تحفة العلية في شرح خطابات الحیدرية المجلد 1

هوية الکتاب

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

تحفة العلیة في شرح خطابا الحیدریة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 1346 لسنة 2016

مصدر الفهرسة:

IO-KaPLI ara IQ-KaPLI rda

رقم تصنيف LC:

BP193.1.A125 2020

المؤلف الشخصي: ابن حبيب الله، محمد، كان حيا 881 للهجرة - مؤلف.

العنوان: تحفة العلية في شرح خطابات الحيدرية: شرح نهج البلاغة /

بيان المسؤولية: افصح الدين محمد بن حبيب الله بن أحمد الحسني الحسيني؛ تحقيق السيد علي الحسني؛ تقديم السيد نبيل الحسني الكربلائي.

بيانات الطبع: الطبعة الاولى.

بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2021 / 1442 للهجرة.

الوصف المادي: 7 مجلد: صور طبق الأصل؛ 24 سم.

سلسلة النشر: (العتبة الحسينية المقدسة؛ 762).

سلسلة النشر: (مؤسسة علوم نهج البلاغة، 190؛ سلسلة تحقيق المخطوطات ، 13).

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن مراجع ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام) الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - حديث.

مصطلح موضوعي: الخطب الدينية الإسلامية.

مصطلح موضوعي: البلاغة العربية. اسم مؤلف اضافي: شرح ل(عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

اسم مؤلف اضافي: الحسني، علي - محقق.

اسم مؤلف اضافي: الحسني، نبيل، 1386 للهجرة - مقدم.

اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق)، مؤسسة علوم نهج البلاغة. جهة مصدرة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 1

اشارة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 1346 لسنة 2016

مصدر الفهرسة:

IO-KaPLI ara IQ-KaPLI rda

رقم تصنيف LC:

BP193.1.A125 2020

المؤلف الشخصي: ابن حبيب الله، محمد، كان حيا 881 للهجرة - مؤلف.

العنوان: تحفة العلية في شرح خطابات الحيدرية: شرح نهج البلاغة /

بيان المسؤولية: افصح الدين محمد بن حبيب الله بن أحمد الحسني الحسيني؛ تحقيق السيد علي الحسني؛ تقديم السيد نبيل الحسني الكربلائي.

بيانات الطبع: الطبعة الاولى.

بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2021 / 1442 للهجرة.

الوصف المادي: 7 مجلد: صور طبق الأصل؛ 24 سم.

سلسلة النشر: (العتبة الحسينية المقدسة؛ 762).

سلسلة النشر: (مؤسسة علوم نهج البلاغة، 190؛ سلسلة تحقيق المخطوطات ، 13).

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن مراجع ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام) الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - حديث.

مصطلح موضوعي: الخطب الدينية الإسلامية.

مصطلح موضوعي: البلاغة العربية. اسم مؤلف اضافي: شرح ل(عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

اسم مؤلف اضافي: الحسني، علي - محقق.

اسم مؤلف اضافي: الحسني، نبيل، 1386 للهجرة - مقدم.

اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق)، مؤسسة علوم نهج البلاغة. جهة مصدرة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 2

سلسلة تحقيق المخطوطات (13)

وحدة تحقيق الشروحات

لأفصح الدین محمد بن حبیب الله بن احمد الحسني الحسیني من أعلام القرن الثامن الهجري

الجزء الأول

تحقیق السید علي الحسیني الکربلائي

اصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة

العتبة الحسینیة المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

العتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى

1442 ه - 2021 م

العراق - كربلاء المقدسة - مجاور مقام علي الأكبر (عليه السلام)

مؤسسة علوم نهج البلاغة

الموقع الألكتروني:

www.inahj.org

الإيميل:

Inahj.org@gmail.com

موبایل: 07815016633 - 07728243600

ص: 4

الإهداء

إلى الكمال الأمثل والبدر الأتم.. المصطفى الامجد والبشير محمد.. إلى من سمي في المكارم كلها فكان على رأسها قمة هرم..

إلى من عجز البيان وكل اللسان لإحصاء مآثره.. فان قلت وما عساي أن أصل بقول الله تعالى لحبيبه محمد

«يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ»(1) «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ»(2) «يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ»(3) «يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ»(4)..

فإلى المثل الأعلى لرحمة الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم أهدي هذا الجهد القليل عسى أن ينفعني الله تعالى به «يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ»(5)..

ص: 5


1- سورة المائدة: الآية 41
2- سورة الأنفال: الآية 64
3- سورة المزمل: الآية 1
4- سورة المدثر: الآية 1
5- سورة الشعراء: الآية 88 - 89

ص: 6

مقدمة المؤسسة:

بسم الله الرحمن الرحيم

التحقيق:

الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، والثناء بما قدّم، من عموم نعم ابتداها، وسبوغ آلاء أسداها، وتمام منن أولاها، والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين محمد وآله الطاهرين.

أما بعد:

فإن الاهتمام بالتراث العلمي والفكري والروائي المخطوط يعدّ من أهم السمات التي تأخذ بأعناق المؤسسات العلمية والفكرية وأصحاب الفضيلة العلمية الذين انعكفوا على دراسة هذا التراث واستخراج خزائنه وإظهارها إلى الناس بغية الانتفاع منها والمحافظة عليها من التلف والضياع والتلاعب.

وفيما نأتي إلى التراث الخطي في الحديث والتفسير والفقه والآداب والتربية والمعارف المختلفة، نجد أن شخصية الإمام علي عليه السلام كانت حاضرة في جميع هذه الحقول المعرفية، وإن ما احتواه التراث الخطي في هذه الشخصية لأكثر بكثير مما طبع و نشر.

وعليه:

فقد كان من المهام والأهداف التي سعت إليها مؤسسة علوم نهج البلاغة

ص: 7

هو الاهتمام بهذا التراث المخصوص بالإمام علي عليه السلام وكتاب نهج البلاغة وتحقيقه وطبعه ونشره في الأوساط العلمية والثقافية.

وما هذا الشرح الذي بين أيدينا إلا واحداً من الشروح الكثيرة التي اكتنزتها المكتبة التراثية والخطية المختصة بكتاب نهج البلاغة ضمن شرح أبي الحسن البيهقي (ت 565 ه) إلى عصرنا الحالي؛ كُتب العديد من الشروح وعلى لغات عدّة من عربية وفارسية وأوردوية، ولعل الرجوع إلى كتاب الذريعة لاغا بزرك الطهراني في إيراده (رحمه الله) و بیانه لشروح نهج البلاغة ليُغني عن الإسهاب في بيان ما کُتب في هذا السِّفر الخالد.

وقد انضم السيد محمد بن حبیب الله بن أحمد الحسني الحسيني الملقب ب(أفصح الدين) إلى هذا الركب المبارك، وانبرى لشرح نهج البلاغة مستعيناً بما سبقه من الشرّاح، لاسيما ابن میثم البحراني (ت 679 ه)؛ والذي تأثر بأقواله وبيانه، فظهر ذلك جليًا في شرحه للخطب. أما الرسائل والحكم فقد اتكئ فيها على معارفه وعلومه لاسيما اللغوية والبلاغية في التزود من بحر کتاب نهج البلاغة.

وقد بذل المحقق جهده في ضبط النص وبيان مفرداته، سعيًا منه إلى الانضمام إلى العاملين في خدمة هذا الكتاب الشریف؛ فجزى الله المصنف والمحقق خير الجزاء لما بذلاه من جهد في هذا العمل. ونسأله أن يتقبله منها وينفعها به في يوم الورود «يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ».

والحمد لله رب العالمين

السيد نبيل الحسني الكربلائي

رئيس مؤسسة علوم نهج البلاغة

ص: 8

مقدمة التحقيق:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون، و لا يحصي نعمائه العادون، و لا يؤدي حقه المجتهدون، الذي لا يدركه بعد الهمم، و لا يناله غوص الفطن، الذي ليس لصفته حد محدود، و لا نعت موجود، و لا وقت معدود، و لا أجل محدود.

وأزكى الصلاة، وأتم السلام على أشرف الأنام محمد وآله الغر الكرام؛ الذين أفصحت ألسنتهم عن بديع الكلام، بأروع المعاني التي لا ينتهي غورها، ولا يقف عند حدٍ علومها.

أما بعد:

فإن لكلام مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله تعالى عليه؛ أبعاداً مختلفة في جميع ميادين الحياة، وقد جُمعت بعض كلماته بكتابٍ موسوم بنهج البلاغة، ولهي.. محاولةٌ تُعد قطرةً من بحر علمهِ، وكاشفٌ ضئيل عن مكنونِ فهمه، فعليٌ إمامُ المتقينَ ومولى الموحدينَ، لا يعرفه إلا الله تعالى، وحبيبهُ المصطفى محمد صلى الله عليه وآله.

الذي اختاره الله تعالى مثالاً لرحمة؛ فقال: جل ثناؤه «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ»(1)؛ فكان سيد رسله، وخاتم أنبيائه، والسراجُ المُشرق، من الأزل، والأول الذي أقر الله تعالى بالربوبية والطاعة؛ إذ قال عز وجل: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا

ص: 9


1- سورة الأنبياء: الآية 107

يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ»(1)؛ فكان المصطفى لذات الله تعالى، والمخصوص بعبادته؛ والمختار لرسالته؛ الذي فرض على كل من آمن بالله تعالى واسلم له؛ أن يذكرهُ ويُسلم عليه في كل يوم وليلة خمسة مرات، ولا يخرج المصلى من المسلمين من صلاته إلا بذكره صلى الله عليه وآله، بعبارة (وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)؛ ثم السلام عليه؛ إعلاءً لشأنه، وتعظيماً لذكره، وتخليداً لرسالته؛ فكان من إكرامه أن «أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى»(2) فكان سبحانه وتعالى يُريه أن يريه من آياته الكبرى «وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى» «ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى» «فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى»(3) في حق وصيَّه الإمام علي بن أبي طالب وخلافته؛ ولكونه وصيه، وأخاه، ووزيره، وحامل لوائه، والمؤتمن على دينه وشريعته، وصاحب سرّه، و نجواه، وسنده، وعضده، وباب مدينة علمه، الَّذي آتاه من العلم ألف باب، ففُتح له من كلّ باب ألف ألف باب، وآتاه الله تعالى الفضائل بأجمعها، وحجب عنه الرذائل كلها، وآتاهُ فصل الخطاب، فصار كلامه العَجب العجاب، قد عجز عن مثله، أكابر الفُصحاء، وتقاعس عنه أبلغ الأُدباء، حتی حار ذوي الألباب، من نيل بعض رشحات فصاحته، أو أن يُصيبوا قطرات من بلاغته صلوات الله تعالى عليه؛ لأن منه تأخذ قواعد الفصاحة، وأسس البلاغة.

وبحسب ما جاء في تفسير البلاغة الكثير من المعاني، وقال: إسحاق بن حسان بن قوهي: لم يفسر احد البلاغة كتفسير عبد الله بن المقفع، إذ قال: «البلاغة اسم المعان تجري في وجوه كثيرة فمنها: ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في السكوت، ومنها

ص: 10


1- سورة الأعراف: الآية 172
2- سورة الأسراء: الآية 1
3- سورة النجم: الآيات 7 - 10

ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون في الحديث، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما یکون شعراً، ومنها في الابتداء، والجواب، والسجع، والخطب، والرسائل، فغاية هذه الأبواب و مطالبها وظاهر ألفاضها وما تحمله من الإيحاء والإشارة في معانيها، وفي أغلبها الإيجاز، والإيجاز هو البلاغة»(1).

وفي الوقت الذي جمع فيه الشريف الرضي(2) خطب، ورسائل، وقصار الكلمات للإمام أمير المؤمنين علي بن بي طالب صلوات الله تعالى عليه، في كتابه الموسوم (نهج البلاغة) وكان الاسم على المسمى، فللبلاغة نهج تفرد به الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، إلا أنه لم يتعرض إلى شرحه، حتى تقدم الكثير من العلماء والأدباء وأهل الاختصاص إلى شرح نهج البلاغة، محصلين ومستمدين لكثيراً من التصانيف، والعلوم المميزة التي تخدم الدين وتنفع المؤمنين.

ومازال هناك الكثير من العلوم الجمة التي يحتويها كتاب نهج البلاغة، فبلاغة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام؛ كعين ماء لا ينضب معينها، وماء العين قطرات من بحر علمه المستمد من علم رسول الله صلى الله علیه و آله.

ومن هنا..

كان للشرح الموسوم ب(تحفة العلية في شرح الخطابات الحيدرية) أنموذج في التنويع المعرفي لمختلف العلوم، فلم يكن في الشرح بیان العلم معين بتفاصيل

ص: 11


1- راجع زهرة الآداب وثمرة الألباب لإبراهيم بن علي الحصري القيرواني: ج 1 ص 145
2- الشريف الرضي هو: أبي الحسن محمد بن الحسين بن موسى الموسوي، والملقب بالشريف الرضي، وقد تعلم النحو، والأدب، والتصريف، والمعاني، والبديع والبيان، هو و وأخوه الشريف المرتضى، الملقب بعلم الهدی، عند الأديب أبو نصر عبد العزيز بن عمر بن محمد بن نباته بن حميد بن نباته التميمي

مطولة تستلزم الملل، وتُخرج النص عن مقدار الحاجة إلى بيان ما يستحق بیانه، دون غيره من العلوم التي كان لها نصيب من الظهور في الشرح، فمرة على نحو الشاهد بشكل مختصر، ومرة أخرى تفصيلية على مقدار النص، وما يستلزمه من بیان، مع الكثير من الشواهد القرآنية، والأمثلة العربية، وشواهد السجع بأقسامه الثلاثة: المتوازي، والمطرف، والمتوازن.

والشواهد الشعرية لكثير من الشعراء، وللشارح نصیب منها في النظم للدلالة على بياناته في الشرح.

كما أسند المصنف كثير من الأحاديث إلى مصادر أبناء العامة، مع القليل من المصادر الشيعية، وذلك إما لميوله المذهبي، وإما لغرض قبولها من الآخر، حيث كلٌّ يرضى بما ذهبت إليه عقيدته، وثبتت عليه و جهته، وخصوصاً أن الكتاب مُهدى إلى خزانة الحضرة العلية من سلطة الدولة العثمانية.

وهذا ما يلزم المراعاة المعتقد المقابل في ماهم عليه من قبيل أستحسان الصلاة البتراء على الصلاة التامة المتعارفة بذكر آل النبي صلى الله عليه وآله.

أو من قبيل ذكر بعض المنافقين، أو كذکْرِ معاوية بن أبي سفيان، أو عمرو بن العاص، مع كل ما هم فيه من خبث السريرة وفساد العقيدة والظلم للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، إلا أنّه لم يُشجب أحدهم باللعن أو الذم، مع استحقاقهم اللعن بما نص الله عليه بقوله تعالى:

«أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا»(1).

ص: 12


1- سورة النساء: الآية 52

منهجنا في التحقيق:

1 - الإحالة العلمية للمصادر العامة والخاصة، من دون التوقف على اختلاف متن الرواية، مع كثرة النصوص واختلاف المصادر، حيث إنَّ ذلك يلزم الكثير من الوقت، والعمل الشاق من دون جدوى علمية ينتفع بها الباحث، وإن كان إرجاع الرواية إلى مضانها أوفق، وأكثر نفعاً للباحث والقارئ.

2 - تركت تخريج بعض الروايات التي نقلها المصنف بالمضمون لا بالنص، وعدم إخراجي لها لكثرة الاختلاف في المصادر، فالنقل بالمضمون يزيد في حيرة القارئ، فلا نعلم أي المصادر هو المقصود، وأن تلك الرواية أهي من هذا المصدر؟، أم من غيره؟، أو من ذلك المصدر دون غيره.

ومن حيث إن الأمانة تقتضي صحة النقل ودقته، فلا بد من الرجوع إلى مصادر نقل الرواية، وإن كان في بعضها اختلاف يسير أو كبير فلا ضير، إلا أن المشكلة في النقل بالمضمون المساوق لفهم الشارح، وهذا مما لا يُسمح بنسبته إلى مصدر معين؛ تماشياً مع أمانة حفظ النص.

وكان المصنف رحمه الله تعالى يستشهد بكثير من الآيات، فيختار بعض الكلمات المتفرقة من الآيات، على حدود كلمة أو كلمتين مندمجتين مع بعضهما، مما أوقفني ذلك حتى يتم الرجوع إلى النص القرآني الكريم، لإخراج كل آية على حده، وتثبيت أسم السورة، ورقم تسلسلها.

3 - قمت بالتعليق في الهامش على بعض المقاطع من كلام الشارح الذي يستلزم التوضيح، مثل ذكر المفردات التي هي أساء لقواعد منطقية وفلسفية، من قبيل

ص: 13

ذكر الكبرى، والصغرى في القياس المنطقي، أو من قبيل السلب أو عدم صحة السلب في قياس القضايا، أو من قبيل العلة التامة وشروطها، من المقتضي وعدم المانع، أو من قبيل القضية الشرطية المتصلة والمنفصلة، والسالبة والموجبة وغيره، وواجب الوجود ونحو ذلك من المطالب الفلسفية، أو الصناعة في علم الکلام، وما يعلل وما لا يعلل من العلم الكلامي، وكل ذلك كان يستلزم التوضيح لهذه الاستعمالات ببعض الشروح والتعليقات حتى لا يقع القارئ من غير أهل الاختصاص بالملل والضجر لعدم فهمه هذه المفردات.

وكان توضيحها بمقدار الإفهام، بإدراج معاني الكلمات لبعض الشروح والتعليقات المطلوبة لسرعة بيان المطلب، ومراد الشارح من النص وغريب الكلام.

4 - أستعنت بكثير من المصادر اللغوية، والأمثال العربية لتوضيح معاني كثير من المفردات متناً ونصاً، واعتمدت غالباً على كتاب العين للخليل الفراهيدي، لأنه أسبقهم قِدْماً، وعلى الصحاح للجوهري، ومن ثم على لسان العرب لابن منظور لسعة مطالبة اللغوية، وعلى زهرة الآداب وثمرة الألباب الإبراهيم القيرواني، ونهاية الأرب في فنون الأدب للنويري والفروق اللغوية لابي هلال العسكري وغيره.

5 - خرجت هوية كل مصدر من المصادر التي اعتمدناها؛ ضمن فهرست المصادر.

6 - جعلت بين معقوفتين كلمة [وآله] في المتن عند كل صلاة على النبي ذكرها المنصف، حيث لم يذكر في الأصل (وآله) وكانت في الأصل هي الصلاة البتراء (صلی

ص: 14

الله عليه وسلم) ولم أشر إلى ذكر في وضعها بين شارحتين في الهامش لغرض عدم أثقاله بكثرة الهوامش، وذلك لكثرة ورود ذكر الصلاة.

- اعتماد نسخة الأصل في التحقيق:

لم يكن للشرح الموسوم ب (بتحفة العلية في شرح خطابات الحيدرية) نسخة أخرى سوى النسخة التي اعتمدنا عليها في التحقيق.

أما ما يُنسب إلى وجود نسخة أخرى، عند السيد علي الهمداني الخاصة بالنجف؛ فبعد التقصي أتضح أنها هي المخطوطة التي بين ايدينا وتم تحقيقها، والمخطوطة هي بعينها التي كانت من موقوفات مدرسة السيد الخوئي رحمه الله تعالى، وليس هناك إلا شرح واحد لشخص واحد وهو الذي بين ايدينا.

وأما الشرح الموسوم (بالمواهب الإلهية) فهو ليس شرحاً على نهج البلاغة، بل هو شرح على الصحيفة، وقد ذكر ذلك أغا بزرك الطهراني کما سيأتي بيان ذلك.

وأما المواهب الإلهية فهي للسيد أفصح الدين الشيرازي، وهو غير محمد بن حبیب الله الحسني الحسيني والملقب أيضا بأفصح الدين.

ولا يسعنا في الختام إلا الشكر لله تعالى وحمده على مَنهِ وتوفيقه للتحقيق في شرح نهج البلاغة لمولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.

ولو لا ألطافه صلوات الله تعالى عليه لم نوفق لهذا، فلله تعالى الشكر المديد ببركة الصلاة على محمد وآله الطاهرين.

ص: 15

حُررت هذا المقدمة في الآخر من شهر رجب، لعام ألف وأربع مائة وتسع وثلاثين من الهجرة النبوية على صاحبها آلاف التحية والسلام.

السيد علي بن السيد قدوري بن السيد حسن الحسني الكربلائي.

ص: 16

ترجمة المؤلف:

بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله الذي أنارَ الظُلّم بعلمه، وجعلَ سبيل الوصولِ إليه محمداً وآله خيرَ الأمم؛ عليه وعليهم أفضل الصلاة وأتم وأزکی التسليم.

أما بعد..

فلقد نقل لنا التاريخ على مرٍّ العصورِ ودوامَ السنين؛ صوراً رائعةً لعلماء عُدُّوا أفذاذَ أزمنتهم، ولا يكاد يخلو زمانٌ من عَالِم موضح لكل مبهم، کاشفٍ بعلمه لكل زيفيٍ، مظهرٍ لكل مشتبهٍ فيه لبس.

وعليه..

عكف كثيرٌ من العلماء والمحققين والشراح علی کتاب نهج البلاغة لمولانا أمير المؤمنين صلوات الله تعالى عليه الذي وصفه بعضهم: «أنّه دون کلام الخالق، وفوق كلام المخلوقين»(1) وأصفه بأنَّه كتابٌ لا تنتهي علومه، وكلما قَرأتَهُ اشتقتَ إليهِ أكثر.

ومن أولئك العلماء الذين تشرفوا بخدمة كتاب نهج البلاغة؛ هو صاحب هذا المصنف؛ الذي حظي بالتوفيق والعناية من الله تعالى لشرح نهج البلاغة؛ في زمن تعصف به المنازعات الفكرية والمذهبية، وصراعات احتلال الدول الأوربية والعثمانية، مما كان للسيد المترجم له، مبادرة كتابة شرح لنهج البلاغة بخط مُذَهَّبٍ

ص: 17


1- يُنظر: التبيان في تفسير القرآن للسيد الخوئي: 77

ذي جدولة مميزة بأناقة الخط العربي، من شكل (النسخ المصحفي).

وأهدى ذلك الشرح بعد إتمامه في شهر صفر الخير؛ لعام ثمان ماْئة وإحدى وثمانين من الهجرة النبوية، على صاحبها آلاف التحية والسلام، وعلى آله الميامين الأطهار، لخزانة السلطان العثماني، وقد كتب في آخره (لخزانة كتب الحظرة العلية السلطانية الأعظمية الأعدلية خلد الله ملکه وسلطانه وأبَّد خلافته...) إلى أخر المدح والثناء عليه.

ولم يسمِّ السلطان المُهدى له الكتاب، بل ذكر أنَّه أهداهُ لخزانة الحظرة العلية، ومفردة الخزانة مكان حفظ المقتنيات و الممتلكات الثمينة، وآن ذاك كان الحكم العام السائد لسلاطين الدولة العثمانية، حيث إن الخزانة لغةً: المخزَن بفتح الزاي والمخن: ما يُخزن فيه الشيء والخُزانة بالكسر: واحدة الخزائن(1).

ولعله السلطان المُهدى له هو: السلطان (الغازي محمد الثاني الفاتح ) واسمه باللغة التركية في زمن الدولة العثمانية: (فاتح سلطان محمد خان ثاني)؛ ويُلقب أيضاً (بالسلطان الغازي محمد الثاني الفاتح للقسطنطينية)؛ ولد هذا السلطان في 26 رجب سنة 20833 ابريل سنة 1429 وهو سابع سلاطين هذه السلالة الملوكية، ولما تولى المُلك بعد أبيه لم يكن بآسيا الصغرى خارجاً عن سلطانه؛ إلا جزء من بلاد القرمان، ومدينة سينوب ومملكة طرابزون الرومية، وصارت مملكة الروم الشرقية قاصرة على مدينة القسطنطينية، وضواحيها وكان اقلیم موره مجزأ بين البنادقة وعدة امارات صغيرة يحكمها بعض أعيان الروم او الافرنج الذين تخلفوا عن اخوانهم بعد انتهاء الحروب الصليبية وبلاد الارنؤد وايبيروس في حمی

ص: 18


1- يُنظر: الصحاح للجوهري: ج 5 ص 2108

اسکندر بك السالف الذكر وبلاد البشناق البوسنه مستقلة والصرب تابعة للدولة العلية تابعية سيادته وما بقي من بحيث جزيرة البلقان شبه جزيرة البلقان داخلا تحت سلطة الدولة العلية؛ ينظر تاريخ الدولة العلية العثمانية لمحمد فريد باك: ج 1 ص 161.

وذكر المصنف بعد إتمام كتابه إهداءً للسلطان في عام 881 ه حيث تكون تلك السنة قد تزامنت مع عمر السلطان البالغ 48 سنة كما تقدم ذكر ولادته في عام 833 ه(1).

وللوقوف على بعض تفاصيل حياة المصنف:

أولاً: نسب المؤلف:

هو السيد محمد بن حبیب الله بن أحمد الحسني الحسيني الملقب بأفصح الدين.

أولاده وأحفاده:

أ - السيد علي بن السيد محمد بن حبيب الله

ب - حفيده السيد محمد بن السيد علي بن السيد محمد حبیب الحسني الحسيني.

وذكر السيد محسن الأمين أنَّ السيد محمد بن علي بن السيد محمد بن حبيب الله الحسني الحسيني له إجازة من والده السيد علي بن السيد محمد أفصح الدين وهو - أي السيد علي - له إجازة الرواية من والده السيد محمد بن حبيب الله الملقب بأفصح الدين، ومن هذا يتضح أنَّ له ولد وهو السيد علي، وحفيد وهو

ص: 19


1- هذا ما توصلت إليه بعد استفراغ الوسع استنتاجاً واستناداً إلى بعض القرائن، كقرينة عمر السلطان الغازي محمد الثاني الفاتح، التي تتناسب مع تاريخ إهداء الكتاب

السيد محمد الذي عاصر زمن الشاه عباس الكبير(1).

ثانياً: من ذَكرهُ من المتقدمين:

الشيخ مولى صالح المازندراني(2) في: شرح أُصول الكافي قال: والظاهر أنَّه من علماء العامة مستشهداً ببعض كلامه في شرح النهج(3).

ثالثاً: من ذَكرهُ من المتأخرين (المعاصرين):

1 - السيد عبد الزهراء الحسني الخطيب: وقد عَدهُ من مصادر نهج البلاغة وأسانیده: قال: التحفة العلية في شرح الخطابات الحيدرية: للسيد أفصح الدين محمد بن حبیب الله بن أحمد الحسيني كبير جداً، فرغ منه في صفر (سنة 884 ه) كتبه لبعض الملوك، ومنه نسخة موجودة في مكتبة السيد الجليل السيد علي الهمداني في النجف الأشرف(4)، ويسمى هذا الشرح أيضاً بالمواهب الإلهية؛ ولعل هذا لبس قد وقع فيه الكثير، إلا أن الشيخ أغا بزرك الطهراني أعلى الله مقامه قال: أن المواهب الإلهية لشرح نهج البلاغة هو للسيد محمد الشيرازي، والملقب في بعض التراجم أيضاً بأفصح الدين.

2 - السيد محمد حسين الحسيني الجلالي: في دراسة حول نهج البلاغة قال:

ص: 20


1- ينظر: أعيان الشيعة، للسيد محسن الأمين: ج 9 ص 139
2- الشيخ مولى محمد صالح بن أحمد السروري المازندراني من علماء الإمامية، له شرح أصول الكافي، وشرح على كتاب من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق، وشرح زبدة الأصول، وشرح معالم الأصول، وشرح قصيدة البردة، وكان من أبرز تلامذة محمد تقي المجلسي، توفي: 1081
3- یُنظر شرح أصول الكافي للشيخ مولى محمد المازندراني: ج 12 ص 456
4- مصادر نهج البلاغة وأسانيده، للسيد عبد الزهراء الحسيني: ج 1 ص 248

شرح التحفة العلية في شرح نهج البلاغة الحيدرية، للسيد أفصح الدين محمد بن حبیب الله بن أحمد الحسيني، فرغ منه سنة 881، توجد نسخة منه في مكتبة السيد عليّ الهمداني الخاصة في النجف.(1)

3 - الشيخ حسين جمعية العاملي: في شروح نهج البلاغة شرح نهج البلاغة: قال: السيد أفصح الدين محمد بن حبیب الله بن أحمد الحسيني فرغ من شرحه، شهر صفر 881 ه.

4 - الشيخ أغا بزرك الطهراني في الذريعة(2) قال: ذكر أنَّ شرح نهج البلاغة الحيدرية، للسيد أفصح الدين محمد بن حبیب الله بن أحمد الحسني الحسيني؛ لم يذكر اسم الكتاب في أثنائه، ولا في أوله لكن سماه بذلك بعض الفضلاء، وكتبه عليه لمناسبة أن المؤلف ذكر في آخره بعد تمام الشرح أنَّه جعله لخزانة كتب الحضرة العلية السلطانية الأعظمية الأعدلية، وأرَّخ فراغه بيوم السبت التاسع والعشرين من صفر سنة 881 ه، وصرح المؤلف باسمه ونسبه کما مرّ، ورأيت النسخة بالخط الجيد المذهب المجدول، تامة الأجزاء إلا الورقة الثانية منها فإنَّها ضاعت وهي في مجلد ضخم في الغاية، وهو شرحٌ مُزَّج(3). أوله (نحمدك يا ذا الشأن العلي والامتنان الجلي على إعطاء نهج البلاغة) وتوجد نسخة منها عند السيد حسين بن علي بن أبي طالب الهمداني النجفي وعليها تملك السيد أبي الفتوح الحسيني

ص: 21


1- يُنظر: دراسة حول نهج البلاغة للسيد عبد الزهراء الحسيني ص 147؛ وسيأتي لاحقاً في توضيح العلامة الشيخ عبد الحسين الأميني قدس سره؛ لدفع الاشتباه والخلط الحاصل في تسمية الكتاب
2- ذكره الشيخ أغا بزرك الطهراني في الذريعة: ج 13 ص 370
3- مُزَّج: بمعنی مضغوط العبارة لغزارة معانيه

الموسوي الشهرستاني ونقش وسط خاتمه عبده أبو الفتوح الحسيني وكتب على دائرة من نقش خاتمه(1).

وكذلك أفاد الشيخ أغا بزرك في الذريعة: ج 13 ص 375 أيضاً عبارته هذه التوضيح الخلط بين ما ذُكر من اسم لشرح الصحيفة وهو للسيد أفصح الدين محمد الشيرازي مؤلف (المواهب الإلهية) في شرح نهج البلاغة، ذكره السيد شهاب الدين في المقدمة التي كتبها للصحيفة المطبوعة، ومرَّ في ج 3 ص 455 (تحفة العلية) للسيد أفصح الدين فراجعه.

والظاهر أنَّ هذا خلط بسبب التشابه في اللقب، حيث إنَّ السيد أفضح الدين الشيرازي هو غير أفصح الدين حبيب الله الحسني الحسيني.

5 - السيد محسن الأمين في أعيان الشيعة قال: السيد محمد بن حبیب الله بن أحمد الحسني، الملقب بأفصح الدين العلامة المحدث الفقيه؛ له کتب منها كتاب التحفة العلية في شرح نهج البلاغة، فرغ من تأليفه يوم السبت لتسعة وعشرين من صفر سنة 881 ه، وكانت على ظهر الكتاب إجازة من حفيده السيد محمد بن علي بن محمد المترجم للسيد علاء الدين الحسين الحسيني الموسوي المشهور بخليفة سلطان وسلطان العلماء ختن الشاه عباس الكبير وقد ذكر فيها أنه يروي عن والده علي وهو عن والده السيد محمد أفصح الدين(2).

6 - العلامة الشيخ عبد الحسين الأميني: قال: ذكر البحاثة ابن يوسف الشيرازي في ترجمته (ماهو نهج البلاغة) شرحين أحدهما للسيد أفصح الدين المذكور في

ص: 22


1- راجع الذريعة لأغا بزرك الطهراني: ج 3 ص 455
2- ترجمة السيد محسن الأمين في أعيان الشيعة: ج 9 ص 139

الصفحة السابعة عشر، والآخر للسيد أفصح الدين الآخر المذكور في الصفحة السادسة والعشرين، ولم يعرف مؤلفه، وهو اشتباه واضح وليس هناك إلا شرح واحد لرجل واحد، وهو السيد أفصح الدين حبیب الله بن أحمد الحسني الحسيني.

وعده من الشراح کما ورد في النسخة الفارسية: ج 7 ص 300 (سيد أفصح الدين محمد بن حبیب الله بن أحمد حسيني، تاریخ فراغت از شرح، سال 881). وترجمته: السيد أفصح الدين محمد بن حبیب الله بن أحمد الحسيني فرغ من الشرح عام 881.

رابعاً: نتاجه العلمي.

لم أعثر على نتاج علمي آخر غير ما بين أيدينا من شرح نهج البلاغة؛ الذي أشاد بصحته من تقدم من العلماء المعاصرين؛ حيث إنهم عدُّوا شرحه هذا من الشروح المعتبرة التي دخلت ضمن أسانيد نهج البلاغة ومصادره، ولولا ما فيه من التفصيل وحسن البيان لما اعتبروه من الأسانيد، وإن كان في بيانه قريب من شرح ابن میثم البحراني، حيث استعمل المصنف عبارات كثيرة مطابقة لعبارة شرح ابن میثم البحراني إلا أنه في نهاية أغلب المطالب يأتي بعبارة مختلفة خاصة به، وهذا فقط لاحظناه في القسم الأول من هذا الشرح، وأما في القسم الثاني والثالث أي في الرسائل وقصار الحكم فالأمر مختلف تماماً عن شرح ابن میثم البحراني لنهج البلاغة، فأنه منفردٌ عن غيره من الشروح؛ لما يتضمنه من البيان، ودقة المعنى، وجميل التعبير.

ص: 23

ومما لا يخفى أنَّ كلَّ عمل کاشف عن دين وإيمان وتقوى فاعله، سواء كان خيرًا أم شرًا، وهو منظور من الله تعالى ورسوله والمؤمنين شهداء الأعمال على العباد لقوله جلَّ ثناؤه «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»(1) وکتابتهُ شرح نهج البلاغة كاشفٌ عن مايلي:

1 - المنزلة العلمية: إنَّ فهم محتوی و مضمون كلام الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) کاشفٌ عن منزلته العلمية في البحث العلمي.

2 - الفصاحة: كانت الفصاحة من صفاته بما احتواه شرحه لنهج البلاغة المتضمن لكثير من الآيات القرآنية والحِكْم والبيان وشواهد الشعر.

3 - الفقه: أشتهر السيد محمد بن حبیب الله بن أحمد الحسني الحسيني على لسان الأعلام (بأفصح الدين) وهذا كافٍ في تعريفه بالعلامة الفقيه کما قاله السيد محسن الأمين في أعيان الشيعة: السيد محمد بن حبیب الله بن أحمد الحسني الملقب بأفصح الدين العلامة المحدث الفقيه.

4 - العقيدة: الظاهر أنَّه شافعي وليس إمامي وذلك بحسب قول الشيخ مولح صالح المازندراني قال: (والظاهر أنَّه من علاء العامة، وذلك عند قوله: «ولقد علم المستحفظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله أني لم أرد على الله ولا على رسوله شيئاً قط» قيل: وفيه إيماء إلى ما كان يفعله بعض الصحابة من التسرع والاعتراض على الرسول (صلى الله عليه وآله)(2) والظاهر من هذه العبارة؛ أنَّه

ص: 24


1- سورة التوبة الآية: 105
2- ينظر: شرح اصول الكافي، للمولى صالح المازندراني: ج 12 ص 456

لم يأتِ بشيء من التعريض لبعض صحابة النبي (صلى الله عليه وآله) أما احتمال أنه شافعي لذكره عبارة عليه السلام عند ورود ذكر أحد من أئمة أهل البيت كالإمام الصادق والباقر عليهما السلام، وأما كونه ليس على المذهب الشيعي؛ لذكره الصلاة البتراء في أغلب مواضع شرح النهج.

وما بين أيدينا من شرح نهج البلاغة بنسبته لمؤلفه الذي ذكر عبارته في أخر المخطوط (وكان ذلك في يوم السبت لتسع وعشرين خلون من صفر ختم بالخير والظفر لسنة إحدى وثانين وثمانمائة هجرية نبوية على يمين مؤلف الكتاب بعون الملك الوهاب الكريم الثواب)، وبما تقدم من ذكر نسبة الشرح لمؤلفه على ألسن الفضلاء والفقهاء، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.

وهذا هو القدر المتيسر من ترجمته بعد استفراغ الوسع، ولم أحظى لنیل ماهو أكثر تفصيلاً.

ونسأله القبول بمنه ولطفه أنه رؤفٌ ودود، ببركة محمد و آله الطاهرين.

صفة المخطوط:

1 - اتّصف المخطوط بجودة الورق؛ بحيث ما زال محافظاً على نفسه إلى يومنا هذا مع الفارق الزمني الكبير، فيعد عمره إلى يومنا هذا (550) عام.

2 - سعة الورق حيث لم تكن قياساته صغيره مما يلزم الكتابة المتراصة الحروف التي يتعسر بها القراءة، وقد تضيع بعض الكلمات بسبب صغر کتابتها، بل كان قياس الورق 38 سنتمتر طولاً و 28 سنتمتر عرضاً.

3 - نسق الكتابة، حيث جعل المصنف فاصلة بين الجدولة وحافة الورق

ص: 25

من الأعلى والأسفل بقياس (4 ونصف سنتمتر) ومن الأطراف اليمين والشمال (6 سنتمتر) وفي الوسط بين الصفحتين (4 سنتمتر)، وهذه الفواصل لغاية مهمة وهي: كتابة الهوامش أو استدراکات الشروح.

4 - الجدولة المذهبة التي أعطت جمال وأناقة للصفحة لجذب القارئ ولحصر الكلام المراد شرحه وبيانه داخل الجدولة.

6 - تقسيمه إلى ثلاثة أقسام:

أ - المتن وقد جعله المصنف باللون الأحمر.

ب - الشرح وقد جعله باللون الأسود.

ج - الهامش وقد جعله باللون الأسود أيضا مع فارق في رسم الخط فهو بالخط الفارسي.

7 - رُسمت کلماته بخط النسخ المصحفي وهو خط الرسم القرآني، وهذا مما يليق بنهج البلاغة الذي يشاطر القرآن الكريم في ظاهره الأنيق ومعناه العميق.

الجانب الوقفي:

قد وقِّف هذا الكتاب الحاج علي الحريري بن الحاج خضر على المشتغلين في النجف الأشرف وقفاً صحيحاً شرعياً بحيث لا يباع ولا يوهب ولا يرهن ولا يعطل، وقد جعلت توليته للسيد أحمد بن المرحوم السيد محمد العطار البغدادي.

وكذلك قد وجد على المخطوط تعبير لوقف آخر وهو ما يلي:

ص: 26

بسمه تعالى شأنه

من الأوقاف التي أعطاها الشيخ محمد حسن نور الله رمسه لوالدي المرحوم طيب الله ضريحه وقد جوز لمن في محمله وليس لأحد أن يبقيه عنده أزيد من شهرين إلا ويرجعه إلى من خولت إليه التولية ويستعيده مرة أخرى.

الجانب التملكي:

وجد على المخطوط تمليك هذا نصه:

من كتب المذنب أبو الفتوح الحسيني الموسوي الشهرستاني وعليه ختم نقش وسطه عبده أبو الفتوح الحسيني وفي دائرة ختمه نقش بالفارسية:

درحال بي كسي بكسي التجا مبر *** كه پس بي كسان خدا است

ترجمته للعربية:

عندما تكون بلا أحدلاتلتجئ إلى أحد *** لأن الله هولكل من لا أحد له

ص: 27

نموذج من الصورة الأولى للمخطوط

ص: 28

نموذج من الصورة الثانية للمخطوط

ص: 29

نموذج من الصورة الثالثة للمخطوط

ص: 30

نموذج من الصورة الرابعة للمخطوط

ص: 31

نموذج من الصورة ما قبل الأخيرة من للمخطوط

ص: 32

نموذج من الصورة الأخيرة للمخطوط

ص: 33

نموذج من صورة الغلاف للمخطوط

ص: 34

مقدمة الشارح أفصح الدين محمد بن حبيب الله الحسني الحسيني:

الحمد لله الذي جعل الحمد ثمنا لنعائه:

أما بعد:

نحمدك يا ذا الشأن العالي والامتنان الجلي على إعطاء نهج البلاغة وابلاء منهج البراعة(1)، إذ الحمد كل الحمد لمن شأنه العطاء، ودأبه التفضل، وتفضله مَنٌ على العالمين، فالحمد لله(2)، مع كونه أيسر شيء مؤنةً، وأخفهُ عليه كلفةً، ثمناً مقابلاً لنعمائه في حقه؛ وذلك نعمة أخرى وموهبة كبرى تستدعي حمداً آخر؛ وهلمَ جراً فسبحان الذي لا تحصى آلاؤه ولا يستقصي نعماؤه.

وفي ثمناً استعارة لطيفة(3) من حيث أن البائع راضي بالثمن عوضاً من المثمن، كما أن خالقَ الأمم يرضى بالحمد في مقابلة النعم.

ص: 35


1- هذه هي البداية التي عثرنا عليها حيث نقلها الشيخ أغا بزرك الطهراني في الذريعة: ج 3 ص 455
2- ما بينّ معقوفين أثبتناه في الأصل، استدراكاً للنقص الواقع في الصفحة الأولى للمخطوط، حيث لم نعثر على نسخة أخرى للمطابقة وسد السِقط؛ وذلك لإتمام سياق الكلام و حُسن الاسترسال مع بداية الصفحة الثانية
3- استعارة لطيفة: والاستعارة إنما تطلق بحيث يطوى ذكر المستعار له، ويجعل الكلام خلواً منه صالحاً لأن يراد به المنقول إليه؛ لولا دلالة الحال من فحوى الكلام عليه؛ يُنظر: الجامع الكبير في صناعة المنظوم من الكلام والمنثور لنصر بن محمد بن عبد الكريم الشيباني: ص 94. والمعنى: أن الشارح استعمل الاستعارة لتقريب المعنى من خلال مقارنة البيع والشراء الذي هو التراضي بيّن المتبايعيّن، باستعمال لفظ الحمد، وهكذا يكون رضی الله تعالى بلفظ الحمد ثمناً يقابل نعمائه التي هي بمقام المثمن

وأماناً ومعاذاً ملجأً من بلائه: لقوله تعالى «وَلَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ»(1)، فأنه لما صنع توعد بالعذاب من كفر نعمته؛ مع أرادته الحمد والشكر وأمره بهما في غير موضع(2)، علمًا أن الحمد ملجأً من العذاب الأليم والبلاء العظيم أقتبس من مشكوة، قوله عليه الصلاة والسلام من قال الحمد لله فقد أدى حق نعم الله، ومن قال الحمد لله فقد تخلص من بلاء الله وسخطه»(3).

ص: 36


1- سورة إبراهيم: الآية 7
2- لما صنع: والصناعة مزاولة فن في عمل معين؛ ينظر: الروضة البهية للشهيد الثاني: ج 2 ص 168؛ والمعنى: أن الصناعة تكون في مختلف العلوم؛ فللأدب صناعته، کما للفصاحة، والبلاغة، والشعر، وعلم الكلام، والبديع والبيان؛ لكل منها صناعة، وكما في علم النحو صياغة الألفاظ، كذلك في علم الفقه صياغة الأحكام، أو ما يُعبر عبر عنها بالصناعة الفقهية؛ والصناعة فيها احتمالان الأول: وجوب تكليف الكافرين بفروع الدين، وتوعدهم بالعذاب لمخالفتهم أوامر الله تعالى، وهذا على قول من يرى وجوب تكليفهم، ويُعبر عن صياغة ألفاظ التكليف بالصناعة. كقوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»: سورة البقرة: الآية 183، أو كقوله تعالى «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ»: سورة آل عمران: الآية 97. أو الاحتمال الثاني: صناعة ألوان العذاب ووسائله كقوله تعالى «خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ»: سورة الحاقة: الآيات 30 - 33
3- الحديث للإمام علي بن الحسین زین العابدين وليس للنبي صلى الله عليه وآله؛ يُنظر مکارم الأخلاق للشيخ الطبرسي: ص 227، باختلاف يسير

ووسيلاً إلى جنابه: لكونه من أتم العبادات، وهو: وسيلة إلى الجنات کما قال صلى الله عليه [وآله] وسلم «یُنادی یوم القيامة ليقم الحمّادون؛ فيقوم زمرة فينصب لهم لواء فيدخلون الجنة؛ قيل: ومن الحمادون؟ قال: الذين يشكرون الله على كل حال؛ فحكم عليه السلام أنهم بسبب حمدهم يدخلون دار السلام»(1).

وسبباً لزيادة إحسانه: لقوله تعالى «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ»(2) ولأنه جواد منزه عن البخل والمنع، وإنما النقصان من جهة العباد لعدم الاستحقاق، فإذا استعدوا بالحمد والشكر على النعم السابقة لقبول النعم بالحمد أفاض الله تعالى عليهم نعمه، ولا تزال تستعد بالحمد والشكر على النعم السابقة للمزيد بالنعم اللاحقة، وذلك من فضل الله علينا.

والصلاة على رسوله نبي الرحمة: مأخوذ؛ أما من النبوة والنباوة؛ وهما الارتفاع لكونه مرتفعاً على الخلق؛ وأما من النبأ وهو: الخبر لأنه يخبر عن الله، أردف الحمد بالصلاة لأنه من الآداب الدينية؛ التي جرت عليها العادة في الخطب ؛ وذكر له عليه الصلاة والسلام أوصافاً سبعة:

الأول: نبي الرحمة ملاحظة لقوله تعالى «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ»(3) وتفصيلها من وجوه:

الأول: أنه الهادي إلى سبيل الرشاد، والقائد إلى رضوان الله سبحانه.

ص: 37


1- قوت القلوب في معاملة المحبوب لأبي طالب المكي: ص 364؛ طبقات الشافعية الكبرى العبد الوهاب بن علي السبكي: 259
2- سورة ابراهيم: الآية 7
3- سورة الأنبياء: الآية 107

الثاني: أن التكاليف الواردة على يديه أسهل من التكاليف الواردة على أيدي الأنبياء كما قال عليه الصلاة والسلام «بعثت بالحنفية السهلة السمّحة»(1).

الثالث: أنه ثبت أن الله تعالى يعفو عن عصاة أمّته بسبب شفاعَته.

الرابع: أنّه عليه الصلاة والسلام رحم كثيراً من أعدائه؛ ببذل الأمان لهم وقبول الجزية منهم ولم يقبل دونه أحد من الأنبياء قبله.

الخامس: أنه سأل الله سبحانه أن يرفع عن أمته بعده عذاب الاستئصال ورفعه رحمةً.

الثاني: إمام الأيمة(2) لقوله: «آدم ومن تحته تحت لوائي يوم القيامة»(3)؛ والإمام هو المقتدي به في قوله وفعله.

والثالث: سراج الأمة جمع لهم جامع استعار له عليه الصلاة والسلام استعارة المحسوس للمعقول كناية عن هذا ووجههاً؛ أن السراج يضيء ما حوله ويهتدي الخلق به في الظُلَّمة والنبي قد أضاء قلوب العالمين بأنوار الرسالة حتى اهتدوا به من ظلمة الجهالة قال الله «إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا»(4).

والرابع: المنتجب من طينة الكرم: كناية عن أصله أي: المصطفى من الأصل

ص: 38


1- يُنظر: الكافي للشيخ محمد بن يعقوب الكليني: ج 5 ص 494؛ الإعتصام لإبراهيم بن موسی اللخمي: ج 1 ص 167
2- هكذا وردت في الأصل بلفظ الياء وليس الهمزة
3- يُنظر: الخرائج والجرائح لقطب الدين الراوندي: ج 2 ص 876؛ الخصال للصدوق: ص 415، باختلاف يسير؛ سنن الترمذي: ج 4 ص 370
4- سورة الأحزاب: الآية 45

الذي هو: الكرم وفيه مبالغة لطيفة؛ واعلم أن الكرم حقيقة في السخاء مجار في مطلق الشرف.

والخامس: سلالة المجد الأقدم: سلالة الشيء ما استل منه؛ واستخرج والنطفة سلالة الإنسان؛ ومنه السليل للولد؛ وفيه مبالغة أيضاً؛ ووصفه بكونه اقدم؛ لزيادته في الفضل على المُحْدَث؛ بل على القديم(1).

والسادس: مُغرس الفخار المُغِرق:(2) لفظٌ استعار(3) المغَرس الذي هو حقيقة في الأرض لطبيعته عليه الصلاة والسلام؛ من جهته أن طبيعته كانت محلاً لظهور الفخار؛ كما أن الأرض محل لحصول الأشجار، ولزيادة المُغِرق على ضده وصفه به

ص: 39


1- المُحْدَث والقديم هي: من مطالب علم الكلام لأثبات الصانع؛ التي أجاب على بعض مسائله المرتضی رحمه الله تعالى قال: أما الصانع من حيث كان صانعاً فلا بد من تقدمهِ على صنعته، سواء كان قديما أو محدثاً؛ لأن تقدم الفاعل على فعله حكم يجب له من حيث كان فاعلاً؛ ويستوي في هذا الحكم الفاعل القديم والفاعل المحدث؛ غير أن الصانع القديم يجب أن يتقدم صنعته بما إذا قدرناه أوقاتاً وأزماناً كانت غير متناهية ولا محصورة، ولا يجب هذا في الصانع المحدث؛ بل يتقدم الصانع من المحدثين صنعته بالزمان الواحد ،والأزمان المتناهية المحصورة، وما يدل على أن الصانع لا بد من أن يتقدم صنعته ویستوی في هذا الحكم القديم والمحدث؛ أنه لو لم يتقدم عليها لم تكن فعلا له وحادثة به، ...إلى آخر جوابه؛ يُنظر کنز الفوائد لابي الفتح الكراجكي: ص 9؛ رسائل الشريف المرتضى: ج 4 ص 280 فراجع. والمعنى: أن للنبي صلى الله عليه وآله؛ سلالة شرفٍ ومجد هي الأقدم منذ خلق الله تعالى الخلق، وأوجد الوجود فعلاً وزماناً؛ فسلالة مجد النبي صلى الله عليه وآله باقية منذ الأزل
2- المغرق: ومن كل شيء ما كان كثيراً مطيفا بالجماعة؛ ينظر: القاموس المحيط للفيروز آبادي ج 3: ص 17
3- لفظ استعار - 997، 5 هكذا في الأصل، ولعل إسهاب من المصنف؛ والأصح أن تكون (استعار لفظ المغرس) الذي هو حقيقة في الأرض

وهو ترشيح الاستعارة(1).

والسابع: فرع العلا المثمر المورق: لما استعار لفظ الفرع؛ الذي هو حقيقة في أغصان الشجرة المتفرعة عن اصلها له عليه الصلاة والسلام؛ من جهة ما هو فرع في الوجود عن آبائه؛ أهل العلو والشرف؛ رشحها بما هو من كمال الفرع؛ فإن الغصن الحالي عن الثمر والورق ناقص الكمال والحسْن، وفي استعارة على سبيل الكناية عن شرفه؛ بالنظر إلى شرف أصله وإضافة الفرع كإضافة السلالة.

وعلى أهل بيته: علي. وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام. على ما أختاره.

مصابيح الظُلَّم وعصم الأمم: جمع عصمة وهي: المنع أي: هم مانعون لهم بسبب هدايتهم إلى سلوك الصراط المستقيم الخالي عن الأفراط والتفريط.

ومنار الدين الواضحة: جمع منارة على غير القياس؛ لأن وزنها مفعلة وقياسها في الجمع مفاعل أستعير لهم المنار(2)؛ لأنهم محل الأنوار.

ص: 40


1- والاستعارة فهي: ادعاء معنى الحقيقة في الشيء للمبالغة في التشبيه مع طرح ذكر المشبّه من البيّن لفظاً وتقديراً؛ مثل: وإن شيء قلت: هو جعل الشيء للشيء؛ لأجل المبالغة في التشبيه . فالأول كقولك: لقيت أسداً؛ وأنت تعني الرجل الشجاع. والثاني كقول لبيد: إذ أصبحت بيد الشمال زمامها *** أثبت اليد للشمال مبالغة في تشبيهها بالقادر فيهِ التصرف فيه: یُنظر: نهاية الأرب في فنون الأدب للنويري: ج 6 ص 49. والمعنى أن للنبي صلى الله عليه وآله؛ فخراً هو أبلغ من أن يستعار له لفظ، فحينها تترشح الاستعارة، بمعنی: لا تبقی استعارة تَلحقُ وتصل لبلوغ وصف ما بلغ صلى الله عليه وآله من الفخر
2- المنار: جمع منارة وهي: العلامة على غير القياس؛ لأن وزنها مفعلة وقياسها في الجمع مفاعل، والمراد بالنور هنا ضياء العمل الصالح؛ فإن العبد إذا عمل عملاً صالحاً يصعد به وهو حسن مشرق اللون؛ ينظر إليه الإمام ويعلم أنه من أعمال العباد (فبهذا يحتج الله على خلقه): یُنظر شرح أصول الكافي لمحمد صالح المازندراني: ج 6 ص 385؛ والمعنى: في العبارة أن الشارح أستعمل قياس الجمع في اللغة، ولم يستعمل قياس المفاعلة في الوزن، اليثبت أن النبي صلى الله عليه و آله هو المنار والدليل على كل عمل صالح

ومثاقيل الفضل الراجحة، جمع مثقال وهو: ما يوزن به الذهب والفضة؛ وفي الاستعمال عدّي إلى الموزون أيضاً؛ ثم إلى الأمور المعقولة؛ والمقادير منها فقيل: مثقال فضل؛ وهذه الإضافة أما لامیَّة، أي: مثاقيل للفضل یعني: إذا اعتبر فضل غيرهم من حيث التفاوت؛ كان الرجحان بالنسبة إليهم؛ أو بمعنى من أي مثقال من الفضل مطبوعة، وإذا كانوا كذلك ترجح على غيرها ولفظ المثاقيل هاهنا مستعار لهم أيضاً لأنهم معيار الخلق، وموازين لهم كما أن المثقال كذلك(1).

فصلى الله عليهم أجمعين صلاة تكون إزاء لفضلهم ومُكافاة لعملهم، أي:

مجازاة من الكفاية.

وكفاء لطيب اصلهم وفرعهم، نبه على استحقاقهم لها باعتبار ثلاث امور:

1 - فضائلهم النفسانية.

2 - وأعمالهم المرضية.

3 - وطيب أصولهم الزكية.

ما أنار فجر ساطع وهوي نجم طالع: بالتشديد أو التخفيف(2) بمعنی سقط أو مال.

ص: 41


1- کما تقدم بيان معنى الاستعارة، كذلك في المثاقيل فهي للتشبيه، والمعنى: هو أن كل نادر وذو قيمة يوزن بالمثاقيل، وتكون قيمة الموزون بقدر وزنه، فهكذا هي فضائلهم معیارها يفوق كل المعايير
2- والتشديد والتخفيف على الكلمة لتغير اللفظ الذي به يتغير المعنى، فكلمة هوي تخففاً، وهوَّى تشدياًة هو: بمعنى السقوط؛ ووهَوَى وأَهْوَى وانْهَوَى: سَقَط؛ يُنظر لسان العرب الابن منظور: ج 15 ص 370

فاني كنت في عنفوان: أول الشباب وغضاضة(1) طراوة الغصن کنی(2) عن نمأ القوى والنشاط على طريق الاستعارة والترشح(3).

ابتدأت بتأليف كتاب في خصائص الأيمة(4) عليهم السلام يشمل على محاسن أخبارهم جمع لا واحد له(5) کالمفاقر من الفقر.

و جواهر کلامهم: أي كلامهم الذي كلماته کالجوهر المنظومة في النفاسة، قيل الكلام متى وقع عند النَّظار(6) موقعه استهش(7) الأنفس وأنق الأسماع وهز

ص: 42


1- العضاضة: والعُضُّ أَيْضاً: «الَخشَبُ الجَزْلُ الكَبرُ، يْجُمَعُ». وقيلَ: هو «اليَابِسُ من الحَشِيش تُعْلَفُه الدَّوَابُّ». وقيل: هو «اليابش من الحشيش تغلفه الواث»: لسان العرب لابن منظور: ج 10 ص 101؛ والظاهر أن المصنف اراد بالعضاضة هيكل بدنه عند الطفولة
2- والكني: من الكناية أن تتكلم بشيء وتريد به غيره؛ ينظر: مختار الصحاح لمحمد بن أبي بكر الرازي: ص 298
3- والترشيح: «أبلغ من» الإطلاق والتّجريد «لاشتماله على تحقيق المبالغة وتناسي التّشبيه وادّعاء أنَّ المستعار له نفس المستعار منه لا شيء شبيه به، كما في قوله: وَيَصْعَدَ حَتّى يَظُنُّ الجَهُولُ بِأنّ لَهُ حاجةً فِي السّماءِ»: البليغ في البيان والبديع لأحمد أمين الشيرازي: ص 231
4- هكذا وردت في الأصل بلفظ الياء وليس الهمزة
5- بمعنی کتاب جامع لأخبارهم فريد من نوعه ميزة ونوعاً
6- قال الليث: «النُّضار الخالص من جَوْهَرِ التِّبر والخشب، وجمعه أَنْضرُ». يُنظر لسان العرب الأبن منظور ج 5 ص 214، مختار الصحاح لمحمد بن أبي بكر الرازي: ص 340 قال: «النضر بوزن النصر والنضار بالضم والنضير الذهب وقيل النضار الخالص من كل شيء». والمعنى: أن كلام النبي وآله صلى الله عليه وآله وأهل بيته الكرام کلا مهم نضير الذهب الخالص
7- استهش: من أصل كلمة هش: وهش الرجل: خف وأسرع للعمل. يُنظر: مختصر أخبار شعراء الشيعة لمرزباني الخراساني: هامش ص 60؛ والمعنى: أن الكلام الجميل ذي المعنى البليغ متی خرج من فم قائله أسرع وقعه في القلوب والأنفس

خطبه ومواعضه (عليه السلام) وو القرائح ونشط الأذهان.

حداني(1) عليه: ساقني صفة الكتاب غرض ذكرته في صدر الكتاب وجعلته أمام الكلام: قدامه وفرغت من الخصائص التي تخص أمير المؤمنين علياً وعاقت: صرفت عن إتمام بقية الكتاب الأيام: ممانعتها وإنما جمع المصدر لاختلاف أجناس المنع(2) كقوله تعالى «وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا»(3).

ومُما طَلات الزمان: مدافعاته كأن الأيام تمانعه عن العمل، وهو يمانع منعها له، والزمان لاغتراره بطوله يخدعه بإنجاز العمل فيه فيخلف، وهو لطول أمله يعد الزمان بوقعه فيه فيخلف.

وكنت قد بوبت ما خرَج من ذلك أبواباً وفصَلته فصولا، فجاء في آخِرها فصْل يتضمّن محاسِن ما نَقل عنهُ عليْه السلام مَن الكلامِ القَصير في المواعِظَ وَالحكَم والأدب دُون الخُطَب الطويلة والكتُب المَبسوطة فاستحْسَنَ جماعة من الأصدَقاء ما اشتمل عَليه الفصْل المقَدّم ذكرهُ مُعَجبّنَ: في موضع الحال کمتعجبين.

بدائعه: جمع بديعة وهي: الفعل على غير مثال(4) أي مخترعاته التي يستبق

ص: 43


1- حداني عليه: بعثني وحملني، وهو مأخوذ من حداء الإبل. ينظر: نهج البلاغة تصنيف صبحي الصالح: هامش ص 33
2- مصدر الكلمة: هو اصلها، والمعنى: جمع المصدر، أراد مصدر كلمة ممانعتها، وهو منع؛ ولاحتمال الكثير والقليل على أن جمع المصدر موقوف على السماع فإن سمع الجمع عللوا باختلاف الأنواع، وان لم يسمع عللوا بأنه مصدر، أي باقي على مصدريته. ينظر: نهاية الأرب لدنيوري: ج 8 ص 102
3- سورة الأحزاب: الآية 10
4- والفعل على غير مثال هو: ضربٌ من فن الخيال يسمى المخترعات التي تسبق إلى ضرب الأمثلة للوصول إلى صورة الإبداع وبَدَعَ الشَّيْءَ كَمَنَعَه بَدْعاً: أَنْشَأَهُ وبَدَأَهُ، كابْتَدَعَهُ، ومِنْه البَدِيعُ فِي أَسْاَئِه تَعالَ، كما سَبَقَ؛ وقالَ ابنُ دُرَيْدٍ: «بَدَعَ الرَّكِيَّةَ بَدْعاً: اسْتَنْبَطَها وأَحْدَثَهَا، وأَبْدَعَ وأَبْدَأَ بمَعْنىً وَاحِدٍ، ومِنْهُ البَدِيعُ في أَسمَائه تَعَالَی، وهو أَكْثَرُ مِنْ بَدَع، كما يُقَالُ: البدِئُ، وقد تَقَدَّمَ». وأَبْدَعَ الشَّاعِرُ: أَتَى بالبَدِيعِ من القَوْلِ المُخْتَرَعِ *** على غَيْرِ مِثَالٍ سَابقٍ ينظر تاج العروس للزبيدي: ج 11 ص 9

إليها، ويروى بفتح العين وكسرها: أي يعجبون غيرهم بها.

ومتعجّبينَ مْن نَواصِعُه: جمع ناصعة بمعنی خالصة.

وسألوني عند ذلك: التعجيب والتعجب(1)، أن أبتدي بتأليف كتاب يحتوي على مختار کلام أمير المؤمنين عليه السلام؛ في جميع فنونه ومتشعبات متفرقات غصونه من خطب و كتب ومواعظ: فيه إشارة إلى أن هذا المجموع جزء من كل من كلامه عليه السلام قال: الراوندي(2) سمعت بعض العلماء بالحجاز يقول: أني وجدت بمصر مجموعاً من كلامه في نيف وعشرين مجلد أو قوله.

ص: 44


1- والتَّعَجُّبُ: أَن تَرَى اليءَ يُعْجِبُكَ، تَظُنُّ أَنك لم تَرَ مِثلَه. والتَّعاجِيبُ: العَجائبُ، لا واحدَ لها من لفظها؛ قال الشاعر: ومنْ تَعاجِيبِ خَلْقِ الله غَاطِيةٌ *** يُعْصَرُ مِنْها مُلاحِيٌّ وغِرْبِيبُ يُنظر لسان العرب لابن منظور: ج 1 ص 581. والمعنى: أن المصنف أراد تأليف كتاب فيه العجب والعجائب
2- الرواندي هو: الشيخ سعيد بن هبة الله الملقب بقطب الدين الراوندي؛ من أعلام القرن السادس الهجري، وله مؤلفات كثيرة منها (الخرائج والجرائح)، (وقصص الأنبياء)، (وفقه القرآن)، (وشرح نهج البلاغة) وغير ذلك، توفي سنة 573؛ ينظر أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين : ج 1 ص 127

علماً: مفعول له؛ أو مصدر في موضع الحال؛ أي: سألوني حال كونهم عالمين.

أن ذلك: الكتاب المسئول التأليف؛ يتضمن من عجائب البلاغة: مطابقة الكلام لمقتضى الحال وغرائب الفصاحة: خلوصه عن ضعف التأليف والتعقيد المعنوي، مع فصاحة المفردات؛ وجواهر الغريبة، وثواقب الكَلم الدينية والدنيوية: استعارتان للألفاظ(1) الفصيحة العربية المشتملة على الجملة من كلامه عليه السلام، وجه الاستعارة الأولى اشتراکها مع الأحجار المخصوصة في النّفاسة؛ كل بالنّسبة إلى جنسه؛ فعزّة الجَواهِرْ بالنّسبة الى مُطلق الَأحجارْ؛ وَعزة الألفَاظ الفصيحَة بالنّسبة إلى ساير الاَلفاظ؛ وَوَجه الثانية: كونُ كلامه، وما يشتمِل عليه مَن الحِكمة البالغة تشرق عَلى أبصار البصائر، وَشَقّت انوَاره حُجُب ظلمات الجَهْل کما شقت اَنوار الكَواكب المضيئَة حجب الظلمات المحسُوسة وتنفد فيها.

ما لا يوجد مجتمعاً في كلام ولا مَجموُع الأَطرافِ في كِتابٍ إذ كانَ مولانا أَمير المؤمنينَ عليه السلام مَشرَع الفصَاحة وموردها: هما حقيقة في النهر والعين(2) فاستعيرِا له(3) عليه السلام من جهة أن الشريعة من الماء يردها العطشى للتروّي والاستقاء كذلك عليه السلام مَرْجع الخلق في استفادْ الفصاحَة؛ ولو قالَ: مصدرها و مَوْردها لكان أَبْلغ إذ هما مُرادفَان أو قريبان منه.

ص: 45


1- الاستعارتا: هما للتشبيه تستعمل غالباً وقد أستعمل المصنف كلمتي الجواهر والثواقب؛ والمعنى: تشبیه کلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بالجوهر النفيس، والمعنى الثاقب
2- حقيقة في النهر والعين: بمعنى أن الفصاحة مصدرها وموردها هو: الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: وهو حق ثابت لا يمكن الاشتباه والتردد فيه، كما أن النهر والعين هما مصدر للماء
3- بمعنی: استعمل الاستعارة تشبيهاً بحقيقة النهر والعين كونهما مصدر للماء

ومنشأ البلاغة مَوْلدها: شبه ذهنَه(1) عليه السلام بالأم، والفصاحة بالوَلد في الصّدور عنه.

ومنه عليه السلام ظَهر مكنونها وعنه أخذت: جمع قانون وهو كل قضيّة كلية(2) يتعرّف منها أحكام جزيئاتها المطابقة لها، لفظه سريانية وقيل عربية(3) مأخوذة أما مَن القِنّ(4) لكونه ثابتاً أو من القنقَن(5) وهو الدليل الهادي

ص: 46


1- شبه ذهنه بمعنى: أن البلاغة لها نسبة وعلاقة بذهن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أشبه بعلاقة ونسبة الولد إلى أمه؛ من حيث أن منشأ وجود الولد أمه، كذلك منشأصدور البلاغة ذهنه صلوات الله تعالى عليه
2- القضية الكلية هي: قاعدة يذكرونها في مقام الاستدلال بها على مايتفرع عليها، كأنها بنفسها دلیل معتبر، أو مضمون دلیل معتبر؛ يُنظر: رسالة فقهية للشيخ مرتضى الأنصاري: ص 179؛ وكذلك في معنى القضية الكلية قال: محمود عبد الرحمن عبد المنعم «والقاعدة: اللغة: ما يقعد عليه الشيء: أي يستقر ويثبت؛ واصطلاحاً هي: قضية كلية منطبقة على جميع جزئياتها»؛ وكذا قال: الجرجاني و أبو البقاء: «قضية كلية: من حيث اشتمالها بالقوة على أحكام جزئیات موضوعها، وتسمى فروعاً، واستخراجها منها تفريعاً، كقولنا: «كل إجماع حق»، قال: «والقاعدة: تجمع فروعاً من أبواب شتى، والضابط: يجمع فروعاً من باب واحد»؛ وقيل القضية الكلية هي: «القانون» وهو: يوناني أو سرياني بمعنی: مسطر الكتابة. وفي الاصطلاح هو: والقاعدة قضية كلية تعرف منها بالقوة القريبة من الفعل أحوال جزئیات موضوعها، مثل كل فاعل مرفوع، فإذا أردت أن تعرف حال زید مثلاً في (جاءني زيد)، فعليك أن تضم الصغرى السهلة الحصول، أعني : فاعلية زيد الحاصلة من (جاءني) مع تلك القضية، (جاءني زيد) وتقول: زید فاعل، وكل فاعل مرفوع يحصل لك معرفة أنه مرفوع. وفرق بعضهم بأن القانون: هو الأمر الكلي المنطبق على جميع جزئياته التي يتعرف أحكامها منه، والقاعدة: هي القضية الكلية المذكورة، فراجع: معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية لمحمود عبد الرحمن عبد المنعم: ص 61 - 62
3- وهي كلمة قانون: أما كلمة سريانية وهي اللغة العبرية: وأما هي كلمة عربية
4- القِنّ: وكأَنَّ القِنَّ مأْخوذٌ من القِنْيَة، وهي الملْكُ؛ قال الَأزهري: «ومثله الضِّحُّ وهو نور الشمس المُشْرِقُ على وجه الأَرض»؛ يُنظر: لسان العرب لابن منظور: ج 13 ص 348
5- والقنن: جمع قنة وقُنَّةُ كلِّ شيءٍ: أَعلاه مثلُ القُلَّة؛ وقال: أَما ودِماءٍ مائراتٍ تَخالُها *** على قُنَّةِ العُزَّى وبالنَّسْرِ عَنْدَما وقُنَّةُ الجبل وقُلَّتُه: أَعلاه، والجمع القُنَنُ والقُلَلُ، وقيل: الجمع قُنَنٌ وقِنانٌ وقُنَّاتٌ وقُنُونٌ؛ ينظر: لسان العرب: ج 13 ص 249؛ والمعنى: إن كلمات الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ثابتة البلاغة والقمّة في المعنى والبيان والبديع، وهي دليل لكل بليغ خطيب

لكونه هادياً، في تعرف أحكام جزئیاته.

وعلى أمثلته حّذا كلّ قابل خطيب: سن(1) الحذو بمعنى القطع، تقول حذرت النّعل بالنّعل اذا قدرت كل واحدة على صاحبها يستعمل بالباء(2).

وبكلامه أستعان كل واعظ بليغ: ومع ذلك الحذو والاتباع.

فقد سبق: عليه السلام مكاناً.

وقصّروا: فلم يبلغوا اليه شأناً.

وتقدم وتأخرّوا: فلم يفوزوا بالاعتصام بذيل ابكاره(3) ولم يقدروا على كشف

ص: 47


1- سن الحذو هي: سنة الأتباع: وحَذَا حَذْوَه: فَعَل فعله، وهو منه. وفي التهذيب: يَحْتَذِي على مثال فُان إِذا اقْتَدَى به في أَمره. وحَذَا حَذْوَه: فَعَل فعله، وهو منه. التهذيب: يقال فان يَحْتَذِي على مثال فُلان إِذا اقْتَدَى به في أَمره؛ ينظر: لسان العرب لابن منظور ج 14 ص 170
2- والاستعمال بالباء هو: إنّما يكون في مقام التأكيد كقوله تعالى «فَسْئَلْ بِه خَبِیراً»: سورة الفرقان: آية 59 وكقوله تعالى «سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ»: سورة المعارج: الآية 1؛ ينظر: التحقيق في كلمات القرآن الكريم للشيخ حسن مصطفوي: ص 8
3- بذيل إبكاره: الِإبْكارُ والَأبْكارُ؛ وقال الشاعر: أَفْنَى رِياحاً وذَوِي رِياحِ *** تَناسُخُ الإِمْساءِ والإِصْباحِ وأراد البداية المُبكرة؛ ينظر: لسان العرب لابن منظور: ج 2 ص 502؛ ومن كلا المعنيّن المراد البداية المُبكرة، فتقدم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ببلاغة كلامه على جميع المتكلمين من عامة الناس فلم يستطع أحد أن يلحق بذيل بدايته، بمعنی من لم يستطع أن يلحق بنهاية بدايته فيکيف له أن يلحق بما وصل إليه من البلاغة والفصاحة والمعنى: أن الأول كلام للإمام علي (عليه السلام) معاني لا تنتهي. فكيف لأحد من الفصحاء أن يصل إلى تمام معاني كلماته. فلا يمكن الوصول الى غور معانيها

القناع عن وجوه أسراره لانّ كلامه عليه السلام من الكلام الذي عليه مسحة: أثر هذه اللفظة مخصوصة بالمديح؛ قال رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم في جرير بن عبد الله البجلي(1): «عليه مسحة من ملك»(2) أي أثر منه؛ قال الشاعر(3):

على وجه مي مسحة من ملاحةٍ *** وتحت الثبات الشين لوكان ناديا

من العلم الإلهي وفيه عبقة: رائحة من الكلام النبوي: واحدة العبق

ص: 48


1- هو: جریر بن عبد الله البجلّي؛ عدّه الشيخ تارة من أصحاب رسول الله صلىَّ الله عليه وآله، وأخرى من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، وقال المصنّف في القسم الأوّل من الخلاصة: جریر بن عبد الله البجليّ، قدم الشام برسالة أمير المؤمنين عليه السلام إلى معاوية، ونقل المامقانيّ عن الشهيد الثاني في تعليقته على الخلاصة: «أنّ رسالة أمير المؤمنين عليه السلام وإن دلَّت على مدح لكن مفارقته له عليه السلام، ولحوقه بمعاوية ثانياً؛ يدفع ذلك المدح، ويخرجه عن هذا القسم، و تخريب عليّ عليه السلام داره بالكوفة بعد لحوقه بمعاوية مشهور، وكان يبغض عليّاً عليه السلام، وهو الَّذي كتم حديث الغدير، ولأجل ذلك قال: العلَّامة الخوئيّ: من الغريب أنّ العلَّامة ذكره في القسم الأوّل من الخلاصة يُنظر: رجال العلَّامة: ص 36، تنقیح المقال ج 1 ص 210، معجم رجال الحدیث: ج 4: ص 40، الغدير: ج 1 ص 193: منتهى المطلب للعلامة الحلي: ج 6 ص 316
2- نظر منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: لقطب الدين الراوندي: ج 1 ص 14 هامش 1
3- الشاعر هو ذو الرمة قال هذا البيت: على وجه ميّ مسحة من ملاحة *** وتحت الثياب الشين لو كان باديا في وصف النبي صلى الله عليه وآله لجرير بن عبد الله البجلي؛ يُنظر: شرح نهج البلاغة لابن میثم البحراني: ج 1 ص 94

بالتحريك، قدر العلم الإلهي كله حسناً، فجعل في كلامه عليه السلام اثراً منه، والكلام النبوي طيباً، فخلق عبقة منه في كلامه، واستلزم ذلك تخييل حاستي البصر والشمّ للعقل، فكنی بالمسحة عما أدركه العقل من كلامه عليه السلام.

من الحِكْمة والعلم الإلهيّ المُشار إليه في القران الحَكيم، وَكنى بالعقبة عما أدركه من الأسلوب الموجود مع الفصاحة، وفي نسخة مصححة من الكلام الإلهي وبيانه أن معنى المسحة أثر من الجمال، ومجرّد الأثر من الشيء في الشيء لا يوجب شدة المشابهة به، وكان كلام الباري سبحانه بَعِيدَ الشبه بكلام الحلق فخصه بالمسحة بخلاف كلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فإنّ كلامَه عليه السلام لشدّة الشبه به کالجزء منه لأنهما غصناً دوحة وفرعا أرومته کالعَبقة من الشيء فلذا قال عبْقة من الكلام النبوّي.

فأجبتهم إلى الابتداء بذلك:

التأليف عالماً: حال من فاعل أجبتهم بما فيه من عظيم النفع ومنشور الذكر

(1) العبق بالتحريك: مصدر قولك: عبق به الطيب بالكسر، أي لزق به عبقاً وعباقية العبق بالتحريك: مصدر قولك: عبق به الطيب بالکسر، أي لزق به عبقاً وعباقية، مثال ثمانية: ينظر الصحاح للجوهري: ص 4 ص 1519، والمعنى: أن كلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام هو نفس كلام النبي صلى الله عليه وآله؛ مطابق له كأنه يلزق الشيء بالشيء.

(2) و الأرومة: أصل كل شجرة. وأصل الحسب: أرومته، والجمع: أروم ووارمات. و أروم الأضراس: أصول منابتها. ينظر العين للخليل الفراهيدي: ج 8 ص 296. والمعنى: أن منبع كلامهم من أصل واحد.

(3) فاعل اجبتهم: الفاعل هو: المرفوع من الجملة الذي موقعه بعد الفعل، والمعنى هو بيان موقع كلمة (عالماً) حيث أن المراد من ذلك هو: التأكيد على حصول فعل العلم بالتأليف الذي ابتدأ به وأجاب على طلبه.

ص: 49

ومدحور الأجر واعتمدَت: قصدت به أن أبيّن عن عظيم قدر أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الفضيلة: أي البلاغة مضافة: حال منها إلى المحاسن الكثير والفضائل الدثرة(1) الكبيرة وأبين(2) انّه عليه السلام انفَرد ببلوغها: أي الفَيضلَة، من جميع السّلَف الأَولين الذين إنّما يوثر عنهم منها: من الفضائل أو البلاغة القليل النادر والشاذ الشارد: أي المنفرد النّافر.

فأمّا كلامه عليه السلام فهو البحر الذي لا يساجل: لا يفاخر، وفي كثير من النسخ بالحاء، بمعنى لا يبلغ ساحله شبّه کلامه بالبحر لكثرته، مع اشتماله على الجواهر الحكمية الإلهية، كاشتمال البحر على جواهره، وأخذه هذا الوصف في المشبّه به، لانّ كلامه عليه السلام، كان أكثر جریاناً في كلام البلغاء من غيره، وكانت أوعيه أذهانهم قد امتلأت من فيضه، حتى لا يقاومه أحد في فصاحته ولا في حكمته، مع أنها الرهان الذي يجرب به الجياد والنضال(3) الذي يعرف به

ص: 50


1- الدثرة: الكثيرة قال في القاموس: الدثر: المال الكثير مال ومالان وأموال دثرة؛ يُنظر: المجازات النبوية للشريف الرضي: هامش ص 74
2- وأبّن أنه، من البيان للشيء وهو أشبه بعبارة وهب أنه؛ وأبّن من مشتقات البيان؛ يُنظر الصحاح للجوهري: ج 5 ص 2083: وبان الشيء بیاناً: اتضح فهو بيّن، والجمع أبيناء، مثل هين وأهيناء؛ وكذلك أبان الشيء فهو مبين. قال: لو دب ذر فوق ضاحي جلدها الأبان من آثارهن حدور وأبنته أنا، أي أوضحته. واستبان الشيء: وضح. واستبنته أنا: عرفته. وتبين الشيء: وضح وظهر. وتبينته أنا، تتعدى هذه الثلاثة ولا تتعدى. والتبيين: الإيضاح. والتبيين أيضا: الوضوح. وفي المثل: «قد بين الصبح لذي عينين»، أي تبين. قال النابغة: إلا أواري لأياما *** أبينها أي ما أتبينها
3- النضال هو: الرمي بالسهام والسبق في ذلك، ينظر: العين للخليل الفراهيدي: ج 5 ص 100 قال: ويقال في النضال: أراميك من أدنی فقرة ومن أبعد فقرة أي من أبعد معلم يتعلمونه من رابية أو هدف أو حفرة ونحوه؛ والمعنى أن بلاغة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وفصاحته قد سبقت كل بلاغة وفازت على كل فصاحة

خطبه ومواعضه (عليه السلام) الأيدي السداد، فلا جرم(1) أشبه البحر الذي لا يغلبه بحر آخر في سفي(2) ولا جري.

والجم(3) الكثير الذي لا يحافل(4) لا يفاخر بالكثرة استعار المحافلة التي هي وصف من أوصاف الإنسان لكلامه حتی سلبه عنه تشبّيهاً له بالرجّل ذي المحفل الجم، والجماعة الكثيرة التي لا يمكن أن يكابر بمثلها فهو إمام أئمة البلاغة المهتدين بفطرتهم إلى تطبيق مفاصلها، وهم: الأَعْرابُ الخلّص من كلّ حارِش(5) يربوع(6) وضبّ(7) تلقاه في بلاغته، يضع الحناء موضع النقبّ(8).

ص: 51


1- فلا جرم أشبه: والمراد بها التأكيد كما قال: الأزهري ولا جَرَم أي لا بدّ ولا محالة، وقيل: معناه حَقّاً؛ يُنظر: لسان العرب لابن منظور ج 12 ص 93
2- السفي والجري: بمعنى حركة الرياح في البحار؛ إذ أن البحار من غير الرياح لاعمل لها. س ف ی سفت الريح التراب أذرته؛ بينظر مختار الصحاح: لمحمد بن أبي بكر الرازي: ص 162؛ والمعنى: أن كلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يشبه البحر الذي تسفي وتهيج فيه الرياح بحيث لا يشبهه بحر
3- جمم: الجَمُّ والجَمَمُ: الكثير من كل شيء: ينظر لسان العرب لابن منظور: ج 12 ص 104
4- لا يحافل: لا يغالب في الكثرة، من قولهم: ضرع حافل بمعنی: ممتلئ كثير اللبن. والمراد أن كلامه لا يقابل لكلام غيره لكثرة فضائله؛ ينظر: نهج البلاغة تصنيف صبحي الصالح هامش ص 34
5- الحارش: أي الصائد؛ يُنظر: المجازات النبوية للشريف الرضي: هامش ص 288
6- اليربوع: دويبة نحو الفأر لكن ذنبه وأذناه أطول من ذنب وأذني الفأر، ورجلاه أطول من يديه. والضب: دويبة تشبه التمساح الصغير وذنبها کذنبه وتتلون كالحرباء؛ ينظر: الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني: ج 14 هامش ص 375
7- الضب: حيوان من الزواحف شبيه بالجرذون ذنبه كثير العقد؛ ينظر: جامع أحاديث الشيعة للسيد البروجردي: ج 23: هامش ص 126
8- الهناء موضع النقب: القطران، والنقب واحدته نقبة، وهو أول ما يبدو من الجرب؛ يُنظر تاريخ مدينة دمشق لأبن عساكر الدمشقي ج 40 هامش ص 162. والمعنى في عبارته (من كل حارش یربوع وضب) أنه مقارنةُ بلاغة الأعراب ببلاغة أمير المؤمنين عليه السلام، فهي أي بلاغة الأعراب أشبه بیربوع أو ضب يتصيد في مواضع النقب أي النفق المحفور، أو أشبه بالذي يقطّر من القطران على حب الجرب، وهذا وصف لرداءة البلاغة عند العرب وضعفها في مقابل بلاغة أمير المؤمنين صلوات الله تعالى عليه

وارَدت أن يسوغ لي: أي يحسن؛ أطلَقَ عليه مجازاً، لان السوغ حقيقة في سهولة الشّراب، فإطلاقه علیه مجازاً في الكتاب، لعلاقة أن التمثل بالمراد إذا حسن وسار بين العباد کان لذيذاً كالماء الزلال.

التمثل في الافتخار به عليه السلام بقول الفرزدَق(1):

أولنك أباني فجنني مثلهم *** إذا جمعتنا یا جرير المجامع

مراتبه على المرام في جمع المختار من كلامه عليه السلام؛ وهو أرادة أن يسوغ له التمثل في معرض التفاخر بآبائي؛ بیت الفرزدق لان المفاخرة بالآباء تعود إلى ذكر مناقبهم وشرفهم؛ ولا أشرف منه؛ فيمن سلف بعد الرسول صلى الله عليه؛ وخصوصاً فيما اشتملت عليه نفسه القدسية من الكمالات الحقيقية؛ التي فاضلت على من بعده إلى يوم الدين، أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم دجى الليل حتی نظّم الجزع ثاقبه(2).

ص: 52


1- الفرزدق هو: هّمام بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفیان بن مجاشع بن دارم. وكان جدّه صعصعة بن ناجية عظیم القدر في الجاهلية، واشترى ثلاثين موؤدة إلى أن جاء الله عزّ وجلّ بالإسلام، منهنّ بنت لقيس بن عاصم المنقرىّ. ثم أتی النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ يُنظر: الشعر والشعراء لابن قتيبة الدينوري: ج 1 ص 462
2- الجزع، بفتح الجيم: الخرز اليماني وأجاز كراع فيه كسر الجيم، والمعنى أن أحساب النبي وأهل بيته عليهم السلام، لهم من الشرف والعز مما يستضاء به حتى كان الناظم للخرز في الليل يرى بسهولة ثقب حبات الخرز اليماني، والبيت للقيط بن زرارة؛ ينظر: الشعر والشعراء لابن قتيبة الدينوري: ج 2 هامش ص 700

ورأيت كلامه عليه السلام يدور على أقطاب ثلاثة: قطب الرحى المسار الذي عليه يدور ثم استعمل في كل أصل يرجع إليه ومنه أطلاقه على سيد القوم:

اولها الخطب: الخطبة أعم من الوعظ والأوامر وثانيها الكتب والرسائل: أعم منها وثالثها الحكم والمواعظ فأجمعت: عزمت بتوفيق الله على الابتداء باختيار محاسن الخطب ثم محاسن الكتب ثم محاسن الأَدب والحكم؛ مفرداً لكل صنف من ذلك باباً: أي في كل باب أوراقاً لتكون الأوراق مقدمة لاستدراك ما عساه: راجع إلى: ما بمعنى الذي قيل: ورد على اللغة، الشاذ مثل لولاه، ولولاك يشذ عني عاجلاً: وقت العاجل ويقع إلى آجلا: وقت آخر فإذا جاء شيء من كلامه الخارج في أثناء حوار مكالمة في غير الأنحاء أو جواب کتاب أو غرض آخر من الأغراض(1): الطُرفُ التي ذكرتها وقررّت القاعدة عليها من قواعد الثبت الأَحجار التي تؤسس عليها نسبتها الشيء إلى أليق الأبواب به: في نسخة اخرى نسبته؛ وهو ظاهر واشدها: الأبواب ملاحمة: مشابهة لغرضه؛ وربما جاء فيما اختاره من ذلك الكتاب فصول غير متسقة: منتظمة يتلو بعضه بعضاً و محاسن كلم غير منتظمة لأني أورد النكت: جمع نكتة وهي الأثر في الشيء الموجب لافتقاد الذّهن إليه، كالنقطة في الجسم؛ ثم عدى إلى الأمور المعقولة المخصوص إدراكها بالدّقة واللمع جمع: لمعة وهي: البقعة من الكلاء من اللمعان بمعنى الإضاءة، ثم عدى إلى محاسن الكلام التميزها عن ساير الكلام فكأنّها في أنفسها ذات ضياء ونور کالأرض.

ص: 53


1- الأغراض الطرف: جمع غرض، وهو: بالتحريك: ما يجعله الرامي هدفا يقصد بر ميه إليه؛ يُنظر: زهرة الآداب وثمرة الألباب لإبراهيم بن علي الحصري القيرواني: هامش ص 696. والمعنى: أن الغريب من الكلام والطريف الذي يأتي خلال الحوار

ولا اقصد التالي والنسق: التتابع والانتظام.

ومن عجائبه عليه السلام التي أنفرد بها وأمن المشاركة فيها أنّ كلامه الوارد في الزّهد: عن الدّنيا والمواعظ والتذكير والزواجر إذا تأمله المتأمل وفكر فيه المفكر وخلع: ترع(1) من قلبه أنه كلام مثله: راجع إلى أمير المؤمنين ممن(2): مَن لبيان الجنس: عظم قدره ونفذ أمره وأحاط بالرقاب ملکه: بل نفرض أنّه وَجدّهُ(3) غير منسوب الى شخص معروف الحال لم يعترضه الشكّ ولم يخطره في انّه من كلام مَنْ لاحظّ له في غير الزهادة ولا شغل له بغَير العبادة قد قبع: أنزوي في كسر بيت: أسفل شقة(4) التي تلي الأرض أو أنقطع في سفح جبل: جوانبه التي تسيل عليها الماء من أعلاه، كما هو ذات الزهاد المعرضين عن الدنيا؛ إذ الشكّ الذي عسَّاه يعرض لبعض الأذهان الضعيفة؛ في أنه ليس بكلامه؛ إِنما ينشأ من معرفته؛ بأنه كلام شخص خائض في تدبير الدنيا وأحوالها؛ فيكون منشأ لعُروض الشك في أنّ هذا الكلام ليس بكلام رجلّ بهذا الحال لا يسمع إلا حسّه: حِسّ نفسِه، ولا يَرى الا نفسَهُ ولا

ص: 54


1- ترع: الترع: امتلاء الإناء؛ العين للخليل الفراهيدي: ج 2 ص 67؛ والمعنى: أن التأمل في کلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يملئ القلب
2- ممن: هي في الأصل مِن مَن، ومَن موصولة لبيان الجنس، ومِن أدغمت منها النون فصارت ممن
3- بل نفرض انه وَجّدهُ: وجد: الوجد: من الحزن و الموجدة من الغضب. والوجدان والجدة من قولك: وجدت الشيء، أي: أصبته؛ العين للخليل الفراهيدي: ج 6 ص 169؛ والمعنى أنه على فرض أصبنا أن نهج البلاغة غير منسوب إلى شخص معروف الحال، لم يعترضه الشك بأنه كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)، بمعنى أن نهج البلاغة لا شك يعترض نسبته الأمير المؤمنين عليه السلام
4- أسفل شقة: الشقة: بعد المسير إلى أرض بعيدة؛ ينظر العين للخليل الفراهيدي: ج 5 ص 7؛ والمعنى أن الزاهد والعابد هو: القابع في بقعة من الأرض بعيدة عن الناس، أو في سفح جبل، التي عادة تكون أيضاً بعيدة عن أنضار الناس

يكَادُ يُوقن بأنّه كلام مَنْ(1) منغمس في الحرب: يدخل فيه بكلَيّته؛ استعارة حسنة(2) فأن الانغماس حقيقة في الدخول في الماء؛ وما في معناه: إلا أنّ الحرب لما كانت في حركاتها واجتماع المتحاربين فيها؛ يشبه الماء المتراكم الجمّ؛ صحت الاستعارة.

مصلتاً: مجرداً سيفه فيقطّ: يقطع عرضاً الرقاب ويجدل: يلقي على الجَدالة وهَي الأرْض، الأْبطال: جمع بَطَل بمعنى الشجاع ويعود به: بالسيف، ينطفُ: يسيل دماً: تمييزٌ وكذا مهجا وَيقطر مهجاً: جمع مهجة وهَي: الدّم ويُقال هي: دم القلب خاصّة؛ والمهجة الروح أيضاً؛ فأن فسّرناها بالدم كانت نسبة القطر حقيقة، وإلا مجازاً نسبها للروح بالمائعات وَهُوَ مَعَ: الواو للحال.

ذَلكَ الحال زَاهِدُ الزّهاد وبَدلُ الأَبدال: لأنّ نفسه القُدْسيّة كانت وافية بضبط الجوانب المتجاذبة؛ قويّة عليها(3) ولم يكن اشتغاله بتدبير أمور الدنيا، ومعالجات الحروب، ونظام شمل المصلحة، مانعاً له من الاشتغال بالعبادة التامة، والإقبال على الاستشراق لأنوار الله والإخلاص له، والإعراض عن متاع الدنيا و طيباتها، وهذه من فضائل نفوس الأنبياء، وكمالات نفوس الأولياء، أما الزهد فهو الأعراض عن غير الله، وهو أمّا أمان ظاهر، أو باطن؛ وإنما المشفع به الثاني(4)

ص: 55


1- وردت في بعض نسخ النهج: (من ينغمس)؛ يُنظر: مقدمة نهج البلاغة: ص 35؛ ولعل المراد من المصنف بما ورد في الأصل (من منغمس) أن تكون عبارته (من هو منغمس في الحرب)
2- استعارة حسنة: بمعنی تشبیه حسن
3- المتجاذبة قوته عليها: القوى المتجاذبة هي: القوى الأربعة المتشكلة في النفس وهي: قوة الغضب، والشهوة، والخيال، والعقل، التي ذكر بعضها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قال: «أمَاتُثوا فيها ما خشُوا أن يميتهم» «أي أماتوا قوة الشهوة والغضب التي يخشون أن تميت فضائلهم؛ ينظر: نهج البلاغة: ص 728: ح 4979
4- المشفع به الثاني: هو الإيمان الباطن، حيث أن الزهد بالدنيا هو: الزهد في الدين خاصة، و الزهادة في الأشياء كلها؛ ينظر: العين للخليل الفراهيدي: ج 4 ص 12؛ والمعنى: أن الذي يرفع العمل، ويشفع لصاحبه؛ زهد الباطن؛ وهو: زهد النفس المعروف بجهاد النفس

قال صلى الله عليه [وآله]: «إنّ الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم»(1) وإن كان لا يتحقّق في مبدأ السلوك قال: صلى الله عليه [وآله] وسلم «الرياء قنطرة الإخلاص»(2) وهذه الفضائل من فضائله العجيبة، وخصائصه اللطيفة التي جمع بها بين الأضداد والّفَّ بين الاشتات(3): المتفرقات(4) جمع شّتَ: لأن المانع من الإقدام على الأهوال خوف الزوال، وحبّ البقاء والعارف بمعزل عن بقية الموت؛ إذ محبّته تعالى شاغلة له عن الالتفات إلى كلّ شيء، بل ربما يكون الموت منتهی له؛ لكونه وسيلة إلى لقاء محبوبه وغايته القصوى.

وكثيراً ما إذاکر الأخوان بها: بتلك الخصائص واستخرج عجبهم: تعجبهم منها: من أجل معرفة هذه الفضائل، وفي بعض النسخ عُجبهم بضم العين بمعنی: العجب أيضاً، ويحتمل أن يريد به المحبة، أي أذكرهم بهذه الفضيلة لتظهر محبتهم لها وميلهم إليها؛ أي أعرّفهم أنهم عاجزون عن أمثالها؛ فلا يبقى لهم حينئذ عجبٌ بأنفسهم، وظاهرٌ أنّ هذا اللفظ لا يعطي هذا المعنى، وهي موضع بها: اسم من الاعتبار، والفكرة فيها: وهو انتقال الذهن من أمر إلى آخر، وربما جاء في أثناء: تضاعيف؛ هذا الاختيار اللفظ المردد والمعنى المكرر والعذر في ذلك: التكرير أنّ

ص: 56


1- ينظر المبسوط للسرخسي: ج 1 ص 10؛ وتفسير السلمي: ج 1 ص 172، وكذلك تفسير الرازي لفخر الدين الرازي: ج 4 ص 4
2- يُنظر: شرح نهج البلاغة لابن میثم البحراني: ج 1 ص 104؛ وشرح مئة كلمة لأمير المؤمنين عليه السلام كذلك لابن میثم البحراني: ص 36
3- الأشتات: جمع شتیت: ما تفرق من الأشياء: ينظر نهج البلاغة: هامش ص 36
4- المتفرقات وهي: تعليل لكلمة الأشتات، وهي: الأشياء المتفرقة؛ التي تمنع من الإقدام على الأهوال كخوف الزوال وحب البقاء

روایات کلامه عليه السلام تختلف اختلافاً شدیداً: أما لأنه عليه السلام ربما تكلم بالمعنى الواحد مرّتين؛ أو أكثر بألفاظ مختلفة، كما هو شأن البلغاء؛ فينقله السامعون بالأوّل والثاني(1)؛ أو لأن الناس في الصّدر الأوّل كانوا يتلقفون الكلام من افواه الخطباء ويحفظونه على الولاء، فربما لا يتمكن السامع من حفظ كل لفظ ومراعاة؛ فربما اتّفق الكلام المختار في رواية فنقل على وجهه: من غير تغيير ثمّ وجد بعد ذلك في رواية أخرى، موضوعاً غير وضعه الأوّل أما بزيادة مختارة أو لفظ أحسن عبارة فتقتضي الحال أن يعاد استظهارا للاختيار: أي استعانة بغيره لحفظه والاستظهار(2) وهو العلو، والعلية حيث الاستعانة به، وعلى الشيء بغيره لدفعه.

وغَيّرةً مصدر: غار الرّجل على أهله، وهو أمر ثاني(3)، يعرض لذي الحق عند تخيل مشاركة غير المستحق لذلك الحق له فيه.

على عقائل کلام: کرائمه وعقيلة كل شيء أكرمُه، وربما بعد العهد ايضاً بما اختير أولاً فأعيد بعضه سهواً أو نسياناً، لا قصداً أو اعتماداً أو لا أدعي مع ذلك: المذكور.

أني أحيط بأقطار: بجوانب كلامه عليه السلام حتى لا يشذ عني شاذ ولا يند

ص: 57


1- بالأول والثاني: هو الكلام الذي يطلق عليه الترادف، والأصل ردف قال: الخليل الفراهيدي «الردف: ماتبع شيئاً فهو ردفه، وإذا تتابع شيء خلف شيئ فهو الترادف؛ يُنظر العين: ج 8 ص 23
2- الاستظهار: وهو: العلوّ والغلبة، يُنظر نهاية الأرب في فنون الأدب للنويري: ج 8 هامش ص 129
3- وهو أمر ثاني: بمعنى أن أمر غيرة الرجل على أهله هو أمر ثاني مستقل عن العقائد الكلامية، إلا أن الوجه هو المشابهة بين حق الاستظهار في الكلام أو في الغيرة على الأهل فهو واحد

ناد ندّ البعير(1): نعر؛ بل لا أبعد أن يكون القاصر عنی فوق الواقع إلى والحاصل في رقبتي: عقدي، والربق: بالكسر حبل فيه عدة عري(2) يشدّ به اليهم ثم عدّى إلى غيرهم قال عليه الصلاة والسلام «من فارق الجماعة قيد الشّبرِ فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه»(3) دون الخارج من يدّي وما علي إلا بذل الجهد وبلاغ الوسع: الطاقة وعلى الله سبحانه نهج السّبيل: النهج الطريق الواضح؛ ورشاد الدليل: خلاف الغَيّ(4) أن شاء الله ورأيت من بعد: الجمع المذكور تسمية هذا الكتاب بنهج البلاغة: استعارة(5) لطيفة، لأنه حقيقة في الطريق الواضح المحسوسة ووجه المشابهة أنّ الطّريق محلّ الانتقال و قطع الأحياز(6) المحسوسة، والذهن ينتقل في هذا الكتاب من بعض لطائف البلاغة وشعَب الفصاحة إلى بعضها انتقالاً سهلاً، إذ كان يفتح للناظر فيه أبوابها: البلاغة ويقرّب عليه طلابها وفيه حاجة العالم

ص: 58


1- ند البعير نعر: وند البعير ندودا: انفرد واستعصى، وأندتُ البعير فند؛ ينظر: العين للخليل الفراهيدي: ج 8 ص 10. والمعنى: أن الشارح لا يقول: إني أستطيع أن أحيط بكافة جوانب کلام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام فأنفرد عن غيري فأكون شاذاً
2- عدة عرى يشد به البهم، كل عروة ربقة
3- يُنظر: القاموس المحيط للفيروز آبادي: ج 3 ص 234، والمعنى: أن مسؤولية شرح نهج البلاغة هي في عنقي مربوطة أشبه بحبل فيه عدة عقد يربط به عدة بهائم كل بيهم بعقدة، هكذا هي مسؤولية كل كلمة
4- خلاف الغي: الغي و الغواية: الانهماك في الغي: العين للخليل الفراهيدي: ج 4 ص 456، والمعنى: أني أنهج سبيل الرشد الذي لا غواية ولا ضلال فيه
5- استعمال الاستعارة للتشبيه والمقارنة في تسمية الكتاب بنهج البلاغة، بمعنى سبيل البلاغة
6- وقطع الأحياز المحسوسة: والحيز: ما انظم إلى الدار من مرافقها. وكل ناحية حيز، وأصله من الواو. والحَيْز: تخفيف الحيّز، مثل هيْن وهيّن، وليْن وليّن. والجمع أحياز؛ ينظر: العين للخليل الفراهيدي: ج 3 ص 876؛ والمعنى: أن السالك لطريق معين يجتازه، ويقطع نواحيه من خلال سيره؛ كذلك كتاب نهج البلاغة من خلال فصاحته وبلاغة عبارته ينتقل الذهن إلى مضامینه بسهولة

والمتعلم وبغية: بالضم والكسر مايزاد البليغ والزاهد ويمضي في اثنائه من عجيب: حال من الكلام إلى آخر.. الكلام في التوحيد والعدل وتنزيه الله سبحانه عن شبه الخلق ما: فاعل يمضي(1)؛ هو بلال كل غِلّة: القدر الذي يبل به الحلق للعطش الشديد شَبّه المعَلّم بالماء لإحيائه، والطالب له بالعطشان، والطلب العطش وشفاء كل علة: باطنيّة وجلاء: إزالة كلّ شُبهَةٍ من جَلوت السَّيف جلأ صَقَلْتُ(2).

ومن الله سبحانه استمد التوفيق والعصمة وأتنجز التسديد(3) والمعونة واستعيده من خطاء الجنان قبل خطاء اللسان؛ ومن زلة الكلم قبل زلة القدم: من الخطأ في القول قبل زلة القدم: الانحراف عن الطريق أو عدم التثبت على الصراط وهو حسبي: كافيّ ونعم الوكيل: هو باب المختار من خطب أمير المؤمنين عليه السلام وأوامره، ويدخل في ذلك المختار من كلامه الجاري مجرى الحطب في المقامات المحضورة والمواقف المذكورة والخطوب: الأمور العظام.

2. الواردة من خطبة له عليه السلام يذكر فيها أبتدأ خلق السماء والأرض وخلق آدم عليه السلام. هذه الجمل المصدّرَة بقَوله:

«الحمد لله الذي لا يبلغ مدحتَه القائلون»: أي لا يصَل أقدام العقول البشرية إلى

ص: 59


1- فاعل يمضي: وفيه احتمالان: الأول أن الفاعل هو الله تعالى، والمضي: بالقدرة المتمثلة بالإرادة الأزلية والاحتمال الثاني: أن مطالب کتاب نهج البلاغة ومضامينه فيها من الفاعليّة والتأثير ماهو بلال كل غلة وروِيّ كل عطشان
2- جلوت السيف جلاء صقلت: وجَلَوْت السیف: صَقَلْته وجَلَوْت عيني: کَحَلْتها؛ المخصص لابن سيده: ج 4: ق 3 (السفر الخامس عشر) ص 8، والمعنى أن كلمات نهج البلاغة وعباراته هي تجلي كل شبهة كما يجلي ويقطع السيف بصقلته
3- وأتنجز التسديد: التنجز، التنجيز، الناجز: الإنهاء والإتمام؛ المعجم الفقهي في المصطلحات: ص 817: والمعنى أنه لإنهاء وإتمام کتاب نهج البلاغة استمد التسديد والعون من الله تعالى

ساحة كيفية مدحته سبحانه کما یلیق به؛ لأنّه موقوف على تعقّل ذاته وصفاته کما هي، ولا يعتصم ايدي الأوهام به بفتراك الإدراك الواهي(1)، فما هو دأب المدّاحين من وصف رَبّ العالمين، بما هو اشرف طرفي النقيض(2) لا يكون کمال مدحته في نفسه لعدم اطلاعهم على ما هو يكون المدح الحق في حقه؛ أو لا يبلغ الأنام بإقدام الإفهام أو الأوهام، إلى منتهی بسيط(3) بساط ثنائه(4) وإحصائه؛ لأن العبد كلما بلغ مرتبة من مراتب المدح والتكريم؛ كان ورائها أطواراً من استحقاق الثناء والتعظيم؛ كما أشار إليه سید المرسلين صلى الله عليه [وآله] وسلم بقوله: «لا احصی ثناء عليك أنت كما اثنیت على نفسك»(5) واختار القائلين على المادحين لأنه اعمّ، وسلب العام مستلزم لسلب الخاص من غير عکس(6)؛ فيكون أبلغ في التنزيه، ولانّ نفي البلاغ أيضاً أبلغ من نفي

ص: 60


1- بافتراك الإدراك الواهي هو: الضعيف والواهية: مسترخية ساقطة القوة؛ يُنظر: مجمع البحرين للشيخ فخر الدين الطريحي: ج 1 ص 466؛ والمعنى: أن كل أدراك لله تعالى يفترك أي يزحف عن الحقيقة؛ لأنه تعالى ممتنع عن إدراك عقول البشر؛ وتصديق ذلك بقول فاطمة الزهراء عليها السلام: «الممتنع من الأبصار رؤيته، ومن الألسن صفته، ومن الأوها م کیفیته» يُنظر: الاحتجاج للطبرسي: ج 1 ص 133
2- طرفي النقيض: أي: متناقضان أحدهما مخالف للآخر؛ يُنظر: الروضة البهية للشهيد الثاني: شرح ص 126؛ والمعنى: أن المدّاحين هم في الحقيقة على طرفي نقيض مع الله تعالى؛ لأنه أعلى وأجل من أن يصفه الواصفون
3- والبسيط: جنس من العروض؛ يُنظر الصحاح للجوهري: ج 3 ص: 1116؛ وغالباً يكون المدح والثناء على النعم والإحسان
4- بساط ثنائه: تعمدك للشيء تثني عليه بحسن أو قبيح: ينظر العين للخليل الفراهيدي: ج 8 ص 244؛ ويكون بسط الثناء في تقديم المدح على حُسن النعم
5- المقنعة للشيخ المفيد: ص 227؛ مصباح المتهجد للشيخ الطوسي: ج 838 ، المجموع للنووي: ج ص 434، منتهى المطالب للعلامة الحلي: ج 5 ص 221؛ باختلاف يسير
6- سلب العام مستلزم لسلب الخاص من غير عکس: العام والخاص من المطالب الأصولية التي يراد بها تثبیت موضوع الحكم؛ فالخاص وصف للحكم يثبت له حينما تكون بعض أفراد الحكم أو متعلقه خارجة عنه بواسطة التخصيص؛ وذلك في مقابل العام الذي هو وصف للحكم الثابت لتمام أفراد موضوعه أو متعلقه مثلاً: حينما يقال للمكلف (يجب عليك إكرام العلماء إلا الفاسقين) فإن الوجوب في المثال هو: الموصوف بالخاص؛ وذلك لأن موضوعه وهو العلاء قد تم إخراج بعضهم عن الحكم (الوجوب) بواسطة التخصيص ب(إلا)، ففساق العلماء وإن كانوا من أفراد العلماء موضوعاً؛ إلا أنهم خارجون عن الحكم الوجوب خاصاً، لاختصاصه ببعض أفراد موضوعه وهم العلاء غير الفساق، أما لو قيل للمكلف (يجب إكرام العلاء) فإن الوجوب یکون عاماً وذلك لشموله لتمام أفراد موضوعه؛ والسلب من المطالب الفلسفية التي يراد بها تثبيت القضايا من قبيل (الملكة والعدم)، والمعنى: أن لبلوغ التنزيه يجب تقديم العام على الخاص، فالقائلين بالثناء أعم من المادحين وهو الأخص، والسلب هو نفي الموضوع، فإذا نُفي القول بالثناء وهو العام، في المدح وهو الخاص، وهذا معنى قوله: (سلب العام مستلزم لسلب الخاص من غير العكس)؛ وبمعنى أوضح: أن العام يستوعب الخاص، بينما الخاص لا يستوعب العام، وذلك من قبيل مفهوم الكل والجزء

الوصول(1)؛ لإطلاقه على الأشراف(2) کما في قوله عزّ من قال «فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ» الآیة(3) آثره عليه؛ هذا وأعلم أنه عليه السلام بدأ بالحمد على وجه يشمل حمد الحامدين؛ من ابتداء الخلق إلى انتهاء قولهم: أن الحمد لله رب العالمين تعليماً للخلق بلزوم الثناء على الملك الوهاب، والاعتراف بنعمته عند افتتاح كل خطاب، لاستلزام ذلك ملاحظة حضرة الجلال، والالتفات إليها عامة الأحوال، وأبتدأ أولاً في الصفات السلبية(4)

ص: 61


1- باعتبار أن البلوغ أعم من الوصول. والمعنى أن السالك إلى الله تعالى قد يصل ولكن ليس معلوماً أن يبلغ مراده، فليس كل من يصل، يصل لما یرید
2- لاطلاقه على الأشراف: بمعنى أن البلوغ مطلقاً أشرف من الوصول؛ حيث أن هناك من يصل، ولكن قد لا يبغ مراده
3- سورة البقرة الآية 234
4- الصفات السلبية هي: من صفات الله تعالى المُعرفة بصفات النفي کنفي الجسمية، والسِنَة والنوم وما شابه کما قال تعالى «لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ» سورة البقرة: الآية 255، وقيل الجلال: الصفات السلبية، والإكرام: الصفات الثبوتية؛ يُنظر: ملاذ الأخيار للعلامة المجلسي: ج 5 ص 40؛ بمعنى أن الله تعالى يجل عن كل صفة سيئة، ويكرم بكل صفة تثبت وجوده وتوحيده

لدقيقة(1) وهو أن التوحيد المتحقق والإخلاص المطلق لا يتقرر إلا بنفض(2) كل ما عدا الله تعالى عنه، وطرحه عن درجة الاعتبار ويسميه أهل العرفان بمقام التخليّة(3)، ومالا يتحقق الشيء إلّا به، كان اعتبارهُ مقدماً على اعتبارهِ(4)، ولما كان عليه السلام فاتحاً الأغلاق الطريق(5)، إلى الواحد الحق ومعلمًا لكيفية السلوك، وكانت العقول قاصرة عن ادراك حقيقته، والواصل إلى ساحل عزته، والأوهام حاكمة بمثليته تعالى لمدركاتها(6)،

ص: 62


1- لدقيقة: بمعنی مسألة دقيقة: وشيء دَقِيق: غامض. والدّقيق: الذي لا غِلظَ له خلاف الغليظ، وكذلك الدُّقاقُ بالضم ينظر لسان العرب لابن منظور: ج 10 ص 101. والمعنى أن مسألة التوحيد من المسائل الدقيقة التي لا تقبل الغلط، وتتحقق بالتجرد عن كل شَبهة وندٍ ومَثَلٍ لله جل وعلا عما يصفون
2- النفض: هو ما تساقط من غير نفض في أصول الشجر من أنواع الثمر: ينظر العين للخليل الفراهيدي: ج 7 ص 46؛ والمعنى: أن التوحيد لا يتقرر إلا بتساقط الأوهام من الذهن، وتخلية النفس من كل شيء ماعدا الله تعالى
3- مقام التخلية: تخلية القلوب والنفوس عن الرذائل والانهماك في حب الدنيا؛ يُنظر: شرح اصول الكافي لمولى محمد صالح المازندراني : ج 3 ص 82؛ والمعنى: أن لدى أهل العرفان مقام يسمّوه مقام التخلية وهو: التجرد عن كل شيء وإن كان له اعتبار، سوى الله تعالى
4- كان اعتبارهُ مقدماً على اعتبارهِ: قال: أبن فارس «أما الاعتبار والعبرة فعندنا مَقِیسان مِنْ عَبري النهر، لأن كل واحد منهما عِبر مُساوٍ لصاحبه فذلك عَبر لهذا وهذا عَبر لذاك، فإذا قلت: اعتبرت الشيء فكأنك نظرت إلى الشيء فجعلت ما يعنيك عِبراً لذاك؛ فتساويا عندك؛ هذا عندنا اشتقاق الاعتبار قال الله تعالى: (فاعتبروا يا أولي الأبصار) كأنه قال: انظروا إلى من فعل ما فعل فعوقب بما عوقب به فتجنبوا مثل صنيعهم لئلا ينزل بكم مثل ما نزل بأولئك؛ يُنظر: معجم مقاییس اللغة لأحمد بن فارس: ص 210؛ والمعنى: أنه حتى يحقق التوحيد لا بد أن يقدم اعتبار الله تعالى على اعتبار كل شيء
5- فاتحاً لأغلاق الطريق: معنى أن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام فتح باب المعرفة وحقق الوصول إلى الله تعالى بإغلاق طريق الأوهام والشبهات
6- والأوهام حاكمة بمثليته تعالى لمدركاتها: بمعنی مها سلك العقل طريقاً للوصول إلى حقيقة الله تعالى وساحل عزته: فهو واهم، والأوهام حاكمة بمثليته تعالى، لأنها أي الأوهام ناشئة على لوح الخيال فلا يكمن ادراك حقيقته تعالى

بدا بذكر السلب(1)، لأنه مستلزم لغسل درن الحكم الوهمي في حقه تعالى، عن لوح الخيال(2) حتى إذا أورد عقيب ذلك، ذكره تعالى بما هو أهله، ورد على الوَّاح صافيةٍ من کَدَر الباطل فانتقشت بالحق کما قال: «فصادف قلباً خالياً فتمكنا»(3).

«ولا يحصى نعمائه العادون»: الإحصاء: الإحاطة بالمعدود، والنّعماء نعم المعبود أي لا يحيط بأفرادها حصر الإنسان، وعدّه لكثرتها وبيانه بالنقل والعقل، أمّا الأوّل(4)،

ص: 63


1- بدأ بذكر السلب: بدأ به، وباد الشيءُ بَواداً، ولغةً في بدَا بمعنَى ظهَرَ؛ يُنظر تاج العروس للزبيدي: ج 4 ص 367؛ و السلب: ما يسلب به، والجمع الأسلاب؛ ينظر: العين للفراهيدي: ج 7 ص 261؛ وسلبت الشيء سلباً، والاستلاب: الاختلاس؛ يُنظر: الصحاح اللجوهري: ج 1 ص 148. والمعنى: أن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام؛ حينما يريد أن يبدأ بذكر التوحيد يسلب الوهم عن لوح الخيال؛ ليتجرد الوصف عن كل مشابهة ومشاكلة لتظهر حقيقة التوحید خالصة، وهذا معنى قوله في المتن أعلاه: «لغسل درن الحكم الوهمي في حقه تعالى عن لوح الخيال»
2- لوح الخيال: هذه عبارة قد ذُكرت في تعابير كثير من أرباب الحديث وشراحه، کما ورد في حديث أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «القلب مصحف البصر» فاستعار لفظ المصحف للقلب باعتبار انتقاشه بصور ما ينبغي التكلَّم به، كأنتقاش الصور في لوح من الخشب أو الحجر ؛ كذلك تنتقش الصور في لوح القلب أو الذهن، والمسمی بلوح الخيال: ينظر شرح نهج البلاغة لابن میثم البحراني: ج 5 ص 411
3- فصادف قلبا خالياً فتمكنا: القول هو شطر من البيت: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى *** فصادف قلباً خالياً فتمكنا وهو أي البيت: ليزيد بن الطثرية الشاعر المشهور أبي المكشوح یزید بن سلمة بن سمرة بن سلمة الخير بن قشير بن کعب ابن ربيعة بن عامر بن صعصعة المعروف بابن الطثرية، هكذا ساق نسبه أبو عمرو الشيباني وإنما قیل لجده سلمة الخير لأنه كان لقشير ولد آخر يقال له سلمة الشر: ينظر وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لابن خلکان: ج 6: ص 367
4- الأول هو: النقل

فقوله تعالى «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا»(1) وأمّا الثّاني(2)، فلان نعم الله سبحانه على العبد قسمان ظاهرةً وباطنة، كما قال جل ثناؤه وعم آلاؤهُ: «وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً»(3)، ويكفينا في بيان صدق هذا البيان التثنية بذكر فوائد بعض أعضاء الإنسان فنقول بعون الله المنان: من جملة ما أنعم الله على الناس الرأس جعله مدّورةاً؛ لأن لا يكون سريع الانكسار، ولم يجعله عظماً واحداً بل قطعاً قطعاً متجاورة، حتى لو أصابت واحدة منها آفة لا يتعدّى إلى الباقية، وفيه الودائع البدایع؛ كالعقل وغيره من القوى، ومنها العين وهي حاسّة سرّيعة الحركة، دوارة قابلة لما يقابلها، جعلها تحت الجبهة؛ لاعن جوانبه كأعين الدّواب، صافية كالمرآة؛ لیری فوقه وتحته وجوانبه محصونة(4) بالأشفار والاجفان، مکيّسة، لها وفوقها حاجباً مقوساً، اسود لأن لا يضره الضياء؛ والحدقة متحركة في مكانها، لتحرك الناظر إلى الجهات ومنها الأذن، جعل على كل طرف ثقبة منها صدفاً ثابتاً، في داخله جداول معوّجة ليثبت فيه الصوت، وينفذ إلى الصماخ(5)، ولولا هذه الأصداف(6)، لما سَمِع إلا القليل، ومنها الانف يدرك بها الرياح ويجري فيها

ص: 64


1- سورة إبراهيم: الآية 34
2- الثاني هو: العقل
3- سورة لقمان: الآية 20
4- محصونة: بمعنی: محصنة بالأشفار، وهي الأهداب
5- صمخ: الصاخ: خرق الأذن إلى الدماغ، والسماخ: لغةً؛ ينظر: العين للفراهيدي: ج ص 192
6- الأصداف هو: الصدف: أوعية يكون اللؤلؤ فيها؛ وهي حيوان الواحدة صدفة، والجميع أصداف ، و صدف. قالت: يامن أحس نبي اللذين هما *** كالدرتين تشظى عنهما الصدف يُنظر: غريب الحديث لابن سلام: ج 2 ص 710

الأنفاس جعل رأسه(1) من أسفل لأن لا يقع فيه شيءٌ، ورأس الأسفل أوسع ليكون خروج النّفس منها أسرع وجعل له مجربين(2) بينهما عظم رقيق لانّ الرأس نصفان يحتاج كل نصف إلى مجری، وفتح منها مجرى إلى الحلق، ومجرى إلى الرأس ليكون أخف لأدراك المشمومات وأسرع لقبولها، وأنبت في باطنة الشعر ليمنع ما يسيل، ومنها اللسان خلقت من لحم وعصب و جعلت سبباً للنجاة والهلاك قال: الله سبحانه «الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ»(3)؛ ولقد أحسن من قال أحسن الأشياء:

كلام نبيح من لسان فصيح *** من وجه ملیح من سرّ صحیح(4)

ومنها الفم وضعه فوق البدن للصوّق(5) وتسهيل الغذاء وركب فيه من الرحى العجيب البُنيْة، لولاها ما عَرِف النفس لذة مطعوم ولا مشروب، ومنها البطن؛ وفيه لطائف من المعدة، والرية، والطحال، والمرارة، والكليتّين، والأمعاء، وفوائدها مذكورة في الكتب الطبيّة يطول بذكرها الكلام، ومنها القلب وهو عالم

ص: 65


1- رأسه: وهو: رأس الأنف
2- المجربين أحدهما مجرب و الجراب: وعاء يوعي فيه، وهو من إهاب الشاء، والجمع جرب و جراب البئر: جوفها من أولها إلى آخرها: ينظر العين للفراهيدي: ج 6 ص 113
3- سورة الرحمن : الآيات: 1 - 4
4- الظاهر منه أستحسان الفرد من الناس؛ لو اجتمعت فيه هذه الصفات: رخامة الصوت التي عبر عنه بالنبيح، وفصاحة اللسان وملاحة الوجه، والنبيح والنباح، والضغيب والضغاب، لصوت الأرنب؛ ترتيب اصلاح المنطق لابن السكيت الأهوازي: ص 347
5- للصوق: بمعنى الصوق: وهو السوق، وقد صاق الدابة يصوقها؛ يُنظر: في القاموس المحيط للفيروز آبادي: ج 3 ص 255، والمعنى: أن الفم هو أشبه بالسوق الذي يمر به المارة وتعبر له البضائع، فهكذا هو الفم يمر من خلاله الغذاء

على حده لكثرة ما فيه من الخصال العجيبة، جعله في شعاف(1) کیلا يصيبه آفة، يقال: مضغة(2) صغيرة المقدار، موضع الفوائد والأنوار من الملك الجبار قال الله تعالى «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ»(3) شعر:(4)

نور المعارف فوق نور يزهر *** نار المحبة فوق نار تسعر

عجباً لقلب يجمع فيه ربّه *** ناراً ونوراً ذي لطيف يذكر

دع ما سوّى الأجزاء المذكورة من اليديّن وفوائدهما، والرجليّن ومنافعهما، وما فاض علينا من القوة العقلية، التي هي سبب خيرات الدائمة، والنعيم الباقية التي لا ينقطع موادها، ولا يتناهی تعدادها، وأبن آدم مع ذلك كله غافل عن شكر الله، جاهل بمعرفة الله، مُصر على معصية الله؛ فحقٌ أن يقول سبحانه وتعالى بعد تنبیهه له على ضروب نعمه «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ»(5) ظلوم لنفسه بمعصية الله؛ معتاد للكفران بآلاء الله «قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ»(6) سبحانه الذي لا يحصى ذوارفه(7)

ص: 66


1- الشعاف جمع شعفة وهو: كل شي أعلاه، وشعفة الجبل: رأسه. ومنه قيل لأعلى شعر الرأس: مادة شعفة؛ ينظر: لسان العرب: ج 9 ص 177
2- و المضغة: قطعة لحم. وقلب الإنسان مضغة من جسده؛ ينظر: العين للفراهيدي: ج 4 ص 370
3- سورة الأنفال: الآية 24
4- الظاهر أنه قول الشارح فلم أعثر على مصدر لقائله
5- سورة إبراهيم: الآية 34
6- سورة عبس: الآية 17
7- ذوارفه من الذرف وهو الصب: وتنسب هذه الكلمة لصب الدمع؛ قال: الذَّرْفُ: صَبُّ الدَّمْع؛ یُنظر: لسان العرب لابن منظور: ج 9 ص 109؛ والمعنى: أن الله تعالى تُصب فضائله على الخلائق؛ وهي أشبه بسيل الدمع عند نزوله

ولا يستقصي(1) عوارفه، وغاية هذا الحُكم تنبيه الغافلين من مراقد الطّبيعة؛ على لزوم شكر الله المتعال، والاعتراف بنعمته المستلزم لدوام إخطاره بالبال وتؤكد الحُكم الأولي(2).

«ولا يؤدي حقه المجتهدون»: تقول أدّيت حق فلان؛ إذا قابلت إحسانه بإحسان مثله، والعلم يصدقه، من وجهين أحدهما: أنّه لما كان أداء حق النعمة مقابله الإحسان بجزاء مثله، وثبت في الكلم السابقة(3) أنّ نعم الله تعالى لا تحصى، لزم من ذلك أنه لا يمكن مقابلتها بمثل الثاني: أن كل ما يتعاطاه مستنداً إلى جوارحنا وقدرتنا من الأفعال، فهي في الحقيقة نعمة وموهبة من الله المتعال، وكذلك الطاعات کالحمد والشكر وغيرهما، نعمة منه فتقابل نعمته بنعمته، روی أن هذا الخاطر خطر لداود عليه السلام فقال: «يارب كيف أشكرك وأنا لا أستطيع أن أشكرك إلا بنعمة ثانية من نعمك فأوحى الله تعالى إليه إذا عرفت هذا فقد شكرتني»(4) وأماً

ص: 67


1- الاستقصاء في الحساب حتى لا يُتَرْك منه شيء: ينظر لسان العرب لابن منظور: ج 6 ص: 358؛ والمعنى: أن عوارف الله تعالى وهي ما يتفضل به من المعرفة على عباده، لا يمكن مناقشتها وحسابها لكثرتها، والحال أشبه بقوله تعالى «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا» سورة إبراهيم: آية 34
2- الحكم الأولي هو: حكم الإيمان به تعالى الذي فرضه على عباده فقال عز وجل «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» سورة يوسف: الآية 40
3- ما بين معقوفين خارج عن السياق اللغوي؛ لورود التاء المربوطة في كلمة السابقة، وخلوها من كلمة (الكلم) وعليه ينبغي حذف التاء، أو إضافة تاء لكلم لتصبح (في الكلمة السابقة) أو (في الكلم السابق) ولعل التاء ساقطة من (كلم)
4- ينظر تفسير السلمي: ج 1 ص: 341، وتفسير الرازي لفخر الدين الرازي: ج 1 ص 222، وإرشاد القلوب للحسن بن محمد الديلمي: ج 1 ص 122

ما يقال: في العرف من أن فلاناً مؤد لحق الله فمبنيٌ على أن التكاليف تسمی حقوقا له، وذلك الأداء في الحقيقة من أعظم نعم الله تعالى على عبده قال: عز من قائل «يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ»(1) «الذي لا يدركه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن»: النيل الإصابة والهمة العزم الجازم فيقال: فلان بعيد الهمة إذا كانت أرادته تتعلق بعلیات(2) الأمور دون محقراتها، والغوص الحركة في عمق الشيء، والفطن جمع فطنة وهي في اللغة: الفهم وعند العلماء جودة الذهن، ولما كان صفات جلاله، ونعوت کماله في عدم الوقوف على حقائقها وأغوارها؛ يشبه البحر الخضم الذي لا يوصل إلى ساحله؛ كانت الفطنة شبيهة بالغائص في البحر؛ فاستعير الغوص لحركات الفطن في عميقات غیوب ملکوته؛ طالبة لكمال تصور ذاته ومعرفتها بالکُنه(3) وتعرف منه استعارة الإدراك لحركات الحمم البعيدة؛ إذ هو حقيقة في لحوق جسم لجسم؛ آخر وهذه الإضافة في معنى الصفة؛ أي: لا يدركه الهمم البعيدة، ولا يناله الفطنة الغائصة، ووجه الحسن إن المقصود هو: المبالغة في عدم إصابة ذاته تعالى بالهمة؛ من حيث هي بعيدة، وبالفطنة من حيث هي ذات غوص؛ فالحيثية مقصود بالقصد(4)

ص: 68


1- سورة الحجرات: الآية 17
2- بعليات: واحدة الأعلى، ومؤنثة العلياء، وجمعه العليات والعلى، ينظر تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي: ج 2 ص 398؛ والمعنى: أن العارف بالله تعالى يجب أن تتعلق همته بالأمور العالية دون الأمور الحقيرة
3- الكُنْهُ: بالضَّمِّ: جَوْهَرُ اليَّءِ؛ عن ابنِ الأعْرابيِّ. وأَيْضاً: غايَتُه ونِايَتُه. يقالُ: أَعْرِفْه كُنْهَ المَعْرِفَةِ
4- بالقصد الأول وهو: الهمة في معرفة الله تعالى وهي بعيدة لا تتحقق، فلا يُنال من معرفة کنهه تعالى مهما بلغت الهمة

الاوّل فلذا قدم(1) وبرهان هذا المطلوب أنه تعالى ليس بمركّب(2)، وكل ما ليس بمركّب ليس بمدرك الحقيقة(3)؛ أمّا الصغرى(4)، فلانّ كلّ مركب محتاج إلى الجزء الذي هو غيره؛ وكل محتاج إلى الغير ممكنٌ(5).

لأن ذاته من دون ملاحظة الغير لا يكون كافياً في وجوده، وأن لم يكن فاعلاً له خارجاً عنه(6)، وأمّا الكبرى فلان أدراك الحقيقة من الحد المؤلِف من أجزائها، کما بيّن في موضعه، والله سبحانه منزه عن ذلك؛ فلا تدرکه همة وإن بعدت، ولا تناله

ص: 69


1- فلذا قدم: بمعنی قدم بُعدَ الهمة على غوص الفطنة
2- (وانه تعالى ليس بمركب) و المركب: المثبت في الشيء، کتر کیب الفصوص؛ يُنظر: العين للخليل الفراهيدي: ج 3 ص 363. والمعنى: أن المُركب حتى يصير مُركب لا بد أن يكون أجزاء؛ فإذا اجتمعت صار مُرکب؛ والله تعالى ليس بجزء فلا يكون مُرکب؛ و(أنه تعالى ليس بمركب) عباره بقياس الصغرى
3- ما ليس بمركّب ليس بمدرك الحقيقة: عبارة بقياس الكبرى
4- الصغرى والكبرى من مسائل القياس؛ التي تبحث في علم المنطق، لغرض الوصول إلى نتيجة في الاستدلال والبرهان
5- وكل محتاج إلى الغير ممكن: نتيجة القياس؛ ومعنى الممكن هو: الحادث ويقابله القديم، وهما من المسائل الفلسفية، والحادث هو: المخلوق الذي وجد بحدث کما بيّن سبحانه بقوله تعالى «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا»: سورة الإنسان: الآية 2، فخلق الإنسان بحدث الزواج وسبب من الأمشاج؛ كما أفاد الشيخ المفيد رحمه الله وأجاد في النكت الاعتقادية: ص 16 قال: فإن قيل لك: أنت حادث أم قدیم؟ فالجواب: حادث غير قديم وكل موجود ممکن حادث غير قدیم، فإن قيل: ما حد الحادث وما حد القديم؟، فالجواب: الحادث هو الموجود المسبوق بالعدم، والقديم هو الموجود الذي لم يسبقه العدم
6- بمعنى: أن غير الله تعالى هو من الممكنات المحتاج إلى الله تعالى في وجودها، ولا يكون كافياً من دون ملاحظة، بمعنى: لا يكتفي أي مخلوق في وجوده من دون ملاحظة الخالق المبدئ وهو الله تعالى، وأن لم يكن فاعلاً خارجاً، بمعنى: وإن كان المخلوق ساكناً ليست له فاعلية، أو متحركاً له فاعلية خارجةً عنه، فكل ما خلق مفتقرٌ إليه جل ثناؤه

فطنة وإن اشتدت؛ وكل سابح في بحار جلاله غريق، وكل مدع فبأنوار کبریائه حريق، لا إله إلا هو سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً.

«الذي ليس لصفته حد محدود»: حد الشيء منتهاه، وصف بما هو منه مبالغة، كقولهم شعر شاعر(1)، وكذا أجل وعند التأمل يتلألأ في ساحة الخاطر من قوله عليه السلام ليس لصفته حد؛ درر المعاني(2).

الأول: أنه لا يطرأ عليه العدم(3)، الثاني: أن ليس لها طبيعة امتدادية تنتهي إلى حد(4) ونهاية؛ الثالث: أنها لا تصير بحيث يمتنع تعلقها(5)، لان ذلك عجز و نقص، تعالى عن ذلك علوا كبيراً، ولأن كثيراً من مخلوقاته أبدية كنعيم الجنان، وذلك بتعاقب جزيئات لا نهاية لها بحسب القوة والإمكان، ولأن المقتضى هو الذات(6)

ص: 70


1- كقولهم شِعْرٌ شاعِرٌ: يريدون المبالغة والإشارة؛ ينظر: لسان العرب لابن منظور: ج 10 ص 139
2- درر المعاني: كتاب مخطوط للجيلاني؛ لم يتسني لي العثور عليه، وذكر التفتزاني ماهو قريب من المطلب أعلاة؛ في شرح المقاصد في علم الكلام: ج 2 ص 84
3- لا يطرأ عليه العدم: طرأ فلان علينا يطرأطروءا، أي: خرج علينا مفاجأة من مكان بعيد؛ يُنظر العين للفراهيدي: ج 7 ص 448؛ بمعنى أن الله تعالى لا يظهر عليه العدم
4- بمعنى أن صفات الله تعالى لا تنتهي بحد
5- بمعنى أن كل صفاته عز وجل معقولة وليس فيها غير معقول لأن ذلك يمتنع منه تعالى، بمعنى ليس فيه شيء غير معقول
6- ولأن المقتضى هو الذات: المقتضي من شروط العلة التامة، التي هي على ثلاثة أقسام: مقتضي، وشرط، وعدم مانع؛ وقال: السيد محمد الروحاني في منتقى الأصول، تقریر بحث الخارج لعبد الصاحب الحكيم: ص 230، «أن وجود الشيء يتوقف على تحقق علته التامة بأجزائها من مقتضي، وشرط، وعدم مانع، فإذا انتفى أحدها لم يتحقق الشيء لعدم علته التامة. والمعنى أن المخلوقات الأبدية التي خُلقت کنعيم الجنة هي ذات علة تامة، وهذه العلة التامة هي: التي جعلتها أبدية، وهذا معنی عبارته التي تقدمت (وذلك بتعاقب جزيئات لا نهاية لها بحسب القوة والإمكان)؛ والمقتضي بمعنى المطلوب أو الذي ينبغي، والذات هو: الذات المقدسة لله جلَّ جلاله، والمعنى أن ديمومة بعض المخلوقات کدوام نعيم الجنة، أو دوام عذاب النار لقوله تعالى «وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ»: سورة الأنبياء: الآية 99؛ قائم بدوام ذات الله تعالى

والمصحح هو الامكان ولا انقطاع لهما(1) ونسبتهُ الذات الى الكل على السوية(2)،

ص: 71


1- والمصحح هو الإمكان: أمر اعتباري ليس شيئاً خارجياً، وإلا لزم التسلسل، وأن يكون الثبوتي حالاً في محل عدمي؛ وهو باطل قطعاً. وأيضاً فإن الإمكان يعرض للممکنات العدمية كالمركبات؛ ينظر: کشف المراد في شرح التجريد للخواجة نصير الدين الطوسي: ص 50؛ وكما أفاد آية الله السيد حسن زاده الآملي في تحقيقه للكتاب قال: وقوله: کالممكنات العدمية، يعني بها المنفي عندهم وهو العدم الممتنع. وقوله: کالمركبات، يعني بها المركبات الخيالية: هامش ص 50. أقول: والمعنى: أن الظاهر من عبارة الشارح أن الصور الذهنية الخيالية هي غير ما يكون في الخارج و قطعاً ما يدور في الذهن من المركبات الصوریّة التي عبروا عنها: بالإمكان هي الا انقطاع لها وتستمد قوتها واستمر اها من الله الذي قدر صنعها في الدماغ، وتسمى بالقوة الخيالية، وكل الذي يرتسم فيها هو قطعاً مما لا شك فيه غير الله تعالى؛ ويؤيد ذلك ما جاء عَنْ أَبِي عَبْدِ الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قَالَ: اسْمُ الله غَیْرُه وكُلُّ شَيْءٍ وَقَعَ عَلَيْه اسْمُ شَيْءٍ فَهُوَ مَخْلُوقٌ مَا خَلَا الله فَأَمَّا مَا عَبَّرَتْه الأَلْسُنُ أَوْ عَمِلَتِ الأَيْدِي فَهُوَ مَخْلُوقٌ والله غَايَةٌ مِنْ غَايَاتِه والْمُغَيَّى غَیْرُ الْغَايَةِ والْغَايَةُ مَوْصُوفَةٌ وكُلُّ مَوْصُوفٍ مَصْنُوعٌ وصَانِعُ الأَشْيَاءِ غَیْرُ مَوْصُوفٍ بِحَدٍّ مُسَمًّى لَمْ يَتَكَوَّنْ فَيُعْرَفَ كَيْنُونِيَّتُه بِصُنْعِ غَیْرِه ولَمْ يَتَنَاه إِلَی غَايَةٍ إِلَّا كَانَتْ غَیْرَه لَا يَزِلُّ مَنْ فَهِمَ هَذَا الْحُكْمَ أَبَداً وهُوَ التَّوْحِيدُ الْخَالِصُ فَارْعَوْه وصَدِّقُوه وتَفَهَّمُوه بِإِذْنِ الله، مَنْ زَعَمَ أَنَّه يَعْرِفُ الله بِحِجَابٍ أَوْ بِصُورَةٍ أَوْ بِمِثَالٍ فَهُوَ مُشْرِكٌ لأَنَّ حِجَابَه ومِثَالَه وصُورَتَه غَیْرُه وإِنَّمَا هُوَ وَاحِدٌ مُتَوَحِّدٌ فَكَيْفَ يُوَحِّدُه مَنْ زَعَمَ أَنَّه عَرَفَه بِغَیْرِه وإِنَّمَا عَرَفَ الله مَنْ عَرَفَه بِالله فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْه بِه فَلَيْسَ يَعْرِفُه إِنَّمَا يَعْرِفُ غَیْرَه لَيْسَ بَیْنَ الْخَالِقِ والْمَخْلُوقِ شَيْءٌ والله خَالِقُ الأَشْيَاءِ لَا مِنْ شَيْءٍ كَانَ والله يُسَمَّى بِأَسْاَئِه وهُوَ غَیْرُ أَسْمَائِه والأَسْمَاءُ غَیْرُه؛ ينظر: الكافي للشيخ الكليني: ج 1 ص 114؛ بَابُ مَعَانِي الأَسْمَاءِ واشْتِقَاقِهَا
2- إلى الكل على السويّة: الظاهر من قول الشارح أن النسبة بين جميع المخلوقات متساوية من حيث الحلقة، فكلها مخلوقة تنتسب إلى خالق واحد هو الله تبارك وتعالى

فلو اختصت بالبعض دون البعض لكان لمخصص(1) وهو محال لامتناع احتياج الواجب(2) في صفاته وكمالاته لمنافاة الوجوب المطلق(3) فتدبر.

الرابع: ليس لمطلق ما يعتبره عقولنا من الصفات السلبية والإضافية نهاية معقولة يقف عندها الخامس: أن يأوّل حد محدود على ما تأول به کلام العرب «ولا ترى الضب بها ينجحر»(4) أي ليس بها ضب فتنحجر حتى يكون المراد أنه ليس له صفة فتحد وهذا على قول من يرى أنه تعالى من كل جهة منزه عن الكثرة بوجه ما.

ولا نعتٌ موجود: أي ليس لمطلق ما يوصف به أيضاً، من الصفات السلبية والإضافية، وصف موجود بجمعه؛ فيكون نعتاً له و منحصراً فيه، أو المراد أن صفته لا يشابه صفتاً، وقيل العرب المثبتون للصفات إنما يعرفون منها الصور والهيئات، وذلك منفی عنه تعالى؛ فيجوز أن يكون مراده علیه السلام ذلك، وقيل

ص: 72


1- لكان المخصص: بمعنى لصار لمحدد، والمعنى أن المخلوقات في وجودها واحتياجاتها لو اختص بعضها بالله وبعضها الآخر بغير الله من حيث الخَلَّقْ، لا من حيث الاعتقاد، لكان ذلك نقص في قدرة الخالق واحتياجه إلى غيره معاذاً لله، وهو محال
2- الواجب هو الله تعالى
3- الوجوب المطلق: كافة المخلوقات
4- من أقوال العرب المشهورة وهو: لأبي الحسن الكيدريّ؛ وهو: (أبو الحسين) قطب الدّین محمّد بن الحسين بن الحسن، الكيدريّ في بعض المصادر (الكيذري) البيهقي النيشابوري، كان من علماء القرن السادس الهجري؛ وقوله هذا هو شطر من بيت شعر: لا يفزع الأرنب أهوالها *** ولا ترى الضب بها يجحر: يُنظر الأمالي للشريف المرتضى: ج 1 ص 16 و تفسير المحيط الأعظم للسيد حيدر الآملي هامش: ص 170

المقصود عينية الصفات، أن ليس له قدرة موجودة ولا علم موجود إلى غير ذلك.

بل ذاته لا مقدسة من حيث التعلق بالمعلومات علماً، وبالمقدورات قدرة ومن حيث كونه يصح أن يعلم ويقدر حياة من غير تكثير للذات أصلاً بحسب الوجود وهذا لا وقت له؛ كما أن الواحد نصف للإثنين؛ ثلث للثلاثة؛ ربع للأربعة؛ إلى غير النهاية، هذا وأعلم أن قوله عليه السلام «ولا نعت موجود» بظاهره يشد قاعدة الاعتزال نفيا للازم لينفي الملزوم(1)؛ وهذه المسيلة من مزال العلماء(2)، ومطارح الأذكياء، ودلائل الجانبين متعارضة(3).

«ولا وقت معدود ولا أجل ممدود»: وصف الوقت بكونه معدوداً لقوله تعالى «فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ»(4) أي ليست بزمانية، ولا ذات أجل ينتهي إليه فينقطع وجودها بانتهائه؛ لأنها واجبة له فلا يصير قط عاجزاً، مع أنه تعالى إن أوجد الزمان وهو فيه؛ لزم تقدم الزمان على نفسه؛ وإن أوجده بدون أن يكون فيه كان غنياً في وجوده عنه، وقد حصل في هذه القرائن الأربع السجع المتوازي(5)، مع

ص: 73


1- نفياً للاّزم لينفي الملزوم: اللازم والملزوم من القضايا المتبعة في علم المنطق: و تنقسم إلى قضية سالبة وموجبة؛ يُنظر: المنطق للمظفر: الباب الرابع القضايا وأحكامها: ص 186: أقول: ومن تطبيقاتها عبارة (سالبة بانتفاء الموضوع) أو (إذا ثبت اللازم ثبت الملزوم؛ وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم) وهذا ما ذكره المصنف في عبارته أعلاه
2- وهذه المسيلة من مزال العلماء: بمعنى الوسيلة والطريقة التي يزاولونها العلماء في ممارساتهم الفقهية والعلمية
3- ودلائل الجانبين متعارضة: وهذا مما لا شك فيه أن دلائل المبرهنین مهما بلغت فهي لا تصل إلى حقيقة النعت الإلهي
4- سورة البقرة: الآية 203
5- أن السّجع في التثر بمثابة القافية في النّظم، وهو ثلاثة أقسام: المتوازن: ماتساوت فيه الكليات في الوزن فقط. والمتوازي: ما اتحد آخر جملتين في الوزن، والحرف، والرّويّ، وهو الحرف الآخر الأصليّ من الكلمة: كقوله عليه السّلام: «و أكلة لآكل، وفريسة لصائل». والمطرّف: ما اتّحد آخر الحرف الأصليّ من آخر كلمة الجملتين فقط، المعبّر عنه ب (الرّويّ)، من دون الوزن والحرف، كالماء، والسّماء، وعقولكم، وحلومكم في الجملتين الأوليين من كلام الإمام عليه السّلام فتفطَّن؛ ينظر: الأمثال والحكم المستخرجة من نهج البلاغة لمحمد الغروي: هامش: ص 276

نوع من التجنيس(1)، ولما فرغ من الصفات السلبية أراد أن يأخذ في الثبوتية فقال:

فطر الخلائق بقدرته وبشر الرياح برحمته: فطر: أبدع، والخلائق جمع خليقة وهي: البرية عرفاً وجميع المخلوقات، وصفاً، وأبلغ في التأكيد من الخلق لغطاً، ومعنی: والنشر البسط قيل: أن العرب تستعمل الرياح في الرحمة، والريح في العذاب قال تعالى «بِرِيحٍ صَرْصَرٍ»(2) «يُرْسِلُ الرِّيَاحَ»(3) «يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ»(4) وفي الخبر «اللهم أجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً»(5) وأقتبس عليه السلام من أبلغ الكلام کلام الملك العلام «الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ»(6) والرحمة قد تستعمل تارة في الرقة المجردة عن الإحسان، وتارة في الإحسان المجرد وهو المراد هاهنا، والباء في وبقدرته، لاستصحاب الحال كما في رفع يديه بالتكبير(7)، أي

ص: 74


1- وأما التجنيس فهو: يتشعّب منه شعب كثيرة: فمنه المستوفي التامّ؛ وهو: أن يجيء المتكلَّم بكلمتين متفقتين لفظاً مختلفتين معنى؛ لا تفاوت في تركيبهما، ولا اختلاف في حركاتهما، كقول الغزّیّ: لم يبق غيرك إنسان يلاذ به فلا برحت لعين الدهر إنسانا؛ ينظر: نهاية الأرب في فنون الأدب للنويري: ج 7 ص 90
2- سورة الحاقة: الآية 6
3- سورة الأعراف: الآية 57
4- سورة الروم: الآية 46
5- الحديث للنبي صلى اله عليه وآله؛ يُنظر: مسند أبي يعلى الموصلي: ج 4 ص 342؛ مسند الشافعي: ص 81؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 10 ص 136
6- سورة الإسراء: الآية 51
7- بمعنى أن قدرة الله تعالى تصاحب الخلق، شبیه حركة اليدين في الصلاة التي تصاحب التكبير، والمصنف رحمه الله تعالى هنا أورد هذا التشبيه أي مثل حركة اليدين التي تصاحب كلمة التكبير في الصلاة، بقدرة الله عز وجل فإنها تصاحب الخلق أين ما كانوا

أنشاء الخلق قادراً عليهم، و مؤثراً فيه على طريق الاختيار لا على سبيل الإيجاب(1)، لأنه الله تعالى قادر صانع قدیم، له صنع حادث، وصدور الحادث عن القديم؛ إنما يتصور بطريق القدرة دون الإيجاب(2)؛ وإلا يلزم تخلف المعلول عن تمام علته؛ حيث وجدت العلة في الأزل(3) دون المعلول(4). هذا وأعلم أن للفطرة حقيقة هو الشق في الأجسام، فيكون استعماله في الخلق استعارة(5) ووجههاً(6) أنّ المخلوق قبل دخوله في الوجود كان معدوماً محضاً، والعقل يتصور من العدم ظلمة متصلة لا انفراج فيها ولا شق، فإذا أخرج الموجد المبدع من العدم إلى الوجود فكإنه بحسب التخيل شق ذلك العدم؛ فيكون تقدير الكلام فطر عدم الخلائق، ولما كان نشر الرياح شيئاً عظيماً حتى قال كثير من الأطباء أنها يستحيل روحاً حيوانياً، وكانت عناية الله ورحمته شاملة العالم، وهي مستند کل موجود، لاجرم نشرها برحمته، ومن أظهر آثار الرحمة الإلهية بنشر الرياح؛ حملها للسحاب المنزع بالماء وإثارتها على وفق الحكمة ليصيب الأرض الميتة؛ فينبت بها الزرع وتملا الضرع کما قال عز كلمة التكبير في الصلاة، بقدرة الله عز وجل فإنها تصاحب الخلق أين ما كانوا.

ص: 75


1- بمعنى: أن قدرة الخالق مؤثرة في الخلق، وهذا مما لا شك فيه
2- تصور القدرة: هو تقدير صورة الخيال في الذهن : وهذه هي حقيقة الأمر أن الله تعالى قديم بمعنی کان قبل كل شيء، وأوجد كل شيء بقدرته، من غير إيجاب؛ بمعنی من غير حاجة إلى اختيار رضا الخلق ليحدث وجودهم
3- العلة في الأزل: هو الله جل ثناؤه
4- المعلول: هو المخلوق من الإنسان وغيره
5- استعماله في الخلق استعاره: بمعنی استعمال كلمة الفطرة استعارة: بمعنی تشبیه نشوء الخلق بالفطرة كما عبر عنها المصنف: إن للفطرة حقيقة هو الشق في الأجسام: بمعنی انفلاق الجسم كانفلاق الحبة لخروج البرعم
6- ووجهها: بمعنى العبارة المتقدمة معناها من وجهة نظر

من قائل: «وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ»(1) والمراد تنبيه الغافلين على ضروب نعم الله ؛ بذكر هذه النعمة الجليلة ليستدیموها بدوام شكره والمواظبة على طاعته؛ قال عمّ إحسانه «وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ»(2).

ووتّد الصخور میدان أرضه: التوتید ضرب الوتد، والصخور الحجارة العظام والميدان الحركة بتمايل أسم من ماد تمید میداً، ولما كان الميدان علة حامله على إيجاد الجبال وإيتاد الأرض بها؛ كان الاهتمام به اشد فلذا قدمه، والتقدير(3)، ووتد بالصخور أرضه المائدة؛ بيانه: أن الأرض کرة، وهذه الجبال جارية مجری تضريسات(4) حاصلة على وجه الكرة؛ کما حقق في موضعه؛ فلو لم يكن بل كانت كرة حقيقة خالية عن الخشونات لصارت بحيث تتحرك بالاستدارة بأدنى سبب؛ فخُلقت هذه الجبال کالخشونات الواقعة على وجه الكرة، وكل واحد من هذه الجبال إنما يتوجه بطبعه إلى مركز العالم، وتوجهه نحوه ينقله العظيم، وقوته الشديدة، جار مجرى الوتد الذي يمنع كرة الأرض عن الاستدارة، فكان تخليق هذه الجبال على الأرض؛ كالأوتاد المفروزة في الكرة المانعة لها عن الحركة المستديرة؛ فاستعير لها الأوتاد کما قال عزّ شأنه «وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا»(5) «وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ»(6)، والتوتيد للآحاد

ص: 76


1- سورة الحجر: الآية 22
2- سورة البقرة: الآية 231
3- والتقدير: بمعنی: تقدير معنى الجملة في الكلام
4- التضريسات: جمع ضرس، و التضريس: تحزيز ونبر في ياقوتة أو لؤلؤة أو خشبة ينظر العين للفراهيدي: ج 7
5- سورة الحج: الآية 15
6- سورة النحل: آية 15

فيكون وتد استعارة تبعية هذا(1)، ويمكن أن يقال المراد بالصخور الأنبياء والأولياء والعلماء وبالأرض الدنيا وجه الاستعارة(2) أن الصخور على غاية من الثبات مانعة لما تحتها من الاضطراب عاصمة لما يلتجئ إليها من الحيوان؛ عما يوجب له الهرب وإنهم هم السبب في انتظام أمور الدنيا، وعدم اضطراب أحوالها؛ ولذا يحسن في العرف أن يقال فلان جبل منيع يأوي إليه كل ملهوف.

«أول الدين معرفته»: يطلق الدين في اللغة على معانٍ:

منها الطاعة كما قال: عمروا بن کلثوم: «عصينا الملك فينا أن يدينا»(3) وفي الشرع على الشرائع الصادرة بواسطة الرسل عليهم السلام، ولكثرة استعماله في أتباع الشريعة صار حقيقة فيه؛ وأعلم أن معرفة الصانع سبحانه على مراتب:

أولها: وادناها أن يعرف العبد أن للعالم صانع قال عز وعلا «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»(4)، وأقوى منها مراتب المعرفة(5) أن يصدّق بوجوده ظاهراً وباطناً.

ص: 77


1- استعارة تبعية هذا: بمعنی تشبيه الوتد بالآحاد فيكون كل وتد وحده منفرداً عن غيره وهذا التشبيه تابع لمعنى الواحد
2- وجه الاستعارة: بمعنى القصد من التشبيه
3- وهو: شطر من بیت شعر، کما ورد في الصحاح للجوهري: ج 5 ص 2119، وفيه أختلاف يسير؛ حيث ورد في الأصل فينا أن يدينا، وفي المصدر کما في البيت أدناه. وأيام لنا ولهم طوال *** عصينا الملك فيها أن ندينا
4- سورة محمد: آية 19
5- لم يرد لفظ المرتبة الثانية في الأصل، وحسب سياق الكلام تكن المرتبة الثانية هي (مراتب المعرفة)

المرتبة الثالثة: أن يترقى إلى توحيده وتنزيهه عن الشركاء. وأعلى منها(1) الإخلاص له كما قال عزّ من قائل «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ»(2) وهو التعري من كل ما دون الله تعالى.

المرتبة الخامسة: نفي الصفات التي تعتبرها الأذهان له عنه(3)، وهي غاية العرفان، ومنتهى قوة الإنسان، وكل من الأربعة الأولى، مبدأ لما بعدها وكل من الأخيرة(4) كمالٌ لما قبلها؛ فلذا قال عليه السلام:

وکمال معرفته التصديق به، وکمال التصديق به توحيده، وکمال توحيده، الإخلاص له وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه: أما المقدمة الأولى؛ فبيناها أن المتصور لمعنى آله العالم عارف به من تلك الجهة، وهذه معرفة ناقصة؛ تمامها الحكم بوجوده ووجوبه بدليل أنه موجِّدٌ للعالمِ، وكل موجدٍ موجود؛ لأن ما لم يكن موجوداً استحال أن يصدر عنه أثر موجود، وأما الثانية فلأن من صدّقَ بوجوده الواجب ثم جهل مع ذلك؛ كونه واحداً كان تصديقهُ ناقصاً؛ تمامه توحيده لأن الوحدة المطلقة لآزمة لوجوده الواجب؛ فإن طبيعة واجب الوجود بتقدير اشتراطها بين اثنين؛ فلا بدّ لكل واحد منهما من ضميمة وراء مابه الاشتراكي فيلزم التركيب في ذاتهما، وكل مرکب ممکن؛ فيلزم الجهل بكونه واجب الوجود،

ص: 78


1- لم يرد لفظ المرتبة الرابعة في الأصل، والظاهر حسب السياق تكن المرتبة الرابعة هي (الإخلاص له)
2- سورة البينة: الآية 5
3- الصفات التي له: بمعنی تنسب إليه على أنهاهو، مثل صفة الرازق: قد يتخيل البعض أن ذات الرزق وعينه هو الله عز وجل، ولكن العكس هو الصحيح فالله تعالى هو غير الرزق وهو مقدر الرزق، وموزعه على الخلائق بيد الملائكة
4- وكل من الأخيرة: بمعنى المرتبة الأخيرة وهي نفي الصفات له عنه

وإن تصوّر معناه وَحَکم بوجوده، وأما الثالثة فهي: أن العارف ما دام ملتفتاً مع ملاحظة جلال الله وعظمته إلى شيء سواه؛ یکون ذا شرك خفي، ولا يكون موحداً مطلقاً؛ فأذن التوحيد المطلق أن لا يعتبر معه غيره مطلقاً، وذلك هو: المراد بقوله «و کمال توحيده الإخلاص له»، وأما المقدمة الرابعة: فقد بيّن عليه السلام صدقها بقياس برهاني مطوي النتائج، ينتج: أن من وصف الله سبحانه فقد جهله، وذلك قوله عليه السلام:

«لشهادة كل صفة، أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوفٍ، أنه غير الصفة» وهي: شهادة الحال فإن حال الصفة يشهد بحاجتها إلى الموصوف، وعدم قيامها بدونه؛ فلا تكون نفس الموصوف، وإذا ثبت المغايرة بينهما؛ فمن وصف الله سبحانه «فقد قرنه»: جعله قريناً؛ لأنه يلزم أن يكون زائدة على الذات غیر منفكة عنها؛ فيكون مقارنة لها، «ومن قرنه فقد ثناء»: فقد جعله اثنين لأنه أعتبر أمرين الذات والصفة فينتج هذا التركيب أن من وصف الله سبحانه فقد ثناه .

«ومن ثناه فقد جزئه»: جعله ذات أجزاء؛ قيل لأنه حينئذ يكون الذات مجموع أموز؛ فيكون تلك الأمور أجزاء لتلك الكثرة وفيه نضر، اللهم إلا أن يقال: معناه كأنه جزاء، وضمّ هذه المقدمة إلى نتيجة التركيب؛ ينتج أن من وصفه سبحانه فقد جزئه.

«ومن جزاه فقد جهله»: أن ثبت المقدِمّة المقدَمّة فأثبات هذه ظاهر؛ لأن كل ذي جزء مفتقر إلى غيره، والمفتقِر إلى الغير ممكن فالمتصوَّر له جزءاً متصوِّر في الحقيقة؛ لأمر ممکن الوجود واجب الوجود؛ فيكون اذن جاهلاً، ويقال في بيان المرتبة الخامسة: السالك إذا انتهى سلوكه إلى الله، وفي الله استغرق في بحر التوحيد والعرفان؛ بحيث يضمحل ذاته في ذاته، وصفاته في صفاته، ويغيب عن كل ما

ص: 79

سواه ولا يرى في الوجود إلا الله؛ فهذا هو العلم الكامل ومن لا حظه.

وإليه يشير الحديث الإلهي: «أن العبد لا يزال يتقرب إليّ حتى أحببته، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به»(1) ونحن على ساحل التمني نغترف من بحر التوحيد بقدر الإمكان ونعترف بأن طريق الفناء فيه العيان دون البرهان والله الموفق.

فهذا هو العلم الكامل ومن لاحظه من الكثرة فقد جهله.

هذا وقد خصص كثيرون، ومن وصفه بصفات المخلوقين قالوا: كأنه يقول أيها الجاهلون تضنون أنكم تعرفون الله وتوحدونه؛ ثم تصفونه بصفات المخلوقين؛ ليس الأمر على ما تظنونه؛ بل أنتم تجهلونه؛ لأن من وصف الله إلى آخره(2) فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزاهُ ظاهرٌ(3)، بناء على أنه عليه السلام صرح بأثبات الصفة له في قوله ليس لصفته حد محدود، ولو كان المقصود نفي الصفات مطلقاً لزم قوله ليس لصفته حد محدود ولو كان المقصود نفي الصفات مطلقا لزم التناقض، وأيضا الكتب الإلهية، والسنن النبوية؛ مشحونة بوصفه تعالى بالأوصاف المشهورة؛ كالعلم والقدرة وغيرهما، وما ذكرته آنفاً يقلع هذا البناء فتأمل فيه ولا تغفل.

«ومن أشار إليه فقد حدَّه»: يحتمل أن یرید أمتناع الإشارة العقلية التي إليه يعني: أن من وجه ذهنه طالباً لكُنْه ذاته المقدسة، وزعم أنه وجدها وأحاط بها، وأشار إليها

ص: 80


1- المحاسن أحمد بن محمد بن خالد البرقي: ج 1 ص 291: ح 443، بزيادة يسيره في أوله، فراجع؛ كذلك المؤمن لحسين بن سعيد الكوفي: ص 32، والكافي: للشيخ الكليني: ج 2 ص 352
2- إلى آخره: بمعنى إلى آخر الكلام من عبارته عليه السلام
3- بمعنى التجزئة تثنية، والتثنية شرك ظاهرٌ

من جهةَ ما هِيَّ؛ فقد أوجب له حداً يقف ذهنهُ عندَه؛ إذ الحقيقة إنما تُعلم من جهة ما هِيَّ؛ ويشير العقل إليها إذا كانت مركبة وقد علمتَ أن كل مرکب محدود.

«ومن حدَّه فقد عدَّه» لأن حد الشيء إنما يتألف من كثرة معتبرة فيه، وكل ذي كثرة معدودٌ في نفسه؛ فينتج هذا البرهان؛ أن من أشار إليه فقد عدَّه، لكن التالي باطل؛ لأن الكثرة مستلزمة للإمكان فالمقدَّم مثله، ويحتمل أن يراد نفي الإشارة الحسيَّة الظاهرة والباطنة؛ وبیان تنزيهه عن الوحدة العددية، وتقریر المقدمة الأولى بأن من أشار إليه بإحدى الحواس؛ فقد جعل له حداً؛ أي نهاية يحيط به؛ لأنه لابد وأن يشير إليه؛ في حيز مخصوص، وعلى وضع مخصص، وما كان كذلك يكون ذي حدٍ قطعاً، وأما تقرير المقدمة الثانية: فالمراد بالعد هاهنا؛ أما جعله مبدأ كثرة(1) تصلح أن يكون عاد إلاهاً(2) وذلك أن كل ما أدرك على وضع مخصوص وفي جهة؛ فالعقل حاکمٌ له بإمكان أمثاله(3) فمن حده بالإشارة الحسية؛ فقد جعله مبدأً لكثرة يصلح أن يُعد بها، وتكون معدوداً بالنسبة اليها، وأما كونه في نفسه معدوداً وذلك فلكونه مركباً من أمور؛ لأن الواحد بهذا المعنى ليس مجرد الوحدة فقط، بل لابد معها من الوضع، وعلى الوجهين يكون من أمرين؛ أو أمور فيكون مركباً والمركب ممکن(4)، فأن أشير إليه يكون ممكناً والتالي(5)

ص: 81


1- مبدأ كثرة: بمعنى من خلال فترة العدد سواء كانت في الذهن، أو كانت في الواقع والخارج عدداً
2- عاد إلاهاً: بمعني كل ما تكررت فكرة التعدد للإله في الذهن
3- بإمكان أمثاله: بمعنى أن التوحيد الله تعالى يجب أن يكون خالصاً منزهاً عن كل وضع ومثال، إذ إن العقل بما تدور فيه من مخيلة قادر على تصور من الكثرة عدة آلهة
4- والمركب ممكن: والمركب لا يكون مركباً إلا من أجزاء، وكل جزء هو مخلوق، يُعبر عنه بالممكن
5- التالي: الدور: وهو توقف الشيء على نفسه، وهو باطل لأنه من حيث بدأت عدت؛ كالنقطة في خط الدائرة

باطل فالمقدم مثله(1).

«ومن قال فيم فقد ضمنه»:

جعله في ضمن غيره (م) ما المحذوفُ الألف أي لو صح السؤال عنه بفيم الكان له محل مضمنه، لكنه يمتنع فيمتنع السؤال بفيم عنه؛ بيان الملازمة: أن هذا استفهام عن مطلق المحل، ولا يصح إلا إذا صح كونه فيه؛ أما أن يكون محتاجاً إليه؛ أولاً، والأول محال(2)؛ لاستلزام الأمكان وكذا الثاني(3) لأن الغني يستحيل حلوله في المكان؛ فيكون السؤال فيم عنه جهلاً.

«ومن قال علام»: أي على أي شيء؛ فقد أخلى منه سائر الأمكنة»: وهذه أيضاً في قوة المتصلة(4) تقريره:(5) لو جاز السؤال عنه بعلام؟؛ لجاز خلو بعض الجهات عنه؛ لأنه استفهام عن شيء هو فوقه وعالي عليه، واختصاصه بالجهة المعيَّنة، وهو

ص: 82


1- والمقدم مثله: أي مثل التالي في نتيجة الدور وتوقف الشيء على نفسه، مثلاً البداية في رسم الدائرة فسيكون بنقطة، والنهاية كذلك تنتهي بنقطة
2- والأول محال: وهو أي الأول: أن يكون له محل
3- وكذا الثاني: بمعنی كذلك الثاني: محال وهو كون أن الله تعالى ممكناً
4- قوة المتصلة: القوة المتصلة والمنفصلة التي تبحث في علم المنطق، مثل قوة المتصلة وهي قولنا: «كلما كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا» وإما في قوة المنفصلة، وهي قولنا: «إما أن لا تكون الشمس طالعة وإما أن يكون النهار موجوداً». ونحو «لیس یکون النهار موجودا إلا والشمس طالعة» وهي أيضا في قوة المتصلة من القضايا التي لها تقسیمات عدة منها: القضية - حملية، الشرطيّة - متصلة ومنفصلة، الموجبة والسالبة؛ يُنظر: منطق المظفر: ص 190 الجزء الثاني أقسام القضايا
5- تقريره: بمعنی تقریر موضوع، ومعنى هذه العبارة (فقد أخلى منه سائر الأمكنة) بعبارة لو جاز السؤال

محال لأنه أما بالمرجَّح أو بدونه؛ فإن كان الأول يلزم الاحتياج المستلزم للإمكان، وإن كان الثاني؛ لكان الترجيح من غير مرجح، وكلاهما محال، وأعلم أن الظاهر أنه عليه السلام تعمد أن يجري الكلام في أثبات المرام؛ على المخالفين المتشبثين بأذيال الظواهر الكلام مثل قوله تعالى «الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى»(1) «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ»(2) بحسب مشربهم(3) الناقص فأن نفي هذا اللازم بأمثال قوله عز وجل «وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ»(4) «وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ»(5) ظاهر، وإنما خصَّ عليه السلام جهة العلو بأنکار اعتقادها، والتحذير منه؛ لأن كل معتقد الله جهته يخصصه بها لما يتوّهم من كونها أشرف الجهات، ولأنها التي نطق بها الآيات «كائن لا عن حدث»: لا متجاوز عن الحدوث إشارة إلى نفي الموجد.

«موجود لا عن عدم»: أي وجوده ليس بحادث؛ لأنه لو كان حادثاً لكان ممكناً، ولو كان ممكناً لما كان واجب الوجود؛ فلو كان محدثاً لما كان واجب الوجود؛ لكنه واجب الوجود؛ فلا يكون محدثاً؛ أما المقدمتان فجليتان، وأمّا بطلان تالي النتيجة فمقتضى البراهين الإلهية، وهذه مؤكدة لمقتضى الأولى، وفيها مقصود آخر وهو: تعليم الخلق كيفية أطلاق الكون على الخالق، وإشعارهم أن المراد منها ليس ما يتبادر إليه الذهن؛ من مفهومه حال أطلاقه؛ أعني: الحدوث بل الوجود المجرد

ص: 83


1- سورة طه: الآية 5
2- سورة فاطر: الآية 10
3- مشربهم: و المشرب: الوجه الذي يشرب منه، ويكون موضعا ومصدرا، قال: ويدعى ابن منجوف أمامي كأنه خصي أتي للماء من غير مشرب؛ ينظر العين للفراهيدي: 6 ص 257
4- سورة الأنعام: الآية 3
5- سورة الحديد: الآية 4

عن الحدث والزمان، قال صلى الله عليه [وآله] وسلم «كان الله ولا شيء»(1).

«مع كل شيء لا بمقارنة وبائن عن كل شيء لا بمزائلة»: لبراءة ذاته المقدّسة عن الزمان والمكان، والمعتبر في مفهومهما المتعارف الزمان والمكان؛ بل المقارنة بمعنى الحفظ والعلم قال عز من قائل «وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ»(2) و تحقيق هذا: أن كونه تعالى مع غيره، وغير غيره، اضافتان عارضتان له بالنسبة إلى جميع الموجودات؛ إذ كلها منه ويصدق عليه أنه معها، وأنه مقدّم عليها؛ ولكن باعتبارين مختلفين فانّ المعّية(3) إضافة تحدثها العقول بنسبته إلى آثاره ومساوقة وجوده الموجوداتها، وإحاطة علمه بكليَّتها وجزيئتها، ولما كانت المغايَرة أعمّ من المزايلة لما مرّ؛ كانت مغایرته للأشياء غير معتبر فيها المزايلة، ويحتمل أن يقال: معناه أنه متميز بذاته عن كل شيء؛ لا يشارك شيئاً من الأشياء في معنی جنسي ولا نوعي؛ فلا يحتاج أن يفصل عنها بفصل ذاتي، أو عرضي؛ بل هو مباین لها بذاته لا بمزايلة، ويكون معنى المزايلة المفارقة بأحد الأمور المذكورة، وأعلم أن هذه القيود کواسر الأحكام الوهمية منبهة على ما وراء حكم الوهم؛ من عظمة الله سبحان و تقدّس ذاته عن صفات الممكنات.

ص: 84


1- يُنظر: الكافي للشيخ الكليني: ج 1 ص 90، وكذلك الكامل في التاريخ: لابن الأثير: ج 1 ص 21؛ في الملل والنحل: للشهرستاني: 2 ص 62
2- سورة الحديد: الآية 4
3- المعية: بمعنى الملازمة؛ وهي في عدة أشكال؛ فمثلًا في المعيّة الوجوديّة؛ فالوجود الحقيقي حينئذٍ لا يكون إلَّا للحقّ، ويكون له المعيّة معهم؛ معيّة وجوديّة ذاتية لقوله: «وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ»: سورة الحديد: الآية: 4؛ ولقوله: «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ» سورة ق: الآية: 16؛ في أنّ ليس في الوجود غيره تعالى؛ ينظر: تفسير المَحيط الأعظم للسيد حيدر الآملي: ج 2 ص 367

«فاعل لا بمعنى الحركات والآلة»: کما يفتقر غيره في صدور الفعل؛ عنه إليه(1)، لأنّ الحركة تعرض الجسم، والله سبحانه منزه عن الجسمية ولا فاعلٌ بالحركة، ولو فعل بالآلة لكان بدونها غير مستقل(2) بإيجاد الفعل؛ فكان ناقصاً بذاته مستكملاً بالآلة، والنقص على الله تعالى محال؛ وأيضاً الآلة إن كانت من فعله؛ فإن كانت بتوسط جری؛ وهكذا يتسلسل ولا يحصل المطلوب، وأن لم یکن من فعله، ولم يمكنه بدونها؛ كان مفتقراً إلى الغير، والافتقار من خواص الأمكان(3).

«بصيراً إذ لا منظور إليه من خلقه»: إذ ظرفية لا تعليلة أي: كان بصيراً في الأزل ولم يكن شيء من المبصرات موجوداً فيه؛ لقيام البراهين العقلية على حدوث العالم، فوجب أن لا يكون بصيراً بالمعنى المتعارف؛ بل بصير بالصفة التي تكشف بها كمال المبصرات وبها تظهر الأسرار والخفّيات؛ فهو الذي يشاهد ويرى حتى لا يعزب عنه ما تحت الثرى «وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى»(4).

ص: 85


1- صدور الفعل عنه إليه: بمعنى أن كل متحرك يشغل حيزاً من المكان، ولا بد له عند حركته من صدور فعل معين، أما من ذاته أو بواسطة آلة، وبكلا الحالتين يحسب أن الفعل صدر عنه سواء من ذاته أو بواسطة آلة، ولا يخفى أن لكل فعل ردة فعل، ترد إليه وهذا معنى قوله (صدور الفعل عنه إليه) بمعنى آخر يصدر عنه، ويرد بردة الفعل إليه، والله تعالى منزه عن ذلك كله
2- بمعنى أن الآلة تكون له وسيلة لصدور وحدوث الفعل، ويكون بذلك غير مستقل بحركته وفعله ما دام هناك وجود للآلة، والله جل ثناؤه فاعل، وموجد، وخالق كل الحركات والسكنات، ولو كانت الحركة لا تصدر منه إلا بآلة؛ لكان ذلك نقص على الله جل وعلا شأنه عن كل نقص، وهذا معنى قول المصنف: (فكان ناقصاً بذاته مستكملاً بالآلة)
3- من خواص الأمكان: بمعنی من خواص الخلق
4- سورة طه: الآية 7

وهذه الآلة وإن عُدَّت کمالاً فإنا هي: كمال الحيوان(1).

«متوحّد إذ لا سكن يستأنس به ولا يستوحش لفقده»: المتوحّد بالأمر المنفرد به عمن يشاركه فيه، والسكن بفتح الكاف: كل ما سكنت إليه، والاستئناس میل الطبع وكذلك التأنيس، ومنه الأنس، والاستيحاش ضد الاستیناس، والمراد بهذا الكلام وصفه تعالى بالتفرد لذاته فهو: من تلك الحيثية منفرد بها لا على وجه الانفراد عْن المثل كما هو المفهوم المتعارف؛ من انفراد بعض الناس عمن يشاركه في المشاورة وانفراد أحد المتألفين من الحيوان(2) عن الآخر وهو: الأنيس الذي يستأنس بوجوده معه، ويستوحش لفقده وغيبته عنه؛ إذ هما من توابع المزاج، والله سبحانه منزه عنه فهو: المنفرد بالوحدانية المطلقة؛ لا بالقياس إلى شيء يعقل بالنسبة إليه، وبعد الفراغ عن بيان نعوت الجلال وأوصاف الجمال؛ شرع في نسبة إيجاد العالِم إلى قدرته تعالى جملاً وتفصيلاً، وفي كيفية ذلك: بعد أن نبه على أصل الإيجاد بقوله فطر الخلائق بقدرته فقال عليه السلام في معرض المدح:

«أَنْشَأَ الْخَلْقَ إِنْشَاءً وابْتَدَأَه ابْتِدَاءً، بِلَا رَوِيَّةٍ أَجَالَها ولَا تَجْرِبَةٍ اسْتَفَادَهَا، ولَا حَرَكَةٍ أَحْدَثَهَا ولَا هَمَامَةِ نَفْسٍ اضْطَرَبَ فِيهَا»: لم أجد لأهل اللغة فرقاً بين الإنشاء والإبداء؛ لكن يفرق هاهنا بينهما صوناً لكلامه عليه التحية عن التكرار؛

ص: 86


1- بمعنى: أن كل كمال هو الله عز وجل، وأن كانت بعض المخلوقات تمتلك طاقات؛ کالهُدهد فإنه يرى الماء في باطن الأرض، وهو يطير في السماء بارتفاع كبير عن الأرض، وهذا وأمثاله مهما تكاملت صفاته هو من خلق الله تعالى
2- من الحيوان: الحيوان: كل ذي روح - ناطقا كان أو غير ناطق - مأخوذ من الحياة. يستوي فيه الواحد والجمع. ومنه: الحياة. وفي القرآن الكريم «وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ» سورة العنكبوت: الآية 46؛ أي: هي الحياة الدائمة التي لا يعقبها موت؛ يُنظر: القاموس الفقهي: ص 109؛ للدكتور سعدي أبو حبيب

فيقال الإنشاء هو: الإيجاد الذي لم يسبق غير الموجِد إلى إيجاد مثله، والابتداء هو: الإيجاد الذي لم يوجد الموجد قبله مثله، والرؤية: الفكر، والإجالة: الإرادة، وهمامة النفس: اهتمامها بالأمور.

رويَ همامة: بمعنی تردید الغرم مأخوذٌ من الهمهمة وهي: ترديد الصوت الخفي بيان: هاتين القضيتين أنَّ الله سبحانه لم يكن مسبوقاً مما سواه کما قال عليه الصلاة والسلام: «كان الله ولم يكن معه شيء»(1) فيكون الأشياء منه ولما لم يكن العالَم موجوداً قبل وجوده صدق ابتدأوه له، وإذا كان كذلك أتي بالمصدرين؛ بعد الفعلين تأكيداً لنسبتهما إلى الله تعالى، ولما كانت هذه الكيفيات الأربع من شرائط أفعال الناس أراد تنزيه الله سبحانه عنها، أما الفكر فلأنها حركة القوة المفكرة في تحصيل مبادئ المطالب والانتقال منها إليها، وهي من خواص الإنسان وأيضاً فائدة الفكر تحصيل المطالب المجهولة والجهل على الله تعالى، وأما التجربة فلأنها عبارة عن: حُكم العقل بأمر على أمر؛ بواسطة مشاهدات متكررة مُعدة لليقين بسبب انضمام قیاس خفي إليها وهو: أنه لو كان هذا أمراً اتفاقياً لما كان دائماً ولا أكثرياً، وتوقف فعله تعالى على استفادة الأحكام منها، محال لكونه مركبة من مقتضى الحِسِ والعقل، واجتماعهما من خواص الإنسان، وأيضاً يلزم الإمكان بسبب النقصان، وأما الحركة فقد عرفت أنها من خواص الإنسان، وهو منزه عن الجسمية(2)، وأما الهمة: فلأنها الميل النفساني الجازم إلى فعل الشيء مع التألم والغم بسبب فقده، والله تعالى منزه عن ذلك، وإذ ليس إيجاده تعالى للمعالِم على الإنحاء المذكورة فهو إذن بمحض الأبداع البريء من الحاجة إلى أمر من خارج ذاته

ص: 87


1- ينظر: عمدة القاري للعيني: ج 15 ص 109، وكذلك الأوائل: لابن أبي عاصم: ص 65
2- الجسمية: التي هي من خواص الإنسان، والله تعالى منزه عنها، وهذا هو الظاهر من سياق الكلام، وإن كان فيه تقديم وتأخير

المقدسة، «بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»(1)، واعلم أنه عليه السلام أردف کلاً من هذه الأمور بما هو کيفية في وجوده، فاردف الرؤية بالإجالة، والتجربة بالاستفادة، والحركة بالأحداث، والهمامة بالاضطراب؛ لتنتفي الكيفية بإنتفاء ما هي له عن ذاته المقدسة وبالله التوفيق.

«أَجَالَ(2) الَأشْيَاءَ لَأوْقَاتَهِا ولَأمَ بَیَنْ مْخُتَلِفَاتَهِا، وغَرَّزَ غَرَائِزَهَا وأَلْزَمَهَا أَشْبَاحَهَا»: الإحالة التحويل، والأجل الوقت المضروب للشيء، والملاءمة الجمع والغريزة الطبيعة التي طبع عليها الإنسان؛ كأنّها غرزت فيه، والشّبح الشخص؛ لما نبّه على نسبة إيجاد العالم إلى الله تعالى جملة؛ أشار بعده إلى أنّ ترتيبه، وما هو عليه من بديع الصنع والحكمة، كان مفصّلاً في علمه على وفق حكمته البالغة قبل إيجاده، وفي آجالَ إشارة إلى ربط كل ذي وقت بوقته؛ بحسب ما كُتبَ في اللوح المحفوظ بالعلم الإلهي؛ بحيث لا يتأخر المتقدم ولا يتقدم المتأخّر، ونبّه بقوله: «ولائم بين مختلفاتها» على کمال قدرة الله تعالى، وذلك في صورتين الأوّل: العناصر الأربعة(3)، فإنّ كيفياتها المتضادة تجتمع بقدرته وعلى وفق حكمته، وتنكسر سورة كل واحد منها بالآخر؛ فيحصل كيفية متوسطة بين الأضداد، فامتزاج اللطيف بالكثيف على ما بينهما من تضاد الكيفيات وغاية البعد لقدرته التامة؛ من أعظم الدلائل الدالة

ص: 88


1- سورة البقرة الآية 117
2- في بعض النسخ أحال، والشارح يبينّ معنى الكلمتين سواء آجال أو أحال
3- العناصر الأربعة: هي العناصر التي خُلق منها الكون، وهي الماء والتراب والهواء والنار، وتسمى العناصر الأربعة باليونانية: (الأسطقس) بمعنى: الأصل سميت بها العناصر الأربعة؛ بكونها أصولاً ومبادئ للمركبات؛ منها: من الحيوان والنبات والمعادن؛ یُنظر: أوائل المقالات: للشيخ المفيد ص 211. وكذلك ذكرها الشيخ الطبرسي في الاحتجاج: ج 2 ص 9؛ قال: «العناصر الأربعة على رأي الفلسفة القديمة وهي: التراب، والنار والماء، والهواء»؛ ينظر نهاية الأرب في فنون الأدب للنويري: ج 2 ص 9

علی کمالها.

الثانية: الملائمة بين الأرواح اللطيفة المجردة؛ التي لا تحتاج في قوامها إلى مادة أصلا وبين الأبدان المظلمة الكثيفة؛ فإنّ اختصاص كل نفسٍ يدن منها وتدبيره، علمه يعود إليها من المصالح على النظام الأقصد والطريق الأرشد؛ مما تشهد بکمال قدرته، ولطيف حكمته، وفي قوله: «وغرز غرائزها» إشارة إلى ركن القوى الجسمانية والنفسانية؛ فيما هي قوى له؛ فإنًّ الله سبحانه خلق كل ذي طبيعة على خلقة، ومقتضى قواه التي غرزت فيه من خواصه مثلاً: كقوة العُجب، والضحك للإنسان، والشجاعة للأسد، والجبن للأرنب، والمكر للثعلب، وعبر عن إيجادها فيها بالغرز، استعارة للمشابهة بينها وبين العُود الذي يركز في الأرض؛ من جهة الغاية، ومن جهة المبدأ فكما أن العُود يثمر ثمرة منتفعاً بها، كذلك الغرائز تثمر الآثار الموافقة لمصلحة العالم(1)، وضمير الزمها: أما عائدة إلى الغرائز، أو الأشياء، فإن كان المراد الأول فالمرادفة؛ أنّ ما غُرز في الأشخاص من الغرائز لا يفارقها كالذكاء والفطنة لبعض، والبلادة والغفلة لآخر، وإن كان الثاني؛ كان المراد أن الله سبحانه لما آجال الأشياء لأوقاتها، ولائم بين مختلفاتها وغرائزها في علمه وقضائه؛ ألزمها بعد كونها كليّة لأشخاص الجزئية التي وجدت فيها.

«عَالِماً بِهَا قَبْلَ ابْتِدَائِهَا، مُحِيطاً بِحُدُودِهَا وانْتِهَائِهَا عَارِفاً بِقَرَائِنِهَا وأَحْنَائِهَا»: جمع قرينة: وهي ما يقرن بالشيء والأحناء جمع حنو بمعنى: الناحية، هذه الثلاثة منصوبة على الحال أي: عالماً بها قبل إيجادها، حاضرة في علمه بالفعل كليتّها وجزئيّتها، محیطاً علمه بحدودها، وحقائقها؛ الممَّيزة لبعضها من بعض، فأن كل

ص: 89


1- لمصلحة العالم: بمعنى المقارنة بين أثر الغرائر على طباع العالم، كما هو أثر الأرض على العود حين يُزرع فينتفع منه بالثمر

منته بحدِّه واقف عنده، وهو نهایته وغايته، ويحتمل أن يراد انتهاء كل ممکن(1) إلى سببه، وانتهاء الكل في سلسلة الحاجة إلى الله تعالى، وعالم أيضاً بما يقرب بالأشياء من لوازمها، وعوارضها وبأحسابها و جوانبها التي بها ينتهي؛ فالغرض منها بیان شمول علمه قال عز وعلا: «وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ»(2) «عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ»(3) «لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ»(4) «يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ»(5)، وقد سلف مني الدليل العقلي فلا يغفل؛ ولمَّا أشار عليه السلام إلى نسبة خلق العالم إلى قدرته تعالى إجمالاً؛ شرع بعده تفصيلاً مع الإشارة إلى مبادئه فقال: «ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَه فَتْقَ الأَجْوَاءِ»: جمع جو بمعنى: الفضاء الواسع؛ وفتقها شقها «وشَقَّ الأَرْجَاءِ» النواحي جمع رجی «وسَكَائِكَ الْهَوَاءِ» جمع: سكاكة وهي الفضاء ما بين السماء والأرض، وكل مکان خال فهو هواء، والخلاف في أن الخلاء والحيّز والمكان، أمور وجودية أم لا مشهور(6)، فأن كانت وجودية كانت نسبتها إلى القدرة ظاهرة، ويكون المعنى شق العدم عنها، وأن كانت عدمية كان معناها التقدير، وجعلها احيازا للماء؛ لأنه لما كان تميزها عن مطلق الهواء والخلاء بإيجاد الله تعالى الماء فيها صار تعيّنها له بسبب قدرته تعالى، فصحت نسبتها إلى إنشائه فكأنه سبحانه شقها بحصول الجسم فيها، «فأجاز»: أجري وروي: أجار أي: أدار وجمع، «فِيهَا»: في السّكائك، «مَاءً مُتَلَطِماً تَيَّارُه»: مترادة أمواجه، «مُتَرَاكِماً زَخَّارُه»:

ص: 90


1- كل ممکن: بمعنی کل مخلوق
2- سورة النساء: الآية 176
3- سورة الأنعام: الآية 73
4- سورة سبأ: الآية 3
5- سورة غافر: الآية 19
6- أم لا مشهور بمعنى: وإن كانت غير مشهورة بأنها من الفضاء

مبالغة في الزاخر أي الممتلي «حَمَلَه عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ الْعَاصِفَةِ»: الشديدة الجري «و» الريح «الزَّعْزَعِ»: المحرَّكة بقوَّتها «الْقَاصِفَةِ»: الشديدة كأنها لشدتها تكسر الأشياء فَأَمَرَهَا»: الريح «بِرَدهِّ»: الماء، «وسَلَّطَهَا عَلَى شَدِّه»: عقده كأنه عطفُ تفسیري؛ فلا حاجة إلى أن يقال أمر الملائكة الموكّلين بها، بناء على أن الحكيم لا يأمر الجماد «وقَرَنَهَا إِلَی حَدِّه»: والسایل بعد سماع هذا المقال يذهب إلى السؤال يقول: فكيف كان الهواء والماء فقال: صواباً جواباً له «الْهَوَاءُ مِنْ تَحْتِهَا»: الريح «فَتِيقٌ» متفتقٌ والماء «مِنْ فَوْقِهَا دَفِيقٌ»: متدفق «ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَه رِيحاً»: أخرى «اعْتَقَمَ»: شد «مَهَبَّهَا»: استعارة بنعته أي جعله خالياً لا نبت فيه؛ من قولهم: عقُمَت الرحم إذا لم يَقْدر بها ولد «وأَدَامَ مُرَبَّهَا»: مجمعها الموضع الذي لزمته وأقامت به، والمراد بيان أدام حركة الماء واضطرابه؛ ويحتمل استعمال أسم الموضع استعمال المصدر أي: أدام أربابها ملازمتها لتحريك الماء «وأَعْصَفَ مَجْرَاهَا» جريها «وأَبْعَدَ مَنْشَأَهَا»: ارتفاعها استعمل كل منهما استعمال المصدر؛ والأقرب أنه يشير إلى أنها نشأت من مبدأ بعيد؛ لا يمكن الوقوف على أوله «فَأَمَرَهَا بِتَصْفِيقِ»: ذلك الماء «الزَّخَّارِ»: بالضرب المصَوِّت إياه «وإِثَارَةِ»: رفع «مَوْجِ الْبِحَارِ»: موج البحر ما ارتفع منه حال هیجانه «فَمَحَضَتْه» حركته «مَحضْ السِّقَاءِ»: أي تحريكاً مثل تحريك القربة «وعَصَفَتْ بِهِ عَصْفَهَا»: جرياً مثل جريها «بِالْفَضَاءِ»: المكان الواسع «تَرُدُّ أَوَّلَهُ»: الماء «على آخِرِهِ»(1) و «سَاجِيَهُ»: ساكنة «على مَائِرِهِ»(2): متحركة «حَتَّى عَبَّ عُبَابُهُ»: تدفق وعلا معظمه «ورَمَى بِالزَّبَدِ رُكَامُهُ»: متراكمة «فَرَفَعَهُ»: الله ذلك الزبده «فِي هَوَاءٍ مُنْفَتِقٍ»: منحرق «وجَوٍّ منقهق»: واسع «فَسَوَّى»: فَخَلق وعدَّلَ مِنْهُ «سَبْعَ سَمَوَاتٍ»؛ واعلم أنَّ ما تحلى من حاصل هذا الكلام الأسبق: النظام

ص: 91


1- في بعض متون النهج وردت (إلى آخره)
2- في بعض متون النهج وردت (إلى مائره)

على منصة الخاطر أنَّ الله سبحانه خَلق قبل خلق الماء ريحاً عاصفاً، رعرعا(1)، ثم خلق ماء حاراً مُتراكماً حمله على متنها، وقَدَّر لذلك الماء احيازاً وأمكنة أجراه فيها، وجعل تلك الريح محيطة به؛ حافظةً له من جميع جوانبه؛ متسلطة على ضبطه في مقارّه، وجعلها مقرونة؛ بحيث لا يكون بينهما جسمٌ آخر؛ فصار الماء من فوق الريح متدفقاً، والخلاء من تحتها واسع، وتلك الريح محفوظ بقدرة الله تعالى كما جاء في الخبر؛ ثم خلق سبحانه ريحاً أُخرى؛ لأجل تموّج ذلك وتحريكه؛ فأرسلها لا مطلقاً؛ بل بمقدار مخصوص على وفق الحكمة، وأدام حركتها وملازمتها لتحريك الماء، وأعصف جريها، وابعد مبتدأها، ثم سلَّطها على تمويج ذلك الماء، وأثارة أمواج البحار التي امتلأت به؛ فلما تدفق معظمه ورمى بالزبد ركامه، رفعه الله سبحانه ذلك الزبد في الفضاء، وكوَّن منه السماوات، وكأنَّي بك تقول: فما وجه الجمع بين كلامه عليه السلام وكلام الملك العلام: «ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ»(2) فإنّه ناطق بأنَّها تكوَنت من دخان؛ وفي الخبر أنَّ الأرض تكونت من ذلك الزبد؛ فالوجه ما روي عن الباقر عليه السلام: «إنّ الله سبحانه أراد خلق السماء فأمر الرياح فضرب بين البحر حتى أزبد، فخرج من ذلك الزبد والموج دخان ساطع من وسطه من غير نار، فخلق الله منه السماء»(3) ولا شك أن الدخان في القرآن ليس بمحمول على حقيقته؛ لأنه إنما يكون عن النار، ولا نار هنالك فيكون استعارة للبخار المتصاعد من حيث الصورة، وكون

ص: 92


1- رعرعا: مشتق من الرعرعة: وهي اضطراب الماء الصافي الرقيق على وجه الأرض، يُنظر لسان العرب لابن منظور: ج 8 ص 128، والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى خلقَ ريحاً عاصفاً صافياً كصفاء الماء على وجه الأرض، ولم يكن ريحاً عاصفاً ذا أتربة
2- سورة فصلت: الآية 11
3- ينظر تفسير المحيط الأعظم للسيد حيدر آملي: ص 191؛ وكذلك منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة لقطب الدين الراوندي: ج ص 63

البخار أجزاء مائية خالطت الهواء؛ بسبب لطافتها عن حرارة الحركة؛ كما أن الدخان أجزاء مائية انفصلت من جرم المتحرق بسبب لطافتها عن حرارة النار؛ والزبد أيضاً بخار متصاعد عن وجه الماء عن حرارة حركته، والبخار المنفصل هو الذي تكون عنه الأرض، فلا منافاة بينهما أصلاً؛ فأن عدت قائلاً أن جمهور المتكلمين قالوا: الأجسام مركبة عن الجواهر الفردة، وأن اختلفوا في كونها ثابتة في عدمها، والفاعل المختار كساها صفة التأليف، والوجود أمر لا ثبوت له؛ أجيب بجواز خلقه تعالى أول الأجسام من تلك الجواهر، وباقي الأجسام عن الأجسام الأولى؛ إذا أنتقش هذا على صحيفة خاطرك؛ فاستمع لما يتلى عليك فنقول: قال المتكلمون: أن هذه الظواهر من القرآن، وكلام علي عليه السلام، لما دلت على ما دلت عليه؛ من كون الماء أصلاً؛ تكونت عنه السماوات والأرض وغير ذلك، وثبت أن الترتيب المذكور في المخلوقات أمر ممكن في نفسه، وثبت أن الباري تعالى فاعل مختار؛ قادر على جميع الممكنات، وثم لم يقم عندنا دليل عقلي؛ يمنع من اجراء هذه الظواهر على ما دلت عليه بظاهرها، وجب علينا القول: بمقتضاها، ولا حاجة بنا إلى التأويل؛ وأما الحكماء فقالوا: بتأخر وجود العناصر عن وجود السماوات؛ وتشبثوا بأذيال الدلائل المذكورة في مواضعها؛ فبعضهم سلكوا مسلك التوفيق ونهجوا منهج التدقيق، وقالوا العَالمَّ قسمان: عالمُ الملائكة الروحانية المجردة المسمى بعَالمَّ الأمر، وعَالمَّ الجسمانيات وهو عالم الخلق، وعلى ذلك حملوا قوله تعالى: «أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ»(1) ثم قالوا ما من موجود في عالم الجسمانيات؛ إلا وله نسبة إلى عالم الروحانيات، وهو مثال له بوجه ما، ولو لا ذلك لانسد طريق الترقي إلى عالم الروحاني، وتعذر السفر إلى الحضرة الإلهية، وصدور عَالمَّ الخلق بواسطة عَالمَّ

ص: 93


1- سورة الأعراف: الآية 54

الأمر، وإليه أشار عليه السلام؛ فأن المراد بالأجواء، والأرجاء، وسکائك الهواء؛ سلسلة وجود الملائكة المسماة بالعقول الفعالة؛ على مراتبها منازلة من جهة أنها قابلة للفيض، والكمالات عن مبدأها الأول؛ كما أنها قابلة للماء عما يخرج عنه من سحاب أو ينبوع، وبأنشائها إلى إيجادها وفتقها، وشقها إلى وجودها، وبالماء المتلاطم المتراكم إلى الكمالات التي وجبت عنه سبحانه، وبأجرائه فيها إلى أفاضته على كل واحد منها، ما استحقه بواسطة ما قبله؛ لأن قوام كل جزء جسماني بالماء، والفيض الإلهي مبدأ قوام كل موجود؛ قالوا ومثل هذا التشبيه جار في القرآن الكريم؛ قال جمهور المفسرين منهم ابن عباس رضي الله عنهما: في قوله تعالى «أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا»(1) أن المراد بالماء هو العلم، وبالأودية قلوب العلماء، وبإنزاله أفاضته على القلوب، وبقوله: «فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا»(2) أن كل قلب منها يصل إليه بمقدار ما يستحقه ويتقبله، وذلك أن الله سبحانه أنزل من سماء الكبرياء والإحسان، علوم القرآن على قلوب العباد، فكما أن الأودية يستقر فيها المياه النازلة من السماء، وفي كل واد يحصل ما يليق بسعته وضيقه، فكذلك القلوب تستقر فيها علوم القرآن، وفي كل قلب ما يليق به من طهارته، وخبثه وقوة فهمه وقصره وتمام التشبيه في الآية مذكور في التفاسير؛ قالوا وأشار بالريح العاصفة إلى الأمر الأول، لأن وقوعه لما كان دفعة غير منسوب إلى زمان كان انسب ما يشبهه في السرعة، والنفوذ الريح العاصف، لأنها اسرع الأجسام حركة، ولذلك اكدَّها بوصف العصوف، تقريبا للسرعة التامة «وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ»(3).

وبوصف الزعزعة والقصف تحقيقاً للقوة الغالبة، وأما أمره لها وتسليطها على

ص: 94


1- سورة الرعد: الآية 17
2- سورة الرعد: الآية 17
3- سورة النحل: الآية 77

شدة فلأنه لما صورها بصورة الريح ساغ أن يقال أنه أمرها، وهو عبارة عن نسبة ذلك الأمر إلى ذاته تعالى، النسبة التي تحدثها عقولنا الضعيفة، وفائدة الرد والشد هاهنا هو ضبط، أمره سبحانه على وفق حكمته الكمالات الفائضة عنه، وأما قرنها إلى حده فأشار إلى إحاطة أمره بالكمالات الفائضة، وقوله الهواء من تحتها فتيق: أشاره إلى قبول القوابل المذكورة، والماء من فوقها دفيق إيماء إلى ما يحمله أمر الله من الفيض، وتلقيه على تلك القوابل، وكل ذلك بترتيب عقلي لا زماني، وأما الريح الثانية فأشار فيها عليه السلام إلى الأمر الثاني، ووصفها باعتقام مهبها إشارة إلى إيقاعه على وفق الحكمة الإلهية، وإلى عدم المانع لجريان ذلك الأمر، وبإدامة مرتها(1) إلى إفاضة مقادير ذلك الأمر فكأنه شبه الفيض الصادر بهذا الأمر على الهيولات(2): الأجسام الفلكية بالديمة على الأماكن التي يجتمع فيها، ويقيم، وأراد أن المحال القائلة لذلك الأمر المستلزمة له دائماً، باقية وأشار بعصف مجراها إلى سرعة ذلك الأمر، كما وصف بها الريح الأولى وسعد منشأها إلى عدم أولیة مبداه، وبتصفيق الماء الزخار وإثارة أمواج البحار إلى نسبة فيضان صور الأفلاك وكمالاتها، إلى أمره سبحانه بواسطة تلك الكمالات الفعلية للملائكة وأنها غير مستقلة بإيجاد شيء، بل هي شرائط بعضها لبعض، ولغيرها والبحار إلى ملك ملائكة وتمحصها إلى قوة أمر الله عليها، وتصريفها على حسب علمه بنظام الكل،

ص: 95


1- مرتها بمعنى: المرة؛ وقد تأتي بمعنى المرور فيه أي: في الحدث، لسان العرب لأبن منظور: ج 5 ص 165: والاسم من كل ذلك المَرَّة؛ قال الأَعشى: لا قُلْ لِتِيَّا قَبْلَ مَرَّتِها: اسْلَمي *** تَحِيَّةَ مُشْتاقٍ إِليها مُسَلِّمِ وأَمَرَّه بِه: جَعَله يَمُرُّه. ومارَّه: مَرَّ معه
2- الهيولات: من الهيول وهو: الهباء المنبث، بالعبرانية، ويقال: بالرومية، وهو الذي تراه من ضوء الشمس في البيت؛ العين للفراهيدي: ج 4 ص 89

وتقدیر ما لكل ملك من الكمالات في ذات كل مبدأ من تلك المبادئ، وقوله: «حتی عب عبابه»(1) إشارة إلى بلوغ كمالات تلك الملائكة؛ الحاصلة بالفعل عن أمر الله؛ إلى رتبة أن يعطي بواسطتها الفيض لغيرها، وقوله: «ورمي بالزبد ركامه»(2) إشارة إلى أعضاء صور الأفلاك و(3) كمالاتها بواسطتها، ولما كانت صور الأفلاك محتاجة في قيامها في الوجود إلى الهيولى؛ كانت نسبتها إلى الملائك المجردة نسبة أخس إلى الشرف؛ فبالحري أن أطلق عليها اسم الزبد، ولأن هذه الصور حاصلة عن تلك الكمالات العقلية، وفائضة عنها كما أن الزبد منفصل عن الماء ومتكون عنه، وأما رفعه في هواء متفق وجو منفهق(4)، فاشاره إلى الحاق صور الأفلاك

ص: 96


1- عُبابُه مَوجُه، وفي التهذيب: العُبابُ معظم السيل؛ قال: ابن الَأعرابي: العُبُبُ: المياه المتدفقة: ينظر لسان العرب لابن منظور: ج 1: ص 573
2- زبد: الزبد: زبد السمن قبل أن يسلأ، والقطعة منه: زبدة. و الزبد: لعاب أبيض على مشفر الجمل، وأكثر ما يكون في الاغتلام. والبحر واللبن زبد، وهو ما يرتفع فوقه إذا حلبت. أزبد اللبن والبحر. و تزبد الإنسان: خرج على شدقيه زبد من الغضب. و الزبد: الرفد: العين للخليل الفراهيدي: ج 7 ص 350
3- الهيولى: مصطلح يراد به الأصل في الأشياء، وجوهرها؛ وقال الطريحي في مجمع البحرين: «وعند الحكماء تنحصر الجواهر في خمسة: في الهيولى، والصورة، والجسم، والنفس، والعقل، وإن كان الجوهر محلاً لجوهر آخر؛ فهو الهيولى، أو حالاً في جوهر آخر فهو الصورة، أو مركباً من الحال، والمحل وهو الجسم، أو لا يكون حالاً، ولا محلاً، ولا مركباً منهما، وهو المفارق، فإن تعلق بالجسم تعلق تدبير فهو النفس، وإن لم يتعلق تعلق التدبير فهو العقل»؛ وقال الزبيدي: «ونقل الشيخ المَناوِي في مُهمّات التَّعْرِيف أَنَّ الهَيُولَی لفظٌ يُونانِيٌّ بمعنى الأَصْلِ والمادّة، واصطلاحًا: جَوْهَرٌ في الجِسْم قابِلٌ لما يَعْرِضُ لذلك الجِسْم من الاتِّصالِ والانْفِصالِ، مَحَلٌّ للصُورَتَیْنِ الجِسْمِيَّة والنَّوْعِيَّة؛ ينظر تاج العروس: ج 15: ص 822
4- جو منفهق بمعنى: جو واسع؛ وقال ابن منظور: والفَهَقُ والفَهْق: اتساع كل شيءٍ ينبع منه ماء أو دم؛ يُنظر لسان العرب: ج 10: ص 214

موادها المستعدة إلى تخصيص وجودات الأفلاك ب؛ أحيازها، ورفعها إليها، وقوله: «فسوي سبع سماوات» إشارة إلى كمال الأفلاك بما هي عليه؛ من الوضع والترتيب والتعديل، وأما تخصيصه بالسبع؛ فلانّ الفلكين الباقين في الشريعة معروفان بالعرش وبالكرسي «كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»(1) «جَعَلَ سُفْلَهُنَّ مَوْجاً مَكْفُوفاً»: ممنوعاً من السقوط جَعَل، «وعُلْيَاهُنَّ سَقْفاً مَحْفُوظاً»: من الشياطين، استعار السقف من البيت للسماء من جهة الارتفاع والإحاطة، ثم كثر ذلك الاستعمال حتى صار اسما من أسماء السماء، کما استعار الموج لأجل الملاحظة والمشابهة من اللون، قال: بعضهم إرادتها كانت في الأول موجاً ثم عقدها وكفها قال ابن عباس: «كانت الشياطين منعت من ثلث السماوات بولادة عيسى، ومن الكل بولادة محمد صلى الله عليه [وآله] وسلم»(2)، «وسَمْكاً»: سقفاً ذكره توطية «مَرْفُوعاً بِغَیْرِ عَمَدٍ»: دعامة «يَدْعَمُهَا» يحفظها «ولَا دِسَارٍ»: يعني أن هذه الأجرام العظيمة بقيت واقفة في الجو العالي، ويستحيل أن يكون لذواته لأن، الأجسام متساوية في الجسمية، فلو وجب حصول جسم في حيز لوجب حصول كل جسم فيه؛ فلم يبق إلا أن يقال: وقوفها بقدرة الصانع الحكيم المختار، ولا تظن أن كلامه عليه السلام؛ مناف لقوله تعالى «بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا»(3) لأن سبحانه نفي الرؤية لا

ص: 97


1- سورة المؤمنون: الآية 53
2- عمدة القاري للعيني: ج 6 ص 26؛ والحديث منقول بالمضمون في الأصل، وما وجدناه في عمدة القاري عن ابن عباس هذا نصه: «كانت الشياطين لا تحجب عن السماوات، فلما ولد عیسی، عليه الصلاة والسلام، منعت من ثلاث سماوات، فلما ولد سيدنا رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم منعت منها كلها» وقال: أبو يعلى الموصلي في مسنده: ج 4 ص 282؛ ما هو قريب منه في لفظه
3- سورة الرعد: الآية 2

الوجود لان ترونها في الكلام المجيد مستأنف أي وانت ترونها وقال البصري(1): فيه تقديم وتأخير وقال الرازي(2): العماد هو ما يعمد عليه، والسماوات معتمدة بقدرة الله فكانت هي العمد التي لا تُرى؛ «ثُمَّ زَيَّنَهَا بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ وضِيَاءِ»: بضوئها وهي أجرام نورانية مستديرة مصمتة(3) مركوزة في جرم الأفلاك، قيل في أول الأفلاك القمر، وفي الثاني العطارد، وفي الثالث الزهرة، وفي الرابع الشمس، وفي الخامس المريخ، وفي السادس المشتري، وفي السابع زحل، وهذه هي السماة بالكواكب السبعة السيارة، وما سواها من الكواكب فيشتمل عليها الفلك الثامن والتاسع، خال عن الكواكب، وأن كان فليس بمدرك لنا، «وضِيَاءِ الثَّوَاقِبِ»: استعارة في الأصل للشهب عن الأجسام التي تنفثُ جسماً وينفذ فيه، لأنها تنفث بُنوره الهواء، ولكثرة الاستعمال فيه صار حقيقة، «وأَجْرَى فِيهَا سِرَاجاً مُسْتَطِيراً»: منتشر الضوء استعارة للشمس، ووجه المشابهة أن السراج القوي يضيء ما حوله والشمس مضيئة للعالم؛ «وقَمَراً مُنِیراً فِي فَلَكٍ»: من أسماء السماء قيل: مأخوذ من فلكه المعزل لمشابهتها في الاستدارة «ورَقِيمٍ»: سماء اشتقاقه من الرقم بمعنى النقش؛ لأن الكوكب به تَشبهُ الرقوم، ولكثرة الاستعمال صار أسماً أيضاً مَائِرٍ: متحرك كلامه عليه السلام، مطابق لما قيل من الأفلاك المتحركة بما فيها من

ص: 98


1- البصري: هو الحسن البصري من التابعين الذين لهم آراء في التفسير، وهو من جملة المفسرين الذين اشتهروا، كمالك بن أنس، والضحاك بن مزاحم، وعطية بن سعيد العوفي، وكثير غيرهم من لا يسع المقام لذكرهم؛ يُنظر مجمع البيان في تفسير القرآن للشيخ الطبرسي: ج 1، ص 27
2- الرازي هو: فخر الدين الرازي المتوفي 604 ه: جامع الخلاف والوفاق لعلي بن محمد القمي: 652
3- مصمته: بمعنى ليس فيها ثقب

الكواكب، وأنها دورته، إذا عرفت ذلك فاعلم؛ أن الاستعارة تستلزم ملاحظة أخرى وهي: نسبة هذا العالم بأسره لاستعارة أخرى؛ فالسماء كقبة خضراء نصب على الأرض وجعلت سقفاً محفوظاً محجوباً؛ عن أن يصل إليه مردة الشياطين كما يحمي غُرفُ البيت عن مردة اللصوص؛ ثم هو مع غاية علوه وارتفاعه غير محمول بعمد يداعمه، ولا منظوم بدسارٍ یشده؛ بل بقدرة صانعه ومبدعه؛ ثم أن تلك القبة مرتبة بالكواكب ضيائها الذي هو احسن الزينة واكملها فلو لم يحصل صور الكواكب في الفلك لبقي سطحاً مظلماً، وأنت أذا تأملت هذه الكواكب المشرقة المضيئة في سطح الفلك، وجدتها عند النظر إليها جواهر موضوعة؛ في سطح من زمرد؛ على أوضاع اقتضته الحكمة قال: وكان أجرام النجوم لوامعاً درر نثرن على بساط ازرق؛ ثم جعل من جملتها كوكبين، هما اعظم الكواكب جرماً واشدها إشراقاً وأتمها ضياء، ومع اشتمالها على تمام الحسن والزينة؛ جعل احدهما ضياءً للنهار والآخر نور الليل، ثم لم يجعل ذلك السقف ساكناً بل جعله متحركاً ليكون أثر صنعه فيه اظهر، وصنع حكمته فيه ابدع، ولم يجعل طبقاً واحداً بل أطباقاً، اسكن في كل طبق ملاء من جنوده وخواص ملكه؛ الذين ضربت بينهم وبين من دونهم حجب العزة، وأستار القدرة، فلا يستطيع احد أن ينظر إليهم فضلاً عن أن ينسبه بمالكهم وخالقهم سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا؛ هذا هو الحكمة الظاهرة التي يتنبه لها من له أُذنٌ وفطنة، وفيه الحكم الخفية والأسرار الإلهية التي تعجز القوى البشرية عن إدراكها، ويحتاج فيما لاح منها إلى لطف قريحة وتوقد ذهن.

ص: 99

«فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»(1) فانظر إليها المستبصر بعين بصيرتك المناسبة التي بينك وهذه البيت العظيم، وقس سراجك إلى سراجه، وزينتك إلى زينته؛ ثم لاحظ مع ذلك أنه إنما خلَقه ومْنه قوام حياتك وجودك، وليستدل بملكوت ما خلق، علی کمال قدرته وحكمته، لترجع بذلك إلى حضرته ظاهراً من الرجس متشبهاً بسكان سقف هذا البيت، لا لأن له حاجة إليه؛ فإنه الغِنّي المطلق؛ لا حاجة به إلى شيء، وقل لي مثل هذا الإمام الهادي إلى دار السلام؛ افتراه لم يتعمد بهذا الكلام محرضاً أياّناً؛ عن التشمير عن ساق الجِدّ؛ تنبيه الأذهان القاصرة؛ ما لمعلم قلةٌ عن حكمة الصانع سبحانه؛ في ملكوت السماوات وبدائع صنعه، وضروب نعمه ليتذكروا نعمة ربهم؛ فيواظبوا على عبادتِه وحمده على تمام ذلك الإحسان؛ هیهات وقد قال الله تعالى ليذكروا نعمة ربكم(2)، وأمثاله والعجب من الإنسان، أنه ربما رأى حظاً حسناً، وترويقاً على حائط فلا يزال يتعجب من حسنه وحدق صانِعه؛ ثم يرى هذا الصنع العجيب، والأبد اللطيف؛ فلا يدهشه عظمة صانعه وقدرته، ولا يحيره جلال مبدعه وحكمته، «ثُمَّ فَتَقَ مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ الْعُلَا»: جمع العليا، وهذا الفصل أيضاً من تمام التفسير لقوله «فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ»(3) وعطف على جعلهن إلى آخره، أظن أنك تبتغي أن أجذب إليك سر تأخير ذكر فتق السماوات واسكان الملائكة لها عن ذكر اجراء الشمس والقمر فيها وزينتها بالكواكب مع أن فتقها مقدم على اختصاص بعضها

ص: 100


1- سورة يس: الآية 83
2- ما بين معقوفين لم يرد نصه في كتاب الله تعالى، بل الوارد قوله تعالى «ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ»: سورة الزخرف: الآية 13
3- سورة البقرة: الآية 29

ببعض الكواكب من ستر الأيهام إلى ساحة الإعلام؛ فاستمع لما يتلى عليك من الكلام فنقول: إشارة عليه السلام إلى تسوية السماوات، إشارة إلى جملته، فكأنه قدر أولاّ، أن الله سبحانه خلق السماوات كرة واحدة، كما عليه بعض المفسرين لقوله تعالى «أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا»(1) ثم ذكر علياهّن وسفلاهّن لجريانهما مجری السطحين؛ الداخل والخارج لتلك الكرة؛ ثم أشار إلى بعض کمالاتها وهي: الكواكب والشمس والقمر جملة؛ ثم بعد ذلك أراد التفصيل، واشار إلى تمييز بعضها عن بعض بالفتق، وإسكان كل واحدة منهن ملاء معيناً من الملائكة؛ ثم عقب ذلك بتفصيل الملائكة، ولا شك أن تقديم الإجمال بالذكر وتعقبه بالتفصيل، مما يهز القرايح ويقر في الأذهان، وأقتبسُ من قوله تعالى «أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا»(2) وفيه قول: ابن عباس والضحاك وقتادة «كانت السماوات والأرض شيئاً واحداً ففصل بينهما بالهواء»(3)؛ كعب قال: «خلق الله السماوات والأرض؛ بعضها على بعض؛ ثم خلق ريحاً بوسطها ففتحها بها»(4)؛ مجاهد والسدي قالوا: «كانت السماوات طبقة واحدة ففتقها بجعلهما سبع سماوات وكذلك الأرض»(5) وفي رواية لأبن عباس

ص: 101


1- سورة الأنبياء: الآية 30
2- سورة الأنبياء: الآية 30
3- جامع البيان عن تأویل آيات القرآن لمحمد بن جرير الطبري: ج 1 ص 25؛ وكذلك تفسیر مجمع البيان للشيخ الطبرسي: ج 7 ص 82، بصيغة مقاربة، فراجع؛ وفي تفسير الثعلبي أيضاً: ص 274، وهو أقرب ما ورد لما في الأصل
4- ينظر معالم التنزيل في تفسير القرآن للبوغي: ص 246؛ وتفسير القرطبي للقرطبي: ج 11: ص 283؛ وأيضاً تفسير البحر المحيط لابن حبان الأندلسي: ج 6: ص 286
5- ينظر: تفسير المحيط الأعظم للسيد حيدر الآملي: ص 219؛ وتفسير الثعلبي: ص 247، وتفسير الجامع لأحكام القرآن: ج 11 ص: 283؛ وتفسير البحر المحيط: لابن حبان الأندلسي: ج 6 ص 286

معناه «ففتقها السماء بالمطر والارض بالنبات»(1)، وهذا المعنى لا يلائم قوله عليه السلام بعض الفضلاء معناه أنهما كانتا أمور كلية في علم الله تعالى، وفي اللوح ففتقهما إشارة إلى تشخصاتها في الوجود وتميز بعضها عن بعض، وقيل الرتق: انطباق دائرة معدل النهار على الفلك، والبروج والفتق: ظهور الميل وهذا أيضاً بعيد المناسبة لقوله عليه السلام؛ لأنه في معرض بيان كيفية تخليق العالم الأعلى، والرتق والفتق في هذا القول متأخر عن كمال الأجرام العلوية وملائكته، وما يتعلق بها، ولا يعقل تقدم ظهور الميل بوجه على وجود الملائكة السماوية واسكانها اطباق السماوات، ولذلك أردفه بالفاء في «فَمَلأَهُنَّ أَطْوَاراً»: أنواعاً متناهية من ملائكته.

الكسائي قال: «أصل الملك: المالك بتقديم الهمزة من الألوك بمعنى: الرسالة، ثم قُلبتْ وقُدمتْ اللام؛ ثم تُركت الهمزة لكثرة الاستعمال؛ فلما جمعوه ردوه إليه، فقالوا ملائكة وملائك».

«مِنْهُمْ سُجُودٌ لَ يَرْكَعُونَ»: اقتباس من قوله وله يسجدون ونحوه، «وَمنْهّم

رُكُوعٌ لَا يَنْتَصِبُونَ»: ومنهم «وصَافُّونَ لَا يَتَزَايَلُونَ»: لقوله تعالى «وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ»(2) و ومنهم «مُسَبِّحُونَ لَا يَسْأَمُونَ»، لا يملون لقوله «يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ»(3) «لَا يَغْشَاهُمْ»: لا يصيبهم «نَوْمُ الْعُيُونِ ولَا سَهْوُ الْعُقُولِ ولَا

فَتْرَةُ الأَبْدَانِ»: كقوله تعالى «لَا يَفْتُرُونَ» ولَا غَفْلَةُ النِّسْيَانِ(4) «ومِنْهُمْ أُمَنَاءُ عَلَى

ص: 102


1- ينظر تفسیر مجمع البيان للشيخ الطبرسي: ج 7 ص 82؛ والمنتخب من تفسير القرآن والنكت المستخرجة من كتاب التبيان: لابن إدريس الحلي: ص 118
2- سورة الصافات: الآية 165
3- سورة الأنبياء: الآية 20
4- ما بين معقوفين: ساقطة من المتن وهي في الأصل موجودة ضمن خطبة الأولى؛ في صفة خلق الملائكة من النهج: ص: 42

بلاغ وَحْيِه وأَلْسِنَةٌ»: جمع لسان؛ الجوهري قال: فلان لسان القوم إذا تكلم عنهم منزلة(1) «إِلَى رُسُلِه» لقوله «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ» «عَلَى قَلْبِكَ»(2) «جَاعِلِ

الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا»(3)، «ومْخُتَلِفُونَ»: مترددون «بِقَضَائِه»: حكمه «وأَمْرِه»: مرّة بعد أخرى لقوله «تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ»(4) ولقوله «يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ»، «ومِنْهُمُ الْحَفَظَةُ

لِعِبَادِه»: لقوله «وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً»، «وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ»(5) «والسَّدَنَةُ

لَأبْوَابِ جِنَانِه»: جمع سادن وهو الخازن لقوله تعالى «وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا»(6) «ومِنْهُمُ الثَّابِتَةُ فِي الأَرَضِنَ السُّفْلَ أَقْدَامُهُمْ، والْمَارِقَةُ»: الخارجة «مِنَ السَّمَاءِ الْعُلْيَا

أَعْنَاقُهُمْ، والْخَارِجَةُ مِنَ الأَقْطَارِ»: النواحي «أَرْکَانُهُمْ»: جوانبهم، «والْمُنَاسِبَةُ» المماثلة استعارة من النسب «لِقَوَائِمِ الْعَرْشِ أَكْتَافُهُمْ»: لقوله تعالى «أُولِي أَجْنِحَةٍ»(7) وهذه الأوصاف وردت في شأن الملائكة الحاملين العرش؛ في كثير من الأخبار فشبه أن يكون المراد إياهم؛ روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لما خلق الله تعالى حملة العرش قال: هم احملوا عرشي فلم يطيقوا فقال: قولوا لا حول ولا قوة الا بالله؛ فلما قالوا ذلك استثقل العرش فنفذت أقدامهم في الأرض السابعة

ص: 103


1- ينظر الصحاح للجوهري: ج 6 ص 2195
2- سورة الشعراء: الآيتان: 193، 194
3- سورة فاطر: الآية 1
4- سورة القدر: الآية 4
5- سورة النحل: الآية 2
6- سورة الزمر: الآية 71
7- سورة فاطر: الآية 1

عری متن الثرى» الحديث(1)، وجب عليك إيها الحريص على ازدياد فضلك المنتصب لاقتداح زناد عقلك، أن تعلم أنه عليه السلام أشار بالركوع والسجود والصف والتسبيح إلى تفاوت مراتبهم في العبادة والخضوع، وذلك أن الله سبحانه قد خص كلا منهم بمرتبة من الكمال في العلم والقدرة؛ ثم أنها عبادات متعارفة متفاوتة في استلزام کمال الخضوع والخشوع؛ فعبر عنها بتفاوت المراتب اطلاقاً الملزوم على اللازم(2)، والأشبه حملها على غير ظواهرها المعهودة منها؛ لأن وضع الجبهة على الأرض، وانحناء الظهر، والوقوف في خط واحد، وحركة اللسان بالتسبيح؛ أمور مبنيّة على وجود هذه الآلات المخصوصة ببعض الحيوانات في الغالب على أن السجود لغة هو الانقياد؛ إذا انتقش هذا على صحيح خاطرك فنقول: يحتمل أن يكون منهم سجود إشارة إلى رتبة الملائكة المقرنين؛ لأن درجتهم أكمل درجات الملائكة، فكانت تشبه عبادتهم وخضوعهم إلى خضوع من دونه، کنسبة خضوع السجود إلى الركوع، والركوع أشاره إلى حملة العرش؛ إذا كانوا أكمل من دونهم؛ فكانت نسبة عبادتهم إلى عبادة من دونه نسبة خشوع الركوع إلى خشوع الصف، وصافون إشارة إلى الملائكة الحافين من حول العرش؛ قيل: أنهم يقفون صفوفاً لأداء العبادة؛ كما أخبر تعالى عنهم «وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ»(3) وتحقيق ذلك: أن لكل واحد منهم مرتبة معينة، وتلك غير متغيرة وذلك يشبه الصفوف، ويؤيد هذا؛ ما جاء في الخبر من أن حول العرش سبعين ألف صف

ص: 104


1- يُنظر: تفسير الإمام الحسن العسكري: ص 147، مع بعض الاختلاف؛ وتفسير المحيط الأعظم للسيد حيدر الآملي: ص 251؛ وتفسير الكشف والبيان للثعلبي: ص 266
2- الملزوم واللازم من القواعد المنطقية، وأطلقها تثبيتاً للمطلب المتقدم؛ بمعنى أن الملائكة خلقوا لأجل العبادة فيكون ملزوماً ثابتا أُطلق للملائكة
3- سورة الصافات: الآية 165

قیام؛ قد وضعوا أيديهم على عواتقهم؛ رافعين اصواتهم بالتهليل والتكبير، ومن ورائهم ألف صف؛ قد وضعوا الأيمان على الشمائل؛ ما بينهم أحد إلا وهو يسبح(1)؛ ومسبحون والمراد بهم الصافون، وغيرهم من الملائكة، والتغاير الاعتباري كاف في العطف قال: عز من قائل «وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ»(2)؛ أو أنواع أخرى فأما السلوب(3) المذكورة، فإنما هي إلى کمال مراتبهم المعنية بالنسبة إلى من دونهم، تأكیداً لها بعدم النقصانات اللاحقة، وأيضاً فأن السام والملال(4)، اعراض النفس بسبب كلال بعض القوى الطبيعية عن أفغالها ولا يتصور في حق الملائكة السماوية، وأما سلب غشيان النوم عنهم، فلأنه تعطیل الحواس الظاهرة عن أفعالهم، لعدم انصباب الروح النفساني أليها ورجوعها بعد الكلال والملائكة منزهة عن هذه الأسباب، وسلب البواقي ظاهر لأنها من لواحق القوى الإنسانية، وأما فترة الا بدان فلان وقوف الأعضاء البدنية عن العمل بسبب تحلل الأرواح البدنية وضعفها، ورجوعها إلى الاستراحة، وكل ذلك من توابع المزاج الحيواني يشبه دخول الأمناء المذكورة في الأقسام السابقة، ولأن جبرئيل من جملة المرسلين، وهو من المقربين، وذكرها ثانياً باعتبار وصف الأمانة،

ص: 105


1- ينظر تفسير المحيط الأعظم للسيد حيدر الآملي: ص 237؛ وشرح نهج البلاغة: لابن میثم البحراني: ج 1 ص 161
2- سورة الصافات: الآيتان 165 - 166
3- السلوب: من القواعد الأصولية التي تستعمل لتثبيت القضایا في علم المنطق؛ واستعملها ابن سینا بكونها لوازم؛ قال: «قد علمت أن السلوب لوازم لا مقومات كمن يجد الخط بأنه طول بلا عرض»؛ ينظر: منطق المشرقيين لأبو علي سينا: ص 56؛ وهناك تعليل آخر وهو جمع سلب: والمعنى: أن ما يسلب من الصفات المنسوبة للملائكة ليست نقص فيهم؛ بل هو كمالهم: كسلب النوم عنهم أو الأكل وماشابه؛ وقد يأتي السلب والسلوب في النفي كما في قوله تعالى «لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ» سورة الأنبياء الآية: 27
4- بمعنى السأم والملل

ولما أن الوحي وسائر الإفاضات من الله تعالى على عباده؛ بواسطة الملائكة لأجرم صدق أن منهم أمناء إلى آخره قال عن شأنه «يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ»(1) وأما كونهم ألسنة إلى رسلهم فهي: استعارة حسنة لشركتهم مع اللسان في الإفصاح، وأما قوله عليه السلام: «ومنهم الثابتة» إلى آخره، فيحمل على ظاهره، من قال: بأن الملائكة أجسام لأنه أمر ممكن، والله سبحانه قادر على كل الممكنات، وأما من نزههم عن الجسمية فقال: أنّ الله سبحانه لما خلق الملائكة السماوية مسخرين؛ لأجرام السماوات كانوا محيطين بأذن الله علماً؛ بما في السماوات والأرض؛ فلا جرم کان منهم من ثبت في تخوم الأرض السفلى؛ اقدام ادراكاتهم التي تثبتت واستقرت باسم الله الأعظم، و مرقت من السماء الدنيا أعناق عقولهم، وخرجت في أقطارها أركان قواهم العقلية، والمراد من المناسبة المذكورة؛ مناسبتهم ومشابهتهم لقوائم العرش في تفاوتهم وتباينهم، عمن تحتهم، وجه المناسبة أن الكتف محل القوة والشدة، استعاره عليه السلام للقوة والقدرة؛ التي تخص كل ملك من تلك الملائكة، وبها يدير قيمة من قوائم العرش؛ روي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عليهم السلام قال: «أن بين القائمة من قوائم العرش، والقائمة الآخر خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام، ولا شك أن بين كل قائمة من تلك القوائم وبين كل قدرة من تلك القدرة، مناسبة لما لأجلها خصّ الله تعالى ذلك الملك بحمل تلك القائمة»(2)؛ وهذا يعني المناسبة ويمكن أن يقال: کما استعار لهم لفظ الأقدام استعار لهم لفظ الأكتاف ثم شبّه قيامهم بأمر الله في حملهم للعرش كقيام الأساطين التي تبنى عليها الواحد منها عرشه، فهم مشابهون

ص: 106


1- سورة النحل: الآية 50
2- بحار الأنوار: ج 55: ص 27؛ نقلًا عن بيان التنزيل لابن شهر آشوب؛ وفي تفسير المحيط الأعظم للسيد حيدر الآملي: ص 253؛ كذلك تفسير الرازي: ج 27 ص 31؛ والكشاف للزمخشري: شرح ص 416؛ باختلاف في بعض الألفاظ

لقوائم العرش التي تبنى عليها من غير أن يكون هناك تعرض لإثبات قوائم ما يشبه القوائم، نَاكِسَةٌ دُونَه للعرش أَبْصَارُهُمْ أي مطأطأة روسهم، کنی علیه السلام بنکس أبصارهم عن كمال خشيتهم لله، واعترافهم، بقصور أبصارهم عن ادراك ما وراء کمالاتهم المقدرة لهم، وضعفهم عن قبول ما لا يحتمله من انوار الله وعظمته المشاهدة في خلق عرشه، وما فوقهم من مبدعاته، وأن شعاع أبصارهم منه، واقف دون حجب عزة الله، وعن يزيد الرقاشي: «أن الله تعالى ملائكة حول العرش يسمون المخلصين؛ تجري أعينهم مثل الأنهار يوم القيامة من خشية الله؛ فيقول لهم الرب جل جلاله: ملائکتي ما الذي يخفيكم؟ فيقولون ربنا لو أن أهل الأرض اطلعوا من عزتك وعظمتك على ما اطلعنا عليه ماساغوا طعاماً ولا شراباً ولا انبسطوا في فرشهم ولخرجوا إلى الصحراء يخورون کما يخور الثور»(1)، «مُتَلَفِّعُونَ»: متلحفون تَحْتَه العرش «بِأَجْنِحَتِهِمْ»، وأعلم أنه لما كان الجناح عبارة عن محل القوة والقدرة والبطش، صحّ أن يستعار للملائكة على سبيل الكناية عن كمالهم في قدرتهم وقوتهم، التي بها يطيرون في بيداء عظمته، وتصدر بواسطتهم کمالات ما دونهم، وصحّ أن يوصف تلك الأجنحة بالقلة والكثرة في أحاديهم؛ فيكون كناية عن تفاوت مراتبهم، وزيادة كمال بعضهم على بعض، ولما إستعار الأجنحة لهم؛ استلزم أن يكون قد شبههم بطائر ذي جناح، ثم لما كان الطائر عند قبض جنحه کالمتلفع بثوبه، وكانت أجنحة الملائكة كما ذكرت مقبوضة قاصرة عن التعلق بمثل مقدورات الله، ومُبدعاته واقفه دون عظمته في صنعه؛ لأجرم أشبه ذلك بقبض الأجنحة المشبه للتلفع بالثوب؛ فاستعار علیه السلام لفظ التلفع أيضاً،

ص: 107


1- ينظر: تفسير الثعلبي: ج 8، ص 267؛ والرواية مرسلة ولم أعثر على مصدر آخر لها، وعلى ما هي عليه لا تخلو من فائدة؛ حيث إن منطوق الرواية يستفاد منه، لما فيها من وصف وهو أقل ما يجب من خشية الله تعالى

وکنی به عن کمال خضوعهم، وانقيادهم تحت سلطان الله وقوته المشاهدة في صورة عرشه، وفي قوله: «مَضْرُوبَةٌ بَيْنَهُمْ وبَیْنَ مَنْ دُونَهُمْ حُجُبُ الْعِزَّةِ، وأَسْتَارُالْقُدْرَةِ»: إشارة إلى أن الآلات البشرية؛ قاصرة عن إدراكهم الوصول إليهم، وذلك لقربهم عن عزة مبدعهم الأول، وبُعد الإنسانية عن الوقوف على أطوارهم المختلفة ومراتبهم المتفاوتة، وإذا كان الحال في الملك العظيم في الدنيا؛ إذا بلغ في التفرد لا يراه إلا آحاد خواصه؛ بل لا يصل إليهم إلا من كانت له وسيلة تامة، وعلاقة قوته، وإنما كان منشأ ذلك عظمة الملك وهيبته، وقربهم منه، فكان الحامل بينهم وبين غيرهم حجب عزة الملك، واستار قدرته وقهره؛ فكيف الحال في جبار الجبابرة، ومالك الدنيا والآخرة، وحال ملائكة المقربين ومن يليهم من حملة العرش الروحانيين، مع قوانا الضعيفة، وكيف أدراكاً لمراتبهم على حجب عزة الله وعظمته لهم، وکمال ملکه وتمام قدرته، وما أهلهم بها من قربه، ومطالعة أنوار كبريائه عن سلطانه، ولا إله إلا هو؛ «لَا يَتَوَهَّمُونَ رَبَّهُمْ بِالتَّصْوِيرِ»: إشارة إلى تنزيههم عن الإدراكات الوهمية والخيالية في حق مبدأهم جل برهانه، إذ الوهم إنما يتعلق بالأمور المحسوسة ذات الصور والأحياز فلن يرجع إلا بمعنی جزئي يتعلق بمحسوس حتى أنه لا يقدر نفسه، ولا يدركها إلا ذات مقدار وحجم، ولما كان الوهم من خواص المزاج الحيواني، لاجرم سلب التوهم عن هذا الطور من الملائكة؛ لعدم قوة الوهم هناك، فأن هذه القوة لما كانت موجودة في البشر؛ یری ربه في جهة ويشير إليه متحير في ذا مقدار وصورة، ولذلك وردت الكتب الإلهية، والنواميس الشرعية، مشحونة بصفات التجشم كإثبات اليد، والعين، والأصبع، والاستواء على العرش، ونحو ذلك؛ خطاباً للخلق بما تدركه أوهامهم، وتوطيناً هم وإيناساً؛ حتى أن الشارع لو أخذ في مبدأ الأمرتين لهم؛ أن الصانع الحكيم ليس داخل العالم ولا خارجه، ولا في جهة، وليس بجسمٍ ولا عرض، لأشتد هارباً

ص: 108

اكثرهم عن مؤول ذلك، وعظم انكارهم له فأن الوهم في طبيعته، لا يثبت موجوداً بهذه الصفة، ولا يتصوره؛ فكان الأنسب في خطاباتهم والأقرب الإصلاحهم والأجدر بدعوتهم إلى الحق ما یکون ظاهراً في التشبه، وكون الصانع في أشرف الجهات مع تنبيهات دقيقة على التنزيه المطلق عما يوجب الحدوث والخطابات الشرعية، وأن وردت بصفات التجسم إلا أنها لما كانت قابلة لتأويل محتملة له كانت وافيه بالمقاصد، إذ الغامر المغمور في ظلمات الجهل، يحملها على ظاهرها، وذو البصيرة المترقي عن تلك الدرجة يحملها على ما يحتمله عقله من التأويل، وكذلك حال من هو أعلى منه، والناس في ذلك على مراتب؛ فكان إيرادها حسناً وحكمة وفي «ولَا يُجْرُونَ عَلَيْه صِفَاتِ الْمَصْنُوعِینَ»: أشارة إلى أن إجراء صفات المصنوعين عليه، إنما يكون بمناسبته ومماثلته، مع مصنوعاته، وكل ذلك بقياس وهميّ؛ إذ الوهم يحكم حكم مثله؛ فيجري حينئذ عليه صفات أولاً: يكون الباري عز سلطانه مثلاً لمصنوعاته؛ التي حكم بمثلتيه لها، والملائكة السماوية مبراة عن الوهم الحال، ومن أجراء الصفات على الله ذي الجلال سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وكذلك قوله؛ «ولَا يَحُدُّونَه بِالأَمَاكِنِ ولَا يُشِرُونَ إِلَيْه بِالنَّظَائِرِ»: فأن الحاكم يجده في مكان وتحيزه فيه والمشير إليه بالمثل المتصور له بالقياس؛ إلى نظير يشاكله ويشابهه، أنما هو الوهم والخيال، ولما عرفت أنهما يخصان الحيوان العنصري لأجرم كانت هذه الأحكام مسلوبة عن الملائكة السماوية مطلقاً وبالله التوفيق.

وَمِنْها: من هذه الخطبة في صفةِ خَلِق آدَم عليْه السلاَم: وآخره عما أخرّه عنه، لتأخره في الوجود ذكره عليه السلام؛ لفوائد تذكر الخلق وينبئهم عن مراقد الطبيعة؛ التي جذبهم إلى إبليس والتحذير من فتنة جنوده والجذب إلى جناب الله

ص: 109

و مطالعة انوار کبریائه؛ قال عز وجل «يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ»(1)؛ ولهذا كررها الله سبحانه في كتابه الكريم في سبع سور؛ قال عليه السلام: ثُمَّ جَمَعَ سُبْحَانَه»: ثم جمع الله سبحانه من قبل الإسناد إلى الأمر، «مِنْ حَزْنِ الأَرْضِ» ما غلظ منها، «وسَبَخِها»: ما ملح منها؛ روي عن رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم «خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منهم الأحمر، والأبيض، والأسود، وبين ذلك، والسهل، والحزن والخبيث، والطيب»(2)، وقد أشار تعالى في موضع من كتابه الكريم إلى خلقه من التراب قال: «إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ»(3)، وفي آخر(4) أشار إلى خلقه من طين وفي آخر قال: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ»(5) قال بعض العلماء، وجه الجميع؛ أن ابتداء الخلق من تراب، ثم من طين من حماء مسنون، ثم من صلصال، أما المحض المشيئة؛ أو لما فيه من دلالة الملائكة على کمال قدرته، وعجیب صنعه، لأن خَلقْ الإنسان في هذه المراتب اعجب عندهم مَن خَلّقَهُ من جنسهم؛ فكلامه عليه السلام هاهنا يجري مجرى التفسير لكلام الملك العلام، وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام؛ «تُرْبَةً سَنَّهَا»: خلصها «بِالْمَاءِ حَتَّى خَلَصَتْ»: صفت؛ «ولَاطَهَا بِالْبَلَّةِ»: خلطها

ص: 110


1- سورة الأعراف: الآية 27
2- مسند أحمد بن حنبل: ج 4 ص 400؛ سنن أبي داود لسليمان بن الأشعث السجستاني: ج 2 ص 10؛ سنن الترمذي: ج 4 ص 273؛ وأيضا السنن الكبرى لأحمد بن الحسين البيهقي: ج 9 ص 3
3- سورة آل عمران: الآية 59
4- وفي آخر: بمعنى في موضع آخر من كتاب الله قوله تعالى «الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ»: سورة السجدة: الآية 7
5- سورة الحجر: الآية 26

بالنداوة حتى لزبت: لصقت کما قال تعالى: «مِنْ طِينٍ لَازِبٍ»(1)، «فَجَبَلَ»: خلق «مِنْهَا»: التربة الموصوفة «صُورَةً ذَاتَ أَحْنَاءٍ»: اضلاع «ووُصُولٍ»: جمع كثرة الوصل، وهي: المفاصل «وأَعْضَاءٍ»: جمع عضو بالكسر والضم، کاليد والرجل، وفصول ثم استأنف بقوله: «أَجْمَدَهَا»: الصورة المذكورة أي: جعلها جماداً «حَتَّى اسْتَمْسَكَتْ»: ثبتت «وأَصْلَدَهَا»: أي جعلها صلداً وهي: الصلبة الملساء «حَتَّی صَلْصَلَتْ»: صوتت؛ فالأجماد لغاية الاستملاك راجع إلى بعضها كاللحم، والأعصاب، والعروق، وأشباهها، والأصلاد لغایته راجع إلى بعض آخر کالعظم، والسن، وأسند ذلك إلى المدبّر الحكيم؛ لأنه العلة الأولى، وأن كان هناك لهذه الآثار أسباب قريبة طبيعية؛ كالبخار الغريزي؛ فأنه المستعد لتحريك المواد؛ کالرطوبة فأنها هي التي يتشكل ويتبعها اليبوسة لحفظ الأشكال، وأفاده التماسك لِوَقْتٍ مَعْدُودٍ وأَمَدٍ مَعْلُومٍ»: أي لكل مرتبة من مراتب ترکیب بدن الإنسان، وانتقاله في ادوار الخلقة، وقت معدود يقع فيه، وأجل معلوم يتم به؛ أو المراد الوقت التي يعلم الله سبحانه وتعالى انحلال هذا التركيب فيه؛ كما قال جل وعلا: «وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ»(2)، ثُمَّ «نَفَخَ فِيهَا مِنْ رُوحِه»: قال عزّ من قائل: «فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي»(3) ويحتمل أن يراد به احد ثلاثة معان:

الأولى: جبرئیل علیه السلام هو الروح الأمين، ونسبته إليه ظاهرة، وأما نسبته النفخ إلى الله حينئذٍ؛ فلكونه العلة الأول، وجبريل واسطة جعله الله تعالى مبدأ نفخ النفس في صورة آدم منه.

ص: 111


1- سورة الصافات: الآية 11
2- سورة هود: الآية 104
3- سورة الحجر: الآية 29

الثاني: جود الله وفيضه الصادر على آدم وغيره، وإنما كان ذلك روحاً؛ لأنه مبدأ كل حياة؛ فهو الروح الكلية التي بها قوام كل وجود ونسبته إليه ظاهرة، أيضاً، ويكون منْ هاهنا للتبعيض.

الثالث: أن يراد بالروح النفس الإنساني، ويكون من زائدة، وإنما نسب إليه دون سائر مصنوعاته اللطيفة؛ لأن الروح منزه عن المكان، وفيه قوته العلم بالأشياء والاطلاع عليها، وهذه مضاهاة بوجه ما؛ مع العلة ليست حاصلة لما عدا هذا الجوهر؛ مما هو: جسم أو جسماني؛ فلذلك شرفها بإضافتها إليه، هذا واعلم أن النفخ هاهنا استعارة حسنة؛ لأن له صورة، وهو اخراج الهواء من فم النافخ إلى المنفوخ فيه؛ ليشتعل فيه النار، وهذا ممتنع في حق الله فوجب العدول إلى حمله على ما يشبهه، ولما كان اشتعال نور النفس في فتيلة البدن عن الجود الإلهي؛ المعطي لكل قابل ما يستحقه؛ يشبه بحسب محاكاة خيالنا ما يشاهد من اشتعال النار في محل القابل لهاعن صورة النفخ؛ لأجرم حسن التجوز والتعبير بالنفخ عن إضافة الجود الإلهي؛ النفس على البدن؛ لمكان المشابهة المتخيلة، وأن كان الأمر أجل مما عندنا.

«فَمَثُلَتْ»: انتصب الصورة المجعولة عطف على نفخ، وفيه لطيف، وهي: أنما أنها كانت إنسانا بنفخ الروح فيها «إِنْسَاناً»: حال «ذَا أَذْهَانٍ»: يطلق الذهن لغة على الفطنة والحفظ، واصطلاحاً على القوى المدركة من العقل والحسن الباطن؛ يُجِيلُهَا»: يديرها في انتزاع الصور الجزئية؛ كما للحس المشترك؛ أو المعاني الجزئية والمستغن به کما للوهم؛ «وفِکَرٍ»: جمع فكرة «يَتَصَرَّفُ بِهَا»: إشارة إلى القوى المفكرة في أحاد النوع الإنساني، ونصرفها في تفتيش الخزانتين، وتركيب بعض مودعاتها ببعض، وتحليلها «وجَوارِحَ يَخْتَدِمُهَا»: عبارة عن عامة الأعصاب المبنية

ص: 112

أنها كلها خدم النفس، «وأَدَوَاتٍ»: جمع اداة «یُقَلِّبُهَا»: يشبه أن يختص بالأيدي كقوله تعالى: «فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا»(1) ويمكن أن يكون أعم من ذلك کالبصر، والقلب كقوله عليه السلام يا «مقلب القلوب والأبصار»(2) لصدق التقليب عليها، «ومَعْرِفَةٍ يَفْرُقُ هَا بَیْنَ الْحَقِّ والْبَاطِلِ، والْمَشَامِّ»: جمع مشيم أي مايذاق ويشمّ والألوان؛ أعلم أنه عليه السلام؛ بعد أن أشار إلى الحواس الباطنة اشار إلى الحواس الظاهرة، ونبه هاهنا على ثلاثة أمور: آلة الذوق وهي: قوة مرتبه في العصب المفروش على سطح اللسان؛ بها يدرك الطعام من الأجرام للماسة المخالطة للرطوبة العذبة التي في الفم.

وآلة الشمّ وهي: قوة منبثة في زايد مقدم الدماغ الشبيهتين بحلمتي الثدي، بها يدرك الروائح بتوسط المنفصل عن ذي الرائحة، وآلة البصر قوة مرتبة في العصبتين المجوفتين يدرك ما ينطبع في الرطوبة الجليدية من الصور؛ بتوسط جرم شفاف، وله أيضاً قوتان آخریتان؛ اللمس وهو: قوة منبثة في جلد البدن كله، يدرك ما یماسه ويوثر فيه بالمضادة كالكيفيات الأربع ونحوه، والسمع وهو قوة في العصب المفروش في باطن الصماخ بها يدرك الأصوات والحروف بتوسّط الهواء، والدليل على كونها في المحال المذكورة هو: أن الآفة فيها توجب الآفة في تلك القوى، وآخر قوله: «والأَلْوَانِ والأَجْنَاسِ»: تنبيهاً على أن النفس ينتزع

ص: 113


1- سورة الكهف: آية: 42
2- وردت هذه العبارة من الدعاء في مختلف الأدعية وعن لسان كثير من الأئمة صلوات الله تعالى عليهم أجمعين، ولم يذكر المصنف لمن القول؛ ولعله ما روي عن أبي حمزة الثمالي قال: «سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: في قنوت يوم الجمعة كلمات الفرج؛ ثم يقول یا الله الذي ليس كمثله شيء؛ حتى يصل إلى عبارة: (مقلب القلوب والأبصار) ثبت قلبي على دينك وطاعتك، ودین رسولك... إلى أخر الدعاء»؛ يُنظر جمال الأسبوع للسيد أبن طاووس: ص 256

الأمور الكلية من تصفح الجزئيات؛ فأن الأجناس أمور كلية، والنفس بعد إدراك الجزئيات وتصفحها تنبّه المشاركات بينها ومباينات؛ فينتزع منها تصورات غير جزئية، وتصديقات كليّة، وكأنه عنى بالأجناس هاهناء الأمور الكلية مطلقاً لا بعضها؛ كما في الاصطلاح «العلمي مَعْجُوناً»: أما صفة إنساناً أو حال عنه أي محرراً، «بِطِينَةِ الأَلْوَان الْمُخْتَلِفَةِ»: بأصل الألوان المختلفة؛ أشارة إلى أن اختلاف أبدان النوع بعضها مع بعض بالألوان؛ بحسب قوة استعداداتها؛ كذلك ما قال صلى الله عليه [وآله] وسلم: «فجاء منهم الأبيض» الحديث(1)، وكذلك الحال في البدن الواحد؛ فأنّ انشراح بعض الأعضاء يقتضي أن يكون أبيض؛ كالعظام، والأسنان، وبعضها احمر كالدم، وبعضها اسود کالحدقة والشعر، والأشباه، «والأَشْبَاه الْمُؤْتَلِفَةِ»: كالعظام وأشباهها فأنها أجسام متشابهة يلتف بعضها مع بعض، وبها قامت الصورة البدنية، «والأضداد المتعادية والأَخْاَطِ الْمُتَبَايِنَةِ مِنَ

الْحَرِّ والْبَرْدِ، والْبَلَّةِ» الرطوبة «والْجُمُودِ» اليبس عبر عنه بلازمه والمساءة الغم هما من الكيفيات النفسانية، وهذه بيان الأضداد المتعادية، وأما الأخلاط المتباينة فهي الدم والبلغم والصفراء والسوداء، ومقصودة عليه السلام، البينة على أن طبيعة الإنسان فيها قوة قبول واستعداد لهذه الكيفيات، وأمثالها وتلك القوة هي المراد والاستعداد بطينة المساءة والسرور، والفرق بينها وبين الاستعداد أنها تكون على ضدين، والاستعداد لا يكون إلا لأحدهما، «واسْتَأْدَى الله سُبْحَانَه الْمَلَائِكَةَ»: طلب الأداء منهم، ودیعته لديهم حيث قال «فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ

ص: 114


1- الحديث هو: عن قسامة بن زهير عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وآله قال: «إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض فجاء منهم الأبيض والأحمر والأسود وبين ذلك. والخبيث والطيب والسهل والحزن وبين ذلك»؛ يَنظر البداية والنهاية لابن كثير: ج 1 ص 95، قصص الأنبياء كذلك لابن كثير: ج ص 39

فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ»(1) فكان تعالى قد عهد إليهم بهذا القول أوصاهم بمقتضاه، ثم أراد أن يستأدهم «وَدِيعَتَه لَدَيْهِمْ، وعَهْدَ وَصِيَّتِه إِلَيْهِمْ فِي الإِذْعَانِ»: الانقياد «بِالسُّجُودِ» له «والْخُنُوعِ: الخشوع «لِتَكْرِمَتِه»، فَقَالَ سُبْحَانَه «اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ»(2) و قبیله جنده لقوله جل شأنه «فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إلَّا إِبْلِیسَ»(3) فيه ثلاثة أقوال: أحدها أن السجود لله، وكان آدم کالقبلة فقال: عبارات شتی سجدوا لآدم، سجدوا للقبلة قال حسان(4):

ما كنت أحسب أنّ الأمر منصرف *** من هاشم ثم منها عن أبي حسن

أليس أول من صلى لقبلتكم *** واعرف الناس والآيات بالسنن(5)

والآيات؛ الثاني: أنه كان تعظيماً له، وتحية كالسلام منهم عليه، وكان هكذا أداب السلف، وهذا يوافق قوله عليه السلام، روّي عن صهيب أنّ معاذاً سجد

ص: 115


1- سورة الحجر: الآية 29
2- سورة طه: الآية 116
3- سورة الحجر: الآية 30
4- هو حسان بن ثابت: یکنی أبا الوليد الأنصاري الخزرجي؛ شاعر رسول الله صلى الله عليه وآله، وهو من فحول الشعراء، قال أبو عبيدة: اجتمعت العرب على أن أشعر أهل المدر حسان بن ثابت، روى عنه عمر وأبو هريرة وعائشة، ومات قبل الأربعين في خلافة علي (علیه السلام)، وقيل: سنة خمسين وله مائة وعشرون سنة، عاش منها ستين سنة في الجاهلية وستين في الإسلام؛ يُنظر: الإكمال في أسماء الرجال للخطيب التبريزي: ص 46
5- البيتين لحسان بن ثابت في مدح الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام؛ يُنظر: الاستیعاب لابن عبد البر: ج 3، ص 1133؛ تفسير المحيط الأعظم للسيد حيدر الآملي: ص 269؛ تفسير الرازي: ج 2 ص 212؛ أسد الغابة لابن الأثير: ج 4 ص 40. وفي المصدر المذكور أعلاه ورد: (وأعرف الناس بالآثار والسنن) وليس بالسنن والآيات. ولعل التقديم والتأخير إسهاب من المصنف رحمه الله تعالى

للنبي فقال: ما هذا؟ فقال: رأيت اليهود يسجدوا لعظمائها، والنصارى لقسيسها، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: تحية الأنبياء، فقال صلى الله عليه [وآله] وسلم: «كذبوا على انبيائهم»(1) الثالث: أن السجود هو: الانقياد قال تعالى: «وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ»(2) وقال الشاعر(3):

تُرى الاكم فيها سجداً للحوافر(4) أختلف العلماء في الملائكة المأمورين بالسجود قال: بعضهم هم الذين أهبطوا مع إبليس إلى الأرض يسمون بالجن، رأسهم إبليس وكانوا أخف الملائكة عبادة، فأعُجِبَ إبليس بنفسه، وتداخله الكِبرْ فاطلع الله عز وجل على ما انطوى عليه فقال له ولجنده «إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ» الآية(5)، وقال بعضهم: كل الملائكة بدليل قوله تعالى «فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ»(6) وظاهر كلامه عليه السلام يؤيد هذا الكلام، واستثناء إبليس يدل على أنه من الملائكة، وهذا أيضاً مختلف فيه(7)؛ كما في سبب عداوته لآدم عليه السلام فقال قوم: أنه الحسد، وقال

ص: 116


1- السنن الكبرى للبهيقي: ج 7 ص 293؛ مسند بن أبي أوفي ليحیی بن محمد بن صاعد البغدادي في: ص 96؛ تفسير الرازي لفخر الدين الرازي: ج 2 ص 212؛ الكامل لعبد الله بن عدي الجرجاني: ج 4: ص 316
2- سورة الرحمن: الآية 6
3- الشاعر: هو زيد الخيل
4- مابين معقوفين هو: شطر من بيت الشاعر: زيد الخيل وأول البيت هو: بجمع تظل البلق في حجراته... ترى الأكم فيه سجداً للحوافر، والمعنى: أراد أن الأكم الصلاب في الأرض لا تمتنع في هدم حوافر الخيل لها، وانخفاضها بعد الارتفاع والتذلل بالاختيار والاضطرار؛ یُنظر تصحيح اعتقادات الإمامية للشيخ المفيد: هامش ص 84؛ فرحة الغري للسيد عبد الكريم بن طاووس: ص 116؛ التبيان في تفسير القرآن: للشيخ الطوسي ج 1 ص 148
5- سورة ص: الآيات: 71 - 72
6- سورة الحجر: الآية 30
7- لا اختلاف في هذا إلا عند من وقع في شبهة أن إبليس من الملائكة، وقد سُأل الإمام موسی بن جعفر الكاظم عليه السلام عن إبليس وذريته فقال: «نعم ألم تسمع إلى قول الله «إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا * ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا» الآيتان من سورة الكهف 49 - 50؛ أوائل المقالات للشيخ المفيد: ص 133

آخرون هو تباین اصلهما، وله اثر قوي في تنافر الفرعين، ومنشأ القياس الفاسد من إبليس حين أُمرَ بالسجود «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ»(1) وإلى هذا أشار عليه التحية بقوله: «اعْتَرَتْه الْحَمِيَّةُ، وغَلَبَتْ عَلَيْه الشِّقْوَةُ، وتَعَزَّزَ بِخِلْقَةِ النَّارِ»: اعترتهم الحمية أي اظهروا العزة بها، «واسْتَوْهَنَوا» استضعفوا «خَلْقَ الصَّلْصَالِ» الطين اليابس أو المتبن، كأنه قال: اصل آدم من صلصال من حماء مسنون في غاية الدناءة، واصلي من اشرف العناصر، وإذا كان كذلك وجب أن أكون أشرف منه، والأشرف يقبح أن يؤمر بسجود الأدون؛ قالوا أول من قاس إبليس عليه اللعنة، فأشار تعالى إلى جوابه «اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا»(2) «فَأَعْطَاه الله النَّظِرَةَ»: الإمهال «اسْتِحْقَاقاً لِلسُّخْطَةِ»: أي ليستوجب بفعله الغضب، واللام للعاقبة كما قال تعالى إلى جواب «إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا»(3) احتجت الأشعرية(4) بأنظاره على أرادة خلق كفر الكفار، لأنه عالم

ص: 117


1- سورة الأعراف: الآية 12
2- سورة الأعراف: الآية 18
3- سورة آل عمران: الآية 178
4- الأشعرية هم: الأشاعرة وهم الذين يشتركون مع المعتزلة في أصول المذهب الواحد، کالالتزام بمنهج الخلافة على طريقة العامة، دون الإمامة بالنص، ولو كان مجرد الالتقاء بين المذهبين في شيء من الآراء، والأفكار، والنظريات دليلاً على أخذ أحدهما من الآخر، أو اتحادهما في الفكر والنظر؛ الحكايات للشيخ المفيد: ص 180، وكذلك شرح منهاج الكرامة في معرفة الإمامة للسيد علي الميلاني: ص 183

بأن قصده إغواء بني آدم، ولو اهلکه لاستراحوا، وأجابت المعتزلة(1) بأن الله سبحانه خلق آدم وذريته قادرين على دفعه عن أنفسهم، فهم الذين اختاروا الكفر والفساد، أقصى ما في الباب أن يقال: الاحتراز عن الكفر حال عدمهم أسهل منه زمن وجوده؛ إلا أن على هذا التقدير يصير وسوسة سببا لزيادة المشقة في أداء الطاعات فيزداد المكلف بتكليفها ثوابا، کمال قال عليه السلام: «أفضل الأعمال أحزمها»(2) أي اشتها وذلك لا يمنع الحكيم من فعله وهذا الوجه قريب من قوله عليه السلام، «واسْتِتْمَاماً لِلْبَلِيَّةِ»: الامتحان «وإِنْجَازاً لِلْعِدَةِ فَقَالَ»: «قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ»(3) «ثُمَّ أَسْكَنَ سُبْحَانَه آدَمَ دَاراً أَرْغَدَ»: أوسع «فِيهَا عَيْشَه آدم وآمَنَ فِيهَا مَحَلَّتَه موضعه من»: المكروه «وحَذَّرَه إِبْلِيسَ وعَدَاوَتَه فَاغْتَرَّه»: استغفله وطلب الغرة منه أي: استغفله «عَدُوُّه نَفَاسَةً»: حسداً «عَلَيْه بِدَارِ الْمَقَامِ»: جنة الخلد «ومُرَافَقَةِ الأَبْرَارِ»: الملائكة في مقعد صدق عند مليك مقتدر، «فَبَاعَ الْيَقِينَ بِشَكِّه» توضيحه: أن معیشة آدم کانت في الجنة على حال يعلمها يقيناً، وما كان يعلم كيف معاشه في الدنيا؛ إذا أنتقل إليها، ولا حاله بعد مفارقة الجنة، ثم أن إبليس شككه في صدق مقاله «إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ»(4)، فنسي ما كان عنده يقينا مما هو فيه من الخير الدائم، وشك في نصح

ص: 118


1- المعتزلة هم: أصحاب العدل والتوحيد، ويسمون ويلقبون بالقدرية، والعدلية، وهم قد جعلوا لفظ القدرية مشتركاً، وقالوا لفظ القدرية يطلق على من يقول بالقدر خيره وشره من الله تعالى احترازا من وصمة اللقب؛ إذ كان الذم به متفقاً عليه لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «القدرية مجوس هذه الأمة»؛ الملل والنحل للشهرستاني: ج 1، ص 85
2- المبسوط للسرخسي: ج 1 ص 25؛ بدائع الصنائع للكاشاني: ج 2 ص 79؛ عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي: ج 1: هامش ص 319؛ عمدة القاري للعييني: ج 5: ص 169 باختلاف يسير
3- سورة الحجر: الآية 38
4- سورة الأعراف: الآية 21

إبليس؛ فكانه باع اليقين بالشك بمتابعته، وهي: استعارة حسنة على سبيل الكناية، أو يقال لما أخبره تعالى عن عداوة إبليس له يتعين ذلك، فلما وسوس له شك في نصحه فكأنه باع يقين عداوته بالشك؛ وعندي احتمال آخر وهو: أن هذا مثل قديم للعرب لمن عمل عملاً لا فائدة فيه، وترك ما ينبغي له أن يفعله، فتمثل به أمير المؤمنين عليه السلام هيهنا، ولم يرد أن آدم عليه السلام شك في أمر الله «والغريمة توهنه»: مراده أنه لم يكن له قوة على حفظ أوامر الله؛ فكأنه باع العزم الذي كان ينبغي له، والقوة التي كان ينبغي أن يتحفظ بها عن متابعته بالضعف والوهن عن تحمل ما أمر الله به، «واستبدل بالجدل»: السرور «وبالأغترار ندماً ثم بسط الله له وجلاً»: خوفاً اذن له «في توبته»: ندمه ولقاه كلمة رحمته: أي علمه، وفي أنها ما هي أقوال: الأول: قوله «یا رب ألم تخلقني بيدك؟ ألم تسكني جنتك؟ ألم تسبق رحمتك غضبك؟ أن تبت وأصلحت أيردني إلى الجنة؟»(1)؛ الثاني: كلمات الحج(2) الثالث «رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ»(3) الرابع: «لا اله إلا انت سبحانك وبحمدك علمت سوء وظلمت نفسي فارحمني أنك خير الغافرين(4)؛ لا إله إلا انت سبحانك وبحمدك

ص: 119


1- ينظر المستدرك للحاكم النيسابوري: ج 2 ص 545؛ وتفسير المحيط الأعظم للسيد حيدر الآملي باختلاف يسير؛ والمحرر الوجيز لابن عطية الأندلسي: ص 130
2- کلمات الحج: الظاهر أن كلمات الحج: هي كلمات التلبية الأربع: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك: کما ذكرها الشيخ الصدوق في الهداية: ص 220؛ والشيخ المفيد في المقنعة: ص 104؛ ومصادر كثيرة ذكرت هذه التلبية وقد تركت ذکرها رعاية للاختصار
3- سورة الأعراف: الآية 23
4- تفسير الإمام الحسن العسكري عليه السلام: ص 391؛ وشعب الإيمان لأحمد بن الحسين البيهقي: ج 5: ص 434؛ وتفسير الرازي: ج 3 ص 19؛ وجامع أحكام القرآن: للقرطبي: ج 1 ص 324

عملت سوءاً وظلمت نفسي فارحمني أنك أنت أرحم الراحمين»(1)؛ الخامس: «اللهم انك تعلم سري وعلانيتي؛ فاقبل معذرتي، وتعلم حاجتي، فأعطني سؤلي، وتعلم ما في نفسي؛ فاغفر لي ذنوبي؛ اللهم اني أسئلك إيمانا تباشر به قلبي، ويقيناً صادقاً حتى أعلم أنه لن يصبني إلا ما كتبت لي وارضني بما قسمت لي»(2) وفي هذه الأذكار فوائد جمة؛ ذُكرت في موضعها، وفيه إشارة إلى أن مغفرة المغفرة إنما يقال بقِدم الندم في ميدان الامتحان، وتجب التوبة؛ لأنها مرضاة للرحمن مسخطه للشيطان؛ مفتحة لأبواب الجنان؛ معدة لإشراق شموس المعارف الإلهية على الواح النفوس، مبشراً له للمواهب الربانية من الملك القدوس، «ووعده المرد إلى جنته فاهبطهُ»: أنزله فيه تقديم، وتأخير لأن الحباط عقيب الزلة، واستبدال الجدل بالوجل بعد الأهباط من الجنة «إلى دار البلية»: الدار الدنيا؛ إذ هي: دار المحنة والابتلاء بمقاساة إبليس و مجاهدته، وسجن الصالحين كما قال: عليه الصلاة والسلام: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر»(3) وأعلم أن في ذكر هذه القصة تحذيراً عظيماً عن المعاصي وذلك من وجوه:

أحدها أن من تصور ما جرى على آدم بسبب أقدامة على هذه الزلة كان على وجل شديد من المعاصي قال:

ص: 120


1- مصباح المتهجد للشيخ الطوسي: ص 112؛ والكافي للشيخ الكليني: ج 8، ص 305؛ تحف العقول عن آل الرسول لابن شعبة الحراني: ص 11
2- مصباح المتهجد للشيخ الطوسي: ص 234؛ والكافي للشيخ الكليني: ج 2: ص 524؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر الدمشقي: ج 7 ص 31
3- المؤمن لحسين بن سعيد الكوفي: ص 26؛ وفقه الرضا لعلي بن بابويه القمي: ص 339؛ وأيضا الدعوات (سلوة الحزين): لقطب الدين الراوندي في: ص 281؛ والكافي للشيخ الكليني: ج 2 ص 250

یا ناظراً نوراً بعيني راقد *** ومشاهداً للأمر غیر مشاهد

تصل الذنب إلى الذنوب *** وترجي درك الجنان ونيل فوز العابد

انسيت أن الله أخرج آدماً *** منها إلى الدنيا بذنب واحد(1)

وثانيها: التحذير عن الاستكبار والحسد، وثالثها: أن بين العداوة الشديدة بين ذرية آدم وابليس، وهذا تنبيه عظيم على وجوب الحذر وبالله التوفيق.

هذا وافهم أن جمهور أرباب التفسير، وأصحاب الكلام؛ حملوا هذه القضية على ما يتبادر إلى الأفهام، وبعض الأذكياء سلط التأويل عليها؛ فحمل آدم على مطلق النوع الإنساني، واسنا بها بالماء على أصل امتزاج العناصر قال: وتخصيص هذين العنصرين دون الباقين؛ لأنّهما الأصل في تكون الأعضاء المشاهدة؛ التي تدور عليها صورة الإنسان المحسوسة، والحَزَنَ(2) وما بعده على الأجزاء المستعدة؛ بالتركيب لقبول الأمزجة المختلفة، والخلوص، واللزوب على بلوغها في الاستعداد، الغاية التي معها يعاض صورة ما يتكون منها، والحبل وما يتعلق به على خلق الصورة الإنسانية، وافاضتها بكمال أعضائها، ومفاصلها، والمعرفة على القوة الاستعدادية الأولى للإنسان؛ المسماة عقلاً هيولانياً، والملائكة على القوى البدنية التي أمرت بالخضوع والخنوع لتكرمه النفس العاقلة، والانقياد تحت حكمها: وهو الأمر الذي لأجله خلقوا، والوصية على طلب المأمورية به أولاً من الانقياد من تلك القوى بعد الوجود، واسجدوا على القوى الطبيعية المطيعة لنفوسها العاقلة، في اشخاص عند الله تعالى الصالحين، وابليس وقبيله على الوهم،

ص: 121


1- للشاعر محمود بن الحسن الوراق؛ يُنظر: كنز الفوائد لابي الفتح الكراكجي: ص 159 وتفسير الرازي: ج 3 ص 18؛ وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر الدمشقي: ج 13 ص 460
2- الحَزَنَ: من الأرض والدواب: ما فيه خشونة: ينظر: العين للخليل الفراهيدي: ص 161

وسائر القوى التابعة لهم، في معارضة العقل؛ في اشخاص الكفار، والفاسقين عن أوامر الله تعالى، وأعثرهم إلى آخره على خلاصة ما قيل، من أن الأرواح الحاملة لهذه القوى أحسام لطيفة، تتكون عن لطافة الأخلاط، وهي: حارة جداً ومائلة إلى أفراط النارية، والهوائية عليها أغلب، وهي: كالأبدان لهذه القوى، فلذلك نُسب إبليس إلى النار لأنها الطف العناصر وهذه القوى وأرواحها الطف الأمور الجسمانية، وتكونها عن ألَّطفْ الأخلاط، فنسبتها إلى النار أولى من سائر العناصر؛ لمكان المشابهة في اللطافة، فجاز أن يطلق على أصلها النار؛ تجوَّزاً لأن الوهم لا يدرك إلا المعاني الجزئية المتعلقة بالمحسوس، فلا يصدق حكمه، ومساعدته، إلا فيما كان محسوساً، والنفس مجرد، كأن إبليس الوهم، على أن الإنسان هذا البدن المكون عن الطين؛ إذا ثبت ذلك فيقال: العادة جارية بأن يأنف من الأصل الناقص ويتعزز من الأصل الشريف، والانتساب إليه، فكان لسان حال إبليس والقوى المتابعة له، يقول على جهة الاستنكار والاستكبار «لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ»(1) ولما كان الوهم باقياً في البدن هو وجنوده إلى يوم البعث الأول، وهو مفارقة النفوس لأبدانها وانبعاثها إلى عالمها؛ حسن من لسان الحكمة الإلهية أن يقول «قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ»(2) وذلك معنى: إعطائه النظرة؛ ثم أن إفساد الوهم، وابتلاء الخلق به والشر الصادر عنه أمور داخلة تحت القضاء الإلهي بالعرض فصدق عليه أنه مراد، وأنّ الأنظار والإمهال له، وكذا استحقاق السخطة وإبحار العدة وإطلاقها استعارة يظهر بأدنی تأمل قال: والعدة تعود إلى قضاء الحكمة الإلهية بقضاء الوهم إلى يوم البعث، وانحيازها إلى موافقة القدر لذلك القضاء، وأشار بالدار مع

ص: 122


1- سورة الحجر: الآية 33
2- سورة الحجر الآية 38

الصفة المذكورة؛ إلى إن الإنسان من أول زمان فيضان القوة العاقلة عليه؛ إلى حين استرجاعها؛ ما دام مراعياً لا وأمر الحق سبحانه؛ غير منحرف عن فطرته الأصلية، ولا مُعرض عن عبادته؛ فأنه في الجنة وأن كانت على مراتب كما قال عز وجل «لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ»(1) ولذلك قال صلى الله عليه [وآله] «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه»(2) أذ كانت نفسه في يد الحال غير مدنسة لشيء من الاعتقادات الفاسدة، والهيئات الردية، وأن كانت المرتبة السامية، والغرفة العالية، إنما تنال بعد المفارقة، واستصحاب النفس لأكمل زاد، وإرغاد العيش يعود إلى انتهاجه بالمعقولات والمعارف الكلية، وأمان المَحَلَّةِ، أمان مكانه في الجنة، أن يعترض له خوف أو حزن مادام فيها، وأما تحذيره من ابليس وعداوته فظاهر من الأوامر الشرعية ولسان الوحي أطلق به كما قال تعالى «إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ»(3) ووجه العداوة ظاهر لأن نظام أمر الروح لا يتم إلا بقهر الوهم، والقوى البدنية عن مقتضيات طباعها، وتمام مطالب القوى لا تحصل إلا بانقهار النفس؛ فكان بينهما مجاذبة طبيعية وعداوة اصليّة، والأغترار: أنقياد النفس لحديث الوهم، والقوى البدنية التي هي الشياطين عن الوجهة المقصودة، أعني عبادة الحق سبحانه، وقوله: نفاسة عليه، ترشيح، لأن ذلك الحدث عن صورة المعادة ومن لوازمها النفاسة على العد و بكل ما يعد كمالاً له، لأجرم حسن إطلاق النفاسة هاهنا ترشيحاً لاستعارة العداوة، واعلم أن الأمور الموعود من متاع الآخرة، وما اعده الله تعالى لعباده الصالحين، أمور خفيت حقائقها على

ص: 123


1- سورة الزمر الآية 20
2- ينظر الخلاف للشيخ الطوسي: ج 3 ص 591؛ والكافي للشيخ الكليني: ج 2 ص 13؛ والتوحيد للشيخ الصدوق: ص 330؛ وتصحيح اعتقادات الإمامية للشيخ المفيد: هامش ص 61
3- سورة طه: الآية 117

أكثر البصائر البشرية، وإنما الغاية تشويقهم إليها، أن تمثل لهم بما هو مشاهد لهم، اللذات البدنية الحاضرة فترى كثيراً منهم لا يخطر بباله أن يكون في الجنة أمر زايد على هذه اللذات فيجتهد في تحصيلها، ثم أن صدّقَ بها في الجملة تصديقاً للوعد الكريم، فأنه لا يتصور كثير تفاوت بين الموعود به والحاضر، بحيث يرجح ذلك التفاوت عند تركه لما وعد به، بل يكون ميل طبعه إلى الحاضر، وتوهم كونه أنفع، واغلب عليه أن تيقن بأصل عقله أن الأولى به والأنفع له هو متاع الآخرة. فتارة يطري على اليقين نسيان، بسبب الاشتغال باللذات الحاضرة والانهماك فيها، وذلك معنى قوله تعالى «فَنَسِيَ»(1) وتارة لا تحصل الغفلة الكليّة؛ بل يكون الوهم المذكور قوياً فيعارض ذلك اليقين بحيث يوجب مقابلته شبهة وشكاً، وهذا معنى قوله عليه السلام: «فَبَاعَ الْيَقِینَ بِشَكِّه»(2) فتدبر.

ومعنى جملة (أستبدل ظاهراً) فأن المقبل بوجهه على عبادة الحق المستشرف لأنوار كبريائه المعرض عما سواه أبداً سرور متبهج؛ فإذا أعرض عما يوجب السرور والتفت إلى خسائس الأمور بسبب شيطان قاده إليها وزينها بعينه، فأنكشف عنه ستر الله وبدت سوءته للناظرين؛ بعين العاقبة من عباد الله الصالحين؛ ثم أُخذت بصبغة العناية الإلهية، وتداركته الرحمة الربانية؛ فأنتبه من رقده الغافلين في مراقد الطبيعة؛ فرأى السلاسل والأغلال قد أحاطت به، وشاهد الجحيم مسعرة عن جنبتي الصراط المستقيم، وتذكر قوله «قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ

ص: 124


1- سورة طه: الآية 115
2- يُنظر نهج البلاغة: ص 43؛ الخطبة 1

الْقِيَامَةِ أَعْمَى * فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى»(1) فلابد وأن يصبح وجلاً قلقاً؛ يقلب كفيه حسرة وندماً وجلاً، بما لحقه الله من سخط الله ندماً على ما فرط في جنب الله، وقوله عليه السلام: ثم بسط الله: اشاره إلى أن الجود الإلهي لا بخل فيه، ولا منع من جهته، وإنما النقصان من جهة القابل(2)، وعدم استعداده، فإذا استعدت لتدارك رحمة الله، وجذبتها العناية الإلهية من ورطات الهلاك الأبدي؛ فأيدتها بالمعونة على إبليس وجنوده، ونصرتها بمفاتح أفعاله، وما يدعو إليه؛ فأخذت في مقاومته والترصد لدفع مکایده، فذلك معنی (بتوبتها) وأما كلمة رحمة الله التي لقاها آدم فيعود إلى السَّوانح الإلهية(3) التي تسح للعبد فيكون سبباً لجذبه عن مهاوي الهلاك، وتوجيهه عن الخبيثة السافلة إلى القبلة الحقيقية وامداده بالملائكة حالاً فحالاٍ، ورفعةً في مدارج الجلال التي هي درجات الجنة، ووعده وما بعده إشارة إلى وعد القضاء الإلهي الناطق عنه لسان الوحي الكريم «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ»(4) وكذا سائر أنواع وعد التائبين وبالله

ص: 125


1- سورة طه: الآية 123 - 124
2- من جهة القابل: بمعنی من جهة المخلوق، أو نقول من جهة المتلقي
3- السوانح الإلهية: جمع سانح، وهي: بمعنی تصیُّد والتقاط الفيوضات الإلهية من الإلهامات وغيرها، وهي أشبه بإقتناص الصيد من الطير وغيره، وقال الطريحي في مجمع البحرین (الرياضة في ثلاث: 1 - حذف كل محبوب و مرغوب، وهو حذف الموانع الخارجية، 2 - تطويع النفس الأمّارة للنفس المطمئنّة فينجذب التخيل والتوهيم عن الجانب السفلي إلى العلوي وتتبعها سائر القوى فتزول الدواعي الحيوانية وهي حذف الموانع الداخلية، 3 - توجيه السر إلى الجنة العالية لتلقي السوانح الإلهية واقتناصها)، ج 4 ص 211؛ والمعنى أن السوانح الإلهية هي ما يأتيك من فيضه وإلهامه
4- سورة التحريم: الآية 8

العصمة، ولما فرغ عما فرغ أراد أن يلطم وجوه نفوس منكري الإرسال بكف المقال فقال: «واصطفى سبحانه»: اختار «من ولده آدم أنبياء»: أُناساً بعثهم الله لتبليغ ما أوحى إليهم لطفاً منه ورحمة للعالمين، لما فيها من حِكَم ومصالح لا تحصى، ومن جملة أحوالهم، «أنه قد أخذ على الوحي ميثاقهم»: عهدهم «وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم»: وهو حكم الحكمة الإلهية عليهم بالقوة؛ على ما كلفوا به من ضبط الوحي في ألواح قواسم وجذب سائر النفوس الناقصة إلى جناب عزّته، ولما كانت صورته في العرف أن يوعز إلى الإنسان بأمر ويؤكد عليه القيام به، بالأيمان وأشهاد الحق سبحانه، وكان الحكم الإلهي جارياً بإرسال النفوس الإنسانية إلى هذا العالم؛ ليظهر ما في القوة من الكمال والتكميل إلى الفعل، ولا يتم إلا بوسط بعضها للبعض، فالوجه الذي بعث عليه يكون مشبهاً للعهد والميثاق المأخوذ، والأمانة الموِدعة، فحسن أطلاق هذه الألفاظ على سبيل الاستعارة، وللاهتمام بالتالي قدمه على المقدم وأخره فقال «لما بدّل»: غير «اكثر خلقه عهد الله اليهم»: المشار إليه بقوله: جل وعلا «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ» الآیة(1) قال: بن عباس لما خلق الله تعالى آدم مسح ظهره فأخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة.

«أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ»(2) فقال «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى»(3) فنودي يومئذ جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، وله عليه السلام في كلام آخر، بأن الذرية كانت في

ص: 126


1- سورة الأعراف: الآية 172
2- سورة الأعراف: الآية 172
3- سورة الأعراف: الآية 172

صورة إنسان على مقدار الذر، وهذا ليس بعيد عن قدرته القاهرة.

وقيل أخذ الذرية يعود إلى إحاطة اللوح المحفوظ؛ بما هو يكون من وجود النوع بأشخاصه وانتقاشه بذلك عن قلم القضاء الإلهي؛ نَزَلَ تمكين بني آدم من العلم بربوبيته بنصب الدلائل، والاستعداد فيهم، وتمكنهم من معرفتها، والأقرار بها منزلة الأشهاد، والاعتراف تمثلاً وتخييلاً، لا قول ثمة، ولا شهادة حقيقة للغفلة بحاضر لذاتهم؛ عما يستحقه من دوام الشكر، «واتَّخَذُوا الأَنْدَادَ مَعَه»: الأمثال معه لنسيانهم العهد القديم «واجْتَالَتْهُمُ»: عدلتهم «الشَّيَاطِينُ عَنْ مَعْرِفَتِه»: التي هي تثمر بالجنة، «واقْتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبَادَتِه»: التي هي المرقاة إلى اقتطاف تلك الثمرة «فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَه، ووَاتَرَ»: أرسل وتراً بعد وتر «إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَه لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِه»: أي ليبعثهم على أداء ما خلقوا لأجله، وفُطِرُوا عليه من الإقرار بالعبودية لله، ويجذبوهم عما التقوا إليه من اتباع الشهوات الباطلة، واقتناء اللذات الواهية الزائلة، وذلك البعث والجذب؛ تارة يكون بتذكرهم نعم الله الجسيمة، وتنبيههم على شكره ما أولاهم من سنته العظيمة، وتارة تكون بالترغيب فيما عنده سبحانه مما اعدّه لأوليائه الأبرار، وإليه الإشارة بقوله، «ويَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ، ويُثِرُوا

لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ»: يعني وجوه الأدلة على وحدانية المبدع وتفرده باستحقاق العبادة، واستعمال الدفائن هاهنا استعارة حسنة؛ فأنه لما كانت جواهر العقول ونتائج الأفكار موجودة في النفوس بقوة، اشبهت الدفاين فحَسُن استعارة لفظ موجودة في النفوس لها، ولما كان الأنبياء هم الأصل في استخراج تلك الجواهر؛ بأعداد النفوس لأظهارها؛ حَسُنت إضافة إثارتها إليهم، وكذلك أرشدوهم إلى تحصيل مقدمات، وهو المراد بدفائن العقول وكنوزها؛ تلك الأدلة والبراهين وموادها المشار إليها بقوله «ويُرُوهُمْ آيَاتِ الْمَقْدِرَةِ، مِنْ سَقْفٍ فَوْقَهُمْ مَرْفُوعٍ»:

ص: 127

مشتمل على بدائع الصنع وغرائب الحكم «ومِهَادٍ»: فراش «تَحْتَهُمْ مَوْضُوعٍ»: فيه ينشرون وعليه ينصرفون، «ومَعَايِشَ تُحْيِيهِمْ»: بها یکون قوام حياتهم في الدنيا، وبلاغ لمدة بقائهم لما خلقوا له «وآجَالٍ تُفْنِيهِمْ»: بها يكون فناءهم ورجوعهم إلى ربهم «وأَوْصَابِ»: أمراض «تُهْرِمُهُمْ»: تضعف قواهم، «وأَحْدَاثٍ»: مصائب تخصيصها بذلك عرفي «تَتَابَعُ عَلَيْهِمْ»: فأن كل هذه الآثار مواد احتجاج الأنبياء على الخلق لينبهوهم بصدورها عن العزيز الجبار عز سلطانه، على أنه هو الملك المطلق الذي له الخلق والأمر، وليقرروا في أذهانهم صورة مانسوه من العهد المأخوذ عليهم، في الفطرة الأصلّية من أنه سبحانه هو الواحد الحق المنفرد باستحقاق العبادة وإلى ذلك أشار القرآن الكريم «وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ»(1) «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ»(2) «وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ»(3) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على احتجاج الخالق سبحانه على خلقه، بألسنة رسله وتراجمة وحيه وجذبهم بهذه الألطاف إلى العزة من ساحل عزته، والوصول إلى حضرة قدسه سبحانه وتعالى عما يشركون، «ولَمْ يُخْلِ الله سُبْحَانَه خَلْقَه مِنْ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ»: يجذبهم إلى جناب عزته كما قال عز شأنه «وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ»(4)، ««أَوْ كِتَابٍ مُنْزَلٍ»: يدعوهم فيه إلى عبادة ويذكرهم فيه، منسي عهده ويتلي عليهم فيه أخبار الماضين والعِبر اللاحقة للأولين، ويحتج عليهم فيه بالحجج البالغة، والدلائل القاطعة، ويوضح لهم فيه أمور نظامهم، وينبههم على

ص: 128


1- سورة الأنبياء: الآية 32
2- سورة البقرة: الآية 164
3- سورة الذاريات: الآية 48
4- سورة فاطر: الآية 24

مبدأهم ومفادهم، أو حجة لازمة؛ إشارة إلى من يقوم مقام أمر الرسول، «أوَ حُجَّة لَازِمَة»: ثابتة وهم، رُسُلٌ لَا تُقُصَّرِ بِهِمِ»: لا يعيبهم «قِلَّةُ عَدَدِهِمْ، ولَ كَثْرَةُ الْمُكَذِّبِينَ

لَهُمْ»، معناه أنهم وأن كانوا قليلي العدد بالنسبة إلى كثرة الخلق، وكان عدد المكذبين لهم كثيراً كما هو المعلوم من أن كل نبي بعث إلى أمة؛ فلابد منهم فرقة شاذة وتعانده، ويكذب مقاله؛ فأن ذلك لا يوليهم قصوراً عن أداء ما كلفوا القيام به، من حمل الخلق على ما يكرهون، مما هو مصحلة لهم في معاشهم ومعادهم، بل يقوم أحدهم وحده، ويدعو إلى طاعة باريه، ويحمل أعباء المشقة التامة في مجاهدة اعداء الدين، وينشر دعوته في اطراف الأرض يحسب العناية الأزلية والحكمة الإلهية، ويبقى آثاره محفوظة، وسنتها قائمة إلى أن يقتضي الحكمة، وجود شخص آخر منهم يقوم ذلك المقام «رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا»(1) مِنْ سَابِقٍ سُمِّيَ لَه مَنْ بَعْدَه أَوْ غَابِرٍ: أي باق عَرَّفَه مَنْ قَبْلَه: تفضيل للنبيين، ومن للتبيين، والمراد أن السابق منهم قد اطلعه الله تعالى على العلم، بوجود اللاحق بعهده فبعضهم كالمقدمة لتصديق البعض كعيسى عليه السلام قال: العليم العلام «وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ» والغابر المعّرف كمحّمد عليه الصلاة والسلام، وعَلَى ذَلِكَ:

الأسلوب نَسَلَتِ: مضت الْقُرُونُ الأمم ومَضَتِ الدُّهُورُ، وسَلَفَتِ الآبَاءُ وخَلَفَتِ

الأَبْنَاءُ إِلَی أَنْ بَعَثَ الله سُبْحَانَه مُحَمَّداً، رَسُولَ الله صَلَّى الله علَيه وَسَلّم لإِنْجَازِ عِدَتِه لَخِلْقه عَلَی ألسِنَة رسُلِهِ السَّابقينَ وَنبّوّتِهُ صلى الله عليه [وآله] وسلم وأعلم أن عليه السلام ساق هذه الخطبة من لدن آدم عليه السلام إلى أن انتهي إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما هو الترتيب الطبيعي، ذهو الغاية من طينة آدم النبوة وخاتم

ص: 129


1- سورة النساء: الآية 165

النبيين، كما نطق به القرآن الكريم «مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ»(1) ثم شرع بعد ذلك في التنبيه على كيفية اهتداء الخلق به وانتظام أمورهم في معاشهم ومعادهم بوجوده، كل ذلك استدراج لأذهان السامعين، وتمهيد لما يريد أن يقرره عليهم من مصالح دينية أو دنيوية، فأشار إلى أنه الغاية من طينة النبوة وتمام لها، بقوله: إلى أن بعث الله إلى عدته، مَأْخُوذاً عَلَى النَّبِيِّنَ مِيثَاقُه: منصوب على الحال ومحمد ذو الحال، وكذا الحال في المنصوبات بعده، والمراد بأخذ ميثاقه عليهم، ما ركز في فطرتهم من الاعتراف بحقيقة نبوته عليه السلام: حال ما كان ذلك الميثاق مأخوذاً على الأنبياء ومن عاداهم مَشْهُورَةً

سِمَاتُهُ: أمارات ظهوره بينهم كريماً شريفاً ميلاده: محل ولادته من الزمان؛ أو المكان طلع على سماء الوجود بأشرف طالع؛ حين صارت وجوه الأرض لامعة من أنوار الأزهار، واحطب اطراف اكتاف العالم بالأنوار؛ لم يخلق الله سبحانه بشراً مثله، سبحان ربي الجليل ذي المِنْ، ثم أراد عليه السلام بعد ذلك؛ أن سن فضيلة شرعه، وكيفية انتفاع الخلق به فقال: «وأَهْلُ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ»: أي والحال أن ملة أهلها يوم بعثه «مِلَلٌ متُفَرِّقَةٌ، وأَهْوَائُهمْ»: اهواء «منتشرة وطرائق»: طرائق «مُتَشَتِّتَةٌ»: متفرقة، «بَیْنَ مُشَبِّه للهِ بِخَلْقِه»: كالبقية من أصحاب الملل السابقة فأنهم وأن أثبتوا صانعاً إلا أن أذهانهم ملتفته له بكيفية بعض مصنوعاته قال عز شانه «وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ»(2) «وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ»(3) «وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا

ص: 130


1- سورة الأحزاب: الآية 40
2- سورة المائدة: الآية 18
3- سورة التوبة: الآية 30

قَالُوا»(1) أو ملحد في اسمه، كالذين عدلوا عن الحق في أسماء الله بتحريفها، عما هي عليه إلى أسماء اشتقوها لأوثانهم، وزادوا فيها ونقصوا کاشتقاقهم اللات من الله، والعُزاء من العزيز، كذا فسر أبن عباس قول الله عز وجل «وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ»(2) ومنهم من فسر الملحدين بالكاذبين في أسمائه، وعلى هذا كل من سمي الله بما لم يسم به نفسه، ولم ينطق به کتاب ولا ورد فيه أذن شرعي فهو ملحد، أي عادل عن الحق، «أَوْ مُشِیرٍ إِلَی غَیْرِه» : كالدهرية وغيرهم من عبدة الأوثان؛ فلما اقتضت العناية الإلهية بعثته توجّه بتيجان النبوة؛ فقام بالدعوة إلى سبيل ربه الحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي احسن؛ فهداهم به من الضلالة وانقذهم بمكانه ورتبته من الجهالة، فجلا الله بنوره صدا قلوب الخلق، وهوان باطل الشيطان بما جاء به من الحق والصدق؛ حتى قال عز من قائل «وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ»(3) فانطلقت الألسن بذكر الله واستشارت البصائر بمعرفة الله وكمل به دينه في اقصى بلاد العالم، وأتم به نعمته على كافة عباده قال جل سلطانه «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا»(4) «ثُمَّ اخْتَارَ سُبْحَانَه لِمُحَمَّدٍ صَلَى الله عليه [وآله] وسَلم لِقَاءَه: وأحبه كما أحب هو لقاء ربه؛ كما قال صلى الله عليه [وآله] وسلم «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه»(5) «ورَضِيَ لَه مَا عِنْدَه»: من الكرامة التامة والنعمة العامة، «فِي

ص: 131


1- سورة المائدة: الآية 64
2- سورة الأعراف: الآية 180
3- سورة الإسراء: الآية 81
4- سورة المائدة: الآية 3
5- الكافي للشيخ الكليني: ج 3 ص 134؛ ومعاني الأخبار كذلك للصدوق: ص 236؛ والزهد الحسين بن سعيد الكوفي: ص 83

مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ»(1)، «فأَكْرَمَه عَنْ دَارِ الدُّنْيَا، ورَغِبَ بِه عَنْ مَقَامِ

الْبَلْوَى»: ومقام الأذى «فَقَبَضَه إِلَيْه»: عند انتهاء اجله «كَرِيماً»: عن أدناس الذنوب طاهراً في ولادته الجسمانية والروحانية، «صَلّى الله عليّهِ»: ما برق بارق ودر شارق «وخَلَّفَ فِيكُمْ مَا خَلَّفَتِ الأَنْبِيَاءُ فِي أُمَمِهَا، إِذْ لَمْ يَتْرُكُوهُمْ»: في الأصل «هَمَلًا: الإبل بلا راع كالنفش؛ ثم عمم فيه «بِغَیْرِ طَرِيقٍ وَاضِحٍ ولَا عَلَمٍ قَائِمٍ»: استعارة حسنة للآثار الباقية عن الأنبياء التي تهتدي بها، والأوصياء الأولياء الذين يرجع إليهم الخلق؛ وتلك إشارة إلى وضع ما يجب وضعه في الحكمة الإلهية على ألسّنة الرسّل عليهم السلام من العبادات، والقوانين الكليّة التي بها يبقى ذكر الله تعالى محفوظا وقوله «كِتَابَ رَبِّكُمْ»: عطف بيان لما، والمراد النوع، حتى لا يلزم أن يكون ما أتى به محمد صلى الله عليه [وآله] وسلم من الكتاب عين ما أتت به الأنبياء السابقون عليهم السلام السلام «مُبَيِّناً»: حال: أما من ضمير النبي أو من الكتاب حلاله وحرامه يعني المباح والمكروه والمحظور كقوله «وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا»(2) «وفَرَائِضَه»: واجبة كقوله عز من قائل: «وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ»(3) «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ»(4) «وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ»(5) «وفَضَائِلَه»: مندوباته كقوله «وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ»(6) «وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ»(7) «وَأَنْ

ص: 132


1- سورة القمر: الآية 55
2- سورة البقرة: الآية 275
3- سورة البقرة: الآية 43
4- سورة البقرة: الآية 183
5- سورة البقرة: الآية 196
6- سورة الإسراء: الآية 79
7- سورة البقرة: الآية 195

تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى»(1) أشار إلى الأحكام الخمسة التي يدور عليها علم الفقه «ونَاسِخَه»: حكمه الرافع «ومَنْسُوخَه»: حكمه المرفوع كقوله «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ»(2) «ورُخَصَه»: ما أذن فيه لضرورة؛ و غيرها مع قيام السبب المحرم له كما قال تعالى: بعد تحريم الميئة «قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا»(3) «فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»(4) «وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا»(5) «وعَزَائِمَه»: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ»(6) فان هذه الطاعة واجبة على التضييق لا يقوم شيء مقامه «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ»(7) «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ»(8) فهذه الولاية واجبة لا تسقط عن المكلف أصلًا وخَاصَّه وعَامَّه: لفظ مستغرق بجميع ما يصلح له بحسب وضع وله حد، بخلاف الخاص. أمثلة الخاص: «فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ»(9) فأنه مخصوص مع الاختيار بمن يصلي نافلة على الراحلة «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ»(10) «وكُتِبَ عَلَيْكُمُ

ص: 133


1- سورة البقرة: الآية 237
2- سورة الكافرون: الآية 6
3- سورة الأنعام: الآية 145
4- سورة المائدة: الآية 3
5- سورة المائدة: الآية 2
6- سورة النساء: الآية 59
7- سورة البقرة: الآية 185
8- سورة المائدة: الآية 55
9- سورة البقرة: الآية 115
10- سورة التوبة: الآية 73

الْقِصَاصُ»(1) امثلة العام «أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ»(2) «وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ»(3) فان الجهاد واجب عام على جميع المكلفين بالشرائط «وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا»(4)، وعِبَرَه: وغيره جمع عبرة بمعنى الاعتبار، والمراد الآيات التي فيها قصص الأنبياء وأُمهم قال عز شانه «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ»(5) «وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ»(6) «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ»(7) وأمثاله كقوله تعالى «مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا»(8) «وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ»(9) «إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»(10) قال الصادق عليه السلام: «أمثال القرآن لها فوائد، فأمعنوا النظر وتفكروا في معانيها، ولا تمروا بها»(11) «ومُرْسَلَه»: أراد الألفاظ التي لا تمنع نفس مفهوماتها، وقوع الشركة فيها ولم يبين فيها كمية الحكم ومقداره، ولم يقيد بقيد يفيد العموم، ولا

ص: 134


1- سورة البقرة: الآية 178
2- سورة البقرة: الآية 231
3- سورة الحج: الآية 78
4- سورة البقرة: الآية 282
5- سورة الفيل: الآية 1
6- سورة فصلت: الآية 17
7- سورة آل عمران: الآية 13
8- سورة البقرة: الآية 17
9- سورة البقرة: الآية 171
10- سورة آل عمران: الآية 59
11- ينظر منهاج البراعة لقطب الدين الراوندي: ص 94، لم أعثر على مصادر للحديث أكثر، ممن سبق؛ أو زامن المصنف

الخصوص كأسماء الجموع في النكرات في قوله تعالى: «وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ»(1) وكالمفرد المعرف كقوله «وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ»(2) والمنكر مثل قوله «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ»(3) ومحدودة أراد به المقيد كما قال تعالى: «فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ»(4) أو أراد الواجب المقيد كقوله: «وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ»(5) «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ»(6)، «ومْحُکَمَه» مثل قوله «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ»(7) «اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ»(8) «ومُتَشَابِهَه»: ما يحتمل وجهين أو اكثر، مثل يد الله وجنب الله وجاء ربك «مُفَسِّراً»: مبيّناً «جُملَهُ»: كما قال «فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ»(9) مفسر لقوله «وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ»(10)، «ومُبَيِّناً غَوَامِضَه»: دقائقه كقوله «وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ»(11) ثم بين بقوله «فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ»(12)، «بَیْنَ مَأْخُوذٍ مِيثَاقُ»: أي يجب تعلمه

ص: 135


1- سورة الأعراف: الآية 46
2- سورة العصر: الآيات: 1 - 2
3- سورة الحجرات: الآية 6
4- سورة النساء: الآية 92
5- سورة المائدة: الآية 6
6- سورة البقرة: الآية 187
7- سورة غافر: الآية 65؛ ويحتمل أن تكون المحكمة أيضاً في سورة الفاتحة: الآية 2
8- سورة البقرة: الآية 255
9- سورة الروم: الآيات: 17 - 18
10- سورة البقرة: الآية 43
11- سورة البقرة: الآية 179
12- سورة البقرة: الآية 194

لوحدة الصانع وأمر المعاد والعبادات الخمس وشرائطها عِلْمِه «ومُوَسَّعٍ عَلَى الْعِبَادِ فِي جَهْلِه»: أي لا يتعين على كافة الخلق العلم به؛ بل يعذر بعضهم في الجهل به كالآيات المتشابهات وأوائل السور كافة، وبين مثبت في الكتاب فرضه معلوم في السنة نسخه، «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ»(1) فأن ظاهرها تقتضي وراثة الأولاد من الأبوين، أحراراً أو عبيداً، مسلمين أو كافرين، ويعلم من السنة أن الكفر مانع من الإرث «وبَیّن مُثْبَتٍ فِي الْكِتَابِ فَرْضُه، ومَعْلُومٍ فِي السُّنَّةِ نَسْخُه» كقوله عز وجل: «وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ»(2) فأنها رخصة في القصر، وكان واجباً في السنة قصر ثلاث صلوات من جملة الخمس، إذا كان السفر مباحاً أو طاعة، وكان قدر ثمانية فراسخ فصاعداً «وَبینَ وبَیْنَ وَاجِبٍ بِوَقْتِه وزَائِلٍ فِي مُسْتَقْبَلِه»: كآية النجوى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً»(3) قال عليه السلام «أن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها احد بعدي أشار إلى هذه الآية قال كان لي دينار بعته بعشرة دراهم فكلما أردت أن أناجى رسول الله صلى الله عليه وآله قدمت درهماً»(4) فنسختها الآية الأخرى «أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ

ص: 136


1- سورة النساء: الآية 11
2- سورة النساء: الآية 101
3- سورة المجادلة: الآية 12
4- تفسير أبي حمزة الثمالي: هامش ص 328؛ والمسترشد لمحمد بن جرير الطبري (الشيعي): ص 355؛ المستدرك للحاكم النيسابوري: ج 2 ص 482؛ تفسير القمي لعلي بن ابراهيم القمي: ج 2 ص 357

وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ»(1) وقال عليه السلام «بي خفف الله عن هذه الآية»(2) وبين حُكّمْ مُبَايَنٌ بَیْنَ مَحَارِمِه»: كأحكام السرقة والزنا وشرب الخمر وقذف المحصنات وقوله: «مِنْ كَبِرٍ أَوْعَدَ عَلَيْه نِيرَانَه، أَوْ صَغِرٍ أَرْصَدَ لَه غُفْرَانَه»: بيان وتفصيل لها وإشارة إلى تفاوتها بالشدة والضعف، في كونها مبعدة عن رحمته قال عز من قائل «إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ»(3) «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا»(4) «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ»(5) وهي: صغار الذنوب كالنظرة ونحوها «إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ»(6) «وبَیْنَ حُكْم مَقْبُولٍ»: إذا كان حاصلاً «فِي أَدْنَاه»: قريبه «مُوَسَّعٍ فِي أَقْصَاه» أبعده قال تعالى «إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ»(7) «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ

ص: 137


1- سورة المجادلة: الآية 13
2- مناقب علي بن أبي طالب ومانزل من القرآن في علي أحمد بن موسی بن مردوية الأصفهاني : ص 333؛ وعدة عيون صحاح الأخبار لابن بطريق: ص 185؛ والطرائف في معرفة الطوائف للسید ابن طاووس: ص 41
3- سورة النساء: الآية 48
4- سورة النساء: الآية 93
5- سورة النجم: الآية 32
6- سورة النجم: الآية 32
7- سورة المزمل: الآية 20

مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ»(1) فأن المصلي إذا قراء آية فمقبول، وأن قرأ طوال السورة وكثيراً من القرآن فذلك موسع عليه وأحسن، ومن بدل على التبعيض، وأن أنفق الغني كثيراً من ماله يكون حسبناً، وقيل المراد بالمقبول في أدناه الاقتصار في الفقه؛ على تعلم الفرائض منه دون مندوباته، وبالموسع في أقضاه التعمق في طلب العلوم، واشتغال العلماء بمدارسة تفريعات أحكام الشريعة، وتفسير القرآن وغير ذلك من العلوم التي هي كالمرقاة لعلم الدين بعد أحكام الوصول، نظراً واستدلال، وأمثلة كل واحد منها أكثر من أن يذكر هاهنا، وفيها ذكرناه مقنع، ولما فرغ عن هذا المقال؛ حان وقت الانتقال إلى مشرع آخر فقال: «منها»: أي من هذه الخطبة «وفَرَضَ»: أوجب عَلَيْكُمْ أيها المسلمون «حَجَّ بَيْتِه» : هذه الإضافة للتخصيص والتشريف، وفي بعض النسخ وصفه بالحرام، بمعنى المحرم کما قال تعالى: «عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ»(2) فأن العرب كانت تحّرْم فيه ما يستحل في غيره، كالدماء والقتال وقوله عليه السلام: «الَّذِي جَعَلَه قِبْلَةً لِلَأنَامِ»: مُستنده قوله تعالى «فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ»(3) «يَرِدُونَه وُرُودَ الأَنْعَامِ»: مبالغة في تشبيه ورود الخلّقْ البيت بورود النعم الماء عند حاجتها؛ في شدة الازدحام عليه، والمحبة له والشوق إليه؛ أو عدم اطلاعهم على أسرار الحج، وعلى ما يشتمل عليه المناسك من الحكمة الإلهية، «ويَأْلَهُونَ إِلَيْه وُلُوه الْحَمَامِ: أي يشتد شوقهم إليه وأصل الهمزة الواو، من وله، أشاره إلى أن شوقهم في كل عام إلى ورود البيت كما يساق إليه الحام يقال: أنها من نسل طير أبابيل

ص: 138


1- سورة البقرة: الآية 267
2- سورة ابراهيم: الآية 37
3- سورة البقرة: الآية 144

«وجَعَلَه سُبْحَانَه عَلَمَةً لِتَوَاضُعِهِمْ لِعَظَمَتِه، وإِذْعَانِهِمْ»: وانقيادهم لقربه، أشاره إلى عدم اهتداء العقول إلى أسرار هذه الأعمال، بل الباعث عليها ليس إلا الأمر المجرد مثل قوله جل طوله «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ»(1) وأمثاله وفيه: أن كمال الرق وخلوص الانقياد؛ فمن فعل ما أمر به من أعماله؛ كذلك فهو المخلص الذي ظهرت عليه علامة المخلصين، والمدعى المتواضع لجلال رب العالمين، ولما كان الحق سبحانه عالم الغيب والشهادة لم يكن أن يقال: تلك العلامة مما يستفيد بها علماً بأحوال عَبيده، من طاعتهم ومعصيتهم، فأذن يتعين أن يكون معناها راجعاً إلى ما به تمييز النفوس الكاملة؛ التي انقادت لأوامر الله، واخلص له العبادة عما عداها، فأن هذه العبادة من اشرف ما استعدت به النفس الإنسانية، وافادتها كمالاً تميزت به عن أبناء نوعها قال: رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم: «من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه»(2) وقال: أيضا «ما رأُي الشيطان في يوم هو أصغر ولا أدخر ولا أحقر ولا أغيض منه يوم عرفه»(3) وما ذلك إلا لما يرى من نزول الرحمة وتجاوز الله تعالى عن ذنوب العباد، واخْتَارَ مِنْ خَلْقِه سُاَّعاً: جمع سامع أَجَابُوا إِلَيْه: إلى البيت دعوته، أي أجابوا قاصدين إلى البيت دعوة الله تعالى، وصدقوا كلمته وطابق افعلاهم ما جاءت به الأنبياء من كلام الله تعالى قال جل وعلا «وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ

ص: 139


1- سورة آل عمران: الآية 97
2- المبسوط للسرخسي: ج 4 ص 24؛ وعوالي اللئالي: لابن أبي جمهور الأحسائي: ج 1: ص 426؛ وأيضاً مسند أحمد بن حنبل: ج 2: ص 248؛ والسنن الكبرى لأحمد بن الحسين البيهقي: ج 5: ص 67
3- المصنف لعبد الرزاق الصنعاني: ج 4 ص 378؛ وشعب الإيمان لأحمد بن الحسين البيهقي: ج 3: ص 461؛ وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر الدمشقي: ج 43: ص 539؛ ومعالم 539؛ التنزيل: للبوغ-ي: ص 255

يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ»(1) وفي الآثار ((أن إبراهيم عليه سلام: لما فرغ من بناء البيت جاء جبرئیل علیه السلام فأمره أن يؤذن في الناس بالحج فقال: إبراهيم يا رب وما يبلغ صوتي قال: عز شأنه أذن و علي البلاغ، فعلى إبراهيم المقام واشرف به حتى صار كأطول الجبال وأقبل بوجهه يميناً وشمالاً، وشرقاً وغرباً، ونادی یا إليها الناس کتب علیکم الحج إلى البيت العتيق فأجيبوا ربکم فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء لبيك اللهم لبيك))(2)، وباب التأويل أيضاً هاهنا، مفتوح على أصحاب الفتوح؛ فأنه يحتمل أني راد بما يبلغ صوتي الإشارة إلى حكم الوهم الإنساني باستبعاد عموم هذه الدعوة وانقياد الخلق لها، وقصور الطبع عن ذلك، وبقوله تعالى وعلي البلاغ(3)، الإشارة إلى تأييد الله سبحانه له، بما أوحى إليه من العلم، بسط دعوته وإبلاغها إلي من علم بلوغها إليه، وبعليَّ(4)، إبراهيم إلى آخره اجتهاده في التبليغ، للدعوة وجذب الخلق إلى هذه العبادة بحسب إمكانه واستعانته في ذلك بأولياء الله التابعين له، وأما الإجابة فأشاره إلى ما كتب الله تعالى بقلم قضائه في اللوح المحفوظ من طاعة الخلق وإجابتهم لهذه الدعوة، على لسان

ص: 140


1- سورة الحج: الآية 27
2- تفسير القمي لعلي بن إبراهيم: ج ص 62؛ والمصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج 7، ص 448؛ وعوالي اللئالي لابن أبي جمهور الاحسائي: ج 4: ص 35
3- ما بين معقوفين ليس آية من كتاب الله، إنما هو حديث قدسي تضمن كلمة قول الله تعالى، أراد به المصنف بیان قول الله، وقد يقع الخلط بين الحديث القدسي والآية المباركة، وإن كان كلاهما عن الله تعالى؛ المصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج 7 ص 448، عن جرير عن قابوس عن أبيه عن ابن عباس قال: لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت العتيق قيل له: أذن في الناس بالحج، قال: رب! وما يبلغ صوتي، قال: أذن وعلي البلاغ، قال: فقال إبراهيم عليه السلام: يا أيها الناس! كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق، قال : فسمعه ما بين السماء إلى الأرض، ألا ترى أن الناس يجيئون من أقاصي الأرض يلبون
4- بمعنى أن البلاغ على الله تعالى بدء بإبراهيم خليل الرحمن (عليه السلام)

إبراهيم عليه السلام، ومن بعدهم من الأنبياء، وهم المراد بالسَّماع الذين إخبَارهم الله سبحانه من خلقه؛ حتى أجابوا دعوته إلى نبيه بحجهم إليه بعدما أهلهم لذلك قرنا بعد قرن، وأمة بعد أخرى، «وصَدَّقُوا كَلِمَتَه»: إشارة إلى مطابقة أفعالهم لما جاءت به الأنبياء من كلام الله تعالى وعدم مخالفته، ووَقَفُوا مَوَاقِفَ أَنْبِيَائِه: أشاره إلى سابقهم هم أيضاً في مواقف الحج وفي ذكر الأنبياء؛ استدراج حَسَن للطّباع اللطيفة المتشوقة إلى لقاء الله تعالى، والتشبه بأنبيائه عليهم السلام، «وتَشَبَّهُوا بِمَلَئِكَتِه الْمُطِيفِینَ بِعَرْشِه»: إشارة إلى ما ورد في الخبر: من أن البيت المعمور بإزاء الكعبة في السماء، وأن طواف الخلق بهذا البيت يشبه طواف الملائكة بالبيت المعمور، والعرش فهم متشبهون بالملائكة في الطواف، والغاية أن يترقى من أجدب العناية الإلهية بيده؛ من هذا الطواف إلى أن يصير من الطائفين بالعرش، والبيت المعمور، «يُحْرِزُونَ الأَرْبَاحَ فِي مَتْجَرِ عِبَادَتِه، ويَتَبَادَرُونَ عِنْدَه مَوْعِدَ مَغْفِرَتِه»: شبه عليه السلام العبادة بالبضاعة التي يتجر فيها فالتاجر، هو النفس، ورأس المال هو العبادة، ووجوه تصرفاته حركاته وسكناته الحسية والعقلية المطلوبة منه بالأوامر الشرعية، والأرباح ثواب الله، وفي ذكر الريح استدراج حسن لطباع الخلق بما يفهمونه ويميلون إليه من حب الأرباح في الحركات؛ ليشتاقوا فيعبدوا «جَعَلَه

سُبْحَانَه وتَعَالَ لِلإِسْاَمِ عَلَماً، ولِلْعَائِذِينَ حَرَماً»: موضع الأمن أي: علماً للطريق إلى الله تعالى، وسلوك صراطه المستقيم، وهي الإسلام الحقيقي يهتدي به عليها كما مهتدي بالعَلّم المرفوع للعسكر، والمارة على مقاصدهم، وقوله، «فَرَضَ حَقَّه

وأَوْجَبَ حَجَّه، وكَتَبَ عَلَيْكُمْ وِفَادَتَه»: زيارته تأكيد لما سبق، وذكرٌ للخطاب الموجب للحج فقال سبحانه: «فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ»(1) أي وجد إليه طريقاً بنفسه، ومالِه فعلیه

ص: 141


1- سورة آل عمران: الآية 97

الحج، ومن جحد فرضه ولم يرّه واجباً؛ فأن الله غني عنهم؛ لم يتعبدهم بالعبادة لحاجتهم إليها، بل لما علم فيها من مصالحهم.

ومن خطبة له صلوات الله عليه بعد انصرافه من صفين:

«أَحْمَدُه»: أشكره «اسْتِتْمَاماً لِنِعْمَتِه»: طلباً لتمامها «واسْتِسْمَاماً»: انقياداً «لِعِزَّتِه»: جعل عليه السلام لحمده هاهنا غايتين «الأول»: منهما الاستتمام النعمة الله وذلك لأن النعمة تستمد بمزيد من الشكر لمزيد النعم، وهو في ذلك ناظر إلى قوله تعالى «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ»(1) لما يشتمل عليه من التعب على رجاء المزيد، «والثانية»: الاستسلام لعزته فأنه يستعد بكمال الشكر لمعرفة المشكور، وهو الله سبحانه وهي: مستلزمه للانقياد لعزته، والخضوع لعظمته، ثم لما كان الاستعداد لتمام النعم، والتأهل لكمال الخضوع، والانقياد لعزته تعالى، أنما يتم بعد أن تكون العناية الإلهية آخذة بطبيعة العبد، وجاذبة له من ورطات المعاصي، ومبعدة له عن أسباب التورط فيها، بكفاية المؤن والأسباب الداعية إلى ارتكاب أحد طرفي الأفراط والتفريط، جعل عليه السلام للحمد غاية أخرى هي: الوسيلة إلى الغايتين المذكورتين وهي الاستعصام بالله سبحانه من معصيته، وعقب ذلك الشكر بطلب المعونة منه على تمام الاستعداد لما سأل وشكر لأجله، وجعل لتلك الاستعانة على حامله وهي الفاقة؛ نحو غاية هي كفاية دواعي التفريط والأفراط بالجذبات الإلهية، ولا شك أن الغايتين المذكورتين لا يتم إلا بعصمته والمعونة بكفايته فقال: «واسْتِعْصَاماً مِنْ مَعْصِيَتِه، وأَسْتَعِينُه فَاقَةً»: حاجة «إِلَی كِفَايَتِه» وقوله «الشان، إِنَّه

لَا يَضِلُّ مَنْ هَدَاه ولَا يَئِلُ مَنْ عَادَاه، ولَا يَفْتَقِرُ مَنْ كَفَاه»: تعليل لطلب المعونة على

ص: 142


1- سورة إبراهيم: الآية 7

تحصيل الكفاية، فأنه لما كان حصولها مانعاً من دواعي طرفي التفريط والأفراط؛ كان العبد مستقيم الأحوال على سواء السراط، وذلك هدي الله يهدي به من يشاء فكأنه قال: واستعينه على أن على أن يرزقني الكفاية المستلزمة للهداية؛ التي هي الغنى الحقيقي، والمُلك الأبدي فأنه لا يضل من هداه ولا ينجو من عذابه من عاداه، وأعرض عن شكره واستغاثه، وقد أطلق عليه السلام هاهنا لفظ المعاداة الله تعالى كما أطلقها القرآن الكريم على ما هو من لوازمها، وهو الأعراض عن عبادته، والبعض لها ولمن تلبس بها من عباده، مجازاً، «فَإِنَّه أَرْجَحُ مَا وُزِنَ وأَفْضَلُ مَا خُزِنَ»: الضمير راجع إلى الله على حذف المضاف؛ لأن ذاته مقدسة عن الوزن والحزن اللذين هما من صفات الأجسام أي: عرفانه يترجح في ميزان العقل، أذ لا يوازنه عرفان ما عداه، بل لا يخطر ببال العارف عند الإخلاص سواه، حتی يصدق هناك موازنة يقال فيها: أرجح ويكون المراد بالحزن؛ حزن ذلك العرفان في أسرار النفوس القدسية، وقيل الضمير يرجع إلى ما دل عليه، أحمده على طريقة قولهم من كذب كان شرا له.

«وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا الله»: هذه الكلمة أشرف كلمة، وحدها الخالق عز اسمه منطبق على جميع مراتب التوحيد؛ قال: بعض العلماء جعل الله سبحانه العذاب نوعين؛ أحدهما السيف في يد المسلمين، والثاني عذاب الآخرة؛ فالسيف في غلاف يُرى، والنار في غلاف لا يرى؛ فقال تعالى لرسوله عليه السلام: «من أخرج لسانه من الغلاف المروي وهو الفم؛ فقال لا إله إلا الله أدخلنا السيف في الغمد المرَي، ومن أخرج لسان قلبه من الغلاف الذي لا يرى، وهو غلاف الشرك؛ فقال لا إله إلا الله أدخلنا سیف عذاب الآخرة في غمد الرحمة واحدة بواحدة جزاء ولا

ص: 143

ظلم اليوم»(1)، «شَهَادَةً مْمُتَحَناً» مختبراً «إِخْلَصُهَا مُعْتَقَداً مُصَاصُهَا»: خالصها أراد أنه مختبراً نفسه في إخلاص هذه الشهادة، وأجد لها عرية عن شبهات الباطل، معرضةً عن كل خاطر سوى الحق، متمثلة حِليَّةَ التوحيد وخلاصته؛ مبرأة عن شوائب الشرك الخفي وقوله، «نَتَمَسَّكُ بِهَا أَبَداً مَا أَبْقَانَا»: أي مدة إبقائه إيانا، «ونَدَّخِرُهَا لأَهَاوِيلِ مَا يَلْقَانَا»: إشارة إلى أنه يجب التمسك بها مدة البقاء في دار الدنيا لعظائم الأمور، والاستعداد بها لأهوال الآخرة وشدائدها؛ ثم عقبها بذکر علة التمسك بها وادخارها فقال: «فَإِنَّهَا عَزِيمَةُ الإِيمَانِ»: وعقد القلب عليها، وكل ما عداها مما وردت به الشريعة من قواعد الدين، وفروعه فهي حقوق لها توابع ومتممات ومُعّينات على الوقوف على سرها، والوصول إلى إخلاصها «وفَاتِحَةُ

الإْسِلام» وروي فاتحة الإِحْسَانِ، فأنها أول كلمة افتتحت بها الشريعة، واستعد العبد بالسلوك في طريق إخلاصها؛ لأفاضه إحسان الله ونعمه شيئاً فشيئاً، وكمالاتها مطلوب لله تعالى من خلقه في فطرهم الأصَلية، وعلى ألسَنة رسله عليهم السلام، فهي أيضاً غايتهم التي ينالون بإخلاصها، واستصحاب مصَاصها: السعادة الباقية و مرضاة الرحمن، إذ هي محل رضوان الله، والسبب المنزل لتمام رحمته ومزید نعمته، على محل تنوَّرَ بها، ورفع السخط عَنه كما قال «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله إلا الله»(2) «ومَدْحَرَةُ مطردة الشَّيْطَانِ»: فأن غاية دعوة الشيطان هو: الشرك الظاهر والخفي، وهذه الكلمة؛ إنما وضعت في مقابلة دعوته؛ فظاهرها دافع الظاهر ما يدعوا إليه، وباطنها قامع ما يدعو إليه، وكما أن الشرك على مراتب لا

ص: 144


1- ينظر منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة لقطب الدين الراوندي: ص 325؛ ولم أعثر على مصدر آخر أسبق منه توثيقاً
2- الخلاف للشخ الطوسي: ج 1: ص 551؛ الموطأ لمالك بن أنس: ج 1: ص 11؛ والمبسوط للسرخسي: ج 10، ص 2؛ مسند أحمد بن حنبل: ج 1: ص 11

يتناهی؛ فكذا الإخلاص في هذه الكلمة؛ فبقدر كل مرتبة من السلوك في إخلاصها تسقط في مقابلته مرتبة من الشرك، وتُبطل سعي الشيطان في نبأ تلك المرتبة؛ إلى أن يتم الإخلاص بقدر الإمكان، وقد انهدمت قواعد الشيطان بكليّتها، وصارا بعد مطرود عن قبول ما نقول؛ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة أنك أنت الوهاب، «وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه ورَسُولُه»: قال رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم من قال: «اشهد أن لا اله إلا الله محمد رسول الله فجری بها لسانه واطمأن بها قلبه حرمت النار عليه»(1) وإنما قرنت هذه الكلمة بكلمة التوحيد؛ لأن غرض الشريعة إنما هو أخلاص تلك الكلمة، ولن يحصل إخلاصها إلا بسلوك مراتبها، ولن يحصل ذلك إلا بمعرفة كيفية السلوك ومدار إرسال الرسل، ووضع الشرائع لتعريفها درجات الإخلاص، فكانت الشهادة بصدق المبلّغ لهذه الرسالة والمسن لطريق الإخلاص؛ أحل كلمة بعد كلمة الإخلاص، لأنها بمنزلة الباب لها فلأجل ذلك قرنت بها، وفي (عَبّدهِ) إشارة إلى شرف مرتبة العبودية، وقوله، «أَرْسَلَه بِالدِّينِ الْمَشْهُورِ»: أي المشتمل على تعريف کيفية السلوك الصراط المستقیم «والْعَلَمِ الْمَأْثُورِ»: مقدماً على سائر الأديان، كما يقدم العلم، ويهتدى به قوم بعد قوم، وفيه اعتبار کون ذلك الدين هادياً قائداً للخلق ميهتدون به إلى حضرة القدس التي هي مقصد جميع الشرائع أذ ذلك هو شأن العلم وكونه مأثوراً «والْكِتَابِ»: يعني القرآن، «الْمَسْطُورِ» حقائقه في ألواح النفوس «والنُّورِ السَّاطِعِ، والضِّيَاءِ»: إلى السر الذي جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، تحت هذه الطريقة، وأمر بقصده منها، ونور تستشرفه مراي النفوس الصافية من صدی

ص: 145


1- التاريخ الكبير للبخاري: ج 2، ص 259 باختلاف يسير؛ شعب الإيمان أحمد بن حسين البيهقي: ج 1: ص 41؛ ذیل تاریخ بغداد لابن النجار البغدادي: ج 2 ص 76؛ طبقات الشافعية الكبرى لعبد الوهاب بن علي السبكي: ج 1: ص 139

الشبهات، و كدورات الشرك، «والأَمْرِ الصَّادِعِ»: إشارة إلى اعتبار قهره بأوامر الله، وردعه لمن لم يسلك الطريق المأمور بسلوكها عن رغبة واختيار؛ حتى شق بالأمر الإلهي وجه باطله، وصدع ما كان ملت من نباء مفاسده؛ کما قال أصدق القائلين «فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ»(1) ثم ذكر عليه السلام من الوجوه القريبة المقاصد البعثة ثلاثة:

«أولها»: قوله «إِزَاحَةً»: أزاله «لِلشُّبُهَاتِ» وأوهامها؛ فأن حذف شواغل الدنيا وشبهات الباطل عن قلوب الحق، أتم مقاصد الشارع الثاني: «واحْتِجَاجاً

بِالْبَيِّنَاتِ»: الحجج الواضحة لهم وَالخطاب الواصل إلى أقصى أذهانهم كما قال عز أسمه «وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ»(2) الثالث: قوله تحذيراً «بِالآيَاتِ» النازلة بالعصاة «وتَخْوِيفاً بِالْمَثُلَاتِ»: أي العقوبات الواقعة بأهل الجنايات كما قال تعالى «أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ»(3) «فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى»(4) وهذه الإنذار مؤيد للحجج والخطابات الشرعية في حق من لم يرزق صفاء ذهن يوثر فيه مجرد الخطاب، فيحتاج إلى التحذير والإنذار؛ ثم شرع في ذم أحوال أهل زمانه، وما هم فيه من البلاء، والمحبة، والمخاوف، والحروب؛ بسبب تشبث أهوائهم، واختلاف اغراضهم تنبيهاً للسامعين على ما غشاهم غافلين عنه مما هم فيه من الفتن؛ المشتملة على المذام التي عددها لينتبهوا من رقدة الغفلة، ويشمروا في سلوك سبيل الحق، عن ساق الجد والاجتهاد فقال: «والنَّاسُ فِي

ص: 146


1- سورة الحجر: الآية 94
2- سورة النحل: الآية 125
3- سورة يس: الآية 31
4- سورة طه: الآية 128

فِتَنٍ»: وقوله: «انْجَذَمَ انقطع فِيهَا حَبْلُ الدِّينِ»: إشارة إلى أنحراف الخلق عن سواء السبيل، وعدم تمسكهم بأوامر الله سبحانه؛ حال وقوعها واستعمال لفظ الحبل هنا، وفي التنزيل الإلهي «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا»(1) استعارة لقانون الشريعة المطلوب منها لزومه والتمسك به، «وتَزَعْزَعَتْ سَوَارِي»: جمع السارية لاستوائه، والمراد ما قواعد الدين المأمور بتشييدها، کالجهاد الذي هو أقوى مطالبه عليه السلام في ذلك الوقت، من الناس وترعرعهاعدم استقامتها واستقرار الناس عليها، وأما أهل الدين الذي به يقوم، ورجاله العالمون به الذين لم يأخذهم في الله لومة لائم، وترعرعها موت أولئك؛ أو خوفهم من الأعداء المارقين، وكل ذلك استعارة لطيفة ووجوه المناسبة فيها ظاهرة «واخْتَلَفَ النَّجْرُ»: الأصل الذي كان يجمع الخلق والفطرة التي فطر الناس عليها، ووردت الشريعة فأنها كانت متفقه بوجود الرسول صلى الله عليه [وآله] وسلم؛ فأختلف بعده بسلوك كل فرقة مذهبهالدد غير الأخرى على أن النجر(2) هو: الحسب أيضاً، والحسب الدين فيحتمل أن یرید اختلاف الدين، «وتَشَتَّتَ الأَمْرُ»: تفرقت كلمة المسلمين «وضَاقَ الْمَخْرَجُ وعَمِيَ الْمَصْدَرُ»: يعني المرجع أشار إلى أن الخلق بعد تورطهم في فتن الشبهات الموجبة لتفرق کلمتهم؛ ضاق مخرجهم وعمى عليهم طريق صدورهم منها كما قال جل وعلا: «فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ»(3).

وهو استعارة حسنة إذ العمي: حقيقة عدم ملکه البصر ووجهها: أن الأعمى

ص: 147


1- سورة آل عمران: الآية 103
2- و النجر: النجار وهو أصل الحسب، والمنبت من کل کریم أو لئيم: ينظر العين للخليل للفراهيدي: ج 6 ص 107
3- سورة الحج: الآية 46

لا يهتدي لمقاصده المحسوسة بالبصر لعدمه، كذلك عمي البصيرة، لا لمقاصده المعقولة الاحتلال بصیرته «فَالْهَدَى خَامِلٌ»: ساقط غير ظاهر بينهم حال عَماهِمْ عن مرجعهم «والْعَمَى شَامِلٌ»: أشار عليه السلام إلى اشتراكهم في عدم رؤيتهم لسبيل الحق؛ الذي به يخرجون من شبهات الباطل وظلمته «عُصِيَ الرَّحْمَنُ

ونُصِرَ الشَّيْطَانُ»: يعني أن ما هم فيه جور عن الحق ونصرة للباطل الذي هو مأمور الشيطان «وخُذِلَ الإِيمَانُ»: ترك نصرته «فَانْهَارَتْ»: انهدمت «دَعَائِمُه»: بخذلانه «وتَنَکَّرَتْ»: تغيرت «مَعَالِمُه» أراد بالدعائم والمعالم، دعاة الحق وحملة الإيمان وبالانهيار عدمُهّم أو عدم قبول قولهم، وبتنكير المعالم عدم معرفتهم في الخلق لقلتهم ويجوز، أن يراد بالدعائم قواعد الدين كالجهاد وغيره، وبانهيارها عدم القيام بها، وبتنكير المعالم المحابة من القلوب التي هي معالم الدين ومحاله و «ودَرَسَتْ سُبُلُه وعَفَتْ شُرُكُه»: طرقه لم يبق له أثر يعرف به، وكل ذلك مبالغة في ضعف الدين وحينئذ «طَاعُوا الشَّيْطَانَ فَسَلَكُوا مَسَالِكَه ووَرَدُوا مَنَاهِلَه»: موارده ما يجرهم إليه من مناهي الله سبحانه؛ فيتبعونه فيها «بِهِمْ سَارَتْ» في الأرض «أَعْلَمُه وقَامَ لِوَاؤُه»: هما أما القادة إليه، والدعاة إلى باطله، وصارت رایات لهم؛ أو صور الباطل التي تصورت في أذهان الخلق المقتدي بهم فانقادوا لها واتبعوها؛ فهي لهم كالأعلام والألوية في الحروب وغيرها «فِي فِتَنٍ»: أما معمول سارت أو خبر مبتدأ محذوف وهو: هم، وهذه النفس هي التي أشار إليها أولاً وإنما أوردها ثانيا بزيادة أوصاف فبالغ عليه السلام في تشبيهها بأنواع الحيوان فاستعار لها إخفاقاً وأظلافاً، وحوافر وجعل لها دوَّساً وطياً وقياماً على الحوافر، فقال: «دَاسَتْهُمْ بِأَخْفَافِهَا ووَطِئَتْهُمْ بِأَظْلَفِهَا وقَامَتْ عَلَى سَنَابِكِهَا»: أطراف مقدم الحوافر، وَاحَدها سنبکه، ويحتمل أن يكون إضمار هاهنا؛ على تقدير داستهم طلبتهم، وبأخفاف أبلها ووطئهم بأظلاف بقرها، وقامت على سنابك خيلها

ص: 148

ويحتمل، أن يكون التجوز في نسبته الوطي وما بعده، فقط وهو المجاز في الأسناد فهم فيها «فَهُمْ فِيهَا تَائِهُونَ حَائِرُونَ جَاهِلُونَ مَفْتُونُونَ»: أشار إلى تنبئهم إلى ضلالهم عن القصد في ظلمات الفتن، ويجيرهم إلى ترددهم في أن الحق في أي جهة، وعدم درایتهم؛ أهو معه عليه السلام، أو مع معاوية، وبجهلهم إلى عدم علمهم بالحق، و اعتقاد بعضهم الباطل عن شبهة تحكيم الحكمين، واعتقاد آخرين له، من شبهة ذم عثمان وأمثال ذلك، مما هو جهل مرکب، وبكونهم مفتونين إلى فتنة غيرهم لهم، وإضلالهم عن الحق، وهو الشيطان واتباعه، وقوله، فِي «خَیْرِ دَارٍ وشَّرِ جِیرَانٍ»: المتعلق مايهون؛ أو خبرهم المحذوف، والمراد به أما الشام لأنها الأرض المقدسة وأهلها قاسطون ومعنى «نَوْمُهُمْ سُهُودٌ»: سهر «وكُحْلُهُمْ دُمُوعٌ»: أنهم لا ينامون اهتماماً بأمورهم، وأعد أنفسهم للقتال، ويبكون قتلاهم، وأراد بالعالم نفسه عليه السلام، والناصرون يلحق قوله، «بِأَرْضٍ عَالِمُهَا مُلْجَمٌ»: صامت «وجَاهِلُهَا»: يعني معوية «مُكْرَمٌ»: أو دار العراق، والمراد بشر جيران، أصحابه المستصرح بهم للجهاد وأنما كانوا شر جيران أي: شر متجاورين لتخاذلهم عن الحق، ونصرة الدين؛ لأن خير المتجاورين المتعاضدين في الله، ونومهم سهود: خوفاً من الحرب، وحيرة في التدين، و كحْلهُم نفَاقه دموع؛ لأن من تم نفاقه ملك عينيه، أو دار الدنيا لأنها دار العمل، وأكثر الخلق بها أشرار جّهال والمراد اثبات الفضيلة؛ لا إلا فضيلة وهي: دار فاضلة لمن قام بها بأوامر الله، وراعي ما خلق لأجله، وهي مزرعة الآخرة؛ کما ورد به الحديث، وشر جيران: أما محمول على المذكور؛ أو شر جيران لمن التجاء إليهم وجاورهم، للانتصار بهم على أعداء الدين، وذلك بعدم نصرتهم له، والقيام معه، وقوله عليه السلام: نومهم سهود، وكحلهم دموع، تعم أصحابه وأصحاب معاوية، ومَن عَياهُ أمر الحرب حيناً، وقد بالغ عليه السلام في وصفهم بقلة النوم؛ لخوف الحرب، وهجوم بعضهم على بعض، وشدة اهتمامهم بأمر القتال، وحيرتهم

ص: 149

في تيه الباطل حتى الحق؛ فله نومهم بالسهر، لاستلزامه عدم النوم، واستعار له لفظة، وصيره هو کما استعار لفظ الكحل لدموعهم مبالغاً في تشبيهه به من جهة، أن الدموع لكثرته منهم وملازمته اجفانهم أشبه الكحل، وأعراب بأرض كأعراب سابقه، ثم أن حملنا خير دار على الدنيا کان تخصیصاً لمكانهم من الدنيا، کما قال: والناس في خير دار هي: الدنيا، وهم منها بأرض من حاله، أن عالمها ملجم بلجام الذل؛ من مكرم لمشابهته لهم في الجهل، ويكون المراد بتلك الأرض الشام أو العراق، وأن حملناه على واحدة منها كانت جارية مجرى البيان لها، والذم راجعاً إلى أهلها، ويحتمل أن يكون الواو في قوله (والناس) واو الحال و العامل أرسله، والفتن المشار إليها هي: فتن العراق في الجاهلية، وحال البعثة، وخير دار مكة، وشر جيران قريش، والعالم الملجم هو: من كان حينئذ عالماً بصدق الرسول فهو ملجم بلجام الفتنة والخوف، والجاهل المكرم هو: مَن كرمّه، وأعلم أن المتبادر إلى الذهن، أن هذا القدر الذي أورده السيد من هذه الخطبة فصول ملفّقة؛ ليست على نظامها التي جرت عليه؛ فأن كان كذلك فربما يلوح، فقالوا انتظمت مقاصد توضح ما أورده الناس، واختلفوا فيه هنا، والله سبحانه أعلم ومنها، من هذه الخطبة؛ يعني آل النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم بقوله عليه السلام «هُم مَوْضِعُ سِرِّه»: هذا الضمير، وما بعده راجع إلى الله؛ سوى الضمير في ظهره و فریضه؛ فأنها راجعان إلى الدين ويحتمل أن يكون كلها راجعة إلى الرسول صلى الله عليه وآله وأشار بقوله: (هم موضع سره) إلى کمال استعداد نفوسهم عليهم السلام؛ لأسرار الله وحكمته؛ إذ الموقع الحقيقي للشيء هوما قبله، واستعد له «ولَجأُ»: ملجأ «أَمْرِه»: إشارة إلى أنهم الناصرون له، والقائمون بأوامر الله، والذّابُون عن الدين فألهیّم يلتجيء، وهم يقوم سلطان، وعيبة علمه، قريب من موضع سره، استعار لفظ الغيبة لنفوسهم الشريفة، لاشتراكهما في الحفظ إذ هي يحفظ مايودع فيها،

ص: 150

وتصونهُ عن التّلفِ، والأدناس، وكانت أذهانهم الظاهرة حافظة للعلم عن عدمه، وصائبة عن تدنسه بأذهان غير أهله، «ومَوْئِلُ حُكْمِه»: إلى كونهم مرجعاً لحكمته أذا ضَلّت عن أذهان غيرهم، فمنهم تطلب وعنهم يكتسب، «وكُهُوفُ كُتُبِه»: الله إلى أنهم أهل حفظها، ودراستها، وتفسيرها، وعندهم علمها وتأويلها، والكتب إشارة إلى القرآن، وما قبله من كتب الله تعالى، كما يقل عنه عليه السلام في موضع آخر «لو كسرت لي الوسادة ثم جلست عليها؛ لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل القرآن بقرآنهم؛ والله ما من آية أنزلت في بر أو بحر، أو سهل أو جبل، أو سماء أو أرض، أو ليل أنهار، إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وفي أي وقت نزلت»، واستعارة لفظ الكهف قرينة من استعارة لفظ العيبة، «وجِبَالُ دِينِه»: إلى أن دين الله سبحانه بهم يعتصم عن وصيات الشيطان، و تبديلهم، وتحريفهم، كما يعتصم الحائف بالجبل ممن يؤديه وهي استعارة، لطيفة وإشارة مرت، بِهِمْ أَقَامَ انْحِنَاءَ ظَهْرِه: إلى أن الله تعالى جعلهم له أعضاؤه يشدون أزره، ويقومون ظهره ويأيّدون أمره، وانحناء الظهر: كناية عن ضعفه في بدء الإسلام، وأقامتهم: تقويتهم لذلك الضعف بالنصرة للدين، والذب عنه، «وأَذْهَبَ ارْتِعَادَ فَرَائِصِه»: جمع فريصة وهي: اللحمة التي بين الجنب والكتف، معناه أن الله سبحانه أزال عنه بمعونتهم خوفه الذي وقعه من المشركين، وهو كناية عن الشيء ببعض لوازمه، إذ كان ارتعاد الفرائص من لوازم شدة الخوف منها أيضاً «يَعْنِي الْخَوارِجْ»: بقوله «زَرَعُوا الْفُجُورَ وسَقَوْه الْغُرُورَ»: الغفلة كل واحدة استعارة لطيفة، فأن الفجور هو الخروج عن ملكة الفقه والزهد وتجاوزها إلى طرف الأفراط منهم، واستعارة الزرع إلقاء الحب في الأرض فاستعار عليه السلام لفظ الزرع لبذرة الفجور في ارض قلوبهم، ولأن انتشاره عنهم ونموه فيهم يشبه نمو الزرع وانتشاره في الأرض، ولما كان غرورهم، وغفلتهم عن الطريق

ص: 151

المستقيم هو سبب عدوهم عنها، وتجاوزهم إلى طرف الأفراط بمهاوي الهلاك وهو مادة تماديهم في عنيتهم «وزيادة فجورهم» وعدوهم عن سواء السبيل أشبه الماء الذي هو سبب حياة الزرع ونموه، ومادة زيادته ولأجلها حسنت استعارة لفظ السقي الذي هو خاصة الماء له، ونسبته إليهم ثم لما كانت غاية ذلك الفجور هلاكهم في الدنيا بالسيف، وفي الآخرة بعذابها؛ لأجرم اشبهت تلك الغاية الثمرة؛ فأستعير لكونها غاية لهم؛ لفظ الحصاد وقال «وحَصَدُوا الثُّبُورَ»: الهلاك والخسران وهذه الألفاظ مع حسن الاستعارة مشتملة على الترصيع، أعلم أن في بعض النسخ الخوارج، وفي بعضها المنافقين، فاستطلع من نفسك، وقل يحتمل أن يكون متناول لكل ما نابذه عليه السلام، وخرج عن طاعته، زاعماً أنه بذلك متعصب للدين وناصرًا له، وذلك لأن الفجور عبور و تجاوز للعفة، إلى طرف الأفراط، وكل من نابذه عليه السلام وهو مدعى أنه طالب للحق؛ فقد خرج في طلبه للحق؛ عن حاق العدل إلى طرف الفجور والعلو، ويدخل في ذلك القاسطون، وهم أصحاب معوية والمارقون، وهم خوارج ومن في معناهم، إذ زعم الكل أنهم بقتاله طالبون للحق ناصرون له، والله سبحانه أعلم.

وقوله «لَا يُقَاسُ بِآلِ مُحَمَّدٍ صَلّى الله عليَه - وآله - وَسَلّم مِنْ هَذِه الأُمَّةِ أَحَدٌ»: إلى آخره مدح لهم مستلزم لأسقاط غيرهم عن بلوغ درجتهم، واستحقاق منزلتهم والكلام وأن كان عاماً في تفضيل آل محمد على كل من عداهم من أمته، إلا أنه خرج على سبب وهو قتاله عليه السلام مع معاوية، فهو إذن مشير إلى تفضيل نفسه عليه، وعدم استعداده للخلافة: «ولَا يُسَوَّى بِهِمْ مَنْ جَرَتْ نِعْمَتُهُمْ عَلَيْه أَبَداً»: المراد بها نعمة الدين، وهو إشارة إلى عدم مناسبة غيرهم لهم فيها، وإلى سبب ذلك وهو أنهم يفيضون من بحرهم القطرات، فلا يسوي غيرهم في الدرجات، «هُمْ أَسَاسُ الدِّينِ»:

ص: 152

إي بهم استقامته، وثباته كما يقوم البناء على أساسه «وعِاَمدُ الْيَقِينِ»: كذلك «إِلَيْهِمْ

يَفِيءُ»: يرجع «الْغَالِي»: المحاور عن حد الفضائل الإنسانية التي مدارها على الحكمة، والعفة والشجاعة، والعدالة لا طرف الأفراط منها، يرجع إليهم ويهتدي بهم، في تحصيلها لكونهم عليها إذا أخذ التوفيق بيده «وبِهِمْ يُلْحَقُ التَّالِي»: التابع إشارة إلى أن المقصر عن هذه بلوغ هذه الفضائل المرتكبة؛ لطرف التفريط في تحصيلها؛ يحلق بهم عند طلبه لها، ومعونة الله له بالهداية إلى ذلك، وقوله «ولَهُمْ خَصَائِصُ حَقِّ الْوِلَيَةِ»: إشارة إلى أن ولاية أمور المسلمين، وخلافة رسول الله رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم، لها خصائص هي: موجودة فيهم وشروط بها يتأهل الشخص لها ويستحقها، وتلك الخصائص هي: الحكمة، والعفة، والشجاعة والعدالة، ولا شك في صدقه عليه السلام؛ في ذلك فأنّ هذه الفضائل، وأن وجدت بعضها أو كلها؛ في غيرهم، فعنهم أُخِذَ وإليهم فيها أُنْتسِب، وهل تُقايس بين البحر والسهل «وفِيهِمُ الْوَصِيَّةُ

والْوِرَاثَةُ»: إشارة إلى أختصاصه عليه السلام بوصية رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم، واختصاص أهله بوراثته، ويقال أراد بالوراثة ما يراه هو: أنه أولى به من أمر الخلافة و قوله «الآنَ إِذْ رَجَعَ الْحَقُّ إِلَی أَهْلِه ونُقِلَ إِلَ مُنْتَقَلِه»: أما مبتدأ، وخبر وعلى تقدير هذا الوقت، وقت رجوع الخلافة إلى أهله، وأما إذا رجع بدل من الآن والعامل فعل مضمر؛ تقديره كنت منتظراً مذ وفاة رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم؛ هذا الوقت وفي بعض النسخ قد رجع وهو ظاهر، وذلك إشارة منه عليه السلام، إلى أن الإمامة كانت في غير أهلها، وأنه هو أهلها، والأن وقت رجوعها إليه بعد انتقالها عنه، وقوله صلى الله عليه [وآله] وسلم «سلموا عليه بإمرة المؤمنين»(1) وقوله مشيراً

ص: 153


1- ينظرا: لاقتصاد للشيخ الطوسي: ص 203؛ وأيضاً الرسائل العشرة للشيخ الطوسي: ص 97؛ بدائع الصنائع لأبي بكر الكاشاني: ج 7 ص 10؛ الأمالي للشيخ الصدوق: ص 436؛ ومناقب الإمام أمير المؤمنين لمحمد بن سليمان الكوفي: ص 227

إليه وآخذاً بيده «هذا خليفتي فيكم من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا»(1) وقوله «أنت الخليفة من بعدي»(2) وغيرها وبالله العصمة.

ومن خُطبتُه عليه السلام؛ هذهِ الخُطبَة المَعرُوفةَ بالشِقْشقْيةِ وتعرف بالقُصّة.

أعِلم أن هذه الخطبة وما في معناها مما يشتمل على شكايته عليه السلام وتظلمه في أمر الإمامة وهو محل الخلاف بين الشيعة وجماعة من مخالفيهم.

«أَمَا والله لَقَدْ تَقَمَّصَهَا»: الخلافة أي لبسها كالقميص «فُلَانٌ»: أراد أن يبالغ عليه السلام في تلبس أبن أبي قحافة بالخلافة؛ فاستعار لها وصف القميص، وكني عن تلبسه بها، وقيده بالحال فقال: «وإِنَّه لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ

مِنَ الرَّحَى»: هو: مسمارها الذي عليه تدور؛ شبه عليه السلام محله من الخلافة بمحل القطب من الرحی؛ لأن القطب هو: الذي به نظام حركاتها، وحصول الغرض منها، وكان عليه السلام هو الناظم لأمور المسلمين على وفق الحكمة الإلهية، والعالم بكيفية السياسة الشرعية، جامعاً فيه أنواع التشبيه تشبيه المعقول بالمعقول؛ رسماً المحلان، لأن محل القطب هو كونه به نظام أحوال الرحى وذلك أمر معقول أو تشبيه المحسوس؛ أعني نفسه عليه السلام بالمحسوس أعني القطب وتشبيه المعقول وهي: الخلافة بالمحسوس، وهو القطب ولما كانت حاجة الرحی إليه ضرورية، ولا يظهر نفعها إلا به؛ فهم من تشبیه مَحَلّه بمحِلِهِ، أنه قصد أن

ص: 154


1- ينظر الرسائل العشرة للشيخ الطوسي: ص 97؛ وإرشاد القلوب للحسن بن محمد الديلمي: ج 2، ص 251؛ وكذلك تقريب المعارف لأبي صلاح الحلبي: ص 192
2- ينظر الرسائل العشرة للشيخ الطوسي: ص 97؛ وإرشاد القلوب للحسن بن محمد الديلمي: ج 2، ص 251؛ وكذلك تقريب المعارف لأبي صلاح الحلبي: ص 192

غيره لا يقوم مقَامَه في أمر الإمامة، ولا يتأهل لها مع وجوده، كما لا يقوم غير القطب مقامه في موضعه؛ ثم أكد ذلك بقوله «يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ» هو من أوصاف الجبل، والأماكن المرتفعة، وکنی به عن علو وشرفه مع فيضان العلوم والتدبيرات السياسية عنه واستعار لتلك الكمالات لفظ السيل وبقوله «ولَا يَرْقَى

إِلَيَّ الطَّیْرُ»: هو كناية عن غاية أخرى من العلو إذ ليس كل مكان عال بحيث ينحدر عنه السيل وجب أن لا يرقى إليه الطير فكان ذلك علوا أزيد كما قال أبو تمام:

مكارم لجُت في علوٍ كأنما *** تحاول ثاراً عند بعض الكواكب(1)

فَسَدَلْتُ: أرخيت دُونَهَا ثَوْباً: كناية عن احتجاجه عن طلبها والمبالغة فيها بحجاب الأعراض عنها، وأستعار لذلك الحجاب لفظ الثوب استعارة المحسوس للمعقول، وكذلك قوله «وطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً»: تنزيل لها منزلة المأكول الذي منع نفسه من أكله، فلم يشتمل عليه كشحه حاضرة، وقيل أراد بطي الكسح التفاته عنها؛ كما يفعل المعرف عمن إلى جانبه کما قال طوی کشحه عني وأعرض جانباً، «وطَفِقْتُ»: جعلت «أَرْتَئِي»: من الرأي يا طلب التدبير «بَیْنَ أَنْ أَصُولَ»: أحمل نفسي عليها «بِيَدٍ جَذَّاءَ»: مقطوعة أو مكسورة «أَوْ أَصْبِرَ»: عَلَى «طَخْيَةٍ»: ظلمة «عَمْيَاءَ»: متراكمة يريد أني جعلت أجيل الفكر في تدبير أمر الخلافة، وأُرّددهُ بين أن أصول على من حازها دوني، وأن أترك وفي كل واحد من هذين القسمين خطراً؛ أما القيام فبیدٍ جَذاء، وهو غير جائز لما فيه من التغرير بالنفس، وتشویش

ص: 155


1- البيت لأبي تمام وهو: حبيب بن أوس أبو تمام الطائي، قال: «النجاشي: حبيب بن أوس أبو تمام الطائي؛ توفي في أيام أبي جعفر الثاني عليه السلام؛ ينظر: تنقیح المقال للمامقاني: ج 1 ص 251 مجمع الفائدة للمحقق الأردبيلي في: ج 9 هامش: ص 52

المسلمين، من غير فائدة واستعار وصف الجذاء لعدم الناصر من أجل أن يقطع اليد مستلزم لعدم القدرة على التصرف بها والوصول، وعدم الناصر لها، والمؤيد مستلزم لذلك، وأما الترك ففيه الصبر على مشاهدة التباس الأمور، واختلاطها، وعدم تمييز الحق وتجريده عن الباطل، وذلك في غاية الشدة أيضاً، وأستعار لفظ الطخية لذلك الالتباس استعارة المحسوس للمعقول، ووجه المشابهة أن الظُلمة لا يهتدي فيها للمطلوب، واختلاط الأمور هاهنا لا يهتدي معها لتمييز الحق، وكيفية السلوك إلى الله، وكذا وصف الطخية بالعمى على وجه الاستعارة؛ فأن الأعمى لا يهتدي لمطالبهِ، وهذه الظلمة لا يهتدي فيها للحق ولزومه؛ ثم کنی عن شدة ذلك الاختلاط ومقاساة الحق بسبب عدم انتظام احوالهم، وطول مدة ذلك بأوصاف «يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِیرُ ويَشِيبُ فِيهَا الصَّغِرُ، ويَكْدَحُ»: يسعى «فِيهَا مُؤْمِنٌ» ويجتهد في لزوم الحق والذب عنه ويقاسى من ذلك الاختلاط شدائد «حَتَّى

يَلْقَى رَبَّه»: وقيل يدأب، ويجتهد في الوصول إلى حقه؛ فلا يصل حتى يموت؛ ثم أشار بعد ذلك إلى ترجح رأيه في اختيار الصبر، وترك القيام في هذا الأمر، بقوله عليه السلام «فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا»: لغة في هاتي وهي: لغة في هذي وهذه «أَحْجَی»: أولى بالحجي وهو العقل، وجه الترجح أنه أراد عليه السلام من هذه المناقشة اقامة الدين، وأجراء قواعده على القانون المستقيم، ونظام أمور الخلق: كما هو المقصود من مقالات الشارعين صلوات الله عليهم أجمعين، وكانت صولته لمنافسته في الإمامة بغير ناصر يتم القيام به، ومع ذلك ففيه تفرق كلمة المسلمين، وثوران الفتن بينهم خصوصاً، والإسلام غض لم ترسخ محبته في قلوبهم، ولا في قلوب كثير من الخلق، ولم يطعموا حلاوته وفيهم المنافقون، والأعداء المشركون في غاية القوة من كل الأقطار، فلم يمكنه مع ملاحظة هذه الأحوال أثارة الحرب

ص: 156

والمنازعة لأداء ذلك إلى ضد ماهو مقصود له بمحاربته، وأما الصبر وترك المقاومة، وأن كان فيه بحسب رأيه الصواب ما ذكره من اختلال الدين، وأنه لو كان هو القائم بهذا الأمر؛ لكان انتظامه به أتم وقوامه به أكمل؛ إلا أنه أقل بالنسبة إلى الاختلال الذي كان يحصل لونازع في هذا الأمر وقام في طلبه، وبعض الشر أهون من بعض؛ «فَصَبَرْتُ وفِي الْعَیْنِ قَذًى»: لمايتأذى به العين من غبارٍ ونحوه، «وفِي الْخَلْقِ شَجًا»: ما أعترض في الحلق حالان من فاعِل صبرت؛ کنایتان عن شدة ما أضمره من التأذي، والعين سبب سلبه ما یرى أنه أولى به من غيره، وما يعتقده من الخبط في الدين بيده، «أَرَى تُراثِي میراثي نَهباً»: غارة حال من نسبته الشجي إلى الخلق، والمراد أما منصب الخلافة كما في قوله تعالى حكاية عن زکریا «يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ»(1) أي يرث علمي، ومنصبي في النبوة؛ أو ما خَلّفَ رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم لابنته فدك، لأن مال الزوجة في حكم مال الزوج، والنهب إشارة إلى منعه حتی، «حَتَّى مَضَى الأَوَّلُ لِسَبِيلِه،

فَأَدْلَی بِهَا» القاها إِلَی فُلَانٍ بَعْدَه»: أراد بالأول أبا بكر، وبفلان عمر وأشار بالأول إلى نص أبي بكر على أن يكون عمر هو الخليفة، ومضيّه لسبیله انتقاله إلى الدار الآخرة وسلوكه، السبيل الذي لابد منه لكل إنسان «ثُمَّ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ الأَعْشَى»: میمون بن جندل من بني قيس «شَتَّانَ مَا يَوْمِي عَلَى كُورِهَا»: راحلة الناقة «ويَوْمُ حَيَّانَ أَخِي جَابِرِ»(2):

ص: 157


1- سورة مريم: الآية 6
2- فهذا البيت لأعشى قيس من جملة قصيدة، أولها: علقم ما أنت إلى عامر *** الناقض الأوتار والواتر فأما حيان فهو: أخو جابر، وهو رجل من بني حنيفة؛ فأراد ما أبعد ما بين يومي على كور المطية؛ أدأب وأنصب في الهواجر والصنابر، وبن يومي وادعاً قاراً منادما لحيان أخي في نعمة، وخفض، وأمن، وخصب، وروي: أن حيان هذا كان شريفاً معظماً عتب على الأعشى، كيف نسبه إلى أخيه وعرفه به؟! واعتذر الأعشى أن القافية ساقته إلى ذلك، والغرض في تمثيله صلوات الله عليه؛ بهذا البيت تباعد ما بينه عليه السام وبن القوم؛ لأنهم قلدوا بآرائهم ورجعوا بطلابهم، وظفروا بما قصدوه، واشتملوا عى ما اعتمدوه. وهو عليه السلام في أثناء ذلك كله مجفو في حقه؛ مكمد من نصيبه، فالبعد كما رآه عنهم، واختاف شديد، والاستشهاد بالبيت، واقع في موقعه، ووارد في موضعه: ينظر الرسائل الرسائل العرة للشريف المرتى: ج 2 ص 110؛ وكذلك منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة لقطب الدين الراوندي: ص 124

كان صاحب الحصن باليمامة، وكان سيداً مطاعاً، يصله کسرى في كل سنة، وكان في نعمة مصوناً من وعثّاء السفر؛ لا يسافر أبداً لأن ما كان واراد، ما أبعد ما بين يومي على كور المطية، أذاب وأنصب في الهواجر، وبين يومي منادماً حيان أخي جابر، وادعة قارة في نعمة وحق ، وأما غرض التمثيل، ما أفاد السيد المرتضی رضي الله عنه أنه عليه السلام: أراد بذلك أن القوم لما فازوا بمقاصدهم وهو: في ذلك محق في حقه مُکد في نصبه كما أشار إليه عليه السلام، كان بين حالهم وحاله بعدٌ بعيد، وافتراقٌ شدید، فأستشهد عليه السلام بهذا البيت واستعار لفظ اليومين، وکنی بهما عن حاله وحالهم ووجه المشابهة في هذا المثل، أن حالهم استلزم حصول المطالب کيوم حیان وحاله عليه السلام استلزم المتاعب گیومه في كوز ناقته مسافراً، هذا ويحتمل استعارة يوم حيان لعهده مع رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم، وما حصل له في مدة صحبته في الفوائد الجسمية والكمالات ويوم الكور لزمانه بعد رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم وما لحقه من مقاسات المحن ووجه المشابهة المسار والمضار؛ ثم دِعى التعجب بقوله «فَيَا عَجَباً»: أقبل فهذا أو أنك «بَیْنَا»: بين أوقات «هُوَ»: أبن أبي قحافة(1) «يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِه» بطلب الإقالة ويقول: أقيلوني فلست بخيرّكم «إذْ

ص: 158


1- أبن أبي قحافة: هو عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن کعب بن سعد بن تیم مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مر أمه أم الجند سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة؛ ويكنى أبو بكر؛ وابن أبي قحافة؛ ويقال له عتيق

عَقَدَهَا»: ووصي بها «لِآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِه»: وجه التعجب أن طلبه الأفك من هذا الأمر، أنما هو لثقله وكثرة شرائطه وشدة مراعاة أجراء أحوال الخلق مع اختلاف طبائعهم، واهوائهم على قانون واحدٍ وخوفه أن يعتری مطایا الهوى فترديه في موارد الهلاك، وعلى هذا التقدير؛ فكل ما كانت مدة ولاية الإنسان لهذا الأمر أقصر؛ كان خوفه أقل ومتاعبه أيسر، وسبيل طلب الإقالة من هذه الأمر وأمثاله، ومقتضى طلبه لذلك أن يتحرى قلة متاعبه، ويجتهد في الخلاص منه مهما أمكنه ذلك؛ فإذا رأيناه متمسكاً بهذا الأمير مدة حياته، وعند وفاته يعقده لآخر بعده؛ فيتحمل مدار هذا الأمر في حال الحياة وبعد الوفاة؛ فلابد وأن يغلب على الظن أن طلبه لها لم يكن عن قصد صحيح فيصير ذلك الظن مقابلاً لما أشتهر عنه من العدالة، وذلك محل التعجب، وهذا بخلاف من أشتهر بالفسق والنفاق؛ فأنه لا يتعجب من فعله لو خالف، قوله «لَشَدَّ»: صعب مَا «تَشَطَّرَا»: اخذ كل منهما شطراً «ضَرْعَيْهَا»: اللام للتأكيد، وما مع الفعل بعدها في تقدير المصدر، وهو فاعل شد، والجملة من تمام التعجب، وقد استعار عليه السلام لفظ الضرع هنا للخلافة، وهي استعارة مستلزمة لتشبيهها بالناقة، وجه المشابهة المشاركة في الانتفاع الحاصل منها، والمقصود وصف اقتسامهما لهذا الأمر المشبه لاقتسام الحالّين خلاف الناقة بالشدة على من يعتقد أنه أحق بها منهما أو على المسلمين الذين يشبهون الأولاد لهذا، «فَصَيَّرَهَا»: إذ عقدها له «فِي حَوْزَةٍ» : ناحية خشنا، کنی بها عن طبيعة عمرو فأنها كانت توصف بالحفاوة والغلظ في الكلام والتسرع إلى الغضب وذلك معنی خشونتها «يَغْلُظُ كَلْمُهَا» : جراحتها کناية عن غلظ المواجهة بالكلام، والجرح به؛ فأن الضرب باللسان أعظم من وجز السنان،

ص: 159

«ويَخْشُنُ مَسُّهَا» : كناية عن خشونة طباعة المانعة عن سيل الطباع إليه المستلزمة للأذى، كما يستلزم مس الأجسام الخشنة «ويَكْثُرُ الْعِثَارُ»: الزلة «والِعْتِذَارُ مِنْهَا» من الحوزة إشارة إلى ما كان يتسرع إليه من الأحكام ثم يعاود النظر فيها، فيجدها غير صابيته فيحتاج إلى الاعتذار فمن ذلك ما روى أنه أمر برجم إمرأة زنت وهي حامل، فعلم علي عليه السلام بذلك فجاء وقال له: «أن كان لك سلطان عليها؛ في سلطانك على ما في بطنها؛ دعها حتى تضع ما في بطنها ثم ترضع ولدها»(1) فعندها قال: لولا علي لهلك عمر وتركها، وكذلك ما روى أنه أمر أن يؤتي بإمرأة وكانت حاملاً فارتعبت منه فأجهضت جنیناً؛ فجمع جمع من الصحابة، وسألهم ماذا يجب عليه؟ فقالوا: أنت مجتهد ولا نرى أنه يجب عليك شيء فراجعه عليه السلام في ذلك، وأعلمه بما قالوا؛ فأنكر ذلك وقال: أن كان ذلك عن اجتهاد منهم فقد أخطؤوا، وأن لم يكن فقد غشوك أرى عليك العزة فعندها قال: لا عشت لمعضلة لا تكون لها یا ابا الحسن(2)، ومنشأ ذلك وأمثاله غلبة القوة الغضبية وغلظ الطبيعية، فَصَاحِبُهَا أي الحوزة «كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ»: الناقة التي «لم يذلل إنْ أَشْنَقَ لَها»: جذب رمامها إلى نفسه ليمسكها عن الحركة العنيفة حزم قطع «وإِنْ أَسْلَسَ»: أرخى لها «تَقَحَّمَ»: يقال تقحّم في الأمر إذا ألقي فيها نفسه بقوة؛ يعني أن صاحب تلك الأخلاق في حاجته إلى المداراة، وفي صعوبة حاله کراکب الصعبة؛ فكما أن راكبها يحتاج إلى الكلفة الشاقة في مداراة أحوالها؛ فهو معها بين خطرين أن وإلى الجذبات في وجهها بزمام خرم أنفها، وأن أساس لها في القياد تقحمت به المهالك، كذلك مصاحب المبتلى بها، أن أكثر

ص: 160


1- مسند زيد بن علي: ص 235؛ الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف السيد ابن طاووس: ص 516، المناقب للموفق الخوارزمي: ص 81
2- يُنظر: الإيضاح: للفضل بن شاذان: هامش ص 192؛ كذلك قريب منه ما رواه الشيخ المفيد في الإرشاد: ج 1 ص 204، ومثله باختلاف يسير رواه الشيخ الطبرسي في الاحتجاج: ج 1 ص 285

عليه أنکار ما يتسرع، أدى ذلك إلى مشاقة وفساد الحال بينهما، وأن سكت عنه و ترکه وما يصنع أدى إلى الأخلال بالواجب، وذلك من موارد الهلكة، ويحتمل عودها إلى الخلافة وصاحبها من توالى أمرها إذا كان عادلاً، مراعياً لأمر الله وحقه، فأنه أن فرط في المحافظة على شرائطها وأهمل أمرها القاه التفريط في موارد الهلكة فكان في ذلك کراکب صعبته، أسلس قيادها وأن أفرط في حمل الخلق على أشد مراتب الحق، وبالغ في الاستقصاء عليهم في طلبه أوجب ذلك تضجرهم منه، ونفار طبعهم وتفرقهم عنه، وفساد الأمر عليه لميل أكثرهم إلى حب الباطل، وغفلتهم عن فضيلة الحق؛ فيكون في ذلك كمن أشنق الصعبة التي هو راكبها حتى خرم أنفها، ويحتمل أيضا أنه أراد بصاحبها نفسه عليه السلام؛ لأنه أيضاً بين خطرين؛ أما أن يستفيء ساکناً عن طلب هذا الأمر والقيام فيه؛ فيقتحم بذلك في موارد الذل والصغار کما، تقحم راكب الصعبة المسلس لها قيادها، وأما أن يقوم فيه ويتشدد في طلبه، فيتشعث أمر المسلمين وينشق عصاهم؛ فيكون في ذلك كمن أنشق لها فخرم، والله الموفق.

«فَمُنِيَ»: ابتلى الناس «النَّاسُ لَعَمْرُ الله»: لعمر الله حَلف تقَاية، «بِخَبْطٍ» حرکه على غير استقامة؛ كناية عما ابتلوا به من اضطراب الرجل وحركاته التي كان يفقمها عليه، «شِمَاسٍ»: نفار إشارة إلى جفاوة طباعه وخشونتها «وتَلَوُّنٍ واعْتِرَاضٍ»: عبارة عن انتقاله من حالة إلى أخرى في أخلاقه وجَه المشابَهة في هذه الاستعارات أنّ خبط البعير وَشماس الفَرس واعتراضهَا في الطريق حركاتٌ غير منظومة وحركات ذلك الرجل أيضاً كذلك، وأشار إلى اضطراب الأمر وتفرق الكلمة، وعدم انتظام الأمور ثم أردف ذلك بتكریر ذکر صبره، على ماصبر عليه مع الثانی کما صبر مع الأول، فقال: «فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ»: مدة تخلف الأمر عنه وشدة المحنة بسبب فوات حقه، وما يعتقده من لوازم ذلك القوت، وهو عدم انتظام أحوال الدين،

ص: 161

وأجرائه على قوانينه الصحيحة ولكل واحد من هذين الأمرين حصة في استلزام الأذى الذي يحسن في مقابلة الصبر، «حَتَّى إِذَا مَضىَ لِسَبِيلِه، جَعَلَهَا فِي جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ»: حتّى هاهنا لانتهاء الغاية والغاية لزوم يأبى الشرطية لمقدّمها أعني: جَعَله لها في جماعة لمضيّیه في سبيله، وأشار بها إلى أهل الشورى، وخلاصة حديث الشورى؛ أن عمر لما طُعن دخل عليه وجوه الصحابة فطلبوا الاستخلاف فقال: لا أحب أن أتحملها حياً وميتاً فقالوا: أفلا تشير علينا؟ قال بلى: أن أجبتم فقالوا نعم: فقال: «الصالحون لهذا الأمر سبعة نفر سمعت رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم أنهم من أهل الجنة أولهم سعید بن زید(1) وأنا مخرجه منهم، لأنهم من أهل بيتي، وسعد بن أبي وقاص(2)، وعبد الرحمن بن عوف(3)، وطلحة(4) والزبير(5)،

ص: 162


1- سعید بن زید بن عمرو بن نفیل بن عبد العزى ابن ریاح بن عبد الله بن قرط بن زراح بن عدی بن کعب بن لؤي، ويكنى أبا الأعور وأمه فاطمة بنت بعجة بن أمية بن خویلد؛ ينظر: الإكمال في أسماء الرجال للخطيب التبريزي: ص 84
2- سعد بن أبي وقاص الزهري ، فإنه كان منحرفا عن أمير المؤمنين عليه السلام، وهو أحد من قعد عن بيعته في وقت ولايته؛ يُنظر رسائل الشريف المرتضى: ج 2: ص 111
3- عبد الرحمن بن عوف بن الحارث بن زهرة بن كلاب. قيل كان اسمه في الجاهلية عبد الحارث؛ عده الشيخ الطوسي في رجاله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، وهو أحد الأركان يوم السقيفة في بيعة أبي بكر، وكان من إخصائه في الجاهلية ، ولما هلك أوصى أن يصلي عليه عثمان؛ يُنظر الخلاف للشيخ الطوسي: ج 2 ص هامش ص 487؛ الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 3 ص 124
4- أبو محمد طلحة بن عبيد الله بن عثمان القرشي المدني، روي عن النبي صلى الله عليه وآله وروى عنه أولاده محمد وموسى، والسائب بن یزید، وجابر بن عبد الله الأنصاري، كان في قتال أمير المؤمنين عليه السلام يوم الجمل وكان أول قتيل رماه صاحبه مروان بن الحكم بسهم فأصاب ركبته ومات منه، وكان ذلك سنة 36؛ يُنظر الخلاف للشيخ الطوسي: ج 2 هامش ص 62
5- الزبير بن العوام بن خویلد بن أسد الأسدي، أبو عبد الله، شهد بدرا وما بعدها، روی عن النبي صلى الله عليه وآله، وعنه ابنه عبد الله وعروة والأحنف بن قيس ومالك بن أوس ، قتل في معركة الجمل سنة 36؛ يُنظر الخلاف للشيخ الطوسي: ج 1 هامش ص 609

وعثمان(1) وعلي عليه السلام(2)؛ فأما سعد فلا يمنعني منه إلا عنفه وفضاضته، وأما من عبد الرحمن فلانه قارون هذه الأمة، وأما من طلحة فتكرمه ونخوته، وأما من الزبير فشحه، ولقد رأيته بالبقيع يقاتل على صاع من شعير، ولا يصلح لهذا الأمر إلا واسع الصدر، وأما عثمان فحبه لقومه وعصبته، وأما علي(3) فسبحان الله ؛ فحرصه على هذا الأمر ودعابه(4) فيه؛ ثم قال يصلى صهیب(5) بالناس ثلاثة أيام، ويخلى الستة في بيت ثلاثة أيام حتى يتفقوا على رجل منهم؛ فأن أستقام أمر خمسة وأبي رجل فاقتلوه، وأن أستقام أمر ثلاثة وأبي ثلاثة، فكونوا مع الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن

ص: 163


1- عثمان بن عفان بن أبي العاص بن عبد شمس، ولد بعد عام الفيل بست سنوات ثالث من تولى الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله سنة 23 هجرية وقتل سنة 35 هجرية ودفن في حش کوکب؛ يُنظر الخلاف للشيخ الطوسي: ج 1 ص: هامش ص680؛ انظر أسد الغابة: ج3 ص 376، والإصابة: ج 2 ص 455، وشذرات الذهب: ج 1 ص 40
2- السلام على علي أمير المؤمنين من المصنف، وليس من عمر؛ إذ لم يكن عمر يسلم على الإمام علي عليه السلام؛ إذا تحدث
3- علّي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف أمير المؤمنين عليه السلام ك؛ كنيته أبو الحسن، وُلد بمكّة في نفس الكعبة يوم الجمعة لثلاثة عشر ليلة خلَت من رجب بعد عام الفيل بثلاثين سنة (6)، وقُبض (عليه السلام) قتيلا بالكوفة ليلة الجمعة لتسع ليال بقين من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة، وله يومئذ ثلاث وستّون سنة و، أُمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف. وهو أوّل هاشميّ وُلد في الإسلام من هاشميّين، وقبره بالغري من نجف الكوفة؛ يُنظر تحریر الأحكام للعلامة الحلي: ج 2 ص 120؛ كذلك أنظر التاريخ الكبير للبخاري: ج 6 ص 259
4- والدُّعابةٌ: اللَّعِبُ. ينظر لسان العرب لابن منظور: ج 1 ص 376
5- صهيب بن سنان بن عبد عمرو بن عقيل بن عامر بن جندله بن سعد بن خزيمة؛ هو مولى عبد الله بن جدعان بن عمرو بن کعب بن سعد بن تیم بن مرة بن کعب بن لؤي يكنى أبا يحيی مات أحسبه سنة ثمان وثلاثين؛ ينظر طبقات خليف لخليفة بن خياط العصفري: ص 119

بن عوف»(1)، فلما خرجوا من عنده قال عبد الرحمن أنى لي ولأبن عمي سعد من هذا الأمر الثلاث فنحن نخرج أنفسنا منه على أن نختار رجلاً هو خيّركم للأمة فقال القوم: رضينا غير علي عليه السلام(2)، وقال أنظر: فلما آیس من رضاه قال لسعد هلم تعيّن رجلاً ونبایعه؛ فقال سعد: أن بايعك عثمان فأنا لكم ثالث، وأن أردت أن تولي عثمان؛ فعليٌ أحبُ إلي؛ فلما آیس من مطاوعة سعد كف عنهم، وجائهم أبو طلحة في خمسين رجلاً من الأنصار يحثهم على البيعة، فأقبل عبد الرحمن على علي عليه السلام، وأخذ بيده وقال أبايعك أن تعمل بكتاب الله وسنة رسول الله وسيرة الخليفتين أبي بکر وعمر فقال عليه السلام: تبايعني على أن أعمل بكتاب الله وسنة رسوله، وأجتهد رئّيِ، فترك يده ثم أقبل على عثمان وأخذ بيده وقال له مثل مقالهِ لعلي عليه السلام؛ فقال نعم: فكرر القول على كل منهما ثلاثاً، فأجاب كّلٌ ما أجاب به أولاً؛ فبعدها قال عبد الرحمن: هي لك يا عثمان، وبايعه ثم بايعه الناس، ثم أردف حكاية الحال بالاستغاثة بالله للشورى، والاستفهام عن وقت عروض الشك لأن أذهان الخلق في أن الأول هل يساويه في الفضل أو لا يساويه؟ استفهاما على سبيل الأنکار، والتعجب من عروضه لأذهانهم إلى غاية أن قاسوه بالخمسة المذكورين، وجعلوهم نظائر وأمثالاً في المنزلة، واستحقاق هذا الأمر فقال: «فَيَا للهَ ولِلشُّورَى»: المشاورة «مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الأَوَّلِ مِنْهُمْ، حَتَّى صِرْتُ أُقْرَنُ إِلَی هَذِه النَّظَائِرِ»: ثم ذكر مساهلته مزيلاً لدفع التوهم الناشيء من السابق فقال: «لَكِنِّي أَسفْتُ»: قاربت «إِذْ

أَسَفُّوا» و «إذ طاژوا»: استعار اسفاف الطائر والطيران لمقاربته لمرادهم وتصرفه على قدر اختيارهم أولاً وآخراً «فَصَغَا رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِه»: حقده، إشارة إلى سعد

ص: 164


1- يُنظر: الاحتجاج للشيخ الطبرسي: ج 1 هامش ص 386، وكذلك شرح نهج البلاغة: لابن میثم البحراني: ج 1 ص: 361
2- ما بين المعقوفين للمصنف

بن أبي وقاص فأنه كان منحرفاً عنه عليه السلام وهو أحد المتخلفين عن بيته بعد قتل عثمان، «ومَالَ الآخَرُ لِصِهْرِه» یعني عبد الرحمن بن عوف، فأنه مال إلى عثمان لمصاهرة كانت بينهما، وهي أن عبد الرحمن كان زوجاً لأم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وهي أخت عثمان لأنه، «مَعَ هَنٍ وهَنٍ»: كناية شَيَّن وأصله هاهنا: يريد أن میله اليه ولم تكن بمجرد المصاهرة بل لأشياء أخرى يحتمل أن يكون نفاسة عليه وغبطة له بوصول هذا الأمر إليه، أو غير ذلك «إِلَی أَنْ قَامَ ثَالِثُ الْقَوْمِ عثمان «نَافِجاً»: رافعاً «حِضْنَيْه»: جانبيه بين الإبط والخاصرة، «بَيْنَ نَثِيلِه» روّثه «ومُعْتَلَفِه»: موضع الاعتلاف کنی علیه السلام، بقيامه عن حركته في ولايته أمر الخلافة، وأثبت له حالاً يستلزم تشبيه بالبعير واستعارة، وصفه له وهو نفخ الحضنين، وكني عن استعداده للتوسع ببیت المال وحركته في ذلك؛ کما نسبت إليه تشبيهاً له بالبعير ينتفج جنباه؛ بكثرة الأكل كذلك المتوسع في الأكل والشرب وكذلك قوله بين نثيله، ومعتلفه وهو متعلق بقام، ومن أوصاف البهائم، وجه الاستعارة أن البعير کما لا اهتمام له بشي أكثر من أن يكون بين أكل وشرب وروث؛ كذلك لم يكن أكبر همه إلا الترفه، والتوفر في المطعم، والمشرب وسائر مصالح البدن، واقاربه دون ملاحظة أمور المسلمين، ومراعاة مصالحهم، «وقَامَ مَعَه بَنُو أَبِيه يَخْضَمُونَ»: يأكلون بجميع أفواههم حال من بني أبيه، «مَالَ الله»: بیت المال وأراد بني أبيه بني أمية بن عبد شمس، ويحتمل أن يريد أقرباه مطلقاً، وتخصيص البنين تغليب للذكورة، والخضم كناية عن كثرة توسعهم بمال المسلمين من يده «خِضْمَةَ الإِبِلِ» نِبْتَةَ الرَّبِيعِ: بكسر النون النبات أي مثله وجه الشبه أنها تستلذ بنبته بشهوة صادقة وتملأ منه بطنها، وذلك لمجيئه عقيب يبس الأرض، وطول مدة الشتاء و طیبه و نضارته، فشبه ما أكله أقارب عثمان من بیت المال لذلك من جهة كثرته وطيبه لهم عقيب ضرهم وفقرهم، روي أنه دفع إلى أربعة نفر من قریش زوّجهم ببناته أربع مائة ألف دينار، ولمّا فتح إفريقيّة أعطى

ص: 165

مروان بن الحكم مائة ألف دينار، وأن أبا موسى الأشعريّ بعث إليه بمال عظیم من البصرة فجعل يفرّقه في ولده وأهله، وكان ذلك بحضرة زياد بن عبيد؛ فبكى لمّا رأى فقال له: لا تبك فإنّ عمر كان يمنع قرابته ابتغاء وجه الله، وأنا أعطي أهلي و قرابتي ابتغاء وجه الله، وأنّه ولى الحكم بن أبي العاص صدقات قضاعة؛ فبلغت ثلاث مائة ألف فوهبها له حين أتاه بها، وأنّ عبد الله بن خالد بن أسيد قدم عليه من مكَّة، ومعه ناس فأمر له بثلاث مائة ألف، ولكلّ واحد منهم بمائة ألف، وبالجملة فمواهبه الأهله وذويه مشهورة، وكل ذلك في معرض الذم والتوبيخ المستلزم لارتكاب مناهي الله المستلزم لعدم التأهل لأمر الخلافة «إِلَی أَنِ انْتَكَثَ»: انتقض «فَتْلُه»: استعارة الفتل وهو برم الحبل، لما كان يبرمه من الرأي والتدبير ويستبد به دون الصحابة، والانكاث لانتقاصها ورجوعها وبالفساد والهلاك وقوله «وأوأَجْهَزَ اشرع عَلَيْه عَمَلُه»: يشتمل على مجاز في الأفراد والتركيب، «أما الثاني»: فظاهر لأنه أسناد إلى السبب وأما الأول فلان استعمال الإجهار أنما يكون حقيقة في قتل تقدمّه جرح المقتول أو أثخان بضرب ونحوه، ولما كان قتله مسبوقاً بطعن أسنة الألسنة والجرح بحداد سيوفها لأجرم أشبه فتله الإجهار، فأطلق عليه، وكذلك، «وكَبَتْ بِه بِطْنَتُه»: شدة الامتلاء لغةً، وکنی به هاهنا عن توسعه بیت المال، وذلك لأن الكبو أنما هو: حقيقة في الأسناد إلى الحيوان ولما كان ارتكابه للأمور التي نقمت عليه، واستمراره على ذلك مدة خلافته، سليم يشبه ركوب الفرس واستمرار مشبه سليماً من العثار والكبو كانت البطنة مشبهة للمركوب من هذه الجهة، فلذلك صح أسناد الكبو إليها مجازاً «فَمَا رَاعَنِي إِلَّا والنَّاسُ

اليّ» : متعلق بمحذوف تقديره مقبلون اليّ، وفاعل راعيني؛ أما الجملة الاسمية؛ كما قاله: الكوفيون أو ما كانت مفسرة له من المصدر؛ کما هو رأي البصريين نظيره «ثُمَّ

ص: 166

بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ» «كَعُرْفِ الضَّبُعِ يَنْثَالُونَ» يتابعون «عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ»: أما خبر ثان أو حال؛ أراد علیه السلام وصف ازدحام الناس عليه للبيعة بعد قتل عثمان، وقد شبههم في أقبالهم إليه وازدحامهم عليه بعرف الضبع، ووجه ذلك أنه ذات عرف كبير قائم الشعر، والعرب يُسمها عرفاً لعظيم عرفها، فكان حال الناس في أقبالهم عليه متتابعين يتلو بعضه بعضاً قياماً يشبه عرف الضبع، وقوله «حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ الْحَسَنَانِ وشُقَّ عِطْفَايَ»: أي منكباي إشارة إلى غاية ازدحامهم عليه وهي وطي ولديه الحسن والحسين عليهما السلام، والمراد بالشق أما الأذي الحاصل للمنكبين؛ أو شق قميصه بالجلوس على جانبيه، وإطلاق لفظ العطفين على جانبي القميص مجاز؛ أطلاق اسم المجاوز على مجاوزة، وروي عطفاي أي: ردائي، ومن عادة العرب أن يكون أمراؤهم کسائرهم في قلة التوقير والتعظيم في سائر المخاطبات، وفعلهم ذلك أما فرح به عليه السلام، أو خلافته طباع رعاعهم، وحكى السيد المرتضى أن محمد بن عبد الواحد روي أنهما الإبهامان.

وأنشد للشنَّفري: مهضومة الكشَحيْن خرماء الحسن.

وروى أن أمير المؤمنين أنما كان يومئذ جالساً محتبياً وهي: جلسة رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم المسماة بالقرفصاء؛ فلما اجتمعوا حتى ليبايعوه زاحموه

ص: 167

حتی وطئوا ابهاميه وشقوا ذيله بالوطي، ولم يعني الحسن والحسين، وهما رجلان کسائر الحاضرين، وهذا القول يؤيد الرواية الثانية، وأعلم أن أرادته للحسن والحسين «أظهر مُجْتَمِعِینَ حَوْلِ كَرَبِيضَةِ الْغَنَمِ»: هي الغنم برعاتها المجتمعة في مرابضها، والعامل فيه؛ أما العامل في الحال السابق، أو وطي أو شق وقد شبه اجتماعهم حوله بها ووجهه ظاهر، ويحتمل أن يلاحظ فيه مع الهيئة زيادة، وهي أنه شبههم بالغنم لغفلتهم عن وضع الأشياء في مواضعها وقلة فطانتهم وعدم استعمالهم للأدب معه، أو مطلقا والعرب تصف الغنم بالغباوة وقلة «الفطانة فَلَمَّا نَهَضْتُ»: قمت «نَكَثَتْ طَائِفَةٌ»: طلحة والزبير لأنهما بایعاه ونقضا بيعته بخروجهما عليه، وكذلك من تبعهما ممن بایعه «ومَرَقَتْ»: خرجت «أَخْرَى»: الخوارج «وَفَسْقَ آخَرُونَ»: أصحاب معاوية، وهذه الأسماء سبقت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ إذ حكى في موضع آخر أنه أخبره بأنه سيقاتل الناكثين، والمارقين، والقاسطين بعده، وإنما خص الخوارج بالمروق لأنه مجاورة السهم للوصية، وخروجه منها، ولما كانت أولاً منتظمين في الحق؛ إلا أنهم بالغوا بزعمهم في طلبه حتی تعدوه، حَسُنَ أن يستعار لهم المروق قال: صلى الله عليه وآله «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية»(1) وأما تخصيص أهل الشام بالقاسطين، والفاسقين فلأنّ مفهوم كل منهما الخروج عن سنن الحق، وقد كانوا كذلك لمخالفته عليه السلام، والخروج عن طاعته وقوله، «كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا الله سُبْحَانَه يَقُولُ»: «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ»(2) تنبيه لأذهان الطوائف الثلاث المذكورة، ومن عساه

ص: 168


1- کتاب سلیم بن قیس الهلالي: ص 234؛ شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي: ج 1 ص 389؛ المجازات النبوية: للشريف الرضي: ص 33
2- سورة القصص: الآية 83

يتخيل أن الحق في سلوك مسالكهم على أن ما فعلوه من المخالفة عليه والقتال له إنما هي طلب للعلو والمفاخرة في الدنيا المستلزم للسعي في الأرض بالفساد وأعراض عن الدار الآخرة وحسمٌ لمادة أعذارهم «أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ»(1) فيقولوا عند لقاء ربهم لو سمعنا هذه الآية ووعينا لها لما ارتكبنا هذه الأفعال، ويزعمون أن الحق في هذه المتصلة(2) هو: استثناء نقيض تاليها لينتج بهم نقيض مقدّمها، وتقديره عليه السلام هذا العذر على سبيل التهكم بهم، وأنهم لا عذر لهم في الحقيقة عما فعلوه، ثم أراد عليه السلام تكذيبهم في ذلك العذر، على تقدير اعتذارهم فأشار إلى تكذيب النتيجة بوضع نقيضها إلى منع لزوم هذه المتصلة بقوله «بَلَى والله لَقَدْ سَمِعُوهَا ووَعَوْهَا» و حفظوها، «ولَكِنَّهُمْ حَلِيَتِ»: تزینت «الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ ورَاقَهُمْ»: اعجبهم «زِبْرِجُهَا» زينتها ونبه على أن وضع المقدّم المذكور في المتصلة لا يستلزم تاليها مطلقاً، بل استلزامه له موقوف على زوال مانع هو: حاصل لهم الآن، وذلك المانع هو: غرور الدنيا لهم بزينتها واعجابهم بها: وعلى تقدير حصول المانع المذكور جاز أن يجتمع هذا المقدم مع نقيض التالي المذكور وهو: ارتکاب ما ارتكبوه من الأفعال، ولما ذكر من حال القوم وحاله معهم ما ذكر من الشكاية والظلم في أمر الخلافة، وذم الشورى وما

ص: 169


1- سورة الأعراف: الآية 172
2- المتصلة: قاعدة قياس في علم المنطق؛ ضمن القياس الاستثنائي؛ لتثبيت القضية الحقيقية، ولها مقدم وتالي، ومثاله: استثناء نقيض التالي لينتج نقيض المقدم؛ لأنه إذا انتفى اللازم انتفى الملزوم قطعاً، حتى لو كان اللازم أعم، ولكن لو استثني نقيض المقدم فإنه لا ينتج نقيض التالي؛ والمعنى: أن في كل قضية هناك مقدمة ونتيجة، فإذا وقع استثناء في المقدمة؛ فإن النتيجة أيضاً سوف تستثنی، وفي قضية الاعتذار، فالمقدمة مستثناة لأنها كذب، فالنتيجة: هي بطلان الاعتذار ورفضه

انتهى إليه من الحال التي أوجبت نزوله عن مرتبته إلى أن قرن بالجماعة المذكورين أردف ذلك ببيان الأعذار الحاملة له على قبول هذا الأمر، والقيام به بعد تخلفه عنه إلى هذه الغاية وقدم على ذلك شاهد هذا القسم العظيم بهاتين الإضافتين فقال: «أَمَا والَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ»: قال عز وجل «فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى»(1) وبَرَأَ النَّسَمَةَ الإنسان أي خلقها وأخالك إيها الحريص على ازدياد فضلك تقول؛ فما وجه التخصيص بها؟ أقول: ما يشتملان عليه من أسرار الحكمة، وبدائع الصنع الدالة على وجود الصانع الحكيم؛ أما فلق الحبة ففسر بن عباس بخلقه؛ فعلى هذا يكون كقوله عليه السلام: فطر الخلائق بقدرته والجمهور على أنه هو: الشق في وسطها، جعل الله سبحانه فيه ذلك حتى أذا وقعت في الأرض الرطبة ثم مرت بها مدة جعل الأعلى من ذلك الشق، مبدأ الخروج الشجرة الصاعدة إلى الهواء والطرف الأسفل مبدأ للعروق الهابطة إلى الأرض التي منها مادة تلك الشجرة، وفي ذلك بدائع من الحكمة شاهدة بوجود المدير الحكيم، «أحدها»: أن طبيعة تلك الحبة أن كانت تقتضي الهوى في عمق الأرض فكيف تولدت منها الشجرة الصاعدة في الهوى وعلى العكس فلما تولد منها أمران متضادان علمنا أن ذلك ليس بمجرد الطبيعة بل مقتضى الحكمة الإلهية «وثانيها»: أنا نشاهد أطراف تلك العروق في غاية الدقة واللطافة، بحيث لو دلكها الإنسان بأدني قوة صارت کالماء، ثم أنها مع غاية تلك اللطافة تقوى على خرق الأرض الصلب وتتقدم في مسام الأحجار فحصول هذه القوة الشديدة لهذه الأجرام اللطيفة الضعيفة لابد وأن يكون بتقدير العزيز الحكيم، وثالثها: أنك قد تجد الطبائع الأربع حاصلة في الفاكهة الواحدة كالأترج(2) فأن قشره حار يابس، ولحمه بارد رطب، وحماضه

ص: 170


1- سورة الأنعام: الآية 95
2- الأترجّ الورق الرّطب وورده المفتّح وورد النارنج الطرىّ وقشره من كلّ واحد؛ نهاية الأرب في فنون الأدب: ج 13 ص 97

بارد یابس، وبزره حار رطب فتولد هذه الطبائع المتضادة عن الحبة الواحدة لابد وأن يكون بتدبير الفاعل الحكيم «ورابعها»: أنك أذا نظرت إلى ورقة من أوراق الشجرة المبدعة من الحبة؛ وجدت في وسطها خطا مستقيماً، ثم لا يزال ينفصل عنه شعب وعن الشعب شعب أخرى إلى أن يستدق وتخرج تلك الخطوط عن أدراك البصر، والحكمة الإلهية؛ إنما اقتضت ذلك التقوى القوة الجاذبة المركوزة في جرم تلك الورقة على جذب الأجزاء اللطيفة الأرضية في تلك المجاري الضيقة، وإذا وقفت على عنايته سبحانه في تلك الورقة الواحدة علمت أنها في جملة الشجرة أكمل، وفي جملة النبات أكمل، ثم إذا علمت أنه أنما خلقها لمصلحة الحيوان، علمت أن عنايته في خلق الحيوان؛ أكمل وإذا علمت أن المقصود من خلقه إنما هو الإنسان علمت أنه هو أعز مخلوقات هذا العالم عند الله واكرمه عليه، وأنه قد أكرمه بأنواع الإكرام، كما قال «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا»(1) وأما النسمة فعليك في مطالعة عجائب صنع الله بدن الإنسان بكتب التشريح، وقد أشرنا إلى طرف من ذلك في الخطبة الأولى، فإذا عرفت ذلك فأعلم أنه عليه السلام ذکر من تلك الأعذار ثلاثة فقال: «لَوْ لَ حُضُورُ الْحَاضِرِ»: يعني الذين حضروا المبايعة «وقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ»: له في طلب الحق، لو ترك القيام وما أخذ الله على العلماء من العهد على إنكار المنكرات، ودفع الظلمات عند التمكن «أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ»: شيء يعتري الإنسان من الامتلاء کنی بها عن قوة ظلمه «ولَا سَغَبِ مَظْلُومٍ»: هو الجوع وهاهنا كناية عن قوة ظلامته «لأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا»: الخلافة أو الإمامة «عَلَى غَارِبِهَا»: أعلى كتف الناقة؛ كناية عن ترکه لها وإهماله

ص: 171


1- سورة الإسراء: الآية 70

لأمرها ثانياً؛ كإهماله أولاً، ولما استعار لها لفظ العارف جعل لها حبلاً يلقي عليه، وهو من ترشيح الاستعارة(1)، وأصله أن الناقة يلقی زمامها على غاربها وتترك الترعى «ولَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلَهِا»: استعار لفظ السعي للترك أيضا؛ ورَشحّها بذكر الكأسِ، ووجهها أن السقي بالكأس لما كان مستلزماً لوجود السّكرِ غالباَ، وكان أعراضه أولاً مستلزماً لوقوع الناس فيما ذكر من الطخية العمياء المستلزمة لحيرة كثير من الخلق وضلالهم الذي يشبه السُكر، وأشد منه لأجرم حَسُنَ أن يعبر عن ذلك الترك بالسقي بالكأس مقالتك «ولأَلْفَيْتُمْ»: لوجدتم «دُنْيَاكُمْ هَذِه

أَزهَدَ»: احقروا و اقل عندي «عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ»: هي من الشاة كالعطاس من الإنسان معطوف على ما قبله، ويفهم منه أنه عليه السلام لم يكن طالب للدنيا، و یکن لها عنده قيمة، إلا أن طلبها لها والحرص على الإمرة فيها ليس لأنها هي، بل لما ذكرناه من نظام الخلق وإجراء أمورهم على قانون العدل المأخوذ على العلماء، كما أشار إليه، قال الرضي رضي الله عنه.

«قَالُوا وقَامَ إِلَيْه رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ السَّوَاد»: سواد العراق «عِنْدَ بُلُوغِه إِلَی هَذَا

ص: 172


1- ترشيح الاستعارة بمعنى: فأن تراعي جانب المستعار وتولَّيه ما يستدعيه وتضمّ إليه ما يقتضيه كقول كثير: رمتني بسهم ريشة الكحل لم يضرّ، فاستعار الرمي للنظر وراعی ما يستدعيه فأردفه بلفظ السهم ، وقول امرء القيس: فقلت له لما تحطي بصلبه *** أو أردف أعجاز أوناء بكلكل لمّا جعل لليل صلبا قد تمطَّي به أردفه بما يقتضيه من الأعجاز والكلكل، وأمّا تجريدها فأن يراعي جانب المستعار له كقوله تعالى «فَأَذاقَهَا الله لِباسَ الْجُوعِ والْخَوْفِ» وكقول زهير: لدىّ أسد شاكي السلاح مقذّف، لو نظر إلى المستعار هاهنا لقيل فكساهم لباس الجوع، ولقال زهير لدىّ أسد في المخالب والبراثن؛ يُنظر: شرح نهج البلاغة لابن میثم البحراني: ج 1 ص 43

الْمَوْضِعِ مِنْ خُطْبَتِه فَنَاوَلَه كِتَاباً قِيلَ إِنَّ فِيه مَسَائِلَ كَانَ يُرِيدُ الإِجَابَةَ عَنْهَا فَأَقْبَلَ يَنْظُرُ

إليه»: قيل كان فيه مسائل الأول: ما الحيوان الذي خرج من بطن حيوان وليس بينهما نسب؟ فأجاب عليه السلام؛ بأنه يونس أبن متی؛ خرج من بطن الحوت.

1 - ما الشيء الذي قليله مباح وكثيره حرام؟ فقال عليه السلام هو: نهر طالوت في قوله تعالى «إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ»(1) أما العبادة التي أن فعلها أحد يستحق العقوبة وكذا أن لم يفعلها فأجاب بأنها صلاة السکاری.

3 - ما الطير الذي لا فرخ له ولا فرع ولا أصل؟ فقال: هو طایر عیسی علیه السلام في قوله تعالى «وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي»(2).

4 - رجل عليه من الدين ألف درهم، وله في كيسه ألف درهم، فضمنه ضامن له ألف درهم، فحال عليهما الحول فالزكاة على أي المالين تجب؟ فقال: إن ضمن الضامن بإجارة من عليه الدين؛ فلا زكاة عليه، وإن ضمنه من غير أذنه فالزكاة في ماله.

5 - حج جماعة ونزلوا في دار من دور مكة، وأغلق واحد منهم باب الدار وفيها حمام فمتن من العطش قبل عودهم إلى الدار فالجزاء على أبيهم يجب؟ فقال عليه السلام: على الذي أغلق الباب ولم يخرجن ولم يضع لهن ماء.

6 - شهد شهداء أربعة على مُحصن بالزنا؛ فأمره الإمام برجمه، فرجمه واحد منهم دون الثلاثة الباقين، وواقفة قوم أجانب في الرجم فرجع من رجمه عن

ص: 173


1- سورة البقرة: الآية 249
2- سورة المائدة: الآية 110

شهادة، والمرجوم لم يمت ثم مات فرجع الآخرون عن شهاداتهم، فعلى من يجب ديته؟ فقال يجب على ذلك الواحد من الشهود ومن وافقه.

7 - شهد شاهدان من اليهود على بيهودي أنه أسلم؛ فهل يقبل شهادتهما أم لا؟ فقال لا لاشتهارهم بتغيير کلام الله وشهادة الزور.

8 - شهد شاهدان من النصارى على نصراني ومجوسي؛ أو يهودي أنه أسلم فهل يقبل أم لا؟ فقال يقبل لقول الله سبحانه «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ»(1) ومن لا تستكبر عن عبادة الله لا يشهد الزور.

9 - قطع أثنان يد آخر فحضر أربع شهود عند الإمام وشهدوا على قطع يده، وأنه زنا وهو محصن فأراد الإمام أن يرجمه؛ فمات قبل الرجم فقال: على من قطع يده دية يده فحسب، ولو شهدوا أنه سرق نصاب لم يجب دية يده على قاطعاً والله أعلم(2) فَلَماَّ فَرَغَ مِنْ قِرَاءَتِه قَالَ لَه ابْنُ عَبَّاسٍ يَا أَمِرَ الْمُؤْمِنِینَ لَوِ اطَّرَدَتْ مقَالتْك(3) مِنْ حَيْثُ أَفْضَيْتَ فَقَالَ: «هَيْهَاتَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ تِلْكَ شِقْشِقَةٌ»: لهاة البعير تخرج عند غضبه ويشبه الخطيب به فيقال لخطيب ذو شقشقة أذا كان صاحب دربه من الكلام، «هَدَرَتْ»: صوتت «ثُمَّ قَرَّتْ»: أراد عليه السلام أنها سورة التّهبت

ص: 174


1- سورة المائدة: الآية 82
2- هذه هي: مجموعة مسائل قال: صاحب المعارج: ووجدت في الكتب القديمة، أن الكتاب الذي دفعه إليه رجل من أهل السواد، كان فيه هذه المسائل؛ يُنظر الاحتجاج للشيخ الطبرسي: ج 1 ص 288؛ قال ابن میثم البحراني: أن أبي الحسن الكيدري هو: الشيخ أبو الحسن محمّد بن الحسين القطب البيهقي الكيدري؛ وهو: الراوي الذي نقل عنه صاحب المعارج وهو: قطب الدين الراوندي
3- ورد في بعض متون النهج: خُطْبَتُكَ وليس مقَالتْك

ثم خمَدت ونشأت ثم وقفت. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَوَ الله مَا أَسَفْتُ حزنت عَلَى كَلَامٍ

قَطُّ كَأَسَفِي عَلَى هَذَا الْكَلَمِ أَن لَّا يَكُونَ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ بَلَغَ مِنْه حَيْثُ أَرَادَ.

قال رضي الله عنه قَوله: عليه السلام، في هذه الخطبة كراكب الصعبة؛ أنْ أَشْنَقَ لها خرم، وأن اسلَس لها تقحّم، يريد أنه أذا شدد عليها؛ في جذب الزمام وهي شارعة رانها: خرم أنفها، وأن أرخى لها شيئاً مع صعوبتها تقحمت به؛ فلم يملكها، ويقال أشنق الناقة إذا جذب رأسها بالزمام فرفعه وشنقها أيضاً؛ ذلك أن السكيب في إصلاح المنطق، وإنما قال عليه السلام أشنق لها ولم يقل أشنقها لأنه جعلها في مقابلة قوله أساس لها فكأنه عليه السلام قال: أن رفع لها راسها بالزمام حتی امسكه عليها، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطب الناس وهو على ناقة قد شنق لها وهي: تقصع بحرتها؛ الجوهري قصعت عن الناقة بحَرِتّها أي: ردتها إلى جوفها(1) وقال بعضهم أي: أخرجها فملات فاهاَ، ونقل عن أبي عبيد أنه قال: قصع الجرة شدة المضغ، وصم بعض الأسنان على بعض ومن الشاهد على أن أشنق بمعنی شنق قول عدي بن زید العبادي:

ساءَها ما بنا تَبَيَّنَ في الأَيْدي *** واشْناقُها إلى الأَعْناقِ(2)

ومن خطبة له عليه السلام؛ روى أن هذه الخطبة خطب بها عليه السلام، بعد قتل طلحة والزبير، وأعلم أن هذه الخطبة من أفصح كلامه عليه السلام، وهي من اشتمالها على كثرة المقاصد الواعظة المحركة للنفس؛ غاية وإجازه اللفظ؛ ثم من عجیب فصاحتها، وبلاغتها أن كل كلمة منها يصلح أن يفيد على سبيل

ص: 175


1- الصحاح للجوهري : ج 3 ص 1266
2- ينظر لسان العرب لابن منظور: ج 10 ص 188

الاستقلال وهي: على ما نذكره من حسن النظم وترکیب بعضها مع بعض؛ «بِنَا اهْتَدَيْتُمْ فِي الظَّلْمَاءِ»: الضمير المجرور راجع إلى آل الرسول صلى الله عليه [وآله] وسلم، والخطاب لحاضّري الوقت من قريش؛ المخالفين له مع طلحة والزبير، وإن صدق في حقّ غيرهم، والمراد أنّا سبب هدایتكم بأنوار الدين، وهي الدعوة إلى الله، وتعليم الخلق كيفيّة السلوك إلى حضرة قدسه، حيث کنتم ظلمات الجهل، «وتَسَنَّمْتُمْ»: عليّتم «الْعَلْيَاءِ»: ولمّا استعار لفظ السنام للعلياء، ملاحظة لشبهها بالناقة، رشّحها بذكر التسنّم، وهي ركوب السنام، وکنّی به عن علوّهم، «وبِنَا أَنفْجَرْتُمْ» خرجتم «عَنِ السِّرَارِ» عن الكفر، ودخلتم في فجر الدين؛ استعير لفظ السرار، وهو آخر الشهر؛ لما كانوا فيه من ليل الجهل في الجاهلية، وخمول الذكر، والانفجار عنه لخروجهم من ذلك إلى نور الإسلام، واستشهادهم في الناس، وذلك لتشبههم بالفجر الطالع من ظلمة السرار في الضياء، والاشتهار «وُقِرَ»: صّمَ سَمْعٌ لَمْ «يَفْقَه الْوَاعِيَةَ»: النصيحة كالتفات إلى الدعاء بالوقر؛ على سمع لا يفقه صاحبه علماً، ولا يستفيد من السماع به مقاصد الكتب الإلهية، وكلام الأنبياء عليهم السلام، وحق لذلك السمع أن يكون أصم إذا الفائدة منه كتساب النفس من جهته ما يكون سبباً لكمالها، وقوتها على الوصول إلى جناب الله تعالى وساحل عزته، فإذا كانت معرضة عما يحصل منه فحقيق أن يكون موقوراً، ومن روی وَقِر على ما لم يسم فاعِله، فالمراد إذ وقّر الله، وهو كلام على سبيل التمثيل أورده على سبيل التوبيخ لهم، والتبكيت بالأعراض عن أوامر الله تعالى وطاعته، وکنی بالواعية عن نفسه عليه السلام إذ صاح فيهم بالموعظة الحسنة، والحث على الألفة وأن لا يشقوا عصى الإسلام فلم يقبلوا وجه نظامها مع ما قبلها، أنه لما أشار أولاً إلى وجه شرفه عليهم، وأنه ممن أكتسب عنه الشرف، والفضيلة فكان ذلك في مقارهم، واستكبارهم عن طاعته؛ أردف ذلك بالدعاء عليهم، ومثل هذا مستعمل

ص: 176

في السنة العليا «وكَيْفَ يُرَاعِي»: يحفظ «النَّبْأة»: الصوت الخفي «مَنْ أَصَمَّتْه

الصَّيْحَةُ»: استعار علیه السلام البناء لدعائه لهم، ونداية إلى سبيل الحق، والصيحة لخطاب الله ورسوله، وهي كناية عن ضعف دعاية بالنسبة إلى قوة دعاء الله، وتقرير ذلك: أن الصوت الخفي لا يسمع عند القوى لاشتغال الحواس به، وكان كلامه عليه السلام أضعف في جذب الخلق من كلام الله ورسوله، فأجراه مجرى الصوت القوي، وإياه مجرى الخفي، وأسناد الاصمام إلى الصيحة من ترشيح الاستعارة أذ من شأن الصيحة العظيمة الاصمام إذا قرعت السمع، ويحتمل أن يكون كناية عن بلوغ تکرار کلام الله على أسماعهم إلى حد أنها مُحّلَة، ومُلَّتْ سماعه؛ بحيث لا يسمع بعده ما هو في معناه، خصوصاً ما هو أضعف کما لا يسمع الصوت الخفي من عظمة الصيحة، وقد وردت هذه الكلمة مورد الاعتذار لنفسه في عدم فائدة وعظه هم؛ والاعتذار في ذلك على سبيل التهكم، والذم ووجه النظام مع ما قبلها أنه لما كان تقدير الأولى؛ وقرت أسماعكم كيف لا تقبلون قولي، التفت عنه وقال: کیف يسمع قولي من لم يسمع كلام الله ورسوله! في العظة والتخويفات «جَنَانٌ لَمْ يُفَارِقْه

الْخَفَقَانُ»: دعاء للقلوب الوجلة من خشية الله، والإشفاق من عذابه بالثبات والسكينة أي ربط الله جانباً؛ كذا وروی ربط على البناء للفاعل أي: ربط جنان نفسه وهو جذب لهم إلى درجة الخائفين، وتنبيه على ملاحظة نواهي الله فيفيؤوا إلى طاعته، ووجه اتصاله بما قبله، أن ذكر الشريف، وصاحب الفضيلة في معرض التوبيخ لمن يراد منه أن يسلك مسلكه، ويكون بصفاته من أعظم الحوادث له إلى التشبه بهم، ومن أحسن الاستدراجات له، فكأنه قال: كيف يلتفت إلى قولي من لا يلتفت إلى كلام الله، لله در الخائفين من الله المراعين لأوامره الرجلين من وعيده، ماضرك لو تشبهتم بهم ورجعتم إلى الحق، وقمتم به قيام رجل واحد «مَا زِلْتُ

أَنْتَظِرُ بِكُمْ عَوَاقِبَ الْغَدْرِ»: إشارة إلى أنه كان يعلم عاقبة أمرهم أما باطلاّع

ص: 177

الرسول صلى الله عليه [وآله] وسلم له على أنهم بعد بيعتهم له يغدرون به؛ أو لأنه كان يلوح من حركاتهم، وأحوالهم بحسب فراسته الصائبة فيهم؛ كما أشار إليه بقوله «وأَتَوَسَّمُكُمْ»: أتفرسكم «بِحِلْيَةِ الْمُغْتَرِّينَ» وذلك لأنه فهم أنهم من أهل العزة، وقبول الباطل عن أدنى شبهة؛ بما لاح له من صفاتهم الدالة على ذلك؛ فكان علمه بذلك مستلزماً لعلمه بغدرهم، ونقضهم لسعيه فكان ينتظر ذلك منهم «سَتَرَنِي عَنْكُمْ جِلْبَابُ الدِّينِ»: وأورد مورد الوعيد للقوم؛ في قتالهم ومخالفتهم لأمره، والمعنى: أن الدين حال بيني وبینکم وسترني عن أعين أبصاركم أن تعرفوني بما أقوى عليه من العنف بكم والغلظة عليكم وسائر وجوه تقويمكم وردعكم عن الباطل، وراء ما وفقني عليه الدين من الرفق والشفقة، فكان الدين غطاء حال بينهم، وبين معرفته، فاستعار له لفظ الجلباب، ويحتمل أن یرید به أنه: التلبيس بالدين الحق في جميع حالاته، وجهلهم بأن ما هو عليه هو الدين كأنه في سر من الدين عنهم؛ فهم لا يعرفونه حتى لو عرفوا أن ما هو عليه من الدين الحق لا يتبعوه، وزوی سترکم عني أي: عصم الإسلام بني دماءكم، وأتباع مدبر کم وغيرهما مما يفعل في حق الكفار «وبَصَّرَنِيكُمْ صِدْقُ النِّيَّةِ»: إخلاصه لله تعالى وصفاء مرآة نفسه، وبحسب ذلك أفيض على بصر بصيرته؛ نور معرفته أحوالهم، وما يؤول إليه عاقبة أمرهم؛ كما قال: عليه السلام «المؤمن ينظر بنور الله»(1) أَقَمْتُ لَكُمْ عَلَى سَنَنِ الْحَقِّ: طريقه فِي جَوَادِّ الْمَضَلَّةِ: جمع جادة، والمراد بها التي يضل فيها الطريق؛ تنبيه لهم على وجوب اقتفاء أثره، والرجوع إلى لزوم أشعة أنواره في لزوم سبیل الله، وأعلام لهم أنه، واقف لهم على سواء السبيل الحق

ص: 178


1- يُنظر المحاسن: لأحمد بن محمد بن خالد البرقي: ج 1 هامش ص 131؛ بصائر الدرجات لمحمد بن حسن الصفار: ص 100؛ الكافي للشيخ الكليني: ج 1 ص 218؛ علل الشرائع للشيخ الصدوق: ج 1 ص 174

وفي الطريق التي هي مزال الأقدام ليردهم عنها، وليبين ذلك المثل المشهور عن رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم «ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعلى جنبتي الصراط سور فيه أبواب مفتحة وعلى تلك الأبواب ستور مرخاة، وعلى رأس الصراط داع يقول أدخلوا الصراط ولا تعوجوا قال فالصراط هو الإسلام والستور حدود الله والأبواب المفتحة محارم الله وذلك الداعي هو القرآن»(1)، فيقول لما كان علي عليه السلام هو الواقف على أسرار الكتاب، والملّي بجوامع علمه وحكمته، والمطلع على أصول الدين وفروعه؛ كان هو الناطق بالكتاب، والداعي به الواقف على رأس سبيل الله المقيم عليها، ولما كان صراطه المستقيم في غاية الوضوح، وكان مستبيناً لها من الحدود، والمقدمات مستجلباً لمزال الأقدام فيها، وما بنينا عليها من الشكوك؛ والشبهات كان بحسب قوته المدبرة لهذا العالم بعد رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم، هو الواقف على تلك الأبواب المفتحة، والتي هي موارد الهلاك وأبواب جهنم وجواد المضلة والساتر لها بحدود الله تعالى، وبيان نواهيه والتذكير تعظیم وعيده، وذلك حيث تلتفت أذهانهم في ظلماء الجهل؛ فلا تبصر هناك دليلاً سواه، ويطلبون ماء الحياة، والفحص من أودية القلوب؛ فلا يجدون فيها ماء إلا معه وإليه أشار بقوله حَيْثُ «تَلْتَقُونَ ولَا دَلِيلَ وتَحْتَفِرُونَ»: تطلبون الحفر «ولَا تُميِهُونَ»: لا يبلغون الماء، وأيضاً فلما كان من ضرورة السالك بطريق أن يكون له دلیل میهدیه به، وماء يعطشه نبههم عليه السلام على أنه هو الدليل في طريق الآخرة، ومعه الماء الصالح لها، واستعار الاحتقار للبحث عن مظان العلم، والماء للعلم «الْيَوْمَ أُنْطِقُ لَكُمُ»: البهيمة: «الْعَجْمَاءَ ذَاتَ الْبَيَانِ»: کنی بها عن الحال التي يشاهدونها من العِبر الواضحة، والمثلات التي خلت بقوم فسقوا عن أمر

ص: 179


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 4 ص 182؛ السنة لابن أبي عاصم: ص 14؛ المستدرك للحاكم النيسابوري: ج 1 ص 73؛ ومسند الشاميين: للطبراني: ج 3 ص 177

ربهم، وعما هو واضح من کمال فضله عليه السلام بالنسبة إليهم، وما ينبغي لهم أن يعتبروه من حال الدين، فإنها أمور لا نطق لها مقالي؛ فشبهها لذلك بالعجماء من الحيوان، واستعار لها لفظها، ووصفها بكونها ذات البيان، لأن لسانها الحالي يخبر بمثل مقاله عليه السلام، ناطق بوجوب إتباعه، وشاهد لهم ودليل على ما ينبغي أن يفعلوه في كل باب، وفي الاستعمال يُذكر أمثال هذا المقال مثل قولهم: «سل الأرض من شق أنهارك، وأخرج ثمارك، فأن لم تجبك حواراً أجابتك اعتباراً»(1) وروى بعضهم أنطق مفتوح الهمزة وقال: والعجماء صفة لمحذوف هو الكلمات العجماء وأراد بها ما ذكر في هذه الخطبة من الرموز وشبّهها بالحيوان إذ لا نطق لها في الحقيقة، ومع ذلك يستفيد الناظر فيها أعظم الفوائد فهي ذات بیان عند اعتبارها «عَزَبَ»: بَعُدَ «رَأْيُ امْرِئٍ تَخَلَّفَ عَنِّي»: إشارة إلى ذم من تخلف عنه وحكم عليه بالشفقة، وعَدم اصَابة الرأي حال تخلفّه عنه، وذلك لأن المتخلف لما فكر في أي الأمور انفع له، أيكون من متابعيه؛ أو المتخلفين عنه، ثم رأى أن التخلف عنه أوفق كان ذلك أسوء الآراء، وأقبحها؛ فهو في الحقيقة كمن أقدم على ذلك بغير رأي يحضره؛ أو لأن الرأي الحق كان عازباً عنه، وهو ذم في معرض التوبيخ للقوم: «مَا شَكَكْتُ فِي الْحَقِّ مُذْ أُرِيتُه»: شبه بيان لبعض أسباب وجوب إتباعه وعدم التخلف عنه، وأعلم أن التمدح بعدم الشك عما أراه الله عز وجل من الحق وأفاضه على نفسه القدسية من الكمال؛ مستلزم للأخبار بکمال قدرته على استثبات الحق الذي رأي، وشدة جلائه له بحيث لا يعرض له شبهة فيه والأمامية تستدل بذلك على وجوب عصمته، وطهارته عن الأرجاس التي منشأها ضعف اليقين «لَمْ يُوجِسْ مُوسَى خِيفَةً عَلَى نَفْسِه بَلْ أَشْفَقَ مِنْ غَلَبَةِ الْجَهَّالِ ودُوَلِ

ص: 180


1- القول لبعض الحكماء؛ ينظر الأمالي للشريف المرتضى في: ج 1: ص 24؛ الرسائل العشرة الشيخ للطوسي: ص 330؛ تفسیر مجمع البيان للشيخ الطبرسي: ج 4: ص 392

الضَّلَالِ»: كدولة فرعون وأتباعه، أشفق: أفعُل التفضيل منصوب على الصفة بخيفة، والتقدير لم يوجس موسی اشفاقاً على نفسه أشد من غلبة الجهال، المقصود التنبيه على أن الخوف الذي يخاف عليه السلام منهم ليس على مجرد نفسه بل أشد خوفه من غلبة أهل الجهل على الدين وفتنة الخلق وقيام دول الظلال، فيعَمی طرق الهلاك، وينسد مسالك الحق کما خاف موسى عليه السلام من غلبة جهال السحرة؛ حيث القوا حبالهم وعصيهم «وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ»(1) وقيل أراد بل أشفق فيكون فعلاً ماضياً، والمعنى أني لا أخاف على نفسي بل من غلبة الجهال، كما كان خوف موسى عليه السلام «الْيَوْمَ تَوَاقَفْنَا عَلَى سَبِيلِ الْحَقِّ

والْبَاطِلِ»: الخطاب لمقابلة في يعني أني واقف على سبيل الحق وأنتم واقفون على الباطل داعون إليه، وهو تنفير لهم عما هم عليه إلى ما هو عليه «مَنْ وَثِقَ بِمَاءٍ لَمْ

يَظْمَأ»: مثل نبه به على وجوب الثقة بما عنده أي: أنكم أن وثقتم بقولي كنتم أقرب إلى اليقين والهدى، وأبعد عن الضلال والردی؛ کما الواثق بالماء في أداوته أمن من العطش وخوف الهلاك وبعيد عنهما بخلاف من لم يثق بذلك، وکنی بالماء عما أشتمل عليه من العلم بكيفية الهداية إلى الله تعالى فأنه الماء الذي لا ظماء معه وهو كتابه بالمستعار وبالله التوفيق.

ومِن كَلامه لَه عليه السلام؛ لمَّا قُبض رسول الله صَلّى الله عليه وَآله وَسلم، وخاطبُه العباس رَحُمه الله؛ وأبو سفيان بن حرب في أن يبايعا له بالخلافة.

«أَيُّهَا النَّاسُ شُقُّوا أَمْوَاجَ الْفِتَنِ بِسُفُنِ النَّجَاةِ»: شبه عليه السلام الفتنة بالبحر الملاطم؛ فلذلك استعار له لفظ الأمواج، وکنی بها عن حركة الفتن، وقيامها، ووجه المشابهة اشتراکهما عند هيجناها في كونها سبباً لهلاك الخائضين فيهما،

ص: 181


1- سورة الشعراء: الآية 44

واستعار سفن النجاة، لكل ما يكون وسيلة إلى الخلاص من الفتنة لأن كلاً منهما وسيلة السلامة.

«وعَرِّجُوا»: میلوا «عَنْ طَرِيقِ الْمُنَافَرَةِ»: إلى السلوك والسلامة، «وضَعُوا تِيجَانَ الْمُفَاخَرَةِ»: أمر بطريق آخر من طرق النجاة وهي: ترك المفاخرة مما يهيج الأضغان، والأحقاد، وتوجب قیام الفتنة، ولما كان أكثر ما ينتهي إليه أرباب الدنيا من المفاخرة لبس التيجان، وكانت الأصول الشريفة والأثواب الكريمة، والفتيات الحسنة هي: أسباب الامتحان الدنيوي ومنشؤه، كانت المشابهة بينها وبين التيجان حاصلة، فاستعار عليه السلام لفظها لها، وأمرهم بوصفها، ولما نهی علیه السلام عن الفتنة، وبيّن أن المنافرة، والمفاخرة ليسا طریقین محمودین أردف ذلك بالإشارة إلى أنه كيف ينبغي أن يكون حال المتصدي لهذا الأمر، وكيف يكون طريق فوزه بمطالبته فقال: «أَفْلَحَ مَنْ نَهَضَ بِجَنَاحٍ»: واستعاره للأعوان من جهة أن الجناح محل القدرة على الطيران والتصرف، والأعوان هم القوة على النهوض إلى الحرب، والطيران في ميدانها أَوِ: «اسْتَسْلَمَ فَأَرَاحَ»: عند عدم الجناح، وفي هذا الكلام تنبيه على قلة الصبر في هذا الأمر، وتقدير الكلام ليس الطريق ما ذكرتم، بل الصواب فيما يفعل ذو الرأي في هذا الأمر؛ أنه أما أن يكون ذا جناح فينهض به فيفوز بمطالبه، أو لا يكون؛ فيستسلم وينقاد؛ فينجو ويريح نفسه من تعب المطالب «بَل اندمَجَتْ»: متّغير «ولُقْمَةٌ يَغَصُّ» لا يساغ «بِهَا الآكِل»: تنبيه على أن المطالب الدنيوية، وأن عظمت فهي مشوبة النقص، والتغيير وأشار إلى أمر الخلافة في ذلك الوقت، وتشبِهها بالماء واللقمة ظاهر، إذ عليهما مدار الحياة الدنيا، وأَمر الخلافة أعظم أسبابها فتشابها، فاستعار لعظمها لما يطلب منها، وكني بهما عنه، ولما كان أحوال الماء، والغصص باللقمة

ص: 182

مما ينغصهما، ويوجب نفار النفس عن قبولهما، وكانت المنافسة في أمر الخلافة والتجاذب، والمفاخرة بين المسلمين، فيها وكونها في معرض الزوال مما يوجب التنفير عنها، شبهها بهما، وکنی بهما عنها ليسكن بذلك فوزه، من أستنهضه في هذا الأمر من بني هاشم؛ فكأنه قال أنها لقمة منغّصَة وجُرعة لا يسعها شاربها «ومُجْتَنِي الثَّمَرَةِ لِغَیْرِ وَقْتِ إِينَاعِهَا»: ادراکها کالزارع بغير أرضه تنبیه على أن ذلك الوقت ليس وقت الطلب لهذا الأمر أما لعدم الناصر أو لغير ذلك، وكنى بمجتبى الثَمر عن طالبَها، وشبّهها بهالاشتراكها في كونهما محلاً للالتذاذ و نحوه ثم شبه مجتنى الثمرة لغير، وقتها بالزارع بغير أرضه، لجامع عدم الانتفاع «فَإنِ أَقُلْ»: بایعي «يَقُولُوا حَرَصَ عَلَى الْمُلْكِ وإِنْ أَسْكُتْ يَقُولُوا جَزِعَ مِنَ الْمَوْتِ»: شكاية من الألسنة والأوهام الفاسدة، وردت في معترض الكلام، وإشارة إلى أنه سواء طلب هذا الأمر؛ أو سكت عنه فلا بد مِنْ أن يقال في حقه وينسب إلى أمر ففي القيام ينسب إلى الاهتمام بأمر الدنيا، وفي السكوت إلى الذلة والعجز لأن أوهام الخلق وألسنتهم مولعة بأمثال ذلك بعضهم في حق بعض في المنافسات «هَيْهَاتَ بَعْدَ اللَّتَيَّا والَّتِي»: کنایتان عن الشدائد والمصائب العظيمة والحقيرة، وأصل هذا المثل؛ أن رجلا تزوج أمرئة قصيرة صغيرة الخلق فقاسي منها شدائد، فطلقها، وتزوج طويلة وقاسي منهاشدائد أضعاف ما قاسي من القصيرة؛ فطلقها وقال: بعد اللّتيا والتي لا أتزوج أبداً، فصار ذلك مثلاً للداهية الكبيرة والصغيرة، وتقدير مرادهِ أبعد ملاقاة الشدائد صغارها، وكبارها أنسب إلى الجزع من الموت! بَعُدَما يقولون.

ثم أكد تكذبيهم في دعوى جَزعهِ من الموت بالقسم البَار فقال: «والله لَبْنُ

أَبِي طَالِبٍ آنَسُ بِالْمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْيِ أُمِّه»: لأن محبته له والأُنس به وميله إليه میل طبيعي حَيواني؛ في معرض الزوال، و میله عليه السلام إلى لقاء ربه والوسيلة

ص: 183

إليه عقلي باق أبداً فأين أحدهما عن الآخر، وكيف لا وقد كان سيد العارفين بعد رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم ورئيس الأولياء.

وتَحّقَقَتْ أن محبة الموت، والأنس به أمر متمکن من نفوس أولياء الله لكونه وسيلة لهم إلى لقاء أعظم محبوب، والوصول إلى أكمل مطلوب «بَلِ انْدَمَجْتُ» انطويت «عَلَى مَكْنُونِ عِلْمٍ لَوْ بُحْتُ بِه»: أظهرته ««لَضْطَرَبْتُمْ اضْطِرَابَ الأَرْشِيَةِ

الرّشَاء»: الحبل «فِي الطَّوِيِّ الْبَعِيدَةِ»: أي البير المطوية بالحجارة البعيدة قعرها، إشارة إلى سبب حملي لتوقفه عن الطلب، غير ما نسبوه إليه من الجزع، والخوف من الموت وهو العلم الذي أنطوى عليه، فأن علمه بعواقب الأمور وأدبارها بعين بصيرته التي هي كمرآة صافية حوذي بها صور الأشياء في المرأى العالية فارتسمت فيها كما هي مما يوجب توقفه عما يعلم أن فيه فساداً ويسرعه إلى ما يعلم فيه مصلحة، وفي هذه القضية الشرعية الشرطية تنبيه على عظم قدر العلم الذي أندمج عليه، والمعنى: اضطرابهم على ذلك التقدير تشتت آرائهم؛ عند أن يكشف لهم ما يكون من أمر الخلافة، وما يؤل إليه حال الناس، إذ كان ذلك مما وقفه رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم، عليه، وأعداء لهم فإن كثيراً منهم في ذلك الوقت كان نافراً عن عمرو، وآخرون عن عثمان، فضلاً عن معاوية ومنهم من كان يؤهل نفسه للخلافة في ذلك الوقت، ويطلبها لنفسه، وإذا كان الأمر كذلك فظاهر أنه عليه السلام لوباح لهم مما علمه من عاقبة هذا الأمر؛ لم يكن لهم ذلك النظام الحاصل في ذلك الوقت؛ ليأس بعضهم من وصول ذلك الأمر إليه، وخوف بعضهم من غلط عمر، ونفرتهم منه، ونفار آخرين من بني أمية وما یکون منهم، وشبه اضطراب آرائهم على ذلك التقدير باضطراب الأرشية في الطَوىّ البعيدة؛ مبالغة وهو: تشبيه للمفعول بالمحسوس، وذلك أن البير كلما كانت أعمق کان اضطراب الحبل فيها أشد لطوله، وقيل فكذلك حالهم حينئذ

ص: 184

أي: يكون لكم اضطراباً قوياً، واختلافاً شدیداً، وقيل أراد أن الذي يمنعني من المنافسة في هذا الأمر العلم بأحوال الآخرة، ونعيمها وبؤسها مما لو كشفته لكم الاضطربتم اضطراباً شدیداً خوفاً من الله، ووجلاً من عقابه، وشوقاً إلى ثوابه، ولذهلتم عما أنتم فيه من المنافسة في أمر الدنيا، ولعل في تمام هذا الكلام لو وجد ما يوضح المقصود منه ولم أقف عليه.

وِمن كَلامٍ له عَليْه السلام لماّ أُشير عليه بأن لا يتبّع طَلحة والزُبير ولَا يرصدَ لهُمَا القتال: روى أبو عبيد أنه أقبل عليه السلام، یرید الطواف، وقد عزم على أتّباعها وقتالهما فأشار عليه أبنه الحسن عليه السلام أن لا يتبعهما ولا يرصد لهما القتال فقال في جوابه هذا الكلام وروى في سبب نقضهما لبيعته أنهما دخلا عليه بعد أن بایعاه بإتمام وقالا قد علمت جفوة عثمان لنا وميله إلى بني أمية مدة خلافته. وطلبا منه أن يوليهما الكوفة والبصرة فقال: لهما حتى أنظروا؛ واستشار عبد الله بن عباس فمنعه من ذلك، فعاوداه فمنعهما فسخطا وفعلا ما فعلاه.

«والله لَا أَكُونُ كَالضَّبُعِ تَنَامُ عَلَى طُولِ اللَّدْمِ»: بسكون الدال: صوت الحجر أو غيره على الأرض، وليس بالقوي يحكي أن الضبع يستغفل في حجرها بمثل ذلك؛ فيسكن حتى يصاد، وفي كيفية صيده؛ يقال أنهم يضعون في حجرها حجراً ويضربون بأيديهم بابه فتحسب في حجرها شيئاً يصيده؛ فتخرج فتصاد «حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهَا طَالِبُهَا ويَخْتِلَهَا»: يخدعها «رَاصِدُهَا»: ناظرها أشار أولاً: إلى رد ما أشير عليه من تاريخ القتال، ومفهوم التشبيه أنه لو تأخر لكان ذلك شيئاً التمكن الخصم مما قصده فيكون هو في ذلك شبيها بالضبع التي تنام، ويسكن على طول حيلة راصدها؛ فأقسم عليه السلام أنه لا يكون كذلك أي لا يسكن على كثرة الظلم والبغي، وطول دفاعه عن حقه، ثم أردف ذلك بما هو

ص: 185

الصواب عنده وهو القتال بمن أطاعه لمن عصاه فقال: «ولَكِنِّي أَضْرِبُ بِالْمُقْبِلِ

إِلَی الْحَقِّ الْمُدْبِرَ عَنْه وبِالسَّامِعِ الْمُطِيعِ الْعَاصِيَ الْمُرِيبَ أَبَداً»: راعى عليه السلام هاهنا المقابلة؛ فالعاصي في مقابلة المطيع، والمريب في مقابلة السامع، ثم فسر الأبد بغاية عمره، لأنه الأبد الممكن له وذلك قوله «حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيَّ يَوْمِي»: وأشار إلى وقت ضرورة الموت کناية، ثم أردفه بالتظلم والشكاية في دفاعه عن هذا الأمر؛ تأكيداً للشکایات السابقة بقوله فَوَ الله مَا زِلْتُ مَدْفُوعاً عَنْ حَقِّي

مُسْتأَثْرَاً»: مختاراً «عَلَيَّ مُنْذُ قَبَضَ الله نَبِيَّه صَلَّى الله عَلَيْه وسَلَّمَ حَتَّى يَوْمِ النَّاسِ

هَذَا حتى يوم الناس ومن خطبة له عليه السلام»: في ذم المنابذین له و المخالفين عليه «اتَّخَذُوا الشَّيْطَانَ لأَمْرِهِمْ مِلَاكاً»: ما يقوم به، وفيه إشارة إلى انقیاد نفوسهم لشياطينها إلى حد جعلوها مدبرة لأمورهم، فيها قوام أحوالهم، وعزلوا عقولهم عن تلك المرتبة فهم أولياؤهم في الحياة الدنيا كما قال جل شانه: «إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ»(1) ثم أردف ذلك بالإشارة إلى بعض لوازم تمليك الشياطين لأمورهم بقوله: «واتَّخَذَهُمْ لَه»: للأمر «أَشْرَاكاً»: أما جمع شَريك أو شرك وهو: حبالة الصياد، وذلك أنه كما ملك أمورهم، وكان قيامها بتدبيره صرفهم كيف شَاء، وعلى هذا يكون استعارة حسنة؛ فإنه لما كانت فائدة الشرك اصطياد مایراد صيده، وكان هؤلاء القوم بحسب ملك الشيطان لآرائهم وتصرفهم فيه على حسب حكمه أسباباً لدعوة الخلق إلى مخالفة الحق، و منابذة إمام الوقت، وخليفة الله في أرضه اشبهوا الأشراك لاصطيادهم الخلق بألسنتهم، وأموالهم، وجذبهم إلى الباطل بالأسباب الباطلة التي ألقاها إليهم الشيطان، ونطق بها على ألسنتهم؛ فاستعار لهم لفظ الاشتراك، ثم أردف ذلك ببيان ملازمته لهم فقال: «فَبَاضَ وفَرَّخَ فِي صُدُورِهِمْ»: شبهه بالطائر الذي بنى

ص: 186


1- سورة الأعراف: الآية 27

عشه في صدورهم؛ فاستعار لهم البيض، والإفراخ وجه المشابهة أن الطائر لما كان يلازم عشه فيبيض ويفرخ فيه أشبهه الشيطان في إقامته في صدورهم وملازمته لهم، وكذلك قولهم «ودَبَّ ودَرَجَ»: مشي مشياً ضعيفاً، ومشياً قوياً، استعارة کنی بها عن تربيتهم للباطل، وعدم مفارقته لهم، ونشوؤه معهم كما يتربی الوالد في حجر والدته، وراعي في هذه القرائن الأربع السجع، ففي الأولين المُطَّرَفْ وفي الآخرين المتوازي(1) «فَنَظَرَ بِأَعْيُنِهِم ونَطَقَ بِأَلْسِنَتِهِمْ»: إيماء إلى وجود تصرفه في أجزا أبدانهم بعد إلقائهم مقاليد أمورهم إليه، وعزل عقولهم عن التصرف فيها بدون مشاركته «ومتابعته فَرَکِبَ بِهِمْ الزَّلَلَ»: يعني الخروج عن أوامر الله تعالى في الأفعال، «وزَيَّنَ لَهُمُ الْخَطَلَ»: المنطق الفاسد والمراد الخروج عنها في الأقوال: «فِعْلَ مَنْ قَدْ شَرِكَه الشَّيْطَانُ فِي سُلْطَانِه ونَطَقَ بِالْبَاطِلِ عَلَى لِسَانِه»: انتصابه على المصدر؛ أما عن فعلوا؛ لمحذوف؛ أو عن اتخذوا؛ فهو مصدر له من غير لفظ فعله، والضمير في سلطانه، يعود إلى من أي قد شارکه الشيطان في سلطانه الذي جعله الله له على الأعمال والأقوال، وفيه إشارة إلى أن الصادر منهم على خلاف أوامر الله، لم تكن إلا عن مشاركة الشيطان ومتابعته، وراعي في هاتين القرينتين السجع(2) المطرف والله سبحانه أعلم.

ص: 187


1- السجع: الكلام المقفى: يُنظر الصحاح للجوهري: ج 3 ص 1228؛ والمُطَّرَفْ والمتوازي من أنواع السجع، وقد اختلفوا في السجع یکون نثراً ينتهي بحرف واحد متساو مثل «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ»، ومنه المُتطرَّف والمتوازي، وقد ينتهي بحرفين أو ثلاثة متساوية كصورة لإظهار قوة الشعر
2- السجع المطرف: السّجع في النّثر بمثابة القافية في النّظم، وهو ثلاثة أقسام: المتوازن: ما تساوت فيه الكلمات في الوزن فقط. والمتوازي: ما اتّحد آخر جملتين في الوزن، والحرف، والرّويّ، وهو الحرف الآخر الأصليّ من الكلمة: كقوله عليه السّلام: «وأكلة لآكل، وفريسة لصائل». والمطرّف: ما اتّحد آخر الحرف الأصليّ من آخر كلمة الجملتين فقط، المعبّر عنه ب (الرّويّ)، دون الوزن والحرف، کالماء، والسّماء، وعقولكم، وحلومكم في الجملتين الأوليين من كلام الإمام عليه السّلام فتفطَّن: ينظر الأمثال والحكم المستخرجة من نهج البلاغة لمحمد الغروي: هامش ص 276

ومن كلام له عليه السلام، يعني به الزبير في حال اقتضت ذلك:

كان عليه السلام لما نكث الزبير بيعته، وخرج لقتاله احتج عليه بلزوم البيعة له أولاً، فكان جواب الزبير ما حكاه عنه في قوله: «يَزْعُمُ أَنَّه قَدْ بَايَعَ بِيَدِه ولَمْ يُبَايِعْ

بِقَلْبِه»: إشارة إلى أن التورية في العهود والإيمان جائزة شرعاً؛ فأجابه عليه السلام بقياس حذف کبراه وهو: ما أشار إليه بقوله «فَقَدْ أَقَرَّ بِالْبَيْعَةِ وادَّعَى الْوَلِيجَةَ»: أي أقرب ما هو مقبولة ومحكومة بلزومه شرعاً، وأدعى أنه أضمر في باطنه ما يفسده من الوليجة؛ فهذه صغرى القياس، وتقدير الكبرى؛ كل من فعل ذلك يحتاج في بيان دعواه إلى بينة يعرض صحتها؛ فينتج: أنه محتاج إلى بينة كذلك وأشار إلى هذه النتيجة بقوله: «فَلْيَأْتِ عَلَيْهَا بِأَمْرٍ يُعْرَفُ»: ويعرف على دعواه الوليجة، وهيهات له ذلك إذ التورية أمر باطل لا يمكن الاحتجاج به، ولا إقامته البرهان عليه، «وإلا»: وأن لم يأت عليها بالبينة «وإِلَّا فَلْيَدْخُلْ فِيمَا خَرَجَ مِنْه»: أمر له بالدخول في طاعته، وحكم بيعته، التي خرج منها على تقدير عدم قدرته على برهان دعواه.

ومن كلام له عليه السلام: في معرض الذم

«وقَدْ أَرْعَدُوا وأَبْرَقُوا»: أصابهم رعد الوعيد، وبرقه يعني طلحة والزبير، وابتاعهما، واستعار الأرعاد والأبراق لوعيدهم، وتهديدهم له بالحرب يقال ارعد الرجل، وابرق إذا تهدد وتوعد قال: «الكميت(1):

ص: 188


1- الكميت: هو: الكميت بن زید الأسدي، شاعر مقدم، عالم بلغات العرب، خبير بأيامها فصيح من شعراء مضر وألسنتها وكان في أيام بني أمية ولم يدرك الدولة العباسية، ومات قبلها، وكان معروفاً بالتشيع، مشهورا بذلك وقصائده الهاشميات من جيد شعره ومختاره، على أن يد التحريف مدت إليها، وأسقطت منها، كما تجد تفصيل ذلك في الغدير: ج 2: ص 181 وقد ترجم للكميت جماعة منهم أبو الفرج في الأغاني : ج 15: ص 113 فما بعدها، وابن قتيبة في: طبقات الشعراء: ص 368 - 371، والعباسي في: معاهد التنصيص: ج 3 ص 93 وغيرهم والبيت في المتن من هاشمیته التي أولها: طربت وما شوقا إلى البيض أطرب *** ولا لعبا مني وذو الشيب يلعب

ارعد وابرق یا یزید *** فما وعيدك لي بصائر»(1)

وجهها كون الوعيد من الأمور المزعجة كالرعد والبرق «ومَعَ هَذَيْنِ الأَمْرَيْنِ

الْفَشَلُ»: الجُبن يريد بذلك إشارة إلى وجه الرذيلة، وذلك أن الوعد والتهديد قبل أتباع الحرب أمارة الجبن والعجز، والسمت والسكون أمارة الشجاعة؛ كما أومأ إليه؛ في تعليم كيفية مخاطباً لأصحابه: وأميتوا أصحابكم؛ فأنه اطرد للفشل، روي أن أبا طاهر الجبائي سمع حلية عسكر المقتدر، وهو في ألفاً وخمسمائة فارس، والمصدر في عشرين الف فقال لبعض أصحابه: ما هذا الرجل قال: فشل قال: أجل وكانت الغلبة له؛ فاستبدل بتلك الأمارة على الفشل «فَلَسْنَا»: في بعض النسخ بالواو «نُرْعِدُ حَتَّى نُوقِعَ ولَا نُسِيلُ حَتَّى نُمْطِرَ»: تقي تلك الرذيلة عن نفسه، وأصحابه وأثبات الفضيلة لهم وكما أن الفضيلة للسحاب أن يقترن وقوع المطر منه برعده، وبرقه واسالته بأمطاره لذلك اقواله مقرونة بأفعاله لا خلف فيها، واسالة عذابه مقرونة بأمطاره، ومفهوم ذلك أن خصهم تهدده بالحرب من غير قوة نفس، ولا إيقاع فأشبه ذلك الرعد من غير إيقاع المطر والسيل؛ عن غير مطر فكأنه قال: كما لا يجوز سیل بلا مطر فكذلك ما تدعونه وتهددون به من إيقاع الحرب بلا شجاعة، ولا قوة عليها وفي ذلك شمسية التحدي.

ص: 189


1- مابين معقوفين بيت للشاعر الكميت: أورده ابن السكيت الأهوازي في ترتيب اصطلاح المنطق: ص 76، وابن منظور في لسان العرب: ج 3 ص 180

وَمنْ خِطْبّةٍ لهُ عَليْهِ السَلّامْ:

أعلم أن هذا الفصل ملتقط ملفق من خطبة له عليه السلام؛ لما بلغه أن طلحة والزبير خلفا بيعته، وهو غير منتظم(1)، وقد أورد السيد منها فصلًا آخر وسنذكرها بتمامها إذا انتهينا إليه أن شاء الله.

«أَلَا وإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ جَمَعَ حِزْبَه واسْتَجْلَبَ»: جمع خَيْلَه ورَجِلَه: ذم لأصحاب الجمل والتنفير عنهم، وأراد أن الباعث لهم والجامع على مخالفة الحق إنما هو الشيطان بوسوسته لهم وتزيينه الباطل في قلوبهم، فكل من خالف الحق ونابذه فهو من حزب الشيطان وجنده، خيلًا ورجلاً وأشار إلى کمال عقله و تمام استعداده الاستجلابه الحق واستيضاحه بقوله «وإِنَّ مَعِي لَبَصِیرَتِي»: عين العقل؛ ثم أكد كذلك بالإشارة عدم انخداع نفسه القدسية للشيطان فيما يلتبس به على الحق من الشبه الباطلة على البصائر الضعفة؛ فيقيمها بذلك عن إدراكه وتمييزه عن الباطل، سواء كانت مخادعته وتلبيته بغير واسطة، وإليه اشار بقوله: «مَا لَبَّسْتُ عَلَى نَفْسِي»: أي يلبس على نفسي المطمئنة ما يلقيه أليها نفسي الأمارة أو بواسطة وهو المشار اليه بقوله: «ولَا لُبِّسَ عَلَيَّ»: أي أن أحداً ممن تبع ابليس وتلقف عنه الشبه فصار في قوته أن يلبس الحق صورة الباطل لا يمكنه أن يلبس على ثم أوعدهم مؤكداً بالقسم البار فقال: «وايْمُ الله»: أصله أيمن جمع يمين حذفت النون تخفیفا؛ كما في لم يكن، وقيل أسم برأسه وضع للقسم، و تحقيقه في علم النحو: «لأُفْرِطَنَّ» لأملان «لَهُمْ حَوْضاً أَنَا مَاتِحُه»: بالتاء المستفي، وربما يلتبس بالمائح، وهو الذي ينزل البير

ص: 190


1- وهو غير منتظم: الظاهر من عبارة المصنف هذه هو رأيه: أو رأي بعض أبناء المذاهب الأخرى كالحنفية والشافعية وغيرها؛ حيث إنهم يرون عدم مخالفة طلحة والزبير لبيعة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: فمن شاء فليراجع

فيملأ الدلو استعار علیه السلام افراط الحوض بجمعه الجند والتهيئة أسباب الحرب، وكني بقوله: أنا ماتحه عن أنه هو المتولي لذلك، ولما كانت الحرب وقد تشبه بالبحر، فیستعار لها أوصافه فيقال: فلان منغمس في الحرب جاز أن يستعار ههنا لفظ الحوض، ويرشح تلك الاستعارة بالمنح، والفرط والإصدار والإيراد، وفي تخصيص نفسه عليه السلام بالمنح تأكيد بتهديد لعلمهم ببانه، وشجاعته، وقد حذفت المضاف إليه، وهو ما به تخفيفاً ومبالغة، ثم أردف ذلك بدرك استعداده لهم بالشدة والصعوبة عليهم فکنی بقوله: «لَا يَصْدُرُونَ عَنْه»: أي عن الوارد منهم إليه لا بنحو منه، فهو منزلة من يغرق فيه فلا يصدر عنه وبقوله «ولَا يَعُودُونَ

إِلَيْه»: أي من نجا منهم لا يطمع في الحرب مرة أخرى؛ فلا يردون ما اعد لهم مرة ثانية والله سبحانه أعلم.

وَمن كلام له عَليْه السّلاَم لأبنه مَحّمد بن الحنفّية لمَا أعطَاه الرّاَية يوم الجَمل:

أول واقعة وقعت فيه زمن خلافته عليه السلام، وقصته مشهورة وأعلم أنه عليه السلام أشار في هذا الفصل إلى أنواع الحرب وكيفية القتال، فنهاه أولاً عن الزوال وأكد عليه ذلك بقوله: «تَزُولُ الْجِبَالُ ولَا تَزُلْ»: والكلام، في صورة شرطية متصلة تقديرها: لو زالت الجبال لاتزل وهي: نهي عن الزوال مطلقاً، لأن النهي عنه على تقدير زوال الجبال مستلزم للنهي عنه على تقدير آخر بطريق الأولى إذا القصد به المبالغة في النهي ثم أردف ذلك بخمس أوامر:

السن: بين الناب والضرس، وقال الجوهري: «أقصى الأضراس»(1) وقيل: كلها نواجذ، وذلك لاستلزامه أمرين ربط الجأش عن الفشل، والخوف، والإنسان

ص: 191


1- ينظر الصحاح للجوهري: ج 2 ص 571

يشاهد ذلك في حال البرد، والخوف الموحَين للرعدة، فأنه إذا عض أسنانه تسكن رّعْدته ويتماسك بدنه، وأن الضرب مع ذلك في الرأس لا يؤثر كثيراً ضرر؛ کما قال: عليه السلام في موضع آخر: وعضوا على النواجذ فأنه أبناء للسيوف عن الهام، وكان ذلك لما فيه من جمع القوة والتصلب.

2 - «أَعِرِ الله جُمْجُمَتَكَ»: راسك وهو استعارة لطيف شبه جمجمته بالآله التي يستعار للانتفاع بها؛ ثم ترّد فانتفاعُ دين الله تعالى وحزبه محمد رضي الله عنه، على هذا الوجه يشبه الانتفاع بالعارية، ولفظ أعر تنبیه له على أنه لا يقبل في ذلك الحرب، إلا إذا اعتبر لله لابد من رده بكمال السلامة ومنه تثبیت لجأشه وربط لقلبه.

3 - «تِدْ فِي الأَرْضِ قَدَمَكَ»: أي الزم قدمك الأرض وأجعله كالوتد لما فيه من ربط الجأش واستصحاب العزم على الثبات ومنطق الشجاعة وأمارة الصبر على المكاره فيكون من موجبات انفعال العدو وانقهاره.

4 - «إرِمِ بَبَرّكَ أقصَى القَومْ»: ليعلم على ماذا يقدم، ولتنظر مخاتل المخاتل ومقاتل المقاتل.

5 - «وغُضَّ بَصَرَكَ» بعديد لكونه علامة السكينة، والثبات وعدم الطيش، ولأن مد النظر إلى السيوف مظنة الرهبة، وربما خيف على البصر أيضاً، والنظر المحمود في الحرب أن يلحظ شزراً فعل الحنق المترصد للفرصة كما قال: عليه السلام في غير هذا الموضع ولاحظوا الشرز(1)، ثم لما نبه بهذه الأوامر الخمسة أمره أن يعلم

ص: 192


1- قوله لاحظوا الشزر؛ يُنظر أورده الشريف المرتضى في الأمالي : ج 1 ص 172؛ باختلاف يسر منه - اطعنوا شزرا واضربوا هبرا - معنى الشزر أن يطعنه من إحدى ناحيتيه يقال فتل الحبل شزرا إذا فتله على الشمال والنظر الشزر نظر بمؤخر العين وقال الأصمعي: نظر إلى شزرا إذا نظر إليه من عن يمينه وشماله وطعنه شزرا كذلك؛ وذكر الشريف الرضي في خصائص الأئمة: ص 76: الشزر: الجوانب يميناً وشمالاً؛ وحسين عبد عيون المعجزات الحسين بن عبد الوهاب: ص 42

أن النصر من عند الله بقوله وأعلم أن النصر من عند الله كما قال عز سلطانه «وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ»(1) ليتأكد ثباته بثقته بالله عز وجل، من عند ملاحظته قوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ»(2) ونحوه.

وِمن كَلامه عليْه السلام لمَاّ أَظفرهُ الله سبحَانَه بأَصحَابْ الجَمل

وقَدْ قَالَ لَه بَعْضُ أَصْحَابِه وَدِدْتُ أَنَّ أَخِي فُلَناً كَانَ شَاهِدَنَا لِیَرَى مَا نَصَرَكَ

الله بِه عَلَى أَعْدَائِكَ فَقَالَ لَه: «أَهَوَى أَخِيكَ مَعَنَا»؟ فَقَالَ نَعَمْ قَالَ: «فَقَدْ شَهِدَنَا»: مَعَنَا أي محَبتّه و میله قال: «نَعم قال فقد شهِدَنا»: حَضرنا؛ حكم عليه السلام؛ بالحضور بالقوة؛ أو بحضور نفسه وهمته على تقدير محبته للحضور، وكم إنسان يحصل بحضور همته وأن لم يحضر ببدنه، كثير نفع أما باستجلاب الرجال؛ أو بتأثير الهمة في تفريق أعداء الله كما يفعله همم أولياء الله بحيث لا يحصل مثل ذلك النفع من أبدان كثيرة حاضرة، وأن قویت و عظمت، «ولَقَدْ شَهِدَنَا فِي عَسْكَرِنَا هَذَا أَقْوَامٌ فِي أَصْاَبِ الرِّجَالِ وأَرْحَامِ النِّسَاء»: تأكيد لحضور أخي القاتل؛ بالإشارة إلى أن من سيوجد من أنصار الحق الذابّين عنه، وعباد الله الصالحين شاهدون معه عليه السلام أيضاً شهادة بالقوة أي أنهم موجودون في اكمام المواد بالقوة ومن كان في قوة أن يحضر من أنصار الله فهو بمنزلة الحاضر الموجود بالفعل في نصرته له إذا أوجد «سَيَرْعَفُ»: سيأتي «بِهِمُ الزَّمَانُ»: استعار الرعاف، وهو الدم الخارج

ص: 193


1- سورة آل عمران: الآية 126
2- سورة محمد: الآية 7

من أنف الإنسان، لوجودهم في سرعته الزوال؛ أو اختلال الحال، وفيه تشبیه للزمان بالإنسان، وإنما نسب وجودهم إلى الزمان لأنه من الأسباب المعدة لقوابل وجودهم ونحوه قول الشاعر:

وما رعف الزمان بمثل عمرو *** ولا تلد النساء له ضريبا(1)

«ويَقْوَى بِهِمُ الإِيمَانُ».

ومن كلام له في ذم البصرة وأهلها: من خطبة خطبها بها(2)، وكذا الفصول بعدما فتحها، وروي أنه من أمر الحرب لأهل الجمل أمرَ منادياً ينادي في أهل البصرة أن الصلاة جامعة لثلاثة أيام من غدٍ أن شاء الله، ولا عُذر لمن يخلفه إلا من حجة أو علة؛ فلا تجعلوا على أنفسكم سبيلاً؛ فلما كان في اليوم الذي اجمعوا فيه؛ خرج فصلي بالناس الغداة في المسجد الجامع؛ فلما قضى صلواته قام؛ فأسند ظهره إلى حائط القبلة عن يمين المصلي بالناس؛ فخطب الناس وحَمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم، واستغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات؛ ثم قال: يا أهل البصرة يا أهل المؤتفكة؛ إنتفکت بأهلها: انقلبت بهزم ثلاثاً، وعلى الله تمام الرابعة؛ دعاء عليهم بإيقاع الخسف بهم، ثم قال «كُنْتُمْ جُنْدَ الْمَرْأَةِ»: أراد عائشة فأنهم جعلوها عقد نظامهم، ولما كانت أقوال النساء، وآرائهن أمورا مذمومة بين العرب، وسائر العقلاء

ص: 194


1- ينظر منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة لقطب الدين الراوندي: هامش ص 160؛ وكذلك شرح نهج البلاغة لابن میثم البحراني: ج 1 ص 288؛ وشرح نهج البلاغة: لابن أبي الحديد المعتزلي في ج 1 ص 247
2- هكذا ورد في المخطوط؛ والظاهر أن المصنف أراد ذكر خطبة خطبها عليه السلام؛ بهاذم اللبصرة وأهلها

لضعف آرائهن ونقصان عقلهن؛ کما قال الرسول صلى الله عليه - وآله - وسلم «أنهن ناقصات عقول ناقصات دین ناقصات حظ» حسن توبيخه لهم بكونهم جنداً لها وأعواناً وأَتْبَاعَ الْبَهِيمَةِ: أراد بها الجمل الذي كان تحت عائشة «رَغَا

فَأَجَبْتُمْ وعُقِرَ فَهَرَبْتُمْ»: فأن حالهم شاهدة باتباعه؛ مجيبين الرغائه هاربين لعقره، وهو أشنع من الأول وأدخل في الذم وکنی برغائه عن دعوتها لهم إلى القتال إذا قدمت عليهم راكبة له «أَخْلَقُكُمْ دِقَاقٌ وعَهْدُكُمْ شِقَاقٌ»: خلاف وعداوة، وإنما كانوا على رذائل الأخلاق لأن أصول الفضائل الخلقيّة کما علمت ثلاث: الحكمة، والعفة، والشجاعة؛ وكانوا على طرف الجهل بوجوه الآراء المصلحة، وهو طرف الجور، وهو طرف الجور وهو طرف الأطراف من ملكة العفة، والعدالة، ونكثوا لعهدهم، وذلك من الغدر الذي هو رذيلة بإزاء ملكة الوفاء «ودِينُكُمْ نِفَاقٌ»: ولما كانوا خارجين عن الإمام العادل محاربين له؛ لاجرمَ کانوا خارجين عن الدين، وربما كان ذلك خطباً لمن منهم بهذه الصفة «ومَاؤُكُمْ زُعَاقٌ»: ملِح؛ ذم لبلدهم، وسبب ملوحته قربه من البحر وامتزاجه به، ودخول ذلك في معرض ذمهم ربما يكون لسوء اختيارهم ذلك المكان، والإقامة به مع كون ما هم بتلك الحال المستلزم لأمراض كثيرة؛ في استعماله كسوء المزاج، والبلادة، وفساد الطحال، والحكة، وغير ذلك مما تذّكرهُ الأطباء، وقد وجد في غير هذا الكتاب؛ كونها أنتن بلاد الله تربة لكثرة ركوب الماء لها، وتعفنها به، وكونها أبعد البلاد عن السماء، وسيجيء بيانه وبها تسعة أعشار التشر؛ مبالغة كنی به عن معظم الشر «والْمَقِيمُ بَيْنَ أظَهْرُكِهُم مُرْتَهَنٌ بِذَنْبِه»: لأنه لا بد وأن ينخرط في سلكهم ويستعد لقبول طباعهم، وينفعل عن رذيل أخلاقهم ويكون موثوقاً بذنوبه «والشَّاخِصُ» الذاهب «عَنْكُم

ص: 195

مُتَدَارَكٌ بِرَحْمَةٍ مِنْ رَبِّه»: لأعانه الله له بالخروج؛ ليسلم من الذنوب التي يكتسبها المقيم بينهم وتلك رحمة من الله، وأي رحمة، وقد راعي في هذه القرائن المتوازي؛ ثم أشار بعد ذلك إلى أن بلدتهم سيخربها الماء «كَأَنِّي» ملتبس «بِمَسْجِدِ»: كُأنيه «لُجؤْجُؤ»: صدر «سَفِينَةٍ قَدْ بَعَثَ الله عَلَيْهَا الْعَذَابَ مِنْ فَوْقِهَا ومِنْ تَحْتِهَا وغَرِقَ مَنْ فِي ضِمْنِهَا»: شبه ما يخرج من الماء سروات المسجد بصدر السفينة، وقد وقع ذلك الغرق المخبر عنه مرة في أيام القادر بالله، ومرة في أيام القائم بأمر الله، عُرفت بأجمعها، وغرق من في ضمنها، وخربت دورها ولم يبق منه إلا علو مسجد الجامع حسب ما أخبر به عليه السلام «وفِي رِوَايَةٍ وايْمُ الله لَتَغْرَقَنَّ بَلْدَتُكُمْ حَتَّى كَأَنِّ أَنْظُرُ إِلَی مَسْجِدِهَا كَجُؤْجُؤِ سَفِينَةٍ أَوْ نَعَامَةٍ جَاثِمَةٍ»: متلبدة بالأرض، وفي رواية كجؤجؤ طير في لجة بحر في بحر، وهذه التشبيهات ظاهرة، والمقصود اعلامهم بأن المسجد يبقى وأن أنهدم ما حوله.

ومن كَلام له عَليَه السّلام أرضكم قريبة من الماء بعيدة من السماء:

إشارة إلى أنها موضع هابط مستقل من الأرض؛ قريب من البحر فهو بصدد أن يعلوها بملاقاة دجلة، وأما بعيدة من السماء فيحسب استفالها(1) عن غيرها من الأرض وقيل أن من أبعد موضع في الأرض عن السماء الآيلة(2)، وأن ذلك مما دلت عليه الأرصاد، وبرهن عليه أصحاب علم الهيئة، وقال بعضهم نصرفه عن ظاهره في معرض الذم، وإنما الإشارة به إلى أنهم لما كانوا بالأوصاف المذمومة التي عددها فيهم كانوا بعداء عن نزول الرحمة عليهم من سماء الجود الإلهي مستعدين لنزول العذاب، ويصدق في العرف أن يقال فلان بعيد من السماء إذا

ص: 196


1- استفالها: بمعنی کونها أسفل من غيرها من بقاع الأرض
2- الآيلة: بمعنى البعيدة

كان كما ذكرناه «خفت عُقولكم»: إشارة إلى قلة استعدادهم لدرك وجوه المصالح، وضعف عقولهم عن تدبير أحوالهم، وتسّرعهم إلى ما لا ينبغي لغفلتهم عما ينبغي وهو وصف لهم برذيلة الغباوة: «وسفَهت حلموكم»: السفهُ رذيلة يقابل الحِكْم، ويعود إلى الطيش وعدم الثبات وإذا كنتم كذلك «فَأَنْتُمْ غَرَضٌ لِنَابِلٍ»: حادق «وأُكْلَةٌ»: أسم من المأكول «لِكِلٍ وفَرِيسَةٌ»: لِصَائِلٍ هذه الأوصاف الثلاثة لازمة عن خفة عقولهم وسفه حلومهم ولذلك عقبها بها؛ لأن طمع القاصد لهم بأنواع الأذي إنما ينشأ من عمله بقلة عقولهم؛ لوجود المصالح، وسفههم فيقصدهم بحسن تدبيره، والأول من هذه الأوصاف كناية عن كونهم مقصد لمن يريد أذاهم، والثاني: عن كونهم بصدد أن يغير سهم من يقصد قتلهم وإهلاكهم، وأستعار لفض العرض، والآكلة، والفريسة لهم، ووجوه المشابهة ظاهرة، وراعي في الأوليين السجع المطرف، وفي الآخريیّن بعدها، والثالث: السجع المتوازي، هذا، وقد حکی توقيف الرسول صلى الله عليه - وآله - وسلم على أحوالهم في فصل آخر من هذه الخطبة، وذلك أنه عقيب ذمه لأهل البصرة، وجوابه للأحنف في الفصل المذكورة قال: مادحاً لهم يا أهل البصرة؛ أن الله لم يجعل لأحد أنصار المسلمين حظه من شرف، ولا أكرم إلا وقد جعل فيكم أفضل ذلك، وزادكم من فضله بمنه ما ليس لهم أنتم اقوام الناس، وعابدكم أعبد الناس، وتاجر كم أتجر الناس وأصدقكم في تجارته، ومتصدقكم أكرم الناس صدقة، وغنيكم أشد الناس تواضعاً، وبذلاً وشريفكم أحسن الناس خُلقاً، وأنتم أكرم الناس جواراً وأقلهم تكليفاً لما لا يعنيه وأحرصهم على الصلاة في جماعة، ثمرتكم أكثر الثمار، وأموالكم أكثر الأموال، وصغاركم أكيس الأولاد، ونسائكم أقنع النساء، وأحسنهن شغلاً، سخر لكم الماء يغدو علیکم، ويروح صلاحاً لمعاشكم، والبحر يبساً لكثرة أموالكم فلو صبرتم

ص: 197

واستقمتم لكانت شجرة طوبى لكم مقيلاً، وظلاً ظليلاً؛ غير أن الله فيكم ماض وقضاؤه نافذ؛ لا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب، يقول الله تعالى وإن «وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا»(1) وأقسم لكم يا أهل البصرة؛ ما الذي أبتدئکم به من التوبيخ إلا تذكير، و موعظة لما بعد لكي لا تسرعوا إلى الوثوب إلى مثل الذي وثبتم، وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه [وآله] وسلم «وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ»(2) ولأن الذكر الذي ذكرت؛ فيكم من المدح والنظر به بعد التذكير، والموعظة رهبة مني لكم، ولا رغبة في شيء مما قبلکم؛ فأني لا أريد المقام بين أظهركم أن شاء الله لأمور تحضرني؛ قد يلزمني القيام بها في ما بيني وبين الله؛ لا عذر لي في تركها، ولا علم لكم بشيء منها؛ حتى يقع مما أريد أن أخوضها مقبلاً، ومدبراً؛ فمن أراد أن يأخذ بنصيبه منها فليفعل، فلعمري أنه للجهاد الصافي، صفاه لنا كتاب الله ولا الذي، أردت به من ذكر بلادكم؛ مؤاخذة مني علیکم لما شافهتموني غير أن رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم؛ قال لي يوماً، وليس معه غيري يا علي، أن جبرئيل الروح الأمين؛ حملني على منكبه الأيمن حتى أراني الأرض، ومن عليها، واعطاني مقاليدها وعلمني ما فيها وما كان على ظهرها، وما يكون إلى يوم القيامة، ولم يكبر ذلك علي؛ کما لم يكبر أبي آدم، علمه الأسماء كلها، ولم يعلمها الملائكة المقربون، فأني رأيت بقعة على شاطي البحر تسمى البصرة؛ فإذا هي أبعد الأرض من السماء، واقربها من الماء، وأنها لأسرع الأرض خراباً، وأخبثها تراباً وأشدها عذاباً، ولقد خسف بها في القرون الخالية مراراً، وليأتين

ص: 198


1- سورة الإسراء: الآية 58
2- سورة الذاريات: الآية 55

عليها زمان، وأن لكم يا أهل البصرة وما حولكم من القرى من الماء ليوماً عظيماً بلاؤه، وأني لأعرف موضع منفجرة من قريتكم هذه؛ ثم أمور قبل ذلك تدهمكم عظيمة أُخفيت عنكم، وعلمناها فمن خرج عنها عند دنوها فرحمة من الله سبقت له، ومن بقي فيها غير مرابط بها؛ فبذنبه وما الله بظلام للعبيد.

ومن كلام له عليه السلام فيما رده على المسلمين:

يعني ما أذن لبني أمية في قطعها لأنفسهم خاصة من فطائع عثمان: من أرض الخراج ونحوها وأعلم أن هذا الفصل بعده من الخطب خطبها بالمدينة لما قتل عثمان وبويع له، وقد ورد هاهنا بزيادة ونقصان، وأول هذا الفصل من الخطبة «إلا وأن كل قطيعة أقطعها عثمان، أو مال آخذه من بيت المال المسلمين»؛ وسيورد الخطبة بتهامها في أحد الفصول التي يحي منها أن شاء الله تعالى وأعلم أنه اشار أولا إلى العزم الجازم المؤكد بالقسم على رد القطائع لأقاربه بقوله: «والله لَوْ وَجَدْتُه

قَدْ تُزُوِّجَ بِه النِّسَاءُ ومُلِكَ بِه الإِمَاءُ لَرَدَدْتُه»: ثم نبه المقتطعين بقوله «فَإِنَّ فِي الْعَدْلِ سَعَةً»: على أن عدل الله يسعهم في ردما اقتطعوه، وکنی بسعته عن اقتضاء أمر العدل؛ رد ذلك وغيره من المظالم فعليهم أن يدخلوا في مقتضى أوامر الله، وعدله فأن فيه سعة لهم، وهو رضاء المظلوم بإيصال حقه عليه، ولرضاء الظالم لعلمه بأنه عند الانتزاع منه أخذ منه وضاق عليه العدل فهو محل الرضاء؛ فأن لم يرض الضيق العدل عليه؛ فالجور عليه أضيق في الدنيا والآخرة، وهذا هو المراد بقوله: «ومَنْ ضَاقَ عَلَيْه الْعَدْلُ فَالْجَوْرُ عَلَيْه أَضْيَقُ»: لأنه ربما انتزعت منه قهراً، وكان جوره سبباً للتضيق عليه في ذلك، ولأن الأوامر والنواهي الإلهية محيطة به؛ ساد عليه وجوه التصرف الباطل، ولأنه إذا نزل عليه عدل، اعتقد أنه قد أُخذ منه ما ينبغي أخذهُ منه، وإذا نزل عليه جور اعتقد أنه أخذ منه، ولا شك أن أخذ ما لا

ص: 199

ينبغي أخذه لصعب على النفس وأضيق من أخذ ما ينبغي، وهو أمر وجداني، وفقه الفصل: أنه إذا غصب غاصب مال المسلمين؛ يجب على الإمام عند التمكن؛ أن يأخذ المغصوب ويرده على مستحقه، وأن تصرف فيه الغاصب تصرفاً شديداً؛ بحيث لو أشتری به جارية لكان من الواجب أن يسترد منه تلك الجارية؛ أن اشتراها بعين المغصوب وأن كان اشتراها على ذمته؛ ثم دفع المال المغصوب عوض ثمنها يأخذ مايقاومه بدلاً منه، ويرده على أربابه، وكذا إذ جعله الغاصب مهر الزوجة فأن كان المغصوب عين قائمة كالأرض أخذها، وأن كان شيئا استهلك قيمته أخذ ورده عل مستحقه، وأعلم أنه قد كان عثمان أقطع جماعة من بني أمية وغيرهم، وأصحابه كثيراً من أرض بيت مال، وكذلك فعل عمر، ذلك مع قوم لهم وقائع مشهورة في الجهاد، وفي سبيل الله ترغیباً في الجهاد، ولكن لما اختلفا غرضها لم يرد عليه السلام الإمام أقتطعه عثمان.

ومن خطبة له عليه السلام لما بُويع بالمدينة

في هذا لفصل فصول من الخطبة التي أشرنا إليها في الكلام الذي قبله وكذلك في الفصل الذي بعده وأنا أوردها بتمامها ليتضح ذلك.

وهي: «الحمد لله أحق محمود بالحمد، وأولاه بالمجد إلهاً واحداً صمدا أقام؛ أركان العرش، فأشرق لضوء شعاع الشمس، خلق فأتقن وأقام فذلَّت له وطأة المستمكن، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، أرسله بالنور الساطع والضياء المنير أكرم خلق الله حسباً، وأشرفهم نسباً لم يتعلق عليه السلام، ولا يتعاهد بمظلمة بل كان يظلم».

«أمّا بعد فإنّ أوّل من بغى على الأرض عناق ابنة آدم، كان مجلسها من الأرض

ص: 200

جريباً(1) وكان لها عشرون إصبعا، وكان لها ظفران کالمخلبين فسلَّط الله عليها أسداً كالفيل وذئباً كالبعير ونسراَ کالحمار، وكان ذلك في الخلق الأوّل فقتلها(2)، وقد قتل الله الجبابرة على أسوء أحوالهم، وإنّ الله أهلك فرعون وهامان وقتل هارون بذنوبهم، ألا وإنّ بليتكم قد عادت کهیئتها يوم بعث الله نبيّكم صلى الله عليه وآله، والَّذي بعثه بالحقّ لتبلبلنّ بلبلة ولتغربلنّ غربلة ولتساطنّ سوط القدر حتّى يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلكم وليسبقنّ سابقون كانوا قصّروا وليقصّرنّ سبّاقون كانوا سبقوا والله ما كتمت وشمة، ولا كذبت كذبة، ولقد نبّئت هذا اليوم وهذا المقام ألا وإنّ الخطايا خيل مشمس؛ حمل عليها أهلها، وخلعت لجمها فتقحّمت بهم للنار؛ فهم فيها كالحون؛ ألا وإنّ التقوى مطايا ذلل حُمل عليها أهلها فسارت بهم تأوّداً حتّى بهم إذا جاؤوا ظلَّا ظليلاً فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها «وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ»(3) ألا وقد سبقني إلى هذا الأمر من لم أشركه؛ فيه ومن ليست له منه توبة، إلَّا بنبيّ مبعث ولا نبيّ بعد محمّد صلى الله عليه وآله، أشفى منه «عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ»(4) أيهّا الناس كتاب الله وسنّة نبيّه، لا يرعی مرعي إلاَّ على نفسه، شغل من الجنّة والنار أمامه ساعي نجا، وطالب يرجو، ومقصّر في النار، ولكلّ أهل ولعمري لئن أمر الباطل لقديماً فعل، ولئن قلّ الحقّ لربّما ولعلّ، ولقلَّما أدبر شيء فأقبل، ولئن ردّ أمركم عليكم إنّكم لسعداء، وما علينا إلَّا الجهد، قد كانت أمور

ص: 201


1- والجريب من الطعام، والأرض مقدار معلوم الذراع والمساحة، وهو عشرة أقفزة؛ كل قفيز منها عشرة أعشار، فالعشير: جزء من مائة جزء من الجريب، يُنظر لسان العرب لابن منظور: ج 1 ص 360
2- الكافي للكليني: ج 3 ص 338
3- سورة الزمر: الآية 73
4- سورة التوبة: الآية 109

مضت ملتم فيها ميلةً، كنتم عندي فيها غير محمودي الرأي، ولو أشاء أن أقول القلت عفی الله عمّا أسلف، قام الرجلان، وقام الثالث كالغراب همّه بطنه، ويله لو قصّ جناحه، وقطع رأسه كان خيراً له، شغل من الجنّة، والنار أمامه ساعي مجتهد مطالب یرجو، ومقصّر في النار، ثلاثة واثنان خمسة، وليس فيهم سادس ملك طائر بجناحيه، وآخذ الله بضبعيه، هلك من أدّعي، وخاب من أفترى اليمين والشمال مضلَّة، ووسط الطريق المنهج عليه، باقي الكتاب وآثار النبوّة، ألا وإنّ الله قد جعل أدب هذه الأمّة السوط والسيف؛ ليس عند إمام فيهما هوادة، فاستتروا بنفوذكم وأصلحوا ذات بينكم، والتوبة من ورائكم؛ من أبدأ صفحته للحقّ هلك؛ ألا وإنّ كلّ قطعية أقطعها عثمان، أو مال أخذه من بيت مال المسلمين؛ فهو مردود عليهم في بيت مالهم، ولو وجدته قد تزوّج النساء، وفرّق في البلدان فإنّه؛ إن لم يسعه الحقّ بالباطل أضيق عنه أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم».

ولنرجع إلى التفسير:

«ذِمَّتِي»: عهدي «بِمَا أَقُولُ»: ما مصدرية، أو موصولة: «رَهِينَةٌ»: على صحتها «وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ»: كفيل بصدقها واستعمال: هاهنا استعارة كقوله تعالى «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ»(1) «كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ»(2) لمشابهتهما في الوثوق، وهذه القضية مؤكدة لشرطية متصلة «هي إِنَّ مَنْ صَرَّحَتْ لَهُ الْعِبَرُ عَمَّا بَیْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْمَثُلَاتِ» عقوبات الآخرة «حَجَزَتْهُ»: التَّقْوَى «عَنْ تَقَحُّمِ الشُّبُهَاتِ»: بيان الملازمة أن من أخذت العناية بزمام عقله؛ فأعدت نور بصيرته، لشاهدت ما صرح به أفات الدنيا، وكشفت عبرهامن تبدل حالتها، وتغيراتها النازلة؛ فيها على من أوقف

ص: 202


1- سورة آل عمران: 185
2- سورة المدثر : الآية 38

عليها همه، وأتخذهادار إقامة؛ فشاهد أن كل ذلك أمور باطلة، وإضلال زائلة فلا بد أن يفيض الله على قلبه صورة خشيته وتقواه، فتستلزم تلك الحسنة توقفه، وامتناعه عن أن يلقي نفسه في تلك الأمور الزائلة، والشبهات المستلزمة للعقوبات النازلة لإشراق نور الحق الواضح على نفسه بالاعتبار؛ فالتقوى اللازم عنه هو: الحاجز عن ذلك التقحم، وأشار بالشبهات إلى مايتم كونه حقاً ثابتاً باقياً من الأمور الفانية، واللذات الدنيوية الباطلة؛ فالوهم يتصورها بالحق فلذلك سميت شبهات، والعقل الخارج من أمر الهوى قوي على تفقد الحق وتميزه من الشبهة ولما نبههم على لزوم التقوى، وأنه مخلص من تقحم الشبهات، نبههم بعده على أنهم في الشبهات مغمورة بقوله: «أَلَا وإِنَّ بَلِيَّتَكُمْ قَدْ عَادَتْ كَهَيْئَتِهَا يَوْمَ بَعَثَ اللهُ نَبِیَّهُ» صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأشار بليتهم: إلى ما هم عليه من اختلاف الأوهام وتشتت الآراء وعدم الألفة والاجتماع في نصرة الله عن شبهات يُلقيها على الأذهان القابلة لوسوسته المقهورة في يده وذلك ما أعظم الفتن التي بها يبتلى الله عباده «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ»(1) وهي أمور تشبه ما كان الناس عليه حال بعثة الرسول صلى الله عليه [وآله] وسلم وفي ذلك تنبيه لهم على أنهم ليسوا من تقوى الله في شيء، إذا عرفت أن مجانبة الشبهة من لوازم التقى فكان وقوعهم فيها مستلزم لسلب التقوى عنهم ثم بين وقعهم في البلية کیا کانت؛ أقسم بالقسم البار «والَّذِي بَعَثَه بِالْحَقِّ لينزل بهم ثمرة ما هم فيه من عدم التناصر، وابتاع الأهواء الباطلة» وذلك قوله «لَتُبَلْبَلُنَّ»: لتحركن بالشدائد «بَلْبَلَةً»: حركة كني بها عما يوقع بهم بنو أمية، وغيرهم من أمر الجور من الهموم المزعجة، وخلط بعضهم ببعض، ورفع أراذلهم وحط أكابر عن ما يستحق كل

ص: 203


1- سورة الأنبياء: الآية 35

من المراتب «ولَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً»: كأنها كناية عن التقاط أحادهم وقصدهم بالأذى، والقتل کما فعل بكثير من الصحابة والتابعين، وفي ذلك تشبيه لفعلهم ذلك بغربلة الدقيق ونحوه، لتميز شيء منه عن شيء، ولذلك استعير له لفظها وفي هاتين القريتين السجع المتوازي(1) «ولَتُسَاطُنَّ»: تخلطن «سَوْطَ الْقِدْر»: خلطة «حَتَّى يَعُودَ أَسْفَلُكُمْ أَعْلَكُمْ وأَعْلَكُمْ أَسْفَلَكُمْ»: استعار لفظ السوط هاهنا مع غايته المذكورة؛ لتصريف أئمة الجورهم ممن يأتي بعده بسائر أسباب الإهانة، وتغير القواعد التي هم عليها في ذلك الوقت، وهو قريب من الأول «ولَيَسْبِقَنَّ سَابِقُونَ كَانُوا قَصَّرُوا ولَيُقَصِّرَنَّ سَبَّاقُونَ كَانُوا سَبَقُوا»: إشارة إلى بعض نتائج تقلب الزمان بهم قال: بعض العلماء «اشار بالمقصرين الذين يسبقون إلى قوم قصروا عن نصرته في مبدأ الأمر؛ حين وفاة الرسول صلى الله عليه [وآله]؛ ثم نصروه في ولايته، وقاتلوا معه في سائر حروبه وبالسابقين الَّذين يقصّرون إلى من كانت له في الإسلام سابقة، ثمّ يخذله، وينحرف عنه ويقاتله، ويشبه أن يكون مراده أعمّ من ذلك؛ فالمقصّرون الَّذين يسبقون كلّ من أخذت العناية الإلهيّة بيده، وقاده زمام التوفيق إلى الجدّ في طاعة الله، واتّباع سائر أوامره، والوقوف عند نواهيه وزواجره؛ بعد تقصيره في ذلك، وعکس هؤلاء من كان في مبدأ الأمر مشمراً في سلوك سبيل الله، ثمّ جذبه هواه إلى غير ما كان عليه، وسلك به الشيطان مسالکه فاستبدل بسبقه في الدين تقصيراً، وانحرافاً «والله مَا كَتَمْتُ وَشْمَةً ولَا كَذَبْتُ كِذْبَةً»: بالشين المعجمة الكلمة، وبالمهملة العلامة «ولَا كَذَبْتُ كِذْبَةً»: أقسم أنّه لم يكتم أثراً سمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله في هذا المعنى، أو كلمة ممّا يتعيّن عليه أن يبوح به وأنّه لم يكذب قط، وهذا القسم شهادة لما قبله

ص: 204


1- تقدم تعريف السجع المتوازي والمطرف

من الإخبار بما سيكون أنّه كما قال، وتوطئة لما بعده؛ أنّه كما هو ذلك قوله: ولَقَدْ نُبِّئْتُ بِهَذَا الْمَقَامِ»: المقام أي مقام بيعة الخلق له «وهَذَا الْيَوْمِ»: يوم اجتماعهم عليه، وكلّ ذلك تنفير لهم عن الباطل إلى الحقّ، وتثبيت لهم على اتّباعه؛ ثمّ لمّا أمرهم بالتقوى، وأنبأهم بما سيكون عاقبة أمرهم في لزومهم لبلَّيتهم وتورّطهم في الشبهات، أردف ذلك بالتنفير عن الخطايا، والترغيب في التقوى بالتنبيه على ما يقود إليه كلّ منها قوله: «أَلَا وإِنَّ الْخَطَايَا خَيْلٌ شُمُسٌ»: جمع شموس وهي الدابة التي يمنع ظهرهاٌ «حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا وخُلِعَتْ لُجُمُهَا فَتَقَحَّمَتْ بِهِمْ فِي النَّار»: استعار لفظ الخيل للخطايا ثم وصفها بالوصف المنفر، وهو الشموس والهيبة المانعة لذي العقل من ركوبها، وهي كونها مع شموسها مخلوعة اللجم، ووجهها أن الدابة الموصوفة بهذه الصفة من شأنها أن تتقحّم براكبها المهالك، وتجري به على غير نظام، فكذلك راكب الخطيئة تجري به ركوبها على غير نظام الشريعة، وخلع بذلك لجام الأوامر الشرعية، وحدود الدين، فغاية ركوبها أن يتقحم أعظم موارد الهلاك وهي نار جهنّم، وذلك من لطيف الاستعارة، وبقوله: «أَلَ وإِنَّ التَّقْوَى مَطَايَا ذُلُلٌ حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا وأُعْطُوا أَزِمَّتَهَا فَأَوْرَدَتْهُمُ الْجَنَّةَ»: واستعار أيضاً لفظ المطايا بالوصف الحسن الموجب للميل إليها، وهو كونها ذللاً، وبالهيئة الَّتي ينبغي للراكب، وهو أخذ الزمام وأشار بالأزمّة إلى حدود الشريعة؛ الَّتي يلزمها صاحب التقوى، ولا يتجاوزها، ولمّا كانت المطيّة الذلول من شأنها أن تتحرّك براكبها على وفق النظام الَّتي ينبغي أن لا يتجاوز الطريق المستقيم، بل يصرفها بزمامها، وتسير به على تؤدة؛ فيصل بها إلى المقاصد، كذلك التقوى؛ فسهولة طريق السالك إلى الله بالتقوى؛ وراحته عن جموح الهوى به في موارد الهلكة يشبه ذلَّة المطيّة، وحدود الله الَّتي بها يملك التقوى؛ ويستقر عليه يشبه أزمّة المطايا الَّتي بها تملك، وكون التقوى موصلاً لصاحبه بسلامة إلى السعادة الأبديّة الَّتي هي أسنى المطالب يشبهه

ص: 205

غاية سير المطيّ الذلول براكبها، والاستعارة في الموضعين المحسوس للمعقول، ثمّ لمّا بیّن أنّ هاهنا طريقين مركوبين مسلوكين طريق الخطايا، وطريق التقوى، ذكر بعده «حَقٌّ وبَاطِلٌ»: كأنّه قال، وهما حقّ وهو التقوى، وباطل وهو: الخطايا «ولِكُلٍّ أَهْلٌ»: أي لكل من الباطل، والحق قوم أعدّهم القدر؛ لسلوكها بحسب ما جرى في اللوح المحفوظ بقلم القضاء الإلهيّ؛ كما قال الرسول صلى الله عليه [وآله] وسلم: «كلّ ميسر لما خلق له»(1)، ثم أردف لذلك بما يشبه الاعتذار لنفسه، ولأهل الحقّ في قلَّته، وذمّ وتوبيخ لأهل الباطل على كثرته وهو قوله «فلَئَنِ أَمِر»: کثر «الْبَاطِلُ لَقَدِيماً فَعَلَ»: بمعنى الفعل كما يقال خبرَ به: مكان الخبر، مراده أن كثرة الباطل وقلة الحق في ذلك الوقت ليس بدیعاً حتى أُجهد نفسي في الأنكار على أهله ثم لا يسمعون ولا ينتهون، وفي قوله «ولَئِنْ قَلَّ الْحَقُّ لَرُبَّمَا ولَعَلَّ»: تنبيه على أنّ الحقّ وإن قلّ فربّما يعود كثيراً ثمّ أردف حرف التقليل، وهو ربّما بحرف التمنّي، فكان في هذه الأحرف الوجيزة إخبار بقلَّة الحق، ووعد بقوة مع نوع تشكيك في ذلك، وتمني لكثرته «ولَقَلَّاَ أَدْبَرَ شَيْءٌ فَأَقْبَلَ»: استبعاد لرجوع الحقّ إلى الكثرة والقوّة بعد قلَّته، وضعفه على وجه كلَّي، فإنّ زوال الاستعداد للأمر مستلزم لزوال صورته، وصورة الحقّ، إنّما أفيضت على قلوب صفت؛ فاستعدّت لقبوله؛ فإذا أخذ ذلك الاستعداد في النقصان بموت أهله، أو بموت قلوبهم، وتسوّد الألواح بشبه الباطل، فلا بدّ أن ينقص نور الحقّ وتكثر ظلمة الباطل، بسبب قوّة الاستعداد لها، فظاهر أنّ عود الحقّ، وإضاءة نوره بعد إدباره، وإقبال ظلمة الباطل أمر بعيد وقلّ مایعود، مثل ذلك الاستعداد لقبول مثل تلك الصورة للحقّ، ولعله يعود بقوة فيصبح ألواح النفوس، وأرضها مشرقةً بأنوار

ص: 206


1- معاني الأخبار للشيخ الصدوق: هامش ص 397؛ الأمالي للشريف المرتضى: ج 1: ص 50؛ عوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي: ج 4: ص 23

الحقّ، ويقذف على الباطل فيدمغه؛ فإذا هو زاهق، وما ذلك على الله بعزيز، وفي ذلك تنبيه لهم على لزوم الحقّ، وبعث على القيام به، کیلا يضمحلّ بتخاذهم عنه فلا يمكنهم تدارکه.

قال: السيد رضي الله عنه، وأقول أن في هذا الكلام الأدنى من بدائع مواقع الإحسان مالا يبلغه مواقع الإحسان أي: أن شيئًا من محاسن کلام العرب، وما يقع عليه الاستحسان فيها لا يوزي هذا الكلام، أو الفكر لا يصل إلى محاسن هذا الكلام «وَأنّ حظّ العَجب منْه أكثر من حَظ العُجبْ بِهِ»: يريد أن تعجب الفصحاء من حسنه و بدائع أكثر من عجبهم باستخراج محاسنه، وذلك لأن فيه من المحاسن وراء ما يمكنهم التعبير عنه أمور كثيرة؛ فهم يجدونها من أنفسهم وأن لم يمكنهم التعبير عنها؛ أو يريد بأكثر من عجبهم به؛ أو أكثر من محبتهم له وميلهم إليه «وَفيه معَ الحالِ التي وصَفْنَا زَوائدٌ من الفصاحة، لا يقوم بها لسانٌ، ولَا يَطلّع فجّها مذهبها إنسان، ولاَ يعرفُ ما أقوله؛ إلاّ من ضَرب في هذه الصِّناَعِة بَحقّ، وَجَرى فيها عَلى عرْق أَصل وَما يعقلها إلا العالمون وَمن هذه الخطبة: «شُغِلَ مَنِ الْجَنَّةُ والنَّارُ أَمَامَه» : يعني أن من كانت الجنة والنار أمامه؛ فقد جعل له بهما شغل يكفيه عن كل ما عداه؛ فيجب عليه ألا يشتغل إلا به، وأشار بذلك الشغل إلى ما يكون وسيلة إلى الفوز بالجنة والنجاة من النار مما نطقت به الكتب المنزلة وحث على الزومه الرسل والمراد بكونهما أمامه أحد الأمرين أما كونهما ملاحظين له متذكراً لهما مدة وقته فهما أمامه، ومن كان كذلك فهو في شغل عن غيرهما أو أن الإنسان من مبدأ عمره إلى منتهاه مسافر إلى الله تعالى؛ فهو في انقطاع سفره لا بد وأن ينتهي إلى الجنة أو إلى النار؛ فكانتا أمامه في ذلك السفر، وغايتين يؤمّهما الإنسان، ومن كان أبداً في سفر إلى غاية معينة؛ فكيف يليق به ان يشتغل بغير مهمات تلك الغاية والوسيلة إليها، وإنما قال شغل بالبناء للمفعول لأنّ المقصود هاهنا ليس إلَّا ذكر

ص: 207

الشغل؛ أو لأنّه لمّا كان الشاغل هو الله تعالى بإيجاد الجنّة والنار والترغيب في إحداهما، والترهيب من الأخرى كان ترك ذكره للتعظيم، والإجلال أو لظهوره؛ ثمّ أنّه لمّا نبّه على وجوب الاشتغال بالجنّة، والنار عن غيرهما قسّم الناس بالنسبة إلى ذلك الاشتغال إلى ثلاثة أقسام وذلك قوله: «ساع سريع نجا، وطالب بطيء رجا، ومقصّر في النار هوى»، ووجه الخصر في هذه القسمة؛ أنّ الناس بعد الأنبياء عليهم السّلام؛ إما طالبون له أو تاركون، والطالبون إمّا بغاية جدّهم واجتهادهم، وبذل وسعهم، واجتهادهم في الوصول إلى رضوانه أو بالبطؤ؛ والتأنّي فهذه ثلاثة أقسام لا مزيد عليها، وإن كان قسم الطالبين في مراتب ودرجات متفاوتة، والقسم الأوّل: هم الفائزون بقصب السبق، والناجون من عذاب النار كما قال تعالى «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ»(1) «فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ»(2) أمّا القسم الثاني: ذو وصفين يتجاذبانه من جهتي السفالة، والعلوّ فطلب الجنة إلى جهة بحركته، وسلوكه إلى الله وإن ضعف جاذب له إلى جهة العلوّ، ويد الشيطان جاذبة له إلى جهة السفالة، إلَّا أنّ رجاه لعفو الله، ونظر إليه بعين رحمته إذا انضاف إلى حركته البطيئة كانت السلامة عليه أغلب، وجهة العلوّ منه أغرب.

والقسم الثالث: المقصر الذي وقف به الشيطان حيث أراد؛ أخذ بحجزته عن سلوك سبيل الله قاذفاً به في موارد الهلاك، ومنازل الشقاء وظاهر أنه في النار.

«فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ»(3)، هذا وأعلم أن

ص: 208


1- سورة الواقعة: الآيات: 10 - 12
2- سورة الطور: الآية 18
3- سورة هود الآيات: 106، 107

أرباب العُرف أنّ قد علموا أن الدنيا مزرعة الآخرة؛ فالنفس هي الأرض وبذورها حبّ المعارف الإلهيّة، وسائر أنواع الطاعات جارية مجرى إصلاح هذه الأرض؛ من تقليبها وإعدادها للزراعة، وسياقة الماء إليها، والنفس المستغرقة بحبّ الدنيا والميل إليها كالأرض السبخة الَّتي لا تقبل الزرع، والإنبات المخالطة الأجزاء الملحيّة، ويوم القيامة يوم الحصاد إلَّا من زرع، ولا زرع إلَّا من بذر، وكما لا ينفع الزرع في أرض سبخة؛ كذلك لا ينفع إيمان مع خبث النفس، وسوء الأخلاق، فينبغي أن يقاس رجاء العبد لرضوان الله برجاء صاحب الزرع، وكما أنّ من طلب أرضا طيّبة، وبذرها في وقت الزراعة بذراً غير متعفّن، ولا يتكاهل ثمّ أيدّه بالماء العذب، وسایر ما يحتاج إليه في أوقاته؛ ثمّ طهّره عن مخالطة ما يمنع نباته من شوك، ونحوه ثم انتظر من فضل الله رفع الصواعق، والآفات المفسدة إلى تمام زرعه، وبل وبلوغ زرعه غايته، كان ذلك رجاء في موضعه، ومن بذر في أرض كذلك؛ إلّا أنّه بذر في أخريات الناس، ولم يبادر إليه في أوّل، وقته أو قصر في بعض أسبابه ثمّ أخذ ينتظر ثمرة ذلك الزرع، ويرجو الله في سلامته له؛ فهو من جملة الراجين أيضاً، ومن لم يحصل على بذر؛ أو بذر في أرض سبخة أو ذات شاغل من الإنبات ثمّ أخذ ينتظر الحصاد فذلك الانتظار حمق. فكان اسم الرجاء إنّما يصدق على انتظار ما حصل جميع أسبابه؛ أو أكثرها الداخلة تحت اختيار العبد، ولم يبق إلَّا ما لا يدخل تحت اختیار وهو فضل الله تعالى بصرف القواطع والمفسدات، كذلك حال العبد إن بذر المعارف الإلهيّة في أرض نفسه في، وقته وهو مبتدأ التكليف، ودام على سقيه بالطاعات، واجتهد في طهارة نفسه عن شوك الأخلاق الرديئة التي تمنع نساء العلم وزيادة الإيمان، وانتظر من فضل الله تعالى أن يثبته على ذلك إلى زمان، وصوله وحصاد عمله؛ فذلك الانتظار هو الرجاء المحمود وهو درجة السابقين، وإن ألقي بذر الإيمان في نفسه؛ لكنه قصّر في بعض أسبابه؛ إمّا ببطئه في

ص: 209

البذر أو في السقي إلى غير ذلك ممّا يوجب ضعفه؛ ثمّ أخذ ينتظر وقت الحصاد، ويتوقّع من فضل الله تعالى أن يبارك له فيه، ويعتمد على أنّه هو الرزّاق ذو القوّة المتين؛ فيصدق عليه أيضاً أنّه راج إذ أكثر أسباب المطلوب الَّتي من جهته حاصلة، وهذه درجة القسم الثاني، وهو الطالب الراجي البطيء، وإن لم يزرع من قواعد الإيمان في نفسه شيئاً أصلاً؛ أو زرع ولم يسقه بماء الطاعة؛ أو ترك نفسه مشغولة بشوك الأخلاق الرديئة، وانهمك في طلب آفات الدنيا ثمّ انتظر المغفرة، والفضل من الله فذلك الانتظار غرور وليس برجاء في الحقيقة، وذلك هو القسم الثالث وهو المقصّر في أسباب الزراعة، و تحصیل زاد الآخرة الهالك لشقاء يوم الحسرة، والندامة يقول: «يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ»(1).

إذا أنت لم تزرع وعاينت حاصدا *** ندمت على التفريط في زمن البذر(2)

قال: رسول الله صلى الله عليه - وآله -: «الأحمق من اتّبع نفسه هواها، وتمنّى على الله»(3). وقال عز قائل «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا»(4) وإنّما خصّص عليه السّلام القسم الثاني بالرجاء إذ كان کما علمت عمدته لضعف عمله وقلَّة الأسباب من جهته، وإلى هذه الأقسام الثلاثة أشار القرآن الكريم بقوله: «فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ

ص: 210


1- سورة الفجر: الآية 24 - 25
2- الأعلام للزركلي: ج 2، ص 299. قال: «خالد بن معدان بن أبي كرب الكلاعي، أبو عبد الله: تابعي، ثقة، ممن اشتهروا بالعبادة. أصله من اليمن، وإقامته في حمص، وكان يتولى شرطة يزيد ابن معاوية»؛ عيون الأخبار لابن قتيبة الدينوري: ج 2: ص 398
3- مسند أحمد بن حنبل: ج 4: ص 124؛ الأمالي للشيخ الطوسي: ص 530؛ سنن الترمذي للترمذي: ج 4 ص 54 باختلاف يسير؛ المستدرك للحاكم النيسابوري: ج 1: ص 57
4- سورة الأعراف: الآية 169

مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ»(1) لمّا قسّم الناس إلى سابقين، ولا حقين، ومقصّرين؛ أشار إليهم إلى الطريق الَّتي أخذ الله عليهم سلوكها، ونصب لهم عليها أعلام الهدى؛ ليصلوا بها إلى جناب عزّته سالمين؛ عن تخطَّفات الشياطين في قوله: «فقال اليمين والشّمالُ مضّلة»: موضع ضلال، والمراد الأفراط والتفريط لأن طريق السالكين إلى الله أما العلم أو العمل؛ فالعلم طريق القوة النظرية، والعمل طريق القوة العملية، وكل منهما مُحْتَوَش برذيلتين هما طرف التفريط والأفراط، والوسط منهما العدل «والطَّرِيقُ الْوُسْطَى هِيَ الْجَادَّةُ»: الواضحة لمن أهتدي «عَلَيْهَا بَاقِي الْكِتَابِ»: وما في القرآن من المقاصد الحكمية وعليها «آثَارُ النُّبُوَّةِ ومِنْهَا مَنْفَذُ السُّنَّةِ»: طريقها ومبداها الذي منه يخرج، وإليها مصير العاقبة عاقبة الخلق في الدنيا والآخرة، فأن من العدل بدأت السنة، وانتشرت في الخلق، وإليه مرجع أمورهم أما في الدنيا؛ فلأن نظام أمورهم في حركاتهم وسکناتهم مبني عليه في القوانين الشرعية، وإلى تلك القوانين، والقواعد يرد عواقب أمورهم في حركاتهم، وسكناتهم مبني عليه في القوانين الشرعية، وإلى تلك القوانين والقواعد يرد عواقب أمورهم، وعليها يحملون، وأما في الآخرة فبالنسبة إليه بتبين خسران الخاسرين، وفوز الفائزين؛ فيحكم لمن يسلكه، ويمسك به أوقات سفره إلى الله بجنات النعيم، ولمن أنحرف عنه، وتجاوزه بالعذاب الأليم في نار الجحيم «هَلَكَ مَنِ ادَّعَى وخابَ مَنِ افْتَرى»: يحتمل أن يكون دعاء أو إخبار أي: هلك من أدعى ما ليس له أهلاً، وعني الهلاك الآخروي، وخاب من كذب أي: لن يحصل مطلوبه إذا جعل الكذب وسيلة له، وعني الهلاك الآخروي، وخاب من كذب أي: لن يحصل مطلوبه إذا جعل الكذب وسيلة إليه، وأعلم أن الدعوى أما أن تكون مطابقة لما في نفس الأمر، وليس كذلك والثانية محرمة مطلقاً، وأما الأولى

ص: 211


1- سورة فاطر: الآية 32

فأما أن يدعوا إليها الحاجة أو ليس، والقسم الأول هو مباح فقط دون الثاني، وإنما حرما لأن الدعوى الغير المطابقة تصدر عن ملكة الكذب تارة، وعن الجهل المركب تارة كالجاهل بالأمر المدعى لحصوله عن شبهة رسخت في ذهنه، وكلاهما من أكبر الرذائل، وأعظم المهلكات في الآخرة، وأمّا الثانية: فلأنّها تكاد لا تصدر عن الإنسان إلَّا عن رذيلة العجب، وستعلم أنّه من المهلكات.

قال: رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم: «ثلاث مهلکات: شحّ مطاع، وهوى متّبع، وإعجاب المرء بنفسه»(1)؛ وأمّا خيبة المفتري؛ فلأنّ الفرية اختلاف ما ليس بحقّ، وظاهر أنّ الكذب لا ثمرة له أمّا في الآخرة فظاهر، وأمّا في الدنيا فقد يكون وقد لا يكون، وإن كانت ففي معرض الزوال، ومستلزمة لسخط الله؛ فهو بمنزلة ما لم يكن، وصاحبها أشدّ خيبة من عادمها؛ فطالب الأمر بالفرية على كلّ تقدير خائب خاسر قيل أراد من هلك، أدّعى الإمامة من غير استحقاق، وخاب عن افترى في دعواه لها لأنّ كلامه في هذه الخطبة كثيراً ما يعرض فيه من أمر الإمامة «من أبدى صفحته»: جانبه «للحق هلك عند جهلة الناس»: تنبيه على أنّ المتجرّد لإظهار الحقّ في مقابلة كلّ باطل أورد من الجهال، وحملهم على مرّ الحقّ وصعبه في كلّ وقت يكون في معرض الهلاك بأيديهم وألسنتهم؛ إذ لا يعدّ منهم من يوليه المكروه ويسعى في دمه، ثمّ أراد التنبيه على الجهل؛ فذكر أدنى مراتبه، ونبه بها على أنّ أقلّ الجهل كاف في الرذيلة؛ فكيف بكثيره، وذلك قوله «وكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلًا أَلَّا يَعْرِفَ قَدْرَه»: مرتبته في الناس، ولم يصوّره درجة نفسه، ومنزلتها بالنسبة إلى آحادهم، وكفى بهذا القدر مهلكاً؛ فإنّه منشأ كثير من الرذائل المهلكة

ص: 212


1- المصنف لعبد الرزاق الصنعاني: ج11 ص 304؛ الخصال للشيخ الصدوق : ص 84؛ المصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج8 ص 666

کالكبر والعجب وقول الباطل، وادّعاء الكمال للناقصين، وتعدّى الطور في أكثر الأحوال کما قال: عليه السلام في موضع آخر، «رحم الله أمرأً عرف قدره ولم يتعدّ طوره»(1)، وفي هذه الكلمة تنفير للسامعين عن الجهل؛ بقدر ما يتصوّرونه من وجوب التجرّد للحقّ ونصرته، وربّما يستفهم منها تعليم كيفيّة استجلاب طباع الجهّال: وتأنيسهم وهو: أنّهم لا ينبغي أن يقابلوا بالحقّ دفعة، ويتجرّد في مقابلتهم به على كلّ وجه، فإنّ ذلك ممّا يوجب نفارهم، وعدم نظام أحوالهم بل ينبغي أن يؤنسوا به على التدريج قليلاً قليلاً، وربّما لم يكن تأنيسهم بالحقّ في بعض الأمور إمّا لغموض الحقّ بالنسبة إلى أفهامهم؛ أو لقوّة اعتقادهم الباطل في مقابلته فينخدعوا عن ذلك بالحقّ في صورة الباطل؛ كما أشرنا إليه سابقاً في بيان ما ورد في القرآن من صفات التجسيم، وما لا يجوز أن يحمل على ظاهرة في حق الصانع الحكيم؛ فأن عمله على ظاهرة كما يتصوره الجهال أمر باطل لكنّه لمّا كان بسبب إيناسهم، وجمع قلوبهم على اعتقاد الصانع، وبه نظام أمورهم ورد الشرع به.

«لَا يَهْلِكُ عَلَى التَّقْوَى سِنْخُ أَصْلٍ»: مثل كري النوم وأصل مخصوص «ولَا يَظْمَأُ عَلَيْهَا زَرْعُ قَوْمٍ»: تنبيه على لزوم التقوى باعتبارين: أحدهما أنّ كلّ أصل بني على تنبیه لزوم التقوى باعتبارين: أحدهما: أنّ كلّ أصل بني على التقوى فمحال أن يهلك، ويلحق بانيه خسران كما قال تعالى «أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ»(2) الثاني: أنّ من زرع زرعا أخرويّا کالمعارف الإلهيّة في أرض نفسه مثلاً؛ أو دنيويّا کالأعمال

ص: 213


1- مطلوب كل طالب لرشيد الوطواط: ص 19؛ شرح کلمات أمير المؤمنين لعبد الوهاب: ص 30؛ عيون الحكم والمواعظ لعلي بن محمد الليثي الواسطي:ص 261؛ الفصول المهمة في معرفة الأئمة لعلي بن محمد أحمد بن علي المالكي (ابن الصباغ): ص 541
2- سورة التوبة: الآية 109

الَّتي بها تقوم مصالح الإنسان في الدنيا، وسقاها ماء التقوى، وجعله مادّتها؛ فإنّه لا يلحق ذلك الزرع ظمأ بل عليه ينشأ بأقوى ساق، وأزکی ثمرة، واستعمال الزرع والأصل كناية عمّا «ذكرناه فَاسْتَتِرُوا فِي بُيُوتِكُمْ»: حسم لمادّة الفتنة بينهم بلزوم البيوت عن الاجتماع للمنافرات والمفاخرات والمشاجرات «وأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنَكُمْ»: تنبيه للعصاة على الرجوع إلى التوبة عن الجري في ميدان المعصية، واقتفاء أثر الشيطان وكونها وراء؛ لأنّ الحوادث الإلهيّة إذا أخذت بقلب العبد فجذبته عن المعصية حتّى أعرض عنها، والتفت بوجه نفسه إلى ما كان معرضاً عنه من الندم على المعصية والتوجّه إلى القبلة الحقيقيّة فإنبه يصدق عليه إذن أنّ التوبة ورائه أي وراءً عقليّاً وهو أولى من قول من قال من المفسّرين إنّ ورائكم بمعنى أمامكم «ولَا يَحْمَدْ حَامِدٌ إِلَّا رَبَّه ولَ يَلُمْ لَائِمٌ إِلَّ نَفْسَه» تأديب لهم بالتنبيه على قصر الحمد، والثناء على الله دون غيره، وأنّه مبدأ كلّ نعمة يستحقّ بها الحمد، وعلى قصر اللائمة على النفس عند انحرافها عن جهة القبلة الحقيقيّة؛ إلى متابعة إبليس وقبولها لدعوته من غير سلطان، وإلى أصل هاتين الكلمتين أشار القرآن الكريم «مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ»(1)؛ فكل حسنة أصابته العبد من ربه، فهي مبدأ الحمد وشكره، وكل سيئة إصابته من نفسه فهي مبدأ اللائمة نفسه.

ومن كلامٍ له عليه السلام في صفة من يتصدّى للحِكم بين الأمّة

وليسَ لذَلك بأهلٍ أنّ أَبغض الخلائق إلى الله سبحانه: الراغب(2): البغض نفار

ص: 214


1- سورة النساء: الآية 79
2- الراغب: هو الراغب الأصفهاني: وهو من علماء القرن الرابع، وله مصنفات في التفسير واللغة، توفي سنة 425 ه

النفس(1) عن الشيء الذي ترغب فيه ضد الحب وقوله: عليه السلام أن الله يبغض الفاحش المتفحش فذكر بغضه له تنبيه على بعد فيضه وتوفيق إحسانه «رَجُلَان رَجُلٌ وَكَلَه الله إِلَی نَفْسِه»: جعله متوكلاً عليها دونه مفوضاً إليها، ومتعمداً عليها وتوضيحه أن من أعتقد جزماً أو ضناً بأن نفسه؛ أو أحد غير الله تعالى ممن ينسب إليه التأثير والقدرة هو المتمكن من الفعل، وأنه تام القدرة على تحصيل مراده والوفاء به، فأذن ذلك من أقوى الأسباب المعدة لأن يفيض الله على قلبه صورة الاعتماد على المعتقد فيه، والتوكَّل عليه فيما يريده، وذلك معنى قوله، وکَّله الله إلى نفسه، وكذلك معنى الوكول إلى الدنيا، وذلك بحسب اعتقاد الإنسان أنّ المال والقينات الدنيويّة وافية بمطالبه، وتحصيلها مغنية له عمّا وراءها، وبحسب قوّة ذلك التوكَّل، وضعفه يكون تفاوت بغض الله تعالى للعبد و محبّته له، وبعده وقربه منه فلن يخلص إذن العبد من بغض الله إلَّا بالتوكَّل عليه حقّ توكَّله.

قال الله تعالى «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ»(2) فمن كان الله حسبه و كافيه ومحبّه ومراعيه فقد فاز الفوز العظيم، فإنّ المحبوب لا يبغض ولا يعذّب ولا يبعّد ولا يحجب. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: «من انقطع إلى الله كفاه كلّ مؤنه ورزقه من حيث لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدنيا وکَّله الله تعالى إليها»(3) «فهو جائر عن قصد السّبيل»: وصراطه المستقيم هو طرف؛ الإفراط من فضيلة العدل مشغوف بكلالة بدعة، ودعاء ضلاله أي معجب بما يحضر له، ويبتدعه من الكلام

ص: 215


1- هذا التعريف أورده الراغب الأصفهاني في المفردات في غريب القرآن: ص 55
2- سورة آل عمران: الآية 159
3- شعب الإيمان أحمد بن الحسين البيهقي: ج 2 ص 120؛ وروضة الواعظين للفتال النيسابوري: ص 426؛ ومشكاة الأنوار في درر الأخبار لعلي الطبرسي: ص 52؛ ومجمع الزوائد للهيثمي: ج 1 ص 303

الذي لا أصل له في الدين، ويدعو به الناس إلى الضلال، والجور عن القصد وهذا الوصف لازم عما قبله؛ فأن من جار عن قصد السبیل بجهله؛ فهو يعتقد أنه على سواء السبيل؛ فكان ما يتخيله من ذلك الكال هو نقصان في الحقيقة مستلزمة لمحبة قول الباطل، وأبتدع المحال؛ فهو من الأخسرين أعمالًا «الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا»(1) «فهو فتنَة لمَن افِتتن بْهِ»: هو أيضاً لازم للوصف الثالث: فإنّ محبّة قول الباطل والدعوة إلى الضلالة سبب لكونه فتنة لمن اتّبعه «ضال عن هدَي من كان قبلَهُ»: وهذا الوصف الثاني؛ فأن الضال عن الهدى جائر عن قصد السبيل؛ إلا أن هاهنا زيادة إذا الجائر عن القصد قد يجور، ويضل حيث لا هدى يتبعه، والموصوف هاهنا، والموصوف هاهنا جائر وضالّ مع، وجود هدى قبله مأمور باتّباعه، وهو كتاب الله وسنّة رسوله، وإعلام هداة الحاملون لدينه الناطقون عن مشكاة النبوّة، وذلك أبلغ في لائمته، وآكد في وجوب عقوبته «مضل لمَن أقتدي به في حَياته وبعْدَ وفاتِهِ»: هذا الوصف مسبّب عمّا قبله، إذ ضلال الإنسان في نفسه سبب لإضلاله غيره، ويفهم منه ما يفهم من الرابع مع زيادة، فإنّ كونه فتنة لغيره وهو كونه مضلَّا لمن اهتدى به، وأمّا الزيادة فكون ذلك الإضلال في حياته، وهو ظاهر وبعد موته لبقاء العقائد الباطلة المكتسبة عنه فهي سبب ضلال الضالَّين بعده «حَمّال خَطايا غيرْه»: مسبب عّما قبلهُ فأن حَمله أوزار من يضّله إنما هو بسبب إضلاله رَهن بخطيئته أي: موقوف بها عن الصعود إلى حضرة جلال الله، وإلى هذين الوصفين أشار القرآن الكريم بقوله «لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ»(2) وقول الرسول صلى الله عليه وآله: «أیّما داع دعا إلى الهدى

ص: 216


1- سورة الكهف: الآية 104
2- سورة النحل: الآية 25

فاتّبع كان عليه مثل وزر من تبعه لا ينقص من أجرهم شيء»(1) شيء وهذا الأمر دليل على أنه عليه السلام لم يرد أن الله تعالى يوصل العذاب الذي يستحق الأتباع إلى السادة، وكيف لا وقد قال تعالى «أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى»(2) بل أراد أن الرئيس المضل يتجرعه، ولا يكاد يسيغه أن حجب الطارئة على قلوب التابعين مستندة إلى حجابه؛ فلا جرم یكون وزره في قوة أوزار أتباعه؛ فلذا يعذب بها، وإذا فهمت ذلك في جانب السيئات؛ فاستخرج حال الحسنات من نفسه، وأكشف القناع عن وجه معنى قوله عليه السلام، أن حسنات الظالم تنقل إلى ديوان المظلوم، وسيئات المظلوم تنقل إلى ديوان الظالم، وأما الرجل الثاني؛ فهو إنسان جمع وحفظ مقتبسات قوم مغرور بذلك؛ عَمي عن الحق يقضي بين الخلق، وكلما ورد عليه مسألة شرعية اجتهد فيها برأيه بالحشو الرث، ويقطع أن الحق هو ما استخرجه ولا يعلم إن ما وراء ذلك خير منه فللدماء، والمواريث صراخ وعجيج إلى الله من هؤلاء، وقد أشار عليه السلام بقوله «ورَجل قمشٌ» : جمع وهي استعارة لفظ الجمع المحسوس للجمع للمعقول «جّهلا مُوضعاً في جهال الأمة»: مطرحاً ليس من أشراف الناس يفهم من هذا الكلام أنه خرج في حق شخص معين «عاد في أغباش الفتنة»: جمع غبش: بقية الليل كذا قاله أبو زيد وأعتمد عليه الجوهري: أي غافل في ظلمات الخصومات لا يهتدي لوجه تخليصها، وروي عادٍ بمعنی ساعٍ في أوائل ظلماتها «عَمٍ بِمَا فِي عَقْدِ الْهَدْنَةِ»: أي أعمى البصيرة بما عقد الصلح، والمسألة بين الناس من نظام أمورهم، ومصالح العالم، وهو جاهل للمصالح مثير للفتن بينهم «قَدْ سَمَّاه أَشْبَاه النَّاسِ عَالِماً ولَيْسَ بِعالم»: والمراد بأشباه الناس الجهال

ص: 217


1- المحاسن للبرقي: ج 1: ص 27؛ الأمالي للشيخ الصدوق: ص121؛ كذلك للصدوق ثواب الأعمال: ص 132
2- سورة الأنعام: الآية 164

وأهل الضلال، وهم الذين يشبهون الناس كاملين في الصورة الحسية دون الصورة التامية التي هي كمال العلوم والأخلاق «بَكَّرَ فَاسْتَكْثَرَ مِنْ جَمْعٍ مَا قَلَّ مِنْه خَیْرٌ

مِمَّا كَثُرَ»: روي جمعاً منوناً على أن الجملة بعده صفة له، وهو بمعنى المجموع حينئذٍ أظهر، وغیر منون على تقدير من جمع ما الذي قل منه خير مما كثر، أو قل والمراد بالشكر إلى الاستكثار من ذلك السبق؛ في أول العمر إلى جمع الشبهات والآراء التي قليلها خير مما كثيرها، وباطلها أكثر من حقها «حَتَّى إِذَا ارْتَوَى»: امتلاء «مِنْ مَاءٍ آجِنٍ واكْتَثَرَ»: اجمع «مِنْ غَیْرِ طَائِلٍ»: فائدة استعارة للآراء التي ليست بصحيحة؛ فهي تشبه الماء الآجن الَّذي لا غناء فيه للشارب، ورشّحها بذكر الارتواء «جَلَسَ بَیْنَ النَّاسِ قَاضِياً ضَامِناً لِتَخْلِيصِ مَا الْتَبَسَ عَلَى غَیْرِه»: أي واثق من نفسه بفضل ما يعرض للناس من القضايا المشكلة، وضامناً حال أوصفه «فَإِنْ نَزَلَتْ بِه إِحْدَى الْمُبْهَمَاتِ»: القضايا المهمة الملتبس وجه فصلها «هَيَّأَ لَهَا حَشْواً»: كلاماً كثيراً لا طائل تحته رثاً: خلقاً ضعيفاً «رَأْيِه ثُمَّ قَطَعَ»: جزم «فَهُوَ مِنْ لَبْسِ الشُّبُهَاتِ فِي مِثْلِ نَسْجِ الْعَنْكَبُوتِ»: وجه هذا التمثيل أن الشبهات التي يقع على ذهن مثل هذا الموصوف؛ إذا قصد حل قضية مهمة تكثر؛ فيلتبس على ذهنه وجه الحق منها؛ فلا يهتدي له لضعيف ذهنه؛ فتلك الشبهات في الوهاء تشبه نسج العنكبوت، وذهنه فيها يشبه الذباب الواقع فيه، وكما لا يمكن الذباب من خلاص نفسه من شباك العنكبوت لضعفه؛ كذلك ذهن هذا الرجل؛ إذا وقع في الشبهات لا يخلص، وجه الحق منها لقلة عقله، وضعفه عن إدراك، وجوه الخلاص «لَا يَدْرِي أَصَابَ أَمْ أَخْطَأَ فَإِنْ أَصَابَ خَافَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخْطَأَ وإِنْ أَخْطَأَ رَجَا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَ»: وخوف الخطأ ورجاء الاصابة من لوازم الحكم مع عدم الدراية «جَاهِلٌ خَبَّاطُ جَهَالَتٍ»: الخبط: المشي على غير استواء، والجهلات: جمع جهله؛ کنی بذلك عن كثرة الأغلاط التي تقع فيها القضايا، والأحكام

ص: 218

فيمشي فيها على غير طريق حق من القوانين الشرعية، وذلك معنی خطبة «عَاش»: داخل في ظلام «رکاب عَشَوَات»: ظلمات إلى أنه لا يستنتج في ظلمات الشبهات لنقاص ضوء نصيرته؛ فهو يمشي فيها على ما يتخيله دون ما يتحققه وكثيراً أمایکون حاله كذلك، وكما أن العاشي إلى الضوء في الطرق المظلمة تارة يخفى عنه فيضل عن القصد، ويمشي على الوهم، والخيال كذلك حال السالك في طرق الدين من غير أن يستكمل نور بصيرته بقواعده، وتعلم كيفية سلوك طرقه فأنه تارة يكون نور الحق في المسألة ظاهراً فيدركه، وتارة يغلب عليه ظلمات الشبهات؛ فيعمي عليه الموارد والمصادر، فيبقى في الظلمة خابطاً، وعن القصد جائراً «لَمْ يَعَضَّ عَلَى الْعِلْمِ بِضِرْسٍ قَاطِعٍ»: كناية عن عدم إتقانه للقوانين الشرعيّة وإحاطته بها يقال: فلان لم يعضّ على الأمر الفلاني بضرس إذا لم يحكمه، وأصله أنّ الإنسان يمضغ الشيء ثمّ لا يجيد بمضغه؛ فمثّل به من لم يحكم ما يدخل فيه من الأمور «یُذري»: يسقط «الروايات إذ اراءَ الرّيح الهَشِيم»: النبت اليابس وجه التشبيه: أنّ الريح يذري الهشيم؛ فيخرج عن حدّ الانتفاع به، كذلك المتصفّح للروايات لمّا لم يهتد إلى وجه العمل بها، ولم يقف على وجه الفائدة منها؛ فهو يقف على رواية أخرى، ويمشي عليها من غير فائدة «لأميُّ والله بإصْدَار مَا ورد عليْه»: أي ليس له قوّة على إصدار الأجوبة عمّا يرد عليه من المسائل؛ فهو فقير منها «لا یحسِبُ العِلَم في شيء ممّا أنكرها»: بضمّ السين من الحساب أي لا يعدّه شيئاً، وينكره کسائر ما أنكره، وعنى بالعلم الحقيقيّ الَّذي ينبغي أن يطلب، ويجتهد في تحصيله لا ما يعتقده الموصوف علماً ممّا قمشه(1)؛ فإنّ كثيراً من الجهّال مّمن يدعي العلم بفنّ من الفنون؛ قد ينكر غيره من سائر الفنون، ويشنّع على معلَّميه كأكثر

ص: 219


1- قمشه: بمعنى ما كان على وجه الأرض من فتات الأشياء؛ يُنظر تاج العروس للزبيدي: ج 9 ص 176

الأحكام الفقهيّة، والمتصدّرين للفتوى والقضاء بين الخلق؛ فإنّهم يبالغون في إنكار العلوم العقليّة ويفتون بتحريم الخوض فيها، وتكفير من يتعلَّمها، وهم غافلون عن أنّ أحدهم لا يستحقّ أن يسمّى فقيهاً إلَّا أن يكون له مادّة من العلم العقليّ المتكفّل ببيان صدق الرسول صلى الله عليه وآله، وإثبات النبوّة الَّتي لا يقوم شيء من الأحكام الفقهيّة الَّتي يدّعون أنّها كلّ العلم إلَّا بعد ثبوتها، وروى يحسب: بكسر السين من الحسبان، وهو الظنّ أي لا يظنّ العلم إذاً فضيلة يجب اعتقادها، واعتبارها بها، فهو ممّا أنكره «ولا يرى أَنَّ من ورَاء ما بلغ منْه مذهباً لغَيّره»: أي أنّه إذا غلب على ظنّه حكماً في القضيّة جزم به، وربّما كان لغيره في المسألة قول أظهر من قوله، يعضده دليل؛ فلا يعتبره ويمضي على ما بلغ فهمه إليه «وإِن أَظَلم عليه أمراً»: وتحيّر: «اِكتتم به لما يعلم مِن جَهل نفسِّهِ»: وكثيراً ما يراعي قضاة السوء، وعلماؤه اکتتام ما يشكل عليهم أمره من المسائل، والتغافل عن سماعها إذا وردت عليهم لئلَّا يظهر جهلهم بين أهل الفضل مراعاة لحفظ المناصب «تصرخ من جور قَضاياه الدمّآء وتعجّ مِنه المواريث»: المواريث إمّا على حذف المضاف: أي أهل الدماء وأولياء المواريث؛ فيكون حقيقة أو على سبيل استعارة لفظ الصرّاخ لنطق الدماء، والعج لنطق المواريث بلسان حالها المفصح عن مقالها، ووجه المشابهة أن هما يصدان عن تظلَّم، وشكاية وكانت الدماء المهراقة بغير حقّ والمواريث المستباحة بالأحكام الباطلة ناطقة بلسان حالها؛ مفصحة بالشكاية والتظلَّم، ثمّ بعد أن خصّ الرجلين المذكورين بما ذكر فيها من الأوصاف المنفرة على سبيل التفصيل؛ أردف ذلك بالتنفير عنهما على سبيل الجملة ما يعمّها، وغيرهما من الجهّال فقال «إِلَی الله تعالى أَشْكُو مِنْ مَعْشَرٍ يَعِيشُونَ جُهَّالًا ويَمُوتُونَ ضُلَّالًا»: مفسر لمحذوف ولازم «عن الأول لَيْسَ فِيهِمْ سِلْعَةٌ أَبْوَرُ مِنَ الْكِتَابِ وأفسده: «إِذَا تُلِيَ حَقَّ تِلَوَتِه ولَا سِلْعَةٌ أَنْفَقُ بَيْعاً ولَا أَغْلَى ثَمَناً مِنَ الْكِتَابِ إِذَا

ص: 220

حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِه ولَا عِنْدَهُمْ أَنْكَرُ مِنَ الْمَعْرُوفِ ولَا»: أي إذا فسر الكتاب وحمل على الوجه الَّذي انزل اعتقدوه فاسداً، واطرحوه بجهلهم عن درجة الاعتبار على ذلك الوجه، وإذا حرّف عن مواضعه، ومقاصده ونزّل على حسب أغراضهم ومقاصدهم شروه على ذلك الوجه بأغلى ثمن، وكان من أنفق السلع بينهم، واستعار له لفظ السلعة، ووجه المشابهة ظاهر، ومنشأ كلّ ذلك هو الجهل، وكذلك ليس عندهم أنكر من المعروف، لأنّه لمّا خالف أغراضهم أطرحوه حتّى صار بينهم منكرا يستقبحون فعله، ولا أعرف من المنكر لموافقة أغراضهم ومحبّتهم له لذلك، هذا وأعلم أنّه عليه السّلام قسّم الناس في موضع آخر؛ إلى ثلاثة أقسام عالم، ومتعلَّم وهمج رعاع أتباع كلّ ناعق، والرجلان المشار إليهما بالأوصاف المذكورة هاهنا ليسا من القسم الأوّل لكونهما على طرف الجهل المضادّ للعلم، ولا من القسم الثالث لكونهما متبوعين داعيين إلى اتّباعهما، وكون الهمج تابعین کما صرّح به فتعيّن أن يكونا من القسم الثاني وهم المتعلَّمون، وإذا عرفت ذلك فنقول: المراد بالمتعلَّم هو من ترفّع عن درجة الهمج من الناس بطلب العلم واكتسب ذهنه شيئاً من الاعتقادات عن مخالطة من اشتهر بسمة العلم، ومطالعة الكتب ولم ينته إلى درجة العلماء الَّذين يقتدرون على التصرّف، والقيام بالحجّة فاعتقاداته حينئذ إمّا أن تكون مطابقة كلها أو بعضها؛ أو غير مطابقة أصلاً، وعلى التقديرات فإمّا أن لا ينصب نفسه لشيء من المناصب الدينيّة كالفتوى والقضاء ونحوهما؛ أو يتصدّر لذلك فهذه ستّة أقسام: ولم يعرض نفسه لشيء من المناصب الدينيّة من نصب نفسه للإفادة، من أعتقد جهلاً، وغير جهل، ولم ينصب للإفادة من كان اعتقاده كذلك، ونصب والقسم الأول وحده هو الخارج عن هذين الرجلين بأوصافهما، والثاني والرابع والسادس فيهم يكون الرجلان؛ فالأوّل منهما في ترتيبه عليه السلام، هومن نصب نفسه لسائر مناصب الإفادة دون منصب القضاء،

ص: 221

والثاني هو: من نصب نفسه له، وإنّما بالغ في ذمّهما ونسبتهما إلى الجهل، والضلال وإن كان بعض اعتقاداتهما حقّا لكون القدر الَّذي حصلا عليه مغموراً في ظلمة الجهل فضلاً لهما، وإضلالهما أغلب وانتشار الباطل فيهما أكثر، وأمّا القسم الثالث والخامس داخلان فيمن برء إلى الله منهم، وذمّهم بالعيش في الجهل والموت على الضلال وما بعده، والله أعلم بالصواب.

ومن كلام له عليه السّلام في ذم اختلاف العلماء في الفتيا:

«تَرِدُ عَلَى أَحَدِهِمُ الْقَضِيَّةُ فِي حُكْمٍ مِنَ الأَحْكَامِ؛ فَيَحْكُمُ فِيهَا بِرَأْيِهِ؛ ثُمَّ تَرِدُ

تِلْكَ الْقَضِيَّةُ بِعَيْنِهَا عَلَى غَیْرِهِ؛ فَيَحْكُمُ فِيهَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ؛ ثُمَّ يَجْتَمِعُ الْقُضَاةُ بِذَلِكَ

عِنْدَ الإِمَامِ الَّذِي اسْتَقْضَاهُمْ فَيُصَوِّبُ»: ينسب إلى الصواب «آرَاءَهُمْ جَمِيعاً وإِلَهُهُمْ وَاحِدٌ ونَبِيُّهُمْ وَاحِدٌ وكِتَابُهُمْ وَاحِدٌ»: وشروع في دليل بطلان ما يَروّنه وهي هذه المقدمة الصغرى من قياس الضمير وتقدير كبراه، وكل قوم كانوا كذلك فلا يجوز لهم الاختلاف في حكم شرعي، ثم شرع في تقدير کبراه، وكل قوم كانوا كذلك فلا يجوز لهم أن يختلفوا في حكم شرعي؛ ثم شرع في تقدير کبراه إذ الصغرى مسلمة فقال: «أَفَأَمَرَهُمُ اللهُ تَعَالَی بِالِخْتِاَفِ فَأَطَاعُوهُ أَمْ نَهَاهُمْ عَنْهُ فَعَصَوْهُ أَمْ أَنْزَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ دِيناً نَاقِصاً فَاسْتَعَانَ بِهِمْ عَلَى إِتْمَامِهِ أَمْ كَانُوا شُرَكَاءَ لَهُ فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا وعَلَيْهِ أَنْ يَرْضَی أَمْ أَنْزَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ دِيناً تَامّاً فَقَصَّرَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وآله وسلم عَنْ تَبْلِيغِهِ وأَدَائِهِ»: توضيح هذا الكلام الصادر عن معدن الفصاحة والبلاغة عليه السلام على، وجه يكشف القناع عن وجه المرام أن يقال الاختلاف أما أن يكون بأمر من الله أطاعوه فيه، أو نهی منه عصُي فيه أو سکوت منه عن الأمرين، وعلى التقدير الثالث؛ فجواز اختلافهم في دينه، والحاجة إلى ذلك أما أن يكون مع نقصانه أو مع تمامه، ويقصر الرسول في أدائه وعلى الوجه الأول فذلك

ص: 222

الاختلاف إنما يجوز على أحد وجهين؛ أحدهما أن يكون تماماً لذلك النقصان؛ أو على وجه أعم من ذلك، وهو كونهم شركاؤه في الدين؛ فعليه أن يرضى بما يقولوا، إذ شأن الشريك ذلك؛ فهذه وجوه خمسة، وحصر الأقسام الثلاثة الأخيرة ثابت بحسب استقراء وجوه الحاجة إلى الاختلاف، والأقسام كلها باطلة، أمّا بطلان الأوّل، فلأنّ مستند الدين هو كتاب الله تعالى، ومعلوم أنّه يصدّق بعضه بعضاً وأنّه لا اختلاف فيه، ولا يتشعّب عنه من الأقوال والأحكام، إلَّا ما يكون كذلك ولا شيء من أقوالهم المختلفة كذلك؛ فينتج أنّه لا شيء ممّا استند إلى كتاب الله تعالى بقول لهم؛ فلا يكون أقوالهم من الدين، وأما بطلان القسم الثاني؛ فلأنّ عدم جواز المعصية الله بالاختلاف مستلزم لعدم الاختلاف، وهو غنيّ عن الدليل، وأمّا بطلان الثالث، وهو نقصان دين الله فأشار إليه بقوله: «والله سبحانه يقول» «فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ»(1) «وفيه تبيان كل شيء»: وإلى بطلان الأول أشار بقوله:

وذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضاً، وأنه لا اختلاف فيه فقال سبحانه «وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا»(2) وأمّا الرابع والخامس فطاهر البطلان فلا يمكنهم دعواهما فلذلك لم يورد في بطلانهما حجّة ثمّ أردف بتنبيههم على أنّ الكتاب واف بجميع المطالب إذا تدبّروا معناه ولاحظوا أسراره وتطَّلعوا على غوامضه فيحرم عليهم أن يتسرّعوا إلى قول ما لم يستند إليه وذلك في قوله: «وإِنَّ الْقُرْآنَ ظَاهِرُهُ أَنِيقٌ»: حسن معجب بأنواع البيان وأصنافه «وبَاطِنُهُ

عَمِيقٌ»: لا ينتهي إلى جواهر أسراره إلا أولو الباب ومن أيدي الله بحكمة وفصل

ص: 223


1- سورة الأنعام: الآية 38
2- سورة النساء: الآية 82

الخطاب « تفتی عجایب»: الأمور المعجبة منه «ولا فی غرائبه »: النكت الغريبة فيه على توارد صوارم الأذهان وخواطف الأذهان: البصائر .

ولا يكشف ظلمات الشبهة الناشئة من ظلمة الجهل «ألا به»: بسواطع أنواره ولوامع أسراره؛ هذا، وأعلم أن في هذا الكلام تصريح، بأنه عليه السلام كان يرى أن الحق في جهة وأنه ليس كل مجتهد مصيباً، وهذه المسألة مما أنتشر الخلاف فيها بين علماء أصول الفقه؛ فمنهم من يرى أنّ كلّ مجتهد مصيب إذا راعی شرائط الاجتهاد، وأنّ الحقّ بالنسبة إلى كلّ واحد منهم ما أدّى إليه اجتهاده، وغلب في ظنّه فجاز أن يكون في جهتين أو جهات، وعليه الغزّاليّ، وجماعة من الاصوليّين، ومنهم من ينكر ذلك، ويرى أنّ الحقّ في جهة، والمصيب له واحد، وعليه اتّفاق سائر العلماء وربّما فصّل بعضهم، والمسألة مستقصات في أصول الفقه.

ومن كلام له صلوات الله عليه قاله للأشعث بن قيس وهو على منبر الكوفة يخطب

فمضى في بعض كلامه شيء اعترضه الأشعث فقال: يا أمير المؤمنين هذه عليك لالك: الكلام الذي أعترضه الأشعث أنه عليه السلام؛ كان في خطبته يذكر أمر الحكمين؛ فقام إليه رجل من أصحابه، وقال له نهيتنا عن الحكومة؛ ثم أمرتنا بها فما ندري أي الأمرين أشد؛ فطفق فوجد الأشعث بذلك شبهة في ترکه عليه السلام، وجه المصلحة واتباع الآراء الباطلة، وأراد إفهامه فقال: هذه عليك لا لك، وجهل أو تجاهل أنّ وجه المصلحة قد يترك محافظة على أمر عليه السلام هذا جزاكم حيث تركتم الجزم فضن الأشعث؛ أنه أراد هذا جزائي؛ فقال الكلمة ناظراً إليه من أعلى المنبر؛ «فخفض إليه عليه السلام بصره ثم قال وما يدريك ما عليّ ممَّاليَّ»: إشارة إلى أنه جاهل وليس للجاهل أن يعترض عليه وهو استاذ

ص: 224

العلماء بعد رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم «عَليْكَ لعنةُ الله ولعنةُ اللاعِنِين»: واعلم أن استحقاقه اللعن ليس بمجرد اعتراضه، ولا لكونه أبن کافر؛ بل لكونه مع ذلك من المنافقين، والمنافق يستحق اللعن والأبعاد عن رحمة الله؛ بشهادة قوله تعالى «أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»(1) «حائك بن حائك»: أي أنت استعارة أشار بها إلى نقصان عقله، وقلَّة استعداده لوضع الأشياء في مواضعها، وتأكيد لعدم الاعتراض عليه؛ إذ الحياكة مظنّة نقصان العقل، وذلك لأنّ ذهن الحائك عامّة وقته متوجّه إلى جهة صنعته؛ مصبوب الفكر إلى أوضاع الخيوط المتفرقة وترتيبها ونظامها؛ يحتاج إلى حركة رجليه ويديه، وبالجملة فالمشاهد له تعلم من حاله أنّه مشغول الفكر عمّا وراء ما هو فيه، فهو أبله فيما عداه، وقيل المخالطة مع النسوان والصبيان، روی عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما السّلام أنّه قال: «عقل أربعين معلَّماً؛ عقل حائك، وعقل حائك؛ عقل امرأة، والمرأة لا عقل لها»(2)، وعن موسی بن جعفر عليه السّلام أنّه قال: «لا تستشيروا المعلَّمين، ولا الحوكة؛ فإنّ الله تعالى قد سلبهم عقولهم»(3)، وذلك محمول على المبالغة؛ فأن الله تعالى في نقصان عقولهم، وقيل: إنّما عيّروا بهذه الصنعة لأنّها دنيّة تستلزم صغر الهمّة وخسّتها، وتشتمل على رذائل الأخلاق فإنّها مظنّة الكذب والخيانة؛ روی أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله، دفع إلى حائك من بني النجار غزلاً لينسج له صوفاً؛ فكان يماطله ويأتيه صلى الله عليه وآله متقاضياً، ويقف على بابه فيقول:

ص: 225


1- سورة آل عمران: الآيات: 87 - 88
2- نور البراهين للسيد نعمة الله الجزائري: ج 2 ص 362؛ شرح نهج البلاغة لابن میثم البحراني: ج 1 ص 324؛ المحجة البيضاء في تهذیب الأحياء للفيض الكاشاني: ص 192؛ ذكر أخبار إصبها للحافظ الأصبهاني: ج 2 ص 118
3- المصدر نفسه

«ردّوا علينا ثوبنا لنتجمل به في الناس»(1) ولم يزل یماطله حتّى توفیّ صلى الله عليه وآله، وقد علمت أنّ الكذب رأس النفاق، ومن كانت هذه صفته، وما يلزمها أخلاقه؛ فليس له أن يعترض في مثل ذلك المقام، وقد اختلف في حياكته فقال: قوم هو وأبوه ينسجان برود اليمن، وقال آخرون: إنّ الأشعث لم يكن حائكاً؛ فإنّه كان من أبناء ملوك كندة، وإنّما عيّره بذلك لأنّه كان إذا مشى يحرّك منكبيه، ويفحج بين رجليه يقال: «حاك يحيك و حيكاناً وحياكة فهو حائك إذا مشى تلك المشية «مُنافِق بن کافِر»: الكفر مرة والإسلام وأخرى «فما فدَاك»: أي فما حال «مِن واحدة منهما»: الكفر والإسلام «مالك ولاَ حَسبُك»: تأكيداً لنقصان عقله، وإشارة إلى أنّه لو كان له عقل لما حصل فيما حصل فيه من الأسر مرّتين، ولو حصل وكان ذا عقل؛ لأمكن أن يخلصه عقله أن لم يخلصه ماله، ولا حسبه ولم يرد الفداء بعد الأسر فأنه فدي في الجاهلية، وذلك أن مراده لما قتل أباه خرج ثائراً طالباً بدمه؛ فأسر ففدي نفسه بثلاثة ألف بعير، ووفد على النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم، في سبعين رجلاً من كندة؛ فأسلم على يده وذلك الأسر هو مراده عليه السلام بأسر الكفر له، وأما أسره في الإسلام؛ فأنه لما قبض رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم أرتد بحضرموت، ومنع أهلها تسليم الصدقة، وأبی أن يبايع لأبي بكر؛ فبعث إليه زیاد بن أسيد بعد رجوعه عنهم، وقد كان عاملاً عليها قبل ذلك ثم أردفه بعكرمة أبي جهل في جمع عظيم من المسلمين، وقابلهم الأشعث بقبائل کندة قتلاً شديداً، وبلغ بهم جهد العطش؛ فبعث إلى زياد يطلب منه الأمان لأهله؛ ولبعض قومه وكان من غفلته أنّه لم يطلب لنفسه بالتعيين؛ فلمّا نزل أسره وبعث به مقيّداً إلى أبي بكر بالمدينة، فسأل أبا بكر أن يستبقیه بخربة

ص: 226


1- المصدر نفسه

ويزوجه أخته أمّ فروه، ففعل ذلك، وممّا يدلّ على عدم مراعاته لقواعد الدين؛ أنّه بعد خروجه من مجلس عقده أصلت سيفه في أزّقة المدينة، وعقر كلّ بعير رآه، وذبح كلّ شاة استقبلها للناس، والتجأ إلى دار من دور الأنصار فصاح به الناس من كلّ جانب وقالوا: قد أرتدّ الأشعث مرّة ثانية؛ فأشرف عليهم من السطح وقال: يا أهل المدينة إنّي غريب ببلدكم، وقد أولمت بما نحرت، وذبحت فليأكل كلّ إنسان منكم ما وجد وليغد إليّ من كان له عليّ حقّ حتّى أرضية، وفعل ذلك فلم يبق دار من دور المدينة، إلَّا وقد أوقد فيها بسبب تلك الجهلة؛ فضرب أهل المدينة به المثل، وقالوا: أول من الأشعث، وفيه قول الشاعر(1):

لقد أولم الكنديّ يوم ملاكه *** وليمة حمّال لثقل العظائم

«وإِنَّ امْرَأً دَلَّ عَلىَ قَوْمِه السَّيْفَ وسَاقَ إِلَيْهِمُ الْحَتْفَ لَحرِيٌّ أَنْ يَمْقُتَه الأَقْرَبُ ولَا

يَأْمَنَه الأَبْعَدُ»: إشارة إلى غدره بقومه، وذلك أنّه لمّا طلب الأمان من زیاد بن لبيد طلبه لنفر يسير من، وجوه قومه؛ فظنّ الباقون أنّه أخذ الأمان لجميعهم فسكتوا ونزلوا من الحصن على ذلك الظنّ؛ فلمّا خرج الأشعث، ومن طلب الأمان له من قومه دخل زیاد إلى الحصن؛ فقتل المقاتلة صبراً؛ فذكروه الأمان فقال لهم: إنّ الأشعث لم يطلب الأمان إلَّا لعشرة من قومه؛ فقتل من قتلهم منهم ثمّ، وافاه کتاب أبي بكر بالكفّ عنهم، وحملهم إليه فحملهم، وذلك معنى قوله عليه السّلام دلّ على قومه السيف، وقاد إليهم الحتف؛ إذ قادهم إلى الحرب، وأسلمهم للقتل، ولا شكّ أنّ من كان كذلك؛ فحقيق أن يمقته قومه، ولا يأمنه غيرهم قال السيد: «يريد عليه السلام

ص: 227


1- الشاعر هو: وبرة بن قيس الخزرجي؛ يُنظر الإصابة لابن حجر: ج 1 ص 469؛ ينظر جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري: ج 2 ص 349؛ معارج نهج البلاغة لعلي بن زید البيهقي: ص 104؛ شرح نهج البلاغة لابن میثم البحراني: ج 1 ص 325

أنه أسر في الكفر مرة وفي الإسلام مرة وأما قوله دل على قومه السيف فأراد به حديثا كان للأشعث مع خالد بن الوليد باليمامة، غر به قومه ومكر بهم حتى أوقع بهم خالد، وكان قومه بعد ذلك يسمونه، عرف النار وهو أسم»، ولم أقف على شيء من ذلك في وقائع خالد باليمامة، وحُسن الضن به، يقتضي تصحيح نقلة، ولعل ذاك في وقعة لم أقف على اصله، واعلم أنه عليه السلام ذمه في هذا الفصل بجميع الرذائل النفسانية؛ فنبه على الجهل، والغباوة التي طرف التفريط، من الحكمة بالحياكة التي هي مضنة لقلة العقل، وأشار إلى الفجور الذي هو طرف الأفراط من فضله العفة بكونه منافقاً، وكونه ابن کافر تأكيداً لنسبة النفاق إليه، وأشار إلى الفشل وقلة التثبيت التي هي في طرف التفريط والأفراط من فظله الشجاعة بكونه قد اسر مرتين، وفيه إشارة أيضاً إلى نقصان عقله وأشار إلى الظلم والغدر الذي هو رذيلة مقابلة لفضيلة الوفاء بقوله: «وأن أمراً إلى» وباستجماعه لهذه الرذائل كان مستحقاً للعن، وأما استعارتهم له عرف النار؛ فلأنه عبارة عن كل عال مرتفع، والأعراف في القرآن الكريم سورتين الجنة والنار، ولما كان من شأن كل عال مرتفع أن يستر ماورائه، وكان الغادر يستر بكره، وحيله أموراً كثيرة وكان هو قدغر قومه بالباطل، وغدر بهم وصدق عليه بوجه الاستعارة لفظ عرف النار لستره عنهم ما ورائه من نار الحرب؛ أو نار الآخرة إذ حملهم على الباطل والله سبحانه أعلم.

ومن خطبة له عليه السّلام:

«فإنّكم لو عاينتم ما قد عاين من مات منكم لجزعتم ووهلتم وخفتم وسمعتم وأطعتم ولكن محجوب عنکم ماقد عاينوا، وقريب ما يطرح الحجاب»: إعلم أنّ الإنسان ما دام ملتحفاً بجلباب البدن؛ فانّه محجوب بظلمة الهيئات البدنية، والمعارضات الوهمية الخيالية عن مشاهدة أنوار عالم الغيب، والملكوت وذلك حجباً

ص: 228

واكثفهم حجاباً الكفار کما أشار إليه القرآن الكريم مثلًا في حجبهم «أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ»(1) فمثل الكافر کرجل وقع في بحر لجي صفته كذلك فأشار به إلى الدنيا من الأخطار المهلكة والموج الأول موج الشهوات الداعية إلى الصفات البهية والثاني موج الصفات السبعية الباعثة على الغصب والعداوة والحقد والحسد والمباهات والسحاب هو الاعتقادات الباطلة والحالات الفاسدة التي صارت حجاباً لبصيرة الكافر عن أدراك نور الحق إذ خاصيته الحجاب أن يحجب نور الشمس عن الأبصار الظاهرة وإذا کامن هذه كلها مظلمة فالحري أن یکون ظلمات بعضها فوق بعض.

أما أخفهم حجاباً وأرقهم حجاب فهم الذين بذلوا المجهود في لزوم أوامر الله ونواهيه وبالغوا في تصفية بواطنهم وصقال ألواح نفوسهم وإلقاء حجب الغفلة وأستار الهيئة البدنية وأشرقت عليهم شموس المعارف الإلهية، وسالت إلى أودية قلوبهم مياه الجود الرباني المعطي لكل ما يقبله فهؤلاء وأن كانوا قد بلغوا الغاية من الجهد في رفع الحجاب، وغرس درن الباطل عن نفوسهم إلا إنهم مادموا في هذه الأبدان فهم في أغطية من هيئاتها وحجب من أنفسهم من أستارها، وإن ضعف تلك الأغشية، وما بين هاتين المرتبتين درجات من الجنة متفاوتة ومراتب متصاعدة متنازلة وبحسب تفاوتها يكون نفوس في الاستضاءة بأنوار العلوم وقبول الانتقاش بالمعارف الإلهية والوقوف على أسرار الدين وبحسب تفاوت هذه الحجب یكون تفاوت ورود النار كما قال عز من قائل «وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا»(2)

ص: 229


1- سورة النور: الآية 40
2- سورة مريم: الآية 71

ولن يخلص الإنسان من شوائب هذه الحجب وظلماتها إلا بالخلاص عن هذرة البدن وطرحه وحينئذ «يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا»(1) فيكون مشاهدة بعين اليقين ما أُعد لها من خير وما هُيّء لها من شرٍ بحسب استعدادها بما كسبت من قبل فأما قبل المفارقة فأن حجاب البدن مانع لها عن مشاهدة تلك الأمور؛ كما هي وأن حصلت على اعتقاد جازم برهاني أو نوع من المكاشفة الممكنة کما حق كثير من أولياء إلا أن ذلك الوقوف کالمشاهدة لا أنها مشاهدة حقيقية خالصة إذ لا تنفّك عن شائبة الوهم والخيال، ولذلك قال صلى الله عليه وآله حاكياً عن ربّه: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»(2) بل ما أطَّلعتهم عليه أي وراء ما أطَّلعتهم عليه، وهو إشارة إلى طور المشاهدة الخالصة عن الشوائب الَّتي هي عين اليقين بعد الموت، وقد يسمّى ما أدركه أهل المكاشفات بمکاشفاتهم في حياتهم الدنيا عين اليقين، فأمّا إدراك من دون هؤلاء لتلك الأمور؛ فما كان منها مؤكَّداً بالشعور بعدم إمكان النقيض؛ فهو علم اليقين إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ قوله عليه السّلام؛ فإنّكم إلى آخره شرطية متصلة نبه فيها على أهوال يوم القيامة وعذابها مما شاهده من سبق منهم إلى الآخرة ما لا يشاهدونه الآن بعين اليقين، وأن علموه يقيناً، وبيَّن فيها لزوم جزعهم وفزعهم وسمعهم وطاعتهم لداعي الله على تقدير مشاهدتهم بعين اليقين لتلك الأمور وهذه الملازمة مما شهد البرهان بصحتها وأشار التنزيل الإلهي إلى حقيقتها وذلك قوله تعالى

ص: 230


1- سورة آل عمران: الآية 30
2- مسند أحمد بن حنبل: ج 2 ص 313؛ المحلى لابن حزم: ج 1 ص 12؛ ومعارج نهج البلاغة لعلي بن زید البيهقي: ص 292؛ عدة الداعي وفلاح الساعي لابن فهد الحلي: ص 99

«رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا»(1) «غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ»(2) وذلك مقتضى شهادتهم لأهوال الآخرة وفزعهم وجزعهم من تلك المشاهدة فيجيبهم لسان العزة «أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ»(3) وقوله: «ولَكِنْ مْحَجُوبٌ عَنْكُمْ مَا قَدْ عَايَنُوا»، استثناء للزوم نقيض تالي هذه المتصلة؛ إذا حجب تلك الأهوال عن بصائرهم؛ مستلزم لعدم فزعهم وجزعهم، وهو في صورة اعتذار منهم؛ نطق به لسان حالهم عن بصائر هم مستلزم لعدم فزعهم، وجزعهم، وهو في صورة اعتذار منهم نطق به لسان حالهم.

قوله: «قريب ما يطرح الحجاب»، ما مصدرية في موضع الرفع بالابتداء، وقريب خبره وهو: إشارة إلى نحو تزيف لذلك العذر في صورة التهديد لهم؛ أن جعلوا ذلك عمدة في التقصير عن العمل؛ فأنه عما قليل يرفع حجب الأبدان عن أحوال القيامة، وأهوال يوم الطامة، ويكشط أسماء أغطيتها عن بصائر النفوس؛ فيُشاهد الجحيم قد سعرت، والجنة قد أزلفت، وإذا السماء كشطت وإذا الجنة أزلفت علمت نفس ما أحضرت، وكما قال تعالى «فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ»(4) «ولَقَدْ بُصْرِّتُمْ إِنْ أَبْصْرَتُمْ وأُسْمِعْتُمْ إِنْ سَمِعْتُمْ وهُدِيتُمْ إِنِ اهْتَدَيْتُمْ»: إشارة إلى ما يشبه جواباً ثانياً عن صورة العذر السابق لحالهم، وهو وجود الحجاب المانع من مشاهدة ما يوجب الجزع، والفزع وذلك أن الحجاب

ص: 231


1- سورة السجدة: الآية 12
2- سورة الأعراف: الآية 53
3- سورة فاطر: الآية 37
4- سورة ق: الآية 22

وأن كان قديم الألف، وساتراً لتلك الأمور عنكم؛ فقد بصرتم بها وأوضحت لكم بالعبر، والأمثال على ألسّنة الرسل عليهم السلام، وأسمعتم إيّاها في الكتب الإلهية والسنن النبوية، وهديتم عليها بالدلائل الواضحة والحجج القاطعة بحيث صارت كالمشاهدة لكم، والمعلومة عياناً لا شك فيها فلا عذر إذن بالحجاب، وتخصيص السمع، والبصر بالذكر لأنّهما الآلتان اللتان عليهما مدار الاعتبار بأمور الآخرة، وأشار بالهداية إلى حظَّ العقل من غير نظر إلى آلة، ونبّه بإيراد إن الشرطيّة في المواضع الثلاثة على أنّه يجد الشكّ في إبصارهم لما بصّروا به، وسماعهم لما اسمعوا واهتدائهم بما هدوا به، وكلّ ذلك تنفير لهم على القرار على الغفلة وتنبيه على الفرار إلى الله في طرق الاعتبار قوله: «بِحَقٍّ أَقُولُ لَكُمْ لَقَدْ جَاهَرَتْكُمُ ظهرت

بكم الْعِبَرُ وزُجِرْتُمْ بِمَا فِيه مُزْدَجَرٌ»: أرداف لما تقدم؛ بيان ما بصروا به أي بصروا بمجاهرة العبر بالمصائب الواقعة وبمن خلا قبلهم من القرون واسمعوا بما فيه من مزدجر وهي النواهي المؤكدة المردفة بالوعيدات الهائلة والعقوبات الحاضرة التي في أقلها ازدجار لذوي القربة الألباب كما قال سبحانه «وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ»(1)، «ومَا يُبَلِّغُ عَنِ الله بَعْدَ رُسُلِ السَّمَاءِ إِلَّا الْبَشَرُ»: إشارة إلى أنّه ليس في الإمكان وراء ما جذبتم به إلى الله تعالى على ألسنة رسله طريقة أخرى تدعون بها، إذ ما یمكن دعوتكم إلَّا بالوعد والوعيد، والأمثال والتذكير بالعبر اللاحقة لقوم حقّت عليهم كلمة العذاب، ونحو ذلك لا يمكن إيضاحه لكم مشافهةً إلَّا على ألسنة الرسل البشريّة عليهم السّلام؛ فلا يمكن أن يبلغ إليكم رسالات ربّكم بعد رسل السماء الَّتي هي الملائكة إلَّا هم؛ فينبغي أن يكون ذلك أمراً كافياً لكم في الألتفات إلى الله، والله الموفق.

ص: 232


1- سورة القمر: الآيتان 4 - 5

ومن خُطبة له عليَهْ السّلام: هذه الكلمات اليسيرة قد جمعت مع وجازة الألفاظ خزالة المعنى؛ المشتمل على الموعظة الحسنة، والحكمة البالغة وهي: أربع كلمات الأول: «فَإِنَّ الْغَايَةَ أَمَامَكُمْ»: واعلم أنّه لمّا كانت الغاية من وجود الخلق؛ أن يكونوا عباد الله كما قال تعالى «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ»(1) وكان المقصود من العبادة إنّما هو الوصول إلى جناب عزّته، والطيَران في حظائر القدس، بأجنحة الكمال مع الملائكة المقرّبين، وكان ذلك هو غاية الإنسان المطلوبة منه، والمقصودة له والمأمور بالتوجّه إليها بوجهه الحقيقي؛ فإن سعى لها سعيها أدركها وفاز بحلول جنّات النعيم، وإن قصّر في طلبها وانحرف سواء الصراط مفتّحة كان فيها من الهاوين، وكانت غايته فدخلها مع الداخلين.

فإذن ظهر أن غاية كلّ إنسان أمامه إليها يسير وبها يصير.

الثانية: قوله: «وإنّ ورائكم الساعة تحدوكم»: تسوقكم أراد بها القيامة الصغرى وهي ضرورة الموت، فأمّا كونها ورائهم؛ فأن الإنسان لمّا كان بطبعه ينفر من الموت وكانت العادة في الهارب من الشيء؛ أن يكون ورائه مهروب منه؛ وكان الموت متأخّراً عن وجود الإنسان، ولاحقاً لحوقاً عقليّاً أشبه المهروب منه المتأخّر اللاحق هرباً تأخّراً ولحوقاً حسيّاً، فلا جرم استعير لفظ الجهة المحسوسة، وهي الوراء؛ وأمّا كونها تحدوهم؛ فلأنّ الحادي لمّا كان من شأنه سوق الإبل بالحداء، وكان ذكَّر الموت مزعجاً للنفوس إلى الاستعداد لأمور الآخرة، والأهبّة للقاء الله سبحانه؛ فهو يحملها على قطع عقبات طريق الآخرة كما يحمل الحادي الإبل على قطع الطريق البعيدة الوعرة لا جرم أشبه الحادي؛ فأسند الحداء إليه، ولمّا نبّههم بكون الغاية أمامهم، وأنّ الساعة تحدوهم في سفر واجب، وكان السابق إلى الغاية

ص: 233


1- سورة الذاريات: الآية 56

من ذلك السفر هو: الفائز برضوان الله، والتخفف وقطع العلائق في الأسفار سبب للسبق والفوز بلحوق السابقين أمرهم بالتخفيف لغاية اللحوق في كلمتين: وهما تخفّفوا تلحقوا، وكنّى بالأولى عن الزهد الحقيقيّ الَّذي هو أقوى أسباب السلوك إلى الله سبحانه، وهو عبارة عن حذف كلّ شاغل عن التوجّه إلى القبلة الحقيقيّة والإعراض عن متاع الدنيا وطيّباتها، وتنحية كلّ ما سوى الحقّ الأوّل عن سنن الإيثار فإنّ ذلك تخفيف لا تعليل الأوزار المانعة عن الصعود في درجات الأبرار وهي كناية اللفظ المستعار وهذا الأمر في معنى الشرط أي أن تخففوا تلحقوا بدرجات السابقين الَّذين هم أولياء الله، والواصلون إلى ساحل عزّته، وملازمة هذه الشرطيّة قد علمت بيانها فإنّ الجود الإلهيّ لا بخل فیه، ولا قصور من جهته والزهد الحقيقيّ أقوى أسباب السلوك إلى الله كما سبق فإذا استعدّت النفس بالإعراض عما سوى الحقّ سبحانه، وتوجّهت إلى استشراق أنوار كبريائه، فلا بدّ أن يفاض عليها ما تقبله من الصورة التماميّة فيلحق بدرجة السابقين، ويتّصل بساحل العزّة في مقام أمين. الرابعة فإنّما ينتظر بأولكم آخر كم أي إنما ينتظر بالبعث الأكبر والقيامة الكبرى للَّذين ماتوا أوّلاً وصول الباقين وموتهم، وتحقيق ذلك الانتظار أنّه لمّا كان نظر العناية الإلهيّة إلى الخلق نظراً واحداً والمطلوب منهم واحد وهو الوصول إلى جناب عزّة الله الَّذي هو غايتهم أشبه طلب العناية الا الإلهيّة وصول الخلق إلى غايتهم انتظار الإنسان لقوم يريد حضور جميعهم وترقّبه بأوائلهم، وصول أواخرهم فاطلق عليه لفظ الانتظار على سبيل الاستعارة، ولمّا صوّر هاهنا صورة انتظارهم لوصولهم؛ جعل ذلك علَّة لحثّهم على التخفيف لا لا وقطع العلائق، ولا شك أن المعقول لأولي الألباب من ذلك الانتظار حاثّ لهم أيضاً على التوجه بوجوه أنفسهم إلى الله، والإعراض عمّا سواه، فهذا ما حضرني من أسرار هذه الكلمات، وكفى بكلام السيّد رحمه الله مدحاً لها وتنبيهاً على عظم

ص: 234

قدرها قال وَأقول: «أنّ هذا الكَلام لو وُزن بَعد كَلام الله سُبحانه، وكَلام رَسوله الله صَلّى الله عليه وآله وسَلّم بكل كلام لَمال به راجحاً وبرّزَ: غلب وَسبق عليه سَابقاً فأمّا قوله عليه السّلام تخفَفوا تلحقُوا فما سُمع كلام أقل منه مسمُوعاً ولا أكَثر منه محصُولاً، وما أبعد غَورها من كلمة وأنفَع نُطقها من حكمة»: أستعمل لفظ النطفة وهي الماء الصافي في الحكمة قال: «وَقد نبهنا في كتاب الخصائص على عظم قدرها وشرف جوهرها»: وبالله العصمة.

وَمنْ خِطْبَّةٍ لهُ صَلْوات الله عَلْيَّهِ

أَلَا وإِنَّ قَدْ ذَمَّرَ: إلخ، وأعلم أن أكثر هذا الفصل من الخطبة التي ذكرنا أنّه عليه السّلام خطبها حين بلغه أنّ طلحة والزبير خلعا بيعته، وفيه زيادة ونقصان، وقد أورد السيّد بعضه فيما قبل وإن كان قد نبّه في خطبته على سبب التکرار والاختلاف بالزيادة والنقصان، وأنا أورد الخطبة بتمامها ليتضح المقصود، وهي بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله «أيّها الناس إنّ الله افترض الجهاد فعظَّمه، وجعله نصرته وناصره والله ما صلحت دنيا ولا دين إلَّا به، وقد جمع الشيطان حزبه، واستجلب خيله ومن أطاعه ليعود له دينه وسنّته، وخدعه وقد رأيت أموراً قد تمحّضت، والله ما أنكروا عليّ منكراً ولا جعلوا بيني وبينهم نصفا، وإنّهم ليطلبون حقّاً تركوه ودماً سفكوه فإن كنت شريكهم فيه؛ فإنّ لهم لنصيبهم منه، وإن كانوا ولَّوه دوني؛ فما الطلبة إلّا قبلهم، وإنّ أوّل عدلهم لعلى أنفسهم، ولا أعتذر ممّا فعلته ولا أتبرأ ممّا صنعت، وإنّ معي لبصيرتي ما لبست ولا لبّس علي، وإنّها للفئة الباغية، فيها ألحمّ والحمة طالت جلبتها، وانكفت جونتها ليعودنّ الباطل في نصابه يا خيبة الداعي من دعا لو قيل ما أنكر في ذلك، وما أمامه وفيمن سنّته، والله لو إذن لزاح الباطل عن نصابه وأنقطع لسانه، وما أظنّ

ص: 235

الطريق له فيه واضح حيث نهج، والله ما تاب من قتلوه قبل موته، ولا تنصل من خطيئته، وما اعتذر إليهم فعذّروه ولا دعاهم فنصروه، وأيّم الله لأفرطن لهم حوضاً أنا ماتحه لا يصدرون عنه بريّ، ولا يعبون حسوة أبداً، وإنّها لطيّبة نفسي بحجّة الله عليهم، وعلمه فيهم، وإنّي داعيهم فمعذّر إليهم؛ فإن تابوا، وقبلوا، وأجابوا، وأنابوا؛ فالتوبة مبذولة، والحقّ مقبول، وليس عليّ كفيل، وإن أبوا أعطيتهم حدّ السيف، وكفى به شافياً من باطل، وناصر المؤمن، ومع كلّ صحيفة شاهدها، وكاتبها، والله إنّ الزبير، وطلحة، وعائشة ليعلمون أنّي على الحقّ، وهم مبطلون».

واعلم أنّه عليه السّلام نبّه أوّلا على فضل الجهاد؛ لأنّ غرضه استنفارهم لقتال أهل البصرة؛ فأشار أوّلاً إلى وجوبه من الله تعالى، والكتاب العزيز مشحون بذلك كقوله تعالى «وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ»(1) ونحوه.

ثمّ أردفه بذكر تفضيل الله تعالى له، وذلك كقوله تعالى «لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا»(2).

ثمّ ذكر أن الله جعله نصرة له، وناصراً كما قال جل سلطانه «إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ»(3) والمراد نصرة دين الله، وعباده الصالحين إذ هو الغنيّ المطلق الَّذي لا حاجة به إلى معين وظهير؛ ثمّ بالقسم الصادق أنّه أما صلاح الدنيا، والدين أمّا

ص: 236


1- سورة التوبة: الآية 41
2- سورة النساء: الآيات 95 - 96
3- سورة محمد: الآية 7

صلاح الدنيا، فلأنّه لولا الجهاد في سبيل الله، ومقاومة أهل الغلبة لخربت الأرض والبلاد كما قال الله تعالى «فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ»(1).

وأمّا صلاح الدين فظاهر أنه إنما يكون بمجاهدة أعداء دين الله الساعين في هدم قواعده، وقوله «أَلَا وإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ جَمَعَ حِزْبَه واسْتَجْلَبَ خَيْلَه ورَجِلَه: قد سبق بيانه لِيَعُودَ الْجَوْرُ إِلَی أَوْطَانِه ويَرْجِعَ الْبَاطِلُ إِلَی نِصَابِه»: أصله فأن غاية سعي الشيطان من وسوسته تمكنه من الخداع، وعود المذاهب الباطلة التي كانت قبل الرسول صلى الله عليه وآله دينه وطريقته، وكل ذلك تنفير للسامعين عمّا له من خالقه وجذب لهم إلى الحرب.

«والله ما انكروُا على منكر ولا جَعلوُا بيَني وبيَنهم نصفاً: بكسر النون وسكون الصاد الاسم من الإنصاف، إشارة إلى إنكار ما ادّعوه منكرا ونسبوه إليه من قتل عثمان، والسكوت عن النكیر على قاتليه؛ فأنكر أوّلا إنكارهم عليه تخلَّفه عن عثمان الَّذي زعموا أنّه منكر، ولمّا لم يكن منكرا کما ستعلم ذلك كان الإنكار عليه هو المنكر، وأشار بقوله، ولا جعلوا بيني، وبينهم نصفا إلى أنّهم لو وضعوا العدل بينهم، وبينه لظهر أنّ دعواهم باطلة، وقوله: «وإنّهم ليطلبون حقّاً هم تركوه ودماهم سفكوه»: إيماء لطلبهم لدم عثمان مع كونهم شركاء فيه؛ روى أبو جعفر الطبريّ في تاريخه أنّ علياً عليه السّلام كان في ماله بخيبر لمّا أراد الناس عثمان؛ فقدم المدينة، والناس مجتمعون على طلحة في داره؛ فبعث عثمان إليه يشكو أمر طلحة فقال عليه السّلام: أنا أكفيكه؛ فانطلق إلى دار طلحة، وهي مملوّة بالناس؛ فقال له يا طلحة ما هذا الأمر الَّذي صنعت بعثمان؛ فقال طلحة: يا

ص: 237


1- سورة البقرة: الآية 251

أبا الحسن أبعد أن مسّ الحزام طبيين؛ فأنصرف عليه السّلام إلى بيت المال؛ فأمر بفتحه فلم يجدوا المفتاح فكسّر الباب، وفرّق ما فيه على الناس، فانصرفوا من عند طلحة حتّى بقي، وحده فسّر عثمان بذلك، وجاء طلحة إلى عثمان، فقال له: يا أمير المؤمنين إنّي أردت أمراً فحال الله بيني وبينه، وقد جئتك تائباً فقال: والله ما جئت تائباً ولكن جئت مغلوباً الله حسبك يا طلحة، وروى أنّ الزبير لمّا برز لعليّ عليه السّلام يوم الجمل قال له ما حملك يا عبد الله على ما صنعت قال: أطلب بدم عثمان؛ فقال له: أنت وطلحة وليّتماه، وإنّما توبتك من ذلك أن تقدّم نفسك، وتسلَّمها إلى ورثته، وبالجملة فدخولهم في قتل عثمان ظاهر، وهذه مقدّمة من الحجّة عليهم.

وقوله: «فَلئن كنت شريّكهم فيه في سفك دمائه؛ فإنّ لهم لنصيبهم منه، وأن كانوا ولَّوه»: دوني فما «التبعة إلَّا عندهم»: في بعض النسخ؛ فما الطلبة إلا قتلهم تمام الحجّة، وتقريرها أنّهم دخلوا في دم عثمان، وكلّ من دخل فيه؛ فإمّا بالشركة أو بالاستقلال، وعلى التقديرين؛ فليس لهم أن يطلبوا بدمه، «وإِنَّ أَعْظَمَ حُجَّتِهِمْ لَعَلَى أَنْفُسِهِمْ»: زيادة تقرير للحجّة «يَرْتَضِعُونَ أُمّاً قَدْ فَطَمَتْ»: استعار لفظ الأم لنفسه عليه السلام، وللخلافة فبيت المال لبنها، والمسلمون أولادها المرتضعون وكنى بإرتضاعهم لها، وقد فطمت عن التماسهم منه عليه السلام من الصلات مثل ما كان عثمان يصلهم به، ويفصل بعضهم عن بعض، ومنعه لهم من ذلك «ويُحْيُونَ

بِدْعَةً قَدْ أُمِيتَتْ»: إشارة إلى ذلك التفضيل؛ فأنه كان بخلاف سنة رسول الله صلى عليه وسلم، والبدعة مقابلة للسنّة، وإماتتها تركه عليه السلام لذلك في ولايته «يَا خَيْبَةَ الدَّاعِي مَنْ دَعَا»: خرج مخرج التعجّب من عظم خيبة الدعاة إلى قتاله ومن دعا، خرج من مخرج التعجب من عظم خيبة الدعاة إلى قتاله، ومن دعا «وإِلى َمَ

ص: 238

أُجِيبَ»: استفهام على سبيل الاستحقار للمدعوّين لقتاله، والناصرين إذ كانوا عوامّ الناس ورعاعهم، وللمدعوّ إليه وهو: الباطل الَّذي دعوا لنصرته، وقوله في الخطبة، لو قيل ما أنكر إلي، وأنقطع لسانه متصلة معناها: لو سأل سائل مجادلاً لهؤلاء الدعاة إلى الباطل عما أنكروه من أمري مرة أخرى، وعن إمامهم الَّذي به يقتدون، وفيمن لا سنّتهم الَّتي إليها يرجعون يشهد لسان حالهم؛ فأنّي أنا إمامهم، وفيّ سنّتهم فانزاح باطلهم الَّذي أتوا به وانقطع لسانه، استعمل حقيقة على تقدير حذف المضاف، أي انقطع لسان صاحبه عن الجواب به، وتكون الاستعارة في لفظ الانقطاع للسكوت، أو مجاز في العبارة عن الباطل، والتكلم به أي انقطع الجواب الباطل، وقوله وما أظن الطريق له فيه، واضح حيث نهج الجملة عطف على قوله، وانقطع لسانه، وواضح مبتدأ، وفيه خبره والجملة في موضع النصب مفعول ثان لأظنّ: أي وما أظنّ لو سأل السائل عن ذلك أنّ الطريق الَّذي يرتكبه المجيب له فيه مجال بيّن ومسلك واضح؛ حيث سلك بل كيف توجّه في الجواب انقطع، وقوله، والله ما تاب من قتلوه إلى قوله فنصروه، إشارة إلى عثمان، وذم لهم من جهة طلبهم بذم من اعتذر إليهم قبل موته فلم يغدروه، ودعاهم إلى نصرته في حصاره فلم ينصروه مع تمكنهم من ذلك، وقوله وأيم الله إلخ. قد تقدّم بيانه، وقوله: ولا يعبّون حسرة أبداً كناية عن عدم تمكينه لهم من هذا الأمر، أو شيء منه كما تقول لخصمك في شيء، والله لا تذوق منه لقمة، ولا تشرب منه جرعة، وقوله «وإِنِّ لَرَاضٍ بِحُجَّةِ الله عَلَيْهِمْ وعِلْمِه فِيهِمْ»: إشارة إلى أوامره الصادرة بقتال الفئة الباغية كقوله تعالى «فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ»(1) وكذلك كلّ أمر الله أو نهي عصى فيه فهو حجّة للحقّ وكلّ حجّة للحقّ فهي حجّة لله أي أنّي راض بقيام حجّة الله عليهم، وعلم بما يصنعون، وأيّ رضى للعاقل أتمّ

ص: 239


1- سورة الحجرات: الآية 9

وطيبة نفسه أعظم من كونه لازماً للحقّ وكون خصمه على الباطل خارجاً من طاعة الله، وهو القائم على كلّ نفس بما كسبت «فَإِنْ أَبَوْا أَعْطَيْتُهُمْ حَدَّ السَّيْفِ

- وكَفَى بِه شَافِياً مِنَ الْبَاطِلِ ونَاصِراً لِلْحَقِّ»: منصوبان على التمييز، وقوله مع كلّ صحيفة شاهدها وكاتبها، الواو للحال أي: أنّهم إن لم يرجعوا أعطيتهم حدّ السيف، والملائكة الكرام الكاتبون الَّذين يعلمون ما نفعل يكتب كلّ منهم أعمال من، وكلّ به في صحيفة، ويشهد بها في محفل القيامة، «ومِنَ الْعَجَبِ بَعْثُهُمْ إِلَيَّ أَنْ أَبْرُزَ لِلطِّعَان»: الحرب «وأَنْ أَصْبِرَ لِلْجِلَادِ»: المقاتلة بالسيف تعجّب من تهدّدهم له بذلك مع علمهم بحاله في الشجاعة، والحرب والصبر على المكاره، وهو محلّ الاستهزاء والتعجّب منهم «هَبِلَتْهُمُ الْهَبُولُ»: أي ثكلتهم الثواكل، وهي: من الكلمات الَّتي تدعو بها العرب «لَقَدْ كُنْتُ ومَا أُهَدَّدُ بِالْحَرْبِ، ولَا أُرْهَبُ بِالضَّرْبِ»: أي من حيث أنا كنت كذلك مؤكداً للتعجب «وإِنِّي لَعَلَى يَقِینٍ مِنْ رَبِّي وغَیْرِ شُبْهَةٍ مِنْ دِينِي»: تأكيداً لقوّله لإقدامه على الجلاد، وجلبٌ لقلوب السامعين إلى الثقة بأنّهم لا على بيّنة من الله، وبصيرة في متابعته على القتال، والحرب فإنّ الموقن بأنّه على الحقّ ناصر الله ذابّ عن دينه عار عن غبار الشبه الباطلة في وجه نفسه يقينه؛ فيكون أشدّ صبراً، وأقوى، جلداً، وأثبت في المكاره ممّن لا يكون كذلك؛ فيقدم على القتال بشبهة عظت على عين بصيرته؛ أو هوى لزخرف الدنيا وباطلها قاده إلى ذلك وبالله التوفيق والعصمة وبه الحول والقوة.

ومن خطبة له عليه السلام:

«أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الأَمْرَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَی الأَرْضِ»: صدر الخطبة أورده ليبني عليه غرضه، وحاصله الإشارة إلى أنّ كلّ ما يحدث من زيادة أو نقصان، ويتجدّد فيا يكون به صلاح حال الخلق في معاشهم، ومعادهم من صحة؛ أو مال؛ أو

ص: 240

علم؛ أو جاه؛ أو أهل؛ فإنّه صادر عن القسمة الربّانيّة المكتوبة بقلم القضاء الإلهيّ في اللوح المحفوظ الَّذي هو خزانة كلّ شيء.

والمراد بالأمر حكم القدرة الإلهيّة على الممكنات بالوجود وهو المعبّر عنه بقوله تعالى: «کٌن»(1): في قوله: «إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ»(2) و بنزوله نسبة حصوله إلى كلّ نفس بما قسمّ لها، وهي النسبة المسمّاة بالقدر في قوله تعالى «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ»(3) والمراد بالسماء سماء الجود الإلهيّ، وبالأرض عالم الكون، والفساد على سبيل استعارة هذين اللفظين للمعنيين المعقولين من المحسوسين، ووجه الاستعارة في الموضعين مشاركة المعنيين المذكورين للسماء، والأرض في معنيي العلوّ، والسفل كلّ بالنسبة إلى الآخر، وإنّما لم تكن الحقيقة مرادة لأنّ الأمر النازل ليس له جهة هي مبدأ نزوله، وإلَّا لكان الأمر في جهته تعالى الله عن ذلك، ويحتمل أن يراد حقيقة السماء، والأرض على معنى أنّ الحركات الفلكيّة لمّا كانت شرائط معدّة يصدر بواسطتها ما يحدث في الأرض كانت السماء مبادئ على بعض الوجوه لنزوله: «كَقَطَرَ الْمَطَرِ إِلَی كُلِّ نَفْسٍ بِمَا قُسِمَ لَهَا مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ»: وجه التنبيه أن حصول الرزق والأهل، ونحوهما لكل نفسٍ وقسمها منها مختلف بالزيادة، والنقصان کما أن قطر المطر بالقياس إلى كل واحد من البقاع كذلك، وهو تشبيه للمعقول بالمحسوس: «فَإِذا رَأَى أَحَدُكُمْ لأَخِيه غَفِرَةً»: زيادة: «فِي أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ فَلَا تَكُونَنَّ لَه فِتْنَةً»: أراد النهي عن الحسد والتحقيق أن يقال: إنّ الفتنة هي الضلال عن الحقّ بمحبّة أمر من الأمور الباطلة، والاشتغال به عمّا هو الواجب من سلوك سبيل الله، ولمّا كان حال الفقراء

ص: 241


1- سورة النحل: الآية 40
2- سورة النحل: الآية 40
3- سورة الحجر: الآية 21

من أحد الأمور المذكورة بالنسبة إلى من عرضت له الزيادة في أحدها، منهم من يؤهّل نفسه لها؛ فيرى أنّه أحقّ بها ممّن عرضت له؛ فيعرض له أن يحسد، أو یری أنّه يستحقّ مثلها؛ فيعرض له أن يغبطه، ومنهم من يقصّر نفسه عن ذلك لكنه يميل بطبعه إلى خدمة من له تلك الزيادة، وينجذب بكلَّيته إلى موالاتهم ككثير من الفقراء الَّذين يميلون بطباعهم إلى خدمة الأغنياء، ويخلصون السعي لهم ليس لأمر سوی ما حصلوا عليه من مال أو جاه أو نحو ذلك. ولعلّ تلك الغاية يشوبها توهّم الانتفاع بهم ممّا حصلوا عليه، وكانت هذه الأمور ونحوها أعلى الحسد والغبطة، والميل إليهم لأجل ما حصلوا عليه من الزيادة في أحد الأمور المذكورة رذائل أخلاق مشغلة عن التوجه إلى الله تعالى، ومضلة عن سواء السبيل كان المنهی عنه في الحقيقة هو الضلال بأحد الرذائل المذكورة، وهو المراد بالفتنة هاهنا.

فَإِنَّ الْمُسْلِمَ مَا لَمْ يَغْشَ دَنَاءَةً تَظْهَرُ فَيَخْشَعُ لَهَا إِذَا ذُكِرَتْ ويُغْرَى بِهَا لِئَامُ النَّاسِ كَانَ كَالْفَالِجِ: الفائز الْیَاسِرِ: المقامر الَّذِي يَنْتَظِرُ أَوَّلَ فَوْزَةٍ مِنْ قِدَاحِه تُوجِبُ:

الفورة لَه الْمَغْنَمَ ويُرْفَعُ بِهَا عَنْه بها الْمَغْرَمُ»: أنّ المسلم متى لم يرتكب أمراً خسیسا يظهر عنه فيكسب نفسه خلقاً رديئاً، ويلزمه بارتكابه الخجل من ذكره بين الخلق إذا ذكر، والحياء من التعبير به، ویغری به لئام الناس في فعل مثله، وقيل: في هتك ستره، فإنه يشبه الياسر الفالج.

هذا إن حملنا الخشوع على معناه اللغويّ، وإن حملناه على المعنى العرفي الشرعيّ كان المراد أنّه مالم يغش دناءة فيخشع لها: بل يخشع له ويخضع له عند ذكرها وتتضرّع إليه هرباً من الوقوع في مثلها وخوفاً من وعيده على المعاصي فیکون کهو(1).

ص: 242


1- فیکون کهو: بمعنی یكون كالفالج الياسر: وهي الذي يتعطل جانبه الأيمن ويبقى الجانب الأيسر فيقال الياسر أو العكس يتعطل جانيه الأيسر عن الحركة فيقال له الياسر

ويغري به عطفاً على أن يظهر، فأما تشبیه من هذه صفته بالياسر الفالج؛ فلنشر أوّلاً إلى كيفية اللعب المسمّی میسراً ليتّضح به أمره فنقول: إنّ قداح اليسار الجزور سبعة: أوّلها: الفذّ، و فيه فرض واحد ثم التوأم، وفيه فرضان، ثم الضريب بالضاد المعجمة، وفي الصحاح للجوهري(1) الرقيب: وفيه ثلاثة فروض: ثم الحلس، وفيه أربعة فروض ثم النافس، وفيه خمسة فروض ثم السُبل، وفيه ستة فروض ثم المعلى، وله سبعة فروض، وليس بعده قدح فيه شيء من الفروض إلا أنهم يدخلون مع هذه السبعة أربعة أخرى أوغاداً لافروض فيها، وإنّما يثقل بها القداح. وأسماؤها: المصدر، ثمّ المضعف، ثمّ المنيح، ثمّ السفيح.

وقال: الجوهري «ثلاث لا انصباء لها وهي: الفسيح، والمنيح، والوغد؛ فإذا أجتمع؛ أيسار الحي أخذ كل منهم قدحاً، وكتب عليه اسمه؛ أو علَّم بعلامة، ثمّ أتوا بجزور؛ فينحرها صاحبها، ويقسّمها عشرة أجزاء: على الوركين، والفخذين، والعجز، والكاهل، والزور، والملحاء، والكتفين. بعمد إلى الطفاطف، وحرز الرقبة؛ فيقسّمها على تلك الأجزاء بالسويّة؛ فإذا استوت، وبقي منها عظم أو بضعة لحم انتظر به الجازر الفائز بقدحه، فأن أخذه عبّر به، وإلَّا فهو للجازر، ثمّ يؤتى برجل معروف أنّه لم يأكل لحما قطَّ بثمن إلَّا أن يصيبه عند غيره ویسمّی الحرضة؛ فيجعل على يديه ثوب، وتعصّب رؤس أصابعه بعصابة كيلا يجد مسّ الفروض، ثمّ يدفع إليه القداح، ويقوم خلفه رجل يقال له الرقيب؛ فيدفع إليه قدحاً قدحاً من غير أن ينظر إليها.

فمن خرج قدحه أخذ من أجزاء الجزور بعدد الفروض الَّتي في قدحه، ومن

ص: 243


1- ينظر: الصحاح للجوهري: ج 2 ص 568

لم يخرج قدحه حتّى استوفيت أجزاء الجزور غرم بعدد فروض قدحه كأجزاء تلك الجزور من جزور أخرى لصاحب الجزور الَّذي نحرها، فإن اتفق أن خرج المعلَّى أوّلا فأخذ صاحبه سبعة أجزاء من الجزور، ثمّ خرج المسيل فلم يجد صاحبه إلَّا ثلاثة أجزاء أخذها، وغرم له من لم يفرض قدحه ثلاثة أجزاء من جزور أخرى. وأمّا القداح الأربعة الأوغاد فليس في خروج أحدها غنم، ولا في عدم خروجه غرم، والمنقول عن الأيسار أنّهم كانوا يحرّمون ذلك اللحم على أنفسهم، ويعدّونه للضيافة. إذا عرفت ذلك.

فاعلم أنّ وجه الشبه هو: ما ذكره عليه السّلام، وذلك أنّ الفائز الياسر الَّذي ينتظر قبل فوزه أوّل فوزة من قداحه أوجب له فوزه المغنم، ونفى عنه المغرم فكذلك المسلم البريء من الخيانة الضابط لنفسه عن ارتكاب مناهي الله لمّا كان لا بدّ له في انتظاره لرحمة الله وصبره عن معصيته؛ أن يفوز بإحدى الحسنيين؛ أما داعي الله بالقبض عن الشقا في الدار «فما عند الله»: وهي إمّا أن يدعوه الله إليه بالقبض عن الشقاء في هذه الدار، فما عند الله ممّا أعدّه لأوليائه الأبرار «خير له»: فيفوز إذن بالنعيم المقيم، ولمّا كان فوزه مستلزماً لعدم خسرانه ظهر حسن تشبيهه بالياسر الفالج في فوزه المستلزم لعدم غرمه، ويحتمل أن یرید بداعي الله لا الموت، بل الحوادث الإلهيّة، والخواطر الربّانيّة الَّتي تسنح له فتجذبه إلى طريق الزهد الحقيقيّ والالتفات عن خسائس الدنيا إلى ما وعد به المتقون: «وأما رزق الله فإذا هو ذو أهل ومال ومعه دینه وحسبه»: فيفوز بالفوز العظيم ويأمن من العذاب الأليم؛ فالتشبيه أيضاً هاهنا واقع موقعه، وكلا الوصفين أفضل عند العاقل من الفتنة بالغير، والالتفات عن الله تعالى، وتدنيس لوح النفس برذائل الأخلاق من الحسد ونحوه، و كما أنّ الفصل مستلزم للنهي عن الحسد ونحوه من الفتن المضلَّة

ص: 244

كذلك هو مستلزم للأمر بالصبر على بلاء الله وانتظار رحمته، ولمابين فيما سبق من التشبيه وغيره، أن تارك الرذائل المذكورة ونحوها المنتظر للحسنى من الله فائزاً أن يردف ذلك بالتنبيه على تحقير المقتنيات التي ينشأ منها التنافس، ومنها الرذائل المذكورة، فقال أن «المال والبنين حرث الدنيا»: ذكر أعظمها، وأهمّها عند الناس؛ فإنّهما أعظم الأسباب الموجبة لصلاح الحال في الحياة الدنيا وأشرف القينات الحاضرة، وكفاك شاهداً قوله تعالى «الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا»(1) ونبّه على تحقيرهما بالنسبة إلى العمل بكونهما من حرث الدنيا، والعمل الصالح حرث الآخرة، ويقرر هكذا إنما حرث الدنيا، وحرث الآخرة ليس إلا العمل الصالح؛ فأذن المال والبنون حقيران بالنسبة إلى العمل الصالح أما المقدمة الأولى فظاهرة، وأما الثانية فلقوله تعالى «فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ»(2) وظاهر أنّه لا يريد قلَّة الكميّة، بل المراد حقارته بالنسبة إلى متاع الآخرة ولذّتها.

الثاني: أنّ حرث الدنيا من الأمور الفانية، وحرث الآخرة من الأمور الباقية الموجبة للسعادة الأبديّة، والفانيات الصالحات ظاهرة الحقارة بالنسبة إلى الباقيات الصالحات کما قال تعالى «الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا» ثمّ نبّه السامعين بقوله: «وقد يجمعهما الله لأقوام»: على وجوب الالتفات إلى الله تعالى والتوكَّل عليه، وذلك أنّ الجمع بين حرث الدنيا والآخرة لمّا كان في طباع كلّ عاقل طلب تحصيله، وكان حصوله إنّما هو من الله دون غيره لمن يشاء من عباده. ذکر عليه السّلام ذلك ليفرغ الطالبون للسعادة إلى جهة تحصيلها، وهو التقرّب إلى الله تعالی بوجوه الوسائل، والاحتراز عمّا لا يجدي طائلا من الحسد

ص: 245


1- سورة الكهف: الآية 46
2- سورة التوبة: الآية 38

ونحوه، ثمّ أكَّد بقوله: «فاحذروا من الله: ومعاصيه «ما حذركم»: الله «مِنْ نَفْسِه

واخْشَوْه خَشْيَةً لَيْسَتْ بِتَعْذِيرٍ»: تقصير المستلزمة لترك محارمه، ولزوم حدوده الجاذبة إلى الزهد الحقيقي: «واعملوا من غير رياء ولا سمعة»: أي العبادة الخالصة له المستلزمة لتطويع النفس الأمّارة بالسوء للنفس المطمئنة «فإنّه»: الشأن «من يعمل لغير الله يكله الله إلى من عمل»: ولمّا كانت همّته عليه السّلام مقصورة على طلب السعادة الأخرويّة طلب هذه المراتب الثلاث.

وقال «نسأل الله منازل الشهداء ومعايشة الشهداء ومرافقة الأنبياء»: وفي ذلك جذب للسامعين إلى الاقتداء به في طلبها والعمل لها؛ وبدء عليه السّلام بطلب أسهل المراتب الثلاث للإنسان، وختم بأعظمها؛ فإنّ من حكم له بالشهادة غايته أن يكون سعيداً، والسعيد غايته أن يكون في زمرة الأنبياء رفيقاً لهم، وهذا هو الترتيب اللائق من المؤدّب الحاذق، فإنّ المرتبة العالية لا تنال دفعة دون نیل ماهو أدون منها قيل سأل منازل الشهداء دون الشهادة اختياراً للأحسن على الحَسن، وطلباً لجميع درجاتها، وفيه نظر أذ لا يستحسن منا أن نسأل الله القتل؛ فأنه ضعف الإسلام، وقوة الكفر، وإنما يستحسن أن نساله تعالى درجات المقتولين في سبيل الله، وقد يكون ذلك مع الموت في الفراش، ولما أشار إلى تأديب الفقراء عن التعرّض للأغنياء بما يوجب لهم ملكات السوء من الحسد ونحوه، أردف ذلك بتأديب الأغنياء واستدراجهم في حقّ الفقراء ذوي الأرحام وأهل القبيلة ونحوهم بالأمر بالمواساة في المال والمعونة لهم، لينتظم شمل المصلحة من الطرفين، واستدرجهم بأمرين:

أحدهما: ببيان أنّهم لا يستغنون عنهم وإن كانوا أصحاب ثروة؛ فإنّ الرجل لا يستغني بماله عن أعوان له يذبّون عنه بأيديهم صولة صائل، ويدفعون عنه بألسنتهم مسبّة قائل فقال: «أيها الناس أنه»: الشأن لا يستغني الرجل وأن كان ذا

ص: 246

مال عن عشيرته: قبيلته ودفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم بل من المعلوم أن أشد الناس حاجة إلى الأعوان، والأصحاب والمعاضدين هم أكثر الناس ثروة، وانظر إلى الملوك والمتشبّهين بهم من أرباب الأموال، وأحقّ الناس بعدم الاستغناء عنهم عشيرة الرجل وأصحابه، «وهم أعظم الناس حيطة»: شفقة «من ورائه وألمهم لشعثه»: أي أشدّهم جمعا المتفرّق حاله، وأعطفهم عليه إن نزلت به نازلة من فقر ونحوه. وذلك أنّ قربهم منه باعث لدواعي الشفقة عليه، ثم نبه بذكر الجميل «يجعله الله للمرء في»: الناس وهو من غايات البذل والأنفاق «خير له من المال يورثه غيره»: وهو غاية جمع المال، ومن تصوّر هاتين الغايتين، علم أفضلية البذل على الجمع، وإنّما رغَّب عليه السّلام في البذل بما يستلزمه من غاية الذكر الجميل بين الناس، وإن لم يكن مقصوده من الحثّ على البذل إلَّا مصلحة الفقراء وسداد خلَّتهم، وتأديب الأغنياء، وتعويدهم بالبذل، والنزول عن محبّة المال، لأن توقعه أدعى للبذل، وأكثر إلا في النفوس من الغايات التي يقصدها عليه السلام، وذلك من الإرشادات الحسنة حتى إذا انفتح بابه وتمرنت النفوس عليه، وحدت أن أولى المقاصد التي يصرف فيها المال هي المقاصد التي يقصدها الشارع، ويحث عليها من سد خلت الفقراء التي ينتظم بها شمل المصلحة، ويجد الناس بعضهم بعض خصوصاً العشيرة؛ فأنه من الواجب في السيرة العادلة التي به صلاح حال الإنسان في الدنيا والآخرة، مواساتهم، وإكرامهم بما ينتظم أحوالهم من فضل المال، وكفى بذكر غاية جمعه المستلزمة لذكر هادم اللذات؛ باعثاً على بذله والنزول عن المحبة وجمعه لمن لمح بعين بصيرته عاقبة أمره ومنها «أَلَا يَعْدِلَنَّ»: لا يحرفن «أَحَدُكُمْ عَنِ الْقَرَابَةِ يَرَى بِهَا الْخَصَاصَةَ»: الفقر في موضع النصب على الحال «أَنْ يَسُدَّهَا»: في موضع الجر بدلاً من «بِالَّذِي لَا يَزِيدُهُ إِنْ أَمْسَكَهُ القرابة ولَا يَنْقُصُهُ إِنْ أَهْلَكَهُ»: واعلم أن المقصود من هذا الفصل ما قصده من الفصل

ص: 247

السابق من تأديب الأغنياء بالشفقة على الفقراء ومواساتهم بالفضل من المال، ولو وصلناه به لصلح تتمةً له، وحاصله النهي عن العدول عن سد خلته الأقرب وأولي الأرحام بالفضل من المال، وصرفه في غير وجهه من المصارف الغير المرضيّة الله سبحانه، وكنّى بالسدّ الَّذي هو حقيقة في منع جسم لجسم عن المنع المعقول، وهو منع الاختلال في حال الإنسان، ولا تضنن أنه عليه السلام أراد مطلق الزيادة والنقصان، کیف وكل جزء من المال بقاه زیادة، وعدمه نقصان بل أراد ما لا يعتبره تأثيرهما في صلاح حال الإنسان وعدمه؛ فإن الفضل الزائد في مال الإنسان على القدر الذي يدفع ضر ورته بحسب الشريعة ليس زيادة معتبره في صلاح حاله، ولا نقصانه معتبراً في فساد حاله؛ فلا يزيده أذن أن أمسكه ولا ينقصه أن أهلكه، أو أراد الزيادة والنقصان في الثواب والأجر في الأجل والثناء والذكر في العاجل أي لا يزيده صلاح حالٍ عند الله، وعند الناس بل يكون سيئاً لفساد حاله ما عند الله؛ فلأن أمساکه عمن له إليه ضرورة سبب للشقاء العظيم والعذاب الأليم لقوله العزيز الحكيم «وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ»(1) وأما عند الناس فعليك بمطالعة مقالاتهم في ذم البخل والنجلاء وكذلك لا ينقصه أي لا ينقص من صلاح حاله أما عند الله فلأن إمساکه عمن له إليه ضرورة سبب للشقاء العظيم والعذاب الأليم لقوله تعالى «وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ»(2) وأما عند الناس فعليك بمطالعة مقالاتهم في ذمّ البخل والبخلاء.

وكذلك لا ينقصه أي لا المعطى ينقص من صلاح حاله: أمّا عند الله فلمّا وعد

ص: 248


1- سورة التوبة: الآية 34
2- سورة التوبة: الآية 34

به أهل الإنفاق في سبيله من الأجر الجميل والثواب الجزيل كقوله تعالى «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى»(1) ونحوها، وأمّا عند الناس فلمّا اتّفقوا عليه من مدح أهل الكرم والسخاء وملوا به الصحف من النظم والنثر، «ومَنْ يَقْبِضْ يَدَهُ عَنْ عَشِرَتِهِ فَإِنَّمَا تُقْبَضُ مِنْهُ عَنْهُمْ يَدٌ وَاحِدَةٌ وتُقْبَضُ مِنْهُمْ عَنْهُ أَيْدٍ كَثِرَةٌ ومَنْ تَلِنْ حَاشِيَتُهُ»: جانبه ويطلق أيضاً على الأتباع «يَسْتَدِمْ مِنْ قَوْمِهِ الْمَوَدَّةَ» قال: السيد رضي الله عنه في بيان القضية الأولى، وما أحسن هذا المعنى الذي أراده عليه السلام بقوله: «ومن يقبض يده عن عشيرته إلى تمام الکلام فأن الممسك خيره»: ماله «عن عشيرته إنما يمسك نفع ید واحدة فإذا احتاج إلى نصرتهم واضطر إلى مرافدتهم»: معاودتهم «قعدوا عن نصره وتثاقلوا عن صوته»: استغاثته «فمنع ترافد الأيدي الكثيرة وتناهض الأقدام»: تقريره أن الإنسان لما كان انتفاعه بالأيدي الكثيرة أتم، وأولى بصلاح حاله من النفع الحاصل بقبض يده عن النفع بها، وجب عليه أن يستجلب يده بالنفع مدا الأيدي الكثيرة عنه مضيعّاً، على نفسه منافع عظيمة فيكون بحسب قصده لنفع ما مضيّعاً لما هو أعظم منه؛ فيكون مناقضاً لغرضه، وذلك جهل وسفه، و قوله عليه السلام من تكن حاشيته من تمام تأديب الأغنياء بما يعود عليهم منافعه من التواضع ولين الجانب للخلق فأستدرجهم الأغنياء بما يعود عليهم منافعه من التواضع، ولين الجانب للخلق فاستدرجهم إلى التواضع بذكر ثمرته اللازمة عنه الَّتي هي مطلوبة لكلّ عاقل، وهي استدامة مودّة الناس المستلزمة لنفعهم، ولعدم نفرتهم المستلزمین لصلاح حال المتواضع، فيما يقصده، وبمثل ذلك أدب الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: «وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ»(2)

ص: 249


1- سورة البقرة، الآية 262
2- سورة الشعراء: الآية 215

وظاهر أن غايته المذكورة وثمرته المطلوبة، لا تحصل عند جفاوة الخلق، والتكبر كما أشار إليه تعالى «وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ»(1) وأن حمل لفظ الحاشية على الأتباع والخدام كان ذلك تأديباً لهم بالتواضع من جهة أخرى وذلك أن حاشية الرجل وخاصته هم حرسة عرضه و میزان عقله وعليهم يدور تدبير صلاح حاله فبحسب شدتهم، وغلظتهم، ولينهم، وتواضعهم للناس يكون قرب الناس وبعدهم منه، وبغضهم، و محبتهم له، وانسهم ونفارهم عنه قال بعض الحكماء سبيل الخدم من الإنسان سبيل الجوارح من الجسد فحاجب الرجل، وجهه، وكاتبه قلبه ورسوله، إنسان، وخادمه يده، ورجله وعينه لأن من كفاه تعاطي كل واحد من الأفعال المحتاج إليها فقد قام مقامه فيها، وكما يلحقه الذم من العقلاء بترك إصلاح من يقوم مقامه بتولية له إياها، وكما يستديم مودة إخوانه ويستجلب محبة الناس بتواضعه بنفسه ولين جانبه لهم؛ كذلك يستديم بتأدیب حاشيته، وخدامه بالآداب المتفق على حسنها بين الناس، وأهمها، وأنفعها في ذلك لين الجانب، وترك الكبر المنفر، فإن أوهام الخلق حاكمة بنسبة كل خير وشر يجري من حاشيته الرجل إليه وأن كان صدق هذا الحكم أكثر ثوابا وبالله التوفيق.

ومن خطبة له صلوات الله عليه:

في رد قول من قال أن مصانعته عليه السلام لمحاربته ومخالفته ومُداهثهم أولي من محاربتهم «ولَعَمْرِي مَا عَلَيَّ مِنْ قِتَالِ مَنْ خَالَفَ الْحَقَّ وخَابَطَ الْغَيَّ»: وطئه من غير أستقامة «من أدهان»: مصانعة «ولا ادهانٍ»: من الوهن أي ليس مصانعتهم

ص: 250


1- سورة آل عمران: الآية 159

بواجبة عليّ من طريق المصلحة الدينية، وليسوا بمضعفين لي، ولا عليّ في قتالهم عجز.

وفي ذكره عليه السّلام لهم بصفة مخالفة الحقّ ومخابطة الغيّ والبغي تنبيه للسامعين واستدراج لهم لقيام عذره في قتالهم إذ كانت مقاتلة من هذه صفته واجبة فلا يمكن إنكار وقوعها منه. ثمّ أردف ذلك بقوله «فاتّقُوا الله عِبَاد الله»: قد عرفت أنه خشية المستلزمة لأعراض عن كل مناهيه المبعدة «وفِرَّوا إلى الله من الله» أي أقبلوا على الله بوجوهكم، وتوجيه وجه النفس إلى كعبة، وجوب وجوده، واعلم أنّ فرار العبد إلى الله تعالى على مراتب؛ فأوليها الفرار عن بعض آثاره إلى بعض کما يفرّ من أثر غضبه إلى أثر رحمته كما قال سبحانه حكاية عن المؤمنين إليه «رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا»(1) فكان المؤمنين لم يروا إلَّا الله، وأفعاله ففرُّوا إلى الله من بعضها إلى بعض.

الثانية: أن نفنى العبد عن مشاهدة الأفعال، ويترقّى في درجات القرب والمعرفة إلى مصادر الأفعال، وهي الصفات فيفرّ من بعضها إلى بعض کما ورد عن زين العابدين عليه السّلام «اللهم اجعلني أسوة من قد أنهضته بتجاوزك من مصارع المجرمين فأصبح طليق عفوك من أسر سخطك»(2)، والعفو والسخط صفتان؛ فاستعاذ بإحديهما من الأخرى.

الثالث: أن يترقّی عن مقام الصفات؛ إلى ملاحظة الذات؛ فيفرّ منها إليها

ص: 251


1- سورة البقرة: 286
2- ينظر الصحيفة السجادية: ص 170؛ وقريب منه في النهاية في غريب الحديث والأثر لمجد الدين ابن الأثير: ج 1 ص 48

كقوله تعالى «لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ»(1) وکالوارد في الدعاء في القيام إلى الصلاة: منك وبك ولك وإليك، أي منك بدء الوجود، وبك قيامه، ولك ملكه، وإليك رجوعه.

ثمّ أكَّد ذلك بقوله: «لا ملجأ ولا منجأ ولا مفرّ منك إلَّا إليك»، وقد جمع الرسول صلى الله عليه وآله وسلَّم هذه المراتب، حين أمر بالقرب في قوله تعالى «وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ»(2).

فقال في سجوده: «أعوذ بعفوك من عقابك»، وهو كلام من مشاهد فعل الله فاستعاذ ببعض أفعاله من بعض، والعفو کما يراد به صفة العافي كذلك قد يراد به الأثر الحاصل عن صفة العفو في المعفوّ عنه کالخلق، والصنع؛ ثمّ لمّا قرب فغنی عن مشاهدة الأفعال، وتترقّى إلى مصادرها، وهي الصفات قال: وأعوذ برضاك من سخطك، وهما صفتان؛ ثمّ لمّا رأى ذلك نقصاناً في التوحيد اقترب، وترقّی عن مقام مشاهدة الصفات إلى ملاحظة الذات؛ فقال وأعوذ بك منك، وهذا فرار منه إليه مع قطع النظر عن الأفعال والصفات، وهو أوّل مقام الوصول إلى ساحل العزّة؛ ثمّ للسباحة في لجّة الوصول درجات أُخر لا تتناهي، وكذلك لمّا أرداد صلی الله عليه وآله وسلَّم قرباً قال: لا أحصي ثناء عليك، وكان ذلك حذفاً لنفسه عن درجة الاعتبار، وأعراضاً عن النتيجة بزينة الحق في ذاته، وكان قوله بعد ذلك: أنت كما أثنيت على نفسك كمالاً للإخلاص، وتجريداً للكمال المطلق الذي هو به عن أن يلحقه حكم لغيره، وهمي أو عقلي إذا عرفت ذلك ظهر أن مقصوده عليه السلام امرنا بالترقي إلى المرتبة الثالثة.

ص: 252


1- سورة التوبة: الآية 118
2- سورة العلق: الآية 19

«وَامظوا»: وامضوا في السبيل «الذي نهجه»: وأوضحه لكم «وقوموا بما عصَبه»: أي جعله كالعصابة وشدها «بکم»: وقد علمت أنّ الغرض من سلوك هذا السبيل وامتثال التكاليف الَّتي الزم الإنسان بها، وعصبت به إنّما هو تطويع النفس الأمّارة بالسوء للنفس المطمئنّة بحيث تصير مؤتمرة لها، ومتصرفة تحت حكمها العقليّ منقادة لها مع الانهماك في ميولها الطبيعيّة، ولذّاتها الفانية، وحينئذ تعلم أنّ هذه الأوامر الثلاثة هي الَّتي عليها مدار الرياضة، والسلوك إلى الله تعالى، فالأمر الأوّل، والثالث أمر بما هو معين على حذف الموانع عن الالتفات إلى الله تعالى، وعلى تطويع النفس الأمّارة، والأمر الثاني أمر بتوجيه السير إلى الله تعالى، وقد تبيّن؛ فيما مرّ أنّ هذه الأمور الثلاثة هي: الأغراض الَّتي يتوجّه نحوها الرياضة المستلزمة لكمال الاستعداد المستلزم للوصول التامّ، ولذلك قال: عليه السّلام «فعليّ ضامن لفلحكم»: ظفركم «آجلا إن لم تمنحوه عاجلا»: أي إذا قمتم بواجب ما أمرتم به من هذه الأوامر كان ذلك مستلزماً لفوزكم في دار القرار بجنّات تجري من تحتها الأنهار الَّتي هي الغايات الحقيقية، ولمثلها يعمل العاملون، وفيها يتنافس المتنافسون إن لم يتمّ تأهّلكم للفوز في الدار العاجلة فتمحوه فيها، وقد يتمّ الفوز بالسعادتين العاجليّة، والآجلیّة لمن و فت قوّته بالقيام بهما، وكمل استحقاقه لذلك في علم الله، ولمّا كان حصول السعادة، والفوز عن لزوم الأوامر المذكورة أمراً واجباً واضح الوجوب في علمه عليه السّلام لا جرم كان ضامناً له؛ فإن قلت: فما وجه اتّصال هذه الأوامر بصدر هذا الفصل قلت: لمّا كان مقتضى صدر الفصل إلى قوله: ولا إيهان هو: الإعذار إلى السامعين في قتال مخالفي الحقّ، وكان مفهوم ذلك هو الحثّ على جهادهم، والتنفير عمّا هم عليه من الطريق الجائر كان تعقيب ذلك بذكر الطريق الواضح المأمور بسلوكه، ولزوم حدود الله فيه لهو اللائق الواجب.

ص: 253

ومن خطبة له عليه السّلام

وقد تواترت عليه الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد، وقدم عليه عاملاه على اليمن، وهما عبيد الله بن عباس، وسعيد بن نمران لما غلب عليهما بسر بن أبي أرطاة: والسبب في ذلك أن قوماً ضعفاء من شيعة عثمان يعظمون قتله فبايعوا علياً عليه السلام على دغل؛ فلما أختلف الناس عليه بالعراق، وكان العامل له يومئذ على صنعاء عبد الله بن العباس، وعلى الجند بها سعید بن نمران؛ ثم قيل محمد أبن أبي بكر بمصر، وكثر غارات أهل الشام تکلم هؤلاء، ودعوا إلى الطلب بدم عثمان؛ فانكروا عليهم عبيد الله بن العباس فتظاهروا بمنابذة علي عليه السلام؛ فحبسهم فكتبوا إلى أصحابهم بالجند؛ فعزلواسعيد بن نمران عنهم؛ وأظهروا أمرهم؛ فانضم إليهم خلق كثير أرادة الصدقة فكتب عبيد الله وسعيد إلى أمير المؤمنين يخبر إنه الخبر فكتب إلى أهل اليمن، والجند کتاباً يهدّدهم فيه، ويذكَّرهم الله تعالى؛ فأجابوه بأنّا مطیعون إن عزلت عنّا هذين الرجلين: عبيد الله وسعيدا؛ ثمّ كتبوا إلى معاوية فأخبروه فوجّه إليهم بسر بن أرطاة وكان فظَّاً سفّاكاً للدماء فقتل في طريقه بمكَّة داود وسليمان ابني عبيد الله بن عباس، وبالطائف عبد الله بن المدان، وكان صهراً لابن عبّاس؛ ثمّ انتهى إلى صنعاء وقد خرج منها عبید الله وسعيد، واستخلفا عليها عبد الله بن عمرو بن أراكة الثقفيّ فقتله بسر، وأخذ صنعاء فلمّا قدم ابن عبّاس، وسعيد على عليّ عليه السّلام؛ بالكوفة عاتبهما على ترکهما قتال بسر فاعتذرا إليه بضعفهما عنه.

«فقام عليه السّلام إلى المنبر ضجرا بتثاقل أصحابه عن الجهاد ومخالفتهم له في الرأي وقال: ما هي إلَّا الكوفة»: هي راجعة إليها وأن لم يجر لها ذكر في اللفظ إلا تفجره من أهلها قبل ذلك، وخوضه في تدبير أمرها مراراً أو أن حضورها في

ص: 254

ذهنه يجري مجرى ذكر السابق لها نظيره انها «لَظَى نَزَّاعَةً»(1)، ويفهم من هذا الكلام حصر ما بقي له من البلاد التي يعتمد عليها في الحرب، ومقاتلة العدو في الكوفة، وهو كلام في معرض الحقير لما هو فيه من أمر الدنيا، وما بقي له من التصرف الحق بالنسبة إلى ما لغريه من التصرف الباطل، وأقصها وابسطها کنایتان عن وجوه التصرف؛ فيها أي أن الكوفة، والتصرف في الوجوه حقيرة بالنسبة إلى سائر البلاد التي غلب عليها الخصم؛ فما عسی اصنع بتصرفي فيها، وما الذي أبلغ به من دفع، ومقاومته، وهذا كما يقول الرجل في تحقير ما في يده من المال القليل إذا ارام أمراً كبيراً أنما هو هذا الدينار، فما عسى ابلغ به من العرض «فأن لم تكوني ألا أنت تهب أعاصيرك»: عدول من الغيبة إلى الخطاب، والضمير بعد إلا تأكيد للذي قبلها، والجملة الفعلية بعده في موضع الحال، وخبر الحال، و خبر كان محذوف، ولفظ الأعاصير يحتمل أن يحمل على حقيقة فإن الكوفة معروفة بهبوب الأعاصير فيها وهي ريح تهب فتثير التراب ويحتمل أن يكون مستعاراً لما يحدث من أراء أهلها المختلفة التي هي سبع، والتثاقل عن ندائه؛ ووجه المشابهة ما يستلزمه المستعار منه، وله من الأذي، والإزعاج، وتقدير الكلام، فإن لم تكوني إلَّا أنت عدّة لي، وجنّة ألقي بها العدوّ، وحظَّاً من الملك، والخلافة مع ما عليه حالك من المذام «فقبحك الله»: وهو ذمّ لها بعد ذكر وجه الذم، ولأجل استصغاره الأمرها تمثّل بقول الشاعر:

لَعَمْر أَبيِك الْخَيْرِ يَا عَمْروُ إِنَّنِي *** عَلَى وَضَرٍ مِنْ ذَا الإِنَاءِ قَلِيلِ

هو: الدرن الباقي في الأناء بعد الأكل، ويستعار لكل بقية لشيء يقل الانتفاع

ص: 255


1- سورة المعارج: الآية 15

له بها معنى تمثيله به أني للدنيا، والوضر القليل فيه للكوفة، ووجه المشابهة ما يشرك فيه الكوفة، والوضر من الحقارة بالنسبة إلى ما استولى عليه خصمه من الدنيا، وما أشتمل عليه الإناء من الطعام، وإنما خصص الكوفة، والكوفة دون البصرة وغيرها لأن جمهور من كان يعتمد عليه في الحرب أذن هم أهل الكوفة، «ثم قال عليه السلام»: شارعاً في استنفاره إلى الجهاد؛ معلماً إياهم بحال بسر، وخروج اليمن من أيديهم؛ مخوّفاً بما حکم به من الضن الصادق أن سيد القوم منهم «أُنْبِئْتُ بُسْراً قَدِ اطَّلَعَ الْيَمَنَ»: غشيها «وإِنِّي والله لأَظُنُّ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ سَيُدَالُونَ مِنْكُمْ»: أي يصير الدولة لكم، ويغلبون علیکم؛ ثم أعقب ذلك بذكر أسباب توجب وقوع ما حکم به؛ فذكر أربعة أمور من قبلهم هي: أسباب الانقهار وأربعة من قبل الخصم مضادة لها توجب القهر ورتب كل أمرٍ عقيب ضده ليظهر لهم المناسبة بين أفعالهم، وأفعال خصومهم، فيدعوهم داعي الدين إلى الفرار من سوء الدار فقال: «بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ وتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ وبِمَعْصِيَتِكُمْ إِمَامَكُمْ فِي الْحَقِّ وطَاعَتِهِمْ إِمَامَهُمْ فِي الْبَاطِلِ وبِأَدَائِهِمُ الأَمَانَةَ إِلَی صَاحِبِهِمْ»: وهي لزوم عهدهم والوفاء ببيعته «وخِيَانَتِكُمْ»: في العهد وعصيانكم الأمري حتى صار الغدر مثلاً لأهل الكوفة «وبِصَلَحِهِمْ فِي بِلَدِهِمْ»: في بلادهم أي أنتضام أمورهم فيها الناشئ عن طاعتهم إمامهم الجائر «وافَسَادِكُمْ في بِلادِكْم»: بخروجكم عن طاعة أمامكم: الحق «فَلَوِ ائْتَمَنْتُ أَحَدَكُمْ عَلَى قَعْبٍ»: قدحٌ من الخشب «لَخَشِيتُ أَنْ يَذْهَبَ بِعِلَقَتِه»: قد من الخشب «خشيت أن يذهب بعلاقته»: مبالغة في ذمهم بالخيانة، على سبيل الكناية عن خيانتهم لا لأمانتهم في عهده على قبول أوامره «اللهُمَّ إِنِّ قَدْ مَلِلْتُهُمْ ومَلُّونِ

وسَئِمْتُهُمْ وسَئِمُونِي»: شكاية إلى الله تعالى منهم، وعرض لما ضميره، وضمائرهم بحسب ما شهدت به قرائن أحوالهم، والملال والسام مترادفات، وها هنا يحمل الأول: على الصخر من القول أو العلانية، والثاني : على الصخر من القول، أو في

ص: 256

العلانية، والثاني على الصخر من الفعل أو في السر حدراً عن التكرار، وبالجملة هو أعراض النفس عن الشيء أما الفتور القوي البدنية عن كثرة الأفاعيل، وأمّا لاعتقادها عن الدليل، وأمارة يتبين لها أن ما تطلبه غير ممكن، وهذا كان موجودين لسامته عليهم من أفعالهم، فأنه لم يشك منهم، ولم يدع عليهم حتى عجزت قواه عن التطلع إلى وجوه إصلاحهم وانصرفت نفسه عن معالجة أحوالهم؛ لاعتقاد أنّ تقويمهم غير ممكن له، وأمّا سأمهم منه؛ فإمّا لاعتقادهم أنّ مطلوباتهم الَّتي كانوا أرادوه لها غير ممكنة منه، أو لكثرة تكرار أوامره بالجهاد، والذبّ عن دین الله، والمواظبة على أوامر الله، وزيادتها على قواهم الضعيفة الَّتي هي مع ضعفها مشغولة بغير الله.

فلذلك تنصرف نفوسهم عن قبول قوله، وامتثال أوامره، ثم أردف تلك الشكاية بالتضرّع إلى الله تعالى في الخلاص منهم، ثمّ الدعاء عليهم فدعا الله لنفسه أوّلاً أن يبدله خيراً «فأبدلني خيراً منهم» أما في الدنيا قوم صالحين ينضرون بنور الله نعمه عليهم؛ فتحصلون له الدين، وأما في الآخرة قوماً في مطالعة كبرياء الله؛ فأصفاهم أعلى منازل حسنة، أولئك رفيقاً وطلبه الخير منهم في الدنيا هو الأرجح في الذهن لما سيأتي ثم دعا الله عليهم أن يبدلهم شراً منه «وأبدلهم بي شراً مني»: ولئن بسطت يد التأمل إلى ذيل السؤال قائلاً: أن صدور مثل هذا الدعاء منه عليه السلام مشکل من، وجهين أحدهما؛ أنه يقتضي أن هو ذا شر، وقد كان منزهاً عن الشر، الثاني كيف يجوز منه أن يدعوا بوجود الشرور، ووجود الأشرار نثرت أزهار الجواب في أراد أذهانك من، وجهين عن الأول: أن أفعل التفضيل؛ کما ترد الأثبات الأفضلية، وحينئذ يحتمل أن يكون معناه، أبدلهم بمن فيه شر غيري الثاني : أن يكون شرٌ مني بحسب عقائدهم أن في شراً عليهم، واعتقادهم أنه شراً لا يوجب کونه كذلك، وعن الثاني أيضاً من وجهين أحدهما: أنه لما كان في دعاء الله أن

ص: 257

يبدلهم من هو شر منه مصلحة تامة حسن منه ذلك وبيانها أيضاً من وجهين الوجه الأول: أن صدور ذلك الدعاء منه عليهم بمشهد منه وبمسمع من أعظم الأسباب المخوفة الجاذبة لأكثرهم إلى الله تعالى، وذلك مصلحة ظاهرة الثاني أن نزول الأمر المدعو به عليهم بعده مما ينبههم على فضله، ويذكرهم ذلك لأكثر أوامر الله تعالى، وخروجهم عن طاعته؛ فيتقهقروا عن مسالك الغي والفساد إلى واضح سبيل الرشاد، ويكون ذلك بلاء من الله لهم الثاني: لعله إنما دعي عليهم العلمه أنه لا يرجی صلاحهم فيما خلقوا لأجله ما يدعوا إليه، ومن لا يرجی صلاح حاله مع الفساد نظام العالم بوجوده، ولزومه لما يضادّ مطلوب الله منه فعدمه أولى من وجوده؛ فكان دعاءهم عليهم إذن مندوبا إليه، وعلى ذلك يحمل أيضاً دعائه عليهم: «اللهمّ مث أذب قلوبهم کما یماث الملح في الماء» ونحوه، وذلك تأت منه عليه السلام بالسابقين، من الأنبياء عليهم السّلام، في التضجّر من قولهم، والشكاية منهم إلى الله تعالى، ودعائه عليهم کنوح عليه السّلام، إذ قال: «قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا»(1) إلى قوله «إِنَّهُمْ عَصَوْنِي»(2)، ثمّ ختم بالدعاء على من لم يرج له صلاح، فقال: «رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا»(3)؛ وكلوط إذ قال لقومه: «إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ»(4)، وغيرهما من الأنبياء والمراد بالميث المدعوّ به، يشبه أن يكون ما يحصل في القلب من الانفعال عن الغمّ، والخوف ونحوهما، وذلك أنّ الغمّ إذا وقع لزمه تكاثف الروح القلبي، للبرد الحادث عند انطفاء، الحرارة الغريزّية

ص: 258


1- سورة نوح: الآيات: 5 - 6
2- سورة نوح: الآية 21
3- سورة نوح: الآية 26
4- سورة الشعراء: الآية 168

لشدّة انقباض الروح، واختناقه فيحسّ في القلب بانفعال شبيه بالعصر والمرس، وذلك في الحقيقة ألم، أو مستلزمة له فيحسن أن يكون مرادا له، ويحتمل أن يكون كناية عن أسبابه من الغمّ والخوف؛ فكأنّه طلب من الله أن يقتصّ له منهم؛ إذ ماثوا قلبه بفساد افعالهم، ويروى أنّ اليوم الَّذي دعا عليهم؛ فيه ولد فيه الحجّاج بن يوسف، وروى أنّه ولد بعد اليوم بأوقات يسيرة.

وفعل الحجّاج بأهل الكوفة ظاهر، ودماره ها مشهور.

«أما والله لوددت أن لي بكم ألف فارس من بني فرس(1) بن غنم»: يصلح تعيينه لمن ذكر بياناً للخير منهم الَّذي طلبه أوّلاً من الله، وبنو فرس حيّ من تغلب أبوهم غنم بفتح الغين وسكون النون، وهو غنم بن تغلب بن وائل، وإنّما خصّ هذا البطن لشهرتهم بالشجاعة والحميّة وسرعة إجابة الداعي، وأمّا البيت:

هنالك لو دعيت أتاك منهم *** فوارس مثل أرمية الحهم

ثم نزل عليه السلام من المنبر:

فمعناه ما ذكره السيّد رضيّ الله عنه في بيان معنى هذا البيت لأبي جندب الهذلي يخاطب أمرأةً بدليل أول الأبيات:

ألا يا أم ربناع أقيمي *** صدور العيش نحوي بني تميم

«الأرمية جمع رميّ وهو السحاب، والحميم في هذا الموضع وقت الصيف، وإنما خص الشاعر سحاب الصيف بالذكر أنه أشد جفولا»: ذهاباً «وأكثر خفافاً لأنه لا ماء فيه، وإنما يكون السحاب ثقيل السير لامتلائه بالماء وذلك لا يكون في

ص: 259


1- ورد في بعض متون الهج فراس ؛ وفي بعضها فرس

الأكثر إلا زمان الشتاء، وإنما أراد الشاعر وصفهم بالسرعة إذا دعوا والإغاثة إذا استغيثوا والدليل على ذلك»: القصد قوله: «هنالك لو دعوت أتاك منهم»: فإن الشرطية تدل على عدم التراخي؛ الاتيان من الدعوة ووجه تمثيله عليه السلام بهذا البيت؛ أن هؤلاء القوم الذين ذو غنم أنهم كانوا له عوضاً من قومه هم بصفة الفوارس الذين أشار إليهم في المبادرة إلى الداعي، واجتماع على دفع الضيم عنهم، ونصرة حقهم؛ فلذلك تمنّاهم عوضاً، ومقصوده في جميع ذلك ذمّهم، وتوبيخهم و تحقیر هم بتفضيل غيرهم عليهم تنفيراً لطباعهم عمّا هي عليه من التثاقل عن دعوته للذبّ عن دين الله، وبالله التوفيق والعصمة.

ومن خطبة له عليه السّلام:

«إِنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّداً صلى الله عليه نَذِيراً لِلْعَالِمَینَ وأَمِيناً عَلَى التَّنْزِيلِ»: لما كان مقصوده عليه السلام في هذا الموضع التوبيخ المطلق للعرب، وترقيق قلوبهم المشتملة على الفضاضة، والقسوة كان الأليق هاهنا ذکر انذار النبي للعالمين ليتذكروا بذلك تفاصيل الإنذارات الورادة في القرآن والسنة ؛ وأردف ذلك بكونه أميناً على التنزيل؛ ليتذكروا أن الإنذارات الواردة هي من عند الله تعالى أتي بها الرسول غير خائن فيها تبدیل، أو زيادة أو نقصان؛ فيتأكد في قلوبهم ما قد علموه من ذلك ليكون ذلك أدعي لهم إلى الانفعال عن اقواله؛ ثم شرع بعده في اقصاص أحوالهم التي كانوا عليها فقال: «وأَنْتُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ»: الواو للحال وصورة المنادي في مثل هذا الموضع مفيد الاختصاص: «عَلَى شَرِّ دِينٍ»: وهو عبادة الأصنام من دون الله، وأعظم بذلك افتضاحاً لمن عقل منهم أسرار الشريعة وعرف الله سبحانه؛ فلا أحسبه عند سماع هذا التوبيخ إلَّا خجلاً ممّا فرّط في جنب الله، ويقول: يا ليتني لم أشرك بريبي أحداً؛ ثمّ أردف ذلك بتذكيرهم ما كانوا فيه من شرّ دار، وأراد نجد

ص: 260

أو تهامة وأرض الحجاز فقال: «وفِي شَرِّ دَارٍ»: وبين كونها شراً ببيان فساد أحوالهم، أمّا في مساكنهم فبإناختهم بين الحجارة السود الخشن الَّتي لانداوة بها ولا نبات، والحيّات الصمّ الَّتي لا علاج لسمومها، ووصفها بالصمّ لأنّ حيات تلك الأرض على غاية من القوّة وحدّة السموم لاستيلاء الحرارة، واليبس عليها فقال: «مُنِيخُونَ»: مقيمون بَيْنَ «حِجَارَةٍ خُشْنٍ وحَيَّاتٍ صُمٍّ»: التي لا تنزجر بالصوت كأنها لا تسمع، وربما يراد بها الصلبة الشديدة، وأما في مشربهم المشارُ إليه بقوله: «تَشْرَبُونَ الْكَدِرَ» فلأن الغالب على المياه التي يشربونها؛ أن يكون كدرة لا يكاد غير المعتاد بها؛ أن يقبل عليها مع العطش إلا عند الضرورة، والسبب الغالب في ذلك عدم إقامتهم بالمكان الواحد بل هم ابداً في الحل، والارتحال، ولا يحتفرون المياه، ويصلحونها إلا ريثما هم عليها؛ فربما كان بعضهم تحتفر، وبعضهم يشرب ومشاهدتهم توضح ذلك، وأما فساد مأكلهم فبّين بقوله: وتأكلون الخشب: الغليظ الخشن، ويقال هو الذي لا أدام معه؛ فلك تجد عامتهم تأكل ما دب من الحيوان، وسئل بعض العرب أي الحيوانات تأكلون في البادية فقال: نأكل كلما دب وذرح ألا أمّ جنين: دويبة قدر کفّ الإنسان، كذا قال صاحب المجمل، وبعضهم يخلط الشعير بنوى التمر بطحنها، ويتخذّ منهما خبزاً، وروى أنّهم كانوا في أيّام المجاعة يلوّثون أوبار الإبل بدم العظلم(1)، ويجفّفونها فإذا يبست دقوها وصنعوها طعاماً؛ وأمّا في سفكهم الدماء، وقطع أرحامهم المشار إليه بقوله: «وتسفكون دمائكم وتقطعون أرحامكم»: وظاهر أيضاً فإنّ الولد كان يقتل أباه وبالعكس، «والأصنام فیکم منصوبة والآثام بکم»: هذه أيضاً «معصوبة»: ظاهرة مشدودة استعار العصب للزوم الآثام لهم في تلك الحال استعارة لفظ نسبته بين محسوستين

ص: 261


1- العظلم: عصارة شجر لونه أخضر إلى الكدرة؛ ينظر العين للخليل الفراهيدي: ج 2 ص 342

لنسبة بين معقولين؛ أو بين معقول و محسوس، وإنّما ذكرهم عليه السّلام بهذه الحال لينبّههم على نسبة ما كانوا عليه قبل، إلى ما هم في تلك الحال من أضداد ذلك كله.

طر إذ بدّلوا ممّا كانوا فيه من فساد أحوالهم في الدنيا إلى صلاح حالهم فيها؛ ففتحو المدن وكسروا الجيوش، وقتلوا الملوك، وغنموا أموالهم؛ كما قال تعالى في المنّة عليهم، وتذكيرهم أنواع ما أنعم عليهم به «وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا»(1) وجعل لهم الذكر الباقي والشرف الثابت، كلّ ذلك زيادة على هدايته لهم إلى الإسلام الَّذي هو طريق دار السلام وسبب السعادة الباقية.

وإنّما كان ذلك بسبب مقدم محمّد صلى الله عليه - وآله - وسلَّم إليهم، واعلم أنّ سياق هذا الكلام يقتضي مدح النبيّ صلى الله عليه - وآله - وسلم، فيما حذف من الفصل بعده لتبني عليه مقصوداً له، وفيه تنبيه على دوام ملاحظة السامعين لنعماء الله عليهم؛ فيلاحظوا استحقاقه لتمام العبادة عامّة أحوالهم، ويكونون في وجل من خوفه، وفي شوق إليه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقیم منها؛ «فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَ لِي مُعِنٌ إِلَّ أَهْلُ بَيْتِي»: هذا الفصل يشتمل على اقتصاص صورة حاله بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلَّم في أمر الخلافة، وهو اقتصاص في معرض التظلَّم والشكاية ممّن يرى أنّه أحقّ منه بالأمر، وأشار إلى أنّه فكَّر في أمر المقاومة والدفاع عن هذا الحقّ الَّذي يراه أولى به، فرأى أنّه لا ناصر له إلَّا أهل بيته، وهم قليلون بالنسبة إلى من لا يعينه ويعين عليه؛ فإنّه لم يكن له معينٌ إلا بنی هاشم کالعبّاس و بنیه، وأبي سفيان بن الحرث بن عبد المطلب، ومن يخصّهم، وضعفهم، وقلَّتهم عن مقاومة جمهور الصحابة ظاهر «فَضَنِنْتُ»: نجلت

ص: 262


1- سورة الأحزاب: الآية 27

«بِهِمْ عَنِ الْمَوْتِ»: وإنما ضن بهم لعلمه أنهم لو قاوم بهم لقتلوا ثمّ لا يحصل على مقصوده ««فأَغْضَيْتُ»: أي لما ضننت بهم عن القتل أغضيت «عَلَى الْقَذَى»: أي أطبقت عليه جفني وهو ما تسقط في العين و کنی بالأعضاء عن فتوره عن المقاومة کناية بالمستعار ووجه المشابهة بينهما استلزم اللام البالغ، وبالقذى عما يعتقده ظلماً في حقه وكذلك قوله «وشَرِبْتُ عَلَى الشَّجَا»: ما يعرض في الحلق من عظم و نحوه کما عرفت ملاحظة لوجه الشبهة بين ما يجري له من الأمور التي توجب له الغضب، والغبن بين الماء الذي يشرب على الشجي، وهو استلزامها الأذى وعدم التلذذ، والإساغة، ولذلك استعار له لفضة الشرب، وكذا قوله «وصَبَرْتُ عَلَى أَخْذِ الْكَظَمِ»: مجرى النفس «وعَلَى أَمَرَّ مِنْ طَعْمِ الْعَلْقَمِ»: ثمر الحنظل من الاستعارات الحسنة استعار لفظ أخذ الكظم لأخذ الوجوه عليه، وتضييق الأمر فيها يطلبه، ولفظ المرارة الَّتي هي حقيقة في الكيفيّة المخصوصة للأجسام لما يجده من التألَّم بسبب فوت مطلوبه، ووجه المشابهة في هاتين الاستعارتين لزوم الأذى أيضاً، وأمّا أنّ الَّذي وجده أمر من العلقم فظاهر إذ لا نسبة للألم البدنيّ إلى الألم النفسانيّ.

وأعلم أنّه قد اختلف الناقلون لكيفيّة حاله بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، فروى المحدّثون من الشيعة وغيرهم؛ أخبارا كثيرة ربما خالف بعضها بعضاً؛ بحسب اختلاف الأهواء منها، وهو الَّذي عليه جمهور الشيعة أنّه عليه السّلام امتنع من البيعة لأبي بكر بعد وفاة الرسول، وامتنع معه جماعة بني هاشم کالزبير وأبی سفیان بن الحرث و العبّاس وبنيه وغيرهم وقالوا: لا نبايع إلَّا عليّاً عليه السّلام، وأنّ الزبير شهر سيفه فجاء عمر في جماعة من الأنصار، فأخذ سيفه فضرب به الحجر فكسره، وحملت جماعتهم إلى أبي بكر فبايعوه، وبايع معهم عليّ كرهاً، وقيل: إنه عليه السّلام اعتصم ببيت فاطمة عليها السّلام، وعلموا

ص: 263

أنه مفرد فتركوه، وروی نصر بن مزاحم(1)؛ في كتاب صفّين أنّه كان يقول: «لو وجدت أربعين ذوی عزم»(2)، ومنها وهو الَّذي عليه جمهور المحدّثين من غير الشيعة؛ أنّه امتنع من البيعة ستّة أشهر حتّى ماتت فاطمة؛ فبايع بعد ذلك طوعاً، وفي صحيحي مسلم والبخاري: (كانت وجوه الناس يختلف إليه، وفاطمة لم تمت بعد؛ فلمّا ماتت انصرفت وجوه الناس عنه)(3)؛ فخرج وبايع أبا بكر(4)، وعلى

ص: 264


1- نصر بن مزاحم: هو أبو الفضل نصر بن مزاحم بن سيّار المنقري. ونسبته إلى بني منقر بن عبيد بن الحارث بن عمرو بن کعب بن سعد بن زيد مناة بعربي؛ شيعي وهو: كوفي النشأة، ولكنه سكن بغداد، وحدث بها عن سفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج، وحبيب بن حسان، وعبد العزيز بن سیاه، ویزید بن إبراهيم التستري، وأبي الجارود زیاد بن المنذر؛ وروى عنه ابنه (الحسين بن نصر)، ونوح بن حبيب القومسي، وأبو الصلت الهروي، وأبو سعيد الأشج، وعلي بن المنذر الطريقي، وجماعة من الكوفيين. ولسكناه بغداد أورد له الخطيب البغدادي ترجمة في تاريخه، ولم تذكر لنا التواريخ مولده، ولكن عدّه في طبقة أبي مخنف يحملنا على القول بأنه كان من المعمرين، إذ إن أبا مخنف لوط بن يحيى توفي قبل سنة 170 کما ذكره ابن حجر في لسان الميزان، وذلك يرجح إلى أن ولادة نصر كانت قريبة من سنة 120؛ کما ترجم له عبد السلام محمد هارون في وقعة صفين: مقدمة الطبعة الأولى
2- القول لنصر بن مزاحم بالمعنى والمضمون، ولم أقف على النص بتهامه في كتاب وقعة صفين؛ بل اخرجه سليم بن قيس في كتابه: ص 218 بلفظ مقارب قال: «لو وجدت أربعين رجلا مثل الأربعة»؛ كذلك يُنظر الكافي للشيخ الكليني: ج 8: ص 32؛ ومصادر أخرى كثيرة التي ذكرت خطبة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: كقوله: «أما والله لو كان لي عدة أصحاب طالوت؛ أو عدة أهل بدر» يُنظر شرح نهج البلاغة لابن میثم البحراني: ج 2، ص 27، ولم يوضح موضعه من كتاب صفين
3- البخاري: ج 5: ص 83؛ مسلم: ج 5 ص 154
4- أُختلف في هذا الخبر؛ فعند الشيعة الإمامية؛ لم يبايع الإمام علي بن أبي طالب عليهما السلام ابا بکر؛ نعم خرج لأصحابه ولشؤون المسلمين والمؤمنين، ولكنه لم يبايع، لأن بيعة أبي بكر معصية ؛ من حيث لم ينص الله تعالى أو النبي صلى الله عليه وآله على شيء منها؛ وقد وقع الكثير في شبهة الأمر بالشوری استنادا لقوله تعالى «وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ» والآية 38 من سورة الشورى؛ منطوقها عن الذين استجابوا لربهم فأطاعوه في الواجبات كإقامة الصلاة، والأنفاق وغيرها من الواجبات والتي من أهمها؛ طاعة رسوله الله صلى الله عليه وآله إذ قال تعالى «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ»: الحشر آية 7؛ وقد أتانا صلى الله عليه وآله بولاية وخلافة الإمام علي بن أبي طالب عيهما السلام، ولم يأتينا ببيعة أو خلافة أبي بكر أو عمر بن الخطاب أو عثمان بن عفان أو غيرهما؛ حتى يجب الطاعة والامتثال، وعلاوة على ذلك ؛ كانت بيعة أبي بكر فلتة؛ كما عبر عنها أبو بكر بنفسه فقال: «إن بيعتي كانت فلته وقي الله شرها»، ولك أن تراجع (السقيفة وفدك للجوهري): ص 46؛ (ت 323) ، وكذلك البخاري: ج 8 ص 26؛ حيث ذكر حديث عمر بن الخطاب قال: «فلا يغترن أمرؤ أن يقول إنها كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت إلا وإنها كانت كذلك ولكن الله وقی شرها» وأيضا يُنظر مسند أحمد بن حنبل: ج 8 ص 26

الجملة؛ فحال الصحابة في اختلافهم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلَّم وما جرى في سقيفة بني ساعدة، وحال علىّ في طلب هذا الأمر ظاهر، والعاقل إذا طرح العصبيّة والهوى عن نفسه، ونظر فيما يقبله الناس في المعنى علم ما جرى بين الصحابة من الاختلاف والاتّفاق، وهل بایع طوعاً أو كرها، وهل ترك المقاومة عجزاً أو اختياراً.

ولمّا لم يكن غرضاً إلا تفسیر کلامه عليه السلام، كان الاشتغال بغير ذلك تطويلاً، وفضولاً خارجاً عن المرام، ومن رام ذلك فعليه بكتب التواريخ.

والله سبحانه اعلم؛ ثم ذكر عليه السلام حال عمروا بن العاص مع معوية فلذا قال السيد ومنها: وفي بعض النسخ، ومن خطبة له عليه السلام يذكر فيها عمروا بن العاص ولم يبايع أي عمور ومعاوية «حتی شرط»: عمروا وعليه أن يؤتيه على البيعة ثمناً، وذلك أنه لما نزل عليه السلام بالكوفة بعد فراغه من أمر البصرة؛ كتب إلى معاوية كتاباً يدعوه فيه إلى البيعة؛ فافهمه ذلك فدعا قوماً من أهل الشام إلى الطلب بدم عثمان فأجابوه؛ وأرادوا الاستنصار فيه أمره؛ فأشار عليه أخوه عقبة بن أبي سفيان بالاستعانة بعمرو بن العاص، وكان بالمدينة واستدعاه

ص: 265

فلما قدم عليه، وعرف حاجته إليه تباعد عنه، وجعل يمدح علياً في وجهه، ويفضله ليخدعه عما يريد منه؛ فمن ذلك أن معاوية قال له يوماً يا عبد الله أني أدعوك إلى جهاد هذا الرجل الذي عصا الله، وشق عصا المسلمين، وقتل الخليفة، وأظهر الفتنة، وفرق الجماعة وقطع الرحم؛ فقال من هو: قال علي فقال: والله یا معاوية ما انت وعلي حملي بعير؛ ليس لك هجرته، ولا سابقته، ولا صحبته، ولا جهاده ولا علمه، ووالله أن له مع ذلك لحظاً في الحرب، وانت علم ما فيه الغرر، والخطر، فقال: له حكمك؛ فقال له مصر طعمته، فلم يزل معاوية يتلكأ عليه ويماطله، وهو يمتنع عن مساعدته حتى رضي أن يعطيه مصر؛ فعاهده على ذلك وبايعه عمروا ومعاوية، وكتب له بمصر لدينه، وهو عمرو بعدم الظفر في الحرب أو باليمن بقوله: «فلاطوت يد البائع»: بالذم وألحقه، والتوبيخ فقال «وخربت»: ذلت وهانت «امانة المُبتْاع»: هي بلاد المسلمين، واموالهم التي أفاء الله عليهم ويحتمل أن يكون أسناد الخزي إلى الأمانة مجازياً؛ أو على سيبل إضمار الفاعل يفسره المبتاع أي والخزي المبتاع في أمانته بخيانته لها، وذهب بعض الشارحين إلى أنّ المراد بالبائع معاوية، وبالمبتاع عمرو، وهو ضعيف، لأنّ الثمن إذا كان مصراً؛ فالمبتاع هو معاوية، ثمّ لمّا ظهرت دعوة معاوية لأهل الشام، ومبايعة عمرو له كان ذلك من دلائل الحرب؛ فلذلك أمر عليه السلام أصحابه بالتأهّب لها وإعداد عدّتها بقوله: «فخذوا للحرب اهبتها وأعدوا لها عدتها» : وکنی عما ذكرناه من أمارات وقوعها بقوله: «فقد شب لظاها»: أوقدت نارها وروي شب مبني للفاعل بمعنی: ارتفع لهبها «وعلاسناها» : ضوئها کناية بالمستعار، ووجه المشابهة بين لهب النار وسناها، وإمارات الحرب كونها على أمرين مظنة الهلاك ومحل الفتنة، ويحتمل أن يكون لفظ السنا ترشيحاً للاستعارة؛ ثم أردف ذلك بالأمر، بالصبر في الحرب، واستشعاره فقال: «واستشعروا الصبر»: أما أن يراد به

ص: 266

اتخاذه شعاراً على وجه استعارته من الثوب الملازمته الجسد، أو يراد اتّخاذه علامة لأنّ شعار القوم علامتهم أيضاً، ويحتمل أن يكون اشتقاقه من الشعور؛ أي ليكن في شعوركم الصبر وإن كان الاشتقاقيون يردّون الشعار بالمعنى الثاني إلى الشعور وقوله: «فأن ذلك أدعى إلى الصبر»: بيان لفائدة اتّخاذ الصبر شعارا أو علامة؛ أمّا إن كان المقصود ألزموا أنفسكم الصبر؛ فظاهر أنّ لزوم الصبر من أقوى أسباب الصبر، وإن كان المقصود اتّخذوه علامة؛ فلأنّ من كان الصبر في الحرب علامة له يعرفه الخصم بها كان الخصم يتصوّرها منه أدعى إلى الانقهار؛ فكان المستشعر لتلك العلامة أدعى إلى القهر والنصر، وإن كان المراد إخطاره بالبال فلأنّه سبب لزومه، وبالله العصمة.

ومن خطبة له عليه السّلام

أمّا بَعْدُ الخ: هذه الخطبة مشهورة ذكرها أبو العباس المبرّد(1) وغيره، والسبب المشهور لها أنّه ورد عليه علج من أهل الأنبار فأخبره؛ أنّ سفيان بن عوف الغامديّ، قد ورد في خيل لمعاوية إلى الأنبار وقتل عامله حسّان بن حسّان البكريّ، فصعد عليه السّلام المنبر وخطب الناس وقال: «إنّ أخاكم البكريّ قد أصيب بالأنبار، وهو مغترّ لا يخال ما كان، واختار ما عند الله على الدنيا؛ فانتدبوا إليهم حتّى تلاقوهم؛ فإن أصبتم منهم طرفاً أنكلتموهم عن العراق أبداً ما بقوا»(2)؛ ثمّ سكت رجاء أن يجيبوه بشيء؛ فلم يفه أحد منهم بكلمة؛ فلمّا رأى

ص: 267


1- أبو العبّاس المبرد هو: محمّد بن یزید بن عبد الأكبر الأزديّ البصريّ، إمام العربيّة ببغداد، وصاحب التّصانيف، أخذ عن المازني وأبي حاتم السّجستاني، وروى عنه إسماعيل الصّفار والصّولي؛ مات سنة 285 ه. يُنظر منتهی المطلب للعلامة الحلي: ج 2 هامش ص 76
2- الغارات لإبراهيم بن محمد الثقفي الكوفي: ج 2 ص 740؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 2 ص 88

صمتهم نزل، وخرج يمشی راجلاً حتّى أتى النخيلة، والناس يمشون خلفه حتی أحاط به قوم من أشرافهم وقالوا: ترجع يا أمير المؤمنين ونحن نكفيك، فقال: ما تكفوني، ولا تكفون أنفسكم. فلم يزالوا به حتّى ردّوه إلى منزله، فبعث سعيد بن قيس الحمداني في ثمانية آلاف في طلب سفيان بن عوف فخرج حتّى انتهى إلى أداني أرض قنّسرين وقد فاتوه؛ فرجع وكان عليّ عليه السّلام في ذلك الوقت عليلاً؛ فلم يقو على القيام في الناس بما يريده من القول؛ فجلس بباب السدّة الَّتي تصل إلى المسجد، ومعه الحسن والحسين عليهما السّلام، وعبد الله بن جعفر، ودعا سعیداً مولاه؛ فدفع إليه كتاباً كتب فيه هذه الخطبة، وأمره أن يقرأها على الناس بحيث يسمع عليه السّلام ويسمعون، وفي رواية المبرّد أنّه لمّا انتهى إليه، ورود خيل معاوية الأنبار، وقتل حسّان بن حسّان خرج مغضباً يجرّ ردائه حتّى أتى النخيلة ومعه الناس، ورقی رباوة من الأرض؛ فحمد الله وأثنى عليه، وعلى النبي ثم قال: الخطبة ورواية المبرّد أليق بصورة الحال وأظهر، وروى أنّه قام إليه رجل في آخر الخطبة ومعه ابن أخ له فقال: يا أمير المؤمنين: إنّي وابن أخي هذا کما قال تعالى «قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي»(1) فمرنا بأمرك فو الله لننتهينّ إليه ولو حال بيننا وبينه جمر الغضا، وشوك القتاد فدعا لهما بخير، وقال: وأين أنتما مما أريد.

ولنرجع إلى التفسير فنقول قال عليه السلام فأن «الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ

الْجَنَّةِ»: وبيانه أنّ الجهاد تارة يراد به جهاد العدوّ الظاهر، كما هو الظاهر هاهنا، وتارة يعنی به جهاد العدوّ الخفيّ، وهو النفس الأمارة بالسوء، وكلاهما بابان من أبواب الجنّة، والثاني منهما مراد بواسطة الأوّل إذ هو لازم له، وذلك أنّك علمت

ص: 268


1- سورة المائدة: الآية 25

أنّ لقاء الله سبحانه، و مشاهدة حضرة الربوبيّة هي ثمرة الخلقة، وغاية سعى عباد الله الأبرار؛ ثم قد ثبت بالضرورة من دين محمّد صلى الله عليه - وآله - وسلَّم؛ أنّ الجهاد أحد العبادات الخمس، وبين أيضاً في علم السلوك إلى الله أن العبادات الشرعية هي المتممة، والمُعينة على تطويع النفس الأمارة بالسوء للنفس المطمئنّة، وأن التطويع كيف يكون، وسيلة إلى الجنّة الَّتي وعد المتّقون؛ فيعلم من هذه المقدّمات؛ أنّ الجهاد الشرعيّ باب من أبواب الجنّة؛ إذ منه يعبر المجاهد السالك إلى الله؛ إلى الباب الأعظم للجنّة، وهو الرياضة، وقهر الشيطان، ومن وقوفك على هذا السرّ؛ تعلم أنّ الصلاة، والصوم، وسائر العبادات كلها أبواب للجنة إذ كان أمتثالها على الوجه المأمور بها؛ مستلزماً للوصول إلى الجنّة، فإنّ باب كلّ شيء هو ما يدخل إليه منه، ويتوصّل به إليه، ونحوه قول الرسول صلى الله عليه [وآله] وسلَّم في الصلاة: «إنّها مفتاح الجنّة»(1)، وفي الصوم «إنّ للجنّة بابا يقال له الريّان لا يدخله إلَّا الصائمون»(2) «فتحه الله لخاصة أوليائه»: وهم المخلصون له في المحبّة، والعبادة، وظاهرٌ أنّ المجاهدة لله لا لغرض آخر من خواصّ الأولياء، وذلك أنّ المرء المسلم؛ إذا فارق أهله وولده وماله، وأقدم على من يغلب على ظنّه أنّه أقوى؛ منه كما أمر المسلمون بأن يثبت أحدهم لعشرة من الكفّار؛ ثمّ يعلم أنّه الوقهره لقتله، واستباح ذرّيته، وهو في كلّ تلك الأحوال صابراً شاکراً، ومعترف بالعبوديّة لله مسلم أمره إلى الله؛ فذلك هو الوليّ الحقّ الَّذي قد أعرض عن غير

ص: 269


1- عوالي اللئالي لأبي جمهور الاحسائي: ج 1: ص 322؛ باختلاف يسير؛ شعب الإيمان لأحمد بن الحسين البيهقي: ج 3: ص 4؛ الكامل لعبد الله بن عدي الجرجاني: ج 3: ص 257؛ ومناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 1: ص 132
2- السنن الكبرى لأحمد بن الحسين البيهقي: ج 4: ص 305؛ المقنعة للشيخ المفيد: ص 305؛ ومعاني الأخبار للشيخ الصدوق: ص 409

الله رأساً، وقهر شيطانه قهراً، وآیسه أن يطيع له أمراً.

كأنك تقول: إذا كان الغرض من العبادات هو جهاد الشيطان، والإخلاص لله وكان التخصيص بالوصفين المذكورين لاستلزامه ذلك المعنى؛ لم يبق حينئذ لسائر العبادات مزيّة عليه؛ فما معنى قول الصحابة رضي الله عنهم، وقد رجعوا من جهاد المشركين: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر.

قلت: يحتمل معنيين:

أحدهما: أنّ الجهاد الظاهر ليس كلّ غرضه الذاتيّ هو جهاد النفس؛ بل ربّما كان من أعظم أغراضه الذاتيّة هو: قهر العدوّ الظاهر ليستقيم الناس على الدين الحقّ، وينتظم أمرهم في سلوكه، ولذلك دخل فيه من أراد منه؛ إلَّا ذلك كالمؤلَّفة قلوبهم وإن كانوا كفّاراً، وذلك بخلاف سائر العبادات ؛ إذ غرضها ليس إلَّا جهاد النفس، ولا شكّ أنّه هو الجهاد الأكبر؛ أمّا أوّلا فباعتبار مضرّة العدّوین؛ فإنّ مضرّة العدّو الظاهر دنیاويّة فانية، ومضرّة الشيطان مضرّة أخرويّة باقية، ومن كانت مضرّته أعظم کان جهاده أكبر وأهمّ، وأمّا ثانیا؛ فلأنّ مجاهدة الشيطان مجاهدة عدوّ لازم، ومع ذلك فلا يزال مخادعاً لا ينال غرضه إلَّا بالخروج في زيّ الناصحين الأصدقاء، ولا شكّ أن الاحتراز من مثل هذا العدّو لصعب، وجهاده أكبر من جهاد عدوّ مظهر لعداوته يقاتله الإنسان في عمره مرّة أو مرّتين؛ فَحسُنَ لذلك تخصيص الجهاد بالأصغر، ومجاهدة النفس بالأكبر.

المعنى الثاني: أنّا وإن قلنا: إنّ الغرض من الأصغر جهاد النفس؛ إلَّا أنّ جهاد العدوّ الظاهر، وقد يكون أسهل، وذلك أنّ القوى البدنيّة؛ كالغضب، والشهوة بثوران عند مناجزة العدّو طلباً لدفعه، ويصيران مطيعين للنفس الإنسانيّة فيما

ص: 270

يراه ويأمر به فلا يكون عليها كثير كلفة في تطويع تلك القوى، بخلاف سائر العبادات؛ فإن طباع تلك القوى معاكسة فيها لرأى النفس، فلذلك كان جهادها في سائر العبادات أصعب، وأكبر من جهادها في حال الحرب، والله أعلم.

«وهو لباس التقوى ودرع الله الحصينة وجنبه الوثيقة»: استعارها له ثم رشح الأخيرتين بوصفي الحصانة والوثاقة، ووجها أنّ الإنسان يتّقى شرّ العدوّ أو سوء العذاب يوم القيامة؛ كما يتّقى بثوبه ما يؤذيه من حرّ أو برد، وبدرعه وجنّته ما يخشاه من عدوّه، ثمّ أردف عليه السّلام ممادح الجهاد بتوعيد من تركه رغبة عنه من غير عذر فقال: «فمن ترك رغبةً عنه البسه الله ثوب الذل»: جعله من أفراد الثوب من حيث الإحاطة، وسلك سبيل الإيضاح بعد الإيهام؛ ثم قال عليه السلام «وشمله البلاء»: من العدو ودُيِّثَ ذلك «بِالصّغَار» الضيم «والْقَمَاءَةِ»: الذل والحقارة كأنه عطف تفسيري، وضرب على قلبه بالإسهاب بذهاب العقل العملي في تدبير مصالحة؛ أما لخوف الذل به أو لأن كثرة غارات العدو وتكررها منه موجب لتوهم قهرة، وقوته، وذلك مما ينفعل عنه النفس بالانقهار، وحينئذٍ تذعن لشمول بلائه، وتذهب، وجه عقلها في استخراج، وجوه المصالح في دفعه ومقاومته إما لقلَّة اهتمامها بذلك عن عدم طمعها في مقاومته؛ أو لتشويشها لخوفه عن ملاحظة وجه المصلحة.

وفي إطلاق لفظ الضرب على قلبه استعارة كقوله تعالى «وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ»(1).

ووجه الشبه فيها إحاطة القبّة المضروبة بمن فيها، أو لزوم قلَّة العقل له

ص: 271


1- سورة البقرة: الآية 61

كلزوم الطين المضروب على الحائط، ويحتمل أن يراد بالإسهاب كثرة الكلام من غير فائدة؛ فإنّ الإنسان حال الخوف والذّل كثيراً ما يخبط في القول، ويكثر من غير إصابة فيه «وأُديل الحَقّ مْنهُ»: أي غلبه عدوه «بِتَضْيِيعِ الْجِهَادِ وسِيمَ الْخَسْفَ»: أي أولي ذلاء(1) وكلفه المشقة «ومُنِعَ النَّصَفَ»: الاسم من الأنصاف لحوق هذه الأمور بمن ترك الجهاد عدوه مع التمكن من ذلك؛ أمر منفور عنها طبعاً، ومضرة بحال من يلحقه في الدارين، وقد ورد في التنزيل الإلهي من ممادح الجهاد، والحث عليه أمور كثيرة كقوله تعالى «لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ»(2) «وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ»(3) ونحو ذلك؛ ثم نبههم على ما كان دعاهم إليه من قبل قتال معاوية وأصحابه مراراً كثيراً؛ أو يذكرهم بما كان أعلمهم به من القاعدة الكلية المعلومة بالتجربة والبرهان فقال: «أَلَا وإِنِّ قَدْ دَعَوْتُكُمْ إِلَ قِتَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَيْلًا، ونَهَاراً وسِرّاً، وإِعْلَاناً وقُلْتُ لَكُمُ اغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ؛ فَوَالله مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلَّ ذَلُّوا»: اصلها يعني القوم «إلا ذلوا»: والسبب في ذلك أن للأوهام أفعالاً عجيبة في الأبدان تارة بزيادة القوّة، وتارة بنقصانها حتّى أنّ الوهم ربّما كان سبباً لمرض الصحيح لتوهّمه المرض وبالعكس؛ فأوهامهم فلأنّها تحكم بأنّها لم تقدم على غزوهم إلَّا لقوّة غازيهم، واعتقادهم فيهم الضعف بالنسبة إليه، فينفعل إذن نفوسهم عن تلك الأوهام وتنقهر عن المقاومة وتضعف عن الانبعاث وتزول غيرتها وحميّتها؛ فتحصل على طرف رذيلة الذلّ، وإمّا أوهام غيرهم؛ فلأنّ الغزو الَّذي يلحقهم يكون باعثاً

ص: 272


1- أولي ذلاء بمعنى: أصحاب ذل ومشقة
2- سورة النساء: الآية 95
3- سورة الحج: الآية 78

لكثير الأوهام على الحكم بضعفهم، ومحرّكاً لطمع كلّ طامع فيهم، فيثير ذلك لهم أحكاماً وهمية بعجزهم عن المقاومة «فتواكَلُتمْ»: فوضتم الأمر إلى أنفسكم، «وتخاذلتم» : عن العمل بمقتضى أمري «حَتّى مُشنَت»: صبت «عَلَيْكُمُ الْغَارَاتُ

ومُلِكَتْ عَلَيْكُمُ الأَوْطَانُ وهَذَا أَخُو غَامِدٍ»: أراد سفيان بن عوف وغامد هذا هو: غامد بن عبد الله بن كعب فيكون كما قال عز وعلا «وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا»(1) إنما ذكر هذا الشخص المشاهد ليكون إلى التصديق بظهور العدو عليهم أقبل «قَدْ وَرَدَتْ خَيْلُه الأَنْبَارَ وقَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ الْبَكْرِيَّ(2) وأَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالحِهَا» جمع مسلحة وهي: الحدود التي ترقب فيها ذوو الأسلحة مخافة عادية العدو كالثغر والمرقب «ولَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ والأُخْرَى الْمُعَاهِدَةِ»: الذمية «فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا»: خلخالاها «وقُلُبَهَا»: سوارها «وقَلَائِدَهَا ورُعُثَهَا» قرطها «مَا تَمْتَنِعُ مِنْه»: راجع إلى الرجل «إِلَّ بِالِاسْتِرْجَاعِ»: إنا لله وإنا إليه راجعون «والِاسْتِرْحَامِ»: مناشدة الرحم «ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ مَا نَالَ رَجُلًا مِنْهُمْ كَلْمٌ ولَا أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ»: وإذا كان حال المسلمين كذلك «فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً» تحسراً وغضباً «مَا كَانَ بِه مَلُوماً بَلْ كَانَ بِه عِنْدِي جَدِيراً»: إشارة إلى أنه ينبغي أن يلحق المسلم الغيرة والحمية لله من الأسف والحزن المميت له بسبب ما يشاهده من الأحوال المنكرة الواقعة بالمسلين، مع تقصيرهم عن مقاومة عدوهم وكل ذلك التقرير ليمهدوا قانوناً يحسن معه توبيخهم وذمهم على التقصير فيما ينبغي لهم من امتثال أمره وقبول شوّره فيما هو الأولى والأصلح لهم؛ ثم أردف ذلك بالتعجب من حالهم تأكيداً لذلك التمهيد فنادي العجب

ص: 273


1- سورة الأعراف: الآية 73
2- حسان بن حسان البكري كان عاملًا على الأنبار من قِبل الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه؛ يُنظر الغارات لابراهيم بن محمد الثقفي الكوفي: ج 2 هامش ص 485: كذلك الكافي للشيخ الكليني: ج 5 : هامش ص 5

منكراً ليحضر له وقال «فَيَا عَجَباً عَجَباً»: كأنه غير متعين في حال ندائه، ثمّ تعيّن بندائه وحضر فكررّه ليصفه بالشدّة. ونصبه على المصدر كأنّه لمّا حضر وتعيّن قال عجبت عجبا من شأنه كذا.

ونحو هذا المنادي قوله تعالى: «يا بُشْرى»(1) في قراءة من قرء بغير إضافة، ويحتمل أن يكون العجب الأوّل نصباً على المصدر أيضاً والثاني تأكيد له والمنادى محذوفاً تقديره يا قوم أو نحوه «والله يُميتُ القلبَ ويجلبُ الَهمّ»: واعلم أنّ السبب في التعجّب من الأمور عدم اطَّلاع النفس على أسبابه لغموضها، مع كونه في نفسه أمراً غريباً، وكلما كان الأمر أغرب وأسبابه أخفى كان أعجب، أنبعثت النفس في طلب سبه فقد تعجز من تحصيله، وتكلّ القوّة المتخيلَّة عن تعيينه، وكان ذلك موتاً بالقلب: تجوز بلفظ الموت في العجز تسمية للشيء باسم ما یورد إليه أو لاشتراكهما في عدم حصول المطلوب معهما؛ إذا عرفت ذلك فنقول أن حال قومه عليه السلام تفرقهم عن حقهم مع علمهم بحقيقته، وحال اجتماعهم على باطلهم مع اشتراكهم في الشجاعة، وكون قومه واثقين برضا الله لو امتثلوا أمره من العجب المميت للقلب الذي لا يهتدي لسببه، وأما أنه يجلب الهم فظاهر إذ كان حاله عليه السلام معهم كحال طبيب لمرضى ألزم بعلاجهم خطر أمراضهم، وعدم لزومهم لما يأمر به فظاهر أن تلك الحال ما يجلب الطبيب ثم لما أظهر لهم التعجب ووصفه بالشدة أعقبه بذكر المتعجب منه ليكون في نفوسهم أوقع فقال: «من اجْتِمَاعِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ عَلَى بَاطِلِهِمْ وتَفَرُّقِكُمْ عَنْ

حَقِّكُم»: ثم أردف ذلك التعجب بالدعاء عليهم بالبعد عن الخير وبالحزن بسبب تفريطهم فقال «فقبحاً لكم وترحَاً»: أي بعداً عن الخير وحزناً وأعقبه بالتوبيخ

ص: 274


1- سورة يوسف: الآية 19

لهم والتبكيت بما يأنف منه أهل المروة والحمية ويوجب لهم الخجل والاستحياء فثقال «حين صرتم غرضاً»: هدفاً «يُرْمَى يُغَارُ عَلَيْكُمْ ولَا تُغِرُونَ وتُغْزَوْنَ ولَا

تَغْزُونَ»: وقد كان الأولى بكم أن تغيروا تغزوا «ويُعْصَى الله وتَرْضَوْنَ»: ثم حكى صور أعذارهم في التخلف عن أمره قال: «فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّیْرِ إِلَيْهِمْ فِي أَيَّامِ

الْحَرِّ قُلْتُمْ هَذِه حَمَارَّةُ الْقَيْظِ»: منتهى شدة الحر «أَمْهِلْنَا يُسَبَّخْ»: يجف «عَنَّا الْحَرُّ

وإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّیْرِ إِلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ قُلْتُمْ هَذِه صَبَارَّةُ الْقُرِّ»: شدة البرد «أَمْهِلْنَا يَنْسَلِخْ»: يمضي «عَنَّا الْبَرْدُ»: حاصله انهم كانوا يبرزون أعذار يذوق منه العاقل طعم الكسل والفتور وأنه لم يكن بها مقصوده إلا المدافعة ثم نسلم تلك الأعذار منهم واستثبتها وجعلها مهاد الاحتجاج عليهم: «قال أكُلُّ هَذَا فِرَاراً مِنَ الْحَرِّ والْقُرِّ فَإِذَا كُنْتُمْ مِنَ الْحَرِّ والْقُرِّ تَفِرُّونَ فَأَنْتُمْ والله مِنَ السَّيْفِ أَفَرُّ»: وذلك أن الفار من الأهون؛ فار من الأشد بطريق الأولى؛ إذ لا مناسبة لشدة الحر والبرد مع القتل، والشجاعة بالسيف، والأنفة، والحمية، والغيرة، وعدم هذه الكمالات فيهم، وأن كانوا بالصورة المحسوسة للرجال الموجبة لتشبههم؛ بهم ثم وصفهم بحلوم الأطفال، وذلك أن ملكة الحلم ليست بحاصلة للطفل، وأن كانت قوة الحلم حاصلة له لكن قد يحصل له ما يتصور بصورة الحلم لعدم التسرع إلى الغضب عن خيال يرضيه وأغلب أحواله أن يكون ذلك في غير موضعه، ولن تحصل له ملكة تكسب نفسه طمأنينة كما في حق الكاملين؛ فهو أذن نقصان، ولما كان تاركوا أمره عليه السلام بالجهاد أن يتركوا المقاومة حلماً؛ ففي غير موضعه كتركهم الحرب نصفين، حين خدعهم أهل الشام بالمسالمة، وطلب المحاكمة إلى كتاب الله ورفع المصاحف؛ فقالوا اخواننا في الدين فلا يجوز لنا قتالهم فكان ذلك حلماً منهم في غير موضعه حتّى كان من أمرهم ما كان. فأشبه رضى الصبيان فأطلق اسمه عليه، وقال: «حُلُومُ الأَطْفَالِ»: الحق عقولهم بعقول النساء وذلك للمشاركة

ص: 275

في النقصان وعدم عقليتهم لوجوه المصالح المختصة بتدبير البدن والحرب فقال: «وعُقُولُ رَبَّاتِ الْحِجَالِ»: جمع حجلة وهي بيت العروس ثم عرفهم محبته لعدم رومهم، وعدم معرفتهم لاستلزامهما ندمه على الدخول في أمرهم، والحزن من تقصيرهم في الذب عن الدين؛ فأن المتولي لأمر يغلب على ضنه استقامته؛ حتى إذا دخل وطلب انتظامه، وجده غير ممكن له لا بد وأن يندم على تضيع الوقت به، وهذه حاله عليه السلام مع أصحابه ولذلك حزنت الأنبياء عليهم السلام على تقصير أممها؛ حتى عاتبهم الله تعالى على ذلك لقوله لمحمد صلى الله عليه [واله] وسلم «وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ»(1) «لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ»(2) وذلك قوله: «لَوَدِدْتُ أَنِّ لَمْ أَرَكُمْ ولَمْ أَعْرِفْكُمْ مَعْرِفَةً والله جَرَّتْ نَدَماً وأَعْقَبَتْ» أورثت «ذَماً»: ثم عاد إلى الدعاء عليهم، والشكاية منهم فقاتل «قَاتَلَكُمُ الله»: وأعظم بما دعا عليهم به؛ فإن المقاتلة لما كانت مستلزماً للعداوة، والعداوة مستلزمه لأحكام كاللعن، والطرد والبعد عن الشفقة، والخير من جهة العدو، وكان أطلاق المقابلة والعداوة على الله تعالى بحسب حقيقتها غير ممكن؛ كان المقصود منهما لوازمها مجازاً كالأبعاد عن الرحمة المفسرون معنى قول العرب قاتلكم الله لعنکم أبن الأنباري؛ المقاتلة من القتل؛ فإذا أخبر الله بها لكان معناها اللعنة منه؛ لأن من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك «لَقَدْ مَلأْتُمْ قَلْبِي قَيْحاً»: إشارة إلى بلوغ الغاية في التألم الحاصل له من شدة الاهتمام بأمره مع تقصيرهم وعدم طاعتهم؛ لأوامره فعبر عن القيح؛ بالألم مجازاً من باب اطلاق أسم ذي الغاية إذ كان غاية ألم العضو؛ أن يتقيح وكذا اطلاق السحر على فعلهم المؤلم لقلبه في قوله «وشَحَنْتُمْ»: ملأتم «صَدْرِي غَيْظاً»: لأن الشجن حقيقة في

ص: 276


1- سورة النحل: الآية 127
2- سورة الشعراء: الآية 3

نسبة بين جسمين وكذا قوله «وجَرَّعْتُمُونِ نُغَبَ التَّهْمَامِ أَنْفَاساً»: جمع نغبة بمعنى الجرعة أنفاساً أي: جلبتم لي الهم وقتاً فوقتاً مجازاً لأن التجريع إدخال الماء أو نحوه في الحلق، وطريان الهم على نفسه، وما يلزمه من الآلام البدنية، وتكرار ذلك منهم تشبه طريان المشروب، وتجريعيه وقوله أنفاساً مجاز في الدرجة الثانية؛ فأن النفس حقيقة لغوية في الهواء الداخل والخارج في بدن الحيوان من قبل الطبيعة ثم استغل عرفاً المقدار ما يشرب من الشراب في مدة إدخاله الهواء بقدر الحاجة أطلاق الاسم المتعلق عل المتعلق ثم أستعمل هاهنا في كل مقدار من الهم يرد عليه من قبل أصحابه وقتاً فوقتاً، وهي درجة ثانية من المجاز، «وأَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالْعِصْيَانِ والْخِذْلَانِ»: من تمام شكايته منهم ومعنى أفسادهم له خروجه بسبب عدم التفاتهم إليه عن أن يكون مشفعاً إليه لغيرهم «حَتَّى لَقَدْ قَالَتْ قُرَيْشٌ إِنَّ ابْنَ أَبِي طَالِبٍ رَجُلٌ شُجَاعٌ ولَكِنْ لَا عِلْمَ لَه بِالْحَرْبِ»: فأن الخلق أذا رأوا قوم من سويد تدبير أو مقتضى رأي فاسد كان الغالب أن ينسبوه إلى رئيسهم ومقدمهم ولا يعلمون أنه عليه السلام ألا لمعي الذي يرى الرأي كان قد رأى وقد سمع وأن التقصير من قومه؛ ثم أردف ذلك بالرد على قريش في نسبتها له إلى قلة العلم بالحرب معالجة وأقدم منه فيها مقاماً على سبيل الأنكار ونبه على صدقه بنهوضه في الحرب ومعاناة أحوالها عامة عمره بقوله: «فهَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا»: للحرب مراساً من الممارسة «وأَقْدَمُ فِيهَا مَقَاماً مِنِّي لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا ومَا بَلَغْتُ الْعِشْرِينَ

وهَا أَنَا ذَا قَدْ ذَرَّفْتُ» زدت «عَلَى السِّتِّينَ» مبين أن السبب في فساد أحوال الصحابة ليس ما تخيّله قريش فيه من ضعف الرأي في الحرب كما يزعمون؛ بل عدم طاعتهم له؛ فيما يراه ويشير عليهم به وذلك قوله ولَكِنْه «لَا رَأْيَ لِمَنْ لَا يُطَاعُ»: فأن الرأي الذي لا يقبل بمنزلة الفاسد وان كان صواباً وبالمثل له عليه السلام.

ص: 277

ومن خطبة له صلوات الله عليه:

هذا الفصل من الخطبة التي في أولها الحمد الله غير مقنوط من رحمته وسيجيء بعد وإنما قدمه الرضي رضي الله عنه لما سبق من اعتذاره في الخطبة الكتاب أنه لا يراعي التالي والنسق في كلامه عليه السلام «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الدُّنْيَا أَدْبَرَتْ وآذَنَتْ علمت بِوَدَاعٍ»: إشارة إلى تقصي الحوال الحاضرة بالنسبة إلى كل شخص شَخِصَ من الناس؛ من صحة، وشباب، وجاه ومال، وكل ما يكون سبباً لصلاح حاله؛ فأن كل ذلك اجزاء الدنيا لدنوها من الإنسان، ولما كانت هذه الأمور أبداً في التغير والتقضي المقتضي لمفارقة الإنسان لها وبعدها عنه لا جرم حسن إطلاق اسم الإدبار على تقضيها، وبعدها استعارة تشبيهاً لها بالحيوان في إدبارها، فقيل يكون لكل إمرء الإنسانية فيه من خير أو شر إذا كان في أوله أقبل، وإذا كان في أخره، وبعد نقصه أدبر، وكذلك أسم الوداع؛ فإن التقصي لما استلزم المفارقة، وكانت مفارقة الدنيا مستلزمه لأسف الإنسان عليها ووجده بها اشبه ذلك ما يفعله الإنسان في حق صديقه المرتحل عنه؛ في وداعه له من الأسف على فراقه، والحزن، والبكاء ونحوه، وكنّى بإعلامها بذلك عن الشعور الحاصل بمفارقتها من تقضّيها شيئاً فشيئاً، أو هو إعلام بلسان الحال، ثم نبه على الإقبال على الآخرة والتيقّظ للاستعداد لها بقوله: «وإنّ الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطَّلاع» أي: أطلعت، ولما كان الآخرة عبارة عن الدار الجامعة للأحوال الَّتي يكون الناس عليها بعد الموت؛ من سعادة، وشقاوة، وألم، ولذّة، وكان تقضّى العمر مقرّباً للوصول إلى تلك الدار، والحصول فيما يشمل عليه من خير؛ أو شرّ حسن إطلاق لفظ الإقبال عليها مجازاً؛ ثمّ نزّلها لشرفها على الدنيا في حال إقبالها منزلة حال عند سافل؛ فأسند إليها لفظ الإشراف، ولأجل إحصاء الأعمال الدنيويّة فيها منزلة عالم مطَّلع.

ص: 278

فأطلق عليها لفظ الاطَّلاع، ويحتمل أن يكون إسناد الإشراف بكيفيّة الاطَّلاع لا إلى ربّ الآخرة، وإنّما عبّر بالآخرة عنه تعظيماً لجلاله كما يكنّى عن الرجل الفاضل بمجلسه وحضرته، ويكون كيفيّة الاطَّلاع قرينة ذلك.

ثم نبه على وجود الاستعداد بذكر ما يستعدّ لأجله، وهو السباق، وذكر ما يستبق إليه، وما هو غاية المقصّر المتخلَّف عن نداء الله، وذلك قوله: «ألا وإنّ اليوم المضمار»: المدة التي يضمر فيها الخيل المسافة وهي: أربعون يوماً، وقد يطلق على الموضع الذي يضمر أیضاً «وغداً»: يريد ما بعد الموت، وقت لسباق مرادف للمسابقة؛ أو جمع سبقة كنطفة ونطاف، أو سبقة كحجلة وحجال، أو سبق كجمل وجمال، والثلاثة أسم للسابق لما يجعل من مال؛ أو عرض كني باليوم عن مدة عمر الإنسان الباقية له، وأخبر بالمضمار عنها لما بينهما من المشابهة؛ فإن الإنسان في مدة عمره يستعد بالتقوى، ويرتاض بالأعمال الصالحة لتكمل قوته؛ فيكون من السابقين إلى لقاء الله، والمقربين في حضرته كما يستعد الفرس بالتضمير لسبق مثله؛ ثم أن قلنا السباق مصدر كان التقدير ضمروا انفسكم؛ فأنكم يستبقون غداً وتحقيق ذلك أن الإنسان كلما؛ كان أكمل في قوتيه النضري، والعملي كان، وصوله إلى حضرة القدس قبل، وصول من هو أنقص، ولما كان مبدأ الفيضان في هاتين القوتين، إنما هو محبة ما عدا الواحد الحق، واتباع الشهوات، والميل إلى أنواع اللذات الفانية والأعراض بسبب ذلك عن تولي القبلة الحقيقية، ومبدأ الكمال فيهما هو الأعراض عما عدا الحق من الأمور والأقبال إليه بالكلية، وكان الإنسان في محبة الدنيا وفي الأعراض عما عدا الحق من الأمور المعدودة، والأقبال إليه بالكلية، وكان الإنسان في محبة الدنيا، وفي الأعراض عنها، واستكمالاً بطاعة الله على مراتب مختلفة، ودرجات متفاوته كان كون اليوم هو المضمار، وغداً

ص: 279

السباق منصوراً جلياً؛ فإن كل من كان له أكثر استعداداً؛ أو أقطع لعلائق الدنيا عن قلبه، ولم يكن له بعد الموت عائق يعوقه عن الوصول إلى الله تعالى، وما أعد له في الجنة؛ بل كان خفيف الظهر ناجياً من ثقل الوزن كما أشار إليه الرسول صلى الله عليه [وآله] وسلم بقوله: «نجا المخفون»(1) وكما سبق من أشارته عليه السلام إلى ذلك بقوله تخففوا تلحقوا فيكون بعد الموت سابقاً لمن كان أضعف استكمالاً منه من لبست عقارب الهيئات البدنية والملكات الردية قلبه وأثقلت الأوزار ظهره وأجبت له التخلف عن درجات السابقين الأولين وكذلك يكون سبق هذا بالنسبة إلى من هو أقل استعداداً منه وأشد علاقة للدنيا بقلبه فكان معنى المسابقة ظاهراً وأن كان استعارة من السباق المتعارف بين العرب لأن وأن قلنا أن السباق جمع سبقه: اسم لمّا يستبق إليه ويجعل للسابق. فالمعنى أيضاً ظاهر فإنّ ما يسبق إليه إنّما يكمل الوصول إليه بعد المفارقة، ويكون الاستباق إمّا قبل المفارقة، وهو السعي في درجات الرياضات كما أشار إليه سبحانه بقوله «سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا»(2) الآية، وقوله «فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(3) أو بعد المفارقة كما أشرنا إليه، ويكون قوله بعد ذلك: «وَالسّبقة الجَنّة»: تعييناً للمستبق إليه بعد التنبيه عليه إجمالاً وأمّا قوله: «والغاية النّار»: فما سيذكره الرضىّ رضي الله عنه في تخصيص الجنّة بالسبقة، والنار بالغاية حسن، وكاف في بيان مراده عليه السّلام؛ إلَّا أنّه يبقى هاهنا بحث وهو: أنّ هذه

ص: 280


1- تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي: ج 5 ص 43؛ مستطرفات السرائر لابن إدريس الحلي: ج 619 ص 619؛ وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 19: ص 230
2- سورة الحديد: الآية 21
3- سورة البقرة: الآية 148

الغاية من أيّ الغايات هي؟، وهل هي غاية حقيقيّة؟ أو لازمة لغاية؟ فنقول: إنّ ما ينتهي إليه؛ قد يكون بسوق طبيعيّ، وقد يكون بسوق إراديّ، وكلّ واحد منهما قد يكون ذاتيّاً، وقد يكون عرضيّاً؛ فالسوق الذّاتي منهما يقال له غاية؛ إمّا طبيعيّة کاستقرار الحجر في حيّزه عن حركته؛ بسوق طبيعته له إليه، وإمّا إراديّة كغايات الإنسان من حركاته المنتهى إليها بسوق إرادته، وأمّا المنتهى إليه بالسوق العرضيّ؛ فهو من لوازم إحدى الغايتين، وقد يسمّى غاية عرضيّة؛ فاللازم عن الطبيعيّة کمنع الحجر الحلول في مكان هو فيه؛ فإن ذلك من لوازم استقراره في حيزه، وعن الإراديّة كاستضاءة الجار بسراج جاره؛ فإنّ ذلك من لواحق استضاءته إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ كون النار غاية بهذا المعنى الرابع.

وبيانه: أن محبّة الدنيا والميل إليها، والانهماك في مشتهياتها، معان من لوازمها الانتهاء إلى النار، إلَّا أن يشاء الله كما قال تعالى «مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ»(1) فكان المقصود الأوّل للإنسان هو تناول اللذّات الحاضرة؛ لكن لمّا كان من لوازم الوصول إليها، دخول النار والانتهاء إليها كانت عرضيّة.

ثم نبه على التوبة قبل الموت بقوله: «أفلا تَائبٌ مِن خَطيئة قَبل مَنيّتِهِ»: ولا شكّ أنّها يجب أن تكون مقدّمة على الأعمال؛ لأنها انزجار النفس العاقلة عن متابعة النفس الأمّارة بالسوء لجاذب إلهيّ اطَّلعت معه على فتح ما كانت عليه من اتّباع شياطينها، وهو مقام التخلَّي، وهو مقدم على مقام التخلي؛ فكان الأمر بها مقدماً على الأمر بسائر الطاعات؛ ثم نبه على العمل للنفس قبل يوم البؤس والإشارة به إلى ما بعد الموت، والعذاب اللازم للنقصان عن التقصير في العمل إذا

ص: 281


1- سورة الشورى: الآية 20

الواصل يوم بؤسه على غير عمل أسير في يد شياطينه، وقد أن غايته دخول النار والحجب عن لقاء رب العالمين، ولمّا كان العمل هو المعين على قهر الشيطان والمخلص من أمره نبه عليه بقوله: «أَلَا عَامِلٌ لِنَفْسِه قَبْلَ يَوْمِ بُؤْسِه»: شد حاجته ثم أردفه بالتنبيه على وجده الزمان الذي يكنهم فيه العمل، وهو أيام آمالهم للعمل وغيره، وعلى أن ذلك الزمان وهي: المنفعة بالثواب في الأخرة، وما يلزمها من عدم مضرة الأجل، وبيان ثمرة التقصير في العمل، وهي خسران العمل المستلزم لمضرة الأجل، وذلك قوله: «أَلَا وإِنَّكُمْ فِي أَيَّامِ أَمَلٍ مِنْ وَرَائِه أَجَلٌ فَمَنْ

عَمِلَ فِي أَيَّامِ أَمَلِه قَبْلَ حُضُورِ أَجَلِه فَقَدْ نَفَعَه عَمَلُه ولَمْ يَضْرُرْه أَجَلُه ومَنْ قَصَّرَ فِي أَيَّامِ أَمَلِه قَبْلَ حُضُورِ أَجَلِه فَقَدْ خَسِرَ عَمَلُه وضَرَّه أَجَلُه»: ولقد أحسن باستعارته عليه السلام لفظ الخسران لفوات العمل؛ فأن الخسران في البيع لما كان هو النقصان في رأس المال، وذهاب جملته وكان العمل رأس مال العامل الذي به يكتسب الكمال، والسعادة الآخروية لاجرم حسنت الاستعارة، وأما استلزام المنفعة لعدم مضرة الموت، واستلزام الخسران المضرته؛ فهوا أمر ظاهراً إذا كان الكامل في قوته المعرض عن متاع الدنيا غير ملتفت إليها بعد المفارقة؛ فلم يحصل له بسببها تعذيب، فكانت المضرة منفيّة عنه، وكان المقصّر عن الاستكمال؛ فيهما من ضرورة طباعه الميل إلى اللذّات الحسّية، فإذا قصر عن العمل، والتعلَّق بطاعة الله الجاذبة إليه؛ فلا بدّ وأن يستضرّ بحضور الأجل إذ كان الأجل قاطعاً لزمان الاستكمال، وحائلاً بين الإنسان وبين ما هو معشوق له من حاضر اللذّات ثم قال منبهاً على وجوب التسوية للعامل بين العملين، وفيه شميمة التوبيخ للعبد على غفلته عن ذكر الله، وإعراضه عن عبادته في حال صفاء اللذّات الحاضرة له، ولجأه إليه وفزعه عند نازلة إن نزلت به، فإنّ ذلك ليس من شأن العبوديّة الصادقة لله، وإلى مثل هذا التوبيخ أشار التنزيل الإلهيّ بقوله «وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ

ص: 282

فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا»(1) وغيره من الآيات، بل من شأن العابد لله القاصد له أن يتساوی عبادته في زمان شدّته ورخائه، فيقابل الشدّة بالصبر، والرخاء بالشكر، وأن يعبده لا لرغبة، ولا لرهبة وأن يعبده فيها ثم نبه الموقنين بالجنة، والنار على كونهم نائمين في مراقد الطبيعة لينتبهوا منها، ويتفطَّنوا للاستعداد بالعمل التامّ لما ورائهم من مرغوب و مرهوب «بقوله أَلَا وإِنِّي لَمْ أَرَ كَالْجَنَّةِ نَامَ طَالِبُهَا ولَا كَالنَّارِ نَامَ هَارِبُهَا»: هنا في طالبها، وهاربها راجعة إلى المفعول الأول لرأيت المحذوف المشبّه في الموضعين وهو نعمة، ومغزى هذا الكلام أنّه نفی علمه بما يشبه الجنّة، والنار ولم ينف علمه بذات التشبيه بل علمه من جهة الشبه، وهي نوم الطالب والهارب؛ ولذلك استدعت أرى بمعنى أعلم هنا مفعولين أي: لم أر نعمة كالجنّة بصفة نوم الطالب لها؛ فنبّه على وجه الشبه بقوله: نام طالبها، ثمّ نفى التشبيه من تلك الجهة، وكذلك قوله: ولا كالنار بصفة نوم هاربها، والمفعول الثاني في الجملتين صفة جارية على غير من هي له، وفيه شميمه التعجّب من جمع الموقن بالجنّة، والنار بين علمه بما في الجنّة من تمام النعمة، وتقصيره عن طلبها بما يؤدّي إليها من الأعمال الصالحة، وجمع الموقن بالنار بين علمه بما فيها من عظيم العذاب، وبين تقصيره عن طلبها بما يؤدي إليها من الأعمال الصالحة، وجمع الموقن بالنار بين علمه بما فيها من عظيم العذاب وبين تقصيره عن الهرب إلى ما يخلص منها من ذلك؛ ثم نبه على استلزام عدمه منفعة الحق المضرة الباطل في صورة شرطية متصلة هي قوله «أَلا وإِنَّه»: الشأن «مَنْ لَا يَنْفَعُه الْحَقُّ يَضُرُّه الْبَاطِلُ»: أراد بالحق الأقبال على الله بلزوم الأعمال الصالحة المطابقة للعقائد، وبالباطل الالتفات عنه إلى غير ذلك مما لا يجدي نفعاً في الآخرة بيان الملازمة فيها ظاهراً؛ فأن عدم الحق مستلزم

ص: 283


1- سورة الإسراء: الآية 67

لوجود الباطل لأن اعتقاد المكلف وعمله أما أن يطابق الأوامر الله تعالى أو ليس والأول هو الحق والثاني هو الباطل، والظاهر أن عدم الأول مستلزم للنقصان الموجب للتخلف عن السابقين، والهوى في درك الهالكين، وذلك محض المضرة فظهر إذن سر قوله عليه السلام أنه لم ينفعه إلى آخره، ومن غفلة بعض من يدعي العلم عن بيان هذه الملازمة ذهب إلى أن الوعيدات الواردة في الكتب الإلهية إنما جاءت للتخويف دون أن يكون هناك شقاوة للعصاة محتجاً على ذلك بتمثيلات خطابية عن مشهورات في بادي الرأي ثم قال «ومَنْ لَا يَسْتَقِيمُ بِه الْهُدَى يَجُرُّ: يعدل بِه الضَّلَالُ إِلَی الرَّدَى»: أراد بالهدى نور الإيمان، والعلم وبالضلال الجهل والخروج عن أمر، والمعنى أن من لم يكن الهدي دلیله القائد له بزمام عقله في سبيل الله، ولم يستقم به في سلوك صراطه المستقيم؛ فلا بد وأن ينحرف به الضلال عن سوء الصراط إلى أحد جانبي التفريط، والأفراط، وملازمة هذه الشرطية أيضاً ظاهرة لأن، وجود الهدى لما استلزم، وجود استقامة بالإنسان على سواء السبيل كان عدمه استقامة الهدى مستلزماً لعدم الهدى المستلزم لجر بالإنسان إلى مهاوي الردي، والعدول عن الطريق المستقيم إلى سواء الجحيم ثم نبه، على الإحاطة بالأوامر الواردة بالظعن كقوله «فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ»(1) «إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ»(2) وعلى الأمر بالزاد «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى»(3) «ألا وأنكم قد أمرتم بالظعن»: السفر ودللتم على الزاد وأحسن استعارة الظعن للسفر إلى الله تعالى، واستعارته الزاد لما يقرب إليه، ووجهها الأولي؛ أن الظعن لما كان عبارة عن قطع المراحل المحسوسة بالرجل والحمل ونحوه؛ فكذلك السفر إلى الله عبارة عن قطع

ص: 284


1- سورة الذاريات: الآية 50
2- سورة هود: الآية 2
3- سورة البقرة: الآية 197

المراحل المعقولة بقدم العقل ووجه الثانية؛ أن الزاد لما كان إنما يُعد لیقوي به الطبيعة على الحركة الحسية، وكانت الأمور المقربة إلى الله مما يقوي به النفس، على الوصول إلى جنابه المقدس كان ذلك؛ من أتم المشابهة التي يقرب معها اتحاد المتشابهين، وبحسب قوة المشاهدة يكون حسن الاستعارة؛ ثم نبه على أخوف الأمور التي ينبغي أن يخاف ليتجنب، وهو الجمع بين أتباع الهوى وطول الأمل بقوله: «وإِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اتِّبَاعُ الْهَوَى وطُولُ الأَمَلِ»: وسيذكر عليه السلام هذا في موضع آخر مع ذكر علة التحذير من هذين الأمر، وسنوضح معناه هناك أن شاء الله، ويكفي هنا أن يقال إنما حذر منها عقيب التثنية على الظعن والأمر باتخاذ الزاد یکون الجمع بينهما مستلزماً للأعراض عن الآخرة؛ فيكون مستلزماً لعدم الظعن، وعدم اتخاذ الزاد؛ فخوف منهما ليجتنبا؛ فيحصل مع اجتنابها الأقبال على أتخاذ الزاد والأهبة للظعن ولذلك أردف التخويف منهما بالأمر باتخاذ الزاد فقال: «تزودوا في الدنيا من الدنيا ما تجُوزون»: تجمعون «به انفسَكم غداً»: وفي قوله في الدنيا من الدنيا لطف؛ فإن الزاد الموصل إلى الله تعالى إما علم أو عمل وکلاهما يحصلان من الدنيا في الدنيا أما العمل؛ فلا شك أنه عبارة عن حرکات وسکنات تستلزم هیئات مخصوصة إنما تحصل بواسطة هذا البدن وكل ذلك من الدنيا في لذاتها، وَأما العِلم فلانّ الاستکمال به إنما يحصل بواسطة هذا البدن أيضاً أما بواسطة الحواس الظاهرة أو الباطنة بتفطَّن النفس لمشاركات بين المحسوسات ومباينات بينها وظاهر أنّ ذلك من الدنيا في الدنيا بينها وظاهر أنّ ذلك من الدنيا في الدنيا ما تحرزون أنفسكم به غداً، أنّ كلّ زاد عدّ به الإنسان نفسه للوصول إلى جوار الله؛ فقد تدرع به من عذابه، وحفظ به نفسه يوم لا ينفع مال ولا بنون، وقد اشتمل هذا الفصل، على استدراجات لطيفة الانفعالات عن أوامر الله وزواجره، وإذا تأمّلت أسلوب كلامه عليه السّلام،

ص: 285

وراعيت ما فيه من فخامة الألفاظ، وجزالة المعاني المطابقة للبراهين العقليّة، وحسن الاستعارات والتشبيهات ومواقعها، وصحّة ترتيب أجزائه، ووضع كلّ مع ما يناسبه، وجدته لا يصدر إلَّا عن علم لدنیّ وفيض ربّانيّ، وأمكنك حينئذ الفرق بين كلامه عليه السّلام، و كلام غيره والتمييز بينهما؛ قال السيد رضي الله عنه «لو كَاَن كلام يأخذُ بالأَعْنَاق إلَّى الزّهْد في الدّنيا، وتضطَر إلى عَمل الآخرَة لکَان هذا الكلام، وكفی به قَاطعًا لعلاَئق الآمال وَقادحًا زِناد الاتعاظ والاْزدِجار ومِن أعجْبه قوله عليه السلام إلاَ إن اليوم المضَمار اليوَم، وغداً السَّباق، والسَّبقة الجّنة، والغاية النّار؛ فإن فيه معَ فخامة اللفظ، وعظم قدّر المعنى، وصَادق التّمثيل ووَاقع التشبِيِه سراً عجيباً، ومَعنىً لطيفاً وهو قولُه: السّبقة الجنة وَالغاية النار؛ فخالفَ بين اللّفظين لاختلاف المعنَيْين، ولم يقول السَّبقة النّار، لأن الاستباق إنما يكون إلى أمر محبوب وغرض مطلوب، وهذه صفة الجنة، وليس هذا المعنى موجودا في النار، نعوذ بالله منها فلم يجز أن يقول وَالسبقة النار بل قال، والغاية النار لأن الغَاية قد ينتهي إليها من لا يسره الانتهاء إليها ومَن يسره ذلك؛ فصَلح أن يعبر بهَا عن الأمرَين؛ فهي في هذا المعنی کالمصير والمآل فأنهما یعمان الأمرين قال الله تعالى «قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ»(1) ولا يجوز في هذا الموضع أن يقال سبْقتكم إلى النار، فتأمل في ذلك فباطنه عجيب وغوره بعيد وكذلك أكثر كلامه صلوات الله عليه».

ومن خطبة له صلوات الله عليه:

«أَيُّهَا النَّاسُ الْمُجْتَمِعَةُ أَبْدَانُهُمْ الْمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ»: أراهم إلى آخره رُوي أن

ص: 286


1- سورة ابراهيم: الآية 30

السبب في هذه الخطبة هوغارة الضحاك بن قيس بعد قضية الحكمين، وعزمه على المسير إلى الشام، وذلك أن معاوية لما سمع باختلاف الناس عليه عليه السلام، وتفرقهم عنه، وقتله من قبل الخوارج بعث الضحاك بن قيس في نحوي من أربعة آلاف فارس، وأوعز إليه بالنهب والغارة فأقبل الضحاك بقتل ونهب حتى مر بالثعلبية؛ فأغار على الحجاج وأخذ أمتعتهم وقتل عمرو بن عمیس بن مسعود بن أخي عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله وقتل معه ناساً من أصحابه؛ فلما بلغه عليه السلام استصرخ على أطراف أعماله.

ورأى منهم تعاجزاً وفشلاً؛ فخطبهم هذه الخطبة واستشارهم إلى لقاء العدوّ فتلكَّؤوا.

ورأى منهم تعاجزاً وفشلاً؛ فخطبهم هذه الخطبة والمقصود له عليه السلام تنبيههم على ما تستقبح في الدين، ومراعاة حُسن السيرة من أحوالهم وأقوالهم وأفعالهم أما أحوالهم، فاجتماع أبدانهم مع تفرق أرهم الموجب لتخاذهم عن الذب عن الدين، والمفرق لشمل مصالحهم، وأما أقوالهم فقال عليه السلام فيها «كلامكم يوهي الصَّم الصِلاب»: يضعفُ الصّم الحجارة الشديدة استعار ليقضي الصّم، والصلاب من أوصاف الحجارة للقلوب من سماع كلامهم كما شبه القرآن الكريم بها فهي كالحجارة؛ أو أشد أن كلامهم هو الذي يضعف عند سماعة القلوب الصلبة الثابتة، ويضن سامعه أن تحت نجدة، وثباتاً وهو قولهم مثلاً في مجالسهم أنه لا محل لخصومنا، وإنا سنفعل بهم كذا، وسيكون منا كذا، وأمثاله، وأما فعالهم فهو تعقب هذه الأقوال عند حضور القتال، ودعوتهم إلى الحرب بالتخاذل، وعدم التناصر، والتقاعدعن اجابة الداعي، وكراهية الحرب والفرار عن مقاتلة العدو، والإشارة إليه بقوله «وفِعْلُكُمْ يُطْمِعُ فِيكُمُ الأَعْدَاءَ

ص: 287

تَقُولُونَ فِي الْمَجَالِسِ كَيْتَ وكَيْتَ فَإِذَا جَاءَ الْقِتَالُ قُلْتُمْ حِيدِي حَيَادِ»: میلي یا داهية وهي: كلمة يستعملها العرب عند الفرار؛ ثم أردف ذلك بما العادة تأنف منه من تطلب الانتصار على وجه الضجر منهم عن كرة تقاعدهم عن صوته، وذلك قوله: «مَا عَزّتَ»: لم يصر عزیزاً «دَعْوَةُ مَنْ دَعَاكُمْ ولَا اسْتَرَاحَ قَلْبُ مَنْ قَاسَاكُمْ»: الأولي مستلزمة للحكم بذلة داعهم والثانية للحكم بتعبه «أعاليل بأضاليل»: جمع اضلال أو اعلال وما جمع العلة وحذف المبتدأ أي وإذا دعوتكم إلى القتال تعللتم وهي: اعاليل باطلة ظلالاً عن سبيل الله وسألتموني التأخير وتطويل المدة دفاعاً «دفاع ذي الدَيَن المطول»: كثير المطال وهو تطويل الوعد يحتمل أن تشبيهاً لدفاعهم، ووجه الاستعارة أن الدين المطول أبداً منتهى لعدم المطالبة وتودّ نفسه أن لا يراه غريمه؛ فكذلك فهم عليه السّلام منهم؛ أنّهم كانوا يحبّون أن لا يعرض لهم بذكر القتال، ولا يطالبهم به؛ فاستعار لدفاعهم الدفاع المذكور؛ لمكان المشابهة؛ ثمّ نبّههم على قبح الذلّ ليفيؤوا إلى فضيلة الشجاعة؛ بذكر بعض لوازمه المنفرة وهو: أنّ صاحبه لا يتمکَّن من رفع الضيم عن نفسه، وعلى قبيح التواني والتخاذل بأنّه لا يدرك الإنسان حقّه إلَّا بضدّ ذلك وهو: الجدّ والتشمير في طلبه، وذلك قوله: «لا يمنع الضَيّم الدلْيل ولاَ يُدْرك الحقّ إلا بالجدّ»: ثمّ أعقب ذلك بالسؤال على جهة الإنكار والتقريع عن تعين الدار الَّتي ينبغي لهم حمايتها بعد دار الإسلام؛ و التي لا يشبهها عراها في العز والكرامة عند الله، ووجوب الدفع عنها والَّتي هي موطنهم، ومحلّ دولتهم هو: «أي دارٍ»: وقوله: «بَعد دارّ كم تمنَعونَ»: وكذلك قوله «ومع أي أمام بعدي يقاتلون»: وفيه تنبيه لهم على أفضليّته، وما وثق به من إخلاص نفسه لله في جميع حركاته، وتنبيه لهم لهم على طاعته إذ كان عليه السّلام يتوهّم في بعضهم الميل إلى معاوية، والرغبة فيما عنده من الدنيا، ثمّ أردف ذلك بذمّ من اغترّ بكلامهم ونسبه إلى الغرور والغفلة، ثمّ بالإخبار عن سوء حال من كانوا

ص: 288

حزبه ومن يقاتل بهم أمّا الأوّل فهو قوله: «المغرور والله من غرّرتموه». والمقصود بالحقيقة ذمّهم، وتوبيخهم على خلف المواعيد، والمماطلة بالنفار إلى الحرب لأنّه إنّما ينسب من وثق بهم إلى الغرور بعد خلفهم في، وعدهم له بالنهوض معه، وجعل المغرور مبتدأ ومن خبره أبلغ في إثبات الغرّة لمن اغترّ بهم من العكس لاقتضاء الكلام إذن انحصار المغرور في من اغترّ بهم، ولا كذلك لو كان من مبتدأ، وأمّا الثاني، فقوله: «ومن فاز بکم فقد فاز بالسهم الأخيب»: اشد خيبة يعني الحرمان «ومن رمی بکم»: بمعونتكم «فقد رمى بأفوق ناصل»: السهم الكسور الفوق الدجى لا نص فيه، وقد شبه نفسه، وخصومه کاللاعبين بالميسر ولا حظ شبه حصولهم في حقه؛ بخروج أحد السهام الخائبة الَّتي لا غنم لها؛ أو الأوغاد الَّتي فيهاغرم كالَّتي لم يخرج حتّى استوفي أجزاء الجزور؛ فحصل لصاحبها غرم وخيبة؛ فلأجل ملاحظة هذا الشبه استعارهم لفظ السهم بصفة الأخيب، وإطلاق الفوز هنا مجاز؛ في حصولهم له من باب إطلاق اسم أحد الضدّين على الآخر کتسمية السيّئة جزاء؛ كذلك لاحظ المشابهة بين رجال الحرب، وبين السهام في كون كلّ منهما عدّة للحرب، ودفع العدوّ ولاحظها أيضاً بين إرسالهم في الحرب، وبين الرمي بالسهام؛ فلأجل ذلك استعار أوصاف السهم من الأفوق والناصل، واستعار لفظ الرمي لمقاتلته بهم؛ ثم خصّصهم بأرداء أوصاف السهم الَّتي يبطل معها فائدته لمشابهتهم ذلك السهم في عدم الانتفاع بهم في الحرب، وكأنّه أيضاً خصّص بعثه لهم إلى الحرب باستعارة الرمي بالسهم الموصوف لزيادة الشبه، وهي عدم انبعاثهم عن أمره و تجاوزهم أوطانهم كالرمي بالسهم لا فوق له؛ فإنه لا يكاد يتجاوز عن القوس مسافة، وهو من لطائف ملاحظات المشابهة والاستعارة عنها، والمعنى أنّ من حصلتم في حربه؛ فالخيبة حاصلة له؛ فيما يطلب بكم، ومن قاتل بکم عدوّه؛ فلا نفع له فيكم؛ ثم أردفه بالإخبار عن نفسه بأمور

ص: 289

نشأت عن إساءة ظنه بهم، وعدم وثوقه بأقوالهم بكثرة خلفهم، ومواعيدهم الباطلة بالنهوض معه وذلك قوله: «أصبحت والله ما لا اصدق قولكم»: لأنه من أكثر بشيء عرف به، ومن أمثالهم أن الكذوب لا يصدق، «ولا أطمع في نصركم ولا أوعد العدو بکم»: إذ كان وعيده بهم مع طول تخلفهم وشعور العدو بذلك مما يوجب جرأته وتسلطه ثم اردف بالاستفهام على سبيل الأنكار، والتفريع عن حالهم التي توجب لهم التخاذل، والتصامم عن ندائه وهو قوله: «ما بالكم» ثمّ عن دوائهم الصالح للمرض الَّذي هم فيه.

ثمّ عن كيفيّة علاجهم منه بقوله: «مَا دوائکم ما طبّكم» وقيل أراد بقوله ما طبّکم أي ما عادتکم، والأوّل أظهر وأليق؛ ثمّ نبّههم على ما عساهم يتوهّمونه من قوّة خصومهم، وبأسهم بأنّهم رجال أمثالكم في الرجوليّة الَّتي هي مظنة الشجاعة والبأس؛ فلا مزيد لهم علیکم؛ فلا معنى للخوف منكم، وذلك قوله: «القومُ» قوم معاوية «رجال أمثالکم»: ثم عاد إلى السؤال على جهة التقريع، ونبّههم به على أمور لا ينبغي، منفور عنها، مستقبحة في الشريعة، والعادة فأوّلاً: عن قولهم ما لا يفعلون وهو: إشارة إلى ما يعدون به من النهوض إلى الحرب ثمّ لا يفعلون وذلك بقوله: «أقولاً بغير عمل»: تذكيراً لهم بما يستلزم ذلك من المقت عند الله كما أُشير إليه في القرآن الكريم «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ»(1) وروي أقولًا بغير علم أي أ تقولون بألسنتكم ما ليس في قلوبكم، ولا تعتقدونه و تجزمون به من أنّا سنفعل كذا، ويحتمل أن يكون معناه أتقولون إنّا مخلصون لله، وإنّا مسلمون ولا تعلمون شرائط الإسلام والإيمان، وفي نسخة غير ورع وهي عدم تعلقهم للمصالح التي

ص: 290


1- سورة الصف: الآيات 2 - 3

ينبغي أن يكونوا عليها وهي طرف التفريط من فضيلة الفطانة «وغفلة من غير ورع»: بخلاف الغفلة مع الورع؛ فأنها نافعة في المعاد إذ كان الورع عبارة عن لزوم الأعمال الجميلة المستعدة في الآخرة، والعقلية معه عن الأمور الدنيوية، والمصالح المتعلقة بجزئياتها ليست بضارة بل ربما كانت سبباً للخلاص من عذاب ما في الآخرة وثالثا عن طمعهم في غير حق أي: أن نمنحهم ما لا يستحقونه لينهضوا معه ويجيبوا دعوته «وطمعاً في غير حق»: وكأنّه عليه السّلام عقل من بعضهم أنّ أحد أسباب تخلُّفهم من ندائه إنّما هو طمعهم في أن يوفر عطیّاتهم، ويمنحهم زيادة على ما يستحقّون کما فعل غيره مع غيرهم؛ فأشار إلى ذلك، ونبّههم على قبحه من حيث إنّه طمع في غير حقّ، والله سبحانه أعلم.

ص: 291

ص: 292

المحتويات

مقدمة التحقيق:...7

- منهجنا في التحقيق:...11

- اعتماد نُسخة الأصل في التحقيق:...13

ترجمة المؤلف:...15

أولاً: نسب المؤلف:...17

أولاده وأحفاده:...17

ثانياً: من ذكره من المتقدمين:...18

ثالثاً: من ذكره من المتأخرين (المعاصرين):...18

رابعاً: نتاجه العلمي....21

بعض خصائص ومزايا المخطوط:...23

الجانب الوقفي:...24

الجانب التملكي:...25

مقدمة الشارح أفصح الدين محمد بن حبيب الله الحسني الحسيني...33

ص: 293

ومن خطبة له صلوات الله عليه بعد انصرافه من صفين:...140

ومِن خُطبتُه عليه السلام؛ هذهِ الخُطبَة المَعرُوفةَ بالشِقْشقْيةِ وتعرف بالقُصّة....152

و من كلام له عليه السلام، يعني به الزبير في حال اقتضت ذلك:...186

ومن كلام له عليه السلام: في معرض الذم...186

وَمنْ خِطْبّةٍ لهُ عَليْهِ السَلّامْ...188

وَمن كلام له عَليْه السّلاَم لأبنه مَحّمد بن الحنفّية لَما أعطَاه الرّاَية يوم الجَمل...189

وِمن كَلامه عليْه السلام لَمّا أَظفرهُ الله سبحَانَه بأَصحَابْ الجَمل...191

ومن كَلام له عَليَه السّلام أرضكم قريَبة من الماء بعيدة من السماء...194

ومن كلام له عليه السلام فيما رده على المسلمين:...197

ومن خطبة له عليه السلام لما بُويع بالمدينة...198

ومن كلامٍ له عليه السلام في صفة من يتصدّى للحِكم بين الأمّة...212

ومن كلام له عليه السّلام في ذم اختلاف العلماء في الفتيا:...220

ومن كلام له صلوات الله عليه قاله للأشعث بن قيس وهو على منبر الكوفة يخطب...222

ومن خطبة له عليه السّلام:...226

وَمنْ خِطْبَّةٍ لهُ صَلْوات الله عَلْيَّهِ...233

ومن خطبة له عليه السلام:...238

ومن خطبة له صلوات الله عليه:...248

ومن خطبة له عليه السّلام...252

ص: 294

ومن خطبة له عليه السّلام:...258

ومن خطبة له عليه السّلام...265

ومن خطبة له صلوات الله عليه:...276

ومن خطبة له صلوات الله عليه:...284

ص: 295

ص: 296

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.