بطاقة تعريف:الداوري، مسلم، 1318 -
عنوان العقد:وسائل الشیعة. شرح
عنوان المؤلف واسمه:ايضاح الدلائل في شرح الوسائل/ تقریرا لبحث سماحه مسلم الداوري (دام ظله)؛ بقلم السیدعباس الحسیني، محمدحسین البنای؛ تحقیق مؤسسة الإمام الرضا (علیه السلام) للبحث والتحقیق.
تفاصيل النشر:قم: دار زین العابدین، 1396 -
مواصفات المظهر: ج.
شابک:دوره 978-600-98461-4-6 : ؛ 500000 ریال: ج 1 978-600-98461-5-3 : ؛ 500000 ریال: ج 2 978-600-98461-6-0 : ؛ 400000 ریال: ج 3 978-600-98518-8-1 : ؛ 400000 ریال: ج 4 978-600-98518-9-8 : ؛ ج.5 978-622-7925-72-2 :
حالة الاستماع:فاپا
ملحوظة:أما المجلدان الرابع والخامس من هذا الكتاب فقد كتبهما محمد عيسى البناي.
ملحوظة:ج. 2 - 4 (چاپ اول: 1396).
ملحوظة:ج.5 (چاپ اول: 1401) (فیپا) .
ملحوظة:هذا الكتاب هو وصف الكتاب "وسائل الشیعه الی تحصیل مسائل الشریعة" اثر حرعاملی است.
ملحوظة:کتابنامه.
موضوع:حرعاملی، محمدبن حسن، 1033-1104ق . وسائل الشیعة -- نقد و تفسیر.
موضوع:احادیث شیعه -- قرن 11ق.
Hadith (Shiites) -- Texts -- 17th century
فقه جعفری -- قرن 11ق.
*Islamic law, Ja'fari -- 17th century
احادیث احکام
*Hadiths, Legal
معرف المضافة:حسینی، سیدعباس، 1329 -
معرف المضافة:بنای، محمدعیسی
معرف المضافة:حرعاملی، محمدبن حسن، 1033-1104ق . وسائل الشیعة. شرح
معرف المضافة:موسسه تحقیقاتی امام رضا (علیه السلام)
تصنيف الكونجرس:BP135/ح4و50214 1396
تصنيف ديوي:297/212
رقم الببليوغرافيا الوطنية:4980037
محرر رقمي:محمد منصوری
اطلاعات رکورد کتابشناسی:فاپا
العنوان: ايضاح الدلائل في شرح الوسائل الجزء الثاني
تحقيق: مؤسسة الإمام الرضا (علیه السلام) للبحث والتحقيق
الإخراج الفني: كمال زين العابدين
عدد الصفحات: 592 صفحة
ص: 1
ص: 2
الصورة
ص: 3
ایضاح الدلایل فی شرح الوسایل
ص: 4
الصورة
ص: 5
ص: 6
-----------------------------------------------------------------------------
9 - باب ما يجوز قصده من غايات النيّة وما
يستحبّ اختياره منها
شرح الباب:
قلنا في الباب السابق: إنّ الضمائم قسمان:
أحدهما: الضمائم الجائزة بالمعنى الأعم.
وثانيهما: الضمائم المحرّمة والمرجوحة.
وبيان ذلك: أنّ العبادة لمّا كانت من الأمور الاختياريّة، فلابد من أن تقصد لغاية وغرض ما، والغاية التي يقصدها الفاعل - مضافاً إلى أنّها لا بد أن تكون لوجه اللَّه تعالى وطاعته ومضافة إليه، وإلّا لم تتحقق العبادة - إمّا راجعة إلى المعبود، وبداعيه فحسب، فلا يلاحظ العابد سواه جلّ جلاله، أو راجعة إلى العابد، فيلاحظ فيها نفعه ونفسه.
والأول - وهو ما يرجع إلى المعبود - على أربعة أقسام:
فتارة: تكون من باب أنّه تعالى محبوب للعبد، فيأتي بالعبادة حبّاً له تعالى؛ وذلك لأنّ كلّ شي ء محبوب في العالم يرجع إلى جماله وحسنه ولطافته، وكل حَسَنٍ وجميل فهو راجع إلى مبدئه وموجده؛ لأنّه الذي
ص: 7
أفاض عليه، فهو فوقه. وعليه فكل حبّ لشي ء في الواقع يرجع إلى حبّ اللَّه سبحانه وتعالى.
وأخرى: تكون من باب أنّه تعالى أهل للعبادة والثناء، وهي عبادة الصديقين.
وثالثة: تكون من باب الشكر له على جميع نعمه وآلائه السابغة على الإنسان، والعقل يحكم بلزوم شكر اللَّه تعالى على نعمائه التي لا تعدّ ولا تحصى.
ورابعة: تكون من باب الحياء؛ لأنّه تعالى مطّلع على حاله في جميع الأحوال.
وقد تقدّم التعرّض لهذه الأقسام في الباب السابق.
والثاني - وهو ما يرجع إلى العابد - على ثلاثة أقسام:
فإنّه تارة: يأتي بالعبادة تقرّباً إلى اللَّه تعالى، وأخرى: يأتي بها للحصول على الثواب والنعيم الدائم الأبدي، وثالثة: يأتي بها خوفاً من العقاب والعذاب.
تقدّم أنّ مجموع الغايات سبع، ولا إشكال في صحّة وإجزاء العبادة إذا كانت مشتملة على الخمس الأوَل منها. وأمّا القسمان الأخيران: فقد نسب
ص: 8
إلى جماعة من العامة((1))
وبعض الخاصة((2))
الإشكال فيهما، وأنّه لا تجزي العبادة المشتملة عليهما، وقالوا ببطلان العبادة بقصدهما، كما نسب إلى ابن طاووس((3)) (قدس سره) ، ومن العامة الفخر الرازي في موارد متعدّدة من تفسيره((4)).
ولكن أكثر الفقهاء قالوا بالإجزاء، كما يظهر من العروة الوثقى وحواشيها((5))
إذا لم يكن بعنوان المعاوضة، وإن كان غيرهما من الأقسام أفضل، وهذا هو المراد باستحباب اختيارها، وقد تقدّم وجه ذلك ويأتي.
وهذا الباب معقود لبيان القسم الأول، والمراد بالجواز في هذا العنوان هو: الجواز بالمعنى الأعم الشامل للواجب. والمراد بالاستحباب هو: الوجوب التخييري مع رجحان أحد الأفراد، فيستحب اختيار الراجح، ويكون واجباً تخييريّاً، وترجيح هذا الواجب الراجح في نفسه مستحبّ، على ما صرّح به المصنّف في الشرح.
ص: 9
[134] 1 - محمّد بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ عليّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ جَمِيلٍ، عَنْ هَارُونَ بْنِ خَارِجَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) ، قَالَ: «الْعِبَادَةُ ثَلاثَةٌ: قَوْمٌ عَبَدُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَوْفاً، فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْعَبِيدِ، وَقَوْمٌ عَبَدُوا اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى طَلَبَ الثَّوَابِ، فَتِلْكَ عِبَادَةُ الأُجَرَاءِ، وَقَوْمٌ عَبَدُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حُبّاً لَهُ، فَتِلْكَ عِبَادَةُ الأَحْرَارِ، وَهِيَ أَفْضَلُ الْعِبَادَة»(1).
-----------------------------------------------------------------------------
[1] - فقه الحديث:
ورد في بعض النسخ «العبّاد ثلاثة»، وحينئذٍ فلا يحتاج إلى تقدير، وفي بعضها: «العبادة»، فيحتاج إلى تقدير: إما في العبادة، أي: ذوو العبادة، أو في الأقوام، أي: عبادة قوم.
وكيف كان، فقد دلّ الحديث على أنّ غايات العبادة تختلف بحسب اختلاف العُبّاد؛ لاختلاف درجات معرفتهم بالله عزوجل، فقد تكون الغاية من العبادة هي اللَّه تعالى، بداعي الخشية من غضبه، والخوف من ناره التي أعدّها لمخالفي أوامره، وهي المشار إليها بقوله تعالى: {وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمةَ اللَّه قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ}((2))، وبقوله تعالى:
ص: 10
{وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}((1))، وهذا النحو من العبادة هو المسمى في الحديث: بعبادة العبيد؛ وذلك لأنّ العابد فيها يشبه العبد المطيع لأوامر مولاه ونواهيه، خوفاً منه، وتحرّزاً من عقوبته، فلعلّه لولا النار لما عَبَد، كما أنّ العبد لو أمن من عقوبة مالكه لما امتثل.
وقد تكون الغاية من العبادة هي: طلب الثواب الأخروي، فهم يعبدون اللَّه تعالى لنيل الثواب، كما أنّ الأجير يعمل العمل للحصول على الأجر، بحيث لو لم يكن الأجر لما قام بالعمل.
وقد تكون الغاية القصوى من العبادة والامتثال هي اللَّه فحسب، من دون أن يشوبها غرض آخر من الأغراض الدنيويّة أو الأخرويّة، فهم لحبهم له سبحانه وتعالى واستغراق قلوبهم في ذكره واعتقادهم بأنّه تعالى أهل للعبادة عبدوه، فتلك عبادة الأحرار الذين لا ينظرون إلّا إليه، وقلوبهم غافلة عن غيره تعالى تماماً، فضلاً عن طلب الجنة وخوف النار.
وهذا اللون من الامتثال منحصر في الأنبياء المرسلين والأئمة الطاهرين (علیهم السلام) ، الذين يصدق في حقهم أنّهم إذا علموا من أنفسهم أنّهم لو أيقنوا أنّ اللَّه تعالى يدخلهم بطاعتهم وعبادتهم النار وبمعصيتهم الجنّة فإنهم يختارون الطاعة ويتركون المعصية.
وهذه المرتبة هي أفضل العبادة؛ لأنّها خالصة من أيّ جهة تعود بالنفعإلى العبد، بخلاف المرتبتين السابقتين؛ فإنّ فيها ما يعود على العبد، إمّا
ص: 11
بدفع الضرر والعقاب عنه، أو بجلب النفع والثواب له.
وقد روى العلّامة المجلسي (قدس سره) عن سيّد العابدين (علیه السلام) ما يقرب من هذا المضمون، حسبما نقل عن «التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (علیه السلام) »، أنّه قال: «قال عليّ بن الحسين (علیه السلام) : إنّي أكره أن أعبد اللَّه ولا غرض لي إلّا ثوابه، فأكون كالعبد الطَمِع المُطمِع، إن طمع عمل، وإلّا لم يعمل، وأكره أن [لا] أعبده إلّا لخوف عقابه، فأكون كالعبد السوء، إن لم يخف لم يعمل»، قيل: فلم تعبده ؟ قال: «لما هو أهله، بأياديه عليّ وإنعامه»((1)) .
وهذا لا يعني أنّ أولياء اللَّه قد لا يقومون ببعض الأعمال طلباً للجنة وصرف النار؛ لأنّ الحبيب الأعلى عزّوجلّ يحب ذلك، فهذا أمير المؤمنين سيّد الأولياء (علیه السلام) قد كتب كتاباً لبعض ما وقفه من أمواله، فصدّر كتابه بعد التسمية بهذا: «هذا ما أوصى به وقضى به في ماله عبد اللَّه علي؛ ابتغاء وجه اللَّه؛ ليولجني به الجنة، ويصرفني به عن النار، ويصرف النار عنّي يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه»((2)).
وفي هذا الحديث دلالة على بطلان ما ذهب إليه بعض الأصحاب منبطلان العبادة بغاية نيل الثواب، أو الخلاص من العقاب، أو كليهما؛ وذلك:
أولاً: لأنّ الحديث صرّح: بأنّ العبادة ثلاثة أنواع، وأنّ الثالثة أفضل، وفي
ص: 12
صيغة التفضيل دلالة على أنّ العبادة على النحوين السابقين عبادة صحيحة أيضاً، ولها فضل في الجملة.
وثانياً: أنّ تعبير الإمام (علیه السلام) بقوله: «عبادة العبيد» و «عبادة الأجراء» دالّ على الصحة؛ إذ لولاها لما كانت عبادة.
والواقع: أنّ العابد للَّه خوفاً من ناره أو طمعاً في جنته هو عابد للَّه عزّوجلّ على كلّ حال، ولا يعبد في ذلك نفسه، وإن كانت عبادة الشاكرين والمحبين للَّه تبارك وتعالى هي أعلى درجات العبادة؛ باعتبار أنّ العبد فيها يكون فانياً في اللَّه تبارك وتعالى، ولا يلتفت إلى أيّ شي ء في الوجود غيره سبحانه وتعالى، وهي لا تتأتى من كلّ أحد، كما أشرنا، بل هي مخصوصة بأهل العصمة وأوليائه تعالى فكيف تكون مطلوبة من الجميع، وما سواها باطل؟! إنْ هذا إلّا تكليف بما لا يطاق، تعالى اللَّه عنه.
سند الحديث:
في سند الحديث ممّن لم يتقدم، أي: هارون بن خارجة، وقد قال عنه النجاشي: «هارون بن خارجة، كوفي، ثقة»((1)) .وورد في «النوادر»((2)) و«التفسير»، وروى عنه المشايخ الثقات((3)) . وعليه فلا إشكال في وثاقته.
ص: 13
[135] 2 - محمّد بْنُ عليّ بْنِ الْحُسَيْنِ فِي «الْعِلَلِ» وَ«الْمَجَالِسِ» وَ«الْخِصَالِ»، عَنْ محمّد بْنِ أَحْمَدَ السِّنَانِيِّ، عَنْ محمّد بْنِ هَارُونَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى الْحَبَّالِ الطَّبَرِيِّ، عَنْ محمّد بْنِ الْحُسَيْنِ الْخَشَّابِ، عَنْ محمّد بْنِ مِحْصَنٍ(1)، عَنْ يُونُسَ بْنِ ظَبْيَانَ قَالَ: قَالَ الصَّادِقُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ (علیه السلام) : «إِنَّ النَّاسَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى ثَلاثَةِ أَوْجُهٍ: فَطَبَقَةٌ يَعْبُدُونَهُ رَغْبَةً فِي ثَوَابِهِ فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْحُرَصَاءِ، وَهُوَ الطَّمَعُ. وَآخَرُونَ يَعْبُدُونَهُ، خَوْفاً(2) مِنَ النَّارِ، فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْعَبِيدِ، وَهِيَ رَهْبَةٌ. وَلَكِنِّي أَعْبُدُهُ حُبّاً لَهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْكِرَامِ، وَهُوَ الأَمْنُ؛
-----------------------------------------------------------------------------
والسند معتبر بلا إشكال.
[2] - فقه الحديث:
دلّ الحديث على جواز الضمائم بالمعنى الأعم كما في الحديث السابق.وأنحاء العبادة في الحديث ثلاثة:
أوّلها: عبادة الحرصاء، والحرص هو الطمع، فهم يعبدون اللَّه تعالى رغبة في ثوابه، فلو علموا أنّه تعالى يمنعهم لما عبدوه، وهي المعبّر عنها: بعبادة الأجراء في الحديث السابق.
ص: 14
لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ}(1)1*)؛ وَلِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}(2)2*). فَمَنْ أَحَبَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَحَبَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَحَبَّهُ اللَّهُ تَعَالَى كَانَ مِنَ الآمِنِينَ»(3)3*).
-----------------------------------------------------------------------------
وثانيها: عبادة العبيد، فهم يعبدون اللَّه تعالى خوفاً من ناره وعقابه، فلو لم يتوعّدهم بالنار والعذاب لما عبدوه، وهي المعبّر عنها بعبادة العبيد أيضاً في الحديث السابق.
وثالثها: عبادة الكرام، وهم من عبدوه تعالى؛ لأنّه أهل للعبادة، وهو المحبوب الأعلى، فلو علموا أنّه تعالى يدخلهم النار بطاعتهم أو الجنةبمعصيتهم لاختاروا الطاعة، وتركوا المعصية، فحبّهم له سبحانه هو الذي يدفعهم لعبادته، ومن أحبّ اللَّه أحبّه اللَّه، ومن أحبّه اللَّه كان من الآمنين يوم الفزع الأكبر.
سند الحديث:
فيه: محمّد بن أحمد السناني، ولم يرد في حقّه شي ء، سوى أنّه من مشايخ الصدوق، لكنّ الشيخ الصدوق ترضّى عنه كثيراً. وعليه فلا إشكال
ص: 15
[136] 3 - محمّد بْنُ الْحُسَيْنِ الرَّضِيُّ الْمُوسَوِيُّ فِي «نَهْجِ الْبَلاغَةِ»، عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (علیه السلام) أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّهَ رَغْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ التُّجَّارِ، وَإِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّهَ رَهْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْعَبِيدِ، وَإِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّهَ شُكْراً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الأَحْرَارِ»(1).
-----------------------------------------------------------------------------
في وثاقته.
وأمّا عبيد اللَّه بن موسى الحبّال أو عبد اللَّه كما في «العلل»((2)) ، ومحمد بن الحسين الخشّاب، ومحمد بن محض، فهم مهملون.[3] - فقه الحديث:
الحديث متّحد الدلالة مع سابقيه، إلّا أنّه عبّر عن عبادة الأجراء أو الحرصاء بعبادة التّجار.
وقد ذكر في عبادة الأحرار هنا الشكر مكان الحب، ومرجعهما واحد؛ فإنّ الشكر هو: وضع الشي ء المنعم به في محلّه، وشكر العبادة: أن تكون للَّه الذي يستحقّها لذاته، فالعابد يعبد اللَّه، لأنّه اللَّه، «أي: لأنّه تعالى مستجمع لجميع صفات الجمال والجلال بذاته، فهو الجميل بذاته، المحبوب لذاته، فليس الحب إلّا الميل إلى الجمال والانجذاب نحوه، فقولنا فيه تعالى: هو معبود؛ لأنّه هو، وهو معبود؛ لأنه جميل محبوب، وهو معبود؛ لأنّه منعم
ص: 16
أَقُولُ: وَتَأْتِي أَحَادِيثُ «مَنْ بَلَغَهُ ثَوَابٌ عَلَى عَمَلٍ، فَعَمِلَهُ؛ طَلَباً لِذَلِكَ الثَّوَابِ»، وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى بَعْضِ مَضْمُونِ هَذَا الْبَابِ(1)1*). وَمِثْلُهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ جِدّاً، تقدّم بَعْضُهَا(2)2*)، وَيَأْتِي بَاقِيهَا فِي تَضَاعِيفِالأَبْوَابِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
-----------------------------------------------------------------------------
مشكور بالعبادة، [ف-] يرجع جميعها إلى معنى واحد»((3)).
وهذه الأحاديث لم تكن في مقام تقسيم كلّ عبادة في الدنيا، وإلّا فهي لم تتعرّض لعبادة الأصنام والشهوات والطغاة، وغيرها من العبادات الباطلة، بل هي في مقام تقسيم كلّ عبادة حقّة وشرعيّة وصحيحة. ثمّ إنّ أحاديث «من بلغه ثواب على عمل فعمله طلباً لذلك الثواب»، وما دلّ على مشروعية صلوات الحاجات والأدعية الواردة لطلب الحوائج، تدل على جواز قصد تلك الغايات كما لا يخفى.
ص: 17
سند الحديث:
الحديث محكوم بالإرسال.
والحاصل: أنّ في هذا الباب ثلاثة أحاديث، الأول منها معتبر، والآخران ضعيفان.
والمستفاد من الباب أمور:
منها: أنّ العبّاد على ثلاثة أقسام: عبيد وأحرار وتجار.
ومنها: أنّ أفضل تلك الأنواع هي: عبادة الأحرار، وهي مختصّة بأهلالعصمة (علیهم السلام) .
ومنها: أنّ ضميمة طلب الثواب أو الخوف من العقاب لا ينافي الإخلاص ولا قصد القربة، والعبادة معه صحيحة.
ومنها: أنّ من أحبّ اللَّه عزّوجلّ أحبّه اللَّه تعالى، ومن أحبّه اللَّه كان من الآمنين يوم القيامة.
ومنها: أنّ من أحبّ اللَّه واتّبع الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم) أحبّه اللَّه وغفر له ذنوبه.
ص: 18
-----------------------------------------------------------------------------
10 - باب عدم جواز الوسوسة في النيّة والعبادة
شرح الباب:
الوسواس - بالكسر - والوسوسة مصدران، والوسوسة: حديث النفس، يقال: وسوست إليه نفسه وسوسة ووسواساً، والوسواس - بفتح الواو - : الشيطان، وهو الخنّاس أيضاً؛ لأنّه يوسوس في صدور الناس ويخنس((1)).
والوسوسة في العمل: هي الإتيان به مكرّراً؛ نتيجة لكثرة الشك في تحقّقه. فالوسواس مرتبة عالية من كثرة الشك، والوسوسة غالباً ما تكون في الأعمال العباديّة، كالطهارة والنجاسة، والصلاة والوضوء والغسل. وقلّما تكون في العبادات الماليّة، كالخمس والزكاة، والمعاملات.
وسبب الوسوسة هو: الانسياق وراء إيحاءات الشيطان؛ نتيجةً لضعف العقل؛ فإنّ الوسواسي يعلم أنّ هذه الإيحاءات من الشيطان، وأنّ المطلوب منه شرعاً في جميع أعماله دون ما يأتي به بمراتب كثيرة، وأنّه مطالب بمخالفة الشيطان الذي قصده بالوسوسة؛ ليشغل سرّه بحديث النفس، فيكرّر عليه أفعاله ويؤذيه.
ص: 19
ومع ذلك فإنّه يغضّ طرفه عن جميع ذلك، ويتّبع ما يمليه عليه العدوّ المبين، وهو يحسب أنّه يحسن صنعاً، وأنّ غيره على الباطل، فهو متردّد دائماً، وفي صراع دائم مع نفسه، وحينما يرجع إليها يرى أنّه مبتلى، وعندما يريد العمل تتطرّق إليه الوساوس، فيتناسى ابتلاءه، ويجري على ما يمليه عليه الشيطان من الإعادة والتكرار.
وقد يبلغ به الحال إلى مرتبة أعظم من الوسواس، بحيث لا يلتفت إلى أنّه وسواسي، ويرى صحّة عمله، وبطلان عمل غيره.
ولهذا الداء العظيم آثار سوء - وكلّها من المصائب العظيمة - كهجوم الهموم والغموم، والاضطراب والخوف على القلب، وكرفع النشاط عن الإنسان، وهو موجب لحب الإنسان الاعتزال عن الناس، وتسلّط النفرة حتّى عن نفسه عليه، والكسل والبطالة، وتضييع العمر الثمين والأوقات الغالية، وقد ينجرّ صاحبه إلى تضييع بعض الواجبات، بل قد يؤدي به الاسترسال فيه إلى اليأس عن روح اللَّه، والعياذ باللَّه.
ولذا قال بعض الأعلام: «وساوس الشيطان غير متناهية، فمهما عارضه فيما يوسوس بحجةٍ أتاه من باب آخر بوسوسة، وأدنى ما يفيده من الاسترسال في ذلك إضاعة الوقت. ولا تدبير في إبطال ما يأتي به من الفساد أقوى وأحسن من اللجأ إلى اللَّه تعالى، والاعتصام بحوله وقوّته»((1)).
ص: 20
ذهب المشهور إلى حرمة الوسوسة في الأعمال تكليفاً ووضعاً، والجري العملي على طبقها في حدّ نفسها - بلا ضمّ أي عنوان - محرّم آخر، وذهب بعض((1))
إلى كراهته.
واختار آخرون - ومنهم السيد الأستاذ (قدس سره) - عدم الحرمة ما لم يستلزم عنواناً محرّماً آخر، كالإخلال بالنظام أو الهلاكة، وتضييع الأوقات الغالية، وكونه سبباً لنقض الصلاة - وهو محرّم على المشهور - أو لاستلزامه تأخير الصلاة عن وقتها، أو لتفويت واجب آخر، كالإنفاق على من يجب عليه إنفاقه ... فإنه لا إشكال في حرمة ذلك((2)).
وعلى هذا يكون عمل الوسواسي صحيحاً، ما لم يؤدِّ عمله إلى الوقوع في محرّم.
ص: 21
[137] 1 - محمّد بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ محمّد بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ، قَالَ: ذَكَرْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) رَجُلاً مُبْتَلىً بِالْوُضُوءِ وَالصَّلاةِ، وَقُلْتُ: هُوَ رَجُلٌ عَاقِلٌ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) : «وَأَيُّ عَقْلٍ لَهُ وَهُوَ يُطِيعُ الشَّيْطَانَ»؟ فَقُلْتُ لَهُ: وَكَيْفَ يُطِيعُ الشَّيْطَانَ؟ فَقَالَ: «سَلْهُ: هَذَا الَّذِي يَأْتِيهِ مِنْ أَيِّ شَيْ ءٍ هُوَ؟ فَإِنَّهُ يَقُولُ لَكَ: مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ»(1).
أَقُولُ: وَيَأْتِي مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ(2).
-----------------------------------------------------------------------------
[1] - فقه الحديث:
دلّ الحديث على مبغوضيّة كثرة الشك المعبّر عنها اصطلاحاً بالوسوسة العمليّة، والمعبّر عنها في هذا الحديث بالابتلاء بالوضوء والصلاة، فإنّ الابتلاء بهما معناه: إمّا الابتلاء بالوسوسة في نيّتهما، أو في فعلهما، أو بالخواطر التي تشغل القلب عنهما.
والوسواسي إنّما صار إلى هذا الحال؛ نتيجة انسياقه وراء تسويلات الشيطان، وعدم اتّباعه لما يمليه عليه عقله من عدم متابعته، ولذا نفى الإمام (علیه السلام) أن يكون الوسواسي ذا عقل مع متابعته للشيطان. ولا يخفى ما فيهمن المبالغة في نفي العقل عن مثله؛ فإنّ من يتّبع الشيطان كأنّه لا عقل له،
ص: 22
لا أنّ له عقلاً غير كامل. ويحتمل أن يريد الإمام (علیه السلام) - من نفي العقل عنه - نفيه حال متابعته للشيطان، فيكون حال متابعته لا عقل له، لا في جميع أحواله.
وأما ما يتراءى من شدّة اهتمام الوسواسي بتصحيح نيّته وعبادته بالتكرار الكثير - ومعه كيف يكون صاحبه متّبعاً للشيطان - فليس بشي ء؛ فإنّ هذا الاهتمام لم يكن ناشئاً من إطاعة اللَّه، والسير على هدى العقل؛ والدليل على ذلك: أنّ الوسواسي نفسه يدرك تماماً أنّ هذه الوسوسة وحديث النفس الذي يأمره بالإبطال، واعتبار ما لم يحصل حاصلاً، وما هو حاصل غير حاصل، إنّما هو من عمل الشيطان.
فلذا لمّا استفهم عبد اللَّه بن سنان عن وجه كون الوسواسي يطيع الشيطان مع اشتغاله بالعبادة واهتمامه بها، أحال الإمام (علیه السلام) البيان إلى الوسواسي؛ تنبيهاً على أنّ كون ذلك من الشيطان أمر بيّن، يعرفه كلّ واحد حتّى صاحبه؛ لعلمه بأنّه هو الباعث على هذا العمل دون الشرع أو العقل؛ وذلك لأن كلّ واحد يعلم أنّ الزيادة في الدين إنّما هو من عمل الشيطان الرجيم.
وتصديقه بأنّ هذا العمل من الشيطان لا يوجب أن يكون عاقلاً كاملاً، ومثله مثل شارب الخمر؛ فإنّه يعلم بأنّ الشيطان هو سبب المعصية، ويقرّ بذلك، وهو - مع هذا الإقرار - يرتكب المعصية، وإنّما العاقل مَن ترك عمل الشيطان، ولم يعمل بقوله، بل اتّبع ما يمليه عليه الشرع الأقدس.
ولذا ورد النهي عن الوسوسة القلبيّة والعمليّة، والتحذير من الوقوع فيها،
ص: 23
فقد ورد في الحديث القدسي: «يا أحمد، وعزّتي وجلالي، ما من عبد ضمن لي أربع خصال إلّا أدخلته الجنّة: يطوي لسانه فلا يفتحه إلّا بما يعنيه، ويحفظ قلبه من الوسواس، ويحفظ علمي ونظري إليه، ويكون قرّة عينه الجوع»((1)).
وورد في الدعاء: «وطهّر جسدي من الدنس، وعيني من الخيانة، وصدري من الوسواس والحرج، ولا تخرجني من الدنيا إلّا وأنت عنّي راضٍ، يا أرحم الراحمين»((2)).
والحاصل: أنّ المشهور استدلّوا على حرمة الجري على الوسوسة في الأعمال بوجوه ثلاثة:
الأوّل: ما يظهر من صاحب «الوسائل» (قدس سره) من الاستدلال بهذا الحديث، وبما دلّ من الآيات والروايات على تحريم الابتداع، والعمل بالهوى، والتشريع، والتعدّي على حدود اللَّه، والقول والعمل بغير الكتاب والسنة، وبخلاف ما أنزل اللَّه، كما أشار إليها في شرحه على الحديث((3)).
الثاني: ما يظهر من السيد الحكيم (قدس سره) من الإجماع؛ حيث ذكر فيمسألة كثير الشك: أنّه «لا إشكال في عدم الالتفات إليه إذا كان من
ص: 24
الوسواس؛ لحرمة العمل عليه إجماعاً»((1)).
الثالث: ما ذكره أيضاً (قدس سره) في مستحبّات القراءة بقوله: «للنهي عن العمل على مقتضى الوسواس الموجب للحرمة»((2)).
والظاهر: أنّ نظره إلى صحيحة زرارة وأبي بصير جميعاً، قالا: قلنا له: الرجل يشك كثيراً في صلاته حتّى لا يدري كم صلّى، ولا ما بقي عليه، قال: «يعيد» قلنا: فإنّه يكثر عليه ذلك، كلّما أعادَ شَكَّ ؟ قال: «يمضي في شكه»، ثمّ قال: «لا تعوِّدوا الخبيث من أنفسكم بنقض الصلاة فتطمعوه؛ فإنّ الشيطان خبيث معتاد لما عوِّد. فليمض أحدكم في الوهم ولا يكثرنّ نقض الصلاة؛ فإنّه إذا فعل ذلك مرّات لم يعد إليه الشك». قال زرارة: ثمّ قال: «إنّما يريد الخبيث أن يطاع، فإذا عُصِي لم يعد إلى أحدكم»((3)).
وإلى صحيحة محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر (علیه السلام) ، قال: «إذا كثر عليك السهو فامض على صلاتك؛ فإنّه يوشك أن يدعك؛ إنّما هو من الشيطان»((4)).
والغرض أنّ الإمام (علیه السلام) نهى عن الاعتناء بالشك، والنهي يقتضي الحرمة والبطلان.
ص: 25
ولكن ناقش السيّد الأستاذ (قدس سره) في جميع تلك الوجوه:
أمّا الإجماع: فعلى فرض تحقّقه أنّه ليس بكاشف عن رأي المعصوم.
وأمّا النهي الوارد عن اتّباع الشيطان ونقض الصلاة، فإنه ظاهر في الإرشاد، لا المولويّة، وليس كلّ متابعة للشيطان أو كلّ ما يأتي من قبله حراماً؛ فإن أصل السهو من الشيطان، على ما صرّحت به الأخبار، ولا حرمة فيه قطعاً، كما أنّ المكلّف قد يقدم على مكروه أو مباح؛ نتيجة لتسويلاته، وليست متابعته حينئذ حراماً قطعاً.
وأمّا الحديث المذكور في الباب: فلا يستفاد منه الحرمة، بل غايته الكراهة.
وأمّا الاستدلال بالآيات والروايات على تحريم الابتداع والعمل بالهوى والتشريع والتعدّي عن حدود اللَّه تعالى، فإنّه يصح إذا انجرّ الوسواس إلى أحد هذه الأمور، فهو يوجب الحرمة بعنوان آخر، لا بعنوانه الأوّلي.
ولكن لا يخفى أنّه مع الاعتراف بعدم كون ما يأتي به الوسواسي مأموراً به، بل يكون مبغوضاً، كيف يحكم بصحة العمل؟! فلا يبعد استفادة بطلان العمل من هذا الحديث وأشباهه ممّا يأتي في أبواب الخلل، إن شاء اللَّه تعالى.
سند الحديث:
رجال الحديث قد تقدموا جميعاً، والسند معتبر بلا إشكال.
ص: 26
ثمّ إنّ لهذا الداء العظيم معالجات وردت عن أهل بيت العصمة والطهارة (علیهم السلام) ، نقتصر على ذكر بعضها:
فمنها: أنّه (صلی الله علیه و آله و سلم) كان إذا أتى مريضاً قال: «اَذْهِب الوسواس والبأس ربّ الناس، اشف وأنت الشافي، لا شفاء إلّا شفاؤك»((1)).
ومنها: ما عن الباقر (علیه السلام) ، قال: «جاء رجل إلى النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، فشكا إليه الوسوسة، وحديث النفس، وديناً قد فدحه، والعيلة، فقال له رسول اللَّه(صلی الله علیه و آله و سلم): قل: توكّلت على الحيّ الذي لا يموت، والحمد للَّه الذي لم يتّخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له وليّ من الذلّ، وكبّره تكبيراً، وكرّرها مراراً. فما لبث أن عاد إلى النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) فقال: يا رسول اللَّه، قد أذهب اللَّه عنّي الوسوسة، وأدّى عنّي الدين، وأغناني من العيلة»((2)).
ومنها: ما عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) أنّه قال لأمير المؤمنين (علیه السلام) : «يا علي، أمان لك من الوسواس أن تقول: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً}((3)) ، {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن
ص: 27
يَفْقَهُوهُ وَفِى آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِى الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً}((1))»((2)).
ومنها: ما عن الإمام الصادق (علیه السلام) وقد سئل عن الوسوسة وإن كثرت، فقال: «لا شي ء فيها، تقول: لا إله إلّا اللَّه»((3)).
وعنه (علیه السلام) أيضاً: «قل: لا إله إلّا اللَّه»، قال جميل: فكلّما وقع في قلبي شي ء قلت: لا إله إلّا اللَّه، فيذهب عنّي((4)).
ومنها: ما عن رسول اللَّه(صلی الله علیه و آله و سلم): أنّه قال: «من وجد من هذا الوسواس شيئاً فليقل: آمنت باللَّه ورسله - ثلاثاً - فإنّ ذلك يذهب عنه»((5)) .
ومنها: ما عن جعفر الصادق (علیه السلام) : «أنّ النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) قال لمن شكى إليهكثرة الوسواس حتّى لا يعقل ما صلّى من زيادة ونقصان: إذا دخلت في صلاتك فاطعن فخذك اليسرى بإصبعك اليمنى المسبحة، ثمّ قل: بسم اللَّه، وباللَّه، توكّلت على اللَّه، أعوذ باللَّه السميع العليم من الشيطان الرجيم، فإنّك تطرده»((6)).
ص: 28
ومنها: أنّ بعض الصحابة شكا إلى رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) الوسوسة فقال: يا رسول اللَّه(صلی الله علیه و آله و سلم)، إنّ الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي، يلبسها عليّ، فقال رسول اللَّه(صلی الله علیه و آله و سلم): «ذلك شيطان يقال له: خنزب، فإذا أحسست به فتعوّذ باللَّه منه، واتفل عن يسارك ثلاثاً»، قال: ففعلت ذلك، فأذهبه اللَّه عنّي((1)).
ومنها: ما عن أبي عبد اللَّه (علیه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين (علیه السلام) : ذِكرُنا أهل البيت شفاء من الوعك والأسقام ووسواس الريب، وحبّنا رضا الربّ تبارك وتعالى»((2)).
والحاصل: أنّ في هذا الباب حديثاً واحداً معتبراً.
والمستفاد منه أمور:
منها: مرجوحيّة الوسوسة في النيّة وسائر العبادات.
ومنها: أنّ الوسواسي لا عقل له؛ لأنّه يتّبع الشيطان في تسويلاته.
ومنها: أنّ العقل المعتبر هو ما أدّى إلى طاعة اللَّه سبحانه وتعالى.
ص: 29
ص: 30
-----------------------------------------------------------------------------
11 - باب تحريم قصد الرياء والسمعة بالعبادة
شرح الباب:
الشرك باللَّه عزّوجلّ على ثلاثة أنواع: ذاتي، بأن يجعل العابد له تعالى شريكاً في مرتبة ذاته المقدّسة؛ وفعلي، بأن يجعل له شريكاً في أفعاله؛ وعبادي، بأن يجعل له شريكأً في معبوديته. وهذا النوع من الشرك قسمان:
أحدهما: أن يؤتى بالعبادة لأجل عبادة غير اللَّه، كما هو الحال فيمن يعبد غير اللَّه من سائر المعبودات، وهذا القسم موجب لنجاسة فاعله، وترتّب أحكام أخرى عليه.
وثانيهما: أن يؤتى بالعبادة لأجل إراءة الغير فحسب، من دون قصد عبادة ذلك الغير، فصاحبه معتقد بوحدانيّة اللَّه تعالى ذاتاً وفعلاً وعبادة، وهو المبحوث عنه في الفقه هنا.
وهذا الباب معقود لذكر القسم الثاني من الضمائم، وهما هنا: الرياء والسمعة، وحكم كلّ منهما تكليفاً، بعد أن انتهى الكلام في الضمائم التي يجوز قصدها بالمعنى الأعم للجواز، وسيأتي حكمهما الوضعي في الباب اللاحق.
والرياء: مشتق من الرؤية، وقد عرّف بأنّه: طلب المنزلة عند الناس،
ص: 31
بإراءتهم خصال الخير؛ لتحصيل ما لم يكن حاصلاً من المنافع المحرّمة أو المباحة، ويكون ذلك تارة بالقول، وأخرى بالفعل.
وعلى هذا يكون طلب المنزلة عند الناس، لتحصيل غاية راجحة - كترويج الحق وإماتة الباطل بكلمته المسموعة - غير داخل في الرياء؛ لأنّ مرجعه إلى طلب المنزلة عند اللَّه.
وإن أبيت عن صدق هذا النوع على طلب المنزلة عند اللَّه، إلّا أنّه ليس بحرام؛ لأنّ عموم حرمة الرياء معارض بعموم رجحان تلك الغاية الشريفة.
وأركان الرّياء أربعة: المرائي، وهو العابد، والمراءى، وهم الناس المطلوبة رؤيتهم؛ لطلب المنزلة في قلوبهم وعلى ألسنتهم، والمراءى به، وهي الخصال التي قصد المرائي إظهارها، والرياء: وهو قصده إظهار ذلك.
وأمّا السمعة: فهي مشتقّة من السماع، وهي: أن يقصد بالعمل سماع الناس به، فهي رتبة أو نوع أعظم عندهم من أفراد الرياء.
والنسبة بينهما العموم والخصوص المطلق؛ فإنّ الرياء أعمّ منها؛ لأنّه عبارة عن الإتيان بالعمل للناس، أعمّ من رؤيتهم له وإسماعهم إيّاه، وعدمه.
وأمّا حبّ استماع الناس لعمله من دون أن يفعله لذلك، فهو كحب رؤية الغير لعمله وسروره بذلك من دون أن يعمل لذلك، وهو ممّا ورد عدم البأس به، كما سيأتي في باب مستقلّ.
وينقسم الرياء إلى أقسام، على ما ذكره بعض علماء الأخلاق:
أحدها: الرياء بالعقيدة، بإظهار الإيمان وإسرار الكفر، وهذا هو النفاق،
ص: 32
وهو أشدّها خطراً على المسلمين؛ لخفاء كيد المنافق، وتستّره بظلمة النفاق.
ثانيها: الرياء بأصول العبادة مع صحّة العقيدة، وذلك بممارسة العبادات أمام ملأ الناس؛ مراءاة لهم، وتركها في الخلوة والسرّ، كالتظاهر بالصلاة والصيام والزكاة، ونحوه من صور الرياء، في صميم العبادة أو أجزائها وأركانها. وهنا يغدو المرائي أشدّ إثماً من تارك العبادة؛ لاستخفافه باللَّه عزّوجلّ، وتلبيسه على الناس.
ثالثها: الرياء في النوافل والسنن، التي لو تركها لم يكن عاصياً بتركها، ولكنّه يكسل عنها في الخلوة، وينشط في إتيانها أمام الناس، كحضور الجماعة في الصلاة، وعيادة المريض، والتهجّد بالليل، ونحو ذلك، وهذا أيضاً خطره عظيم، ولكنّه دون السابق.
رابعها: الرياء بأوصاف العبادة، لا بأصولها، وهو على ثلاث صور:
الصورة الأولى: أن يرائي بفعل ما يوجب تركه نقصان فضل العبادة، كما إذا أحسن الركوع أو السجود، وترك الالتفات، وتمّم الجلوس بين السجدتين، في محضر الناس، بحيث لو كان وحده لما أتى بذلك. وهذا - أيضاً - استهانة بالمولى الجليل جلّ وعلا، وهو من الرياء المحظور الموجب للبطلان.
الصورة الثانية: أن يرائي بفعل ما لا يوجب تركه نقصان فضل العبادة، ولكن فعله في حكم التكملة، كالتطويل في الركوع والسجود، وتحسين الهيئة في رفع اليدين، ومدّ القيام، ونحو ذلك، بحيث لو كان في خلوة لما
ص: 33
أتى بشي ء من ذلك. وهذه الصورة كسابقتها في كونها من الرياء المحظور. والمشهور: أنّه يوجب بطلان العبادة.
الصورة الثالثة: أن يرائي بزيادات خارجة عن العبادة، كحضور الجماعة قبل القوم، أو وقوفه في الصفّ الأول، أو اختياره جهة يمين الإمام في صلاة الجماعة، ونحو ذلك، بحيث لو خلّي ونفسه لا يبالي برعاية ما ذكر. وهذا القسم محلّ الكلام، وبما أنّه خارج عن نفس العبادة، فلا يوجب بطلانها، وإن كان مذموماً في حدّ نفسه.
خامسها: الرياء في غير العبادات، وهو على أقسام:
الأول: ما يكون بالبدن، كإظهار النحول والصفرة؛ ليوهم بذلك شدّة الاجتهاد، وعظم الحزن على أمر الدين، وغلبة خوف الآخرة، وليدل بالنحول على قلّة الأكل، وبالصفرة على سهر الليل، وكذلك ليدل بخفض الصوت وإغارة العينين وذبول الشفتين وتشعّث الشعر على استغراق وقته في الدين، وعدم تفرّغه لتسريح شعره، وأمثال ذلك.
الثاني: ما يكون بالزي والهيئة، مثل حلق الشارب، وإطراق الرأس في المشي، والهدوء في الحركة، وإبقاء أثر السجود في الجبهة، وتغليظ الثياب،ولبس الصوف، وتشميرها إلى نصف الساق، وتقصير الأكمام، وترك تنظيف الثوب، وتركه مخرقاً، كلّ ذلك يرائي به؛ ليظهر أنّه يتّبع السنّة، ويقتدي بعبادات الصالحين.
الثالث: ما يكون بالقول، كالوعظ والتذكير، والنطق بالحكمة، وحفظ
ص: 34
الأحاديث والأشعار؛ لأجل إظهار غزارة علمه، وليدل على شدّة عنايته بأقوال السلف الصالحين، وكذلك تحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمشهد الخلق، وإظهار الغضب على المنكرات، وإظهار الأسف على اقتراف الناس للمعاصي والآثام، ونحو ذلك من الأمور.
الرابع: ما يكون بالعمل، كإطراق الرأس، وترك الالتفات، وإظهار السكون، وإرخاء الجفون عند اللقاء بالناس، وتنكيس الرأس؛ إظهاراً للإخبات، والوقار في الكلام أو المشي، بحيث قد يسرع في المشي إلى حاجته، فإذا اطّلع عليه شخص من أهل الدين رجع إلى الوقار؛ خوفاً من أن ينسبه إلى العجلة وقلّة الوقار، فإن غاب عنه عاد إلى سرعته، وربما استحيى المرائي من أن تخالف مشيته في الخلوة مشيته في غيرها، فيكلّف نفسه المشية الوقورة الحسنة في الخلوة، حتّى إذا رآه الناس لم يحتج إلى تغييرها، وبذلك يتضاعف رياؤه؛ فإنّه قد صار مرائياً حتّى في الخلوة.
الخامس: ما يكون بكثرة الأصحاب والزائرين والمخالطين، كمنيتكلَّف زيارة عالمٍ أو عابدٍ؛ ليقال: إنّ فلاناً قد زار العالم الفلاني أو العابد الفلاني، أو كمن يكثر من ذكر المشايخ وعلماء العرفان؛ ليقال: إنّ فلاناً لقي شيوخاً كثيرين، واستفاد منهم، فيتباهى بشيوخه حتّى ينتشر صيته وسمعته في البلاد، وتكثر الرحلة إليه، ويزداد اختلاف الناس على بابه، ونحو ذلك.
وهذه الأقسام - أيضاً - داخلة في الرياء، وكلها مذمومة. ولكن حيث إنّها
ص: 35
غير داخلة في العبادات فهي لا توجب حكماً وضعيّاً، كما كانت توجب البطلان في العباديّات.
وأما من جهة الحكم التكليفي وكونها محرّمة أو مكروهة، فهي محلّ كلام.
أما الخاصة: فالرياء حرام عندهم تكليفاً كتاباً؛ لقوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ}((1))،
وسنّة متواترة، وإجماعاً من المسلمين، بل هو من الكبائر؛ لأنّ اللَّه أوعد عليه النار، وكل ما أوعد عليه النار فهو كبيرة وتبطل به العبادة. ونسب إلى المرتضى (قدس سره) القول بعدم بطلان العبادة به، بل العبادة غير مقبولة معه فحسب((2)). وعلى هذا فتجب التوبة عنه إذا كان الرياء في الإيمانوالعبادات، وأمّا غيرها فمحلّ كلام، كما تقدّم.
وأما العامة: فقد قال الجزيري في «الفقه على المذاهب الأربعة»: «من صلّى لفرض دنيوي، كأن يمدح عند الناس، بحيث لو لم يمدح لترك الصلاة، فإن صلاته لا تصح. وكذا إذا صلّى ليظفر بمال أوجاه، أو يحصل على شهوة من الشهوات فإنّ صلاته تكون باطلة. فعلى الناس أن يفهموا هذا
ص: 36
[138] 1 - محمّد بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِي عليّ الأَشْعَرِيِّ، عَنْ محمّد بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ صَفْوَانَ، عَنْ فَضْلٍ أَبِي الْعَبَّاسِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) ، قَالَ: «مَا يَصْنَعُ أَحَدُكُمْ أَنْ يُظْهِرَ حُسْناً وَيُسِرَّ سَيِّئاً؟ أَلَيْسَ يَرْجِعُ إِلَى نَفْسِهِ، فَيَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ كَذَلِكَ؟! وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {بَلِ الإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}(1). إِنَّ السَّرِيرَةَ إِذَا صَلَحَتْ قَوِيَتِ الْعَلانِيَةُ»(2).
-----------------------------------------------------------------------------
المعنى جيداً ويدركوا أنّ من قصد بصلاته غرضاً من الأغراض الدنيوية فإن صلاته تقع باطلة، ويعاقب عليها المرائين المجرمين؛ قال تعالى {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}((3))، فمن لم يخلص في أرادة الصلاةويقصد أن يصلي لله وحده، فإنه يكون مخالفاً لأمره تعالى، فلا تصحّ صلاته. والنية بهذا المعنى متفق عليها»((4)).
فالظاهر أن الحكم مورد للاتفاق بين المسلمين.
[1] - فقه الحديث:
دلّ الحديث على توبيخ المرائي، وعدم فائدة الرياء له، بإظهاره الحسن
ص: 37
وَعَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ محمّد بْنِ جُمْهُورٍ، عَنْ فَضَالَةَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْفَضْلِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) ، مِثْلَهُ(1)1*).
-----------------------------------------------------------------------------
- ولعل المراد به: الأعمال والعبادات الظاهرة - وبإخفائه السيّىء، وهو قصد الرياء ونيّة التقرّب بها عند الناس؛ فإنّه لو رجع هذا إلى نفسه علم أنّ ذلك العمل ليس بمقبول؛ لسوء سريرته، وعدم صحّة نيّته، وليس عمله حسناً يترتّب عليه الثواب والتقرّب إلى اللَّه، بل علم أنّه معصية؛ لأنّ الإنسان عالم بحال نفسه من الخير والشر، فيجب عليه الاجتناب من الشر وما يضرّه، وهذا الإظهار وذاك الإخفاء لا ينفعانه.
وأما إذا قصد التقرّب إلى اللَّه جلّ شأنه وسعى للسعادة الأبديّة فتتقوّىالعلانية، وتصحّ الجوارح والأعضاء الظاهرة، وتصدر منها الأعمال الصالحة، كما ورد: «ما ضعف بدن عمّا قويت عليه النيّة»((2))، وورد: «أنّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد. ألا وهي القلب»((3)).
سند الحديث:
أورد صاحب «الوسائل» الحديث بسندين:
ص: 38
أمّا السند الأول: ففيه: أبو عليّ الأشعري، وهو أحمد بن إدريس القمي، وقد تقدم.
ومحمد بن عبد الجبّار، وهو ابن أبي الصهبان، وهو قمي ثقة، وقد تقدّم أيضاً.
وأمّا الفضل أبو العباس: فهو الفضل بن عبد الملك، أبو العباس (البقباق). قال عنه النجاشي: «مولى، كوفي، ثقة، عين»((1)).
وعن البرقي في أصحاب الصادق (علیه السلام) : «الفضل البقباق، أبو العباس، كوفي. وفي كتاب سعد: له كتاب، ثقة»((2)).وعدّه الشيخ في «رجاله» من أصحاب الصادق (علیه السلام) قائلاً: «الفضل بن عبد الملك، أبو العباس، البقباق، كوفي»((3)).
وعدّه الشيخ المفيد في «رسالته العددية» من الفقهاء الأعلام، والرؤساء، المأخوذ منهم الحلال والحرام والفتيا والأحكام، الذين لا يطعن عليهم ولا طريق لذمّ واحد منهم ((4)).
ص: 39
وورد في «النوادر»، وروى عنه المشايخ الثقات((1)).
وعليه فالسند في غاية الاعتبار.
وأمّا السند الثاني:
ففيه: محمّد بن جمهور: قال عنه النجاشي: «أبو عبد اللَّه، العمِّي، ضعيف في الحديث، فاسد المذهب، وقيل فيه أشياء، اللَّه أعلم بها من عظمها، روى عن الرضا (علیه السلام) »((2)).
وقال عنه الشيخ في «الرجال»: «محمد بن جمهور، العَمِّي، عربي،بصري، غالٍ»((3)).
وقال السيد الأستاذ (قدس سره) : «الظاهر أنّ الرجل ثقة، وإن كان فاسد المذهب؛ لشهادة عليّ بن إبراهيم بوثاقته. غاية الأمر أنّه ضعيف في الحديث؛ لما في رواياته من تخليط وغلو، وقد ذكر الشيخ: أنّ ما يرويه من رواياته فهي خالية من الغلوّ والتخليط، وعليه فلا مانع من العمل بما رواه الشيخ من رواياته»((4)).
هذا، وقد ورد في القسم الثاني من «التفسير»((5)) .
ص: 40
وهنا نكتة مهمّة، وهي: أنّ محمّد بن جمهور كثيراً ما يرد في الأحاديث، ولم تثبت عندنا وثاقته؛ لأنّا لا نرى وثاقة من ورد في القسم الثاني من «التفسير»، ولا من ورد في «كامل الزيارات» من غير مشايخ ابن قولويه.
ولكن بما أنّ الشيخ قال: بخلوّ ما يرويه عنه من الغلوّ والتخليط((1))،
فلا مانع من الأخذ بما رواه الشيخ. فالرجل وإن كان غير ثقة، إلّا أن رواياته الخالية عن الغلوّ والتخليط تكون معتبرة، وهي الروايات التي رواها الشيخ.وفيه أيضاً: معاوية: وهو مشترك بين جماعة. ولكن من يروي عنه فَضَالة منحصر في ثلاثة أشخاص:
أحدهم: معاوية بن عمار: الذي قال عنه النجاشي: «معاوية بن عمّار بن أبي معاوية خَبَّاب بن عبد اللَّه، الدُّهْني، مولاهم، كوفي - ودُهْن من بَجيلَة - وكان وجهاً في أصحابنا، ومقدّماً كبير الشأن، عظيم المحلّ، ثقة ... وله كتب منها: كتاب الحج، رواه عنه جماعة كثيرة من أصحابنا»((2)).
وورد في «التفسير» و«النوادر»، وروى عنه المشايخ الثقات((3)).
وثانيهم: معاوية بن وهب: والذي قال عنه النجاشي: «معاوية بن وهب، البَجَلي، أبو الحسن، عربي صميمي، ثقة، حسن الطريقة، روى عن أبي عبد
ص: 41
اللَّه وأبي الحسن (علیهما السلام) ، له كتب»((1)).
وعدّه المفيد من الرؤساء الأعلام((2)).
وورد في «النوادر»، وروى عنه المشايخ الثقات((3)) .
وثالثهم: معاوية بن ميسرة: ولم يرد فيه شي ء، سوى رواية المشايخالثقات عنه((4)).
والظاهر أنّ المراد به هنا: معاوية بن عمار؛ لأنّه روى عنه فضالة في مائة وثلاثين مورداً في الكتب الأربعة. وأمّا معاوية بن وهب: فقد روى عنه في ثمانية عشر مورداً، وابن ميسرة روى عنه في موردين.
والسند معتبر؛ لأمرين:
الأوّل: أنّ كتب معاوية مشهورة، فلا تحتاج إلى الطريق.
والثاني: أنّ الشيخ يروي هذا الحديث عن كتب محمّد بن جمهور الخالية عن التخليط.
بقي أمر: وهو أنه ورد في «جامع الأحاديث»((5)): عن «الفضيل» بدل «الفضل»، وكذلك في «مرآة العقول»((6))، مع أن معاوية روى عن الفضيل في
ص: 42
[139] 2 - وَعَنْ محمّد بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي الْبِلادِ، عَنْ سَعْدٍ الإِسْكَافِ، قَالَ: لا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ: عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام) ، قَالَ: «كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ عَابِدٌ، فَأُعْجِبَ بِهِ دَاوُدُ (علیه السلام) ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: لا يُعْجِبْكَ شَيْ ءٌ مِنْأَمْرِهِ؛ فَإِنَّهُ مُرَاءٍ»، الْحَدِيثَ(1).
وَرَوَاهُ الْحُسَيْنُ بْنُ سَعِيدٍ فِي كِتَابِ «الزُّهْدِ»، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي الْبِلادِ، مِثْلَهُ(2).
-----------------------------------------------------------------------------
مورد واحد. فلعلّ هناك اشتباه من النّساخ.
[2] - فقه الحديث:
دلّ الحديث على أنّ العمل المراد به الناس لا يكون ذا اعتبار عند اللَّه تعالى، وإن كان ظاهر العمل حسناً، وصاحبه ممقوت، يستحق العقاب، وهذا لا يكون إلّا في العمل المحرّم.
وتتمة الحديث: «فمات الرجل، فقال داود: ادفنوا صاحبكم، ولم يحضره. فلمّا غُسِّل قام خمسون رجلاً، فشهدوا باللَّه: ما يعلمون إلّا خيراً. فلمّا صلّوا عليه قام خمسون آخرون، فشهدوا بذلك أيضاً. فلمّا
ص: 43
دفنوه قام خمسون آخرون، فشهدوا بذلك أيضاً. قال: فأوحى اللَّه تعالى إلى داود (علیه السلام) : ما منعك أن تشهد فلاناً؟ فقال داود: يا رب، للذي أطلعتني عليه من أمره. فأوحى اللَّه تعالى: أنْ كان ذلك لك،ولكنّه قد شهد قوم من الأحبار والرهبان ما يعلمون إلّا خيراً، فأجزت شهادتهم عليه، وغفرت له علمي فيه».
والظاهر أنّ العفو عن صاحب هذا العمل كان لشهادة الأحبار، وإلّا لعاقبه اللَّه عليه، ولم يقبله منه.
سند الحديث:
أورد صاحب «الوسائل» الحديث بسندين أيضاً:
أمّا السند الأول:
ففيه: إبراهيم بن أبي البلاد، قال عنه النجاشي: «كان ثقة، قارئاً، أديباً»((1)).
وقال في ترجمة ابنه يحيى: «ثقة هو وأبوه، أحد القرّاء، كان يتحقّق بأمرنا هذا»((2)).
ووثّقه الشيخ في أصحاب الرضا (علیه السلام) ، وقال: «كوفي، ثقة»((3)) .
وورد في «النوادر»، وروى عنه المشايخ الثقات((4)) .
ص: 44
وفيه أيضاً: سعد الإسكاف: وهو سعد بن طريف الحنظلي. قال عنهالنجاشي: «كوفي، يعرف وينكر»((1))، وقال عنه الطوسي في «الرجال»: «ويقال: سعد الخفّاف، روى عن الأصبغ بن نباتة، وهو صحيح الحديث»((2)).
وقد ورد في تفسير القمي، وروى عنه المشايخ الثقات((3)).
وعليه فالرجل ثقة، والسند معتبر.
وإذا كان الحديث مأخوذاً من كتاب للحسين بن سعيد، فلاعتباره وجه آخر، وهو مشهوريّة كتبه، فلا حاجة إلى الطريق.
وأمّا السند الثاني - وهو سند كتاب «الزهد» للحسين بن سعيد، عن إبراهيم بن أبي البلاد - فهو كسابقه في الاعتبار.
مضافاً إلى أنّ هذا الحديث مأخوذ من كتابه، ولا حاجة إلى الطريق حينئذٍ؛ لشهرته، وللتعويل عليه، كما تقدّم.
ص: 45
[140] 3 - وَعَنْ عليّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) ، قَالَ: «مَنْ أَظْهَرَ لِلنَّاسِ مَا يُحِبُّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَبَارَزَ اللَّهَ بِمَا كَرِهَهُ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ مَاقِتٌ لَهُ»(1).
-----------------------------------------------------------------------------
[3] - فقه الحديث:
دلّ الحديث على أنّ من أظهر للناس أنّه يعبد اللَّه - وهو لا يعبده لو خلي ونفسه - لقي اللَّه وهو ماقت كاره له. وعليه فمن أسباب المقت والعقوبة والخزي في الدنيا والآخرة إظهار الطاعة للناس، طلباً للرفعة والمنزلة عندهم، والإقدام على معصية اللَّه عزّوجلّ. فمناط المقت هو إظهار العبادة للناس. ولا فرق بين أن يكون الإظهار بالرياء أو السمعة؛ إذ الملاك واحد فيها، وهو إظهار العبادة للغير ولطلب رضاه لا لله تعالى، وإن افترقا موضوعاً؛ إذ الرياء من الرؤية بالعين، والسمعة من السمع بالأذن. وحكمهما واحد؛ فإن السمعة كالرياء مبطلة للعبادة. ولا فرق بين وقوعها في أوّل العبادة أو وسطها أو آخرها. فحصول المقت من الله سبحانه للعبد إنّما هو بسبب إظهاره لما لا يحبه الله، ومبارزته له بما يكرهه وهو الرياء والسمعة. فلا يكون مسبب المقت عملاً صحيحاً، بل هو باطل تجب إعادته، كما أنه مبغوض له سبحانه فيترتب عليه العذاب.
ويحتمل أن يكون المقت من قبل اللَّه عزّوجلّ على سوء سريرته وفساد
ص: 46
نيته. لكنّه خلاف الظاهر؛ فإنّ المتبادر من الحديث أنّ عمل من يريد إظهار عمله للناس بالرياء أو السمعة ممقوت عند اللَّه عزّوجلّ.
سند الحديث:
وفيه من لم يسبق الكلام عنهم:
داود: وهو مشترك بين جماعة كثيرة، ولكن داود الذي يروي عنه الحسن بن محبوب يدور بين أربعة أشخاص:
أحدهم: داود بن أبي يزيد: قال عنه النجاشي: «داود بن أبي يزيد الكوفي، العطار، مولى، ثقة، روى عن أبي عبد اللَّه (علیه السلام) ، وعن أبي الحسن (علیه السلام) أيضاً، له كتاب يرويه عنه جماعة»((1)).
وثانيهم: داود بن فرقد: قال عنه النجاشي: «داود بن فرقد ... كوفي، ثقة، روى عن أبي عبد اللَّه وأبي الحسن (علیهما السلام) ، وإخوته يزيد وعبد الرحمن وعبد الحميد. قال ابن فضال: داود ثقة، ثقة، له كتاب رواه عدّة من أصحابنا ... وقد روى عنه هذا الكتاب جماعات من أصحابنا - رحمهم اللَّه - كثيرة»((2)).وقال عنه الشيخ: «ثقة، له كتاب»((3)) .
وثالثهم: داود بن كثير الرقّي: قال عنه النجاشي: «ضعيف جدّاً، والغلاة
ص: 47
تروي عنه. قال أحمد بن عبد الواحد: قَلَّ ما رأيت له حديثاً سديداً»((1)) . وقد سبق أنّ السيد الأستاذ قد توقّف فيه.
ولكن الشيخ وثّقه في «الرجال»((2))،
ووثّقه أيضاً الشيخ المفيد((3))، كما أنّه قد ورد في «نوادر الحكمة»، وروى عنه المشايخ الثقات((4)).
ويمكن الجمع بين هذه التوثيقات وبين تضعيف النجاشي له: بأنّ الضعف إنّما هو في مذهبه؛ من جهة رميه بالغلو. وعليه فالرجل ثقة، وقد فصّلنا القول فيه في خاتمة كتاب «أصول علم الرجال»، فراجع((5)).
رابعهم: داود بن سليمان الحمار: قال عنه النجاشي: «كوفي ثقة، روى عن أبي عبد الله (علیه السلام) ، له كتاب يرويه عدّة من أصحابنا، منهم الحسن بن محبوب»((6)) .وهؤلاء كلهم قد اتصفوا بالشهرة، والأقوى كون المراد به هنا هو داود بن كثير الرقي، أو داود بن سليمان الحمار؛ فإنّ الحسن بن محبوب وقع في الطريق إلى كتابهما.
وعلى كلّ تقدير فالحديث معتبر.
ص: 48
[141] 4 - وَعَنْهُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّوْفَلِيِّ، عَنِ السَّكُونِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله و سلم): سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ تَخْبُثُ فِيهِ سَرَائِرُهُمْ، وَتَحْسُنُ فِيهِ عَلانِيَتُهُمْ؛ طَمَعاً فِي الدُّنْيَا، لا يُرِيدُونَ بِهِ مَا عِنْدَ رَبِّهِمْ، يَكُونُ دِينُهُمْ رِيَاءً، لا يُخَالِطُهُمْ خَوْفٌ، يَعُمُّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ، فَيَدْعُونَهُ دُعَاءَ الْغَرِيقِ، فَلا يَسْتَجِيبُ لَهُمْ»(1).
وَرَوَاهُ الصَّدُوقُ فِي «عِقَابِ الأَعْمَالِ»، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عليّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، مِثْلَهُ(2).
-----------------------------------------------------------------------------
[4] - فقه الحديث:
الحديث من جملة الإخبارات النبوية الغيبية التي تبيّن حال غالبية الناس من حيث ملكاتهم النفسانية. وقد دلّ الحديث على أنّ الشخص المرائي يظهر للناس من أعماله الحسنة؛ رغبة في الدنيا وزخرفها، مع أنّ ما يسرّه من معاصٍ أو من نيّة فاسدة خلاف ما يظهره للناس، فسريرته خبيثة؛ والسبب الذي يبعث المرائي على التلبّس بهذه الصفة الرذيلة وإفساد سريرته هو الطمع في الدنيا وشهواتها، ونسيان الآخرة وعذابها، وحب الدنيا رأس كلّ خطيئة، ومنبع كلّ ذنب، وهو الذي يحول بين القلب وبين تفكّره في عاقبةأمره، فهو قد استبدل النعيم المقيم بنعيم موهوم زائل، ولم يخف من اللَّه؛
ص: 49
فإنّه لو كان له خوف من اللَّه لزهد في الدنيا، وأقبل على الآخرة، وأخلص سريرته وطهّر ضميره.
وعليه فالمرائي مستحق للعقوبة؛ لأنّه قد منع حقّ اللَّه؛ فإنّ خلوص العبادة حقّ للَّه عليه، فإذا منع المرائي حقّه تعالى، فله أن يمنع حقّه عنه، وهو استجابة الدعاء. فحتى لو دعا بدعاء الغريق - وهو المضطر الذي لا يرى له خلاصاً - لم يستجب له تعالى.
وقد دلّ الحديث أيضاً على أنّ من شرائط استجابة الدعاء: الصلاح والخوف والرجوع عن المخالفة بالتوبة والاستغفار والإنابة.
سند الحديث:
أورد صاحب «الوسائل» للحديث سندين:
أولهما: ما عن الكليني، عن عليّ بن إبراهيم. وقد تقدّم الكلام عنهم جميعاً، والسند موثّق.
وثانيهما: ما عن الصدوق. والكلام فيه كسابقه.
ص: 50
[142] 5 - وَعَنْ محمّد بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عليّ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: إِنِّي لأَتَعَشَّى مَعَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) إِذْ تَلا هَذِهِ الآيَةَ: {بَلِ الإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ}(1)، ثمّ قَالَ(2): «مَا يَصْنَعُ الإِنْسَانُ أَنْ يَتَقَرَّبَ(3) إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِخِلافِ مَا يَعْلَمُ اللَّهُ؟! إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله و سلم) كَانَ يَقُولُ: مَنْ أَسَرَّ سَرِيرَةً رَدَّاهُ اللَّهُ رِدَاهَا، إِنْ خَيْراً فَخَيْراً، وَإِنْ شَرّاً فَشَرّاً»(4).
-----------------------------------------------------------------------------
[5] - فقه الحديث:
دلّ الحديث على أنّ الإنسان ذو بصيرة على نفسه، يدرك بقلبه ما في نفسه، فهو على يقين منه، وإن تطلّب المعاذير لنفسه، فهو يعلم علم اليقين: أنّ ما يظهره من أعمال يراد به وجه اللَّه، أو يراد به الرفعة والمنزلة عند الناس. فالمرائي يعلم علماً يقينيّاً - لأنّه ذو بصيرة على نفسه - أنّ ما يظهره إنّما هو للناس، لا أنّه للَّه، فكيف يرجو مع ذلك ثواب اللَّه على عمله، و النجاة من عقابه؟!
وإطلاق البصيرة في الآية الشريفة على الإنسان من باب المبالغة كما
ص: 51
يقال: زيد عدل.
فالعمل القربي إذا لم يكن خالصاً للَّه تعالى، بأن أشرك العامل فيه غيره بقصد إراءته للغير، كان هذا العمل سيّئاً والنيّة خبيثة. واللَّه سبحانه يعلم أنّ باطن المرائي مخالف لظاهره، فالتقرّب إلى اللَّه تعالى بهذا العمل المشترك سفه واستهزاء بالذات العليّة؛ ولذا قال الإمام (علیه السلام) : «ما يصنع الإنسان». ولا يخفى أنّ فيه تقريعاً وتنبيهاً على أنّ هذا العمل الذي خولف فيه بين الظاهر والباطن ليس غير نافع فحسب، بل هو ضارّ لصاحبه؛ لما فيه من الاستهزاء بالمولى جلّ وعلا، فهو لا يستحق حرمان الثواب على هذا العمل فحسب، بل يستحق العقاب أيضاً؛ لهتكه حرمة مولاه.
ثمّ إنّ نتيجة هذه السريرة السيّئة - سواء كانت نيّة أو عملاً - أن يلبسه اللَّه سبحانه لباسها، بأن يجعلها كالرداء عليه، وهي كناية عن تحميله نتيجة عمله. كما أنّ نتيجة السريرة الحسنة أن يلبسه اللَّه سبحانه لباسها، كما روى الإمام (علیه السلام) ذلك عن رسول اللَّه(صلی الله علیه و آله و سلم). فكما أنّ من تردّى برداء حسن صار زيناً له، ومن تردّى برداء غير حسن صار له شيناً، فكذا صاحب السريرة، حسنة كانت أو قبيحة، فإنّه يجني ثمرتها، إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشر. وقد تقدّم ذيل الحديث في الباب السابع.
سند الحديث:
تقدّم هذا السند بعينه في الحديث الأول من الباب السابع، وقد قلنا: إنّ السند معتبر.
ص: 52
[143] 6 - وَعَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ محمّد الأَشْعَرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْقَدَّاحِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) : أَنَّهُ قَالَ لِعَبَّادِ بْنِ كَثِيرٍ الْبَصْرِيِّ فِي الْمَسْجِدِ: «وَيْلَكَ يَا عَبَّادُ، إِيَّاكَ وَالرِّيَاءَ؛ فَإِنَّهُ مَنْ عَمِلَ لِغَيْرِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى مَنْ عَمِلَ لَهُ»(1).
-----------------------------------------------------------------------------
[6] - فقه الحديث:
دلّ الحديث على التحذير من الرّياء - الذي هو من تسويلات الشيطان والنفس الأمّارة الطالبة للدنيا - بأيّ نحو اتّفق، فإنّهما ربّما خيّلا للعابد أنّ الناس يعظّمون من حاز على صفة حسنة، كالعلم والعبادة وسائر الخيرات، ويكنّون له غاية الاحترام والتقدير، بل لعلّهم يعينون من اتّصف بشي ء منها بالمال وغيره، ويقضون حوائجه، فيتمسّك هذا المسكين بالخيرات وإظهار الصفات الحسنة رياءً وسمعة، ويطلب بهذا الإظهار صرف قلوب الناس إليه، وقيامهم بحوائجه، وإعانته وخدمته، وهو يحسب أنّه يحسن صنعاً، وقد غفل عن أنّ صفة الرّياء موبقة عظيمة يستحق عليها العذاب الأليم.
وما درى هذا المسكين أنّ من عمل عملاً لغير اللَّه وكله اللَّه إلى ذلك الغير يوم القيامة، ويقال له: خذ أجرك منه، وقد روي عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) أنّه قال: «إنّ المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء: يا كافر، يا فاجر، ياغادر، يا خاسر، حبط عملك، وبطل أجرك، فلا خلاص لك اليوم،
ص: 53
فالتمس أجرك ممّن كنت تعمل له»((1)).
سند الحديث:
في السند: سهل بن زياد: وقد تقدّم.
وفيه: جعفر بن محمّد الأشعري: وهو جعفر بن محمّد بن عبد اللَّه الأشعري، ورد في طريق كتاب ابن القدّاح، وقد تقدّم أنّه شيخ لابن قولويه في «كامل الزيارات» وورد في «نوادر الحكمة»((2)).
وفيه أيضاً: ابن القدّاح: وهو عبد اللَّه بن ميمون القدّاح. قال عنه النجاشي: «عبد اللَّه بن ميمون بن الأسود، القدّاح، ... وكان ثقة، له كتب»((3)).
وورد في «النوادر» و«التفسير»((4))، وعليه فلا إشكال في وثاقته. والسند ضعيف.
ص: 54
[144] 7 - وَعَنْهُمْ، عَنْ سَهْلٍ، عَنِ ابْنِ شَمُّونٍ، عَنِ الأَصَمِّ، عَنْ مِسْمَعٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهُ(صلی الله علیه و آله و سلم): مَا زَادَ خُشُوعُ الْجَسَدِ عَلَى مَا فِي الْقَلْبِ فَهُوَ عِنْدَنَا نِفَاقٌ»(1).
-----------------------------------------------------------------------------
[7] - فقه الحديث:
دلّ الحديث على أنّ زيادة خشوع الجسد على خشوع القلب نفاق، وإن كان المتّصف به مؤمناً بالمعنى الأعم، أي: كان شيعيّاً اثنا عشرياً. ولمشابهة الرياء للنفاق في إخفاء ما هو قبيح وباطل وإظهار ما هو حسن أُطلِق عليه: أنّه نفاق. وأمّا تساوي خشوع القلب والجسد أو زيادة خشوع القلب على خشوع الجوارح، فهو من صفات المؤمن.
سند الحديث:
فيه: ابن شمّون: وهو محمّد بن الحسن بن شمّون، وقد تقدم.
وفيه: الأصمّ: وهو عبد اللَّه بن عبد الرحمن الأصمّ، وقد تقدّم أيضاً، كما تقدّمت العدّة عن سهل.
وفي السند: مسمع: وهو مِسْمَع بن عبد الملك، أبو سيّار كردين. قال عنه النجاشي: مسمع بن عبد الملك بن مسمع ... أبو سيّار، الملقّب كُرْدِين،شيخ بكر بن وائل بالبصرة ووجهها، وسيد المسامِعَة، وكان أوجه من أخيه
ص: 55
عامر بن عبد الملك وأبيه ... روى عن أبي جعفر (علیه السلام) رواية يسيرة، وروى عن أبي عبد اللَّه (علیه السلام) وأكثر، واختصّ به، وقال له أبو عبد اللَّه (علیه السلام) : «إنّي لَأُعِدُّكَ لأمر عظيم، يا أبا السيّار [سيّار ظ]» وروى عن أبي الحسن موسى (علیه السلام) ((1)).
وقال الكشّي: «قال محمّد بن مسعود: سألت أبا الحسن عليّ بن الحسن بن فَضّال عن مسْمَع كُرْدِين؟ فقال: هو ابن مالك، من أهل البصرة، وكان ثقة»((2)).
وورد في «النوادر»، وروى عنه المشايخ الثقات((3)). والسند ضعيف.
ص: 56
[145] 8 - وَعَنْهُمْ، عَنْ سَهْلٍ وَعَنْ عليّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ محمّد بْنِ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ محمّد بْنِ عَرَفَةَ، قَالَ: قَالَ لِيَ الرِّضَا (علیه السلام) : «وَيْحَكَ يَا ابْنَ عَرَفَةَ، اعْمَلُوا لِغَيْرِ رِيَاءٍ وَلا سُمْعَةٍ؛ فَإِنَّهُ مَنْ عَمِلَ لِغَيْرِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى مَا عَمِلَ. وَيْحَكَ، مَا عَمِلَ أَحَدٌ عَمَلاً إِلَّا رَدَّاهُ اللَّهُ بِهِ، إِنْ خَيْراً فَخَيْراً، وَإِنْ شَرّاً فَشَرّاً(1)1*)»(2)2*).
-----------------------------------------------------------------------------
[8] - فقه الحديث:
دلّ الحديث على وجوب الإتيان بالعمل غير مشوب بالرياء والسمعة، وأنّ من عمل لغير اللَّه وكله اللَّه إلى ما عمل له يوم القيامة، ويقول له: خذ أجرك منه. وما من أحد عمل عملاً - سواء كان شرّاً في نفسه، أو شرّاً لكونه مشوباً بالرّياء - إلّا ألبسه اللَّه إيّاه، وأحاطه وشمله به، كما أن الرداء يحيط بالجسد ويشمله، فإن كان عمله خيراً كان جزاؤه خيراً، وإن كان عمله شراً كان جزاؤه شرّاً، كما أن الرّداء إذا كان حسناً زاد لابسه حُسناً، وأمّا إذا كان قبيحاً قبّح صاحبه، أو زاده قبحاً.
سند الحديث:
قد تقدّم الكلام عن رواة الحديث كلّهم غير محمّد بن عرفة، وهومهمل، لم يذكر في حقّه شي ء. فالسند غير معتبر، إلّا ان يقال: إن الحديث
ص: 57
[146] 9 - أَحْمَدُ بْنُ محمّد الْبَرْقِيُّ فِي «الْمَحَاسِنِ»، عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ عليّ بْنِ أَسْبَاطٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ بَشِيرٍ النَّبَّالِ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ(1)، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) ، قَالَ: «مَنْ أَرَادَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِالْقَلِيلِ مِنْ عَمَلِهِ أَظْهَرَ اللَّهُ لَهُ أَكْثَرَ ممّا أَرَادَهُ بِهِ. وَمَنْ أَرَادَ النَّاسَ بِالْكَثِيرِ مِنْ عَمَلِهِ فِي تَعَبٍ مِنْ بَدَنِهِ وَسَهَرٍ مِنْ لَيْلِهِ أَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُقَلّلهُ فِي عَيْنِ مَنْ سَمِعَهُ»(2).
-----------------------------------------------------------------------------
موجود في «الكافي»، فيعتبر لذلك.
[9] - فقه الحديث:
دلّ الحديث على أنّ من عمل للَّه مخلصاً ولم يخلط عمله برياء ولا بسمعة أظهر اللَّه عمله عند الناس بأكثر ممّا يحسب، كما دلّت عليه بعض الروايات الأخرى. والهدف من إظهار اللَّه لعمل العبد المخلص له هو: معرفة الناس له بالتقوى والصلاح، فيكون قد اجتمع له خير الدنيا والآخرة في سلامة من دينه. ويمكن أن يراد من الإظهار: إظهار العمل له يوم فقره وفاقته بأزيد ممّا كان يأمله من عمله، كما دلّ عليه قوله تعالى: {مَن جَاءبِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}((3))، وإرادة المعنى الأعم من الإظهار أولى.
ص: 58
وأمّا من أراد الناس بالكثير من عمله في تعب من بدنه وسهر من ليله أبى اللَّه عزّوجلّ إلّا أن يقلّله في عين من سمعه. فالمراد: إما بأن يكشف لهم عن سرّه ظاهراً فيمقتونه، أو يكشف لهم عن سرّه باطناً فيعرفونه بقلوبهم فيمقتونه.
ولعل تقليل عمله في أعينهم كناية عن تحقيرهم وبغضهم له؛ إذ هو عاصٍ بارتكاب هذه الموبقة، فلا يستحق التمجيد من أحد مهما بلغ من شدة اجتهاده في العبادة؛ إذ هي في أعين الناس كرماد اشتدّت به الريح في يوم عاصف؛ لأنّه قد أقدم بهذه العبادة الظاهريّة على هتك حرمة المولى، ولم يُرِد بها وجهه،كما دلّ عليه ما روي: «أنّ رجلاً من بني إسرائيل قال: لأعبدنّ اللَّه عبادة أُذكر بها، فمكث مدّة مبالغاً في الطاعات، وجعل لا يمرّ بملأ من الناس إلّا قالوا: متصنّع مرائي. فأقبل على نفسه وقال: قد أتعبت نفسك، وضيّعت عمرك في لا شي ء، فينبغي أن تعمل للَّه سبحانه، فغيّر نيّته وأخلص عمله للَّه، فجعل لا يمرّ بملأ من الناس إلّا قالوا: ورع تقي»((1)).
سند الحديث:
للحديث سندان:
أمّا الأول، ففيه: عدّة من أصحابنا، عن عليّ بن أسباط، وهذا هو المورد الثاني الذي يروي فيه البرقي عن عدّة من أصحابنا، عن عليّ بن أسباط. وقد تقدّم المورد الأول في الباب الثاني في الحديث 21.
ص: 59
[147] 10 - وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ محمّد الأَشْعَرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْقَدَّاحِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ (علیهما السلام) ، قَالَ: «قَالَ عَلِيٌّ (علیه السلام) : اخْشَوُا اللَّهَ خَشْيَةً لَيْسَتْ بِتَعْذِيرٍ(1)، وَاعْمَلُوا للَّهِ فِي غَيْرِ رِيَاءٍ وَلا سُمْعَةٍ؛ فَإِنَّهُ مَنْ عَمِلَ لِغَيْرِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى عَمَلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(2).
-----------------------------------------------------------------------------
وفيه: يحيى بن بشير النبّال: ذكره الشيخ في أصحاب الإمام الصادق (علیه السلام) ((3))،
ولم يذكر بشي ء. فالسند ضعيف.
وأما الثاني: فهو ما عن «الكافي»، وهو عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن عليّ بن أسباط، عن يحيى بن بشير (النبّال)، عن أبيه. ذكره صاحب «الوسائل» بعد ذكره السند الثاني للحديث العاشر، كما يأتي قريباً، وفيه سهل بن زياد وبشير النبّال.[10] - فقه الحديث:
دلّ الحديث على لزوم الخشية والخوف من اللَّه سبحانه في السر والعلن. وفي «المصباح»: عذّر في الأمر تعذيراً إذا قصّر ولم يجتهد((4))، والمراد:
ص: 60
وَرَوَاهُ الْكُلَيْنِيُّ، عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ(1)1*).
وروى الذي قَبْله عنهم، عن سهل بن زياد، عن عليّ بن أسباط، مثله(2)2*).
-----------------------------------------------------------------------------
اخشوا اللَّه خشية ليست متلبّسة بتقصير في الأعمال؛ لكي لا تكون بحاجة إلى الاعتذار عنه، بل لابدّ أن تكون هذه الخشية مع الجدّ والاجتهاد في الأعمال، وهي الخشية المستلزمة للتوافق بين السرّ والعلانية، وترك محارم اللَّه الظاهرة والباطنة.
وفيه تأكيد على لزوم الإخلاص، وعدم مخالفة الظاهر للباطن.
ودلّ أيضاً على لزوم العمل للَّه مخلصاً، والنهي عن الرِّياء والسمعة، وأنّ من شاب عمله برياء أو بسمعة كان جزاؤه أن يوكل إلى عمله. ولا شكّ أنّعمله هذا لا ينهض به في جلب ثوابٍ، ولا دفع عقاب.
سند الحديث:
للحديث - أيضاً - سندان:
أولهما: ما رواه البرقي، عن جعفر بن محمّد الأشعري، عن ابن القداح. وقد تقدّم رجاله قريباً، وهو معتبر.
ص: 61
[148] 11 - وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نَجْرَانَ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ صَالِحٍ جَمِيعاً، عَنْ محمّد بْنِ عليّ الْحَلَبِيِّ، عَنْ زُرَارَةَ وَحُمْرَانَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام) ، قَالَ: «لَوْ أَنَّ عَبْداً عَمِلَ عَمَلاً يَطْلُبُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الآخِرَةَ وَأَدْخَلَ فِيهِ رِضَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ كَانَ مُشْرِكاً»(1).
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) : «مَنْ عَمِلَ لِلنَّاسِ كَانَ ثَوَابُهُ عَلَى النَّاسِ. يَا زُرَارَةُ،(2)2*) كلّ رِيَاءٍ شِرْكٌ».
-----------------------------------------------------------------------------
وثانيهما: ما رواه الكليني، عن عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن جعفر بن محمد، وفيه سهل أيضاً. وعليه فالسند ضعيف.
[11] - فقه الحديث:
دلّ الحديث على أنّ من عزم على عبادة خالصة لوجه اللَّه تعالى، ولكن اعترضها الرياء أو السمعة في أوّلها، فإن لم يدفع هذه الضميمة واستمرّ في العمل، فعمله مساوق للشرك باللَّه عزّوجلّ. وبما أنّ الشرك حرام، فالعمل الذي يكون مصداقاً له حرام وباطل أيضاً. ومن هنا يجب على العابد أن يدفع هذه الضميمة، ويأتي بالعمل خالصاً لوجه اللَّه.
ص: 62
وَقَالَ (علیه السلام) : «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ عَمِلَ لِي وَلِغَيْرِي فَهُوَ لِمَنْ عَمِلَ لَهُ».
وَرَوَاهُ الصَّدُوقُ فِي «عِقَابِ الأَعْمَالِ» وَ«الأَمَالِي»، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ محمّد بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ، عَنْ محمّد بْنِ عليّ الْكُوفِيِّ، عَنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ صَالِحٍ، مِثْلَهُ(1)1*).
-----------------------------------------------------------------------------
سند الحديث:
للحديث أيضاً - سندان:
أولهما: عن عبد الرحمن بن أبي نجران ومحمد بن علي، عن المفضّل بن صالح جميعاً، عن محمّد بن عليّ الحلبي، عن زرارة وحمران؛ وبناءً عليه يكون البرقي راوياً تارة عن عبد الرحمن بن أبي نجران، عن محمّد بن عليّ الحلبي، وأخرى عن محمّد بن علي، عن المفضّل بن صالح، عن محمّد بن عليّ الحلبي. والمراد من قوله «جميعاً»: عبد الرحمن ومفضّل بن صالح.
ولكنّ الموجود في «المحاسن»: عنه، عن محمّد بن علي، عن المفضّل بن صالح، عن محمّد بن عليّ الحلبي، عن زرارة وحمران((2)) ، بدون أن يذكر «عبد الرحمن بن أبي نجران»، و «جميعاً». فعلى التقدير الأول ليسفي السند الأول المفضّل بن صالح.
ص: 63
وأمّا على التقدير الثاني، ففي السند المفضل بن صالح موجود، ومن المحتمل على خلاف القاعدة أن المراد من «جميعاً» أي: روى عبد الرحمن ومحمد بن عليّ عن المفضل جميعاً، وذلك بملاحظة الطبقة.
أما المفضّل بن صالح: فقد قال النجاشي في ترجمة جابر بن يزيد: «روى عنه جماعة غُمِز فيهم وضعّفوا، منهم: عمرو بن شمر، ومفضّل بن صالح، ومُنَخَّل بن جميل، ويوسف بن يعقوب»((1)).
ونسب إليه ابن الغضائري الكذب والوضع((2)).
ولكنّه ورد في «التفسير» و«النوادر»، وروى عنه المشايخ الثقات((3)).
ويمكن الجمع بين تضعيفه وتوثيقه: بكون التضعيف راجعاً إلى مذهبه؛ لأجل رميه بالغلو، ووثاقته في حديثه؛ والشاهد على ذلك: أنّ الشيخ (رحمه الله) ذكره في «الفهرست» و«الرجال» ولم يتعرّض لضعفه، واكتفى في «الفهرست» بالقول: «مفضّل بن صالح، يكنّى أبا جميلة، له كتاب، وكان نخّاساً يبيع الرقيق، ويقال: إنّه كان حدّاداً»((4)).
وأما: محمّد بن عليّ الحلبي: فقد قال النجاشي في ترجمة أحمد بن عمر بن أبي شعبة الحلبي: «ثقة، روى عن أبي الحسن الرضا (علیه السلام) ، وعن أبيه
ص: 64
من قبل، وهو ابن عم عبيد اللَّه وعبد الأعلى وعمران ومحمد الحلبيين، روى أبوهم عن أبي عبد اللَّه (علیه السلام) ، وكانوا ثقات»((1)).
وقال أيضاً: «وآل أبي شعبة بالكوفة بيت مذكور من أصحابنا، وروى جدّهم أبو شعبة عن الحسن والحسين (علیهما السلام) ، وكانوا جميعهم ثقات مرجوعاً إلى ما يقولون»((2)).
وقال أيضاً: «محمد بن عليّ بن أبي شعبة، الحلبي، أبو جعفر، وجه أصحابنا وفقيههم، والثقة الذي لا يطعن عليه، هو وإخوته عبيد اللَّه وعمران وعبد الأعلى»((3)).
وقال الشيخ في «الفهرست»: «محمد بن عليّ الحلبي، له كتاب، وهو ثقة»((4)). وعليه فسند هذا الحديث معتبر بكلا طريقيه.
وثانيهما: سند الصدوق في «عقاب الأعمال» و«الأمالي» عن أبيه، عن محمّد بن أبي القاسم، عن محمّد بن عليّ الكوفي، عن المفضّل بن صالح.
وفيه: محمّد بن أبي القاسم: قال عنه النجاشي: «محمد بن أبي القاسم عبيد اللَّه بن عمران، الجنابي، البرقي، أبو عبد اللَّه، الملقّب ماجيلويه، وأبو القاسم يلقّب بندار، سيّد من أصحابنا القميين، ثقة، عالم، فقيه عارف
ص: 65
[149] 12 - وَعَنْ أَبِيهِ، عَمَّنْ رَفَعَهُ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام) ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله و سلم): يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا هُوَ اللَّهُ وَالشَّيْطَانُ، وَالْحَقُّ وَالْبَاطِلُ، وَالْهُدَى وَالضَّلالَةُ، وَالرُّشْدُ وَالْغَيُّ، وَالْعَاجِلَةُ وَالْعَاقِبَةُ، وَالْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ، فَمَا كَانَ مِنْ حَسَنَاتٍ فَللّهِ، وَمَا كَانَ مِنْ سَيِّئَاتٍ فَلِلشَّيْطَانِ»(1).
وَرَوَاهُ الْكُلَيْنِيُّ، عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، مِثْلَهُ(2).
-----------------------------------------------------------------------------
بالأدب والشعر والغريب»((3)) .
وأمّا محمّد بن عليّ الكوفي: فالظاهر أنّه أبو سمينة. وعليه فهذا السند غير معتبر.
[12] - فقه الحديث:
دلّ الحديث على أنّ المقصود هو إمّا اللَّه أو الشيطان، والرِّياء ممّا يعود إلى الشيطان، بل لو أراد بعمله وجه اللَّه وغيره، لم يقبل اللَّه ذلك العمل، وتركه لمن عمله له، وهو الشيطان أو الناس.
وفي الحديث ترغيب في مراقبة النفس في حركاتها وسكناتها؛ فإنّ ما
ص: 66
تفعله النّفس لا يخرج من دائرة الحق أو الباطل، والهدى والضلالة، والرشد والغيّ، والعاجلة والعاقبة، والحسنات والسيئات، فرغّب في مراقبتها؛ ليمنعها صاحبُها عن السيّئات ويزيّنها بالحسنات، ويراعي الإخلاص والتقرّب في أعماله كلها، بأن يفعلها لوجه اللَّه، لا لغيره؛ لئلّا تصير سيّئات.
سند الحديث:
للحديث - أيضاً - سندان:
أوّلهما: ما عن البرقي، عن أبيه، عمّن رفعه إلى أبي جعفر (علیه السلام) . وهو مرسل، لم تعلم فيه الواسطة.
وثانيهما: ما رواه الكليني، عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن أبي عبد اللَّه، عن أبيه. وهو كسابقه.
ص: 67
[150] 13 - عليّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ فِي «تَفْسِيرِهِ» قَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي الْجَارُودِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام) ، قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله و سلم)، عَنْ تَفْسِيرِ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}(1)، فَقَالَ: مَنْ صلّى مُرَاءَاةَ النَّاسِ فَهُوَ مُشْرِكٌ - إِلَى أَنْ قَالَ: - وَمَنْ عَمِلَ عَمَلاً ممّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مُرَاءَاةَ النَّاسِ فَهُوَ مُشْرِكٌ، وَلا يَقْبَلُ اللَّهُ عَمَلَ مُرَاءٍ(2)2*)»(3)3*).
-----------------------------------------------------------------------------
[13] - فقه الحديث:
دلّ الحديث على أنّ المراد من العمل الصالح في الآية الشريفة هو: العمل الخالص لوجه اللَّه، وأنّ العمل الذي يرائي به صاحبه يعدّ من الشرك في العبادة. وفي هذا كمال التنفير عن الرِّياء؛ فقد رتّب العمل الصالح وعدم الإشراك بعبادة الرب تبارك وتعالى على لقاء اللَّه والاعتقاد بالمعاد؛ لأنّ اعتقاد العابد بوحدانية اللَّه عزّوجلّ وشوق لقائه لا يجتمع مع الإشراك في العمل؛ لاقتضاء وحدانيّته سبحانه وتعالى الوحدانيّة في جميع الصفات، ومنها المعبوديّة، فلابدّ أن يُعبد وحده لا شريك له.
ص: 68
[151] 14 - عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ فِي «قُرْبِ الإِسْنَادِ»، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ ظَرِيفٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عُلْوَانَ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ (علیه السلام) ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله و سلم): مَنْ تَزَيَّنَ لِلنَّاسِ بِمَا يُحِبُّ اللَّهُ وَبَارَزَ اللَّهَ فِي السِّرِّ بِمَا يَكْرَهُ اللَّهُ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، ولَهُ مَاقِتٌ»(1).
-----------------------------------------------------------------------------
سند الحديث:
في السند: أبو الجارود: وهو زياد بن المنذر، عدّه الشيخ المفيد (قدس سره) من الأعلام الرؤساء، المأخوذ عنهم الحلال والحرام((2)).
وورد في «النوادر» و«التفسير»، وروى عنه المشايخ الثقات((3)). هذا، ولكن الرواية مرسلة.
[14] - فقه الحديث:
دلّ الحديث على أنّ من أسباب المقت والعقوبة والخزي في الدنيا والآخرة : التزيّن للناس بكل ما يحبه اللَّه من الطاعات، بإظهار الطاعة لخلق اللَّه؛ طلباً للرفعة والمنزلة عندهم، والإقدام على معصية اللَّه في غيرمحضرهم، وهذا نحو محاربة للَّه تعالى؛ فإنّ من يعصي اللَّه سبحانه بمرأى
ص: 69
وَرَوَاهُ الْحُسَيْنُ بْنُ سَعِيدٍ فِي كِتَابِ «الزُّهْدِ»، عَنْ محمّد بْنِ خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) ، مِثْلَهُ(1)1*).
-----------------------------------------------------------------------------
منه ومسمع فكأنّه يبارزه ويحاربه، وما يفعله في الخلوة يراه اللَّه ويعلمه، فهو لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وهو مطلع على جميع خطرات الأنفس. فإذا ضمّ الإنسان الرِّياء إلى عمله - مع علمه باطّلاع اللَّه عليه ونهيه عنه - فكأنّه بارز اللَّه وحاربه، فيكون جزاؤه غضب اللَّه عليه ومقته ونبذه وإبعاده عن رحمته.
وقد مرّ نظيره في الحديث الثالث من هذا الباب.
سند الحديث:
لهذا الحديث سندان:
أوّلهما: ما عن الحميري في «قرب الإسناد»: عن الحسن بن ظريف، عن الحسين بن علوان.
أما الحسن بن ظريف: فقد قال عنه النجاشي: «الحسن بن ظريف بنناصح، كوفي، يكنّى أبا محمد، ثقة، سكن ببغداد، وأبوه قبل، له نوادر، والرواة عنه كثيرون»((2)).
ص: 70
وورد في «النوادر»((1)) .
وأما: الحسين بن علوان: فقد ذكره النجاشي بقوله: «الحسين بن علوان، الكلبي، مولاهم، كوفي، عامي - وأخوه الحسن يكنّى أبا محمّد - ثقة، رويا عن أبي عبد اللَّه (علیه السلام) ، وليس للحسن كتاب، والحسن أخصّ بنا وأولى»((2)) .
وقد اختلف في رجوع التوثيق إليه أو إلى أخيه الحسن بن علوان، واستفاد بعضهم: أنّ التوثيق في كلامه راجع إلى الحسن، ولكنه فاسد، بل التوثيق راجع إلى الحسين؛ فإنّه المترجم له، وجملة «وأخوه الحسن يكنّى أبا محمد» جملة معترضة، وقد تكرّر مثل ذلك في كلام النجاشي في عدّة موارد((3)).
وقال ابن عقدة: إنّ الحسن كان أوثق من أخيه، وأحمد عند أصحابنا،ولا تخفى دلالته على التوثيق((4)) . وعليه فسند الحديث معتبر.
وثانيهما: الحسين بن سعيد في كتاب «الزهد».
وفي السند ممّن لم يتقدم، وهو أبو خالد: وهو مشترك؛ فإنّ هذه الكنية لعدّة أشخاص، المعروف منهم هو أبو خالد القمّاط، وهي أيضاً كنية
ص: 71
لعدّة أشخاص بهذا العنوان، والمعروف بينهم ثلاثة:
1 - كنكر أبو خالد القمّاط: المعروف بالكابلي، له كتاب((1)) ، جليل القدر، من حواريي الإمام السجاد (علیه السلام) ((2)) .
2 - صالح بن خالد: ولم يرد فيه شي ء سوى أنّ له كتاباً، ويروي عنه صفوان((3)).
3- يزيد أبو خالد القمّاط: اسمه يزيد بن ثعلبة، قاله ابن شهر آشوب((4)). وقال النجاشي: «كوفي، ثقة، روى عن أبي عبد اللَّه (علیه السلام) ، له كتاب يرويه جماعة»((5)) ، وراوي كتابه هو صفوان بن يحيى.ويوجد شخص رابع وهو: خالد بن يزيد، يكنّى أبا خالد القمّاط((6)) ، وليس له كتاب.
وكيف كان، فالثلاثة الأوائل كلهم ثقات ومعروفون، فينصرف إلى أحدهم عند الإطلاق. وعليه فلا إشكال في اعتبار السند.
ص: 72
[152] 15 - محمّد بْنُ عليّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ بَابَوَيْهِ(رضی الله عنه) بِإِسْنَادِهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ عِيسَى الْفَرَّاءِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَعْفُورٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الصَّادِقَ (علیه السلام) يَقُولُ: «قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (علیه السلام) : مَنْ كَانَ ظَاهِرُهُ أَرْجَحَ مِنْ بَاطِنِهِ خَفَّ مِيزَانُهُ»(1).
وَفِي «الْمَجَالِسِ»، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ محمّد بْنِ يَحْيَى، عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ محمّد بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، مِثْلَهُ(2).
-----------------------------------------------------------------------------
[15] - فقه الحديث:
دلّ الحديث على أنّ من كان ما يظهره من أعمال أحسن - في عين من يراه من الناس - ممّا يخفيه وأرجح، فهو ممّن خفّ ميزانه يوم القيامة {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ}((3))،
ومورد الآية يشمل من أشرك الناسَ في عبادة ربه رياء وسمعة، فإنّ الحقّ الواجب في العبودية للَّه تعالى يقتضي أن تكون العبادة خالصة من شوب الرِّياء والسمعة. والعبادة المأتيّ بها مشوبةً ليست عملاً مشتملاً على الحق الواجب في العبوديّة، فتكون محرمة، وغير مجزية عمّا هو الواجب عليه.
ص: 73
سند الحديث:
لهذا الحديث سندان:
أولهما: ما عن الصدوق بإسناده عن ابن أبي عمير.
وسند الصدوق إلى ابن أبي عمير في «مشيخة الفقيه» هكذا:
أبوه ومحمد بن الحسن(رضی الله عنه)، عن سعد بن عبد اللَّه والحميري جميعاً، عن أيّوب بن نوح ويعقوب بن يزيد وإبراهيم بن هاشم ومحمد بن عبد الجبار، جميعاً عنه((1)).
ويظهر من «الفهرست» للشيخ الطوسي: أنّ له طريقاً إلى جميع كتبه ورواياته، عن أبيه، عن سعد والحميري، عن إبراهيم بن هاشم، عنه((2)) .
وأمّا ابن أبي عمير: فقد تقدّم.
وفيه أيضاً: عيسى الفرّاء: والظاهر أنّه عيسى بن خليد الفرّاء الكوفي، الذي قال عنه الشيخ: «عيسى بن خليد، الفرّاء، الكوفي، أسند عنه»((3)) . وروى عنه المشايخ الثقات((4)).
وفيه أيضاً: عبد اللَّه بن أبي يعفور: قال عنه النجاشي: «عبد اللَّه بنأبي يعفور، العبدي... يكنّى أبا محمد، ثقة، ثقة، جليل في أصحابنا، كريم
ص: 74
على أبي عبد اللَّه (علیه السلام) ، ومات في أيّامه، وكان قارئاً يُقرى ء في مسجد الكوفة، له كتاب يرويه عنه عدّة من أصحابنا»((1)).
وروى الكشّي عن أسباط بن سالم، قال: قال أبو الحسن موسى بن جعفر (علیه السلام) : «إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ... ثمّ ينادي: أين حواريّ محمّد بن عليّ وحواريّ جعفر بن محمد؟ فيقوم عبد اللَّه بن شريك العامري، وزرارة بن أعين، وبريد بن معاوية العجلي، ومحمد بن مسلم، وأبو بصير ليث بن البختري المرادي، وعبد اللَّه بن أبي يعفور، وعامر بن عبد اللَّه بن جذاعة، وحجر بن زائدة، وحمران بن أعين»((2)).
وذكر الكشّي أيضاً: «عن محمّد بن مسعود قال: حدّثني عليّ بن الحسن: أنّ ابن أبي يعفور ثقة، مات في حياة أبي عبد اللَّه (علیه السلام) سنة الطاعون»((3)).
وأورد روايات عدّة فيها فضل ابن أبي يعفور ومقامه عند الإمام الصادق (علیه السلام) ، ومقدار طاعته وتسليمه له. وعدّه الشيخ المفيد من الفقهاءالأعلام، المأخوذ عنهم الحلال والحرام.((4)) وعليه فهذا السند معتبر.
وثانيهما: ما عن «المجالس» عن أحمد بن محمّد بن يحيى.
وفي السند ممّن لم يتقدم سابقاً، وهو: أحمد بن محمّد بن يحيى:
ص: 75
وقد ترضّى عنه الشيخ الصدوق (رحمه الله) ((1))، والترضّي علامة الوثاقة، بل وحتى لو لم نقل بوثاقته أو بحسنه بهذا الأمر فإنّه يمكن اعتبار طريق آخر للصدوق إلى سعد، لا يمرّ بأحمد بن محمّد هذا؛ فإنّ للشيخ الصدوق (قدس سره) طريقاً آخر إلى جميع كتب وروايات سعد،كما يظهر من «الفهرست»((2))، وهو: أخبرنا بجميع كتبه ورواياته عدّة من أصحابنا، عن محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه، عن أبيه ومحمد بن الحسن، عن سعد((3)) .
وعليه فهذا السند - أيضاً - معتبر كسابقه.
ص: 76
[153] 16 - وَفِي «عِقَابِ الأَعْمَالِ»، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ هَارُونَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْعَدَةَ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ (علیهم السلام) : «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله و سلم) سُئِلَ: فِيمَا النَّجَاةُ غَداً؟ فَقَالَ: إِنَّمَا النَّجَاةُ فِي أَنْ لا تُخَادِعُوا اللَّهَ فَيَخْدَعَكُمْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يُخَادِعِ اللَّهَ يَخْدَعْهُ، وَيَخْلَعْ مِنْهُ الإِيمَانَ، وَنَفْسَهُ يَخْدَعُ لَوْ يَشْعُرُ؛ قِيلَ لَهُ: فَكَيْفَ يُخَادِعُ اللَّهَ؟ قَالَ: يَعْمَلُ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ، ثمّ يُرِيدُ بِهِ غَيْرَهُ، فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي الرِّيَاءِ؛ فَإِنَّهُ الشِّرْكُ بِاللَّهِ. إِنَّ الْمُرَائِيَ يُدْعَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَرْبَعَةِ أَسْمَاءٍ: يَا كَافِرُ، يَا فَاجِرُ، يَا غَادِرُ، يَا خَاسِرُ، حَبِطَ عَمَلُكَ، وَبَطَلَ أَجْرُكَ، فَلا خَلاصَ لَكَ الْيَوْمَ، فَالْتَمِسْ أَجْرَكَ مِمَّنْ كُنْتَ تَعْمَلُ لَهُ»(1).
-----------------------------------------------------------------------------
[16] - فقه الحديث:
دلّ الحديث على أنّ المنجي من عذاب اللَّه يوم القيامة هو: الإخلاص في طاعته وعبادته، وأنّ الرِّياء - وهو أن يعمل الإنسان عملاً قد أمر اللَّه به، ولكنّه يريد به غير اللَّه - والسمعة هو الشرك باللَّه، وجزاؤه يوم القيامة أن يدعى بأسماء أربعة: يا كافر، يا فاجر، يا غادر، يا خاسر، وأن لا يكتب له من عمله شي ء، ولا ينفعه أحد ممّن عمل له في ذلك اليوم، ويقال له: اطلبأجر عملك ممّن كنت تعمل له. ومعنى مخادعة المرائي للَّه عزّوجلّ هو
ص: 77
وَرَوَاهُ فِي «مَعَانِي الأَخْبَارِ»، عَنْ محمّد بْنِ الْحَسَنِ، عَنِ الصَّفَّارِ، عَنْ هَارُونَ بْنِ مُسْلِمٍ(1).
وَرَوَاهُ فِي «الْمَجَالِسِ» وَ«مَعَانِي الأَخْبَارِ» أَيْضاً، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ هَارُونَ الْفَامِيِّ، عَنْ محمّد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ(2).
أَقُولُ: وَتَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ(3)، وَيَأْتِي مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ(4).
-----------------------------------------------------------------------------
خداعه بإظهار ما يخالف ما في نفسه؛ فإنّ الخداع من الإنسان يقع بالاحتيال والمكر، ومن اللَّه أن يتمّ عليهم النعمة في الدنيا، ويستر عنهم ما أعدّ لهممن عذاب الآخرة؛ فلذا قال جلّ شأنه: {يُخَادِعُونَ اللَّه وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}((5))، فجمع تعالى بين الفعلين؛
ص: 78
لتشابههما من هذه الجهة، لا أنّه يمكن خداع الباري تعالى؛ فإنّ الخديعة تجوز على من لا يعلم السرّ دون من يعلمه.
سند الحديث:
قد أورد المصنف لهذا الحديث ثلاثة أسانيد:
أولها: ما في «عقاب الأعمال» عن أبيه.
وفيه ممّن لم يتقدم ذكره، نحو:
مسعدة بن زياد: قال عنه النجاشي: «مسعدة بن زياد، الربعي، ثقة، عين، روى عن أبي عبد اللَّه (علیه السلام) »((1))
، وعليه فهذا السند معتبر.
وثانيها: ما في «معاني الأخبار».
ورجال السند تقدموا جميعاً، والسند معتبر بلا إشكال.
وثالثها: ما في «الأمالي» و«معاني الأخبار».
وفيه: أحمد بن هارون الفامي (القاضي): وهو من مشايخ الصدوق (رحمه الله) ، روى عنه كثيراً، مترحّماً عليه، ومترضّياً عنه((2))، وروى عنهالشيخ المفيد (رحمه الله) أيضاً مترحمّاً عليه. وعليه فهو ثقة.
وفيه أيضاً: محمّد بن عبد اللَّه بن جعفر: وهو ابن عبد اللَّه بن جعفر الحميري، وهو ثقة كأبيه؛ لأنّه من مشايخ ابن قولويه في «كامل الزيارات». وعليه فالسند معتبر - أيضاً - بلا إشكال.
ص: 79
والحاصل: أنّ في هذا الباب ستّة عشر حديثاً، عشرة منها معتبرة، وستّة غير معتبرة، إلّا على بعض المباني.
والمستفاد من هذا الباب أمور:
منها: أنّ الرِّياء حرام، وهو من الكبائر، وكذا السّمعة.
ومنها: أنّ الرِّياء شرك باللَّه عزّوجلّ.
ومنها: أنّ الرِّياء موجب لمقت اللَّه وغضبه.
ومنها: أنّ الرِّياء نفاق.
ومنها: أنّ الرِّياء مخادعة للَّه سبحانه.
ومنها: أنّ الرِّياء موجب لخفّة الميزان.
ومنها: أنّ الرِّياء موجب للعقاب، وعدم إجابة الدعاء.
ومنها: أنّ الرِّياء من السيّئات، وهو باطل وضلال وغيّ.
ومنها: أنّ الرِّياء من أسباب الهلاك يوم القيامة.
ومنها: أنّ العمل المراءى به غير مقبول.
ومنها: أنّ العمل المراءى به يظهره اللَّه للناس، ويردِّيه اللَّه به.ومنها: أنّ اللَّه يوكل المرائي إلى الناس.
ومنها: أنّ اللَّه يوكل المرائي إلى عمله الذي عمله، وهو موجب لخسرانه.
ومنها: أنّ المرائي يخلع منه الإيمان، ولا خلاص له يوم القيامة.
ومنها: أنّ المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء: يا كافر، يا فاجر، يا غادر، يا خاسر.
ص: 80
-----------------------------------------------------------------------------
12 - باب بطلان العبادة المقصود بها الرِّياء
شرح الباب:
هذا الباب معقود لبيان الجهة الوضعيّة للرِّياء، وهي بطلان العبادة بانضمام الرِّياء إليها، فهي غير مقبولة، ولا ثواب لها، بل هي موجبة للعقاب؛ لأنها شرك واستهانة بالرب الجليل تبارك وتعالى.
أمّا الخاصة: فقد أشرنا سابقاً إلى أن مشهور فقهاء الإماميّة يرون بطلان العبادة بانضمام الرِّياء إليها؛ فعن جامع المقاصد «قولاً واحداً»((1))، ونفى في الجواهر العلم بالخلاف((2))، عدا ما عن السيد المرتضى (قدس سره) في «الانتصار»((3))، حيث ذهب إلى حرمة العمل المأتيّ به، وعدم قبوله، دون البطلان؛ لأنّ الأدلة تدل على عدم القبول فحسب.
وقوله هذا مخدوش، فإنّه إن كان مراده عدم البطلان حتّى مع فقد قصدالقربة، فبطلانه ضروري؛ لأنّ العبادات متقوّمة بقصدها عند الجميع، حتّى
ص: 81
عنده (قدس سره) .
وإن كان مراده: أنّ الرِّياء من الضمائم التي لا تضرّ بقصد القربة، فإطلاق بعض أحاديث الباب تردّه، كالحديث الأول والثالث؛ فإنّ في الأول دلالة على استحقاق المرائي النار على عمله، فكيف يمكن أن يكون العمل صحيحاً، ومع ذلك يوجب استحقاق النار؟! وفي الثالث على أنّ عمله يجعل في سجّين، فكيف يمكن أن يكون العمل صحيحاً، ومع ذلك يؤمر بجعله في سجين؟!
مضافاً إلى أنّه لا ينحصر الدليل على البطلان بما دلّ على نفي القبول.
مضافاً أيضاً إلى أنّ عدم القبول قد يطلق في الأخبار على عدم الصحة، كما في خبر ابن بكير الوارد في الصلاة فيما لا يؤكل لحمه: «لا تقبل تلك الصلاة حتّى يصلّي في غيره»((1))
، وكذا في ما ورد من عدم قبول الصلاة ممّن صلّى بلا طهور((2)).
وأمّا عند العامّة: فقد ذكر في «المجموع»: «هل يشترط الإضافة إلى اللَّه في نيّة الوضوء وسائر العبادات؟ فيه وجهان، حكاهما إمام الحرمين والغزالي ومن تابعهما، أصحهما لا يشترط؛ لأنّ عبادة المسلم لا تكون إلّاللَّه تعالى، ومقتضى كلام الجمهور القطع بأنّها لا تشترط»((3)).
ص: 82
وقال ابن رجب في «جامع العلوم والحكم»: «واعلم أنَّ العمل لغير الله أقسام: فتارةً يكون رياءً محضاً، بحيث لا يُرادُ به سوى مراءات المخلوقين لغرض دُنيويٍّ كحالِ المنافقين في صلاتهم، كما قال الله عز وجل: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً}((1)).
وقال تعالى:{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ}((2)).
وكذلك وصف الله الكفار بالرِّياء في قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}((3)).
وهذا الرِّياءُ المحضُ لا يكاد يصدُر من مُؤمنٍ في فرض الصَّلاة أو الصِّيام، وقد يصدُر في الصَّدقةِ الواجبة أو الحجِّ، وغيرهما من الأعمال الظاهرةِ، أو الَّتي يتعدَّى نفعُها، فإنَّ الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا يشكُّ مسلمٌ أنَّه حابِط وأن صاحبه يستحقُّ المقتَ مِنَ الله والعُقوبة.
وتارةً يكونُ العمل لله، ويُشاركُه الرَّياءُ، فإنْ شارَكَهُ مِنْ أصله، فالنُّصوص الصَّحيحة تدلُّ على بُطلانِهِ وحُبُوطه أيضاً»((4)).
وقد تقدّم عن الحريري - في
ص: 83
[154] 1 - محمّد بْنُ عليّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ بَابَوَيْهِ(رضی الله عنه) فِي كِتَابِ «عِقَابِ الأَعْمَالِ»، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ محمّد بْنِ يَحْيَى، عَنِ الْعَمْرَكِيِّ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ عليّ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَخِيهِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ آبَائِهِ صلوات اللَّه عليهم، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله و سلم): يُؤْمَرُ بِرِجَالٍ إِلَى النَّارِ - إِلَى أَنْ قَالَ - فَيَقُولُ لَهُمْ خَازِنُ النَّارِ: يَا أَشْقِيَاءُ مَا كَانَ حَالُكُمْ؟ قَالُوا: كُنَّا نَعْمَلُ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَقِيلَ لَنَا: خُذُوا ثَوَابَكُمْ مِمَّنْ عَمِلْتُمْ لَهُ»(1).
وَفِي «الْعِلَلِ»، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ محمّد بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَبِيهِ، مِثْلَهُ(2).
-----------------------------------------------------------------------------
«الفقه على المذاهب الأربعة» - الحكم ببطلان صلاة المرائي، ولم يذكر الخلاف في ذلك((3)).
[1] - فقه الحديث:
دلّ الحديث صراحةً على أنّ المرائي يستحق دخول النار بسبب عمله. ولا شكّ أنّ العمل الذي يؤدّي بصاحبه إلى النار باطل، وغير مقبول؛ لوضوح أنّ العمل الذي يوجب دخول النار عمل محرّم، والمحرّم لا يكون مصداقاً للواجب.
ص: 84
سند الحديث:
للحديث
المذكور هنا سندان:
السند الأول: ما في «عقاب الأعمال» للشيخ الصدوق، عن أبيه، عن محمّد بن يحيى، عن العمركي الخراساني، عن عليّ بن جعفر.
والمراد من محمّد بن يحيى هو العطّار شيخ الكليني.
وأمّا العَمْرَكي الخراساني: فهو على ما قاله النجاشي: «العمركي بن علي، أبو محمّد البوفكي، وبوفك قرية من قرى نيشابور، شيخ من أصحابنا، ثقة، روى عنه شيوخ أصحابنا، منهم: عبد اللَّه بن جعفر الحميري»((1)) .
وبقيّة رجال السند تقدّم الكلام فيهم. وعليه فلا إشكال في صحّة السند.
والسند الثاني: ما عن «العلل»، عن أحمد بن محمّد بن يحيى، عن أبيه.وهو معتبر؛ لأنّ أحمد بن محمّد بن يحيى ترضّى عنه الشيخ الصدوق (قدس سره) ((2)).
ص: 85
[155] 2 - وَعَنْ محمّد بْنِ مُوسَى بْنِ الْمُتَوَكِّلِ، عَنِ السَّعْدَآبَادِيِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ وَالْحَسَنِ بْنِ عليّ بْنِ فَضَّالٍ، عَنْ عليّ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خَلِيفَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) : «مَا عَلَى أَحَدِكُمْ لَوْ كَانَ عَلَى قُلَّةِ جَبَلٍ حتّى يَنْتَهِيَ إِلَيْهِ أَجَلُهُ؟! أَتُرِيدُونَ تُرَاءُونَ النَّاسَ؟! إِنَّ مَنْ عَمِلَ لِلنَّاسِ كَانَ ثَوَابُهُ عَلَى النَّاسِ، وَمَنْ عَمِلَ للَّهِ كَانَ ثَوَابُهُ عَلَى اللَّهِ. إِنَّ كلّ رِيَاءٍ شِرْكٌ»(1).
-----------------------------------------------------------------------------
[2] - فقه الحديث:
دلّ الحديث على رجحان إخفاء العبادة عن الناس، إذا خيف الرياء أو السمعة من إظهارها، ولو أدّى ذلك إلى ترك معاشرة الناس؛ فإنّ ترك المعاشرة حينئذٍ جائز، إذا لم تجب عليه من جهة أخرى. وحينئذٍ فأيّ ضرر أو نقص ينتج من العزلة ولو كانت على أعلى جبل من الجبال حتّى يأتي الأجل، فإنّها خير من ارتكاب الرياء؛ فإنّ من راءى الناسَ كان ثوابه - لو كان لازماً على أحد - لازماً عليهم؛ فإنّه تعالى قد شرط في الثواب الإخلاص، فهو لا يستحقّ منه تعالى شيئاً، والحال أن الناس لا يملكون له نفعاً حتّى يثيبوه.
ولعلّ المراد: أنّه تعالى يحيله يوم القيامة على الناس، وهم يومئذٍ لاينفعونه، والأمر كلّه للَّه سبحانه.
ص: 86
ودلّ الحديث أيضاً على أن الرِّياء شرك، وهو الشرك الخفي؛ فإنّ المرائي لمّا أشرك في قصد العبادة غيره تعالى من الناس، فيكون كمن يثبت معبوداً غيره سبحانه، كالأصنام وغيرها ممّا اتّخِذ أرباباً من دون اللَّه. وعلى هذا فيكون عمله مبغوضاً ومبعّداً وحراماً، والعمل المتّصف بهذه الصفات يكون باطلاً لا محالة.
سند الحديث:
في السند ممّن لم يتقدم، نحو: يزيد بن خليفة: قال عنه النجاشي: «روى عن أبي عبد اللَّه (علیه السلام) ، له كتاب يرويه جماعة»((1)).
وقال الشيخ في «رجاله» في باب أصحاب الكاظم (علیه السلام) : يزيد بن خليفة واقفي((2)).
وقد وردت عدّة روايات في مدحه، ولكنّها إمّا ضعيفة، أو كان هو الراوي لها، فتكون مدحاً لنفسه.
ولكن روى عنه المشايخ الثقات((3)) ، وهو كافٍ في وثاقته. وعليه فالسند معتبر.
ص: 87
[156] 3 - محمّد بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ عليّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّوْفَلِيِّ، عَنِ السَّكُونِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) ، قَالَ: «قَالَ النَّبِيُّ(صلی الله علیه و آله و سلم): إِنَّ الْمَلَكَ لَيَصْعَدُ بِعَمَلِ الْعَبْدِ مُبْتَهِجاً بِهِ، فَإِذَا صَعِدَ بِحَسَنَاتِهِ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: اجْعَلُوهَا فِي سِجِّينٍ؛ إِنَّهُ لَيْسَ إِيَّايَ أَرَادَ بِهِ(1)»(2).
-----------------------------------------------------------------------------
[3] - فقه الحديث:
دلّ الحديث على أنّ الملك الموكّل بعرض أعمال العبد على اللَّه عزّوجلّ يشرع في الصعود بعمل العبد مبتهجاً مسروراً بما يحمل من عمل، فإذا تمّ صعوده ووصل إلى موضع يعرض فيه الأعمال على اللَّه تعالى، قال اللَّه تعالى: أثبتوا تلك الأعمال التي تزعمون أنّها حسنات في ديوان الفجّار، الذي هو في سجّين، كما قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ}((3)).
وهو بإطلاقه يفيد: أنّ ضمّ الرِّياء والسمعة للعمل موجب لإثباته في سجّين. فإذا كان العمل بهذه المثابة فإنّه لا يكون صحيحاً.سند الحديث:
قد تقدّم هذا السند بعينه مكرّراً، والحديث معتبر.
ص: 88
[157] 4 - وَعَنْهُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي الْمَغْرَا، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خَلِيفَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) : «كُلُّ رِيَاءٍ شِرْكٌ. إِنَّهُ مَنْ عَمِلَ لِلنَّاسِ كَانَ ثَوَابُهُ عَلَى النَّاسِ، وَمَنْ عَمِلَ للَّهِ كَانَ ثَوَابُهُ عَلَى اللَّهِ»(1).
-----------------------------------------------------------------------------
[4] - فقه الحديث:
مرّت دلالة الحديث عند بيان دلالة الحديث الثاني.
سند الحديث:
أورد المصنف الحديث بطريقين:
الأوّل: تقدّمت أفراده فيما سبق، وهو معتبر.
والثاني: عن محمّد بن سنان، عن يزيد بن خليفة، كما سيأتي في ذيل الحديث السادس من الباب، وهو كسابقه.
ص: 89
[158] 5 - وَعَنْ محمّد بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ محمّد بْنِ عِيسَى، عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ، عَنْ عليّ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) يَقُولُ: «اجْعَلُوا أَمْرَكُمْ هَذَا للَّهِ، وَلا تَجْعَلُوهُ لِلنَّاسِ؛ فَإِنَّهُ مَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ للَّهِ، وَمَا كَانَ لِلنَّاسِ فَلا يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ»(1)1*).
-----------------------------------------------------------------------------
[5] - فقه الحديث:
دلّ الحديث على لزوم جعل أمر الشيعة - وهو: إمّا الاعتقادات الحقّة التي منها الولاية، وإمّا العبادات، وإما كلا الأمرين - للَّه، إمّا بمعنى التقرّب إليه، وإمّا امتثال أمره تعالى؛ لأنّه تعالى أمر به. فإذا قُصد بالمأتيّ به وجه اللَّه كان مقبولاً عنده، بل الإخلاص شرط في قبول العمل، فهو تعالى لا يرضى بما هو مشوب بشي ء آخر غير وجهه الكريم، أو ما يرجع إليه تعالى.
وأمّا إذا قُصد الناس بالمأتيّ به، فهو لا يصعد إلى اللَّه تعالى، وهو مردود على صاحبه؛ فإنّه لم يفِ بشرط القبول، فليس له عند اللَّه شي ء.
سند الحديث:
أورد المصنف الحديث بطريقين:
الأوّل: وفيه ممّن لم يتقدم ذكره، نحو: عقبة: وهو مشترك بين جماعةكثيرة، والمعروف منهم اثنان، كلاهما في طبقة واحدة، وهما:
ص: 90
[159] 6 - وَعَنْهُ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ جَرَّاحٍ الْمَدَائِنِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ كانَ يَرْجُو لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}(1)، قَالَ: «الرَّجُلُ يَعْمَلُ شَيْئاً مِنَ الثَّوَابِ لا يَطْلُبُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ، إِنَّمَا يَطْلُبُ تَزْكِيَةَ النَّاسِ، يَشْتَهِي أَنْ يُسَمِّعَ بِهِ النَّاسَ، فَهَذَا الَّذِي أَشْرَكَ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ»، ثمّ قَالَ: «مَا مِنْ عَبْدٍ أَسَرَّ خَيْراً فَذَهَبَتِ الأَيَّامُ أَبَداً حتّى يُظْهِرَ اللَّهُ لَهُ خَيْراً، وَمَا مِنْ عَبْدٍ يُسِرُّ شَرّاً فَذَهَبَتِ الأَيَّامُ حتّى يُظْهِرَ اللَّهُ لَهُ شَرّاً»(2).
-----------------------------------------------------------------------------
عقبة بن محمد: روى عنه ابن أبي عمير كتابه.
عقبة بن خالد: وهو والد عليّ بن عقبة، ولم يرد فيه شي ء، إلّا أنّه ورد في «نوادر الحكمة»((3))
، فيكون ثقة. وعليه فالسند معتبر.
والثاني: عن الحسين بن سعيد في كتاب «الزهد»، عن عليّ بن عقبة، كما سيأتي في ذيل الحديث السادس من الباب، وهو معتبر.
[6] - فقه الحديث:
دلّ الحديث على أنّ السمعة شرك، وأنّ من كان يرجو لقاء اللَّه فلا بّد له
ص: 91
وَرَوَاهُ الْحُسَيْنُ بْنُ سَعِيدٍ فِي كِتَابِ «الزُّهْدِ»، عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ(1)1*)، وَالَّذِي قَبْلَهُ: عَنْ عليّ بْنِ عُقْبَةَ، وَالَّذِي قَبْلَهُمَا: عَنْ محمّد بْنِ سِنَانٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خَلِيفَةَ، مِثْلَهُ.
-----------------------------------------------------------------------------
من الإتيان بالعمل الصالح كما أراده اللَّه، وأن يكون ذلك العمل خالصاً لوجهه تعالى.
وعلى هذا فمن عمل عملاً عباديّاً ولم يقصد به وجه اللَّه تعالى، بل قصد مدح الناس وتزكيتهم له، واشتهى أن يسمعهم به، فهذا هو الذي أشرك بعبادة ربّه.
وأمّا من عمل للَّه خالصاً وأخفى عمله؛ خوفاً من الرِّياء، وطلباً لرضاه تعالى، فإنّ اللَّه سيظهره ويظهر حاله يوماً لعباده، ويصرف قلوبهم إليه؛ ليمدحوه ويعظِّموه، ويكون عمله الخالص موجباً لترغيب الناس وتحريكهم إلى فعل الخير، فيحصل له مع ثناء اللَّه تعالى عليه ثناء الناس أيضاً، وبدون ترتّب أيّ منقصة في حقه على عمله.
ويقابله أنّ مَن عمل للَّه وأظهر عمله طلباً لرضا الناس صرف اللَّه عنهقلوبهم وجعلها مبغضة له.
وأمّا من عمل رياء أو عمل شرّاً وأخفاه؛ خوفاً من لوم الناس وذمّهم له، فإنّه تعالى يرتّب على إخفائه ذلك نقيض مقصوده، فيظهره لعباده، ويظهر
ص: 92
سوء حاله؛ ليذمّوه ويحقّروه.
سند الحديث:
أورد المصنف الحديث بطريقين:
الأوّل: وفيه جرّاح المدائني: وقد تقدّم أنّ كتابه مشهور، وأنّه ورد في «مشيخة الفقيه»، وروى الصدوق بسنده عنه. ويمكن تصحيح أمثال هذا الحديث بكونه وارداً في كتب الحسين بن سعيد، المشهورة والمعوّل عليها عند الطائفة.
الثاني: ما رواه الحسين بن سعيد في كتاب «الزهد»، عن النضر بن سويد. والكلام فيه هو ما تقدّم في سابقه.
وأمّا بقيّة الأشخاص والأسانيد التي ذكرها المصنف في ذيل هذا الحديث، فقد مضى الكلام فيها في محلّها المناسب لها قريباً.
ص: 93
[160] 7 - أَحْمَدُ بْنُ محمّد بْنِ خَالِدٍ الْبَرْقِيُّ فِي «الْمَحَاسِنِ»، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) ، قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا خَيْرُ شَرِيكٍ، فَمَنْ عَمِلَ لِي وَلِغَيْرِي فَهُوَ لِمَنْ عَمِلَهُ غَيْرِي»(1).
-----------------------------------------------------------------------------
[7] - فقه الحديث:
وصف الباري عزّوجلّ نفسه بأنّه: «خير شريك». والمراد منه: إمّا أنّه سبحانه لا يقبل الشركة؛ لأنّه سبحانه غنيّ لا يحتاج إلى الشركة، وإنّما يقبل الشركة من لم يكن غنيّاً بالذات، فلا يقبل العمل المخلوط؛ لرفعته وغناه سبحانه. أو يكون المراد: أنّي محسن إلى الشركاء، أدع إليهم ما كان مشتركاً بيني وبينهم، ولا أقبله؛ ولذا ورد: «أنّ اللَّه عزّوجلّ يقول: أنا خير شريك، ما شوركت في شي ء إلّا تركته»((2)).
ولعل الوجه فيه: أنّ التشريك هتك واستهانة بساحة المولى جلّ وعلا.
والترك هنا وعدم القبول يفيدان بطلان العمل المأتيّ به لغيره تعالى؛ فإنّه سبحانه قد نزّله منزلة العمل الذي أتى به العبد خالصاً لغيره تعالى. ومن الظاهر: أنّ العمل لغيره ممّا لا يحسب من العمل للَّه في ديوانه، بل يحسب لمن أتى له.فالعمل المشوب بالرياء أو السمعة باطل غير مرضي عند الله سبحانه.
ص: 94
وحول قوله (علیه السلام) : «فهو لمن عمله غيري»، قال السيد الأستاذ (قدس سره) : هكذا في نسخة «الوسائل» المطبوعة جديداً وقديماً، والظاهر: أنّها غلط. وفي نسختنا المصححة من «الوسائل»: «فهو كمن عمله غيري»، والظاهر: سقوط اللام عن قوله «غيري». وعليه فالرواية هكذا: «من عمل لي ولغيري فهو كمن عمله لغيري»((1)) أو كلمة «غيري» بيان لقوله «لِمَن».
ولكن في «البحار»: «فهو لمن عمل له غيري»((2)).
والأمر سهل.
سند الحديث:
تقدّم الكلام في رجال الحديث جميعاً، والسند معتبر.
ص: 95
[161] 8 - محمّد بْنُ الْحُسَيْنِ الرَّضِيُّ فِي «نَهْجِ الْبَلاغَةِ»، عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (علیه السلام) ، قَالَ: «كَمْ مِنْ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صَوْمِهِ إِلَّا الظَّمَأُ وَالْجُوعُ، وَكَمْ مِنْ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا [السَّهَرُ وَ](1) الْعَنَاءُ. حَبَّذَا صَوْمُ(2) الأَكْيَاسِ(3) وَإِفْطَارُهُمْ»(4).
-----------------------------------------------------------------------------
[8] - فقه الحديث:
دلّ الحديث على أنّ المدار في الأعمال على الإخلاص فيها، وليس المدار على كثرة العمل كيف كانت، وكونه حسناً في عين رائيه. فالخوارج كانوا أهل سهر وعناء في قيام الليل وتلاوة القرآن، وكذلك كثير من الفِرَق الباطلة، لكنّها كلّها عاملة ناصبة. فما لم يتحقق الإخلاص من شوب الرِّياء لم يفد العمل صاحبه، وذهب عمله هباءً، وكان باطلاً، ولم يترتب عليه الثواب الموعود على العمل، بل كان صاحبه مستحقاً للعقاب الأليم، ما لم يتب.
وإنّما مدح (علیه السلام) نوم الأكياس وإفطارهم؛ لأنّ الكيّس هو الذي يستعمل ذكاءه وفطنته في طريق الخير، وعلى الوجه المرضيّ للشارع المقدّس،ويضع كلّ شي ء في موضعه. ومن كان كذلك كان نومه وإفطاره وجميع
ص: 96
تصرّفاته في عباداته في موضعها، من رضا اللَّه تعالى ومحبّته، بخلاف الجاهلين باللَّه وبشرائط العبادة، فإنّ نصيبهم من الصيام والقيام ما ذكره أمير المؤمنين (علیه السلام) من الجوع والعطش في حال الصوم عن رياء، والسَّهر والتعب في حال القيام رياءً. ولا يصير صومه جنّة له من النّار في الآخرة ولا زكاة لبدنه في الدنيا.
كما لا ينهاه قيامه - وهو صلاته التي يصليها فرضاً أو نفلاً - عن الفحشاء والمنكر، مع أن الصوم جنة من النار وزكاة للبدن، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.
والحاصل: أنهم لم يدركوا الراحة في الدنيا بسبب ما عانوه من مشقّة الصيام والصلاة، ولا الفائدة المترتبة عليهما في الآخرة.
سند الحديث:
هو محكوم بالإرسال، كما تقدم.
ص: 97
[162] 9 - الْحَسَنُ بْنُ محمّد الطُّوسِيُّ فِي «الأَمَالِي»، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْمُفِيدِ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ محمّد التَّمَّارِ، عَنْ محمّد بْنِ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ دَاوُدَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ(1)، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله و سلم): «رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ»(2).
-----------------------------------------------------------------------------
[9] - فقه الحديث:
تقدّم تقريب دلالته في الحديث السابق.
سند الحديث:
فيه: الحسين بن محمّد النحوي، أبو الطيّب التمّار: وهو من مشايخ الشيخ المفيد (رحمه الله) ، روى عنه في عدّة موارد((3)).
والظاهر أنّه من العامة، وذكره الخطيب في «تاريخه»((4))، والعسقلاني في «لسان الميزان»((5))، ولميرد فيه شي ء، وعليه فهو مجهول.
ص: 98
وفيه أيضاً: محمّد بن يحيى بن سليمان: وهو محمّد بن يحيى بن سليمان بن زيد بن زياد، أبو بكر المروزي. وهو من العامة أيضاً . ولم يرد فيه شي ء كذلك.
وفيه أيضاً: يحيى بن داود: ولم يرد فيه شي ء كذلك.
وفيه أيضاً: جعفر بن سليمان: وهو مشترك بين ثلاثة أشخاص:
أحدهم: من أصحاب الإمام الكاظم (علیه السلام) ، وله أربع روايات فحسب، ولم يرد فيه توثيق.
وثانيهم: جعفر بن سليمان القمّي: الذي قال عنه النجاشي: «أبو محمد، ثقة من أصحابنا القمّيّين، له كتاب ثواب الأعمال»((1))، ويروي عنه ابن الوليد، فهو متأخّر طبقةً.
وثالثهم: جعفر بن سليمان الضُّبَعِي البصري: وثّقه الشيخ في «الرجال» في أصحاب الصادق (علیه السلام) ((2)).
وعليه، فيدور أمره بين الأول والثالث. والظاهر أنّه الثالث؛ لأنّه هو المعروف بالحديث عند العامة أيضاً، وقد وصفوه بأنّه رافضيّ، ووثّقهأكثرهم، كأبي حاتم، وابن سعد، وابن أبي شيبة، والسمعاني، وضعّفه بعضهم، وقد اختلفوا في مذهبه((3)). ولكن في المصدر: إسماعيل بن جعفر، وهو من
ص: 99
العامّة، وثَّقه أبو زرعة ويحيى بن معين والنسائي وأحمد وجماعة((1)).
وفيه أيضاً: عمر بن أبي عمرو: في رجال الشيخ (رحمه الله) أنه أعطاه أمير المؤمنين راية الهذيل في صفين((2)).
وأمّا عند العامة فاسم أبيه: مَيْسَره، مولى المطلب بن عبد اللَّه. واختلفوا فيه، قال أبو زرعة: ثقة، وقال أبو حاتم وابن عدي: لا بأس به، وقال النسائي: ليس بالقويّ، وعن يحيى بن معين: في حديثه ضعف، ليس بالقوي((3)) (وحوله كلام طويل).
وفيه أيضاً: المَقْبِري أبو سعيد: وهو مدني تابعي، وثّقه العجلي في كتاب «معرفة الثقات»، وقال: إنّ اسمه كَيْسان((4)). وذكره ابن حبّان في كتاب «الثقات»((5)). وقال ابن حجر في «التقريب»: «ثقة، ثبت»((6)). وقال الواقدي: ثقة. وقال النسائي: لا بأس به. وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل المدينة. توفي في سنة مائة في خلافة عمر بن عبد العزيز((7))،
وهو كسابقه.
وفيه أيضاً: أبو هريرة: الصحابي المشهور بالكذب والانحراف عن أميرالمؤمنين (علیه السلام) . وعلى هذا فالسند ضعيف.
ص: 100
[163] 10 - الْحُسَيْنُ بْنُ سَعِيدٍ فِي كِتَابِ «الزُّهْدِ»، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) يَقُولُ: «يُجَاءُ بِالْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَدْ صَلَّى، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، قَدْ صَلَّيْتُ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَيُقَالُ لَهُ: بَلْ صَلَّيْتَ؛ لِيُقَالَ: مَا أَحْسَنَ صَلاةَ فُلانٍ. اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ».
ثمّ ذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْقِتَالِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالصَّدَقَةِ(1).
-----------------------------------------------------------------------------
[10] - فقه الحديث:
دلّ الحديث على أنّ الرياء في العبادات كالصلاة والجهاد وقراءة القرآن والصدقة مبطل لها؛ وذلك لأنّه يؤمر بالمرائي فيها إلى النار؛ لأنّه قد ابتغى وجه الناس، مع أنّه يظنّ تحقّق قصد القربة منه.
والعبادة التي يؤمر بصاحبها بسببها إلى النار لا تكون صحيحة قطعاً، وما يكون مبغوضاً بهذه الدرجة كيف يكون صحيحاً ومقرّباً ؟!
سند الحديث:
فيه: القاسم بن محمد: وهو الجوهري، وقد تقدّم الكلام عنه.
وفيه أيضاً: علي: وهو عليّ بن أبي حمزة البطائني؛ بقرينة روايته عن أبي بصير، وقد تقدّم الكلام عنه أيضاً. وهو ضعيف، إلّا أن يقال باعتباره
ص: 101
[164] 11 - وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسَى، عَنْ عليّ بْنِ سَالِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) يَقُولُ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الأَغْنِيَاءِ عَنِ الشَّرِيكِ، فَمَنْ أَشْرَكَ مَعِي غَيْرِي فِي عَمَلٍ(1) لَمْ أَقْبَلْهُ(2)، إِلَّا مَا كَانَ لِي خَالِصاً»(3).
أَقُولُ: وَتَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ(4).
-----------------------------------------------------------------------------
لوروده في كتب الحسين بن سعيد المعوّل عليها؛ أو لأنّ روايات البطائني كانت قبل الوقف، فتعتبر لذلك.
[11] - فقه الحديث:
مضى تقريب دلالة الحديث في الحديث السابع.سند الحديث:
قد تقدم جميع رجال الحديث، والسند معتبر.
بقي أمران ينبغي التعرّض لهما:
ص: 102
الأمر الأول: أنحاء دخول الرياء في العمل العبادي، والحكم الوضعي لكل منها.
والأمر الثاني: في علاج الرياء.
أمّا الأول: فالرياء في العمل على أنحاء:
النحو الأول: أن يأتي بالعمل لمجرد إراءة الناس، من دون أن يقصد به امتثال أمر اللَّه تعالى، بأن يكون الداعي الوحيد هو الرياء فحسب، ولا يقصد به طاعة الربّ بوجه. وهذا باطل بلا إشكال؛ لأنّه فاقد لقصد القربة أيضاً.
النحو الثاني: أن يكون داعيه ومحرِّكه على العمل القربة وامتثال الأمر والرياء معاً.
وهذا على أربع صور:
الصورة الأولى: أن يكون الباعث على ارتكاب العمل والمحرّك نحوه مجموع القصدين، فكل منهما جزء من المؤثّر، بحيث لو انعزل أحدهما عن الآخر لما أقدم على العمل؛ لقصور كلّ منهما وحده عن صلاحيّة الدعوة والتحريك، فلا يكون الداعي إلّا مجموع القصدين على صفة الانضمام.
ولا شكّ في البطلان في هذه الصورة على القاعدة؛ لأنّه يعتبر قصدالتقرّب في العبادة، بمعنى: أن يكون الانبعاث نحو العمل عن قصد الأمر، وهذا الانبعاث مفقود في المقام؛ لقصور الداعي عن صلاحيّة الدعوة في حدّ نفسه.
الصورة الثانية: أن يكون كلّ منهما مستقلاً في التأثير في حدّ نفسه،
ص: 103
بحيث لو انفرد عن الآخر كان تامّ الداعويّة وصالحاً للتحريك، وإن كان التأثير الفعلي مستنداً إلى مجموع الأمرين.
ومقتضى القاعدة هنا الصحة؛ لصدق أنّ العمل صدر عن داعٍ قربي مستقلّ في الداعويّة في حدّ نفسه، وإن انضمّ له داعٍ آخر؛ فإنّه لا يعتبر في اتّصاف العمل بالعباديّة عدم اقترانه بداع آخر غير الداعي القربي، ولو كان ذلك الداعي مستقلاً في الدعوة في حدّ نفسه.
الصورة الثالثة: أن يكون الداعي الإلهي أصيلاً والريائي تابعاً.
ومقتضى القاعدة هنا الصحة أيضاً، بل الصحة هنا أولى؛ لأنّ الداعي الإلهي هو الأصيل، وهو المحرِّك نحو العمل، ولم يعتبر في اتّصاف العمل بالعباديّة أن لا يقترن بداعٍ آخر غير الداعي القربي. هذا بحسب مقتضى القاعدة.
ولكن أحاديث الباب تقتضي الخروج عن هذه القاعدة في الصورتين الثانية والثالثة جميعاً، والحكم بالبطلان فيهما؛ حيث إنّ إطلاقها يشمل حتّى هاتين الصورتين؛ فإنّ التعبير بالشرك في بعضها يقتضي حرمة العمل المأتيّبه رياءً، فإذا كان حراماً بطل؛ فإنّ الحرام لا يكون مصداقاً للواجب.
وكذا التعبير بإدخال رضا أحد من الناس في العمل؛ فإنّه من الواضح: أنّ إدخال رضا أحد من الناس يصدق حتّى فيما إذا كان الرياء تابعاً، فضلاً عمّا إذا كان مستقلاًّ في التحريك في عرض الباعث الإلهي نحو العمل.
الصورة الرابعة: أن يكون الداعي الريائي أصيلاً والإلهي تابعاً. وبطلان
ص: 104
العبادة في هذه الصورة لا يحتاج إلى بيان.
وبالجملة: مقتضى إطلاق النصوص هو البطلان في جميع هذه الصور.
النحو الثالث: أن يقصد ببعض الأجزاء الواجبة في العبادة الرِّياء، وهذا أيضاً موجب للبطلان. والكلام تارة في الصلاة، وأخرى في غيرها من العبادات:
أمّا في الصلاة: فنفس الجزء المراءى فيه محكوم بالبطلان، لصدوره رياءً حسب الفرض، وبتبعه تفسد الصلاة أيضاً، سواء تداركه مع بقاء محل التدارك أم لا؛ للإخلال بها من جهة النقيصة أو الزيادة كما لا يخفى. هذا إذا قصد بالجزء المأتي به الجزئية. وأمّا إذا لم يقصد الجزئية، فلا، إلّا إذا استلزم الفصل الطويل الماحي لصورة الصلاة.
وأمّا في غير الصلاة من سائر العبادات، ممّا لا تكون الزيادة مبطلة لها، كالوضوء والغسل ونحوهما، فلا موجب للبطلان أصلاً. فلو غسل يده اليمنى رياءً - ولو بقصد الجزئيّة - ثمّ ندم فتداركه بقصد التقرّب صحَّ، معمراعاة الموالاة ؛ لعدم كون الزيادة مبطلة في غير الصلاة.
لا يقال: إن إطلاق قوله (علیه السلام) : «وأدخل فيه رضا أحد من الناس» شامل لجميع العبادات، فتبطل جميعها كالصلاة.
لأنّه يقال: إنّه مبنيّ على أن يكون المراد من كلمة «في» في الصحيحة مطلق الظرفيّة، وهو ممّا لا يمكن الالتزام به، وإلّا لزم القول بفساد الوضوء أو الصوم، فيما لو قرأ في الأثناء سورة أو دعاءً أو ذكراً رياءً؛ لصدق إدخال
ص: 105
رضا الناس فيه، وهو كما ترى.
النحو الرابع: أن يقصد ببعض الأجزاء المستحبّة الرِّياء، كالقنوت في الصلاة. وهنا يبطل الجزء، دون المركّب؛ لعدم سراية البطلان من الجزء إلى المركّب؛ لما مرّ من أنّ مجرّد الظرفيّة لا يستلزم السراية، إلّا إذا قورن بموجب آخر للبطلان، كالفصل الطويل المضرّ بالموالاة، أو الماحي لصورة الصلاة.
النحو الخامس: أن يكون أصل العمل للَّه، لكن أتى به في مكان وقصد بإتيانه في ذلك المكان الرياء، كما إذا أتى به في المسجد أو بعض المشاهد المشرّفة رياءً. فالرياء إنّما وقع فيما هو خارج عن ذات العمل كلاًّ أو بعضاً، من الخصوصيّات الفرديّة المكانيّة أو الزمانيّة أو المكتنفة، بأن راءى في الصلاة في هذا المكان مثلاً.
فهنا يحكم بالفساد أيضاً؛ لأنّ الخصوصيّة المفردة مصداق للطبيعةومحقّق لها، وبينهما الاتّحاد والعينيّة، فالصلاة الموجودة في الخارج متّحدة مع الصلاة في هذا المكان. والفرض: أنّ الخصوصيّة صارت محرّمة للرياء، فلا تكون مصداقاً للواجب، والمبغوض لا يكون مقرِّباً، فيحكم بالبطلان.
النحو السادس: أن يكون الرياء في الزمان، كالصلاة في أوّل الوقت رياءً، وهذا أيضاً باطل؛ لما مرّ في النحو الخامس بعينه؛ إذ لا فرق بين الخصوصيّة الزمانيّة والمكانيّة في محلّ البحث.
النحو السابع: أن يكون الرياء في أوصاف العمل، كالإتيان بالصلاة
ص: 106
جماعة، أو القراءة بالتأنّي أو بالخشوع، أو نحو ذلك، إذا تعلّق القصد بهذا الفرد الخاصّ من الصلاة. وهذا أيضاً باطل؛ لانطباق الطبيعة المتّحدة وجوداً مع مصداقها على الفرد الريائيّ.
نعم، إذا تعلّق قصده بالصلاة خالصاً لوجهه تعالى، ثمّ بدا له أن يبكي أو يخشع، بحيث كان ذلك بنفسه موضوعاً مستقلاًّ للرياء، لا أنّه من الأول قصد الصلاة المتّصفة بالخشوع الرِّيائي، فحينئذ لا موجب للفساد، وإن ارتكب الإثم.
النحو الثامن: أن يكون الرياء في مقدّمات العمل، كما إذا كان الرياء في مشيه إلى المسجد، لا في إتيانه العمل في المسجد. وهنا لا يبطل العمل؛ لأنّ المقدّمات أمور خارجة عن العمل، فلا مقتضي للسراية.
النحو التاسع: أن يكون في بعض الأعمال الخارجة عن الصلاة،كالتحنُّك حال الصلاة. وهذا لا يكون مبطلاً، إلّا إذا رجع إلى الرياء في الصلاة متحنّكاً. والوجه فيه ما تقدّم في النحو السابع.
النحو العاشر: أن يكون العمل خالصاً للَّه، ولكنّه كان بحيث يعجبه أن يراه الناس. والظاهر عدم بطلانه أيضاً؛ لأنّه عجب، وصفة العجب وإن كانت منقصة ينبغي للمؤمن الحقيقي تنزيه نفسه عنها، إلّا أنّها لا تستوجب البطلان، بعد فرض صدور العمل بكامله خالصاً لوجهه الكريم، ولاسيّما أنّها عامّة البلوى، لا ينجو منها إلّا الأوحديّ والعارف الحقيقي، الذي لا يهمّه مدح الناس أو قدحهم، وكلّ همّه طلب مرضاته سبحانه، وإلّا فغالب الناس
ص: 107
تعجبهم عباداتهم ويدخلهم السرور من رؤية الناس، ويحبّون أن يمدحوا بها، ويعرفوا بين الناس بأنّهم من المتعبّدين ومن عباد اللَّه الصالحين. لكن مجرّد ذلك لا دليل على قدحه في صحّة العبادة، بل قد دلّت على عدم القدح روايات الباب الخامس عشر الآتي قريباً، نحو ما في صحيحة زرارة عن أبي جعفر (علیه السلام) ، قال: سألته عن الرجل يعمل الشي ء من الخير، فيراه إنسان، فيسّره ذلك؟ قال: «لا بأس. ما من أحد إلّا وهو يحبّ أن يظهر له في الناس الخير، إذا لم يكن صنع ذلك لذلك»((1)).
وأمّا الخطور القلبي: فهو لا يضرّ؛ لعدم منافاته الإخلاص المعتبر في صحّة العبادة، والانبعاث عن محض قصد الامتثال، بل هو من وساوسالشيطان، كما جاء في بعض الأخبار، وخصوصاً إذا كان بحيث يتأذّى بهذا الخطور؛ لأنّه كاشف قطعي عن بلوغه مرتبة راقية من الخلوص، وموجب لتأكّد إضافة العمل إلى المولى سبحانه وتعالى.
وكذا لا يضرّ الرياء بترك الأضداد، كأن يترك مجالسة الخائضين في اللغو رياءً، ويتشاغل بالصلاة؛ فإنّه لا موجب لفسادها؛ لعدم تعلّق الرياء بها، بل الرياء قد تعلّق بترك ضدّها، وهو الاشتراك في ذاك المجلس، الذي هو أمر آخر مقارن للصلاة، ولم يكن متّحداً معها.
وأمّا الأمر الثاني - أي: علاج الرّياء - : فقد ذكروا هنا أموراً ينبغي الالتفات إليها:
ص: 108
منها: أن يعرف العبد مضرّة الرياء، وما يفوته من صلاح قلبه، وما يحرم منه من التوفيق في العاجلة، والمنزلة عند اللَّه في الآجلة، وما يتعرّض له من العقاب والمقت، وما يفوته من ثواب اللَّه ورضاه عنه.
ومنها: أن يتفكّر في أنّه يتعب بدنه، ويحبط أجره بهذا الرياء، فيكون قد خسر الدنيا والآخرة؛ لما يتعرّض له في الدنيا من تشتّت البال؛ بسبب ملاحظة قلوب الناس؛ فإنّ رضاهم غاية لا تدرك.
ومنها: أن يعلم أنّه لا كمال في مدح الناس له، ولا نقص في ذمّهم، ولو كان راغباً في المدح وخائفاً من الذمّ فليرغب في مدح الملائكة المقرّبين، بل في مدح ربّ العالمين، وليخش ذمّه وذمّهم.ومنها: أن يعوّد نفسه إخفاء عباداته، وإغلاق الأبواب دونها، كما تغلق الأبواب دون الفواحش، ويجعل قلبه قانعاً بعلم اللَّه واطّلاعه على عبادته، ولا تنازعه نفسه إلى طلب علم غير اللَّه به، فإذا واظب على ذلك مدّة سقط عنه ثقله.
ومنها: أن يستعين باللَّه ويجاهد نفسه، فإنّ من العبد المجاهدة، ومن اللَّه الهداية، كما وعد سبحانه وتعالى بذلك: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}((1)).
والحاصل: أنّ في الباب أحد عشر حديثاً، اثنان ضعيفان، والبقيّة كلّها معتبرة.
ص: 109
والمستفاد من الباب أمور، منها:
1 - أنّ عمل المرائي شرك باللَّه العظيم.
2 - أنّ عمل المرائي يجعل في سجّين.
3 - أنّ عمل المرائي ثوابه على الناس، ولا ثواب له من اللَّه عزّوجلّ.
4 - أنّ عمل المرائي لا يصعد إلى اللَّه عزّوجلّ.
5 - أنّ عمل المرائي لا يقبله اللَّه منه.
6 - أنّ عمل المرائي يظهره اللَّه له شرّاً.
7 - أنّ عمل المرائي حرام، فيكون باطلاً.8 - أنّ أهل الرياء يؤمر بهم إلى النار.
9 - أنّ أهل الرياء يقال لهم: يا أشقياء.
ص: 110
والنشاط بين الناس
-----------------------------------------------------------------------------
13 - باب كراهية الكسل في الخلوة
والنشاط بين الناس
هذا الباب تتميم للباب السابق، ويتعرّض لعلامات المرائي، وهي ترجع إلى كيفيّات العمل مع إتيان أصل العمل خالصاً لوجه اللَّه سبحانه وتعالى، وهي على صورتين، كما سبقت الإشارة إليهما:
إمّا أن تكون الكيفيّة المراءى بها داخلة في وجود العبادة خارجاً، بحيث تكون متّحدة الوجود معها في الخارج، كما إذا صلّى في المسجد رياءً، وإن كان أصل الصلاة مستنداً إلى الداعي الإلهي، إلّا أنّ الحصّة الخاصّة من الصلاة - أعني: الصلاة في المسجد - صادرة بداعي الرِّياء. ونظيره ما إذا صلّى بوقار مع إطالة الصلاة رياءً؛ للنشاط الحاصل له عند رؤية الناس.
وإمّا أن تكون موجودة على حدة، ولا تتّحد مع العبادة في الوجود، بل هي وصف زائد خارج عنها، وهذا كما إذا صام للَّه، إلّا أنّه قرأ الأدعية في صيامه بداعي الرياء، أو صلّى للَّه وتحنّك رياءً؛ لأنّ التحنّك وقراءة الأدعية أمران آخران غير الصيام والصلاة.
والذي يظهر من كلام المصنّف (قدس سره) - بل هو صريح كلامه - عدم بطلان
ص: 111
العبادة في كلتا الصورتين؛ حيث قال ما نصّه: «لا يلزم من تحريم الرياء تحريم علامات المرائي، كما لا يخفى، على أنّها ليست بكليّة، بل هي أغلبيّة؛ فقد ينشط المرائي بين الناس بقصد الرياء، وينشط وحده بقصد الإخلاص، وقد يحبّ أن يحمد في جميع أموره، ولا يكون مرائياً. ويمكن اختصاص العلامات بالمرائي الكامل الرياء، الذي قد عدم الإخلاص بالكليّة سرّاً وجهراً، وذلك في الحقيقة هو المنافق الخارج عن الإيمان والإسلام، ومع ذلك لا يلزم تحريم علاماته»((1)).
وأمّا سيدنا الاستاذ (قدس سره) ، فقد اختار بطلان العبادة في الصورة الأولى؛ بتقريب: أنّ الرياء في الكيفيّة المتّحدة مع العمل في الوجود موجب لبطلان العبادة لا محالة؛ لأنّ الحصّة الخاصّة من العبادة - أعني: الموجود الخارجي - قد صدرت عن داعٍ غير إلهي - أعني: داعي الرياء - فهي محرّمة ومبغوضة، والمبغوض كيف يقع مقرِّباً، والمحرّم لا يمكن أن يقع مصداقاً للواجب، فتبطل.
وأمّا الرِّياء في الكيفيّة المنحازة عن أصل العمل، فلا موجب لكونه مبطلاً للعبادة؛ لأنّ المبغوض والمحرّم شي ء، والعبادة شي ء آخر، ولا تسري حرمة أحدهما إلى الآخر. ولا يمكن أن يقال: إنّه أمر قد أشرك فيه غيره سبحانهمعه، بل هما أمران، أحدهما أتى به للَّه، والآخر أتى به لغيره، ولعلّه ظاهر((2)).
ص: 112
[165] 1 - محمّد بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ عليّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّوْفَلِيِّ، عَنِ السَّكُونِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) ، قَالَ: «قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (علیه السلام) : ثَلاثُ عَلامَاتٍ لِلْمُرَائِي: يَنْشَطُ إِذَا رَأَى الناسَ، وَيَكْسَلُ إِذَا كَانَ وَحْدَهُ، وَيُحِبُّ أَنْ يُحْمَدَ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ»(1).
محمّد بْنُ عليّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ بَابَوَيْهِ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عَمْرٍو وَأَنَسِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ جَمِيعاً، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ آبَائِهِ (علیهم السلام) «فِي وَصِيَّةِ النَّبِيِّ(صلی الله علیه و آله و سلم) لِعَلِيٍّ (علیه السلام) : أَنَّهُ قَالَ: يَا عَلِيُّ، لِلْمُرَائِي ثَلاثُ عَلامَاتٍ»، وَذَكَرَ مِثْلَهُ(2).
أَقُولُ: وَتَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ(3)3*)، وَيَأْتِي مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ(4)4*).
-----------------------------------------------------------------------------
[1] - فقه الحديث:
دلّ الحديث على كراهة الكسل في حال الخلوة والنشاط في العبادة إذا كان بين الناس، وعلى كراهة حبّ مدح الناس في جميع الأمور، وأنّ هذهالخصال الثلاث علامات للمرائي، بها يعرف ويشخّص.
ص: 113
وقوله: «ينشط إذا رأى الناس» سواء كان النشاط قبل العمل وباعثاً للشروع فيه، أم كان بعد الشروع فيه وسبباً لتجويده.
وقوله: «ويحبّ أن يحمد في جميع أموره» لا فرق فيه فيما كان من أمور الدين، كفعل الطاعات وترك المنهيّات، فإنّه قد يترك الزنا وشرب الخمر؛ ليمدحه الناس بالصلاح، أم كان من أمور الدنيا، كالتشبّع بالمال والتحلّي باللباس؛ لثناء الناس عليه. وإليه أشار النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) بقوله: «إنّ لكلّ حقّ حقيقة، وما بلغ عبد حقيقة الإخلاص حتّى لا يحبّ أن يحمد على شي ء مِنْ عَمَلِ اللَّه»((1)).
سند الحديث:
للحديث طريقان:
الأوّل: محمّد بن يعقوب، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني.
وهذا الطريق معتبر، وقد تقدّم مراراً.
الثاني: محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه بإسناده، عن حماد بن عمرووأنس بن محمد.
وهذا الطريق قد تقدّم بعينه في الباب الرابع، الحديث التاسع، وفيه عدّة مجاهيل.
ص: 114
ولكن قلنا باعتباره؛ لشمول شهادة الصدوق في أوّل كتابه له؛ وأنه مأخوذ من الكتب المشهورة المعوّل عليها.
ووردت هذه الرواية أيضاً بطرق أخرى معتبرة:
منها: ما ورد في «قرب الإسناد»، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن زياد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، قال: «للمرائي ثلاث علامات...» ((1)).
ومنها: ما ورد في «الخصال» أيضاً: حدَّثنا أبي رضي اللَّه عنه، قال: حدَّثنا سعد بن عبد اللَّه، قال: حدّثني القاسم بن محمد، عن سليمان بن داود، قال: حدّثني حمّاد بن عيسى، عن أبي عبد الله (علیه السلام) ، مثله((2)).
وعلى هذا فالرواية معتبرة في نفسها. وإنّما الكلام في دلالتها على الحرمة أو الكراهة، كما مرّ.
والحاصل: أنّ في الباب حديثاً واحداً معتبراً بكلا سنديه. والمستفاد منه أمور واضحة.
ص: 115
ص: 116
-----------------------------------------------------------------------------
14 - باب كراهة ذكر الإنسان عبادته للناس
شرح الباب:
هذا الباب معقود لبيان فضل إخفاء العبادة، وكراهة الإفشاء والإذاعة لها، وأنّه يستحبّ اختيار عمل السرّ على عمل العلانية. ولكن هذا ليس على إطلاقه، كما سيتّضح. والأحاديث الواردة في هذا المضمون متواترة، كما ذكرها المصنّف في كتابه «الفصول المهمّة»((1)).
ونحن نذكر منها هنا ما ورد في ذمّ الاشتهار بالعبادة:
ففي صحيح أبي حمزة الثمالي، عن جعفر بن محمد (علیه السلام) ، قال: «الاشتهار بالعبادة ريبة»، الحديث((2)).
وفي رواية ابن فضّال، عن أبي الحسن الرضا (علیه السلام) ، قال: «من شهَّر نفسه بالعبادة فاتّهموه على دينه»((3)).
وفي «مشكاة الأنوار» عن أبي عبد اللَّه (علیه السلام) : «إنّ اللَّه يبغض الشهرتين:
ص: 117
شهرة اللباس وشهرة الصلاة»((1)).
إلى غير ذلك من الروايات المذكورة في أبواب متفرّقة.
والمتحصّل من جميعها: أنّ ذكر العبادة إذا كان من هذه الجهة فهو مذموم، وإلّا كان موجباً لنقص الثواب، كما ورد في أنّ فضل عمل السرّ على عمل الجهر سبعون ضعفاً((2)). وقد استثنى الأعلام موارد تأتي.
الحكم بالكراهة مجمع عليه بين الخاصة والعامة:
أمّا الخاصّة: فهم وإن لم يصرّحوا بالكراهة، إلّا أنّه يمكن استظهار ذلك من مراجعة كلماتهم في موارد متفرّقة، كقولهم بأفضليّة صدقة السرّ على صدقة العلانية، وأنّ الإسرار بالنوافل وإتيانها في المنزل أفضل من الإعلان بها وإتيانها في المسجد، خلافاً للفرائض، واستحباب إخفات الذكر والدعاء والقراءة؛ ليبعد عن الرياء، وغير ذلك من الموارد.
واستثنوا من ذلك موارد، قال كاشف الغطاء: يستحبّ التظاهر في العبادات الواجبات والمندوبات لمن كان قدوة الناس، يقتدون به؛ لرياسته في الدين أو الدنيا؛ ليكون باعثاً على عملهم، فإنّ الداعي إلى الخير قولاً أوفعلاً كفاعله، ولمن أراد أن يجبّ الغيبة عن نفسه، فلا يرمى بالتهاون
ص: 118
والتكاسل في العبادة، وربّما وجب لذلك، ولمن أراد ترغيب الناس إلى الطاعات وإيقاعهم في الغيرة؛ ليرغبوا في العبادات، ولمن أراد تنبيه الغافلين وإيقاظ النائمين((1)).
وأمّا العامّة: فقد قال ابن حجر: قوله: «كره أن يكون شي ء من عمله أفشاه»؛ وذلك أنّ كتمان العمل الصالح أفضل من إظهاره إلّا لمصلحة راجحة، كمن يكون ممّن يقتدى به((2)).
وقال النووي: قوله: «وكره أن يكون شيئاً من عمله أفشاه»، فيه استحباب إخفاء الأعمال الصالحة، وما يكابده العبد من المشاقّ في طاعة اللَّه تعالى، ولا يظهر شيئاً من ذلك إلّا لمصلحة، مثل بيان حكم ذلك الشي ء، والتنبيه على الاقتداء به فيه، ونحو ذلك. وعلى هذا يحمل ما وجد للسلف من الإخبار بذلك ((3)) .
ص: 119
[166] 1 - محمّد بْنُ عليّ بْنِ الْحُسَيْنِ فِي «مَعَانِي الأَخْبَارِ»، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ محمّد بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ جَمِيلِ بْنِ دَرَّاجٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) ، عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى}(1)، قَالَ: «قَوْلُ الإِنْسَانِ: صَلَّيْتُ الْبَارِحَةَ، وَصُمْتُ أَمْسِ، وَنَحْوَ هَذَا»، ثمّ قَالَ (علیه السلام) : «إِنَّ قَوْماً كَانُوا يُصْبِحُونَ فَيَقُولُونَ: صَلَّيْنَا الْبَارِحَةَ، وَصُمْنَا أَمْسِ، فَقَالَ عَلِيٌّ (علیه السلام) : لَكِنِّي أَنَامُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَلَوْ أَجِدُ بَيْنَهُمَا شَيْئاً لَنِمْتُهُ»(2).
-----------------------------------------------------------------------------
[1] - فقه الحديث:
فسّر الإمام عليه السلام تزكية النفس في الآية الشريفة بذكر الإنسان عبادته وطاعته لغيره، وهو من التفسير بذكر بعض المصاديق. وهذا الحديث يدلّ على عدم محبوبيّة الإفشاء والإشاعة للأعمال، بل المحبوب كتمان العبادات عن الناس؛ لأنّه أقرب إلى القربة، وأبعد عن الرّياء، فيكون إظهارها موجباً لقلّة ثوابها. ولا يخفى أنّ التحرّز واليقظة في مثل هذه الأمور مطلوب؛ لما في الإظهار من مظنّة الرّياء، وإن كان ذلك ليس على إطلاقه، كما يأتي.
وأمّا قوله (علیه السلام) : «لكنّي أنام الليل والنهار، ولو أجد بينهما شيئاً لنمته»فالغرض منه ستر العبادات والطاعات عن الغير، وإلّا فإن من كانوا معه (علیه السلام)
ص: 120
وَرَوَاهُ الْحُسَيْنُ بْنُ سَعِيدٍ فِي كِتَابِ «الزُّهْدِ»، عَنْ محمّد بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ(1).
أَقُولُ: هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْمُبَالَغَةِ، أَوْ عَلَى نَوْمِ بَعْضِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، أَوْ عَلَى احْتِقَارِ عِبَادَةِ نَفْسِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ اللَّهُ مِنَ الْعِبَادَةِ، فَجَعَلَ عِبَادَتَهُ بِمَنْزِلَةِ النَّوْمِ(2).
-----------------------------------------------------------------------------
يعلمون أنه لم يرد أنه ينام الليل كله والنهار كله على نحو الحقيقة؛ لاشتهار عبادته (علیه السلام) ، وإنما قال ما قال للتنبيه على خطأ إفشاء العبادة عن عمد. وقد أورد المصنّف لها ثلاثة تأويلات ومحامل:
أحدها: أنّها محمولة على المبالغة.
الثاني: أنّها محمولة على نوم بعض الليل والنهار، فأطلق الكل وأراد الجزء. ومعلوم: أن من ينام بعض الليل وبعض النهار ليس بمشتغل بالصلاة ولا بغيرها من العبادات.
ولكن قوله (علیه السلام) «ولو أجد بينهما شيئاً لنمته» يظهر منه إرادة الكل، وإلّا لما كان لقوله هذا معنى. وعليه فهذا الحمل بعيد.
ص: 121
الثالث: أنّها محمولة على احتقار عبادة نفسه بالنسبة إلى ما يستحقّه اللَّه من العبادة. فجعل عبادته بمنزلة النوم وإن كان هذا لا ينافي قوله (علیه السلام) : «ولو أجد بينهما شيئاً لنمته»، ولكن الظاهر في اختيار النوم على فعل مثل الصلاة، فالظاهر منها إرادة تبكيت من أفشى عبادته، وأنه (علیه السلام) مع أنه أحق الناس بأداء العبادات وإقامة الطاعات إلّا أنه ينام الليل والنهار، ولو وجد وقتاً خارجاً عن الليل والنهار، فكأنه أراد: أنّ النوم كلّ هذه الأوقات خير من ذكر العبادات للغير، وهذا أبلغ في الدلالة على كراهية الإفشاء للغير.
سند الحديث:
روى المصنّف الحديث بطريقين، كلاهما صحيح:
الأول: ما عن الصدوق في «معاني الأخبار».
الثاني: الحسين بن سعيد في كتاب «الزهد»، عن محمّد بن أبي عمير، عن جميل بن درّاج، على ما في «الوسائل» المطبوعة جديداً وقديماً. ولكن في نسخة كتاب «الزهد» المطبوعة حالياً: محمّد بن أبي عمير، عن فضالة، عن جميل((1)). وفي نسخة «البحار»: محمّد بن أبي عمير وفضالة، عنجميل((2))، وهو الصحيح. وعليه فالسند معتبر.
ص: 122
[167] 2 - محمّد بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ عليّ بْنِ أَسْبَاطٍ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام) أَنَّهُ قَالَ: «الإِبْقَاءُ عَلَى الْعَمَلِ أَشَدُّ مِنَ الْعَمَلِ»، قَالَ: وَمَا الإِبْقَاءُ عَلَى الْعَمَلِ؟ قَالَ: «يَصِلُ الرَّجُلُ بِصِلَةٍ وَيُنْفِقُ نَفَقَةً للَّهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، فَكُتِبَتْ لَهُ سِرّاً، ثمّ يَذْكُرُهَا، فَتُمْحَى، فَتُكْتَبُ لَهُ عَلانِيَةً، ثمّ يَذْكُرُهَا، فَتُمْحَى، وَتُكْتَبُ لَهُ رِيَاءً»(1).
أَقُولُ: وَتَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ(2)، وَيَأْتِي مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ(3).
-----------------------------------------------------------------------------
[2] - فقه الحديث:
لا ريب أنّ الاخلاص في العمل من الأمور الشاقة الشديدة، ولكن الأصعب منه هو إبقاء العمل خالصاً. فقد يعمل الإنسان الطاعة في السر بإخلاص فتكتب له عبادة خالصة، إلّا أنه إذا ذكرها لغيره انحطت عن تلكوتكتب عبادة علنية، ويكون ثوابها حينئذٍ أقل، وهذا معنى كراهة ذكرها للغير.
وإذا ذكرها للغير - بعد ذكره الأول لها - كتبت له رياءً. لكن السؤال أنه ما الفرق بين الذكر الأول والذكر الثاني؟ فإن الظاهر أن الذكر الأول
ص: 123
يخرجها عن السرية، والذكر الثاني يزيد عليه بشيء.
فهذا الحديث بظاهره يدلّ على بطلان العبادة بذكرها بعد الفراغ منها، وهو بظاهره مخالف للمشهور؛ حيث يرون عدم بطلان العبادة السابقة بالعجب المتأخّر عنها، وعليه فلابدّ إمّا من طرحه، أو من تأويل ما في ذيله بما لا ينافي ما عليه المشهور. والأظهر: حمله على حبط الثواب، أو نقصه؛ إذ لا موجب لبطلان العبادة بعد أن كانت خالية من الرياء حين الإتيان بها.
سند الحديث:
هذا الطريق وإن أمكن تصحيحه بما تقدّم في الحديث الثالث من الباب الثامن، إلّا أنّه هنا مرسل؛ لأنّ عليّ بن أسباط رواها عن بعض أصحابه، ولم يعلم مَن هو.
والحاصل: أنّ في الباب حديثين، أحدهما معتبر.
والمستفاد من الباب أمور:
منها: كراهة ذكر الإنسان أعماله وعباداته للناس.ومنها: النهي عن تزكية النفس.
ومنها: مطلوبيّة الإبقاء على العمل خالصاً.
ومنها: أنّ إخفاء العبادة ممّن يحسن منه إخفاؤها مرغوب فيه، وهو أقرب إلى الإخلاص، وأبعد من الرياء.
ص: 124
-----------------------------------------------------------------------------
15 - باب عدم كراهية سرور الإنسان
باطّلاع غيره على عمله بغير قصده
هذا الباب تتميم أيضاً للباب السابق، تعرّض فيه المصنّف (قدس سره) لحكم من كان آتياً بعمل بداعي الأمر والتقرّب، إلّا أنّه يفرح إذا اطّلع عليه الناس، ويدخله السرور من ذلك، من غير أن يكون ذلك داخلاً في قصده.
وقد حكم (قدس سره) بعدم الكراهة، واستدلّ على ذلك بأمور، نذكر منها مايلي:
الأوّل: أنّ السرور المذكور ليس باختياريّ، ولا يكاد يقدر أحد على دفعه، بل هو طبيعيّ، لا يتعلّق به التكليف، ولا يتوجّه إليه النهي((1)) .
الثاني: روايات الباب.
ص: 125
[168] 1 - محمّد بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ عليّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ جَمِيلِ بْنِ دَرَّاجٍ، عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام) ، قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يَعْمَلُ الشَّيْ ءَ مِنَ الْخَيْرِ، فَيَرَاهُ إِنْسَانٌ، فَيَسُرُّهُ ذَلِكَ؟ قَالَ: «لا بَأْسَ. مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ فِي النَّاسِ الْخَيْرُ، إِذَا لَمْ يَكُنْ صَنَعَ(1) ذَلِكَ لِذَلِكَ»(2).
-----------------------------------------------------------------------------
[1] - فقه الحديث:
دلّ الحديث على عدم كراهة سرور العبد باطّلاع غيره على عمله، بل إنّ هذا السرور لا يكاد ينفكّ عن أحد. ويفهم من هذا الحديث - بمفهوم الشرط - ثبوت البأس الذي هو النقص؛ إذا صنع ذلك العمل ليراه الناس، سواء كان ذلك رياءً أو سمعة.
سند الحديث:
رجال الحديث كلهم ثقات أجلّاء، قد تقدّم ذكرهم. وعليه فالسند معتبر.
ص: 126
[169] 2 - محمّد بْنُ عليّ بْنِ الْحُسَيْنِ فِي «مَعَانِي الأَخْبَارِ»، عَنْ محمّد بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عليّ الأَسَدِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ(1)1*) الْمَرْزُبَانِ، عَنْ عليّ بْنِ الْجَعْدِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجُونِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ (رحمه الله) : قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الرَّجُلُ يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ، وَيُحِبُّهُ النَّاسُ؟ قَالَ: «تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ»(2)2*).
-----------------------------------------------------------------------------
[2] - فقه الحديث:
هذا الحديث من حيث المضمون واضح.
وأمّا قوله: «تلك عاجل بشرى المؤمن» فالمراد البشرى المعجّلَة له في الدنيا، والبشرى الأخرى ما أشير إليه في قوله سبحانه: {بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأَنْهارُ}((3)).
سند الحديث:
هذا الحديث مرويّ من طرق العامّة، لا من طرقنا؛ حيث رووه في أكثرالصحاح وغيرها((4)) ، فيكون مؤيّداً للحديث السابق.
ص: 127
أمّا محمّد بن أحمد بن عليّ الأسدي: فهو المكنّى بأبي الحسن، المعروف بابن جرادة البردعي، من مشايخ الصدوق، لم يرد فيه شي ء.
وأمّا عبد اللَّه بن محمّد المرزبان - على ما في «الوسائل». وفي «أمالي الصدوق»((1))
: عبد اللَّه بن محمّد بن المرزبان - : فهو أيضاً لم يرد فيه شي ء.
وأمّا عليّ بن الجعد، أو عليّ بن جعفر على ما في بعض النسخ، وفي أغلب مصادر العامّة: محمّد بن جعفر: فإن كان الأوّل - وهو عليّ بن الجعد بن عبيد، الجوهري، أبو الحسن، البغدادي - فلم يرد في كتبنا فيه شي ء.
ولكن قال الذهبي: عليّ بن الجعد بن عبيد، الإمام، الحافظ، الحجّة، مسند بغداد، أبو الحسن، البغدادي، الجوهري، مولى بني هاشم((2)) .
ومعنى الحجّة - كما قال التهانوي - هو الذي أحاط علمه بثلاثمائة ألف حديث ((3)).
وقال محمّد بن حمّاد: سألت يحيى بن معين عن عليّ بن الجعد، فقال:ثقة، صدوق...((4)).
وقال أبو حاتم: كان متقناً صدوقاً، لم أرَ من المحدِّثين من يحفظ ويأتي
ص: 128
بالحديث على لفظ واحد لا يغيّره سوى عليّ بن الجعد((1)) .
وقال عنه ابن حجر: ثقة، ثبت، رمي بالتشيّع((2)) .
وعدّه ابن قتيبة من رجال الشيعة((3)) .
وقال الجوزجاني: عليّ بن الجعد، متثبّت بغير بدعة، زائغ عن الحق ((4)).
أقول: روى البخاري عنه اثني عشر حديثاً، فكيف يروي عن رجل زائغ عن الحق اثني عشر حديثاً؟!
وإن كان الثاني - وهو عليّ بن جعفر - فهو مهمل، لم يرد فيه شي ء. نعم، ذكره العامّة، وقد وثّقوه. قال الحاكم النيسابوري: وعليّ بن جعفر المدائني ثقة((5)).
وإن كان الثالث - وهو محمّد بن جعفر - فهو أيضاً مهمل، لم يرد فيهشي ء، وقد ترجمه العامّة في كتبهم. قال ابن حبّان: محمد بن جعفر غندر، صاحب الكرابيس، كنيته أبو عبد اللَّه، الهذلي، صاحب الطيالسة، من أهل البصرة. يروي عن شعبة ومعمّر. روى عنه أحمد بن محمّد بن حنبل، ويحيى، وأهل العراق. وكان من خيار عباد اللَّه، ومن أصحّهم كتاباً، على
ص: 129
غفلة فيه((1)).
وأمّا شعبة: فالظاهر أنّه شعبة بن الحجّاج، من فقهاء العامة، ذكره الشيخ في رجاله. وقال: أسند عنه((2)).
وذكره العامّة بكلّ تجليل. قال النسائي: «الأمناء على حديث رسول اللَّه(صلی الله علیه و آله و سلم) ثلاثة: شعبة بن الحجّاج...»((3)).
وذكره ابن حبّان في الثقات، وقال: كان من سادات أهل زمانه حفظاً وإتقاناً وورعاً وفضلاً، وهو أوّل من فتّش بالعراق عن أمر المحدِّثين، وجانب الضعفاء والمتروكين، حتّى صار عالماً يقتدى به((4)).
وعن يزيد بن زريع: قدم علينا شعبة البصرة، ورأيه رأي سوء خبيث - يعني:الترفض - فما زلنا به حتّى ترك قوله، ورجع وصار معنا((5)).
وأمّا أبو عمران الجوني: فهو عبد الملك بن حبيب، أبو عمران، الجوني، لم يرد فيه شي ء، وقد ذكره ابن حبّان في الثقات((6)) ، وابن سعد في الطبقة الثالثة، وقال: كان ثقة((7)).
ص: 130
وأمّا عبد اللَّه بن الصامت: فهو ابن أخي أبي ذر (رحمه الله) ، وفي رواية الأعمش: أنّ الصادق (علیه السلام) قال: «إنّه من الذين لم يغيّروا ولم يبدّلوا بعد نبيّهم، وأنّ ولايتهم واجبة»((1)).
ووثقه جماعة من العامة((2)).
والحاصل: أنّ في الباب حديثين، أحدهما معتبر.
والمستفاد من الباب أمور:
منها: أنّه لا يكره السرور باطّلاع الناس على العمل إذا لم يقصد اطّلاعهم عليه.
ومنها: أنّ هذا السرور من الأمور الطبيعيّة في الإنسان.ومنها: أنّ هذا السرور لا يتعلّق به تكليف، ولا يتوجّه إليه نهي.
ومنها: أنّ اطّلاع الناس على العمل وحبّهم للعامل بشرى معجّلة للعامل إذا لم يقصد اطّلاعهم على عمله.
ص: 131
ص: 132
-----------------------------------------------------------------------------
16 - باب جواز تحسين العبادة ليقتدى
بالفاعل وللترغيب في المذهب
شرح الباب:
في روايات هذا الباب حثّ وترغيب للمؤمنين على تحسين أعمالهم؛ حتّى يكونوا دعاة لمذهب الحقّ بأعمالهم وأخلاقهم وورعهم. ولعلّ حكمة ذلك - كما يظهر من هذه الأحاديث وغيرها - إمّا جلب قلوب المخالفين إلى الإيمان، أو لأجل المداراة معهم؛ لدفع شرّهم، أو لأجل تأديب الشيعة بالأخلاق الحسنة والأوصاف الجميلة؛ ليمتازوا بها عن غيرهم حتّى يقال: رحم اللَّه جعفراً، ما كان أحسن ما أدّب به أصحابه.
كما ورد في رواية زيد الشحّام عن أبي عبد اللَّه (علیه السلام) ، أنّه قال: «يا زيد، خالقوا الناس بأخلاقهم، صلّوا في مساجدهم، وعودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، وإن استطعتم أن تكونوا الأئمّة والمؤذّنين فافعلوا؛ فإنّكم إذا فعلتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفريّة، رحم اللَّه جعفراً، ما كان أحسن ما يؤدّب أصحابه، وإذا تركتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفريّة،فعل اللَّه بجعفر، ما كان أسوأ ما يؤدّب أصحابه»((1)) .
ص: 133
[170] 1 - محمّد بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ محمّد بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ محمّد بْنِ عِيسَى، عَنْ عليّ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) ، أَنَّهُ قَالَ - فِي حَدِيثٍ - : «كُونُوا دُعَاةً إِلَى أَنْفُسِكُمْ بِغَيْرِ أَلْسِنَتِكُمْ، وَكُونُوا زَيْناً، وَلا تَكُونُوا شَيْناً»(1).
-----------------------------------------------------------------------------
وغير خفي أنّ الجواز في عنوان الباب هو بالمعنى الأعم - في مقابل المنع - الذي يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح. فهذا الباب إمّا استثناء لما يأتي من كراهة الاشتهار بالعبادة أو استحباب إخفائها، أو يقال باختصاصه بالفرائض والفضائل الأخلاقيّة، ولا يكون شاملاً للمستحبّات والنوافل.
[1] - فقه الحديث:
لهذا الحديث صدر وذيل، تركهما المصنف((2))، وهو من حيث الدلالة واضح.
ص: 134
قوله (علیه السلام) : «كونوا دعاة إلى أنفسكم»، لابدّ فيه من تقدير مضاف، أي: إلى دينكم وعقائدكم التي أنتم عليها، لا إلى أنفسكم، وإلّا كان أمراً بالرّياء إن كان النفع دنيويّاً.
وقوله (علیه السلام) : «بغير ألسنتكم» أي: بجوارحكم وأعمالكم الصالحة الصادرة عنها؛ فإنّ الدعاء بالفعل أبلغ من الدعاء بالقول، وإن كان اللسان أيضاً داخلاً فيها من جهة الأعمال((1))،
لا من جهة الدعوة الصريحة.
وقوله (علیه السلام) : «وكونوا زيناً» أي: زينة لنا بحسن أفعالكم؛ ليرغب من رأى عملكم وعبادتكم وورعكم في متابعة دينكم وموافقة اعتقادكم. «ولا تكونوا شيناً» أي: عيباً وعاراً علينا، بأن تتركوا الواجبات، وترتكبوا المحرّمات، فتنسبون إلى القبيح، مع أنّكم مضافون إلينا، فينسب القبيح بالتالي إلينا.
سند الحديث:
رجال الحديث كلهم ثقات أجلّاء، ومن ضمنهم أبو أسامة وهو زيدالشحّام، قد تقدّم ذكرهم. وعليه فهذا السند صحيح.
ص: 135
[171] 2 - وَعَنْهُ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْحَجَّالِ، عَنِ الْعَلاءِ، عَنِ ابْنِ أَبِي يَعْفُورٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) : «كُونُوا دُعَاةً لِلنَّاسِ بِغَيْرِ أَلْسِنَتِكُمْ؛ لِيَرَوْا مِنْكُمُ الْوَرَعَ وَالاجْتِهَادَ وَالصَّلاةَ وَالْخَيْرَ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ دَاعِيَةٌ»(1).
-----------------------------------------------------------------------------
[2] - فقه الحديث:
دلّ الحديث على مطلوبيّة الدعوة إلى المذهب الحقّ بغير اللسان من الأفعال الحسنة والمعاملة الطيّبة والعبادات والخيرات والورع عن المحارم والاجتهاد في الطاعات؛ فإنّ في ذلك دعوة الناس إلى مذهب الحقّ والصواب، وهو مذهب أهل البيت (علیهم السلام) . بمعنى أنّ ذلك يدعو الناس إلى متابعة مذهبكم والاقتداء بكم في تلك الأعمال الصالحة.
سند الحديث:
رجال الحديث قد تقدّم الكلام فيهم ما عدا الحجّال: وهو عبد اللَّه بن محمّد الأسدي الحجّال. قال النجاشي عنه: ثقة، ثقة ((2))، ووثّقه الشيخ فيأصحاب الرضا (علیه السلام) ((3)).
وعليه فهذا السند كسابقه صحيح.
ص: 136
[172] 3 - محمّد بْنُ إِدْرِيسَ فِي آخِرِ «السَّرَائِرِ» نَقْلاً مِنْ كِتَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ عُبَيْدٍ، قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) : الرَّجُلُ يَدْخُلُ فِي الصَّلاةِ، فَيُجَوِّدُ صَلاتَهُ وَيُحَسِّنُهَا؛ رَجَاءَ أَنْ يَسْتَجِرَّ(1) بَعْضَ مَنْ يَرَاهُ(2) إِلَى هَوَاهُ؟ قَالَ: «لَيْسَ هَذَا مِنَ الرِّيَاءِ»(3).
-----------------------------------------------------------------------------
[3] - فقه الحديث:
هذا الحديث - من جهة الدلالة - أوضح من الحديثين السابقين على عنوان الباب؛ حيث إنّ الراوي يسأل الإمام (علیه السلام) عن الرجل الذي يحسّن صلاته حيث يراه الناس؛ لغرض جلب قلوبهم إلى الإيمان والولاية، فأجابه (علیه السلام) : بأنّ هذا ليس من الرّياء.
والظاهر أنّ ذكر الرجل والصلاة في السؤال من باب المثال، لا لخصوصيّة فيهما؛ ويدلّ على ذلك الحديثان المتقدّمان.سند الحديث:
محمّد بن أدريس، وعبد اللَّه بن بكير، وعبيد بن زرارة ثقات أجلّاء، قد تقدّمت ترجمتهم.
وأمّا طريق محمّد بن إدريس إلى كتاب عبد اللَّه بن بكير، فهو أيضاً
ص: 137
معتبر؛ لوجوه:
الأوّل: أنّ للشيخ طريقاً معتبراً إلى كتاب عبد اللَّه بن بكير((1))، وفيه أحمد بن محمّد بن عيسى، وله إليه طريق معتبر((2))، فيكون طريق الشيخ طريقاً لابن إدريس؛ لأنّه يروي جميع رواياته.
الثاني: أنّ للصدوق طريقاً معتبراً إلى عبد اللَّه بن بكير((3))، وما دام الشيخ يروي جميع روايات وكتب الشيخ الصدوق، فالشيخ أيضاً يكون له طريق معتبر إلى روايات عبد اللَّه بن بكير من طريق الصدوق، وابن إدريس يروي جميع كتب وروايات الشيخ، فيكون طريق الشيخ أيضاً طريقاً لابن إدريس.
الثالث: أنّ كتاب عبد اللَّه بن بكير كتاب معروف، ومشهور؛ لقول النجاشي: إنّه كثير الرواة((4))،
فلا يحتاج إلى طريق. هذا بناءً على بقاء الكتابعلى شهرته إلى زمان محمّد بن إدريس، وأمّا مع الشك فلا يكون هذا الوجه معتبراً.
والحاصل: أنّ في الباب ثلاثة أحاديث معتبرة.
والمستفاد منها أمور:
منها: جواز تحسين العبادة؛ لغرض الاقتداء بالعامل، وللترغيب في
ص: 138
المذهب الحق.
ومنها: أنّ هذا التحسين ليس داخلاً في باب الرياء.
ومنها: أنّ التحلّي بالورع والاجتهاد في العبادة وحسن الأفعال موجب لرغبة الرائي في متابعة الدين الحق وموافقة الاعتقاد بإمامة الأئمة (علیهم السلام) .
ص: 139
ص: 140
-----------------------------------------------------------------------------
17 - باب استحباب العبادة في السرّ واختيارها على
العبادة في العلانية إلّا في الواجبات
شرح الباب:
لمّا كان الدين مبنيّاً على الإخلاص، وكلّما قرب العمل من الإخلاص ازدادت فضيلته وشرفه؛ لذا ورد ترجيح جانب السرّ في العبادة؛ لئلّا تكون في معرض الرّياء والسمعة، وحتّى ينقطع الطريق على الشيطان الموسوس في نفوس العباد؛ إذ إنّ في إخفاء العبادة ابتعاداً عن حبّ اطّلاع الناس عليها، وعدم الابتلاء بوساوس الشيطان المحرّكة نحو الرِّياء، والماحقة لإخلاص العبادة.
وهذا الإخفاء في العبادة ليس على إطلاقه؛ فإنّه غير محبَّذٍ في العبادات الواجبة؛ لأنّها بعيدة عن الرِّياء؛ باعتبار أنّ جميع الناس يفعلونها، كما سيأتي بيانه في أبواب الزكاة إن شاء اللَّه تعالى. وكذا إذا استلزم إخفاء بعض العبادات اتّهام الناس له بما يضرّ بمكانته بين الناس، كما إذا أخفى زكاته، وكان هذا الإخفاء موجباً لتهمته بعدم المواساة للفقراء، فإظهارها أفضل؛ لأنّه لا ينبغي أن يجعل عِرْضَه عُرْضة للتُّهم.
ص: 141
ولو تحقّق منه قصد متابعة الناس له في ذلك واقتدائهم به بالإظهار كان الإظهار أفضل؛ لما فيه من التحريض على نفع الفقراء.
ذهب مشهور أصحابنا إلى استحباب العبادة في السرّ في المستحبّات دون الواجبات، كما عن «الحدائق»، بل عليه الإجماع، وفتوى الأصحاب في مواضع متفرّقة،كما عن «المعتبر»، ونسبه في «المنتهى» إلى علمائنا، مشعراً بالإجماع((1)).
أضف إلى ذلك نصوص الباب وغيرها، كما يأتي في الزكاة، وصدقة السرّ، واستحباب الدعاء سرّاً، وذكر اللَّه سرّاً، والتلاوة سرّاً، وصلاة النافلة، وغيرها ممّا يأتي.
وحكى العلامة في «المنتهى» عدم الخلاف بين المسلمين فيه((2)).
ص: 142
[173] 1 - محمّد بْنُ يَعْقُوبَ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَحْمَدَ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ بَكْرِ بْنِ محمّد الأَزْدِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) ، قَالَ: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّ مِنْ أَغْبَطِ أَوْلِيَائِي عِنْدِي عَبْداً مُؤْمِناً ذَا حَظٍّ مِنْ صَلاحٍ، أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ، وَعَبَدَ اللَّهَ فِي السَّرِيرَةِ، وَكَانَ غَامِضاً فِي النَّاسِ، فَلَمْ يُشَرْ إِلَيْهِ بِالأَصَابِعِ، وَكَانَ رِزْقُهُ كَفَافاً، فَصَبَرَ عَلَيْهِ، فَعُجِّلَتْ بِهِ الْمَنِيَّةُ، فَقَلَّ تُرَاثُهُ، وَقَلَّتْ بَوَاكِيهِ»(1).
وَرَوَاهُ الْحِمْيَرِيُّ فِي «قُرْبِ الإِسْنَادِ»، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ، نَحْوَهُ(2).
-----------------------------------------------------------------------------
[1] - فقه الحديث:
دلّ الحديث على أنّ أحقّ الناس بأن يحسد أو يغبط على ما يكتنفه من نِعم ويتمنّى الناس منزلته هو: الوليّ الذي حاز نصيباً حسناً وافراً من الصلاح، والذي أحسن عبادة ربّه كمّاً وكيفاً في السر، غائباً عن الناس؛ لأنّه أخلص وأبعد من الرِّياء. ولا يخفى ما فيه من الترغيب على العبادة في السرّ واختيارها وترجيحها على العبادة في العلانية.
ومثل هذا الوليّ يكون خامل الذكر، أو غير معروف الحسب، بحيث لا
ص: 143
تشير إليه الأصابع؛ لعدم معروفيّته لدى الناس؛ فقد قنع برزقه، ورضي منه بما يغنيه ويكفّه عن الناس، وصبر عليه، ولذا قلّ ما يتركه من إرث بعد موته، وقَلَّ مَن يبكي عليه؛ لخمول ذكره عند الناس.
وأمّا تعجيل المنيّة: فلأنّه من المصائب التي ترد عليه، وعلم اللَّه صلاحه في ذلك لخلاصه من أيدي الظلمة، أو بذله نفسه للَّه بالشهادة.
وقيل: إنّ المراد بعجلة منيّته: زهده في مشتهيات الدنيا، وعدم افتقاره إلى شي ء منها، وكأنّه ميّت، وقد ورد في الحديث المشهور: «موتوا قبل أن تموتوا»((1)).
وفيه أيضاً دلالة على الإذن في العزلة، ما لم تجب المعاشرة أو ترجّح؛ لجهة من الجهات.
سند الحديث:
أورد المصنف للحديث سندين:
أوّلهما: ما رواه محمّد بن يعقوب.
وقد تقدّم ترجمة من فيه غير أحمد بن إسحاق: وهو أحمد بن إسحاقبن عبد اللَّه بن سعد بن مالك الأحوص الأشعري، أبو عليّ القمّي. قال عنه النجاشي: كان وافد القمّيين، وروى عن أبي جعفر الثاني وأبي الحسن (علیهما السلام) ،
ص: 144
[174] 2 - وَعَنْهُ، عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عليّ بْنِ مِرْدَاسٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَى وَالْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ جَمِيعاً، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ عَمَّارٍ السَّابَاطِيِّ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) : «يَا عَمَّارُ، الصَّدَقَةُ - وَاللَّهِ - فِي السِّرِّ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ فِي الْعَلانِيَةِ، وَكَذَلِكَ - وَاللَّهِ - الْعِبَادَةُ فِي السِّرِّ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي الْعَلانِيَةِ»(1).
-----------------------------------------------------------------------------
وكان خاصّة أبي محمد (علیه السلام) ((2)).
وقال عنه الشيخ في «الفهرست»: كبير القدر، وكان من خواصّ أبي محمد (علیه السلام) ، ورأى صاحب الزمان (علیه السلام) ، وهو شيخ القميين ووافدهم ((3)). وقال عنه في «الرجال»: قمي، ثقة ((4)) . وعليه فالسند معتبر.
وثانيهما: ما رواه الحميري في «قرب الإسناد»، عن أحمد بن إسحاق،وهو كسابقه في الاعتبار.
[2] - فقه الحديث:
دلّ الحديث على أفضليّة الصدقة في السرّ على الصدقة في العلانية،
ص: 145
وعلى أفضليّة العبادة مطلقاً في السرّ على العبادة في العلن، وقد أكّد الإمام على ذلك بواسطة القسم؛ ليفيد المبالغة في الأفضليّة.
وهذا الحديث موافق لقوله تعالى: {إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِیَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}((1)).
وقد روى الجمهور عن أبي سعيد الخدري أو عن أبي هريرة، عن النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم)، أنّه قال: «سبعة يظلُّهم اللَّه في ظلِّ عرشه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه... ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه»((2)).
سند الحديث:
فيه ممّن لم يذكر سابقاً: عليّ بن مرداس، وهو مهمل، لم يرد فيه شي ء.
ولكن يمكن تصحيح السند، فإنّ كتاب عمّار الساباطي، الثقة، مشهورومعروف، يرويه عنه جماعة((3)).
ص: 146
[175] 3 - وَبِهَذَا الإِسْنَادِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) ، قَالَ: «وكَذَلِكَ - وَاللَّهِ - عِبَادَتُكُمْ فِي السِّرِّ مَعَ إِمَامِكُمُ الْمُسْتَتِرِ فِي دَوْلَةِ الْبَاطِلِ، وَتَخَوُّفُكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ فِي دَوْلَةِ الْبَاطِلِ وَحَالِ الْهُدْنَةِ أَفْضَلُ مِمَّنْ يَعْبُدُ اللَّهَ فِي ظُهُورِ الْحَقِّ مَعَ إِمَامِ الْحَقِّ الظَّاهِرِ فِي دَوْلَةِ الْحَقِّ»، الْحَدِيثَ(1).
وَرَوَاهُ الصَّدُوقُ فِي كِتَابِ إِكْمَالِ الدِّينِ، عَنِ الْمُظَفَّرِ بْنِ جَعْفَرٍ الْعَلَوِيِّ، عَنْ حَيْدَرِ بْنِ محمّد وَجَعْفَرِ بْنِ محمّد بْنِ مَسْعُودٍ جَمِيعاً، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ هِشَامٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، نَحْوَهُ(2)2*).
-----------------------------------------------------------------------------
[3] - فقه الحديث:
هذا المقدار الذي أورده المصنّف قطعة من حديث أورده الشيخ الكليني (رحمه الله) في «الكافي»، ونحن نورد أوّله ليتضح المراد منه:
عن عمّار الساباطي، قال: قلت لأبي عبد اللَّه (علیه السلام) : أيّما أفضل، العبادة في السّر مع الإمام منكم المستتر في دولة الباطل، أو العبادة في ظهور الحق ودولته مع الإمام منكم الظاهر؟ فقال: «يا عمّار، الصدقة في السرّ - واللَّه - أفضل من الصدقة في العلانية، وكذلك - واللَّه - عبادتكم في السرّمع إمامكم المستتر في دولة الباطل وتخوّفكم من عدوّكم في دولة
ص: 147
الباطل وحال الهدنة أفضل ممّن يعبد اللَّه - عزَّوجلَّ ذِكْرُهُ - في ظهور الحقّ مع إمام الحقّ الظاهر في دولة الحقّ، وليست العبادة مع الخوف في دولة الباطل مثل العبادة والأمن((1))
في دولة الحقّ. واعلموا: أنّ من صلّى منكم اليوم صلاة فريضة في جماعة، مستتر بها من عدوّه في وقتها فأتمّها، كتب اللَّه له خمسين صلاة فريضة في جماعة. ومن صلّى منكم صلاة فريضة وحده، مستتراً بها من عدوّه في وقتها فأتمّها، كتب اللَّه عزّوجلّ بها له خمساً وعشرين صلاة فريضة وحدانيّة. ومن صلّى منكم صلاة نافلة لوقتها فأتمّها، كتب اللَّه له بها عشر صلوات نوافل. ومن عمل منكم حسنة كتب اللَّه عزّوجلّ له بها عشرين حسنة، ويضاعف اللَّه عزّوجلّ حسنات المؤمن منكم إذا أحسن أعماله، ودان بالتقيّة على دينه وإمامه ونفسه، وأمسك من لسانه أضعافاً مضاعفة؛ إنّ اللَّه - عزّوجلّ - كريم ...أما واللَّه - يا عمّار - لا يموت منكم ميّت على الحال التي أنتم عليها إلّا كان أفضل عند اللَّه من كثير من شهداء بدر وأحد، فأبشروا»((2)).
فالحديث فيه إشارة إلى ما هو الأفضل من العبادة، وهل هي العبادة في زمان الإمام المستتر في دولة الباطل أو في زمان الإمام الظاهر في دولة الحق؟
ص: 148
والمراد من الإمام المستتر: من لا يقدر على إظهار الدين كما ينبغي؛ خوفاً من الأعداء والظلمة، سواء كان ظاهراً بين الخلق، أو كان غائباً عنهم، فكلّ إمام إلى زمان ظهور صاحب الزمان مستتر بهذا المعنى، وهو في حال هدنة مع أعداء اللَّه، والعبادة في زمانه عبادة مع الخوف.
والمراد بالإمام الظاهر: من قدر على إظهار الدين كما ينبغي، وكان حكمه جارياً على الخلق، وهو صاحب الزمان بعد ظهوره، والعبادة في زمانه عبادة مع الأمن.
وليست العبادة مع الخوف في دولة الباطل مثل العبادة مع الأمن في دولة الحقّ؛ إذ الأولى فيها الابتلاء بالتقيّة من حكّام الجور، بخلاف الثانية، فإنّها حاوية على نعمة الأمان في ظلّ صاحب الزمان (علیه السلام) . ولمّا كانت الأولى أشقّ وأجهَد كانت أفضل. فليست العبادة مع الخوف على النفس والمال والعرض في دولة الباطل مثل العبادة مع الأمن من تلف النفس والمال والعرض في دولة الحقّ، بل الأولى أجزل ثواباً، وأكمل رتبة من الثانية. ويتفاوت ذلك بحسب تفاوت درجات الخوف والأمن.
وعليه فالحديث جاء ليبيّن الأفضل من العبادتين بلحاظ التقيّة، واستتار الإمام وعدمها، وليس له تعرّض لبيان الأفضليّة بلحاظ إعلان العبادة وإسرارها، وإن لم يكن هناك تقيّة، وكان الإمام مستتراً.
والشاهد على هذا قوله (علیه السلام) : «من صلّى منكم اليوم صلاة فريضة في جماعة، مستتر بها من عدوّه.... ومن صلّى منكم صلاة فريضة وحده،
ص: 149
مستتراً بها من عدوّه في وقتها.....حسنة. ويضاعف اللَّه عزّوجلّ حسنات المؤمن منكم إذا أحسن أعماله، ودان بالتقيّة على دينه وإمامه ونفسه، وأمسك من لسانه أضعافاً مضاعفة؛ إنّ اللَّه عزّوجلّ كريم».
نعم، تشبيه الإمام (علیه السلام) هذا بالصدقة سرّاً والصدقة علانيةً ربّما يفيد ذلك، وأنّ العبادة سرّاً أفضل، مع أنّه يمكن أن يقال: إنّ ما تقدّم وإن كان هو الظاهر، إلّا أنّه (علیه السلام) لمّا لم يقل: «مثل العبادة مع الأمن»، كما قال: «مثل العبادة مع الخوف»، كان ذلك إشعاراً بأنّ الفضل بينهما إنّما هو باعتبار العبادة في نفسها، والخوف في نفسه، على أن يكون كلّ واحد منهما مستقلاًّ في الاتّصاف به، لا باعتبار مجموع الخوف والعبادة من حيث المجموع، حتّى يكون التفاضل بين العبادتين بلحاظ حال التقيّة واستتار الإمام وعدمهما.
وعلى هذا يكون الحديث دالاًّ على استحباب العبادة في السرّ، وأنّه ينبغي اختيار العبادة في السّر على العلانية؛ لأنّها أفضل.
سند الحديث:
أورد المصنّف للحديث سندين أيضاً:أوّلهما: مطابق لسند الحديث السابق تماماً، والكلام فيه كما في سابقه.
وثانيهما: ما رواه الصدوق في كتاب «إكمال الدين».
وفيه: المظفر بن جعفر العلوي: وهو من مشايخ الصدوق (رحمه الله) ، وقد
ص: 150
ترضّى عنه((1))، فهو ثقة.
وفيه أيضاً: حيدر بن محمد: وهو حيدر بن محمّد بن نعيم السمرقندي، قال عنه الشيخ في «الفهرست»: جليل القدر، فاضل، من غلمان محمّد بن مسعود العيّاشي، وقد روى جميع مصنفاته، وقرأها عليه، وروى ألف كتاب من كتب الشيعة بقراءة وإجازة، وهو يشارك محمّد بن مسعود في روايات كثيرة يتساويان فيها ((2)) .
وقال عنه في «رجاله» أيضاً: «عالم جليل، يكنّى أبا أحمد، يروي جميع مصنفات الشيعة وأصولهم عن محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد القمّي، وعن أبي عبد اللَّه الحسين بن أحمد بن إدريس القمّي، وعن أبي القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه القمّي، وعن أبيه، روى عن الكشّي عن العياشي جميع مصنفاته»((3)).
وفيه أيضاً: جعفر بن محمّد بن مسعود العيّاشي: قال عنه الشيخ في«الرجال»: «فاضل، روى عن أبيه جميع كتب أبيه. روى عنه أبو المفضّل الشيباني»((4)) .
وفيه أيضاً: أبوه، وهو محمّد بن مسعود العيّاشي: قال عنه النجاشي:
ص: 151
«أبو النضر، المعروف بالعيّاشي، ثقة، صدوق، عين من عيون هذه الطائفة»((1)).
وقال عنه الشيخ في «الفهرست»: «جليل القدر، واسع الأخبار، بصير بالروايات، مطّلع عليها، له كتب كثيرة تزيد على مائتي مصنَّف، ذكر فهرست كتبه ابن إسحاق النديم»((2)).
وقال عنه في «الرجال»: «أكثر أهل المشرق علماً وفضلاً وأدباً وفهماً ونُبْلاً في زمانه، صنَّف أكثر من مائتي مصنَّف، ذكرناها في الفهرست، وكان له مجلس للخاص، ومجلس للعام، رحمه اللَّه»((3)) .
وفيه أيضاً: القاسم بن هشام: وهو القاسم بن هشام اللؤلؤي. قال عنه الكشّي في «رجاله»: قال أبو عمرو: سألت أبا النضر محمّد بن مسعود عن جميع هؤلاء؟ فقال: ... وأمّا القاسم بن هشام: فقد رأيته فاضلاً خيّراً، وكانيروي عن الحسن بن محبوب ((4)).
وفيه الحسن بن محبوب، وقد تقدّم. و عليه فالسند معتبر.
مضافاً إلى أنّ للصدوق طريقاً صحيحاً إلى جميع كتب وروايات الحسن بن محبوب، كما يظهر ذلك من الشيخ في «الفهرست»، حيث قال (رحمه الله) :
ص: 152
[176] 4 - وَعَنْ عليّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ الْحَذَّاءِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (علیه السلام) يَقُولُ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله و سلم): قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّ مِنْ أَغْبَطِ أَوْلِيَائِي عِنْدِي رَجُلاً خَفِيفَ الْحَالِ، ذَا حَظٍّ مِنْ صَلاةٍ، أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ بِالْغَيْبِ، وَكَانَ غَامِضاً فِي النَّاسِ، جُعِلَ رِزْقُهُ كَفَافاً، فَصَبَرَ عَلَيْهِ، عُجِّلَتْ مَنِيَّتُهُ، فَقَلَّ تُرَاثُهُ، وَقَلَّتْ بَوَاكِيهِ»(1).
-----------------------------------------------------------------------------
أخبرنا بجميع كتبه ورواياته عدّة
من أصحابنا، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمّي، عن أبيه، عن سعد بن عبد اللَّه، عن الهيثم بن أبي مسروق ومعاوية بن حكيموأحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب((2)). وعليه فلا إشكال في اعتبار السند.
[4] - فقه الحديث:
متن الحديث قريب من متن الحديث الأول من هذا الباب. وهو دالٌّ - كالأوّل - على الترغيب في العبادة في السرّ واختيارها وترجيحها على العبادة في العلانية، وأنّ من كان متّصفاً بهذه الأوصاف الخمسة، وهي: أن
ص: 153
يكون خفيف الحال - وفي بعض النسخ: حفيف، بالحاء، بمعنى: قليل المال - وكان صاحب نصيب حسن وافرٍ من الصلاة، فرضاً ونفلاً، كمّاً وكيفاً، وقد أحسن عبادة ربّه غائباً عن الناس - فإنّه أخلص وأبعد من الرّياء - وكان غامضاً في الناس، بمعنى أنه مغمور غير مشهور؛ إمّا للتقيّة؛ أو لأنه ليس طالباً للشهرة ورفعة الذكر بين الناس، وجُعِل رزقه كفافاً بقدر الحاجة، لا يزيد ولا ينقص، وبقدر ما يكفّه عن السؤال، فهو صابر وشاكر للَّه تعالى، وعُجِّلت منيّته من المصائب التي ترد عليه، وعلم اللَّه صلاحه في ذلك. ولعلَ المراد من الفقرة الأخيرة: أنّه مهما قرب موته قلّ تراثه، وقلّت بواكيه؛ لانسلاله متدرّجاً عن أمواله وأولاده، وقلّة البواكي لقلّة عياله وأولاده وغربته وعدم اشتهاره؛ أو لأنّه ليس له مال ينفق في تعزيته فيجتمع عليه الناس. فمثل هذا الوليّ أحق الناس بأن يحسد ويغبط على ما يكتنفه من نعمجليلة، فهو أغبط أولياء اللَّه تبارك وتعالى، بمعنى: أنّه أحسن حالاً وأعظم سروراً عنده.
سند الحديث:
في السند ممّن لم يتقدم ذكره نحو: عاصم بن حميد: قال عنه النجاشي: عاصم بن حميد، الحنّاط، الحنفي، أبو الفضل، مولى، كوفي، ثقة، عين، صدوق ((1)).
ص: 154
وفيه أيضاً: أبو عبيدة الحذّاء: قال عنه النجاشي: زياد بن عيسى، أبو عبيدة، الحذّاء، كوفي، ثقة... وقال سعد بن عبد اللَّه الأشعري: ومن أصحاب أبي جعفر أبو عبيدة، وهو زياد بن أبي رجاء، كوفي، ثقة، صحيح... . وقال العقيقي العلوي: أبو عبيدة، زياد الحذّاء، [و] كان حسن المنزلة عند آل محمد، وكان زامل أبا جعفر (علیه السلام) إلى مكة((1)).
والتعبير بغير واحد في الطريق لا يوجب الإرسال؛ لأن النفس تطمئنّ بوجود الثقة فيهم.
وعليه فالسند معتبر بلا إشكال.
ص: 155
[177] 5 - وَعَنْهُ، عَنْ محمّد بْنِ عِيسَى، عَنْ يُونُسَ، عَنْ هَارُونَ بْنِ خَارِجَةَ، عَنْ زَيْدٍ الشَّحَّامِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) ، قَالَ: «مَا أَحْسَنَ مِنَ الرَّجُلِ يَغْتَسِلُ أَوْ يَتَوَضَّأُ، فَيُسْبِغُ الْوُضُوءَ، ثمّ يَتَنَحَّى حَيْثُ لا يَرَاهُ أَنِيسٌ، فَيُشْرِفُ عَلَيْهِ، وَهُوَ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِدٌ»، الْحَدِيثَ(1).
-----------------------------------------------------------------------------
[5] - فقه الحديث:
دلّ الحديث على حسن إسرار العبادة، وأدائها بعيداً عن أعين الناس، فيتنحّى بعبادته بحيث لا يراه أحد؛ لما في ذلك من البعد عن حبّ الاشتهار بالعبادة، وطلب المنزلة عند من يراه من الناس حال العبادة، فهو أقرب للإخلاص. وإسباغ الوضوء: إتمامه وإكماله، وذلك من خلال إتمامه على ما فرض اللَّه تعالى، وإكماله على ما سنّه رسول اللَّه (صلی الله علیه و آله و سلم).
وهو دالّ أيضاً على استحباب إسباغ الوضوء.
سند الحديث:
جميع رجال الحديث قد تقدّموا فيما سبق، والسند معتبر.
ص: 156
[178] 6 - محمّد بْنُ الْحَسَنِ فِي «الْمَجَالِسِ وَالأَخْبَارِ»، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ هَارُونَ بْنِ مُوسَى، عَنِ ابْنِ عُقْدَةَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ الْحُصَيْنِ بْنِ مُخَارِقٍ، عَنِ الصَّادِقِ، عَنْ آبَائِهِ، عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (علیه السلام) : أَنَّ رَجُلاً وَفَدَ إِلَيْهِ(1) مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ (علیه السلام) : «هَلْ فِي بِلادِكَ قَوْمٌ قَدْ شَهَرُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْخَيْرِ لا يُعْرَفُونَ إِلَّا بِهِ؟» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَهَلْ فِي بِلادِكَ قَوْمٌ قَدْ شَهَرُوا أَنْفُسَهُمْ بِالشَّرِّ لا يُعْرَفُونَ إِلَّا بِهِ؟» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَهَلْ فِي بِلادِكَ قَوْمٌ يَجْتَرِحُونَ السَّيِّئَاتِ وَيَكْتَسِبُونَ الْحَسَنَاتِ؟» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «تِلْكَ خِيَارُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ(صلی الله علیه و آله و سلم)(2)، النُّمْرُقَةُ(3) الْوُسْطَى، يَرْجِعُ إِلَيْهِمُ الْغَالِي، وَيَنْتَهِي إِلَيْهِمُ الْمُقَصِّرُ»(4).
-----------------------------------------------------------------------------
[6] - فقه الحديث:
دلّ الحديث على أنّ أفضل الفرق - التي هي في حدّ الاعتدال - تلك التي تكتسب الحسنات، ولم تشهر نفسها بالخير رياءً، وكانت عبادتها في السرّ،وكذلك لم تشهر نفسها بارتكاب المعاصي، وإن كانت قد ترتكب
ص: 157
المعاصي أحياناً؛ لعدم العصمة، ولكن الحسنات تمحوها، فهم أفضل من الفرقة الأولى، مع أنّهم يرتكبون المعاصي ولو خفيةً، بل هم قد يقترفون بعض المعاصي بمقتضى عدم عصمتهم، ولكنّهم لا يتجاهرون بها، فحرمتهم محفوظة، فهم ليسوا كالفرقة الثالثة((1)) التي تتجاهر بفعلها للمعاصي، وبهذا أسقطت حرمتها بتجاهرها بمعصية اللَّه عزّوجلّ.
ولعلّ المراد من الفرقة الأولى: قوم من أرباب البدع والمرائين، شهروا أنفسهم بالخير، فلذا فضّل عليهم الفرقة الأخيرة. أو المراد: أنّ تلك أيضاً من الأخيار، إلّا أنّ الفرقة الأخيرة أفضل؛ لإخفائهم العبادة، فهم النمرقة الوسطى، والحدّ المطلوب الذي يرجع إليه من كان في طرف الإفراط أو التفريط، فإليهم يرجع الغالي، وهو من اشتهر بالعبادة والخيرات، أو من يقول في أهل البيت (علیهم السلام) ما لا يقولون في أنفسهم، كمن يدّعي فيهم النبّوة والألوهيّة.
ويلحق بهم المقصّر الذي اشتهر بالشرّ والمعاصي، أو المقصّر في تنزيلهم منازلهم التي رتّبهم اللَّه فيها.
والنمرقة - بضم النون والراء وكسرهما - : الوسادة، والنَّمَط: الطريقة من الطرائق، والجماعة من الناس أمرهم واحد، وأصله ضرب من البسط لهخمل رقيق.
وبه فسّره الإمام الباقر (علیه السلام) في حديث يصبّ في هذا المجرى؛ فقد ورد
ص: 158
عن عمرو بن سعيد بن بلال، قال: دخلت على أبي جعفر (علیه السلام) ونحن جماعة، فقال: «كونوا النُّمْرُقَةَ الوسطى، يرجع إليكم الغالي، ويلحق بكم التالي. واعلموا - يا شيعة آل محمّد - ما بيننا وبين اللَّه من قرابة، ولا لنا على اللَّه حجة، ولا يتقرّب إلى اللَّه إلّا بالطاعة. من كان مطيعاً نفعته ولايَتُنا، ومن كان عاصياً لم تنفعه ولايَتُنا»، قال: ثمّ التفت إلينا وقال: «لا تَغْترّوا، ولا تَفْتُروا»، قلت: وما النُّمْرُقَةُ الوسطى ؟ قال: «ألا ترون أهلاً تأتون أن تجعلوا للنّمَط الأوسط فضله؟»((1)).
بمعنى أنّكم تأتون بيتاً فيه أنماط ونمارق وتتوجّهون إلى الوسط منها، وترون فضله على سائر الوسائد والبسط.
سند الحديث:
في السند ممّن لم يتقدّم ذكره وهو: يعقوب بن يوسف: وهو مشترك بين جماعة، ولكن المراد به هنا هو: يعقوب بن يوسف بن زياد الضبي، الوارد في طريق الشيخ في «الفهرست» إلى كتاب زيد بن وهب فيخطب أمير المؤمنين (علیه السلام) على المنابر في الجمع والأعياد وغيرها((2))؛
وذلك بقرينة الراوي عنه، وهو ابن عقدة. ولم يرد فيه شي ء.
نعم، وردت له روايات تدلّ على حسن عقيدته، ولكنّها لا تدلّ على وثاقته.
ص: 159
وفيه أيضاً الحُصَيْن بن مخارق: وهو أبو جُنادة. قال عنه النجاشي: حصين بن المخارق بن عبد الرحمن بن ورقاء بن حُبْشِي بن جنادة، أبو جنادة، السَّلُولي، وحبشي صاحب النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، روى عنه ثلاثة أحاديث: أحدها: «عليٌّ منّي وأنا منه». وقيل في حُصَيْن بعض القول وضعّف بعض التضعيف((1)) .
وعدّه الشيخ من أصحاب الإمام الكاظم (علیه السلام) ، وقال: إنّه واقفي((2)).
وقال العلامة في «الخلاصة»: قال ابن الغضائري: إنّه ضعيف. ونقل هو عن ابن عقدة أنّه كان - يعني حُصيناً - يضع الحديث، وهو من الزيديّة، لكن حديثه يجي ء في حديث أصحابنا، يشير إلى ابن عقدة((3)).
ص: 160
[179] 7 - وَعَنْهُ، عَنْ عليّ بْنِ محمّد الْعَلَوِيِّ، عَنْ محمّد بْنِ أَحْمَدَ الْمُكَتِّبِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ محمّد الْكُوفِيِّ، عَنْ عليّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عليّ ابْنِ فَضَّالٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا (علیه السلام) ، قَالَ: «مَنْ شَهَرَ نَفْسَهُ بِالْعِبَادَةِ فَاتَّهِمُوهُ عَلَى دِينِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَكْرَهُ شُهْرَةَ الْعِبَادَةِ وَشُهْرَةَ اللِّبَاسِ»(1)، ثمّ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا فَرَضَ عَلَى النَّاسِ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، مَنْ أَتَى بِهَا لَمْ يَسْأَلْهُ اللَّهُ عَمَّا سِوَاهَا. وَإِنَّمَا أَضَافَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله و سلم) مِثْلَيْهَا؛ لِيَتِمَّ بِالنَّوَافِلِ مَا يَقَعُ فِيهَا مِنَ النُّقْصَانِ. وَإِنَّ اللَّهَ لا يُعَذِّبُ عَلَى كَثْرَةِ الصَّلاةِ وَالصَّوْمِ، وَلَكِنَّهُ يُعَذِّبُ عَلَى خِلافِ السُّنَّةِ»(2).
-----------------------------------------------------------------------------
[7] - فقه الحديث:
دلّ الحديث على كراهية اللَّه سبحانه وتعالى شهرة العابد بالعبادة، أو شهرته بلباس معيّن غير متعارف بين أمثاله، إذا كان من قصده أن يشتهر بالعبادة رياءً وسمعة، وكان يسعى للحصول عليها، بل هو متّهم على دينه.
وأمّا إذا لم يعبد اللَّه عزّوجلّ بهذا القصد، وكانت عبادته خالصة لوجه اللَّه تعالى، فإنّ هذا الحديث منصرف عن مثله، بل إنّ اشتهاره بالعبادة لا بّد منه؛إذ إنّ اللَّه تبارك وتعالى يظهر عبادة العابد المخلص، وإن أخفاها ولم يشهر
ص: 161
هو نفسَه بها، كما دلّت عليه الأحاديث السابقة وغيرها.
ويدلّ الحديث أيضاً على أنّ من أتى بالفرائض لم يسأله اللَّه عزّوجلّ عن النوافل؛ فإنّه سبحانه قد فرض على الناس سبع عشرة ركعة، لكن رسول اللَّه(صلی الله علیه و آله و سلم) أضاف إليها مثليها؛ ليتمّ بها ما ينقص منها بسبب عدم حضور القلب والسهو وغيره، فيكون ما يأتي به ممّا شرّعه رسول اللَّه(صلی الله علیه و آله و سلم) تتميماً للفرائض.
وأمّا بالنسبة إلى كثرة الصلاة والصيام، فهي مندوب إليها، ولا يعذّب اللَّه عليها؛ فإنّ الصلاة خير موضوع، والصيام له جلّ شأنه، وهو يثيب صاحبه عليه.
وإنّما يعذّب اللَّه جلّ شأنه على ما كان خلاف السنّة، أي: على تبديلها، بأن يزيد عليها أو ينقص منها، معتقداً أنّ العمل بهذه الكيفية وهذا العدد في تلك الأوقات مطلوب بخصوصه، كصلاة الضحى وأمثالها من البدع.
وقد ورد في رواية أخرى: أنّه لمّا سأل الراوي عن صلاة رسول اللَّه(صلی الله علیه و آله و سلم) وبيّن له الإمام ذلك، قال: جعلت فداك، فإن كنت أقوى على أكثر من هذا، أيعذّبني اللَّه على كثرة الصلاة؟ فقال: «لا، ولكن يعذّب على ترك السنّة»((1)). والمراد بها أيضاً نحو ما ذكرناه؛ فإنّ السنّة يراد بها الطريقة المستمرّة للنبيوالأئمة (علیهم السلام) ، وهي أعمّ من الوجوب والاستحباب. والعذاب على ترك الواجب ظاهر، وأمّا على ترك المستحب: فهو مخصوص بما كان الترك على
ص: 162
نحو التهاون والاستخفاف، ولا يكاد ينفكّ الترك له - لغير عذر ، مع المداومة عليه - عن الاستخفاف والتهاون.
سند الحديث:
وفيه: عليّ بن محمّد العلوي: وهو أبو القاسم عليّ بن محمّد بن عليّ بن القاسم العلوي، لم يرد فيه شيء.
وفيه: محمّد بن أحمد المكتّب: وهو السناني، من مشايخ الصدوق (رحمه الله) ، وقد تقدّم.
وأحمد بن محمّد الكوفي: وهو مشترك بين ابن عقدة وبين أحمد بن محمّد بن عاصم، المعروف بالعاصمي، وكلاهما من مشايخ الكليني (رحمه الله) ، وهما ثقتان؛ فإنّ ابن عقدة هو أحمد بن محمّد بن سعيد، يعرف بابن عقدة الهمداني، وقد تقدّمت ترجمته.
وأمّا أحمد بن محمّد بن عاصم: فقد قال عنه النجاشي: «أحمد بن محمّد بن أحمد بن طلحة، أبو عبد اللَّه، وهو ابن أخي أبي الحسن عليّ بن عاصم، المحدِّث، يقال له: العاصمي، كان ثقة في الحديث، سالماً خيّراً،أصله كوفيّ، وسكن بغداد، روى عن الشيوخ الكوفييّن، له كتب»((1)).
وقال الشيخ في «الفهرست»: «أحمد بن محمّد بن عاصم، أبو عبد اللَّه، وهو ابن أخي عليّ بن عاصم، المحدِّث، ويقال له: العاصمي، ثقة في
ص: 163
الحديث، سالم الجنبة، أصله الكوفة، سكن بغداد، وروى عن شيوخ الكوفيّين»((1)).
وفيه أيضاً عليّ بن الحسن بن عليّ بن فضّال: قال عنه النجاشي: «علي بن الحسن بن عليّ بن فضّال بن عمر بن أيمن، مولى عِكْرِمَة بن ربْعِي، الفيّاض، أبو الحسن، كان فقيه أصحابنا بالكوفة ووجههم وثقتهم وعارفهم بالحديث، والمسموع قوله فيه، سمع منه شيئاً كثيراً، ولم يعثر له على زلّة فيه، ولا ما يشينه، وقلّ ما روى عن ضعيف، وكان فطحيّاً، ولم يرو عن أبيه شيئاً»((2))، ويظهر من كلامه: أنّ رواية الأجلّاء لا تدلّ على الوثاقة.
وقال الشيخ في «الفهرست»: «علي بن الحسن بن فضّال، فطحيّ المذهب، ثقة، كوفي، كثير العلم، واسع الرواية والأخبار، جيّد التصانيف، غير معاند، وكان قريب الأمر إلى أصحابنا الإماميّة القائلين بالاثني عشر،وكتبه في الفقه مستوفاة في الأخبار حسنة، وقيل: إنّها ثلاثون كتاباً»((3)).
وعدّه الكشّي من أجلاء الفطحية المنتمين إلى أصحابنا((4)).
وقال في موضع آخر: «قال أبو عمرو: سألت أبا النضر محمّد بن مسعود عن جميع هؤلاء؟ فقال: أمّا عليّ بن الحسن بن عليّ بن فضّال، فما رأيت
ص: 164
[180] 8 - عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيُّ فِي «قُرْبِ الإِسْنَادِ»، عَنِ السِّنْدِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ (علیه السلام) ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله و سلم): أَعْظَمُ الْعِبَادَةِ أَجْراً أَخْفَاهَا»(1).
-----------------------------------------------------------------------------
فيمن لقيت بالعراق وناحية خراسان أفقه ولا أفضل من عليّ بن الحسن بالكوفة، ولم يكن كتاب عن الأئمة (علیهم السلام) من كلّ صنف إلّا وقد كان عنده، وكان أحفظ الناس، غير أنّه كان فطحيّاً، يقول بعبد اللَّه بن جعفر، ثمّ بأبي الحسن موسى (علیه السلام) ، وكان من الثقات»((2)).
وعليه فالسند غير معتبر لأجل وجود عليّ بن محمّد العلوي، إلّا أن يقال: إن للشيخ طريقاً إلى جميع روايات ابن فضّال وكتبه، كما ستعرف ذلك في خلال المباحث الآتية. وبناء على ذلك فالسند معتبر.
[8] - فقه الحديث:
دلّ الحديث على أنّ العبادة التي تخفى أعظم أجراً من التي تعلن؛ لما تقدّم من بعدها عن الرِّياء وشبهه، وقرب صاحبها من الإخلاص، فتكون أعظم أجراً من العبادة المعلنة، والتي تكون في معرض ما يشينها من رياء أو سمعة أو إدلال أو عجب.
ص: 165
[181] 9 - محمّد بْنُ عليّ بْنِ الْحُسَيْنِ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ ظَبْيَانَ، عَنِ الصَّادِقِ (علیه السلام) ، أَنَّهُ قَالَ: «الاشْتِهَارُ بِالْعِبَادَةِ رِيبَةٌ»، الْحَدِيثَ(1).
وَرَوَاهُ فِي «مَعَانِي الأَخْبَارِ»، عَنْ محمّد بْنِ الْحَسَنِ، عَنِ الصَّفَّارِ، عَنْ أيّوب بْنِ نُوحٍ، عَنْ محمّد بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ سَيْفِ بْنِ عَمِيرَةَ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (علیه السلام) (2).
-----------------------------------------------------------------------------
سند الحديث:
رجال الحديث قد تقدّموا فيما سبق، والسند معتبر.
[9] - فقه الحديث:
دلّ الحديث على أنّ الاشتهار بالعبادة موجب للشكّ في أنّ تلك العبادة التي اشتهر بها وقعت رياء أو لا. فينبغي إخفاء العبادة وسترها، وإن كان العابد بين الناس، أو يوقعها في السرّ والخلوة، بحيث لا يطّلع عليه إلّا اللَّه تعالى؛ لكي لا يكون في معرض الوقوع في الريبة والشك بأنّه مراءٍ بعبادته.
وتتمة الحديث: «إنّ أبي حدّثني عن أبيه، عن جدّه (علیهم السلام) : أنّ رسول اللَّه(صلی الله علیه و آله و سلم)قال: أعبد الناس من أقام الفرائض، وأسخى الناس من أدّى
ص: 166
وَرَوَاهُ فِي الْمَجَالِسِ، عَنْ محمّد بْنِ أَحْمَدَ السِّنَانِيِّ، عَنْ محمّد بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْكُوفِيِّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ النَّخَعِيِّ، عَنْ عَمِّهِ الْحُسَيْنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ محمّد بْنِ سِنَانٍ، عَنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ يُونُسَ بْنِ ظَبْيَانَ(1).
أَقُولُ: هَذَا مَخْصُوصٌ بِغَيْرِ الْعِبَادَاتِ الْوَاجِبَةِ مِنَ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا، وَيَأْتِي مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فِي الزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى(2).
-----------------------------------------------------------------------------
زكاة ماله، وأزهد الناس من اجتنب الحرام، وأتقى الناس من قال الحقّ فيما له وعليه...»((3)).
سند الحديث:
أورد المصنف للحديث ثلاثة أسانيد:
الأوّل: ما عن الصدوق بإسناده، عن يونس بن ظبيان.
ولم يذكر في «المشيخة» سنده إلى يونس بن ظبيان. وعليه فسنده
ص: 167
مجهول. ولعلّ سنده هو السند الثالث عن «المجالس».
والثاني: ما رواه أيضاً في «معاني الأخبار»، عن محمّد بن الحسن، عن الصفّار.
وفي السند: أيّوب بن نوح: قال عنه النجاشي: «أيوب بن نوح بن درّاج، النخعي، أبو الحسين، كان وكيلاً لأبي الحسن وأبي محمد (علیهما السلام) ، عظيم المنزلة عندهما، مأموناً، وكان شديد الورع، كثير العبادة، ثقة في رواياته، وأبوه نوح بن درّاج كان قاضياً بالكوفة، وكان صحيح الاعتقاد، وأخوه جميل بن درّاج»((1)).
وقال الشيخ في «الفهرست»: «أيوب بن نوح بن درّاج، ثقة، له كتابوروايات ومسائل عن أبي الحسن الثالث (علیه السلام) ، أخبرنا بها عدّة من أصحابنا»((2)).
ووثّقه أيضاً في «الرجال» في أصحاب كلّ من الإمام الرضا والجواد والهادي (علیهم السلام) ((3)).
وقد نقل الكشّي عن أبي عمرو: أنّه من العدول، والثقات من أهل العلم((4)). كما روى عن أبي محمّد الرازي خبراً عن الناحية المقدّسة (علیه السلام)
ص: 168
جاء فيه: «الغائب العليل ثقة، وأيّوب بن نوح وإبراهيم بن محمّد الهمداني وأحمد بن حمزة وأحمد بن إسحاق ثقات جميعاً»((1)) .
وورد في «نوادر الحكمة»((2)).
وفي السند أيضاً: سيف بن عميرة: قال عنه النجاشي: «سيف بن عميرة، النخعي، عربي، كوفي، [ثقة]، روى عن أبي عبد اللَّه وأبي الحسن (علیهما السلام) . له كتاب يرويه جماعات من أصحابنا»((3)).وقال الشيخ في «الفهرست»: «سيف بن عَمِيرة، ثقة، كوفي نخعي عربي، له كتاب، أخبرنا به عدّة من أصحابنا»((4)).
وقال ابن شهر آشوب: «ثقة، من أصحاب الكاظم (علیه السلام) »((5)).
وورد في «التفسير» و«النوادر»، كما روى عنه المشايخ الثقات((6)).
وأمّا سائر الأفراد في السند، فتقدّمت ترجمتهم.
وعليه فهذا السند صحيح.
والثالث: ما رواه أيضاً في «المجالس»، عن محمّد بن أحمد السناني.
ص: 169
وفيه: محمّد بن أبي عبد اللَّه الكوفي: وهو محمّد بن جعفر الأسدي، الثقة، أحد الأبواب للناحية المقدّسة، وقد تقدّم بعنوان محمّد بن جعفر الأسدي في الحديث السابع عشر من الباب الثاني.
وأمّا موسى بن عمران النخعي: فقد تقدّم أنّه لم يرد فيه شي ء، في السند المشار إليه نفسه.
والحسين بن يزيد، هو النوفلي، وقد تقدّم مع باقي السند.
والحاصل: أنّ هذا الباب يشتمل على تسعة أحاديث، اثنان ضعيفان، والبقيّة معتبرة.
والمستفاد من أحاديث الباب أمور:
منها: أنّ أغبط الأولياء عند اللَّه سبحانه هو الذي يعبده عبادة حسنة في السر.
ومنها: أنّ الصدقة في السر أفضل من الصدقة في العلانية.
ومنها: أنّ العبادة في السر أفضل من العبادة في العلانية.
ومنها: أنّ العبادة في السر مع الإمام المستتر في دولة الباطل أفضل منها مع الإمام المبسوط اليد.
ومنها: الإذن في جواز العزلة عن الناس، ما لم تجب المعاشرة أو تستحب.
ومنها: أنّ النمرقة الوسطى هم خيار هذه الأمة.
ص: 170
ومنها: أنّ أعظم العبادة أجراً أخفاها.
ومنها: أنّ المشتهر بالعبادة عُدّ غالياً.
ومنها: أنّ المشتهر بالشرّ عُدّ مقصّراً.
ومنها: أنّ الشهرة في العبادة موجبة للتهمة في الدين.
ومنها: أنّ الاشتهار بالعبادة واللباس بقصد الاشتهار بهما مكروه عند اللَّه سبحانه وتعالى.
ومنها: أنّ الاشتهار بالعبادة موجب للريبة والشك.
ص: 171
ص: 172
-----------------------------------------------------------------------------
18 - باب استحباب الإتيان بكلّ عمل مشروع، روي
له ثواب عنهم (علیهم السلام)
شرح الباب:
عنوان الباب إشارة إلى القاعدة المعروفة بين فقهائنا رضوان اللَّه عليهم، وهي قاعدة التسامح في أدلّة المستحبّات والمكروهات، التي مفادها على المشهور: ترتّب الثواب على العمل الّذي بلغه أنّ فيه الثواب، وإن لم يكن صادراً في الواقع عنهم (علیهم السلام) .
ولا شكّ أنّ ترتّب الثواب على عمل دليل على استحبابه، والمثبت لهذا الاستحباب هو عنوان البلوغ الطارئ بالخبر الضعيف، فيكون عنوان البلوغ من قبيل سائر العناوين الطارئة على الأفعال الموجبة لحسنها وقبحها ولتغيّر أحكامها، كعنوان العسر والضرر والنذر والإكراه، وغير ذلك من العناوين الثانويّة.
وعلى أساس هذه القاعدة أفتى المشهور باستحباب كثير من الأحكام الشرعيّة في أبواب الفقه المختلفة، مع عدم ورود نصّ خاصّ معتبر فيها، ومع عدم انطباق عمومات أو مطلقات على تلك الأحكام.
ص: 173
ولكن يظهر من قوله (قدس سره) : «بكل عمل مشروع» أنّ العمل لابدّ وأن يكون مشروعاً قبل بلوغ الثواب عليه، لا أنّه تثبت شرعيّته ببلوغ الثواب. فصاحب «الوسائل» (قدس سره) لا يرى دلالة روايات الباب على إثبات الاستحباب للعمل، بل لابدّ من العلم بالمشروعيّة والاستحباب من طريق معتمد، وإنّما يثبت بالخبر الضعيف ترتّب الثواب أو مقداره، لا غير ،كما صّرح بذلك((1)).
والأحاديث التي ذكرت في هذا الباب قد اتفق على نقلها كلا الفريقين((2))،
وانعقد عليها إجماعهم، بل قد تجاوزت بكثرتها حدّ التواتر المعنوي.
أمّا الخاصة: فقد قال الشيخ الأنصاري (قدس سره) : «إنّ هذه الأخبار مستفيضة، لا يبعد دعوى تواترها معنىً».
وقال أيضاً: «إنّ هذه الأخبار - مع صحّة بعضها - غنيّة عن ملاحظة سندها؛ لتعاضدها وتلقّيها بالقبول بين الفحول»((3)) .
وقال الشهيد (قدس سره) في «الذكرى»: «أحاديث الفضائل يتسامح فيها عند
ص: 174
أهل العلم»((1)) بما لا يتسامح في غيرها، وظاهر قوله عند أهل العلم»: الخاصّة والعامّة معاً.
وفي «عدّة الداعي» - بعد نقله الروايات المتعلّقة بما نحن فيه - قال: «فصار هذا المعنى مجمعاً عليه بين الفريقين»((2)).
وعن الشهيد الثاني (قدس سره) في «الدراية» أنّه قال: «جوّز الأكثر العمل بالخبر الضعيف في نحو القصص والمواعظ وفضائل الأعمال، لا في صفات اللَّه المتعال وأحكام الحلال والحرام، وهو حسن، حيث لم يبلغ الضعيف حدّ الوضع والاختلاق؛ لما اشتهر بين العلماء المحقّقين من التساهل في أدلّة السنن، وليس في المواعظ والقصص غير محض الخبر؛ ولما ورد عن النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) من طرق الخاصة والعامة، أنّه قال: «من بلغه عن اللَّه تعالى فضيلة فأخذها وعمل بما فيها؛ إيماناً باللَّه، ورجاء ثوابه، أعطاه اللَّه تعالى ذلك، وإن لم يكن كذلك»((3)).
وعن الشيخ البهائي (رحمه الله) في «أربعينه» نسبته إلى فقهائنا((4)). وعن العلّامة المجلسي في «البحار» - بعد نقله رواية هشام بن سالم - قال: «إنّ هذا الخبرمن المشهورات، رواه العامة والخاصة بأسانيد»((5)).
ص: 175
نعم، خالف في ذلك العلامة في «المنتهى»((1))، ونُسِب الخلاف أيضاً إلى بعض الأخباريين، كصاحب «الحدائق» (رحمه الله) ((2))، وصاحب «المدارك»((3))، بل يظهر ذلك من الشيخ الصدوق (رحمه الله) وشيخه ابن الوليد في كتاب الصوم من «الفقيه»، قال: «وأمّا خبر صلاة يوم غدير خم والثواب المذكور فيه لمن صامه، فإنّ شيخنا محمّد بن الحسن بن الوليد لم يصحّحه، ويقول: إنّه من طريق محمّد بن موسى الهمداني، وكان كذاباً غير ثقة. وكل ما لم يصحّحه ذلك الشيخ ولم يحكم بصحته من الأخبار فهو عندنا متروك غير صحيح»((4)).
ولكن حكي رجوع العلامة((5)) عمّا ذكره، وكذلك رجوع صاحب«المدارك» في باب الصلاة((6)) عمّا ذكره في أوّل الطهارة، كما أفاده الصدر في «شرح الوجيزة»((7)).
ص: 176
وأمّا ما ذكره الشيخ الصدوق (رحمه الله) من عدم تصحيحه الخبر، فلا دلالة فيه على عدم عمله بقاعدة التسامح، بل إنّما هو من جهة التزامه في أوّل «الفقيه» بذكر الأخبار الصحاح. وبما أنّ هذا الطريق قد وقع فيه محمّد بن موسى الهمداني - وهو ضعيف - أشكل الحكم بصحتّه من هذه الجهة خاصة.
وأمّا ما نسب إلى بعض الأخباريين، فهو مجرّد نسبة، لم نعرف قائلاً صريحاً به. ومن هنا يظهر ممّا ذكرنا: بأنّا لا نعلم مخالفاً من الطائفة في ذلك.
وأمّا العامة: فقد عملوا بمفاد هذه الأحاديث أيضاً.
قال محيي الدين النووي: وقد سبق مرّات: أنّ العلماء متّفقون على التسامح في الأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال، ونحوها ممّا ليس من الأحكام، واللَّه أعلم((1)).
وقال الحطّاب الرعيني في «مواهب الجليل»: اشتهر أنّ أهل العلم يتسامحون في إيراد الأحاديث في الفضائل، وإن كان فيها ضعيف، ما لم تكن موضوعة ((2)).
وروى الحاكم والخطيب عن أحمد بن حنبل، قال: إذا روينا عن رسول اللَّه(صلی الله علیه و آله و سلم) في الحلال والحرام والسنن والأحكام تشدّدنا في الأسانيد. وإذا روينا عن النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) في فضائل الأعمال وما لا يضع حكماً ولا يرفعه تساهلنا في الأسانيد ((3)) .
ص: 177
[182] 1 - محمّد بْنُ عليّ بْنِ بَابَوَيْهِ فِي كِتَابِ «ثَوَابِ الأَعْمَالِ»، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عليّ بْنِ مُوسَى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عليّ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ صَفْوَانَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) ، قَالَ: «مَنْ بَلَغَهُ شَيْ ءٌ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى (شَيْ ءٍ مِنَ الْخَيْرِ)(1) فَعَمِلَهُ كَانَ لَهُ أَجْرُ ذَلِكَ، (وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله و سلم) لَمْ يَقُلْهُ)(2)»(3).
-----------------------------------------------------------------------------
وروى الخطيب أيضاً عن محمّد بن نعيم، قال: «سمعت أبا زكريّا العنبريّ يقول: الخبر إذا ورد لم يحرّم حلالاً، ولم يحل حراماً، ولم يوجب حكماً، وكان في ترغيبٍ أو ترهيبٍ أو تشديدٍ أو ترخيصٍ، وجب الإغماض عنه والتساهل في روايته»((4)).
[1] - فقه الحديث:
دلّ الحديث على حصول الأجر والثواب للآتي بالعمل بمجرّد بلوغ الخبر، وإن لم يكن صادراً من النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم) بحسب الواقع. ولا يتوهم وجود الفرق بين أن يكون البلوغ عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) وبين أن يكون عن بقيّة المعصومين الأربعة عشر (علیهم السلام) ؛ إذ هم (علیهم السلام) نور واحد، وحديثهم هو حديث
ص: 178
رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم). وترتّب الثواب للعامل في هذا الحديث يقتضي رجحان الإتيان بذلك الفعل. ويفهم من قوله (علیه السلام) «على شيء من الخير»: أنّ الشيء البالغ معلوم الخيرية، وكأنه عبارة أخرى عن كونه مشروعاً. وهذا كافٍ في إثبات استحباب كلّ ما ورد فيه رواية، ولو لم تكن جامعة لشرائط الحجّية. وهناك احتمالات أخرى، بل أقوال في معنى هذا الحديث وغيره، سيأتي ذكرها عن قريب.
سند الحديث:
رجال الحديث قد تقدموا فيما سبق. والسند غير معتبر لأجل عليّ بن موسى الكمنداني. إلّا أن يقال بأن كتاب صفوان بن مهران مشهور؛ فإن النجاشي ذكر أنه «يرويه جماعة»((1)) ، فلا يضرّ حينئذ ضعف الطريق بالكمنداني.
ص: 179
[183] 2 - وَفِي «عُيُونِ الأَخْبَارِ»، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ محمّد بْنِ عُبْدُوسٍ، عَنْ عليّ بْنِ محمّد بْنِ قُتَيْبَةَ، عَنْ حَمْدَانَ بْنِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ عليّ بْنَ مُوسَى الرِّضَا (علیه السلام) ، عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ}(1)، قَالَ: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ بِإِيمَانِهِ فِي الدُّنْيَا إِلَى جَنَّتِهِ وَدَارِ كَرَامَتِهِ فِي الآخِرَةِ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلتَّسْلِيمِ للَّهِ، وَالثِّقَةِ بِهِ، وَالسُّكُونِ إِلَى مَا وَعَدَهُ مِنْ ثَوَابِهِ، حتّى يَطْمَئِنَّ إِلَيْهِ»، الْحَدِيثَ(2).
-----------------------------------------------------------------------------
[2] - فقه الحديث:
الشرح هو: التوسعة، ويعبّر عن السرور بسعة القلب وشرحه((3)). ومعنى صدر الحديث: أنّ من يرد اللَّه أن يهديه في الآخرة إلى طريق الجنّة، وفي الدنيا إلى طريق الخيرات، يوسّع صدره في الدنيا للإسلام. وهذا كناية عن جعل القلب قابلاً للحقّ، مهيّئاً لحلوله فيه، بحيث يسع ما يصادفه من المعارف الحقّة، والأعمال الصالحة، فلا يلقى إليه قول حقّ إلّا وعاه، ولا عمل صالح إلّا أخذ به، وهذا هو التسليم للَّه سبحانه والانقياد لأمره.والتسليم للَّه سبحانه يستتبع الاعتماد عليه، والسكون إلى وعده لأهل الإيمان
ص: 180
بعظيم الثواب وجزيل الأجر يوم يقوم الحساب. والظاهر أنّ سياق هذا الحديث أجنبيّ عن قول المشهور، وإن كان موافقاً لعنوان الباب؛ لأنّ الاطمئنان بوعد اللَّه وثوابه إنّما يكون بعد الفراغ عن وعد اللَّه وثوابه. وعليه فهو خارج عمّا نحن فيه.
اللهم إلّا أن يقال: إن قوله (علیه السلام) «والسكون إلى ما وعده من ثوابه» مطلق يشمل ما إذا كان الوعد بالثواب واصلاً للعبد عن طريق معتبر، وما إذا كان واصلاً له عن طريق غير معتبر، وحينئذ يكون السكون والاطمئنان بوعد الله تعالى بالثواب بعد صدوره - ولو بطريق غير معتبر - موجباً للشوق لتحصيل ما وعده الله من الثواب على العمل.
سند الحديث:
فيه: عبد الواحد بن محمّد بن عبدوس: هو النيسابوري، العطّار، من مشايخ الصدوق، وقد ترضّى عنه في «المشيخة»، وقال بعد رواية عنه: وحديث عبد الواحد بن محمّد بن عبدوس رضي اللَّه عنه عندي أصح، ولا قوّة إلّا باللَّه ((1)). وعليه فيكون ثقة.
وأمّا عليّ بن محمّد بن قتيبة: فقد تقدّم أنّه ثقة على الأقوى.
وأمّا حمدان بن سليمان: فقد ذكره النجاشي قائلاً: «حمدان بن سليمان،أبو سعيد، النيشابوري، ثقة، من وجوه أصحابنا»((2)).
وعليه فالسند معتبر.
ص: 181
[184] 3 - أَحْمَدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرْقِيُّ فِي «الْمَحَاسِنِ»، عَنْ عليّ ابْنِ الْحَكَمِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) ، قَالَ: «مَنْ بَلَغَهُ عَنِ النَّبِيِّ(صلی الله علیه و آله و سلم) شَيْ ءٌ مِنَ الثَّوَابِ فَعَمِلَهُ كَانَ أَجْرُ ذَلِكَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله و سلم) لَمْ يَقُلْهُ»(1).
[185] 4 - وَعَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ النَّضْرِ، عَنْ محمّد بْنِ مَرْوَانَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) ، قَالَ: «مَنْ بَلَغَهُ عَنِ النَّبِيِّ(صلی الله علیه و آله و سلم) شَيْ ءٌ مِنَ(2) الثَّوَابِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ؛ طَلَبَ قَوْلِ النَّبِيِّ(صلی الله علیه و آله و سلم)، كَانَ لَهُ ذَلِكَ الثَّوَابُ، وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ(صلی الله علیه و آله و سلم) لَمْ يَقُلْهُ»(3).
-----------------------------------------------------------------------------
وهذا الحديث وإن كان من حيث السند تاماً، إلّا أنّه قاصر الدلالة، كما لا يخفى.
[3] - فقه الحديث:
هذا الحديث كالحديث الأول في الدلالة. ورجال السند قد تقدّم الكلامحولهم. فالسند صحيح.
[4] - فقه الحديث:
هذا الحديث مقيّد لسائر الأحاديث المطلقة في هذا الباب؛ حيث ورد
ص: 182
فيه قيد زائد، وهو إتيان العمل بداعي طلب قول النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم)، فيدلّ على أنّ الأجر والثواب مترتّبان على العمل المأتيّ به بداعي امتثال قوله(صلی الله علیه و آله و سلم). ولذلك حمله بعضهم((1)) على الإرشاد إلى حكم العقل بحسن الانقياد في مورد بلوغ الثواب، وإن لم يكن الأمر كما بلغه، من دون نظر له إلى إثبات استحباب أصل العمل، كما ذهب إليه المشهور.
وهذا الحديث هو عمدة المستند في ميل الشيخ الأعظم((2)) والمحقق العراقي((3))
والسيد الأستاذ((4))عجل الله تعالی فرجه الشریف إلى أنّه لا يستفاد من أخبار هذا الباب أكثر من الثواب الانقيادي. ويأتي الكلام في ذلك، إن شاء اللَّه تعالى.
سند الحديث:
رجال الحديث ثقات، قد تقدّم ذكرهم، سوى أحمد بن النضر: الذي قالالنجاشي عنه: أحمد بن النضر الخزّاز، كوفي، ثقة، له كتاب يرويه جماعة ((5)) .
وقد ورد في «تفسير القمي» و«نوادر الحكمة»((6)).
وعليه فالسند معتبر.
ص: 183
[186] 5 - وَعَنْ عليّ بْنِ محمّد الْقَاسَانِيِّ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ الْجَعْفَرِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ آبَائِهِ (علیهم السلام) ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله و سلم): مَنْ وَعَدَهُ اللَّهُ عَلَى عَمَلٍ ثَوَاباً فَهُوَ مُنْجِزُهُ لَهُ، وَمَنْ أَوْعَدَهُ عَلَى عَمَلٍ عِقَاباً فَهُوَ فِيهِ بِالْخِيَار»(1).
وَرَوَاهُ الصَّدُوقُ فِي «التَّوْحِيدِ»، عَنْ محمّد بْنِ الْحَسَنِ، عَنِ الصَّفَّارِ، عَنْ محمّد بْنِ الْحُسَيْنِ وَأَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عليّ بْنِ مُحَمَّدٍ، مِثْلَهُ(2).
-----------------------------------------------------------------------------
[5] - فقه الحديث:
هذا الحديث من الأحاديث المشهورة، رواه الخاصة والعامة في كتبهم، إلّا أنّه أجنبي عن قول المشهور؛ لأنّ معناه: أنّ ما وعده اللَّه تعالى من حسنالجزاء والمثوبة على العمل فهو منجزه ومحقّقه؛ لقبح خلف الوعد واستحالته عليه سبحانه، ومن أوعده على عمل عقاباً فهو فيه بالخيار، فإن عذّبه فبعدله، وإن عفا عنه فبفضله وكرمه.
وعلى هذا يكون الحديث دالاًّ على ترتّب الثواب على العمل المقطوع ثبوته، لا العمل الذي بلغ عليه الثواب، وهو لم يثبت في حدّ نفسه بعد. وهذا مطلب آخر أجنبيّ عمّا نحن فيه، كما لا يخفى.
ص: 184
[187] 6 - محمّد بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ عليّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) ، قَالَ: «مَنْ سَمِعَ شَيْئاً مِنَ الثَّوَابِ عَلَى شَيْ ءٍ، فَصَنَعَهُ كَانَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى مَا بَلَغَهُ»(1).
وَرَوَاهُ ابْنُ طَاوُوسٍ فِي كِتَابِ «الإِقْبَالِ»، نَقْلاً مِنْ كِتَابِ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ، الَّذِي هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الأُصُولِ، عَنِ الصَّادِقِ (علیه السلام) ، مِثْلَهُ(2).
-----------------------------------------------------------------------------
اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّ وعده بمعنى: الإيصال والبيان له، وهو أعمّ من أن يكون مطابقاً للواقع أو لا، فيصحّ جعله دليلاً في المقام.سند الحديث:
للحديث طريقان كلاهما ضعيف؛ بالإرسال، ووجود عبد اللَّه بن القاسم الجعفري، وقد تقدّم.
[6] - فقه الحديث:
الحديث أعمّ مطلقاً من بقيّة أحاديث الباب؛ لأنّ المذكور فيه: «من سمع شيئاً من الثواب على شي ء، فصنعه كان له، وإن لم يكن على ما بلغه»، ويراد بسماع الثواب مطلق بلوغه إليه، سواء كان على سبيل الرواية
ص: 185
أو الفتوى أو المذاكرة أو نحو ذلك، كما إذا رآه في شي ء من كتب الحديث أو الفقه.
وهو - أيضاً - شامل بإطلاقه للخبر المنسوب إلى الأئمّة (علیهم السلام) .
هذا، ولكن لا يبعد أيضاً إلغاء خصوصيّة ورود الحديث عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) ممّا سبق من أحاديث؛ لأنّ الأئمّة (علیهم السلام) هم الوارثون لأمره، القائمون بأمر أمّته من بعده. بل قد ورد التصريح منهم (علیهم السلام) بأنّ حديث أحدهم هو حديث أبيه، وحديث أبيه حديث جدّه، وهكذا إلى أن يصل إلى رسول اللَّه(صلی الله علیه و آله و سلم).
فقد روى الكليني بسنده، عن هشام بن سالم وحمّاد بن عثمان وغيرهما، قالوا: سمعنا أبا عبد اللَّه (علیه السلام) يقول: «حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدّي، وحديث جدّي حديث الحسين، وحديث الحسينحديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين (علیه السلام) ، وحديث أمير المؤمنين (علیه السلام) حديث رسول اللَّه(صلی الله علیه و آله و سلم)، وحديث رسول اللَّه(صلی الله علیه و آله و سلم) قول اللَّه عزّوجلّ»((1)) .
وعن كتاب حفص بن البختري، قال: قلت لأبي عبد اللَّه (علیه السلام) : نسمع الحديث منك، فلا أدري منك سماعه ، أو من أبيك؟ فقال: «ما سمعته منّي فاروه عن أبي، وما سمعته منّي فاروه عن رسول اللَّه(صلی الله علیه و آله و سلم)»((2)).
ص: 186
وروى الشيخ المفيد أيضاً في «الأمالي» بسند معتبر عن جابر، قال: قلت لأبي جعفر (علیه السلام) : إذا حدثتني بحديث فأسنده لي، فقال: «حدثني أبي، عن جدي رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، عن جبرئيل، عن الله عز وجل، وكل ما أحدثك بهذا الإسناد»((1)).
وهو - أيضاً بالبيان المتقدّم - شامل لفتوى الفقيه باستحباب شي ء؛ وذلك لأنّ فتوى المجتهد على قسمين:
الأول : أن يكون مستندها معلوماً، وهو على أربع صور:
فإنّه تارة تكون بألفاظ ومتون الروايات، كما كان على ذلك دأب القدماء، مثل عليّ بن بابويه في «فقه الرضا (علیه السلام) »، والشيخ في «النهاية»،والصدوق في «المقنع»، فإن كانت دلالتها تامة فلا إشكال في دخولها في أخبار من بلغ. وأخرى تكون دلالتها غير تامة في نظرنا. وثالثة لا يكون دأب المجتهد ذلك، بل ينقل فتواه، ولكنّه استند في فتواه إلى رواية غير تامة الدلالة. ورابعة أفتى باستحباب شي ء، نعلم أنّ مستنده في ذلك قاعدة عقليّة. وهذه الموارد الثلاثة خارجة عن أخبار التسامح بلا إشكال؛ لعدم صدق البلوغ عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) في جميعها.
والوجه في ذلك بالنسبة إلى الأخير واضح؛ فإنّ البلوغ منصرف إلى غير ذلك. وكذلك بالنسبة إلى القسمين الأوّلين؛ فإنّ احتمال مطابقته للواقع واحتمال الثواب لا يكفي بمقتضى هذه الأخبار.
ص: 187
والثاني: أن يفتي باستحباب شي ء، ولا نعلم مستنده، ونحتمل أنّه كان خبراً عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، ولم يصل إلينا، وهذا هو محلّ الكلام. فإن كان المأخوذ في الموضوع هو البلوغ عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) - كما في صحيح هشام ومحمد بن مروان - فمع احتمال الحدس وإعمال النظر والرأي لا يحرز البلوغ عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، فلا يثبت الموضوع حتّى تشمله الأخبار، فلعلّه كان المستند أحد الثلاثة الأخر.
وإن كان المأخوذ في الموضوع هو السماع - كما في حديثنا هذا «من سمع شيئاً من الثواب فعمله» - وقلنا بعدم انصرافه إلى المتعارف، وهو الإخبار عن حسّ، ولم يكن مقيّداً بالصحيحين المتقدّمين، فيكون حينئذشاملاً لفتوى الفقيه ونحوها ممّا يتضمّن الإخبار عن الثواب؛ لأنّ المفتي - على كلّ تقدير - ينسب الحكم إلى النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، ويشمله قوله: «وإن لم يقله»؛ فإنّه مطلق، سواء كان أصل الحكم لم يصدر منه (علیه السلام) ، أو صدر كلام منه (علیه السلام) ولا يدلّ على الحكم، فظنّ المفتي دلالته على ذلك.
سند الحديث:
للحديث طريقان:
أمّا الطريق الأول: فرجاله ثقات تقدّم ذكرهم، وهو معتبر.
وأمّا الطريق الثاني: فهو الذي رواه ابن طاووس في «كتاب الإقبال»، نقلاً عن كتاب هشام بن سالم، الذي هو من جملة الأصول، عن الصادق (علیه السلام) . وهو أيضاً معتبر؛ لأنّ السيد ابن طاووس (رحمه الله) لم يروِ هذا
ص: 188
الحديث عن هشام بن سالم ابتداءً؛ ليقال بجهالة الوسائط بينه وبين هشام بن سالم، وإنّما يرويه عن كتب الشيخ، وطريقه إلى جميع كتبه صحيح. كما أنّ طريق الشيخ إلى كتاب هشام بن سالم صحيح أيضاً. وعليه فيظهر أنّ للسيد ابن طاووس (رحمه الله) طريقاً صحيحاً إلى كتاب هشام بن سالم.
وأمّا ابن طاووس: فهو عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن أحمد بن محمّد بن أحمد بن محمّد بن محمّد الطاوس العلوي الحسني، رضيّ الدين (قدس سره) : من أجلّاء هذه الطائفة وثقاتها، جليل القدر عظيم المنزلة، كثير الحفظ، نقيّ الكلام، حاله في العبادة والزهد أشهر من أن يذكر. له كتبحسنة رضي اللَّه عنه. هكذا ذكره السيد التفريشي في نقد الرجال((1)).
وقال الشيخ الحرّ في «تذكرة المتبحّرين»: «حاله في العلم والفضل والزهد والعبادة والثقة والفقه والجلالة والورع أشهر من أن يذكر. وكان أيضاً شاعراً أديباً منشئاً بليغاً، له مصنفات كثيرة»((2)) . والحديث بكلا الطريقين معتبر.
ص: 189
[188] 7 - وَعَنْ محمّد بْنِ يَحْيَى، عَنْ محمّد بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ محمّد بْنِ سِنَانٍ، عَنْ عِمْرَانَ الزَّعْفَرَانِيِّ، عَنْ محمّد بْنِ مَرْوَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (علیه السلام) يَقُولُ: «مَنْ بَلَغَهُ ثَوَابٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى عَمَلٍ فَعَمِلَ ذَلِكَ الْعَمَلَ الْتِمَاسَ ذَلِكَ الثَّوَابِ أُوتِيَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْحَدِيثُ كَمَا بَلَغَهُ»(1).
-----------------------------------------------------------------------------
[7] - فقه الحديث:
هذا الحديث كالحديث الرابع من حيث الدلالة، ولكن مع فارق وهو قوله (علیه السلام) هنا «بلغه ثواب من الله»، و«فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب»، بينما قال هناك: «من بلغه عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)»، و «ففعل ذلك طلب قول النبي»، والمضمون متحد.
سند الحديث:
رجال الحديث كلهم قد تقدّم ذكرهم سوى عمران الزعفراني: الذي قال فيه الشيخ: «هو مجهول»((2)).وعليه فالسند ضعيف.
ص: 190
[189] 8 - أَحْمَدُ بْنُ فَهْدٍ فِي «عُدَّةِ الدَّاعِي»، قَالَ: رَوَى الصَّدُوقُ، عَنْ محمّد بْنِ يَعْقُوبَ، بِطُرُقِهِ إِلَى الأَئِمَّةِ (علیهم السلام) : «أَنَّ مَنْ بَلَغَهُ شَيْ ءٌ مِنَ الْخَيْرِ فَعَمِلَ بِهِ كَانَ لَهُ مِنَ الثَّوَابِ مَا بَلَغَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الأَمْرُ كَمَا نُقِلَ إِلَيْهِ»(1)1*).
-----------------------------------------------------------------------------
[8] - فقه الحديث:
قد اتضح معنى الحديث ممّا مرّ في الحديث الأول.
سند الحديث:
وأمّا إسناد أحمد بن فهد: فيعلم من ضمّ طريق الشهيد إلى الشيخ الطوسي، والذي له طريق معتبر إلى الصدوق (قدس سره) ؛ فإنّ ابن فهد يروي عن تلامذة الشهيد (قدس سره) .
وأمّا أحمد بن فهد: فقد قال الشيخ الحرّ في «تذكرة المتبحّرين»: الشيخ جمال الدين أحمد بن فهد الحلي، فاضل، عالم، ثقة، صالح، زاهد، عابد، ورع، جليل القدر، له كتب((2)). والحديث مرسل.
ص: 191
[190] 9 - عليّ بْنُ مُوسَى بْنِ جَعْفَرِ بْنِ طَاوُسٍ فِي كِتَابِ «الإِقْبَالِ»، عَنِ الصَّادِقِ (علیه السلام) ، قَالَ: «مَنْ بَلَغَهُ شَيْ ءٌ مِنَ الْخَيْرِ فَعَمِلَ بِهِ، كَانَ لَهُ [أَجْرُ](1)1*) ذَلِكَ، وَإِنْ (لَمْ يَكُنِ الأَمْرُ كَمَا بَلَغَهُ) (2)2*)»(3)3*).
-----------------------------------------------------------------------------
[9] - فقه الحديث:
قد مرّ ما في هذا الحديث متناً((4)) .
سند الحديث:
روى الحديث ابن طاووس عن الصادق (علیه السلام) مرسلاً؛ لمّا كانت الواسطة مجهولة لنا كانت الرواية مرسلة.
هذا مجمل الكلام في أحاديث الباب، وما اشتملت عليه.
وأمّا المحتملات في تصوير مفاد هذه الأحاديث ثبوتاً، فهي خمسة:
الأول: أن يكون المستفاد منها جعل الحجيّة للأخبار التي دلّت على الثواب على شي ء، مع كون الفعل بذلك الداعي؛ لأنّها تدل على أنّ الأجر والثواب نفسه يعطى له ويستحقه. فمن هذا الطريق يستكشف أنّ الخبرالدال كان منجّزاً، وإلّا فلا وجه لاستحقاق الأجر نفسه، وحينئذ فلابدّ من
ص: 192
تخصيص الأدلّة الدالّة على حجّيّة خبر الواحد - مع اجتماع الشرائط المعتبرة - بغير الخبر الدالّ على الاستحباب، ويقال: بأنّها في نفسها مختصّة بالأحكام الإلزاميّة من الواجبات والمحرّمات، كما يقال بالنسبة إلى آية النبأ.
وعلى فرض إطلاقها تخصّص بهذه الروايات في خصوص الأخبار الدالّة على الاستحباب، وعليه تكون المسألة أصوليّة. وهذا الاحتمال نسب إلى المشهور، وهو معنى التسامح في أدلّة السنن.
الثاني: أن يكون المستفاد منها: الإنشاء. ولكن يثبت بها استحباب نفس الفعل الذي بلغ عليه الثواب بعنوانه؛ وذلك لأنّ صحيح هشام بن سالم وما شاكله ليس فيه تقييد بالإتيان بداعي طلب قول النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، أو التماس ذلك الثواب. فتدل على استحباب نفس الفعل بعنوانه. وهذا الاحتمال هو مختار صاحب «الكفاية» (رحمه الله) ((1))، والمحقق النائيني (رحمه الله) ((2))، والمحقق الأصفهاني (رحمه الله) ((3)).
الثالث: أن يكون المستفاد منها: الإنشاء أيضاً، ولكن يثبت بها استحباب الفعل بعنوان الرجاء وطلب قول النبي(صلی الله علیه و آله و سلم).
الرابع: أن يكون المستفاد منها: الإرشاد إلى ما حكم به العقل من حسن الاحتياط، وإعطاء الثواب يكون من هذه الجهة؛ لأنّه انقياد. وهو الظاهر من
ص: 193
المحقق العراقي((1))، والشيخ في «الرسائل»((2))، والسيد الأستاذ (قدس سره) ((3))، إلّا أنّه في «الهداية»((4)) اختار قول صاحب «الكفاية» (رحمه الله) .
الخامس: أن يكون المستفاد منها: مجرّد الإخبار عمّا بعد العمل، وأنّ اللَّه تعالى يعطي الثواب والأجر إذا بلغه شرعاً أو عقلاً بنحو كان حجّة، سواء طابق الواقع أم لم يطابق. فلم تكن حينئذ ناظرة إلى الاحتياط والانقياد، بل إلى الإطاعة مع عدم المصادفة. واختاره المحقق الحائري في «الحاشية»، والمصنّف كما يظهر من عنوان الباب وتصريحه في شرحه. هذا كله في مقام الثبوت.
وأمّا إثباتاً، فنقول: إنّ منشأ الاحتمالات المتقدّمة غير الأول والأخير هو وجود كبرى مسلّمة، وهي أنّه إذا ورد دليل يتضمّن ترتّب الثواب على عمل - لا اقتضاء فيه في حدّ نفسه للثواب - كان ذلك الدليل كاشفاً بطريق الإن عن أنّ الفعل مستحبّ ومتعلّق للأمر. وقد فهم الأصحاب كثيراً منالأحكام من الواجبات والمحرّمات أو المستحبّات والمكروهات بهذا الطريق. كما أنّه إذا كان العمل الذي تعلّق به الثواب مقتضياً للثواب في نفسه - كالانقياد مثلاً - فلا يكشف منه الاستحباب وتعلّق الأمر المولوي به.
ص: 194
وهذه الكبرى متسالم عليها، وهي غير قابلة للمناقشة، وإنّما الكلام في الصغرى، وأنّ الموضوع في ترتّب الثواب أيّ من القسمين، فهل تدلّ هذه الأخبار على ترتّب الثواب على ذات العمل الذي بلغ عليه الثواب، أو على العمل المقيّد، أي العمل المقيّد بقصد طلب الأمر والتماس الثواب، أو على العمل الذي بلغ عليه الثواب والذي يأتي به احتياطاً ورجاءً للأمر؟ فعلى الأوّلين يثبت الاستحباب لنفس الفعل أو مقيّداً بقصد الثواب، أي: استحباب الاحتياط، وعلى الثالث لا يثبت الاستحباب أصلاً؛ لأنّ الاحتياط والرجاء انقياد بنفسه يقتضي الثواب، وعليه فالإخبار بالثواب لا يكون كاشفاً عن الأمر.
والفرق بين الأولين: أنه على الاحتمال الأوّل إذا قام خبر ضعيف على استحباب فعل، كالغسل والصلاة يوم النيروز مثلاً، فللفقيه أن يفتي باستحباب العمل بواسطة أخبار من بلغ. وأمّا على الاحتمال الثاني: فلا يجوز له ذلك، بل يجوز له أن يفتي باستحباب العمل رجاءً والتماساً للثواب، كما أنّه على الاحتمال الثالث ليس له أن يفتي بالاستحباب أصلاً.
وأمّا منشأ الاحتمالين الأول والأخير: فواضح كما تقدم، وبناءً على الأول يحكم بصحة الرواية، مضافاً إلى استحباب الفعل.وأمّا على الأخير: فلا ربط له بالقاعدة أصلاً، ولا يحكم بصحة الرواية، كما لا يدلّ على استحباب الفعل لا مولويّاً ولا إرشاديّاً.
والتحقيق في المقام: أن يقال: ومن خلال التأمل في الروايات يمكن
ص: 195
استظهار الاحتمالات التالية:
الأول: أنّ المراد منها: إعطاء العامل بالخير - الذي بلغ عليه الثواب - الثواب نفسه الذي تضمّنه الخبر، وإن لم يطابق الخبر الواقع في مقدار ثواب العمل. فهي ليست في مقام بيان أنّ الفعل مستحب، كمن سرّح لحيته فله كذا. وممّا يشهد لهذا الاحتمال ما ورد في رواية هشام، عن صفوان، عنه (علیه السلام) ، قال: «من بلغه شي ءٌ من الثواب على خير»، وما ورد في رواية ابن فهد: «أنّ من بلغه شي ء من الخير، فعمل به، كان له من الثواب ما بلغه، وإن لم يكن الأمر كما نقل إليه»، وأوضح منها ما ورد في رواية الجعفري: «من وعده اللَّه على عمل ثواباً فهو منجزه له».
ولكن يضعّف هذا الاحتمال قوله (علیه السلام) : «كان له ذلك»، وهو ظاهر في استحقاق المقدار المعيّن مع عدم صدوره واقعاً، مع أنّ المقدار المعيّن لا يكون مستحقّاً إذا لم يطابق الواقع.
والثاني: أن تكون الأخبار في مقام الترغيب في الفعل المطلق، وأنّ العامل يستحقّ الثواب المعيّن على العمل، فتدل على أنّ الفعل مطلوب بهذا العنوان، وله ذلك الأجر المعيّن.
والثالث: أن تكون في مقام الترغيب في الفعل المقيّد، وصحيحتا هشام وإن كانتا ظاهرتين في الاحتمال الثاني، ولكن رواية محمّد بن مروان ورد فيها التقييد بطلب قول النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، وحيث إنّها - أيضاً - معتبرة فيكون التقييد قريباً؛ فإنّ محمّد بن مروان وإن كان مشتركاً بين أشخاص، إلّا أنّ الظاهر
ص: 196
أنّه الذهلي، صاحب الكتاب المعروف، وهو من أصحاب الإمام الصادق (علیه السلام) ((1)).
وأمّا الحنّاط، فالظاهر أنّه ليس من أصحاب الإمام الصادق (علیه السلام) ؛ لأنّه يروي عنه ابن عقدة بواسطتين((2)).
وأمّا البصري، فليس له كتاب((3)). وأمّا الأنباري، فهو متأخّر طبقة((4)). فيبقى المعروف من أصحابه حينئذ هو الذهلي، وقد روى عنه المشايخ الثقات((5))، وهو يكفي في وثاقته.
وقد ورد في «التفسير» في القسم الثاني((6))، فلا يشمله التوثيق العام، كما ورد في «كامل الزيارات»((7))، ولكنه ليس من مشايخه. وعليه فلا يكونمشمولاً للتوثيق العام أيضاً.
وبالجملة: أنّه مع وجود التقييد في الرواية المعتبرة، فاحتمال كون الموضوع مقيّداً قريب؛ لوجود خصوصيّة في المقام، وهي أنّ الروايات كلها في مقام بيان حكم واحد لموضوع واحد، فلابد من البناء على القدر المتيقّن، وهو القول بأنّ الفعل مقيّد بقصد التماس الثواب أو طلب قول
ص: 197
النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، فيكون مستحبّاً شرعاً، والحمد للَّه ربّ العالمين، واللَّه عزّوجلّ هو العالم بالصواب.
والحاصل: أنّ مجموع أحاديث الباب تسعة أحاديث، أربعة منها صحاح، والباقي ضعاف.
والمستفاد من أحاديث الباب أمور:
منها: جواز العبادة بقصد تحصيل الثواب.
ومنها: أنّ من بلغه ثواب على عمل مشروع، فعمله؛ طلباً لقول النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، أعطاه اللَّه ذلك الثواب، وإن كان النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) لم يقله.
ومنها: أنّ اللَّه أوجب على نفسه إنجاز وعده بالثواب، ولم يوجب إنجاز وعيده بالعقاب، بل هو بالخيار، إن شاء عاقب، وإن شاء عفا وتجاوز.
ص: 198
-----------------------------------------------------------------------------
19 - باب تأكّد استحباب حبّ العبادة والتفرّغ لها
شرح الباب:
العبّاد في محبتهم للَّه عزّوجلّ على قسمين:
فقسم منهم يحب اللَّه تعالى؛ لأنّه المنعم بالنعم التي لا تتناهى، من قبيل الخلق، والرزق، والإحسان، ودفع المكاره، وغير ذلك ممّا لا تحصى كثرة، ولو لم يفعل اللَّه بالعبد ذلك لم يحبه.
وقسم منهم يحب اللَّه تعالى؛ لأن له صفات مجانسة لصفات اللَّه تعالى، كلّ حسب استعداده ومرتبته؛ فإنّه إذا اتّصف المحبوب بصفة مشاكلة لصفة الحبيب، مال الحبيب إلى محبوبه بسببها.
وما دامت المحبّة فرع المعرفة، ومعرفة الذات العليّة مستحيلة، والممكن هو معرفة الصفات خاصة، وكان المعصومون مظاهر صفات اللَّه، فتكون معرفتهم هي معرفته تعالى، فمعرفتهم مقدّمة لحبّهم، وحبّهم هو حبّ للَّه تعالى، كما جاء في الزيارة الجامعة: «من أحبَّكُم فقد أحَبَّ اللَّهَ»((1)).
ومن لوازم المحبّة محبّة ما يحبّه المحبوب، وما يدعو إليه، وتحقيق
ص: 199
غرضه. ولاريب أنّ غرض المولى عزّ وجلّ من خلق الناس هو العبادة، ويدلّ عليه قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}((1)).
فالعبادة
هي غرض المولى من الخلقة، وكذا ما يتبعها من الآثار، كالرحمة والمغفرة ونحوهما، وهي محبوبة له وللمعصومين المنصوبين من قبله، فلابدّ أن يحبّها العبد لحبّ اللَّه وأحبّائه إيّاها، وأن يفرِّغ نفسه لأدائها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
والعبادة هي الموجبة إلى قربه تعالى، وهي السلّم والوسيلة التي توصل العبد إلى المرتبة العظيمة، والوسام الرفيع الذي لا يعطيه اللَّه تعالى إلّا من أحبّه.
ألا ترى أنّ اللَّه تعالى حين أراد أن يلبس نبيّه(صلی الله علیه و آله و سلم) حلّة الشّرف والكرامة نسب العبوديّة إليه فقال: {الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا}((2)) .
ص: 200
[191] 1 - محمّد بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) ، قَالَ: «فِي التَّوْرَاةِ مَكْتُوبٌ: يَا ابْنَ آدَمَ، تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلأُ قَلْبَكَ غِنىً، وَلا أَكِلْكَ(1) إِلَى طَلَبِكَ، وَعَلَيَّ أَنْ أَسُدَّ فَاقَتَكَ، وَأَمْلأَ قَلْبَكَ خَوْفاً مِنِّي. وَإِنْ لا تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلأُ قَلْبَكَ شُغُلاً بِالدُّنْيَا، ثمّ لا أَسُدُّ فَاقَتَكَ، وَأَكِلُكَ إِلَى طَلَبِكَ»(2).
-----------------------------------------------------------------------------
[1] - فقه الحديث:
دلّ الحديث على أنّ التفرّغ لعبادة اللَّه عزّوجلّ سبب لحصول غنى القلب، وزوال الحاجة، وحصول الخوف من اللَّه تعالى، والاستغناء عن الكسب.
والتفرّغ للعبادة والجدّ فيها، وعدم ثقلها على النفس لا يحصل إلّا بنزع القلب عن شهوات الدنيا، وقطع التعلّق بعلائقها، والتحرّز عن جميع المعاصي، وكسر القوة الشهويّة والغضبيّة، فإذا حصل ذلك حصل الشوق إلى اللَّه، والمحبّة له، واللذّة بعبادته.
كما أنّ عدم التفرّغ لها موجب لانجذاب النفس إلى الدنيا، والاشتغالالتامّ بها؛ لأنّ الدنيا والآخرة ضرّتان، وما اقترب أحد من إحداهما إلّا وابتعد
ص: 201
[192] 2 - وَعَنْ عليّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ محمّد بْنِ عِيسَى، عَنْ يُونُسَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ جُمَيْعٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله و سلم): أَفْضَلُ النَّاسِ مَنْ عَشِقَ الْعِبَادَةَ فَعَانَقَهَا، وَأَحَبَّهَا بِقَلْبِهِ، وَبَاشَرَهَا بِجَسَدِهِ، وَتَفَرَّغَ لَهَا، فَهُوَ لا يُبَالِي عَلَى مَا أَصْبَحَ مِنَ الدُّنْيَا: عَلَى عُسْرٍ، أَمْ عَلَى يُسْرٍ»(1).
-----------------------------------------------------------------------------
عن الأخرى، وهو موجب أيضاً للفاقة، والحاجة لغير اللَّه تعالى، وعدم الاستغناء عن الكسب.
سند الحديث:
الحديث معتبر، وتقدّم وثاقة جميع من فيه.
[2] - فقه الحديث:
دلّ الحديث على أنّ أفضل الناس هو من أحبّ العبادة حبّاً كثيراً؛ باعتبار أنّها وسيلة إلى المحبوب الحقيقي، وذريعة للوصول إليه والقرب منه، فحبّها تابع لحبّه تعالى والعشق: الإفراط في المحبة. ومعانقة العبادة كناية عن الالتزام بها وعدم تركها، كما أن المعانِق يلتزم المعانق ولا يتركه في حالالمعانقة. ولعل المراد بالمعانقة هنا الالتزام القلبي بها بحيث يكون للعبادة حضور دائم في قلبه.
ص: 202
وباشر الأمر: وَلِيَهُ بنفسه((1))، وهو مستعار من مباشرة المرأة؛ لأنّه لا بشرة للأمر؛ إذ ليس بعين، وهنا استعار مباشرة العبادة بالجسد؛ لأنّ العبادة عرض، والعرض ليس له بشرة، ومباشرة العبادة هي: أن تحضرها بنفسك، وتليها بنفسك، وليس المطلوب أن يباشر العبادة بين الفينة والفينة، ووقت الفراغ، بل المندوب إليه هو التفرغ للعبادة.
وفي الحديث دلالة على أنّ يسر العيش والجاه لا ينافي حبّ العبادة، وتفريغ القلب عن غيرها لأجلها، وإنّما المنافي له تعلّق القلب بما متّع به من يسر العيش والغنى ووفرة المال والجاه.
ثمّ إنّ صاحب «مستدرك سفينة البحار» ذكر ما يلي: «نقل عن بعض الأفاضل: أنّ الأنسب أن يكون: عسق العبادة، بالسين المهملة؛ يقال: عسق به بالكسر، أي: أُولع به ولزمه، انتهى. نقله في «المجمع»((2)) عن الجوهري، وفي «المنجد»: عسق وتعسق به: لصق وعسق عليه، وألحّ في ما يطلبه منه ((3)).
بقي شي ء:
وهو الكلام في العشق، فنقول: عشق يعشق عشقاً من باب تعب، والاسم العشق بالكسر، وهو الإفراط في المحبّة، قيل: ذكر الحكماء في كتبهم الطبّية: أنّ العشق ضرب من الماليخوليا والجنون والأمراض السوداويّة،
ص: 203
وقرّروا في كتبهم الإلهيّة: أنّه من أعظم الكمالات، وأتمّ السعادات.
وربما يظن أنّ بين الكلامين تنافياً، وهو من واهي الظنون؛ فإنّ المذموم هو العشق الجسماني الحيواني الشهواني، والممدوح هو الروحاني الإنساني النفساني، والأول يزول ويفنى بمجرّد الوصال والاتّصال، والثاني يبقى ويسمو أبد الآباد على كلّ حال.
وينبغي هنا نقل كلام الشيخ المتبحّر النوري في العشق، وإشكاله على المحدِّث الجزائري (رحمه الله) ، وإرجاع الحكم أو التوفيق بين كلاميهما إلى القارى ء الكريم. وملخّصه كما في «السفينة»:
إنّ العشق هو الإفراط في الحب، وعرّفه الأطبّاء بأنّه: مرض وسواسي يجلبه الإنسان إلى نفسه بتسليط فكرته على استحسان بعض الصور والشمائل التي تكون له، ويعتري للعزّاب والبطّالين والرعاع، ويزيد بالنظر والسماع، وينقص بالسفر والجماع. وقالوا: لا علاج أنفع من الوصال.
وقال بعضهم: إنّه ربّما لا يكون معه شهوة مجامعة، بل كان المطلوب مطلق المشاهدة والوصال. وهذا الصنف منه يعتري للعارفين وكبراء النفوس، وينتقلون من هذا العشق المجازي إلى الحقيقي، وهو معرفة اللَّه عزّوجلّ.
قال شيخنا في ردّ هذا الكلام: هذا طريق كلّما ازداد صاحبه سيراً زاد بعداً عن ساحة معرفة الحق، التي هي غاية سير السالكين؛ فإنّ خلوّ القلب عن حبّه تعالى هو السبب الأعظم في استحسان الصور، فكيف يصير طريقاً له،
ص: 204
وقد أبان من لايعرف اللَّه إلّا بمعرفتهم طرق الوصول إلى معرفته، وليس فيها حبّ الفتيان والأمارد للانتقال إلى حبّه تعالى، إلّا أن يكون إكمال الدين وإتمامه بيد هؤلاء الذين هم غيلان الدين، ولصوص شريعة سيّد المرسلين.
ومن هنا كان التعبير عن الإفراط في حبّ اللَّه تعالى بالعشق خروجاً عن طريق محاورة الأئمّة ومصطلحهم، ولم يعهد التعبير عنهم به في أدعيتهم ومناجاتهم وبيانهم لصفات المتّقين والمؤمنين، وذكرهم لصفات الإمام وخصائصه وفضائله، ولا عن الذين كانوا لهم أخصّاء وأولياء في السرّ والعلانية.
رأيت أحداً في السالكين أعشق - على مصطلح هؤلاء - من سيّد الساجدين (علیه السلام) ؟ أَوَرأيت في حِكَمِه ومناجاته لفظ العشق ؟!
والذي رام التشبّه بهم لا يخرج عن سننهم وآدابهم في جميع المراتب، بما يقدر عليه من الأفعال والأقوال والحركات والسكنات، بل في توقيفيّة الأسماء الإلهيّة ما يغني عن التطويل؛ فإنّ كثيراً من الألفاظ نراها إطلاقها على اللَّه صحيحاً بحسب معناها اللغوي أو العرفي، بل قد ورد إطلاق لفظ عليه تعالى دون ما يرادفه، فلا يجوز استعماله؛ إذ الضابط في جوازه وروده،لا صحّة معناه، وعدم ورود لفظ العشق وما يشتقّ منه في أسماء اللَّه تعالى كورود لفظ الحب والحبيب.
وفي صفات أوليائه الأكرمين دليل، إمّا على عدم جواز استعماله، أو
ص: 205
كراهتهم له؛ لدخول الشهوة في معناه العرفي، وإلّا فكان الأولى اختصاص نبينا(صلی الله علیه و آله و سلم) بالعاشق، لا الحبيب، كما اختصّ إبراهيم بالخليل، وموسى بالكليم، وعيسى بروح اللَّه.
والعجب من السيد المحدّث الجزائري حيث ملأ في كتاب «المقامات» وفي نور حبه من كتاب «أنواره» لفظ العشق الحقيقي والمجازي، والتعبير عن أولياء اللَّه بعشّاق اللَّه، وعن الإمام بسيد العاشقين، وهو منه في غاية العجب، وإن لم يكن عجباً من غيره ممّن نبذ الأخبار وراءه ظهريّاً((1)).
سند الحديث:
في السند ممّن لم يتقدم ذكره نحو: عمرو بن جميع: قال عنه النجاشي: «عمرو بن جُمَيع، الأزدي، البصري، أبو عثمان، قاضي الري، ضعيف»((2)).
وقال عنه الشيخ في «الرجال»: «عمرو بن جميع، أبو عثمان، الأزدي، البصري، قاضي الري، ضعيف الحديث»((3)) .وروى عنه المشايخ الثقات، وأصحاب الإجماع((4)) .
وهنا لا يمكن الجمع بين تضعيفه وتوثيقه؛ لتصريح الشيخ بكون ضعفه في الحديث. وعليه فالحديث غير معتبر.
ص: 206
[193] 3 - وَعَنْهُ، عَنْ محمّد بْنِ عِيسَى، عَنْ أَبِي جَمِيلَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) : «قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا عِبَادِيَ الصِّدِّيقِينَ، تَنَعَّمُوا بِعِبَادَتِي فِي الدُّنْيَا؛ فَإِنَّكُمْ تَتَنَعَّمُونَ بِهَا فِي الآخِرَةِ»(1).
وَرَوَاهُ الصَّدُوقُ فِي «الْمَجَالِسِ»، عَنْ محمّد بْنِ الْحَسَنِ، عَنِ الصَّفَّارِ، عَنْ محمّد بْنِ عِيسَى، عَنْ يُونُسَ، عَنْ أَبِي جَمِيلَةَ، مِثْلَهُ(2).
-----------------------------------------------------------------------------
[3] - فقه الحديث:
الحديث من الأحاديث القدسيّة التي يخاطب فيها اللَّه سبحانه عباده الصدّيقين، ويأمرهم بالتنعّم بعبادته في دار الدنيا. أو المراد: الأمر بالتنعّم بسبب العبادة؛ لأنّ العبادة غذاء روحاني بها تحصل التربية للروح الإيمانيّة في الإنسان، وتزداد قوّتها بسبب ذلك الغذاء، كما أنّها سبب للرزق وسعته، كما قال تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}((3)).
ونتيجة ذلك: أنّهم في الآخرة يتنعّمون بها، أي: بسببها أو بثوابها، أو أنّهم ينعمون بأصل العبادة؛ فإنّ الصدّيقين يلتذّون بعبادة ربّهم أكثر من جميع اللذّات والمشتهيات، بل لا يلتذّون بشي ء إلّا بها، فهم في الجنّة يعبدون اللَّه ويذكرونه، لا على وجه التكليف، بل لالتذاذهم وتنعّمهم بها.
ص: 207
[194] 4 - وَعَنْ محمّد بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ محمّد بْنِ عِيسَى، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنِ الأَحْوَلِ، عَنْ سَلَّامِ بْنِ الْمُسْتَنِيرِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام) ، قَالَ - فِي حَدِيثٍ - : «كَفَى بِالْمَوْتِ مَوْعِظَةً، وَكَفَى بِالْيَقِينِ غِنىً، وَكَفَى بِالْعِبَادَةِ شُغُلاً»(1).
-----------------------------------------------------------------------------
سند الحديث:
للحديث طريقان:
الأول: ما عن عليّ بن إبراهيم، عن محمّد بن عيسى، عن أبي جميلة.
وفيه إشكال؛ من جهة أنّ رواية محمّد بن عيسى عن أبي جميلة غير معهودة، بل المعروف أنّه يروي عنه بواسطة يونس بن عبد الرحمن.ويؤيّده، بل يدلّ عليه سند الصدوق (قدس سره) الآتي، حيث صرّح فيه بتوسّط يونس بينه وبين أبي جميلة.
والثاني: ما عن محمّد بن الحسن، عن الصفّار، عن محمّد بن عيسى، عن يونس، عن أبي جميلة.
والطريقان معتبران، وقد تقدّمت ترجمة أفرادهما.
[4] - فقه الحديث:
الموعظة هي: كلّ ما يزجر عن الدنيا وعن الرّكون إليها، وكلّ ما يدعو
ص: 208
إلى الآخرة وقرب الحقّ جلّ وعلا، وأعظم موعظة في التأثير هو الموت؛ إذ العاقل إذا تفكّر فيه وفيما يلحقه من أحوال البرزخ والقيامة وأهوالها والحساب والعقاب، وما لقاه أهل الدنيا من قطع رجائهم عنها، وإخراجهم منها صفر اليد منها ومن ملذّاتها، وما يرى بعينه أباه وأمه وأقاربه وأصدقاءه وسائر الناس يذوقون شربة الموت، ولم يكن أحد يستثنى منه، هانت عنده الدنيا وما فيها، وتوجّه إلى الطاعة، وتحرّز عن المعصية.
والغنى هو: كلّ ما يغني عن غير اللَّه تعالى ويرفع الحاجة، واليقين باللَّه وباليوم الآخر وبحصول ما وعده اللَّه من الجزاء والإرزاق أقوى ما يغني عن غير اللَّه سبحانه؛ لأنّه نور موجب لوصول السالك إلى الحقّ واتّصاله به اتصالاً معنويّاً، بحيث لا يشاهد غيره تعالى، فضلاً عن الاحتياج إليه.
والشغل: هو كلّ ما يشغل الإنسان عمّا سواه، والعبادة: شغل، أي: كلّعمل يكون في الله ولله ويتقرب به إلى الله فهو عبادة، وما سواها لعب ولهو، وكفى بها شاغلاً للعبد عمّا سواها؛ لأنّ كلّ شغل غير العبادة فهو لهو ولعب، يوجب البعد عنه تعالى، وتنقطع ثمرته، بخلاف العبادة، فإنّها توجب القرب إليه تعالى، وتدوم ثمرتها.
سند الحديث:
في السند: الأحول: والمراد به: محمّد بن عليّ بن النعمان، مؤمن الطاق. قال عنه النجاشي: «محمد بن عليّ بن النعمان بن أبي طريفة، البجلي، مولى، الأحول، أبو جعفر، كوفي، صيرفي، يلقّب مؤمن الطاق، وصاحب الطاق،
ص: 209
ويلقّبه المخالفون شيطان الطاق.... فأمّا (وأما) منزلته في العلم وحسن الخاطر فأشهر، وقد نسب إليه أشياء لم تثبت عندنا... وكانت له مع أبي حنيفة حكايات كثيرة، فمنها: أنّه قال له يوماً: يا [أ] با جعفر، تقول بالرجعة؟ فقال له: نعم. فقال له: أقرضني من كيسك هذا خمسمائة دينار، فإذا عدت أنا وأنت رددتها إليك. فقال له في الحال: أريد ضميناً يضمن لي أنّك تعود إنساناً؛ فإنّي أخاف أن تعود قرداً، فلا أتمكّن من استرجاع ما أخذت مني»((1)).
وقال عنه الشيخ في «الفهرست»: «كان ثقة، متكلّماً، حاذقاً، حاضر الجواب، له كتب»((2)).ووثّقه في أصحاب الإمام الكاظم (علیه السلام) ((3)) .
وروى الكشّي فيه روايات مادحة، منها: ما عن ابن أبي عمير، عن أبي العباس البقباق، عن أبي عبد اللَّه (علیه السلام) : أنّه قال: «أربعة أحبّ الناس إليَّ أحياء وأمواتاً: بريد بن معاوية العجلي، وزرارة بن أعين، ومحمد بن مسلم، وأبو جعفر الأحول، أحبّ الناس إليَّ أحياء وأمواتاً»((4)) .
وعدّه ابن شهرآشوب من خواصّ أصحاب أبي عبد اللَّه (علیه السلام) ((5)) .
ص: 210
[195] 5 - محمّد بْنُ عليّ بْنِ الْحُسَيْنِ فِي كِتَابِ «الْعِلَلِ»، عَنْ محمّد بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْوَلِيدَ، عَنْ محمّد بْنِ الْحَسَنِ الصَّفَّارِ، عَنْ أَحْمَدَ ابْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرْقِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ النَّهِيكِيِّ، عَنْ عليّ بْنِ الْحَسَنِ الطَّاطَرِيِّ، عَنْ دُرُسْتَ بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ، عَنْ جَمِيلِ بْنِ دَرَّاجٍ، قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) : جُعِلْتُ فِدَاكَ، مَا مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ عَزَّوَجَلَّ: {وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلّا لِيَعْبُدُونِ}(1)؟ فَقَالَ: «خَلَقَهُمْ لِلْعِبَادَةِ»(2).
-----------------------------------------------------------------------------وورد في «التفسير» و«نوادر الحكمة»، وروى عنه المشايخ الثقات((3)).
وفي السند أيضاً: سلام بن المستنير: وقد ورد في «التفسير»((4))،
وعليه فهو ثقة، والسند معتبر.
[5] - فقه الحديث:
قال الطبرسي (رحمه الله) في قوله تعالى: {إِلّا لِيَعْبُدُونِ}: «أي: لم أخلق الجنّ والإنس إلّا لعبادتهم إيّاي، فإذا عبدوني استحقّوا الثواب.
وقيل: إلّا لآمرهم وأنهاهم وأطلب منهم العبادة، واللام لام الغرض،
ص: 211
والمراد: أنّ الغرض في خلقهم تعريضهم للثواب، وذلك لا يحصل إلّا بأداء العبادات، فصار كأنّه سبحانه خلقهم للعبادة.
ثمّ إنّه إذا لم يعبده قوم لم يبطل الغرض، ويكون كمن هيّأ طعاماً لقوم ودعاهم ليأكلوه، فحضروا ولم يأكله بعضهم؛ فإنّه لا ينسب إلى السفه، ويصحّ غرضه؛ فإنّ الأكل موقوف على اختيار الغير. وكذلك المسألة، فإن اللَّه إذا أزاح علل المكلّفين من القدرة والآلة والألطاف، وأمرهم بعبادته، فمن خالف فقد أتي من قبل نفسه، لا من قبله سبحانه.
وقيل: معناه: إلّا ليقروا بالعبوديّة طوعاً وكرهاً.ثمّ قال تعالى: {ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُون}، هذا نفي الإيهام عن خلقهم لعبادته أن يكون ذلك لعائدة نفع يعود عليه تعالى، فبيّن: أنّه لعائدة النفع على الخلق، دونه تعالى...؛ لأنّه غنيّ بنفسه، فلا يحتاج إلى غيره، وكلّ الخلق يحتاج إليه.
وقيل: معناه: ما أريد أن يرزقوا أحداً من خلقي... وإنّما أسند الإطعام إلى نفسه؛ لأنّ الخلق كلّهم عيال اللَّه، ومن أطعم عيال أحد فقد أطعمه»((1)) .
وتفسير الإمام (علیه السلام) للآية بقوله «خلقهم للعبادة»: بيان لحصر الخلق في غاية هي العبادة، بمعنى: أنّ الغاية من خلق الثقلين هي العبادة، وما دامت الغاية من الخلق هي العبادة فمعناه أن المطلوب من الخلق الوصول إلى هذه الغاية، ولا غاية غيرها حتّى يشتغل بها الخلق ويتعلقوا بها. وإذا كان الحال
ص: 212
كذلك فلابد من التعلّق بهذه الغاية والتفرغ لها.
سند الحديث:
في السند: عبد اللَّه بن أحمد النهيكي: قال عنه الشيخ: «عبد اللَّه بن أحمد، النهيكي، له كتاب، أخبرنا به جماعة، عن أبي المفضل، عن ابن بطّة، عن أحمد بن أبي عبد اللَّه، عنه»((1)) ، وعدّه في «رجاله» في من لم يرو عنهم (علیهم السلام) . لكن فيه: عبيد اللَّه مصغّراً، قال: «عبيد اللَّه بن أحمد بن نهيك،يكنّى أبا العباس، كوفي، روى عنه حميد كتباً كثيرة من الأصول»((2)).
وقال عنه النجاشي: «عبيد اللَّه بن أحمد بن نهيك، أبو العباس، النخعي، الشيخ الصدوق، ثقة، وآل نهيك بالكوفة بيت من أصحابنا، منهم: عبد اللَّه بن محمّد وعبد الرحمن السمريّان وغيرهما، له كتاب النوادر. أخبرنا القاضي أبو الحسين محمّد بن عثمان بن الحسن، قال: اشتملت إجازة أبي القاسم جعفر بن محمّد بن ابراهيم الموسوي - وأراناها - على سائر ما رواه عبيد اللَّه بن أحمد بن نهيك»((3)).
ولاريب أنّ من ترجمه النجاشي والشيخ في «الفهرست» رجل واحد؛ وذلك:
أولاً: لأنّه من البعيد أن يكونا أخوين مشهورين، لكلّ منهما كتاب،
ص: 213
يتعرّض الشيخ لترجمة أحدهما، ويتعرّض النجاشي للآخر.
وثانياً: لو فرضنا تعدّدهما للزم على الشيخ أن يذكر عبد اللَّه أيضاً في «الرجال»، كما أفاده السيد الأستاذ (قدس سره) في «معجمه»((1)).
وفي السند أيضاً: عليّ بن الحسن الطاطري: قال عنه النجاشي: «علي بن الحسن بن محمّد الطائي، الجرمي، المعروف بالطاطري، وإنما سمّيبذلك؛ لبيعه ثياباً يقال لها: الطاطريّة، يكنّى أبا الحسن، وكان فقيهاً، ثقة في حديثه، وكان من وجوه الواقفة وشيوخهم، وهو أستاذ الحسن بن محمّد بن سماعة، الصيرفي، الحضرمي، ومنه تعلّم، وكان يشركه في كثير من الرجال، ولا يروي الحسن عن عليّ شيئاً، بلى منه تعلّم المذهب»((2)) .
وقال عنه الشيخ في «الفهرست»: «علي بن الحسن الطاطري، الكوفي، كان واقفيّاً، شديد العناد في مذهبه، صعب العصبيّة على من خالفه من الإماميّة، وله كتب كثيرة في نصرة مذهبه، وله كتب في الفقه، رواها عن الرجال الموثوق بهم وبرواياتهم، فلأجل ذلك ذكرناها»((3)).
كما وثّقه في «العدّة»، حيث قال: «ولأجل ما قلناه عملت الطائفة بأخبار الفطحيّة... وأخبار الواقفة... ومن بعد هؤلاء بما رواه بنو فضّال وبنو سماعة
ص: 214
والطاطريون وغيرهم»((1))؛ فإنّه يدل على وثاقة المعروفين منهم؛ فإنّه صرّح قبل ذلك: بأنّ منشأ عمل الطائفة بأخبار هؤلاء - إذا لم يوجد له معارض عن طريق أصحابنا - هو وثاقتهم وتحرّجهم عن الكذب. ولا ريب في أنّ عليّ بن الحسن من المعروفين من الطاطريين.
وفيه أيضاً: درست بن أبي منصور: قال عنه النجاشي: «درست بن أبيمنصور محمد، الواسطي، روى عن أبي عبد اللَّه وأبي الحسن (علیهما السلام) ، ومعنى درست أي صحيح، له كتاب يرويه جماعة، منهم: سعد بن محمّد الطاطري، عمّ عليّ بن الحسن الطاطري»((2)).
وورد فى «التفسير» و«النوادر»، وروى عنه المشايخ الثقات((3)). وبقيّة أفراد السند قد تقدّم ذكرهم. وعليه فالسند معتبر.
ص: 215
[196] 6 - وَعَنْ محمّد بْنِ مُوسَى بْنِ الْمُتَوَكِّلِ، عَنِ السَّعْدَآبَادِيِّ، عَنِ الْبَرْقِيِّ، عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ جَمِيلِ بْنِ دَرَّاجٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) ، قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّوَجَلَّ: {وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلّا لِيَعْبُدُونِ}، قَالَ: «خَلَقَهُمْ لِلْعِبَادَةِ». قُلْتُ: خَاصَّةً أَمْ عَامَّةً؟ قَالَ: «لا، بَلْ عَامَّةً»(1).
-----------------------------------------------------------------------------
[6] - فقه الحديث:
دلّ الحديث على أنّ العبادة عامّة لجميع الخلق، مؤمنهم وكافرهم.
ولمّا توهّم الراوي أنّ معنى الآية: أنّ الغرض من الخلق حصول العبادة نفسها، فيلزم تخلّف الغرض في الكفار، سأل ثانياً: أنّ هذا خاصّ بالمؤمنين، أو عامّ لجميع الخلق؟ فإنّ اللام في {لِيَعْبُدُونِ} إذا كانت للغرض كانت العبادة غرضه تعالى، المراد من الخلقة، ومن المحال أن يتخلّف مراده تعالى عن إرادته، ومن المعلوم المشاهد أنّ كثيراً منهم لا يعبدونه تعالى، بل هم الأكثر، وهذا دليل على أنّ اللام في الآية ليست للغرض.
فأجاب (علیه السلام) بأنّه عامّ؛ إذ الغرض: التكليف بالعبادة، وقد حصل التكليف للجميع، كما سيأتي صريحاً في الحديث الآتي.
سند الحديث:
جميع رجال الحديث قد تقدموا، والسند معتبر.
ص: 216
[197] 7 - وَعَنْ محمّد بْنِ أَحْمَدَ السِّنَانِيِّ، عَنْ محمّد بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْكُوفِيِّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ النَّخَعِيِّ، عَنْ عَمِّهِ الْحُسَيْنِ بْنِ يَزِيدَ النَّوْفَلِيِّ، عَنْ عليّ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّوَجَلَّ: {وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلّا لِيَعْبُدُونِ}؟، قَالَ: «خَلَقَهُمْ؛ لِيَأْمُرَهُمْ بِالْعِبَادَةِ». قَالَ: وَسَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّوَجَلَّ: {وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ}(1)، قَالَ: «خَلَقَهُمْ؛ لِيَفْعَلُوا مَا يَسْتَوْجِبُونَ بِهِ رَحْمَتَهُ، فَيَرْحَمَهُمْ»(2).
أَقُولُ: وَتَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ(3)3*)، وَيَأْتِي مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ(4)4*).
-----------------------------------------------------------------------------
[7] - فقه الحديث:
دلّ الحديث على أنّ للخلقة غرضاً، وأنّ الغرض هو الأمر بالعبادة،بمعنى: أمرهم بأن يكونوا عابدين للَّه، لا أن الغرض كونه معبوداً؛ فقد قال: ليعبدون، ولم يقل: لأُعبد، أو لأكون معبوداً لهم، وهذا معنى كون العبادة عامّة، كما سبق.
ص: 217
وسؤال الراوي الثاني إشارة إلى الإشكال المعروف، من أنّ حمل اللام في {لِيَعْبُدُونِ} على الغرض يعارضه قوله تعالى: {ولا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إلّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُم} وقوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإنْس}((1))؛
فإنّ ظاهر الآية الأولى كون الغرض من الخلقة: الاختلاف، وظاهر الثانية كون الغرض من خلق كثير من الجن والإنس: دخول جهنّم، فلا محيص عن رفع اليد عن حمل اللام على الغرض، وحملها على الغاية.
فأجاب الإمام (علیه السلام) عن مورد السؤال: بأنّه تعالى خلقهم للعبادة، وبالعبادة يستوجبون آثارها من الرحمة والمغفرة، ونحوهما. فالإشارة فيها بقوله تعالى{وَلِذلِكَ} إلى الرحمة، لا الاختلاف.
وأجيب عن الآية الثانية: بأنّ اللام فيها للغرض، لكنّه غرض تبعي، وبالقصد الثاني، لا أنّه الغرض الأصلي من الخلقة.
سند الحديث:
في السند: عليّ بن سالم: والظاهر أنّه غير عليّ بن أبي حمزة، وإن كان أبوه أيضاً سالماً، إلّا أنه غير معروف بذلك. والشاهد على ذلك: أنّ الشيخ (رحمه الله) ذكر كليهما في «رجاله»، ووصفه بالكوفي، وأنّه هو الراوي عن أبي بصير، لا بواسطة أبيه. ومن المحتمل اتحادهما. فعلى الأول لم يرد فيه
ص: 218
شي ء، إلّا أنه روى عنه يونس بن عبد الرحمن، الذي أُلحق بالمشايخ الثقات. وأمّا بناء على الثاني، أي: عليّ بن أبي حمزة البطائني، فقد سبق أنّه ضعيف، لكن يمكن الاعتماد على مرويّاته؛ لأنّه رواها قبل الوقف.
وفيه: أبوه: وعلى الاحتمال الثاني هو سالم، عدّه الشيخ من أصحاب الإمام الصادق (علیه السلام) ((1))،
ولم يرد في حقّه شي ء . وبقيّة رواة السند قد تقدّمت ترجمتهم.
والحاصل: أنّ في الباب سبعة أحاديث، خمسة منها معتبرة.
والمستفاد من أحاديث الباب أمور، منها:
1 - استحباب حبّ العبادة، واستحباب التفرّغ لها.
2 - أنّ التفرّغ للعبادة موجب لحصول غنى القلب عن الناس، وزوال الحاجة إليهم، وحصول الخوف من اللَّه عزّوجلّ، والاستغناء عن الكسب، وإنّ عدم التفرّغ يوجب عدم ذلك كلّه.3 - أنّ أفضل الناس عند اللَّه عزّوجلّ من أحبّ العبادة حبّاً شديداً، وتفرّغ لها.
4 - أنّ عبادة اللَّه نعمة منه، أو هي سبب لتنعّم الصدّيقين في دار الدنيا، ونتيجتها التنعّم بها لهم في الآخرة.
5 - أنّ اللَّه عزّوجلّ خلق العباد جميعاً، ليكلّفهم بالعبادة، لأجل أن يستوجبوا منه آثارها من الرحمة والمغفرة.
ص: 219
ص: 220
-----------------------------------------------------------------------------
20 - باب تأكّد استحباب الجدّ والاجتهاد
في العبادة
شرح الباب:
تقدّم في الأبواب السابقة التأكيد على لزوم الإخلاص في النيّة في جميع العبادات، بتخليصها من شوائب الرياء والعجب وغيرهما، والإتيان بالعبادات كما شرّعها اللَّه سبحانه وتعالى.
هذا من ناحية الكيفيّة. وأمّا من ناحية الكمّيّة: فقد تعرّض هذا الباب لبيان استحباب الاجتهاد في العبادة، والإكثار منها بقدر الوسع والطاقة، مع مراعاة الورع والتقوى والاحتياط؛ فإنّ العبادة تكليف، والتكليف يقتضي المشقّة، فإذا روّض المؤمن نفسه على تحمّل مشقّة العبادة خفّت على نفسه تدريجاً، وببلوغه إلى بعض المقامات يتحوّل ثقل العبادة إلى خفّة، ومن ثمّ إلى حبّ وعشق. وبما أنّ غرض المحبوب قد تعلّق بالعبادة، فيصير هوى المحبّ في الإتيان بها والإكثار منها. ومقتضى التأسّي بأحبّاء اللَّه وأوليائه (علیهم السلام) الإكثار منها؛ فإنّه لا يخفى تهالك المعصومين (علیهم السلام) في العبادة، وصرف أعمارهم الشريفة في الإتيان بها بأنواعها.
ص: 221
[198] 1 - محمّد بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ عليّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي الْمَغْرَاءِ، عَنْ زَيْدٍ الشَّحَّامِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ ابْنِ هِلالٍ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) - فِي حَدِيثٍ - : أَنَّهُ قَالَ لَهُ: «أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالْوَرَعِ وَالاجْتِهَادِ»(1).
-----------------------------------------------------------------------------
وقد نقلت لنا التواريخ والأخبار صوراً مشرّفة من اعتنائهم بالعبادة كيفيّة وكمّيّة، وحثّهم متابعيهم على الاهتمام بها والإكثار منها. ولم يقتصر ذلك على نوع منها، بل ورد الحثّ على الإكثار منها جميعاً.
الحكم مورد اتّفاق بين الفريقين. قال المصنّف في شرحه: إنّ الإجماع أوضح من أن يبيّن، كما لا يخفى»((2)).
[1] - فقه الحديث:
للحديث ذيل، وهو: «واعلم: أنّه لا ينفع اجتهاد لا ورع فيه».
ثمّ إنّ التقوى: اسم من وقيت، وأصلها الحفظ، ثمّ استعملت في مخافة اللَّه، بحيث يحفظ الإنسان نفسه بها من عقاب اللَّه، وأصل تقوى: وَقْوَى،فأبدلت الواو تاء، كذلك تقاة أصلها وقاة، ورجل تقي أصله وقي، واتقى
ص: 222
أصله أوتقى، فقلبت وأدغمت.
والمراد بتقوى اللَّه: الكفّ عن المحرّمات. والورع في الأصل: الكفّ عن محارم اللَّه، والتحرّج منها، ثمّ استعمل في الكفّ المطلق، وقد قسّم إلى أقسام أربعة:
1 - الكفّ الذي يخرج المكلَّف عن الفسق، ويوجب قبول شهادته، وقد ورد في الحديث: «أورع الناس من تورّع عن محارم اللَّه»((1))،
ويسمّى ورع التائبين.
2 - ما يخرج المكلّف به عن الشبهات؛ فإنّ من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ويسمّى ورع الصالحين.
3 - الكفّ عن الحلال الذي يتخوّف انجراره إلى المحرّم، ويسمّى ورع المتّقين.
4 - الإعراض عن غيره سبحانه؛ خوفاً من ضياع ساعة من العمر فيما لا فائدة فيه، زيادة في القرب فيه، ويسمّى ورع الصدِّيقين.
والمراد بالورع هنا: إمّا المعنى الأول، فيكون تأكيداً للتقوى، وإمّا أحد المعاني الثلاثة الباقية أو جميعها، أي: مع ترك الشبهات، وبعض المباحات. كما أنّ المراد من الاجتهاد: بذل الجهد بقدر المستطاع في فعل الطاعات،ولكن مع الورع عن المحرّمات والشبهات.
ص: 223
سند الحديث:
رجال الحديث كلهم قد تقدّم ذكرهم ما عدا: عمرو بن سعيد بن هلال الثقفي: وهو لم يوصف بمدح ولا قدح، وليس هو عمرو بن سعيد بن هلال المدائني الثقة، كما قال بذلك المحقق((1))،
والعلّامة((2))،
والشهيد((3))،
حيث بنوا على اتحادهما، فذكروا: أنّ عمرو بن سعيد الثقفي فطحي؛ وذلك لأنّ عمرو بن سعيد الثقفي المذكور في هذا الحديث من أصحاب الباقر (علیه السلام) ، وعمرو بن سعيد المدائني من أصحاب الرضا (علیه السلام) ((4))، بل عدّ من أصحاب العسكري (علیه السلام) ((5))، فكيف يمكن اتّحادهما؟!
وعلى هذا فالحديث غير تام السند، إلّا بناءً على تماميّة كبرى وجوده في «الكافي»، أو بناءً على تصحيح ما يصحّ عن أصحاب الإجماع، فيكون معتبراً حينئذٍ.
ص: 224
[199] 2 - وَعَنْهُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) ، قَالَ: «جَاءَ جَبْرَئِيلُ (علیه السلام) إِلَى النَّبِيِّ(صلی الله علیه و آله و سلم)، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَأَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ لاقِيهِ»(1)1*).
-----------------------------------------------------------------------------
[2] - فقه الحديث:
لهذا الحديث تكملة، لم يذكرها المصنّف هنا، وهي: «واعلم: أنّ شرف المؤمن صلاته بالليل، وعزّه كفّه عن أعراض الناس»((2)).
وهذا الحديث من الأحاديث المشهورة المتلقّاة بالقبول عند الفريقين((3))
، وهو من حيث الدلالة واضح. فقوله (علیهم السلام) : «يا محمد، عش ما شئت» هذاالخطاب له(صلی الله علیه و آله و سلم)؛ لتعليم غيره، ولعلّ الأمر للتسوية، كقولهم: جالس الحسن
ص: 225
أو ابن سيرين، أو للتهديد، إذا كان المقصود بالخطاب الأمّة.
وحاصل معنى الحديث: أنّ العيش لا محالة ينتهي إلى الموت، فلابّد للإنسان أن لا يطمئنّ إليه، وكذا المحبوب لابدّ وأن تفارقه. وأمّا العمل: فلابدّ أن تلاقيه ولا يفارقك، فإن كان العمل حسناً سرّك جزاؤه، وإن كان سيّئاً ساءك لقاؤه. فلابدّ للإنسان أن يعلم: أنّه لا ينفعه إلّا عمله، ولا يؤخذ بجرم غيره، ولا يثاب على طاعة غيره، وحقيقة نصيب الإنسان من الدنيا هو العمل الذي يعمله لآخرته.
فعلى العاقل بعد معرفة هذا أن يشمّر ساعد الجد للعبادة والاجتهاد، والاستكثار منها فإنها رأس المال، وهي الباقية التي يلقاها يوم القيامة.
سند الحديث:
روى الحديث الكليني، عن عليّ بن إبراهيم.
والكلّ أجلّاء ثقات، قد تقدّم ذكرهم. وعليه فالسند معتبر.
ص: 226
[200] 3 - وَعَنْهُ، عَنْ أَبِيهِ وَعَنْ محمّد بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ جَمِيعاً، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَجَّاجِ وَحَفْصِ ابْنِ الْبَخْتَرِيِّ وَسَلَمَةَ بَيَّاعِ السَّابِرِيِّ جَمِيعاً، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) ، قَالَ: «كَانَ عليّ بْنُ الْحُسَيْنِ (علیه السلام) إِذَا أَخَذَ كِتَابَ عَلِيٍّ (علیه السلام) فَنَظَرَ فِيهِ قَالَ: مَنْ يُطِيقُ هَذَا؟ مَنْ يُطِيقُ ذَا؟». قَالَ: «ثمّ يَعْمَلُ بِهِ. وَكَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاةِ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ حتّى يُعْرَفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَمَا أَطَاقَ أَحَدٌ عَمَلَ عَلِيٍّ (علیه السلام) مِنْ وُلْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ إِلَّا عليّ بْنُ الْحُسَيْنِ (علیه السلام) »(1).
-----------------------------------------------------------------------------
[3] - فقه الحديث:
سيأتي في الحديث الثامن عشر: أنّ الإمام زين العابدين (علیه السلام) كان شبيهاً بجدّه أمير المؤمنين (علیهم السلام) في عبادته وزهده وسيرته، ومع أنّه بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد إلّا أنه كان يقول: «من يقوى على عبادة عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) ؟» ((2)).
وهذا الحديث فيه دلالة على ما كان يتمتّع به أمير المؤمنين (علیه السلام) من كثرة العبادة، والاجتهاد في طاعة اللَّه تعالى؛ حيث وهب حياته للَّه تعالى، وسرى حبّه في أعماق قلبه ودخائل نفسه، وقد قطع معظم حياته صائماًنهاره، قائماً ليله، قد أحياه بالصلاة والدعاء والابتهال إلى اللَّه تعالى، حتّى
ص: 227
صار مثالاً يقتدي به سائر من أتى بعده. كما أنّ سيّد العابدين عليّ بن الحسين (علیهما السلام) فاق غيره في شدّة انقطاعه إلى ربّه، واجتهاده في العبادة والتقوى، حتّى أنّه ما أطاق أحد عمل أمير المؤمنين (علیه السلام) من ولده من بعده غيره (علیه السلام) . فينبغي للمؤمن التأسّي بهم في ذلك، بأن يجتهد في العبادة بقدر طاقته وجهده فهو أمر مطلوب ومحبوب للمولى عزّوجلّ.
سند الحديث:
للحديث عدّة طرق:
الأوّل: محمّد بن يعقوب، عن عليّ بن إبراهيم.
ورجاله كلّهم ثقات أجلّاء، قد تقدّم ذكرهم.
وفيه: عبد الرحمن بن الحجّاج: قال النجاشي: «وكان ثقة، ثقة، ثبتاً، وجهاً ... له كتب يرويها عنه جماعات من أصحابنا»((1)).
وقال الشيخ في «الغيبة»: «من الوكلاء الممدوحين لأبي عبد اللَّه (علیه السلام) ، ومات في عصر الرضا (علیه السلام) على ولايته»((2)).
وعدّه الشيخ المفيد من شيوخ أصحاب أبي عبد اللَّه (علیهم السلام) ، وخاصّتهوبطانته، وثقاته الفقهاء الصالحين((3)).
ووردت فيه روايات مادحة، منها: أنّ الإمام أبا الحسن موسى بن
ص: 228
جعفر (علیهما السلام) قال: «إنه لثقيل في الفؤاد»((1))،
أي: عظيم، له محلّ في القلب.
وورد في أسناد «تفسير القمي»، وورد أيضاً في «نوادر الحكمة»، وروى عنه المشايخ الثقات((2)). وعليه فهذا الطريق صحيح.
الثاني: محمّد بن يعقوب، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حفص بن البختري.
ورجاله كلّهم قد تقدّم ذكرهم ماعدا:
حفص بن البختري: وقد قال النجاشي فيه: «كوفي، ثقة ... له كتاب يرويه عنه جماعة»((3)).
وروى عن المشايخ الثقات، وورد في «التفسير»، و«نوادر الحكمة»((4)).
وعليه فهذا الطريق معتبر أيضاً.
الثالث: محمّد بن يعقوب، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبيعمير، عن سلمة بيّاع السابري.
وفيه: سلمة بيّاع السابري: وهو وإن لم يرد فيه شي ء، إلّا أنّه روى عنه المشايخ الثقات، كما في هذه الرواية، حيث روى عنه ابن أبي عمير، فيكون ثقة. وعليه فهذا الطريق معتبر أيضاً.
ص: 229
[201] 4 - وَعَنْ محمّد بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ محمّد بْنِ عِيسَى، عَنْ عليّ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) يَقُولُ: «عَلَيْكَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالْوَرَعِ وَالاجْتِهَادِ»، الْحَدِيثَ(1).
وَرَوَاهُ الْبَرْقِيُّ فِي «الْمَحَاسِنِ»، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ محمّد وَعَلِيِّ بْنِ حَدِيدٍ جَمِيعاً، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، مِثْلَهُ(2).
-----------------------------------------------------------------------------
الرابع: محمّد بن يعقوب، عن محمّد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عمير، عن عبد الرحمن بن الحجّاج.
الخامس: محمّد بن يعقوب، عن محمّد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عمير، عن حفص بن البختري.
السادس: محمّد بن يعقوب، عن محمّد بن إسماعيل، عن الفضل بنشاذان، عن ابن أبي عمير، عن سلمة بيّاع السابري.
وهذه الطرق الثلاثة أيضاً معتبرة؛ لما قد تقدّم سابقاً.
وعليه فهذا الحديث - من جهة السند - صحيح بجميع طرقه.
[4] - فقه الحديث:
تقدّم الكلام في دلالته في الحديث الأول.
ص: 230
[202] 5 - وَعَنْهُ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ، عَنْ عليّ ابْنِ عُقْبَةَ، عَنِ أَبِي كَهْمَسٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ هِلالٍ، قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) : أَوْصِنِي، قَالَ: «أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالْوَرَعِ وَالاجْتِهَادِ»، الْحَدِيثَ(1).
-----------------------------------------------------------------------------
سند الحديث:
كلّ رجال الحديث ثقات أجلّاء قد تقدّمت ترجمتهم. والظاهر: أنّ أحمد بن محمّد الذي يروي عنه البرقي هو: أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي، هذا أوّلاً.
وثانياً: لم ترد رواية أحمد بن محمّد عن أبي أسامة في شي ء منالروايات غير هذه الرواية، ولكن في «المحاسن»: أحمد بن محمّد، عن عليّ بن حديد، عن أبي أسامة»، وعلى ذلك فهو طريق آخر غير طريق الكافي.
[5] - فقه الحديث:
قد اتّضح معنى الحديث ممّا مرّ((2)).
ص: 231
[203] 6 - وَعَنْهُ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ محمّد بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلَّانٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ جُمَيْعٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) ، قَالَ: «شِيعَتُنَا الشَّاحِبُونَ(1)1*)، الذَّابِلُونَ، النَّاحِلُونَ، الَّذِينَ إِذَا جَنَّهُمُ اللَّيْلُ اسْتَقْبَلُوهُ بِحُزْنٍ»(2)2*).
-----------------------------------------------------------------------------
سند الحديث:
رجال الحديث قد تقدّمت ترجمتهم، وهو غير معتبر؛ لجهالة عمرو بن سعيد بن هلال.
[6] - فقه الحديث:
الشاحبون: جمع شاحب، وهو المتغيّر اللون من هزال أو جوع أو سفر أو سهر أو نحو ذلك.
والناحل: المهزول، من نحل جسمه وضعف، والذابل: من جفّ لسانه وشفتاه.
عيّن الحديث صفات للشيعة، بها كانوا شيعة، وهم من شحب لونه وتغيّر، وجفّ لسانه، وهزل جسمه من العبادة، وإذا سترهم الليل استقبلوه بالحزن، مشفقين من ربهم، وجلين. ولعلّ هذه صفات من كمل فيه التشيّع والإيمان؛لأنّ الشيعة التابعين لأمير المؤمنين والأئمة المعصومين (علیهم السلام) لهم درجات
ص: 232
ومراتب، بمقدار متابعتهم للأئمة (علیهم السلام) في الأعمال. ولا يخفى ما فيه من الترغيب في الجدّ في العبادة حتّى يحوز المؤمن أعلى درجات الشيعة.
سند الحديث:
محمّد بن يحيى العطّار وأحمد بن محمّد بن عيسى الأشعري وعمرو بن جُمَيْع، قد تقدّم ذكرهم. والأولان ثقتان جليلان، والأخير فيه كلام.
وأمّا محمّد بن الحسن بن علان - وفي بعض النسخ بن زعلان - : فلم يرد فيه شي ء.
وأمّا أبو إسحاق الخراساني: فهي كنية لعدّة من الرواة، ولم يعلم أيّهم هو المراد. واحتمل بعضهم((1)):
أنّها كنية لإبراهيم بن أبي محمود الخراساني، إلّا أنّه مجرّد احتمال لا يعتنى به، فهو مجهول الحال.
وعليه فهذا الحديث غير معتبر السند، إلّا أنّه يمكن أن يكون مؤيّداً لما تقدّم ولما يأتي من الأحاديث.
ص: 233
[204] 7 - وَعَنْهُ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ محمّد بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ مَنْصُورٍ بُزُرْجَ، عَنْ مُفَضَّلٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) : «إِيَّاكَ وَالسَّفِلَةَ؛ فَإِنَّمَا شِيعَةُ عَلِيٍّ (علیه السلام) مَنْ عَفَّ بَطْنُهُ وَفَرْجُهُ، وَاشْتَدَّ جِهَادُهُ، وَعَمِلَ لِخَالِقِهِ، وَرَجَا ثَوَابَهُ، وَخَافَ عِقَابَهُ، فَإِذَا رَأَيْتَ أُولَئِكَ فَأُولَئِكَ شِيعَةُ جَعْفَرٍ (علیه السلام) »(1).
-----------------------------------------------------------------------------
[7] - فقه الحديث:
السّفلة - بفتح السين وكسر الفاء - أراذل الناس وسُقَاطهم((2)).
هذا الحديث من جهة المعنى واضح، حيث قال الإمام (علیه السلام) : إنّ الشيعيّ من كان جامعاً للأوصاف المذكورة، وهي: أن يكون صائناً لبطنه وفرجه من المحرّمات، ومجتهداً في العبادة الخالصة له، راجياً ثوابه، وخائفاً من عقابه. وعليه فيدلّ هذا الحديث على استحباب وتأكيد الاجتهاد في العبادة.
سند الحديث:
رجال الحديث كلهم ثقات أجلّاء، قد تقدّم ذكرهم سوى:
منصور بزرج: الذي قال النجاشي في حقّه: «كوفي، ثقة»((3))، وعدّه الشيخ
ص: 234
[205] 8 - وَعَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ عليّ بْنِ رِئَابٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي يَعْفُورٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) ، قَالَ: «إِنَّ شِيعَةَ عَلِيٍّ (علیه السلام) كَانُوا خُمُصَ(1) الْبُطُونِ، ذُبُلَ الشِّفَاهِ، أَهْلَ رَأْفَةٍ وَعِلْمٍ وَحِلْمٍ، يُعْرَفُونَ بِالرَّهْبَانِيَّةِ، فَأَعِينُوا عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِالْوَرَعِ وَالاجْتِهَادِ»(2).
-----------------------------------------------------------------------------
في أصحاب الإمام الصادق (علیه السلام) ، وذكر أنه روى أيضاً عن أبي الحسن (علیه السلام) - أي الإمام الكاظم (علیه السلام) - وذكره أيضاً في أصحاب الإمام الكاظم وقال: «منصور بن يونس بزرج، له كتاب، واقفي»((3))، وقد وقع في أسناد «تفسير القمي»، وروى عنه المشايخ الثقات((4)).
ومفضّل: هو المفضل بن عمر الذي رجحنا وثاقته في كتابنا أصول علم الرجال((5)).
وعليه فالسند معتبر.
[8] - فقه الحديث:
قد اتّضح معنى الحديث ممّا مر.
ص: 235
[206] 9 - وَعَنْهُمْ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ محمّد بْنِ خَالِدٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ مَعْرُوفِ بْنِ خَرَّبُوذَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام) : أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (علیه السلام) قَالَ: «أَمَا وَاللَّهِ، لَقَدْ عَهِدْتُ أَقْوَاماً عَلَى عَهْدِ خَلِيلِي رَسُولِ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله و سلم)، وَإِنَّهُمْ لَيُصْبِحُونَ وَيُمْسُونَ شُعْثاً، غُبْراً، خُمُصاً، بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ كَرُكَبِ الْمِعْزَى، يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً، يُرَاوِحُونَ بَيْنَ أَقْدَامِهِمْ وَجِبَاهِهِمْ، يُنَاجُونَ رَبَّهُمْ، وَيَسْأَلُونَهُ فَكَاكَ رِقَابِهِمْ مِنَ النَّارِ. وَاللَّهِ، لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ مَعَ هَذَا وَهُمْ خَائِفُونَ مُشْفِقُونَ»(1).
وَعَنْهُمْ، عَنِ ابْنِ خَالِدٍ، عَنِ السِّنْدِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ محمّد بْنِ الصَّلْتِ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ عليّ بْنِ الْحُسَيْنِ (علیه السلام) ، نَحْوَهُ(2).
-----------------------------------------------------------------------------
سند الحديث:
رجال الحديث كلهم قد تقدّم ذكرهم، وهذا الطريق وإن وقع فيه سهل بن زياد الضعيف، إلّا أنه بالإمكان تصحيحه؛ من جهة شهرة كتاب ابن أبييعفور، على ما ذكره النجاشي((3)).
وشهرة الكتاب تغني عن الطريق.
[9] - فقه الحديث:
الشعث بالتحريك تفرّق وتلبّد الشعر؛ لقلّة تعهّده بالدهن.
ص: 236
والركب - بضمّ الراء وفتح الكاف - جمع الركبة، وهي موصل الفخذين والساق.
والمعزى خلاف الضأن من الغنم.
وفي هذا الحديث وصف أمير المؤمنين (علیه السلام) جماعة من المؤمنين كانوا على عهد رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) بعدّة أوصاف:
أحدها: أنّهم كانوا يصبحون ويمسون شعثاً غبراً، لشدّة اهتمامهم بالعبادة، ولتركهم زينة الدنيا.
وثانيها: أنّهم كانوا خمص البطون من الصوم أو الفقر، أو كانوا لا يشبعون؛ لئلّا يكسلوا عن العبادة.
وثالثها: أنّه كان بين أعينهم كركب المعزى، شبّه الأثر الحاصل في الجبهة من كثرة السجود بركب المعزى، بجامع الصلابة والخشونة في كلّ منهما. وهذا الأثر يحصل من كثرة وضع الجبهة على الأرض.
ورابعها: أنّهم كانوا يراوحون بين أقدامهم وجباههم، يناجون ربّهم،ويسألونه فكاك رقابهم من النار. والمراوحة بين الأقدام والجباه أن يقوموا على القدمين، فإذا تعبوا رفعوا إحدى القدمين واعتمدوا على الأخرى، فإذا تعبوا رفعوا الثانية واعتمدوا على الأولى، وهكذا. والمراوحة في الجبهة بالسجود على أحد الصدغين عند التعب من السجود على الجبهة. وإنّما يفعلون ذلك؛ لغرض الاستراحة.
وخامسها: أنهم كانوا يخافون من ردّ أعمالهم، مشفقين من عذاب اللَّه.
ص: 237
والحاصل: أنّ هذا الحديث يفيد أنّ المقصود من استشهاد الإمام الباقر بكلام أمير المؤمنين (علیهما السلام) : كون المنعوتين بهذه الصفات هم الشيعة الكاملين في صفات التشيع، وأنّهم مع هذا الجدّ والاجتهاد في العمل كانوا يعدّون أنفسهم مقصّرين، ولم يكونوا بأعمالهم معجبين.
سند الحديث:
للحديث طريقان:
الأوّل: محمّد بن يعقوب، عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن الحسن بن محبوب، عن عبد اللَّه بن سنان، عن معروف بن خرَّبوذ.
ورجاله كلّهم ثقات أجلّاء، قد تقدّم ذكرهم سوى:
معروف بن خرَّبوذ: الذي قال الكشّي عنه: إنّه «ممّن اجتمعت العصابة علیتصديقهم من أصحاب أبي جعفر وأبي عبد اللَّه (علیهما السلام) ، وانقادوا لهم بالفقه»((1)) .
ووقع في أسناد «تفسير القمي»((2)).
وعليه فهذا الطريق صحيح.
الثاني: محمّد بن يعقوب، عن عدّة من أصحابنا، عن ابن خالد، عن السندي بن محمد، عن محمّد بن الصلت، عن أبي حمزة.
والمراد بابن خالد هو: البرقي؛ بقرينة الطريق الأول، والمراد بأبي حمزة هو: الثمالي، وقد تقدمت ترجمة الجميع ما عدا:
ص: 238
[207] 10 - وَعَنْهُمْ، عَنِ ابْنِ خَالِدٍ، عَنْ محمّد بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ محمّد ابْنِ سِنَانٍ، عَنْ عِيسَى النَّهْرَسِيرِيِّ(1)، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله و سلم): مَنْ عَرَفَ اللَّهَ وَعَظَّمَهُ مَنَعَ فَاهُ مِنَ الْكَلامِ، وَبَطْنَهُ مِنَ الطَّعَامِ، وَعَنَّى(2) نَفْسَهُ بِالصِّيَامِ وَالْقِيَامِ. قَالُوا: بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَؤُلاءِ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ؟ قَالَ: إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ سَكَتُوا فَكَانَ سُكُوتُهُمْ ذِكْراً، وَنَظَرُوا فَكَانَ نَظَرُهُمْ عِبْرَةً، وَنَطَقُوا فَكَانَ نُطْقُهُمْ حِكْمَةً، وَمَشَوْا فَكَانَ مَشْيُهُمْ بَيْنَ النَّاسِ بَرَكَةً. لَوْلا الآجَالُ الَّتِي قَدْكُتِبَتْ عَلَيْهِمْ لَمْ تَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ؛ خَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ(3)، وَشَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ»(4).
-----------------------------------------------------------------------------
محمّد بن الصلت: والظاهر: أنّه محمّد بن الصلت القرشي، الذي ذكره الشيخ في أصحاب الصادق (علیه السلام) ،((5))
و لم يرد فيه توثيق. وعليه فهذا الطريق غير معتبر.
[10] - فقه الحديث:
هذا الحديث يدل على أنّ الإنسان كلما زادت معرفته باللَّه زادت عبادته
ص: 239
محمّد بْنُ عليّ بْنِ الْحُسَيْنِ فِي الْمَجَالِسِ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ ابْنِ إِدْرِيسَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ محمّد بْنِ خَالِدٍ(1).
وَعَنْ محمّد بْنِ عليّ مَاجِيلَوَيْهِ، عَنْ محمّد بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ، عَنْ محمّد بْنِ عليّ الْكُوفِيِّ، مِثْلَهُ(2).
-----------------------------------------------------------------------------
له وخوفه منه، وبعثه ذلك على الورع والتقوى والزهد في الدنيا، ودوامالعمل للَّه. فعن أبي عبد اللَّه (علیه السلام) قال: «من عرف اللَّه خافه، ومن خاف اللَّه حثّه الخوف من اللَّه على العمل بطاعته، والأخذ بتأديبه». وقال عزّ شأنه {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}((3)). فمن عرف الله منع لسانه من فضول الكلام، ولو كان مباحاً؛ لأنّ الكلام المباح يضيّع رأس مال الإنسان ويفوّته من غير عوض؛ إذ يمكنه أن يصرف هذا المقدار من عمره في ذكر أو دعاء أو قراءة قرآن أو نحوها، ويدرك به خيراً كثيراً.
ومن عرف الله منع بطنه من الطعام؛ فإنّ الإكثار منه يورث الثقل عن العبادة، ويحتمل أن يكون كناية عن الصوم، أو أنّ المراد به: المنع الشرعي، أي: عن الحرام أو المكروه شرعاً.
ص: 240
«وعنّى نفسه بالصيام والقيام» - بالعين المهملة والنون المشدّدة - أي: أتعب نفسه بذلك. ومعاناة الشيء ملابسته ومباشرته. ويحتمل أن يكون قوله: «وعنّى نفسه بالصيام» عطفاً تفسيريّاً على السابق.
«قالوا: بآبائنا وأمّهاتنا يا رسول اللَّه، هؤلاء أولياء اللَّه»، أي: نفديك بآبائنا وأمهاتنا، فالباء للتفدية بحذف الفعل، وهي في الحقيقة باء العوض، كما في خذ هذا بهذا.وقولهم: «هؤلاء أولياء اللَّه» استفهام محذوف الأداة. ويحتمل أن يكون خبراً قصد به لازم الحكم، وهو علمهم بذلك.
وتوكيد الخبر في قوله: «إنّ أولياء اللَّه» الخ لكون الخبر ملقى إلى السائل المتردّد على الأول، ولكون المخاطب حاكماً بخلافه على الثاني، إن جعل قوله(صلی الله علیه و آله و سلم): «إنّ أولياء اللَّه» ردّاً لقولهم: «هؤلاء أولياء اللَّه»، أي: إنّ أولياء اللَّه أناس آخرون، صفاتهم فوق هذه الصفات. وإن جعل تصديقاً لقولهم فهو رائج عندهم، متقبّل لديهم، صادر عنه(صلی الله علیه و آله و سلم) عن كمال الرغبة؛ لأنّه في صدد وصف أولياء اللَّه بأعظم الصفات، فكان مظنّة التأكيد والتحقيق، كما ذكره صاحب «الكشّاف» عند قوله تعالى: {وإِذا لَقُوا الّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنّا}((1)).
وقوله: «فكان سكوتهم ذكراً» يراد به: أنّهم عند سكوتهم تكون قلوبهم
ص: 241
مشغولة بذكر اللَّه، وتذكّر صفاته الكمالية، وآلائه ونعمائه، وغرائب صنعه وحكمته. وفي رواية «المجالس»: «فكان سكوتهم فكراً». قال الشيخ البهائي (رحمه الله) : «أطلق على سكوتهم الفكر؛ لكونه لازماً له، غير منفكّ عنه، وكذا إطلاق العبرة على نظرهم، والحكمة على نطقهم، والبركة على مشيهم. وجعل(صلی الله علیه و آله و سلم) كلامهم ذكراً، ثمّ جعله حكمة؛ إشعاراً بأنّه لا يخرج عن هذين، فالأول في الخلوة، والثاني بين الناس، ولك إبقاء النطق علىمعناه المصدري، أي: إنّ نطقهم بما نطقوا به مبنيّ على حكمة ومصلحة»((1)).
و أمّا قوله: «فكان مشيهم بين الناس بركة»، فلأنّ قصدهم قضاء حوائج الناس، وهدايتهم، وطلب المنافع لهم، ودفع المضارّ عنهم، مع أنّ وجودهم سبب لنزول الرحمة عليهم، ودفع البلايا عنهم.
وقوله: «لم تقرّ أرواحهم» - وفي «المجالس»: «لم تستقرّ» - «خوفاً من العذاب وشوقاً إلى الثواب» فيه إشارة إلى تساوي الخوف والرجاء فيهم، وكونهما معاً في الغاية القصوى والدرجة العليا((2)).
والحاصل: أنّ هذا الحديث اشتمل على صفات الأولياء، وهي:
الأولى: الصمت وحفظ اللسان، وهو باب النجاة.
الثانية: الجوع، وهو مفتاح الخيرات.
ص: 242
الثالثة: الجهد في العبادة، بصيام النهار، وقيام الليل، وهو سُلّم درجات التقرّب إلى اللَّه سبحانه وتعالى.
الرابعة: الفكر، وهو عمل القلب، وقد ورد: أنّه أفضل من عبادة ستّين سنة((1)).الخامسة: الذكر، الأعمّ من القلبي واللساني.
السادسة: نظر الاعتبار.
السابعة: النطق بالحكمة.
الثامنة: كونهم بركة للناس.
التاسعة والعاشرة: الخوف والرجاء.
سند الحديث:
للحديث ثلاثة طرق:
الأوّل: محمّد بن يعقوب في «الكافي».
وفيه: محمّد بن علي: والمراد به هنا: أبو سُمَيْنَة، وهو الراوي لكتاب محمّد بن سنان في طريق الشيخ. قال النجاشي: «ضعيف جدّاً، فاسد الاعتقاد، لا يعتمد في شي ء، وكان ورد قم، وقد اشتهر بالكذب بالكوفة، ونزل على أحمد بن محمّد بن عيسى مدة، ثمّ تشهّر بالغلو، فَجُفِيَ، وأخرجه
ص: 243
أحمد بن محمّد بن عيسى عن قم»((1)) .
ولكن طريق الشيخ - وكذلك الصدوق - إلى كتبه صحيح؛ حيث قال: إلّا ما كان فيها من تخليط أو غلوّ أو تدليس، أو ينفرد به ولا يعرف من غيرطريقه((2)).
ونقل الكشّي عن الفضل بن شاذان في بعض كتبه: من الكذّابين المشهورين أبو الخطّاب ويونس بن ظبيان ويزيد الصائغ ومحمد بن سنان، وأبو سُمَيْنة أشهرهم»((3)).
وقد استثناه ابن الوليد من كتاب «نوادر الحكمة». ويمكن الجمع بين التوثيق والتضعيف بأن يقال: إنّ جميع ما ورد من الضعف في حقه إنّما هو من جهة رميه بالغلو؛ لأنّه ورد في «الكشّي» عن حمدويه عن بعض مشيخته: محمّد بن عليّ رمي بالغلو((4)).
وقد ذكر السيد الأستاذ (قدس سره) : أنّ محمّد بن عليّ الكوفي هو غير الصيرفي الملقب ب- «أبي سُمَيْنة»؛ بدليل أنّ الصدوق (قدس سره) قد التزم أن لا يذكر في كتابه إلّا ما يعتمد عليه، ويحكم بصحته، فكيف يمكن أن يذكر فيه روايات من هو معروف بالكذب والوضع؟! إذاً فمحمد بن عليّ القرشي
ص: 244
الكوفي رجل آخر غير أبي سُمَيْنة، المشهور بالكذب((1)).
ويلاحظ على ماذكره (قدس سره) :أوّلاً: أنّ الصدوق (قدس سره) لعلّه يرى صحّة رواياته المذكورة في كتابه، ويعتمد عليه؛ لأنّه لا يعتني بتضعيف جماعة إيّاه؛ فإنّ جميع ما ورد من الضعف في حقّه إنّما هو من جهة رميه بالغلو.
وثانياً: أن ما رواه الصدوق (قدس سره) في كتابه هو ما كان خالياً من تخليط أو غلو أو تدليس، أو لم ينفرد به، وعرف من غير طريقه. وعليه فالوجه الذي ذكره في التعدّد غير تامّ. والظاهر أنّ الكوفي هو الصيرفي الملقّب ب- «أبي سُمَيْنة».
وأمّا عيسى النهرسيري: فقد قال في «المرآة»: إنّ في «المجالس»: عيسى الجريري، وهو عيسى بن أعين، الجريري، الأسدي، مولى، كوفي، ثقة، وعدّه من أصحاب الصادق (علیه السلام) ((2)).
فما في «المجالس» أظهر سنداً ومتناً، لكن في أكثر نسخ «المجالس»: النهر تيري بالتاء، كما في بعض نسخ «الكافي»، وفي بعضها النهر بيري بالباء الموحّدة، وفي بعضها النهري، والأخير كأنّه نسبة إلى النهروان((3)).
والجريري مع النهرتيري شخصان، عدّهما الشيخ من أصحاب الصادق (علیه السلام) .
ص: 245
ولكن ما ذكره المجلسي في «المرآة» من كونه عيسى الجريري مجرّد احتمال لادليل عليه؛ لأنّ النسخ مختلفة، فلا يعتمد على شي ء منها. وعليهفهذا الطريق حينئذ غير معتبر.
الثاني: محمّد بن عليّ بن الحسين في «المجالس».
وقد اتّضح حاله بما بيّناه في الطريق السابق. وأمّا بقيّة السند: فقد تقدّم حالهم.
الثالث: محمّد بن عليّ بن الحسين في «المجالس».
وهو أيضاً ضعيف بما تقدّم. وعليه فهذا الحديث غير معتبر السند بجميع طرقه، إلّا أنّه يمكن اعتباره من جهة وجوده في «الكافي»، وإلّا كان مؤيّداً لبقيّة الأحاديث.
ص: 246
[208] 11 - وَعَنْ محمّد بْنِ الْحَسَنِ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبَانٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ عليّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) : أَنَّ أَبَاهُ قَالَ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الشِّيعَةِ: «وَاللَّهِ، إِنِّي لأُحِبُّ رِيحَكُمْ وَأَرْوَاحَكُمْ، فَأَعِينُوا عَلَى ذَلِكَ بِوَرَعٍ وَاجْتِهَادٍ. وَاعْلَمُوا أَنَّ وَلايَتَنَا لا تُنَالُ إِلَّا بِالْعَمَلِ وَالاجْتِهَادِ. مَنِ ائْتَمَّ مِنْكُمْ بِعَبْدٍ فَلْيَعْمَلْ بِعَمَلِهِ»، الْحَدِيثَ(1).
----------------------------------------------------------------------------
[11] - فقه الحديث:
قوله (علیه السلام) : «واللَّه، إنّي لأحبّ ريحكم» يراد به: ريحكم الطيّبة.
ص: 247
وَرَوَاهُ الْكُلَيْنِيُّ، عَنْ عليّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي الْمِقْدَامِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، (علیه السلام) ، نَحْوَهُ(1)1*).
-----------------------------------------------------------------------------
و«وأرواحكم» جمع روح بالضم أو بالفتح بمعنى: النسيم، وكأنّ الأول كناية عن عقائدهم ونيّاتهم الحسنة؛ لما تقدّم سابقاً من أنّ المؤمن إذا قصد فعل طاعة يستشمّ منه رائحة حسنة، والثاني كناية عن أقوالهم الطيّبة. ولمّا كان الإمام (علیه السلام) متكفّلاً لنجاة شيعته ومتابعيه من أهوال الآخرة وعقباتها بمقتضى حبّه لهم، طلب منهم إعانته على تحقيق ذلك لهم بالورع - وهو الكفّ عن المحارم - وبالاجتهاد في الأعمال الصالحة وتزكية النفس؛ اقتداء بالأئمة الهداة (علیهم السلام) ؛ حتّى يتسنّى له (علیه السلام) تحصيل النجاة لهم بنحو أيسر وأسهل.
وقد صرّح الإمام بأنّ ولايتهم لا تنال بمجرّد لقلقة اللسان، بل لابدّ من بذل الجهد في العمل والاجتهاد في الطاعات؛ ائتماماً بأئمّة أهل البيت (علیهم السلام) ؛ فإنّ من ائتمّ بعبد فلابدّ له من أن يعمل بعمله؛ ليتحقّق معنى الائتمام به، وإلّا كان ذلك الائتمام نفاقاً وهزءاً.
ولا ريب في شدّة اجتهاد وعمل أئمّتنا (علیهم السلام) ، وهذا غير خفيّ على أحد، فلابدّ لمن يدّعي الائتمام بهم أن يسير على نهجهم في ذلك بمقدار استطاعته؛ فإنّ عبادتهم (علیهم السلام) لا يقدر عليها أحدكما هي.
ص: 248
سند الحديث:
للحديث أربعة طرق، ذكر صاحب «الوسائل» طريقين منها:
الأوّل: محمّد بن عليّ بن الحسين في «المجالس».
أمّا محمّد بن الحسن: فالظاهر أنّه ابن الوليد؛ بقرينة روايته عن الحسين بن الحسن بن أبان كثيراً، وقد تقدّم.
وأمّا الحسين بن الحسن بن أبان: فإنّه لم يرد فيه توثيق. نعم، روى عن الحسين بن سعيد كتبه كلَّها((1))،
وروى عنه ابن الوليد في مائتين وستة عشر مورداً في الكتب الأربعة، ووثّقه ابن داود في ترجمة محمّد بن أرومة((2))، فإن أوجب ذلك الاطمئنان فهو ثقة، وإلّا فلا دليل على وثاقته.
وأمّا عليّ بن أبي حمزة: فهو البطائني الواقفي الضعيف. - وقد تقّدم - وعليه فهذا السند غير معتبر، إلّا على بعض المباني المتقدمّة.
الثاني: ما رواه الكليني.
وفيه عمرو بن أبي المقدام: وهو عمرو بن ثابت بن الحدّاد، لم يرد فيه توثيق، إلّا أنّه روى عنه المشايخ الثقات، وورد في أسناد «تفسير القمي»((3))، فيكون ثقة. وعليه فهذا الطريق معتبر.
ص: 249
[209] 12 - وَعَنْ أَبِيهِ، عَنْ عليّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نَجْرَانَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ محمّد بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام) : أَنَّهُ قَالَ: «وَاللَّهِ، إِنْ كَانَ عَلِيٌّ (علیه السلام) لَيَأْكُلُ أَكْلَ الْعَبْدِ، وَيَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ، وَإِنْ كَانَ لَيَشْتَرِي الْقَمِيصَيْنِ السُّنْبُلانِيَّيْنِ(1)، فَيُخَيِّرُ غُلامَهُ خَيْرَهُمَا، ثمّ يَلْبَسُ الآخَرَ، فَإِذَا جَازَ أَصَابِعَهُ قَطَعَهُ، وَإِذَا جَازَ كَعْبَهُ حَذَفَهُ. وَلَقَدْ وَلِيَ خَمْسَ سِنِينَ، مَا وَضَعَ آجُرَّةً عَلَى آجُرَّةٍ، وَلا لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ، وَلا أَقْطَعَ قَطِيعاً، وَلا أَوْرَثَ بَيْضَاءَ وَلا حَمْرَاءَ. وَإِنْ كَانَ لَيُطْعِمُ النَّاسَ خُبْزَ الْبُرِّ وَاللَّحْمَ، وَيَنْصَرِفُ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَيَأْكُلُ خُبْزَ الشَّعِيرِ وَالزَّيْتَ وَالْخَلَّ. وَمَا وَرَدَ عَلَيْهِ أَمْرَانِ كِلاهُمَا للَّهِ رِضاً إِلَّا أَخَذَ بِأَشَدِّهِمَا عَلَى بَدَنِهِ. وَلَقَدْ أَعْتَقَ أَلْفَ مَمْلُوكٍ مِنْ كَدِّ يَدِهِ، وَتَرِبَتْ فِيهِ يَدَاهُ، وَعَرِقَ فِيهِ وَجْهُهُ. وَمَا أَطَاقَ عَمَلَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ. وَإِنْ كَانَ لَيُصَلِّي فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ أَلْفَ رَكْعَةٍ. وَإِنْ كَانَ أَقْرَبُ النَّاسِ شَبَهاً بِهِ عليّ بْنَ الْحُسَيْنِ (علیه السلام) ، وَمَاأَطَاقَ عَمَلَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ بَعْدَهُ»، الْحَدِيثَ(2).
-----------------------------------------------------------------------------
[12] - فقه الحديث:
هذا الحديث يتضمّن الإشارة إلى جملة من عبادات الإمام علي (علیه السلام) ،
ص: 250
وَرَوَاهُ الطَّبْرِسِيُّ فِي «مَجْمَعِ الْبَيَانِ»، عَنْ محمّد بْنِ قَيْسٍ، نَحْوَهُ(1)1*).
-----------------------------------------------------------------------------
منها:
التواضع للَّه سبحانه في كلامه ومشيه وجلوسه ومأكله ومشربه. ومنها: أنّه كان يطعم الناس طيّب الطعام ويأكل ما دونه. ومنها: أنّه كان يختار أحمز الأعمال وأصعبها على بدنه، ودلّ قوله (علیه السلام) : «وما ورد عليه أمران كلاهما للَّه رضاً إلّا أخذ بأشدّهما على بدنه» على غاية الجدّ والاجتهاد منه (علیه السلام) . وعليه فينبغي التأسّي به (علیه السلام) بقدر الطاقة؛ فإنّ الحديث قد صرّح بأنّه ما أطاق عمله أحد من الناس بعده والإمام السجّاد (علیه السلام) كان أقرب الناس شبهاً به. وقد مرّ وسيأتي أنّه قال: «من يقوى على عبادة عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) » ومآثره الطيّبة؟!
سند الحديث:
للحديث طريقان:
الأوّل: ما عن محمّد بن عليّ بن الحسين في «المجالس».
ورجاله كلّهم قد تقدّم ذكرهم، ماعدا:
محمّد بن قيس: وهو مشترك بين ستّة أشخاص. والظاهر: أنّه البجلي؛ بقرينة رواية عاصم عنه. قال النجاشي: «ثقة، عين، كوفي، روى عن أبي
ص: 251
جعفر وأبي عبد اللَّه (علیهما السلام) ، له كتاب القضايا المعروف، رواه عنه عاصم بن حميد الحنّاط، ويوسف بن عقيل وعبيد ابنه»((1)).
وروى عنه المشايخ الثقات، وورد في «التفسير»، و«نوادر الحكمة»((2)).
وعليه فهذا الطريق معتبر.
الثاني: ما رواه الطبرسي في «مجمع البيان» عن محمّد بن قيس.
قال الشيخ منتجب الدين في «فهرسته»: «الشيخ الإمام أمين الدين، أبو علي، الفضل بن الحسن بن الفضل، الطبرسي، ثقة، فاضل، ديّن، عين، له تصانيف منها: مجمع البيان في تفسير القرآن»((3)) .
والطبرسي له طريق إلى جميع كتب وروايات الشيخ، وكذلك الصدوق.يظهر ذلك من طريق صاحب «الوسائل» وغيره. ولهما طريق معتبر إلى جميع روايات وكتب محمّد بن قيس البجلي((4))، وعليه فهذا الطريق معتبر.
ص: 252
[210] 13 - وَفِي «الْعِلَلِ»، عَنْ عليّ بْنِ أَحْمَدَ، عَنْ محمّد بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْكُوفِيِّ، عَنْ محمّد بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْبَرْمَكِيِّ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْهَيْثَمِ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عليّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَأَلْتُ مَوْلاةً لِعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ (علیه السلام) بَعْدَ مَوْتِهِ، فَقُلْتُ: صِفِي لِي أُمُورَ عليّ بْنِ الْحُسَيْنِ، فَقَالَتْ: أُطْنِبُ أَوْ أَخْتَصِرُ؟ فَقُلْتُ: بَلِ اخْتَصِرِي، قَالَتْ: مَا أَتَيْتُهُ بِطَعَامٍ نَهَاراً قَطُّ، وَلا فَرَشْتُ لَهُ فِرَاشاً بِلَيْلٍ قَطُّ(1).
-----------------------------------------------------------------------------
[13] - فقه الحديث:
يدلّ الحديث على شدّة اجتهاد الإمام السجاد (علیه السلام) في العبادة، واستغراق أوقاته الشريفة فيها. ولا غرو؛ فقد لقّبه رسول اللَّه(صلی الله علیه و آله و سلم) بزين العابدين، واشتهر به بين المخالف والمؤالف.
سند الحديث:
عليّ بن أحمد بن محمّد بن موسى بن عمران الدقّاق ومحمد بن أبي عبدالله الكوفي ويسمَّى محمّد بن جعفر الأسدي ثقتان، كما تقدّم.
وأمّا محمّد بن إسماعيل البرمكي: فقد قال النجاشي فيه: «محمد بن
ص: 253
إسماعيل بن أحمد بن بشير، البرمكي، المعروف بصاحب الصومعة، أبو عبد اللَّه، سكن قم، وليس أصله منها، ذكر ذلك أبو العباس بن نوح، وكان ثقة، مستقيماً، له كتب، منها كتاب التوحيد»((1)).
وأمّا الحسين بن الهيثم: فلم يرد فيه شي ء.
وأمّا عبّاد بن يعقوب: فهو الرواجني، الأسدي، أبو سعيد، الكوفي. قال النجاشي فيه: «عبّاد، أبو سعيد، العُصْفُري، كوفي، كان أبو عبد اللَّه الحسين بن عبيد اللَّه رحمه اللَّه يقول: سمعت أصحابنا يقولون: إن عبّاداً هذا هو عباد بن يعقوب، وإنّما دلّسه أبو سمينة. أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمّد بن عمران، قال: حدّثنا محمّد بن همّام، قال: حدّثنا أبو جعفر محمّد بن أحمد بن خاقان النهدي، قال: حدّثنا أبو سمينة بكتاب عبّاد»((2)).
وظاهر كلام الشيخ: أنّه مغاير لعبّاد العصفري، الذي يكنّى أبا سعيد أيضاً؛ حيث إنّه ذكر كلاًّ منهما مستقلاًّ، متّصلاً أحدهما بالآخر، وذكر لكل منهما طريقاً.
قال الشيخ: «عبّاد بن يعقوب الرواجني، عاميّ المذهب، له كتاب أخبار المهدي (علیه السلام) ، وكتاب المعرفة في معرفة الصحابة، أخبرنا بهما أحمد بنعبدون، عن أبي بكر الدوري، عن أبي الفرج الأصفهاني عليّ بن الحسين الكاتب، وقال: حدّثنا عليّ بن عبّاس المقانعي، قال: حدّثنا عبّاد بن يعقوب،
ص: 254
عن مشيخته»((1)).
وقال في ترجمة عبّاد العصفري: «يكنّى أبا سعيد، له كتاب أخبرنا به جماعة، عن التلعكبري، عن ابن همام، عن محمّد بن خاقان النهدي، عن محمّد بن عليّ - يكنّى أبا سُمَيْنة - عنه»((2)) .
ولكن الظاهر اتّحادهما؛ لصريح قول النجاشي، عن الحسين بن عبيد اللَّه، عن أصحابنا حكاية: أنّ عبّاداً العُصْفُري هو عبّاد بن يعقوب، ولا يبعد أن يكون كلام النجاشي ناظراً إلى ما في «الفهرست»، واعتراضاً عليه في ذكره متعدّداً. وعلى أيّ حال، فلم يرد فيه توثيق، إلّا أنّه ورد في القسم الثاني من «التفسير»((3)). وعليه فهو ثقة على مبنى السيد الأُستاذ (قدس سره) .
ثمّ إنّ الشيخ ذكر: أنّه عامّي المذهب، إلّا أنّ جمعاً من العامّة قالوا: إنّه كان رافضيّاً، وصرّح بعضهم: بأنّه كان صدوقاً. قال الذهبي في «ميزانه»: «من غلاة الشيعة، ورؤوس البدع، لكنّه صادق الحديث»((4)).
وقال ابن حجر في «فتح الباري»: «عبّاد بن يعقوب، الرواجني ... رافضيّ مشهور، إلّا أنّه كان صدوقاً، وثّقه أبو حاتم»((5)) .
ص: 255
وقال أيضاً: «قال ابن إبراهيم بن أبي بكر بن أبي شيبة: لولا رجلان من الشيعة ما صحّ لهم حديث: عبّاد بن يعقوب، وإبراهيم بن محمّد بن ميمون»((1)).
وقال ابن حبّان فيه: «هو رافضي، داعية، ويروي المناكير عن مشاهير، فاستحقّ الترك»((2)).
فيظهر أنّ اتّهامهم إيّاه ليس إلّا من جهة تشيّعه، ورفضه، وروايته أحاديث في فضائل أهل البيت (علیهم السلام) ، ومثالب أعدائهم. فالحقّ أنه من الخاصة. قال المحدّث النوري: «وأمّا كتاب أبي سعيد عبّاد العصفري (رحمه الله) - وهو بعينه عبّاد بن يعقوب الرواجني - : ففيه تسعة عشر حديثاً، كلّها نقيّة، دالّة على تشيّعه، بل تعصّبه فيه، كالنصّ على الأئمّة الاثني عشر، وأنّ اللَّه خلقهم من نور عظمته، وأقامهم أشباحاً في ضياء نوره، يعبدونه قبل خلق الخلق((3))، وأنّهم أوتاد الأرض، فإذا ذهبوا ساخت الأرض بأهلها((4))، ومفاخرة أرضالكعبة وكربلا، وأنّ اللَّه أوحى إليها: أن كفّي وقرّي، فوعزّتي، ما فضل ما فُضّلتِ به، فيما أعطيت أرض كربلا، إلّا بمنزلة إبرة غمست في البحر، فحملت من ماء البحر، ولولا تربة كربلا ما فضّلت، ولولا ما تضمّنت أرض
ص: 256
[211] 14 - وَفِي «مَعَانِي الأَخْبَارِ»، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعَسْكَرِيِّ، عَنْ محمّد بْنِ أَحْمَدَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عِيسَى، عَنْ مُوسَى بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ محمّد، عَنْ آبَائِهِ (علیهم السلام) فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا}(1)، قَالَ: «لا تَنْسَ صِحَّتَكَ وَقُوَّتَكَ وَفَرَاغَكَ وَشَبَابَكَ وَنَشَاطَكَ أَنْ تَطْلُبَ بِهَا الآخِرَةَ»(2).
-----------------------------------------------------------------------------
كربلا ما خلقتك، ولا خلقت البيت الذي به افتخرت((3)) ، الخبر»((4)).
وأمّا الحسن بن عليّ بن أبي حمزة البطائني، فقد تقدّم هو وأبوه.
وعليه فهذا الحديث من جهة السند غير تام؛ فيكون مؤيّداً لسائر الأحاديث.[14] - فقه الحديث:
يدلّ الحديث على أنّه ينبغي للمؤمن أن يبادر إلى فعل الطاعات والقربات، وترك المنهيّات، مهما أمكن له ذلك، في حال صحّته قبل سقمه، وشبابه قبل هرمه، وفراغه قبل شغله، وحياته قبل موته؛ لأجل نيل الحياة
ص: 257
الأبديّة والنعمة الأخرويّة، وهذا هو نصيبه من الدنيا؛ حيث إنّ مجيئه إليها إنّما هو لأجل تحصيل الفضل والكمال والدرجات العالية،
فلابدّ من السعي إليها والجدّ فيها.
سند الحديث:
أمّا الحسن بن عبد اللَّه العسكري: فهو أبو أحمد الحسن بن عبد اللَّه بن سعيد، العسكري، من مشايخ الصدوق، روى عنه في «العلل» و«معاني الأخبار» و«الخصال» كثيراً، ولكنّه لم يترضَّ عنه، ولم يرد فيه توثيق.
وله ترجمة في رجال العامّة. قال الذهبي في «سير أعلام النبلاء»: «قال الحافظ أبو طاهر السلفي: كان أبو أحمد العسكري من الأئمّة المذكورين بالتصرّف في أنواع العلوم، والتبحّر في فنون الفهوم، ومن المشهورين بجودة التأليف وحسن التصنيف، ألّف كتاب «الحكم والأمثال»، وكتاب «التصحيف» وكتاب «راحة الأرواح» وكتاب «الزواجر والمواعظ». وعاش حتّى علا به السنّ، واشتهر في الآفاق. انتهت إليه رئاسة التحدّث والإملاء للآدابوالتدريس بقطر خوزستان، وكان يملي بالعسكر وبتستر ومدن ناحيته»((1)).
وفي «معجم المؤلّفين»: «الحسن بن عبد اللَّه بن سعيد، العسكري (أبو أحمد)، لغوي، أديب، أخباري، نحوي، محدّث. ولد لستّ عشر ليلة خلت من شوّال، وسمع ببغداد والبصرة وأصبهان وغيرها. وتوفّي لسبع خلون من ذي الحجّة. من تصانيفه الكثيرة: التصحيف، المصون في الأدب، الحكم
ص: 258
والأمثال، صناعة الشعر، والمختلف والمؤتلف»((1)).
وقال الحموي: «انتهت إليه رئاسة التحديث والإملاء للآداب والتدريس بقطر خوزستان....» وهو أُستاذ أبي هلال العسكري، وهو الذي تمنّى الصاحب رؤيته، فاعتذر بكبر السنّ، فسافر الصاحب إليه في عسكر مكرم((2)).
وأمّا محمّد بن أحمد: فهو محمّد بن أحمد بن حمدان، القشيري؛ بقرينة سائر الروايات، لم يرد فيه شي ء، وقال عنه العامّة: بأنّه كان يضع الحديث((3)).
وأمّا أحمد بن عيسى: فهو أبو الحريش، أحمد بن عيسى، الكلابي، الكوفي؛ بقرينة سائر الروايات، لم يرد فيه شي ء، وقد روى عنه العامّة كثيراًفي كتبهم((4)).
وأمّا موسى بن إسماعيل: فهو حفيد الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام) ، لم ترد فيه عبارة صريحة تدلّ على توثيقه ومدحه. ولكن يمكن استظهار وثاقته بما ذكره ابن الغضائري من أنّ سهل بن أحمد الديباجي ممّن يضع الحديث، ولا بأس بما رواه من «الأشعثيّات» وما يجري مجراها ممّا لا ينفرد به؛ حيث إنّ ابن الغضائري ممّن عرف بالقدح في الرجال ورميهم بالضعف
ص: 259
والوضع، ومع ذلك يقول: ولا بأس بما في «الأشعثيّات»، وفيه دلالة على ثبوت وثاقة موسى عنده؛ فإنّه لم يذكر طريقاً آخر غير طريق موسى بن إسماعيل، فنفي البأس عن الكتاب من ابن الغضائري توثيق ضمني لرواته.
وقال ابن طاووس في«الإقبال» في تعظيم شهر رمضان: وقد رأيت ورويت من كتاب «الجعفريّات»، وهي ألف حديث بإسناد واحد عظيم الشأن إلى مولانا موسى بن جعفر (علیه السلام) ((1)) ، وبناء على اعتبار توثيقات ابن طاووس يعدّ هذا التعبير منه توثيقاً لموسى بن إسماعيل.
هذا، مضافاً إلى قول المفيد (قدس سره) في آخر باب عدد أولاد أبي الحسن موسى (علیه السلام) : «ولكلّ واحد من ولد أبي الحسن موسى (علیه السلام) فضل ومنقبةمشهورة»((2))،
وهذا توثيق عام يمكن استفادة الحسن منه أو المدح على الأقل؛ بناءً على شمول الولد لأولاد الأولاد.
وأمّا إسماعيل بن الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام) : فالظاهر أنّه من الأجلاء؛ وذلك لأمور:
أوّلاً: أنّ الإمام أدخله في وصيّته وصدقته، كما روي ذلك في «الكافي» بسند صحيح((3)).
ثانياً: أنّ الكشّي أورد رواية مضمونها: أنّه لما توفّي صفوان بن يحيى،
ص: 260
[212] 15 - وَفِي «عُيُونِ الأَخْبَارِ»، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ زِيَادِ بْنِ جَعْفَرٍ الْهَمَدانِيِّ، عَنْ عليّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ السَّلامِ بْنِ صَالِحٍ الْهَرَوِيِّ - فِي حَدِيثٍ - : أَنَّ الرِّضَا (علیه السلام) (كَانَ رُبَّمَا يُصَلِّي)(1) فِي يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ أَلْفَ رَكْعَةٍ، وَإِنَّمَا يَنْفَتِلُ(2) مِنْ صَلاتِهِ سَاعَةً فِي صَدْرِ النَّهَارِ، وَقَبْلَ الزَّوَالِ، وَعِنْدَ اصْفِرَارِ الشَّمْسِ، فَهُوَ فِي هَذِهِ الأَوْقَاتِقَاعِدٌ فِي مُصَلَّاهُ، يُنَاجِي رَبَّهُ(3).
-----------------------------------------------------------------------------
أمره الإمام أبو جعفر الثاني (علیه السلام) بالصلاة عليه، وهو من أعمام الإمام الجواد (علیه السلام) ((4)).
ثالثاً: أنّ الشيخ المفيد ذكر: أنّه من أولاد الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام) ، ولكلّ واحد من أولاده فضل ومنقبة مشهورة((5)).
[15] - فقه الحديث:
يدلّ الخبر على أنّ أكثر وقت الإمام الرضا (علیه السلام) مستغرق في الصلاة،
ص: 261
وفعله (علیه السلام) حجة، وأدلة التأسّي تفيد رجحان ذلك. وعليه فقد دلّ الحديث على استحباب الجد والاجتهاد في العبادة.
وقوله: «وإنّما ينفتل من صلاته»، أي: ينصرف من الصلاة في هذه الأوقات. فيدل على كراهة الصلاة فيها، كما ورد في غيره من الأحاديث.
سند الحديث:
في السند أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني: كما في هذه الطبعة من«الوسائل». وكذا في نسخة «عيون أخبار الرضا»((1))
: «أحمد بن زياد» بدل «أحمد بن زيد» ، وهو الصحيح.
وهو من مشايخ الصدوق (قدس سره) ، وقد وثّقه صريحاً، وترضّى عنه في موارد كثيرة.
قال في «كمال الدين وتمام النعمة»: «لم أسمع هذا الحديث إلّا من أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني (رضی الله عنه) بهمدان، عند منصرفي من حجّ بيت اللَّه الحرام، وكان رجلاً ثقة ديّناً فاضلاً، رحمة اللَّه عليه ورضوانه»((2)). وقد روى عنه عليّ بن إبراهيم كثيراً.
وأمّا عبد السلام بن صالح الهروي: فهو أبو الصلت الهروي. قال النجاشي: «عبد السلام بن صالح، أبو الصلت الهروي، روى عن الرضا (علیه السلام) ،
ص: 262
ثقة، صحيح الحديث، له كتاب وفاة الرضا (علیه السلام) »((1)).
وقد عدّه الشيخ في باب الكنى من أصحاب الرضا (علیه السلام) ، قائلاً: «أبو الصلت، الخراساني، الهروي، عامي»((2)).
وقد ترجم له العامّة في كتبهم في الرجال والتراجم، وأثنوا عليه، ووثّقوه،ولم يضعّفه إلّا الشاذّ منهم، كالعقيلي والجعفي((3))،
ورموه بالتشيّع وحب آل البيت (علیهم السلام) .
والظاهر أنّه شيعي، بل كان مجاهراً بعقيدته أيضاً؛ ومن هنا تسالم علماء العامة على أنّه شيعي، وما ذكره الشيخ من أنّه عامي - على فرض صحّة نسخة «الرجال» - فهو من سهو قلمه الشريف، ولكن نسختا الميرزا والمولى القهبائي خاليتان عن ذكر ذلك.
وعليه فهذا الحديث معتبر.
ص: 263
[213] 16 - وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ نُعَيْمِ بْنِ شَاذَانَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ إِدْرِيسَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْعَبَّاسِ، عَنِ الرِّضَا (علیه السلام) - فِي حَدِيثٍ - : أَنَّهُ كَانَ (علیه السلام) قَلِيلَ النَّوْمِ بِاللَّيْلِ، كَثِيرَ السَّهَرِ، يُحْيِي أَكْثَرَ لَيَالِيهِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى الصُّبْحِ، وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ، فَلا يَفُوتُهُ صِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الشَّهْرِ، وَيَقُولُ: ذَلِكَ صَوْمُ الدَّهْرِ، وَكَانَ كَثِيرَ الْمَعْرُوفِ وَالصَّدَقَةِ فِي السِّرِّ، وَأَكْثَرُ ذَلِكَ يَكُونُ مِنْهُ فِي اللَّيَالِي الْمُظْلِمَةِ. فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ رَأَى مِثْلَهُ فِي فَضْلِهِ فَلا تُصَدِّقْهُ(1).
-----------------------------------------------------------------------------
[16] - فقه الحديث:
هذا الحديث يدل على شدّة اجتهاد الإمام الرضا (علیه السلام) في طاعة اللَّه، ومدى انقطاعه إليه وتمسّكه به، بحيث صرف عمره الشريف في العبادة ليلاً ونهاراً، وكان لا يفتر عنها ساعة. فينبغي لشيعته بقدر استطاعتهم التأسّي به والاقتداء بأفعاله (علیه السلام) ، والسير على نهجه. ودلالة الحديث على مطلوبية إحياء أكثر الليالي بالعبادة، وكثرة الصيام، وخصوص صيام ثلاثة أيام من كلّ شهر الذي هو بمثابة صوم الدهر، وأيضاً مطلوبية كثرة المعروف والصدقة في السر، كلّ ذلك للتأسي؛ ولعل كثرة صدور الصدقة من الإمام (علیه السلام) سرّاً في الليالي المظلمة، لأجل زيادة إخفاء هذه الطاعة؛ فإنالظلمة تمنع من التعرف عليه صلوات الله عليه.
ص: 264
سند الحديث:
في السند: جعفر بن نعيم بن شاذان: وهومن مشايخ الصدوق (قدس سره) ، وقد ترضّى عنه((1))،
فيكون ثقة.
وأمّا أحمد بن إدريس وإبراهيم بن هاشم، فقد تقدّمت ترجمتهما.
وأمّا إبراهيم بن العباس: فهو إبراهيم بن العباس بن محمّد بن صول تكين، الصولي، الشاعر المشهور، أبو إسحاق، أصله من خراسان، من ألمع شعراء عصره، بحيث قال عنه شاعر أهل البيت (علیهم السلام) دعبل الخزاعي: «لو تكسّب إبراهيم بن العباس بالشعر لتركنا في غير شي ء»((2)).
وترجم له العامّة أيضاً في كتبهم. قال عمر كحالة في «معجم المؤلّفين»: «إبراهيم بن العباس بن محمّد بن صول الصولي (أبو إسحاق)، أحد البلغاء والشعراء الفصحاء والكتّاب. مات بسامرا، كان إليه ديوان الرسائل في مدة جماعة من الخلفاء، وكان ظريفاً (نبيلاً). له من التصانيف: ديوان رسائله، ديوان شعره، كتاب الدولة، كتاب الطبيخ، وكتاب العطر»((3)) .
وقال الخطيب البغدادي: «إبراهيم بن العباس بن محمّد بن صول، مولى يزيد بن المهلّب، يكنّى أبا إسحاق الصولي، وأصله من خراسان، وكان كاتباً من أشعر الكتّاب، وأرقّهم لساناً، وأسيرهم قولاً، وله ديوان شعر
ص: 265
مشهور، وكان صول جد أبيه وفيروز أخوين تركيين ملكين بجرجان، يدينان بالمجوسيّة، فلمّا دخل يزيد بن المهلّب جرجان أمّنهما، فأسلم صول على يده، ولم يزل معه حتّى قتل يوم العقر، وقد روى إبراهيم بن العباس عن عليّ بن موسى الرضا»((1)) .
والظاهر أنّه شيعي؛ يظهر ذلك من رواياته في فضائل الإمام عليّ بن موسى الرضا (علیه السلام) ، ومناقب أهل البيت (علیهم السلام) . وقد اتّصل بالإمام الرضا (علیه السلام) اتّصالاً وثيقاً، بحيث كان من خواصّه وجلسائه، وقد مدحه في شعره((2)).
وروى الأصفهاني في «الأغاني» أيضاً مدحه للرضا (علیه السلام) ، وإهداء الإمام له عشرة آلاف من دراهمه، وجعل بعضها لمهور نسائه، وبعضها لكفنه وجهازه إلى قبره((3)).
ص: 266
[214] 17 - وَفِي «الْخِصَال»ِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ إِدْرِيسَ، عَنْ محمّد بْنِ أَحْمَدَ، عَنْ محمّد بْنِ عِيسَى، عَنْ أَبِي محمّد الأَنْصَارِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي الْمِقْدَامِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو جَعْفَرٍ (علیه السلام) : «يَا أَبَا الْمِقْدَامِ، إِنَّمَا شِيعَةُ عَلِيٍّ (علیه السلام) الشَّاحِبُونَ، النَّاحِلُونَ، الذَّابِلُونَ، ذَابِلَةٌ شِفَاهُهُمْ، خَمِيصَةٌ بُطُونُهُمْ، مُتَغَيِّرَةٌ أَلْوَانُهُمْ، مُصْفَرَّةٌ وُجُوهُهُمْ، إِذَا جَنَّهُمُ اللَّيْلُ اتَّخَذُوا الأَرْضَ فِرَاشاً، وَاسْتَقْبَلُوا الأَرْضَ بِجِبَاهِهِمْ، كَثِيرٌ سُجُودُهُمْ، كَثِيرَةٌ دُمُوعُهُمْ، كَثِيرٌ دُعَاؤُهُمْ، كَثِيرٌ بُكَاؤُهُمْ، يَفْرَحُ النَّاسُ وَهُمْ مَحْزُونُونَ»(1).
-----------------------------------------------------------------------------
[17] - فقه الحديث:
قد اتضح معنى الحديث ممّا مرّ في الحديث السادس، والحصر في المقام يدل على أنّ المراد أعلى مراتب الشيعة، فإنهم متّصفون بهذه الأوصاف الدالة على معاناتهم الجهد والمشقة في عبادة اللَّه تعالى.
سند الحديث:
في السند: محمّد بن أحمد: والظاهر أنّه محمّد بن أحمد بن يحيى الأشعري؛ لأنّه هو الذي يروي عنه أحمد بن إدريس كثيراً، وقد ورد في طريقه في مشيخة «الفقيه»((2)) و«التهذيب»((3)) ولا يراد به محمّد بن أحمد بن
ص: 267
عبداللَّه الرازي؛ لأنّه قليل الرواية عنه، بل لم يرو عنه في شي ء من الكتب الأربعة. وعلى هذا فالذي يروي عنه أحمد بن إدريس غالباً هو محمّد بن أحمد بن يحيى الأشعري الثقة.
وأمّا أبو محمّد الأنصاري: فهو عبد اللَّه بن إبراهيم بن أبي عمر الأنصاري. قال الصدوق عنه في «معاني الأخبار»: «وكان خيّراً»((1))، وهو من ألفاظ الحسن، بل يمكن جعله من أسباب التوثيق.
وأمّا عمرو بن أبي المقدام: فقد تقدّم أنّه ثقة.
وأمّا أبوه: فهو ثابت بن هرمز الفارسي، أبو المقدام العجلي، ولم يوثّق في كتب الرجال، بل روى الكشّي رواية معتبرة في ذمّه عن عليّ بن الحسن، قال: حدّثني العباس بن عامر وجعفر بن محمد، عن أبان بن عثمان، عن أبي بصير، قال: سمعت أبا جعفر (علیه السلام) يقول: «إنّ الحكم بن عُيَيْنة وسلمة وكثيراً وأبا المقدام والتمّار - يعني سالماً - أضلّوا كثيراً ممّن ضلّ من هؤلاء، وإنّهم ممّن قال اللَّه عزّوجلّ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبالْيَوْمِ الآخِر وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِين}»((2)) .
إلّا أنّه ورد في أسناد «تفسير القمي»((3)) ، فيمكن الجمع بأن يقال: إنّه ثقة في حديثه، ضعيف في مذهبه. وعليه فهذا الحديث معتبر السند.
ص: 268
[215] 18 - محمّد بْنُ محمّد بْنِ النُّعْمَانِ الْمُفِيدُ فِي «الإِرْشَادِ»، عَنْ سَعِيدِ بْنِ كُلْثُومٍ، عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ (علیه السلام) ، قَالَ: «وَاللَّهِ مَا أَكَلَ عليّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام) مِنَ الدُّنْيَا حَرَاماً قَطُّ، حتّى مَضَى لِسَبِيلِهِ، وَمَا عُرِضَ لَهُ أَمْرَانِ (كِلاهُمَا)(1) للَّهِ رِضًا إِلَّا أَخَذَ بِأَشَدِّهِمَا عَلَيْهِ فِي دِينِهِ(2)، وَمَا نَزَلَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله و سلم) نَازِلَةٌ قَطُّ إِلَّا دَعَاهُ ثِقَةً بِهِ، وَمَا أَطَاقَ (أَحَدٌ)(3) عَمَلَ رَسُولِ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله و سلم) مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ غَيْرُهُ وَإِنْ كَانَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ رَجُلٍ، كَانَ وَجْهُهُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، يَرْجُو ثَوَابَ هَذِهِ، وَيَخَافُ عِقَابَ هَذِهِ. وَلَقَدْ أَعْتَقَ مِنْ مَالِهِ أَلْفَ مَمْلُوكٍ فِي طَلَبِ وَجْهِ اللَّهِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ، ممّا كَدَّ بِيَدَيْهِ، وَرَشَحَ مِنْهُ جَبِينُهُ. وَإِنْ كَانَ لَيَقُوتُ أَهْلَهُ بِالزَّيْتِ وَالْخَلِّ وَالْعَجْوَةِ(4)، وَمَا كَانَ لِبَاسُهُ إِلَّا
-----------------------------------------------------------------------------
[18] - فقه الحديث:
الحديث كالأحاديث السابقة في وضوح الدلالة. والعجوة: نوع من التمر، يقال: هو ما غرسه النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) بيده. والجلم - بالتحريك - : ما يجز به الشعروالصوف كالمقراض.
ص: 269
الْكَرَابِيسَ(1)1*)، إِذَا فَضَلَ شَيْ ءٌ عَنْ يَدِهِ دَعَا بِالْجَلَمِ(2)2*) فَقَطَعَهُ. وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ وُلْدِهِ وَلا أَهْلِ بَيْتِهِ أَحَدٌ أَقْرَبُ شَبَهاً بِهِ فِي لِبَاسِهِ وَفِقْهِهِ مِنْ عليّ بْنِ الْحُسَيْنِ (علیه السلام) ، وَلَقَدْ دَخَلَ أَبُو جَعْفَرٍ (علیه السلام) ابْنُهُ عَلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ بَلَغَ مِنَ الْعِبَادَةِ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ أَحَدٌ، فَرَآهُ قَدِ اصْفَرَّ لَوْنُهُ وَوَرِمَتْ سَاقَاهُ وَقَدَمَاهُ مِنَ الْقِيَامِ فِي الصَّلاةِ، وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (علیه السلام) : فَلَمْ أَمْلِكْ - حِينَ رَأَيْتُهُ بِتِلْكَ الْحَالِ - الْبُكَاءَ، فَبَكَيْتُ؛ رَحْمَةً لَهُ، فَإِذَا هُوَ يُفَكِّرُ. فَالْتَفَتَ إِلَيَّ بَعْدَ هُنَيْهَةٍ مِنْ دُخُولِي، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، أَعْطِنِي بَعْضَ تِلْكَ الصُّحُفِ الَّتِي فِيهَا عِبَادَةُ عليّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام) ، فَأَعْطَيْتُهُ، فَقَرَأَ فِيهَا شَيْئاً يَسِيراً، ثمّ تَرَكَهَا مِنْ يَدِهِ؛ تَضَجُّراً، وَقَالَ: مَنْ يَقْوَى عَلَى عِبَادَةِ عليّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام) !»(3)3*).
-----------------------------------------------------------------------------
سند الحديث:
طريق الشيخ المفيد (قدس سره) إلى سعيد بن كلثوم بهذا النحو: أخبرني أبومحمّد الحسن بن محمّد بن يحيى، قال: حدثني جدي، قال: حدثني أبو محمّد الأنصاري، قال: حدثني محمد بن ميمون البزّاز، قال: حدثنا الحسين
ص: 270
بن علوان، عن أبي عليّ زياد بن رستم، عن سعيد بن كلثوم، قال: كنت عند الصادق جعفر بن محمد (علیه السلام) ((1)).
وفيه ممّن لم يتقدم سابقاً:
أبو محمّد الحسن بن محمد: الذي قال عنه النجاشي: الحسن بن محمّد بن يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبيدالله بن الحسين بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (علیهم السلام) ، أبو محمّد المعروف بابن أخي طاهر. روى عن جده يحيى بن الحسن وغيره، وروى عن المجاهيل أحاديث منكرة. رأيت أصحابنا يضعفونه((2)).
وهو من مشايخ الصدوق، وكثيراً ما يروى عنه مترضياً((3)).
وعليه فيمكن الجمع بين التضعيف والتوثيق بكون التضعيف راجعاً إلى نقله عن المجاهيل، وهذا لا يمنع أن يكون ثقة في نفسه.
وفيه أَيضاً: يحيى جد الحسن: وقد ذكره النجاشي بقوله: يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبيد الله بن الحسين بن عليّ بن الحسين بن عليّ بنأبي طالب (علیهم السلام) ، أبو الحسين العالم الفاضل الصدوق، روى عن الرضا (علیه السلام) ((4))، وترجم له الشيخ في باب «من لم يرو عن واحد عن الأئمّة من الرجال» بقوله: يحيى بن الحسن العلوي، له كتاب نسب آل أبي طالب.
ص: 271
[216] 19 - وَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام) ، قَالَ: «كَانَ عليّ بْنُ الْحُسَيْنِ (علیه السلام) يُصَلِّي فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ أَلْفَ رَكْعَةٍ، وَكَانَتِ الرِّيحُ تُمِيلُهُ مِثْلَ السُّنْبُلَةِ»(1).
-----------------------------------------------------------------------------
روى ابن أخي طاهر عنه((2)).
ولم نجد روايته عن الإمام الرضا (علیه السلام) في أسناد الكتب الأربعة، بل في غيرها أيضاً.
وفيه أَيضاً: أَبو عليّ زياد بن رستم: ويحتمل اتحاده مع زياد بن رستم بن الدوالدون بياع الأدم، أبو معاذ الخزار الكوفي الذي ذكره الشيخ في «رجاله» في أصحاب الصادق (علیه السلام) ((3)).
وفيه أيضاً: سعيد بن كلثوم: لم يرد فيه قدح ولا مدح في كتب الرجال.
وعليه فيبقى هذا الحديث غير معتبر من جهة السند، فيكون مؤيّداً لسائر الأحاديث.
[19] - فقه الحديث وسنده:
قد مرّ ما في هذا الحديث متناً((4)). وأما سنداً فهو مرسل؛ لجهالة الواسطة بين الشيخ المفيد وبين عمرو بن شمر. وتقدمت ترجمة عمرو بن شمر وجابر بن يزيد الجعفي.
ص: 272
[217] 20 - محمّد بْنُ الْحُسَيْنِ الْمُوسَوِيُّ الرَّضِيُّ فِي «نَهْجِ الْبَلاغَةِ»، عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (علیه السلام) فِي خُطْبَةٍ لَهُ، قَالَ: «وَعَلَيْكُمْ بِالْجِدِّ وَالاجْتِهَادِ وَالتَّأَهُّبِ وَالاسْتِعْدَادِ وَالتَّزَوُّدِ فِي مَنْزِلِ الزَّادِ»(1)1*).
-----------------------------------------------------------------------------
[20] - فقه الحديث:
حثّ (علیه السلام) على الجد والاجتهاد، ولم يذكر متعلقها، ولكن من الواضح من هذه الخطبة: أنّ المراد الجد في العمل والاجتهاد فيه، والتأهب والاستعداد للموت وما بعده من مراحل لابدّ لكل إنسان من أن يطويها، وإنما يكون التأهب لتلك المراحل بالعمل الصالح والعبادة النافعة، ولذا عقّبه (علیه السلام) بقوله: «والتزود»، أي: التزود بالتقوى والعمل الصالح في منزل الزاد، يعني الدنيا، فهي المنزل الذي ينزل فيه الإنسان وهو في طريق السفر إلى الآخرة. وإضافة المنزل إلى الزاد لإفادة أن هذا المنزل ينحصر فيتحصيل زاد الآخرة فيه. ثمّ إنه لعلّ الفرق بين الجدّ والاجتهاد: «أنّ الأول صفة للعزم والنية، والثاني للعمل»، ونظيره الفرق بين التأهب والاستعداد، «فالتأهب للعزم، والاستعداد للعمل»((2)).
سند الحديث:
الحديث محكوم بالإرسال.
ص: 273
[218] 21 - الْحَسَنُ بْنُ محمّد الطُّوسِيُّ فِي «الأَمَالِي»، قَالَ: رُوِيَ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (علیه السلام) خَرَجَ ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنَ الْمَسْجِدِ - وَكَانَتْ لَيْلَةً قَمْرَاءَ - فَأَمَّ الْجَبَّانَةَ(1)، وَلَحِقَهُ جَمَاعَةٌ يَقْفُونَ أَثَرَهُ، فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ، ثمّ قَالَ: «مَنْ أَنْتُمْ؟» قَالُوا: شِيعَتُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَتَفَرَّسَ فِي وُجُوهِهِمْ، ثمّ قَالَ: «فَمَا لِي لا أَرَى عَلَيْكُمْ سِيمَاءَ الشِّيعَةِ»!؟ قَالُوا: وَمَا سِيمَاءُ الشِّيعَةِ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: «صُفْرُ الْوُجُوهِ مِنَ السَّهَرِ، عُمْشُ(2) الْعُيُونِ مِنَ الْبُكَاءِ، حُدْبُ الظُّهُورِ مِنَ الْقِيَام،ِ خُمُصُ الْبُطُونِ مِنَالصِّيَامِ، ذُبُلُ الشِّفَاهِ مِنَ الدُّعَاءِ، عَلَيْهِمْ غَبَرَةُ الْخَاشِعِينَ»(3).
-----------------------------------------------------------------------------
[21] - فقه الحديث:
دلالة الحديث واضحة.
أمّا قوله (علیه السلام) : «عليهم غبرة الخاشعين»، فالغبرة - بالتحريك - : الغبار بضم الغين، وهو العجاج والكدورة، وفي بعض النسخ بالعين المهملة، أي: بكاؤهم، وفي بعضها بالمعجمة، أي: ذلّهم وشعثهم، وفي «القاموس»: الغبراء: من السنين الجدبة، وبنو غبراء الفقراء، والمغبرة قوم يغبرون بذكر
ص: 274
[219] 22 - وَعَنْ أَبِيهِ، عَنْ هِلالِ بْنِ محمّد الْحَفَّارِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ عليّ الدِّعْبِلِيِّ، عَنْ عليّ بْنِ عليّ أَخِي دِعْبِلِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنِ الرِّضَا، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیهم السلام) أَنَّهُ قَالَ لِخَيْثَمَةَ: «أَبْلِغْ شِيعَتَنَا: أَنَّا لا نُغْنِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، وَأَبْلِغْ شِيعَتَنَا: أَنَّهُ لا يُنَالُ مَا عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا بِالْعَمَلِ، وَأَبْلِغْ شِيعَتَنَا: أَنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ وَصَفَ عَدْلاً ثمّ خَالَفَهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَأَبْلِغْ شِيعَتَنَا: أَنَّهُمْ إِذَا قَامُوا بِمَا أُمِرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(1).
-----------------------------------------------------------------------------اللَّه، أي: يهلّلون ويردّدون الصوت بالقراءة وغيرها، سمّوا بها؛ لأنّهم يرغّبون الناس في الغابرة، أي: الباقية((2)) .
سند الحديث:
هذا الحديث مرسل، وهو مؤيّد لبقية الأحاديث.
[22] - فقه الحديث:
في هذا الحديث إبلاغات أربعة: أحدها - وهو محلّ الشاهد - قوله (علیه السلام) : «وأبلغ شيعتنا: أنّه لا ينال ما عند اللَّه إلّا بالعمل»، ولا يخفى ما فيه من الحثّ على العمل، وعدم الاتّكال على مجرّد الاعتقاد بإمامة الأئمة (علیهم السلام) .
ص: 275
أَقُولُ: وَالأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدّاً، وَقَدْ تقدّم بَعْضُهَا(1)1*)، وَيَأْتِي جُمْلَةٌ أُخْرَى مِنْهَا مُتَفَرِّقَةً(2)2*).
-----------------------------------------------------------------------------
وفيه مدح للشيعة العاملين، وتعريض بغير الشيعة؛ حيث أثبت لهمالحسرة، وأنّهم أعظم الناس حسرة يوم القيامة.
سند الحديث:
في السند: هلال بن محمّد الحفّار: وهو أبو الفتح، هلال بن محمّد بن جعفر بن سعدان، الحفار، من مشايخ الشيخ الطوسي، يروي عنه الشيخ في «أماليه» أحاديث في فضل أهل البيت (علیهم السلام) ، وقد ترجم له العامة، فقال تلميذه الخطيب البغدادي: «كتبنا عنه، وكان صدوقاً»((3)).
وقال الذهبي في «سير أعلام النبلاء»: «الشيخ الصدوق، مسند بغداد، أبو الفتح، هلال بن محمّد بن جعفر بن سعدان بن عبدالرحمن بن ماهويه بن مهيار بن المرزبان»((4)).
ص: 276
ويطلق هلال بن محمّد الحفّار على: هلال بن محمّد بن جعفر بن زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (علیهم السلام) الحفار، ذكره في «الرياض» وقال: عالم عظيم القدر والشأن وهو من أجلاء هذه الطائفة الحقّة الإمامية، وكان من مشايخ الشيخ الطوسي((1)).
وكذلك ذكره العلامة المجلسي((2)) والسيد بحر العلوم((3))
(رحمه الله) وغيرهما((4))،
وقد نقل عن كلّ منهما «المسندللإمام الرضا (علیه السلام) » و«الأمالي»((5)).
وأمّا إسماعيل بن عليّ الدعبلي: فقد قال النجاشي فيه: «إسماعيل بن عليّ بن عليّ بن رزين بن عثمان بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن بُدَيْل بن ورقاء، الخزاعي، ابن أخي دِعْبِل، كان بواسط مقامه، وولي الحسبة بها، وكان مختلطاً، يعرف منه وينكر، له كتاب تاريخ الأئمة، وكتاب النكاح»((6)).
وقال الشيخ : «وكان مختلط الأمر في الحديث، يعرف منه وينكر...» ((7)).
وعن ابن الغضائري: «كان كذّاباً وضّاعاً، لا يلتفت إلى ما رواه عن أبيه عن الرضا (علیه السلام) ، ولا غير ذلك، ولا ما صنّف»((8)). وعليه فيكون ضعيفاً.
ص: 277
وأمّا عليّ بن عليّ أخو دعبل بن علي: فلم يرد فيه توثيق ولا مدح. قال النجاشي: «علي بن عليّ بن رزين بن عثمان بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن بُدَيْل بن ورقاء الخزاعي، أبو الحسن، أخو دعبل بن علي. ما عرفحديثه إلّا من قبل ابنه إسماعيل، له كتاب كبير عن الرضا (علیه السلام) »((1)) .
وعليه فهذا الحديث وإن كان من حيث السند ضعيفاً؛ لاشتماله على عدّة مجاهيل، إلّا أنّ مضمونه صحيح، موافق للأحاديث المعتبرة، فيكون مؤيّداً لها.
والحاصل: أنّ في هذا الباب اثنان وعشرون حديثاً، اثنا عشر منها معتبرة، وعشرة ضعاف.
ويستفاد منها أمور، وهي:
1 - الحثّ على الجدّ والاجتهاد في العبادة.
2 - أنّ أقصى مراتب الجدّ والاجتهاد كان من نصيب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) ، ومن بعده حفيده الإمام زين العابدين (علیه السلام) .
3 - أنّ الجدّ والاجتهاد من صفات أصحاب الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم).
4 - أنّ الجدّ والاجتهاد من سيماء الشيعة وخصالهم.
5 - أنّه لا تنال الولاية إلّا به.
6 - أنّ الجد والاجتهاد سبب للفوز في يوم القيامة.
ص: 278
-----------------------------------------------------------------------------
21 - باب استحباب استواء العمل، والمداومة عليه،
وأقلّه سنة
شرح الباب:
هذا الباب فيه تحريض وترغيب للمؤمنين في المواظبة والمداومة على العمل القليل الذي تدوم الطاعة والعبادة به؛ لأنّ القليل الدائم خير من الكثير المنقطع، كما قال أمير المؤمنين (علیه السلام) : «قليل مدوم عليه خير من كثير مملول منه»((1)). والمراد بالعمل هو العمل المندوب، كالنوافل والأدعية وسائر المستحبات، بقرينة جواز التحوّل، كما سيأتي في أحاديث الباب.
وأمّا الفرائض فتجب المداومة عليها على الوجه المأمور به شرعاً، ولا يجوز تركها. ثمّ إنّ أقلّ المداومة على العمل سنة، ثمّ بعدها يتحوّل إلى غيره من الطاعات إن شاء.
الظاهر أنّ الحكم مورد اتّفاق بين الفريقين:
ص: 279
أمّا الخاصة: فيظهر ذلك من أحاديث الباب نفسها وغيرها.
وأمّا العامة: فقد قال في «فتح الباري»: «قوله والمداومة على العمل، أي: الصالح، ذكر فيه ثمانية أحاديث أكثرها مكرّر، وفي بعضها زيادة على بعض، ومحصّل ما اشتملت عليه الحثّ على مداومة العمل الصالح وإن قلّ»((1)) .
وقال في «تحفة الأحوذي»: «وفي الحديث أنّ العمل القليل مع المداومة والمواظبة خير من العمل الكثير مع ترك المراعاة والمحافظة»((2)).
ويظهر ذلك أيضاً من رواياتهم، فقد روى أحمد والنسائي عن أمّ سلمة، أنّها قالت: ما مات رسول اللَّه(صلی الله علیه و آله و سلم) حتّى كان أكثر صلاته قاعداً، إلّا المكتوبة، وكان أحبّ العمل إليه أدومه، وإن قلّ ((3)).
ص: 280
[220] 1 - محمّد بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِي عليّ الأَشْعَرِيِّ، عَنْ عِيسَى ابْنِ أَيُّوبَ، عَنْ عليّ بْنِ مَهْزِيَارَ، عَنْ فَضَالَةَ بْنِ أَيُّوبَ، عَنِ الْعَلاءِ، عَنْ محمّد بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام) ، قَالَ: «كَانَ عليّ بْنُ الْحُسَيْنِ (علیه السلام) يَقُولُ: إِنِّي لأُحِبُّ أَنْ أَقْدمَ عَلَى رَبِّي وَعَمَلِي مُسْتَوٍ»(1).
-----------------------------------------------------------------------------
[1] - فقه الحديث:
في هذا الحديث تحريض وحثّ على مراقبة ومحاسبة المؤمن نفسه، بحيث يكون عمله مستوياً من حيث الكمّيّة والكيفيّة، والزيادة والنقصان، وأن لا يكون بعضه أضعف من بعض. ويمكن أن يكون المراد: الاستواء في الترقّي، فيكون فيه حثّ على الإكثار والزيادة من الخير؛ ليكون يومه أفضل من أمسه؛ لما روي من أنّ «من تساوى يوماه فهو مغبون»((2)).
والحديث يدلّ على استحباب استواء العمل، ولازمه المداومة عليه.
سند الحديث:
رواة الحديث كلّهم ثقات أجلّاء، قد تقدّم ذكرهم، ما عدا:
عيسى بن أيوب: وهو أبو محمد، عيسى بن محمّد بن أيّوب الأشعري،لم يرد فيه مدح أو ذمّ، وقد وقع في طريق الشيخ في «الفهرست» إلى كتاب
ص: 281
[221] 2 - وَبِالإِسْنَادِ، عَنْ فَضَالَةَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) ، قَالَ: «كَانَ عليّ بْنُ الْحُسَيْنِ (علیه السلام) يَقُولُ: إِنِّي لأُحِبُّ أَنْ أُدَاوِمَ عَلَى الْعَمَلِ، وَإِنْ قَلَّ»(1).
-----------------------------------------------------------------------------
عليّ بن حديد((2)).
وعليه فهذا الحديث من حيث السند غير تام؛ لعدم وثاقة عيسى بن أيوب.
إلّا أنّه يمكن تصحيح السند بوجوه أخرى:
الأوّل: أنّ لابن إدريس أبي عليّ الأشعري طريقاً صحيحاً آخر إلى جميع كتب عليّ بن مهزيار، لا يمرّ بعيسى بن أيّوب((3)).
الثاني: أنّ كتب عليّ بن مهزيار مشهورة، كما يظهر من النجاشي والصدوق((4))، ومعه فلا حاجة إلى الطريق.
الثالث: أنّ كتاب العلاء بن رزين قد رواه جماعة((5))، ومعناه: أنّ كتابه معروف ومشهور، فلا يحتاج إلى طريق. وعليه فيكون معتبراً.
[2] - فقه الحديث:
يدلّ الحديث على أنّ العمل الدائم - وإن قلّ - أحسن من العمل الكثير
ص: 282
[222] 3 - وَبِالإِسْنَادِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ نَجِيَّةَ(1)1*)، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام) ، قَالَ: «مَا مِنْ شَيْ ءٍ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ عَمَلٍ يُدَاوَمُ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَلَّ»(2)2*).
-----------------------------------------------------------------------------
الذي يترك. فهذا الحديث دلالته واضحة على محبوبية المداومة على العمل.
سند الحديث:
السند إلى فضالة متّحد مع السند المتقدّم. وهذا السند وإن وقع فيه عيسى بن أيّوب غير الموثّق، إلّا أنّه يمكن تصحيحه بالوجهين الأوّلين المتقدّمين.
[3] - فقه الحديث:
قد اتّضحت دلالة الحديث ممّا مرّ، بل هو أوضح ممّا قبله.
سند الحديث:
في السند: نجيّة: كما في «الوسائل». وفي «جامع أحاديث الشيعة»((3)) ، و«المرآة»((4)): نجبة.
ص: 283
ونجيّة: مشترك بين ثلاثة أشخاص:
أحدهم: نجيّة بن إسحاق: وهو لم يرد فيه توثيق. نعم، روى الصدوق عن أبيه، قال: حدّثنا عليّ بن إبراهيم، عن محمّد بن عيسى، قال: حدّثنا محمّد بن زياد مولى بني هاشم، قال: حدّثنا شيخ لنا ثقة يقال له: نجيّة بن إسحاق الفزاري، قال: حدّثنا عبد اللَّه بن الحسن، قال: قال لي أبو الحسن: «لم سمّيت فاطمة فاطمة.. الخ»((1)). ولم يرد اسمه إلّا في هذه الرواية، ولا يستفاد منه التوثيق؛ لأنّ احتمال كون المراد من محمّد بن زياد مولى بني هاشم هو: ابن أبي عمير، في غاية البعد؛ لأنّه غير معروف بهذا، على ما يظهر ممّا ذكره النجاشي، بل إنّ النجاشي((2)) وغيره((3)) وصفوه بأنّه: من موالي المهلّب، أو بني أميّة.
وعليه فالظاهر: أنّ المراد به هو أبو عبد اللَّه محمّد بن زياد الكوفي، المعروف بابن الأعرابي، مولى بني هاشم، الذي كان أحد العلماء باللغة، والمشهورين بمعرفتها، وكان يحضر مجلسه جمع كثير، وأخذ عن أبي معاوية الضرير والقاسم بن معن، وأخذ عنه أبو العبّاس ثعلب وابن السكّيت وإبراهيم الحربي وغيرهم، ومن تصانيفه «النوادر» و «الالفاظ»، ولد سنة
ص: 284
150 ه- ، ومات سنة 231 ه-((1)).
الثاني: نجيّة بن الحارث العطّار: لم يذكر بمدح ولا قدح، إلّا أنّه روى عنه المشايخ الثقات((2))،
فيكون ثقة.
الثالث: نجيّة بن الحارث القوّاس: قال الكشّي: «قال حمدويه: قال محمّد بن عيسى: نجيّة بن الحارث شيخ صادق، كوفي، صديق عليّ بن يقطين»((3)) .
والظاهر: أنّ نجيّة ينصرف إلى نجيّة بن الحارث العطّار متى ما أطلق؛ لاشتهاره وكثرة أخباره، وبهذا تثبت وثاقته. وعليه فالكلام في هذا السند كالكلام في سابقيه.
ص: 285
[223] 4 - وَعَنْ عليّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنِ الْحَلَبِيِّ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) : «إِذَا كَانَ الرَّجُلُ عَلَى عَمَلٍ فَلْيَدُمْ عَلَيْهِ سَنَةً، ثمّ يَتَحَوَّلُ عَنْهُ إِنْ شَاءَ إِلَى غَيْرِهِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ يَكُونُ فِيهَا فِي عَامِهِ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ»(1).
-----------------------------------------------------------------------------
[4] - فقه الحديث:
يدل الحديث على محبوبيّة المداومة على العمل، وأقلّه سنة؛ فإنّه وإن لم تجرِ قاعدة الإطلاق والتقييد في المندوبات، ولكن يمكن أن يجعل هذا الحديث قرينة على أنّ أقلّ المداومة سنة؛ لما ورد فيها من التعليل. مضافاً إلى ما يأتي في الحديث السادس؛ والوجه في ذلك مصادفة ليلة القدر، التي فيها ما شاء اللَّه من الثواب العظيم والأجر الجزيل، فيكون ثواب العمل مضاعفاً، أو صيرورة تلك المصادفة سبباً لتقدير الأمور العظيمة والبركات الكثيرة له. وقوله (علیه السلام) : «ثم يتحوّل عنه إن شاء إلى غيره» دليل على أنّ أحاديث الباب مختصّة بالمندوبات؛ بقرينة التحوّل عنها إلى غيرها من الطاعات.
سند الحديث:
رواة الحديث كلّهم ثقات أجلّاء، قد تقدّم ذكرهم.
ص: 286
وعليه فسند هذا الحديث معتبر.[224] 5 - وَعَنْهُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى، عَنْ حَرِيزٍ، عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام) ، قَالَ: قَالَ: «أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا دَاوَمَ(1) الْعَبْدُ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَلَّ»(2).
وَرَوَاهُ ابْنُ إِدْرِيسَ فِي آخِرِ «السَّرَائِرِ»، نَقْلاً مِنْ كِتَابِ حَرِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، مِثْلَهُ(3).
-----------------------------------------------------------------------------
[5] - فقه الحديث:
اتّضح فقه الحديث ممّا تقدّم.
سند الحديث:
للحديث طريقان:
الأوّل: ما رواه محمّد بن يعقوب.
وهذا الطريق رجاله كلّهم ثقات أجلّاء، قد تقدّم ذكرهم.
الثاني: ما رواه ابن إدريس في آخر «السرائر» نقلاً من كتاب حريز بن عبداللَّه، عن زرارة.
ص: 287
[225] 6 - وَعَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ محمّد بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) : «إِيَّاكَ أَنْ تَفْرِضَ عَلَى نَفْسِكَ فَرِيضَةً، فَتُفَارِقَهَا اثْنَيْ عَشَرَ هِلالاً»(1).
-----------------------------------------------------------------------------
وكتاب «السرائر» من الكتب المعتمدة عند أصحابنا، ويوجد في خاتمته مجموعة من الروايات، قد ألحقها مصنّفه في آخره، وقد وقع الكلام في هذه الروايات؛ لأنّها بالنظرة البدويّة تكون مرسلة؛ وذلك لأنّ ابن إدريس لم يذكر الطريق إلى صاحب الكتاب الذي ينقل عنه. وقد ذكرنا في مباحثنا الرجاليّة((2)):
إمكان تصحيح هذه الروايات، واستظهار طريق لابن إدريس إلى هذه الكتب. والطريق هنا إلى كتاب حريز وإن لم يذكره ابن إدريس، إلّا أنّ طريق الشيخ صحيح إلى كتاب حريز بن عبد اللَّه، وحيث إنّ لابن إدريس طريقاً صحيحاً إلى جميع روايات الشيخ وكتبه، فيكون طريق الشيخ إلى كتاب حريز طريقاً لابن إدريس، وبهذا يكون السند معتبراً أيضاً.
وعليه فهذا الحديث واضح الدلالة، كما أنّه معتبر بكلا طريقيه.
[6] - فقه الحديث:
يستفاد من الحديث: أنّ المكلّف ينبغي له أن لا يفرض شيئاً على نفسه
ص: 288
من الطاعات، ثمّ يفارقه ويتركه قبل السنة. فهذا الحديث يدل على استحباب المداومة على العبادة والاعتياد عليها، وأقلّها سنة كاملة. والظاهر من قوله (علیه السلام) : «إيّاك أن تفرض» : أنّ المراد: لا يلزم على نفسه إتيان شي ء من المندوبات، وإلّا فالفرائض مفروضة عليه من اللَّه سبحانه وتعالى، كما أنها ليست مقيّدة بسنة واحدة.
سند الحديث:
رواة الحديث كلّهم ثقات أجلّاء، قد تقدّم ذكرهم ماعدا:
عبد الكريم بن عمرو: وهو عبد الكريم بن عمرو بن صالح الخثعمي. قال النجاشي: وقف على أبي الحسن (علیه السلام) ، كان ثقة، ثقة، عيناً، يلقب كرّاماً، له كتاب يرويه عدّة من أصحابنا ((1)).
وقال الشيخ: من أصحاب الكاظم (علیه السلام) ، واقفي، خبيث ((2)).
وقال المفيد في حقّه: إنّه من الفقهاء الأعلام، الرؤساء المأخوذ منهم الحلال والحرام والفتيا والأحكام، الذين لا يطعن عليهم، ولا طريق لذمّواحد منهم((3)).
وروى عنه المشايخ الثقات((4)). وعليه فلا إشكال في وثاقته، وإن كان
ص: 289
[226] 7 - وَعَنْ عليّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّوْفَلِيِّ، عَنِ السَّكُونِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله و سلم): مَا أَقْبَحَ الْفَقْرَ بَعْدَ الْغِنَى، وَأَقْبَحَ الْخَطِيئَةَ بَعْدَ الْمَسْكَنَةِ. وَأَقْبَحُ مِنْ ذَلِكَ الْعَابِدُ للَّهِ، ثمّ يَدَعُ عِبَادَتَهُ»(1).
أَقُولُ: وَيَأْتِي مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ(2).
-----------------------------------------------------------------------------
واقفياً، خبيثاً.
والسند موثق حينئذٍ.
[7] - فقه الحديث:
يدل الحديث على أنّ الفقر الذي يكون من فعل العبد واختيارهبالإسراف والتبذير بعد الغنى قبيح، أو أن الفقر نفسه - وإن لم يكن بفعله - عند الناس قبيح، وكذلك الخطيئة بعد المسكنة، فإنَّ الخطيئة والمعصية مع شدّة الفقر موجبة لخسران الدنيا والآخرة، مع أنّ الإقبال على الواجبات والأعمال الصالحة ربّما يوجب خلاصه من المسكنة. وأقبح من ذلك - أي:
ص: 290
من الأخير، أو من كليهما - من ذاق طعم العبادة والأنس مع ربه، ثمّ يقطعها ولا يبالي بها، فيصير حاله كحال سائر الناس. وعليه فالحديث ظاهر فيمن قطع العبادة رأساً. ويمكن القول بإطلاقها، وأن يكون مطلق القطع مورداً للذمّ. وقبح الخطيئة وإن كان متضمّناً للحرمة أيضاً، ولكنّ المراد: مطلق القبح الشامل للقبح العرفيّ، فلا يدل على حرمة قطع العبادة، أو عدم المداومة عليها فيفيد الذمّ فقط.
اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ المراد بالعبادة: الفرائض أيضاً، فيكون تركها مطلقاً موجباً للحرمة، والسرّ في ذلك: أنّ كلّ واحد منهم انتقل من مقام أعلى إلى مقام أدنى، ومن البيّن: أنّ مقام الطاعة أرفع من مقام الغنى والمسكنة، فيكون ترك الطاعة أقبح. وعليه فيدل على: مطلوبية المداومة على الطاعة.
سند الحديث:
رواة الحديث كلّهم ثقات أجلّاء، قد تقدّم ذكرهم، والسند معتبر.
والحاصل: أنّ في هذا الباب سبعة أحاديث، خمسة منها صحاح، واثنان موثّقان.
والمستفاد منها أمور:
الأوّل: أنّ المداومة على العمل وإن قلّ أحبّ شي ء إلى اللَّه عزّوجلّ.
الثاني: أنّ المداومة على العمل وإن قلّ أحبّ الأعمال إلى اللَّه عزّوجلّ.
الثالث: أنّ المداومة على العمل واستواءه محبوب عند الإمام السجاد (علیه السلام) .
ص: 291
الرابع: أنّ الامام الصادق (علیه السلام) أمر بالمداومة على العمل إلى سنة.
الخامس: أّن عدم المداومة على العمل وفراقه قبل اثني عشر هلالاً منهيّ عنه.
السادس: أنّ عدم المداومة على العمل وقطعه أقبح من الفقر بعد الغنى، والخطيئة بعد المسكنة.
ص: 292
-----------------------------------------------------------------------------
22 - باب استحباب الاعتراف بالتقصير في العبادة
شرح الباب:
الغرض من هذا الباب: هو بيان أنّ المكلّف إذا نسب فضل طاعته إلى نعم اللَّه التي لا تحصى كما قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} يعدّ نفسه مقصّراً عن أداء شكره، وأداء حقّه اللازم على العباد، مهما بذل من جهد. وهذا معلوم عقلاً ونقلاً؛ فإنّ اللَّه لا يمكن أن يُعبد حقّ عبادته، كما قال سيّد البشر(صلی الله علیه و آله و سلم): «ما عبدناك حقّ عبادتك»((1)) .
وقد ورد في «أصول الكافي» عن أبي عبد الله (علیه السلام) : «أوحى الله عزوجل إلى موسى (علیه السلام) : يا موسى، اشكرني حقّ شكري، فقال: وكيف أشكرك حقّ شكرك وليس من شكر أشكرك به إلّا وأنت أنعمت به عليَّ؟ قال: يا موسى، الآن شكرتني حين علمت أن ذلك مني»((2)).
فينبغي للإنسان الاعتراف بتقصيره عن أداء حقّه، مهما اجتهد في عبادتهوطاعته؛ فإنّ أعماله بالقياس إلى نعم اللَّه تعالى عليه كالعدم.
ص: 293
وفي هذا الباب أيضاً إشارة إلى ذمّ العجب، والإيمان المعار، والنهي عن استكثار الخير، واستقلال الذنوب، والترغيب في حسن الظن باللَّه، وغير ذلك.
هذا الحكم مورد اتّفاق بين المسلمين:
أمّا الخاصّة: فيظهر من روايات الباب وعدم وجود ما يعارضها: أن لا خلاف في الفتوى على مضمونها.
وأمّا العامّة: فقال المنّاوي في «فيض القدير شرح الجامع الصغير»: إنّ العبد وإن بالغ في التنزيه والتحميد واجتهد في العبادة والتمجيد، ينبغي أن يعترف بالقصور عن حقّه تعالى في ذلك((1)).
ص: 294
[227] 1 - محمّد بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ محمّد بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ محمّد بْنِ عِيسَى، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي خَلَفٍ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مُوسَى (علیه السلام) ، قَالَ: قَالَ لِبَعْضِ وُلْدِهِ: «يَا بُنَيَّ، عَلَيْكَ بِالْجِدِّ، لا(1) تُخْرِجَنَّ نَفْسَكَ مِنْ حَدِّ التَّقْصِيرِ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ عَزَّوَجَلَّ وَطَاعَتِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُعْبَدُ حَقَّ عِبَادَتِهِ»(2).
-----------------------------------------------------------------------------
[1] - فقه الحديث:
هذا الحديث واضح الدلالة؛ حيث حثّ (علیه السلام) فيه على الجدّ والاجتهاد في العبادة، ونهى عن أن يرى العابد نفسه خارجة عن حدّ التقصير في أداء حقه، أي: يعتقد ذلك في قرارة نفسه؛ لأنّه مهما بالغ في الاجتهاد في جميع الطاعات، والانقطاع إليه تعالى، فإنّ ذلك لا يفي بشكر نعمة واحدة من نعمه سبحانه وتعالى، كما نقرأ في الدعاء المروي عن عليّ بن الحسين سيّد العابدين (علیهما السلام) : «إنّ أحداً لا يبلغ من شكرك غاية إلّا حصل عليه من إحسانك ما يلزمه شكراً، ولا يبلغ مبلغاً من طاعتك وإن اجتهد إلّا كان مقصّراً دون استحقاقك بفضلك، فأشكر عبادك عاجز عن شكرك،وأعبدُهم مقصّرٌ عن طاعتك»((3)) .
ص: 295
وَرَوَاهُ الصَّدُوقُ بِإِسْنَادِهِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ(1).
وَرَوَاهُ ابْنُ إِدْرِيسَ فِي «السَّرَائِرِ»، نَقْلاً مِنْ كِتَابِ الْمَشِيخَةِ لِلْحَسَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ(2).
وَرَوَاهُ الطُّوسِيُّ فِي «الْمَجَالِسِ»، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْمُفِيدِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ محمّد بْنِ قُولَوَيْهِ، عَنْ محمّد بْنِ يَعْقُوبَ، مِثْلَهُ(3).
-----------------------------------------------------------------------------
وقال (علیه السلام) أيضاً: «إلهي وعزّتك وجلالك وعظمتك، لو أنّي منذ بدعت فطرتي من أوّل الدهر عبدتك - دوام خلود ربوبيّتك - بكلّ شعرة في كلّ طرفة عين - سرمد الأبد - بحمد الخلائق وشكرهم أجمعين، لكنت مقصّراً في بلوغ أداء شكر أخفى نعمة من نعمتك عليّ»((4)).
فيستفاد من هذا الحديث: أنّ على العبد أن يعدّ نفسه مقصّراً في طاعتهسبحانه وتعالى، وإن بالغ في الاجتهاد في ذلك، بل لا نؤمّل إلّا عفوه وكرمه سبحانه، مع اعترافنا بعجزنا عن شكره.
ص: 296
سند الحديث:
للحديث أربعة طرق:
الأوّل: محمّد بن يعقوب، عن محمّد بن يحيى.
وهذا الطريق رجاله كلهم ثقات أجلّاء، قد تقدّم ذكرهم، ما عدا:
سعد بن أبي خلف: الذي قال النجاشي عنه: «سعد بن أبي خلف، يعرف بالزام، مولى بني زهرة بن كلاب، كوفي، ثقة، روى عن أبي عبد اللَّه وأبي الحسن (علیهما السلام) ، له كتاب يرويه عنه جماعة، منهم ابن أبي عمير»((1)).
وقال الشيخ: «سعد بن أبي خلف (الزام)، صاحب أبي عبد اللَّه (علیه السلام) ، له أصل»((2))،
وذكره في أصحاب الكاظم (علیه السلام) قائلاً: «سعد بن أبي خلف الزام، ثقة»((3)). كما روى عنه المشايخ الثقات((4)).
وعليه فهذا الطريق صحيح، مضافاً إلى أنّ كتابه مشهور.
الثاني: ما رواه الصدوق بإسناده، عن الحسن بن محبوب.
وطريق الصدوق إلى الحسن بن محبوب هكذا: محمّد بن موسى بن المتوكل رضي اللَّه عنه، عن عبد اللَّه بن جعفر الحميري وسعد بن عبد اللَّه،
ص: 297
عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحسن بن محبوب((1)).
وهذا الطريق صحيح أيضاً.
الثالث: ما رواه ابن إدريس في «السرائر»، نقلاً من كتاب «المشيخة» للحسن بن محبوب.
وبما أنّ طريق الشيخ صحيح إلى كتاب الحسن بن محبوب((2))،
ولابن إدريس طريق صحيح إلى جميع روايات الشيخ وكتبه((3))،
فيكون طريق الشيخ إلى كتاب الحسن بن محبوب طريقاً لابن إدريس، هذا أوّلاً.
وثانياً: يظهر من كلام ابن إدريس (قدس سره) : أنّ كتاب «المشيخة» كان موجوداً عنده، وأنّه ينقل عنه بلا واسطة، فيكون طريقه إلى نفس الكتاب معتبراً.
الرابع: ما رواه الطوسي، عن أبيه، عن المفيد، عن جعفر بن محمّد بن قولويه، عن محمّد بن يعقوب، عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّدبن عيسى، عن الحسن بن محبوب، عن سعد بن أبي خلف. وهذا الطريق صحيح أيضاً.
ص: 298
[228] 2 - وَبِالإِسْنَادِ عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ يُونُسَ، وَعَنْ أَبِي عليّ الأَشْعَرِيِّ، عَنْ عِيسَى بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ عليّ بْنِ مَهْزِيَارَ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ يُونُسَ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ (علیه السلام) ، قَالَ: «أَكْثِرْ مِنْ أَنْ تَقُولَ: اللهُمَّ، لا تَجْعَلْنِي مِنَ الْمُعَارِينَ، وَلا تُخْرِجْنِي مِنَ التَّقْصِيرِ». قَالَ: قُلْتُ: أَمَّا الْمُعَارُونَ فَقَدْ عَرَفْتُ: أَنَّ الرَّجُلَ يُعَارُ الدِّينَ، ثمّ يَخْرُجُ مِنْهُ، فَمَا مَعْنَى: لا تُخْرِجْنِي مِنَ التَّقْصِيرِ؟ فَقَالَ: «كُلُّ عَمَلٍ تُرِيدُ بِهِ اللَّهَ عَزَّوَجَلَّ فَكُنْ فِيهِ مُقَصِّراً عِنْدَ نَفْسِكَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ فِي أَعْمَالِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ مُقَصِّرُونَ، إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ عَزَّوَجَلَّ»(1).
-----------------------------------------------------------------------------
[2] - فقه الحديث:
يدلّ الحديث على طلب الإكثار من هذا الدعاء: «اللهمّ، لا تجعلني من المعارين، ولا تخرجني من التقصير».
والمعارون هم: الذين أعارهم اللَّه الإيمان غير المستقرّ في قلوبهم، فإذا شاء سلبه منهم، وهو إشارة إلى الإيمان المستودع، فعن أمير المؤمنين (علیه السلام) : أنّه قال لكميل: «يا كميل، إنّه مستقرّ ومستودع، واحذر أن تكون من المستودَعِين. يا كميل، إنَّما تستحق أن تكون مستقرّاً إذا لزمت الجادّةالواضحة، التي لا تخرجك إلى عوج، ولا تزيلك عن منهج...»((2)).
ص: 299
وقوله (علیه السلام) : «كل عمل تريد به اللَّه عزّوجلّ فكن فيه مقصِّراً عند نفسك» يراد به: أنّ كلّ عمل تلتمس به وجه اللَّه عز وجل والدار الآخرة، فاعترف بالتقصير فيه عن أداء حقّ عبادته، وإن بالغت في بذل غاية الجهد؛ فإنّ الناس كلّهم في أعمالهم مقصّرون، غير بالغين في عبادتهم أداء حقّ شكر نعمه تعالى، إلّا من عصمه اللَّه من التقصير، وهم الأنبياء والأوصياء؛ لأنّ عصمتهم ونورانيّة ذواتهم وكمال نفوسهم وصفاتهم وخلوص عقائدهم ودوام ذكرهم أخرجتهم عن حدّ التقصير، ومع ذلك اعترفوا به؛ إظهاراً للعجز والنقصان، وإن جاءوا بما هو المطلوب من الإنسان على نهاية ما يتصوّر من القدرة والإمكان.
سند الحديث:
للحديث طريقان:
الأوّل: يتّحد مع ما قبله إلى ابن محبوب، ورجاله كلّهم ثقات، قد تقدّم ذكرهم، ماعدا:
الفضل بن يونس: وهو أيضاً من الثقات. قال النجاشي: «الفضل بنيونس، الكاتب، البغدادي، روى عن أبي الحسن موسى (علیه السلام) ، ثقة»((1)).
وقال الشيخ: «أصله كوفي، تحوّل إلى بغداد، مولى، واقفي»((2)).
ص: 300
[229] 3 - وَعَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنَ عِيسَى، عَنْ سَمَاعَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ (علیه السلام) يَقُولُ: «لا تَسْتَكْثِرُوا كَثِيرَ الْخَيْرِ، وَلا تَسْتَقِلُّوا قَلِيلَ الذُّنُوبِ»، الْحَدِيثَ(1).
-----------------------------------------------------------------------------
وروى عنه المشايخ الثقات((2)) .
الثاني: ما رواه الكليني عن أبي عليّ الأشعري.
وهذا الطريق قد تقدّم كلّ أفراده، وهم ثقات، غير عيسى بن أيّوب، الذي لم يرد فيه توثيق، إلّا أنّه يمكن تصحيح السند بما تقدّم سابقاً، من أنّ كتاب عليّ بن مهزيار مشهور، فلا يحتاج إلى طريق.
مضافاً إلى أنّ لأبي عليّ الأشعري - أحمد بن إدريس القمّي - طريقاًآخر ليس فيه عيسى بن أيوب. وعليه فهذا الحديث معتبر السند.
[3] - فقه الحديث:
يدل هذا الحديث على أنّه ينبغي للمرء أن يستقلّ عبادته، ولا يستكثر على اللَّه جلّ جلاله شيئاً منها؛ لأنّ استعظام العمل واستكثاره يوجب إخراج
ص: 301
النفس عن حدّ التقصير، بل قد يوجب العجب وإحباط الأجر.
وينبغي للمرء أيضاً أن لا يستصغر الذنب؛ لأنّ استصغاره وتقليله موجب لعدم المبالاة به، وعدم الاعتناء بشأنه، وسبب للوقوع فيه والإتيان به مرّة بعد أخرى، وهكذا حتّى تجتمع عليه ذنوب كثيرة، فيخرج عن حدّ الذنوب الصغيرة، ويدخل في حدّ الكبائر، كما روي عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) أنّه قال: «لا تحقّروا شيئاً من الشرّ، وإن صغر في أعينكم، ولا تستكثروا شيئاً من الخير، وإن كبر في أعينكم؛ فإنّه لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار»((1)).
وقال أبو عبد اللَّه (علیه السلام) : «اتّقوا المحقّرات من الذنوب؛ فإنّها لا تغفر»((2)).
وقال الصادق (علیه السلام) : «إنّ اللَّه يحب العبد أن يطلب إليه في الجرمالعظيم، ويبغض العبد أن يستخفّ بالجرم اليسير»((3)).
فينبغي للعابد أن يستقلّ عبادته، ويرى نفسه مقصّرة في الطاعة، حتّى مع كمال العبادة، بل لا طريق إلى شكر نعمه علينا إلّا بالاعتراف بقصورنا عن أداء حقّه، وبالتفريط في جنبه.
ص: 302
[230] 4 - وَ عَنْهُمْ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ بَعْضِ الْعِرَاقِيِّينَ، عَنْ محمّد بْنِ الْمُثَنَّى الْحَضْرَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (علیه السلام) : «يَا جَابِرُ، لا أَخْرَجَكَ اللَّهُ مِنَ النَّقْصِ وَالتَّقْصِيرِ»(1).
-----------------------------------------------------------------------------
سند الحديث:
رجال الحديث كلهم ثقات، قد تقدّم ذكرهم، والسند معتبر.
[4] - فقه الحديث:
دلالة الحديث واضحة؛ حيث دعا الإمام (علیه السلام) لجابر بالتوفيق من اللَّه سبحانه، بأن لا يرى كثرة عبادته، وعدم تقصيره، بل يعترف بالتقصير دائماً،ولا يخرجه عن هذا الحال أصلاً، فيكون هذا الحال مطلوباً ومرغوباً فيه. فيدلّ على استحباب الاعتراف بالتقصير في العبادة.
سند الحديث:
في السند بعض العراقيين، وهم مجهولون.
وأمّا محمّد بن المثنّى الحضرمي: فقال النجاشي عنه: «محمد بن المثنى بن القاسم، كوفي، ثقة، له كتاب»((2)).
ص: 303
وأمّا أبوه، فهو مثنّى بن الحضرمي: لم يذكر بمدح ولا ذم. قال عنه النجاشي: «مثنّى بن الحضرمي، له كتاب، قال الحسن بن حمزة: حدّثنا ابن بطّة عن الصفّار، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن ابن أبي عمير، عنه»((1))، إلّا أنّه - مع ذلك - يمكن القول بوثاقته؛ من جهة رواية المشايخ الثقات عنه((2)).
وأمّا عثمان بن زيد: فلم يرد فيه مدح ولا ذم. قال عنه الشيخ: «عثمان بن زيد بن عدي، أبو عدي الجهني، أسند عنه، كوفي»((3)) .
وأمّا وقوعه في «تفسير القمي» فلا دلالة فيه على الوثاقة؛ لأنّه وارد فيالقسم الثاني منه((4)).
وأمّا الأشخاص الآخرون فتقدّمت ترجمتهم. وعليه فهذا الحديث غير معتبر السند؛ لوجود المجاهيل فيه، إلّا على القول باعتبار روايات «الكافي».
ص: 304
[231] 5 - وَعَنْ محمّد بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ الْحَذَّاءِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام) ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله و سلم): قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: لا يَتَّكِلِ الْعَامِلُونَ لِي عَلَى أَعْمَالِهِمُ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا لِثَوَابِي؛ فَإِنَّهُمْ لَوِ اجْتَهَدُوا وَأَتْعَبُوا أَنْفُسَهُمْ أَعْمَارَهُمْ(1) فِي عِبَادَتِي كَانُوا مُقَصِّرِينَ، غَيْرَ بَالِغِينَ فِي عِبَادَتِهِمْ كُنْهَ عِبَادَتِي، فِيمَا يَطْلُبُونَ عِنْدِي مِنْ كَرَامَتِي، وَالنَّعِيمِ فِي جِنَانِي(2)، وَرَفِيعِ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى فِي جِوَارِي، وَلَكِنْ بِرَحْمَتِي فَلْيَثِقُوا، وَفَضْلِي فَلْيَرْجُوا(3)، وَإِلَى حُسْنِ الظَّنِّ بِي فَلْيَطْمَئِنُّوا»، الْحَدِيثَ(4).
-----------------------------------------------------------------------------
[5] - فقه الحديث:
للحديث صدر وذيل تركهما المصنف.
وهو يدلّ على أنّ العبد ينبغي أن لا يتّكل في نيل ثواب اللَّه أو الخلاص من عقابه على محض أعماله، وإن كانت صحيحة تامّة الأركان في نفسها؛ لأنّه وإن بالغ واجتهد إلّا أنّه مقصّر، غير بالغ كنه العبادة وحقيقتها، ولأنّه لاقيمة لعبادته في جنب ثوابها، وهو الجنة ونعيمها ودرجاتها، فلابد له من
ص: 305
وَعَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، مِثْلَهُ(1).
وَرَوَاهُ الصَّدُوقُ فِي «التَّوْحِيدِ» عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعْدٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ(2).
وَرَوَاهُ الطُّوسِيُّ فِي «مَجَالِسِهِ»، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْمُفِيدِ، عَنِ ابْنِ قُولَوَيْهِ، عَنْ محمّد بْنِ يَعْقُوبَ(3).
وَرَوَاهُ أَيْضاً، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْمُفِيدِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عليّ بْنِ مَهْرَوَيْهِ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ الرِّضَا، عَنْ آبَائِهِ (علیهم السلام) ، مِثْلَهُ(4).
-----------------------------------------------------------------------------
الاستعانة بربه، وعليه أن يدعوه لهدايته، ويحسن ظنّه به في قبول عمله ورفع درجته، ويعتمد على فضله وكرمه.
ولذا ورد في الدعاء عن الإمام زين العابدين (علیه السلام) : «يا محسن، يا مجمل، يا منعم، يا مفضل، لسنا نتّكل في النجاة من عقابك على أعمالنا، بل بفضلك علينا؛ لأنّك أهل التقوى وأهل المغفرة، تبتدئالإحسان نِعَماً، وتعفو عن الذنب كرماً»((5)).
ص: 306
سند الحديث:
للحديث خمسة طرق:
الأوّل: ما عن محمّد بن يعقوب، عن محمّد بن يحيى.
وهذا الطريق رجاله كلّهم ثقات، قد تقدّم ذكرهم، بما فيهم داود بن كثير، الذي وقع الخلاف في وثاقته، وقد عقدنا له بحثاً مستقلاًّ في مباحثنا الرجاليّة((1)) ، وذكرنا فيه وجوهاً يمكن الاستدلال بها على وثاقته.
الثاني: ما عن محمّد بن يعقوب أيضاً، عن عدّة من أصحابنا.
وهذا هو السند المتقدّم، غير أنّ فيه: عن عدّة من أصحابنا...، وقد تقدّم المراد من العدّة.
الثالث: ما رواه الصدوق في «التوحيد»، عن أبيه، عن سعد، عن أحمد بن محمد.
وهذا الطريق يشترك مع الطريق السابق في أحمد بن محمد، وقد تقدّمت ترجمة والد الصدوق وسعد بن عبد اللَّه.
الرابع: ما رواه الطوسي في «مجالسه»، عن أبيه، عن المفيد، عن ابن قولويه، عن محمّد بن يعقوب، عن محمّد بن يحيى.
وهذا الطريق يشترك في محمّد بن يعقوب، فهو عين الطريق الأوّل، وقد تقدّمت ترجمة الشيخ الطوسي والمفيد وابن قولويه.
وعليه فهذه الطرق كلها معتبرة.
ص: 307
الخامس: ما رواه الطوسي أيضاً، عن أبيه، عن المفيد، عن عمر بن محمد، عن عليّ بن مهرويه، عن داود بن سليمان.
وهذا الطريق فيه عمر بن محمد: وللشيخ المفيد شيخان بعنوان عمر بن محمّد، أحدهما: المعروف بأبي حفص الزيات الصيرفي: وقد صرّح باسمه الكامل في الأمالي للشيخ الطوسي((1))، ولم يترجم له في الكتب الرجالية. نعم، ورد في الوافي بالوفيات: عمر بن محمّد بن عليّ بن يحيى، أبو حفص الناقد الزيات البغدادي. قال ابن أبي الفوارس: كان ثقة متقناً، جمع أبواباً وشيوخاً. وتوفى سنة خمس وسبعين وثلاثمائة((2))، والثاني: عمر بن محمد المعروف بأبي بكر الجعابي، أو ابن الجعابي، قال الشيخ: «عمر بن محمّد بن سالم (مسلم) بن البرا، يكنّى أبا بكر، المعروف بابن الجعابي، ثقة، خرج إلى سيف الدولة، فقرّبه وأدناه واختصّ به، وكان حفظة، عارفاً بالرجال من العامّة والخاصة، وله كتب، أخبرنا بها جماعة من أصحابنا، منهم الشيخ المفيد رحمه اللَّه، والحسين بن عبيد اللَّه، وأحمد بن عبدون، عنه، وقال ابن عبدون: هو عمر بن محمّد بن عمر بن سالم الجعابي»((3)).هذا كلّه في نسخة الشيخ.
وأمّا نسختا العلّامة وابن داود فإنّهما خاليتان عن كلمة «ثقة».
ص: 308
نعم، بناء على اتّحاده مع محمّد بن عمر بن سالم - الذي عنونه النجاشي بقوله: «محمد بن عمر بن محمّد بن سالم بن البراء بن سبرة بن سيّار، التميمي، أبو بكر، المعروف بالجعابي، الحافظ، القاضي، كان من حفّاظ الحديث، وأجلّاء أهل العلم»((1))
- يكون في أعلى درجات الحسن، الذي لا يقلّ عن التوثيق.
وبهذا العنوان قد ترجمه العامة أيضاً. قال الخطيب البغدادي: «وكان أحد الحفّاظ الموجودين، صحب أبا العباس بن عقدة، وعنه أخذ الحفظ، وله تصانيف كثيرة في الأبواب والشيوخ ومعرفة الإخوة والأخوات وتواريخ الأمصار، وكان كثير الغرائب، ومذهبه في التشيّع معروف، وكان يسكن بعض سكك باب البصرة»((2)).
وأمّا عليّ بن مهرويه: فلم يرد فيه توثيق.
وقد ذكره العامة أيضاً. قال الذهبي: «ابن مهرويه، المحدِّث، الإمام، الرحّال، الصدوق، أبو الحسن، عليّ بن محمّد بن مهرويه، القزويني، المعمِّر، وقال الخليلي: سمعت عبد الواحد بن محمّد بن مالك، سمعت عليّبن محمّد بن مهرويه، سمعت ابن أبي خيثمة يقول: سألت يحيى بن معين عن مكّي بن إبراهيم، فقال: صالح، ثقة»((3)).
ص: 309
وأمّا داود بن سليمان: فلم يرد فيه توثيق. قال النجاشي: «داود بن سليمان بن جعفر، أبو أحمد القزويني، ذكره ابن نوح في رجاله، له كتاب عن الرضا (علیه السلام) ، أخبرني محمّد بن جعفر النحوي، قال: حدّثنا الحسين بن محمّد الفرزدق القطعي، قال: حدّثنا أبو حمزة بن سليمان، قال: نزل أخي داود بن سليمان، وذكر النسخة»((1)) .
وترجمه الشيخ في أصحاب الرضا (علیه السلام) قائلاً: «داود بن سليمان بن يوسف، أبو أحمد القاري، أسند عنه، روى عنه ابن مهرويه»((2)).
وقد ترجمه العامة أيضاً. قال الذهبي في «ميزان الاعتدال»: «داود بن سليمان، الجرجاني، الغازي، عن عليّ بن موسى الرضا (علیه السلام) وغيره، كذّبه يحيى بن معين، ولم يعرفه أبو حاتم. وبكل حال فهو شيخ كذّاب»((3)) . ولعلّ تكذيبهم إيّاه من جهة روايته فضائل أهل البيت (علیهم السلام) .
وعليه فيكون هذا الطريق غير معتبر؛ لوجود المجاهيل فيه.وهذا الحديث وإن كان ضعيفاً بالطريق الخامس، إلّا أنّه معتبر ببقيّة الطرق الاخرى.
ص: 310
[232] 6 - محمّد بْنُ عليّ بْنِ الْحُسَيْنِ فِي «الْخِصَالِ»، عَنْ محمّد ابْنِ الْحَسَنِ، عَنِ الصَّفَّارِ، عَنْ محمّد بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ عُمَرَ(1) بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ سَعْدٍ الإِسْكَافِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام) ، قَالَ: «ثَلاثٌ قَاصِمَاتُ الظَّهْرِ: رَجُلٌ اسْتَكْثَرَ عَمَلَهُ، وَنَسِيَ ذُنُوبَهُ، وَأُعْجِبَ بِرَأْيِهِ»(2).
وَفِي «مَعَانِي الأَخْبَارِ»، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ محمّد ابْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، مِثْلَهُ(3).
-----------------------------------------------------------------------------
[6] - فقه الحديث:
القصم: كسر الشي ء الشديد حتّى يبين. قَصَمَه يقصِمه قصماً فانقصم وتقصّم: كَسَرَهُ كَسْراً فيه بينونة. والقاصم: المهلك((4)).
قوله (علیه السلام) : «ثلاث قاصمات الظهر»، أي: موجبات للهلاك والعقاب؛ لما يترتّب عليهنّ من المفاسد والمخاطر، وفوت الثواب، فينبغي أن يكون الإنسان على حذر منهن:
الأولى: استكثار العمل؛ فإنّه يوجب العجب والفخر والاعتقاد بخروج
ص: 311
النفس عن حدّ التقصير.
الثانية: نسيان الذنب؛ لظنّه الاستغناء؛ بسبب إعجابه بعمله، بحيث يرى نفسه خارجة عن حدّ التقصير. والنسيان وإن لم يكن مقدوراً، إلّا أنّ سببه مقدور، وهو ترك الذكّر لله، والتشاغل عنه بغيره.
الثالثة: الإعجاب بالرأي، بحيث يرى المرء نفسه أعقل الناس، فيترك مشاورتهم، ويستقلّ في أعماله برأيه، فلا محالة يقع في المهلكة والخسران.
والحاصل: أنّه ينبغي للمرء أن يستقلّ عبادته، ويحكم بتقصيره فيها، ولا يستكثرها؛ فإنّ ذلك موجب للهلاك والخسران.
سند الحديث:
للحديث طريقان:
الأوّل: ما عن محمّد بن عليّ بن الحسين في «الخصال»، عن محمّد بن الحسن.
وفيه: محمّد بن عبد الحميد: وهو محمّد بن عبد الحميد بن سالم، العطّار، لم يرد فيه توثيق. وأمّا قول النجاشي في ترجمته: «محمد بن عبد الحميد بن سالم، العطّار، أبو جعفر، روى عبد الحميد عن أبي الحسنموسى، وكان ثقة من أصحابنا الكوفيين، له كتاب النوادر»((1))
فلا يدل على توثيقه، فإنّ التوثيق راجع إلى أبيه عبد الحميد، لا إلى محمّد نفسه؛ بقرينة
ص: 312
العطف بالواو، إذ لم يذكر جملة تامة قبل ذلك إلّا جملة: روى عبد الحميد عن أبي الحسن موسى (علیه السلام) ، فلابد وأن يكون المعطوف عليه تلك الجملة. ولكن مع ذلك كله فهو ثقة؛ لأنّه وقع في كتاب «نوادر الحكمة»، وروى عنه المشايخ الثقات((1)).
وأمّا عامر بن رباح: فلم يرد فيه شي ء.
وأمّا عمر بن الوليد: فلم يرد فيه مدح ولا ذم. وأمّا رواية جعفر بن بشير عنه فلا تدل على وثاقته.
وأمّا بقيّة السند، فقد تقدّم ذكرهم. وعليه فهذا الطريق غير معتبر.
الثاني: ما عن محمّد بن عليّ بن الحسين في «معاني الأخبار»، عن أبيه، عن سعد بن عبد اللَّه، عن محمّد بن عبد الحميد.
وهذا الطريق يشترك مع سابقه في محمّد بن عبد الحميد، فهو - كسابقه - غير معتبر.
ص: 313
[233] 7 - وَفِي«الْخِصَالِ»، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) ، قَالَ: «قَالَ إِبْلِيسُ(1): إِذَا اسْتَمْكَنْتُ مِنِ ابْنِ آدَمَ فِي ثَلاثٍ لَمْ أُبَالِ مَا عَمِلَ؛ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ مِنْهُ: إِذَا اسْتَكْثَرَ عَمَلَهُ، وَنَسِيَ ذَنْبَهُ، وَدَخَلَهُ الْعُجْبُ»(2).
-----------------------------------------------------------------------------
[7] - فقه الحديث:
هذا الحديث قد اتضح معناه ممّا تقدّم.
سند الحديث:
رجال الحديث كلّهم ثقات أجلّاء، قد تقدّم ذكرهم، والسند معتبر.
ص: 314
أَقُولُ: وَيَأْتِي مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ(1)1*)، وَفِي أَدْعِيَةِ الصَّحِيفَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الأَدْعِيَةِ الْمَأْثُورَةِ دَلالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى ذَلِكَ(2)2*).
-----------------------------------------------------------------------------
والحاصل: أنّ في هذا الباب خمسة أحاديث صحيحة، واثنان ضعيفان.
ويستفاد منه أمور:
الأول: النهي المؤكّد عن إخراج النفس عن حدّ التقصير في العبادة؛ لأنّ اللَّه عزّوجلّ لا يعبد حقّ عبادته.
الثاني: الدعاء والطلب من اللَّه في أن يعدّ العبد نفسه مقصّراً دائماً في عبادته.
الثالث: النهي عن استكثار كثير الخير.
الرابع: أنّ استكثار العمل من قاصمات الظهر.
الخامس: أنّ استكثار العمل من موجبات عدم قبوله.
ص: 315
ص: 316
-----------------------------------------------------------------------------
23 - باب تحريم الإعجاب بالنفس وبالعمل والإدلال به
شرح الباب:
الكلام في عنوان هذا الباب يقع في جهات:
الجهة الأولى: في بيان حقيقة العُجب ومنشئه وأضراره:
العُجْب - بضمّ الأول وسكون الثاني - من الصفات الرذيلة، والمهلكات العظيمة، التي يجب الابتعاد عنها، ومعناه - على ما يظهر من أهل اللغة - إعظام العمل واعتقاد أنّه عظيم، إمّا لكيفيّته، كما إذا كانت صلاته مع البكاء من أوّلها إلى آخرها، وإمّا لكمّيّته، كما إذا أطال صلاته أو سجوده ونحوهما((1)).
وقد عرّفه علماء الأخلاق: بأنّه استعظام نفسه؛ لأجل ما يرى لها من صفة كمال، سواء كانت له تلك الصفة في الواقع، أم لا، وسواء كانت صفة كمال في نفس الأمر، أم لا((2)). وقيل: هو إعظام النعمة، والركون إليها، مع نسيان إضافتها إلى المنعم ((3)) .
ص: 317
وكيف كان، فهو عبارة عن استعظام العمل الصالح واستكثاره والسرور به من نفسه ولنفسه، مع نسيان إضافته إلى المنعم سبحانه وتعالى، بحيث يرى: أنه قدّم شيئاً كبيراً يستحق أن يشكر ويثنى به عليه وينجو بسببه، وينسى نعمة اللَّه عليه بالتوفيق والتمكين منه، وأنّ الحياة والقوة والنطق جميعها من مواهب اللَّه تعالى، التي أكرم بها الإنسان، وتفضّل بها عليه.
وأمّا لو قارن نفسه مع غيره الذي هو أعظم منه، كأن يرى: أنّ اللَّه لا يستحق ما أتى به من العبادة، ولذا يمنّ بها عليه سبحانه وتعالى - نعوذ باللَّه منه ومن أمثاله -
بتخيّل أنّ له عند اللَّه حقاً، وأنّه منه بمكان، واستبعد أن يجري عليه مكروه، أو كان متوقعاً منه كرامة لأجل عمله؛ لأنّه أتى بشي ء فوق ما يستحقه اللَّه تعالى - على حسب عقيدته - وأنّ نعمته تعالى لا تقتضي إلّا الإتيان بالفرائض فحسب، فيأتي بصلاة الليل مثلاً، ويمنّ بها على اللَّه؛ لاعتقاده عدم استحقاقه تعالى لها، وأنّها تفضّل منه على اللَّه جلّت عظمته. فهذا يسمى إدلالاً بالعمل، فكأنّه يرى لنفسه على اللَّه دالة، فهو وراء العجب وفوقه، وهو أعظم من المرتبة المتقدمة من العجب، وعلى هذا يكون الميزان في تحقّق العجب هو حصول استعظام العمل ونسيان إضافة النعمة للمنعم الحقيقي وهو الله سبحانه وتعالى من دون أن يتوقع الجزاء، وأماالإدلال فهو فوق العجب، وقوامه بتوقع الجزاء على العمل، فكل إدلال فيه عجب ولا عكس.
ومنشأ العجب هو رؤية أنّ لعمله مقاماً وثواباً عظيمين، وهذا من إبشع الجهل، فإنه لو رأى عظمة الله تعالى لما استعظم عمله، وكل ما يعمله
ص: 318
الإنسان لا يُعدّ شيئاً قبال عظمة الباري جلّ وعلا، كما أنّ عبادة العابد وقوته وحركاته وسكناته من الله سبحانه، وأمّا هو فهو فقر محض، وقد ورد في «الكافي» عن محمّد بن أبي نصر، قال: قال أبو الحسن الرضا (علیه السلام) : «قال الله يا ابن آدم، بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبقوتي أديت فرائضي، وبنعمتي قويت على معصيتي»، الحديث((1))،
فلا يستعظم عمله إلّا جاهل ضعيف العقل، وهذان سببان لعدم رعاية تعظيم الله سبحانه وعدم شكر نعمه، اللذان هما منشأ العجب في العمل.
وأما أضراره فكثيرة، منها: استصغار عظمة الله تعالى، وهذا بحد ذاته هتك لحرمة المولى. كما أنه موجب لعدم رفع نواقص نفس المعجب بعمله، فيبقى على نواقصه كما هي، ولا يجد من يرجعه إلى الطريق الصحيح فيضل.
الجهة الثانية: في مفاد الأخبار من حيث حرمة العجب وعدمها:
لا شبهة في قبح صفة العجب تكويناً، بل كشفها عن خفّة عقل صاحبها،وعن خسّة نفسه، وانحطاط درجته.
وأمّا حكمه تشريعاً، فلا ينبغي التأمّل في حرمته؛ لأنّه يؤول إلى هتك حرمة المولى، وتحقير نعمه؛ إذ المعجب بعمله يرى نفسه غير مقصّر تجاه نِعم ربه؛ لأنّه قد أتى بما يساويها أو يزيد عليها، فلا يرى - والعياذ باللَّه -
ص: 319
فضلاً له تعالى عليه. ورّبما أوجب ذلك نسيان الذنوب وإهمالها، وإذا ذكرها استصغرها، فلا يجتهد في التوبة عنها وتداركها، وهذا ممّا لا كلام في أنّه من الجرائم والموبقات العظيمة.
وقد استدلّ على الحرمة بالنصوص الكثيرة، وفيها المعتبرة:
منها: ما رواه الكليني بإسناده، عن أبي عبيدة، عن أبي جعفر (علیه السلام) ، قال: «قال رسول اللَّه(صلی الله علیه و آله و سلم): قال اللَّه تعالى: إنّ من عبادي المؤمنين لمن يجتهد في عبادتي، فيقوم من رقاده ولذيذ وساده، فيجتهد لي الليالي، فيتعب نفسه في عبادتي، فأضربه بالنعاس الليلة والليلتين؛ نظراً منّي له، وإبقاءاً عليه، فينام حتّى يصبح، فيقوم وهو ماقت لنفسه، زارى ء عليها. ولو أُخلّي بينه وبين ما يريد من عبادتي لدخله العجب من ذلك، فيصيّره العجب إلى الفتنة بأعماله، فيأتيه من ذلك ما فيه هلاكه؛ لعجبه بأعماله، ورضاه عن نفسه، حتّى يظن أنّه قد فاق العابدين، وجاز في عبادته حدّ التقصير، فيتباعد منّي عند ذلك، وهويظن أنّه يتقرّب إليّ»، الحديث((1)).
وهذا إنّما يتّجه لو أريد بالعجب ذلك، دون ما كان خارجاً عن الاختيار، وإلّا إذا قلنا: إنّ العجب ليس أمراً اختياريّاً، بمعنى: أنّه صفة نفسانيّة قبيحة غير مسبوقة بالعزم والإرادة لتقع مورداً للتكليف، وأنه كالتكبّر والحسد
ص: 320
ونحوهما من رذائل الأخلاق، التي هي من الأوصاف النفسانيّة الموصوفة بالقبح الفاعلي، وليس فيها قبح فعلي، وهي خارجة عن الأفعال التي تصدر عن المكلّفين بالاختيار، فلا حكم لها بوجه، فهي غير محرّمة ولا مباحة. نعم، قد يتعلّق به حكم شرعي بأحد أمرين:
الأوّل: أن يكون العجب محرّماً من حيث مقدّمته، فيجب شرعاً القيام بعمل يمنع حدوث تلك الصفة في النفس، نحو: التفكّر في عظمة اللَّه ونعمه، وفي ما يصدر منه من العمل، وأنّه لا يصدر منه باستقلاله.
الثاني: من حيث إزالته، كالذنب، بحيث يجب عليه القيام بعمل يزيل تلك الصفة على تقدير حصولها في النفس، كما إذا كبر وبلغ وهو معجب بعمله، فيجب عليه أن يتفكّر فيما ذكرناه، ليزيل عن نفسه هذه الصفة.
وهذان الأمران قابلان لتعلّق الحكم الشرعي بهما، إلّا أنّ الأخبار الواردة في المقام لا يستفاد منها وجوب التفكّر المزبور قبل حصول هذه الصفة، أو بعده؛ ليمنع حدوثها، أو يزيلها بعد تحققها.
بل غاية ما يستفاد منها أقلّيّة الثواب معه على العمل، أو بيان القبح الفاعلي دون القبح الفعلي. فالعجب بهذا المعنى من الصفات الأخلاقيّة التي لا تستلزم الحرمة المولويّة، ولهذا ذهب المحقق الهمداني في «مصباح الفقيه»((1))
إلى عدم الحرمة التكليفيّة، وكذلك السيد الاستاذ (قدس سره) ((2)).
ص: 321
الجهة الثالثة: أنّه هل يستلزم العجب المقارن وكذا المتأخر بطلان العبادة، أو لا؟
نقل المحقق الهمداني عن السيد صاحب البرهان " بطلانها بكل من العجب المقارن والمتأخر((1)).
وقال في الجواهر: وربّما ألحق بعض مشايخنا((2)) العجب المقارن للعمل بالرّياء في الإفساد، ولم أعرفه لأحد غيره، بل قد يظهر من الأصحاب خلافه؛ لمكان حصرهم المفسدات، وذكرهم الرياء، وترك العجب، مع غلبة الذهن إلى الانتقال إليه عند ذكر الرياء((3)).
وعن بعض المتأخرين((4)) الحكم ببطلانها بالعجب المقارن فيما لو وصل إلى حدّ المنِّ على اللَّه تعالى بتلك العبادة؛ لأنّ العُجب إذا وصل إلى هذه المرتبة يكون منافياً لقصد القربة؛ لما يرى المعجب بنفسه من أنّها خارجة عن حدّ التقصير، وأنّه أتى بما فوق ما يستحقه اللَّه تعالى، وهذا الاعتقاد الفاسد السخيف مناف لاحترامه تعالى، وموجب للاستخفاف بساحته،
ص: 322
وعدم توقيره سبحانه تعالى، فيدخل فيما ينافي العبوديّة وحقيقة الربوبيّة؛ فهو مبطل للعبادة.
إلّا أنّ مشهور الفقهاء ذهبوا إلى عدم البطلان في المقارن والمتأخر معاً، وهو الصحيح؛ وذلك لعدم دلالة شي ء من الأخبار على البطلان بالعجب المقارن فضلاً عن المتأخر، كما سيأتي.
وغاية ما يمكن أن يدّعى أنّ الدليل على أن العجب يكون مبطلاً للعمل هو: الروايات التي ذكرها صاحب «الوسائل» في هذا الباب.
ص: 323
[234] 1 - محمّد بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ محمّد بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام) ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله و سلم): قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ لَمَنْ يَجْتَهِدُ فِي عِبَادَتِي، فَيَقُومُ مِنْ رُقَادِهِ وَلَذِيذِ وِسَادِهِ، فَيَجْتَهِدُ لِيَ اللَّيَالِيَ، فَيُتْعِبُ نَفْسَهُ فِي عِبَادَتِي، فَأَضْرِبُهُ بِالنُّعَاسِ اللَّيْلَةَ وَاللَّيْلَتَيْنِ؛ نَظَراً مِنِّي لَهُ، وَإِبْقَاءً عَلَيْهِ، فَيَنَامُ حتّى يُصْبِحَ، فَيَقُومُ وَهُوَ مَاقِتٌ لِنَفْسِهِ، زَارِى ءٌ عَلَيْهَا. وَلَوْ أُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُرِيدُ مِنْ عِبَادَتِي لَدَخَلَهُ الْعُجْبُ مِنْ ذَلِكَ، فَيُصَيِّرُهُ الْعُجْبُ إِلَى الْفِتْنَةِ بِأَعْمَالِهِ، فَيَأْتِيهِ مِنْ ذَلِكَ مَا فِيهِ هَلاكُهُ؛ لِعُجْبِهِ بِأَعْمَالِهِ، وَرِضَاهُ، عَنْ نَفْسِهِ، حتّى يَظُنَّ أَنَّهُ قَدْ فَاقَ الْعَابِدِينَ، وَجَازَ فِي عِبَادَتِهِ حَدَّ التَّقْصِيرِ، فَيَتَبَاعَدُ مِنِّي عِنْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ»، الْحَدِيثَ(1).
وَرَوَاهُ الصَّدُوقُ وَالطُّوسِيُّ كَمَا تَقَدَّمَ(2).
-----------------------------------------------------------------------------
[1] - فقه الحديث:
والحديث ظاهر في الحرمة التكليفيّة المستتبعة للإثم؛ من جهة كونالعجب من الأمور المهلكة للإنسان.
ص: 324
وأمّا الحرمة الوضعيّة - بمعنى: فساد العبادة في حال مقارنة العجب لها أو تأخّره عنها - فقد تقرب دلالته عليها بأن يقال: إنّ ما فيه الهلاك - الذي نشأ من العجب - لا يكون صحيحاً ومأموراً به، وهو معنى الفساد.
ويرد عليه: أنّ غاية ما يستفاد من هذا الحديث: أنّ العجب من المهلكات والأوصاف القبيحة التي تبعّد عن جنابه تعالى، ولا يفهم منه بطلان عمله؛ وذلك لما في العجب من تزكية النفس والثناء عليها، الذي يعمي عن عيوب العمل نحو: عدم الإخلاص والتضييع والاستخفاف والاستثقال والمنّ والأذى بعد الصدقة وغيرها، بل قد ينتهي به الأمر إلى أن يرى نفسه من العبّاد والمقرّبين، وقد نهى اللَّه عن ذلك بقوله: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُم}((1)).
فيأخذ بذلك العبد الوجهة المبعدة له عن اللَّه سبحانه بزعم: أنّه يتقرّب إليه؛ اعتماداً منه على عمله، وبذلك ينال الحرمان من شفاعة الأئمّة الأطهار (علیهم السلام) .
وعليه: فهذا الحديث ظاهر في الحرمة التكليفيّة ليس غير.
سند الحديث:
للحديث سندان:
الأول: سند الكليني، ورجاله كلّهم ثقات، قد تقدّم ذكرهم، بما فيهم
ص: 325
[235] 2 - وَعَنْ عليّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ محمّد بْنِ عِيسَى، عَنْ يُونُسَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَجَّاجِ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) : الرَّجُلُ يَعْمَلُ الْعَمَلَ وَهُوَ خَائِفٌ مُشْفِقٌ، ثمّ يَعْمَلُ شَيْئاً مِنَ الْبِرِّ فَيَدْخُلُهُ شِبْهُ الْعُجْبِ بِهِ، فَقَالَ: «هُوَ فِي حَالِهِ الأُولَى وَهُوَ خَائِفٌ أَحْسَنُ حَالاً مِنْهُ فِي حَالِ عُجْبِهِ»(1).
وَرَوَاهُ الْبَرْقِيُّ فِي «الْمَحَاسِنِ»، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نَجْرَانَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) ، مِثْلَهُ(2).
-----------------------------------------------------------------------------
داود بن كثير، الذي استظهرنا وثاقته، كما سبق وعليه فالسند معتبر.
والثاني: ما رواه الصدوق والطوسي وطريقهما يصل لمحمد بن يعقوب الكليني. وقد مرّ في الباب السابق في الحديث الخامس أنهما معتبران.
[2] - فقه الحديث:
قول الراوي: «الرجل يعمل العمل»، أي: يعمل العمل القبيح بقرينة مقابلته بقوله: «ثم يعمل شيئاً من البر»، والكلام في هذا الحديث كالكلام في الحديث الذي قبله، من حيث عدم دلالته على بطلان العبادة بالعجب؛ وذلك لأنّه بصدد بيان مطلب آخر، لا ربط له بما نحن فيه، وهو أن المعصية مع الخوف الناتج من التوبة أهون من العبادة مع العجب، وهذا لا دلالة له
ص: 326
[236] 3 - وَبِالإِسْنَادِ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله و سلم) - فِي حَدِيث - ٍ: قَالَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ (علیه السلام) لإِبْلِيسَ: أَخْبِرْنِي بِالذَّنْبِ الَّذِي إِذَا أَذْنَبَهُ ابْنُ آدَمَ اسْتَحْوَذْتَ(1) عَلَيْهِ، قَالَ: إِذَا أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ، وَاسْتَكْثَرَ عَمَلَهُ، وَصَغُرَ فِي عَيْنِهِ ذَنْبُهُ. وَقَالَ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِدَاوُدَ: يَا دَاوُدُ، بَشِّرِ الْمُذْنِبِينَ، وَأَنْذِرِ الصِّدِّيقِينَ، قَالَ: كَيْفَ أُبَشِّرُ الْمُذْنِبِينَ وَأُنْذِرُ الصِّدِّيقِينَ؟ قَالَ: يَا دَاوُدُ، بَشِّرِ الْمُذْنِبِينَ أَنِّي أَقْبَلُ التَّوْبَةَ، وَأَعْفُو عَنِ الذَّنْبِ، وَأَنْذِرِ الصِّدِّيقِينَ أَنْ لا يُعْجَبُوا بِأَعْمَالِهِمْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ عَبْدٌ أَنْصِبُهُ لِلْحِسَابِ إِلَّا هَلَكَ»(2).
-----------------------------------------------------------------------------
على بطلان العمل بالعجب.سند الحديث:
للحديث سندان:
الأول: سند الكليني (رحمه الله) . ورجاله كلّهم ثقات، قد تقدّم ذكرهم.
والثاني: سند البرقي في «المحاسن»، وهو أيضاً صحيح.
[3] - فقه الحديث:
دلّ صدر الحديث على أن إبليس يستولي على ابن آدم عند ثلاث
ص: 327
حالات:
الأولى: إذا أعجبته نفسه، وهذا دليل ضعف عقله. والصفة التي تستوجب استحواذ إبليس على صاحبها مذمومة بلا ريب.
والثانية: إذا رأى أنّ ما يأتي به من عمل كثير، لاعتقاده أنّ عمله فوق حدّ استحقاق ربه سبحانه وتعالى من حيث الكيفية أو الكمية أو كليهما.
والثالثة: إذا رأى ذنبه صغيراً، فإن هذا من عظم جهله بمقام من يعصيه.
وأما ذيل الحديث: فقد بيّن أن الله تعالى يبشر المذنبين على لسان نبيه: بأنه يقبل التوبة من التائبين ويعفو عن الذنب ممن يتوب، وأنه تعالى أيضاً ينذر الصديقين - وهم المبالغون في الصدق والتصديق((1))، أو كثيرواالصدق((2))
- أن لا يعجبوا بأعمالهم التي يعملونها، فكلها قليلة في حقه تعالى مهما بلغت من الكثرة، ولا تستوجب استحقاق العبد للثواب، فإن الثواب تفضّل من الله تعالى، ولو حاسب الله تعالى العباد لهلكوا؛ لعدم استحقاقهم الثواب بأعمالهم مهما كانت، لأن الإتيان بالطاعات والإقدار عليها إنما هو بتهيئة الأسباب التي لا تتهيأ إلّا بكرمه عز وجل، ورفع الموانع التي لا ترتفع إلّا بكرمه سبحانه، ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً.
وجميع الطاعات التي يؤديها العبد لا تفي بشكر نعمة واحدة من نعمه
ص: 328
سبحانه، مع أن نعم الله تعالى لا تعد ولا تحصى. فالإحسان والإثابة تفضّل إلهيّ على العباد المتقربون لساحة القدس، ولا يشمل من كان بعيداً عن الله سبحانه بذنوبه.
فالحديث بصدد بيان: أن العجب رذيلة مهلكة، ومبعد عن الله تعالى، ومعرّض له للمداقّة في الحساب. وبه يحرم عن عفو الله ورحمته، وأنه من الذنوب الموجبة لاستحواذ وتسلط إبليس عليه.
والحاصل: أنّ هذا الحديث - أيضاً - قاصر الدلالة على أصل بطلان العبادة بالعجب، فضلاً عمّا إذا قارنها العجب؛ وذلك لأنّ بشارة المذنبين إنّما هي من جهة قبول توبتهم بعد الندم وحصول الذنب، لا فيما إذا وقع الذنبمقارناً للعجب في العبادة.
سند الحديث:
الحديث وإن رواه الكليني بسند فيه إرسال، إلّا أنّ مرسله يونس بن عبد الرحمن، الذي له مكانة معلومة، ومراسيله - كمراسيل ابن أبي عمير - في حكم المسانيد؛ بناءً على ما اخترناه في كتاب «أصول علم الرجال»((1)) .
ص: 329
[237] 4 - وَعَنْهُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُذْنِبُ الذَّنْبَ فَيَنْدَمُ عَلَيْهِ، وَيَعْمَلُ الْعَمَلَ فَيَسُرُّهُ ذَلِكَ، فَيَتَرَاخَى عَنْ حَالِهِ تِلْكَ. فَلأَنْ يَكُونَ عَلَى حَالِهِ تِلْكَ خَيْرٌ لَهُ ممّا دَخَلَ فِيهِ»(1).
وَرَوَاهُ الْحُسَيْنُ بْنُ سَعِيدٍ فِي كِتَابِ «الزُّهْدِ»، عَنْ محمّد بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، مِثْلَهُ(2).
-----------------------------------------------------------------------------
[4] - فقه الحديث:
هذا الحديث من حيث الدلالة كسابقه؛ إذ لا يدل على بطلان العبادة بالعجب، بل غاية ما يدل عليه أنّ حالة الندامة خير من حالة العجب والسرور بالعمل.
ويراد بالسرور في قوله (علیه السلام) : «ويعمل العمل فيسرّه ذلك»: الإدلال بالعمل، واستعظامه، وإخراج نفسه عن حدّ التقصير.
وقوله (علیه السلام) : «فيتراخى عن حاله تلك»، أي: تصير حاله بسبب هذا السرور والعجب أدون من حاله وقت الندامة.
سند الحديث:
للحديث سندان:
ص: 330
[238] 5 - وَعَنْهُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عليّ بْنِ أَسْبَاطٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ الْحَلاَّلِ، عَنْ عليّ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ (علیه السلام) ، قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنِ الْعُجْبِ الَّذِي يُفْسِدُ الْعَمَلَ؟ فَقَالَ: «الْعُجْبُ دَرَجَاتٌ، مِنْهَا: أَنْ يُزَيَّنَ لِلْعَبْدِ سُوءُ عَمَلِهِ، فَيَرَاهُ حَسَناً، فَيُعْجِبَهُ، وَيَحْسَبَ أَنَّهُ يُحْسِنُ صُنْعاً. وَمِنْهَا: أَنْ يُؤْمِنَ الْعَبْدُ بِرَبِّهِ، فَيَمُنَّ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَللَّهِ عَلَيْهِ فِيهِ الْمَنُّ»(1).
وَرَوَاهُ الصَّدُوقُ فِي «مَعَانِي الأَخْبَارِ»، عَنْ محمّد بْنِ الْحَسَنِ، عَنِ الصَّفَّارِ، عَنْ محمّد بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ عليّ بْنِ أَسْبَاطٍ، مِثْلَهُ(2).
-----------------------------------------------------------------------------
الأول: سند الكليني في «الكافي»، وهو معتبر؛ إذ المراد من مرجع الضمير في «عنه»: عليّ بن إبراهيم، والمراد من «أبيه»: هو إبراهيم بن هاشم.
والثاني: سند الحسين بن سعيد، وهو صحيح.
[5] - فقه الحديث:
تعرّض الحديث لبعض درجات العجب، فذكر درجتين:
الأولى: أن يزين الشيطان أو النفس للعبد العمل السيئ، وهذا يحصل له تدريجاً بسبب تكرار العمل حتّى يخف على نفس المؤمن فتتقبله بعد أن كان ثقيلاً؛ لكونه عملاً سيئاً، حتّى يراه العبد بعد ذلك حسناً بسبب تلبيس
ص: 331
الشيطان الرجيم والنفس الأمارة، وقد قال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً}((1))،
وقال سبحانه أيضاً: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}((2))، فإذا وصل العبد إلى هذه المرحلة وتجذّر العمل السيئ في قلبه واستخف به واستحقره تراه يرتكب ما هو أعظم منه حتّى تكون كبائر المعاصي حقيرة في نفسه، فلا تبقى عنده معصية كبيرة يصعب عليه اقتحامها، وينجرّ بعد ذلك لما هو أعظم وهو الكفر؛ قال تعالى {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون}((3))، وهذا يدل على أن العجب لا ينحصر في الأعمال الحسنة، بل يتعدّاها إلى الأعمال السيئة.الثانية: أن يمنّ على الله سبحانه بإيمانه، مع أنّ هذا الإيمان - وهو عمل باطني - هو من فضل الله تعالى، فله سبحانه المنّ على جميع العباد أن هداهم للإيمان.
لكن هذا الحديث - أيضاً - قاصر الدلالة على المدّعى، وهو بطلان العمل بطروء العجب؛ وذلك لأنّ الفساد بالنسبة إلى من يعمل عملاً سيّئاً ويراه حسناً - من خلال الاعتياد عليه، بحيث صار عنده من صفة الكمال - لم يطرأ
ص: 332
على العمل الصحيح حتّى يقال: إنّ إعجابه أفسد العمل، بل كان العمل فاسداً من الأول، فلا معنى لفساده بالعجب المقارن له.
وأمّا من كان مؤمناً باللَّه تعالى ويَمُنّ بعمله على ربّه سبحانه وتعالى فالفساد فيه أيضاً غير واضح؛ وذلك لأنّه لا معنى لكون العجب مبطلاً للإيمان؛ حيث إنّ الإيمان غير قابل للاتّصاف بالصحة والفساد. نعم، المَنّ على اللَّه تعالى - مع أنّه سبحانه له المنّة على جميع الخلق - يوجب انحطاط مقام العبد عند اللَّه تعالى، ولو بالإحباط من حسناته. وعليه فلا دلالة في هذا الحديث على بطلان العمل بالعجب، حتّى يقال بوجوب إعادته أو قضائه.
سند الحديث:
للحديث طريقان:
الأول: ما رواه الكليني (قدس سره) .
ورجال هذا الطريق كلّهم ثقات أجلّاء، قد تقدّم ذكرهم ما عدا:
أحمد بن عمر الحلاّل: الذي قال النجاشي عنه: أحمد بن عمر الحلاّل، كان يبيع الحَلَّ، يعني الشَّيْرج((1))، روى عن الرضا (علیه السلام) ، وله عنه مسائل ((2)) .
وقال الشيخ: «كان يبيع الحَل، كوفي، أنماطي، ثقة، ردي ء الأصل»((3)).
ص: 333
[239] 6 - وَعَنْهُ، عَنْ مُوسَى بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُوسَى، عَنْ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) ، قَالَ: «قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (علیه السلام) : إِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفِ عَقْلِهِ»(1).
-----------------------------------------------------------------------------
وعليه فهو ثقة. وأمّا الذمّ المذكور - من كونه رديء الأصل - فهو لا ينافي الوثاقة والنقل في الرواية.
وعليّ بن سويد: هو عليّ بن سويد السائي، من أصحاب الرضا (علیه السلام) ، وثّقه الشيخ في «رجاله»((2)).
الثاني: ما رواه الصدوق في «معاني الأخبار».وهذا الطريق أيضاً رجاله كلّهم ثقات أجلّاء، قد تقدّم ذكرهم، بما فيهم محمّد بن الحسين، وهو ابن أبي الخطاب.
وعليه فهذا الحديث بكلا طريقيه معتبر.
[6] - فقه الحديث:
هذا الحديث - كغيره من الأحاديث المتقدّمة - غير واضح الدلالة على بطلان العبادة بحصول العجب المقارن، فضلاً عن المتأخّر. وغاية ما يدل
ص: 334
عليه هو مرجوحيّة العجب، وأنّ المعجب بعمله قليل العقل؛ إذ لو كان له عقل كامل وعلم تامّ ومعرفة بما له جلّ شأنه من القوّة والقدرة والغلبة والعظمة والجلال، لعلم أنّ كلّ طاعة لا تتحقق إلّا بتوفيقه تعالى وتسديد منه سبحانه، وقد ورد عنهم (علیهم السلام) : «لا تحمد - يا سيدي - إلّا بتوفيق منك يقتضي حمداً، ولا تشكر على أصغر منّة إلّا استوجبت بها شكراً، فمتى تحصى نعماؤك يا إلهي، وتجازى آلاؤك يا مولاي، وتكافأ صنايعك يا سيدي. ومن نعمك يحمد الحامدون، ومن شكرك يشكر الشاكرون»((1))،
فكيف للعبد - مع كلّ هذه النعم الكثيرة - أن يعجب بعمله اليسير، ويعدّ نفسه قائماً بحقوق العبودية والألوهيّة؟!
سند الحديث:
أمّا الكليني وعلي بن إبراهيم، فهما ثقتان جليلان، قد تقدّمت ترجمتهما.
وأمّا موسى بن إبراهيم: فهو موسى بن إبراهيم، المحاربي؛ بقرينة بعض، ولم يرد فيه توثيق.
وأمّا الحسن بن موسى: فلم يعلم من هو، ومن المحتمل أن يراد به: الحسن بن موسى الخشّاب، الذي مدحه النجاشي بقوله: «من وجوه أصحابنا، مشهور، كثير العلم والحديث»((2)).
ص: 335
[240] 7 - وَعَنْ محمّد بْنِ يَحْيَى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ محمّد بْنِ عِيسَى، عَنْ عليّ بْنِ أَسْبَاطٍ، عَنْ رَجُلٍ يَرْفَعُهُ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) ، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّ الذَّنْبَ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الْعُجْبِ، وَلَوْلا ذَلِكَ مَا ابْتُلِيَ مُؤْمِنٌ بِذَنْبٍ أَبَداً»(1).
-----------------------------------------------------------------------------
وأمّا موسى بن عبد اللَّه: فهو مشترك بين جماعة، ولعلّه موسى بن عبداللَّه بن سعد الأشعري، الذي ورد فيه: أنّه من أهل بيت نجباء((2)).
وأمّا ميمون بن علي: فلم يذكر عنه سوى أنّه روى عن أبي عبداللَّه (علیه السلام) ، وروى عنه موسى بن عبد اللَّه، كما في هذا الحديث. ويحتمل أن يكون مقلوب «علي بن ميمون»، الذي له كتاب((3)).
وعليه: فالرجل مجهول الحال.
وقد تلخّص ممّا سبق: أنّ هذا الطريق ضعيف.
[7] - فقه الحديث:
هذا الحديث يدلّ على أنّ الذنب خير من العمل الذي يعجب الإنسان، وأنّ العجب أشدّ منه؛ وذلك لأنّ الذنب يزول بالتوبة، ويكفّر بالطاعات. وأمّا العجب فهو من الصفات الخبيثة المهلكة التي يصعب إزالتها، والبالغة
ص: 336
وَرَوَاهُ الصَّدُوقُ فِي «الْعِلَلِ»، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعْدٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ محمّد بْنِ عِيسَى، عَنْ عليّ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ عليّ بْنِ أَسْبَاطٍ، مِثْلَهُ(1)1*).
-----------------------------------------------------------------------------
بالإنسان إلى ما لا يرضى به اللَّه سبحانه؛ لما فيه من الآفات الكثيرة، من أدائه إلى الكبر، وإلى نسيان الذنوب وإهمالها، فبعض ذنوبه لا يذكرها، ولا يتفقّدها لظنّه أنّه مستغن عن تفقّدها فينساها، وأمّا الذي يتذكّره منها فإنّه يستصغرها، فلا يجتهد في تداركها. ثمّ المعجب يغترّ بنفسه ويستهين بربّه، ويأمن مكره وعذابه، ويظن أنّه عند اللَّه بمكان، وأنّ له على اللَّه منّة وحقّاًبأعماله التي هي نعمة من نعمه، وعطيّة من عطاياه. ثمّ إنّ إعجابه بنفسه ورأيه وعمله وعقله يمنعه من الاستفادة والاستشارة والسؤال، فيستنكف من سؤال من هو أعلم منه، وربّما يعجب بالرأي الخاطى ء الذي خطر له، فيصرّ عليه، وآفات العجب أكثر من أن تحصى.
وعلى هذا يكون العجب مبغوضاً عقلاً، ومحرّماً شرعاً. وأمّا بطلان العمل به مقارناً كان أو متأخراً فلا يستفاد من هذا الحديث.
سند الحديث:
للحديث طريقان، في كليهما إرسال، وتقدّم من كان مذكوراً فيهما.
ص: 337
[241] 8 - وَعَنْهُ(1)، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جَنَاحٍ، عَنْ أَخِيهِ أَبِي عَامِرٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) ، قَالَ: «مَنْ دَخَلَهُ الْعُجْبُ هَلَكَ»(2).
-----------------------------------------------------------------------------
[8] - فقه الحديث:
تقدّم مضمونه في الحديث الأول.
سند الحديث:
الظاهر: أنّ الضمير في «وعنه» يرجع إلى أحمد بن محمّد بن عيسى، لا إلى محمّد بن يحيى، وهو الصحيح؛ بقرينة سائر الروايات، ولعدم إمكان رواية محمّد بن يحيى عن سعيد بن جناح بحسب الطبقة.
وأمّا سعيد بن جناح: فقد قال النجاشي في ترجمته: سعيد بن جناح، أصله كوفي، نشأ ببغداد ومات بها، مولى الأزد. ويقال: مولى جُهَيْنة، وأخوه أبو عامر، روى عن أبي الحسن والرضا (علیهما السلام) ، وكانا ثقتين((3))،
وذكره مرة ثانية، قائلاً: سعيد بن جناح الأزدي، روى عن الرضا (علیه السلام) ، له كتاب يرويه جماعة((4)).
وأمّا أبو عامر: فهو أبو عامر بن جناح، قد اتّضح حاله بما بيّناه في ترجمة أخيه سعيد بن جناح من حيث الوثاقة.
ص: 338
[242] 9 - وَعَنْهُ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ محمّد بْنِ سِنَانٍ، عَنْ نَضْرِ بْنِ قِرْوَاشٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) ، قَالَ:«أَتَى عَالِمٌ عَابِداً فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ صَلاتُكَ؟ فَقَالَ: مِثْلِي يُسْأَلُ عَنْ صَلاتِهِ، وَأَنَا أَعْبُدُ اللَّهَ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا؟! قَالَ: فَكَيْفَ بُكَاؤُكَ؟ فَقَالَ: أَبْكِي حتّى تَجْرِيَ دُمُوعِي، فَقَالَ لَهُ الْعَالِمُ: فَإِنَّ ضَحِكَكَ وَأَنْتَ خَائِفٌ أَفْضَلُ مِنْ بُكَائِكَ وَأَنْتَ مُدِلٌّ(1)؛ إِنَّ الْمُدِلَّ لا يَصْعَدُ مِنْ عَمَلِهِ شَيْ ءٌ»(2).
وَرَوَاهُ الْحُسَيْنُ بْنُ سَعِيدٍ فِي كِتَابِ «الزُّهْدِ»، عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ محمّد بْنِ سِنَانٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ، مِثْلَهُ(3).
-----------------------------------------------------------------------------
وأمّا قوله عن رجل، فهو مجهول، ومعه يدخل الحديث في المراسيل، ولا يمكن أن نعتمد عليه في مقام الاستدلال.
نعم، يمكن أن يكون مؤيّداً للأحاديث الدالة على الحرمة التكليفيّة للعجب، كما تقدّم.
[9] - فقه الحديث:
هذا الحديث أيضاً ليس فيه دلالة على فساد العبادة بالعجب.
ص: 339
والمراد من عدم الصعود هنا هو: الكناية عن قلّة الأجر والثواب المترقّب منها، وإلّا إذا قلنا: بأن عمله مردود عند اللَّه تعالى؛ إذ لا يصعد إليه إلّا العمل الصالح، للزم الحكم ببطلان عبادة عاقّ الوالدين، وآكل الربا، ونحوهما ممّا ورد: أنّ العمل معه لا يصعد((1)).
سند الحديث:
للحديث طريقان:
الأول: ما رواه الكليني (قدس سره) .
وهذا الطريق رجاله كلهم ثقات، قد تقدّم ذكرهم، ما عدا:
نضر بن قرواش: وهو وإن لم يوثّق صريحاً في كتب الرجال، إلّا أنّه وردت رواية المشايخ الثقات عنه((2)) ، وهذا يكفينا في الاعتماد عليه.
وأما محمّد بن سنان: فقد بنينا على وثاقته((3))، وإن ذهب جماعة إلىضعفه. وعليه فهذا السند معتبر.
الثاني: ما رواه الحسين بن سعيد في كتاب «الزهد».
وهذا الطريق معتبر كسابقه.
ص: 340
[243] 10 - وَعَنْهُ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحَدِهِمَا (علیهما السلام) ، قَالَ: «دَخَلَ رَجُلانِ الْمَسْجِدَ، أَحَدُهُمَا عَابِدٌ وَالآخَرُ فَاسِقٌ، فَخَرَجَا مِنَ الْمَسْجِدِ، وَالْفَاسِقُ صِدِّيقٌ، وَالْعَابِدُ فَاسِقٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ يَدْخُلُ الْعَابِدُ الْمَسْجِدَ مُدِلًّا بِعِبَادَتِهِ، يُدِلُّ بِهَا، فَتَكُونُ فِكْرَتُهُ فِي ذَلِكَ، وَتَكُونُ فِكْرَةُ الْفَاسِقِ فِي التَّنَدُّمِ عَلَى فِسْقِهِ، وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ممّا صَنَعَ مِنَ الذُّنُوبِ»(1).
وَرَوَاهُ الصَّدُوقُ فِي «الْعِلَلِ»، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ محمّد بْنِ يَحْيَى، عَنْ محمّد بْنِ أَحْمَدَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ محمّد رَفَعَهُ، عَنِ الصَّادِقِ (علیه السلام) ، نَحْوَهُ(2).
-----------------------------------------------------------------------------
[10] - فقه الحديث:
هذا الحديث أيضاً يمكن المناقشة في شموله للحرمة الوضعيّة؛ وذلك لأنّ صيرورة العابد فاسقاً من جهة العجب لا دلالة له على ابطاله لأعماله، وإنّما وجهه: أنّ العجب قد يبلغ بالإنسان مرتبة يَمُنّ بعمله على اللَّه، أو يعتقد: أنّه في مرتبة الإمامة والنبوّة، وينتظر نزول جبرئيل، وقد يبكي، ويتعجّب من تأخير نزوله، وغير ذلك ممّا يوجب فسقه، بل كفره.
وأمّا صيرورة الفاسق صدّيقاً - أي: مؤمناً صادقاً في إيمانه كثير الصدق
ص: 341
والتصديق قولاً وفعلاً - فهو من جهة ندمه وتوبته، وأنّه بالتندّم تتبدّل السيّئة حسنة، كما أشارت إلى ذلك الآية المباركة: {فأُولئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ}((1))
في حقّ التائبين من الذنوب، وهذا بخلاف العجب بالعبادة؛ لأنّه يذهب بثوابها((2)).
سند الحديث:
للحديث طريقان، كلاهما مرسل، وفي السند ممّن لم يتقدم نحو:
أحمد بن أبي داود: وهو مجهول، لم يرد فيه شي ء.
ص: 342
[244] 11 - أَحْمَدُ بْنُ محمّد الْبَرْقِيُّ فِي «الْمَحَاسِنِ»، عَنِ ابْنِ سِنَانٍ، عَنِ الْعَلاءِ، عَنْ خَالِدٍ الصَّيْقَلِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام) ، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ فَوَّضَ الأَمْرَ إِلَى مَلَكٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ، فَخَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَسَبْعَ أَرَضِينَ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّ الأَشْيَاءَ قَدِ انْقَادَتْ لَهُ، قَالَ: مَنْ مِثْلِي؟ فَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ نُوَيْرَةً مِنَ النَّارِ». قُلْتُ: وَمَا النُّوَيْرَةُ؟ قَالَ: «نَارٌ مِثْلُ الأَنْمُلَةِ، فَاسْتَقْبَلَهَا بِجَمِيعِ مَا خَلَقَ، فَتَخَيَّلَ(1) لِذَلِكَ حتّى وَصَلَتْ إِلَى نَفْسِهِ؛ لِمَا دَخَلَهُ الْعُجْبُ»(2).(3)
-----------------------------------------------------------------------------
[11] - فقه الحديث:
الحديث - كسابقه - لا دلالة له على بطلان العمل بالعجب، بل غاية ما يدل عليه: أنّ العجب صفة مذمومة، موبقة للإنسان، وموجبة لحبط أجره، ولهلاكه. فينبغي للإنسان المؤمن الابتعاد عن هذه الصفة القبيحة؛ لما فيها من التكبّر على عباد اللَّه وعلى اللَّه، مع أنّه لابدّ أن تكون القربة التي يتقرّب بها المرء إليه مقرونة بالتذلّل والخضوع. ولا شبهة أنّ العجب بالمعنى الذي ذكرناه في أوّل الباب ينافي الخشوع والتذلّل له سبحانه وتعالى.
ص: 343
وَرَوَاهُ الصَّدُوقُ فِي «عِقَابِ الأَعْمَالِ»، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ محمّد بْنِ سِنَانٍ، عَنِ الْعَلاءِ، عَنْ أَبِي خَالِدٍ الصَّيْقَلِ، مِثْلَهُ(1).
-----------------------------------------------------------------------------
سند الحديث:
للحديث طريقان:
الأول: ما رواه أحمد بن محمّد البرقي في «المحاسن»، عن ابن سنان، عن العلاء، عن خالد الصيقل.
أمّا أحمد بن محمّد البرقي: فهو ثقة جليل، وقد تقدّم.
وأمّا ابن سنان، فالظاهر: أنّه محمّد بن سنان، لا عبد اللَّه بن سنان؛ لأنّه قد ثبت رواية البرقي عنه كثيراً، ولم يثبت روايته عن عبد اللَّه بن سنان؛ لتأخّر البرقي طبقة، فلا يروي بلا واسطة عن عبد اللَّه، الذي هو من أصحاب الصادق (علیه السلام) .
ثمّ إنّ محمّد بن سنان قد وقع محلاًّ للكلام، فقد وثّقه بعض، وضعّفه بعض آخر، وحيث بنينا في محلّه على وثاقته وتصحيح رواياته فلا إشكال عندنا من ناحيته.
وأمّا العلاء: فهو مردّد بين العلاء بن الفضيل بن يسار والعلاء بن
ص: 344
رزين القلاّء. وكلاهما ثقتان، وثّقهما النجاشي((1))، وإن كان الظاهر أنه الأول، لأنه هو الذي يروي عنه محمّد بن سنان كثيراً، ولعدم ثبوت رواية محمّد بن سنان عن الثاني إلّا في موارد قليلة.
وأمّا خالد الصيقل: فلم يذكر في كتب الرجال بمدح ولا قدح.
وعليه: فهذا الطريق ضعيف؛ لجهالة خالد الصيقل.
الثاني: ما رواه الصدوق في «عقاب الأعمال»، عن أبيه، عن سعد بن عبد اللَّه، عن أحمد بن أبي عبد اللَّه، عن أبيه، عن محمّد بن سنان، عن العلاء، عن أبي خالد الصيقل.
وهذا الطريق أيضاً ضعيف، لجهالة خالد الصيقل أو أبي خالد. وعليه فكلا الطريقين محكومان بعدم الاعتبار.
ص: 345
[245] 12 - وَعَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ يُونُسَ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَوْ عليّ بْنِ الْحُسَيْنِ÷، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله و سلم)» - فِي حَدِيثٍ - : ثَلاثٌ مُهْلِكَاتٌ: شُحٌّ(1) مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ»(2).
-----------------------------------------------------------------------------
[12] - فقه الحديث:
قد عدّ(صلی الله علیه و آله و سلم) العجب بالنفس في هذا الحديث من جملة المهلكات التي تؤدّي بفاعلها إلى الهلاك؛ لما يترتّب عليه من التكبّر أو التحقير للآخرين، أو تحقير اللَّه سبحانه، أو غير ذلك، ولا دلالة له على إبطاله العمل والعبادة.
وقد مرّ لهذا الحديث نظير، وهو الحديث الثامن من هذا الباب.
سند الحديث:
روى الحديث أحمد بن محمّد البرقي في «المحاسن».
ورجال هذا الطريق كلهم ثقات أجلّاء، قد تقدّم ذكرهم.
ص: 346
[246] 13 - وَعَنْ هَارُونَ بْنِ الْجَهْمِ، عَنْ أَبِي جَمِيلَةَ مُفَضَّلِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام) ، قالَ - فِي حَدِيثٍ - : «ثَلاثٌ مُوبِقَاتٌ: شُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ»(1).
وَرَوَاهُ الصَّدُوقُ فِي «مَعَانِي الأَخْبَارِ»، عَنْ محمّد بْنِ الْحَسَنِ، عَنِ الصَّفَّارِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ محمّد عَنِ الْبَرْقِيِّ، مِثْلَهُ(2).
-----------------------------------------------------------------------------
[13] - فقه الحديث:
هذا الحديث من حيث الدلالة كسابقه، والموبقات هي: المهلكات.
سند الحديث:
له طريقان:
الأول: ما رواه أحمد بن محمّد البرقي في «المحاسن».
أمّا هارون بن الجهم: فقد قال النجاشي في ترجمته: «هارون بن الجهم بن ثوير بن أبي فاختة، سعيد بن جهمان، مولى اُم هانئ بنت أبي طالب،وابن الجهم روى عن أبي عبد اللَّه (علیه السلام) ، كوفي، ثقة»((3)).
ص: 347
وأمّا أبو جميلة مفضّل بن صالح: فقد تقدمت ترجمته، وهو ضعيف، على ما ذكره النجاشي في ترجمة جابر بن يزيد، من أنّه «روى عنه جماعة، غُمِزَ فيهم وضعّفوا، منهم: عمرو بن شمر، ومفضّل بن صالح، ومنخل بن جميل، ويوسف بن يعقوب»((1)).
ولكن هذا التضعيف معارض برواية المشايخ الثقات الذين لا يروون ولايرسلون إلّا عن الثقات، وكذلك بوروده في أسناد «تفسير القمي»((2)).
ويمكن الجمع بينهما بأن يقال: إنّ التضعيف من جهة نسبة الغلوّ إليه، لا من جهة الضعف في نفسه، والشاهد على هذا الجمع: أنّ الشيخ ذكره في «الفهرست» و«الرجال»، ولم يتعرّض لضعفه. وعليه فالأقوى وثاقته؛ لما ذكرنا.
وهذا - كما ترى - توثيق صريح من الشيخ في حقه؛ لأنّ كون راوٍ صحيح الحديث إنّما يصحّ إذا كان ثقة في إخباره. ويضاف إلى ذلك وقوعه في أسناد «تفسير القمي»((1)).
وأمّا قول النجاشي عنه: «إنّه يعرف وينكر» فلا يكون مانعاً عن وثاقته؛ إذ لا تنافي بين وثاقة الراوي وروايته أموراً منكرة من جهة كذب من حدّثه بها؛ لحسن ظنّه به، أو لغير ذلك من الأسباب، فالنتيجة: أنّ الرجل ثقة يعتمد على رواياته.
وعليه فهذا الطريق معتبر، والظاهر أن كلمة «أبيه» ساقطة من الناسخ، أو أنَ عدم ذكرها اعتماداً على الحديث السابق (الحادي عشر).
الثاني: ما رواه الصدوق في «معاني الأخبار».
وهذا الطريق أيضاً رجاله كلّهم ثقات أجلّاء، قد تقدّم ذكرهم.
والمراد بأحمد بن محمّد في هذا السند هو: أحمد بن محمّد بن عيسى الأشعري، كما صرّح باسمه في «المعاني». وعليه فهذا الحديث بكلا طريقيه معتبر.
ص: 349
[247] 14 - وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ عَمْرٍو النَّصِيبِيِّ، عَنِ السَّرِيِّ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ آبَائِهِ (علیهم السلام) - فِي وَصِيَّةِ النَّبِيِّ(صلی الله علیه و آله و سلم) لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (علیه السلام) - قَالَ: «لا مَالَ أَعْوَدُ مِنَ الْعَقْلِ، وَلا وَحْدَةَ أَوْحَشُ مِنَ الْعُجْبِ»، الْحَدِيثَ(1).
-----------------------------------------------------------------------------
[14] - فقه الحديث:
في بعض النسخ: «ولا وحشة أوحش من العجب».
وهذا الحديث أيضاً لا يدل على إفساد العجب للعبادة. والوجه في كون العجب أوحش من الوحدة هو: أنّ المعجب بنفسه وأعماله يحقّر خلق اللَّه؛ لأنّه يتوقّع منهم الاحترام والتعظيم له، فيصير ذلك سبباً لوحشة الناس عنه، أو نحو ذلك ممّا يوجب الرغبة عنه، فيبقى وحيداً.
سند الحديث:
روى الحديث أحمد بن محمّد البرقي.
أما حماد بن عمرو النصيبي: فلم يذكر في كتبنا الرجاليّة بمدح ولا قدح، ولكن نسب في كتب العامة إلى الضعف.
فعن البخاري: أنّه منكر الحديث، وعن النسائي: متروك الحديث، وعنابن معين: ليس بشي ء، وعن أبي زرعة: واهي الحديث، وعن أبي حاتم: منكر الحديث، ضعيف الحديث جداً ((2)).
ص: 350
[248] 15 - محمّد بْنُ عليّ بْنِ الْحُسَيْنِ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عَمْرٍو وَأَنَسِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ جَمِيعاً، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ آبَائِهِ (علیهم السلام) - فِي وَصِيَّةِ النَّبِيِّ(صلی الله علیه و آله و سلم) لِعَلِيٍّ (علیه السلام) - قَالَ: «يَا عَلِيُّ، ثَلاثٌ مُهْلِكَاتٌ: شُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ»(1).
-----------------------------------------------------------------------------
وأما السَّرِيّ بن خالد: فعدّه الشيخ (رحمه الله) من أصحاب الصادق (علیه السلام) ((2))، وروى عنه المشايخ الثقات((3)).
وهذا كاف في الحكم بالوثاقة. وعليه فهذا الطريق غير معتبر؛ لجهالة حمّاد بن عمرو النصيبي.
[15] - فقه الحديث:
مرّ نظير هذا الحديث متناً، وكذلك سنداً((4))، وقد قلنا: إن السند ضعيفبطريقيه، ويمكن تصحيحه عن طريق شهادة الصدوق بأن كتابه مأخوذ من الكتب المشهورة المعوّل عليها.
ص: 351
[249] 16 - وَبِإِسْنَادِهِ، عَنْ محمّد بْنِ زِيَادٍ - يَعْنِي: ابْنَ أَبِي عُمَيْرٍ - عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنِ الصَّادِقِ (علیه السلام) - فِي حَدِيثٍ - قَالَ: «وَإِنْ كَانَ الْمَمَرُّ عَلَى الصِّرَاطِ حَقّاً فَالْعُجْبُ لِمَاذَا؟!»(1)1*) و(2)2*).
-----------------------------------------------------------------------------[16] - فقه الحديث:
وهذا الحديث أيضاً لا دلالة له على بطلان العمل بالعجب، ولا على حرمته بوجه؛ لأنّه نظير ما ورد في فقرة من الحديث من: أنّ الممات إذا كان حقّاً فالحرص على جمع المال لماذا ؟ وكذا سائر فقراته، وظاهر أنّ الحرص على جمع المال لا حرمة فيه، وإنّما تدل على أنّ الممرّ على الصراط - مع تلك الدقّة والخوف من الوقوع في النار - إذا كان حقّاً
ص: 352
ووصول كلّ أحد إلى ما عمله فالعجب لماذا؟! أي: لا معنى له.
سند الحديث:
روى الحديث محمّد بن عليّ بن الحسين الصدوق، بإسناده عن ابن أبي عمير، عن أبان بن عثمان.
وهذا الطريق رجاله كلّهم ثقات أجلّاء، قد تقدّم ذكرهم، بما فيهم طريق الصدوق إلى ابن أبي عمير، الذي ذكره في «المشيخة» بقوله: وما كان فيه عن محمّد بن أبي عمير فقد رويته عن أبي، ومحمد بن الحسن رضي اللَّه عنهما، عن سعد بن عبد اللَّه، والحميري جميعاً، عن أيّوب بن نوح، وإبراهيم بن هاشم، ويعقوب بن يزيد، ومحمد بن عبد الجبار جميعاً، عن محمّد بن أبي عمير((1)).وله (رحمه الله) طريق آخر صحيح على ما يظهر من «الفهرست» إلى جميع كتب وروايات محمّد بن أبي عمير((2)). وعليه فيعلم أنّ له إليه طريقين، كلاهما صحيح.
ص: 353
[250] 17 - وَفِي «الْعِلَلِ» وَفِي «التَّوْحِيدِ»، عَنْ طَاهِرِ بْنِ محمّد بْنِ يُونُسَ، عَنْ محمّد بْنِ عُثْمَانَ الْهَرَوِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ يَحْيَى، عَنْ صَدَقَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ(صلی الله علیه و آله و سلم)، عَنْ جَبْرَئِيلَ - فِي حَدِيثٍ - قَالَ: «قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: مَا يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ... وَإِنَّ مِنْ عِبَادِيَ الْمُؤْمِنِينَ لَمَنْ يُرِيدُ الْبَابَ مِنَ الْعِبَادَةِ، فَأَكُفُّهُ عَنْهُ؛ لِئَلَّا يَدْخُلَهُ عُجْبٌ، فَيُفْسِدَهُ»(1).
-----------------------------------------------------------------------------
[17] - فقه الحديث:
قد يقال باستفادة بطلان العمل بالعجب من هذا الحديث؛ وذلك لأنّ الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم) أسند إفساد العمل والعبادة إليه.
وهذا الاستدلال إنّما يصح إذا تعيّن رجوع الضمير في قوله(صلی الله علیه و آله و سلم): «فيفسده» إلى العمل، وليس كذلك، بل من المحتمل رجوعه إلى العامل نفسه. بمعنى: من فيه العجب هو فاسد بلحاظ الأخلاق، وفساد الشخص لا يوجب فساد العمل الصحيح الصادر عنه. وعليه فالحديث أجنبيّ عن المقام.
سند الحديث:
في السند عدّة مجاهيل:
ص: 354
أمّا طاهر بن محمّد بن يونس: فهو من مشايخ الصدوق، ولم يرد فيه توثيق.
وأمّا محمّد بن عثمان الهروي: فهو - أيضاً - مجهول، لم يذكر في كتب الرجال. نعم، ترجمه العامة، كما عن الخطيب البغدادي بقوله: «محمد بن عثمان بن عبد الجليل بن نضر بن محمد، أبو بكر، الهرويّ»((1)) .
وأما الحسن بن مهاجر وهشام بن خالد والحسن بن يحيى وصدقة بن عبد اللَّه: فلم يذكروا في الكتب الرجاليّة بشي ء من الوثاقة والمدح.
وأمّا هشام: فهو مشترك بين جماعة. والظاهر - بحسب الطبقة - أنّه هشام بن عمارة الكناني، وهو - أيضاً - لم يرد فيه شي ء.
وأمّا أنس، فقد تقدّم الكلام فيه سابقاً، فلاحظ.
وعليه: فسند هذا الحديث من العامة، وهو غير معتبر؛ لوجود عدّة مجاهيل فيه.
ص: 355
[251] 18 - وَفِي «الأَمَالِي» - وَيُقَالُ لَهُ «الْمَجَالِسُ» - عَنْ عليّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مُوسَى، عَنْ محمّد بْنِ هَارُونَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، عَنْ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْحَسَنِيِّ، عَنْ عليّ بْنِ محمّد الْهَادِي(1)، عَنْ آبَائِهِ (علیهم السلام) ، قَالَ: «قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (علیه السلام) : مَنْ دَخَلَهُ الْعُجْبُ هَلَكَ»(2).
-----------------------------------------------------------------------------
[18] - فقه الحديث وسنده:
مرّ نظير هذا الحديث متناً وسنداً((3))، والسند ضعيف، ويمكن تصحيحه عن طريق الصدوق المعتبر إلى عبد العظيم الحسني .
ص: 356
[252] 19 - محمّد بْنُ الْحَسَنِ فِي «الْمَجَالِسِ وَالأَخْبَارِ»، عَنْ جَمَاعَةٍ، عَنْ أَبِي الْمُفَضَّلِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْعَلَوِيِّ، عَنْ عليّ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ الْقَاسِمِ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ الْحُسَيْنِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ الصَّادِقِ، عَنْ آبَائِهِ (علیهم السلام) ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله و سلم): لَوْ لا أَنَّ الذَّنْبَ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الْعُجْبِ مَا خَلَّى اللَّهُ بَيْنَ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ وَبَيْنَ ذَنْبٍ أَبَداً»(1)1*).
-----------------------------------------------------------------------------
[19] - فقه الحديث:
قد تقدّم مضمون هذا الحديث في الحديث السابع.
سند الحديث:
في السند ممّن لم يتقدم، نحو:
عليّ بن القاسم بن الحسين والقاسم بن الحسين: والظاهر أنّه ابن الحسين بن زيد، وعلي حفيده. ولم يرد فيهما توثيق.
وأمّا الحسين بن زيد: فهو الحسين بن زيد بن عليّ بن الحسين، أبو عبد اللَّه، يلقّب ذا الدمعة، كان أبو عبد اللَّه (علیه السلام) تبنّاه وربّاه وزوّجه ببنت (بنت)الأرقط، روى عن أبي عبد اللَّه وأبي الحسن (علیهما السلام) ((2)).
ص: 357
[253] 20 - الْحُسَيْنُ بْنُ سَعِيدٍ فِي «كِتَابِ الزُّهْدِ»، عَنْ محمّد بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ يُونُسَ، عَنِ الثُّمَالِيِّ، عَنْ أَحَدِهِمَا (علیهما السلام) ، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: إِنَّ مِنْ عِبَادِي لَمَنْ يَسْأَلُنِي الشَّيْ ءَ مِنْ طَاعَتِي لأُحِبَّهُ، فَأَصْرِفُ ذَلِكَ عَنْهُ؛ لِكَيْلا يُعْجِبَهُ عَمَلُهُ»(1).
-----------------------------------------------------------------------------
وهو وإن لم يوثّق صريحاً في كتب الرجال، إلّا أنّه محكوم بالوثاقة؛ لرواية المشايخ
الثقات عنه، ولوروده في أسناد «نوادر الحكمة»((2)).
[20] - فقه الحديث وسنده:
مرّ الكلام في نظير هذا الحديث متناً وسنداً((3))، وقلنا: إن السند معتبر.
ص: 358
[254] 21 - وَبِالإِسْنَادِ، عَنِ الثُّمَالِيِّ، عَنْ عليّ بْنِ الْحُسَيْنِ (علیه السلام) ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله و سلم): ثَلاثٌ مُنْجِيَاتٌ: خَوْفُ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلانِيَةِ، وَالْعَدْلُ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَالْقَصْدُ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ. وَثَلاثٌ مُهْلِكَاتٌ: هَوىً مُتَّبَعٌ، وَشُحٌّ مُطَاعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ»(1)1*).
[255] 22 - محمّد بْنُ الْحُسَيْنِ الرَّضِيُّ الْمُوسَوِيُّ فِي «نَهْجِ الْبَلاغَةِ»، عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (علیه السلام) ، قَالَ: «سَيِّئَةٌ تَسُوؤُكَ خَيْرٌ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ حَسَنَةٍ تُعْجِبُكَ»(2)2*).
-----------------------------------------------------------------------------
[21] - فقه الحديث وسنده:
مرّ نظير هذا الحديث متناً وسنداً، وسنده أيضاً معتبر((3)).
[22] - فقه الحديث:
مرّ الكلام في نظير هذا الحديث، وقلنا: إن أفضليّة السيّئة المتعقّبة بالتوبة من جهة تبدّلها إلى الحسنة؛ لقوله تعالى: {إلَّا مَنْ تابَ وآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فأُولئكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سيِّئاتِهِم حَسَنَاتٍ}((4))، بخلاف العبادةمع العجب؛ لأنّه يذهب بثوابها، ولا تتبّدل إلى حسنة، ومع ذلك لا دلالة له على
ص: 359
[256] 23 - قَالَ: وَقَالَ (علیه السلام) : «الإِعْجَابُ يَمْنَعُ الازْدِيَادَ»(1)1*).
-----------------------------------------------------------------------------
إبطال العجب للعمل.
سند الحديث:
قد مرّ الكلام فيه((2)).
[23] - فقه الحديث:
معنى الحديث: أنّ الإعجاب بالنفس يمنع من الاستكثار من الطاعات؛ لأنّ المعجب بنفسه يرى أنّه قد بلغ الغرض ووصل إلى الغاية في العبادة، وإنّما يطلب الزيادة من يستشعر التقصير، لا من يتخيّل أنّه بلغ الكمال والغاية القصوى.
وهو - كما ترى - لا يدل على البطلان.
سند الحديث:
قد مرّ الكلام فيه((3)).
ص: 360
[257] 24 - قَالَ: وَقَالَ (علیه السلام) : «عُجْبُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ أَحَدُ حُسَّادِ عَقْلِهِ»(1)1*).
-----------------------------------------------------------------------------
[24] - فقه الحديث:
الحاسد: هو الذي يتمنّى زوال النعمة عن الغير، ويتمنّى وصولها إليه، وقد لا يتمنّى الوصول، فهو يحول بين الإنسان وبين مصالحه، وكذلك العجب يحول بين العقل ونعمة الكمال، فيؤثّر في منعه من الاستكثار من الطاعات، فيكون حاسداً له.
وهو - كما ترى - لا دلالة له على بطلان العبادة بالعجب.
سند الحديث:
قد مرّ الكلام فيه((2)).
ص: 361
[258] 25 - الْحَسَنُ بْنُ محمّد الطُّوسِيُّ فِي «مَجَالِسِهِ»، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْمُفِيدِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عليّ بْنِ مَهْرَوَيْهِ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ الرِّضَا، عَنْ آبَائِهِ، عَنْ عَلِيٍّ (علیهم السلام) ، قَالَ: «الْمُلُوكُ حُكَّامٌ عَلَى النَّاسِ، وَالْعِلْمُ حَاكِمٌ عَلَيْهِمْ. وَحَسْبُكَ مِنَ الْعِلْمِ أَنْ تَخْشَى اللَّهَ، وَحَسْبُكَ مِنَ الْجَهْلِ أَنْ تُعْجَبَ بِعِلْمِكَ»(1)1*).
أَقُولُ: وَتَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ(2)2*)، وَيَأْتِي مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى(3)3*).
-----------------------------------------------------------------------------
[25] - فقه الحديث:
لا دلالة للحديث على فساد العمل بالعجب، وإنّما يدل على أنّ الاعجاب بالعلم ناشئٌ عن الجهل، فيكون العجب مرجوحاً، فلا ربط له بالعمل.
سند الحديث:
قد تكلّمنا حول السند في الباب السابق، الحديث الخامس((4))،
فلا نعيد.
والمتحصّل: أنه لا دلالة في شي ء من تلك الأحاديث على بطلان العملبالعجب، مقارناً كان أو متأخّراً، بل الثاني أولى بعدم البطلان. كيف، مع أنّ
ص: 362
الكفر أشدّ منه بمراتب، وهو لا يبطل الأعمال الواقعة حال الإسلام؟!
نعم، أحاديث الباب تدلّ على أنّه من الصفات الخبيثة المهلكة، البالغة بالإنسان إلى ما لا يرضى به اللَّه سبحانه، فينبغي أن يجاهد المرء بكل ما أوتي من قوّة للابتعاد عنه؛ حتّى لا يقع فيما ذكر، وقد مرّ علاج ذلك بما هو المستفاد من الأحاديث.
ويستفاد أيضاً من أحاديث الباب أمور:
الأول: أنّ العجب بالأعمال يوجب الهلاك.
الثاني: أنّ العجب بالنفس من المهلكات.
الثالث: أنّ العجب يوجب البعد عن اللَّه تعالى.
الرابع: أنّ العجب مفسد للعمل بالمعنى الذي ذكرناه سابقاً.
الخامس: أنّ العجب دليل على ضعف العقل.
السادس: أنّ العجب بالعلم يكفي دليلاً على الجهل.
السابع: أنّ العجب إنذار للصدّيقين.
الثامن: أنّ العجب يمنع الازدياد.
التاسع: أنّ الرجل المذنب التائب أفضل حالاً من المعجب.
العاشر: أنّه لا وحدة أوحش من العجب.
الحادي عشر: أنّ المعجب المدلّ لا يصعد من عمله شي ء.
ص: 363
ص: 364
-----------------------------------------------------------------------------
24 - باب جواز السرور بالعبادة من غير عجب، وحكم تجدّد
العجب في أثناء الصلاة
شرح الباب:
تقدّم حكم العجب بالعبادة فيما سبق، وهذا الباب معقود لبيان أمرين:
الأول: حكم السرور من غير عجب.
والثاني: حكم تجدّد العجب في أثناء الصلاة، بعد أن لم يكن موجوداً عند أوّل أدائها.
أما الأمر الأول، فالذي تدلّ عليه الأحاديث هو: جواز السرور بالعبادة؛ فإنّ العبد غالباً ما يسرّ بعبادته فيما إذا أنجزها على وجهها، مراعياً فيها حسن أدائها، وشرائطها ومقارناتها وآدابها، بل لا يكاد ينفكّ هذا السرور عنه غالباً، كما هو الحال في غير العبادة من الأعمال التي يسرّ بها صاحبها، إذا أنجزها على وجهها، وهذا أغلبيّ في الناس.
ولعلّ هذا هو السرّ في عدم تحريم هذا النوع من السرور، وعدم إبطاله للعبادة.
والجواز المذكور في عنوان الباب هو الجواز بالمعنى الأعم، الشامل
ص: 365
للاستحباب والوجوب، بل يظهر من أحاديث الباب رجحانه، وأقلّ الرجحان هو الاستحباب.
ولا ريب في أنّ الإنسان إذا كان راضياً عن أدائه لعبادته - بعد أن يكون قد أدّاها على وجهها المطلوب - زاده ذلك حبّاً لها، وكان ذلك دافعاً له إلى بذل المزيد من الوسع في تخليصها عن كلّ ما يشينها، وينقص درجتها عند اللَّه سبحانه وتعالى.
وأمّا الأمر الثاني، فقد تقدّم آنفاً حكم العجب بالعبادة، وهو لا يتحقق إلّا بعد أداء العبادة، كما مرّ. وأمّا في أثنائها فلا يتصوّر العجب إلّا بالنسبة إلى ما مضى من الأجزاء. وسيأتي التعرّض لحكمه عند بيان الأقوال.
حكم جماعة من علمائنا بأنّ العجب غير مبطل للعبادة، بحيث يجب القضاء؛ لتأخّره عنها بعدما وقعت صحيحة((1))
، بل لعله ظاهر الأصحاب، كما عن «المستمسك»((2)).
وكذا بالنسبة إلى الأجزاء؛ حيث إنّها وقعت أيضاً صحيحة؛ ولأنّ مبطلات الصلاة وموجبات الإعادة محصورة في أمور، ليس من ضمنهاتجدّد العجب أثناء العبادة. وقد نقل في «الجواهر» عن بعض مشايخه القول
ص: 366
[259] 1 - محمّد بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ عليّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) : «مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ»(1).
-----------------------------------------------------------------------------
بالبطلان إذا كان مقارناً مع العمل((2)). هذا من جهة الحكم الوضعي. وأما الحكم التكليفي فالظاهر عدم الإشكال في حرمته.
[1] - فقه الحديث:
يدلّ الحديث على أنّ المؤمن الكامل الإيمان هو من سرّته حسنته وساءته سيئته، ويدلّ أيضاً على جواز السرور بالمعنى الأعم، كما تقدّم.
وعليه فالسرور بالعبادة جائز للمؤمن، لا غضاضة فيه، بل هو أمر راجح؛ لما فيه من البعث نحو الإتيان بالعبادة بشكل أكمل وأكثر ، بخلاف العجب؛ فإنّه يمنع من الازدياد من العبادة والإكثار منها.
والظاهر: أنّ تنوين «مؤمن» للتعظيم، أي: مؤمن كامل الإيمان، فالمؤمن الحق الكامل الإيمان هو من سرّته عبادته الحسنة الكاملة كمّاً وكيفاً، وساءته أعماله السيئة كذلك. وسيأتي في وجوب الندم على السيئة ما يدلعلى وجوب الندم على السيئة المستلزم لوجوب الاستغفار منها.
والحديث ظاهر في أنّ كمال الإيمان بمجموع السرور بالحسنة والاستياء
ص: 367
[260] 2 - وَعَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ محمّد بْنِ خَالِدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ سَيْفِ بْنِ عَمِيرَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَمْرٍو النَّخَعِيِّ وَالْحُسَيْنِ بْنِ سَيْفٍ، عَنْ أَخِيهِ عَلِيٍّ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام) ، قَالَ: «سُئِلَ النَّبِيُّ(صلی الله علیه و آله و سلم) عَنْ خِيَارِ الْعِبَادِ؟ فَقَالَ: الَّذِينَ إِذَا أَحْسَنُوا اسْتَبْشَرُوا، وَإِذَا أَسَاءُوا اسْتَغْفَرُوا، وَإِذَا أُعْطُوا شَكَرُوا، وَإِذَا ابْتُلُوا صَبَرُوا، وَإِذَا غَضِبُوا غَفَرُوا»(1).
-----------------------------------------------------------------------------
من السيئة، لا بكل واحد من الأمرين على حدة.
سند الحديث:
في السند القاسم بن عروة: ولم يرد فيه توثيق، ولكنّه ورد في «نوادر الحكمة»، وروى عنه المشايخ الثقات((2))، فيكون ثقة. وأمّا بقيّة أفراد السند فقد تقدّم الكلام حولهم. وعليه فالسند معتبر.
[2] - فقه الحديث:
دلّ الحديث على أنّ خيار العباد من اجتمعت فيه خمس خصال:
الأولى: من إذا أحسنوا استبشروا؛ فإنّ المؤمن يفرح بما يؤدّيه من عبادة حسنة، قام بها على وجهها لربّه.
ص: 368
وَرَوَاهُ الصَّدُوقُ فِي «الأَمَالِي»، عَنْ محمّد بْنِ الْحَسَنِ، عَنِ الصَّفَّارِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَرْقِيِّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ سَيْفِ بْنِ عَمِيرَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ جَعْفَرٍ النَّخَعِيِّ، عَنْ محمّد بْنِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (علیه السلام) ، مِثْلَهُ(1)1*).
-----------------------------------------------------------------------------
والثانية: من إذا أساءوا استغفروا؛ فإن المؤمن إذا أساء لنفسه أو لغيره استغفر. والإساءة هنا وإن كانت مطلقة تعمّ الإساءة التي هي بينهم وبين ربّهم، والإساءة التي تكون بينهم وبين الناس، إلّا أنّها - بقرينة العطف على الجملة السابقة - يراد بها: المعنى الأول، والحمل على مجموع المعنيين أولى؛ فإنّ الاستغفار من كلّ ذنب بحسبه، فالاستغفار من التفريط في حقوق الناس يكون بالندم على التفريط في حقوقهم، بالإضافة إلى إرجاع الحق إلى صاحبه.
والاستغفار من التفريط في الحقوق الإلهية - المعبّر بها هنا بالإساءةللنفس - يكون بالاستغفار القولي، مضافاً إلى الندم والعزم الصادق على عدم العود إليها، ويعبّر عن ذلك بالتوبة النصوح.
والثالثة: من إذا أعطوا شكروا، والعطاء هنا عام يشمل ما كان تفضّلاً من عند اللَّه عزّوجلّ، وما كان من عند الناس، فالمؤمنون إذا أعطوا شكروا صاحب النعمة على ما أعطاهم، بما يناسب حال المنعم وشأنه.
ص: 369
والرابعة: من إذا ابتلوا صبروا. والابتلاء: إمّا بمنع العطاء عنهم، أو بغيره من الابتلاءات، فشأن المؤمن أنّه إذا مُنع من نعمة معيّنة من عطاء إلهي حظي به غيره، أو منع من عطاء الناس لما يستحقه منهم، فإنّه يصبر، وسيأتي الكلام عن الصبر في محلّه، وأنّه قسمان: واجب، ومستحب.
والخامسة: من إذا غضبوا غفروا. والمراد من الغضب هنا هو: ما عدا الغضب للَّه عزّوجلّ والغضب في الحق؛ فإنّه يلزم أن لا تأخذ المؤمن في موجباتهما لومة لائم، لا أن يكون متسامحاً فيما يرتكب من حرمات اللَّه عزّوجلّ، أو يتساهل فيه من حقوقه أو حقوق عباده.
وأمّا في الأمور الشخصيّة وغيرها ممّا يرجع إلى حقوق المؤمن نفسه، فإنّه ينبغي الصفح عمّن تجاوزها، وهذا خلق رفيع، قد خصّه القرآن وصفاً للمؤمن، حيث قال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}((1))،
وقد جسّده النبي وأئمة الهدى (علیهم السلام) في أروعصوره، حتّى لقّب سابع الأئمّة بالكاظم (علیه السلام) ؛ لاشتهاره بهذه الخصلة النبيلة، وإن كان النبي وسائر الأئمة (علیهم السلام) يتحلّون بها أيضاً، وللمؤمن في رسول اللَّه وأهل بيته أسوة حسنة.
وعليه: فلا ريب في رجحان جميع هذه الخصال، وأقلّ الرجحان هو الاستحباب، كما قدّمنا.
ص: 370
سند الحديث:
قد أورد المصنف (قدس سره) للحديث سندين:
الأول: ما عن «الكافي».
وهذا السند مركّب من سندين:
أوّلهما: ما عن سيف بن عميرة، عن سليمان بن عمرو النخعي، عمّن ذكره.
وثانيهما: ما عن الحسين بن سيف، عن أخيه علي، عن سليمان بن عمرو النخعي، عمّن ذكره.
وفي أوّلهما: سليمان بن عمرو النخعي: قال عنه الشيخ في «الرجال» في أصحاب الصادق (علیه السلام) : أبو داود الكوفي، أسند عنه ((1)) ، ولكنّه ليسبتوثيق. ونقل ابن داود عن ابن الغضائري تضعيفه، ونسبته إلى الكذب((2))
، ولكنّ كتاب ابن الغضائري لم تثبت نسبته إليه.
وهذا الطريق ظاهره الإرسال؛ لقوله في آخره: عمّن ذكره. ولكنّ المراد به: محمّد بن مسلم وغيره؛ بقرينة سند «الخصال»((3))، و«الأمالي» الآتي، فيبقى الإشكال فيه من جهة سليمان.
ص: 371
وفي ثانيهما: الحسين بن يوسف: وقد تقدم.
وعلي - وهو عليّ بن سيف بن عميرة - أخو الحسين بن سيف. قال عنه النجاشي: عليّ بن سيف بن عميرة النخعي، أبو الحسين، كوفي، مولى، ثقة، هو أكبر من أخيه الحسين، روى عن الرضا (علیه السلام) ، له كتاب كبير يرويه عن الرجال ((1)).
وفيه أيضاً (عمّن ذكره)، والمراد به: محمّد بن مسلم وغيره؛ بقرينة السند الثاني الآتي، حيث صرّح بذلك فيه. وعليه فحكم هذا الطريق حكم الطريق الأول.
الثاني: ما عن الصدوق في «الأمالي».
وجميع رجاله تقدّم شرح حالهم، وبقي الكلام في:
سليمان بن جعفر النخعي: فإنّ الظاهر أنّه سليمان بن عمرو، المتقدم في السند الأول. وجعفر في هذا السند إمّا مصحّف، وإمّا منسوب إلى أحد أجداده، وإن لم يذكر لسليمان جدٌّ مسمّى بجعفر. وكذا لم يرد سليمان بن جعفر النخعي في الكتب الأربعة، ولا في الرجال. نعم، ورد في «الخصال» الحديث (99) بعين السند.
والسند كسابقه، إلّا على القول بصحة ما في «الكافي».
ص: 372
[261] 3 - وَعَنْ عليّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ محمّد بْنِ عِيسَى، عَنْ يُونُسَ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) ، قَالَ: قِيلَ لَهُ وَأَنَا حَاضِرٌ: الرَّجُلُ يَكُونُ فِي صَلاتِهِ خَالِياً، فَيَدْخُلُهُ الْعُجْبُ، فَقَالَ: «إِذَا كَانَ أَوَّلَ صَلاتِهِ بِنِيَّةٍ يُرِيدُ بِهَا رَبَّهُ فَلا يَضُرُّهُ مَا دَخَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلْيَمْضِ فِي صَلاتِهِ، وَلْيَخْسَأِ الشَّيْطَانَ»(1).
-----------------------------------------------------------------------------
[3] - فقه الحديث:
يدل الحديث على الأمر الثاني الذي تكفّل به العنوان. وتوضيح ذلك أن يقال: إنّ من شرع في الصلاة خالياً من قصد الرّياء أو قصد التوصّل إلى العجب، وكان بنيّة خالصة يريد بها ربّه، ثمّ حدث له العجب في أثناء الصلاة بقرينة قوله (علیه السلام) : «ما دخله بعد ذلك»، وقوله أيضاً: «فليمض في صلاته»، وجب عليه المضيّ في صلاته، وهي صحيحة، وما مضى منها ليس بباطل، بحيث يجب الاستئناف؛ فإنّ العجب من الشيطان، وهو يريد إبطال ثواب العبادة، أو يريد إبطال أكثر ثوابها عن طريق العجب، أو يريد المنع من زيادة العبادة والإكثار منها، والذي هو نتيجة طبيعيّة للعجب؛ حيث إنّ المعجب بعمله يراه كثيراً حسناً، فلا يرى الاستكثار منه.
فلذا حكم الإمام (علیه السلام) بصحة الصلاة، وعدم بطلان ما مضى منها، ثمّقال (علیه السلام) : «وليخسأ الشيطان» بمعنى: وليطرد الشيطان، أو ليبعد الشيطان؛
ص: 373
فإنّ ما حاوله باء بالفشل. لكن قد يقال: إن مفهوم الحديث أنه إذا كان العجب من الأول، فلم يكن خالياً من قصد العجب، فإنّ ذلك يضره، بمعنى: أنه لا يمضي في صلاته، فصلاته غير صحيحة.
وأجيب عنه: بحمل دخول العجب على الوسوسة، لا أنه دخله العجب واقعاً، وإلّا لبطل العمل، بلا فرق بين أن يقع في أثنائه أو أوله، فهنا قرينة عقلية، فإن التقرّب معتبر في الجميع، والعجب ينافيه، بلا فرق بين أوّل العمل أو أثنائه أو آخره.
هذا، مضافاً للقرينة اللفظية، وهي قوله (علیه السلام) : «فليمض في صلاته وليخسأ الشيطان» فإنها تدل على أنه ليس معجباً في الواقع، بل هي وسوسة، فإنّ الشيطان لا يريد صدور العبادة الخالصة من العبد، ولذا أمر (علیه السلام) بالمضي في الصلاة وليخسأ الشيطان.
نعم، يحتمل أن يراد من المفهوم: أن من يدخله العجب من الأول فإنه يضر بعبادته، لكن لا بمعنى بطلانها.
وفي نسخ عند المصنف (قدس سره) ورد: «ليخسا» بغير همزة، خلافاً لما في نسخةٍ، ولما في «القاموس»، ولعل ما ورد في تلك النسخ لأجل تسهيل الهمزة أو حذفها.
ص: 374
[262] 4 - محمّد بْنُ عليّ بْنِ الْحُسَيْنِ فِي كِتَابِ «صِفَاتِ الشِّيعَةِ»، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ الْحِمْيَرِيِّ، عَنْ هَارُونَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْعَدَةَ بْنِ صَدَقَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) ، قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله و سلم): مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ»(1).
-----------------------------------------------------------------------------
سند الحديث:
في السند: يونس بن عمّار: وهو أخ لإسحاق بن عمّار. قال النجاشي في إسحاق بن عمّار: «شيخ من أصحابنا، ثقة، وإخوته يونس ويوسف وقيس وإسماعيل - وهو في بيت كبير من الشيعة - وابنا أخيه عليّ بن إسماعيل وبشر بن إسماعيل كانا من وجوه من روى الحديث»((2)).
وهذا يدل على مدحه. وروى عنه المشايخ الثقات، وورد في «النوادر»((3))،
وقد تقدم باقي أفراد السند، وعليه فهو معتبر.
[4] - فقه الحديث:
تقدّم في الحديث الأول من الباب هذا النصّ بعينه، وقد بيّنا دلالته على المطلوب، فلا نعيد.
ص: 375
سند الحديث:
جميع رجال الحديث تقدّم شرح حالهم، والسند معتبر أيضاً.
وأمّا كتاب «صفات الشيعة» للشيخ الصدوق (قدس سره) فقد وصل إلى صاحب «الوسائل» بطريق معتبر، ويظهر ذلك من طرقه العامة إلى كتبه.
والحاصل: أنّ في الباب أربعة أحاديث، ثلاثة منها معتبرة، والرابع يمكن القول بصحته.
والمستفاد منها أمور، منها:
1 - جواز السرور بالعبادة، بل رجحانه، إذا كان من غير عجب.
2 - أنّ المؤمن الكامل الإيمان من توفّرت فيه خصلتان معاً: تسرّه حسنته، وتسوؤه سيئته.
3 - أنّ خيار عباد اللَّه من حاز خمس خصال: إذا أحسنوا استبشروا، وإذا أساءوا استغفروا، وإذا أعطوا شكروا، وإذا ابتلوا صبروا، وإذا غضبوا غفروا.
4 - أنّ العجب من عمل الشيطان؛ ليفسد على الإنسان عمله العبادي.
ص: 376
-----------------------------------------------------------------------------
25 - باب جواز التقيّة في العبادات، ووجوبها عند
خوف الضرر
شرح الباب:
التقيّة - لغة - : الحذر والحفظ، وهي اسم مشتقّ من اتّقى يتّقي ووقى وقاية، أي: حفظ الشي ء ممّا يؤذيه ويضرّه، يقال: وقيت الشي ء أقيه وقاية ووقاء.
والتقوى: جعل النفس في وقاية ممّا يخاف، وصارت التقوى في عرف الشرع حفظ النفس عمّا يؤثم، وذلك بترك المحظور((1)).
وفي الاصطلاح: هي ستر الاعتقاد في الأمور الدينيّة بقول أو فعل، لمصلحة الدين أو المجتمع مع عدم الإكراه، أو لأجل الخوف على النفس أو المال أو العرض مع الإكراه((2)).
والتقية على ثلاثة أنواع، بحسب غاياتها:
الأول: التقيّة المداراتيّة أو التحبيبيّة، وهي المماشاة والمداراة، وحسن
ص: 377