جوامع الجامع المجلد 5

هویة الکتاب

جوامع الجامع

كاتب: طبرسی، فضل بن حسن

الناشر: العتبة العباسیة المقدسة. قسم شؤون المعارف الإسلامیة و الإنسانیة

متابعة البحث: حکیم، جواد کاظم

عدد المجلدات:6

لسان: العربية

سنة النشر: 1439 هجری قمری|2018 میلادی

رمز الكونغرس: 9ج2ط 94/5 BP

ص: 1

اشارة

جوامع الجامع

تألیف: فضل بن حسن طبرسی

العتبة العباسیة المقدسة. قسم شؤون المعارف الإسلامیة و الإنسانیة

ص: 2

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 4

سورة ص

اشارة

مكية وهي ثمان وثمانون آية كوفي، ست بصري، عدّ الكوفي ذِي اَلذِّكْرِ و غَوّٰاصٍ .

وفي حديث أبيّ : (من قرأ (سورة ص) أعطي من الأجر بوزن كل جبل سخّره اللّه لداود عشر حسنات)(1)، وعن الباقر عليه السلام: (من قرأها في ليلة الجمعة أعطي من خير الدنيا والآخرة ما لم يعط أحد من الناس إلا نبيّ مرسل أو ملك مقرّب، و أدخله اللّه الجنّة، وكل من أحبّ من أهل بيته)(2).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة ص (38): الآیات 1 الی 7]

ص وَ اَلْقُرْآنِ ذِي اَلذِّكْرِ بَلِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَ شِقٰاقٍ كَمْ أَهْلَكْنٰا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنٰادَوْا وَ لاٰتَ حِينَ مَنٰاصٍ وَ عَجِبُوا أَنْ جٰاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قٰالَ اَلْكٰافِرُونَ هٰذٰا سٰاحِرٌ كَذّٰابٌ أَ جَعَلَ اَلْآلِهَةَ إِلٰهاً وٰاحِداً إِنَّ هٰذٰا لَشَيْ ءٌ عُجٰابٌ وَ اِنْطَلَقَ اَلْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ اِمْشُوا وَ اِصْبِرُوا عَلىٰ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هٰذٰا لَشَيْ ءٌ يُرٰادُ مٰا سَمِعْنٰا

ص: 5


1- الكشف والبيان ج 8:175.
2- ثواب الأعمال: 112.

[سورة ص (38): الآیات 7 الی 8]

بِهٰذٰا فِي اَلْمِلَّةِ اَلْآخِرَةِ إِنْ هٰذٰا إِلاَّ اِخْتِلاٰقٌ أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اَلذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنٰا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمّٰا يَذُوقُوا عَذٰابِ

إن جعلت ص حرفا من حروف المعجم ذكر علي سبيل التحدي والتنبيه علي الإعجاز، فقوله: وَ اَلْقُرْآنِ ذِي اَلذِّكْرِ قسم محذوف الجواب لدلالة التحدي عليه، فكأنّه قال: والقرآن ذي الذكر إنّه لكلام معجز.

وإن جعلت ص خبر مبتدأ محذوف علي أنّها اسم للسورة، فكأنّه قال:

هذه ص أي السورة التي أعجزت الفصحاء والقرآن ذي الذكر، كما تقول:

هذا حاتم واللّه، تريد: هذا هو المشهور بالجود و اللّه.

وإن جعلتها قسما فكمثله، كأنّه قال: أقسمت بصاد والقرآن ذي الذكر إنّه لمعجز.

وإن جعلتها مقسما به وعطفت عليها وَ اَلْقُرْآنِ [ذِي اَلذِّكْرِ جاز أن تريد بالقرآن القرآن كله، وأن تريد السورة بعينها](1) فيكون معناه: أقسم بالسورة الشريفة وبالقرآن ذي الذكر، كما تقول: مررت بالرجل الكريم وبالنفس الشريفة، ولا تريد بالنفس غير الرجل.

والذكر: الشرف، أو الذكرى والموعظة، أو ذكر ما يحتاج إليه من الشرائع وغيرها من التوحيد وذكر الأنبياء وأخبار الأمم وأحوال القيامة.

بَلِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا [من أهل مكة](2)فِي عِزَّةٍ أي: في تكبّر عن قبول الحقّ وَ شِقٰاقٍ وخلاف وعداوة شديدة.

ص: 6


1- ساقطة من د.
2- في ب: منهم.

كَمْ أَهْلَكْنٰا وعيد لذوي العزّة والشقاق.

فَنٰادَوْا فدعوا واستغاثوا عند وقوع الهلاك بهم.

وَ لاٰتَ هي لا المشبهة بليس، زيدت عليها تاء التأنيث كما زيدت علي ربّ وثمّ للتأكيد، وتغيّر بذلك حكمها حيث لم تدخل إلا علي الأحيان، ولم يبرز إلا اسمها أو خبرها وامتنع بروزهما جميعا، فتقديره: ولات الحين حِينَ مَنٰاصٍ أي:

وليس الحين حين مناص، ولو رفع لكان تقديره: ولات حين مناص حاصلا لهم، و المناص: الملجأ.

وَ قٰالَ اَلْكٰافِرُونَ ولم يقل: وقالوا، إظهارا للغضب عليهم، ودلالة علي أنّ هذا القول لا يجسر عليه إلا الكافر المتمادي(1) في الكفر أَ جَعَلَ اَلْآلِهَةَ إِلٰهاً وٰاحِداً ومعنى الجعل: التصيير في القول علي سبيل الدعوى، كأنّهم قالوا: أجعل الجماعة واحدا في قوله وزعمه.

إِنَّ هٰذٰا لَشَيْ ءٌ بليغ في العجب.

و اَلْمَلَأُ : أشراف قريش، يريد: وانطلقوا عن مجلس أبي طالب لما أتوه وهم خمسة وعشرون رجلا فيهم الوليد بن المغيرة وهو أكبرهم، وأبو جهل، و أبيّ بن خلف، وأخوه أمية، وعتبة، وشيبة، والنضر بن الحارث، فقالوا: أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك، فإنّه سفّه أحلامنا وشتم آلهتنا، فقال أبو طالب: يا ابن أخي، هؤلاء قومك يسألونك فيقولون: دعنا وآلهتنا ندعك وإلهك، فقال عليه السلام: (أتعطونني كلمة واحدة تملكون بها العرب والعجم ؟ [فقال أبو جهل](2): للّه أبوك نعطيك ذلك وعشر أمثالها، فقال: (قولوا: لا إله إلا اللّه فقاموا قائلين بعضهم لبعض:

ص: 7


1- في ب: المتوغل.
2- في ب: فقالوا

اِمْشُوا وَ اِصْبِرُوا فلا حيلة لكم في أمر محمّد. وروي: أنّه عليه السلام استعبر ثمّ قال: (يا عم، واللّه لو وضعت الشمس في يميني والقمر في شمالي ما تركت هذا القول حتى أنفذه أو أقتل دونه)، فقال له أبو طالب: امض لأمرك، فواللّه لا أخذلك أبدا(1).

و إِنْ هي المفسّرة بمعنى: أي، لأنّ انطلاقهم من مجلس التقاول يتضمّن معنى القول.

إِنْ هٰذٰا الأمر لَشَيْ ءٌ يُرٰادُ أي: يريده اللّه تعالي وما أراد اللّه كونه فلا مردّ له، ولا ينفع فيه إلا الصبر، وقيل: معناه: أنّ هذا الأمر الذي نراه من زيادة أصحاب محمّد لشيء من نوائب الدهر يراد بنا ولا انفكاك لنا منه(2).

ومعنى وَ اِصْبِرُوا عَلىٰ آلِهَتِكُمْ : اصبروا علي عبادتها والتمسّك بها حتى لا تزالوا عنها.

مٰا سَمِعْنٰا بِهٰذٰا في ملة عيسى التي هي آخر الملل، لأنّ النصاري يقولون:

ثالث ثلاثة ولا يوحّدون، أو في ملة قريش التي أدركنا عليها آباءنا، أو ما سمعنا بهذا كائنا في الملة الآخرة، علي أن يكون فِي اَلْمِلَّةِ اَلْآخِرَةِ حالا من هٰذٰا فلا يتعلّق ب - مٰا سَمِعْنٰا كما في الوجهين، والمعنى: إنّا لم نسمع من أهل الكتاب ولا الكهان أنّه يحدث التوحيد في الملة الآخرة.

ما هٰذٰا إِلاَّ اِخْتِلاٰقٌ أي: افتعال و كذب.

ثمّ أنكروا أن يختص عليه السلام بشرف النبوّة من بين رؤسائهم، وينزّل عليه الكتاب دونهم.

ص: 8


1- دلائل النبوّة ج 2:187، تفسير القمي ج 2:228.
2- معالم التنزيل ج 4:3.

بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ القرآن المنزل، و وصفهم له بالاختلاق مخالف لاعتقادهم فيه، وإنّما يقولونه على سبيل الحسد.

بَلْ لم يَذُوقُوا عذابي بعد، فإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم من الشك والحسد.

[سورة ص (38): الآیات 9 الی 16]

أَمْ عِنْدَهُمْ خَزٰائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ اَلْعَزِيزِ اَلْوَهّٰابِ أَمْ لَهُمْ مُلْكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا فَلْيَرْتَقُوا فِي اَلْأَسْبٰابِ جُنْدٌ مٰا هُنٰالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ اَلْأَحْزٰابِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عٰادٌ وَ فِرْعَوْنُ ذُو اَلْأَوْتٰادِ وَ ثَمُودُ وَ قَوْمُ لُوطٍ وَ أَصْحٰابُ اَلْأَيْكَةِ أُولٰئِكَ اَلْأَحْزٰابُ إِنْ كُلٌّ إِلاّٰ كَذَّبَ اَلرُّسُلَ فَحَقَّ عِقٰابِ وَ مٰا يَنْظُرُ هٰؤُلاٰءِ إِلاّٰ صَيْحَةً وٰاحِدَةً مٰا لَهٰا مِنْ فَوٰاقٍ وَ قٰالُوا رَبَّنٰا عَجِّلْ لَنٰا قِطَّنٰا قَبْلَ يَوْمِ اَلْحِسٰابِ

أي: ليس عِنْدَهُمْ خَزٰائِنُ الرحمة، و ما بأيديهم مفاتيح النبوّة فيضعوها حيث شاؤوا و اختاروا لها من شاؤوا.

أَمْ لَهُمْ مُلْكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ حتى يتكلّموا في التدابير الربّانية و الأمور الإلهية التي يختص بها ربّ العزة. بهم سبحانه فقال: فإن كان إليهم تدبير الخلائق و عندهم الحكمة التي يعرفون من هو أحقّ بالنبوّة فَلْيَرْتَقُوا فِي اَلْأَسْبٰابِ فليصعدوا في معارج السماء و طرقها التي يتوصل بها إلى العرش حتى يستووا عليه، فليصعدوا في معارج السماء و طرقها التي يتوصل بها إلى العرش حتى يستووا عليه، و يدبروا أمر العالم، و ينزلوا الوحي إلى من يختارونه.

ثمّ أخبر عن حالهم و مآلهم فقال: جُنْدٌ مٰا هُنٰالِكَ يريد: ما لهم إلا جند من الكفار المتحزبين على الله مَهْزُومٌ مكسور عما قريب فلا تبال بهم، و مٰا مزيدة، و فيها معنى الاستعظام، كما في قول امرئ القيس:

ص: 9

وحديث ما على قصره(1)

إلا أنّه علي سبيل الهزء، و هُنٰالِكَ إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم، كما يقول لمن ينتدب لأمر ليس من أهله:

لست هنالك، وقيل: إشارة إلى مصارعهم، وجاء تأويله يوم بدر(2).

ذُو اَلْأَوْتٰادِ مستعار لثبات ملكه، كما قال الأسود:

و لقد غنوا فيها بأنعم عيشة *** في ظلّ ملك ثابت الأوتاد(3)

وقيل: كان يعذّب الناس بالأوتاد(4).

أُولٰئِكَ اَلْأَحْزٰابُ وقصد بهذه الإشارة الإعلام بأنّ الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم منهم هم هم، وأنّهم الذين وجد منهم التكذيب، وذكر تكذيبهم أوّلا علي وجه الإبهام في الجملة الخبرية، ثمّ أوضح ذلك في الجملة الاستثنائية، بأنّ كل واحد من الأحزاب كَذَّبَ جميع اَلرُّسُلَ لأنّهم إذا كذّبوا واحدا منهم فقد كذّبوا جميعهم فَحَقَّ عِقٰابِ أي: فوجب لذلك أن أعاقبهم حقّ عقابهم.

وَ مٰا يَنْظُرُ أي: وما ينتظر هٰؤُلاٰءِ يعني كفار مكة إِلاّٰ صَيْحَةً وٰاحِدَةً ما لتلك الصيحة مِنْ فَوٰاقٍ . قرئ بفتح الفاء وضمها، أي: ما لها من توقف مقدار فواق، وهو ما بين حلبتي الحالب ورضعتي الراضع، يعني: إذا جاء وقتها لم تستأخر هذا المقدار من الوقت، وعن ابن عباس: (ما لها من رجوع وترداد)(5)، من

ص: 10


1- ديوان امرئ القيس: 127، وصدره: وحديث الركب يوم هنا.
2- عن قتادة. تفسير الطبري ج 23:83.
3- البيت للأسود بن يعفر الايادي. أمالي المرتضى ج 1:26.
4- عن السدي وغيره. تفسير الطبري ج 23:83.
5- تفسير الطبري ج 23:84.

أفاق المريض: إذا رجع إلى الصحّة، وفواق الناقة: ساعة يرجع الدر إلي ضرعها، يريد: أنّها نفخة واحدة فحسب لا تثنى ولا تردد.

عَجِّلْ لَنٰا قِطَّنٰا أي: نصيبنا من العذاب الذي وعدته، أو عجّل لنا صحيفة أعمالنا ننظر فيها. والقط: القسط من الشيء، لأنّه قطعة منه، من قطّه: إذا قطعه، ولذلك قيل لصحيفة الجائزة: قط؛ لأنّها قطعة من القرطاس.

[سورة ص (38): الآیات 17 الی 25]

اِصْبِرْ عَلىٰ مٰا يَقُولُونَ وَ اُذْكُرْ عَبْدَنٰا دٰاوُدَ ذَا اَلْأَيْدِ إِنَّهُ أَوّٰابٌ إِنّٰا سَخَّرْنَا اَلْجِبٰالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ اَلْإِشْرٰاقِ وَ اَلطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوّٰابٌ وَ شَدَدْنٰا مُلْكَهُ وَ آتَيْنٰاهُ اَلْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ اَلْخِطٰابِ وَ هَلْ أَتٰاكَ نَبَأُ اَلْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا اَلْمِحْرٰابَ إِذْ دَخَلُوا عَلىٰ دٰاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قٰالُوا لاٰ تَخَفْ خَصْمٰانِ بَغىٰ بَعْضُنٰا عَلىٰ بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنٰا بِالْحَقِّ وَ لاٰ تُشْطِطْ وَ اِهْدِنٰا إِلىٰ سَوٰاءِ اَلصِّرٰاطِ إِنَّ هٰذٰا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِيَ نَعْجَةٌ وٰاحِدَةٌ فَقٰالَ أَكْفِلْنِيهٰا وَ عَزَّنِي فِي اَلْخِطٰابِ قٰالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤٰالِ نَعْجَتِكَ إِلىٰ نِعٰاجِهِ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلْخُلَطٰاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ وَ قَلِيلٌ مٰا هُمْ وَ ظَنَّ دٰاوُدُ أَنَّمٰا فَتَنّٰاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَ خَرَّ رٰاكِعاً وَ أَنٰابَ فَغَفَرْنٰا لَهُ ذٰلِكَ وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنٰا لَزُلْفىٰ وَ حُسْنَ مَآبٍ

ذَا اَلْأَيْدِ ذا القوة علي العبادة، المضطلع بأعباء النبوّة، وقيل: ذا القوة علي الأعداء(1)، لأنه رمى بحجر من مقلاعه صدر الرجل فأنفذه من ظهره فأصاب آخر فقتله، يقال: فلان أيد وذو أيد وذو آد، وأياد كل شيء: ما يتقوي به.

ص: 11


1- تفسير الماوردي ج 5:82.

إِنَّهُ أَوّٰابٌ رجّاع عن كل ما يكره اللّه إلى ما يحبّ ، وقيل: مسبّح مطيع(1).

يُسَبِّحْنَ حال، واختير علي مسبّحات - وإن كان في معناه - ليدلّ علي حدوث التسبيح من الجبال حالا بعد حال. وكان داود إذا سبّح جاوبته الجبال بالتسبيح واجتمعت إليه الطير فسبّحت، فذلك حشرها كل واحد من الجبال والطير.

لَهُ لأجل داود، أي: لأجل تسبيحه؛ لأنّها كانت تسبّح بتسبيحه. وضع الأواب موضع المسبّح، إما لأنّها كانت ترجع التسبيح، والمرجّع: رجّاع لأنه يرجع إلى فعله رجوعا بعد رجوع، وإما لأنّ الأواب وهو التواب يكثر الرجوع إلى مرضاة اللّه ويديم تسبيحه وذكره، وقيل: الضمير في لَهُ للّه، أي: كل من داود والجبال والطير للّه مسبّح يرجّع التسبيح(2).

وَ شَدَدْنٰا مُلْكَهُ قوّيناه.

وَ آتَيْنٰاهُ اَلْحِكْمَةَ : وهي الزبور وعلم الشرائع، وقيل: كل كلام وافق الحقّ فهو حكمة.

وَ فَصْلَ اَلْخِطٰابِ فصل بمعنى: مفصول كضرب الأمير، وهو الكلام البيّن الملخص الذي تبيّنه من يخاطب به ولا يلتبس عليه، أو بمعنى: فاصل كصوم وزور، أي: الفاصل من الخطاب الذي يفصل بين الحقّ والباطل، والصحيح والفاسد، وهو كلامه في القضايا والحكومات وتدابير الملك. وعن عليّ عليه السلام: (هو قوله: البيّنة علي المدعي واليمين علي المدعى عليه)(3)، وهو من الفصل بين الحقّ

ص: 12


1- عن السدي. تفسير الطبري ج 23:86.
2- عن السدي. تفسير الطبري ج 23:87.
3- الكشف والبيان ج 8:184.

والباطل، ويدخل فيه قول بعضهم: هو قوله: أما بعد(1).

وَ هَلْ أَتٰاكَ نَبَأُ اَلْخَصْمِ ظاهره الاستفهام، ومعناه: الدلالة علي أنّه من الأنباء العجيبة التي حقّها أن لا تخفى. والخصم: الخصماء، وهو يقع علي الواحد والجمع كالضيف، لأنّه مصدر في الأصل، أي: فريقان خصمان، ومثله قوله:

هٰذٰانِ خَصْمٰانِ اِخْتَصَمُوا (2) .

وانتصب إِذْ بمحذوف تقديره: وهل اتاك نبأ تحاكم الخصم حين تَسَوَّرُوا اَلْمِحْرٰابَ أي: تصعّدوا سوره ونزلوا إليه. والسور: الحائط المرتفع، ونظيره: تسنّمه إذا علا سنامه، وتفرّعه إذا علا فرعه.

إِذْ دَخَلُوا بدل من إِذْ الأولى، خَصْمٰانِ خبر مبتدأ محذوف أي:

نحن خصمان.

وَ لاٰ تُشْطِطْ أي: ولا تجر، قال:

ألا يا لقومي قد أشطّت عواذلي(3)

أَخِي بدل من هٰذٰا أو خبر ل - إِنَّ ، والمراد أخوة الدين أو أخوة الصداقة و الألفة والخلطة.

أَكْفِلْنِيهٰا ملّكنيها، وحقيقته: اجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي.

وَ عَزَّنِي أي: غلبني في مخاطبة الحجاج والجدال، أو أراد: خطبت المرأة وخطبها هو، فخاطبني خطابا أي: غالبني في الخطبة فغلبني حيث تزوّجها دوني،

ص: 13


1- عن الشعبي. معاني القرآن للنحاس ج 6:93.
2- الحج: 19.
3- شعر الأحوص بن محمّد الأنصاري: 172، وبقيته: ويزعمن أن أودى بحقي باطلي.

وعلي هذا فيكون النعجة مستعارة من المرأة، كما استعير لها الشاة في نحو قوله:

يا شاة ما قنص لمن حلّت له *** حرمت عليّ وليتها لم تحرم(1)

لَقَدْ ظَلَمَكَ جواب قسم محذوف، وسؤال مصدر مضاف إلى المفعول، كقوله: مِنْ دُعٰاءِ اَلْخَيْرِ (2)، وقد ضمّن معنى الإضافة فعدّي تعديتها، كأنّه قال:

بإضافة نعجتك إلى نعاجه علي وجه السؤال والطلب.

و مٰا في قوله: وَ قَلِيلٌ مٰا هُمْ للإبهام، وفيه تعجّب من قلتهم.

وَ ظَنَّ دٰاوُدُ لما كان غلبة الظن كالعلم استعيرت له، أي: وعلم داود وأيقن أَنَّمٰا فَتَنّٰاهُ أي: اختبرناه وابتليناه لا محالة بامرأة أوريا. قيل: إنّ أهل زمان داود كانوا قد اعتادوا أن ينزل بعضهم لبعض عن امرأته إذا أعجبته، فاتفق أنّ عين داود وقعت علي امرأة رجل يقال له: أوريا فأعجبته، فسأله النزول له عنها، فاستحيا أن يرده ففعل، فتزوجها، فقيل له: إنّك علي ارتفاع منزلتك وكثرة نسائك لم يكن ينبغي لك أن تسأل رجلا ليس له إلا امرأة واحدة النزول عنها(3). وقيل:

خطبها أوريا ثمّ خطبها داود فاثره أهلها(4). وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام: أنّه قال:

(لا أوتى برجل يزعم أنّ داود تزوّج امرأة أوريا إلا جلدته حدّين: حدّا للنبوّة وحدّا للإسلام)(5).

ص: 14


1- شرح ديوان عنترة: 178.
2- فصلت: 49.
3- الكشاف ج 4:80.
4- الكشف والبيان ج 8:190.
5- التبيان ج 8:507، الكشف والبيان ج 8:190.

وروي: أنّ التحاكم كان بين ملكين(1)، وقيل: كانا من الإنس، وكانت الخصومة علي الحقيقة بينهما: إما كانا خليطين في الغنم، وإما كان أحدهما موسرا وله نسوان كثيرة من السراري و المهائر، والثاني معسرا ما له إلا امرأة واحدة فاستنزله عنها(2).

وإنّما فزع لدخولهما عليه في غير وقت الحكومة أن يكونا مغتالين، و إنّما عوتب علي عجلته في الحكم قبل التثبّت، وكان من حقّه حين سمع الدعوى من أحدهما أن يسأل الآخر عما عنده فيها. وعن مجاهد: (مكث ساجدا أربعين يوما لا يرفع رأسه إلا لصلاة مكتوبة، أو لحاجة لابد منها)(3). وقد يعبّر عن السجود بالركوع.

[سورة ص (38): الآیات 26 الی 29]

يٰا دٰاوُدُ إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ اَلنّٰاسِ بِالْحَقِّ وَ لاٰ تَتَّبِعِ اَلْهَوىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ إِنَّ اَلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ لَهُمْ عَذٰابٌ شَدِيدٌ بِمٰا نَسُوا يَوْمَ اَلْحِسٰابِ وَ مٰا خَلَقْنَا اَلسَّمٰاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا بٰاطِلاً ذٰلِكَ ظَنُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ اَلنّٰارِ أَمْ نَجْعَلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي اَلْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ اَلْمُتَّقِينَ كَالْفُجّٰارِ كِتٰابٌ أَنْزَلْنٰاهُ إِلَيْكَ مُبٰارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيٰاتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا اَلْأَلْبٰابِ

أي: جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً ممن كان قبلك من الأنبياء، أو استخلفناك علي الملك في الأرض.

بِمٰا نَسُوا أي: بنسيانهم يَوْمَ اَلْحِسٰابِ ، أو لهم عذاب يوم القيامة بسبب

ص: 15


1- عيون أخبار الرضاج 1:154، عن ابن عباس وغيره. الكشف والبيان ج 8:191.
2- عن ابن مسعود وغيره. معاني القرآن للنحاس ج 6:100.
3- تفسير الماوردي ج 5:89.

نسيانهم، وهو ضلالهم عن سبيل اللّه.

بٰاطِلاً أي: خلقا باطلا لا لغرض صحيح وحكمة بالغة، أو مبطلين عابثين ذوي باطل، أو وضع بٰاطِلاً موضع عبثا، كما وضع هنيئا موضع المصدر وهو صفة، أي: وما خلقناهما وما بينهما للعبث واللعب ولكن للحقّ المبين، وهو أنّا خلقنا نفوسا أودعناها العقل والتمييز، وعرّضناها للمنافع العظيمة بالتكليف، وأعددنا لها الجزاء علي حسب أعمالها.

ذٰلِكَ إشارة إلط خلقها باطلا.

والظن بمعنى المظنون، أي: خلقها للعبث لا للحكمة، والغرض الصحيح مظنون اَلَّذِينَ كَفَرُوا ، ولما كان إنكارهم للبعث مؤديا إلى أنّ خلقها عبث جعلوا كأنّهم يظنون ذلك، لأنّ الجزاء هو الذي ساق إليه الحكمة في خلق العالم، فمن أنكره فقد أنكر الحكمة، ومن أنكر الحكمة في خلق العالم فقد أظهر أنّه لا يقدره حقّ قدره.

أَمْ منقطعة، ومعنى الاستفهام فيها الإنكار، والمعنى: إنّه لو بطل الجزاء لاستوت عند اللّه حال الصالح والطالح، والمحسن والمسيء، ومن سوّي بينهم لم يكن حكيما.

وقرئ: لتدبروا علي الخطاب. وتدبّر الآيات: التفكر فيها والاتعاظ بمواعظها، والمبارك: الكثير النفع والخير.

[سورة ص (38): الآیات 30 الی 33]

وَ وَهَبْنٰا لِدٰاوُدَ سُلَيْمٰانَ نِعْمَ اَلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوّٰابٌ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ اَلصّٰافِنٰاتُ اَلْجِيٰادُ فَقٰالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ اَلْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتّٰى تَوٰارَتْ بِالْحِجٰابِ رُدُّوهٰا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً

ص: 16

[سورة ص (38): الآیات 33 الی 40]

بِالسُّوقِ وَ اَلْأَعْنٰاقِ وَ لَقَدْ فَتَنّٰا سُلَيْمٰانَ وَ أَلْقَيْنٰا عَلىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنٰابَ قٰالَ رَبِّ اِغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لاٰ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ اَلْوَهّٰابُ فَسَخَّرْنٰا لَهُ اَلرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخٰاءً حَيْثُ أَصٰابَ وَ اَلشَّيٰاطِينَ كُلَّ بَنّٰاءٍ وَ غَوّٰاصٍ وَ آخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي اَلْأَصْفٰادِ هٰذٰا عَطٰاؤُنٰا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسٰابٍ وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنٰا لَزُلْفىٰ وَ حُسْنَ مَآبٍ

أي: نِعْمَ اَلْعَبْدُ هو والمخصوص بالمدح محذوف، وعلل كونه ممدوحا بكونه أوابا رجّاعا إلى اللّه عزّ اسمه في أموره، أو مؤوبا مرجعّا لتسبيحه وتقديسه لأنّ كل مؤوب أواب.

و اَلصّٰافِنٰاتُ : الخيل القائمة علي ثلاث قوائم، الواضعة طرف السنبك الرابع علي الأرض.

اَلْجِيٰادُ السريعة المشي، الواسعة الخطو، جمع سبحانه بين وصفيها الممدوحين واقفة وجارية.

وضمّن أَحْبَبْتُ معنى فعل متعدّ ب - (عن)، فكأنّه قال: أنبت حبّ الخير عن ذكر ربّي أو جعلت حبّ الخير مغنيا عن ذكر ربّي، والخير: المال كما في قوله:

وَ إِنَّهُ لِحُبِّ اَلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (1) وقوله: إِنْ تَرَكَ خَيْراً (2). والمال هنا: الخيل التي شغلته، وسمّى الخيل خيرا كأنّها نفس الخير لتعلّق الخير بها، كقوله عليه السلام: (الخيل

ص: 17


1- العاديات: 8.
2- البقرة: 180.

معقود بنواصيها الخير إلي يوم القيامة)(1). وقال عليه السلام في زيد الخيل(2) حين وفد عليه وأسلم: (أنت زيد الخير)(3).

حَتّٰى تَوٰارَتْ بِالْحِجٰابِ الضمير للشمس أي: غربت، وهو مجاز عن تواري الملك بحجابه، ويدل عليه مرور ذكر العشي، ولا بد للمضمر من جري ذكر أو دليل ذكر، وقيل: الضمير ل - اَلصّٰافِنٰاتُ أي: حتى توارت بحجاب الليل يعني: الظلام(4).

فَطَفِقَ مَسْحاً أي: فجعل يمسح مسحا، أي: يمسح بالسيف سوقها وأعناقها يعني: يقطعها، يقال: مسح علاوته: إذا ضرب عنقه، ومسح المسفر الكتاب إذا قطع أطرافه بسيفه، وقيل: مسحها بيده استحسانا لها وإعجابا بها ثمّ جعلها مسبلة في سبيل اللّه(5). والسوق: جمع الساق، كأسد في جمع الأسد.

واتصل قوله: رُدُّوهٰا عَلَيَّ بمحذوف تقديره: قال: ردّوها عليّ ، فأضمر ما هو جواب له، كأنّ قائلا قال: فماذا قال سليمان ؟ لأنه موضع مقتض للسؤال اقتضاء ظاهرا، وهو اشتغال نبيّ اللّه بأمر الدنيا حتى تفوته الصلاة عن وقتها. وقيل: إنّما ذبحها تقرّبا إلى اللّه تعالى ليتصدّق بلحومها، وقيل: معناه: أنّه سأل اللّه تعالى أن يردّ الشمس عليه فردّها عليه حتى صلي العصر. والهاء في رُدُّوهٰا للشمس(6).

ص: 18


1- من لا يحضره الفقيه ج 2:185، صحيح مسلم ج 6:32.
2- زيد بن مهلهل بن زيد الطائي، قدم على النبي صلى الله عليه و آله و سلم في وفد طيء سنة 9 ه -، وكان شاعرا محسنا خطيبا لسنا شجاعا، قيل: إنه مات منصرفه من عند النبي صلى الله عليه و آله و سلم. ينظر: الاستيعاب ج 1:563.
3- معجم الطبراني الكبير ج 10:202.
4- تفسير الماوردي ج 5:93.
5- عن ابن عباس وغيره. الكشف والبيان ج 8:201.
6- عن عليّ عليه السلام. الكشف والبيان ج 8:200.

فَتَنّٰا سُلَيْمٰانَ اختبرناه وشددنا المحنة عليه، واختلف في الجسد الذي ألقي علي كرسيه، فقيل: إنّه قال ذات يوم: لأطوفنّ الليلة علي سبعين امرأة، تلد كل امرأة منهن غلاما، يضرب بالسيف في سبيل اللّه، ولم يقل إنّ شاء اللّه، فطاف عليهن فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة وجاءت بشق ولد، فهو الجسد الذي ألقي علي كرسيه(1). وروي أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال: (والذي نفس محمّد بيده لو قال: إن شاء اللّه لجاهدوا في سبيل اللّه فرسانا)(2).

ثُمَّ أَنٰابَ إلى اللّه وفزع إلى الصلاة والدعاء على وجه الانقطاع إلى اللّه سبحانه، وقيل: إنّه ولد له ابن فاسترضعه في المزن - وهو السحاب - إشفاقا عليه من كيد الشيطان، فلم يشعر إلا وقد وضع علي كرسيه ميتا، تنبيها له على أنّ الحذر لا ينفع من القدر(3).

قدّم الاستغفار علي استيهاب الملك جريا علي عادة الأنبياء في تقديم أمر الدين علي أمور الدنيا.

مُلْكاً لاٰ يَنْبَغِي أي: لا يتكون ولا يتسهل، ومعنى مِنْ بَعْدِي : دوني.

طلب من ربّه سبحانه ملكا زائدا علي الممالك، زيادة تبلغ حد الإعجاز، ليكون دليلا علي صحّة نبوته، فذلك معنى قوله: لاٰ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ، وقيل: كان ملكا عظيما فخاف أن يعطى غيره مثله فلا يحافظ علي حدود اللّه فيه، كما قالت الملائكة: أَ تَجْعَلُ فِيهٰا مَنْ يُفْسِدُ فِيهٰا (4).

ص: 19


1- عن النقاش. تفسير الماوردي ج 5:96.
2- صحيح البخاري ج 2:141.
3- عن الشعبي. تفسير الماوردي ج 5:96.
4- البقرة: 30.

رُخٰاءً أي: لينة طيبة لا تزعزع، وقيل: مطيعة له(1).

تَجْرِي إلي حيث يشاء، وقوله: حَيْثُ أَصٰابَ معناه: حيث قصد وأراد.

و اَلشَّيٰاطِينَ عطف على اَلرِّيحَ ، و كُلَّ بَنّٰاءٍ بدل من اَلشَّيٰاطِينَ .

وَ آخَرِينَ عطف علي كُلَّ داخل في حكم البدل، وهو بدل الكل من الكل. كانوا يبنون له ما يشاء من الأبنية الرفيعة، ويغوصون له في البحر علي اللآلئ والجواهر، فيستخرجون ما شاء منها، وهو أوّل من استخرج الدر من البحر، وكان يقرن مردة الشياطين بعضهم مع بعض في القيود والأغلال، ويجمع بين اثنين وثلاثة منهم في سلسلة يؤدبهم إذا تمردوا. والصفد: القيد، وسمّي به العطاء لأنّه ارتباط للمنعم عليه، وفرّقوا بين الفعلين فقالوا: صفده: قيّده، وأصفده: أعطاه.

هٰذٰا الذي أعطيناك من الملك والبسط عَطٰاؤُنٰا... بِغَيْرِ حِسٰابٍ أي:

جما كثيرا لا يقدر علي حسبه وحصره، أو لا يحاسب يوم القيامة علي ما تعطي وتمنع.

فَامْنُنْ [فأعط منه ما شئت من المنة وهي العطاء أَوْ أَمْسِكْ مفوّضا إليك التصرّف فيه، أو فامنن](2) علي من شئت من الشياطين بالإطلاق وأمسك من شئت منهم في الوثاق بِغَيْرِ حِسٰابٍ لا حساب عليك في ذلك.

وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنٰا النعمة الباقية في الآخرة، وهي الزلفة والقربى وحسن مآب.

[سورة ص (38): الآیات 41 الی 43]

وَ اُذْكُرْ عَبْدَنٰا أَيُّوبَ إِذْ نٰادىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ اَلشَّيْطٰانُ بِنُصْبٍ وَ عَذٰابٍ اُرْكُضْ بِرِجْلِكَ هٰذٰا مُغْتَسَلٌ بٰارِدٌ وَ شَرٰابٌ وَ وَهَبْنٰا لَهُ أَهْلَهُ

ص: 20


1- عن ابن عباس وغيره. تفسير الطبري ج 23:103.
2- ساقطة من ج.

[سورة ص (38): الآیات 43 الی 44]

وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنّٰا وَ ذِكْرىٰ لِأُولِي اَلْأَلْبٰابِ وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لاٰ تَحْنَثْ إِنّٰا وَجَدْنٰاهُ صٰابِراً نِعْمَ اَلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوّٰابٌ

أَيُّوبَ عطف بيان، و اُذْكُرْ بدل الاشتمال منه.

أَنِّي أي: بأنّي مَسَّنِيَ حكاية لكلامه الذي ناداه بسببه، ولو لم يحك لقال: بأنّه مسه، وقرئ: بِنُصْبٍ بضم النون، وبفتح النون والصاد، وضمهما، و النصب و النصب: التعب والمشقة، كالرشد والرشد، والنصب: تثقيل نصب، والعذاب الأليم يريد مرضه وما كان يقاسيه فيه من أنواع الوصب. وقيل: النصب:

الضرّ في البدن، والعذاب: في ذهاب الأهل والمال(1). وإنّما نسبه إلى الشيطان لما كان يوسوس به إليه من تعظيم ما نزل به من البلاء ويغريه علي الجزع، فالتجأ إلى اللّه سبحانه في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء.

اُرْكُضْ بِرِجْلِكَ علي تقدير القول، أي: [قلنا له](2): ادفع برجلك الأرض هذا ماء تغتسل به وتشرب منه فيبرأ باطنك وظاهرك، وقيل: إنّه نبعت عينان فاغتسل من إحداهما وشرب من الأخري، فذهب الداء من ظاهره وباطنه بإذن اللّه(3).

رَحْمَةً مِنّٰا وَ ذِكْرىٰ مفعول لهما، والمعنى: أنّ الهبة كانت للرحمة له ولتذكير أولي الألباب، لأنّهم إذا سمعوا بذلك رغبوا في الصبر علي البلاء.

وَ خُذْ معطوف علي اُرْكُضْ ، ضِغْثاً هو ملء الكف من الشماريخ(4)،

ص: 21


1- عن قتادة وغيره. تفسير الطبري ج 23:106.
2- ساقطة من ب، د.
3- عن الحسن وغيره. تفسير الطبري ج 23:107.
4- الشمراخ: العثكال الذي عليه البسر. (لسان العرب: مادة شمرخ)

وذلك أنّه حلف علي امرأته لقول أنكره منها لئن عوفي ليضربنها مائة جلدة، فاضربها دفعة واحدة.

وَ لاٰ تَحْنَثْ في يمينك.

إِنّٰا وَجَدْنٰاهُ علمناه صٰابِراً علي البلاء الذي ابتليناه به.

[سورة ص (38): الآیات 45 الی 54]

وَ اُذْكُرْ عِبٰادَنٰا إِبْرٰاهِيمَ وَ إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ أُولِي اَلْأَيْدِي وَ اَلْأَبْصٰارِ إِنّٰا أَخْلَصْنٰاهُمْ بِخٰالِصَةٍ ذِكْرَى اَلدّٰارِ وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنٰا لَمِنَ اَلْمُصْطَفَيْنَ اَلْأَخْيٰارِ وَ اُذْكُرْ إِسْمٰاعِيلَ وَ اَلْيَسَعَ وَ ذَا اَلْكِفْلِ وَ كُلٌّ مِنَ اَلْأَخْيٰارِ هٰذٰا ذِكْرٌ وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ جَنّٰاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ اَلْأَبْوٰابُ مُتَّكِئِينَ فِيهٰا يَدْعُونَ فِيهٰا بِفٰاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَ شَرٰابٍ وَ عِنْدَهُمْ قٰاصِرٰاتُ اَلطَّرْفِ أَتْرٰابٌ هٰذٰا مٰا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ اَلْحِسٰابِ إِنَّ هٰذٰا لَرِزْقُنٰا مٰا لَهُ مِنْ نَفٰادٍ

إِبْرٰاهِيمَ وَ إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ عطف بيان ل - عِنْدَنٰا ومن قرأ عبدنا جعل إِبْرٰاهِيمَ وحده عطف بيان، وعطف إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ علي عبدنا.

أُولِي اَلْأَيْدِي وَ اَلْأَبْصٰارِ أولي الأعمال الدينية والفكر العلمية، كان الذين لا يعملون أعمال الآخرة ولا يتفكرون أفكار ذوي الديانات في حكم الزمنى(1)، الذين لا يقدرون علي إعمال جوارحهم، والمسلوبي العقول الذين لا استبصار بهم، و وَ اَلْأَبْصٰارِ جمع البصر وهو العقل.

إِنّٰا أَخْلَصْنٰاهُمْ جعلناهم لنا خالصين بِخٰالِصَةٍ بخصلة خالصة لا شوب فيها، ثمّ فسّرها ب - ذِكْرَى اَلدّٰارِ شهادة لذكرى الدار بالخلوص والصفاء، وأنّ الكدورة منتفية عنها. وقرئ: بخالصة ذكرى على الإضافة. والمعنى: بما خلص من

ص: 22


1- الزمنى - جمع الزمن -: المبتلى. (الصحاح: مادة زمن)

ذكري الدار، على أنّهم لا يشوبون ذكري الدار بهمّ آخر، إنّما همّهم ذكرى الدار لا غير.

ومعنى ذِكْرَى اَلدّٰارِ : ذكراهم الآخرة دائما ونسيانهم إليها ذكر الدنيا، أو تذكيرهم الآخرة وترغيبهم فيها وتزهيدهم في الدنيا كما هو شأن الأنبياء، وقيل:

ذكرى الدار: الثناء الجميل في الدنيا، ولسان الصدق الذي ليس لغيرهم. والمعنى:

أخلصناهم بسبب هذه الخصلة وبأنّهم من أهلها، أو أخلصناهم بتوفيقهم لها.

لَمِنَ اَلْمُصْطَفَيْنَ أي: المختارين من بين أبناء جنسهم.

اَلْأَخْيٰارِ جمع خيّر أو خير علي التخفيف، كأموات في جمع ميّت أو ميت.

وَ اَلْيَسَعَ كأنّ حرف التعريف دخل علي يسع، وقرئ: والليسع كأنّ حرف التعريف دخل علي ليسع، فيعل من اللسع. والتنوين في وكلّ عوض عن المضاف إليه، أي: وكلهم من الأخيار.

هٰذٰا ذِكْرٌ أي: نوع من الذكر وهو القران، ولما أجرى ذكر الأنبياء و أتمّه قال: هٰذٰا ذِكْرٌ كما يقال: هذا باب، ثمّ ذكر عقيبه الجنّة وأهلها فقال: وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ أي: حسن منقلب ومرجع.

ولما أتم ذكر الجنّة وأراد أن يعقبه بذكر أهل النار قال: هٰذٰا وَ إِنَّ لِلطّٰاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ، وقيل: معناه: هذا ذكر جميل وشرف يذكرون به أبدا(1). وعن ابن عباس: (هذا ذكر من مضى من الأنبياء)(2).

جَنّٰاتِ عَدْنٍ معرفة كقوله: جَنّٰاتِ عَدْنٍ اَلَّتِي وَعَدَ اَلرَّحْمٰنُ عِبٰادَهُ (3)،

ص: 23


1- معاني القرآن وإعرابه ج 4:337.
2- الكشاف ج 4:100.
3- مريم: 61.

وهي عطف بيان ل - (حسن مآب)، و مُفَتَّحَةً حال، والعامل فيها ما في لِلْمُتَّقِينَ من معنى الفعل، وفي مُفَتَّحَةً ضمير الجنات، و اَلْأَبْوٰابُ بدل من الضمير تقديره: مفتحة هي الأبواب كقولهم: ضرب زيد اليد والرجل، وهو من بدل الاشتمال.

أَتْرٰابٌ جمع ترب، كأنّهن سمّين أترابا لأنّ التراب مسّهن في وقت واحد، وإنّما جعلن علي سن واحدة لأنّ التحاب بين الأقران أثبت، وقيل: هن أتراب لأزواجهن أسنانهن كأسنانهم(1).

وقرئ: تُوعَدُونَ بالتاء والياء لِيَوْمِ اَلْحِسٰابِ لأجل يوم الحساب، كما يقال: هذا ما تدّخرونه ليوم تجزى كل نفس بما كسبت.

إِنَّ هٰذٰا الذي ذكرنا لَرِزْقُنٰا أي: عطاؤنا الجاري المتصل.

مٰا لَهُ مِنْ نَفٰادٍ أي: فناء وانقطاع.

[سورة ص (38): الآیات 55 الی 66]

هٰذٰا وَ إِنَّ لِلطّٰاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهٰا فَبِئْسَ اَلْمِهٰادُ هٰذٰا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَ غَسّٰاقٌ وَ آخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوٰاجٌ هٰذٰا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لاٰ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صٰالُوا اَلنّٰارِ قٰالُوا بَلْ أَنْتُمْ لاٰ مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنٰا فَبِئْسَ اَلْقَرٰارُ قٰالُوا رَبَّنٰا مَنْ قَدَّمَ لَنٰا هٰذٰا فَزِدْهُ عَذٰاباً ضِعْفاً فِي اَلنّٰارِ وَ قٰالُوا مٰا لَنٰا لاٰ نَرىٰ رِجٰالاً كُنّٰا نَعُدُّهُمْ مِنَ اَلْأَشْرٰارِ أَتَّخَذْنٰاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زٰاغَتْ عَنْهُمُ اَلْأَبْصٰارُ إِنَّ ذٰلِكَ لَحَقٌّ تَخٰاصُمُ أَهْلِ اَلنّٰارِ قُلْ إِنَّمٰا أَنَا مُنْذِرٌ وَ مٰا مِنْ إِلٰهٍ إِلاَّ اَللّٰهُ اَلْوٰاحِدُ اَلْقَهّٰارُ رَبُّ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مٰا بَيْنَهُمَا اَلْعَزِيزُ اَلْغَفّٰارُ

ص: 24


1- تفسير الماوردي ج 5:106.

أي: الأمر هذا، أو هذا كما ذكر و ءانّ للذين طغوا علي اللّه لَشَرَّ مَآبٍ ، جَهَنَّمَ عطف بيان له.

فَبِئْسَ اَلْمِهٰادُ شبّه ما تحتهم من النار بالمهاد الذي يفترشه النائم.

هٰذٰا حميم فَلْيَذُوقُوهُ ، أو العذاب هذا فليذوقوه، ثمّ ابتدأ فقال: هو حَمِيمٌ وَ غَسّٰاقٌ ، أو ليذوقوا هذا فَلْيَذُوقُوهُ مثل قوله: وَ إِيّٰايَ فَارْهَبُونِ (1).

وقرئ: وَ غَسّٰاقٌ بالتشديد والتخفيف حيث كان، وهو ما يغسق من صديد أهل النار أي: يسيل، يقال: غسقت العين إذا سالت دموعها، ويقال:

الحميم يحرق بحرّه والغساق يحرق ببرده(2).

وَ آخَرُ أي: ومذوقات أخر من شكل هذا المذوق، أي: مثله في الفظاعة وا لشدّة.

أَزْوٰاجٌ أي: أجناس، و قرئ: وَ آخَرُ أي: وعذاب آخر أو مذوق آخر. و أَزْوٰاجٌ صفة ل - (آخر) لأنّه يجوز أن يكون ضروبا أو صفة للثلاثة وهي:

حَمِيمٌ ، وَ غَسّٰاقٌ ، وَ آخَرُ مِنْ شَكْلِهِ .

هٰذٰا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ هذا جمع كثيف قد اقتحم معكم النار، أي: دخل النار في صحبتكم، وهو حكاية كلام الطاغين بعضهم لبعض أي: يقولون هذا، والمراد بالفوج: أتباعهم الذين اقتحموا معهم الضلالة، فيقتحمون معهم النار.

لاٰ مَرْحَباً بِهِمْ دعاء منهم علي أتباعهم، أي: لا نالوا رحبا وسعة إِنَّهُمْ لازموا اَلنّٰارِ ، فيقول الأتباع: بَلْ أَنْتُمْ لا اتسعت لكم أماكنكم، أنتم حملتمونا

ص: 25


1- البقرة: 40.
2- معاني القرآن للفراء ج 2:410.

علي ما أوجب لنا النار.

والضمير في قَدَّمْتُمُوهُ للعذاب، تقول لمن تدعو له: مرحبا، أي: أتيت رحبا من البلاد لا ضيقا، أو رحبت بلادك رحبا، ثمّ تدخل عليه (لا) في دعاء السوء، و بِهِمْ بيان للمدعو عليهم.

قال الأتباع أيضا: رَبَّنٰا مَنْ قَدَّمَ لَنٰا هٰذٰا فَزِدْهُ عَذٰاباً ضِعْفاً أي: مضاعفا، ومعناه: ذا ضعف، وهو أن يزيد علي عذابه ضعفه أي: مثله فيصير ضعفين كقوله:

رَبَّنٰا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ اَلْعَذٰابِ (1) .

لاٰ نَرىٰ رِجٰالاً يعنون فقراء المؤمنين الذين لا يؤبه بهم.

مِنَ اَلْأَشْرٰارِ الذين لا خير فيهم، و لأنّهم كانوا علي خلاف دينهم فعدوهم أشرارا. وعن الصادق(2) عليه السلام: (يعنونكم، لا يرون واللّه واحدا منكم في النار)(3).

أَتَّخَذْنٰاهُمْ سِخْرِيًّا قرئ بلفظ الإخبار علي أنّه صفة ل - رِجٰالاً ، وبهمزة الاستفهام علي أنّه إنكار علي أنفسهم وتأنيب لها في الاستسخار منهم.

وقوله: أَمْ زٰاغَتْ عَنْهُمُ اَلْأَبْصٰارُ فيه وجهان:

أحدهما: أن يتصل بقوله: مٰا لَنٰا أي: ما لنا لا نراهم في النار كأنّهم ليسوا فيها، بل أزاغت عنهم أبصارنا فلا نراهم وهم فيها.

والثاني: أن يتصل ب - أَتَّخَذْنٰاهُمْ سِخْرِيًّا ويكون أَمْ متصلة بمعنى: أي الفعلين فعلنا بهم: الاستسخار منهم أم تحقيرهم وازدراءهم، وأنّ أبصارنا كانت تحتقرهم علي معنى: إنكار الأمرين علي أنفسهم، أو منقطعة بعد مضي أَتَّخَذْنٰاهُمْ

ص: 26


1- الأحزاب: 68.
2- في ج، د: الباقر.
3- الكافي 8:36 ضمن حديث بالمعنى.

سِخْرِيًّا علي الخبر أو علي الاستفهام، كما تقول: إنّها لإبل أم شاة، وأزيد عندك أم عندك عمرو؟. ويجوز أيضا تقدير همزة الاستفهام محذوفة فيمن قرأ بغير الهمزة؛ لأنّ أَمْ تدلّ عليها، فلا تفترق القراءتان في المعنى.

إِنَّ ذٰلِكَ الذي حكينا عنهم لَحَقٌّ لابد أن يتكلّموا به، ثمّ بيّن بقوله:

تَخٰاصُمُ أَهْلِ اَلنّٰارِ شبّه ما يجري بينهم من التقاول بما يجري بين المتخاصمين فسمّاه تخاصما.

[سورة ص (38): الآیات 67 الی 88]

قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ مٰا كٰانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ اَلْأَعْلىٰ إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِنْ يُوحىٰ إِلَيَّ إِلاّٰ أَنَّمٰا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ إِذْ قٰالَ رَبُّكَ لِلْمَلاٰئِكَةِ إِنِّي خٰالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذٰا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سٰاجِدِينَ فَسَجَدَ اَلْمَلاٰئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاّٰ إِبْلِيسَ اِسْتَكْبَرَ وَ كٰانَ مِنَ اَلْكٰافِرِينَ قٰالَ يٰا إِبْلِيسُ مٰا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمٰا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ اَلْعٰالِينَ قٰالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نٰارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قٰالَ فَاخْرُجْ مِنْهٰا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلىٰ يَوْمِ اَلدِّينِ قٰالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ قٰالَ فَإِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ إِلىٰ يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ قٰالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاّٰ عِبٰادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ قٰالَ فَالْحَقُّ وَ اَلْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ قُلْ مٰا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَ مٰا أَنَا مِنَ اَلْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إِلاّٰ ذِكْرٌ لِلْعٰالَمِينَ وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ

أي: هذا الذي أنبأتكم به من كوني رسولا، وأنّ اللّه واحد، وأمر القيامة نبأ

ص: 27

عظيم لا يعرض عن مثله إلا غافل شديد الغفلة، و قيل: النبأ العظيم هو القرآن(1).

مٰا كٰانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بكلام بِالْمَلَإِ اَلْأَعْلىٰ وقت اختصامهم.

و إِذْ قٰالَ بدل من إِذْ يَخْتَصِمُونَ .

و بِالْمَلَإِ اَلْأَعْلىٰ هم أصحاب القصّة المذكورة بعد: من الملائكة و آدم وإبليس، لأنّهم كانوا في السماء وكان التقاول بينهم.

قرئ: (إنّما) بالكسر علي الحكاية، أي: ما يُوحىٰ إِلَيَّ إِلاّٰ هذا القول، وهو أن أقول لكم: إِلاّٰ أَنَّمٰا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ، وقرئ: أَنَّمٰا بالفتح أي: لأنّما، ومعناه:

ما يوحى إليّ إلا للإنذار، فحذف اللام فوصل الفعل، ويجوز أن يكون مرفوع الموضع، أي: ما يوحى إليّ إلا هذا القول، وهو أن أنذر وأبلغ ولا أفرط في ذلك.

لِمٰا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [لما توليت خلقه بنفسي من غير واسطة، وذلك أنّ الإنسان لما كان يباشر أكثر أعماله بيده](2) غلب العمل باليدين علي سائر الأعمال التي بغيرهما حتى قالوا في عمل القلب: هذا مما عملت يداك، وقالوا لمن لا يدين له:

(يداك أوكتا وفوك نفخ)(3)، ومنه قوله تعالي: مِمّٰا عَمِلَتْ أَيْدِينٰا (4)، لِمٰا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ . وقيل: إنّ العرب تطلق لفظة اليدين للقدرة والقوة(5)، كما قال الشاعر:

تحمّكت من دلفاء ما ليس لي به *** و لا للجبال الرّاسيات يدان(6)

ص: 28


1- عن مجاهد وغيره. تفسير الطبري ج 23:117.
2- ساقطة من د.
3- مجمع الأمثال ج 3:519.
4- يس: 71.
5- تفسير الماوردي ج 5:111.
6- ديوان عروة بن حزام: 70، وفيه: من عفراء.

أَسْتَكْبَرْتَ أرفعت نفسك فوق قدرها، أم كنت من الذين علت أقدارهم عن السجود؟!.

فَاخْرُجْ مِنْهٰا من الجنّة، وقيل: من السموات، وقيل: من الخلقة التي افتخرت بها فاسودّ و أظلم بعد أن كان أبيض نورانيا(1).

و قرئ: فَالْحَقُّ بالرفع والنصب، فالرفع علي أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي: فأنا الحقّ ، أو مبتدأ محذوف الخبر أي: فالحقّ قسمي؛ والنصب علي أنّه مقسم به والتقدير: الحقّ لأملأن، نحو: اللّه لأفعلن.

وَ اَلْحَقَّ أَقُولُ اعتراض بين المقسم به والمقسم عليه، والمراد بالحقّ : إما اسمه جلّ وعزّ الذي في قوله: أَنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْحَقُّ اَلْمُبِينُ (2)، أو الحقّ الذي هو نقيض الباطل عظمه اللّه سبحانه بإقسامه به.

مِنْكَ أي: من جنسك وهم الشياطين.

وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ من ذرية آدم، والمعنى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ من المتبوعين و التابعين أَجْمَعِينَ .

مٰا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي: علي القرآن مِنْ أَجْرٍ تعطونيه.

وَ مٰا أَنَا مِنَ اَلْمُتَكَلِّفِينَ من الذي يتصنعون وينتحلون بما ليسوا من أهله.

وعن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: (للمتكلّف ثلاث علامات: ينازع من فوقه، و يتعاطى ما لا ينال، ويقول ما لا يعلم)(3).

وما هُوَ يعني القران إِلاّٰ ذِكْرٌ للخلق أجمعين.

ص: 29


1- عن أبي العالية وغيره. معالم التنزيل ج 4:14.
2- النور: 25.
3- الخصال: 117، الكشف والبيان ج 8:218.

وَ لَتَعْلَمُنَّ خبر صدقه وحقيقة حقّه بَعْدَ الموت، أو بعد ظهور أمر الدين وفشو الإسلام.

ص: 30

سورة الزمر

اشارة

مكية سوي آيات، وهي خمس وسبعون آية كوفي، اثنتان بصري. فِي مٰا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ غير الكوفي، مُخْلِصاً لَهُ اَلدِّينَ الثاني، و مُخْلِصاً لَهُ دِينِي ، و مِنْ هٰادٍ الثاني، و فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أربعتهن كوفي.

وفي حديث أبيّ : (من قرأ (سورة الزمر) لم يقطع اللّه رجاءه، وأعطاه ثواب الخائفين)(1)، وعن الصادق عليه السلام: (من قرأ (سورة الزمر) أعطاه اللّه شرف الدنيا والآخرة، وأعزّه بلا مال ولا عشيرة حتى يهابه من يراه، وحرّم جسده علي النار..

تمام الخبر)(2).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة الزمر (39): الآیات 1 الی 3]

تَنْزِيلُ اَلْكِتٰابِ مِنَ اَللّٰهِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَكِيمِ إِنّٰا أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ اَلْكِتٰابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اَللّٰهَ مُخْلِصاً لَهُ اَلدِّينَ أَلاٰ لِلّٰهِ اَلدِّينُ اَلْخٰالِصُ وَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيٰاءَ مٰا نَعْبُدُهُمْ إِلاّٰ لِيُقَرِّبُونٰا إِلَى اَللّٰهِ زُلْفىٰ إِنَّ اَللّٰهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مٰا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَهْدِي مَنْ هُوَ كٰاذِبٌ

ص: 31


1- الكشف والبيان ج 8:220.
2- ثواب الأعمال: 112.

[سورة الزمر (39): الآیات 3 الی 5]

كَفّٰارٌ لَوْ أَرٰادَ اَللّٰهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاَصْطَفىٰ مِمّٰا يَخْلُقُ مٰا يَشٰاءُ سُبْحٰانَهُ هُوَ اَللّٰهُ اَلْوٰاحِدُ اَلْقَهّٰارُ خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اَللَّيْلَ عَلَى اَلنَّهٰارِ وَ يُكَوِّرُ اَلنَّهٰارَ عَلَى اَللَّيْلِ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلاٰ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْغَفّٰارُ

تَنْزِيلُ مبتدأ أخبر عنه بالظرف، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا تنزيل الكتاب، والجار صلة تَنْزِيلُ كما تقول: نزّل من عند اللّه، أو غير صلة فيكون خبرا بعد خبر، أو حالا من تَنْزِيلُ عمل فيها معنى الإشارة.

مُخْلِصاً لَهُ اَلدِّينَ من الشرك والرياء بالتوحيد و تصفية السرّ.

اَلدِّينُ اَلْخٰالِصُ ما لا يشوبه الرياء والسمعة، وعن قتادة: (هو شهادة أن لا إله إلا اللّه)(1)، وقيل: هو الاعتقاد الواجب من التوحيد والعدل والنبوّة، والعمل بموجب الشرائع، و البراءة من كل دين سواها.

وَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيٰاءَ قائلين: مٰا نَعْبُدُهُمْ إِلاّٰ لِيُقَرِّبُونٰا إِلَى اَللّٰهِ زُلْفىٰ أي: ليشفعوا لنا إليه.

و زُلْفىٰ اسم أقيم مقام المصدر، و خبر (الذين) قوله: إِنَّ اَللّٰهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ .

والمراد بمنع الهداية: منع اللطف تسجيلا عليهم بأن لا لطف لهم، و أنّهم في علم اللّه من الهالكين، ولم يرد به الهداية إلى الإيمان كقوله: وَ أَمّٰا ثَمُودُ

ص: 32


1- تفسير الطبري ج 23:122.

فَهَدَيْنٰاهُمْ (1) .

وكذّبهم في قولهم: إنّ الملائكة بنات اللّه، ولذلك عقّبه بقوله: لَوْ أَرٰادَ اَللّٰهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً أي: لو أراد اتخاذ الولد لامتنع ولم يصحّ ولم يتأت ذلك لكونه محالا، إلا أن يصطفي من خلقه بعضهم ويقرّبهم، كما يختص الرجل ولده ويقرّبهم، ثمّ نزّه نفسه عن اتخاذ الولد بقوله: سُبْحٰانَهُ أي: تنزيها له عن ذلك.

ثمّ دلّ بخلق السماوات والأرض، وتكوير كل واحد من الملوين(2) علي الآخر، وتسخير النيرين و جريهما لِأَجَلٍ مُسَمًّى ، وبث الناس علي كثرتهم من نفس واحدة وخلق الأنعام؛ علي أنّه واحد لا ثاني له في القدم، قهّار لا يغالب.

والتكوير: اللف واللي، يقال: كار العمامة علي رأسه وكوّرها، والمعنى:

يغشي الليل النهار، يذهب هذا ويغشي مكانه هذا، فكأنّه لفّه عليه كما يلفّ اللباس علي اللابس، وقيل: معناه: إنّ كل واحد منهما يغيّب الآخر إذا طرأ عليه، فشبّه بشيء ظاهر لفّ عليه ما غيّبه عن الناظر(3).

[سورة الزمر (39): الآیات 6 الی 7]

خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وٰاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهٰا زَوْجَهٰا وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْأَنْعٰامِ ثَمٰانِيَةَ أَزْوٰاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهٰاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمٰاتٍ ثَلاٰثٍ ذٰلِكُمُ اَللّٰهُ رَبُّكُمْ لَهُ اَلْمُلْكُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ فَأَنّٰى تُصْرَفُونَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اَللّٰهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَ لاٰ يَرْضىٰ لِعِبٰادِهِ اَلْكُفْرَ وَ إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَ لاٰ تَزِرُ وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ ثُمَّ إِلىٰ رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ

ص: 33


1- فصلت: 17.
2- الملوان: الليل والنهار. (الصحاح: مادة ملا)
3- الكشاف ج 4:113.

[سورة الزمر (39): الآیات 7 الی 10]

بِذٰاتِ اَلصُّدُورِ وَ إِذٰا مَسَّ اَلْإِنْسٰانَ ضُرٌّ دَعٰا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذٰا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مٰا كٰانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَ جَعَلَ لِلّٰهِ أَنْدٰاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحٰابِ اَلنّٰارِ أَمَّنْ هُوَ قٰانِتٌ آنٰاءَ اَللَّيْلِ سٰاجِداً وَ قٰائِماً يَحْذَرُ اَلْآخِرَةَ وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي اَلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ اَلَّذِينَ لاٰ يَعْلَمُونَ إِنَّمٰا يَتَذَكَّرُ أُولُوا اَلْأَلْبٰابِ قُلْ يٰا عِبٰادِ اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هٰذِهِ اَلدُّنْيٰا حَسَنَةٌ وَ أَرْضُ اَللّٰهِ وٰاسِعَةٌ إِنَّمٰا يُوَفَّى اَلصّٰابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسٰابٍ

أي: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وٰاحِدَةٍ آدم، وخلق حواء زوجه من قصيراه(1)، وعطف ب - (ثم) للدلالة علي مباينة هذه الآية - التي لم تجر العادة بمثلها - للآية الأولى التي هي إيجاد الخلق الكثير من نفس واحدة في الفضل والمزية، وقيل: أخرج ذرية آدم من ظهره كالذر، ثمّ خلق بعد ذلك حواء(2).

وَ أَنْزَلَ لَكُمْ أي: قضى لكم وقسم، لأنّ قضاياه وقسمه موصوفة بالنزول من السماء حيث كتب في اللوح المحفوظ كل كائن يكون، وقيل: لأنّ الحيوان لا يعيش إلا بالنبات، والنبات لا ينبت إلا بالماء، وقد أنزل الماء، فكأنّه أنزلها.

ثَمٰانِيَةَ أَزْوٰاجٍ ذكرا و أنثى، من الإبل ومن البقر والضأن والمعز.

خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ حيوانا سويا من بعد عظام مكسوة لحما من بعد عظام عارية، من بعد مضغ، من بعد علق، من بعد نطف. والظلمات الثلاث: ظلمة البطن والرحم والمشيمة.

ص: 34


1- القصيري: الضلع التي تلي الشاكلة، وهي الواهنة في أسفل الأضلاع. (الصحاح: مادة قصر).
2- ينظر: تفسير الطبري ج 23:124.

ذٰلِكُمُ الذي هذه أفعاله هو اَللّٰهُ رَبُّكُمْ .

فَأَنّٰى تُصْرَفُونَ فكيف يعدل بكم عن عبادته إلى عبادة غيره.

فَإِنَّ اَللّٰهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وعن إيمانكم، وأنتم المحتاجون إليه وَ لاٰ يَرْضىٰ لِعِبٰادِهِ اَلْكُفْرَ به؛ رحمة لهم لأنه سبب هلاكهم وَ إِنْ تَشْكُرُوا يرض الشكر لكم لأنّه سبب فوزكم و فلاحكم، وإنّما كره كفركم ورضي شكركم لأجل نفعكم و صلاحكم، لا لمنفعة راجعة إليه. و الهاء في يَرْضَهُ ضمير الشكر الذي دلّ عليه وَ إِنْ تَشْكُرُوا .

مُنِيباً إِلَيْهِ راجعا إليه وحده لا يرجو سواه.

ثُمَّ إِذٰا خَوَّلَهُ أي: أعطاه، و أصله: جعله خائل مال وخال مال، وهو أن يكون متعهدا له حسن القيام به، أو جعله يخول أي: يختال ويفتخر، ومنه المثل:

(الغني طويل الذيل مياس)(1).

نَسِيَ الضرّ الذي كٰانَ يَدْعُوا اللّه إلي كشفه، وقيل معناه: نسي ربّه الذي كان يتضرّع إليه(2). و مٰا بمعنى (من)، كما في قوله: وَ مٰا خَلَقَ اَلذَّكَرَ وَ اَلْأُنْثىٰ (3).

و قرئ: لِيُضِلَّ بفتح الياء و ضمها، يعني: إنّ نتيجة جعله للّه أندادا [ضلاله عن سبيل اللّه أو](4) إضلاله، والنتيجة قد يكون غرضا في الفعل وقد يكون غير غرض.

ص: 35


1- جمهرة الأمثال ج 2:83.
2- معاني القرآن وإعرابه ج 4:346.
3- الليل: 3.
4- ساقطة من ج.

قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحٰابِ اَلنّٰارِ أمر في معنى الخبر، كقوله:

(إذا لم تستح فاصنع ما شئت)(1)، كأنّه قيل له: إذ قد أبيت قبول ما أمرت به من الإيمان، فمن حقّك أن لا تؤمر به بعد ذلك، وتؤمر بتركه مبالغة في خذلانه وتخليته وشأنه.

و قرئ: أَمَّنْ هُوَ قٰانِتٌ بالتخفيف والهمزة للاستفهام، وبالتشديد علي إدخال أم علي من والتقدير: أمن هو قانت كغيره، ف - (من) مبتدأ محذوف الخبر لدلالة الكلام عليه، وهو جري ذكر الكافر قبله، وقوله بعده: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي اَلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ اَلَّذِينَ لاٰ يَعْلَمُونَ ، وقيل: معناه: أهذا أفضل أم من هو قانت ؟ أو أمّن هو قانت أفضل أم من هو كافر(2)؟.

و آنٰاءَ اَللَّيْلِ ساعاته.

سٰاجِداً وَ قٰائِماً يسجد تارة للصلاة ويقوم أخري، يريد صلاة الليل والقنوت في الوتر وهو دعاء المصلي قائما، وفي الحديث: (أفضل الصلاة طول القنوت)(3).

وأراد بالذين يعلمون: العاملين من علماء الدين، كأنّه جعل من لا يعمل بعلمه غير عالم، أو يريد: لا يستوي القانتون وغيرهم كما لا يستوي العالمون والجاهلون. وعن الصادق عليه السلام: (نحن الذين يعلمون، وعدوّنا الذين لا يعلمون، وشيعتنا أولوا الألباب)(4).

ص: 36


1- الخصال: 21، مسند أحمد ج 4:121.
2- معاني القرآن وإعرابه ج 4:347.
3- الخصال: 493، صحيح مسلم ج 2:175.
4- المحاسن ج 1:169.

قوله: فِي هٰذِهِ اَلدُّنْيٰا يتعلّق ب - أَحْسَنُوا [لا ب - حَسَنَةٌ ](1)، والمعنى: الذين أحسنوا في هذه الدنيا فلهم حسنة في الآخرة، وهي دخول الجنّة، أي: حسنة لا يحاط بكنهها، وقيل: يتعلّق ب - حَسَنَةٌ أي: لهم على ذلك حسنة في الدنيا وهي الثناء الحسن والمدح والصحّة والعافية والرزق الواسع(2).

وَ أَرْضُ اَللّٰهِ وٰاسِعَةٌ معناه: لا عذر للمفرطين في الإحسان حتى إن اعتلوا بأنّهم لا يتمكّنون منه في أوطانهم قيل لهم: فإنّ أرض اللّه واسعة، وبلاده كثيرة، فتحولوا إلي بلاد أخري، واقتدوا بالأنبياء وخيار المؤمنين في مهاجرتهم إلي غير بلادهم ليزدادوا إحسانا إلي إحسانهم.

إِنَّمٰا يُوَفَّى اَلصّٰابِرُونَ أَجْرَهُمْ ثوابهم علي طاعتهم وصبرهم علي الشدائد بِغَيْرِ حِسٰابٍ لكثرته لا يمكن عدّه وحسابه. وعن ابن عباس: الا يهتدي إليه حساب الحسّاب)(3). وعن الصادق عليه السلام أنّه قال: (قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: إذا نشرت الدواوين ونصبت الموازين لم ينصب لأهل البلاء ميزان ولم ينشر لهم ديوان وتلا هذه الآية)(4).

[سورة الزمر (39): الآیات 11 الی 15]

قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اَللّٰهَ مُخْلِصاً لَهُ اَلدِّينَ وَ أُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ اَلْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّي أَخٰافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذٰابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اَللّٰهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مٰا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ اَلْخٰاسِرِينَ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ أَلاٰ ذٰلِكَ هُوَ اَلْخُسْرٰانُ

ص: 37


1- ساقطة من ب.
2- عن السدي. تفسير الطبري ج 23:130.
3- الكشاف ج 4:118.
4- كتاب التمحيص: 7، الكشف والبيان ج 8:226 باختلاف يسير.

[سورة الزمر (39): الآیات 15 الی 20]

اَلْمُبِينُ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ اَلنّٰارِ وَ مِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذٰلِكَ يُخَوِّفُ اَللّٰهُ بِهِ عِبٰادَهُ يٰا عِبٰادِ فَاتَّقُونِ وَ اَلَّذِينَ اِجْتَنَبُوا اَلطّٰاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهٰا وَ أَنٰابُوا إِلَى اَللّٰهِ لَهُمُ اَلْبُشْرىٰ فَبَشِّرْ عِبٰادِ اَلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ اَلْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ هَدٰاهُمُ اَللّٰهُ وَ أُولٰئِكَ هُمْ أُولُوا اَلْأَلْبٰابِ أَ فَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ اَلْعَذٰابِ أَ فَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي اَلنّٰارِ لٰكِنِ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهٰا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ وَعْدَ اَللّٰهِ لاٰ يُخْلِفُ اَللّٰهُ اَلْمِيعٰادَ

أي: أُمِرْتُ بإخلاص الدين للّه وَ أُمِرْتُ بذلك لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ اَلْمُسْلِمِينَ أي: سابقهم و مقدمهم في الدنيا والآخرة، والمعنى: إنّ الإخلاص له السبقة في الدين، فمن أخلص كان سابقا.

وكرر في قوله: قُلِ اَللّٰهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي لأنّ الأوّل للإخبار بأنّه مأمور بالعبادة والإخلاص، والثاني: للإخبار بأنّه يخصّ اللّه بعبادته مخلصا له دينه، ولذلك قدّم المعبود علي فعل العبادة و أخّره في الأوّل، فالكلام أوّلا في الفعل نفسه، وثانيا فيمن يفعل الفعل لأجله، ولذلك رتب عليه قوله: فَاعْبُدُوا مٰا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ .

قُلْ إِنَّ الكاملين في الخسران هم اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بأن قذفوها في الجحيم و خسروا أَهْلِيهِمْ الذين أعدّوا لهم في جنّة النعيم، ثمّ ذكر أنّ خسرانهم بلغ الغاية في قوله: أَلاٰ ذٰلِكَ هُوَ اَلْخُسْرٰانُ اَلْمُبِينُ بأن صدّر الجملة بحرف التنبيه، ووسّط الفصل بين المبتدأ والخبر، وعرّف الخسران ووصفه بالمبين.

لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ جمع ظلة وهي السترة العالية أي: أطباق مِنَ اَلنّٰارِ وَ مِنْ تَحْتِهِمْ أطباق وهي ظُلَلٌ للآخرين، لأنّ النار أدراك.

ص: 38

ذٰلِكَ الذي وصف من العذاب يُخَوِّفُ اَللّٰهُ بِهِ عِبٰادَهُ ليتقوا عذابه بامتثال أوامره يٰا عِبٰادِ فَاتَّقُونِ فقد ألزمتكم الحجّة.

و اَلطّٰاغُوتَ تطلق علي الشيطان والشياطين لكونها مصدرا، والمراد بها هنا الجمع.

أَنْ يَعْبُدُوهٰا بدل من اَلطّٰاغُوتَ وهو بدل الاشتمال، وأراد بعباده:

اَلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ اَلْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ الذين اجتنبوا الطاغوت وأنابوا لا غيرهم، فوضع الظاهر موضع المضمر، أراد: أنّهم نقاد في الدين، يميزون بين الحسن والأحسن، ويدخل تحته المذاهب واختيار أثبتها وأقواها.

التقدير: أَ فَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ اَلْعَذٰابِ أَ فَأَنْتَ تنقذه تخلصه من اَلنّٰارِ فوضع الظاهر موضع المضمر(1)، وقيل: إنّ الوقف علي كلمة اَلْعَذٰابِ ، [أي:

أفهو كمن وجبت له الجنّة، ثمّ ابتدأ: أَ فَأَنْتَ تُنْقِذُ . والمراد بكلمة العذاب قوله:](2)

لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ ... الآية(3)، ومعناه: إنّك لا تقدر علي إدخال الإسلام في قلوبهم قسرا.

لَهُمْ غُرَفٌ أي: علالي، بعضها فوق بعض.

وَعْدَ اَللّٰهِ مصدر مؤكد، لأنّ قوله: لَهُمْ غُرَفٌ في معنى: وعدهم اللّه ذلك.

[سورة الزمر (39): آیة 21]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّٰهَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً فَسَلَكَهُ يَنٰابِيعَ فِي اَلْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوٰانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرٰاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ

ص: 39


1- في ب: الضمير.
2- ساقطة من ب.
3- السجدة: 13.

[سورة الزمر (39): الآیات 21 الی 25]

حُطٰاماً إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَذِكْرىٰ لِأُولِي اَلْأَلْبٰابِ أَ فَمَنْ شَرَحَ اَللّٰهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاٰمِ فَهُوَ عَلىٰ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقٰاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اَللّٰهِ أُولٰئِكَ فِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ اَللّٰهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ اَلْحَدِيثِ كِتٰاباً مُتَشٰابِهاً مَثٰانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلىٰ ذِكْرِ اَللّٰهِ ذٰلِكَ هُدَى اَللّٰهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشٰاءُ وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّٰهُ فَمٰا لَهُ مِنْ هٰادٍ أَ فَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ اَلْعَذٰابِ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ وَ قِيلَ لِلظّٰالِمِينَ ذُوقُوا مٰا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتٰاهُمُ اَلْعَذٰابُ مِنْ حَيْثُ لاٰ يَشْعُرُونَ

فَسَلَكَهُ أي: فأدخل ذلك الماء يَنٰابِيعَ ينبع منها الماء فِي اَلْأَرْضِ مثل العيون و الأنهار و القنى.

زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوٰانُهُ أي: صنوفه من البر والشعير والأرز ونحوها، وقيل:

ألوانه من أخضر وأصفر وأبيض وأحمر(1).

ثُمَّ يَهِيجُ أي: يجف ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطٰاماً أي: رفاتا متفتتا إِنَّ فِي ذٰلِكَ لتذكيرا لِأُولِي العقول السليمة في معرفة الصانع المحدث للعالم.

أَ فَمَنْ عرف اللّه أنّه من أهل اللطف فلطف به حتى انشرح صدره للإسلام وقبله كمن لا لطف له، فهو حرج الصدر قاسي القلب، ونور اللّه لطفه، وهو نظير أَمَّنْ هُوَ قٰانِتٌ في حذف الخبر من ذكر اللّه، أي: من أجل ذكراه، أي:

إذا ذكر اللّه وآياته عندهم اشمأزوا وازدادت قلوبهم قسوة.

ص: 40


1- معاني القرآن و إعرابه ج 4:350.

كِتٰاباً بدل من أَحْسَنَ اَلْحَدِيثِ أو حال منه.

مُتَشٰابِهاً هو مطلق في مشابهة بعضه بعضا، فيتناول تشابه معانيه في الصحّة و الإحكام ومنفعة الأنام، وتشابه ألفاظه في التناسب والتناصف في التخير والإصابة وتجاوب النظم والتأليف في الإعجاز.

مَثٰانِيَ جمع مثنى، بمعنى المردد والمكرر لما ثني من قصصه وأحكامه ومواعظه، وقيل: لأنّه يثنى في التلاوة فلا يمل(1)، كما جاء في وصفه: لا يتفه ولا يتشان(2) ولا يخلق علي كثرة الرد(3). وإنّما وصف الواحد بالجمع لأنّ الكتاب جملة ذات تفاصيل، وتفاصيل الشيء هي جملته لا غير. ويجوز أن يكون المثاني منصوبا علي التمييز من مُتَشٰابِهاً كما تقول: رأيت رجلا حسنا شمائل، والمعنى: متشابهة مثانيه، والفائدة في التكرير والتثنية أنّ النفوس تنفر عن النصيحة والمواعظ، فما لم يكرر عليها عودا بعد بدء لم يرسخ فيها.

تَقْشَعِرُّ أي: تنقبض مِنْهُ جلودهم تقبضا شديدا، يقال: اقشعر جلده من الخوف: وقف شعره، ومعناه: أنّهم إذا سمعوا القرآن وآيات الوعيد فيه أصابتهم خشية شديدة، ثمّ إذا ذكروا اللّه ورحمته وسعة مغفرته لانت جلودهم.

وضمّن لان معنى فعل متعد ب - (إلى)، فكأنّه قال: سكنت أو اطمأنت إلى ذكر اللّه، لينة غير منقبضة، راجية غير خائفة، واقتصر علي ذكر اللّه من غير ذكر الرحمة، لأنّ رحمته سبقت غضبه، فأصل أمره الرحمة والرأفة، فكأنّه قال: إذا ذكروا اللّه - ومبنى أمره علي الرحمة والرأفة - استبدلوا بالخشية رجاء في قلوبهم وبالقشعريرة لينا في

ص: 41


1- الكشف والبيان ج 8:230.
2- عن ابن مسعود. غريب الحديث ج 4:57.
3- نهج البلاغة: 275 بالمعنى.

جلودهم.

ذٰلِكَ إشارة إلي الكتاب وهو هُدَى اَللّٰهِ يوفق مَنْ يَشٰاءُ من عباده المتقين حتى يخشوا تلك الخشية ويرجوا ذلك الرجاء، أو ذلك الكائن من الخشية والرجاء هدى اللّه أي: أثر هداه وهو لطفه، فسمّاه: هدي لأنّه حاصل بالهدي، يهدي بهذا الأثر من يشاء من عباده، يعني: من صحب أولئك ورآهم خائفين وراجين اقتدي بسيرتهم.

وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّٰهُ أي: من لم يؤثر فيه لطف اللّه لقسوة قلبه فَمٰا لَهُ مِنْ هٰادٍ أي: مؤثر فيه.

أَ فَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ اَلْعَذٰابِ كمن أمن العذاب، فحذف الخبر، يقال: اتقاه بترسه: استقبله فوقى بها نفسه إيّاه. و المعنى: إنّ الإنسان إذا لقي مخوفا استقبله بيده وطلب أن يقي بها وجهه لأنّه أعزّ أعضائه عليه، والذي يلقى في النار مغلولا يداه إلى عنقه لا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه الذي كان يتقي المخاوف بغيره وقاية له، وقيل: المراد بالوجه الجملة.

مِنْ حَيْثُ لاٰ يَشْعُرُونَ من الجهة التي لا يحتسبون، ولا يخطر ببالهم أنّ الشرّ يأتيهم منها.

[سورة الزمر (39): الآیات 26 الی 29]

فَأَذٰاقَهُمُ اَللّٰهُ اَلْخِزْيَ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ لَعَذٰابُ اَلْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ وَ لَقَدْ ضَرَبْنٰا لِلنّٰاسِ فِي هٰذَا اَلْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ضَرَبَ اَللّٰهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكٰاءُ مُتَشٰاكِسُونَ وَ رَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيٰانِ مَثَلاً اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاٰ

ص: 42

[سورة الزمر (39): الآیات 29 الی 31]

يَعْلَمُونَ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ

قُرْآناً عَرَبِيًّا حال مؤكدة كما يقال: جاءني زيد رجلا صالحا، أو ينتصب علي المدح.

غَيْرَ ذِي عِوَجٍ أي: مستقيما بريئا من التناقض والاختلاف، والعوج مخصوص بالمعاني دون الأعيان.

[ضَرَبَ اَللّٰهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكٰاءُ مُتَشٰاكِسُونَ ](1) أي: رجلا مملوكا قد اشترك فيه شركاء بينهم اختلاف وتنازع، كل واحد منهم يدعي أنّه عبده فيتعاورونه في خدمتهم وَ رَجُلاً آخر قد سلم لمالك واحد وخلص له، فهو معتمد عليه فيما يصلحه، فهمّه واحد، أيّ هذين العبدين أحسن حالا وأصلح أمرا؟.

والمراد بذلك تمثيل حال من يثبت آلهة شتى، وما يلزمه علي قضية مذهبه من أن يدعي كل واحد منهم عبوديته ويتشاكسوا في ذلك ويتغالبوا، ويبقى هو متحيّرا ضائعا لا يدري أيّهم يعبد وعلي أيّهم يعتمد، وحال من لم يثبت إلا إلها واحدا فهو قائم بما كلفه، عارف بما أرضاه وأسخطه.

و فِيهِ تعلّق ب - شُرَكٰاءُ ، كأنّه قال: اشتركوا فيه، والتشاكس والتشاخس:

الاختلاف، يقال: تشاكست أحواله و تشاخست أسنانه.

والسالم: الخالص، وقرئ: سَلَماً وسلما وهما مصدران، يقال: سلم سلما وسلما وسلامة، والمعنى: ذا سلامة لرجل، أي: ذا خلوص له من الشركة من قولهم: سلمت له الضيعة.

ص: 43


1- زيادة يقتضيها السياق.

هَلْ يَسْتَوِيٰانِ مَثَلاً أي: صفة منصوب علي التمييز، والمعنى: هل تستويان صفتاهما وحالاهما.

اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ أي: يجب أن يكون الحمد موجّها إلى اللّه الذي لا شريك له وحده دون كل معبود سواه بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ فيشر كون به غيره.

[إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ](1) أي: إنّك وإيّاهم وإن كنتم أحياء فأنتم في عداد الموتى، لأنّ ما هو كائن فكأن قد كان.

ثُمَّ إِنَّكُمْ أي: إنّك وإيّاهم، فغلب ضمير المخاطب علي ضمير الغائب.

تَخْتَصِمُونَ فتحتج أنت عليهم بأنّك قد بلّغت فكذّبوا. وعن عبد اللّه بن عمر: (لقد عشنا برهة من الدهر ونحن نري أنّ هذه الآية فينا وفي أهل الكتاب، وقلنا: كيف نختصم ونبيّنا واحد وكتابنا واحد، حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف، فعرفت أنّها فينا نزلت)(2).

[سورة الزمر (39): الآیات 32 الی 38]

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اَللّٰهِ وَ كَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جٰاءَهُ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكٰافِرِينَ وَ اَلَّذِي جٰاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُتَّقُونَ لَهُمْ مٰا يَشٰاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذٰلِكَ جَزٰاءُ اَلْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اَللّٰهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ اَلَّذِي عَمِلُوا وَ يَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ اَلَّذِي كٰانُوا يَعْمَلُونَ أَ لَيْسَ اَللّٰهُ بِكٰافٍ عَبْدَهُ وَ يُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّٰهُ فَمٰا لَهُ مِنْ هٰادٍ وَ مَنْ يَهْدِ اَللّٰهُ فَمٰا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَ لَيْسَ اَللّٰهُ بِعَزِيزٍ ذِي اِنْتِقٰامٍ وَ لَئِنْ

ص: 44


1- زيادة يقتضيها السياق.
2- المستدرك على الصحيحين ج 4:572.

[سورة الزمر (39): الآیات 38 الی 40]

سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اَللّٰهُ قُلْ أَ فَرَأَيْتُمْ مٰا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ إِنْ أَرٰادَنِيَ اَللّٰهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كٰاشِفٰاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرٰادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكٰاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اَللّٰهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ اَلْمُتَوَكِّلُونَ قُلْ يٰا قَوْمِ اِعْمَلُوا عَلىٰ مَكٰانَتِكُمْ إِنِّي عٰامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذٰابٌ يُخْزِيهِ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذٰابٌ مُقِيمٌ

كَذَبَ عَلَى اَللّٰهِ بزعمه أنّ له ولدا وشريكا وَ كَذَّبَ بِالصِّدْقِ بالقرآن والتوحيد، ثمّ هدّد من هذه صفته بأنّ في جهنم مثواه، والاستفهام للتقرير.

وَ اَلَّذِي جٰاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ هو رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جاء بالحقّ وآمن به وأراد به إيّاه و من تبعه، كما أراد بموسى إيّاه و من تبعه في قوله: وَ لَقَدْ آتَيْنٰا مُوسَى اَلْكِتٰابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (1)، ولذلك قال: أُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُتَّقُونَ ، إلا أنّ هذا في الصفة وذلك في الاسم، ويجوز أن يريد الفريق الذي جاء بالصدق وصدّق به، وهم الرسول والذين صدّقوا به من المؤمنين.

و أَسْوَأَ اَلَّذِي عَمِلُوا هو الشرك والمعاصي التي عملوها قبل إيمانهم، و بِأَحْسَنِ اَلَّذِي كٰانُوا يَعْمَلُونَ هو المفروض والمندوب إليه من أعمالهم، فإنّ المباح يوصف بالحسن أيضا.

أَ لَيْسَ اَللّٰهُ بِكٰافٍ عَبْدَهُ وهو رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم. وقرئ: عباده وهم الأنبياء.

وقرئ: كٰاشِفٰاتُ ضُرِّهِ و مُمْسِكٰاتُ رَحْمَتِهِ بالتنوين على الأصل، وبالإضافة على التخفيف، وأنثهن بعد التذكير في قوله: وَ يُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ

ص: 45


1- المؤمنون: 49.

مِنْ دُونِهِ ليضعفهن ويعجزهن زيادة تضعيف وتعجيز عما طالبهم به من كشف الضرّ وإمساك الرحمة، لأنّ الأنوثة من باب اللين والرخاوة، كما أنّ الذكورة من باب الشدّة والصلابة، فكأنّه قال: الإناث اللاتي هن اللات والعزّي ومناة أضعف مما تدعونه لهن وأعجز.

اِعْمَلُوا عَلىٰ مَكٰانَتِكُمْ علي حالتكم التي أنتم عليها وجهتكم من العداوة التي تمكّنتم منها، والمكانة بمعنى المكان، فاستعيرت عن العين للمعنى كما يستعار (هنا) و (حيث) للزمان وهما للمكان، وحقّ الكلام: فإنّي عامل علي مكانتي، فحذف للاختصار.

و يُخْزِيهِ صفة ل - عَذٰابٌ أي: عذاب مخز له، وهو يوم بدر وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذٰابٌ مُقِيمٌ دائم يوم القيامة.

[سورة الزمر (39): الآیات 41 الی 45]

إِنّٰا أَنْزَلْنٰا عَلَيْكَ اَلْكِتٰابَ لِلنّٰاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اِهْتَدىٰ فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّمٰا يَضِلُّ عَلَيْهٰا وَ مٰا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ اَللّٰهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهٰا وَ اَلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنٰامِهٰا فَيُمْسِكُ اَلَّتِي قَضىٰ عَلَيْهَا اَلْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ اَلْأُخْرىٰ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أَمِ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللّٰهِ شُفَعٰاءَ قُلْ أَ وَ لَوْ كٰانُوا لاٰ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَ لاٰ يَعْقِلُونَ قُلْ لِلّٰهِ اَلشَّفٰاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَ إِذٰا ذُكِرَ اَللّٰهُ وَحْدَهُ اِشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ إِذٰا ذُكِرَ اَلَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذٰا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ

اَلْكِتٰابَ القرآن لِلنّٰاسِ لجميع الناس ولأجل حاجتهم إليه.

ص: 46

اَللّٰهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهٰا بأن يسلبها ما هي به حية حساسة دراكة من صحّة أجزائها وسلامتها، ويتوفى الأنفس اَلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنٰامِهٰا أي: يتوفاها حين تنام تشبيها للنائمين بالموتى حيث لا يميّزون ولا يتصرّفون، كما أنّ الموتى كذلك فَيُمْسِكُ الأنفس اَلَّتِي قَضىٰ عَلَيْهَا اَلْمَوْتَ الحقيقي، أي:

لا يردّها في وقتها حية وَ يُرْسِلُ اَلْأُخْرىٰ النائمة إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى إلى وقت ضربه وسمّاه لموتها.

أَوْ منقطعة، أي: بل اتخذ قريش، والهمزة للإنكار.

مِنْ دُونِ اَللّٰهِ من دون إذنه حيث قالوا: هٰؤُلاٰءِ شُفَعٰاؤُنٰا عِنْدَ اَللّٰهِ (1) ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه.

أَ وَ لَوْ كٰانُوا معناه: أيشفعون ولو كانوا لاٰ يَمْلِكُونَ شَيْئاً ولا عقل لهم ؟!.

قُلْ لِلّٰهِ اَلشَّفٰاعَةُ جَمِيعاً فلا يملكها أحد إلا بتمليكه.

وَ إِذٰا ذُكِرَ اَللّٰهُ وَحْدَهُ يدور المعنى علي وحده، والمعنى: إذا أفرد اللّه عزّ اسمه با لذكر ووحّد اشمأزوا، أي: نفروا وتقبضوا، وإذا ذكر معه آلهتهم استبشروا، فقابل الاشمئزاز وهو أن يمتلئ القلب غما وغيظا حتى يظهر الانقباض في الوجه بالاستبشار وهو أن يمتلئ القلب سرورا حتى تنبسط له بشرة الوجه. والعامل في إِذٰا ذُكِرَ المفاجأة، وتقديره: وقت ذكر الذين من دونه فاجؤوا وقت الاستبشار.

[سورة الزمر (39): الآیات 46 الی 47]

قُلِ اَللّٰهُمَّ فٰاطِرَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ عٰالِمَ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهٰادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبٰادِكَ فِي مٰا كٰانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَ لَوْ أَنَّ

ص: 47


1- يونس: 18.

[سورة الزمر (39): الآیات 47 الی 51]

لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مٰا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ اَلْعَذٰابِ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ وَ بَدٰا لَهُمْ مِنَ اَللّٰهِ مٰا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَ بَدٰا لَهُمْ سَيِّئٰاتُ مٰا كَسَبُوا وَ حٰاقَ بِهِمْ مٰا كٰانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فَإِذٰا مَسَّ اَلْإِنْسٰانَ ضُرٌّ دَعٰانٰا ثُمَّ إِذٰا خَوَّلْنٰاهُ نِعْمَةً مِنّٰا قٰالَ إِنَّمٰا أُوتِيتُهُ عَلىٰ عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ قَدْ قٰالَهَا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمٰا أَغْنىٰ عَنْهُمْ مٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ فَأَصٰابَهُمْ سَيِّئٰاتُ مٰا كَسَبُوا وَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هٰؤُلاٰءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئٰاتُ مٰا كَسَبُوا وَ مٰا هُمْ بِمُعْجِزِينَ

أمر اللّه سبحانه نبيّه عليه السلام أن يحاكمهم إليه ليفعل بهم ما يستحقّونه، فقال له:

ادع بهذا الدعاء، أي: أنت تقدر علي الحكم بيني وبينهم، وفيه بشارة له بالنصر والظفر، لأنه إنّما أمره به للإجابة لا محالة. وعن سعيد بن المسيب: (إنّي لأعرف موضع آية لم يقرأها أحد قط فسأل اللّه تعالى شيئا إلا أعطاه وقرأ الآية)(1).

وَ بَدٰا لَهُمْ مِنَ اَللّٰهِ مٰا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وعيد لا يحاط بكنهه، ونظيره في الوعد قوله: فَلاٰ تَعْلَمُ نَفْسٌ مٰا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ (2). وعن محمّد بن المنكدر(3): أنّه جزع عند موته، فقيل له في ذلك فقال: (أخشى آية من كتاب اللّه وتلاها، ثمّ قال: أخشى أن يبدو لي من اللّه ما لم أحتسب)(4). وعن سفيان الثوري

ص: 48


1- تفسير الماوردي ج 5:130.
2- السجدة: 17.
3- أبو عبد اللّه محمّد بن المنكدر بن بن عبد الله بن الهدير القرشي التيمي، يعد من كبار التابعين، توفي سنة 130 ه -. ينظر: تذكرة الحفاظ ج 1:127، معجم رجال الحديث ج 17:312.
4- الكشف والبيان ج 8:240.

أنّه قرأها فقال: ([ويل لأهل الرياء](1)، ويل لأهل الرياء)(2).

وَ بَدٰا لَهُمْ سَيِّئٰاتُ أعمالهم التي كسبوها، أو سيئات كسبهم حين تعرض صحائفهم وكانت خافية عليهم كقوله: أَحْصٰاهُ اَللّٰهُ وَ نَسُوهُ (3)، أو جزاء سيئاتهم من أنواع العذاب سمّاها سيئات كما قال: وَ جَزٰاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهٰا (4).

وَ حٰاقَ بِهِمْ أحاط بهم ونزل بهم جزاء استهزائهم.

يقال: خوّله شيئا إذا أعطاه علي غير جزاء.

قال: إِنَّمٰا أُوتِيتُهُ عَلىٰ عِلْمٍ أي: علي علم مني بأنّي أعطاه لما فيّ من الفضل والاستحقاق، أو علي علم من اللّه باستحقاقي فلذلك آتاني ما آتاني، أو علي علم مني بوجوه الكسب كما قال قارون: عَلىٰ عِلْمٍ عِنْدِي (5).

وذكّر الضمير العائد إلى نِعْمَةً في أُوتِيتُهُ لأنّه أراد شيئا من النعمة أو قسما منها، ويمكن أن يكون (ما) في إِنَّمٰا موصولة لا كافة، فيرجع الضمير إليه.

بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ إنكار لذلك القول، أي: ليس كما يقول بل هي فتنة أي:

ابتلاء واختبار له أيشكر أم يكفر، ذكّر الضمير أوّلا علي المعنى، وأنّث هنا علي اللفظ، أو لأنّ الخبر مؤنث.

والضمير في قٰالَهَا راجع إلى قوله: إِنَّمٰا أُوتِيتُهُ عَلىٰ عِلْمٍ لأنّها كلمة

ص: 49


1- ساقطة من ب، د.
2- الكشف والبيان ج 8:240.
3- المجادلة: 6.
4- الشورى: 40.
5- القصص: 78.

أو جملة من القول.

و اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ هم قارون وقومه حيث قال: أوتيته علي علم عندي وقومه راضون بها فكأنّهم قالوها، ويجوز أن يكون فيمن مضى من الأمم قوم قائلون مثلها فصارت وبالا عليهم وأصابهم جزاء سيئاتهم..

[سورة الزمر (39): الآیات 52 الی 60]

أَ وَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قُلْ يٰا عِبٰادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ لاٰ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ وَ أَنِيبُوا إِلىٰ رَبِّكُمْ وَ أَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ اَلْعَذٰابُ ثُمَّ لاٰ تُنْصَرُونَ وَ اِتَّبِعُوا أَحْسَنَ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ اَلْعَذٰابُ بَغْتَةً وَ أَنْتُمْ لاٰ تَشْعُرُونَ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يٰا حَسْرَتىٰ عَلىٰ مٰا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اَللّٰهِ وَ إِنْ كُنْتُ لَمِنَ اَلسّٰاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اَللّٰهَ هَدٰانِي لَكُنْتُ مِنَ اَلْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى اَلْعَذٰابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ بَلىٰ قَدْ جٰاءَتْكَ آيٰاتِي فَكَذَّبْتَ بِهٰا وَ اِسْتَكْبَرْتَ وَ كُنْتَ مِنَ اَلْكٰافِرِينَ وَ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ تَرَى اَلَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اَللّٰهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ

يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً للتائب، فإن مات الموحّد من غيرتوبة فهو في مشيئة اللّه، إن شاء عذّبه بعدله، وإن شاء غفر له بفضله، كما قال: وَ يَغْفِرُ مٰا دُونَ ذٰلِكَ لِمَنْ يَشٰاءُ (1).

ص: 50


1- النساء: 48.

وَ أَنِيبُوا إِلىٰ رَبِّكُمْ ارجعوا إليه من الشرك والمعاصي.

وَ أَسْلِمُوا لَهُ أي: انقادوا له بالطاعة، وقيل: اجعلوا أنفسكم خالصة له.

أَحْسَنَ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ هوأن يأتي المأمور به ويترك المنهي عنه.

أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ أي: كراهة أن تقول نفس، و إنّما نكّرت لأنّ المراد بها بعض الأنفس، وهي نفس الكافر أو نفس متميّزة من الأنفس. و قرئ: يا حسرتاي علي الجمع بين العوض والمعوض منه، والجنب: الجانب، قالوا: فرّط في جنبه وفي جانبه أي: في حقه، قال:

أما تتّقين اللّه في جنب وامق *** له كبد حرّى عليك تقطّع(1)

وهذا من باب الكناية، لأنّك إذا أثبتّ الأمر في مكان الرجل فقد أثبتّه فيه، قالوا: لمكانك فعلت كذا، أو من جهتك فعلت، أي: لأجلك، فالتقدير: فرّطت في ذات اللّه، ولا بد من تقدير مضاف محذوف، سواء قيل: في جنب اللّه أو في اللّه، فإنّ المعنى: فرطت في طاعة اللّه وعبادة اللّه ونحوهما، و (ما) في مٰا فَرَّطْتُ مصدرية.

وَ إِنْ كُنْتُ لَمِنَ اَلسّٰاخِرِينَ (إن) مخففة من الثقيلة، قال قتادة: (لم يكفه أن ضيع في طاعة اللّه حتى سخر من أهلها)(2). والجملة في موضع الحال، فكأنّه قال:

فرّطت وأنا ساخر، أي: فرّطت في حال سخريتي.

أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اَللّٰهَ هَدٰانِي إنّما يقول هذا تحيّرا في أمره و تعللا بما لا يجدي عليه، كما حكى اللّه تعالي عنهم تعللهم بإغواء الرؤساء والشياطين(3). وقوله:

ص: 51


1- ديوان جميل بثينة: 73، وفيه: في قتل عاشق.
2- تفسير الطبري ج 24:14.
3- ينظر: الصافات: 32.

بَلىٰ قَدْ جٰاءَتْكَ آيٰاتِي ردّ عليه من اللّه عزّ اسمه، والمعنى: بلي قد هديت بالقرآن فكذّبت به واستكبرت عن قبوله وكفرت به، وإنّما صحّ وقوع (بلي) جوابا عن غير المنفي لأنّ معنى قوله: لَوْ أَنَّ اَللّٰهَ هَدٰانِي ما هديت.

كَذَبُوا عَلَى اَللّٰهِ وصفوه بما لا يجوز عليه، فأضافوا إليه الولد والشريك وقالوا: هٰؤُلاٰءِ شُفَعٰاؤُنٰا عِنْدَ اَللّٰهِ (1) و لَوْ شٰاءَ اَلرَّحْمٰنُ مٰا عَبَدْنٰاهُمْ (2)، وَ اَللّٰهُ أَمَرَنٰا بِهٰا (3)، ولا يبعد عنهم من ينسب فعل القبائح إلي اللّه ويثبت معه قدماء. وعن الباقر عليه السلام: (كل إمام انتحل إمامة ليست له من اللّه فهو من أهل هذه الآية، قيل: وإن كان علويا فاطميا؟ قال: وإن كان)(4). وعن الصادق عليه السلام:

(من حدّث عنا بحديث فنحن سائلوه عنه يوما، فإن صدق علينا فإنّما يصدق على اللّه وعلي رسوله، [وإن كذب علينا فإنّما يكذب على اللّه وعلى رسوله](5)، لا نا إذا حدّثنا لا نقول: قال فلان وقال فلان، وإنّما نقول: قال اللّه وقال رسوله ثمّ تلا هذه الآية)(6).

[وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ في موضع الحال إن كان تَرَى من رؤية البصر، ومفعول ثان إن كان من رؤية القلب](7).

ص: 52


1- يونس: 18.
2- الزخرف: 20.
3- الأعراف: 28.
4- الغيبة: 113 باختلاف يسير.
5- ساقطة من ب.
6- مجمع البيان ج 7-8:505 عن العياشي.
7- ساقطة من ب.

[سورة الزمر (39): الآیات 61 الی 67]

وَ يُنَجِّي اَللّٰهُ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا بِمَفٰازَتِهِمْ لاٰ يَمَسُّهُمُ اَلسُّوءُ وَ لاٰ هُمْ يَحْزَنُونَ اَللّٰهُ خٰالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ لَهُ مَقٰالِيدُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآيٰاتِ اَللّٰهِ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْخٰاسِرُونَ قُلْ أَ فَغَيْرَ اَللّٰهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا اَلْجٰاهِلُونَ وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ اَلْخٰاسِرِينَ بَلِ اَللّٰهَ فَاعْبُدْ وَ كُنْ مِنَ اَلشّٰاكِرِينَ وَ مٰا قَدَرُوا اَللّٰهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ اَلْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ وَ اَلسَّمٰاوٰاتُ مَطْوِيّٰاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحٰانَهُ وَ تَعٰالىٰ عَمّٰا يُشْرِكُونَ

و قرئ: بمفازاتهم علي الجمع، والمفازة و الفوز واحد، و من جمع فلأن المصادر قد تجمع إذا اختلفت أجناسها. و قرئ: ينجي و وَ يُنَجِّي ، وتفسير المفازة قوله: لاٰ يَمَسُّهُمُ اَلسُّوءُ وَ لاٰ هُمْ يَحْزَنُونَ ، أو أراد بسبب منجاتهم و هو العمل الصالح، فقوله: لاٰ يَمَسُّهُمُ علي التفسير الأول لا مخل له لأنه كلام مستأنف، و علي الثاني محله نصمب علي الحال.

لَهُ مَقٰالِيدُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ أي: هو ما لك أمرها وحافظها، و هو من باب الكناية، لأن حافظ الخزائن هو الذي يملك مقاليدها، والمقاليد: المفاتيح لا واحد لها من لفظها.

وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا متصل بقوله: وَ يُنَجِّي اَللّٰهُ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا ، واعترض بينهما بأنه خالق الأشياء و المهيمن عليها، فلا يخفي عليه ما يستحق علي الأعمال من الجزاء، و الذين جحدوا أن يكون الأمر كذلك أُولٰئِكَ هُمُ اَلْخٰاسِرُونَ .

أَ فَغَيْرَ اَللّٰهِ منصوب ب - أَعْبُدُ ، و تَأْمُرُونِّي اعتراض، فالمعني: أ فغير

ص: 53

الله أعبد بأمركم ؟ و ذلك حين قال له المشركون: استلم بعض آلهتنا نؤمن بإلهك، أو منصوب بما يدل عليه جملة قوله: تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ لأنه في معني تعبدونني و تقولون لي: اعبد فكذلك: أ فغير الله تأمرونني أن أعبد، و قرئ: تَأْمُرُونِّي بالتشديد للإدغام، و جاز الإدغام لأن قبل النون المدغمة حرف لين و هو الواو، وتأمرونني بنونين علي الأصل، و تأمروني بحذف النون الثانية لأن الأولي علامة الرفع، و فتح الياء وإسكانها معا سائغ.

وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ لئن أشركت وَ إِلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ مثله، أو أوحي إليك و إلي كل واحد منهم لَئِنْ أَشْرَكْتَ كقوله: فكسانا حلة، أي: كل واحد منا، واللام الأولي لتوطئة ا لقسم، والثانية لام الجواب، و هذا الكلام إنما أتي [إذ عبدوا غيره و أمروا نبيه بعبادة غيره ثم نبههم علي عظمته](1) علي سبيل الفرض، والتقدير: فإن رسل الله منزهون عن الشرك، و المحال يصح فرضه لغرض فكيف ما هو دونه ؟.

بَلِ اَللّٰهَ فَاعْبُدْ رد لما أمروه به من استلام بعض آلهتهم كأنه قال: لا تعبد ما أمروك بعبادته، بل إن كنت قد تبينات فاعبد الله، فحذف الشرط و جعل تقديم المفعول عوضا عنه.

و لما كان العظيم من الأشياء إذا عرفه الإنسان حق معرفته و قدره في نفسه حق تقديره، عظمه حق تعظيمه، [قال سبحانه: وَ مٰا قَدَرُوا اَللّٰهَ حَقَّ قَدْرِهِ بمعني:

و ما عظموه حق تعظيمه](2) إذ عبدوا غيره و أمروا نبيه بعبادة غيره، ثم نبههم علي عظمته علي طريق التخييل فقال: وَ اَلْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ

ص: 54


1- ساقطة من ب، ج.
2- ساقطة من د.

وَ اَلسَّمٰاوٰاتُ مَطْوِيّٰاتٌ بِيَمِينِهِ و هو تصوير لجلالته وعظمة شأنه لا غير، من غير أن تصور قبضة و لا يمين لا حقيقة و لا مجازا، و أكد الأرض بقوله: جَمِيعاً قبل مجيء الخبر، ليعلم أن الخبر لا يقع عن أرض واحدة، والمعني: والأرضون جميعا ذوات قبضة يقبضهن قبضة واحدة، [أي: أنها بأجمعها مع عظمها لا تبلغ إلا قبضة واحدة](1) من قبضاته، كأنه يقبضها قبضة بكف واحدة.

و قوله: مَطْوِيّٰاتٌ من الطي الذي هو ضد النشر، كما قال: يَوْمَ نَطْوِي اَلسَّمٰاءَ كَطَيِّ اَلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ (2) والعادة أن يطوى السجل باليمين. و قيل: قبضته:

ملكه بلا منازع، و بيمينه: بقدرته(3)، و قيل: مطويات بيمينه: مفنيات بقسمه(4)، و هذا قول مرغوب عنه.

[سورة الزمر (39): الآیات 68 الی 71]

وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ إِلاّٰ مَنْ شٰاءَ اَللّٰهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرىٰ فَإِذٰا هُمْ قِيٰامٌ يَنْظُرُونَ وَ أَشْرَقَتِ اَلْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهٰا وَ وُضِعَ اَلْكِتٰابُ وَ جِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ اَلشُّهَدٰاءِ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لاٰ يُظْلَمُونَ وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مٰا عَمِلَتْ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمٰا يَفْعَلُونَ وَ سِيقَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِلىٰ جَهَنَّمَ زُمَراً حَتّٰى إِذٰا جٰاؤُهٰا فُتِحَتْ أَبْوٰابُهٰا وَ قٰالَ لَهُمْ خَزَنَتُهٰا أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيٰاتِ رَبِّكُمْ وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقٰاءَ يَوْمِكُمْ هٰذٰا قٰالُوا بَلىٰ وَ لٰكِنْ

ص: 55


1- ساقطة من د.
2- الأنبياء: 104.
3- معاني القرآن للأخفش: 497.
4- عن علي بن مهدي الطبري. الكشف و البيان ج 8:251.

[سورة الزمر (39): الآیات 71 الی 75]

حَقَّتْ كَلِمَةُ اَلْعَذٰابِ عَلَى اَلْكٰافِرِينَ قِيلَ اُدْخُلُوا أَبْوٰابَ جَهَنَّمَ خٰالِدِينَ فِيهٰا فَبِئْسَ مَثْوَى اَلْمُتَكَبِّرِينَ وَ سِيقَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى اَلْجَنَّةِ زُمَراً حَتّٰى إِذٰا جٰاؤُهٰا وَ فُتِحَتْ أَبْوٰابُهٰا وَ قٰالَ لَهُمْ خَزَنَتُهٰا سَلاٰمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهٰا خٰالِدِينَ وَ قٰالُوا اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي صَدَقَنٰا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا اَلْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ اَلْجَنَّةِ حَيْثُ نَشٰاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ اَلْعٰامِلِينَ وَ تَرَى اَلْمَلاٰئِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ اَلْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ قِيلَ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ

فَصَعِقَ : مات بحال هائلة.

إِلاّٰ مَنْ شٰاءَ اَللّٰهُ هم الملائكة الأربعة، وقيل: هم الشهداء(1).

أُخْرىٰ أي: نفخة أخرى، ويحتمل النصب علي قراءة من قرأ: نفخة واحدة، وحذفت نفخة لدلالة أخري عليها، ولكونها معلومة بذكرها في غير مكان.

يَنْظُرُونَ يقلّبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا عراه خطب، وقيل: ينتظرون ما يفعل بهم(2). ويجوز أن يكون القيام بمعنى الوقوف والجمود في مكان لتحيّرهم.

قد استعار سبحانه النور للحقّ والقرآن والبرهان في مواضع من كتابه(3)،

ص: 56


1- عن سعيد بن جبير، وروي مرفوعا. الدر المنثور ج 5:336.
2- تفسير الماوردي ج 5:136.
3- الأعراف: 157، الصف: 8.

وهذا من ذاك. والمعنى: وَ أَشْرَقَتِ اَلْأَرْضُ بما يقيمه فيها من الحقّ والعدل.

و اَلْكِتٰابُ : صحائف الأعمال، وهو اسم الجنس.

زُمَراً أفواجا متفرّقة بعضها في إثر بعض.

قٰالُوا بَلىٰ أتانا الرسل و تلوا علينا الآيات والحجج، ولكن وجبت علينا كَلِمَةُ ربّنا: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ (1) بسوء أعمالنا.

مَثْوَى اَلْمُتَكَبِّرِينَ فاعل فَبِئْسَ واللام للجنس، والمخصوص بالذم محذوف وهو جهنم.

حَتّٰى هي التي تحكي بعدها الجمل، والجملة المحكية بعدها هي الشرطية، إلا أنّ جزاءها محذوف، وإنّما حذف لأنّه في صفة ثواب أهل الجنّة، فدلّ بحذفه علي أنّه شيء لا يحيط به الوصف، وموضعه بعد قوله: خٰالِدِينَ . وقيل:

حَتّٰى إِذٰا جٰاؤُهٰا وَ فُتِحَتْ أَبْوٰابُهٰا [أي: مع فتح أبوابها](2)-(3).

والمراد بسوق أهل النار طردهم إليها بعنف و إهانة، والمراد بسوق أهل الجنّة سوق مراكبهم و حثّها سراعا بهم إلى منزل الكرامة والرضوان، وقيل: إنّ أبواب جهنم لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها، وأما أبواب الجنّة فيقدّم فتحها بدليل قوله: مُفَتَّحَةً لَهُمُ اَلْأَبْوٰابُ (4)، فلذلك جيء بالواو، كأنّه قيل: وقد فتحت أبوابها(5).

ص: 57


1- الأعراف: 18.
2- ساقطة من ب.
3- معاني القرآن و إعرابه ج 4:364.
4- ص: 50.
5- إعراب القرآن ج 4:23.

سَلاٰمٌ عَلَيْكُمْ دعاء لهم بالسلامة والخلود.

طِبْتُمْ بالعمل الصالح في الدنيا، وطابت أعمالكم وزكت فَادْخُلُوهٰا جعل دخولهم الجنّة مسببا عن الطيب والزكاة، لأنّها دار الطيبين، طهّرها اللّه من كل دنس، فإنّما يدخلها من اتصف بصفتها، وما أبعد أحوالنا عن اكتساب هذه الصفة إلا أن يتغمدنا اللّه بفضله ورحمته خٰالِدِينَ مقدّرين الخلود.

والأرض عبارة عن المكان الذي اتخذوه مقرا ومبوءا، وأورثناها: ملكناها، وجعلنا ملوكها وأطلق لنا التصرّف فيها، تشبيها بحال الوارث وتصرّفه فيما يشاء مما يرثه.

حَافِّينَ أي: طائفين مِنْ حَوْلِ اَلْعَرْشِ محدقين بها يذكرون اللّه بصفاته العلى.

وَ قُضِيَ بين الخلائق بالعدل، وقيل: بين الأنبياء والأمم(1)، وقيل: بين أهل الجنّة والنار(2).

وَ قِيلَ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ علي قضائه بيننا بالحقّ ، وقيل: إنّه من كلام الله عزّ اسمه(3)، وقد قال في ابتداء الخلق: اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ (4)

تعليما لخلقه في ابتداء كل أمر بالحمد وختمه بالحمد.

ص: 58


1- عن الكلبي. تفسير الماوردي ج 5:139.
2- معاني القرآن وإعرابه ج 4:364.
3- عن قتادة. الكشف والبيان ج 8:260.
4- الانعام: 1.

سورة غافر

اشارة

مكية إلا آيتين، خمس وثمانون آية كوفي، اثنتان بصري، عدّ الكوفي حم تَنْزِيلُ اَلْكِتٰابِ ، يُسَبِّحُونَ ، كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ ، وعدّ البصري كٰاظِمِينَ .

وعن أنس عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: (الحواميم ديباج القرآن)(1)، وعن أبيّ : (من قرأ (حم المؤمن) لم يبق روح نبيّ ولا صدّيق ولا مؤمن إلا صلّوا عليه واستغفروا له)(2)، وعن الباقر عليه السلام: (من قرأ (حم المؤمن) في كل ليلة ثلاث مرات غفر اللّه له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، وألزمه كلمة التقوى، وجعل الآخرة خيرا له من الدنيا)(3).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة غافر (40): الآیات 1 الی 5]

حم تَنْزِيلُ اَلْكِتٰابِ مِنَ اَللّٰهِ اَلْعَزِيزِ اَلْعَلِيمِ غٰافِرِ اَلذَّنْبِ وَ قٰابِلِ اَلتَّوْبِ شَدِيدِ اَلْعِقٰابِ ذِي اَلطَّوْلِ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ إِلَيْهِ اَلْمَصِيرُ مٰا يُجٰادِلُ فِي آيٰاتِ اَللّٰهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَلاٰ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي اَلْبِلاٰدِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ اَلْأَحْزٰابُ مِنْ

ص: 59


1- المستدرك على الصحيحين ج 2:437.
2- الكشف والبيان ج 8:262.
3- ثواب الأعمال: 113 باختلاف يسير.

[سورة غافر (40): آیة 5]

بَعْدِهِمْ وَ هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَ جٰادَلُوا بِالْبٰاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ اَلْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كٰانَ عِقٰابِ

قرئ بإمالة الألف من (حا) و بالتفخيم.

و اَلتَّوْبِ والتوب والأوب أخوات في معنى الرجوع.

اَلطَّوْلِ الإنعام الذي يطول لبثه علي صاحبه، وطال عليه وتطول أي:

تفضل.

غٰافِرِ اَلذَّنْبِ وَ قٰابِلِ اَلتَّوْبِ معرفتان و إضافتهما حقيقية، لأنه لم يرد بهما حدوث الفعلين في الحال أو الاستقبال، بل أريد ثبوت ذلك ودوامه فهما صفتان.

وأما شَدِيدِ اَلْعِقٰابِ فتقديره: شديد عقابه، وقيل: إنّه بدل(1)، والوجه أن يكون صفة، وإنّما حذف الألف واللام من شَدِيدِ ليوافق ما قبله وما بعده لفظا، وذكر بعد غٰافِرِ اَلذَّنْبِ لئلا يعوّل المكلف علي الغفران بل يكون مرجحا بين الرجاء والخوف.

و ذِي اَلطَّوْلِ ذي النعم السابغة على عباده دينا ودنيا.

و مٰا يُجٰادِلُ أي: ما يخاصم في دفع حجج اللّه إلا الكفار فَلاٰ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ بالتجارات و المكاسمب فِي اَلْبِلاٰدِ فإنّ مصير ذلك إلى الزوال والنفاد، فلا يفوتون اللّه علي حال.

ثمّ ضرب سبحانه لتكذيبهم بالرسل وجدالهم بالباطل مثلا ما كان من نحو ذلك من الأمم الماضية فقال: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ رسولهم وَ اَلْأَحْزٰابُ الذين تحزّبوا علي أنبيائهم وناصبوهم وهم عاد وثمود وفرعون وغيرهم.

ص: 60


1- معاني القرآن و إعرابه ج 4:366.

وَ هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ من هذه الأمم بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ليتمكّنوا من قتله و إهلاكه أو تعذيبه، ويقال للأسير: أخيذ.

فَأَخَذْتُهُمْ أي: قصدوا أخذه فجعلت جزاءهم علي إرادة أخذه أن أخذتهم.

فَكَيْفَ كٰانَ عِقٰابِ هذا تقرير فيه معنى التعجب.

[سورة غافر (40): الآیات 6 الی 12]

وَ كَذٰلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ اَلَّذِينَ يَحْمِلُونَ اَلْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنٰا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تٰابُوا وَ اِتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَ قِهِمْ عَذٰابَ اَلْجَحِيمِ رَبَّنٰا وَ أَدْخِلْهُمْ جَنّٰاتِ عَدْنٍ اَلَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبٰائِهِمْ وَ أَزْوٰاجِهِمْ وَ ذُرِّيّٰاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ وَ قِهِمُ اَلسَّيِّئٰاتِ وَ مَنْ تَقِ اَلسَّيِّئٰاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَ ذٰلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يُنٰادَوْنَ لَمَقْتُ اَللّٰهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى اَلْإِيمٰانِ فَتَكْفُرُونَ قٰالُوا رَبَّنٰا أَمَتَّنَا اِثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اِثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنٰا بِذُنُوبِنٰا فَهَلْ إِلىٰ خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ذٰلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذٰا دُعِيَ اَللّٰهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَ إِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلّٰهِ اَلْعَلِيِّ اَلْكَبِيرِ

أَنَّهُمْ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ في محلّ الرفع بدل من كَلِمَتُ رَبِّكَ ، أي: ومثل ذلك الوجوب وجب علي الكفرة كونهم من أصحاب النار، والمعنى: كما وجب إهلاكهم في الدنيا بعذاب الاستئصال كذلك وجب إهلاكهم في الآخرة بعذاب

ص: 61

النار، أو في محلّ النصب علي حذف لام التعليل وإيصال الفعل.

و اَلَّذِينَ كَفَرُوا كفار مكة، أي: كما وجب إهلاك أولئك الأمم كذلك وجب إهلاك هؤلاء، لأنّ علة واحدة تجمعهم أنّهم من أصحاب النار، و قرئ:

كلمات علي الجمع.

ثمّ ذكر سبحانه بعد ذكر حال الكفار حال المؤمنين الأبرار وأنّ الملائكة المقرّبين يمدونهم بالاستغفار فقال: اَلَّذِينَ يَحْمِلُونَ اَلْعَرْشَ علي عواتقهم امتثالا لأمر اللّه وَ مَنْ حول العرش من الملائكة المطيفين به وهم الكروبيون وسادة الملائكة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وينزّهونه عما يصفه به هؤلاء المجادلون، أو يسبّحونه بالتسبيح المعهود، أي يقولون: رَبَّنٰا وهذا المضمر(1) في محلّ الرفع بيانا ل - يَسْتَغْفِرُونَ أو نصب حالا.

وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً الرحمة والعلم هما اللذان وسعا كل شيء في المعنى، والأصل: وسع كل شيء رحمتك وعلمك، فأسند الفعل إلى صاحبهما وأخرجا منصوبين علي التمييز للإغراق في وصفه بالرحمة، كأن ذاته سبحانه رحمة وعلم واسعان كل شيء.

فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ علمت منهم التوبة واتباع سَبِيلَكَ وسبيل اللّه: سبيل الحقّ الذي دعا عباده إليه. وفي هذا دلالة علي أنّ قبول التوبة وإسقاط العقاب عندها تفضّل من اللّه تعالى، إذ لو كان واجبا لما احتيج فيه إلي الدعاء والسؤال.

وَ قِهِمُ اَلسَّيِّئٰاتِ [أي: العقوبات](2)، سمّاها سيئات اتساعا، أو جزاء السيئات فحذف المضاف.

ص: 62


1- في ب: الضمير.
2- ساقطة من ج.

إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يُنٰادَوْنَ يوم القيامة فيقال لهم: لَمَقْتُ اَللّٰهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ والتقدير: لمقت اللّه أنفسكم أكبر من مقتكم أنفسكم، فاستغنى بذكرها مرة. و إِذْ تُدْعَوْنَ منصوب بالمقت الأوّل، والمعنى: إنّه يقال لهم يوم القيامة: كان اللّه يمقت أنفسكم الأمارة بالسوء والكفر حين كان الأنبياء يدعونكم إلي الإيمان فتأبون وتختارون عليه الكفر، أشدّ مما تمقتونهن اليوم وأنتم في النار، إذ أوقعتكم فيها باتباعكم هواهن، وقيل: معناه: لمقت اللّه إيّاكم الآن أكبر من مقت بعضكم لبعض، و إِذْ تُدْعَوْنَ تعليل(1). والمقت: أشدّ البغض، فوضع في موضع أشدّ الإنكار.

اِثْنَتَيْنِ أي: إماتتين و إحياءتين، أو موتتين وحياتين أراد بالإماتتين:

خلقهم أمواتا أوّلا و إماتتهم عند انقضاء آجالهم، وبالإحياءتين: الإحياءة الأولى و إحياءة البعث، وقيل: الإماتتان هما: التي في الدنيا بعد الحياة والتي في القبر قبل البعث، و الإحياءتان هما: التي في القبر للمساءلة والتي في البعث(2).

فَاعْتَرَفْنٰا بِذُنُوبِنٰا التي اقترفناها في الدنيا.

فَهَلْ إِلىٰ خُرُوجٍ أي: إلى نوع من الخروج مِنْ سَبِيلٍ قط، أو اليأس حاصل دون ذلك فلا خروج ولا سبيل إليه.

ذٰلِكُمْ أي: ذلكم الذي أنتم فيه وأن لا سبيل لكم إلي الخروج بوجه من الوجوه بسبب أنّكم كفرتم [بالتوحيد](3) وآمنتم بالإشراك فَالْحُكْمُ لِلّٰهِ حيث حكم عليكم بعذاب الأبد.

ص: 63


1- عن ابن عيسى. تفسير الماوردي ج 5:145.
2- عن السدي. تفسير الطبري ج 24:32.
3- ساقطة من ب.

[سورة غافر (40): الآیات 13 الی 20]

هُوَ اَلَّذِي يُرِيكُمْ آيٰاتِهِ وَ يُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ اَلسَّمٰاءِ رِزْقاً وَ مٰا يَتَذَكَّرُ إِلاّٰ مَنْ يُنِيبُ فَادْعُوا اَللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْكٰافِرُونَ رَفِيعُ اَلدَّرَجٰاتِ ذُو اَلْعَرْشِ يُلْقِي اَلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلىٰ مَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ اَلتَّلاٰقِ يَوْمَ هُمْ بٰارِزُونَ لاٰ يَخْفىٰ عَلَى اَللّٰهِ مِنْهُمْ شَيْ ءٌ لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ لِلّٰهِ اَلْوٰاحِدِ اَلْقَهّٰارِ اَلْيَوْمَ تُجْزىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمٰا كَسَبَتْ لاٰ ظُلْمَ اَلْيَوْمَ إِنَّ اَللّٰهَ سَرِيعُ اَلْحِسٰابِ وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ اَلْآزِفَةِ إِذِ اَلْقُلُوبُ لَدَى اَلْحَنٰاجِرِ كٰاظِمِينَ مٰا لِلظّٰالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لاٰ شَفِيعٍ يُطٰاعُ يَعْلَمُ خٰائِنَةَ اَلْأَعْيُنِ وَ مٰا تُخْفِي اَلصُّدُورُ وَ اَللّٰهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاٰ يَقْضُونَ بِشَيْ ءٍ إِنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ

آيٰاتِهِ أي: مصنوعاته الدالة علي كمال قدرته وتوحيده وَ مٰا يَتَذَكَّرُ وما يتفكر في حقيقتها ولا يتعظ بها إِلاّٰ مَنْ يُنِيبُ أي: يرجع إلى اللّه ويقبل إلى طاعته، فإنّ المعاند لا سبيل إلى تذكره واتعاظه. ثمّ قال لمن ينيب:

فَادْعُوا اَللّٰهَ أي: اعبدوه مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ من الشرك وَ لَوْ كَرِهَ ذلك أعداؤكم الكفار.

رَفِيعُ اَلدَّرَجٰاتِ ذُو اَلْعَرْشِ يُلْقِي اَلرُّوحَ ثلاثة أخبار لقوله: هُوَ مترتبة علي قوله: اَلَّذِي يُرِيكُمْ آيٰاتِهِ ، أو أخبار مبتدأ محذوف، وهي مختلفة تعريفا وتنكيرا. و رَفِيعُ اَلدَّرَجٰاتِ مثل قوله: ذِي اَلْمَعٰارِجِ (1) وهي مصاعد الملائكة إلى أن تبلغ العرش، وهي دليل علي عزّته وملكوته. وعن سعيد بن جبير:

ص: 64


1- المعارج: 3.

(سماء فوق سماء والعرش فوقهن)(1)، وقيل: هي درجات ثوابه التي ينزلها أنبياءه وأولياءه في الجنّة(2)، وقيل: هو عبارة عن رفعة شأنه وعلوّ سلطانه، كما أنّ ذا العرش عبارة عن ملكه(3).

يُلْقِي اَلرُّوحَ الذي هو سبب الحياة للقلب.

مِنْ أَمْرِهِ يريد الوحي الذي هو أمر بالخير، وقيل: إنّ الروح جبرائيل(4).

لِيُنْذِرَ اللّه أو الملقي عليه وهو الرسول أو الروح، وقرئ: لتنذر بالتاء لأنّ الروح مؤنث، أو علي خطاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

يَوْمَ اَلتَّلاٰقِ يوم القيامة لأنّ الخلائق تلتقي فيه، أو يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض و الأولون و الآخرون.

والمعنى: إنّهم كانوا يظنون إذا استتروا أنّ اللّه لا يراهم فهم اليوم صائرون من البروز إلي حال لا يتوهمون ذلك.

لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ لِلّٰهِ اَلْوٰاحِدِ اَلْقَهّٰارِ حكاية لما يسأل عنه في ذلك اليوم ولما يجاب به، أي: ينادي مناد: لمن الملك اليوم ؟ فيجيبه أهل الحشر: للّه الواحد القهار، أو يكون المنادي هو المجيب. ولما قرر أنّ الملك للّه وحده في ذلك اليوم عدّد نتائج ذلك، وهي أنّ كُلُّ نَفْسٍ تجزى بِمٰا كَسَبَتْ وأن لاٰ ظُلْمَ من أحد على أحد، ولا ينقص من ثواب أحد، ولا يزاد في عقاب أحد، و أنّ الحساب لا يبطئ لأنّه سبحانه لا يشغله حساب عن حساب.

ص: 65


1- تفسير الماوردي ج 5:147.
2- الكشف والبيان ج 8:269.
3- الكشاف ج 4:156.
4- عن الضحاك. تفسير الماوردي ج 5:148.

و اَلْآزِفَةِ : الدانية وهي القيامة، لأنّ كل ما هو آت قريب دان.

و كٰاظِمِينَ نصب علي الحال من أصحاب القلوب، لأنّ المعنى: إذ قلوبهم لدي حناجرهم كاظمين عليها، ويجوز أن يكون حالا من القلوب، وأنّ القلوب كاظمة علي كرب وغم فيها مع بلوغها الحناجر، ولمّا وصفها بالكظم الذي هو من أوصاف العقلاء جمع الكاظم جمع سلامة.

و يُطٰاعُ مجاز في الشفيع، لأنّ الطاعة لا تكون إلا لمن فوقك.

والخائنة: مصدر بمعنى الخيانة، كالعافية بمعنى المعافاة، أو صفة للنظرة، والمراد: استراق النظر إلي ما لا يحلّ ، وقوله: يَعْلَمُ خٰائِنَةَ اَلْأَعْيُنِ خبر من أخبار هُوَ في قوله: هُوَ اَلَّذِي يُرِيكُمْ مثل: يُلْقِي اَلرُّوحَ [ولكن قد علل سبحانه يُلْقِي اَلرُّوحَ ](1) بقوله: لِيُنْذِرَ يَوْمَ اَلتَّلاٰقِ ثمّ استطرد ذكر أحوال يوم التلاق إلى قوله: وَ لاٰ شَفِيعٍ يُطٰاعُ فبعد لذلك عن أخواته.

وَ اَللّٰهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ لاستغنائه عن الظلم.

وَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ قرئ بالتاء والياء يعني آلهتهم لاٰ يَقْضُونَ بِشَيْ ءٍ وهذا تهكّم بهم، لأنّ ما لا يوصف بالقدرة لا يقال فيه يقضي أو لا يقضي.

[سورة غافر (40): الآیات 21 الی 23]

أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلَّذِينَ كٰانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كٰانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ آثٰاراً فِي اَلْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اَللّٰهُ بِذُنُوبِهِمْ وَ مٰا كٰانَ لَهُمْ مِنَ اَللّٰهِ مِنْ وٰاقٍ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كٰانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنٰاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اَللّٰهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ اَلْعِقٰابِ وَ لَقَدْ أَرْسَلْنٰا مُوسىٰ بِآيٰاتِنٰا وَ سُلْطٰانٍ مُبِينٍ

ص: 66


1- ساقطة من ج.

[سورة غافر (40): الآیات 24 الی 27]

إِلىٰ فِرْعَوْنَ وَ هٰامٰانَ وَ قٰارُونَ فَقٰالُوا سٰاحِرٌ كَذّٰابٌ فَلَمّٰا جٰاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنٰا قٰالُوا اُقْتُلُوا أَبْنٰاءَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَ اِسْتَحْيُوا نِسٰاءَهُمْ وَ مٰا كَيْدُ اَلْكٰافِرِينَ إِلاّٰ فِي ضَلاٰلٍ وَ قٰالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسىٰ وَ لْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخٰافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي اَلْأَرْضِ اَلْفَسٰادَ وَ قٰالَ مُوسىٰ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاٰ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ اَلْحِسٰابِ

هُمُ في كٰانُوا هُمُ فصل، والفصل لا يقع إلا بين معرفتين، فالوجه هنا أنّ أَشَدَّ مِنْهُمْ ضارع المعرفة في أنّه لا يدخله الألف واللام فأجري مجراه، وقرئ: أشدّ منكم قوة. والمراد بالآثار: حصونهم وقلاعهم وعددهم مما يوصف بالشدّة.

فَقٰالُوا هذا سٰاحِرٌ كَذّٰابٌ فسمّوا السلطان المبين سحرا وكذبا.

بِالْحَقِّ أي: بالدين الحقّ ، أو بالنبوّة.

قٰالُوا اُقْتُلُوا عن ابن عباس: (أي أعيدوا عليهم القتل كا لذي كان أوّلا)(1)، يريد أنّ هذا قتل غير القتل الأوّل.

فِي ضَلاٰلٍ أي: ضياع وذهاب ولم يجد عليهم.

وَ لْيَدْعُ رَبَّهُ فيه دلالة علي خوف فرعون من موسى عليه السلام ومن دعوته ربّه، وأنّ قوله: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسىٰ تمويه منه علي قومه، وإيهام أنّهم كانوا هم المشيرين عليه بأن لا يقتله، وما كان يكفه عن ذلك إلا ما في نفسه من الفزع، و قرئ: وأن

ص: 67


1- الكشاف ج 4:160.

يظهر بالواو وفتح الياء، الفساد بالرفع، والمعنى: إنّي أخاف فساد دينكم ودنياكم معا.

[سورة غافر (40): الآیات 28 الی 34]

وَ قٰالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمٰانَهُ أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اَللّٰهُ وَ قَدْ جٰاءَكُمْ بِالْبَيِّنٰاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَ إِنْ يَكُ كٰاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صٰادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ اَلَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّٰابٌ يٰا قَوْمِ لَكُمُ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ ظٰاهِرِينَ فِي اَلْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنٰا مِنْ بَأْسِ اَللّٰهِ إِنْ جٰاءَنٰا قٰالَ فِرْعَوْنُ مٰا أُرِيكُمْ إِلاّٰ مٰا أَرىٰ وَ مٰا أَهْدِيكُمْ إِلاّٰ سَبِيلَ اَلرَّشٰادِ وَ قٰالَ اَلَّذِي آمَنَ يٰا قَوْمِ إِنِّي أَخٰافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ اَلْأَحْزٰابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَ عٰادٍ وَ ثَمُودَ وَ اَلَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَ مَا اَللّٰهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبٰادِ وَ يٰا قَوْمِ إِنِّي أَخٰافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ اَلتَّنٰادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مٰا لَكُمْ مِنَ اَللّٰهِ مِنْ عٰاصِمٍ وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّٰهُ فَمٰا لَهُ مِنْ هٰادٍ وَ لَقَدْ جٰاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنٰاتِ فَمٰا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمّٰا جٰاءَكُمْ بِهِ حَتّٰى إِذٰا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اَللّٰهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذٰلِكَ يُضِلُّ اَللّٰهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتٰابٌ

مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ صفة ل - رَجُلٌ أو صلة ل - يَكْتُمُ أي: يَكْتُمُ إِيمٰانَهُ من آل فرعون، واسمه حبيب أو خربيل.

أَنْ يَقُولَ لأن يقول، أي: أترتكبون قتل رجل بأن يقول الكلمة الصادقة التي نطق بها وهي قوله: رَبِّيَ اَللّٰهُ مع أنّه أحضر لتصحيح قوله بيّنات عدّة من عند من نسب إليه الربوبية وهو ربّكم لا ربّه وحده ؟! استدرجهم إلي الاعتراف به،

ص: 68

ثمّ احتج عليهم علي طريقة التقسيم بأن قال: لا يخلو من أن يكون صادقا أو كاذبا، فإن يَكُ كٰاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ أي: يعود عليه ضرر كذبه وَ إِنْ يَكُ صٰادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ اَلَّذِي يَعِدُكُمْ وفي ذلك البعض هلاككم.

وهذا كلام من ينصف في مقاله ليسمع منه، لأنه حين فرضه صادقا فقد أثبت أنّه صادق في جميع ما يعد، ولكنّه أردفه يُصِبْكُمْ بَعْضُ اَلَّذِي يَعِدُكُمْ ليهضمه بعض حقّه في الظاهر، وليريهم أنّه ليس بكلام من يتعصب له.

ظٰاهِرِينَ فِي اَلْأَرْضِ أي: عالين في أرض مصر علي بني إسرائيل.

قٰالَ فِرْعَوْنُ مٰا أُرِيكُمْ إِلاّٰ مٰا أَرىٰ أي: ما أشير عليكم برأي إلا بما أري من قتله، يعني: لا أستصوب إلا قتله، وهذا الذي تقولونه غير صواب وَ مٰا أَهْدِيكُمْ بهذا الرأي إِلاّٰ سَبِيلَ اَلرَّشٰادِ والصواب عندي.

مِثْلَ يَوْمِ اَلْأَحْزٰابِ أي: مثل أيّامهم، لأنّه لما أضافه إلى الأحزاب و فسّر الأحزاب بقوم نوح وعاد وثمود، ولم يلتبس أنّ كل حزب منهم كان له يوم دمار، اقتصر علي الواحد من الجمع؛ لأنّ المضاف إليه أغنى عن ذلك، كقوله:

كلوا في بعض بطنكم تعفّوا(1)

و دأبهم: دؤوبهم في عملهم من [الكفر](2) والتكذيب والمعاصي، وكون ذلك دائبا دائما منهم لا يفترون عنه، ولابد من حذف مضاف أي: مثل جزاء دأبهم، وإنّما انتصب مِثْلَ الثاني بأنّه عطف بيان لمثل الأوّل، لأنّ آخر ما تناولته الإضافة قوم نوح، ولو قلت: أهلك اللّه الأحزاب قوم نوح وعاد وثمود لم يكن إلا

ص: 69


1- من أبيات الكتاب ج 1:210 التي لا يعرف قائلها، وبقيته: فإن زمانكم زمن خميص.
2- ساقطة من ب.

عطف بيان لإضافة قوم إلي أعلام، فسرى ذلك الحكم إلى أوّل ما تناولته الإضافة.

وَ مَا اَللّٰهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبٰادِ فتدميرهم كان عدلا منه إذ استوجبوه بأعمالهم.

والتنادي: ما حكاه الله في سورة الأعراف من قوله: وَ نٰادىٰ أَصْحٰابُ اَلْجَنَّةِ أَصْحٰابَ اَلنّٰارِ (1)، وَ نٰادىٰ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ أَصْحٰابَ اَلْجَنَّةِ (2). وقيل: ينادي بعض الظالمين بعضا بالويل والثبور(3)، وقيل: ينادى فيه كل أناس بإمامهم(4).

يَوْمَ تُوَلُّونَ أي: يوم تعرضون عن النار مُدْبِرِينَ فارين مقدّرين أنّ الفرار ينفعكم.

يُوسُفُ هو يوسف بن يعقوب، قيل: إنّ فرعون موسى هو فرعون يوسف، عمّر إلي زمنه(5)، وقيل: هو فرعون آخر(6).

كَذٰلِكَ أي: مثل ذلك الضلال يُضِلُّ اَللّٰهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ على نفسه كافر مُرْتٰابٌ شاك في التوحيد و نبوّة الأنبياء.

[سورة غافر (40): الآیات 35 الی 37]

اَلَّذِينَ يُجٰادِلُونَ فِي آيٰاتِ اَللّٰهِ بِغَيْرِ سُلْطٰانٍ أَتٰاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اَللّٰهِ وَ عِنْدَ اَلَّذِينَ آمَنُوا كَذٰلِكَ يَطْبَعُ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبّٰارٍ وَ قٰالَ فِرْعَوْنُ يٰا هٰامٰانُ اِبْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ اَلْأَسْبٰابَ أَسْبٰابَ اَلسَّمٰاوٰاتِ فَأَطَّلِعَ إِلىٰ إِلٰهِ مُوسىٰ وَ إِنِّي

ص: 70


1- الأعراف: 44.
2- الأعراف: 50.
3- عن الحسن. تفسير الماوردي ج 5:154.
4- معاني القرآن وإعرابه ج 4:373.
5- عن وهب. الكشف والبيان ج 8:275.
6- ينظر: الكشف والبيان ج 8:275.

[سورة غافر (40): الآیات 37 الی 40]

لَأَظُنُّهُ كٰاذِباً وَ كَذٰلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَ صُدَّ عَنِ اَلسَّبِيلِ وَ مٰا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاّٰ فِي تَبٰابٍ وَ قٰالَ اَلَّذِي آمَنَ يٰا قَوْمِ اِتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ اَلرَّشٰادِ يٰا قَوْمِ إِنَّمٰا هٰذِهِ اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا مَتٰاعٌ وَ إِنَّ اَلْآخِرَةَ هِيَ دٰارُ اَلْقَرٰارِ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاٰ يُجْزىٰ إِلاّٰ مِثْلَهٰا وَ مَنْ عَمِلَ صٰالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثىٰ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولٰئِكَ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهٰا بِغَيْرِ حِسٰابٍ

اَلَّذِينَ يُجٰادِلُونَ بدل من قوله: مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ لأنه في معنى: كل مسرف.

وفاعل كَبُرَ ضمير مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ علي اللفظ، ويجوز أن يكون اَلَّذِينَ يُجٰادِلُونَ مبتدأ [و بِغَيْرِ سُلْطٰانٍ أَتٰاهُمْ خبرا](1)، أو يكون قوله: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اَللّٰهِ علي حدّ قولك: نعم رجلا زيد. و المخصوص بالذم محذوف وهو جدالهم، وتكون الجملة خبر المبتدأ، ولا يكون جدالهم فاعلا ل - كَبُرَ فيمتنع حذفه علي ما ذكره جار اللّه(2).

و قرئ: (قلب) بالتنوين، وجاز وصف القلب بالتكبر والتجبر لأنّه موضعهما [ومنبعهما](3)، كما قال سبحانه: فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ (4)، والإثم هو الجملة، أو يكون علي حذف المضاف أي: علي كل ذي قلب مُتَكَبِّرٍ ، ومن قرأ علي

ص: 71


1- ساقطة من ب، ج.
2- الكشاف ج 4:167.
3- ساقطة من ب.
4- البقرة: 283.

الإضافة فالمعنى: يطبع اللّه علي القلوب إذا كانت قلبا من كل متكبر، وحذف (كل) لتقدّم ذكره كما جاء في المثل: (ما كل سوداء تمرة ولا بيضاء شحمة)(1) فحذف (كل) لتقدّم ذكره.

والصرح: البناء الظاهر الذي لا يخفى علي الناظر وإن بعد، من صرح الشيء إذا ظهر. وهامان: وزير فرعون وصاحب أمره.

و أَسْبٰابَ اَلسَّمٰاوٰاتِ : طرقها و أبوابها وما يؤدي إليها، وكل ما أوصلك إلى شيء فهو سبب إليه كالرشاء ونحوه.

وفائدة التكرير أنّه لما أراد تفخيم ما أمل بلوغه من أسباب السماوات أبهمها ثمّ أوضحها.

فَأَطَّلِعَ قرئ بالرفع والنصب، للعطف علي أَبْلُغَ ، والنصب علي جواب الترجي تشبيها للترجي بالتمني.

وَ كَذٰلِكَ أي: ومثل ذلك التزيين وذلك الصد زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَ صُدَّ عَنِ اَلسَّبِيلِ ، و قرئ: صدّ علي البناء للفاعل بمعنى: أنّه صدّ نفسه أو صدّ غيره.

وَ مٰا كَيْدُ فِرْعَوْنَ في إبطال آيات موسى عليه السلام إِلاّٰ فِي تَبٰابٍ أي: خسار لا ينفعه.

ثمّ عاد إلى ذكر نصيحة مؤمن آل فرعون فأجمل لهم بأن قال: أَهْدِكُمْ سَبِيلَ اَلرَّشٰادِ .

ثمّ فسّر فافتتح بذم الدنيا وتحقير شأنها، لأنّ الركون إليها أصل لكل شرّ

ص: 72


1- مجمع الأمثال ج 3:275.

وإثم، وجالب لسخط الله وعقابه، ثمّ ثنى بتعظيم الآخرة وإنّها دٰارُ اَلْقَرٰارِ و الإقامة.

ثمّ ذكر الأعمال السيئة والحسنة وما يستحقّ على كل واحدة منهما. وقوله:

بِغَيْرِ حِسٰابٍ في مقابل إِلاّٰ مِثْلَهٰا ، معناه: أنّ جزاء السيئة له حساب وتقدير، فلا يزيد علي المستحقّ ، وأما جزاء العمل الصالح فبغير تقدير وحساب، بل هو زائد على المستحقّ بما شئت من الزيادة و الكثرة.

[سورة غافر (40): الآیات 41 الی 46]

وَ يٰا قَوْمِ مٰا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى اَلنَّجٰاةِ وَ تَدْعُونَنِي إِلَى اَلنّٰارِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللّٰهِ وَ أُشْرِكَ بِهِ مٰا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى اَلْعَزِيزِ اَلْغَفّٰارِ لاٰ جَرَمَ أَنَّمٰا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي اَلدُّنْيٰا وَ لاٰ فِي اَلْآخِرَةِ وَ أَنَّ مَرَدَّنٰا إِلَى اَللّٰهِ وَ أَنَّ اَلْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ فَسَتَذْكُرُونَ مٰا أَقُولُ لَكُمْ وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ بَصِيرٌ بِالْعِبٰادِ فَوَقٰاهُ اَللّٰهُ سَيِّئٰاتِ مٰا مَكَرُوا وَ حٰاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ اَلْعَذٰابِ اَلنّٰارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهٰا غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسّٰاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ اَلْعَذٰابِ

يقال: دعاه إلى الشيء وللشيء، كما قيل: هداه إلى الطريق وللطريق.

لَيْسَ لِي بِهِ أي: بربوبيته عِلْمٌ والمراد بنفي العلم نفي المعلوم، كأنّه قال: وأشرك به ما ليس بإله وما ليس بإله كيف يصحّ أن يعلم إلها؟!.

لاٰ جَرَمَ سياقه علي مذهب البصريين أن يجعل (لا) ردا لما دعاه إليه قومه، وجرم فعل بمعنى حقّ ، و (أن) مع ما في حيّزه فاعله، أي: حقّ ووجب بطلان دعوته، أو بمعنى كسب أي: كسب ذلك الدعاء إليه بطلان دعوته، علي معنى:

ص: 73

إنّه ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته، وقيل: لا جرم نظير لابد فعل من الجرم وهو القطع(1)، كما أنّ (بدا) فعل من التبديد وهو التفريق، فكما أنّ معنى لابد أنّك تفعل كذا بمعنى لا بد لك من فعله فكذلك لاٰ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ اَلنّٰارَ (2)

بمعنى لا قطع لذلك أي: يستحقّون النار أبدا، لا انقطاع لاستحقاقهم، ولا قطع لبطلان دعوة الأصنام، أي: لا تزال باطلة لا ينقطع ذلك فينقلب حقّا، ومعناه:

أَنَّمٰا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ إلى نفسه قط، ولا يدعي الإلهية، وقيل: ليس له استجابة دعوة تنفع في الدنيا ولا في الآخرة أو دعوة مستجابة(3). جعل الدعوة التي لا منفعة لها كلا دعوة، أو سمّيت الاستجابة باسم الدعوة كما سمّي الفعل المجازي عليه باسم الجزاء في قولهم: (كما تدين تدان)(4).

فَسَتَذْكُرُونَ عند نزول العذاب بكم، أو يوم القيامة صحّة مٰا أَقُولُ لَكُمْ من النصح، وأسلم أَمْرِي إِلَى اَللّٰهِ و أتوكل عليه.

اَلنّٰارِ بدل من سُوءُ اَلْعَذٰابِ ، أو خبر مبتدأ محذوف أي: هو النار، أو مبتدأ خبره يُعْرَضُونَ عَلَيْهٰا غُدُوًّا وَ عَشِيًّا أي: يعذّبون بها في هذين الوقتين، وفيما بين ذلك اللّه أعلم بحالهم، فإما أن يعذّبوا بجنس آخر من العذاب، أو ينفس عنهم، فإذا قامت القيامة قيل لهم: ادخلوا يا آل فرعون أشدّ عذاب جهنم.

وقرئ: أَدْخِلُوا أي: يقال لخزنة جهنم: أدخلوهم. وفي هذه الآية دلالة علي صحّة عذاب القبر.

ص: 74


1- عن المفضل. تفسير الماوردي ج 5:157.
2- النحل: 62.
3- عن السدي. معالم التنزيل ج 4:29.
4- الخصال: 303، مصنف عبد الرزاق ج 11:179.

[سورة غافر (40): الآیات 47 الی 50]

وَ إِذْ يَتَحٰاجُّونَ فِي اَلنّٰارِ فَيَقُولُ اَلضُّعَفٰاءُ لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا إِنّٰا كُنّٰا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنّٰا نَصِيباً مِنَ اَلنّٰارِ قٰالَ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا إِنّٰا كُلٌّ فِيهٰا إِنَّ اَللّٰهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ اَلْعِبٰادِ وَ قٰالَ اَلَّذِينَ فِي اَلنّٰارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ اُدْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنّٰا يَوْماً مِنَ اَلْعَذٰابِ قٰالُوا أَ وَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنٰاتِ قٰالُوا بَلىٰ قٰالُوا فَادْعُوا وَ مٰا دُعٰاءُ اَلْكٰافِرِينَ إِلاّٰ فِي ضَلاٰلٍ

واذكر وقت تحاجهم في النار.

تَبَعاً أي: أتباعا، جمع تابع ومثله خدم جمع خادم، أو ذوي تبع أي:

أتباع، أو هو وصف بالمصدر.

و كُلٌّ معرفة، والتنوين عوض من المضاف إليه، أي: كلنا فيها لخزنة جهنم، ولم يقل: لخزنتها لأنّ في ذكر جهنم تهويلا، ويحتمل أن تكون جهنم هي أبعد النار قعرا، من قولهم: بئر جهنام: بعيدة القعر.

أَ وَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ إلزام للحجّة وتوبيخ.

قٰالُوا فَادْعُوا أنتم فإنّا لا ندعو إلا بإذن اللّه ولم يؤذن لنا فيه.

[سورة غافر (40): الآیات 51 الی 55]

إِنّٰا لَنَنْصُرُ رُسُلَنٰا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ يَوْمَ يَقُومُ اَلْأَشْهٰادُ يَوْمَ لاٰ يَنْفَعُ اَلظّٰالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَ لَهُمُ اَللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ اَلدّٰارِ وَ لَقَدْ آتَيْنٰا مُوسَى اَلْهُدىٰ وَ أَوْرَثْنٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ اَلْكِتٰابَ هُدىً وَ ذِكْرىٰ لِأُولِي اَلْأَلْبٰابِ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اَللّٰهِ حَقٌّ وَ اِسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ سَبِّحْ

ص: 75

[سورة غافر (40): الآیات 55 الی 60]

بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَ اَلْإِبْكٰارِ إِنَّ اَلَّذِينَ يُجٰادِلُونَ فِي آيٰاتِ اَللّٰهِ بِغَيْرِ سُلْطٰانٍ أَتٰاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاّٰ كِبْرٌ مٰا هُمْ بِبٰالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللّٰهِ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ لَخَلْقُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ اَلنّٰاسِ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ وَ مٰا يَسْتَوِي اَلْأَعْمىٰ وَ اَلْبَصِيرُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ وَ لاَ اَلْمُسِيءُ قَلِيلاً مٰا تَتَذَكَّرُونَ إِنَّ اَلسّٰاعَةَ لَآتِيَةٌ لاٰ رَيْبَ فِيهٰا وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يُؤْمِنُونَ وَ قٰالَ رَبُّكُمُ اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ اَلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبٰادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دٰاخِرِينَ

أي: نغلّب رُسُلَنٰا في الدارين بالظفر علي مخالفيهم و بالحجّة، ولو غلبوا في بعض الأحايين فالعاقبة لهم، واليوم الثاني بدل من الأوّل.

و اَلْأَشْهٰادُ : جمع شاهد وهم الملائكة و الأنبياء والأولياء.

وقرئ: لاٰ يَنْفَعُ بالتاء و الياء.

والمراد ب - اَلْهُدىٰ : ما آتاه اللّه في باب الدين من المعجزات والتوراة وا لشرائع.

وَ أَوْرَثْنٰا و تركنا علي بَنِي إِسْرٰائِيلَ من بعده اَلْكِتٰابَ أي: التوراة.

هُدىً وَ ذِكْرىٰ أي: إرشادا وتذكرة، وهما مفعول لهما أو حا لان.

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اَللّٰهِ حَقٌّ في ضمان نصرة رسله، واستشهد بحال موسى ونصرته علي فرعون وجنوده، وإبقاء آثار هداه في بني إسرائيل، فإنّ اللّه

ص: 76

ينصرك كما نصره.

وَ اِسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ تعبّده سبحانه بالدعاء والاستغفار ليزيد في درجاته، ويصير سنة لأمته.

إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاّٰ كِبْرٌ أي: تكبّر، وهو إرادة التقدّم و الرئاسة، وأن لا يكون فوقهم، ولذلك عادوك ودفعوا معجزاتك، وذلك أنّ النبوّة تحتها كل ملك ورئاسة، أو إرادة أن تكون لهم النبوّة دونك.

مٰا هُمْ بِبٰالِغِيهِ أي: ببالغي موجب الكبر ومقتضيه، وهو متعلّق إرادتهم من الرئاسة أو النبوّة.

فَاسْتَعِذْ بِاللّٰهِ من شرهم إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ لأقوالهم اَلْبَصِيرُ بأحوالهم، وفيه تهديد.

ولما كان جدالهم وحجاجهم في آيات اللّه مشتملا علي إنكار البعث، حجّوا بخلق السماوات والأرض، لأنّهم كانوا يقرّون بأنّه سبحانه خالقهما، وخلق الناس بالقياس إليهما أهون. ثمّ ضرب اَلْأَعْمىٰ وَ اَلْبَصِيرُ مثلا للمحسن والمسيء.

و قرئ: تَتَذَكَّرُونَ بالتاء والياء.

لاٰ رَيْبَ فِيهٰا لابد من مجيئها، وليس بمرتاب فيها لأنّه لا بد من الجزاء.

اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إذا اقتضت المصلحة إجابتكم، وقيل: معناه:

اعبدوني أثبكم(1). وفي الحديث: (الدعاء هو العبادة وقرأ هذه الآية)(2). وعن الباقر عليه السلام: (هو الدعاء، وأفضل العبادة الدعاء)(3).

ص: 77


1- معالم التنزيل ج 4:31.
2- الأدب المفرد: 249، وينظر: الكافي ج 2:467.
3- الكافي ج 2:466.

[سورة غافر (40): الآیات 61 الی 68]

اَللّٰهُ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ اَلنَّهٰارَ مُبْصِراً إِنَّ اَللّٰهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى اَلنّٰاسِ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَشْكُرُونَ ذٰلِكُمُ اَللّٰهُ رَبُّكُمْ خٰالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ فَأَنّٰى تُؤْفَكُونَ كَذٰلِكَ يُؤْفَكُ اَلَّذِينَ كٰانُوا بِآيٰاتِ اَللّٰهِ يَجْحَدُونَ اَللّٰهُ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ قَرٰاراً وَ اَلسَّمٰاءَ بِنٰاءً وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَ رَزَقَكُمْ مِنَ اَلطَّيِّبٰاتِ ذٰلِكُمُ اَللّٰهُ رَبُّكُمْ فَتَبٰارَكَ اَللّٰهُ رَبُّ اَلْعٰالَمِينَ هُوَ اَلْحَيُّ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ لَمّٰا جٰاءَنِي اَلْبَيِّنٰاتُ مِنْ رَبِّي وَ أُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ اَلْعٰالَمِينَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرٰابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفّٰى مِنْ قَبْلُ وَ لِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ هُوَ اَلَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ فَإِذٰا قَضىٰ أَمْراً فَإِنَّمٰا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ

مُبْصِراً من الإسناد المجازي، ومعناه: لتبصروا فيه إِنَّ اَللّٰهَ لَذُو فَضْلٍ لا يوازيه فضل.

وكرر ذكر اَلنّٰاسِ تخصيصا لكفران النعم، و أنّهم هم الذين لا يشكرونه.

ذٰلِكُمُ المعلوم المختص بهذه الأفعال هو اَللّٰهُ رَبُّكُمْ خٰالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ وهي أخبار مترادفة، أي: هو الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية وإنشاء الأشياء و الوحدانية.

ص: 78

فَأَنّٰى تُؤْفَكُونَ فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة الأصنام ؟!. ثمّ ذكر أنّ كل من جحد بِآيٰاتِ اَللّٰهِ أفك كما أفكوا.

ثمّ وصف نفسه بأفعال أخر خاصة به، وهي أنّه جعل اَلْأَرْضَ مستقرا وَ اَلسَّمٰاءَ بِنٰاءً أي: قبة - ومضارب العرب: أبنيتهم - لأنّ السماء في منظر العين كالقبة المضروبة علي الأرض.

فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الطاعة من الشرك في دعائه وعبادته، قائلين: اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ .

أَنْ أُسْلِمَ أي: استسلم لأمر لِرَبِّ اَلْعٰالَمِينَ .

لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ متعلّق بفعل محذوف، والتقدير: ثمّ يبقيكم لتبلغوا، وكذلك لِتَكُونُوا شُيُوخاً ، ويفعل ذلك لِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وهو وقت الموت، أو يوم القيامة.

وقوله: مِنْ قَبْلُ يريد: من قبل الشيخوخة، أو من قبل هذه الأحوال(1).

وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ هذه الأغراض المذكورة، و تتفكرون في العبر والحجج.

فَإِذٰا قَضىٰ أَمْراً فَإِنَّمٰا يكونه من غير كلفة، جعل هذا نتيجة من قدرته علي الإحياء والإماتة وسائر ما ذكر من أفعاله الدالة علي أنّه لا يمتنع عليه شيء من المقدورات، فكأنّه قال: فلذلك الاقتدار إذا قضى أمرا تيسّر له ولم يمتنع عليه، وكان أهون شيء وأسرعه.

[سورة غافر (40): الآیات 69 الی 70]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يُجٰادِلُونَ فِي آيٰاتِ اَللّٰهِ أَنّٰى يُصْرَفُونَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتٰابِ وَ بِمٰا أَرْسَلْنٰا بِهِ رُسُلَنٰا فَسَوْفَ

ص: 79


1- فيج: الأفعال.

[سورة غافر (40): الآیات 70 الی 76]

يَعْلَمُونَ إِذِ اَلْأَغْلاٰلُ فِي أَعْنٰاقِهِمْ وَ اَلسَّلاٰسِلُ يُسْحَبُونَ فِي اَلْحَمِيمِ ثُمَّ فِي اَلنّٰارِ يُسْجَرُونَ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مٰا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ قٰالُوا ضَلُّوا عَنّٰا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذٰلِكَ يُضِلُّ اَللّٰهُ اَلْكٰافِرِينَ ذٰلِكُمْ بِمٰا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ بِمٰا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ اُدْخُلُوا أَبْوٰابَ جَهَنَّمَ خٰالِدِينَ فِيهٰا فَبِئْسَ مَثْوَى اَلْمُتَكَبِّرِينَ

أَنّٰى يُصْرَفُونَ أي: من أيّ جهة يقلبون عن الحق إلى الضلال.

إِذِ اَلْأَغْلاٰلُ فِي أَعْنٰاقِهِمْ المعنى علي إِذِ إلا أنّ أخباره سبحانه لما كانت متيقنة، عبّر عن الأمور المستقبلة منها بلفظ ما قد كان ووجد، و يُسْحَبُونَ حال.

فِي اَلْحَمِيمِ في الماء الذي انتهت حرارته ثُمَّ فِي اَلنّٰارِ يُسْجَرُونَ يقذفون فيها وتوقد بهم.

بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً أي: تبيّن لنا أنّهم لم يكونوا شيئا، وما كنا نعبد بعبادتهم شيئا.

كَذٰلِكَ أي: مثل ضلال آلهتهم عنهم يضلهم عن آلهتهم حتى لو طلبوها أو طلبتهم لم يتصادفوا.

ذٰلِكُمْ الإضلال بسبب ما كان لكم من الفرح فِي اَلْأَرْضِ و المرح بِغَيْرِ اَلْحَقِّ و هو الشرك وعبادة الأوثان.

فَبِئْسَ مَثْوَى اَلْمُتَكَبِّرِينَ [مثواكم أي: جهنم](1).

ص: 80


1- ساقطة من ب.

[سورة غافر (40): الآیات 77 الی 81]

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اَللّٰهِ حَقٌّ فَإِمّٰا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ اَلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنٰا يُرْجَعُونَ وَ لَقَدْ أَرْسَلْنٰا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنٰا عَلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَ مٰا كٰانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ فَإِذٰا جٰاءَ أَمْرُ اَللّٰهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَ خَسِرَ هُنٰالِكَ اَلْمُبْطِلُونَ اَللّٰهُ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَنْعٰامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهٰا وَ مِنْهٰا تَأْكُلُونَ وَ لَكُمْ فِيهٰا مَنٰافِعُ وَ لِتَبْلُغُوا عَلَيْهٰا حٰاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَ عَلَيْهٰا وَ عَلَى اَلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ وَ يُرِيكُمْ آيٰاتِهِ فَأَيَّ آيٰاتِ اَللّٰهِ تُنْكِرُونَ

الأصل: فإن نرينك، و (ما) مزيدة لتأكيد معنى الشرط، ولذلك ألحقت النون بالفعل، لا يقال: إن تكرمني أكرمك، ولكن: إما تكرمني أكرمك.

وقوله: فَإِلَيْنٰا يُرْجَعُونَ يتعلّق ب - نَتَوَفَّيَنَّكَ ، و جزاء نُرِيَنَّكَ محذوف وتقديره: فإما نرينك بعض الذي نعدهم من العذاب في حياتك وهو القتل يوم بدر فذاك أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل أن يحلّ بهم ذلك.

فَإِلَيْنٰا يُرْجَعُونَ يوم القيامة فنفعل بهم ما يستحقّونه ولا يفوتوننا.

مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنٰا عَلَيْكَ ذكرهم و أخبارهم وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ذكرهم.

لِتَرْكَبُوا مِنْهٰا إلي الحج والغزو والهجرة من بلد إلي بلد لإقامة دين أو طلب علم، وهذه أغراض دينية تتعلّق بها إرادة الحكيم، فأما الأكل فمن جنس المنافع المباحة التي لا تتعلّق بها إرادته، وعلي الأنعام وَ عَلَى اَلْفُلْكِ في البر والبحر

ص: 81

تُحْمَلُونَ .

وَ يُرِيكُمْ آيٰاتِهِ أي حججه و بيّناته.

فَأَيَّ آيٰاتِ اَللّٰهِ تُنْكِرُونَ توبيخ لهم علي الجحد.

[سورة غافر (40): الآیات 82 الی 85]

أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كٰانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَ أَشَدَّ قُوَّةً وَ آثٰاراً فِي اَلْأَرْضِ فَمٰا أَغْنىٰ عَنْهُمْ مٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ فَلَمّٰا جٰاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنٰاتِ فَرِحُوا بِمٰا عِنْدَهُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ وَ حٰاقَ بِهِمْ مٰا كٰانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فَلَمّٰا رَأَوْا بَأْسَنٰا قٰالُوا آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنٰا بِمٰا كُنّٰا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمٰانُهُمْ لَمّٰا رَأَوْا بَأْسَنٰا سُنَّتَ اَللّٰهِ اَلَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبٰادِهِ وَ خَسِرَ هُنٰالِكَ اَلْكٰافِرُونَ

إيمانهم لمّا رأوا بأسنا سنّت اللّه الّتى قد خلت في عباده و خسر هنا لك الكافرون آثارهم: أبنيتهم العظيمة التي بنوها، و قصورهم و مصانعهم، وقيل: مشيهم بأرجلهم لعظم أجرامهم(1).

فَمٰا أَغْنىٰ : (ما) نافية أو استفهامية في محلّ نصب، و (ما) الثانية مصدرية أو موصولة في محلّ رفع معناه: أي شيء أغنى عنهم مكسوبهم أو كسبهم.

فَرِحُوا بِمٰا عِنْدَهُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ قيل فيه وجوه:

أحدها: أنّه ورد علي طريق التهكّم، كما في قوله: بَلِ اِدّٰارَكَ عِلْمُهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ (2) وعلمهم في الآخرة أنّهم كانوا يقولون: لا نبعث، وكانوا يفرحون

ص: 82


1- عن مجاهد. تفسير الطبري ج 24:57.
2- النمل: 66.

بذلك ويدفعون به علم الأنبياء(1).

والآخر: إنّ المراد علم الفلاسفة كانوا يصغّرون علم الأنبياء إلي علمهم، وعن سقراط أنّه قيل: ائت موسى عليه السلام وكان في زمانه، فقال: (نحن قوم مهديون، فلا حاجة بنا إلى من يهدينا)(2).

وقيل: إنّ الفرح للرسل(3). والمعنى: إنّ الرسل لما رأوا استهزاءهم بالحقّ وجهلهم فرحوا بما أوتوا من العلم وشكروا اللّه عليه.

وَ حٰاقَ بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم.

وقيل: إنّ المراد علمهم بأمور الدنيا(4) كما قال: يَعْلَمُونَ ظٰاهِراً مِنَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا (5) فلما جاءهم الرسل بعلوم الديانات لم يلتفتوا إليها، إذ كانت باعثة علي رفض الشهوات وترك الدنيا، واعتقدوا أن لا علم أنفع من علمهم ففرحوا به.

فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمٰانُهُمْ أي: لم يصحّ ولم يستقم أن ينفعهم إيمانهم لَمّٰا رَأَوْا بأس اللّه.

سُنَّتَ اَللّٰهِ بمنزلة وعد الله ونحو ذلك من المصادر المؤكدة.

و هُنٰالِكَ مكان مستعار للزمان، أي: و خسروا وقت رؤية البأس، وكذلك قوله: وَ خَسِرَ هُنٰالِكَ اَلْمُبْطِلُونَ بعد قوله: فَإِذٰا جٰاءَ أَمْرُ اَللّٰهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ أي: خسروا وقت مجيء أمر اللّه، أو وقت القضاء بالحقّ .

ص: 83


1- عن مجاهد. معالم التنزيل ج 4:32.
2- الكشاف ج 4:182، وفيه: قوم مهذبون... من يهذبنا.
3- عن ابن عيسى. تفسير الماوردي ج 5:165.
4- عن السدي. الكشاف ج 4:182.
5- الروم: 7.

سورة فصلت

اشارة

مكية آياتها أربع و خمسون آية كوفي، اثنتان بصري، عدّ الكوفي حم آية، عٰادٍ وَ ثَمُودَ آية.

وفي حديث أبيّ : (ومن قرأ (حم السجدة) أعطي من الأجر بعدد كل حرف منها عشر حسنات)(1)، وعن الصادق عليه السلام: (من قرأ (حم السجدة) كانت له نورا يوم القيامة مدّ بصره وسرورا، وعاش في هذه الدنيا مغبوطا محمودا)(2).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة فصلت (41): الآیات 1 الی 6]

حم تَنْزِيلٌ مِنَ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ كِتٰابٌ فُصِّلَتْ آيٰاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَ نَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاٰ يَسْمَعُونَ وَ قٰالُوا قُلُوبُنٰا فِي أَكِنَّةٍ مِمّٰا تَدْعُونٰا إِلَيْهِ وَ فِي آذٰانِنٰا وَقْرٌ وَ مِنْ بَيْنِنٰا وَ بَيْنِكَ حِجٰابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنٰا عٰامِلُونَ قُلْ إِنَّمٰا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحىٰ إِلَيَّ أَنَّمٰا إِلٰهُكُمْ إِلٰهٌ وٰاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَ اِسْتَغْفِرُوهُ وَ وَيْلٌ

ص: 84


1- الكشاف ج 4:207.
2- ثواب الأعمال: 113.

[سورة فصلت (41): الآیات 6 الی 8]

لِلْمُشْرِكِينَ اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْتُونَ اَلزَّكٰاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كٰافِرُونَ إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ

تَنْزِيلٌ مبتدأ و كِتٰابٌ خبره، أو تَنْزِيلٌ خبر مبتدأ محذوف و كِتٰابٌ بدل من تَنْزِيلٌ ، أو خبر بعد خبر.

قُرْآناً عَرَبِيًّا نصب علي المدح، أي: أعني بالكتاب المفصّل قرآنا بهذه الصفة، وقيل: نصب علي الحال(1) أي: فُصِّلَتْ آيٰاتُهُ في حال كونه قرآنا عربيا لِقَوْمٍ عرب يَعْلَمُونَ ما نزّل عليهم من الآيات المفصّلة المبيّنة بلسانهم العربي، لا يلتبس عليهم شيء منه، وتعلّق اللام ب - فُصِّلَتْ أوب تَنْزِيلٌ ، أي:

فصّلت آياته لهم، أو تنزيل من الرحمن لأجلهم، وأجود منهما أن يكون صفة مثل ما قبله وما بعده، أي: قرآنا عربيا كائنا لقوم عرب لئلا يفرق بين الصفات والصلات.

بَشِيراً يبشّر المؤمن بما تضمّنه من الوعد وَ نَذِيراً ينذر الكافر بما فيه من الوعيد فَهُمْ لاٰ يَسْمَعُونَ لا يقبلون ولا يطيعون.

قُلُوبُنٰا فِي أَكِنَّةٍ أي: في أغطية مِمّٰا تَدْعُونٰا إِلَيْهِ فلا نفقه ما تقول.

وَ فِي آذٰانِنٰا ثقل وصمم علي استماع القرآن.

وَ مِنْ بَيْنِنٰا وَ بَيْنِكَ حِجٰابٌ ساتر وحاجز منيع، وهذه تمثيلات لنبوّ قلوبهم عن قبول الحقّ .

فَاعْمَلْ علي دينك إنّا عٰامِلُونَ [علي ديننا، أو فاعمل في ابطال أمرنا

ص: 85


1- معاني القرآن وإعرابه ج 4:379.

إنّا عاملون](1) في إبطال أمرك.

و الفائدة في زيادة مِنْ في قوله: وَ مِنْ بَيْنِنٰا أنّه لو قال: وبيننا وبينك حجاب لكان المعنى: أنّ حجابا حاصل وسط الجهتين، ومعنى مِنْ بَيْنِنٰا وَ بَيْنِكَ حِجٰابٌ : إنّ الحجاب ابتداء منا وابتداء منك، والفراغ لجهتك، وجهتنا مستوعبة بالحجاب لا فراغ فيها.

وقوله: إِنَّمٰا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ جواب لقولهم: قُلُوبُنٰا فِي أَكِنَّةٍ ، لأنّ المعنى: إنّي لست بملك وإنّما أنا بشر مثلكم وقد أوحي إِلَيَّ دونكم، وإذا صحّت بالوحي نبوّتي وجب عليكم اتباعي.

فَاسْتَقِيمُوا فا ستووا إِلَيْهِ با لتوحيد وإخلاص العبادة وَ اِسْتَغْفِرُوهُ من الشرك.

و خصّ من أوصاف المشركين منع الزكاة مقرونا بالكفر بالآخرة، لأنّ أحبّ الأشياء إلى الإنسان ماله، فإذا بذله للّه دلّ ذلك علي ثباته في الدين وصدق نيته، وفيه حثّ شديد علي أداء الزكاة، و تخويف من منعها، حيثّ جعله مقرونا بالكفر.

لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أي: غير مقطوع بل هو متصل دائم، أو هو خالص من المنة.

[سورة فصلت (41): الآیات 9 الی 11]

قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ اَلْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدٰاداً ذٰلِكَ رَبُّ اَلْعٰالَمِينَ وَ جَعَلَ فِيهٰا رَوٰاسِيَ مِنْ فَوْقِهٰا وَ بٰارَكَ فِيهٰا وَ قَدَّرَ فِيهٰا أَقْوٰاتَهٰا فِي أَرْبَعَةِ أَيّٰامٍ سَوٰاءً لِلسّٰائِلِينَ ثُمَّ اِسْتَوىٰ

ص: 86


1- ساقطة من ب.

[سورة فصلت (41): الآیات 11 الی 15]

إِلَى اَلسَّمٰاءِ وَ هِيَ دُخٰانٌ فَقٰالَ لَهٰا وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيٰا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قٰالَتٰا أَتَيْنٰا طٰائِعِينَ فَقَضٰاهُنَّ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَ أَوْحىٰ فِي كُلِّ سَمٰاءٍ أَمْرَهٰا وَ زَيَّنَّا اَلسَّمٰاءَ اَلدُّنْيٰا بِمَصٰابِيحَ وَ حِفْظاً ذٰلِكَ تَقْدِيرُ اَلْعَزِيزِ اَلْعَلِيمِ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صٰاعِقَةً مِثْلَ صٰاعِقَةِ عٰادٍ وَ ثَمُودَ إِذْ جٰاءَتْهُمُ اَلرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاّٰ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللّٰهَ قٰالُوا لَوْ شٰاءَ رَبُّنٰا لَأَنْزَلَ مَلاٰئِكَةً فَإِنّٰا بِمٰا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كٰافِرُونَ فَأَمّٰا عٰادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ قٰالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنّٰا قُوَّةً أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اَللّٰهَ اَلَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ كٰانُوا بِآيٰاتِنٰا يَجْحَدُونَ

أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ استفهام تعجب، أي: كيف تستجيزون أن تكفروا بمن خَلَقَ اَلْأَرْضَ فِي مقدار يَوْمَيْنِ .

وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدٰاداً أمثالا و أشباها تعبدونهم.

ذٰلِكَ الذي قدر علي الخلق رَبُّ اَلْعٰالَمِينَ ومالك التصرّف فيهم.

وَ جَعَلَ فِيهٰا أي: في الأرض جبالا رَوٰاسِيَ أي: ثوابت.

مِنْ فَوْقِهٰا جعلها فوق الأرض لتكون منافعها حاصلة لمن طلبها.

وَ بٰارَكَ فِيهٰا وأكثر خيرها.

وَ قَدَّرَ فِيهٰا أَقْوٰاتَهٰا أي: أرزاق أهلها ومنافعهم ومعائشهم فِي تتمة أَرْبَعَةِ أَيّٰامٍ [من حين ابتداء الخلق](1)، كأنّه قال: كل ذلك في أربعة أيّام كاملة مستوية بلا زيادة ولا نقصان.

ص: 87


1- ساقطة من ب.

وقرئ: سَوٰاءً بالحركات الثلاث، فالجر على الوصف ل - أَيّٰامٍ ، والنصب علي استوت سواء أي: استواء، والرفع علي هي سواء.

وتعلّق قوله: لِلسّٰائِلِينَ بمحذوف فكأنّه قال: هذا الحصر لأجل من سأل في كم خلقت الأرض وما فيها، أو يقدر، أي: قدر فيها أقواتها لأجل الطالبين لها المحتاجين إليها من المقتاتين.

ثُمَّ اِسْتَوىٰ إِلَى اَلسَّمٰاءِ من قولك: استوي إلي مكان كذا: إذا توجه إليه توجها لا يلوي علي شيء، وهو من الاستواء الذي هو ضد الاعوجاج، ونحوه قولهم: استقام إليه وامتد إليه، ومنه قوله تعالى: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ (1). والمعنى:

ثمّ دعاه داعي الحكمة إلى خلق السماء بعد خلق الأرض وما فيها من غير صارف يصرفه عن ذلك.

ومعنى أمر السماء والأرض بالإتيان، وقولهما: أَتَيْنٰا طٰائِعِينَ أنّه أراد تكوينهما وإنشاءهما فلم تمتنعا عليه ووجدتا كما أرادهما، وليس هناك أمر علي الحقيقة ولا جواب، وهو من المجاز الذي يسمّى التمثيل، بمعنى: إنّهما كانتا كالمأمور المطيع إذا ورد عليه أمر الامر المطاع، وخلق سبحانه جرم الأرض غير مدحوّة، ثمّ دحاها بعد خلق السماء، كما قال: وَ اَلْأَرْضَ بَعْدَ ذٰلِكَ دَحٰاهٰا (2) فالمعنى: ائتيا علي ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف: ائتي يا أرض مدحوّة قرارا لسكانك، وائتي يا سماء سقفا مبنيا عليهم، ومعنى الإتيان: الحصول والوقوع، كما يقال: أتى عمل فلان مقبولا.

وقوله: طَوْعاً أَوْ كَرْهاً مثل للزوم تأثير قدرته فيهما، وانتصابهما علي الحال،

ص: 88


1- فصلت: 6.
2- النازعات: 30.

أي: طائعتين أو مكرهتين، ولما خوطبن جعلن مجيبات ووصفن بالطوع والكره، وقيل: طائعين في موضع طائعات(1) نحو قوله: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (2)، رَأَيْتُهُمْ لِي سٰاجِدِينَ (3).

فَقَضٰاهُنَّ يجوز أن يرجع الضمير فيه إلى اَلسَّمٰاءَ علي المعنى، ويجوز أن يكون ضميرا مبهما مفسّرا ب - سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ ، والفرق بينهما أنّ سبع سماوات على الوجه الأوّل نصب علي الحال، وفي الثاني نصب علي التمييز.

وَ أَوْحىٰ أي: خلق أو أمر فِي كُلِّ سَمٰاءٍ أَمْرَهٰا ما أمر به فيها ودبّره من خلق الملائكة والنيرات وغير ذلك، أو شأنها وما يصلحها.

وَ زَيَّنَّا اَلسَّمٰاءَ اَلدُّنْيٰا بِمَصٰابِيحَ يهتدي بها.

وَ حِفْظاً أي: و حفظناها حفظا من استراق السمع بالثواقب، ويجوز أن يكون مفعولا له أي: وخلقنا المصابيح زينة وحفظا.

فَإِنْ أَعْرَضُوا بعدما تتلو عليهم من هذه الحجج الدالة علي الوحدانية والقدرة فحذّرهم أن تصيبهم صٰاعِقَةً أي: عذاب شديد الوقع كأنّه صاعقة.

إِذْ جٰاءَتْهُمُ اَلرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ يريد: أتوهم من كل جانب فلم يروا منهم إلا العتو، وقيل: معناه: أنذروهم من وقائع اللّه فيمن قبلهم من الأمم، ومن عذاب الآخرة(4)، لأنّهم إذا حذّروهم ذلك فقد جاؤوهم بالوعظ من جهة الزمان الماضي، وما جرى فيه علي أمثالهم، ومن جهة المستقبل وما سيجري

ص: 89


1- معاني القران وإعرابه ج 4:381.
2- الأنبياء: 33.
3- يوسف: 4.
4- عن الحسن. تفسير الماوردي ج 5:174.

عليه.

(أن) في أَلاّٰ تَعْبُدُوا بمعنى: أي، أو مخففة من الثقيلة، و أصله بأن لا تعبدوا أي: بأنّ الشأن والحديث قولنا لكم: لا تعبدوا، ومفعول شٰاءَ محذوف، أي: لو شاء ربّنا إرسال الرسل لأنزل ملائكة.

وحقيقة القوة زيادة القدرة، وهي في الإنسان صحّة البنية والاعتدال والشدّة وا لصلابة.

وَ كٰانُوا بِآيٰاتِنٰا يَجْحَدُونَ كانوا يعرفون أنّها حقّ ولكنّهم جحدوها كما يجحد المودع الوديعة، وهو معطوف علي فَاسْتَكْبَرُوا .

[سورة فصلت (41): الآیات 16 الی 23]

فَأَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيّٰامٍ نَحِسٰاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذٰابَ اَلْخِزْيِ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ لَعَذٰابُ اَلْآخِرَةِ أَخْزىٰ وَ هُمْ لاٰ يُنْصَرُونَ وَ أَمّٰا ثَمُودُ فَهَدَيْنٰاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا اَلْعَمىٰ عَلَى اَلْهُدىٰ فَأَخَذَتْهُمْ صٰاعِقَةُ اَلْعَذٰابِ اَلْهُونِ بِمٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ وَ نَجَّيْنَا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كٰانُوا يَتَّقُونَ وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدٰاءُ اَللّٰهِ إِلَى اَلنّٰارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتّٰى إِذٰا مٰا جٰاؤُهٰا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصٰارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ وَ قٰالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنٰا قٰالُوا أَنْطَقَنَا اَللّٰهُ اَلَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَ مٰا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لاٰ أَبْصٰارُكُمْ وَ لاٰ جُلُودُكُمْ وَ لٰكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَعْلَمُ كَثِيراً مِمّٰا تَعْمَلُونَ وَ ذٰلِكُمْ ظَنُّكُمُ اَلَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدٰاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ اَلْخٰاسِرِينَ

رِيحاً صَرْصَراً عا صفة تصرصر، أي: تصوّت، والصرّة: الصيحة، وقيل:

ص: 90

باردة تحرق ببردها(1)، من الصرّ وهو البرد الذي يصرّ، أي: يجمع ويقبض.

نَحِسٰاتٍ قرئ بكسر الحاء وسكونها، يقال: نحس نحسا فهو نحس، فالنحس يجوز أن يكون مخفف نحس، وأن يكون وصفا بالمصدر، نحو: رجل عدل.

و عَذٰابَ اَلْخِزْيِ [أضاف العذاب إلى الخزي وهو الذل والهوان، علي أنّه وصف للعذاب، كأنّه قال: عذاب خزي](2) كما تقول: فعل السوء تريد: الفعل السيئ، والدليل عليه قوله: وَ لَعَذٰابُ اَلْآخِرَةِ أَخْزىٰ وهوأبلغ في الوصف، فإنّ قولك: هو شاعر، وله شعر شاعر، بينهما بون بعيد.

وَ أَمّٰا ثَمُودُ فَهَدَيْنٰاهُمْ أي: دللناهم علي طريقي الضلالة والرشد، وبيّنا لهم سبيلي الخير والشرّ، كقوله: وَ هَدَيْنٰاهُ اَلنَّجْدَيْنِ (3).

فَاسْتَحَبُّوا اَلْعَمىٰ عَلَى اَلْهُدىٰ فاختاروا الكفر علي الإيمان، والضلال علي الرشد.

فَأَخَذَتْهُمْ صٰاعِقَةُ اَلْعَذٰابِ أي: قارغة العذاب و داهية العذاب، و اَلْهُونِ :

الهوان، وصف به العذاب مبالغة أو أبدله منه، وفي هذا حجّة بالغة علي المجبرة.

وَ يَوْمَ يُحْشَرُ إِلَى اَلنّٰارِ قرئ بالياء علي البناء للمفعول، و أَعْدٰاءُ اَللّٰهِ بالرفع، و يحشر علي البناء للفاعل، و أعداء بالنصب.

فَهُمْ يُوزَعُونَ يحبس أوّلهم على آخرهم، أي: تستوقف سوابقهم حتى يدركهم لواحقهم.

ص: 91


1- عن قتادة وغيره. تفسير الطبري ج 24:66.
2- ساقطة من ج.
3- البلد: 10.

و مٰا في قوله: إِذٰا مٰا جٰاؤُهٰا مزيدة للتأكيد، أي: لابد أن يكون وقت مجيئهم النار وقت الشهادة عليهم.

وأما كيفية نطق الجوارح فإنّ اللّه ينطقها كما أنطق الشجرة بأن يخلق فيها كلاما، وقيل: إنّ الجلود كناية عن الفروج(1)، و أراد ب - كُلَّ شَيْ ءٍ كل شيء من الحيوان، ومعناه: إن نطقنا ليس بعجيب من قدرة اللّه اَلَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ حيوان، وَ هُوَ أنشأكم أَوَّلَ مَرَّةٍ و هو القادر علي إعادتكم و رجعكم إلى جزائه.

وَ مٰا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ بالحجب عند ارتكاب المعاصي مخافة أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ جوارحكم لانكم لم تعلموا أنّها تشهد عليكم، وَ لٰكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَعْلَمُ كَثِيراً من أعمالكم، وعن ابن عباس: قالوا: (إنّ اللّه لا يعلم ما في نفوسنا، إنّما يعلم ما يظهر)(2).

و وَ ذٰلِكُمْ رفع بالابتداء و ظَنُّكُمُ و أَرْدٰاكُمْ خبران، ويجوز أن يكون ظَنُّكُمُ بدلا من ذٰلِكُمْ و أَرْدٰاكُمْ الخبر. وعن الصادق عليه السلام: (إنّ اللّه عند ظنّ عبده: إن خيرا فخيرا، وإن شرّا فشرّا)(3).

[سورة فصلت (41): الآیات 24 الی 27]

فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنّٰارُ مَثْوىً لَهُمْ وَ إِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمٰا هُمْ مِنَ اَلْمُعْتَبِينَ وَ قَيَّضْنٰا لَهُمْ قُرَنٰاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مٰا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مٰا خَلْفَهُمْ وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ إِنَّهُمْ كٰانُوا خٰاسِرِينَ وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لاٰ تَسْمَعُوا لِهٰذَا اَلْقُرْآنِ وَ اِلْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ فَلَنُذِيقَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا

ص: 92


1- عن عبيد اللّه بن أبي جعفر. تفسير الطبري ج 24:68.
2- مجمع البيان ج 9-10:10.
3- الكافي ج 8:302.

[سورة فصلت (41): الآیات 27 الی 32]

عَذٰاباً شَدِيداً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ اَلَّذِي كٰانُوا يَعْمَلُونَ ذٰلِكَ جَزٰاءُ أَعْدٰاءِ اَللّٰهِ اَلنّٰارُ لَهُمْ فِيهٰا دٰارُ اَلْخُلْدِ جَزٰاءً بِمٰا كٰانُوا بِآيٰاتِنٰا يَجْحَدُونَ وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنٰا أَرِنَا اَلَّذَيْنِ أَضَلاّٰنٰا مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ نَجْعَلْهُمٰا تَحْتَ أَقْدٰامِنٰا لِيَكُونٰا مِنَ اَلْأَسْفَلِينَ إِنَّ اَلَّذِينَ قٰالُوا رَبُّنَا اَللّٰهُ ثُمَّ اِسْتَقٰامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلاٰئِكَةُ أَلاّٰ تَخٰافُوا وَ لاٰ تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ اَلَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيٰاؤُكُمْ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ فِي اَلْآخِرَةِ وَ لَكُمْ فِيهٰا مٰا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَ لَكُمْ فِيهٰا مٰا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ

أي: فَإِنْ يَصْبِرُوا لم ينفعهم الصبر ولم ينفكوا به من الثواء في النار.

وَ إِنْ يسألوا العتبى ويطلبوا الرضا لم يعتبوا ولم يجابوا إلى العتبى، ولم يعطوا الرضا.

وَ قَيَّضْنٰا أي: و قدّرنا لَهُمْ قُرَنٰاءَ أخدانا من الشياطين، جمع قرين وهو كقوله: وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ اَلرَّحْمٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطٰاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (1).

والمعنى: إنّه خذلهم ومنعهم التوفيق لتصميمهم علي الكفر، فلم يبق لهم قرناء سوي الشياطين.

فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما تقدّم من أعمالهم وما هم عازمون عليها، أو مٰا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من أمر الدنيا واتباع الشهوات وَ مٰا خَلْفَهُمْ من أمر العاقبة، وأن لا بعث ولا حساب.

ص: 93


1- الزخرف: 36.

وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ أي: كلمة العذاب فِي أُمَمٍ في جملة أمم، ومثله قول الشاعر:

إن تك عن أحسن المروءة مأ *** فوكا ففي آخرين قد أفكوا(1)

يريد: فأنت في جملة آخرين، أو في عداد آخرين لست في ذلك بأوحد، و فِي أُمَمٍ في محلّ النصب علي الحال من الضمير في عَلَيْهِمُ . إِنَّهُمْ كٰانُوا خٰاسِرِينَ تعليل لاستحقاقهم العذاب، والضمير في لَهُمْ للأمم.

وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بعضهم لبعض لاٰ تَسْمَعُوا لِهٰذَا اَلْقُرْآنِ الذي يقرأه محمّد ولا تصغوا إليه.

وَ اِلْغَوْا فِيهِ يقال: لغي يلغى، واللغو: الساقط من الكلام الذي لا طائل تحته، أي: واشتغلوا عند قراءته برفع الأصوات بالخرافات وبالزجر والهذيان حتى تشوشوا عليه قراءته لتغلبوه بذلك، ولا يتمكّن أصحابه من الاستماع.

اَلنّٰارُ عطف بيان للجزاء، أو خبر مبتدأ محذوف.

لَهُمْ فِيهٰا دٰارُ اَلْخُلْدِ معناه: إنّ النار في نفسها دار الخلد، كقوله: لَقَدْ كٰانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اَللّٰهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (2)[ومعناه: إنّ رسول اللّه أسوة حسنة](3)، وتقول: لك في هذا الدار دار السرور، وأنت تعني الدار بعينها.

جَزٰاءً بِمٰا كٰانُوا يلغون فيها، فذكر الجحود الذي هو سبب اللغو.

وقرئ: أَرِنَا بسكون الراء لثقل الكسرة، كما قيل: فخذ في فخذ، أي

ص: 94


1- شعر عروة بن أذينة: 343.
2- الأحزاب: 21.
3- ساقطة من ب.

الشيطانين اللذين أَضَلاّٰنٰا مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ لأنّ الشيطان ضربان: جني و إنسي نَجْعَلْهُمٰا تَحْتَ أَقْدٰامِنٰا في النار، والمراد به: ندوسهما و نطؤهما بأقدامنا ليكونا أشدّ عذابا منا.

ثُمَّ اِسْتَقٰامُوا ثمّ استمروا عليه وثبتوا علي مقتضياته من أنواع الطاعة.

وسأل محمّد بن الفضيل(1) علي بن موسى الرضا عليهما السلام عن الاستقامة فقال: (هي و اللّه ما أنتم عليه)(2).

تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلاٰئِكَةُ عند الموت بالبشري.

أَلاّٰ تَخٰافُوا بمعنى أي، أو مخففة من الثقيلة، وأصله: بأنّه لا تخافوا، والهاء ضمير الشأن، والخوف: غم يلحق لتوقع المكروه، والحزن: غم يلحق لوقوعه من فوت نفع أو حصول ضرر. والمعنى: إنّ اللّه كتب لكم الأمان من كل خوف وغم، وكما أنّ الشياطين قرناء من تقدّم، فالملائكة أولياء هؤلاء وأحبّاؤهم في الدارين.

وَ لَكُمْ فِيهٰا مٰا تَدَّعُونَ أي: تتمنّون من النعيم، وفي بشراهم بولاية الملائكة إيّاهم في دنياهم وأخراهم، وإنالتهم في الجنّة مشتهياتهم وغاية متمنّاهم، دلالة علي شرف هذه الطاعة التي هي الاستقامة، وأنّها أجلّ الديانات والدرجة القصوي فيها.

والنزل: رزق النزيل وهو الضيف، وانتصب علي الحال من الموصول، أو من الضمير المنصوب المحذوف، لأنّ التقدير: ما تدعونه.

ص: 95


1- محمّد بن الفضيل بن كثير الأزدي الكوفي الصيرفي، يرمى بالغلو، أدرك الامام الصادق والامام الكاظم والامام الرضا عليهم السلام، له كتاب. ينظر: معجم رجال الحديث ج 17:161.
2- مجمع البيان ج 9-10:12.

[سورة فصلت (41): الآیات 33 الی 38]

وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعٰا إِلَى اَللّٰهِ وَ عَمِلَ صٰالِحاً وَ قٰالَ إِنَّنِي مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ وَ لاٰ تَسْتَوِي اَلْحَسَنَةُ وَ لاَ اَلسَّيِّئَةُ اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا اَلَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَدٰاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَ مٰا يُلَقّٰاهٰا إِلاَّ اَلَّذِينَ صَبَرُوا وَ مٰا يُلَقّٰاهٰا إِلاّٰ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَ إِمّٰا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ اَلشَّيْطٰانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّٰهِ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ وَ مِنْ آيٰاتِهِ اَللَّيْلُ وَ اَلنَّهٰارُ وَ اَلشَّمْسُ وَ اَلْقَمَرُ لاٰ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لاٰ لِلْقَمَرِ وَ اُسْجُدُوا لِلّٰهِ اَلَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيّٰاهُ تَعْبُدُونَ فَإِنِ اِسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ وَ هُمْ لاٰ يَسْأَمُونَ

من دَعٰا إِلَى اَللّٰهِ هو رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والأئمّة الدعاة إلى الحقّ القائمون مقامه، وقيل: هم المؤذنون(1). والآية عامة في كل من جمع بين الأوصاف الثلاثة:

أن يكون موحدا معتقدا للحقّ عاملا بالخير. والمعنى: إنّ الحسنة والسيئة متفاوتتان في أنفسهما، فلا تستوي الأعمال الحسنة والأعمال السيئة، فخذ بالحسنة التي هي أحسن من أختها إذا اعترضتك حسنتان ف - اِدْفَعْ بها السيئة الواردة عليك من بعض أعدائك، ومثال ذلك: إنّ الحسنة أن تعفو عنه و الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أن تحسن إليه في مقابلة إساءته، مثل أن يذمّك فتمدحه، فإنّك إذا فعلت ذلك صار الذي هو عدوك المناوئ مثل الولي الحميم المناسب المصافي.

وما يلقى هذه الخصلة الحميدة والسجية المرضية التي هي مقابلة الإساءة بالإحسان إِلاَّ اَلَّذِينَ صَبَرُوا علي كظم الغيظ واحتمال المكاره، و إِلاّٰ ذُو نصيب و حَظٍّ عَظِيمٍ من الثواب والخير.

ص: 96


1- عن عكرمة وغيره. الدر المنثور ج 5:364.

والنزغ والنسغ بمعنى، وهو شبه النخس، وكأن الشيطان ينخس الإنسان:

إذا بعثه علي بعض المعاصي، وأسند الفعل إلى النزغ كما قالوا: جدّ جدّه، أو وصف الشيطان وتسويله بالمصدر، والمعنى: وإن صرفك الشيطان عما وصيت به من الدفع بالتي هي أحسن فَاسْتَعِذْ بِاللّٰهِ من شرّه ولا تطعه.

وَ مِنْ آيٰاتِهِ أي: حججه و أدلّته علي وحدانيته اَللَّيْلُ وَ اَلنَّهٰارُ و تقديرهما علي حد مستقر ونظام مستمر وَ اَلشَّمْسُ وَ اَلْقَمَرُ وما ظهر فيهما من التدبير والتسيير في فلك التدوير.

والضمير في خَلَقَهُنَّ لجميعها، لأنّ حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى أو الإناث، تقول: الدور رأيتها و رأيتهن، أو لأنّها في معنى الآيات فلذلك قال: خَلَقَهُنَّ . وموضع السجدة عند الشافعيّ تَعْبُدُونَ (1) وهو المروي عن أئمتنا عليهم السلام(2)، وعند أبي حنيفة يَسْأَمُونَ (3).

وقوله: عِنْدَ رَبِّكَ عبارة عن قرب المنزلة والكرامة والزلفى.

[سورة فصلت (41): الآیات 39 الی 42]

وَ مِنْ آيٰاتِهِ أَنَّكَ تَرَى اَلْأَرْضَ خٰاشِعَةً فَإِذٰا أَنْزَلْنٰا عَلَيْهَا اَلْمٰاءَ اِهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ إِنَّ اَلَّذِي أَحْيٰاهٰا لَمُحْيِ اَلْمَوْتىٰ إِنَّهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ إِنَّ اَلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيٰاتِنٰا لاٰ يَخْفَوْنَ عَلَيْنٰا أَ فَمَنْ يُلْقىٰ فِي اَلنّٰارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ اِعْمَلُوا مٰا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمّٰا جٰاءَهُمْ وَ إِنَّهُ لَكِتٰابٌ عَزِيزٌ لاٰ يَأْتِيهِ اَلْبٰاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاٰ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ

ص: 97


1- المجموع ج 4:60.
2- مجمع البيان ج 9-10:15.
3- البحر الرائق ج 2:212.

[سورة فصلت (41): الآیات 42 الی 45]

حَمِيدٍ مٰا يُقٰالُ لَكَ إِلاّٰ مٰا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَ ذُو عِقٰابٍ أَلِيمٍ وَ لَوْ جَعَلْنٰاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقٰالُوا لَوْ لاٰ فُصِّلَتْ آيٰاتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَ شِفٰاءٌ وَ اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ فِي آذٰانِهِمْ وَقْرٌ وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولٰئِكَ يُنٰادَوْنَ مِنْ مَكٰانٍ بَعِيدٍ وَ لَقَدْ آتَيْنٰا مُوسَى اَلْكِتٰابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَ لَوْ لاٰ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ

الخشوع في وصف الأرض مستعار لكونها يابسة غير ممطورة، لا نبات فيها، وهو خلاف وصفها بالاهتزاز، والربو وهو الانتفاخ: إذا أخصبت وتزيّنت بالنبات تشبيها لها بالمختال في زيّه، وشبّهت قبل بالذليل الخاضع في الأطمار الرثة، و قرئ: وربأت.

ولحد الحافر وألحد: إذا مال عن الاستقامة فحفر في شق، فاستعير للانحراف في تأويل آيات القرآن عن جهة الصحّة و الاستقامة، وقرئ يُلْحِدُونَ ويلحدون علي اللغتين.

لاٰ يَخْفَوْنَ عَلَيْنٰا وعيد لهم علي التحريف.

وقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بدل من قوله: إِنَّ اَلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيٰاتِنٰا ، و الذكر: القرآن لأنّهم لكفرهم به طعنوا فيه وحرّفوا تأويله.

وَ إِنَّهُ لَكِتٰابٌ عَزِيزٌ منيع محمي بحماية اللّه.

لاٰ يَأْتِيهِ اَلْبٰاطِلُ مثل، أي: لا يتطرق إليه الباطل من جهة من الجهات،

ص: 98

ونحوه: وَ إِنّٰا لَهُ لَحٰافِظُونَ (1)، وعن السيّدين الباقر والصادق عليهما السلام: (ليس في إخباره عما مضى، ولا في إخباره عما يكون في المستقبل باطل، بل أخباره كلها موافقة لمخبراتها)(2).

مٰا يُقٰالُ لَكَ أي: ما يقول لك كفار قومك إِلاّٰ مثل ما قال للرسل كفار قومهم من الكلمات المؤذية.

إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لمن آمن بك وَ ذُو عِقٰابٍ أَلِيمٍ لمن كذّبك، أو يكون المعنى: ما يقول لك اللّه إلا مثل ما قال للرسل من قبلك، والمقول: إنّ ربّك لذو مغفرة وذو عقاب أليم.

وَ لَوْ جعلنا القران أَعْجَمِيًّا بغير لغة العرب، و سمّوا من لم يبيّن كلامه من أي صنف كان من الناس أعجم، قال عنترة:

حزق يمانية لأعجم طمطم(3)

لَقٰالُوا لَوْ لاٰ فُصِّلَتْ آيٰاتُهُ أي: بيّنت بلسان نفقهه.

أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌّ والهمزة للإنكار، أي: قرآن أعجمي ورسول عربي، [أو مرسل إليه عربي](4)، لأنّ مبنى الإنكار علي تنافي حالتي الكتاب والمكتوب إليه، لا علي أنّ المكتوب إليه واحد أو جماعة.

قُلْ هُوَ الضمير للقرآن هُدىً وإرشاد إلى الحقّ وَ شِفٰاءٌ لما في الصدور من الشك والظن، أو شفاء من الأدواء.

ص: 99


1- الحجر: 9.
2- مجمع البيان ج 9-10:15.
3- شرح ديوان عنترة: 162، وصدره: يأوي الى قلص النعام كما أوت.
4- ساقطة من ب.

و وَ اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ إن عطفته علي اَلَّذِينَ آمَنُوا كان في موضع جر علي معنى قولك: وهو للذين لا يؤمنون فِي آذٰانِهِمْ وَقْرٌ ، إلا أنّ فيه عطفا علي عاملين وقد أجازه الأخفش(1)، و إن جعلته مبتدأ فالخبر: هو فِي آذٰانِهِمْ وَقْرٌ علي حذف هو، أو في آذانهم منه وقر.

و يُنٰادَوْنَ مِنْ مَكٰانٍ بَعِيدٍ يعني: إنّهم لا يقبلونه ولا يرعونه أسماعهم، فمثلهم في ذلك مثل من يصوّت به من مكان بعيد، لا يسمع من مثله الصوت فلا يسمع النداء.

فَاخْتُلِفَ فِيهِ أي: آمن به قوم وكذّب به آخرون، وهو تسلية لنبيّنا (صلوات اللّه عليه وآله).

وَ لَوْ لاٰ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ في تأخير العذاب عن قومك لفرغ من عذابهم واستئصالهم، وهي كقوله: بَلِ اَلسّٰاعَةُ مَوْعِدُهُمْ (2).

[سورة فصلت (41): الآیات 46 الی 50]

مَنْ عَمِلَ صٰالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَسٰاءَ فَعَلَيْهٰا وَ مٰا رَبُّكَ بِظَلاّٰمٍ لِلْعَبِيدِ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ اَلسّٰاعَةِ وَ مٰا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرٰاتٍ مِنْ أَكْمٰامِهٰا وَ مٰا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثىٰ وَ لاٰ تَضَعُ إِلاّٰ بِعِلْمِهِ وَ يَوْمَ يُنٰادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكٰائِي قٰالُوا آذَنّٰاكَ مٰا مِنّٰا مِنْ شَهِيدٍ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مٰا كٰانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَ ظَنُّوا مٰا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ لاٰ يَسْأَمُ اَلْإِنْسٰانُ مِنْ دُعٰاءِ اَلْخَيْرِ وَ إِنْ مَسَّهُ اَلشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ وَ لَئِنْ أَذَقْنٰاهُ رَحْمَةً مِنّٰا مِنْ بَعْدِ ضَرّٰاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هٰذٰا لِي وَ مٰا أَظُنُّ اَلسّٰاعَةَ قٰائِمَةً وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلىٰ رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ

ص: 100


1- المقتضب ج 4:195.
2- القمر: 46.

[سورة فصلت (41): الآیات 50 الی 54]

لَلْحُسْنىٰ فَلَنُنَبِّئَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِمٰا عَمِلُوا وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذٰابٍ غَلِيظٍ وَ إِذٰا أَنْعَمْنٰا عَلَى اَلْإِنْسٰانِ أَعْرَضَ وَ نَأىٰ بِجٰانِبِهِ وَ إِذٰا مَسَّهُ اَلشَّرُّ فَذُو دُعٰاءٍ عَرِيضٍ قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كٰانَ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقٰاقٍ بَعِيدٍ سَنُرِيهِمْ آيٰاتِنٰا فِي اَلْآفٰاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّٰى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ اَلْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ أَلاٰ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقٰاءِ رَبِّهِمْ أَلاٰ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطٌ

فَلِنَفْسِهِ نفع صلاحه.

فَعَلْتُهٰا وبال إساءته دون غيرها.

إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ اَلسّٰاعَةِ أي: إذا سئل عنها قيل: اللّه يعلم، أو لا يعلمها إلا اللّه.

الأكمام جمع كم بكسر الكاف وهو وعاء الثمرة. وقرئ: مِنْ ثَمَرٰاتٍ علي الجمع.

أَيْنَ شُرَكٰائِي أضافهم إليه علي زعمهم، وفيه تقريع على طريق التهكّم.

مٰا مِنّٰا مِنْ شَهِيدٍ أي: ما منا أحد اليوم يشهد بأنّهم شركاؤك، وما منا أحد يشاهدهم، وذلك أنّهم ضلوا عنهم.

ومعنى آذَنّٰاكَ : أنّك تعلم من نفوسنا ذلك، أو هو كما تقول: أعلم الملك أنّه كان كيت وكيت، وعلّق مٰا مِنّٰا مِنْ شَهِيدٍ معنى الإعلام، لأنّ النفي له حكم الاستفهام في أنّ له صدر الكلام.

وكذا قوله: وَ ظَنُّوا مٰا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ والمعنى: علموا أن لا مخلص لهم من

ص: 101

عذاب اللّه، عبّر بالظن عن العلم.

مِنْ دُعٰاءِ اَلْخَيْرِ من طلب السعة في المال والصحّة وَ إِنْ مَسَّهُ البلاء والشدّة فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ شديد اليأس مقطوع الرجاء من فضل اللّه وروحه، وهذه صفة الكافر بدلالة قوله: لاٰ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اَللّٰهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْكٰافِرُونَ (1).

لَيَقُولَنَّ هٰذٰا لِي أي: هذا حقّي وصل إليّ ، لأنّي استوجبته بما عندي من فضل، أو هذا لي دائما أبدا.

وَ مٰا أَظُنُّ اَلسّٰاعَةَ قٰائِمَةً كائنة وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلىٰ رَبِّي علي ما يقوله المسلمون إِنَّ لِي عِنْدَهُ الحالة الحسنى وهي الجنّة، أي: سيعطيني في الآخرة مثل ما أعطاني في الدنيا.

[فَذُو دُعٰاءٍ عَرِيضٍ ](2) استعار الغرض لكثرة الدعاء ودوامه كما استعار الغلظ لشدّة العذاب. وقرئ: ونأى بإمالة الألف وكسر النون، ونآء علي القلب كما قيل: راء في رأي، ويريد بِجٰانِبِهِ نفسه وذاته، فكأنّه قال: ونأي بنفسه، أو يريد بِجٰانِبِهِ عطفه، ومعناه: انحرف وازور، كما قيل: ثٰانِيَ عِطْفِهِ (3)، و فَتَوَلّٰى بِرُكْنِهِ (4).

أَ رَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كٰانَ القرآن مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ وقد كَفَرْتُمْ بِهِ ، وكان الكسائي يحذف همزة رأي إذا كان مع همزة الاستفهام، نحو: أريتم وأريتكم في جميع القران استثقالا للهمزتين، ولا يحذف في غيرها، نحو: رأي القمر

ص: 102


1- يوسف: 87.
2- ساقطة من ب.
3- الحج: 9.
4- الذاريات: 39.

ورأي الشمس.

مَنْ أَضَلُّ منكم وأنتم بلغتم الغاية في المشاقة والمناصبة ؟.

فوضع مِمَّنْ هُوَ فِي شِقٰاقٍ بَعِيدٍ موضع (منكم) بيانا لصفتهم.

سَنُرِيهِمْ آيٰاتِنٰا في نصرة رسولنا محمّد صلى الله عليه و آله و سلم فِي آفاق الدنيا من الفتوح، ومن الإظهار علي الأكاسرة والملوك، وتغليب العدد القليل علي الكثير، والأمور الخارجة عن المعهود وَ فِي أَنْفُسِهِمْ يوم بدر، أو يوم فتح مكة.

بِرَبِّكَ مرفوع الموضع بأنّه فاعل كفى، و أَنَّهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ بدل منه، وتقديره: أولم يكفهم أنّ ربّك علي كل شيء شهيد. والمعنى: إنّ الموعود من إظهار آيات اللّه في الآفاق وفي أنفسهم سيرونه ويشاهدونه، فيتبيّنون عند ذلك أنّ القران تنزيل عالم الغيب الذي هو علي كل شيء شهيد، أي: مطّلع مهيمن، يستوي عنده غيبه وشهادته، فيكفيهم ذلك دليلا علي أنّه حقّ وأنّه من عنده.

ص: 103

سورة الشوري

اشارة

مكية غير آيات منها، وهي ثلاث وخمسون آية كوفي، خمسون في الباقي، عدّ الكوفي حم و عسق و كَالْأَعْلاٰمِ .

وفي حديث أبيّ : (من قرأ سورة (حم عسق) كان ممن تصلي عليه الملائكة، ويستغفرون له)(1)، عن الصادق عليه السلام: (من قرأها بعثه اللّه يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر... الخبر بطوله)(2).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة الشورى (42): الآیات 1 الی 7]

حم عسق كَذٰلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَ إِلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اَللّٰهُ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ لَهُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْعَظِيمُ تَكٰادُ اَلسَّمٰاوٰاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَ اَلْمَلاٰئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي اَلْأَرْضِ أَلاٰ إِنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ وَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيٰاءَ اَللّٰهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَ مٰا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ وَ كَذٰلِكَ أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ اَلْقُرىٰ وَ مَنْ

ص: 104


1- الكشف والبيان ج 8:301.
2- ثواب الأعمال: 113 باختلاف.

[سورة الشورى (42): الآیات 7 الی 10]

حَوْلَهٰا وَ تُنْذِرَ يَوْمَ اَلْجَمْعِ لاٰ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي اَلْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِي اَلسَّعِيرِ وَ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وٰاحِدَةً وَ لٰكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشٰاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ اَلظّٰالِمُونَ مٰا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاٰ نَصِيرٍ أَمِ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيٰاءَ فَاللّٰهُ هُوَ اَلْوَلِيُّ وَ هُوَ يُحْيِ اَلْمَوْتىٰ وَ هُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ وَ مَا اِخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْ ءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اَللّٰهِ ذٰلِكُمُ اَللّٰهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ

كَذٰلِكَ أي: مثل ذلك الوحي يوحي إليك وإلى الأنبياء مِنْ قَبْلِكَ اَللّٰهُ يعني: إنّ ما تضمّنته هذه السورة من المعاني قد أوحى اللّه إليك مثله في غيرها من السور، وأوحاه إلي من قبلك، علي معنى: إنّ اللّه كرر هذه المعاني في القرآن وفي جميع الكتب السماوية، لما فيها من المنافع الدينية لعباده. وقرئ: يوحى إليك، وعلى هذا فإنّما يرتفع اسم اللّه بما دلّ عليه يُوحِي ، فكأنّ قائلا قال: من الموحي ؟ فقيل:

اللّه.

تَكٰادُ قرئ بالتاء و الياء، وقرأ [ابن كثير](1): ينفطرن و يَتَفَطَّرْنَ ومعناه: يتشققن من علو شأن اللّه وعظمته، بدلالة مجيئه بعد قوله: اَلْعَلِيُّ اَلْعَظِيمُ ، وقيل: من دعائهم له ولدا(2).

مِنْ فَوْقِهِنَّ أي: يكاد يبتدأ الانفطار من جهتهن الفوقانية التي هي أعظم آيات الجلال والعظمة، وهي العرش والكرسي، وقيل: من فوق الأرضين، وعن الصادق عليه السلام: وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي اَلْأَرْضِ من المؤمنين.

اَللّٰهُ حَفِيظٌ يحفظ عليهم أعمالهم ولم توكّل لحفظها، فلا يضيقن صدرك

ص: 105


1- ساقطة من ج، د.
2- عن ابن عباس. الكشف والبيان ج 8:303.

تكذيبهم إيّاك.

وَ كَذٰلِكَ ومثل ذلك أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ : وذلك إشارة إلى معنى الآية قبلها من أنّ اللّه هو الحفيظ عليهم وما أنت بحفيظ عليهم ولكن نذير لهم، لأنّه قد تكرر ذكره في مواضع من التنزيل، فالكاف مفعول به ل - أَوْحَيْنٰا ، و قُرْآناً عَرَبِيًّا حال من المفعول به، أي: أوحيناه إليك وهو قرآن عربي.

ويجوز أن يكون (ذلك) إشارة إلي مصدر أَوْحَيْنٰا أي: ومثل ذلك الإيحاء البيّن أوحينا إليك قرآنا عربيا بلسانك لِتُنْذِرَ أهل أُمَّ اَلْقُرىٰ وهي مكة وَ مَنْ حَوْلَهٰا من سائر الناس، وتنذرهم يَوْمَ اَلْجَمْعِ وهو يوم القيامة، يجمع اللّه فيه الأوّلين والآخرين، يقال: أنذرته كذا وأنذرته بكذا، فقد عدّي الأوّل إلى المفعول الأوّل والثاني إلى المفعول الثاني وهو يوم الجمع، وقيل: يجمع فيه بين الأرواح والأجساد، وقيل: يجمع بين كل عامل وعمله.

و لاٰ رَيْبَ فِيهِ اعتراض لا محلّ له.

وَ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ مشيئة قدرة لأجبرهم جميعا علي الإيمان، ولكنّه شاء مشيئة حكمة أن يكلّفهم، وبنى أمرهم علي الاختيار ليدخل المؤمنين فِي رَحْمَتِهِ .

أُمَّ منقطعة، ومعنى الهمزة فيها الإنكار.

فَاللّٰهُ هُوَ اَلْوَلِيُّ هو الذي يجب أن يتولى وحده، ويعتقد أنّه الحقيق بالولاية دون غيره، والفاء جواب شرط مقدّر كأنّه قال بعد إنكار كل ولي سواه: إن أرادوا وليا بحقّ فاللّه هو الولي الحقّ ، ومن شأن هذا الولي أنّه يُحْيِ اَلْمَوْتىٰ وَ هُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فهو الحري بأن يتخذ وليا دون من لا يقدر علي شيء.

وَ مَا اِخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْ ءٍ حكاية قول الرسول صلى الله عليه و آله و سلم للمؤمنين، ومعناه:

ص: 106

ما تختلفون فيه من أمور الدين فحكم ذلك المختلف فيه مفوض إِلَى اَللّٰهِ يثيب المحقّ ويعاقب المبطل.

ذٰلِكُمُ الحاكم اَللّٰهِ هو رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في رد كيد الأعداء وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ في جميع الأمور.

[سورة الشورى (42): الآیات 11 الی 15]

فٰاطِرُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوٰاجاً وَ مِنَ اَلْأَنْعٰامِ أَزْوٰاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ لَهُ مَقٰالِيدُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ مٰا وَصّٰى بِهِ نُوحاً وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ وَ مٰا وَصَّيْنٰا بِهِ إِبْرٰاهِيمَ وَ مُوسىٰ وَ عِيسىٰ أَنْ أَقِيمُوا اَلدِّينَ وَ لاٰ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى اَلْمُشْرِكِينَ مٰا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اَللّٰهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ وَ مٰا تَفَرَّقُوا إِلاّٰ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَهُمُ اَلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَ لَوْ لاٰ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّ اَلَّذِينَ أُورِثُوا اَلْكِتٰابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ فَلِذٰلِكَ فَادْعُ وَ اِسْتَقِمْ كَمٰا أُمِرْتَ وَ لاٰ تَتَّبِعْ أَهْوٰاءَهُمْ وَ قُلْ آمَنْتُ بِمٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ مِنْ كِتٰابٍ وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اَللّٰهُ رَبُّنٰا وَ رَبُّكُمْ لَنٰا أَعْمٰالُنٰا وَ لَكُمْ أَعْمٰالُكُمْ لاٰ حُجَّةَ بَيْنَنٰا وَ بَيْنَكُمُ اَللّٰهُ يَجْمَعُ بَيْنَنٰا وَ إِلَيْهِ اَلْمَصِيرُ

فٰاطِرُ خبر بعد خبر ل - ذٰلِكُمْ ، أو خبر مبتدأ محذوف، أي: خلق لكم من جنسكم أَزْوٰاجاً وخلق الأنعام أيضا من أجناسها أَزْوٰاجاً .

يَذْرَؤُكُمْ يكثركم فِيهِ في هذا التدبير، وهو أن جعل بين الذكور

ص: 107

والإناث من الناس والأنعام التوالد والتناسل، والضمير في يَذْرَؤُكُمْ يرجع إلى المخاطبين والأنعام.

لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وهو كقولهم: مثلك لا يبخل، والمراد: نفي البخل عن ذاته، وهو من باب الكناية، لأنّهم إذا نفوا الشيء عمن يسدّ مسدّه فقد نفوه عنه، فالمعنى: نفي المماثلة عن ذاته سبحانه، فلا فرق بين أن يقال: ليس كاللّه شيء، وأن يقال: ليس كمثله شيء، إلا فائدة الكناية، وقيل: كررت كلمة التشبيه للتأكيد(1)

كما كررت في قول الشاعر:

وصاليات ككما يؤثفين(2)

شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ دين نوح ومحمّد ومن بينهما من الأنبياء، ثمّ فسّر المشروع الذي اشترك هؤلاء الرسل فيه بقوله: أَنْ أَقِيمُوا اَلدِّينَ وَ لاٰ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ والمراد: إقامة دين الإسلام الذي هو توحيد اللّه وطاعته والإيمان برسله وحججه وباليوم الآخر. ومحلّ أَنْ أَقِيمُوا نصب بدل من مفعول شَرَعَ والمعطوفين عليه.

كَبُرَ عَلَى اَلْمُشْرِكِينَ أي: عظم عليهم وشق.

يَجْتَبِي إِلَيْهِ والضمير ل - اَلدِّينِ أي: يجتلب إليه بالتوفيق مَنْ يَشٰاءُ من يجدي عليهم لطفه.

وَ مٰا تَفَرَّقُوا يعني: أهل الكتاب بعد أنبيائهم إِلاّٰ مِنْ بَعْدِ أن علموا أنّ الفرقة ضلال وفساد.

ص: 108


1- معاني القرآن وإعرابه ج 4:395.
2- الرجز لخطام المجاشعي. خزانة الأدب ج 2:313.

وَ لَوْ لاٰ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ وهي عدّة التأخير إِلىٰ يوم القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ حين افترقوا لعظم ما اقترفوا.

وَ إِنَّ اَلَّذِينَ أُورِثُوا اَلْكِتٰابَ مِنْ بَعْدِهِمْ وهم أهل الكتاب الذين كانوا علي عهد رسول اللّه لَفِي شَكٍّ من كتابهم لا يؤمنون به حقّ الإيمان. وقيل: وما تفرق أهل الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بمبعث رسول اللّه(1)، وَ إِنَّ اَلَّذِينَ أُورِثُوا اَلْكِتٰابَ مِنْ بَعْدِهِمْ العرب، والكتاب: القرآن.

فَلِذٰلِكَ أي: فلأجل ذلك التفرّق فَادْعُ إلي الاتفاق والائتلاف علي الملة الحنيفة وَ اِسْتَقِمْ عليها وعلي الدعوة إليها كَمٰا أُمِرْتَ .

وَ لاٰ تَتَّبِعْ أَهْوٰاءَهُمْ المختلفة الباطلة وَ قُلْ آمَنْتُ بِمٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ من الكتب علي الأنبياء قبلي وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ في الدعاء إلي الحقّ ولا أحابي أحدا، أو أعدل بينكم في جميع الأشياء.

لاٰ حُجَّةَ بَيْنَنٰا وَ بَيْنَكُمُ [أي: لا خصومة لأنّ الحقّ قد ظهر، والحجّة قد لزمتكم فلا حاجة إلى المحاجة، والمعنى: لا إيراد حجّة بيننا وبينكم](2).

اَللّٰهُ يَجْمَعُ بَيْنَنٰا يوم القيامة فيفصل بيننا و ينتقم لنا منكم.

[سورة الشورى (42): الآیات 16 الی 18]

وَ اَلَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اَللّٰهِ مِنْ بَعْدِ مٰا اُسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دٰاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ عَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ شَدِيدٌ اَللّٰهُ اَلَّذِي أَنْزَلَ اَلْكِتٰابَ بِالْحَقِّ وَ اَلْمِيزٰانَ وَ مٰا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اَلسّٰاعَةَ قَرِيبٌ يَسْتَعْجِلُ بِهَا اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِهٰا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهٰا وَ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا اَلْحَقُّ أَلاٰ إِنَّ اَلَّذِينَ يُمٰارُونَ فِي اَلسّٰاعَةِ

ص: 109


1- عن ابن عباس. الكشف والبيان ج 8:306.
2- ساقطة من ب.

[سورة الشورى (42): الآیات 18 الی 20]

لَفِي ضَلاٰلٍ بَعِيدٍ اَللّٰهُ لَطِيفٌ بِعِبٰادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشٰاءُ وَ هُوَ اَلْقَوِيُّ اَلْعَزِيزُ مَنْ كٰانَ يُرِيدُ حَرْثَ اَلْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَ مَنْ كٰانَ يُرِيدُ حَرْثَ اَلدُّنْيٰا نُؤْتِهِ مِنْهٰا وَ مٰا لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ

اَلَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي دين اَللّٰهِ مِنْ بَعْدِ مٰا اُسْتُجِيبَ لَهُ أي: استجابوا للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلى ما دعاهم إليه ودخلوا في الإسلام لظهور حجّته بالمعجزات والآيات التي أظهرها اللّه سبحانه فيه.

حُجَّتُهُمْ دٰاحِضَةٌ أي: باطلة، سمّى شبهتهم حجّة علي حسب اعتقادهم.

اَللّٰهُ اَلَّذِي أَنْزَلَ جنس اَلْكِتٰابَ ... وَ اَلْمِيزٰانَ أي: وأنزل العدل و التسوية في كتبه المنزلة، وقيل: الميزان الذي يوزن به أنزله من السماء(1).

بِالْحَقِّ ملتبسا بالحقّ مقترنا به، أو بالغرض الصحيح كما اقتضته الحكمة، أو بالواجب من التحريم والتحليل وغير ذلك.

اَلسّٰاعَةِ في تأويل البعث، فلذلك قال: قَرِيبٌ ، أو لعل مجيء الساعة قريب.

يُمٰارُونَ يلاجون ويخاصمون في مجيء الساعة.

لَفِي ضَلاٰلٍ بَعِيدٍ من الحقّ ، لأنّ قيام الساعة غير مستبعد من قدرة القادر بالذات، ولدلالة الكتاب المعجز علي أنّها آتية لا ريب فيها، ولقيام دليل العقل علي أنّه لابد من دار جزاء.

اَللّٰهُ لَطِيفٌ بِعِبٰادِهِ أي: برّ بهم، بليغ البر، قد وصل برّه إلي جميعهم، و إلى

ص: 110


1- تفسير الماوردي ج 5:200.

حيث لا يبلغه وهم أحد منهم.

سمّي ما يعمله العامل مما يبتغي به الفائدة حرثا علي المجاز، وفرّق بين عمل العاملين بأنّ من عمل للآخرة وفق في عمله وضو عفت حسناته، ومن عمل للدنيا أعطي شيئا منها لا ما يبتغيه، وما له نصيب قط في الآخرة، ولم يذكر في معنى عامل الآخرة: وله في الدنيا نصيب مع أنّ رزقه المقسوم له لابد أن يصل إليه، للاستهانة بذلك إلى جنب ما هو بصدده من الفوز والسعادة في الماب.

[سورة الشورى (42): الآیات 21 الی 27]

أَمْ لَهُمْ شُرَكٰاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ اَلدِّينِ مٰا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اَللّٰهُ وَ لَوْ لاٰ كَلِمَةُ اَلْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّ اَلظّٰالِمِينَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ تَرَى اَلظّٰالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّٰا كَسَبُوا وَ هُوَ وٰاقِعٌ بِهِمْ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ فِي رَوْضٰاتِ اَلْجَنّٰاتِ لَهُمْ مٰا يَشٰاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذٰلِكَ هُوَ اَلْفَضْلُ اَلْكَبِيرُ ذٰلِكَ اَلَّذِي يُبَشِّرُ اَللّٰهُ عِبٰادَهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ قُلْ لاٰ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبىٰ وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهٰا حُسْناً إِنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ شَكُورٌ أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرىٰ عَلَى اَللّٰهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اَللّٰهُ يَخْتِمْ عَلىٰ قَلْبِكَ وَ يَمْحُ اَللّٰهُ اَلْبٰاطِلَ وَ يُحِقُّ اَلْحَقَّ بِكَلِمٰاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذٰاتِ اَلصُّدُورِ وَ هُوَ اَلَّذِي يَقْبَلُ اَلتَّوْبَةَ عَنْ عِبٰادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ اَلسَّيِّئٰاتِ وَ يَعْلَمُ مٰا تَفْعَلُونَ وَ يَسْتَجِيبُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ اَلْكٰافِرُونَ لَهُمْ عَذٰابٌ شَدِيدٌ وَ لَوْ بَسَطَ اَللّٰهُ اَلرِّزْقَ لِعِبٰادِهِ لَبَغَوْا فِي اَلْأَرْضِ وَ لٰكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مٰا يَشٰاءُ إِنَّهُ بِعِبٰادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ

ص: 111

[أَمْ لَهُمْ شُرَكٰاءُ ](1) الهمزة في أَمْ للتقريع والتقرير، وشركاؤهم:

شياطينهم الذين زيّنوا لهم الشرك، والعمل للدنيا، وإنكار الحشر والجزاء وما لم يأمر اللّه به ولا أذن فيه.

وَ لَوْ لاٰ كَلِمَةُ اَلْفَصْلِ في تأخير عذاب هذه الأمة إلى الآخرة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي: فرغ من عذابهم في الدنيا.

تَرَى اَلظّٰالِمِينَ في الآخرة مُشْفِقِينَ خائفين خوفا شديدا، أرق قلوبهم مِمّٰا كَسَبُوا من السيئات وَ هُوَ وٰاقِعٌ بِهِمْ وجزاؤه ووباله واقع بهم، واصل إليهم، أشفقوا أو لم يشفقوا، والضمير لكسبهم الذي دلّ عليه ما كسبوا.

والروضة: الأرض الخضرة بحسن النبات، و كأنّ رَوْضٰاتِ اَلْجَنّٰاتِ أطيب البقاع فيها و أنزهها لَهُمْ مٰا يَشٰاؤُنَ و يشتهون. و انتصب عِنْدَ رَبِّهِمْ بالظرف لا ب - يَشٰاؤُنَ .

ذٰلِكَ الثواب هُوَ اَلْفَضْلُ العظيم، والنعيم المقيم الذي يستأهل أن يسمّى كبيرا.

ذٰلِكَ الثواب اَلَّذِي يُبَشِّرُ اَللّٰهُ به عِبٰادَهُ فحذف الجار كما في قوله:

وَ اِخْتٰارَ مُوسىٰ قَوْمَهُ (2) ، ثمّ حذف الضمير العائد إلى الموصول، أو ذلك التبشير الذي يبشّر اللّه عباده المؤمنين الصالحين ليستبشروا بذلك في الدنيا. وقرئ: يُبَشِّرُ من: بشره، ويبشر من: أبشره. وروي: أنّ المشركين قالوا فيما بينهم: أترون محمّدا يسأل علي ما يتعاطاه أجرا؟ فنزلت الآية(3).

ص: 112


1- زيادة يقتضيها السياق.
2- الأعراف: 155.
3- أسباب النزول: 265.

قُلْ لاٰ أَسْئَلُكُمْ علي تبليغ الرسالة إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبىٰ يجوز أن يكون استثناء متصلا، أي: لا أسألكم أجرا إلا هذا، وهو أن تودّوا أهل قرابتي، ولم يكن هذا أجرا في الحقيقة لأنّ قرابته قرابتهم، فكانت صلتهم لازمة لهم في المروءة، ويجوز أن يكون استثناء منقطعا، أي: لا أسألكم أجرا قط ولكن أسألكم أن تودّوا قرابتي وعترتي وتحفظوني فيهم، ومعنى فِي اَلْقُرْبىٰ انّه جعلهم مكانا في المودة ومقرا لها، كما تقول: لي في آل فلان مودّة، ولي فيهم حبّ شديد، تريد: أحبّهم، وهم مكان حبّي و مودّتي. وليست فِي بصلة ل - اَلْمَوَدَّةَ كاللام إذا قلت: إلا المودة للقربى، و إنّما هي متعلّقة بمحذوف كما يتعلّق الظرف به في قولك: المال في الكيس، وتقديره: إلا المودّة ثابتة في القربى. وعن ابن عباس: إنّها لما نزلت قالوا:

من قرابتك هؤلاء الذين أمرنا الله بمودّتهم ؟ قال: (عليّ وفاطمة وولدهما)(1).

وروي زاذان(2) عن عليّ عليه السلام قال: (فينا في آل حم آية لا يحفظ مودّتنا إلا كلّ مؤمن، ثمّ قرأ هذه الآية)(3). وإلى ذلك أشار الكميت في قوله:

وجدنا لكم في آل حم آية تأوّلها منّا تقيّ و معرب(4)

وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً عن السدي: (أنّ الحسنة: المودّة في آل رسول اللّه)(5)، وزيادة حسنها من جهة اللّه عزّ اسمه: مضاعفتها، كقوله: فَيُضٰاعِفَهُ لَهُ أَضْعٰافاً

ص: 113


1- معجم الطبراني الكبير ج 11:351.
2- زاذان أبو عمرو الكندي مولاهم الكوفي الفارسي، من أصحاب علي صلى الله عليه و آله و سلم روى عنه وعن عدد من الصحابة. ينظر: ميزان الاعتدال ج 2:63، معجم رجال الحديث ج 7:213.
3- شواهد التنزيل ج 2:142.
4- شرح الهاشميات: 40.
5- الكشف والبيان ج 8:314.

كَثِيرَةً (1) .

والشكور في صفة اللّه تعالى مجاز للاعتداد بالطاعة وتوفية ثوابها، والتفضل علي المثاب.

أَمْ منقطعة، ومعنى الهمزة فيها: التوبيخ، كأنّه قال: أينسبون مثله إلى الافتراء، ثمّ إلي الافتراء علي اللّه الذي هو أفحش الفرى وأعظمها.

فَإِنْ يَشَإِ اَللّٰهُ يجعلك من المختوم علي قلوبهم حتى تفتري عليه الكذب، فإنّه لا يجترئ علي افتراء الكذب علي اللّه إلا من كان في مثل حالهم، وهذا الأسلوب مؤداه استبعاد الافتراء من مثله، لأنّه في البعد مثل الشرك باللّه، والدخول في جملة المختوم علي قلوبهم.

ثمّ أخبر سبحانه أنّه يبطل ما يقولونه بقوله: وَ يَمْحُ اَللّٰهُ اَلْبٰاطِلَ أي: ومن عادة اللّه أن يمحو الباطل وَ يُحِقُّ اَلْحَقَّ و يثبّته بِكَلِمٰاتِهِ بوحيه أو بقضائه، كقوله: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى اَلْبٰاطِلِ فَيَدْمَغُهُ (2)، فهو يمحق الباطل الذي هم عليه من تكذيبك والبهت عليك، ويثبّت الحقّ الذي أنت عليه وينصرك عليهم.

يقال: قبلت الشيء منه وقبلته عنه، فمعنى قبلته منه: أخذته منه وجعلته مبدأ قبولي، ومعنى قبلته عنه: عّلته عنه وأبنته عنه.

والتوبة: أن يرجع عن القبيح والإخلال بالواجب، بأن يندم عليها ويعزم علي أن لا يعاود في المستقبل، لأنّ المرجوع عنه قبيح وإخلال بالواجب، وإن كان فيه لعبد حقّ لم يكن بد من التقصّي على طريقه. وقرئ مٰا تَفْعَلُونَ بالتاء والياء.

وَ يَسْتَجِيبُ اَلَّذِينَ آمَنُوا ويستجيب لهم فحذف اللام كما حذف في قوله:

ص: 114


1- البقرة: 245.
2- الأنبياء: 18.

وَ إِذٰا كٰالُوهُمْ (1) ، أي: يقبل طاعاتهم وعباداتهم وَ يَزِيدُهُمْ علي ما يستحقّونه من الثواب تفضّلا، وإذا دعوه استجاب لهم دعاءهم وزادهم علي مطلوبهم. وعن عبد اللّه عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في قوله: وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ : (أنهّ الشفاعة لمن وجبت له النار ممن أحسن إليهم في الدنيا)(2).

[وَ لَوْ بَسَطَ اَللّٰهُ اَلرِّزْقَ ](3) أي: لو وسّع اللّه الرزق علي عباده علي حسب ما يطلبونه لَبَغَوْا وظلموا فِي اَلْأَرْضِ أي: يظلم هذا ذاك، وذاك هذا، لأنّ الغنى مأشرة مبطرة وكفى بحال قارون عبرة، ولكنّه يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ أي: بتقدير.

وفي الحديث: (أخوف ما أخاف علي أمّتي زهرة الدنيا و كثرتها)(4). ويجوز أن يكون من البغي الذي هو البذخ و التكبر، أي: لتكبروا في الأرض وفعلوا ما يدعو إليه الكبر من الفساد فيها، ولا شبهة أنّ كلا الأمرين مع الفقر أقل ومع البسط أكثر.

إِنَّهُ .. خَبِيرٌ بأحوال عباده بَصِيرٌ بمصالحهم ومفاسدهم.

[سورة الشورى (42): الآیات 28 الی 31]

وَ هُوَ اَلَّذِي يُنَزِّلُ اَلْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مٰا قَنَطُوا وَ يَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَ هُوَ اَلْوَلِيُّ اَلْحَمِيدُ وَ مِنْ آيٰاتِهِ خَلْقُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مٰا بَثَّ فِيهِمٰا مِنْ دٰابَّةٍ وَ هُوَ عَلىٰ جَمْعِهِمْ إِذٰا يَشٰاءُ قَدِيرٌ وَ مٰا أَصٰابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمٰا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ وَ مٰا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي اَلْأَرْضِ وَ مٰا لَكُمْ مِنْ دُونِ

ص: 115


1- المطففين: 3.
2- معجم الطبراني الكبير ج 10:201.
3- زيادة يقتضيها السياق.
4- تفسير الطبري ج 25:19.

[سورة الشورى (42): الآیات 31 الی 35]

اَللّٰهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاٰ نَصِيرٍ وَ مِنْ آيٰاتِهِ اَلْجَوٰارِ فِي اَلْبَحْرِ كَالْأَعْلاٰمِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ اَلرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوٰاكِدَ عَلىٰ ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِكُلِّ صَبّٰارٍ شَكُورٍ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمٰا كَسَبُوا وَ يَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ وَ يَعْلَمَ اَلَّذِينَ يُجٰادِلُونَ فِي آيٰاتِنٰا مٰا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ

يريد ب - رَحْمَتُهُ : بركات الغيث ومنافعه، وما يحصل به من الخصب بإخراج النبات والثمار، ويجوز أن يريد: رحمته في كل شيء، أي: يُنَزِّلُ اَلْغَيْثَ وينشر غيرها من رحمته الواسعة.

وَ مٰا بَثَّ يجوز أن يكون مجرورا ومرفوعا عطفا علي المضاف إليه أو المضاف، وقال: فِيهِمٰا و الدواب في الأرض لأنّ الشيء يجوز أن ينسب إلى جميع المذكور وإن كان ملتبسا ببعضه، كقوله: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اَللُّؤْلُؤُ وَ اَلْمَرْجٰانُ (1)

وإنّما يخرج من الملح، ويجوز أن يكون للملائكة مشي مع الطيران فيوصفوا بالدبيب كما يوصف به الإنسان، ولا يبعد أن يكون في السماوات من يمشي فيها كما يمشي الأناسي في الأرض.

وقرئ: بما كسبت بغير فاء وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة، علي أن يكون بما كسبت خير المبتدأ الذي هو مٰا أَصٰابَكُمْ من غير تضمين معنى الشرط، والآية مخصوصة بالمجرمين، ولا يمتنع أن يستوفي اللّه بعض عقاب المجرم في الدنيا ويعفو عن بعض، فأما من لا جرم له من المعصومين أو غير المكلفين من الأطفال والمجانين، فإذا أصابهم شيء من الآلام من مرض وغيره فللعوض الموفى عليه و الغرض الذي هو المصلحة. وعن عليّ عليه السلام عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال: (خير آية في كتاب اللّه هذه الآية، يا عليّ ما من خدش عود ولا نكبة قدم إلا بذنب، وما عفا اللّه

ص: 116


1- الرحمن: 22.

عنه في الدنيا فهو أكرم من أن يعود فيه، وما عاقب عليه في الدنيا فهو أعدل من أن يثنّي علي عبده)(1).

والأعلام: الجبال، واحدها علم، قالت الخنساء:

و إنّ صخرا لتأتمّ الهداة به *** كأنّه علم في رأسه نار(2)

اَلْجَوٰارِ و قرئ بحذف الياء و إثباتها، والقياس الإثبات، وحذف هذه الياءات قد كثر في كلامهم فصار مثل القياس، وهي السفن الجارية.

إِنْ يَشَأْ الله يُسْكِنِ اَلرِّيحَ فتبقى السفن راكدة واقفة عَلىٰ ظهر الماء، فجعل سبحانه بكمال قدرته هبوب الريح في الجهة التي تسير إليها السفينة.

لِكُلِّ صَبّٰارٍ علي بلاء اللّه شَكُورٍ لنعمائه، و هما صفتا المؤمن المخلص.

أَوْ يُوبِقْهُنَّ أي: يهلكهن بأن يرسل الريح عاصفة فيغرقهن بسبب بِمٰا كَسَبُوا من الذنوب وَ يَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ منها. و عطف يُوبِقْهُنَّ علي يُسْكِنِ لأنّ المعنى: إن يشأ يسكن الريح فيركدن أو يعصفها فيغرقن بعصفها.

و قرئ: وَ يَعْلَمَ بالنصب والرفع فأما النصب فللعطف علي تعليل محذوف، وتقديره: لننتقم منهم ويعلم الذين يجادلون، ونحوه كثير في التنزيل، منه قوله: وَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّٰاسِ (3)، وَ لِتُجْزىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمٰا كَسَبَتْ (4). وأما الرفع فعلي الاستئناف.

ص: 117


1- ينظر: الكافي ج 2:445، وشعب الإيمان ج 7:153.
2- ديوان الخنساء: 49.
3- البقرة: 259.
4- الجاثية: 22.

[سورة الشورى (42): الآیات 36 الی 44]

فَمٰا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَمَتٰاعُ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ مٰا عِنْدَ اَللّٰهِ خَيْرٌ وَ أَبْقىٰ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَ اَلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبٰائِرَ اَلْإِثْمِ وَ اَلْفَوٰاحِشَ وَ إِذٰا مٰا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ وَ اَلَّذِينَ اِسْتَجٰابُوا لِرَبِّهِمْ وَ أَقٰامُوا اَلصَّلاٰةَ وَ أَمْرُهُمْ شُورىٰ بَيْنَهُمْ وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ وَ اَلَّذِينَ إِذٰا أَصٰابَهُمُ اَلْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ وَ جَزٰاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهٰا فَمَنْ عَفٰا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اَللّٰهِ إِنَّهُ لاٰ يُحِبُّ اَلظّٰالِمِينَ وَ لَمَنِ اِنْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولٰئِكَ مٰا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا اَلسَّبِيلُ عَلَى اَلَّذِينَ يَظْلِمُونَ اَلنّٰاسَ وَ يَبْغُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ أُولٰئِكَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ وَ لَمَنْ صَبَرَ وَ غَفَرَ إِنَّ ذٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّٰهُ فَمٰا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَ تَرَى اَلظّٰالِمِينَ لَمّٰا رَأَوُا اَلْعَذٰابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلىٰ مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ

و قرئ: كبير الإثم علي التوحيد، وجاز أن يراد به الجمع كما في قوله:

وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللّٰهِ لاٰ تُحْصُوهٰا (1) . وفي الحديث: (منعت العراق درهمها وقفيزها)(2).

ص: 118


1- النحل: 18.
2- صحيح مسلم ج 8:175.

وَ اَلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ عطف علي اَلَّذِينَ آمَنُوا وكذلك ما بعده.

هُمْ يَغْفِرُونَ أي: هم الأخصاء بالغفران في حال الغضب، لا يغول الغضب أحلامهم كما يغول أحلام غيرهم من الناس، فهذه فائدة هُمْ وإيقاعه مبتدأ، ومثله هُمْ يَنْتَصِرُونَ .

والشوري: مصدر بمعنى التشاور، أي: وَ أَمْرُهُمْ شُورىٰ بَيْنَهُمْ وقيل: إنّ المعني بالآية الأنصار تشاوروا في أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لما ورد النقباء عليهم من عنده، فاجتمعوا في دار أبي أيوب علي الإيمان به والنصرة له(1).

والمنتصرون [هم المؤمنون](2) الذين أخرجوا من مكة وبغى عليهم الكفار، ثمّ مكّنهم اللّه فانتصروا منهم.

وَ جَزٰاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهٰا سمّى سبحانه كلتا الفعلتين: الأولى و جزاءها سيئة، لأنّها تسوء من تنزل به. ومعناه: إنّه إذا قوبلت الإساءة وجب أن يقابل بمثلها من غير زيادة.

فَمَنْ عَفٰا عما له المؤاخذة به وَ أَصْلَحَ أمره فيما بينه وبين ربّه، أو بينه وبين خصمه بالعفو والإغضاء فَأَجْرُهُ عَلَى اَللّٰهِ عدة مبهمة لا يحاط بكنهها في العظم.

إِنَّهُ لاٰ يُحِبُّ اَلظّٰالِمِينَ فيه دلالة علي أنّ الانتصار لا يؤمن فيه تجاوز النصفة والسوية والاعتداء، لا سيما في حال الغضب، فربّما كان المنتصر ظالما من حيث لا يشعر. وفي الحديث: (إذا كان يوم القيامة نادى مناد: من كان أجره علي اللّه فليدخل الجنّة، فيقال: من ذا الذي أجره علي اللّه ؟ فيقال: العافون عن الناس،

ص: 119


1- عن الضحاك تفسير الماوردي ج 5:206.
2- ساقطة من ب.

يدخلون الجنّة بغير حساب)(1).

بَعْدَ ظُلْمِهِ أضاف المصدر إلي المفعول، أي: بعد أن ظلم و تعدّي عليه.

فَأُولٰئِكَ إشارة إلى معنى (من) دون لفظه مٰا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ للمعاقب ولا للعائب إِنَّمَا اَلسَّبِيلُ أي: العقاب والذم عَلَى اَلَّذِينَ يَظْلِمُونَ اَلنّٰاسَ ابتداء.

وَ لَمَنْ صَبَرَ علي الظلم والأذى وَ غَفَرَ ولم ينتصر إِنَّ ذٰلِكَ الصبر والمغفرة منه لَمِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ وحذف الراجع، للعلم به كما حذف من قولهم:

السمن منوان بدرهم. و عزم الأمور: هو الأخذ بأعلاها في باب نيل الثواب وا لأجر.

خٰاشِعِينَ متواضعين متضائلين مما يلحقهم مِنَ اَلذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ أي: يبتدئ نظرهم من تحريك ضعيف لأجفانهم، خفي بمسارقة، كما تري المصبور ينظر إلي السيف لا يملأ أجفانه منه كما يفعله الناظر إلى ما يحبّه.

و قوله: يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ إن تعلّق ب - خَسِرُوا كان قول المؤمنين واقعا في الدنيا، وإن تعلّق ب - قٰالَ فالمعنى: يقولون يوم القيامة: إِنَّ اَلْخٰاسِرِينَ في الحقيقة هم الذين فوتوا أَنْفُسَهُمْ الانتفاع بنعيم الجنّة وخسروا أَهْلِيهِمْ وأولادهم و أزواجهم إذ حيل بينهم وبينهم، أو أهليهم من الحور العين.

[سورة الشورى (42): الآیات 47 الی 48]

اِسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاٰ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اَللّٰهِ مٰا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَ مٰا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمٰا أَرْسَلْنٰاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ اَلْبَلاٰغُ وَ إِنّٰا إِذٰا

ص: 120


1- شعب الإيمان ج 6:315.

[سورة الشورى (42): الآیات 48 الی 53]

أَذَقْنَا اَلْإِنْسٰانَ مِنّٰا رَحْمَةً فَرِحَ بِهٰا وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمٰا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ اَلْإِنْسٰانَ كَفُورٌ لِلّٰهِ مُلْكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ يَخْلُقُ مٰا يَشٰاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشٰاءُ إِنٰاثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشٰاءُ اَلذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرٰاناً وَ إِنٰاثاً وَ يَجْعَلُ مَنْ يَشٰاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ وَ مٰا كٰانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اَللّٰهُ إِلاّٰ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرٰاءِ حِجٰابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مٰا يَشٰاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ وَ كَذٰلِكَ أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنٰا مٰا كُنْتَ تَدْرِي مَا اَلْكِتٰابُ وَ لاَ اَلْإِيمٰانُ وَ لٰكِنْ جَعَلْنٰاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِنٰا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرٰاطِ اَللّٰهِ اَلَّذِي لَهُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ أَلاٰ إِلَى اَللّٰهِ تَصِيرُ اَلْأُمُورُ

مِنَ اَللّٰهِ : من صلة لاٰ مَرَدَّ أي: لا يردّه اللّه بعدما حكم به، أو من صلة يَأْتِيَ أي: من قبل أن يأتي من اللّه يوم لا يقدر أحد على رده، والنكير:

الإنكار والتغيير.

والمراد بالإنسان هنا الجمع لا الواحد لقوله: وَ إِنْ تُصِبْهُمْ والمعني بهم المجرمون، لأنّ إصابة السيئة بِمٰا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ لا يستقيم إلا فيهم.

والمراد با لرحمة: النعمة من الصحّة والعافية و الغنى وا لأمن، و بالسيئة: البلاء من القحط والمرض والفقر والمخاوف، والكفور: البليغ في الكفران، ولم يقل: فإنّه كفور ليسجل علي أنّ هذا الجنس موسوم بكفران النعم كما قال: إِنَّ اَلْإِنْسٰانَ لَظَلُومٌ كَفّٰارٌ (1)، إِنَّ اَلْإِنْسٰانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (2) أي: يذكر البلاء وينسى النعم.

ص: 121


1- إبراهيم: 34.
2- العاديات: 6.

ولما ذكر سبحانه إذاقة الإنسان الرحمة و إصابته بضدّها عقّب ذلك بأنّ له مُلْكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ و أنّه يقسم كيف شاء النعمة والبلاء، و يَهَبُ كيف أراد لعباده الأولاد فيخصّ بعضهم بالإناث، وبعضهم بالذكور، وبعضهم بالصنفين جميعا، و يعقم منهم من يشاء فلا يهب له ولدا.

وَ مٰا كٰانَ لِبَشَرٍ [وما صحّ لأحد من البشر](1)أَنْ يُكَلِّمَهُ اَللّٰهُ إلا علي أحد ثلاثة أوجه: إما على طريق الوحي وهو الإلهام والقذف في القلب أو المنام، كما أوحى إلى أم موسى، وإلي إبراهيم في ذبح ولده، وأوحى إلي داود الزبور في صدره؛ وإما أن يسمعه كلامه الذي يحدثه في بعض الأجرام من غير أن يبصر السامع من يكلّمه، لأنه في ذاته غير مرئي.

وقوله: مِنْ وَرٰاءِ حِجٰابٍ [مثل أي: كما يكلّم الملك المحتجب بعض خواصه وهو من وراء حجاب](2) فيسمع صوته ولا يري شخصه، وذلك كما كلّم [سبحانه موسى ويكلّم الملائكة؛ وإما علي أن يرسل إليه رسولا من الملائكة فيوحي الملك إليه، كما كلّم](3) غير موسى من الأنبياء. وقيل: وَحْياً كما أوحى إلى الرسل بواسطة الملك.

أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً نبيّا كما كلّم أمم الأنبياء علي ألسنتهم.

و وَحْياً و (أن يرسل) مصدران وقعا موقع الحال، كما يقال: جئت ركضا، وأتيت مشيا، لأنّ (أن يرسل) في معنى إرسالا، و مِنْ وَرٰاءِ حِجٰابٍ ظرف وقع

ص: 122


1- ساقطة من ب.
2- ساقطة من ب.
3- ساقطة من ب.

موقع الحال أيضا كقوله: دَعٰانٰا لِجَنْبِهِ أَوْ قٰاعِداً أَوْ قٰائِماً (1)، وتقديره: وما صحّ أن يكلّم الله واحدا إلا موحيا، أو مسمعا من وراء حجاب، أو مرسلا رسولا.

ويجوز أن يكون وَحْياً موضوعا موضع كلاما لأنّ الوحي كلام خفي في سرعة، كما يقول: لا أكلّمه إلا جهرا، لأنّ الجهر ضرب من الكلام، وكذلك إرسالا جعل الكلام علي لسان الرسول بمنزلة الكلام بغير واسطة، تقول: قلت لفلان كذا، وإنّما قاله وكيلك أو رسولك، وقوله: أَوْ مِنْ وَرٰاءِ حِجٰابٍ [معناه:

أو إسماعا من وراء حجاب](2). ومن جعل وَحْياً في معنى أن يوحى وعطف أَوْ يُرْسِلَ عليه علي معنى: وما كان لرسول أن يكلّمه اللّه إلا بأن يوحي أو بأن يرسل، فلا بد أن يقدر قوله: أَوْ مِنْ وَرٰاءِ حِجٰابٍ تقديرا يطابقهما عليه، نحو أو أن يسمع من وراء حجاب. وقرئ: أو يرسل فيوحي بالرفع علي أو هو يرسل، أو هو بمعنى مرسلا عطفا علي وَحْياً في معنى موحيا.

إِنَّهُ عَلِيٌّ عن صفات المخلوقين حَكِيمٌ يجري أفعاله علي الحكمة، فيكلّم تارة بواسطة، وأخري بغير واسطة: إما إلهاما أو خطابا.

رُوحاً مِنْ أَمْرِنٰا يعني: القران، لأنّ الخلق يحيون به في دينهم كما يحيا الجسد بالروح، وقيل: هو روح القدس، وقيل: هو ملك أعظم من جبرائيل وميكائيل كان مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم(3).

وَ لاَ اَلْإِيمٰانُ يعني: معالم الإيمان من الشرائع.

ص: 123


1- يونس: 12.
2- ساقطة من ب.
3- عن الصادق عليه السلام. بصائر الدرجات: 481.

سورة الزخرف

اشارة

مكية، وقيل: إلا آيات، وروي: أنّ قوله: وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنٰا نزلت ببيت المقدس، وقيل: إنّ قوله: فَإِمّٰا نَذْهَبَنَّ بِكَ ... الآيات نزلت في حجّة الوداع.

تسع وثمانون آية حم كوفي، هُوَ مَهِينٌ بصري.

وفي حديث أبيّ : (من قرأ (سورة الزخرف) كان ممن يقال له يوم القيامة:

(يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون)(1)، وعن الباقر عليه السلام: (من أدمن قراءة (حم الزخرف) آمنه اللّه في قبره من هوام الأرض، ومن ضمة القبر)(2).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة الزخرف (43): الآیات 1 الی 9]

حم وَ اَلْكِتٰابِ اَلْمُبِينِ إِنّٰا جَعَلْنٰاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ اَلْكِتٰابِ لَدَيْنٰا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ أَ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ اَلذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ وَ كَمْ أَرْسَلْنٰا مِنْ نَبِيٍّ فِي اَلْأَوَّلِينَ وَ مٰا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاّٰ كٰانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فَأَهْلَكْنٰا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَ مَضىٰ مَثَلُ اَلْأَوَّلِينَ وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ

ص: 124


1- الكشف والبيان ج 8:327.
2- ثواب الأعمال: 113.

[سورة الزخرف (43): الآیات 9 الی 10]

لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ اَلْعَزِيزُ اَلْعَلِيمُ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ مَهْداً وَ جَعَلَ لَكُمْ فِيهٰا سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ

اَلْكِتٰابِ اَلْمُبِينِ القرآن، وهو البيّن للذين أنزل عليهم لأنّه بلغتهم، وقيل: الذي أبان طريق الهدي وما تحتاج إليه الأمة من الحرام والحلال وشرائع الإسلام(1).

و إِنّٰا جَعَلْنٰاهُ جواب القسم، وهو بمعنى صيّرناه فتعدّى إلى مفعولين، أو تعدّي إلي مفعول واحد علي معنى خلقناه. و قُرْآناً عَرَبِيًّا حال، ولعل مستعار بمعنى الإرادة لتلاحظ معناها ومعنى الترجي، أي: خلقناه عربيا غير عجمي إرادة أن يعقله العرب، ولئلا يقولوا: لَوْ لاٰ فُصِّلَتْ آيٰاتُهُ (2).

وقرئ: إم الكتاب بكسر الهمزة وهي اللوح، كقوله: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (3)، سمّي بأم الكتاب لأنّه الأصل الذي أثبتت فيه الكتب، منه تنقل و تستنسخ.

لعليّ أي: عال رفيع الشأن في الكتب لكونه معجزا من بينها.

حكيم ذو حكمة بالغة، أي: منزلته عندنا منزلة كتاب هما صفتاه، وهو مثبت في أم الكتاب هكذا.

أَ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ اَلذِّكْرَ أي: أفننحي عنكم الذكر ونذوده عنكم علي سبيل المجاز، من قولهم: (ضرب الغرائب عن الحوض)(4). و (الفاء) للعطف علي

ص: 125


1- عن مقاتل. تفسير الماوردي ج 5:214.
2- فصلت: 44.
3- البروج: 21، 22.
4- مجمع الأمثال ج 2:260 باختلاف.

محذوف تقديره: أنهملكم فنضرب عنكم الذكر.

صَفْحاً علي وجهين: إما مصدر من صفح عنه إذا أعرض، انتصب علي أنّه مفعول له علي معنى: أفنعزل عنكم إنزال القران إعراضا عنكم، وإما بمعنى الجانب فانتصب علي الظرف كما تقول: فلان يمشي جانبا.

أَنْ كُنْتُمْ لأن كنتم. وقرئ إن كنتم، وإنّما استفهام معنى الشرط وقد كانوا مُسْرِفِينَ علي القطع، لأنّه من الشرط الذي يصدر عن المدل بصحّة الأمر المتحقّق لثبوته، كما يقول الأجير: إن كنت عملت لك فوفّني حقّي، وهو عالم بذلك ولكنّه يخيل في كلامه أنّ تفريطك في الخروج عن الحقّ فعل من له شك في الاستحقاق مع وضوحه استجهالا له.

وَ مٰا يَأْتِيهِمْ حكاية حال ماضية مستمرة، وهي تسلية لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن استهزاء قومه.

الضمير في أَشَدَّ مِنْهُمْ للمسرفين، لأنّه صرف الخطاب عنهم إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يخبره عنهم.

وَ مَضىٰ مَثَلُ اَلْأَوَّلِينَ أي: سلف في القرآن في مواضع منه ذكر قصّتهم التي سارت مسير المثل، وهذا وعد لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ووعيد لهم.

لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ اَلْعَزِيزُ اَلْعَلِيمُ لينسبنّ خلقها إلي اللّه العزيز، وليسندنّه إليه.

[سورة الزخرف (43): الآیات 11 الی 13]

وَ اَلَّذِي نَزَّلَ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنٰا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذٰلِكَ تُخْرَجُونَ وَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلْأَزْوٰاجَ كُلَّهٰا وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْفُلْكِ وَ اَلْأَنْعٰامِ مٰا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلىٰ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ

ص: 126

[سورة الزخرف (43): الآیات 13 الی 20]

رَبِّكُمْ إِذَا اِسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَ تَقُولُوا سُبْحٰانَ اَلَّذِي سَخَّرَ لَنٰا هٰذٰا وَ مٰا كُنّٰا لَهُ مُقْرِنِينَ وَ إِنّٰا إِلىٰ رَبِّنٰا لَمُنْقَلِبُونَ وَ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبٰادِهِ جُزْءاً إِنَّ اَلْإِنْسٰانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ أَمِ اِتَّخَذَ مِمّٰا يَخْلُقُ بَنٰاتٍ وَ أَصْفٰاكُمْ بِالْبَنِينَ وَ إِذٰا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمٰا ضَرَبَ لِلرَّحْمٰنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ أَ وَ مَنْ يُنَشَّؤُا فِي اَلْحِلْيَةِ وَ هُوَ فِي اَلْخِصٰامِ غَيْرُ مُبِينٍ وَ جَعَلُوا اَلْمَلاٰئِكَةَ اَلَّذِينَ هُمْ عِبٰادُ اَلرَّحْمٰنِ إِنٰاثاً أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهٰادَتُهُمْ وَ يُسْئَلُونَ وَ قٰالُوا لَوْ شٰاءَ اَلرَّحْمٰنُ مٰا عَبَدْنٰاهُمْ مٰا لَهُمْ بِذٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّٰ يَخْرُصُونَ

بِقَدَرٍ بمقدار الحاجة ولم يكن طوفانا يضرّ البلاد والعباد.

و اَلْأَزْوٰاجَ الأصناف.

و مٰا تَرْكَبُونَ أي: تركبونه في البر والبحر، يقال: ركبوا الأنعام وركبوا في الفلك، فغلب المتعدّي بغير واسطة لقوته علي المتعدّي بواسطة وإن كان الجنسان مذ كورين.

لِتَسْتَوُوا عَلىٰ ظُهُورِهِ أي: علي ظهور ما تركبونه، و تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ عليكم، وهو أن تعترفوا بها في قلوبكم مستعظمين لها، ثمّ تحمدوه عليها بألسنتكم.

وهو ما روي أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان إذا استوي علي بعيره خارجا في سفر كبّر ثلاثا وقال:

(سبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنا له مقرنين و إنّا إلى ربّنا لمنقلبون، اللهم إنّا نسألك في سفرنا هذا البرّ والتقوى والعمل بما ترضى، اللهم هوّن علينا سفرنا هذا واطو عنّا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل والمال، اللهم إنّي أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب وسوء المنظر في الأهل والمال، وإذا

ص: 127

رجع قال: آيبون تائبون لربّنا حامدون)(1). وعن الصادق عليه السلام قال: (ذكر النعمة أن تقول: الحمد للّه الذي هدانا للإسلام، و علّمنا القرآن، ومنّ علينا بمحمّد صلى الله عليه و آله و سلم، وتقول بعده: سُبْحٰانَ اَلَّذِي سَخَّرَ لَنٰا هٰذٰا... إلى آخره)(2).

مُقْرِنِينَ أي: مطيقين، وحقيقة أقرنه: وجده قرينته وما يقرن به، لأنّ الصعب لا يقرن بالضعيف، ولما كان الركوب مباشرة أمر ذو خطر، فمن حقّ الراكب أن لا ينسى انقلابه إلى الله، ولا يدع ذكر ذلك حتى يكون مستعدا للقاء اللّه.

وَ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبٰادِهِ جُزْءاً متصل بقوله: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي: إن سألتهم عن الخالق اعترفوا به، وقد جعلوا له مع ذلك الاعتراف من عباده جزءا بأن قالوا: الملائكة بنات اللّه، فجعلوهم جزءا له وبعضا منه، كما يكون الولد يضعة من والده، فوصفوه بصفة المخلوقين.

إِنَّ اَلْإِنْسٰانَ لَكَفُورٌ جحود النعمة مُبِينٌ ظاهر جحوده، لأنّ نسبة الولد إليه كفر، و الكفر أصل الكفران كله.

أَمِ اِتَّخَذَ بل اتخذ، الهمزة للإنكار تجهيلا لهم وتعجيبا من شأنهم حيث لم يرضوا بأن جعلوا للّه من عباده جزءا، حتى جعلوا ذلك الجزء أدون الجزأين، وهو الإناث دون الذكور، علي أنّهم أمقت خلق اللّه للإناث حتى أنّهم كانوا يئدونهن.

وَ إِذٰا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالجنس الذي جعله للّه مَثَلاً أي: شبها، لأنّه إذا جعل الملائكة جزءا له وبعضا منه فقد جعله من جنسه ومماثلا له، لأنّ الولد إنّما يكون من جنس الوالد.

ص: 128


1- مسند أحمد ج 2:150، الكافي ج 4:284 باختصار.
2- الكافي ج 4:285.

ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا غيظا و أسفا وَ هُوَ كَظِيمٌ مملوء من الكرب.

ثمّ قال: أو يجعل للرحمن من الولد من هذه صفته وهو أنّه يُنَشَّؤُا فِي اَلْحِلْيَةِ أي: يتربّى في الزينة والنعمة، وهو إذا احتاج إلى مجاثاة الخصوم ومخاصمة الرجال كان غَيْرُ مُبِينٍ ليس عنده بيان، ولا يأتي ببرهان يحج به من خاصمه، وذلك لضعف عقول النساء.

وقرئ: ينشأ و يُنَشَّؤُا وقرئ: عند الرحمن وهو مثل لاختصاصهم و زلفاهم و عِبٰادُ اَلرَّحْمٰنِ ، ومعنى جَعَلُوا سمّوا وقالوا: إنّهم إناث، وقرئ: أأشهدوا بهمزتين مفتوحة ومضمومة، وا اشهدوا بألف بين الهمزتين، وهذا تهكّم بهم. يعني: إنّهم كانوا يقولون ذلك بغير علم ودليل، فلم يبق إلا أن يشاهدوا خَلْقَهُمْ فأخبروا عن المشاهدة.

سَتُكْتَبُ شَهٰادَتُهُمْ التي شهدوا بها علي الملائكة وَ يُسْئَلُونَ وهذا وعيد.

وَ قٰالُوا لَوْ شٰاءَ اَلرَّحْمٰنُ مٰا عَبَدْنٰاهُمْ هما نوعان من الكفر: عبادتهم الملائكة، و زعمهم أنّ عبادتهم بمشيئة اللّه كما قال إخوانهم المجبرة، ثمّ كذّبهم سبحانه بقوله:

إِنْ هُمْ إِلاّٰ يَخْرُصُونَ أي: يكذبون.

[سورة الزخرف (43): الآیات 21 الی 24]

أَمْ آتَيْنٰاهُمْ كِتٰاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بَلْ قٰالُوا إِنّٰا وَجَدْنٰا آبٰاءَنٰا عَلىٰ أُمَّةٍ وَ إِنّٰا عَلىٰ آثٰارِهِمْ مُهْتَدُونَ وَ كَذٰلِكَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاّٰ قٰالَ مُتْرَفُوهٰا إِنّٰا وَجَدْنٰا آبٰاءَنٰا عَلىٰ أُمَّةٍ وَ إِنّٰا عَلىٰ آثٰارِهِمْ مُقْتَدُونَ قٰالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدىٰ مِمّٰا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبٰاءَكُمْ قٰالُوا

ص: 129

[سورة الزخرف (43): الآیات 24 الی 30]

إِنّٰا بِمٰا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كٰافِرُونَ فَانْتَقَمْنٰا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلْمُكَذِّبِينَ وَ إِذْ قٰالَ إِبْرٰاهِيمُ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ إِنَّنِي بَرٰاءٌ مِمّٰا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اَلَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَ جَعَلَهٰا كَلِمَةً بٰاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ بَلْ مَتَّعْتُ هٰؤُلاٰءِ وَ آبٰاءَهُمْ حَتّٰى جٰاءَهُمُ اَلْحَقُّ وَ رَسُولٌ مُبِينٌ وَ لَمّٰا جٰاءَهُمُ اَلْحَقُّ قٰالُوا هٰذٰا سِحْرٌ وَ إِنّٰا بِهِ كٰافِرُونَ

أي: أهذا شيء يخرصونه أَمْ آتَيْنٰاهُمْ كِتٰاباً قبل هذا الكتاب نسبنا فيه الكفر إلينا فهم مُسْتَمْسِكُونَ به، بل لا حجّة لهم يستمسكون بها إلا قولهم:

إِنّٰا وَجَدْنٰا آبٰاءَنٰا عَلىٰ أُمَّةٍ أي: دين وملة وطريقة.

وَ إِنّٰا عَلىٰ آثٰارِهِمْ مُهْتَدُونَ خبران ل - (إنّ ) أو الظرف صلة ل - مُهْتَدُونَ ، [والجملة الابتدائية خبر](1).

و مُتْرَفُوهٰا : الذين أترفتهم النعمة، أي: أبطرتهم فآثروا الترفه علي طلب الحجّة، وعافوا مشاق التكليف، وكل فريق يقلد أسلافه.

وقرئ: قل، و قٰالَ أي: قال لهم النذير، وقل حكاية لما أوحي إلى النذير، أي: قل لهم أَ وَ لَوْ جِئْتُكُمْ . وقرئ: جئناكم، أي: أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم ؟.

قٰالُوا إِنّٰا ثابتون علي دين آبائنا وإن جئتنا بما هو أهدى.

بَرٰاءٌ يستوي فيه الواحد والاثنان و الجماعة، والمذكر والمؤنث لأنّه مصدر، يقال: نحن البراء منك والخلاء منك.

ص: 130


1- ساقطة من ب، ج.

اَلَّذِي فَطَرَنِي يجوز أن يكون منصوبا على أنّه استثناء منقطع، كأنّه قال:

لكن الذي فطرني وأنشأني فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ، وأن يكون مجرورا بدلا من المجرور بمن كأنّه قال: إنّي براء مما تعبدون إلا من الذي فطرني. وعن قتادة: (كانوا يقولون:

اللّه ربّنا مع عبادتهم الأصنام)(1). ويجوز أن يكون (ما) موصولة في (ما تعبدون)، و إِلاَّ صفة بمعنى غير، ويكون التقدير: إنّني براء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني.

وَ جَعَلَهٰا أي: وجعل إبراهيم كلمة التوحيد التي تكلّم بها كَلِمَةً بٰاقِيَةً فِي عَقِبِهِ في ذريته، فلا يزال فيهم من يوحّد اللّه ويدعو إلى توحيده، وقيل: جعلها اللّه(2). وعن الصادق عليه السلام: (الكلمة الباقية في عقبه هي الإمامة إلي يوم القيامة)(3).

وعن السدي: (هم آل محمّد صلى الله عليه و آله و سلم)(4).

لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحّد منهم.

بَلْ مَتَّعْتُ هٰؤُلاٰءِ يعني: أهل مكة وهم من عقب إبراهيم بالمدّ في العمر والنعمة، فاغترّوا بالمهلة، و شغلوا باتباع الشهوات عن كلمة التوحيد.

حَتّٰى جٰاءَهُمُ اَلْحَقُّ وهو القرآن وَ رَسُولٌ مُبِينٌ الرسالة واضحها بما معه من المعجزات، فكذبوه وسمّوه ساحرا وما جاء به سحرا.

[سورة الزخرف (43): الآیات 31 الی 32]

وَ قٰالُوا لَوْ لاٰ نُزِّلَ هٰذَا اَلْقُرْآنُ عَلىٰ رَجُلٍ مِنَ اَلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنٰا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا

ص: 131


1- تفسير الطبري ج 25:38.
2- إعراب القرآن ج 4:106.
3- معاني الأخبار: 130.
4- تفسير الطبري ج 25:39.

[سورة الزخرف (43): الآیات 32 الی 40]

وَ رَفَعْنٰا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجٰاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمّٰا يَجْمَعُونَ وَ لَوْ لاٰ أَنْ يَكُونَ اَلنّٰاسُ أُمَّةً وٰاحِدَةً لَجَعَلْنٰا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعٰارِجَ عَلَيْهٰا يَظْهَرُونَ وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْوٰاباً وَ سُرُراً عَلَيْهٰا يَتَّكِؤُنَ وَ زُخْرُفاً وَ إِنْ كُلُّ ذٰلِكَ لَمّٰا مَتٰاعُ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ اَلرَّحْمٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطٰاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَ إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ اَلسَّبِيلِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ حَتّٰى إِذٰا جٰاءَنٰا قٰالَ يٰا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ اَلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ اَلْقَرِينُ وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ اَلْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي اَلْعَذٰابِ مُشْتَرِكُونَ أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ اَلصُّمَّ أَوْ تَهْدِي اَلْعُمْيَ وَ مَنْ كٰانَ فِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ

القريتان: مكة والطائف، مِنَ اَلْقَرْيَتَيْنِ من إحدى القريتين، وقيل:

من رجلي القريتين وهما: الوليد بن المغيرة من مكة، وحبيب بن عمرو الثقفي من الطائف عن ابن عباس(1)، والوليد بن المغيرة وعروة بن مسعود الثقفي عن قتادة(2)، وأراد بعظم الرجل رئاسته في الدنيا.

أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ الهمزة للإنكار والتعجّب من اعتراضهم وتحكّمهم، أي: أهم المدبّرون لأمر النبوّة والتخير لها من يصلح لها ويقوم بها، والمتولون لقسمة رحمة اللّه التي لا يتولاها إلا هو بحكمته، ثمّ ضرب لهم مثلا فأعلم أنّهم عاجزون عن تدبير مصالحهم في دنياهم، وأنّه سبحانه قسم بينهم

ص: 132


1- تفسير الطبري ج 25:40.
2- تفسير الطبري ج 25:40.

معيشتهم وقدرها، وفضّل بعضهم علي بعض فيها فجعل منهم أغنياء ومحاويج، وأقوياء وضعفاء، ليستخدم بَعْضَهُمْ بعضا و يسخروهم في أشغالهم حتى يصلوا إلى منافعهم، ولم يولهم ذلك التدبير ولم يفوضه إليهم مع قلة خطره، فكيف يكون اختيار النبوّة إليهم مع جلالة قدرها وعظم خطرها وكونها رحمة اللّه الكبرى ؟!.

ثمّ قال: وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ يريد: وهذه الرحمة التي هي دين اللّه وما يتبعه من الفوز والثواب خَيْرٌ مِمّٰا يجمع هؤلاء من حطام الدنيا.

ثمّ أخبر سبحانه عن هوان الدنيا وقلة خطرها عنده فقال: وَ لَوْ لاٰ أَنْ يَكُونَ اَلنّٰاسُ أُمَّةً وٰاحِدَةً أي: لولا كراهة أن يجتمعوا علي الكفر لَجَعَلْنٰا للكفار سقوفا ومصاعد، و أَبْوٰاباً وَ سُرُراً من فضة [وجعلنا لهم زُخْرُفاً أي: زينة من كل شيء، والزخرف: الذهب والزينة. ويجوز أن يكون الأصل: سقفا من فضة](1)

وزخرف، يعني: بعضها من فضة وبعضها من ذهب، فنصب زُخْرُفاً عطفا على محلّ مِنْ فِضَّةٍ . وقوله: لِبُيُوتِهِمْ بدل اشتمال من قوله: لِمَنْ يَكْفُرُ وقرئ:

سقفا بفتح السين وسكون القاف، و سُقُفاً بضمهما، جمع سقف كرهن ورهن.

وَ مَعٰارِجَ جمع معرج، أو اسم جمع لمعراج وهي المصاعد إلى العلالي، عَلَيْهٰا يَظْهَرُونَ أي: على المعارج يظهرون السطوح: يعلونها كما في قوله:

فَمَا اِسْطٰاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ (2) .

و قرئ لَمّٰا بالتخفيف والتشديد، فالتخفيف على أنّ اللام هي الفارقة بين النفي والإثبات، و (إن) هي المخففة من الثقيلة وما مزيدة، والتشديد علي أنّ (لمّا) بمعنى (إلا)، و (إن) هي النافية.

ص: 133


1- ساقطة من ب.
2- الكهف: 97.

يقال: عشا يعشو: إذا نظره نظر العشيّ ولا آفة به، وعشى يعشي: إذا حصلت الآفة في بصره، أي: من يتعام عَنْ ذِكْرِ اَلرَّحْمٰنِ فيعرف أنّه حقّ ويتجاهل نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطٰاناً [نخذله و نخل بينه وبين الشياطين، كقوله: وَ قَيَّضْنٰا لَهُمْ قُرَنٰاءَ (1)، أَ لَمْ تَرَ أَنّٰا أَرْسَلْنَا اَلشَّيٰاطِينَ (2). و قرئ: يقيّض](3) بالياء، وجمع ضمير (من) وضمير الشيطان في قوله: وَ إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ لأنّ (من) مبهم في جنس العاشي وقد قيّض له شيطان مبهم في جنسه، فلما جاز أن يتناولا لإبهامهما غير واحد جاز أن يرجع الضمير إليهما مجموعا.

حَتّٰى إِذٰا جٰاءَنٰا العاشي، و قرئ: جاءانا علي أنّ الفعل له ولشيطانه. قٰالَ لشيطانه: يٰا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ اَلْمَشْرِقَيْنِ يريد: المشرق والمغرب، فغلّب، كما قيل: القمران للقمر والشمس، قال:

أخذنا بآفاق السّماء عليكم *** لنا قمراها و النّجوم الطّوالع(4)

وبعدهما: تباعدهما، وا لأصل: بعد المشرق من المغرب، والمغرب من المشرق.

أَنَّكُمْ في موضع رفع، أي: لَنْ يَنْفَعَكُمُ كونكم مشتركين فِي اَلْعَذٰابِ .

إِذْ ظَلَمْتُمْ معناه: إذا صحّ ظلمكم وتبيّن.

أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ إنكار تعجيب، والمراد: أنت لا تقدر علي إكراههم علي الإيمان.

ص: 134


1- فصلت: 25.
2- مريم: 83.
3- ساقطة من ب.
4- شرح ديوان الفرزدق ج 2:519.

[سورة الزخرف (43): الآیات 41 الی 45]

فَإِمّٰا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنّٰا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ اَلَّذِي وَعَدْنٰاهُمْ فَإِنّٰا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنٰا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنٰا أَ جَعَلْنٰا مِنْ دُونِ اَلرَّحْمٰنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ

(ما) في قوله: فَإِمّٰا نَذْهَبَنَّ بمنزلة لام القسم في أنّها إذا دخلت دخلت معها النون الثقيلة، والمعنى: إن قبضناك وتوفيناك فإنّا مُنْتَقِمُونَ منهم بعدك. وعن الحسن وقتادة: (إنّ الله أكرم نبيّه بأن لم يره تلك النقمة، وقد كان ذلك بعده)(1).

وقد روي أنّه عليه السلام أري ما تلقى أمّته بعده، فما زال منقبضا ولم ينبسط ضاحكا حتى قبض(2)

. وروى جابر بن عبد الله قال: إنّي لأدناهم من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في حجّة الوداع بمنى حين قال: (لا ألفينكم ترجعون بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، وأيم الله لئن فعلتموها لتعرفنني في الكتيبة التي تضاربكم، ثمّ التفت إلى خلفه فقال:

أو عليّ أو عليّ ثلاث مرات، فرأينا أنّ جبرائيل عليه السلام غمزه فأنزل الله تعالى علي أثر ذلك:

فَإِمّٰا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنّٰا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ بعليّ بن أبي طالب عليه السلام)(3).

وإن أردنا أن نريك ما وعدناهم من العذاب فإنّهم تحت قدرتنا لا يفوتوننا، وقيل: إنّه عليه السلام رأى نقمة اللّه منهم يوم بدر بأن أسر منهم وقتل(4).

فَاسْتَمْسِكْ أي: تمسّك بما أوحينا إِلَيْكَ وبالعمل به إِنَّكَ عَلىٰ صِرٰاطٍ

ص: 135


1- تفسير الطبري ج 25:45.
2- تفسير الطبري ج 25:45.
3- شواهد التنزيل ج 2:152. أمالي الشيخ الطوسي ج 1:373.
4- عن ابن عباس. الدر المنثور ج 6:18.

مُسْتَقِيمٍ لا يحيد عنه إلا ضال.

وَ إِنَّهُ وإنّ الذي أوحي إليك لَذِكْرٌ لَكَ لشرف لك وَ لِقَوْمِكَ لقريش أو للعرب، يختص بذلك الشرف الأقرب منهم فالأقرب.

ول - سَوْفَ تُسْئَلُونَ يوم القيامة عن قيامكم بحقّه، وشكركم علي أن رزقتموه وخصصتم به من بين العالمين.

والمراد بسؤال الرسل النظر في أديانهم والفحص عنها: هل جاءت عبادة الأوثان قط في شيء من مللهم ؟ وهذا كما قيل: سل الأرض من شق أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك ؟ فإنّها إن لم تجبك حوارا أجابتك اعتبارا، وقيل:

إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم جمع له الأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس فأمّهم، وقيل له: سلهم، فلم يشكك ولم يسأل(1).

[سورة الزخرف (43): الآیات 46 الی 53]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنٰا مُوسىٰ بِآيٰاتِنٰا إِلىٰ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ فَقٰالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ فَلَمّٰا جٰاءَهُمْ بِآيٰاتِنٰا إِذٰا هُمْ مِنْهٰا يَضْحَكُونَ وَ مٰا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاّٰ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهٰا وَ أَخَذْنٰاهُمْ بِالْعَذٰابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَ قٰالُوا يٰا أَيُّهَا اَلسّٰاحِرُ اُدْعُ لَنٰا رَبَّكَ بِمٰا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنٰا لَمُهْتَدُونَ فَلَمّٰا كَشَفْنٰا عَنْهُمُ اَلْعَذٰابَ إِذٰا هُمْ يَنْكُثُونَ وَ نٰادىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قٰالَ يٰا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هٰذِهِ اَلْأَنْهٰارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَ فَلاٰ تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هٰذَا اَلَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لاٰ يَكٰادُ يُبِينُ فَلَوْ لاٰ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جٰاءَ مَعَهُ اَلْمَلاٰئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ

ص: 136


1- عن ابن زيد. تفسير الطبري ج 25:47.

[سورة الزخرف (43): الآیات 54 الی 56]

فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطٰاعُوهُ إِنَّهُمْ كٰانُوا قَوْماً فٰاسِقِينَ فَلَمّٰا آسَفُونٰا اِنْتَقَمْنٰا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنٰاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنٰاهُمْ سَلَفاً وَ مَثَلاً لِلْآخِرِينَ

ما أجابوه به عند قوله: إِنِّي رَسُولُ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ محذوف دلّ عليه قوله:

فَلَمّٰا جٰاءَهُمْ بِآيٰاتِنٰا و هو مطالبتهم إيّاه بالدلالة علي دعواه، و أجيب (لما) ب - إِذٰا المفاجأة، لأنّ فعل المفاجأة [معها مقدّر، وهو عامل النصب في محلّها، كأنّه قال:

فلما جاءهم باياتنا فاجؤوا وقت](1) ضحكهم.

وَ مٰا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ من آياته المترادفة عليهم من الطوفان [و الجراد](2)

و القمل والضفادع والدم والطمس.

إِلاّٰ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهٰا التي قبلها.

لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي: إرادة أن يرجعوا عن الكفر إلى الإيمان.

بِمٰا عَهِدَ عِنْدَكَ أي: بعهده عندك من النبوّة، و أنّ دعوتك مستجابة، أو بما عهد عندك من كشف العذاب عمن اهتدي.

وقولهم: إِنَّنٰا لَمُهْتَدُونَ وعد قد نووا خلافه، فما كانت تسميتهم إيّاه بالساحر بمنافية لقولهم: إِنَّنٰا لَمُهْتَدُونَ .

وَ نٰادىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ جعلهم محلا لندائه، والمعنى: إنّه أمر بالنداء في محافلهم من نادي فيها بذلك، فأسند النداء إليه، كقولك: قطع الأمير اللص: إذا أمر بقطعه.

ص: 137


1- ساقطة من ج.
2- ساقطة من ج.

وَ هٰذِهِ اَلْأَنْهٰارُ من النيل وغيره.

تَجْرِي مِنْ تحت أمري، مبتدأ وخبر، ويجوز أن يكون اَلْأَنْهٰارُ عطفا علي مُلْكُ مِصْرَ ، و تَجْرِي نصب علي الحال منها.

أَمْ أَنَا خَيْرٌ أم هذه متصلة، لأنّ المعنى: أفلا تبصرون [أم تبصرون](1)، إلا أنّه وضع قوله: أَنَا خَيْرٌ موضع تُبْصِرُونَ لأنّهم إذا قالوا له: أنت خير فهم عنده بصراء، ويجوز أن تكون منقطعة علي معنى: بل أنا خير، والهمزة للتقرير و المعنى: أثبت عندكم واستقر أنّي أنا خير مع أنّي علي هذه الحالة.

مِنْ هٰذَا اَلَّذِي هُوَ مَهِينٌ أي: ضعيف حقير وَ لاٰ يَكٰادُ يُبِينُ الكلام لما به من الرتة(2). وعن الحسن: (كانت العقدة زالت عن لسانه [كما قال: وَ اُحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسٰانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي (3) وإنّما عيّره بما كان في لسانه](4) قبل النبوّة)(5).

و قرئ: أساورة وهي جمع أسوار علي تعويض التاء من ياء أساوير، و أسورة جمع سوار مُقْتَرِنِينَ به، من قولك: قرنته به فاقترن به، أو من قولك: اقترنوا بمعنى تقارنوا.

فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فاستفزّهم، وحقيقته: حملهم على أن يخفّوا له ولما أراده منهم، وكذلك استفزّه فإنّ الفزّ هو الخفيف.

فَلَمّٰا آسَفُونٰا أي: أغضبونا، وغضبه سبحانه علي العصاة هو إرادة

ص: 138


1- ساقطة من د.
2- الرتة - بالضم -: العجمة في الكلام. (الصحاح: مادة رتت).
3- طه: 27-28.
4- ساقطة من ب.
5- التبيان ج 9:208.

عقابهم، وقيل: معناه: آسفوا رسلنا(1)، لأنّ في الأسف معنى الحزن.

وقرئ: سَلَفاً جمع سالف، وسلفا جمع سليف، أي: جعلناهم قدوة لمن أتى بعدهم من الكفار يقتدون بهم في استحقاق مثل عقابهم لإتيانهم بمثل أفعالهم.

وَ مَثَلاً أي: حديثا عجيب الشأن، سائرا مسير المثل، يشبه غيرهم بهم.

[سورة الزخرف (43): الآیات 57 الی 65]

وَ لَمّٰا ضُرِبَ اِبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذٰا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَ قٰالُوا أَ آلِهَتُنٰا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مٰا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاّٰ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ إِنْ هُوَ إِلاّٰ عَبْدٌ أَنْعَمْنٰا عَلَيْهِ وَ جَعَلْنٰاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرٰائِيلَ وَ لَوْ نَشٰاءُ لَجَعَلْنٰا مِنْكُمْ مَلاٰئِكَةً فِي اَلْأَرْضِ يَخْلُفُونَ وَ إِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسّٰاعَةِ فَلاٰ تَمْتَرُنَّ بِهٰا وَ اِتَّبِعُونِ هٰذٰا صِرٰاطٌ مُسْتَقِيمٌ وَ لاٰ يَصُدَّنَّكُمُ اَلشَّيْطٰانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَ لَمّٰا جٰاءَ عِيسىٰ بِالْبَيِّنٰاتِ قٰالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ اَلَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُونِ إِنَّ اَللّٰهَ هُوَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هٰذٰا صِرٰاطٌ مُسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ اَلْأَحْزٰابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذٰابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ

قرئ: يَصِدُّونَ بضم الصاد وكسرها، واختلف في معنى الآية علي وجوه:

أحدها: أنّه لما نزل قوله: إِنَّكُمْ وَ مٰا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ (2)

قالوا: ألست تزعم أنّ عيسى نبيّ؟ وقد علمت أنّ النصاري يعبدونه، وعزير يعبد، والملائكة يعبدون، فإنّ كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا في النار

ص: 139


1- تفسير الماوردي ج 5:232.
2- الأنبياء: 98.

معهم(1). والمعنى: ولما ضربوا عيسى بن مريم مثلا بعبادة النصارى إيّاه إذا قريش من هذا المثل (يصدون) بالكسر، أي: يرتفع لهم جلبة وضجيج فرحا وجدلا وضحكا، وبالضم من الصدود أي: يصدون عن الحقّ ويعرضون عنه من أجل هذا المثل، وقيل: من الصديد وهو الجلبة(2)، وهما لغتان.

وَ قٰالُوا أَ آلِهَتُنٰا خَيْرٌ أَمْ هُوَ أي: ليست الهتنا عندك خيرا من عيسى، فإذا كان عيسى من حصب النار كان أمر آلهتنا هينا، ما ضربوا هذا المثل لك إلا لأجل الجدل والغلبة في القول لا لطلب المعرفة بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ دأبهم الخصومة واللجاج. وذلك أنّ قوله: إِنَّكُمْ وَ مٰا تَعْبُدُونَ (3) ما أريد به إلا الأصنام، ومحال أن يقصد به الأنبياء والملائكة.

وثانيها: إنّهم لما سمعوا أنّ مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم، قالوا: نحن أهدى من النصارى، لأنّهم عبدوا آدميا ونحن نعبد الملائكة، فنزلت(4). فعلي هذا يكون في قولهم: أَ آلِهَتُنٰا خَيْرٌ أَمْ هُوَ تفضيل آلهتهم علي عيسى وما قالوا هذا القول إلا للجدل. أو يكون جَدَلاً حالا بمعنى: جدلين.

وثالثها: أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لما مدح المسيح وأمه قالوا: ما يريد محمّد بهذا إلا أن نعبده كما عبدت النصاري المسيح(5).

ومعنى يَصِدُّونَ : يضجرون ويصيحون. والضمير في أَمْ هُوَ

ص: 140


1- أسباب النزول: 267.
2- تهذيب اللغة ج 12:103.
3- الأنبياء: 98.
4- الكشاف ج 4:260.
5- عن قتادة وغيره. تفسير الطبري ج 25:51.

لمحمّد صلى الله عليه و آله و سلم، وغرضهم بالموازنة بينه وبين آلهتهم السخرية والاستهزاء. والمروي عن أهل البيت عليهم السلام: (إنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال: جئت إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يوما فوجدته في ملأ من قريش، فنظر إليّ ثمّ قال: يا عليّ ، إنّما مثلك في هذه الأمة كمثل عيسى بن مريم، أحبّه قوم وأفرطوا في حبّه فهلكوا، وأبغضه قوم وأفرطوا في بغضه فهلكوا، واقتصد فيه قوم فنجوا، عظم ذلك عليهم وضحكوا، فنزلت الآية)(1).

إِنْ هُوَ إِلاّٰ عَبْدٌ أي: ما عيسى إلا عبد كسائر العبيد.

أَنْعَمْنٰا عَلَيْهِ حيث جَعَلْنٰاهُ اية بأن خلقناه من غير سبب كما خلقنا آدم، وشرّفناه بالنبوّة، وصيّرناه عبرة عجيبة كالمثل السائر لِبَنِي إِسْرٰائِيلَ .

وَ لَوْ نَشٰاءُ لقدرتنا علي عجائب الأمور.

لَجَعَلْنٰا مِنْكُمْ أي: لولدنا منكم يا رجال مَلاٰئِكَةً يخلفونكم فِي اَلْأَرْضِ [كما يخلفكم أولادكم، كما ولدنا عيسى من أنثى من غير فحل، أو لجعلنا بدلا منكم يا بني آدم ملائكة يخلفونكم في الأرض](2)، ويكون مِنْكُمْ في الآية مثل ما في قول الشاعر:

فليت لنا من ماء زمزم شربة *** مبرّدة باتت على الطّهيان(3)

أو لجعلناكم أيّها البشر ملائكة، فيكون مِنْكُمْ من باب التجريد، ويكون فيه إشارة إلى قدرته علي تغيير بنية البشر إلى بنية الملائكة.

وَ إِنَّهُ وإنّ عيسى لَعِلْمٌ لِلسّٰاعَةِ أي: شرط من أشراطها تعلم به،

ص: 141


1- تفسير فرات: 404، أمالي الشيخ الطوسي ج 1:354.
2- ساقطة من ب.
3- البيت ليعلى الأحول الأزدي. خزانة الأدب ج 5:276.

فسمّي الشرط علما لحصول العلم به، وقرأ ابن عباس: وإنّه لعلم، أي: علامة وأما رة.

فَلاٰ تَمْتَرُنَّ بِهٰا فلا تشكّوا فيها ولا تكذّبوا بها. وفي الحديث: (إنّ عيسى عليه السلام ينزل على ثنية بالأرض المقدسة يقال لها: أفيق، وعليه ممصرتان، وشعر رأسه دهين، وبيده حربة وبها يقتل الدجال، فيأتي بيت المقدس والناس في صلاة الصبح والإمام عليه السلام يؤم بهم، فيتأخر الإمام فيقدّمه عيسى ويصلّي خلفه علي شريعة محمّد صلى الله عليه و آله و سلم، ثمّ يقتل الخنازير(1)، ويكسر الصليب، ويخرب البيع والكنائس، ويقتل النصارى إلا من آمن به. كذا وجدته في الكشاف(2). وعن الحسن: (إنّ الضمير للقرآن وبه تعلم الساعة لأنّ فيه الإعلام بها)(3).

وَ اِتَّبِعُونِ هو أمر لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يقوله، أي: واتبعوا شرعي وهداي، أو معناه: واتبعوا رسولي.

وَ لَمّٰا جٰاءَ عِيسىٰ بِالْبَيِّنٰاتِ أي: بالمعجزات الدالة علي نبوّته.

وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ اَلَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ وهو ما احتاجوا إليه من أمور الدين وما تعبدوا بمعرفته دون ما اختلفوا فيه من أمور الدنيا.

و اَلْأَحْزٰابُ : الفرق المتحزبة بعد عيسى.

[سورة الزخرف (43): الآیات 66 الی 69]

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ اَلسّٰاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لاٰ يَشْعُرُونَ اَلْأَخِلاّٰءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ اَلْمُتَّقِينَ يٰا عِبٰادِ لاٰ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اَلْيَوْمَ وَ لاٰ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ اَلَّذِينَ آمَنُوا

ص: 142


1- في ب: الجبارين.
2- الكشاف ج 4:261، الكشف والبيان ج 8:341.
3- تفسير الطبري ج 25:54.

[سورة الزخرف (43): الآیات 69 الی 80]

بِآيٰاتِنٰا وَ كٰانُوا مُسْلِمِينَ اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَ أَزْوٰاجُكُمْ تُحْبَرُونَ يُطٰافُ عَلَيْهِمْ بِصِحٰافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَ أَكْوٰابٍ وَ فِيهٰا مٰا تَشْتَهِيهِ اَلْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ اَلْأَعْيُنُ وَ أَنْتُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ وَ تِلْكَ اَلْجَنَّةُ اَلَّتِي أُورِثْتُمُوهٰا بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لَكُمْ فِيهٰا فٰاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهٰا تَأْكُلُونَ إِنَّ اَلْمُجْرِمِينَ فِي عَذٰابِ جَهَنَّمَ خٰالِدُونَ لاٰ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَ هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وَ مٰا ظَلَمْنٰاهُمْ وَ لٰكِنْ كٰانُوا هُمُ اَلظّٰالِمِينَ وَ نٰادَوْا يٰا مٰالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنٰا رَبُّكَ قٰالَ إِنَّكُمْ مٰاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنٰاكُمْ بِالْحَقِّ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كٰارِهُونَ أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنّٰا مُبْرِمُونَ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنّٰا لاٰ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَ نَجْوٰاهُمْ بَلىٰ وَ رُسُلُنٰا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ

أَنْ تَأْتِيَهُمْ بدل من اَلسّٰاعَةَ ، بَغْتَةً أي: فجأة.

وَ هُمْ لاٰ يَشْعُرُونَ معناه: وهم غافلون لاشتغالهم بأمور دنياهم.

يَوْمَئِذٍ ينتصب ب - عَدُوٌّ أي: ينقطع في ذلك اليوم كل خلة فتنقلب عداوة إلا خلة اَلْمُتَّقِينَ المتخالين في اللّه، فإنّها الخلة الباقية تزداد وتتأكّد.

اَلَّذِينَ آمَنُوا منصوب الموضع صفة ل - عباد لأنّه منادى مضاف.

وَ كٰانُوا مُسْلِمِينَ مستسلمين لأمرنا خاضعين منقادين، جاعلين نفوسهم سالمة لطاعتنا.

أَنْتُمْ وَ أَزْوٰاجُكُمْ اللاتي كن مؤمنات مثلكم.

تُحْبَرُونَ أي: تسرّون سرورا يظهر حباره أي: أثره علي وجوهكم،

ص: 143

كقوله: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ اَلنَّعِيمِ (1).

و الصحاف: القصاع، والأكواب: الكيزان لا عري لها، وقيل: هي الآنية المستديرة الرؤوس(2)، وَ فِيهٰا الضمير ل - اَلْجَنَّةُ . و قرئ: ما تشتهي و مٰا تَشْتَهِيهِ وهذا حصر لأنواع النعم، لأنّها إما مشتهاة في القلوب، وإما مستلذّة في العيون.

وَ تِلْكَ إشارة إلي الجنّة المذكورة، وهي مبتدأ و اَلْجَنَّةُ خبر، و اَلَّتِي أُورِثْتُمُوهٰا صفة ل - اَلْجَنَّةُ ، أو اَلْجَنَّةُ صفة ل - تِلْكَ و اَلَّتِي أُورِثْتُمُوهٰا خبر، أو اَلَّتِي أُورِثْتُمُوهٰا صفة اَلْجَنَّةُ و بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ خبر المبتدأ و الباء يتعلّق بمحذوف. وفي الوجه الأوّل يتعلّق ب - أُورِثْتُمُوهٰا وشبّهت في بقائها علي أهلها بالميراث الباقي علي الورثة.

مِنْهٰا تَأْكُلُونَ : (من) للتبعيض، أي: لا تأكلون إلا بعضها. وفي الحديث:

(لا ينزع رجل في الجنّة من ثمرها إلا نبت مكانها مثلها)(3).

مُبْلِسُونَ آيسون من كل خير.

وروي عن عليّ عليه السلام وابن مسعود: يا مال بحذف الكاف للترخيم، أي:

يٰا مٰالِكُ سل ربّك أن يقضي علينا، أي: يميتنا لنتخلص ونستريح مما بنا، فيقول مالك: إِنَّكُمْ مٰاكِثُونَ لابثون دائمون.

لَقَدْ جِئْنٰاكُمْ بِالْحَقِّ هو كلام مالك، وإنّما قال: جئناكم لأنّه من الملائكة،

ص: 144


1- المطففين: 24.
2- عن مجاهد. تفسير الماوردي ج 5:238.
3- البحر الزخار ج 10:123 باختلاف يسير.

وقيل: إنّه كلام اللّه عزّ وجل(1)، وعلي هذا فيكون في قٰالَ ضمير اللّه، لما سألوا مالكا أن يسأل اللّه القضاء عليهم أجابهم اللّه بذلك.

أَمْ منقطعة أي: بل أَبْرَمُوا ، أي: أأحكم الملأ من قريش أَمْراً أي:

كيدا في الخلاف عن أمرك فَإِنّٰا مُبْرِمُونَ كيدنا كما أبرموا كيدهم.

والسرّ: ما حدّث به الرجل نفسه أو غيره في مكان خال، و النجوى: ما تكلّموا به فيما بينهم، وقيل: السرّ: ما يضمر الإنسان في نفسه، والنجوى: ما يحدّث به غيره في الخفية(2).

بَلىٰ نسمعهما ونطلع عليهما وَ رُسُلُنٰا الحفظة مع ذلك عندهم يَكْتُبُونَ ما يكيدونه ويبيتونه. وقد روي عنهم عليهم السلام السبب في نزول الآيتين(3).

[سورة الزخرف (43): الآیات 81 الی 89]

قُلْ إِنْ كٰانَ لِلرَّحْمٰنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ اَلْعٰابِدِينَ سُبْحٰانَ رَبِّ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ رَبِّ اَلْعَرْشِ عَمّٰا يَصِفُونَ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا حَتّٰى يُلاٰقُوا يَوْمَهُمُ اَلَّذِي يُوعَدُونَ وَ هُوَ اَلَّذِي فِي اَلسَّمٰاءِ إِلٰهٌ وَ فِي اَلْأَرْضِ إِلٰهٌ وَ هُوَ اَلْحَكِيمُ اَلْعَلِيمُ وَ تَبٰارَكَ اَلَّذِي لَهُ مُلْكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا وَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلسّٰاعَةِ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَ لاٰ يَمْلِكُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلشَّفٰاعَةَ إِلاّٰ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اَللّٰهُ فَأَنّٰى يُؤْفَكُونَ وَ قِيلِهِ يٰا رَبِّ إِنَّ هٰؤُلاٰءِ قَوْمٌ لاٰ يُؤْمِنُونَ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَ قُلْ سَلاٰمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ

ص: 145


1- التبيان ج 9:217.
2- (الصحاح: مادة سرر، نجا)
3- ينظر: الكافي ج 8:180.

إِنْ كٰانَ لِلرَّحْمٰنِ وَلَدٌ إن صحّ ذلك وثبت ببرهان صحيح فَأَنَا أَوَّلُ من يعظّم ذلك الولد ويطيعه كما يعظّم الرجل ولد الملك لتعظيم أبيه، وهو وارد علي سبيل الفرض والتقدير للمبالغة في نفي الولد، لأنه تعليق للعبادة بكينونة الولد وهو محال، فالمعلّق به محال مثله، فهو في صورة الإثبات والمراد النفي علي أبلغ الوجوه.

وقيل: معناه: إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أوّل العابدين الموحدين للّه المكذّبين قولكم(1).

وقيل: فأنا أوّل الآنفين من أن يكون له ولد أو من عبادته، لأنّ من كان له ولد لا يكون إلا محدثا جسما غير مستحقّ للعبادة، من: عبد يعبد: إذا اشتد أنفه فهو عبد وعابد(2).

وقيل: هي إن النافية، أي: ما كان للرحمن ولد فأنا أوّل العابدين للّه(3).

ثمّ نزّه نفسه عما يصفونه من اتخاذ الولد. التقدير: وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله، ف - إِلٰهٌ خبر المبتدأ العائد إلى الموصول، وهو اسم ضمّن معنى الوصف، فلذلك علّق به الظرف في قوله: فِي اَلسَّمٰاءِ إِلٰهٌ وَ فِي اَلْأَرْضِ إِلٰهٌ كما يقول: هو حاتم في طي وحاتم في تغلب، علي تضمين معنى الجواد الذي هو مشهور به، ومثله قوله: وَ هُوَ اَللّٰهُ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ فِي اَلْأَرْضِ (4) فكأنّك قلت: هو المعبود أو المالك أو نحو ذلك، وحذف هو العائد لطول الكلام بالصلة كقولهم:

ص: 146


1- عن مجاهد. تفسير الطبري ج 25:60.
2- عن الكسائي. تفسير الماوردي ج 5:241.
3- عن زيد بن أسلم وغيره. تفسير الطبري ج 25:61.
4- الأنعام: 3.

ما أنا بالذي قائل لك شيئا، وزاده طولا هاهنا أنّ المعطوف داخل في حيز الصلة.

وَ لاٰ يَمْلِكُ آلهتهم اَلَّذِينَ يدعونهم من دون اللّه اَلشَّفٰاعَةَ كما زعموا أنّهم شفعاؤهم عند اللّه لكن مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وهو توحيد اللّه، وهو يعلم ما يشهد به عن بصيرة و إخلاص هو الذي يملك الشفاعة، وهو استثناء منقطع.

ويجوز أن يكون متصلا لأنّ في جملة: الذين يدعون من دون اللّه الملائكة.

و قرئ: تدعون بالتاء.

وَ قِيلِهِ قرئ بالنصب والجر، وعن مجاهد: بالرفع. والنصب للعطف علي موضع اَلسّٰاعَةِ ، والجر علي اللفظ، أي: وعنده علم الساعة وقيله وقيله، كما تقول: عجبت من ضرب زيد وعمروا وعمرو. و المعنى: يعلم الساعة ومن يصدّق بها ويعلم قيله، لأنّ الساعة ليست بظرف وإنّما هي مفعول بها، والرفع للعطف أيضا علي تقدير حذف المضاف أي: وعلم قيله، أو علي الابتداء والخبر محذوف، والتقدير: وقيله يا ربّ مسموع ومتقبّل، أو وقيله قيل يا ربّ ، وحمل الأخفش النصب علي أَمْ يَحْسَبُونَ أَنّٰا لاٰ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وقيله(1)، وعنه أيضا: أنّه علي تأويل: وقال قيله(2). وقال جار اللّه: الجر والنصب علي إضمار حرف القسم وحذفه، والرفع علي قولهم: أيمن اللّه، و لعمرك، ويكون قوله: إِنَّ هٰؤُلاٰءِ قَوْمٌ لاٰ يُؤْمِنُونَ جواب القسم، فكأنّه قال: وأقسم بقيله يا ربّ ، أو قيله يا ربّ قسمي إِنَّ هٰؤُلاٰءِ قَوْمٌ لاٰ يُؤْمِنُونَ (3).

فَاصْفَحْ أي: أعرض عنهم بصفحة وجهك.

ص: 147


1- معاني القرآن وإعرابه ج 4:421.
2- معاني القرآن وإعرابه ج 4:421.
3- الكشاف ج 4:268.

وَ قُلْ لهم سَلاٰمٌ أي: تسلم منكم ومتاركة.

فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وعيد، و قرئ بالتاء أيضا.

ص: 148

سورة الدخان

اشارة

مكية، وهي تسع وخمسون آية، سبع بصري، حم و إِنَّ هٰؤُلاٰءِ لَيَقُولُونَ كوفي.

في حديث أبيّ : (ومن قرأ (سورة الدخان) في ليلة الجمعة غفر اللّه له)(1)، وعن الباقر عليه السلام: (من قرأها في فرائضه ونوافله بعثه اللّه من الآمنين يوم القيامة، وأظلّه تحت ظل عرشه، وحاسبه حسابا يسيرا، وأعطي كتابه بيمينه)(2).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة الدخان (44): الآیات 1 الی 9]

حم وَ اَلْكِتٰابِ اَلْمُبِينِ إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبٰارَكَةٍ إِنّٰا كُنّٰا مُنْذِرِينَ فِيهٰا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنٰا إِنّٰا كُنّٰا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ رَبِّ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ يُحْيِي وَ يُمِيتُ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبٰائِكُمُ اَلْأَوَّلِينَ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ

إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ جواب القسم فِي لَيْلَةٍ مُبٰارَكَةٍ هي ليلة القدر وهو

ص: 149


1- الكشف والبيان ج 8:348 عن أبي هريرة.
2- ثواب الأعمال: 114.

الصحيح، وقيل: ليلة النصف من شعبان(1). ومعنى إنزال اللّه القرآن في ليلة القدر أنّه أنزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا فيها، وكان جبرئيل ينزله إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم نجوما، وقيل: كان ينزل ما يحتاج إليه في كل سنة في هذه الليلة، ثمّ كان ينزل شيئا فشيئا وقت الحاجة.

وسمّيت مباركة لأنّ فيها يقسم اللّه نعمه علي عباده فتدوم بركاتها، والبركة:

نماء الخير، والمباركة: الكفرة الخير، ولو لم يوجد فيها إلا إنزال القرآن لكفى به بركة.

فِيهٰا يُفْرَقُ أي: يفصل ويكتب.

كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ كل شأن ذي حكمة، أي: مفعول علي ما تقتضيه الحكمة من أرزاق العباد وآجالهم وغير ذلك من أمور السنة إلى الليلة الأخري القابلة، ووصف الأمر بالحكيم مجاز؛ لأنّ الحكيم صفة صاحب الأمر علي الحقيقة. وقوله:

إِنّٰا كُنّٰا مُنْذِرِينَ ، يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ جملتان مستأنفتان ملفوفتان فسّر بهما جواب القسم، كأنّه قيل: إنّا أنزلناه لأنّ من شأننا الإنذار، وأنزلناه في هذه الليلة خصوصا لأنّ إنزال القرآن من الأمور الحكيمة، وهذه الليلة مفرق كل أمر حكيم.

أَمْراً مِنْ عِنْدِنٰا نصب علي الاختصاص، أي: أعني أمرا حاصلا من عندنا علي ما اقتضته [حكمتنا وتدبيرنا، ويجوز أن يراد به الأمر ضد النهي فوضع موضع مصدر يُفْرَقُ من حيث أنّ الأمر والفرقان واحد، لأنّ من حكم بالشيء وكتبه فقد أمر به وأوجبه، أو جعل حالا من أحد الضميرين في أَنْزَلْنٰاهُ أي: أنزلناه في حال كونه أمرا بما يجب أن يفعل، أو أنزلناه آمرين.

إِنّٰا كُنّٰا مُرْسِلِينَ يجوز أن يكون بدلا من: إِنّٰا كُنّٰا مُنْذِرِينَ ، و رَحْمَةً مِنْ

ص: 150


1- عن عكرمة. تفسير الطبري ج 25:65.

رَبِّكَ مفعول له. والمعنى: إنّا أنزلنا القران لأنّ من شأننا إرسال الرسل بالكتب إلى عبادنا لأجل الرحمة عليهم، أو أن يكون تعليلا ل - يُفْرَقُ ، أو لقوله: أَمْراً مِنْ عِنْدِنٰا ، و رَحْمَةً مفعولا به، أي: يفرق في هذه الليلة كل أمر وتصدر الأوامر من عندنا، لأنّ من عادتنا أن نرسل رحمتنا، و فصل كل أمر من قسمة الأرزاق و غيرها من داب الرحمة، وكذلك الأوامر الصادرة من جهته عزّ وجل؛ لأنّ الغرض من تكليف العباد تعريضهم للمنافع، والأصل: إنّا كنا مرسلين رحمة منا، فوضع الظاهر موضع المضمر إيذانا بأنّ الربوبية تقتضي](1) الرحمة علي المربوبين.

إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ وما بعده تحقيق لربوبيته و أنّها لا تحقّ إلا لمن هذه أوصافه.

وقرئ: ربّ السماوات، وربّكم، وربّ آبائكم، بالجر بد لا من رَبِّكَ .

إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي: إن كان إقراركم بأنّ للسماوات والأرض ربّا و خالقا عن معرفة و إيقان.

ثمّ ردّ كونهم موقنين بقوله: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ أي: إقرارهم لا يصدر عن علم وحقيقة بل هو قول مخلوط بلعب وهزء.

[سورة الدخان (44): الآیات 10 الی 17]

فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي اَلسَّمٰاءُ بِدُخٰانٍ مُبِينٍ يَغْشَى اَلنّٰاسَ هٰذٰا عَذٰابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اِكْشِفْ عَنَّا اَلْعَذٰابَ إِنّٰا مُؤْمِنُونَ أَنّٰى لَهُمُ اَلذِّكْرىٰ وَ قَدْ جٰاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ قٰالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ إِنّٰا كٰاشِفُوا اَلْعَذٰابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عٰائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ اَلْبَطْشَةَ اَلْكُبْرىٰ إِنّٰا مُنْتَقِمُونَ وَ لَقَدْ

ص: 151


1- ساقطة من ج.

[سورة الدخان (44): الآیات 17 الی 21]

فَتَنّٰا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَ جٰاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبٰادَ اَللّٰهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ وَ أَنْ لاٰ تَعْلُوا عَلَى اَللّٰهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطٰانٍ مُبِينٍ وَ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ وَ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ

يَوْمَ تَأْتِي مفعول به فَارْتَقِبْ يقال: رقبته و ارتقبته.

واختلف في الدخان، فقيل: إنّه دخان يأتي من السماء قبل قيام الساعة يدخل في أسماع الكفرة حتى يكون رأس الواحد كالرأس الحنيذ(1)، و يعتري المؤمن منه كهيئة الزكام، وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه النار ليس فيه خصاص(2)، و يمتد ذلك أربعين يوما، روي ذلك عن عليّ عليه السلام وابن عباس والحسن(3). وقيل:

إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم دعا علي قومه لما كذّبوه فقال: (اللهم اشدد وطأتك علي مضر، واجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف)، فأصابهم الجهد حتى أكلوا الجيف والعلهز(4)، وكان الرجل يري بين السماء والأرض الدخان، وكان يحدّث الرجل فيسمع كلامه ولا يراه من الدخان، فمشى إليه أبو سفيان ونفر معه وناشدوه باللّه والرحم، وواعدوه إن دعا لهم وكشف عنهم أن يؤمنوا، فلما كشف عنهم رجعوا إلى شركهم، وروي ذلك عن ابن مسعود(5).

ص: 152


1- الحنيذ: الذي يقطر ماؤه وقد شوي. (لسان العرب: مادة حنذ)
2- الخصاص: شبه الكوة في قبة أو نحوها. (لسان العرب: مادة خصص)
3- الدر المنثور ج 6:29.
4- العلهز - بالكسر -: طعام كانوا يتخذونه من الدم و وبر البعير في سني المجاعة. (الصحاح: مادة علهز).
5- تفسير الطبري ج 25:67.

يَغْشَى اَلنّٰاسَ أي: يشملهم ويلبسهم، وهو في محلّ الجر صفة ل - بِدُخٰانٍ أي: يقولون: هٰذٰا عَذٰابٌ أَلِيمٌ إلى قوله: مُؤْمِنُونَ ، ويقولون المحذوف نصب علي الحال أي: قائلين ذلك.

و إِنّٰا مُؤْمِنُونَ موعدة بالإيمان إن كشف العذاب عنهم.

أَنّٰى لَهُمُ اَلذِّكْرىٰ كيف يذكرون و يتعظون و يفون بوعدهم وَ قَدْ جٰاءَهُمْ ما هوأعظم من كشف الدخان، وهو ما ظهر على رسول اللّه صلى الله عليه و آله من الآيات البيّنات من الكتاب المعجز وغيره من المعجزات القاهرة، فلم يذكروا و تَوَلَّوْا عَنْهُ وبهتوه، بأنّ غلاما أعجميا اسمه عداس هو الذي علّمه، ونسبوه إلى الجنون.

ثمّ قال: إِنّٰا كٰاشِفُوا عذاب الجوع والدخان قَلِيلاً إِنَّكُمْ عٰائِدُونَ أي: ريثما يكشف عنكم العذاب تعودون إلى شرككم، لا تلبثون غب الكشف علي ما أنتم عليه من الابتهال والتضرّع. ومن جعل الدخان قبل يوم القيامة قال في قوله: إِنّٰا كٰاشِفُوا اَلْعَذٰابِ : إنّه إذا أتت السماء بالدخان تضرّع المعذّبون به وقالوا: ربّنا اكشف عنا العذاب إنّا منيبون مؤمنون، فيكشفه اللّه عنهم، وريثما يكشفه عنهم يرتدون.

ثمّ قال: يَوْمَ نَبْطِشُ اَلْبَطْشَةَ يريد: يوم القيامة، كقوله: فَإِذٰا جٰاءَتِ اَلطَّامَّةُ اَلْكُبْرىٰ (1).

إِنّٰا مُنْتَقِمُونَ ننتقم منهم في ذلك اليوم، فانتصب يَوْمَ نَبْطِشُ بما دلّ عليه إِنّٰا مُنْتَقِمُونَ ، لأنّ ما بعد (إنّ ) لا يعمل فيما قبلها. و قرئ: نَبْطِشُ بضم الطاء وكسرها.

وَ لَقَدْ فَتَنّٰا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ معنى الفتنة: إنّه أمهلهم ووسّع عليهم

ص: 153


1- النازعات: 34.

الرزق، فكان ذلك سببا لانهماكهم في المعاصي، أو ابتلاهم بإرسال موسى إليهم ليؤمنوا، فاختاروا الكفر علي الإيمان.

وَ جٰاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ علي اللّه، أو كريم الأخلاق والأفعال.

أَنْ أَدُّوا هي (أن) المفسّرة، لأنّه لا يجيء الرسول قومه إلا مبشرا و نذيرا، فيتضمّن معنى القول، أو هي مخففة من الثقيلة أي: جاءهم بأنّ الشأن والحديث أدّوا إلي.

و عِبٰادَ اَللّٰهِ مفعول به وهم بنو إسرائيل، أي: أدّوهم إليّ و أرسلوهم معي، أو أدوا إليّ يا عباد اللّه ما يجب عليكم من الإيمان بي وقبول دعوتي، وعلل ذلك بأنّه رَسُولٌ أَمِينٌ قد ائتمنه اللّه علي وحيه و رسالته.

وَ أَنْ لاٰ تَعْلُوا : (أن) هذه مثل الأولى، أي: لا تستكبروا علي اللّه بالاستهانة برسوله ووحيه.

وقرئ: عذت بالإدغام ومعناه: إنّه عائذ بربّه، معتصم به من كيدهم، فلا يكترث بتهددهم بالقتل والرجم.

و إن فاعتزلون يريد: إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا بي فتنحوا عني و اقطعوا أسباب الوصلة بيني وبينكم، أو فخلوني كفافا لا عليّ ولا لي، ولا تتعرضوا لي بشرككم وأذاكم، فليس جزاء من دعاكم إلي ما فيه صلاحكم و فلاحكم ذلك.

[سورة الدخان (44): الآیات 22 الی 29]

فَدَعٰا رَبَّهُ أَنَّ هٰؤُلاٰءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ فَأَسْرِ بِعِبٰادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ وَ اُتْرُكِ اَلْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنّٰاتٍ وَ عُيُونٍ وَ زُرُوعٍ وَ مَقٰامٍ كَرِيمٍ وَ نَعْمَةٍ كٰانُوا فِيهٰا فٰاكِهِينَ كَذٰلِكَ وَ أَوْرَثْنٰاهٰا قَوْماً آخَرِينَ فَمٰا بَكَتْ عَلَيْهِمُ

ص: 154

[سورة الدخان (44): الآیات 29 الی 33]

اَلسَّمٰاءُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مٰا كٰانُوا مُنْظَرِينَ وَ لَقَدْ نَجَّيْنٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ مِنَ اَلْعَذٰابِ اَلْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كٰانَ عٰالِياً مِنَ اَلْمُسْرِفِينَ وَ لَقَدِ اِخْتَرْنٰاهُمْ عَلىٰ عِلْمٍ عَلَى اَلْعٰالَمِينَ وَ آتَيْنٰاهُمْ مِنَ اَلْآيٰاتِ مٰا فِيهِ بَلٰؤُا مُبِينٌ () (3(1)

فَدَعٰا رَبَّهُ فقال: إنّ هٰؤُلاٰءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ أي: مشركون لا يؤمنون.

فَأَسْرِ بِعِبٰادِي فيه وجهان: إضمار القول [بعد الفاء فقال: أسر، وأن يكون جواب شرط محذوف نحو: إن كان الأمر كما تقول](2) فأسر بعبادي.

رَهْواً فيه وجهان: أحدهما: أنّه الساكن(3)، قال الأعشى:

يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلة *** ولا الصّدور على الأعجاز تتّكل(3)

أي: مشيا ساكنا علي هنية، أراد موسى عليه السلام لما جاوز البحر أن يضربه بعصاه فينطبق كما ضربه فانفلق، فأمره سبحانه أن يتركه ساكنا قارا علي حاله من انتصاب الماء وكون الطريق يبسا ليدخله القبط فيغرقوا، وقيل: الرهوة: الفجوة الواسعة(4)، أي: أتركه مفتوحا علي حاله.

وَ مَقٰامٍ كَرِيمٍ و مجلس خطير و منزل بهي ونعمة وتنعم وسعة في العيش.

كَذٰلِكَ الكاف منصوبة علي معنى: مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها، أو في موضع الرفع، أي الأمر كذلك.

ص: 155


1- ديوان الأعشى: 253.
2- ساقطة من ج.
3- الكشف والبيان ج 8:352.
4- عن مجاهد. تفسير السمرقندي ج 3:257 بالمعنى.

وَ أَوْرَثْنٰاهٰا قَوْماً آخَرِينَ ليسوا منهم في شيء من قرابة ولا دين.

فَمٰا بَكَتْ عَلَيْهِمُ اَلسَّمٰاءُ وَ اَلْأَرْضُ فيه تهكّم بهم و بحالهم المنافية لحال من يجل رزؤه و يعظم فقده فيقال فيه: بكت عليه السماء.

وَ مٰا كٰانُوا مُنْظَرِينَ أي: ممهلين.

مِنْ فِرْعَوْنَ بدل من قوله: مِنَ اَلْعَذٰابِ اَلْمُهِينِ كأنّه في نفسه كان عذابا مهينا لإفراطه في تعذيبهم، ويجوز أن يكون مِنْ فِرْعَوْنَ حالا من اَلْعَذٰابِ أي: واقعا من جهة فرعون.

عٰالِياً مِنَ اَلْمُسْرِفِينَ أي: كبيرا رفيع الطبقة من بينهم بليغا في إسرافه، أو عاليا متكبرا، و مِنَ اَلْمُسْرِفِينَ خبر ثان كأنّه قال: كان متكبرا مسرفا.

عَلىٰ عِلْمٍ في موضع الحال أي: عالمين بمكان الخيرة، و بأنّهم أحقّاء بالاختيار.

عَلَى اَلْعٰالَمِينَ علي عالمي زمانهم.

وَ آتَيْنٰاهُمْ مِنَ الدلالات والمعجزات مٰا فِيهِ بَلٰؤُا مُبِينٌ نعمة ظاهرة أو اختبار ظاهر لننظر كيف يعملون.

[سورة الدخان (44): الآیات 34 الی 41]

إِنَّ هٰؤُلاٰءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلاّٰ مَوْتَتُنَا اَلْأُولىٰ وَ مٰا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ فَأْتُوا بِآبٰائِنٰا إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ أَ هُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنٰاهُمْ إِنَّهُمْ كٰانُوا مُجْرِمِينَ وَ مٰا خَلَقْنَا اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا لاٰعِبِينَ مٰا خَلَقْنٰاهُمٰا إِلاّٰ بِالْحَقِّ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ اَلْفَصْلِ مِيقٰاتُهُمْ أَجْمَعِينَ يَوْمَ لاٰ يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَ لاٰ هُمْ

ص: 156

[سورة الدخان (44): الآیات 41 الی 50]

يُنْصَرُونَ إِلاّٰ مَنْ رَحِمَ اَللّٰهُ إِنَّهُ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ إِنَّ شَجَرَةَ اَلزَّقُّومِ طَعٰامُ اَلْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي اَلْبُطُونِ كَغَلْيِ اَلْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلىٰ سَوٰاءِ اَلْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذٰابِ اَلْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْكَرِيمُ إِنَّ هٰذٰا مٰا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ

ثمّ رجع سبحانه إلى ذكر من ذكرهم في أوّل السورة من كفار قريش، فقال:

إِنَّ هٰؤُلاٰءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ أي: ما الموتة إِلاّٰ مَوْتَتُنَا اَلْأُولىٰ نموتها في الدنيا ثمّ لا بعث بعدها وَ مٰا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ بمبعوثين ولا معادين.

فَأْتُوا بِآبٰائِنٰا الذين ماتوا قبلنا وأعيدوهم إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ في أنّ اللّه يعيد الأموات، وقائله أبو جهل قال: إن كنت صادقا فابعث جدك قصي بن كلاب، وهذا جهل من أبي جهل؛ لأنّ النشأة الثانية إنّما وجبت للجزاء لا للتكليف، وليست هذه الدار بدار جزاء بل دار تكليف، فكأنّه قال: إن كنت صادقا في إعادتهم للجزاء فأعدهم للتكليف، فلذلك عدل عن مقابلته إلى الوعيد والوعظ بما هو أعود عليه فقيل: أَ هُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ أي: أهم أكثر عددا وعدّة ونعمة وقوة كقوله:

أَ كُفّٰارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولٰئِكُمْ (1) بعد ذكر آل فرعون، وهو تبع الحميري، كان مؤمنا وقومه كافرين، وهو الذي سار بالجيوش حتى حيّر الحيرة، ثمّ أتى سمرقند فهدّمها ثمّ بناها، وكان إذا كتب كتب: باسم اللّه الذي ملك برا وبحرا وضحا وريحا، ذمّ اللّه قومه ولم يذمّه. وعن الصادق عليه السلام: (إنّ تبّع قال للأوس والخزرج: كونوا هاهنا

ص: 157


1- القمر: 43

حتى يخرج هذا النبيّ ، أما أنا فلو أدركته لخدمته وخرجت معه)(1).

وَ مٰا بَيْنَهُمٰا يريد: وما بين الجنسين.

إِنَّ يَوْمَ اَلْفَصْلِ ميقات حسابهم وجزائهم أَجْمَعِينَ .

يَوْمَ لاٰ يُغْنِي مَوْلًى أيّ مولى كان من قرابة وغيرها عَنْ أيّ مَوْلًى كان شَيْئاً من إغناء، [أي قليلا منه](2).

وَ لاٰ هُمْ يُنْصَرُونَ الضمير للموالي؛ لأنّهم في المعنى كثير لتناول اللفظ علي الإبهام والشياع كل مولي.

مَنْ رَحِمَ اَللّٰهُ في محلّ الرفع علي البدل من الواو في يُنْصَرُونَ ، أي: لا يمنع من العذاب إلا من رحمه اللّه، إما بأن يسقط عقابهم ابتداء، أو يأذن بالشفاعة فيهم لمن علت درجته عنده فيسقط عقاب المشفوع له بشفاعته.

إِنَّهُ هُوَ اَلْعَزِيزُ في انتقامه من أعدائه اَلرَّحِيمُ بالمؤمنين. ويجوز أن يكون مَنْ رَحِمَ اَللّٰهُ منصوبا على الاستثناء.

و اَلْأَثِيمِ : الآثم، وقيل: هو أبو جهل(3)، وروي أنّه أتى بتمر وزبد فجمع بينهما وأكل وقال: هذا هو الزقوم الذي يخوّفنا محمّد به ونحن نتزقمه أي:

نملأ أفواهنا به(4).

كَالْمُهْلِ و هو المذاب من النحاس، وقيل: هو دردي الزيت(5)، وقرئ:

ص: 158


1- إكمال الدين: 168.
2- ساقطة من ج، د.
3- عن مجاهد. تفسير الماوردي ج 5:257.
4- التبيان ج 9:239.
5- عن ابن عباس. معاني القرآن للنحاس ج 6:412.

يَغْلِي بالياء والتاء، فمن قرأ بالتاء فعلي الشجرة، ومن قرأ بالياء حمله علي الطعام، لأنّ الطعام هو الشجرة في المعنى، ولا يحمل علي المهل بل علي المشبّه بالمهل، والكاف في محلّ الرفع خبر بعد خبر، وكذلك يغلي.

يقال للزبانية: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ فقودوه بعنف، وهو أن يؤخذ بتلابيب الرجل فيجرّ إلى قتل أو حبس، ومنه: العتل، و قرئ بكسر التاء وضمها.

إِلىٰ سَوٰاءِ اَلْجَحِيمِ إلى وسطها و معظمها، وسمّي وسط الشيء سواء لاستواء المسافة بينه وبين أطرافه المحيطة به. ويجوز أن يكون الصب علي طريق الاستعارة كقول الشاعر:

صبّت عليه صروف الدّهر من صبب(1)

وكقوله: أَفْرِغْ عَلَيْنٰا صَبْراً (2).

يقال: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْكَرِيمُ علي سبيل الهزء و التهكّم لمن كان يتعزّز و يتكرّم علي قومه. وروي أنّ أبا جهل قال لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: ما بين جبليها أعزّ ولا أكرم مني(3). وقرئ: أنّك بالفتح أي: لأنّك.

إِنَّ هٰذٰا العذاب، أو إنّ هذا الأمر هو مٰا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ أي:

تشكّون فيه، أو تتمارون و تتلاحون بسببه.

[سورة الدخان (44): الآیات 51 الی 54]

إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي مَقٰامٍ أَمِينٍ فِي جَنّٰاتٍ وَ عُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَ إِسْتَبْرَقٍ مُتَقٰابِلِينَ كَذٰلِكَ

ص: 159


1- ديوان البحتري: 30، وفيه: و المرء لو كانت الشعرى له وطنا حطت....
2- البقرة: 250
3- الكشف والبيان ج 8:356.

[سورة الدخان (44): الآیات 54 الی 59]

وَ زَوَّجْنٰاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ يَدْعُونَ فِيهٰا بِكُلِّ فٰاكِهَةٍ آمِنِينَ لاٰ يَذُوقُونَ فِيهَا اَلْمَوْتَ إِلاَّ اَلْمَوْتَةَ اَلْأُولىٰ وَ وَقٰاهُمْ عَذٰابَ اَلْجَحِيمِ فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذٰلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ فَإِنَّمٰا يَسَّرْنٰاهُ بِلِسٰانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ

قرئ مَقٰامٍ بالفتح وهو موضع القيام، و بالضم وهو موضع الإقامة، و الأمين في وصف المكان مستعار، لأنّ المكان المخيف كأنّما يخوف صاحبه مما يلقى فيه من المكاره.

قالوا: السندس: ما رقّ من الديباج، و الاستبرق: ما غلظ منه(1)، وهو معرب استبر، وإنّما ساغ وقوع اللفظ الأعجمي في القرآن، لأنّ معنى التعريب أن يجعل عربيا بالتصرف فيه و إجرائه علي وجوه الإعراب.

كَذٰلِكَ الكاف مرفوعة، أي: الأمر كذلك، أو منصوبة أي: مثل ذلك آتيناهم.

وَ زَوَّجْنٰاهُمْ وعن الأخفش: (هو التزويج المعروف)(2)، وعن غيره: لا يكون في الجنّة تزويج، والمعنى: وقرنّاهم بِحُورٍ (3).

يَدْعُونَ أي: يستدعون فيها أي ثمرة شاؤوه و اشتهوه آمِنِينَ من نفادها و مضرّتها، غير خائفين فوتها.

ص: 160


1- الكشف والبيان ج 8:356.
2- معاني القرآن للأخفش ج 2:516.
3- مجاز القرآن ج 2:209.

أي: لاٰ يَذُوقُونَ فِيهَا اَلْمَوْتَ ألبتة، فوضع قوله: إِلاَّ اَلْمَوْتَةَ اَلْأُولىٰ موضع ذلك، لأنّ الموتة الماضية لا يمكن ذوقها في المستقبل، وهو من باب التعليق بالمحال، فكأنّه قال: إن كانت الموتة الأولي يستقيم ذوقها في المستقبل فأنّهم يذوقونها.

فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ أي: تفضّلا منه وعطاء وثوابا. يعني: كل ما أعطى المتقين من نعيم الجنّة والنجاة من النار.

فَإِنَّمٰا يَسَّرْنٰاهُ معناه: ذكّرهم بالكتاب المبين فإنّما سهّلناه بِلِسٰانِكَ بلغتك، حيث أنزلناه عربيا ليسهل عليك وعلي قومك تفهّمه و التذكر به.

فَارْتَقِبْ فانتظر ما يحلّ بهم إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ ما يحلّ بك و متربّصون بكم الدوائر، وقيل: انتظر نصرك عليهم فإنّهم ينتظرون خلافه بزعمهم(1).

ص: 161


1- عن قتادة. تفسير الطبري ج 25:83.

سورة الجاثية

اشارة

مكية إلا آية نزلت بالمدينة: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا سبع وثلاثون آية كوفي، ست في غيرهم، حم كوفي.

في حديث أبيّ : (ومن قرأ (حم الجاثية) ستر اللّه عورته وسكّن روعته عند الحساب)(1)، وعن الصادق عليه السلام: (من قرأها كان ثوابها أن لا يري النار أبدا، وهو مع محمّد صلى الله عليه و آله و سلم)(2).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة الجاثية (45): الآیات 1 الی 6]

حم تَنْزِيلُ اَلْكِتٰابِ مِنَ اَللّٰهِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَكِيمِ إِنَّ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ لَآيٰاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ فِي خَلْقِكُمْ وَ مٰا يَبُثُّ مِنْ دٰابَّةٍ آيٰاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَ اِخْتِلاٰفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ وَ مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيٰا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا وَ تَصْرِيفِ اَلرِّيٰاحِ آيٰاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ تِلْكَ آيٰاتُ اَللّٰهِ نَتْلُوهٰا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اَللّٰهِ وَ آيٰاتِهِ يُؤْمِنُونَ

إِنَّ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ يجوز أن يكون علي ظاهره، وأن يكون بمعنى إنّ في خلق

ص: 162


1- الكشف والبيان ج 8:358.
2- ثواب الأعمال: 114.

السماوات لقوله: وَ فِي خَلْقِكُمْ .

وقرئ: آيٰاتٌ بالرفع و النصب في الموضعين: فأما الأوّل فعلي قولك: إنّ في الدار لزيدا وفي البيت عمرا، أو في البيت عمرو. وأما الثاني وهو قوله: آيٰاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فمن العطف على عاملين مختلفين سواء نصبت أو رفعت، فالعاملان إذا نصبت هما: (إنّ ) و (في)، وإذا رفعت فالعاملان: الابتداء و (في)، عمل الابتداء الرفع في آيٰاتٌ وعمل (في) الجر في اِخْتِلاٰفِ . والعطف علي عاملين سديد سائغ علي مذهب الأخفش(1)، فأما سيبويه فلا يجيزه، و مخرج الآية على مذهبه أن يقدّر (في) و يضمر، لأنّ ذكره قد تقدّم في الآيتين قبله كما قدّره سيبويه في قول الشاعر:

أكلّ امرئ تحسبين امرأ *** و نار تأجّج بالليل نارا(2)

وقال: إنّ (كل) في حكم الملفوظ واستغني عن إظهاره بتقدّم ذكره(3).

أو يحمل وَ اِخْتِلاٰفِ اَللَّيْلِ علي في المتقدّم ذكرها و يجعل آيٰاتٌ على التكرر لطول الكلام، كما قيل في (أن) الثانية في قوله تعالي: أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحٰادِدِ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نٰارَ جَهَنَّمَ (4)، أو ينتصب على الاختصاص بعد انقضاء المجرور معطوفا علي ما قبله، أو يرتفع بإضمار (هي)، فهذه ثلاثة أوجه.

تِلْكَ إشارة إلى الآيات المتقدّمة، أي: تلك الآيات آيٰاتُ اَللّٰهِ .

و نَتْلُوهٰا في محلّ الحال أي: متلوّة عليك بالحقّ ، والعامل في الحال معنى

ص: 163


1- المقتضب ج 4:195.
2- البيت لأبي دواد الايادي. الشعر و الشعراء ج 1:239.
3- الكتاب ج 1:66.
4- التوبة: 63.

الإشارة.

بَعْدَ اَللّٰهِ وَ آيٰاتِهِ أي: بعد آيات اللّه كما قالوا: أعجبني زيد وكرمه. والمراد:

أعجبني كرم زيد. ويجوز أن يراد: فبأي حديث بعد حديث اللّه وهو كتابه و قرآنه كقوله: اَللّٰهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ اَلْحَدِيثِ (1)، وآياته أي: أدلته الفاصلة بين الحقّ والباطل.

[سورة الجاثية (45): الآیات 7 الی 13]

وَيْلٌ لِكُلِّ أَفّٰاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيٰاتِ اَللّٰهِ تُتْلىٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهٰا فَبَشِّرْهُ بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ وَ إِذٰا عَلِمَ مِنْ آيٰاتِنٰا شَيْئاً اِتَّخَذَهٰا هُزُواً أُولٰئِكَ لَهُمْ عَذٰابٌ مُهِينٌ مِنْ وَرٰائِهِمْ جَهَنَّمُ وَ لاٰ يُغْنِي عَنْهُمْ مٰا كَسَبُوا شَيْئاً وَ لاٰ مَا اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللّٰهِ أَوْلِيٰاءَ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ هٰذٰا هُدىً وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآيٰاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذٰابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ اَللّٰهُ اَلَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ اَلْبَحْرَ لِتَجْرِيَ اَلْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَ سَخَّرَ لَكُمْ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ

الأفاك: الكثير الإفك، وهو الكذب.

يُصِرُّ يقبل علي كفره ويقيم عليه مُسْتَكْبِراً عن الإيمان بالآيات وعن الانقياد للحقّ .

كَأَنْ مخففة من الثقيلة أي: كأنّه لَمْ يَسْمَعْهٰا و الضمير ضمير الشأن و الحديث، والجملة في محلّ النصب على الحال، أي: يصرّ مثل غير السامع.

وَ إِذٰا بلغه شيء مِنْ آيٰاتِنٰا وعلم أنّه منها اِتَّخَذَهٰا أي: اتخذ الآيات هُزُواً ولم يقل: اتخذه، للإيذان بأنّه إذا أحس بشيء من الكلام أنّه من جملة

ص: 164


1- الزمر: 23.

الآيات التي أنزلها اللّه علي رسوله استهزأ بجميع الآيات، ولم يقتصر علي الاستهزاء بما بلغه.

أُولٰئِكَ إشارة إلى كل أَفّٰاكٍ أَثِيمٍ .

و الوراء: اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف أو قدام، والمعنى: من قدّامهم جهنم.

وَ لاٰ يُغْنِي عَنْهُمْ مٰا كَسَبُوا شَيْئاً وحصلوه من الأموال في متاجرهم وَ لاٰ مَا اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللّٰهِ من الأصنام.

هٰذٰا إشارة إلى القرآن.

هُدىً أي: دلالة موصلة إلي الحقّ كاملة في الهداية، كما تقول: زيد رجل، أي: كامل في الرجولية وأيّما رجل.

والرجز: أشدّ العذاب، و قرئ بجر أَلِيمٌ ورفعه.

ثمّ دلّ سبحانه علي توحيده فقال: اَللّٰهُ اَلَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ اَلْبَحْرَ لِتَجْرِيَ اَلْفُلْكُ أي:

السفن فِيهِ ، وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ بالتجارة أو بالغوص علي اللؤلؤ والمرجان، واستخراج اللحم الطري وغير ذلك من منافع البحر.

وقوله: مِنْهُ واقعة موقع الحال، والمعنى: سخّر لكم هذه الأشياء كائنة منه و حاصلة من عنده، و المعنى: إنّه مكوّنها وموجدها بقدرته و مسخرها لخلقه.

ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره: هي جميعا منه، وأن يكون وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ مبتدأ و مِنْهُ خبره.

[سورة الجاثية (45): الآیات 14 الی 15]

قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لاٰ يَرْجُونَ أَيّٰامَ اَللّٰهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ مَنْ عَمِلَ صٰالِحاً فَلِنَفْسِهِ

ص: 165

[سورة الجاثية (45): الآیات 15 الی 20]

وَ مَنْ أَسٰاءَ فَعَلَيْهٰا ثُمَّ إِلىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ وَ لَقَدْ آتَيْنٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ اَلْكِتٰابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ وَ رَزَقْنٰاهُمْ مِنَ اَلطَّيِّبٰاتِ وَ فَضَّلْنٰاهُمْ عَلَى اَلْعٰالَمِينَ وَ آتَيْنٰاهُمْ بَيِّنٰاتٍ مِنَ اَلْأَمْرِ فَمَا اِخْتَلَفُوا إِلاّٰ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَهُمُ اَلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ فِيمٰا كٰانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ثُمَّ جَعَلْنٰاكَ عَلىٰ شَرِيعَةٍ مِنَ اَلْأَمْرِ فَاتَّبِعْهٰا وَ لاٰ تَتَّبِعْ أَهْوٰاءَ اَلَّذِينَ لاٰ يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اَللّٰهِ شَيْئاً وَ إِنَّ اَلظّٰالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ وَ اَللّٰهُ وَلِيُّ اَلْمُتَّقِينَ هٰذٰا بَصٰائِرُ لِلنّٰاسِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ

أي: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا اغفروا يَغْفِرُوا فحذف المقول لدلالة جوابه عليه.

لِلَّذِينَ لاٰ يَرْجُونَ أَيّٰامَ اَللّٰهِ أي: لا يتوقعون وقائع اللّه بأعدائه، وهو من قولهم: أيّام العرب لوقائعهم، وقيل: لا يأملون الأوقات التي وقّتها اللّه لثواب المؤمنين ووعدهم الفوز فيها.

لِيَجْزِيَ قَوْماً تعليل الأمر بالمغفرة، أي: إنّما أمروا بأن يغفروا لما أراده اللّه من توفيتهم جزاء مغفرتهم في الآخرة، ونكّر قَوْماً والمراد به الذين آمنوا للثناء عليهم، كأنّه قال: ليجزي قوما أيّما قوم، أو قوما مخصوصين لصبرهم و إغضائهم علي أذي أعدائهم بما كانوا يكسبونه من الثواب العظيم باحتمال المكاره وكظم الغيظ. وقرئ: لنجزي بالنون، و قرئ: ليجزي قوما علي معنى: ليجزي الجزاء قوما.

وَ رَزَقْنٰاهُمْ مِنَ اَلطَّيِّبٰاتِ يريد ما أحلّه لهم وأطاب من الأرزاق.

ص: 166

وَ فَضَّلْنٰاهُمْ عَلَى اَلْعٰالَمِينَ في كثرة الأنبياء منهم.

وَ آتَيْنٰاهُمْ بَيِّنٰاتٍ آيات معجزات مِنَ اَلْأَمْرِ من أمر الدين.

فَمَا اِخْتَلَفُوا فيما وقع بينهم الخلاف في الدين إِلاّٰ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَهُمُ ما يوجب رفع الخلاف وهو اَلْعِلْمُ ، وإنّما اختلفوا لبغي حدث بينهم، أي:

لعداوة وحسد.

ثُمَّ جَعَلْنٰاكَ عَلىٰ شَرِيعَةٍ أي: طريقة ومنهاج مِنَ أمر الدين، و أصله:

الشريعة التي هي الطريق إلى الماء.

فَاتَّبِعْهٰا أي: فاتبع شريعتك الثابتة بالبراهين والمعجزات وَ لاٰ تَتَّبِعْ أَهْوٰاءَ الجهّال من قومك اَلَّذِينَ لاٰ يَعْلَمُونَ الحقّ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اَللّٰهِ شَيْئاً إن اتبعت أهواءهم.

هٰذٰا القرآن بَصٰائِرُ لِلنّٰاسِ [جعل سبحانه ما فيه من معالم الدين والشرائع بمنزلة البصائر في القلوب، كما جعله روحا وحياة وَ هُدىً وهو هدى للناس](1)وَ رَحْمَةٌ من اللّه.

[سورة الجاثية (45): الآیات 21 الی 23]

أَمْ حَسِبَ اَلَّذِينَ اِجْتَرَحُوا اَلسَّيِّئٰاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ سَوٰاءً مَحْيٰاهُمْ وَ مَمٰاتُهُمْ سٰاءَ مٰا يَحْكُمُونَ وَ خَلَقَ اَللّٰهُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ لِتُجْزىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمٰا كَسَبَتْ وَ هُمْ لاٰ يُظْلَمُونَ أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلٰهَهُ هَوٰاهُ وَ أَضَلَّهُ اَللّٰهُ عَلىٰ عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلىٰ سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلىٰ بَصَرِهِ غِشٰاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اَللّٰهِ أَ فَلاٰ

ص: 167


1- ساقطة من ب.

[سورة الجاثية (45): الآیات 23 الی 27]

تَذَكَّرُونَ وَ قٰالُوا مٰا هِيَ إِلاّٰ حَيٰاتُنَا اَلدُّنْيٰا نَمُوتُ وَ نَحْيٰا وَ مٰا يُهْلِكُنٰا إِلاَّ اَلدَّهْرُ وَ مٰا لَهُمْ بِذٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّٰ يَظُنُّونَ وَ إِذٰا تُتْلىٰ عَلَيْهِمْ آيٰاتُنٰا بَيِّنٰاتٍ مٰا كٰانَ حُجَّتَهُمْ إِلاّٰ أَنْ قٰالُوا اِئْتُوا بِآبٰائِنٰا إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ قُلِ اَللّٰهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلىٰ يَوْمِ اَلْقِيٰامَةِ لاٰ رَيْبَ فِيهِ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ وَ لِلّٰهِ مُلْكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسّٰاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ اَلْمُبْطِلُونَ

أَمْ منقطعة، ومعنى الهمزة فيها إنكار الحسبان، و الاجتراح: الاكتساب.

أَنْ نَجْعَلَهُمْ أن نصيّرهم، وهو من جعل الذي يتعدّى إلى مفعولين، فالأوّل الضمير والثاني الكاف.

والجملة التي هي سَوٰاءً مَحْيٰاهُمْ وَ مَمٰاتُهُمْ بدل من الكاف، لأنّ الجملة تقع مفعولا ثانيا، فكانت في حكم المفرد. ومن قرأ سَوٰاءً بالنصب جعل سواء مثل مستويا، ويكون مَحْيٰاهُمْ وَ مَمٰاتُهُمْ رفعا علي الفاعلية، والمعنى: إنكار أن يستوي المسيئون و المحسنون محيا وأن يستووا مماتا، لافتراق أحوالهم أحياء حيث عاشوا علي الحالتين المختلفتين: هؤلاء علي الطاعات وأولئك علي المعاصي، و أمواتا حيث مات هؤلاء علي البشري بالرحمة والوصول إلى رضوان اللّه وثوابه، وأولئك علي اليأس من رحمة اللّه والوصول إلي سخطه وعقابه.

وقيل: معناه: إنكار أن يستووا في الممات كما استووا في الحياة، لأنّ المسيئين والمحسنين مستو محياهم في الرزق والصحّة وإنّما يفترقون في الممات. وقيل:

سَوٰاءً مَحْيٰاهُمْ وَ مَمٰاتُهُمْ [كلام مستأنف علي معنى: أنّ محيا المسيئين ومماتهم

ص: 168

سواء، وكذلك محيا المحسنين ومماتهم](1)، كل يموت علي ما عاش عليه(2).

وَ لِتُجْزىٰ عطف على بِالْحَقِّ لأنّ فيه معنى التعليل، أو على معلل محذوف تقديره: وخلق اللّه السماوات والأرض ليدلّ بهما علي قدرته ولتجزى كُلُّ نَفْسٍ .

مَنِ اِتَّخَذَ إِلٰهَهُ هَوٰاهُ أي: اتخذ معبوده ما يهواه، فهو مطاوع له يتبع ما يدعوه إليه.

وَ أَضَلَّهُ اَللّٰهُ أي: تركه عن الهداية واللطف وخذله عَلىٰ عِلْمٍ أي: عالما بأنّ ذلك لا يجدي عليه وأنّه ممن لا لطف له، أو مع علمه بوجوه الهداية و إحاطته بأنواع الألطاف فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ إضلال اَللّٰهُ .

نَمُوتُ وَ نَحْيٰا أي: نموت نحن ويحيا أولادنا، أو يموت بعض منا ويحيا بعض، أو يصيبنا الأمران: الموت والحياة، يريدون: الحياة في الدنيا والموت بعدها، وليس وراء ذلك حياة.

وَ مٰا يُهْلِكُنٰا إِلاَّ اَلدَّهْرُ أي: وما يميتنا إلا الأيّام والليالي، وكانوا يضيفون كل حادثة تحدث إلي الدهر، ويجعلونه المؤثر في هلاك النفوس. ومنه قوله عليه السلام: (لا تسبّوا الدهر، فإنّ اللّه هو الدهر)(3). أي: فإنّه الفاعل للحوادث لا الدهر.

وسمّى ما ليس بحجّة من مقالتهم الباطلة حجّة، لأنّهم أدلوا به كما يدلى بالحجّة وساقوها مساقها، فسمّي حجّة على سبيل التهكّم، أو لأنّه في أسلوب قولهم:

ص: 169


1- ساقطة من ب.
2- عن مجاهد. التبيان ج 9:258.
3- المجازات النبوية: 235، صحيح مسلم ج 7:45.

تحيّة بينهم ضرب وجيع(1)

كأنّه قيل: ما كان حجّتهم إلا ما ليس بحجّة، والمراد نفي الحجّة.

وإنّما وقع قوله: قُلِ اَللّٰهُ يُحْيِيكُمْ جوابا لقولهم: اِئْتُوا بِآبٰائِنٰا لأنّهم لما أنكروا البعث ألزموا ما هم به مقرّون من أنّ اللّه هو الذي يحييهم ثمّ يميتهم، وضم إلى ذلك إلزام ما هو واجب الإقرار به إن أنصفوا وهو جمعهم إِلىٰ يَوْمِ اَلْقِيٰامَةِ ومن كان قادرا علي ذلك قدر علي الإتيان بآبائهم.

و عامل النصب في يَوْمَ تَقُومُ اَلسّٰاعَةُ : يَخْسَرُ ، و يَوْمَئِذٍ بدل من يَوْمَ تَقُومُ اَلسّٰاعَةُ .

[سورة الجاثية (45): الآیات 28 الی 37]

وَ تَرىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جٰاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعىٰ إِلىٰ كِتٰابِهَا اَلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هٰذٰا كِتٰابُنٰا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنّٰا كُنّٰا نَسْتَنْسِخُ مٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذٰلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْمُبِينُ وَ أَمَّا اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَ فَلَمْ تَكُنْ آيٰاتِي تُتْلىٰ عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَ كُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ وَ إِذٰا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اَللّٰهِ حَقٌّ وَ اَلسّٰاعَةُ لاٰ رَيْبَ فِيهٰا قُلْتُمْ مٰا نَدْرِي مَا اَلسّٰاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاّٰ ظَنًّا وَ مٰا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ وَ بَدٰا لَهُمْ سَيِّئٰاتُ مٰا عَمِلُوا وَ حٰاقَ بِهِمْ مٰا كٰانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وَ قِيلَ اَلْيَوْمَ نَنْسٰاكُمْ كَمٰا نَسِيتُمْ لِقٰاءَ يَوْمِكُمْ هٰذٰا وَ مَأْوٰاكُمُ اَلنّٰارُ وَ مٰا لَكُمْ مِنْ نٰاصِرِينَ ذٰلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اِتَّخَذْتُمْ آيٰاتِ اَللّٰهِ هُزُواً وَ غَرَّتْكُمُ اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا فَالْيَوْمَ لاٰ يُخْرَجُونَ مِنْهٰا وَ لاٰ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ فَلِلّٰهِ اَلْحَمْدُ رَبِّ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ رَبِّ اَلْأَرْضِ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ وَ لَهُ اَلْكِبْرِيٰاءُ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ

ص: 170


1- شعر عمرو بن معد يكرب: 37، وصدره: وخيل قد دلفت لها بخيل.

وَ تَرىٰ يوم القيامة أهل كل ملة باركة علي ركبها مستوفزة، وعن قتادة:

(جاثية: جماعات)(1)، من الجثوة وهي الجماعة وجمعها: جثي. وفي الحديث: (من جثي جهنم)(2).

كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعىٰ إِلىٰ كِتٰابِهَا أي: إلى كتب أعمالها التي كانت تستنسخ لها، فاكتفى باسم الجنس كما في قوله: وَ وُضِعَ اَلْكِتٰابُ (3)، وقيل: إلى كتابها المنزل علي رسولها ليسألوا عما عملوا به(4)، والأوّل أصحّ .

اَلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ محمول علي القول.

هٰذٰا كِتٰابُنٰا إنّما أضيف إليهم و إلى اللّه عزّ وجل، لأنّ الإضافة تكون للملابسة، وقد لابسهم لأنّ أعمالهم مثبتة فيه، و لابسه سبحانه لأنه الامر ملائكته أن يكتبوا فيه أعمال العباد.

يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ يشهد عليكم بما عملتم بِالْحَقِّ بلا زيادة و نقصان.

إِنّٰا كُنّٰا نَسْتَنْسِخُ الملائكة، أي: نستكبتهم أعمالكم.

فِي رَحْمَتِهِ أي: في جنّته وثوابه. وقرأ الباقر عليه السلام: ينطق عليكم علي البناء للمفعول.

وَ أَمَّا اَلَّذِينَ كَفَرُوا جوابه محذوف، والتقدير: فيقال لهم: أَ فَلَمْ تَكُنْ آيٰاتِي تُتْلىٰ عَلَيْكُمْ والمعنى: ألم يأتكم رسلي فلم تكن آياتي تتلي عليكم ؟ فحذف المعطوف عليه.

ص: 171


1- الكشاف ج 4:292.
2- مصنف عبد الرزاق ج 11:341، نوادر الراوندي: 140.
3- الزمر: 69.
4- عن الجاحظ. تفسير الماوردي ج 5:268.

فَاسْتَكْبَرْتُمْ فتعظمتم عن قبولها وَ كُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ أي: كافرين، كما قال: أَ فَنَجْعَلُ اَلْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (1).

و قرئ: وَ اَلسّٰاعَةُ با لرفع والنصب، فالرفع محمول على موضع (إنّ ) وما عملت فيه، والنصب علي لفظ (إنّ )، و لاٰ رَيْبَ فِيهٰا في موضع رفع.

مَا اَلسّٰاعَةُ أي: وأي شيء الساعة.

إِنْ نَظُنُّ إِلاّٰ ظَنًّا والأصل: نظن ظنا. ومعناه: إثبات الظن، فأدخل حرف النفي وحرف الاستثناء ليفيد إثبات الظن مع نفي ما سواه، وزاد نفي ما سوي الظن تأكيدا قوله: وَ مٰا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ .

وَ بَدٰا لَهُمْ أي: ظهر لهم سَيِّئٰاتُ مٰا عَمِلُوا أي: قبائح أعمالهم، أو عقوبات سيئاتهم كقوله: وَ جَزٰاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهٰا (2).

اَلْيَوْمَ نَنْسٰاكُمْ أي: نترككم في العذاب كما تركتم عدة لِقٰاءَ يَوْمِكُمْ هٰذٰا وهي الطاعة، أو نجعلكم بمنزلة الشيء المنسي الذي لا يبالي به كما لم تبالوا بلقاء يومكم هذا، و إضافة اللقاء إلى اليوم كإضافة المكر في قوله: بَلْ مَكْرُ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ (3) أي: نسيتم لقاء اللّه ولقاء جزائه في يومكم هذا.

ذٰلِكُمْ المفعول بكم بِأَنَّكُمُ اِتَّخَذْتُمْ بسبب استهزائكم بايات اللّه و اغتراركم بالدنيا وَ لاٰ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ولا يطلب منهم أن يعتبوا ربّهم أي:

يرضوه.

فَلِلّٰهِ اَلْحَمْدُ فاحمدوا اللّه الذي هو ربّكم و ربّ كل شيء من السماوات

ص: 172


1- القلم: 35.
2- الشورى: 40.
3- سبأ: 33.

والأرض و العالمين و كبروه، فقد ظهرت آثار كبريائه في الجميع، فإنّ مثل هذه الربوبية الشاملة العامة توجب الثناء والحمد والتكبير والتعظيم على المربوبين.

ص: 173

سورة الأحقاف

اشارة

مكية غير آيات، وهي خمس وثلاثون آية كوفي، أربع في الباقين، حم كوفي.

وفي حديث أبيّ : (من قرأ (سورة الأحقاف) أعطي من الأجر بعدد كل رمل في الدنيا عشر حسنات ورفع له عشر درجات)(1)، وعن الصادق عليه السلام: (من قرأها كل ليلة أو كل جمعة لم يصبه اللّه بروعة في الحياة الدنيا، وآمنه من فزع يوم القيامة)(2).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة الأحقاف (46): الآیات 1 الی 5]

حم تَنْزِيلُ اَلْكِتٰابِ مِنَ اَللّٰهِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَكِيمِ مٰا خَلَقْنَا اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا إِلاّٰ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عَمّٰا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ قُلْ أَ رَأَيْتُمْ مٰا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ أَرُونِي مٰا ذٰا خَلَقُوا مِنَ اَلْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ اِئْتُونِي بِكِتٰابٍ مِنْ قَبْلِ هٰذٰا أَوْ أَثٰارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مَنْ لاٰ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلىٰ يَوْمِ اَلْقِيٰامَةِ وَ هُمْ عَنْ

ص: 174


1- الكشف والبيان ج 9:5.
2- ثواب الأعمال: 114.

[سورة الأحقاف (46): الآیات 5 الی 8]

دُعٰائِهِمْ غٰافِلُونَ وَ إِذٰا حُشِرَ اَلنّٰاسُ كٰانُوا لَهُمْ أَعْدٰاءً وَ كٰانُوا بِعِبٰادَتِهِمْ كٰافِرِينَ وَ إِذٰا تُتْلىٰ عَلَيْهِمْ آيٰاتُنٰا بَيِّنٰاتٍ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمّٰا جٰاءَهُمْ هٰذٰا سِحْرٌ مُبِينٌ أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرٰاهُ قُلْ إِنِ اِفْتَرَيْتُهُ فَلاٰ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اَللّٰهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمٰا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفىٰ بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ

إِلاّٰ بِالْحَقِّ أي: إلا خلقا ملتبسا بالحقّ والحكمة و الغرض الصحيح، ولم نخلقهما عبثا ولا باطلا.

وَ أَجَلٍ مُسَمًّى وبتقدير أجل مسمّى ينتهي إليه وهو يوم القيامة.

وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عَمّٰا أُنْذِرُوا من يوم القيامة والجزاء مُعْرِضُونَ لا يؤمنون به ولا يستعدون له، ولابد من انتهائهم وانتهاء كل خلق إليه. و يجوز أن تكون (ما) مصدرية أي: عن الإنذار.

قُلْ لهم أَ رَأَيْتُمْ ما تعبدونهم من الأصنام و تدعونهم مع اللّه آلهة أَرُونِي مٰا ذٰا خَلَقُوا مِنَ اَلْأَرْضِ حتى استحقّوا به العبادة وتوجيه القرب إليهم، بل لَهُمْ شِرْكٌ فِي خلق اَلسَّمٰاوٰاتِ فإنّهم لا يقدرون علي ادعاء ذلك.

اِئْتُونِي بِكِتٰابٍ أنزله اللّه يدلّ علي صحّة قولكم في عبادتكم غيره.

أَوْ أَثٰارَةٍ مِنْ عِلْمٍ أو بقية من علم تؤثر من كتب الأوّلين، وفي الشواذ عن عليّ عليه السلام: أو أثرة بسكون الثاء، وعن ابن عباس: أثرة بفتحتين، فالأثرة: المرّة من مصدر أثر الحديث إذا رواه، والأثرة بمعنى الأثارة أيضا، أي: خاصة من علم أوثرتم به وخصصتم لا إحاطة به لغيركم.

وَ مَنْ أَضَلُّ معنى الاستفهام فيه إنكار أن يكون في الضلال كلهم أبلغ

ص: 175

ضلالا من عبدة الأصنام حيث يدعون جمادا لاٰ يَسْتَجِيبُ لهم ولا يقدر علي استجابة أحد ما دامت الدنيا وإلى أن تقوم الساعة، ويتركون دعاء القادر علي كل شيء السميع المجيب.

وَ إِذٰا حُشِرَ اَلنّٰاسُ كٰانُوا عليهم ضدا و لَهُمْ أَعْدٰاءً فليسوا في الدارين إلا علي نكد ومضرّة منهم.

بَيِّنٰاتٍ جمع بيّنة، وهي الحجّة والشاهد، أو واضحات مبيّنات، واللام في لِلْحَقِّ مثلها في قوله: [لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كٰانَ خَيْراً (1) أي: لأجل الحقّ ولأجل الذين آمنوا. والمراد بالحقّ : الآيات](2)، وبالذين كفروا: المتلو عليهم، فوضع الظاهران موضع الضميرين للتسجيل عليهم بالكفر وللمتلو بالحقّ .

لَمّٰا جٰاءَهُمْ أي: بادهوه بالجحود ساعة أتاهم وأوّل ما سمعوه من غير فكر ونظر وسمّوه سحرا مبينا ظاهرا لظلمهم وعنادهم.

أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرٰاهُ إعراض و إضراب عن ذكر تسميتهم الآيات سحرا إلى قولهم: إنّ محمّدا افتراه، كأنّه قيل: دع هذا واسمع قولهم المنكر العجيب، وذلك أنّ محمّدا كان لا يقدر عليه حتى يقوله ويفتريه علي اللّه، ولو اختص بالقدرة عليه من بين سائر العرب الفصحاء لكانت قدرته عليه معجزة خارقة للعادة، وإذا كانت معجزة كانت تصديقا من اللّه له، والحكيم لا يصدّق الكاذب فلا يكون مفتريا.

والضمير في اِفْتَرٰاهُ ل - (الحق) والمراد به الآيات.

قُلْ إِنِ اِفْتَرَيْتُهُ علي سبيل الفرض عاجلني اللّه لا محالة بعقوبة الافتراء عليه فَلاٰ تَمْلِكُونَ دفع شيء من عقابه عني، فكيف أتعرض لعقابه ؟! يقال:

ص: 176


1- الأحقاف: 11.
2- ساقطة من ج.

فلان لا يملك إذا غضب، ومثله: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اَللّٰهِ شَيْئاً إِنْ أَرٰادَ أَنْ يُهْلِكَ اَلْمَسِيحَ اِبْنَ مَرْيَمَ (1)، ثمّ قال: هُوَ أَعْلَمُ بِمٰا تُفِيضُونَ فِيهِ أي: تندفعون فيه من القدح في وحي اللّه والطعن في آياته.

كَفىٰ بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ يشهد لي بالصدق والبلاغ ويشهد عليكم بالكذب والجحود، ومعنى ذكر العلم والشهادة وعيد بمجازاتهم.

وَ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ وعد بالرحمة والمغفرة إن رجعوا عن الكفر وتابوا وآمنوا، وإشعار بحلم اللّه فيهم مع عظم ما ارتكبوه.

[سورة الأحقاف (46): الآیات 9 الی 15]

قُلْ مٰا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ اَلرُّسُلِ وَ مٰا أَدْرِي مٰا يُفْعَلُ بِي وَ لاٰ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّٰ مٰا يُوحىٰ إِلَيَّ وَ مٰا أَنَا إِلاّٰ نَذِيرٌ مُبِينٌ قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كٰانَ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ وَ كَفَرْتُمْ بِهِ وَ شَهِدَ شٰاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرٰائِيلَ عَلىٰ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَ اِسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّٰالِمِينَ وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كٰانَ خَيْراً مٰا سَبَقُونٰا إِلَيْهِ وَ إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هٰذٰا إِفْكٌ قَدِيمٌ وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتٰابُ مُوسىٰ إِمٰاماً وَ رَحْمَةً وَ هٰذٰا كِتٰابٌ مُصَدِّقٌ لِسٰاناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا وَ بُشْرىٰ لِلْمُحْسِنِينَ إِنَّ اَلَّذِينَ قٰالُوا رَبُّنَا اَللّٰهُ ثُمَّ اِسْتَقٰامُوا فَلاٰ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاٰ هُمْ يَحْزَنُونَ أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلْجَنَّةِ خٰالِدِينَ فِيهٰا جَزٰاءً بِمٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسٰانَ بِوٰالِدَيْهِ إِحْسٰاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصٰالُهُ ثَلاٰثُونَ شَهْراً حَتّٰى إِذٰا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قٰالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ

ص: 177


1- المائدة: 17.

[سورة الأحقاف (46): الآیات 15 الی 16]

نِعْمَتَكَ اَلَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلىٰ وٰالِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صٰالِحاً تَرْضٰاهُ وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَ إِنِّي مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مٰا عَمِلُوا وَ نَتَجٰاوَزُ عَنْ سَيِّئٰاتِهِمْ فِي أَصْحٰابِ اَلْجَنَّةِ وَعْدَ اَلصِّدْقِ اَلَّذِي كٰانُوا يُوعَدُونَ

البدع: البديع، وهو مثل الخف بمعنى الخفيف، أي: مٰا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ اَلرُّسُلِ فآتيكم بكل ما تقترحونه من الآيات، و أخبركم بكل ما تسألونه عنه من المغيبات التي لم يوح بها إليّ ، فإنّ الرسل ما كانوا يأتون من الآيات إلا بما آتاهم اللّه، ولا كانوا يخبرون من الغيوب إلا بما أوحاه إليهم.

وَ مٰا أَدْرِي ما يفعله اللّه بِي وَ لاٰ بِكُمْ فيما يستقبل من الزمان، وما يقدّره لي ولكم من أفعاله وقضاياه. وقيل: وما أدري ما يصير إليه أمري وأمركم في الدنيا، ومن الغالب منا والمغلوب(1)، ووجه الكلام: ما يفعل بي وبكم، لأنّه مثبت غير منفي، ولكن النفي في ما أدري لما كان مشتملا عليه لتناوله (ما) وما في حيّزه صحّ ذلك وحسن. و مٰا في مٰا يُفْعَلُ يجوز أن تكون موصولة منصوبة، وأن تكون استفهامية مرفوعة.

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كٰانَ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ جواب الشرط محذوف، والتقدير: إن كان القران من عند اللّه وَ كَفَرْتُمْ بِهِ ألستم ظالمين ؟! ويدلّ علي هذا المحذوف قوله:

إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّٰالِمِينَ .

و الشاهد من بني إسرائيل عبد اللّه بن سلام، لما قدم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المدينة نظر إلى وجهه وتأمله، وسأله عن مسائل ثلاث لا يعلمهن إلا نبيّ ، وتحقّق أنّه النبيّ

ص: 178


1- عن الحسن. تفسير الطبري ج 26:6.

المنتظر فقال: أشهد أنّك رسول اللّه حقّا، ثمّ قال: يا رسول اللّه، إنّ اليهود قوم بهت، وإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك، فجاءت اليهود فقال لهم النبيّ عليه السلام: (أيّ رجل عبد اللّه فيكم ؟)، فقالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيّدنا وابن سيّدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، قال: أرأيتم إن أسلم عبد الله ؟ قالوا: أعاذه اللّه من ذلك، فخرج إليهم عبد اللّه فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنّ محمّدا رسول اللّه، فقالوا: شرّنا وابن شرّنا، قال: هذا ما كنت أخاف يا رسول اللّه(1). قال سعد ابن أبي وقاص: (ما سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول لأحد يمشي علي وجه الأرض:

إنّه من أهل الجنّة إلا لعبد اللّه بن سلام، وفيه نزل وَ شَهِدَ شٰاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرٰائِيلَ عَلىٰ مِثْلِهِ )(2). والضمير للقرآن، أي: علي مثله في المعنى، وهو ما في التوراة من المعاني المطابقة لمعاني القرآن، ويدلّ عليه قوله: وَ إِنَّهُ لَفِي زُبُرِ اَلْأَوَّلِينَ (3)، إِنَّ هٰذٰا لَفِي اَلصُّحُفِ اَلْأُولىٰ (4).

ويجوز أن يكون المعنى: وشهد شاهد على نحو ذلك، يعني: على كونه من عند اللّه. ونظم هذا الكلام أنّ الواو الأولي عاطفة ل - كَفَرْتُمْ علي فعل الشرط، وكذلك الواو الأخيرة عاطفة ل - اِسْتَكْبَرْتُمْ علي شَهِدَ ، فأما الواو في وَ شَهِدَ فقد عطفت جملة قوله: وَ شَهِدَ شٰاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرٰائِيلَ عَلىٰ مِثْلِهِ فَآمَنَ وَ اِسْتَكْبَرْتُمْ علي جملة قوله: كٰانَ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ وَ كَفَرْتُمْ بِهِ . والمعنى: قل أخبروني إن اجتمع كون القرآن من عند اللّه مع كفركم به، واجتمع شهادة أعلم بني إسرائيل علي نزول مثله فإيمانه به مع استكباركم عنه وعن الإيمان به، ألستم أضل الناس

ص: 179


1- الكشف والبيان ج 9:9.
2- الكشف والبيان ج 9:9.
3- الشعراء: 196.
4- الأعلى: 18.

و أظلمهم ؟ وجعل الإيمان في قوله: فَآمَنَ مسببا عن الشهادة علي مثله، لأنّه لما علم أنّ مثله أنزل علي موسى عليه السلام، و أنّه وحي وليس من كلام البشر فشهد عليه و اعترف، كان إيمانه نتيجة ذلك.

وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أي: لأجلهم قالوا: عامة أتباع محمّد سقاط، فلو كٰانَ ما جاء به خَيْراً لما سبقنا إِلَيْهِ هؤلاء، وقيل: لما أسلمت جهينة ومزينة وأسلم وغفار، قالت بنو عامر بن صعصعة وغطفان وأسد وأشجع:

لو كان دين محمّد خيرا ما سبقنا إليه رعاء البهم(1). والعامل في إِذْ محذوف لدلالة الكلام عليه، والتقدير: وإذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم فَسَيَقُولُونَ هٰذٰا إِفْكٌ قَدِيمٌ و هو قولهم: أَسٰاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ (2).

كِتٰابُ مُوسىٰ مبتدأ، وَ مِنْ قَبْلِهِ خبر مقدّم، و إِمٰاماً حال من الظرف كقولك: في الدار زيد قائما، أي: مؤتما به قدوة في دين اللّه وَ رَحْمَةً لمن امن به وَ هٰذٰا القرآن كِتٰابٌ مُصَدِّقٌ لكتاب موسى، أو لما تقدّمه من الكتب.

و لِسٰاناً عَرَبِيًّا حال من ضمير الكتاب في مُصَدِّقٌ فالعامل فيه مُصَدِّقٌ ، أو حال من كِتٰابُ لتخصصه بالصفة و يعمل فيه معنى الإشارة.

و قرئ لِيُنْذِرَ بالتاء والياء، و بُشْرىٰ في محلّ النصب عطفا علي محلّ لِيُنْذِرَ لأنّه مفعول له.

وقرئ: حسنا و إِحْسٰاناً ، و كُرْهاً بضم الكاف وفتحها وهما لغتان، وانتصب علي الحال أي: ذات كره، أو علي أنّه صفة للمصدر أي: حملا ذا كره.

ص: 180


1- عن الكلبي. معالم التنزيل ج 4:60.
2- الأنعام: 25.

وَ حَمْلُهُ وَ فِصٰالُهُ ثَلاٰثُونَ شَهْراً أي: مدة حمله وفصاله ثلاثون شهرا، وقرئ:

وفصله، والفصل والفصال في معنى الفطم والفطام، والمراد: بيان مدة الرضاع لا الفطام. ولكنّه عبّر عنه بالفصال لما كان الرضاع يليه الفصال وينتهي به، وفيه فائدة وهي: الدلالة علي الرضاع التام المنتهي بالفصال ووقته.

وبلوغ الأشدّ: أن يكتهل ويستوفي السن التي يستحكم فيها قوته وعقله وتمييزه، وذلك إذا أناف علي الثلاثين وناهز الأربعين، وعن ابن عباس وقتادة:

(ثلاث وثلاثون سنة)(1)، ووجهه أن يكون ذلك أوّل الأشدّ وغايته الأربعين، وذلك وقت إنزال الوحي علي الأنبياء.

رَبِّ أَوْزِعْنِي أي: ألهمني، والمراد بالنعمة التي استوزع الشكر عليها:

نعمة الدين.

وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي سأله سبحانه أن يجعل ذريته مظنة للصلاح، كأنّه قال: هب لي الصلاح في ذريتي، وأوقعه فيهم.

وَ إِنِّي مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ المنقادين لأمرك.

و قرئ (يتقبل) و (يتجاوز) و (أحسن) بالرفع، و نَتَقَبَّلُ نَتَجٰاوَزُ بالنون و أَحْسَنَ بالنصب، و فِي أَصْحٰابِ اَلْجَنَّةِ من نحو قولك: أكرمني الأمير في ناس من أصحابه، تريد: أكرمني في جملة من أكرم منهم ونظمني في عدادهم، وهو في محلّ النصب على الحال علي معنى: كائنين في أصحاب الجنّة، معدودين فيهم.

وَعْدَ اَلصِّدْقِ مصدر مؤكد لأنّ قوله: نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ وعد من اللّه لهم

ص: 181


1- تفسير الطبري ج 26:11.

بتقبل أعمالهم، و بالتجاوز عن سيئاتهم.

[سورة الأحقاف (46): الآیات 17 الی 20]

وَ اَلَّذِي قٰالَ لِوٰالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمٰا أَ تَعِدٰانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَ قَدْ خَلَتِ اَلْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَ هُمٰا يَسْتَغِيثٰانِ اَللّٰهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اَللّٰهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مٰا هٰذٰا إِلاّٰ أَسٰاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ إِنَّهُمْ كٰانُوا خٰاسِرِينَ وَ لِكُلٍّ دَرَجٰاتٌ مِمّٰا عَمِلُوا وَ لِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمٰالَهُمْ وَ هُمْ لاٰ يُظْلَمُونَ وَ يَوْمَ يُعْرَضُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى اَلنّٰارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبٰاتِكُمْ فِي حَيٰاتِكُمُ اَلدُّنْيٰا وَ اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهٰا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذٰابَ اَلْهُونِ بِمٰا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ بِمٰا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ

اَلَّذِي قٰالَ مبتدأ و خبره: أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ والمراد ب - اَلَّذِي قٰالَ : الجنس القائل ذلك القول، ولذلك جاء الخبر بلفظ الجمع.

و أُفٍّ كلمة تضجّر، واللام للبيان، معناه: هذا التأفيف لَكُمٰا و لأجلكما خاصة دون غيركما.

أَ تَعِدٰانِنِي أَنْ أُخْرَجَ أي: أبعث و أخرج من الأرض.

وَ هُمٰا يَسْتَغِيثٰانِ اَللّٰهَ يقولان: الغياث باللّه منك ومن قولك وَيْلَكَ دعاء عليه بالثبور، والمراد به التحريض علي الإيمان لا حقيقة الهلاك.

إِنَّ وَعْدَ اَللّٰهِ با لبعث والجزاء حَقٌّ .

فَيَقُولُ في جوابهما: مٰا هٰذٰا القرآن أو الذي تدعونني إليه إِلاّٰ أَسٰاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ ما سطروها وليس لها حقيقة.

ص: 182

فِي أُمَمٍ مثل قوله: فِي أَصْحٰابِ اَلْجَنَّةِ (1).

وَ لِكُلٍّ من الجنسين المذكورين دَرَجٰاتٌ علي مراتبهم ومقادير أعمالهم [من الخير والشرّ، أو من أجل أعمالهم الحسنة والقبيحة، وإنّما قال: درجات - وقد جاء: الجنّة درجات والنار دركات - علي وجه التغيب، لاشتمال كل علي الفريقين.

وَ لِيُوَفِّيَهُمْ تعليل معلله محذوف لدلالة الكلام عليه، كأنّه قال: وليوفيهم أعمالهم ولا يظلمهم حقوقهم، قدر جزاءهم علي مقادير أعمالهم](2)، فجعل الثواب درجات والعقاب دركات.

وَ يَوْمَ يُعْرَضُ انتصب بالقول المضمر قبل أَذْهَبْتُمْ ، و عرضهم علي النار:

تعذيبهم بها، كما يقال: عرض بنو فلان علي السيف إذا قتلوا به. ومنه قوله: اَلنّٰارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهٰا (3)، أو يكون المعنى: عرضت النار عليهم، كما يقال: عرضت الناقة علي الحوض، وإنّما يعرض الحوض عليها، وهو من القلب. ويدلّ عليه تفسير ابن عباس: يجاء بهم و بها فيكشف لهم عنها(4).

أَذْهَبْتُمْ طَيِّبٰاتِكُمْ أي: ما كتب لكم حظ [من الطيبات](5) إلا ما قد أصبتموه في دنياكم وقد ذهبتم به و أخذتموه فلم يبق لكم بعد استيفاء حظكم شيء منها. وقيل: معناه: أنفقتم طيبات ما رزقتم في شهواتكم وفي ملاذ الدنيا ولم تنفقوها في مرضاة اللّه عزّ اسمه. وروي: أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم دخل علي أهل الصفة وهم

ص: 183


1- الأحقاف: 16.
2- ساقطة من ب.
3- غافر: 46.
4- الكشاف ج 4:305.
5- ساقطة من ب.

يرقّعون ثيابهم بالأدم وما يجدون لها رقاعا، فقال: (أنتم اليوم خير أم يوم يغدو أحدكم في حلّة ويروح في أخرى، ويغدى عليه بجفنة ويراح عليه بأخرى، ويستر بيته كما تستر الكعبة ؟ قالوا: نحن يومئذ خير، قال: بل أنتم اليوم خير)(1). وقرئ:

أأذهبتم بهمزة الاستفهام، و آاذهبتم بألف بين همزتين.

[سورة الأحقاف (46): الآیات 21 الی 28]

وَ اُذْكُرْ أَخٰا عٰادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقٰافِ وَ قَدْ خَلَتِ اَلنُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ أَلاّٰ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللّٰهَ إِنِّي أَخٰافُ عَلَيْكُمْ عَذٰابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قٰالُوا أَ جِئْتَنٰا لِتَأْفِكَنٰا عَنْ آلِهَتِنٰا فَأْتِنٰا بِمٰا تَعِدُنٰا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّٰادِقِينَ قٰالَ إِنَّمَا اَلْعِلْمُ عِنْدَ اَللّٰهِ وَ أُبَلِّغُكُمْ مٰا أُرْسِلْتُ بِهِ وَ لٰكِنِّي أَرٰاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ فَلَمّٰا رَأَوْهُ عٰارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قٰالُوا هٰذٰا عٰارِضٌ مُمْطِرُنٰا بَلْ هُوَ مَا اِسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهٰا عَذٰابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْ ءٍ بِأَمْرِ رَبِّهٰا فَأَصْبَحُوا لاٰ يُرىٰ إِلاّٰ مَسٰاكِنُهُمْ كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْقَوْمَ اَلْمُجْرِمِينَ وَ لَقَدْ مَكَّنّٰاهُمْ فِيمٰا إِنْ مَكَّنّٰاكُمْ فِيهِ وَ جَعَلْنٰا لَهُمْ سَمْعاً وَ أَبْصٰاراً وَ أَفْئِدَةً فَمٰا أَغْنىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَ لاٰ أَبْصٰارُهُمْ وَ لاٰ أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ إِذْ كٰانُوا يَجْحَدُونَ بِآيٰاتِ اَللّٰهِ وَ حٰاقَ بِهِمْ مٰا كٰانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وَ لَقَدْ أَهْلَكْنٰا مٰا حَوْلَكُمْ مِنَ اَلْقُرىٰ وَ صَرَّفْنَا اَلْآيٰاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَلَوْ لاٰ نَصَرَهُمُ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللّٰهِ قُرْبٰاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَ ذٰلِكَ إِفْكُهُمْ وَ مٰا كٰانُوا يَفْتَرُونَ

أَخٰا عٰادٍ هود عليه السلام.

الأحقاف: جمع حقف وهو الرمل المستطيل المرتفع فيه انحناء، من احقوقف

ص: 184


1- تفسير الطبري ج 26:14.

الشيء إذا اعوج. وكانت عاد بين رمال مشرفة علي البحر بالشحر من بلاد اليمن، وقيل: بين عمان ومهرة(1).

و اَلنُّذُرُ جمع نذير بمعنى المنذر أو الإنذار.

مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ من قبل هود ومن بعده، أي: قال لهم: أَلاّٰ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللّٰهَ إِنِّي أَخٰافُ عَلَيْكُمْ العذاب، وقوله: وَ قَدْ خَلَتِ اَلنُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ اعتراض.

قٰالُوا أَ جِئْتَنٰا لِتَأْفِكَنٰا لتصرفنا عَنْ عبادة آلِهَتِنٰا فَأْتِنٰا بِمٰا تَعِدُنٰا من العذاب.

قٰالَ إِنَّمَا اَلْعِلْمُ عِنْدَ اَللّٰهِ معناه: إنّي لا أعلم الوقت الذي فيه يكون تعذيبكم حكمة وصوابا، إنّما علم ذلك عند اللّه، فكيف أدعوه بأن يأتيكم بعذابه في هذا الوقت ؟! وَ أُبَلِّغُكُمْ أي: وأنا أبلغكم مٰا أُرْسِلْتُ بِهِ وأمرت بتبليغه إليكم وَ لٰكِنِّي أَرٰاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ حيث لا تجيبون إلى ما فيه صلاحكم و نجاتكم، وتستعجلون العذاب الذي فيه هلاككم.

فَلَمّٰا رَأَوْهُ الضمير يعود إلي بِمٰا تَعِدُنٰا ، أو هو ضمير مبهم قد وضح بقوله: عٰارِضاً إما تمييزا وإما حالا، والعارض: السحاب الذي يعرض في أفق من آفاق السماء، ومثله: العنان من: عنّ إذا عرض، والحبي من: حبا، وءاضافة مُسْتَقْبِلَ و (ممطر) غير حقيقية لكونهما نكرتين وإن أضيفا إلي المعرفتين، ألا ترى أنّ كليهما وصف للنكرة، وفي تقدير الانفصال كأنّه قال: عارضا مستقبلا أوديتهم وهذا عارض ممطر إيّانا.

ص: 185


1- عن ابن عباس. تفسير الطبري ج 26:15.

بَلْ هُوَ أي: قال هود: ليس هو كما توهمتم بَلْ هُوَ مَا اِسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ هي رِيحٌ فِيهٰا عَذٰابٌ مؤلم.

تُدَمِّرُ أي: تهلك كُلَّ شَيْ ءٍ من نفوس عاد و أموالهم و دوابهم الكثيرة، فعبّر عن الكثرة بالكلية فأصبحوا لا تري أيّها الرائي إلا مساكنهم، و قرئ:

لاٰ يُرىٰ علي البناء للمفعول إِلاّٰ مَسٰاكِنُهُمْ بالرفع.

فِيمٰا إِنْ مَكَّنّٰاكُمْ فِيهِ : إِنْ نافية أي: فيما ما مكّناكم فيه من قوة الأجسام وطول العمر وكثرة المال، إلا أنّ إِنْ أحسن في اللفظ لما في تكرير (ما) من البشاعة، ألا تري أنّهم قلبوا الألف من (ما) هاء في (مهما) و أصله (ماما) لبشاعة التكرير.

مِنْ شَيْ ءٍ من الإغناء، وهو القليل منه، وانتصب إِذْ كٰانُوا بقوله: فَمٰا أَغْنىٰ وجري مجري التعليل، ألا تري أنّ قولك: ضربته لإساءته، وضربته إذ أساء يستويان في المعنى، لأنّك إذا ضربته في وقت إساءته فإنّما ضربت فيه لوجود إساءته وَ لَقَدْ أَهْلَكْنٰا مٰا حَوْلَكُمْ يا أهل مكة مِنَ اَلْقُرىٰ نحو حجر ثمود وقرية سدوم وغيرهما، والمراد: أهل القرى، ولذلك قال: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ .

فَلَوْ لاٰ أي: فهلا نصر هؤلاء المهلكين الذين اتخذوهم شفعاء متقرّبا بهم إلي اللّه حيث قالوا: هٰؤُلاٰءِ شُفَعٰاؤُنٰا عِنْدَ اَللّٰهِ (1). وأحد مفعولي (اتخذ) المحذوف الراجع إلى اَلَّذِينَ و الثاني: آلِهَةً ، و قُرْبٰاناً حال، والمعنى: فهلا منعهم من الهلاك آلهتهم.

ص: 186


1- يونس: 18.

بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ أي: غابوا عن نصرتهم و ذٰلِكَ إشارة إلى امتناع نصرة آلهتهم لهم و ضلالهم، أي: وذلك أثر إِفْكُهُمْ الذي هو اتخاذهم إيّاها آلهة، وثمرة شركهم و افترائهم علي اللّه الكذب من كونه ذا شركاء.

[سورة الأحقاف (46): الآیات 29 الی 35]

وَ إِذْ صَرَفْنٰا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ اَلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ اَلْقُرْآنَ فَلَمّٰا حَضَرُوهُ قٰالُوا أَنْصِتُوا فَلَمّٰا قُضِيَ وَلَّوْا إِلىٰ قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قٰالُوا يٰا قَوْمَنٰا إِنّٰا سَمِعْنٰا كِتٰاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسىٰ مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ وَ إِلىٰ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يٰا قَوْمَنٰا أَجِيبُوا دٰاعِيَ اَللّٰهِ وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُجِرْكُمْ مِنْ عَذٰابٍ أَلِيمٍ وَ مَنْ لاٰ يُجِبْ دٰاعِيَ اَللّٰهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيٰاءُ أُولٰئِكَ فِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اَللّٰهَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقٰادِرٍ عَلىٰ أَنْ يُحْيِيَ اَلْمَوْتىٰ بَلىٰ إِنَّهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ وَ يَوْمَ يُعْرَضُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى اَلنّٰارِ أَ لَيْسَ هٰذٰا بِالْحَقِّ قٰالُوا بَلىٰ وَ رَبِّنٰا قٰالَ فَذُوقُوا اَلْعَذٰابَ بِمٰا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ فَاصْبِرْ كَمٰا صَبَرَ أُولُوا اَلْعَزْمِ مِنَ اَلرُّسُلِ وَ لاٰ تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مٰا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّٰ سٰاعَةً مِنْ نَهٰارٍ بَلاٰغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْفٰاسِقُونَ

صَرَفْنٰا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ اَلْجِنِّ أي: أملناهم إليك من بلادهم بالتوفيق والألطاف حتى أتوك، والنفر: دون العشرة، وجمعه: أنفار. وعن ابن عباس:

(صرفناهم إليك عن استراق سمع السماء برجوم الشهب فقالوا: ما هذا الذي حدث في السماء إلا لأجل شيء حدث في الأرض، فضربوا في الأرض حتى وقفوا علي النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ببطن نخلة عامدا إلي عكاظ وهو يصلّي الفجر، فاستمعوا القرآن

ص: 187

ونظروا كيف يصلي)(1).

والضمير في حَضَرُوهُ للقرآن أو لرسول الله.

قٰالُوا أي: قال بعضهم لبعض: أَنْصِتُوا أي: اسكتوا مستمعين.

فَلَمّٰا قُضِيَ أي: فرغ من التلاوة وَلَّوْا انصرفوا إِلىٰ قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ يخوّفونهم من عذاب اللّه إن لم يؤمنوا.

قالوا: مِنْ بَعْدِ مُوسىٰ لأنّهم كانوا علي اليهودية.

أَجِيبُوا دٰاعِيَ اَللّٰهِ محمّدا صلى الله عليه و آله و سلم، دعاهم إلي توحيده وَ آمِنُوا بِهِ الهاء للّه، فجاءوا إلى رسول اللّه و آمنوا و علّمهم شرائع الإسلام، وأنزل اللّه سبحانه سورة الجن، وكانوا يفدون إليه في كل وقت. وفيه دلالة علي أنّه كان مبعوثا إلى الجن وا لإنس.

فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي اَلْأَرْضِ أي: لا ينجي منه مهرب ولا يسبقه سابق.

وَ لَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيٰاءُ أي: أنصار يدفعون عنه عذاب اللّه إذا نزل بهم.

بِقٰادِرٍ محلّه الرفع لأنّه خبر أَنَّ ، وإنّما دخلت الباء لاشتمال النفي في أوّل الآية علي أَنَّ وما في حيّزها، كأنّه قال: أليس اللّه بقادر؟ ألا تري أنّ بَلىٰ مقررة لكونه سبحانه قادر علي كل شيء لا لرؤيتهم ؟ و قرئ: يقدر.

وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ يقال: عيي فلان بأمره: إذا لم يهتد له ولم يعرف وجهه، ومنه: أَ فَعَيِينٰا بِالْخَلْقِ اَلْأَوَّلِ (2).

أَ لَيْسَ هٰذٰا بِالْحَقِّ محكي بعد قول مضمر، وهذا المضمر هو الناصب

ص: 188


1- تفسير الطبري ج 26:20.
2- ق: 15.

للظرف، و هٰذٰا إشارة إلى العذاب بدلالة قوله: فَذُوقُوا اَلْعَذٰابَ وهو توبيخ لهم علي استهزائهم بوعد اللّه ووعيده.

أُولُوا اَلْعَزْمِ أولو الجد والثبات والصبر، قيل: إنّ مِنَ للتبيين(1)، والمراد: جميع الرسل، و الأظهر أنّ مِنَ للتبعيض. وأولو العزم من الرسل: من أتى بشريعة مستأنفة نسخت شريعة من تقدّمه، وهم خمسة: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد صلى اللّه عليه وآله وعليهم أجمعين.

وَ لاٰ تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ العذاب، أي: لا تدع لهم بتعجيله فإنّه نازل بهم لا محالة وإن تأخر، وإنّهم مستقصرون حينئذ مدة لبثهم في الدنيا حتى يحسبوها سٰاعَةً مِنْ نَهٰارٍ .

و بَلاٰغٌ أي: هذا بلاغ، و المعنى: هذا القرآن بما فيه من البيان كفاية، أو هذا تبليغ من الرسول.

فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ اَلْقَوْمُ الخارجون من أمر اللّه تعالى، المتمردون في الفسق و المعاصي ؟ وعن الزجّاج: (ما جاء في رجاء رحمة اللّه شيء أبلغ من هذه الآية)(2).

ص: 189


1- عن ابن زيد. تفسير الطبري ج 26:24.
2- معاني القران وإعرابه ج 4:448.

سورة محمّد

اشارة

مدنية وهي أربعون آية بصري، ثمان وثلاثون كوفي، عدّ البصري أَوْزٰارَهٰا و لِلشّٰارِبِينَ .

وفي حديث أبيّ : (ومن قرأ (سورة محمّد) كان حقّا علي اللّه أن يسقيه من أنهار الجنّة)(1)، وعن الصادق عليه السلام: (من قرأها لم يدخله شك في دينه أبدا، ولم يزل محفوظا من الشرك والكفر حتى يموت... تمام الخبر)(2).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة محمد (47): الآیات 1 الی 4]

اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ أَضَلَّ أَعْمٰالَهُمْ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ وَ آمَنُوا بِمٰا نُزِّلَ عَلىٰ مُحَمَّدٍ وَ هُوَ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئٰاتِهِمْ وَ أَصْلَحَ بٰالَهُمْ ذٰلِكَ بِأَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اِتَّبَعُوا اَلْبٰاطِلَ وَ أَنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّبَعُوا اَلْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ اَللّٰهُ لِلنّٰاسِ أَمْثٰالَهُمْ فَإِذٰا لَقِيتُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ اَلرِّقٰابِ حَتّٰى إِذٰا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا اَلْوَثٰاقَ فَإِمّٰا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمّٰا فِدٰاءً حَتّٰى تَضَعَ اَلْحَرْبُ أَوْزٰارَهٰا ذٰلِكَ وَ لَوْ يَشٰاءُ اَللّٰهُ

ص: 190


1- الكشف والبيان ج 9:28.
2- ثواب الأعمال: 114.

[سورة محمد (47): الآیات 4 الی 6]

لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَ لٰكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمٰالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَ يُصْلِحُ بٰالَهُمْ وَ يُدْخِلُهُمُ اَلْجَنَّةَ عَرَّفَهٰا لَهُمْ

أَضَلَّ أَعْمٰالَهُمْ أحبط اللّه أعمالهم التي ظنوها خيرا وقربة، و يسمونها مكارم الأخلاق من صلة الأرحام وقرى الأضياف وحفظ الجوار ونحو ذلك، وأذهبها وأبطلها كأنّها لم تكن. وقيل: هم العشرة في وقعة بدر أطعم كل واحد منهم الجند يوما(1)، وقيل: هو عام في كل من صدّ وأعرض عن الدخول في دين الإسلام أو صدّ غيره عنه(2). وحقيقة أضلّها: جعلها ضالّة ضائعة ليس لها من يتقبلها ويثيب عليها، كالضالّة من الإبل التي هي بمضيعة لا حافظ لها.

وقوله: وَ آمَنُوا بِمٰا نُزِّلَ عَلىٰ مُحَمَّدٍ اختصاص للإيمان بما نزل علي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من بين ما يجب الإيمان به تعظيما لشأنه، وإيذانا بأنّ الإيمان لا يتم إلا به، وأكّد ذلك بالجملة الاعتراضية التي هي قوله: وَ هُوَ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ . وقيل: معناه:

إنّ دين محمّد صلى الله عليه و آله و سلم هو الحقّ إذ لا يرد عليه النسخ وهو ناسخ لغيره.

وَ أَصْلَحَ بٰالَهُمْ أي: حالهم وشأنهم بأن نصرهم علي أعدائهم في الدنيا، ويدخلهم الجنّة في العقبى.

ذٰلِكَ مبتدأ، أي: ذلك الأمر وهو إضلال أعمال أحد الفريقين، وتكفير سيئات الآخرين وإصلاح بالهم كائن بسبب اتباع هؤلاء الباطل وهؤلاء الحقّ .

ويجوز أن يكون ذٰلِكَ خبر مبتدأ محذوف، أي: الأمر ذلك بهذا السبب، فيكون محلّ الجار والمجرور منصوبا علي هذا الوجه، ومرفوعا علي الأوّل.

ص: 191


1- عن الكلبي. تفسير السمرقندي ج 3:281.
2- عن السدي. تفسير الماوردي ج 5:290.

و اَلْبٰاطِلَ ما لا ينتفع به، وعن قتادة: (الباطل: الشيطان)(1).

كَذٰلِكَ أي: مثل ذلك الضرب يَضْرِبُ اَللّٰهُ لِلنّٰاسِ أَمْثٰالَهُمْ والضمير راجع إلى اَلنّٰاسِ أو إلى المذكورين قبل من الفريقين، أي: يضرب أمثالهم للناس لأجل الناس ليعتبروا بهم، وضرب المثل هو في أنّ جعل الإضلال مثلا لخيبة الكافرين، وإصلاح البال مثلا لفوز المؤمنين، أو في أنّ جعل الحقّ كأنّه دعا المؤمن إلى نفسه فأجابه، والباطل كأنّه دعا الكافر إلى نفسه فأجابه.

فَإِذٰا لَقِيتُمُ هومن اللقاء بمعنى الحرب.

فَضَرْبَ اَلرِّقٰابِ أصله: فاضربوا الرقاب ضربا، فحذف الفعل وقدّم المصدر وأنيب منابه مضافا إلى المفعول، وفيه اختصار مع إعطاء معنى التوكيد، لأنّك تذكر المصدر و تدلّ علي الفعل بالنصبة التي فيه، وضرب الرقاب عبارة عن القتل، لأنّ الواجب أن يضرب الرقاب خاصة دون غيرها من الأعضاء في القتل، وإن جاز الضرب في سائر المواضع.

حَتّٰى إِذٰا أَثْخَنْتُمُوهُمْ أي: أكثرتم قتلهم وأغلظتموه، من الشيء الثخين وهو الغليظ، أو أثقلتموهم بالقتل والجراح حتى أذهبتم عنهم النهوض.

فَشُدُّوا اَلْوَثٰاقَ أي: فأسروهم و أحكموا وثاقهم، والوثاق - بالفتح والكسر -: اسم ما يوثق به.

فَإِمّٰا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمّٰا فِدٰاءً هما منصوبان بفعليهما مضمرين أي: فإما تمنّون منّا وإما تفدون فداء، والمعنى: التخيير بعد الأسر بين أن تمنّوا عليهم فتطلقوهم، وبين أن تفادوهم بأسارى المسلمين أو بالمال.

ص: 192


1- الكشف والبيان ج 9:29.

والمروي عن أئمتنا عليهم السلام: أنّ الأساري ضربان: ضرب يؤخذون قبل انقضاء القتال والحرب قائمة، فا لإمام مخيّر فيهم [بين أن يقتلهم أو يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وضرب يؤخذون بعد انقضاء القتال، فالإمام مخيّر فيهم](1) بين المنّ والفداء إما بالمال أو بالنفس، وبين الاسترقاق، وبين ضرب الرقاب(2).

حَتّٰى تَضَعَ اَلْحَرْبُ أَوْزٰارَهٰا أوزار الحرب: آلاتها وأثقالها التي لا تقوم إلا بها كالسلاح والكراع. وسمّيت أوزارها [لأنّه لم يكن لها بد من جرها فكأنّها تحملها، فإذا انقضت فكأنّها وضعتها، وقيل: أوزارها:](3) آثامها، يعني: حتى يترك أهل الحرب - وهم المشركون - شركهم ومعاصيهم بأن يسلموا فلا يبقى إلا الإسلام خير الأديان، ولا يعبدوا الأوثان(4). وعن الفراء: (حتى لا يبقى إلا مسلم أو مسالم)(5). وعن الزجّاج: (يعني: اقتلوهم وأسروهم حتى يؤمنوا، فما دام الكفر فالحرب قائمة أبدا)(6).

ذٰلِكَ أي: الأمر ذلك، أو افعلوا ذلك.

وَ لَوْ يَشٰاءُ اَللّٰهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ ببعض أسباب الهلاك [من خسف أو رجفة أو حاسب أو غرق أو موت خارق](7)وَ لٰكِنْ أمركم بقتالهم لِيَبْلُوَا المؤمنين بالكافرين بأن يجاهدوا ويصبروا ويبذلوا أنفسهم في إحياء الدين حتى يستوجبوا

ص: 193


1- ساقطة من ب.
2- تهذيب الأحكام ج 6:143.
3- ساقطة من د.
4- عن قتادة وغيره. تفسير الطبري ج 26:28.
5- معاني القرآن للفراء ج 3:57.
6- معاني القران وإعرابه ج 5:6.
7- ساقطة من ب، ج.

الثواب العظيم، والذين قاتلوا في سبيل اللّه أي جاهدوا. و قرئ: قُتِلُوا .

فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمٰالَهُمْ بل يتقبلها ويثيبهم عليها جزيل الثواب.

سَيَهْدِيهِمْ إلى طريق الجنّة وَ يُصْلِحُ حالهم.

عَرَّفَهٰا لَهُمْ [أعلمها لهم وبيّنها](1) بما يعلم به كل أحد منزلته ودرجته من الجنّة، وعن مجاهد: (يهتدي أهل الجنّة إلى مساكنهم منها لا يخطئون، كأنّهم كانوا سكانها منذ خلقوا)(2). وعن مقاتل: (إنّ الملك الذي وكّل بحفظ عمله في الدنيا يمشي بين يديه فيعرفه كل شيء أعطاه اللّه)(3). وقيل: معناه: طيّبها لهم، من العرف وهو طيب الرائحة(4).

[سورة محمد (47): الآیات 7 الی 13]

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اَللّٰهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدٰامَكُمْ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَ أَضَلَّ أَعْمٰالَهُمْ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ فَأَحْبَطَ أَعْمٰالَهُمْ أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اَللّٰهُ عَلَيْهِمْ وَ لِلْكٰافِرِينَ أَمْثٰالُهٰا ذٰلِكَ بِأَنَّ اَللّٰهَ مَوْلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ أَنَّ اَلْكٰافِرِينَ لاٰ مَوْلىٰ لَهُمْ إِنَّ اَللّٰهَ يُدْخِلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَ يَأْكُلُونَ كَمٰا تَأْكُلُ اَلْأَنْعٰامُ وَ اَلنّٰارُ مَثْوىً لَهُمْ وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ

ص: 194


1- ساقطة من ب.
2- تفسير الطبري ج 26:29.
3- الدر المنثور ج 6:48.
4- عن ابن عباس. معالم التنزيل ج 4:68.

[سورة محمد (47): الآیات 13 الی 14]

اَلَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنٰاهُمْ فَلاٰ نٰاصِرَ لَهُمْ أَ فَمَنْ كٰانَ عَلىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَ اِتَّبَعُوا أَهْوٰاءَهُمْ

إِنْ تَنْصُرُوا دين اللّه يَنْصُرْكُمْ علي عدوكم وَ يُثَبِّتْ أَقْدٰامَكُمْ في مواطن الحروب، أو علي محجّة الإسلام.

وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مبتدأ وَ أَضَلَّ أَعْمٰالَهُمْ عطف علي الفعل الذي هو الخبر، وانتصب به تعسا أي: فقضى تعسا لهم، أو فقال: تعسا لهم أي: أتعسهم اللّه فتعسوا تعسا، ونقيض تعسا له: لعا له، قال الأعشى:

فالتعس أولى لها من أن يقال لعا(1)

والمراد: فالعثور والانحطاط أقرب لها من الانتعاش والثبوت، وعن ابن عباس: (يريد في الدنيا القتل وفي الآخرة التردي في النار)(2).

ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا القرآن و مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ فيه من الأحكام، لأنّهم قد ألفوا الإهمال فشقّ عليهم التكاليف. قال الباقر عليه السلام: (كرهوا ما أنزل اللّه في علي عليه السلام)(3).

دَمَّرَ اَللّٰهُ عَلَيْهِمْ أي: أهلكهم، ومعناه: دمّر عليهم وأهلك ما اختص بهم من أنفسهم وأولادهم وأموالهم وَ لِلْكٰافِرِينَ أَمْثٰالُهٰا الضمير للعاقبة المذكورة، أو للهلكة لأنّ التدمير يدلّ عليها.

ذٰلِكَ الذي فعلناه بالفريقين بسبب أنّ اَللّٰهَ مَوْلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا أي: وليهم

ص: 195


1- ديوان الأعشى: 83، وصدره: بذات لوث عفرناة إذا عثرت فالتعس أدنى....
2- الكشاف ج 4:318.
3- تفسير القمي ج 2:302.

وناصرهم والدافع عنهم، وَ أَنَّ اَلْكٰافِرِينَ لاٰ مَوْلىٰ لَهُمْ ينصرهم ويدفع عنهم.

وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ ينتفعون بمتاع الحياة الدنيا أيّاما قلائل وَ يَأْكُلُونَ غافلين غير مفكرين في العاقبة كَمٰا تَأْكُلُ اَلْأَنْعٰامُ في مسارحها و معالفها غافلة عما هو بصددها من الذبح والنحر.

وَ اَلنّٰارُ مَثْوىً لَهُمْ أي: منزل لهم و مقام.

مِنْ قَرْيَةٍ أي: أهل قرية، ولذلك قال: أَهْلَكْنٰاهُمْ ، فكأنّه قال: وكم من قوم هم أشدّ قوة من قومك الذين أخرجوك من مكة أهلكناهم، ومعنى أخرجوك:

كانوا سبب خروجك.

فَلاٰ نٰاصِرَ لَهُمْ يجري مجرى الحال المحكية بمعنى: فهم لا ينصرون.

أَ فَمَنْ كٰانَ عَلىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ [أي: علي حجّة من عند ربّه](1) وبرهان وهي القرآن المعجز وسائر المعجزات، يريد: رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ يريد: أهل مكة الذين زيّن لهم الشيطان شركهم وعداوتهم للّه ولرسوله، وقال: سُوءُ عَمَلِهِ و وَ اِتَّبَعُوا حملا علي لفظ (من) ومعناه.

[سورة محمد (47): الآیات 15 الی 16]

مَثَلُ اَلْجَنَّةِ اَلَّتِي وُعِدَ اَلْمُتَّقُونَ فِيهٰا أَنْهٰارٌ مِنْ مٰاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَ أَنْهٰارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَ أَنْهٰارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشّٰارِبِينَ وَ أَنْهٰارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَ لَهُمْ فِيهٰا مِنْ كُلِّ اَلثَّمَرٰاتِ وَ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خٰالِدٌ فِي اَلنّٰارِ وَ سُقُوا مٰاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعٰاءَهُمْ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتّٰى إِذٰا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قٰالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ مٰا ذٰا قٰالَ آنِفاً أُولٰئِكَ

ص: 196


1- ساقطة من د.

[سورة محمد (47): الآیات 16 الی 20]

اَلَّذِينَ طَبَعَ اَللّٰهُ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ وَ اِتَّبَعُوا أَهْوٰاءَهُمْ وَ اَلَّذِينَ اِهْتَدَوْا زٰادَهُمْ هُدىً وَ آتٰاهُمْ تَقْوٰاهُمْ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ اَلسّٰاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جٰاءَ أَشْرٰاطُهٰا فَأَنّٰى لَهُمْ إِذٰا جٰاءَتْهُمْ ذِكْرٰاهُمْ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاَّ اَللّٰهُ وَ اِسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنٰاتِ وَ اَللّٰهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَ مَثْوٰاكُمْ وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لاٰ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذٰا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَ ذُكِرَ فِيهَا اَلْقِتٰالُ رَأَيْتَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ اَلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ اَلْمَوْتِ فَأَوْلىٰ لَهُمْ

قوله: مَثَلُ اَلْجَنَّةِ ... كَمَنْ هُوَ خٰالِدٌ كلام في صورة الإثبات، والمعنى: النفي وا لإنكار؛ لانطوائه تحت كلام مصدر بحرف الإنكار ودخوله في حيّزه، وهو قوله:

أَ فَمَنْ كٰانَ عَلىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فكأنّه قال: أمثل الجنّة كمثل جزاء من هو خالد في النار، وفي تعريته من حرف الإنكار زيادة تصوير لمكابرة من يسوّي بين المتمسّك بالبيّنة والمتبع لهواه، وأنّه بمنزلة من يسوّي بين الجنّة التي فيها تلك الأنهار وبين النار التي يسقى أهلها الحميم، ونظيره قول القائل:

أفرح أن أرزأ الكرام وأن *** أورث ذودا شصائصا نبلا(1)

فإنّه إنكار للفرح برزية الكرام ووراثة الذود مع تعرّي الكلام عن حرف الإنكار، لانطوائه تحت حكم قول من قال له: أتفرح بموت أخيك وبوراثة إبله ؟! فكأنّه قال: أمثلي من يفرح بذلك ؟! وهو من التسليم الذي تحته كل إنكار.

و مَثَلُ اَلْجَنَّةِ صفة الجنّة العجيبة الشأن وهو مبتدأ، وخبره كَمَنْ هُوَ خٰالِدٌ ،

ص: 197


1- ديوان الأعشى: 252.

وقوله: فِيهٰا أَنْهٰارٌ داخل في حكم الصلة كالتكرير لها. ويجوز أن يكون في محلّ النصب على الحال، أي: مستقرة فيها أنهار. وفي قراءة عليّ عليه السلام: أمثال الجنّة، أي: ما صفاتها كصفات النار، وقرئ: أسن، يقال: أسن الماء وأجن: إذا تغير طعمه وريحه، فهو آسن و أسن.

مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ كما يتغير ألبان الدنيا، فلا يصير قارصا ولا حازرا(1).

لَذَّةٍ [تأنيث اللذ](2) وهو اللذيذ، أو وصف بمصدر أي: يلتذون بها ولا يتأذون بعاقبتها بخلاف خمر الدنيا التي لا تخلو من المرارة والخمار والصداع.

مُصَفًّى أي: خالص من الشمع و القذى والأذى وَ لَهُمْ مع ذلك فِيهٰا مِنْ كُلِّ اَلثَّمَرٰاتِ وَ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ أي: ستر لذنوبهم وإنساء لسيئاتهم، حتى لا يتنغص عليهم النعيم.

وَ سُقُوا مٰاءً حَمِيماً شديد الحر، روي: أنّه إذا دنا منهم شوى وجوههم و انمازت فروة رؤوسهم، فإذا شربوه قطّع أمعاءهم(3).

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وهم المنافقون، أي: يستمعون إلى كلامك فيسمعونه ولا يعونه، فإذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قٰالُوا لِلَّذِينَ آتاهم اللّه اَلْعِلْمَ من المؤمنين مٰا ذٰا قٰالَ آنِفاً أي شيء قال الساعة ؟! وإنّما قالوه استهزاء وقلة مبالاة به، يعنون: إنّا لم نشتغل بوعيه وفهمه، قال الزجّاج: (هو من استأنفت الشيء إذا

ص: 198


1- الحازر: اللبن الحامض. (الصحاح: مادة حزر)
2- ساقطة من ب.
3- تفسير الطبري ج 26:32.

ابتدأته، والمعنى: ماذا قال في أوّل وقت يقرب منا؟!)(1)، وعن الأصبغ بن نباتة عن عليّ عليه السلام قال: (إنّا كنا عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فيخبرنا بالوحي، فأعيه أنا ومن يعيه، فإذا خرجنا قالوا: ماذا قال آنفا)(2).

وَ اَلَّذِينَ اِهْتَدَوْا زٰادَهُمْ اللّه هُدىً بالتوفيق وَ آتٰاهُمْ جزاء تَقْوٰاهُمْ ، أو أعانهم عليها، وقيل: الضمير في زٰادَهُمْ وقول الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، أو لاستهزاء المنافقين أي: زادهم استهزاؤهم بصيرة وتصديقا لنبيّهم(3).

فَهَلْ يَنْظُرُونَ أي: ينتظرون أَنْ تَأْتِيَهُمْ بدل اشتمال من اَلسّٰاعَةَ .

فَقَدْ جٰاءَ أَشْرٰاطُهٰا أي: علاماتها، وقيل: هي مبعث محمّد خاتم الأنبياء صلوات اللّه عليه وآله ونزول آخر الكتب وانشقاق القمر والدخان(4)، وقيل: قطع الأرحام وشهادة الزور وكثرة اللئام وقلة الكرام(5).

فَأَنّٰى لَهُمْ أي: فمن أين لهم وكيف لهم الذكري والاتعاظ والتوبة إِذٰا جٰاءَتْهُمْ الساعة ؟ أي: لا تنفعهم الذكري يومئذ.

ثمّ خاطب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والمراد أمّته قال: إذا علمت سعادة هؤلاء وشقاوة هؤلاء فاثبت علي ما أنت عليه من العلم بوحدانية اللّه عزّ اسمه وعلي التواضع وهضم النفس بالاستغفار لِذَنْبِكَ مع كمال عصمتك لتستن أمّتك بسنتك.

وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنٰاتِ أمره با لاستغفار لذنوبهم تكرمة لهم، إذ هو الشفيع

ص: 199


1- معاني القرآن وإعرابه ج 5:10.
2- تفسير العياشي ج 1:14.
3- معاني القرآن و إعرابه ج 5:11.
4- تفسير السمرقندي ج 3:286.
5- الكشاف ج 4:323.

المجاب فيهم.

وَ اَللّٰهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ في معايشكم و متاجركم وَ مَثْوٰاكُمْ و مستقركم في منازلكم، أو متقلبكم في ياتكم و مثواكم في القبور، أو في الجنّة والنار، أو متقلبكم في أصلاب الآباء إلي أرحام الأمهات و مقامكم في الأرض، ومثله حقيق بأن يتقى ويخشى. وسئل سفيان بن عيينة عن فضل العلم فقال: (ألم تسمع قوله حين بدأ به:

فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاَّ اَللّٰهُ وَ اِسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ فأمره بالعمل بعد العلم، وقال:

اِعْلَمُوا أَنَّمَا اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ (1) ثمّ قال: سٰابِقُوا إِلىٰ مَغْفِرَةٍ (2)، وقال:

وَ اِعْلَمُوا أَنَّمٰا أَمْوٰالُكُمْ وَ أَوْلاٰدُكُمْ فِتْنَةٌ (3) ثمّ قال: فَاحْذَرُوهُمْ (4)(5).

لَوْ لاٰ نُزِّلَتْ سُورَةٌ أي: هلا نزلت سورة، كانوا يدّعون الحرص علي الجهاد ويقولون: هلا نزلت سورة في معنى الجهاد.

فَإِذٰا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ مبيّنة غيرمتشابهة، وأوجب عليهم فيها القتال وأمروا به.

رَأَيْتَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ شك يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ أي: يشخصون نحوك بأبصارهم نَظَرَ اَلْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ اَلْمَوْتِ كما ينظر من أصابته الغشية عند الموت جبنا و هلعا.

فَأَوْلىٰ لَهُمْ وعيد بمعنى: فويل لهم، وهو أفعل من الولي وهو القرب،

ص: 200


1- الحديد: 20.
2- الحديد: 21.
3- الأنفال: 28.
4- التغابن: 14.
5- الكشاف ج 4:324.

ومعناه: وليهم وقاربهم ما يكرهون.

[سورة محمد (47): الآیات 21 الی 31]

طٰاعَةٌ وَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذٰا عَزَمَ اَلْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اَللّٰهَ لَكٰانَ خَيْراً لَهُمْ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحٰامَكُمْ أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ لَعَنَهُمُ اَللّٰهُ فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمىٰ أَبْصٰارَهُمْ أَ فَلاٰ يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ أَمْ عَلىٰ قُلُوبٍ أَقْفٰالُهٰا إِنَّ اَلَّذِينَ اِرْتَدُّوا عَلىٰ أَدْبٰارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مٰا تَبَيَّنَ لَهُمُ اَلْهُدَى اَلشَّيْطٰانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَ أَمْلىٰ لَهُمْ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قٰالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مٰا نَزَّلَ اَللّٰهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ اَلْأَمْرِ وَ اَللّٰهُ يَعْلَمُ إِسْرٰارَهُمْ فَكَيْفَ إِذٰا تَوَفَّتْهُمُ اَلْمَلاٰئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبٰارَهُمْ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اِتَّبَعُوا مٰا أَسْخَطَ اَللّٰهَ وَ كَرِهُوا رِضْوٰانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمٰالَهُمْ أَمْ حَسِبَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اَللّٰهُ أَضْغٰانَهُمْ وَ لَوْ نَشٰاءُ لَأَرَيْنٰاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمٰاهُمْ وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ اَلْقَوْلِ وَ اَللّٰهُ يَعْلَمُ أَعْمٰالَكُمْ وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتّٰى نَعْلَمَ اَلْمُجٰاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ اَلصّٰابِرِينَ وَ نَبْلُوَا أَخْبٰارَكُمْ

هذا استئناف كلام، أي: طٰاعَةٌ وَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ خير لهم، وقيل: هي حكاية قولهم(1) يعني: قالوا: طاعة [وقول معروف](2)، أي: أمرنا طاعة وقول معروف، أي: حسن لا تنكره العقول.

فَإِذٰا عَزَمَ اَلْأَمْرُ أي: جدّ، و إنّما العزم و الجدّ لأصحاب الأمر، وأسند إلى

ص: 201


1- عن ابن عيسى. تفسير الماوردي ج 5:301.
2- ساقطة من ب.

الأمر مجازا.

فَلَوْ صَدَقُوا فيما زعموا من الحرص على الجهاد، أو في إيمانهم بأن يواطئ فيه قلوبهم ألسنتهم لَكٰانَ خَيْراً لَهُمْ من نفاقهم.

فَهَلْ عَسَيْتُمْ أي: هل يتوقع منكم يا معشر المنافقين إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي: تسلّطتم و ملكتم أمور الناس و تأمّرتم عليهم و جعلتهم ولاة أَنْ تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ بسفك الدم الحرام وأخذ الرشا وَ تُقَطِّعُوا أَرْحٰامَكُمْ تهالكا علي ملك الدنيا، فيقتل بعضكم بعضا، ويقطع بعضكم رحم بعض.

أُولٰئِكَ إشارة إلي المذكورين الذين لعنهم اللّه لإفسادهم في الأرض وقطعهم الأرحام، فمنعهم ألطافه وخذلهم حتى صموا عن استماع الموعظة، وعموا عن إبصار طريق الهدي.

أَ فَلاٰ يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ ويتصفحونه ويعتبرون به ويقضون ما عليهم من الحقوق.

أَمْ عَلىٰ قُلُوبٍ أَقْفٰالُهٰا هي أم المنقطعة، ومعنى الهمزة فيه: التسجيل عليهم بأنّ قلوبهم مقفلة لا يوصل إليها ذكر، ومعنى تنكير القلوب: أنّها قلوب قاسية مبهم أمرها، أو بعض القلوب وهي قلوب المنافقين. وأما إضافة الأقفال إليها فلأنّ المراد الأقفال المختصة بها، وهي أقفال الكفر التي استغلقت فلا تنفتح.

إِنَّ اَلَّذِينَ اِرْتَدُّوا عَلىٰ أَدْبٰارِهِمْ بأن رجعوا عن الحقّ والإيمان مِنْ بَعْدِ مٰا تَبَيَّنَ لَهُمُ اَلْهُدَى وظهر لهم طريق الحقّ .

اَلشَّيْطٰانُ سَوَّلَ لَهُمْ جملة من مبتدأ وخبر، وقعت خبرا ل - (إنّ ) ومعناه:

الشيطان سوّل لهم ركوب العظائم من الذنوب، من السول وهو الاسترخاء.

ص: 202

وَ أَمْلىٰ لَهُمْ و مدّ لهم في الآمال.

ذٰلِكَ بسبب بِأَنَّهُمْ قٰالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مٰا نَزَّلَ اَللّٰهُ من القرآن، وعن الصادق عليه السلام: (في ولاية علي عليه السلام)(1).

سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ اَلْأَمْرِ أي: في بعض ما تأمرون به و تريدونه واللّه يعلم أسرارهم.

وقرئ: إِسْرٰارَهُمْ بكسر الهمزة، أي: ما أسرّه بعضهم إلى بعض من القول، وما أسرّوه في أنفسهم من الاعتقاد.

فَكَيْفَ يعملون وما حيلتهم إِذٰا تَوَفَّتْهُمُ اَلْمَلاٰئِكَةُ وقبضت أرواحهم يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبٰارَهُمْ .

ذٰلِكَ التوفّي الموصوف بتلك الصفة بسبب بِأَنَّهُمُ اِتَّبَعُوا مٰا أَسْخَطَ اَللّٰهَ من عظائم الأمور وَ كَرِهُوا رِضْوٰانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمٰالَهُمْ التي كانوا يعملونها من صلاة وغيرها لأنّها في غير إيمان.

بل أحسب اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اَللّٰهُ أَضْغٰانَهُمْ أحقادهم علي المؤمنين، و إخراجها: إبرازها لرسول اللّه وللمؤمنين المخلصين، وإظهارهم علي نفاقهم.

وَ لَوْ نَشٰاءُ لَأَرَيْنٰاكَهُمْ يا محمّد حتى تعرفهم بأعيانهم، وهو قوله:

فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمٰاهُمْ بعلامتهم، وعن أنس: (ما خفي علي رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم بعد هذه الآية أحد من المنافقين، وكان يعرفهم بسيماهم)(2). والفرق بين اللامين في:

ص: 203


1- الكافي ج 1:421.
2- الكشف والبيان ج 9:37.

فَلَعَرَفْتَهُمْ ، وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ : أن الأولي هي الداخلة في جواب (لو) كالتي في لَأَرَيْنٰاكَهُمْ ثمّ كررت في المعطوف، واللام في وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ وقعت مع النون في جواب القسم المحذوف.

فِي لَحْنِ اَلْقَوْلِ أي: تعرفهم في فحوى كلامهم ومغزاه ومعناه، وعن أبي سعيد الخدري: (لحن القول: بغضهم عليّ بن أبي طالب عليه السلام)(1). وعن جابر مثله(2).

وعن عبادة بن الصامت(3): (كنا نبوّر(4) أولادنا بحبّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فإذا رأينا أحدهم لا يحبّه علمنا أنّه لغير رشدة)(5). وقيل: اللحن أن تلحن بكلامك أي: تميله إلي نحو من الأنحاء ليتفطن له صاحبك كالتعريض والتورية(6)، قال:

ولقد لحنت لكم لكيما تفقهوا *** و اللحن يعرفه ذوو الألباب(7)

وإنّما قيل للمخطئ: لاحن، لأنّه يعدل بكلامه عن الصواب.

وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بمشاق الأمور والتكاليف. وعن الفضيل أنّه كان إذا قرأها بكى وقال: (اللهم لا تبلنا فإنّك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا وعذّبتنا)(8).

وَ نَبْلُوَا أَخْبٰارَكُمْ أي: ما يحكى عنكم وما يخبر به عن أعمالكم لنعلم حسنه

ص: 204


1- شواهد التنزيل ج 2:249.
2- الاستيعاب ج 2:46.
3- عبادة بن الصامت بن قيس الانصاري الخزرجي، كان أحد النقباء بالعقبة، شهد بدرا والمشاهد كلها مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، مات بالرملة سنة 34 ه -، وقيل: إنه عاش الى سنة 45 ه -. ينظر: الإصابة ح 2:268.
4- نبوّر: نختبر و نمتحن. (لسان العرب: مادة بور)
5- أسنى المطالب: 58.
6- الصحاح: مادة لحن.
7- ديوان القتال الكلابي: 36، وفيه: ووحيت وحيا ليس بالمرتاب.
8- الكشف والبيان ج 9:38.

من قبيحه، لأنّ الخبر على حسب المخبر عنه. و قرئ: وليبلونكم، ويعلم، ويبلو، بالياء، وهو قراءة الباقر عليه السلام، و قرئ: ونبلو بالنون وسكون الواو، على معنى: ونحن نبلو.

[سورة محمد (47): الآیات 32 الی 38]

إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ شَاقُّوا اَلرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مٰا تَبَيَّنَ لَهُمُ اَلْهُدىٰ لَنْ يَضُرُّوا اَللّٰهَ شَيْئاً وَ سَيُحْبِطُ أَعْمٰالَهُمْ يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ لاٰ تُبْطِلُوا أَعْمٰالَكُمْ إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ ثُمَّ مٰاتُوا وَ هُمْ كُفّٰارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اَللّٰهُ لَهُمْ فَلاٰ تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَى اَلسَّلْمِ وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ وَ اَللّٰهُ مَعَكُمْ وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمٰالَكُمْ إِنَّمَا اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَ لاٰ يَسْئَلْكُمْ أَمْوٰالَكُمْ إِنْ يَسْئَلْكُمُوهٰا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَ يُخْرِجْ أَضْغٰانَكُمْ هٰا أَنْتُمْ هٰؤُلاٰءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَ مَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمٰا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَ اَللّٰهُ اَلْغَنِيُّ وَ أَنْتُمُ اَلْفُقَرٰاءُ وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاٰ يَكُونُوا أَمْثٰالَكُمْ

مِنْ بَعْدِ مٰا تَبَيَّنَ لَهُمُ اَلْهُدىٰ وظهر لهم الحقّ إنّما ضروا أنفسهم، و لَنْ يَضُرُّوا اَللّٰهَ بذلك وَ سَيُحْبِطُ أَعْمٰالَهُمْ التي عملوها فلا يرون لها في الآخرة ثوابا.

وَ لاٰ تُبْطِلُوا أَعْمٰالَكُمْ بمعصية اللّه والرسول، أو بالشك والنفاق. وعن ابن عباس: (لا تبطلوها بالرياء والسمعة)(1).

فَلاٰ تَهِنُوا أي: فلا تضعفوا ولا تتوانوا في قتال أعداء اللّه.

ولا تَدْعُوا إِلَى اَلسَّلْمِ قرئ بالفتح والكسر وهما المسالمة وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ

ص: 205


1- الكشاف ج 4:329.

أي: الأغلبون الأقهرون، وقيل: إنّ (الوا و) للحال، أي: لا تدعوهم إلى الصلح والحال أنّكم الغالبون القاهرون لهم(1). و تَدْعُوا مجزوم لدخوله في حكم النهي كما ذكرنا، ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار (أن).

وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمٰالَكُمْ هومن: وترت الرجل إذا قتلت له قتيلا أو حربته(2)، وحقيقته: أفردته من حميمه أو ماله، من الوتر وهو الفرد. ومنه قول النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:

(ومن فاتته صلاة العصر فكأنّما وتر أهله وماله)(3)، أي: أفرد عنهما قتلا ونهبا، فشبّه سبحانه إضاعة عمل العامل وإبطال ثوابه بوتر الواتر، وهو من فصيح الكلام.

وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ أي: ثواب إيمانكم و تقواكم.

وَ لاٰ يَسْئَلْكُمْ أَمْوٰالَكُمْ أي: ولا يسألكم جميعها في الصدقة، وإن أوجب عليكم الزكاة في بعضها، واقتصر منه علي القليل وهو ربع العشر، وقيل: لا يسألكم الرسول علي أداء الرسالة أموالكم أن تدفعوها إليه.

إِنْ يَسْئَلْكُمُوهٰا فَيُحْفِكُمْ أي: فيجهدكم بمسألة جميعها، والإحفاء:

المبالغة وبلوغ الغاية في كل شيء، يقال: أحفاه في المسألة إذا لم يترك شيئا من الإلحاح، ومنه: إحفاء الشارب وهو استئصال شعره.

تَبْخَلُوا وَ يُخْرِجْ أَضْغٰانَكُمْ أي: تضطغنون [علي رسول اللّه وتضيق صدوركم لذلك، والضمير في (يخرج) لله عزّ وجل، أي: يضغنكم](4) بطلب

ص: 206


1- عن مجاهد. التبيان ج 9:308.
2- حربته: أغضبته. (الصحاح: مادة حرب).
3- سنن النسائي ج 1:238.
4- ساقطة من ج.

أموالكم، أو للبخل لأنه سبب الاضغان.

هٰؤُلاٰءِ موصول صلته تُدْعَوْنَ ، أي: ها أنتم الذين تدعون، أو أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون، ثمّ استأنف وصفهم، كأنّهم قالوا: وما وصفنا؟ فقال: تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ كأنّه قيل: الدليل علي أنّه لو أحفاكم لبخلتم وكرهتم العطاء واضطغنتم أنّكم تدعون إلي أداء ربع العشر، فمنكم ناس يبخلون به، ثمّ قال: وَ مَنْ يَبْخَلْ بالصدقة و أداء الفريضة فلا يتعداه ضرر بخله، و إنما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ إذ يلزمها العذاب الأليم ويحرمها الثواب العظيم، يقال: بخلت عليه وعنه، وضننت عليه وعنه. وفي الآية إشارة إلى أنّ معطي المال أحوج إليه من الفقير الآخذ، فبخله به بخل علي نفسه.

وَ اَللّٰهُ اَلْغَنِيُّ عما عندكم من الأموال وَ أَنْتُمُ اَلْفُقَرٰاءُ إلى ما عند اللّه من الرحمة والثواب.

وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا معطوف علي وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا .

يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ علي خلاف صفتكم، راغبين في الإيمان والتقوى، غير متولين عنهما ثُمَّ لاٰ يَكُونُوا أَمْثٰالَكُمْ بل خيرا منكم وأطوع للّه. روي: أنّهم قالوا لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: من هؤلاء؟ فضرب عليه السلام يده علي فخذ سلمان فقال: (هذا وقومه، لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس)(1). وعنهم عليهم السلام:

(إن تتولوا يا معشر العرب يستبدل قوما غيركم يعني: الموالي)(2).

ص: 207


1- صحيح ابن حبان ج 16:63.
2- تفسير القمي ج 2:309.

سورة الفتح

اشارة

مدنية وهي تسع وعشرون آية.

في حديث أبيّ : (من قرأ (سورة الفتح) فكأنّما شهد مع محمّد فتح مكة)(1)، وفي رواية أخري: (فكأنّما كان مع من بايع محمّدا تحت الشجرة)(2)، وعن الصادق عليه السلام: (حصّنوا أموالكم ونساءكم وما ملكت أيمانكم من التلف بقراءة إِنّٰا فَتَحْنٰا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً فإنّه إذا كان ممن يدمن قراءتها ناداه مناد يوم القيامة:

أنت من عبادي المخلصين، ألحقوه بالصالحين من عبادي، فأسكنوه جنات النعيم، واسقوه من الرحيق المختوم بمزاح الكافور)(3).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة الفتح (48): الآیات 1 الی 4]

إِنّٰا فَتَحْنٰا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اَللّٰهُ مٰا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ مٰا تَأَخَّرَ وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِرٰاطاً مُسْتَقِيماً وَ يَنْصُرَكَ اَللّٰهُ نَصْراً عَزِيزاً هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ اَلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ اَلْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدٰادُوا إِيمٰاناً مَعَ إِيمٰانِهِمْ وَ لِلّٰهِ جُنُودُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ كٰانَ اَللّٰهُ

ص: 208


1- تفسير السمرقندي ج 3:305.
2- مجمع البيان ج 9-10:108.
3- ثواب الأعمال: 115.

[سورة الفتح (48): الآیات 4 الی 7]

عَلِيماً حَكِيماً لِيُدْخِلَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنٰاتِ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا وَ يُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئٰاتِهِمْ وَ كٰانَ ذٰلِكَ عِنْدَ اَللّٰهِ فَوْزاً عَظِيماً وَ يُعَذِّبَ اَلْمُنٰافِقِينَ وَ اَلْمُنٰافِقٰاتِ وَ اَلْمُشْرِكِينَ وَ اَلْمُشْرِكٰاتِ اَلظّٰانِّينَ بِاللّٰهِ ظَنَّ اَلسَّوْءِ عَلَيْهِمْ دٰائِرَةُ اَلسَّوْءِ وَ غَضِبَ اَللّٰهُ عَلَيْهِمْ وَ لَعَنَهُمْ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَ سٰاءَتْ مَصِيراً وَ لِلّٰهِ جُنُودُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَزِيزاً حَكِيماً

اختلف في هذا الفتح، فقيل: هو فتح مكة وعده اللّه ذلك عند انكفائه من الحديبية(1)، وعن جابر: (ما كنا نعلم فتح مكة إلا يوم الحديبية)(2). وجاء به علي لفظ الماضي علي عادته عزّ اسمه في أخباره، لأنّها في تحقّقها وتيقنها بمنزلة الكائنة الموجودة. وقيل: هو فتح الحديبية(3)، فروي: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لما رجع من الحديبية قال رجل من أصحابه: ما هذا بفتح، لقد صدّونا عن البيت وصدّ هدينا، فقال عليه السلام:

(بئس الكلام هذا بل هو أعظم الفتوح، قد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح، ويسألوكم القضية، ورغبوا إليكم في الأمان، وقد رأوا منكم ما كرهوا)(4). وعن الزهري: (لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية، وذلك أنّ المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكّن الإسلام في قلوبهم وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير كثر بهم سواد الإسلام)(5).

ص: 209


1- عن أنس. معالم التنزيل ج 4:72.
2- تفسير الطبري ج 26:44.
3- عن الشعبي. تفسير الماوردي ج 5:309.
4- دلائل النبوّة ج 4:160.
5- معالم التنزيل ج 4:73.

والحديبية: بئر نفد ماؤها حتى لم يبق فيها قطرة، فأتاها النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فجلس علي شفيرها ثمّ دعا بإناء من ماء ثمّ توضأ و تمضمض ومجّه فيها، فدرّت بالماء حتى أصدرت جميع من معه وركابهم(1). وعن سالم بن أبي الجعد(2) قال: (قلت لجابر:

كم كنتم تحت الشجرة ؟ قال: كنا ألفا وخمسمائة، وذكر عطشا أصابهم ثمّ قال: فأتي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بماء في تور فجعل يده فيه فجعل الماء يخرج من بين أصابعه كأنّه العيون، قال: فشربنا وسقانا وكفانا، ولو كنا مائة ألف كفانا)(3).

وقيل: المراد بالفتح هنا فتح خيبر، ذكره مجمع بن حارثة الأنصاري - وهو أحد القراء - في حديثه: (لما انصرفنا من الحديبية أوحي إلي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فوجدناه واقفا عند كراع الغميم وقرأ إِنّٰا فَتَحْنٰا... السورة، فقال عمر: أو فتح هو؟! قال:

نعم والذي نفسي بيده إنّه لفتح فقسمت خيبر علي أهل الحديبية لم يدخل فيها أحد إلا من شهدها)(4).

لِيَغْفِرَ لَكَ اَللّٰهُ مٰا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ مٰا تَأَخَّرَ لأصحابنا فيه وجهان من التأويل:

أحدهما: أنّ المراد: يغفر لك ما تقدّم من ذنب أمّتك وما تأخّر بشفاعتك.

وحسنت إضافة ذنوب أمّته إليه للاتصال بينه وبينهم، ويعضده ما رواه المفضل بن عمر عن الصادق عليه السلام أنّه سئل عن هذه الآية فقال: (و اللّه ما كان له ذنب ولكن اللّه

ص: 210


1- معالم التنزيل ج 4:73.
2- سالم بن أبي الجعد الأشجعي مولاهم الكوفي، يكنى أبا أسماء، من أصحاب علي عليه السلام ومن ثقات التابعين. ينظر: ميزان الاعتدال ج 2:109، معجم رجال الحديث ج 8:14.
3- مسند أحمد ج 3:365.
4- الكشف والبيان ج 9:41.

سبحانه ضمن له أن يغفر ذنوب شيعة عليّ عليه السلام ما تقدّم وما تأخّر)(1).

والآخر: ذكره السيّد المرتضى (قدس اللّه روحه): أنّ الذنب مصدر، والمصدر يجوز إضافته إلى الفاعل والمفعول، والمراد هنا: ما تقدّم من ذنبهم إليك في إخراجهم إيّاك من مكة وما تأخر من صدّك عن المسجد الحرام، أي: ليغفر ما أذنبه قومك إليك من إخراجك من مكة و صدّك عنها، فالذنب مضاف إلي المفعول هنا، وتعدّى بنفسه حملا علي الإخراج والصدّ اللذين هو في معناهما، ولذلك جعل المغفرة علة للفتح وغرضا فيه(2). والمراد بالمغفرة علي هذا إزالة أحكام المشركين ونسخها عنه، وستر تلك الوصمة عليه بما يفتح له من مكة بأن يدخلها فيما بعد، ولو أراد مغفرة ذنوبه لم يكن لكون المغفرة غرضا في الفتح.

معنى وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ في الدنيا بإعلاء أمرك و إظهارك علي الدين كله وبقاء شريعتك، وفي الآخرة برفع محلّك.

وَ يَهْدِيَكَ صِرٰاطاً مُسْتَقِيماً ويرشدك طريقا يؤدي سالكه إلى الجنّة ويثبتك عليها.

وَ يَنْصُرَكَ اَللّٰهُ نَصْراً عَزِيزاً تمتنع به من كل جبار عنيد، وصف النصر بالعزيز لأنّ فيه العزّة والمنعة، أو يعني عزيزا صاحبه، أو وصفه بصفة المنصور إسنادا مجازيا.

اَلسَّكِينَةَ السكون، أي: أنزل اللّه السكون فِي قُلُوبِ اَلْمُؤْمِنِينَ والطمأنينة بسبب الصلح و الأمن، ليعرفوا فضل اللّه عليهم بتيسير الأمن بعد الخوف فيزدادوا يقينا إلى يقينهم بما يرون من الفتوح وعلو كلمة الإسلام علي وفق

ص: 211


1- تفسير القمي ج 2:314 برواية عمر بن يزيد بياع السابري.
2- تنزيه الأنبياء: 148.

ما وعدوا.

وَ لِلّٰهِ جُنُودُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَلِيماً حَكِيماً يسلّط بعضها علي بعض علي ما يقتضيه علمه وحكمته. ومن قضيته أن سكن قلوب المؤمنين بصلح الحديبية، ووعدهم أن يفتح لهم مكة ليعرف المؤمنون نعمة اللّه في ذلك ويشكروها فيثيبهم ويعذّب المنافقين والكافرين [لما غاضهم من ذلك وكرهوه](1).

ومعنى ظَنَّ اَلسَّوْءِ : ظنهم أنّ اللّه لا ينصر الرسول والمؤمنين ولا يرجعهم إلي مكة ظافرين فاتحين إيّاها، والسوء: عبارة عن رداءة الشيء وفساده، كما يقع الصدق عبارة عن جودة الشيء وصلاحه.

عَلَيْهِمْ دٰائِرَةُ اَلسَّوْءِ أي: ما يظنونه ويتربّصونه بالمؤمنين فهو دائر عليهم حائق بهم، وهو الهلاك والدمار. وقرئ: دائرة السوء بفتح السين وضمها وهما لغتان من ساء كالكره والكره، والضعف والضعف، إلا أنّ المفتوح غلب في أن يضاف إليه ما يراد ذمّه من كل شيء، والمضموم جار مجرى الشرّ الذي هو نقيض الخير، [يقال: أراد به السوء، وأراد به الخير](2)، ولذلك أضيف الظن إلى المفتوح لكونه مذموما، وكانت الدائرة محمودة فكان حقّها ألا تضاف إليه إلا علي التأويل الذي ذكرناه.

وَ غَضِبَ اَللّٰهُ عَلَيْهِمْ وَ لَعَنَهُمْ بأن أبعدهم من رحمته.

وكرر قوله: وَ لِلّٰهِ جُنُودُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ لأنّ الأوّل اتصل بذكر المؤمنين، [أي: فله الجنود التي يقدر علي أن يعينهم بها](3)، والثاني اتصل بذكر الكافرين،

ص: 212


1- ساقطة من ب، ج.
2- ساقطة من ب.
3- ساقطة من ب.

أي: فله الجنود التي يقدر علي الانتقام منهم بها.

وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَزِيزاً في قهره وانتقامه من أعدائه حَكِيماً في فعله وقضائه.

[سورة الفتح (48): الآیات 8 الی 14]

إِنّٰا أَرْسَلْنٰاكَ شٰاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُعَزِّرُوهُ وَ تُوَقِّرُوهُ وَ تُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً إِنَّ اَلَّذِينَ يُبٰايِعُونَكَ إِنَّمٰا يُبٰايِعُونَ اَللّٰهَ يَدُ اَللّٰهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمٰا يَنْكُثُ عَلىٰ نَفْسِهِ وَ مَنْ أَوْفىٰ بِمٰا عٰاهَدَ عَلَيْهُ اَللّٰهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً سَيَقُولُ لَكَ اَلْمُخَلَّفُونَ مِنَ اَلْأَعْرٰابِ شَغَلَتْنٰا أَمْوٰالُنٰا وَ أَهْلُونٰا فَاسْتَغْفِرْ لَنٰا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مٰا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اَللّٰهِ شَيْئاً إِنْ أَرٰادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرٰادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كٰانَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيراً بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ اَلرَّسُولُ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ إِلىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَ زُيِّنَ ذٰلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ اَلسَّوْءِ وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً وَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ فَإِنّٰا أَعْتَدْنٰا لِلْكٰافِرِينَ سَعِيراً وَ لِلّٰهِ مُلْكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشٰاءُ وَ كٰانَ اَللّٰهُ غَفُوراً رَحِيماً

قرئ: لِتُؤْمِنُوا وما بعده بالتاء والياء، فالتاء علي الخطاب لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولأمته، والياء علي أنّ الضمير في الجميع للناس.

وَ تُعَزِّرُوهُ أي: تقووه با لنصرة وَ تُوَقِّرُوهُ أي: تعظموه وتطيعوه وَ تُسَبِّحُوهُ من التسبيح أو من السبحة. والضمائر للّه عزّ اسمه، والمراد بتعزير اللّه: تعزيز دينه ورسوله.

إِنَّ اَلَّذِينَ يُبٰايِعُونَكَ يريد: بيعة الحديبية وهي بيعة الرضوان، أي: بايعوا

ص: 213

رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم علي الموت.

إِنَّمٰا يُبٰايِعُونَ اَللّٰهَ هو كقوله: مَنْ يُطِعِ اَلرَّسُولَ فَقَدْ أَطٰاعَ اَللّٰهَ (1)

ثمّ أكّده تأكيدا بقوله: يَدُ اَللّٰهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ كأنّ يد رسول اللّه التي تعلو أيدي المبايعين يد اللّه، إذ هو جل جلاله منزّه عن صفات الأجسام.

فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمٰا يَنْكُثُ عَلىٰ نَفْسِهِ لا يعود ضرر نكثه إلا عليه. ويقال:

وفيت بالعهد وأوفيت به. و قرئ: فَسَيُؤْتِيهِ با لنون والياء.

سَيَقُولُ لَكَ اَلْمُخَلَّفُونَ مِنَ اَلْأَعْرٰابِ و هم الذين تخلّفوا عن صحبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عام الحديبية لما أراد المسير إلى مكة معتمرا، وذلك في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة، فاستنفر من حول المدينة من الأعراب وأهل البوادي ليخرجوا معه حذرا من قريش أن يعرضوا له بحرب أو بصدّ، وأحرم بالعمرة وساق معه الهدي ليعلم الناس أنّه لا يريد حربا، فتثاقل عنه كثير من الأعراب فقالوا: نذهب معه إلى قوم قد جاؤوه فقتلوا كثيرا من أصحابه، فتخلّفوا عنه واعتلّوا بالشغل، وظنوا أنّه لا ينقلب إلى المدينة ويهلك.

و يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مٰا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ هو تكذيب لهم في اعتذارهم، وإخبار عن ضمائرهم وأسرارهم، و أنّهم لا يبالون استغفر لهم الرسول أم لا.

قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اَللّٰهِ شَيْئاً أي: فمن يمنعكم من مشيئة الله وقضائه إِنْ أَرٰادَ بِكُمْ ما يضرّكم من قتل أو موت أَوْ أَرٰادَ بِكُمْ نَفْعاً من ظفر وغنم، و قرئ: ضرّا وهما لغتان، كالفقر والفقر، وقيل: إنّ الضرّ خلاف النفع، و الضرّ:

سوء الحال(2).

ص: 214


1- النساء: 80.
2- عن القاسم بن سلام. إعراب القران ج 4:199.

و الأهلون: جمع أهل، وأما الأهالي فاسم للجميع كالليالي. والبور: جمع بائر كعائذ وعوذ، وقيل: إنّه مصدر بار كالهلك مصدر هلك، ولذلك وصف به الواحد والجمع والمذكر والمؤنث(1). والمعنى: وَ كُنْتُمْ قَوْماً فاسدين في أنفسكم وقلوبكم ونياتكم، وهالكين عند اللّه، لا خير فيكم، ومستوجبين لسخطه وعقابه.

لِلْكٰافِرِينَ أقيم مقام (لهم)، ليعلم أنّ من لم يجمع بين الإيمانين وهو الإيمان بالله وبرسوله فهو كافر.

ونكّر سَعِيراً إيذانا بأنّها نار مخصوصة لهم، كما نكر قوله: نٰاراً تَلَظّٰى (2).

[سورة الفتح (48): الآیات 15 الی 19]

سَيَقُولُ اَلْمُخَلَّفُونَ إِذَا اِنْطَلَقْتُمْ إِلىٰ مَغٰانِمَ لِتَأْخُذُوهٰا ذَرُونٰا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاٰمَ اَللّٰهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونٰا كَذٰلِكُمْ قٰالَ اَللّٰهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنٰا بَلْ كٰانُوا لاٰ يَفْقَهُونَ إِلاّٰ قَلِيلاً قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ اَلْأَعْرٰابِ سَتُدْعَوْنَ إِلىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقٰاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اَللّٰهُ أَجْراً حَسَناً وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا كَمٰا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذٰاباً أَلِيماً لَيْسَ عَلَى اَلْأَعْمىٰ حَرَجٌ وَ لاٰ عَلَى اَلْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لاٰ عَلَى اَلْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ مَنْ يُطِعِ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ وَ مَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذٰاباً أَلِيماً لَقَدْ رَضِيَ اَللّٰهُ عَنِ اَلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبٰايِعُونَكَ تَحْتَ اَلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مٰا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ اَلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَ أَثٰابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَ مَغٰانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهٰا وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَزِيزاً حَكِيماً

ص: 215


1- معاني القرآن للفراء ج 3:264.
2- الليل: 14.

سَيَقُولُ الذين تخلّفوا عن الحديبية إِذَا اِنْطَلَقْتُمْ إِلىٰ مَغٰانِمَ خيبر لِتَأْخُذُوهٰا ذَرُونٰا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاٰمَ اَللّٰهِ . و قرئ: كلم اللّه، أي:

موعد الله لأهل الحديبية خاصة بغنيمة خيبر عوضا من مغانم مكة.

قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونٰا كَذٰلِكُمْ قٰالَ اَللّٰهُ مِنْ قبل مرجعنا إليكم أنّ غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية لا يشركهم فيها غيرهم.

فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنٰا أن نصيب معكم من الغنائم و نشارككم فيها بَلْ كٰانُوا قوما لاٰ يَفْقَهُونَ [أي: لا يفهمون إِلاّٰ فهما](1)قَلِيلاً وهو فطنتهم لأمور الدنيا دون أمور الدين. والفرق بين حرفي الإضراب: أنّ الأوّل إضراب عن أن يكون ذلك حكم اللّه وإثبات للحسد، والثاني إضراب عن وصفهم المؤمنين بالحسد وإثبات لجهلهم.

قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ الذين تخلّفوا عن الحديبية سَتُدْعَوْنَ فيما بعد إِلىٰ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ وهم هوازن وثقيف.

أَوْ يُسْلِمُونَ معطوف علي تُقٰاتِلُونَهُمْ أي: يكون أحد الأمرين: إما المقاتلة أو الإسلام، لا ثالث لهما.

فَإِنْ تُطِيعُوا و تجيبوا إلى قتالهم يأجركم اللّه وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا عن قتالهم كَمٰا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ عن الخروج إلى الحديبية يُعَذِّبْكُمْ الله في الآخرة.

لَيْسَ عَلَى اَلْأَعْمىٰ حَرَجٌ نفى الحرج عن هؤلاء من ذوي العاهات في التخلف عن الغزو. وقرئ يُدْخِلْهُ و يُعَذِّبْهُ بالنون والياء.

إنّما سمّيت بيعة الرضوان بهذه الآية، بايعوا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بالحديبية تحت الشجرة

ص: 216


1- ساقطة من ج.

المعروفة وهي الشجرة السمرة(1).

فَعَلِمَ مٰا فِي قُلُوبِهِمْ من صدق النية في القتال والصبر والوفاء، وكان عددهم ألفا وخمسمائة أو ثلاثمائة.

فَأَنْزَلَ اَلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ والضمير للمؤمنين، والسكينة: هي اللطف المقوّي لقلوبهم والطمأنينة.

وَ أَثٰابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً يعني: فتح خيبر.

وَ مَغٰانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهٰا وهي مغانم خيبر وكانت مشهورة بكثرة الأموال والعقار.

[سورة الفتح (48): الآیات 20 الی 25]

وَعَدَكُمُ اَللّٰهُ مَغٰانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهٰا فَعَجَّلَ لَكُمْ هٰذِهِ وَ كَفَّ أَيْدِيَ اَلنّٰاسِ عَنْكُمْ وَ لِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَ يَهْدِيَكُمْ صِرٰاطاً مُسْتَقِيماً وَ أُخْرىٰ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهٰا قَدْ أَحٰاطَ اَللّٰهُ بِهٰا وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً وَ لَوْ قٰاتَلَكُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا اَلْأَدْبٰارَ ثُمَّ لاٰ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لاٰ نَصِيراً سُنَّةَ اَللّٰهِ اَلَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اَللّٰهِ تَبْدِيلاً وَ هُوَ اَلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَ كٰانَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيراً هُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوكُمْ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ وَ اَلْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَ لَوْ لاٰ رِجٰالٌ مُؤْمِنُونَ وَ نِسٰاءٌ مُؤْمِنٰاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اَللّٰهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشٰاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذٰاباً أَلِيماً

ص: 217


1- السمرة - بضم الميم -: من شجر الطلح. (الصحاح: مادة سمر)

وَعَدَكُمُ اَللّٰهُ مَغٰانِمَ كَثِيرَةً هي جميع ما يفيء علي المؤمنين إلى يوم القيامة.

فَعَجَّلَ لَكُمْ هٰذِهِ المغانم يعني: غنائم خيبر وَ كَفَّ أَيْدِيَ اَلنّٰاسِ عَنْكُمْ يعني: أيدي أهل خيبر و حلفائهم من أسد و غطفان حين جاءوا لنصرتهم فقذف اللّه في قلوبهم الرعب فنكصوا، وقيل: يريد أيدي أهل مكة بصلح الحديبية(1).

وَ لِتَكُونَ هذه الكفة و الهدنة و الغنيمة التي عجلت آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وعبرة يعرفون بها أنّهم من اللّه بمكان، و أنّه ضامن نصرهم والفتح عليهم، وذلك أنّ الصلح وقع علي وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس، وعلي أنّ من قدم مكة من المسلمين فهو آمن علي دمه وماله، و من قدم المدينة من قريش فهو آمن علي دمه وماله، ومن أحبّ أن يدخل في عقد محمّد وعهده [دخل فيه، ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، فقالت خزاعة: نحن في عقد محمّد وعهده](2)، وقالت كنانة: نحن في عقد قريش، فقال سهيل بن عمرو لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: أنّه لا يأتيك منا رجل وإن كان علي دينك إلا رددته إلينا، ومن جاءنا ممن معك لا نردّه عليك، فقال المسلمون: سبحان اللّه! كيف يردّ إلى المشركين وقد جاء مسلما؟! فقال عليه السلام: من جاءهم منا فأبعده اللّه، و من جاءنا منهم رددناه إليهم ولو علم اللّه الإسلام من قلبه جعل له مخرجا، فقال سهيل: وعلي أنّك ترجع عنا عامك هذا فلا تدخل مكة، فإذا كان العام القابل خرجنا عنها لك فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثا ولا تدخلها بالسلاح إلا والسيوف في القراب، وعلي أنّ هذا الهدي حيث ما حبسناه محلّه لا تقدمه علينا، فقال عليه السلام: نحن نسوق وأنتم

ص: 218


1- عن ابن عباس. الدر المنثور ج 6:75.
2- ساقطة من ب.

تردّون ؟! قال عمر بن الخطاب: واللّه ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ، فأتيت النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فقلت: ألست نبيّ اللّه ؟ قال: بلى، قلت: ألسنا علي الحقّ وعدوّنا علي الباطل ؟ فقال: بلى، قلت: فلم تعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: إنّي رسول اللّه ولست أعصيه، وهو ناصري، قلت: أو لست كنت تحدّثنا أنّا سنأتي البيت و نطوف به ؟ قال: بلى، أفأخبرتك أنّك تأتيه العام ؟ قلت: لا، قال: فإنّك تأتيه و تطوف به. فنحر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بدنة ودعا بحالقه فحلق شعره(1). وعن محمّد بن كعب: (كان كاتب رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم في هذا الصلح عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فلما قال له: اكتب: هذا ما صالح عليه محمّد بن عبد اللّه سهيل بن عمرو، جعل عليّ يتلكأ و يأبى أن يكتب إلا محمّد رسول الله، فقال عليه السلام: فإنّ لك مثلها، تعطيها وأنت مضطهد، فكتب)(2).

ولما قدم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم المدينة من الحديبية مكث بها عشرين ليلة، ثمّ خرج إلى خيبر فأعطى اللواء أبا بكر و بعثه إلى القوم، فانطلق فلقي القوم ثمّ انكشف هو وأصحابه فرجعوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ثمّ بعث عمر بن الخطاب و نهض بمن نهض معه من الناس، فلقوا أهل خيبر فانكشف هو وأصحابه فرجعوا إلي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يجبّنه أصحابه و يجبّنهم، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: لأعطين الراية غدا رجلا يحبّ اللّه ورسوله و يحبّه اللّه ورسوله، كرارا غير فرار، لا يرجع حتى يفتح اللّه علي يديه فبات الناس يدوكون بجملتهم أيّهم يعطاها، فلما أصبح قال: أين عليّ بن أبي طالب ؟ فقالوا: هو يا رسول اللّه يشتكي عينيه، فقال: فأرسلوا إليه، فأتي به فبصق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في عينيه ودعا له فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فبرز مرحب وهو يقول:

ص: 219


1- السيرة النبوية ج 3:439 وما بعدها.
2- ينظر: السيرة الحلبية ج 3:23.

قد علمت خيبر أنّي مرحب.... الأبيات

فقال عليّ عليه السلام:

أنا الّذي سمّتني أمّي حيدره *** كليث غابات كريه المنظره

أوفيهم بالصّاع كيل السّندره

فضرب مرحبا فقتله، وكان الفتح(1).

و قوله: وَ لِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ اعتراض، أي: وليكون ذلك آية فعل ذلك.

و يجوز أن يكون المعنى: وعدكم المغانم فعجل هذه الغنيمة وكف الأعداء لينفعكم بها، ولتكون اية للمؤمنين إذا وجدوا وعد اللّه بها صادقا؛ لأنّ الإخبار بالمغيبات معجزة وآية.

وَ يَهْدِيَكُمْ صِرٰاطاً مُسْتَقِيماً أي: و يزيدكم بصيرة وثقة بفضل اللّه ويقينا.

وَ أُخْرىٰ أي: وعدكم اللّه مغانم أخرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهٰا بعد، وهي مغانم هوازن في غزوة حنين.

قَدْ أَحٰاطَ اَللّٰهُ بِهٰا أي: قد قدر عليها واستولى، و أظهركم عليها و غنمكموها.

وَ لَوْ قٰاتَلَكُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا اَلْأَدْبٰارَ هذا من العلم بالمعدوم، علم سبحانه ما لم يكن أن لوكان كيف يكون.

سُنَّةَ اَللّٰهِ في موضع المصدر المؤكد، أي: سنّ اللّه جل جلاله غلبة

ص: 220


1- ينظر: مغازي الواقدي ج 2:654.

أنبيائه سنّة، وهو كقوله: كَتَبَ اَللّٰهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي (1).

وَ هُوَ اَلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ يعني: أيدي أهل مكة عَنْكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بالنهي بِبَطْنِ مَكَّةَ يوم الحديبية، وذلك أنّهم بعثوا أربعين رجلا ليصيبوا من المسلمين فأسروا، فخلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم سبيلهم. وعن عبد الله بن المغفل(2): (كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم جالسا في ظل شجرة وبين يديه علي يكتب كتاب الصلح، فخرج ثلاثون شابا عليهم السلاح، فدعا عليهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأخذ اللّه أبصارهم، فقمنا فأخذناهم، فخلى عليه السلام سبيلهم)(3). و قرئ: بِمٰا تَعْمَلُونَ بالتاء والياء.

[وَ اَلْهَدْيَ معطوف](4) علي الضمير المنصوب في وَ صَدُّوكُمْ أي:

وصدّوا وَ اَلْهَدْيَ مَعْكُوفاً محبوسا عن أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ و هو مكانه الذي يحلّ فيه نحره، أي: يجب، وبعض الحديبية من الحرم، وروي: أنّ مضارب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كانت في الحلّ و مصلاه في الحرم(5).

وَ لَوْ لاٰ رِجٰالٌ مُؤْمِنُونَ مستضعفون كانوا بمكة بين الكفار وَ نِسٰاءٌ مُؤْمِنٰاتٌ كذلك.

لَمْ تَعْلَمُوهُمْ صفة لرجال و نساء جميعا، و أَنْ تَطَؤُهُمْ بدل اشتمال منهم، أو من الضمير المنصوب في تَعْلَمُوهُمْ .

ص: 221


1- المجادلة: 21.
2- عبد اللّه بن المغفل بن عبد غنم المزني، شهد بيعة الشجرة، سكن البصرة ومات بها سنة 59 ه - وقيل: سنة 60 ه -. ينظر: الإصابة ج 2:372.
3- الكشف والبيان ج 9:54.
4- ساقطة من ب.
5- سيرة ابن هشام ج 4:443.

فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ هي مفعلة، من عرّه يعرّه: إذا دهاه ما يكرهه ويشق عليه بِغَيْرِ عِلْمٍ متعلّق ب - أَنْ تَطَؤُهُمْ يعني: أن تطؤوهم غير عالمين بهم، والوطء عبارة عن الإيقاع و الإبادة، وقال:

و وطئتنا وطأ على حنق *** وطأ المقيّد نابت الهرم(1)

والمعنى: لولا كراهة أن تهلكوا ناسا مؤمنين بين ظهراني المشركين مختلطين بهم، وأنتم غير عارفين بهم، فيصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقة لما كفّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ فحذف جواب (لولا) لدلالة الكلام عليه، ويجوز أن يكون لَوْ تَزَيَّلُوا كالتكرير ل - لَوْ لاٰ رِجٰالٌ مُؤْمِنُونَ لرجوعهما إلى معنى واحد، ويكون الجواب لَعَذَّبْنَا ، والمعرّة التي كانت تصيبهم إذا قتلوهم هي وجوب الدية والكفارة وسوء مقالة المشركين: إنّهم فعلوا بأهل دينهم مثل ما فعلوا بنا.

وقوله: لِيُدْخِلَ اَللّٰهُ فِي رَحْمَتِهِ تعليل لما دلّت عليه الآية، كأنّه قال: كان الكف ومنع التعذيب ليدخل اللّه في توفيقه للخير والطاعة مؤمنيهم، أو ليدخل في الإسلام من رغب فيه من مشركيهم.

لَوْ تَزَيَّلُوا لو تفرّقوا و تميّز بعضهم من بعض، من: زاله يزيله.

لَعَذَّبْنَا اَلَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة بأيديكم و بالسيف، و لكن اللّه يدفع عن الكفار بالمؤمنين وحرمة اختلاطهم بهم.

[سورة الفتح (48): آیة 26]

إِذْ جَعَلَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ اَلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ اَلْجٰاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اَللّٰهُ سَكِينَتَهُ عَلىٰ رَسُولِهِ وَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ اَلتَّقْوىٰ وَ كٰانُوا أَحَقَّ بِهٰا وَ أَهْلَهٰا وَ كٰانَ اَللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً

ص: 222


1- البيت للحارث بن وعلة الذهلي. شرح ديوان الحماسة ج 1:110.

[سورة الفتح (48): الآیات 27 الی 29]

لَقَدْ صَدَقَ اَللّٰهُ رَسُولَهُ اَلرُّؤْيٰا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرٰامَ إِنْ شٰاءَ اَللّٰهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لاٰ تَخٰافُونَ فَعَلِمَ مٰا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذٰلِكَ فَتْحاً قَرِيباً هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدىٰ وَ دِينِ اَلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ وَ كَفىٰ بِاللّٰهِ شَهِيداً مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَللّٰهِ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّٰاءُ عَلَى اَلْكُفّٰارِ رُحَمٰاءُ بَيْنَهُمْ تَرٰاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اَللّٰهِ وَ رِضْوٰاناً سِيمٰاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ اَلسُّجُودِ ذٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي اَلتَّوْرٰاةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي اَلْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوىٰ عَلىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ اَلزُّرّٰاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ اَلْكُفّٰارَ وَعَدَ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً

إِذْ يتعلّق بما قبله، أي: لعذّبناهم إذ صدوكم عن المسجد الحرام حين جعلوا فِي قُلُوبِهِمُ الأنفة التي تحمي الإنسان.

و حَمِيَّةَ اَلْجٰاهِلِيَّةِ قولهم: قد قتل محمّد وأصحابه أبناءنا وإخواننا، و يدخلون علينا في منازلنا، لا يتحدث العرب بذلك، وقيل: هي أنفتهم من الإقرار لمحمّد بالرسالة و الاستفتاح ببسم اللّه الرحمن الرحيم حين قالوا: ما نعرف هذا، و لكن اكتب: باسمك اللهم، هذا ما صالح عليه محمّد بن عبد اللّه(1).

فَأَنْزَلَ اَللّٰهُ سبحانه سَكِينَتَهُ عَلىٰ رَسُولِهِ وَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ فتوقروا و حلموا و صبروا علي الدخول تحت ما أرادوه.

وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ اَلتَّقْوىٰ وهي قوله: لا إله إلا اللّه وقيل: هي بسم

ص: 223


1- تفسير الطبري ج 26:66. تفسير القمي ج 2:313.

اللّه الرحمن الرحيم و محمّد رسول اللّه قد اختارها اللّه لنبيّه وللمؤمنين(1). ومعنى إضافتها إلي التقوى أنّها سبب التقوى و أساسها.

وَ كٰانُوا أَحَقَّ بالسكينة وَ أَهْلَهٰا ، أو أحقّ بتلك الكلمة من المشركين، أو أحقّ بمكة و دخولها.

لَقَدْ صَدَقَ اَللّٰهُ رَسُولَهُ اَلرُّؤْيٰا أي: صدقه في رؤياه تعالى و تقدّس عن الكذب وعن كل قبيح، فحذف الجار وأوصل الفعل.

و قوله: بِالْحَقِّ تعلّق ب - صَدَقَ أي: صدقه فيما رأي وفي حصوله صدقا ملتبسا بالحقّ ، أي: بالحكمة و الغرض الصحيح، وذلك ما فيه من الابتلاء و التمييز بين المخلص والمنافق، ويجوز أن يتعلّق ب - اَلرُّؤْيٰا أي: صدقه الرؤيا ملتبسة بالحقّ .

لَتَدْخُلُنَّ إِنْ شٰاءَ اَللّٰهُ جواب قسم محذوف، رأي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في المنام بالمدينة قبل أن يخرج إلي الحديبية: أنّ المسلمين يدخلون المسجد الحرام، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا، فلما انصرفوا من الحديبية ولم يدخلوا مكة قال المنافقون:

ما حلقنا ولا قصرنا ولا دخلنا المسجد الحرام، فنزلت(2).

أخبرهم بأنّ منامه حقّ وصدق، و أكّد الدخول بالقسم. وفي دخول إِنْ شٰاءَ اَللّٰهُ وجوه: أن يريد: لتدخلن جميعا إن شاء اللّه ولم يمت منكم أحد، ويريد: تعليم عباده أن يقولوا في عداتهم مثل ذلك متأدبين بأدب اللّه، أو هو متعلّق ب - آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ أي: يحلق بعضكم و يقصّر بعض وهو أن يؤخذ بعض الشعر.

ص: 224


1- عن الزهري. تفسير الماوردي ج 5:321.
2- تفسير الطبري 26:68.

فَعَلِمَ مٰا لَمْ تَعْلَمُوا من الحكمة والصلاح في الصلح المبارك لموقعه وتأخير فتح مكة.

[فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذٰلِكَ أي: من دون فتح مكة](1)فَتْحاً قَرِيباً و هو فتح خيبر لتستروح إليه قلوب المؤمنين إلى أن يتيسّر الفتح الموعود.

هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدىٰ أي: با لقرآن و بالدليل الواضح وَ دِينِ اَلْحَقِّ وهو الإسلام لِيُظْهِرَهُ ليعليه عَلَى جنس اَلدِّينِ كُلِّهِ يريد: كل الأديان المختلفة من أديان المشركين وأهل الكتاب. وهذا توكيد لما وعده سبحانه من الفتح، وتوطين لنفوس المؤمنين علي أنّ اللّه تعالى سيفتح لهم من البلاد ما يستقلون إليه فتح مكة، وقيل: إنّ تمام ذلك عند خروج المهدي عجل اللّه فرجه فلا يبقى في الأرض دين سوي دين الإسلام(2).

وَ كَفىٰ بِاللّٰهِ شَهِيداً علي أنّ ما وعده كائن لا محالة.

مُحَمَّدٌ إما خبر مبتدأ أي: هو محمّد؛ لتقدّم قوله: هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ ، وإما مبتدأ و رَسُولُ اَللّٰهِ عطف بيان.

وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ أصحابه أَشِدّٰاءُ عَلَى اَلْكُفّٰارِ رُحَمٰاءُ بَيْنَهُمْ جمع شديد و رحيم. وعن الحسن: (بلغ من تشدّدهم علي الكفار أنّهم كانوا يتحرّزون من ثيابهم [أن تلزق بثيابهم](3) و من أبدانهم أن تمسّ أبدانهم، وبلغ من تراحمهم فيما بينهم أن كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلا صافحه و عانقه)(4)، ومثله قوله: أَذِلَّةٍ عَلَى

ص: 225


1- ساقطة من ج.
2- إكمال الدين: 628.
3- ساقطة من ب.
4- الكشاف ج 4:346.

اَلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى اَلْكٰافِرِينَ (1) .

تَرٰاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً إخبار عن كثرة صلاتهم و مداومتهم عليها.

يَبْتَغُونَ أي: يلتمسون بذلك زيادة نعمة من اللّه ويطلبون مرضاته.

سِيمٰاهُمْ علامتهم فِي وُجُوهِهِمْ يريد: السمة التي تحدث في جبهة السجاد من كثرة السجود، يفسّرها قوله: مِنْ أَثَرِ اَلسُّجُودِ أي: من التأثير الذي يؤثره السجود، وكان يقال لعليّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام: ذو الثفنات، لأنّه كان قد ظهر في مواضع سجوده أشباه ثفنات البعير. وعن سعيد بن جبير: هي ندى الطهور و تراب الأرض(2).

ذٰلِكَ الوصف مَثَلُهُمْ أي: وصفهم العجيب الشأن فِي اَلتَّوْرٰاةِ وتم الكلام.

ثمّ ابتدأ: وَ مَثَلُهُمْ فِي اَلْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ وقيل: معناه: ذلك مثلهم في الكتابين جميعا(3)، ثمّ ابتدأ فقال: كَزَرْعٍ أي: هم كزرع أَخْرَجَ شَطْأَهُ أي: فراخه، يقال: أشطأ الزرع إذا فرّخ. و قرئ: شطأه بفتح الطاء.

فَآزَرَهُ [من المؤازرة](4) وهي المعاونة. وعن الأخفش: (أنّه أفعل)(5)، أي: شدّه و أعانه وقوّاه، وقرئ: فأزره أي: شد أزره فَاسْتَغْلَظَ فصار من الدقة إلى الغلظة.

ص: 226


1- المائدة: 54.
2- تفسير الماوردي ج 5:323.
3- عن مجاهد. تفسير الطبري ج 26:72.
4- ساقطة من ج.
5- معاني القرآن للأخفش ج 2:521.

فَاسْتَوىٰ عَلىٰ سُوقِهِ جمع ساق أي: فاستقام علي قصبه، وهذا مثل ضربه اللّه لبدء أمر الإسلام و ترقيه في الزيادة إلى أن قوي وعلا أمره.

يُعْجِبُ اَلزُّرّٰاعَ أي: يروع ذلك الزرع الأكرة الذين زرعوه.

لِيَغِيظَ بِهِمُ اَلْكُفّٰارَ هذا تعليل لما دلّ عليه تشبيههم بالزرع في نمائهم و ترقيهم في القوة و الاستكمال و تظاهرهم، ويجوز أن يكون تعليلا لقوله: وَعَدَ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا ، لأنّ الكفار إذا سمعوا ما أعدّ اللّه تعالى لهم في الآخرة من الأجر مع ما ينيلهم في الدنيا من العزّ غاظهم ذلك. أي: وعد اللّه من أقام منهم علي الإيمان والعمل الصالح مَغْفِرَةً لذنوبهم و ثوابا عَظِيماً و نعيما مقيما.

ص: 227

سورة الحجرات

اشارة

مدنية وهي ثمان عشرة آية.

في حديث أبيّ : (من قرأ (سورة الحجرات) أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من أطاع اللّه ومن عصاه)(1)، وعن الصادق عليه السلام: (من قرأها في كل يوم أو في كل ليلة كان من زوّار محمّد صلى الله عليه و آله و سلم)(2).

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة الحجرات (49): الآیات 1 الی 5]

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اَللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ إِنَّ اَللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَرْفَعُوا أَصْوٰاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ اَلنَّبِيِّ وَ لاٰ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمٰالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لاٰ تَشْعُرُونَ إِنَّ اَلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوٰاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اَللّٰهِ أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ اِمْتَحَنَ اَللّٰهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوىٰ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ إِنَّ اَلَّذِينَ يُنٰادُونَكَ مِنْ وَرٰاءِ اَلْحُجُرٰاتِ أَكْثَرُهُمْ لاٰ يَعْقِلُونَ وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتّٰى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكٰانَ خَيْراً لَهُمْ وَ اَللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ

ص: 228


1- الكشف والبيان ج 9:69.
2- ثواب الأعمال: 115

لاٰ تُقَدِّمُوا يجوز أن يكون من: قدّم بمعنى تقدّم، مثل: وجّه وبيّن بمعنى:

توجّه وتبيّن، ويعضده قراءة من قرأ: لا تقدّموا، أي: لا تتقدّموا فحذف أحد التاءين، ويجوز أن يكون متعدّيا، يقال: قدّمه وأقدمه، وحذف المفعول ليتناول كل ما تقدّم. والمعنى: لا تقطعوا أمرا دون أن يأذن الله ورسوله فيه، وعن ابن عباس:

(لا تتكلّموا قبل أن يتكلّم رسول اللّه وإذا سئل عن مسألة فلا تسبقوه بالجواب حتى يجيب أوّلا)(1). وعن الحسن: (نزل في قوم ذبحوا الأضحية قبل صلاة العيد فأمرهم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بالإعادة)(2).

وعلي الجملة فالمراد: كونوا تبعا لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و أخّروا أقوالكم و أفعالكم عن قوله و فعله، ولا تعملوا شيئا من ذات أنفسكم حتى تستأمروه.

وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ فإنّكم إن اتقيتموه لم تسبقوا رسوله بقول ولا فعل حتى يأمركم به.

إِنَّ اَللّٰهَ سَمِيعٌ لأقوالكم عَلِيمٌ بأفعالكم.

ثمّ أعاد سبحانه النداء عليهم استدعاء منهم لتجديد الاستبصار عند كل خطاب وارد: لاٰ تَرْفَعُوا أَصْوٰاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ اَلنَّبِيِّ يعني: إذا نطق و نطقتم فعليكم أن لا تبلغوا بأصواتكم وراء الحد الذي يبلغه صوته.

وَ لاٰ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أي: لا تجهروا له جهرا مثل جهر بعضكم لبعض. وهذا يدلّ علي أنّهم نهوا عن جهر موصوف بمماثلة ما قد اعتادوه منه فيما بينهم، وهو أن يكون خاليا من مراعاة حشمة النبوّة وجلالة مقدارها. وقيل: معناه: ولا تقولوا: يا محمّد يا أحمد، كما يخاطب بعضكم بعضا، بل

ص: 229


1- تفسير الطبري ج 26:74.
2- تفسير الطبري ج 26:74

خاطبوه بالتعظيم وقولوا: يا رسول اللّه(1). وعن ابن عباس: (إنّها نزلت في ثابت ابن قيس بن شماس(2) وكان في أذنه وقر، وكان جهوري الصوت، فكان إذا تكلّم رفع صوته و ربّما تأذى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بصوته)(3)، وعن أنس: (لما نزلت الآية فقد ثابت، فتفقده رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأخبر بشأنه، فدعاه فسأله، فقال: يا رسول اللّه، لقد أنزلت هذه الآية وإنّي رجل جهير الصوت فأخاف أن يكون عملي قد حبط، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: لست هناك، إنّك تعيش بخير و تموت بخير و إنّك من أهل الجنّة)(4).

أَنْ تَحْبَطَ أَعْمٰالُكُمْ مفعول له، ومعناه: انتهوا عما نهيتم عنه لحبوط أعمالكم، أي: لخشية حبوطها، فحذف المضاف وَ أَنْتُمْ لاٰ تَشْعُرُونَ أنّ أعمالكم حبطت.

إِنَّ اَلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوٰاتَهُمْ أي: يخفضونها عِنْدَ رَسُولِ اَللّٰهِ إجلالا له.

أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ اِمْتَحَنَ اَللّٰهُ قُلُوبَهُمْ أي: اختبرها فأخلصها لِلتَّقْوىٰ من قولهم: امتحن فلان لأمر كذا وجرّب فهو مضطلع به غير مقصّر فيه، أو وضع الامتحان موضع المعرفة، لأنّ الشيء إنّما يتحقّق بالاختبار، فكأنّه قال: عرف اللّه قلوبهم للتقوي، ويكون اللام متعلّقة بمحذوف كما في قولك: أنت لهذا الأمر، أي:

كائن له و مختص به، قال:

أعدّاء من لليعملات على الوجى(5)

ص: 230


1- عن مجاهد. تفسير الطبري ج 26:75.
2- ثابت بن قيس بن شماس الانصاري الخزرجي، كان خطيب الانصار، شهد أحدا وما بعدها من المشاهد، قتل يوم اليمامة. ينظر: الاستيعاب ج 1:192.
3- الكشاف ج 4:352.
4- صحيح البخاري ج 3:191.
5- البيت لعتي بن مالك العدوي. ديوان الحماسة: 247، وبقيته: وأضياف ليل بيتوا لنزول.

وهي مع معمولها في موضع الحال.

إِنَّ اَلَّذِينَ يُنٰادُونَكَ مِنْ وَرٰاءِ اَلْحُجُرٰاتِ من خلفها أو قدّامها، و (من) لابتداء الغاية، وإنّ النداء إنشاء من ذلك المكان، و الحجرة: البقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها، وهي فعلة بمعنى مفعولة كالغرفة و القبضة. والمراد حجرات نساء رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم. وروي: أنّ وفد بني تميم أتوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقت الظهيرة وهو راقد فنادوه: يا محمّد، اخرج إلينا، فاستيقظ فخرج، ونزلت(1).

أَكْثَرُهُمْ لاٰ يَعْقِلُونَ سجل عليهم بالسفه و الجهل لما أقدموا عليه.

وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا في محلّ رفع علي الفاعلية، لأنّ المعنى: ولو ثبت صبرهم، و الصبر: حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها، وقولهم: صبروا عن كذا حذف منه المفعول وهو النفس، وهو حبس فيه شدّة علي المحبوس، ولذلك قيل للحبس علي اليمين أو القتل: صبر.

و الفائدة في قوله: إِلَيْهِمْ أنّه لو خرج ولم يكن خروجه لأجلهم، للزمهم أن يصبروا إلى أن يعلموا أنّ خروجه إليهم و لأجلهم.

لَكٰانَ خَيْراً لَهُمْ في (كان) إما ضمير مصدر الفعل المضمر بعد (لو)، وإما ضمير مصدر صَبَرُوا كقولهم: من كذب كان شرّا له.

[سورة الحجرات (49): الآیات 6 الی 7]

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جٰاءَكُمْ فٰاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهٰالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلىٰ مٰا فَعَلْتُمْ نٰادِمِينَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اَللّٰهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ اَلْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ اَلْإِيمٰانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ ، اَلْكُفْرَ وَ اَلْفُسُوقَ وَ اَلْعِصْيٰانَ

ص: 231


1- أسباب النزول: 275.

[سورة الحجرات (49): الآیات 7 الی 10]

أُولٰئِكَ هُمُ اَلرّٰاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اَللّٰهِ وَ نِعْمَةً وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَ إِنْ طٰائِفَتٰانِ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ اِقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدٰاهُمٰا عَلَى اَلْأُخْرىٰ فَقٰاتِلُوا اَلَّتِي تَبْغِي حَتّٰى تَفِيءَ إِلىٰ أَمْرِ اَللّٰهِ فَإِنْ فٰاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اَللّٰهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ

الفاسق هو الوليد بن عقبة(1)؛ أخو عثمان لأمه، وهو الذي ولاه عثمان الكوفة، فصلى بالناس وهو سكران صلاة الفجر أربعا ثمّ قال: أزيدكم [فإنّي نشيط؟!](2). بعثه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مصدّقا(3) إلى بني المصطلق، وكانت بينه و بينهم إحنة(4) فاستقبلوه فظن أنّهم همّوا بقتله فرجع وقال: إنّهم قد ارتدّوا و منعوا الزكاة، فغضب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وهمّ أن يغزوهم فنزلت(5).

وفي تنكير الفاسق والنبأ معنى الشياع، والمراد: أي فاسق جاءكم بأي نبأ كان فَتَبَيَّنُوا صدقه من كذبه، و تطلّبوا بيان الأمر و انكشاف الحقيقة ولا تعتمدوا قول الفاسق. وقرئ: فتثبّتوا وروي ذلك عن الباقر عليه السلام. و التثبّت و التبيّن متقاربان وهما التوقف وطلب الثبات والبيان.

ص: 232


1- الوليد بن عقبة بن أبي معيط الأموي، أسلم يوم الفتح ونشأ في كنف عثمان الذي ولّاه الكوفة، وقصة صلاته بالناس الصبح أربعا وهو سكران مشهورة، وقصة عزله بعد أن ثبت عليه شرب الخمر مشهورة أيضا، أقام بالرقة ومات بها زمن معاوية. ينظر: الإصابة ج 3:638.
2- ساقطة من ب.
3- المصدّق: الذي يأخذ صدقات الغنم. (الصحاح: مادة صدق).
4- الإحنة: الحقد. (الصحاح: مادة إحن).
5- أسباب النزول: 277.

أَنْ تُصِيبُوا مفعول له أي: كراهة إصابتكم.

قَوْماً بِجَهٰالَةٍ حال بمعنى: جاهلين بحقيقة الأمر، كقوله: وَ رَدَّ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ (1).

فَتُصْبِحُوا أي: فتصيروا عَلىٰ مٰا فَعَلْتُمْ من إصابتهم بالخطأ نٰادِمِينَ و الندم ضرب من الغمّ ، وهو أن تغتمّ علي ما وقع منك تتمنّى أنّه لم يقع.

لَوْ يُطِيعُكُمْ هذه الجملة المصدّرة ب - (لو) حال من أحد الضميرين في فِيكُمْ المرفوع المستكن أو المجرور الظاهر. والمعنى: إنّ فيكم رسول اللّه علي حالة يجب عليكم تغييرها، [أو أنتم علي حالة يجب عليكم تغييرها](2)، وهي أنّكم تحاولون منه أن يعمل في الحوادث ما تستصوبونه فعل التابع لغيره المطاوع له، ولو فعل ذلك لَعَنِتُّمْ أي: لوقعتم في الإثم والهلاك. وهذا يدلّ علي أنّ بعض المؤمنين زيّنوا لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تصديق قول الوليد و الإيقاع ببني المصطلق، وأنّ نظائر ذلك من الهنات كانت تفرط منهم، و أنّ بعضهم يزعهم(3) التقوي عن الجسارة علي ذلك، وهم الذين استثناهم بقوله: وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ اَلْإِيمٰانَ أي: إلى بعضكم، وهم اَلَّذِينَ اِمْتَحَنَ اَللّٰهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوىٰ . والمعنى في تحبيب اللّه وتكريهه: اللطف والإمداد بالتوفيق، وكل عاقل يعلم أنّ الرجل لا يكون ممدوحا بفعل غيره، وإذا حملت الآية علي ظاهرها أدي ذلك إلى أنّ اللّه جل وعزّ أثنى عليهم بفعل نفسه.

و اَلْكُفْرَ : تغطية نعم اللّه تعالي و عظمها بالجحود.

ص: 233


1- الأحزاب: 25.
2- ساقطة من ج.
3- يزعهم: يكفّهم. (الصحاح: مادة وزع).

وَ اَلْفُسُوقَ الخروج عن قصد الإيمان و محجّته بركوب المعاصي، وقيل: هو الكذب(1) وهو المروي عن الباقر عليه السلام(2).

وَ اَلْعِصْيٰانَ المعصية.

أُولٰئِكَ هُمُ اَلرّٰاشِدُونَ المهتدون إلى محاسن الأمور، المستقيمون علي الحق.

فَضْلاً مفعول له، أو مصدر من غير فعله، و الفضل والنعمة بمعنى الإفضال والإنعام.

وعن ابن عباس قال: (وقف رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم علي مجلس بعض الأنصار وهو علي حمار، فراث الحمار فأمسك عبد اللّه بن أبيّ أنفه وقال: خلّ سبيل حمارك فقد آذانا نتنه، فقال عبد اللّه بن رواحة: واللّه لحمار رسول اللّه أطيب ريحا منك، [ومضى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم](3) وطال الخوض بينهما حتى استبّا وجاء قومهما وهم الأوس والخزرج فتجالدوا بالعصي فرجع إليهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأصلح بينهم، فنزلت، و قرأها عليهم فاصطلحوا)(4).

و البغي: الاستطالة والظلم، والفيء: الرجوع، وقد يسمّى به الظل و الغنيمة؛ لأنّ الظل يرجع، و الغنيمة ما يرجع إلى المسلمين من أموال الكفار.

فَإِنْ فٰاءَتْ بِالْعَدْلِ أي: رجعت و أنابت إلى طاعة الله فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا بين الطائفتين بالعدل وَ أَقْسِطُوا أي: اعدلوا إِنَّ اَللّٰهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ أي:

ص: 234


1- عن ابن زيد. تفسير الماوردي ج 5:329.
2- تفسير العياشي ج 1:96.
3- ساقطة من ب.
4- صحيح البخاري ج 2:111.

العادلين.

إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ في الدين فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ بين كل رجلين تقاتلا و تخاصما، أي: كفّوا الظالم عن المظلوم و أعينوا المظلوم. وفي الحديث:

(المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه)(1). وقيل: المراد بالأخوين: الأوس والخزرج(2). و قرئ: بين إخوتكم على الجمع.

وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ فإنّكم إن فعلتم ذلك و حملكم التقوى علي التواصل والائتلاف، فتصل عند ذلك رحمة اللّه إليكم، وتشتمل رأفته عليكم.

[سورة الحجرات (49): الآیات 11 الی 14]

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسىٰ أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَ لاٰ نِسٰاءٌ مِنْ نِسٰاءٍ عَسىٰ أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَ لاٰ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَ لاٰ تَنٰابَزُوا بِالْأَلْقٰابِ بِئْسَ اَلاِسْمُ اَلْفُسُوقُ بَعْدَ اَلْإِيمٰانِ وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلظّٰالِمُونَ يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ اَلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ اَلظَّنِّ إِثْمٌ وَ لاٰ تَجَسَّسُوا وَ لاٰ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ إِنَّ اَللّٰهَ تَوّٰابٌ رَحِيمٌ يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ إِنّٰا خَلَقْنٰاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثىٰ وَ جَعَلْنٰاكُمْ شُعُوباً وَ قَبٰائِلَ لِتَعٰارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللّٰهِ أَتْقٰاكُمْ إِنَّ اَللّٰهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ قٰالَتِ اَلْأَعْرٰابُ آمَنّٰا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنٰا وَ لَمّٰا يَدْخُلِ اَلْإِيمٰانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ إِنْ تُطِيعُوا اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ لاٰ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمٰالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

القوم: الرجال خاصة لأنّهم القوام بأمور النساء، وهو في الأصل جمع قائم،

ص: 235


1- صحيح البخاري ج 2:66، الكافي ج 2:167 باختلاف يسير.
2- عن سعيد بن جبير. تفسير الماوردي ج 5:330.

كصوم وزور في جمع صائم وزائر، قال زهير:

وما أدري وسوف أخال أدري *** أقوم آل حصن أم نساء(1)

والمعنى لاٰ يَسْخَرْ بعض الرجال من بعض، ولا بعض النساء من بعض.

و قوله: عَسىٰ أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ كلام مستأنف، وقد ورد مورد جواب المستخبر عن العلة الموجبة لما جاء النهي عنه، والمعنى: إنّ المسخور منه ربّما كان عند اللّه خيرا من الساخر، فينبغي أن لا يستهزئ أحد بمن يراه رث الحال أو ذا عاهة، فلعله أتقى عند اللّه وأخلص ضميرا ممن هو علي ضد صفته، فيكون قد حقّر من وقّره اللّه.

وَ لاٰ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ أي: لا يطعن بعضكم علي بعض، ومثله: لاٰ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ (2) لأنّ المؤمنين كنفس واحدة، أي: خصّوا أنفسكم بالانتهاء عن عيبها والطعن فيها، ولا عليكم أن تعيبوا غيركم ممن لا يدين بدينكم. وفي الحديث:

(اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس)(3). واللمز: الطعن والعيب في المشهد، [والهمز: في الغيب، وقيل: إنّ اللمز ما يكون باللسان و بالعين والإشارة](4)، و الهمز لا يكون إلا باللسان.

وَ لاٰ تَنٰابَزُوا بِالْأَلْقٰابِ أي: لا تداعوا بها، وهو تفاعل من النبز، وبنو فلان يتنابزون و يتنازبون بمعنى، و التلقيب المنهي عنه هو ما يدخل علي المدعو به كراهة لكونه ذما له وشينا، فأما ما يحبّه وما يزيّنه وينوّه به فلا بأس به. وفي الحديث: (من

ص: 236


1- شعر زهير بن أبي سلمى: 136.
2- النساء: 29.
3- سنن البيهقي الكبري ج 10:210 بالمعنى.
4- ساقطة من ج.

حقّ المؤمن علي أخيه أن يسمّيه بأحبّ أسمائه إليه)(1). وعن ابن عباس: (إنّ أم سلمة ربطت حقويها بسبيبة - وهي ثوب أبيض - وسدلت طرفها خلفها فكانت تجرّه، فقالت عائشة لحفصة: انظري ما تجرّ خلفها كأنّه لسان كلب، فهذه كانت سخريتهما)(2). وقيل: إنّها عيّرتها بالقصر وأشارت بيدها أنّها قصيرة(3). وقيل:

إنّ صفية بنت حيي أتت رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم تبكي وقالت: إنّ عائشة تعيّرني وتقول:

يايهودية بنت يهوديين، فقال لها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: (هلا قلت إنّ أبي هارون، وإنّ عمي موسى، و إنّ زوجي محمّد فنزلت(4).

بِئْسَ اَلاِسْمُ اَلْفُسُوقُ الاسم هنا بمعنى الذكر من قولهم: طار اسمه في الناس بالكرم أو باللؤم، أي: صيته وذكره، وحقيقته: ما سما من ذكره وارتفع بين الناس، كأنّه قال: بئس الاسم المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائر أن يذكروا بالفسوق.

وفي قوله: بَعْدَ اَلْإِيمٰانِ ثلاثة أوجه:

أحدها: استقباح الجمع بين الإيمان والفسق، كما يقال: بئس الشأن بعد الكبر الصبوة.

والثاني: أن يكون المعنى: بئس الذكر أن يذكر الرجل بالفسق بعد إيمانه، وذلك أنّهم كانوا يقولون لمن أسلم من اليهود: يا يهودي يا فاسق، فنهوا عنه، وتكون الجملة علي هذا التفسير متعلّقة بالنهي عن التنابز.

ص: 237


1- المستدرك على الصحيحين ج 3:429.
2- أسباب النزول: 279.
3- أسباب النزول: 279.
4- أسباب النزول: 279.

والثالث: أن يجعل من فسق غير مؤمن، كما تقول للمتحوّل عن التجارة إلى الفلاحة: بئست الحرفة الفلاحة بعد التجارة.

اِجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ اَلظَّنِّ و هو أن يظن بأهل الخير سوءا، يقال: جنّبه الشرّ إذا أبعده عنه، وحقيقته: جعله منه في جانب، فتعدّى إلي مفعولين، و مطاوعه اجتنب الشرّ، فتعدّى إلى مفعول واحد.

إِنَّ بَعْضَ اَلظَّنِّ إِثْمٌ أي: ذنب يستحقّ به العقاب.

وَ لاٰ تَجَسَّسُوا والتجسس - بالجيم و الحاء - واحد، و الجيم تفعّل من الجس، كما أنّ التلمّس بمعنى التطلّب من اللمس، و الحاء بمعنى التعرّف من الحس، و لتقاربهما قيل لمشاعر الإنسان: الحواس، بالحاء و الجيم. والمراد: النهي عن تتبع عورات المسلمين و معائبهم.

وَ لاٰ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً يقال: غابه و اغتابه كغاله و اغتاله، و الغيبة من الاغتياب كالغيلة من الاغتيال، وهي ذكر السوء في الغيبة. وسئل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عن الغيبة فقال: (أنّ تذكر أخاك بما يكره، فإن كان فيه فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته)(1).

أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ تمثيل و تصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب علي أفظع وجه. وعن قتادة: (كما تكره إن وجدت جيفة مدودة أن تأكل منها، كذلك فاكره لحم أخيك وهو حي)(2).

و مَيْتاً نصب على الحال من لَحْمَ أَخِيهِ أو من الأخ. ولما قررهم سبحانه بأنّ أحدا منهم لا يحبّ أكل جيفة أخيه عقّب ذلك بقوله: فَكَرِهْتُمُوهُ

ص: 238


1- سنن الترمذي ج 3:220، ينظر: معاني الأخبار: 178.
2- الكشف والبيان ج 9:84.

أي: فتحقّقت بوجوب الإقرار عليكم كراهتكم له ونفور طباعكم منه، فاكرهوا ما هو نظيره من الغيبة. وروي: أنّ أبا بكر وعمر بعثا سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم ليأتي لهما بطعام، فبعثه إلي أسامة بن زيد - وكان خازن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم علي رحله - فقال:

ما عندي شيء، فعاد إليهما فقالا: بخل أسامة، ولو بعثنا سلمان إلي بئر سميحة لغار ماؤها، ثمّ انطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم، فقال لهما: ما لي أري خضرة اللحم في أفواهكما!، قالا: يا رسول الله، ما تناولنا اليوم لحما، قال: ظللتم تأكلون لحم سلمان و أسامة، فنزلت(1).

وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ بترك ما أمرتم باجتنابه، و الندم علي ما وجد منكم منه إِنَّ اَللّٰهَ تَوّٰابٌ يقبل توبتكم.

إِنّٰا خَلَقْنٰاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثىٰ من آدم وحواء، وقيل: خلقنا كل واحد منكم من أب وأم، فما منكم أحد إلا وهو يدلي بمثل ما يدلي به الآخر، فلا وجه للتفاخر و التفاضل في النسب(2).

وَ جَعَلْنٰاكُمْ شُعُوباً جمع شعب وهو الطبقة الأولي من طبقات النسب مثل مضر وربيعة.

وَ قَبٰائِلَ وهي دون الشعوب كبكر من ربيعة و تميم من مضر، ثمّ العمارة دون القبيلة، ثمّ البطن، ثمّ الفخذ، ثمّ الفصيلة.

لِتَعٰارَفُوا أي: لتتعارفوا فيعرف بعضكم بعضا بنسبه و أبيه وقومه، لا لأن تتفاخروا بالآباء والأجداد و تدّعوا التفاوت و التفاضل.

ثمّ بين سبحانه الخصلة التي يكتسب الإنسان بها الكرم و الشرف عند اللّه

ص: 239


1- الكشف والبيان ج 9:82.
2- عن مجاهد. تفسير الطبري ج 26:88.

تعالي و يفضل غيره فقال: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللّٰهِ أَتْقٰاكُمْ أي: أرفعكم منزلة عند اللّه و أكثركم ثوابا، أتقاكم لمعاصيه و أعملكم بطاعته.

الإيمان: هو التصديق مع الثقة وطمأنينة النفس، والإسلام: الدخول في السلم، والخروج من أن يكون حربا للمؤمنين بإظهار الشهادتين، ألا تري إلى قوله: وَ لَمّٰا يَدْخُلِ اَلْإِيمٰانُ فِي قُلُوبِكُمْ .

وضع قوله لَمْ تُؤْمِنُوا موضع كذبتم بدلالة قوله في صفة المخلصين:

أُولٰئِكَ هُمُ اَلصّٰادِقُونَ تعريضا بأنّ هؤلاء هم الكاذبون.

وَ لٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنٰا ولم يقل: و لكن أسلمتم ليكون خارجا مخرج الزعم والدعوي، كما كان قولهم: آمَنّٰا كذلك.

لاٰ يَلِتْكُمْ أي: لا ينقصكم ولا يظلمكم مِنْ ثواب أَعْمٰالِكُمْ شَيْئاً يقال: ألته حقّه يألته ألتا، ولاته يليته بمعناه، وقرئ لاٰ يَلِتْكُمْ ولا يألتكم علي اللغتين. وعن ابن عباس: (إنّ نفرا من بني أسد قدموا المدينة في سنة جدبة فأظهروا الشهادة، وأغلوا أسعار المدينة، وهم يغدون و يروحون إلي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويقولون: أتتك العرب بأنفسها علي ظهور رواحلها، وجئناك با لأثقال و الذراري، يريدون الصدقة و يمنّون عليه، فنزلت)(1).

[سورة الحجرات (49): الآیات 15 الی 17]

إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتٰابُوا وَ جٰاهَدُوا بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ أُولٰئِكَ هُمُ اَلصّٰادِقُونَ قُلْ أَ تُعَلِّمُونَ اَللّٰهَ بِدِينِكُمْ وَ اَللّٰهُ يَعْلَمُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ وَ اَللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاٰ

ص: 240


1- أسباب النزول: 281.

[سورة الحجرات (49): الآیات 17 الی 18]

تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاٰمَكُمْ بَلِ اَللّٰهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدٰاكُمْ لِلْإِيمٰانِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ إِنَّ اَللّٰهَ يَعْلَمُ غَيْبَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَللّٰهُ بَصِيرٌ بِمٰا تَعْمَلُونَ

ثُمَّ لَمْ يَرْتٰابُوا ثمّ لم يشكّوا بعد ثلج صدورهم بالإيمان بأن يعترضهم الشيطان أو بعض المضلين فيشككهم ويقذف في قلوبهم ما يثلم اليقين.

وَ جٰاهَدُوا العدو المحارب أو الشيطان أو النفس الأمارة بالسوء.

أُولٰئِكَ هُمُ الذين صدقوا في قولهم: آمنا، ولم يكذبوا كما كذب أعراب بني أسد، وهم الذين إيمانهم إيمان صدق وحقّ .

قُلْ أَ تُعَلِّمُونَ اَللّٰهَ بِدِينِكُمْ أي: أتخبرون اللّه بدينكم، والمعنى: إنّه عالم بذلك، ومحيط بضمائركم، ولا يحتاج إلى إخباركم به، لأنه يَعْلَمُ جميع المعلومات لذاته، فلا يحتاج إلى علم يعلم به ولا إلى من يعلمه. يقال: منّ عليه بيد أسداها إليه إذا اعتدّها عليه إنعاما، أي: لا تعتدّوا عليّ بما ليس جديرا بالاعتداد به من حديثكم الذي حقّ تسميته أن يقال له: إسلام لا إيمان بَلِ اَللّٰهُ يعتدّ عَلَيْكُمْ بأن أمدّكم بتوفيقه حين هَدٰاكُمْ لِلْإِيمٰانِ علي ما زعمتم و ادعيتم: أنّكم أرشدتم إليه و وفقتم له، إن صحّ زعمكم وصدقت دعواكم، إلا أنّكم تزعمون ما اللّه عالم بخلافه.

وفي إضافة الإسلام إليهم وإيراد الإيمان غير مضاف ما لا يخفى علي متأمله، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، تقديره: إن كنتم صادقين في ادعائكم الإيمان فلله المنة عليكم. و قرئ: بِمٰا تَعْمَلُونَ بالتاء والياء، وفيه إشارة إلى كونهم غير صادقين في دعواهم، أي: لا يخفى عليه شيء من أسراركم فكيف لا يظهر علي صدقكم و كذبكم ؟!.

ص: 241

سورة ق

اشارة

مكية إلا آية، وهي خمس وأربعون آية.

وفي حديث أبيّ : (من قرأ (سورة ق) هون اللّه عليه سكرات الموت)(1)، وعن الباقر عليه السلام: (من قرأ في فرائضه و نوافله (سورة ق) وسّيع اللّه عليه في رزقه، وأعطاه اللّه كتابه بيمينه وحاسبه حسابا يسيرا)(2).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة ق (50): الآیات 1 الی 9]

ق وَ اَلْقُرْآنِ اَلْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جٰاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقٰالَ اَلْكٰافِرُونَ هٰذٰا شَيْ ءٌ عَجِيبٌ أَ إِذٰا مِتْنٰا وَ كُنّٰا تُرٰاباً ذٰلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ قَدْ عَلِمْنٰا مٰا تَنْقُصُ اَلْأَرْضُ مِنْهُمْ وَ عِنْدَنٰا كِتٰابٌ حَفِيظٌ بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمّٰا جٰاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى اَلسَّمٰاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنٰاهٰا وَ زَيَّنّٰاهٰا وَ مٰا لَهٰا مِنْ فُرُوجٍ وَ اَلْأَرْضَ مَدَدْنٰاهٰا وَ أَلْقَيْنٰا فِيهٰا رَوٰاسِيَ وَ أَنْبَتْنٰا فِيهٰا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَ ذِكْرىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ وَ نَزَّلْنٰا مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً مُبٰارَكاً فَأَنْبَتْنٰا بِهِ جَنّٰاتٍ وَ حَبَّ

.

ص: 242


1- الكشف والبيان ج 9:92.
2- ثواب الأعمال: 115

[سورة ق (50): الآیات 9 الی 11]

اَلْحَصِيدِ وَ اَلنَّخْلَ بٰاسِقٰاتٍ لَهٰا طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبٰادِ وَ أَحْيَيْنٰا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذٰلِكَ اَلْخُرُوجُ

الكلام في ق وَ اَلْقُرْآنِ اَلْمَجِيدِ كالكلام في ص وَ اَلْقُرْآنِ ذِي اَلذِّكْرِ (1)

لأنّهما في أسلوب واحد، و اَلْمَجِيدِ : ذو المجد والشرف علي غيره من الكتب، الكريم علي اللّه.

بَلْ عَجِبُوا أي: تعجّبوا مما ليس بعجب وهو أَنْ جٰاءَهُمْ رجل مِنْهُمْ قد عرفوا أمانته و عدالته ينذرهم بالمخوف من البعث والجزاء.

فَقٰالَ اَلْكٰافِرُونَ وضع الظاهر موضع الضمير ليدلّ علي أنّهم في قولهم:

هٰذٰا شَيْ ءٌ عَجِيبٌ مقدمون علي كفر عظيم.

و هٰذٰا إشارة إلى الرجع، و (إذا) منصوب بمضمر، والمعنى: أحين نموت ونصير ترابا نبعث ونرجع ؟!.

ذٰلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ مستبعد مستنكر، كما تقول: هذا قول بعيد، أي: بعيد من الوهم والعادة.

قَدْ عَلِمْنٰا ردّ لاستبعادهم الرجع، أي: علمنا ما تأكل اَلْأَرْضُ من لحومهم و تبليه من عظامهم، فلا يتعذر علينا رجعهم أحياء، وعن السدي: (مٰا تَنْقُصُ اَلْأَرْضُ مِنْهُمْ : ما يموت ويدفن في الأرض منهم)(2).

وَ عِنْدَنٰا كِتٰابٌ حَفِيظٌ أي: محفوظ عن البلى والدروس، وهو كتاب الحفظة، أو كتاب حافظ لما أودع وكتب فيه.

ص: 243


1- ص: 1.
2- معالم التنزيل ج 4:93.

بَلْ كَذَّبُوا إضراب أتبع الإضراب الأوّل للدلالة على أنّهم جاءوا بما هو أفظع من تعجّبهم، وهو التكذيب بِالْحَقِّ الذي هو النبوّة المؤيدة بالمعجزات.

فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ أي: مختلط مضطرب، يقال: مرج الخاتم في إصبعه وخرج، فمرة يقولون: مجنون، و تارة: ساحر، وتارة: شاعر.

أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا حين كفروا بالبعث إِلَى آثار قدرة اللّه في بناء اَلسَّمٰاءِ مع عظمها وحسن انتظامها كَيْفَ بَنَيْنٰاهٰا بغير علاقة و عماد وَ مٰا لَهٰا مِنْ فُرُوجٍ أي: شقوق وفتوق، كقوله: هَلْ تَرىٰ مِنْ فُطُورٍ (1).

وَ اَلْأَرْضَ مَدَدْنٰاهٰا دحوناها و بسطناها وَ أَلْقَيْنٰا فِيهٰا رَوٰاسِيَ أي: جبالا ثوابت.

مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ من كل صنف تبتهج به لحسنه.

تَبْصِرَةً ليبصر به ويذكر كل عَبْدٍ مُنِيبٍ راجع إلى ربّه، مفكر في بدائع خلقه.

مٰاءً مُبٰارَكاً أي: مطرا و غيثا يكثر النفع به والبركة.

فَأَنْبَتْنٰا بِهِ جَنّٰاتٍ أي: بساتين فيها أشجار تشتمل علي الفواكه.

وَ حَبَّ اَلْحَصِيدِ أي: وحبّ الزرع الذي من شأنه أن يحصد، وهو ما يقتات به من نحو الحنطة والشعير وغيرهما.

وأنبتنا به النخل بٰاسِقٰاتٍ طوالا في السماء لَهٰا طَلْعٌ نَضِيدٌ [منضود](2)، نضد بعضه على بعض، يريد: كثرة الطلع و تراكمه وكثرة ما فيه من الثمر.

ص: 244


1- الملك: 3.
2- ساقطة من ب.

رِزْقاً لِلْعِبٰادِ مفعول له، أي: أنبتناها لنرزقهم، أو مصدر أَنْبَتْنٰا لأنّ الإنبات في معنى الرزق.

و كَذٰلِكَ اَلْخُرُوجُ أي: كما أحيينا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً لا تنبت شيئا فنبتت وعاشت كذلك تخرجون أحياء بعد موتكم. والكاف في موضع الرفع علي الابتداء.

[سورة ق (50): الآیات 12 الی 20]

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ أَصْحٰابُ اَلرَّسِّ وَ ثَمُودُ وَ عٰادٌ وَ فِرْعَوْنُ وَ إِخْوٰانُ لُوطٍ وَ أَصْحٰابُ اَلْأَيْكَةِ وَ قَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ اَلرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ أَ فَعَيِينٰا بِالْخَلْقِ اَلْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسٰانَ وَ نَعْلَمُ مٰا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ اَلْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى اَلْمُتَلَقِّيٰانِ عَنِ اَلْيَمِينِ وَ عَنِ اَلشِّمٰالِ قَعِيدٌ مٰا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّٰ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وَ جٰاءَتْ سَكْرَةُ اَلْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذٰلِكَ مٰا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ ذٰلِكَ يَوْمُ اَلْوَعِيدِ

كل من هؤلاء المذكورين كذّب اَلرُّسُلَ الذين بعثوا إليهم.

فَحَقَّ أي: وجب وحلّ وَعِيدِ وهو كلمة العذاب، وفيه تسلية لنبيّنا صلى الله عليه و آله و سلم ووعيد للكفار.

أَ فَعَيِينٰا الهمزة للإنكار، يقال: عيي بالأمر: إذا لم يهتد له، والمعنى: إنّا لم نعجز عن الخلق اَلْأَوَّلِ كما علموا حتى نعجز عن الثاني.

بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ يعني: إنّهم لم ينكروا قدرتنا علي الخلق الأوّل، بل هم في خلط وشبهة من البعث بعد الموت، قد لبس عليهم الشيطان وحيّرهم بأن سوّل إليهم أنّ إحياء الأموات أمر خارج عن العادة.

والوسوسة: الصوت الخفي، ووسوسة النفس: ما يخطر ببال الإنسان

ص: 245

ويهجس في ضميره من حديث النفس، والباء مثلها في قولك: صوت بكذا، ويجوز أن يكون للتعدية، والضمير ل - (الإنسان) أي: ما يجعله موسوسا، و مٰا مصدرية؛ لأنّهم يقولون: حدّث نفسه بكذا، كما يقولون: حدّثته به نفسه، قال لبيد:

واكذب النّفس إذا حدّثتها *** إنّ صدق النّفس يزري بالأمل(1)

وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ يريد: قرب عمله منه وتعلّقه بأحواله حتى لا يخفى عليه شيء منها، فكأنّ ذاته قريبة منه.

و حَبْلِ اَلْوَرِيدِ مثل في فرط القرب، كما قالوا: هو مني معقد الأزار، والحبل: العرق، والوريدان: عرقان مكتنفان بصفحتي العنق في مقدمها يتصلان بالوتين يردان من الرأس إليه.

إِذْ منصوب ب - أَقْرَبُ والمعنى: إنّه سبحانه يعلم خطرات النفس وهو أقرب إلى الإنسان من كل قريب حين يَتَلَقَّى اَلْمُتَلَقِّيٰانِ أي: الملكان الحافظان يأخذان ما يتلفظ به، وهذا إيذان باستغنائه عزّ اسمه عن استحفاظ الملكين، إذ هو مطلع على أخفى الخفيات، وإنّما ذلك لحكمة تقتضيه، وهي ما في ذلك من زيادة اللطف في انتهاء العباد عن القبائح والرغبة في العبادات. والتلقي: التلقن، والقعيد: القاعد كالجليس [بمعنى المجالس](2)، وتقديره: عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد من المتلقيين، فترك أحدهما لدلالة الثاني عليه، كقول الشاعر:

رماني بأمر كنت منه ووالدي *** بريّا ومن جول الطّويّ رماني(3)

ص: 246


1- ديوان لبيد بن ربيعة العامري: 141.
2- ساقطة من ب، د.
3- شعر عمرو بن أحمر الباهلي: 187، وفيه: ومن أجل....

مٰا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّٰ لَدَيْهِ ملك يرقب عمله عَتِيدٌ حاضر معه. وعن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: (كاتب الحسنات علي يمين الرجل، وكاتب السيئات علي يساره، وصاحب اليمين أمير علي صاحب الشمال، فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشرا، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع ساعات لعله يسبّح أو يستغفر)(1).

وَ جٰاءَتْ سَكْرَةُ اَلْمَوْتِ أي: شدّته الذاهبة بالعقل، والباء في بِالْحَقِّ للتعدية، أي: وأحضرت شدّة الموت حقيقة الأمر من السعادة أو الشقاوة، وقيل:

بالحقّ الذي خلق له الإنسان(2)، ويجوز أن يكون الباء مثلها في قوله: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ (3) أي: جاءت ملتبسة بالحقّ أي: بحقيقة الأمر أو بالحكمة والغرض الصحيح، وقرئ: سكرة الحقّ بالموت، وروي ذلك عن أئمتنا عليهم السلام، أضيفت السكرة إلى الحقّ دلالة علي أنّها السكرة المكتوبة علي الإنسان، و أنّها حكمة. والباء للتعدية، لأنّها سبب زهوق الروح لشدتها، أو لأنّ الموت يعقبها، فكأنّها جاءت [به. ويجوز أن يكون المعنى: جاءت](4) ومعها الموت، وقيل: سكرة الحقّ : سكرة اللّه أضيفت إليه تعظيما وتفظيعا لشأنها.

ذٰلِكَ إشارة إلى الموت، والخطاب للإنسان في قوله: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسٰانَ علي طريقة الالتفات، أو إلى الحقّ ، والخطاب للفاجر.

تَحِيدُ أي: تهرب وتنفر.

ص: 247


1- شعب الإيمان ج 5:390، أمالي الشيخ الطوسي ج 1:210.
2- معاني القرآن و إعرابه ج 5:45.
3- المؤمنون: 20.
4- ساقطة من ج.

ذٰلِكَ إشارة إلي مصدر نُفِخَ أي: وقت ذلك يوم الوعيد [فحذف المضاف](1).

[سورة ق (50): الآیات 21 الی 30]

وَ جٰاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهٰا سٰائِقٌ وَ شَهِيدٌ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هٰذٰا فَكَشَفْنٰا عَنْكَ غِطٰاءَكَ فَبَصَرُكَ اَلْيَوْمَ حَدِيدٌ وَ قٰالَ قَرِينُهُ هٰذٰا مٰا لَدَيَّ عَتِيدٌ أَلْقِيٰا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفّٰارٍ عَنِيدٍ مَنّٰاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ اَلَّذِي جَعَلَ مَعَ اَللّٰهِ إِلٰهاً آخَرَ فَأَلْقِيٰاهُ فِي اَلْعَذٰابِ اَلشَّدِيدِ قٰالَ قَرِينُهُ رَبَّنٰا مٰا أَطْغَيْتُهُ وَ لٰكِنْ كٰانَ فِي ضَلاٰلٍ بَعِيدٍ قٰالَ لاٰ تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ مٰا يُبَدَّلُ اَلْقَوْلُ لَدَيَّ وَ مٰا أَنَا بِظَلاّٰمٍ لِلْعَبِيدِ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ اِمْتَلَأْتِ وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ

مَعَهٰا سٰائِقٌ من الملائكة يحثها علي السير إلى الحساب وَ شَهِيدٌ منهم أيضا يشهد عليها بما يعلم من حالها. و مَعَهٰا سٰائِقٌ في موضع الحال من كُلُّ لتعرّفه بالإضافة إلي ما هو في حكم المعرفة.

أي: يقال له: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هٰذٰا اليوم في الدنيا، وجعلت الغفلة كأنّها غطاء لك وغشاوة لعينيك فَكَشَفْنٰا عَنْكَ الغطاء وزالت عنك الغفلة فرجع بصرك الكليل عن الإبصار حديدا لتيقظه.

وَ قٰالَ قَرِينُهُ وهو الشيطان الذي قيّض له في قوله سبحانه: نُقَيِّضْ لَهُ

ص: 248


1- ساقطة من ب

شَيْطٰاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (1) وقيل: هو الملك الشهيد عليه(2)، وهو المروي عنهم عليهم السلام(3).

هٰذٰا مٰا لَدَيَّ عَتِيدٌ : إن كان المراد بالقرين الشيطان، فالمعنى: هذا شيء لديّ وفي ملكتي عتيد لجهنم أعتدته و هيأته لها براغوائي و إضلالي، وإن كان المراد الملك، فالمعنى: هذا شيء حاضر عندي من عمله كتبته عليه إذ وكلتني به، يقوله للّه سبحانه. و مٰا موصوفة و عَتِيدٌ صفة لها، وإن جعلتها موصولة ف - عَتِيدٌ بدل، أو خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف.

أَلْقِيٰا فِي جَهَنَّمَ خطاب من اللّه للملكين: السائق والشهيد، ويجوز أن يكون خطابا للواحد بأن ينزل تثنية الفاعل منزلة تثنية الفعل، كأنّه قيل: ألق ألق، أو لأنّ العرب أكثر ما يرافق الرجل منهم اثنان فكثر علي ألسنتهم أن يقولوا: يا صاحبيّ (4)، و خليليّ (5)، وقفا(6)، حتى خاطبوا الواحد خطاب الاثنين، كما ورد عن الحجّاج أنّه

كان يقول: يا حرسيّ اضربا عنقه(7). أو يكون الألف بدلا من النون الخفيفة للتأكيد إجراء للوصل مجري الوقف. وعن أبي سعيد الخدري عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال: (إذا كان يوم القيامة يقول الله لي ولعليّ : ألقيا في النار من أبغضكما، وأدخلا الجنّة من أحبّكما،

ص: 249


1- الزخرف: 36.
2- عن قتادة وغيره. تفسير الطبري ج 26:103.
3- مجمع البيان ج 9-10:146.
4- كما قال دعبل: يا ليت شعري كيف نومكما يا صاحبيّ إذا دمي سفكا. شعر دعبل بن علي الخزاعي: 204.
5- كما قال إمرؤ القيس: خليليّ مرا بي علي أم جندب نقضّ لبانات الفؤاد المعذّب. ديوانه: 41.
6- كما قال إمرؤ القيس: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل. ديوانه: 8.
7- معاني القرآن و إعرابه ج 5:46.

وذلك قوله عزّ اسمه: أَلْقِيٰا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفّٰارٍ عَنِيدٍ )(1). والعنيد: المعاند، المجانب للحقّ ، المعادي لأهله.

مَنّٰاعٍ لِلْخَيْرِ كثير المنع للمال عن حقوقه، أو مناع لجنس الخيرات يصل إلى أهله، يحول بينه وبينهم، قيل: نزلت في الوليد بن المغيرة حين استشاره بنو أخيه في الإسلام فمنعهم(2).

مُعْتَدٍ ظالم متعد للحقّ .

مُرِيبٍ شاك في اللّه وفي دينه، وقيل: متهم بفعل ما يرتاب بفعله مثل المليم.

اَلَّذِي جَعَلَ مبتدأ مضمّن معنى الشرط، وخبره: فَأَلْقِيٰاهُ ، ويجوز أن يكون بدلا من كُلَّ كَفّٰارٍ ويكون فَأَلْقِيٰاهُ تكريرا للتأكيد.

قٰالَ قَرِينُهُ رَبَّنٰا مٰا أَطْغَيْتُهُ أي: ما جعلته طاغيا، وما أوقعته في الطغيان، ولكنّه طغى واختار الضلال علي الهدي، كقوله: وَ مٰا كٰانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطٰانٍ إِلاّٰ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي (3).

قٰالَ أي: يقول الله عزّ اسمه لهم: لاٰ تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ أي: لا يخاصم بعضكم بعضا عندي في دار الجزاء فلا فائدة في اختصامكم وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ علي ألسنة رسلي، ثمّ قال: لا تطمعوا أن أبدل قولي ووعيدي لكم في تكذيب رسلي ومخالفة أمري بغيره.

وَ مٰا أَنَا بِظَلاّٰمٍ لِلْعَبِيدِ في عقابهم، ولكنّهم ظلموا أنفسهم بارتكاب القبائح،

ص: 250


1- شواهد التنزيل ج 2:190.
2- عن الضحاك. تفسير الماوردي ج 5:352.
3- إبراهيم: 22.

والباء في بِالْوَعِيدِ مزيدة، مثلها في قوله: وَ لاٰ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ (1)، أو متعدّية إن كان قدّم بمعنى تقدّم، والجملة التي هي: وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ وقعت موقع الحال من لاٰ تَخْتَصِمُوا ، بمعنى: وقد صحّ عندكم أنّي قدّمت إليكم بالوعيد.

يَوْمَ نَقُولُ قرئ بالنون والياء، وانتصب يَوْمَ ب بِظَلاّٰمٍ أو ب - نُفِخَ ، وسؤال جهنم وجوابها من باب التخييل الذي يقصد به تصوير المعنى في القلب، وفيه معنيان:

أحدهما: أنّها تمتلئ مع تباعد أطرافها حتى لا يزاد علي امتلائها.

والثاني: أنّها من السعة بحيث يدخلها من يدخلها وفيها موضع للمزيد، والمزيد: مصدر كالمجيد، أو اسم مفعول كالمبيع.

غَيْرَ بَعِيدٍ نصب علي الظرف أي: مكانا غير بعيد، أو علي الحال، وإنّما ذكر لأنّه علي زنة المصدر، والمصادر يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث، أو علي حذف الموصوف أي: شيئا غير بعيد، ومعناه التوكيد كما تقول: هو قريب غير بعيد.

هٰذٰا مٰا تُوعَدُونَ جملة اعتراضية، لِكُلِّ أَوّٰابٍ بدل من اَلْمُتَّقِينَ بتكرير الجار، و هٰذٰا إشارة إلى الثواب أو إلى مصدر أُزْلِفَتِ . و الأوّاب: التوّاب الرجّاع إلى اللّه وطاعته، والحفيظ: الحافظ لحدوده.

مَنْ خَشِيَ اَلرَّحْمٰنَ بدل بعد بدل تابع ل - (كل)، ويجوز أن يكون بدلا من موصوف أَوّٰابٍ و حَفِيظٍ ، ولا يجوز أن يكون في حكم أَوّٰابٍ و حَفِيظٍ لأنّ مَنْ لا يوصف به، ولا يوصف بشيء من الموصولات إلا ب - (الذي)

ص: 251


1- البقرة: 195.

وحده. ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره يقال لهم: اُدْخُلُوهٰا بِسَلاٰمٍ لأنّ مَنْ في معنى الجمع.

و بِالْغَيْبِ حال من المفعول أي: خشيه وهو غائب، أو صفة لمصدر خشي، أي: خشيه خشية ملتبسة بالغيب حتى خشي عقابه وهو غائب، أو من الفاعل أي:

وهو في الخلوة حيث لا يراه أحد.

وَ جٰاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ راجع إلى اللّه مقبل عليه، يقال لهم: ادخلوها سالمين من العذاب، أو مسلّما عليكم بسلام اللّه وملائكته عليكم.

ذٰلِكَ يَوْمُ تقدير اَلْخُلُودِ ، كقوله: فَادْخُلُوهٰا خٰالِدِينَ (1) أي: مقدّرين الخلود.

لَهُمْ مٰا يريدون وما يشتهون من أنواع النعيم في الجنّة وَ لَدَيْنٰا مَزِيدٌ علي ما يشاؤونه مما لم يخطر ببالهم ولم تبلغه أمانيهم، أو مزيد علي قدر استحقاقهم.

[سورة ق (50): الآیات 36 الی 43]

وَ كَمْ أَهْلَكْنٰا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي اَلْبِلاٰدِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَذِكْرىٰ لِمَنْ كٰانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى اَلسَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا فِي سِتَّةِ أَيّٰامٍ وَ مٰا مَسَّنٰا مِنْ لُغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلىٰ مٰا يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ اَلشَّمْسِ وَ قَبْلَ اَلْغُرُوبِ وَ مِنَ اَللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ أَدْبٰارَ اَلسُّجُودِ وَ اِسْتَمِعْ يَوْمَ يُنٰادِ اَلْمُنٰادِ مِنْ مَكٰانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ اَلصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذٰلِكَ يَوْمُ اَلْخُرُوجِ إِنّٰا نَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ إِلَيْنَا اَلْمَصِيرُ

ص: 252


1- الزمر: 73.

[سورة ق (50): الآیات 44 الی 45]

يَوْمَ تَشَقَّقُ اَلْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرٰاعاً ذٰلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنٰا يَسِيرٌ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمٰا يَقُولُونَ وَ مٰا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبّٰارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخٰافُ وَعِيدِ

فَنَقَّبُوا أي: فتحوا المسالك فِي اَلْبِلاٰدِ ، من النقب وهو الطريق، والمعنى: دوخوا البلاد ونقروا عن أمورها، قال الحارث بن حلّزة:

نقّبوا في البلاد من حذر الموت *** و جالوا في الأرض كلّ مجالى(1)

والفاء للتسبيب عن قوله: هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً أي: شدّة بطشهم أقدرتهم علي التنقيب وقوّتهم عليه. ويجوز أن يكون المعنى: فنقب أهل مكة في بلاد تلك القرون فهل رأوا لهم محيصا من اللّه أو من الموت حتى يأملوا مثله لنفوسهم ؟.

إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَذِكْرىٰ أي: تذكرة و اعتبارا لِمَنْ كٰانَ لَهُ قَلْبٌ واع، لأنّ من لا يعي قلبه فكأنّه بلا قلب، وعن ابن عباس: (القلب هنا العقل)(2).

أَوْ أَلْقَى اَلسَّمْعَ بأن يصغي و يستمع وَ هُوَ شَهِيدٌ حاضر بفطنته، لأنّ من لا يحضر ذهنه فهو كالغائب، أو وهو مؤمن شاهد علي صحّته وأنّه وحي من اللّه.

واللغوب: النصب والإعياء، أكذب اللّه تعالى اليهود بقوله: وَ مٰا مَسَّنٰا مِنْ لُغُوبٍ حيث قالوا: استراح اللّه يوم السبت.

فَاصْبِرْ عَلىٰ ما يقوله المشركون من إنكار البعث و تكذيبك، واحتمل

ص: 253


1- نقله المصنف تبعا لصاحب الكشاف، وفي الإتقان ج 1:369 أن البيت لعدي بن زيد، ولا يوجد في ديوانيهما المطبوعين.
2- معالم التنزيل ج 4:95.

ذلك حتى يأتيك اللّه بالفرج.

وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ التسبيح: محمول على ظاهره وعلي الصلاة، فالصلاة قَبْلَ طُلُوعِ اَلشَّمْسِ صلاة الصبح وَ قَبْلَ اَلْغُرُوبِ الظهر والعصر وَ مِنَ اَللَّيْلِ العشاءين، و قيل: صلاة الليل(1) ويدخل فيها المغرب والعشاء.

وَ أَدْبٰارَ اَلسُّجُودِ التسبيح في أعقاب الصلوات، والسجود والركوع قد يعبّر بهما عن الصلاة، وقيل: النوافل بعد المغرب وَ إِدْبٰارَ اَلنُّجُومِ (2) الركعتان قبل صلاة الفجر(3). وروي: (إنّ من صلّاها بعد المغرب قبل أن يتكلّم كتبت صلاته في عليين)(4).

والأدبار: جمع دبر، و قرئ بكسر الهمزة، من أدبرت الصلاة: إذا انقضت وتمت، والمعنى: وقت انقضاء السجود، كما يقال: آتيك خفوق النجم.

وَ اِسْتَمِعْ لما أخبرك به من حال يوم القيامة، وفيه تهويل وتعظيم لشأن المخبر به، و انتصب يَوْمَ يُنٰادِ [بما دلّ عليه ذٰلِكَ يَوْمُ اَلْخُرُوجِ أي: يوم ينادي المنادي يخرجون من قبورهم، و يَوْمَ يَسْمَعُونَ بدل من يَوْمَ يُنٰادِ](5) اَلْمُنٰادِ ، والمنادي: إسرافيل، ينفخ في الصور وينادي:

أيتها العظام البالية [و الأوصال المتقطعة](6) واللحوم المتمزقة [و الشعور

ص: 254


1- عن مجاهد. تفسير الطبري ج 26:112.
2- الطور: 49.
3- عن علي عليه السلام وغيره. تفسير الطبري ج 26:112، ج 27:23.
4- مصنف ابن أبي شيبة ج 2:103.
5- ساقطة من ب.
6- ساقطة من ج، د.

المتفرقة](1)، إنّ اللّه يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء(2).

مِنْ مَكٰانٍ قَرِيبٍ من صخرة بيت المقدس، وهي أقرب الأرض من السماء.

و اَلصَّيْحَةَ هي النفخة الثانية.

بِالْحَقِّ يتعلّق ب - اَلصَّيْحَةَ والمراد به البعث والحشر للجزاء.

ذٰلِكَ يَوْمُ اَلْخُرُوجِ من القبور إلى أرض الموقف.

إِنّٰا نَحْنُ نُحْيِ الخلق و نميتهم بعد الحياة وَ إِلَيْنَا اَلْمَصِيرُ يوم القيامة.

وقرئ: تَشَقَّقُ بإدغام التاء في الشين و بحذف التاء، أي: تتصدع اَلْأَرْضُ عَنْهُمْ فيخرجون عنها سِرٰاعاً بلا تأخير، وهو حال من الضمير المجرور في عَنْهُمْ .

والحشر: الجمع بالسوق من كل جهة. عَلَيْنٰا يَسِيرٌ تقديم الظرف يدلّ على الاختصاص، يعني: لا يتيسّر مثل ذلك الأمر العظيم إلا علي القادر بالذات الذي لا يشغله شأن عن شأن.

نَحْنُ أَعْلَمُ بِمٰا يَقُولُونَ تهديد لهم وتسلية لنبيّنا عليه السلام.

وَ مٰا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبّٰارٍ أي: متسلط تجبرهم علي الإيمان إنّما أنت داع ومنذر، كقوله: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (3) يقال: جبره وأجبره علي الأمر، وعلي بمنزلته في قولك: هو عليهم: إذا كان واليهم ومالك أمرهم.

ص: 255


1- ساقطة من ج، د.
2- الدر المنثور ج 6:110.
3- الغاشية: 22.

مَنْ يَخٰافُ وَعِيدِ كقوله: إِنَّمٰا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشٰاهٰا (1) خصّ التذكير بهم لأنّه لا ينفع إلا فيهم.

ص: 256


1- النازعات: 54.

سورة الذاريات

اشارة

مكية وهي ستون آية.

في حديث أبيّ : (من قرأ (سورة الذاريات) أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل ريح هبّت وجرت في الدنيا)(1)، وعن الصادق عليه السلام: (ومن قرأها في يوم أو ليلة أصلح اللّه له معيشته، وآتاه برزق واسع، و نوّر له في قبره بسراج يزهر إلى يوم القيامة)(2).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة الذاريات (51): الآیات 1 الی 14]

وَ اَلذّٰارِيٰاتِ ذَرْواً فَالْحٰامِلاٰتِ وِقْراً فَالْجٰارِيٰاتِ يُسْراً فَالْمُقَسِّمٰاتِ أَمْراً إِنَّمٰا تُوعَدُونَ لَصٰادِقٌ وَ إِنَّ اَلدِّينَ لَوٰاقِعٌ وَ اَلسَّمٰاءِ ذٰاتِ اَلْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ قُتِلَ اَلْخَرّٰاصُونَ اَلَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سٰاهُونَ يَسْئَلُونَ أَيّٰانَ يَوْمُ اَلدِّينِ يَوْمَ هُمْ عَلَى اَلنّٰارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هٰذَا اَلَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ

اَلذّٰارِيٰاتِ الرياح، لأنّها تذرو التراب وغيره، كما قال: تَذْرُوهُ

.

ص: 257


1- الكشف والبيان ج 9:109.
2- ثواب الأعمال: 115

اَلرِّيٰاحُ (1) . و قرئ بإدغام التاء في الذال.

فَالْحٰامِلاٰتِ وِقْراً هي السحاب تحمل المطر.

فَالْجٰارِيٰاتِ هي السفن يُسْراً أي: جريا ذا يسر و سهولة.

فَالْمُقَسِّمٰاتِ أَمْراً هي الملائكة تقسّم الأمور من الأمطار والأرزاق وغيرهما، أو تفعل التقسيم مأمورة بذلك، وهذا التفسير مروي عن أمير المؤمنين عليه السلام(2) وعن ابن عباس(3)، وعن مجاهد: (تتولى الملائكة تقسيم أمر العباد: جبرئيل للغلظة، وميكائيل للرحمة، وملك الموت لقبض الأرواح، وإسرافيل للنفخ، وقد حملت علي الكواكب السبعة)(4).

أقسم سبحانه بهذه الأشياء لما تضمّنته من الدلالة علي وحدانيته وبديع حكمته وكمال قدرته. وعنهم عليهم السلام: (لا يجوز لأحد أن يقسم إلا باللّه، وله عزّ اسمه أن يقسم بما يشاء من خلقه)(5).

وجواب القسم: إِنَّمٰا تُوعَدُونَ ، و (ما) موصولة أو مصدرية، والموعود:

البعث.

لَصٰادِقٌ أي: ذو صدق ك - عِيشَةٍ رٰاضِيَةٍ (6).

و اَلدِّينَ الجزاء لَوٰاقِعٌ أي: حاصل كائن.

ص: 258


1- الكهف: 45.
2- تفسير القمي ج 2:327، تفسير الطبري ج 26:116.
3- تفسير الطبري ج 26:116.
4- الكشاف ج 4:394.
5- ينظر: الوسائل ج 15 باب 30 من أبواب الأيمان.
6- الحاقة: 21.

و اَلْحُبُكِ الطرائق مثل حبك الرمل والماء إذا ضربته الريح، وكذلك:

حبك الشعر: آثاره تثنيه وتكسّره، والدرع محبوكة لأنّ حلقها مطرق طرائق، وعن الحسن: (حبكها: نجومها)(1)، وعن عليّ عليه السلام: (حسنها وزينتها)(2). ويجوز أن تكون النجوم تزيّنها كما تزيّن الموشى طرائق الوشي، وهي جمع حباك، كمثال ومثل، وحبيكة كطريقة.

إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ هو قولهم في الرسول عليه السلام: شاعر وساحر ومجنون، وفي القرآن: إنّه سحر و كهانة وأساطير الأوّلين، وعن قتادة: (منكم مصدق ومكذب، ومقر ومنكر)(3).

يُؤْفَكُ عَنْهُ الضمير للرسول أو للقرآن، أي: يصرف عنه من صرف الصرف الذي لا صرف أشدّ منه وأعظم، كقوله عليه السلام: (لا يهلك علي اللّه إلا هالك)(4). وقيل: يصرف عنه من هو مصروف عن الخير في سابق علم اللّه(5).

ويجوز أن يكون الضمير ل - (ما توعدون) ومعناه: يؤفك عن الإقرار بأمر القيامة من هو المأفوك.

قُتِلَ اَلْخَرّٰاصُونَ دعاء عليهم، وأصله: الدعاء بالقتل والهلاك، ثمّ أجري مجري لعن وقبح، أي: لعن الكذابون المقدرون ما لا يصحّ ، وهم أصحاب القول المختلف. واللام إشارة إليهم، كأنّه قيل: قتل هؤلاء الخراصون.

ص: 259


1- تفسير الطبري ج 26:118.
2- تفسير الماوردي ج 5:362.
3- تفسير الطبري ج 26:118.
4- الكافي ج 2:395، صحيح مسلم ج 1:83.
5- عن الحسن. تفسير الماوردي ج 5:363.

اَلَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ أي: جهل يغمرهم سٰاهُونَ غافلون عما أمروا به.

يَسْئَلُونَ فيقولون: أَيّٰانَ يَوْمُ اَلدِّينِ أي: متى يوم الجزاء؟ ومعناه: أيّان وقوع يوم الدين ؟.

يَوْمَ هُمْ عَلَى اَلنّٰارِ يُفْتَنُونَ أي: يحرقون و يعذّبون، ومنه: الفتين، وهي الحرة لأنّ حجارتها كأنّها محرقة. و يَوْمُ يجوز أن يكون مفتوحا لإضافته إلى غير متمكّن، فيكون محلّه رفعا علي هو يوم هم... يفتنون، أو نصبا بفعل مضمر دلّ عليه السؤال، أي: يقع في ذلك اليوم، ويجوز أن يكون منصوبا في الأصل بالمضمر الذي هو يقع.

ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ في محلّ الحال، أي: مقولا لهم هذا القول.

هٰذَا مبتدأ، و اَلَّذِي خبره، أي: هذا العذاب هو الذي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ .

[سورة الذاريات (51): الآیات 15 الی 23]

إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي جَنّٰاتٍ وَ عُيُونٍ آخِذِينَ مٰا آتٰاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كٰانُوا قَبْلَ ذٰلِكَ مُحْسِنِينَ كٰانُوا قَلِيلاً مِنَ اَللَّيْلِ مٰا يَهْجَعُونَ وَ بِالْأَسْحٰارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَ فِي أَمْوٰالِهِمْ حَقٌّ لِلسّٰائِلِ وَ اَلْمَحْرُومِ وَ فِي اَلْأَرْضِ آيٰاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلاٰ تُبْصِرُونَ وَ فِي اَلسَّمٰاءِ رِزْقُكُمْ وَ مٰا تُوعَدُونَ فَوَ رَبِّ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مٰا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ

آخِذِينَ أي: قابلين ما أعطاهم رَبُّهُمْ من النعيم و الكرامة، راضين به.

إِنَّهُمْ كٰانُوا في دار التكليف مُحْسِنِينَ قد أحسنوا أعمالهم. وتفسير إحسانهم ما بعده.

ص: 260

و مٰا مزيدة أي: كانوا يهجعون في زمان قليل من الليل إن جعلت قَلِيلاً ظرفا، ويجوز أن يكون صفة للمصدر أي: هجوعا قليلا. ويجوز أن يكون مٰا مصدرية أو موصولة على كانوا قليلا من الليل هجوعهم، أو ما يهجعون فيه، فيكون فاعل قَلِيلاً وفيه ضروب من المبالغة بلفظ الهجوع وهو الفرار من النوم، قال:

قد حصّت البيضة رأسي فما *** أطعم نوما غير تهجاع(1)

وقوله: قَلِيلاً و مِنَ اَللَّيْلِ وزيادة مٰا المؤكدة لذلك، أي: يحيون الليل متهجّدين فإذا سحروا أخذوا في الاستغفار، كأنّهم أسلفوا في ليلهم الجرائم، وقوله: هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ فيه: أنّهم هم المختصون بالاستغفار لاستدامتهم له.

السائل: هو المستجدي، والمحروم: الذي يحسب غنيا فيحرمه الناس لتعففه.

وعن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: (ليس المسكين الذي ترده الأكلة والأكلتان والتمرة والتمرتان، قالوا: فمن هو؟ قال: الذي لا يجد ولا يتصدّق عليه)(2). وقيل: هو المحارف الذي لا ينمى له مال(3).

وَ فِي اَلْأَرْضِ آيٰاتٌ دلالات دالة على الصانع وكمال قدرته و بدائع حكمته بما فيها من السهل والجبل والبر والبحر، وأنواع النبات والأشجار بالثمار المختلف ألوانها وطعومها وروائحها، الموافقة لحوائج ساكنيها ومنافعهم ومصالحهم، وما أنبت في أقطارها من أنواع الحيوان المختلفة الصور والأشكال، وغير ذلك.

لِلْمُوقِنِينَ الموحّدين الناظرين المتأمّلين ببصائرهم.

ص: 261


1- البيت لأبي قيس بن الأسلت. جمهرة أشعار العرب: 234.
2- سنن النسائي ج 5:85.
3- عن الضحاك وغيره. تفسير الطبري ج 26:124.

وَ فِي أَنْفُسِكُمْ في مبتدئ أحوالها وتنقّلها من حال إلى حال، وما ركّب في ظواهرها وبواطنها من عجائب الفطن وبدائع الحكم ما تحار فيه العقول، وحسبك بالقلوب وما ذكر فيها من لطائف المعاني، وبالألسن والنطق ومخارج الحروف، وبالصور والطبائع والألوان واختلافها في كل إنسان، و بالأسماع والأبصار وسائر الجوارح، وما ركّب فيها من فنون الحكمة:

وفي كلّ شيء له آية *** تدلّ على أنّه واحد(1)

وَ فِي اَلسَّمٰاءِ رِزْقُكُمْ وهو المطر لأنّه سبب الأقوات وَ مٰا تُوعَدُونَ الجنّة، أو أراد ما ترزقونه في الدنيا وما توعدونه في العقبى، كله مقدر مكتوب في السماء.

مِثْلَ مٰا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ وقرئ مِثْلَ بالرفع صفة ل - لَحَقٌّ أي: حقّ مثل نطقكم، وبالنصب علي أنّه: لحقّ حقّا مثل نطقكم، ويجوز أن يكون فتحا لإضافته إلى غير متمكّن. و (ما) مزيدة بنص الخليل(2) وهذا مثل قولهم: إنّ هذا لحقّ كما أنّك تري وتسمع، ومثل ما أنّك ها هنا، والضمير في إِنَّهُ لما ذكر من الآيات والرزق، أو للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، أو ل - مٰا تُوعَدُونَ والمعنى: إنّه في صدقه و تحقّقه كالذي تعرفه ضرورة.

[سورة الذاريات (51): الآیات 24 الی 30]

هَلْ أَتٰاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرٰاهِيمَ اَلْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقٰالُوا سَلاٰماً قٰالَ سَلاٰمٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ فَرٰاغَ إِلىٰ أَهْلِهِ فَجٰاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قٰالَ أَ لاٰ تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قٰالُوا لاٰ تَخَفْ وَ بَشَّرُوهُ بِغُلاٰمٍ عَلِيمٍ فَأَقْبَلَتِ اِمْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهٰا وَ قٰالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ قٰالُوا كَذٰلِكَ قٰالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ

ص: 262


1- الأنوار الزاهية في ديوان أبي العتاهية: 70.
2- الكتاب ج 3:140.

[سورة الذاريات (51): الآیات 30 الی 40]

اَلْحَكِيمُ اَلْعَلِيمُ قٰالَ فَمٰا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا اَلْمُرْسَلُونَ قٰالُوا إِنّٰا أُرْسِلْنٰا إِلىٰ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجٰارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ فَأَخْرَجْنٰا مَنْ كٰانَ فِيهٰا مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ فَمٰا وَجَدْنٰا فِيهٰا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ وَ تَرَكْنٰا فِيهٰا آيَةً لِلَّذِينَ يَخٰافُونَ اَلْعَذٰابَ اَلْأَلِيمَ وَ فِي مُوسىٰ إِذْ أَرْسَلْنٰاهُ إِلىٰ فِرْعَوْنَ بِسُلْطٰانٍ مُبِينٍ فَتَوَلّٰى بِرُكْنِهِ وَ قٰالَ سٰاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ فَأَخَذْنٰاهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْنٰاهُمْ فِي اَلْيَمِّ وَ هُوَ مُلِيمٌ

هَلْ أَتٰاكَ تفخيم للحديث وتنبيه علي أنّه ليس من علم نبيّنا صلى الله عليه و آله و سلم وإنّما عرفه بالوحي. والضيف واحد وجمع، كالصوم والفطر، لأنّه في الأصل مصدر ضافه، سمّاهم ضيفا لأنّهم كانوا في صور الضيف، حيث أضافهم إبراهيم عليه السلام وكانوا اثني عشر ملكا، وقيل: ثمانية(1)، وقيل: ثلاثة(2). وإكرامهم: أنّ إبراهيم خدمهم بنفسه وعجل لهم القرى(3)، أو لأنّهم عند اللّه مكرمون.

إِذْ دَخَلُوا نصب ب - اَلْمُكْرَمِينَ إذا فسّر بإكرام إبراهيم لهم، وإلا فيما في ضيف من معنى الفعل.

سَلاٰماً مصدر سدّ مسدّ الفعل، وأصله: نسلّم عليكم سلاما.

و سَلاٰمٌ علي معنى: عليكم سلام، عدل به إلى الرفع ليدلّ علي ثبات السلام، كأنّه أراد أن يحييهم بأحسن مما حيوه به أخذا بأدب اللّه. و قرئ سلام كما

ص: 263


1- عن محمّد بن كعب. الكشف والبيان ج 9:116.
2- عن عطاء وجماعة. الكشف والبيان ج 9:116.
3- قريت الضيف قرى: أحسنت إليه. (الصحاح: مادة قرا).

في سورة هود(1).

قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أي: قال في نفسه: هؤلاء قوم لا نعرفهم.

فَرٰاغَ إِلىٰ أَهْلِهِ فذهب إليهم في خفية من ضيوفه، ومن أدب المضيف [أن يخفي أمره، وأن يبادره بالقرى من غير أن يشعر به الضيف](2) حذرا من أن يكفه، وعن قتادة: (كان عامة مال نبيّ اللّه إبراهيم البقر فجاء بعجل)(3).

والهمزة في أَ لاٰ تَأْكُلُونَ للإنكار، أنكر عليهم ترك الأكل أو حثهم عليه.

فَأَوْجَسَ فأضمر. وعن ابن عباس: (وقع في نفسه أنّهم ملائكة أرسلوا للعذاب)(4).

وَ بَشَّرُوهُ بِغُلاٰمٍ عَلِيمٍ يكون عالما نبيّا وهو إسحاق، وعن مجاهد: (هو إسماعيل)(5).

فِي صَرَّةٍ في صيحة، من: صرّ الجندب، وصرّ القلم والباب، وهو في محلّ الحال، أي: جاءت صارة، وعن الحسن: (أقبلت إلى بيتها وكانت في زاوية تنظر إليهم، لأنّها وجدت حرارة الدم فلطمت وجهها من الحياء)(6)، وقيل: فضربت بأطراف أصابعها جبهتها فعل المتعجب(7).

ص: 264


1- الآية: 69.
2- ساقطة من ج.
3- تفسير الطبري ج 26:128.
4- الكشاف ج 4:402.
5- تفسير الطبري ج 26:128.
6- الكشاف ج 4:402.
7- عن السدي وغيره. تفسير الطبري ج 26:129.

وَ قٰالَتْ عَجُوزٌ أي: أنا عجوز عَقِيمٌ فكيف ألد؟!.

قٰالُوا كَذٰلِكَ مثل ذلك الذي قلنا وأخبرنا به.

قٰالَ رَبُّكِ أي: إنّما نخبرك عن أمر اللّه، واللّه قادر علي ما تستبعدين.

ولما علم إبراهيم أنّهم رسل اللّه قٰالَ فَمٰا خَطْبُكُمْ أي: فما شأنكم وما طلبكم ؟.

[لِلْمُسْرِفِينَ ](1) سمّاهم مسرفين كما سمّاهم عادين لإسرافهم في الفواحش وعدوانهم فيها.

فَأَخْرَجْنٰا مَنْ كٰانَ فِيهٰا أي: في قرى قوم لوط، ولم يجر لها ذكر لكونها معلومة، وفيه دليل على أنّ الإيمان والإسلام في الحقيقة واحد، و أنّهما صفتا مدح، والإيمان هو التصديق بما أوجب اللّه التصديق به، والإسلام هو الاستسلام لما أوجبه اللّه وألزمه.

والبيت: لوط وابنتاه، وصفهم اللّه بالإيمان والإسلام جميعا، وقيل: كان لوط وأهل بيته الذين نجوا ثلاثة عشر(2).

وَ تَرَكْنٰا فِيهٰا آيَةً أي: علامة يعتبر بها الخائفون دون الذين قست قلوبهم.

وَ فِي مُوسىٰ معطوف علي وَ فِي اَلْأَرْضِ آيٰاتٌ (3).

فَتَوَلّٰى بِرُكْنِهِ أي: فأعرض فرعون بما كان يتقوي به من جنوده وَ قٰالَ هو سٰاحِرٌ .

ص: 265


1- زيادة يقتضيها السياق.
2- عن سعيد بن جبير. الدر المنثور ج 6:115.
3- الذاريات: 20.

وَ هُوَ مُلِيمٌ حال من الضمير في فَأَخَذْنٰاهُ أي: آت بما يلام عليه من الكفر و العتو.

[سورة الذاريات (51): الآیات 41 الی 60]

وَ فِي عٰادٍ إِذْ أَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمُ اَلرِّيحَ اَلْعَقِيمَ مٰا تَذَرُ مِنْ شَيْ ءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاّٰ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ وَ فِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتّٰى حِينٍ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ اَلصّٰاعِقَةُ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ فَمَا اِسْتَطٰاعُوا مِنْ قِيٰامٍ وَ مٰا كٰانُوا مُنْتَصِرِينَ وَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كٰانُوا قَوْماً فٰاسِقِينَ وَ اَلسَّمٰاءَ بَنَيْنٰاهٰا بِأَيْدٍ وَ إِنّٰا لَمُوسِعُونَ وَ اَلْأَرْضَ فَرَشْنٰاهٰا فَنِعْمَ اَلْمٰاهِدُونَ وَ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ خَلَقْنٰا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَفِرُّوا إِلَى اَللّٰهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ وَ لاٰ تَجْعَلُوا مَعَ اَللّٰهِ إِلٰهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ كَذٰلِكَ مٰا أَتَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّٰ قٰالُوا سٰاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَ تَوٰاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طٰاغُونَ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمٰا أَنْتَ بِمَلُومٍ وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ اَلذِّكْرىٰ تَنْفَعُ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ مٰا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاّٰ لِيَعْبُدُونِ مٰا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَ مٰا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلرَّزّٰاقُ ذُو اَلْقُوَّةِ اَلْمَتِينُ فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحٰابِهِمْ فَلاٰ يَسْتَعْجِلُونِ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ اَلَّذِي يُوعَدُونَ »

اَلْعَقِيمَ التي عقمت عن أن تأتي بخير من إنشاء سحاب أو إلقاح شجر أو منفعة، إذ هي ريح الهلاك.

كَالرَّمِيمِ كالشيء البالي المتفتت من العظم والنبات وغير ذلك.

ص: 266

تَمَتَّعُوا حَتّٰى حِينٍ تفسيره قوله: تَمَتَّعُوا فِي دٰارِكُمْ ثَلاٰثَةَ أَيّٰامٍ (1).

فَأَخَذَتْهُمُ اَلصّٰاعِقَةُ بعد مضي الأيّام الثلاثة، وقرئ: الصعقة وهي المرة من: صعقتهم الصاعقة وَ هُمْ يَنْظُرُونَ إليها جهارا.

فَمَا اِسْتَطٰاعُوا مِنْ قِيٰامٍ كقوله: فَأَصْبَحُوا فِي دِيٰارِهِمْ جٰاثِمِينَ (2) أي: لم ينهضوا من تلك الصرعة وَ مٰا كٰانُوا مُنْتَصِرِينَ أي: ممتنعين من العذاب.

وَ قَوْمَ نُوحٍ علي معنى: و أهلكنا قوم نوح، لأنّ ما قبله يدلّ عليه مِنْ قَبْلُ عاد وثمود.

وَ اَلسَّمٰاءَ بَنَيْنٰاهٰا أي: رفعنا بناءها بِأَيْدٍ بقوة، والأيد والآد: القوة.

وَ إِنّٰا لَمُوسِعُونَ لقادرون، من الوسع وهو الطاقة، وعن الحسن: (لموسعون الرزق علي الخلق بالمطر)(3).

فَرَشْنٰاهٰا أي: بسطناها فَنِعْمَ اَلْمٰاهِدُونَ نحن إذ فعلنا ذلك لمنافع الخلق لا لجر نفع أودفع ضرر.

وَ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ من الحيوان خَلَقْنٰا زَوْجَيْنِ ذكرا و أنثى، وعن الحسن:

(السماء والأرض، والليل والنهار، والبر والبحر، والشمس والقمر، وعدد أشياء وقال: كل اثنين منها زوج، واللّه جل جلاله فرد لا مثل له)(4).

لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي: فعلنا ذلك كله من بناء السماء و فرش الأرض وخلق الأزواج إرادة أن تتذكروا فتعرفوا الخالق وتعبدوه.

ص: 267


1- هود: 65.
2- هود: 67.
3- تفسير الماوردي ج 5:373.
4- الكشاف ج 4:404.

فَفِرُّوا إِلَى اَللّٰهِ أي: طاعة اللّه وثوابه من معصيته وعقابه بتوحيده و إخلاص العبادة له.

و كرر قوله: إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ عند الأمر بالطاعة والنهي عن الشرك، ليعلم أنّ العلم والعمل مقترنان، وبالجمع بينهما يفوز الإنسان.

كَذٰلِكَ أي: الأمر مثل ذلك، وذلك إشارة إلى تكذيبهم الرسول وقولهم:

هو سٰاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ، فقوله: مٰا أَتَى تفسير لما أجمل.

أَ تَوٰاصَوْا بِهِ الضمير للقول، والمعنى: أتواصى الأوّلون والآخرون بهذا القول حتى قالوه جميعا متفقين عليه بَلْ هُمْ قَوْمٌ طٰاغُونَ أي: لم يتواصوا به لأنّهم لم يتلاقوا في زمان واحد بل جمعتهم العلة الواحدة وهي الطغيان حملهم عليه.

فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فأعرض عن دعوتهم فلم يجيبوا، فلا لوم في إعراضك عنهم بعدما بلّغت الرسالة وبذلت وسعك في الدعوة والإبلاع.

وَ ذَكِّرْ ولا تدع التذكير والموعظة فَإِنَّ اَلذِّكْرىٰ تَنْفَعُ اَلْمُؤْمِنِينَ الذين يعرفون اللّه و يوحّدونه. وعن عليّ عليه السلام: (أنّه لما نزل: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ اشتد ذلك علينا، فلما نزل: وَ ذَكِّرْ طابت نفوسنا)(1).

المعنى وَ مٰا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاّٰ لأجل العبادة، ولم أرد من جميعهم إلا إيّاها، والغرض في خلقهم تعريضهم للثواب، وذلك لا يحصل إلا بأداء العبادات.

مٰا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَ مٰا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ أي: لا أستعين بهم في تحصيل أرزاقهم و معايشهم، بل أتفضل عليهم برزقهم وبما يصلحهم، وما أريد أن يطعموا أحدا من خلقي، وإنّما أسند إلى نفسه لأنّ الخلق كلهم عياله، ومن أطعم عيال أحد

ص: 268


1- تفسير الطبري ج 27:8.

فكأنّما أطعمه.

إِنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلرَّزّٰاقُ لعباده و للخلائق كلهم، فلا يحتاج إلي معين.

ذُو اَلْقُوَّةِ الذي لا يتطرق إليه العجز والضعف.

اَلْمَتِينُ الشديد القوة، البليغ الاقتدار علي كل شيء، يقال: متن متانة فهو متين.

والذنوب: الدلو العظيم، وهذا تمثيل، وأصله في السقاة يقتسمون الماء فيكون لهذا ذنوب ولهذا ذنوب، قال:

لنا ذنوب ولكم ذنوب *** فإن أبيتم فلنا القليب(1)

والمعنى: فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا بتكذيب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم [نصيبا من عذاب اللّه مِثْلَ نصيب أَصْحٰابِهِمْ ونظرائهم من القرون المهلكة](2)فَلاٰ يَسْتَعْجِلُونِ بإنزال العذاب فإنّهم لا يفوتونني.

مِنْ يَوْمِهِمُ اَلَّذِي يُوعَدُونَ هو يوم القيامة.

ص: 269


1- كتاب العين ج 8:190 دون نسبة وكذا في باقي المصادر المتوفرة.
2- ساقطة من د.

سورة الطور

اشارة

مكية، تسع وأربعون آية كوفي، ثمان بصري، دَعًّا كوفي.

وفي حديث أبيّ : (ومن قرأ (سورة الطور) كان حقّا علي اللّه عزّ وجل أن يؤمنه من عذابه، وأن ينعمه في جنّته)(1)، وعن الباقر عليه السلام: (من قرأ (سورة الطور) جمع له خير الدنيا والآخرة)(2).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة الطور (52): الآیات 1 الی 16]

وَ اَلطُّورِ وَ كِتٰابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَ اَلْبَيْتِ اَلْمَعْمُورِ وَ اَلسَّقْفِ اَلْمَرْفُوعِ وَ اَلْبَحْرِ اَلْمَسْجُورِ إِنَّ عَذٰابَ رَبِّكَ لَوٰاقِعٌ مٰا لَهُ مِنْ دٰافِعٍ يَوْمَ تَمُورُ اَلسَّمٰاءُ مَوْراً وَ تَسِيرُ اَلْجِبٰالُ سَيْراً فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ اَلَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلىٰ نٰارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هٰذِهِ اَلنّٰارُ اَلَّتِي كُنْتُمْ بِهٰا تُكَذِّبُونَ أَ فَسِحْرٌ هٰذٰا أَمْ أَنْتُمْ لاٰ تُبْصِرُونَ اِصْلَوْهٰا فَاصْبِرُوا أَوْ لاٰ تَصْبِرُوا سَوٰاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمٰا تُجْزَوْنَ مٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

ص: 270


1- الكشف والبيان ج 9:123.
2- ثواب الأعمال: 116.

أقسم سبحانه بالجبل الذي كلّم عليه موسى بالأرض المقدسة.

وَ كِتٰابٍ مَسْطُورٍ مكتوب فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ والرق: الصحيفة، قيل: هو التوراة(1)، وقيل: هو صحائف الأعمال(2)، وقيل: هو القران مكتوب عند اللّه في اللوح المحفوظ(3). و نكّر لأنّه كتاب مخصوص من بين جنس الكتب، كقوله:

وَ نَفْسٍ وَ مٰا سَوّٰاهٰا (4) .

وَ اَلْبَيْتِ اَلْمَعْمُورِ هو بيت في السماء الرابعة بحيال الكعبة تعمره الملائكة بالعبادة. وعن عليّ عليه السلام: (يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثمّ لا يعودون إليه أبدا)(5). وروي: أنّ اسمه الضراح(6). وقيل: هو الكعبة لكونها معمورة بالحجّاج وا لعمّار(7).

وَ اَلسَّقْفِ اَلْمَرْفُوعِ السماء وَ اَلْبَحْرِ اَلْمَسْجُورِ المملوء، وقيل: هو الموقد المحمى(8)، من قوله: وَ إِذَا اَلْبِحٰارُ سُجِّرَتْ (9).

لَوٰاقِعٌ لنازل.

يَوْمَ تَمُورُ اَلسَّمٰاءُ ظرف ل - وٰاقِعٌ ، ومعنى تَمُورُ : تضطرب و تجيء

ص: 271


1- عن الكلبي. معالم التنزيل ج 4:100.
2- عن الفراء. معاني القرآن للفراء ج 3:91.
3- تفسير الماوردي ج 5:377.
4- الشمس: 7.
5- تفسير الطبري ج 27:10، التبيان ج 9:402.
6- تفسير الطبري ج 27:10.
7- عن الحسن. تفسير الماوردي ج 5:378.
8- عن مجاهد وغيره. تفسير الطبري ج 27:12.
9- التكوير: 6.

وتذهب وتستدبر.

وَ تَسِيرُ اَلْجِبٰالُ وتزول عن أماكنها حتى تستوي الأرض.

فَوَيْلٌ في ذلك اليوم لمن كذّب اللّه ورسوله.

والخوض: الاندفاع في الباطل. يَوْمَ يُدَعُّونَ أي: يدفعون دفعا بعنف وجفوة، وذلك أنّ خزنة النار يغلّون أيديهم إلى أعناقهم، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم، ويدفعونهم إلى النار دفعا علي وجوههم، وزخا(1) في أقفيتهم، يقال لهم:

هٰذِهِ اَلنّٰارُ .

أَ فَسِحْرٌ هٰذٰا معناه: إنّكم كنتم تقولون للوحي: هذا سحر، أفسحر هذا؟ والمراد: أهذا المصداق أيضا سحر؟ وإنّما دخلت الفاء لهذا المعنى، أَمْ أَنْتُمْ لاٰ تُبْصِرُونَ كما كنتم لا تبصرون في الدنيا؟! أي: أم أنتم عمي عن المخبر عنه كما كنتم عميا عن الخبر؟!.

والصلي: لزوم النار، يقال: صلي يصلي صليا، أي: ألزموها سَوٰاءٌ عَلَيْكُمْ الصبر وعدمه.

[سورة الطور (52): الآیات 17 الی 23]

إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي جَنّٰاتٍ وَ نَعِيمٍ فٰاكِهِينَ بِمٰا آتٰاهُمْ رَبُّهُمْ وَ وَقٰاهُمْ رَبُّهُمْ عَذٰابَ اَلْجَحِيمِ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا هَنِيئاً بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مُتَّكِئِينَ عَلىٰ سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَ زَوَّجْنٰاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اِتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمٰانٍ أَلْحَقْنٰا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ مٰا أَلَتْنٰاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ كُلُّ اِمْرِئٍ بِمٰا كَسَبَ رَهِينٌ وَ أَمْدَدْنٰاهُمْ بِفٰاكِهَةٍ وَ لَحْمٍ مِمّٰا يَشْتَهُونَ يَتَنٰازَعُونَ فِيهٰا كَأْساً لاٰ لَغْوٌ فِيهٰا وَ لاٰ تَأْثِيمٌ

ص: 272


1- الزخ: الدفع في وهدة. (الصحاح: مادة زخخ).

[سورة الطور (52): الآیات 24 الی 32]

وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمٰانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ يَتَسٰاءَلُونَ قٰالُوا إِنّٰا كُنّٰا قَبْلُ فِي أَهْلِنٰا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اَللّٰهُ عَلَيْنٰا وَ وَقٰانٰا عَذٰابَ اَلسَّمُومِ إِنّٰا كُنّٰا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ اَلْبَرُّ اَلرَّحِيمُ فَذَكِّرْ فَمٰا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكٰاهِنٍ وَ لاٰ مَجْنُونٍ أَمْ يَقُولُونَ شٰاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ اَلْمَنُونِ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ اَلْمُتَرَبِّصِينَ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاٰمُهُمْ بِهٰذٰا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طٰاغُونَ

فِي جَنّٰاتٍ في أيّة جنات وأيّ نَعِيمٍ ، أو في جنات مخصوصة خلقت لهم خاصة و نعيم اختص بهم.

وقرئ: فٰاكِهِينَ وفكهين، وهو منصوب على الحال، أي: متلذذين بِمٰا آتٰاهُمْ رَبُّهُمْ .

وَ وَقٰاهُمْ رَبُّهُمْ عَذٰابَ اَلْجَحِيمِ يجوز أن يكون الواو للحال وقد مضمرة، و يجوز أن تعطفه على آتٰاهُمْ إذا جعلت (ما) مصدرية، فيكون المعنى: فاكهين بإيتائهم ربّهم ووقايتهم العذاب.

يقال لهم: كُلُوا وَ اِشْرَبُوا أكلا وشربا هَنِيئاً ، أو طعاما و شرابا هنيئا لا تنغيص فيه.

وَ زَوَّجْنٰاهُمْ أي: قرناهم بِحُورٍ نقيات البياض في حسن وكمال عِينٍ واسعة العيون في صفاء وبهاء.

وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا [عطف علي بِحُورٍ عِينٍ ](1) أي: وبالذين آمنوا، أي:

ص: 273


1- ساقطة من ج.

بالرفقاء و الجلساء منهم، فيتمتعون تارة بملاعبة الحور العين، وتارة بمؤانسة الإخوان.

و قرئ: وَ اِتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ ، وذرياتهم، وأتبعناهم ذرياتهم وقرئ: أَلْحَقْنٰا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ و ذرياتهم. وعن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: (إنّ المؤمنين وأولادهم في الجنّة وقرأ هذه الآية)(1). فالمعنى: إنّ اللّه سبحانه يجمع لهم أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم، وبمزاوجة الحور العين، وبمؤانسة الإخوان المؤمنين المتقابلين، وباجتماع أولادهم ونسلهم معهم، ثمّ قال: بِإِيمٰانٍ أي: بسبب إيمان رفيع المحلّ ، وهو إيمان الآباء، ألحقنا بدرجاتهم ذرياتهم وإن كانوا لا يستأهلونها تفضلا عليهم وعلى آبائهم، ليتمّ سرورهم وتقرّ بهم عيونهم.

بِمٰا آتٰاهُمْ وما نقصناهم مِنْ عَمَلِهِمْ من ثواب عملهم مِنْ شَيْ ءٍ ، وقيل: معناه: ما نقصناهم من ثوابهم شيئا نعطيه الأبناء بل ألحقناهم بهم علي سبيل التفضل(2). وقرئ: ما ألتناهم بكسر اللام، من: ألت يألت، ويكون لغة في: ألت يألت.

كُلُّ اِمْرِئٍ بِمٰا كَسَبَ رَهِينٌ أي: مرهون، والمعنى: كل نفس رهن عند اللّه بالعمل الصالح الذي هو مطالب به، كما يرهن الرجل عبده بدين عليه، فإن عمل صالحا فكّها و خلّصها وإلا أوبقها.

وَ أَمْدَدْنٰاهُمْ أي: و زدناهم حالا بعد حال بما يشتهونه من فٰاكِهَةٌ وَ لَهُمْ .

يَتَنٰازَعُونَ فِيهٰا يتعاطون ويتعاورون [هم و جلساؤهم من أقربائهم

ص: 274


1- مسند أحمد ج 1:135، الكافي ج 3:249 بالمعنى.
2- عن ابن زيد وغيره. تفسير الطبري ج 27:17.

وإخوانهم](1)كَأْساً خمرا لاٰ لَغْوٌ في شربها وَ لاٰ تَأْثِيمٌ أي: لا يتكلّمون في أثناء شربها بالكلام الذي لا طائل فيه، ولا يفعلون ما يؤثم به فاعله، أي: ينسب إلى الإثم من الكذب والفواحش، وإنّما يتكلّمون بالحكمة والكلام الحسن لأنّهم حكماء علماء. و قرئ: لاٰ لَغْوٌ فِيهٰا وَ لاٰ تَأْثِيمٌ بالرفع.

غِلْمٰانٌ لَهُمْ مملوكون لهم مخصوصون بهم كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ في الصدف لأنّه أصفى و أحسن، أو مخزون لأنّه لا يخزن إلا الثمين النفيس. وسئل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:

هذا الخادم فكيف المخدوم ؟ فقال صلوات اللّه عليه وآله: (والذي نفسي بيده إنّ فضل المخدوم علي الخادم كفضل القمر ليلة البدر علي سائر الكواكب)(2).

يَتَسٰاءَلُونَ أي: يتحادثون فيسأل بعضهم بعضا عن أحواله وعما استوجب به ذلك.

مُشْفِقِينَ أي: أرقاء القلوب من خشية اللّه.

عَذٰابَ اَلسَّمُومِ عذاب النار و لفحها، والسموم: الريح الحارة التي تدخل المسام، فسمّيت بها نار جهنم.

إِنّٰا كُنّٰا مِنْ قَبْلُ لقاء اللّه والمصير إليه أي: في الدنيا نَدْعُوهُ أي:

ندعو اللّه ونوحّده ونعبده إِنَّهُ هُوَ اَلْبَرُّ المحسن اَلرَّحِيمُ الكثير الرحمة.

و قرئ: أنّه بالفتح بمعنى: لأنّه.

فَذَكِّرْ يا محمّد أي: فاثبت علي تذكير الناس ووعظهم، ولا تترك دعوتهم وإن أساؤوا القول فيك فإنّه قول باطل.

ص: 275


1- ساقطة من ج، د.
2- تفسير الطبري ج 27:18.

وما أَنْتَ بحمد اللّه وإنعامه عليك بِكٰاهِنٍ .

وريب المنون: حوادث الدهر، وقيل: المنون: الموت(1)، فعول من منّه إذا قطعه، كما سموه شعوب، قالوا: ننتظر به نوائب الزمان فيهلك كما هلك من قبله من الشعراء.

فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ اَلْمُتَرَبِّصِينَ أتربّص هلاككم كما تتربّصون هلاكي.

أَحْلاٰمُهُمْ بهذا التناقض في القول وهو قولهم: كاهن وشاعر مع قولهم:

مجنون. وكانت قريش يدعون أهل النهى والأحلام.

أَمْ هُمْ قَوْمٌ طٰاغُونَ مجاوزون الحد في العناد، حملهم طغيانهم وعنادهم علي تكذيبك مع ظهور الحقّ لهم.

[سورة الطور (52): الآیات 33 الی 46]

أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لاٰ يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كٰانُوا صٰادِقِينَ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ ءٍ أَمْ هُمُ اَلْخٰالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ بَلْ لاٰ يُوقِنُونَ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزٰائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ اَلْمُصَيْطِرُونَ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطٰانٍ مُبِينٍ أَمْ لَهُ اَلْبَنٰاتُ وَ لَكُمُ اَلْبَنُونَ أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ أَمْ عِنْدَهُمُ اَلْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ اَلْمَكِيدُونَ أَمْ لَهُمْ إِلٰهٌ غَيْرُ اَللّٰهِ سُبْحٰانَ اَللّٰهِ عَمّٰا يُشْرِكُونَ وَ إِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ اَلسَّمٰاءِ سٰاقِطاً يَقُولُوا سَحٰابٌ مَرْكُومٌ فَذَرْهُمْ حَتّٰى يُلاٰقُوا يَوْمَهُمُ اَلَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ يَوْمَ لاٰ يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَ لاٰ هُمْ يُنْصَرُونَ

ص: 276


1- عن ابن عباس وغيره. تفسير الطبري ج 27:19.

[سورة الطور (52): الآیات 47 الی 49]

وَ إِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذٰاباً دُونَ ذٰلِكَ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ وَ اِصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنٰا وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَ مِنَ اَللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ إِدْبٰارَ اَلنُّجُومِ

تَقَوَّلَهُ أي: افتعله واختلقه من تلقاء نفسه، والضمير للقرآن بَلْ لاٰ يُؤْمِنُونَ ولعنادهم وكفرهم يقولون ذلك مع علمهم بأنّه ليس بمتقول.

فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مثل القرآن في نظمه و فصاحته إِنْ كٰانُوا صٰادِقِينَ ، وإذا لم يقدروا على الإتيان بمثله - وما محمّد إلا واحد منهم - فليعلموا أنّه لم يتقوّله، بل أ خُلِقُوا أي: أحدثوا و قدّروا التقدير الذي عليه فطرتهم مِنْ غَيْرِ شَيْ ءٍ من غير مقدّر أَمْ هُمُ الذين خلقوا أنفسهم حيث لا يعبدون الخالق بَلْ لاٰ يُوقِنُونَ وهم شاكون فيما يقولون، وقيل: أخلقوا باطلا من أجل غير شيء من جزاء وحساب(1).

بل أ عِنْدَهُمْ خَزٰائِنُ الرزق فيرزقوا النبوّة من شاؤوا؟! أو أعندهم خزائن علمه حتى يختاروا لها من اختياره حكمة وصلاح ؟! أم هم المسيطرون الأرباب المسلطون علي الناس حتى يدبروا أمر الربوبية ؟! وقرئ: اَلْمُصَيْطِرُونَ بالصاد.

سُلَّمٌ أي: مرقى ومصعد منصوب إلي السماء يَسْتَمِعُونَ فِيهِ إلى كلام الملائكة، فوثقوا بما هم عليه وردوا ما سواه.

بِسُلْطٰانٍ مُبِينٍ بحجّة واضحة تصدق استماع مستمعهم.

[أَمْ لَهُ اَلْبَنٰاتُ وَ لَكُمُ اَلْبَنُونَ وهذا تسفيه لأحلامهم، حيث أضافوا إلى اللّه تعالي ما أنفوا منه، وهذا غاية في جهلهم إذ جوّزوا عليه الولد ثمّ ادعوا أنّه اختار

ص: 277


1- معاني القرآن وإعرابه ج 5:65.

الأدون علي الأعلى](1).

أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً علي ما جئتهم به من الدين فَهُمْ مِنْ جهة مَغْرَمٍ فدحهم مُثْقَلُونَ أثقلهم ذلك المغرم الذي سألتهم فزهدهم في اتباعك.

أَمْ عِنْدَهُمُ اَلْغَيْبُ أي: اللوح المحفوظ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ما فيه حتى قالوا:

لا نبعث ولا نعذّب.

أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً [وهو كيدهم](2) في دار الندوة فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الذين يعود عليهم وبال كيدهم، وذلك أنّهم قتلوا يوم بدر، و اَلْمَكِيدُونَ : المغلوبون في الكيد، من: كايدته فكدته.

وَ إِنْ يَرَوْا كِسْفاً يَقُولُوا أي: قطعة مِنَ اَلسَّمٰاءِ سٰاقِطاً لقالوا هذا سَحٰابٌ مَرْكُومٌ بعضه فوق بعض.

يصعقون أي: يموتون، و قرئ يُصْعَقُونَ من: صعقته فصعق و أصعقته لغة، وذلك عند النفخة الأولى.

وَ إِنَّ لهؤلاء الظلمة عَذٰاباً دُونَ ذٰلِكَ يوم القيامة وهو القتل يوم بدر، والقحط سبع سنين، أو عذاب القبر.

لِحُكْمِ رَبِّكَ بإمهالهم وما يلحقك فيه من الكلفة والمشقة فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنٰا مثل، أي بحيث نراك و نكلؤك، وجمع العين لأنّ الضمير ضمير الجمع، وقال في موضع آخر: وَ لِتُصْنَعَ عَلىٰ عَيْنِي (3).

ص: 278


1- ساقطة من ب، ج.
2- ساقطة من ج.
3- طه: 39.

وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ من أي مكان قمت فيه، وقيل: من منامك(1)، وقيل: واذكر اللّه حين تقوم إلي الصلاة المفروضة إلي أن تدخل في الصلاة(2).

وَ مِنَ اَللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ يعني: صلاة الليل إذا قام من النوم وَ إِدْبٰارَ اَلنُّجُومِ يعني: ركعتي الفجر قبل الفريضة، وقيل: هي الفريضة(3)، أي: حين تدبر النجوم وتغيب يضوء الصبح. و قرئ: وأدبار بفتح الهمزة، مثل: أعقاب النجوم.

ص: 279


1- عن أبي الأحوص. تفسير الطبري ج 27:22.
2- عن الضحاك. تفسير الطبري ج 27:23.
3- عن الضحاك. تفسير الطبري ج 27:24.

سورة النجم

اشارة

مكية، وعن الحسن مدنية، اثنتان وستون آية كوفي، و آية غيرهم، مِنَ اَلْحَقِّ شَيْئاً كوفي.

وفي حديث أبيّ : (من قرأ (سورة النجم) أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بمحمّد وجحد به)(1)، وعن الصادق عليه السلام: (من كان يدمن قراءة وَ اَلنَّجْمِ في كل يوم أو ليلة عاش محمودا بين الناس محبّبا)(2).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة النجم (53): الآیات 1 الی 18]

وَ اَلنَّجْمِ إِذٰا هَوىٰ مٰا ضَلَّ صٰاحِبُكُمْ وَ مٰا غَوىٰ وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ اَلْهَوىٰ إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ عَلَّمَهُ شَدِيدُ اَلْقُوىٰ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوىٰ وَ هُوَ بِالْأُفُقِ اَلْأَعْلىٰ ثُمَّ دَنٰا فَتَدَلّٰى فَكٰانَ قٰابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنىٰ فَأَوْحىٰ إِلىٰ عَبْدِهِ مٰا أَوْحىٰ مٰا كَذَبَ اَلْفُؤٰادُ مٰا رَأىٰ أَ فَتُمٰارُونَهُ عَلىٰ مٰا يَرىٰ وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرىٰ عِنْدَ سِدْرَةِ اَلْمُنْتَهىٰ عِنْدَهٰا جَنَّةُ اَلْمَأْوىٰ إِذْ يَغْشَى اَلسِّدْرَةَ مٰا يَغْشىٰ مٰا زٰاغَ اَلْبَصَرُ وَ مٰا طَغىٰ لَقَدْ رَأىٰ مِنْ آيٰاتِ رَبِّهِ اَلْكُبْرىٰ

ص: 280


1- الكشف والبيان ج 9:134.
2- ثواب الأعمال: 116.

اَلنَّجْمِ : الثريا، اسم غالب لها، [قال:

فوردن و العيّوق مقعد رابئ *** الضّرباء فوق النّجم لا يتتلّع(1)

أو جنس النجوم.

إِذٰا هَوىٰ ](2) إذا غرب أو انتثر يوم القيامة، أو النجم الذي يرجم به إذا انقض، أو النجم من نجوم القرآن وقد نزل منجّما في نيف وعشرين سنة إذا هوي إذا نزل.

مٰا ضَلَّ صٰاحِبُكُمْ يعني: النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، والخطاب لقريش. وهو جواب القسم، أي: هو هاد مهتد راشد مرشد، وليس كما زعمتم في نسبتكم إيّاه إلى الضلال والغي.

وما آتاكم به من الدين والقرآن ليس بمنطق صادر عن رأيه وهواه، ما هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ من عند اللّه يُوحىٰ إليه.

عَلَّمَهُ ملك شَدِيدُ اَلْقُوىٰ أي: شديد قواه، وهو جبرئيل عليه السلام، و الإضافة لفظية لأنّها إضافة الصفة المشبّهة إلى فاعلها.

ذُو مِرَّةٍ ذو حصافة في عقله ورأيه، و متانة في دينه، و صحّة في جسمه.

فَاسْتَوىٰ فاستقام على صورة نفسه الحقيقية دون الصورة التي كان يتمثل بها كلما هبط بالوحي، وكان يأتيه في صورة الآدميين، فأحبّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يراه في صورته التي جبل عليها فاستوى له.

وَ هُوَ بِالْأُفُقِ اَلْأَعْلىٰ يعني: أفق الشمس فملأ الأفق، وقيل: ما راه أحد

ص: 281


1- شرح أشعار الهذليين ج 1:19.
2- ساقطة من ب.

من الأنبياء في صورته الحقيقية غير محمّد صلى الله عليه و آله و سلم رآه مرتين: مرة في الأرض ومرة في السماء(1).

ثُمَّ دَنٰا من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فَتَدَلّٰى فتعلّق عليه في الهواء، وهو مثل في القرب.

فَكٰانَ قٰابَ قَوْسَيْنِ مقدار قوسين، والقاب والقيب والقاد والقيه والقاس والقيس: المقدار، وأصله: فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين، فحذفت هذه المضافات، كما قال الشاعر:

وقد جعلتني من خزيمة أصبعا(2)

أي: ذا مقدار مسافة إصبع أو أدنى من ذلك.

فَأَوْحىٰ إِلىٰ عَبْدِهِ الضمير للّه، وإن لم يجر ذكر اسمه سبحانه لأنّه لا يلتبس مٰا أَوْحىٰ تفخيم للوحي الذي أوحي إليه، و مٰا مصدرية، ويجوز أن تكون موصولة، وقيل: فأوحى جبرائيل إلى عبد اللّه محمّد صلى الله عليه و آله و سلم ما أوحى اللّه إليه(3)، وقيل:

أوحى إليه أنّ الجنّة محرّمة علي الأنبياء حتى تدخلها، وعلي الأمم حتى تدخلها أمّتك.

مٰا كَذَبَ فؤاد محمّد ما رآه ببصره من صورة جبرائي عليه السلام، أي: ما قال فؤاده لما رآه: لم أعرفك، ولو قال ذلك لكان كاذبا لأنّه عرفه، يعني: إنّه رآه بعينه وعرفه بقلبه ولم يشك في أنّه [حقّ ، و قرئ: ما كذب، أي: صدقه ولم يشك أنّه](4)

ص: 282


1- عن سعيد بن المسيب. الكشف والبيان ج 9:137.
2- البيت للكلحبة العريني. خزانة الأدب ج 1:388، وصدره: فادرك ابقاء العرادة ظلعها.
3- عن ابن زيد وغيره. تفسير الطبري ج 27:28.
4- ساقطة من ب.

جبرائيل عليه السلام بصورته.

أَ فَتُمٰارُونَهُ من المراء وهو الجدال و الملاحاة، واشتقاقه من مري الناقة، كأنّ كل واحد من المتجادلين يمري ما عند صاحبه، وقرئ: أفتمارونه من: ماريته فمريته، أي: أفتغلبونه في المراء؟ ولذلك عدّي ب - عَلىٰ ، كما تقول: غلبته علي كذا.

وقيل: أفتمارونه: أفتجحد ونه ؟(1).

وَ لَقَدْ رَآهُ يعني: رأي جبرئيل عليه السلام نَزْلَةً أُخْرىٰ يعني: مرة أخري، من النزول، أي: نازلا عليه من السماء نزلة أخرى في صورة نفسه.

عِنْدَ سِدْرَةِ اَلْمُنْتَهىٰ و هي شجرة نبق عن يمين العرش فوق السماء السابعة، ثمرها كقلال هجر(2)، وورقها كآذان الفيول، يسير الركب في ظلها سبعين عاما.

والمنتهى: موضع الانتهاء ولم يجاوزها أحد، وإليها ينتهي علم الملائكة وغيرهم، لا يعلم أحد إلا اللّه ما وراءها، وقيل: تنتهي إليها أرواح الشهداء، وقيل: هي شجرة طوبى كانت في منتهى الجنّة(3).

عِنْدَهٰا جَنَّةُ اَلْمَأْوىٰ وهي جنّة الخلد يصير إليها المتقون، وقيل: يأوي إليها أرواح الشهداء(4)، وعن عليّ عليه السلام و أبي الدرداء: جنّه المأوي بالهاء، وروي ذلك عن الصادق عليه السلام، ومعناه: ستره بظلاله ودخل فيه.

إِذْ يَغْشَى اَلسِّدْرَةَ من النور والبهاء مٰا يَغْشىٰ مما لا يكتنهه الوصف،

ص: 283


1- عن إبراهيم. تفسير الطبري ج 27:29.
2- القلال: جمع قلّة، وهي إناء العرب كالجرة الكبيرة شبيهة بالحباب. (الصحاح: مادة قلل)
3- عن مقاتل. معالم التنزيل ج 4:106.
4- عن ابن عباس وغيره. تفسير الطبري ج 27:33.

وقيل: (يغشاها الجم الغفير من الملائكة [يعبدون اللّه عندها](1)(2). وعن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: (رأيت علي كل ورقة من ورقها ملكا قائما يسبّح اللّه عزّ وجل)(3).

ومعناه: إنّه رأي جبرئيل علي صورته ليلة المعراج في الحال التي عشي السدرة فيها ما غشيه من الخلائق الدالة علي جلال اللّه و عظمته.

مٰا زٰاغَ بصر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وَ مٰا طَغىٰ أي: أثبت ما رآه إثباتا صحيحا من غير أن يزيغ بصره عنه أو يتجاوزه، أو ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها، وما جاوز الحد الذي حد له.

لَقَدْ رَأىٰ أي: و اللّه لقد رأي مِنْ آيٰاتِ رَبِّهِ التي هي كبراها وعظماها حين عرج به إلى السماء فأري عجائب الملكوت. و مِنْ للتبعيض لأنّها كانت بعض آيات اللّه.

[سورة النجم (53): الآیات 19 الی 28]

أَ فَرَأَيْتُمُ اَللاّٰتَ وَ اَلْعُزّٰى وَ مَنٰاةَ اَلثّٰالِثَةَ اَلْأُخْرىٰ أَ لَكُمُ اَلذَّكَرُ وَ لَهُ اَلْأُنْثىٰ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزىٰ إِنْ هِيَ إِلاّٰ أَسْمٰاءٌ سَمَّيْتُمُوهٰا أَنْتُمْ وَ آبٰاؤُكُمْ مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ بِهٰا مِنْ سُلْطٰانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ وَ مٰا تَهْوَى اَلْأَنْفُسُ وَ لَقَدْ جٰاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ اَلْهُدىٰ أَمْ لِلْإِنْسٰانِ مٰا تَمَنّٰى فَلِلّٰهِ اَلْآخِرَةُ وَ اَلْأُولىٰ وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ لاٰ تُغْنِي شَفٰاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاّٰ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اَللّٰهُ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ يَرْضىٰ إِنَّ اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ اَلْمَلاٰئِكَةَ تَسْمِيَةَ اَلْأُنْثىٰ وَ مٰا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ وَ إِنَّ اَلظَّنَّ لاٰ

ص: 284


1- ساقطة من ب، ج.
2- عن ابن عباس وغيره. الدر المنثور ج 6:126.
3- الكشف والبيان ج 9:143.

[سورة النجم (53): الآیات 28 الی 30]

يُغْنِي مِنَ اَلْحَقِّ شَيْئاً فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلّٰى عَنْ ذِكْرِنٰا وَ لَمْ يُرِدْ إِلاَّ اَلْحَيٰاةَ اَلدُّنْيٰا ذٰلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اِهْتَدىٰ

ثمّ خاطب سبحانه المشركين فقال: أَ فَرَأَيْتُمُ أيّها الزاعمون أنّ اَللاّٰتَ وَ اَلْعُزّٰى وَ مَنٰاةَ آلهة ؟ وهي مؤنثات، فاللات كانت لثقيف بالطائف، وقيل: كانت بنخلة تعبدها قريش(1)، والعزّى كانت لغطفان، ومناة كانت لهذيل وخزاعة.

وقيل: هن أصنام من حجارة كانت في الكعبة يعبدونها.

و اَلْأُخْرىٰ صفة ل - مَنٰاةَ ، وهي ذم، أي: المتأخرة الوضيعة المقدار، ويمكن أن تكون الأولية والتقدّم عندهم لللات والعزّي.

وكانوا يقولون: إنّ الملائكة وهذه الأصنام بنات اللّه، فقيل لهم: أَ لَكُمُ اَلذَّكَرُ وَ لَهُ اَلْأُنْثىٰ ، ويمكن أن يراد: أنّ الأصنام الثلاثة إناث وقد جعلتموهن شركاء للّه، وقد استنكفتم من أن يولد لكم الإناث وينسبن إليكم، فكيف سمّيتم الإناث آلهة وأنتم قوم لو خيّرتم لاخترتم الذكور؟!.

تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزىٰ جائرة غير معتدلة، من: ضازه يضيزه إذا ضامه، والأصل: ضوزى ففعل بها ما فعل ببيض وعين لتسلم الياء، وقرئ بالهمزة من:

ضأزه.

هِيَ ضمير الأصنام، والمعنى: ما هِيَ إِلاّٰ أَسْمٰاءٌ ليس تحتها في الحقيقة مسمّيات، لأنّكم تسمّون آلهة ما هو أبعد شيء منها، أو ضمير اللات والعزّى ومناة، أي: ما هذه الأسماء إلا أسماء سمّيتموها بهواكم، وزعمتم أنّ اللات من

ص: 285


1- عن ابن زيد. تفسير الطبري ج 27:35.

اللّه، والعزّى من العزيز، ليس لكم من اللّه علي صحّة تسميتها برهان تتمسّكون به، يقال: سمّيته زيدا أو سمّيته بزيد.

إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ و التوهّم أنّ ما هم عليه حقّ ، وما تهواه أنفسهم، ويتركون ما جاءهم من اَلْهُدىٰ والأدلة علي أنّ ما هم عليه باطل.

أَمْ لِلْإِنْسٰانِ مٰا تَمَنّٰى [هي أم المنقطعة والهمزة للإنكار، أي ليس للإنسان ما تمنى](1) من نعيم الدنيا والآخرة، بل يفعله تعالى بحسب المصلحة. فَلِلّٰهِ اَلْآخِرَةُ وَ اَلْأُولىٰ يعطي منها من يشاء ويمنع من يشاء.

يعني: إنّ الملائكة مع كثرتهم وقربهم ومنزلتهم من اللّه لاٰ تُغْنِي شَفٰاعَتُهُمْ عن أحد شَيْئاً إِلاّٰ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اَللّٰهُ لهم في الشفاعة إليه لِمَنْ يَشٰاءُ وَ يَرْضىٰ لهم أن يشفعوا فيه من أهل الإيمان والتوحيد، فكيف تشفع الأصنام إليه لعابديهم ؟!.

لَيُسَمُّونَ اَلْمَلاٰئِكَةَ تَسْمِيَةَ اَلْأُنْثىٰ بقولهم: إنّ الملائكة بنات اللّه.

وَ مٰا لَهُمْ بِهِ أي: بما يقولون مِنْ عِلْمٍ .

وَ إِنَّ اَلظَّنَّ لاٰ يُغْنِي مِنَ اَلْحَقِّ شَيْئاً لأنّ حقيقة الشيء إنّما تدرك بالعلم والتيقن لا بالظن والتوهم.

فَأَعْرِضْ عَنْ دعوة مَنْ تَوَلّٰى عَنْ ذِكْرِنٰا وَ لَمْ يُرِدْ إِلاَّ اَلْحَيٰاةَ اَلدُّنْيٰا ومنافعها ولذاتها.

ذٰلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ أي: ذلك منتهى علمهم، وهو مبلغ خسيس لا يرضى به لنفسه عاقل.

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بالضال والمهتدي فيجازيهما علي حسب ما يستحقّانه.

ص: 286


1- ساقطة من ب.

[سورة النجم (53): الآیات 31 الی 41]

وَ لِلّٰهِ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ لِيَجْزِيَ اَلَّذِينَ أَسٰاؤُا بِمٰا عَمِلُوا وَ يَجْزِيَ اَلَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى اَلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبٰائِرَ اَلْإِثْمِ وَ اَلْفَوٰاحِشَ إِلاَّ اَللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وٰاسِعُ اَلْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ وَ إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهٰاتِكُمْ فَلاٰ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اِتَّقىٰ أَ فَرَأَيْتَ اَلَّذِي تَوَلّٰى وَ أَعْطىٰ قَلِيلاً وَ أَكْدىٰ أَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْغَيْبِ فَهُوَ يَرىٰ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمٰا فِي صُحُفِ مُوسىٰ وَ إِبْرٰاهِيمَ اَلَّذِي وَفّٰى أَلاّٰ تَزِرُ وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسٰانِ إِلاّٰ مٰا سَعىٰ وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرىٰ ثُمَّ يُجْزٰاهُ اَلْجَزٰاءَ اَلْأَوْفىٰ

تعلّق قوله: لِيَجْزِيَ بما قبله، لأنّ المعنى: أنّه سبحانه إنّما خلق مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ لهذا الغرض، وهو أن يجازي المسيئين والمحسنين بالإساءة والإحسان، أو يتعلّق بقوله: هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اِهْتَدىٰ لأنّ نتيجة العلم بالضال والمهتدي جزاؤهما بأعمالهما.

ومعنى بِالْحُسْنَى : المثوبة الحسنى، وهي الجنّة. ويجوز أن يريد بسبب ما عملوا من السوء وبسبب الأعمال الحسنى.

اَلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبٰائِرَ اَلْإِثْمِ أي: عظائم الذنوب وَ اَلْفَوٰاحِشَ [جمع الفاحشة](1)، وقرئ: كبير الإثم، أي: النوع الكبير منه، إِلاَّ اَللَّمَمَ وهوما قلّ منه، ومنه اللمم: المس من الجنون، وألمّ الرجل بالمكان: إذا قلّ فيه لبثه، و ألمّ بالطعام:

إذا قلّ منه أكله، وهو استثناء منقطع أو صفة، كأنّه قال: كبائر الإثم غير اللمم،

ص: 287


1- ساقطة من ب.

وقيل: هو النظرة والغمزة والقبلة وما كان دون الزنا(1)، وعن السدي: (الخطرة من الذنب)(2)، وعن الكلبي: (كل ذنب لم يذكر اللّه عليه حدّا ولا عقابا)(3).

إِنَّ رَبَّكَ وٰاسِعُ اَلْمَغْفِرَةِ تسع مغفرته الذنوب و لا يضيق عنها حين أَنْشَأَكُمْ أي: أنشأ أباكم آدم مِنَ أديم اَلْأَرْضِ وفي وقت كونكم أَجِنَّةٌ في الأرحام، فهو يعلم ميل طباعكم إلي اللمم فَلاٰ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ فلا تنسبوها إلى الزكاة والطهارة من المعاصي، ولا تثنوا عليها فقد علم اللّه الزكي منكم والتقي أوّلا و آخرا، وقيل: كان ناس يعملون أعمالا حسنة ثمّ يقولون: صلاتنا و زكاتنا وصيامنا وعباداتنا... فنزلت(4). وهذا إذا كان علي سبيل الإعجاب أو الرياء.

وروي: أنّ عثمان كان يعطي ماله، فقال له عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح وهو أخوه من الرضاعة: يوشك أن لا يبقى لك شيء، فقال له عثمان: إنّ لي ذنوبا وخطايا وإنّي أطلب بما أصنع رضا اللّه، فقال عبد اللّه: أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمّل عنك ذنوبك كلها، فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن العطاء، فنزلت(5).

أَ فَرَأَيْتَ اَلَّذِي تَوَلّٰى عن الخير وَ أَعْطىٰ قَلِيلاً وَ أَكْدىٰ وقطع عطيته وأمسك، وأصله من: أكدى الحافر إذا بلغ الكدية، وهي صلابة كالصخرة إذا بلغ الحافر إليها يئس من الماء فأمسك عن الحفر.

أَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْغَيْبِ أي: ما غاب عنه من أمر العذاب فَهُوَ يَرىٰ أي:

ص: 288


1- عن ابن مسعود وغيره. تفسير الطبري ج 27:39.
2- معالم التنزيل ج 4:109.
3- معالم التنزيل ج 4:109.
4- عن مقاتل وغيره. معالم التنزيل ج 4:109.
5- أسباب النزول: 283.

يعلم أنّ ما قاله له أخوه من احتمال أوزاره حقّ؟.

ألم يخبر بِمٰا فِي صُحُفِ مُوسىٰ من أسفار التوراة وفي صحف إِبْرٰاهِيمَ اَلَّذِي وَفّٰى أي: تمم ووفر ما أمر به، وإنّما أطلق ليتناول كل توفية من تبليغ الرسالة، والصبر على ذبح الولد وعلي نار نمرود... وغير ذلك من قيامه بالأوامر، وعن الحسن: (ما أمره اللّه بشيء [إلا وفى به)(1).

أَلاّٰ تَزِرُ هي المخففة من الثقيلة، والمعنى: أنّه لا تزر، والضمير للشأن، ومحلّ (أن) وما في حيّزها الجر بدلا من بِمٰا فِي صُحُفِ مُوسىٰ ، أو الرفع](2) علي:

هو أن لا تزر، كأن قائلا قال: وما في صحف موسى وإبراهيم ؟ فقال: أن لا تزر وازرة وزر أخري، وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسٰانِ إِلاّٰ سعيه، و مٰا مصدرية.

وأما ما جاء في الأخبار من الصدقة عن الميت والحج عنه والصلاة، فإنّ ذلك وإن كان سعي غيره فكأنّه سعي نفسه، لكونه قائما مقامه وتابعا له، فهو بحكم الشريعة كالوكيل النائب عنه.

ثُمَّ يُجْزٰاهُ اَلْجَزٰاءَ اَلْأَوْفىٰ أي: ثمّ يجزي العبد سعيه، يقال: جزاه اللّه عمله، وجزاه علي عمله، والمعنى: أنّه يري سعيه يوم القيامة ثمّ يجزيه أوفى الجزاء.

[سورة النجم (53): الآیات 42 الی 53]

وَ أَنَّ إِلىٰ رَبِّكَ اَلْمُنْتَهىٰ وَ أَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَ أَبْكىٰ وَ أَنَّهُ هُوَ أَمٰاتَ وَ أَحْيٰا وَ أَنَّهُ خَلَقَ اَلزَّوْجَيْنِ اَلذَّكَرَ وَ اَلْأُنْثىٰ مِنْ نُطْفَةٍ إِذٰا تُمْنىٰ وَ أَنَّ عَلَيْهِ اَلنَّشْأَةَ اَلْأُخْرىٰ وَ أَنَّهُ هُوَ أَغْنىٰ وَ أَقْنىٰ وَ أَنَّهُ هُوَ رَبُّ اَلشِّعْرىٰ وَ أَنَّهُ أَهْلَكَ عٰاداً اَلْأُولىٰ وَ ثَمُودَ فَمٰا أَبْقىٰ وَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كٰانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَ أَطْغىٰ وَ اَلْمُؤْتَفِكَةَ

ص: 289


1- معالم التنزيل ج 4:109.
2- ساقطة من ب.

[سورة النجم (53): الآیات 53 الی 62]

أَهْوىٰ فَغَشّٰاهٰا مٰا غَشّٰى فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكَ تَتَمٰارىٰ هٰذٰا نَذِيرٌ مِنَ اَلنُّذُرِ اَلْأُولىٰ أَزِفَتِ اَلْآزِفَةُ لَيْسَ لَهٰا مِنْ دُونِ اَللّٰهِ كٰاشِفَةٌ أَ فَمِنْ هٰذَا اَلْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَ تَضْحَكُونَ وَ لاٰ تَبْكُونَ وَ أَنْتُمْ سٰامِدُونَ فَاسْجُدُوا لِلّٰهِ وَ اُعْبُدُوا

الفتح في أَنَّ وما بعده علي معنى: أنّ هذا كله في صحف موسى وإبراهيم.

و اَلْمُنْتَهىٰ مصدر بمعنى الانتهاء، أي: ينتهي إليه الخلق و يرجعون إليه كقوله: وَ إِلَى اَللّٰهِ اَلْمَصِيرُ (1).

ومعنى أَضْحَكَ وَ أَبْكىٰ : خلق قوتي الضحك والبكاء، [أو فعل سبب الضحك والبكاء](2) من السرور والحزن، وقيل: أضحك الأشجار بالأنوار وأبكى السحاب بالأمطار.

إِذٰا تُمْنىٰ إذا تدفّق في الرحم، يقال: مني و أمنى، وقيل: معناه: تخلق(3).

قال:

حتّى يبيّن ما يمني لك الماني(4)

أي: يقدّر لك المقدّر.

و قرئ: اَلنَّشْأَةَ والنشاة بالمد، يريد: أنّها واجبة عليه في الحكمة ليجازي علي الإحسان والإساءة.

ص: 290


1- آل عمران: 28.
2- ساقطة من ب.
3- عن الأخفش. تفسير الماوردي ج 5:405.
4- البيت لأبي قلابة الهذلي. شرح اشعار الهذليين ج 2:713، وصدره: ولا تقولن لشيء سوف أفعله.

وَ أَقْنىٰ أي: أعطى القنية وهي المال المؤثل المدخر، وقيل: أَغْنىٰ : موّل، وَ أَقْنىٰ : أرضى بما أعطى(1).

رَبُّ اَلشِّعْرىٰ أي: خالقها وكانت خزاعة تعبدها، سنّ لهم ذلك أبو كبشة رجل من أشرافهم، وكان أحد أجداد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم من قبل أمهاته، وكانت قريش يسمونه عليه السلام: ابن أبي كبشة، لمخالفته إيّاهم في الدين، كما خالف أبو كبشة غيره في عبادة الشعرى.

وعاد الأولى: قوم هود، وعاد الأخرى: إرم، وقيل: الأولى القدماء لأنّهم أولى الأمم هلاكا بعد قوم نوح(2). وقرئ: عادلولى، بإدغام التنوين في اللام وطرح همزة أولى ونقل ضمتها إلى لام التعريف. و قرئ: وثمودا وَ ثَمُودَ .

وأهلكنا قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ [عاد وثمود](3)إِنَّهُمْ كٰانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَ أَطْغىٰ لأنّهم كانوا يؤذونه و يضربونه حتى لا يكون به حراك، وما أثّر فيهم دعاؤه قريبا من ألف سنة.

وَ اَلْمُؤْتَفِكَةَ أي: والقري التي ائتفكت بأهلها أي: انقلبت، وهم قوم لوط.

أَهْوىٰ أي: رفعها إلي السماء علي جناح جبرئيل ثمّ أهواها إلي الأرض أي: أسقطها، فَغَشّٰاهٰا أي: فألبسها من العذاب [مٰا غَشّٰى وهو تهويل لما صب عليها من العذاب](4) وأمطر عليها من الحجارة المسومة.

ص: 291


1- عن مجاهد وغيره. تفسير الطبري ج 27:45.
2- عن ابن زيد. تفسير الطبري ج 27:46.
3- ساقطة من ب.
4- ساقطة من د.

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكَ تَتَمٰارىٰ تتشكك أيّها الإنسان ؟ وقد عدد سبحانه نعما ونقما وسمّاها كلها آلاء، لما في نقمه من العبر للمعتبرين.

هٰذٰا القران إنذار من جنس الإنذارات اَلْأُولىٰ ، أو هذا الرسول منذر من المنذرين الأوّلين، وإنّما قال: اَلْأُولىٰ على تأويل الجماعة.

أَزِفَتِ اَلْآزِفَةُ قربّت الموصوفة بالقرب في قوله: اِقْتَرَبَتِ اَلسّٰاعَةُ (1).

لَيْسَ لَهٰا نفس كٰاشِفَةٌ أي: مبيّنة متى تقوم، كقوله: لاٰ يُجَلِّيهٰا لِوَقْتِهٰا إِلاّٰ هُوَ (2)، أو ليس لها نفس قادرة علي كشفها إذا وقعت إلا اللّه، غير أنّه لا يكشفها. وقيل: كاشفة مصدر بمعنى الكشف كالعافية و الخائنة(3)، أي: ليس لها من دون اللّه كشف، والمراد: لا يكشف عنها غيره.

أَ فَمِنْ هٰذَا اَلْحَدِيثِ وهو القران تَعْجَبُونَ إنكارا وَ تَضْحَكُونَ استهزاء وَ لاٰ تَبْكُونَ انزجارا لما فيه من الوعيد. وعن الصادق عليه السلام: (أنّ المراد بالحديث ما تقدّم من الأخبار)(4).

وَ أَنْتُمْ سٰامِدُونَ لاهون لاعبون، و قال بعضهم لجاريته: اسمدي لنا أي:

غنّي(5).

فَاسْجُدُوا لِلّٰهِ و اعبدوه مخلصين ولا تعبدوا الآلهة.

ص: 292


1- القمر: 1.
2- الأعراف: 187.
3- عن الفراء. معاني القرآن للفراء ج 3:103.
4- تفسير القمي ج 2:340.
5- (الصحاح: مادة سمد).

سورة القمر

اشارة

مكية، وهي خمس و خمسون آية.

وفي حديث أبيّ : (من قرأها في كل غب بعث يوم القيامة ووجهه علي صورة القمر ليلة البدر)(1)، وعن الصادق عليه السلام: (من قرأها أخرجه اللّه من قبره علي ناقة من نوق الجنّة)(2).

بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة القمر (54): الآیات 1 الی 11]

اِقْتَرَبَتِ اَلسّٰاعَةُ وَ اِنْشَقَّ اَلْقَمَرُ وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ وَ كَذَّبُوا وَ اِتَّبَعُوا أَهْوٰاءَهُمْ وَ كُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ وَ لَقَدْ جٰاءَهُمْ مِنَ اَلْأَنْبٰاءِ مٰا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بٰالِغَةٌ فَمٰا تُغْنِ اَلنُّذُرُ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ اَلدّٰاعِ إِلىٰ شَيْ ءٍ نُكُرٍ خُشَّعاً أَبْصٰارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ اَلْأَجْدٰاثِ كَأَنَّهُمْ جَرٰادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى اَلدّٰاعِ يَقُولُ اَلْكٰافِرُونَ هٰذٰا يَوْمٌ عَسِرٌ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنٰا وَ قٰالُوا مَجْنُونٌ وَ اُزْدُجِرَ فَدَعٰا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنٰا أَبْوٰابَ

ص: 293


1- الكشف والبيان ج 9:160.
2- ثواب الأعمال: 116.

[سورة القمر (54): الآیات 11 الی 16]

اَلسَّمٰاءِ بِمٰاءٍ مُنْهَمِرٍ وَ فَجَّرْنَا اَلْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى اَلْمٰاءُ عَلىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَ حَمَلْنٰاهُ عَلىٰ ذٰاتِ أَلْوٰاحٍ وَ دُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنٰا جَزٰاءً لِمَنْ كٰانَ كُفِرَ وَ لَقَدْ تَرَكْنٰاهٰا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ فَكَيْفَ كٰانَ عَذٰابِي وَ نُذُرِ

انشقاق القمر من معجزات نبيّنا صلى الله عليه و آله و سلم الباهرة، رواه كثير من الصحابة منهم:

حذيفة بن اليمان، وعبد اللّه بن مسعود، وأنس، وابن عباس، وابن عمر وغيرهم.

قال حذيفة: (إنّ الساعة قد اقتربت، وإنّ القمر قد انشق على عهد نبيّكم صلى الله عليه و آله و سلم)(1). قال ابن مسعود: (والذي نفسي بيده رأيت حراء بين فلقتي القمر)(2). وعن ابن عباس:

(انشق القمر فلقتين ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ينادي: (يا فلان ويا فلان اشهدوا)(3).

وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا عن الانقياد لصحّتها وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [مطرد، و قيل: مستمر](4) قوي محكم، من قولهم: استمر مريرة، وقيل: مستمر:

مار ذاهب يزول ولا يبقى؛ تمنية لنفوسهم وتعليلا(5).

وَ اِتَّبَعُوا أَهْوٰاءَهُمْ وما زيّن لهم الشيطان من دفع الحقّ بعد ظهوره.

وَ كُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ أي: كل أمر لا بد أن يصير إلى غاية يستقر عليها، وإنّ أمر محمّد صلى الله عليه و آله و سلم سيصير إلى غاية يتبيّن عندها أنّه حقّ أو باطل، وسيظهر لهم عاقبته. وقرئ: مستقر بالجر عطفا علي اَلسّٰاعَةُ أي: اقتربت الساعة و اقترب

ص: 294


1- معاني القرآن وإعرابه ج 5:84.
2- تفسير السمرقندي ج 3:349.
3- الشفا بتعريف حقوق المصطفى ج 1:281، ينظر: أمالي الشيخ الطوسي ج 1:351.
4- ساقطة من ط. 1
5- عن مجاهد وغيره. تفسير الطبري ج 27:52.

كل أمر مستقر يستقر ويتبيّن حاله.

وَ لَقَدْ جٰاءَهُمْ مِنَ القرآن المودع أنباء الآخرة و أنباء القرون الماضية مٰا فِيهِ مُزْدَجَرٌ أي: ازدجار، أو موضع ازدجار عن الكفر وتكذيب الرسل.

حِكْمَةٌ بٰالِغَةٌ بدل من مٰا ، أو علي هو حكمة.

فَمٰا تُغْنِ اَلنُّذُرُ نفي وإنكار، معناه: وأي غناء تغني النذر، فَتَوَلَّ عَنْهُمْ لعلمك بأنّ الإنذار لا يغني فيهم.

يَوْمَ يَدْعُ اَلدّٰاعِ انتصب ب - يَخْرُجُونَ ، و قرئ بإسقاط الياء من الداع اكتفاء بالكسرة عنها.

وقرئ نُكُرٍ بالتخفيف، والداعي هو إسرافيل.

خُشَّعاً أَبْصٰارُهُمْ ، وقرئ: خاشعا علي: يخشعن أبصارهم، و تخشع أبصارهم، وهو حال من يَخْرُجُونَ ، و خُشَّعاً علي لغة من قال: أكلوني البراغيث وهم طيء، أو فيه ضميرهم و أَبْصٰارُهُمْ بدل من ذلك الضمير تقول:

مررت برجال حسن أوجههم [وحسان أوجههم](1). وخشوع الأبصار كناية عن الذلة، لأنّ ذلة الذليل و عزّة العزيز يظهران في عيونهما.

مِنَ اَلْأَجْدٰاثِ من القبور كَأَنَّهُمْ جَرٰادٌ مُنْتَشِرٌ شبّههم بالجراد لكثرتهم و تموجهم، يقال للجيش الكثير المائج بعضه في بعض: جاءوا كالجراد.

مُهْطِعِينَ إِلَى اَلدّٰاعِ أي: مسرعين إلى إجابة الداعي، مادي أعناقهم إليه.

كَذَّبَتْ قبل أهل مكة قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنٰا نوحا تكذيبا علي عقيب تكذيب وَ قٰالُوا هو مَجْنُونٌ وَ اُزْدُجِرَ و انتهر بالشتم و الضرب و الوعيد بالرجم

ص: 295


1- ساقطة من ب.

في قولهم: تكونن من المرجومين(1).

فَدَعٰا رَبَّهُ بأنّي مَغْلُوبٌ غلبني قومي فلم يسمعوا مني، و يئست من إجابتهم لي فَانْتَصِرْ فانتقم منهم بعذاب تنزله عليهم.

فَفَتَحْنٰا قرئ بالتشديد والتخفيف بِمٰاءٍ مُنْهَمِرٍ منصب في كثرة و تتابع، لم ينقطع أربعين يوما.

وَ فَجَّرْنَا اَلْأَرْضَ شققناها بالماء عُيُوناً أي: جعلنا الأرض كلها كأنّها عيون تتفجر.

فَالْتَقَى اَلْمٰاءُ أي: مياه السماء والأرض عَلىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ على حال قدّرها اللّه كيف شاء، و قيل: علي حال جاءت مقدّرة مستوية، وهي أنّ قدر ما أنزل من السماء كقدر ما أخرج من الأرض سواء بسواء.

عَلىٰ ذٰاتِ أَلْوٰاحٍ وَ دُسُرٍ يعني: السفينة، وهي صفة نابت مناب الموصوف، ونحوه قول الشاعر:

... ولكنّ *** قميصي مسرودة من حديد(2)

أراد: ولكن قميصي درع. و الدسر: جمع دسار وهو المسمار، فعال من دسره:

إذا دفعه.

تَجْرِي بِأَعْيُنِنٰا أي: بمرأى منا.

جَزٰاءً مفعول له، أي: فعلنا ذلك جَزٰاءً لِمَنْ كٰانَ كُفِرَ وهو نوح عليه السلام، جعله مكفورا لأنّ الرسول نعمة من اللّه ورحمة، فكان نوح نعمة مكفورة.

ص: 296


1- الشعراء: 116.
2- ديوان المتنبي: 20، وصدره: مفرشي صهوة الحصان ولكن....

وَ لَقَدْ تَرَكْنٰاهٰا الضمير للسفينة أو للفعلة آيَةً يعتبر بها. [و المدكر:

المعتبر](1). والنذر جمع نذير وهو الإنذار.

[سورة القمر (54): الآیات 17 الی 31]

وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا اَلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ كَذَّبَتْ عٰادٌ فَكَيْفَ كٰانَ عَذٰابِي وَ نُذُرِ إِنّٰا أَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنْزِعُ اَلنّٰاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجٰازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ فَكَيْفَ كٰانَ عَذٰابِي وَ نُذُرِ وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا اَلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقٰالُوا أَ بَشَراً مِنّٰا وٰاحِداً نَتَّبِعُهُ إِنّٰا إِذاً لَفِي ضَلاٰلٍ وَ سُعُرٍ أَ أُلْقِيَ اَلذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنٰا بَلْ هُوَ كَذّٰابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ اَلْكَذّٰابُ اَلْأَشِرُ إِنّٰا مُرْسِلُوا اَلنّٰاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَ اِصْطَبِرْ وَ نَبِّئْهُمْ أَنَّ اَلْمٰاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ فَنٰادَوْا صٰاحِبَهُمْ فَتَعٰاطىٰ فَعَقَرَ فَكَيْفَ كٰانَ عَذٰابِي وَ نُذُرِ إِنّٰا أَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وٰاحِدَةً فَكٰانُوا كَهَشِيمِ اَلْمُحْتَظِرِ

يَسَّرْنَا اَلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ أي: سهّلناه للحفظ، و أعنّا عليه من أراد حفظه حتى يقرأه ظاهرا فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي: طالب لحفظه ليعان عليه ؟ أو هيأناه للذكر من:

يسّر ناقته للسفر إذا رحلها، [و يسّر فرسه للغزو إذا أسرجه و ألجمه](2)، قال الشاعر:

وقمت إليه باللجام ميسّرا *** هنالك يجزيني الّذي كنت أصنع(3)

وروي: أنّه ليس من كتب اللّه المنزلة كتاب يقرأ كله ظاهرا إلا القران(4).

ص: 297


1- ساقطة من د.
2- ساقطة من ج، د.
3- البيت للأعرج المعني. شعر الخوارج: 93، وفيه: بما كنت أصنع.
4- عن سعيد بن جبير. الكشف والبيان ج 9:165.

وقيل: معناه: سهّلناه للادكار والاتعاظ بأن شحناه بالمواعظ الشافية و الزواجر الكافية فَهَلْ مِنْ متعظ؟.

وَ نُذُرِ أي: و إنذاري لهم بالعذاب قبل نزوله، أو إنذاري في تعذيبهم لمن بعدهم.

رِيحاً صَرْصَراً شديدة الهبوب، أو شديدة البرد، من الصرّ وهو البرد فِي يَوْمِ نَحْسٍ شؤم مُسْتَمِرٍّ دائم الشؤم قد استمر عليهم حتى أهلكهم، أو استمر علي كبيرهم و صغيرهم حتى لم يبق منهم نسمة، وكان في أربعاء في آخر الشهر لا تدور؛ وروي ذلك عن الباقر عليه السلام(1).

تَنْزِعُ اَلنّٰاسَ تقلعهم عن أماكنهم.

كَأَنَّهُمْ أَعْجٰازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ يعني: إنّهم كانوا يتساقطون علي الأرض أمواتا وهم جثث طوال عظام كأنّهم أصول نخل منقعر عن أماكنه و مغارسه، وقيل:

شبّهوا بذلك لأنّ الريح قطعت رؤوسهم فبقوا أجسادا بلا رؤوس(2). و ذكّر صفة نَخْلٍ علي اللفظ، ولو أنّث حملا علي المعنى لجاز، كما قال: أَعْجٰازُ نَخْلٍ خٰاوِيَةٍ (3).

أَ بَشَراً مِنّٰا نصب بفعل يفسّره نَتَّبِعُهُ ، أنكروا أن يتبعوا مثلهم في الجنسية، وقالوا: مِنّٰا لتكون المماثلة أقوي، و قالوا: وٰاحِداً إنكارا لأنّ تتبع الأمة رجلا واحدا ليس بأشرفهم.

إِنّٰا إِذاً لَفِي ضَلاٰلٍ كأنّه قال لهم: إن لم تتبعوني كنتم في ضلال عن الحقّ

ص: 298


1- مجمع البيان ج 9-10:190 عن العياشي، وروي مرفوعا. الخصال: 358.
2- عن مجاهد. تفسير الطبري ج 27:59.
3- الحاقة: 7.

وَ سُعُرٍ أي: و نيران، جمع سعير، فعكسوا عليه فقالوا: إن اتبعناك كنّا إذا كما تقول، وقيل: الضلال: الخطأ والبعد عن الصواب، و السعر: الجنون(1).

أَ أُلْقِيَ اَلذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنٰا أي: أأنزل عليه الوحي من بيننا وفينا من هو أحقّ منه بالاختيار للنبوّة ؟!.

بَلْ هُوَ كَذّٰابٌ أَشِرٌ بطر متكبّر، يريد أن يتعظّم علينا بادعاء النبوّة.

سَيَعْلَمُونَ غَداً عند نزول العذاب بهم، أو يوم القيامة مَنِ اَلْكَذّٰابُ اَلْأَشِرُ أصالح أم من كذّبه ؟!.

إِنّٰا مُرْسِلُوا اَلنّٰاقَةِ أي: باعثوها و مخرجوها من الهضبة كما سألوا فِتْنَةً لَهُمْ و امتحانا و ابتلاء.

فَارْتَقِبْهُمْ فانتظرهم وتبصر ما هم صانعون وَ اِصْطَبِرْ علي ما يصيبك من أذاهم، ولا تعجل حتى يأتيك أمري.

وَ نَبِّئْهُمْ أَنَّ اَلْمٰاءَ قِسْمَةٌ مقسوم بينهم، لها شرب يوم [و لهم شرب يوم](2)، وقال: بَيْنَهُمْ تغليبا للعقلاء.

كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ محضور يحضره أهله لا يحضره الآخر معه، وقيل: يحضرون الماء في نوبتهم و اللبن في نوبتها(3).

فَنٰادَوْا صٰاحِبَهُمْ قدار بن سالف أحيمر ثمود.

فَتَعٰاطىٰ فاجترأ علي تعاطي الأمر العظيم غير مبال به، فأحدث العقر

ص: 299


1- معاني القرآن وإعرابه ج 5:89.
2- ساقطة من ب.
3- عن مجاهد. تفسير الطبري ج 27:60.

بالناقة، أو فتعاطى السيف فعقرها.

صَيْحَةً وٰاحِدَةً هي صيحة جبرائيل عليه السلام.

و الهشيم: الشجر اليابس المتهشم المتكسّر.

و اَلْمُحْتَظِرِ الذي يعمل الحظيرة، وما يحتظر به ييبس و تتوطؤه البهائم فيتهشم.

[سورة القمر (54): الآیات 32 الی 42]

وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا اَلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنّٰا أَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمْ حٰاصِباً إِلاّٰ آلَ لُوطٍ نَجَّيْنٰاهُمْ بِسَحَرٍ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنٰا كَذٰلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ وَ لَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنٰا فَتَمٰارَوْا بِالنُّذُرِ وَ لَقَدْ رٰاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنٰا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذٰابِي وَ نُذُرِ وَ لَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذٰابٌ مُسْتَقِرٌّ فَذُوقُوا عَذٰابِي وَ نُذُرِ وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا اَلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ وَ لَقَدْ جٰاءَ آلَ فِرْعَوْنَ اَلنُّذُرُ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا كُلِّهٰا فَأَخَذْنٰاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ

حٰاصِباً ريحا تحصبهم أي: ترميهم بالحصباء.

نَجَّيْنٰاهُمْ بِسَحَرٍ هو السدس الأخير من الليل، وصرف لأنّه نكرة، وتقول:

لقيته سحرا تريد: في سحر يومك.

نِعْمَةً أي: إنعاما وهو مفعول له كَذٰلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ نعمة اللّه بإيمانه وطاعته.

وَ لَقَدْ أَنْذَرَهُمْ لوط بَطْشَتَنٰا أخذتنا بالعذاب فَتَمٰارَوْا أي:

فشكّوا با لإنذارات.

وَ لَقَدْ رٰاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ أي: طلبوا منه أن يسلّم إليهم ضيفه فَطَمَسْنٰا

ص: 300

أَعْيُنَهُمْ فمحوناها حتى صارت ممسوحة كسائر الوجه لا يري لها شق، صفقهم جبرئيل بجناحه صفقة تركتهم يترددون، لا يهتدون إلى الباب حتى أخرجهم لوط، فقلت لهم علي ألسنة الملائكة: ذوقوا عذابي و نذر.

وَ لَقَدْ صَبَّحَهُمْ أي: أتاهم صباحا بُكْرَةً و باكرة أي: أوّل النهار، هي كقوله: مُشْرِقِينَ (1) و مُصْبِحِينَ (2).

عَذٰابٌ مُسْتَقِرٌّ ثابت قد استقر عليهم. و الفائدة في تكرير قوله: فَذُوقُوا عَذٰابِي وَ نُذُرِ وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا اَلْقُرْآنَ ... الآية أن يجددوا عند استماع كل نبأ من أنباء الأمم ادكارا و اتعاظا إذا سمعوا الحث على ذلك، وأن تقرع لهم العصا مرارا حتى لا تغلبهم الغفلة، وهكذا حكم التكرير في قوله: فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ عند ذكر كل نعمة عدّت في سورة الرحمن، وقوله: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ في المرسلات، وهكذا حكم تكرير الأنباء والقصص في أنفسها، لتكون كل منها حاضرة للقلوب غير منسية.

وَ لَقَدْ جٰاءَ آلَ فِرْعَوْنَ اَلنُّذُرُ موسى وهارون وغيرهما من الأنبياء لأنّهما عرضا عليهم ما أنذر به المرسلون، أو هو جمع نذير وهو الإنذار.

كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا كُلِّهٰا وهي الآيات التسع التي جاءهم بها موسى.

فَأَخَذْنٰاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ لا يغالب مُقْتَدِرٍ علي ما يشاء.

[سورة القمر (54): الآیات 43 الی 47]

أَ كُفّٰارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولٰئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرٰاءَةٌ فِي اَلزُّبُرِ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ اَلْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ اَلدُّبُرَ بَلِ اَلسّٰاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَ اَلسّٰاعَةُ أَدْهىٰ وَ أَمَرُّ إِنَّ اَلْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاٰلٍ وَ سُعُرٍ

ص: 301


1- الحجر: 73.
2- الحجر: 83.

[سورة القمر (54): الآیات 48 الی 55]

يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي اَلنّٰارِ عَلىٰ وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنّٰا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْنٰاهُ بِقَدَرٍ وَ مٰا أَمْرُنٰا إِلاّٰ وٰاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ وَ لَقَدْ أَهْلَكْنٰا أَشْيٰاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ وَ كُلُّ شَيْ ءٍ فَعَلُوهُ فِي اَلزُّبُرِ وَ كُلُّ صَغِيرٍ وَ كَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي جَنّٰاتٍ وَ نَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ

أَ كُفّٰارُكُمْ يا أهل مكة خَيْرٌ وأقوي مِنْ أُولٰئِكُمْ الكفار المعدودين:

قوم نوح وهود وصالح ولوط و آل فرعون ؟ أي: أهم خير قوة و آلة ومكانة في الدنيا أو أقل كفرا و عنادا؟ والمراد: أنّ هؤلاء مثل أولئك بل شرّ منهم.

أَمْ أنزلت لَكُمْ بَرٰاءَةٌ في الكتب المتقدّمة: أنّ من كفر منكم وكذّب الرسل كان آمنا من عذاب اللّه فامنتم بتلك البراءة ؟!.

نَحْنُ جَمِيعٌ أي: جماعة أمرنا مجتمع مُنْتَصِرٌ ممتنع لا نرام ولا نضام.

ويروي: أنّ أبا جهل ضرب فرسه يوم بدر و قال: نحن ننتصر اليوم من محمّد و أصحابه، فنزلت(1).

سَيُهْزَمُ اَلْجَمْعُ يريد: كفار مكة وَ يُوَلُّونَ اَلدُّبُرَ أي: الأدبار، كما قال:

كلوا في بعض بطنكم تعفّوا(2)

أي: ينهزمون فيولونكم أدبارهم، وكانت هذه الهزيمة يوم بدر.

بَلِ اَلسّٰاعَةُ أي: يوم القيامة مَوْعِدُهُمْ للعذاب وَ اَلسّٰاعَةُ أَدْهىٰ أشدّ وأفظع، وَ أَمَرُّ من الهزيمة والقتل و الأسر ببدر.

ص: 302


1- عن مقاتل. الكشف والبيان ج 9:170.
2- من أبيات الكتاب ج 1:210 التي لا يعرف قائلها، و بقيته: فإنّ زمانكم زمن خميص.

فِي ضَلاٰلٍ وَ سُعُرٍ أي: هلاك و نيران، أو في ضلال عن الحقّ في الدنيا ونيران في الآخرة.

ذُوقُوا علي إرادة القول مَسَّ سَقَرَ هو مثل قولهم: وجد مس الحمى، وذاق طعم الضرب، لأنّ النار إذا أصابتهم بحرّها و شدّتها فكأنّها مسّتهم مسّا بذلك كما يمس الحيوان بما يؤذي و يؤلم، و سَقَرَ : علم لجهنم، من سقرته النار و صقرته إذا لوحته.

كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْنٰاهُ منصوب بمضمر يفسّره هذا الظاهر.

و القدر: التقدير أي: خلقنا كل شيء مقدّرا محكما مرتبا علي حسب ما اقتضته الحكمة.

وَ مٰا أَمْرُنٰا إِلاّٰ وٰاحِدَةٌ أي: كلمة واحدة سريعة التكوين كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ والمراد قوله: كن. والمراد: إنّا إذا أردنا تكوين شيء لم يلبث كونه.

وَ لَقَدْ أَهْلَكْنٰا أَشْيٰاعَكُمْ أشباهكم و نظراءكم في الكفر من الأمم الماضية.

وَ كُلُّ شَيْ ءٍ فَعَلُوهُ في دواوين الحفظة وَ كُلُّ صَغِيرٍ وَ كَبِيرٍ من أعمالهم مسطور عليهم مكتوب، أو كل ما هو كائن من الآجال والأرزاق و غيرهما مكتوب في اللوح المحفوظ.

وَ نَهَرٍ أي: أنهار، اكتفى باسم الجنس، وقيل: هو السعة والضياء من النهار(1).

ص: 303


1- معاني القران للفراء ج 3:111

فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ في مكان مرضي، وقيل: في مجلس حقّ لا لغو فيه(1).

عِنْدَ مَلِيكٍ أي: مقرّبين عند مليك مُقْتَدِرٍ ، لا شيء إلا وهو تحت ملكه وقدرته.

ص: 304


1- معاني القران و إعرابه ج 5:93.

سورة الرحمن

اشارة

مكية، وقيل: مدنية وهي ثمان وسبعون آية كوفي، ست بصري، عدّ الكوفي اَلرَّحْمٰنُ و اَلْمُجْرِمُونَ .

وفي حديث أبيّ : (ومن قرأ (سورة الرحمن) رحم اللّه ضعفه، وأدي شكر ما أنعم اللّه عليه)(1)، وعن الصادق عليه السلام: (أحبّ أن يقرأ الرجل (سورة الرحمن) يوم الجمعة، و كلما قرأ فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ قال: لا بشيء من آلائك يا ربّ أكذّب)(2). وعن موسى بن جعفر عن ابائه عليهم السلام عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال: (الكل شيء عروس، وعروس القرآن سورة الرحمن)(3).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة الرحمن (55): الآیات 1 الی 9]

اَلرَّحْمٰنُ عَلَّمَ اَلْقُرْآنَ خَلَقَ اَلْإِنْسٰانَ عَلَّمَهُ اَلْبَيٰانَ اَلشَّمْسُ وَ اَلْقَمَرُ بِحُسْبٰانٍ وَ اَلنَّجْمُ وَ اَلشَّجَرُ يَسْجُدٰانِ وَ اَلسَّمٰاءَ رَفَعَهٰا وَ وَضَعَ اَلْمِيزٰانَ أَلاّٰ تَطْغَوْا فِي اَلْمِيزٰانِ وَ أَقِيمُوا اَلْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَ لاٰ تُخْسِرُوا اَلْمِيزٰانَ

ص: 305


1- الكشف والبيان ج 9:176.
2- ثواب الأعمال: 611 باختلاف.
3- الكشف والبيان ج 9:176.

[سورة الرحمن (55): الآیات 10 الی 13]

وَ اَلْأَرْضَ وَضَعَهٰا لِلْأَنٰامِ فِيهٰا فٰاكِهَةٌ وَ اَلنَّخْلُ ذٰاتُ اَلْأَكْمٰامِ وَ اَلْحَبُّ ذُو اَلْعَصْفِ وَ اَلرَّيْحٰانُ فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ

اَلرَّحْمٰنُ : الذي وسعت رحمته كل شيء.

لما أراد سبحانه أن يعدد نعمه و آلاءه في هذه السورة قدّم هذا الاسم، ليعلم أنّ جميع نعمائه وأفعاله الحسنى صدرت من الرحمة التي شملت خلقه.

وهو مبتدأ، وهذه الأفعال مع ضمائرها بعده أخبار مترادفة، و إخلاؤها من حرف العطف لمجيئها علي نمط التعديد، وعدّ أوّل شيء نعمة الدين التي هي أجلّ النعم، وقدّم منها ما هو في أعلى مراتبها، وهو تعليمه القرآن وتنزيله لأنه أعظم وحي اللّه منزلة، وهو مصداق الكتب الإلهية.

و أخّر خَلَقَ اَلْإِنْسٰانَ عن ذكره ليعلم أنّه إنّما خلقه ليعلم وحيه، فما خلق الإنسان من أجله كان مقدّما عليه.

ثمّ ذكر ما يميز به الإنسان من سائر الحيوان من اَلْبَيٰانَ وهو النطق المعرب عما في الضمير، و قيل: إنّ اَلْإِنْسٰانَ آدم عليه السلام، و اَلْبَيٰانَ اللغات كلها و أسماء كل شيء(1). وقيل: اَلْإِنْسٰانَ محمّد صلى الله عليه و آله و سلم، و اَلْبَيٰانَ ما كان وما يكون(2). وعن الصادق عليه السلام: (البيان: الاسم الأعظم الذي علم به كل شيء)(3).

اَلشَّمْسُ وَ اَلْقَمَرُ بِحُسْبٰانٍ بحساب معلوم وتقدير سوي يجريان في

ص: 306


1- عن قتادة و غيره. تفسير الطبري ج 27:67.
2- عن ابن كيسان. معالم التنزيل ج 4:116.
3- مجمع البيان ج 9-10:197.

بروجهما و منازلهما، وفي ذلك منافع عظيمة للناس منها علم السنين و الحساب.

وَ اَلنَّجْمُ : النبات الذي ينجم من الأرض لا ساق له كالبقول، وَ اَلشَّجَرُ : الذي له ساق، و سجودهما: انقيادهما للّه تعالي فيما خلقا له، أو ما فيهما من الدلالة على حدوثهما، و أنّ لهما صانعا محدثا. و اتصلت هاتان الجملتان ب - اَلرَّحْمٰنُ اتصالا معنويا، وهو ما علم أنّ الحسبان حسبانه، والسجود له لا لغيره، فكأنّه قال: بحسبانه و يسجدان له.

وَ اَلسَّمٰاءَ رَفَعَهٰا خلقها مرفوعة مسموكة، حيث جعلها منشأ أحكامه، و متنزل أوامره ونواهيه، و مسكن ملائكته الذين يهبطون بالوحي علي رسله.

وَ وَضَعَ اَلْمِيزٰانَ وهو كل ما يوزن به الأشياء، ويعرف مقاديرها، ليوصل به إلي الإنصاف و الانتصاف، وقيل: المراد به العدل(1).

أَلاّٰ تَطْغَوْا لئلا تطغوا، وهي (أن) المفسّرة.

وَ أَقِيمُوا اَلْوَزْنَ بِالْقِسْطِ أي: قوّموا وزنكم بالعدل، وَ لاٰ تُخْسِرُوا اَلْمِيزٰانَ ولا تنقصوه، وهذا أمر بالتسوية، و نهي عن الطغيان الذي هو اعتداء وزيادة، وعن الخسران الذي هو تطفيف ونقصان. وكرر لفظ الميزان تشديدا للتوصية به وتأكيدا.

وَ اَلْأَرْضَ وَضَعَهٰا خفضها مدحوّة علي الماء.

لِلْأَنٰامِ للخلق، وهو كل ما علي ظهرها من دابة، وعن الحسن: (للإنس والجن)(2)، فهي كالمهاد لهم يتصرّفون فوقها.

ص: 307


1- عن مجاهد. تفسير الطبري ج 27:69.
2- تفسير الطبري ج 27:70.

فِيهٰا فٰاكِهَةٌ ضروب مما يتفكه به.

ذٰاتُ اَلْأَكْمٰامِ وهي كل ما يكم أي: يغطّى من ليف النخل و سعفه و كفراه(1)، وينتفع بجميعه كما ينتفع بالمكموم من ثمره و جمّاره و جذوعه. وقيل:

الأكمام: أوعية الثمر، والواحد كم بكسر الكاف.

و اَلْعَصْفِ : ورق الزرع، وقيل: التين(2).

وَ اَلرَّيْحٰانُ الرزق، وهو اللب، أراد فيها ما يتلذذ به من الفواكه، وما هو الجامع بين التلذذ و التغذي وهو ثمر النخل، وما يتغذى به وهو الحبّ . وقرئ:

و الريحان بالكسر ومعناه: و الحبّ ذو العصف الذي هو علف الأنعام و الريحان الذي هو مطعم الناس، و بالضم علي: وذو الريحان، فحذف المضاف [و أقيم المضاف](3) إليه مقامه، وقيل: معناه: وفيها الريحان الذي يشم(4)، وقرئ: و الحبّ ذا العصف والريحان بالنصب، أي: وخلق الحبّ و الريحان، أو وأخصّ الحبّ و الريحان.

فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا أيّها الثقلان تُكَذِّبٰانِ ، ويدلّ علي أنّ الخطاب لهما قوله: لِلْأَنٰامِ وقوله: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ اَلثَّقَلاٰنِ (5).

[سورة الرحمن (55): الآیات 14 الی 17]

خَلَقَ اَلْإِنْسٰانَ مِنْ صَلْصٰالٍ كَالْفَخّٰارِ وَ خَلَقَ اَلْجَانَّ مِنْ مٰارِجٍ مِنْ نٰارٍ فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ رَبُّ

ص: 308


1- الكفرى: وعاء طلع النخل. (الصحاح: مادة كفر)
2- عن ابن عباس وغيره. تفسير الطبري ج 27:71.
3- ساقطة من ج.
4- عن الحسن وغيره. تفسير الطبري ج 27:72.
5- الرحمن: 31.

[سورة الرحمن (55): الآیات 17 الی 30]

اَلْمَشْرِقَيْنِ وَ رَبُّ اَلْمَغْرِبَيْنِ فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ مَرَجَ اَلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيٰانِ بَيْنَهُمٰا بَرْزَخٌ لاٰ يَبْغِيٰانِ فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اَللُّؤْلُؤُ وَ اَلْمَرْجٰانُ فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ وَ لَهُ اَلْجَوٰارِ اَلْمُنْشَآتُ فِي اَلْبَحْرِ كَالْأَعْلاٰمِ فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ كُلُّ مَنْ عَلَيْهٰا فٰانٍ وَ يَبْقىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو اَلْجَلاٰلِ وَ اَلْإِكْرٰامِ فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ يَسْئَلُهُ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ

الصلصال: الطين اليابس لتصلصله، و الفخار: الطين المطبوخ بالنار وهو الخزف. وفي موضع آخر: مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (1) و مِنْ طِينٍ لاٰزِبٍ (2). والمعنى:

إنّه خلقه من تراب جعله طينا، ثمّ حمأ مسنونا، ثمّ صلصالا.

و اَلْجَانَّ أبو الجن، وقيل: هو إبليس(3). و المارج: الصافي من لهب النار لا دخان فيه، وقيل: هو المختلط بسواد النار(4)، و مِنْ للبيان، فكأنّه قال: من صاف من نار أو مختلط من نار.

و المشرقان و المغربان: مشرقا الشتاء و الصيف، أو مشرقا الشمس والقمر و مغربا هما.

مَرَجَ اَلْبَحْرَيْنِ أرسل البحر العذب والبحر الملح متجاورين متلاقيين لا فصل بينهما في مرأي العين.

ص: 309


1- الحجر: 26.
2- الصافات: 11.
3- عن الضحاك. معالم التنزيل ج 4:117.
4- معاني القران و إعرابه ج 5:99.

بَيْنَهُمٰا بَرْزَخٌ حاجز من قدرة اللّه لا يتجاوزان حدّيهما، ولا يبغي أحدهما علي الآخر بالممازجة.

يَخْرُجُ مِنْهُمَا كبار الدر و صغاره، وقيل: اَلْمَرْجٰانُ خرز أحمر كالقضبان(1) وهو البسذ، وقرئ: يخرج من أخرج، وقال: مِنْهُمَا و إنّما يخرجان من الملح لأنّهما لما التقيا صارا كالشيء الواحد، فكأنّه قال: يخرج من البحر ولا يخرجان من جميع البحر ولكن من بعضه، كما تقول: خرجت من البلد وإنّما خرجت من بعضه، وقيل: إنّهما يخرجان من ملتقى الملح والعذب.

و الجواري: السفن، و قرئ: اَلْمُنْشَآتُ بفتح الشين و كسرها، وهي المرفوعات الشرع، [و بالكسر: الرافعات الشرع، أو](2) اللواتي ينشئن الأمواج بجريهن. والأعلام: جمع علم وهو الجبل الطويل.

كُلُّ مَنْ عَلَيْهٰا أي: علي الأرض فٰانٍ أي: هالك، يفنون و يخرجون من الوجود إلى العدم.

وَ يَبْقىٰ وَجْهُ رَبِّكَ أي: ذاته، والوجه يعبّر به عن الجملة و الذات.

ذُو اَلْجَلاٰلِ وَ اَلْإِكْرٰامِ صفة للوجه الذي يجلّ عن التشبيه بخلقه [وعن أفعالهم](3)، أو من عنده الجلال والإكرام لأوليائه وأصفيائه، وهذه الصفة من عظيم صفات اللّه عزّ اسمه. وفي الحديث: (ألظّوا بيا ذا الجلال والإكرام)(4).

والنعمة في الفناء أنّ عقيبه مجيء وقت الجزاء.

ص: 310


1- عن ابن مسعود. معجم الطبراني الكبير ج 9:218.
2- ساقطة من ج.
3- ساقطة من ب.
4- سنن الترمذي ج 5:221.

يَسْئَلُهُ أهل اَلسَّمٰاوٰاتِ ما يتعلّق بدينهم وأهل وَ اَلْأَرْضِ ما يتعلّق بدينهم ودنياهم، فكل من فيهما مفتقرون إليه لا يستغنون عنه.

كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ أي: كل وقت وحين يحدث أمورا و يجدد أحوالا، كما روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّه تلاها، فقيل له: وما ذلك الشأن ؟ فقال: (من شأنه أن يغفر ذنبا و يفرّج كربا ويرفع قوما و يضع آخرين)(1).

[سورة الرحمن (55): الآیات 31 الی 45]

سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ اَلثَّقَلاٰنِ فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ يٰا مَعْشَرَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ إِنِ اِسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطٰارِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ فَانْفُذُوا لاٰ تَنْفُذُونَ إِلاّٰ بِسُلْطٰانٍ فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ يُرْسَلُ عَلَيْكُمٰا شُوٰاظٌ مِنْ نٰارٍ وَ نُحٰاسٌ فَلاٰ تَنْتَصِرٰانِ فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ فَإِذَا اِنْشَقَّتِ اَلسَّمٰاءُ فَكٰانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهٰانِ فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ فَيَوْمَئِذٍ لاٰ يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لاٰ جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ يُعْرَفُ اَلْمُجْرِمُونَ بِسِيمٰاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوٰاصِي وَ اَلْأَقْدٰامِ فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ هٰذِهِ جَهَنَّمُ اَلَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا اَلْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهٰا وَ بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ

سَنَفْرُغُ لَكُمْ مستعار من قول الرجل لمن يهدده: سأفرغ لك أي: سأتجرد للإيقاع بك من كل ما يشغلني عنه [حتى لا يكون لي شغل سواه، ويجوز أن يكون المراد: ستنتهي الدنيا وينتهي عند](2) ذلك شؤون الخلق فلا يبقى إلا شأن واحد

ص: 311


1- صحيح ابن حبان ج 2:464، أمالي الشيخ الطوسي ج 2:135.
2- ساقطة من ج.

وهو جزاؤكم، فجعل ذلك فراغا علي طريق التمثيل، و قرئ: سيفرغ - بالياء - أي:

اللّه عزّ وجل، و سمّي الإنس والجن الثقلين لأنّهما ثقلا علي الأرض، وكل شيء له وزن وقدر فهو ثقل. ومنه قول النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: (إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللّه، و عترتي)(1) سمّاهما ثقلين لعظم شأنهما و علو مكانهما.

يٰا مَعْشَرَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ كالترجمة لقوله: أَيُّهَ اَلثَّقَلاٰنِ ، إِنِ اِسْتَطَعْتُمْ أَنْ تهربوا من قضائي و تخرجوا من أرضي و سمائي فافعلوا، ثمّ قال: لا تقدرون علي النفوذ من نواحيهما.

إِلاّٰ بِسُلْطٰانٍ أي: بقهر وقوة وغلبة، وأنّى لكم ذلك، ونحوه: وَ مٰا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ فِي اَلسَّمٰاءِ (2).

شُوٰاظٌ بالضم، وقرئ بالكسر، وهو اللهب الخالص، و النحاس:

الدخان، وقيل: الصفر المذاب يصب علي رؤوسهم(3). وعن ابن عباس: (إذا خرجوا من قبورهم ساقهم شواظ إلي المحشر)(4). و قرئ وَ نُحٰاسٌ بالرفع عطفا علي شُوٰاظٌ ، و بالجر عطفا على نٰارٍ .

فَلاٰ تَنْتَصِرٰانِ فلا تمتنعان.

اِنْشَقَّتِ اَلسَّمٰاءُ تصدّعت و انفكّ بعضها من بعض فَكٰانَتْ وَرْدَةً حمراء كَالدِّهٰانِ كدهن الزيت، كما قال: كَالْمُهْلِ (5) وهو دردي الزيت، وهو

ص: 312


1- أمالي الشيخ الطوسي ج 2:162، خصائص امير المؤمنين: 93، وانظر كتاب حديث الثقلين.
2- العنكبوت: 22.
3- عن مجاهد وغيره. تفسير الطبري ج 27:82.
4- الكشاف ج 4:449.
5- الدخان: 45.

اسم ما يدهن به كا لأدام، أو جمع دهن، وقيل: الدهان: الأديم الأحمر(1).

إِنْسٌ أي: بعض من الإنس وَ لاٰ جَانٌّ أي: ولا بعض من الجن، فوضع الذي هو أبو الجن موضع الجن، كما يقال: هاشم ويراد ولده.

وعاد الضمير موحدا في قوله: عَنْ ذَنْبِهِ لكونه في معنى البعض، والمعنى:

لا يسألون لأنّ المجرمين يعرفون بسيماهم من سواد الوجوه، وزرق العيون و قيل:

لا يسألون عن ذلك ليعلم من جهتهم، بل يسألون سؤال توبيخ(2)، وعن قتادة:

(قد كانت مسألة ثمّ ختم علي أفواه القوم و تكلّمت أيديهم و أرجلهم بما كانوا يعملون)(3).

فَيُؤْخَذُ بِالنَّوٰاصِي وَ اَلْأَقْدٰامِ عن الضحاك: (يجمع بين ناصيته وقدمه في سلسلة من وراء ظهره)(4)، وقيل: يسحبون تارة بأخذ النواصي وتارة بالأقدام.

حَمِيمٍ آنٍ ماء حار قد انتهى حرّه و نضجه، أي: يعاقب عليهم بين التصلية بالنار وبين شرب الحميم، ليس لهم من العذاب أبدا فرح.

[سورة الرحمن (55): الآیات 46 الی 56]

وَ لِمَنْ خٰافَ مَقٰامَ رَبِّهِ جَنَّتٰانِ فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ ذَوٰاتٰا أَفْنٰانٍ فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ فِيهِمٰا عَيْنٰانِ تَجْرِيٰانِ فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ فِيهِمٰا مِنْ كُلِّ فٰاكِهَةٍ زَوْجٰانِ فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ مُتَّكِئِينَ عَلىٰ فُرُشٍ بَطٰائِنُهٰا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَ جَنَى اَلْجَنَّتَيْنِ دٰانٍ فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ فِيهِنَّ قٰاصِرٰاتُ

ص: 313


1- عن ابن عباس. الدر المنثور ج 6:144.
2- عن ابن عباس. الدر المنثور ج 6:145.
3- تفسير الطبري ج 27:83.
4- الدر المنثور ج 6:145.

[سورة الرحمن (55): الآیات 56 الی 78]

اَلطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لاٰ جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ كَأَنَّهُنَّ اَلْيٰاقُوتُ وَ اَلْمَرْجٰانُ فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ هَلْ جَزٰاءُ اَلْإِحْسٰانِ إِلاَّ اَلْإِحْسٰانُ فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ وَ مِنْ دُونِهِمٰا جَنَّتٰانِ فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ مُدْهٰامَّتٰانِ فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ فِيهِمٰا عَيْنٰانِ نَضّٰاخَتٰانِ فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ فِيهِمٰا فٰاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمّٰانٌ فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ فِيهِنَّ خَيْرٰاتٌ حِسٰانٌ فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ حُورٌ مَقْصُورٰاتٌ فِي اَلْخِيٰامِ فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لاٰ جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ مُتَّكِئِينَ عَلىٰ رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَ عَبْقَرِيٍّ حِسٰانٍ فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ تَبٰارَكَ اِسْمُ رَبِّكَ ذِي اَلْجَلاٰلِ وَ اَلْإِكْرٰامِ

خٰافَ مَقٰامَ رَبِّهِ موقفه الذي يقف فيه العباد للحساب يوم القيامة، ونحوه: ذٰلِكَ لِمَنْ خٰافَ مَقٰامِي (1)، أو يريد بمقام ربّه: أنّ اللّه قائم عليه أي:

حافظ مهيمن، من قوله: أَ فَمَنْ هُوَ قٰائِمٌ عَلىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمٰا كَسَبَتْ (2) فهو يراقب ذلك ولا يجسر على معصيته، أو يكون مقاما مقحما، كما تقول: أخاف جانب فلان، و فعلت ذلك لمكانك أي: لأجلك.

جَنَّتٰانِ : جنّة يثاب بها، وجنّة زائدة يتفضل عليه بها كقوله تعالى: اَلْحُسْنىٰ

ص: 314


1- إبراهيم: 14.
2- الرعد: 33.

وَ زِيٰادَةٌ (1) ، أو جنّة لفعل الطاعات، وجنّة لترك المعاصي، لأنّ التكليف يدور علي الأمرين، أو يكون علي خطاب الثقلين فكأنّه قال: لكل خائفين منكما جنّتان: جنّة للخائف من الإنس، وجنّة للخائف من الجن.

ذَوٰاتٰا أَفْنٰانٍ و هي الأغصان، خصّها بالذكر لأنّها تثمر ومنها تمتد الظلال، وقيل: الأفنان: ألوان النعم مما تشتهيه الأنفس(2).

فِيهِمٰا عَيْنٰانِ تَجْرِيٰانِ حيث شاءوا في الأعالي و الأسافل.

زَوْجٰانِ صنفان: صنف معروف وصنف غريب، أو متشاكلان كالرطب واليابس، لا يقصر يابسه عن رطبه في الفضل والطيب.

مُتَّكِئِينَ نصب علي المدح للخائفين، أو حال منهم، لأنّ من خاف في معنى الجمع أي: قاعدين كالملوك عَلىٰ فُرُشٍ بَطٰائِنُهٰا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ديباج ثخين، وإذا كانت البطائن من استبرق فما ظنك بالظهائر؟! وقيل: إنّ ظهائرها من سندس، وقيل: من نور(3).

وَ جَنَى اَلْجَنَّتَيْنِ دٰانٍ أي: ثمرهما المجتنى قريب يناله القائم والقاعد و النائم.

فِيهِنَّ أي: في هذه الآلاء المعدودة من الجنّتين والعينين والفاكهة والفرش والجني، أو في الجنّتين لاشتمالهما علي قصور ومجالس قٰاصِرٰاتُ اَلطَّرْفِ نساء قصرن أبصارهن علي أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم لَمْ يطمث الإنسيات منهن أحد من الإنس، ولا الجنيات أحد من الجن، أي: لم يفتضهن ولم يطأهن أحد

ص: 315


1- يونس: 26.
2- عن ابن عباس وغيره. تفسير الطبري ج 27:85.
3- عن سعيد بن جبير. الدر المنثور ج 6:147.

فهن أبكار. وفيه دليل علي أنّ الجن تطمث كما تطمث الإنس، و قرئ: لم يطمثهن بضم الميم. كَأَنَّهُنَّ اَلْيٰاقُوتُ وَ اَلْمَرْجٰانُ يعني: أنّهن في صفاء الياقوت وبياض المرجان وصغار الدر أنصع بياضا.

هَلْ جَزٰاءُ اَلْإِحْسٰانِ في العمل إِلاَّ اَلْإِحْسٰانُ في الثواب.

وَ مِنْ دُونِهِمٰا ومن دون تينك الجنّتين الموعودتين للمقرّبين جَنَّتٰانِ لمن دونهم من أصحاب اليمين.

مُدْهٰامَّتٰانِ قد ادهامتا من شدّة الخضرة، وكل نبت أخضر، فتمام خضرته أن يضرب إلى السواد.

نَضّٰاخَتٰانِ فوارتان بالماء، و النضخ أكثر من النضح، لأنّ النضح مثل الرش.

وإنّما عطف النخل والرمان علي الفاكهة وإن كانا منهما بيانا لفضلهما، فكأنّهما لمزيتهما في الفضل جنسان آخران، كقوله: جِبْرِيلَ وَ مِيكٰالَ (1)، أو لأنّ النخل ثمره فاكهة وطعام، والرمان فاكهة ودواء فلم يخلصا للتفكه.

خَيْرٰاتٌ أي: خيّرات، فخفف لأنّ (خير) الذي هو بمعنى (أخبر) لا يأتي منه خيرون ولا خيرات، والمعنى: فاضلات الأخلاق حسان الخلق.

مَقْصُورٰاتٌ مخدّرات، قصرن في خدورهن، امرأة قصيرة ومقصورة أي:

مخدّرة فِي اَلْخِيٰامِ في الحجال. وفي الحديث: (الخيمة درة واحدة طولها في السماء ستون ميلا، في كل زاوية منها أهل للمؤمن لا يراه الآخرون)(2).

ص: 316


1- البقرة: 98.
2- الكشف والبيان ج 9:196.

والضمير في قَبْلَهُمْ لأصحاب الجنّتين لدلالة ذكر الجنّتين عليهم.

والرفرف: ضرب من البسط، وقيل: الرفرف رياض الجنّة(1) والواحدة:

رفرفة، وقيل: الوسائد(2)، وقيل: كل ثوب عريض رفرف.

وَ عَبْقَرِيٍّ حِسٰانٍ منسوب إلي عبقر، والعرب تزعم أنّه بلد الجن فتنسب إليه كل شيء عجيب، وعن ابن عباس وقتادة: (يريد الزرابي)(3)، وعن مجاهد:

(الديباج)(4).

وقرئ في الشواذ: رفارف خضر وعباقري كمدائني، وروي ذلك عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم. وإن شذ في القياس ترك صرف عباقري فلا يستنكر مع استمراره في الاستعمال. وقرئ: ذو الجلال بالواو صفة ل - اِسْمُ .

ص: 317


1- عن سعيد بن جبير. تفسير الطبري ج 27:94.
2- عن عاصم الجحدري. الدر المنثور ج 6:152.
3- تفسير الطبري ج 27:95.
4- تفسير الطبري ج 27:95.

سورة الواقعة

اشارة

مكية سبع وتسعون آية بصري، ست كوفي. عدّ البصري: فَأَصْحٰابُ اَلْمَيْمَنَةِ أَصْحٰابُ اَلْمَشْئَمَةِ وَ أَصْحٰابُ اَلْيَمِينِ وَ أَصْحٰابُ اَلشِّمٰالِ ، وعدّ الكوفي. مَوْضُونَةٍ وَ حُورٌ عِينٌ أَنْشَأْنٰاهُنَّ إِنْشٰاءً .

وفي حديث أبيّ : (من قرأ (سورة الواقعة) كتب ليس من الغافلين)(1)، وعن ابن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: (من قرأ (سورة الواقعة) كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا)(2)، وعن الباقر عليه السلام: (من قرأ (سورة الواقعة) قبل أن ينام لقي اللّه ووجهه كالقمر ليلة البدر)(3)، وعن الصادق عليه السلام: (من قرأها في كل ليلة جمعة أحبّه اللّه وحبّبه إلى الناس، ولم ير في الدنيا بؤسا أبدا، ولا فقرا، ولا آفة من آفات الدنيا، وكان من رفقاء أمير المؤمنين عليه السلام، وهذه السورة لأمير المؤمنين عليه السلام خاصة، لا يشركه فيها أحد... تمام الخبر)(4).

ص: 318


1- مجمع البيان ج 9-10:212.
2- شعب الإيمان ج 2:492.
3- ثواب الأعمال: 117.
4- ثواب الأعمال: 117.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة الواقعة (56): الآیات 1 الی 16]

إِذٰا وَقَعَتِ اَلْوٰاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهٰا كٰاذِبَةٌ خٰافِضَةٌ رٰافِعَةٌ إِذٰا رُجَّتِ اَلْأَرْضُ رَجًّا وَ بُسَّتِ اَلْجِبٰالُ بَسًّا فَكٰانَتْ هَبٰاءً مُنْبَثًّا وَ كُنْتُمْ أَزْوٰاجاً ثَلاٰثَةً فَأَصْحٰابُ اَلْمَيْمَنَةِ مٰا أَصْحٰابُ اَلْمَيْمَنَةِ وَ أَصْحٰابُ اَلْمَشْئَمَةِ مٰا أَصْحٰابُ اَلْمَشْئَمَةِ وَ اَلسّٰابِقُونَ اَلسّٰابِقُونَ أُولٰئِكَ اَلْمُقَرَّبُونَ فِي جَنّٰاتِ اَلنَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِنَ اَلْأَوَّلِينَ وَ قَلِيلٌ مِنَ اَلْآخِرِينَ عَلىٰ سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهٰا مُتَقٰابِلِينَ

إِذٰا ظرف من معنى لَيْسَ لأنّ التقدير: لا يكون لِوَقْعَتِهٰا كٰاذِبَةٌ ، أو هو ظرف لمحذوف، والتقدير: إذا وقعت خفضت قوما و رفعت آخرين، ويدلّ عليه قوله: خٰافِضَةٌ رٰافِعَةٌ . وقال ابن جني(1): (إِذٰا الأولى مرفوعة الموضع بالابتداء، و إِذٰا الثانية خبر عن الأولى، وقد فارقتا الظرفية، والمعنى: وقت وقوع الواقعة وقت رج الأرض)(2). والمراد: إذا كانت الكائنة وحدثت الحادثة وهي القيامة، وصفت بالوقوع لأنّها تقع لا محالة. لَيْسَ لِوَقْعَتِهٰا نفس كٰاذِبَةٌ تكذب علي اللّه، وتكذب في تكذيب الغيب، لأنّ كل نفس حينئذ مؤمنة صادقة مصدّقة، وأكثر النفوس اليوم كواذب مكذّبات، واللام مثلها في قوله تعالى:

قَدَّمْتُ لِحَيٰاتِي (3) . وقيل: كٰاذِبَةٌ كالعافية بمعنى التكذيب من قولهم: حمل

ص: 319


1- أبو الفتح عثمان بن جني النحوي، من أحذق أهل الأدب وأعلمهم بالنحو والصرف، ولد سنة 330 ه -، وتوفي سنة 392 ه -. ينظر: بغية الوعاة ج 2:132.
2- المحتسب ج 2:307.
3- الفجر: 24.

فلان علي قرنه فما كذب، أي: فما جبن(1)، وحقيقته: فما كذب نفسه فيما حدّثته به من إطاقته له، قال زهير:

ليث بعثّر يصطاد الرّجال إذا *** ما الليث كذّب عن أقرانه صدقا(2)

أي: إذا وقعت لم يكن لها رجعة ولا ارتداد.

خٰافِضَةٌ خبر مبتدأ محذوف أي: هي خافضة رٰافِعَةٌ .

إِذٰا رُجَّتِ اَلْأَرْضُ رَجًّا أي: حرّكت تحريكا شديدا حتى ينهدم كل شيء فوقها من جبل وبناء.

وَ بُسَّتِ اَلْجِبٰالُ بَسًّا وفتتت حتى تعود كالسويق، أو سيقت وسيرت، من: بسّ الغنم إذا ساقها.

فَكٰانَتْ هَبٰاءً مُنْبَثًّا متفرقا. وانتصبت إِذٰا رُجَّتِ ب - خٰافِضَةٌ رٰافِعَةٌ ، أو علي البدل من إِذٰا وَقَعَتِ .

وَ كُنْتُمْ أَزْوٰاجاً أي: أصنافا ثَلاٰثَةً .

فَأَصْحٰابُ اَلْمَيْمَنَةِ الذين يعطون صحائفهم بأيمانهم، وَ أَصْحٰابُ اَلْمَشْئَمَةِ الذين يعطونها بشمالهم، أو معناهما: أصحاب المنزلة السنية وأصحاب المنزلة الدنية، من قولهم: فلان من فلان باليمين أو بالشمال: إذا وصفوه بالرفعة عنده أو الضعة، وذلك لتيمنهم بالميامن وتشاؤمهم بالشمائل، ولذلك اشتقوا من اليمين: اليمنى، ومن الشؤم: الشؤمى للشمال، وتفألوا بالسانح، وتطيّروا بالبارح(3). وقيل: يؤخذ

ص: 320


1- معاني القرآن و إعرابه ج 5:107.
2- شعر زهير بن أبي سلمى: 76، وفيه: ما كذب الليث...، وصدره ساقط في ب.
3- السانح: ما ولّاك ميامنه من ظبي أو طائر أو غيرها، والبارح ما ولاك مياسره. (الصحاح: مادة سنح، برح).

بأهل الجنّة ذات اليمين، وبأهل النار ذات الشمال(1).

مٰا أَصْحٰابُ اَلْمَيْمَنَةِ و مٰا أَصْحٰابُ اَلْمَشْئَمَةِ تعجيب من حال الفريقين في السعادة والشقاوة، كما يقال: هم، ما هم ؟ والمعنى: أي شيء هم ؟.

وَ اَلسّٰابِقُونَ اَلسّٰابِقُونَ أي: و السابقون من عرفت حالهم و بلغك صفتهم، كقول الشاعر:

أنا أبو النّجم و شعري شعري(2)

أي: شعري ما عرفته وسمعت بفصاحته.

أُولٰئِكَ اَلْمُقَرَّبُونَ مبتدأ وخبر، أي: الذين قربت درجاتهم فِي جَنّٰاتِ اَلنَّعِيمِ أي: أعلى المراتب.

و الثلة: الأمة الكثيرة من الناس، وهي من الثل وهو الكثير، كما أنّ الأمة من الأم وهو الشج، كأنّها جماعة كسرت من الناس وقطعت منهم، و المعنى: إنّ السابقين كثير مِنَ اَلْأَوَّلِينَ وهم الأمم من لدن آدم إلى محمّد صلى الله عليه و آله و سلم وَ قَلِيلٌ مِنَ اَلْآخِرِينَ وهم أمّة محمّد صلى الله عليه و آله و سلم، وقيل: مِنَ اَلْأَوَّلِينَ من متقدّمي هذه الأمة، و مِنَ اَلْآخِرِينَ : من متأخريها.

وهذا في السابقين، وقال في أصحاب اليمين: وَ ثُلَّةٌ مِنَ اَلْآخِرِينَ (3).

وعن الحسن: (سابقو الأمم أكثر من سابقي أمّتنا، و تابعو الأمم مثل تابعي هذه الأمّة)(4). و ثُلَّةٌ خبر مبتدأ محذوف، أي: هم ثلة.

ص: 321


1- عن السدي. تفسير الماوردي ج 5:448.
2- الرجز لأبي النجم. الأغاني ج 22:339، وبقيته: للّه دري ما يجن صدري.
3- الواقعة: 40.
4- التبيان ج 9:498.

عَلىٰ سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ أي: منسوجة مرمولة بالذهب، كما توضن حلق الدروع [فيدخل بعضها في بعض](1)، وقيل: متواصلة أدني بعضها من بعض(2).

مُتَّكِئِينَ حال من الضمير في عَلىٰ أي: استقروا عليها متكئين مُتَقٰابِلِينَ لا ينظر بعضهم في أقفاء بعض. وصفهم سبحانه بتهذيب الأخلاق وحسن المعاشرة.

[سورة الواقعة (56): الآیات 17 الی 40]

يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدٰانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوٰابٍ وَ أَبٰارِيقَ وَ كَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ لاٰ يُصَدَّعُونَ عَنْهٰا وَ لاٰ يُنْزِفُونَ وَ فٰاكِهَةٍ مِمّٰا يَتَخَيَّرُونَ وَ لَحْمِ طَيْرٍ مِمّٰا يَشْتَهُونَ وَ حُورٌ عِينٌ كَأَمْثٰالِ اَللُّؤْلُؤِ اَلْمَكْنُونِ جَزٰاءً بِمٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ لاٰ يَسْمَعُونَ فِيهٰا لَغْواً وَ لاٰ تَأْثِيماً إِلاّٰ قِيلاً سَلاٰماً سَلاٰماً وَ أَصْحٰابُ اَلْيَمِينِ مٰا أَصْحٰابُ اَلْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَ طَلْحٍ مَنْضُودٍ وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ وَ مٰاءٍ مَسْكُوبٍ وَ فٰاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لاٰ مَقْطُوعَةٍ وَ لاٰ مَمْنُوعَةٍ وَ فُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ إِنّٰا أَنْشَأْنٰاهُنَّ إِنْشٰاءً فَجَعَلْنٰاهُنَّ أَبْكٰاراً عُرُباً أَتْرٰاباً لِأَصْحٰابِ اَلْيَمِينِ ثُلَّةٌ مِنَ اَلْأَوَّلِينَ وَ ثُلَّةٌ مِنَ اَلْآخِرِينَ

يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وصفاء و غلمان للخدمة مُخَلَّدُونَ [مبقون](3) أبدا علي شكل الولدان، وحد الوصافة لا يتحولون عنه، وقيل: مقرطون والخلدة:

ص: 322


1- ساقطة من ب.
2- الكشف والبيان ج 9:203.
3- ساقطة من ب.

القرط(1)، وقيل: هم أولاد أهل الدنيا لم يكن لهم حسنات فيثابوا عليها ولا سيئات فيعاقبوا عليها(2)، روي ذلك عن عليّ عليه السلام(3). وسئل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عن أطفال المشركين، فقال: (هم خدم أهل الجنّة)(4).

الأكواب: قداح واسعة الرؤوس بلا عري ولا خراطيم، والأباريق: التي لها خراطيم.

لاٰ يُصَدَّعُونَ عَنْهٰا أي: بسببها، وحقيقته: لا يصدر صداعهم عنها ولا ينزفون عنها.

مِمّٰا يَتَخَيَّرُونَ أي: يأخذون خيره وأفضله، و يَشْتَهُونَ يتمنّون. وقرئ:

وَ حُورٌ عِينٌ بالرفع علي: وفيها حور عين، كبيت الكتاب:

بادت وغيّر آيهنّ مع البلى *** إلّا رواكد جمرهنّ هباء

ومشجّج أمّا سواء قذاله *** فبدا وغيّر ساره المعزاء(5)

لأنّ المعني بها: رواكد ومشجج.

أو العطف علي وِلْدٰانٌ ، وبالجر عطف علي جَنّٰاتِ اَلنَّعِيمِ كأنّه قال:

هم في جنات وفاكهة ولحم وحور، وقرأ أبيّ وابن مسعود: وحورا عينا بالنصب على: ويؤتون حورا.

جَزٰاءً مفعول له أي: يفعل ذلك كله بهم جزاء بأعمالهم.

ص: 323


1- عن الفراء. معاني القرآن ج 3:123.
2- عن الحسن. الكشف والبيان ج 9:204.
3- الكشف والبيان ج 9:204.
4- مسند الطيالسي: 282.
5- ديوان شعر ذي الرمة: 661، وفيه: ومشجج... وغيّب، الكتاب ج 1:173.

سَلاٰماً سَلاٰماً بدل من قِيلاً بمعنى: لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما، أو مفعول به ل - قِيلاً بمعنى: لا يسمعون فيها إلا أن يقولوا: سلاما سلاما، والمراد:

أنّهم يفشون السلام بينهم فيسلّمون سلاما بعد سلام.

والسدر: شجر النبق، والمخضود: الذي لا شوك فيه كأنّما خضد شوكه، وعن مجاهد: (هو الموقر الذي يثني أغصانه كثرة حمله)(1)، من: خضد الغصن إذا ثناه رطبا.

والطلح: شجر الموز، وقيل: هو شجر أم غيلان، وله نوار كثير طيب الرائحة(2). وعن السدي: (هو شجر يشبه طلح الدنيا ولكن له ثمر أحلى من العسل)(3). والمنضود: الذي نضد بالحمل من أسفله إلى أعلاه، فليست له ساق وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ ممتد منبسط لا يتقلص كظل ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.

وَ مٰاءٍ مَسْكُوبٍ يسكب لهم أين شاءوا وكيف شاءوا لا يتعبون فيه، وقيل:

دائم الجرية لا ينقطع(4)، وقيل: مصبوب يجري علي وجه الأرض في غير أخدود(5).

لاٰ مَقْطُوعَةٍ أي: هي دائمة لا تنقطع في بعض الأزمان كفواكه الدنيا وَ لاٰ مَمْنُوعَةٍ بوجه من وجوه المنع من بعد متناول أو شوك، أو حظر عليها كما

ص: 324


1- تفسير الطبري ج 27:103.
2- معاني القرآن وإعرابه ج 5:112.
3- الكشاف ج 4:461.
4- معاني القرآن للفراء ج 3:125.
5- عن سفيان. تفسير الطبري ج 27:106.

يحظر على بساتين الدنيا.

وَ فُرُشٍ جمع فراش مَرْفُوعَةٍ نضدت حتى ارتفعت، أو مرفوعة علي الأسرّة، وقيل: هي النساء، لأنّ المرأة يكنى عنها بالفراش مرفوعة علي الأرائك(1)، ويدلّ عليه قوله: إِنّٰا أَنْشَأْنٰاهُنَّ إِنْشٰاءً . وعلي التفسير الأوّل أضمر لهن لأنّ ذكر الفرش - وهي المضاجع - دلّ عليهن.

أَنْشَأْنٰاهُنَّ إِنْشٰاءً ابتدأنا خلقهن ابتداء جديدا من غير ولادة، فإما أن يراد:

اللاتي ابتدئ إنشاؤهن، أو اللاتي أعيد إنشاؤهن. وعن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال لأم سلمة:

(هن اللواني قبضن في دار الدنيا عجائز شمطا رمصا، جعلهن اللّه بعد الكبر أترابا علي ميلاد واحد في الاستواء، كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا فلما سمعت عائشة ذلك قالت: واوجعاه! فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: ليس هناك وجع)(2).

عُرُباً جمع عروب، وهي المتحبّبة إلى زوجها، و قرئ: عربا بالتخفيف.

أَتْرٰاباً مستويات في السن، وأزواجهن كذلك. وفي الحديث: (يدخل أهل الجنّة الجنّة جردا مردا بيضا جعادا مكحلين، أبناء ثلاث وثلاثين)(3).

واللام في لِأَصْحٰابِ اَلْيَمِينِ من صلة (أنشأنا) و (جعلنا).

[سورة الواقعة (56): الآیات 41 الی 49]

وَ أَصْحٰابُ اَلشِّمٰالِ مٰا أَصْحٰابُ اَلشِّمٰالِ فِي سَمُومٍ وَ حَمِيمٍ وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لاٰ بٰارِدٍ وَ لاٰ كَرِيمٍ إِنَّهُمْ كٰانُوا قَبْلَ ذٰلِكَ مُتْرَفِينَ وَ كٰانُوا يُصِرُّونَ عَلَى اَلْحِنْثِ اَلْعَظِيمِ وَ كٰانُوا يَقُولُونَ أَ إِذٰا مِتْنٰا وَ كُنّٰا تُرٰاباً وَ عِظٰاماً أَ إِنّٰا لَمَبْعُوثُونَ أَ وَ آبٰاؤُنَا اَلْأَوَّلُونَ قُلْ

ص: 325


1- عن الحسن وغيره. الكشف والبيان ج 9:209.
2- الكشف والبيان ج 9:210.
3- مسند أحمد ج 2:295.

[سورة الواقعة (56): الآیات 49 الی 74]

إِنَّ اَلْأَوَّلِينَ وَ اَلْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلىٰ مِيقٰاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا اَلضّٰالُّونَ اَلْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمٰالِؤُنَ مِنْهَا اَلْبُطُونَ فَشٰارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ اَلْحَمِيمِ فَشٰارِبُونَ شُرْبَ اَلْهِيمِ هٰذٰا نُزُلُهُمْ يَوْمَ اَلدِّينِ نَحْنُ خَلَقْنٰاكُمْ فَلَوْ لاٰ تُصَدِّقُونَ أَ فَرَأَيْتُمْ مٰا تُمْنُونَ أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ اَلْخٰالِقُونَ نَحْنُ قَدَّرْنٰا بَيْنَكُمُ اَلْمَوْتَ وَ مٰا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلىٰ أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثٰالَكُمْ وَ نُنْشِئَكُمْ فِي مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ اَلنَّشْأَةَ اَلْأُولىٰ فَلَوْ لاٰ تَذَكَّرُونَ أَ فَرَأَيْتُمْ مٰا تَحْرُثُونَ أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ اَلزّٰارِعُونَ لَوْ نَشٰاءُ لَجَعَلْنٰاهُ حُطٰاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنّٰا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أَ فَرَأَيْتُمُ اَلْمٰاءَ اَلَّذِي تَشْرَبُونَ أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ اَلْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ اَلْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشٰاءُ جَعَلْنٰاهُ أُجٰاجاً فَلَوْ لاٰ تَشْكُرُونَ أَ فَرَأَيْتُمُ اَلنّٰارَ اَلَّتِي تُورُونَ أَ أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهٰا أَمْ نَحْنُ اَلْمُنْشِؤُنَ نَحْنُ جَعَلْنٰاهٰا تَذْكِرَةً وَ مَتٰاعاً لِلْمُقْوِينَ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ اَلْعَظِيمِ

فِي سَمُومٍ في ريح حارة تدخل مسامهم وَ حَمِيمٍ في ماء مغلي حار انتهت حرارته وتناهت.

وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ دخان أسود بهيم، لاٰ بٰارِدٍ وَ لاٰ كَرِيمٍ نفي لصفتي الظل عنه، يعني: أنّه ظل حار ضار لا كسائر الظلال.

و اَلْحِنْثِ : الذنب، ومنه قولهم: بلغ الغلام الحنث أي: الحلم ووقت المؤاخذة بالمآثم.

أَ وَ آبٰاؤُنَا دخلت همزة الاستفهام علي حرف العطف، و قرئ: أو آباؤنا.

ص: 326

إِلىٰ مِيقٰاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ إلى ما وقتت به الدنيا من يوم معلوم، والإضافة بمعنى: (من) كخاتم فضة؛ والميقات: ما وقّت به الشيء أي: حدّ، ومنه: مواقيت الإحرام.

مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ : مِنْ الأولي لابتداء الغاية، والثانية للتبيين، وأنّث ضمير الشجر علي المعنى، وذكّره على اللفظ، في قوله: مِنْهَا و عَلَيْهِ .

شُرْبَ اَلْهِيمِ قرئ بفتح الشين وضمها، وهما مصدران. والهيم: الإبل التي بها الهيام، وهو داء تشرب منه فلا تروى، جمع أهيم وهيماء. وقيل: الهيم: الرمال(1)

فيكون جمع الهيام بفتح الهاء، جمع علي فعل كسحاب وسحب، ثمّ فعل به ما فعل بجمع أبيض. والمعنى: إنّه يسلط عليهم من الجوع ما يضطرهم إلي أكل الزقوم، فإذا ملؤوا منها البطون سلط عليهم من العطش ما يضطرهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاءهم فيشربونه شرب الهيم.

والنزل: الرزق الذي يعدّ للنازل تكرمة له، وفيه تهكّم، كقوله: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ (2).

فَلَوْ لاٰ تُصَدِّقُونَ تحضيض علي التصديق بالبعث، لأنّ من قدر علي الإنشاء قدر علي الإعادة.

[مٰا تُمْنُونَ ](3) يريد: ما تمنونه، أي: تقذفونه في الأرحام من النطف.

تَخْلُقُونَهُ تقدّرونه وتصوّرونه.

نَحْنُ قَدَّرْنٰا بَيْنَكُمُ اَلْمَوْتَ تقديرا على تفاوت، كما اقتضته الحكمة فاختلفت

ص: 327


1- عن ابن عباس. الدر المنثور ج 6:160.
2- التوبة: 34.
3- زيادة يقتضيها السياق.

أعماركم. وقرئ: قدرنا بالتنخفيف.

يقال: سبقته على الشيء إذا غلبته عليه و أعجزته عنه. فمعنى قوله: وَ مٰا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلىٰ أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثٰالَكُمْ : إنّا قادرون علي ذلك لا تغلبونني عليه. و أَمْثٰالَكُمْ جمع مثل، أي: علي أن نبدّل منكم و مكانكم أشباهكم من الخلق، وعلي أن وَ نُنْشِئَكُمْ فِي خلق لا تعلمونها وما عهدتم بمثلها، يعني: إنّا نقدر على الأمرين جميعا: علي خلق ما يماثلكم وما لا يماثلكم، فكيف نعجز عن إعادتكم ؟!. ويجوز أن يكون أمثال جمع مثل، أي: علي أن نبدّل ونغيّر صفاتكم التي أنتم عليها في خلقكم وأخلاقكم وننشئكم في صفات لا تعلمونها.

وقرئ: اَلنَّشْأَةَ والنشاة.

ما تحرثونه من الطعام أي: تبذرون حبّه وتعملون في أرضه، أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ تنبتونه و تجعلونه نباتا يرف وينمى إلى أن يبلغ غايته ؟ وفي الحديث: (لا يقولن أحدكم: زرعت وليقل: حرثت)(1).

والحطام: ما تحطّم وصار هشيما فَظَلْتُمْ أي: فظللتم تَفَكَّهُونَ تتعجبون مما أصابكم، وعن الحسن: (تندمون علي تعبكم فيه وإنفاقكم عليه، أو علي ما اقترفتم من المعاصي التي بسببها أصابكم ذلك)(2)، وتقولون: إِنّٰا لَمُغْرَمُونَ أي: ملزمون غرامة ما أنفقنا، أو مهلكون لهلاك رزقنا، من الغرام وهو الهلاك.

بَلْ نَحْنُ قوم مَحْرُومُونَ محارفون لا مجدودون(3) لا حظّ لنا ولا بخت، ولو كنا مجدودين لما أصابنا هذا.

ص: 328


1- شعب الإيمان ج 4:312.
2- تفسير الطبري ج 27:114.
3- المجدود: المحظوظ. (الصحاح: مادة جدد)

و اَلْمُزْنِ السحاب، و الأجاح: الملح الزعاق الذي لا يقدر علي شربه، وحذف اللام من جواب (لو) هنا اختصارا، وهي ثابتة في المعنى.

تورونها: أي تقدحونها وتستخرجونها من الزناد، والعرب تقدح بعودين، تحك أحدهما على الآخر، ويسمون الأعلى: الزند، والأسفل: الزندة.

أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهٰا التي منها الزناد وأنبتموها.

تَذْكِرَةً تذكيرا لنار جهنم حيث علّقنا بها أسباب المعايش كلها، وعممنا بالحاجة إليها البلوى لتكون حاضرة للناس ينظرون إليها ويذكرون ما أوعدوا به، أو جعلناها أنموذجا من جهنم.

وَ مَتٰاعاً ومنفعة لِلْمُقْوِينَ الذين ينزلون القواء، وهو القفر، أو الذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام.

فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ [أي: فأحدث التسبيح بذكر اسم ربّك، و](1)

اَلْعَظِيمِ : صفة للمضاف أو المضاف إليه، وهو أن تقول: سبحان اللّه؛ تنزيها عما يقول الظالمون الجاحدون نعمه، أو تعجبا من أمرهم [في غمط الآية](2)، أو شكرا علي هذه النعم التي عدّدها سبحانه ونبّه عليها.

[سورة الواقعة (56): الآیات 75 الی 85]

فَلاٰ أُقْسِمُ بِمَوٰاقِعِ اَلنُّجُومِ وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتٰابٍ مَكْنُونٍ لاٰ يَمَسُّهُ إِلاَّ اَلْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ أَ فَبِهٰذَا اَلْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ فَلَوْ لاٰ إِذٰا بَلَغَتِ اَلْحُلْقُومَ وَ أَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ

ص: 329


1- ساقطة من ب.
2- ساقطة من ج، د.

[سورة الواقعة (56): الآیات 85 الی 96]

وَ لٰكِنْ لاٰ تُبْصِرُونَ فَلَوْ لاٰ إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهٰا إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ فَأَمّٰا إِنْ كٰانَ مِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَ رَيْحٰانٌ وَ جَنَّةُ نَعِيمٍ وَ أَمّٰا إِنْ كٰانَ مِنْ أَصْحٰابِ اَلْيَمِينِ فَسَلاٰمٌ لَكَ مِنْ أَصْحٰابِ اَلْيَمِينِ وَ أَمّٰا إِنْ كٰانَ مِنَ اَلْمُكَذِّبِينَ اَلضّٰالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَ تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هٰذٰا لَهُوَ حَقُّ اَلْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ اَلْعَظِيمِ

المعنى: فأقسم، ولا مزيدة مؤكدة، وقرأ الحسن: فلأقسم، ومعناه: فلأنا أقسم بِمَوٰاقِعِ اَلنُّجُومِ بمساقطها ومغاربها، أو بمنازلها ومسائرها.

وقوله: وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ اعتراض بين القسم والمقسم عليه، وقوله: لَوْ تَعْلَمُونَ اعتراض في اعتراض، اعترض به بين الموصوف وصفته. وقيل: (مواقع النجوم): أوقات وقوع نجوم القرآن أي: أوقات نزولها(1)، وقرئ: بموقع علي الإفراد لأنه اسم جنس يؤدي مؤدي الجمع.

إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ عند اللّه أكرمه و أعزّه، أو كريم عام المنافع كثير الخير ينال الثواب العظيم بتلاوته والعمل بما فيه، أو خطير معجز مرضي في جنسه من الكتب.

فِي كِتٰابٍ مَكْنُونٍ مصون من غير المقرّبين من الملائكة، لا يطّلع عليه من سواهم، وهم المطهّرون من جميع الأدناس، إن جعلت الجملة صفة ل كِتٰابٍ مَكْنُونٍ و هو اللوح المحفوظ. وإن جعلته صفة ل - قُرْآنٍ فالمعنى: لاٰ يَمَسُّهُ إِلاَّ من هو علي الطهارة من الناس، يعني: مس المكتوب منه.

ص: 330


1- عن ابن عباس وغيره. تفسير الطبري ج 27:117.

تَنْزِيلٌ صفة أخري للقرآن، أي: منزل مِنْ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ ، أو وصف بالمصدر لأنّه نزل نجوما من بين سائر كتب اللّه، فكأنّه في نفسه تنزيل، ولذلك جري مجري بعض أسمائه حين قالوا: نطق التنزيل بكذا، وجاء في التنزيل كذا، أو هو تنزيل، علي حذف المبتدأ.

أَ فَبِهٰذَا اَلْحَدِيثِ يعني القرآن أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ أي: متهاونون به كمن يدهن في الأمر أي: يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاونا به.

وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ علي حذف المضاف، أي: وتجعلون شكر رزقكم التكذيب ؟! والمعنى: أوضعتم التكذيب موضع الشكر؟! وعن عليّ عليه السلام أنّه قرأ:

و تجعلون شكركم، وروي ذلك عن الباقر عليه السلام و الصادق عليه السلام. أي: و تجعلون شكركم لنعمه أنّكم تكذّبون، أو تجعلون شكر ما يرزقكم اللّه من الغيث أنّكم تكذّبون بكونه من اللّه حيث تنسبونه إلى النجوم ؟ و قرئ: تكذبون وهو قولهم في القرآن:

سحر وشعر وافتراء، وفي المطر: هو من الأنواء، و لأنّ كل مكذّب بالحقّ كاذب.

فَلَوْ لاٰ إِذٰا بَلَغَتِ اَلْحُلْقُومَ ترتيبه: فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين، و (لولا) الثانية مكررة للتوكيد، والضمير في تَرْجِعُونَهٰا للنفس وهي الروح، وفي أَقْرَبُ إِلَيْهِ للمحتضر.

وقوله: غَيْرَ مَدِينِينَ من: دان السلطان الرعية إذا ساسهم، أي: غير مربوبين مملوكين.

وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ يا أهل الميت بعلمنا و قدرتنا، أو بملائكتنا الذين يقبضون روحه، والمعنى: إنّكم في جحودكم آيات اللّه سبحانه قد بلغتم كل مبلغ، إن أنزل عليكم كتابا معجزا قلتم: سحر وافتراء، وإن أرسل إليكم رسولا صادقا قلتم: ساحر شاعر كذاب، وإن رزقكم مطرا يحييكم به قلتم: صدق نوء كذا، فما

ص: 331

لكم لا ترجعون الروح إلى البدن بعد بلوغه الحلقوم إن لم يكن ثمّ قابض وكنتم صادقين في كفركم بالله وتعطيلكم ؟!.

فَأَمّٰا إِنْ كٰانَ المتوفى مِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ السابقين فَرَوْحٌ فله استراحة وَ رَيْحٰانٌ ورزق، وقرئ: فروح بالضم، وهو مروي عن الباقر عليه السلام، أي: فرحمة لأنّ الرحمة كالحياة للمرحوم، وقيل: هو البقاء(1)، أي: فهذان له معا، وهو الخلود مع الرزق.

فَسَلاٰمٌ لَكَ مِنْ أَصْحٰابِ اَلْيَمِينِ أي: فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين أي: يسلّمون عليك، كقوله: إِلاّٰ قِيلاً سَلاٰماً سَلاٰماً (2).

فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ مثل قوله: هٰذٰا نُزُلُهُمْ يَوْمَ اَلدِّينِ (3).

إِنَّ هٰذٰا الذي أنزل في هذه السورة لَهُوَ حَقُّ اَلْيَقِينِ أي: هو الحقّ الثابت من اليقين.

ص: 332


1- مجاز القرآن ج 2:253.
2- الواقعة: 26.
3- الواقعة: 56.

سورة الحديد

اشارة

مدنية، وهي تسع وعشرون آية، عدّ الكوفي: مِنْ قِبَلِهِ اَلْعَذٰابُ والبصري:

اَلْإِنْجِيلَ .

وفي حديث أبيّ بن كعب: (ومن قرأ (سورة الحديد) كتب من الذين آمنوا باللّه ورسوله)(1)، وعن الباقر عليه السلام: (من قرأ المسبّحات كلها قبل أن ينام لم يمت حتى يدرك القائم، وإن مات كان في جوار رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم)(2). وعن الصادق عليه السلام:

(من قرأ (سورة الحديد والمجادلة) في صلاة فريضة أدمنها لم يعذّبه اللّه حتى يموت أبدا، ولا يري في نفسه ولا في أهله سوءا أبدا)(3).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة الحديد (57): الآیات 1 الی 4]

سَبَّحَ لِلّٰهِ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ لَهُ مُلْكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ هُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ هُوَ اَلْأَوَّلُ وَ اَلْآخِرُ وَ اَلظّٰاهِرُ وَ اَلْبٰاطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّٰامٍ ثُمَّ اِسْتَوىٰ عَلَى اَلْعَرْشِ يَعْلَمُ مٰا

ص: 333


1- الكشف والبيان ج 9:227.
2- ثواب الأعمال: 119
3- ثواب الأعمال: 117.

[سورة الحديد (57): الآیات 4 الی 6]

يَلِجُ فِي اَلْأَرْضِ وَ مٰا يَخْرُجُ مِنْهٰا وَ مٰا يَنْزِلُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ وَ مٰا يَعْرُجُ فِيهٰا وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مٰا كُنْتُمْ وَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لَهُ مُلْكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ إِلَى اَللّٰهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ يُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهٰارِ وَ يُولِجُ اَلنَّهٰارَ فِي اَللَّيْلِ وَ هُوَ عَلِيمٌ بِذٰاتِ اَلصُّدُورِ

سَبَّحَ تعدّى بنفسه وباللام، وأصله التعدّي بنفسه كما مر في قوله تعالى:

وَ تُسَبِّحُوهُ (1) لأنّ معنى سبّحته: بعّدته عن السوء، منقول من: سبح إذا ذهب و بعد، واللام مثلها في قولهم: نصحته ونصحت له، أو بمعنى: أحدث التسبيح لأجل اللّه ولوجهه خالصا مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ مما يصحّ منه أن يسبح.

و يُحْيِ يجوز أن يكون مرفوع المحلّ علي هو يحيي، و منصوبا علي الحال من المجرور في لَهُ ، والجار يعمل فيه، وأن يكون جملة برأسها لا محلّ لها كقوله:

لَهُ مُلْكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ .

هُوَ اَلْأَوَّلُ القديم السابق لجميع الموجودات بما لا يتناهى من الأوقات أو تقدير الأوقات.

وَ اَلْآخِرُ الذي يبقى بعد فناء كل شيء.

وَ اَلظّٰاهِرُ بالأدلة الدالة عليه وَ اَلْبٰاطِنُ من إحساس خلقه لا يدرك بالحواس، و قيل: معناهما: العالم بما ظهر والعالم بما بطن(2).

وَ هُوَ مَعَكُمْ بالعلم أَيْنَ مٰا كُنْتُمْ لا يخفى عليه شيء من أحوالكم.

ص: 334


1- الفتح: 9.
2- معاني القران و إعرابه ج 5:122.

[سورة الحديد (57): الآیات 7 الی 10]

آمِنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ أَنْفِقُوا مِمّٰا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ أَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ وَ مٰا لَكُمْ لاٰ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ اَلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَ قَدْ أَخَذَ مِيثٰاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ هُوَ اَلَّذِي يُنَزِّلُ عَلىٰ عَبْدِهِ آيٰاتٍ بَيِّنٰاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ اَلظُّلُمٰاتِ إِلَى اَلنُّورِ وَ إِنَّ اَللّٰهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ وَ مٰا لَكُمْ أَلاّٰ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ لِلّٰهِ مِيرٰاثُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ لاٰ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ اَلْفَتْحِ وَ قٰاتَلَ أُولٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ اَلَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قٰاتَلُوا وَ كُلاًّ وَعَدَ اَللّٰهُ اَلْحُسْنىٰ وَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ

وَ أَنْفِقُوا من الأموال التي جَعَلَكُمْ اللّه خلفاء في التصرّف فيها ومتّعكم بها، فليست هي بأموالكم علي الحقيقة، وإنّما أنتم بمنزلة الوكلاء من جهة اللّه فيها، فليهن عليكم الإنفاق منها، كما يهون علي الإنسان الإنفاق من مال الغير إذا أذن له فيه، أو جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ من كان قبلكم بتوريثه إيّاكم، فاعتبروا بحالهم حيث انتقل منهم إليكم، وسينتقل منكم إلى من بعدكم، فلا تبخلوا به واستوفوا حقّكم منه قبل أن يصير لغيركم.

لاٰ تُؤْمِنُونَ حال من معنى الفعل في مٰا لَكُمْ كما تقول: ما لك قائما؟ بمعنى: ما تصنع قائما؟ أي: وما لكم كافرين باللّه ؟ و الواو في وَ اَلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ [واو الحال أيضا، فهما حالان متداخلتان، والمعنى: وأي عذر لكم في ترك الإيمان والرسول يدعوكم](1) إليه وينبهكم عليه، ويتلو عليكم القرآن المعجز؟.

وقبل ذلك قَدْ أَخَذَ اللّه مِيثٰاقَكُمْ بالإيمان حيث ركّب فيكم العقول، ونصب لكم الأدلة، ومكّنكم من النظر فيها، فإذا لم يبق لكم علة بعد أدلة العقول

ص: 335


1- ساقطة من ج.

وتنبيه الرسول فما لكم لا تؤمنون إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ لموجب ما، فإنّ هذا الموجب لا مزيد عليه، وقرئ: أخذ ميثاقكم علي البناء للمفعول.

لِيُخْرِجَكُمْ [الضمير للّه أو للرسول، أي: ليخرجكم](1) اللّه بآياته وأدلته، أو الرسول بدعوته من ظلمات الكفر إلي نور الإيمان.

مٰا لَكُمْ أَلاّٰ تُنْفِقُوا في أن لا تنفقوا وَ لِلّٰهِ مِيرٰاثُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ يرث كل شيء فيهما، لا يبقى منه باق لأحد من مال وغيره. والمعنى: وأي غرض لكم في ترك الإنفاق في سبيل اللّه، والجهاد مع رسول اللّه، واللّه مميتكم ووارث أموالكم ؟.

ثمّ بين التفاوت بين المنفقين فقال: لاٰ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ قبل فتح مكة، قبل عزّ الإسلام وقوة أهله ومن أنفق من بعد الفتح فحذف للعلم به.

أُولٰئِكَ الذين أنفقوا قبل الفتح أَعْظَمُ دَرَجَةً ، وَ كُلاًّ وكل واحد من الفريقين وَعَدَ اَللّٰهُ المثوبة اَلْحُسْنىٰ وهي الجنّة مع تفاوت الدرجات، وقرئ بالرفع علي: وكل وعده اللّه الحسنى، وقيل: المراد: فتح الحديبية(2).

[سورة الحديد (57): الآیات 11 الی 14]

مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضٰاعِفَهُ لَهُ وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ يَوْمَ تَرَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنٰاتِ يَسْعىٰ نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمٰانِهِمْ بُشْرٰاكُمُ اَلْيَوْمَ جَنّٰاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا ذٰلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ يَوْمَ يَقُولُ اَلْمُنٰافِقُونَ وَ اَلْمُنٰافِقٰاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا اُنْظُرُونٰا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ اِرْجِعُوا وَرٰاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بٰابٌ بٰاطِنُهُ فِيهِ اَلرَّحْمَةُ وَ ظٰاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ اَلْعَذٰابُ يُنٰادُونَهُمْ أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قٰالُوا بَلىٰ وَ لٰكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَ تَرَبَّصْتُمْ وَ اِرْتَبْتُمْ وَ غَرَّتْكُمُ اَلْأَمٰانِيُّ

ص: 336


1- ساقطة من ج.
2- عن الشعبي. تفسير الطبري ج 27:127.

[سورة الحديد (57): الآیات 14 الی 15]

حَتّٰى جٰاءَ أَمْرُ اَللّٰهِ وَ غَرَّكُمْ بِاللّٰهِ اَلْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لاٰ يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَ لاٰ مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوٰاكُمُ اَلنّٰارُ هِيَ مَوْلاٰكُمْ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ

قرئ: فيضعّفه و فَيُضٰاعِفَهُ وقرئا منصوبين ومرفوعين، أي: يعطيه أجره علي إنفاقه مضاعفا أضعافا من فضله وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ جزاء خالص لا يشوبه ما ينغصه.

يَوْمَ تَرَى ظرف لقوله: وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ .

يَسْعىٰ نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمٰانِهِمْ لأنّهم أوتوا صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين، فجعل النور في الجهتين شعارا لهم و آية لسعادتهم وفلاحهم، فإذا ذهب بهم إلي الجنّة ومروا علي الصراط يسعون، سعى ذلك النور بسعيهم، ويقول لهم الذين يتلقونهم من الملائكة: بُشْرٰاكُمُ اَلْيَوْمَ جَنّٰاتٌ . وعن ابن مسعود: (يؤتون نورهم علي قدر أعمالهم، فمنهم من نوره مثل الجبل، وأدناهم نورا من نوره علي إبهامه يطفأ مرة ويقدح أخري)(1).

يَوْمَ يَقُولُ بدل من يَوْمَ تَرَى .

اُنْظُرُونٰا انتظرونا لأنّهم يسرع بهم إلي الجنّة، أو انظروا إلينا لأنّهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم والنور بين أيديهم فيستضيئون به، وقرئ:

أنظرونا من النظرة وهي الإمهال، جعل اتئادهم(2) في المضي إلى أن يلحقوا بهم إنظارا لهم.

نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ نصب منه ونستضيء به.

ص: 337


1- الدر المنثور ج 6:172.
2- التؤدة: التأني. (لسان العرب: مادة أود)

قِيلَ اِرْجِعُوا وَرٰاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً تهكّم بهم وطرد لهم، أي: ارجعوا إلى حيث أعطينا هذا النور فاطلبوه هناك، فمن ثمّ يقتبس، أو ارجعوا إلي الدنيا فالتمسوا النور منها [بتحصيل سببه وهو الإيمان](1) فإنّا كسبنا النور هناك، وقيل: إنّ وَرٰاءَكُمْ اسم ل - اِرْجِعُوا ، وليس بظرف للرجوع، كما تقول: وراءك بمعنى:

ارجع، والتقدير: ارجعوا ارجعوا.

فَضُرِبَ بين المؤمنين والمنافقين بِسُورٍ أي: حائط حائل بين شق الجنّة وشق النار، لذلك السور بٰابٌ لأهل الجنّة يدخلون منه بٰاطِنُهُ باطن السور أو الباب وهو الشق الذي يلي الجنّة فِيهِ اَلرَّحْمَةُ أي: الجنّة وَ ظٰاهِرُهُ ما ظهر لأهل النار مِنْ قِبَلِهِ من عنده ومن جهته اَلْعَذٰابُ و هو النار.

يُنٰادُونَهُمْ أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ يريدون موافقتهم في الظاهر، قال المؤمنون:

بَلىٰ كنتم معنا تصلّون وتصومون وَ لٰكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ فخنتموها بالنفاق و أهلكتموها وَ تَرَبَّصْتُمْ بالمؤمنين الدوائر وَ اِرْتَبْتُمْ و شككتم وَ غَرَّتْكُمُ اَلْأَمٰانِيُّ التي تمنيتموها حَتّٰى جٰاءَ أَمْرُ اَللّٰهِ وهو الموت وَ غَرَّكُمْ بِاللّٰهِ اَلْغَرُورُ الشيطان، وقيل: الدنيا(2).

فَالْيَوْمَ لاٰ يُؤْخَذُ قرئ بالياء و التاء.

فِدْيَةٌ ما يفتدى به.

مَأْوٰاكُمُ اَلنّٰارُ أي: مقرّكم الذي تأوون إليه هِيَ مَوْلاٰكُمْ أولى بكم، قال لبيد:

ص: 338


1- ساقطة من ب، د.
2- عن الضحاك. تفسير الماوردي ج 5:476.

فغدت كلا الفرجين تحسب أّنه *** مولي المخافة خلفها و أمامها(1)

والمعنى: إنّها تلي عليكم وتملك أمركم، فهي أولى بكم من كل شيء.

[سورة الحديد (57): الآیات 16 الی 21]

أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اَللّٰهِ وَ مٰا نَزَلَ مِنَ اَلْحَقِّ وَ لاٰ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتٰابَ مِنْ قَبْلُ فَطٰالَ عَلَيْهِمُ اَلْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فٰاسِقُونَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ يُحْيِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا قَدْ بَيَّنّٰا لَكُمُ اَلْآيٰاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ إِنَّ اَلْمُصَّدِّقِينَ وَ اَلْمُصَّدِّقٰاتِ وَ أَقْرَضُوا اَللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً يُضٰاعَفُ لَهُمْ وَ لَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّٰهِ وَ رُسُلِهِ أُولٰئِكَ هُمُ اَلصِّدِّيقُونَ وَ اَلشُّهَدٰاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلْجَحِيمِ اِعْلَمُوا أَنَّمَا اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفٰاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكٰاثُرٌ فِي اَلْأَمْوٰالِ وَ اَلْأَوْلاٰدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ اَلْكُفّٰارَ نَبٰاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرٰاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطٰاماً وَ فِي اَلْآخِرَةِ عَذٰابٌ شَدِيدٌ وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اَللّٰهِ وَ رِضْوٰانٌ وَ مَا اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا إِلاّٰ مَتٰاعُ اَلْغُرُورِ سٰابِقُوا إِلىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهٰا كَعَرْضِ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّٰهِ وَ رُسُلِهِ ذٰلِكَ فَضْلُ اَللّٰهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشٰاءُ وَ اَللّٰهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ

أنى الأمر يأني: إذا جاء أناه أي: وقته، وعن ابن مسعود: (ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين)(2). وعن ابن عباس: (إنّ اللّه

ص: 339


1- ديوان لبيد بن ربيعة العامري: 173.
2- الكشف والبيان ج 9:240.

استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم علي رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن بهذه الآية)(1). وعن محمّد بن كعب: (كانت الصحابة بمكة مجدبين فلما هاجروا أصابوا الريف(2) والنعمة، فتغيروا عما كانوا عليه، فقست قلوبهم فنزلت)(3).

والمعنى: ألم يحن للمؤمنين أن تلين قلوبهم وترقّ إذا ذكر اللّه وتلي القرآن عندهم ؟ أو لما يذكّرهم اللّه به من مواعظه وما نزّله من القرآن ؟. و قرئ: نَزَلَ ونزّل بالتخفيف والتشديد.

وَ لاٰ يَكُونُوا عطف علي تَخْشَعَ ، و قرئ: ولا تكونوا بالتاء علي الالتفات، ويجوز أن يكون نهيا عن مماثلة أهل الكتاب في قسوة القلوب بعد أن وبّخوا، وذلك أنّ بني إسرائيل كان الحقّ يحول بينهم وبين شهواتهم، وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا للّه ورقّت قلوبهم، فلما طال عليهم الزمان غلبهم الجفاء والقسوة، واختلفوا وأحدثوا ما أحدثوا من التحريف وغيره. و اَلْأَمَدُ الأجل.

اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ يُحْيِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا هذا تمثيل لأثر الذكر في القلوب، و أنّه يحييها كما يحيي الغيث الأرض، أو يحييها اللّه ويلينها بعد القسوة بالألطاف وا لتوفيقات.

إِنَّ اَلْمُصَّدِّقِينَ قرئ بتشديد الصاد بمعنى المتصدّقين، و بتخفيفها بمعنى الذين يصدّقون اللّه ورسوله، وعطف قوله: وَ أَقْرَضُوا اَللّٰهَ علي معنى الفعل في اَلْمُصَّدِّقِينَ لأنّ اللام بمعنى (الذين)، واسم الفاعل بمعنى: اصدقوا أو صدّقوا. كأنّه قيل: إنّ الذين اصدّقوا وأقرضوا، و قرئ: يُضٰاعَفُ ويضعّف.

ص: 340


1- الدر المنثور ج 6:175.
2- الريف: الأرض التي فيها زرع وخصب. (الصحاح: مادة ريف).
3- الكشف والبيان ج 9:241.

وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّٰهِ وَ رُسُلِهِ هم عند اللّه بمنزلة الصدّيقين والشهداء، وهم الذين سبقوا إلي التصديق، ورسخت أقدامهم فيه، والذين استشهدوا في سبيل اللّه.

لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ أي: لهم مثل أجر الصديقين والشهداء ومثل نورهم. وعن الصادق عليه السلام: (إنّ المؤمن شهيد، و قرأ هذه الآية)(1). ويجوز أن يكون وَ اَلشُّهَدٰاءُ مبتدأ، و لَهُمْ أَجْرُهُمْ خبره.

ثمّ زهد سبحانه المؤمنين في الدنيا فقال: ليست اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا إلا محقّرات من الأمور، وهي اللعب واللهو والزينة و التفاخر و التكاثر، ثمّ شبّه حالها وسرعة انقضائها وقلة جدواها بنبات أنبته الغيث و أَعْجَبَ اَلْكُفّٰارَ وهم الزراع أو الكافرون نعم اللّه، ثُمَّ يَهِيجُ ويصفر ويصير حُطٰاماً .

وَ فِي اَلْآخِرَةِ أمور عظام وهي العذاب الشديد، ومغفرة اللّه ورضوانه.

سٰابِقُوا أي: بادروا مبادرة السابقين لأقرانهم في المضمار إِلىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ منجية من العذاب الشديد، وإلى جَنَّةٍ عَرْضُهٰا كَعَرْضِ سبع السموات و سبع الأرضين. وذكر العرض دون الطول لأنّ كل ما له عرض وطول فإنّ عرضه أقل من طوله، فإذا كان العرض مثل السموات والأرض فطولها لا يعلمه إلا اللّه. وعن الحسن: (إنّ اللّه يفني الجنّة ثمّ يعيدها علي ما وصفه، فلذلك صحّ وصفها بأنّ عرضها كعرض السماء والأرض)(2).

أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّٰهِ وَ رُسُلِهِ أي: هيئت وادخرت للمؤمنين المصدّقين.

ص: 341


1- المحاسن ج 1:164.
2- التبيان ج 9:532.

ذٰلِكَ الموعود من المغفرة و الجنّة.

فَضْلُ اَللّٰهِ عطاؤه، ولأنّ الأسباب الموصلة إلي الثواب من التكليف والتعريض والتمكين والألطاف كلها تفضل.

يُؤْتِيهِ مَنْ يَشٰاءُ وهم المؤمنون.

[سورة الحديد (57): الآیات 22 الی 26]

مٰا أَصٰابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهٰا إِنَّ ذٰلِكَ عَلَى اَللّٰهِ يَسِيرٌ لِكَيْلاٰ تَأْسَوْا عَلىٰ مٰا فٰاتَكُمْ وَ لاٰ تَفْرَحُوا بِمٰا آتٰاكُمْ وَ اَللّٰهُ لاٰ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتٰالٍ فَخُورٍ اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ اَلنّٰاسَ بِالْبُخْلِ وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ لَقَدْ أَرْسَلْنٰا رُسُلَنٰا بِالْبَيِّنٰاتِ وَ أَنْزَلْنٰا مَعَهُمُ اَلْكِتٰابَ وَ اَلْمِيزٰانَ لِيَقُومَ اَلنّٰاسُ بِالْقِسْطِ وَ أَنْزَلْنَا اَلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنٰافِعُ لِلنّٰاسِ وَ لِيَعْلَمَ اَللّٰهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اَللّٰهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ وَ لَقَدْ أَرْسَلْنٰا نُوحاً وَ إِبْرٰاهِيمَ وَ جَعَلْنٰا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا اَلنُّبُوَّةَ وَ اَلْكِتٰابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فٰاسِقُونَ

المصيبة في الأرض مثل القحط ونقص الثمار، وفي الأنفس مثل الأمراض والثكل بالأولاد، والكتاب: اللوح المحفوظ.

ص: 342

مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهٰا الضمير للأنفس أو المصيبة [أو الأرض](1).

أَنْ تقدير ذٰلِكَ و إثباته في كتاب عَلَى اَللّٰهِ يَسِيرٌ هيّن.

ثمّ علل ذلك وبيّن وجه الحكمة فيه بقوله: لِكَيْلاٰ تَأْسَوْا عَلىٰ مٰا فٰاتَكُمْ من نعم الدنيا وَ لاٰ تَفْرَحُوا بِمٰا آتٰاكُمْ اللّه عزّ اسمه منها. و المعنى: إنّكم إذا علمتم أنّ كل شيء مقدّر مكتوب عند اللّه قلّ حزنكم علي الفائت و فرحكم علي الآتي، وكذا إذا علمتم أنّ شيئا منها لا يبقى لم تهتموا لأجله و اهتممتم لأمور الآخرة التي تدوم ولا تبيد.

وَ اَللّٰهُ لاٰ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتٰالٍ فَخُورٍ لأنّ من فرح بشيء من زخارف الدنيا وعظم قدره عنده اختال وافتخر به وتكبّر علي الناس. و قرئ: بما آتاكم وأتاكم من الإيتاء والإتيان.

اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بدل من قوله: كُلَّ مُخْتٰالٍ فَخُورٍ ، كأنّه قال: لا يحبّ الذين يبخلون ويحملون الناس علي البخل يرغبونهم فيه، وذلك كله نتيجة فرحهم بزينة الدنيا.

وَ مَنْ يَتَوَلَّ عن أوامر الله ونواهيه فَإِنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْغَنِيُّ عنه وعن طاعته اَلْحَمِيدُ في جميع أفعاله، و قرئ: فإنّ اللّه الغني.

بِالْبَيِّنٰاتِ بالدلائل والمعجزات.

و اَلْكِتٰابَ الوحي وما يحتاج الخلق إليه من الحلال والحرام.

وَ اَلْمِيزٰانَ العدل، وقيل: هو الميزان ذو الكفتين(2) وروي: أنّ

ص: 343


1- ساقطة من ج، د.
2- عن ابن زيد. تفسير الطبري ج 27:137.

جبرائيل عليه السلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح وقال: مر قومك يزنوا به(1).

وَ أَنْزَلْنَا اَلْحَدِيدَ أي: خلقناه وأنشأناه كقوله: وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْأَنْعٰامِ ثَمٰانِيَةَ أَزْوٰاجٍ (2)، وذلك أنّ أوامره تنزل من السماء إلى الأرض. وعن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:

(إنّ اللّه عزّ وجل أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض: أنزل الحديد، والنار، و الماء، و الملح)(3).

فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وهو القتال به وَ مَنٰافِعُ لِلنّٰاسِ في معائشهم و صنائعهم، فما من صناعة إلا والحديد آلة فيها.

وَ لِيَعْلَمَ اَللّٰهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ باستعمال السيوف وسائر الأسلحة في مجاهدة أعداء الدين.

بِالْغَيْبِ غائبا عنهم، عن ابن عباس: (أينصرونه أم لا ينصرونه)(4).

إِنَّ اَللّٰهَ قَوِيٌّ بقدرته عَزِيزٌ يهلك من أراد إهلاكه، فهو غني عن خلقه، وإنّما كلّفهم الجهاد ليصلوا بامتثال أمره إلي الثواب.

خصّ سبحانه نوحا وإبراهيم بالذكر لأنّهما أبوا الأنبياء.

اَلْكِتٰابَ الوحي، وعن ابن عباس: (الخط بالقلم)(5).

فَمِنْهُمْ فمن الذرية، أو من المرسل إليهم، ودلّ عليه ذكر الإرسال والمرسلين، أي: فمنهم مُهْتَدٍ ومنهم فاسق، والغلبة للفساق.

ص: 344


1- الكشاف ج 4:480.
2- الزمر: 6.
3- فردوس الأخبار ج 1:211.
4- الكشاف ج 4:481.
5- الكشاف ج 4:481.

وقرئ: رآفة على فعالة، والمعنى: وفقناهم للتعاطف والتراحم بينهم.

والرهبانية: ترهّبهم في الجبال والصوامع، وانفرادهم عن الجماعة للعبادة، ومعناها: الفعلة المنسوبة إلى الرهبان وهو الخائف، فعلان من رهب، أي خاف، كخشيان من خشي، وانتصابها بفعل مضمر يفسّره الظاهر، والتقدير: ابتدعوا رهبانية ابتدعوها إِلاَّ اِبْتِغٰاءَ رِضْوٰانِ اَللّٰهِ فَمٰا رَعَوْهٰا حَقَّ رِعٰايَتِهٰا أي: وأحدثوها من عند أنفسهم ونذروها.

مٰا كَتَبْنٰاهٰا عَلَيْهِمْ لم نفرضها نحن عليهم إِلاَّ اِبْتِغٰاءَ رِضْوٰانِ اَللّٰهِ استثناء منقطع، أي: ولكنّهم ابتدعوها إِلاَّ اِبْتِغٰاءَ رِضْوٰانِ اَللّٰهِ فَمٰا رَعَوْهٰا حَقَّ رِعٰايَتِهٰا كما يجب علي الناذر رعاية نذره لأنه عهد مع الله لا يحلّ نكثه.

فَآتَيْنَا اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ بعيسى، وهم أهل الرأفة والرحمة أَجْرَهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فٰاسِقُونَ لم يحافظوا علي نذرهم، وقيل: معناه: فما رعوها حقّ رعايتها إذ لم يؤمنوا بنبيّنا صلى الله عليه و آله و سلم حين بعث(1)، فآتينا الذين آمنوا به منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون أي: كافرون.

[سورة الحديد (57): الآیات 28 الی 29]

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اَللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِئَلاّٰ يَعْلَمَ أَهْلُ اَلْكِتٰابِ أَلاّٰ يَقْدِرُونَ عَلىٰ شَيْ ءٍ مِنْ فَضْلِ اَللّٰهِ وَ أَنَّ اَلْفَضْلَ بِيَدِ اَللّٰهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشٰاءُ وَ اَللّٰهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا بموسى وعيسى اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ آمِنُوا بمحمّد يُؤْتِكُمْ اللّه كِفْلَيْنِ نصيبين مِنْ رَحْمَتِهِ لإيمانكم بمحمّد وبمن تقدّمه من

ص: 345


1- معاني القران وإعرابه ج 5:130.

الأنبياء وَ يَجْعَلْ لَكُمْ يوم القيامة نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ما أسلفتموه من المعاصي.

لِئَلاّٰ يَعْلَمَ : لا مزيدة أي: لأن يعلم أو ليعلم أَهْلُ اَلْكِتٰابِ الذين لم يؤمنوا بمحمّد.

أَلاّٰ يَقْدِرُونَ : أن مخففة من الثقيلة، وأصله: أنّه لا يقدرون، والضمير للشأن عَلىٰ شَيْ ءٍ مِنْ فَضْلِ اَللّٰهِ أي: لا ينالون شيئا مما ذكر من فضله من الكفلين والنور والمغفرة، لأنّهم لم يؤمنوا بالنبيّ فلم ينفعهم إيمانهم بمن تقدّمه من الأنبياء، وقيل: إنّ الا) ليست بزائدة، والمعنى: لئلا يعلم اليهود أنّ النبيّ والمؤمنين لا يقدرون علي شيء من فضل اللّه، أي: يعلمون أنّهم يقدرون عليه ولم يعلموا خلافه، والضمير في يَقْدِرُونَ للنبيّ والمؤمنين.

ص: 346

سورة المجادلة

اشارة

مدنية اثنتان وعشرون آية.

في حديث أبيّ : (ومن قرأ (سورة المجادلة) كتب من حزب اللّه يوم القيامة..

الخبر)(1).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة المجادلة (58): الآیات 1 الی 5]

قَدْ سَمِعَ اَللّٰهُ قَوْلَ اَلَّتِي تُجٰادِلُكَ فِي زَوْجِهٰا وَ تَشْتَكِي إِلَى اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ يَسْمَعُ تَحٰاوُرَكُمٰا إِنَّ اَللّٰهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ اَلَّذِينَ يُظٰاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسٰائِهِمْ مٰا هُنَّ أُمَّهٰاتِهِمْ إِنْ أُمَّهٰاتُهُمْ إِلاَّ اَللاّٰئِي وَلَدْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ اَلْقَوْلِ وَ زُوراً وَ إِنَّ اَللّٰهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ وَ اَلَّذِينَ يُظٰاهِرُونَ مِنْ نِسٰائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمٰا قٰالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّٰا ذٰلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيٰامُ شَهْرَيْنِ مُتَتٰابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّٰا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعٰامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذٰلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اَللّٰهِ وَ لِلْكٰافِرِينَ عَذٰابٌ أَلِيمٌ إِنَّ اَلَّذِينَ يُحَادُّونَ

ص: 347


1- الكشف والبيان ج 9:252.

[سورة المجادلة (58): آیة 5]

اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ كُبِتُوا كَمٰا كُبِتَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ قَدْ أَنْزَلْنٰا آيٰاتٍ بَيِّنٰاتٍ وَ لِلْكٰافِرِينَ عَذٰابٌ مُهِينٌ

نزلت في خولة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت أخي عبادة، رآها ساجدة، فلما انصرفت من صلاتها راودها فأبت، فغضب وكان به خفّة ولمم، فظاهر منها، فأتت رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم وقالت: إنّ أوسا تزوّجني وأنا شابة مرغوب فيّ ، فلما خلا سني ونثرت بطني - أي: كثر ولدي - جعلني عليه كأمه، فقال عليه وآله السلام:

ما أراك إلا حرمت عليه، فقالت: يا رسول اللّه ما ذكر طلاقا، وإنّه أبو ولدي، وجعلت تقول: أشكو إلى اللّه فاقتي وشدّة حالي، فنزلت(1).

قَوْلَ اَلَّتِي تُجٰادِلُكَ أي: تراجعك الكلام فِي أمر زَوْجِهٰا و شأنه، تظهر شكواها وما بها من المكروه إِلَى اَللّٰهِ .

وَ اَللّٰهُ يَسْمَعُ تَحٰاوُرَكُمٰا تخاطبكما.

وقرئ: يُظٰاهِرُونَ ويظهرون وأصلهما: يتظاهرون ويتظهرون، وقرئ:

يظاهرون من المظاهرة والظهار.

مِنْكُمْ فيه توبيخ للعرب، إذ كان الظهار من أيمانهم، والمعنى: إنّ من يقول لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي، ملحق في كلامه هذا امرأته بأمه وجاعلها مثلها، وهذا تشبيه باطل لتباين الحالين.

إِنْ أُمَّهٰاتُهُمْ أي: ما أمهاتهم على الحقيقة إِلاَّ اَللاّٰئِي وَلَدْنَهُمْ وغيرهن ملحقات بهن لدخولهن في حكمهن، فالمرضعات دخلن بالرضاع في حكم الأمهات، وكذلك أزواج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أمهات المؤمنين، لأنّ اللّه تعالى حرّم

ص: 348


1- الكشف والبيان ج 9:253.

نكاحهن علي الأمة، فدخلن بذلك في حكم الأمهات. وأما الزوجات فأبعد شيء من الأمومة، لأنّهن لسن بأمهات علي الحقيقة، [ولا بداخلات في حكم الأمهات، فكان قول المظاهر مُنْكَراً مِنَ اَلْقَوْلِ تنكره الحقيقة](1) وتنكره الأحكام الشرعية.

وَ زُوراً وكذبا باطلا منحرفا عن الحقّ .

وَ إِنَّ اَللّٰهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ لما سلف منه إذا تيب منه.

ثُمَّ يَعُودُونَ لِمٰا قٰالُوا فيه وجوه:

أحدها: أنّ المراد: والذين كانوا يقولون هذا القول المنكر فتركوه بالإسلام ثمّ يعودون لمثله، فكفارة من عاد أن يحرر رقبة - أي: يعتقها - ثمّ يماسّ امرأته التي ظاهر منها، ولا يحلّ له مماسّتها إلا بعد تقديم الكفارة.

وثانيها: أنّ المعنى: ثمّ يتداركون ما قالوا، لأنّ المتدارك للأمر عائد إليه، ومنه المثل: (عاد غيث علي ما أفسد)(2) أي: تداركه بالإصلاح. ومعناه: إنّ تدارك هذا القول وتلافيه بأن يكفّر حتى يرجع حالهما كما كانت قبل الظهار.

وثالثها: أن يكون المراد بما قالوا: ما حرّموه علي أنفسهم بلفظ الظهار تنزيلا للقول منزلة المقول فيه، نحو ما ذكر في قوله تعالي: وَ نَرِثُهُ مٰا يَقُولُ (3)، ومعناه:

ثمّ يريدون العود للتماس، وهو الاستمتاع بها من جماع أو لمس بشهوة.

ذٰلِكُمْ الحكم تُوعَظُونَ بِهِ لأنّ الحكم بالكفارة دليل علي ركوب الإثم والجناية، فينبغي أن يتعظوا بهذا الحكم حتى لا يعودوا إلي الظهار.

ص: 349


1- ساقطة من ج.
2- مجمع الأمثال ج 2:343.
3- مريم: 80.

فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الرقبة فعليه صيام شَهْرَيْنِ مُتَتٰابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّٰا فإن صام بعض الشهرين ثمّ وجد الرقبة لا يلزمه الرجوع إليها، وإن رجع كان أفضل.

فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الصوم لعلة أو كبر فعليه فَإِطْعٰامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً لكل مسكين نصف صاع، فإن لم يقدر فمدّ.

ذٰلِكَ البيان والتعليم للأحكام لِتُؤْمِنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ في العمل بشرائعه.

وَ تِلْكَ حُدُودُ اَللّٰهِ التي لا يجوز تعدّيها وَ لِلْكٰافِرِينَ المتعدّين حدود اللّه عَذٰابٌ أَلِيمٌ .

يُحَادُّونَ يعادون ويشاقون.

كُبِتُوا أي: أذلوا وأخزوا كما أخزي الذين من قبلهم من أعداء الرسل.

[سورة المجادلة (58): الآیات 6 الی 9]

يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اَللّٰهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمٰا عَمِلُوا أَحْصٰاهُ اَللّٰهُ وَ نَسُوهُ وَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّٰهَ يَعْلَمُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ مٰا يَكُونُ مِنْ نَجْوىٰ ثَلاٰثَةٍ إِلاّٰ هُوَ رٰابِعُهُمْ وَ لاٰ خَمْسَةٍ إِلاّٰ هُوَ سٰادِسُهُمْ وَ لاٰ أَدْنىٰ مِنْ ذٰلِكَ وَ لاٰ أَكْثَرَ إِلاّٰ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مٰا كٰانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمٰا عَمِلُوا يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ إِنَّ اَللّٰهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ نُهُوا عَنِ اَلنَّجْوىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمٰا نُهُوا عَنْهُ وَ يَتَنٰاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوٰانِ وَ مَعْصِيَةِ اَلرَّسُولِ وَ إِذٰا جٰاؤُكَ حَيَّوْكَ بِمٰا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اَللّٰهُ وَ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لاٰ يُعَذِّبُنَا اَللّٰهُ بِمٰا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهٰا فَبِئْسَ اَلْمَصِيرُ يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا تَنٰاجَيْتُمْ فَلاٰ تَتَنٰاجَوْا بِالْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوٰانِ وَ مَعْصِيَةِ اَلرَّسُولِ وَ تَنٰاجَوْا بِالْبِرِّ

ص: 350

[سورة المجادلة (58): الآیات 9 الی 10]

وَ اَلتَّقْوىٰ وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ اَلَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ إِنَّمَا اَلنَّجْوىٰ مِنَ اَلشَّيْطٰانِ لِيَحْزُنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيْسَ بِضٰارِّهِمْ شَيْئاً إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ وَ عَلَى اَللّٰهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ

يَوْمَ نصب ب - مُهِينٌ أو ب - (لهم)، [أو بإضمار (أذكر) تعظيما لليوم](1)، أي: يبعثهم الله كلهم، لا يترك منهم أحدا غير مبعوث، أو مجتمعين في حالة واحدة كما يقال: حي جميع.

فَيُنَبِّئُهُمْ بِمٰا عَمِلُوا توبيخا لهم وتخجيلا علي رؤوس الأشهاد.

أَحْصٰاهُ اَللّٰهُ عليهم وأثبته في كتاب أعمالهم وَ نَسُوهُ .

أَ لَمْ تَرَ استفهام معناه: التقرير.

مٰا يَكُونُ قرئ بالتاء والياء، وهي كان التامة، و (من) مزيدة، والنجوى: التناجي، وهو مضاف إلى ثَلاٰثَةٍ أي: من نجوى ثلاثة نفر، أو موصوف ب - ثَلاٰثَةٍ أي: من أهل نجوى ثلاثة، فحذف أهل، وذكر عزّ اسمه الثلاثة والخمسة، و قال: وَ لاٰ أَدْنىٰ مِنْ ذٰلِكَ فدلّ على الاثنين والأربعة، وقال:

وَ لاٰ أَكْثَرَ فدلّ على ما يلي هذا العدد ويقاربه. وقرئ: وَ لاٰ أَكْثَرَ بالنصب ليدلّ على أنّ (لا) لنفي الجنس. ويجوز أن يكون وَ لاٰ أَكْثَرَ مرفوعا معطوفا على محلّ (لا) مع (أدنى) كما يقال: لا حول ولا قوة إلا باللّه بفتح الأوّل ورفع الثاني، و يجوز أن يكونا مرفوعين علي الابتداء، أو عطفا على محلّ مِنْ نَجْوىٰ .

ومعنى كونه مَعَهُمْ : أنّهم يتناجون وهو يعلم نجواهم لا يخفى عليه شيء، فكأنّه يشاهدهم.

ص: 351


1- ساقطة من ج، د.

و اَلَّذِينَ نُهُوا عَنِ اَلنَّجْوىٰ اليهود والمنافقون، كانوا يتناجون فيما بينهم وينظرون إلى المؤمنين ويتغامزون بأعينهم، فكان ذلك يحزن المؤمنين، فنهاهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن ذلك، فعادوا لمثل فعلهم، وكان تناجيهم بما هو إثم وعدوان للمؤمنين، وتواص بمعصية النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ومخالفته. وقرئ: وينتجون، فلا تنتجوا من الانتجاء، افتعال من النجوي.

وَ إِذٰا جٰاؤُكَ حَيَّوْكَ بِمٰا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اَللّٰهُ يقولون في تحيتك: السام عليك والسام: الموت، وتحية اللّه تعالى: وَ سَلاٰمٌ عَلىٰ عِبٰادِهِ اَلَّذِينَ اِصْطَفىٰ (1).

وَ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ : لو كان نبيّا فهلا يُعَذِّبُنَا اَللّٰهُ بِمٰا نَقُولُ ، فقال اللّه سبحانه: حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ عذابا يَصْلَوْنَهٰا يوم القيامة فَبِئْسَ اَلْمَصِيرُ والمال.

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا بألسنتهم إن كان الخطاب للمنافقين، وإن كان للمؤمنين، فالمراد: إِذٰا تَنٰاجَيْتُمْ فلا تتشبهوا بأولئك في تناجيهم بالشرّ وَ تَنٰاجَوْا بِالْبِرِّ وَ اَلتَّقْوىٰ . وفي الحديث: (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون صاحبهما، فإنّ ذلك يحزنه)(2). وروي: دون الثالث(3).

إِنَّمَا اَلنَّجْوىٰ اللام إشارة إلى النجوي بالإثم والعدوان بدليل قوله:

لِيَحْزُنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا والمعنى: إنّ الشيطان يزيّنها لهم فكأنّها منه ليغيظ الذين آمنوا و يحزنهم.

وَ لَيْسَ الشيطان أو الحزن بِضٰارِّهِمْ شَيْئاً إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ أي: بمشيئة

ص: 352


1- النمل: 59.
2- مسند أحمد ج 1:425.
3- مسند الطيالسي: 34.

اللّه، وهو أن يقضي الموت على أقاربهم كما كانوا يوهمون المؤمنين [في تخوفهم](1) إذا تناجوا. وقرئ: ليحزن من أحزنه.

[سورة المجادلة (58): الآیات 11 الی 17]

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي اَلْمَجٰالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اَللّٰهُ لَكُمْ وَ إِذٰا قِيلَ اُنْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ دَرَجٰاتٍ وَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا نٰاجَيْتُمُ اَلرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوٰاكُمْ صَدَقَةً ذٰلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ أَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوٰاكُمْ صَدَقٰاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تٰابَ اَللّٰهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ وَ آتُوا اَلزَّكٰاةَ وَ أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ اَللّٰهُ خَبِيرٌ بِمٰا تَعْمَلُونَ أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اَللّٰهُ عَلَيْهِمْ مٰا هُمْ مِنْكُمْ وَ لاٰ مِنْهُمْ وَ يَحْلِفُونَ عَلَى اَلْكَذِبِ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أَعَدَّ اَللّٰهُ لَهُمْ عَذٰاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سٰاءَ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ اِتَّخَذُوا أَيْمٰانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ فَلَهُمْ عَذٰابٌ مُهِينٌ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوٰالُهُمْ وَ لاٰ أَوْلاٰدُهُمْ مِنَ اَللّٰهِ شَيْئاً أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ

تَفَسَّحُوا فِي اَلْمَجٰالِسِ توسّعوا فيه، وليفسح بعضكم عن بعض، من قولهم: افسح عني أي: تنح، ولا تتضاموا. وهو مجلس النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كانوا يتضامون فيه حرصا علي القرب منه ليستمعوا كلامه، وقرئ: في المجالس علي الجمع. وقيل:

هو المجلس من مجالس القتال(2)، وهي مراكز الغزاة، كقوله: مَقٰاعِدَ لِلْقِتٰالِ (3).

ص: 353


1- فيج، د: ذلك.
2- عن ابن عباس. تفسير الطبري ج 28:13.
3- آل عمران: 121.

وكان الرجل يأتي الصف فيقول: تفسحوا فيأبون لحرصهم علي الشهادة.

وقوله: يَفْسَحِ اَللّٰهُ لَكُمْ مطلق في كل ما يطلب الفسحة فيه من الرزق و المكان والقبر وغير ذلك.

وَ إِذٰا قِيلَ اُنْشُزُوا انهضوا من مجلس النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أو انهضوا إلى الصلاة والجهاد وأعمال البر فَانْشُزُوا . قرئ بضم الشين و كسرها.

يَرْفَعِ اَللّٰهُ المؤمنين بامتثال أوامره و أوامر رسوله والعالمين منهم خاصة دَرَجٰاتٍ ، وكان عبد اللّه بن مسعود إذا قرأها قال: (يا أيّها الناس افهموا هذه الآية، و لترغبكم في العلم)(1). وعن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: (بين العالم والعابد مائة درجة، بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة)(2)، وعنه عليه السلام: (فضل العالم علي العابد كفضل القمر ليلة البدر علي سائر الكواكب)(3)، وعنه عليه السلام: (يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء ثمّ العلماء ثمّ الشهداء)(4). فأعظم بمرتبة هي واسطة بين النبوّة والشهادة بشهادة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم. وعن الزهري: (العلم ذكر فلا يحبّه إلا الذكورة من الرجال)(5).

وروي: أنّ الناس أكثروا مناجاة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم حتى أملّوه [و أبرموه فأريد أن يكفوا عن ذلك](6) فأمروا بالصدقة قبل المناجاة، فلما رأوا ذلك انتهوا عن مناجاته،

ص: 354


1- معالم التنزيل ج 4:139.
2- جامع بيان العلم وفضله ج 1:32.
3- بصائر الدرجات: 27، مسند الشاميين ج 2:225.
4- سنن ابن ماجة ج 2:1443 ح 4313، قرب الإسناد: 44.
5- جامع بيان العلم وفضله ج 1:70.
6- ساقطة من ج، د.

فلم يناجه إلا علي عليه السلام قدّم دينارا فتصدق به، ثمّ نزلت آية الرخصة(1). وعن عليّ عليه السلام:

(إنّ في كتاب اللّه لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي، كان لي دينار فصرفته، فكنت إذا ناجيته تصدّقت بدرهم)(2). قال الكلبي: (تصدّق في عشر كلمات سألهن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم)(3). وعن ابن عمر: (كان لعليّ عليه السلام ثلاث لو كانت لي واحدة منهن أحبّ إليّ من حمر النعم: تزويجه فاطمة عليها السلام، و إعطاؤه الراية يوم خيبر، و آية النجوى)(4).

ذٰلِكَ التقديم خَيْرٌ لَكُمْ في دينكم وَ أَطْهَرُ لأنّ الصدقة تطهير.

وعن ابن عباس: (هي منسوخة بالآية التي بعدها)(5).

أَ أَشْفَقْتُمْ أخفتم تقديم الصدقات لما فيه من الإنفاق الذي يعدكم الشيطان به الفقر و العيلة، فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا ما أمرتم به وشقّ عليكم وَ تٰابَ اَللّٰهُ عَلَيْكُمْ بتقصيركم وتفريطكم فيه فَأَقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ فلا تفرّطوا في الصلاة والزكاة وسائر الطاعات.

بِمٰا تَعْمَلُونَ قرئ بالتاء والياء في الموضعين.

كانوا يتولون اليهود وهم الذين غضب اللّه عليهم في قوله: مَنْ لَعَنَهُ اَللّٰهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ (6) و يناصحونهم.

ص: 355


1- أسباب النزول: 294.
2- المستدرك علي الصحيحين ج 2:482، تفسير القمي ج 2:357.
3- الكشاف ج 4:494.
4- الكشف والبيان ج 9:262.
5- الدر المنثور ج 6:186، وينظر: الناسخ والمنسوخ: 179.
6- المائدة: 60.

مٰا هُمْ مِنْكُمْ يا مسلمون وَ لاٰ مِنْهُمْ ولا من اليهود كقوله: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذٰلِكَ (1).

وَ يَحْلِفُونَ عَلَى اَلْكَذِبِ أي: يقولون: و الله إنّا مسلمون وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أنّ المحلوف عليه كذب.

اِتَّخَذُوا أَيْمٰانَهُمْ التي حلفوا بها جُنَّةً أي: سترة يدفعون بها عن نفوسهم الظنة إذا ظهرت منهم.

[سورة المجادلة (58): الآیات 18 الی 22]

يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اَللّٰهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمٰا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلىٰ شَيْ ءٍ أَلاٰ إِنَّهُمْ هُمُ اَلْكٰاذِبُونَ اِسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ اَلشَّيْطٰانُ فَأَنْسٰاهُمْ ذِكْرَ اَللّٰهِ أُولٰئِكَ حِزْبُ اَلشَّيْطٰانِ أَلاٰ إِنَّ حِزْبَ اَلشَّيْطٰانِ هُمُ اَلْخٰاسِرُونَ إِنَّ اَلَّذِينَ يُحَادُّونَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ أُولٰئِكَ فِي اَلْأَذَلِّينَ كَتَبَ اَللّٰهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي إِنَّ اَللّٰهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ لاٰ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ يُوٰادُّونَ مَنْ حَادَّ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كٰانُوا آبٰاءَهُمْ أَوْ أَبْنٰاءَهُمْ أَوْ إِخْوٰانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ اَلْإِيمٰانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَ يُدْخِلُهُمْ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا رَضِيَ اَللّٰهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ أُولٰئِكَ حِزْبُ اَللّٰهِ أَلاٰ إِنَّ حِزْبَ اَللّٰهِ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ

أي: فَيَحْلِفُونَ باللّه تعالى في الآخرة بأنّهم كانوا مؤمنين في الدنيا كَمٰا يَحْلِفُونَ اليوم لَكُمْ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلىٰ شَيْ ءٍ من النفع. وعن الحسن: (في القيامة مواطن: فموطن يعرفون فيه قبح الكذب ضرورة فيتركونه، وموطن يكونون فيه

ص: 356


1- النساء: 143.

كالمدهوشين فيتكلّمون بكلام الصبيان: الكذب وغير الكذب)(1).

اِسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ اَلشَّيْطٰانُ استولى عليهم، من: حاذ الحمار العانة: إذا جمعها وساقها غالبا عليها، وهو أحد ما جاء علي الأصل، ومثله: استصوب واستنوق، أي: ملكهم الشيطان حتى جعلهم رعيته وحزبه فَأَنْسٰاهُمْ أن يذكروا اَللّٰهِ أصلا لا بقلوبهم ولا بألسنتهم أُولٰئِكَ حِزْبُ اَلشَّيْطٰانِ أي: جنده.

فِي اَلْأَذَلِّينَ أي: في جملة من هو أذل خلق اللّه.

كَتَبَ اَللّٰهُ في اللوح المحفوظ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي بالحجج والسيف أو بأحدهما.

لاٰ تَجِدُ قَوْماً هو من باب التخييل، خيّل أنّ من الممتنع المحال أن تجد قوما مؤمنين يوالون من خالف اللّه ورسوله، والغرض به أنّه لا ينبغي أن يكون ذلك، وحقّه أن يمتنع ولا يوجد بحال مبالغة في النهي عنه، ثمّ أكّد ذلك بقوله:

وَ لَوْ كٰانُوا آبٰاءَهُمْ وزاده تأكيدا بقوله: أُولٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ اَلْإِيمٰانَ وقابل قوله: أُولٰئِكَ حِزْبُ اَلشَّيْطٰانِ بقوله: أُولٰئِكَ حِزْبُ اَللّٰهِ فلا شيء أدخل في الإخلاص من موالاة أولياء اللّه ومعاداة أعداء اللّه، بل هو الإخلاص بعينه.

ومعنى كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ اَلْإِيمٰانَ : أثبته فيها بما وفّقهم فيه، وشرح صدورهم له.

وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ بلطف من عنده حييت به قلوبهم، وقيل: بروح من الإيمان لأنّ القلوب تحيا به(2).

ص: 357


1- التبيان ج 9:554.
2- معاني القران وإعرابه ج 5:142.

سورة الحشر

اشارة

مدنية وهي أربع وعشرون آية.

وفي حديث أبيّ : (من قرأ (سورة الحشر) لم يبق جنّة ولا نار ولا عرش ولا كرسي ولا السموات ولا الأرض إلا صلّوا عليه واستغفروا له)(1)، وعن الصادق عليه السلام: (من قرأ إذا أمسى (الرحمن والحشر) وكّل اللّه بداره ملكا شاهرا سيفه حتى يصبح)(2).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة الحشر (59): الآیات 1 الی 4]

سَبَّحَ لِلّٰهِ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ هُوَ اَلَّذِي أَخْرَجَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ اَلْكِتٰابِ مِنْ دِيٰارِهِمْ لِأَوَّلِ اَلْحَشْرِ مٰا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ مٰانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اَللّٰهِ فَأَتٰاهُمُ اَللّٰهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ اَلرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَ أَيْدِي اَلْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يٰا أُولِي اَلْأَبْصٰارِ وَ لَوْ لاٰ أَنْ كَتَبَ اَللّٰهُ عَلَيْهِمُ اَلْجَلاٰءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي اَلدُّنْيٰا وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذٰابُ اَلنّٰارِ ذٰلِكَ

ص: 358


1- ثواب الأعمال: 117 باختصار، الكشف والبيان ج 9:266 عن ابن عباس.
2- مجمع البيان ج 9-10:256.

[سورة الحشر (59): الآیات 4 الی 6]

بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ مَنْ يُشَاقِّ اَللّٰهَ فَإِنَّ اَللّٰهَ شَدِيدُ اَلْعِقٰابِ مٰا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهٰا قٰائِمَةً عَلىٰ أُصُولِهٰا فَبِإِذْنِ اَللّٰهِ وَ لِيُخْزِيَ اَلْفٰاسِقِينَ وَ مٰا أَفٰاءَ اَللّٰهُ عَلىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمٰا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لاٰ رِكٰابٍ وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلىٰ مَنْ يَشٰاءُ وَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ

نزلت في إجلاء بني النضير من اليهود، فجلوا إلى الشام إلى أريحا وأذرعات إلا آل حيي بن أخطب وآل أبي الحقيق فإنّهم لحقوا بخيبر، وذلك أنّهم صالحوا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم علي أن لا يكونوا عليه ولا له، ثمّ نقضوا العهد، وخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة وحالفوا عليه قريشا عند الكعبة، فأمر عليه السلام محمّد بن مسلمة الأنصاري(1) فقتل كعبا ذات ليلة غيلة - وكان أخاه من الرضاعة - ثمّ صبّحهم بالكتائب و حاصرهم حتى أعطوه ما أراد منهم، فصالحهم علي أن يحقن دماءهم، وأن يخرجهم من أرضهم وأوطانهم، وجعل لكل ثلاثة منهم بعيرا وسقاء(2).

واللام في لِأَوَّلِ اَلْحَشْرِ يتعلّق ب - أَخْرَجَ و هي اللام في قولك: جئت لوقت كذا. والمعنى: أخرج الذين كفروا عند أوّل الحشر، ومعنى أوّل الحشر: إنّ هذا أوّل حشرهم إلى الشام [وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء قط، وهم أوّل من أخرج من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام، أو هذا أوّل حشرهم، وآخر](3) حشرهم حشر يوم القيامة لأنّ المحشر يكون بالشام.

ص: 359


1- محمّد بن مسلمة بن سلمة الأنصاري الحارثي، شهد بدرا والمشاهد كلها، مات بالمدينة سنة 43 ه -، وقيل غير ذلك. ينظر: الاستيعاب ج 3:334.
2- الكشف والبيان ج 9:266.
3- ساقطة من ج.

مٰا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا لشدّة بأسهم، و وثاقة حصونهم، وكثرة عددهم وعدتهم.

وَ ظَنُّوا أنّ حصونهم تمنعهم من بأس اللّه.

فَأَتٰاهُمُ أمر اللّه مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا من حيث لم يظنوا ولم يخطر ببالهم، وهو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف، وذلك مما أضعف قلوبهم و سلبها الأمن و الطمأنينة.

وَ قَذَفَ فيها اَلرُّعْبَ و هو الخوف الذي يرعب الصدر أي: يملؤه.

وقرئ: يُخْرِبُونَ و يخرّبون من الإفعال و التفعيل، أي: يهدمون بيوتهم من داخل و يخربون ما يستحسنونه منها حتى لا تكون للمسلمين، و يخربها المسلمون من خارج، ولما عرضوا المسلمين للتخريب وكانوا السبب فيه، فكأنّهم أمروهم بذلك و كلّفوهم إيّاه.

فَاعْتَبِرُوا يا أهل البصائر بما دبّر اللّه سبحانه من أمر إخراجهم، و تسليط المؤمنين عليهم من غير قتال.

وَ لَوْ لاٰ أنّه كَتَبَ اَللّٰهُ عَلَيْهِمُ اَلْجَلاٰءَ واقتضته حكمته لَعَذَّبَهُمْ فِي اَلدُّنْيٰا بالقتل كما فعل بإخوانهم بني قريظة وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذٰابُ اَلنّٰارِ سواء أجلوا أو قتلوا.

واللينة: النخلة، و ياؤها واو لأنّها من اللون، وقيل: هي النخلة الكريمة(1)، من اللين.

و مِنْ لِينَةٍ بيان ل - مٰا قَطَعْتُمْ ، و محلّ مٰا نصب ب - قَطَعْتُمْ كأنّه

ص: 360


1- عن سفيان. معالم التنزيل ج 4:142.

قال: أي شيء قطعتم ؟ و أنّث الضمير الراجع إلي (ما) في قوله: أَوْ تَرَكْتُمُوهٰا لأنّه في معنى اللينة، فَبِإِذْنِ اَللّٰهِ [فقطعها بإذن اللّه](1) و أمره.

وَ لِيُخْزِيَ اَلْفٰاسِقِينَ و ليذل اليهود و ليغيظهم في قطعها، وذلك أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أمر أن يقطع نخلهم و يحرق، فقالوا: يا محمّد، قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض، فما بال قطع النخل و تحريقها؟ فكان في أنفس المسلمين من ذلك شيء فنزلت(2). يعني: إنّ اللّه سبحانه أذن في قطعها ليزيدكم غيظا إذا رأيتموهم يتحكّمون في أموالكم كيف شاؤوا و أحبّوا. وعن ابن مسعود: (قطعوا منها ما كان موضعا للقتال)(3).

وَ مٰا أَفٰاءَ اَللّٰهُ عَلىٰ رَسُولِهِ أي: جعله فيئا له خاصة، و الإيجاف: من الوجيف وهو السير السريع، والمعنى: فَمٰا أَوْجَفْتُمْ علي تحصيله و تغنيمه خيلا ولا ركابا وإنّما مشيتم إليه علي أرجلكم ولم تحصلوا أموالهم بالقتال والغلبة.

وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ يُسَلِّطُ رسوله عليهم، وخوّله أموالهم كما كان يسلط رُسُلَهُ عَلىٰ أعدائهم، فالأمر فيه إليه يضعه حيث يشاء. و الركاب: الإبل التي تحمل القوم، واحدتها: را حلة.

[سورة الحشر (59): الآیات 7 الی 8]

مٰا أَفٰاءَ اَللّٰهُ عَلىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ اَلْقُرىٰ فَلِلّٰهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبىٰ وَ اَلْيَتٰامىٰ وَ اَلْمَسٰاكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ كَيْ لاٰ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ اَلْأَغْنِيٰاءِ مِنْكُمْ وَ مٰا آتٰاكُمُ اَلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ إِنَّ اَللّٰهَ شَدِيدُ اَلْعِقٰابِ لِلْفُقَرٰاءِ اَلْمُهٰاجِرِينَ اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا

ص: 361


1- ساقطة من ب.
2- أسباب النزول: 298.
3- الكشاف ج 4:501.

[سورة الحشر (59): الآیات 8 الی 10]

مِنْ دِيٰارِهِمْ وَ أَمْوٰالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اَللّٰهِ وَ رِضْوٰاناً وَ يَنْصُرُونَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ أُولٰئِكَ هُمُ اَلصّٰادِقُونَ وَ اَلَّذِينَ تَبَوَّؤُا اَلدّٰارَ وَ اَلْإِيمٰانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هٰاجَرَ إِلَيْهِمْ وَ لاٰ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حٰاجَةً مِمّٰا أُوتُوا وَ يُؤْثِرُونَ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كٰانَ بِهِمْ خَصٰاصَةٌ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ وَ اَلَّذِينَ جٰاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اِغْفِرْ لَنٰا وَ لِإِخْوٰانِنَا اَلَّذِينَ سَبَقُونٰا بِالْإِيمٰانِ وَ لاٰ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنٰا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنٰا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ

مِنْ أَهْلِ اَلْقُرىٰ من أموال كفار أهل القرى.

فَلِلّٰهِ يأمركم فيه بما أحبّ وَ لِلرَّسُولِ بتمليك اللّه إيّاه وَ لِذِي اَلْقُرْبىٰ أهل بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و قرابته وهم بنو هاشم وَ اَلْيَتٰامىٰ وَ اَلْمَسٰاكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ منهم، وعن عليّ بن الحسين عليهما السلام: (هي قراباتنا و مساكيننا وأبناء سبيلنا)(1).

كَيْ لاٰ يَكُونَ دُولَةً قرئ بالنصب والرفع، فالنصب علي معنى: كيلا يكون الفيء جدا بين الأغنياء يتكاثرون به، أو كيلا يكون دولة جاهلية بينهم يستأثر به الرؤساء وأهل الدولة والغلبة، وأنشد في ذلك:

لك المرباع منها و الصّفايا *** و حكمك و النّشيطة و الفضول(2)

وقيل: الدولة اسم ما يتداول(3) كالغرفة اسم ما يغترف، أي: كي لا يكون

ص: 362


1- مجمع البيان ج 9-10:261، الكافي ج 1:539 عن عليّ عليه السلام.
2- البيت لعبد الله بن عنمة الضبي. الأصمعيات: 37.
3- معاني القران و إعرابه ج 5:146.

الفيء شيئا يتداوله الأغنياء بينهم و يتعاورونه، ومنه الحديث: (اتخذوا عباد اللّه خولا ومال اللّه دولا)(1)، أي: غلبة، من غلب منهم سلبه. والرفع علي كان التامة، أي: كي لا يقع دولة جاهلية، أو كي لا يكون شيء يتداوله الأغنياء بينهم.

وَ مٰا آتٰاكُمُ اَلرَّسُولُ من قسمة غنيمة أو فيء فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ عن أخذه منها فَانْتَهُوا عنه وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ أن تخالفوه ما إِنَّ اَللّٰهَ شَدِيدُ اَلْعِقٰابِ لمن خا لف رسوله.

و الأولى أن يكون عاما في كل ما أمر به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و نهى عنه، ولهذا قسّم عليه السلام أموال خيبر ومنّ عليهم في رقابهم، و أجلى بني النضير وبني قينقاع و أعطاهم شيئا من المال، وقتل رجال بني قريظة وسبى ذراريهم ونساءهم، و قسّم أموالهم علي المهاجرين خاصة، و منّ على أهل مكة فأطلقهم. وعن الصادق عليه السلام: (ما أعطى اللّه نبيّا من الأنبياء إلا وقد أعطى محمّدا صلى الله عليه و آله و سلم مثله، قال لسليمان عليه السلام: فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسٰابٍ (2) وقال له عليه السلام: آتٰاكُمُ اَلرَّسُولُ فَخُذُوهُ ... الآية)(3).

لِلْفُقَرٰاءِ بدل من قوله: لِذِي اَلْقُرْبىٰ ، والمعطوف عليه أُولٰئِكَ هُمُ اَلصّٰادِقُونَ في إيمانهم و جهادهم.

وَ اَلَّذِينَ تَبَوَّؤُا اَلدّٰارَ معطوف علي اَلْمُهٰاجِرِينَ وهم الأنصار، ومعناه:

تَبَوَّؤُا اَلدّٰارَ أي: المدينة، و أخلصوا اَلْإِيمٰانَ كقوله:

ص: 363


1- تفسير القمي ج 1:52، المستدرك على الصحيحين ج 4:480.
2- ص: 39.
3- بصائر الدرجات: 380.

علفتها تبنا و ماء باردا(1)

أو وجعلوا الإيمان مستقرا و متوطنا لهم لتمكّنهم فيه و استقامتهم عليه كما جعلوا المدينة كذلك، أو أراد دار الهجرة ودار الإيمان فأقام لام التعريف في (الدار) مقام المضاف إليه، وحذف المضاف من دار الإيمان ووضع المضاف إليه مقامه [أو سمّى المدينة لأنّها دار الهجرة ومكان ظهور الإيمان بالإيمان](2).

مِنْ قَبْلِهِمْ من قبل المهاجرين لأنّهم سبقوهم في تبوء دار الهجرة والإيمان.

وَ لاٰ يَجِدُونَ ولا يعلمون في أنفسهم حٰاجَةً مِمّٰا أُوتُوا أي: طلب محتاج إليه مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره، والمحتاج إليه قد يسمّى حاجة.

يقال: خذ منه حاجتك، وأعطاه من ماله حاجته، يعني: إنّ نفوسهم لم تطمح إلى شيء مما أعطوا يحتاج إليه.

وَ لَوْ كٰانَ بِهِمْ خَصٰاصَةٌ أي: خلة، من خصاص البيت وهي فروجه.

وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قسّم أموال بني النضير علي المهاجرين، ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة، وهم: أبو دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمة، وقال للأنصار: إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم و دياركم [و شاركتموهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم](3)

وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة، فقالت الأنصار: بل نقسم لهم من ديارنا وأموالنا و نؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها، فنزلت(4).

ص: 364


1- ديوان شعر ذي الرمة: 664.
2- ساقطة من ج، د.
3- ساقطة من ج.
4- أسباب النزول: 299.

و الشح: اللؤم، وأن تكون نفس المرء حريصة على المنع، كما قال الشاعر:

يمارس نفسا بين جنبيه كزّة *** إذا همّ بالمعروف قالت له مهلا(1)

وقد أضيف إلى النفس لأنه غريزة فيها، وأما البخل فهو المنع نفسه، والمعنى:

ومن غلب ما أمرته به نفسه وخالف هواها بتوفيق اللّه وعونه فَأُولٰئِكَ هُمُ الظافرون بما أرادوا.

و قيل: اَلَّذِينَ تَبَوَّؤُا مبتدأ، وخبره يُحِبُّونَ مَنْ هٰاجَرَ إِلَيْهِمْ لأنّه عليه السلام لم يقسم لهم في بني النضير إلا للثلاثة(2).

وَ اَلَّذِينَ جٰاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ وهم الذين هاجروا من بعد، وقيل: التابعون بإحسان(3).

غِلاًّ أي: حقدا وعداوة.

[سورة الحشر (59): الآیات 11 الی 14]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ نٰافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوٰانِهِمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ اَلْكِتٰابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَ لاٰ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَ إِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَ اَللّٰهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكٰاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لاٰ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَ لَئِنْ قُوتِلُوا لاٰ يَنْصُرُونَهُمْ وَ لَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ اَلْأَدْبٰارَ ثُمَّ لاٰ يُنْصَرُونَ لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اَللّٰهِ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاٰ يَفْقَهُونَ لاٰ يُقٰاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاّٰ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرٰاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ

ص: 365


1- أساس البلاغة ج 2:306 دون نسبة.
2- إعراب القرآن ج 4:396.
3- عن مقاتل. تفسير الماوردي ج 5:507.

[سورة الحشر (59): الآیات 14 الی 17]

تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَ قُلُوبُهُمْ شَتّٰى ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاٰ يَعْقِلُونَ كَمَثَلِ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذٰاقُوا وَبٰالَ أَمْرِهِمْ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ كَمَثَلِ اَلشَّيْطٰانِ إِذْ قٰالَ لِلْإِنْسٰانِ اُكْفُرْ فَلَمّٰا كَفَرَ قٰالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخٰافُ اَللّٰهَ رَبَّ اَلْعٰالَمِينَ فَكٰانَ عٰاقِبَتَهُمٰا أَنَّهُمٰا فِي اَلنّٰارِ خٰالِدَيْنِ فِيهٰا وَ ذٰلِكَ جَزٰاءُ اَلظّٰالِمِينَ

ثمّ ذكر سبحانه أنّ المنافقين يَقُولُونَ لِإِخْوٰانِهِمُ الذين بينهم و بينهم أخوة الكفر، وهم يهود بني النضير، كانوا يوالونهم في السرّ وَ لاٰ نُطِيعُ في قتالكم أَحَداً يعنون محمّدا صلى الله عليه و آله و سلم و أصحابه. وفي هذا دلالة علي صحّة النبوّة لأنّه إخبار بالغيب، وعلي أنّه سبحانه كما يعلم ما يكون، فإنّه يعلم ما لا يكون أن لو كان كيف يكون. والتقدير: و لئن نصرهم المنافقون علي الفرض والتقدير لينهزمن المنافقون ثُمَّ لاٰ يُنْصَرُونَ بعد ذلك، أي: يهلكهم الله ولا ينفعهم نفاقهم لظهور كفرهم.

رَهْبَةً مصدر رهب المبني للمفعول، كأنّه قال: أشدّ مرهوبية.

وفي قوله: فِي صُدُورِهِمْ دلالة علي نفاقهم، والمعنى: إنّهم يظهرون لكم في العلانية خوف اللّه و أنتم أهيب في صدورهم من اللّه.

لاٰ يَفْقَهُونَ أي: لا يعلمون اللّه حتى يخشوه حقّ خشيته.

لاٰ يُقٰاتِلُونَكُمْ لا يقدرون على مقاتلتكم.

جَمِيعاً مجتمعين يعني: اليهود والمنافقين إِلاّٰ كائنين فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ بالخنادق و الدروب أَوْ مِنْ وَرٰاءِ جُدُرٍ دون أن يصحروا لكم و يبارزوكم، لأنّ اللّه عزّ اسمه قذف الرعب في قلوبهم، و قرئ: جدار.

بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ أي: قوتهم و شوكتهم فيما بينهم شديدة، فإذا

ص: 366

لا قوكم جبنوا ولم يبق لهم بأس وشدّة، لأنّ الشجاع يجبن عند محاربة اللّه ورسوله.

تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً مجتمعين ذوي ألفة و اتحاد في الظاهر وَ قُلُوبُهُمْ شَتّٰى متفرقة مختلفة لا ألفة بينها.

لاٰ يَعْقِلُونَ ما فيه الرشد.

كَمَثَلِ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي: مثلهم كمثل الذين قتلوا ببدر.

قَرِيباً في زمان قريب، وذلك قبل إجلاء بني النضير بستة أشهر، و انتصب قَرِيباً ب - (مثل) علي معنى: كوجود مثل أهل بدر قريبا، وعن ابن عباس: (إنّ الذين من قبلهم بنو قينقاع)(1)، وذلك أنّهم نقضوا العهد، فرجع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من بدر فأمرهم عليه السلام أن يخرجوا، فقال عبد اللّه بن أبيّ : لا تخرجوا فإنّي أدخل معكم الحصن فكان هؤلاء في ترك نصرتهم كأولئك ذٰاقُوا وَبٰالَ أَمْرِهِمْ سوء عاقبة كفرهم في الدنيا وَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ في الآخرة.

مثل المنافقين في إغرائهم اليهود علي القتال ووعدهم إيّاهم النصر ثمّ إخلافهم كَمَثَلِ اَلشَّيْطٰانِ إذا استغوى الإنسان بكيده ثمّ تبرأ منه في العاقبة، كما استغوى قريشا يوم بدر بقوله لهم: لاٰ غٰالِبَ لَكُمُ اَلْيَوْمَ مِنَ اَلنّٰاسِ وَ إِنِّي جٰارٌ لَكُمْ إلى قوله: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ (2).

خٰالِدَيْنِ فِيهٰا حال.

[سورة الحشر (59): الآیات 18 الی 20]

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ مٰا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ إِنَّ اَللّٰهَ خَبِيرٌ بِمٰا تَعْمَلُونَ وَ لاٰ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اَللّٰهَ فَأَنْسٰاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْفٰاسِقُونَ لاٰ يَسْتَوِي أَصْحٰابُ

ص: 367


1- تفسير الطبري ج 28:32.
2- الأنفال: 48.

[سورة الحشر (59): الآیات 20 الی 24]

اَلنّٰارِ وَ أَصْحٰابُ اَلْجَنَّةِ أَصْحٰابُ اَلْجَنَّةِ هُمُ اَلْفٰائِزُونَ لَوْ أَنْزَلْنٰا هٰذَا اَلْقُرْآنَ عَلىٰ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خٰاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اَللّٰهِ وَ تِلْكَ اَلْأَمْثٰالُ نَضْرِبُهٰا لِلنّٰاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ هُوَ اَللّٰهُ اَلَّذِي لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ عٰالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهٰادَةِ هُوَ اَلرَّحْمٰنُ اَلرَّحِيمُ هُوَ اَللّٰهُ اَلَّذِي لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ اَلْمَلِكُ اَلْقُدُّوسُ اَلسَّلاٰمُ اَلْمُؤْمِنُ اَلْمُهَيْمِنُ اَلْعَزِيزُ اَلْجَبّٰارُ اَلْمُتَكَبِّرُ سُبْحٰانَ اَللّٰهِ عَمّٰا يُشْرِكُونَ هُوَ اَللّٰهُ اَلْخٰالِقُ اَلْبٰارِئُ اَلْمُصَوِّرُ لَهُ اَلْأَسْمٰاءُ اَلْحُسْنىٰ يُسَبِّحُ لَهُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ

نكّر سبحانه النفس لاستقلال الأنفس الناظرة فيما تقدّمه للآخرة، فكأنّه قال: وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ واحدة في ذلك.

و نكّر الغد لتعظيم أمره، أي: لغد لا يعرف كنهه لعظمه، والمراد بالغد يوم القيامة، وعن الحسن: (لم يزل يقرّبه حتى جعله كالغد)(1). ونحوه في تقريب الزمان الماضي قوله: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ (2).

وكرر قوله: اِتَّقُوا اَللّٰهَ لأنّ الأوّل في أداء الواجبات لأنّه مقرون بالعمل، والثاني في ترك المقبحات لأنّه مقرون بالوعيد.

نَسُوا اَللّٰهَ نسوا حقّه فجعلهم ناسين حقّ أنفسهم بالخذلان، حتى لم يسعوا لها بما ينفعهم عنده، أو فأراهم من أهوال يوم القيامة ما نسوا فيه أنفسهم،

ص: 368


1- الكشاف ج 4:508.
2- يونس: 24.

كقوله: لاٰ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ (1).

وقوله: لاٰ يَسْتَوِي تنبيه للناس و إيذان بأنّهم لفرط غفلتهم وإيثارهم الدنيا علي الآخرة كأنّهم لا يعرفون الفرق بين الجنّة والنار، و البون بين أصحابهما [و أنّ الفوز مع أصحاب الجنّة](2)، فمن حقّهم أن ينبهوا علي ذلك، كما تقول لمن يعق أباه: هو أبوك، تجعله بمنزلة من لا يعرفه فتنبّهه بذلك علي حقّ الأبوة الذي يقتضي البر و التعطف.

التصدع: التفرّق بعد التلاؤم، وهذا تمثيل وتخييل كما مر في قوله: إِنّٰا عَرَضْنَا اَلْأَمٰانَةَ (3)، يدلّ عليه قوله: وَ تِلْكَ اَلْأَمْثٰالُ نَضْرِبُهٰا لِلنّٰاسِ ، و الغرض: توبيخ الإنسان علي قلة تدبّره للقرآن، [و تعقّله لزواجره ومواعظه](4).

عٰالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهٰادَةِ عالم المعدوم و الموجود، وقيل: ما غاب عن الخلق وما شاهدوه(5)، أو السرّ و العلانية(6)، وعن الباقر عليه السلام: (ما لم يكن وما كان)(7).

اَلْقُدُّوسُ المنزّه عن القبائح، الطاهر من كل عيب و نقص، ونظيره:

السبوح.

اَلسَّلاٰمُ بمعنى السلامة، وصف سبحانه به مبالغة في وصف كونه سليما

ص: 369


1- إبرا هيم: 43.
2- ساقطة من ج، د.
3- الأحزاب: 72.
4- في ب: و تعلقه لزواجره و قوارعه.
5- الكشف والبيان ج 9:286.
6- عن ابن عباس. الدر المنثور ج 6:202.
7- معاني الأخبار: 144 عن الصادق عليه السلام.

من النقائص، أو في إعطائه السلامة.

اَلْمُؤْمِنُ واهب الأمن.

اَلْمُهَيْمِنُ الرقيب علي كل شيء و الحافظ له، وقيل: الأمين الذي لا يضيع لأحد عنده حقّ (1)، مفيعل من الأمن إلا أنّ همزته قلبت هاء.

اَلْجَبّٰارُ القهار الذي جبر خلقه علي ما أراد، وقيل: العظيم الشأن في الملك والسلطان(2)، ولا يطلق هذا الوصف علي غيره إلا علي وجه الذم.

اَلْمُتَكَبِّرُ البليغ الكبرياء و العظمة.

اَلْخَلْقُ المقدّر لما يوجده.

اَلْبٰارِئُ المميز بعضه من بعض بالأشكال المختلفة.

اَلْمُصَوِّرُ الممثل.

وسئل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عن اسم اللّه الأعظم، فقال: (عليك بآخر الحشر)(3).

ص: 370


1- عن الضحاك. تفسير الطبري ج 28:36.
2- عن ابن عباس. معالم التنزيل ج 4:149.
3- الكشف و البيان ج 9:289.

سورة الممتحنة

اشارة

مدنية، وهي ثلاث عشرة آية.

وفي حديث أبيّ : (من قرأ (سورة الممتحنة) كان المؤمنون و المؤمنات له شفعاء يوم القيامة)(1)، وعن علي بن الحسين عليهما السلام: (من قرأ (سورة الممتحنة) في فرائضه و نوافله امتحن اللّه قلبه للإيمان ونور له بصره، ولا يصيبه فقر أبدا، ولا جنون في بدنه ولا في ولده)(2).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة الممتحنة (60): الآیات 1 الی 3]

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِيٰاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ كَفَرُوا بِمٰا جٰاءَكُمْ مِنَ اَلْحَقِّ يُخْرِجُونَ اَلرَّسُولَ وَ إِيّٰاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللّٰهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهٰاداً فِي سَبِيلِي وَ اِبْتِغٰاءَ مَرْضٰاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ أَنَا أَعْلَمُ بِمٰا أَخْفَيْتُمْ وَ مٰا أَعْلَنْتُمْ وَ مَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوٰاءَ اَلسَّبِيلِ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدٰاءً وَ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحٰامُكُمْ وَ لاٰ أَوْلاٰدُكُمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَ اَللّٰهُ بِمٰا

ص: 371


1- الكشف والبيان ج 9:290.
2- ثواب الأعمال: 118.

[سورة الممتحنة (60): الآیات 3 الی 5]

تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ قَدْ كٰانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرٰاهِيمَ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قٰالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنّٰا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَ مِمّٰا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ كَفَرْنٰا بِكُمْ وَ بَدٰا بَيْنَنٰا وَ بَيْنَكُمُ اَلْعَدٰاوَةُ وَ اَلْبَغْضٰاءُ أَبَداً حَتّٰى تُؤْمِنُوا بِاللّٰهِ وَحْدَهُ إِلاّٰ قَوْلَ إِبْرٰاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَ مٰا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اَللّٰهِ مِنْ شَيْ ءٍ رَبَّنٰا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنٰا وَ إِلَيْكَ أَنَبْنٰا وَ إِلَيْكَ اَلْمَصِيرُ رَبَّنٰا لاٰ تَجْعَلْنٰا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ اِغْفِرْ لَنٰا رَبَّنٰا إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ

نزلت في حاطب بن أبي بلتعة، وذلك أنّ سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم أتت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو يتجهز للفتح فقال لها: أمسلمة جئت ؟ قالت:

لا، [قال: أفمهاجرة جئت ؟ قالت: لا](1)، قال: فما جاء بك ؟ قالت: كنتم الأهل و الموالي والعشيرة، وقد ذهبت الموالي، تعني قتلوا يوم بدر، و احتجت حاجة شديدة، فحثّ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم بني عبد المطلب فكسوها و حملوها وزوّدوها، فأتاها حاطب وأعطاها عشرة دنانير و كتب معها كتابا إلى أهل مكة، نسخته: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة، اعلموا أنّ رسول الله يريدكم، فخذوا حذركم، فخرجت سارة، ونزل جبرائيل بالخبر، فبعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عليّا عليه السلام و عمارا وعمر وطلحة والزبير والمقداد وأبا مرثد - وكانوا كلهم فرسانا - وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإنّ بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى المشركين، فخذوه منها، فخرجوا حتى أدركوها في ذلك المكان فجحدت و حلفت، فهمّوا بالرجوع، فقال عليّ عليه السلام: واللّه ما كذبنا ولا كذب رسول الله وسلّ سيفه وقال: أخرجي الكتاب وإلا واللّه لأضربنّ عنقك، فأخرجته من عقاص شعرها.

وروي: أنّ حاطبا قال: يا رسول اللّه، واللّه ما كفرت منذ أسلمت، ولكني

ص: 372


1- ساقطة من ب، د.

كنت عزيزا في قريش أي: غريبا ولم أكن من أنفسها، وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم وأموالهم، [فخشيت علي أهلي](1) فأردت أن أتخذ عندهم يدا، وقد علمت أنّ اللّه تعالى ينزل عليهم بأسه، و أنّ كتابي لا يغني عنهم شيئا، فعذره(2).

العدو وقع موقع الجمع.

تُلْقُونَ حال من الضمير في لاٰ تَتَّخِذُوا ، أو صفة ل - أَوْلِيٰاءَ ، أو استئناف.

و الإلقاء: عبارة عن إيصال المودة و الإفضاء بها إليهم، و الباء في بِالْمَوَدَّةِ إما مزيدة مؤكدة للتعدّي، مثلها في قوله: وَ لاٰ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ (3)، وإما ثابتة علي أنّ مفعول تُلْقُونَ محذوف، ومعناه: تلقون إليهم أخبار الرسول بسبب المودة التي بينكم و بينهم. وكذلك قوله: تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ أي:

تفضون إليهم بمودتكم سرّا، أو تسرّون إليهم أسرار رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بسبب المودة.

وَ قَدْ كَفَرُوا حال من تُلْقُونَ ، أي: توادّونهم أو تتولونهم وهذه حالهم يُخْرِجُونَ اَلرَّسُولَ وَ إِيّٰاكُمْ هو كالتفسير لكفرهم، أو حال من كَفَرُوا ، و أَنْ تُؤْمِنُوا تعليل ل - يُخْرِجُونَ أي: يخرجونكم لإيمانكم.

إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه، وهو متعلّق ب - لاٰ تَتَّخِذُوا . والمعنى: إن كنتم أوليائي فلا تتولوا أعدائي.

تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ استئناف والمعنى: أي فائدة في إسراركم وقد علمتم

ص: 373


1- ساقطة من ب، د.
2- أسباب النزول: 301.
3- البقرة: 195.

أنّ الإخفاء و الإعلان سيان في علمي، وأنا أطلع رسولي على ما تسرّونه ؟.

وَ مَنْ يفعل هذا الإسرار فقد أخطأ طريق الحقّ وحاد عن القصد.

إِنْ يَثْقَفُوكُمْ أي: يظفروا بكم يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدٰاءً خالصي العداوة وَ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ بالقتال والشتم، وتمنّوا لو ترتدّون عن دينكم.

لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحٰامُكُمْ أي: قراباتكم وَ لاٰ أَوْلاٰدُكُمْ الذين توالون الكفار بسببهم، و تتقرّبون إليهم من أجلهم، ثمّ قال: يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وبين أقاربكم و أولادكم، فما لكم عصيتم اللّه لأجلهم ؟!.

وقرئ: يَفْصِلُ ويفصل علي البناء للفاعل وهو اللّه عزّ وجل، أي: يميز بعضكم من بعض في ذلك اليوم، فلا يري القريب المؤمن في الجنّة قريبه الكافر في النار، وقيل: معناه: يقضي بينكم من فصل القضاء.

قَدْ كٰانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ أي: قدوة حَسَنَةٌ ومذهب حسن يؤتسى و يتبع أثره فِي إِبْرٰاهِيمَ وقومه، وهو قولهم لكفار قومهم حيث كاشفوهم بالعداوة: إِنّٰا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَ مِمّٰا تعبدونه من الأصنام، أو ومن عبادتكم، أي: لا نعتد بشأنكم ولا بشأن آلهتكم، وما أنتم عندنا علي شيء، والسبب في عداوتنا إيّاكم كفركم بالله.

كَفَرْنٰا بِكُمْ أي: جحدنا دينكم، و العداوة قائمة بَيْنَنٰا وَ بَيْنَكُمُ حتى تصدقوا بوحدانية اللّه.

إِلاّٰ قَوْلَ إِبْرٰاهِيمَ استثناء من قوله: أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ، لأنّ المراد بالأسوة الحسنة قولهم الذي يجب أن يؤتسى به ويتخذ سنة، أي: فلا تقتدوا بإبراهيم عليه السلام في

ص: 374

قوله لأبيه: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ، فإنّما ذلك ل - مَوْعِدَةٍ وَعَدَهٰا إِيّٰاهُ (1) بالإيمان فَلَمّٰا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّٰهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ (2).

وقوله: وَ مٰا أَمْلِكُ لَكَ تابع لوعده بالاستغفار، كأنّه قال: أنا أستغفر لك وما في وسعي وطاقتي إلا الاستغفار.

رَبَّنٰا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنٰا يجوز أن يتصل بما قبل الاستثناء فيكون من قول إبراهيم وقومه، ويجوز أن يكون تعليما من اللّه سبحانه لعباده أن يفوّضوا أمورهم إليه بأن يقولوه، فيكون المعنى: قولوا ربّنا.

[سورة الممتحنة (60): الآیات 6 الی 10]

لَقَدْ كٰانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كٰانَ يَرْجُوا اَللّٰهَ وَ اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ عَسَى اَللّٰهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ اَلَّذِينَ عٰادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَ اَللّٰهُ قَدِيرٌ وَ اَللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لاٰ يَنْهٰاكُمُ اَللّٰهُ عَنِ اَلَّذِينَ لَمْ يُقٰاتِلُوكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اَللّٰهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ إِنَّمٰا يَنْهٰاكُمُ اَللّٰهُ عَنِ اَلَّذِينَ قٰاتَلُوكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ وَ ظٰاهَرُوا عَلىٰ إِخْرٰاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلظّٰالِمُونَ يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا جٰاءَكُمُ اَلْمُؤْمِنٰاتُ مُهٰاجِرٰاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اَللّٰهُ أَعْلَمُ بِإِيمٰانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنٰاتٍ فَلاٰ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى اَلْكُفّٰارِ لاٰ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَ لاٰ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَ آتُوهُمْ مٰا أَنْفَقُوا وَ لاٰ جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذٰا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَ لاٰ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ اَلْكَوٰافِرِ وَ سْئَلُوا مٰا أَنْفَقْتُمْ وَ لْيَسْئَلُوا مٰا أَنْفَقُوا ذٰلِكُمْ حُكْمُ اَللّٰهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

ص: 375


1- التوبة: 114.
2- التوبة: 114.

كرر سبحانه الحث علي الاقتداء بإبراهيم عليه السلام وقومه تأكيدا عليهم، ولذلك جاء به مصدّرا بالقسم.

لِمَنْ كٰانَ يَرْجُوا اَللّٰهَ بدل من قوله: لَكُمْ وذلك نوع من التأكيد، وكذلك قوله: وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ أي: و من أعرض عن الايتساء بإبراهيم فإنّ اللّه هو الغني عن جميع خلقه لا يضرّه ذلك، وإنّما ضرّوا به أنفسهم. ولما نزلت هذه الآيات تشدد المؤمنون في عداوة آبائهم و أقربائهم من المشركين، فلما رأي اللّه سبحانه منهم الجد والصبر علي الوجه الشديد، رحمهم ووعدهم تيسير ما تمنّوه من إسلام أقاربهم، وحصول التصافي و التواد بينهم.

و عَسَى وعد من اللّه علي عادات الملوك، حيث يقولون في بعض الحوائج:

عسى أو لعل، فلا يبقى شبهة للمحتاج في تمام ذلك، أو قصد به إطماع المؤمنين.

وَ اَللّٰهُ قَدِيرٌ علي تقليب القلوب وتسهيل الأمور.

أَنْ تَبَرُّوهُمْ بدل من اَلَّذِينَ لَمْ يُقٰاتِلُوكُمْ ، وكذلك أَنْ تَوَلَّوْهُمْ بدل من اَلَّذِينَ قٰاتَلُوكُمْ . والمعنى: لاٰ يَنْهٰاكُمُ عن مبّرة هؤلاء وإنّما ينهاكم عن تولي هؤلاء. وهذا أيضا رحمة لهم لتشددهم وجدّهم في العداوة، حيث رخص لهم في صلة من لم يجاهر منهم بالقتال و الإخراج من الديار، وهم خزاعة، وكانوا صالحوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم علي أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه، وعن مجاهد: (هم الذين آمنوا بمكة ولم يهاجروا)(1).

وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ أي: و تعدلوا فيما بينكم و بينهم، و تقضوا إليهم بالقسط ولا تظلموهم. أوصى سبحانه باستعمال القسط مع المشركين و التحامي عن ظلمهم، فما ظنك بحال من اجترأ على ظلم أخيه المسلم ؟!.

ص: 376


1- تفسير الطبري ج 28:43.

إِذٰا جٰاءَكُمُ اَلْمُؤْمِنٰاتُ سمّاهن مؤمنات لتصديقهن بألسنتهن و نطقهن بكلمة الشهادة.

فَامْتَحِنُوهُنَّ فاختبروهن بالحلف و النظر في الأمارات ليغلب علي ظنونكم صدق إيمانهن. وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقول للممتحنة: (باللّه الذي لا إله إلا هو ما خرجت من بغض زوج، باللّه ما خرجت رغبة عن أرض إلي أرض، باللّه ما خرجت التماس دنيا، باللّه ما خرجت إلا حبّا للّه ورسوله)(1).

اَللّٰهُ أَعْلَمُ بِإِيمٰانِهِنَّ منكم لانكم لا تكسبون فيه علما تطمئن معه نفوسكم وإن استحلفتموهن ورزتم أحوالهن، وعند اللّه حقيقة العلم به.

فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنٰاتٍ العلم الذي يبلغه وسعكم، وهو غالب الظن بظهور الأمارات فَلاٰ تردّوهن إِلَى أزواجهن اَلْكُفّٰارِ لأنّه لا حلّ بين المشرك وا لمؤمنة.

وَ آتُوهُمْ و أعطوا أزواجهن مٰا أَنْفَقُوا أي: ما دفعوا إليهن من المهر. ثمّ نفى عنهم الجناح في تزويج هؤلاء المهاجرات إذا آتوهن أجورهن أي: مهورهن، لأنّ المهر أجر البضع.

وَ لاٰ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ اَلْكَوٰافِرِ قرئ بالتخفيف و التشديد. العصمة: ما يعتصم به من عقد أو سبب، أي: لا يكن بينكم وبين الكافرات عصمة، ولا علقة زوجية، سواء كن حربيات أو ذميات.

وَ سْئَلُوا مٰا أَنْفَقْتُمْ من مهور أزواجكم اللاحقات بالكفار، وَ لْيَسْئَلُوا مٰا أَنْفَقُوا من مهور نسائهم المهاجرات.

ص: 377


1- التبيان ج 9:584، معجم الطبراني الكبير ج 12:99.

ذٰلِكُمْ حُكْمُ اَللّٰهِ يعني جميع ما ذكر في هذه الآية.

يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ كلام مستأنف، أو حال من حُكْمُ اَللّٰهِ علي حذف الضمير، أي: يحكمه اللّه، أو جعل الحكم حاكما، علي المبالغة.

[سورة الممتحنة (60): الآیات 11 الی 13]

وَ إِنْ فٰاتَكُمْ شَيْ ءٌ مِنْ أَزْوٰاجِكُمْ إِلَى اَلْكُفّٰارِ فَعٰاقَبْتُمْ فَآتُوا اَلَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوٰاجُهُمْ مِثْلَ مٰا أَنْفَقُوا وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ اَلَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِذٰا جٰاءَكَ اَلْمُؤْمِنٰاتُ يُبٰايِعْنَكَ عَلىٰ أَنْ لاٰ يُشْرِكْنَ بِاللّٰهِ شَيْئاً وَ لاٰ يَسْرِقْنَ وَ لاٰ يَزْنِينَ وَ لاٰ يَقْتُلْنَ أَوْلاٰدَهُنَّ وَ لاٰ يَأْتِينَ بِبُهْتٰانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَ أَرْجُلِهِنَّ وَ لاٰ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبٰايِعْهُنَّ وَ اِسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اَللّٰهَ إِنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اَللّٰهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ اَلْآخِرَةِ كَمٰا يَئِسَ اَلْكُفّٰارُ مِنْ أَصْحٰابِ اَلْقُبُورِ

لما نزلت الآية المتقدّمة أدي المؤمنون ما أمروا به من نفقات المشركين علي نسائهم، وأبي المشركون أن يؤدّوا شيئا من مهور الكوافر إلى أزواجهن المسلمين، فنزلت(1).

وَ إِنْ فٰاتَكُمْ أي: وإن سبقكم و انفلت شَيْ ءٌ منكم مِنْ أَزْوٰاجِكُمْ أحد منهن إِلَى اَلْكُفّٰارِ ، وفي قراءة ابن مسعود: أحد.

فَعٰاقَبْتُمْ من العقبة وهي النوبة، شبّه ما حكم به علي المسلمين و الكافرين من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة، وأداء أولئك مهور نساء هؤلاء أخري، بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب وغيره. ومعناه: فجاءت عقبتكم من أداء المهر.

ص: 378


1- الدر المنثور ج 6:208.

فَآتُوا فأعطوا من فاتته امرأته إلي الكفار مثل مهرها من مهر المهاجرة، ولا تعطوه زوجها الكافر، وعن الزهري: (يعطى من صداق من لحق بهم)(1)، و قال الزجّاج: (فَعٰاقَبْتُمْ فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم)(2). والذي ذهبت زوجته كان يعطى من الغنيمة المهر، و قرئ في الشواذ: فأعقبتم أي: دخلتم في العقبة، فعقبتم بالتشديد من: عقّبه إذا قفاه، لأنّ كل واحد من المتعاقبين يقفي صاحبه، فعقبتم من: عقبه يعقبه. وقال الزجّاج في تفسير جميعها: (فكانت العقبى لكم، أي: كانت الغلبة لكم حتى غنمتم)(3). وقيل: إنّ جميع من لحق بالمشركين من نساء المهاجرين ست نسوة، و أعطاهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مهورهن من الغنيمة(4).

وَ لاٰ يَقْتُلْنَ أَوْلاٰدَهُنَّ يريد: وأد البنات أو الإسقاط.

وَ لاٰ يَأْتِينَ بِبُهْتٰانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَ أَرْجُلِهِنَّ كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها: هذا ولدي منك. كنى بالبهتان المفترى بين يديها و رجليها عن المولود الذي تلصقه بزوجها كذبا، لأنّ بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين، و فرجها الذي تلده به بين الرجلين.

وَ لاٰ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فيما تأمرهن به من المحسّنات، و تنهاهن عنه من المقبّحات، وكل ما دلّ العقل أو الشرع علي وجوبه أو ندبه فهو معروف.

وروي في كيفية المبايعة: أنّه عليه السلام دعا بقدح من ماء فغمس فيه يده ثمّ غمسن أيديهن

ص: 379


1- الدر المنثور ج 6:208.
2- معاني القرآن وإعرابه ج 5:160.
3- معاني القرآن وإعرابه ج 5:160.
4- الكشف والبيان ج 9:692.

فيه(1)، وقيل: كان يبايعهن من وراء الثوب(2).

لاٰ تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اَللّٰهُ عَلَيْهِمْ وهم اليهود، كان قوم من فقراء المسلمين يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم فنهوا عن ذلك.

قَدْ يَئِسُوا من أن يكون لهم حظ في اَلْآخِرَةِ لتكذيبهم برسول اللّه عنادا وهم يعلمون أنّه الرسول المنعوت في التوراة كَمٰا يَئِسَ اَلْكُفّٰارُ من موتاهم أن يبعثوا.

ص: 380


1- الكشف والبيان ج 9:298، الكافي ج 5:527.
2- مصنف عبد الرزاق ج 6:9.

سورة الصف

اشارة

مدنية، وهي أربع عشرة آية.

في حديث أبيّ : (ومن قرأ (سورة عيسى) كان عيسى عليه السلام مصليا عليه مستغفرا له ما دام في الدنيا، وهو يوم القيامة رفيقه)(1)، وعن الباقر عليه السلام: (من قرأ (سورة الصف) و أدمن قراءتها في فرائضه و نوافله صفّه اللّه تعالى مع ملائكته وأنبيائه المرسلين)(2).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة الصف (61): الآیات 1 الی 6]

سَبَّحَ لِلّٰهِ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مٰا لاٰ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اَللّٰهِ أَنْ تَقُولُوا مٰا لاٰ تَفْعَلُونَ إِنَّ اَللّٰهَ يُحِبُّ اَلَّذِينَ يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيٰانٌ مَرْصُوصٌ وَ إِذْ قٰالَ مُوسىٰ لِقَوْمِهِ يٰا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَ قَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اَللّٰهِ إِلَيْكُمْ فَلَمّٰا زٰاغُوا أَزٰاغَ اَللّٰهُ قُلُوبَهُمْ وَ اَللّٰهُ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفٰاسِقِينَ وَ إِذْ قٰالَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ يٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اَللّٰهِ

ص: 381


1- الكشف والبيان ج 9:301.
2- ثواب الأعمال: 118.

[سورة الصف (61): الآیات 6 الی 9]

إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ اَلتَّوْرٰاةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اِسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمّٰا جٰاءَهُمْ بِالْبَيِّنٰاتِ قٰالُوا هٰذٰا سِحْرٌ مُبِينٌ وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرىٰ عَلَى اَللّٰهِ اَلْكَذِبَ وَ هُوَ يُدْعىٰ إِلَى اَلْإِسْلاٰمِ وَ اَللّٰهُ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّٰالِمِينَ يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اَللّٰهِ بِأَفْوٰاهِهِمْ وَ اَللّٰهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْكٰافِرُونَ هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدىٰ وَ دِينِ اَلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُشْرِكُونَ

عن ابن عباس: (كان ناس من المؤمنين يقولون قبل أن يؤمروا بالقتال: لو نعلم أحبّ الأعمال إلى اللّه تعالى لعملناه، فدلّهم اللّه سبحانه علي الجهاد في سبيله، فولّوا يوم أحد فعيّرهم)(1). وقيل: نزلت في قوم قالوا: أبلينا و فعلنا ولم يفعلوا وهم كذبة فكذّبهم(2).

وقصد في كَبُرَ التعجب من غير لفظه، وأسند إلى أَنْ تَقُولُوا ، ونصب مَقْتاً علي التفسير دلالة علي أنّ قولهم ما لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه، و المقت: أشدّ البغض. ولم يقتصر سبحانه علي أن جعل البغض كبيرا حتى جعله أشدّه و أفحشه، وعند اللّه أبلغ من ذلك لأنّه إذا كبر مقته عند اللّه فقد تناهى كبره وشدته. وذكر أنّه قيل لبعض السلف: حدّثنا، فسكت ثمّ قال:

تأمرونني أن أقول ما لا أفعل، فأستعجل مقت اللّه(3).

وفي قوله سبحانه: يُحِبُّ اَلَّذِينَ يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ دليل علي أنّ المقت تعلّق بقول الذين وعدوا الثبات في القتال فلم يفوا.

ص: 382


1- تفسير الطبري ج 28:55.
2- عن ابن عباس وغيره. الدر المنثور ج 6:213.
3- الكشاف ج 4:523.

صَفًّا صافين أنفسهم، أو مصفوفين كأنّهم في تراصهم من غير فرجة بُنْيٰانٌ رص بعضه إلى بعض ورصف، وقيل: إنّه يدل علي فضل القتال راجلا، لأنّ الرجالة يصطفون علي هذه الصفة(1). وقوله: صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيٰانٌ مَرْصُوصٌ حالان متداخلتان.

وَ إِذْ قٰالَ ظرف لأذكر.

تُؤْذُونَنِي آذوه بأنواع الأذى، من قولهم: اذهب أنت و ربك(2)، اِجْعَلْ لَنٰا إِلٰهاً (3)، و طلبهم رؤية اللّه جهرة(4)، وعبادتهم العجل(5)، وغير ذلك.

و قد تعملون في موضع الحال، أي: تؤذونني عالمين إِنِّي رَسُولُ اَللّٰهِ و قضية علمكم بنبوّتي و رسالتي تعظيمي و توقيري لا إيذائي.

فَلَمّٰا زٰاغُوا عن الحقّ أَزٰاغَ اَللّٰهُ قُلُوبَهُمْ بأن منعهم ألطافه.

وَ اَللّٰهُ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفٰاسِقِينَ لا يلطف بهم لأنّهم ليسوا من أهل اللطف، أو لا يهديهم إلى الجنّة التي وعدها المؤمنين.

مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيَّ أي: أرسلت إليكم في حال تصديقي لما تقدّمني من التوراة، وفي حال تبشيري بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي وقرئ بسكون الياء وفتحها، وسيبويه و الخليل يختاران الفتح(6). وعن كعب: (إنّ الحواريين قالوا لعيسى:

ص: 383


1- عن أبي بحرية. تفسير الطبري ج 28:57.
2- المائدة: 24.
3- الأعراف: 138.
4- كما أخبر عزّ وجل عنهم بقوله: فَقٰالُوا أَرِنَا اَللّٰهَ جَهْرَةً النساء: 153.
5- كما أخبر عزّ وجل عنهم بقوله: ثُمَّ اِتَّخَذُوا اَلْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَتْهُمُ اَلْبَيِّنٰاتُ النساء: 153.
6- معاني القرآن وإعرابه ج 5:761.

يا روح اللّه، هل بعدنا من أمّة ؟ قال: نعم، أمّة أحمد، حكماء علماء أتقياء، كأنّهم من الفقه أنبياء، يرضون من اللّه باليسير من الرزق، و يرضى اللّه منهم باليسير من العمل)(1). و قرئ: هذا ساحر.

وأيّ الناس أشدّ ظلما ممن يدعوه ربّه علي لسان نبيّه إلي الإسلام الذي فيه السعادة الأبدية فيجعل مكان إجابته إليه افتراء على اللّه الكذب بقوله لكلامه:

هٰذٰا سِحْرٌ ؟!.

لِيُطْفِؤُا هذه اللام تزاد مع فعل الإرادة تأكيدا له، والأصل: يريدون أن يطفئوا، كما في سورة التوبة(2)، وإطفاء نُورَ اَللّٰهِ بِأَفْوٰاهِهِمْ تهكّم بهم في إرادتهم إبطال الإسلام بقولهم في القران: هٰذٰا سِحْرٌ فأشبهت حالهم حال من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه.

وَ اَللّٰهُ مُتِمُّ نُورِهِ قرئ مضافا، و بالتنوين ونصب نوره، أي: يتمّ اللّه الحقّ و يبلغه غايته.

و وَ دِينِ اَلْحَقِّ الملة الحنيفية.

لِيُظْهِرَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ أي: ليغلبه علي جميع الأديان المخالفة له. وعن عليّ عليه السلام: (والذي نفسي بيده لا تبقى قرية إلا وينادي فيها بشهادة أن لا إله إلا اللّه بكرة و عشيا)(3).

[سورة الصف (61): الآیات 10 الی 11]

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلىٰ تِجٰارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذٰابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجٰاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ بِأَمْوٰالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ

ص: 384


1- الكشاف ج 4:525.
2- الآية: 32.
3- مجمع البيان ج 9-10:280 عن العياشي.

[سورة الصف (61): الآیات 11 الی 14]

كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ يُدْخِلْكُمْ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ وَ مَسٰاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنّٰاتِ عَدْنٍ ذٰلِكَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ وَ أُخْرىٰ تُحِبُّونَهٰا نَصْرٌ مِنَ اَللّٰهِ وَ فَتْحٌ قَرِيبٌ وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصٰارَ اَللّٰهِ كَمٰا قٰالَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوٰارِيِّينَ مَنْ أَنْصٰارِي إِلَى اَللّٰهِ قٰالَ اَلْحَوٰارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصٰارُ اَللّٰهِ فَآمَنَتْ طٰائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرٰائِيلَ وَ كَفَرَتْ طٰائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا اَلَّذِينَ آمَنُوا عَلىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظٰاهِرِينَ

تُنْجِيكُمْ قرئ بالتشديد والتخفيف.

تُؤْمِنُونَ استئناف، كأنّهم قالوا: كيف نعمل ؟ فقيل لهم: تؤمنون، وهو خبر في معنى الأمر، ولهذا أجيب بقوله: يَغْفِرْ لَكُمْ ، وفي قراءة عبد اللّه: آمنوا باللّه ورسوله وجاهدوا، وإنّما جيء به علي لفظ الخبر للإيذان بوجوب الامتثال، فكأنّه امتثل، فهو يخبر عن إيمان وجهاد موجودين، ومثله قولهم: غفر اللّه لك و يرحمك اللّه.

ذٰلِكُمْ الإيمان والجهاد خَيْرٌ لَكُمْ من أموالكم و أنفسكم، والمعنى: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنّه خير لكم كان خيرا لكم حينئذ، لانكم إذا علمتم ذلك أحببتم الإيمان والجهاد فوق ما تحبّون من أنفسكم وأموالكم فتفوزون.

وَ أُخْرىٰ تُحِبُّونَهٰا أي: ولكم مع هذه النعمة المذكورة الآجلة من المغفرة و الثواب و النعيم في الجنّة نعمة أخري عاجلة محبوبة إليكم، ثمّ فسّرها بقوله:

نَصْرٌ مِنَ اَللّٰهِ وَ فَتْحٌ قَرِيبٌ وهو فتح مكة، وقيل: فتح فارس والروم وسائر فتوح الإسلام علي العموم(1). وفي قوله: تُحِبُّونَهٰا ذرو من التوبيخ علي محبّة العاجل.

ص: 385


1- عن عطاء. معالم التنزيل ج 4:155.

وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ معطوف علي تُؤْمِنُونَ لأنّه في معنى الأمر، فكأنّه قال:

آمنوا وجاهدوا يثبكم اللّه و ينصركم و بشّر يا رسول اللّه المؤمنين بذلك.

و قرئ: كُونُوا أَنْصٰارَ اَللّٰهِ و أنصارا للّه، والمعنى: كونوا أنصار اللّه كما كان الحواريون أنصار عيسى عليه السلام حين قال لهم: مَنْ أَنْصٰارِي إِلَى اَللّٰهِ أي: من أنصاري متوجهين إلي نصرة الله ؟ ومعناه: من الأنصار الذين يختصون بي ويكونون معي في نصرة اللّه ؟.

قٰالَ اَلْحَوٰارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصٰارُ اَللّٰهِ أي: نحن الذين ينصرون اللّه. وإضافة أَنْصٰارِي خلاف إضافة أَنْصٰارَ اَللّٰهِ ، ولا يصحّ أن يكون معناه: من ينصرني مع اللّه؛ لأنّه لا يطابق الجواب.

فَآمَنَتْ طٰائِفَةٌ منهم بعيسى وَ كَفَرَتْ به طٰائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا مؤمنيهم عَلىٰ كفارهم فظهروا عليهم أي: غلبوا، وقيل: معناه: فآمنت طائفة منهم بمحمّد و كفرت به طائفة، فأصبح المؤمنون غالبين بالحجّة والقهر(1).

ص: 386


1- عن إبراهيم. تفسير الطبري ج 28:61.

سورة الجمعة

اشارة

مدنية، وهي إحدي عشرة آية.

في حديث أبيّ : (ومن قرأ (سورة الجمعة) أعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد من أتى الجمعة وبعدد من لم يأتها في أمصار المسلمين)(1)، وعن الصادق عليه السلام:

(من الواجب علي كل مؤمن أن يقرأ في ليلة الجمعة ب - (الجمعة و سبح اسم ربّك الأعلى) وفي صلاة الظهر ب - (الجمعة والمنافقين)، فإذا فعل ذلك فكأنّما يعمل بعمل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وكان ثوابه وجزاؤه علي اللّه الجنّة)(2).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة الجمعة (62): الآیات 1 الی 5]

يُسَبِّحُ لِلّٰهِ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ اَلْمَلِكِ اَلْقُدُّوسِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَكِيمِ هُوَ اَلَّذِي بَعَثَ فِي اَلْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيٰاتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتٰابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ إِنْ كٰانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ لَمّٰا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ ذٰلِكَ فَضْلُ اَللّٰهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشٰاءُ وَ اَللّٰهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ مَثَلُ اَلَّذِينَ حُمِّلُوا اَلتَّوْرٰاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهٰا كَمَثَلِ

ص: 387


1- الكشف والبيان ج 9:305.
2- ثواب الأعمال: 118.

[سورة الجمعة (62): آیة 5]

اَلْحِمٰارِ يَحْمِلُ أَسْفٰاراً بِئْسَ مَثَلُ اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِ اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّٰالِمِينَ

في قوله: سَبَّحَ (1) تارة، و يُسَبِّحُ أخري إشارة إلى دوام تنزيهه عزّ اسمه في الماضي والمستقبل.

و الأميون هم العرب، لأنّهم كانوا لا يكتبون ولا يقرؤون من بين الأمم، و قيل: (بدأت الكتابة بالطائف، أخذوها من أهل الحيرة [و أهل الحيرة من أهل الأنبار](2)(3). والمعنى: إنّه بعث في قوم أميين رجلا أميا مِنْهُمْ أي: من أنفسهم، يعلمون نسبه وأحواله.

يَتْلُوا يقرأ عَلَيْهِمْ آيٰاتِهِ مع كونه أميا مثلهم، لم يعهد منه قراءة ولم يعرف بتعلم، وقراءة أميّ أخبار القرون الماضية بغير تعلّم علي وفق ما في الكتب آية معجزة.

وَ يُزَكِّيهِمْ و يطهّرهم من الشرك و أدناس الجاهلية.

وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتٰابَ وَ اَلْحِكْمَةَ القرآن والشرائع.

وَ إِنْ كٰانُوا هي (إن) المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة، أي: كانوا في ضَلاٰلٍ لا ضلال أعظم منه.

وَ آخَرِينَ عطف علي اَلْأَمِينُ [أي: بعثه في الأميين](4) الذين

ص: 388


1- الحشر: 1.
2- ساقطة من ج.
3- معاني القرآن وإعرابه ج 5:169.
4- ساقطة من ب.

علي عهده صلى الله عليه و آله و سلم، وفي آخرين لم يَلْحَقُوا بِهِمْ بعد و سيلحقون بهم. وروي: أنّه لما قرأ هذه الآية قيل له: من هؤلاء؟ فوضع يده علي كتف سلمان فقال: (لو كان الإيمان في الثريا لناله رجال من هؤلاء)(1). وقيل: هم الذين يأتون بعده إلى يوم القيامة(2). ويجوز أن يكون نصبا عطفا علي الضمير في وَ يُعَلِّمُهُمُ أي: و يعلّمهم و يعلّم آخرين، لأنّ التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمان وكان كله مستندا إلى أوّله فكأنّه عليه السلام تولي كل ما وجد منه.

وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ في تمكينه رجلا أميا من هذا الأمر العظيم، و اختياره إيّاه من بين سائر الخلق.

ذٰلِكَ الفضل الذي أعطاه محمّدا صلى الله عليه و آله و سلم وهو النبوّة لكافة الخلق الأولين والآخرين إلى يوم القيامة هو فَضْلُ اَللّٰهِ يُؤْتِيهِ يعطيه مَنْ يَشٰاءُ إعطاءه وتقتضيه حكمته وَ اَللّٰهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ علي خلقه ببعثه.

مَثَلُ اَلَّذِينَ حُمِّلُوا اَلتَّوْرٰاةَ وهم اليهود الذين قرؤوها وحفظوها.

ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهٰا بكونهم غير عاملين بها، ولا منتفعين بآياتها، لأنّ فيها صفة نبيّنا و نعته والبشارة به ولم يؤمنوا به.

كَمَثَلِ اَلْحِمٰارِ يَحْمِلُ أَسْفٰاراً أي: كتبا كبارا من كتب العلم، فهو يمشي بها ولا يدري منها إلا ما يمر بجنبيه و ظهره من الكد و التعب، وكذا كل من علم علما ولم يعمل بموجبه فهذا مثله.

و بِئْسَ المثل أو بئس مثلا مَثَلُ اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِ اَللّٰهِ وهم اليهود الذين كذّبوا بالتوراة، أو بالقرآن، أو بآيات اللّه الدالة علي نبوّة محمّد صلى الله عليه و آله و سلم.

ص: 389


1- صحيح مسلم ج 7:191.
2- عن ابن زيد وغيره. تفسير الطبري ج 28:63.

ومعنى قوله: حُمِّلُوا اَلتَّوْرٰاةَ : كلفوا علمها والعمل بها ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهٰا ثمّ لم يعملوا بها، فكأنّهم لم يحملوها. وقوله: يَحْمِلُ أَسْفٰاراً في محلّ نصب علي الحال، أو جرّ علي الوصف للحمار، لأنّه مثل اللئيم في قول الشاعر:

و لقد أمرّ على اللئيم يسبّني(1)

[سورة الجمعة (62): الآیات 6 الی 11]

قُلْ يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ هٰادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيٰاءُ لِلّٰهِ مِنْ دُونِ اَلنّٰاسِ فَتَمَنَّوُا اَلْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ وَ لاٰ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمٰا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ بِالظّٰالِمِينَ قُلْ إِنَّ اَلْمَوْتَ اَلَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاٰقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلىٰ عٰالِمِ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهٰادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا نُودِيَ لِلصَّلاٰةِ مِنْ يَوْمِ اَلْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلىٰ ذِكْرِ اَللّٰهِ وَ ذَرُوا اَلْبَيْعَ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذٰا قُضِيَتِ اَلصَّلاٰةُ فَانْتَشِرُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ اِبْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اَللّٰهِ وَ اُذْكُرُوا اَللّٰهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَ إِذٰا رَأَوْا تِجٰارَةً أَوْ لَهْواً اِنْفَضُّوا إِلَيْهٰا وَ تَرَكُوكَ قٰائِماً قُلْ مٰا عِنْدَ اَللّٰهِ خَيْرٌ مِنَ اَللَّهْوِ وَ مِنَ اَلتِّجٰارَةِ وَ اَللّٰهُ خَيْرُ اَلرّٰازِقِينَ

هٰادُوا تهوّدوا وسمّوا يهودا، وكانوا يقولون: نَحْنُ أَبْنٰاءُ اَللّٰهِ وَ أَحِبّٰاؤُهُ (2) يعني: إن كان قولكم حقّا فَتَمَنَّوُا اَلْمَوْتَ وأن ينقلكم اللّه إلى دار كرامته التي أعدّها لأوليائه.

ثمّ قال: وَ لاٰ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بسبب ما قدّموه من الكفر، وقد قال لهم

ص: 390


1- البيت لرجل من بني سلول. الكتاب ج 3:24، و بقيته: فمضيت ثمت قلت لا يعنيني.
2- المائدة: 18.

النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: (والذي نفسي بيده لا يقولها أحد منهم إلا غصّ بريقه)(1). فلولا أنّهم عرفوا صدق النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و أنّهم لو تمنّوا لماتوا من ساعتهم لتمنّوا، ولم يتمنّاه أحد منهم، فكان هذا أحد معجزاته صلى الله عليه و آله و سلم.

قُلْ إِنَّ اَلْمَوْتَ اَلَّذِي لا تجرؤون أن تتمنّوه فَإِنَّهُ مُلاٰقِيكُمْ لا تفوتونه، والفاء لتضمّن الذي معنى الشرط، يعني: إن رمتم الفرار منه فإنّه ملاقيكم ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلىٰ اللّه سبحانه فيجازيكم بِمٰا تستحقّونه.

والجمعة كان يقال لها العروبة، و قيل: إنّ أوّل من سمّاها جمعة كعب بن لؤي(2)، وقيل: إنّ الأنصار قالوا: إنّ لليهود يوما يجتمعون فيه كل سبعة أيّام، فهلمّوا نجعل لنا يوما نجتمع فيه فنذكر اللّه عزّ وجل ونصلي، فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى، فاجعلوه يوم العروبة، فاجتمعوا إلي أسعد بن زرارة(3) فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكّرهم، فسمّوه يوم الجمعة لاجتماعهم فيه، فأنزل اللّه تعالى آية الجمعة، فهي أوّل جمعة كانت في الإسلام(4). فأما أوّل جمعة جمعها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأصحابه فهي أنّه لما قدم المدينة نزل قباء علي بني عمرو بن عوف يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأوّل و أسس مسجدهم، وأقام بها إلى يوم الجمعة، ثمّ خرج عامدا إلي المدينة، فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم - قد اتخذ اليوم هناك مسجد - فخطب وصلي

ص: 391


1- دلائل النبوّة ج 6:274.
2- الأوائل: 34.
3- أسعد بن زرارة بن عدس الانصاري الخزرجي النجاري، قديم الإسلام، شهد العقبتين وكان نقيبا على قبيلته، مات في حياة النبي صلى الله عليه و آله و سلم قبل بدر. ينظر: الإصابة ج 1:34.
4- مصنف عبد الرزاق ج 3:159.

الجمعة(1).

إِذٰا نُودِيَ معناه: إذا أذن لصلاة الجمعة. فَاسْعَوْا أي: فامضوا إلى الصلاة مسرعين [غير متثاقلين](2)، وقرأ عمر وابن مسعود وابن عباس: فامضوا، وروي ذلك عن أئمّة الهدى عليهم السلام، وعن الحسن: (ليس السعي علي الأقدام ولكنّه علي النيات و القلوب)(3). وفي الحديث: (إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة علي أبواب المسجد، بأيديهم صحف من فضة وأقلام من ذهب، يكتبون الأوّل فالأوّل علي مراتبهم)(4).

وكانت الطرقات في أيّام السلف وقت السحر وبعد الفجر مغتصة بالمبكرين إلى الجمعة يمشون بالسرج، وقيل: أوّل بدعة أحدثت في الإسلام ترك البكور إلى الجمعة، وعن ابن مسعود: أنّه بكّر فرأي ثلاثة نفر سبقوه، فاغتم وأخذ يعاتب نفسه يقول: (أراك رابع أربعة، وما رابع أربعة بسعيد)(5).

إِلىٰ ذِكْرِ اَللّٰهِ إلي الخطبة التي تتضمّن ذكر اللّه.

وَ ذَرُوا اَلْبَيْعَ وتجارة الدنيا و بادروا إلى تجارة الآخرة. والظاهر يقتضي أنّ البيع [في وقت النداء فاسد؛ لأنّ النهي يدلّ علي فساد المنهي عنه، وكذا جميع التصرّفات، وإنّما خصّ البيع](6) بالنهي عنه لكونه من أعم التصرّفات في أسباب

ص: 392


1- سيرة ابن هشام ج 2:159.
2- ساقطة من ب.
3- الدر المنثور ج 6:219.
4- صحيح البخاري ج 1:165 بالمعنى، الكافي ج 3:413 باختلاف يسير.
5- سنن ابن ماجة ج 1:348 ح 1094 وفيه: ببعيد بدل بسعيد.
6- ساقطة من ج.

المعائش.

وفرض الجمعة يلزم جميع المكلفين إلا أصحاب الأعذار من السفر والمرض و العمى، و النساء، والشيوخ الذين لا حراك بهم، و العبيد، و من كان علي رأس أكثر من فرسخين. وعند حصول الشروط لا تجب إلا عند حضور السلطان العادل أو من نصبه للصلاة. ولا تنعقد إلا بثلاثة سوى الإمام عند أبي حنيفة(1)، وبأربعين عند الشافعي(2)، و بسبعة عند أهل البيت صلى الله عليه و آله و سلم(3).

فَإِذٰا قُضِيَتِ اَلصَّلاٰةُ فَانْتَشِرُوا فِي اَلْأَرْضِ هذا إطلاق بعد الحظر في الانتشار و ابتغاء الرزق مع الوصية بإكثار ذكر اللّه، وأن لا يلهيهم شيء من تجارة ولا غيرها عنه؛ لأنّ الفلاح منوط به، وعن ابن عباس: (لم يؤمروا بطلب شيء من الدنيا، إنّما هو عيادة المرضى، وحضور الجنائز، وزيارة أخ في اللّه)(4). وعن الحسن وسعيد: (طلب العلم)(5). وعن الصادق عليه السلام: (الصلاة يوم الجمعة و الانتشار يوم السبت)(6).

وعن جابر بن عبد اللّه: (أقبل عير ونحن نصلي مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الجمعة، فانفضّ الناس إليها، فما بقي غير اثني عشر رجلا أنا منهم)(7). وعن الحسن: (قدم دحية بن خليفة الكلبي بتجارة من زيت الشام والنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يخطب يوم الجمعة،

ص: 393


1- المبسوط للسرخسي ج 2:24.
2- كتاب الأم ج 1:169.
3- تهذيب الأحكام ج 3:20.
4- الدر المنثور ج 6:220.
5- معالم التنزيل ج 4:159.
6- من لا يحضره الفقيه ج 1:424، الكشف والبيان ج 9:317.
7- أسباب النزول: 306.

فقاموا إليه بالبقيع خشية أن يسبقوا إليه، فلم يبق عند النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلا رهط، فنزلت الآية، فقال عليه السلام: (والذي نفس محمّد بيده لو تتابعتم حتى لا يبقى أحد منكم لسال بكم الوادي نارا)(1). وكانوا إذا أقبلت العير استقبلوها بالطبل و التصفيق، وهو المراد باللهو، وعن قتادة: (فعلوا ذلك ثلاث مرات في كل مقدم عير، كل ذلك يوافق يوم الجمعة)(2).

والتقدير: وَ إِذٰا رَأَوْا تِجٰارَةً انفضّوا إليها أَوْ لَهْواً انفضّوا إليه، فحذف أحدهما لدلالة الآخر عليه، وعن الصادق عليه السلام: انصرفوا إليها.

وَ تَرَكُوكَ قٰائِماً تخطب علي المنبر قُلْ لهم مٰا عِنْدَ اَللّٰهِ من الثواب علي سماع الخطبة و الثبات والصلاة مع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم خَيْرٌ و أحمد عاقبة.

ص: 394


1- الكشف والبيان ج 9:317.
2- تفسير الطبري ج 28:67.

سورة المنافقون

اشارة

مدنية، وهي إحدي عشرة آية.

وفي حديث أبيّ : (ومن قرأ (سورة المنافقين) برئ من النفاق)(1).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة المنافقون (63): الآیات 1 الی 6]

إِذٰا جٰاءَكَ اَلْمُنٰافِقُونَ قٰالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ اَللّٰهُ يَشْهَدُ إِنَّ اَلْمُنٰافِقِينَ لَكٰاذِبُونَ اِتَّخَذُوا أَيْمٰانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ إِنَّهُمْ سٰاءَ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاٰ يَفْقَهُونَ وَ إِذٰا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسٰامُهُمْ وَ إِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ اَلْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قٰاتَلَهُمُ اَللّٰهُ أَنّٰى يُؤْفَكُونَ وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمْ تَعٰالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اَللّٰهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَ رَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ سَوٰاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اَللّٰهُ لَهُمْ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفٰاسِقِينَ

قٰالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اَللّٰهِ شهادة يوافق فيها السرّ الإعلان، و يواطئ

ص: 395


1- الكشف والبيان ج 9:319.

القلب اللسان.

وَ اَللّٰهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ علي الحقيقة.

وَ اَللّٰهُ يَشْهَدُ إنّهم لَكٰاذِبُونَ في ادعائهم المواطأة، أو كاذبون في قولهم و شهادتهم؛ لأنّها إذا خلت عن المواطأة لم تكن شهادة حقيقة.

اِتَّخَذُوا أَيْمٰانَهُمْ جُنَّةً يستترون بها من الكفر لئلا يقتلوا، و يجوز أن يكون قولهم: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اَللّٰهِ يمينا من أيمانهم الكاذبة، لأنّ الشهادة تجري مجري الحلف، و قرأ الحسن: إيمانهم أي: ما أظهروه من الإيمان بألسنتهم.

سٰاءَ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ من نفاقهم و صدهم الناس عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ . وفي سٰاءَ معنى التعجب الذي هو تعظيم أمرهم عند السامعين.

ذٰلِكَ إشارة إلي قوله: سٰاءَ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ ، أي: ذلك القول الشاهد عليهم بأنّهم أسوأ الناس أعمالا بسبب بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ، أو إلى ما وصف من حالهم في النفاق و الاستجنان بالإيمان، أي: ذلك كله بسبب بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ، أي: نطقوا بكلمة الشهادة ثمّ ظهر كفرهم بعد ذلك بما اطلع عليه من قولهم: إن كان ما يقوله محمّد حقّا فنحن حمير! و نحوه: لاٰ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمٰانِكُمْ (1)، وَ لَقَدْ قٰالُوا كَلِمَةَ اَلْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاٰمِهِمْ (2)، أو نطقوا بالإيمان عند المؤمنين، ثمّ نطقوا بالكفر إذا خلوا بأشباههم فَطُبِعَ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ فجسروا علي كل عظيمة.

وكان عبد الله بن أبيّ رجلا جسيما فصيحا [صبيحا ذلق اللسان](3)، و قوم

ص: 396


1- التوبة: 66.
2- التوبة: 74.
3- ساقطة من ج.

من المنافقين في مثل صفته، وكانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فيستندون فيه، فشبّههم اللّه سبحانه في عدم الانتفاع بحضورهم وإن كانت هياكلهم معجبة و ألسنتهم ذلقة، بالخشب المسندة إلي الحائط، أو بالأصنام المنحوتة من الخشب.

والخطاب في رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ لرسول اللّه، أو لكل من يخاطب.

وقوله: كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ كلام مستأنف لا محلّ له، أو في محلّ رفع علي هم كأنّهم خشب، وقرئ: خشب و خُشُبٌ ، والتحريك لغة أهل الحجاز واحدتها:

خشبة، كبدنة و بدن، وثمرة وثمر.

عَلَيْهِمْ مفعول ثان، أي: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ واقعة عليهم لجبنهم إذا نادي مناد في العسكر، أو أنشدت ضالة ظنوه إيقاعا بهم، ويوقف علي عَلَيْهِمْ و يبتدأ هُمُ اَلْعَدُوُّ أي: الكاملون في العداوة.

فَاحْذَرْهُمْ ولا يغرّنك ظاهرهم.

قٰاتَلَهُمُ اَللّٰهُ دعاء عليهم، وطلب من ذاته أن يلعنهم و يخزيهم، أو تعليم للمؤمنين أن يدعوا عليهم بذلك.

أَنّٰى يُؤْفَكُونَ كيف يصرفون عن الحقّ [تعجّبا من جهلهم و ضلالتهم عن الحقّ ](1) مع وفور أدلته.

لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ عطفوها و أمالوها إعراضا عن ذلك و استكبارا. قرئ بالتخفيف و التشديد للتكثير.

[سَوٰاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ](2) أي: يستوي

ص: 397


1- ساقطة من ج، د.
2- زيادة يقتضيها السياق.

استغفارك لهم [وعدم استغفارك لهم](1) لأنّهم لا يعتدّون به لكفرهم، أو لأنّ اللّه لا يغفر لهم.

[سورة المنافقون (63): الآیات 7 الی 11]

هُمُ اَلَّذِينَ يَقُولُونَ لاٰ تُنْفِقُوا عَلىٰ مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اَللّٰهِ حَتّٰى يَنْفَضُّوا وَ لِلّٰهِ خَزٰائِنُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لٰكِنَّ اَلْمُنٰافِقِينَ لاٰ يَفْقَهُونَ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنٰا إِلَى اَلْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ اَلْأَعَزُّ مِنْهَا اَلْأَذَلَّ وَ لِلّٰهِ اَلْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لٰكِنَّ اَلْمُنٰافِقِينَ لاٰ يَعْلَمُونَ يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تُلْهِكُمْ أَمْوٰالُكُمْ وَ لاٰ أَوْلاٰدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اَللّٰهِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْخٰاسِرُونَ وَ أَنْفِقُوا مِنْ مٰا رَزَقْنٰاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لاٰ أَخَّرْتَنِي إِلىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَ أَكُنْ مِنَ اَلصّٰالِحِينَ وَ لَنْ يُؤَخِّرَ اَللّٰهُ نَفْساً إِذٰا جٰاءَ أَجَلُهٰا وَ اَللّٰهُ خَبِيرٌ بِمٰا تَعْمَلُونَ

ازدحم علي الماء في غزاة بني المصطلق رجل من المهاجرين ورجل من بني عوف بن الخزرج و اقتتلا، فغضب عبد اللّه بن أبيّ وقال: واللّه، ما مثلنا و مثلهم إلا كما قال القائل: سمّن كلبك يأكلك، أما واللّه لئن رجعنا إلي المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذل يعني: بالأعزّ نفسه و بالأذل رسول اللّه، ثمّ قال لقومه: ماذا فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم و قاسمتموهم أموالكم ؟ أما واللّه لو أمسكتم عنهم فضل الطعام لم يركبوا رقابكم، فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضّوا من حول محمّد فسمع بذلك زيد بن أرقم(2) - وهو حدث - فقال: أنت واللّه الذليل القليل المبغض في

ص: 398


1- ساقطة من ج.
2- زيد بن أرقم بن زيد الانصاري الخزرجي، شهد سبع عشرة غزوة مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم، و شهد صفين مع

قومك، و محمّد في عزّ من الرحمن و مودّة وقوة من المسلمين، فقال عبد اللّه: اسكت، فإنّما كنت ألعب، فأخبر زيد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأرسل إلي عبد اللّه و قال: ما هذا الذي بلغني عنك ؟ قال: واللّه الذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك، وإنّ زيدا لكاذب، وذلك قوله تعالى: اِتَّخَذُوا أَيْمٰانَهُمْ جُنَّةً وقال الحاضرون: يا رسول اللّه، شيخنا و كبيرنا، لا تصدّق عليه كلام غلام، عسى أن يكون قد وهم، فعذره عليه السلام، وفشت الملامة من الأنصار لزيد، فلما نزلت لحق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم زيدا من خلفه فعرك أذنه و قال: وفت أذنك يا غلام إنّ اللّه صدّقك وكذّب المنافقين، فلما بان كذب عبد اللّه قيل له: قد نزلت فيك آي شداد، فاذهب إلي رسول اللّه يستغفر لك، فلوى رأسه ثمّ قال: أمرتموني أن أومن فا منت، و أمرتموني أن أزكي مالي فزكيت، فما بقي إلا أن أسجد لمحمّد فنزلت: وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمْ تَعٰالَوْا ، ولم يلبث إلا أيّاما قلائل حتى اشتكى ومات(1).

يَنْفَضُّوا أي: يتفرقوا.

وَ لِلّٰهِ خَزٰائِنُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وبيده الأرزاق فهو يرزقكم منها.

وَ لٰكِنَّ عبد اللّه وأمثاله جاهلون لاٰ يَفْقَهُونَ ذلك.

وَ لِلّٰهِ اَلْعِزَّةُ أي: الغلبة والقوة ولمن أعزّه اللّه وأيده. وعن الحسن بن عليّ عليهما السلام: (إنّ رجلا قال له: إنّ الناس يزعمون أنّ فيك تيها! قال: ليس بتيه ولكنّه عزّة، وتلا هذه الآية)(2).

لاٰ تُلْهِكُمْ لا تشغلكم أَمْوٰالُكُمْ و التصرّف فيها وابتغاء التلذذ بها.

علي عليه السلام، توفي بالكوفة سنة 68 ه -. ينظر: الاستيعاب ج 1:556.

ص: 399


1- أسباب النزول: 307.
2- الكشاف ج 4:543.

وَ لاٰ أَوْلاٰدُكُمْ و سروركم بهم و شفقتكم عليهم والقيام بما يصلحهم عَنْ ذِكْرِ اَللّٰهِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ يريد الشغل بالدنيا عن الدين.

فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْخٰاسِرُونَ في تجارتهم، إذ باعوا الخطير الباقي بالحقير الفاني.

مِنْ مٰا رَزَقْنٰاكُمْ مِنْ للتبعيض أي: أنفقوا الواجب منه.

مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ فيري دلائله و يتعذر عليه الإنفاق، و يتحسّر علي المنع، ويفقد ما كان متمكّنا منه.

فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لاٰ أَخَّرْتَنِي أي: هلا أخّرت موتي إِلىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ إلى زمان قليل فَأَصَّدَّقَ فأتصدّق، وقرئ: وَ أَكُنْ عطف علي محلّ فَأَصَّدَّقَ ، كأنّه قيل: إن أخّرتني أصدّق و أكن. وقرئ: وأكون علي اللفظ. وعن ابن عباس:

(تصدّقوا قبل أن ينزل عليكم سلطان الموت فلا يقبل توبة ولا ينفع عمل)(1).

وعنه: (ما يمنع أحدكم إذا كان له مال أن يزكي، وإذا أطاق الحج أن يحج من قبل أن يأتيه الموت، فيسأل ربّه الكرة فلا يعطاها)(2). وقيل: نزلت في مانعي الزكاة(3).

وعن الحسن: (ما من أحدكم لم يزك ولم يحج ولم يصم إلا سأل ربّه الرجعة)(4).

وَ لَنْ يُؤَخِّرَ اَللّٰهُ نفي للتأخير علي وجه التأكيد [الذي معناه منافاة المنفي الحكمة](5)، والمعنى: إذا علمتم أنّ تأخير الموت عن وقته مما لا سبيل إليه [وأنّه

ص: 400


1- الكشاف ج 4:544.
2- تفسير الطبري ج 28:76.
3- عن الضحاك. تفسير الماوردي ج 6:19.
4- الكشاف ج 4:544.
5- ساقطة من ج، د، ط.

هاجم لا محالة](1)، وأنّ اللّه عليم بأعمالكم، لم يبق إلا المسارعة إلي أداء الواجبات.

وقرئ: تَعْمَلُونَ بالياء والتاء، فالتاء علي عود الضمير إلي قوله: نَفْساً لأنّه في معنى الجمع.

ص: 401


1- ساقطة من ج، د، ط.

سورة التغابن

اشارة

مختلف فيها، وهي ثمان عشرة آية. وفي حديث أبيّ : (ومن قرأ (سورة التغابن) رفع عنه موت الفجأة)(1)، وعن الصادق عليه السلام: (من قرأ (سورة التغابن) في فريضة كانت شفيعة له يوم القيامة، وشاهد عدل عند من يجيز شمهادتها، ثمّ لا تفارقه حتى يدخل الجنّة)(2).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة التغابن (64): الآیات 1 الی 7]

يُسَبِّحُ لِلّٰهِ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ لَهُ اَلْمُلْكُ وَ لَهُ اَلْحَمْدُ وَ هُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كٰافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَ إِلَيْهِ اَلْمَصِيرُ يَعْلَمُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ مٰا تُسِرُّونَ وَ مٰا تُعْلِنُونَ وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ بِذٰاتِ اَلصُّدُورِ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذٰاقُوا وَبٰالَ أَمْرِهِمْ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ ذٰلِكَ بِأَنَّهُ كٰانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنٰاتِ فَقٰالُوا أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنٰا فَكَفَرُوا وَ تَوَلَّوْا وَ اِسْتَغْنَى اَللّٰهُ وَ اَللّٰهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ زَعَمَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ

ص: 402


1- الكشف والبيان ج 9:325.
2- ثواب الأعمال: 118.

[سورة التغابن (64): الآیات 7 الی 10]

لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلىٰ وَ رَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمٰا عَمِلْتُمْ وَ ذٰلِكَ عَلَى اَللّٰهِ يَسِيرٌ فَآمِنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ اَلنُّورِ اَلَّذِي أَنْزَلْنٰا وَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ اَلْجَمْعِ ذٰلِكَ يَوْمُ اَلتَّغٰابُنِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللّٰهِ وَ يَعْمَلْ صٰالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئٰاتِهِ وَ يُدْخِلْهُ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا أَبَداً ذٰلِكَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ خٰالِدِينَ فِيهٰا وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ

لَهُ اَلْمُلْكُ علي الحقيقة دون غيره لأنّه مبدئ كل شيء و مبدعه، و المهيمن عليه.

وَ لَهُ اَلْحَمْدُ دون غيره لأنّ أصول النعم وفروعها منه دون غيره، وأما ملك غيره فتسليط منه و استرعاء، و حمد غيره اعتداد بأنّ نعمة اللّه جرت علي يده.

فَمِنْكُمْ آت بالكفر و فاعل له وَ مِنْكُمْ آت بالإيمان و فاعل له واللّه بَصِيرٌ بكفركم و إيمانكم اللذين هما من جملة أعمالكم. والمعنى: هو الذي تفضّل عليكم بأصل النعم الذي هو الإيجاد من العدم، فكان يجب أن تنظروا النظر الصحيح فتكونوا مؤمنين موحدين، فما فعلتم ذلك مع تمكّنكم، بل تفرقتم أمما فَمِنْكُمْ كٰافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ، وقدّم الكفر لأنّه الأغلب عليهم وا لأكثر فيهم.

بِالْحَقِّ أي: بالغرض الصحيح والحكمة البالغة.

وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ بأن جعلكم أحسن الحيوان وأبهاه، بدليل أنّ الإنسان لا يتمنّى أن تكون صورته علي صورة جنس آخر من الحيوان.

ص: 403

ونبّه سبحانه بعلمه مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ ، ثمّ بعلمه ما يسرّه العباد وما يعلنونه، ثمّ بعلمه ذوات الصدور أنّ شيئا من الكليات والجزئيات لا يعزب عن علمه ولا يخفى عليه، فحقّه أن يتقى ويحذر من معصيته.

أَ لَمْ يَأْتِكُمْ خطاب للكفار.

و ذٰلِكَ إشارة إلي ما ذكر من الوبال الذي ذاقوه في الدنيا، وما أعدّه لهم من عذاب الآخرة بِأَنَّهُ بأنّ الشأن و الحديث كٰانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنٰاتِ .

أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنٰا أنكروا أن يكون الرسل بشرا، ولم ينكروا أن يكون الإله حجرا. و البشر يقع علي الواحد والجمع قٰالُوا مٰا أَنْتُمْ إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُنٰا (1).

وَ اِسْتَغْنَى اَللّٰهُ أطلق اللفظ ليتناول كل شيء، ومن جملته: إيمانهم و طاعتهم، والمراد: وظهر استغناء اللّه حيث لم يضطرهم إلي الإيمان مع قدرته علي ذلك.

الزعم: ادعاء العلم. وفي الحديث: (زعموا مطيّة الكذب)(2).

أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا [أنّهم لن يبعثوا](3) وسدّ مسدّ مفعولي زَعَمَ .

بَلىٰ إثبات لما بعد (لن) وهو البعث.

وَ ذٰلِكَ عَلَى اَللّٰهِ يَسِيرٌ لا يصرفه عنه صارف.

وَ اَلنُّورِ اَلَّذِي أَنْزَلْنٰا هو القرآن.

و قرئ: نجمعكم، و نكّفر عنه، و ندخله بالياء و النون.

يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ ظرف لقوله: لَتُنَبَّؤُنَّ أو ل - خَبِيرٌ لما فيه من معنى

ص: 404


1- يس: 15.
2- سنن أبي داود ج 4:295 ح 4972، وفيه: بئس مطية الرجل زعموا.
3- ساقطة من د.

الوعيد، كأنّه قال: واللّه معاقبكم يوم يجمعكم.

لِيَوْمِ اَلْجَمْعِ ليوم يجمع فيه الأوّلون و الآخرون.

اَلتَّغٰابُنِ مستعار من تغابن القوم في التجارة، وهو أن يغبن بعضهم بعضا.

وعن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: (ما من عبد يدخل الجنّة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا، وما من عبد يدخل النار إلا أري مقعده من الجنّة لو أحسن ليزداد حسرة)(1).

وهو معنى ذٰلِكَ يَوْمُ اَلتَّغٰابُنِ فيظهر في ذلك اليوم [الغابن و المغبون، فالتغابن فيه هو](2) التغابن على الحقيقة لا التغابن في أمور الدنيا وإن عظمت وجلّت.

صٰالِحاً صفة للمصدر، أي: عملا صالحا.

[سورة التغابن (64): الآیات 11 الی 18]

مٰا أَصٰابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللّٰهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَ اَللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ وَ أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمٰا عَلىٰ رَسُولِنَا اَلْبَلاٰغُ اَلْمُبِينُ اَللّٰهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ وَ عَلَى اَللّٰهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوٰاجِكُمْ وَ أَوْلاٰدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَ إِنْ تَعْفُوا وَ تَصْفَحُوا وَ تَغْفِرُوا فَإِنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّمٰا أَمْوٰالُكُمْ وَ أَوْلاٰدُكُمْ فِتْنَةٌ وَ اَللّٰهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ فَاتَّقُوا اَللّٰهَ مَا اِسْتَطَعْتُمْ وَ اِسْمَعُوا وَ أَطِيعُوا وَ أَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ إِنْ تُقْرِضُوا اَللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً يُضٰاعِفْهُ لَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اَللّٰهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ عٰالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهٰادَةِ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ

ص: 405


1- صحيح البخاري ج 4:139.
2- ساقطة من ب.

بِإِذْنِ اَللّٰهِ بتقديره و مشيئته، كأنّه أذن للمصيبة أن تصيبه.

يَهْدِ قَلْبَهُ يلطف به و يشرحه للازدياد من الطاعة والخير، وعن ابن عباس: (يهد قلبه للاسترجاع عند المصيبة)(1). وعن مجاهد: (إن ابتلي صبر، وإن أعطي شكر، وإن ظلم غفر)(2). وعن الضحاك: (يهد قلبه حتى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأنّ ما أخطأه لم يكن ليصيبه)(3).

إِنَّ مِنْ أَزْوٰاجِكُمْ أزواجا يعادينكم و يخاصمنكم، و من أَوْلاٰدِكُمْ أولادا يعادونكم و يعقّونكم.

فَاحْذَرُوهُمْ الضمير للعدو أو للأزواج والأولاد جميعا، أي: فكونوا منهم علي حذر ولا تأمنوا غوائلهم وشرورهم.

وَ إِنْ تَعْفُوا عنهم إذا اطلعتم منهم علي عداوة، و تتجاوزوا عنهم، و تستروا عليهم ما فرط منهم.

فَإِنَّ اَللّٰهَ يغفر لكم ذنوبكم، و يكفر عنكم سيئاتكم.

إِنَّمٰا أَمْوٰالُكُمْ وَ أَوْلاٰدُكُمْ فِتْنَةٌ أي: بلاء و محنة وسبب لوقوعكم في الجرائم و العظائم، وقيل: إذا أمكنكم الجهاد و الهجرة فلا يفتننكم الميل إلى الأموال والأولاد عنهما(4).

فَاتَّقُوا اَللّٰهَ مَا اِسْتَطَعْتُمْ جهدكم و وسعكم، أي: ابذلوا فيها جهدكم و استطاعتكم.

ص: 406


1- التبيان ج 10:23 بالمعنى.
2- الكشاف ج 4:549.
3- الكشاف ج 4:549.
4- معاني القرآن وإعرابه ج 5:182.

وَ اِسْمَعُوا ما توعظون به.

وَ أَطِيعُوا فيما تؤمرون به و تنهون عنه.

وَ أَنْفِقُوا في الوجوه التي تجب عليكم النفقة فيها.

خَيْراً منصوب بمحذوف، والتقدير: ائتوا خيرا لأنفسكم، أي: افعلوا ما هو خير لها و أنفع. وهذا تأكيد للحث علي امتثال هذه الأوامر وبيان أنّ هذه الأمور خير لأنفسكم من الأموال والأولاد، وما أقبلتم عليه من زبارج الدنيا و لذاتها الفانية.

وذكر القرض تلطف في الاستدعاء.

يُضٰاعِفْهُ لَكُمْ يكتب لكم بالواحد عشرا أو سبعمائة إلى ما شاء من الأضعاف المضاعفة.

شَكُورٌ مجاز، أي: يفعل بكم ما يفعله المبالغ في الشكر من الأجر الجزيل والثواب العظيم.

حَلِيمٌ لا يعاجل بالعقوبة مع كثرة ذنوبكم.

ص: 407

سورة الطلاق

اشارة

مدنية، وهي إحدي عشرة آية بصري، و اثنتا عشرة غيرهم، لم يعدّ البصري:

يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً .

في حديث أبيّ : (من قرأ (سورة الطلاق) مات علي سنة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم)(1)، وعن الصادق عليه السلام: (من قرأ (سورة الطلاق والتحريم) في فرائضه أعاذه اللّه من أن يكون يوم القيامة ممن يخاف أو يحزن، وعوفي من النار، و أدخله اللّه الجنّة بتلاوته إيّاهما و محافظته عليهما، لأنّهما للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم)(2).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة الطلاق (65): الآیات 1 الی 2]

يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِذٰا طَلَّقْتُمُ اَلنِّسٰاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَ أَحْصُوا اَلْعِدَّةَ وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ رَبَّكُمْ لاٰ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَ لاٰ يَخْرُجْنَ إِلاّٰ أَنْ يَأْتِينَ بِفٰاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَ تِلْكَ حُدُودُ اَللّٰهِ وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اَللّٰهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاٰ تَدْرِي لَعَلَّ اَللّٰهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذٰلِكَ أَمْراً فَإِذٰا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فٰارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ

.

ص: 408


1- الكشف والبيان ج 9:331.
2- ثواب الأعمال: 119

[سورة الطلاق (65): الآیات 2 الی 5]

وَ أَقِيمُوا اَلشَّهٰادَةَ لِلّٰهِ ذٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كٰانَ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّٰهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاٰ يَحْتَسِبُ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّٰهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اَللّٰهَ بٰالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اَللّٰهُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً وَ اَللاّٰئِي يَئِسْنَ مِنَ اَلْمَحِيضِ مِنْ نِسٰائِكُمْ إِنِ اِرْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاٰثَةُ أَشْهُرٍ وَ اَللاّٰئِي لَمْ يَحِضْنَ وَ أُولاٰتُ اَلْأَحْمٰالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّٰهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ذٰلِكَ أَمْرُ اَللّٰهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّٰهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئٰاتِهِ وَ يُعْظِمْ لَهُ أَجْراً

خصّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بالنداء، وعمّ بالخطاب كما يقال للرئيس المتقدّم في القوم: يا فلان افعلوا كذا، إظهارا لتقدّمه و اعتبارا بأنّه وحده في حكم جميعهم، والمعنى: إذا أردتم تطليق النساء، كقوله: إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاٰةِ (1)، وَ إِذٰا قَرَأْتَ اَلْقُرْآنَ (2)

تنزيلا للمقبل علي الأمر منزلة الشارع فيه.

فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ أي: لزمان عدّتهن، والمراد: أن يطلّقن في طهر لم يجامعن فيه، وهو الطلاق للعدّة، لأنّها تعتدّ بذلك الطهر من عدّتها، والمعنى:

لطهرهن الذي يحصينه من عدّتهن، وهو مذهب الشافعي(3) وأهل البيت عليهم السلام(4).

وقيل: إنّ المعنى: فطلّقوهن مستقبلات لعدّتهن، كقولك: أتيته لليلة خلت من

ص: 409


1- المائدة: 6.
2- الإسراء: 45.
3- كتاب الأم ج 5:162.
4- ينظر: الوسائل ج 15 باب 9 من أبواب الطلاق.

الشهر، فتكون العدّة الحيض، وهو مذهب أبي حنيفة(1).

وَ أَحْصُوا اَلْعِدَّةَ و اضبطوها بالعدد و عدّوها ثلاثة أقراء، وإنّما أمر بإحصاء العدّة لأنّ للمرأة فيها حقّا، وهو النفقة و السكنى، و للزوج فيها حقّا وهو المراجعة و منعها من الأزواج.

و لاٰ تُخْرِجُوهُنَّ حتى تنقضي عدّتهن مِنْ بُيُوتِهِنَّ من مساكنهن التي يسكنها قبل العدّة، وهي بيوت الأزواج، و أضيفت إليهن لاختصاصها بهن من حيث السكنى.

وَ لاٰ يَخْرُجْنَ بأنفسهن إن أردن ذلك.

إِلاّٰ أَنْ يَأْتِينَ بِفٰاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ قرئ بفتح الياء و كسرها، أي: مظهرة أو ظاهرة، و عن الحسن ومجاهد: (الفاحشة: الزنا)(2)، وعن ابن عباس: (هي البذاء علي أهلها)(3)، وروي ذلك عن أئمّة الهدي عليهم السلام(4).

لَعَلَّ اَللّٰهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذٰلِكَ أَمْراً وهو أن يغيّر رأي الزوج و يوقع في قلبه أن يراجعها. والمعنى: فطلّقوهن لعدّتهن و أحصوا العدّة لعلكم ترغبون فيهن بعد الرغبة عنهن فتراجعوهن.

فَإِذٰا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ و هو آخر العدّة و شارفنه فأنتم بالخيار فراجعوهن إن شئتم و أمسكوهن بالمعروف والإحسان.

أَوْ فٰارِقُوهُنَّ إن شئتم بترك الرجعة بِمَعْرُوفٍ بأن تتركوهن حتى

ص: 410


1- المبسوط للسرخسي ج 6:5.
2- تفسير الطبري ج 28:86.
3- تفسير الطبري ج 28:86.
4- ينظر: الوسائل ج 15 باب 23 من أبواب الطلاق.

يخرجن من العدّة فيبنّ منكم.

وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ والظاهر يقتضي وجوب الإشهاد، على ما ذهب إليه أصحابنا في الطلاق(1).

وَ أَقِيمُوا اَلشَّهٰادَةَ لِلّٰهِ أي: لوجه اللّه لا لغرض من الأغراض سوى إقامة الحق.

ذٰلِكُمْ الأمر بالحقّ والحث علي إقامة الشهادة يُوعَظُ بِهِ المؤمنون.

وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّٰهَ فطلّق للسنة، واحتاط في إيقاعه علي الوجه المأمور، وأشهد عليه يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً من كل همّ وضيق وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاٰ يَحْتَسِبُ فتكون جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق.

ويجوز أن تكون جملة أتي بها علي سبيل الاستطراد عند ذكر قوله: ذٰلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ ويكون المعنى: ومن يتق اللّه يجعل له مخلصا من غموم الدنيا والآخرة.

وعن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: (إنّي لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم: وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّٰهَ فما زال يقرأها ويعيدها)(2).

و قرئ: بٰالِغُ أَمْرِهِ با لإضافة، و بالغ أمره بالنصب، أي: يبلغ ما يريده، لا يفوته مراد ولا يعجزه مطلوب.

قَدْ جَعَلَ اَللّٰهُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً أي: تقديرا و توقيتا، وفيه بيان لوجوب التوكل علي اللّه، لأنه إذا علم أنّ كل شيء بتقديره و توقيته لم يبق إلا التسليم لذلك و التفويض إليه.

ص: 411


1- الانتصار: 299، الخلاف ج 4:454.
2- سنن ابن ماجة ج 2:1411، ح 4220.

وَ اَللاّٰئِي يَئِسْنَ مِنَ اَلْمَحِيضِ مِنْ نِسٰائِكُمْ فلا يحضن إِنِ اِرْتَبْتُمْ فلا تدرون، لكبر ارتفع حيضهن أم لعارض.

فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاٰثَةُ أَشْهُرٍ فهذه عدّة المرتاب بها - وقدر ذلك بما دون خمسين سنة - وهو مذهب أهل البيت عليهم السلام(1).

وَ اَللاّٰئِي لَمْ يَحِضْنَ أي: لم يبلغن المحيض من الصغائر، والمعنى: إن ارتبتم أيضا في أنّ مثلها تحيض فعدّتهن ثلاثة أشهر، فحذف لدلالة المذكور قبل عليه، وقدر ذلك بتسع سنين فما زاد.

وَ أُولاٰتُ اَلْأَحْمٰالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وعن ابن عباس: (هي في المطلّقات خاصة)(2)، وهو المروي عن أئمتنا عليهم السلام(3). فأما المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملا فعدّتهن أبعد الأجلين(4)، فإن مضت بها أربعة أشهر وعشر ولم تضع انتظرت وضع الحمل.

يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً أي: ييسّر عليه أمور الدنيا و الآخرة بسبب التقوى.

ذٰلِكَ أَمْرُ اَللّٰهِ يريد: ما علم من حكم المعتدّات، والمعنى: وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّٰهَ في العمل بما أَنْزَلَهُ من الأحكام في الطلاق و الرجعة و العدّة، و حافظ علي الحقوق الواجبة عليه من الإسكان و النفقة وترك الضرار يُكَفِّرْ اللّه عَنْهُ سَيِّئٰاتِهِ وَ يُعْظِمْ لَهُ أَجْراً في الآخرة وهو الثواب.

ص: 412


1- ينظر: الوسائل ج 15 باب 4 من أبواب العدد.
2- تفسير الطبري ج 28:93.
3- ينظر: الوسائل ج 15 باب 9 من أبواب العدد، تفسير الطبري ج 28:93.
4- تهذيب الأحكام ج 8:150.

[سورة الطلاق (65): الآیات 6 الی 12]

أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَ لاٰ تُضٰارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَ إِنْ كُنَّ أُولاٰتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتّٰى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَ أْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَ إِنْ تَعٰاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرىٰ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّٰا آتٰاهُ اَللّٰهُ لاٰ يُكَلِّفُ اَللّٰهُ نَفْساً إِلاّٰ مٰا آتٰاهٰا سَيَجْعَلُ اَللّٰهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهٰا وَ رُسُلِهِ فَحٰاسَبْنٰاهٰا حِسٰاباً شَدِيداً وَ عَذَّبْنٰاهٰا عَذٰاباً نُكْراً فَذٰاقَتْ وَبٰالَ أَمْرِهٰا وَ كٰانَ عٰاقِبَةُ أَمْرِهٰا خُسْراً أَعَدَّ اَللّٰهُ لَهُمْ عَذٰاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اَللّٰهَ يٰا أُولِي اَلْأَلْبٰابِ اَلَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اَللّٰهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيٰاتِ اَللّٰهِ مُبَيِّنٰاتٍ لِيُخْرِجَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ مِنَ اَلظُّلُمٰاتِ إِلَى اَلنُّورِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللّٰهِ وَ يَعْمَلْ صٰالِحاً يُدْخِلْهُ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اَللّٰهُ لَهُ رِزْقاً اَللّٰهُ اَلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ وَ مِنَ اَلْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ اَلْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ وَ أَنَّ اَللّٰهَ قَدْ أَحٰاطَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عِلْماً

بيّن سبحانه كيف يعمل بالتقوى في أمر المعتدّات فقال: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ أي: بعض مكان سكناكم كما قال: يَغُضُّوا مِنْ أَبْصٰارِهِمْ (1) أي: بعض أبصارهم، وعن قتادة: (إن لم يكن له إلا بيت واحد أسكنها في بعض جوانبه)(2).

مِنْ وُجْدِكُمْ عطف بيان لقوله: مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ وتفسير له، كأنّه قال:

أسكنوهن مكانا من مسكنكم مما تطيقونه، و الوجد: الوسع والطاقة. و السكنى

ص: 413


1- النور: 30.
2- الدر المنثور ج 6:237.

و النفقة واجبتان للمطلّقة الرجعية بلا خلاف، وعندنا: أنّ المبتوتة(1) لا سكنى لها ولا نفقة(2)، وحديث فاطمة بنت قيس(3) أنّ زوجها بتّ طلاقها فقال لها رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم: (لا سكنى لك ولا نفقة)(4) يدلّ عليه.

وَ لاٰ تُضٰارُّوهُنَّ ولا تدخلوا الضرر عليهن بالتقصير في السكنى و النفقة.

لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ حتى تضطروهن إلى الخروج، وقيل: هو أن يراجعها إذا بقي من عدّتها يومان ليضيق عليها أمرها.

وَ إِنْ كُنَّ أُولاٰتِ حَمْلٍ أي: حوامل، فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتّٰى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ سواء كن رجعيات أو مبتوتات.

فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ يعني: هؤلاء المطلقات إن أرضعن لكم ولدا منهن أو من غيرهن بعد انقطاع عصمة الزوجية فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فأعطوهن أجرة الرضاع.

وَ أْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ يقال: ائتمر القوم و تآمروا إذا أمر بعضهم بعضا.

والمعنى: و ليأمر بعضكم بعضا، والخطاب للآباء و الأمهات.

بِمَعْرُوفٍ بجميل في إرضاع الولد وهو المسامحة، وأن لا يماكس الأب، ولا تعاسر الأم، لأنّه ولدهما معا وهما شريكان فيه.

وَ إِنْ تَعٰاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرىٰ له للأب، أي: سيجد الأب مرضعة غير

ص: 414


1- البت: القطع، يقال: لا أفعله البتة لكل أمر لا رجعة فيه، ويقال: طلّقها ثلاثا بتة. (الصحاح: مادة
2- ينظر: الوسائل ج 15 باب 8 من أبواب النفقات.
3- فاطمة بنت قيس بن خالد القرشية الفهرية، كانت من المهاجرات الأول، وكانت عند أبي عمرو بن حفص المخزومي فطلقها، فتزوجت بعده أسامة بن زيد. ينظر: الإصابة ج 4:384.
4- صحيح مسلم ج 4:200.

معاسرة ترضع له ولده إن عاسرته أمه.

لِيُنْفِقْ كل واحد من الموسر و المعسر ما بلغه وسعه، يريد: ما أمر به من الإنفاق علي المطلّقات و المرضعات، وهو مثل قوله: وَ مَتِّعُوهُنَّ عَلَى اَلْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَى اَلْمُقْتِرِ قَدَرُهُ (1).

سَيَجْعَلُ اَللّٰهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً هذا موعد لفقراء ذلك الوقت بفتح أبواب الرزق عليهم، أو لفقراء الأزواج إن أنفقوا ما قدروا عليه ولم يقصّروا.

وَ كَأَيِّنْ أي: وكم مِنْ أهل قَرْيَةٍ أعرضوا عَنْ أَمْرِ ربّهم عتوا وعنادا، وجاوزوا الحد في المخالفة.

حِسٰاباً شَدِيداً بالاستقصاء و المناقشة.

عَذٰاباً نُكْراً أي: منكرا عظيما. والمراد: حساب الاخرة و عذابها وما يذوقون فيها من الوبال، و يلقون من الخسران، وجيء به علي لفظ الماضي كقوله:

وَ نٰادىٰ أَصْحٰابُ اَلْجَنَّةِ (2) ، وَ نٰادىٰ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ (3) ونحو ذلك، لأنّ ما هو كائن فكأن قد كان.

وقوله: أَعَدَّ اَللّٰهُ لَهُمْ عَذٰاباً شَدِيداً تكرير للتوعيد، وبيان لكونه مترقبا، ويجوز أن يراد إحصاء السيئات عليهم في الدنيا وهو إثباتها في صحائف أعمالهم، و إعداد العذاب الشديد لهم في الآخرة، وأن يكون عَتَتْ وما عطف عليه صفة للقرية، و أَعَدَّ اَللّٰهُ جواب ل - كَأَيِّنْ .

رَسُولاً هو جبرئيل عليه السلام، أبدل من ذِكْراً لأنّه وصف بتلاوة ايات اللّه

ص: 415


1- البقرة: 236.
2- الأعراف: 44.
3- الأعراف: 50.

عزّ اسمه، فكان إنزاله في معنى إنزال الذكر، فلذلك صحّ إبداله منه، أو أريد بالذكر الشرف كما في قوله: وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ (1)، فأبدل منه، كأنّه في نفسه شرف، إما لأنّه شرف للمنزل عليه، وإما لأنّه ذو شرف و مجد عند الله، أو أريد ذا ذكر، أي: ملكا مذكورا في الأمم، أو دلّ قوله: أَنْزَلَ اَللّٰهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً علي أرسل، فكأنّه قال: أرسل رسولا، أو أعمل ذِكْراً في رَسُولاً أي: أنزل اللّه أن ذكر رسولا أو ذكره رسولا، ويجوز أن يكون المراد على هذا بقوله: رَسُولاً محمّدا صلى الله عليه و آله و سلم.

لِيُخْرِجَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بعد إنزاله لأنّهم كانوا وقت الإنزال غير مؤمنين، وإنّما آمنوا وأصلحوا بعد الإنزال و التبليغ، أو ليخرج الذين عرف منهم أنّهم يؤمنون.

و قرئ: يُدْخِلْهُ بالياء و النون.

قَدْ أَحْسَنَ اَللّٰهُ لَهُ رِزْقاً فيه معنى التعجب و التعظيم لما يرزق المؤمن في الجنّة من أنواع النعيم.

اَللّٰهُ اَلَّذِي خَلَقَ مبتدأ و خبر، و مِثْلَهُنَّ عطف علي سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ ، قالوا: ما في القرآن آية تدلّ علي أنّ الأرضين سبع إلا هذه الآية.

يَتَنَزَّلُ اَلْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ أي: يجري أمر اللّه وحكمه بينهن، و يدبّر تدبيراته فيهن، لِتَعْلَمُوا بالتدبير في خلق السموات والأرض أَنَّ اَللّٰهَ الذي أنشأهما و أوجدهما.

عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ لكونه قادرا لذاته.

وَ أَنَّ اَللّٰهَ قَدْ أَحٰاطَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عِلْماً لكونه عالما لذاته.

ص: 416


1- الزخرف: 44.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.