهدونه من كثرة المنكرات وعدم تمكَّنهم من إنكارها. ومن روي بالزاء المعجمة أراد سكونهم وقلة كلامهم «قد وعَضُوا حتى ملوّا»: وعظ الخلق لعدم نفعه فيهم، «وَقهروا حَتّى ذلوا وقُتلّوا حتى قلّوا»: أي قتلهم الظالمون لعدم سلكهم في انتظامهم، وساد القتل إلى الكل لوجود القتل في البعض مجازاً من باب أسناد حكم الجزء إلى الكل، ولأن الكل لما كان مقصوداً بالقتل؛ كأن كونهم مقتولين على غايته منهم؛ فجاز اسناد القتل إليهم، وأن كان المقتول؛ ثم أراد أمر السامعين باستصغار الدنيا، واستحقارها إلى حد؛ لا يكون في أعينهم ما هو أحقر منها فقال: «فَلْتَكُنِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِكُمْ أَصْغَرَ مِنْ حُثَالَةِ الْقَرَظِ»: نقل ورق السّلم «وقُرَاضَةِ الْجَلَمِ»: المقراض وهي ما سقط عن القرض والمراد من هذا الأمر وغايته الترك لها فأن استحقار الشيء واستصغاره يستتبع ترکه والأعراض عنه ثم أمرهم بالاتعاظ بالأمم السابقة فقال: «واتَّعِظُوا بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ»: فأن الماضين عبرة لأولي الأبصار ومحل الاعتبار ما كان فيه من نعيم الدنيا ولذاتها والمباهاة بقيناتها ثمّ مفارقتهم لذلك كلَّه بالموت وبقاء الحسرة والندامة للمستكثرين منها حجباً، حاملة بينهم وبين الوصول إلى حضرة جلال الله، ونبّههم بقوله: «قَبْلَ أَنْ يَتَّعِظَ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ»: على أنّهم مضطرّون إلى مفارقة ما هم فيه، وسيصيرون عبرة لغيرهم، وفائدة الأمر بالاتّعاظ أيضاً الإعراض عنها؛ ثمّ لمّا أمرهم بهذه الأوامر الَّتي ليست صريحةً في الترك أردف ذلك بالأمر الصريح بالترك فقال «وارْفُضُوهَا

ذَمِيمَةً»: أي اتركوا ما حاله الحقارة والذمامة، ثمّ نبّه بعده على ما يصلح لتركها بقوله: «فأنها»: الدنيا «فَإِنَّهَا قَدْ رَفَضَتْ مَنْ كَانَ أَشْغَفَ بِهَا مِنْكُمْ»: أي ولو دام

ص: 20

سرورها ونعيمها لأحد لدام لأحبّ الخلق لها، وأحرصهم على المحافظة عليها؛ فلمّا لم تدم لمن هو أشدّ حبّاً لها منكم؛ فالأولى أن لا يدوم بکم، وإذا كان طباعها رفع كل محب؛ فبالأحرى بذي المروة الأعراض عمن لا يدوم صحبته، ولا يصفوا محبته وبالله التوفيق والعصمة.

قال السيد رضي الله عنه وهذه الخطبة ربما نسبها من لا علم له إلى معاوية وهي: من كلام أمير المؤمنين الذي لا شك فيه وأين الذهب من الرغام: التراب والعذب من الأجاج، وقد دل على ذلك الدليل الخريت: الحاذق ونقده الناقد البصير عمرو بن بحر الجاحظ فإنه ذكر هذه الخطبة في كتاب البيان والتبيين وذکر من نسبها إلى معاوية، ثم قال هي من كلام علي عليه السلام؛ أشبه وبمذهب في تصنيف الناس: أي جعلهم أصنافاً وفي الأخبار عما هم عليه من القهر والإذلال ومن التقية والخوف أليق قال ومتي: استفهام إنکار وجدنا معاوية في حال من الأحوال يسلك في كلامه مسلك الزهاد ومذاهب العباد: هذا الكلام مستغني عن البيان إذ هو في الوضوح والبيان.

ومن خطبة له صلوات الله عليه عند مسيره لقتال أهل البصرة،

قال عبد الله بن عباس رحمه الله عليه دخلت على أمير عليه السلام بذي قار: موضع قريب من البصرة وهو الموضع الذي نصرت في العرب على الفرس قبل الإسلام وهُوَ يَخْصِفُ نَعْلَه: يحززها فَقَالَ لِي: «مَا قِيمَةُ هَذَا النَّعْلِ؟ فَقُلْتُ لَا قِيمَةَ لَهَا قَالَ والله لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِمْرَتِكُمْ إِلَّا أَنْ أُقِيمَ حَقّاً أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلًا ثُمَّ خَرَجَ

فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ إِنَّ الله سُبحانه بَعَثَ مُحَمَّداً صلى الله عليه وآله إلى آخره» قدّم لنفسه مقدّمة من الكلام أشار فيها إلى فضيلة الرسول صلى الله عليه [وآله] وسلَّم في

ص: 21

مبعثه وهو سوقه للخلق إلى الدين الحقّ ليبني عليها فضيلة نفسه وغايته من ذلك توبيخ من خرج عليه من قریش والاستعداد عليهم «ولَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ يَقْرَأُ كِتَاباً ولَا يَدَّعِي نُبُوَّةً»: هذه جملة حالية وكان الكتاب الذي يسميه اليهود التوراة في ذلك الوقت ليس هو الكتاب الَّذي انزل على موسى عليه السّلام؛ فإنّهم كانوا حرّفوه وبدلوه فصار کتابا آخر بدليل قوله تعالى «قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا»(1).

وظاهر أنّه من حيث هو مبدّل، ومحرّف ليس هو المنزّل على موسى عليه السّلام، وأمّا الكتاب الَّذي تدّعى النصاری بقاءه في أيديهم؛ فغير معتمد على نقلهم فيه لكونهم كفّاراً بسبب القول بالتثليث(2)، وأمّا النافون له؛ فهم في غاية القلَّة؛ فلا يفيد قولهم: إنّ ما في أيديهم هو إنجيل عيسى؛ فإذن لا يكون المقرّوء لهم حال مبعث محمّد صلى الله عليه [وآله] وسلَّم کتاباً هو من عند الله، على أنه يحتمل أن يريد بالعرب جمهورهم؛ فإنّ أكثرهم لم يكن له دين ولا كتاب، وإنّما كان بعضهم يتمسّك بآثار من شريعة إسماعيل برسوم لهم.

«فساقَ الناسَ حَتّى بوّأهم»: أنزلهم «محلَّتهم»: منزلتهم أراد السوق العقلي لأذهانهم بحسب المعجزات إلى تصدیقه؛ فيما جاء به ثم بحسب ما جائهم من القرآن الكريم، والسنة النبوية إلى معرفة سبيل الله ثم بحسب الترغيب لبعضهم

ص: 22


1- سورة الأنعام: الآية 91
2- القول بالتثليث: هو قول النصارى المدعين: أن الله تعالى ثالث ثلاثه وهم: الأب، والأبن، وروح القدس في شخصية واحدة؛ وقال الشيخ الطوسي في البيان: ج 2: ص 603؛ في قوله تعالى {وإن لم ينتهوا عما يقولون " أي إن لم يرجعوا ويتوبوا عما يقولون من القول بالتثليث أقسم " لیمسن الذين كفروا منهم عذاب الیم " يعني الذين يستمرون على كفرهم

والترهيب لبعضهم إلى سلوك تلك السبيل فأصبحوا وقد تبوّؤوا منزلتهم ومرتبتهم الَّتي خلقوا لأجلها، وكانت هي مطلوب العناية الأزليّة بوجودهم في هذا الدار وهي لزوم القصد في سبيل الله المسمّى إسلاماً وديناً وإيماناً وهو في الحقيقة المنجاة الَّتي لا خوف على سالكها ولا سلامة للمنحرف عنها، وذلك معنى قوله: «وبلَّغهم منجاتهم»: موضع نجاتهم «فاستقامت قناتهم»: قوتهم وغلبتهم ودولتهم التي حصلت لهم مجاز من باب أطلاق السبب على المسبب؛ فإن الرمح أو الطهر سبب للقوة والشدة ومعنى إسناد الاستعانة إليها انتظام قهرهم ودولتهم «وَاطَمأنّت صفاتهم»: حجارة ملساء في اللغة، وهاهنا استعارة لحالهم التي كانوا عليها ووجه المشابهة أنهم كانوا قبل الإسلام في مواطنهم، وعلى أحوالهم منزلين لا يقر بعضهم بعضاً في موطن، ولا حال بل كانوا أبداً في الغارة، والنهب كالواقف على حجر أملس متزلزل مضطرب فاطمأنت أحوالهم وسكنوا في مواطنهم من كل ذلك بسبب مقدم محمد صلى الله عليه [وآله] وسلم ثم شرع في تقرير فضيلته فقال: «أمّا والله إن كنت لفي ساقتها»: راجعة إلى كتائب الحرب، وإن لم يجري لها ذكر صريح أراد أنه صلى الله عليه [وآله] وسلم ساق الناس، وهم يومئذ كتائب عليه؛ فكنت في ساقتها حتّى تولَّت تلك الكتائب، وأسرها لم يبق منها من يغالبه، وقد علمت أنّ السوق قد يكون سوق طرد وهزيمة، والأوّل هو: المقصود ومن الثاني إذ لم يكن مقصوده إلَّا السوق إلى الدين، ولمّا لم يمكن حصول الهداية للخلق إلَّا بوجود النبيّ صلى الله عليه [وآله] وسلَّم، وإيضاح سبيل الحقّ كان ذبّه وطرده للكتائب أمراً واجباً حماية النبي، وعن حوزة الدين لا لذاته، ولكن لغرض تمام الهدى الَّذي هو غاية وجود «مَا عَجَزْتُ ولَا جَبُنْتُ»: تمام لإثبات الفضيلة المذكورة له، وتقرير لما علم من شجاعته، وتأكيد لعدم العجز والجبن الَّذي هو طرف التفريط منها «وإِنَّ مَسِیرِي هَذَا لِمِثْلِهَا»: أي لمثل تلك الحال الَّتي كنت عليها معهم زمن رسول الله

ص: 23

صلى الله عليه [وآله] وسلم، وهو في معنى التهديد الَّذي عساه أن يبلغ خصومه، وتقوی به نفوس أوليائه «فَلأَنْقُبَنَّ الْبَاطِلَ»: روي بالنون والثاء المثلث والباء الموحد مع الراء المهملة كلها بمعنى لا شقن.

«حَتَّى يَخْرُجَ الْحَقُّ مِنْ جَنْبِه»: وفي معنى التهديد، وتنبيه على ما عليه خصومه من الباطل، واستعار هنا لفظ الخاصرة للباطل، والبقر لتفريقه، وتمییز الحقّ منه تشبيهاً له في اشتباه الحقّ فيه، وعدم تمييزه منه بحيوان ابتلع جوهراً ثميناً أعزّ منه قيمة وأتمّ فائدة، وإحتيج إلى شقّ بطنه في استخلاصه، «مَا لِي ولِقُرَيْشٍ»: استفهام على سبيل إنكار ما بينه وبينهم ممّا يوجب الاختلاف وجحد فضيلته، وحسم لأعذار هم في حربه «والله لَقَدْ قَاتَلْتُهُمْ كَافِرِينَ»: إظهار للمنّة عليهم بسوقه لهم إلى الدين أوّلاً، وتعيير لهم بما كانوا عليه من الكفر ليعترفوا بفضيلته، ونعمة الله عليهم به وليخجلوا من مقابلته بالباطل، وهو إظهار الإنكار عليه إذ كانوا أولى بإتيان المنكر منه، وهو أولى بردّهم عنه آخراً کما کان أوّلاً وكذا: «ولأُقَاتِلَنَّهُمْ مَفْتُونِینَ»: فهو تهديد بأن يوقع بهم القتال على فتنتهم، وضلالتهم عن الدين، وفي ذكر الحالين أعني کافرین ومفتونين تنبيه على علَّة قتاله لهم في الحالتين، وهو طلبه لاستقامتهم على الدين ورجوعهم إلى الحقّ عن الضلال وإغراء للسامعين بهم «وإِنِّي لَصَاحِبُهُمْ بِالأَمْسِ كَمَا أَنَا صَاحِبُهُمُ الْيَوْمَ»: إشارة إلى أنّه لم تتغيّر حاله الَّتي بها قاتلهم كافرين، وفائدته تذكير الخصم الآن بابتلاء الكفّار به في ذلك الوقت ليتقهقروا عن محاربته إذ في تذکَّر وقائعه في بدء الإسلام وشدّة بأسه ما تطير منه القلوب وتقشعرّ منه الجلود، وقد نقلت في تمام هذه الخطبة في بعض النسخ:

لتضجّ قريش ضجيجها إن تكن فينا النبوّة والخلافة، والله ما أتينا إليهم إلَّا أنّا اجترأنا عليهم: فيه إشارة إلى السبب الأصليّ لخروج طلحة والزبير وغيرهم

ص: 24

من قريش عليه، وهو الحسد، والمنافسة إن تكن الخلافة، والنبوّة في بني هاشم دونهم، والضجيج: الصراح القوّي، وهو كناية عن أشدّ مخاصماتهم، ومنافراتهم له على هذا الأمر وقوله: «والله إلى آخره»: تأكيد لما نسبه إليهم من سبب الخروج بالقسم البارّ على أنّه لم يكن الباعث لهم على قتاله أو على حسده، والبغي عليه أمراً من قبله سوى الاجتراء عليهم أي: الشجاعة والإقدام عليهم في منعهم عمّا يريدون من قول أو فعل لا تسوّغه الشريعة؛ فإنّه لمّا لم يكن ذلك في الحقيقة إساءة في حقّهم يستحقّ بها المكافأة منهم بل إحسان وردع عن سلوك طرق الضلال تعيّن أنّ السبب في الخروج عليه، ونكث بيعته هو الحسد والمنافسة وبالله التوفيق.

ومن خطبة له عليه السّلام في استنفار الناس إلى أهل الشام

روى أنّه عليه السّلام خطب بهذه الخطبة بعد فراغه من أمر الخوارج، وقد كان قام بالنهروان؛ فحمد الله وأثنى عليه وقال: أمّا بعد؛ فإنّ الله تعالى قد أحسن بنا نصرکم فتوجّهوا من فوركم هذا؛ إلى عدوّكم من أهل الشام، فقالوا له: قد تفرقت نبالنا، وكلَّت سيوفنا ارجع بنا إلى مصرنا لنصلح عدّتنا، ولعلّ أمير المؤمنين يزيد في عددنا مثل من هلك منّا لنستعين به؛ فأجابهم «يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ» الآية(1)فتلکَّؤوا عليه وقالوا: إنّ البرد شديد فقال: إنّهم يجدون البرد کما تجدون أفّ لكم ثمّ تلا قوله تعالى «قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ» الآية(2)؛ فقام منهم ناس واعتذروا بكثرة الجراح في الناس، وطلبوا أن يرجع بهم إلى الكوفة أيّاماً ثمّ يخرج بهم، فرجع بهم غير راض، وأنزلهم نخيلة وأمرهم أن یزمّلوا معسكرهم

ص: 25


1- سورة المائدة: الآية 21
2- سورة المائدة: الآية 22

ويوّطنوا على الجهاد أنفسهم، ويقلَّوا زيارة أهلهم؛ فلم يقبلوا وجعلوا يتسلَّلون ويدخلون الكوفة حتّى لم يبق معه إلَّا القليل منهم؛ فلمّا رأى ذلك دخل الكوفة فخطب الناس فقال: «أيّها الناس استعدّوا لقتال عدوّكم في جهادهم القربة إلى الله ودرك الوسيلة عنده قوم حيازي عن الحقّ لا ينصرونه، متوزعين بالجور، والظلم لا يعدلون به، جفاة عن الكتاب نكب عن الدين يعمهون في الطغيان، ويتسكَّعون في غمرة الضلال «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ»(1)«وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا»(2)قال: فلم ينفروا فتركهم أيّاما ثمّ خطبهم هذه الخطبة فقال: «أُفٍّ لَكُمْ»: كلمة تضجّر من الشيء «لقَدْ سَئمتُ عِتَابَكّمْ» : تفسير لبعض ما تأفف منه «أَرَضِيّتْم بِالحَياةِ الدُنْيا مِنَ الآخرةِ عُوضاً وبالذلّ»: عوضاً واستفهام الأنكار عليهم مستلزم «من العز خلفاً»: الحثّ على الجهاد فإنّ الجهاد لمّا كان مستلزماً لثواب الآخرة ولعزّة الجانب، وخوف الأعداء، والقعود عنه يستلزم في الأغلب السلامة في الدنيا والبقاء فيها، لكن مع طمع العدوّ فيهم وذلَّتهم له كانوا بقعودهم عنه كمن اعتاض الدنيا من الآخرة، واستخلف الذلّ من العزّة. وذلك ممّا لا يرضى به ذو عقل سليم.

«إِذَا دَعَوْتُكُمْ إِلَی جِهَادِ عَدُوِّكُمْ دَارَتْ أَعْيُنُكُمْ كَأَنَّكُمْ مِنَ الْمَوْتِ فِي غَمْرَةٍ»: السكرة التي يغمر فيها العقل «ومِنَ الذُّهُولِ»: النسيان والسهو «فِي سَكْرَةٍ يُرْتَجُ عَلَيْكُمْ حَوَارِي»: أي يعلوا عليكم مخاطبتي «فَتَعْمَهُونَ»: تتحيرون «وكَأَنَّ قُلُوبَكُمْ

مَأْلُوسَةٌ»: مجنونة «فَأَنْتُمْ لَا تَعْقِلُونَ»: تبكيت لهم وتوبيخ برذائل تعرض لهم عند دعائه لهم إلى الجهاد، ثمّ شبّه حالتهم تلك في دوران أعينهم، وحيرتهم بحال

ص: 26


1- سورة الأنفال: الآية 60
2- سورة النساء: الآية 81

المغمور في سكرات الموت، الساهي فيها عن حاضر أحواله، المشغول بما يجده من الألم، ونحوه قوله تعالى «يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ»(1)ثمّ شبّه حالهم عند دعائه إلى الجهاد تشبيهاً ثانياً بحال من اختلط عقله أي: أنّهم في حيرتهم وتردّدهم في جوابه كمختلط العقل ما يفقه ما يقول «مَا أَنْتُمْ لِي بِثِقَةٍ سَجِيسَ اللَّيَالِي»: أي أبد مداها وصف لهم برذيلة الخلف والكذب المستلزم لعدم ثقته بأقوالهم «ومَا أَنْتُمْ بِرُكْنٍ يُمَالُ بِكُمْ»: يقال فلان رکن شدید استعارة له من ركن الجبل وهو جانبه لما بينهما من المشاركة في الشدّة، وامتناع المعتصم به، ونحوه قوله: جل طوله «قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ»(2)أي قوىّ يمنعني منكم وهو وصف بالتخاذل والعجز.

«ولَا زَوَافِرُ عِزٍّ»: جمع زافرة بمعنى الأنصار والعشيرة يفتقر إليكم وصف لهم برذيلة الذل والحقارة «مَا أَنْتُمْ إِلَّا كَإِبِلٍ ضَلَّ رُعَاتُهَا»: شبههم بها وأوماء إلى وجه الشبهة بقوله «فَكُلَّمَا جُمِعَتْ مِنْ جَانِبٍ انْتَشَرَتْ مِنْ آخَرَ»: إشارة إلى أنّهم ضعيفو العزوم متشتّتوا الآراء لا يجتمعون على مصلحة بها يكون نظام أحوالهم في الدارين. وقد علمت أنّ ذلك من نقصان القوّة العلميّة، فكانوا منها على رذيلة البله.

«لَبِئْسَ لَعَمْرُ الله سُعْرُ نَارِ الْحَرْبِ أَنْتُمْ»: أي لستم من رجالها وذلك أنّ مدار الحرب على الشجاعة والرأي، وقد سبقت منه الإشارة إلى ذمّهم بالفشل وضعف الرأي.

فإذن ليسوا من رجال الحرب، ولمّا استعار لهيجان الحرب لفظ النار لما

ص: 27


1- سورة الأحزاب: الآية 19
2- سورة هود: الآية 80

يستلزمانه من الأذى الشدید رشّح تلك الاستعارة بذكر الأسعار ووصف رجالها به «تُكَادُونَ ولَا تَكِيدُونَ»: ذلك أيضاً من رذيلة ضعف الرأي «وتُنْتَقَصُ أَطْرَافُكُمْ

فَلَا تَمْتَعِضُونَ»: أي لا يمتعضون معناه يغار العدوّ في كلّ وقت على بعض بلادكم فيحوزها؛ فلا يشقّ ذلك علیکم، ولا يدرککم منه أنفة ولا حميّة، وهو وصف لهم برذيلة المهانة «وأَنْتُمْ فِي غَفْلَةٍ سَاهُونَ»: وصف لهم برذيلة الغفلة أيضاً عمّا يراد بهم، وقلَّة عقليّتهم لمصالح أنفسهم، وكلّ هذا التوبيخ تثقيف لهم، وتنبيه لنفوسهم الراقدة في مراقد طبائعها على ما ينبغي لهم من المصالح الَّتي يكون بها نظام أحوالهم على قانون الدين «غُلِبَ والله الْمُتَخَاذِلُونَ»: تنبيه على أنّهم بتخاذهم سيغلبون، وأورد الغلب المطلق بعلَّة التخاذل، لأنّهم للحكم العامّ أشدّ قبولاً منهم له على أنفسهم إذ لو خصّصهم به، فقال غلبتم لم يكن وقعه في الذوق کوقعه عامّا «وايْمُ الله إِنِّي لأَظُنُّ بِكُمْ أَنْ لَوْ حَمِسَ الْوَغَى»: اشتد الحرب «واسْتَحَرَّ الْمَوْتُ قَدِ انْفَرَجْتُمْ عَنِ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ انْفِرَاجَ الرَّأْسِ»: أي يتفرّقون أشدّ تفريق، وانفراج الرأس مثل؛ مثلُ قيل: أوّل من تكلَّم به أكثم بن صيفي(1)في وصيّة له: «یا بنيّ لا تنفرجوا عند الشدائد انفراج الرأس، فإنّكم بعد ذلك لا تجتمعون على عسر»، وفي معناه أقوال أحدها: قال ابن درید: معناه أنّ الرأس إذا انفرج عن البدن لا يعود إليه، ولا يكون بعده اتّصال وذلك أشدّ انفراج.

الثاني: قال المفضّل: «الرأس اسم رجل ينسب إليه قرية من قرى الشام يقال لها بيت الرأس، وفيها يباع الخمر؛ قال حسّان: «كان سببه من بيت رأس يكون مزاجها عسلاً وماء»، وهذا الرجل قد انفرج عن قومه، ومكانه فلم يعد إليه،

ص: 28


1- اکتم بن صيفي؛ وقيل أكثم هو: اكتم بن صيفي بن رياح من بني تميم وهو من حکماء العرب؛ يُنظر تصحيفات المحدثين لحسن العسکر: ج 1 ص 118

فضرب به المثل في المباينة والمفارقة.

الثالث: قال بعضهم: معناه أنّ الرأس إذا انفرج بعض عظامه عن بعض كان ذلك بعيد الالتئام والعود إلى الصحّة.

الرابع: قال بعض العلماء: معناه انفرجتم عنّى رأسا أي بالكلَّيّة.

الخامس: قيل معناه: انفراج من يريد أن ينجو برأسه.

السادس: قيل معناه: انفراج المرأة عن رأس ولدها حالة الوضع فإنّه يكون في غاية من الشدّة، وتفرّق الاتّصال والانفراج، ونحوه قوله عليه السّلام في موضع آخر: انفراج المرأة عن قبلها، وعلى كلّ تقدير فمقصوده شدّة انفصالهم وتفرّقهم عنه أحوج ما يكون إليهم، واستحقار الموت يحتمل أن يراد به خلوصه وحضوره، ويحتمل أن يراد به شدته التشبيه بالحرارة مجازاً كما سبق، فيكون اشتقاقه من الحرية، والجملة الشرطية خبر أن المخفّفة من الثقيلة، وأسمها الضمير الشأن وهي مع اسمها، وخبرها قائمة مقام مفعولي أظنّ، وفيه توبيخ لهم على التقصير البالغ في حقّه إلى حدّ أن يظنّ بهم الظنّ المذكور «والله إِنَّ امْرَأً يُمَكِّنُ عَدُوَّه مِنْ نَفْسِه»: يأخذ كله کنی به عن ظفر العدو ووجه استعارة عرق اللحم لسلب المال بكليته ظاهرٌ «ويَهْشِمُ عَظْمَه»: يكسرها كناية عن القتل وسائر أسباب الهلاك «ويَفْرِي يقطع جِلْدَه»: كناية عن تمزيق الحال المنتظم؛ ثم لما كان من البین أن تخاذلهم تمكين الإنسان لعدوه من نفسه يفعل به الأفعال المنكرة لا يكون إلا عن عجز عظيم وضعف في القلب عن مقاومته لا جرم أثبت العجز، وضعف القلب لإمرء مكن عدوه من نفسه بقوله: «لَعَظِيمٌ عَجْزُه ضَعِيفٌ مَا ضُمَّتْ عَلَيْه جَوَانِحُ

صَدْرهِ» وكنّى بضعف القلب عن الجبن، وأتى بذلك الإثبات على وجه عامّ لكلّ

ص: 29

امرأ فعل ذلك ولم يخصّهم بالخطاب، ولا نسب تمكين العدوّ إليهم صريحاً، وإن كانوا هم المقصودين بذلك رجاء لنفارهم عن الدخول تحت هذا العموم بالانقياد لأمره والجهاد؛ ثمّ أردفه بالأمر أن يكونوا ذلك المرء الَّذي وصفه بما وصفه أمراً على سبيل التهديد والتنفير، وذلك قوله: «أَنْتَ فَكُنْ ذَاكَ»: المرء الموصوف بالعجز «إِنْ شِئْتَ»: خطاب للشخص المطلق الصادق على أيّ واحد منهم كان وأمر له أن يكون بصفة المرء الموصوف؛ أوّلاً تنفيراً له عمّا ذكره ممّا يلزم الإنسان من الأحوال الرديئة عند تمكينه عدوّه من نفسه وروى أنّه خاطب الأشعث بن قيس؛ فإنّه روی أنّه قال: له عليه السلام وهو يخطب، ويلزم الناس عن تقاعسهم عن الحرب هلَّا فعلت فعل ابن عفان فقال: له إنّ فعل ابن عفان مخزاة على من لا دين له، ولا وثيقة معه، وإنّ امرأً أمكن عدوّه من نفسه يهشم عظمه، ویفری جلده لضعيف رأيه ما فوق عقله أنت فكن ذاك إن شئت الفصل.

لما خيّرهم أن يكونوا ذلك المرء على سبيل التهديد أردف ذلك بالتبّرء من حال المرء المذكور ليكون لهم به عليه السّلام أسوة في النفار عن تمكين العدوّ من أنفسهم إلَّا بعد بذل النفس في الجهاد أي على تقدير اختيار المخاطب تلك الحال فإنّه لا يختار ذلك بل دون أن يعطى عدوّه من نفسه ذلك التمكين ضرب المذكور في قوله «فَأَمَّا أَنَا فَوَ الله دُونَ أَنْ أُعْطِيَ ذَلِكَ»: المذكور ضَرْبٌ «بِالْمَشْرَفِيَّةِ»: سيوف منسوبة إلى مشارف قوي من أرض العرب «تَطِیرُ مِنْه»: أي من الظرب «فَرَاشُ الْهَامِ»: العظام الرقيقة تلي القحف «وتَطِيحُ»: تسقط «السَّوَاعِدُ والأَقْدَامُ»: فكل ذلك كناية عن أشد المجاهدة «ويَفْعَلُ الله بَعْدَ ذَلِكَ» الجهاد والمناجزة «مَّا يَشاءُ»: من تمكين العدو عدم تمکینه؛ فأن إليه مصير الأمور وعواقبها؛ ثم ذكر ما لهم عليه من الحق وما له عليهم منه ليعرفهم أنه أدى ما عليه من الواجب لهم فينبغي

ص: 30

أن يخرجوا إليه من واجب حقه الذي فرضه الله عليهم وذلك قوله أَيُّهَا «النَّاسُ إِنَّ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً ولَكُمْ عَلَيَّ حَقٌّ فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَيَّ فَالنَّصِيحَةُ لَكُمْ»: بدء ببيان حقّهم عليه أدباً، واستدراجاً لطباعهم؛ فإنّ البداءة بحقّ الغير قبل حقّ النفس أليق بالأدب، وهم لسماعه أقبل وأراد بالنصيحة حثهم بدء ببيان حقّهم عليه أدبا واستدراجا لطباعهم، فإنّ البداءة بحقّ الغير قبل حقّ النفس أليق بالأدب وهم لسماعه أقبل «وتَوْفِیرُ فَيْئِكُمْ عَلَيْكُمْ»: بترك الظلم فيه وتفريقه في غير وجوهه مما ليس بمصلحة لهم کما نسبوه إلى من كان قبله «وتَعْلِيمُكُمْ كَيْلَا تَجْهَلُوا»: لم يقل کما تعلموا الآن ظهور المنة عليهم بذکر نفي الجهل عنهم اشد من ظهورها في ذکر عرض إيجاد العلم لهم ولذلك نادى الرجل وأنفه من یا جاهل اشد من لست بعالم «وتَأْدِيبُكُمْ كَيْمَا تَعْلَمُوا»: فهذه الأمور الأربعة هي الواجبة على الإمام للرعيّة واحد منها يرجع إلى صلاح أبدانهم وقوامها، وهو توفير فيئهم عليهم بضبطه، وعدم التصرف فيه لغير وجوه مصالحهم، واثنان يرجعان إلى صلاح حال نفوسهم، إمّا من جهة إصلاح القوّة النظريّة، وهو التعليم لغرض العلم أو من جهة إصلاح القوّة العمليّة، وهو التأديب لغرض العمل، وواحد مشترك بين مصلحتي البدن والنفس ونظام أحوالهما، وهو النصيحة لهم، ثمّ أردف ذلك بیان حقّه عليهم فقال: «وأَمَّا حَقِّي عَلَيْكُمْ فَالْوَفَاءُ بِالْبَيْعَةِ»: وهي أهمّ الأمور إذ بها النظام الكلَّىّ الجامع لهم معه «والنَّصِيحَةُ فِي الْمَشْهَدِ والْمَغِيبِ»: أي في غيبته وحضوره والذبّ عنه، إذ بذلك نظم شمل المصلحة بينهم وبينه أيضاً «والإِجَابَةُ حِینَ أَدْعُوكُمْ»: من غير تثاقل عن ندائه فإنّ للتثاقل عن دعوته ما علمت من قهر العدوّ. وغلبته عليهم وفوات مصالح عظيمة «والطَّاعَةُ حِینَ آمُرُكُمْ»: وظاهر أنّ شمل المصلحة لا ينتظم بدون ذلك، وأنت تعلم بأدنی تأمّل أنّ هذه الأمور الأربعة، وإن كانت حقوقاً له عليهم؛ إلَّا أنّه إنّما يطلبها منهم لما يعود عليهم به

ص: 31

من النفع في الدنيا والآخرة، كان الوفاء ملكة تحت العفّة، والنصيحة له سبب لانتظام أمورهم به، وإجابة دعوته إجابة لداعي، الله الجاذب إلى الخير والمصلحة، وكذلك طاعة أمره طاعة لأمر الله إذ هو الناطق به، وقد علمت ما تستلزمه إطاعة الله من الكرامة عنده، وبالله التوفيق.

ومن خطبة له عليه السّلام بعد التحكيم:

روي أن عمرو بن العاص، وأبا موسى الأشعري لما التقيا بدومة الجندل وقد حکما في أمر الناس؛ كان عليه السلام قد دخل الكوفة؛ ينتظر ما يحکمان به فلما تمت خدعة عمرو لأبي موسى، وبلغه عليه السلام ذلك؛ أغتم غماً شديداً، ووخم منه وقام فخطب الناس فقال:

«الْحَمْدُ لله وإِنْ أَتَى الدَّهْرُ بِالْخَطْبِ»: بالأمر العظيم «الْفَادِحِ والْحَدَثِ الْجَلِيلِ وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا»: تأكيد لمعنی کلمة التوحيد وتقریر لمقتضاها «اللهُ وَحْدَهُ لَا

شَرِيكَ لَهُ لَيْسَ مَعَهُ إِلَهٌ غَیْرُهُ وأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ صلّى الله عليه وآله»:

«أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ مَعْصِيَةَ النَّاصِحِ الشَّفِيقِ الْعَالِمِ الْمُجَرِّبِ تُورِثُ الْحَیرَةَ وتُعْقِبُ النَّدَامَةَ»: هذه القيود معتبرة في حسن الرأي، ووجوب قبوله أما كونه ناصحاً فلان الناصح يصدق الفكر بمحض الرأي، وغيره ربما لشد تقطر الرأي فيوقع في المضرة، وأما كونه شفيقاً؛ فلأن الشفقة يحمل على حسن التروي في الأمر، وانتفاع الرأي فيه على تثبيت واجتهاد، والباعث على هذين أما الدين أو المحبة المستسير وأما كونه عالماً؛ ففائدته أصابته بعلمة وجه المصلحة في الأمر، فإن الجاهل أعمى لا يبصر وجه المصلحة؛ قال رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم «استرشدوا

ص: 32

العاقل ترشدوا ولا تعصوه فتندموا»(1)وقال عبد الله بن الحسين لابنه محمد أحذر مشورة الجاهل، وأن كان ناصحاً کما تحذر عداوة العدّو العاقل؛ فأنه كما يوشك أن يقع بك مكر العاقل كذلك يوشك أن يورطك شّور الجاهل، وأما كونه مجرباً؛ فلانه لا يتم رأي العالم مالم ينظم إليه التجربة، وذلك أن العالم وأن علم، وجه المصلحة في الأمر إلا أن ذلك الأمر قد يشمل على بعض، وجوه المفاسد لا يطلع عليه إلا بالتجربة مرة مرة؛ فالمشورة من دون تجربة مضنة الخطاء وقيل في منشور الحكم؛ محتاج إلى العقل والعقل محتاج إلى التجارب، وإذا عرفت أن طاعة المشير الموصوف بالصفات المذكورة مستلزمة في غالب الأحوال للسرور لما ذكر، كانت مخالفة مستلزمة للحسرة مستعقبة للندامة؛ ثم أردف ذلك بيان أنه هو المشير وأنه أشار عليهم فخالفوه ليتضح لهم أنهم عصوا مشيراً قد أستكمل شرائط الرأي فيتوقعوا الندم على معصيته فقال «وقَدْ كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ فِي هَذِهِ الْحُكُومَةِ أَمْرِي

ونَخَلْتُ لَكُمْ: أعطيتكم مَخْزُونَ رَأْيِي»: استعار النخل لاستخلاص أشد رأيه وأجودها لهم بحسب اجتهاد وجه المشابهة أن أجود ما ينتفع به مما ينخل(2)هو المتحول؛ كذلك الرأي أجوده وأنفعه ما أستخلص وصفي من كدور الشهوات والغضب «لَوْ كَانَ يُطَاعُ لِقَصِیرٍ أَمْرٌ»: مثل وقصير هذا هو قصير بن سعد مولى جذيمة الأبرش بعض ملوك العرب، وأصله أنّ خذيمة كان أبا الرباء ملكة

ص: 33


1- تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 100؛ الأمالي للشيخ الطوسي: ص 153؛ وقد أخرج الحديث بتمام سنده؛ شرح نهج البلاغة لبن میثم البحراني: ج 2 ص 85 ولم يُرجع الحديث إلى مضانه؛ ذیل تاریخ بغداد لابن النجار البغدادي: ج 5 ص 17؛ میزان الاعتدال للذهبي: ج 2 ص 219؛ لسان الميزان لابن حجر: ج 3 ص 100
2- مما ينخل: مَثْل لتقريب المعنى: وهو: أن الدقيق بعد ما ينخل يصبح نافعاً بخلوه من الشوائب، وهكذا هو الرأي عند أمير المؤمنين عليه السلام، إذا أستشير في أمرٍ ما فإن الرأي حينها تام وصائب خالٍ من الشوائب

الجزيرة؛ فبعثت إليه راغبة إليه؛ ليتزوّج بها، وسألته القدوم عليها؛ فأجابها إلى ذلك، وخرج في ألف فارس، وخلَّف ما في جنوده مع ابن أخيه عمروا بن عدي وأشار قصير على خذيمة أن لا يتوجّه إليها؛ فلم يقبل رأيه فلمّا قرب خذيمة من الجزيرة استقبله جنود الرباء بالعدّة، ولم ير منهم إكراماً له؛ فأشار عليه قصير بالرجوع عنها، وقال: إنّها امرأة ومن شأن النساء الغدر.

فلم يقبل؛ فلمّا دخل إليها غدرت به وقتلته؛ فعندها قال قصير: لا يطاع لقصير أمر.

فذهبت مثلاً لكلّ ناصح عُصي، وهو مصيب في رأيه، وقد يتوهّم أنّ جواب لو هاهنا متقدّم، والحقّ أنّ جوابها محذوف، والمعنى يتّضح بترتيب الكلام، والتقدير إنّي كنت أمرتكم أمري في هذه الحكومة، ونصحت لكم فلو أطعتموني لفعلتم ما أمرتكم به، ومحّضت لكم النصيحة فيه؛ فقولنا: لفعلتم هو تقدير الجواب، وممّا ينبّه عليه أنّ قوله: «فَأَبَيْتُمْ عَلَيَّ إِبَاءَ الْمُخَالِفِینَ الْجُفَاةِ والْمُنَابِذِينَ الْعُداة»: في تقدير استثناء نقيض ذلك التالي، وتقديره لكنّكم أبيتم علىّ إباء من خالف الأمر وجفا المشير وعصاه حتّى شكّ في نصحه هل كان صواباً أو خطأ. وهذا الحكم حقّ فإنّ المشير بالرأي إذ أكثر مخالفوه فيه قد يتّهم نفسه في صحّة ذلك الرأي، وصوابه لأنّ استخراج وجه المصلحة في الأمر أمر اجتهاديّ يغلب على الظنّ بكثرة أمارات أخرى يعرض على ضنه أن ما رآه ليس بمصلحة فيعارض بها أمارات الأول حقاً ويخالفه في رأيه فإذا تعرض لغيره أمارت أخرى؛ يعرض على ظنه أن ما رآه هو ليس بمصلحة فيعارض بها أمارت الأول حقاً ويخالفه في رأيه؛ فإذا كثرت تلك المخالفة من جمع عظيم جاز أن يتشكك الإنسان فيما ظنه من المصلحة أنه ليس بمصلحة، وأنّ الأمارات الَّتي اقتضت ذلك الظنّ غير صحيحة فلذلك قال عليه

ص: 34

السّلام حَتَّی «ارْتَابَ النَّاصِحُ بِنُصْحِه»: وعنی به نفسه عليه السلام أو من رأى رأيه هذا، وقد قال بعضُ من قر عينه بمطالعة هذا الكتاب بحمل ذلك على المبالغة؛ لأنه عليه السلام منزه أن يشك فيما يراه؛ أيشك فيما يراه صواباً بعد شوره به «وضَنَّ الزَّنْدُ بِقَدْحِهِ»: قيل هو مثل يُضرب لمن يبخل بفوائده؛ إذا لم يجد لها قابلاً عارفاً بحقّها؟ أو لم يتمکَّن إفادتها؛ فإنّ المشير إذا اتّهم واستغّش أو خطيء في رأيه ربما لا ينقدح له بعد ذلك رأى صالح لحكم الغضب عليه من جهة مخالفته وعدم قبول رأيه، ولمّا كان غرضه أن يقرّر عليهم الندامة في مخالفة رأيه ويريهم ثمرة عصيان أمره الصادر عن معاينة وجه المصلحة كما هو قال: «فكُنْتُ أَنَا وإِيَّاكُمْ كَمَا قَالَ أَخُو هَوَازِنَ(1)أَمَرْتُكُمْ أَمْرِي بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى»: اسم موضع «فَلَمْ تَسْتَبِينُوا النُّصْحَ إِلَّا ضُحَى الْغَدِ»: وهو لدريد بن الصمة من قصيدة له في الحماسة أوّلها:

نصحت لعارض وأصحاب عارض ٭٭٭ ورهط بنى السوداء والقوم سهدّ

وقصّته في هذه القصيدة أنّ أخاه عبد الله بن الصمة غزا بنی بکر بن هوازن بن غطفان؛ فغنم منهم وأستاق إبلهم؛ فلمّا كان بمنعرج اللوى قال: لا والله لا أبرح حتّى أنحر البقيعة، وهي ما ينحر من النهب قبل القسمة، وأحيل السهام؛ فقال له أخوه درید: لا تفعل فإنّ القوم في طلبك؛ فأبى عليه وأقام وأنحر البقيعة وبات؛ فلمّا أصبح هجم القوم عليه، وطعن عبد الله بن صمة فاستغاث بأخيه

ص: 35


1- أخو هوازن: هو دريد بن الصّمّة؛ هو: دريد بن الصمة بن عمر بن علقمة بن خداعة بن عديّة بن جشم بن معوية بن بكر بن هوازن بن منصور: ينظر معارج نهج البلاغة لعلي بن زید البهيقي: ص 126

درید فنهاه عنه القوم حتّى طعن هو أيضاً، وصرع وقتل عبد الله، وحال الليل بين القوم فنجا درید بعد طعنات، وجراح حصل له فقال القصيدة، وإنّما قال عليه السّلام: أخو هوازن لنسبته إليهم؛ فإنّ دریداً ابن الصمة بن بنی جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن ونحوه قوله «وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ»(1)لنسبته فيهم، وكذلك قال لهم أخوهم لوط، ويكفي في إطلاق الأخوّة مجازاً مجرّد الاتّصال بهم، والملابسة لهم وقد عرفت ذلك، ووجه تمثّله عليه السّلام بالبيت: إنّي كنت وإیّاکم في نصيحتي ونهيي من الحكومة ومخالفتكم أمري المستلزمة لندامتكم على التفريط کهذا القائل مع قومه حيث نصح لهم فعصوه فلحقهم من الندامة والهلاك، وأعلم أنّ الَّذي كان أشار به على أصحابه هو: ترك الحكومة والصبر على قتال أهل الشام، ومجمل السبب أنّ أمارات الغلبة ليلة الهرّير كانت لايحة على أهل الشام؛ فلمّا عاينوا الهلاك استشار معاوية بعمرو بن العاص في كيفيّة الخلاص فقال عمرو: إنّ رجالك لا تقوم لرجاله، ولست مثله إنّه يقاتلك على أمر وأنت تقاتله على غيره وأنت تريد البقاء وهو يريد الفناء، وأهل العراق يخافون منك إن ظفرت بهم وأهل الشام لا يخافون عليّاً إن ظفر بهم، ولكن ألق إلى القوم أمراً إن قبلوه اختلفوا وإن ردّوه اختلفوا: ادعهم إلى كتاب الله حكماً بينك وبينهم فإنّك بالغ به حاجتك وإنّي لم أزل ادّخر هذا الأمر لوقت حاجتك إليه؛ فعرف معاوية ذلك فلمّا أصبحوا رفعوا المصاحف على أطراف الرماح، وكان عددها خمسمائة مصحف، ورفعوا مصحف المسجد الأعظم على ثلاثة رماح مشدودة يمسكها عشرة رهط، ونادوا بأجمعهم: الله الله معشر العرب في النساء والبنات؛ الله الله دینکم هذا كتاب الله بيننا، وبينكم فقال عليه السّلام: اللهمّ إنّك تعلم أنّهم ما يريدون الكتاب؛

ص: 36


1- سورة الأحقاف: الآية 21

فاحكم بيننا وبينهم إنّك أنت الحكم الحقّ المبين، وحينئذ اختلف أصحابه؛ فقالت طائفة: القتال القتال، وقال أكثرهم: المحاكمة إلى الكتاب، ولا يحلّ لنا الحرب، وقد دعينا إلى حكم الكتاب، وتنادوا من كلّ جانب الموادعة؛ فقال عليه السّلام في جوابهم: أيّها الناس إنّي أحقّ من أجاب إلى كتاب الله، ولكن معاوية وعمرو بن العاص، وابن أبي معيط ليسوا بأصحاب دین، ولا قرآن إنّي أعرف بهم منکم صحبتهم رجالا، وصغار فكانوا شرّ رجال وشرّ صغار، ويحكم إنّها كلمة حقّ يراد بها باطل إنّهم ما رفعوها إنّهم يعلمون بها، ولكنّها الخديعة والمكيدة والوهن؛ أعيروني سواعدكم وجماجمكم ساعة واحدة؛ فقد بلغ الحقّ مقطعه، ولم يبق إلَّا أن يقطع دابر القوم الظالمين، فجاءه عشرون ألفا من أصحابه، ونادوه باسمه دون إمرة المؤمنين؛ أجب اليوم إلى كتاب الله إذا دُعيت، وإلَّا قتلناك کما قتلنا عثمان؛ فقال عليه السّلام: ويحكم أنا أوّل من أجاب إلى كتاب الله، وأوّل من دعا إليه فكيف لا أقبله وإنّما قاتلتهم لیدینو بحکم القرآن، ولكنّي قد أعلمتكم أنّهم قد کادوکم، وليس العمل بالقرآن يريدون.

فقالوا: ابعث إلى الأشتر يأتيك، وقد كان الأشتر صبيحة ليلة الهرير قد أشرف علی عسکر معاوية ليدخله، ولاح له الظفر فبعث إليه فرجع على كره منه، ووقع بينه وبين من أجاب إلى الحكومة من أصحابه عليه السّلام مسابّ، ومجادلات على ما اختاروا، من ترك الحرب وتنادوا من كلّ جانب رضي أمير المؤمنين بالتحكيم وكتبوا عهداً على الرضا به، وسنذكر كيفيّته إجمالاً إن شاء الله تعالى وبالله التوفيق.

ومن خطبة له عليه السلام في تخويف أهل النهروان:

«فَأَنَا نَذِيرٌ لَكُمْ أَنْ تُصْبِحُوا صَرْعَى بِأَثْنَاءِ هَذَا النَّهَرِ»: أثناء الوادي وحداتها

ص: 37

شيء وهو منعطفه: «وبِأَهْضَامِ هَذَا الْغَائِطِ»: جمع هضم وهو المطمئنّ من الوادي، والغائط: ماسفل من الأرض «عَلَى غَیْرِ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ولَا سُلْطَانٍ مُبِینٍ مَعَكُمْ»: أي ولا حجّة واضحة يحتجّون بها على ما يدّعونه حقّاً ويقاتلون عليه، وذلك ممّا يجب الحذر منه، إذ فيه حرمان سعادة الدارين، وإنّما سمّيت الحجّة نفسها سلطاناً لأنّ بها التسلَّط، وأعلم أيها العطشان لسلسال التحقيق أن الخطاب للخوارج الذين قتلهم؛ عليهم السلام بالنهروان، وكان القضاء الإلهي سبق فيهم بالخروج وروي في صحيح الأخبار، أن رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم، بينما هو يقسم قسماً جائه رجل من بني تميم يقال له ذو الخويصرة، فقال: له يا محمد أعدل فقال: صلى الله عليه [وآله] وسلم قد عدلت فقال: له ثانية أعدل یا محمد فأنك لم تعدل فقال: صلى الله عليه وآله وسلم، «ویلك ومن يعدل إذا لم اعدل؛ فقال عمر یا رسول الله أذن لي في ضرب عنقه فقال: «دعه فسيخرج من صئصي هذا قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية؛ يخرجون على حين فرقة من الناس تحتقر صلاتكم في جنب صلواتهم، وصومكم عند صومهم؛ يقرؤون القرآن لا يتجاوز تراقيهم فيهم رجل أسود مجدج(1)اليد اليمنى»(2)بمعنى الناقص أحدى يديه كأنها ثدي أمرئه أو بضعة قد يقتلهم أولي الفريقين بالحق؛ فقلت نعم قتله علي بن أبي طالب على نهر يقال لأعلاه تأمر، ولأسفله النهروان فقالت أثبت على ذلك بينة؛ فأقمت رجالاً شهدواً عندها على ذلك؛ ثم قلت سألتك بصاحب هذا القبر يعني رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم؛ ما الذي سمعت منه فيهم؛ فقالت

ص: 38


1- مجدج: وقيل مجدع وهو: رافع بن عمرو بن مجدع وقيل مجدج أخو الحكم بن عمرو الغفاري يُعد في البصريين، روى عنهُ عبد الله بن الصامت وغيره؛ يُنظر الوافي بالوفيات للصفدي: ج 14 ص 49
2- : المصنف لعبد الرزاق الصنعاني: ج 10: ص 146؛ مسند احمد بن حنبل : ج 3: ص 56؛

سمعته يقول أنهم شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق، والخليفة واقربهم عند الله وسيلة؛ أما سبب خروج هؤلاء القوم؛ فهو أنه عليه السلام لما قهره؛ أصحاب التحكيم وأخذه الأشعث بن قيس؛ فطاف به على اصحاب علي فرضوا به؛ حتى مر برايات غيره وكان مع علي عليه السلام بصفين اربعة الآف فارس؛ فلما قرأ الكتاب عليهم قال فتيان منهم لا حكم ألا لله ثم حملا على أصحاب؛ فقتلا فيهما أول من حكم ثم مر على بني مراد ثم على رايات بني راسب ثم على بني تميم؛ فكل فرقة منهم فرآه عليهم قالوا لا حكم ألا لله، ولا نرضى ولا نحكَّم الرجال في دین الله؛ فرجع الأشعث فأخبر عليّاً عليه السّلام بذلك؛ فاستصغر أمرهم وظنّ أنّهم قليلون، فلمّا بلغهم أمر الحكمين ما راعه إلَّا، والناس يتنادون من كلّ جانب لا حكم إلَّا للهَّ الحكم للهَّ يا عليّ لا لك وقد كنّا أخطأنا حين رضينا بالحكمين فرجعنا إلى الله وتبنا؛ فارجع أنت وتب إلى الله کما تبنا، وإلَّا برئنا منك؛ فأبی علیه السلام الرجوع وقال، ويحكم أبعد العهد مرجع؛ فما نصنع بقوله تعالى «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ»(1)وأبة الخوارج إلا تضليل التحكيم والطعن؛ فيه فبرئوا منه وبري منهم ثم كان اجتماعهم بحرور عليه السلام لذلك الحرورية؛ فناضرهم بها فرجع منهم الفان ثم مضوا إلى النهروان وكان أميرهم يوئذ عبد الله بن الكوا وحين القتال عبد الله وهب الراسي فسار اليهم فخطبهم فقال نحن أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة وعنصر الرحمة ومعدن العلم والحكمة أيّها القوم إنّي نذير لكم. وروى أنّه عليه السّلام لمّا قتلهم طلب ذو الثدية فيهم طلباً شديداً فلم يجده فجعل يقول: والله ما كذب ولا كذبت اطلبوا الرجل وإنّه لفي القوم.

ص: 39


1- سورة النحل: الآية 91

فلم يزل يطلبه حتّى وجده في وهدة من الأرض تحت القتلى، وهو رجل مخدج اليد كأنّها ثدي في صدره، وعليها شعرات کسبال الهرّة؛ فكبّر عليّ عليه السّلام، وكبّر الناس معه، وسرّوا بذلك «قَدْ طَوَّحَتْ بِكُمُ»: توهتكم الدار الدنيا إذا لهم والموجب لتيههم إنّما هو اتّباع أهوائهم الباطلة الَّتي منشأؤها أمر دنيويّ «واحْتَبَلَكُمُ»: صادتكم «الْمِقْدَارُ»: استعارة حسنة لإحاطة القدر النازل عن قضاء الله بهم؛ فهو كحبالة الصايد الَّتي لا يخرج للطائر منها إذا نزلت به.

ثم قرر الحجة عليهم بقوله: «وقَدْ كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ هَذِه الْحُكُومَةِ فَأَبَيْتُمْ عَلَيَّ إِبَاءَ الْمُنَابِذِينَ حَتَّى صَرَفْتُ رَأْيِي إِلَی هَوَاكُمْ»: كأنه يقول أن الحق هو عدم الحكومة؛ فلم طلبتموها وأتيتم على الماء أباء المخالفين المنابذین لما نهيكم عنها حتى صرت إلى أهوائكم فيها، وأن الحق هو إيقاعها فلم سابقتموني الآن لما أوقعتها وجعلت لله علي بها عهداً، وعلى التقديرين يلزم الخطأ «وأَنْتُمْ مَعَاشِرُ أَخِفَّاءُ الْهَامِ

سُفَهَاءُ الأَحْلَامِ»: والواو للحال والعامل صرفت، والإضافة غير محصنة؛ فلذلك صح كونها وصفين لمعاشر، وخفة الهامة كناية عن رذيلة الطيش المقابلة لفضيلة الثبات، والسفه رذيلة مقابلة للحلم «ولَمْ آتِ لَا أَبَا لَكُمْ بُجْراً»: هو: الأمر العظيم والداهية، وروي هجراً بمعنى الساقط وعرى وهو الإثم أو داء يأخذ الإبل في مشافرها، ويستعار للداهية «ولَا أَرَدْتُ لَكُمْ ضُرّاً»: وقوله: لا أبا لكم كلمة اعتيدت في ألسنة العرب. قال الجوهري: يراد بها المدح، وقال غيره: يراد بها الذمّ فإنّ عدم اللحوق بأب يستلزم العار والسبّة وقيل: هي دعاء على المرء أن لا يكون له أب یعزّه ویشدًّ ظهره ونفي الأب يستلزم نفي العشيرة له؛ فكأنّه دعاء بالذلّ وعدم الناصر؛ والله سبحانه أعلم.

ومن كلام له عليه السّلام يجري مجرى الخطبة:

ص: 40

قيل هذا الفصل فيه فصول أربعة التقطها الرضيّ رحمه الله من كلام طويل له عليه السّلام قاله: بعد وقعة النهروان ذكر فيه حاله منذ توفّى رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلَّم إلى آخر وقته.

الفصل الأوّل: «فَقُمْتُ بِالأَمْرِ حِینَ فَشِلُوا»: أي بأمر الله بين يدي رسوله وبعده في الحروب والمقامات الصعبة الَّتي ضعفوا عنها والأوقات الَّتي فشلوا فيها وأمره في ذلك ظاهر «وتَطَلَّعْتُ حِینَ تَقَبَّعُوا»: اشارة إلى أن الهمة في تحصيل ما ينبغي للإنسان أن يحصله من تعرف الأمور واختيارها واختبارها والنظر في مصادرها ومواردها، وهي ملكة تحت الشجاعة، ولمّا كان التطَّلع على الأمر يحتاج الإنسان فيه إلى نحو من التطاول ومدّ العنق وتحديق العين ونحوه، وكان تعرّف الأمور واختبارها لابدّ فيه من بعث رائد الفكر الَّذي هو عين النفس الَّتي بها يبصر، وتحديقه نحو الأمور المعقولة وإرسال المتخيّلة لتفتيش خزائن المحسوسات أشبه التطلع؛ فأستعير له وأشار إلى أن يعرفه الأمور حين قصورهم عن ذلك، ولمّا كان التقبّع يقابل مدّ العين، والتطاول إلى رؤية الأشياء المسمّى تطلَّعاً، وكان قصور أفكارهم وعدم اعتبارهم للأشياء يقابل مدّ الفكر وتطاول الذهن إلى معرفة الأمور وكان قصور أفكارهم أيضا والعجز عن المعرفة يشبه التقبّع استعار لفظ التقبّع وكنّى به عنه.

ونَطَقْتُ حِینَ تَمْنَعُوا: إشارة إلى ملكة الفصاحة المستتبعة لملكة العلم: أي نطقت في القضايا المهمّة والأحكام المشكلة والمقاول الَّتي حصرت فيها بلغاؤهم، فكنّى بنطقه وتعتعتهم عن فضاحتهم وعيّهم ومَضَيْتُ بِنُورِ اللهِ حِینَ وَقَفُوا: إشارة إلى فضيلة العلم أي كان سلوكي لسبيل الحقّ على وفق العلم وهو نور الله الَّذي لا يضلّ من اهتدى به، وذلك حين وقفوا حائرين متردّدين جاهلين بالقصد وكيفيّة

ص: 41

سلوك الطريق، وإنّما أثبت لنفسه هذه الفضائل وقرن كلّ فضيلة له برذيلة فيهم يقابلها لتبيّن فضله بالنسبة إليهم إذ كان الغرض ذلك وكُنْتُ أَخْفَضَهُمْ صَوْتاً وأَعْلَاهُمْ فَوْتاً: سابقاً کنی بخفض الصوت عن ربط الجأش في الأمور والثبات فيها والتصميم على فعل ما ينبغي من غير التفات إلى الحوادث الجواذب والموانع على فعل ما هو خير ومصلحة فإنّ كثرة الأصوات وعلوّها في الأفعال الَّتي هي مظنّة الخوف دليل الفشل، ولا شكّ أنّ من كان أشدّ في ذلك كان أعلى صوتاً وأشدّ سبقاً إلى مراتب الكمال ودرجات السعادة ممّن كان أضعف فيه.

فَظفرْتُ بِعِنَانِهَا: وفي النسخ الصحيحة فطرت واسْتَبْدَدْتُ: انفردت بِرِهَانِهَا: ها - فيهما عايدة إلى الفضيلة وإن لم يجر لها ذكر لفظيّ فاستعار هاهنا لفظ الطيران للسبق العقليّ لما يشتركان فيه من معنى السرعة، لفظي العنان والرهان اللذين هما من متعلَّقات الخيل للفضيلة الَّتي استكملتها نفسه تشبيهاً لها مع فضائل نفوسهم بخيل الحلبة، ووجه المشابهة أنّ الصحابة لمّا كانوا يقتنون الفضائل ويستبقون بها إلى رضوان الله وسعادات الآخرة كانت فضائلهم الَّتي عليها يستبقون کخیل الرهان، ولمّا كانت فضيلته عليه السّلام أكمل فضائلهم، وأتمّها كانت بالنسبة إلى فضائلهم كالفرس الَّذي لا يشقّ غباره. فحسن منه أن يستعير لسبقه بها لفظ الطيران، ويجرى عليها لفظ العنان والرهان.

الفصل الثاني: وفيه يحكي فيه قيامه بأعباء الخلافة حين انتهائها إليه وجريه فيها على القانون العدل والأوامر الإلهيّة كَالْجَبَلِ لَا تُحَرِّكُهُ الْقَوَاصِفُ ولَا تُزِيلُهُ الْعَوَاصِفُ: تشبيه له في الثبات على الحقّ بالجبل فكما لا تحرّكها قواصف الرياح وعواصفها كذلك هو لا تحرّكه عن سواء السبيل مراعاة هوى لأحد أو اتّباع طبع يخالف ما

ص: 42

يقتضيه سنّة الله وشرعه بل هو ثابت على القانون العدل وموافقة الأمر الإلهيّ. لَمْ يَكُنْ لأَحَدٍ فِيَّ مَهْمَزٌ: عيب ولَا لِقَائِلٍ فِيَّ مَغْمَزٌ: مطعن الذَّلِيلُ عِنْدِي عَزِيزٌ: إعزازه اعتناؤه بحاله واهتمامه بأمر ظلامته حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ لَه والْقَوِيُّ عِنْدِي ضَعِيفٌ حَتَّى

آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ: فأن ضعف القوي، قهره تحت حكمه إلى غاية يستوفي منه المظلوم ولك أن تعدي القوة النطقية في مضمار السؤال قائلاً أن مفهوم من هاتين الغايتين أن نضرة إلى الذليل بعد استيفاء حقه وإلى القوي بعد أخذ الحق منه لا يكون على سواء؛ بل يكون التفاته إلى القوي أكثر وهل هذا عدل؛ فتوقف حتى يرمي إلى هدف ذهنك سهم الجواب وهوانه لما لم يكن الغرض من الأمر بمساواة النظر بين الخلق إلا أخذ حق الضعيف من القوي وعدم التظالم بينهم لم يجب مساواة النظر بين القوي والضعف إلا من تلك الجهة ولم يكن أعراره للقوي وإكرامه في غير وجه الظلم قبحاً لجواز اتصافه بفضله يوجب أعزازه من جهة الدين أيضاً.

الفصل الثالث: رَضِينَا عَنِ اللهِ قَضَاءَهُ وسَلَّمْنَا للهِ أَمْرَهُ: قد عرفت أنّ الرضا بقضاء الله والتسليم لأمره باب من أبواب الجنّة يفتحه الله لخواصّ أوليائه، ولمّا كان عليه السّلام سیّد العارفين بعد رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلَّم وكان قلم القضاء الإلهيّ قد جرى على قوم بالتكذيب له والتهمة فيما يقول لا جرم هو كان عليه السّلام أولى الناس بلزوم باب الرضا.

ومن ثم قيل: ذكر ذلك عليه السّلام لما تفرّس في طائفة من قومه أنّهم يتّهمونه فيما يخبرهم به عن النبيّ صلى الله عليه [وآله] وسلَّم من أخبار الملاحم في الأمور المستقبلة، وقد كان منهم من يواجهه بذلك كما روى أنّه لمّا قال: سلوني قبل أن تفقدوني فوالله لا تسألوني عن فئة تضلّ مائة وتهدی مائة إلَّا أنبأتكم بناعقها وسائقها؛ قام إليه أنس النخعيّ فقال: أخبرني كم في رأسي ولحيتي طاقة شعر.

ص: 43

فقال علیه السّلام: «والله لقد حدّثني حبيبي أنّ على كلّ طاقة شعر من رأسك ملك يلعنك، وأنّ على كلّ طاقة شعر من لحيتك شيطانا يغويك، وأنّ في بيتك سخلا يقتل ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم»(1)وكان ابنه سنان بن أنس قاتل الحسين عليه السّلام يومئذ طفلا يحبو، وسيأتي بعض تلك الأخبار.

«أَتَرَانِي أَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وآله؟ واللهِ لأَنَا أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَهُ - فَلَا أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ»: استنكار لما صدر منهم في حقّه من التكذيب، وإيراد حجّة لبطلان أوهامهم في حقّه بصورة قياس الضمير مع نتيجته، وتقديره والله لأنا أوّل من صدّقه، وكلّ من كان أوّل مصدّق له؛ فلن يكون أوّل مكذّب له ينتج أنّي لا أكون أوّل مكذّب له.

الفصل الرابع: «فَنَظَرْتُ فِي أَمْرِي فَإِذَا طَاعَتِي قَدْ سَبَقَتْ بَيْعَتِي»: وفي هذا الفصل؛ احتمالان قال: بعض الفضلاء أنه مقطوع من كلام يذكر؛ فيه حاله بعد وفاة الرسول صلى الله عليه [وآله] وسلم، وأنه كان معهوداً له أن لا ينازع؛ في أمر الخلافة؛ بل أن حصل له بالرفق، وإلا فليمسكن أي طاعتي لرسول الله؛ فيما أمرني به من ترك القتال قد سبقت بيعتي القوم؛ فلا سبيل إلى الامتناع منها «وإِذَا الْمِيثَاقُ

فِي عُنُقِي لِغَیْرِي».

ومن خطبة له عليه السّلام:

ص: 44


1- يُنظر: كشف اليقين للعلامة الحلي: ص 75؛ نهج الحق وكشف الصدق كذلك للعلامة الحلي: ص 242؛ وابن ميثم البحراني في شرح المئة كلمة هامش ص 252؛ وأيضاً شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني: ج 2 ص 96؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي في: ج 2 ص 286؛ بناء المقالة الفاطمية في نقض الرسالة العثمانية للسيد بن طاووس: هامش ص 190

«وإِنَّمَا سُمِّيَتِ الشُّبْهَةُ شُبْهَةً لأَنَّهَا تُشْبِهُ الْحَقَّ»: أما في صورته أو في مادته معاً، ثم أشار إلى بيان حال الناس فيها، وأعلم أن الناس أما أولياء الله أو أعدائه، أما أوليائه فلما كانت نفوسهم مشرقة بنور اليقين مستضيئة بمصباح النبوة في سلوك الصراط المستقیم کان بتلك الأنوار هدى أذهانهم في ظلمات الشبهات وحوزهم عن الهوى في مهاوي الجهالات کما قال عز من قال «يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ»(1)وهو الهدى المأمور به بلزوم سمته والسلوك له إلى المطالب الحقة وارادة بقوله: «فَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اللهِ فَضِيَاؤُهُمْ فِيهَا الْيَقِنُ ودَلِيلُهُمْ سَمْتُ الْهُدَى وأَمَّا أَعْدَاءُ اللهِ فَدُعَاؤُهُمْ فِيهَا الضَّلَالُ»: عن القصد القويم واضلال الخلق عن الطريق الحق، وليس مما يعتمدونه ذلیلاً يزعمون أنهم يهدون به السبيل؛ إلا شبهة هي في نفسها عمي الأبصار بصائرهم عن مطالعة نور الحق وهو المراد بقوله: «ودَلِيلُهُمُ الْعَمَى فَمَا يَنْجُو مِنَ الْمَوْتِ مَنْ

خَافَهُ»: مصداقه قوله تعالى «قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ»(2)«أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ»(3)«ولاَ يُعْطَى الْبَقَاءَ مَنْ أَحَبَّهُ»: وحاصله التذكير بهادم اللذات والتخويف بذكره، والتنفير عن محبة مالا بد عن زواله ليفزع السامعون إلى العمل لما بعده أن أخذ التوفيق بأزمة عقولهم؛ فإن خوفه ومحبة ضده هو البقاء لا ينفعان في الخلاص منه لكونه ضرورياً في الطبيعة هذا، وأعلم أنه يحتمل أن يكون؛ فما ينجوا إلى آخره فصلاً آخر، ويحتمل أن يكون متصلاً، ويكون الفصل الثاني قد سبق له قبل الأول كلام يحسن تعلقه به وبالله التوفيق.

ص: 45


1- سورة الحديد: الآية 12
2- سورة الجمعة: الآية 8
3- سورة النساء: الآية 78

ومن خطبة له صلوات الله عليه:

في غارة النعمان بن بشير بعين التمر، والسبب أنّ معاوية بعثه في ألفي فارس لإرهاب أهل العراق؛ فأقبل حتّی دنا من عين التمر، وكان عاملها يومئذ من قبله عليه السلام مالك بن کعب الأرجيّ، ولم يكن معه إذ ذاك سوى مائة رجل ونحوها؛ فكتب مالك إليه عليه السّلام يعلمه الخبر؛ فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: اخرجوا هداكم الله إلى مالك بن کعب أحنيكم؛ فإنّ نعمان بن بشير قد نزل به في جمع من أهل الشام ليس بالكثير؛ فانهضوا إلى إخوانکم لعلّ الله يقطع بکم طرفا من الكافرين؛ ثمّ نزل فتثاقلوا فأرسل إلى وجوههم؛ فأمرهم بالنهوض فتثاقلوا ولم يجتمع منهم؛ إلَّا نفر يسير نحو ثلاث مائة رجل؛ فقام عليه السّلام وقال: «ألا مُنِيتُ»: أبلیت «بِمَنْ لَا يُطِيعُ إِذَا أَمَرْتُ ولَا يُجِيبُ إِذَا دَعَوْتُ»: أطهار لعذر نفسه على أصحابه لينسب إليهم التقصير دونه ويقع عليهم لأنه غيرهم «لَا أَبَا لَكُمْ مَا تَنْتَظِرُونَ بِنَصْرِكُمْ رَبَّكُمْ أَمَا دِينٌ يَجْمَعُكُمْ ولَا حَمِيَّةَ تُحْمِشُكُمْ»: بتعصبكم «أَقُومُ فِيكُمْ مُسْتَصْرِخاً»: مستغيثاً «وأُنَادِيكُمْ مُتَغَوِّثاً»: قائلاً واغوثاه «فَلَا تَسْمَعُونَ لِي قَوْلًا ولَا تُطِيعُونَ لِي أَمْراً حَتَّى تَكَشَّفَ الأُمُورُ عَنْ

عَوَاقِبِ الْمَسَاءَةِ فَمَا يُدْرَكُ بِكُمْ ثَارٌ ولَا يُبْلَغُ بِكُمْ مَرَامٌ»: أستنهض لهم إلى نصرة الله بسؤالهم عن سبب تثاقلهم عن نصرته، والذبّ عن دينه سؤالاً على سبيل الإنكار للسبب، وتنبيه لهم على الأسباب الَّتي توجب اجتماعهم لنصرة الله، والغضب له بسؤالهم عنها هل هي موجودة لهم أم لا سؤالاً على سبيل، الإنكار أيضاً إذ هم يدّعون وجودها لهم، وه الدين الَّذي أمروا بلزومه والاتّحاد فيه كما قال تعالى «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ» الآیة(1)ثمّ الحميّة وهي ملكة تحت الشجاعة، وكذلك قوله: أقوم فيكم إلى قوله: أمراً؛ من الأسباب الباعثة لهم أيضاً

ص: 46


1- سورة البينة: الآية 5

على الاجتماع فإنّ ذكر استصراخه لهم، واستغاثته بهم مع ذكر تثاقلهم تنبيه بذكر إستعقابه للمساءة على خطأهم فيه، وكذا فما ندرك عتاب يبعث طباع العرب على التألف في النص إذ من شأنهم ثوران الطباع بمثل هذه الأقوال: «دَعَوْتُكُمْ إِلَی نَصْرِ إِخْوَانِكُمْ فَجَرْجَرْتُمْ جَرْجَرَةَ الْجَمَلِ الأَسّرّ»: هي صوت يردده البعير في حنجرته والسرر داء يأخذ البعير في سرته، واستعار الجرجرة لكثرة تعللهم، وقوة بصحرهم من ثقل ما يدعوهم إليه، ولمّا كانت هذه الجرجرة أشد من غيرها شبهه بها وكذا «وتَثَاقَلْتُمْ تَثَاقُلَ النِّضْوِ الأَدْبَرِ»: البعير المجروح الظهر «ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ مِنْكُمْ جُنَيْدٌ: تصغر جند مُتَذَائِبٌ ضَعِيفٌ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَی الْمَوْتِ وهُمْ يَنْظُرُونَ»: قال السيد رضي الله عنه قوله عليه السلام، متذائب أي: مضطرب من قولهم تذاءبت الريح أي اضطرب هبوبها ومنه سمي الذئب ذئبا لاضطراب مشيته.

«ومن كلام له عليه السلام»:

مقصد «الخوارج لما سمع قولهم (لا حكم إلا لله) قال عليه السلام كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ»: ردّ لما انغرس في أذهان الخوارج من حقيّة دعاء أصحاب معاوية إلى كتاب الله أي: أنّ دعائهم لكم إلى كتاب الله كلمة حق لكن ليس مقصودهم بها كتاب الله بل غرض آخر باطل وهو فتور الحرب عنهم، وتفرّق أهوائكم، ونحوه ممّا لا يجوز أن يفعل، ولمّا تصوّر الخوارج تلك الكلمة بمعنى أنّه لا يصحّ حكم لم يوجد في كتاب الله، ولا يجوز امتثاله والعمل به لا جرم قال: نعم لا حكم إلَّا للهَّ تصديق؛ لقولهم لكن لما عليه الكلمة في نفس الأمر لا لما رأوه من ظاهرها؛ فأن حصر الحكم ليس بحق علي معنى أنه ليس للعبد أن يحكم بغير ما نص كتاب الله عليه؛ فأن أكثر الأحكام الفروعية غير منصوص عليها مع أنها أحكام الله بل يكون منتزعة بحسب الاجتهاد، وسائر طرقها لمن كان أهلاً لذلك ويجب على من

ص: 47

ليس له أهلية الاجتهاد امتثالها؛ فلذا استدرك بقوله: «ولَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ لَا إِمْرَةَ»: أي لا لما يفوا أن يكون لغير الله حُكم غير ما نص عليه؛ فقد نفوا الإمرة لأن استنباط الأحكام، والنظر في وجوه المصالح من لوازم الإمرة التي هي: حال الأمير في رعيته، ونفي اللازم يستلزم نفي الملزوم ولما كانوا قد نفوا الإمرة كذبهم عليه السلام بقوله: «وإِنَّه لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِیرٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ»: جملة الكلام في معنی شرطيّة متّصلة هكذا: إذا قالوا لا حكم إلَّا للهَّ کما تصوّروه؛ فقد قالوا بنفي الإمرة لكنّ القول به باطل؛ فالقول بنفي الحكم إلَّا للهَّ كما تصوّروه باطل فقوله: «ولا بدّ للناس من أمير»؛ في معنی استثناء نقيض تالي المتّصلة، وتقريره أنّ الإنسان خلق ممنوّا بمقارنة النفس الأمّارة بالسوء محتاجاً إلى مجموع قوی بدنه هي منابع الشرّ؛ فأهواء الخلق لذلك مختلفة، وقلوبهم متفرّقة فكانت طبيعة نظام أحوالهم في معاشهم، وبقائهم محوجة إلى سلطان قاهر تأتلف بر هبته الأهواء، وتجتمع بهیبته القلوب، وتنكفّ بسطوته الأيدي العادية؛ إذ في طباع الخلق من حبّ على ما آثروه، والقهر لمن عاندوه ما لا ينكفّون عنه إلَّا بمانع قوىّ ورادع مليّ، وقد أفصح المتنبّي عن ذلك حيث يقول:

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ٭٭٭ حتّی یراق على جوانبه الدم

والظلم من شيم النفوس فإن ٭٭٭ تجد ذاعفة فلعلَّه لا يظلم

العلَّة المانعة من الظلم عند الاستقراء يرجع إلى أمور أربعة: إمّا عقل زاجر؛ أو دین حاجز؛ أو عجز مانع، أو سلطان رادع، والسلطان القاهر أبلغها نفعاً لأنّ العقل والدین ربّما كانا مغلوبين بدواعي الهوى؛ فيكون رهبة السلطان أقوى ردعاً وأعمّ نفعاً، وإن كان جائراً فإنّه روى عن رسول الله صلى الله عليه [وآله]

ص: 48

وسلَّم «إنّ الله ليؤيّد هذا الدين بالرجل الفاسق»(1)وروى عنه أنّه قال: «الإمام الجائر خير من الفتنة»(2)فكلّ لا خير فيه وفي، بعض الشّر خيار أي، وأنّ وجود الإمام وإن كان جائراً خير من عدمه المستلزم لوجود الفتنة، ووقوع الهرج والمرج بين الخلق إذ كان بوجوده صلاح بعض الأمور، وإن كان لا خير فيه أيضاً؛ من جهة ما هو جائر كما أشار إليه إلَّا أنّ هيبته، ووجوده بين الخلق يوجب الانفجار عن إثارة الفتن، فيكون ذلك خيراً، وقع في الوجود بوجوده؛ لا يحصل مع عدمه؛ فوجوده مطلقاً، واجب وذلك معنى قوله عليه السّلام: «لا بدّ للناس من أمير برّ أو فاجر».

«يَعْمَلُ فِي إِمْرَتِه الْمُؤْمِنُ ويَسْتَمْتِعُ فِيهَا الْكَافِرُ»: الضمير في إمرته لمّا عاد إلى الأمير، وكان لفظ الأمير محتملا للبرّ والفاجر كان المراد بالإمرة الَّتي يعمل فيها المؤمن إمرة الأمير من حيث هو برّ، وبالَّتي يستمتع فيها الكافر إمرته من حيث هو فاجر، وهذا أولى من قول بعض الفضلاء؛ إنّ الضمير يعود إلى الفاجر؛ فإنّ إمرة الفاجر لیست مظنّة تمکَّن المؤمن من عمله، والمراد بعمل المؤمن في إمرة البرّ عمله على وفق أوامر الله، ونواهيه إذ ذلك وقت تمكَّنه منه، والمراد باستمتاع الكافر في إمرة الفاجر انهماكه في اللذّات الحاضرة الَّتي يخالف فيها أوامر الله إذ

ص: 49


1- يُنظر: المصنف لعبد الرزاق الصنعاني: ج 5: ص 270؛ السنن الكبرى للنسائي في ج 5: ص 279؛ مسند الشهاب لمحمد بن سلامة القضاعي: ج 2 ص: 159؛ وقال: ابن الجوزي في كشف المشكل: ج 2، ص 273 «إن الله ليؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم»؛ وجميعها ذكرت الحديث باختلاف يسير حيث إن ورد (بالرجل الفاجر، وليس بالرجل الفاسق) وعلى أية حال لم أعثر على مصدر للحديث من كتبنا وإن القوم ينفردون به، ولعل انفرادهم بالحديث لما أجازوه من حكومة الفاسق، ولا يسع المقام تتبع صحة سند الحديث ودلالته أو صحة نسبته لرسول الله (صلى الله عليه وآله)
2- شرح نهج البلاغة لابن میثم البحراني: ج 2 ص 103؛ ولم أعثر على مصادر اُخرى للحديث

ذلك وقت تمكنه من مخالفة الدين «ويُبَلِّغُ الله فِيهَا»: أي في إمرة الأمير سواء كان برّاً أو فاجراً «الأَجَلَ»: فائدة هذه الكلمة تذكير العصاة ببلوغ الأجل وتخويفهم به «ويُجْمَعُ بِه الْفَيْءُ ويُقَاتَلُ بِه الْعَدُوُّ وتَأْمَنُ بِه السُّبُلُ ويُؤْخَذُ بِه لِلضَّعِيفِ مِنَ الْقَوِيِّ»: الضمائر المجرورة كلَّها راجعة إلى الأمير المطلق؛ إذ قد تحصل الأمور المذكورة كلَّها من وجوده كيف كان برّاً أو فاجراً، وممّا يؤيّد ذلك أنّ أكثر الخلق متّفقون على أنّ أمراء بني أميّة كانوا؛ فجّارا عدا رجلين أو ثلاثة؛ كعثمان وعمر بن عبد العزيز وكان الفيء يجمع بهم، والبلاد تفتح في أيّامهم، والثغور الإسلاميّة محروسة، والسبل آمنة، والقوىّ مأخوذ بالضعيف حَتَّى يَسْتَرِيحَ بَرٌّ ويُسْتَرَاحَ؛ مِنْ فَاجِرٍ أي غاية صدور هذه الأمور؛ أن يستريح برّ بوجودها ويستراح من تعدّى الفاجر وبغيه، وقيل: أراد أنّ هذه الأمور لا تزال تحصل بوجود الأمير برّاً كان أو فاجراً إلى أن يستريح برّ بموته، ويستراح من فاجر بموته أو بعزله وفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى

أَنَّه لَمَّا سَمِعَ تَحْكِيمَهُمْ قَالَ: «حُكْمَ الله أَنْتَظِرُ فِيكُمْ وقَالَ: أَمَّا الإِمْرَةُ الْبَرَّةُ فَيَعْمَلُ فِيهَا التَّقِيُّ، وأَمَّا الإِمْرَةُ الْفَاجِرَةُ فَيَتَمَتَّعُ فِيهَا الشَّقِيُّ إِلَی أَنْ تَنْقَطِعَ مُدَّتُه، وتُدْرِكَه مَنِيَّتُه: مستغنية عن الشرح وبالله الشرح وبالله التوفيق.

ومن خطبة له عليه السلام:

الوفاء ملكة نفسانيّة ينشأ من لزوم العهد كما ينبغي، والبقاء عليه، والصدق ملكة تحصل من لزوم الأقوال المطابقة، وهما فضيلتان داخلتان تحت فضيلة العفّة متلازمتان، ولمّا كان التوأم هو الولد المقارن لولد آخر في بطن، واحد أشبهه الوفاء لمقارنته الصدق تحت العفّة، فاستعار لفظه له، ولمّا كانت الوفاء مقابلة لرذيلة الغدر وفضيلة الصدق برذيلة الكذب كانت أيضاً تؤمین تحت رذيلة الفجور «ولاَ أعلُم جنّة أوقى منه»: حكم ظاهر فإنّ الوفاء، وقاية تامّة

ص: 50

للمرء أمّا في آخرته فلاستتاره به من عذاب الله الَّذي هو أعظم محذور، وأمّا في الدنيا فيستر به المرء من العار وما يستلمه من الغدر، وإذا علمت أنه لا نسبة لشيء ممّا يجتنّ منه بالأسلحة، وغيرها إلى ما يتوقّی بالوفاء علمت أنّه لا جُنّة أوقي من الوفاء، وكفى به مدحاً قوله تعالى «الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ»(1)«وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ»(2)ومن الخبر في ذم الغدر لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة «ومَا يَغْدِرُ مَنْ عَلِمَ كَيْفَ الْمَرْجِعُ»: إلى الله تعالى والاطَّلاع على منازل السفر إليه وعلى أحوال الآخرة وما يرتكب غيره من الرذائل أيضاً وإنما خص الغدر بنسبة أهله إلى الجهل بأمر المعاد لكونه في معرض مدح الوفاء والترغيب فيه «ولَقَدْ أَصْبَحْنَا فِي زَمَانٍ قَدِ اتَّخَذَ أَكْثَرُ أَهْلِه الْغَدْرَ كَيْساً ونَسَبَهُمْ أَهْلُ الْجَهْلِ فِيه إِلَی حُسْنِ الْحِيلَةِ»: لجهل الفريقين بثمرة الغدر، ولعدم تمييزهم بين الغدر والكيس؛ فإنّه لمّا كان الغدر كثيراً ما يستلزم الذكاء، والفطنة لوجه الحيلة وإيقاعها بالمغدور به وكان الكيس أيضا عبارة عن الفطانة والذكاء وجودة الرأي في استخراج وجوه المصالح الَّتي تنبغي كانت بينهما مشاركة في استلزام مفهوميها للتفطَّن والذكاء في استخراج وجه الحيلة وإيقاع الآراء إلَّا أنّ تفطَّن الغادر يستعمله في استنباط الحيلة وإن خالفت القوانين الشرعيّة وفاتت المصالح الكليّة في جنب مصلحة جزئيّة تخصّه، وتفطَّن الكيّس إنّما يستعمله في إيقاع رأي؛ أو حيلة تنتظم مصلحة العالم وتوافق القوانين الشرعيّة، ولدقّة الفرق بينهما استعمل الغادرون غدرهم؛ في موضع الكيس، ونسبهم أيضاً الجاهلون؛ في غدرهم إلى حسن حيلتهم کما نسب ذلك إلى عمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبه ونحوهما، ولم يعلموا أنّ حيلة الغادر

ص: 51


1- سورة الرعد: الآية 20
2- سورة التوبة: الآية 111

تخرجه إلى رذيلة الفجور، وأنّه لا حسن في حيلة جرّت إلى رذيلة «مَا لَهُمْ قَاتَلَهُمُ الله»: دعاء عليهم بقتال الله لهم بعد استفهامه عن خوضهم في أمره استفهاماً على سبيل الإنكار ثم أشار إلى أنه لا فضيلة لهم فيما يفتخرون به من الذكاء في استنباط، وجوه الحيلة إذ كانت غايتهم الغدر والخيانة «قَدْ يَرَى الْحُوَّلُ الْقُلَّبُ»: أي الكيس الذي يمكنه تحويل الأمور وتقبيلها وأراد نفسه الزكية؛ فأن شيمته الكريمة كانت كذلك وَجْه الْحِيلَةِ عَيناً ودُونَهَا مَانِعٌ مِنْ أَمْرِ الله ونَهْيِه»: عن ارتكابها لما يؤدي إليه من ارتكاب الرذائل الموبقة «فَيَدَعُهَا رَأْيَ عَیْنٍ»: أي حال ماهي مرئية له «بَعْدَ الْقُدْرَةِ

عَلَيْهَا خوفاً من الله تعالى ويَنْتَهِزُ فُرْصَتَهَا مَنْ لَا حَرِيجَةَ لَه»: لا بصيرة له في الدين؛ فيبادر اليها حال أمكانها، وليس ذلك بفضيلة بل الفضل في الحقيقة لتاركها.

ومن خطبة له عليه السلام: في النهي عن الهوى وطويل الأمل في الدنيا

«أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَانِ اتِّبَاعُ الْهَوَى وطُولُ الأَمَلِ»: اعلم أنّ الهوى هو ميل النفس الأمّارة بالسوء إلى مقتضي طباعها من اللذّات الدنيويّة إلى حدّ الخروج عن حدود الشريعة، وأمّا الأمل فقد سبق بيانه، ولمّا كانت السعادة التامّة إنمّا هي في مشاهدة حضرة الربوبيّة، ومجاورة الملأ الأعلى في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وكان اتّباع النفس الأمّارة بالسوء في ميولها الطبيعيّة، والانهماك في ملذّاتها الفانية أشدّ مهلك جاذب للإنسان عن قصد الحقّ، وصادّ له عن سلوك سبيله وعن الترقيّ في ملكوت السماوات إلى حضيض جهنّم کما قال: سیّد المرسلين صلى الله عليه [وآله] وسلَّم: «ثلاث مهلکات: شحّ مطاع، وهوى متّبع، وإعجاب المرء بنفسه»(1)، وكما قال: «حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة»(2)، وقال: «الدنيا والآخرة

ص: 52


1- المصنف لعبد الرزاق الصنعاني: ج 11 ص 304؛ الخصال للشيخ الصدوق: ص 84؛ المجازات النبوية للشريف الرضي: ص 196؛ كنز الفوائد لأبي الفتح الكراكجي: ص 32
2- الكافي للشيخ الكليني: ج 2 ص 317؛ الخصال للشيخ الصدوق: ص 25؛ وللفتال النيسابوري: ص 441؛ وکنز الفوائد لأبي الفتح الكراكجي في: ص 98

ضرّتان بقدر ما يقرب من إحداهما يبعد من الأخرى»(1)من الأخرى لأجرم کان أخوف ما ينبغي منه من الأمور المهلكة اتباع الهوى، وأما الأمل فمراده أيضاً الأمل لما ينبغي أن يمد الأمل فيه من المقتنيات الفانية وظاهر أن طول الأمل؛ فيها یکون مطابقاً لأتباع الهوى وبه یکون نسيان الآخرة لأن طول توقع الأمور المحبوبة الدنيوية توجب دوام ملاحظتها، ودوام ملاحظتها مستلزم لدوام أعراض النفس عن ملاحظة أحوال الآخرة وهو مستعقب لانمحاء ما تصور في الذهن منها وذلك معنى النسيان لها المشار إليه في قوله:

فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ وأَمَّا طُولُ الأَمَلِ فَيُنْسِيِ الآخِرَةَ: وبذلك يكون الهلاك الأبدي والشقاء الأشقى ولما كان عليه السلام هو المتولي لإصلاح حال الخلق في أمور معاشهم ومعادهم كان الاهتمام بصلاحهم منوطاً بهمّته العلَّيّة فلا جرم نسب الخوف عليهم إلى نفسه.

«أَلَا وإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ وَلَّتْ حَذَّاءَ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا صُبَابَةٌ »: بقية «كَصُبَابَةِ الإِنَاءِ اصْطَبَّهَا»: صَابُّهَا أراد أن الدنيا بالنسبة؛ إلى كلّ شخص مفارقة له وخفيفة سريعة الإجفال لم يبق منها بالقياس إليه إلَّا اليسير، وإطلاق الصبابة هاهنا استعارة لبقيّتها القليلة، والقلَّة هي وجه تشبيهها بصبابة الإناء أيضاً.

«أَلَا وإِنَّ الآخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ»: لمّا نبّه على أنّ الدنيا سريعة الإجفال أردف ذلك بالتنبيه على سرعة لحوق الآخرة وإقبالها، وكلّ ذلك قطع للآمال الفانية، وردع

ص: 53


1- يُنظر: العثمانية للجاحظ: ص 142 بعبارة مختصرة إذ إنه لم يذكر (تقتله الفئة الباغية)؛ المسترشد لمحمد بن جرير الطبري (الشيعي): ص 675؛ اختیار معرفة الرجال (رجال الكشي): للشيخ الطوسي: ج 1 ص 127؛ عوالي اللئالي: لابن أبي الجمهور الإحسائي: ج 1 ص 113

عن اتّباع الهوى، ومن آثار الصالحين إذا كان العمر في إدبار، والموت في إقبال فما أسرع الملتقى، والموت هو دهليز الآخرة.

«ولِكُلٍّ مِنْهُمَا بَنُونَ»: من لطائف كلامه؛ فاستعار لفظ الأبناء للخلق بالنسبة إلى الدنيا والآخرة، ولفظ الأب لهما، ووجه الاستعارة أنّ الابن لمّا كان من شأنه الميل إلى، والده إمّا میلاً طبيعيّاً أو بحسب تصوّر المنفعة منه، وكان الخلق منهم من يريد الدنيا، ومنهم من يريد الآخرة، ويميل كلّ منهما إلى مراده مع ما يحصل من طرف الدنيا للراغبين؛ فيها ممّا يتوهّمونه لذّة وخيراً، وما يحصل من طرف الآخرة للراغبين فيها من اللذّة، والسعادة أشبه كلّ بالنسبة إلى ما رغب؛ فيه واستفاد منه الخير الابن بالنسبة إلى الأب؛ فاستعير لفظه لتلك المشابهة، ولمّا كان غرضه حثّ الخلق على السعي للآخرة، والميل إليها والإعراض عن الدنيا، قال عليه السّلام: «فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ ولَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا»: ثمّ ذكر فائدة رأيه عليهم:

«فَإِنَّ كُلَّ وَلَدٍ سَيُلْحَقُ بِأَبِيه يَوْمَ الْقِيَامَةِ»: وأشار إلى أنّ أبناء الآخرة والطالبين لها والعاملين لأجلها مقرّبون في الآخرة لا حقوق لمراداتهم فيها «وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ٭ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ»(1)وأمّا أبناء الدنيا؛ فانّ نفوسهم لمّا كانت مستغرقة في محبّتها، وناسية لطرف الآخرة ومعرضة عنها لاجرم کانت يوم القيامة مغمورة في محبّة الباطل؛ مغلولة بسلاسل السيئات البدنيّة: والملكات الرديئة المتمكَّنة من جواهرها؛ فهي لتعلَّقها بمحبّة الدنيا حيث، لا يتمكَّن من محبوبها بمنزلة، ولد لا تعلَّق له إلا بوالده، ولا ألُفَ له إلا هو، ولا أُنس ألا معه، ثم حيل بَينَهُ، وبَينَهُ مع شدة تعلقه به وشوقه إليه، وأخذ إلى أضيق الإسخان، وبدّل بالعزّ الهوان؛ فهو في أشدّ وله ويتم وأعظم حسرة وغمّ، وأمّا أبناء الآخرة؛ ففي حضانة أبيهم،

ص: 54


1- سورة فصلت: الآيات: 31 - 32

ونعيمه قد زال عنهم بؤس الغربة، وشقاء اليتم وسوء الحضن؛ فمن الواجب إذن تعرّف أحوال الوالدين، واتّباع أبرّهما وأدومهما شفقة، وأعظمهما بركة وما هي إلَّا الآخرة؛ فليكن ذو العقل من أبناء الآخرة، وليکن برّاً بوالده متوصّلاً إليه بأقوى الأسباب «وإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ ولَا حِسَابَ وغَداً حِسَابٌ ولَا عَمَلَ»: كنّي باليوم عن مدّة الحياة وبعد عمّا بعد الموت، وراعي المقابلة وهو اسم إنّ، وعمل: قام مقام الخبر استعمالا للمضاف إليه مقام المضاف ويحتمل أن يكون اسم إنّ ضمير الشأن، واليوم عمل جملة من مبتدأ، وخبر هي خبرها كذلك قوله وغداً حساب، ولا عمل وصدق هذين الحكمين ظاهر، وفايدتهما التنبيه على وقتي العمل، وعدمه ليبادروا إلى العمل الَّذي به يكونون من أبناء الآخرة في، وقت إمكانه قبل مجيء الغد الَّذي هو وقت الحساب دون العمل قال: السيد رضي الله عنه الحذاء: السريعة فن الناس من يرويه جذاء بالجيم أي قد انقطع درّهَا ونسلها.

ومن كلام له عليه السلام

وقد أشار إليه أصحابة بالاستعداد لحرب أهل الشام بعد إرساله جریر بن عبد الله: قد كان في ظنّ كثير من الصحابة بعد، ولاية عليّ عليه السّلام؛ أنّ معاوية لا يطيع له بأمارات كثيرة، ولذلك أشار إليه أصحابه بعد إرساله، وروى أنّ جريراً لمّا أراد بعثه قال: والله يا أمير المؤمنين ما أدّخرك من نصرتي شيئاً، وما أطمع لك في معاوية فقال عليه السّلام: قصدي حجّة أقمتها؛ ثمّ كتب معه؛ أمّا بعد فإنّ بيعتي بالمدينة لزمتك، وأنت بالشام لأنّه بايعني القوم الَّذين بايعوا أبا بكر، وعمر، وعثمان؛ على ما بايعوهم عليه؛ فلم يكن للشاهد أن يختار؛ ولا للغائب أن يردّ، وإنّما الشورى للمهاجرين والأنصار إذا اجتمعوا على رجل؛ فسمّوه إماما؛ كان ذلك رضاً؛ فإن خرج منهم خارج بطعن أو رغبة ردّوه إلى ما خرج

ص: 55

منه، فإن أبی قاتلوه على اتّباع غير سبيل المؤمنين، وولَّاه الله ما تولَّى، ويصليه جهنّم وساءت مصيراً، وإنّ طلحة والزبير بایعاني ثمّ نقضاً بیعتي؛ فكان نقضهما کردّتهما؛ فجاهدتهما على ذلك حتّى جاء الحقّ، وظهر أمر الله وهم کارهون؛ فادخل فيما دخل فيه المسلمون؛ فإنّ أحب إليك العافية، إلَّا أن تعرّض للبلاء فإن تعرّضت قاتلتك واستعنت بالله عليك، وقد أكثرت في قتلة عثمان فادخل فيما دخل الناس فيه؛ ثمّ حاكموا القوم إلىّ أن أحملك وإيّاهم على كتاب الله، وأمّا تلك الَّتي تريدها؛ فخدعة الصبّي عن اللبن، ولعمري وإن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرء قریش من دم عثمان، واعلم أنّك من الطلقاء الَّذين لا تحل لهم الخلافة، ولا يتعرّض فيهم الشورى، وقد أرسلت إليك جرير بن عبد الله وهو: من أهل الإيمان والهجرة فبايع ولا قوّة إلَّا بالله.

وربّما جاء شيء من هذا الكتاب في كتبه عليه السّلام إلى معاوية، فأجابه معاوية أمّا بعد فلعمري لو بايعك القوم الَّذين بايعوك وأنت برئ من دم عثمان کنت كأبي بكر وعمر وعثمان، ولكنّك أغريت بعثمان، وخذلت عنه الأنصار؛ فأطاعك الجاهل وقوى بك الضعيف، وقد أبی أهل الشام إلَّا قتالك حتّى تدفع إليهم قتلة عثمان؛ فإن فعلت كانت شوری بین المسلمين، ولعمري ما حجّتك عليّ كحجّتك على طلحة والزبير؛ لأنّهما بایعاك ولم أبايعك، وما حجّتك على أهل الشام كحجّتك على أهل البصرة؛ لأنّهم أطاعوك ولم يطعك أهل الشام؛ فأمّا شرفك في الإسلام، وقرابتك من النبيّ صلى الله عليه [وآله] وسلَّم، وموضعك من قريش فلست أدفعه، وكتب في آخر الكتاب قصيدة كعب بن جميل.

أرى الشام تكره أهل العراق ٭٭٭ وأهل العراق لها كارهونا

ص: 56

وقد ذكرنا بعضها قبل، ويروى أنّ الكتاب الَّذي كتبه عليه السّلام؛ مع جرير كانت صورته إنّي قد عزلتك؛ ففوّض الأمر إلى جرير والسلام وقال: لجرير صن نفسك عن خداعه؛ فإن سلَّم إليك الأمر وتوجّه إلىَّ فأقم أنت بالشام، وإن تعلَّل بشيء فارجع، فلمّا عرض جرير الكتاب على معاوية تعلَّل بمشاورة أهل الشام وغير ذلك؛ فرجع جریر فکتب معاوية في أثره على ظهر کتاب علي عليه السّلام: من ولَّاك حتّى تعزلني والسلام.

«إِنَّ اسْتِعْدَادِي»: تهيئيي «لِحَرْبِ أَهْلِ الشَّامِ وجَرِيرٌ عِنْدَهُمْ إِغْلَاقٌ لِلشَّامِ وصَرْفٌ لأَهْلِه عَنْ خَیْرٍ إِنْ أَرَادُوه»: أراد أنّ أهل الشام في زمان كون جرير عندهم هم في مقام الشورى، والتفكَّر في أيّ الأمرين يتّبعون، وإن لم يكن كلَّهم فبعضهم كذلك؛ فلو اعتدّ هو للحرب في تلك الحال لبلغهم ذلك، فاحتاجوا إلى الأستعداد أيضاً والتأهّب للقائه؛ فكان ذلك الاستعداد سبباً لغلق الشام بالكلَّيّة، وصرفاً لمن يكون في ذهنه تردّد في هذا الأمر أوفي قلبه اللحوق به عمّا يريد وذلك مناف للحزم.

«ولَكِنْ قَدْ وَقَّتُّ لِجَرِيرٍ وَقْتاً لَا يُقِيمُ بَعْدَه إِلَّا مَخْدُوعاً أَوْ عَاصِياً»: أي قد وقّت له، وقتاً يصل إلينا فيه لا يتخلَّف عنه؛ إلَّا لأحد مانعين إمّا خداع فيهم له، ومواعيد مخلَّفة بالجواب ليهيّؤوا أمورهم في تلك المدّة، وإمّا عصيان منه ومخالفة، فإن قلت: حصر تخلَّف جرير في هذين المانعين غير صحيح لجواز أن يتخلَّف لمرض أو موت أو غرض آخر «والرَّأْيُ مَعَ الأَنَاةِ»: أسم من الثاني رأي حق أجمع الحكماء على صوابه؛ فإنّ إصابة المطالب والظفر بها في الغالب؛ إنّما هو في التثبّت في الطلب، وذلك أنّ أناة الطالب هي مظنّة؛ فكره في الاهتداء إلى تلخيص الوجه الأليق، والأقيس، والأشمل للمصلحة في تحصيل مطلوبه، ولذلك

ص: 57

أكَّد بعض الحكاء الأمر بالتأنّي بقوله: من لم يتثبّت في الأمور لم يعد مصيباً وإن أصاب؛ فالغرض وإن كان هو الإصابة إلَّا أنّها وإن حصلت من غير التأنّي كان مفرطاً وثمرة التفريط غالباً الندامة وعدم الإصابة، والإصابة منه نادرة والنادر غير منتفع به ولا ملتفت إليه.

«فَأَرْوِدُوا»: امهلوا «ولَا أَكْرَه لَكُمُ الإِعْدَاد»: فيه تنبيه لهم أن يكونوا على يقظة من هذا الأمر حتّى يكونوا حال إشارته إليهم قريبين من الاستعداد، وأن لا يتوهّم أحد منهم فيه مداخلة ضعف عن مقارعة أهل الشام فيداخلهم بسبب ذلك فشل وضعف عزيمة.

وأنه هو أنّه عليه السّلام، وإن كان کره الاستعداد الظاهر لم يكره التهيوء الباطن «ولَقَدْ ضَرَبْتُ أَنْفَ هَذَا الأَمْرِ وعَيْنَه وقَلَّبْتُ ظَهْرَه وبَطْنَه»: استعارها لحاله مع معوية في أمر الخلافة، وخلاف أهل الشام له استعارة على سبيل الكناية، فكنّی بالعين والأنف عن المهمّ من هذا الأمر وخالصه؛ فإنّها أعزّ ما في الوجه، وکنّی بالضرب بهما عن قصده المهمّ منه، وبالظهر والبطن لظاهر هذا الأمر وباطنه ووجوه الرأي فيه عن تصفح تلك الوجوه وعرضها على العقل واحداً واحداً.

«فَلَمْ أَرَ لِي فِيه إِلَّا الْقِتَالَ أَوِ الْكُفْرَ»: يعني أن أحد الأمرين لازم؛ إمّا القتال أو الكفر بتقدير عدمه لأن الرسول صلى الله عليه [وآله] وسلَّم كان قد أمره بقتال من خالفه لقوله: «أمرت أن أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقین»؛ فلو ترك قتالهم مع ما عليه أمر الإسلام من الخطر لكان قد خالف أمر الرسول، وظاهر أنّ مخالفة مثله عليه السّلام لأوامر الرسول لا يتصوّر إلا عن عدم اعتقاد صحّتها، وذلك جحد به وكفر.

هذا قد تجوز بالكفر في التهاون بهذا الأمر تعظيماً له في نفوس السامعين، وهو

ص: 58

من المجازات الشائعة، ثم نبه على وجه عذره عمّا نسبه إليه معاوية وجعله سبباً لعصيانه له وهو: الطلب بدم عثمان وتهمته له بذلك بقوله «إِنَّه قَدْ كَانَ عَلَى الأُمَّةِ وَالٍ»: عثمان «أَحْدَثَ أَحْدَاثاً»: هي: ما نسب إليه من الأمور الَّتي أنكروها عليه والمشهور منها بين أهل السيرة عشرة الأولى: توليته أمور المسلمين من ليس أهلاً من الفساق، ومراعاة القرابة دون حرمة الإسلام.

الإسلام رد حکم بن أبي العاص إلى المدينة؛ بعد طرد رسول الله صلى عليه وآله وسلم له، وامتناع أبي بكر وعمر من رده، الثالث يثار أهله بالأموال العظيم من بيت المال غير استحقاق کما سبق.

الرابع أنه حمي الحمى عن المسلمين بعد تسوية الرسول بينهم في الماء والكلاء.

الخامس: أنّه أعطی من بيت مال الصدقة، المقاتلة وغيرها وذلك ممّا لا يجوز في الدين.

السادس: أنّه ضرب عبد الله بن مسعود وهو من أكبر الصحابة، وعلمائها حتّی کسر بعض أضلاعه.

السابع: إحراق المصحف وإبطال ما لا شك فيه أنه من القرآن المنزل.

الثامن: أنه أقدم على عمار بن یاسر بالظرب مع أنّه من أشرف الصحابة، ومع علمه بما قال الرسول صلى الله عليه [وآله] وسلَّم: «عمّار جلدة ما بين عينيّ تقتله الفئة الباغية لا أنالها الله شفاعتي»(1).

ص: 59


1- المسترشد، لمحمد بن جرير الطبري (الشيعي): ص 675؛ عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الإحسائي: ج 1 ص 113؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي في ج 3 ص 52

التاسع: إقدامه على أبي ذر مع ثناء الرسول صلى الله عليه [وآله] وسلَّم وصحبته له.

العاشر: تعطيله الحدّ الواجب على عبيد الله بن عمر بن الخطاب فإنّه قتل الهرمزان مسلماً بمجرّد تهمته أنّه أمر أبا لؤلؤة بقتل أبيه، فهذه هي المطاعن المشهورة، وأنا نلتزم لذكرها ما يتعلق بالمتن؛ فلذا ذكرتها مختصرة «وأَوْجَدَ النَّاسَ

مَقَالًا»: أي جعل لهم بتلك الأحداث طريقاً إلى القول عليه «فَقَالُوا ثُمَّ نَقَمُوا: انكروا ما فعل «فَغَیَّرُوا»: أزالوه والله سبحانه أعلم.

«ومن كلام له لما هرب مصقلة بن هبيرة الشيباني إلى معاوية،

وكان قد ابتاع سبي بني ناجية من عامل أمير المؤمنين عليه السلام وأعتقهم، فلما طالبه بالمال خاس به»: غدر «وهرب إلى الشام»: مصقلة هذا كان عاملاً له عليه السلام على أرد شير، وبنو ناجية: قبيلة نسبوا أنفسهم إلى سامة بن لویّ بن غالب؛ فدفعهم قريش وسمّتهم بنی ناجية، وهي أمّهم امرأة أسامة، وأمّا سبب هربه إلى الشام؛ فهو أنّ الحريث أحد بنی ناجية؛ كان قد شهد مع علىّ عليه السّلام صفّين؛ ثمّ استهواه الشيطان؛ فصار من الخوارج بسبب التحكيم، وخرج هو وأصحابه إلى المداين مفارقاً لعليّ عليه السّلام، فوجّه إليهم معقل بن قيس في ألفي فارس من أهل البصرة، ولم يزل يتبعهم بالعسكر بعد العسكر حتّى ألحقوهم بساحل فارس، وكان به جماعة كثيرة من قوم الحُريث، وكان فيهم من أسلم عن النصرانيّة فلمّا رأوا ذلك الأختلاف ارتدّوا واجتمعوا عليه فزحف إليهم معقل بمن معه فقتل الحريث وجماعة منهم وسبی من كان أدرك فيهم من الرجال والنساء، ونظر فيهم فمن كان مسلماً أخذ بيعته، وخلَّى سبيله واحتمل الباقين من النصارى، وعيالهم معه وكانوا خمسمائة نفر؛ حتّی مرّوا بمصقلة فاستغاث إليه

ص: 60

الرجال والنساء، ومجّدوه وطلبوا منه أن يعتقهم، فأقسم ليتصدّقن عليهم بذلك؛ ثمّ بعث إلى معقل بن قيس فابتاعهم منه بخمسمائة ألف درهم؛ ثمّ وعده أن يحمل المال في أوقات مخصوصة؛ فلمّا قدم معقل على علي عليه السّلام، وأخبره القصّة شکر سعيه وانتظر المال من يد مصقلة؛ فأبطأ به فكتب إليه باستعجاله؛ أو بقدومه عليه فلمّا قرأ كتابه قدم عليه، وهو بالكوفة فأقراه أيّاماً؛ ثمّ طالبه بالمال فأدّى منه مائتي ألف درهم، وعجز عن الباقي وخاف فلحق بمعاوية فبلغه ذلك فقال: «قَبَّحَ الله مَصْقَلَةَ»: نحاه عن الخير، وأشار إلى جهة الخطأ وهي جمعه بين أمرين متنافيين في العرف بقوله: «فَعَلَ فِعْلَ»: السَّادَةِ حيث اشترى القوم وأعتقهم: «وفَرَّ

فِرَارَ الْعَبِيدِ»: أي هو من شيمة العبيد ثمّ أكَّد عليه السّلام ذلك بمثلين «فَمَا أَنْطَقَ مَادِحَه حَتَّى أَسْكَتَه»: ويفهم منه معنيان.

أحدهما: أن يكون حتّى بمعنى اللام أي: إنّه لم ينطق مادحه حتّى يقصد إسكاته بهربه؛ فإنّ إسكات المادح لا يتصوّر قصده لو قصد إلَّا بعد إنطاقه، وهو لم يتمّم فعله الَّذي يطلب به إنطاق مادحه بمدحه من الكرم، والحميّة، والرقّة ونحوها، فكأنّه قصد إسكات مادحه بهروبه؛ فأزوی عليه ذلك، وقال: إنّه لم ينطقه بمدحه؛ فكيف يقصد إسكاته بهروبه، وإن كان العاقل لا يتصوّر منه قصد إسكات مادحه عن مدحه إلَّا أنّه اختياره الهروب المستلزم لإسكات المادح؛ صار كالقاصدله فنسب إليه.

أن يكون المراد أنّه قد جمع بين غايتين متنافيتين؛ إنطاقه لمادحه بفداء للأسرى، مع إسكاته بهربه قبل تمام إنطاقه، وهو وصف له بسرعة إلحاقه لفضيلته برذيلته حتّى كأنّه قصد الجمع بينهما، وهذا كما تقول في وصف سرعة تفرّق الأحباب عن اجتماعهم؛ ما اجتمعوا حتّى افترقوا أي: لسرعة افتراقهم؛ كأنّ الدهر قد جمع لهم بين الاجتماع والافتراق، «ولَا صَدَّقَ وَاصِفَه حَتَّى بَكَّتَه»:المفهوم منه كالمفهوم

ص: 61

من الذي قبله «ولَوْ أَقَامَ لأَخَذْنَا مَيْسُورَه وانْتَظَرْنَا بِمَالِه وُفُورَه»: بعد أن أشار إلى خطأه أردفه بما يصلح جواباً لما عساه یکون عذراً له لو اعتذر، وهو توهّمه التشديد عليه في أمر الباقي من المال حتّى كان ذلك الوهم سبب هزيمته، وفي بعض الروايات؛ لو أقام لأخذنا منه ما قدر عليه؛ فإن أعسر أنظرناه فإن عجز لم نأخذ بشيء والأوّل هو المشهور وبالله التوفيق.

ومِن كَلامٍ له علَيْه السّلَام

الحَمد لله الخ قيل هذا الفصل ملتقط من خطبة طويلة، وهذه الخطبة تنتظم الفصل المتقدّم أعني أمّا بعد؛ فإنّ الدنيا قد أدبرت وهو فيها بعد هذا الفصل، ولم نذكرها كراهة التطويل، وأعلم أنّه نبّه على استحقاق الله تعالى للحمد ودوامه باعتبار ملاحظة ستّة أحوال: فأشار إلى الحالة الأولى بقوله «غَیْرَ مَقْنُوطٍ مِنْ رَحْمَتِه»: تقريراً لقوله تعالى «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ»(1)«وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ»(2)وهذه الحال ممّا يشهد بإثباتها العقل إذ كان العبد عند أخذ العناية الإلهيّة بضبعيه يعلم استناد جميع الموجودات كلَّیّها، وجزئیّها إلى تدبير حكيم، وأنه ليس شيء منها خالياً عن حكمة؛ فيستليح(3)من ذلك أنّ إيجاده له، وأخذ العهد إليه بالعبادة ليس إلَّا لينجذب إلى موطنه الأصليّ ومبدئه الأوّل؛ بالتوحيد المحقّق، والحمد المطلق عن نار أجّجت وجحيم سعّرت

ص: 62


1- سورة الأعراف: الآية 165
2- سورة يوسف: الآية 87
3- فيستليح: بمعنة سيظهر ويتضح، وأصل الكلمة (لاح)؛ قال: ذو الرمة وقد لاح للساري الذي أكمل السرى على أخريات الليل فتق مشهر. أي: صبح مشهور؛ يُنظر العين للخليل الفراهيدي: ج 3: ص 400

«وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ»(1)فلا ييأس من روح الله عند نزول أمر واجب النزول به ممّا يعدّه شرّاً، بل يكون برجائه أوثق، وقلبه بشموله العناية له أعلق؛ فإنّه لا ييأس من روح الله إلَّا الَّذين عميت أبصار بصائرهم عن أسرار الله فهم «فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ»(2)«فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ»(3)وأشار إلى الحالة الثانية بقوله: «ولَا مَخْلُوٍّ مِنْ نِعْمَتِه»: تقريراً لقوله تعالى «وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ»(4)؛ فسبوغ نعمته دائم لآثار قدرته الَّتي استلزمت طبائعها الحاجة إليه؛ فوجب لها فيض جوده، فاستلزم ذلك وجوب تصريحها بلسان حالها، ومقاها بالثناء المطلق عليه، ودوام الشكر له «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ»(5)وأشار إلى الحالة الثالثة بقوله «ولاَ مَأْيُوسٍ مِنْ مَغْفِرَتِه»: تقريراً لقوله تعالى «قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ» الآية(6)وهي: شهادة بشمول ستره، وجمیل عفوه وغفره لمن جذبت بعقله أيدي شياطينه لتحطَّه إلى مهاوي الهلاك؛ فعجز عن مقاومتها بعد أن كانت له مسكة بجناب الله؛ فضعفت تلك المسكة عن أن تكون منجاة له حال مجاذبته لهواه، وإن كان ذلك الغفران متفاوتاً بحسب قوّة تلك المسكة وضعفها، والعقل ممّا يؤيّد ذلك ويحكم بصحّة هذه الشهادة؛ فإنّ كلّ ذي علاقة بجناب الله سيخلص من العقاب وإن بعد خلاصه على ما نطق به البرهان في موضعه، وذلك يستلزم الاعتراف

ص: 63


1- سورة الذاريات: الآية 56
2- سورة البقرة: الآية 15
3- سورة البقرة: الآية 121
4- سورة النحل: الآية 53
5- سورة الإسراء: الآية 44
6- سورة الزمر: الآية 53

بالإحسان، ودوام الثناء والحمد؛ ثمّ أشار إلى الرابعة بقوله: «ولَا مُسْتَنْكَفٍ عَنْ عِبَادَتِه»: تقريراً لقوله تعالى «لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ»(1)وقوله: «لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ» لآية(2)وكونه غير مستنكف عن عبادته شاهد عظیم علی کمال عظمته، وأنّه المستحقّ للعبادة دون ما عداه، وهو المتجمع للكمال المطلق، ولا وجهة نقصان فيه إليها يسار، فيكون نفياً للاستنکاف والاستكبار، وغيره، من محالّ السلوب(3)بعدها منصوبات على الحالة(4)«الَّذِي لاَ تَبَرْحُ مِنْه رَحْمَةٌ ولاَ تُفْقَدُ لَه نِعْمَةٌ»: اعتباران آخران يستلزمان في ملاحظتهما وجوب شكره تعالى ونبّه بقوله: لا تبرح على دوام رحمة الله لعباده ثمّ أعقب ذلك بالتنبيه على معايب الدنيا للتنفير عنها فذكر وجوب الفناء لها «والدُّنْيَا دَارٌ مُنِيَ لَهَا الْفَنَاءُ»: ثمّ حذّر بذكر العيب الأكبر لها الَّذي ترغب مع ذكره وملاحظته من له أدنى بصيرة عن الركون؛ إليها وهو مفارقتها الواجبة «ولأَهْلِهَا مِنْهَا الْجَلَاءُ»: ثمّ أردف ذلك بذكر جهتين من جهات الميل إليها: إحداهما منسوبة إلى القوّة الذائقة وهي حلاوتها، والأخرى إلى القوّة الباصرة وهي خضرتها.

«وهِيَ حُلْوَةٌ خَضْرَاءُ»: وإيراده لهذين الوصفين اللذين هما وصفا مدح في معرض ذمّها كتقدير اعتراض على ذمّها لغرض أن يجيب عنه ولذلك عقّب

ص: 64


1- سورة الأنبياء: الآية 19
2- سورة النساء الآية 172
3- من محال السلوب: السلوب جمع للقضية السالبة، مثل اعتبار السلب الكلي والمعني: إن صفات المتقدمة كالاستكبار والاستنکاف باعتبار السلب الكلي منفية عن المسيح بن مریم فهو عبد الله
4- وکون هذه الصفات منصوبات على الحال، فهي ليست في محل فاعل، فتثبت عليه بل هي منفية عنه

ذکر هما بما يصلح جواباً وبيّنة على ما يصرف عن الميل إليها من هاتين الجهتين وذلك قوله «وقَدْ عَجِلَتْ لِلطَّالِبِ»: إذ كان من شأن المعجّل أن ينتفع به في حال تعجیله ما بعده خصوصاً في حق ذلك التعجيل ولم يتلفت إلى مال سواه والدنيا كذلك كما أشار إليه بقوله: «والْتَبَسَتْ»: اختلطت «بِقَلْبِ النَّاظِرِ»: وإنما خص الناضر ليتقدم ذكره: (الخضرة) التي هي من خلط النظر؛ فمن عجلت له منحة والتبست بقلبه، وكان لا بدّ من مفارقتها لم ينتفع بما بعدها بل يبقى في عذاب الفراق منكوساً، وفي ظلمة الوحشة محبوساً، وإليه أشار التنزيل الإلهيّ «مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا»(1)ثمّ لمّا نبّه على معايبها أمر بالارتحال عنها، ولم يأمر به مطلقاً بل لا بدّ معه من استصحاب أحسن الأزواد بقوله: «فَارْتَحِلُوا مِنْهَا بِأَحْسَنِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ مِنَ الزَّادِ»: إذ كانت الطريق المأمور بسلوكها في غاية الوعارة مع طولها وقصر المدّة الَّتي يتّخذ الزاد فيها فلا ينفع إذن إلَّا التقوى الأبقي الَّذي لا يتطرّق إليه فناء، ولا تفهمّن أعدّك الله لإفاضة رحمته من هذا الارتحال، الحسّي الحاصل لك من بعضها إلى بعض، ولا من الزاد المأكول الحيوانيّ، فإنّ أحسن ما يحضرنا منه ربّما كان منهیّا عنه، بل المأمور به ارتحال آخر بتبیّنه من تصوّر طريق الآخرة، فإنّك لمّا علمت أنّ الغاية من التكاليف البشريّة هي: الوصول إلى حضرة الله، ومشاهدة جلال کبریائه علمت من ذلك أنّ الطريق إلى هذا المطلوب هي: آثار جوده وشواهد الآية وأنّ القاطع لمراحل تلك الطريق ومنازلها هي: قدم عقلك مقتدياً بأعلامها الواضحة كلَّما نزل منها منزلاً أعدّته المعرفة به لاستلاحة أعلام منزل آخر أعلى وأكرم منه كما قال تعالى «لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ»(2)فما لهم لا يؤمنون إلى أن يستقر في مقعد

ص: 65


1- سورة الإسراء: الآية 18
2- سورة الإنشقاق: الآية 19

صدق عند مليك مقتدر وإذا تصورت معنى الارتحال وقد علمت أن لكل ارتحال وسفر زاد علمت أن أكرم زاد واحسنه في الطريق ليس التقوى والأعمال الصاحة التي هو غذاء العقول ومادة حياتها وإليه الإشارة بقوله تعالى «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى»(1)وفي قوله عليه السلام ما بحضرتكم أشارة إلى ما يمكننا أن نأتي به من الأعمال الصالحة في حياتنا الدنيا؛ ثم عقب الأمر باتخاذ الزاد بالنهي عن طلب الزيادة على ما يقوم به صورة البدن من متاع الدنيا؛ إذ كان البدن بمنزلة مرکوب تقطع به النفس مراحل طريقها؛ فالزيادة على المحتاج إليه مما يحوج الراكب إلى الاهتمام به، والعناية بحقه المستلزم لمحبته، وكل ذلك منتقل للظهر ومشغل عن الجهة المقصودة وذلك معنى قوله: «ولَا تَسْأَلُوا فِيهَا فَوْقَ الْكَفَافِ ولَا

تَطْلُبُوا مِنْهَا أَكْثَرَ مِنَ الْبَلَاغِ»: ما بلغ مدة الحياة منه وبالله التوفيق.

ومِن كَلام له عَليه السّلام عند عزمه على المسَير ووضع رجله في الركاب متوجهاً إلى حرب معاوية

«اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ»: مشتقة وأصله المكان المتعب لكثرة رمله «وكَآبَةِ»: حزن «الْمُنْقَلَبِ»: في الفصل على اللجأ إلى الله في خلاص طریقه المتوجّه فيها بدءاً وعوداً من الموانع الصارفة عن تمام المقصود، وفي سلامة الأحوال المهمّة الَّتي تتعلَّق النفس بها عن المشتغلات البدنيّة المعوّقة عن عبادة الله، وأعظمها أحوال النفس، ثمّ ما يصحبها من أهل ومال وولد، فلذا قال: ثمّ عقّب ذلك «وسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الأَهْلِ والْمَالِ والْوَلَدِ»: ثمّ عقّب ذلك بالإقرار بشمول عنايته وجميل رعايته «اللهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وأَنْتَ الْخَلِيفَةُ فِي الأَهْلِ»:

ص: 66


1- سورة البقرة: الآية 197

تقريراً لقوله تعالى «وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ»(1)إذ شأن الصاحب العناية بأمور صاحبه، وشأن الخليفة على الشيء العناية بذلك، وحفظه ممّا يوجب له ضرراً، واستلزم جمعه له بين هذين الحكمين، وهما الخلافة والاستصحاب بقوله: «ولَا يَجْمَعُهُاَ غَیْرُكَ»: كونه تعالى بريئاً عن الجهة، والجسميّة إذ كان اجتماعهما ممتنعاً للأجسام، إذ لا يكون جسم مستصحباً مستخلفاً في حالة واحدة، وأكَّد ذلك وبيّنه بقوله: «لأَنَّ الْمُسْتَخْلَفَ لَا يَكُونُ مُسْتَصْحَباً والْمُسْتَصْحَبُ لَا يَكُونُ مُسْتَخْلَفاً»: وكأني بك تقول: هذا الحصر إنما يتم لو قلنا: أن كل ما ليس بذي جهة هو واجب الوجود، وهذا مذهبٌ خاص؛ فما وجه صحته مطلقاً؟.

والجواب: صدق الحصر على كل تقدير، فأنه تقدیر ثبوت أمور مجردة عن الجسمية، والجهة سوى الحق سبحانه، للجميع بين هذين الأمرين بالذات. والأول هو الله تعالى وما سواه فبالعَرض(2)فيحمل الحصر بمعنى: أن الله تعالى حصراً هو واجب الوجود، وبمعنى أوضخ: إن الوجود یساوق وجود الواجب ويتزامن معه، لأن وجود الموجودات كلها حاصل بوجود الواجب وهو الله تعالى، وإن كان وجودها متأخر عن وجود الله، وذلك بديهي لأن الله تعالى وجوده هو الوجود الأول على ذلك الاستحقاق.

ولنبحث عن فائدة وسبب إجابته فإنّه ربما تُعرض لبعض الأذهان شُبهة فيقول: إمّا أن يكون المطلوب بالوعاء معلوم الوقوع للهَّ أو معلوم اللاوقوع. وعلى التقديرين لا فائدة فيه، لأن الأول واجب(3)والثاني ممتنع، فالواجب أن كل كائن

ص: 67


1- سورة الحديد: الآية 4
2- العَرض: وهو غير الذات أي الشيء مع الشيء فيتزامن معه
3- الأول واجب: وهو الوقوع لله واجب

فاسد، فموقوف في كونه وفساده على شرائط توجد، کما عُلم في مضانه وإذا جاز ذلك فلعل الدعاء من شرائط وجود ما يطلب منه، وهما وأن كانا معلومي الوقوع لله وهو سببهما وعلَّتهما الأولى، إلَّا أنّه هو الَّذي ربط أحدهما بالآخر، فجعل سبب وجود ذلك الشيء الدعاء کما جعل سبب صحّة المريض شرب الدواء، وسبب إجابته على ما قاله العلماء أن يتوافي في أسباب الدعاء في المدعو فيه، مع سائر أساب وجوده، وأعلم أن النفس الزكية عند الدعاء قد يفيض عليها من الأول قوة تصير بها مؤثرة في العناصر؛ فيطاوعها متصرفة على أرادتها؛ فيكون ذلك إجابة الدعاء، فأن العناصر موضوعة لفعل النفس؛ فيها واعتبار ذلك في أبداننا فإنّا ربّما تخيّلنا شيئاً؛ فتتغيّر أبداننا بحسب ما يقتضيه أحوال نفوسنا وتخيّلاتها، وقد يمكن أن تؤثّر النفس في غير بدنها کما تؤثّر في بدنها، وقد تؤثّر في نفس غيرها وقد يستجيب الله لتلك النفس إذا دعت؛ فيما تدعو فيه إذا كانت الغاية الَّتي تطلبها بالدعاء نافعه بحسب نظام الكلّ والله سبحانه أعلم.

قال السيد وابتداء هذا الكلام مروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد قفاه: اتبعه أمير المؤمنين عليه السلام بأبلغ کلام وتممه بأحسن تمام من قوله، ولا يجمعهما غيرك إلى آخر الفصل، بك یا کوفة ومن كلام له عليه السّلام في ذكر الكوفة «كَأَنِّي»: أي كأني حاضرتك ومشاهد بحالك المتقبلة حال تجاذب أيدي الظالمين لأهلك بأنواع الظلم وهو المكنى عنه بمدها في قوله: «تُمَدِّينَ مَدَّ الأَدِيمِ الْعُكَاظِيِّ»: عكاظ اسم موضع بناحية مكَّة كانت العرب تجتمع به في كلّ سنة ويقيمون به سوقاً مدّة شهر، ويتبايعون ويتناشدون الأشعار، ويتفاخرون.

فلمّا جاء الإسلام رفع ذلك، ونسب إليها لكثرة ما كان يباع منه بها شبه

ص: 68

ذلك بمد الأديم ووجه الشبه شدة ما يقع بهم من الظلم، والبلاء كما أن الأديم مستحکم الدباغ يكون شديد المد، والعرك والدلك وتُمدين في موضع الحال كقوله «تُعْرَكِینَ بِالنَّوَازِلِ»: المصائب «وتُرْكَبِینَ بِالزَّلَازِلِ»: واستعار المد والعرك ملاحظة لذلك الشبه، ولفظ الركوب ملاحظة لشبهها بشقىّ المطايا، وكذلك لفظ الزلازل ملاحظة لشبهها، فيما يقع لهم من الظلم الموجب لاضطراب الخلل بالأرض ذات الزلزال ملاحظة لشبهها؛ فيما يقع من أرادتهم سوء أواقع بهم ما أوقع من البلاء بقوله: «وإِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِكِ جَبَّارٌ سُوءاً إِلَّا ابْتَلَاهُ اللهُ بِشَاغِلٍ ورَمَاهُ بِقَاتِلٍ»: فأشار إلى كونهم جبابرة؛ ثمّ إلى ابتلاء الله بعضهم بشاغل في نفسه عمّا يريد بهم من سوء ورمی بعضهم بقاتل؛ فأمّا المصائب الَّتي ابتلى بها أهل الكوفة، والنوازل الَّتي عركوا بها؛ فكثيرة مشهورة في كتب التواريخ، وأمّا الجبابرة الَّتي أرادوا بها سوءا أو اكثروا «فیها الفساد الْفَسادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ»(1)وأخذهم «بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ»(2)، فجماعة فممّن أبتلى بشاغل فيها زیاد؛ روی أنّه كان قد جمع الناس في المسجد ليأمرهم بسبّ عليّ عليه السّلام، والبراءة؛ منه ويبتليهم بذلك؛ فيقتل من يعصيه فيه فبيناهم مجتمعين؛ إذ خرج حاجبه؛ فأمرهم بالانصراف وقال: إنّ الأمير مشغول عنكم، وكان في تلك الساعة قدرمی بالفالج، ومنهم أبنه عبد الله وقد أصابه الجذام، ومنهم الحجّاج، وقد تولَّدت في بطنه الحيّات، واحترق دبره حتّى هلك، ومنهم عمرو بن هبيرة وابنه يوسف وقد أصابهکا البرص، ومنهم خالد القسريّ وقد ضرب، وحبس حتّی مات جوعاً، وأمّا الَّذين رماهم الله بقاتل، فعبيد الله بن زياد، ومصعب بن الزبير،

ص: 69


1- سورة الفجر: الآية 15
2- سورة الرعد: الآية 34

والمختار بن أبي عبيدة الثقفيّ، ويزيد بن المهلَّب، وأحوالهم مشهورة من رامها طالع التاريخ.

ومن خطبة له عليه السّلام عند المسير إلى الشام:

وهو بالنخيلة خارجاً من الكوفة متوجّهاً إلى صفّين لخمس بقين من شوال؛ سنه سبع وثلاثين وقت الليل، «الْحَمْدُ للهِ كُلَّمَا وَقَبَ»: دخل «لَيْلٌ وغَسَقَ»: أظلم مقصوده دوام الحمد وفيه تنبيه على کمال قدرة الله في تعاقب الليل والنهار واستحقاقه دوام الحمد بما يلزم ذلك من ظروب الأمتنان «والْحَمْدُ للهِ كُلَّمَا لَاحَ نَجْمٌ وخَفَقَ»: غاب فيه تنبيه على ما يلزم: طلوع الكواكب وغروبها من الحكمة وکمال النعمة «والْحَمْدُ للهِ غَیْرَ مَفْقُودِ الإِنْعَامِ ولَا مُكافاء الإِفْضَالِ»: فائدة التنبيه على أن أفضاله لا يمكن أن يقابل بجزاء إذا كانت القدرة على الحمد والثناء نعمة ثانية وقد سبق «أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَعَثْتُ مُقَدِّمَتِي وأَمَرْتُهُمْ بِلُزُومِ هَذَا الْمِلْطَاطِ(1)حَتَّى يَأْتِيَهُمْ

أَمْريِ»: خلاصته أنه عليه السلام لما أراد التوجه إلى صفين بعث زیاد بن النصر، وشریح بن هاني في أثنی عشر ألف فارس مقدّمة له، وأمرهم أن يلزموا شاطيء الفرات فأخذوا شاطئها من قبل البرّ ممّا يلي الكوفة حتّى بلغوا عانات؛ فذلك معنی أمره لهم بلزوم الملطاط وأمّا هو عليه السّلام؛ فلمّا خرج من الكوفة انتهى إلى المدائن؛ فحذّرهم ووعظهم ثمّ سار عنهم، وخلَّف عليهم عدّی بن حاتم؛ فاستخلص منهم ثمان مائة رجل؛ فسار بهم وخلَّف معهم ابنه زيدا؛ فلحقه في أربعمائة رجل منهم فذلك قوله: «وقَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَقْطَعَ هَذِهِ النُّطْفَةَ إِلَی شِرْذِمَةٍ مِنْكُمْ مُوَطِّنِنَ أَكْنَافَ دِجْلَةَ»: أي اتخذوا وطناً نواحيها وهم أهل المدائن «فَأُنْهِضَهُمْ

ص: 70


1- الملطاط: ساحل البحر، وقيل: هو طريق شاطئ الفرات؛ يُنظر الصحاح للجوهري: ج 3 ص 1156؛ وذكر الزمخشري في أساس البلاغة ص 856: الملطاط: وهو حافة الوادي

مَعَكُمْ إِلَی عَدُوِّكُمْ وأَجْعَلَهُمْ مِنْ أَمْدَادِ الْقُوَّةِ لَكُمْ»: وروي أن المقدمة لما بلغهم أنّه عليه السّلام ساق على طريق الجزيرة وأنّ معاوية خرج في جموعه لاستقباله؛ كرهوا أن يلقوهم وبينهم وبين عليّ عليه السّلام الفرات مع قلَّة عددهم فرجعوا حتّى عبروا الفرات من هيت ولحقوا به وصوّب آرائهم في الرجوع إليه قال الرضي رضي الله عنه.

يعني: بالملطاط هاهنا: السمت الذي أمرهم بلزومه، وهو: شاطئ الفرات ويقال ذلك أيضاً الشاطئ البحر، وأصله ما استوى من الأرضين، ويعني بالنطفة ماء الفرات وهو من غرائب العبارات وعجيبها.

ومن خطبة له عليه السلام:

مشتملة على مباحث جليلة من العلم الإلهي وجملة من صفاة الربوبية «الْحَمْدُ للهَّ الَّذِي بَطَنَ خَفِيَّاتِ الأَمُوُرِ»: يفهم منه معنيان: أحدهما: كونه داخلاً في جملة الأمور الخفيّة، ولمّا كانت بواطنها أخفى من ظواهرها كان المفهوم من كونه بطنها أنّه أخفى منها عند العقول بدليل أنك قد علمت أن الإدراك أما حسي وأما عقلي، ولما كان تعالى مقدساً عن الجسمية منزهاً عن الوضع والجهة أستحال أن یدرکه شيء من الحواس الظاهرة الباطنية، ولما كان ذاته بريئة عن أنحاء الترتيب عن التركيب؛ أستحال أن يكون للعقل اطلاع عليها بالکنه، فخفاؤه إذن على جميع الإدراکات ظاهر، وكونه أخفى الأمور الخفيّة واضح.

الثاني: أن يكون المعنى أنّه قد بعد علمه في بواطن خفيّات الأمور، وقد سبق منّا بيان أنّه عالم الخفيّات والسرائر.

وفي بعض النسخ فطن بالفاء بمعنى أدرك «ودَلَّتْ عَلَيْهِ أَعْلَامُ الظُّهُورِ»: أي

ص: 71

آیاته وآثاره الظاهرة في العالم الدالة على وجوده الظاهر في كل صورة منها كما قال:

وفي كلّ شيء له آية ٭٭٭ تدلّ على أنّه واحد

ولفظ الأعلام مستعار من جهة ما بينهما من الاشتراك في الهداية وإلى هذا الإعلام أشار إليه الملك العلام في قوله «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ»(1)، وأعلم أنّ هذا الطريق من الاستدلال هي: طريق الملَّيّين وسائر فرق المتكلَّمين؛ فإنّهم يستدلَّون أوّلاً على حدوث الأجسام والأعراض؛ ثمّ يستدلَّون بحدوثها، وتغيّراتها على وجود الخالق، ثمّ بالنظر في أحوال المخلوقات على صفاته واحدة واحدة؛ مثلاً بإحكامها وإتقانها على كون فاعلها عالماً حکیماً، وبتخصيص بعضها بأمر ليس للآخر على كونه مریداً، ونحو ذلك، وكذلك الحكماء الطبيّعيّون يستدلَّون أيضاً بوجود الحركة على محرّك، وبامتناع اتّصال المتحرّكات لا إلى أوّل على وجود محرّك أوّل غير متحرّك، ثمّ يستدلَّون من ذلك على وجود مبدأ أوّل، وأمّا الإلهيّون؛ فلهم في الاستدلال طريق آخر، وهو أنّهم ينظرون أوّلاً في مطلق الوجود؟ أهو واجب أو ممكن، ويستدلَّون من ذلك على إثبات واجب؛ ثمّ بالنظر في لوازم الوجوب من الوحدة الحقيقيّة على نفي الكثرة بوجه ما المستلزمة لعدم الجسميّة، والعرضيّة والجهة وغيرها؛ ثمّ يستدلَّون بصفاته على كيفيّة صدور أفعاله عنه، واحداً بعد آخر وظاهر أنّ هذا الطريق أجلّ، وأشرف من الطريق الأولى، وذلك لأنّ الاستدلال بالعلَّة على المعلول أولى البراهين بإعطاء اليقين لكون العلم بالعلَّة المعيّنة مستلزماً للعلم بالمعلول المعيّن من غير عکس(2)؛ ولمّا

ص: 72


1- سورة فصلت: الآية 53
2- العلة والمعلول من المصطلحات الفلسفية، والمعني بها أن لكل لفظ علة يكون المراد منه هو: الله تعالى، وكل لفظ معلول هو: المخلوق الذي مرجعه يعود إلى مُنشئه وخالقه، وعائدية كل معلول إلى علته هو: طريق من يُسمون بالصديقين؛ حيث إنهم يستدلون بالله تعالى على وجود كل شيء، ولا يستدلون بوجود الأشياء على الله، وهذه ما يُعرف بأصدق اليقين

كان صدر الآية المذكورة إشارة إلى الطريقة الأولى؛ فتمامها إشارة إلى هذه الطريقة وهو قوله تعالى «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُأَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ»(1)قال بعض العلماء: وإنّه طريق الصدّيقين الَّذين يستشهدون به؛ لا عليه أي يستدلَّون بوجوده على وجود كلّ شيء إذ هو منه، ولا يستدلَّون عليه بوجود شيء، بل هو أظهر وجوداً من كلّ شيء فإن خفى مع ظهوره فلشدّة ظهوره، وظهوره سبب بطونه، ونوره هو حجاب نوره إذ كلّ ذرّة من ذرّات مبدعاته ومكوّناته فلها عدّة ألسنة تشهد بوجوده وبالحاجة إلى تدبيره وقدرته.

لا يخالف شيء من الموجودات شيئاً في تلك الشهادات، ولا يتخصّص أحدها بعدم الحاجات، وقد ضرب العلماء: الشمس مثلاً لنوره في شدّة ظهوره فقالوا: إنّ أظهر الإدراكات الَّتي يساعد عليها الوهم إدراكات الحواسّ، وأظهرها إدراك البصر، وأظهر مدرك للبصر نور الشمس المشرق على الأجسام، وقد أشكل ذلك على جماعة حتّى قالوا: الأشياء الملوّنة ليس فيها إلَّا ألوانها فقط؛ من سواد ونحوه فأمّا أنّ فيها مع ذلك ضوء يقارن اللون فلا.

فإذا أريد تنبيه هؤلاء على سهوه؛ فطريقة التنبيه بالتفرقة الَّتي يجدونها بين غيبة الشمس بالليل واحتجابها عن المكونات، وبين حضورها بالنهار وإشراقها عليها مع بقاء الألوان في الحالين؛ فإنّ التفرقة بين المستضيء بها وبين المظلم المحجوب عنها جليّة ظاهرة؛ فيعرف وجود النور إذن بعدمه، ولو فرضت الشمس دائمة الإشراق على الجسم الملوّن لا تغيب عنه لتعذّر على هؤلاء معرفة كون النور شيئاً موجوداً زايداً على الألوان مع أنّه أظهر الأشياء وبه ظهورها، ولو تصوّر

ص: 73


1- سورة فصلت: الآية 53

للهَّ تعالى وتقدّس؛ عدم أو غيبة لانهدمت السماوات والأرض، وكلّ ما انقطع نوره عنه لأدركت التفرقة بين الحالين وعلم وجوده قطعاً، ولكن لمّا كانت الأشياء كلَّها في الشهادة به متّفقة، والأحوال كلَّها على نسق واحد مطَّردة متّسقة كان ذلك سبباً لخفائه؛ فسبحان من احتجب عن الخلق بنوره، وخفى عليهم بشدّة ظهوره «وامْتَنَعَ عَلَى عَیْنِ الْبَصِیرِ»: أي لا يصحّ أن يدرك بحاسّة بصره، لأنه تعالى غير ذي وضع وكل ما كان كذلك فيمتنع رؤيته، والمقدمة الأولى استدلالية، والثانية ضرورية وربما أستدل عليها والمسألة مستقصاة في الكلام، وإلى ذلك أشار القرآن الكريم «لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ»(1)«فَلاَ عَیُنْ مَنْ لْمَ يَرَهُ تُنْكِرُهُ»: أي مع كون البصر لا يدركه بحاسة بصره لا ينكره من جهة أنّه لا يبصره، إذ كانت فطرته شاهدة بظهور وجوده في جميع آثاره، ومع ذلك ليس له سبيل إلى إنكاره من جهة عدم إبصاره، إذ كان حظَّ العين أن يدرك بها ما صحّ إدراكه، فأن يبقى بها ما كان لا يدرك من جهتها فلا «ولَا قَلْبُ مَنْ أَثْبَتَهُ يُبْصِرُهُ»: أي من أثبته مع كونه مثبتاً له بقلب لا يبصره، وإنّما أكَّد عليه السّلام بهاذين السلبين الأخيرين؛ لأنّهما يشتملان عند الوهم في مبدأ سماعها على منافاة وكذب؛ إلى أن يقهره العقل على التصديق بهما وكان الوهم يقول في جواب قوله؛ فلا عين من لم يبصره ینکره کیف لا ينكر العين شيئاً لا يراه، وفي جواب السلب الثاني؛ كيف يثبت القلب ما لم يبصر؛ فلما كان في صدق هاذين السّلبیَن ازعاج لهوام السامعين مفزع إلى ملاحظة الله جل جلاله، وعظمته، وتنزيهه عما لا يجوز عليه كان ذكرهما من أحسن الذكر، ويحتمل أن يريد بقوله، ولا قلب من أثبته يبصره، أنه وأن أثبته من جهة، وجوده فيستحيل أن يحيط به علماً «سَبَقَ فِي الْعُلُوِّ فَلَا شَيْءَ أَعْلَى مِنْهُ»: تقريره أنّ العلوّ يقال بالاشتراك على معان ثلاثة: العلوّ الحسّي، والتجلي كعلو الملك، والعقلي

ص: 74


1- سورة الأنعام: الآية 103

كعلو السبب مثلاً، والأول محال في حقه سبحانه لاستحالة كونه في المكان، وكذا الثاني لتنزيهه سبحانه عن الكمالات الخيالية التي يصدق بها إذ هي إضافية يتغير وتدرك بحسب الأشخاص، والأوقات ولا شيء من کماله كذلك فبقي أن يكون عقلياً مطلقاً بمعنى أنه لا رتبة فوق رتبته بيان ذلك أنّ أعلى مراتب الكمال العقليّ هو مرتبة العلَّيّة، ولمّا كان ذاته المقدّسة هي مبدأ كلّ موجود حسّي، وعقليّ، وعلَّته التامّة المطلقة لا يتصوّر النقصان فيها بوجه ما لا جرم(1)كانت مرتبته أعلى المراتب العقليّة مطلقا، وله الفوق المطلق في الوجود العاري عن الإضافة إلى شيء وعن إمكان أن يكون فوقه ما هو أعلى منه. وذلك معنى قوله: سبق في العلوّ فلا شيء أعلى منه، فسبقه في علوّه تفرّده في العلوّ المطلق وفواته لغيره أن يلحقه فيه «وقَرُبَ فِي الدُّنُوِّ فَلَا شَيْءَ أَقْرَبُ مِنْهُ»: توضيح ذلك أن الدنوّ يقال: على معان ثلاثة مقابلة لمعان العلو، ويقال على معنی رابع؛ في مثل قولك فلان أدنى إلى فلان؛ وأقرب إليه إذا كان مطلعاً على أحواله أكثر من غيره، والله سبحانه منزه عن أن يراده به بدنوه احد المفهومات الثلاث بل المراد هو: الرابع فقربه في دنوه؛ أذن بحسب علمه الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك، ولا أكبر وبهذا الاعتبار هو أقرب كل قريب وأدنی کل داني كما قال تعالى «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ»(2)وهو أدنى إلى العبد من نفسه، وهو سبحانه إذ نفس كل إنسان لا يعرف نفسها، وهو سبحانه العالم بها

ص: 75


1- لا جرم: وقولهم لا جرم: قال الفراء: هي كلمة كانت في أصل بمنزلة لابد، ولا محالة، فجرت على ذلك، وكثرت حتى تحولت إلى معنى القسم، وصارت بمنزلة حقٍّ؛ فلذلك يجاب عنه باللام كما يجاب لها عن القسم ألا تراهم يقولون لا جرم لآتينك قال، وليس قول من قال جرمت حققت بشيء، وإنما ليس عليهم بقول: ولقد طعنت أبا عيينة طعنة جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا؛ يُنظر الصحاح للجوهري في: ج 5: ص 1886
2- سورة ق: الآية 16

فهو أذن القريب في دنو الذي لا شيء أقرب منه أيما أورده بلفظ الدنو، ليحصل مقابلة فيزعج النفوس السليمة عند إنكار الوهم، لاجتماع القرب والبعد والدنو والعلو في شيء واحد إلى تفهم المقصود بها، وتطَّلع على عظمة الحقّ سبحانه منها «فَلَا اسْتِعْلَاؤُهُ بَاعَدَهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ ولَا قُرْبُهُ سَاوَاهُمْ فِي الْمَكَانِ بِهِ»: تأكيد لردّ الأحكام الوهميّة بالأحكام العقليّة، فإنّ الوهم يحكم بأنّ ما استعلى على الأشياء كان بعده عنها بقدر علوّه عليها، وما قرب منها؛ فقد ساواها في أمكنتها، وذلك لكونه مقصوراً لحكم على المحسوسات، ونحن لمّا بيّنا أنّ علوّه على خلقه، وقربه منهم ليس علوّاً وقرباً مکانيّين بل بمعان أخرى لا جرم لم يكن استعلاؤه بذلك المعنى على مخلوقاته مباعداً، له عن شيء منها، ولم يكن منافياً لقربه بالمعنى الَّذي ذكرناه بل كانا مجتمعين ولم یکن قربه منها أيضاً موجباً لمساواته لها في المكان عنادا للوهم وردّا لأحكامه الفاسدة في صفات الجلال ونعوت الکمال «لَمْ يُطْلِعِ الْعُقُولَ عَلَى تَحْدِيدِ صِفَتِهِ»: أي شرح حقيقة ذاته أو ماله من کمال صفاته أما الأول؛ فلأنه لا حد لحقيقته، وأما الثاني؛ فلأنه ليس لما يعتبره العقول من كمال صفاته أما الأول؛ فلأنه لا حد لحقيقته، وأما الثاني؛ فلأنه ليس لما يعتبره العقول من کماله سبحانه نهاية يقف عندها؛ فتكون العقول حداً لها «ولَمْ يَحْجُبْهَا عَنْ وَاجِبِ مَعْرِفَتِهِ»: لأنه تعالى وهب لكلّ نفس قسطاً من معرفته هو الواجب لها بحسب استعدادها لقبوله حتّى نفوس الجاحدين له فإنّها أيضاً معترفة بوجوده لشهادة أعلام الوجود وآیات الصنع له على نفس كلّ جاحد بصدورها عنه بحيث يحكم صريح عقلها وبديهتها بالحاجة لما يشاهده من تلك الآيات إلى صانع حکیم «فَهُوَ الَّذِي تَشْهَدُ لَهُ أَعْلَامُ الْوُجُودِ عَلَى إِقْرَارِ قَلْبِ ذِي الْجُحُودِ»: فأن جحده له(1)إنّما هو رأي اتّبع

ص: 76


1- جحده له: بمعنی جحد الكافر بالله، فهو أي: الجحود ناشئ عن معتقد، وإن: اتبع الجاحد هواه فأضلّه عن الله تعالى

فيه، وهمه مع إقرار قلبه بالتصديق(1)به، وشهادة آيات الصنع وشواهد آثاره على صحّة ذلك الإقرار، واعلم أنّ الجحود أما جحود تشبیه؛ لأن ما يتصوره المشبهون ويثبتونه إلهاً ليس هو نفس الإله، أو جحود من أثبت صانعاً، وكلا الفريقين جاحد له من وجه، ومثبت له من وجه، أما المشبهون؛ فمثبتون له صريحاً جاحدون له لزوماً، وأمّا الآخرون فبالعكس إذ كانوا جاحدين له صريحاً من الجهة الَّتي تثبته العقلاء بها ويقرّون به إلتزاماً واضطراراً، ولذلك نزّهه عليه السّلام على أحوال الفريقين فقال عليه السّلام: «تَعَالَی الله عَمَّا يَقُولُه الْمُشَبِّهُونَ بِه والْجَاحِدُونَ لَه»: وحكى أنّ زنديقاً دخل على الصادق جعفر بن محمّد عليهما السّلام، فسأله عن دليل إثبات الصانع؛ فأعرض عليه السّلام عنه، ثمّ التفت إليه، وسأله من أين أقبلت وما قصّتك؟ فقال الزنديق(2): إنيّ كنت مسافراً في البحر فعصفت علينا الريح ذات يوم وبلغت بنا الأمواج من كلّ جانب؛ فانكسرت سفينتنا فتعلَّقت بخشبة منها ولم تزل الأمواج تقلَّبها حتّى قذفت بها إلى الساحل وسَلِمْتُ عليها. فقال له عليه السّلام: أرأيت الَّذي كان قلبك إذا إنكسّرت السفينة وتلاطمت علیکم أمواج البحر؛ فزعاً إليه مخلصاً في التضرّع له طالباً للنجاة منه؛ فهو إلهك، فاعترف الزنديق بذلك وحسن اعتقاده(3)، وبالجملة فاتّفاق العقول على الشهادة بوجود الصانع سبحانه؛ أمر ظاهر وإن خالطتها غواشي الأوهام، وإليه الإشارة في مثل قوله «وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ

ص: 77


1- بمعنى: إن الجاحد وإن اتبع رأيه وهواه؛ فهو في إقراره القلبي مصدق بوجوده
2- الزنديق: نسبة إلى صفة الزندقة التي إذا اتصف بها صاحبها؛ أطلق عليه زندیق، وهو الذي يجادل بالباطل، ويشكك باليوم الآخر، حتى يقال عنه (ألا يؤمن بالآخرة، وبالربوبية)؛ يُنظر العين للخليل الفراهيدي: ج 5 ص 255؛ الصحاح للجوهري: ج 4 ص 1489؛ مادة زندق
3- شرح نهج البلاغة لابن میثم البحراني: ج 2 ص 133؛ اختیار مصباح السالكين كذلك لابن میثم البحراني ص 157؛ ولم أعثر على مصادر أخرى للحديث

أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا» وبالله التوفيق.

ومن خطبة له عليه لسلام

«إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ وأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ الله»: وذلك لأن المقصود من بعثة الرسل، ووضع الشرائع إنما هو نظام الخلق في أمر معاشهم؛ فكان كل رأي ابتدع؛ أو هوى اتبع خارجاً عن كتاب، وسنة رسوله سبباً لوقوع الفتنة وتبدد نظام الوجود في هذا العالم وذلك كأهواء البغاة، وآراء الخوارج ونحوها «ويَتَوَلَّی عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالًا عَلَى غَیْرِ دِينِ الله»: أي يتبع قوم قوماً على تربية البدع التي ابتدعها ضال في الشريعة على خلاف الكتاب والسنة ثم أشار إلى أسباب تلك الآراء الفاسدة، ومدارها على امتزاج المقدّمات الحقّة بالباطلة، فبيّن أنّ السبب هو ذلك الامتزاج بشرطيّتين متّصلتين.

إحداهما قوله: «فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ الْحَقِّ لَمْ يَخْفَ عَلَى الْمُرْتَادِينَ»: أي الطالبين وجه الملازمة ظاهر؛ فأن مقدمات الشبهة إذا كانت كلَّها باطلة أدرك طالب الحقّ وجه؛ فسادها بأدنى سعي، ولم يخف عليه بطلانها، وأمّا استثناء نقيض تاليها فلأنّه لمّا خفي وجه البطلان؛ فيها على طالب الحقّ لم يكن الباطل فيها خالصاً من مزاج الحقّ؛ فكان ذلك هو سبب الغلط، واتّباع الباطل لأنّ النتيجة تتبع أخسّ المقدّمتين.

والثانية قوله: «ولَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ مِنْ مراح الْبَاطِلِ انْقَطَعَتْ عَنْه أَلْسُنُ الْمُعَانِدِينَ»: ووجه الملازمة أيضاً کما مرّأي: إنّ مقدّمات الحجّة الَّتي استعملها المبطلون لو كانت كلَّها حقّة مرتّبة ترتيباً حقّاً لكانت النتيجة حقّاً تنقطع ألسنتهم

ص: 78

عن العناد فيه، والمخالفة له وقد حذف عليه السّلام کبرى هذين القياسين(1)لأنّهما قياساً ضمیر کما سبق، ثمّ أتي بالنتيجة؛ أو ما في معناها وهو قوله:

«ولَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ: قيضه ومِنْ هَذَا ضِغْثٌ»: أي من الحق والباطل «فَيُمْزَجَانِ» ولفظ الضغث مستعار، ومقصوده بذلك التصريح بلزوم الآراء الباطلة والأهواء المبتدعة لمزج الحقّ بالباطل ولذلك قال «فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِه»: أي إنّه يزيّن لهم اتّباع الأهواء والأحكام الخارجة عن كتاب الله بسبب إغوائهم عن تمييز الحقّ من الباطل فيها سلكوه من الشبهة ويَنْجُو «الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ»(2)من الله «مِنَّا الْحُسْنَى»(3)أي من أحدث عناية الله بإديهم في ظلمات الشبهات؛ فقادتهم فيها بإفاضة نور الهداية عليهم إلى تميز الحق من الباطل وأولئك هم عن النار مبعدون.

ومن كلام له عليه السلام

لما غلب أصحاب معاوية أصحابه على شريعة الفرات بصفين ومنعوهم الماء قَدِ «اسْتَطْعَمُوكُمُ الْقِتَالَ»: استعار الاستطعام لتحرّشهم بالقتال في منعهم للماء، ووجه الاستعارة استسهالهم للقتال، وطلبهم له بمنع الماء الَّذي هو في الحقيقة أقوى جذباً للقتال من طلب المأكول بالأقوال «فَأَقِرُّوا عَلَى مَذَلَّةٍ وتَأْخِیرِ مَحَلَّةٍ»: منزلة «أَوْ

رَوُّوا السُّيُوفَ مِنَ الدِّمَاءِ تَرْوَوْا مِنَ الْمَاءِ»: أمر لهم بأحد لازمين عن منعهم الماء،

ص: 79


1- العبارة المتقدمة وهي (ولو أن الحق خلص من مِراح الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين). فيها قیاس کبروي، وهو: قياس منطقي في القضايا يُجري ليصل من خلالها إلى نتيجة منطقية بعيدة عن الخطأ، وفي استعمال الضمير من العبارة عوضاً عن اجراء القياس المنطقي وعوضاً عنه للوصول إلى القصد المطلوب من العبارة
2- سورة الأنبياء: الآية 101
3- الآية نفسها

واستطعامهم القتال إمّا ترك القتال، أو إيقاعه، وإنّما أورد الكلام بصورة التخيير بين هذين اللازمین، وإن لم يكن مراده إلَّا القتال، لعلمه بأنّهم لا يختارون ترکه مع ما يلزم من الإقرار بالعجز والمذلَّة والاستسلام للعدوّ، وتأخير المنزلة عن رتبة أهل الشرف والشجاعة، وإنّما أورد الوصفين اللازمين لتركه لينفّر بهما عنه، وإنّما جعل الريّ من الماء الَّذي هو مشتهى في ذلك الوقت لازماً لترويتهم السيوف من الدماء الَّتي يلزمها القتال ليريهم إياه في صورة محبوبة تميل طباعهم إليها، ونسبة الترويّ إلى السيوف نسبة مجازيّة «فَالْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ والْحَيَاةُ فِي مَوْتِكُمْ قاتلینَ»: من لطائف الكلام ومحاسنه وهو جذب إلى القتال بأبلغ ما يمكن من البلاغة؛ فجذبهم إليه بتصويره لهم أنّ الغاية الَّتي عساهم يفرّون من القتال خوفاً منها وهي: الموت موجودة في الغاية الَّتي عساهم يطلبونها من تركه وهي الحياة البدنيّة حال كونهم مقهورين، وتجوّز بلفظ الموت في الشدائد، والأهواء الَّتي تلحقهم من عدوّهم لو قهرهم، وهي عند العاقل أشدّ بكثير من موت البدن، وأقوى مقاساة فإنّ المذلَّة وسقوط المنزلة والهضْم، والإستنقاص عند ذي اللبّ موتات متعاقبة، ويحتمل أن يكون مجازاً في ترك عبادة الله بالجهاد؛ فإنّه موت للنفس وعدم لحياتها برضوان الله، وكذلك جذبه لهم أنّ الغاية الَّتي تفرّون إليها بترك القتال، وهي الحياة موجودة في الغاية الَّتي تفرّون منها وهي الموت البدنيّ حال كونهم، أمّا في الدنيا فمن وجهين أحدهما: الذكر الباقي الجميل الَّذي لا يفنى.

الثاني أنّ طيب حياتهم الدنيا إنّما يكون بنظام أحوالهم بوجود الإمام العادل وبقاء الشريعة كما هي، وذلك إنّما يكون بإلقاء أنفسهم في غمرات الحرب محافظة على الدين وموت بعضهم فيها، ولفظ الموت مهمل تصدق نسبته إلى الكلّ وإن وجد في البعض، وأمّا في الآخرة فالبقاء الأبدي والحياة التامّة في جنّات عدن كما قال

ص: 80

تعالى «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»(1)وفي القرينتين الأوليين السجع(2)المتوازي وفي اللتين بعدهما السجع المطرف «أَلاَ وإِنَّ مُعَاوِيَةَ قَادَ لَمُةً مِنَ الْغُوَاةِ وعَمَّسَ عَلَيْهِمُ الْخَبَرَ»: أي لبّس عليهم الحقّ بالباطل وأراهم الباطل في صورة الحقّ، والغرض من ذلك التنفير عنهم، غاية لأصحاب معاوية من تلبيسه الحقّ عليهم، وکنّی بذلك عن تصديّهم للموت، ولفظ الغرض مستعار لنحورهم، ووجه المشابهة جعلهم لنحورهم بصدد أن تصيبها سهام المنيّة من الطعن، والضرب والذبح ووجوه القتل؛ فأشبهت ما ينصبه الرامي هدفاً، وهي استعارة بالكناية كأنّه حاول أن يستعير للمنيّة لفظ الرامي، وبالله العصمة.

ومن خطبة له عليه السّلام

قد تقدم مختارها برواية ونذكر هاهنا برواية أخرى لتغاير الروايتين: وأعلم أن مدار هذا الفصل على أمور ثلاثة أحدهما: التنفير عن الدنيا والنهي عن تأميلها،

ص: 81


1- سورة آل عمران: الآية 169
2- سجع: سجع الرجل إذا نطق بكلام له فواصل كقوافي الشعر من غير وزن کما قیل: لصها بطل، وتمرها دقل، إن كثر الجيش بها جاعوا، وإن قلوا ضاعوا يسجع سجعاً فهو ساجع وسجاع وسجاعة. والحمامة تسجع سجعاً إذا دعت، وهي سجوع ساجعة، وحمام سجع سواجع: العين للخليل الفراهيدي: ج 1 ص 17؛ وبعبارة أوضح: ما ذكره محمد الغروي في الحكم والأمثال المستخرجة من نهج البلاغة: هامش ص 276 قال: «لا يخفى أن السّجع في النّثر بمثابة القافية في النّظم، وهو ثلاثة أقسام: المتوازن: ما تساوت فيه الكلمات في الوزن فقط. والمتوازي: ما اتّحد آخر جملتين في الوزن، والحرف، والرّويّ، وهو الحرف الآخر الأصليّ من الكلمة: كقوله عليه السّلام: «وأكلة لآكل، وفريسة لصائل». والمطرّف: ما اتّحد آخر الحرف الأصليّ من آخر كلمة الجملتين فقط، المعبّر عنه ب (الرّويّ)، دون الوزن والحرف، كالماء، والسّماء، وعقولكم، وحلومكم في الجملتين الأوليين من كلام الإمام عليه السّلام فتفطَّن»

والأمر بالرحيل عنها.

الثاني: التنبيه على عظیم ثواب الله، وما ينبغي أن يرجى منه ويقصد بالرحيل بالنسبة إلى ما الناس فيه مما يتوهم خيراً في الدنيا ثم على عظيم عقابه وما ينبغي أن يخاف منه.

الثالث: التنبيه على عظیم نعم الله تعالى على الخلق وأنه لا يمكن جراؤها ما بلغ الساعي وأكثر الاجتهاد أما الأول فقد أشار إليه بقوله: «أَلَا وإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ

تَصَرَّمَتْ وآذَنَتْ بِانْقِضَاءٍ»: أي أعلمت بأنها بلسان حالها لأذهان المعتبرين «وتَنَكَّرَ مَعْرُوفُهَا»: تغير مثاله أن الإنسان إذا أصاب لذة من لذات الدنيا كصحة أو أمن أو مال ونحوه أنس إليه وتوهّم بقاءه له وكان ذلك معروفها الَّذي أسدته إليه وعرفه وألفه منها، ثمّ إنّه عن قليل يزول، ويتبدّل بضدّه فيصير بعد أن كان معروفاً مجهولاً، وتكون الدنيا كصديق تنکَّر في صداقته ومزّجها بعداوته «وأَدْبَرَتْ

حَذَّاءَ»: أي ولَّت حال ما لا تعلَّق لأحد بشيء منها مسرعة، واستعار لفظ الإدبار لانتقال خيراتها عمّن انتقلت عنه بموته أو غير ذلك من وجوه زوالها ملاحظة لشبهها بملك عن بعض رعيّته برفده «فَهِيَ تَحْفِزُ»: تسوق «بِالْفَنَاءِ سُكَّانَهَا»: والحفز أيضاً الطعن «وتَحْدُو بِالْمَوْتِ جِيرَانَهَا»: استعار لها وصفي السائق والحادي استعارة بالكناية، ووجه المشابهة كونهم قاطعين لمدّة العمر بالفناء والموت؛ فهي مصاحبته لهم بذلك كما يصحب السائق، والحادي للإبل بالسوق والحداء، وإن أريد بالحفز الطعن؛ فيكون التجوّز في نسبته إلى البلاء ملاحظة لشبه مصائب الدنيا بالرماح، واستعارة الفناء والموت لآلة السّوق والحداء، من حيث أن الموت سبب في انتقال الإنسان إلى دار الآخرة كما أن الصوت والسوط آلتا الحداء والسوق وبهما يحصل انتقال الأبل من موضع إلى موضع «وقَدْ أَمَرَّ»: صار مراً «مِنْهَا مَا كَانَ

ص: 82

حلواً وكَدِر منها ما كان صفواً»: أي الأمور التي تقع لذيذة فيها ويجدها الإنسان في بعض أوقاتها صافية خالية عن كدورات الأمراض ومرارة التنغيص بالعوارض الكريهة في معرض التنفير والتبديل بالمرارة والكدر؛ فما من شخص يخاطبه بما ذكر إلَّا ويصدق عليه أنّه قد عرضت له من تلك اللذّات ما استعقب صفوها کدورة وحلاوتها مرارة يظهر بأدنى تأمل.

«فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا سَمَلَةٌ»: باقي الماء في الأناء «كَسَمَلَةِ الإِدَاوَة أَوْ جُرْعَةٌ كَجُرْعَةِ

الْمُقْلَةِ»: حجر يطرح في الأناء ويقسم به الماء، والمراد بحفز ما بقي لكل شخص من الناس فإن بقائها له على حسب بقائه فيها، وبقاء كل شخص فيها يسير ووقته قصير واستعار السملة لبقيتها وشبيها ببقية الماء في الأدوات ويجرعه المقل ووجه المقلة الشبه ما أشار إليه بقوله: «لَوْ تَمَزَّزَهَا»: مصها «الصَّدْيَانُ»: العطشان «لَنْ يَنْقَعْ»: يسكن عطشه يعني كما أن العطشان الواجد لبقية عمره ولليسير بالاستماع فيه بلذات الدنيا لا تسقي ذلك غليله، ولا يسكن عطشه منها؛ فالأولى أذن تعوید النفس الفطام عن شهواتها وإذا كان الحال كذلك «فَأَزْمِعُوا»: أثبتوا عزمكم «عِبَادَ اللهِ الرَّحِيلَ عَنْ هَذِهِ الدَّارِ الْمَقْدُورِ عَلَى أَهْلِهَا الزَّوَالُ»: بالالتفات إلى الله والإقبال على قطع عقبات الطريق إليه «ولَا يَغْلِبَنَّكُمْ فِيهَا الأَمَلُ»: فأنه ينسي الآخرة كما سبقت إليه الإشارة، وذكر الغلبة تذكير بالأنفة واستثارة للحميّة من نفوسهم ثمّ بالنهي عن توهّم طول مدّة الحياة واستبعاد الغاية الَّتي هي الموت فإنّ ذلك يقسي القلب فيورث الغفلة عن ذكر الله «ولَا يَطُولَنَّ عَلَيْكُمْ فِيهَا الأَمَدُ»: کما قال جل ذكره «فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ»(1)وأمّا الثاني: فالمشار إليه بقوله «فَوَ اللهِ لَوْ حَنَنْتُمْ حَنِینَ الْوُلَّهِ الْعِجَالِ»: جمع والهٍ وعجول، وهما من

ص: 83


1- سورة الحديد: الآية 16

الإبل النوق تفقد ولدها «ودَعَوْتُمْ بِهَدِيلِ الْحَمَامِ»: نوحها «وجَأَرْتُمْ»: تضرعتم «جُؤَارَ مُتَبَتِّلِي الرُّهْبَانِ»: المنقطع إلى الله عن الدنيا «وخَرَجْتُمْ إِلَی اللهِ مِنَ الأَمْوَالِ

والأَوْلَادِ الْتِمَاسَ الْقُرْبَةِ؛ إِلَيْهِ فِي ارْتِفَاعِ دَرَجَةٍ عِنْدَهُ أَوْ غُفْرَانِ سَيِّئَةٍ أَحْصَتْهَا كُتُبُهُ وحَفِظَتْهَا رُسُلُهُ لَكَانَ قَلِيلًا؛ فِيمَا أَرْجُو لَكُمْ مِنْ ثَوَابِهِ وأَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ عِقَابِهِ

واللهِ لَوِ انْمَاثَتْ قُلُوبُكُمُ انْمِيَاثاً، وسَالَتْ عُيُونُكُمْ مِنْ رَغْبَةٍ إِلَيْهِ؛ أَوْ رَهْبَةٍ مِنْهُ دَماً ثُمَّ عُمِّرْتُمْ فِي الدُّنْيَا: أشار إلى تعظيمهما بتحقير الأسباب، والوسائل التي يعتمد عليها العباد، وهي غایات جهدهم بالنسبة إلى ما ينبغي؛ أن يرجي من ثوابه، ويخشی من عقابه، وتخصيص التشبيه بمتبتّلى الرهبان لشهرتهم بشدّة التضرّع، وخلاصة هذا المقصود يجيز الكلام إنّكم لو أتيتم بجميع أسباب التقرّب إلى الله الممكنة لكم من عبادة وزهد؛ ملتمسين بذلك التقرّب إليه في أن يرفع لكم عنده درجة أو يغفر لكم سيّئة أحصتها كتبه، وألواحه المحفوظة لكان الَّذي أرجوه من ثوابه للمتقرّب، إليه في أن يرفع منزلته من حضرة قدسه أكثر ممّا يتصوّر المتقرّب أنّه يصل إليه بتقرّبه، ولكان الَّذي أخافه من عقابه على المتقرّب في غفران سيّئة عنده أكثر من العقاب التي يتوهّم أنّه يدفعه عن نفسه بتقرّبه؛ فينبغي لطالب الزيادة في المنزلة عند الله أن يخلص بكلَّيته في التقرّب إليه ليصل إليه من المنزلة عنده، وينبغي للهارب من ذنبه إلى الله أن يخلص بكلَّيّته في الفرار إليه؛ ليخلص من هول ما هو أعظم ممّا يتوهّم أنّه يدفعه عن نفسه بوسيلته إليه؛ فإنّ الأمر في معرفة ما أعدّ الله لعباده الصالحين من الثواب العظيم، وما أعدّه لأعدائه الظالمين من العذاب الأليم أجّل ممّا يتصوّره عقول البشر ما دامت في عالم الغربة، وإن كان عقولهم في ذلك الإدراك متفاوتة، ولمّا كانت نفسه القدسيّة أشرف نفوس الإنسان في ذلك الوقت لا جرم نسب الثواب المرجوّ، لهم والعقاب المخوف عليهم إلى رجائه هو وخوفه وذلك لقوّة اطَّلاعه من ذلك على ما لم يطَّلعوا عليه.

ص: 84

وأمّا الثالث: فنبه عليه بقوله: «وَتالله لَو إنماثَتْ»: أذابت «قُلوبِكُمْ»: خوفاً منه ووجدانه «إنمياثاً»: كأنمياث الملح بالماء «وسَالَتْ عُيُونُكُمْ مِنْ رَغْبَةٍ إِلَيْهِ أَوْ رَهْبَةٍ مِنْهُ دَماً ثُمَّ عُمِّرْتُمْ فِي الدُّنْيَا مَا الدُّنْيَا بَاقِيَةٌ»: «بمعنى ما دام مَا جَزَتْ أَعْمَالُكُمْ عَنْكُمْ ولَوْ لَمْ تُبْقُوا شَيْئاً مِنْ جُهْدِكُمْ أَنْعُمَهُ عَلَيْكُمُ الْعِظَامَ»: مفعول جزت «وهُدَاهُ إِيَّاكُمْ لِلإِيمَانِ»: في محل النصب عطفاً عليه، وانما أفرده بالذكر وأن كان من الأنعم لشرفه أذ هو الغاية المطلوبة من العبد بكل نعمة، فكل نعمة أفيضت عليه ليتأهل قلبه، وتستعد نفسه لقبول صورة الهدی من واهبها؛ فيمشي بها في ظلمات الجهل إلى ربه، ويجوز بها عقبات صراطه المستقيم، وفائدة هذا التنبيه بعث الخلق على الشكر وتوفير الدواعي على الاجتهاد في الإخلاص للهَّ حياء من مقابلة عظيم إنعامه بالتقصير في شكره والتشاغل بغيره وبالله التوفيق.

من خطبة له عليه السلام:

وفي بعض النسخ ومنها في ذکر یوم النحر وصفة الأضحية منسوب إلى الضحى أو مشتق منها «ومِنْ تَمَامِ الأُضْحِيَّةِ اسْتِشْرَافُ أُذُنِهَا»: طولها وکنّی بذلك عن سلامتها من القطع أو نقصان الخلقة «وسَلَامَةُ عَيْنِهَا فَإِذَا سَلِمَتِ الأُذُنُ والْعَیْنُ

سَلِمَتِ الأُضْحِيَّةُ وتَمَّتْ ولَوْ كَانَتْ عَضْبَاءَ الْقَرْنِ»: مکسورتها «تَجُرُّ رِجْلَهَا إِلَی الْمَنْسَكِ»: وكني بذلك عن عجزها واعلم أنّ المعتبر في الأضحيّة سلامتها عمّا ينقّص قيمتها، وظاهر أنّ العمى والعور والهزال وقطع الأذن تشويه في خلقتها، ونقصان في قيمتها دون العرج وكسر القرن، وفي فضل الأضحيّة أخبار كثيرة مشهورة، واعلم أنّه ربما لاح من أسرار وضع الأضحيّة سنّة باقية هو أن يدوم بها التذكَّر لقصّة إبراهيم عليه السّلام وابتلائه بذبح، ولده وقوّة صبره على تلك المحنة، والبلاء المبين، ثمّ ملاحظة من ذلك حلاوة ثمرة الصبر على المصائب،

ص: 85

والمكاره فيتأسّى الناس به في ذلك مع ما في نحرها من تطهير النفس عن رذيلة البخل، وللاستعداد بها للتقرّب إلى الله سبحانه.

من كلام له عليه السلام «فَتَدَاكُّوا»: أي دق بعضهم بعضاً بالضرب والدفع «عَلَيَّ»: لدىّ. إشارة إلى صفة أصحابه بصفّين لمّا طال منعه لهم من قتال أهل الشام؛ فكان يمنعهم من قتالهم لأمرين: أحدهما أنّه كانت عادته في الحرب ذلك ليكون خصمه البادي؛ فتركبه الحجّة والثاني أنّه كان يستخلص وجه المصلحة في كيفيّة قتالهم لا على سبيل شکَّه في، وجوب قتال من خالفه فإنّه عليه السّلام كان مأموراً بذلك بل على وجه استخلاص الرأي الأصلح أو انتظاراً لإنجذابهم إلى الحقّ، ورجوعهم إلى طاعته لحقن دماء المسلمين کما سیصرّح به في الفصل الَّذي يأتي وأكدّ وصفهم بالزحام عليه بأمرين: أحدهما تشبيهه بزحام الإبل العطاش حين يطلقها رعاتها من مثانیها یوم توردها الماء في قوله «تَدَاكَّ الإِبِلِ الْهِيمِ يَوْمَ وِرْدِهَا وقَدْ أَرْسَلَهَا رَاعِيهَا»: ووجه الشبه مالهما من شدّة الزحام، الثاني غاية ذلك الزحام وهو ظنّه عليه السّلام أن يقتلوه أو يقتل بعضهم بعضاً بقوله: «حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُمْ قَاتِلِيَّ أَوْ بَعْضُهُمْ قَاتِلُ بَعْضٍ

لَدَي»: ثم أشار إلى بعض علل منعه لهم من القتال ب قوله: «وقَدْ قَلَّبْتُ هَذَا الأَمْرَ بَطْنَهُ وظَهْرَهُ»: أي قلبت وجوه الآراء في قتالهم وفكرت فيه سراً وجهراً وليلاً ونهاراً «حَتَّى مَنَعَنِي النَّوْمَ فَمَا وَجَدْتُنِي يَسَعُنِي إِلَّا قِتَالُهُمْ أَوِ الْجُحُودُ بِمَا جَاءَني بِهِ مُحَمَّدٌ صلّى الله عليه وآله، فَكَانَتْ مُعَالَجَةُ الْقِتَالِ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مُعَالَجَةِ الْعِقَابِ، ومَوْتَاتُ الدُّنْيَا أَهْوَنَ عَليَّ مِنْ مَوْتَاتِ الآخِرَةِ»: استعار الموتات للأهوال والشدائد؛ فيهما لما بين الموت وبينها من المناسبة في الشدّة والله سبحانه أعلم.

ومن كلام له عليه السّلام وقد استبطأ أصحابه إذنه لهم في القتال

ص: 86

بصفين:

هذا الفصل مناسب للَّذي قبله، والسبب فيه أنّ أصحابه لمّا طال منعه لهم عن قتال أهل الشام ألحّوا عليه في طلبه حتّى نسبه بعضهم إلى العجز وكراهيّة الموت، وبعضهم الشكّ في وجوب قتال هؤلاء؛ فأورد عليه السّلام شبهة الأوّلين وهي قوله: «أَمَّا قَوْلُكُمْ أَكُلَّ ذَلِكَ كَرَاهِيَةَ الْمَوْتِ»: وروي بالنصب على المفعول وسدّ مسدّ الخبر، وأجاب عنها بقوله: «فَوَ اللهِ مَا أُبَالِي دَخَلْتُ إِلَی الْمَوْتِ أَوْ خَرَجَ الْمَوْتُ إِلَيّ» : وصدق هذا الدعوى المؤكَّدة بالقسم البارّ ظاهر منه؛ فإنّ العارف بمعزل عن تقيّة الموت خصوصاً نفسه القدسيّة كما سبق، ونسبة الدخول على الموت والخروج إليه نسبة مجازيّة تستلزم ملاحظة تشبيهه بحيوان مخوف، ثمّ أورد الشبهة الثانية وهي قوله: «وأَمَّا قَوْلُكُمْ شَكَّاً فِي أَهْلِ الشَّامِ»: واجاب عنها بقوله:

«مَا دَفَعْتُ الْحَرْبَ يَوْماً إِلَّا وأَنَا أَطْمَعُ أَنْ تَلْحَقَ بِي طَائِفَةٌ فَتَهْتَدِيَ بِي وتَعْشُوَ»: تقصد «إِلَی ضَوْئِي وذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْتُلَهَا عَلَى ضَلَالِهَا وإِنْ كَانَتْ تَبُوءُ»: ترجع «بِآثَامِهَا»: تقرير الكلام على وجه يتلألأ على؛ الأنام أن المطلوب من الأنبياء والأولياء؛ إنما هو اهتداء الخلق بهم من ظلمة الجهل، واستقامة أمورهم في معاشهم ومعادهم، وإذا كان هذا هو المطلوب الذاتي له عليه السلام من طلب هذا الأمر، والقتال عليه وكان تحصيل المطالب كلما كان الطف، وأسهل من القتل والقتال كان أولى لأجرم کان؛ أنظاره بالحرب ومدافعتها يوماً؛ فيماً أنما هو انتظار وطمع أن يلحق به منهم من يحدث العناية الإلهية إلى الحق؛ فيهتدي به في طريق الله ويعشو إلى ضوء علمه، وكماله وكان ذلك احب إليه من قتلهم على ضلالهم، وان كان كل ضال إنما يرجع بإثمه إلى ربه ويكون رهين عمله كما قال: عز من

ص: 87

قائل «كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ»(1)ولا تكسب كل نفس إلا عليها «تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى»(2).

ومن كلام له عليه السّلام لأصحابه يوم صفّين حين أقرّ الناس بالصلح،

وأوّله: إنّ هؤلاء القوم لم يكونوا ليفيئوا إلى الحقّ، ولا ليجيبوا إلى كلمة سواء حتّی یرموا بالمناشر تتبعها العساکر، وحتّی یرجموا بالكتائب تقفوها الجلائب، وحتّى يجرّ ببلادهم الخميس يتلوه الخميس، وحتّی تدعق الخيول في نواحي أراضيهم وبأعناء مشاربهم ومسارحهم، حتّى تشنّ عليهم الغارات من كلّ فجّ عميق، وحتّى يلقاهم قومُ صدقٍ وصبر؛ لا يزيدهم هلاك من هلك من قتلاهم، وموتاهم في سبيل الله؛ إلَّا في طاعة الله وحرصاً على لقاء الله.

«ولَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) ما يزيدنا نَقْتُلُ آبَاءَنَا وأَبْنَاءَنَا وإِخْوَانَنَا وأَعْمَا مَنَا مَا يَزِيدُنَا ذَلِكَ إِلَّا إِيمَاناً وتَسْلِيماً ومُضِيّاً عَلَى اللَّقَمِ»: المنهج وصَبْراً عَلَى مَضَضِ الأَلَمِ»: أي حرقته «وجِدّاً فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ ولَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا والآخَرُ مِنْ عَدُوِّنَا يَتَصَاوَلَانِ»: يتحاملان «تَصَاوُلَ الْفَحْلَیْنِ يَتَخَالَسَانِ»: يتجاذبان: «أَنْفُسَهُمَا أَيُّهُمَا يَسْقِي صَاحِبَهُ كَأْسَ الْمَنُونِ»: تجوز بلفظ الكأس فيما يتجرعه الإنسان من مضض الألم حال القتل «فَمَرَّةً لَنَا مِنْ عَدُوِّنَا ومَرَّةً لِعَدُوِّنَا مِنَّا»: فيه تنبيه على أن أقدامهم على القتال يومئذ لم يكن عن قوة منهم على العدو، بل مع غلب العدو لهم وقهره، ومرة منصوب على الظرف تقديره الأدلة تكون لنا من عدوّنا، ومرّة تكون له منّا: «فَلَمَّا رَأَى اللهُ صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْكَبْتَ»: الصّرف والأذلال

ص: 88


1- سورة المدثر: الآية 38
2- سورة الأعراف: الآية 164

«وأَنْزَلَ عَلَيْنَا النَّصْرَ»: تنبيه على أنّ الجود الإلهيّ لا بخل فيه، ولا منع من جهته، وإنّما هو عامّ الفيض على كلّ قابل استعدّ لرحمته، وأشار برؤية الله صدقهم إلى علمه باستحقاقهم، واستعدادهم بالصبر الَّذي أعدّهم به، وبإنزال النصر عليهم والكبت لعدوّهم إلى إفاضته على كلّ منهم ما استعدّ له «حَتَّى اسْتَقَرَّ الإِسْلَامُ مُلْقِياً جِرَانَهُ ومُتَبَوِّئاً أَوْطَانَهُ»: إشارة إلى حصول غايتهم الَّتي قصدوها بجهاد العدوّ وهي استقرار الإسلام في قلوب عباد الله، واستعار لفظ الجران، ورشحّها بالإلقاء ملاحظة لشبهه بالبعير الَّذي أخذ مكانه، وكذلك استعار لفظ التبوّء ونسبه إلى الأوطان تشبيهاً له بمن كان من الناس خائفاً متزلزلاً لا مستقر له ثمّ اطمأنّ واستقرّ في وطنه.

«ولَعَمْرِي لَوْ كُنَّا نَأْتِي مَا أَتَيْتُمْ مَا قَامَ لِلدِّينِ عَمُودٌ ولَا اخْضَرَّ لِلإِيمَانِ عُودٌ»: رجوع إلى مقصوده الأصليّ، وهو تنبیه أصحابه على تقصيرهم، والمعنى لو قصّرنا يومئذ كتقصيركم الآن، وتخاذلكم لما حصل ما حصل من استقامة الدين، وکنّی بالعمود للدين عن قوّته، ومعظمه کناية بالمستعار، وكذلك باخضرار العود للإيمان عن نضارته في النفوس، ولاحظ في الأولى تشبيه الإسلام بالبيت ذي العمود، وفي الثانية تشبيهه الإيمان بالشجرة ذات الأغصان، «وايْمُ اللهِ لَتَحْتَلِبُنَّهَا دَماً ولَتُتْبِعُنَّهَا

نَدَماً»: استعار لفظ حلب الدم لثمرة تقصيرهم وتخاذلهم عمّا يدعوهم إليه من الجهاد، ولاحظ في تلك الاستعارة تشبيههم لتقصيرهم في أفعالهم بالناقة الَّتي أصيب ضرعها بآفة من تفریط صاحبها فيها، والضمير المؤنّث مبهم یرجع في المعنى إلى أفعالهم، وكذلك في قوله: «ولَتُتْبِعُنَّهَا نَدَماً»: فإنّ ثمرة التفريط الندامة: فإنّ ثمرة التفريط الندامة، ودماً وندماً منصوبان على التميز، وقد اتّفق في هذا الفصل نوعان من السجع فاللقم والألم سجع متوازي، وجرانه وأوطانه مطرّف، وكذلك عمود وعود ودماً وندماً والله سبحانه أعلم.

ص: 89

ومن كلام له عليه السّلام لأصحابه:

وهو إخبار بما سيكون من الابتلاء بسبّه والخطاب لأهل الكوفة، فقوله: أمّا: يحتمل أن يكون المشدّدة، والتقدير أمّا بعد أنّه كذا، ويحتمل أن يكون مخفّفة وهي ما النافية دخلت عليها همزة الاستفهام، والتقدير أما تعلمون أنّه الشأن «سَيَظْهَرُ

عَلَيْكُمْ بَعْدِي رَجُلٌ»: معاوية لأنه كان كثير الأكل روي أنه كان يأكل، فيمل فيقول: أرفعوا فو الله ما شعبت لكن مللت ونعست وكان ذلك بدعاء الرسول صلى عليه - وآله - وسلم روي أنه بعث إليه مرة؛ فوجدت يأكل فبعث إليه ثانية؛ فوجده يأكل فقال «اللهم لا تشبع بطنه»(1)ولبعضهم في وصف آخر:

وصاحب لي بطنه كالهاوية ٭٭٭ كأنّ في أمعائه معاوية

وقيل: هو زياد بن أبي سفيان، وهو زياد بن أبيه؛ وقيل هو الحجاج؛ وقيل المغيرة بن شعبة «رَحْبُ الْبُلْعُومِ»: واسع مجري حلقة «مُنْدَحِقُ الْبَطْنِ»: يقال إندحقت رَحم الناقة أي: اندلعت «يَأْكُلُ مَا يَجِدُ ويَطْلُبُ مَا لَا يَجِدُ»: كناية عن كثرة أكله وجعل ذلك علامة له «فَاقْتُلُوهُ»: لما هو عليه من الفساد في الأرض «ولَنْ تَقْتُلُوهُ»: حکم لدني اطلع عليه «أَلَا وإِنَّهُ سَيَأْمُرُكُمْ بِسَبِّي والْبَرَاءَةِ مِنِّي فَأَمَّا السَّبُّ فَسُبُّونِي فَإِنَّهُ لِي زَكَاةٌ ولَكُمْ نَجَاةٌ»: أمّا نجاتهم بسبّه فظاهرة وأمّا كونه زكاة له فلوجهين: أحدهما: ما روی في الحديث أنّ ذكر المؤمن بسوء هو زكاة له، وذمّه بما ليس فيه زيادة في جاهه وشرفه.

الثاني: أنّ الطباع تحرص على ما تمنع منه وتلحّ فيه؛ فالناس لمّا منعوا من ذكر

ص: 90


1- الاحتجاج الشيخ الطبري: ج 1 ص 408؛ تهذيب الكمال: للمزي: ج 1 ص 338؛ وتذكرة الحفاظ: ج 2 ص 699؛ سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 1 ص 129؛ وتهذيب التهذيب لابن حجر: ج 1 ص 33، والوافي بالوفيات: للصفدي ج 6 ص 257

فضائله والموالاة له، والزموا سبّه و بغضه ازدادوا بذلك محبّة له وإظهاراً لشرفه، ولذلك إنّه عليه السّلام سبّه بنو أميّة ألف شهر على المنابر؛ فما زاد ذكره على ذلك إلَّا علوّاً ولا ازداد الناس في محبّته إلَّا غلوّا(1). والمنقول أنّ الَّذي أمر بقطع سبّه عمر بن عبد العزيز، ووضع مكان سبّه من الخطبة «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ»(2)؛ وفيه يقول الرضّى الموسوي:

يا ابن عبد العزيز لوبكت العين ٭٭٭ فتى من أميّة لبكيتك

أنت نزّهتنا عن الشتم والسبّ ٭٭٭ ولو كنت مجزيا لجزيتك

غير أنّي أقول إنّك قد طبت ٭٭٭ وإن لم يطب ولم يزك بیتك

«وأَمَّا الْبَرَاءَةُ فَلَا تَتَبَرَّؤُوا مِنِّي»: فرق عليه السلام بين البراءة منه بأن رخص في سبه عند الإكراه عليه، ولم يرخص في التبري منه، وفي الفرق بينهما لطف وذلك أن السبب من صفات القول اللساني، وهو أمر ممكن إيقاعه من دون اعتقاده مع احتماله التعريض، ومع ما يشتمل عليه من حقن دماء المأمورين، ونجاتهم بامتثال الأمر به، وأما التبرؤ فيعود إلى المجانبة القلبية، والمعاداة، والبغض وهو المنهي عنه هاهنا؛ فأنه أمر باطن يمكنهم الانتهاء عنه، ولا يلحقهم لسبب تركه، وعدم امتثال الأمر به ضرر كأنه لاحظ، فيها قوله سبحانه «إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ

ص: 91


1- الغلو: تجاوز الحسد؛ يُنظر شرح الرضي على الكافية لرضي الدين الاستربادي: ج 1 ص 48 والمعنى: أن من الناس من زادت محبته للإمام علي بن أبي طالب إلى حد العشق وتمني التضحية والفداء بالنفس والمال والولد، ولأنه ولي الله حقاً ووصى رسوله صلى الله عليه وآله، وليس کما ذهب البعض في تعليل الغلو بأنه تجاوز على مقام الربوبية والألوهية
2- سورة النحل: الآية 90

وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ»(1)«فَإِنيِّ وُلِدْتُ عَلَى الْفِطْرَةِ وسَبَقْتُ إِلَی الإِيمَانِ والْهِجْرَةِ»: تعليل بحسن الانتهاء عن البراءة منه ووجوبه، وأراد بالفطرة فطرة الله الّتي فطر الناس عليها وهي: بعثهم إلى عالم الأجسام مأخوذاً عليهم ميثاق العبوديّة، والاستقامة على سنن العدل في سلوك صراطه المستقيم، وأراد بسبقه إلى الإسلام والهجرة سبقه إلى طاعة رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلَّم؛ فيما جاء به من الدين وصحبته له ومهاجرته معه مستقيماً في كلّ ذلك على؛ فطرة الله لم يدنّس نفسه بشيء من الملكات الرديئة مدّة وقته، أمّا زمان صغره فللخبر المشهور: كلّ مولود يولد على الفطرة، وأمّا بعده؛ فلأنّ الرسول صلى الله عليه [وآله] وسلَّم؛ كان هو المتولَّي لتربيته وتزكية نفسه بالعلوم والإخلاص من أوّل وقته إلى أن توفّي صلى الله عليه [وآله] وسلَّم، كما أشرنا إليه قبل، وكما سيذكر هو بعد کیفیّته، وكان قبوله واستعداده لأنوار الله أمرا فطرت عليه نفسه، وجبلَّت عليه طبیعته حتّى لم يلحقه في ذلك أحد من الصحابة، وظاهر أنّ من كان بهذه الصفة من خلفاء الله، وأولياءه كان التبرّء منه تبرّء من الله ورسوله، فوجب الانتهاء عنه وبالله التوفيق.

«وَمِنْ كَلامٍ لَهُ عَلَيهِ السِّلاَمْ كَلَّمَ بهِ الخَوَارِجْ»

المروىّ في السبب أنّه لمّا كتب عهد التراضي بين الحكمين بين علىّ، ومعاوية اعتزلت الخوارج وتنادوا من كلّ ناحية لا حكم إلَّا للهَّ، الحكم للهَّ يا على لا لك، إنّ الله قد أمضى حكمه في معاوية وأصحابه أن يدخلوا تحت حكمنا، وقد كنّا زللنا وأخطأنا حين رضينا بالتحكيم وقد بان زللنا، وخطأنا ورجعنا إلى الله وتبنا؛ فارجع أنت کما رجعنا وتب إليه کما تبنا، وقال بعضهم: إنّك أخطأت؛ فاشهد

ص: 92


1- سورة النحل: الآية 106

على نفسك بالكفر ثمّ تب منه حتّى نطيعك، فأجابهم بهذا الكلام.

«أَصَابَكُمْ حَاصِبٌ»: والحاصب: ريح شديدة تُرمي بالحصباء «ولَا بَقِيَ مِنْكُمْ آبِرٌ»: مسند فدعا عليهم أوّلاً بريح تحصبهم، ثمّ بالفناء غضباً من مقالتهم، ثمّ أخذ في تقريعهم وإنكار مقالتهم وطلبهم شهادته على نفسه بالكفر في صورة سؤال وهو قوله: «أَبَعْدَ إِيمَانِي بِاللهِ وجِهَادِي مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَشْهَدُ عَلَى نَفْسِيِ بِالْكُفْرِ لَا لْكُفْرِ «قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ»(1)ثمّ أردف ذلك بأمرين: أحدهما: جذبهم بالغضب والقهر وأمرهم بالرجوع إلى الحقّ على أعقابهم: أي من حيث خرجوا من الحقّ وفارقوه قال: «فَأُوبُوا شَرَّ مَآبٍ وارْجِعُوا عَلَى أَثَرِ الأَعْقَابِ»: الثاني: أخبارهم بما سيلقون بعده من الذلّ الشامل والسيف القاطع بقوله: «أَمَا إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي ذُلاًّ شَامِلًا وسَيْفاً قَاطِعاً»: وهو كناية عمّن تقتلهم بعده كالمهلَّبّ بن أبي صفرة ونحوه «وأَثَرَةً يَتَّخِذُهَا الظَّالِمُونَ فِيكُمْ سُنَّةً»: إشارة إلى ما يستأثر به الملوك والعمّال عليهم من الفيء، والغنائم وإهانتهم، وقد كانت دعوته عليه السّلام استجيبت فيهم؛ فإنّهم لم يزالوا بعده في ذلّ شامل وقتل ذريع حتّى أفناهم الله تعالى، وأحوالهم في كيفيّة قِتَالهم وقَتْلِهم من قَتَلَهُمْ مستوفي في كتاب الخوارج وبالله التوفيق.

قال السيد رضي الله عنه: قوله عليه السّلام «ولا بقي منکم آبر» يروى على ثلاثة أوجه أحدها أن يكون كما ذكرناه بالراء من قولهم: رجل أبر الذي يأبر النخيل أي يصلحه، ويروي أثر يراد به الذي يأثر الحديث أي يحكيه ويرويه وهو أصح الوجوه عندي، كأنه عليه السلام قال: فلا يبقى منكم مخبرٌ، ويروي اثرٌ

ص: 93


1- سورة الأنعام: 56

بالراء المعجمة وهو الواثب: والهالك أيضاً يقال له أبر، وقال عليه السلام لما عزم على حرب الخوارج، وقيل أن القوم قد عبروا جسر النهروان «مَصَارِعُهُمْ دُونَ

النُّطْفَةِ»(1)واللهِ لاَ يُفْلِتُ: لا ينجوا مِنْهُمْ عَشَرَةٌ ولاَ يْهَلِكُ مِنْكُمْ عَشَرَةٌ: خلاصة هذا الخبر أنّه عليه السّلام لمّا خرج إلى أصحاب النهر جائه رجل من أصحابه فقال: البشرى يا أمير المؤمنين إنّ القوم عبروا النهر لمّا بلغهم وصولك فأبشر فقد منحك الله أكتافهم.

فقال: الله أنت رأيتهم قد عبروا؟! فقال: نعم فقال عليه السّلام: والله ما عبروه ولن يعبروه وإنّ مصارعهم دون النطفة، والَّذي فلق الحبّة وبرء النسمة لم يبلغوا إلَّا ثلاث، ولا قصر توران حتّى يقتلهم الله، وقد خاب من افترى. قال: ثمّ جاءه جماعة من أصحابه واحدا بعد آخر كلَّهم يخبره بما أخبره الأوّل فركب عليه السّلام وسار حتّى انتهى إلى النهروان؛ فوجد القوم بأسرهم قد كسروا جفون سيوفهم وعرقبوا خيولهم وجثوا على الركب، وروي أن شاباً من أصحابه قال: في نفسه حين حكم عليه السّلام بما حكم من أمرهم وسار إلى النهر لبيان صدق حكمه: والله لأكوننّ قريباً منه فإن كانوا عبروا النهر لأجعلنّ سنان رمحي في عينه أيّدعي علم الغيب؛ فلمّا وجدهم لم يعبروا نزل عن فرسه، وأخبره بما روّي في نفسه، وطلب منه أن يغفر له فقال عليه السّلام: إنّ الله هو الَّذي يغفر الذنوب جميعا فاستغفره، وأمّا حكمه بعدم إفلات عشرة منهم، وبعدم قتل عشرة منهم من أصحابه، فروى أنّه قال لأبي أيّوب الأنصاري، لما بدأت الخوارج بالقتال احملوا عليهم فو الله إلخ .. فلمّا قتلهم وجد المفلت منهم تسعة، والمقتول من أصحابه

ص: 94


1- قال الشريف: یعنی بالنطفة ماء النهر، وهو أفصح، کناية وإن كان كثيراً جماً

ثمانية، وهذان الحكمان من كراماته عليه السّلام.

قال السيد رضي الله عنه یعنی بالنطفة ماء النهر، وهي أفصح كناية عن الماء وأن كان كثيراً جماً، وقد أشرنا إلى ذلك فيما تقدم عند مضي ما أشبه وقال عليه السلام لما عزم على حرب الخوارج فقيل له يا أمير المؤمنين هلك القوم بأجمعهم كلا: رد لمقالة من حکم بهلاكهم جميعاً والله أنهم نطف في أصلاب الرجال وقرارات النساء: أرحامها أشار إلى أنه لا بد من وجود قوم منهم يقولون بمثل مقالتهم وأنهم الآن موجودون في الأصلاب والأرحام بالقوّة، فمنهم نطف برزت إلى الأرحام، وکنّی بالقرارات عنها، ثمّ ألحقهم أحكاماً أخر تقريراً لبقائهم فقال: «كُلَّمَا نَجَمَ»: طلع «مِنْهُمْ قَرْنٌ قُطِعَ»: وعبّر عمّن يظهر منهم بالقَرن کناية باستعارة بقوله: نجم وقطع لكونهما حقیقتين في النبات «حَتَّى يَكُونَ آخِرُهُمْ لُصُوصاً سَلَّابِينَ»: قطَّاعا للطريق، لتراذلهم وأمّا الَّذين ظهروا بعده من رؤسائهم، فجماعة كثيرة وذلك أنّ التسعة الَّذين سلموا يوم النهر تفرّقوا في البلاد؛ فانهزم اثنان منهم إلى عُمّان، واثنان

ص: 95

إلى كرمان(1)، واثنان إلى سجستان(2)، واثنان إلى الجزيرة وواحد إلى تلّ مورون(3)، وقد كان منهم جماعة لم يظفر علیه السّلام بهم؛ فظهرت بدعتهم في أطراف البلاد بعده فكانوا نحوا من عشرين فرقة وكبارها ستّ: إحداها: «الأزارقة أصحاب نافع بن الأزرق»، وكانت أكبر الفرق، خرجوا من البصرة إلى الأهواز، وغلبوا عليها وعلى كورها وما ورائها من بلدان فارس، وکرمان في أيّام عبد الله بن الزبير، وكان مع نافع من أمراء الخوارج عشرة: عطيّة بن الأسود الحنفيّ، وعبد الله بن ما جوك وأخواه: عثمان بن الزبير، وعمر بن عمير العميري، وقطري بن فجأة المازنيّ، وعبدة بن الهلال الشيباني، وصخر التميميّ، وصالح العبديّ، وعبد ربّه الكبير، وعبد ربّه الصغير في ثلاثين، ونیّف ألف فارس منهم فانفذ إليهم المهلَّب بن أبي صفرة، حربهم هو وأولاده تسع عشرة سنة إلى أن فرغ من أمرهم في أيّام الحجّاج، ومات نافع قبل وقائع المهلَّب وبایعوا قطريّا وسمّوه أمير المؤمنين.

ص: 96


1- کرمان من بلاد إيران سابقاً وما زالت
2- سجستان، روى عنه محمد بن أحمد بن أبي الحجاج الدهستاني الهروي أبو عبد الله، والأنبار أيضاً مدينة على الفرات في غربي بغداد بينهما عشرة فراسخ، وكانت الفرس تسميها فيروز سابور، طولها تسع وستون درجة ونصف وعرضها اثنتان وثلاثون درجة وثلثان، وكان أول من عمرها سابور بن هرمز ذو الأكتاف، ثم جددها أبو العباس السفاح أول خلفاء بني العباس وبنى بها قصوراً وأقام بها إلى أن مات، وقيل: إنما سميت الأنبار لأن بخت نصر لما حارب العرب الذين لا خلاق لهم حبس الإسراء فيها، وقال أبو القاسم: الأنبار حد بابل سميت به لأنه كان يجمع بها أنابير الحنطة والشعير وألقت والتين، وكانت الأكاسرة ترزق أصحابها منها، وكان يقال لها الأهراء، فلما دخلتها العرب عربتها فقالت الأنبار، وقال الأزهري: الأنبار أهراء الطعام، واحدها نبر ويجمع على أنابير جمع الجمع، وسمي الهري نبرا لان الطعام إذا صب في موضعه انتبر أي ارتفع، ومنه سمي المنبر لارتفاعه، وقال ابن السكيت: النبر دويبة أصغر من القراد يلسع فيحبط موضع لسعها أي يرم، والجمع أنبار، وقال الراجز يذكر إبلا سمنت وحملت الشحوم: كأنها من بدن وأبقار، دبت عليها ذربات الأنبار: هكذا رواه الحموي في معجم البلدان: ج 1 ص 257
3- تل مورون مدينة باليمن: ذكره الشهرستاني في الملل والنحل: ج 1 ص 117

الثانية: النجدات رئیسهم نجدة بن عامر الحنفيّ، وكان معه أميران يقال لأحدهما عطيّة، والآخر أبو فديك، ففارقاه بشبهة ثمّ قتله أبو فديك وصار لكلّ واحد منهما جمع عظیم، وقتلاً في زمن عبد الملك بن مروان.

الثالثة: البيهسية أصحاب أبي بيهس الهيصم بن جابر، وكان بالحجاز وقتله عثمان بن حيّان المزنيّ بالمدينة بعد أن قطع يديه ورجليه، وذلك في زمن الوليد بإشارة منه.

الرابعة: العجاردة أصحاب عبد الكريم بن عجرد، وتحت هذه الفرقة فرق كثيرة لكلّ منهم رئيس منهم مشهور.

الخامسة: الإباضية أصحاب عبد الله بن أباض في أيّام مروان بن محمّد فوجّه إليه عبد الله بن محمّد بن عطيّة فقاتله فقتله.

السادسة: الثعالبة أصحاب ثعلبة بن عامر، وتحت هذه الفرقة أيضاً فرق كثيرة، ولكلّ منها رئیس مشهور، وتفصيل رؤسائهم وفرقهم وأحوالهم ومن قتلهم مذكور في كتب التواريخ.

وأمّا كون آخرهم لصوصاً سلَّابين فإشارة إلى ما كانوا يفعلونه في أطرف البلاد بإصبهان والأهواز وسواد العراق يعيشون فيها بنهب أموال الخراج وقتل من لم بدن بدينهم جهراً وغيلة وذلك بعد ضعفهم وتفرّقهم بوقائع المهلَّب وغيرها کما هو مذكورة في مظانّه.

وقال عليه السّلام:

«لَا تُقَاتِلُوا الْخَوَارِجَ بَعْدِي» وعلله بقوله: «فَلَيْسَ مَنْ طَلَبَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ كَمَنْ طَلَبَ الْبَاطِلَ فَأَدْرَكَهُ»: يعني أن الخوارج لم يطلبوا الباطل مع العلم بكونه باطلاً،

ص: 97

بل طلبوا الحقّ بالذات فوقعوا في الباطل بالعرض، ومن لم يكن غرضه إلَّا الحقّ لم يجز قتله بخلاف من يطلب لذاته؛ فيظهره في صورة الحق حتی یدرکه؛ فأنه المستحق وأومأ بمن إلى معاوية وأصحابه، وأعلم أن هذا نص منه عليه السلام بأنهم كانوا طالبين الحق، وبيانه أن معظم رؤسائهم كانوا على غاية من المحافظة على العبادات کما نقل عن رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم حيث، وصفهم فقال «حتى أن صلاة أحدكم لتحتقر في جنب صلاتهم»(1)، وكانوا مشهورين بالصلاح والمواظبة على حفظ القرآن ودرسه إلَّا أنّهم في التجرّي وشدّة الطلب للحقّ حتّى عبروا عن فضيلة العدل فيه إلى رذيلة الإفراط فوقعوا في الفسق ومرقوا من الدين.

وكأني بك تقول كيف نهي عن قتلهم بعده مع أنه قتلهم فأقول: إنّما نهی عن قتلهم بعده على تقدير أن يلزم كلّ منهم نفسه ويشتغل بها ولا يعيث في الأرض فساداً وهو إنّما قتلهم حيث أفسدوا في زمانه وقتلوا جماعة من الصالحين كعبد الله بن خبّاب، وشقّوا بطن امرأته وكانت حاملاً، ودعوا الناس إلى بدعتهم ومع ذلك كان يقول لأصحابه حين سار إليهم: لا تبدؤهم بالقتال حتّى يبدؤکم به ولم يشرع في قتلهم حتّى بدؤه بقتل جماعة من أصحابه.

مع أنّه يحتمل أن يقال: إنّما قتله لأنّه إمام عادل رأي الحقّ في ذلك، وإنّما نهی عن قتلهم بعده لأنّه علم أنّه لا يلي هذا الأمر بعده من له بحكم الشريعة أن يقتل ويتولَّى أمر الحدود، والله سبحانه أعلم.

ص: 98


1- الملل والنحل للشهرستاني: ج 1 ص 115؛ شرح النهج لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 2 ص 266، ومثله مع بعض الزيادة، شرح المواقف للقاضي الجرجاني في ج 8: ص 392؛ وابن میثم البحراني في اختيار مصباح السالكين ص 144

ومن كَلام له عَليه السّلام لماَّ خوّف مِن الغيلة:

القتل على غفلة وقد كان عليه السلام خوف من غيلة بن ملجم لعنه الله مراراً، روى: أنّ الأشعث لقيه متقلَّداً سيفه فقال له: ما يقلَّدك السيف وليس بأوان حرب فقال: أردت أنحر به جزور القرية، فأتاه الأشعث عليّاً فأخبره وقال: قد عرفت ابن ملجم، وفتکه فقال عليه السّلام: «ما قتلني بعد»، وروى: أنّه عليه السّلام كان يخطب مرّة ويذكر أصحابه وابن ملجم تلقاء المنبر، فسمع وهو يقول: والله لأريحنهم منك، فلمّا انصرف أتوا به ملبّساً، فأشرف عليهم وقال: ما تريدون؛ فأخبروه بما سمعوا منه، فقال: فما قتلني بعد خلَّوا عنه.

وإِنَّ عَلَيَّ مِنَ اللهِ جُنَّةً حَصِينَةً»: استعارها للأجل كما قال في موضع آخر: ((والأجل جنة حصينة)) ويحتمل أن يكون قد کنی بالجنة عن عناية الله بحفظ أسباب حياته في المدّة الممكنة له في القضاء الإلهيّ كناية بالمستعار ووجه الاستعارة على التقديرين أنّ مع بقاء أسباب الحياة محفوظة لا يؤثّر في الإنسان شيء من سهام المنيّة أبداً كما أنّ لابس الجُنّة محفوظ بها من آثار السهام ونحوها، ووصفها بالحصينة ترشيحاً للاستعارة، وكنّى بها أيضاً عن قوّة ذلك الحفظ.

«فَإِذَا جَاءَ يَوْمِي»: وكنّی به عن وقت ضرورة موته «انْفَرَجَتْ عَنِّي»: كناية عن بعض أسباب الحياة المستلزم لعدم الحياة ولحوق سهام الأمراض وهو ترشيح للاستعارة أيضاً «وأَسْلَمَتْنِ»: نسب إليها إسلامها له ملاحظة لتشبيهها بمن يحفظه ثمّ يسلَّمه للقتل «فَحِينَئِذٍ»: أي حين مجيء اليوم «لَايَطِيشُ»: لا يعدل «السَّهْمُ ولَا

يَبْرَأُ الْكَلْمُ»: استعار السهم للأمراض التي هي أساب الموت، وكني بعدم طیشه عن إنكائه وحصول الموت عنه، الكلام للأثر الحاصل عن تلك الأسباب، ووجه

ص: 99

الشبه في الأولى كونهما سببين للهلاك، وفي الثانية ما يستلزمانه من التألَّم، ورشّح الأولى بذكر الطيش والثانية بذكر البرء.

ومن الشعر المنسوب إليه في ذلك:

أيّ يوميّ من الموت أفرّ ٭٭٭ يوم لم يقدر أم يوم قدر

يوم لم يقدر فلا أرهبه ٭٭٭ يوم قد قدّر لا يغني الحذر

وهو في ذلك ملاحظ لقوله تعالى «وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا»(1)«فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ»(2).

ومن خطبة له صلوات عليه محذرة عن الدنيا منبهة على وجوب لزوم أوامر الله فيها

«أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا دَارٌ لَا يُسْلَمُ مِنْهَا إِلَّا فِيهَا»: تحقيق ذلك أنّه لا دار إلَّا الدنيا والآخرة، وقد علمت أنّ أسباب السلامة هي الزهد والعبادة وسائر أجزاء الرياضة وشيء منها لا يمكن في الآخرة بل كلَّها أعمال متعلَّقة بالبدن فإذن لا يتحقّق ما يلزمها من السلامة من الدنيا إلَّا في الدنيا «ولَا يُنْجَى بِشَيْءٍ كَانَ لَهَا»: إيماء إلى ذمّ الرياء في الأقوال والأفعال وتحذير من كلّ عمل وقول قصد به الدنيا فإنّ شيئا من ذلك لا حظَّ له في استلزام النجاة في الآخرة بل ربّما كان سبباً للهلاك فيها لما أنّ الاشتغال بمهمّات الدنيا منشئ للآخرة «ابْتُلِيَ النَّاسُ بِهَا فِتْنَةً»: منصوب بالمفعول له، ويحتمل أن يكون مصدراً سدّ مسدّ الحال؛ ونحوه قوله تعالى «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً

ص: 100


1- سورة آل عمران: الآية 145
2- سورة الأعراف: الآية 34

وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ»(1)ولنبحث عن معنى الابتلاء بالدنيا وكونها فتنة.

واعلم أنّه ليس المراد أنّ الله تعالى لا يعلم ما يؤول إليه أحوال العباد وما يكون منهم بعد خلقهم وابتلائهم بالدنيا فإنّه تعالى هو العالم بما كان وما یکون قبل كونه كما قال سبحانه «وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ»(2)«مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ»(3)بل الكشف عن حقيقة الابتلاء أنّه لمّا كان الإنسان إنّما يكون إنساناً بما خلق فيه من القوى الشهویّة والغضبيّة وما يتبعهما، وكان لهذه القوى ميول طبيعيّة إلى حاضر اللذّات الدنيويّة فهي مشتهياتها ولا ابتهاج لها إلَّا بها، ولا حظَّ لها من غيرها، وكانت النفوس الإنسانيّة مخالطة لهذه القوى وهي آلاتها، ولا وجه لها في تصرّفاتها غالب الأحوال إلَّا هي، وكانت تلك القوى في أكثر الخلق جاذبة لنفوسها إلى مشتهياتها الطبيعيّة بالطبع، وكانت تلك القوى في أكثر الخلق جاذبة لنفوسها إلى مشتهياتها الطبيعية بالطبع، وكانت تلك النفوس في أكثر الناس منقادة لهواها معرضة عن الآخرة بحاضر ما، وجدته من لذات الدنيا عن تصور ما وراها؛ ثم مع ذلك كان المطلوب منها ما يضاد ذلك، وهو ترك حاضر الدنيا ومنازعة هذه القوى في مشتهياتها، وجذبها عن التوجه بكليّتها إليها لمتابعة النفس في التفاتها عن ذلك إلى أمر لا يتصوّر في الدنيا إلَّا بالأوصاف الخياليّة كما هو، وظيفة الأنبياء عليهم السّلام مع الخلق کانت؛ إرادته تعالى لذلك الالتفات مع ما هم فيه من منازعة الهوى؛ فإن أطاعوه هلکوا وإن عصوه نجوا، صورة امتحان؛ فأشبه ذلك ما يعتمده أحدنا عند عبده إذا أراد

ص: 101


1- سورة الأنبياء: الآية 35
2- سورة النمل: الآية 75
3- سورة الحديد: الآية 22

مثلاً اختبار صبره ومحنته له فوهب له جميع ما يشتهيه ثمّ كلَّفه مع ذلك بتكاليف شاقّة لا يتمكَّن من فعلها إلَّا بالتفاته عن مشتهاه، وتنغيصه عليه، فلا جرم(1)صدقت صورة الابتلاء، والاختبار من الله في الوجود، وكذلك ظهر معنی کونها فتنة، فإنّ الفتنة الامتحان، وإنّ قدّرناها حالاً فهي بمعنى الضلال، ويعود إلى جذبها للنفوس إلى حاضر لذّاتها عن سنن الحقّ.

«فَمَا أَخَذُوهُ مِنْهَا لَها أُخْرِجُوا مِنْهُ وحُوسِبُوا عَلَيْهِ»: تنبيه على وجوب قصد الآخرة بما يؤخذ من الدنيا، ويتصرّف فيه، واعلم أن الحساب على رأي الملَّيّين ظاهر، قالوا: إنّ الله سبحانه قادر على حساب الخلق دفعة واحدة، ولا يشغله کلام عن كلام كما قال عز من قال: «وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ»(2)أمّا الحكماء فقالوا: إنّ للحساب معنی، وتقريره بتقديم مقدّمات:

الأولى: أنّ كثرة الأفعال يوجب حدوث الملكات في النفوس، والاستقراء التامّ يكشف عن ذلك، ومن كانت مواظبته على عمل من الأعمال أكثر کان رسوخ تلك الملكة الصادرة عن ذلك الفعل في نفسه أقوى.

الثانية: أنّه لمّا كان تكرّر العمل يوجب حصول الملكة، وجب أن يكون لكلّ عمل يفعله الإنسان أثر في حصولها، بل يجب أن يكون لكلّ جزء من أجزاء العمل الواحد أثر في حصوله بوجه ما، وضربوا بذلك مثالاً فقالوا: لو فرضنا سفينة عظيمة بحيث لو أُلقي فيها مائة ألف مَنّ(3)فإنهّا تغوص في الماء قدر

ص: 102


1- لا جرم: تقدم معناه في ص 81 من هذا الجزء
2- سورة الرعد: الآية 41
3- والمَنّ: هو وحدة وزن من الأوزان المستخدمة سابقاً كما يقال: أوقية: وهي: مائتا غرام؛ وحقّة وهي: أربعة كيلو غرام، ووزنة وهي: مئة كيلو غرام، ومَنّ وهو 25 کیلو غرام وهكذا

شبر واحد ولو لم يكن فيها إلا حبّة واحدة من الحنطة، فذلك القدر من الجسم الخفيف فيها يوجب غوصها في الماء بمقدار ماله من الثقل، وإن بلغ في القلَّة إلى حيث لا يدركه الحِسّ.

إذا عرفت ذلك فنقول: ما من فعل من الخير والشر قليل، ولا كثير إلَّا ويفيد حصول أثر في النفس إمّا سعادة؛ أو شقاوة وعندها ينكشف سرّ قوله عز وعلا «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ومَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ»(1)وكذلك لمّا ثبت أنّ الأفعال إنّما تصدر بواسطة الجوارح من اليد والرِجّل، وغيرهما لا جرم کانت شاهدة على الإنسان يوم القيامة بلسان حالها على معنى أنّ تلك الآثار النفسانيّة؛ إنّما حصلت في جواهر النفوس بواسطة الأفعال الصادرة عنها؛ فكان صدور تلك الأفعال من تلك الجوارح جارياً مجرى الشهادة على النفس بما اکتسبه بها.

إذا عرفت ذلك فنقول: لمّا كانت حقيقة المحاسبة تعود إلى تعريف الإنسان ماله، وما عليه من مال ونحوه، وكان ما يحصل من النفوس من الملكات الخيريّة والشرّيّة، أموراً مضبوطة في جوهرها محصاة عليها، وإنّما تنكشف لها كثرة تلك الهيئات وتمكَّنها من ذواتها، وتضرّرها بها في الآن الَّذي تنقطع فيه علاقة النفس مع البدن، أشبه ذلك ما يتبيّن للإنسان عند المحاسبة ممّا أحصي عليه وله، واطلق عليه لفظ الحساب، وذلك اليقين والاطَّلاع هو المشار إليه في قوله: «ومَا أَخَذُوهُ مِنْهَا لِغَيْرِهَا قَدِمُوا عَلَيْهِ وأَقَامُوا فِيهِ»: وليس المقصود أنّ ما يقدم عليه في الآخرة هو عين ما أخذ من الدنيا، بل ثمرته في النفوس من خير أو شرّ؛ فالَّذي يتناوله الجاهلون منها لمجرّد التنعم بها؛ فهو الَّذي يتمکَّن عنه هيئات السوء في جواهر نفوسهم فيقدمون عليها ويقيمون بها في عذاب جهنّم خالدون «لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ

ص: 103


1- سورة الزلزلة: الآيات: 7 - 8

وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ»(1).

«وإِنَّهَا عِنْدَ ذَوِي الْعُقُولِ كَفَيْءِ الظِّلِّ»: فنبه بهذا الوصف على سرعة زوالها، وإنّما خصّص ذوي العقول بذلك لأمرين: أحدهما:

أنّ المتيقن لزوالها عامل بمجرّد عقله دون هواه فلذلك نسب إلى العقل.

الثاني: أنّ حال ذوي العقول مرغوب فيه لمن سمعه، ولمّا كان مقصوده تحذير السامعين من سرعة زوالها ليعملوا؛ فيها لما بعدها نسب ذلك إلى ذوي العقول ليقتفي السامعون أثرهم، ثمّ أشار إلى وجه شبهها للظلّ بقوله: «بَيْنَا تَرَاهُ سَابِغاً:

تاماً حَتَّى قَلَصَ: ارتفع وزَائِداً حَتَّى نَقَص»: أي أنّها يسرع زوالها كما يسرع زواله، وهو من التشبيهات السائرة، ومثله قول الشاعر:

ألا إنّما الدنيا كظلّ غمامة ٭٭٭ أظَّلت يسيرا ثمّ حفّت فولَّت

ومن خطبة له عليه السّلام

«واتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ وبَادِرُوا»: سارعوا «آجَالَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ»: فيه تنبيه على وجوب لزوم الأعمال الصالحة، وحثّ عليها بالأمر بمسابقة الآجال بها وعلى توقّع سرعة الأجل وإخطاره بالبال، وهو من الجواذب القويّة إلى الله تعالى، ونسب المسابقة إلى الآجال ملاحظة لشبهها بالمراهن إذ كان لحوقها حائلاً بينهم، وبين الأعمال الصالحة الشبيهة بما يسبق عليه من رهن «وابْتَاعُوا مَا يَبْقَى لَكُمْ

بِمَا يَزُولُ عَنْكُمْ»: إشارة إلى لزوم الزهد من الدنيا، والتخلَّي عن متاعها الفاني، وأن يشتری به ما يبقى من متاع الآخرة، وقد عرفت غير مرّة إطلاق البيع

ص: 104


1- سورة الزخرف: الآية 75

هنا، وقيّد المشتري بما يبقى، والثمن بما يزول ليكون المشتري أحبّ إلى النفوس لبقائه «وتَرَحَّلُوا فَقَدْ جُدَّ بِكُمْ»: أي في السير إلى آجالكم بقوّة ذلك الجدّ يعود إلى سرعة توارد الأسباب الَّتي تعدّ المزاج للفساد، وتقرّبه إلى الآخرة ملاحظة لشبهها بسابق الإبل ونحوها «واسْتَعِدُّوا لِلْمَوْتِ فَقَدْ أَظَلَّكُمْ»: تشبيهه بالسحاب والطير؛ فاستعير له وصف الإظلال، وهو باستكمال النفوس، کمالها الذي يبقى للموت عندها؛ كثير وقع بل يكون محبوباً لكونه وسيلة إلى المحبوب «وكُونُوا قَوْماً صِيحَ

بِهِمْ فَانْتَبَهُوا»: تنبيه لهم على الالتفات إلى منادى الله، وهو لسان الشريعة والانتباه بندائه من مراقد الطبيعة «وعَلِمُوا أَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ لَهُمْ بِدَارٍ فَاسْتَبْدَلُوا الآخرة بها»: فيه تنبيه لهم على أنّ الدنيا ليست بدار لهم ليلتفتوا عن الركون إليها ويتوقّعوا الإخراج منها ونبّه بقوله: «فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثاً»: في موضع مصدر على وجوب العمل بذلك البدل؛ فأنهم لم يخلقوا إلا لأمر وراء ما هم فيه «ولَمْ

يَتْرُكْكُمْ سُدًى»: متمهلن «ومَا بَیْنَ أَحَدِكُمْ وبَیْنَ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ إِلَّا الْمَوْتُ أَنْ يَنْزِلَ بهِ»: بأحدكم بدلاً من الموت، وهو تعين لما خلقوا له وعودوا بالوصول إليه وأنه لا حائل بينهم وبينه إلَّا الموت.

قال بعض الفضلاء: هذا الكلام ممّا يصلح متمسّكاً للحكماء في تفسيرهم للجنّة والنار؛ فإنّهم لمّا قالوا: إنّ الجنّة تعود إلى المعارف الإلهيّة ولوازمها، والنار تعود إلى حبّ الدنيا والميل إلى مشتهياتها، وتَمَکَّنْ الهيئات الرديئة في جوهر النفس وعشقها بعد المفارقة لما لا يتمكَّن من العود إليه، كمن نقل عن مجاورة معشوقه والالتذاذ به إلى موضع ظلمانيّ شديد الظلمة مع عدم تمكَّنه من العود إليه كما قال تعالى «قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ» «لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ

ص: 105

قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ»(1)الآية، وكان إدراك لذّة المفارقة التامّة، وإدراك ألم النار بالمعنى المذكور أمراً يتحقّق حال مفارقة البدن، إذ كان الإنسان في عالم الشهادة في إدراكه لما حصل في نفسه؛ وتمكَّن من الهيئات كعضو مفلوج غطَّى خدره على ألمه؛ فإذا أزال الخدر أحسّ بالألم فكذلك النفس بعد الموت تدرك مالها من لذّة أو ألم كما هو لزوال الشواغل البدنيّة عنها، أقول وهذا الكلام أيضاً ظاهر على مذهب المتكلَّمين إذ جاء في الخبر أنّ العبد يكشف له عند الموت عمّا يستحقّه من جنّة أو نار ثمّ يؤجّل ذلك إلى قيام القيامة الكبرى «وإِنَّ غَايَةً تَنْقُصُهَا اللَّحْظَةُ

وتَهْدِمُهَا السَّاعَةُ لَجَدِيرَةٌ بِقِصَرِ الْمُدَّةِ»: کنّی بالغاية عن الأجل المعلوم للإنسان ثمّ نبّه على قصره وحقارته بأمرين: أحدهما: کونه تنقصه اللحظة: أي النظرة وهو ظاهر؛ فإنّ كلّ جزء من الزمان فرضيّة، قد مضى من مدّة عمر الإنسان منقص لها.

الثاني: كونه تهدمها الساعة، وكنّي بالساعة عن وقت الموت، ولا شكّ أنّ الآن الَّذي تنقطع فيه علاقة النفس مع البدن غاية لأجل الإنسان، وغاية الشيء هي: ما ينقطع عندها، فکنّی بالهدم عن ذلك الانقطاع والانتهاء، وظاهر أنّ مدّة هذا شأنها في غاية القصر «وإِنَّ غَائِباً يَحْدُوهُ»: الليل والنهار «الْجَدِيدَانِ اللَّيْلُ والنَّهَارُ لَحَرِيٌّ بِسُرْعَةِ الأَوْبَةِ»: أشار بالغائب إلى الإنسان إذ كانت الدنيا عالم غربته، ومحل سفره ومنزله الحقيقي؛ إنما هو منشاؤه وما إليه مرجعه، وإنما سماهما جدیدین لتعاقبهما؛ فليس احدهما مختلفاً عن الآخر، واستعاره الحدو لما يستلزمه لأعداد الإنسان لقرب أجله المشبه بصوت الحادي؛ الذي يُعد الإبل لسرعة سيرها، وقربها من المنزل المقصود لها، وظاهر إن من كان الليل والنهار حادیه؛ فهو في غاية سرعة الرجوع إلى مبدأيه ووطنه الأصلي؛ قيل أراد بالغائب الموت، أقول وأن

ص: 106


1- سورة المؤمنون: الآية 99 - 100

كان محتملاً إلا أنه لا يطابقه إلا وبه لأنه لم يكن حتی یرجع «وإِنَّ قَادِماً يَقْدُمُ بِالْفَوْزِ أَوِ الشِّقْوَةِ لمُسْتَحِقٌّ لأَفْضَلِ الْعُدَّةِ»: أشار به إلى الإنسان حال قدومه على ربّه بعد المفارقة فإنّه إمّا الفوز بالسعادة الباقية، أو الحصول على الخيبة والشقوة، ونبّه بذكر القدوم على أنّ من هذا شأنه؛ فالواجب عليه أن يستعدّ بأفضل عدّة؛ ليصل بها إلى أحبهما لديه، ويتباعد بها عن أكرههما عنده «فَتَزَوَّدُوا فِي الدُّنْيَا مِنَ الدُّنْيَا مَا تَحْرُزُونَ بِهِ نفوسُكُمْ غداً»: فصّل نوع تفصيل لأفضل الزاد التقوى والخشية، العدّة وهو الزاد الَّذي يحرز الإنسان به نفسه يوم القيامة من التعب في نار جهنّم وغليل حرّها، وأشار بذلك الزاد إلى تقوى الله، وخشيته وقد علمت حقيقة الحشية والخوف وأنّه إنّما يحصل في الدنيا، وأمّا كونه من الدنيا؛ فلأنّ الآثار الحاصلة للنفس من الحالات والملكات كالخشية، والخوف وسایر ما يتزودّه ويستصحبه بعد المفارقة أمور إنّما حصلت عن هذا البدن، واستفيدت من الدنيا بواسطته، والمشابهة الَّتي لأجلها استعار لفظ الزاد هنا هو ما يشترك فيه الزاد المحسوس والتقوى من سلامة المتزوّد بهما في كلّ طریقه؛ فذاك في المنازل المحسوسة من عذاب الجوع، والعطش المحسوسين، وهذا في المنازل المعقولة، ومراتب السلوك ومراحل السفر إلى الله تعالى من عذاب الجوع المعقول. «فَاتَّقَى عَبْدٌ رَبَّهُ نَصَحَ نَفْسَهُ وقَدَّمَ تَوْبَتَهُ وغَلَبَ شَهْوَتَهُ»: أو أمر وردت بلفظ الماضي خالية عن العطف وهي بلاغة تريك المعنى في أحسن صورة.

فالأمر بالتقوى تفسير للأمر بالزاد کما قال تعالى «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى»(1)والأمر بنصيحة النفس أمر بالنظر في مصالحها، والشعور عليها أن تعمل ما هو الأولى بها من التمسّك بحدود الله والوقوف عندها، والأمر بتقديم

ص: 107


1- سورة البقرة: الآية 197

التوبة، وغلب الشهوة هو من جملة الأمر بالنصيحة؛ كالتفسير له ومن لوازم التقوى أردفه بهما، وأراد تقديم التوبة على الموت أو بالنسبة إلى كلّ وقت سيحضر.

«فَإِنَّ أَجَلَهُ مَسْتُورٌ عَنْهُ وأَمَلَهُ خَادِعٌ لَهُ والشَّيْطَانُ مُوَكَّلٌ بِهِ يُزَيِّنُ لَهُ الْمَعْصِيَةَ لِيَرْكَبَهَا ويُمَنِّيهِ التَّوْبَةَ لِيُسَوِّفَهَا ويؤخرها حَتّىَ تَهجَمَ مَنِيَّتُهُ عَلَيْهِ أَغْفَلَ مَا يَكُونُ

عَنْهَا أيامه إلى شقويه فَيَا لَهَا حَسْرَةً عَلَى كُلِّ ذِي غَفْلَةٍ أَنْ يَكُونَ عُمُرُهُ عَلَيْهِ حُجَّةً

وأَنْ تُؤَدِّيَهُ»: فيها حثّ على امتثال أو أمره السائقة إلى التوبة وغيرها، وتحذير من هجوم المنيّة على الغفلة لما يستلزمه؛ ذلك من شدّة الحسرة، وطول الندم على التفريط، وذلك أنّ ستر الأجل عن الإنسان موجب للغفلة عنه؛ فإذا انضاف إلى ذلك خداع العمل الناشئ عن، وساوس الشيطان في تزيينه المعصية، وتسويفه التوبة مع كون موکَّلاً به، وقريناً له كما قال سيّد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلَّم: «ما من مولود إلَّا ويولد معه قرين من الشيطان»(1)، كانت الغفلة أشدّ والنسيان أكدّ، واستعار الخداع لصورته من النفس الأمّارة بالسوء، وهو: قولها للإنسان مثلاً: تمتّع من شبابك واغتنم لذّة العيش ما دمت في مهلة، ومستقبل من عمرك وستلحق للتوبة، ونحو ذلك من الأضاليل؛ فإنّ هذه الصورة خداع من الشيطان، وأمّا نسبة ذلك إلى الأمل؛ فلأنّه الأمل هو عزم النفس على فعل تلك الأمور وأمثالها في مستقبل الأوقات عن توهّم طول مدّة الحياة، واتّساعها لما تفعله فيها من معصية وتوبة، وذلك العزم من أسباب الانخداع للشيطان وغروره؛ فلذلك نسب الخداع إلى الأمل مجازاً، وجعل غاية ذلك الخداع هو أن

ص: 108


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 2 ص 253؛ باختلاف يسير؛ علل الشرائع: للشيخ الصدوق: ج 2 ص 376؛ من لا يحضره الفقيه كذلك للشيخ الصدوق: ج 2 ص 49؛ أوائل المقالات: للشيخ المفيد: ص 223

تهجم على المخدوع منيّته حال ما هو في أشدّ غفلة عنها، واشتغال بما يؤمّله فيكون ذلك مستلزما لأعظم حسرة وأكبر ندامة على أن يكون عمره عليه حجّة شاهداً بلسان حاله على ما اكتسب فيه من الآثام؛ فصار بعد أن كان وسيلة لسعادته سبباً لشقاوته، وأغفل نصب على الحال، وحسرة على التميز للمتعجّب منه واللام في لها قيل: للاستغاثة كأنّه قال: يا للحسرة على الغافلين ما أكبرك، وقيل: بل لام الجرّ فتحت لدخولها على الضمير والمنادی محذوف وتقديره يا قوم أدعوكم لها حسرة، وأن في موضع النصب بحذف الجارّ كأنّه قيل: فعلام يقع عليهم الحسرة فقال: على كون أعمارهم حجّة عليهم يوم القيامة «نَسْأَلُ الله سُبْحَانَه أَنْ يَجْعَلَنَا وإِيَّاكُمْ مِمَّنْ لَا تُبْطِرُه نِعْمَةٌ»: فأن شدة الفرح بها من لوازم محبتها المستلزم للهلاك الأبدي «ولَا تُقَصِّرَ بِه عَنْ طَاعَةِ رَبِّه غَايَةٌ»: أي لا يقصر عن غاية من غايات الطاعة يقال قصرت هذه الغاية بفلان إذا لم يبلغها «ولَا تَحُلُّ بِه بَعْدَ الْمَوْتِ نَدَامَةٌ

ولَا كَآبَةٌ»: حزن سؤال لحسم أسبابهما، وهو أتباع الهوى في الدنيا، والعدول عن طاعة الله وبالله العصمة والتوفيق.

ومن خطبة له عليه السلام

مشتملة على مباحث لطفية من العلم الإلهي أيضاً لا يطلع عليها الا المتبحرون فيه «الْحَمْدُ للهَّ الَّذِي لَمْ تَسْبِقْ لَه حَالٌ حَالًا فَيَكُونَ أَوَّلاً قَبْلَ أَنْ يَكُونَ آخِراً ويَكُونَ ظَاهِراً قَبْلَ أَنْ يَكُونَ بَاطِناً»: أقول: إنّه لمّا ثبت أنّ السبق والمقارنة والقبليّة والبعديّة أمور تلحق الزمان لذاته وتلحق الزمانیّات به، وثبت أنّه تعالى منزّه عن الزمان؛ إذ كان من لواحق الحركة المتأخّرة عن وجود الجسم المتأخّر عن وجود الله سبحانه کما علم ذلك في موضعه لا جرم لم تلحق ذاته المقدّسة، ومالها من صفات الكمال، ونعوت الجلال شيء من لواحق الزمان؛ فلم يجز إذن أن يقال: مثلاً كونه عالماً

ص: 109

قبل كونه قادراً قبل كونه مريداً أو كونه حياً قبل كونه عالماً، ولا كونه أوّلاً للعالم قبل کونه آخراً له قبليّة وسبقاً زمانیّاً، بقي أن يقال: إنّ القبليّة والبعديّة قد تطلق بمعان أخر كالقبليّة بالشرف والفضيلة والذات والعليّة، وقد بيّنا في الخطبة الأولى أنّ كلّ ما يلحق ذاته المقدّسة من الصفات؛ فاعتبارات ذهنيّة تحدثها العقول عند مقایسته إلى مخلوقاته، وشيء من تلك الاعتبارات لا تتفاوت أيضاً بالقبليّة والبعديّة بأحد المعاني المذكورة بالنظر إلى ذاته المقدّسة؛ فلا يقال مثلاً هو المستحقّ بهذا الاعتبار قبل هذا الاعتبار أو بعده، وإلَّا لكان کمال ذاته قابلاً للزيادة والنقصان، بل استحقاقه بالنظر إلى ذاته لمّا يصحّ أن يعبّر لها استحقاق واحد لجميعها دائماً فلا حال يفرض إلَّا وهو يستحقّ فيه أن يعتبر له الأوّليّة والآخرويّة معاً استحقاقاً أوّلياً ذاتيّاً لا على وجه الترتّب، وإن تفاوتت الاعتبارات بالنظر إلى اعتبارنا، وهذا بخلاف غيره من الأمور الزمانيّة فإنّ الجوهر مثلاً: يصدق عليه كونه أوّلاً من العرض، ولا يصدق عليه مع ذلك أنّه آخر له حتّى لو فرضنا عدم جميع الأعراض، وبقاء الجوهر بعدها لم يكن استحقاقه للاعتبارين معاً بل استحقاقه لاعتبار الأوّليّة متقدّم إذ كانت بعض أحواله سابقة على بعض، ولا استحقاقه لهما لذاته بل بحسب بقاء أسبابه ولا العرض لما صدق عليه أنّه بعد الجوهر يصدق عليه أنّه قبله باعتبار ما، وخلاف المختلفين في أيّ الصفات أقدم مبنىّ على سوء تصوّرهم لصانعهم سبحانه وتعالى عمّا يقولون علوّاً كبيراً.

إذا عرفت ذلك فنقول: أوّلیّته هو اعتبار كونه مبدأ لكلّ موجود، وآخريّته هو کونه غاية لكلّ ممكن، وقد سبق معنی کونه ظاهراً وباطناً في الخطبة الَّتي أوّلها: الحمد للهَّ الَّذي بطن خفيّات الأمور.

ص: 110

الثاني: «كُلُّ مُسَمًّى بِالْوَحْدَةِ غَیْرَه قَلِيلٌ»: مقصوده أنّه تعالى لا يوصف بالقلَّة وإن كان واحداً، وتقرير ذلك أنّ الواحد يقال بمعان والمشهور منها المتعارف بين الخلق کون الشيء مبدأ لكثرة يكون عائدٍ لها ومكيالاً، وهو الَّذي تلحقه القلَّة والكثرة الإضافيّتان فإنّ كلّ واحد بهذا هو قليل بالنسبة إلى الكثيرة الَّتي يصلح أن يكون مبدأ لها، والمتصوّر لأكثر أهل العالم صدق هذا الاعتبار على الله بل ربّما لا يتصوّر بعضهم کونه تعالى، واحدا إلَّا بهذا الوجه، ولمّا كان تعالى منزّهاً عن الوصف بالقلَّة والكثرة لما يستلزمانه من الحاجة، والنقصان اللازمين لطبيعة الإمكان أثبت القلَّة لكلّ ما سواه؛ فاستلزم إثباتها لغيره في معرض المدح له ونفيهما عنه، واستلزم ذلك تنزيهه تعالى عن الواحدیّة بالمعنى المذكور، إذ سلب اللازم يستلزم سلب ملزومه(1)، وليس إذا بطل كونه واحدا بهذا المعنى بطل كونه واحدا، فإنّا بیّنا صدق الواحد عليه بمعان أخر في الخطبة الأولى، وقد يفهم من هذا أنّه لمّا نفى عنه القلَّة استلزم ذلك أن يثبت له الكثرة، وهو من سوء الفهم وقلَّة العلم؛ فإنّ عدم القلَّة إنّما يستلزم ثبوت الكثرة عند تعاقبها على محلّ من شأنه قبولهم، وربّما قيل: إنّ المراد بالقليل هنا الحقير، وهو غير مناسب لذكر الوحدة، وإنّما قال بالوحدة، ولم يقل كلّ واحد ليشعر بأنّ قول الوحدة على، واحدیّته تعالى وعلى واحدیّة غيره قول بحسب اشتراك الاسم.

«وكُلُّ عَزِيزٍ غَیْرَه ذَلِيلٌ»: رسّم العزيز بأنّه الخطير الَّذي يقلّ، وجود مثله وتشتدّ الحاجة إليه، ويصعب الوصول إليه، ثمّ في كلّ واحد من هذه القيود الثلاثة كمال ونقصان؛ فالكمال في قلَّة الوجود أن يرجع إلى، واحد ويستحيل أن يوجد مثله، وليس ذلك إلَّا الله سبحانه، والكمال في النفاسة وشدّة الحاجة؛ أن

ص: 111


1- سلب اللازم والملزوم: من الملازمات العقلية التي تستخدم كقاعدة منطقية في علم المنطق؛ مثل إذا ثبت اللازم ثبت الملزوم وبالعکس

يحتاج كلّ شيء في كلّ شيء، وليس ذلك على الكمال إلَّا الله تعالى، والكمال في صعوبة المنال أن لا يوصل إلى حقيقته على معنى الإحاطة بها، وليس ذلك على کمال إلَّا الله تعالى؛ فهو إذن العزيز المطلق الَّذي كلّ موجود سواه ففي ذلّ الحاجة إليه وحقارة العبوديّة بالنسبة إلى کمال عزّه، فأمّا العزيز من الخلق؛ فهو الَّذي توجد له تلك الاعتبارات لكن لا مطلقاً بل بقياسه؛ إلى من هو دونه في الاعتبارات المذكورة؛ فهو إذن وإن صدق عليه أنّه عزیز بذلك الاعتبار؛ إلَّا أنّه في ذلّ الحاجة إلى من هو أعلى رتبة منه، وأكمل في تلك الاعتبارات، وكذلك من هو أعلى منه إلى أن ينتهي إلى العزيز المطلق الَّذي لا يلحقه ذلّ باعتبار ما؛ فلذلك أثبت عليه السّلام الذلّ لكلّ عزیز سواه.

«وكُلُّ عَزِيزٍ غَیْرَه ذَلِيلٌ وكُلُّ قَوِيٍّ غَیْرَه ضَعِيفٌ»: القوّة تعود إلى تمام القدرة، ويقابلها الضعف، ولمّا كان استناد جميع الموجودات إلى تمام قدرته علمت أنّه لا أتمّ من قدرته؛ فكلّ قوّة وصف بها غيره؛ فبالنسبة إلى ضعف يقابلها لمن هو دونه، وإذا قيس بالنسبة إلى من هو فوقه كان ضعيفا بالنسبة إليه، وكذلك من هو فوقه إلى أن ينتهي إلى تمام قدرة الله؛ فهو القوىّ الَّذي لا يلحقه ضعف بالقياس إلى أحد غيره وكذلك قوله: «وكُلُّ مَالِكٍ غَیْرَه مَمْلُوكٌ»: فإنّ معنى المالك يعود إلى القادر على الشيء الَّذي تنفذ مشيّته فيه باستحقاق دون غيره، وغيره بإذنه، ولمّا ثبت أنّ كلّ موجود سواه؛ فهو في تصريف قدرته ومشيّته إذ هما مستند وجوده ثبت أنّه هو المالك المطلق الَّذي ليست له مملوكيّة بالقياس إلى شيء آخر، وأنّ كلّ ما سواه؛ فهو مملوك له وإن صدق عليه بالعرف؛ أنّه مالك بالقياس إلى هو دونه، ثمّ لا يخفى عليك ممّا سلف أنّ قول القوّى والمالك عليه وعلى غيره قول بحسب اشتراك الاسم أيضاً.

ص: 112

«وكُلُّ عَالِمٍ غَیْرَه مُتَعَلِّمٌ»: لمّا ثبت أنّ علمه تعالى بالأشياء على ما مرّ من التفصيل إنّما هو لذاته، ولم يكن شيء منه بمستفاد من أمر آخر، وكان علم من سواه إنّما هو مستفاد بالتعلَّم من الغير ثمّ الغير، من الغير إلى أن ينتهي إلى علمه تعالى الفائض بالخيرات، لا جرم كان كلّ عالم سواه متعلَّماً، وإن سمّی عالماً بحصول العلم فيه، وكان هو العالم المطلق الَّذي لا حاجة به في تحصيل العلم إلى أمر آخر.

«وكُلُّ قَادِرٍ غَيْرَه يَعْجَزُ يَقْدِرُ»: قدرته تعالى تعود إلى اعتبار كونه مصدراً لآثاره، فأمّا قدرة الغير فقد يراد بها قوّة جسمانيّة منبّثة في الأعضاء محرّكة لها نحو الأفاعيل الاختياريّة، والعجز ما يقابل القدرة بهذا المعنى، وهو عدمها عمّا من شأنه أن يقدر کما في حقّ الواحد منّا، وقد يراد بهما اعتباران آخران يتقابلان، إذا عرفت ذلك فنقول: القادر المطلق على كلّ تقدير هو مستند كلّ مخترع وموجود اختراعاً ينفرد به ويستغني فيه عن معاونة غيره، وذلك إنّما يتحققّ في حقّ الله سبحانه؛ فأمّا كلّ منسوب إلى القدرة سواه؛ فهو وإن كان بالجملة ذا قدرة إلَّا أنّها ناقصة لتناولها بعض الممكنات؛ فقط وقصورها عن البعض الآخر، وعدم تناولها له إذا كانت لا تصلح للمخترعات، وإن نسب إليه إيجاد شيء؛ فلأنّه فاعل أقرب وواسطة بين القادر الأوّل سبحانه، وبين ذلك الأثر لا لذاته استقلالاً، وتفرّداً به على ما علم في مظانّه؛ فكلّ قادر سواه؛ فلذاته يستحقّ العجز وعدم القدرة بالنسبة إلى ما يمكن تعلَّق قدرته به من سائر المخترعات والممكنات، وإنّما يستحقّ القدرة من وجوده؛ فهو إذن الفاعل المطلق الَّذي لا يعجزه شيء عن شيء، ولا يستعصي على قدرته شيء.

«وكُلُّ سَمِيعٍ غَیْرَه يَصَمُّ عَنْ لَطِيفِ الأَصْوَاتِ ويُصِمُّه كَبِيرُهَا ويَذْهَبُ عَنْه مَا بَعُدَ مِنْهَا»: وذلك السمع في الحيوان کما عرفة قوة ينفذ من الدماغ إلى الأذن في عصبته ثابتة منه إلى الصماخ مبسوطة عليه كجلد الطبل، وهذه العصبة آلة

ص: 113

لهذه القوّة والصوت هيئة ما يحصل في الهواء عن تموجّه بحركة شديدة إمّا من قرع شديد أو قلع شديد، فإذا انتهى ذلك التموّج إلى الهواء الَّذي في الأذن تحرّك ذلك الهواء الراكد حركة مخصوصة بهيئة مخصوصة؛ فتنفعل العصبة المفروشة على الصماخ عن تلك الحركة، وتدركها القوّة السامعة هناك؛ فهذا الإدراك يسمّى سماعاً، إذا عرفت ذلك؛ فأعلم أنّ إدراك هذه القوّة للصوت يكون على قرب، وبعد وحدّ من القوّة والضعف مخصوص؛ فإنّه إن كان الصوت ضعيفاً؛ أو بعيداً جدّاً لم يحصل بسببه تموّج الهواء؛ فلم يصل إلى الصماخ؛ فلم يحصل السماع، وذلك معنى قوله: (يصمّ إلى منها) ولك أن تسأل لمم خصّص اللطيف بالصمّ عنه، والبعيد بالذهاب عليه.

فأقول: لأنّ البعيد في مظنّة أن يسمع، وإنّما يفوته بسبب عدم وصول الهواء الحامل له إليه، وأمّا الخفيّ؛ فلمّا فلم يكن من شأنه أن تدركه القوّة السامعة أشبه عجزها عن إدراكه الصمّ؛ فاستعير لفظه له، وأمّا إن كان الصوت في غاية القوّة والقرب؛ فربّما أحدث الصمّ وذلك لشدّة قرعه للصماخ، وتفرّق اتّصال الروح الحامل لقوّة السمع عنه بحيث يبطل استعدادها لتأدية القوّة إلى الصماخ، وكلّ ذلك من نقصان الحيوان وضعفه، ولمّا كان الباري تعالى منزّهاً عن الجسميّة، وتوابعها لا جرم کانت هذه اللواحق من الصمم عن لطيف الأصوات وذهاب بعيدها، والصمّ من کبیرها مخصوصة بمن له تلك القوّة المذكورة والسمع المخصوص فكلّ سامع غيره فهو كذلك، واستلزم ذلك في معرض مدحه بتنزيهه سبحانه عنها، وإذ ليس سميعاً بالمعنى المذكور، وقد نطق القرآن بإثبات هذه الصفة له فهو سميع بمعنى أنّه لا يعزب عن إدراكه مسموع، وإن خفي السرّ والنجوی بل ما يسمع هو أدّق، وأخفى حمد الحامدين ودعاء الداعين، وذلك هو السميع الَّذي

ص: 114

لا يتطرّق إليه الحدثان إذ لم يكن بآلة وآذان.

«وكُلُّ بَصِیرٍ غَیْرَه يَعْمَى عَنْ خَفِيِّ الأَلْوَانِ»: كاللون في الظلمة «ولَطِيفِ الأَجْسَامِ»: قد يكون بمعنی عديم اللون كما في الهواء، وقد يكون بمعنی رقیق القوام کالجوهر الفرد عند المتكلَّمين وكالذّرة، واللطيف بالمعنيين غير مدرك للحيوان، وأطلق لفظ العمى مجازاً إذ كان عبارة، إمّا عن عدم البصر مطلقاً أو عن عدمه عمّا من شأنه أن يبصر؛ فلم يكن عدم إدراكها عمیً حقيقيّاً بل لكون العمى من أسباب عدم الرؤية أطلق لفظه عليه إطلاقاً لاسم السبب على المسبّب، وهذا الحكم في معرض مدحه تعالى يستلزم تنزيه بصره عن لاحق العمى، ومظنّته إذ كان سبحانه منزّهاً عن معروض العمي، والبصر ومتعالياً عن أن يكون إدراكه بحدقة، وأجفان وانطباع الصور والألوان وإن كان يشاهد ويرى حتّى لا يعزب عنه ما تحت الثرى، وإذ ليس بصيراً بالمعنى المذكور؛ فهو البصير باعتبار أنّه مدرك لكمال صفات المبصرات، وذلك الاعتبار أوضح وأجلى ممّا يفهم من إدراك البصر القاصر على ظواهر المرئيّات.

«وكُلُّ ظَاهِرٍ غَیْرَه بَاطِنٌ وكُلُّ بَاطِنٍ غَیْرَه غَیْرُ ظَاهِرٍ»: يعني أن كل ممكن أن كان ظاهراً لعقل أو حس لم يوصف مع ذلك بأنه باطن كالشمس مثلاً، وأن كان باطناً خفياً عن العقل، والحس لم يوصف مع ذلك بأنه ظاهر وهو تعالى الموصوف بأنه الباطن الظاهر معاً؛ كذا وجد في أكثر النسخ وهو غير ظاهر؛ فأن معناه أنه تعالى ظاهر وباطن معاً باعتبارين، وفي بعض الممكنات ما هو كذلك كالرمان مثلاً؛ فأن كل أحد يعلم، وجود الزمان بالضرورة، وأن خفيت حقیقته على جمهور الحكماء واضطربت فيه أقوال العلماء وكذلك العلم؛ فليس إذن كل ظاهر غير باطن، ولا باطن غيره ظاهر وفي بعض النسخ، وكل باطن ظاهر وهذا عندي ليس بخفي لدي

ص: 115

وبيانه أن ظهور الأشياء انکشافاً؛ فالحس أو العقل أنكشافاً بيّناً ويقابله بطونها، وهو خفائها عن أحدها ولما ثبت أنه تعالى منزه عن الجسمية، ولو احقها علم كونه منزهاً عن أدراك، ولما قام البرهان على أنه تعالى بريء عن أنحاء التركيب الخارجية والعقلية، وجب تنزه ذاته المقدسة عن اطلاع العقول عليها؛ فعلم من هذا الترتيب أن لا يشارك الأشياء في معنى ظهورها، وقد وصف نفسه بالظاهر؛ فيجب أن يكون ظهوره عبارة عن انکشاف، وجوده في جزئيّات آثاره کما قال: وهو أصدق القائلين «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ»(1)وإن كانت مشاهدة الحقّ له على مراتب متفاوتة كما أشار إليه بعض مجرّدي السالكين: ما رأينا شيئاً إلا رأينا الله فيه، فلمّا ترقّوا عن ذلك قالوا: ما رأينا شيئاً سوى الله.

فالأولى: مرتبة الفكر والاستدلال عليه، والثانية: مرتبة الحدس، والثالثة: مرتبة المستدلَّين به لا عليه، والرابعة: مرتبة الفناء في ساحل عزّته واعتبار الوحدة المطلقة محذوفاً عنها كلّ لاحق.

وإذا عرفت معنی ظهوره علمت أنّ شيئاً من الممكنات لا يكون له الظهور المذكور؛ فإنّه وإن كان لبعض الأشياء في عقل أو حسّ إلَّا أنّه ليس في كلّ عقل، وفي كل حسّ إذ كلّ مطَّلع على شيء؛ فالَّذي خفي عنه أكثر ممّا اطَّلع عليه؛ فكلّ ظاهر غيره؛ فهو باطن بالقياس إليه وهو تعالى الظاهر لكلّ شيء، وفي كلّ شيء لكونه مبدأ كلّ شيء ومرجعه.

ثم أقول وقد عرفت معنى البطون الممكنات وظهورها، وعلمت أيضاً ممّا سبق أنّ كونه باطناً يقال لمعنيين: أحدهما: أنّه الَّذي بطن قدس ذاته عن اطَّلاع العقول عليه.

ص: 116


1- سورة فصلت: الآية 53

والثاني: أنّه الَّذي بطن جميع الأشياء خبره، ونفذ فيها علمه، ثمّ علمت الظاهر المقابل للمعنى الأوّل وأمّا المقابل للثاني؛ فهو الَّذي لم يطَّلع إلَّا على ظواهر الأشياء لم يكن له اطَّلاع على بواطنها إذا عرفت ذلك؛ فنقول أن كل باطن غيره سواء كان المراد بالظنون خفاء التصور؛ أو نفوذ العلم في البواطن؛ فهو ظاهر بالقياس إليه تعالى ظهوراً بالمعنى الذي يقابله أما الأول؛ فلأن كل ممکن وأن خفي على بعض العالمين لم يخف على غيره، وأن خفي على الكل؛ فهو ظاهر في علمه تعالی وممکن الظهور في علم غيره؛ فليس أذن يخفی مطلقاً وهو تعالى، وهو الباطن الذي لا أبطن منه وكل باطن غيره؛ فهو ظاهر بالقياس إليه.

وأما الثاني: فلأن كل عالم وأن جل قدره فلا إحاطة له إلا ببعض المعلومات وهو قاصر عن بعضها، وبعضها غير ممكن له، وهو تعالى الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، وكل ظاهر بالقياس إليه تعالى أعلم.

«لَمْ يَخْلُقْ مَا خَلَقَه لِتَشْدِيدِ سُلْطَانٍ»: لأنه أنما يحتاج ذو النقصان في ملکه، ولما كان تعالى هو الغني المطلق عن كل شيء صدق أن ذلك ليس بعرض لما خلق ولَا «تَخَوُّفٍ مِنْ عَوَاقِبِ زَمَانٍ»: لأنه من لواحق الممكنات القابلة للنقصان، والكمال إنما هو في معرض التغير والزوال، ولما ثبت تنزيهه تعالى عن الانفعال عن شيء لم يتصور أن يكون عرضاً له «ولَا اسْتِعَانَةٍ عَلَى نِدٍّ مُثَاوِرٍ ولَا شَرِيكٍ مُكَاثِرٍ ولَا ضِدٍّ

مُنَافِرٍ»: فأنها من لوازم الضعف والعجز، والخوف وإذ لا عجز فلا استغاثة؛ فلا ند ولا شريك ولا ضد، وكذلك نقول الغرض تنزيهه تعالى عن صفات المخلوقين وخواص المحدثين، ولك أن تنزهه سبحانه عن هذه الأغراض من طريق بقي الغرض المطلق هكذا؛ أنه تعالى سبحانه عن هذه الأغراض من طريق بقي الغرض

ص: 117

ومتى كان كذلك كان منزهاً عن خصوصيات هذه الأغراض أما الأول؛ فبرهانه أنه لو فعل لغرض لكان، وجود ذلك الغرض له ترجيحاً من غير مرّجح، والثاني باطل لأنهما إذا لم يستویا کان حصول الغرض أولى به؛ فحينئذ يكون حصول ذلك إلى ذاته تعالى بل بالنسبة إلى العبد؛ إذ غرضه الإحسان إلى الغير، لأنا نقول غرضه وعدمه أن كانا بالنسبة إليه على سواء عاد حديث الترجيح بلا مرجح، وإن كان أحد احدهما أولي به عاد حديث الكمال، والنقصان وإذا عرفت أنه تعالى لا لغرض وكل ما ذكره عليه السلام في هذا الفصل عز من علمت صدق قوله عليه السلام أنه لم يخلق شيئاً من خلقه لشيء من هذه الأمور.

«ولَكِنْ خَلَائِقُ مَرْبُوبُونَ وعِبَادٌ دَاخِرُونَ»: أي بل الخلائق خلقهم بمحض جوده وهو: فيضان الخير عنه على كل قابل ما يقبله من غير بخل، ولا منع، ولا تعويق وبذلك الاعتبار كان كل شيء مربوباً له، وهو رب كل شيء وكل عبد ذلیل وهو مالكه ومولاه «لَمْ يَحْلُلْ فِي الأَشْيَاءِ فَيُقَالَ هُوَ كَائِنٌ»: إشارة إلى وصف سلب کونه ذا محلّ، وللناس في تنزيهه تعالى عن المحلّ كلام طويل، والمعقول من الحلول عند الجمهور قيام موجود بموجود على سبيل التعبية، وظاهر أنّ الحلول بهذا المعنى على الواجب الوجود محال؛ لأنّ كونه تبعاً للغير يستلزم حاجته إليه وكلّ محتاج ممکن قال: أفضل المتأخّرين نصير الدين الطوسي(1)تغمده الله بغفرانه، «والحق أنّ حلول الشيء في الشيء لا يتصوّر، إلَّا إذا كان الحال بحيث لا يتعيّن إلَّا بتوسّط المحل وإذ لا يمكن أن يتعيّن واجب الوجود بغيره فإذن يستحيل حلوله

ص: 118


1- نصير الدين الطوسي: هو المحقق المشهور الملقب بخواجة نصير الدين؛ توفي سنة (672 ه)؛ يُنظر الرسائل العشر للشيخ الطوسي في: ص 58؛ وکما وروى العلامة الحلي في تلخيص المرام في معرفة الأحكام: في مقدمة التحقيق: ص 14؛ حيث أُخذَ منه العقليّات والرياضيّات، وكان من تلامذته: رضيّ الدين عليّ بن يوسف بن المطهّر، وكان فاضلاً جليلاً

في غيره»(1)إذا عرفت ذلك فنقول: لمّا كان الكون في المحلّ والنائي عنه والمباينة له أموراً إنّما يقال على ما يصحّ حلوله فيه ويحلَّه، وكان هو تعالى منزّهاً، عن الحلول وجب أن يمتنع عليه إطلاق هذه الأمور؛ فإذ ليس هو بحالّ في الأشياء؛ فليس هو بكائن فيها، وإذ ليس بكائن فيها؛ فليس بنائي عنها ولا مباین لها؛ فإذن ظهر صدق قوله: «ولَمْ يَنْأَ»: يبعد «عَنْهَا فَيُقَالَ هُوَ مِنْهَا بَائِنٌ لَمْ يَؤُدْه»: لم يثقله «خَلْقُ مَا ابْتَدَأَ ولَا تَدْبِیرُ مَا ذَرَأَ»: خلق الإعياء إنّما يقال لذي الأعضاء من الحيوان، وإذ ليس تعالى بجسم، ولا ذي آلة جسمانيّة لم يلحقه بسبب فعله إعياء، وإنّما قال: ما ابتداء ليكون سلب الإعياء عنه أبلغ إذ ما ابتداء من الأفعال يكون المشقّة فيه أتمّ، وتدبيره يعود إلى تصريفه لجميع الذوات، والصفات دائما تصريفاً كلَّيّاً وجزئيّاً على، وفق حكمتهِ وعنايتهِ، ونحوه قوله تعالى «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ»(2)«ولاَ وَقَفَ بِهِ عَجْزٌ عَماَّ خَلَقَ»: إشارة إلى کمال قدرته وأنّ العجز عليه محال، وقد سبق بيانه «ولَا وَلَجَتْ عَلَيْهِ شُبْهَةٌ فِيمَا قَضَی وقَدَّر»: إشارة إلى کمال علمه، ونفى الشبهة إن تعرض له، وأعلم أنّ الشبهة إنّما تدخل على العقل في الأمور المعقولة الصرفة غير الضروريّة، وذلك أنّك علمت أنّ الوهم لا يصدق حكمه إلَّا في المحسوسات؛ فأمّا الأمور المعقولة الصرفة؛ فحكمه

ص: 119


1- قرأ عليه جمع غفير من العلماء الأعلام والفضلاء الكرام منهم: 1 - ولده فخر الإسلام محمّد بن الحسن بن يوسف. 2 - ابن أخته السيد عميد الدين عبد المطَّلب الأعرجي الحلَّي. 3 - ابن أخته السيّد ضياء الدين عبد الله الأعرجي الحلَّي. 4 - السيّد النسّابة تاج الدين محمّد بن القاسم بن معية الحلَّي. 5 - الشيخ زين الدين أبو الحسن عليّ بن أحمد المرندي. 6 - الشيخ قطب الدین محمّد بن محمد الرازي البويهي. وغيرهم من فطاحل العلماء
2- سورة الأحقاف: الآية 33

فيها كاذب، فالعقل حال إستفصاله، وجه الحقّ فيها يكون معارضاً بالأحكام الوهميّة؛ فإذا كان المطلوب غامضاً، فربّما كان في الأحكام الوهميّة ما يشبه بعض أسباب المطلوب؛ فتتصوّره النفس بصورته وتعتقده مبدأً؛ فينتج الباطل في صورة المطلوب وليس به، ولمّا كان الباري تعالى منزّهاً عن القوى البدنيّة، وكان علمه لذاته لم يجز أن تعرض لقضائه ولا قدره شبهة، أو يدخل عليه فيه شكّ لكونهما من عوارضها «بَلْ أَمْرهُ قَضَاءٌ مُتْقَنٌ وعِلْمٌ مُحْكَمٌ»: أي برئ من فساد الشبهة والغلط «وأَمْرٌ مُبْرَمٌ»: إشارة إلى قدره الَّذي هو تفصيل قضائه المحكم، وظاهر أنّ تفضيل المحكم لا يكون إلَّا محكماً: «الْمَأْمُولُ مَعَ النِّقَمِ الْمَرْهُوبُ مَعَ النِّعَمِ»: منبع هذين الوصفين هو کمال ذاته، وعموم فیضه وأنّه لا غرض له، وإنّما الجود المطلق، والهبة لكلّ ما يستحقّه، ولمّا كان العبد حال حلول نقمته به قد يستعدّ بالاستغفار والشكر، لإفاضة الغفران ورفع النقمة فيفيضها عليه مع بقاء كثير من نعمه لديه كان تعالى مظنّة الأمل والفزع إليه في رفع ما أُلقى إليه بقوله: تعالى «وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ»(1)وكذلك حال إفاضة نعمته لمّا كان العبد قد يستعدّ بالغفلة للإعراض عن شكرها كان تعالى في تلك الحال أهلاً أن يفيض عليه بوادر نقمته بسلبها؛ فكان هو المأمول مع النقم المرهوب مع النعم؛ فهو المستعان به عليه وهو الَّذي لا مفرّ منه إلَّا إليه، ومن عداه مخلوق نقمته غير مجامع لأمل رحمته، وقيام نعمته معاند لشمول رهبته؛ فلا مأمول ولا مرهوب في كلا الحالين سواه وبالله العصمة والتوفيق.

ومن كلام له عليه السلام يقوله لأصحابه في بعض أيام صفين:

والمشهور أن هذا الكلام قاله: عليه السلام لأصحابه في اليوم الذي مسائهُ

ص: 120


1- سورة الإسراء: 67

ليلة الحرير وروي؛ أنه أول أيام اللقاء بصفين وذلك في صفر سبع وثلثين «مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ اسْتَشْعِرُوا الْخَشْيَةَ»: کما یلزم الشعار الجسدي أي أتخذوا خشية الله شعاراً، وفائدته الصبر على الحرب وأمثال جميع الباقية إذ هي مستلزمه لامتثال أوامره ولذلك قدمه «وتَجَلْبَبُوا السَّكِينَةَ»: أي تجدوا السكينة جلبابه تنزيلاً منزلة الملحقة في شمولها إليه وهو وجه الاستعارة وفائدته طرد الفشل وارهاب العدو «وعَضُّوا عَلَى النَّوَاجِذِ»: اقاصي الاضراس يعود إلى «فَإِنَّهُ»: العض «أَنْبَى»: افعل من الأنباء بمعنى الابعاد «لِلسُّيُوفِ عَنِ الْهَامِ»: هو تسكين القلب وطرد الرعدة، وليس المراد حقيقة قلب هذا وأن كان محتملاً لو قطع عن التعلل إلا أنه غير مراد هاهنا لأنه يضع تعليله بكونه أنباء لسيوف عن الهام «وأَكْمِلُوا اللأْمَةَ»: الدرع البيضة والسواعد ويحتمل أن يريد باللامة جمع آلات الحرب وما تحتاج إليه فيه وفائدته شدة التحصن «وقَلْقِلُوا»: حركوا «السُّيُوفَ فِي أَغْمَادِهَا قَبْلَ سَلِّهَا»: فائدتها سهولة جذبها حال الحاجة إليها «والْحَظُوا الْخَزْرَ»: نضر المغضب وهو ضيق العين وصغرها، وفائدته أمور أجماء الطبع واستتارة الغضب والحفظ عن عوارض الطيش والخوف وغيرها «واطْعُنُوا الشَّزْرَ»: الضرب على غير استقامة لأن الطعن يميناً، وشمالاً لا يوسع المجال على الطاعن، ولأن أكثر المناوشة للخصم في الحرب يكون على يمينه وشماله «ونَافِحُوا بِالظُّبَى»: ضاربوا بأطراف السيوف وفائدته أنّ مخالطة العدوّ والقرب الكثير منه يشغل عن التمكَّن من ضربه، «وصِلُوا السُّيُوفَ بِالْخُطا»: وله فائدتان: إحداهما أنّ السيف ربّما يكون قصيراً ولا ينال الغرض به؛ فإذا انضاف إليه مدّ اليد والخطوات بلغ به المراد، وفيه قول الشاعر(1):

ص: 121


1- الشاعر قيس بن الحطيم: لشيخ للمحمودي في نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة: هامش ص 231

إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ٭٭٭ خطانا إلى أعداننا فنضارب

وقيل له عليه السّلام: ما أقصر سيفك فقال: أطوّله بخطوة الثابتة أنّ الزحف في الحرب إلى العدوّ، والتقدّم إليه خطوات في حال المكافحة یکسر توهّمه الضعف في عدوّه، ويلقى في قلبه الرعب، ويداخله الرهبة، وإليه أشار حميد بن ثور الهذليّ:

ووصل الخطأ بالسيف والسيف بالخطأ ٭٭٭ إذا ظنّ أنّ المرء ذا السيف قاصر

ثمّ لمّا أراد تأكيد تلك الأمور في قلوبهم، وأن يزيدهم أوامر أخرى أردف ذلك بأمرين: أحدهما: أنّ الله تعالى يراهم وينظر كيف يعملون، وذلك قوله: «واعْلَمُوا

أَنَّكُمْ بِعَیْنِ اللهِ»: والباء هنا کهي في قولك: أنت منّی بمرأى ومسمع.

الثاني: تذكيرهم بكونهم مع ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم وتنبيهاً لهم على فضيلته، وأنّ طاعة كطاعته رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلَّم، وحربه کحربه کما هو المنقول عنه: «حربك يا علي حربي»(1)فيثبتوا على قتال العدوّ؛ کما ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلَّم.

وإليه أشار بقوله: «ومَعَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللهِ فَعَاوِدُوا الْكَرَّ واسْتَحْيُوا مِنَ الْفَرِّ فَإِنَّهُ عَارٌ فِي الأَعْقَابِ»: عند التحرّف للقتال «ونَارٌ يَوْمَ الْحِسَابِ»: أي يوجب استحقاق النار، وهو من كبائر المعاصي، وجعله ناراً مجازاً تسمية له باسم غايته وهو تذکیر لهم بوعده تعالى «وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا

ص: 122


1- الانتصار للشريف المرتضى: ص 479؛ جمل العلم والعمل؛ كذلك للشريف المرتضى: ص 45: الاقتصاد الشيخ الطوسي: ص 226، مع إضافة (وسلمك سلمي)؛ ورواه بعينه الشيخ الطوسي في الخلاف: ج 5 ص 335؛ جواهر الفقه للقاضي بن البراج: ص 259

إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ»(1)«وطِيبُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ نَفْساً»: منصوب على التمييز، وأشار بها إلى النفس المدّبرة لهذا البدن، والأول إلى الشخص الزائل بالقتل.

وهو تسهيل للموت عليهم الذي هو: غاية ما يلقونه من الشدائد في الحرب بالبشارة إلى ما هو أعظم وأجل من الحياة الدنيا المطلوبة بترك القتال، وهو ما أعدلهم من الثواب الباقي، وهذا كما يقول: أحدنا للمنفق ما له مع حبة له طب نفساً عما ذهب منك فأن الصدقة متضاعفة لك عند الله وتجدها خيراً وأعظم أجراً «وامْشُوا إِلَی الْمَوْتِ مَشْياً سُجُحاً»: سهلاً لا تكلف فيه ولا تخشع؛ فأن المكلف سریع القرار وهو أمر مهم بالمشي إلى غاية ما يخافون من القتال؛ ليواظبوا نفوسهم عليه، ولينفروا بسرعة إلى الحرب لأن العادة أن يستقر الشجاع بمثل ذلك فيسارع إلى داعية لما يتصور فيه من جميل الذكر، وحسن الأحدوثة وروي سمحاً والمعنى واحد «عَلَيْكُمْ»: يجب عليكم أن تأخذوا «بِهَذَا السَّوَادِ الأَعْظَمِ»: وتقاتلوهم أشارة إلى أهل الشام مجتمعين «والرِّوَاقِ»: بيت يعمد عليه عمود «الْمُطَنَّبِ»: إلى مظرب معاوية وكان أذن في مضرب عليه قبة عالية بأطناب عظمية وحوله من أهل وسط الرواق «فَاضْرِبُوا ثَبَجَهُ»: أعلا ظهره أغراهم بقوله: «فَإِنَّ الشَّيْطَانَ كَامِنٌ فِي كِسْرِهِ»: جانب الجناء أراد به معاوية، وقيل عمرو بن العاص، وذلك أنّ الشيطان يضلّ الناس عن سبيل الله، وكان هو في أصحابه كذلك عنده عليه السّلام، فاستعير له، ويحتمل أن يريد الشيطان، ولمّا كانت محالّ الفساد هي مظنّة لتلبيس، وكان المضرب قد ضرب على غير طاعة الله كان محلَّاً للشيطان، فلذلك استعار له لفظ

ص: 123


1- سورة الأنفال: الآية 16

الجلوس في كسره «وقَدْ قَدَّمَ لِلْوَثْبَةِ يَداً وأَخَّرَ لِلنُّكُوصِ»: للرجوع «رِجْلًا»: كناية عن تردد معاوية وانتظاره لأمرهم إن جبنوا وثب، وإن شجعوا نكص وهرب، أو عن الشيطان على أن تقديم اليد للوثبة يكون كناية عن تزیینه لأصحاب معاوية الحرب والمعصية، وتأخير الرجل للنكوص عن تهيّته للفرار إذا التقى الجمعان کما حكى الله سبحانه عنه «وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»(1)كأن نكوصه تعود إلى أغراض الوهم وعند عض الحرب ومشاهدة المكروه عن ذلك الحكم وهو معنى قوله «إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ»(2)وذلك أنه أذن يحكم بالهرب والاندفاع عن الخوف بعد أن كان قد زین الدخول فيه ويكون أذن قوله «إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ»(3)موافقة لحكم العقل فيما كان بدا من طاعة الله بترك المعصية بالحرب وكل ذلك من تمام إغراء أصحابه بأهل الشام، وتنبيههم على أن باعثهم في الحرب ليس إلا الشيطان وأنه لا غرض له ألا فتنتهم ثم الرجوع والأعراض والإعراض عنهم «فَصَمْداً صَمْداً»: أي فاقصدوا قصداً: بعد قصد «حَتَّى يَنْجَلِيَ لَكُمْ عَمُودُ الْحَقِّ»: مستعار من قولهم سطع عمود الصبح مجاز من عمود البيت، ولفظ التجلي ترشيح الاستعارة کنی به عن ظهور المعنى إلى أن ينصح لكم أن الحق معكم بظفر کم بعدوکم» وقهره إذا الطالب لغير حقه سريع الانفعال قريب الفرار

ص: 124


1- سورة إبراهيم: الآية 22
2- سورة الأنفال: الآية 48
3- الآية نفسها

في المقاومة وَأَنْتُمُ «الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ»(1)تسكين لنفوسهم وبشارة بالمطلوب بالحرب وهو العلو، والقهر کما بشر الله تعالى أصحابه في قتال المشركين، وتثبيت لهم على المضي في طاعة الله «فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ»(2)تسکین لنفوسهم، وبشارة بالمطلوب بالحرب، وهو العلو والقهر کما بشر الله تعالى به أصحابه في قتال المشركين، وتثبيت لهم بذلك على لزوم العمل له وبالله التوفيق.

ومن كلام له عليه السّلام

في معنى الأنصار قالوا: لما انتهت إلى أمير المؤمنين عليه السّلام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلَّم أنباء السَقيفة: أخبار سقيفة بني النجار؛ من بيعة الناس أبا بكر بها وهي صفة كانوا مجتمعين فيها وخلاصة القصة أنه لما قبض رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم؛ اجتمعت الأنصار فيها فخطبهم سعد بن عبادة في خطبة وأغراهم بطلب الإمامة وقال أن لكم سابقة في الإسلام لقبيلة من العرب؛ أن الرسول صلى الله عليه [وآله] وسلم لبث في قومه بضع سنين يدعوهم إلى عبادة الرحمن؛ فما آمن به من قومه إلا قليل والله ما كانوا يقدرون أن يمنعوه، ولا يدفعوه ولا يدفعوا عنه ضیماً حتى الله بكم خير لفضله، وساق إليكم الكرامة ورزقكم الإيمان به، والإقرار بدینه فکنتم أشد الناس على من تخلف عنه منکم، واثقله على عدوكم من غيركم حتى أستقام الأمر ودانت لأسيافکم العرب، وأنجز الله لنبيكم الوعد وتوفاه وهو عنکم راض فشدوا أيدكم بهذا الأمر وأنتم أحق الناس به فأجابوه جميعاً أن وقفت ولن تعدو أن نوليك هذا الأمر.

ص: 125


1- سورة محمد: الآية 35
2- سورة المائدة: الآية 56

وأتى الخبر أبا بكر وعمر فجاءا مسرعين إلى السقيفة؛ فتكلم أبو بكر فقال: للأنصار ألم تعلموا يا معاشر المسلمين أول الناس إسلاماً؛ ونحن عشيرة رسول الله وأنتم الأنصار الذين وزراء رسول الله وإخواننا في كتاب الله، وانتم المؤثرون على أنفسهم، واحق الناس بالرضى بقضاء الله، والتسليم لما ساق الله إلى أجوانکم فليس لا يكون انتقاص هذا الدين على أيديكم إلى بيعة أبي عبيدة أو عمر؛ فكلاهما قد رضيت لهذا الأمر؛ فقالا ما ينبغي لأحد من الناس أن یکون فوقك أنت صاحب الغار، وثاني أثنين، وأمّرك رسول الله بالصلاة؛ فانت أحق بهذا الأمر فقالت الأنصار نحن أصحاب الدار والإيمان؛ لم يعبد الله علانية إلا عندنا وفي بلادنا ولا عرف الإيمان إلا من أسيافنا، ولا جمعت الصلاة إلَّا في مساجدنا، فنحن أولى بهذا الأمر، فإن أبيتم فمنّا أمير ومنكم أمير.

فقال عمر: هیهات لا يجمع سيفان في غمد إنّ العرب لا ترضى أن يؤمّرکم لهذا الأمر بأسيافنا أن يكن يدين له وأن لم يدين له وأن لم ترضوا أجليناكم عن بلادنا، إنّا جُذيلها المحلَّك وعذيقها المرجّب(1)، إن شئتم لنعيدنهّا جذعة(2).

والله لا يردّ علىّ أحد ما أقول إلَّا حطمت أنفه بسيفي هذا، فقام بشر بن

ص: 126


1- والجذل: الفرح. والجذل: أصل كل شجرة حين يذهب رأسها، وصار الشيء إلى جذله أي أصله. وقوله: أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب، وحجيرها المأوب، فإنه تصغير جذل، وهو عود ينصب للإبل الجربی تحتك به من الجرب، وأراد أنه يستشفى برأيه کاستشفاء الإبل الجربی بالاحتكاك بذلك العود. وقيل: المحكك الذي حكکه الدهر حتى أحكمه: العين للخليل الفراهيدي: ج 6 ص 95
2- لنعيدها حذعة: وإذا طفئت الحرب من القوم يقال: إن شئتم أعدناها جذعة، أي أول ما يبتدأ بها: ينظر العين للفراهيدي: ج 1 ص 221

سعد الخزرجيّ وكان يحسد سعد بن عباده أن يصل إليه هذا الأمر وكان سيّداً في الخزرج وقال: إنّا لم نرد بجهادنا وإسلامنا أَّلا وجه ربّنا لا عوضاً من الدنيا، وإنّ محمّداً رجلٌ من قريش، وقومه أحقّ بميراث أمره وأتّقو الله ولا تنازعوهم معشر الأنصار، فقام أبو بكر فقال: هذا عمرو أبو عبيدة بايعوا أيّهما شئتم فقالا: لا يتولَّى هذا الأمر غيرك، وأنت أحقّ به ابسط يدك؛ فبسط يده فبايعاه وبايعه بشر بن سعد وبايعته الأوس کلَّهم، وحمل سعد بن عبادة، وهو مريض فأدخل منزله، وقيل: إنّه بقي ممتنعاً من البيعة حتّى مات بحوران في طريق الشام.

فلما بلغه هذه الأنباء قال عليه السلام: ما قالت الأنصار؟ قالوا قالت: منا أمير ومنكم أمير قال عليه السلام: «فَهَلَّا احْتَجَجْتُمْ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ رَسُولَ الله» صلى الله عليه وآله وسلم: «وَصَّی بِأَنْ يُحْسَنَ إِلَی مُحْسِنِهِمْ ويُتَجَاوَزَ عَنْ مُسِيئِهِمْ قَالُوا ومَا فِي هَذَا مِنَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: لَوْ كَانَ الإِمَامَةُ فِيهِمْ لَمْ تَكُنِ الْوَصِيَّةُ

بِهِمْ»: أعلم أن هذا الخبر؛ فهو في صورة شرطيّة متّصلة(1)، يستثنى فيها نقيض

ص: 127


1- الصورة الشرطية المتصلة: من أقسام القياس في علم المنطق، ومنه ما يطلق عليه (الاقتران الشرطي) والذي منه القضايا المتصلة، والمنفصلة وما يتألف منها في جميع الاقترانات، وإنها في صورة القياس غير الحقيقي؛ ولزيادة التفصيل راجع کتاب المنطق للشيخ محمد رضا المظفر: ص 274؛ وكذلك قال: الشنقيطي في أضواء البيان: ج 3 ص 315: ما مضمونه: ومثال الشرطية المتصلة اللزومية قولك: كلما كانت الشمس طالعة كان النهار موجوداً، لظهور التلازم بين الطرفين، ويكفي في ذلك حصول مطلق اللازمية دون التلازم من الطرفين، كقولك: كلما كان الشيء إنساناً كان حیواناً، إذ لا يصدق عکسه. فلو قلت: كلما كان الشيء حيواناً كان إنساناً لم يصدق، لأن اللزوم في أحد الطرفين لا يقتضي الملازمة في كليهما، ومطلق اللزوم تكون به الشرطية لزومية، أما إذا عدم اللزوم من أصله بين طرفيها فهي اتفاقية ومثالها: إذا كان الإنسان ناطقاً كان الحمار ناهقاً، وبسبب عدم التنبه للفرق بين الشرطية اللزومية، والشرطية الاتفاقية ارتبك خلق كثير من النحويين والبلاغيين في الكلام على معنى (لو) لأنهم أرادوا أن يجمعوا في المعنى بين قولك: لو كانت الشمس طالعة لكان النهار موجوداً، وبین قولك: لو لم يخف الله لم يعصه، مع أن الشرط سبب في الجزاء في الأول، لأنها شرطية لزومية، ولا ربط بينهما في الثاني لأنها شرطية اتفاقية، ولا شك أن من أراد أن يجمع بن المفترتین ارتبك، والعلم عند الله تعالى

تاليها(1)، وتقريرها: لو كانت الإمامة حقاً لهم لما كانت الوصية بهم(2)، لا كنها بهم؛ فليست الإمامة لهم، بيان الملازمة أنّ العرف قاض بأنّ الوصيّة، والشفاعة، ونحوها إنّما يكون إلى الرئيس في حقّ المرؤوس من غير عکس، وأمّا بطلان التالي للخبر المذكور.

ص: 128


1- نقيض تاليها: وهي: عبارة تستعمل في قياس القضايا الاستثنائية؛ يُنظر الإرشادات والتنبيهات لابو علي ابن سينا: ج 1: ص 281: قال: المتصلة التي تقع في الاستثنائية لا تكون إلا لزومية التي، وضعها الشيخ موجبة وهي تنتج باستثناء عين مقدمها عين تاليها وباستثناء نقيض تاليها نقيض مقدمها؛ لأن وضع الملزوم يوجب، وضع اللازم ورفع اللازم يوجب رفع الملزوم، ولا تنتج غير ذلك أي لا باستثناء عين التالي، ولا باستثناء نقيض المقدم، وذلك لأن التالي يحتمل أن يكون أعم من المقدم؛ فلا يلزم من وضعه أو رفع ما هو أخص منه شيء، والسالبة كقولنا: ليس البتة إن كان زيد يكتب؛ فَيَدَهُ ساكنة ينتج باستثناء عين كل جزء نقيض الآخر كقولنا: لكنه يكتب فَيَدَهُ ليست بساكنة لكن یَدَهُ ساكنة فهو لا يكتب ولا يَنْتِجُ باستثناء النقيض شيئاً وذلك لكون هذه المتصلة في قوة قولنا: كلما كان زيد يكتب فليست يده بساكنة والشيخ قد اقتصر بالموجبة لأن السالبة ترجع في الحقيقة إلى الموجبة
2- وهذا على سبيل الفرض لبيان الملازمة في القضية المنطقية: والمعنى: إن افتراض عدم وجود الإمامة بنفي وجود الوصية، وبما أن الإمامة لهم فالوصية فيهم، والعكس أيضاً صحيح؛ وإنما تحمل القضية على استثناء النقيض لبيان بطلان التالي كما أشار المصنف في تقريره، وهو: افتراض عدم صحة العكس ليثبت طرف القضية الأول وهو: إذا كانت الإمامة حقاً لهم فالوصية واجبة فيهم؛ ولو أفترض أن الوصية ليست واجبة فيهم فالإمامة ليس حقاً لهم، وهذا الاشتباه قد وقع فيه الكثير من أبناء العامة فقالوا مات رسول الله ولم يوصِ، وهذا كذب على رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) حيث أنه لا يخالف كتاب الله الذي أمر سبحانه وتعالى بالوصية كما قال عز وجل «كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ» سورة البقرة: الآية 180

ثم قال: فماذا قالت قريش قالوا احتجت بأنها شجرة الرسول صلى الله عليه وآله فقال: عليه السلام احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة: أشار بالثمرة إمّا إلى نفسه وأهل بيته؛ فإنّهم ثمرة الغصن الورق المثمر لتلك الشجرة، ولمّا استعير الشجرة لقريش استعار الثمرة لنفسه، وقد عرفت كيفية فرعيته عن رسول الله وكونه ثمرة لها وأضاعتهم إهمالهم له من هذا الأمر، ويحتمل أن يريد بالثمرة الَّتي أضاعوها سنّة الله الموجبة في اعتقاده استحقاقه لهذا لأمر وظاهر كونها ثمرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلَّم، وإهمالهم لها تركهم العمل بها في حقّه، وهو كلام في قوّة احتجاج له على قريش بمثل ما احتجّوا به على الأنصار.

وتقديره: أنّهم إن كانوا أولى من الأنصار لكونهم شجرة رسول الله فنحن أولى لكوننا ثمرة، وللثمرة اختصاص بالمثمر من وجهين: أحدهما: القرب ومزيّته ظاهرة. والثاني: أنّ الثمرة هي المطلوبة بالذات من الشجرة، وغرسها فإن كانت الشجرة معتبرة؛ فبالأولى اعتبار الثمرة، وإن لم يلتفت إلى الثمرة فبالأولى لا التفات إلى الشجرة، ويلزم من هذا الاحتجاج أحد أمرين: إمّا بقاء الأنصار على حجّتهم لقيام هذه المعارضة، أو كونه عليه السّلام أحقّ بهذا الأمر وهو المطلوب، والله سبحانه أعلم.

وَمن كَلامِهِ عَليّهِ السّلام

لمَاّ قَلّدَ محمد بن أبي بكر مصر فملكت: أخذت عليه وقتل: أعلم أنه عليه السّلام ولىّ محمّد بن أبي بكر بمصر فلمّا اضطرب الأمر عليه بعد صفّين وقوى أمر معاوية طمع في مصر، وقد كان عمرو بن العاص بایعه على أن يكون معه في قتاله عليه السلام ويكون له مصر طعمة، فبعثه إليها بعد صفّين في ستّة آلاف؛

ص: 129

فارس وقد كان فيها جماعة عظيمة ممّن يطلب بدم عثمان، وكانوا يزعمون أنّ محمّداً قتله فانضافوا إلى عمرو، وكان معاوية كتب إلى وجوه أهل مصر أمّا إلى سعاته فبالترغيب، وأمّا إلى أعدائه فبالترهيب، وكتب محمّد بن أبي بكر إليه عليه السلام بالقصّة يستمدّه بالمال والرجال؛ فكتب إليه بعده بذلك، فجعل محمّد يدعو أهل مصر لقتال عمرو؛ فأنتدب معه منهم أربعة آلاف رجل؛ فوجّه منهم ألفين عند كنانة بن بشر لاستقبال عمرو، وبقي هو في ألفين، وقتل من عسکر عمرو خلقاً كثيراً، ولم يزل يقاتل حتّى قتل هو ومن معه، فلمّا قتل تفرّق الناس عن محمّد، وأقبل عمرو يطلبه؛ فهرب منه متخفياً؛ فالتجئ إلى خربة أختبئ فيها فدخل عمرو فسطاطه، وخرج معاوية بن خديج الكندي، وكان من أمراء جيش عمرو في طلب محمّد؛ فظفر به وقد كاد يموت عطشاً؛ فقدّمه فضرب عنقه ثمّ أخذ جثّته فحشاها في جوف حمار میّت وأحرقه، وقد كان علي عليه السّلام وجّه لنصرته مع مالك بن کعب إلى مصر ألفي رجل فسار بهم خمس ليال وورد عليه السّلام بقتله وأخذ مصر، فخرج عليه السّلام عليه جزعاً ظهر أثره في وجهه ثمّ قال: رحم الله محمّداً كان غلاماً حدثاً.

والنهز: النهوض لتناول الشيء والفرصة النهضة، وهي: ما أمكنك من نفسك.

وإنّما أراد تولية هاشم لقوّته على هذا الأمر وكثرة تجاربه، وهاشم هذا ابن عتبة بن أبي وقّاص الَّذي کسر رباعية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم يوم أحد وكلم شفته، وكان هاشم من شيعة عليّ، والمخلصين في ولائه شهد معه حرب صفّين وأبلى فيه بلاءً حسناً واستشهد بين يديه بها وقوله: لما خلَّى لهم

ص: 130

العرصة أي عرصة الحرب کما فرّ محمّد، وظنّ أنّه ينجو بفراره، ولو ثبت لثبت معه الناس وقتل کریماً وقوله: ولا أنهزهم الفرصة كنّي بالفرصة عن مصر: أي ولم يمكنهم من تناولها كما تمكَّنوا مع محمّد وقوله: بلا ذمّ لمحمّد أي لست في مدحي لهاشم ذامّاً لمحمّد، ونبّه على براءته من استحقاق الذمّ بوجهين.

الأوّل: أنّه كان لي حبيباً وظاهر أنّه عليه السّلام لا يحبّ إلَّا مرضيّاً للهَّ ورسوله بريئاً من العيوب الفاضحة، وقد كان محمّد رضی الله عنه من نسّاك قريش وعبّادها.

الثاني: أنّه كان ربيباً له، وذلك ممّا يستلزم محبّته، وعدم ذمّه؛ فأمّا كونه ربیبا فلأنّ أم محمّد هي أسماء بنت عمیس، وكانت تحت جعفر بن أبي طالب وهاجرت معه إلى الحبشة؛ فولدت له عبد الله بن جعفر، وقتل عنها يوم موته؛ فتزوّجها أبو بکر؛ فأولدها محمّداً؛ ثمّ لمّا مات عنها تزوجها عليّ عليه السّلام؛ فكان محمّد ربيبته ونشأ على ولائه منذ صباه، وكان علىّ عليه السّلام يحبّه ويكرمه ويقول: محمّد ابني من ظهر أبی بکر وبالله التوفيق.

«وقَدْ أَرَدْتُ تَوْلِيَةَ مِصْرَ هَاشِمَ بْنَ عُتْبَةَ»: بن أبي وقاص على هذا الأمر «ولَوْ وَلَّيْتُه إِيَّاهَا لَمَّا خَلَّى لَهُمُ الْعَرْصَةَ»: عرصة الحرب أو مصر کما فر محمد، وضن أنه ينجوا بفراره ولو ثبت لثبت معه الناس وقتل کریماً «ولَا أَنْهَزَهُمُ الْفُرْصَةَ»: أي ولم يمكنهم الفرصة من تناول مصر کما تمكنوا من محمد «بِلَا ذَمٍّ لِمُحَمَّد»: أي لست في مدحي لهاشم ذامّاً لمحمّد، ونبّه على براءته من استحقاق الذمّ بقوله: «فَقَدْ كَانَ إِلَيَّ حَبِيباً»: وظاهر أنّه عليه السّلام لا يحبّ إلَّا مرضيّاً للهَّ ورسوله بريئاً من العيوب الفاضحة، وقد كان رضي الله عنه من نسّاك قريش وعبّادها «وكَانَ لِي رَبِيباً»: وذلك ممّا يستلزم محبّته وعدم ذمّه؛ فأمّا كونه ربیباً؛ فلأنّ أم محمّد هي أسماء بنت عمیس

ص: 131

وكانت تحت جعفر بن أبي طالب، وهاجرت معه إلى الحبشة، فولدت له عبد الله بن جعفر وقتل عنها يوم موته؛ فتزوّجها أبو بكر؛ فأولدها محمّداً ثمّ لمّا مات عنها تزوجها عليه السّلام، وكان يحبّه ويكرمه وبالله التوفيق.

وَمن كَلّامِ لهُ عَلّيهِ السَلّام في ذَمِ أَصحابه: وتوبيخهم لتقاعدهم عن النهوض معه إلى حرب أهل الشام «كَمْ أُدَارِيكُمْ»: وليس ذلك من شيم الرجال وذوي العقول بل من شأن البهائم ومن لا عقل له «كما تُدَارَى الْبِكَارُ»: جمع بِكِر وهو الفتى من الإبل «الْعَمِدَةُ»: التي انفضح داخل سناهما، وظاهره صحيح وجه الشبهة قلة صبرهم، وشدة إشفاقهم وفرارهم من التكليف من الجهاد، واستعانتهم كما يشتد جرجرة البكر العمد، وفرار من معاودة الحمل «والثِّيَابُ الْمُتَدَاعِيَةُ»: الخرق كان بعضها يدعو بعضاً بالإنخراق، وجه الشبهة قوله: «كُلَّمَا حِيصَتْ»: خيطت «مِنْ

جَانِبٍ تَهَتَّكَتْ»: انحرفت «مِنْ آخَرَ»: أي كما أن الثبات المتداعية كذلك، فكذلك أصحابه كلَّما أصلح حال بعضهم، وجمعهم للحرب فسد بعض آخر عليه، ثم شهد عليهم بالحين والخوف بقوله: «كُلَّمَا أَطَلَّ»: أشرف علیکم «مَنْسِرٌ مِنْ مَنَاسِرِ أَهْلِ الشَّامِ»: قطعة من الجيش من المائة إلى المائتين «أَغْلَقَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بَابَه»: عند سماعهم بقرب جيوش الشام كناية عن فرارهم من القتال، وكراهية سماعهم للحرب «وانْجَحَرَ انْجِحَارَ الضَّبَّةِ فِي جُحْرِهَا والضَّبُعِ فِي وِجَارِهَا»: بيتها حتى یری الصائد، أو أمراً يخافه، وإنما خص الإناث لأنها أولى بالمخافة من الذكور «الذَّلِيلُ والله مَنْ نَصَرْتُمُوه»: فإنّه إنّما يكون ذليلاً لكونهم كذلك، ويحتمل أن يشير بذلك إلى سوء رئيهم في التفرّق والاختلاف، ثمّ بالغ في ذلك بحصر الذلّ لكلّ منتصر بهم فيمن نصروه، ونبّه على قلَّة الانتفاع بهم بقوله: «ومَنْ رُمِيَ بِكُمْ فَقَدْ رُمِيَ بِأَفْوَقَ

نَاصِلٍ»: أي بسهم لا فوق له ولا نصل أستعار لهم من أوصاف السهم أرداها

ص: 132

وكني بذلك عن عدم فائدتهم «إِنَّكُمْ لَكَثِرٌ فِي الْبَاحَاتِ»: الباحة العرصة «قَلِيلٌ تَحْتَ الرَّايَاتِ»: وصفهم بالكثر في المجامع، والأندية مع قلَّتهم في الحرب وتحت الألوية، وذلك يعود إلى الذمّ بالجبن أيضاً والعار به؛ فإن قلَّة الاجتماع في الحرب، والتفرّق عنه من لوازم الخوف، وكما أنّ مقابل هذا وهو الاجتماع، والكثرة في الحرب مع الوله في غير مدح کما قال أبو الطيب المتنبي:

ثقال إذا لاقوا خفاف إذا دعوا ٭٭٭ قليل إذا عدّوا كثير اذا شدّوا(1)

فبالحريّ أن كان هذا الوصف ذمّاً كما قال عويف القوافي:

ألستم أقلّ الناس عند لوائهم ٭٭٭ وأكثرهم عند الذبيحة والقدر

«وإِنِّي لَعَالِمٌ بِمَا يُصْلِحُكُمْ ويُقِيمُ أَوَدَكُمْ»: عوجكم أراد أنه لا يصلح إلا السياسة بالقتل، ونحوه کما فعل الحجاج حين أرسل المهلب إلى الخوارج روي أنه نادي في الكوفة من تخلف عنه بعد ثلاث قد أحل دمه وقتل جماعة «والله لَا أَرَى إِصْلَاحَكُمْ بِإِفْسَادِ نَفْسِيِ»: أي لما لم يكن يستحيل من دماء أصحابة ما يستحيل ملوك الدنيا من رعيتهم إذا أرادوا أثبات ملكهم، ولو بفساد دينهم لأجرم لم ير اصلاحهم بالقتل إذا كان إصلاحهم بذلك سبباً لفساد نفسه؛ بلزوم إمامهم لها ولما كان من الواجب في الحكمة أن يكون أصلاح الإنسان للغير؛ فرعاً على أصلاح نفسه أولاً لم

ص: 133


1- يُنظر يتيمة الدهر لعبد الملك الثعالبي النيسابوري: ج 1: ص 143؛ بغية الطلب في تاريخ حلب لأحمد بن العقيلي الحلبي (ابن العديم) ص 671؛ والإيضاح في علوم البلاغة والمعاني والبيان والبديع للخطيب القزوني: ص 372

يتصور من مثله عليه السلام أن يفعل؛ فعلاً يستلزم فساد نفسه، وأن اشتمل على وجه من المصلحة، وكأني بك تقول الجهاد بين يدي الإمام العادل، واجب وله أن يحملهم عليه؛ فلم لم يسخر الجواب من وجهين أحدهما أنه ليس كل واجب يجب في تركه القتل كالحج الثاني: أنه عليه السلام لو شرع في عقوبتهم بالقتل في ترك الجهاد معه لنفروا عنه إلى خصمه؛ أو سلموه إليه وأتفقوا على قتله وكل هذه مفاسد أعظم من تقاعدهم عن دعوتهم لهم؛ في بعض الأوقات ثم دعا عليهم بالذل وغيره بقوله: «أَضْرَعَ الله»: ذلل «خُدُودَكُمْ وأَتْعَسَ»: اهلك «جُدُودَكُمْ»: حظوظكم أي صير بدل عناكم الفقر بينهم على استحقاقهم لدعائه وهي الجهل بقوله: «لَا تَعْرِفُونَ الْحَقَّ»: أي يلزمهم من أوامر الله «كَمَعْرِفَتِكُمُ الْبَاطِلَ»: أحوال الدنيا ويحتمل أن يشير به إلى ما يعرض لبعضهم من الشبه الباطلة في قتال أهل القبلة؛ فيوجب لهم التوقّف والتخاذل عن الحرب، ويكون مكاثرته بين معرفتهم للباطل، والحقّ تنبيهاً على قوّة جهلهم المركَّب، وهو أشدّ الجهل، وغایته توبيخهم بكونهم على قسمي الجهل، فالبسيط هوعدم معرفتهم للحقّ، والمركَّب هو تصديقهم بالباطل، وأمّا الظلم؛ فهو إبطالهم للحقّ، وذلك إشارة إلى تعاميهم عن طاعة الله، وتصاممهم عن سماع مناديه وإجابته، وعدم إبطالهم للباطل إشارة إلى عدم إنكارهم للمنكر من أنفسهم وغيرهم وبالله التوفيق.

«ولَا تُبْطِلُونَ الْبَاطِلَ كَإِبْطَالِكُمُ الْحَقَّ»: أشارة إلى تعاميمهم عن طاعة الله وتصامهم عن سماع منادیه وإجابته وعدم أبطالهم أشارة إلى عدم أنكارهم للمنكر من أنفسهم وغيرهم وبالله التوفيق.

قال عليه السلام في سُحْرَة اليوم الذي ضرب فيه:

هي السَحّرَ الأعلى وأما كيفية قتله عليه السلام فمذكور في التواريخ «مَلَكَتْنِي

ص: 134

عيَنْيِ»: استعارة حسنة وتجوّز في التركيب أمّا الاستعارة الملك للنوم، ووجه دخول النائم في غلبة النوم وقهره ومنعه له أن يتصرّف في نفسه كما يمنع الملك العبد من التصرّف في أمره، وأمّا التجوّز ففي العين وفي الإسناد إليها(1)أمّا الأول؛ فأطلق لفظ العين على النوم لما بينها من الملابسة إذ إطباق الجفون من عوارضها، وأمّا الثاني فإسناد الملك إلى النوم المتجوّز فيه بلفظ العين.

«وأَنَا جَالِسٌ»: جملة حاليه «فَسَنَحَ لِ رَسُولُ الله»: إحضار صورته في لوح خياله «فَقُلْتُ يَا رَسُولَ الله مَا ذَا لَقِيتُ مِنْ أُمَّتِكَ مِنَ الأَوَدِ واللَّدَدِ فَقَالَ ادْعُ عليهم»: أعلم أن شکایته منهم وجواب الرسول له يستلزم أمرين أحدهما: أنّه عليه السّلام كان في غاية الكرب من تقصيرهم؛ في إجابة ندائه ودعوته إلى الجهاد حتّى انتهت الحال إلى قتله.

الثاني: عدم رضا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم عنهم.

«فَقُلْتُ أَبْدَلَنِي الله بِهِمْ خَیْراً مِنْهُمْ وأَبْدَلَهُمْ بِي شَرّاً لَهُمْ مِنِّي»: هذا لا يستلزم أن يكون فيه شراً کما قدمنا بیانه قال السيد رضي الله، ويعني عليه السلام بالأود: الاعوجاج، وباللدد الخصام وهذا من أفصح الکلام: ومن كلام له في ذم أهل العراق، صدر عنه بعد حرب صفين بعد أن شارفوا النصرة على أهل الشام وتخاذلهم إلى التحكيم.

«أَمَّا بَعْدُ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ فَإِنَّمَا أَنْتُمْ كَالْمَرْأَةِ الْحَامِلِ حَمَلَتْ فَلَمَّا أَتَمَّتْ أَمْلَصَتْ أسقطت ولدها ومَاتَ قَيِّمُهَا وطَالَ تَأَيُّمُهَا ووَرِثَهَا أَبْعَدُهَا»: أعلم أن هذه

ص: 135


1- وفي الأسناد إليها: أشارة المسند والمسند إليه وتطبيقاته في اللغة كما أوضح المصنف في المتن أعلاه

الأوصاف هي وجود الشبه بينها وبينهم؛ فالحمل يشبه استعدادهم وتعبيتهم للحرب، والإتمام يشبه مشارفتهم للظفر، والإملاص رجوعهم عن عدوّهم بعد طمعهم في الظفر به وذلك رجوع غير طبيعيّ، ولا معتاد للعقلاء کما أنّ الإملاص أمر غير طبيعيّ للحامل، ولا معتاد لها، ثمّ موت القيّم بأمورها، وهو زوجها وطول غربتها، وذلك يشبه عدم طاعته لهم، الجاري مجری موته عنهم وطول ضعفهم لذلك، ودوام عجزهم، و ذلَّتهم بعد رجوعهم لتفرّقهم إلى خوارج وغيرهم؛ فإنّ موت قيم المرأة مستلزم لضعفها، ودوام عجزها وذلتها ثم كونها قد استحق میراثها البعيد عنها لعدم، ولدها وزوجها، وذلك يشبه من حالهم أخذ عدوّهم الَّذي هو أبعد الناس عنهم ما لهم من البلاد، واستحقاقه ذلك بسبب تقصيرهم عن مقاومته، وبهذه الوجوه من الشبه أشبهوا المرأة المذكورة، وتمّ توبيخهم من هذه الجهة، ثمّ أخبرهم على التضجّر من حاله معهم؛ بأنّه لم يأتهم إيثاراً للمقام بينهم، ولكن سوقاً قدريّاً اضطرّه إلى ذلك بقوله: أَمَا «والله مَا أَتَيْتُكُمُ اخْتِيَاراً ولَكِنْ جِئْتُ إِلَيْكُمْ سَوْقاً»: وصدق إذ لم يكن خروجه من المدينة الَّتي هي دار الهجرة، ومفارقة منزل رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلَّم، وقبره إلى الكوفة إلَّا لقتال أهل البصرة، وحاجته إلى الاستنصار بأهل الكوفة عليهم؛ إذ لم يكن جيش الحجاز وافياً بمقاتلتهم؛ ثمّ اتّصلت تلك الفتنة بفتنة أهل الشام؛ قدامت حاجته إلى المقام بينهم، وروی شوقاً بينهم بالشين المعجمة ثم، وبخهم على ما بلغه من تكذيبهم له، ومقابلته لهم على ذلك برد أحكام أوهامهم الفاسدة، وذمهم بجهلهم وقصور أفهامهم عما يفيده من الحكمة وهو قوله: «ولَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تَقُولُونَ عَلِيٌّ يَكْذِبُ»: وقد كان جماعة من منافقي أصحابه؛ إذا أخبر عن أمور ستكون، أو كانت ثمّ أخبر عنها وأسند ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه [وآله]

ص: 136

وسلَّم يتحادثون؛ فيما بينهم بتكذيبه؛ فيبلغه ذلك كإخباره عن قصّة الخوارج وما يكون بينهم، وغيره من الأمور الغريبة الَّتي تستنكرها طباع العوامّ، ولا يعقل أسرارها إلَّا العالمون، وقابل دعواهم بأمرين: أحدهما: الدعاء عليهم بقتال الله لهم «قَاتَلَكُمُ الله تَعَالَی»: وقد علمت أنّ قتاله يعود إلى مقته وإبعادهم عن رحمته.

والثاني: الحجّة «فَعَلَى مَنْ أَكْذِبُ أَعَلَى الله فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِه أَمْ عَلَى نَبِيِّه فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَه»: تقريرها أنّ الَّذي أخبركم به من هذه الأمور إنّما هو عن الله وعن رسوله صلى الله عليه [وآله] وسلَّم؛ فلو كذبت فيه لكذبت إمّا على الله وهو باطل لأنّي أوّل من آمن به، وأوّل مؤمن به لا يكون مكذّب عليه، أو على نبيّه وهو باطل لأنّي أوّل من صدّقه واتّبع ملته.

«كَلَّا والله لَكِنَّهَا لْهَجَةٌ غِبْتُمْ عَنْهَا ولَمْ تَكُونُوا مِنْ أَهْلِهَا»: يريد به بیان منشأ دعويهم الفاسدة لتكذيبه، وذلك كون ما يقوله: ويخبر به من الأمور المستقبلة ونحوها طوراً وراء عقولهم الضعيفة الَّتي هي بمنزلة؛ أوهام سایر الحيوان وليسوا لفهم أسرارها بأهل، وأشار باللهجة إلى تلك الأقوال وأسرارها، وبغيبتهم عنها إلى غيبة عقولهم عن إدراكها، ومعرفة إمكانها في حق مثله أو إلى غيبتهم عنها عند لقاء الرسول صلى الله عليه [وآله] وسلَّم، قوانينها الكلَّية وتعلمه لأبوابها، وتفصيل ما فصّل منها له، وظاهر أنّه لمّا كانت عقول أولئك وأمثالهم مقهورة تحت سلطان أوهامهم وكان الوهم مكذّباً، ومنكراً لمثل هذه الأحكام لا جرم لم تنتهض عقولهم لتصديقه عليه السّلام، فيها ولم تجوّز اطَّلاعه عليها بل تابعت؛ أوهامهم في الحكم بتكذيبه، وحاله في ذلك مختصرة من حال رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلَّم؛ مع منافقي قومه.

ص: 137

وقوله: «وَيْلُ أُمِّه»: في الأصل دعاء بالشرّ، وإضافته إلى الأمّ دعاء عليها أن تصاب بأولادها وقيل: إنّها تستعمل للرحمة، وقيل تستعمل للتعجّب واستعظام الأمر «كَيْلًا بِغَیْرِ ثَمَنٍ لَوْ كَانَ لَه وِعَاءٌ»: إشارة إلى ما يفيضه عليهم من الأخلاق الكريمة والحكم البالغة الَّتي لا يريد بها جزاءً، ولا ثمناً ثمّ لا يفقهونها ولا يهذّبون بها أنفسهم لكون نفوسهم غير مستعدّة لقبولها؛ فليس لها إذن من تلك الأنفس وعاء يقبلها، واستعار لفظ الكيل وکنّی به عن كثرة ما يلقيه إليهم منها وهو مصدر استغنی به عن ذكر فعله؛ فعلى هذا يحتمل أن يكون، ويل أمّه دعاء بالشرّ على من لم يفقه مقاله، ولم يقتبس الحكمة منه، والضمير لإنسان ذلك الوقت، وإن لم يجر له ذكر سابق مفرد يعود إليه لكنّه موجود في كلّ شخص منهم وكأنّه قال: ویل لامّهم، ويحتمل أن يكون ترحّماً لهم؛ فإنّ الجاهل مرحوم، ويحتمل أن يكون تعجّباً من قوّة جهلهم أو من كثرة كيله للحكم عليهم مع إعراضهم عنها.

وقوله: ولتعلمّن نبأه بعد حين اقتباس لهذه الآية المفصحة عن مقصوده: أي ولتعلمّن نبأ جهلكم وإعراضكم عمّا أمركم به وألقاه إليكم من الحكم والآراء الصالحة، وينكشف لهم ثمرة ذلك بعد حين.

وأشار بالحين إمّا إلى مدّة الحياة الدنيا، وثمرة أفعالهم إذن الندامة، والحسرة على ما فرّطوا في جنب الله حيث لا ينفع إلَّا الأعمال الصالحة، وذلك حين تزول عنهم غواشي أبدانهم، وتطرح نفوسهم جلابيبها بالموت، وإمّا إلى مدّة حياته هو: أي ستعلمون عاقبة فعلكم هذا بعد مفارقتي لكم، والعاقبة إذن ابتلاؤهم بمن بعده من بني أميّة، وغيرهم بالقتل والذلّ والصغار وبالله العصمة والتوفيق.

«ولَتَعْلَمُنَّ نَبَأَه بَعْدَ حِینٍ»: اقتباس لهذه الآية المفصحة عن مقصوده أي ولتعلمّن نبأ جهلكم، وإعراضكم عمّا أمركم به وألقاه إليكم من الحكم، والآراء

ص: 138

الصالحة، وينكشف لكم ثمرة ذلك بعد حين، وأشار بالحين إمّا إلى مدّة الحياة الدنيا وثمرة أفعالهم إذن الندامة، والحسرة على ما فرّطوا في جنب الله حيث لا ينفع إلَّا الأعمال الصالحة، وذلك حين تزول عنهم غواشي أبدانهم وتطرح نفوسهم جلابيبها بالموت، وإمّا إلى مدّة حياته هو: أي ستعلمون عاقبة فعلكم هذا بعد مفارقتي لكم والعاقبة إذن ابتلاؤهم بمن بعده من بني أميّة وغيرهم بالقتل والذلّ والصغار وبالله العصمة والتوفيق.

ومن خطبة له عليه السّلام علم فيها الناس الصلاة على النبي صلى الله عليه واله،

وقد اشتملت هذه الخطبة على ثلاثة فصول:

الأوّل: في صفات المدعوّ وتمجيده وهو الله سبحانه.

الثاني: في صفات المدعوّ له وهو النبيّ صلى الله عليه [وآله] وسلَّم.

الثالث: في صفات أنواع المدعوّ به وذلك هو الترتيب الطبيعيّ.

فبدأ ممجّداً للهَّ تعالى «اللهُمَّ دَاحِيَ الْمَدْحُوَّاتِ»: أي باسط الأرضين السبع وظاهر كونها مدحوّات؛ فإنّ كلّ طبقة منها إذا اعتبرت کانت مبسوطة، فأمّا صدق البسط على جملة الأرض على أنّها كرة بشهادة قوله «وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا»(1)«وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا»(2)فهو باعتبار طبقاتها، وقد يصدق عليها البسط باعتبار سطحها البارز من الماء الذي يتصرّف عليه الحيوان؛ فإنّه في الأوهام سطح مبسوط وإن كان عند الاعتبار العقلّي محدّباً، و إليه الإشارة بقوله تعالى «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ

ص: 139


1- سورة النازعات: الآية 30
2- سورة الحجر: الآية 19

الْأَرْضَ فِرَاشًا»(1)«وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا»(2)«ودَاعِمَ الْمَسْمُوكَاتِ»: أي حافظ السماوات أن تقع على الأرض.

ولك الاستفسار عما قال في الخطبة الأولى بلا عمد يدعمها، وجعلها هنا مدعومة حتى أقول أنه لم ينف هناك أن الدعامة التي تقوم بها السموات وهي قدرته تعالى «وجَابِلَ الْقُلُوبِ عَلَى فِطْرَتِهَا شَقِيِّهَا وسَعِيدِهَا»: أي خالق النفوس على ما خلقها عليه من التهيؤ، والاستعداد لسبيلي الخير والشر واستحقاق السعادة، والشقاوة بحسب القضاء الإلهيّ كما قال تعالى «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ٭ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ٭ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ٭ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا»(3)وأهل العرفان كثيراً مايعبرون عن النفس بالقلب وشقيّها وسعيدها بدل من القلوب: أي خالق شقيّ القلوب، وسعيدها على فطراتها المكتوبة في اللوح المحفوظ؛ فمن أخذت العناية الربانية بزمام عقله على، وفق ما كتب له فأعدّته لقبول الهداية لسلوك سبيل الله؛ فهو السعيد ومن لحقته حبائل القضاء الإلهيّ؛ فحطَّته إلى مهاوي الهلكة؛ فذاك هو الشقّي البعيد، وأشار إليه الحميد المجيد حيث قال «فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ»(4)«اجْعَلْ شَرَائِفَ صَلَوَاتِكَ ونَوَامِيَ بَرَكَاتِكَ عَلىَ مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ»: ذكر للنبيّ صلى الله عليه [وآله] وسلَّم، أحد وعشرين وصفاً هي جهات استحقاق الرحمة من الله وزيادة البركة المدعوّ بها «ورَسُولِكَ الْخَاتِمِ لِمَا سَبَقَ»: من أنوار الوحي والرسالة بنوره، وما جاء به من الدين الحقّ والفاتح لما انغلق من سبيل الله قبله، وطريق جنّته وحضرة قدسه باندراس الشرائع ففتحها بشرعه «والْمُعْلِنِ الْحَقَّ

ص: 140


1- سورة البقرة: الآية 22
2- سورة نوح: الآية 19
3- سورة الشمس: الآية 7 - 10
4- سورة هود: الآية 105

بِالْحَقِّ»: الأوّل هو الدين، والثاني فيه أقوال: فقيل: هو المعجزات إذ بسببها تمکَّن من إظهار الدين، وقيل: الحرب والخصومة، وقيل: هو البيان: أي اظهر الدين بالبيان الواضح، وأقول: الأشبه أنّه أراد: أظهر الحقّ بعضه ببعض، وكلّ جزئيّ من الحقّ حقّ، وذلك أنّ الدين لم يظهر دفعة، وإنّما بني الإسلام على خمس ثمّ كثرت فروعه، وبالأصل والفرع يظهر دين الحق «والدَّافِعِ جَيْشَاتِ الأَبَاطِيلِ»: أي لثوران فتن المشركين، وانبعاثهم لإطفاء أنوار الله، أو لفتنتهم السابقة الَّتي كانت معتادة من الغارات، وحروب بعضهم لبعض؛ فإنّ كلّ ذلك أمور باطلة على غير قانون عدل من الله «والدَّامِغِ صَوْلَاتِ الأَضَالِيلِ»: استعار الدمغ لهلاك الضلَّال، بالكلَّيّة ببركة مقدمه صلى الله عليه [وآله] وسلَّم، ووجهاً كونه مهلكاً للإنسان، فأشبه ما أهلك الباطل ومحاه من أفعال الرسول صلى الله عليه [وآله] وسلَّم، والضلال هنا: الانحراف عن طريق الله اللازم عن الجهل بها، واستعار وصف الصولات له، ملاحظة لتشبيه المنحرفين عن سبيل الله إلى الفساد في قوّة انحرافهم، وشدّة فسادهم بالفحل الصائل «كَمَا حُمِّلَ»: الرسالة «فَاضْطَلَعَ»: قوی بحمله «قَائِماً بِأَمْرِكَ مُسْتَوْفِزاً»: مستعجلاً مرضاتك أي صل عليه صلاة مناسبة مشابهة لتحميلك له الرسالة وقيامه بأمرها «غَیْرَ نَأكِلٍ عَنْ قُدُمٍ»: فيما فيه من طاعة الله.

«ولَاوَاهٍ فِي عَزْمٍ»: أي عزم القيام بأمر الله «وَاعِياً لِوَحْيِكَ»: قوي النفس على قوله: «حَافِظاً لِعَهْدِكَ»: المأخوذ عليه من تبليغ الرسالة وأداء الأمانة وقد سبق بیان معنى العهد في الخطبة الأولى «مَاضِياً عَلَى نَفَاذِ أَمْرِكَ»: في العالم وجذب الخلق إلى سلوك سبيله «حَتَّى أَوْرَى قَبَسَ الْقَابِسِ» أي اشتعل أنوار الدين، وقدح زناد الأفكار حتّى أظهر أنوار العلوم منها للمقتبسين، واستعار لفظ القبس لنور العلم والحكمة، ولفظ الورى لإظهار الرسول لتلك الأنوار في طريق الله، وقد سبق وجه

ص: 141

الاستعارة «وأَضَاءَ الطَّرِيقَ» طريق الجنّة والحضرة الإلهيّة، وإضاءته لها بإظهار تلك الأنوار وبيانها بتعليم كيفيّة سلوكها «لِلْخَابِطِ»: الجاهل الَّذي قصدت الحكمة الإلهيّة إرشاده حيث كان يخبط في ظلمات الجهل «وهُدِيَتْ بِهِ الْقُلُوبُ بَعْدَ خَوْضَاتِ

الْفِتَنِ والآثَامِ وأَقَامَ بِمُوضِحَاتِ الأَعْلَامِ»: أي الأدلة الواضحة على الحق «ونَیِّرَا الأَحْكَامِ»: المطالب الحقة الواضحة الأزمة عن تلك الأدلة بعدما كانت القلوب فيه من خوضات الفتن والآثام النازلة عما اجترحته السيئات فَهُوَ «أَمِينُكَ»: على حدود «الْمَأْمُونُ»: تأكيد لأمانته وقد عرفت معنى الأمانة «وخَازِنُ عِلْمِكَ الْمَخْزُونِ»: أي علومه اللدنيّة الغيبيّة المشار إليها بقوله تعالى «عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ»(1)«وشَهِيدُكَ يَوْمَ الدِّينِ وبَعِيثُكَ بِالْحَقِّ»: أي شاهداً يوم القيامة على أمّته بما علم منهم من خير، وشرّ قال عز سلطانه «فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا»(2)ولنكشف القناع عن حقيقة هذه الشهادة، وفائدتها فأقول وبالله التوفيق.

قد علمت فيما سلف أنّ للنفوس القدسيّة الاطَّلاع على الأمور الفانية والانتقاش بها مع كونها في جلابیب من أبدانها؛ فكيف بها إذا فارقت هذا العالم والجسم المظلم؛ فإنّها إذن تكون مطَّلعة على جميع؛ أفعال أممها ومشاهدة لها من خير أو شرّ، وأمّا فائدتها فقد علمت أنّ أكثر أحكام الناس وهميّة، والوهم منکر للإله على الوجه الَّذي هو إله فبالحريّ أن ينکر کونه عالماً بجزئيّات أفعال عباده ودقائق خطرات أوهامهم، وظاهر أنّ ذلك الإنكار يستتبع عدم المبالاة بفعل القبيح، والانهماك في الأمور الباطلة الَّتي نهى الله تعالى عنها؛ فإذا ذكر لهم أنّ

ص: 142


1- سورة الجن: الآيات: 26 - 27
2- سورة النساء: الآية 41

عليهم شهداء، ورقيباً وكتّاباً لما يفعلون مع صدق كلّ ذلك وأحسن تأويل كان ذلك ممّا يعين العقل على كسر النفس الأمّارة بالسوء وقهر الأوهام الكاذبة، ويردع النفس عن متابعة الهوى؛ ثمّ لا بدّ لكلّ رسول من ابناء على دينه، وحفظة له، هم شهداء أيضاً على من بعده إلى قيام الساعة، وإذا كان معنى الشهادة يعود إلى اطَّلاع الشاهد على ما في ذمّة المشهود عليه، وعلمه بحقيقته، وفائدتها حفظ ما في ذمّة المشهود عليه، وتخوّفه أن جحده؛ أو لم يوصله إلى مستحقّه؛ أن يشهد عليه الشاهد فيفضحه، وينتزع منه على أقبح وجه، وكان هذا المعنى، والفائدة قائمين في شهادة الأنبياء عليهم السّلام؛ إذ بها تتحفّظ أو أمر الله، وتكاليفه الَّتي هي حقوقه الواجبة، ويحصل الخوف للمقصّرين؛ فيها بذكر شهادة الرسل عليهم بالتقصير فيفتضحوا في محفل القيامة ويستوفي منهم جزاء ما كلَّفوا به فقصروا فيه بالعقاب الأليم، لا جرم ظهر معنی کونهم شهداء الله على خلقه «وَبعيّنكْ»: مبعوثك بالحق، الدين الثابت الباقي نفعه، وثمرته في الآخرة ثم أعاد ذکر کونه رسولاً للهَّ بقولك ورسولك إلى الخلق لأنه الأصل في باقي الأوصاف، وظاهر أن کون هذه الأوصاف جهات استحقاق الرحمة، والبركة وإفاء الصلوات الإلهيّة على نفسه القدسيّة، ثم شرع في تفصيل المطلوبات من هذا الدعاء «اللهُمَّ افْسَحْ لَهُ مَفْسَحاً فِي ظِلِّكَ»: أي مكاناً متسعاً في حضرة قدسه وظلّ وجوده، ولفظ الظلّ مستعار للجود، ووجه المشابهة راحة المستظلّ بالظلّ من حرّ الشمس فأشبهها راحة الملتجيء إلى جود الله المستظلّ به من حرارة جهنّم وسعير عذابه، وإليه الإشارة بقوله تعالى «وَظِلٍّ مَمْدُودٍ»(1)«واجْزِهِ مُضَاعَفَاتِ الْخَیِرْ مِنْ فَضْلِكَ»: أي يضاعف له الکمالات من نعمه، وقد مر أن مراتب استحقاق نعم الله غير متناهية «اللهُمَّ وأَعْلِ عَلَى بِنَاءِ الْبَانِینَ بِنَاءَهُ»: ويحتمل أن يريد ببنائه ما شيّده من الدين

ص: 143


1- سورة الواقعة: الآية 30

فيكون أعلاه المطلوب هو إتمام دینه، وإظهاره بعده على الأديان كلَّها، ويحتمل أن يريد به ما شيّده من الملكات الخيريّة واستحقّه من مراتب الجنّة وقصورها «وأَكْرِمْ لَدَيْكَ مَنْزِلَتَهُ»: أي أنزله المنزل المبارك الموعود «وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا»(1)«وأَتْمِمْ لَهُ نُورَهُ»: الَّذي بعث به وإتمامه وانتشاره في قلوب العالمين، أو النور الَّذي في جوهر ذاته وتمامه زيادة كماله «واجْزِهِ مِنِ ابْتِعَاثِكَ لَهُ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ»: مفعول أجر «مَرْضِيَّ الْمَقَالَةِ»: وقبول شهادته كناية عن تمام الرضى عنه إذ من كان مقبول الشهادة مرضىّ القول؛ فلا بدّ وأن يكون بريئاً من جهات الرذائل المسخطة، أو كناية عن كون معتقداته، ومشاهداته من أعمال أمّته وغيرها بريئة عن كدر الأغاليط وشوائب الأوهام، وكذلك رضا أقواله في شفاعته وغيره.

«ذَا مَنْطِقٍ عَدْلٍ»: لا جور فيه عن الحقّ «وخُطْةٍ»: خصلة «فَصْل»: مميّزة للحقّ فاصلة له من الباطل، وكلّ هذه الاعتبارات وإن اختلفت مفهوماتها ترجع إلى مطلوب زيادة كمالاته عليه السّلام وقربه من الله «اللهُمَّ اجْمَعْ بَيْنَنَا وبَيْنَهُ»: محمد «فِي

بَرْدِ الْعَيْشِ»: العرب يقول: عیش بارد إذا كان لا كلفة فيه من حرب وخصومة، وهو في الآخرة يعود إلى ثمرات الجنّة البريئة من كدر الأتعاب: «وقَرَارِ النِّعْمَةِ»: مستقرّها وهو الجنّة وحضرة ربّ العالمين: «ومُنَى الشَّهَوَاتِ»: ما تتمنّاه النفس من الشهوات «وأَهْوَاءِ اللَّذَّاتِ»: هو ما تهواه من اللذّات بنعيم الأبد «ورَخَاءِ

الدَّعَةِ ومُنْتَهَى الطُّمَأْنِينَةِ»: أي اتّباع سكون النفس بلذّة مفارقة الحقّ والأنس بالملأ الأعلى وأمنها من مزعجات الدنيا وراحتها من معاناة آفاتها «وتُحَفِ الْكَرَامَةِ»: وهي ثمرات الجنّة وقطوفها الدانية وسائر ما أعدّه الله لتحف أوليائه الأبرار ممّا لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ومن الله الهداية.

ص: 144


1- سورة المؤمنون: الآية 29

ومن كلام له عليه السّلام لمروان بن الحكم بالبصرة

قالوا: «أخذ مروان بن الحكم أسيرا يوم الجمل، فاستشفع الحسن والحسين عليهما السلام إلى أمير المؤمنين عليه السّلام فكلماه فيه، فخلى سبيله، فقالا له: يبايعك يا أمير المؤمنين فقال عليه السّلام: «أَو لَمْ يُبَايِعْنِي بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ»: ضمير الكف قبل الذكر «كَفٌّ يَهُودِيَّةٌ لَوْ بَايَعَنِي بِكَفِّهِ لَغَدَرَ بِسَبَّتِهِ»: أسته ذکرها إهانة له لأنّ الغدر من أقبح الرذائل فنسبته إلى السّبة أولى النسب. والعرب تسلك مثل ذلك في كلامها قال المتوكَّل يوماً لأبي العيناء: إلى متى تمدح الناس وتذمّهم. فقال: ما أحسنوا وأساؤا، ثمّ قال: يا أمير المؤمنين: إنّ الله تعالى رضى فمدح فقال «نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ» وسخط فذمّ فقال: «عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ» والزنيم ولد الزنا «أَمَا إِنَّ لَهُ إِمْرَةً كَلَعْقَةِ الْكَلْبِ أَنْفَهُ»: ونبّه على قصر مدّة إمارته بتشبيهها بلعقة الكلب أنفه، ووجه الشبه هو القصر، وكانت مدّة إمرته أربعة أشهر وعشراً، وروی ستّة أشهر، وإنّما خصّه بلعقة الكلب لأنّه في معرض الذمّ، والبحث في أمّا کهو في قوله: أمّا أنّه سيظهر عليکم «وهُوَ أَبُو الأَكْبُشِ الأَرْبَعَةِ»: وكان له أربعة ذكور لصلبه وهم عبد الملك وولى الخلافة، وعبد العزيز وولى مصر، وبشر وولى العراق، ومحمّد وولى الجزيرة، ويحتمل أن يريد بالأربعة أولاد عبد الملك وهم الوليد وسلیمان ویزید وهشام كلَّهم ولوا الخلافة ولم يلها أربعة إخوة إلَّا هم.

«وسَتَلْقَى الأُمَّةُ مِنْهُ ومِنْ وَلَدِهِ يَوْماً أَحْمَرَ»: أي شديد ويروي يوماً أحمر وهو كناية عن شدة أمرهم، ووصفه بالحمرة كناية عن شدته، ومن لسان العرب وصف الأمر الشديد بالأحمر، ولعلَّه لكون الحمرة وصف الدم کنّی به عن القتل وهو إشارة إلى ما يصدر منه، ومن ذريته الفساد في الأرض، وما يلقي وغيره وفسادهم ودمارهم للإسلام، وأهله مشهور في كتب التواريخ.

ص: 145

ومن كلام له عليه السّلام لما عزموا على بيعة عثمان

«قَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَحَقُّ النَّاسِ بِهَا مِنْ غَیْرِي»: إلى ما عملوه من وجه استحقاقه الخلافة وهو استجماع الفضائل الداخلية والخارجية «واللهِ لأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ»: أي لأتركن المنافسة في هذا الأمر مهما سلمت أمور المسلمين من الفتنة، وفيه إشارة إلى أنّ غرضه عليه السّلام من المنافسة في هذا الأمر هو: صلاح حال المسلمين واستقامة أمورهم وسلامتهم عن الفتن؛ وها هنا السؤال من وجهين: أما وجه منافسة هذا الأمر مع أنه منصب متعلق بأمور الدنيا، وصلاحها السؤال من وجهين أما وجه منافسة في هذا الأمر مع أنه منصب متعلق بأمور الدنيا وصلاحها مع ما أشتهر منه عليه السلام من الزهد فيها والأعراض عنها وذمها ورفضها الثاني كيف سلم هاهنا خوف الفتنة، ولم يسلم لمعوية وطلحة، والزبير قيام الفتنة في حربهم والجواب عن الأول أن منصب رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم ليس منصباً دينياً، وأن كان متعلقاً بإصلاح أحوال الدنيا؛ لكن لا لكونها دنیا بل لأنّها مضمار الآخرة ومزرعتها، والغرض من إصلاحها إنّما هو نظام أحوال الخلق في معاشهم، ومعادهم فمنافسته عليه السّلام في هذا الأمر على هذا الوجه؛ من الأمور المندوب إليها إذا اعتقد أنّ غيره لا يغني غناه في القيام به فضلاً أن يقال: إنّها لا تجوز.

وعن الثاني: أنّ الفرق بين الخلفاء الثلاثة وبين معاوية في إقامة حدود الله والعمل بمقتضى أوامره ونواهيه ظاهر «ولَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّته الْتِمَاساً لأَجْرِ ذَلِكَ وفَضْلِه»: ألتماساً مفعول له والعامل لأسلمن ثواب الله بتسليمي وصبري وفضيلتي وكذلك زهداً في قوله «وزُهْداً فِيمَا تَنَافَسْتُمُوه مِنْ زُخْرُفِه»: ذهبه «وزِبْرِجِه»: زينته وفيه إيماء؛ إلى أن مقصود غيره طلب هذا الأمر والمنافسة

ص: 146

فيه عظيم فإنّ بعضهم قد لا يحسّ بما يجري في حضرة الملك من استغراقه بهيبته، وبمن يشغله أمر مهمّ يفکَّر فيه.

روى: أنّ يحيى بن زكريّا عليه السّلام؛ مرّ بامرأة فدفعها على وجهها، فقيل له: لم فعلت فقال: ما ظننتها إلَّا جدارا.

الثانية: مراقبة الورعين من أصحاب اليمين وهم قوم غلب قلبهم اطَّلاع الله تعالى وعلى ظاهرهم، وباطنهم ولكن لم تدهشهم ملاحظة الجلال بل بقيت قلوبهم على الاعتدال متّسعة للتلفّت إلى الأقوال والأعمال؛ إلَّا أنّها مع ممارستها للعمل لا تخلو عن المراقبة، وقد غلب الحياء من الله على قلوبهم؛ فلا يقدمون ولا يجمحون إلَّا عن تثبّت فيمتنعون عن كلّ أمر فاضح في القيامة إذ يرون الله تعالى مشاهدا لأعمالهم في الدنيا كما يرونه في القيامة، ومن كان في هذه الدرجة؛ فيحتاج أن يراقب جميع حركاته، وسکناته، ولحظاته وجميع اختیاراته، ويرصد كلّ خاطر یسنح له؛ فإن كان إلهيّا يعجّل مقتضاه، وإن كانت شیطانیّا بادر إلى قمعه واستحياء من ربّه ولام نفسه على اتّباع هواه فيه، وإن شكّ فيه توقّف إلى أن يظهر له بنور الله سبحانه من أيّ جانب هو؛ كما قال عليه السّلام: «الهوى شريك العمى»(1)ومن التوفيق التوقّف عند الحيرة، ولا يهمل شيئاً من أعماله وخواطره وإن قلّ ليسلم من مناقشة الحساب فقد قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أن الرجل ليسئل عن كحل عينيه وعن لمسه ثوب أخيه»(2).

ص: 147


1- عيون المواعظ والحكم: لعلي بن محمد الليثي الواسطي: ص 50
2- قوت القلوب في معاملة المحبوب لأبي طالب المكي ص 274؛ إحياء علوم الدين للغزالي: ج 14 ص 170؛ وكذلك في: ج 15 ص 16

ومن كلام له عليه السلام لما بلغه اتمام بني أمية له بالمشاركة في دم عثمان.

«أَولَمْ يَنْه بَنِي أُمَيَّةَ عِلْمُهَا بِي عَنْ قَرْفِي»: تهمتي «أَومَا وَزَعَ الْجُهَّالَ سَابِقَتِي عَنْ تُهَمَتِي»: استفهام من عدم انتهائهم عن نسبته إلى دم عثمان؛ مع علمهم بحاله وقوّته في الدين، وعصمته عن دم حرام فضلاً عن مثل دم عثمان استفهاماً على سبيل الإنكار والتعجّب منهم، ونسبة لهم إلى الجهل بمناسبة حاله، وسابقته في الإسلام لبراءته عمّا قرفوا به «ولمَا»: بمعنى الذي «وَعَظَهُمُ اللهُ بِهِ أَبْلَغُ مِنْ لِسَانِي»: من أطلاق أسم السبب، وهو تعذير لنفسه في عدم ردعه عن الفتنة، وأمثالها أي إذا كان وعظ الله لهم مع كونهم أبلغ من كلامي لا يرد عنهم فكلامي بطريق الأولى وزواجر کتاب الله «إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا»(1)«وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا»(2)ونحوها «أَنَا حَجِيجُ» محاج المارقين الخوارج أو كل من خرج من الدين الله «الْمَارِقِینَ وخَصِيمُ النَّاكِثِینَ الْمُرْتَابِینَ وعَلَى كِتَابِ اللهِ تُعْرَضُ الأَمْثَالُ وبِمَا فِي الصُّدُورِ تُجَازَى الْعِبَادُ»: إشارة إلى الحجّة الَّتي يحجّ بها، ويخاصهم، وتقريرها: أنّ تعلَّق هذا المنكر به إمّا من جهة أقواله، وأفعاله، واعتقاداته وإرادته، والثلاثة باطلة فتعلَّق هذا المنكر به ونسبته إليه باطلة. بیان الحصر أنّها هي جهات صدور المنكر عن الإنسان.

وبيان بطلان الأوّل والثاني أنّه إن كان قد حصل في أقواله وأفعاله ما يشبه الأمر بالقتل أو فعله فأوقع في نفوس شبهة القتل نحو ما روی منه لمّا سئل عن قتل عثمان: الله قتله وأنا معه، وكتخلَّفه في داره یوم قتل عن الخروج، فينبغي أن

ص: 148


1- سورة الحجرات: الآية 12
2- سورة الأحزاب: الآية 85

يعرض ذلك على كتاب الله تعالى؛ فإنّه عليه تعرض الأمثال والأشباه فإن دلّ على کون شيء من ذلك قتلا فليحكم به وإلَّا فلا، ولن يدلّ أبداً؛ فليس لهم أن يحكموا بالقتل من جهة قول أو فعل، وأمّا بطلان الثالث؛ فلأنّ علم ما في القلوب إلى الله وهو الجازي بما فيها من خير أو شرّ وليسوا مطَّلعين على ما هناك حتّى يحكموا بالقتل من جهتها فإذن حكمهم بتعلَّق هذا المنكر به باطل وبالله التوفيق.

ومن خطبة له عليه السّلام:

«رَحِمَ الله امْرَأً سَمِعَ حُكْماً فَوَعَى» فهم «ودُعِيَ إِلَی رَشَادٍ فَدَنَا»: من الداعي إليه وأجاب دعاؤه، وهو يعود إلى ما يهديه، ويرشده إلى طريق معاشه، ومعاده من العلوم والأعمال الَّتي وردت بها الشريعة «وأَخَذَ بِحُجْزَةِ»: ذیل «هَادٍ فَنَجَا»: أي يكون في سلوكه لسبيل الله مقتديا بأستاذ مرشد عالم لتحصل به نجاته، واستعار لفظ الحجزة لأثر الأستاذ وسنّته، ووجه المشابهة كون ذهن المقتدى لازماً لسنّة شيخه في مضايق طريق الله، وظلماتها لينجو بها كما يلزم السالك لطريق مظلم لم يسلكه قبل بحجزة آخر قد سلك تلك الطريق، وصار دليلا فيها ليهتدي به، وبين أهل السلوك خلاف في أنّه هل يضطرّ المريد إلى الشيخ في سلوكه أم لا، وأكثرهم يرى وجوبه، ويفهم من كلامه عليه السّلام، وجوب ذلك ويتمسك به الموجبون له؛ إذ كان لسان العارفين، ومنتهی طبقاتهم وظاهر أنّ طريق المريد مع الشيخ أقرب إلى الهداية وبدونه الحصول أطول؛ وأقرب إلى الضلالة عنها، فلذلك قال عليه السّلام: فنجا: أي أنّ النجاة معلَّقة به، وقد ذكرنا ما احتجّ به الفريقين في كتاب مصباح العارفين «رَاقَبَ»: حافظ رَبَّه: إحدى ثمرات الإيمان وهي: رتبة عظيمة من رتب السالكين قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم: «أعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه

ص: 149

فإنّه فإنه يراك»(1)قال عز من قائل «أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ»(2)وقال «إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا»(3)وإن شئت فأستمع لما أتلوا عليك من غرائب الكلام بأذن الله المهيمن السلام قال بعض المحققين: «مراعاة» القلب للرقيب واشتغاله به وأمّا العلم المثمر لها؛ فهو العلم بأنّ الله تعالى مطَّلع على الضمائر والسرائر قائم على كلّ نفس بما كسبت، وأنّ سرّ القلوب مكشوف له كظاهر البشرة للخلق بل هو أشدّ ظهوراً؛ فهذه المعرفة إذا استولت على القلب، ولم يبق فيها شبهة، فلا بدّ أن تجذبه إلى مراعاة الرقيب، والموقنون بهذه المعرفة؛ فمنهم الصدّيقون ومراقبتهم التعظيم والإجلال، واستغراق القلب بملاحظة ذلك الجلال، والانكسار تحت الهيبة، والعظمة بحيث لا يبقى فيه متّسع للالتفات إلى الغير أصلاً وهي: مراقبة مقصورة على القلب، وأمّا الجوارح فإنّها تتعطَّل عن التلفّت إلى المباحات فضلاً عن المحظورات، وإذا تحرّكت بالطاعة كانت کالمستعمل لها فلا تصلح لغيرها، ولا يحتاج إلى تدبير في ضبطها على سنن السداد، ومن نال هذه الرتبة؛ فقد يغفل عن الخلق حتّى لا يبصرهم، ولا يسمع أقوالهم، ومثّل هذا بمن يحضر في خدمة ملك(4)«وخَافَ ذَنْبَه»: أي من العقاب علیه «قَدَّمَ خَالِصاً»: أي يكون أحواله كلَّها خالصة للهَّ من قول أو عمل «وعَمِلَ صَالِحاً»: أتی به کما أمر وهو نوع مما يقدمه «اكْتَسَبَ

ص: 150


1- مصباح الشريعة للإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: ص 8؛ الصمت وآداب اللسان لأبي الدنيا: ص 42؛ والمعجم الكبير للطبراني: ج 20 ص 175؛ والأمالي للشيخ الطوسي: ص 562
2- سورة الرعد: الآية 33
3- سورة النساء: الآية 1
4- ما بين معقوفين لم يرد في المخطوط ولعل سقط من المصنف وورد في بعض النسخ للنهج وفي بعض مصادره کمصادر نهج البلاغة وأسانيده للسيد عبد الزهرة الحسيني ج 2 ص 72، وكذلك نسخة صبحي الصالح ص 103، ونسخة محمد عبده ج 1 ص 125

مَذْخُوراً»: أمر بسائر ما أمرت الشريعة باكتسابه ونبّه على وجوب السعي فيه بأنّه يبقى ذخراً ليوم الفاقة إليه «واجْتَنَبَ مَحْذُوراً»: أمر باجتناب ما نهت الشريعة عنه، ونبّه على وجوب اجتنابه بكونه محذورا يستلزم العقاب في الآخرة «ورَمَى غَرَضاً»: الذي نوي عن نفسه ويروي عرضاً بمعنی متاعها «وأَحْرَزَ عِوَضاً»: أي أدخر في جوهر النفس ملكات الخير، ووجه سره إلى مطالعة أنوار کبریاء الله ونعم العوض هي؛ متاع الدنيا وأعراضها الفانية «كَابَرَ هَوَاه»: أي طوع نفسه الأمارة بالسوء بالأعمال الدينية، وراقبها في كل خاطر يلقنه إلى نفسه، وقابلها بقمعه «وكَذَّبَ مُنَاه»: قابل ما يلقيه إليه الشيطان من الأماني، ويعده به بالتكذيب والقمع له بتجویز عدم نیلها، ويحسم بالمراقبة فإنّ الوساوس الشيطانيّة يتبع بعضها بعضاً، ومن إشاراته عليه السّلام إلى ذلك: «إيّاكم والمني فإنّها بضائع النوكي»: أي الحمقى.

«جَعَلَ الصَّبْرَ مَطِيَّةَ نَجَاتِه»: هو مقاومة النفس لئلَّا تنقاد إلى قبائح اللذّات، وقد استعار المطيّة كذلك «والتَّقْوَى عُدَّةَ وَفَاتِه»: أراد به الإيمان، وظاهر كونه عدّة وافية من عذاب أهوال الموت وما بعده «رَكِبَ الطَّرِيقَةَ الْغَرَّاءَ ولَزِمَ الْمَحَجَّةَ الْبَيْضَاءَ»: الجادة الواضحة وفرق بين هذا الأوامر والذي قبله أن الأول أمر بركوبها والثاني أمر بلزومها وعدم مفارقتها فأنها وأن كانت واضحة إلا أنها طويلة كثيرة المخاوف وسالكها أبداً محارب الشيطان «اغْتَنَمَ الْمَهَلَ»: أيام مهلته «وبَادَرَ الأَجَلَ وتَزَوَّدَ مِنَ الْعَمَلِ»: أمر بما يتبادر إليه من اتحاد العمل زاداً وقد سبق وجه استعارة الزاد له وقد راعى عليه السلام في كل قرينتين من هذا الكلام السجع المتوازي، وجعل الصدر ثلثاً والآخر ثلثاً، وعطف كل قرينه على مشاركتها في الحرف الأخير منها، وحذف حرف العطف من الباقي ليتميز ما يتناسب منها عن غيره وكل ذلك بلاغة والله سبحانه أعلم.

ص: 151

ومن كلام له عليه السلام

«إِنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَيُفَوِّقُونَنِي تُرَاثَ مُحَمَّدٍ»(1): الفيء الحاصل ببركة محمّد صلى الله عليه وآله وسلَّم، وهو التراث اللغويّ المكتسب عن الميّت بوجه المشابهة، قلة ما يعطونه منه مع كونه في دفعات کما يعطي الفصيل ضرع أمه لتدر ثم يدفع عنها لتحلب ثم يعاد إليها لتذر، ثم أقسم ان بقي لبني أمية ليحر منهم التقدم في الأمور فقال «والله لَئِنْ بَقِيتُ لَهُمْ لأَنْفُضَنَّهُمْ نَفْضَ اللَّحَّامِ الْوِذَامَ التَّرِبَةَ»: شبّه نفضه لهم بنفض القصّاب القطعة من الكبد؛ أو الكرش من التراب إذا أصابته، ويروي التراب الوذمة، يشبه أن يكون سهواً من الناقلين وقد ورد عنه هذا الكلام بزيادة ونقصان في رواية أخرى وذلك أنّ سعید بن العاص حيث كان أمير الكوفة من قبل عثمان؛ فقال والله لا يزال غلام بني أمية يبعث إلينا ما أفاء الله على رسوله بمثل قوت الأرملة، والله لأن بقيت لأنفضها نفض القصاب الوذام التربة.

قال السيد رضي الله عنه: ليفوقونني أي يعطونني من المال قليلاً كفواق الناقة وهو الحلبة الواحدة من لبنها، والوذام جمع وذمة وهي الحزة من الكرش: أي القطعة من الكرش أو الكبد تقع في التراب فتنفض.

ومن كلمات كان يدعو بها «اللهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِه مِنِّي»: ممّا هو عند الله معصية وسيّئة في حقّه وهو لا يعلمها فيفعلها.

ص: 152


1- ورد في بعض النسخ: تراث محمد صلى الله عليه وآله تفويقاً، والتفويق هو: القليل من المال بمعنى: أن بني أمية نهبوا مال الله وكان زعيمهم عثمان بن عفان ومن ومن بعده وعلى سنته معاوية بن أبي سفيان وقد أشار الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام إلى ذلك في خطبته الشقشقية فقال: فقام ثالث القوم نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع) يُنظر نهج البلاغة الخطبة الشقشقية، ص 49

أعلم أن مغفرة الله عبده تعود إلى ستره عليه؛ أن يقع في مهاوي الهلكات في الآخرة، أو تكشف مقابحه لأهل الدنيا فيها، وكل ذلك يعود إلى توفيقه لأسباب السعادة وحديه عن متابعة الشيطان في المعاصي قبل صدورها منه وقبل صيرورتها ملكات في جوهر النفس «فَإِنْ عُدْتُ فَعُدْ عَلَيَّ بِالْمَغْفِرَةِ اللهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا اوَأَيْتُ: وعدت مِنْ نَفْسِيِ ولَمْ تَجِدْ لَه وَفَاءً عِنْدِي»: أي وفاء عندي أي ما وعد من نفسه أن يفعله لله ثم لم يوف به.

وما هنا مصدرية ولا شك أن بطالة النفس بفعل الخير وعدم الوفاء به أنما يكون عن خاطر شیطاني يجب أن يستغفره منه «اللهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا تَقَرَّبْتُ بِه

إِلَيْكَ بِلِسَانِ ثُمَّ خَالَفَه قَلْبِي»: أي من الأعمال الصادرة عني بالرياء والسمعة، وذلك شرك خفي جاذب عن الترقي في درجات العلي، ويحتاج إلى تدارك الله له بالمغفرة والجذب عنه قبل تمكنه من النفس «اللهُمَّ اغْفِرْ لِي رَمَزَاتِ الأَلْحَاظِ»: أي الإشارات باللحظ، وهو الإيماء الخارج عن الحدود الشريعة كما يفعل عند التنبيه على شخص ليعاب أو ليضحك منه أو يظلم، وكلّ ذلك عن خواطر شيطانيّة ينبغي أن يسأل الله تعالى رفع أسبابها وستر النفس عن التدنّس بها.

«وسَقَطَاتِ الأَلْفَاظِ»: الردئ من القول هو ما تجاوز حدود الله وخرج بها الإنسان عن الصراط المستقیم «وشَهَوَاتِ الْجَنَانِ»: فمن روي بالشين المعجمة فالمراد جذب القوة الشهوانية للنفس إلى مشتهياتها، ومن روي بالسين کما في نسخة الرضي رضي الله عنه فسهوات القلب خواطره التي لا تشعر بتفصيلها إذا خالفت أوامر الله وقد يستتبع حركة بعض الجوارح إلى فعل خارج عن حدود الله أو تستلزم تركاً للمأمور به، وذلك وأن كان لا يوجب أثراً في النفس، ولا يؤاخذ به العبد في مبدأ الأمر إلا أنه ربما يقوي بفوات أسبابه وكثرتها؛ فينقطع العبد عند

ص: 153

سلوك سبيل الله كما في حق المنهمكين في لذات الدنيا؛ فإن احدهم ربما رام ثم يصلي الفرض فيصلي الصلاة الواحدة مرتين أم مراراً لا يدرك عدد ركعاتها وغفر مثل ذلك يجذب العبد عن الأسباب الموجبة له «وهَفَوَاتِ اللِّسَانِ»: أي الزلل الحاصل من قبله، ومادّته أيضاً خاطر شیطانیّ، وغفره للعبد بتوفيقه لمقاومة هواه، وقد أستغفر الله تعالى من المعاصي المتعلقة بكل، واحد من الجوارح، ومن أوجبوا عصمته عليه السلام عن المعاصي حملوا طلبه لمغفرة هذه الأمور على وجهين:

أحدهما: أنه تقدیر وقوعها منه فكأنّه قال: عليه السلام اللهمّ إن صدر عنّی شيء من هذه الأمور فاغفره لي، وقد علمت أنّه لا يلزم من صدق الشرطيّة صدق كلّ واحد من جزئيها؛ فلا يلزم من صدق الشرطية صدق كل واحد من جزئها.

الثاني: أنّهم حملوا على تعليم الناس كيفيّة الاستغفار من الذنوب أو على التواضع والاعتراف بالعبوديّة، وأنّ البشر في مظنّة التقصير والله تعالى أعلم.

ومن كلام له عليه السلام لبعض أصحابه:

عفيف بن قيس الأشعث لما عزم على المسير إلى الخوارج، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن سرت في هذا الوقت خشيت أن لا تظفر بمرادك، من طريق علم النجوم فقال عليه السّلام: «أَتَزْعُمُ أَنَّكَ تَهْدِي إِلَی السَّاعَةِ الَّتِي مَنْ سَارَ فِيهَا صُرِفَ عَنْه السُّوءُ وتُخَوِّفُ مِنَ السَّاعَةِ الَّتِي مَنْ سَارَ فِيهَا حَاقَ بِه الضُّرُّ فَمَنْ

صَدَّقَكَ بِهَذَا فَقَدْ كَذَّبَ الْقُرْآنَ»: لأن المنجم أذا حکم لنفسه مثلاً بأن يصيب کذا في وقت كذا فقد أدعى أن نفسه تعلم ما تكسب غداً أو بأي أرض تموت وقد قال الله سبحانه «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ

ص: 154

اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ»(1)وأيضاً الأحكام النجومية إخباريات عن أمور ستكون وهي نسبة الأطلاع على الأمور الغيبية، وهو مختص به تعالى لقوله «قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ»(2)«وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ»(3)واسْتَغْنَى عَنِ الاِسْتِعَانَةِ بِالله فِي نَيْلِ الْمَحْبُوبِ ودَفْعِ الْمَكْرُوه: أي يفزع إليه كل أمر يهتم به ويجعله عمده له فيعرض عن الفزع إلى الله إذ يعتمد حينئذ على الكواكب، والأوقات ويشتغل بالفزع إلى ما يسنده إلى الكواكب، وإلى ملاحظتها ولهذا نهى الشارع «وتَبْتَغِي فِي قَوْلِكَ لِلْعَامِلِ بِأَمْرِكَ أَنْ يُولِيَكَ الْحَمْدَ دُونَ رَبِّه لأَنَّكَ بِزَعْمِكَ أَنْتَ هَدَيْتَه إِلَی السَّاعَةِ الَّتِي نَالَ فِيهَا النَّفْعَ وأَمِنَ الضُّرَّ»: وكل من زعم ذلك فقد أهل نفسه لاستحقاق الحمد من مصدقة دون الله، والكبرى من المختلات وقد يستعملها الخطيب للتنفير عن بعض الأمور التي يقصد النهي عنها ثم أقبل عليه السلام «عَلَی الناس فقال أَيُّهَا: النَّاسُ إِيَّاكُمْ وتَعَلُّمَ النُّجُومِ إِلَّا مَا يُهْتَدَى بِه فِي بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ فَإِنَّهَا تَدْعُو»: المنجم في آخر أمره «إِلَی الْكَهَانَةِ»: أي إلى أن يصير نفسه كالكاهن في دعوى الأخبار عما سيكون ثم أكد كونه داعية إلى تشبيه بالكاهن بقوله: «والْمُنَجِّمُ كَالْكَاهِنِ والْكَاهِنُ كَالسَّاحِرِ والسَّاحِرُ كَالْكَافِرِ والْكَافِرُ فِي النَّار»: وأعلم أنّ الكاهن يتميّز عن المنجّم بكون ما يخبر به من الأمور الكاينة إنّما هو عن قوّة نفسانيّة له، وظاهر أنّ ذلك أدعى إلى فساد أذهان الخلق وإغوائهم لزيادة اعتقادهم فيه على المنجّم، وأمّا الساحر فيتميّز عن الكائن بأنّ له قوّة على التأثير في أمر خارج عن بدنه آثاراً خارجة

ص: 155


1- سورة لقمان: الآية 34
2- سورة النمل: الآية 65
3- سورة الأنعام: الآية 59

عن الشريعة مؤذية للخلق كالتفريق بين الزوجين، ونحوه وتلك زيادة شرّ آخر على الكاهن أدعى إلى فساد أذهان الناس وزيادة اعتقادهم فيه، وانفعالهم عنه خوفاً ورغبة، وأمّا الكافر فيتميّز عن الساحر بالبعد الأكبر عن الله تعالى، وعن دينه وإن شاركه في أصل الانحراف عن سبيل الله، وحينئذ صار الضلال والفساد في الأرض مشتركاً بين الأربعة إلَّا أنّه مقول عليهم بالأشدّ، والأضعف ولذلك التفاوت جعل عليه السّلام الكاهن أصلاً في النسبة إلى أنه يقتضي ذلك، وقد لاح من ذلك أن وجه الشبهة في الكل الانحراف عن طريق الله وهذا قياس مفصول النتائج يستنتج منه أن المنجم کالكافر، وهذه النتيجة مع قوله، والكافر في النار ينتج المطلوب والقياسان الأولان من قياس المساوات، وإذا حمل على القياس الصحيح فتقديره: المنجم يشبه الكاهن، المنجم للساحر ومشبه الكاهن، المشبه للساحر مشبه للساحر، فينتج أن المنجم يشبه الساحر، وهكذا في القياس.

الثاني: المنجم يشبه الساحر المشّبه للكافر، ومشبه الساحر المشبه للكافر يشبه الكافر، فالمنجم يشبه الكافر، والكافر في النار(1)؛ فالمنجم كذلك وهو القياس الثالث ونتيجته هذا العالم؛ فلا بد له من أسباب أربعة فأعلى والقريب منه الحركات السماوية والذي هو أسبق منها؛ فالمحرك لها إلى أن ينتهي إلى الجود الإلهي المعطي لكل قابل ما يستحق ومادي هو القابل لصورته، وتنتهي القوابل إلى القابل الأول، وهو مادّة العناصر المشتركة بينها، وصوري وهو صورته الَّتي يقبلها مادّته، وغائيّ وهي: الَّتي لأجلها وجد، أمّا الحركات السماويّة؛ فإنّ من الكاينات ما يحتاج في كونه إلى دورة واحدة للفلك، ومنها ما يحتاج إلى جملة من

ص: 156


1- المطلب أعلاه: من قياس النسبة في علم المنطق

أدواره واتّصالاته، وأمّا القوابل للكائنات؛ فقد تقرّر عندهم أيضاً أنّ قبولها لكلّ کاین معيّن مشروط باستعداد معيّن له، وذلك الاستعداد یكون بحصول صورة سابقة عليه، وهكذا قبل كلّ صورة؛ معدّة لحصول الصورة بعدها، وكلّ صورة منها أيضاً تستند إلى الاتّصالات، والحركات الفلكيّة، ولكلّ استعداد معیّن زمان معيّن، وحركة معيّنة واتّصال معيّن يخصّه لا يفي بدركها القوّة البشريّة.

إذا عرفت ذلك فنقول: الأحكام النجوميّة إمّا أن تكون جزئيّة وإمّا كلَّيّة.

أمّا جزئيّة كالحكم؛ بأنّ هذا الإنسان يكون من حاله، وظاهرٌ أنّ مثل هذا الحكم لا سبيل إلى معرفته؛ إذ العلم به إنّما هو من جهة أسبابه، أما الفاعليّة؛ فأن يعلم أنّ الدورة المعيّنة، والاتّصال المعيّن سبب له، ولا سبب فاعليّاً إلَّا هو، والأوّل باطل الجواز أن يكون السبب غير ذلك الاتّصال، أو هو مع غيره، أقصى ما في الباب أن يقال: إنّما كانت هذه الدورة، وهذه الاتّصال سبباً لهذا الكائن لأنّها كانت سبباً لمثله في الوقت الفلانيّ لكن هذا أيضاً باطل؛ لأنّ كونها سبباً للكائن السابق لا يجب أن يكون لكونها مطلق دورة، واتّصال بل لعلَّه أن يكون لخصوصيّة كونها تلك المعيّنة الَّتي لا تعود بعينها فيما بعد، وحينئذ لا يمكن الاستدلال بحصولها على كون هذا الكائن، لأنّ المؤثرات المختلفة لا يجب تشابه آثارها، والثاني أيضاً باطل لأنّ العقل يجزم بأنّه لا اطَّلاع له على؛ أنّه لا مقتضى لذلك الكائن من الأسباب الفاعلة إلَّا الاتّصال المعيّن کيف، وقد ثبت أنّ من الكائنات ما يفتقر إلى أكثر من اتّصال، واحد ودورة واحدة أو أقلّ، وأمّا القابليّة؛ فأن يعلم أنّ المادّة قد استعدّت لقبول مثل هذا الكائن، واستجمعت جميع شرائط قبوله الزمانيّة، والمكانيّة والسماويّة والأرضيّة، وظاهر أنّ الإحاطة بذلك ممّا لا يفي به القوّة البشريّة، وأمّا الصوريّة والغائيّة؛ فأن يعلم ما يقتضيه استعداد مادّة ذلك المعيّن، وقبولها من الصور وما

ص: 157

يستلزم من الشكل والمقدار، وأن يعلم ما غاية وجوده، وما أعدّته العناية الإلهية له، وظاهر أنّ الإحاطة بذلك غير ممكنة للإنسان.

وأمّا أحكامهم الكلَّيّة؛ فكأن يقال كلَّما حصلت الدورة الفلانيّة كان كذا، والمنجّم إنّما يحكم بذلك الحكم من جزئيّات من الدورات تشابهت آثارها فظنّها متكرّرة، ولذلك يعدلون إذا حقّق القول عليهم في دعوى التجربة، والتجربة تعود إلى تكرّر مشاهدات يضبطها الحسّ، والعقل يحصل منها حكماً كليّاً كحکمه بأنّ كلّ نار محرقة فإنّه لمّا أمكن للعقل استثبات الإحراق بواسطة الحسّ أمكنه الجزم الكلَّى بذلك، فأمّا التشکَّلات الفلكيّة، والاتّصالات الكوكبيّة المقتضية لكون ما یکون؛ فليس شيء منها يعود بعينه کما علمت، وإن جاز أن يكون تشکَّلات وعودات متقاربة الأحوال؛ إلَّا أنّه لا يمكن للإنسان ضبطها، ولا الاطَّلاع على مقدار ما بينها من المشابهة، وذلك أنّ حساب المنجّم مبنىّ على قسمة الزمان بالشهور والأيّام والساعات والدرج والدقائق وأجزائها، وتقسيم الحركة بإزائها ورفعهم بینها نسبة عدديّة، وكلّ هذه أمور غير حقيقيّة، وإنّما تؤخذ على سبيل التقريب أقصى ما في الباب أنّ التفاوت فيها لا يظهر في المدد المتقاربة لكنّه يشبه أن يظهر في المدد المتباعدة، ومع ظهور التفاوت في الأسباب كيف يمكن دعوی التجربة، وحصول العلم الكلَّى الثابت الَّذي لا يتغيّر باستمرار أثرها على، وتيرة واحدة، ثمّ لو سلَّمنا أنّه لا يظهر تفاوت؛ أصلاً إلَّا أنّ العلم يعود مثل الدورة، لا يقتضى بمجرّده العلم يعود مثل الأثر السابق؛ لتوقّف العلم بذلك على عود أمثال الباقية للأثر السابق من الاستعداد، وسایر أسبابه العلويّة والسفليّة، وعلى ضبطها؛ فإنّ العلم التجربيّ إنّما يحصل بعد حصرها ليعلم عودها، وتكرّرها وكلّ ذلك ممّا لا سبيل للقوّة البشريّة إلى ضبطها؛ فكيف يمكن دعوى التجربة.

ص: 158

أما وجه استثنائه عليه السلام؛ فهو أن الذي ذكرناه ليس إلا بيان أن الأصول الذي يبني عليها الأحكاميون أحكامهم، وما يخبرون به في المستقبل أصول غير موثوق بها؛ فلا يجوز الاعتماد عليها في تلك الأحكام، والجزم بها وهذا لا ينافي كون تلك القواعد ممهده؛ بالتقريب كقسمة الزمان، وحركة الفلك بالسنة والشهر واليوم مأخوذاً عنها حساب تبني عليه مصالح أما دنيوية كمعرفة أوقات العبادات كالصوم والحج ونحوهما، أو دنيوية كآجال المداينات، وسائر المعاملات، وكمعرفة الفصول ليعمل في كل منها ما يليق به من الحراثة، والسفر وأسباب المعاش، وكذلك معرفة قوانين تقريبيّة من؛ أوضاع الكواكب وحركاتها يهتدی بقصدها وعلى سمتها المسافرون في برّ أو بحر؛ فإنّ ذلك القدر منها غير محرّم كيف، وقد قال الله سبحانه «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ»(1)«لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ»(2)إلى غير ذلك، والله تعالى أعلم وأحكم، ولما فرغ عليه السلام من تنفير اصحابه عن تعلم النجوم، وقبول أحكاهما وغسل أذهانهم من ذلك بالتخويف المذكور أمرهم بالمسير إلى الحرب بقوله: «وسِیرُوا عَلَى اسْمِ الله»: وروى: أنّه سار في تلك الساعة إلى الخوارج، وكان منه ما علمت من الظفر بهم، وقتلهم حتّى لم يفلت منهم غير تسعة نفر، ولم يهلك من رجاله غير ثمانية نفر کما سبق بيانه، وذلك مستلزم خطأ ذلك المنجّم وتكذيبه في مقاله وبالله التوفيق.

وَمن كَلامٍ لَهُ عَليه السَّلام بَعّدَ فَراغِةِ مِنّ حَربِ الجَمّلْ في ذمِ النْسّاء:

لمّا كانت واقعة الجمل وما اشتملت عليه من هلاك جمع عظيم من المسلمين

ص: 159


1- سورة الأنعام: الآية 63
2- سورة يونس: الآية 5

منسوباً إلى رأي امرأة أراد أن ينبّه على وجوه نقصان النساء وأسبابه فقال: «مَعَاشِرَ النَّاسِ إِنَّ النِّسَاءَ نَوَاقِصُ الإِيمَانِ نَوَاقِصُ الْحُظُوظِ نَوَاقِصُ الْعُقُولِ فَأَمَّا

نُقْصَانُ إِيمَانِهِنَّ فَقُعُودُهُنَّ عَنِ الصَّلَاةِ والصِّيَامِ فِي أَيَّامِ حَيْضِهِنَّ»: ولمّا كان الصوم والصلاة من كمال الإيمان ومتمّمات الرياضة كان قعودهنّ عن الارتياض بالصوم، والصلاة في تلك الأيّام نقصانا لأيمانهنّ، وإنّما رفعت الشريعة التكليف عنهنّ بالعبادتين المذكورتين لكونهنّ في حال مستقذرة؛ لا يتأهّل صاحبها للوقوف بين يدي الملك الجبّار، وأسرار الشريعة أدقّ وأجلّ أن يطَّلع عليها عقول سایر الخلق «وأَمَّا نُقْصَانُ عُقُولِهِنَّ فَشَهَادَةُ امْرَأَتَیْنِ كَشَهَادَةِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ»: ولذلك سبب من داخل، وهو نقصان استعداد امزجتهن وقصورهن عن قبول تصرف العقل کما يقبله مزاج الرجل کما نبه عليه تعالى بقوله «فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى»(1)؛ فأنه نبه على ضعف قوة الذاكرة؛ فيهن فلذلك جعل شهادة امرأتين کشهادة رجل واحد وله أيضاً سبب عارض من خارج، وهو قلة معاشرتهن لأهل العقل، والتصرّفات، وقلَّة رياضتهنّ لقواهنّ الحيوانيّة بلزوم القوانين العقليّة في تدبير أمر المعاش والمعاد، ولذلك كانت أحكام القوى الحيوانيّة؛ فيهنّ أغلب على أحكام عقولهنّ؛ فكانت المرأة أرّق وأبكي وأحسد وألجّ وأبغي وأجزع وأوقح وأكذب وأمكر وأقبل للمكر وأذكر لمحقّرات الأمور، ولكونها بهذه الصفة اقتضت الحكمة الإلهيّة أن يقوم عليها حاکم ومدبّر تعيش بتدبيره وهو الرجل فقال تعالى «الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ»(2)«وأَمَّا نُقْصَانُ حُظُوظِهِنَّ فَمَوَارِيثُهُنَّ عَلَى الَأنْصَافِ مِنْ مَوَارِيثِ

ص: 160


1- سورة البقرة: الآية 282
2- سورة النساء: الآية 34

الرِّجَالِ» کما قال تعالى «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ»(1)والذي يلوح من ذلك كثرة المؤنة على الرجل وهو أهل التصرف وكون المرأة من شأنها أن يكون مكفولة محتاجه إلى قيم هولها كالخادم ولما نبه على جهات نقصانهن وهو كما تعلم يستلزم الشر لأجرم نفّر عنهن فأمر أولاً بالخشية من شرارهن بقوله «فَاتَّقُوا شِرَارَ النِّسَاءِ»: وهو يستلزم الأمر بالهرب منهن وعدم مقارنتهن ثم أمر بالكون من خيارهن على حذر بقوله «وكُونُوا مِنْ خِيَارِهِنَّ عَلَى حَذَرٍ»: ويفهم من ذلك أنه لما كان لابد من مقارنتهن، تختار مقارنة الخيّر منهن «ولَا تُطِيعُوهُنَّ فِي الْمَعْرُوفِ حَتَّى لَا يَطْمَعْنَ فِي الْمُنْكَرِ»: أشار به إلى طاعتهنّ فيما يشرن به، ويأمرن مطلقاً وإن كان معروفاً صواباً، وفيما يطلبنه من زيادة المعروف، والإحسان إليهنّ وإكرامهنّ بالزينة ونحوها؛ فإنّ طاعة إمرائهنّ فيما یشرون من معروف يدعونهن إلى الشور بما لا ينبغي، والتسلَّط على الأمر به فإن فعل فليفعل لأنّه معروف لا لأنّه مقتضى آرائهن، وزيادة إكرامهنّ من مقوّیات دواعي الشهوة، والشرّ فيهنّ حتّى ينتهي بهنّ الطمع إلى الاقتراح، وطلب الخروج إلى المواضع الَّتي يرى فيها زينتهنّ، ونحو ذلك إذ العقل مغلوب؛ فيهنّ بدواعي الشهوات، وفي المثل المشهور لا تعط عبدك كراعاً فيأخذ ذراعاً والله تعالى أعلم روی: أنّ رسول صلى الله عليه وآله وسلَّم كان يخطب يوم عيد فالتفت إلى صفوف النساء فقال: «معاشر النساء تصدّقن فإنّي رأيتكنّ أكثر أهل النار عدداً فقالت واحدة منهنّ: ولم يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه [وآله] وسلَّم: لأنكنّ تكثرن اللعن، وتكفرن العشير(2)،

ص: 161


1- سورة النساء: الآية 11
2- قوله: تكفرن العشير يعني الزوج، سمي عشيراً لأنه يعاشرها وتعاشره؛ غريب الحديث لابن سلام: ج 2 ص 247؛ الصحاح للجوهري: ج 2 ص 747؛ قال: العشير والمعاشرة: المخالطة، وكذلك التعاشر

وتمكث إحداكنّ شطر عمرها لا تصلي ولا تصوم»(1).

من كلام له عليه السّلام «أَيُّهَا النَّاسُ الزَّهَادَةُ قِصَرُ الأَمَلِ»: أعلم أنّ الزهد هو إعراض النفس عن متاع الدنيا وطيّباتها، وقطع الالتفات إلى ما سوى الله تعالى ظهر أنّ ذلك الإعراض مستلزم لقصره في الدنيا و: أيضاً من لوازمها الشُّكْرُ عِنْدَ النِّعَمِ: لأن العبد بقدر التفاته عن أعراض الدنيا بكون محبته لله، وأقباله عليه واعترافه الحق بآلائه وذلك أن الشكر حال القلب بثمرها العلم بالشکور وهو في حق الله أن يعلم أنه لا منعم سواه، وأن كل منعم يقال في المعروف فهو واسطة مسخرة من نعمته وذلك الحال يثمر العمل بالجوارح «والتَّوَرُّعُ عِنْدَ الْمَحَارِمِ»: وهو لزوم الأعمال الجميلة والوقوف على حدود الله عن التوّرط في محارمه وهو أيضاً من لوازم الالتفات عن محابّ الدنيا، ولذّاتها المنهىّ عن الميل إليها، وهذا التفسير منه عليه السّلام مستلزم للأمر به.

«فَإِنْ عَزَبَ»: بعد «ذَلِكَ»: الاستجماع «عَليْكُمْ(2)فَلاَ يَغْلِبِ الْحَرَامُ صَبَرْكُمْ ولَا تَنْسَوْا عِنْدَ النِّعَمِ شُكْرَكُمْ»: أي ألزموا منها الشكر والورع وفسره: الصبر لأنه لازم له، كأنّه رخّص لهم في طول الأمل، لأنّه قد يتصوّر طوله فيما ينبغي من عمارة الأرض لغرض الآخرة، ولأنّ قصره لا يصدر إلَّا عن غلبة الخوف، والإعراض بالكلَّيّة عن الدنيا، وذلك في غاية الصعوبة، وهما تحت ملكة العفّة، ثمّ شجّعهم بذكر الغلب عن مقاومة الهوي، ونبّهم بذكر النسيان على لزوم التذكَّر.

هذا ويحتمل أن يقال لمّا فسّر الزهد باللوازم الثلاثة في معرض الأمر بلزومها قال

ص: 162


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 1 ص 433؛ وسنن الدارمي لعبد الله بن الرحمن الدارمي: ج 1 ص 237؛ ومكارم الأخلاق للشيخ الطبرسي: ص 202؛ مجمع الزوائد: للهيثمي ج 3 ص 117
2- في نسخة عنكم

بعدها: فإن صعب عليکم لزوم الشكر والثناء للهَّ، ولزوم الأعمال الجميلة فاعدلوا إلى أمور أسهل منها، فرخّص لهم في طول الأمل لما ذكر، ثمّ في التذكَّر لنعم الله بحيث لا ينسى بالكلَّيّة، ويلتفت عنها عوضاً عن دوام الحمد والثناء، ثمّ في الصبر عند المحارم، وعند الانقهار لغلبة دواعي الشيطان عوضاً من لزوم الأعمال الجميلة عندها؛ فإنّ الصبر عند شرب الخمر مثلاً عند حضورها أهون على الطبع من الصوم عن سائر المباحات حينئذ، ولزوم سائر الأعمال الجميلة، ثم أكد أمره بالزهد وجذب إليه بقوله «فَقَدْ أَعْذَرَ الله»: اظهر عذره «إِلَيْكُمْ بِحُجَجٍ»: رسلًا كقوله تعالى «رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ»(1).

ولفظ الحجج مستعار، ووجه المشابهة أنّه لمّا كان ظهور الرسل قاطعاً ألسنة حال الظالمين لأنفسهم في حفل القيامة عن أن يقولوا «رَبَّنَا لَوْ لَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى»(2)أشبه الحجّة ألفاظه فاستعير لفظها له مسفرة مضيئة «ظَاهِرَةٍ» أشار إلى إشراق أنوار الدين عن نفوسهم الكاملة على نفوس الناقصين وهو استعارة أيضاً «وكُتُبٍ بَارِزَةِ الْعُذْرِ وَاضِحَةٍ»: أشار ببروز عذر الكتب إلى ظهورها أعذارا للهَّ إلى خلقه بتخويفهم، وترغيبهم وإرشادهم إلى طريق النجاة، وإسناد الأعذار إلى الله تعالى؛ استعارة من الأقوال المخصوصة الَّتي يبديها الإنسان عذرا لأفعال الله، وأقواله الَّتي عرّف خلقه فيها صلاحهم وأشعرهم فيها بلزوم العقاب لهم لو لم يلتفتوا إليها وبالله التوفيق.

«ومن كلام له علَيّه السلام في ذم صفة الدنيا

مَا أَصِفُ»: أي شيء أصف «مِنْ دَارٍ أَوَّلَهُا عَنَاءٌ»: أشارة إلى أن الإنسان فيها

ص: 163


1- سورة النساء: الآية 165
2- سورة طه: الآية 134

من لدن، ولادته في تعب وشقاء ويكفي في الإشارة إلى متاعب الإنسان فيها ما ذكر الحكيم برزویه في صدر كتاب (كليلة ودمنة)(1)في معرض تطويع نفسه بالصبر على عيش النسّاك؛ أو ليست الدنيا كلَّها أذى، وبلاء أو ليس الإنسان يتقلَّب في ذلك؛ من حين يكون جنيناً إلى أن يستوفي أيّامه؛ فإنّا قد وجدنا في كتب الطبّ؛ أنّ الماء الَّذي يقدّر منه الولد السويّ إذا وقع في رحم المرأة اختلط بمائها ودمها وغلظ ثمّ الريح تمحص ذلك الماء والدم حتّى تتر که کالرائب الغليظ ثمّ تقسمه في أعضائه، فإن كان ذكراً فوجهه قبل ظهر أمّه وإن كان أنثی فوجهها قبل بطن أمّها، وذقنه على ركبتيه ويداه على جنبيه مقبض في المشيمة كأنّه مصرور، ويتنفّس من متنفّس شاقّ، وليس منه عضو إلَّا كأنّه مقموط، فوقه حرّ البطن وتحته ما تحته، وهو منوط بمعاء من سرّته إلى سرّة أمّه منها يمصّ ويعيش من طعام أمّه، وشرابها فهو بهذه الحالة في الغمّ والظلمات والضيق حتّى إذا كان يوم، ولادته سلَّط الله الريح على بطن أمّه، وقوى عليه التحريك فتصوّب رأسه قبل المخرج؛ فيجد من ضيق المخرج وعصره مايجده صاحب الرهق(2)؛ فإذا وقع

ص: 164


1- کتاب كليلة ودمنة: هو كتاب قصصي على غرار كتاب ألف ليلة وليلة، ويعود أصل الكتاب إلى التراث الهندي الهندوسي ترجمة عبد الله بن المقنع المتوفي 142 للهجرة، والترجمة كانت لكتاب الفيلسوف الهندي (بيديا) وكانت الطبعة السابعة عشر منه في سنة 1355 للهجرة الموافق 1936 ميلادية. ومنه نسخة في مكتبة بولاق المطبعة الأميرية لعام 1937 ميلادية ونسخة منه مخطوطة أيضاً في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية تم الاطلاع عليها في 25 أبريل 2016، وكذلك تم تصنيف الكتاب ضمن فقرة التفريع الحكائي وأنماط التخيل التابعة لعمل دائرة المعارف لبطرس البستاني - نشر دار المعارف - بيروت
2- ورد في نسخة أخرى: الرمق. والرهق غثيان الشيء لقوله تعالى «وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ» الآية 26 من سورة يونس وقيل الرهق: العظمة، العين للخليل الفراهيدي: ج 3 ص 367

على الأرض فأصابته ريح أو مسّته يد وجد من ذلك من الألم ما لم يجده من سلخ جلده؛ ثمّ هو في ألوان من العذاب إن جاع فليس له استطعام، وإن عطش فلیس له استقاء، أو وجع فليس له استغاثة مع ما يلقى من الرفع والوضع واللفّ، والحلّ والدهن فلا يزال في أصناف هذا العذاب ما دام رضيعاً، فإذا أفلت من ذلك أخذ بعذاب الأدب؛ فأذيق منه ألوانا، فإذا أدرك فهمّ المال، والأهل، والولد، والشره، والحرص، ومخاطرة الطلب والسعي، وكلّ هذا يتقلَّب معه فيها أعداؤه الأربعة: المرّة، والبلغم، والدم، والريح، والسمّ المميت، والحيّات اللادغة، مع خوف السباع، والناس، وخوف البرد، والحرّ ثمّ ألوان عذاب الهرم لمن بلغه «وآخِرُهَا فَنَاءٌ»: نفر عنها بذكر غايتها وهو الموت وما يستصحبه من فراق الأهل والأحبّة، والإشراف على أهواله العظيمة المعضلة، «فِي حَلَالِهَا حِسَابٌ»: إشارة إلى ما يظهر في صحيفة الإنسان يوم القيامة من الآثار المكتوبة عليه ممّا خاض فيه من مباحات الدنيا، وتوسّع فيه من المآكل والمشارب والمناکح والمراكب، وما يظهر في لوح نفسه من محبّة ذلك فيعوقه عن اللحوق بالمجرّدین عنها الَّذين لم يتصرّفوا فيها تصرّف الملَّاك فلم يكتب عليه في شيء منها ما يحاسبون عليه، وإليه إشارة سیّد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلَّم: «إنّ الفقراء ليدخلون الجنّة قبل الأغنياء بخمس مائة عام، وإنّ فقراء أمّتي ليدخلون الجنّة سعياً، وعبد الرحمن يدخلها حبواً»(1)وما ذاك إلاَّ لكثرة حساب الأغنياء بتعويقهم بثقل ما حملوا من محبّة الدنيا وقيناتها عن اللحوق بدرجة المخفّين منها وقد عرفت كيفيّة الحساب والله أعلم بالصواب. وفِي حَرَامِهَا عِقَابٌ: تنفير عمّا يوجب العقاب من الآثام بذكره مَنِ

ص: 165


1- المصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج 8 ص 138، ومسند أحمد بن حنبل: ج 2 ص 451 وسنن الدارمي عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي: ج 2 ص 339؛ والسنن الكبرى لأحمد بن الحسين البهيقي: ج 7 ص 12 باختلاف يسير؛ ومجمع الزوائد: للهيثمي: ج 1 ص 260

اسْتَغْنَى فِيهَا فُتِنَ: أي كانت محبّته لما اقتنى فيها سببا لفتته وضلاله عن سبيل الله كما قال تعالى «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ فتنة»(1)ومَنِ افْتَقَرَ فِيهَا حَزِنَ: أنّ الفقير الطالب للدنيا غير الواجد ها في غاية المحنة والحزن على ما يفوته منها، وخاصّة ما يفوته بعد حصوله له.

ومَنْ سَاعَاهَا فَاتَتْه: وأقوى أسباب هذه الفوات أنّ تحصيلها أكثر ما يكون بمنازعة أهلها عليها ومجاذبتهم إيّاها، وقد علمت ثوران الشهوة والغضب والحرص عند المجاذبة للشيء وقوّة منع الإنسان له. وتجاذب الخلق للشيء وعزّته عندهم سبب لتفويت بعضهم له على بعض، وفيه تنبيه على وجوب ترك الحرص عليها والإعراض عنها إذ كان فواتها اللازم عن شدّة السعي في فضلها مكروها للسامعين.

ومَنْ قَعَدَ عَنْهَا وَاتَتْه: طاوعته هذا أيضاً جذب الخلق إلى القعود عنها وأن كان لغرض مواتها كما يفعله أهل الزهد الظاهري المشوب بالرياء والسمعة وقد علمت أنه علم مطلوب للشارع إلى الزهد الحقيقيّ كما قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلَّم: «الرياء قنطرة الإخلاص»(2)وقد راعي في القرائن السجع المتوازي «ومَنْ أَبْصَرَ بِهَا بَصَّرَتْه»: أي من جعلها سبب هدایته وبصره استفاد منها البصر والهداية وذلك أنّك علمت؛ أنّ مقصود الحكمة الإلهيّة من خلق هذا البدن، وما فيه من الآلات، والمنافع إنّما هو استكمال نفسه باستخلاص العلوم الكلَّيّة، وفضائل الأخلاق من تصفّح جزئيّات الدنيا، ومقایسات بعضها إلى بعض کالاستدلال بحوادثها،

ص: 166


1- سورة الأنفال: الآية 28
2- شرح مئة كلمة لابن میثم البحراني: ص 36؛ وفتاوى السبكي للسبكي؛ ج 1 ص 161؛ وكذلك شرح النهج لابن میثم البحراني: ج 1 ص 104

وعجائب مخلوقات الله؛ فيها على وجوده، وحكمته وجوده، وتحصيل الهداية بها إلى أسرار ملکه؛ فكانت سبباً مادّيا لذلك؛ فلأجله صدق أنّها تبصّر من أبصر بها.

«ومَنْ أَبْصَرَ إِلَيْهَا أَعْمَتْه: أي من مدّ إليها بصر بصيرته، وتطَّلع إليها بعين قلبه محبّة وعشقاً أعمت عين بصيرته عن إدراك أنوار الله والاهتداء لكيفیّة سلوك سبيله.

وإليه الإشارة بالنهي في قوله تعالى(1)وقد ظهر الفرق بين قوله من أبصر بها وأبصر إليها ومدح السيد هذا الفصل مدح في موضعه قال رضي الله عنه: وإذا تأمل المتأمل قوله عليه السّلام «من أبصر بها بصرته» وجد تحته من المعنى العجيب والغرض البعيد ما لا تبلغ غايته ولا يدرك غوره، ولا سيما إذا قرن إليه قوله «ومن أبصر إليها أعمته»، فإنه يجد الفرق بين «أبصر بها» و «أبصر إليها» واضحاً نيراً وعجيباً باهراً: ولله الحمد والمنة.

ومن خطبة له عليه السّلام تسمّى الغرّاء:

«الْحَمْدُ للهِ الَّذِي عَلَا بِحَوْلِهِ»: العلوّ المعقول له باعتبار كونه مبدأ كلّ موجود ومرجعه؛ فهو العلىّ المطلق الَّذي لا أعلى منه في وجود، وکمال رتبة، وشرف کما سبق بيانه، ولما كان ذلك اعتباراً يلحقه بالقياس إلى كل موجود صدر عن قدرته وقوته، ولأجرم جعل للحوقه له مبدأً هو حوله «ودَنَا بِطَوْلِهِ»: فضله ولما عرفت أن الدنوا في حقه تعالى ليس مکانياً أيضاً كان اعتباراً يحدث عقولنا له من قرب أفاضته نعمته على قوابلها، وقربه من أبصار البصائر في صورة نعمة نعمة منها ولذلك جعل طوله مبدأ لدنوّه.

ص: 167


1- سورة الحجر: الآية 88

«مَانِحِ»: معط «كُلِّ غَنِيمَةٍ وفَضْلٍ وكَاشِفِ كُلِّ عَظِيمَةٍ وأَزْلٍ»: شدة هما إشارة إلى كلّ نعمة صدرت عنه على قابلها؛ فمبدأها جوده ورحمته سواء، كانت وجوديّة كالصحّة والمال، أو عدميّة كدفع البأساء والضّراء، وإليه الإشارة بقوله «وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ٭ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ»(1)أَحْمَدُهُ عَلىَ عَوَاطِفِ كَرَمِهِ: نعمه التي تعود على عباده مرة بعد أخرى، وسَوَابِغِ نِعَمِهِ: التي عمت القوابل المستعدة، وأضافه السوابغ، والعواصف إضافة بمعنى من البيان، وان كانت في بادي الرأي أضافة الصفة لموصوف قال بعض الفضلاء الكريم الذي أذا قدر عفی، وأذي أعطي زاد على منتهى الرجاء، ولم ينل كم أعطي، ولا لمن اعطى، وأن رفعت إلى غيره حاجة، لا يرضى ولا يضيع من لاذ به، والتجأ ويغنيه عن الوسائل، والشفعاء فمن اجتمعت له هذه العبارات حقيقة من غير تكلَّف فهو الكريم المطلق، وليس ذلك إلَّا الله تعالى «وأُومِنُ بِهِ»: اصدقه «أَوَّلًا بَادِياً»: نصب على الحال، وأشار بهذين الوصفين إلى الجهة الَّتي هي مبدأ الإيمان؛ إذ كان منه باعتبار کونه؛ أوّلاً هو مبدأ لجميع الموجودات، وكونه بادياً هو كونه ظاهراً في العقل في جميع آثاره؛ فباعتبار ظهوره مع كونه مبداً لكلّ موجود، وأوّلا له يجب الإيمان به والتصديق بإلهيّته.

«وأَسْتَهْدِيهِ قَرِيباً هَادِياً»: فاستهداؤه طلب الهداية منه، وقربه هو دنوّه بجوده من قابل فضله، وهدایته هبته الشعور؛ لكلّ ذي إدراك بما هو أليق به ليطلبه دون ما ليس أليق به، وظاهر أنّه باعتبار هذين الوصفين مبدأ لطلب الهداية منه.

«وأَسْتَعِينُهُ قَاهِراً قَادِراً»: الاستعانة هو طلب المعونة منه على ما ينبغي من طاعته وسلوك سبيله، والقاهر هو الَّذي لا يجري؛ في ملکه بخلاف حکمه نفس،

ص: 168


1- سورة النحل: الآيات: 53 - 54

بل کل موجود مسخّر تحت حكمه، وقدرته وحقير في قبضته، والقادر هو الَّذي إذا شاء فعل وإذا لم يشأ لم يفعل، وإن لم يلزم أنّه لا يشأ لم يفعل، وظاهر أنّه باعتبار هذين الوصفين مبدأ الأس تعانه «وأَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ كَافِياً نَاصِراً»: التوکَّل کما علمت يعود إلى اعتماد الإنسان؛ فيما يرجو أو يخاف على غيره، والكافي اعتبار کونه معطياً لكلّ قابل من خلقه ما يكفي استحقاقه من منفعة ودفع مضرّة، والناصر هو اعتبار إعطائه النصر لعباده على أعدائهم بإفاضة هدايته وقوّته، وظاهر أنّه تعالى باعتبار هذين الوصفين مبدأ لتوكَّل عباده عليه وإلقاء مقاليد أمورهم إليه.

ثم قرر الرسالة وعين أغراضها بقوله «وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً ص عَبْدُهُ ورَسُولُهُ أَرْسَلَهُ لإِنْفَاذِ أَمْرِه»: والضمائر الثلاثة للهَّ، وهو إجراؤه لأحكامه على قلوب الخلق ليقرّوا بالعبوديّة له.

«وإِنْهَاءِ عُذْرِهِ»: أعلام حجته في أقواله وأفعاله، وقد سبق بيان وجه استعارة الغدر «وتَقْدِيمِ نُذُرِه»: وهو التخويفات الواردة على ألسنة الرسل عليهم إلى الخلق الجاذبة لهم إلى لزوم طاعته، وظاهر کون الثلاثة أغراضاً للبعثة ثم وصى بتقوى الله وخشيته قال عليه السلام «أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللهِ بِتَقْوَى اللهِ الَّذِي ضَرَبَ لَكُمُ الأَمْثَالَ»: في القرآن كثيرة منها: قوله تعالى «كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا»(1)«ووَقَّتَ لَكُمُ الآجَالَ»: أي كتبها بقلم القضاء الإلهيّ في اللوح المحفوظ كلّ إلى أجل مسمّی ثمّ يرجع إليه فيحاسبه بإعلانه وأسراره فبالحرّي أن يقتّته ويعمل للقائه.

«وأَلْبَسَكُمُ الرِّيَاشَ»: اللباس الحسن إظهار للمنّة عليهم كما قال سبحانه «يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى»(2)

ص: 169


1- سورة البقرة: الآية 17
2- سورة الأعراف: الآية 26

ليذكَّروا أنواع نعمه فيستحيوا من مجاهرته بالمعصية.

«وأَرْفَعَ لَكُمُ الْمَعَاشَ»: أي أطاب معايشهم في الدنيا كما قال تعالى «وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ»(1)وهو كما تقدم «وأَحَاطَ بِكُمُ الِإحْصَاءَ»: منصوب على المصدر من غير لفظ فعله، أو على التمييز، قال عز من «لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا»(2)أي أحاط بهم علمه وظاهر أنّ علم العصاة بأنّه لا يشذّ أحد منهم عن إحاطة علمه جاذب لهم إلى تقواه «وأَرْصَدَ»: أعد «لَكُمُ الْجَزَاءَ»: كما قال عز وعلا «مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»(3)«وآثَرَكُمْ»: اختار کم «بِالنِّعَمِ السَّوَابِغِ والرِّفَدِ»: العطاء «الرَّوَافِغِ»: الواسعة كقوله جل طوله «وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً»(4)«وأَنْذَرَكُمْ بِالْحُجَجِ الْبَوَالِغِ»: وهي رسله ومواعظه و سایر ما جذب به عباده إلى سلوك سبيله، وهو حجّة على عصاة أمره «أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ»(5)«فَأَحْصَاكُمْ عَدَداً»: كقوله تعالى «وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا»(6)«ووَظَّفَ»: قدر «لَكُمْ مُدَداً»: جمع مدة وهو لتوقيت الآجال، وإنّما كرّر وصف الإحصاء، والتوقيت لأنّ الوهم كثيراً ما ينكر إحاطته تعالى بالجزئيّات، ويقدح في أمر المعاد فكرّرهما طردا للوهم وكسراً لحكمه، ولأنّ ذکر توقيت الآجال من أشدّ الجواذب عن الدنيا إلى الله «فِي قَرَارِ خِبْرَةٍ»: اختبار

ص: 170


1- سورة الأنفال: الآية 26
2- سورة مريم: الآية 94
3- سورة الأنعام: الآية 160
4- سورة لقمان: الآية 20
5- سورة الأعراف: الآية 172
6- سورة الجن: الآية 28

«ودَارِ عِبْرَةٍ»: أي محلّ اعتبار الله خلقه ومحلّ عبرتهم: أي انتقال أذهانهم؛ فيما تجرى فيها من الآيات العبرة، وآثار القدرة والاستدلال بها على وحدانيّة مبدعها كما سبقت الإشارة إلى معنى الاختبار والاعتبار وكذلك قوله «أَنْتُمْ مُخْتَبَرُونَ فِيهَا

ومُحَاسَبُونَ عَلَيْهَا»: قد سبقت الإشارة إليه في قوله: ألا وإنّ الدنيا دار لا يسلم منها إلَّا فيها وفي هذين القرينتين مع السجع المتوازي نوع من التجنيس بين خبرة وعبرة وبالله التوفيق.

ثم نفر عن الدنيا بذكر معايبها في قوله «فَإِنَّ الدُّنْيَا رَنِقٌ مَشْرَبُهَا»: كناية عن کدر لذّاتها بشوائب المصائب من الهموم والأحزان والأعراض والأمراض «رَدِغٌ: وجل «مَشْرَعُهَا: ومحلّ الشروع في تناولها، والورود في استعمالها، والردغة وصف للطريق المحسوس استعير له من الطريق المحسوس، ووجه المشابهة كون طريق الإنسان في استعمال الدنيا ذات مزالق، ومزالّ أقدام تهوی به إلى جهنّم لا يثبت فيها؛ إلَّا قدم عقل قد هجّر في ضبط قوله، وقهر سطوة شياطينه كما أنّ الطريق ذات الوحل كذلك، وهو من لطائف إشاراته عليه السّلام «يُونِقُ»: يعجب «مَنْظَرُهَا ويُوبِقُ»: يهلك «مَخْبَرُهَا»: إشارة إلى عجائبها لذوي الغفلة بزينتها الحاضرة مع هلاكهم باختبارها وذوقهم لحلاوتها وغرض الالتذاذ بها «غُرُورٌ حَائِلٌ»: مانع من الطاعة يروي بفتح العين بمعنی ذات غرور يغر الخلق بزخارفها؛ فيتو همون بقائها ثم ينتقل، ويحول بضمها على جعلها غروراً، ويطلق على ما يعتبره حقيقة عرفية «وضَوْءٌ آفِلٌ»: استعار لفظ الضوء لما يظهر منها من الحسن في عيون الغافلين يقال: على فلان ضوء أي له منظر حسن؛ أو لما ظهر لهم من وجوه مسالكها؛ فاهتدوا به إلى تحصيلها، ومداخلها ومخارجها، وعلى التقديرين؛ فهو ضوء أَفّل لا يدوم والأفول أيضاً «وظِلٌّ زَائِلٌ»: استعار لما يأوي إليه الإنسان من نعيمها؛ فيستظلّ

ص: 171

به من حرارة بؤسها وظاهر كونه زائل «وسِنَادٌ مَائِلٌ»: للفظ إسناد استعارة لما يعتمد عليه الغافلون من قيناتها الَّتي لا ثبات لها بل هي كشجرة اجتثّت من فوق الأرض مالها من قرار، وذكر الميل ترشيح للاستعارة حَتَّى إِذَا أَنِسَ: استأنس «نَافِرُهَا واطْمَأَنَّ نَاكِرُهَا»: أي يغر الناس بضوئها، وظلها بهجة منظرها إلى غاية أن يستأنس بها من كان بعقله نافرا عنها، ويطمئنّ إليها من كان بمقتضى فطرته منکراً لها حتّى، إذا كان ذلك منه طوعاً لها فعلت به أفعال العدوّ الخدوع، ونسب إليها من الأفعال أموراً: أحدها «قَمَصَتْ»: رفعت «بِأَرْجُلِهَا»: استعار القمص لامتناعها على الإنسان عند حضور أجله كأنها تعزب عنها «وقَنَصَتْ بِأَحْبُلِهَا»: أي صادت أهلها بزينتها التي هي كالحبل للصائد أستعار الحبل لحبائل محبتها، والهيئات الرديئة المكتسبة منها المتمكنة من جواهر النفس، ووجه الاستعارة أن تلك الهيئات يتعلق بأعناق النفوس، وأجنحتها فيمنعها من الطيران في عالم الغيب کما تعّلق حبائل الصائد بجناح الطير؛ فيمنعه عن الطيران ورشح بذکر القنص «وأَقْصَدَتْ»: أصابت المقبل «بِأَسْهُمِهَا»: واستعار لفظ الأسهم للأمراض، وأسباب الموت، وإقصادها كناية عن إصابتها بالمستعار لأوصاف الرامي تنزيلاً للدنيا منزلته «وأَعْلَقَتِ الْمَرْءَ أَوْهَاقَ الْمَنِيَّةِ»: حبالها استعارة لما تجذب به إلى الموت من سایر أسبابه أيضاً «قَائِدَةً لَهُ إِلَی ضَنْكِ الْمَضْجَعِ»: وهو كناية عن انسياق المريض في حبال مرضه الحاصل فيها إلى الأمور المذكورة من ضيق القبر «ووَحْشَةِ الْمَرْجِعِ»: عبارة عما تجده النفوس الجاهلة عند رجوعها من، وحشة فراق ما كان محبوباً لها في الدنيا، وما كانت الفتنة من مال، وأهل وولد، وهي استعارات لأوصاف الصائد تنزيلاً للدنيا منزلته «ومُعَايَنَةِ الْمَحَلِّ»: أي مشاهدة الآخرة الَّتي هي محلّ الجزاء «وثَوَابِ الْعَمَلِ»: جزاءه من خير أو شرّ «وكَذَلِكَ الْخَلَفُ بِعَقْبِ السَّلَفِ لَا

ص: 172

تُقْلِعُ الْمَنِيَّةُ اخْتِرَاماً ولَا يَرْعَوِي الْبَاقُونَ اجْتِرَاماً يَحْتَذُونَ مِثَالًا ويَمْضُونَ أَرْسَالًا إِلَی غَايَةِ الِانْتِهَاءِ وصَيُّور»: عاقبة «الْفَنَاءِ»: أراد الخلق مضوا على الأحوال المذكورة للدنيا يتبع خلفهم من سلف منهم لا المنيّة تقصر عن إخترام نفوسهم ولا الباقون منهم يرجعون عمّا هم عليه من ارتكاب الجرائم فيها، والغرور بها بل يقتدون بأمثالهم الماضين في ذلك ويمضون عليه اتّباعاً إلى غاية مسيرهم بمطايا الأبدان، ومصير أمرهم وهو الفناء والعرض على الملك الديّان، وقد راعي أيضاً التجنيس في قوله: يونق ويوبق، ونافرها وناكرها، وقمصت وقنصت؛ ثم أشار إلى ما يلحق الناس بعد الموت من أحوال القيامة قوله «حَتَّى إِذَا تَصَرَّمَتِ»: انقطعت الأُمُورُ: أي أحوال كل واحد من الخلق في الدنيا «وتَقَضَّتِ الدُّهُورُ»(1): أي انقضت مدة كل شخص منهم «أَخْرَجَهُمْ مِنْ ضَرَائِحِ الْقُبُورِ»: جمع ضریح وهو الشق وسط القبر، استعار لفظة القبور للأبدان، وضرائحها تشریح للاستعارة، ووجه المشابهة أنّ النفس تكون منغمسة في ظلمة البدن، وكدر الحواسّ متوحّشة عن عالمها کما أنّ المقبور متوهّم لظلمة القبر ووحشة، منقطع عن الأهل والمال. وضمير المخرج يعود إلى الله في صدر الخطبة.

واعلم أنّه قد تطابقت ألسنة الأنبياء والرسل عليهم السّلام على القول بالمعاد الجسمانّي، ونطق به الكتاب العزيز كقوله «يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ٭ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ»(2)الآية ونحوه، واتّفق المسلمون على القول به، وأمّا

ص: 173


1- ورد في بعض النسخ کنسخة صبحي الصالح ومحمد عبده بكونها نصوصاً قد وردت في مصادرها المقصودة: وأَزِفَ النُّشُورُ
2- سورة المعارج: الآيات 43

الحكماء فالمشهور من مذهبهم منع المعاد الجسمانيّ بناء على أنّ المعدوم لا يعاد بعينه لامتناع عود أسبابه بأعيانها من الوقت والدورة الفلكيّة المعينّة وغيرهما، وربّما قال بعض حکماء الإسلام بجواز عود المثل وربّما قلَّد بعضهم ظاهر الشريعة في أمر المعاد الجسمانيّ وإثبات السعادة والشقاوة البدنيّة مع الروحانيّة، وقال الرئيس(1)في كتاب (الشفاء) ما هذه حكاية ألفاظه: يجب أن يعلم أنّ المعاد منه ما هو المقبول من الشرع، ولا سبيل إلى إثباته إلَّا من طريق الشريعة، وتصديق خبر النبوّة وهو الَّذي للبدن عند البعث، وخيرات البدن وشروره معلومة لا تحتاج أن تعلم، وقد بسطت الشريعة الحقة الَّتي أتانا بها سيّدنا ومولانا محمّد صلى الله عليه وآله وسلَّم، حال السعادة والشقاوة اللتين بحسب البدن، ومنه ما هو مدرك بالعقل والقياس البرهانيّ(2)، وقد صدّقه النبوّة وهو السعادة والشقاوة البالغتان الثابتتان بالمقاییس اللتان للأنفس، وإن كانت الأوهام منّا يقصر عن تصوّرها الآن لما توضح من العلل، والحكماء الالهيّون رغبتهم في إصابة هذه السعادة؛ أعظم من رغبتهم في إصابة السعادة البدنيّة، بل كأنّهم لا يلتفتون إلى تلك، وإن أعطوها، ولا يستعظمونها في جنبة هذه السعادة الَّتي هي مقاربة الحقّ الأوّل.

واعلم أنّ الَّذي ذكره عليه السّلام هنا صريح في إثبات المعاد الجسمانيّ ولواحقه.

«وأَوْكَارِ الطُّيُورِ»: مواضعها «وأَوْجِرَةِ السِّبَاعِ»: بيوتها «ومَطَارِحِ الْمَهَالِك»: وهي إشارة إلى جمعه لأجزاء أبدان الناس بعد تفرّقها؛ فيخرج من كان قبره من

ص: 174


1- الرئيس: هو أبو عليّ بن سينا
2- القياس البرهاني: وهو الذي يشترك مع الجدلي في كونه جازماً ولكنه يتميز عنه في اشتراط مطابقة مواده للخارج، في حين أن الجدلي يشترط مواده لاعتبارات العقلاء وقراراتهم من دون أن يكون لهذهِ الاعتبارات الأصولية تأصل ومصداقية خارجاً كما أورده الشيخ محمد السند في أصول استنباط العقائد ونظرية الاعتبار: ص 53

ضريح قبره، ومن كان أكيل طير؛ أو سبع أو مقتولا في مطرح الهلاك من معركة الحرب؛ أو غيرها أخرجه من ذلك المكان، وجمع أجزاءه وألَّف بينها.

وأعلم أن مذهب محقّقي المتكلَّمين؛ أنّ في كلّ بدنٍ واحد، أجزاء أصليّة باقية من أوّل العمر إلى آخره، لا تتغيّر ولا تتبدّل، كي لا تقول: إذا أكل إنساناً إنسانا وأغتذى به وصارت أجزاء بدنه أجزاء لبدن آكله؛ فكيف إعادتهما لأن تلك الأجزاء في أي بدن منهما اغتذت لزم نقصان الثاني الآخر وبطلانه، فأنك تعلم حينئذ الأجزاء الأصلية حينئذ أجزاء فضّلية؛ فإذا أعيدا يوم القيامة؛ فما كان أصلياً من أجزاء البدن المأكول؛ فهو فضلي لبدن الآكل فيرد إليه من غير أن ينقص من الأجزاء الأصلية للأكل شيء، ولا عبرة بالفاضلة، وقال بعض الفضلاء: احتملت هذا الألفاظ أم يسلط عليها التأويل ما يناسب مذهب القائلين بالمعاد الروحاني؛ فأن العارفين، وأهل الحكمة كثيراً ما يستعيرون لفظ الطير، وأوصافه للنفس الناطقة، وللملائكة كما أشار إليه سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: «حتى إذا أحمل الميت على نعشه رفرفت روحه فوق النعش، وتقول يا اهلي ويا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا کا لعبت بي))(1)، والرفرفة إنّما يكون لذي الجناح من الطير، وكما جاء في التنزيل الإلهيّ في، وصف الملائكة «الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ»(2)وكما أشار إليه أبو على في قصيدة أوّلها ألقي:

هبطت إليك من المكان الأرفع ٭٭٭ ورقاء ذات تعزّز وتمنّع(3)

ص: 175


1- يُنظر: شرح مئة كلمة لأمير المؤمنين لابن میثم البحراني ص 13، وكذلك: شرح النهج لابن میثم البحراني: ج 2 ص 341
2- سورة فاطر: الآية 1
3- وهي ثلاثون بيتاً في أحوال النفس لاَبي علي ابن سينا ( المتوفیّ 428 ه)، ومطلعها: هبطت إليك من المحلّ الارفعِ ٭٭٭ ورقاء ذات تعزّز وتمنّع: يُنظر: الوافي بالوفيات: للصفدي: ج 3 ص 211؛ طبقات الأطباء وعيون الأنباء: لابن أبي أصيبعة في: ص 403؛ ومرآة الجنان وعبرة اليقظان: لعبد الله بن أسعد اليافعي: 39؛ وفي وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان: لابن خلکان ج 2 ص 160؛ وتاريخ الإسلام: للذهبي: ج 29 ص 230؛ وحياة الحيوان الكبرى: وكمال الدين دميري: ج 2 ص 504

وأشار بالورقاء إلى النفس الناطقة، وكما أشار إليه في رسالته المسمّاة برسالة الطير بقوله:

برزت طائفة تقنص فنصبوا ٭٭٭ الحبال ورتّبوا الشرك وهيّأ وا الطعم

وتواروا في الحشيش وأنا في سرية طير

ونحوه، ووجه المشابهة في هذه استعارة ما يشترك فيه مع النفس سرعة التصرّف، والانتقال فالنفس بانتقال عقليّ، والطير بانتقال حسّى، وإذا استعير لفظ الطير للنفس؛ فبالحريّ أن يستعار لفظ الوكر للبدن لما بينهما من المشاركة، وهو كونهما مسكناً لا تسهل مفارقته.

وأوجرة السباع إشارة إلى النفوس المطيعة لقواها الغضبية التي شأنها محبة الغلبة والانتقام کما أن السبع كذلك، وكذلك مطارح؛ فأنها مطارح مهالك الغافلين الذين أتبعوا الشهوات «سِرَاعاً إِلَی أَمْرِهِ»: كالمنصوبات التي بعده منصوب على الحال من هم، وأمره وحكم قضائه الأزلي عليهم بالرجوع إليه، وعودتهم وسرعتهم إليه إشارة إلى قرب وصولهم، وهو في انقطاع علاقة النفس مع البدن وهو على غاية من السرعة «مُهْطِعِینَ إِلَی مَعَادِهِ»: إشارة إلى إقبال النفوس بوجوهها على محلّ عودها، وما أعدّ لها فيه من خير وشرّ «رَعِيلًا»: جماعة إشارة

ص: 176

إلى اجتماعهم في حكم الله، وقبضته ومحلّ الاستحقاق لثوابه وعقابه، إذ لا ألسنة لهم إذن ينطقون بها، ويحتمل أن يكون الصمت كناية عن خضوعهم، وانقيادهم في ذلّ الحاجة وهيبة الجلال.

«صُمُوتاً قِيَاماً صُفُوفاً»: استعار القيام لاستشعار النفوس هيبة الله وعظمته، وقيامها بتصوّر کماله على مساق العبوديّة وذلّ الإمكان، والصفوف استعاره لانتظامهم، إذن في سلك علمه تعالى، إذ الكلّ بالنسبة إلى علمه على سواء کما يستوي الصفّ المحسوس، ويحتمل أن يكون الصفّ استعارة لترتّبهم في القرب إلى الله تعالى متنازلين متصاعدين «يَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ»: إشارة إلى إحاطة علمه تعالى بهم «ويُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي»: هو حكم القضاء عليهم بالعود، واسمعاهم عموم ذلك الحكم بحيث لا يمكن أن يخرج عنه واحد منهم «عَلَيْهِمْ لَبُوسُ الِاسْتِكَانَةِ»: ما يلبس لغة «وضَرَعُ الِاسْتِسْلَامِ والذِّلَّةِ»: بمعنى الخضوع إشارة إلى حالهم الَّتي يخرجون من الأحداث عليها من ذلّ الإمكان ورقّ الحاجة، والخوف في قبضة الله وهو كقوله تعالى «يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ»(1)«خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ»(2)«قَدْ ضَلَّتِ الْحِيَلُ»: أي حيل الدنيا فلا حيلة لهم في الخلاص ممّا هم فيه کما کانوا يخلصون بحيل الدنيا من بعض شرورها، «وانْقَطَعَ الأَمَلُ»: أي أملهم فيها لامتناع عودهم إليها وانقطاع طمعهم في ذلك «وهَوَتِ الأَفْئِدَةُ كَاظِمَةً»: أي سقطت النفوس في حضيض الذلّ والفاقة إلى رضا الله وعفوه، ولفظ الكظم مستعار کما سبق.

«وخَشَعَتِ الَأصْوَاتُ مُهَيْنِمَةً»: ثالثة هو كقول الله «وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ

ص: 177


1- سورة القمر: الآية 6
2- سورة القلم: الآية 43

لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا»(1)وهو إشارة إلى سؤالهم بلسان حالهم عفو الله ورحمته على وجه الذلَّة والضعف ورقّ العبوديّة في ملاحظة جلال الله.

«وأَلْجَمَ الْعَرَقُ»: بلغ الفم فصار كاللجام «وعَظُمَ الشَّفَقُ»: الإشفاق استعار لفظ العرق وکنّی به عن غاية ما تجده النفس من كرب ألم الفراق وهيبة الله، وعدم الأنس بعد الموت إذ غاية الخائف التاعب أن يعرق ويشفق من نزول العقاب به.

ونسبة الإلجام به إليه مجازية «وأُرْعِدَتِ»: زلزلت «الأَسْمَاعُ لِزَبْرَةِ الدَّاعِي»: إشارة إلى ما تجده عند تيقّنها المفارقة، واستعار لفظ الزبرة لقهر حكم القضاء للأنفس على مرادها قهراً لا يتمكَّن معه من الجواب بالامتناع(2)«فَصْلِ الْخِطَابِ»: هو إمضاء أحكام الله على نفوس عباده عند الرجوع إليه بتوفية مالها، واستيفاء ما عليها «ومُقَايَضَةِ الْجَزَاءِ»: معاوضتها بما أتت به إمّا من الملكات الرديئة؛ فبنکال العقاب، وإمّا من الملكات الفاضلة فبنوال الثواب، وهبة كلّ بقدر استعداده، وإلى هذا أشار بقوله «ونَكَالِ الْعِقَابِ ونَوَالِ الثَّوَابِ»: واعلم أنّ العدول إلى المجازات والاستعارات عن حقائق الألفاظ، وإلى التأويل عن الظواهر إنّما يجوز خصوصاً في كلام الله وكلام رسوله وأولياءه إذا عضده دلیل عقليّ يمنع من إجراء الكلام على ظاهره، ولمّا اعترف القوم بجواز المعاد الجسمانيّ تقليداً للشريعة، ولم يقم دليل عقليّ يمنع منه لم يمكننا الجزم؛ إذن بصحّة هذه التأويلات وأمثالها والله الموفق.

ثم نبه الخلق على أوصاف حالهم المنافية لما هم عليه من التجبّر، والإعراض عمّا خلقوا لأجله لعلَّهم يتذكَّرون بقوله: «عِبَادٌ مَخْلُوقُونَ»: أي خلقهم ليس

ص: 178


1- سورة طه: الآية 108
2- في بعض النسخ ورد: إِلىَ؛ ولم نورد اسم النسخة هنا لعدم توفر نسخة أخرى لهذا التصنيف، إنما أرجعنا بعض النصوص إلى مضانها

لذواتهم بل بقدرة قادر مستقلَّة عن مشاركة الغير، وذلك مناف لعصيانهم له «اقْتِدَاراً ومَرْبُوبُونَ اقْتِسَاراً»: قهراً أي: ليس ملك مالكهم لهم عن اختيار منهم حتّی یکون لهم الخيرة في معصيته وطاعته.

«ومَقْبُوضُونَ احْتِضَاراً»: أي مستحضرون بالموت مقبوضون به إلى حضرة جلال الله.

«ومُضَمَّنُونَ أَجْدَاثاً»: قبوراً أي جعلوا في ضمنها «وكَائِنُونَ رُفَاتاً»: أي من شأنهم أن يصيروا رفاتاً «ومَبْعُوثُونَ أَفْرَاداً»: كما قال تعالى «وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا»(1)إي مجرّداً عن استصحاب غيره معه من أهل ومال «ومَدِينُونَ»: مجردون «جَزَاءً»: أي من شأنهم أن يحصون ذلك والجزاء مصدر نصب بغیر فعله «ومُمَيَّزُونَ حِسَاباً»: أي من شانهم أن يحصّون عدداً كقوله تعالى «لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا»(2)وحساباً أيضاً مصدر نصب بغیر فعله «قَدْ أُمْهِلُوا فِي طَلَبِ الْمَخْرَجِ»: أي إنّما أمهلوا في الدنيا لطلب خلاصهم وخروجهم من ظلمات الجهل وورطات المعاصي إلى نور الحقّ ومتّسع الجود.

«وهُدُوا سَبِيلَ الْمَنْهَجِ»: أي ألهموا بأصل فطرتهم، ودلَّوا بالأعلام الواضحة من الأنبياء والشرائع على الطريق إلى حضرة قدس الله والجنّة.

«وعُمِّرُوا(3)مَهَلَ الْمُسْتَعْتِبِ»: المسترضي لمّا كان من يطلب استعتابه ويقصد رجوعه عن غيّه يمهل ويداري طويلاً كانت مهلة الله سبحانه لخلقه مدّة أعمارهم

ص: 179


1- سورة مريم: الآية 95
2- سورة مريم: الآية 94
3- في بعض النسخ: وغُمِّرُوا

ليرجعوا إلى طاعته ويعملوا صالحاً تشبه ذلك فنزّلت منزلته، ومهل نصب على المصدر لأنّ التعمير إمهال.

«وكُشِفَتْ عَنْهُمْ سُدَفُ»: ظلمة «الرِّيَبِ»: أي أزال عن أبصار بصائرهم ظلم الشكوك والشبهات والجهالات بما، وهبه لهم من العقول وأيّدهم من بعثة الرسل «وخُلُّوا لِمِضْمَارِ الْجِيَادِ»: أي تركوا في الدنيا ليضمروا أنفسهم بأزواد التقوى، ولمّا استعار لغة المضمار رشّح بذكر الجياد، إذ شرف المضمار؛ أن تحلّ به جياد الخيل، وفيه تنبيه لهم على أن يكونوا من جياد مضمارهم، وقد سبق وجه الاستعارة، ومعنى التضمير في قوله: ألا وإنّ اليوم المضمار «ورَوِيَّةِ فكر الِارْتِيَادِ»: وطلب الخير منه أي ليتفكروا في طلب ما يخلصون به إلى الله تعالى من سائر طاعته «وأَنَاةِ» سکون «الْمُقْتَبِسِ»: للأنوار الإلاهة «الْمُرْتَادِ فِي مُدَّةِ الأَجَلِ ومُضْطَرَبِ الْمَهَلِ»: الطالب للاستنارة بها في مدّة آجالهم، ومحلّ اضطرابهم في مهلتهم، وتحصيلهم لما ينبغي لهم من الكمالات، ومن ملك من عبيده هذه الحالات، وأفاض عليهم ضروب هذه الإنعامات؛ فكيف يليق بأحدهم أن يجاهره بالعصيان أو يتجاسر أن يقابله بالكفران إنّ الإنسان لكفور مبين.

الفصل السادس: ثم شرع في التنبيه على فضل موعظته وتذكيره ومدحها بالبلاغة والتعريض بعدم القلوب الحاملة لها، ثمّ الحثّ على التقوى فقال «فَيَا لَهَا أَمْثَالًا»: نصب على التمييز، أي قوم تعالوا للتعجب من هذه الكلمات «صَائِبَةً»: مطابقتها للممّثل به «ومَوَاعِظَ شَافِيَةً»: مؤثرة في القلوب إزالة مرض القلوب والجهل والرذائل الخلقية ورجوع المتعّظ بها منيبا إلى ربّه.

«لَوْ صَادَفَتْ قُلُوباً زَاكِيَةً وأَسْمَاعاً وَاعِيَةً وآرَاءً عَازِمَةً وأَلْبَاباً حَازِمَةً»: زكاها

ص: 180

استعدادها لقبول الهداية وقربها من ذلك، ووعى الأسماع: فهم القلوب عنها، وإنّما وصفها بالوعي لأنّها أيضاً قابلة لقشور المعاني مؤديّة لها إلى قوّة الحسّ ثمّ الخيال، وعزم الآراء: توجيه الهمّم إلى ما ينبغي والثبات على ذلك، وحزامة الألباب: جودة رأى العقول فيما يختاره، وظاهر أن هذه الثلاثة هي أسباب نفع الموعظة.

«فَاتَّقُوا اللهَ تَقِيَّةَ مَنْ سَمِعَ»(1): قلبه بسماع الموعظة «فَخَشَع»: عنها الله «واقْتَرَفَ»: اكتسب الذنوب فاعترف بها وأناب إلى الله «ووَجِلَ»: خاف ربه «فَعَمِلَ»: التجا إلى الأعمال الصالحة لينجوا بها.

«وحَاذَرَ»: عقاب ربه «فَبَادَرَ: إلى طاعته «وأَيْقَنَ»: بالموت «فَأَحْسَنَ»: عمله وأخلص له «وعُبِّرَ»: رمي بالعبر فذكر بها «فَاعْتَبَرَ»: أي فجعلها سالماً يعبر فيها ذهنه إلى العلم به بما ينبغي له «وحُذِّرَ»: من سخط الله «فَازُجِرَ»(2): فرجع عن معصيته «وأَجَابَ»: داعي الله «فَأَنَابَ»: رجع إليه بسره وأمثل أمره «ورَاجَعَ»: عقله «فَتَابَ»: فاستعان به علی شیاطینه وقهر نفسه الأمارة بالسوء فتاب من متابعتها «واقْتَدَى»: بأبناء الله وأولياء «فَاحْتَذَى»: أي حذى حذوهم في جميع أحوالهم فطلب قصدهم وفعل فعلهم «وأُرِيَ»: الحق فأظهرت لعين بصيرته طريق الله «فَرَأىَ»: فعرفها «فَأَسْرَعَ طَالِباً»: لما يسلك به وينتهي إليه «ونَجَا»: فيها «هَارِباً»: من ظلمات جهله وثمراته «فَأَفَادَ ذَخِیرَةً»: فاستفاد سلوکه لها وطاعته لربّه في ذلك ذخيرة لمعاده «وأَطَابَ»: بسلوكها «سَرِيرَةً»: عن نجاسات الدنيا «وعَمَّرَ مَعَاداً»: مما يكتسبه في سلوكها من الكمالات المستعدّة معاده «واسْتَظْهَرَ زَاداً لِيَوْمِ رَحِيلِهِ»: من

ص: 181


1- ورد في بعض النسخ هذه الزيادة: فَاعْتَرَفَ
2- ورد في بعض النسخ هذه الزيادة: فَحَذِرَ وزُجِرَ

دنياه «ووَجْهِ»: لوجه سبيله الَّتي هو سالكها ومسافر فيها «ولحَالِ حَاجَتِهِ ولمَوْطِنِ

فَاقَتِهِ»: فإنّ كلّ مرتبة من الكمالات حصلت للإنسان فهي تعدّه لرتبة أعلى منها لو لم يحصّلها لظهرت له حاجته في الآخرة إلى أقل منها حيث لا يجد إليها سبيلاً «وقَدَّمَ أَمَامَهُ»: أي ما استظهر به زاداً تلقاء وجهته الَّتي هو مستقبلها ومنته لها «لِدَارِ مُقَامِهِ»: أي الآخرة «فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ جِهَةَ مَا خَلَقَكُمْ»: أي باعتباره ولمّا كان ما خلقهم له إنّما هو عرفانه والوصول إليه كان المعنی: اجعلوا تقواكم للهَّ نظراً إلى تلك الجهة والاعتبار لا للرياء والسمعة، وجهة منصوب على الظرف، ويحتمل أن يكون مفعولاً به لفعل مقدّر: أي واقصدوا بتقویکم جهة ما خلقكم له «واحْذَرُوا مِنْهُ كُنْهَ»: مدة «مَا حَذَّرَكُمْ مِنْ نَفْسِهِ»: أي اسلكوا في حذركم منه حقيقة تحذيره لكم من نفسه بما توعّد به، وذلك أنما يحصل بالبحث عن حقيقة المحذور منه، والسالكون إلى الله تعالى في تصور ذلك على مراتب متفاوتة.

«واسْتَحِقُّوا مِنْهُ مَا أَعَدَّ لَكُمْ بِالتَّنَجُّزِ لِصِدْقِ مِيعَادِهِ»: طلب إنجاز الوعد، وذلك إنما هو بالأقبال على طاعته كما قال تعالى «وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ»(1)الآية «والْحَذَرِ مِنْ هَوْلِ مَعَادِهِ»: وذلك باجتناب مناهيه، والارتداع بزواجره، ونواهيه والاستحقاق؛ إنما يحصل بالاستعداد له، فهو أمر بالاستعداد وهو يحتاج إلى أسباب فذكرها عليه السلام في هذين الأمرين.

منها: في تذکیر عباد الله بضروب (2)نعمته عليهم، والتنبيه على الغاية منها، ثمّ التذکَّر بحال الماضين من الخلق، والتنبيه على الاعتبار بهم. وهو في معرض الامتنان وذلك قوله عليه السّلام: جَعَلَ لَكُمْ أَسْمَاعاً لِتَعِيَ مَا عَنَاهَا: أهمها

ص: 182


1- سورة البقرة: الآية 25
2- بضروب النعمة: بالأنواع والانماط المختلفة؛ يُنظر غريب الحديث لابن سلام: ج 3 ص 483

وخلقت لأجلها «وأَبْصَاراً لِتَجْلُوَ عَنْ عَشَاهَا»: عماها وهو يحتمل؛ أن يكون مستعارا لظلمة الجهل العارض؛ لإبصار القلوب حتّى يكون التقدير لتجلو عشا قلوبها، وحينئذ فإدراك البصر المحصّل عبرة يحصل للقلب به جلاء لذلك العشا؛ فصحّ إذن إسناد الجلاء إلى الأبصار، ويحتمل أن يكون مستعاراً لعدم إدراكها ما تحصل منه العبرة؛ إذ كانت فائدتها ذلك؛ فإذا لم يحصل منها ذلك؛ الإدراك كانت کمبصر، أصابه العشا، ووجه المشابهة عدم الفائدة، ونسبة الجلاء إليها بوجود الإدراك المفيد عبرة عنها، وهو استعارة أيضاً، وعن ليست بزایدة؛ لأنّ الجلاء يستدعي مجلوّا، ومجلوّا عنه؛ فذكر عليه السّلام المجلوّ، وأقامه مقام المجلوّ عنه؛ فكأنّه قال: لتجلو عن قواها عشاها «وأَشْلَاءً»: جمع شلو وهو الجسد «جَامِعَةً

لأَعْضَائِهَا مُلَائِمَةً لأَحْنَائِهَا»: الجانب «فِي تَرْكِيبِ صُوَرِهَا ومُدَدِ عُمُرِهَابِأَبْدَانٍ قَائِمَةٍ

بِأَرْفَاقِهَا»: منافعها أي أن كل بدن قائم في الوجود بحسب ما هيأ له من ضروب المنافع، ويروى بأرماقها، والرمق بقبة الرمح «وقُلُوبٍ رَائِدَةٍ»: طالبة «لأَرْزَاقِهَا»: قوام حياتها الدنيا ويمكنها من صلاح معادهم «فِي مُجَلِّلَاتِ نِعَمِهِ»: وسوابغها فمنها: ستره عليهم قبائح أعمالهم أن تظهر، وهو أحس خواطرهم بعضهم لبعض بحيث لو اطَّلع كلّ على ماله في ضمير صاحبه من الغلّ والحسد وتمنّى زوال نعمته لأفني بعضهم بعضاً وخرب نظام وجودهم «ومُوجِبَاتِ مِنَنِهِ»: نعمه الَّتي يستوجب أن يمنّ بها. ومن روی بفتح الجيم فالمراد بالمنن إذن النعم و موجبات ما سقط منها وأفيض على العباد «وحَوَاجِزِ عَافِيَتِهِ»: موانع «بَليَّتهِ»(1): ما منع منها عوائل الأمراض والمضار المندفعة بها «وقَدَّرَ لَكُمْ أَعْمَاراً سَتَرَهَا عَنْكُمْ»: ذكر ستر کمية الأعمار في معرض المنة لأنه من النعم العظيمة على العبد أذ كان اطلاع الإنسان على كمية عمره مما يوجب اشتغال خاطره بخوفه عن الموت من عمارة الأرض

ص: 183


1- في بعض النسخ ورد: بليته

ويبطل بسببه نظام هذا العالم «وخَلَّفَ لَكُمْ عِبَراً مِنْ آثَارِ الْمَاضِینَ قَبْلَكُمْ»: وجه من منن الله تعالى على عباده فأن إبقاء أحوال الماضين وما خلفوه عبرة للاحقين سبب عن دار الغرور ومهاوي الهلاك إلى سعادة الأبد «مِنْ مُسْتَمْتَعِ خَلَقِهِمْ»: محل ما استمتعوا به أي من ما كان نصيباً لكل منهم في مدة بقائه من متاع الدنيا «ومُسْتَفْسَحِ خَنَاقِهِمْ»: حبل يخنق به أي محل الفسحة لأعناقهم من ضيق حبائل الموت وأغلال الجحيم وذلك هو مدة حياتهم أيضاً ثم وصف الماضين بقوله: «أَرْهَقَتْهُمُ»: أعجلتهم «الْمَنَايَا دُونَ الآمَالِ وشَذَّبَهُمْ»: قطعهم عَنْهَا: الآمال «تَخَرُّمُ الآجَالِ»: انقطاع الآجال فيه تنبيه على وجوب قصر الأمل والاستعداد للموت «لَمْ يَمْهَدُوا فِي سَلَامَةِ الأَبْدَانِ ولَمْ يَعْتَبِرُوا فِي أُنُفِ الأَوَانِ»: أولاً تنبيه على تقصير الماضين في إصلاح معادهم حيث أمكنهم ذلك في سلامة أبدانهم وأوّل زمانهم ليحصل لهم بذلك التذکَّر نفرة عن حال السابقين وانزعاج عن الغرور إلى الاستعداد بالتقوى والأعمال الصالحة «فَهَلْ يَنْتَظِرُ أَهْلُ بَضَاضَةِ الشَّبَابِ إِلَّا حَوَانِيَ الْهَرَمِ»: جمع حنية وهي الاعوجاج في الظهر من الهرم «وأَهْلُ غَضَارَةِ الصِّحَّةِ»: طيبها «إِلَّا نَوَازِلَ

السَّقَمِ وأَهْلُ مُدَّةِ الْبَقَاءِ إِلَّا آوِنَةَ الْفَنَاءِ»: جمع أوان وأعلم أن ذلك الانتظار لیس حقيقيّاً لكن لمّا كان المنتظر لأمر والمترقّب له تاركاً في أكثر أحواله لما يعنيه من الاشتغال إلى غاية أن يصل إليه ما ينتظره، وكانت غاية الشباب؛ أن يحني ظهورهم الهرم، وغاية الصحيح أن يسقم، وغاية المعمّر أن يفني أشبه تركهم للعمل، وعبادة الله إلى غاياتهم المذكورة لانتظار لها، فاستعير له لفظ «مَعَ قُرْبِ الزِّيَالِ»: الفراق «وأُزُوفِ»: قرب «الِانْتِقَالِ وعَلَزِ الْقَلَقِ»: كالرعدة تأخذ المريض «وأَلَمِ الْمَضَضِ»: وجع المصيبة «وغُصَصِ الْجَرَضِ»: الريق يغص به «وتَلَفُّتِ الِاسْتِغَاثَةِ»: النظر لها يميناً وشمالاً لا ينصره الحفدة الأعوان والأقرباء والأعزة والقرناء ثم نبه على أن

ص: 184

ما يقع عند نزول الموت من تلك الأحوال لا ينفع في دفعه قريب ولا حبيب على طريق الاستفهام والاستنكار بقوله(1)«فَهَلْ دَفَعَتِ الَأقَارِبُ أَوْ نَفَعَتِ النَّوَاحِبُ»: البواكي «وقَدْ غُودِرَ»: ترك فِي «مَحَلَّةِ الأَمْوَاتِ رَهِيناً»: أي مرتهناً بذنوبه وموقوفاً بها «وفِي ضِيقِ الْمَضْجَعِ وَحِيداً»: في محل النصب على الحال والعامل نفعت: أي لم ينفعهم البكاء حال ماغودر في محلّة الأموات بالأوصاف الكريهة تنفيراً عن أحواله وجذباً إلى الخلاص من أهوالها بالعمل للهَّ والإخلاص له وكذا «قَدْ هَتَكَتِ الْهَوَامُّ»: الديدان المتولدة في جلدته وغيرها «جِلْدَتَهُ وأَبْلَتِ النَّوَاهِكُ»: الأمراض التي تذيب اللحم جِدَّتَهُ: مصدر الجديد «وعَفَتِ الْعَوَاصِفُ آثَارَهُ ومَحَا الْحَدَثَانُ مَعَالِمَهُ وصَارَتِ الأَجْسَادُ شَحِبَةً»: هالكة «بَعْدَ بَضَّتِهَا والْعِظَامُ نَخِرَةً»: بالية «بَعْدَ

«قُوَّتِهَا والأَرْوَاحُ مُرْتَهَنَةً بِثِقَلِ أَعْبَائِهَا»: إشارة إلى اشتغال النفوس وانحطاطها إلى الجنبة السافلة بثقل ما حملته من الأوزار واكتسبته من الهيئات الرديئة «مُوقِنَةً بِغَيْبِ أَنْبَائِهَا»: هو الأخبار عن الأحوال اللاحقة بها بعد الموت من خير وشرّ فإنّها يتيقّن غيبتها عن أهل الدنيا، أو أنباء ما خلَّفته من اللواحق الدنيويّة فإنّها يتيّقن بعد الموت غیبتها وانقطاعها عنها والأوّل أولى.

«لَا تُسْتَزَادُ مِنْ صَالِحِ عَمَلِهَا ولَا تُسْتَعْتَبُ مِنْ سَيِّئِ زَلَلِهَا»: أي لا يطلب منها زيادة من العمل الصالح ولا يقال من سيّء زللها ويرضى عنها كقوله تعالى «وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ»(2)وذلك لعدم آلة العمل، وامتناع الرجوع إليه، وعدم تمكَّنها من نزع ما صار في عنقها من أطواق الهيئات البدنيّة كما قال «حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ

ص: 185


1- في بعض النسخ ورد: بِنُصَرْةِ الْحَفَدَةِ والَأقْرِبَاءِ والَأعِزَّةِ والْقُرَنَاءِ: واكتفى المصنف بالعبارة التي تليها
2- سورة فصلت: الآية 24

كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ»(1)«أَو لَسْتُمْ أَبْنَاءَ الْقَوْمِ والآبَاءَ وإِخْوَانَهُمْ والأَقْرِبَاءَ»: أي أو ليس فيكم من هو أب لأحد أولئك أو ابن له أو أخوه أو قريبه، وهو تنبيه للسامعين على وجه العبرة؛ فأنه لما شرح حال الماضين في الموت، وما بعده نبههم على أنهم أمثالهم في كل تلك الأحوال؛ ليرجعوا إلى طاعته تعالى الذي هو سبب النجاة من تلك الأهوال «تَحْتَذُونَ أَمْثِلَتَهُمْ»: أي يقتدون بهم في أفعاله «وتَرْكَبُونَ قِدَّتَهُمْ»: طريقتهم «وتَطَئُونَ جَادَّتَهُمْ»: ويسلكون مسالكهم في غرورهم، ونحوه کما قال تعالى حكاية «إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ»(2)«فَالْقُلُوبُ قَاسِيَةٌ عَنْ حَظِّهَا»: أي لا استعداد لها يقبل به حظها الذي ينبغي لها طلبه لَاهِيَةٌ عَنْ رُشْدِهَا: غافلةً عن طلب هدایتها «سَالِكَةٌ فِي غَیْرِ مِضْمَارِهَا»: المضمار هاهنا الشريعة وسلوكها لغيرة ارتكابها لمناهي الله ورياضتها بالأعمال الطالحة التي هي طرق الجحيم «كَأَنَّ الْمَعْنِيَّ سِوَاهَا وكَأَنَّ الرُّشْدَ فِي إِحْرَازِ دُنْيَاهَا»: مبالغة في ذكر إعراض القلوب وغفلتها عن المواعظ وانّهماكها في تحصيل الدنيا إلى غاية أن أشبهت من لم يكن معنیّا بالخطاب بها، أو أنّ الرشد الَّذي جذبت إليه إنّما هو تحصيل الدنيا وجمعها الَّذي جذبت عنه وحذّرت منه، ثم شرع في التذكير بأمر الصراط والتحذير منه والحث على التقوى وذلك قوله «واعْلَمُوا أَنَّ مَجَازَكُمْ عَلَى الصِّرَاطِ ومَزَالِقِ دَحْضِهِ»: زلفة «وأَهَاوِيلِ زَلَلِة»(3)«وتَارَاتِ»: مرات «أَهْوَالِهِ»: أعلم أن الصراط الموعود في القرآن الكريم حق يجب الإيمان به، وأن أختلف الناس في حقيقته فظاهر الشريعة، والذي عليه

ص: 186


1- سورة المؤمنون: الآية 100
2- سورة الزخرف: الآية 22
3- وأهاويل زللة: الأهاويل جمع: أهوال: تزل بها الأقدام وتزيل المرء عن محله ومقامه الذي كان عليه في الدنيا

جمهور المسلمين، ومن أثبت المعاد الجسماني يقتضي؛ أنه جسم في غاية الدقة والحدة، ممدود على جهنم، وهو طريق إلى الجنة بحوره؛ من أخلص لله ومن عصاه سلك عن جنبتيه أحد أبواب جهنم وأما الحكماء؛ فقالوا بحقيقته وما يقال في حقه؛ أنه كالشعر في الدقة فهوا ظلم، بل نسبة الشعرة إليه کنسبتها إلى الخط الهندسي الفاصل بين الظل والشمس الذي ليس من أحدهما؛ فهوا كذلك الخط الَّذي لا عرض له أصلاً، وحقيقته هو الوسط الحقيقيّ بين الأخلاق المتضادّة؛ کالسخاوة بين التبذير والبخل، والشجاعة بين التهوّر والجبن، والاقتصاد بین الإسراف والتقتير، والتواضع بين التكبّر والمهانة، والعفّة بين الشهوة والخمود، والعدالة بين الظلم والانظلام، فالأوساط بين هذه الأطراف المتضادّة هي الأخلاق المحمودة، ولكلّ واحد منها طرفاً تفريط، وإفراط هما مذمومان، وكلّ واحد منها هو غاية البعد عن طرفيه، وليس من طرف الزيادة ولا من طرف النقصان، قالوا: وتحقيق ذلك أنّ كمال الإنسان في التشبّه، بالملائكة وهم منفکَّون عن هذه الأوصاف المتضادّة، وليس في إمكان الإنسان الانفكاك عنها بالكلَّية؛ فغايته التباعد عنها إلى الوسط تباعدا يشبه الانفكاك عنها، فالسخّي كأنّه لا بخيل ولا مبذّر، فالصراط المستقيم هو الوسط الحقّ الَّذي لا ميل له إلى أحد الجانبين، ولا عرض له وهو أدقّ من الشعر ولذلك قال تعالى «وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ»(1)وروي عن الصادق عليه السّلام وقد سئل عن قوله تعالى «اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ»(2)قال: يقول: «أرشدنا للزوم الطريق المؤدّي إلى محبّتك والمبلَّغ دينك والمانع من أن نتّبع أهوائنا فنعطب أو نأخذ

ص: 187


1- سورة النساء: الآية 29
2- سورة الفاتحة: الآية 6

بآرائنا فنهلك»(1)، وعن الحسن العسكري عليه السّلام: «الصراط صراطان: صراط في الدنيا، وصراط في الآخرة، فأمّا الصراط المستقيم في الدنيا فهو ما قصر عن الغلوّ وارتفع عن التقصير واستقام فلم يعدل إلى شيء من الباطل، والصراط الآخر هو طريق المؤمنين إلى الجنّة لا يعدلون عن الجنّة إلى النار ولا إلى غير النار سوى الجنّة»(2)، والناس في ذلك متفاوتون؛ فمن استقام على هذا الصراط وتعوّد سلوكه مرّ على صراط الآخرة مستوياً، ودخل الجنّة آمنا، إذا عرفت ذلك فنقول: مزالق الصراط كناية عن المواضع الَّتي هي مظانّ انحراف الإنسان عن الوسط بين الأطراف المذمومة، وتلك المواضع هي مظانّ الشهوات والميول الطبيعيّة.

وأهاويل هي: ما يستلزمه العبور إلى أحد طرفي الإفراط، والتفريط من العذاب العظيم في الآخرة، وتارات أهواله تكرار ذلك تارة بعد أخرى، ثم عاد إلى الأمر بتقوى الله إستماماً بشأنه فقال: «فَاتَّقُوا اللهَ(3)تَقِيَّةَ ذِي لُبٍّ شَغَلَ التَّفَكُّرُ قَلْبَهُ»: في أمر معاده عن محبة الدنيا وباطلها «وأَنْصَبَ»: أتعب «الْخَوْفُ»: خوف الله وما أعد للعقاب «بَدَنَهُ وأَسْهَرَ التَّهَجُّدُ»: العبادة بالليل «غِرَارَ»: قليل «نَوْمِهِ وأَظْمَأَ الرَّجَاءُ هَوَاجِرَ يَوْمِهِ»: أي أظمأه رجاء ما أعدّ الله لأوليائه الأبرار عوضاً من طيّبات هذه الدار، وظمأه في جواهر يومه كناية عن كثرة صيامه في أشدّ أوقاته حرارة، وإنّما جعل الهواجر مفعولاً إقامة للظرف مقام المظروف، وهو من وجوه المجاز.

ص: 188


1- تفسير الإمام الحسن العسكري: ص 44؛ عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق ج 111 ص 273؛ كذلك معاني الأخبار للشيخ الصدوق: ص 33؛ تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورام): لورام بن أبي فراس المالكي الأشتري ص 415
2- المصدر المتقدم نفسه
3- ورد في بعض النسخ: عِبَادَ اللهِ

«وظَلَفَ»: منع «الزُّهْدُ شَهَوَاتِهِ»: فشهواته هي ميول قوته الشهوية إلى مشتهياتها والانهماك فيها، وظاهر أن الزهد الحقيقي مانع لتلك الميول، وقامع للقوة الشهوية عنها «وأَوْجَفَ»: اسرع «الذِّكْرُ بِلِسَانِهِ»: لتعوده إياها وأمانه فيه «وقَدَّمَ الْخَوْفَ»: خوف ربه «لأَمَانِهِ»: فعمل مخلصاً له ليأمن عذابه «وتَنَكَّبَ الْمَخَالِجَ عَنْ وَضَحِ السَّبِيلِ»: أي عدل عن الأمور المشغلة إلى واضح سبيل الله «وسَلَكَ أَقْصَدَ الْمَسَالِكِ»: أي أولاها بالقصد «إِلَی النَّهْجِ الْمَطْلُوبِ»: من خلقه وهو وسيلة المستقيم فأن للناس في سلوكه مذاهب كثيرة ولكن أحبها إليه أولاها بالقصد إلى طريقة الموصل إليه «ولَمْ تَفْتِلْهُ فَاتِلَاتُ الْغُرُورِ»: أي لم تهلکه غفلاته في لذات الدنيا عن ربه أذ لم يغفل عن طاعته «ولَمْ تَعْمَ عَلَيْهِ مُشْتَبِهَاتُ الأُمُورِ»: أي لم تظلم في وجهه شبهة على حق جسد؛ فيسند عليه وجه حفظه «ظَافِراً بِفَرْحَةِ

الْبُشْرَى»: أي بشرى الملائكة «بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ»(1)«ورَاحَةِ النُّعْمَى»: أي الراحة من مشاقّ الدنيا ومتاعبها بنعمي الآخرة ونعيم الله في الجنّة فِي «أَنْعَمِ نَوْمِهِ»: أي في أطيب راحته، وأطلق عليها مجازاً أطلاقاً لاسم الملزوم على لازمه(2)«وآمَنِ يَوْمِهِ»: أي آمن أوقاته، وأطلق على مطلق الوقت مجازاً إطلاقاً لاسم الجزء على الكلّ(3).

«وقَدْ عَبَرَ مَعْبَرَ الْعَاجِلَةِ»: الدنيا «حَمِيداً»: محمود الطريقة «وقَدَّمَ زَادَ الآجِلَةِ سَعِيداً»: أي عمله للآخرة فحصل على السعادة الأبديّة، وحميداً أو سعیداً، حالان

ص: 189


1- سورة الحديد: الآية 12
2- لاسم الملزوم على لازمه: بمعنى الملازمة التي هي من القواعد المنطقية: وهي من الملازمات العقلية ومنها: إذ ثبت اللازم ثبت الملزوم، وبالعكس
3- لاسم الجزء على الكل: بمعنی الجزئية التي هي من قواعد القياس المطنق، ومنه الكلي وأجزائه فراجع، وتركنا التفصيل راعية للاختصار

«وبَادَرَ»: إلى الأعمال الصالحة «مِنْ وَجَلٍ»: خوف الله «وأَكْمَشَ»: اسرع فِي «مَهَلٍ»: أيام مهلته إلى طاعة ربه «ورَغِبَ فِي طَلَبٍ»: أي كان طلبه لله عن رغبة له «وذَهَبَ عَنْ هَرَبٍ»: أي كان ذهابه عن ما يبعّد عن الله عن هرب من خوف الله، وفي كلّ قرينتين من هذه العشرة السجع المتوازي(1).

«ورَاقَبَ فِي يَوْمِهِ غَدَهُ»: أي توقّع في أيّام حياته هجوم آخرته .

«ونَظَرَ قُدُماً أَمَامَهُ»: أي لم يلتفت في نظره عن قصد الله إلى غيره، ثمّ نبّه بقوله فَكَفَى بِالْجَنَّةِ ثَوَاباً ونَوَالًا: على وجوب السعي لها دون غيرها وبقوله: «وكَفَى بِالنَّارِ ووَبَالًا وعِقَاباً»(2): على وجوب الهرب منها دون غيرها «وكَفَى بِاللهِ مُنْتَقِمًا

ونَصِیراً»: على وجوب الاقتصار على خشيته والاستعانة به وبقوله: «وكَفَى بِالْكِتَابِ حَجِيجاً»: أي محتجاً «وخَصِيماً»: على وجوب الانفعال عنه، وملاحظة شهادته في الآخرة على من لم يتّبعه، ونسب محتّجاً وخصيماً الاحتجاج والخصام إلى الكتاب مجازاً، والمنصوبات بكفي على التمييز، ثم عاد إلى الحثّ على تقوى الله باعتبار أمور ثلاثة فقال:

«أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ الَّذِي أَعْذَرَ»: إلى الخلق «بِمَا أَنْذَرَهم»: به من العقوبات.

«واحْتَجَّ»: عليهم «بِمَا نَهَجَ»: أوضحه بالدلائل والبيّنات «وحَذَّرَكُمْ عَدُوّاً»: إبليس «نَفَذَ فِي الصُّدُورِ خَفِيّاً»: أشارة إلى النفس الأمّارة بالسوء، وتجوّز بلفظ الصدور في القلوب؛ إطلاقا لاسم المكان على المتمکَّن «ونَفَثَ فِي الآذَانِ نَجِيّاً»: نجوى إشارة إلى ما تلقيه شياطين الإنس بعضهم إلى بعض من زخرف القول

ص: 190


1- السجع المتوازي: تقدم بيانه
2- ورد في بعض النسخ: عقاباً ووبالًا

وغروره، وقد سبق ذلك في الخطبة الأولى.

«فَأَضَلَّ»: عن طريق الله «وأَرْدَى»: هم في قرار الجحيم «ووَعَدَ فَمَنَّى»: بلوغ الآمال الكاذبة «وزَيَّنَ سَيِّئَاتِ الْجَرَائِمِ»: أي قبایح المعاصي «وهَوَّنَ مُوبِقَاتِ الْعَظَائِمِ»: وما يهلك من عظيم الذنوب، وتهوينه بمثل تمنّيه التوبة، ومساعدة العقل له بقوله «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»(1)وبمثل الاقتداء بالغير الَّذي هو أولى بالعفّة مثلاً أو أكثر قدراً في الدنيا وأمثالها.

«حَتَّى إِذَا اسْتَدْرَجَ»: أدناه «قَرِينَتَهُ»: أي النفس الناطقة باعتبار موافقته «واسْتَغْلَقَ رَهِينَتَهُ»: باعتبار أحاطة الذنوب بها من قبله کما یستغلق الرهن بما عليه من المال ولفظ الرهينة مستعار أدراجه لها تزينه حالاً بعد حال وتعويدها بطاعته «أَنْكَرَ مَا زَيَّنَ واسْتَعْظَمَ مَا هَوَّنَ وحَذَّرَ مَا أَمَّن»: إشارة إلى غايته من وسوسته، وعود من النفس الأمّارة بالسوء؛ إلى موافقتها لحكم العقل؛ في قبح ما كانت أمرت به، واستعظام خطره، ومساعدتها على التحذير منه بالامتناع من تحسينه؛ بعد أن كانت تحثّ عليه، وتزيّنه وتؤمن به، وذلك إمّا عند التوبة، وقهر العقل لها أو عند معاينة المكروهات الجزئيّة من العقوبات، والآلام إمّا في الدنيا أو بعد المفارقة، والحصول في عذاب الجحيم بسبب؛ الانهماك فيما كانت زيّنته من الباطل، وذلك أنّ النفس إذا فارقت البدن حملت معها القوّة المتوهّمة؛ فتدرك ما يلحقها من جزئيّات العقوبات؛ كعذاب القبر وما يتنوّع منه كما سبقت الإشارة إليه، وقد يتصوّر ذلك من شياطين الإنس في تزيينهم الجرائم، وأمّا من الشيطان الظاهر فظاهر «منها في صِفةِ خَلْق الإنسان»: من مبدأ عمره بالنقصان، وبيان نعمة الله تعالى عليه بترديده في أطوار الحلقة، وتبكيته بمقابلة نعمه بالكفر،

ص: 191


1- سورة البقرة: الآية 173

والغفلة في متابعة الشيطان، وتذكيره بما یکون غايته من حياة الدنيا، وهو الموت وما يتبعه من أحوال الميّت بين أهله وأقاربه، وحالهم معه وما يكون بعد الموت من العذاب في القبر، والسؤال، والحساب، وسائر ما ينّفر طبعه منه، ويوجب له الالتفات إلى إصلاح معاده، وتذكير مبدئه لعلَّه يتذكَّر أو يخشی.

«أَمْ هَذَا الَّذِي أَنْشَأَهُ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْحَامِ»: تقدير الكلام ليس؛ فيما أظهره الله لكم من عجائب مصنوعاته؛ عبرة أم هذا الإنسان، وتقلَّبه في أطوار خلقته وحالاته إلى يوم نشوره كقوله تعالى «وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ»(1)وهذا الاستفهام في معرض التقريع للإنسان، وأمره باعتبار حال نفسه، ودلالة خلقته على جزيئات نعم الله عليه مع كفرانه لها «وشُغُفِ الأَسْتَارِ»: جمع شغاف وهو غلاف القلب «نُطْفَةً دِهَاقاً»: تامة وروي دقاقاً مفرغاً «وعَلَقَةً»: دماً طرياً «مِحَاقاً»: ناقصاً «وجَنِيناً»: هذا كلام أجمالي، وتفصيله أن أوّل أحوال تكوّن الإنسان زبديّة المنىّ وانتفاخ يظهر فيه فينمو به، وأوّل ما يتكوّن فيه وعاء الروح بفعل الملك المصوّر، ثمّ تحدث ريح من قبل الطبيعة فتثقب ثقباً أمام فوهات العروق؛ بحيث إذا تخلَّقت محسوسة صارت عروقاً؛ ثمّ يبسط النطفة في أقطارها، وتحدث في الغشاء ثقباً موازية لنفث العروق الَّتي في الرحم ينفتح عند الحيض، ويحصل لجميعها مجاري في الغشاء المذكور يؤدّى إلى مجری، واحد نافذ إلى عمق النطفة مؤدّياً إلى باطنه الدم في عرقين؛ أو عرق والنفس في عرقين؛ فإذا تخلَّقت هذه المجاري امتصّت النطفة حينئذ الغذاء من فوهات تلك العروق، ونفذ في الصفاق دم يستحيل عن قريب إلى جوهر المنىّ، وحدث لها خطوط لها مبادئ دمويّة، ونقطة أولى هي القلب ثمّ لا تزال الدمويّة تزداد في النطفة؛ حتّى تصير علقة، وتكون

ص: 192


1- سورة الذاريات: الآية 21

مثل الرغوة في الأكثر لستة أيّام، وابتداء الخطوط الحمر، والنقطة بعد ثلاثة أيّام أخرى؛ ثمّ بعد ستّة أيّام وهو الخامس عشر من حين العلوق؛ تنفذ الدمويّة في الجميع؛ فتصير علقة وبعد ذلك باثني عشر يوماً تصير لحماً، وتتميّز قطعة لحم المضغة، وتميّز الأعضاء الرئيسة، وتمتدّ رطوبة النخاع ثمّ بعد تسعة أيّام ينفصل الرأس عن المنكبين، والأطراف عن الضلوع، والبطن تميّزاً يحسّ به في بعضهم ويخفي في بعض حتّى يحسّ به بعد أربعة أيّام أخرى تمام الأربعين؛ فيصير جنیناً، وقد يتمّ ذلك في ثلاثين يوماً، وقد يتمّ في خمس وأربعين يوماً، وقيل: العدل في ذلك خمسة، وثلاثون يوماً، فيتحرّك في سبعين يوماً، ويولد في مائتين، وعشرة أيّام وذلك سبعة أشهر، وإذا كان الأكثر لخمسة، وأربعين يوماً فتحرّك في تسعين يوماً، ويولد في مائتين وسبعين يوماً، وذلك تسعة أشهر؛ فهذه إشارة إلى تنقّله في ظلمات الرحم بتدبير الملك المقتدر وواسطة الملك المصوّر، ولو كشف الغطاء لرأينا هذه التخطيط، والتصوير يظهر عليه شيئاً؛ فشيئاً مع أنّا لا نرى المصوّر ولا آلته، فسبحان المقتدر على ما يشاء.

«ثُمَّ مَنَحَهُ»: أعطاه «قَلْباً حَافِظاً ولِسَاناً لَافِظاً وبَصَراً لَاحِظاً لِيَفْهَمَ مُعْتَبِرِاً»: حال أن يستنبط من شواهد آلاء الله دلائل، وحدانية وسائر نعوت جلاله ويعتر فيها إلى استكمال الفضائل النفسانية «ويُقَصِّرَ مُزْدَجِراً»: أي يكف عما لا ينبغي من موبقات الآثام وعن الخوض فيما لا يعنيه مزدجر عنه «حَتَّى إِذَا قَامَ اعْتِدَالُهُ»: قامته «واسْتَوَى مِثَالُهُ»: شخصه «نَفَرَ مُسْتَكْبِراً وخَبَطَ سَادِراً»: متجبراً أعلم أنه عليه السّلام أشار إلى الإنسان المطلق الَّذي هو في قوّة البعض لا الإنسان العامّ، لأنّ كثيراً من الناس لا يكون بهذه الصفة، وظاهر أن الأوصاف المذكورة إذا صدقت على المطلق؛ فقد صدقت على بعض الناس، وذلك البعض هم العصاة الماردون بهذه الصفات، والتوبيخ بها لهم، وفيه تنبيه للباقين على وجوب دوام شكر الله

ص: 193

والبقاء على امتثال أوامره ونواهيه.

«مَاتِحاً»: نازحاً«فِي غَرْبِ هَوَاهُ»: هو الدلو العظيم، ولما استعار لهواه الذي يملأ به صحايف أعماله من المآثم؛ كما يملأ ذو الغرب غربه من الماء رشّح تلك الاستعارة بذكر المتح «كَادِحاً»: ساعياً «سَعْياً لِدُنْيَاهُ فِي لَذَّاتِ طَرَبِهِ وبَدَوَاتِ»: أوائل «أرَبَهِ»: حاجته(1)«لاَ يَحْتَسِبُ رَزِيَّةً»: مصيبة «ولاَ يَخْشَعُ تَقِيَّةً»: مفعول به «فَمَاتَ فِي

فِتْنَتِهِ غَرِيراً»: مغروراً غافلاً «وعَاشَ فِي هَفْوَتِهِ»: زماناً «يَسِیراً»: وروى أسيرا فعلی هذا يكون حالاً استعير للعاصي ووجه المشابهة أن صاحب الزلَّة يقوده هواه إلى هوانه کما يقاد الأسير إلى ما يكرهه «لَمْ يُفِدْ عِوَضاً»: أي لم يستفد في الدنيا عوضاً ممّا يفوته منها في الآخرة، والعوض الَّذي ضيّعه هو الكمالات الَّتي خلق ليستفيدها ولَمْ «يَقْضِ مُفْتَرَضاً»: من العلوم والأخلاق «دهِمَتْهُ»: أتته غفلة «فَجَعَاتُ الْمَنِيَّةِ»: رزايا الموت «فِي غُبَّرِ»: بقايا «جِمَاحِهِ»: هواه «وسَنَنِ»: طريق «مِرَاحِهِ»: نشاطه «فَظَلَّ سَادِراً»: متحيراً «وبَاتَ سَاهِراً فِي غَمَرَاتِ الآلَامِ وطَوَارِقِ الأَوْجَاعِ والأَسْقَامِ

بَیْنَ أَخٍ شَقِيقٍ»: أي شقيق من أصل واحد «ووَالِدٍ شَفِيقٍ»: مشفق وأمره «ودَاعِيَةٍ

بِالْوَيْلِ جَزَعاً»: مفعول له ولَادِمَةٍ: ضاربة لِلصَّدْرِ قَلَقاً: إعرابه كأعراب جزعاً والْمَرْءُ فِي سَكْرَةٍ: حال والعامل لادمه «مُلْهِثَةٍ»: شاغلة «وغَمْرَةٍ»: سكرة «كَارِثَةٍ»: موجعة «وأَنَّةٍ مُوجِعَةٍ وجَذْبَةٍ مُكْرِبَةٍ»: موجعة أي جذب الملائكة للروح کما قال تعالى «وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ»(2)الآية، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم قال: «إنّ المؤمن إذا احتضر أتته الملائكة بحريرة فيها مسك وضبائر الريحان فينسلّ روحه کما تسلّ الشعرة من العجين ويقال: «يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ٭ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ

ص: 194


1- في بعض النسخ ورد: ثُمَّ
2- سورة الأنعام: الآية 93

رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً»(1)إلى روح الله وكرامته، فإذا خرجت روحه وضعت على ذلك المسك والريحان وطويت عليه الحريرة وبعث بها إلى عليين، وإن الكافر إذا احتضر أمر الله الملائكة بمسح فيه جمرة فنزع روحه انتزاعاً شديداً ويقال: أيّتها النفس الخبيثة ارجعي ساخطة مسخوطاً عليك إلى هوان الله وعذابه فإذا خرجت روحه وضعت على تلك الجمرة وكان لها نشيش، ويطوى عليها ذلك المسح، ويذهب بها إلى سجين»(2)؛ واعلم أن تلك الجذبة تعود إلى ما يجده الميّت حال النزع، وهو عبارة عن ألم ينزل بنفس الروح يستغرق جميع أجزائه المنتشرة في أعماق البدن؛ وليس هو كسائر ما يجده الروح المختصّ ببعض الأعضاء؛ كعضو شاکته شوكة ونحوه لاختصاص ذلك بموضع واحد؛ فألم النزع يهجم على نفس الروح، ويستغرق جميع أجزائه، وهو المجذوب من كلّ عرق، وعصب وجزء من الأجزاء ومن أصل كلّ شعرة وبشرة، ولا تسألنّ عن بدن يجذب منه كلّ عرق من عروقه، وقد يمثّل ذلك بشجرة «شوك كانت داخل البدن ثمّ جذبت منه فهي الجذبة المركبة «وسَوْقَةٍ مُتْعِبَةٍ»: إشارة إلى إن موت كل عظو من البدن عقيب الأمراض الَّتي ربّما طالت تدريجاً «ثُمَّ أُدْرِجَ فِي أَكْفَانِهِ مُبْلِساً»: أي أطوي فيها ساکناً متحيراً على فرط منه قال الله تعالى «يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ»(3)«وجُذِبَ مُنْقَاداً سَلِساً»: سهلًا «ثُمَّ أُلْقِيَ عَلَى الأَعْوَادِ»: جنازة «رَجِيعَ»: يخيف «وَصَبٍ»: شدة وجع «ونِضْوَ»: مهزول «سَقَمٍ»: استعار له وصیفي الجمل فالرجيع باعتباره كونه قد ردد في أطوار

ص: 195


1- سورة الفجر: الآيتان: 27 - 28
2- شرح نهج البلاغة لقطب الدين الراوندي: هامش ص 337؛ شرح نهج البلاغة لابن میثم البحراني: ج 264؛ إحياء علوم الدين للغزالي: ج 16 ص 5؛ تفسير التبيان للشيخ الطوسي: ج 10 ص؛ ولم أعثر على مصادر أخرى للحديث
3- سورة الروم: الآية 12

المرض وتواتر علیه کما یرد الجمل في السفر مرة بعد أخرى والنضوء(1)باعتباره نحوله من الأسقام کما ینحل الأسفار بالجمل «تَحْمِلُهُ حَفَدَةُ الْوِلْدَانِ وحَشَدَةُ الإِخْوَانِ»: جمع حاشد بمعنى المناهب «إِلَی دَارِ غُرْبَتِهِ ومُنْقَطَعِ زَوْرَتِهِ»: زيارته «حَتَّى إِذَا انْصَرَفَ الْمُشَيِّعُ ورَجَعَ الْمُتَفَجِّعُ أُقْعِدَ فِي حُفْرَتِهِ نَجِيّاً لِبَهْتَةِ السُّؤَالِ»: أي مناجي ليسأل فيبهت والبهتة الغفلة «وعِبرة الِامْتِحَانِ»(2): وأعلم أن القول بعذاب القبر وسؤال منكر ونكير حقّ؛ روی عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم أنّه قال لعمر: «یا بن الخطَّاب كيف بك إذا أنت متّ فانطلق بك قومك فقاسوا لك ثلاثة أذرع في ذراع وشبر؛ ثمّ رجعوا إليك فغسّلوك، وكفنّوك ثمّ احتملوك حتّى يضعوك فيه؛ ثمّ يهيلوا عليك التراب؛ فيدفنوك فإذا انصرفوا عنك أتاك فتّانا القبر منكراً ونكيرا؛ أصواتهما كالرعد القاصف وأبصارهما كالبرق الخاطف يجرّان أشعارهما ويحیثان القبر بانیا بهما فيبلبلانك، ويزلزلانك فيقولان لك: «من ربّك» وما دينك ومن نبيّك كيف بك عند ذاك يا عمر فقال عمر: فيكون معي عقلي الآن؟ قال صلى الله عليه [وآله] وسلَّم: نعم قال: فإذن أكفيهما»(3)وفي وصفهما عنه صلى الله عليه وآله وسلَّم «أنّهما ملكان أسودان أرزقان أحدهما منكر، والآخر نکیر، واعلم أنّ الإيمان بما جاء من ذلك على ثلاث مراتب: أحدها: وهو الأظهر الأسلم أن يصدّق بأنّها موجودة وأنّ هناك ملكين على الصورة المحكيّة، وحيّات

ص: 196


1- النضوء: النضو بالكسر: البعير المهزول؛ والناقة نضوة، وقد أنضتها الاسفار فهي منضاة، وأنضى فلان بعيره، أي هزله. وتنضاه أيضا
2- : ورد في بعض متون النهج: وعَثْرَةِ
3- لم أعثر على مصدر لهذا الحديث بنصه: إلا ما ذكره ابن میثم البحراني: في شرح النهج: ج 2 ص 265؛ أما حديث منكر ونكير بوصفيهما وصفتهما فقد ورد في مصادر عدة منها: لعبد الرزاق الصنعاني في المصنف: ج 3 ص 584؛ وأيضا المصنف لإبن أبي شيبه الكوفي: ج 3 ص 254؛ وأورده الشيخ المفيد في الاختصاص: ص 360

وعقارب تلدغ الميّت، وإن كنّا لا نشاهدها؛ إذ لا تصلح هذه العين لمشاهدة الأمور الملكوتيّة، وكلّ ما يتعلَّق بالآخرة؛ فهو من عالم الملكوت کما کانت الصحابة يؤمنون بنزول جبرئيل، وكان النبيّ صلى الله عليه [وآله] وسلَّم يشاهده، وإن لم يكونوا يشاهدونه، وكما أنّ جبرائيل لا يشبه الناس؛ فكذلك منكر ونكير، وفعلهما والحيّات، والعقارب في القبر ليس من جنس حيّات عالمنا فتدرك بمعنى آخر.

المقام الثاني: أيتذكر ما قد يراه النائم من صورة شخص هائل يضربه أو يقتله أو حية تلدغه، وقد يتألم بذلك حتى يراه في نومه يصيح ويعرق جبينه، وينزعج من مكانه كل شاهده من نفسه ويشاهده وينادي به کما ينادي اليقظان وأنت ترى ظاهره ساکناً، ولا تری حوله شخص ولا حية، والحية موجوده في حق متخلية، ولا فرق بين يتخيل عدوّ أو حية أو يشاهد.

المقام الثالث: أن تعلم أن منكراً ونكيراً وسائر أهوال القبر غايته الإيلام، والمؤلم في حقه ليس هو الشخص المشاهد، ولا الحية، بل ما حصل فيه من العذاب، فالنفس العاصية إذا فارقت البدن حملت القوة المتخيلة معها ولم يجرد عن البدن، منزهة عن الهيئات البدنية والأخلاق الردية المهلكة من الكبر، والرياء والحسد، والحقد، والحرص، وغيرها، وهي عند الموت عالمة بمفارق البدن متوهمةً نفسها الإنسان(1)الذي مات وعلى صورته كما كان في الرؤيا يتخيل ويتوهم بدنها مفتورة وتخيل الآلام الواصلة إليها عن كل خلق رديء على سبيل العقوبة الحسية لهما کما قررته الشريعة الصادقة وانغرس في الأذهان عنها على صورة شخص منکر هائل الصورة يعنفه في السؤال، ويبهته بسوء منظره وهول أصواته ويمتحنه فيتلجلج لسانه فيضربه ويعذّبه، وعلى مثال تنيّن يلدغه، وإن كانت النفس سعيدة

ص: 197


1- بمعنى: إن نفس الإنسان تتوهم بما تتخيله

تخيّلت اللذّات الحاصلة لها من كلّ خلق حسن، وعمل صالح قدّمته في صورة ملائمة فوق ما كانت يعتقده ممّا كان وصف لها من صور أشخاص بهيّة يدخل عليهم ويتلّقاهم بالبشارة، کمبشّر وبشير وسائر الملائكة الذين «يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ»(1)ومن فسحة القبر والروح والريحان، وسائر ما وعد فيه، فهذا عذاب القبر وسؤاله وإليه الإشارة بقول الرسول صلى الله عليه [وآله] وسلَّم: «القبر روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النار»(2).

وكأني بك تقول: فلم جعل أوّل داخل على الإنسان في قبره سواء كان سعيداً أو شقيّاً ملکّين ولم يكن ثلاثة أو واحدة مثلاً.

فأقول: قال: بعض العلماء أنه لمّا كانت السعادة والشقاوة الحاصلتين للنفس إنّما يحصل من جهة قوّتين نظريّة وعمليّة بهما جعل ما يكتسب عن كلّ واحدة منهما ملكاً.

فإن كان المكتسب جهلاً مرکَّباً، ورذائل أخلاق فمنكر ونكير، وإن كان علماً ومکارم فمبشّر ونذير.

والله سبحانه أعلم بأسرار شریعته.

واعلم أنّك متی تصوّرت معنی ثواب القبر، وعذابه في المقامات تصوّرت معنی ثواب الجنّة وعذابه.

ص: 198


1- سورة الرعد: الآية 23 - 24
2- سنن الترمذي: ج 4 ص 55، الأمالي للشيخ المفيد 2656؛ المستدرك للحاكم النيسابوري: ج 3 ص 513؛ كذلك الاختصاص للشيخ المفيد: ص 347؛ الخرائج والجرائح لقطب الدین الراوندي ج 1 ص 368؛ ومجمع الزاوئد للهيثمي: ج 3 ص 292

«وأَعْظَمُ مَا هُنَالِكَ بَلِيَّةً نُزُولُ الْحَمِيمِ»: الحار «وتَصْلِيَةُ الْجَحِيمِ»: مقاسات حرها «وفَوْرَاتُ السَّعِير»: شدة حرارة النار(1)«لاَ فَتَرْةٌ مُرِيَحةٌ»: مبعدة «ولاَ قُوَّةٌ دَعَةٌ»: راحة «مُزِيحَةٌ ولَا قُوَّةٌ حَاجِزَةٌ»: بينهم وبين العذاب يجري مجری آیات الوعيد الناطقة بالتخليد، وهي مخصوصة بالكفّار الَّذين لا مسكة لنفوسهم بعالم الملكوت ونحوه قوله تعالى «إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ٭ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ»(2)لأنها مفقودة في حكم الكفار المسكة بالله تعالى ومحبّة الالتفات إلى عالم الغيب والملأ الأعلى، ولا الموتة الناجزة فلأنّ الإنسان غير قابل للفناء مرّة وللبقاء أخری کما علم ذلك في موضعه «ولَا سِنَةٌ نوَم»: نوم قليل «مُسَلِّيَةٌ»: إشارة إلى شدّة آلامهم وما يلقونه من أليم العذاب لما أنّ الألم الشديد يستلزم عدم النوم فلا سلوة إذن بَیْنَ «أَطْوَارِ الْمَوْتَاتِ»: بين حالات سکرات العذاب، وإطلاق لفظ الموتات مجاز في شدّة العذاب إطلاقا فذي الغاية على ما يصلح غاية له «وعَذَابِ السَّاعَاتِ إِنَّا بِاللهِ عَائِذُونَ وإنا إليه راجعون»: وقد لاحظ في أكثر هذا الفصل السجع المتوازي والله الموفق وله المنة.

ثم شرع في التنبيه والتقريع على کفران جملة من نعم الله قائلاً «عِبَادَ اللهِ أَيْنَ الَّذِينَ عُمِّرُوا فَنَعِمُوا وعُلِّمُوا فَفَهِمُوا وأُنْظِرُوا أُمْهِلُوا فَلَهَوْ»: أذا كانت الهاء مفتوحة فاللفظ من لهي يلهوا أي لعب وإذا كانت مضمومة فهي من لهي يلهي أذا أعرض وترك عن الالتفات إليه «وسُلِّمُوا»: من الآفات «فَنَسُوا»: ما ذكرهم به ودعاهم إليه واشتغلوا بلذات الدنيا عن أوامره «أُمْهِلُوا طَوِيلًا ومُنِحُوا جَمِيلًا

وحُذِّرُوا أَلِيماً »: مؤلماً «ووُعِدُوا جَسِيماً»: أجراً عظيماً «احْذَرُوا الذُّنُوبَ الْمُوَرِّطَةَ»:

ص: 199


1- في بعض النسخ ورد: وسَوْرَاتُ الزَّفِيِر
2- سورة الزخرف: الآيتان: 74 - 75

المهلكة «والْعُيُوبَ الْمُسْخِطَةَ»: لله وهي اکتساب رذائل الأخلاق «أُولِي الأَبْصَارِ والأَسْمَاعِ والْعَافِيَةِ والْمَتَاعِ»: في الدنيا «هَلْ مِنْ مَنَاصٍ»: ملجأ من أمر الله(1)«أَوْ مَعَاذٍ أَوْ مَلَاذٍ»: من عذابه لمن حصل فيه «أَوْ فِرَارٍ»: لمن استعد له «أَوْ فَرار»: من حكمه «مَحَارٍ»: مرجع بعد الموت «أَمْ لَا»: وإنّما خصّهم لكونهم أهل التكاليف التامّة، والعقول داخلة في إشارته إمّا بالإبصار والإسماع مجازاً أو في العافية، وإنّما خصّ أولى المتاع لأنّ أهل الاستمتاع بالدنيا هم المجذوبون عنها من جهة اشتغالهم بمتاعها عن سلوك سبيل الله، وهل استفهام عن الأمور المذكورة على سبيل الإنكار لها ثمّ استفهمهم عن، وقت صرفهم عن غوايتهم، وعن مكان ذلك على سبيل التقريع ثم عما يعتذرون به بعد لقاء الله في ترك أوامره على سبيل الإنكار للأعذار أيضاً بقوله «فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ»(2)كيف تصرفون عن الحق «أمَ أيْنَ تُصْرَفُونَ أَمْ بِمَا ذَا تَغْتَرُّونَ وإِنَّمَا حَظُّ أَحَدِكُمْ مِنَ الأَرْضِ ذَاتِ الطُّوْلِ والْعَرْضِ قِيدُ قَدِّه»: مقدار قامته «مُتَعَفِّراً عَلَى خَدِّهِ»: أي ساقطاً على العفر وهو التراب ثم نبه على وقت العلم والأحوال التي يمكنهم فيها «الآنَ عِبَادَ اللهِ»: كناية عن زمان الحياة الدنيا «والْخِنَاقُ»: الحبل المختنق به «مُهْمَلٌ»: أشارة إلى ما تؤخذ به أعناق النفوس إلى باريها، وهو ملك الموت على، وجه الاستعارة ووجه المشابهة كون كل واحد منهما مكروهاً يقاد به إلى مكروه، ورشح الاستعارة بذكر الإمهال، وکنّی به عن الإمهال في مدة الحياة الدنيا «والرُّوحُ مُرْسَلٌ»: أراد بإرسال الروح إمهالها وإهمالها «فِي فَيْنَةِ»: ساعة «الإِرْشَادِ»: إرشاد النفوس إلى سبيل الله وجهة السعادة الأبديّة، وروي الإرشاد أي زمان ازدیادها وطلبها لما يستعد به من الكمال للقاء

ص: 200


1- أَوْ خَلاَصٍ
2- سورة الأنعام: الآية 95

«الله ورَاحَةِ الأَجْسَادِ»(1): «ومَهَلِ الْبَقِيَّةِ»: بقية الأعمار «وأُنُفِ الْمَشِيَّةِ»: أي أوّل الإرادات للنفوس، وذلك أنّه ينبغي أن يكون أوّل زمان الإنسان، وأوائل میول قلبه إلى طاعة الله، والانقياد لأوامره ليكون ما يرد على لوح نفسه من الكمالات المسعدة في الآخرة، واردا على لوح صاف عن كدر الباطل، وأنّه متی عكس ذلك فجعل أوائل میوله، وإرادته لمعاصي الله تسوّد وجه نفسه بملكات السوء؛ فلم يكد يقبل بعد ذلك الاستضاءة بنور الحقّ؛ فكان من الأخسرين أعمالا «وإِنْظَارِ

التَّوْبَةِ»: إمهال العصاة لأجلها، ولما كان غرض العناية الإلهية سوق كل ناقص، إلى كماله حسنٌ أن يعبر عن لقاء العاصي بانظار التوبة «وانْفِسَاحِ الْتَوْبَةِ»: الحاجة وفي رواية الأوبة، والمقصود زمان العمل للحاجة في الآخرة، والإضافة يكفي فيها أدنى ملابسة، وذلك أنّ كلّ حاجة؛ فرضها الإنسان في الدنيا؛ فقد لا يكون في محلّ الضرورة، والضيق الكلَّى منها، وإن كانت في محلّ الضرورة لكنّها في مظنّة أن يرجی زوالها بخلاف الحاجة والضرورة في الآخرة إلى صالح الأعمال؛ فإنّها لا يمكن زوالها بعد المفارقة، ولا متّسع للعمل إلَّا في الدنيا، وكان أهلها منها في أشدّ ضرورة، وأضيق حال وأقبح صورة، وأشار بقوله «قَبْلَ الضَّنْكِ والْمَضِيقِ»: إلى انحصار الإنسان في أغلال الهيئات البدنيّة «والرَّوْعِ والزُّهُوقِ»: إلى الفزع الأكبر من أهوال الموت وما بعده.

«وقَبْلَ قُدُومِ الْغَائِبِ الْمُنْتَظَرِ»: كناية عن الموت، وقدومه: هجومه، ولمّا استعار له لفظ الغائب مراعاة لشبهه بمسافر ينتظر رشّح تلك الاستعارة بذكر القدوم «وأِخْذَةِ الْعَزِيزِ الْمُقْتَدِرِ»: جذبة الأرواح بحكم قدرة الله العزيز الَّذي لا يلحقه إذلال المقتدر الَّذي لا امتناع له لقدرة قادر، قال السيد رضي الله عنه:

وفي الخبر لما خطب بهذه الخطبة اقشعرت لها الجلود وبكت العيون ورجفت القلوب.

ص: 201


1- ورد في بعض النسخ: وبَاحَةِ الإِحْتِشَادِ

ومن كلام له عليه السلام في ذكر عمرو بن العاص:

ودعواه في حقه عليه السلام من كونه لعاباً مزاحاً یکثر المعالجة بالمصارعة وذكر هذه الدعوى مصدّرة بالتعجّب من صدورها في حقّه مختومة بالكذب لمدّعيها والردّ لمقاله وذلك قوله: «عَجَباً لِابْنِ النَّابِغَةِ»: نبغ الشيء ظهر وسمت أم عمرو النابغة لشهرتها بالفجور، وتظاهراها به وإنما کنی عنه بأمه لأن عادة العرب النسبة إلى الأم اذا كانت مشهورة بشرف أو خسة أو نحوها «يَزْعُمُ لأَهْلِ الشَّامِ أَنَّ فِيَّ دُعَابَةً»: مزاحاً «وأَنِّي»(1)«امْرُؤٌ تِلْعَابَةٌ»: كثير اللعب والباء للمبالغة «أُعَافِسُ»: أداعب «وأُمَارِسُ»: والممارسة المعالجة بالمصارعة والقرص(2)ونحوه «لَقَدْ قَالَ بَاطِلاً ونَطَقَ آثِماً»: وأعلم أنه قد كان يصدر عنه المزاج بالقلة المعتدل، الذي لا يخرج به إلى حد رذيلة الأفراط فمن ذلك ما روي؛ أنه كان جالساً يوماً على ربوة من الأرض وكان أبو هريرة جالساً معه فأخذ منه لفتة وحذفه بنواة فالتفت إليه أبو هريرة فتبسّم عليه السّلام، فقال أبو هريرة: هذا الَّذي أخّرك عن الناس(3)، وأنت خبير أن ذلك من توابع حسن الخلق ولين الجانب، فهو إذن فضيلة، وليس برذيلة، والمدّعى لعمرو إنّما هو عبوره في ذلك إلى حدّ الإفراط الَّذي يصدق عليه أنّه لعب وهزل، وروى أنّه كان يقول لأهل الشام: إنّا إنّما أخّرنا عليّاً لأنّ فيه هزلاً لا جدّ معه ونحوه ما كان يقوله: أبوه العاص لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم إنّه لساحر، ومن أشبه أباه فما ظلم، وتكذيبه عليه السّلام لعمرو إنّما هو فيما ادّعاه من الخروج إلى اللعب وأمّا أصل المزاح فلم ينكره وكيف وقد كان يصدر عن رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلَّم کما روي أنّه

ص: 202


1- ورد في بعض النسخ وأني رجل
2- القرص: الدور في محور المصارعة: كما أورد ذلك الزمخشري في أساس البلاغة: ص 205؛ قال: وحور القرص دوره بالمحور
3- لم أعثر عليه في مصادر أخرى غير شرح النهج لابن میثم البحراني: ج 2 ص 27

قال يوماً لعجوز: «إنّ العجائز لا يدخلن الجنّة فبكت فتبسّم وقال: إنّ الله يجعلهنّ شوابّ ثمّ يدخلهنّ الجنّة»(1)وأهل الجنّة شباب جرد مرد وإنّ الحسن والحسين عليهما السّلام سيّدي شباب أهل الجنّة. وكان يقول: أمزح ولا أقول إلَّا حقّاً»(2)«أَمَا وشَرُّ الْقَوْلِ الْكَذِبُ»: ظاهر کونه شرّ القول، وأنّه مفسدة مطلقة في الدين، والدنيا أمّا الدين فللمنقول، والمعقول أمّا المنقول فقول الرسول صلى الله عليه [وآله] وسلَّم «الكذب رأس النفاق»(3)، وأمّا المعقول فلأنّ الوجدان شاهد بأنّ الكذب ممّا يسوّد لوح النفس، ويمنعه أن ينتقش بصور الحقّ، والصدق ويفسد المنامات والإلهامات، وأمّا الدنيا؛ فلأنّه سبب عظيم لخراب البلاد، وقتل النفوس، وسفك الدماء، وأنواع الظلم، ولذلك اتّفق أهل العالم من أرباب الملل وغيرهم على تحريمه، وادّعى المعتزلة قبحه بالضرورة، وهو رذيلة مقابلة للصدق داخلة تحت رذيلة الفجور «إِنَّهُ لَيَقُولُ فَيَكْذِبُ ويَعِدُ فَيُخْلِفُ ويَسْأَلُ فَيُلْحِفُ ويُسْأَلُ فَيَبْخَلُ ويَخُونُ الْعَهْدَ ويَقْطَعُ الإِلَّ»(4): القرابة يقال الغدر يستلزم رذيلة الخبث وهو طرف الإفراط من فضيلة الذكاء، وهما يستلزمان الكذب أيضاً، وقطع الرحم رذيلة الإفراط من فضيلة صلة الرحم، وحقيقتها عدم مشاركة ذوى اللحمة في الخيرات الدنيويّة، وهی رذيلة تحت الظلم مستلزمة للبخل(5)، «فَأَيُّ زَاجِرٍ»: صالح «وآمِرٍ هُوَ مَا لَمْ تَأْخُذِ السُّيُوفُ مَآخِذَهَا»:

ص: 203


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة لقطب الدين الراوندي في: ص 353؛ وأيضاً في شرح نهج البلاغة: لابن میثم البحراني: ج 2 ص 271
2- میزان الاعتدال للذهبي: ج 1 ص 521؛ إحياء علوم الدين للغزالي: ج 9 هامش ص 24؛ الكامل لعبد الله الجرجاني : ج 2 ص 244
3- يُنظر: شرح مئة كلمة: لابن میثم البحراني: ص 154، وكذلك ابن میثم في شرح النهج: ج 2 ص 271
4- الإل: - بالكسر - العهد والقرابة؛ يُنظر: الإرشاد للشيخ الطبرسي: ج 1 هامش ص 269
5- في بعض النسخ: ورد فَإِذَا كَانَ عِنْدَ الْحَرْبِ

استفهام التعجّب، والمبالغة في أمره، ونهيه وذكره في معرض الذمّ هنا، وإن كان من الممادح لغرض أن يردفه برذيلته ليكون ذلك خارجاً مخرج الاستهزاء؛ فيكون أبلغ وقعاً في النفوس، وأشدّ عاراً عليه إذ كان الأمر والنهي في الحرب إنّما يحسن ممّن يشتهر بالشجاعة والإقدام لا ممّن يأمر وينهى «فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ»: اشد القتال «كَانَ

أَكْبَرُ مَكِيدَتِهِ أَنْ يَمْنَحَ الْقَرْمَ سَبَّتَهُ»: إسته وفرّ فرار الحمار من السبع؛ فإنّ عدم الأمر والنهي، والخمول بمثل هذا اليق وأولى من وجودها؛ وكأنّ أبا الطيّب حکی صورة حاله إذ قال:

وإذا ما خلا الجبان بأرض ٭٭٭ طلب الطعن وحده والنزالا

وأمّا صورة هذه الرذيلة منه؛ فروى أنّه عليه السّلام حمل عليه في بعض أيّام صفّين؛ فلمّا تصوّر أنّه قاتله ألقى نفسه عن فرسه، وکشف سوءته مواجهاً له عليه السّلام؛ فلمۀا رأى ذلك منه غضّ بصره عنه، وانصرف عمرو مکشوف العورة ونجا بذلك؛ فصار مثلاً لمن يدفع عن نفسه مكروهاً بارتكاب المذلَّة والعار، وفيه يقول أبو فراس:

ولا خير في دفع الأذى بمذلَّة ٭٭٭ كما ردّها يوما بسوءته عمرو

وروى مثل ذلك لبسر بن أرطاة معه؛ فإنّه عليه السّلام حمل على بسر؛ فسقط بسر على قفاه ورفع رجليه فانكشفت عورته؛ فصرف عليه السّلام، وجهه عنه فلمّا قام سقطت البيضة عن رأسه فصاح أصحابه يا أمير المؤمنين إنّه بسر بن أرطاة فقال: ذروه لعنه الله فلقد كان معاوية.

أولى بذلك منه؛ فضحك معاوية وقال: لا عليك يا بسر ارفع طرفك، ولا

ص: 204

تستحي فلك بعمرو أسوة، وقد أراك الله منه وأراه منك، فصاح فتى من أهل الكوفة: ويلكم يا أهل الشام؛ أما تستحيون لقد علمكم عمرو کشف الأستار ثمّ أنشد:

أفي كلّ يوم فارس ذو كريهة ٭٭٭ له عورة وسط العجاجة بادية

يكفّ لها عنه علىّ سنانه ٭٭٭ ويضحك منها في الخلاء معاوية

بدت أمس من عمر وفقنّع رأسه ٭٭٭ وعورة بسر مثلها حذو حاذية

فقولا لعمرو وابن أرطاة أبصرا ٭٭٭ نشدتكما لا تلقيا الليث تالية

ولا تحمدا إلَّا الحيا وخصا كما ٭٭٭ هما كانتا والله للنفس واقية

ولولا هما لم تنجوا من سنانه تلك ٭٭٭ بما فيها عن العود ناهية(1)

وكان بسر ممّن يضحك من عمرو فصار ضحكة له.

أنه لما فرغ عن ذكر ما اجتمع في هذا المدعي من الرذائل التي توجب فسقه وسقوط دعواه لقوله جل سلطانه «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ»(2)«أَمَا واللهِ إِنيِّ لَيَمْنَعُنِي مِنَ اللَّعِبِ ذِكْرُ الْمَوْتِ وأحوال الآخرة»: والوجدان شاهد بأنّ المستكثر من إخطار الموت عليه يكون أبداً قصير الأمل، وجلاً من الله مترصّدا لهجوم

ص: 205


1- وقعة صفين لابن مزاحم المنقري: ص 426؛ الاستیعاب لابن عبد البر: ج 1 ص 165؛ وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 6 ص 316؛ الوافي بالوفيات للصفدي: ج 10 ص 82؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 4 ص 23؛ الفتوح لأحمد بن اعثم الكوفي: ج 3 ص 106
2- سورة الحجرات: الآية 6

الموت عليه مشغولاً بذلك عن الالتفات إلى حظَّ الشهوات من اللعب، ونحوه فكيف يتصوّر اللعب ممّن هذه حاله.

ثم رجع إلى حال عمرو: «وإِنَّهُ لَيَمْنَعُهُ مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ نِسْيَانُ الآخِرَةِ»: وظاهر أنّ نسيانها مستلزم للكذب وسائر وجوه خداع أبناء الدنيا من المكر والحيلة وما لا ينبغي من مناهي الله، ومن كانت هذه حاله كيف يوثق بقوله: «إِنَّهُ لَمْ يُبَايِعْ

مُعَاوِيَةَ حَتَّى شَرَطَ أَنْ يُؤْتِيَهُ أَتِيَّةً»: عطية والوزن واحد «ويَرْضَخَ لَهُ عَلَى تَرْكِ الدِّينِ

رَضِيخَةً»: عطية قليلة على بعض لوازم نسيان الآخرة، وهو أخذ لبيعته، وقتاله مع الإمام الحقّ الَّذي يخرج به عن ربقة الدين عوضاً وثمناً، وتلك العطيّة هي مصر کما سبقت الإشارة إليه والله الهادي.

ومن خطبة له عليه السّلام:

ثمان من صفات الجلال «وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ»: وقد اشرنا إلى معقد البرهان العقليّ على الوحدانيّة، ولمّا لم تكن هذه المسألة ممّا يتوقّف إثبات النبوّة عليها جاز الاستدلال فيها بالسمع كقوله تعالى «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا»(1)«الَأوَّلُ لاَ شْيَءَ قَبْلَهُ والآخِرُ لاَ غَايَةَ لَهُ»: قد سبق البحث عنها مستقصي «لَا تَقَعُ الأَوْهَامُ لَهُ عَلَى صِفَةٍ»: قد علمت فيما سبق أنّ الأوهام لا يصدق حكمها؛ إلَّا فيما كان محسوساً؛ أو متعلَّقاً بمحسوس فأمّا الأمور المجرّدة من علائق المادّة والوضع؛ فالوهم ينكر وجودها أصلاً، فضلاً أن يصدّق في إثبات صفة لها، وإنّما الحاكم بإثبات صفة له العقل الصرف، وقد علمت أنّ ما يثبته منها ليست حقيقة خارجيّة بل أموراً اعتباريّة محدثها عقولنا عند مقایسته إلى الغير، ولا يفهم من هذا أنّه أثبت له صفة بل معناه أنّ الأوهام لا يصدق حكمها في وصفه تعالى.

ص: 206


1- سورة الأنبياء: الآية 22

«ولَا تُعْقَدُ الْقُلُوبُ مِنْه عَلَى كَيْفِيَّةٍ»: يكون عليها لأنّها عبارة عن هيئة قارّة في المحلّ لا يوجب اعتبار، وجودها قسمة ولا نسبة، ولمّا بيّنا أنّه تعالى ليس له صفة تزيد على ذاته وهي محلّ لها استحال ذلك «ولَا تَنَالُه التَّجْزِئَةُ والتَّبْعِيضُ»: إشارة إلى نفي الكميّة عنه إذ كانت التجزية والتبعيض من لواحقها وقد علمت أنّ الكمّ من لواحق الجسم وهو تعالى ليس بجسم وليس بكمّ فليس بقابل للتجزئة والتبعيض ولأنّ كلّ قابل لهما منفعل من غيره والمنفعل عن الغير ممكن على ما مرّ.

«ولَا تُحِيطُ بِه الَأبْصَارُ»: قال عز من قائل «لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ»(1)سبق فيها الكلام وخلاصته: أنّ المُدرك بحاسّة البصر بالذّات؛ إنّما هو الألوان والأضواء وبالعرض المتلوّن والمضيء، ولمّا كان اللون والضوء من خواصّ الجسم وكان تعالى منزّهاً عن الجسميّة ولواحقها، وجب كونه منزّهاً عن الإدراك بحاسّة البصر «والْقُلُوبُ»: أي لا يحيط به والمراد أن العقول البشرية قاصرة عن الإحاطة بكنه ذاته المقدسة، وقد سبق تقرير ذلك والله الموفق «منها فَاتَّعِظُوا عِبَادَ الله بِالْعِبَرِ النَّوَافِعِ»: اسم العبرة حقيقة في الاعتبار، وقد يطلق مجازاً فيما يعتبر به، ويحتمل أن يراد هاهنا إطلاقا لاسم الحال على المحلّ وللاتّعاظ سبب وحقيقة وثمرة، أمّا سببه فالنظر في آثار الماضين وتدبّر قصصهم وتصريف قضاء الله وقدرته لأحوالهم وهو الاعتبار، وأمّا حقیقته فالخوف الحاصل في نفس المعتبر من اعتباره، وتأثّره عن أن يلحقه ما لحقهم إذ هو مثلهم وأولى بما لحقهم، وأمّا ثمرته فالانزجار عن مناهي الله وإجابة داعية والانقياد لسلوك سبيله.

«واعْتَبِرُوا بِالآيِ السَّوَاطِعِ»: إرداف به لأهنه سببه وأراد بالآي آيات الله وعجائب مصنوعاته أو آيات القرآن المعذرة والمنذرة، واستعار لها لفظ السطوع،

ص: 207


1- سورة الأنعام: الآية 103

ووجه المشابهة ظهور إشراق أنوار الحقّ منها على مرايا قلوب عباد الله كإشراق نور الصبح وسطوعه وهو لفظ المحسوس للمعقول واعتباره بها انتقال ذهنه فيها في مقام النظر والاستدلال کما سلف بیانه.

«وازْدَجِرُوا بِالنُّذُرِ الْبَوَالِغِ»: زواجر الله ووعيداته البالغة حدّ الكمال في التخويف والزجر عند اعتبارها.

«وانْتَفِعُوا بِالذِّكْرِ والْمَوَاعِظِ»: الأمر بتحصیل ثمرة الذكر والموعظة، وختم بها هذه الأوامر ترغیباً وجذباً للنفس إلى الذكر وقبول الموعظة، ثم خوفهم بالموت وما تبعه لتبادروا إلى امتثال أوامره السابقة فقوله: «فَكَأَنْ قَدْ عَلِقَتْكُمْ مَخَالِبُ الْمَنِيَّةِ»: استعار لفظ المخالب له بالكناية ورشّح بذكر العلوق ملاحظاً في ذلك تشبيه المنيّة بالسبع الَّذي يهجم، ويتوقّع أفراسه وكأن مخفّفة من كأنّ واسمها ضمير الشأن، ويحتمل أن يكون أن الناصبة للفعل دخلت عليها كاف التشبيه.

«وانْقَطَعَتْ مِنْكُمْ عَلَائِقُ الأُمْنِيَّةِ»: إشارة إلى ما ينقطع عن الميّت بانقطاع أمله من مال و جاه وسائر ما كان يتعلَّق به آماله من علائق الدنيا ومتاعها.

«ودَهِمَتْكُمْ مُفْظِعَاتُ الأُمُور»: إشارة إلى ما يهجم على الميّت من سكرات الموت وما يتبعها من عذاب القبر وأهوال الآخرة.

«والسِّيَاقَةُ إِلَی» «الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ»(1)المحشر وهي السوّقة «سَائِقٌ يَسُوقُهَا إِلیَ مَحْشَرهَا وشَاهِدٌ يَشْهَدُ عَلَيْهَا بِعَمَلِهَا»: المتعينة التي سبق ذكرها «كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ»(2)هو حكم القضاء الإلهي وأسباب الموت القريبة الحاكمة على

ص: 208


1- سورة هود: الآية 98
2- سورة ق: الآية 21

النفس برجوعها إلى معادها فإن كانت من أهل الشقاوة فيالها من سوقة متعبة وجزية مزعجة «وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ» الآيات(1)، وإن كانت من أهل السعادة ساقها سائق رؤوف سوقاً لطيفاً «وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»(2)«وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا» إلى آخرها وأمّا الشاهد عليها بعملها فقد سبقت الإشارة إليه.

«منها في صفة الجنة هي دَرَجَاتٌ مُتَفَاضِلَاتٌ ومَنَازِلُ مُتَفَاوِتَاتٌ»: تسبق بعضها بعضاً «لَا يَنْقَطِعُ نَعِيمُهَا»: لقوله تعالى «وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ»(3)لأن الكمال الذي حصل للإنسان؛ فاستحق به السعادة في الجنة ملكات ثابته في جوهره لا تزول، ولا تتغير ومهما دام استحقاق القابل لجود الله ونعمته وجب دوام ذلك الجود وفيض تلك النعمة أذ هو الجواد المطلق الذي لا يخل من جهته ولا منع «ولَا يَظْعَنُ مُقِيمُهَا»: لقوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ»(4)«خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا»(5)وغيرها من الآيات، ولأن النعيم الأبدي مطلوب بالذات غیر ممنوع منه، فلا يكون مهروباً عنه بالذات «ولَا يَهْرَمُ خَالِدُهَا ولَا يَبْأَسُ سَاكِنُهَا»: لأنّ الهرم مستلزم للتعب والنصب وكذلك البؤس عن الضعف، وهذه

ص: 209


1- سورة الزمر الآية 71
2- سورة الأعراف: الآية 72
3- سورة هود: الآية 108
4- سورة لقمان: الآية 8
5- سورة النساء: الآية 57

اللوازم منفيّة عن أهل الجنّة لقوله تعالى «وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ»(1)وبانتفاء هذه اللوازم ينتفي عنهم ملزومها وهو الهرم.

وإذا أردت کلاماً یستهش نفسك اليقضان ویُبق سمعك فاستمع لما يتلى عليك بأذن الله.

أعلم أن ثمار الجنة هي المعارف الإلهية، والنضر إلى وجه الله ذي الجلال والسعداء في الوصول إلى نيل هذه الثمرة عليها مراتب متفاوته، ودرجات متفاضلة فالأولى مرتبة من أوتي الكمال في حدس القوة النظرية حتى استغني عن معلم بشري رأساً وأوتي مع ذلك ثبات قوّته المتفکَّرة، واستقامة وهمه منقاداً تحت قلم العقل؛ فلا يلتفت إلى العالم المحسوس بما فيه حتّى يشاهد العالم المعقول بما فيه من الأحوال، ويستثبتها في اليقظة؛ فيصير العالم وما يجري فيه متمثّلاً في نفسه؛ فيكون لقوّته النفسانيّة أن يؤثّر في عالم الطبيعة حتّى ينتهي إلى درجة النفوس السماويّة، وتلك هي النفوس القدسيّة؛ أولات المعارج وهم «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ»، وهم أفضل النوع البشرىّ وأحقّه بأعلى درجات السعادة في الجنّة.

المرتبة الثانية: مرتبة من له الأمران الأوّلان دون الثالث أعني التأثير في عالم الطبيعة، وهذه مرتبة أصحاب اليمين وتحتها مراتب.

فأحدها: مرتبة من له استعداد طبيعيّ لاستكمال قوّته النظريّة دون العمليّة.

الثانية: من اكتسب ذلك الاستكمال، في قوّته النظريّة اكتساباً تكليفيّاً دون تهيّؤ طبيعيّ، ولا حصّة له في أمر القوّة العمليّة.

ص: 210


1- سورة فاطر: الآية 35

الثالثة: مرتبة من ليس له تهيّؤ طبيعيّ، ولا اکتساب تكليفي في قوّته النظريّة وله ذلك التهيّؤ في القوّة العمليّة.

الرابعة: مرتبة من له تكلَّف في إصلاح الأخلاق واكتساب الملكات الفاضلة دون تهيّؤ طبيعيّ لذلك، إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ للمقرّبين البالغين في الملكات الشريفة لذّات عظيمة في الجنّة قد فازوا بنعيم الأبد والسرور الدائم في حضرة جلال ربّ العالمين «فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ»(1)غير مخرجين عن لذّاتهم لهم فِيها ما «تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ»(2)، وهم فيها خالدون كما قال لا يظعن مقيمها جرد عن عوارض الأبدان، وشوائب الموادّ مرد عن مزاحمة القوى المتغالبة المتجاذبة المؤّدية إلى الهرم والموت مكحّلين بالأنوار الساطعة ينظرون إلى ربّهم بوجوههم «وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ»(3)ولهم لذّات دون الوصول إلى مرتبة السابقين، وقد يخالط لذّات هؤلاء شوب من لذّات المقرّبين كما أشير إليه في التنزيل الإلهيّ في وصف شراب الأبرار «وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ ٭ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ»(4)ولكلّ من المراتب کمال يخصّه، ودرجات من السعادة في الجنّة تخصّه كما قال عز من قائل «لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ»(5)«يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ»(6)«لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ

ص: 211


1- سورة القمر: الآية 55
2- سورة الزخرف: الآية 71
3- سورة الواقعة: الآية 27
4- سورة المطففين: الآيات: 27 - 28
5- سورة الأنفال: الآية 4
6- سورة المجادلة: الآية 11

فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ»(1)اللهم أرزقنا هذه الدرجات.

ومن خطبة له عليه السّلام: في بعض أوصاف الحق سبحانه:

«قَدْ عَلِمَ السَّرَائِرَ»: لقوله تعالى «يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ»(2)«وخَبَرَ الضَّمَائِرَ»: قيل الخبير «لَهُ الإِحَاطَةُ بِكُلِّ شَيْءٍ»: إشارة إلى علمه بكلَّيّات الأشياء وجزئيّاتها، وعليه اتّفاق جمهور المتكلَّمين والحكماء؛ أمّا المتكلَّمون فظاهر، وأمّا المحقّقون من الحكماء؛ فملخّص كلامهم إجمالاً في كيفيّة علمه تعالى أنّه يعلم ذاته بذاته ويتّحد هناك المُدرِك والمدرَك، والإدراك ولا يتعدّد إلَّا بحسب الاعتبارات العقليّة الَّتي تحدثها العقول البشريّة، وأمّا لمعلولاته القريبة منها؛ فيكون بأعيان ذواتها ويتّحد هناك المدرك، والإدراك ولا يتعدّدان إلَّا باعتبار عقليّ، ويغایر هما المدرك، وأمّا معلولاته البعيدة كالماديّات، والمعدومات الَّتي من شأنها؛ إمكان أن توجد في وقت أو يتعلَّق بموجود؛ فیکون بارتسام صورها المعقولة من المعلولات القريبة الَّتي هي المدركات لها أوّلاً وبالذات وكذلك إلى أن ينتهي إلى إدراك المحسوسات بارتسامها في آلات مدركاتها قالوا: وذلك لأنّ الموجود في الحاضر حاضر، والمدرك للحاضر مدرك لما يحضر معه؛ فإذن لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك، ولا أكبر لكون ذوات معلولاته القريبة مرتسمة بجميع الصور وهي: الَّتي يعبّر عنها تارة بالكتاب المبين، وتارة باللوح المحفوظ وتسمّى عندهم عقولاً فعّالة.

«والْغَلَبَةُ لِكُلِّ شَيْءٍ والْقُوَّةُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ»: هما إشارتان إلى وصف قدرته تعالى بالتمام على كلّ مقدور، فإنّ القوّة عليها والغلبة لها من تمام القدرة، ويفهم من

ص: 212


1- سورة الزمر: الآية 20
2- سورة الأنعام: الآية 3: ولم يرد في النص ونجواكم بل ورد «يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ»

الغالب زيادة على القوىّ ويعود إلى معنى القاهر، وأمّا بیان صدق هاتين القضيّتين فببيان أنّه تعالى مبدأ كلّ موجود، وأنّ كلّ ممکن مفتقر في سلسلة الحاجة إليه، وقد فرغ من ذلك في الكتب الكلاميّة.

ثم شرع في المواعظ ولما قدم الأشعار بأن الله تعالى عالم بها في الصدور غالب على كل مقدور، أمره بعده بالعمل فقال: «فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُ مِنْكُمْ»: الأعمال الصالحة المطلوبة بالتكاليف الشرعية، وأن يجعلها مهاداً لثبات أقدامهم على الصراط المستقيم المأمور بسلوكه «فِي أَيَّامِ مَهَلِهِ قَبْلَ إِرْهَاقِ أَجَلِهِ»: الإرهاق مصدر: أرهقه عسراً كلفه إياه وارهقه أغشاه «وفِي فَرَاغِهِ قَبْلَ أَوَانِ شُغُلِهِ وفِي

مُتَنَفَّسِهِ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ بِكَظَمِهِ»: نفسه کنی به عن عدم التمكن من العمل؛ إذا لم يكن للآخرة دار عمل «ولْيُمَهِّدْ لِنَفْسِهِ وقَدَمِهِ ولْيَتَزَوَّدْ مِنْ دَارِ إِقَامَتِهِ لِدَارِ

سفَره»: وفيه إشارة إلى أن الذين يعملون من الصالحات زاد لهم في سفره إلى الله، وإلى دار أقامتهم وأن وراء هذه المهلة أدراك أجله بعده شغل بأهوال الآخرة؛ ثم آية بالناس وحذرهم ربهم أن يخالفوه فيما أمرهم بحفظه فَاللهَ اللهَ: «أي خلفوا الله

في الماضي والمستقبل فِيمَا اسْتَحْفَظَكُمْ مِنْ كِتَابِهِ»: أي طلب منكم تدبر ما فيه، والمحافظة على العمل بأوامره، ونواهيه «واسْتَوْدَعَكُمْ مِنْ حُقُوقِهِ فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثاً»: خالياً عن وجه الحكمة بل خلقهم ليستكملوا الفضائل النفسانيّة بواسطة الآلات البدنيّة «ولَمْ يَتْرُكْكُمْ سُدًى»: مهملين بل ضبط آثارهم، وأعمالهم وكتب آجالهم في كتابه المبين وألواحه المحفوظة إلى يوم الدين «تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ» وعَمَّرَ فِيكُمْ نَبِيَّهُ أَزْمَاناً حَتَّى أَكْمَلَ لَهُ ولَكُمْ»: قال عز من قائل «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ

ص: 213

الْإِسْلَامَ دِينًا»(1)دینه «فِيمَا أَنْزَلَ مِنْ كِتَابِهِ دِينَهُ الَّذِي رَضَيِ لِنَفْسِهِ»: أي أوضح لكم السبيل التي لسلوكها خلقهم، واكمل لهم دينهم الذي أرتضى لهم وما لهم أهلهم له من الکمالات المسعدة في الآخرة: «وأَنْهَى إِلَيْكُمْ عَلَى لِسَانِهِ مَحَابَّهُ مِنَ

الأَعْمَالِ»: والخيرات الباقية «ومَكَارِهَهُ»: من الشرور المشقية في الآخرة «ونَوَاهِيَهُ وأَوَامِرَهُ وأَلْقَى إِلَيْكُمُ الْمَعْذِرَةَ واتَّخَذَ عَلَيْكُمُ»: قد سبق بيانه مفصلاً(2)«وقَدَّمَ» «إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ»(3)وأَنْذَرَكُمْ «بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ»: واستعار لفظ اليدين للعذاب وکنّی ببين يديه عن الوقت المتقدّم على عذاب الآخرة المشارف له، ووجه المشابهة أنّ الإنذار بالمخوف یکون من ذي سطوة وبأس شديد؛ فكأنّه نزّل العذاب الشديد بمنزلة المعذّب؛ فاستعار له يدين، وجعل الإنذار، والتخويف منه متقدّما له بين يديه، وذلك من الجوانب اللطيفة، ثمّ عاد إلى أمرهم باستدراك بقيّة أوقاتهم في الدنيا «فَاسْتَدْرِكُوا بَقِيَّةَ أَيَّامِكُمْ واصْبِرُوا لَهَا أَنْفُسَكُمْ»: أي ألزموا أنفسهم فيها الصبر على الأعمال الصالحة، وفي لفظ الاستدراك إشعار بتقديم تفريط منهم في جنب الله وقال «فَإِنَّهَا»: أي بقية أيامكم «قَلِيلٌ فِي كَثِیرِ الأَيَّامِ الَّتِي تَكُونُ مِنْكُمْ فِيهَا الْغَفْلَةُ والتَّشَاغُلُ عَنِ الْمَوْعِظَةِ ولَا تُرَخِّصُوا لأَنْفُسِكُمْ فَتَذْهَبَ بِكُمُ

الرُّخَصُ مَذَاهِبَ الظَّلَمَةِ»: ليس المقصود بالرخصة هنا الرخصة الشرعيّة بل ما يتساهل الإنسان فيه مع نفسه من تنويع المآكل، والمشارب والمناكح والخروج فيها إلى ما لا ينبغي في نفس الأمر، ويتأوّل له تأويلا، وحيلة يخيّل أنّها جائزة في الشريعة ويروّج بها اتّباعه لهواه، و نحوه الاجتماع في السماع لغير أهله، وحضور مجالس الفسّاق، ومعاشرة الظالمين، والضابط الكلَّى في هذا الباب هو توسّع الإنسان في

ص: 214


1- سورة المائدة: الآية 3
2- في بعض النسخ ورد: الْحُجَّةَ
3- سورة ق: الآية 46

الأمور المباحة، واستيفاؤه حدّه؛ فإنّه من فعل ذلك شارف المكروه؛ ثمّ ربما لحظ أنّه لا عقاب في فعله؛ فقادته شهوته إلى فعله؛ فاستوفي حدّه؛ فشارف المحظور، وذلك أنّ العقل إذا أطاع النفس الأمّارة بالسوء؛ فيما تأمر به مرّة ومرّة لم يبق له نفار عمّا تقوده إليه لوقوع الأنس به، وظاهر أنّ ارتكاب بعض مأموراتها يجرّ إلى ارتکاب بعض؛ فيؤدّي ذلك إلى تجاوز الحدود الشرعيّة، وعبورها إلى الوقوع في حبائل الشيطان، والتهوّر في المحظورات الَّتي هي مهاوي الهلاك، ولذلك ما ورد في الخبر «من رتع حول الحمى أو شك أن يقع فيه»(1)وقد شبّه العارفون القلب بالحصن والشيطان بعدّو يريد أن يدخله، ولم يمكن دفع ذلك العدّو، والتحفّظ منه إلَّا بضبط أبواب ذلك الحصن الَّتي منها الدخول إليه، وحراستها وهي أبواب كثيرة كسائر المحرّمات، ومساهلة النفس في التوسّع في المباحات، والدخول في الأمور المشتبهة من أعظم تلك الأبواب، ودخول الشيطان منه أسهل، وهو عليه أقدر ولذلك قال عليه السلام «فَيَهْجُمَ بِكُمُ ولَا تُدَاهِنُوا الإِدْهَانُ»: المداهنة کالمضايقة والأدهان مثله «عَلَى الْمَعْصِيَةِ»: أي لا تتساهلوا معهم في السكوت عما ترونه من منكراتهم، وإذا آنستم بمشاهدة المعاصي، وألفتم تكرارها کتم بذلك عصاة، وربّما ساقكم ذلك إلى فعل المنكر ومشاركتهم فيه.

روي أن إبليس ظهر ليحيى بن زكريا عليهما السلام؛ فرأى عليه مغاليق من كل شيء فقال: له إبليس ما هذه المغاليق؟ قال هذه الشهوات التي أصيب بها قلوب بني آدم فقال: فهل لي فيها شيء قال: نعم ربما شبعت فشغلناك عن الصلاة وعن الذكر قال: هل غير ذلك؟ قال: لا قال: لله على أن لا املأ بطني من طعام

ص: 215


1- عمدة القاري للعيني: ج 23 ص 266؛ مفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني: ص 136

أبداً فقال: إبليس لله علي أن لا أنصح مسلما أبداً «عِبَادَ اللهِ»: شروع في اختبارات في معنى الأوامر والنواهي، وأوامر ونواهي صريحة «إِنَّ أَنْصَحَ النَّاسِ لِنَفْسِهِ أَطْوَعُهُمْ لِرَبِّهِ»: بيانه أنّه لمّا كان غرض الناصح؛ إنّما هو جلب الخير، والمنفعة إلى المنصوح، وكان أجّل خير ومنفعة هو السعادة الباقية الأبديّة، ومشاهدة حضرة الربوبيّة، وكانت تلك السعادة؛ إنّما تنال بطاعة الله تعالى، فكلّ من كانت طاعته له أتمّ كانت سعادته أتم؛ فكان هو أنصح الناس لنفسه بمبالغته في طاعته.

«وإِنَّ أَغَشَّهُمْ لِنَفْسِهِ أَعْصَاهُمْ لِرَبِّهِ»: وهو ظاهر ممّا قرّرناه؛ فإنّه لمّا كانت غاية الغشّ إنّما هو جلب الشرّ والمضرّة إلى المغشوش، وكان أعظم شرّ، وضرر يلحق العبد هو الشقاوة الأبديّة في قرار الجحيم، وكانت تلك الشقاوة؛ إنّما يحصل الإنسان عليها بمعصية الله تعالى؛ فكلّ من كانت معصيته أتمّ کانت شقاوته أتمّ؛ فكان هو أغشّ الناس لنفسه بمبالغته في معصيته، وحاصل القضيّة الأولى الأمر بالطاعة أتمّ ما يمكن، والثانية النهي عن المعصية أتمّ ما يمكن، ورغَّب في الطاعات بذکر نصيحة النفس لما أنّ النصيحة محبوبة، ونفّر عن المعصية بذكر غشها.

«والْمَغْبُونُ مَنْ غَبَنَ نَفْسَهُ»: بالمعصية المستلزمة لدخول النار؛ فكأنّ الإنسان بمتابعة شيطانه خادع لنفسه، وقد بخسها ما تستحقّه من ثواب الله، ولمّا كانت السعادة الأخرويّة أعظم ما يتنافس فيه لا جرم كان أعظم مغبون من لم يفز بها فلذلك حصر المغبون فيه على طريق المبالغة، وهو خبر في معنى النهي عن المعصية، ونفّر عنها بذكر غبن النفس.

«والْمَغْبُوطُ مَنْ سَلِمَ لَهُ دِينُهُ»: والغبطة أن يتمنّى الإنسان مثل ما لغيره من حال أو مال مع قطع النظر عن تمنّى زوال تلك الحال عمّن هي له، وبهذا القيد يتميّز عن الحسد، والقضيّة ظاهرة ممّا قبلها؛ فإنّه لمّا كان من سلم دینه فائزاً

ص: 216

بالسعادة الكبرى الباقية مع كونها أجلّ ما يغبط به ويتنافس فيه لا جرم کان هو أعظم مغبوط ولذلك حصر المغبوط فيه مبالغة، ورغَّب في المحافظة على الدين بكون من سلم له مغبوطاً «والسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَیره»: وقد صارت هذه القضيّة في معنى المثل: أي السعيد في الآخرة من اعتبر حال غيره فشاهد بعين بصيرته مصير الظالمين فخاف عاقبتهم فعدل عن طريقهم وتذكَّر حال المتّقين فمال إلى جادّتهم وسلك مسالكهم ورغَّب في الاتّعاظ بالغير بذکر استلزامه للسعادة.

«والشَّقِيُّ»: في الآخرة «مَنِ انْخَدَعَ لَهِوَاهُ وغُرورَه»: ونفّر عن اتّباع الهوى بذکر الخداع والغرور.

«واعْلَمُوا أَنَّ يَسِیرَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ»: قد سبق منّا بيان أنّ الرياء في العبادة وإن قلّ التفات مع الله إلى غيره وإدخال له بالقصد بالعمل والطاعة وذلك في الحقيقة شرك خفىّ اتّفقت عليه أرباب القلوب.

«ومُجَالَسَةَ أَهْلِ الْهَوَى»: أي الفسّاق المنقادين لدواعي الشيطان إلى الشهوات الخارجة عن حدود الله «مَنْسَاةٌ لِلإِيمَانِ»: فإنّ أهل الهوى أبداً مشغولون بذكر ما هم فيه من لعب، ولهو خائضون في أصناف الباطل، وأنواعه فمجالستهم عن رغبة مظنّة الغفلة عن ذكر الله، والانجذاب إلى ما هم عليه عن الأعمال الصالحة وتلك أركان الإيمان وقواعده، وقد علمت أنّ كثرة الغفلات عن الشيء تؤول إلى نسيانه وانمحائه عن لوح الخيال والذكر، وربّما يتجوّز في مطلق الغفلة عن أوقات العبادة والذكر بالنسيان تسمية للشيء باسم مايؤول إليه.

«ومَحْضَرَةٌ لِلشَّيْطَانِ»: قد علمت معنى الشيطان، وأنّ كلّ محلّ عصى الله فيه فهو محضر للشيطان وموطن له.

ص: 217

«جَانِبُوا الْكَذِبَ فَإِنَّهُ مُجَانِبٌ لِلإِيمَانِ»: وهو حديث نبويّ، ومعنى المجانبة كون كلّ منهما في جانب؛ فإن كانت الأعمال الصالحة داخلة في مسمّى الإيمان؛ فالصدق من جملتها، ومضادّ الصدق مضادّ للإيمان، وأحد الضدين مجانب للآخر؛ فالكذب مجانب للإيمان(1)، وإن لم يكن كذلك قلنا: إنّ الكذب أعظم الرذائل الموبقة، والإيمان أعظم الفضائل المسعدة، وبين الفضائل والرذائل منافاة ذاتيّة فالكذب مناف للإیمان ومجانب له، ويحتمل أن يكون معنی مجانبته له کونه غير لايق أن يجامعه في محلّ واحد وغير مناسب له، وبالجملة كونه ليس منه في شيء، وقد بيّنا ما يشتمل عليه الكذب من المضارّ المهلكة، ثمّ أردف ذلك بالترغيب في الصدق بقوله الصَّادِقُ عَلَى شَرَفِ مَنْجَاةٍ وكَرَامَةٍ: أي مشارف لنجاة وكرامة أو لمحلَّهما وهو الجنّة إذ الصدق باب من أبوابها ثمّ بالتنفير عن الكذب والْكَاذِبُ

عَلَى شَرَفِ مَهْوَاةٍ: موضع السقوط ومَهَانَةٍ: هو أن أو محلَّهما وهو حضیض الجهنم الَّذي هو محلّ الهوان وعن الرسول صلى الله عليه [وآله] وسلَّم: «إيّاكم والكذب فإنّه يهدي إلى الفجور، وإنّ الفجور يهدي إلى النار، وإنّ الرجل ليكذب حتّی يكتب عند الله كذّاباً، وعليكم بالصدق فإنّ الصدق يهدي إلى البرّ وإنّ البرّ يهدی إلى الجنّة وإنّ الرجل ليتحرّى الصدق حتّى يكتب عند الله مصداقا»(2)، وقال صلى

ص: 218


1- مجانب للإيمان: أقول: بمعنى أنه لا يندمج مع الإيمان، والمجانية هي ابتعاد فكلما كان الإيمان في قضية أو في جانب كان الكذب في جانب آخر مغاير، وبمعنى آخر: إذا حل الكذب في مكان خلا منه الإيمان. وبالعکس کلما حل الإيمان بمكان خلا منه الكذب
2- يُنظر: مسند ابن الجعد: لعلي بن الجعد الجوهري: ص 210؛ المحاسن لأحمد بن محمد بن خالد البرقي: ج 2 ص 440، شعب الإيمان لأحمد بن الحسين البهيقي في: ج 5 ص 41 ح 5700؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر الدمشقي: ج 64 ص 203؛ إحياء علوم الدين اللغزالي: ج 8 ص 58

الله عليه [وآله] وسلَّم: «الكذب رأس النفاق»(1)وهو ظاهر فإنّ مدار النفاق على المصانعة بالقول الغير المطابق لما في نفس الأمر وهو حقيقة الكذب.

«ولَا تَحَاسَدُوا»: قد اتّفق أرباب القلوب على أنّه من أعظم أبواب الشيطان الَّتي يدخل بها على القلب، وهو أحد العوارض الرديئة للنفس، ويتولَّد من اجتماع البخل والشريّة في النفس، وأعني بالشرير من يلتذّ طباعهاً بمضارّ يقع بالناس، ويكره ما يوافقهم، وإن كانوا ممّن لا يرونه، ولم يسيئوا إليه، وقد علمت أنّ من هذه صفته مستحقّ للمقت من الله عزّ وجلّ، وذلك أنّه مضادّ لإرادته إذ هو تعالى المتفضّل على المزيد للخير المطلق للكلّ، وقد رسّم الحسد بأنّه اغتمام الإنسان بخير يناله غيره من حيث لا مضرّة منه عليه، وقد يوجد الحسد ممّن له نفع ما من المحسود، ويسمّى الحسد البالغ، وأمّا تعليله وجوب بقوله:

«فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الإِيمَانَ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ»: فاعلم أنّ العلماء قد اتّفقوا على أنّ الحسد مضرّ بالنفس والجسد؛ أمّا بالنفس فلأنّه يذهلها؛ ويغرق فکرها بالاهتمام بأمر المحسود حتّى لا يفرغ للتصرّف؛ فيما يعود نفعه عليها بل، وينسی ما حصلت عليه من الملكات الخيريّة، الَّتي هي الحسنات المنقوشة في جوهرها ويضمحلّ على طول تعوّد الحسد، واشتغال الفكر فيه وطول الحزن والهمّ لأنّ نعم الله على عباده أكثر من أن تحصى؛ فإذا كان الحسد بها دام؛ فانقطع وقت الحاسد به عن تحصيل الحسنات، وأمّا بالجسد فلأنّه يعرض له عند حدوث هذه الأعراض للنفس طول السهر وسوء الاغتذاء، ويعقّب ذلك رداءة اللون وسوء

ص: 219


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 1 ص 384؛ وسنن الدارمي لعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي: ج 2 ص 300؛ والبخاري في صحيحه: ج 7 ص 95؛ سنن ابن ماجة لمحمد بن یزید القزويني: ج 1 ص 18؛ وسنن أبي داود لسليمان بن الأشعث السجستاني ج 2 ص 474

السجيّة، وفساد المزاج، إذا عرفت ذلك فنقول: إنّه قد استعار هاهنا لفظ الأكل لكون الحسد ماحياً لما في النفس من الخواطر الخيريّة الَّتي هي الحسنات، ومانعاً من صيرورتها ملكات، وذلك بسبب استغراقها في حال المحسود واشتغالها به، وشبّه ذلك بأكل النار الحطب، ووجه الشبه ما يشترك فيه الحسد، والنار من إفناء الحسنات والحطب واستهلاكهما.

«ولَا تَبَاغَضُوا»: واعلم أنّه لمّا كان أمر العالم لا ينتظم إلَّا بالتعاون والتضافر، وكان التعاون؛ إنّما يتمّ بالألفة وكان أقوى أسباب الألفة هو المودّة، والمؤاخاة بين الخلق كانت المودّة من المطالب المهمّة للشارع، ولذلك آخی رسول الله صلى الله عليه - وآله وسلَّم، بين أصحابه لتخلص محبّتهم، وتصفو ألفتهم، ويصدق بينهم التعاون، والتضافر والاتّحاد في الدين، وقال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «المرء كبير بأخيه ولا خير في صحبة من لا يرى لك من الحقّ مثل ما ترى له»(1)فلذلك كان التباغض بينهم منهيّاً عنه مكروهاً في الشريعة لما يستلزمه من التقاطع بينهم وعدم تعاونهم وتضافرهم، وبسبب ذلك تتخطَّف كلَّا منهم أيدي حاسدیه وتتحكَّم فيه أهواء أعاديه فلم تسلم له نعمة، ولا تصفو له مدّة بل يكون بذلك بواره واضمحلال النوع وهلاكه، ولذلك قال عليه السّلام «فَإِنَّهَا الْخَالِقَةُ»: وأصل هذا اللفظ مستعار ممّا يحلق الشعر كالموسى، ونحوها للدواهي وأسباب الشرّ؛ ثمّ صار مثلاً، وقد وقع هاهنا موقعه من الاستعارة، ووجه المشابهة أنّ الموسى مثلاً كما أنّه سبب لحلق الشعر كذلك التباغض سبب لاستئصال الخلق بعضهم بعضاً، ثم نبه على مضارّ الأمل للدنيا تنفيراً عنه بقوله: «واعْلَمُوا أَنَّ الأَمَلَ يُسْهِي

ص: 220


1- شرح مئة كلمة لأمير المؤمنين لابن میثم البحراني: ص 106؛ شرح نهج البلاغة لابن میثم البحراني :ج 1 ص 324؛ تذکرة الحفاظ: للذهبي: ص 3

الْعَقْلَ»: أي يوجب سهوه عمّا هو الأولى بالإنسان في معاشه، ومعاده، وهو ظاهر فإنّ الآمل أبداً مشغول الفكر بما يأمله ويرجوه وفي كيفيّة تحصيله، وكيفيّة العمل به بعد حصوله، وشغله بذلك يستلزم إعراضه عن غيره؛ إذ ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه.

«ويُنْسِيِ الذِّكْرَ»: أي ذكر الله تعالى بعد الموت من أحوال الآخرة، وذلك باستغراقه فيما يأمله من أحوال الدنيا کما مرّ.

«فَأَكْذِبُوا الأَمَلَ فَإِنَّه غُرُورٌ وصَاحِبُه مَغْرُورٌ»: روی بفتح الغين من غرور وضمّها، ووجه الفتح أنّ الأمل ليس هو نفس الغفلة عن الذكر، وغيره بل مستلزم لها؛ فلذلك صدقت نسبة الغرور إليه، ووجه الضمّ أنّه مجاز من باب إطلاق اسم اللازم على ملزومه، وأمّا تكذيبه؛ فبذكر الموت ودوام إخطاره بالبال وملاحظة المرجع والمعاد، وإنّما سمىّ ردّ الأمل تكذيباً له؛ لأنّ النفس حال توقّعها للمأمول تكون حاكمة حكماً، وهمیّاً ببلوغه ونیله؛ فإذا رجعت إلى صرف العقل وملاحظة الموت، وجواز الانقطاع به عن بلوغ مارجته كان تجویزها ذلك مكذّباً لما جزم به الوهم من الأحكام ورادّاً له وبالله التوفيق.

ومن خطبة له عليه السّلام: وفيها فصول.

الفصل الأوّل: في صفات المتّقين وهو قوله: «عِبَادَ اللهِ إِنَّ مِنْ أَحَبِّ عِبَادِ اللهِ إِلَيْهِ عَبْداً أَعَانَهُ اللهُ عَلَى نَفْسِهِ»: أي أفاضة قوة على استعدادها تقوي بعقله على قهر نفسه الأمارة بالسوء «فَاسْتَشْعَرَ الْحُزْنَ»: أي أتخذه شعاراً له، وأراد الحزن على ما فرّط في جنب الله، واكتسب من الإثم؛ فإنّه من جملة ما أعدّته المعونة الإلهيّة لاستشعاره ليستعدّ به لكمال أعلى.

ص: 221

«وتَجَلْبَبَ الْخَوْفَ»: أي جعله حلياً واستعارة، وهو الملحفة للخوف من الله والخشية من عقابه، ووجه المشابهة ما يشتركان فيه من كون كلّ منهما متلبّساً به، وهو أيضاً معونة من الله للعبد على تحصيل السعادة.

«فَزَهَرَ»: أضاء «مِصْبَاحُ الْهُدَى»(1): إشارة إلى شروق نور المعارف الإلهيّة على مرآة سرّه، وهو ثمرة الاستعداد بالحزن، والخوف ولذلك عطفه بالفاء، واستعار لفظ المصباح لنور المعرفة لما يشتركان فيه من كون كلّ منهما سبباً للهدى، وهو استعارة لفظ المحسوس للمعقول.

«وأَعَدَّ الْقِرَى لِيَوْمِهِ النَّازِلِ بِهِ»: يوم القيامة استعار لفظ القرى للأعمال الصالحة، وأراد باليوم النازل به يوم القيامة، واستلزمت الاستعارة تشبيهه لذلك اليوم بالضيف أو بيوم القرى للضيف المتوقّع نزوله، ووجه المشابهة أنّ القری کما يبيّض به وجه القاري عند ضيفه، ويخلص به من ذمّه، ويكسبه المحمدة، والثناء منه كذلك الأعمال الصالحة في ذلك اليوم؛ تكون سبباً لخلاص العبد من أهواله؛ وتكسبه رضاء الحقّ سبحانه والثواب الجزيل منه.

«فَقَرَّبَ عَلَى نَفْسِهِ الْبَعِيدَ»: يحتمل وجهين: أحدهما: أن يشير بالبعيد رحمة الله فإنّها بعيدة من غير مستحقّها، والمستعد لقبولها قريبة ممّن حسن عمله وكمل قبوله؛ فالعبد إذا رضا بالأعمال الصالحة نفسه، وأعدّها قری یومه کانت رحمة الله على غاية من القرب منه كما قال عز من قائل «إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ»(2)، الثاني: يحتمل أن يريد بالبعيد أمله الطويل في الدنيا وبتقريبه له على نفسه تقصيره له بذكر الموت دون بلوغه کما سبق.

ص: 222


1- في بعض النسخ ورد: فِي قَلْبِهِ
2- سورة الأعراف: الآية 56

وهَوَّنَ الشَّدِيدَ»: ويحتمل أيضاً معنيين: أحدهما: أن يريد بالشديد أمر الآخرة وعذاب الجحيم، وتهوينه لها بالأعمال الصالحة، واستشراف أنوار الحقّ، وظاهر كونه مهوّنة لشدید عذاب الله.

الثاني: أن يريد بالشدائد شدائد الدنيا من الفقر والاهتمام بالمصائب الَّتي تنزل به من الظلم وفقد الأحبّة والأقرباء ونحو ذلك وتهوينه لذلك تسهيله على خاطره واستحقاره في جنب ما يتصوّره من الفرحة بلقاء الله وما أعدّ له من الثواب الجزيل في الآخرة كما قال تعالى «الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ٭ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ»(1).

«نَظَرَ»: أي تفكَّر في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء «فَأَبْصَرَ»: أي فشاهد الحقّ سبحانه في عجائب مصنوعاته بعين بصيرته «وذَكَرَ»: ربّه ومعاده «فَاسْتَكْثَرَ»: من ذكر حتّى صار الذكر ملكة له ويجلَّي المذكور في أطوار ذكره لمرآة سرّه والاستكثار من الذكر باب عظيم من أبواب الجنّة.

«وارْتَوَى مِنْ عَذْبٍ فُرَاتٍ»: شبّه العلوم والكمالات النفسانيّة الَّتي تفاض على العارف بالماء الزلال؛ فاستعار له لفظ العذوبة، ورشّح تلك الاستعارة بذكر الارتواء، وقد سبق وجه هذه الاستعارة مراراً.

«سُهِّلَتْ لَهُ مَوَارِدُهُ»: الفائزون بقصب السبق في طريق الله لا ينفکَّون عن تأييد إلهيّ بخاصيّة مزاجيّة لهم بها سرعة الاستعداد لقبول الكمالات الموصلة إليه.

إذا عرفت ذلك فنقول: موارد تلك الكمالات من العلوم، والأخلاق هي معادنها، ومواطنها المنتزعة منها، وهي النفوس الكاملة الَّتي يهتدى بها، ويؤخذ

ص: 223


1- سورة البقرة: الآيات 156 - 157

عنها أنوار الله کالأنبياء، وتصدق تلك الموارد، أيضاً على بدائع صنع الله الَّذي یردّها ذهن العبد، وتكسب بها الملكات الفاضلة، وسهولة تلك الموارد لهم هو سرعة قبولهم لأخذ الكمالات عنها بسهولة؛ بأذهان صافية هيّأتها العناية الإلهيّة لقبولها ويسرّ بها لذلك.

«فَشَرِبَ نَهَلًا»: أي أخذ تلك الكمالات سابقاً إليها كثيراً من أبناء نوعه ومتقدّماً فيها لسهولة موردها عليه، وهي ألفاظ مستعارة لأخذه لها وسبقه إليها ملاحظة لشبهه بشرب السوابق من الإبل إلى الماء وسَلَكَ سَبِيلًا جَدَداً: أي سبيل الله الواضح المستقيم العدل بين طرفي التفريط والإفراط.

قَدْ خَلَعَ سَرَابِيلَ الشَّهَوَاتِ»: أشار في أكثر الأوصاف السابقة إلى تحصيل العلم والاستعداد له، وأشار بهذا الوصف إلى طرف الزهد، واستعار لفظ السرابيل للشهوات، ووجه المشابهة تلبّس صاحبها بها کما يتلبّس بالقميص، ورشّح بلفظ الخلع، وکنّی به عن طرحه لاتّباع الشهوة، والتفاته عنها فيما يخرج به عن حدّ العدل «وتَخَلَّى مِنَ الْهُمُومِ»: أي من هموم الدنيا وعلائق أحوالها، وطرح كلّ مقصود عن قصده «إِلَّا هَمّاً وَاحِداً انْفَرَ دَ بِهِ»: وهو الوصول إلى مراحل عزّة الله وتوجيه سرّه إلى مطالعة أنوار کبریائه، واستشراقها وهو تمام الزهد الحقيقيّ وظاهر كونه منفرداً عن غيره من أبناء نوعه.

«فَخَرَجَ مِنْ صِفَةِ الْعَمَى»: عمى الجهل بما حصل عليه من فضيلة العلم والحكمة «ومُشَارَكَةِ أَهْلِ الْهَوَى»: في إفراطهم وفجورهم إذ هو على حاقّ الوسط من فضيلة العفّة «وصَارَ مِنْ مَفَاتِيحِ أهل(1)الْهُدَى»: هي طرقه وسبله المعدّة

ص: 224


1- في بعض النسخ ورد: أَبْوَابِ

لقبوله من واهبه، وقد وقف عليها العارفون، ودخلوا منها إلى حضرة جلال الله فوقفوا على مراحلها، ومنازلها ومخاوفها فصاروا مفاتيح لما انغلق منها على أذهان الناقصين، ومصابيح فيها لنفوس الجاهلين، ولفظ المفتاح مستعار للعارف، ووجه المشابهة ظاهر.

«ومَغَالِيقِ أَبْوَابِ الرَّدَى»: هي أطراف التفريط والإفراط، والمسالك الَّتي يخرج فيها عن حدود الله المردي سلوكها في قرار الجحيم، والعارف لمّا سدّ أبواب المنكرات الَّتي يسلكها الجاهلون، ولزم طريق العدل لا جرم أشبه المغلاق الَّذي يكون سبباً لسدّ الطريق أن يسلك؛ فاستعير لفظه له، وفي القرينتين مطابقة؛ فالمغاليق بإزاء المفاتيح والردي بإزاء الهدى.

«قَدْ أَبْصَرَ»: بنور بصيرته طريقه: أي المأمور بسلوكها، والمجذوب بالعناية الإلهيّة إليها وهى صراط الله المستقیم(1)«وسَلَكَ سَبِيلَهُ»: لمّا أبصرها إذ السلوك هو المقصود الأوّل «وعَرَفَ مَنَارَهُ»: لمّا كان السالك إلى الله قد لا يستقیم به طريق الحقّ إتّفاقاً، وذلك كسلوك من لم تستكمل قوّته النظريّة بالعلوم، وقد يكون سلوكه بعد استكماله بها، فالسالك كذلك قد عرف بالبرهان مناره؛ أي أعلانية المقصودة في طريقه الَّتي هي سبب هدايته، وهي القوانين الكلَّيّة العمليّة، ويحتمل أن یرید بالمنار ما يقصده بسلوكه، وهو حضرة جلال الله وملائكته المقرّبون.

«وقَطَعَ غِمَارَهُ»: أشار به إلى ما كان مغموراً فيه من مشاقّ الدنيا وهمومها والتألَّم بسبب فقدها ومجاذبة أهلها لها فإنّ العارف بمعزل عن ذلك والتألَّم بسببه.

«واسْتَمْسَكَ مِنَ الْعُرَى بِأَوْثَقِهَا ومِنَ الْحِبَالِ بِأَمْتَنِهَا»: أراد سبيل الله وأوامره،

ص: 225


1- في بعض النسخ ورد: طَرِيقَهُ

استعارة ووجه المشابهة؛ أنّ العروة کما تكون سبباً لنجاة من تمسّك بها، وكذلك الحبل، وكان أجودها ما ثبت وتمتن، ولم ينفصم كذلك طريق الله المؤدّی؛ إليه يكون لزومه، والتمسّك بأوامره سبباً للنجاة من أهوال الآخرة، وهي عروة لا انفصام لها، وأوامرها حبال لا انقطاع لها، وقد أشار إليها جل، وعلا بقوله «فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا»(1).

«فَهُوَ مِنَ الْيَقِینِ عَلَى مِثْلِ ضَوْءِ الشَّمْسِ»: أي فكان بتمسّكه بأوامر الله، ونواهيه و مجاهدته في سبيله قد استشرق؛ أتمّ أنوار اليقين فصار شاهداً بعين بصيرته عالم الملكوت رائياً بها الجنّة، والنار عين اليقين کما یری بصره الظاهر نور الشمس في الوضوح والجلاء.

«قَدْ نَصَبَ نَفْسَهُ للهَّ سُبْحَانَهُ فِي أَرْفَعِ الأُمُورِ مِنْ إِصْدَارِ كُلِّ وَارِدٍ عَلَيْهِ وتَصْيِیرِ كُلِّ فَرْعٍ إِلَی أَصْلِهِ»: لما كمل في ذاته نصب نفسه لأرفع الأمور من هاديته الخلق، وافداتهم لقوانين طريق الله؛ فصار كالمصباح يقتبس منه أنوار العلم؛ فهو لكونه ملبياً بها قائم بإصدار الأجوبة عن كل ما ورد عليه من الأسئلة الَّتي استبهم أمرها على الأذهان، واف بردّ كلّ فرع من فروع العلم؛ إلى أصله المنشعب عنه.

«مِصْبَاحُ ظُلُمَاتٍ»: أي بيهتدي به التائهون في ظلمات الجهل إلى الحق ولفظ المصباح له کما سبق: «كَشَّافُ عَشَوَاتٍ»: أي توضيح لما أشكل أمره وركَّب فيه الجهل من الأحكام الملتبسة مميّز وجه الحقّ منها، ومن روی بالغين المعجمة فالمراد کشّاف أغطية الجهالات عن إبصار البصائر: «مِفْتَاحُ مُبْهَمَاتٍ» أي فاتح لما تعلق على أذهان الخلق واستبهم، وجه الحق فيه من الأحكام «دَفَّاعُ مُعْضِلَاتٍ»: أي

ص: 226


1- سورة البقرة: الآية 256

يدفع كلّ حيرة في معضلة من معضلات الشرع صعب على الطالبين تمیّز وجه الحقّ فيه ويجيبهم ببيانه عن التردّي في مهاوي الجهل «دَلِيلُ فَلَوَاتٍ»: استعارها لموارد السلوك وهي الأمور المعقولة، ووجه المشابهة أنّها كما لا يهتدي لسالكها إلَّا الأدلَّاء الَّذين اعتادوا سلوكها، وضبطوا مراحلها، ومنازلها حتّى كان من لا قائد له منهم فيها، ويكون جهله بطرفها سبباً لهلاکه كذلك الأمور المتصوّرة المعقولة لا يهتدي لطريق الحقّ فيها إلَّا من أخذت العناية الإلهيّة بضبعيه؛ فألقت بزمام عقله إلى أستاذ مرشد يهدیه سبيل الحقّ منها، ومن لم يكن كذلك حتّی حاد عن طريق الحقّ فيها خبط في ظلمات الجهل خبط عشواء، وسلكت به شياطينه أبواب جهنّم، والعارفون هم أدلَّاء هذا الطريق، والواقفون على أخطارها ومنازل السلامة فيها بعيون بصائرهم.

«يَقُولُ فَيُفْهِمُ»: وذلك لمشاهدته عين الحقّ من غير شبهة تعتريه فيما يقول ولا اختلاف عبارة عن جهل بالمقول «ويَسْكُتُ فَيَسْلَمُ»: من خطر القول، ولمّا كانت فائدة القول الإفهام والإفادة، وفائدة السكوت السلامة من آفات اللسان وكان كلامه في معرض المدح لاجرم ذكرهما مع فائدتهما، والمقصود أنّ العارف يستعمل كلَّاً من القول والسكوت في موضعه عند الحاجة إليه فقط «قَدْ أَخْلَصَ

للهِ فَاسْتَخْلَصَه»: وقد عرفت أنّ الإخلاص للهَّ هو النظر إليه مع حذف كلّ خاطر سواه عن درجة الاعتبار، واستخلاص الحقّ للعبد هو اختصاصه من بين أبناء نوعه بالرضى عنه، وإفاضة أنواع الكمال عليه، وإدنائه إلى حضرة قدسه، وانفراده بمناجاته، وظاهر أنّ إخلاصه سبب استخلاصه کما قال تعالى «وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا ٭ «وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ

ص: 227

نَجِيًّا»(1).

«فَهُوَ مِنْ مَعَادِنِ دِينِه»: استعار لفظ المعدن له، ووجه المشابهة اشتراكهما في كون كلّ منهما أصلا ًتنتزع منه الجواهر: من المعادن أنواع الجوهر المحسوسة، ومن نفس العارف جواهر العلوم، والأخلاق وسائر ما اشتمل عليه دين الله «وأَوْتَادِ أَرْضِه»: استعار له لفظ الوتد، ووجه المشابهة كون كلّ منهما سبباً لحفظ ما يحفظ به؛ فالوتد يحفظ الموتود، وبالعارف يحفظ نظام الأرض، واستقامة أمور هذا العالم، وقد سبق مثله في الخطبة الأولى: ووتّد بالصخور میدان أرضه(2)«أَلْزَمَ نَفْسَه الْعَدْلَ فَكَانَ أَوَّلَ عَدْلِه نَفْيُ الْهَوَى عَنْ نَفْسِه»: لمّا كان العدل ملكة تنشأ من الملكات الثلاث: وهي الحكمة، والعفّة والشجاعة، وكان العارفون قد راضو أنفسهم بالعبادة، وغيرها حتّى حصلوا على هذه الملكات الخلقيّة؛ لا جرم کان بسعيه في حصولها قد ألزم نفسه العدل، ولمّا كان العدل في القوّة الشهویّة وهو أن يصير عفيفاً لا جامد الشهوة، ولا فاجراً أصعب من العدل على سائر القوى لكثرة موارد الشهوة، وميلها بالإنسان إلى طرف الإفراط، ولذلك كان أكثر المناهي الواردة في الشريعة هي موارد الشهوة، لاجرم كان مقتضى المدح أن يبدأ بذكر نفی الهوى عن نفسه، ولأنّ السالك أوّل ما يبدأ في تكميل القوّة العلميّة بإصلاح القوّة الشهویّة؛ فيقف عند حدود الله، ولا يتجاوزها في مأكول؛ أو منکوح أو کسب ونحوه.

«يَصِفُ الْحَقَّ(3)فيَعْمَلُ بِه»: أي يتبع قول الحقّ بعمله فإنّ الخُلف في القول

ص: 228


1- سورة مريم: الآية 51 - 52
2- في بعض النسخ: ورد: قَدْ
3- في بعض النسخ: ورد: ويَعْمَلُ

عند الخلق قبيح ومع الله أقبح، ولذلك عاتب الله المؤمنين «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ»(1)وكانوا قالوا: لنفعلنّ في سبيل الله ما فيه رضاه، فلمّا كان يوم أُحد لم يثبتوا وأكَّد عتابه بشدّة مقته لخُلفِهِمْ وعدم مطابقة؛ أفعالهم لأقوالهم، لمّا فرغ من جزئيّات أوصاف العارف شرع فيها إجمالاً فقال «لَا يَدَعُ لِلْخَیْرِ غَايَةً إِلَّا أَمَّهَا»: أي لا يقنع الحق، ولا يقف عنده بل هي فيه ويستقصي غاياته.

«ولَا مَظِنَّةً إِلَّا قَصَدَهَا»: ومظنّته كلّ محلّ أمكنه أن ينتزعه منه ويستفيده کالأولياء ومجالس الذكر وغيرها «قَدْ أَمْكَنَ الْكِتَابَ مِنْ زِمَامِه»: تمكينه الكتاب كناية عن انقياده لما اشتمل عليه من الأوامر والنواهي، واستعار لفظ الزمام لعقله ووجه المشابهة ما يشتركان فيه كون كلّ منهما آلة للانقياد، وهي استعارة لفظ المحسوس للمعقول، وكذلك استعار القائد للكتاب لكونه جاذباً بزمام عقله إلى جهة واحدة مانعاً له عن الانحراف عنها فقال «فَهُوَ قَائِدُه وإِمَامُه»: وكذلك الإمام استعارة لكونه مقتدی به «يَحُلُّ حَيْثُ حَلَّ ثَقَلُه»: هو متاع الدنيا وهنا یرید أحكام القرآن لأنها بمنزلة المتاع «ويَنْزِلُ حَيْثُ كَانَ مَنْزِلُه»: استعار وصفی الحلول والنزول الَّذين هما من صفات المسافر، وكنّي بحلوله حيث حلّ عن لزوم أثره والعمل بمقتضاه ومتابعته له في طريق سفره إلى الله بحيث لا ينفكّ عنه وجوداً وعدماً ثم شرع في صفات بعض الفساق في مقابلة الموصوف السابق فقال وآخَرُ

قَدْ تَسَمَّى «عَالِماً ولَيْسَ بِه»: طلباً للرياسة وتحصيل الدنيا وهذا الصنف من الناس كثير والعلماء فيهم مغمورون، وخصیصه بالذكر أنه أشد فتنة وأقوى فساداً في الدين.

ص: 229


1- سورة الصف: الآية 2 - 3

«فَاقْتَبَسَ»: طلب وأخذ «جَهَائِلَ»: جمع جهالة «مِنْ جُهَّالٍ»: أراد الجهل المركَّب، وهو الاعتقاد الغير المطابق لما في نفس الأمر، وهذا الوصف أحد أسباب الأوّل، ونسبة الاقتباس إلى الجهل نسبة مجازيّة لما أنّ الجهل يشبه العلم في كونه مستفاداً على وجه التعلَّم والتعليم.

وأَضَالِيلَ»: من لوازم الجهالات «مِنْ ضُلَّالٍ»: وهي الانحراف عن سواء السبيل، وإنّما قال من جهّال، وضلَّال ليكون إثبات الجهل، والضلال له آكد فإنّ تلقّفهما عن الجهّال الضلَّال، واعتقادهما أثبت وأرسخ في النفس من سائر الجهالات.

«ونَصَبَ لِلنَّاسِ أَشْرَاكاً مِنْ حَبَائِلِ غُرُورٍ وقَوْلِ زُورٍ»: استعار الأشراك والحبال لما يغرّ علماء السوء به الناس من الأقوال الباطلة والأفعال المزخرفة، ووجه المشابهة ما يشترك فيه الشرك من الحبال، وغيره، وسائر ما يجذب به الخلق من أقوالهم وأفعالهم في كونها محصّلة للغرض؛ فالشَرَكْ للصيد، وغرور هؤلاء لقلوب الخلق، ورشّح تلك الاستعارة بذكر النصب.

«قَدْ حَمَلَ الْكِتَابَ عَلَى آرَائِه»: للجاهل في تفسير كتاب الله تعالى مذاهب عجيبة، ويكفيك منها ما تعتقده المجسّمة، من الظواهر المشعرة بتجسيم الصانع جلَّت قدرته، وتفسيرهم للكتاب على ما اعتقدوه من باطلهم «وعَطَفَ الْحَقَّ عَلَى

أَهْوَائِه»: أي جعل كلّ هوى له حقّاً يتّبع بتأويل ما «وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ»(1)«يُؤْمِنُ النَّاسَ مِنَ الْعَظَائِمِ ويَهُوِّنُ كَبِیرَ الْجَرَائِمِ»: أي يسهّل عليهم أمر الآخرة في موضع يحتاجون فيه إلى ذكر وعید

ص: 230


1- سورة المؤمنون: الآية 71

الله، وتذكيرهم بأليم عقابه كما يخطى الجاهلون، ويعرضون عن أوامر الله تعالى ونواهيه؛ فإذا حضروا مجالس جهّال الواعظين، والزهّاد توسّلوا إلى استجلاب قلوبهم، وتشييد مناصبهم باجتماعهم عليهم بأن ذكروا لهم مواعيد الله كقوله «إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا»(1)ونحوه؛ فيهوّن عليهم بذلك عظيم الوعيد وأهوال الآخرة، وتصغّر عندهم جرائمهم الَّتي ارتكبوها في جنب ما تصوّروه من الوعد الكريم ويساعدهم میل طباعهم إلى المشتهيات الخارجة عن حدود الله فيعاودوا ما اقترفوه ولا كذلك العالم؛ إذ من شأنه أن يستعمل كلَّا من آيات الوعد، والوعيد في موضعها ليبقى السامعون بين خوف ورجاء؛ فلا ينهمكوا في اللذّات الفانية اتّکالاً على الوعد ولا يقنطوا من رحمة الله نظرا إلى الوعيد.

«يَقُولُ أَقِفُ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ وفِيهَا وَقَعَ»: أي إذا انتهيت إلى أمر فيه شبهة لا أقدم عليه وفيها وقع «ويَقُولُ أَعْتَزِلُ الْبِدَعَ»: أي ما يبتدع من الأمور المخالفة لقوانين الشريعة «وبَيْنَهَا اضْطَجَعَ»: کنّی باضطجاعه بين البدع عن تورّطه فيها وذلك أيضاً لجهله بأصول الشريعة وكيفيّة تفريعها.

«فَالصُّورَةُ صُورَةُ إِنْسَانٍ والْقَلْبُ قَلْبُ حَيَوَانٍ»: كالحمار ونحوه لما بينهما من المناسبة وهو عدم صلاحيّتهما لقبول المعارف، والعلوم مع ميلهما إلى الشهوات «لَا يَعْرِفُ بَابَ الْهُدَى فَيَتَّبِعَه ولَا بَابَ الْعَمَى فَيَصُدَّ عَنْه»: أي لا يعرف لجهله قانون الهداية إلى طرق الحقّ، فيسلكه ولا وجه دخوله في الباطل؛ فيعرض عنه، وذلك أنّ الجاهل الجهل المركَّب(2)لمّا حاد عن سبيل الله وجزم بما أعتقده من الباطل امتنع

ص: 231


1- سورة الزمر: الآية 53
2- الجهل المركب والجهل البسيط كلاهما جهل، ويختلف البسيط عن المركب بأنه أقل سوء من الجهل المركب الذي منه أكثر المفاسد والكفر والظلال؛ قال: الشيخ محمد رضا المظفر «فالبسيط هو عدم العلم ممن له الاستعداد للعلم والتمكن له، مثل أن تجهل زيداً في الدار والمركب هو: أن يجهل شيئاً وهو غير ملتفت إلى أنه جاهل به بل إنه من أهل العلم به، فلا يعلم أنه لا يعلم، كأهل الاعتقادات الفاسدة الذين يحسبون أنهم عالمون بالحقائق وهم جاهلون بها في الواقع»؛ يُنظر المنطق: ص 18

مع ذلك الجزم أن يعرف باب الهدى، ومبدأ الدخول إليه؛ فامتنع منه اتّباعه، ولمّا اعتقد أنّ ما جزم به من الباطل هو الحقّ امتنع أن يعرف مبدأ دخوله في الجهل، وهو باب العمى؛ فامتنع منه أن يصدّ عنه ثمّ حكم عليه السّلام عن تلك الأوصاف وقال(1)«فذَلِكَ مَيِّتُ الَأحْيَاءِ»: لأنّ الحياة الحقيقيّة الَّتي تطلب لكلّ عاقل، والَّتي وردت الشرائع والكتب الإلهيّة بالأمر بتحصيلها هي: حياة النفس باستكمال الفضائل الَّتي هي سبب السعادة الباقية، وقد علمت أنّ الجهل المركَّب هو الموت المضادّ لتلك الحياة؛ فالجاهل بالحقيقة ميّت، وأمّا أنّه ميّت الأحياء؛ فلأنّه في صورة الحيّ، ولمّا قدمّ المتّقين بصفاتهم، والفاسقون بصفاتهم كان في ذكرهما تنبيه على وصفي طريقي الحقّ، والباطل، ولوازمهما؛ فلذلك أعقبهما بالتنبيه على كونهم في ضلال، وتيه وعمى عن الحقّ؛ ثمّ بالتخويف، والتبكيت، والتذكير بكتاب الله، وعترة رسوله ليلزموا سمتهم، ويسلكوا بهم طريق أهل التقوى، ويفيئوا عن ضلالهم إلى اقتباس أنوار الحقّ من أهله فقال: «فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ وأَنَّى

تُؤْفَكُونَ»: تصرفون: «والأَعْلَامُ قَائِمَةٌ والآيَاتُ وَاضِحَةٌ والْمَنَارُ مَنْصُوبَةٌ»: سؤال عمّا يذهبون إليه، وعن وقت صرفهم عن ذلك الغيّ سؤالا على سبيل الإنكار لما هم عليه من الطريق الجائرة، والواو في قوله: والأعلام للحال، وإشارة بالأعلام إلى أئمّة الدين، ووضوحها ظهورها بينهم، وكذلك المنار، ونصبها قيام الأئمّة بينهم ووجودهم فيه ثم أردف ما أنكره من ذهابهم، وتعجّب منه بتفسيره فقال: «فَأَيْنَ يُتَاهُ بِكُمْ وكَيْفَ تَعْمَهُونَ وبَيْنَكُمْ عِتْرَةُ نَبِيِّكُمْ وهُمْ أَزِمَّةُ الْحَقِّ وأَلْسِنَةُ الصِّدْقِ»:

ص: 232


1- في بعض النسخ ورد: وذلك

يعني كيف يجوز أن تتیهوا في ظلمات الجهل مع أنّ فيكم عترة نبيّكم، وأراد بعترته أهل بيته عليهم السّلام وإليه الإشارة بقول الرسول صلى الله عليه [وآله] وسلَّم: «وخلَّفت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلَّوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتّی یردا عليّ الحوض»(1)، واستعار لهم لفظ الأزمّة، ووجه المشابهة كونهم قادة للخلق إلى طريق الحقّ کما يقود الزمام الناقة إلى الطريق، وكذلك استعار لهم لفظ الألسنة، ووجه المشابهة كونهم تراجمة الوحي الصادق كما أنّ اللسان ترجمان النفس، ويحتمل أن يريد بكونهم ألسنة الصدق أنّهم لا يقولون إلَّا صدقا(2)فَأَنْزِلُوهُمْ بِأَحْسَنِ مَنَازِلِ الْقُرْآنِ: أعلم أنّ للقرآن منازل: الأولى القلب، وهو فيه بمنزلتين: إحداهما منزلة الإكرام والتعظيم، والثانية منزلة التصوّر فقط من دون تعظيم.

الثالثة: منزلته في الوجود اللسانيّ بالتلاوة.

الرابعة: منزلته في الدفاتر والكتب، وأحسن منازله هي الأولى، فالمراد إذن الوصيّة بإكرامهم ومحبّتهم وتعظيمهم کما یکرم القرآن بالمحبّة والتعظيم «ورِدُوهُمْ وُرُودَ الْهِيمِ

الْعِطَاشِ»: إرشاد لهم إلى اقتباس العلوم والأخلاق منهم إذ كانوا معادنها. ولمّا كانت العلماء والأئمّة تشبه بالينابيع، والعلم يشبه بالماء العذب، وعادمه بالعطشان حسن منه أن يأمرهم بورودهم وأن يشبه الورود المطلوب منهم بورود الإبل العطاش.

ص: 233


1- مناقب أمير المؤمنين لمحمد بن سليمان الكوفي: هامش ص 135؛ والناصريات للشريف المرتضى: ص 32؛ وذكره الشيخ الطوسي في الخلاف: ص 27، باختلاف يسير؛ المعتبر للعلامة الحلي في المعتبر: ج 1 ص 23، بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار: ص 433؛ الكافي للشيخ الكليني في الكافي: ج 1 ص 294؛ الهيثمي في مجمع الزوائد: ج 3 ص 267
2- في بعض النسخ ورد: وأَعْلاَمُ الدِّينِ

«أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوهَا»: الشرائع «عَنْ خَاتَمِ النَّبِيِّنَ صلى الله عليه وآله إِنَّه:» الشأن «يَمُوتُ مَنْ مَاتَ مِنَّا ولَيْسَ بِمَيِّتٍ ويَبْلَى مَنْ بَلِيَ مِنَّا ولَيْسَ بِبَالٍ»: إشارة صلى الله عليه [وآله] وسلم بهذه الكلمة تقرير لقوله تعالى «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ٭ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ»(1)ولما اتّفقت عليه كلمة العلماء، ونطقت به البراهين العقليّة أنّ أولياء الله لا يموتون ولا يبلون وإن بليت أجسادهم.

قال بعض الخائضين فيما لا يعنيه قوله: ويبلی من بلی منّا نصّ جلىّ على أنّ أجساد الأولياء تبلى وذلك يخالف ما يعتقده الناس من أنّ أجسادهم باقية إلى يوم القيامة بحالها.

أقول: الاعتقاد المذكور لبعض الناس إنّما نشأ من قول الرسول صلى الله عليه [وآله] وسلَّم في قتل بدر «زمّلوهم بكلومهم ودمائهم فإنّهم يحشرون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دما»(2) وقوله تعالى «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»(3)الآية وليس ولا واحد منهم.

بدالّ على أنّ الأجساد لا تموت ولا تبلى أمّا الخبر فليس مقتضاه أنّها تبقى صحيحة تشخب دماً إلى يوم القيامة بل ذلك ممّا يشهد ببطلانه الحسّ بل يحمل على أنّها کما تعاد يوم القيامة تعاد مجروحة تشخب جراحها دماً

ص: 234


1- سورة آل عمران: الآية 169- 170
2- تاریخ مدينة دمشق: لابن عساكر الدمشقي: ج 27 ص 179؛ ونهاية الأرب في فنون الأدب للنويري: ج 6 ص 166؛ والمستصفى للغزالي: ص 239؛ والأحكام للآمدي: ج 2 ص 252
3- سورة آل عمران: الآية 169

کھیئتها يوم موتها وأمّا الآية؛ فالَّذي أجمع عليه علماء المفسّرين أنّ الحياة المذكورة فيها هي: حياة النفوس وهو ظاهر في سبب نزولها عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلَّم: «لمّا أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طيور خضر ترد أنهار الجنّة، وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلَّقة في ظلّ العرش؛ فلمّا وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم، ومقيلهم قالوا: من يبلغ إخواننا عنّا أنّا في الجنّة نرزق لئلَّا يزهد في الجهاد ولا ينكلوا عند الحرب فقال الله عزّ وجلّ أنا أبلغهم عنکم فنزلت»(1)«وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا»(2)فإذن لا منافاة بين كلامه عليه السّلام وما ورد في القرآن والخبر ومقصوده بهذه الكلمة تقرير فضيلتهم وأنّهم أولياء باقون عند ربّهم في ظلّ كرامته.

«فَلَا تَقُولُوا بِمَا لَا تَعْرِفُونَ»: تنبيه على الرجوع إلى العترة العارفين بما ينبغي أن يقال «فَإِنَّ أَكْثَرَ الْحَقِّ فِيمَا تُنْكِرُونَ»: تأكيد للأمر بالتثبّت في الأقوال والنهي عن التسرّع إليها، والجاهل قد ينكر الحقّ إذا خالف طبعه، أو نبا عنه فهمه أو سبق اعتقاد ضدّه إليه بشبهة أو تقليد فنبّه على أنّ أكثر الحقّ فيما ينكرونه لئلَّا يتسرّعوا إلى القول من غير علم، ولذلك ذكر هذه القضيّة مرتّبة بفاء التعليل «واعْذِرُوا

ص: 235


1- ذكر الشيخ الكليني في الكافي: ج 3 ص 245 عن محمد عن أحمد عن الحسين بن سعيد عن أخيه الحسن، عن زرعة عن أبي بصير قال: قلت: لأبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام «إنا نتحدث عن أرواح المؤمنين أنها في حواصل طيور خضر ترعي في الجنة وتأوي إلى قناديل العرش فقال: لا؛ إذاً ماهي في حواصل طير؟ فأين هي؟ قال في روضة كهيئة الأجساد في الجنة» والرواية في مصادر القوم؛ قد رواها أحمد بن حنبل في مسنده: ج 1 ص 266، وكذلك سليمان بن الأشعث، فيا ترى أيهما أقرب للعقل والمنطق!؟ لا شك هي رواية الإمام الصادق التي تنطبق مع قوله تعالى «عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ» سورة الواقعة: الآية 61
2- سورة آل عمران: الآية 169

مَنْ لَا حُجَّةَ لَكُمْ عَلَيْه وهُوَ أَنَا»: طلب عليه السّلام العذر منهم؛ فيما يلحقهم من عذاب الله بسبب تقصيرهم؛ فإنّ الضرر اللاحق لهم قد أنذروا به، وتوعّدوا فلو قصّر هو عليه السّلام في تذكيرهم بتلك الوعيدات؛ أو الإنذارات مع كون ذلك مأخوذاً عليه من الله تعالى؛ فكانت حجّتهم عليه قائمة، ولمّا كان له عذر لكنّه بلَّغ، وحذّر، وقد أعذر من أنذر، وإنّما ذکَّر هم بسلب الحجّة عنهم في ذلك ليتذكَّروا خطأهم ولعلَّهم يرجعون.

«أَلَمْ أَعْمَلْ فِيكُمْ بِالثَّقَلِ الأَكْبَرِ»: كتابَ الله وأشار بأكبریته أكبر إلى أنّه الأصل المتّبع المقتدی به «وأَتْرُكْ فِيكُمُ الثَّقَلَ الأَصْغَرَ»: الأئمّة من ولده عليهم السّلام «قَدْ رَكَزْتُ فِيكُمْ رَايَةَ الإِيمَانِ»: وكنّي بها عن سنّة المتّبعة وطريقته الواضحة في العمل بكتاب الله وسنّة رسوله کناية بالمستعار، ووجه المشابهة كونه طريقة يهتدی بها إلى سلوك سبيل الله كما يهتدي بالأعلام والرايات أمام الجيش وغيره، ولفظ الركز ترشيح للاستعارة كنّی به عن إيضاحها لهم من عدلي «ووَقَفْتُكُمْ عَلَى حُدُودِ

الْحَلَالِ والْحَرَامِ»: عرفتكم إياها «وأَلْبَسْتُكُمُ الْعَافِيَةَ مِنْ عَدْلِي»: السلامة من الأذى الحاصل من أيدي الظالمين، واستعار اللباس لها، ووجها أنّ العافية تشمل المعافي كالقميص «وفَرَشْتُكُمُ الْمَعْرُوفَ مِنْ قَوْلِي وفِعْلِي»: وجه استعارة الفرش للمعروف أنها إذا وطيت قواعده يستراح به کالفراش «وأَرَيْتُكُمْ كَرَائِمَ الأَخْلَاقِ مِنْ نَفْسِيِ»: أي: أوضحت لكم وشاهدتموها منّى متكرّرة «فَلَا تَسْتَعْمِلُوا الرَّأْيَ فِيمَا لَا يُدْرِكُ

قَعْرَه الْبَصَرُ ولَا تَتَغَلْغَلُ إِلَيْه الْفِكَرُ»: نهى لهم عن الاشتغال بالخوض في صفات الله والبحث عن ذاته على غير قانون وأستاذ مرشد بل بحسب الرأي والتخمين فإنّ تلك الدقائق لمّا كانت لا ساحل لها، ولا غاية يقف الفكر عندها، وإن تغلغل في أعماقها وكانت مع ذلك في غاية العسر والدقة، وكثرة الاشتباه کان تداولهم

ص: 236

للاشتغال بها مؤدّياً إلى الخبط، وافتراق المذاهب وتشتّت الكلمة، والاشتغال بذلك عن الانتظام في سلك الدين، والاتّحاد فيه كما عليه من ينتسب إلى العلم بعده، وكلّ ذلك منه مطلوب الشارع؛ فإنّ الألفة والاتّحاد في الدين من أعظم مطلوباته، ويحتمل أن يريد مطلق دقائق العلم، وتفريع الفقه على غير قانون من إمام هدى بل الرأي عن أدنی توهم؛ ثم ذكر غاية من غايات عناء الناس مع بني أمية فقال(1)«حَتَّى يَظُنَّ الظَّانُّ أَنَّ الدُّنْيَا مَعْقُولَةٌ»: محبوسة «عَلىَ بَنِي أُمَيَّةَ»: ووجه الاستعارة ملاحظة شبهها بالناقة في كونها محبوسة في أيديهم کما تحبس الناقة بالعقال «تَمْنَحُهُمْ»: تعطيهم «دَرَّهَا»: ووجه الاستعارة أيضاً تشبيهاً بالناقة في كون ما فيها من فوائدها وخيرها مهيّئة لهم ومصبوبة عليهم کما تبذل الناقة درّها لحالبها «وتُورِدُهُمْ صَفْوَهَا»: تشبه الإيراد إليها مجازاً «ولَا يُرْفَعُ عَنْ هَذِه الأُمَّةِ سَوْطُهَا ولَا سَيْفُهَا»: أراد بهما ما فيه الأمة معهم من العذاب والقتل ونحوه استعمالاً للفظ السبب في المسبب «وكَذَبَ الظَّانُّ لِذَلِكَ»: المذكور لما ظنه الناس من ذلك، رد لما بتحقير ما حصلوا عليه من الأمر ولذّتهم به وتحقير مدّته، ولذلك قال «بَلْ هِيَ مَجَّةٌ»: قطعة وهي الفعلة من مج الشراب أذا قذفه وها هنا استعارة لفضية: «مِنْ لَذِيذِ الْعَيْشِ يَتَطَعَّمُونَهَا بُرْهَةً»: قطعة من الزمان «ثُمَّ يَلْفِظُونَهَا»: أنها جملة كنی بكونها مطعومه لهم عن تلذذهم بها مدة أمرهم وبكونها ملفوفة عن زوال الإمرة عنهم وأكد ذلك الزوال بقوله حملة أي بكلتيها وهي كناية بالمستعار تشبيهاً لها باللقمة التي لا يمكن إساغتها وبالله التوفيق.

في توبيخ الأمة على اختلافها أراءهم في الدين واستبدل كل منها بمذهب بحسب رأيه في المسائل الفقهية ونحوها مع وجوده عليه السلام بينهم وإعراضهم

ص: 237


1- ورد في بعض نسخ النهج: ظن خاطئ

عن مراجعته مع علمهم بقيامه بذلك.

«أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَقْصِمْ جَبَّارِي دَهْرٍ قَطُّ إِلَّا بَعْدَ تَمْهِيلٍ ورَخَاءٍ»: كأنّه عليه السّلام فهم ممّن خرجت هذه الخطبة بسببه أنّهم إنّما يستبدّون بآرائهم من دون مراجعة عن كبر منهم على التعلَّم، والاستفادة ومحبّة الراحة من تحمّل كلفة التحرّي في الدين، والتحرّز من الغلط فيه، ومشقّة الطلب؛ فلذلك خوّفهم من حال الجبابرة، وأن تصيبهم بترك قواعد الدين إلى آرائهم المتفرّقة؛ فيستعدّوا للهلاك بقوله: إنّه لم يقصم جبّاري دهر إلَّا بعد إمهالهم ورخائهم؛ فإنّهم إذا أمهلوا وانغمسوا فيما هم فيه من الرخاء والترف؛ أعرضوا عن الآخرة ونسوا ذكر الله تعالى؛ فاستعدّوا بتركهم لقوانين الدين الَّتي بها نظام العالم للهلاك ونحوه قوله تعالى «وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا»(1)وكذلك قوله: «ولْمَ يْجَبْرُ عَظْمَ أَحَدٍ مِنَ الُأمَمِ إِلاَّ بَعْدَ أَزْلٍ»: ضيق وشدة «وبَلَاء»: کنّی بجبران العظم عن قوّتهم بعد الضعف کناية بالمستعار، وصدق هذه القضيّة ظاهر؛ فإنّ أحداً من الأمم المتّبعين لأنبيائهم؛ أو لملوكهم في إظهار دين؛ أو طلب ملك أن يصلوا إلى مطلوبهم إلَّا بعد قوّتهم، وتضاعفهم وتظاهر بعضهم ببعض، ومعاناة بلاء أثر بلاء بحيث يستعدّون بذلك للفزع إلى الله تعالى؛ فيهيّء قلوبهم لقبول الألفة، ويعدّها باجتماع عزائمها لقبول صورة النصر، وفيه تنبيه على وجوب الاتّحاد في الدين، وعدم تشتّت الآراء فيه؛ فإنّ ذلك يدعو إلى التحزّب، والتفرّق ويدخل عليهم الوهن، والضعف، وكلّ ذلك ضدّ مطلوب الشارع کما سبق، ويحتمل أن يكون بقوله: لم يقصم جبّاري دهر، عن جبّاري وقته كمعاوية وأصحابه، وبقوله: لم يجبر عظم أحد من الأمم إلَّا بعد أزل وبلاء، عن

ص: 238


1- سورة الإسراء: الآية 16

أصحابه فنبّههم بالكلمة الأولى على أنّ أولئك الجبّارين وإن طالت مدّتهم وقویت شوكتهم فإنّما ذلك إملاء من الله لهم ليستعدّوا به للهلاك، وبالكلمة الثانية على أنّكم وإن ضعفتم وابتليتم فذاك عادة الله فيمن يريد أن ينصره ثمّ عقّب ذلك بتوبيخهم على الاختلاف وتشعّب الآراء والمذاهب في الدين لما أنّ ذلك يؤدّي إلى طول محنتهم وضعفهم عن مقاومة عدوّهم «وفِي دُونِ»: أقل «مَا اسْتَقْبَلْتُمْ مِنْ عَتْبٍ »: أي من عتابي لكم «ومَا اسْتَدْبَرْتُمْ مِنْ خَطْبٍ»: وفي نسخة مصححة من خَطب أي من الأموال الَّتي كنتم ترونها من المشركين في مبدأ الإسلام حيث كنتم قليلين وأمرتم أن يثبت الواحد منكم لعشرة منهم ثمّ أيّدكم الله بنصره بالتأليف بين قلوبكم وجبر عظمكم بمن أسلم ودخل في دينكم «مُعْتَبَرُ»: أيّ معتبر فإنّکم لو لم تتّحدوا في الدين وتقاسوا مرارة ذلك النصير واختلفت آراؤكم في ذلك الوقت كاختلافها الآن، وكنتم إذن على غاية من الكثرة لم تغن عنکم کثرتكم شيئا؛ فكأنّه قال: فيجب من ذلك الاعتبار أن لا يفترقوا في الرأي، وأن يتخذوا في الدين، وتراجعوا أعلمكم بأصوله وفروعه «ومَا كُلُّ ذِي قَلْبٍ بِلَبِيبٍ ولَا كُلُّ

ذِي سَمْعٍ بِسَمِيعٍ ولَا كُلُّ نَاظِرٍ بِبَصِیرٍ»: هما اللذان يستعملان سمعهما وبصرهما في استفادة العبرة وإصلاح أمر المعاد ونحوه قوله تعالى «أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا»(1)«فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ»(2)وفائدة هذه الكلمات تحريك النفوس إلى الاعتبار کیلا يعدّ التارك له غير لبيب ولا سميع ولا بصير، ثم تعجب فأردفه بما يصلح جواب سؤال مقدّر عمّا يتعجّب منه فَيَا عَجَباً: وكأنه فهم من تقدير ذلك السؤال، تعجب السائل من تعجبه المستلزم لتبرمه متعجّب،

ص: 239


1- سورة الأعراف: الآية 195
2- سورة الحج: الآية 46

وعلام هذا التبرّم والأسف فقال: «ومَا لِيَ لَا أَعْجَبُ مِنْ خَطَأِ هَذِهِ الْفِرَقِ»: ثمّ شرع في تفصيل الخطايا والمذامّ الَّتي كان اجتماعها فيهم سبباً لتعجّبه منهم فأشار إلى تركهم لما ينبغي ثم أردفه بذكر فعلهم لما ينبغي فقال: «عَلَى اخْتِلَافِ حُجَجِهَا فِي دِينِهَا»: فذمه لأنه الأصل الَّذي نشأت عنه أكثر هذه الرذائل «لَا يَقْتَصُّونَ أَثَرَ نَبِيٍّ»: فإنّهم لو اقتصّوا أثره لما اختلفوا إذ لا اختلاف فيما جاء به کما سبق بيانه لكنّهم اختلفوا فلم يقتصّوا أثر نبيّهم.

«ولَا يَقْتَدُونَ بِعَمَلِ وَصِيٍّ»: خليفة: إشارة إلى نفسه وهذه أقطع لإعذارهم؛ فإنّ الاختلاف في الدين قد يعرض عن ضرورة، وهي عدم إصابة الكلّ للحقّ مع عدم الشارع الَّذي يرجع إليه في التوقيف على أسرار الشريعة فأمّا إذا كان الموقف موجودا بينهم كمثله عليه السّلام امتنع أن يقعوا في تلك الضرورة فيعتذروا بها في الاختلاف.

«ولَا يُؤْمِنُونَ بِغَيْبٍ»: أي التصديق به والطمأنينة في اعتقاده، وللمفسّرين في تفسير الغيب أقوال: أحدها: عن ابن عبّاس: هو ما جاء به من عند الله.

الثاني: عن عطاء: هو الله سبحانه.

الثالث: عن الحسن: هو الدار الآخرة والثواب والعقاب والحساب.

الرابع: قيل: يؤمنون بظهر الغيب كقوله تعالى «يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ» فالمعنى قوله عليه السّلام: أي لا يحفظون شرایط الإيمان في عقيب بعضهم على بعض.

الخامس: عن ابن عيسى: الغيب ما غاب عن الحواسّ ممّا يعلم بالدليل.

السادس: عن الأخفش يؤمنون بما غاب عن أفهامهم من متشابهات القرآن.

ص: 240

«ولَا يَعِفُّونَ عَنْ عَيْبٍ»: إشارة إلى الغيبة، وظاهر أنّها، فجور، وعبور إلى طرف الإفراط من فضيلة العفّة، ولما فرغ عن بيان تركهم ما ينبغي شرع في بيان تعلمهم ما لا ينبغي فقال:

«يَعْمَلُونَ فِي الشُّبُهَاتِ»: أي لا يتوقفون فيما اشتبه عليهم أمره ولا يبحثون عن وجه الحق فيه بل يعملون فيه بما قادهم إليه الهوى «ويَسِیرُونَ فِي الشَّهَوَاتِ»: لمّا لحظ مشابهة مثل قلوبهم إلى شهواتها الدنيويّة، وانهماكها فيها قاطعة من أجل الأوقات بالتلذّذ بها لسلوك السائر في الطريق، ونحوها استعار لذلك السلوك لفظ السير.

«الْمَعْرُوفُ فِيهِمْ مَا عَرَفُوا والْمُنْكَرُ عِنْدَهُمْ مَا أَنْكَرُوا»: أي أن المعروف، والمنكر تابعان لأرادتهم وميولهم الطبيعيّة، فما أنكرته طباعهم كان هو المنكر بينهم، وإن كان معروفاً في الشريعة، وما اقتضته طباعهم، ومالت إليه كان هو المعروف بينهم، وإن كان منكراً في الدين، والواجب أن يكون إرادتهم، وميولهم تابعة لرواسم الشريعة في اتّباع ما كان فيها معروفاً، وإنكار ما كان فيها منكراً.

«مَفْزَعُهُمْ فِي الْمُعْضِلَاتِ إِلَی أَنْفُسِهِمْ وتَعْوِيلُهُمْ فِي الْمُهِمَّاتِ عَلَى آرَائِهِمْ»: كناية عن كون أحكامهم في كلّ ما يرد عليهم من مشكلات الدين تابعة لأهوائهم لا يجرونها على قانون شرعيّ يعرف حتّى اشتهت نفوسهم الأمّارة بالسوء الَّتي هي منبع الأهواء المخالفة لشريعة الأئمّة الَّتي يرجع إليهم في استفادة الأحكام «كَأَنَّ

كُلَّ امْرِئٍ مِنْهُمْ إِمَامُ نَفْسِهِ قَدْ أَخَذَ مِنْهَا فِياَ يَرَى بِعُرًى ثِقَاتٍ وأَسْبَابٍ مُحْكَمَاتٍ»: أي يتمسّك، فيما يراه ويحکم به بآراء كأنّها عنده عری، وثيقة لا يضلّ من تمسّك بها، ونصوص جليّة، وظواهر واضحة لا اشتباه فيها، وقد عرفت معنى الحكم، ولفظ العرى مستعار، وقد سبق وجهها وبالله العصمة.

ص: 241

ومن خطبة له عليه السّلام:

في تذكيرهم بنعمة الله تعالى الَّتي نفت ما كانوا فيه من بؤس وهي بعثة الرسول صلى الله عليه [وآله] وسلَّم، وما استلزمته من الخيرات ليعتبروا؛ فيشكروا ويخلصوا التوجّه إلى الله تعالى فأشار أوّلاً إلى النعمة المذكورة ثمّ أردفها بالأحوال المذمومة الَّتي تبدلَّت بتلك النعمة الجسيمة، وعدّ منها أموراً: أحدها: الفترة من الرسل قال عليه السلام:

«أَرْسَلَهُ عَلَى حِینِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ»: وظاهر أنّ خلوّ الزمان عن رسول فيه يستلزم وجود الشرور ووقوع الهرج والمرج، وتلك أحوال مذمومة يلحق ذلك الزمان بها من الذمّ بمقدار ما يلحق زمان وجود الرسول صلى الله عليه وآله وسلَّم من المدح.

«وطُولِ هَجْعَةٍ مِنَ الأُمَمِ»: كناية عن الغفلة في أمر المعاد، وسائر المصالح الَّتي ينبغي «واعْتِزَامٍ مِنَ الْفِتَنِ»: نسبة العزم إلى الفتن مجاز کنّی به عن، وقوعها بين الخلق المشبه لقصدها إيّاهم وروي كثرة بالراء المهملة أي على كثرة من الفتن واعتراض بدل إغترام ومعناه أن الفتن لما كانت غيروا واقعية على قانون شرعي ولا نضام مصلحي، ولذلك سمت فتنة لأجرم أشبهت المعترض في الطريق من الحيوان الماشي على غير استقامة، فلذلك استعير لها لفضة الاعتراض.

«وانْتِشَارٍ مِنَ الأُمُورِ»: أي تفرّق أمور الخلق وأحوالهم وجريان أفعالهم على غیر قانون عدليّ.

«وتَلَظٍّ مِنَ الْحُرُوبِ»: قد سبق تشبيه الحرب بالنار فلذلك أسند إليها التلظَّي على سبيل الاستعارة، وكنّي بها عن هیجانها، ووجودها بينهم زمان الفترة.

ص: 242

«والدُّنْيَا كَاسِفَةُ النُّورِ»: والواو للحال ومعناه کاسف نورها، وهو كناية عن وجود الأنبياء وما يأتون به من الشرائع، وما ينتج عنهم من الأولياء، والعلماء کناية بالمستعار، ووجه المشابهة ما يستلزم النور ووجود الأنبياء، والشرائع من الاهتداء بهما، ورشّح تلك الاستعارة بذكر الكسوف، وعبّر به عن عدم ذلك النور منها ملاحظة لشبهها بالشمس.

«ظَاهِرَةُ الْغُرُورِ»: أي كلّ قد اغترّ بها وانهمك في مشتهياتها وخدعته بخوادعها.

«عَلَى حِینِ اصْفِرَارٍ مِنْ وَرَقِهَ وإِيَاسٍ مِنْ ثَمَرِهَا واغْوِرَارٍ مِنْ مَائِهَا»: استعار لفظ الثمرة والورق لمتاعها وزينتها، ولفظ الاصفرار لتغيّر تلك الزينة عن العرب في ذلك الوقت، وعدم طلاوة عيشهم إذن، وخشونة مطاعمهم کما يذهب حسن الشجرة باصفرار ورقها؛ فلا يتلذّذ بالنظر إليها، وعنى بالإياس من ثمرها انقطاع آمال العرب إذن من الملك، والدولة، وما يستلزمه من الحصول على طيّبات الدنيا؛ فكذلك استعار لفظ الماء لموادّ متاع الدنيا، وطرق لذّاتها، ولفظ الإغورار لعدم ذلك الموادّ من ضعف التجارات، والمكاسب، وعدم التمليك للأمصار، وكلّ ذلك لعدم النظام العدليّ بينهم، وكلَّها استعارات بالكناية، ووجه الاستعارة الأولى أنّ الورق كما أنّه زينة الشجرة وبه کمالها، لذلك لذّات الدنيا، وحياة الدنيا وزينتها، ووجه الثانية أنّ الثمر كما أنّه مقصود الشجرة غالباً، وغايتها كذلك متاع الحياة الدنيا، والانتفاع به هو مقصودها المطلوب منها لأكثر الخلق، ووجه الثالثة أنّ الماء كما أنّه مادّة الشجرة وبه حياتها، وقيامها في الوجود كذلك مواد تلك اللذّات، وهي المكاسب، والتجارات، والصناعات، وقد كانت العرب خالية من ذلك، ووجوه باقي الاستعارات ظاهرة «قَدْ دَرَسَتْ(1)اعام الْهُدَى»: کنی بها عن

ص: 243


1- في بعض النسخ وردة: مَنَارُ

أئمّة الدين، وكتبه الَّتي بها يهتدی لسلوك سبيل الله، وبدروسها عن موت أولئك «وظَهَرَتْ أَعْلَامُ الرَّدَى»: وهم أئمّة الضلال الداعين إلى النار «فَهِيَ»: الدنيا «مُتَجَهِّمَةٌ»: متعبسه «لأَهْلِهَا عَابِسَةٌ فِي وَجْهِ طَالِبِهَا»: وكنّى بذلك عن عدم صفائها لهم؛ فإنّ طيب العيش في الدنيا إنّما يكون مع، وجود نظام العدل، والتصفية بين أهلها، وعدم التظالم، وذلك في زمان الفترة مفقود بين العرب، وهو كناية بالمستعار، ووجه المشابهة ما يلزمه المستعار عنه، وله من عدم تحصيل المطلوب معهما و«ثَمَرُهَا الْفِتْنَةُ»: أي غاية سعيهم فيها على حفظ في ظلمات جهلهم إنّما هو الفتنة: أي الضلال عن سبيل الله والتيه في ظلمات الباطل، وغاية كلّ شيء هو مقصوده فتشبه الثمرة الَّتي هي مقصود الشجرة فلذلك استعير لها لفظها.

«وطَعَامُهَا الْجِيفَةُ»: يحتمل أن يكون لفظ الجيفة هنا مستعارا لطعام الدنيا ولذّاتها، ووجه المشابهة أنّه لمّا كانت الجيفة عبارة عمّا نتن، وتغيّرت رائحته من جثّة حيوان وغيرها، فخبث مأكله، ونفر الطبع عنه كذلك طعام الدنيا، ولذّاتها في زمان الفترة أكثر ما يكون من النهب، والغارة، والسرقة، ونحوهما ممّا يخبث تناوله شرعاً، وينفر العقل منه، وتأباه کرائم الأخلاق، فأشبه ما يحصل من متاعها إذ الجيفة في خبثها، وسوء مطعمها، وإن كان أحد الخبيثين عقليّاً والآخر حسّياً؛ فاستعير لفظها له، ويحتمل أن يكنّى بالجيفة عمّا كانوا يأكلون في الجاهليّة من الحيوان غير مذکَّی، وهو ما حرّمه القرآن الكريم «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ»(1)أي المضروبة بالخشب حتّى تموت، ويبقى الدم فيها؛ فيكون أطيب کما زعم المجوس، والمترديّة: أي الَّتي تردّت من علوّ فماتت، فإنّ كلّ ذلك إذا مات؛ فكثيراً ما يتعفّن ويؤكل، فيصدق

ص: 244


1- سورة المائدة: الآية 3

أن طعامهم كان الجيفة.

«وشِعَارُهَا الْخَوْفُ ودِثَارُهَا السَّيْفُ»: استعارَ لفظ الشعار الدثار للخوف والسيف، ووجه الاستعارة الأولى أنّ الخوف، وإن كان من العوارض القلبيّة إلَّا أنّه كثيراً ما يستتبع اضطراب البدن، وانفعاله بالرعدة؛ فيكون شاملاً له شمول ما يتّخذه الإنسان شعاراً، ووجه الثانية أنّ الدثار والسيف يشتركان في مباشرة المدّثر والمضروب من فوقهما؛ ثم شرع في المقصود وقال:

«فَاعْتَبِرُوا عِبَادَ اللهِ واذْكُرُوا تِيكَ الحال الَّتِي آبَاؤُكُمْ وإِخْوَانُكُمْ»: كانوا عليها زمن الفترة، وزمان دعوة الرسول لكم من قبائح الأعمال فهم «بِهَا مُرْتَهَنُونَ»: أي محبوسون في سلاسل الهيئات البدنيّة وأغلال ما اكتسبوا منها «وعَلَيْهَا مُحَاسَبُونَ ولَعَمْرِي مَا تَقَادَمَتْ بِكُمْ ولَا بِهِمُ المْعُهُودُ ولَا خَلَتْ فِيمَا بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُمُ الأَحْقَابُ»: جمع حقب وهو الدهر ويقال الحقب ثمانون سنة «والْقُرُونُ ومَا أَنْتُمُ الْيَوْمَ مِنْ يَوْمَ

كُنْتُمْ فِي أَصْلَابِهِمْ بِبَعِيدٍ»: الحاق لهم بأيمانهم في تشبیه زمانِهِمْ بزمَانهم وتقارب ما بين الزمانين وتشبه أحَولهم بأحوالِهم في أمور احدها أن أولئك كانوا آبائكم وليس زمان الابن وحاله يبعد عن حال ابنه فيما يأتي ويذر الثاني «واللهِ مَا أَسْمَعَكُمُ الرَّسُولُ شَيْئا إِلَّا وهَا أَنَا ذَا مُسْمِعُكُمُوهُ»: فلا فرق بينكم وبينهم من هذه الجهة الثالثة «ومَا أَسْمَاعُكُمُ الْيَوْمَ بِدُونِ أَسْمَاعِكُمْ بِالأَمْسِ»: أي لا تفاوت بين أسماعكم واسمعاهم.

الرابع «ولَا شُقَّتْ لَهُمُ الأَبْصَارُ ولَا جُعِلَتْ لَهُمُ الأَفْئِدَةُ فِي ذَلِكَ الأوان(1)إِلاَّ وقَدْ أُعْطِيتُمْ مِثْلَهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ»: يعني سائر الآلات البدنية التي كانت لأولئك

ص: 245


1- ورد في بعض متون النهج: الزَّمَانِ

فاكتسبوا بها كمالاً أو لم يكتسبوا خاصة حاصلة لكم أيضاً الخامس «واللهِ مَا بُصِّرْتُمْ

بَعْدَهُمْ شَيْئاً جَهِلُوهُ»: أي أنكم لم تعلموا شيئاً كان أباءكم جهلوه حتی یکون ذلك سبباً للفرق بينكم وبين السادس «ولَا أُصْفِيتُمْ بِهِ»: أي شيء من الدنيا «وحُرِمُوهُ»: أي لم يكن لآباکم مثله، وغرضه، والله أعلم من إلحاقهم بآبائهم في هذه الأحوال أمران: أحدهما: التنفير عن حال من سبق من العاصين بمخالفة أو أمر الله تعالى.

الثاني: الجذب والترغيب في حال من سبق ممّن أطاع الله والرسول؛ فإنّه إذا حصلت المشابهة بينهم، وبين السابقين، والمتشابهان يتّحدان في اللوازم کان من تشبّه بسابق في عصیانه لزمه ما لزمه من أليم العقاب، ومن تشبّه به في طاعته وانقياده للهَّ لزمه ما لزمه من الوصول إلى جزيل الثواب.

«ولَقَدْ نَزَلَتْ بِكُمُ الْبَلِيَّةُ: يشبه أن يكون إنذاراً بابتلاء الخلق بدولة بني أميّة وملوكها.

«رِخْواً بِطَانُهَا»: هو الأحرام الذي يجعل تحت بطن البعير «جَائِلًا خِطَامُهَا» کناية بالمستعار عن خطرها، وصعوبة حال من يركن إليها؛ فإنّها لمّا كانت دولة خارجة عن نظام الشريعة جارية على، وفق الأوهام كان الراكن إليهم على خطر في دينه، ونفسه كما أنّ من ركن الناقة الَّتي جال خطامها، أي لم يثبت في وجهها وارتخي حزامها؛ فركبها كان على خطر أن تصرعه فيهلك، ثمّ أردف ذلك بالنهي عن الاغترار بما أصبح فيه أهل الغفلة من متاع الدنيا وطيّباتها.

ونفّر عنه باستعارة لفظ الظلّ له، ووجه المشابهة ما يشتركان فيه من كونه ممدودا ينتهي عند أجل ويزول به وبالله التوفيق.

ص: 246

«فَلَا يَغُرَّنَّكُمْ مَا أَصْبَحَ فِيهِ أَهْلُ الْغُرُور فَإِنَّمَا(1)ظِلٌّ مَمْدُودٌ إِلَی أَجَلٍ مَعْدُودٍ»: ونفّر عنه باستعارة لفظ الظلّ له، ووجه المشابهة ما يشتركان فيه من كونه ممدودا ينتهي عند أجل ويزول به وبالله التوفيق.

ومن خطبة له عليه السّلام

(2)«الْمَعْرُوفِ مِنْ غَیِرْ رُؤْيَةٍ»: قد سبق معنی معرفته تعالى وبيان كونه منزهاً عن الرؤية بحاسة البصر.

والْخَالِقِ(3)مِنْ غَیِرْ رَوِيَّةٍ»: وقد سبق أيضاً بيانه في قوله في الخطبة الأولى: بلا رويّة أجالها.

«الَّذِي لَمْ يَزَلْ قَائِماً دَائِماً»: وذلك لكون وجوب، وجوده مستلزماً لاستحالة عدمه أزلاً وأبداً.

ويجوز أن يريد بالقيام معنى الدائم الباقي، كما يجوز أن يريد القائم بأمور العالم، وللمفسّرين فيه على هذا الوجه أقوال: أحدها: عن ابن عبّاس رضي الله عنه کونه عالماً بالخلق أينما كانوا وضابطا لأحوالهم.

الثاني: قيامه توکيله الحفظة عليهم وهو المشار إليه بقوله تعالى «أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ»(4)الثالث: القائم على الشيء هو الحافظ له والمدبّر لأمره، هو المجازي بالأعمال.

ص: 247


1- ورد في بعض متون النهج: هُوَ
2- ورد في بعض متون النهج: الْحَمْدُ للهِ
3- في ورد بعض متون النهج: والْخَالِقِ
4- سورة الرعد: الآية 33

الخامس: هو القاهر لعباده المقتدر عليهم ثم إشارة إلى جهة اعتبار النية وقيامه بذاته وسبقه لكلّ ممكن ودوامه تقريراً لقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلَّم بقوله «إِذْ لَا سَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ»: جمع بروج «ولَا حُجُبٌ ذَاتُ إِرْتَاجٍ»: الإرتاح الإغلاق قيل يحتمل أن يريد بها السموات على ظاهر الشريعة، وأنه تعالى في السموات؛ فاشتبهت الحجب له واطلق لفضها عليها، وكونها ذات أرباح كناية عن عدم التمكن من فتحها، والدخول فيها کناية بالمستعار، وعندي أنه عليه السلام أراد بها الهيئات البدنية، ومحبة الدنيا والظلمات الحصالة للنفس الحاجة لها عن مشاهد أنوار جلال الله حتى كأنها أفعال عليها كما قال عز من قائل «أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا»(1)«ولاَ لَيْلٌ دَاجٍ»: مظلم «ولاَ بَحْرٌ سَاجٍ»: ساکن «ولاَ جَبَلٌ ذُو «فِجَاجٍ»: اتساع «ولَا فَجٌّ»: طريق «ذُو اعْوِجَاجٍ ولَا أَرْضٌ ذَاتُ مِهَادٍ»: مستقر مع تحريك الأفلاك كما كان أن الجنة والنار مهاداً لأهلهما مع تحريك الأفلاك التي هما فيه «ولَا خَلْقٌ ذُو اعْتِمَادٍ»: ذو قوة وبطش «ذَلِكَ»: الموصوف المذكورة «مُبْتَدِعُ الْخَلْقِ»: مخترعة من غير مثال سبق «ووَارِثُهُ»: أي كما أنه مبدأ فهو مآله ومرجعه وذلك إشارة إلى كونه دائماً قائماً لم يزل ولا يزال «وإِلَهُ الْخَلْقِ» كونه إلهاً اعتبار ويلحقه إلى أتخاذه لهم واستعباده إياهم «ورَازِقُهُ»: هو اعتبار بالقياس إلى إضافة سائر نعمه عليهم.

«والشَّمْسُ والْقَمَرُ دَائِبَانِ فِي مَرْضَاتِهِ»: على وفق إرادته للخير المطلق والنظام الكلي، وذكرهما في معرض تمجيده لكونهما من أعظم آیات ملکه «يُبْلِيَانِ كُلَّ

جَدِيدٍ»: نسب الإبلاء إليهما لكون حركاتهما من الأسباب لحدوث الحوادث في هذا العالم وتغيّراته.

ص: 248


1- سورة محمد: الآية 24

«ويُقَرِّبَانِ كُلَّ بَعِيدٍ»: وفيه جذب إلى ذكر المعاد والعمل له؛ فكونهما يبلیان كلّ جدید منبّه على عدم الثقة، والاعتماد على ما يروق، ويعجب من حسن الأبدان وجدتها، وكذلك ما يحدث، ويتجدّد من قينات الدنيا، ولذّاتها لوجوب دخولها فيما يبلى، وكونهما يقرّبان البعيد تنبيه مع ذلك على الحذر ممّا يستبعده أهل الغفلة من الموت، والفناء في حال صحّة أبدانهم، وسلامتهم في حياتهم الدنيا.

«قَسَمَ أَرْزَاقَهُمْ»: «يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ»(1)«ومَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ مِنَ الضَّمِیِرِ ومُسْتَقَرَّهُمْ ومُسْتَوْدَعَهُمْ مِنَ الَأرْحَامِ والظُّهُورِ»: قال عز سلطانه «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ»(2)«وأَحْصَى آثَارَهُمْ وأَعْمَالَهُمْ وعَدَدَ أَنْفُسِهِمْ وخَائِنَةَ أَعْيُنِهِمْ(3)إِلیَ أَنْ تَتَنَاهَى بِهِمُ الْغَايَاتُ»: أي يعلم كلّ أحوالهم من حين ابتدائهم إلى أن يقف كلّ عند غايته المكتوبة له من خير أو شرّ.

«هُوَ الَّذِي اشْتَدَّتْ نِقْمَتُهُ عَلَى أَعْدَائِهِ فِي سَعَةِ رَحْمَتِهِ واتَّسَعَتْ رَحْمَتُهُ لأَوْلِيَائِهِ فِي

شِدَّةِ نِقْمَتِهِ»: وأشار بذلك إلى کمال ذاته بالنسبة إلى ملوك الدنيا مثلاً؛ فإنّ أحدهم في حالة غضبه على عدوّه لا يتّسع لرحمته ولا رحمة غيره، وكذلك في حال رحمته لأوليائه لا يجتمع معها غضبه عليهم، ولمّا ثبت أنّه تعالى هو الغنيّ المطلق المنزّه عن صفات المخلوقين، وأنّه المعطى لكلّ قابل ما يستحقّه من غير توقّف في وجوده على أمر من ذاته، وكان أعداء الله مستعدّون ببعدهم عنه، ولقبول سخطه وشدّة نقمته في الآخرة لا جرم أولاهم ذلك، وإن كانوا في الدنيا في سعة رحمته

ص: 249


1- سورة غافر: الآية 19
2- سورة هو: الآية 6
3- ورد: في بعض متون النهج

وشمول نقمته، وكذلك أولياؤه لمّا استعدّوا لقبول رحمته، وسعت نعمته أفاضها عليهم فهم في حضرة قدسه على غاية من البهجة، والسعادة وضروب الكرامة وإن كانوا بأجسادهم في ضروب من العذاب، وشقاوة الفقر والضنك في الدنيا، وذلك لا يملكه إلَّا حليم لا يشغله غضب عن رحمته، عدل حکیم لا تمنعه رحمته عن إنزال عقوبته «قَاهِرُ مَنْ عَازَّهُ»: غالبة إنّه تعالى قاهرٌ باعتبار أنّه قاصم ظهور الجبابرة من أعدائه فيقهرهم بالموت والإذلال كفرعون إذ قال «فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ٭ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى»(1)وهو الَّذي يلحق هذا الاعتبار مطلقاً إذ كلّ موجود؛ فهو مسخّر تحت قدرته وقهره عاجز في قبضته.

«ومُدَمِّرُ مَنْ شَاقَّهُ»: خالقة وابتغ غير سبيله من بعده ما يتبيّن لهم الهدی «ومُذِلُّ مَنْ نَاوَاهُ»: أعراض عن أوامره واتّبع الشهوات وإذلاله له هو إفاضته لصورة الحاجة إلى غيره(2)«مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ ومَنْ سَأَلَهُ أَعْطَاهُ ومَنْ أَقْرَضَهُ قَضَاهُ ومَنْ شَكَرَهُ جَزَاهُ»: وهذه الاعتبارات تعود إلى حرف، واحد وهو أنّ العبد إذا استعدّ بحسن التوكَّل، والسؤال والصدقة، والشكر لنعم الله، وجب في جود الله وحكمته إفاضة كفايته؛ فيما توكَّل عليه فيه فكفايته من الكمالات إفاضة تمامها عليه، ومن رفع النقصانات دفعها عنه؛ ثمّ إعطاؤه ما سأل إذا استعدّ لقبوله؛ ثمّ أداؤه عن قرضه أضعافه؛ ثمّ جزاؤه على شكر زيادة إنعامه، وأطلق لفظ القرض لما يعطى الفقير مجازاً کما قال تعالى «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا»(3)أي بريئاً من جهات الرياء، والسمعة خالصاً لوجه الله؛ فيضاعفه له أضعافاً كثيرة،

ص: 250


1- سورة النازعات: الآيات: 24 - 25
2- في بعض متون النهج: وغَالِبُ مَنْ عَادَاهُ
3- سورة البقرة: الآيات: 245

ووجه المناسبة كون الفقراء أهل الله، وعياله فكان المعطي هو الله تعالى، ثم شرع في الشَوّرِ(1)والموعظة فقال «عِبَادَ اللهِ زِنُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُوزَنُوا»: زنة النفوس في الدنيا اعتبار أعمالها، وضبطها بميزان العدل: أي مراعاة استقامتها على حاقّ الوسط في طرفي الإفراط، والتفريط اللذيّن هما ككفّتي الميزان مهما رجحت إحداهما فالنقصان لازم والخسران قائم، وأمّا الميزان الأخروي؛ فأمّا على رأي المتكلَّمين وظاهر الشريعة؛ فظاهر وأمّا على رأي محقّقي السالكين من الصوفيّة فما قيل: من أنّ تعلَّق النفس بالجسد کالحجاب لها عن حقائق الأمور وبالموت ينكشف الغطاء کما قال تعالى «فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ»(2)وممّا ينكشف له تأثير أعماله؛ فيما يقرّبه إلى الله تعالى، ويبعّده عنه، ومقادير تلك الآثار، وأنّ بعضها أشدّ تأثيراً من بعض، وفي قدرة الله تعالى أن يجرى شيئاً يعرف الخلق به في لحظة واحدة مقادير الأعمال بالإضافة إلى تأثيراتها في التقريب، والإبعاد فحدّ الميزان ما يتميّز الزيادة والنقصان، وإن اختلف مثاله في العالم المحسوس؛ فمنه الميزان المعروف، ومنه القبّان والاضطراب لحركات الفلك، والمسطرة لمقادير الخطوط، والعروض لمقادير حركات الأصوات؛ فهذه كلَّها أمثلة للميزان الحقيقيّ، وهو ما يعرف به الزيادة والنقصان، وصورته تكون للحسّ عند التشكيك، وللخيال بالتخيل.

ص: 251


1- ورد في بعض النسخ الشصور: وهو الأصح ولعله سقط من المصنف، والشصور: هو: أصل يدل على وصل شيء بشيء من ذلك الشصار، خشبة تشد من منخري الناقة تقول شصرتها أشصرها تشصيراً. وهذا ما ذكره أحمد بن فارس في معجم مقايس اللغة: ج 3 ص 183 والمعنى أنه عليه السلام استخدم الشصر في الموعظة وهو اسلوب متسلسل يراد به ترويض النفوس کما توضع خشبة في منخر الناقة لترويضها وقيادتها
2- سورة ق: الآية 22

«وحَاسِبُوهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تُحَاسَبُوا»: محاسبة النفس ضبط الإنسان على نفسه أعمالها الخيريّة، والشريّة ليزکَّيها بما ينبغي لها، ويعاقبها على فعل ما لا ينبغي، وهي باب عظيم من أبواب المرابطة في سبيل الله؛ فإنّ للعارفين في سبيل الله، ومرابطتهم مع أنفسهم مقامات ستة: الأولى: المشارطة ثمّ المراقبة ثمّ المحاسبة ثمّ المعاتبة ثمّ المجاهدة ثم المعاقبة.

وضربوا لذلك مثالاً فقالوا: ينبغي أن يكون حال الإنسان مع نفسه كحاله مع شریکه إذا سلَّم إليه مالاً ليتّجر به؛ فالعقل هو التاجر في طريق الآخرة، ومطلبه وربحه تزكية النفس إذ بذلك؛ فلاحها كما قال تعالى «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ٭ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا»(1)وإنّما علاجها بالأعمال الصالحة؛ فالعقل يستعين بالنفس في هذه التجارة إذا يستسخرها؛ فيما يزکَّيها كما يستعين التاجر بشریکه، وكما أنّ الشريك يصير خصماً منازعاً یجاذبه في الربح؛ فيحتاج أن يشارطه أوّلاً، ويراقبه ثانياً، ويحاسبه ثالثاً، ويعاتبه، أو يعاقبه رابعاً، فكذلك العقل يحتاج إلى مشارطة النفس أوّلاً؛ فيوظَّف عليها الوظائف، ويأمرها بسلوك طريق الحقّ، ويرشدها إليها، ويحرّم عليها سلوك غيرها كما يشترط التاجر على شريکه.

الثانية: أن لا يغفل عن مراقبتها لحظة؛ فلحظة عند حظوظها في الأعمال ويلاحظها بالعين الكالئة وإلى مقام المراقبة الإشارة بقوله تعالى «وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ»(2)«وَالَّذِينَ هُمْ

ص: 252


1- سورة الشمس: الآية 9 - 10
2- سورة المؤمنون: الآية 8

بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ»(1)وقوله صلى الله عليه [وآله] وسلَّم «أعبد الله كأنّك تراه»(2)، وقد سبق بيان حقيقة المراقبة ولا بدّ منها؛ فإنّ الإنسان لو غفل عن نفسه، وأهملها لم ير منها إلَّا الخيانة، وتضييع رأس المال كالعبد الخائن إذا انفرد بمال سیّده.

الثالثة: ثمّ بعد الفراغ من العمل ينبغي أن يحاسبها، ويطالبها بالوفاء بما شرط فإنّ هذه تجارة ربحها الفردوس الأعلى؛ فتدقيق الحساب في هذا أهمّ من التدقيق في أرباح الدنيا لحقارتها بالنسبة إلى نعيم الآخرة؛ فلا ينبغي أن يهمل من مناقشتها في ذرّة من حركاتها وسکناتها وخطراتها ولحظاتها؛ فإنّ كلّ نفس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة لا عوض لها يمكن أن يشتری بما کنزه من كنوز الآخرة لا يتناهی قالوا: وينبغي للإنسان أن يخلو عقيب فريضة كلّ صبح مع نفسه بالوصيّة ويقول: أي نفس ليس لي بضاعة إلَّا العمر ومهما فنی فقد فنی رأس مالي، ووقع اليأس من التجارة وطلب الربح، وهذا يوم جديد قد أمهلني الله فيه، وهو صاحب البضاعة وربّها ولو توفّاني لقلت: ربّ ارجعون لعلَّى أعمل صالحاً فيما تركت: فاحسبي إنّك رددت؛ فإيّاك وتضييع هذا اليوم والغفلة فيه، واعلمي أنّ اليوم والليلة أربع وعشرون ساعة، وقد ورد في الخبر أنّه يفتح للعبد في كلّ يوم، وليلة أربع وعشرون خزانة مصفوفة، فيفتح لها فيها خزانة؛ فيراها مملوّة نوراً من حسناته الَّتي عملها في تلك الساعة فينال من الفرح، والاستبشار بمشاهدة تلك الأنوار مالو قسّم على أهل النار لأغناهم عن الإحساس بآلامها، ويفتح له خزانة أخرى، فيراها سوداء

ص: 253


1- سورة المعارج: الآية 33
2- يُنظر المعجم الكبير للطبراني: ج 20 ص 175؛ والأمالي للشيخ الطوسي: ص 526، في مکارم الأخلاق للشيخ الطبرسي: ص 459؛ وشرح النهج لابن میثم البحراني: ج 2 ص 208؛ كذلك في مجمع الزوائد: للهيثمي: ج 2 ص 40؛ ومثله في فتح الباري لابن حجر: ج 2 ص 188

مظلمة يفوح نتنها، ويغشاهم ظلامها، وهي الساعة الَّتي عصا الله تعالى فيها؛ فينا له من الهول، والفزع ما لو قسمّ على أهل الجنّة لنغض عليهم نعيمها، ويفتح له خزانة أخرى؛ فارغة ليس فيها مایسرّه، وما يسوءه وهي الساعة الَّتي نام فيها أو غفل في شيء من مباحات الدنيا؛ فيتحسّر على خلوّها، ويناله من الغبن الفاحش ما ينال من قدر على ربح كثير ثمّ ضيّعه، و إليه الإشارة بقوله تعالى «يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ»(1)وقال بعضهم: هب أنّ المسيء قد عفی عنه أليس؛ فاته ثواب المحسنين، وهو إشارة إلى الغبن، والحسرة يومئذ، ثمّ يستأنف، وصيّته لأعضائه السبعة: وهي العين والأذن، واللسان، والبطن، والفرج واليد، والرجل، ويسلَّمها إليها؛ فإنّها رعایا خادمة لها في التجارة، وبها يتمّ أعمال هذه التجارة، وأنّ لجهنّم سبعة أبواب لكلّ باب منهم جزء مقسوم، وإنّما يتعيّن تلك الأبواب لمن عصى الله تعالى بهذه الأعضاء، ويوصى كلّ عضو بما ينبغي له، وينهاه عمّا لا ينبغي له، ويرجعه في تفصيل تلك الأوامر، والنواهي إلى مراسم الشريعة ثمّ يشترط عليها؛ إن خالفت ذلك عاقبها بالمنع من شهواتها، وهذه الوصيّة قد تكون بعد العمل، وقد تكون قبله للتحذير كما قال تعالى «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ»(2)الرابعة: المجاهدة والمعاقبة، وهو بعد المحاسبة؛ إذا رأى نفسه قد تاقت معصية؛ فينبغي أن يعاقبها بالصبر عن أمثالها، ويضيّق عليها في مواردها وما يقود إليها من الأمور المباحة، وإن رآها توانت وکسلت عن شيء من الفضائل وورد من الأوراد؛ فينبغي أن يؤدّ بها بتثقيل الأوراد عليها، ويلزمها فنوناً من الطاعات جبراً لما فات؛ روى: أنّ ابن عمر أخّر صلاة المغرب حتّى طلع كوكبان فأعتق رقبتين.

ص: 254


1- سورة التغابن: الآية 9
2- سورة البقرة: الآية 235

الخامسة: توبيخ النفس ومعاتبتها، وقد علمت أنّ لك نفساً أمّارة بالسوء ميّالة إلى الشرّ، وقد أمرت بتقويمها، وقودٌ بسلاسل القهر، إلى عبادة ربّها وخالقها، وبمنعها عن شهواتها، ولذّاتها المألوفة، فإن أهملتها شردت، وجمحت، ولم تظفر بها بعد ذلك، وإن لازمتَّها بالتوبيخ، والمعاتبة واللائمة كانت نفسك هي النفس اللوّامة، وسبيل المعاتبة أن تذكَّر النفس عيوبها، وما هي عليه من الجهل، والحمق وما بين يديها من مغافصة(1)الموت، وما تؤول إليه من الجنّة، والنار وما عليه اتّفاق كلمة أولياء الله الَّذين هم بتسليمها سادات الخلق ورؤساء العالم من وجوب سلوك سبيل الله ومفارقة معاصيه، وتذكيرها بآيات الله، وأحوال الصالحين من عباده. فهذه محاسبات النفس ومرابطاتها، وأمّا حسابها الأخرويّ فقد سبقت الإشارة إليه.

«وتَنَفَّسُوا قَبْلَ ضِيقِ الْخِنَاقِ»: استعار لفظ النفس لتحصيل الراحة، والبهجة في الجنّة بالأعمال الصالحة في الدنيا المستلزمة لها كما يستلزم النفس راحة القلب من الكرب، واستعار لفظ الخناق من الحبل المخصوص للموت، ووجه المشابهة ما يستلزمه ضيق الخناق، والموت من عدم التمکَّن، والتصرّف، والعمل: أي انتهزوا الفرصة للعمل قبل تعذّره بزوال وقته وضيقه.

«وانْقَادُوا قَبْلَ عُنْفِ السِّيَاقِ»: أي انقادوا لأوامر الله إلى طاعته قبل السوق العنيف وهو سوق ملك الموت بالجذبة المكربة كما سبق.

«واعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ لَمْ يُعَنْ عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى يَكُونَ لَهُ مِنْهَا وَاعِظٌ وزَاجِرٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ

ص: 255


1- المغافصة: أي أخذته على غرة فركبته بمساءة، والاسم الغفصة مثل الخلسة: يُنظر العين للخليل الفراهيدي ج 4 ص 373، والمعنى يجب مراقبة النفس وأعمالها وتحذيرها من مخالسة الموت عند حلوله لأنه يأتي في الغالب على حين غفلة

مِنْ غَيْرِهَا لَا زَاجِرٌ ولَا وَاعِظٌ»: أي من لم يعنه الله على نفسه، وإعانته له هو إعداد العناية الإلهيّة لنفسه الناطقة أن تقبل السوانح الخيريّة، وتأييدها بها على النفس الأمّارة بالسوء لتقوی بتلك السوانح على قهرها، وعلى الانزجار عن متابعتها والانجذاب إلى ما تدعوها إليه من الشهوات؛ فإنّه متى لم يكن لها ذلك الاستعداد والقبول لم ينفعها، وعظ غيرها، ولم يقبله إذ لا قبول بدون استعداد للمقبول، وفي ذلك تنبيه على وجوب الاستعانة بالله في أحوال النفس ودفع الشيطان عنها وبالله التوفيق.

ومن خطبة له عليه السلام تعرف بخطبة الأشباح وهي من جلائل خطبه:

رَوَى مَسْعَدَةُ بْنُ صَدَقَةَ عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عليه السام أَنَّه قَالَ: خَطَبَ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ بِهَذِه الْخُطْبَةِ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ وذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا أَتَاه فَقَالَ لَه يَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ صِفْ لَنَا رَبَّنَا مِثْلَ مَا نَرَاه عِيَاناً لِنَزْدَادَ لَه حُبّاً وبِه مَعْرِفَةً فَغَضِبَ

ونَادَى الصَّلَاةَ جَامِعَةً فَاجْتَمَعَ النَّاسُ حَتَّى غَصَّ الْمَسْجِدُ بِأَهْلِه فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ وهُوَ مُغْضَبٌ مُتَغَیِّرُ اللَّوْنِ فَحَمِدَ الله وأَثْنَى عَلَيْه وصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ثُمَّ قَالَ: «الْحَمْدُ للهَّ الَّذِي لَا يَفِرُه الْمَنْعْ»(1): أي لا يتزيّد بما حرمه ومنعه من

فضله.

«ولَا يُكْدِيه»: ولا تنقصه «الإِعْطَاءُ والْجُودُ»: ثمّ ردّ حكم الوهم عليه سبحانه بدخوله في عموم المنتقصين بالعطايا بقوله: «إِذْ كُلُّ مُعْطٍ مُنْتَقِصٌ سِوَاه»: وكذلك قدّسه عن الدخول في زمرة المذمومين بمنعهم ما في أيديهم عن طالبه بقوله: «وكُلُّ

ص: 256


1- في بعض النسخ ورد: والْجُمُودُ

مَانِعٍ مَذْمُومٌ مَا خَلَاه»: فكانت هاتان القضيّتان مؤکَّدتين للأوليين، وبرهانهما أنّ التزيّد بالمنع، والتنقّص بالإعطاء إنّما يطلق في حقّ من ينتفع، ويتضرّر بالزيادة والنقصان، والانتفاع، والتضرّر على الله محال؛ فالتزيّد والتنقّص عليه محال، ولأنّهما يقضيان عليه بالحاجة والإمكان، ولأنّ مقدوراته غير متناهية، ونبّه بقوله: إذ على جهة الفرق بينه وبين خلقه، وإنّما انتقص المعطى من خلقه لحاجته إلى ما يعطيه وانتفاعه به، وإنّما استحقّ المانع منهم الذمّ دونه سبحانه؛ لكون ما يصدر عنه من منع، وإعطاء مضبوطاً بنظام الحكمة، والعدل دون غيره من المانعين؛ فإنّ غالب منعهم يكون عن شحّ مطاع، وهوى متّبع، واعلم أنّ صدق الكلَّيّة في المنتقصين(1)بالعطاء ظاهر، وأمّا في المذمومين بالمنع؛ فتحقيقها أنّ كلّ مانع للمال؛ فهو إنّما يمنعه خوف الفقر ونحوه، وظاهر أنّ الخائف من الفقر في الدنيا محبّ لها، وهو بمعزل عن عباد الله المتوكَّلين عليه؛ الزاهدين في متاع الدنيا وقیناتها، وإذا كان العبد مأموراً بأن يكون من هؤلاء وفي زمرتهم فبالحريّ أن يكون مستحقّاً للذمّ على ما يمنعه من ماله فيكون حجاباً لوجهه عن النظر إلى وجه الله الكريم فصدق الكلَّيّة إذن ظاهر. وفي أدعية زين العابدين عليه السّلام: «یا من لا يزيده كثرة العطاء إلَّا جودا»(2)وفيه سّر لطيف؛ فإنّه لمّا كان جوده سبحانه غير متوقّف إلاَّ على وجود الاستحقاق، وكانت كلّ نعمة صدرت عنه معدّة لمحلَّها، ومهيّئة له لقبول نعمة؛ أخرى كانت كثرة عطائه مستلزماً لكثرة الأعداد المستلزمة لزيادة الجود.

ص: 257


1- الكلَّيّة في المنتقصين: من المسائل المنطقية المستعملة في القضايا بمعنى القضية الكلية، التي منها تكون سالبة الكلية أو موجبة، والكلية لفظ يُستعمل في قياس المنطق للقضايا، وتركنا التفصيل رعايةً للاختصار، إن شأت فراجع
2- الكافي للشيخ الكليني: ج 3 ص 328، دلائل الإمامة لمحمد بن جرير الطبري الشيعي: ص 544، والغيبة للشيخ الطوسي: ص 261

«وهُوَ الْمَنَّانُ بِفَوَائِدِ النِّعَمِ وعَوَائِدِ الْمَزِيدِ والْقِسَمِ»: المنّة تذكير المنعم للمنعم عليه بنعمته، والتطاول عليه بها كقوله تعالى «يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ»(1)في غير موضع من كتابه، وهي صفة مدح للحقّ سبحانه، وإن كانت صفة ذمّ لخلقه، والسبب الفارق كون كلّ منعم سواه؛ فيحتمل أن يتوقّع لنعمته جزاء، ويستفید کما لا يعود إليه؛ ممّا أفاده وأيسره توقّع الذكر الجميل، ويقبح ممّن يقابل بنعمته، ويتوقّع لها جزاء أن يمّن بها لما يستلزمه المنّ من التطاول والكبر، وتوقّع الجزاء والحاجة؛ إليه مع التطاول، والكبر ممّا لا يجتمعان في العرف، إذ التطاول، والكبر إنّما يليقان بالغنىّ عن ثمرة ما تطاول به، ولأنّ التطاول ممّا يتأذّی به المنعم عليه؛ فیبطل بذلك استعداد نفس المنعم لقبول رحمة الله، وجزائه، ولذلك ورد النهي عن المنّة في قوله عز وعلا «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى»(2)فجعلهما سبباً لبطلان الصدقة أي: عدم استحقاق ثوابها، وفوائد النعم: ما أفاد منها، وعوائد المزيد والقسم معتادهما.

«عِيَالُه الْخَلَائِقُ ضَمِنَ أَرْزَاقَهُمْ وقَدَّرَ أَقْوَاتَهُمْ»: استعار لفظ العيال للخلق بالنسبة إلى ربّهم، ووجه المشابهة أنّ عيال الرجل هو من جمعهم ليقيهم، ويصلح حالهم كذلك الخلق إنّما خلقهم، وجمعهم تحت عنایته ليصلح أحوالهم في معاشهم ومعادهم، وكذلك استعار لفظ الضمان لما، وجب في الحكمة الإلهيّة من، وجود ما لا بدّ منه في تدبير إصلاح حالهم من الأقوات والأرزاق، وتقدير أقواتهم إعطاء كلّ ما كتب له في اللوح المحفوظ من زائد وناقص.

«ونَهَجَ سَبِيلَ الرَّاغِبِینَ إِلَيْه والطَّالِبِینَ مَا لَدَيْه»: وذكر أوّلاً ما يصلح حالهم

ص: 258


1- سورة البقرة: الآية 47
2- سورة البقرة: الآية 264

في الدنيا، وهو ضمان الأرزاق، وتقدير الأقوات؛ ثمّ أردفه بما هو سبب صلاح حالهم في الآخرة من نهج السبيل، وإيضاخه، وأشار به إلى إيضاح الشريعة لطريق السالكين الراغبين في النظر إلى، وجهه الكريم، والطالبين لما عنده من النعيم المقيم.

«ولَيْسَ ممَا سُئِلَ بِأَجْوَدَ مِنْه بِمَا لَمْ يُسْأَلْ»: ويستلزم بيان هذا الوصف إشارة لطيفة، وهو أنّ فيضان ما صدر عنه سبحانه له اعتباران: أحدهما: بالنظر إلى جوده، وهو من تلك الجهة غير، مختلف في جميع الموجودات؛ بل نسبتها إليه على سواء بذلك الاعتبار؛ فلا يقال: هو بكذا أجود منه بكذا، وإلَّا لاستلزم ذلك أن يكون ببعض الأشياء أبخل أو إليها أحوج فيلزمه النقصان تعالى الله عن ذلك، والثاني: بالنظر إلى الممكن نفسه، والاختلاف الواقع في القرب، والبعد إلى جوده إنّما هو من تلك الجهة؛ فكلّ ممكن كان أتمّ استعدادا، وأقبل للوجود، وأقلّ شرطاً، ومعانداً كان أقرب إلى جوده؛ إذا عرفت ذلك؛ فاعلم أنّ السائل، وإن حصل له ما سأل من الله تعالى دون ما لم يسأل؛ فليس منعه ما لم يسأله لعزّته عند الله، وليس بينه، وبين ما سئل بالنسبة إلى جود الله تعالى؛ فرق وتفاوت بل إنّما خصّ بما سأل لوجوب وجوده له عند تمام قبوله له بسؤاله دون ما لم يسأله ولو سئل ما لم يسأله واستحقّ وجوده لما كان في الجود الإلهيّ بخل به، ولا منع في حقّه، وإن عظم خطره، وجلّ قدره ولم يكن له أثر نقصان في خزائن ملکه وعموم جوده، وإلى هذا أشار علیّ بن موسی الرضا عليه السّلام، وقد سئل عن الجواد فقال: «لسؤالك وجهان إن أردت المخلوق فالَّذي يؤدّي ما افترض الله عليه والبخيل الَّذي يمنع ما افترض الله عليه وإن أردت الخالق فهو الجواد إن أعطى وإن منع لأنّه إن أعطى؛ أعطى من له وإن منع؛ منع من ليس له»(1)؛ فقوله: له وليس له، إشارتان إلى أنّ

ص: 259


1- يُنظر الكافي: للشيخ الكليني ج 4 ص 39؛ والتوحيد: للشيخ الصدوق ص 373؛ كذلك الخصال: للشيخ الصدوق: ص 43؛ ومثله: في عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق: ج 1 ص 129؛ وفي معاني الأخبار للصدوق أيضاً: ص 257؛ وتحف العقول لابن شعبة الحراني: ص 408 وشرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني: ج 2 ص 326؛ ومشكاة الأنوار لعلي الطبرسي: ص 407

الجود الإلهيّ إنما يهب، ويتوقّف في هبته على وجود المستحقّ، وقد نزّهه عليه السّلام بهذا الوصف عن صفة الخلق؛ إذ كان من شأنهم أن يكونوا بما سئلوا أجود منهم بما لم يسألوا لكونه أسهل عليهم، ومن شأن السائل أن لا يسألهم ما هو أعزّ عندهم ولذلك كانوا بما سئلوا أجود.

«الأَوَّلُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَه قَبْلٌ فَيَكُونَ شَيْءٌ قَبْلَه والآخِرُ الَّذِي لَيْسَ له بَعْدٌ فَيَكُونَ شَيْء بَعْدَه»: قد أشرنا إلى هذين الوصفين؛ فيما سلف ونزيدهما بيانا فنقول: الأوليّة والآخریّة اعتباران إضافيّان تحدثهما العقول لذاته المقدّسة، وذلك أنّك إذا لاحظت ترتيب الوجود في سلسلة الحاجة إليه سبحانه، وجدته تعالى بالإضافة إليها أوّل إذ كان انتهائها في سلسلة الحاجة إلى غناه المطلق؛ فهو أوّل بالعليّة، والذات والشرف، وإذ ليس بذي مكان، فالتقدّم بالمكان منفىّ عنه والزمان متأخّر عنه؛ إذ هو من لواحق الحركة المتأخّرة عن الجسم المتأخّر عن علَّته؛ فلم يلحقه القبليّة الزمانيّة فضلاً أن تسبق عليه؛ فلم يكن شيء قبله مطلقاً لا من الزمانيّات، ولا من غيرها وإذا اعتبرته بالنظر إلى ترتيب السلوك، ولاحظت مراتب السالكين المسافرين في منازل عرفانه، وجدته آخرا إذ هو آخر ما ترتقي إليه درجات العارفين، ومعرفته هي الدرجة القصوى والمنزل الآخر، ولأنّ كلّ موجود سواه؛ فهو ممكن العدم فله من ذاته أن لا يستحقّ، وجودا فضلا أن يستحقّ الآخریّة، والبعديّة المطلقة، وهو تعالى الواجب لذاته، فهو المستحقّ لبعديّة الوجود، وآخریّته لذاته، وبالقياس إلى كلّ موجود قادر، هو الأوّل المطلق الَّذي لا شيء قبله، والآخر المطلق الَّذي لا شيء

ص: 260

بعده.

«والرَّادِعُ أَنَاسِيَّ الأَبْصَارِ عَنْ أَنْ تَنَالَه أَوْ تُدْرِكَه»: وقد سبق أنّ القوّة الباصرة إنّما تتعلَّق بذي وضع وجهة والله سبحانه منزّه عنهما فيستحيل أن يدرك بحاسّة البصر وردعه ها قهرها بذلّ النقصان عن قبول إدراکه «مَا اخْتَلَفَ عَلَيْه دَهْرٌ فَيَخْتَلِفَ مِنْه الْحَالُ»: لمّا كان الزمان مبدءا للتغيّرات واختلاف الأحوال، وكان ذاته سبحانه منزّهة عن لحوق الزمان كانت مبرّءة عن تغيّر الأحوال الجارية على الزمانیّات واختلافها.

«ولَا كَانَ فِي مَكَانٍ فَيَجُوزَ عَلَيْه الِانْتِقَالُ»: لمّا كان من شأن ذي المكان جواز أن ينتقل من مكانه، وكان سبحانه منزّهاً عن المكان وإلَّا لزمه النقصان اللازم للإمكان لا جرم لم يجز عليه الانتقال.

«ولَوْ وَهَبَ مَا تَنَفَّسَتْ»: انفرجت «عَنْه مَعَادِنُ الْجِبَالِ وضَحِكَتْ عَنْه أَصْدَافُ الْبِحَارِ مِنْ فِلِزِّ اللُّجَیْنِ»: خالص الفضة «والْعِقْيَانِ»: الذهب «ونُثَارَةِ الدُّرِّ»: ما انتثر «وحَصِيدِ الْمَرْجَانِ مَا أَثَّرَ ذَلِكَ فِي جُودِه ولَا أَنْفَدَ سَعَةَ مَا عِنْدَه ولَكَانَ عِنْدَه مِنْ ذَخَائِرِ الأَنْعَامِ مَا لَا تُنْفِدُه مَطَالِبُ الأَنَامِ»: إنّما عدّد هذه الأشياء في معرض المدح له تعالى لكونها؛ أعظم ما يقتدر عليه الإنسان، ويقتنيه وأجلّ ما يتنافس فيه أبناء الدنيا تنبيهاً على کمال قدرته، وعدم تناهی مقدوراته؛ إذ سبق أنّه إنّما يتأثّر بهبة مثل ذلك جود المحتاجين الَّذين يتعاقب عليهم الانتفاع والتضرّر، واستعار لفظ الضحك للأصداف، ووجه الشبه انفتاح الصدفتين، وإسفارهما عن اللؤلؤ الشبيه في بدوّة بأسنان الإنسان حال ضحكه وعن لحمة تشبه اللسان في رقّة طرفه ولطافته ومن صادف الصدفة عند فتحها وجدها كالإنسان يضحك، وكذلك استعار لفظ الحصيد لصغار اللؤلؤ ملاحظة لشبهه بما يحصد من الحنطة، وغيرها،

ص: 261

واعلم أنّ الصدف، وإن كان حيواناً ذو حسّ، وحركة إلَّا أنّ له شبهاً بالنبات ولحوقاً به من جهة أنّه ذو عرق في الأرض يغتذي به، وقد أجمل ما يخرج من معادن البرّ، والبحر لتمیيز السامع بينهما، ثم علل عدم تأثير جوده بهبة ما يعظم قدره، ونقصان خزائنه بإخراجه منها بقوله:

«لأَنَّه الْجَوَادُ الَّذِي لَا يَغِيضُه سُؤَالُ السَّائِلِينَ ولَا يُبْخِلُه»: أي لا ينسبه إلى البخل «إِلْحَاحُ الْمُلِحِّینَ»: وإنما علله به الجواد الَّذي شأنها ما ذكر؛ إنّما كان كذلك لكونه ليس من شأنه أن يلحقه النفع، والضرر والنقص بل نعمه غير متناهية، واستعار لفظ الغيض لنعمه ملاحظة لشبهها بالماء الَّذي له مادّة تامّة لا ينقص بالنزح، ومن روى: بغضبه؛ فلأنّ الغضب من لواحق المزاج، والباري تعالى منزّه عنه فیتنزّه عن لواحقه، وكذلك البخل رذيلة مكتسبة من البدن، والمزاج تبعث إليها الحاجة والنقصان؛ فمن لا يتزيّد ولا يتنقّص؛ فلا يؤثّر في ملكه أن يهب الدنيا لمن سألها.

«فَانْظُرْ أَيُّهَا السَّائِلُ»: إذ هو السبب «فَمَا»: شرطية «ذَلَّكَ الْقُرْآنُ عَلَيْه مِنْ صِفَتِه فَائْتَمَّ بِه واسْتَضِئْ بِنُورِ هِدَايَتِه»: في سلوك وكيفية صفته؛ فأن أولى ما وصفه به تعالى هو ما وصف به نفسه.

«ومَا كَلَّفَكَ الشَّيْطَانُ عِلْمَه»: أشارة إلى القياس «مِمَّا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ عَلَيْكَ فَرْضُه ولَا فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وأَئِمَّةِ الْهُدَى»: القائمين مقامه في إيضاح الدين وحفظه.

«أَثَرُه فَكِلْ عِلْمَه إِلَی الله سُبْحَانَه»: أي فوض وذلك أن أئمة الهدى؛ أعلم بوجوه نسبته تعالى إلى خلقه، وبما يناسب تلك الاعتبارات من الألفاظ، ويفسدها فيطلق

ص: 262

عليه، ونفر عن طلب ذلك، والبحث عنه ماسار به إلى؛ أنه تكليف الشيطان وظاهر أن طلب ما وراء حدود الشريعة التي نهت عن تجاوزها أنما هو سبب وسوسته الشيطان وحرص الطبع على ما يمنع منه.

«فَإِنَّ ذَلِكَ مُنْتَهَى حَقِّ الله عَلَيْكَ»: ومطلوبه منه، ولمّا كان مطلوب الشارع حين وضع الشريعة، وتقرير قواعدها هو: جمع قلوب العالم على قانون واحد واتّحادهم فيه بحيث لا يفترقوا في اعتقاد أمر ما، لئلَّا يكون ذلك الافتراق سبباً لضعف الدين وعدم تعاونهم على تشییده کما سبق بيانه لا جرم، وجب في الحكمة أن يحرم حينئذ عليهم الخوض؛ فيما وراء ذلك لتثبت قواعد الدين في قلوبهم، وترسخ، ولا يخرج بهم البحث عن ما ورائها إلى إطراحها، وفساد اعتقاد كثير من الخلق لها، ولغيرها ممّا وراها؛ إذ لم يكن فيهم من يستعدّ لقبول ما وراء تلك الظواهر؛ إلَّا الفرد النادر وإن كنّا نعلم أنّه كان صلى الله عليه وآله وسلَّم؛ إذا علم من أحد استعدادا لقبول شيء من أسرار الشريعة، ووثق به أن يحمله ألقاه إليه كعليّ عليه السّلام؛ دون أبي هريرة وأمثاله.

«واعْلَمْ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ»: الممدوحين في القرآن الكريم بقوله تعالى «لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ»(1)«وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا»(2).

«هُمُ الَّذِينَ أَغْنَاهُمْ عَنِ اقْتِحَامِ السُّدَدِ الْمَضْرُوبَةِ»: الاقتحام هو الدخول في الأمر بشدة، والسدد هي الأبواب والحجب «دُونَ الْغُيُوبِ الإِقْرَارُ بِجُمْلَةِ مَا جَهِلُوا تَفْسِیرَه مِنَ الْغَيْبِ الْمَحْجُوبِ»: الذي لا دليل عليه «فَمَدَحَ الله تَعَالَی

ص: 263


1- سورة النساء: الآية 162
2- سورة آل عمران: الآية 7

اعْتِرَافَهُمْ بِالْعَجْزِ عَنْ تَنَاوُلِ مَا لَمْ يُحِيطُوا بِه عِلْماً وسَمَّى تَرْكَهُمُ التَّعَمُّقَ فِيمَا لَمْ يُكَلِّفْهُمُ الْبَحْثَ عَنْ كُنْهِه»: أعلم أن بعض العلماء الصوفيّة كشفوا عما أشار إليه عليه السلام؛ بالسدد، والحجب الغيوب، وأومأ إليه الخبر «إنّ للهَّ تعالى سبعين حجاباً من نور، وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات، وجهه كلّ من أدرك بصره، فافهم أولاً أنه ثبت أن الله تعالى متجلَّي لذاته بذاته؛ فالحجاب لا بدّ وأن يكون بالنسبة إلى محجوب، وأقسامه ثلاث لأنه أما محجوب بظلمة، و بنور أو بهما وتحت كل قسم من هؤلاء أقسام كثيرة لا تحصى، والإشارة إلى أصولها كاف:

القسم الأوّل: الملحدة الَّذين لا يؤمنون بالله وهم صنفان: منهم طلبوا للعالم سبباً؛ فأحالوه على الطبع وقد علمت أنّه صفة جسمانيّة مظلمة خالية عن المعرفة والإدراك، وصنف منهم لم يتفرّغوا لذلك، ولم يتنبّهوا الطلب السبب بل اشتغلوا بأنفسهم، وعاشوا عيش البهائم، فكانوا محجوبین بکدورات نفوسهم، وشهواتهم المظلمة، ولا ظلمة أشدّ من الهوى، ولذلك قال الله تعالى «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ»(1)وقال صلى الله عليه وآله وسلَّم: «الهوى أبغض إله عبُد على وجه الأرض»(2)وتحت هؤلاء فرق كثيرة لا حاجة إلى ذكرها.

القسم الثاني: أصناف: فصنف منهم منشأ ظلمته الحسّ، وصنف منهم منشأها الخيال، وصنف منهم منشأها مقایسات عقليّة فاسدة، فالأوّلون أيضاً طوائف:

الأولى: عبدة الأوثان؛ فإنّهم علموا على سبيل الجملة؛ أنّ لهم ربّاً وأوجبوا إيثاره على أنفسهم، واعتقدوا أنّه أعزّ وأنفس من كلّ شيء، ولكنّهم حجبوا بظلمة الحسّ عن أن يتجاوزوا العالم المحسوس في إثبات ربّهم؛ فاتّخذوا من أنفس الجواهر

ص: 264


1- سورة الفرقان: الآية 43
2- إحياء علوم الدين للغزالي: ج 12 ص 45؛ وشرح نهج البلاغة لابن میثم البحراني: ج 2 ص 332

کالفضّة، والذهب، والياقوت أشخاصاً مصوّرة بأحسن صورة، وجعلوها آلهة فهؤلاء محجوبون بنور العزّ والجلال؛ من صفات الله؛ لكنّهم وضعوها في الأجسام المحسوسة فصارت حجبهم أنواراً مكدّرة بظلمة الحسّ؛ إذ الحسّ ظلمة بالإضافة إلى عالم المعقولات.

إنسانا في غاية الجمال أو فرساً أو شجراً عبدوه، وقالوا: هو ربّنا فهؤلاء محجوبون بنور الجمال مع ظلمة الحسّ أيضاً.

الثالثة: طائفة ترقّوا عن هؤلاء وقالوا: ينبغي أن يكون الربّ نورانيّاً في صورته ذا سلطان في نفسه مهيباً لا يطاق القرب منه، ولم يترقّوا عن درجة المحسوس فعبدوا النار؛ إذ وجدوها بهذه الصفات؛ فهؤلاء محجوبون بنور السلطنة، والبهاء وكلّ ذلك من أنوار الله مع ظلمات حسّهم.

الرابعة: طائفة ترقّوا عن ذلك؛ فرأوا أنّ النار تطفي وتقهر؛ فلا تصلح للإلهيّة فقالوا: بل ما يكون بهذه الصفات، ولكن نكون نحن تحت تصرّفه، ويكون مع ذلك موصوفاً بالعلوّ، وكان المشهور بينهم علم النجوم، وإضافة التأثيرات إليها فعبدوا النجوم فمنهم عبدة المشتري، ومنهم عبدة الشعري، وغيرهم؛ فهؤلاء محجوبون مع ظلمه الحسّ بنور الاستعلاء، والإشراف وهي من أنوار الله تعالى.

الخامسة: طائفة ترقّوا عن هؤلاء فقالوا: وإن وجب أن يكون الربّ بالصفات المذكورة إلَّا أنّه ينبغي أن يكون أكبر الكواكب؛ فعبدوا الشمس فهؤلاء محجوبون مع ظلمة الحسّ بنور الكبرياء، والعظمة مع بقيّة الأنوار.

السادسة: طائفة ترقّوا عن ذلك فقالوا: إنّ الشمس لا تتفرّد بالنور بل لغيرها أنوار والإله لا يجوز أن يكون له شريك في نورانیّته؛ فعبدوا النور المطلق على كلّ

ص: 265

نور، وزعموا أنّه إله العالم، والخيرات كلَّها منسوبة إليه ثمّ رأوا في العالم شروراً؛ فلم يستحسنوا إضافتها إلى ربّهم تنزيهاً له؛ فجعلوا بينه وبين الظلمة منازعة وأحالوا العالم إلى النور والظلمة وهم الثنويّة.

الصنف الثاني: هم الذين جاوزوا الحسّ، وأثبتوا وراء المحسوس أمراً لكنّهم لم يهتدوا إلى مجاوزة الخيال؛ فعبدوا موجوداً قاعداً على العرش، وأخسّهم رتبة المجسّمة؛ ثمّ أصناف الكرامیّة، وأرفعهم درجة من نفى الجسميّة، وجميع عوارضها إلَّا الجهة فخصّصوه بجهة فوق، وهؤلاء لم يثبتوا موجودا غیر محسوس ولا متخيّل حتّى ينزّهوه عن الجهة.

الصنف الثالث عبدوا إلهاً سميعاً بصيراً متكلَّماً عالماً قادراً منزّهاً عن الجهات لكن؛ فهموا هذه الصفات على حسب مناسبة صفاتهم، وربّما صرّح بعضهم فقال: كلامه صوت مثل کلامنا.

وربّما ترقّى بعضهم فقال: لا بل هو كحديث أنفسنا، ولا صوت، ولا حرف ولذلك إذا حقّق القول عليهم رجعوا إلى التشبيه في المعنى، وإن أنكروه لفظاً؛ إذ لم يدركوا کيفيّة إطلاق هذه الألفاظ في حقّ الله، فهؤلاء محجوبون بجمل من الأنوار مع ظلمات المقايسات العقليّة.

القسم الثاني: هم أصناف لا تحصى أيضاً، لكن تذكر منهم ثلاث أصناف.

الأوّل: الَّذين عرفوا معاني هذه الصفات، وفرقوا بين إطلاق أسمائها على الله تعالى، وبين إطلاقها على البشر؛ فتحاشوا من تعريفه بهذه الصفات، وعرّفوه بالإضافة إلى المخلوقات؛ فقالوا: ربّنا ربّ السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها، وهو الربّ المنزّه عن هذا المفهوم الظاهر، وهو محرّك السماوات ومدبّرها.

ص: 266

الصنف الثاني: الَّذين عرفوا أنّ في السماوات ملائكة كثيرة، وأنّ محرّك كلّ سماء منها موجود آخر يسمّى ملكاً، وأنّ هذه السماوات في ضمن؛ فلك يتحرّك الجميع بحركته في اليوم والليلة مرّة، واحدة والربّ تعالى هو المحرّك للفلك الأقصى منها المشتمل عليها.

الصنف الثالث: الَّذين ترقّوا عن هؤلاء وقالوا: إنّ تحريك الأجسام الفلكيّة من الملائكة يكون خدمة لربّ العالمين، وعبادة له، ويكون الربّ تعالى هو المحرّك للكلّ بطريق الأمر، فهؤلاء كلَّهم محجوبون بأنوار محضة، وقفت بهم عمّا وراءها، ووراء هؤلاء صنف رابع تجلَّى لهم أنّ هذا المطاع موصوف بصفة الوحدة المطلقة، والكمال البالغ وكشفت عنهم حجب المقايسات، والاعتبارات إلى الغير وهم الواصلون، فمنهم من أحرق ذلك التجلَّي في تلك الأنوار جميع ما أدرکه بصره بالكلَّيّة، وبقي ملاحظاً لرتبة الحقّ فيها؛ فانمحقت فيه المبصرات دون المبصر، ومنهم من تجاوز هؤلاء، وهم خواصّ الخواصّ؛ فأحرقتهم سبحات، وجهه وغشيهم سلطان الجلال؛ فانمحقوا، وتلاشوا في أنفسهم؛ فلم يبق لهم إليها التفات، وملاحظة لفنائهم عن أنفسهم، ولم يبق إلَّا الواحد الحقّ، وهؤلاء هم الواصلون کما سبقت الإشارة إليه، وينتهي الكلّ إلى حجاب الإمكان الَّذي يهلك فيه كلّ موجود ولا يبقى إلَّا وجه الله ذي الجلال والإكرام.

إذا عرفت ذلك فنقول: السدد المضروبة، وحجب الغيب الَّتي أشار إليها هي درجات الانتقالات في مفهومات صفات الله تعالى، ومراتب عرفانه ومعرفة ملائكته، ومراتبهم وکمالاتهم، وسائر حجب الأنوار الَّتي حجب بها أهل القسم الثالث، والراسخون الَّذين أشار إليهم هم؛ في ظاهر کلامه الواقفون في المرتبة الأولى، وهم الَّذين؛ اقتصروا في صفات الله، وملائكته وعالم غيبه على ما، وقفتهم

ص: 267

الشريعة عليه على سبيل الجملة کما؛ أوصل إلى أفهامهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلَّم، وعقلوا في وصفه تعالى بصفات الكمال، ونعوت الجلال أنّه ليس على حدّ وصف البشر بها ورسخ في أذهانهم ما تصوّروه إجمالا لو؛ فصّل لكان مطابق. ومن أعدّته العناية الإلهيّة لقبول التفصيل وصل إليه، وبقي هاهنا بحث لطيف وهو أنّه لمّا كان التكليف في نفس الأمر؛ إنّما هو على قدر العقول، وتفاوت مراتبها ولذلك قال صلى الله عليه [وآله] وسلَّم «بعثت لأكلَّم الناس على قدر عقولهم»(1)، كان كلّ عقل قوى على رفع حجاب من حجب الغيب، وقصر عمّا ورائه واعترف به وبالعجز عنه؛ فذلك تكليفه وهو من الراسخين؛ فعلى هذا الرسوخ ليس مرتبة واحدة هي تقليد ظواهر الشريعة، واعتقاد حقيّتها فقط بل تقليدها مرتبة أولى من مراتب الرسوخ، وما ورائها مراتب غير متناهية بحسب مراتب السلوك، وقوّة السالكين على رفع حجب الأنوار الَّتي؛ أشرنا إليها وكلامه عليه السّلام لا ينافي ما قلناه بل تصدقه؛ إذا نزّل عليه فإنّ قوله: وسمّى ترك التعمّق؛ فيما لم يكلَّفهم البحث عن كنهه رسوخاً صادق؛ أيضاً على من قطع جملة من منازل السلوك، وعجز عمّا ورائها فوقف ذهنه عن التعمّق فيه، والبحث إذ لا يكلَّف بما لا يفي به قوّته.

«فَاقْتَصِرْ عَلَى ذَلِكَ»: أي على ما نطق به الكتاب العزيز، ودلَّت عليه السنّة النبويّة، وأرشدت إليه أئمّة الهدى، وفيه دلالة على أن مقصودة ليس أن يقتصر على ظاهر الشريعة؛ فقط بل يمنع أنوار القرآن، والسنة، وأثار أيمة الهدى، وقد ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية؛ كلام الأئمة من الإشارات، والتنبيهات على

ص: 268


1- يُنظر: المحاسن لأحمد بن محمد بن خالد البرقي: ج 1 ص 195 باختلاف يسير؛ ومثله أورده الشيخ الكليني في الكافي: ج 1 ص 23؛ ابن میثم البحراني في شرح النهج: ج 2 ص 335؛ وكذلك ابن مثيم في اختيار مصباح السالكين: ص 219

منازل السلوك، ووجوب الانتقال في درجاتها ما لا يحصى كثرة، ونبهوا على كل مقام أهله، وأخفوه على غير أهله، واخفوه على أذ كانوا أطباء النفوس، وكما أن الطبيب يرى أن بعض الأدوية لبعض المرضى تریاق، وشفاء، وذلك الدواء بعينه يرون أن بعض الأسرار، بأعيانها لغير أهلها سبباً لضلالهم، وكفرهم؛ إذا ألقيت إليهم فأذن مقصوده عليه السلام قصر كل عقل ما هو الأولى به، وما يحمله والجمع العظيم المخاطبون هم الظاهرين الذين تحت قصرهم والله أعلم.

«ولَا تُقَدِّرْ عَظَمَةَ الله سُبْحَانَه عَلَى قَدْرِ عَقْلِكَ فَتَكُونَ مِنَ الْهَالِكِینَ»: إذ المقدّر لعظمته الله بقدر عقله الضعيف، وعظمة الله تعالى أعظم، وأجلّ من أن يضبطها عقل بشري، وإنّما منشأ ذلك الحكم لمن حصل له هو الوهم الحاكم لمثليّة الله تعالى لمدركاته من الأجسام والجسمانیّات، وذلك في الحقيقة كفر لاعتقاد غير الصانع صانعاً، وضلال عن طريق معرفة الله، وهو مستلزم للهلاك في تيه الجهل، ثم أشار إلى اعتبارات آخرين، ونبه على أن الغاية استقصاء العقول، وتعمقها وغوص فطنها طالبة لتفصيل صفات کماله، ونعوت جلال له أن تقف خاسئة وترجع حسيرة معرفة بالفجور، والقصور فأتي بشرطية متصلة في قوة شرطيات متعددة وتاهيها واحد وقال: «هُوَ الْقَادِرُ الَّذِي إِذَا ارْتَمَتِ الأَوْهَامُ»: إذا استرسلت مجدة في المطالعة والتفتيش «لِتُدْرِكَ مُنْقَطَعَ قُدْرَتِه»: منتهاها «وحَاوَلَ الْفِكْرُ الْمُبَرَّأُ مِنْ خَطَرَاتِ الْوَسَاوِسِ»: وشوائب الأوهام «أنَ يَقَعَ عَلَيْه»: فيكيف ذاته ويستثبتها بكل ما ينبغي لها من الكمالات «فِي عَمِيقَاتِ غُيُوبِ مَلَكُوتِه»: أي في أسرار عالم الغيب العميقة: «وتَوَلَّهَتِ الْقُلُوبُ»: اشتد شوقها إليه «لِتَجْرِيَ فِي كَيْفِيَّةِ صِفَاتِه

وغَمَضَتْ مَدَاخِلُ الْعُقُولِ»: أي دقت مواقع دخولها «فِي حَيْثُ لَا تَبْلُغُه الصِّفَاتُ»: لتنال علم ذاته انتهت العقول إلى حد أنها لا يغير مع ملاحظة ذات الحق صفة كل

ص: 269

خاطر، وكل اعتبار من صفة، وغيرها عن ملاحظة قدسه؛ لينال علم ذاته بالكنة(1)«رَدَعَهَا»: هو تالي هذه الشرطيات، وردعها خاسئة حسيرة، وسبب ذلك في كل هذه المدركات هو خلقها قاصرة عن إدراك ما يطلبه من هذه المطالب العظيمة فالأوهام لقصورها عن أدراك ما ليس بمحسوس، ولا متعلقاً بالمحسوس، وردع الفكر أن يقع عليه، والقلوب أن يجري في كيفيته صفاته؛ فيجدها، ويحضرها لخلقها قاصرة عن الإحاطة بما لا نهاية له؛ إذ كانت صفات الكمال، ونعوت الجلال كذلك، وكان ردع العقول أن يحيط بكنه ذاته، ولخلقها قاصرة عن أدراك کنه ما ليس بذي حدوث، وكان حينئذ ذلك الردع هو قدرته؛ فلذلك قدم عليها الشرطية اعتبار کونه قادراً.

«وهِيَ تَجُوبُ: تقطع مَهَاوِيَ سُدَفِ الْغُيُوبِ مُتَخَلِّصَةً»: مقدرة التخلص «إِلَيْه سُبْحَانَه»: الجملة في موضع الحال والعامل ردعها، واستعارة السدف الظلمات الجهل بكل معنى غيبي من صفات جلاله، وطبقات حجبها أي ردعها عن تلك المطالب حال ما هي قاطعة لمهاوي تلك الظلمات، ووجه الاستعارة ما يشتركان من عدم الإهداء فيهما، ومتخلصة حال أيضاً، والعامل أما تجوب أو ردعها وتخلصها إليه توجهها بكلياتها في طلب إدراکه.

«فَرَجَعَتْ»: زجرت «إِذْ جُبِهَتْ مُعْتَرِفَةً بِأَنَّه لَا يُنَالُ بِجَوْرِ الِاعْتِسَافِ»: شدّة جولانها في تلك المنازل «كُنْه مَعْرِفَتِه»: فأنه غير نافع في تحصيل ما لا يمكن ولَا «تَحْطُرُ بِبَالِ أُولِي الرَّوِيَّاتِ»: أصحاب الفكر «خَاطِرَةٌ مِنْ تَقْدِيرِ جَلَالِ عِزَّتِه»: إي رجعت معترفة بأمرين: أحدهما: أنّه لا ينال كنه معرفته، والثاني: أنّ الفكر لا يحيط بکماله خبراً، أو ظاهر أن صدق هذه الأحكام للنفس موقوف على ارتماء أفكارها

ص: 270


1- في بعض متون النهج: لِتَنَاوُلِ عِلْمِ ذَاتِه

في طلب هذه المعارف وعجزها عنها.

«الَّذِي ابْتَدَعَ الْخَلْقَ عَلَى غَیْرِ مِثَالٍ امْتَثَلَه ولَا مِقْدَارٍ احْتَذَى عَلَيْه مِنْ خَالِقٍ مَعْبُودٍ كَانَ قَبْلَه»: إشارة إلى أنّ الصنائع البشريّة؛ إنّما تحصل بعد أن يرتسم في الخيال صورة المصنوع بل وكلّ فعل لا يصدر إلَّا عن تصوّر وضعه وكيفيّته أوّلاً، وتلك التصوّرات تارة تحصل عن أمثلة للمصنوع بل، ومقادیر له خارجيّة يشاهدها الصانع ويحذو حذوها، وتارة تحصل بمحض الإلهام، والاختراع کما يفاض على أذهان كثير من الأذكياء، صورة شكل لم يسبق إلى تصوّره؛ فيتصوّره ویبرز صورته إلى الخارج، وكيفيّة صنع الله للعالم وجزئيّاته منزّهة عن الوقوع على أحد هذين الوجهين: أمّا الأوّل فلأنّا بيّنا أنّه لا قبل له؛ فلا قبل لمصنوعاته فلا مثال امتثله: أي عمل مثله، ولا مقدار احتذى حذوه، وأمّا الثاني: وإن سمّى الفاعل على وفقه مخترعاً لكن التحقيق يشهد بأنّه إنّما فعل على، وفق ما حصل في ذهنه من الشكل والهيئة وهما مستفادان من الصانع الأوّل جلَّت عظمته فكان في الحقيقة فاعلاً على غير مثال سابق محتذياً بمقدار غيره، وعلم الأوّل سبحانه على النحو المذكور من حصول صورة مساوية للمعلوم في ذاته کما تحقّقته من قبل فإذن فعله بمحض الإبداع والاختراع على أبعد ما يكون عن حدّ ومثال.

«وأَرَانَا مِنْ مَلَكُوتِ قُدْرَتِه»: إنّما نسبه إليها لأنّ اعتبارها مبدأ الوجود كلَّه فهي مبدأ المالكيّة «وعَجَائِبِ مَا نَطَقَتْ بِه آثَارُ حِكْمَتِه»: ما صدر عنها من الأفعال والأحکام، استعار النطق لحال آثاره تعالى؛ المفصحة عن كمال الحكمة المعجبة بتمام النظام، وحسن الترتيب، ووجه المشابهة ما اشترك فيه النطق؛ وحال مصنوعاته من ذلك الإفصاح والبيان.

«واعْتِرَافِ»: عطف على عجائب «الْحَاجَةِ مِنَ الْخَلْقِ إِلَی أَنْ يُقِيمَهَا بِمِسَاكِ قُوَّتِه

ص: 271

مَا دَلَّنَا بِاضْطِرَارِ قِيَامِ الْحُجَّةِ لَه عَلَى مَعْرِفَتِه»: وهي المفعول الثاني لأرانا: أي وأرانا من اعتراف الخلق لحاجتهم إلى أن يقيمهم في الوجود بمساك قوته الَّتي تمسك السماوات والأرض أن تزولا ما دلَّنا باضطرار قيام الحجّة له على معرفته، وهو متعلَّق يدلَّنا أي دلَّنا على معرفته فلزمت قيام الحجّة له بالضرورة.

(1)«وَظَهَرَتِ في الْبَدَائِعُ الَّتِي أَحْدَثَتْهَا آثَارُ(2)صَنْعَه وأَعْلَامُ حِكْمَتِه»: استعار الأعلام لما يدلّ على حكمة الصانع في فعله من الإتقان والإحكام.

«فَصَارَ لكُلُّ مَا خَلَقَ حُجَّةً لَه ودَلِيلًا(3)وإِنْ كَانَ خَلْقاً صَامِتاً فَحُجَّتُه بِالتَّدْبِیِرِ نَاطِقَةٌ ودَلَالَتُه عَلَى الْمُبْدِعِ قَائِمَةٌ: يعني: أنّ كلّ ما ظهرت فيه آثار حكمة الله فهو ناطق بربوبيّته وكمال ألوهيّته فبعض ناطق، بلسان الحال المقال كالإنسان، وبعض بلسان حاله فقط إذ لا عقل له ولا لسان کالجماد والنبات، والضمير المضاف إليه في قوله: فحجّته يحتمل عوده إلى الله، ويحتمل أن عوده إلى الخلق الصامت، وقد علمت أنّ السالكين في سماع هذا النطق من آثار الله ومشاهدته في مصنوعاته على درجات ومنازل متفاوتة كما أشرنا إليه غير مرّة، ثم التفت إلى خطاب الله تعالى على طريق قوله «إِيَّاكَ نَعْبُدُ»(4)فقال فَأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ شَبَّهَكَ بِتَبَايُنِ أَعْضَاءِ خَلْقِكَ وتَلَاحُمِ حِقَاقِ مَفَاصِلِهِمُ: جمع حق وهو أطراف عظام المفاصل الْمُحْتَجِبَةِ لِتَدْبِیِرِ حِكْمَتِكَ: واعلم أن المشبّه به في الحقيقة هو الخلق وإنّما جعله بتباين أعضائهم وتلاحق مفاصلهم لأنّه في معرض ذمّ المشبّهة والتنبيه على وجوه أغلاطهم وتباین

ص: 272


1- ورد في بعض متون: فظهرت
2- ورد في بعض متون: صَنْعَتِه
3- ورد في بعض متون النهج: عَلَيْه
4- سورة الفاتحة: الآية 5

الأعضاء وتلاحمها من لوازم المشبّه به وهما مستلزمان للتركيب واجتماع المفردات المستلزم لظهور الحاجة إلى المركَّب والجامع ويمتنع على محلّ يظهر حاجته أن يتشبّه به الصانع المطلق البريء عن الحاجة بوجه ما فقدّمهما لجريانهما مجرى الأوسط في لزوم التركيب للمشبّه به فيظهر تنزيه الإله عن التشبّه به وإن كان التقدير من شبّهك بخلقك في أعضائهم المتباينة المتلاحمة، والَّذي يقال من وجه الحكمة في احتجاب المفاصل هو أنّها لو خلقت ظاهرة عريّة عن الأغشية ليبست رباطاتها وقست فيتعذّر تصرّف الحيوان بها كما هو الآن وأنّها كانت معرضة للآفات المفسدة لها وغير ذلك من خفىّ تدبيره ولطيف حكمته وقد شهد عليه السّلام على المشبّه للهَّ بخلقه بأمرين.

لَمْ يَعْقِدْ غَيْبَ ضَمِیِرِه عَلَى مَعْرِفَتِكَ: خبر أن من شهد ولَمْ يُبَاشِرْ قَلْبَه الْيَقِنُ بِأَنَّه لَا نِدَّ لَكَ»: والقرآن والبرهان مصدّقان لشهادته في الموضعين: أمّا القرآن فما نبّه عليه بقوله: «وكَأَنَّه لْمَ يَسْمَعْ تَبُّرَؤَ التَّابِعِیَن مِنَ الْمَتْبُوعِیَن إذ يقولون» «تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ٭ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ»(1)، ووجه الاستدلال على المطلوب الأوّل أنّ المشبّهة، وعبدة الأصنام ينكشف لهم في الآخرة؛ أنّهم كانوا ضالَّين في تشبيه أصنامهم بربّ العالمين؛ فيترتّب دليل هكذا: المشبّهة ضالَّون من جهة تشبيههم للهَّ بخلقه، وكلّ من كان كذلك؛ فليس بعارف للهَّ، والمقدّمة الأولى ثابتة بمنطوق الآية، وأمّا الثانية: فلأنّه لو كان المشبّه له عارفاً به مع تشبيهه له بخلقه لما كان في ضلال مبين من تلك الجهة؛ فإذن هو ليس بعارف له، وأمّا البرهان فلأنّ الله سبحانه لمّا تقدّس عن أن يشبه خلقاً في شيء كان المشبّه له بخلقة؛ والمكيّف له بكيفيّة يحويها، وهمه غیر عارف به بل متصوّر لأمر آخر هو في الحقيقة غير الإله،

ص: 273


1- سورة الشعراء: الآيتان: 97 - 98

وأمّا صدقه في القضيّة الثانية؛ فلأنّ المشبّه للهَّ ضالّ من جهة ما هو مشبّه له، وكلّ من كان كذلك؛ فليس منزّه له عن الندّ والمثل، وصدق الأولى ظاهر من الآية، وأمّا الثانية؛ فلأنّه لو كان منزّهاً له عن الندّ بكونه مشبّهاً له لما كان ضالَّاً من تلك الجهة لكنّه ضالّ منها؛ فليس بمنزّه له، وأمّا البرهان العقليّ، فلأنّ الندّ هو الشبيه، وكلامنا في المشبّه، وفي الآية تنفير عن مذهب التشبيه بذکر تبرؤ التابعين ممّن اتّبعوه، وشبّهوا به خالقهم، وندامتهم على تفريطهم في ذلك، وحسرتهم على الرجعي لتدارك الأعمال والاعتقادات الصالحة، واعترافهم بأنّهم كانوا بتشبيههم في ضلال مبين، ثم كذب العادلين به أي الكافرين الذين يجعلون له عديلاً وشريكاً، وأشار إلى تفصيل جهات کونهم عادلين، وإلى سبب ذلك وهو الوهم.

«كَذَبَ الْعَادِلُونَ بِكَ إِذْ شَبَّهُوكَ بِأَصْنَامِهِمْ ونَحَلُوكَ»: أعطوك «حِلْيَةَ الْمَخْلُوقِينَ بِأَوْهَامِهِمْ»: تكذيب للعادلين به، وأشار إلى تفصيل جهات كونهم عادلين، وإلى سبب ذلك وهو الوهم، وقد علمت لأن حكم الوهم لا يترفّع عن المحسوسات وما يتعلَّق بها؛ فإنّ حَكّمَ في المجرّدات بحكم قدرها محسوسة ذات أحجام، وألحقها أحكام المحسوس، ولذلك لم يترفّع المشبّهة للهَّ عن تشبيهه بالأصنام، وأشخاص الأجسام كصورة الإنسان، وأعضائه وكذلك غير عبدة الأوثان من سائر الفرق المشبّهة حتّى كانت غاية تنزيه من نزّهه منهم أن توهّمه في جهة فوق وقد علمت أنّ الجهة والكون فيها من عوارض الأجسام المخلوقة؛ فكانوا عن آخرهم قد تحلَّوه حلية المخلوقين وصفاتهم بأوهامهم الفاسدة، فمنهم من أثبت له أعضاء من يد، وساق، وعين، ووجه، وسائر ما ورد في القرآن الكريم، والسنّة النبويّة حملاً على ظاهرها، ومنهم من تجاسر عن، وصف هيئته فقال: إنّه مجوّف الأعلى مصمت الأسفل، وإنّه قطط الشعر إلى غير ذلك من هذيانهم، وكفرهم

ص: 274

تعالى الله عمّا يقول الظالمون، والجاحدون علوّاً كبيراً.

«وجَزَّءُوكَ تَجْزِئَةَ»: المحسوسات(1)«بِخَوَاطِرِهِمْ»: هو إثباتهم الأعضاء المذكورة وذلك عن تقديرهم له عن الخلقة المختلفة القوى بقرائح عقولهم الجامدة متابعة لأوهامهم الفاسدة وتقليد من سلف من آبائهم وإلى ذلك أشار بقوله: «وقَدَّرُوكَ عَلَى الْخِلْقَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الْقُوَى بِقَرَائِحِ عُقُولِهِمْ»: فإنّ الأعضاء إنّما تتولَّد وتكمل بواسطة قوى طبيعيّة، ونباتيّة، وحيوانيّة، وغيرها، وهی قوی مختلفة بحقائقها ومتضادّة في أفعالها محتاجه إلى الجامع، والمركَّب مؤذنة بالإمكان الَّذي تنزّه قدس الصانع أن ينضروا إليه بوجه؛ «فأَشْهَدُ(2)أَنَّ مَنْ سَاوَاكَ بِشْيَءٍ مِنْ خَلْقِكَ فَقَدْ عَدَلَ بِكَ والْعَادِلُ بِكَ كَافِرٌ بِمَا تَنَزَّلَتْ بِه مُحْكَمَاتُ آيَاتِكَ ونَطَقَتْ عَنْه شَوَاهِدُ حُجَجِ بَيِّنَاتِكَ»: أي حججهم الشاهدة هي كقوله تعالى «قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا»(3)«وقوله أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ»(4)والإشراك كفر، ونحو ذلك، هذا بيان المقدمة الثانية، وأما المقدمة الأول؛ فلأنّ الشبيه هو المثل، والعديل، وقد علمت أنّ البرهان العقليّ ممّا يشهد بصدق هذه الشهادة؛ فإنّ المشبّه للهَّ بخلقه مع براءته عن شبهيّة الغير؛ إذا اعتقد أنّ ذلك الَّذي يشير؛ إليه توهمه هو صانع العالم؛ فقد اعتقد أن غير الصانع صانعاً، وذلك عين العدول والضلال.

ص: 275


1- في بعض النسخ ورد: تْجَزِئَةَ الْمجَسَّمَاتِ
2- في بعض النسخ ورد: وأَشْهَدُ
3- سورة فصلت: الآية 9
4- سورة الأنعام: الآية 19

«وإِنَّكَ»: أي أشهد أنك «أَنْتَ الله الَّذِي لَمْ تَتَنَاه فِي الْعُقُولِ البشرية(1)»: وأفكارها أي: لم تحط بحقيقتك وما لها من صفات الكمال، ونعوت الجلال بحيث لا يكون وراء ما أدركته شيء آخر.

«فَتَكُونَ فِي مَهَبِّ»: موضع هبوب «فِكْرِهَا مُكَيَّفاً»: فيه تنبيه على ما يلزم ذلك التناهي من كونه ذا كيفيّة تكيّفها له القوى المتخيّلة لتستثبته بها العقول، ومهابّ الفكر جهاتها، ثم من كونه محدوداً، إذ كانت الحقائق إنّما تدرك بكنهها من حدودها.

«مصرفاً»: أي محكوماً في ذاته بالتجزية، والتحليل، والتركيب إذ كان من شأن المحدود ذلك، ولمّا كانت هذه اللوازم باطلة لبراءته عن الكيفيّة، والأجزاء والتركيب كان ملزومها وهو التناهي في العقول باطلاً.

(2)«قَدَّرَ مَا خَلَقَ فَأَحْكَمَ تَقْدِيرَه»: إشارة إلى أنّ كلّ مصنوع قدرة في الوجود فعلي وفق حكمته بحيث لو زاد على ذلك المقدار أو نقص منه لاختلت مصلحة ذلك المقدور، وتغيرت منفعته «ودَبَّرَه فَأَلْطَفَ تَدْبِیرَه»: إيجاده على وفق المصلحة ولطفه في ذلك تصرفه في جميع الذوات، والصفاة تصرفات کلیه، وجزئية من غير شعور غيره بذلك «ووَجَّهَه لِوِجْهَتِه فَلَمْ يَتَعَدَّ حُدُودَ مَنْزِلَتِه ولَمْ يَقْصُرْ دُونَ الِانْتِهَاءِ

إِلَی غَايَتِه»: أي ألهم كلَّاً؟ ویسّره لما خلق له، ولما كتب له في اللوح المحفوظ؛ فلم يتجاوز مرسوم تلك المنزلة المعلومة له: أي لم يعبرها، ولم يقصر دونها، وإلَّا لزم التغيّر في علمه سبحانه وإنّه محال.

ص: 276


1- في بعض النسخ لم يرد البشرية
2- في بعض النسخ وردت هذه الزيادة: ولاَ فِي رَوِيَّاتِ خَوَاطِرِهَا فَتَكُونَ مْحَدُوداً مُصرَّفاً، ومنها: ولعلها تكون من الأصل وهي ساقطة من يد المصنف رحمه الله تعالى

«ولَمْ يَسْتَصْعِبْ إِذْ أُمِرَ بِالْمُضِيِّ عَلَى إِرَادَتِه»: أي لمّا أمر المخلوق بالتوجّه إلى وجهته نحو على، وفق إرادته الله وساقت الحكمة الإلهيّة كلَّا إلى غايته لم يمكن تخلفه واستصعابه عن ذلك الأمر، وهو إشارة إلى توجيه أسبابه بحسب القضاء الإلهيّ عليه بذلك».

«فَكَيْفَ»: يستصعب «وإِنَّمَا صَدَرَتِ الأُمُورُ عَنْ مَشِيئَتِه»: أشار إلى علَّة عدم استصعابه عن ذلك الأمر وسرعة طوعه، وانقياده بذكر علَّته، وهو استناد جميع الآثار إلى مشيئته، إذ كلّ أثر فهو واجب عن مؤثّره، والكلّ منته في سلسلة الحاجة إلى إرادته واجب عنها، وقد علم ذلك في العلم الإلهيّ.

الْمُنْشِئُ: أي الخالق: «أَصْنَافَ الأَشْيَاءِ بِلَا رَوِيَّةِ فِكْرٍ آلَ»: رجع «إِلَيْهَا ولَا قَرِيحَةِ غَرِيزَةٍ: طبيعة أَضْمَرَ عَلَيْهَا ولَا تَجْرِبَةٍ أَفَادَهَا»: إستفادها «مِنْ حَوَادِثِ الدُّهُورِ ولَا شَرِيكٍ أَعَانَه عَلَى ابْتِدَاعِ عَجَائِبِ الأُمُور»: قد سبق في الخطبة الأولى بيان أنّ الرويّة والفكر، والتجربة ممّا يلحق الإنسان، ويخصّه، وأنّ الباري سبحانه منزّه عن شيء منها في كيفيّة إبداعه لخلقه، وأمّا الشريك، فمنزّه عنه ببرهان الوحدانيّة كما سبقت الإشارة إليه أيضاً.

«فَتَمَّ خَلْقُه بِأَمْرِه وأَذْعَنَ لِطَاعَتِه وأَجَابَ إِلَی دَعْوَتِه»: أراد تمام مخلوقاته من جهة جوده بإفادتها ما ينبغي لها؛ فإن عرض لشيء منها فوت کمال؛ فلعدم استعداده وقبوله لذلك، وإذعانه ذلَّته في رقّ الحاجة، والإمكان وتصريف القدرة، وإجابته إلى دعوته كونه في الوجود عن قوله: «كِنْ»(1)«لْمَ يَعْتِرَضْ دُونَه رَيْثُ: توقف الْمُبْطِئِ ولَا أَنَاةُ الْمُتَلَكِّئِ»: المتأخر تنزيه لفعله تعالى، وأمره أن يعرض في طاعة الأشياء

ص: 277


1- سورة آل عمران: الآية 47

له شيء من هذه الكيفيّات إذ كلّ شيء في قهره، وعلى غاية من السرعة إلى إجابة أمره، ولما كان تعالى «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»(1)، وفي قوله «كِنْ»(2)هبة لكل ما ينبغي لذلك المأمور، وما يعدّه لإجابة أمره بالكون في الوجود ويجب عنه؛ فكيف يمكن أن يعرض له في إجابة الأمر بطوء؛ أو تلکَّیء بل يكون كلمح البصر كما قال تعالى «وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ» ويحتمل أن يكون ذلك تنزيهاً له تعالى؛ أن يعرض له من جهة ما هو فاعل شيء من هذه الكيفيّات؛ فإنّ البطؤ والأناة، والتلکَّیء من عوارض الحركة الَّتي هي من عوارض الجسم، واعتراضها؛ فيمن يفعل بالآلة، وتشتدّ حركته وتضعف، وقد علمت تنزيه الله تعالى عن جميع ذلك «فَأَقَامَ مِنَ الأَشْيَاءِ أَوَدَهَا اعوجاجها ونَهَجَ حُدُودَهَا ولَاءَمَ بِقُدْرَتِه بَیْنَ مُتَضَادِّهَا ووَصَلَ أَسْبَابَ قَرَائِنِهَا»: أمثالها لأودها إقامته لأودها رفعه لاعوجاج كلّ شيء بإعداده لما ينبغي له وإفاضة كماله، ونهجه لجددها أو لحدودها على الروايتين هو إيضاحه لكلّ شيء وجهته وغايته الَّتي تيسّرها له، وملائمته بين متضادّها کجمعه العناصر الأربعة على تضادّ کیفیّاتها في مزاج واحد وقد سبق بيانه، ووصله لأسباب قرائنها إشارة إلى أنّ الموجودات لا تنفكّ عن أشياء تقترن بها من هيئة أو شكل أو غريزة ونحوها واقتران الشيئين لا محالة مستلزم لاقتران أسبابهما واتّصالهما لاستحالة قيام الموجود بدون أسبابه، وذلك الوصل مستند إلى کمال قدرته إذ هو مسبّب الأسباب، وقال بعض الشارحين: أراد بالقرائن النفوس، وعلى هذا يحتمل أن يكون معنى وصله لأسبابها هدایتها إلى عبادته وما هو الأولى بها في معاشها ومعادها وسوقها إلى ذلك إذ المفهوم من قول القائل: وصل الملك أسباب فلان، إذا علَّقه عليه ووصله إلى برّه وإنعامه، والأوّل

ص: 278


1- سورة يس: الآية 82
2- سورة آل عمران: الآية 47

أظهر.

«وفَرَّقَهَا أَجْنَاساً مُخْتَلِفَاتٍ»: لا يريد بالأجناس والحدود ما اصطلح عليه قوم في عرفهم بل ما اختلف بالأمور المذكورة كلَّها أو بعضها فهو مختلف الجنس لغة، وحدّ الشيء منتهاه وما يحيط به، والأقدار المقادير والأشكال أيضاً(1).

«والْغَرَائِزِ»: القوى النفسانية والأخلاق «والْهَيْئَاتِ»: والصفات، وإن حملنا الحدود على ما هو المتعارف کان حسناً فإنّ حكمة الخالق سبحانه اقتضت تمیّز بعض الموجودات عن غيرها بحدودها وحقایقها وبعضها بأشكالها وهيئاتها ومقاديرها وغرائزها وأخلاقها كما يقتضيه نظام الوجود.

«بَدَايَا خَلَائِقَ أَحْكَمَ صُنْعَهَا وفَطَرَهَا عَلَى مَا أَرَادَ وابْتَدَعَهَا»: أي هي عجائب مخلوقات أحكم صنعتها على وفق أرادته بالله التوفيق.

«ومنها في صفة السماء

ونَظَمَ بِلَا تَعْلِيقٍ رَهَوَاتِ فُرَجِهَا»: جمع رهوة وهي الفرجة وهي الفرجة المتسعة «ولَاحَمَ»: الصق «صُدُوعَ»: شقوق «انْفِرَاجِهَا»: يقتضي بظاهره أن السماء كانت ذات فرج وصُدع، وهذا على رأي المتكلَّمين ظاهر فإنّ الأجسام لمّا كانت عندهم مركَّبة من الأجزاء الَّتي لا تتجزّیء كانت قبل تأليفها كذلك وأما على رأي غيرهم؛ فقالوا يحتمل أمرين احدهما: أنه له كانت السموات مركبة من أجزاء، وكانت بين أجزاء كل مرکب مباينة لولا التركيب والتأليف استعار علیه السّلام الرهوات، والفرج لما يتصوّر من المباينة بين أجزاء السماء عند قطع النظر عن صانعها، ومرکَّبها سبحانه ونظامه لرهوات فرجها إفاضته لصورها على قوابلها

ص: 279


1- في بعض النسخ وردت هذه الزيادة: فِي الْحُدُودِ والَأقْدَارِ

حتّى تمّت مرکَّباً منتظماً متلاحم الصدوع والفرج، والثاني: يحتمل أن يشير بالفرج إلى ما بين أطباق السماوات من التباين، ونظمه لرهواتها، وملاحمة صدوعها خلقها متماسّة لاخلاء بينها، ونبّه على کمال قدرة الله تعالى بقوله: بلا تعليق، فإنّ الأوهام حاكمة بأنّ السماء، واقفة في خلاء کما يقف الحجر في الهواء وذلك منشأ حيرتها، وتعجّبها فحرّکها بذلك القول إلى التعجّب والاستعظام.

«ووَشَّجَ بَيْنَهَا وبَیْنَ أَزْوَاجِهَا»: نفوسها الَّتي هي الملائكة السماويّة بمعنی قرائنها وكلّ قرين زوج: أي ربط ما بينها وبين نفوسها بقبول كلّ جرم سماويّ لنفسه الَّتي لا يقبلها غيره.

«وذَلَّلَ»: لیٍّن «لِلْهَابِطِنَ بِأَمْرِه والصَّاعِدِينَ بِأَعْمَالِ خَلْقِه(1)مِعْرَاجِهَا»: قد سبقت الإشارة إلى أنّ الملائكة ليست أجساماً كسائر الحيوان؛ فإذن ليس هبوطها، وصعودها الهبوط، والصعود المحسوسين، وإلَّا لكان الباري جلّ قدسه عن أوهام المتوهّمين في جهة إليه يصعد وكذلك الصاعدون بأعمال الخلق منهم الملائكة أيضاً، وعنه ينزل؛ فإذن هو استعارة لفظ النزول من الجهة المحسوسة إلى أسفل النزول المعقول من سماء الجود الإلهيّ إلى أراضي الموادّ القابلة للإفاضات العالية، وبذلك المعنى يكون هبوطها عبارة عن اتصالها إلى كلّ ما دونها کماله متوسّطة بينه، وبين موجده وهم المرسلون من الملائكة بالوحي وغيره، وأمّا معنى الصعود بها؛ فتعود إلى كونه منقوشة في ذوات الصاعدين بها، وقد لاح فيما سبق أنّ علم الله سبحانه بمعلولاته البعيدة كالزمانيّات والمعدومات الَّتي من شأنها أن يوجد في وقت، ويتعلَّق بزمانٍ يكون بارتسام صورها المعقولة في تلك الألواح، أيضا مستعار وهي كلفظ الهبوط للمعنى الَّذي ذكرناه من أراضي

ص: 280


1- ورد في بعض النسخ: حُزُونَةَ

النفوس إلى الألواح المحفوظة، وأمّا انفراجها الَّذي ذلَّك حزونته لهم، وسهل عليهم سلوكه؛ فيعود إلى عدم حجبها ومنعها لنفوذ علوم الملائكة بأعمال الخلق وما يجري في هذا العالم، وكما أنّ الجسم المتصدّع لا يمنع نفوذ جسم آخر فيه من حيث هو متصدّع، والوصول إلى ما رواءه كذلك السماء لا تحجب علوم الملائكة أن تتعلَّق بما في هذا العالم من الموجودات؛ فجرت مجرى المنفرج من الأجسام؛ فاطلق عليه لفظ الانفراج، وتذليله لحزونة ذلك الانفراج لهم هو كونها غير مانعة بوجه ما لجريان علوم الملائكة المقرّبين في هذا العالم.

«ونَادَاهَا بَعْدَ إِذْ هِيَ دُخَانٌ فَالْتَحَمَتْ عُرَى أشراجها»:أطرافها «وفَتَقَ بَعْدَ الِارْتِتَاقِ صَوَامِتَ أَبْوَابِهَا»: فيه احتمالان: الأوّل: أنّك قد تحققت فيما سلف ما معنی کون السماء من دخان؛ فأمانداؤه لها؛ فإشارة إلى أمره لها بالإتيان والكون في قوله تعالى «فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ»(1)وأمّا التحامها فباعتبار تركيبها بانضمام جزئها الصوريّ إلى جزئها القابل کما يلتحم طرفا العيبة بتشريج عراها(2)، وافتتاق صوامت أبوابها بعد ذلك الارتتاق هو جعلها أسباباً بنزول الرحمة ومدبّرات بواسطة، تنزل حركاتها على هذا العالم بأنواع رحمة الله فكانت حركاتها تشبه الأبواب إذ هي أبواب الرحمة ومفاتيح جوده.

الثاني: أنّ العرب تقول لكلّ ما علاك: فهو سماؤك، فعلى هذا يحتمل أن يكون المراد بالسماء ما هو أعمّ من السماء المعهودة، ويكون قوله: وناداها إشارة إلى سماء السحاب وكونها دخاناً هو كونها بخاراً قبل الانعقاد يشبه الدخان فاستعير له لفظ،

ص: 281


1- سورة فصلت: الآية 11
2- شرج العيبة بالتحريك عراها وقد اشرجت العيبة إذا داخلت بين أشراجها ومجرة السماء تسمى شرجاً والعيبة ما يُجعل فيه الثياب؛ الصحاح للجوهري: ج 1 ص 324

والتحام عرى أشراجها إشارة إلى التحام تلك الأجزاء البخاريّة وانعقادها سحاباً وإفتاق صوامت أبوابها هو إنزال المطر منها كما قال «فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ»(1)«وأَقَامَ رَصَداً»: جمع راصد بمعنى الحافظ «مِنَ الشُّهُبِ الثَّوَاقِبِ عَلىَ نِقَابِهَا»: له معنيان: أحدهما: أن يكون استعار النقاب لكونها بحيث لا يمنع تعلَّق العلوم بما ورائها من الأجسام والمجردات، وقد سبق معنى الشهب وإقامتها رصداً.

الثاني: أن يكون استعار الرصد لهذه الشهب المحسوسة ورشّح بذكر النقاب إذا شأن الرصد والحرسة حفظ الفرج والأبواب، ویکون سرّ ذلك ووجه الحكمة فيه أنّ العرب كانت تعتقد أنّ الشياطين تصعد إلى السماء فتسترق الغيب من الملائكة ثمّ تلقيه إلى الكهنة، والسحرة، ونحوهم؛ فلمّا آن دور الستر، والنهي عن التكهّن ونحوه لما بيّنا فيه من، فساد أذهان الخلق، وصرف كونهم عن غرض الشريعة ألقى الوحي إليهم أنّ هذه الشهب الَّتي تنقضّ، إنّما جعلت رجوماً للشياطين مسترقي السمع كلّ من استمع منهم رمى بشهاب منها، وأن السماوات حجبت عنهم؛ فلا يصلون إليها لينغرس في أذهان الخلق انقطاع مادّة الكهانة، ونحوها فنسبوا اعتقادهم فيه؛ فيكون ذلك كسراً لأوهامهم الَّتي بيّنا أنّها شياطين النفوس وقمعاً لها وبالله التوفيق.

«وأَمْسَكَهَا مِنْ أَنْ تُمُورَ فِي خَرْقِ الْهَوَاءِ بِأَيْدِه»: هالكة «وأَمَرَهَا أَنْ تَقِفَ مُسْتَسْلمِةَ لأَمْرهِ»: هالكة «وأمرها أن تقف مشتليمة لأمره»: أي حفظها بقوته عن أن تحرّكها الريح المخترعة فيها مجيئا وذهابا وحکمت الحكمة الإلهيّة عليها بالاستقرار انقيادا لقهره، والأمر الأوّل إشارة إلى حكم القضاء، والأمر الثاني إشارة إلى اعتبار القدرة.

ص: 282


1- سورة القمر: الآية 11

«وجَعَلَ شَمْسَهَا آيَةً مُبْصِرَةً لِنَهَارِهَا وقَمَرَهَا آيَةً مَمْحُوَّةً مِنْ لَيْلِهَا»: لقوله «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ» الآية(1)، وكونهما آيتين: أي لدلالتهما على كمال قدرته، ونقل عن أئمّة التفسير في إبصار آية النهار، ومحو آية الليل وجوه: أحدها: أنّ إبصار آية النهار هو بقاء الشمس بحالها، وتمام ضيائها في كلّ حال، ومحو آية الليل هو اختلاف أحوال القمر في إشراقه، ومحاقه بحيث لا يبقى ليلتين على حالة واحدة بل كلّ ليلة في منزل بزيادة أو نقصان.

الثاني: مانقل أن ابن الكوّاء سأله عليه السّلام عن اللطخة الَّتي في وجه القمر فقال: ذلك محو آية الليل.

الثالث: عن ابن كثير: أنّ الآيتين هما ظلمة الليل، وضياء النهار، والتقدير وجعلنا الليل، والنهار ذوی آیتين فقوله: «فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ»(2): أي لم نجعل للقمر نوراً من ذاته بل من الشمس، وإبصار آیة النهار كون الشمس مضيئة بذاتها، ومن هنا لابتداء الغاية؛ أو لبيان الجنس متعلَّق بممحوّة أو بجعل، وقيل: أراد من آیات ليلها «وأَجْرَاهُمَا فِي مَنَاقِلِ مَجْرَاهُمَا وقَدَّرَ سَیْرَهُمَا فِي مَدَارِجِ دَرَجِهِمَا»: الَّتي قدّر سيرهما، فينا هي بروجهما ومنازلهما، وأُشير إلى مفهوم الدرج، والبروج والمنازل، وهو أنّ الناس قسموا دور الفلك التي تسير فيه الكواكب باثني عشر قسماً، وسمّوا كلّ قسم برجاً، وقسّموا كلّ برج بثلاثين قسماً، وسمّوا كلّ قسم درجة، وسمّوا تلك البروج أسماء: الحمل الثور الجوزاء السرطان الأسد السنبلة الميزان العقرب القوس الجدي الدلو الحوت.

والشمس تسيَّر كلّ برج منها في شهر واحد، والقمر يسيَّر كلّ برج منها أزيد

ص: 283


1- سورة الإسراء: الآية 12
2- سورة الإسراء: الآية 12

من يومين، ونقص من ثلاثة أيّام، وأمّا منازل القمر؛ فثمانية، وعشرون، وأسماؤها: الشرطين البطين الثريّا الدبران الهقعة؛ الهنعة الذراع النثرة الطرفة، الجبهة الزبرة الصرفة العوا السماك الغفر الزبانا؛ الإكليل القلب الشولة النعائم البلدة سعد الذابح سعد بلع سعد السعود سعد الأخبية الفرع المقدّم الفرع المؤخّر الرشاء، والقمر يكون كلّ يوم في منزل منها «وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ»(1)«ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ»(2).

«لِيُمَيِّزَ بَیْنَ اللَّيْلِ والنَّهَارِ بِهِمَا ولِيُعْلَمَ عَدَدُ السِّنِينَ والْحِسَابُ بِمَقَادِيرِهِمَا»: أي بمقادير سيرهما، وقد سبق بيانه في الخطبة الأولى.

«ثُمَّ عَلَّقَ فِي جَوِّ فلَكَهَا»: لمّا أشار أوّلاً إلى تركيبها، أشار إلى قرارها في أحيازها وهو المشار إليه بتعليق فلكها في جوّها.

فإن قلت: فقد قال أوّلا: بلا تعليق ثمّ قال هاهنا: وعلَّق. فما وجه الجمع، ولا منافاة بين بلا تعليق، وعلق لأنه أمر أضافي يصدق سلبه واثباته باعتبارین فالمراد بالأول انه غير معلقة بجسم آخر فوقها.

وبالثاني أنه علقها في جوّ ها بقدرته، وأراد بالفك أسم الجنس وهو أجسامها المستديرة التي يصدق عليها هذا الاسم.

«ونَاطَ بِهَا زِينَتَهَا مِنْ خَفِيَّاتِ ذَرَارِيِّهَا»: جمع ذري من النجوم «ومَصَابِيحِ كَوَاكِبِهَا»: لقوله تعالى «وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ»(3)،(4)«مُسْتَرِقِي السَّمْعِ

ص: 284


1- سورة الأنبياء: الآية 33
2- سورة الأنعام: الآية 96
3- سورة الملك: الآية 5
4- ورد في بعض النسخ: ورَمَی

بِثَوَاقِبِ شُهُبِهَا»: «فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ»(1)وإنّما أعاد ذكر الشهب لأنّه ذكر أوّلاً أنّه أقامها رصداً وذكر هنا أنّه جعلها رصداً له: أي لرقي مسترقي السمع بها وأَجْرَاهَا: الكواكب عَلَى أَذْلَالِ: طرف تَسْخِيِرهَا: لقوله عز من قائل «وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ»(2)والذلَّة: ذلَّة الإمكان والحاجة إلى الإيجاد والتدبير وبينها بقوله مِنْ ثَبَاتِ ثَابِتِهَا ومَسِیرِ سَائِرِهَا: السيارة هي الكواكب السبعة: زحل والمشتري والمرّيخ والشمس والزهرة وعطارد والقمر، ويسمّى الشمس والقمر بالنيّرين والخمسة الباقية بالمتحيّرة، لأن لك واحد منها استقامة ثم وقوفاً ثم رجوعاً ثم وقوفاً بائناً، ثم عود إلى الاستقامة، وليس للنيّرين غير الاستقامة، وما في الكواكب الَّتي على السماء غير هذه السبعة تسمّى بالثوابت وفلكها الثامن وكلّ واحد من السبعة يتحرّك حركة مخصوصة يخالف حركة الآخر.

فأمّا صعودها وهبوطها: فصعودها طلبها لشرفها وشرف الشمس في الدرجة التاسعة عشر من الحمل وهُبُوطِهَا وصُعُودِهَا: اعلم أن صعودها طلبها لشرفها، وشرفها الشمس في الدرجة التاسع عشر من الحمل وشرف القمر في الدرجة الثالثة من الثور وشرف زحل في الحادية والعشرين من الميزان وشرف المشتري في الخامسة عشر من السرطان وشرف المريخ في الدرجة الثامنة والعشرين من الجدي وشرف الزهرة في السابعة والعشرين من الحوت و شرف عطارد في الخامسة والعشرين من السنبلة، وشرف الرأس في الثالثة من الجوزاء وشرف الذنب في الثالثة من القوس، وبرج الشرف كلَّه شرف، إلَّا أنّ تلك الدرجات قويّة وما دام الكواكب متوجّهاً إلى

ص: 285


1- سورة الصافات: الآية 10
2- سورة الأعراف: الآية 54

قوّة الشرف فهو في الازدياد والصعود فإذا جازها صار في الانتقاص والهبوط كل کوکب، يقابل شرفه وصعوده.

«ونُحُوسِهَا وسُعُودِهَا»: قالوا زحل والمرّيخ نحسان أكبر هما زحل، والمشتري والزهرة، سعدان أكبرهما المشتري، وعطارد سعد مع السعود ونحس مع النحوس، والنيّران سعدان من التثليث والتسدیس نحسان من المقابلة والتربيع والمقاربة، والرأس سعد، والذنب والكبد نحسان، ومعنی سعودها ونحوسها کون اتّصالاتها أسباباً لصلاح شيء من أحوال هذا العالم وفساده وبالله التوفيق(1).

ص: 286


1- اختلف العلماء في هذا الباب فكلٌ ذهب في توجيه معين فمنهم من أخذ هذا المنحى الذي ذهب إليه المصنف رحمه الله تعالى على أن حركة النجوم والكواكب وتلاقيها ومسألة الصعود من أول الشهر القمري إلى ليلة النصف منه على تقدير المنازل تزامناً مع حركة الأبراج وتلاقيها مع الكواكب و ارتباطاً بعدد الساعات السعيدة والنحسة من الليل والنهار والبالغ عددها أربع وعشرون ساعة مع تزايد ساعات النهار صيفاً ونقصانها ليلاً، وتناقص ساعات النهار شتاءً وزيادتها ليلاً فهذا يسمى صعوداً إلى الليلة الخامس عشرة من الشهر الهجري القمري، ومثله من الليلة السادس عشرة إلى الليلة التاسع والعشرين أو الليلة الثلاثين من الشهر القمري نزولاً، وإن كل هذه الحركة بالاقتران والتزامن مع حركة الأبراج والكواكب مع ساعات الليل والنهار السعيدة والنحسة وما لها وما عليها وما فيها من تقدير وتأثير فهو كله بيد الله سبحانه وتعالى، أما القول بأن لها تأثيراً على متغيرات العالم من حصول النفع والضرر، فهذا قول بعض طوائف المسلمين غير الشيعة الإمامية، وغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى، أما ما ذهبت إليه علماء الشيعة الإمامية إلى أن كل حركة الأفلاك بيد الله تعالى «الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى» سورة طه الآية: 50، وقوله تعالى «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ» الآية 21 من سورة الحجر، وأن كل تأثیر من النفع أو الضرر لهوَ بيد الله تعالى وبأمره وتقديره، وهي أي الكواكب والنجوم والأبراج جعلها الله تعالى أماناً لأهل السماء وزينة للناظرين فقال عز من قائل «وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ» الآية 16 من سورة الحجر، وزينة الناظرين انتفاعهم من النجوم للاستعلام والهداية للطريق والرصد لقوله «وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ» الآية: 16 من سورة النحل

المحتويات

ومن كلام له عليه السّلام؛ «في معنى قتل عثمان»:...5

ومن كلام له قاله صلوات الله عليه...10

ومن خطبة له صلوات الله عليه...13

ومن خطبة له صلوات الله عليه عند مسيره لقتال أهل البصرة،...21

ومن خطبة له عليه السّلام في استنفار الناس إلى أهل الشام...25

ومن خطبة له عليه السّلام بعد التحكيم:...32

ومن خطبة له عليه السلام في تخويف أهل النهروان:...37

ومن كلام له عليه السّلام يجري مجرى الخطبة:...40

ومن خطبة له عليه السّلام:...44

ومن خطبة له صلوات الله عليه:...46

«ومن كلام له عليه السلام»:...47

ومن خطبة له عليه السلام:...50

ومن خطبة له عليه السلام: في النهي عن الهوى وطويل الأمل في الدنيا...52

ص: 287

ومن كلام له عليه السلام...55

«ومن كلام له لما هرب مصقلة بن هبيرة الشيباني إلى معاوية،...60

ومِن كَلامٍ له عَليْه السّلَام...62

ومِن كَلام له عَليه السّلام عند عزمه على المسَير ووضع رجله في الركاب متوجهاً إلى حرب معاوية...66

ومن خطبة له عليه السّلام عند المسير إلى الشام:...70

ومن خطبة له عليه السلام:...71

«ومن خطبة له عليه لسلام...78

ومن كلام له عليه السلام...79

ومن خطبة له عليه السّلام...81

من خطبة له عليه السلام:...85

ومن كلام له عليه السّلام وقد استبطأ أصحابه إذنه لهم في القتال بصفين:...86

ومن كلام له عليه السّلام لأصحابه يوم صفّين حين أقرّ الناس بالصلح،...88

ومن كلام له عليه السّلام لأصحابه:...90

«وَمِنْ كَلامٍ لَهُ عَلَيهِ السِّلاَمْ كَلَّمَ بهِ الخَوَارِجْ»...92

ص: 288

ومن كَلام له عَليه السّلام لماَّ خوّف مِن الغيلة:...99

ومن خطبة له صلوات عليه محذرة عن الدنيا منبهة على وجوب لزوم أوامر الله فيها...100

ومن خطبة له عليه السّلام...104

ومن خطبة له عليه السلام...109

ومن كلام له عليه السلام يقوله لأصحابه في بعض أيام صفين:...120

ومن كلام له عليه السّلام...125

وَمن كَلامِهِ عَلّيهِ السّلام...129

قال عليه السلام في سُحْرَة اليوم الذي ضرب فيه:...134

ومن خطبة له عليه السّلام علم فيها الناس الصلاة على النبي صلی الله علیه وآله،...139

ومن كلام له عليه السّلام لمروان بن الحكم بالبصرة...145

ومن كلام له عليه السّلام لما عزموا على بيعة عثمان...146

ومن كلام له عليه السلام لما بلغه اتهام بني أمية له بالمشاركة في دم عثمان...148

ومن خطبة له عليه السّلام:...149

ومن كلام له عليه السلام...152

ص: 289

ومن كلام له عليه السلام لبعض أصحابه:...154

وَمن كَلامٍ لَهُ عَليه السَّلام بَعّدَ فَراغِةِ مِنّ حَربِ الجَمّلْ في ذمِ النْسّاء:...159

«ومن كلام له علَيّه السلام في ذم صفة الدنيا...163

ومن خطبة له عليه السّلام تسمّى الغرّاء:...167

ومن كلام له عليه السلام في ذكر عمرو بن العاص:...202

ومن خطبة له عليه السّلام:...206

ومن خطبة له عليه السّلام: في بعض أوصاف الحق سبحانه:...212

ومن خطبة له عليه السّلام: وفيها فصول...221

ومن خطبة له عليه السّلام:...242

ومن خطبة له عليه السّلام...247

ومن خطبة له عليه السلام تعرف بخطبة الأشباح وهي من جلائل خطبه...256

«ومنها في صفة السماء...279

ص: 290

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.