جوامع الجامع المجلد 4

هویة الکتاب

جوامع الجامع

كاتب: طبرسی، فضل بن حسن

الناشر: العتبة العباسیة المقدسة. قسم شؤون المعارف الإسلامیة و الإنسانیة

متابعة البحث: حکیم، جواد کاظم

عدد المجلدات:6

لسان: العربية

سنة النشر: 1439 هجری قمری|2018 میلادی

رمز الكونغرس: 9ج2ط 94/5 BP

ص: 1

اشارة

جوامع الجامع

تألیف: فضل بن حسن طبرسی

العتبة العباسیة المقدسة. قسم شؤون المعارف الإسلامیة و الإنسانیة

ص: 2

جوامع الجامع

تألیف: فضل بن حسن طبرسی

العتبة العباسیة المقدسة. قسم شؤون المعارف الإسلامیة و الإنسانیة

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 4

سورة الحج

اشارة

مكية، وقيل: مدنية غير ست آيات، و آياتها ثمانية وسبعون آية كوفي، خمس بصري، عدّ الكوفي: اَلْحَمِيمُ ، اَلْجُلُودُ ، وَ قَوْمُ لُوطٍ .

وفي حديث أبيّ : (من قرأ (سورة الحجّ ) أعطي من الأجر كحجّة حجّها، وعمرة اعتمرها بعدد من حجّ واعتمر)(1)، وعن الصادق عليه السلام: (من قرأها في كل ثلاثة أيّام لم تخرج سنته حتى يخرج إلى بيت اللّه الحرام)(2).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة الحج (22): الآیات 1 الی 5]

يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ اَلسّٰاعَةِ شَيْ ءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهٰا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمّٰا أَرْضَعَتْ وَ تَضَعُ كُلُّ ذٰاتِ حَمْلٍ حَمْلَهٰا وَ تَرَى اَلنّٰاسَ سُكٰارىٰ وَ مٰا هُمْ بِسُكٰارىٰ وَ لٰكِنَّ عَذٰابَ اَللّٰهِ شَدِيدٌ وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يُجٰادِلُ فِي اَللّٰهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطٰانٍ مَرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاّٰهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَ يَهْدِيهِ إِلىٰ عَذٰابِ اَلسَّعِيرِ يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي

ص: 5


1- الكشف والبيان ج 7:5.
2- ثواب الأعمال: 108.

[سورة الحج (22): آیة 5]

رَيْبٍ مِنَ اَلْبَعْثِ فَإِنّٰا خَلَقْنٰاكُمْ مِنْ تُرٰابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَ نُقِرُّ فِي اَلْأَرْحٰامِ مٰا نَشٰاءُ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفّٰى وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلىٰ أَرْذَلِ اَلْعُمُرِ لِكَيْلاٰ يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَ تَرَى اَلْأَرْضَ هٰامِدَةً فَإِذٰا أَنْزَلْنٰا عَلَيْهَا اَلْمٰاءَ اِهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ

الزلزلة و الزلزال: شدّة التحريك والإزعاج، وأن يضاعف زليل الأشياء عن مراكزها ومقارها، وهي مضافة إلى الفاعل علي تقدير: أنّ الساعة تزلزل الأشياء، أو إلى تقدير المفعول فيها علي طريقة الاتساع في الظرف و إجرائه مجري المفعول به، كقوله: بَلْ مَكْرُ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ (1).

علل سبحانه وجوب التقوى علي الناس بذكر اَلسّٰاعَةُ ووصفها بأهول صفة ليتصوروها بعقولهم ويتزودوا لها. وروي: أنّ هاتين الآيتين نزلتا ليلا في غزوة بني المصطلق فقرأهما رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولم ير أكثر باكيا من تلك الليلة، ولما أصبحوا لم يضربوا الخيام وقت النزول ولم يطبخوا قدرا، وكانوا بين باك ومفكر(2).

يَوْمِ منصوب ب - تَذْهَلُ و الضمير للزلزلة، والذهول: الذهاب عن الأمر بدهشة. والمرضعة: هي التي ألقمت ثديها الصبي، والمرضع - بغير هاء - التي من شأنها أن ترضع. والمعنى: إنّ هول تلك الزلزلة إذا فاجأها وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه، لما يلحقها من الدهشة.

ص: 6


1- سبأ: 33.
2- الكشف والبيان ج 7:6.

عَمّٰا أَرْضَعَتْ عن إرضاعها، أو عن الذي أرضعته، وعن الحسن:

(تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام، و تضع الحامل ما في بطنها لغير تمام)(1).

و قرئ: سكرى وبسكرى فهو نظير عطشى من عطشان، سُكٰارىٰ و بِسُكٰارىٰ نحو كسالى، والمعنى: وتراهم سكاري على التشبيه لما هم فيه من شدّة الفزع، وما هم بسكارى من الشراب وَ لٰكِنَّ أذهب عقولهم خوف عَذٰابَ اَللّٰهِ .

والمجادل فِي اَللّٰهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ قيل: هو النضر بن الحارث(2) وكان ينكر البعث ويقول: القرآن أساطير الأوّلين، والملائكة بنات اللّه، وقيل: هي عامة في كل من تعاطى الجدال فيما يجوز علي اللّه وفيما لا يجوز من الصفات والأفعال، ولا يرجع إلى علم ولا برهان.

وَ يَتَّبِعُ في ذلك كُلَّ شَيْطٰانٍ مَرِيدٍ عات متجرد للفساد، يغويه عن الهدي ويدعوه إلي الضلال.

وعلم من حاله أنّ من جعله وليا له، فإنّ ثمرة ولايته الإضلال عن طريق الجنّة والهداية إلى النار.

وقوله: كُتِبَ عَلَيْهِ تمثيل، والهاء للشيطان، أي: كأنّما كتب إضلال من يتولاه عليه، لظهور ذلك في حاله. و قرئ: أنه، فأنه بالفتح والكسر، فأما الفتح فلأنّ الأوّل فاعل كُتِبَ والثاني عطف عليه، و الأولى أن يكون الفاء وما بعده في موضع جواب الشرط إن جعلت من شرطا، وفي موضع خبر المبتدأ إن جعلت من بمعنى (الذي) لكونه موصلا بالفعل، والجملة في موضع خبر

ص: 7


1- تفسير الطبري ج 17:88.
2- عن ابن جريج وغيره. الدر المنثور ج 4:344.

(أنّ ) الأولى. وأما الكسر فعلي حكاية المكتوب كما هو، أي: كأنّما كتب عليه هذا الكلام، كما تقول: كتبت إنّ اللّه على كل شيء قدير، أو على تقدير (قيل)، أو علي أنّ كتب فيه معنى القول.

المعنى: إن ارتبتم في اَلْبَعْثِ فالذي يزيل ريبكم أن تنظروا في مبدأ خلقكم. والعلقة: القطعة الجامدة من الدم، والمضغة: اللحمة الصغيرة قدر ما يمضغ، والمخلّقة: المسواة الملساء من العيب والنقص، يقال: خلّق السواك إذا سوّاه و ملّسه، كأنّه سبحانه يخلق بعض المضغ كاملا أملس من العيوب وبعضها علي عكسه، فيتفاوت لذلك الناس في خلقهم وصورهم وتمامهم ونقصهم.

لِنُبَيِّنَ لَكُمْ بهذا التدريج قدرتنا وحكمتنا، وأنّ من قدر علي خلق البشر من تراب أوّلا ثمّ من نطفة ثانيا، وقدر علي أن يجعل النطفة علقة والعلقة مضغة والمضغة عظاما، قدر علي إعادة ما أبدأه.

وَ نُقِرُّ أي: ونبقي في أرحام الأمهات مٰا نَشٰاءُ أن نقرّه إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى وهو وقت الوضع، وما لم نشأ إقراره أسقطته الأرحام.

و وحّد قوله: طِفْلاً لأنّ الغرض الدلالة علي الجنس، أو أراد ثمّ نخرج كل واحد منكم طفلا.

ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وهو حال اجتماع العقل و تمام الخلق والقوة والتمييز، وهو من ألفاظ الجموع التي لم يأت لها واحد، كأنّها شدّة في غير شيء واحد فبنيت لذلك علي لفظ الجمع.

و أَرْذَلِ اَلْعُمُرِ : الهرم والخرف حتى يعود كهيئته الأولى في وقت الطفولية.

لِكَيْلاٰ يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً أي: ليصير نسّاء، بحيث لو كسب علما في شيء زال عنه من ساعته، فلا يستفيد علما وينسى ما كان علمه.

ص: 8

والهامدة: الميتة اليابسة، وهذه دلالة أخري على البعث، ولكونها معاينة ظاهرة كررها اللّه في كتابه.

اِهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ تحركت بالنبات، وانتفخت لظهور نمائها وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ جنس مؤنق حسن الصورة سار للناظر إليه.

[سورة الحج (22): الآیات 6 الی 10]

ذٰلِكَ بِأَنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْحَقُّ وَ أَنَّهُ يُحْيِ اَلْمَوْتىٰ وَ أَنَّهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ وَ أَنَّ اَلسّٰاعَةَ آتِيَةٌ لاٰ رَيْبَ فِيهٰا وَ أَنَّ اَللّٰهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يُجٰادِلُ فِي اَللّٰهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لاٰ هُدىً وَ لاٰ كِتٰابٍ مُنِيرٍ ثٰانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ لَهُ فِي اَلدُّنْيٰا خِزْيٌ وَ نُذِيقُهُ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ عَذٰابَ اَلْحَرِيقِ ذٰلِكَ بِمٰا قَدَّمَتْ يَدٰاكَ وَ أَنَّ اَللّٰهَ لَيْسَ بِظَلاّٰمٍ لِلْعَبِيدِ

أي: ذٰلِكَ الذي ذكرنا من تصريف الخلق وإحياء الأرض وما فيهما من البدائع والحكم حاصل بسبب أَنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْحَقُّ أي: الثابت الموجود، وأنّه قادر علي إحياء اَلْمَوْتىٰ وعلي كل مقدور، وهو حكيم لا يخلف الميعاد، وقد وعد البعث فلابد أن يفي بوعده.

بِغَيْرِ عِلْمٍ ضروري وَ لاٰ هُدىً أي: استدلال ونظر يهدي إلي المعرفة وَ لاٰ كِتٰابٍ مُنِيرٍ و هو الوحي.

ثٰانِيَ عِطْفِهِ أي: متكبرا في نفسه، فإنّ ثني العطف عبارة عن الخيلاء والكبر كتصعير الخد.

لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ لما كان جداله مؤديا إلي الضلال جعل كأنّه الغرض في الضلال.

ص: 9

[سورة الحج (22): الآیات 11 الی 16]

وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَعْبُدُ اَللّٰهَ عَلىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصٰابَهُ خَيْرٌ اِطْمَأَنَّ بِهِ وَ إِنْ أَصٰابَتْهُ فِتْنَةٌ اِنْقَلَبَ عَلىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةَ ذٰلِكَ هُوَ اَلْخُسْرٰانُ اَلْمُبِينُ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مٰا لاٰ يَضُرُّهُ وَ مٰا لاٰ يَنْفَعُهُ ذٰلِكَ هُوَ اَلضَّلاٰلُ اَلْبَعِيدُ يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ اَلْمَوْلىٰ وَ لَبِئْسَ اَلْعَشِيرُ إِنَّ اَللّٰهَ يُدْخِلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ إِنَّ اَللّٰهَ يَفْعَلُ مٰا يُرِيدُ مَنْ كٰانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اَللّٰهُ فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى اَلسَّمٰاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مٰا يَغِيظُ وَ كَذٰلِكَ أَنْزَلْنٰاهُ آيٰاتٍ بَيِّنٰاتٍ وَ أَنَّ اَللّٰهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ

عَلىٰ حَرْفٍ أي: علي طرف في الدين لا في وسطه وقلبه، وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم لا علي هنيّة وطمأنينة، كالذي يكون علي طرف من العسكر، فإن أحس بظفر وغنيمة اطمأن وقرّ، وإلا انهزم وفرّ.

وقرئ: خاسر الدنيا والآخرة، وهو منصوب علي الحال.

و اَلضَّلاٰلُ اَلْبَعِيدُ مستعار من ضلال من أبعد في التيه، فبعدت مسافة ضلاله.

سفّه اللّه سبحانه هذا الكافر بأنّه يعبد جمادا لا يملك ضرّا ولا نفعا، وهو يعتقد أنّه يستنفع به حين يستشفع به، ثمّ قال: يقول هذا الكافر يوم القيامة بدعاء وصراخ حين يري دخوله النار بعبادة الأصنام، ولا يري أثر الشفاعة التي أمّلها منها لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ اَلْمَوْلىٰ وَ لَبِئْسَ اَلْعَشِيرُ ، أو كرر يَدْعُوا كأنّه قال:

يدعو يدعو من دون اللّه مالا يضرّه ومالا ينفعه، ثمّ قال: لمن ضرّه بكونه معبودا

ص: 10

أقرب من نفعه بكونه شفيعا لبئس المولى، والمولى: الناصر، والعشير: الصاحب، كقوله: فَبِئْسَ اَلْقَرِينُ (1).

مَنْ كٰانَ يَظُنُّ من أعادي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وحسّاده أنّ اللّه لا ينصره ويطمع فيه، ويغيظه أنّه لا يظفر بمطلوبه، فليستفرغ جهده في إزالة ما يغيظه بأن يفعل ما يفعله من بلغ به الغيظ كل مبلغ حتى مدّ حبلا إِلَى سماء بيته فاختنق، فلينظر أنّه إن فعل ذلك هَلْ يذهب نصر اللّه الذي يغيظه ؟.

وسمّى الاختناق قطعا لأنّ المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه، ولذلك يقال للبهر(2): قطع؛ وسمّى فعله كيدا، لأنه وضعه موضع الكيد حيث لم يقدر على غيره، أو علي سبيل الاستهزاء لأنّه لم يكد به محسوده، إنّما كاد به نفسه، والمراد: ليس في يده إلا ما ليس بمذهب لما يغيظه. وقيل: معناه: فَلْيَمْدُدْ بحبل إِلَى اَلسَّمٰاءِ المظلة ليصعد عليه و لْيَقْطَعْ الوحي أن ينزل عليه(3). وقرئ: ثُمَّ لْيَقْطَعْ بكسر اللام وسكونها، وأصل هذه اللام الكسر، إلا أنّه جاز إسكانها مع الفاء والواو، لأنّ كل واحد منهما لا ينفرد بنفسه، فهو كحرف من نفس الكلمة فصار بمنزلة: فخذ وعضد، ثمّ شبه الميم في ثُمَّ بالواو والفاء كقولهم: أراك منتصبا.

وَ كَذٰلِكَ أي: ومثل ذلك الإنزال أنزلنا القرآن كله آيٰاتٍ بَيِّنٰاتٍ ، ولأنّ اَللّٰهَ يَهْدِي به الذين علم أنّهم يؤمنون، أو يثبّت الذين آمنوا ويزيدهم هدي أنزله كذلك.

ص: 11


1- الزخرف: 38.
2- البهر: انقطاع النفس من الإعياء. (لسان العرب: مادة بهر)
3- عن ابن زيد. تفسير الطبري ج 17:95.

[سورة الحج (22): الآیات 17 الی 18]

إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هٰادُوا وَ اَلصّٰابِئِينَ وَ اَلنَّصٰارىٰ وَ اَلْمَجُوسَ وَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اَللّٰهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ إِنَّ اَللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّٰهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ وَ اَلشَّمْسُ وَ اَلْقَمَرُ وَ اَلنُّجُومُ وَ اَلْجِبٰالُ وَ اَلشَّجَرُ وَ اَلدَّوَابُّ وَ كَثِيرٌ مِنَ اَلنّٰاسِ وَ كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ اَلْعَذٰابُ وَ مَنْ يُهِنِ اَللّٰهُ فَمٰا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اَللّٰهَ يَفْعَلُ مٰا يَشٰاءُ

دخلت إن علي واحدة من جزأي الجملة لزيادة التأكيد، كما في قول جرير:

إنّ الخليفة إنّ اللّه سربله *** سربال ملك به ترجى الخواتيم(1)

والفصل: التمييز بين المحقّ والمبطل، أو الحكم والقضاء بينهما.

وسمّيت مطاوعة هذه الأشياء للّه عزّ وجلّ اسمه فيما يحدث من أفعاله وتسخيره لها سجودا، تشبيها لذلك بما يفعله المكلف من السجود الذي كل خضوع دونه.

وَ كَثِيرٌ مِنَ اَلنّٰاسِ أي: ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة وعبادة، وقيل: التقدير: وكثير من الناس استحقّ الثواب إذ وحّد اللّه وأطاعه، وَ كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ اَلْعَذٰابُ إذ أبي السجود ولم يوحّده جل اسمه.

و من جهنه اللّه بأن كتب عليه الشقاوة وأدخله النار فَمٰا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اَللّٰهَ يَفْعَلُ مٰا يَشٰاءُ من الإكرام و الإهانة.

ص: 12


1- ديوان جرير: 431، وفيه: يكفي الخليفة أن...

[سورة الحج (22): الآیات 19 الی 24]

هٰذٰانِ خَصْمٰانِ اِخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيٰابٌ مِنْ نٰارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ اَلْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مٰا فِي بُطُونِهِمْ وَ اَلْجُلُودُ وَ لَهُمْ مَقٰامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمٰا أَرٰادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهٰا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهٰا وَ ذُوقُوا عَذٰابَ اَلْحَرِيقِ إِنَّ اَللّٰهَ يُدْخِلُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ يُحَلَّوْنَ فِيهٰا مِنْ أَسٰاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِبٰاسُهُمْ فِيهٰا حَرِيرٌ وَ هُدُوا إِلَى اَلطَّيِّبِ مِنَ اَلْقَوْلِ وَ هُدُوا إِلىٰ صِرٰاطِ اَلْحَمِيدِ

هٰذٰانِ فريقان أو جمعان مختصمان، و الخصم مصدر وصف به فاستوي فيه الواحد و الجمع، وقوله: هٰذٰانِ للفظ و اِخْتَصَمُوا للمعنى، كقوله: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتّٰى إِذٰا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ (1)، ولو قال: هؤلاء خَصْمٰانِ أو اختصما لكان جائزا. وقيل: نزلت في النفر الستة من المؤمنين والكافرين تبارزوا يوم بدر، وهو حمزة بن عبد المطلب قتل عتبة بن ربيعة، وعليّ عليه السلام قتل الوليد بن عتبة، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب وقرنه شيبة بن ربيعة(2).

فِي رَبِّهِمْ في دين ربّهم وصفاته.

فَالَّذِينَ كَفَرُوا هو فصل الخصومة المعني بقوله: إِنَّ اَللّٰهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ .

قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيٰابٌ مِنْ نٰارٍ أي: ألبسوا مقطعات النيران وهي الثياب القصار، كأنّه سبحانه يقدّر لهم نيرانا علي مقادير جثثهم كما يقطع الثياب الملبوسة،

ص: 13


1- محمّد: 16.
2- أسباب النزول: 216.

ونحوه: سَرٰابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرٰانٍ (1).

و اَلْحَمِيمُ الماء الحار، وعن ابن عباس: (لو سقطت منه نقطة علي جبال الدنيا لأذابتها)(2).

يُصْهَرُ أي: يذاب وينضج بذلك الحميم أمعاؤهم وأحشاؤهم كما يذاب به جلودهم.

المقامع: السياط.

أي: كُلَّمٰا أَرٰادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهٰا مِنْ غَمٍّ فخرجوا أُعِيدُوا فِيهٰا وعن الحسن: (إنّ النار تضربهم بلهبها فترفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهووا فيها سبعين خريفا)(3)، وقيل لهم: ذُوقُوا عَذٰابَ اَلْحَرِيقِ وهو الغليظ من النار المنتشر العظيم الإحراق.

وقرئ: لُؤْلُؤاً بالنصب على ويؤتون لؤلؤا.

و هدوا أي: وهداهم اللّه إلي أن يقولوا: الحمد للّه الذي صدقنا وعده، وهداهم إلى طريق الجنّة.

و اَلْحَمِيدِ هو اللّه المستحمد علي عباده بنعمه.

و الأساور: جمع أسوار، وفيه ثلاث لغات: أسوار، و سوار، و سوار.

[سورة الحج (22): آیة 25]

إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ اَلَّذِي جَعَلْنٰاهُ لِلنّٰاسِ سَوٰاءً اَلْعٰاكِفُ فِيهِ وَ اَلْبٰادِ وَ مَنْ يُرِدْ

ص: 14


1- إبراهيم: 50.
2- الكشاف ج 3:150.
3- الكشاف ج 3:150.

[سورة الحج (22): الآیات 25 الی 30]

فِيهِ بِإِلْحٰادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذٰابٍ أَلِيمٍ وَ إِذْ بَوَّأْنٰا لِإِبْرٰاهِيمَ مَكٰانَ اَلْبَيْتِ أَنْ لاٰ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّٰائِفِينَ وَ اَلْقٰائِمِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ وَ أَذِّنْ فِي اَلنّٰاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجٰالاً وَ عَلىٰ كُلِّ ضٰامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنٰافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اِسْمَ اَللّٰهِ فِي أَيّٰامٍ مَعْلُومٰاتٍ عَلىٰ مٰا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ اَلْأَنْعٰامِ فَكُلُوا مِنْهٰا وَ أَطْعِمُوا اَلْبٰائِسَ اَلْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ اَلْعَتِيقِ ذٰلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُمٰاتِ اَللّٰهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ أُحِلَّتْ لَكُمُ اَلْأَنْعٰامُ إِلاّٰ مٰا يُتْلىٰ عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ مِنَ اَلْأَوْثٰانِ وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ

وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ يعني: أنّ الصدود يقع منهم علي سبيل الاستمرار والدوام.

لِلنّٰاسِ أي: للذين يقع عليهم اسم الناس، من غير فرق بين حاضر وباد، وناء وطارئ.

وقرئ: سَوٰاءً بالرفع والنصب، فالنصب علي أنّه المفعول الثاني ل - جَعَلْنٰاهُ أي: جعلناه مستويا اَلْعٰاكِفُ فِيهِ وَ اَلْبٰادِ ، والرفع علي أنّ الجملة في محلّ النصب علي المفعول الثأنّي. وفيه دلالة علي امتناع جواز بيع دور مكة.

والمراد ب - اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ : الحرم كله، كما قال: أَسْرىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ

ص: 15

اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ (1) .

و الإلحاد: العدول عن القصد، وقوله: بِإِلْحٰادٍ بِظُلْمٍ حالان مترادفان، ومفعول يُرِدْ متروك ليتناول كل متناول، كأنّه قال: وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ مرادا ما عادلا عن القصد ظالما.

نُذِقْهُ مِنْ عَذٰابٍ أَلِيمٍ يعني: إنّ الواجب علي من كان فيه أن يسلك طريق العدل والسداد في جميع ما يهم به ويقصده. وخبر إِنَّ محذوف، لدلالة جواب الشرط عليه، وتقديره: إنّ الذين كفروا ويصدّون عن سبيل اللّه والمسجد الحرام نذيقهم من عذاب أليم، وكل من ارتكب فيه ذنبا فهو كذلك.

واذكر حين جعلنا لِإِبْرٰاهِيمَ مَكٰانَ اَلْبَيْتِ مباءة، أي: مرجعا يرجع إليه للعمارة والعبادة، و أن هي المفسّرة، أي: تعبّدنا إبراهيم وقلنا له: لاٰ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ من الأصنام والأقذار أن تطرح حوله.

وَ أَذِّنْ فِي اَلنّٰاسِ ناد فيهم، والنداء بِالْحَجِّ أن يقول: حجّوا، أو عليكم بِالْحَجِّ . وروي: أنّه صعد أبا قبيس(2) فقال: يا أيّها الناس، حجّوا بيت ربّكم، فأسمع اللّه صوته كل من سبق علمه بأنّه يحج إلي يوم القيامة، فأجابوه بالتلبية في أصلاب الرجال(3). وعن الحسن: (إنّ الخطاب لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، أمر أن يعلم الناس بوجوب الحج في حجّة الوداع)(4).

رِجٰالاً أي: مشاة، جمع راجل، كقائم وقيام.

ص: 16


1- الإسراء: 1.
2- أبو قبيس: الجبل المشرف على مكة. معجم البلدان ج 1:80.
3- تفسير العياشي ج 2:232، الدر المنثور ج 4:354.
4- معالم التنزيل ج 3:47.

وَ عَلىٰ كُلِّ ضٰامِرٍ حال معطوف علي حال، كأنّه قال: رجالا وركبانا.

يَأْتِينَ صفة ل - كُلِّ ضٰامِرٍ لأنّه في معنى الجمع، و قرأ الصادق عليه السلام:

رجّالا - بضم الراء - مشددة، وقال: هم الرجّالة، وقرئ يأتون - بالواو - صفة للرجال و الركبان.

فَجٍّ عَمِيقٍ طريق بعيد.

و نكّر مَنٰافِعَ لأنّه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات، وقيل: هي منافع الآخرة من العفو والمغفرة(1).

واختلف في الأيّام المعلومات: فالمروي عن الباقر عليه السلام: (أنّها يوم النحر والثلاثة بعده أيّام التشريق، و الأيّام المعدودات: عشر ذي الحجّة)(2). وهو قول ابن عباس(3)، واختيار الزجّاج قال: (لأنّ الذكر هنا يدلّ علي التسمية علي ما يذبح وينحر، وهذه الأيّام تختص بذلك)(4). وعن الصادق عليه السلام: (هو التكبير بمنى عقيب خمس عشرة صلاة أوّلها صلاة الظهر من يوم النحر، يقول: اللّه أكبر اللّه أكبر، لا إله إلا اللّه و اللّه أكبر، اللّه أكبر وللّه الحمد، اللّه أكبر علي ما هدانا، والحمد للّه علي ما أولانا ورزقنا من بهيمة الأنعام)(5).

البهيمة: مبهمة في كل ذات أربع، فبيّنت ب - اَلْأَنْعٰامِ وهي: الإبل والبقر والضأن والمعز.

ص: 17


1- عن الباقر عليه السلام. تفسير الطبري ج 17:108.
2- التبيان ج 7:310.
3- تفسير الطبري ج 17:108.
4- معاني القرآن و إعرابه ج 3:423.
5- تفسير القمي ج 2:84 باختلاف.

والأمر بالأكل منها أمر إباحة، لأنّ أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من نسائكهم، ويجوز أن يكون ندبا لما فيه من مساواة للفقراء و مواساتهم.

اَلْبٰائِسَ الذي أصابه بؤس، أي: شدّة وقصاء.

التفث: قصّ الشارب والأظفار والاستحداد واستعمال الطيب، والتفث:

الوسخ، والمراد: قضاء إزالة التفث.

وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ مواجب حجّهم، أو ما عسى ينذرونه من أعمال البر في حجّهم وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ اَلْعَتِيقِ طواف الزيارة، وروي أصحابنا:

أنّه طواف النساء الذي يستباح به وطء النساء، وذلك بعد طواف الزيارة(1).

والعتيق: القديم، لأنّه أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّٰاسِ (2) وقيل: أعتق من الجبابرة، كم من جبار سار إليه ليهدمه فمنعه اللّه(3)، وقيل: أعتق من الغرق(4)، وقيل: هو الكريم(5)، من قولهم عتاق الطير.

ذٰلِكَ خبر مبتدأ محذوف، أي: الأمر والشأن ذلك، والحرمة: مالا يحلّ هتكه، وجميع ما كلفه اللّه تعالى به من مناسك الحج وغيرها فهو بهذه الصفة، فيحتمل أن يكون عاما في جميع التكاليف، ويحتمل أن يكون خاصا في مناسك الحج فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ فالتعظيم خير له، ومعنى التعظيم: العلم بأنّها واجبة الحفظ إِلاّٰ مٰا يُتْلىٰ عَلَيْكُمْ آية تحريمه، وذلك قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ ... الآية في

ص: 18


1- ينظر: الوسائل ج 9 باب 2 من أبواب الطواف.
2- آل عمران: 96.
3- عن ابن عباس وغيره، وروي مرفوعا. الدر المنثور ج 4:357.
4- عن سعيد بن جبير. الدر المنثور ج 4:359.
5- الكشف والبيان ج 7:20.

سورة المائدة(1).

ثمّ لما حثّ اللّه سبحانه علي تعظيم حرماته، أمر عقيبه باجتناب الأوثان وقول الزور، لأنّ توحيد اللّه ونفي الشركاء عنه وصدق القول من أعظم الحرمات، وقيل: قَوْلَ اَلزُّورِ هو قول أهل الجاهلية: لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك(2).

[سورة الحج (22): الآیات 31 الی 35]

حُنَفٰاءَ لِلّٰهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّٰهِ فَكَأَنَّمٰا خَرَّ مِنَ اَلسَّمٰاءِ فَتَخْطَفُهُ اَلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ اَلرِّيحُ فِي مَكٰانٍ سَحِيقٍ ذٰلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعٰائِرَ اَللّٰهِ فَإِنَّهٰا مِنْ تَقْوَى اَلْقُلُوبِ لَكُمْ فِيهٰا مَنٰافِعُ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهٰا إِلَى اَلْبَيْتِ اَلْعَتِيقِ وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنٰا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اِسْمَ اَللّٰهِ عَلىٰ مٰا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ اَلْأَنْعٰامِ فَإِلٰهُكُمْ إِلٰهٌ وٰاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَ بَشِّرِ اَلْمُخْبِتِينَ اَلَّذِينَ إِذٰا ذُكِرَ اَللّٰهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ اَلصّٰابِرِينَ عَلىٰ مٰا أَصٰابَهُمْ وَ اَلْمُقِيمِي اَلصَّلاٰةِ وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ

حُنَفٰاءَ أي: مستقيمي الطريقة علي أمر اللّه، مائلين عن سائر الأديان.

و قرئ: فَتَخْطَفُهُ اَلطَّيْرُ أي: فتتخطفه فحذف تاء التفعل، وهذا التشبيه يجوز أن يكون من المركب و المفرّق، والمركب مثل أن تقول: من أشرك باللّه فإنّ حاله كحال من خرّ من السماء فاختطفته الطير، أي: أخذته بسرعة فتفرّق أجزاءه في حواصلها، أو عصفت به الريح فهوت به إلي الأماكن البعيدة. والمفرّق أن يكون الإيمان مشبّها في علوه بالسماء، وتاركه مشبّها بالساقط من السماء، والأهواء

ص: 19


1- الآية: 3.
2- عن مقاتل. الدر المنثور ج 4:359.

الموزعة أفكاره بالطير المختطفة، والشيطان الذي يستهويه في الضلالة بالريح التي تهوي به في المهاوي المهلكة.

وتعظيم الشعائر وهي الهدايا، لأنّها من معالم الحج استسمانها و استحسانها، وأن يترك المكاس في شرائها، فقد كانوا يغالون في ثلاث ويكرهون المكاس فيهن:

الهدي، و الأضحية، والرقبة. وعن الباقر عليه السلام: (لا تماكس في أربعة أشياء: في الأضحية، وفي ثمن النسمة، وفي الكفن، وفي الكراء إلي مكة)(1).

فَإِنَّهٰا مِنْ تَقْوَى اَلْقُلُوبِ أي: فإنّ تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب، فحذفت هذه المضافات، ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها، لأنه لابد من عائد من الجزاء إلي من ليرتبط به، وإنّما ذكرت اَلْقُلُوبِ لأنّها مراكز التقوي، فإذا تمكّنت فيها ظهر أثرها في الجوارح.

لَكُمْ في الشعائر مَنٰافِعُ بركوب ظهورها وشرب ألبانها إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى إلى أن ينحر ويتصدق بلحومها، و ثُمَّ للتراخي في الوقت، فاستعيرت للتراخي في الأحوال، والمعنى: إنّ لكم في الهدي منافع كثيرة في دينكم و دنياكم، وأعظم هذه المنافع مَحِلُّهٰا إِلَى اَلْبَيْتِ و محلّها: حيث يجب نحرها، أو وقت وجوب نحرها، أو وجوب نحرها منتهية إلى البيت كقوله: هَدْياً بٰالِغَ اَلْكَعْبَةِ (2)، فإن كان الهدي للحج ينحر بمنى، وإن كان للعمرة بمكة.

و قرئ: مَنْسَكاً بفتح السين وكسرها، وهو مصدر بمعنى النسك، و المكسور بمعنى: الموضع، أي: شرعنا لِكُلِّ أُمَّةٍ أن ينسكوا، أي: يذبحوا لوجه اللّه لأن يذكروا اسمه علي النسائك.

ص: 20


1- الخصال: 223.
2- المائدة: 95.

فَلَهُ أَسْلِمُوا أي: أخلصوا له الذكر خاصة، و اجعلوه لوجهه سالما، أي:

خالصا لا يشوبه إشراك.

والمخبتون: المتواضعون، من الخبت وهو المطمئن من الأرض.

[سورة الحج (22): الآیات 36 الی 40]

وَ اَلْبُدْنَ جَعَلْنٰاهٰا لَكُمْ مِنْ شَعٰائِرِ اَللّٰهِ لَكُمْ فِيهٰا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اِسْمَ اَللّٰهِ عَلَيْهٰا صَوٰافَّ فَإِذٰا وَجَبَتْ جُنُوبُهٰا فَكُلُوا مِنْهٰا وَ أَطْعِمُوا اَلْقٰانِعَ وَ اَلْمُعْتَرَّ كَذٰلِكَ سَخَّرْنٰاهٰا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَنْ يَنٰالَ اَللّٰهَ لُحُومُهٰا وَ لاٰ دِمٰاؤُهٰا وَ لٰكِنْ يَنٰالُهُ اَلتَّقْوىٰ مِنْكُمْ كَذٰلِكَ سَخَّرَهٰا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اَللّٰهَ عَلىٰ مٰا هَدٰاكُمْ وَ بَشِّرِ اَلْمُحْسِنِينَ إِنَّ اَللّٰهَ يُدٰافِعُ عَنِ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُحِبُّ كُلَّ خَوّٰانٍ كَفُورٍ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقٰاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اَللّٰهَ عَلىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيٰارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاّٰ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اَللّٰهُ وَ لَوْ لاٰ دَفْعُ اَللّٰهِ اَلنّٰاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوٰامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَوٰاتٌ وَ مَسٰاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اِسْمُ اَللّٰهِ كَثِيراً وَ لَيَنْصُرَنَّ اَللّٰهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اَللّٰهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ

وَ اَلْبُدْنَ جمع بدنة، سمّي بذلك لعظم بدنها، وهي الإبل خاصة، وجعل البقر في حكم الإبل لقوله عليه السلام: (البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة)(1)، وهي منصوب بإضمار الفعل الذي ظهر تفسيره.

مِنْ شَعٰائِرِ اَللّٰهِ : من أعلام الشريعة التي شرعها اللّه، و إضافتها إلى اسمه تعظيم لها.

لَكُمْ فِيهٰا خَيْرٌ أي: نفع في الدنيا والآخرة.

ص: 21


1- مسند أحمد ج 3:363.

وذكر اِسْمَ اَللّٰهِ عَلَيْهٰا أن يقول: بسم اللّه واللّه أكبر، اللهم منك ولك.

صَوٰافَّ أي: قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن، قد ربطت اليدان من كل واحدة منها ما بين الرسغ إلى الركبة، وعن الباقر عليه السلام: أنّه قرأ صوافن، وروي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس، وهو من صفون الفرس، وهو أن يقوم علي ثلاث وينصب الرابعة علي طرف سنبكه، لأنّ البدنة قد تعقل إحدي يديها فتقوم علي ثلاث.

فَإِذٰا وَجَبَتْ جُنُوبُهٰا أي: سقطت علي الأرض، من وجب الحائط وجبة، ووجبت الشمس جبة، وهو عبارة عن تمام خروج الروح منها.

فَكُلُوا أي: فحلّ لكم الأكل مِنْهٰا والإطعام.

و اَلْقٰانِعَ : السائل، من قنعت إليه وكنعت: إذا خضعت له وسألته قنوعا، وَ اَلْمُعْتَرَّ المعترض بغير سؤال، أو القانع: الراضي يقنع بما أعطيته، والمعتر: المارّ بك تطعمه، يقال: عراه واعتراه وعره واعتره بمعنى.

سَخَّرْنٰاهٰا لَكُمْ تأخذونها مطيعة منقادة للأخذ فتعقلونها، منّ اللّه سبحانه بذلك علي عباده.

لن يصيب رضاء اللّه لُحُومُهٰا المتصدق بها وَ لاٰ دِمٰاؤُهٰا المهراقة بالنحر وَ لٰكِنْ يصيب رضاه اَلتَّقْوىٰ مِنْكُمْ والإخلاص وصدق النية.

و قرئ: ينال و يَنٰالُهُ بالتاء والياء. وروي: أنّ أهل الجاهلية كانوا إذا نحروا لطخوا البيت بالدم، فلما حج المسلمون أرادوا مثل ذلك، فنزلت(1).

وكرر سبحانه تذكير النعمة بالتسخير، ثمّ قال: لِتُكَبِّرُوا اَللّٰهَ عَلىٰ مٰا

ص: 22


1- لباب النقول: 192.

هَدٰاكُمْ وهو أن يقال: اللّه أكبر علي ما هدانا، وقيل: إنّه ضمّن معنى الشكر فعدّاه تعديته، أي: لتشكروا اللّه علي هدايتكم لأعلام دينه و مناسك حجّه، بأن تكبّروا وتهللوا.

ثمّ خصّ المؤمنين بالدفع عنهم والنصرة لهم كما قال: إِنّٰا لَنَنْصُرُ رُسُلَنٰا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا (1)، وجعل العلة في ذلك أنّه لا يحبّ أضدادهم الذين يخونون اللّه ورسوله ويكفرون نعمه.

و قرئ: يُدٰافِعُ أي: يبالغ في الدفع عنهم كما يبالغ من يغالب فيه.

و قرئ: إن و يُقٰاتَلُونَ علي البناء للفاعل والمفعول جميعا، والمعنى:

أذن لهم في القتال، فحذف المأذون فيه لدلالة يقاتلون عليه.

بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا : بسبب كونهم مظلومين، وهم أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وهي أوّل آية نزلت في القتال، والإخبار بكونه قادرا علي نصرهم عدة منه بالنصر، وما قبل الآية من قوله: يُدٰافِعُ عَنِ اَلَّذِينَ آمَنُوا مؤذن بهذه العدة أيضا.

و أَنْ يَقُولُوا مجرور الموضع علي البدل من حَقٍّ ، أي: بِغَيْرِ موجب سوي التوحيد الذي كان ينبغي أن يوجب التمكين والإقرار لا الإخراج من الديار.

ومعنى دَفْعُ اَللّٰهِ اَلنّٰاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ تسليطه المسلمين على الكفار وَ لَوْ لاٰ ذلك لاستولى أهل الشرك على أهل الملل وعلى متعبداتهم فهدموها، ولما تركوا للنصارى بيعا ولا لرهبانهم صَوٰامِعُ ولا لليهود صَلَوٰاتٌ ولا للمسلمين مَسٰاجِدُ . وسمّيت الكنيسة صلاة لأنّها يصلى فيها. وقرأ الصادق عليه السلام: صلوات - بضم الصاد واللام -، وفسّرها بالحصون والآطام،

ص: 23


1- غافر: 51.

وقرئ: دفاع، ولهدمت - بالتخفيف -.

مَنْ يَنْصُرُهُ أي: ينصر دينه وأولياءه.

[سورة الحج (22): الآیات 41 الی 45]

اَلَّذِينَ إِنْ مَكَّنّٰاهُمْ فِي اَلْأَرْضِ أَقٰامُوا اَلصَّلاٰةَ وَ آتَوُا اَلزَّكٰاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ لِلّٰهِ عٰاقِبَةُ اَلْأُمُورِ وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عٰادٌ وَ ثَمُودُ وَ قَوْمُ إِبْرٰاهِيمَ وَ قَوْمُ لُوطٍ وَ أَصْحٰابُ مَدْيَنَ وَ كُذِّبَ مُوسىٰ فَأَمْلَيْتُ لِلْكٰافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كٰانَ نَكِيرِ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنٰاهٰا وَ هِيَ ظٰالِمَةٌ فَهِيَ خٰاوِيَةٌ عَلىٰ عُرُوشِهٰا وَ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ

هذا ثناء من اللّه عزّ اسمه علي المؤمنين، وإخبار عما سيكون منهم بظهر الغيب إن مكّنهم فِي اَلْأَرْضِ وبسط لهم في الدنيا من القيام بأمور الدين. وعن الباقر عليه السلام أنّه قال: (نحن هم)(1).

و اَلَّذِينَ منصوب بدل من قوله: مَنْ يَنْصُرُهُ ، وقيل: هو تابع ل - اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا (2) فيكون المعني بهم: المهاجرين.

وَ لِلّٰهِ عٰاقِبَةُ اَلْأُمُورِ أي: مرجعها إلى حكمه وتقديره.

أي: لست بواحد في التكذيب، فقد كذّب الرسل أقوامهم، ولك بهم أسوة.

وَ كُذِّبَ مُوسىٰ أيضا مع ظهور معجزاته.

فَكَيْفَ كٰانَ نَكِيرِ أي: إنكاري وتغييري حيث أبدلتهم بالنعمة نقمة

ص: 24


1- تفسير فرات: 274.
2- الكشاف ج 3:161.

وبالمنحة محنة، وبالعمارة خرابا.

والخاوي: الساقط، من خوي النجم: إذا سقط، أو الخالي من خوى المنزل:

إذا خلا من أهله، وخوى بطن الحامل. وكل مرتفع أظلك من سقف بيت أو أظلة أو كرم فهو عرش. وقوله: عَلىٰ عُرُوشِهٰا إن تعلّق ب - خٰاوِيَةٌ فالمعنى: أنّها ساقطة علي سقوفها، أي: خرّت سقوفها على الأرض ثمّ سقطت حيطانها عليها، أو أنّها ساقطة أو خالية مع بقاء عروشها؛ وإن كان خبرا بعد خبر فالمعنى: هي خالية وهي مطلة علي عروشها، على معنى: أنّ العروش سقطت على الأرض وبقيت الحيطان مشرفة عليها. و قرئ: أهلكتها.

ومعنى المعطلة: إنّها عامرة فيها الماء، ومعها آلات الاستسقاء إلا أنّها عطلت أي: تركت لا يستسقى منها لهلاك أهلها. أي: وكم من بئر عطلناها عن سقائها وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ أخليناه عن ساكنيه، فحذفت لدلالة مُعَطَّلَةٍ عليه، وفي هذا دليل علي أنّ عَلىٰ بمعنى (مع) في عَلىٰ عُرُوشِهٰا .

و المشيد ك المرتفع، وقيل: المجصص(1).

[سورة الحج (22): الآیات 46 الی 49]

أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهٰا أَوْ آذٰانٌ يَسْمَعُونَ بِهٰا فَإِنَّهٰا لاٰ تَعْمَى اَلْأَبْصٰارُ وَ لٰكِنْ تَعْمَى اَلْقُلُوبُ اَلَّتِي فِي اَلصُّدُورِ وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذٰابِ وَ لَنْ يُخْلِفَ اَللّٰهُ وَعْدَهُ وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمّٰا تَعُدُّونَ وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهٰا وَ هِيَ ظٰالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهٰا وَ إِلَيَّ اَلْمَصِيرُ قُلْ يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ إِنَّمٰا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ

ص: 25


1- عن سعيد بن جبير وغيره. تفسير الطبري ج 17:128.

[سورة الحج (22): الآیات 49 الی 51]

مُبِينٌ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ وَ اَلَّذِينَ سَعَوْا فِي آيٰاتِنٰا مُعٰاجِزِينَ أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلْجَحِيمِ

ثمّ حث سبحانه علي السفر والاعتبار بمصارع من أهلكهم اللّه من الكفار.

أي: يَعْقِلُونَ بِهٰا ما يجب أن يعقل من التوحيد، و يَسْمَعُونَ ما يجب سماعه من الوحي فَإِنَّهٰا الضمير للشأن والقصّة، وقد يجيء مؤنثا، ويجوز أن يكون ضميرا مبهما يفسّره اَلْأَبْصٰارُ ، وفي تعمى راجع إليه، و المعنى: إنّ أبصارهم صحيحة لا عمى بها وإنّما العمى بقلوبهم، أو يريد أن لا اعتبار بعمى الأبصار، فكأنّه ليس بعمى بالإضافة إلى عمى القلوب.

وقوله: اَلَّتِي فِي اَلصُّدُورِ توكيد كما في قوله: يَقُولُونَ بِأَفْوٰاهِهِمْ (1)، وذلك لتقرير: أنّ مكان العمى هو القلب لا البصر.

ثمّ أنكر استعجالهم للعذاب المتوعد به، أي: كأنّهم يجوزون فوته، واللّه عزّ اسمه لا يخلف وعده، ولا محالة أن يصيبهم ذلك إلا أنّه عزّ اسمه حليم لا يعجل، ومن حلمه واستقصاره المدد الطويلة أن يَوْماً واحدا عنده كَأَلْفِ سَنَةٍ عندكم، وقيل: معناه: كيف يستعجلون بعذاب من يوم واحد من أيّام عذابه في طول ألف سنة من سنيكم، لأن أيّام الشدائد طوال(2).

وكم مِنْ أهل قَرْيَةٍ قد أنظرتهم حينا ثم أخذتهم بالعذاب وَ إِلَى المرجع.

ص: 26


1- آل عمران: 167.
2- معاني القرآن للفراء ج 2:228.

سَعَوْا فِي آيٰاتِنٰا بالفساد: من الطعن فيها بأن سمّوها سحرا وشعرا و أساطير الأوّلين، ومن تثبيط الناس عنها.

مُعٰاجِزِينَ أي: مسابقين في زعمهم وتقديرهم. و قرئ: معجزين، أي:

مسابقين عندهم طامعين أن كيدهم للإسلام يتم لهم، أو قاصدين تعجيز رسولنا، يقال: عاجزه أي: سابقه، لأنّ كل واحد من المتسابقين في طلب عجز الآخر عن اللحاق به، فإذا سبقه قيل: أعجزه وعجزه.

[سورة الحج (22): الآیات 52 الی 55]

وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لاٰ نَبِيٍّ إِلاّٰ إِذٰا تَمَنّٰى أَلْقَى اَلشَّيْطٰانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اَللّٰهُ مٰا يُلْقِي اَلشَّيْطٰانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اَللّٰهُ آيٰاتِهِ وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِيَجْعَلَ مٰا يُلْقِي اَلشَّيْطٰانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ اَلْقٰاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ اَلظّٰالِمِينَ لَفِي شِقٰاقٍ بَعِيدٍ وَ لِيَعْلَمَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ أَنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ اَللّٰهَ لَهٰادِ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَ لاٰ يَزٰالُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتّٰى تَأْتِيَهُمُ اَلسّٰاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذٰابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ

روي أنّ السبب في نزول هذه الآية: أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم تلا سورة النجم وهو في نادي قومه، فلما بلغ قوله: وَ مَنٰاةَ اَلثّٰالِثَةَ اَلْأُخْرىٰ (1)أَلْقَى اَلشَّيْطٰانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ أي: في تلاوته: تلك الغرانيق العلى وإنّ شفاعتهنّ لترتجى، فسرّ بذلك المشركون، فنزلت الآية تسلية له صلى الله عليه و آله و سلم(2). ومعناه: أنّه لم يبعث رسول ولا نبيّ إلا

ص: 27


1- النجم: 20.
2- أسباب النزول: 217.

إذا تمنّى أي: تلا، حاول الشيطان تغليطه فألقى في تلاوته ما يوهم أنّه من جملة الوحي، فيرفع اللّه ما ألقاه بمحكم آياته، وقيل: إنّما ألقى ذلك في تلاوته بعض الكفار، فأضيف ذلك إلي الشيطان لما حصل بإغوائه. ومما يبين أنّ التمنّي يكون في معنى التلاوة، قول حسان بن ثابت:

تمنّى كتاب اللّه أوّل ليله *** و آخره لاقى حمام المقادر(1)

وعن مجاهد قال: (كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إذا تأخر عنه الوحي تمنّى أن ينزل عليه فيلقي الشيطان في أمنيته بما يوسوس إليه، وينسخ اللّه ذلك ويبطله بما يرشده إليه من مخالفة الشيطان)(2). وقيل: تلك الغرانيق إشارة إلى الملائكة، أي: هم الشفعاء لا الأصنام، والغرانيق: جمع غرنوق، وهو الشاب الجميل الممتلئ ريا.

فَيَنْسَخُ اَللّٰهُ مٰا يُلْقِي اَلشَّيْطٰانُ أي: يذهب به ويبطله.

ثُمَّ يُحْكِمُ اَللّٰهُ آيٰاتِهِ أي: يثبّتها حتى لا يتطرق عليها ما يشعثها.

لِيَجْعَلَ مٰا يُلْقِي اَلشَّيْطٰانُ في الأمنية وتمكينه من ذلك فِتْنَةً أي: محنة و ابتلاء، يزداد المنافقون به شكا وظلمة، وهم الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ، والمؤمنون يقينا ونورا قد ازدادوا إيمانا إلى إيمانهم.

وَ اَلْقٰاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ هم المشر كون المكذبون.

وَ إِنَّ اَلظّٰالِمِينَ يعني: وإنّ هؤلاء المنافقين والمشركين، والأصل: و إنّهم، إلا أنّه وضع الظاهر موضع الضمير ليقضي عليهم بالظلم.

لَفِي شِقٰاقٍ أي: مشاقة للّه تعالى.

ص: 28


1- لم أعثر عليه لحسان و إنما هو لكعب بن مالك، ديوانه: 294.
2- التبيان ج 7:330.

وَ لِيَعْلَمَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ باللّه وبحكمته أَنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وفي الحكمة فيصدّقوا به.

فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ أي: تطمئن و تسكن.

وَ إِنَّ اَللّٰهَ لَهٰادِ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِلىٰ أن يتأوّلوا ما يتشابه في الدين بالتأويلات الصحيحة، فلا تعتريهم شبهة ولا تخالجهم مرية.

والضمير في قوله: فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ للقرآن أو للرسول. والمراد باليوم العقيم: يوم بدر، وصفه بالعقيم لأنّ أولاد النساء يقتلون فيه فيصرن كأنّهن عقم لم يلدن، أو لأنّ المقاتلين يوصفون بأنّهم أبناء الحرب فإذا قتلوا وصف يوم الحرب بأنّه عقيم مجازا، أو لأنّه لا مثل لهذا اليوم في عظم أمره لقتال الملائكة فيه، كما قيل:

عقم النّساء فما يلدن شبيهه إنّ النّساء بمثله عقم(1)

وقيل: المراد به يوم القيامة، وسمّاه عقيما لأنه لا ليلة له(2)، وكأنّه قال: تَأْتِيَهُمُ اَلسّٰاعَةُ ... أَوْ يَأْتِيَهُمْ عذابها، فوضع الظاهر موضع الضمير.

[سورة الحج (22): الآیات 56 الی 60]

اَلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلّٰهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ فِي جَنّٰاتِ اَلنَّعِيمِ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا فَأُولٰئِكَ لَهُمْ عَذٰابٌ مُهِينٌ وَ اَلَّذِينَ هٰاجَرُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مٰاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اَللّٰهُ رِزْقاً حَسَناً وَ إِنَّ اَللّٰهَ لَهُوَ خَيْرُ اَلرّٰازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَ إِنَّ اَللّٰهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ذٰلِكَ

ص: 29


1- ديوان أبي دهبل الجمحي: 66.
2- عن الضحاك وغيره. تفسير الطبري ج 17:135.

[سورة الحج (22): آیة 60]

وَ مَنْ عٰاقَبَ بِمِثْلِ مٰا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اَللّٰهُ إِنَّ اَللّٰهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ

التقدير في يَوْمَئِذٍ : يوم يؤمنون، أو يوم تزول مريتهم.

سوّى بين من مات من المهاجرين في سبيل اللّه وبين من قتل منهم في الموعد تفضلا منه.

و الله عليم بدرجات العاملين ومراتب استحقاقهم حَلِيمٌ عن تفريط من فرط منهم بفضله وكرمه. وروي: أنّهم قالوا: يا رسول اللّه، هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم اللّه من الخير، ونحن نجاهد معك كما جاهدوا، فما لنا إن متنا معك ؟ فأنزل اللّه تعالى هاتين الآيتين.

وَ مَنْ عٰاقَبَ بِمِثْلِ مٰا عُوقِبَ بِهِ أي: ومن جازى الظالم بمثل ما ظلمه، سمّى الابتداء بالمعاقبة من حيث إنّه سبب وذاك مسبب عنه، كما حملوا النظير علي النظير والنقيض علي النقيض للملابسة لَيَنْصُرَنَّهُ اَللّٰهُ الضمير للمبغي عليه.

لَعَفُوٌّ غَفُورٌ لا يلومه علي ترك ما بعثه عليه من العفو عن الجاني بقوله:

وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوىٰ (1) ، فَمَنْ عَفٰا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اَللّٰهِ (2).

[سورة الحج (22): الآیات 61 الی 63]

ذٰلِكَ بِأَنَّ اَللّٰهَ يُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهٰارِ وَ يُولِجُ اَلنَّهٰارَ فِي اَللَّيْلِ وَ أَنَّ اَللّٰهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ذٰلِكَ بِأَنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْحَقُّ وَ أَنَّ مٰا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ اَلْبٰاطِلُ وَ أَنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّٰهَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمٰاءِ

ص: 30


1- البقرة: 237.
2- الشورى: 40.

[سورة الحج (22): الآیات 63 الی 65]

فَتُصْبِحُ اَلْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اَللّٰهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ لَهُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ وَ إِنَّ اَللّٰهَ لَهُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّٰهَ سَخَّرَ لَكُمْ مٰا فِي اَلْأَرْضِ وَ اَلْفُلْكَ تَجْرِي فِي اَلْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ يُمْسِكُ اَلسَّمٰاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى اَلْأَرْضِ إِلاّٰ بِإِذْنِهِ إِنَّ اَللّٰهَ بِالنّٰاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ

أي: ذٰلِكَ النصر بسبب أنّه قادر، و من آيات قدرته أنّه يُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهٰارِ وَ يُولِجُ اَلنَّهٰارَ فِي اَللَّيْلِ ، أو بسبب أنّه خالق الليل والنهار فلا يخفى عليه ما يجري فيهما علي أيدي عباده من خير أو شرّ، فإنّه سَمِيعٌ لما يقولون بَصِيرٌ بما يعملون.

و قرئ: يَدْعُونَ بالياء والتاء.

ذٰلِكَ أي: ذلك الوصف بخلق الليل و النهار وبالإحاطة بما يجري فيهما بسبب أنّه اللّه اَلْحَقُّ الثابت إلهيته، وأنّ كل ما يدعى إلها من دونه باطل الدعوة، و أنّه اَلْعَلِيُّ عن الأشباه، ولا شيء أعلى منه شأنا وأكبر سلطانا.

فَتُصْبِحُ اَلْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إنّما رفع لأنّ المعنى إثبات الاخضرار، ولو نصب جوابا للاستفهام لانقلب المعنى إلى نفي الاخضرار.

لَطِيفٌ واصل علمه أو فضله إلى عباده خَبِيرٌ بمصالحهم.

سَخَّرَ لَكُمْ مٰا فِي اَلْأَرْضِ من البهائم مذللة للركوب في البر، و من المراكب جارية فِي اَلْبَحْرِ وغير ذلك من المسخّرات.

أَنْ تَقَعَ أي: كراهة أن تقع إلا بمشيئته.

ص: 31

[سورة الحج (22): الآیات 66 الی 72]

وَ هُوَ اَلَّذِي أَحْيٰاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ اَلْإِنْسٰانَ لَكَفُورٌ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنٰا مَنْسَكاً هُمْ نٰاسِكُوهُ فَلاٰ يُنٰازِعُنَّكَ فِي اَلْأَمْرِ وَ اُدْعُ إِلىٰ رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلىٰ هُدىً مُسْتَقِيمٍ وَ إِنْ جٰادَلُوكَ فَقُلِ اَللّٰهُ أَعْلَمُ بِمٰا تَعْمَلُونَ اَللّٰهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ فِيمٰا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللّٰهَ يَعْلَمُ مٰا فِي اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّ ذٰلِكَ فِي كِتٰابٍ إِنَّ ذٰلِكَ عَلَى اَللّٰهِ يَسِيرٌ وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مٰا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطٰاناً وَ مٰا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ مٰا لِلظّٰالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ وَ إِذٰا تُتْلىٰ عَلَيْهِمْ آيٰاتُنٰا بَيِّنٰاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلْمُنْكَرَ يَكٰادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيٰاتِنٰا قُلْ أَ فَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذٰلِكُمُ اَلنّٰارُ وَعَدَهَا اَللّٰهُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ

لَكَفُورٌ أي: جحود يجحد الخالق مع هذه الأدلة الدالة علي الخلق.

فَلاٰ يُنٰازِعُنَّكَ نهي لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، أي: لا تلتفت إلى قولهم، ولا تمكّنهم من أن ينازعوك، أو هو زجر لهم عن منازعته.

فِي اَلْأَمْرِ أي: في أمر الدين. روي: أنّ بديل بن ورقاء وغيره من كفار خزاعة قالوا للمسلمين: ما لكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله اللّه ؟ يعنون الميتة(1).

وإن أبوا إلا مجادلتك فادفعهم بأن تقول: اَللّٰهُ أَعْلَمُ بأعمالكم وبقبحها، فهو مجازيكم عليها، وهذا وعيد برفق ولطف.

ص: 32


1- الكشف والبيان ج 7:33.

اَللّٰهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ أي: يفصل بينكم بالثواب والعقاب، وهذا تسلية لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مما كان يلقاه منهم.

أي: وكيف تخفى عليه أعمالهم وقد علم بالدليل أنّه سبحانه يَعْلَمُ كل ما يحدث فِي اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ ، وقد كتبه في اللوح المحفوظ قبل حدوثه ؟! وحفظ ذلك وإثباته والإحاطة به عليه يَسِيرٌ .

وَ يَعْبُدُونَ ما لم يتمسّكوا في صحّة عبادته ببرهان سماوي، ولا عرفوه بدليل عقلي، و ما لمن ظلم مثل هذا الظلم ناصر ينصره.

اَلْمُنْكَرَ الفظيع من التجهّم و العبوس، أو الإنكار كالمكرم بمعنى الإكرام.

و يَسْطُونَ أي: يقعون ويبطشون من شدّة الغيظ.

اَلنّٰارُ خبر مبتدأ محذوف، كأنّ قائلا قال: ما هو؟ فقال: النار، أي: هو النار.

مِنْ ذٰلِكُمُ أي: من سطوكم على التالين للآيات وغيظكم عليهم، أو مما أصابكم من الغيظ والكراهة بسبب ما تلي عليكم.

وَعَدَهَا اَللّٰهُ استئناف، أو تكون اَلنّٰارُ مبتدأ وَعَدَهَا اَللّٰهُ خبره.

[سورة الحج (22): الآیات 73 الی 75]

يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبٰاباً وَ لَوِ اِجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ اَلذُّبٰابُ شَيْئاً لاٰ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ اَلطّٰالِبُ وَ اَلْمَطْلُوبُ مٰا قَدَرُوا اَللّٰهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اَللّٰهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ اَللّٰهُ يَصْطَفِي مِنَ اَلْمَلاٰئِكَةِ رُسُلاً وَ مِنَ اَلنّٰاسِ إِنَّ

ص: 33

[سورة الحج (22): الآیات 75 الی 78]

اَللّٰهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يَعْلَمُ مٰا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مٰا خَلْفَهُمْ وَ إِلَى اَللّٰهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِرْكَعُوا وَ اُسْجُدُوا وَ اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ اِفْعَلُوا اَلْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَ جٰاهِدُوا فِي اَللّٰهِ حَقَّ جِهٰادِهِ هُوَ اِجْتَبٰاكُمْ وَ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرٰاهِيمَ هُوَ سَمّٰاكُمُ اَلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَ فِي هٰذٰا لِيَكُونَ اَلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَدٰاءَ عَلَى اَلنّٰاسِ فَأَقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ وَ آتُوا اَلزَّكٰاةَ وَ اِعْتَصِمُوا بِاللّٰهِ هُوَ مَوْلاٰكُمْ فَنِعْمَ اَلْمَوْلىٰ وَ نِعْمَ اَلنَّصِيرُ

قد تسمّى الصفة أو القصّة الرائعة مثلا لاستحسانها واستغرابها، تشبيها ببعض الأمثال التي سيّرت لكونها مستحسنة عندهم.

وقرئ: تَدْعُونَ بالياء والتاء.

وَ لَوِ اِجْتَمَعُوا لَهُ في محلّ النصب علي الحال، كأنّه قال: إنّ خلق الذباب يستحيل منهم مشروطا عليهم اجتماعهم لخلقه، وهذا مبالغة في تجهيل قريش حيث وصفوا صورا ممثلة يستحيل منها أن تقدر علي أقل ما خلقه اللّه وأحقره ولو اجتمعوا لذلك بالإلهية التي تقتضي الاقتدار علي كل أجناس المقدورات، والإحاطة بجميع المعلومات.

و اَلطّٰالِبُ الذباب وَ اَلْمَطْلُوبُ الصنم، وقيل: بالعكس منه، والمعنى:

ضعف السالب و المسلوب(1)، وقيل: معناه: جهل العابد والمعبود(2).

ص: 34


1- عن ابن عباس. تفسير الطبري ج 17:141.
2- عن الضحاك. الكشف والبيان ج 7:34.

مٰا قَدَرُوا اَللّٰهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي: ما عرفوه حقّ معرفته، وما عظموه حقّ عظمته حيث جعلوا الأصنام شركاء له.

اَللّٰهُ يَصْطَفِي هذا رد لإنكارهم من أن يكون الرسول من البشر، وبيان أن رسل اللّه قد يكونون مِنَ اَلْمَلاٰئِكَةِ ومن البشر. ثمّ ذكر أنّه سبحانه عالم بأحوال المكلفين من مضى منهم و من غير، فلا يعترض عليه في حكمه واختياره.

أمر سبحانه بالصلاة التي هي أجلّ العبادات، ثمّ بغيرها من العبادات كالصوم والحج والزكاة، ثمّ بفعل الخيرات علي العموم، وعن ابن عباس: (أنّ اَلْخَيْرَ صلة الأرحام ومكارم الأخلاق)(1).

لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي: افعلوا هذا كله وأنتم طامعون في الفلاح، لا تتكلون علي أعمالكم. وعن عقبة بن عامر(2) قال: (قلت: يا رسول اللّه، في سورة الحج سجدتان ؟ قال: نعم، إن لم تسجد هما فلا تقرأهما)(3).

وَ جٰاهِدُوا فِي اَللّٰهِ أمر بالغزو، أو بمجاهدة النفس والهوي وهو الجهاد الأكبر، [كما روي أنّه صلى الله عليه و آله و سلم رجع من بعض غزواته فقال: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)(4)](5).

فِي اَللّٰهِ أي: في ذات اللّه، ومن أجله.

ص: 35


1- معالم التنزيل ج 3:55.
2- عقبة بن عامر بن عبس الجهني سكن مصر واليا عليها من قبل معاوية، توفي في آخر زمن معاوية. ينظر: الاستيعاب ج 3:106، معجم رجال الحديث ج 12:171.
3- سنن الدارقطني ج 1:408.
4- الكشف والبيان ج 7:36. أمالي الصدوق: 377.
5- ساقطة من ج.

حَقَّ جِهٰادِهِ كما يقال: هو حقّ عالم أي: عالم حقّا، وكان القياس: حقّ الجهاد فيه أو حقّ جهادكم فيه، إلا أنّ الجهاد لما اختص باللّه من حيث إنّه يفعل لوجهه ومن أجله جازت إضافته إليه، لأنّ الإضافة قد تكون بأدنى اختصاص، ويجوز أن يتسع في الظرف، كقول الشاعر:

ويوم شهدناه سليما وعامرا(1)

اِجْتَبٰاكُمْ أي: اختاركم لدينه ولنصرته.

مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ أي: ضيق، فلم يكلفكم مالا تطيقونه، ورخّص لكم عند الضرورات كالقصر والتيمم، وجعل التوبة مخلصا لكم من الذنوب، ونحوه: يُرِيدُ اَللّٰهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لاٰ يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ (2). وفي الحديث:

(إن أمّتي أمّة مرحومة)(3).

مِلَّةَ أَبِيكُمْ نصب علي الاختصاص، أي: أعني بالدين ملة أبيكم، أو بمضمون ما تقدّمها، كأنّه قال: وسع دينكم توسعة ملة أبيكم، ثمّ حذف المضاف، وجعل إِبْرٰاهِيمَ أبا للأمة كلها، لأنّ العرب من ولد إسماعيل، وأكثر العجم من ولد إسحاق، ولأنّه أبو رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو أب لأمته، فالأمة في حكم أولاده.

هُوَ سَمّٰاكُمُ الضمير للّه تعالى أو لإبراهيم من قبل القرآن في سائر الكتب وَ فِي هٰذٰا القرآن، أي: فضّلكم علي الأمم و سمّاكم بهذا الاسم.

لِيَكُونَ اَلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ بالطاعة والقبول وَ تَكُونُوا شُهَدٰاءَ عَلَى

ص: 36


1- الكتاب ج 1:178 لرجل من بني عامر، وبقيته: قليل سوي الطعن النهال نوافله.
2- البقرة: 185.
3- مسند أحمد ج 4:410.

الأمم بأنّ الرسل قد بلّغوهم، ومثله: كَذٰلِكَ جَعَلْنٰاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا...

الآية(1)، وقيل: شهيدا عليكم أنّه قد بلّغكم، وتكونوا شهداء علي الناس بعدكم بأن تبلّغوا إليهم ما بلّغه الرسول إليكم.

وإذ خصّكم سبحانه بهذه الكرامة فاعبدوه وثقوا به وتمسّكوا بدينه هُوَ مَوْلاٰكُمْ المتولي لأمركم، وهو خير مولى وناصر.

ص: 37


1- البقرة: 143.

سورة المؤمنون

اشارة

مكية، مائة وثمان عشرة آية كوفي، وتسع عشرة آية غيرهم، لم يعدّ الكوفي وَ أَخٰاهُ هٰارُونَ .

في حديث أبيّ : (من قرأها بشّرته الملائكة بالروح والريحان يوم القيامة، وبما تقرّ به عينه عند نزول ملك الموت)(1)، وعن الصادق عليه السلام: (من قرأها ختم اللّه له بالسعادة إذا كان يدمن قراءتها في كل جمعة، وكان منزله في الفردوس الأعلى مع النبيّين والمرسلين)(2).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة المؤمنون (23): الآیات 1 الی 8]

قَدْ أَفْلَحَ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاٰتِهِمْ خٰاشِعُونَ وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنِ اَللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكٰاةِ فٰاعِلُونَ وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حٰافِظُونَ إِلاّٰ عَلىٰ أَزْوٰاجِهِمْ أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ اِبْتَغىٰ وَرٰاءَ ذٰلِكَ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلعٰادُونَ وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِأَمٰانٰاتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ رٰاعُونَ

ص: 38


1- الكشف والبيان ج 7:37.
2- ثواب الأعمال: 108.

[سورة المؤمنون (23): الآیات 9 الی 11]

وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَلىٰ صَلَوٰاتِهِمْ يُحٰافِظُونَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْوٰارِثُونَ اَلَّذِينَ يَرِثُونَ اَلْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ

الفلاح: الظفر بالمراد، وقيل: البقاء في الخير(1).

و أَفْلَحَ : دخل في الفلاح، ك - (أبشر): دخل في البشارة.

والخشوع في الصلاة: خشية القلب والتواضع، وأضيفت الصلاة إليهم لأنّهم المنتفعون بها، وهي عدّتهم وذخيرتهم، والذي يصلّون له جلّ وتقدّس عن الحاجة إليها.

و اللَّغْوِ : ما لا يعنيك من قول أو فعل كالهزل واللعب، والمعنى: إنّهم شغلهم الجدّ عن الهزل والباطل وجميع المعاصي. ولما وصفهم بالخشوع في الصلاة وصفهم عقيبه بالإعراض عن اللغو ليجمع لهم الفعل والترك.

والزكاة: اسم مشترك بين عين ومعنى، فالعين: ما يخرجه المزكّي، والمعنى:

فعله الذي هو التزكية، وهو المراد في الآية. وما من مصدر إلا وقد يعبّر عن معناه بالفعل، ويقال لمحدثه: فاعل، كما يقال للضارب: فاعل الضرب، وأنشد لأمية بن أبي الصلت:

المطعمون الطّعام في السّنة الأ *** زمة و الفاعلون للزّكوات(2)

ويجوز أن يراد با لزكاة: العين علي تقدير مضاف محذوف وهو الأداء، ويحمل البيت علي هذا أيضا.

عَلىٰ أَزْوٰاجِهِمْ في موضع الحال، أي: الأوّالين علي أزواجهم، والمعنى:

ص: 39


1- معاني القرآن و إعرابه ج 4:5.
2- أمية بن أبي الصلت حياته وشعره: 165.

إنّهم لِفُرُوجِهِمْ حٰافِظُونَ في جميع الأحوال إِلاّٰ في حال تزوّجهم أو تسرّيهم.

ويجوز أن يتعلّق عَلىٰ بمحذوف يدلّ عليه قوله تعالى: غَيْرُ مَلُومِينَ كأنّه قال: يلامون إلا علي أزواجهم، أي: يلامون علي كل مباشر إلا علي ما أطلق لهم فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ عليه.

فَمَنِ اِبْتَغىٰ وَرٰاءَ ذٰلِكَ أي: طلب سوى الأزواج و المملوكة.

فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلعٰادُونَ الكاملون في العدوان المتناهون فيه.

قرئ: لأمانتهم و لِأَمٰانٰاتِهِمْ ، وعلي صلاتهم و صَلَوٰاتِهِمْ علي الواحد والجمع، و سمّي الشيء المؤتمن عليه [والمعاهد عليه أمانة وعهدا، ومثله:

يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَمٰانٰاتِ (1) ، وَ تَخُونُوا أَمٰانٰاتِكُمْ (2)، وإنّما يؤدى المؤتمن عليه](3) لا الأمانة نفسها، وكذلك الخيانة. ويحتمل العموم في كل ما ائتمنوا عليه وعوهدوا من جهة اللّه ومن جهة المخلوقين، والخصوص فيما حملوه من الأمانات للناس وعهودهم.

وكرر ذكر الصلاة، لأنّ في الأوّل وصفهم بالخشوع فيها، وفي الثاني وصفهم بالمحافظة عليها، وهو أن يؤدّوها في أوقاتها ويراعوا أركانها.

أُولٰئِكَ الجامعون لهذه الصفات هم الأحقّاء بأن يسمّوا ورّاثا دون من عدا هم، ثمّ بيّن الوارثين بقوله: اَلَّذِينَ يَرِثُونَ اَلْفِرْدَوْسَ ، و أنّث اَلْفِرْدَوْسَ علي تأويل الجنة.

ص: 40


1- النساء: 58.
2- الأنفال: 27.
3- ساقطة من ج.

[سورة المؤمنون (23): الآیات 12 الی 20]

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسٰانَ مِنْ سُلاٰلَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنٰاهُ نُطْفَةً فِي قَرٰارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا اَلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا اَلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا اَلْمُضْغَةَ عِظٰاماً فَكَسَوْنَا اَلْعِظٰامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنٰاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبٰارَكَ اَللّٰهُ أَحْسَنُ اَلْخٰالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ تُبْعَثُونَ وَ لَقَدْ خَلَقْنٰا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرٰائِقَ وَ مٰا كُنّٰا عَنِ اَلْخَلْقِ غٰافِلِينَ وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّٰاهُ فِي اَلْأَرْضِ وَ إِنّٰا عَلىٰ ذَهٰابٍ بِهِ لَقٰادِرُونَ فَأَنْشَأْنٰا لَكُمْ بِهِ جَنّٰاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنٰابٍ لَكُمْ فِيهٰا فَوٰاكِهُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْهٰا تَأْكُلُونَ وَ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنٰاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ

السلالة: خلاصة تسلّ من بين الكدر، وعن الحسن: (ماء بين ظهراني الطين)(1). والمعنى: خَلَقْنَا جوهر الإنسان أوّلا مِنْ طِينٍ ثمّ جعلنا جوهره بعد ذلك نُطْفَةً . و من الأوّل للابتداء و من الثاني للبيان.

والقرار: المستقر، يريد: الرحم، وصفها بالمكانة التي هي صفة المستقر فيها، كقولهم: طريق سائر، أو بمكانتها في نفسها لأنّها مكنت بحيث هي وأحرزت.

وقرئ: عظما فكسونا العظم، علي الإفراد وعلي الجمع في الموضعين، وضع الواحد موضع الجمع لزوال اللبس، لأنّ الإنسان ذو عظام كثيرة.

أي: خَلْقاً آخَرَ مباينا للخلق الأوّل، حيث جعله حيوانا بعد كونه جمادا، وأودع كل جزء من أجزائه من عجائب فطرة وغرائب حكمة مالا يكتنه

ص: 41


1- الكشاف ج 3:178.

بالوصف فَتَبٰارَكَ اَللّٰهُ تعالى واستحقّ التعظيم.

أَحْسَنُ اَلْخٰالِقِينَ أي: أحسن المقدّرين تقديرا، فترك ذكر المميز لدلالة اَلْخٰالِقِينَ عليه.

والطرائق: السماوات، لأنه طورق بعضها فوق بعض، وكل شيء فوقه مثله فهو طريقه، أو لأنّها طرق الملائكة ومتقلباتهم، أو هي الأفلاك لأنّها طرائق الكواكب وفيها مسائرها.

بِقَدَرٍ أي: بتقدير يصلون به إلى المنفعة ويسلمون من المضرّة، أو بمقدار ما علمنا من مصالحهم وحاجاتهم.

فَأَسْكَنّٰاهُ فِي اَلْأَرْضِ كقوله: فَسَلَكَهُ يَنٰابِيعَ فِي اَلْأَرْضِ (1)، وكما قدرنا علي إنزاله فنحن قادرون علي رفعه وإزالته، وقوله: عَلىٰ ذَهٰابٍ يعني علي وجه من وجوه الذهاب بِهِ .

وخصّ هذه الأنواع الثلاثة من جملة الأشجار لأنّها أكرمها وأجمعها للمنافع، ووصف النخيل والأعناب بأنّ ثمرهما جامع بين أمرين: إنّه فاكهة يتفكه بها، وطعام يؤكل رطبا ويابسا، ولذلك أتى بالواو، والزيتون بأنّ دهنه صالح للاستصباح والاصطباغ جميعا.

وَ شَجَرَةً عطف علي جَنّٰاتٍ . وقرئ: سَيْنٰاءَ بكسر السين وفتحها، فمن كسرها فإنّما يمنع الصرف للتعريف والعجمة أو للتأنيث لأنّها بقعة، لأنّ فعلاء - بكسر الفاء - لا يكون ألفه للتأنيث كألف صحراء.

وطور سيناء، وطور سينين لا يخلو: إما أن يكون مضافا إلى بقعة اسمها

ص: 42


1- الزمر: 21.

سيناء أو سينون، وإما أن يكون اسما للجبل مركبا من مضاف ومضاف إليه كامرئ القيس.

بِالدُّهْنِ في موضع الحال، أي: تنبت وفيها الدهن، و قرئ: تنبت، وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون (أنبت) بمعنى (نبت) كما في بيت زهير:

رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم *** قطينا لهم حتّى إذا أنبت البقل(1)

وا لآخر: أن يكون مفعوله محذوفا، والمعنى: ينبت زيتونها، وفيه الزيت.

[سورة المؤمنون (23): الآیات 21 الی 25]

وَ إِنَّ لَكُمْ فِي اَلْأَنْعٰامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمّٰا فِي بُطُونِهٰا وَ لَكُمْ فِيهٰا مَنٰافِعُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْهٰا تَأْكُلُونَ وَ عَلَيْهٰا وَ عَلَى اَلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ وَ لَقَدْ أَرْسَلْنٰا نُوحاً إِلىٰ قَوْمِهِ فَقٰالَ يٰا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ مٰا لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُهُ أَ فَلاٰ تَتَّقُونَ فَقٰالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مٰا هٰذٰا إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ لَأَنْزَلَ مَلاٰئِكَةً مٰا سَمِعْنٰا بِهٰذٰا فِي آبٰائِنَا اَلْأَوَّلِينَ إِنْ هُوَ إِلاّٰ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتّٰى حِينٍ

القصد ب - اَلْأَنْعٰامِ الإبل لأنّها مقرونة بالفلك التي هي السفن، فهي سفن البر. أي: وَ لَكُمْ فِيهٰا مَنٰافِعُ من الركوب والحمل وغير ذلك، وفيها منفعة زائدة وهي الأكل الذي هو انتفاع بذواتها.

غَيْرُهُ بالرفع علي المحلّ وبالجر علي اللفظ، والجملة استئناف يجري مجري التعليل للأمر بالعبادة.

يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ أي: يطلب الفضل عليكم والرئاسة، ونحوه:

ص: 43


1- شعر زهير بن أبي سلمى: 41.

وَ تَكُونَ لَكُمَا اَلْكِبْرِيٰاءُ فِي اَلْأَرْضِ (1) .

بِهٰذٰا أي: ما سمعنا بمثل هذا الكلام، أو بمثل هذا الذي يدّعي أنّه رسول اللّه وهو بَشَرٌ .

والجنّة: الجنون أو الجن، أي: به جنّ يخبلونه.

حَتّٰى حِينٍ أي: اصبروا عليه إلى زمان، فإن أفاق من جنونه وإلا فاقتلوه.

[سورة المؤمنون (23): الآیات 26 الی 30]

قٰالَ رَبِّ اُنْصُرْنِي بِمٰا كَذَّبُونِ فَأَوْحَيْنٰا إِلَيْهِ أَنِ اِصْنَعِ اَلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنٰا وَ وَحْيِنٰا فَإِذٰا جٰاءَ أَمْرُنٰا وَ فٰارَ اَلتَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهٰا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اِثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلاّٰ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ اَلْقَوْلُ مِنْهُمْ وَ لاٰ تُخٰاطِبْنِي فِي اَلَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ فَإِذَا اِسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَ مَنْ مَعَكَ عَلَى اَلْفُلْكِ فَقُلِ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي نَجّٰانٰا مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظّٰالِمِينَ وَ قُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبٰارَكاً وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْمُنْزِلِينَ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ وَ إِنْ كُنّٰا لَمُبْتَلِينَ

أي: اُنْصُرْنِي بإهلاكهم بسبب تكذيبهم إيّاي، أو اُنْصُرْنِي بدل ما كذّبوني، كما يقال: هذا بذاك، أي: مكان ذاك وبدله. والمعنى: أبدلني من غم تكذيبهم النصرة عليهم، أو انصرني بإنجاز ما وعدتهم من العذاب، وهو ما كذّبوه فيه حين قال لهم: إِنِّي أَخٰافُ عَلَيْكُمْ عَذٰابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (2).

بِأَعْيُنِنٰا أي: بحفظنا وكلاءتنا، كان معه من اللّه حفظة يكلؤونه بعيونهم لئلا يتعرض له، ومنه قولهم: عليه من اللّه عين كالئة.

ص: 44


1- يونس: 78.
2- الأعراف: 59.

وَ وَحْيِنٰا أي: بأمرنا وتعليمنا إيّاك كيف تصنع. روي: أنّه قيل لنوح عليه السلام:

إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت و من معك في السفينة، فلما نبع الماء من التنور أخبرته امرأته فركب(1).

وقيل: التنور: وجه الأرض، وقد مر ذكره وبيانه(2).

وسلك فيه: دخله، وسلك غيره وأسلكه بمعنى.

وَ لاٰ تُخٰاطِبْنِي أي: ولا تكلّمني فِي اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أي: في شأنهم، نهاه عن الدعاء لهم لكونهم ظالمين، ولأنّ الحكمة أوجبت إغراقهم ليكونوا عبرة للمعتبرين.

وكما نهى عن ذلك أمر بالحمد علي هلاكهم والنجاة منهم، ثمّ أمره أن يدعوه بدعاء هو أنفع له، وهو طلب أن ينزله في السفينة أو في الأرض عند خروجه منها مُنْزَلاً مُبٰارَكاً يبارك له فيه، وأن يشفع الدعاء بالثناء عليه المطابق لمسألته، وهو قوله: وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْمُنْزِلِينَ . وقرئ: منزلا بمعنى: إنزالا، أو موضع إنزال.

وَ إِنْ كُنّٰا (إن) هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية. والمعنى: وإنّ الشأن والقصة كنا مبتلين، أي: مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم، أو مختبرين بهذه الآيات عبادنا ليعتبروا.

[سورة المؤمنون (23): الآیات 31 الی 33]

ثُمَّ أَنْشَأْنٰا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ فَأَرْسَلْنٰا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ مٰا لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُهُ أَ فَلاٰ تَتَّقُونَ وَ قٰالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِلِقٰاءِ اَلْآخِرَةِ وَ أَتْرَفْنٰاهُمْ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا مٰا هٰذٰا إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمّٰا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَ يَشْرَبُ

ص: 45


1- عن ابن عباس. الكشف والبيان ج 5:168.
2- راجع تفسير الآية: 40 من سورة هود.

[سورة المؤمنون (23): الآیات 33 الی 40]

مِمّٰا تَشْرَبُونَ وَ لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخٰاسِرُونَ أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذٰا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُرٰاباً وَ عِظٰاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ هَيْهٰاتَ هَيْهٰاتَ لِمٰا تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلاّٰ حَيٰاتُنَا اَلدُّنْيٰا نَمُوتُ وَ نَحْيٰا وَ مٰا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ إِنْ هُوَ إِلاّٰ رَجُلٌ اِفْتَرىٰ عَلَى اَللّٰهِ كَذِباً وَ مٰا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ قٰالَ رَبِّ اُنْصُرْنِي بِمٰا كَذَّبُونِ قٰالَ عَمّٰا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نٰادِمِينَ

قَرْناً آخَرِينَ هم عاد قوم هود، لأنه المبعوث بعد نوح.

إِنْ مفسّرة ل - أَرْسَلْنٰا أي: قلنا لهم علي لسان الرسول: اُعْبُدُوا اَللّٰهَ .

كَذَّبُوا بِلِقٰاءِ اَلْآخِرَةِ أي: بلقاء ما فيها من الحساب والجزاء.

مِمّٰا تَشْرَبُونَ منه، وحذف لدلالة ما قبله عليه، أو حذف الضمير والمعنى:

من مشروبكم.

أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ في موضع الرفع بأنّه فاعل فعل هو جزاء الشرط، كأنّه قال: أيعدكم أنّكم إذا متّم وقع إخراجكم ؟. والجملة الشرطية في موضع رفع بأنّها خبر عن أنكم ، أو كرر أنكم للتأكيد، فيكون مُخْرَجُونَ خبرا عن الأوّل، وحسن التكرير لفصل ما بين الأوّل والثاني بالظرف، أو ارتفع قوله:

أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ بالظرف على تقدير: أيعدكم أنّكم وقت موتكم وكونكم تُرٰاباً وَ عِظٰاماً إخراجكم، ويكون الظرف مع ما ارتفع به خبرا ل - (أنّ ).

و قرئ هيهات بالفتح و الكسر، وعن الزجّاج: (معناه: إن البعد لما توعدون(1)، فنزّله منزلة المصدر، و يجوز أن يكون اللام لبيان المستبعد ما هو

ص: 46


1- معاني القران و إعرابه ج 4:12.

بعد التصويت بكلمة الاستبعاد، كما أنّ اللام في هَيْتَ لَكَ (1) لبيان المهيت له.

إِنْ هِيَ إِلاّٰ حَيٰاتُنَا هِيَ ضمير لا يعلم ما يعنى به إلا بما يتلوه من بيانه، وأصله: إنّ الحياة إلا حياتنا الدنيا، ثمّ وضع هِيَ موضع الحياة لأنّ الخبر يدلّ عليها ويبيّنها، ومثله:

هي النّفس ما حمّلتها تتحمّل(2)

والمعنى: لا حياة إلا هذه الحياة.

نَمُوتُ وَ نَحْيٰا أي: يموت بعض ويولد بعض، وينقرض قرن و يأتي قرن.

قَلِيلٍ صفة للزمان، كقديم وحديث في قولك: ما رأيته قديما ولا حديثا، وفي معناه: عن قريب، و (ما) توكيد بمعنى: قلة المدة وقصرها.

[سورة المؤمنون (23): الآیات 41 الی 50]

فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنٰاهُمْ غُثٰاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ اَلظّٰالِمِينَ ثُمَّ أَنْشَأْنٰا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ مٰا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهٰا وَ مٰا يَسْتَأْخِرُونَ ثُمَّ أَرْسَلْنٰا رُسُلَنٰا تَتْرٰا كُلَّ مٰا جٰاءَ أُمَّةً رَسُولُهٰا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنٰا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَ جَعَلْنٰاهُمْ أَحٰادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لاٰ يُؤْمِنُونَ ثُمَّ أَرْسَلْنٰا مُوسىٰ وَ أَخٰاهُ هٰارُونَ بِآيٰاتِنٰا وَ سُلْطٰانٍ مُبِينٍ إِلىٰ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَ كٰانُوا قَوْماً عٰالِينَ فَقٰالُوا أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنٰا وَ قَوْمُهُمٰا لَنٰا عٰابِدُونَ فَكَذَّبُوهُمٰا فَكٰانُوا مِنَ اَلْمُهْلَكِينَ وَ لَقَدْ آتَيْنٰا مُوسَى اَلْكِتٰابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ وَ جَعَلْنَا اِبْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ آيَةً وَ آوَيْنٰاهُمٰا إِلىٰ رَبْوَةٍ ذٰاتِ قَرٰارٍ وَ مَعِينٍ

ص: 47


1- يوسف: 23.
2- ديوان علي بن الجهم: 162، و بقيته: وللدهر أيّام تجور وتعدل.

الصحيحة صيحة جبرائيل عليه السلام، صاح بهم فدمّرهم بِالْحَقِّ باستحقاقهم العذاب، أو بالعدل من اللّه.

والغثاء: حميل السيل مما اسوّد وبلي من العود والورق، شبّه دمارهم بذلك.

فَبُعْداً أي: سحقا، وهو من المصادر الموضوعة مواضع أفعالها، أي: بعدوا وهلكوا، يقال: بعد بعدا وبعدا، قال:

إخوتي لا تبعدوا أبدا *** وبلي واللّه قد بعدوا(1)

و لِلْقَوْمِ اَلظّٰالِمِينَ بيان لمن دعي عليه بالبعد كما ذكرناه في لِمٰا تُوعَدُونَ (2).

أَجَلَهٰا الوقت الذي حدّ لهلاكها.

تَتْرٰا فعلي، والألف للتأنيث، أي: أرسلناها متواترة يتيع بعضهم بعضا، واحدا بعد واحد، وقرئ: تترا - بالتنوين -، والتاء بدل من الواو.

وأضاف الرسل إلي نفسه هنا، وإلي أممهم في قوله: جٰاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنٰاتِ (3)، لأنّ الإضافة تكون بالملابسة، والرسول يلابس المرسل والمرسل إليه جميعا.

فَأَتْبَعْنٰا الأمم أو القرون بَعْضَهُمْ بَعْضاً في الإهلاك وَ جَعَلْنٰاهُمْ أخبارا يسمر بها.

والأحاديث: اسم جمع للحديث، ويكون جمعا أيضا للأحدوثة التي هي

ص: 48


1- البيت لفاطمة بنت الأحجم الخزاعية. ديوان الحماسة: 258 وفيه: اخوتا لا تبعدوا....
2- الآية: 36.
3- فاطر: 25.

مثل الأعجوبة والأضحوكة، وهي ما يتحدّث به الناس تعجبا، وهو المراد هنا.

والمراد بالسلطان المبين: العصا، لأنّها كانت أم آيات موسى، وقد تعلّقت بها معجزات شتى، كانفلاق البحر وانفجار العيون من الحجر يضربهما بها، فجعلت كأنّها ليست بعضها، فعطفت عليها كقوله: جِبْرِيلَ وَ مِيكٰالَ (1)، و يجوز أن يراد به الآيات أنفسها، أي: هي آيات وحجّة ظاهرة بيّنة.

قَوْماً عٰالِينَ أي: متكبرين، من قوله: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاٰ فِي اَلْأَرْضِ (2)، أو متطاولين علي الناس ببغيهم وظلمهم.

لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنٰا لإنسانين خلقهما مثل خلقنا، والبشر يكون واحدا وجمعا، و (مثل) و (غير) يوصف بهما الإثنان والجمع والمذكر والمؤنث، كقوله: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ (3)، وَ مِنَ اَلْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ (4)، ويقال أيضا: هما مثلاه، وهم أمثاله إِنَّ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ عِبٰادٌ أَمْثٰالُكُمْ (5).

وَ قَوْمُهُمٰا يعني: بني إسرائيل عٰابِدُونَ أي: مطيعون لنا طاعة العبد لمولاه.

أي: أعطينا قوم موسى التوراة لكي يهتدوا إلى طريق الحقّ ، ويعملوا بشرائعها.

آيَةً أي: حجّة علي قدرتنا علي الاختراع، فهو مثل قوله: وَ جَعَلْنٰاهٰا

ص: 49


1- البقرة: 98.
2- القصص: 4.
3- النساء: 140.
4- الطلاق: 12.
5- الأعراف: 194.

وَ اِبْنَهٰا آيَةً لِلْعٰالَمِينَ (1) ، وذلك أنّ الآية في كليهما واحدة، وهي: أنّ عيسى عليه السلام خلق من غير ذكر، ومريم حملت من غير فحل.

وَ آوَيْنٰاهُمٰا إِلىٰ رَبْوَةٍ أي: وجعلنا مكانهما ومأواهما أرضا مرتفعة، وهي أرض بيت المقدس، فإنّها كبد الأرض، وأقرب الأرض إلى السماء، وقيل: فلسطين والرملة(2)، وقيل: هي حيرة الكوفة وسوادها(3).

والقرار: المستقر من أرض مستوية منبسطة. وعن الباقر عليه السلام والصادق عليه السلام:

(القرار: مسجد الكوفة، والمعين: الفرات)(4). و أصله الماء الظاهر الجاري علي وجه الأرض، واختلف في زيادة ميمه، فقيل: إنّه مفعول من عانه: إذا أدركه بعينه، وقيل: إنّه فعيل من الماعون وهو المنفعة، أي: نفاع لظهوره وجوبه.

[سورة المؤمنون (23): الآیات 51 الی 56]

يٰا أَيُّهَا اَلرُّسُلُ كُلُوا مِنَ اَلطَّيِّبٰاتِ وَ اِعْمَلُوا صٰالِحاً إِنِّي بِمٰا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَ إِنَّ هٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وٰاحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمٰا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتّٰى حِينٍ أَ يَحْسَبُونَ أَنَّمٰا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مٰالٍ وَ بَنِينَ نُسٰارِعُ لَهُمْ فِي اَلْخَيْرٰاتِ بَلْ لاٰ يَشْعُرُونَ

قيل: إنّه خطاب لنبيّنا صلى الله عليه و آله و سلم(5)، وفيه إعلام بأنّ كل رسول في زمانه مأمور بذلك وموصى به.

ص: 50


1- الأنبياء: 91.
2- عن أبي هريرة. تفسير الطبري ج 18:20.
3- تفسير القمي ج 2:91.
4- معاني الأخبار: 355 عن عليّ عليه السلام، وكلامهم واحد. كامل الزيارات: 48 عن الصادق عليه السلام.
5- عن الحسن وغيره. معالم التنزيل ج 3:61.

والمراد ب - اَلطَّيِّبٰاتِ : ما طاب و حلّ ، وقيل: هنا كل ما يستطاب ويستلذ من الأكل والفواكه(1)، ويشهد لذلك محبته في إثر قوله: وَ آوَيْنٰاهُمٰا إِلىٰ رَبْوَةٍ ذٰاتِ قَرٰارٍ وَ مَعِينٍ . ويجوز أن يكون وقع هذا الإعلام عند إيواء عيسى ومريم إلى الربوة، فذكر علي سبيل الحكاية، أي: آويناهما وقلنا لهما هذا، فعلّمهما أنّ الرسل كلهم خوطبوا به، فكلا مما رزقناكما واعملا صالحا اقتداء بالرسل.

وقرئ: وَ إِنَّ هٰذِهِ بالكسر على الاستئناف، و أنّ - بالفتح - بمعنى:

ولأنّ ، وأن مخففة من الثقيلة، و أُمَّتُكُمْ مرفوعة معها.

وقرئ: زُبُراً جمع زبور، أي: كتبا مختلفة، يعني: جعلوا دينهم أديانا، وقرئ: زبرا، أي: قطعا، استعيرت من زبر الفضة والحديد.

و كُلُّ فرقة من فرق هؤلاء المختلفين الذين تقطّعوا دينهم فرح بباطله، معتقدا أنّه علي الحقّ ، راض بما عنده.

فِي غَمْرَتِهِمْ أي: فيما هم مغمورون فيه من جهلهم وعمايتهم، وأصل الغمرة: الماء الذي يغمر القامة، أو شبههم اللّه باللاعبين في الغمرة لما هم عليه من الباطل، قال ذو الرمة:

كأنّني ضارب في غمرة لعب(2)

حَتّٰى حِينٍ إلي أن يقتلوا أو يموتوا، أي: يحسبون هذه الأمداد مسارعة لَهُمْ فِي اَلْخَيْرٰاتِ ومعاجلة بالثواب قبل وقته، وليس ذلك إلا استدراجا لهم إلى الهلاك.

ص: 51


1- معاني القرآن و إعرابه ج 4:15.
2- ديوان شعر ذي الرمة: 7، وصدره: ليالي اللهو يطبيني فأتبعه.

و بَلْ استدراك لقوله: أَ يَحْسَبُونَ أي: بل هم أشباه البهائم لا فطنة لهم حتى يتأملوا ويتفكروا أهو استدراج أم مسارعة في الخيرات. والراجع من خبر (أن) إلى اسمه محذوف، والتقدير: نسارع به.

[سورة المؤمنون (23): الآیات 57 الی 67]

إِنَّ اَلَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِآيٰاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لاٰ يُشْرِكُونَ وَ اَلَّذِينَ يُؤْتُونَ مٰا آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلىٰ رَبِّهِمْ رٰاجِعُونَ أُولٰئِكَ يُسٰارِعُونَ فِي اَلْخَيْرٰاتِ وَ هُمْ لَهٰا سٰابِقُونَ وَ لاٰ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّٰ وُسْعَهٰا وَ لَدَيْنٰا كِتٰابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لاٰ يُظْلَمُونَ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هٰذٰا وَ لَهُمْ أَعْمٰالٌ مِنْ دُونِ ذٰلِكَ هُمْ لَهٰا عٰامِلُونَ حَتّٰى إِذٰا أَخَذْنٰا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذٰابِ إِذٰا هُمْ يَجْأَرُونَ لاٰ تَجْأَرُوا اَلْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنّٰا لاٰ تُنْصَرُونَ قَدْ كٰانَتْ آيٰاتِي تُتْلىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلىٰ أَعْقٰابِكُمْ تَنْكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سٰامِراً تَهْجُرُونَ

يُؤْتُونَ مٰا آتَوْا أي: يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقة، وقيل: أعمال البرّ كلها(1).

وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ الصادق عليه السلام: (أي: خائفة أن لا يقبل منهم)(2). وعنه عليه السلام:

(يؤتي ما آتى وهو خائف راج)(3). وعن الحسن: (المؤمن جمع إحسانا وشفقة، والمنافق جمع إساءة و أمنا)(4)، لأنّهم أوب أَنَّهُمْ إِلىٰ رَبِّهِمْ رٰاجِعُونَ وحذف الجار، أي:

ص: 52


1- عن الحسن وغيره. تفسير الطبري ج 18:25.
2- الكافي ج 8:229.
3- كتاب الزهد: 24، وفيه: خاش راج.
4- تفسير الطبري ج 18:25.

لإيقانهم بأنّهم راجعون إلى اللّه وجلت قلوبهم، إذ لم يأمنوا التفريط.

أُولٰئِكَ يُسٰارِعُونَ فِي اَلْخَيْرٰاتِ أي: هم الذين يبادرون إلي الطاعات رغبة منهم فيها.

وَ هُمْ لَهٰا سٰابِقُونَ أي: فاعلون السبق لأجلها، أو سابقون الناس لأجلها.

أي: وهذا الذي وصف به الصالحون ليس بخارج من حد الوسع والطاقة، وكل ما عمله العباد من التكاليف مثبت عندنا في كتاب ناطق بالحقّ ، وهو صحيفة الأعمال يقرؤون فيه يوم القيامة ما هو صدق وعدل، لا زيادة فيه ولا نقصان، يوفون أجور أعمالهم.

وَ هُمْ لاٰ يُظْلَمُونَ أي: لا ينقص من ثوابهم ولا يزاد في عقابهم، ولا يؤاخذون بذنب غيرهم.

بَلْ قلوب الكفار فِي غَمْرَةٍ أي: غفلة غامرة لها مِنْ هٰذٰا أي: من هذا الكتاب المشتمل علي الوعد و الوعيد وهو القرآن، أو من هذا الذي عليه هؤلاء الموصوفون من المؤمنين وَ لَهُمْ أَعْمٰالٌ متجاوزة لذلك أي: لما وصف المؤمنون به هُمْ لَهٰا معتادون، وبها مشتغلون.

حَتّٰى يأخذهم اللّه بِالْعَذٰابِ : و (حتى) هذه هي التي يبتدأ بعدها الكلام، والعذاب: قتلهم يوم بدر، أو الجوع حين دعا عليهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال: (اللهم اشدد وطأتك علي مضر، واجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف)(1)، فابتلاهم اللّه بالقحط حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحترقة والقد(2) والأولاد.

ص: 53


1- سنن الدارمي ج 1:374، الفصول المختارة: 225.
2- القد - بالكسر -: سير يقد من جلد غير مدبوغ. (الصحاح: مادة قدد)

تجأرون أي: تصنعون وتصرخون باستغاثة، أي: يقال لهم حينئذ: لاٰ تَجْأَرُوا فإنّ الجؤار غير نافع لكم إِنَّكُمْ مِنّٰا لاٰ تُنْصَرُونَ أي: لا تغاثون ولا تمنعون منا، أو من جهتنا لا يلحقكم نصر ومعونة.

و الضمير في بِهِ للبيت الحرام أو للحرم، و الباء يتعلّق ب - مُسْتَكْبِرِينَ ، كانوا يستكبرون به علي الناس ويفخرون بأنّهم ولاته، أو يكون الضمير لآياتي لأنّها في معنى كتابي، ومعنى استكبارهم بالقران: تكذيبهم به استكبارا، ضمّن مُسْتَكْبِرِينَ معنى مكذبين فعدّي تعديته، أو استكبروا بسببه فلم يقبلوه، وعلي هذا فالوقف يكون علي بِهِ .

ويجوز أن يتعلّق الباء ب - سٰامِراً أي: يسمرون بالطعن في القرآن وتسميته سحرا أو شعرا، وبسب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم. والسامر: القوم الذين يسمرون ليلا، ويجوز أن يتعلّق ب - تَهْجُرُونَ أيضا، أي: تهذون بذلك. فعلي هذين الوجهين يجوز الوقف علي مُسْتَكْبِرِينَ . وقرئ: تهجرون - بضم التاء -، من أهجر الرجل في منطقه أي: أفحش، و الهجر بالضم: الفحش، و تَهْجُرُونَ بالفتح يجوز أن يكون معناه:

تهجرون آياتي وكتابي فلا تنقادون له وتكذّبون به، من الهجر بالفتح.

[سورة المؤمنون (23): الآیات 68 الی 74]

أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا اَلْقَوْلَ أَمْ جٰاءَهُمْ مٰا لَمْ يَأْتِ آبٰاءَهُمُ اَلْأَوَّلِينَ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جٰاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كٰارِهُونَ وَ لَوِ اِتَّبَعَ اَلْحَقُّ أَهْوٰاءَهُمْ لَفَسَدَتِ اَلسَّمٰاوٰاتُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنٰاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرٰاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ هُوَ خَيْرُ اَلرّٰازِقِينَ وَ إِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَ إِنَّ اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ اَلصِّرٰاطِ

ص: 54

[سورة المؤمنون (23): الآیات 74 الی 77]

لَنٰاكِبُونَ وَ لَوْ رَحِمْنٰاهُمْ وَ كَشَفْنٰا مٰا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيٰانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَ لَقَدْ أَخَذْنٰاهُمْ بِالْعَذٰابِ فَمَا اِسْتَكٰانُوا لِرَبِّهِمْ وَ مٰا يَتَضَرَّعُونَ حَتّٰى إِذٰا فَتَحْنٰا عَلَيْهِمْ بٰاباً ذٰا عَذٰابٍ شَدِيدٍ إِذٰا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ

اَلْقَوْلَ القرآن، يقول: أَ فَلَمْ يتدبّروا القران ليعرفوا أنّه الحقّ الدال علي صدق نبيّنا، بل أجاءهم مٰا لَمْ يَأْتِ آبٰاءَهُمُ فلذلك استبدعوه وأنكروه، كما قال: لِتُنْذِرَ قَوْماً مٰا أُنْذِرَ آبٰاؤُهُمْ (1)، أو ليخافوا عند تدبّر آياته مثل ما نزل بمن قبلهم من المكذبين أَمْ جٰاءَهُمْ من الأمن مٰا لَمْ يَأْتِ آبٰاءَهُمُ حيث خافوا اللّه فامنوا به وأطاعوه، وآباؤهم: إسماعيل وأعقابه. وعن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: (الا تسبّوا مضر ولا ربيعة فإنّهما كانا مسلمين، ولا تسبّوا الحرث بن كعب ولا أسد بن خزيمة ولا تميم بن مرة فإنّهم كانوا علي الإسلام، وما شككتم فيه من شيء فلا تشكّوا في أنّ تبّعا كان مسلما)(2).

أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا محمّدا وشرفه في نسبه وصدق لسانه وأمانته، و أنّه كما قال أبو طالب في خطبته لنكاح خديجة: الا يوزن برجل إلا رجح)(3).

أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ أي: جنون وهم يعلمون أنّه بريء منها، وأنّه أرجح الناس عقلا، وأجلّهم قدرا، وأتقنهم رأيا، ولكنّه جاءهم بما خالف أهواءهم، ولم يوافق ما ألفوه ونشؤوا عليه، ولم يمكنهم دفعه لأنّه الحقّ المبين، فعوّلوا علي البهت من النسبة إلى الجنون والسحر والشعر.

ص: 55


1- يس: 6.
2- أنساب الأشراف ج 1:31 باختصار.
3- الكافي ج 5:374، الكامل في اللغة والأدب ج 4:4.

ثمّ عظّم سبحانه شأن الحقّ بأنّ السماوات والأرض ومن فيهن لم يقم إلا به، ولو اتبع أهواءهم لانقلب باطلا، ولذهب ما يقوم به العالم. ويجوز أن يكون المراد بالحقّ الإسلام، أي: ولو اتبع أهواءهم وانقلب شركا لأهلك اللّه العالم، ولجاء بالقيامة ولم يؤخره، وعن قتادة: (الحقّ هو اللّه)(1)، أي: لو اتبع اللّه أهواءهم وأمر بالشرك لما كان إلها.

أَتَيْنٰاهُمْ بِذِكْرِهِمْ أي: بالكتاب الذي هو ذكرهم، أي: شرفهم وصيتهم وفخرهم، أو بالذكر الذي كانوا يتمنونه ويقولون: لَوْ أَنَّ عِنْدَنٰا ذِكْراً مِنَ اَلْأَوَّلِينَ لَكُنّٰا عِبٰادَ اَللّٰهِ اَلْمُخْلَصِينَ (2).

وأصل الخرج والخراج واحد، وهو ما تخرجه إلى الإمام والعامل من أجرة أرضك، والخرج أخصّ من الخراج، يعني: أم تسألهم علي هدايتك لهم قليلا من عطاء الخلق، فالكثير من عطاء الخالق خير.

ألزمهم سبحانه الحجّة في هذه الآيات بأنّ الذي أرسله إليهم رجل معروف أمره، مخبور علانيته وسرّه، صالح لأن يصطفى للرسالة، جدير به، فإنّه لم يعهد منه إلا الصدق ووفور العقل والشهامة والأمانة حتى يدّعي النبوّة بباطل، ولم يجعل ذلك ذريعة إلى استعطاء أموالهم، ولم يدعهم إلا إلي الصراط السوي الذي هو دين الإسلام، هذا مع إبراز المكنون من أدوائهم، وهو إخلالهم بالتدبّر، وشغفهم بتقليد الاباء للضلال من غير برهان، وتعللهم بأنّه مجنون بعد ثبات تصديقه من اللّه بالمعجزات والدلالات، وإعراضهم عما فيه حظهم من الذكر والشرف.

لَنٰاكِبُونَ أي: عادلون عن هذا الصراط المذكور.

ص: 56


1- الكشاف ج 3:196.
2- الصافات: 168، 169.

ولما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي ولحق باليمامة ومنع الميرة من أهل مكة، وأخذهم اللّه بالسنين حتى أكلوا العلهز - وهو دم القراد مع الصوف - جاء أبو سفيان بن حرب إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال له: أنشدك باللّه والرحم، ألست تزعم أنّك بعثت رحمة للعالمين ؟ فقال: بلى، قال: قتلت الآباء بالسيف، والأبناء بالجوع(1).

والمعنى: لو كشف الله تعالى عنهم هذا الضرّ - وهو الهزال والقحط الذي أصابهم - برحمته عليهم ووجدوا الخصب، لرجعوا إلى ما كانوا عليه من الاستكبار، ولتمادوا في غوايتهم يترددون. واستشهد علي ذلك بأنّا أخذناهم بالسيوف، وبما جري عليهم يوم بدر من قتل صناديدهم وأسرهم، فما وجدت منهم بعد ذلك استكانة ولا تضرّع، حتى فتحنا عليهم باب الجوع الذي هو آلم العذاب وأشدّ من الأسر والقتل، فأبلسوا الساعة وخضعت رقابهم، وجاء أعتاهم في العناد والاستكبار يستعطفك، أو محنّاهم بكل محنة من الجوع والقتل فما رئي منهم لين قياد وهم كذلك حتى إذا عذّبوا بنار جهنم فحينئذ يبلسون، كقوله: وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسّٰاعَةُ يُبْلِسُ اَلْمُجْرِمُونَ (2).

والإبلاس: اليأس من كل خير، وقيل: هو السكون مع التحيّر(3)، واستكان:

هو استفعل من الكون، أي: انتقل من كون إلي كون، كاستحال: إذا انتقل من حال إلى حال، أو هو افتعل من السكون أشبعت فتحة عينه، كما قيل:

بمنتزاح(4)

ص: 57


1- الكشف والبيان ج 7:53.
2- الروم: 12.
3- معاني القران و إعرابه ج 4:20.
4- ديوان إبراهيم بن هرمة: 87، وتمامه: وأنت من الغوائل حين ترمى ومن ذم الرجال بمنتزاح.

[سورة المؤمنون (23): الآیات 78 الی 90]

وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصٰارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مٰا تَشْكُرُونَ وَ هُوَ اَلَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَ هُوَ اَلَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ لَهُ اِخْتِلاٰفُ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ أَ فَلاٰ تَعْقِلُونَ بَلْ قٰالُوا مِثْلَ مٰا قٰالَ اَلْأَوَّلُونَ قٰالُوا أَ إِذٰا مِتْنٰا وَ كُنّٰا تُرٰاباً وَ عِظٰاماً أَ إِنّٰا لَمَبْعُوثُونَ لَقَدْ وُعِدْنٰا نَحْنُ وَ آبٰاؤُنٰا هٰذٰا مِنْ قَبْلُ إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ أَسٰاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ قُلْ لِمَنِ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهٰا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلّٰهِ قُلْ أَ فَلاٰ تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ اَلسَّمٰاوٰاتِ اَلسَّبْعِ وَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلّٰهِ قُلْ أَ فَلاٰ تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ يُجِيرُ وَ لاٰ يُجٰارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلّٰهِ قُلْ فَأَنّٰى تُسْحَرُونَ بَلْ أَتَيْنٰاهُمْ بِالْحَقِّ وَ إِنَّهُمْ لَكٰاذِبُونَ

إنّما خصّ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصٰارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ لأنّه يتعلّق بها من المنافع الدينية والدنيوية مالا يتعلّق بغيرها، وإحدي منافعها أن يستعملوها في آيات اللّه تعالى وأفعاله، فيستدلّوا بذلك علي توحيده، ويشكروا نعمه، فإنّ مقدّمة شكر النعمة الإقرار بالمنعم بها، وأن لا يجعل معه شريك.

[قَلِيلاً مٰا تَشْكُرُونَ ](1) أي: تَشْكُرُونَ شكرا قليلا، و مٰا مزيدة للتأكيد.

ومعنى ذَرَأَكُمْ : خلقكم و بثكم بالتناسل وَ إِلَيْهِ تجمعون بعد تفرقكم.

ص: 58


1- زيادة يقتضيها السياق.

وَ لَهُ اِخْتِلاٰفُ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ أي: هو المختص به، وهو يتولاه ولا يقدر على تصريفهما غيره. وقرئ: أفلا يعقلون - بالياء -.

بَلْ قٰالُوا أي: قال أهل مكة كما قٰالَ اَلْأَوَّلُونَ المنكرون للحشر.

والأساطير: جمع أسطورة، وهي ما كتبه الأوّلون وسطروه مما لا حقيقة له.

ثمّ احتج عليهم بما فيه تجهيل لهم، والمراد: أجيبوني عما استعملتكم فيه إن كان عندكم فيه علم أَ فَلاٰ تتذكرون فتعلموا أنّ من فطر الأرض ومن فيها من العقلاء وغيرهم، كان قادرا علي الإعادة إذ ليس ذلك بأعظم منه، وكان حقيقا بأن لا يشرك به في الإلهية بعض مخلوقاته.

قرئ الأوّل لِلّٰهِ باللام، وفي الآيتين بعده باللام وغير اللام، لأنّ قولك:

(من ربّه) و (لمن هو) في معنى واحد.

أَ فَلاٰ تَتَّقُونَ أي: أفلا تخافونه! فلا تشركوا به.

يقال: أجار الرجل فلانا علي فلان أي: أغاثه منه ومنعه، أي: من يجير من يشاء على من يشاء ولا يجير عليه أحد من أراده بسوء.

فَأَنّٰى تُسْحَرُونَ أي: فكيف تخدعون عن توحيده ويموّه عليكم ؟! كما قال امرؤ القيس:

أرانا موضعين لحتم غيب *** ونسحر بالطّعام وبالشّراب(1)

أي: نخدع، والخادع هو الشيطان، أو الهوي.

بَلْ جئناهم بِالْحَقِّ بأنّ الشرك باطل، ونسبة الولد إليه محال وَ إِنَّهُمْ لَكٰاذِبُونَ بادعائهم الشرك ونسبتهم إليه الولد.

ص: 59


1- ديوان امرئ القيس: 97، وفيه: لأمر غيب.

[سورة المؤمنون (23): الآیات 91 الی 100]

مَا اِتَّخَذَ اَللّٰهُ مِنْ وَلَدٍ وَ مٰا كٰانَ مَعَهُ مِنْ إِلٰهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلٰهٍ بِمٰا خَلَقَ وَ لَعَلاٰ بَعْضُهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ سُبْحٰانَ اَللّٰهِ عَمّٰا يَصِفُونَ عٰالِمِ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهٰادَةِ فَتَعٰالىٰ عَمّٰا يُشْرِكُونَ قُلْ رَبِّ إِمّٰا تُرِيَنِّي مٰا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلاٰ تَجْعَلْنِي فِي اَلْقَوْمِ اَلظّٰالِمِينَ وَ إِنّٰا عَلىٰ أَنْ نُرِيَكَ مٰا نَعِدُهُمْ لَقٰادِرُونَ اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ اَلسَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمٰا يَصِفُونَ وَ قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزٰاتِ اَلشَّيٰاطِينِ وَ أَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ حَتّٰى إِذٰا جٰاءَ أَحَدَهُمُ اَلْمَوْتُ قٰالَ رَبِّ اِرْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صٰالِحاً فِيمٰا تَرَكْتُ كَلاّٰ إِنَّهٰا كَلِمَةٌ هُوَ قٰائِلُهٰا وَ مِنْ وَرٰائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ

إِذاً تكون جزاء وجوابا لكلام متقدّم، وهاهنا شرط محذوف، والتقدير:

ولو كان معه آلهة لَذَهَبَ كُلُّ إِلٰهٍ بِمٰا خَلَقَ أي: لانفرد كل واحد من الآلهة بما خلقه من الخلق واستبد به، ولرأيتم ملك كل واحد من الآلهة متميزا من ملك الآخرين، ولغلب بعضهم بعضا، كما أنّ ملوك الدنيا يتغالبون ويطلب بعضهم قهر بعض، وممالكهم متمايزة، فحين لم تروا أثرا لتمايز الممالك وللتغالب فاعلموا أنّه إله واحد منزّه عَمّٰا يَصِفُونَ من الأولاد و الأنداد.

قرئ: عٰالِمِ اَلْغَيْبِ بالجر صفة ل - (للّه)، وبالرفع خبر مبتدأ محذوف.

والنون و (ما) مؤكدتان، ل - (أن) أي: إن كان لابد أن تريني ما وعدوه من العذاب في الدنيا أو في الآخرة فَلاٰ تَجْعَلْنِي فيهم، وأخرجني من بينهم إذا أردت إحلال العذاب بهم. وعن الحسن: (أخبره اللّه سبحانه أنّ له في أمّته نقمة،

ص: 60

ولم يخبره أفي حياته هي أم بعد وفاته، فأمره أن يدعو بهذا الدعاء)(1). وعن ابن عباس وجابر بن عبد اللّه: أنّه صلى الله عليه و آله و سلم قال في حجّة الوداع وهو بمنى: (لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، وأيم اللّه لئن فعلتموها لتعرفنّي في كتيبة يضاربونكم، فغمز من خلفه منكبه الأيسر، فالتفت فقال: أو عليّ ) فنزلت الآيات(2).

وقوله: رَبِّ مرتين قبل الشرط وقبل الجزاء، حثّ علي فضل تضرّع وجوار وإنّا لقادرون على إنجاز ما نعدهم، ولكن ننظرهم ونمهلهم.

اِدْفَعْ السيئة بالحسنى، وهو الصفح عنها ومقابلتها بالإحسان نَحْنُ أَعْلَمُ بِمٰا يذكرونه من أحوالك بخلاف صفتها أو بوصفهم وسوء ذكرهم، وأقدر علي جزائهم.

أَعُوذُ بِكَ أي: أعتصم بك مِنْ نزغات اَلشَّيٰاطِينِ والهمز:

النخس، ومنه: مهماز الرائض. والشياطين يحثّون الناس علي المعاصي كما تهمز الراضة الدواب يحثّونها علي المشي، ونحوه: تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (3). فأمر عزّ اسمه بالتعوّذ من نخساتهم بلفظ المتضرّع إلي ربّه المكرر لندائه، وبالتعوّذ من أن يحضروه أصلا ويشهدوه، وعن ابن عباس: (عند تلاوة القرآن)(4)، وعن عكرمة: (عند النزع)(5). والأظهر أنّه في الأحوال كلها حتى يتعلّق ب - يَصِفُونَ أي: لا يزالون

ص: 61


1- الكشاف ج 3:201.
2- شواهد التنزيل ج 1:403.
3- مريم: 83.
4- الكشاف ج 3:202.
5- الكشاف ج 3:202.

على سوء الذكر إلى هذا الوقت.

اِرْجِعُونِ خطاب للّه تعالى بلفظ الجمع للتعظيم، إذا أيقن بالموت تحسّر علي ما فرّط فيه فسأل ربّه الرجعة وقال: لَعَلِّي أَعْمَلُ صٰالِحاً في الذي تركته من المال، وفيما ضيّعته من الطاعات، وقيل: هو في الزكاة(1). وسئل الرضا عليه السلام: (أيعرف القديم سبحانه الشيء الذي لم يكن أنّه لو كان كيف كان يكون ؟ فقال: أما قرأت قوله عزّ اسمه: لَوْ كٰانَ فِيهِمٰا آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّٰهُ لَفَسَدَتٰا (2)، وفي موضع آخر: وَ لَعَلاٰ بَعْضُهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ فقد عرف الشيء الذي لم يكن ولا يكون أن لو كان كيف كان يكون، وقوله سبحانه - يحكي قول الأشقياء -: رَبِّ اِرْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صٰالِحاً فِيمٰا تَرَكْتُ كَلاّٰ إِنَّهٰا كَلِمَةٌ هُوَ قٰائِلُهٰا قال: وَ لَوْ رُدُّوا لَعٰادُوا لِمٰا نُهُوا عَنْهُ وَ إِنَّهُمْ لَكٰاذِبُونَ (3) فقد علم الشيء الذي لم يكن أن لو كان كيف كان يكون)(4).

و كَلاّٰ معناه: ردع عن طلب الرجعة، وإنكار واستبعاد إِنَّهٰا كَلِمَةٌ هُوَ قٰائِلُهٰا بلسانه لا حقيقة لها، أو هو قائلها وحده لا تسمع منه. وَ مِنْ وَرٰائِهِمْ بَرْزَخٌ و الضمير للجماعة، أي: أمامهم حائل وحاجز بينهم وبين الرجعة إلى يوم البعث من القبور.

[سورة المؤمنون (23): الآیات 101 الی 103]

فَإِذٰا نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَلاٰ أَنْسٰابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لاٰ يَتَسٰاءَلُونَ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوٰازِينُهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ وَ مَنْ خَفَّتْ مَوٰازِينُهُ فَأُولٰئِكَ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ

ص: 62


1- عن الصادق عليه السلام. ثواب الأعمال: 235.
2- الأنبياء: 22.
3- الأنعام: 28.
4- كتاب التوحيد: 31 باختلاف يسير.

[سورة المؤمنون (23): الآیات 103 الی 110]

خٰالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ اَلنّٰارُ وَ هُمْ فِيهٰا كٰالِحُونَ أَ لَمْ تَكُنْ آيٰاتِي تُتْلىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهٰا تُكَذِّبُونَ قٰالُوا رَبَّنٰا غَلَبَتْ عَلَيْنٰا شِقْوَتُنٰا وَ كُنّٰا قَوْماً ضٰالِّينَ رَبَّنٰا أَخْرِجْنٰا مِنْهٰا فَإِنْ عُدْنٰا فَإِنّٰا ظٰالِمُونَ قٰالَ اِخْسَؤُا فِيهٰا وَ لاٰ تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كٰانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبٰادِي يَقُولُونَ رَبَّنٰا آمَنّٰا فَاغْفِرْ لَنٰا وَ اِرْحَمْنٰا وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلرّٰاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتّٰى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَ كُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ

فَلاٰ أَنْسٰابَ بَيْنَهُمْ أي: لا يتواصلون بالأنساب ولا يتعاطفون بها مع معرفة بعضهم بعضا، أو يتفرقون معاقبين ومثابين. وعن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: (كل حسب ونسب منقطع يوم القيامة إلا حسبي ونسبي)(1).

وَ لاٰ يَتَسٰاءَلُونَ أي: لا يسأل بعضهم بعضا عن حاله وخبره، لشغل كل واحد منهم بنفسه، وأما قوله: يَتَعٰارَفُونَ بَيْنَهُمْ (2)، وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ يَتَسٰاءَلُونَ (3) فقد سئل عنه ابن عباس فقال: (هذه تارات يوم القيامة)(4)، يعني:

إنّ للقيامة أحوالا مختلفة يتساءلون ويتعارفون في بعضها، ويشغلهم عظم الهول عن المساءلة في بعضها.

والموازين: جمع موزون، وهي الموزونات من الأعمال التي لها قدر ووزن عنداللّه.

ص: 63


1- شواهد التنزيل ج 1:530، أمالي الشيخ الطوسي ج 1:350.
2- يونس: 45.
3- الصافات: 27.
4- معالم التنزيل ج 3:64.

وقوله: فِي جَهَنَّمَ خٰالِدُونَ بدل من خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ، أو يكون خبرا ل - أُولٰئِكَ بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف.

تَلْفَحُ أي: يصيب وجوههم لفح النار، وعن الزجّاج: (اللفح والنفح واحد، إلا أنّ اللفح أشدّ تأثيرا)(1). و الكلوح: أن تتقلص الشفتان عن الأسنان.

غَلَبَتْ عَلَيْنٰا أي: ملكتنا، من قولهم: غلبني فلان علي كذا إذا أخذه منه.

و قرئ: شِقْوَتُنٰا و شقاوتنا ومعناهما واحد، وهو سوء العاقبة الذي استحقّوه بسوء أعمالهم.

اِخْسَؤُا فِيهٰا أي: ذلوا فيها وانزجروا كما تنزجر الكلاب إذا زجرت، يقال: خسئ الكلب فخسأ، لازم ومتعد، ولا تكلّموني في رفع العذاب فإنّه لا يرفع.

سِخْرِيًّا قرئ بضم السين وكسرها، وهو مصدر سخر كالسخر، إلا أنّ في الياء زيادة قوة في الفعل، وقيل: إنّ المكسور من الهزء، والمضموم من السخرة والعبودية(2)، أي: سخرتموهم واستعبدتموهم حَتّٰى أَنْسَوْكُمْ بتشاغلكم بهم عن تلك الصفة ذِكْرِي فتركتموه، أي: تركتم أن تذكروني فتخافوني في أوليائي.

[سورة المؤمنون (23): الآیات 111 الی 116]

إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اَلْيَوْمَ بِمٰا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ اَلْفٰائِزُونَ قٰالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قٰالُوا لَبِثْنٰا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ اَلْعٰادِّينَ قٰالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّٰ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّمٰا خَلَقْنٰاكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنٰا لاٰ تُرْجَعُونَ فَتَعٰالَى اَللّٰهُ اَلْمَلِكُ اَلْحَقُّ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ رَبُّ

ص: 64


1- معاني القرآن وإعرابه ج 4:23.
2- عن ابن زيد. تفسير الطبري ج 18:47.

[سورة المؤمنون (23): الآیات 116 الی 118]

اَلْعَرْشِ اَلْكَرِيمِ وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اَللّٰهِ إِلٰهاً آخَرَ لاٰ بُرْهٰانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمٰا حِسٰابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاٰ يُفْلِحُ اَلْكٰافِرُونَ وَ قُلْ رَبِّ اِغْفِرْ وَ اِرْحَمْ وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلرّٰاحِمِينَ

قرئ: أَنَّهُمْ بفتح الهمزة وكسرها، فالفتح علي أنّه مفعول جَزَيْتُهُمُ ، والكسر استئناف، أي: قد فازوا حيث صبروا فجزوا أحسن الجزاء بصبرهم.

والضمير في قٰالَ للّه تعالى، أو للسائل عن لبثهم، وقرئ: (قل) في الموضعين علي معنى: قل أيّها السائل عن لبثهم. استقصروا مدة لبثهم في الدنيا بالإضافة إلى خلودهم في النار، أو لم يشعروا بطول لبثهم في القبور لكونهم أمواتا، أو لأنّ المنقضي في حكم ما لم يكن. وصدّقهم اللّه في تقللهم لسني لبثهم في الدنيا، ووبّخهم علي غفلتهم التي كانوا عليها.

و المراد ب - اَلْعٰادِّينَ : الملائكة، [لأنّهم أحصوا أعمال العباد و أيّامهم، وقيل:

هم الحسّاب(1)، أي: فاسأل الملائكة](2) الذين عدّوا أعمار الخلق، أو من يقدر أن يلقي فكره إلى العدّ فإنّا لا نعرف عدد تلك السنين إلا أن نستقلها ونحسبها يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ .

عَبَثاً حال، أي: عابثين، أو مفعول له، أي: ما خَلَقْنٰاكُمْ للعبث بل للحكمة التي اقتضته، وهي أن نتعبدكم و نكلفكم الطاعات ثمّ نعيدكم في دار الجزاء لنثيب ونعاقب، وقرئ: تُرْجَعُونَ بفتح التاء.

و اَلْحَقُّ الثابت الذي لا يزول، أو الذي يحقّ له الإلهية والملك فلا

ص: 65


1- عن قتادة. تفسير الطبري ج 18:49.
2- ساقطة من ج.

يزول ملكه، وكل ملك غيره فملكه مستعار، وإنّما يملك بعض الأشياء من بعض الوجوه، وهو اَلْمَلِكُ المالك لجميع الأشياء من جميع الوجوه.

ووصف العرش بالكرم لأنّ الرحمة تنزل منه، وينال الخير والبركة من جهته، ولنسبته إلي أكرم الأكرمين.

لاٰ بُرْهٰانَ لَهُ بِهِ صفة لازمة، نحو قوله: يَطِيرُ بِجَنٰاحَيْهِ (1) جيء بها للتوكيد، أو هو اعتراض بين الشرط والجزاء، كما يقال: من أحسن إلي فلان لا أحقّ بالإحسان منه، فاللّه مثيبه.

ص: 66


1- الأنعام: 38.

سورة النور

اشارة

مدنية، أربع وستون آية.

في حديث أبيّ : (من قرأها أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل مؤمن ومؤمنة فيما مضى)(1)، الصادق عليه السلام: (حصّنوا أموالكم وفروجكم بتلاوة (سورة النور)...)(2).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة النور (24): الآیات 1 الی 3]

سُورَةٌ أَنْزَلْنٰاهٰا وَ فَرَضْنٰاهٰا وَ أَنْزَلْنٰا فِيهٰا آيٰاتٍ بَيِّنٰاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ اَلزّٰانِيَةُ وَ اَلزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لاٰ تَأْخُذْكُمْ بِهِمٰا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اَللّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ لْيَشْهَدْ عَذٰابَهُمٰا طٰائِفَةٌ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ اَلزّٰانِي لاٰ يَنْكِحُ إِلاّٰ زٰانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ اَلزّٰانِيَةُ لاٰ يَنْكِحُهٰا إِلاّٰ زٰانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَ حُرِّمَ ذٰلِكَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ

سُورَةٌ خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ موصوف ب - أَنْزَلْنٰاهٰا والخبر محذوف أي: فيما يتلي عليكم سُورَةٌ أَنْزَلْنٰاهٰا . وقرئ في الشواذ: سورة أنزلناها - بالنصب - علي زيدا ضربته. و أَنْزَلْنٰاهٰا تفسير للفعل المضمر، أو علي اقرأ سورة و أَنْزَلْنٰاهٰا

ص: 67


1- الكشف والبيان ج 7:62.
2- ثواب الأعمال: 109

صفة.

وَ فَرَضْنٰاهٰا أي: فرضنا أحكامها التي فيها، أي: جعلناها واجبة مقطوعا بها، و أصل الفرض القطع. وقرئ: فرّضناها - بالتشديد - وهو للتوكيد وللمبالغة في الإيجاب، أو لأنّ فيها فرائض شتى، تقول: فرضت الفريضة وفرّضت الفرائض.

و قرئ: تَذَكَّرُونَ بتشديد الذال وتخفيفها.

اَلزّٰانِيَةُ وَ اَلزّٰانِي رفعهما علي الابتداء، والخبر مخذوف، والتقدير: فيما فرض عليكم الزانية والزاني أي: جلدهما، ويجوز أن يكون الخبر فَاجْلِدُوا لأنّ الألف واللام بمعنى (الذي)، والتقدير: الذي زنا والتي زنت فاجلدوهما، كما تقول: من زنا فاجلدوه.

والجلد: ضرب الجلد، تقول: جلده كما تقول: ظهره وبطنه وركبه، وهذا حكم من ليس بمحصن من الزناة الأحرار البالغين، فأما المحصن فحكمه الرجم.

و قرئ: رأفة - بفتح الهمزة -، والمعنى: إنّ الواجب علي المؤمنين أن يستعملوا الجد في دين اللّه، ولا يأخذهم اللين والهوادة في استيفاء حدوده، وقوله: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ من باب التهييج وإلهاب الغضب للّه ولدينه. وقيل:

معناه: لاٰ تَأْخُذْكُمْ بِهِمٰا رحمة تمنعكم عن إقامة الحدّ عليهما فتعطلوا الحدود، أو من الضرب الشديد، بل أوجعوهما ضربا ولا تخففوا كما يخفف في حدّ الشارب.

والرجل يجلد قائما علي حالته التي وجد عليها ضربا وسطا مفرّقا علي الأعضاء كلها، لا يستثنى منها إلا ثلاثة: الوجه والرأس والفرج. وفي لفظ الجلد إشارة إلي أنّه لا ينبغي أن يتجاوز الألم إلى اللحم. والمرأة تجلد قاعدة عليها ثيابها قد ربطت عليها حتى لا تبدو عورتها.

وفي تسميته عذابا دليل على أنّه عقوبة، ويجوز أن يسمّى عذابا لأنّه يمنع من

ص: 68

المعاودة كما يسمّى نكالا.

والطائفة: الفرقة الحافة حول الشيء، وهم ثلاثة فصاعدا، وهي صفة غالبة، وعن الباقر عليه السلام وابن عباس والحسن وغيرهم: أنّ أقلّها رجل واحد(1). وينبغي أن لا يشهد إلا خيار الناس.

الفاسق: الذي من شأنه الزنا، لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء اللاتي علي خلاف صفته، وإنّما يرغب في زانية مثله أو مشركة، وكذلك الزانية المسافحة المشهورة بذلك لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال وينفرون عنها، وإنّما يرغب فيها من هو من شكلها.

وإنّما قرن سبحانه بين الزاني والمشرك تفخيما لأمر الزنا و استعظاما له، ومعنى الجملة الأولي: وصف الزاني بكونه غير راغب في العفائف لكن في الزواني، ومعنى الجملة الثانية: وصف الزانية بكونها غير مرغوب فيها للأعفّاء ولكن للزناة، وبينهما فرق.

وإنّما قدّمت الزانية علي الزاني في الأولي، لأنّ الآية مسوقة لعقوبتهما علي جنايتهما، والمرأة منها منشأ الجناية وهي الأصل والمادة في ذلك، ثمّ قدّم الزاني عليها في الثانية، لأنّ الآية مسوقة لذكر النكاح، والرجل هو الأصل فيه والخاطب، ومنه مبدأ الطلب.

وحرّم الزنا وَ حُرِّمَ نكاح المشهورات بالزنا عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ .

[سورة النور (24): الآیات 4 الی 5]

وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمٰانِينَ جَلْدَةً وَ لاٰ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهٰادَةً أَبَداً وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْفٰاسِقُونَ إِلاَّ اَلَّذِينَ تٰابُوا مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

ص: 69


1- ينظر: الدر المنثور ج 5:18، تهذيب الأحكام ج 10:150.

ذكر سبحانه حدّ الزنا، ثمّ ذكر حدّ القذف بالزنا، أي: يقذفون العفائف من النساء بالزنا والفجور.

ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ عدول يشهدون بأنّهم شاهدوهن يفعلن ذلك فَاجْلِدُوهُمْ والواجب أن يحضروا في مجلس واحد، فإن جاؤوا متفرقين كانوا قذفة.

ويقتضي نظم الآية أن تكون هذه الجمل الثلاث بأجمعها جزاء للشرط، فيكون التقدير: من قذف المحصنات فاجلدوهم وردّوا شهادتهم وفسّقوهم، أي:

فاجمعوا لهم الجلد وردّ الشهادة والتفسيق.

إِلاَّ اَلَّذِينَ تٰابُوا عن القذف وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اَللّٰهَ يغفر لهم، فلا يجلدون ولا تردّ شهادتهم ولا يفسّقون.

والأبد: اسم لزمان طويل انتهى أولم ينته، فإذا تاب القاذف قبلت شهادته، سواء حدّ أولم يحدّ، عن أئمّة الهدى عليهم السلام(1) وابن عباس(2)، وهو مذهب الشافعي(3).

ومن شرط توبة القاذف أن يكذّب نفسه، فإن لم يفعل ذلك لم تقبل شهادته.

[سورة النور (24): الآیات 6 الی 10]

وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوٰاجَهُمْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدٰاءُ إِلاّٰ أَنْفُسُهُمْ فَشَهٰادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهٰادٰاتٍ بِاللّٰهِ إِنَّهُ لَمِنَ اَلصّٰادِقِينَ وَ اَلْخٰامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اَللّٰهِ عَلَيْهِ إِنْ كٰانَ مِنَ اَلْكٰاذِبِينَ وَ يَدْرَؤُا عَنْهَا اَلْعَذٰابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهٰادٰاتٍ بِاللّٰهِ إِنَّهُ لَمِنَ اَلْكٰاذِبِينَ وَ اَلْخٰامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اَللّٰهِ عَلَيْهٰا إِنْ كٰانَ مِنَ اَلصّٰادِقِينَ وَ لَوْ لاٰ فَضْلُ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اَللّٰهَ تَوّٰابٌ حَكِيمٌ

ص: 70


1- ينظر: الوسائل ج 18 باب 36 من أبواب الشهادات.
2- الدر المنثور ج 5:21.
3- كتاب الأم ج 7:81.

روي: أنّه لما نزلت آية القذف قام عاصم بن عدي الأنصاري(1) فقال: يا رسول اللّه، إن رأى رجل منا مع امرأته رجلا فأخبر بما رأي جلد ثمانين! وإلى أن يجيء بأربعة شهداء فقد قضى الرجل حاجته ومضى، قال: كذلك أنزلت يا عاصم. فخرج فلم يصل إلى منزله حتى استقبله هلال بن أمية يسترجع، فقال: ما وراءك ؟ قال: شرّ، وجدت علي بطن امرأتي خولة شريك بن سمحاء، فقال: هذا والله سؤالي، فرجعا، فأخبر عاصم رسول اللّه، فبعث إليها فقال: ما يقول زوجك ؟ فقالت: لا أدري، ألغيرة أدركته أم بخلا علي الطعام، وكان شريك نزيلهم، فنزلت الآيات ولاعن بينهما(2). وقرئ: أربع شهادات - بالنصب - لأنّه في حكم المصدر الذي هو فَشَهٰادَةُ أَحَدِهِمْ وهي مبتدأ محذوف الخبر، فيكون التقدير: فواجب أن يشهد أحدهم أربع شهادات، ويكون بِاللّٰهِ من صلة شَهٰادٰاتٍ ، وفي الرفع يكون أَرْبَعُ شَهٰادٰاتٍ خبرا.

وقرئ: أن لعنة اللّه، وأن غضب الله علي تخفيف (أن) ورفع ما بعدهما. وقرئ بنصب الخامسة الثانية علي معنى: وتشهد الخامسة.

وصفة اللعان: أن يوقف الرجل بين يدي الحاكم والمرأة عن يمينه، فيقول الرجل أربع مرات: أشهد باللّه أنّي لمن الصادقين فيما ذكرته من الفجور عنها، ثمّ يقول في المرة الخامسة: لعنة اللّه عليّ إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به. ويدفع عن المرأة العذاب - وهو حد الزنا - أن تقول: أشهد باللّه أنّه لمن الكاذبين فيما قذفني به، أربع مرات، مرة بعد أخرى، وتقول في الخامسة: غضب اللّه عليّ إن كان من

ص: 71


1- عاصم بن عدي بن الجد العجلاني الأنصاري، شهد أحدا وما بعدها، قيل: إنه مات سنة 45 ه - عن 115 سنة. ينظر: الإصابة ج 2:246.
2- ينظر: الكشف والبيان ج 7:70.

الصادقين فيما قذفني به. ثمّ يفرّق الحاكم بينهما، ولا تحلّ له أبدا، وكان عليها العدّة من وقت اللعان. وإن نكل الرجل عن اللعان قبل استكمال الشهادات وجب عليه حدّ القذف.

وجواب لَوْ لاٰ متروك، وتركه دال علي أمر عظيم لا يكتنه.

[سورة النور (24): الآیات 11 الی 20]

إِنَّ اَلَّذِينَ جٰاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لاٰ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اِكْتَسَبَ مِنَ اَلْإِثْمِ وَ اَلَّذِي تَوَلّٰى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذٰابٌ عَظِيمٌ لَوْ لاٰ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِنٰاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَ قٰالُوا هٰذٰا إِفْكٌ مُبِينٌ لَوْ لاٰ جٰاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدٰاءِ فَأُولٰئِكَ عِنْدَ اَللّٰهِ هُمُ اَلْكٰاذِبُونَ وَ لَوْ لاٰ فَضْلُ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيمٰا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذٰابٌ عَظِيمٌ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَ تَقُولُونَ بِأَفْوٰاهِكُمْ مٰا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَ هُوَ عِنْدَ اَللّٰهِ عَظِيمٌ وَ لَوْ لاٰ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مٰا يَكُونُ لَنٰا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهٰذٰا سُبْحٰانَكَ هٰذٰا بُهْتٰانٌ عَظِيمٌ يَعِظُكُمُ اَللّٰهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَ يُبَيِّنُ اَللّٰهُ لَكُمُ اَلْآيٰاتِ وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ إِنَّ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ اَلْفٰاحِشَةُ فِي اَلَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ اَللّٰهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ وَ لَوْ لاٰ فَضْلُ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اَللّٰهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ

الإفك: أبلغ الكذب، وأصله من الإفك وهو القلب، لأنّه قول مأفوك عن وجهه، والمراد: ما أفك به علي عائشة وصفوان بن المعطل. والعصبة: الجماعة من العشرة إلي أربعين، وكذلك العصابة، واعصو صبوا: اجتمعوا، وهم: عبد اللّه بن

ص: 72

أبيّ - وهو الذي تَوَلّٰى كِبْرَهُ أي: إثمه -، ومسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم.

لِكُلِّ اِمْرِئٍ من تلك العصبة نصيبه مِنَ اَلْإِثْمِ على مقدار خوضه في الإفك، والعذاب العظيم لابن أبيّ ، لأنّ معظم الشرّ كان منه، يشيع ذلك في الناس ويقول: امرأة نبيّكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثمّ جاء يقودها، واللّه ما نجت منه ولا نجا منها.

والخطاب في قوله: هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لعائشة وصفوان لأنّهما المقصودان بالإفك، ولمن ساءه ذلك من المؤمنين ولكل من رمي بسب، ومعنى كونه خيرا لهم: إنّ اللّه تعالى يعوّضهم بصبرهم.

وكان سبب الإفك: أنّ عائشة ضاع عقدها في غزوة بني المصطلق، وكانت قد خرجت لقضاء حاجة، فرجعت طالبة له، وحمل هودجها علي بعيرها ظنا منهم أنّها فيه، فلما عادت إلى الموضع وجدتهم قد رحلوا، وكان صفوان من وراء الجيش، فلما وصل إلى ذلك الموضع وعرفها أناخ بعيره حتى ركبته وهو يسوقه حتى أتى الجيش وقد نزلوا في قائم الظهيرة. كذا رواه الزهري عن عائشة(1). وقرئ: كبره - بضم الكاف -، أي: عظمه.

بِأَنْفُسِهِمْ أي: بالذين هم كأنفسهم، لأنّ المؤمنين كلهم كالنفس الواحدة.

ونحوه: وَ لاٰ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ (2)، و فَسَلِّمُوا عَلىٰ أَنْفُسِكُمْ (3)، وقيل: معناه:

ص: 73


1- سيرة ابن هشام ج 3:309-311.
2- الحجرات: 11.
3- النور: 61.

هلا ظننتم ما تظنونه بأنفسكم لو خلوتم بها(1)، ولم يقل: ظننتم بأنفسكم خيرا، عدولا عن المضمر إلي المظهر، وعن الخطاب إلى الغيبة، ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات. ويدلّ علي أنّ الاشتراك في الإيمان مقتض أن لا يصدّق مؤمن على أخيه قول غائب، وموجب أن يصرّح ببراءة ساحته وتكذيب قاذفه.

لَوْ لاٰ الأولى والثانية للتحضيض، وهذه لامتناع الشيء لوجود غيره، والمعنى: ولولا أنّي حكمت بأن أتفضل عليكم في الدنيا والآخرة، لعاجلتكم بالعقاب فيما خضتم فيه. يقال: أفاض في الحديث واندفع وخاض.

إِذْ ظرف لَمَسَّكُمْ أو ل - أَفَضْتُمْ .

تَلَقَّوْنَهُ يأخذه بعضكم من بعض، يقال: تلقى القول وتلقنه وتلقفه بمعنى، والأصل تتلقونه، وصفهم بارتكاب آثام ثلاثة، وعلّق مس العذاب العظيم بها: وهو التحدّث منهم به حتى انتشر وشاع، وقولهم بأفواههم مالا علم لهم به، واستحقارهم لذلك.

وفصل بين لَوْ لاٰ و قُلْتُمْ بالظرف لفائدة، وهي بيان أنّه كان يجب عليهم أوّل ما سمعوا أن يتفادوا عن التكلّم به، فكان ذكر الوقت أهم، فوجب تقديمه.

سُبْحٰانَكَ فيه تعجب من عظم الأمر، أو تنزيه اللّه من أن تكون زوجة نبيّه فاجرة.

يَعِظُكُمُ اَللّٰهُ في أَنْ تَعُودُوا من قولك: وعظت فلانا في كذا فتركه، أو كراهة أن تعودوا أبدا، أي: ما دمتم أحياء مكلفين.

ص: 74


1- التبيان ج 7:416.

و إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ تهييج لهم، وتذكيرهم بما يوجب ترك العود، وهو اتصافهم بالإيمان الصارف عن القبيح.

تَشِيعَ اَلْفٰاحِشَةُ أي: تشيعونها عن قصد إلى الإشاعة ومحبّة لها.

وعذاب الدنيا: الحدّ وَ اَللّٰهُ يَعْلَمُ ما في القلوب من الأسرار.

[سورة النور (24): الآیات 21 الی 25]

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَتَّبِعُوا خُطُوٰاتِ اَلشَّيْطٰانِ وَ مَنْ يَتَّبِعْ خُطُوٰاتِ اَلشَّيْطٰانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشٰاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ وَ لَوْ لاٰ فَضْلُ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ مٰا زَكىٰ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ يُزَكِّي مَنْ يَشٰاءُ وَ اَللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَ لاٰ يَأْتَلِ أُولُوا اَلْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ اَلسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي اَلْقُرْبىٰ وَ اَلْمَسٰاكِينَ وَ اَلْمُهٰاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ لْيَعْفُوا وَ لْيَصْفَحُوا أَ لاٰ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اَللّٰهُ لَكُمْ وَ اَللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَنٰاتِ اَلْغٰافِلاٰتِ اَلْمُؤْمِنٰاتِ لُعِنُوا فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اَللّٰهُ دِينَهُمُ اَلْحَقَّ وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْحَقُّ اَلْمُبِينُ

مٰا زَكىٰ مِنْكُمْ أي: ما طهر أحد منكم من وسوسة الشيطان، لكنّه سبحانه يطهّر بلطفه من يشاء، وهو من له لطف يفعله به ليزكو عنده ويصلح به.

وَ لاٰ يَأْتَلِ أي: لا يحلف، وهو افتعال من الألية، وقرئ: ولا يتأل، وعن الزجّاج: (يريد أن لا يؤتوا فحذف (لا)(1)، والمعنى: لا يحلفوا علي أن لا يحسنوا إلى من يستحقّ الإحسان.

أُولُوا اَلْفَضْلِ أولو الغنى مِنْكُمْ وَ اَلسَّعَةِ في المال، وقيل: معناه: لا

ص: 75


1- معاني القران وإعرابه ج 4:36.

يقصّروا في أن يحسنوا إليهم وإن كانت بينهم وبينهم إحنة لجناية اقترفوها(1)، من قولهم: ما ألوت جهدا، إذا لم تدّخر منه شيئا. نزلت في شأن مسطح، وكان ابن خالة أبي بكر، وكان فقيرا، وكان أبو بكر ينفق عليه، فلما خاض في الإفك حلف أن لا ينفق عليه(2). وقيل: نزلت في جماعة من الصحابة حلفوا أن لا يتصدّقوا علي من تكلّم بشيء من الإفك ولا يواسوهم(3).

اَلْغٰافِلاٰتِ عن الفواحش.

وقرئ: يَوْمَ تَشْهَدُ بالتاء والياء.

والدين: الجزاء، و الحق صفة للدين، أي: يوفيهم الجزاء الحقّ الذي هم أهله.

أَنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْحَقُّ اَلْمُبِينُ أي: العادل، الظاهر العدل الذي لا ظلم في حكمه.

[سورة النور (24): الآیات 26 الی 28]

اَلْخَبِيثٰاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ اَلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثٰاتِ وَ اَلطَّيِّبٰاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ اَلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبٰاتِ أُولٰئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمّٰا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّٰى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلىٰ أَهْلِهٰا ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهٰا أَحَداً فَلاٰ تَدْخُلُوهٰا حَتّٰى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَ إِنْ قِيلَ لَكُمُ اِرْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ

ص: 76


1- عن محمّد بن بحر. تفسير الماوردي ج 4:83.
2- أسباب النزول: 227.
3- تفسير الطبري ج 18:82.

[سورة النور (24): الآیات 28 الی 29]

أَزْكىٰ لَكُمْ وَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهٰا مَتٰاعٌ لَكُمْ وَ اَللّٰهُ يَعْلَمُ مٰا تُبْدُونَ وَ مٰا تَكْتُمُونَ

اَلْخَبِيثٰاتُ من الكلم تقال أو تعدّ للخبيثين من الرجال والنساء وَ اَلْخَبِيثُونَ منهم يتعرضون للخبيثات من القول، وكذلك الطيبات والطيبون، و أُولٰئِكَ إشارة إلى الطيبين، و أنّهم مُبَرَّؤُنَ مما يقول الخبيثون من خبيثات الكلم. ويجوز أن يكون المراد بالخبيثات والطيبات النساء، أي:

الخبائث يتزوّجن الخباث، والخباث الخبائث، فكذلك أهل الطيب.

حَتّٰى تَسْتَأْنِسُوا فيه وجهان: أحدهما: أنّه من الاستئناس، خلاف الاستيحاش، لأنّ الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا، فهو كالمستوحش لخفاء الحال عليه، فإذا أذن له استأنس، فالمعنى: حتى يؤذن لكم، فهو كقوله: لاٰ تَدْخُلُوا بُيُوتَ اَلنَّبِيِّ إِلاّٰ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ (1)، فوضع الاستئناس موضع الإذن، لأنّ الاستئناس يرادف الإذن.

والثاني: أنّه استفعال من أنس الشيء: إذا أبصره مكشوفا، والمعنى: حتى تستعلموا و تستكشفوا الحال هل يراد دخولكم أم لا؟ ومنه قولهم: استأنست فلم أر أحدا، أي: استعلمت وتعرّفت، ومنه قول النابغة:

على مستأنس وحد(2)

ص: 77


1- الأحزاب: 53.
2- ديوان النابغة الذبياني: 31، وصدره: كأن رحلي وقد زال النهار بنا بذي الجليل....

وعن أبي أيوب الأنصاري(1): (قلنا: يا رسول اللّه، ما الاستئناس ؟ قال: يتكلّم الرجل بالتسبيحة والتحميدة والتكبيرة ويتنحنح، يؤذن أهل البيت، والتسليم: أن يقول: السلام عليكم، أأدخل، ثلاث مرات. فإن أذن له و إلا رجع)(2).

ذٰلِكُمْ الاستئذان والتسليم خَيْرٌ لَكُمْ من تحية الجاهلية وهو قولهم:

حييتم صباحا أو مساء، و من الدخول بغير إذن.

لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي: أنزل عليكم هذا إرادة أن تتعظوا و تعملوا بما أمرتم به في باب الاستئذان.

فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهٰا أَحَداً من الآذنين [فَلاٰ تَدْخُلُوهٰا واصبروا حتى تجدوا من يأذن لكم، أو إن لم تجدوا فيها أحدا من أهلها فلا تدخلوها إلا بإذن أهلها لأنّه تصرّف في ملك غيرك](3)، فلابد أن يكون برضاه.

فَارْجِعُوا ولا تقفوا علي الأبواب منتظرين، ولا تلحّوا في تسهيل الحجاب.

هُوَ أَزْكىٰ لَكُمْ الرجوع أطهر لكم، لما فيه من السلامة والبعد عن الريبة لكم، وأنفع لكم وأنمى خيرا. ثمّ أوعد المخاطبين بأنّه عَلِيمٌ بما يأتون وما يذرون، فيجازي بحسب ذلك.

ثمّ استثنى من البيوت التي لا يجب علي داخلها الاستئذان: ما ليس بمسكون منها نحو: الفنادق وهي الخانات والربط وحوانيت الباعة والأرحية والحمامات.

ص: 78


1- أبو أيوب خالد بن زيد بن كليب الأنصاري، شهد العقبة وسائر المشاهد مع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وعليه نزل النبيّ حين قدومه المدينة، شهد مع الإمام عليّ عليه السلام حروبه كلها، مات بالقسطنطينية زمن معاوية وقبره هناك. ينظر: الإصابة ج 1:405، معجم رجال الحديث ج 7:25.
2- مصنف ابن أبي شيبة ج 6:132.
3- ساقطة من ج.

والمتاع: المنفعة والارتفاق والبيع والشراء، وقيل: هي الخربات المعطلة يتبرز فيها، وا لمتاع: التبرز(1).

[سورة النور (24): الآیات 30 الی 31]

قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصٰارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذٰلِكَ أَزْكىٰ لَهُمْ إِنَّ اَللّٰهَ خَبِيرٌ بِمٰا يَصْنَعُونَ وَ قُلْ لِلْمُؤْمِنٰاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصٰارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَ لاٰ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّٰ مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلىٰ جُيُوبِهِنَّ وَ لاٰ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّٰ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبٰائِهِنَّ أَوْ آبٰاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنٰائِهِنَّ أَوْ أَبْنٰاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوٰانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوٰانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوٰاتِهِنَّ أَوْ نِسٰائِهِنَّ أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُنَّ أَوِ اَلتّٰابِعِينَ غَيْرِ أُولِي اَلْإِرْبَةِ مِنَ اَلرِّجٰالِ أَوِ اَلطِّفْلِ اَلَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلىٰ عَوْرٰاتِ اَلنِّسٰاءِ وَ لاٰ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مٰا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَ تُوبُوا إِلَى اَللّٰهِ جَمِيعاً أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

من للتبعيض، والمراد: غض البصر عما يحرم، والاقتصار به علي ما يحل.

ويجوز عند الأخفش أن يكون (من) مزيدة(2)، ولم يجزه سيبويه(3). الصادق عليه السلام:

(حفظ الفروج عبارة عن التحفّظ من الزنا في جميع القران إلا هنا، فإنّ المراد به الستر حتى لا ينظر إليها أحد، ولا يحلّ للرجل أن ينظر إلى فرج أخيه، ولا للمرأة

ص: 79


1- عن عطا. تفسير الطبري ج 18:90.
2- معاني القرآن للأخفش ج 2:276.
3- ينظر: الكتاب ج 4:225.

أن تنظر إلى فرح أختها)(1).

ثمّ أخبر أنّه خَبِيرٌ بأحوالهم وأفعالهم، ويعلم كيف يَصْنَعُونَ ، فعليهم أن يكونوا علي حذر واتقاء في كل حركة وسكون.

وأمر النساء أيضا بغض الأبصار وحفظ الفروج كما أمر الرجال. وعن أم سلمة قالت: (كنت عند النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وعنده ميمونة(2)، فأقبل ابن أم مكتوم(3)، وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب، فقال: احتجبا، فقلنا: يا رسول اللّه، أليس أعمى لا يبصرنا؟ فقال: أفعمياوان أنتما؟! ألستما تبصرانه)(4).

الزينة: ما تزيّنت به المرأة من حليّ أو كحل أو خضاب، وهي ظاهرة وباطنة، فالظاهرة لا يجب سترها وهي الثياب، وقيل: الكحل والخاتم والخضاب في الكف(5)، وقيل: الوجه والكفان(6)، وعنهم عليهم السلام: (الكفان والأصابع)(7).

والباطنة كالخلخال والسوار والقلادة والقرط، فلا تبديه إلا لهؤلاء المذكورين.

وسئل الشعبي: لم لم يذكر اللّه الأعمام والأخوال ؟ فقال: (لئلا يصفها العم عند

ص: 80


1- الكافي ج 2:36.
2- ميمونة بنت الحارث بن حزن الهلالية أم المؤمنين، تزوجها النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم سنة 7 ه - في عمرة القضاء، توفيت بسرف سنة 51 ه -. ينظر: الاستيعاب ج 4:404.
3- عمرو وقيل عبد اللّه بن شريح ابن أم مكتوم القرشي، أسلم قديما، كان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يستخلفه علي المدينة في عامة غزواته يصلّي بالناس، شهد القادسية ورجع إلي المدينة فمات بها. ينظر: الإصابة ج 2: 523.
4- سنن أبي داود ج 4:62 ح 4112.
5- عن مجاهد. تفسير الطبري ج 18:93.
6- عن عطاء. تفسير الطبري ج 18:93.
7- مجمع البيان ج 7-8:138 عن تفسير علي بن إبراهيم ولا يوجد في المطبوع.

ابنه، والخال كذلك)(1).

وذكر الزينة دون مواقعها للمبالغة في الأمر بالتستر، لأنّ هذه الزين واقعة علي مواضع من الجسد، لا يحلّ النظر إليها لغير هؤلاء، وأما الزينة الظاهرة فسومح فيها لهن، لأنّ المرأة لا تجد بدا من ذلك، خصوصا في الشهادة والمحاكمة.

والخمر: المقانع، جمع خمار، أمرن بإلقائها علي جيوبهن لأنّها لو كانت واسعة تبدو منها نحورهن، وكن يسدلن الخمر من ورائهن فتبقى مكشوفة، فأمرن بسدلها من قدامهن حتى تغطيها. ويجوز أن يكون المراد بالجيوب الصدور تسمية بما يليها، كما قيل: ناصح الجيب. وضربها بالخمار علي الجيب وضعها عليه، كقولك: ضربت بيدي علي الحائط. و قرئ: جيوبهنّ - بكسر الجيم - لأجل الياء، وبيوتا غير بيوتكم - بكسر الباء -.

أَوْ نِسٰائِهِنَّ يعني: النساء المؤمنات، لأنه ليس للمؤمنة أن تتجرّد بين يدي مشركة أو كتابية عن ابن عباس(2). والظاهر أنّه عنى بنسائهن.

و مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُنَّ من في صحبتهن و خدمتهن من الحرائر والإماء.

وقيل: مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُنَّ هم الذكور والإناث جميعا(3).

والتابع: هو الذي يتبعك لينال من طعامك، ولا حاجة له في النساء، وهو الأبله الذي لا يعرف شيئا من أمر النساء. و قرئ غَيْرِ بالنصب علي الاستثناء أو الحال، وبالجر علي الوصفية، و اَلْإِرْبَةِ الحاجة أَوِ اَلطِّفْلِ وضع الواحد موضع الجمع لأنه يفيد الجنس.

ص: 81


1- الدر المنثور ج 5:42.
2- الكشاف ج 3:231.
3- عن عائشة وغيرها. معالم التنزيل ج 3:77.

و لَمْ يَظْهَرُوا هو إما من ظهر علي الشيء: إذا اطّلع عليه، أي: لا يعرفون ما العورة، ولا يميزون بينها وبين غيرها، وإما من ظهر علي فلان: إذا قوي عليه، أي: لم يبلغوا وقت القدرة على الوطء لعدم شهوتهم.

وكانت المرأة تضرب الأرض برجلها ليتقعقع خلخالها، وقيل: كانت تضرب بإحدي رجليها الأخري ليعلم أنّها ذات خلخالين(1)، وإذا نهين عن إظهار صوت الحليّ بعدما نهين عن إظهار الحليّ [علم أنّ النهي عن إظهار مواضع الحليّ أبلغ](2).

وقرئ: أيه المؤمنون - يضم الهاء -، والوجه فيه: أنّ الألف لما سقطت من (أيّها) لالتقاء الساكنين اتبعت حركتها حركة ما قبلها.

[سورة النور (24): الآیات 32 الی 34]

وَ أَنْكِحُوا اَلْأَيٰامىٰ مِنْكُمْ وَ اَلصّٰالِحِينَ مِنْ عِبٰادِكُمْ وَ إِمٰائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرٰاءَ يُغْنِهِمُ اَللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اَللّٰهُ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَ لْيَسْتَعْفِفِ اَلَّذِينَ لاٰ يَجِدُونَ نِكٰاحاً حَتّٰى يُغْنِيَهُمُ اَللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اَلَّذِينَ يَبْتَغُونَ اَلْكِتٰابَ مِمّٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ فَكٰاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَ آتُوهُمْ مِنْ مٰالِ اَللّٰهِ اَلَّذِي آتٰاكُمْ وَ لاٰ تُكْرِهُوا فَتَيٰاتِكُمْ عَلَى اَلْبِغٰاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ مَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اَللّٰهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرٰاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3(3) وَ لَقَدْ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكُمْ آيٰاتٍ مُبَيِّنٰاتٍ وَ مَثَلاً مِنَ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ

الأيامى واليتامى أصلهما (أيايم) و (يتايم) فقلبا، والأيّم للرجل والمرأة، وتأيّما إذا لم يتزوّجا بكرين كانا أو ثيبين. وفي الحديث: (اللهم إنّا نعوذ بك من

ص: 82


1- عن ابن عباس وغيره. تفسير الطبري ج 18:97.
2- ساقطة من ج.

العيمة و الأيمة والغيمة)(1).

أي: وَ أَنْكِحُوا من تأيّم منكم من الأحرار والحرائر، و من كان فيه صلاح من غلمانكم وجواريكم، وهذا أمر ندب واستحباب. وعنه عليه السلام: (من أحبّ فطرتي فليستن بسنتي، وهي النكاح)(2)، وعنه عليه السلام: (من كان له ما يتزوج به فلم يتزوج فليس منا)(3)، وعنه عليه السلام: (التمسوا الرزق بالنكاح)(4)، الصادق عليه السلام: (من ترك التزويج مخافة العيلة فقد أساء الظن بربّه، لقوله تعالى: إِنْ يَكُونُوا فُقَرٰاءَ يُغْنِهِمُ اَللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ )(5).

لاٰ يَجِدُونَ نِكٰاحاً أي: استطاعة تزوّج، ويجوز أن يراد بالنكاح ما ينكح به من المال.

وَ اَلَّذِينَ يَبْتَغُونَ مرفوع بالابتداء، أو منصوب بفعل مضمر يفسّره فَكٰاتِبُوهُمْ كقولك: زيدا فاضربه، ودخلت الفاء لتضمّن معنى الشرط.

والمكاتبة والكتاب أن يقول الرجل لمملوكه: كاتبتك علي كذا، ومعناه: كتبت لك علي نفسي أن تعتق مني إذا وفيت بالمال، وكتبت لي علي نفسك أن تفي بذلك، أو كتبت عليك الوفاء بالمال وكتبت عليّ العتق.

إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً أي: صلاحا ورشدا، وقيل: قدرة علي أداء مال

ص: 83


1- الزاهر ج 1:595.
2- الكافي ج 5:494، سنن البيهقي الكبرى ج 7:78.
3- مصنف ابن أبي شيبة ج 3:270.
4- فردوس الأخبار ج 1:125، الكافي ج 5:330 بالمعنى.
5- الكافي ج 5:330.

الكتابة(1).

وَ آتُوهُمْ أمر بإعانتهم وإعطائهم سهمهم الذي جعله اللّه لهم في قوله:

وَ فِي اَلرِّقٰابِ (2) ، أو حطّهم من المال الذي عليهم وهو استحباب.

وَ لاٰ تُكْرِهُوا إماءكم علي الزنا، وكانت إماء أهل الجاهلية يساعين علي مواليهن، وكانت لعبد اللّه بن أبيّ ست جوار يكرههن علي البغاء، وضرب عليهن ضرائب، فشكت ثنتان منهن إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فنزلت(3). ويكنى بالفتى والفتاة عن العبد والأمة. وفي الحديث: (ليقل أحدكم: فتاي وفتاتي، ولا يقل: عبدي وأمتي)(4).

و اَلْبِغٰاءِ مصدر البغي، وإنّما شرط إرادة التحصن لأنّ الإكراه لا يتأتى إلا مع إرادة التحصن، وهو التعفف. وكلمة (إن) وإيثارها علي (إذا) تؤذن بأنّهن كن يفعلن ذلك برغبة وطوع، ومن يجبرهن فَإِنَّ اَللّٰهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرٰاهِهِنَّ غَفُورٌ للمكرهات لا للمكره رَحِيمٌ بهن، وعن الصادق عليه السلام: لهن غفور رحيم.

مُبَيِّنٰاتٍ أي: واضحات ظاهرات في معاني الأحكام والحدود، ومبيّنات - بالفتح -: موضحات مفصلات.

وَ مَثَلاً من أمثال مِنْ قَبْلِكُمْ وشبها من حالهم بحالكم.

[سورة النور (24): آیة 35]

اَللّٰهُ نُورُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكٰاةٍ فِيهٰا مِصْبٰاحٌ اَلْمِصْبٰاحُ فِي زُجٰاجَةٍ اَلزُّجٰاجَةُ كَأَنَّهٰا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ

ص: 84


1- عن ابن عمر وغيره. تفسير الطبري ج 18:99.
2- التوبة: 60.
3- أسباب النزول: 230.
4- مسند أحمد ج 2:496.

[سورة النور (24): الآیات 35 الی 38]

مُبٰارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاٰ شَرْقِيَّةٍ وَ لاٰ غَرْبِيَّةٍ يَكٰادُ زَيْتُهٰا يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نٰارٌ نُورٌ عَلىٰ نُورٍ يَهْدِي اَللّٰهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَضْرِبُ اَللّٰهُ اَلْأَمْثٰالَ لِلنّٰاسِ وَ اَللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اَللّٰهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهٰا بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصٰالِ رِجٰالٌ لاٰ تُلْهِيهِمْ تِجٰارَةٌ وَ لاٰ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللّٰهِ وَ إِقٰامِ اَلصَّلاٰةِ وَ إِيتٰاءِ اَلزَّكٰاةِ يَخٰافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ اَلْقُلُوبُ وَ اَلْأَبْصٰارُ لِيَجْزِيَهُمُ اَللّٰهُ أَحْسَنَ مٰا عَمِلُوا وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ اَللّٰهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشٰاءُ بِغَيْرِ حِسٰابٍ

قال: نُورُ اَلسَّمٰاوٰاتِ ، ثمّ قال: مَثَلُ نُورِهِ و يَهْدِي اَللّٰهُ لِنُورِهِ ، كما يقال: فلان كرم وجود، ثمّ يقول: ينعش الناس بكرمه ويشملهم جوده. ومعناه:

ذو نور السماوات وصاحب نور السماوات.

وإضافة النور إلي السماوات والأرض لأحد معنيين: إما لأنّ المراد أهل السماوات والأرض وأنّهم يستضيئون بنوره، وإما للدلالة علي عموم إضاءته وشيوع إشراقه. ورووا عن عليّ عليه السلام: اللّه نوّر السماوات والأرض، والمعنى: نشر فيها الحقّ فأضاءت بنوره، أو نوّر قلوب أهلها به.

مَثَلُ نُورِهِ أي: صفة نوره العجيبة الشأن في الإضاءة والإشراق.

كَمِشْكٰاةٍ أي: كصفة مشكاة، وهي الكوّة في الجدار غير النافذة.

فِيهٰا مِصْبٰاحٌ أي: سراج ثاقب اَلْمِصْبٰاحُ فِي زُجٰاجَةٍ زهراء هي مشبهة في زهورها ب - كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ من الكواكب المشهورة بمزيد الضوء والزهور كالمشتري والزهرة ونحوهما، وهو منسوب إلي الدر، أي: أبيض متلألئ. و قرئ: درّيء

ص: 85

- بالهمزة - علي زنة سكيت، كأنّه يدرأ الظلام أي: يدفعه بضيائه، ودريء كمريق، وهو العصفر.

يُوقَدُ هذا المصباح مِنْ شَجَرَةٍ أي: مبدأ ثقوبه من شجرة الزيتون، يعني: رويت ذبالته بزيتها، و من قرأ توقد - بالتاء - فالفعل للزجاجة، والتقدير:

مصباح الزجاجة، فحذف المضاف، وقرئ: يوقد بالياء أيضا.

مُبٰارَكَةٍ كثيرة البركة والمنفعة، لأنّه يسرج بدهنها، ويؤتدم به، ويوقد بحطبه وثفله، ويغسل الإبريسم برماده، وهي أوّل شجرة نبتت بعد الطوفان في الأرض التي بارك اللّه فيها للعالمين، وقيل: لأنّ سبعين نبيّا باركوا فيها منهم إبراهيم عليه السلام(1).

لاٰ شَرْقِيَّةٍ وَ لاٰ غَرْبِيَّةٍ لأنّ منبتها الشام، وهي بين المشرق والمغرب، وأجود الزيتون زيتون الشام، وقيل: لا يفيء عليها ظل شرق ولا غرب، بل هي ضاحية للشمس لا يظلها شجر ولا جبل، فزيتها يكون أصفى(2)، وقيل: ليست في مقنوءة(3) لا تصيبها الشمس، ولا في مضحى لا يصيبها الظل، لكن الشمس والظل يتعاقبان عليها(4). وعن الحسن: (ليست من شجر الدنيا فتكون شرقية أو غربية)(5).

يَكٰادُ زَيْتُهٰا يُضِيءُ من صفائه وفرط تلألئه وضيائه من غير نار.

ص: 86


1- الكشف والبيان ج 7:104.
2- عن ابن عباس وغيره. تفسير الطبري ج 18:110.
3- مقنوءة: لا تطلع عليها الشمس. (لسان العرب: مادة عهد)
4- عن السدي. معالم التنزيل ج 3:81.
5- تفسير الطبري ج 18:110.

و نُورٌ عَلىٰ نُورٍ أي: هو نور متضاعف، قد تظاهر فيه نور الزيت ونور المصباح ونور الزجاجة، فلم يبق مما يقوي النور ويزيد في إضاءته بقية.

واختلف في هذا النور الذي أضافه سبحانه إلى نفسه وما شبّهه به، فذهب الأكثر من المفسّرين إلي أنّه نبيّنا محمّد صلى الله عليه و آله و سلم فكأنّه قال: مثل محمّد رسول اللّه وهو المشكاة، والمصباح قلبه، والزجاجة صدره، شبّهه بالكوكب الدري، ثمّ رجع إلى قلبه المشبّه بالمصباح فقال: يوقد هذا المصباح من شجرة مباركة يعني: إبراهيم عليه السلام، لأنّ أكثر الأنبياء من صلبه، أو شجرة الوحي لا شرقية ولا غربية: لا نصرانية ولا يهودية، لأنّ النصارى تصلي إلى المشرق واليهود إلى المغرب يَكٰادُ أعلام النبوّة تشهد له قبل أن يدعو إليها، أو يكاد صدقه في نبوّته يبين ويتميز وإن لم ير شيء من معجزاته(1)، كما قال عبد اللّه بن رواحة:

لو لم تكن فيه آيات مبيّنة *** كانت بديهته تنبئك بالخير(2)

وعن الباقر عليه السلام: (إنّ قوله: كَمِشْكٰاةٍ فِيهٰا مِصْبٰاحٌ هو نور العلم في صدر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والزجاجة صدر عليّ عليه السلام، علّمه النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم علمه فصار إلى صدره يَكٰادُ زَيْتُهٰا يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نٰارٌ يكاد العالم من آل محمّد صلى الله عليه و آله و سلم يتكلّم بالعلم قبل أن يسأل نُورٌ عَلىٰ نُورٍ أي: إمام مؤيد بنور العلم والحكمة في إثر إمام من آل محمّد، وذلك من لدن آدم إلى قيام الساعة، هم خلفاء اللّه في أرضه، وحججه علي خلقه، لا تخلو الأرض في كل عصر من واحد منهم)(3). وهذا يقتضي أن تكون الشجرة المباركة هي هذه الشجرة التي أشرقت الأرض بنورها من عهد آدم إلى منقرض

ص: 87


1- راجع الدر المنثور ج 5:48، 49.
2- ديوان عبد اللّه بن رواحة: 160.
3- كتاب التوحيد: 109.

العالم.

وقيل: إنّ نور اللّه هو الحقّ (1)، كما في قوله: يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُمٰاتِ إِلَى اَلنُّورِ (2) أي: من الباطل إلى الحقّ . وعن أبيّ بن كعب: أنّه قرأ: مثل نور من آمن يَهْدِي اَللّٰهُ بهذا النور الثاقب مَنْ يَشٰاءُ من عباده، بأن يفعل به لطفا إذا علم أنّه يصلح له، ويوفّقه لاتباع دلائله.

فِي بُيُوتٍ يتعلّق بما قبله، أي: كمشكاة في بعض بيوت اللّه، وهي المساجد، أو بما بعده وهو يُسَبِّحُ لَهُ ... رِجٰالٌ في بيوت. وقوله: فيها هو تكرير كما يقال: زيد في الدار جالس فيها. والمراد بالإذن: الأمر.

أَنْ تُرْفَعَ أي: تبنى، كقوله: بَنٰاهٰا رَفَعَ سَمْكَهٰا (3)، وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْرٰاهِيمُ اَلْقَوٰاعِدَ مِنَ اَلْبَيْتِ (4)، أو تعظّم وترفع من قدرها، وقيل: هي بيوت الأنبياء، وروي ذلك مرفوعا، وهو أنّه عليه السلام لما قرأ هذه الآية سئل: (أيّ بيوت هذه ؟ فقال:

بيوت الأنبياء، فقام أبو بكر فقال: يا رسول اللّه، هذا البيت منها؟ وأشار إلى بيت عليّ وفاطمة. فقال: نعم، من أفاضلها)(5).

وَ يُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ أي: يتلي فيها كتابه، ويذكر أسماؤه الحسنى، وقرئ: يسبّح له - علي البناء للمفعول -، وإسناده إلى أحد الظروف الثلاثة وهي:

ص: 88


1- الكشاف ج 3:240.
2- البقرة: 257.
3- النازعات: 27، 28.
4- البقرة: 127.
5- شواهد التنزيل ج 1:410.

لَهُ فِيهٰا بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصٰالِ .

ويرتفع رِجٰالٌ بما دلّ عليه يُسَبِّحُ أي: يسبّح رجال.

وا لآصال: جمع أصل وهو العشي، والمعنى: بأوقات الغدو، أي: بالغدوات، والتجارة: صناعة التاجر. أي: لا يشغلهم عن الذكر والصلاة، فإذا حضرت الصلاة تركوا التجارة وقاموا إليها.

وَ إِقٰامِ اَلصَّلاٰةِ أي: إقامتها، فإنّ التاء في (إقامة) عوض من العين الساقطة، إذ الأصل (إقوام) فلما أضيفت أقيصت الإضافة مقام حرف التعويض فأسقطت، ونحوه:

وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا(1)

وتقلّب القلوب والأبصار: أن تضطرب من الهول والفزع وتشخص، أي:

تتقلّب أحوالها فتفقه القلوب وتبصر الأبصار بعد أن كانت لا تفقه ولا تبصر.

أي: يسبّحون ليجزيهم جزاء أعمالهم مضاعفا، ويزيدهم علي الثواب تفضلا، والتفضل يكون بِغَيْرِ حِسٰابٍ .

[سورة النور (24): الآیات 39 الی 41]

وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمٰالُهُمْ كَسَرٰابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ اَلظَّمْآنُ مٰاءً حَتّٰى إِذٰا جٰاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَ وَجَدَ اَللّٰهَ عِنْدَهُ فَوَفّٰاهُ حِسٰابَهُ وَ اَللّٰهُ سَرِيعُ اَلْحِسٰابِ أَوْ كَظُلُمٰاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشٰاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحٰابٌ ظُلُمٰاتٌ بَعْضُهٰا فَوْقَ بَعْضٍ إِذٰا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرٰاهٰا وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اَللّٰهُ لَهُ نُوراً فَمٰا لَهُ مِنْ نُورٍ أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّٰهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلطَّيْرُ صَافّٰاتٍ كُلٌّ

ص: 89


1- ديوان الفضل بن العباس اللهبي: 22، وصدره: إن الخليط أجدّوا البين فانجردوا

[سورة النور (24): الآیات 41 الی 42]

قَدْ عَلِمَ صَلاٰتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ بِمٰا يَفْعَلُونَ وَ لِلّٰهِ مُلْكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ إِلَى اَللّٰهِ اَلْمَصِيرُ

السراب: ما يري في الفلاة يسرب علي وجه الأرض كأنّه ماء يجري. والقيعة:

بمعنى القاع أو جمع القاع، وهو المستوي من الأرض.

شبّه ما يعمله الكفار من الأعمال التي يحسبها نافعة عند اللّه بسراب، يراه من غلبه العطش فيحسبه ماء، فيأتيه فلا يجد ما يرتجيه وَ وَجَدَ اَللّٰهَ عِنْدَهُ عند عمله فجازاه علي كفره، أو وجد اللّه عنده بالمرصاد فأتمّ له جزاءه، وهذا في الظاهر خبر عن الظمآن وفي المعنى خبر عن الكفار، وفي معناه: وَ قَدِمْنٰا إِلىٰ مٰا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنٰاهُ هَبٰاءً مَنْثُوراً (1)، عٰامِلَةٌ نٰاصِبَةٌ (2)، يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (3).

والبحر اللجي: الكثير الماء، منسوب إلى اللج وهو معظم ماء البحر.

يَغْشٰاهُ أي: يعلو ذلك البحر موج من فوق ذلك الموج موج من فوق الموج سَحٰابٌ ظُلُمٰاتٌ ظلمة البحر وظلمة الموج وظلمة السحاب إِذٰا أَخْرَجَ الواقع فيها يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرٰاهٰا مبالغة في لم يرها، أي: لم يقرب أن يراها.

وهذا تشبيه ثان لأعمالهم في خلوها عن نور الحقّ وظلمتها - لبطلانها - بظلمات متراكمة.

وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اَللّٰهُ لَهُ نُوراً بتوفيقه ولطفه فهو في ظلمة الباطل لا نور له.

وقرئ: سحاب ظلمات - علي الإضافة -، وسحاب - با لرفع والتنوين - ظلمات - بالجر -

ص: 90


1- الفرقان: 23.
2- الغاشية: 3.
3- الكهف: 104.

بدلا من ظلمات الأولى.

صفات يصففن أجنحتهن في الهواء، و الضمير في عَلِمَ ل - كُلٌّ أو ل - (اللّه)، وكذلك في صَلاٰتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها.

[سورة النور (24): الآیات 43 الی 46]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّٰهَ يُزْجِي سَحٰاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكٰاماً فَتَرَى اَلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاٰلِهِ وَ يُنَزِّلُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مِنْ جِبٰالٍ فِيهٰا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشٰاءُ يَكٰادُ سَنٰا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصٰارِ يُقَلِّبُ اَللّٰهُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهٰارَ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي اَلْأَبْصٰارِ وَ اَللّٰهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مٰاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلىٰ بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلىٰ رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلىٰ أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اَللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ إِنَّ اَللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ لَقَدْ أَنْزَلْنٰا آيٰاتٍ مُبَيِّنٰاتٍ وَ اَللّٰهُ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ

يُزْجِي يسوق، ومنه: البضاعة المزجاة، يزجيها كل أحد لا يرضاها، والسحاب قد يكون واحدا كالغمام وجمعا كالرباب.

ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ أي: بين أجزائه بأن يضم بعضها إلي بعض، ولذلك جاز بَيِّنَةٍ وَ وهو واحد، كما قيل في قوله:

بين الدّخول فحومل(1)

و الركام: المتراكم. و الودق: المطر.

مِنْ خِلاٰلِهِ من فتوقه ومخارج القطر منه جمع خلل، وقرئ في الشواذ: من

ص: 91


1- ديوان امرئ القيس: 8، وصدره: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى....

خلله.

ذكر من جملة الدلائل على ربوبيته: تسبيح من في السماوات والأرض وكل ما يطير، ثمّ ذكر سبحانه تسخير السحاب، وإنزال المطر منه، وما يحدث فيه من الأفعال على ما تقتضيه الحكمة.

و من الأولى لابتداء الغاية، والثانية للتبعيض، والثالثة للتبيين، أو الأولتان للابتداء، والآخرة للتبعيض، على معنى: ينزل البرد من السماء مِنْ جِبٰالٍ فِيهٰا ، وعلي الأوّل يكون مِنْ جِبٰالٍ مفعول يُنَزِّلُ . وقرئ: يَذْهَبُ بِالْأَبْصٰارِ على أن تكون الباء مزيدة كما في قوله: وَ لاٰ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ (1). أي: يكاد ضوء برقه يخطف البصر لشدّة لمعانه.

يُقَلِّبُ اَللّٰهُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهٰارَ أي: يصرفهما ويخالف بينهما بالطول والقصر.

ولما كان اسم (الدابة) يقع علي المميز وغير المميّز، غلّب حكم المميّز بأن قال:

فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلىٰ بَطْنِهِ ، والماشي عَلىٰ أَرْبَعٍ قوائم، ولم يذكر ما يمشي علي أكثر من أربع، لأنه كما يمشي علي أربع في مرأي العين. وعن الباقر عليه السلام: (ومنهم من يمشي علي أكثر من ذلك)(2).

وإنّما نكّر قوله: مِنْ مٰاءٍ لأنّ المعنى: أنّه خلق كل دابة من نوع من الماء مختص بتلك الدابة، فمنها ناس، ومنها بهائم، ومنها هوام، ومن نحوه قوله:

يُسْقىٰ بِمٰاءٍ وٰاحِدٍ (3) .

وسمّى الزحف علي البطن مشيا علي طريق الاستعارة، كما قالوا: مشى هذا

ص: 92


1- البقرة: 195.
2- تفسير القمي ج 2:107 عن الصادق عليه السلام وحديثهما واحد.
3- الرعد: 4.

الأمر، أو علي طريق المشاكلة لأنه ذكرها مع الماشين. و قرئ: خالق.

[سورة النور (24): الآیات 47 الی 52]

وَ يَقُولُونَ آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنٰا ثُمَّ يَتَوَلّٰى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ وَ مٰا أُولٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَ إِذٰا دُعُوا إِلَى اَللّٰهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذٰا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَ إِنْ يَكُنْ لَهُمُ اَلْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ اِرْتٰابُوا أَمْ يَخٰافُونَ أَنْ يَحِيفَ اَللّٰهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ بَلْ أُولٰئِكَ هُمُ اَلظّٰالِمُونَ إِنَّمٰا كٰانَ قَوْلَ اَلْمُؤْمِنِينَ إِذٰا دُعُوا إِلَى اَللّٰهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنٰا وَ أَطَعْنٰا وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ وَ مَنْ يُطِعِ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَخْشَ اَللّٰهَ وَ يَتَّقْهِ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْفٰائِزُونَ

يعني بقوله: إِلَى اَللّٰهِ وَ رَسُولِهِ إلي رسول اللّه بدلالة قوله: لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ، وهو كما قيل: أعجبني زيد وكرمه، والمراد: كرم زيد. وروي: أنّ رجلا كانت بينه وبين عليّ خصومة في ماء وأرض، فقال الرجل: لا أحاكم إلى محمّد فإنّي أخاف أن يحكم له عليّ (1). وذكر أبو القاسم البلخي(2): أنّها كانت بين عليّ وبين عثمان، وكان قد اشترى أرضا من عليّ ، فخرجت فيها أحجار، فأراد ردّها بالعيب، فقال: بيني وبينك رسول اللّه، فقال الحكم بن أبي العاص: إن حاكمته إلى ابن عمّه حكم له، فنزلت(3).

مُذْعِنِينَ مسرعين منقادين، و إِلَيْهِ صلته أو صلة يَأْتُوا ، والمعنى:

ص: 93


1- الكشاف ج 3:248، وفيه: إن الرجل هو المغيرة بن وائل.
2- أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي الكعبي، من معتزلة بغداد، كان غزير العلم بالكلام والفقه والأدب، له مصنفات كثيرة، توفي سنة 319 ه - أيّام المقتدر العباسي. ينظر: طبقات المعتزلة: 88.
3- التبيان ج 7:450.

أنّهم ينحرفون عن المحاكمة إليك إذا كان الحقّ عليهم، لعلمهم بأنّك لا تحكم إلا بالحقّ المر والعدل البحت، وإن ثبت لهم حقّ علي خصم أسرعوا إليك ولم يرضوا إلا بحكومتك، لتأخذ لهم ما ثبت لهم في ذمة الخصم.

بَلْ أُولٰئِكَ هُمُ اَلظّٰالِمُونَ أي: لا يخافون أن يحيف عليهم لمعرفتهم بحاله، وإنّما هم ظالمون يريدون ظلم من له الحقّ عليهم.

وقرئ: وَ يَتَّقْهِ بكسر القاف والهاء مع الوصل وبغير وصل، وبسكون الهاء، وبسكون القاف وكسر الهاء. شبّه تقه بكتف فخفف، كقول الشاعر:

قالت سليمى اشتر لنا سويقا(1)

وعن ابن عباس: (ومن يطع اللّه في فرائضه، ورسوله في سننه، ويخشى اللّه علي ما مضى من ذنوبه، ويتقه في المستقبل)(2).

[سورة النور (24): الآیات 53 الی 55]

وَ أَقْسَمُوا بِاللّٰهِ جَهْدَ أَيْمٰانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لاٰ تُقْسِمُوا طٰاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اَللّٰهَ خَبِيرٌ بِمٰا تَعْمَلُونَ قُلْ أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمٰا عَلَيْهِ مٰا حُمِّلَ وَ عَلَيْكُمْ مٰا حُمِّلْتُمْ وَ إِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَ مٰا عَلَى اَلرَّسُولِ إِلاَّ اَلْبَلاٰغُ اَلْمُبِينُ وَعَدَ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اَلْأَرْضِ كَمَا اِسْتَخْلَفَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اَلَّذِي اِرْتَضىٰ لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاٰ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْفٰاسِقُونَ

ص: 94


1- الرجز للعذافر الكندي. النوادر في اللغة: 308.
2- الكشاف ج 3:249.

جَهْدَ أَيْمٰانِهِمْ أصله: يجهدون الأيمان جهدا، فحذف الفعل وقدّم المصدر فوضع موضعه مضافا إلى المفعول، كقوله: فَضَرْبَ اَلرِّقٰابِ (1). وحكم هذا المنصوب حكم الحال، كأنّه قال: جاهدين أيمانهم، وجهد يمينه مستعار من جهد نفسه إذا بلغ أقصى وسعها، وذلك إذا بالغ في اليمين وبلغ غاية وكادتها، وعن ابن عباس: (من قال: باللّه، فقد جهد يمينه)(2).

لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ بالخروج في غزواتك.

طٰاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ خبر مبتدأ مخذوف، أي: أمركم الذي يطلب منكم طاعة معلومة لا يشك فيها كطاعة المخلصين، لا أيمان تقسمون بها بأفواهكم وقلوبكم لا تطابقها، أو مبتدأ محذوف الخبر أي طاعة معلومة أولى بكم من هذه الأيمان الكاذبة إِنَّ اَللّٰهَ خَبِيرٌ بِمٰا في ضمائركم يجازيكم عليه.

فإن تتولوا عن طاعة اللّه ورسوله فإنّما ضررتم أنفسكم، فإنّ الرسول ليس عليه إلا ما حملّه اللّه و كلّفه من أداء الرسالة، فإذا أدّي فقد خرج عن العهدة وَ عَلَيْكُمْ ما كلفتم من التلقي بالقبول والانقياد للطاعة.

و اَلْبَلاٰغُ : التبليغ، كا لأداء بمعنى التأدية، و اَلْمُبِينُ المقرون بالآيات وا لمعجزات.

وَعَدَ اَللّٰهُ المؤمنين المطيعين للّه ورسوله أن ينصر دين الإسلام علي الكفر، ويورثهم الأرض ويجعلهم خلفاء فيها، كما فعل ببني إسرائيل إذ أهلك الجبابرة، وأورثهم أرضهم وأموالهم، وأن يمكّن لَهُمْ دِينَهُمُ اَلَّذِي أمرهم أن يدينوا به، وتمكينه: تثبيته وتوطيده وإظهاره علي الدين كله، كما قال عليه السلام: (زويت لي الأرض

ص: 95


1- محمّد: 4.
2- الكشاف ج 3:250.

فأريت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمّتي ما زوي لي منها)(1)، وروى المقداد عنه عليه السلام أنّه قال: (لا يبقى علي وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله اللّه كلمة الإسلام بعزّ عزيز أو ذل ذليل)(2)، إما أن يعزّهم اللّه فيجعلهم من أهلها، وإما أن يذلهم فيدينون لها. و قرئ: كما استخلف يضم التاء.

وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ من الإبدال يَعْبُدُونَنِي استئناف أو حال من (وعدهم).

وروي عن عليّ بن الحسين عليهما السلام أنّه قال: (هم واللّه شيعتنا أهل البيت، يفعل ذلك بهم علي يدي رجل منا، وهو مهديّ هذه الأمة، وهو الذي قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطوّل اللّه ذلك اليوم حتى يلي رجل من عترتي اسمه اسمي وكنيته كنيتي، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا)(3). وروي ذلك عن الباقر والصادق أيضا عليهما السلام(4).

[سورة النور (24): الآیات 56 الی 58]

وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ وَ آتُوا اَلزَّكٰاةَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لاٰ تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي اَلْأَرْضِ وَ مَأْوٰاهُمُ اَلنّٰارُ وَ لَبِئْسَ اَلْمَصِيرُ يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ اَلَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ وَ اَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا اَلْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاٰثَ مَرّٰاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاٰةِ اَلْفَجْرِ وَ حِينَ تَضَعُونَ ثِيٰابَكُمْ مِنَ اَلظَّهِيرَةِ وَ مِنْ بَعْدِ صَلاٰةِ اَلْعِشٰاءِ ثَلاٰثُ عَوْرٰاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَ لاٰ عَلَيْهِمْ جُنٰاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوّٰافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلىٰ بَعْضٍ كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ اَللّٰهُ لَكُمُ اَلْآيٰاتِ وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ

ص: 96


1- معارج نهج البلاغة: 91، سنن ابن ماجة 2:1304 ح 3952 باختصار.
2- التبيان ج 7:455. معجم الطبراني الكبير ج 20:210.
3- مجمع البيان ج 7-8:152 عن العياشي، وينظر: معجم الطبراني الكبير ج 10:133.
4- كتاب الغيبة: 46، 48.

[سورة النور (24): الآیات 58 الی 60]

حَكِيمٌ وَ إِذٰا بَلَغَ اَلْأَطْفٰالُ مِنْكُمُ اَلْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اِسْتَأْذَنَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ اَللّٰهُ لَكُمْ آيٰاتِهِ وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَ اَلْقَوٰاعِدُ مِنَ اَلنِّسٰاءِ اَللاّٰتِي لاٰ يَرْجُونَ نِكٰاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنٰاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيٰابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجٰاتٍ بِزِينَةٍ وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَ اَللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

وَ أَقِيمُوا معطوف علي أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وجاز وإن طال الفاصل بينهما، لأنّ حقّ المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه. و قرئ: لا يحسبن - بالياء -. والوجه فيه أن يكون فاعله ضمير النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لتقدّم ذكره، أو يكون أحد المفعولين محذوفا، أي: ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين.

أمر سبحانه بأن يستأذن العبيد والأطفال الذين لم يحتلموا من الأحرار ثَلاٰثَ مَرّٰاتٍ في اليوم والليلة: قَبْلِ صَلاٰةِ اَلْفَجْرِ لأنّه وقت القيام من المضاجع و لبس الثياب، و ب - اَلظَّهِيرَةِ لأنّه وقت وضع الثياب للقائلة، و بَعْدِ صَلاٰةِ اَلْعِشٰاءِ لأنّه وقت التجرّد من ثياب اليقظة والالتحاف بثياب النوم. وسمّى كل وقت من هذه الأوقات عورة لأنّ الناس يختل تحفظهم وتسترهم فيها، والعورة:

الخلل.

ثمّ عذرهم في ترك الاستئذان في غير هذه الأحوال، وبيّن وجه العذر في ذلك بقوله: طَوّٰافُونَ عَلَيْكُمْ أي: هم خدمكم يطوفون عليكم للخدمة، فلا يجدون بدا من دخولهم عليكم.

بَعْضُكُمْ عَلىٰ بَعْضٍ أي: يطوف بعضكم وهم المماليك علي الموالي.

ص: 97

و قرئ: ثلاث عورات [- بالنصب - بدلا عن ثلاث مرات، أي: أوقات ثلاث](1)

عورات.

وإذا رفعت ثَلاٰثُ عَوْرٰاتٍ كان قوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ في محلّ الرفع على الوصف، والمعنى: هن ثلاث عورات مخصوصة بالاستئذان، وإذا نصبت كان لَيْسَ عَلَيْكُمْ كلاما مستأنفا مقررا للأمر بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة. و بَعْضُكُمْ مبتدأ، والتقدير: بعضكم طائف علي بعض، فحذف لأنّ طَوّٰافُونَ يدلّ عليه.

بَلَغَ اَلْأَطْفٰالُ مِنْكُمُ الأحرار دون المماليك، والمعنى: إنّ الأطفال مأذون لهم في الدخول بغير إذن إلا في الأحوال الثلاث، فإذا خرجوا من حدّ الطفولية فَلْيَسْتَأْذِنُوا في جميع الأوقات كالرجال الكبار. وعن ابن مسعود: (عليكم أن تستأذنوا علي آبائكم وأمهاتكم وأخواتكم)(2).

القاعد: التي قعدت عن الحيض والولد لكبرها.

لاٰ يَرْجُونَ نِكٰاحاً لا يطمعن فيه. والمراد بالثياب: الثياب الظاهرة كالملحفة والجلباب الذي فوق الخمار، وفي قراءة أهل البيت عليهم السلام: أن يضعن من ثيابهن.

غَيْرَ مُتَبَرِّجٰاتٍ بِزِينَةٍ غير مظهرات زينة بوضع ثيابهن. وحقيقة التبرج:

تكلّف إظهار ما يجب إخفاؤه، واختص بأن تنكشف المرأة للرجال بإبداء زينتها، وإظهار محاسنها.

والاستعفاف بلبس الجلابيب خَيْرٌ لَهُنَّ وإن سقط الحرج عنهن فيه.

ص: 98


1- ساقطة من ج.
2- الكشاف ج 3:254.

[سورة النور (24): الآیات 61 الی 62]

لَيْسَ عَلَى اَلْأَعْمىٰ حَرَجٌ وَ لاٰ عَلَى اَلْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لاٰ عَلَى اَلْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ لاٰ عَلىٰ أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبٰائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهٰاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوٰانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوٰاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمٰامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمّٰاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوٰالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خٰالاٰتِكُمْ أَوْ مٰا مَلَكْتُمْ مَفٰاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتٰاتاً فَإِذٰا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلىٰ أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ مُبٰارَكَةً طَيِّبَةً كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ اَللّٰهُ لَكُمُ اَلْآيٰاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِذٰا كٰانُوا مَعَهُ عَلىٰ أَمْرٍ جٰامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتّٰى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ اَلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ فَإِذَا اِسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَ اِسْتَغْفِرْ لَهُمُ اَللّٰهَ إِنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

كان المؤمنون يذهبون بالضعفاء وذوي العاهات إلى بيوت أزواجهم وأولادهم، وإلى بيوت أقربائهم وأصدقائهم فيطعمونهم منها، فخافوا أن يلحقهم فيه حرج فقيل: ليس على الضعفاء ولا علي المرضى ولا علي أنفسكم يعني: ليس عليكم وعلي من في مثل حالكم من المؤمنين حرج في ذلك، وقيل: كان هؤلاء يتوقّون مجالسة الناس و مؤاكلتهم لما عسى أن يلحقهم من الكراهة من قبلهم(1).

وقيل: كانوا يخرجون إلى الغزو ويخلّفون الضعفاء في بيوتهم، ويدفعون إليهم المفاتيح ويأذنون لهم أن يأكلوا من بيوتهم، فكانوا يتحرّجون، فقيل: ليس علي

ص: 99


1- عن مجاهد. تفسير الطبري ج 18:129.

هؤلاء الضعفاء حرج فيما تحرجون عنه ولا عليكم أن تأكلوا من هذه البيوت(1).

ولم يأت ذكر الأولاد لأنّ ذكرهم قد دخل في قوله: مِنْ بُيُوتِكُمْ لأنّ ولد الرجل بعضه، وحكمه حكم نفسه. وفي الحديث: (إنّ أطيب ما يأكل الرجل من كسبه، وإنّ ولده من كسبه)(2).

وملك المفاتيح: كونها في يده وحفظه، والصديق يكون واحدا وجمعا، وكذلك العدو، والمعنى: أو بيوت أصدقائكم. وعن أئمّة الهدى عليهم السلام قالوا: (لا بأس بالأكل لهؤلاء من بيوت من ذكره اللّه تعالى بغير إذنهم قدر حاجتهم من غير إسراف)(3). وعن الحسن: (إنّه دخل داره فإذا حلقة من أصدقائه وقد استلوا سلالا من تحت سريره فيها الخبيص وأطايب الأطعمة وهم يأكلون، فتهلل وجهه سرورا وقال: هكذا وجدناهم - يريد كبراء الصحابة - وكان الرجل منهم يدخل دار صديقه وهو غائب، فيسأل جاريته كيسه فيأخذ ما شاء، فإذا حضر مولاها فأخبرته أعتقها سرورا بذلك)(4). وعن جعفر الصادق عليه السلام: (من عظم حرمة الصديق أن جعله اللّه من الأنس والثقة والانبساط وطرح الحشمة بمنزلة النفس وا لأب و الأخ والابن)(5).

جَمِيعاً أَوْ أَشْتٰاتاً أي: مجتمعين أو متفرقين، كانوا لا يأكلون إلا مع ضيفهم، ويتحرّج الرجل أن يأكل وحده.

ص: 100


1- عن الزهري. تفسير الطبري ج 18:129.
2- سنن ابن ماجة ج 2:723 ح 2137.
3- التبيان ج 7:463.
4- الكشاف ج 3:257.
5- الكشاف ج 3:257.

و إذا دخلتم بيوتا من هذه البيوت فابدؤوا بالسلام علي أهلها الذين هم منكم دينا وقرابة تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ ثابتة بأمره، مشروعة من لدنه، و لأنّ التسليم طلب سلامة للمسلّم عليه، والتحية طلب حياة للمحيّى من عند اللّه، ووصفها بالبركة والطيب لأنّها دعوة مؤمن لمؤمن، يرجى بها من اللّه زيادة الخير وطيب الرزق. ومنه قوله عليه السلام: (سلّم علي أهل بيتك يكثر خير بيتك)(1).

و تَحِيَّةً منصوبة ب - فَسَلِّمُوا لأنّها في معنى تسليما، كما تقول: حمدت شكرا.

وَ إِذٰا كٰانُوا مع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عَلىٰ أَمْرٍ جٰامِعٍ يقتضي الاجتماع عليه والتعاون فيه، من حضور حرب أو مشورة في أمر أو صلاة جمعة وما أشبهه. لَمْ يَذْهَبُوا حَتّٰى يَسْتَأْذِنُوهُ جعل ترك ذهابهم حتى يستأذنوه ثالث الإيمان باللّه والإيمان برسوله مع تصدير الجملة ب - إِنَّمَا ، وإيقاع المؤمنين مبتدأ مخبرا عنه بموصول يحيط صلته بذكر الإيمانين.

ثمّ أكّد ذلك بأن أعاد ذكره علي أسلوب آخر فقال: إِنَّ اَلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ ضمّنه شيئا آخر، وهو أنّه جعل الاستئذان كالمصداق لصحّة الإيمانين، ثمّ خيّره صلى الله عليه و آله و سلم بين أن يأذن وبين أن لا يأذن، وهكذا حكم من قام مقامه من الأئمّة عليهم السلام.

[سورة النور (24): الآیات 63 الی 64]

لاٰ تَجْعَلُوا دُعٰاءَ اَلرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعٰاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوٰاذاً فَلْيَحْذَرِ اَلَّذِينَ يُخٰالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ أَلاٰ إِنَّ لِلّٰهِ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مٰا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَ يَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمٰا عَمِلُوا وَ اَللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ

ص: 101


1- الخصال: 166، مسند الشهاب ج 1:376.

أي: لاٰ تَجْعَلُوا تسميته و نداءه بَيْنَكُمْ كما يسمّي بعضكم بعضا ويناديه باسمه، فلا تقولوا: يا محمّد، ولكن يا نبيّ اللّه، ويا رسول اللّه، مع التوقير والتعظيم والتواضع وخفض الصوت، ولا تقيسوا دعاءه إيّاكم على دعاء بعضكم بعضا و رجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي، فإنّ في القعود عن أمره قعودا عن امر اللّه تعالي، ولا تجعلوا دُعٰاءَ اَلرَّسُولِ لكم أو عليكم مثل صلاتكم، فإنّ دعوته مستجابة مسموعة.

يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ قليلا لِوٰاذاً أي: ملاوذة، يلوذ هذا بذاك وذاك بهذا. والمعنى: يتسللون عن الجماعة في الخفية، يستتر بعضهم ببعض. و لِوٰاذاً حال، أي: ملاوذين. وقيل: نزلت في حفر الخندق وكان قوم يتسللون بغير إذن(1)، وقيل: كانوا يتسللون عن الجهاد يرجعون عنه(2)، وقيل: عن خطبة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يوم الجمعة(3).

يقال: خالفه إلى الأمر: إذا ذهب هو إليه دونه، ومنه قوله تعالى: وَ مٰا أُرِيدُ أَنْ أُخٰالِفَكُمْ إِلىٰ مٰا أَنْهٰاكُمْ عَنْهُ (4)، وخالفه عن الأمر: إذا صدّ عنه دونه، ومعناه:

الذين يصدّون عن أمره دون المؤمنين، والمفعول مخذوف، والضمير في أَمْرِهِ للّه أو للرسول، والمعنى: عن طاعة اللّه ودينه.

أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أي: محنة في الدنيا تظهر نفاقهم أو بلية. وعن جعفر بن

ص: 102


1- الكشف والبيان ج 7:121.
2- عن مجاهد. تفسير الماوردي ج 4:128.
3- عن مقاتل بن حيان. الدر المنثور ج 5:61.
4- هود: 88.

محمّد عليهما السلام: (يسلّط عليهم سلطانا جائرا)(1). و عَذٰابٌ أَلِيمٌ في الآخرة، وهذا يدلّ علي أنّ أوامر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم علي الوجوب.

أدخل قَدْ ليؤكد علمه بما هم عليه من المخالفة، وتوكيد العلم لتوكيد الوعيد، وذلك أنّ (قد) إذا دخلت علي المضارع كانت بمعنى (ربّما)، فوافقت (ربّما) في خروجها إلي معنى التكثير في نحو قوله:

فإن تمس مهجور الفناء فربّما *** أقام به بعد الوفود وفود(2)

ونحوه قول زهير:

أخي ثقة لا تهلك الخمر ماله *** ولكنّه قد يهلك المال نائله(3)

أَلاٰ إِنَّ لِلّٰهِ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ قد اختص جميعها به، خلقا وملكا وعلما، فكيف يخفى عليه أحوال المنافقين وإن كانوا يجتهدون في سترها عن العيون وإخفائها، وسينبئهم يوم القيامة بما أبطنوه ويجازيهم عليه.

والخطاب والغيبة في قوله: قَدْ يَعْلَمُ مٰا أَنْتُمْ عَلَيْهِ ، وَ يَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ يجوز أن يكونا معا للمنافقين علي طريق الالتفات، ويجوز أن يكون مٰا أَنْتُمْ عَلَيْهِ عا ما يُرْجَعُونَ خاصا.

ص: 103


1- الكشف والبيان ج 7:121.
2- البيت لأبي عطاء السندي. الشعر والشعراء ج 2:769.
3- شعر زهير بن أبي سلمى: 57، وفيه: لا تتلف الخمر.

سورة الفرقان

اشارة

مكية إلا آيات، وهي سبع وسبعون آية بلا خلاف.

وفي حديث أبيّ : (من قرأها بعث يوم القيامة وهو مؤمن بأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأدخل الجنّة بغير نصب)(1)، عن أبي الحسن موسى عليه السلام قال: (من قرأها في كل ليلة لم يعذّبه اللّه أبدا، ولم يحاسبه، وكان منزله في الفردوس الأعلى)(2).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة الفرقان (25): الآیات 1 الی 6]

تَبٰارَكَ اَلَّذِي نَزَّلَ اَلْفُرْقٰانَ عَلىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعٰالَمِينَ نَذِيراً اَلَّذِي لَهُ مُلْكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي اَلْمُلْكِ وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاٰ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ وَ لاٰ يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لاٰ نَفْعاً وَ لاٰ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لاٰ حَيٰاةً وَ لاٰ نُشُوراً وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذٰا إِلاّٰ إِفْكٌ اِفْتَرٰاهُ وَ أَعٰانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جٰاؤُ ظُلْماً وَ زُوراً وَ قٰالُوا أَسٰاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ اِكْتَتَبَهٰا فَهِيَ تُمْلىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً قُلْ أَنْزَلَهُ

.

ص: 104


1- الكشف والبيان ج 7:122 باختصار.
2- ثواب الأعمال: 109

[سورة الفرقان (25): الآیات 6 الی 10]

اَلَّذِي يَعْلَمُ اَلسِّرَّ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّهُ كٰانَ غَفُوراً رَحِيماً وَ قٰالُوا مٰا لِهٰذَا اَلرَّسُولِ يَأْكُلُ اَلطَّعٰامَ وَ يَمْشِي فِي اَلْأَسْوٰاقِ لَوْ لاٰ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقىٰ إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهٰا وَ قٰالَ اَلظّٰالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّٰ رَجُلاً مَسْحُوراً اُنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ اَلْأَمْثٰالَ فَضَلُّوا فَلاٰ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً تَبٰارَكَ اَلَّذِي إِنْ شٰاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذٰلِكَ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ وَ يَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً

البركة: الكثرة من الخير، ومنها: تبارك اللّه أي: عظمت خيراته وكثرت.

وسمّي القرآن فرقانا، لفصله بين الحقّ والباطل، أو لأنه لم ينزل جملة واحدة بل متفرّقا مفصولا بين بعضه وبعض في الإنزال.

لِيَكُونَ الضمير ل - عَبْدِهِ أو ل - اَلْفُرْقٰانَ .

لِلْعٰالَمِينَ للجن والإنس.

نَذِيراً أي: منذرا مخوفا، أو إنذارا كالنكير بمعنى الإنكار.

اَلَّذِي لَهُ بدل من اَلَّذِي نَزَّلَ ، أو مدح.

وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ أي: وأوجد كل شيء فَقَدَّرَهُ هيأه لما يصلح له.

والخلق بمعنى الافتعال في قوله: لاٰ يَخْلُقُونَ شَيْئاً أي: لا يقدرون علي شيء من أفعال اللّه ولا من أفعال العباد، فلا يفتعلون شيئا وهم يفتعلون، لأنّهم عبدتهم ينحتونهم و يصورونهم.

و لا يملكون لا يستطيعون لِأَنْفُسِهِمْ دفع ضرر عنها ولا جلب

ص: 105

نفع إليها، وإذا عجزوا عن ذلك فهم عن الموت والحياة أعجز.

عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ وهم اليهود، وقيل: عداس مولى حويطب بن عبد العزّى، ويسار مولى العلاء بن الحضرمي.

(جاء) و (أتى) يستعملان في معنى (فعل)، فيعدّيان تعديته، ويجوز أن يحذف الجار ويوصل الفعل، وظلمهم أنّهم جعلوا العربي يتلقّن من العجمي كلاما عربيا أعجز الفصحاء البلغاء بفصاحته، والزور: بهتهم بنسبة ما هو بريء منه إليه.

و أَسٰاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ ما سطّره المتقدّمون في كتبهم.

اِكْتَتَبَهٰا كتبها لنفسه و أخذها، كما تقول: إصطب الماء: إذا صبّه لنفسه وأخذه. فَهِيَ تُمْلىٰ عَلَيْهِ أي: تلقى عليه من كتابه يتحفظها.

بُكْرَةً وَ أَصِيلاً أي: دائما، أو في الخفية قبل أن ينتشر الناس، وحين يأوون إلى مساكنهم.

أي: يعلم الخفيات وبواطن الأمور، و من جملتها: ما تسرّونه أنتم من الكيد لرسوله مع علمكم بأنّ ما تقولونه باطل وزور.

إِنَّهُ كٰانَ غَفُوراً رَحِيماً لا يعاجل بعقابكم مع استيجابكم بمكابرتكم هذه أن يصب عليكم العذاب.

مٰا لِهٰذَا اَلرَّسُولِ حاله مثل حالنا يَأْكُلُ اَلطَّعٰامَ كما نأكل وَ يَمْشِي فِي اَلْأَسْوٰاقِ لطلب المعاش كما نمشي، وكان يجب أن يكون مستغنيا عن الأكل والتعيش بأن يكون ملكا، ثمّ نزلوا عن هذا إلي اقتراح أن يكون إنسانا معه مَلَكٌ يعينه علي الإنذار والتخويف، ثمّ نزلوا أيضا بأن قالوا: أَوْ يُلْقىٰ إِلَيْهِ كَنْزٌ يستظهر به ويستغني عن طلب المعاش، ثمّ نزلوا فاتسعوا بأن يكون

ص: 106

رجلا له بستان يأكل منه ويأكلون منه، فقد قرئ: يَأْكُلُ بالياء والنون.

وَ قٰالَ اَلظّٰالِمُونَ وضع الظاهر موضع المضمر، و إنّما أرادهم.

وقوله: فَيَكُونَ نصب لأنّه جواب، لَوْ لاٰ بمعنى (هلا)، وحكمه حكم الاستفهام، وعطف يُلْقىٰ و تَكُونُ علي أُنْزِلَ لأنّ محلّه الرفع، لأنّه في معنى (ينزّل) بالرفع.

ضَرَبُوا لَكَ اَلْأَمْثٰالَ أي: قالوا فيك تلك الأقوال النادرة من نبوّة مشتركة بين إنسان وملك، و إلقاء كنز عليك من السماء وغير ذلك، فهم متحيّرون ضلّال لا يجدون قولا يستقرون عليه، أو فضلّوا عن الحقّ لا يهتدون إليه.

تكاثر خير اَلَّذِي إِنْ شٰاءَ وهب لك في الدنيا خيرا مما قالوا. وقرئ:

وَ يَجْعَلْ لَكَ بالرفع والجزم عطفا علي جعل لأنّ الشرط إذا وقع ماضيا جاز في جزائه الجزم والرفع، كقول زهير:

وإن أتاه خليل يوم مسغبة *** يقول لا غائب مالي ولا حرم(1)

[سورة الفرقان (25): الآیات 11 الی 17]

بَلْ كَذَّبُوا بِالسّٰاعَةِ وَ أَعْتَدْنٰا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسّٰاعَةِ سَعِيراً إِذٰا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكٰانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهٰا تَغَيُّظاً وَ زَفِيراً وَ إِذٰا أُلْقُوا مِنْهٰا مَكٰاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنٰالِكَ ثُبُوراً لاٰ تَدْعُوا اَلْيَوْمَ ثُبُوراً وٰاحِداً وَ اُدْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً قُلْ أَ ذٰلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ اَلْخُلْدِ اَلَّتِي وُعِدَ اَلْمُتَّقُونَ كٰانَتْ لَهُمْ جَزٰاءً وَ مَصِيراً لَهُمْ فِيهٰا مٰا يَشٰاؤُنَ خٰالِدِينَ كٰانَ عَلىٰ رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَ مٰا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ فَيَقُولُ

ص: 107


1- شعر زهير بن أبي سلمى: 105، وفيه: يوم مسألة.

[سورة الفرقان (25): الآیات 17 الی 20]

أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبٰادِي هٰؤُلاٰءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا اَلسَّبِيلَ قٰالُوا سُبْحٰانَكَ مٰا كٰانَ يَنْبَغِي لَنٰا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيٰاءَ وَ لٰكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَ آبٰاءَهُمْ حَتّٰى نَسُوا اَلذِّكْرَ وَ كٰانُوا قَوْماً بُوراً فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمٰا تَقُولُونَ فَمٰا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَ لاٰ نَصْراً وَ مَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذٰاباً كَبِيراً وَ مٰا أَرْسَلْنٰا قَبْلَكَ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ إِلاّٰ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ اَلطَّعٰامَ وَ يَمْشُونَ فِي اَلْأَسْوٰاقِ وَ جَعَلْنٰا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَ تَصْبِرُونَ وَ كٰانَ رَبُّكَ بَصِيراً

بَلْ كَذَّبُوا بِالسّٰاعَةِ عطف علي ما حكى عنهم، يقول: بل أتوا بما هو أعجب من ذلك كله وهو تكذيبهم بالساعة، أو هو متصل بما يليه أي: كيف يصدّقون بذلك وهم لا يؤمنون بالآخرة ؟!. والسعير: النار المستعرة.

إِذٰا رَأَتْهُمْ نسب الرؤية إلى النار، وإنّما يرونها هم، وهو كقولهم: دور بني فلان تتراءى، أي: كان بعضها يري بعضا، والمعنى: إذا كانت منهم بمرأى النظر سمعوا صوت التهابها، و شبّه ذلك بصوت المتغيّظ والزافر، وقيل: التغيّظ للنار والزفير لأهلها.

مَكٰاناً ضَيِّقاً جمع علي أهل النار التضيق والإرهاق، نعوذ باللّه منها.

وعن ابن عباس: (أنّه يضيق عليهم كما يضيق الزج في الرمح)(1)، وهم مع ذلك الضيق مسلسلون مصفدون، قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الجوامع والأصفاد.

وقيل: قرنوا مع الشياطين في السلاسل(2).

ص: 108


1- الكشاف ج 3:267. معالم التنزيل ج 3:90.
2- عن يحيى بن سلام. تفسير الماوردي ج 4:134.

و الثبور: الهلاك، ودعاؤه أن يقولوا: واثبوراه، أي: تعال فهذا زمانك.

لاٰ تَدْعُوا أي: يقال لهم، أو هم حريّ بأن يقال لهم ذلك وإن لم يكن هناك قول، أي: وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه بواحد، إنّما هو ثبور كثير.

أي: وعدها المتقون لَهُمْ فِيهٰا مٰا يشاؤونه.

كٰانَتْ لَهُمْ جَزٰاءً أي: كان ذلك مكتوبا في اللوح، أو لأنّ موعود اللّه في تحقّقه كأنّه قد كان، و الضمير في كان ل - مٰا يَشٰاؤُنَ أي: كان ذلك موعودا واجبا عَلىٰ رَبِّكَ إنجازه، حقيقا بأن يسأل ويطلب لأنّه ثواب مستحقّ ، وقيل: مَسْؤُلاً سأله الملائكة والناس في دعواتهم رَبَّنٰا وَ أَدْخِلْهُمْ جَنّٰاتِ عَدْنٍ اَلَّتِي وَعَدْتَهُمْ (1)، رَبَّنٰا وَ آتِنٰا مٰا وَعَدْتَنٰا عَلىٰ رُسُلِكَ (2).

وقرئ: يَحْشُرُهُمْ ، فَيَقُولُ كلاهما بالنون والياء.

وَ مٰا يَعْبُدُونَ يريد معبوديهم من الملائكة والإنس والأصنام إذا أنطقهم اللّه. والفائدة في أَنْتُمْ و هم و إيلائهما حرف الاستفهام: أنّ السؤال إنّما وقع عن متولي الفعل لا عن الفعل ووجوده، فقدّم ليعلم أنّه المسؤول عنه.

قٰالُوا سُبْحٰانَكَ أي: تنزيها لك عن الشريك، وهذا تعجب منهم مما قيل لهم لأنّهم ملائكة وأنبياء معصومون، أو قالوا: سبحانك ليدلوا علي أنّهم المسبحون الموسومون بذلك.

مٰا كٰانَ يصحّ لنا ولا يستقيم أن نتولى أحدا دونك، فكيف يصحّ لنا أن نحمل غيرنا علي أن يتولانا دونك ؟! وقرئ: نتخذ، وروي ذلك عن الصادق عليه السلام.

واتخذ قد يتعدّي إلى مفعول واحد وإلى مفعولين، فالقراءة الأولى من المتعدّي إلى

ص: 109


1- غافر: 8.
2- آل عمران: 194.

مفعول واحد وهو مِنْ أَوْلِيٰاءَ ، والأصل: أن نتخذ أولياء فزيدت من لتأكيد النفي، والثانية من المتعدّي إلى مفعولين، و من للتبعيض أي: نتخذ بعض أولياء.

و اَلذِّكْرَ ذكر اللّه والإيمان به، أو القرآن والشرع.

والبور: الهلاك يوصف به الواحد والجمع، أو هو جمع بائر كعائذ وعوذ.

وفي هذه الآية دلالة علي بطلان قول من يزعم أن اللّه سبحانه يضلّ عباده علي الحقيقة، حيث يقول للمعبودين من دونه: أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبٰادِي.. أَمْ هُمْ ضَلُّوا بأنفسهم، فيتبرؤون من إضلالهم ويستعيذون به من أن يكونوا مضلين، ويقولون: بل أنت تفضلت علي هؤلاء وآبائهم، فجعلوا النعمة التي هي سبب الشكر سببا للكفر ونسيان الذكر، فكان ذلك سبب هلاكهم، فبرؤوا أنفسهم من الإضلال ونزّهوه سبحانه أيضا منه حيث أضافوا إليه التمتيع بالنعمة، وأضافوا نسيان الذكر الذي هو سبب البوار إليهم، فشرحوا الإضلال المجازي الذي نسبه اللّه إلى ذاته في قوله: يُضِلُّ مَنْ يَشٰاءُ (1)، ولو كان هو المضل علي الحقيقة لكان الجواب أن يقولوا: بل أنت أضللتهم.

بِمٰا تَقُولُونَ قرئ بالتاء والياء، فالتاء على معنى: فقد كذّبوكم بقولكم: إنّهم آلهة، والياء على معنى: فقد كذّبوكم بقولهم: سُبْحٰانَكَ مٰا كٰانَ يَنْبَغِي لَنٰا... الآية.

و قرئ: فَمٰا تَسْتَطِيعُونَ بالتاء والياء أيضا، فالتاء علي فما تستطيعون أنتم صرف العذاب عنكم، وقيل: الصرف: التوبة(2)، وقيل: الحيلة(3) من قولهم:

ص: 110


1- الرعد: 27.
2- عن الأصمعي. الكشف والبيان ج 7:127.
3- عن يونس. الكشف والبيان ج 7:127.

إنّه ليتصرّف، أي: ليحتال؛ والياء علي فما يستطيع آلهتكم ذلك.

نُذِقْهُ عَذٰاباً كَبِيراً في الآخرة، والكافر ظالم لقوله: إِنَّ اَلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (1).

والجملة بعد إلا صفة لمحذوف، والمعنى: وما أرسلنا أحدا من المرسلين إلا آكلين و ماشين، وإنّما حذف لدلالة الجار والمجرور عليه، ونحوه: وَ مٰا مِنّٰا إِلاّٰ لَهُ مَقٰامٌ مَعْلُومٌ (2) أي: وما منّا أحد، وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام: و يمشّون - علي البناء للمفعول - أي: يمشّيهم حوائجهم أو الناس.

فِتْنَةً أي: محنة وابتلاء، وهذا تسلية لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وتصبير له علي ما قالوه واستبدعوه من أكله الطعام ومشيه في الأسواق. يعني: إنّا نبتلي المرسلين بالمرسل إليهم بأنواع أذاهم. وموقع قوله: أَ تَصْبِرُونَ بعد ذكر الفتنة موقع (أيكم) بعد الابتلاء في قوله: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (3).

وَ كٰانَ رَبُّكَ بَصِيراً أي: عالما بالصواب فيما يبتلي به وغيره، فلا يضيقن صدرك بأقوالهم واصبر، وقيل: هو تسلية له عما عيّروه به من الفقر حين قالوا:

أَوْ يُلْقىٰ إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ (4) أي: جعلنا الأغنياء فتنة للفقراء لننظر هل يصبرون، وقيل: جعلناك فتنة لهم لأنّك لو كنت غنيا صاحب كنوز وجنات، لكان ميلهم إليك وطاعتهم لك للدنيا أو ممزوجة بها، فبعثناك فقيرا لتكون طاعة من يطيعك خالصة لنا من غير طمع وغرض دنيوي، وقيل: كان أبو جهل وأضرابه

ص: 111


1- لقمان: 13.
2- الصافات: 164.
3- الملك: 2.
4- الفرقان: 8.

يقولون: إن أسلمنا وقد أسلم قبلنا صهيب وبلال وفلان وفلان، ترفّعوا علينا إدلالا بالسابقة فذلك الفتنة(1).

[سورة الفرقان (25): الآیات 21 الی 30]

وَ قٰالَ اَلَّذِينَ لاٰ يَرْجُونَ لِقٰاءَنٰا لَوْ لاٰ أُنْزِلَ عَلَيْنَا اَلْمَلاٰئِكَةُ أَوْ نَرىٰ رَبَّنٰا لَقَدِ اِسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَ عَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً يَوْمَ يَرَوْنَ اَلْمَلاٰئِكَةَ لاٰ بُشْرىٰ يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَ يَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً وَ قَدِمْنٰا إِلىٰ مٰا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنٰاهُ هَبٰاءً مَنْثُوراً أَصْحٰابُ اَلْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَ أَحْسَنُ مَقِيلاً وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ اَلسَّمٰاءُ بِالْغَمٰامِ وَ نُزِّلَ اَلْمَلاٰئِكَةُ تَنْزِيلاً اَلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ اَلْحَقُّ لِلرَّحْمٰنِ وَ كٰانَ يَوْماً عَلَى اَلْكٰافِرِينَ عَسِيراً وَ يَوْمَ يَعَضُّ اَلظّٰالِمُ عَلىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يٰا لَيْتَنِي اِتَّخَذْتُ مَعَ اَلرَّسُولِ سَبِيلاً يٰا وَيْلَتىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاٰناً خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ اَلذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جٰاءَنِي وَ كٰانَ اَلشَّيْطٰانُ لِلْإِنْسٰانِ خَذُولاً وَ قٰالَ اَلرَّسُولُ يٰا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اِتَّخَذُوا هٰذَا اَلْقُرْآنَ مَهْجُوراً

أي: لا يأملون لقاءنا بالخير لأنّهم كفرة، أو لا يخافون لقاءنا بالشرّ، والرجاء: الخوف في لغة تهامة. جعلت الصيرورة إلى دار جزائه بمنزلة لقائه لو كان ملقيا، هلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا اَلْمَلاٰئِكَةُ فتخبرنا بأنّ محمّدا صادق أَوْ نَرىٰ رَبَّنٰا جهرة فيأمرنا بتصديقه و اتباعه.

اِسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ بأن أضمروا الاستكبار عن الحقّ والعناد في قلوبهم، ونحوه: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاّٰ كِبْرٌ (2).

ص: 112


1- عن مقاتل. معالم التنزيل ج 3:91.
2- غافر: 56.

و عتوا أي: تجاوزوا لحدّ في الطغيان، ووصف العتو بالكبير فبالغ في إفراطه، أي: أنّهم لم يجسروا علي هذا القول العظيم إلا لأنّهم بلغوا أقصى العتو وغاية الاستكبار. واللام جواب قسم محذوف.

يَوْمَ يَرَوْنَ منصوب بما دلّ عليه لاٰ بُشْرىٰ أي: يمنعون البشرى، و يَوْمَئِذٍ تكرير، أو منصوب ب - (اذكر)، أي: اذكر يوم يَرَوْنَ اَلْمَلاٰئِكَةَ ، ثمّ ابتدأ لاٰ بُشْرىٰ يَوْمَئِذٍ ، وقوله: لِلْمُجْرِمِينَ إما ظاهر في موضع مضمر، وإما لأنّه عام فقد تناولهم لعمومه.

حِجْراً مَحْجُوراً منصوب بفعل ترك إظهاره، قال سيبويه: (يقول الرجل للرجل: أتفعل كذا وكذا؟ فيقول: حجرا)(1). وهو من حجره: إذا منعه. والمعنى:

أسأل اللّه أن يحجر ذلك حجرا، ومجيئه علي فعل أو فعل تصرّف فيه لاختصاصه بموضع واحد، كما قيل: فديت وعمرك، قال:

عوذ بربّي منكم وحجر(2)

[وهذه كلمة كانوا يقولونها عند لقاء عدو أو هجوم نازلة يضعونها موضع الاستعاذة.

مَحْجُوراً صفة ل - حِجْراً جاءت لتأكيد معناه، كما قالوا: موت مائت](3).

والمعنى: أنّهم يطلبون الملائكة، وإذا رأوهم يوم القيامة كرهوا لقاءهم وقالوا عند رؤيتهم ما كانوا يقولونه عند لقاء العدو الموتور، وقيل: هو من قول الملائكة(4)،

ص: 113


1- الكتاب ج 1:326.
2- الأغاني ج 2:197 دون نسبة، وصدره: قالت وفيها حيدة وذعر.
3- ساقطة من ج.
4- عن الضحاك وغيره. تفسير الطبري ج 19:3.

ومعناه: حراما محرّما عليكم الغفران والجنّة أو البشرى، أي: جعل اللّه ذلك حراما عليكم.

وَ قَدِمْنٰا إِلىٰ مٰا عَمِلُوا ليس هنا قدوم، ولكن شبّه حالهم وأعمالهم التي عملوها في كفرهم - من صلة رحم، وقري ضيف، وإغاثة ملهوف، وغيرها من المكارم - بحال قوم عصوا ملكهم فقدم إلي أسبابهم وأملاكهم فأبطلها ولم يترك لها أثرا. والهباء: ما يخرج من الكوة مع ضوء الشمس، شبيه بالغبار، مَنْثُوراً صفة ل - هَبٰاءً أي: منتشرا متناثرا.

المستقر: المكان الذي يستقرّون فيه متحادثين.

والمقيل: المكان الذي يأوون إليه للاسترواح إلى أزواجهم، وسمّي مقيلا علي طريق التشبيه، وفي لفظ أَحْسَنُ رمز إلي ما يتزيّن به مقيلهم من حسن الوجوه والصور وغير ذلك من التحاسين.

وقرئ: تَشَقَّقُ والأصل تتشقق فحذف التاء في إحدي القراءتين و أدغم في القراءة الأخري. بِالْغَمٰامِ الباء للحال، أي: تتشقق السماء وعليها الغمام، كما تقول: ركب الأمير بسلاحه، أي: وعليه سلاحه.

وَ نُزِّلَ اَلْمَلاٰئِكَةُ ينزلون وفي أيديهم صحائف أعمال العباد. و قرئ: وننزل الملائكة.

اَلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ اَلْحَقُّ الثابت لِلرَّحْمٰنِ ، لأنّ كل ملك يزول ملكه يومئذ ويبطل ولا يبقى إلا ملكه، ف - اَلْمُلْكُ مبتدأ، و يَوْمَئِذٍ ظرف له، و اَلْحَقُّ صفة له، و لِلرَّحْمٰنِ خبره. ويجوز أن يكون يَوْمَئِذٍ ظرفا للخبر، ويجوز أن يكون اَلْحَقُّ خبرا، والجار والمجرور في موضع الحال.

العض علي اليدين، والسقوط في اليد، وأكل البنان، وحرق الإرم، وقرع

ص: 114

الأسنان، كنايات عن الغيظ والحسرة لأنّها من روادفهما.

واللام في اَلظّٰالِمُ يجوز أن يكون للعهد فيكون مخصوصا علي ما ذكر في الرواية(1)، و يجوز أن يكون للجنس فيتناول كل ظالم تبع خليله وتابعه علي إضلاله.

تمنى أن لو صحب الرسول وسلك معه سبيل الحقّ . الأصل يا ويلتي، فقلبت الياء ألفا كما في صحارى ومدارى.

فُلاٰناً كناية عن الأعلام، كما أنّ الهن كناية عن الأجناس.

عَنِ اَلذِّكْرِ عن ذكر اللّه أو القرآن أو متابعة الرسول، و اَلشَّيْطٰانُ إشارة إلى خليله، سمّاه شيطانا لأنّه أضلّه كما يضل الشيطان ثمّ خذله ولم ينفعه في العاقبة، أو أراد إبليس فإنّه الذي حمله علي مخالة المضل ومخالفة الرسول ثمّ خذله.

ويحتمل أن يكون وَ كٰانَ اَلشَّيْطٰانُ حكاية كلام الظالم، وأن يكون كلام اللّه.

اَلرَّسُولُ محمّد صلى الله عليه و آله و سلم، وقومه قريش، حكى اللّه عنه شكواه قومه إليه.

مَهْجُوراً أي: تركوه ولم يؤمنوا به، وقيل: هو من هجر إذا هذي(2)، أي:

جعلوه مهجورا فيه، أي: زعموا أنّه هذيان وباطل، أو هجروا فيه حين سمعوه كقوله: لاٰ تَسْمَعُوا لِهٰذَا اَلْقُرْآنِ وَ اِلْغَوْا فِيهِ (3).

[سورة الفرقان (25): الآیات 31 الی 34]

وَ كَذٰلِكَ جَعَلْنٰا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ اَلْمُجْرِمِينَ وَ كَفىٰ بِرَبِّكَ هٰادِياً وَ نَصِيراً وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لاٰ نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلْقُرْآنُ جُمْلَةً وٰاحِدَةً كَذٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤٰادَكَ وَ رَتَّلْنٰاهُ تَرْتِيلاً وَ لاٰ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاّٰ جِئْنٰاكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً اَلَّذِينَ يُحْشَرُونَ

ص: 115


1- ينظر: تفسير الطبري ج 19:6، الدر المنثور ج 5:68.
2- عن إبراهيم النخعي وغيره. تفسير الطبري ج 19:7.
3- فصلت: 26.

[سورة الفرقان (25): الآیات 34 الی 40]

عَلىٰ وُجُوهِهِمْ إِلىٰ جَهَنَّمَ أُوْلٰئِكَ شَرٌّ مَكٰاناً وَ أَضَلُّ سَبِيلاً وَ لَقَدْ آتَيْنٰا مُوسَى اَلْكِتٰابَ وَ جَعَلْنٰا مَعَهُ أَخٰاهُ هٰارُونَ وَزِيراً فَقُلْنَا اِذْهَبٰا إِلَى اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا فَدَمَّرْنٰاهُمْ تَدْمِيراً وَ قَوْمَ نُوحٍ لَمّٰا كَذَّبُوا اَلرُّسُلَ أَغْرَقْنٰاهُمْ وَ جَعَلْنٰاهُمْ لِلنّٰاسِ آيَةً وَ أَعْتَدْنٰا لِلظّٰالِمِينَ عَذٰاباً أَلِيماً وَ عٰاداً وَ ثَمُودَ وَ أَصْحٰابَ اَلرَّسِّ وَ قُرُوناً بَيْنَ ذٰلِكَ كَثِيراً وَ كُلاًّ ضَرَبْنٰا لَهُ اَلْأَمْثٰالَ وَ كُلاًّ تَبَّرْنٰا تَتْبِيراً وَ لَقَدْ أَتَوْا عَلَى اَلْقَرْيَةِ اَلَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ اَلسَّوْءِ أَ فَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهٰا بَلْ كٰانُوا لاٰ يَرْجُونَ نُشُوراً

هذا تسلية للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، أي: كَذٰلِكَ كان كل نبيّ قبلك مبتلى بعداوة قومه، وكفاك بي هٰادِياً إلى الانتصار منهم، و ناصرا لك عليهم. والعدو يكون واحدا وجمعا.

و نُزِّلَ هنا بمعنى أنزل، كخبّر وأخبر، أي: هلا أنزل عَلَيْهِ اَلْقُرْآنُ دفعة في وقت واحد كما أنزلت التوراة والإنجيل و الزبور جُمْلَةً وٰاحِدَةً .

وقوله: كَذٰلِكَ جواب لهم، أي: كذلك أنزل مفرقا، والحكمة فيه أن نثبّت به قلبك ونقوّيه بتفريقه حتى تعيه وتحفظه، لأنّ المتلقّن إنّما يقوي قلبه بأن يحفظ العلم شيئا بعد شيء، وأيضا فإنّ فيه ناسخا ومنسوخا، وما هو جواب للسائل علي حسب سؤاله، ولا يتأتى ذلك فيما ينزل جملة واحدة، و لأنّه كان عليه السلام أميا لا يقرأ ولا يكتب فلابد له من التلقّن، فأنزل عليه مفرّقا، وكان موسى وعيسى قارئين وكاتبين.

وَ رَتَّلْنٰاهُ معطوف علي الفعل الذي تعلّق به كَذٰلِكَ ، كأنّه قال: فرّقناه

ص: 116

وَ رَتَّلْنٰاهُ أي: قدّرناه آية بعد آية، وسورة عقيب سورة، أو أمرنا بترتيل قراءته وهو أن يقرأ بترتل وتثبّت. وأصل الترتيل: في الأسنان، يقال: ثغره رتل ومرتل أي: مفلّج، وقيل: هو تنزيله علي تمكّث وتمهّل في مدة بعيدة(1).

وَ لاٰ يَأْتُونَكَ بسؤال عجيب كأنّه مثل في البطلان إِلاّٰ أتيناك بالجواب الحقّ الذي لا محيد لهم عنه، وبما هو أَحْسَنَ معنى من سؤالهم، وضع التفسير موضع المعنى لأنّ التفسير هو الكشف عما يدلّ عليه الكلام، يعني: إنّ تنزيله مفرّقا وتحدّيهم بسورة سورة منها أدخل في باب الإعجاز من أن ينزل جملة واحدة فيقال لهم: ائتوا بمثلها في الفصاحة، كأنّه قال: إنّما يحملكم على هذه السؤالات أنّكم تضللون سبيله وتحقّرون مكانه ومنزلته.

وإذا سحبتم عَلىٰ وجوهكم إِلىٰ جَهَنَّمَ علمتم أنّ مكانكم شرّ من مكانه، وسبيلكم أضل من سبيله، و يجوز أن يراد بالمكان: الشرف والمنزلة، وأن يراد الدار والمسكن، كقوله: أَيُّ اَلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقٰاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا (2).

وَزِيراً أي: مؤازرا له علي تأدية الرسالة. والمعنى: فذهبا إليهم فكذّبوهما فَدَمَّرْنٰاهُمْ فاختصر لأنّ المقصود من القصّة إلزام الحجّة بإرسال الرسل و استحقاق التدبير بتكذيبهم. ورووا عن عليّ عليه السلام: فدمّراهم، وفدمرانّهم علي التأكيد - بالنون المشددة -.

كَذَّبُوا اَلرُّسُلَ لأنّ تكذيبهم له تكذيب لجميعهم، أو كذّبوه ومن قبله من الرسل، أولم يروا بعثة الرسل كالبراهمة(3).

ص: 117


1- عن الحسن وغيره. تفسير الطبري ج 19:8.
2- مريم: 73.
3- البراهمة: هم القوم المخصوصون بنفي النبوّات أصلا ورأسا، وقد انتسبوا إلي رجل منهم يقال له: --

وَ جَعَلْنٰاهُمْ أي: إغراقهم أو قصّتهم.

وَ أَعْتَدْنٰا لِلظّٰالِمِينَ أي: لهم، إلا أنّه قصد تظليمهم فأظهر، أو تناول الظالمين بعمومه.

وَ عٰاداً عطف علي (هم) في وَ جَعَلْنٰاهُمْ .

وَ أَصْحٰابَ اَلرَّسِّ كان لهم نبيّ اسمه حنظلة، فقتلوه فأهلكوا. والرس: البئر غير المطوية، وقيل: الرس: قرية باليمامة يقال لها فلج(1)، وروي عن الصادق عليه السلام:

(أنّ نساءهم كنّ سحاقات)(2).

وَ قُرُوناً بَيْنَ ذٰلِكَ المذكور، كما يحسب الحاسب أعدادا كثيرة ثمّ يقول:

فذلك كذا، بمعنى: فذلك المحسوب أو المعدود.

و كلا منصوب بمضمر [وهو أنذرنا وحذرنا، ودلّ عليه قوله:

ضَرَبْنٰا لَهُ اَلْأَمْثٰالَ أي: بيّنا له القصص العجيبة و كلا الثاني بمضمر](3) وهو تَبَّرْنٰا . و التتبير: التكسير.

و أراد ب - اَلْقَرْيَةِ سدوم من قرى قوم لوط، وكانت خمسا، أهلك اللّه أربعا منها وبقيت واحدة.

و مَطَرَ اَلسَّوْءِ : الحجارة، وكانت قريش يمرّون في متاجرهم إلي الشام علي تلك القرية التي أهلكت بالحجارة و يرونها.

لاٰ يَرْجُونَ أي: لا يتوقعون، وضع الرجاء موضع التوقع، لأنّه إنّما

ص: 118


1- عن قتادة. تفسير الطبري ج 19:10.
2- ثواب الأعمال: 268، الكشف والبيان ج 7:138.
3- ساقطة من ج.

يتوقع العاقبة من يكون مؤمنا، أو لا يأملون نُشُوراً ، أو لا يخافون فلذلك لم ينظروا ولم يتذكروا.

[سورة الفرقان (25): الآیات 41 الی 50]

وَ إِذٰا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاّٰ هُزُواً أَ هٰذَا اَلَّذِي بَعَثَ اَللّٰهُ رَسُولاً إِنْ كٰادَ لَيُضِلُّنٰا عَنْ آلِهَتِنٰا لَوْ لاٰ أَنْ صَبَرْنٰا عَلَيْهٰا وَ سَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ اَلْعَذٰابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً أَ رَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلٰهَهُ هَوٰاهُ أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاّٰ كَالْأَنْعٰامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً أَ لَمْ تَرَ إِلىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ اَلظِّلَّ وَ لَوْ شٰاءَ لَجَعَلَهُ سٰاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا اَلشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ثُمَّ قَبَضْنٰاهُ إِلَيْنٰا قَبْضاً يَسِيراً وَ هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَللَّيْلَ لِبٰاساً وَ اَلنَّوْمَ سُبٰاتاً وَ جَعَلَ اَلنَّهٰارَ نُشُوراً وَ هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ اَلرِّيٰاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَ نُسْقِيَهُ مِمّٰا خَلَقْنٰا أَنْعٰاماً وَ أَنٰاسِيَّ كَثِيراً وَ لَقَدْ صَرَّفْنٰاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبىٰ أَكْثَرُ اَلنّٰاسِ إِلاّٰ كُفُوراً

إن الأولى نافية، والثانية مخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينهما، أي:

ما يَتَّخِذُونَكَ إِلاّٰ موضع هزء أو مهزوءا به، ومعناه: يستهزئون بك ويقولون:

أَ هٰذَا اَلَّذِي بعثه اَللّٰهُ ؟! وهذا استصغار.

وفي قولهم: إِنْ كٰادَ لَيُضِلُّنٰا دليل علي بذل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم غاية المجهود في دعوتهم، وعرض الآيات والمعجزات عليهم حتى قاربوا أن يتركوا دينهم إلى دين الإسلام، و لَوْ لاٰ هنا جار مجري التقييد للحكم المطلق من حيث المعنى،

ص: 119

وَ سَوْفَ يَعْلَمُونَ وعيد، وقوله: مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً كالجواب عن قولهم: إِنْ كٰادَ لَيُضِلُّنٰا عَنْ آلِهَتِنٰا .

[مَنِ اِتَّخَذَ إِلٰهَهُ هَوٰاهُ ](1) أي: من جعل هواه معبوده، أفتتوكل عليه بأن تدعوه إلى الهدي وتجبره عليه وتقول: لابد أن تسلم شئت أو أبيت ؟ كما قال:

لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (2) ، وَ مٰا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبّٰارٍ (3).

أم منقطعة، أي: بل أتحسب.

بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً لأنّ الأنعام تنقاد لمن يتعهدها، وتعرف من يحسن إليها ممن يسيء إليها، وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرّها، وهؤلاء لا ينقادون لربّهم ولا يعرفون إحسانه إليهم من إساءة الشيطان، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع، ولا يجتنبون العقاب الذي هو أشدّ المضار.

أَ لَمْ تَرَ إِلىٰ رَبِّكَ ألم تنظر إلى صنع ربّك وقدرته.

كَيْفَ مَدَّ اَلظِّلَّ أي: جعله ممتدا منبسطا لينتفع به الناس.

وَ لَوْ شٰاءَ لَجَعَلَهُ سٰاكِناً أي: لاصقا بأصل كل ذي ظل من بناء أو شجر فلم ينتفع به أحد، سمّى سبحانه انبساط الظل وامتداده تحركا منه، وعدم ذلك سكونا.

ومعنى كون الشمس دَلِيلاً : إنّ الناس يستدلّون بالشمس وأحوالها في مسيرها علي أحوال الظل من كونه ثابتا في مكان وزائلا ومتسعا ومتقلصا، ولولا الشمس لما عرف الظل، ولولا النور لما عرفت الظلمة.

ص: 120


1- زيادة يقتضيها السياق.
2- الغاشية: 22.
3- ق: 45.

ومعنى قبضه إليه: ينسخه بضحّ الشمس قَبْضاً يَسِيراً علي مهل شيئا بعد شيء، وفي ذلك منافع غير محصورة، ولو قبض دفعة واحدة لتعطلت أكثر مرافق الناس بالظل والشمس جميعا. وأما فائدة ثُمَّ في الموضعين فهو أنّه بيان لتفاضل الأمور الثلاثة تشبيها لتباعد ما بينها في الفضل بتباعد ما بين الحوادث في الوقت.

وفي الآية وجه آخر وهو: أنّه سبحانه مدّ الظل حين بني السماء كالقبة، فألقت القبة ظلها علي وجه الأرض، ولو شاء لجعله ساكنا مستقرا علي تلك الحالة، ثمّ خلق الشمس وجعلها علي ذلك الظل دليلا متبوعا له كما يتبع الدليل في الطريق، فهو يزيد بها وينقص، ثمّ نسخه بها فقبضه قبضا سهلا يسيرا غير عسير.

ويمكن أن يكون المراد قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه [وهي الأجرام ذوات الظل، أي: نعدمه بإعدام أسبابه](1) كما أنشأه بإنشاء أسبابه، وفي قوله: قَبَضْنٰاهُ إِلَيْنٰا دلالة عليه، وكذلك في قوله: يَسِيراً كقوله: ذٰلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنٰا يَسِيرٌ (2).

جعل ظلام الليل مثل اللباس الساتر، والنائم شبه الميت. والسبات: الموت لأنّ في مقابلته النشور، فالنوم واليقظة مشبّهان بالموت والحياة، وقيل: سُبٰاتاً راحة لأبدان الناس و قطعا لأعمالهم(3).

وَ جَعَلَ اَلنَّهٰارَ نُشُوراً ينتشر الناس فيه لطلب معاشهم، ويتفرّقون لحوائجهم. نشرا أي: إحياء، ونشر جمع نشور وهي المحيية، ونشرا تخفيف نشر.

و بُشْراً تخفيف بشر جمع بشير وبشري بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي: قدام

ص: 121


1- ساقطة من ج.
2- ق: 44.
3- تفسير الطبري ج 19:14.

المطر.

طَهُوراً أي: بليغا في طهارته، وقيل: طاهرا في نفسه مطهّرا لغيره(1)، وهو صفة في قولك: ماء طهور، واسم لما يتطهّر به كالوضوء والوقود.

قال: بَلْدَةً مَيْتاً لأنّ البلدة في معنى البلد في قوله: فَسُقْنٰاهُ إِلىٰ بَلَدٍ مَيِّتٍ (2).

و قرئ: نسقيه - بالفتح -، وسقى وأسقى لغتان، وقيل: أسقاه: جعل له سقيا. والأناسي: جمع إنمصي أو إنسان، كالظرابي في جمع ظربان، علي قلب النون من أناسين وظرابين ياء.

وَ لَقَدْ صرّفنا المطر بينهم في البلدان المختلفة والأوقات المتغايرة وعلي الصفات المتفاوتة ليستدلّوا بذلك علي سعة مقدورنا، فأبوا إِلاّٰ كُفُوراً وأن يقولوا: مطرنا بنوء كذا(3).

[سورة الفرقان (25): الآیات 51 الی 57]

وَ لَوْ شِئْنٰا لَبَعَثْنٰا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً فَلاٰ تُطِعِ اَلْكٰافِرِينَ وَ جٰاهِدْهُمْ بِهِ جِهٰاداً كَبِيراً وَ هُوَ اَلَّذِي مَرَجَ اَلْبَحْرَيْنِ هٰذٰا عَذْبٌ فُرٰاتٌ وَ هٰذٰا مِلْحٌ أُجٰاجٌ وَ جَعَلَ بَيْنَهُمٰا بَرْزَخاً وَ حِجْراً مَحْجُوراً وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ مِنَ اَلْمٰاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً وَ كٰانَ رَبُّكَ قَدِيراً وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مٰا لاٰ يَنْفَعُهُمْ وَ لاٰ يَضُرُّهُمْ وَ كٰانَ اَلْكٰافِرُ عَلىٰ رَبِّهِ ظَهِيراً وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلاّٰ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً قُلْ مٰا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاّٰ مَنْ شٰاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً

ص: 122


1- الكشف والبيان ج 7:140.
2- فاطر: 9.
3- النوء: سقوط نجم، وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها. (الصحاح: مادة نوأ)

[سورة الفرقان (25): الآیات 58 الی 60]

وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَلْحَيِّ اَلَّذِي لاٰ يَمُوتُ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَ كَفىٰ بِهِ بِذُنُوبِ عِبٰادِهِ خَبِيراً اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا فِي سِتَّةِ أَيّٰامٍ ثُمَّ اِسْتَوىٰ عَلَى اَلْعَرْشِ اَلرَّحْمٰنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمُ اُسْجُدُوا لِلرَّحْمٰنِ قٰالُوا وَ مَا اَلرَّحْمٰنُ أَ نَسْجُدُ لِمٰا تَأْمُرُنٰا وَ زٰادَهُمْ نُفُوراً

لَبَعَثْنٰا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً ينذرها، و إنّما قصرنا الأمر عليك تفضيلا لك على سائر الرسل، فقابل هذا التعظيم والتبجيل بالتصبّر، و لاٰ تُطِعِ اَلْكٰافِرِينَ فيما يريدونك عليه.

و الضمير في بِهِ للقرآن، أو لترك الطاعة الذي دلّ عليه فَلاٰ تُطِعِ ، والمراد: إنّ الكفار يجتهدون في توهين أمرك، فقابلهم من جدّك و اجتهادك بما تغلبهم به، وجعله جِهٰاداً كَبِيراً للمشاق العظيمة التي يحتملها فيه. ويجوز أن يكون المراد: وجاهدهم بسبب كونك نذيرا للجميع جهادا كبيرا جامعا لكل مجاهدة.

مَرَجَ اَلْبَحْرَيْنِ خلاهما متجاورين كما يخلي الخيل في المرج. والفرات: البالغ في العذوبة، والأجاج ضده.

بَرْزَخاً أي: حائلا من قدرته يفصل بينهما ويمنعهما التمازج.

وَ حِجْراً مَحْجُوراً مر تفسيره(1)، وهو هاهنا مجاز، كأنّ كل واحد من البحرين يتعوذ من صاحبه ويقول له: حجرا محجورا، كما قال: لاٰ يَبْغِيٰانِ (2)

أي: لا يبغي أحدهما على صاحبه، فانتفاء البغي هناك كالتعوذ هنا، جعل كل واحد

ص: 123


1- الآية: 22.
2- الرحمن: 20.

منهما في صورة الباغي علي صاحبه فهو يتعوذ منه.

خَلَقَ مِنَ اَلْمٰاءِ اي: من النطفة بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً أي: فقسم البشر قسمين: ذوي نسب ذكورا ينسب إليهم، وَ صِهْراً أي: إناثا يصاهر بهن وَ كٰانَ رَبُّكَ قَدِيراً يخلق من النطفة الواحدة نوعين: ذكرا و أنثى.

والظهير بمعنى المظاهر، أي: يظاهر الشيطان علي ربّه بعبادة الأوثان.

إِلاّٰ مَنْ شٰاءَ معناه: إلا فعل من شاء أن ينفق المال في طلب رضا ربّه، ويتقرّب بالصدقة في سبيله، وهو معنى الاتخاذ إلى اللّه سبيلا.

أي: تمسّك بالتوكل عَلَى اَلْحَيِّ اَلَّذِي لاٰ يَمُوتُ وثق به في استكفاء شرورهم، وعن بعض السلف أنّه قرأها فقال: (لا يصحّ لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق)(1).

وَ كَفىٰ بِهِ الباء زائدة، أي كفاك اللّه، خَبِيراً تمييز أو حال، أراد بهذا أنّه ليس إليه من أمر عباده شيء، آمنوا أم كفروا، وأنّه خبير بأحوالهم، كاف في جزاء أعمالهم.

اَلَّذِي خَلَقَ مبتدأ و اَلرَّحْمٰنُ خبره، أو هو صفة ل - اَلْحَيِّ و اَلرَّحْمٰنُ خبر مبتدأ محذوف، أو بدل عن الضمير المستكن في اِسْتَوىٰ . وقرئ: الرحمن - بالجر - صفة ل - اَلْحَيِّ ، و قرئ: فاسأل، والباء في بِهِ صلة (سل) كقوله:

سَأَلَ سٰائِلٌ بِعَذٰابٍ وٰاقِعٍ (2) كما أنّ (عن) صلته في قوله: لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ اَلنَّعِيمِ (3)، فقولك: سأل به مثل اهتم به واعتنى به، وسأل عنه ك - (فتش عنه) و (بحث عنه).

ص: 124


1- الكشاف ج 3:288.
2- المعارج: 1.
3- التكاثر: 8.

ويجوز أن يكون صلة خَبِيراً ويجعل خَبِيراً مفعول (سل)، والمعنى:

فسل عنه رجلا عارفا يخبرك برحمته، أو فسل رجلا خبيرا به وبرحمته، أو فسل بسؤاله خبيرا، كما تقول: رأيت به أسدا، أي: برؤيته، والمعنى: إن سألته وجدته خبيرا، أو تجعله حالا عن الهاء تريد: فسل عنه عالما بكل شيء. وقيل: الرحمن اسم من أسماء اللّه تعالى مذكور في الكتب المتقدّمة، ولم يكونوا يعرفونه، فقيل له: سل بهذا الاسم من يخبرك به من أهل الكتاب(1).

وَ مَا اَلرَّحْمٰنُ أنكروا إطلاق هذا الاسم على اللّه لأنّه لم يكن مستعملا في كلامهم.

أَ نَسْجُدُ لِمٰا تَأْمُرُنٰا أي: للذي تَأْمُرُنٰا بالسجود له ؟ فحذف على ترتيب، وقرئ بالياء، أي: لما يأمرنا محمّد، ويأمرنا المسمّى بالرحمن. و يجوز أن تكون (ما) مصدرية أي: لأمرك لنا.

وفي زٰادَهُمْ ضمير اُسْجُدُوا لِلرَّحْمٰنِ لأنه هو المقول.

[سورة الفرقان (25): الآیات 61 الی 67]

تَبٰارَكَ اَلَّذِي جَعَلَ فِي اَلسَّمٰاءِ بُرُوجاً وَ جَعَلَ فِيهٰا سِرٰاجاً وَ قَمَراً مُنِيراً وَ هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهٰارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرٰادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرٰادَ شُكُوراً وَ عِبٰادُ اَلرَّحْمٰنِ اَلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى اَلْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذٰا خٰاطَبَهُمُ اَلْجٰاهِلُونَ قٰالُوا سَلاٰماً وَ اَلَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِيٰاماً وَ اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اِصْرِفْ عَنّٰا عَذٰابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذٰابَهٰا كٰانَ غَرٰاماً إِنَّهٰا سٰاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقٰاماً وَ اَلَّذِينَ إِذٰا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ

ص: 125


1- معاني القران وإعرابه ج 4:73.

[سورة الفرقان (25): الآیات 67 الی 70]

يَقْتُرُوا وَ كٰانَ بَيْنَ ذٰلِكَ قَوٰاماً وَ اَلَّذِينَ لاٰ يَدْعُونَ مَعَ اَللّٰهِ إِلٰهاً آخَرَ وَ لاٰ يَقْتُلُونَ اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّٰهُ إِلاّٰ بِالْحَقِّ وَ لاٰ يَزْنُونَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثٰاماً يُضٰاعَفْ لَهُ اَلْعَذٰابُ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهٰاناً إِلاّٰ مَنْ تٰابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلاً صٰالِحاً فَأُوْلٰئِكَ يُبَدِّلُ اَللّٰهُ سَيِّئٰاتِهِمْ حَسَنٰاتٍ وَ كٰانَ اَللّٰهُ غَفُوراً رَحِيماً

يريد بالبروج: منازل الكواكب السيارة، وهي اثنا عشر برجا، سمّيت بالبروج التي هي القصور العالية لأنّها لهذه الكواكب كالبروج لسكانها، والسراج:

الشمس. وقرئ: سرجا، وهي الشمس [والكواكب الكبار معها. وعنهم عليهم السلام: لا تقرأ سرجا إنّما هي سراجا، وهي الشمس](1).

والخلفة: الحالة التي يختلف عليها الليل والنهار، ويخلف كل واحد منهما الآخر، والمعنى: جعلهما ذوي خلفة، أي: ذوي عقبة، يعقب هذا ذاك وذاك هذا.

وقرئ: يذكر و يَذَّكَّرَ ، أي: لينظر في اختلافهما الناظر فيعلم أن لابد لهما من مغيّر وناقل من حال إلي حال، ويشكر الشاكر علي النعمة فيهما من السكون بالليل والتصرّف بالنهار، أو ليكونا وقتا للمتذكرين والشاكرين، من فاته ورده في أحدهما قضاه في الآخر.

وَ عِبٰادُ اَلرَّحْمٰنِ مبتدأ خبره في آخر السورة قوله: أُوْلٰئِكَ يُجْزَوْنَ اَلْغُرْفَةَ ، و يجوز أن يكون خبره اَلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى اَلْأَرْضِ . هَوْناً حال أو صفة للمشي، أي: هينين، أو مشيا هينا، إلا أن في وضع المصدر موضع الصفة

ص: 126


1- ساقطة من ج.

مبالغة، والهون: الرفق واللين، وفي المثل: (إذا عزّ أخوك فهن)(1)، أي: يمشون بسكينة وتواضع.

سَلاٰماً تسليما منكم لا نجاهلكم، ومتاركة لا خير بيننا ولا شرّ، أي:

نتسلم منكم تسليما، فأقيم السلام مقام التسليم، وقيل: قالوا سدادا من القول يسلمون فيه من الإثم(2). والمراد بالجهل: السفه وقلة الأدب.

بات خلاف ظلّ ، وصفوا بإحياء الليل أو أكثره ساجدين وقائمين.

غَرٰاماً أي: هلاكا وخسرانا ملحا لازما، قال:

إن يعاقب يكن غراما وءان *** يعط جزيلا فإنّه لا يبالي(3)

ومنه: الغريم لأنّه يلح ويلزم، يعني: إنّهم مع عبادتهم واجتهادهم خائفون متضرّعون إلي اللّه في استدفاع العذاب عنهم.

سٰاءَتْ في حكم (بئست)، فيها ضمير مبهم يفسّره مُسْتَقَرًّا ، والمخصوص بالذم محذوف، ومعناه: ساءت مستقرا ومقاما هي، وهذا الضمير هو الذي ربط الجملة باسم (إنّ ) وجعلها خبرا لها. ويجوز أن يكون سٰاءَتْ بمعنى أحزنت، وفيها ضمير اسم (إنّ )، و مُسْتَقَرًّا حال أو تمييز. والتعليلان يصحّ أن يكونا متداخلين ومترادفين، وأن يكونا من كلام اللّه وحكاية لقولهم.

وَ لَمْ يَقْتُرُوا قرئ بكسر التاء وضمها ويقتروا - بضم الياء -. والقتر والإقتار نقيض الإسراف الذي هو مجاوزة الحد في النفقة، وصفهم بالقصد الذي

ص: 127


1- مجمع الأمثال ج 1:35.
2- عن مجاهد. تفسير الطبري ج 19:22.
3- ديوان الأعشى: 10.

هو بين الغلو والتقصير.

والقوام: العدل بين الشيئين لاستقامة الطرفين واعتدالهما، ونظيره: السواء من الاستواء. ويجوز أن يكون بَيْنَ ذٰلِكَ و قَوٰاماً خبرين معا، وأن يكون بَيْنَ ذٰلِكَ لغوا، و قَوٰاماً مستقرا، وأن يكون الظرف خبرا و قَوٰاماً حال مؤكدة.

اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّٰهُ أي: حرّمها، والمعنى: حرّم قتلها، وتعلّق إِلاّٰ بِالْحَقِّ بهذا القتل المحذوف أو ب - لاٰ يَقْتُلُونَ .

نفى عنهم هذه الأفعال القبيحة، وبرّأهم منها تعريضا بما كان عليه أعداؤهم من الكفار، كأنّه قال: والذين برّأهم اللّه مما أنتم عليه. والقتل بغير حقّ يدخل فيه الوأد وغيره.

والأثام: جزاء الإثم كالوبال والنكال، وقيل: هو الإثم(1). والمعنى جزاء أثام.

يُضٰاعَفْ بدل من يَلْقَ لأنّهما في معنى واحد، و قرئ: يضاعف - بالرفع -، ويخلد - بالرفع -، ويضعف - بالرفع والجزم -، والرفع علي الاستئناف أو علي الحال.

وتبديل السيئات حسنات أن تمحى السيئة وتثبّت بدلها الحسنة، و قرئ:

يبدل، من الإبدال. وقيل: يبدلون بقبائح أعمالهم في الشرك محاسن الأعمال في الإسلام(2).

ص: 128


1- عن ابن عباس. الكشف والبيان ج 7:148.
2- عن قتادة وغيره. الدر المنثور ج 5:79.

[سورة الفرقان (25): الآیات 71 الی 77]

وَ مَنْ تٰابَ وَ عَمِلَ صٰالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اَللّٰهِ مَتٰاباً وَ اَلَّذِينَ لاٰ يَشْهَدُونَ اَلزُّورَ وَ إِذٰا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرٰاماً وَ اَلَّذِينَ إِذٰا ذُكِّرُوا بِآيٰاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهٰا صُمًّا وَ عُمْيٰاناً وَ اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنٰا هَبْ لَنٰا مِنْ أَزْوٰاجِنٰا وَ ذُرِّيّٰاتِنٰا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ اِجْعَلْنٰا لِلْمُتَّقِينَ إِمٰاماً أُوْلٰئِكَ يُجْزَوْنَ اَلْغُرْفَةَ بِمٰا صَبَرُوا وَ يُلَقَّوْنَ فِيهٰا تَحِيَّةً وَ سَلاٰماً خٰالِدِينَ فِيهٰا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقٰاماً قُلْ مٰا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لاٰ دُعٰاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزٰاماً

وَ مَنْ ترك المعاصي وندم عليها، ودخل في العمل الصالح فإنّه يرجع إِلَى اَللّٰهِ وإلى ثوابه مرجعا حسنا أيّ مرجع، أو فإنّه تاب بذلك إلى اللّه مَتٰاباً مرضيا عنده.

لاٰ يَشْهَدُونَ اَلزُّورَ أي: مجالس الفساق، ولا يحضرون الباطل، وقيل: هو الغناء(1)، وروي ذلك عن السيّدين الباقر والصادق عليهما السلام(2)، وفي مواعظ عيسى بن مريم: (إياكم ومجالسة الخطائين)(3). وقيل: لا يشهدون شهادة الزور(4) فحذف المضاف.

وَ إِذٰا مَرُّوا بِاللَّغْوِ أي: بأهل اللغو و المشتغلين به مَرُّوا كِرٰاماً مكرمين أنفسهم عن التوقّف عليهم والخوض معهم، معرضين عنهم. واللغو: كل ما

ص: 129


1- عن مجاهد. تفسير الطبري ج 19:31.
2- الكافي ج 6:431-433.
3- الكشاف ج 3:295.
4- عن علي بن أبي طلحة. معالم التنزيل ج 3:98.

ينبغي أن يلقى ويطرح.

إِذٰا ذُكِّرُوا بِآيٰاتِ رَبِّهِمْ أي: وعظوا بالقرآن والأدلة لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهٰا صُمًّا ليس بنفي للخرور، بل هو إثبات له ونفي للصمم و العمى، أي: إذا ذكّروا بها أكبّوا عليها حرصا علي استماعها وهم سامعون بآذان واعية، مبصرون بعيون راعية.

وقرئ: وذريتنا. سألوا ربّهم أن يرزقهم أزواجا وأولادا وأعقابا تقرّ بهم عيونهم، و تسرّ بهم نفوسهم، وعن ابن عباس: (هو الولد إذا راه يكتب الفقه)(1).

إِمٰاماً أراد أئمّة، واكتفى بالواحد لدلالته علي الجنس، أو أراد جمع آم كصائم وصيام.

و مِنْ للبيان، أي: هب لنا قرة أعين، ثمّ بيّن القرّة بقوله: مِنْ أَزْوٰاجِنٰا وَ ذُرِّيّٰاتِنٰا ، وهو من قولهم: رأيت منك أسدا أي: أنت أسد. ويجوز أن يكون للابتداء بمعنى: هب لنا من جهتهم ما تقرّ به أعيننا من صلاح وعلم، ونكّر القرة بتنكير المضاف إليه، فكأنّه قال: هب لنا منهم سرورا وفرحا. وعن الصادق عليه السلام في قوله: وَ اِجْعَلْنٰا لِلْمُتَّقِينَ إِمٰاماً قال عليه السلام: (إيّانا عنى)(2)، وروي عنه عليه السلام أنّه قال: (هذه فينا)(3)، وعن أبي بصير(4) قال: (قلت: واجعلنا للمتقين إماما؟ فقال عليه السلام: سألت ربّك عظيما، إنّما هي: واجعل لنا من المتقين إماما)(5).

ص: 130


1- الكشاف ج 3:296.
2- تفسير القمي ج 2:117 بالمعنى.
3- المحاسن ج 1:170.
4- أبو بصير يحيى بن القاسم الأسدي، وقيل: أبو محمّد، ثقة جليل، روي عن الباقر والصادق والكاظم عليهم السلام وله كتاب، مات سنة 150 ه -. ينظر: معجم رجال الحديث ج 20:88.
5- تفسير القمي ج 2:117.

يُجْزَوْنَ اَلْغُرْفَةَ يريد الغرفات، وهي العلالي في الجنّة، فوحّد اقتصارا علي الواحد الدال علي الجنس، يدلّ عليه قوله: وَ هُمْ فِي اَلْغُرُفٰاتِ آمِنُونَ (1).

بِمٰا صَبَرُوا بصبرهم علي الطاعات، وعن الشهوات، وعلى مجاهدة الكفار، ومقاساة الفقر ومشاق الدنيا، لشياع اللفظ في كل مصبور عليه. و قرئ:

وَ يُلَقَّوْنَ ، وهو كقوله: وَ لَقّٰاهُمْ نَضْرَةً (2)، ويلقون كقوله: يَلْقَ أَثٰاماً (3).

تَحِيَّةً : قولا يسرّون به، ودعاء بالتعمير تحييهم الملائكة ويسلّمون عليهم، أو يحيي بعضهم بعضا ويسلّم عليه، وقيل: يعطون ملكا عظيما وتخليدا مع السلامة من كل آفة.

مُسْتَقَرًّا وَ مُقٰاماً : موضع استقرار وموضع إقامة.

مٰا يَعْبَؤُا بِكُمْ أي: ما يبالي بكم ربّي، ولم يعتدّ بكم لَوْ لاٰ دُعٰاؤُكُمْ أي: عبادتكم، وقيل: ما استفهامية في محلّ النصب، وهي عبارة عن المصدر(4)، كأنّه قال: أي عبء يعبأ بكم لولا دعاؤكم، أي: لا تستأهلون شيئا من العبء بكم لولا عبادتكم. وحقيقة قولهم: ما عبأت به: ما اعتدت به من مهماتي وما يكون عبأ عليّ ، وقيل: لولا دعاؤكم إيّاه إذا مسّكم ضرّ رغبة إليه وخضوعا له. وفي هذا دلالة علي أنّ الدعاء من اللّه بمكان، وقيل: معناه: ما يصنع بكم ربّي لولا دعاؤه إيّاكم إلى الإسلام(5).

ص: 131


1- سبأ: 37.
2- الإنسان: 11.
3- الفرقان: 68.
4- معاني القرآن للفراء ج 2:275.
5- معاني القرآن للفراء ج 2:275.

فَقَدْ كَذَّبْتُمْ بالتوحيد وبمن دعاكم إليه فَسَوْفَ يَكُونُ العذاب لِزٰاماً أي: لازما لكم واقعا بكم لا محالة، وهو القتل يوم بدر أو عذاب الآخرة.

ص: 132

سورة الشعراء

اشارة

مكية كلها إلا قوله: وَ اَلشُّعَرٰاءُ يَتَّبِعُهُمُ اَلْغٰاوُونَ إلى آخرها، مائتان وسيع وعشرون آية كوفي، ست في غيرهم، طسم كوفي، فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ غيرهم، أَيْنَ مٰا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ غير البصري.

في حديث أبيّ : (ومن قرأ (سورة الشعراء) كان له من الأجر بعدد من صدّق بنوح وكذّب به، وهود وشعيب وصالح وإبراهيم، وبعدد من كذّب بعيسى، وصدّق بمحمّد)(1)، وعن الصادق عليه السلام: (من قرأ الطواسين الثلاث في ليلة الجمعة كان من أولياء اللّه وفي جواره وكنفه، ولم يصبه في الدنيا بؤس أبدا، وأعطي في الآخرة من الجنّة حتى يرضى وفوق رضاه، وزوّجه اللّه مائة حوراء من الحور العين)(2).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة الشعراء (26): الآیات 1 الی 5]

طسم تِلْكَ آيٰاتُ اَلْكِتٰابِ اَلْمُبِينِ لَعَلَّكَ بٰاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاّٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلسَّمٰاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنٰاقُهُمْ لَهٰا خٰاضِعِينَ وَ مٰا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ اَلرَّحْمٰنِ مُحْدَثٍ إِلاّٰ

.

ص: 133


1- الكشف والبيان ج 7:155.
2- ثواب الأعمال: 109

[سورة الشعراء (26): الآیات 5 الی 9]

كٰانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبٰؤُا مٰا كٰانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى اَلْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنٰا فِيهٰا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً وَ مٰا كٰانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ

طاء وياء وحاء من طسم و يس و حْمَ قرئ بالإمالة والتفخيم، وقرئ نون (سين) بالإظهار وا لإدغام.

اَلْكِتٰابِ اَلْمُبِينِ هو اللوح المحفوظ يبيّن للناظرين في كل ما هو كائن، أو القرآن يبيّن ما أودع من الحكم والشرائع وأنواع العلوم، أو هو الظاهر إعجازه وصحّة أنّه من عند اللّه.

والبخع: الإهلاك، و لَعَلَّكَ للإشفاق، أي: أشفق علي نفسك أن تقتلها حسرة علي ما فاتك من إسلام قومك.

أَلاّٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي: خيفة أن لا يؤمنوا، أو لأن لا يؤمنوا.

إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ اية ملجئة إلى الإيمان، كما نتق الجبل على بني إسرائيل.

فَظَلَّتْ معطوف علي نُنَزِّلْ ، والأصل: فظلّوا لَهٰا خٰاضِعِينَ فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخضوع، وترك الكلام علي أصله. و يجوز أن يكون الأعناق لما وصفت بالخضوع الذي هو للعقلاء قيل: خٰاضِعِينَ كقوله:

لِي سٰاجِدِينَ (1) ، وقيل: المراد با لأعناق الرؤساء والمقدّمون(2)، شبّهوا بالأعناق كما قيل لهم: الرؤوس والصدور والنواصي، قال:

ص: 134


1- يوسف: 4.
2- عن مجاهد. معالم التنزيل ج 3:99.

في محفل من نواصي النّاس مشهود(1)

وقيل: أَعْنٰاقُهُمْ جماعاتهم(2). يقال: جاء عنق من الناس أي: جماعة.

وما يجدد اللّه بوحيه موعظة وتذكيرا إلا جددوا إعراضا عنه وكفرا به.

وصف الزوج وهو الصنف من النبات بالكرم، والكريم صفة لكل ما يرضى ويحمد في بابه، يقال: وجه كريم مرضي في حسنه وبهائه، وكتاب كريم مرضي في معانيه، فالنبات الكريم هو المرضي في المنافع المتعلّقة به.

إِنَّ فِي إنبات تلك الأصناف لَآيَةً علي أنّ منبتها قادر علي إحياء الأموات، وقد علم اللّه أنّ أَكْثَرُهُمْ لا يؤمنون.

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ في انتقامه منهم اَلرَّحِيمُ بمن يؤمن.

[سورة الشعراء (26): الآیات 10 الی 22]

وَ إِذْ نٰادىٰ رَبُّكَ مُوسىٰ أَنِ اِئْتِ اَلْقَوْمَ اَلظّٰالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَ لاٰ يَتَّقُونَ قٰالَ رَبِّ إِنِّي أَخٰافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَ يَضِيقُ صَدْرِي وَ لاٰ يَنْطَلِقُ لِسٰانِي فَأَرْسِلْ إِلىٰ هٰارُونَ وَ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخٰافُ أَنْ يَقْتُلُونِ قٰالَ كَلاّٰ فَاذْهَبٰا بِآيٰاتِنٰا إِنّٰا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ فَأْتِيٰا فِرْعَوْنَ فَقُولاٰ إِنّٰا رَسُولُ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ قٰالَ أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينٰا وَلِيداً وَ لَبِثْتَ فِينٰا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ اَلَّتِي فَعَلْتَ وَ أَنْتَ مِنَ اَلْكٰافِرِينَ قٰالَ فَعَلْتُهٰا إِذاً وَ أَنَا مِنَ اَلضّٰالِّينَ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمّٰا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَ جَعَلَنِي مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ وَ تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهٰا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرٰائِيلَ

ص: 135


1- البيت لأم قيس الضبية. شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ج 3:1060، وصدره: ومشهد قد كفيت الغائبين به في مجمع..
2- عن ابن عباس. الدر المنثور ج 5:83.

قَوْمَ فِرْعَوْنَ عطف بيان. و أَ لاٰ يَتَّقُونَ كلام مستأنف، أي: أما ان لهم أن يتقوا اللّه ويحذروا من أيامه.

وَ يَضِيقُ صَدْرِي وَ لاٰ يَنْطَلِقُ لِسٰانِي بالرفع لأنّهما معطوفان علي خبر (أن)، وقرئا بالنصب عطفا علي صلة (أن)، والرفع يفيد أنّ فيه ثلاث علل: خوف التكذيب، وضيق الصدر، وامتناع انطلاق اللسان. والنصب يفيد أن خوفه يتعلّق بهذه الثلاثة.

فَأَرْسِلْ جبرائيل إِلىٰ هٰارُونَ واجعله نبيّا، و آزرني به و اشدد به ظهري.

وَ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ هو قتله القبطي، أي: ولهم عليّ تبعة ذنب، وهي قود ذلك القتل فَأَخٰافُ أَنْ يقتلوني به، فحذف المضاف، أو سمّى تبعة الذنب ذنبا، كما سمّى جزاء السيئة سيئة.

قٰالَ اللّه تعالى: كَلاّٰ يعني: ارتدع يا موسى عما تظن، لأنّهم لن يقتلوك به، فإنّي لا أسلّطهم عليك، فاذهب أنت وهارون.

وقوله: إِنّٰا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ من مجاز الكلام لأنّه تعالى لا يوصف بالاستماع علي الحقيقة، فإنّ الاستماع جار مجرى الإصغاء، وإنّما يوصف بأنّه سميع وسامع، والمراد: أنا لكما كالظهير المعين إذا حضر وأستمع ما يجري بينكما وبينه، فأظهركما عليه وأكسر شوكته عنكما. ويجوز أن يكونا خبرين ل - (إنّ )، وأن يكون مُسْتَمِعُونَ مستقرا، و مَعَكُمْ لغوا.

إِنّٰا رَسُولُ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ جعل رسول هنا بمعنى الرسالة، فلم يثنّ كما ثنّى

ص: 136

في قوله: إِنّٰا رَسُولاٰ رَبِّكَ (1)، كما يفعل في الصفة بالمصادر نحو: صوم وزور.

ويجوز أن يوحّد لأنّ حكمهما واحد با لاتفاق والأخوة، فكأنّهما رسول واحد.

أَنْ أَرْسِلْ بمعنى: أي أرسل لتضمّن الرسول معنى الإرسال، وفي الإرسال معنى القول، كما في المناداة ونحوها. ومعنى هذه الإرسال التخلية والإطلاق، كما يقال: أرسل البازي. والمراد: خلّ بني إسرائيل يذهبوا معنا إلى فلسطين، وكانت مسكنهما. وفي الكلام حذف تقديره: فذهبا إلي فرعون وبلّغا الرسالة على ما أمرا به، فعند ذلك قٰالَ فرعون لموسى: أَ لَمْ نُرَبِّكَ وهذا النوع من الاختصار كثير في التنزيل.

الوليد: الصبي لقرب عهده بالولادة.

سِنِينَ قيل: لبث عندهم ثماني عشرة سنة، وقيل: ثلاثين سنة(2)، [وقال الكلبي: أربعين سنة](3).

وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ يعني: قتلت القبطي، أي: وَ أَنْتَ لذلك مِنَ اَلْكٰافِرِينَ لنعمتي وحقّ تربيتي. فأجابه موسى بأنّ تلك الفعلة إنّما فرطت منه وهو مِنَ اَلضّٰالِّينَ أي: الذاهبين عن الصواب أو الناسين من قوله: أَنْ تَضِلَّ إِحْدٰاهُمٰا فَتُذَكِّرَ إِحْدٰاهُمَا اَلْأُخْرىٰ (4). كذّب فرعون ودفع الوصف بالكفر عن نفسه بأن وضع اَلضّٰالِّينَ موضع اَلْكٰافِرِينَ ربئا بمحلّ من رشح للنبوّة عن تلك الصفة، ثمّ أبطل امتنانه عليه بالتربية، وأبي أن يسمّي نعمته نعمة بأن بيّن

ص: 137


1- طه: 47.
2- تفسير مقاتل ج 2:447.
3- ساقطة من ب.
4- البقرة: 282.

أنّ حقيقة إنعامه عليه تعبيد بني إسرائيل، لأنّ تعبيدهم وقصدهم بذبح أبنائهم هو السبب في حصوله عنده وتربيته، فكأنّه منّ عليه بتعبيد قومه. وتعبيدهم: اتخاذهم عبيدا وتذليلهم.

وَ تِلْكَ إشارة إلى خصلة منكرة لا تدرى إلا بتفسيرها.

ومحلّ أَنْ عَبَّدْتَ الرفع بأنّه عطف بيان ل - تِلْكَ ، ونظيره: وَ قَضَيْنٰا إِلَيْهِ ذٰلِكَ اَلْأَمْرَ أَنَّ دٰابِرَ هٰؤُلاٰءِ مَقْطُوعٌ (1)، والمعنى: تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنّها عليّإ. ويجوز أن يكون في محلّ نصب، والمعنى: إنّما صارت نعمة عليّ لأن عبّدت بني إسرائيل، أي: لو لم تفعل ذلك لكفلني أهلي ولم يلقوني في اليم.

[سورة الشعراء (26): الآیات 23 الی 40]

قٰالَ فِرْعَوْنُ وَ مٰا رَبُّ اَلْعٰالَمِينَ قٰالَ رَبُّ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مٰا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قٰالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَ لاٰ تَسْتَمِعُونَ قٰالَ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبٰائِكُمُ اَلْأَوَّلِينَ قٰالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ اَلَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قٰالَ رَبُّ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ قٰالَ لَئِنِ اِتَّخَذْتَ إِلٰهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ اَلْمَسْجُونِينَ قٰالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْ ءٍ مُبِينٍ قٰالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّٰادِقِينَ فَأَلْقىٰ عَصٰاهُ فَإِذٰا هِيَ ثُعْبٰانٌ مُبِينٌ وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذٰا هِيَ بَيْضٰاءُ لِلنّٰاظِرِينَ قٰالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هٰذٰا لَسٰاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمٰا ذٰا تَأْمُرُونَ قٰالُوا أَرْجِهْ وَ أَخٰاهُ وَ اِبْعَثْ فِي اَلْمَدٰائِنِ حٰاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحّٰارٍ عَلِيمٍ فَجُمِعَ اَلسَّحَرَةُ لِمِيقٰاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَ قِيلَ لِلنّٰاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لَعَلَّنٰا نَتَّبِعُ اَلسَّحَرَةَ إِنْ

ص: 138


1- الحجر: 66.

[سورة الشعراء (26): الآیات 40 الی 42]

كٰانُوا هُمُ اَلْغٰالِبِينَ فَلَمّٰا جٰاءَ اَلسَّحَرَةُ قٰالُوا لِفِرْعَوْنَ أَ إِنَّ لَنٰا لَأَجْراً إِنْ كُنّٰا نَحْنُ اَلْغٰالِبِينَ قٰالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ

وَ مٰا رَبُّ اَلْعٰالَمِينَ يريد: وأي شيء هو من الأشياء المشاهدة ؟ فأجابه موسى بما يستدلّ عليه من أفعاله ليعرّفه أنّه ليس بشيء يمكن أن يشاهد من الأجسام والأعراض، وإنّما هو شيء مخالف لجميع الأشياء، ليس كمثله شيء، منشئ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ و مبدعهما وَ مٰا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ بأنّ هذه الأشياء محدثة منشأة وليست من فعلكم، والمحدث لابد له من محدث.

فلما أجاب موسى بما أجاب عجّب فرعون قومه من جوابه حيث نسب الربوبية إلى غيره. فلما ثنّى موسى عليه السلام بتقرير قوله، نسبه فرعون إلي الجنون وأضافه إلى قومه حيث سمّاه رسولهم طنزا به(1). فلما ثلّث عليه السلام بتقرير آخر، غضب وقال:

لَئِنِ اِتَّخَذْتَ إِلٰهَاً غَيْرِي .

وعارض موسى عليه السلام قوله: إِنَّ رَسُولَكُمُ ... لَمَجْنُونٌ بقوله: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ .

أَ وَ لَوْ جِئْتُكَ الواو للحال، دخلت عليها همزة الاستفهام، والمعنى:

أتفعل ذلك بي ولو جئتك بِشَيْ ءٍ مُبِينٍ أي: جائيا بالمعجز الظاهر.

وفي قوله: إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّٰادِقِينَ أنّ المعجز لا يأتي به إلا الصادق في دعواه، لأنّه يجري مجري التصديق من اللّه تعالي، فلابد من أن يدلّ على الصدق، وتقديره: إن كنت من الصادقين في دعواك ائت به، فحذف الجزاء لأنّ الأمر بالإتيان به يدلّ عليه.

ثُعْبٰانٌ مُبِينٌ ظاهر الثعبانية، لا شيء يشبه الثعبان.

ص: 139


1- الطنز: السخرية. (الصحاح: مادة طنز)

بَيْضٰاءُ لِلنّٰاظِرِينَ فيه دلالة علي أنّ بياضها كان شيئا تجتمع النظارة علي النظر إليه لخروجه عن العادة، وكان بياضا نورانيا له شعاع يغشى الأبصار ويسدّ الأفق.

وقوله: حَوْلَهُ منصوب اللفظ علي الظرف، أو منصوب المحلّ علي الحال.

فَمٰا ذٰا تَأْمُرُونَ من المؤامرة وهي المشاورة، أو من الأمر الذي هو ضد النهي، جعل العبيد آمرين وربّهم مأمورا، لما دهاه من الدهش والحيرة حين أبصر الآيتين، واعترف لهم بما توقعه وأحس به من جهة موسى عليه السلام وغلبته علي ملكه وأرضه. و مٰا ذٰا منصوب: إما لكونه في معنى المصدر، وإما لأنه مفعول به من قولهم:

أمرتك الخير(1)

و قرئ: أرجئه، وقد مرّ بيانه(2).

يَوْمٍ مَعْلُومٍ هو يوم الزينة، وميقاته وقت الضحى، لأنه الوقت الذي وقّته لهم موسى عليه السلام من يوم الزينة.

هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ استبطاء لهم في الاجتماع، والمراد منه: استعجالهم، ومنه قول تأبط شرّا:

هل أنت باعث دينار لحاجتنا(3)

ص: 140


1- ديوان العباس بن مرداس السلمي: 31، وبقيته: فافعل ما أمرت به فقد تركتك ذا مال وذا نشب.
2- ينظر: الأعراف: 111.
3- ديوان تأبط شرا: 245، وبقيته: أو عبد رب أخا عون بن مخراق.

يريد: ابعثه إلينا سريعا ولا تبطئ.

لَعَلَّنٰا نَتَّبِعُ اَلسَّحَرَةَ في دينهم إن غلبوا موسى، ولا نتبع موسى في دينه.

[سورة الشعراء (26): الآیات 43 الی 68]

قٰالَ لَهُمْ مُوسىٰ أَلْقُوا مٰا أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَأَلْقَوْا حِبٰالَهُمْ وَ عِصِيَّهُمْ وَ قٰالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنّٰا لَنَحْنُ اَلْغٰالِبُونَ فَأَلْقىٰ مُوسىٰ عَصٰاهُ فَإِذٰا هِيَ تَلْقَفُ مٰا يَأْفِكُونَ فَأُلْقِيَ اَلسَّحَرَةُ سٰاجِدِينَ قٰالُوا آمَنّٰا بِرَبِّ اَلْعٰالَمِينَ رَبِّ مُوسىٰ وَ هٰارُونَ قٰالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ اَلَّذِي عَلَّمَكُمُ اَلسِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلاٰفٍ وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قٰالُوا لاٰ ضَيْرَ إِنّٰا إِلىٰ رَبِّنٰا مُنْقَلِبُونَ إِنّٰا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنٰا رَبُّنٰا خَطٰايٰانٰا أَنْ كُنّٰا أَوَّلَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ أَوْحَيْنٰا إِلىٰ مُوسىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبٰادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي اَلْمَدٰائِنِ حٰاشِرِينَ إِنَّ هٰؤُلاٰءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَ إِنَّهُمْ لَنٰا لَغٰائِظُونَ وَ إِنّٰا لَجَمِيعٌ حٰاذِرُونَ فَأَخْرَجْنٰاهُمْ مِنْ جَنّٰاتٍ وَ عُيُونٍ وَ كُنُوزٍ وَ مَقٰامٍ كَرِيمٍ كَذٰلِكَ وَ أَوْرَثْنٰاهٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ فَلَمّٰا تَرٰاءَ ا اَلْجَمْعٰانِ قٰالَ أَصْحٰابُ مُوسىٰ إِنّٰا لَمُدْرَكُونَ قٰالَ كَلاّٰ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنٰا إِلىٰ مُوسىٰ أَنِ اِضْرِبْ بِعَصٰاكَ اَلْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكٰانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ اَلْعَظِيمِ وَ أَزْلَفْنٰا ثَمَّ اَلْآخَرِينَ وَ أَنْجَيْنٰا مُوسىٰ وَ مَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا اَلْآخَرِينَ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً وَ مٰا كٰانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ

ص: 141

أقسموا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ وهي من أقسام الجاهلية، وفي الإسلام لا يصحّ الحلف إلا باللّه تعالى أو ببعض أسمائه وصفاته، وفي الحديث: (لا تحلفوا إلا باللّه، ولا تحلفوا باللّه إلا وأنتم صادقون)(1).

و عبّر عن الخرور بالإلقاء علي طريق المشاكلة إذ جرى ذكر الإلقاء، يعني:

إنّهم إذا رأوا ما رأوا رموا بنفوسهم إلى الأرض سٰاجِدِينَ كأنّهم أخذوا فطرحوا وألقوا.

الضير: الضرّ، أرادوا لا ضرر علينا في ذلك، بل لنا فيه أعظم النفع لما يحصل لنا في الصبر عليه من الثواب العظيم، أو لاٰ ضَيْرَ لنا في القتل إذ لابد لنا من الانقلاب إلي ربّنا بسبب من أسباب الموت، والقتل أهون أسبابه و أرضاها، لأنّنا ننقلب إلى ربّنا انقلاب من يطمع في مغفرته ورحمته لما رزقنا من السبق إلي الإيمان.

أَنْ كُنّٰا معناه: لأن كنا.

و علل الأمر با لإسراء بقوله: إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ علي معنى: إنّ التدبير في أمرهم أن يتقدّموا ويتبعهم فرعون وجنوده، ويسلكوا مسالكهم في البحر فيهلكهم اللّه بإطباق البحر عليهم.

إِنَّ هٰؤُلاٰءِ محكي بعد قول مضمر. والشرذمة: الطائفة القليلة، ذكرهم بهذا الاسم الدال علي القلة ثمّ وصفهم بالقلة. ويجوز أن يريد بالقلة المذلة والقماءة، ولا يريد قلة العدد، يعني: إنّهم لقلتهم لا يبالي بهم.

وَ إِنَّهُمْ يفعلون أفعالا تغيظنا، ونحن قوم من عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور، فإذا خرج علينا خارج بادرنا إلي حسم مادة فساده، وهذه معاذير اعتذر بها إلي أهل المدائن لئلا يظن به ما يكسر من سلطانه. وقرئ:

ص: 142


1- سنن النسائي ج 7:5، الكافي ج 7:438.

حذرون و حٰاذِرُونَ ، فالحذر: المتيقظ، والحاذر: المستعد.

وَ مَقٰامٍ كَرِيمٍ منازل حسنة، وقيل: مجالس الأمراء التي يحتف بها الأتباع.

كَذٰلِكَ الكاف رفع لأنّه خبر مبتدأ محذوف، أي: الأمر كذلك، أو نصب أي: أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفناه.

فَأَتْبَعُوهُمْ فلحقوهم مُشْرِقِينَ داخلين في وقت الشروق.

[إِنَّ مَعِي رَبِّي ](1) سيهديني طريق النجاة من إدراكهم.

[أَنِ اِضْرِبْ ](2) أي: فضرب فَانْفَلَقَ البحر وظهر فيه اثنا عشر طريقا.

والفرق: الجزء المتفرّق فيه. و الطود: الجبل العظيم.

وَ أَزْلَفْنٰا ثَمَّ أي: حيث انفلق البحر اَلْآخَرِينَ يعني: قوم فرعون قرّبناهم من بني إسرائيل، وأدنينا بعضهم من بعض، وجمعناهم حتى لا ينجو منهم أحد.

إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لا توصف، قد عاينها الناس وما تنبّه عليها أَكْثَرُهُمْ .

[سورة الشعراء (26): الآیات 69 الی 82]

وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرٰاهِيمَ إِذْ قٰالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ مٰا تَعْبُدُونَ قٰالُوا نَعْبُدُ أَصْنٰاماً فَنَظَلُّ لَهٰا عٰاكِفِينَ قٰالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قٰالُوا بَلْ وَجَدْنٰا آبٰاءَنٰا كَذٰلِكَ يَفْعَلُونَ قٰالَ أَ فَرَأَيْتُمْ مٰا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَ آبٰاؤُكُمُ اَلْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاّٰ رَبَّ اَلْعٰالَمِينَ اَلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَ اَلَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ وَ إِذٰا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَ اَلَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَ اَلَّذِي أَطْمَعُ أَنْ

ص: 143


1- زيادة يقتضيها السياق.
2- زيادة يقتضيها السياق.

[سورة الشعراء (26): الآیات 82 الی 104]

يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ اَلدِّينِ رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصّٰالِحِينَ وَ اِجْعَلْ لِي لِسٰانَ صِدْقٍ فِي اَلْآخِرِينَ وَ اِجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ اَلنَّعِيمِ وَ اِغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كٰانَ مِنَ اَلضّٰالِّينَ وَ لاٰ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لاٰ يَنْفَعُ مٰالٌ وَ لاٰ بَنُونَ إِلاّٰ مَنْ أَتَى اَللّٰهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ وَ أُزْلِفَتِ اَلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَ بُرِّزَتِ اَلْجَحِيمُ لِلْغٰاوِينَ وَ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مٰا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ فَكُبْكِبُوا فِيهٰا هُمْ وَ اَلْغٰاوُونَ وَ جُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ قٰالُوا وَ هُمْ فِيهٰا يَخْتَصِمُونَ تَاللّٰهِ إِنْ كُنّٰا لَفِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ اَلْعٰالَمِينَ وَ مٰا أَضَلَّنٰا إِلاَّ اَلْمُجْرِمُونَ فَمٰا لَنٰا مِنْ شٰافِعِينَ وَ لاٰ صَدِيقٍ حَمِيمٍ فَلَوْ أَنَّ لَنٰا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً وَ مٰا كٰانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ

سألهم إبراهيم عليه السلام - وإن كان يعلم عبادتهم الأصنام - ليريهم أنّ ما يعبدونه بعيد عن استحقاق العبادة.

ولابد في يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ من تقدير حذف المضاف، معناه: هل يسمعون دعاءكم، وهل يقدرون علي ذلك ؟ وجاء مضارعا مع إيقاعه علي إِذْ لأنّه حكاية حال ماضية.

وإنّما قال: عَدُوٌّ لِي علي معنى: أنّي فكرت في أمري فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو الذي هو الشيطان فاجتنبتها، وآثرت عبادة من الخير كله منه، وأراهم بهذا القول أنّه نصيحة نصح بها نفسه، لينظروا فيقولوا: ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه، ويكونوا إلي القبول أقرب، ولو قال: فإنّهم عدو لكم لم يكن بهذه

ص: 144

المثابة. والعدو والصديق يكونان بمعنى الواحد والجمع، قال الشاعر:

وقوم عليّ ذوي مئرة *** أراهم عدوّا وكانوا صديقا(1)

إِلاّٰ رَبَّ اَلْعٰالَمِينَ استثناء منقطع، كأنه قال: لكن ربّ العالمين.

وقال: إِذٰا مَرِضْتُ ولم يقل: أمرضني، لأن كثيرا من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في طعامه وشرابه وغير ذلك.

وإنّما قال: أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي علي سبيل الانقطاع إلى اللّه تعالى، أو أراد أطمع أن يغفر لأجلي خطيئة من يشفعني فيه، فإنّ الأنبيا عليهم السلام منزّهون عن الخطايا والآثام، فاستغفارهم محمول علي تواضعهم لربّهم وهضمهم لأنفسهم، ويدلّ علي ذلك قوله: أَطْمَعُ ولم يجزم القول بالمغفرة. وفيه تعليم لأممهم.

هَبْ لِي حُكْماً أي: حكمة أو حكما بين الناس بالحقّ ، وقيل:

الحكم: النبوّة(2)، لأنّ النبيّ ذو حكم بين الناس وذو الحكمة والعلم وَ أَلْحِقْنِي بِالصّٰالِحِينَ اجمع بيني وبينهم في الجنّة.

وَ لاٰ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ من الخزي الذي هو الهوان، أو من الخزاية التي هي الحياء، وهذا أيضا من نحو استغفارهم مع عصمتهم وبعدهم عما يوجب الاستغفار، وفي يُبْعَثُونَ ضمير للعباد لأنّه معلوم.

إِلاّٰ حال مَنْ أَتَى اَللّٰهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ و هو من قولهم:

تحيّة بينهم ضرب وجيع(3)

ص: 145


1- لم أعثر على قائله في المصادر المتوفرة.
2- عن الكلبي. معالم التنزيل ج 3:103.
3- شعر عمرو بن معد يكرب: 137، وصدره: وخيل قد دلفت لها بخيل.

وبيانه أن يقال لك: هل لزيد مال وبنون ؟ فتقول: ماله وبنوه سلامة قلبه، تريد نفي المال والبنين عنه، وإثبات سلامة القلب له بدلا من ذلك. ويجوز حمل الكلام علي المعنى بأن يجعل المال والبنين في معنى الغنى، [كأنّه قيل: لا ينفع غنى](1) إلا غنى من أتى اللّه بقلب سليم، لأنّ غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه، كما أنّ غناه في دنياه بماله وبنيه. ويجوز أن يكون مفعولا ل - يَنْفَعُ أي: لا ينفع مال ولا بنون إلا رجلا سلم قلبه مع ماله حيث أنفقه في طاعة اللّه، ومع بنيه حيث أرشدهم إلى الدين وعلّمهم الشرائع. وقيل: القلب السليم الذي أسلم وسالم واستسلم. وعن الصادق عليه السلام: (هو القلب الذي سلم من حبّ الدنيا)(2).

وَ أُزْلِفَتِ اَلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ أي: قرّبت من موقفهم ينظرون إليها ويغتبطون بمكانهم منها.

وَ بُرِّزَتِ اَلْجَحِيمُ كشفت للأشقياء يتحسّرون علي أنّهم المسوقون إليها، قال:

فَلَمّٰا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا (3) يجمع عليهم الغموم، فتجعل النار بمرأى منهم ويقال لهم: أين آلهتكم هل ينفعونكم بنصرتهم لكم ؟ أو هل ينفعون أنفسهم بانتصارهم لأنّهم وما كانوا يعبدونهم وقود النار، وهو قوله: فَكُبْكِبُوا فِيهٰا هُمْ وَ اَلْغٰاوُونَ أي: الآلهة، و الغاوون أي: عبدتهم. و الكبكبة: تكرير الكب، جعل التكرير في اللفظ دليلا علي التكرير في المعنى، كأنّه إذا ألقي في النار يكب مرة بعد مرة حتى يستقر في قعر جهنم، اللهم أعذنا منها. وكبكب معهم جُنُودُ إِبْلِيسَ أي: أتباعه وشياطينه.

ص: 146


1- ساقطة من ج، ط.
2- مجمع البيان ج 7-8:194.
3- الملك: 27.

يَخْتَصِمُونَ أي: يخاصم بعضهم بعضا.

و إِنْ هي المخففة من الثقيلة، أي: إنّا كنا في ضَلاٰلٍ مُبِينٍ إذ سوّيناكم باللّه في توجيه العبادة إليكم.

والمراد بالمجرمين الذين أضلوهم: رؤساؤهم وكبراؤهم والذين اقتدوا بهم رَبَّنٰا إِنّٰا أَطَعْنٰا سٰادَتَنٰا وَ كُبَرٰاءَنٰا فَأَضَلُّونَا اَلسَّبِيلاَ (1).

فَمٰا لَنٰا مِنْ شٰافِعِينَ يشفعون لنا، ويسألون في أمرنا، كما نري المؤمنين لهم شفعاء من النبيّين والأوصياء، وَ لاٰ صَدِيقٍ كما نري لهم أصدقاء. الصادق عليه السلام:

(واللّه لنشفعنّ لشيعتنا - قالها ثلاثا - حتى يقول عدونا: فما لنا من شافعين... إلى قوله: من المؤمنين)(2). وعن جابر بن عبد اللّه عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: (إنّ الرجل يقول في الجنّة: ما فعل صديقي فلان ؟ - وصديقه في الجحيم - فيقول اللّه سبحانه: أخرجوا له صديقه إلي الجنّة، فيقول من بقي في النار: فما لنا من شافعين ولا صديق حميم)(3).

والحميم من الاحتمام، وهو الاهتمام، وهو الذي يهمّه ما يهمّك، أو من الحامة بمعنى الخاصة، وهو الصديق الخاص. وإنّما جمع الشفعاء ووحّد الصديق لكثرة الشفعاء وقلة الصديق الصادق في الوداد، ويجوز أن يكون المراد بالصديق الجمع.

والكرّة: الرجعة إلي الدنيا، و لَوْ هنا في معنى التمنّي، المعنى: فليت لنا كرّة، ويمكن أن يكون لَوْ علي أصل معناه، ويكون محذوف الجواب والتقدير:

لفعلنا كذا.

ص: 147


1- الأحزاب: 67.
2- تفسير ابن أبي حاتم ج 8:2786. تفسير القمي ج 2:123.
3- الكشف والبيان ج 7:172.

[سورة الشعراء (26): الآیات 105 الی 122]

كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ اَلْمُرْسَلِينَ إِذْ قٰالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَ لاٰ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُونِ وَ مٰا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّٰ عَلىٰ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ فَاتَّقُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُونِ قٰالُوا أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اِتَّبَعَكَ اَلْأَرْذَلُونَ قٰالَ وَ مٰا عِلْمِي بِمٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسٰابُهُمْ إِلاّٰ عَلىٰ رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ وَ مٰا أَنَا بِطٰارِدِ اَلْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلاّٰ نَذِيرٌ مُبِينٌ قٰالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يٰا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ اَلْمَرْجُومِينَ قٰالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ فَتْحاً وَ نَجِّنِي وَ مَنْ مَعِيَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ فَأَنْجَيْنٰاهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي اَلْفُلْكِ اَلْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنٰا بَعْدُ اَلْبٰاقِينَ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً وَ مٰا كٰانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ

القوم مؤنث، وتصغيره قويمة.

أَخُوهُمْ مثل قول العرب: يا أخا بني أسد، يريدون: يا واحدا منهم، ومنه بيت الحماسة:

لا يسألون أخاهم حين يندبهم *** في النّائبات على ما قال برهانا(1)

رَسُولٌ أَمِينٌ علي الرسالة، أو كان مشهورا فيهم بالأمانة كمحمّد صلى الله عليه و آله و سلم في قريش.

وَ أَطِيعُونِ فيما أدعوكم إليه من الإيمان والتوحيد.

وَ مٰا أَسْئَلُكُمْ علي هذا الأمر مِنْ أَجْرٍ يعني على دعائه ونصحه.

فَاتَّقُوا اَللّٰهَ في طاعتي، وكرر ذلك ليقرره في نفوسهم مع أنّ كل واحد

ص: 148


1- البيت لقريط بن أنيف العنبري. ديوان الحماسة: 29.

منهما قد تعلّق بعلة، جعل علة الأوّل كونه أمينا فيما بينهم، وعلة الثاني حسم طمعه عنهم.

قرئ: وأتباعك جمع تابع كشاهد وأشهاد، أو جمع تبع كبطل وأبطال. والواو للحال، والتقدير: وقد اتبعك، فأضمر (قد). والرذالة والنذالة: الخسّة والدناءة، وإنّما استرذلوهم لاتضاع نسبهم وقلة نصيبهم من الدنيا، وقيل: كانوا من أهل الصناعات الدنيئة كالحياكة ونحوها(1).

وَ مٰا عِلْمِي وأي شيء علمي ؟ والمراد: انتفاء علمه بسرّ أمرهم وباطنه، وإنّما قال هذا لأنّهم قد طعنوا مع استرذالهم في إيمانهم، وادعوا أنّهم لم يؤمنوا عن بصيرة وإنّما آمنوا هوي وبديهة، كما حكى الله عنهم قولهم: اَلَّذِينَ هُمْ أَرٰاذِلُنٰا بٰادِيَ اَلرَّأْيِ (2). و يجوز أن يكون قد فسّر نوح قولهم: اَلْأَرْذَلُونَ بما هو الرذالة عنده من سوء الأعمال وفساد العقيدة، ثمّ بني جوابه علي ذلك فقال: ما عليّ إلا اعتبار الظواهر دون الفحص عن الضمائر، فإن كانوا علي ما وصفتم فالله محاسبهم ومجازيهم وما أنا إلا نذير لا محاسب ولا مجاز، وليس من شأني أن أطرد اَلْمُؤْمِنِينَ طمعا في إيمانكم.

قٰالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ أي: إن لم ترجع عما تقول لَتَكُونَنَّ مِنَ اَلْمَرْجُومِينَ بالحجارة أو بالشتم.

قٰالَ رَبِّ إنّهم كذّبوني في وحيك ورسالتك فاحكم بيني وبينهم. والفتاح:

الحاكم، و الفتاحة: الحكومة.

و اَلْفُلْكِ السفينة، وهو واحد هنا، وجمع في قوله: وَ تَرَى اَلْفُلْكَ فِيهِ

ص: 149


1- عن قتادة وغيره. الدر المنثور ج 5:91.
2- هود: 27.

مَوٰاخِرَ (1) فالواحد كقفل، والجمع كأسد، جمعوا فعلاء علي فعل كما جمعوا فعلي علي فعل لأنّهما أخوان في قولك: العرب والعرب، والعجم والعجم، والرشد و الرشد.

و اَلْمَشْحُونِ المملوء.

[سورة الشعراء (26): الآیات 123 الی 140]

كَذَّبَتْ عٰادٌ اَلْمُرْسَلِينَ إِذْ قٰالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَ لاٰ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُونِ وَ مٰا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّٰ عَلىٰ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ أَ تَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَ تَتَّخِذُونَ مَصٰانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَ إِذٰا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبّٰارِينَ فَاتَّقُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُونِ وَ اِتَّقُوا اَلَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمٰا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعٰامٍ وَ بَنِينَ وَ جَنّٰاتٍ وَ عُيُونٍ إِنِّي أَخٰافُ عَلَيْكُمْ عَذٰابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قٰالُوا سَوٰاءٌ عَلَيْنٰا أَ وَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ اَلْوٰاعِظِينَ إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ خُلُقُ اَلْأَوَّلِينَ وَ مٰا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنٰاهُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً وَ مٰا كٰانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ

الريع: المكان المرتفع، والآية: العلم، قيل: كانوا يهتدون بالنجوم في أسفارهم، فاتخذوا في طرقهم أعلاما طوالا فعبثوا بذلك، لأنّهم كانوا مستغنين عنها بالنجوم(2)، وقيل: كانوا يبنون أبنية لا يحتاجون إليها لسكناهم، فجعل بناء ما يستغنون عنه عبثا منهم. وعن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: (كل بناء يبنى وبال علي صاحبه يوم

ص: 150


1- فاطر: 12.
2- تفسير مقاتل بن سليمان ج 2:459.

القيامة إلا ما لابد منه)(1). وقيل: كانوا يبنون بالمواضع المرتفعة ليشرفوا علي المارة فيعبثوابهم(2).

والمصانع: ماخذ الماء، وقيل: القصور المشيدة والحصون(3).

لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ أي: ترجون الخلود في الدنيا، أو تشبه حالكم حال من يخلد.

وَ إِذٰا بَطَشْتُمْ بسوط أو بسيف بطشتم ظالمين عالين، وقيل: الجبار:

الذي يقتل ويضرب علي الغضب(4)، وعن الحسن: (مبادرين تعجيل العذاب لا يتفكرون في العواقب)(5).

ثمّ نبههم على نعم اللّه تعالى عليهم، فأجملها بقوله: أَمَدَّكُمْ بِمٰا تَعْلَمُونَ ، ثمّ فصّلها وعدّدها عليهم، وعرّفهم المنعم النعم بتعديدها.

أي: سَوٰاءٌ عَلَيْنٰا أَ وَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ من أهل الوعظ. و قرئ: خلق الأوّلين - بالفتح - ومعناه: إنّ ما جئت به ليس إلا اختلاق الأوّلين وكذبهم، أو ما خلقنا هذا إلا خلق القرون الماضية، نحيا كما حيوا، ونموت كما ماتوا، ولا بعث ولا حساب.

وقرئ: خلق الأوّلين - بالضم - أي: ما هذا الذي نحن عليه من الحياة والموت إلا عادة لم يزل عليها الناس في قديم الدهر، أو ما هذا الذي جئت به من الكذب إلا عادة الأوّلين كانوا يلفّقون مثله.

ص: 151


1- مسند أبي يعلى ج 7:309، وينظر: المحاسن 2:608.
2- معالم التنزيل ج 3:104.
3- عن مجاهد. تفسير الطبري ج 19:59.
4- عن مجاهد. الكشف والبيان ج 7:175.
5- التبيان ج 8:41 بالمعنى.

[سورة الشعراء (26): الآیات 141 الی 159]

كَذَّبَتْ ثَمُودُ اَلْمُرْسَلِينَ إِذْ قٰالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صٰالِحٌ أَ لاٰ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُونِ وَ مٰا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّٰ عَلىٰ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ أَ تُتْرَكُونَ فِي مٰا هٰاهُنٰا آمِنِينَ فِي جَنّٰاتٍ وَ عُيُونٍ وَ زُرُوعٍ وَ نَخْلٍ طَلْعُهٰا هَضِيمٌ وَ تَنْحِتُونَ مِنَ اَلْجِبٰالِ بُيُوتاً فٰارِهِينَ فَاتَّقُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُونِ وَ لاٰ تُطِيعُوا أَمْرَ اَلْمُسْرِفِينَ اَلَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ يُصْلِحُونَ قٰالُوا إِنَّمٰا أَنْتَ مِنَ اَلْمُسَحَّرِينَ مٰا أَنْتَ إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُنٰا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّٰادِقِينَ قٰالَ هٰذِهِ نٰاقَةٌ لَهٰا شِرْبٌ وَ لَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَ لاٰ تَمَسُّوهٰا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذٰابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ فَعَقَرُوهٰا فَأَصْبَحُوا نٰادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ اَلْعَذٰابُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً وَ مٰا كٰانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ

فِي مٰا هٰاهُنٰا أي: في الذي استقر في هذا المكان من النعيم، ثمّ فسّر ذلك بقوله: فِي جَنّٰاتٍ وَ عُيُونٍ والمعنى: أَ تُتْرَكُونَ فيما أنتم فيه من نعيم الدنيا لا تزالون عنه.

وخصّ النخل بإفرادها من جملة الجنات لفضله، أو لأنّه أراد بالجنات غير النخل من الشجر ثمّ عطفها عليها. والطلع: الكفرى(1) لأنّه يطلع من النخل.

والهضيم: اللطيف الضامر من قولهم: كشح هضيم، وفي طلع إناث النخل لطف ليس ذلك في طلع فحالها، وقيل: الهضيم: اللين النضيج(2).

ص: 152


1- كتاب العين ج 5:358.
2- عن ابن عباس. تفسير الطبري ج 19:61.

وقرئ: فرهين و فٰارِهِينَ ، والفاره: الكيّس الحاذق، أي: حاذقين بنحتها، والفره: الأشر البطر.

[فَاتَّقُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُونِ ](1) أي: أطيعوني فيما آمركم به وَ لاٰ تُطِيعُوا رؤساءكم المفسدين، ولا تمتثلوا أوامرهم.

والمسحّر: الذي سحر كثيرا حتى غلب علي عقله، أي: سحرت مرة بعد أخرى فصرت لا تدري ما تقول، وقيل: معناه: أنت من المخلوقين المعللين بالطعام والشراب مثلنا، فلم صرت أولى بالنبوّة منا؟!(2).

والشرب: النصيب من الماء إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله، ولهم شِرْبُ يَوْمٍ لا تشرب فيه الماء، وإنّما عظم اليوم لحلول العذاب العظيم فيه.

[سورة الشعراء (26): الآیات 160 الی 175]

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ اَلْمُرْسَلِينَ إِذْ قٰالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَ لاٰ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُونِ وَ مٰا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّٰ عَلىٰ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ أَ تَأْتُونَ اَلذُّكْرٰانَ مِنَ اَلْعٰالَمِينَ وَ تَذَرُونَ مٰا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوٰاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عٰادُونَ قٰالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يٰا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُخْرَجِينَ قٰالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ اَلْقٰالِينَ رَبِّ نَجِّنِي وَ أَهْلِي مِمّٰا يَعْمَلُونَ فَنَجَّيْنٰاهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلاّٰ عَجُوزاً فِي اَلْغٰابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا اَلْآخَرِينَ وَ أَمْطَرْنٰا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسٰاءَ مَطَرُ اَلْمُنْذَرِينَ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً وَ مٰا كٰانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ

ص: 153


1- زيادة يقتضيها السياق.
2- عن ابن عباس. تفسير الطبري ج 19:63.

أي: أتأتون من بين أولاد آدم ذكرانهم كأنّ الإناث قد أعوزتكم ؟ والمراد ب - اَلْعٰالَمِينَ الناس، أو أتأتون أنتم من بين ما عداكم من العالمين الذكران ؟ بمعنى:

إنّكم يا قوم لوط وحدكم مختصون بهذه الفاحشة. والمراد بالعالمين: كل ما ينكح من الحيوان.

و مِنْ في مِنْ أَزْوٰاجِكُمْ تبيين لما خلق.

عٰادُونَ معتدون في الظلم، متجاوزون فيه الحد.

لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عن نهينا، ولم تمتنع عن تقبيح أفعالنا لَتَكُونَنَّ من جملة من أخرجناه من بين أظهرنا، وطردناه من بلدنا.

مِنَ اَلْقٰالِينَ أبلغ من أن يقول: إنّي لعملكم قال، كما يقال: فلان من العلماء، أي: معدود في جملتهم معروف بالعلم فيهم، ويجوز أن يكون المراد: إنّي من الكاملين في قلاكم، والقلي: البغض الشديد، كأنّه بغض يقلي الفؤاد والكبد.

مِمّٰا يَعْمَلُونَ من عقوبة عملهم.

إِلاّٰ عَجُوزاً فِي اَلْغٰابِرِينَ أي: مقدّرا غبورها في العذاب والهلاك، قيل: إنّها هلكت مع من خرج من القرية بما أمطر عليهم من الحجارة. قال قتادة: (أمطر اللّه علي شذاذ القوم حجارة من السماء فأهلكهم)(1)، وعن ابن زيد(2): (لم يرض بالانقلاب حتى أتبعه مطرا من حجارة)(3)، والتقدير: فَسٰاءَ مَطَرُ اَلْمُنْذَرِينَ مطرهم فحذف، ولم يرد بالمنذرين قوما بأعيانهم إنّما هو للجنس.

ص: 154


1- الكشاف ج 3:331.
2- عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العدوي مولاهم المدني، مات سنة 182 ه -. ينظر: طبقات المفسّرين ج 1:265.
3- الكشاف ج 3:331.

[سورة الشعراء (26): الآیات 176 الی 191]

كَذَّبَ أَصْحٰابُ اَلْأَيْكَةِ اَلْمُرْسَلِينَ إِذْ قٰالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَ لاٰ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُونِ وَ مٰا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّٰ عَلىٰ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ أَوْفُوا اَلْكَيْلَ وَ لاٰ تَكُونُوا مِنَ اَلْمُخْسِرِينَ وَ زِنُوا بِالْقِسْطٰاسِ اَلْمُسْتَقِيمِ وَ لاٰ تَبْخَسُوا اَلنّٰاسَ أَشْيٰاءَهُمْ وَ لاٰ تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ وَ اِتَّقُوا اَلَّذِي خَلَقَكُمْ وَ اَلْجِبِلَّةَ اَلْأَوَّلِينَ قٰالُوا إِنَّمٰا أَنْتَ مِنَ اَلْمُسَحَّرِينَ وَ مٰا أَنْتَ إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُنٰا وَ إِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ اَلْكٰاذِبِينَ فَأَسْقِطْ عَلَيْنٰا كِسَفاً مِنَ اَلسَّمٰاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّٰادِقِينَ قٰالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمٰا تَعْمَلُونَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذٰابُ يَوْمِ اَلظُّلَّةِ إِنَّهُ كٰانَ عَذٰابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً وَ مٰا كٰانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ

قرئ: أَصْحٰابُ اَلْأَيْكَةِ بالهمزة وبتخفيفه وبالجر علي الإضافة، وقرئ بالفتح علي أنّ أيكة اسم بلد. وروي: أنّ أصحاب الأيكة كانوا أصحاب شجر ملتف، وكان شجرهم الدوم(1).

ولم يقل: أخوهم شعيب كما في المواضع المتقدّمة، لأنّ شعيبا لم يكن من أصحاب الأيكة، وفي الحديث: (إنّ شعيبا أخا مدين أرسل إليهم وإلى أصحاب الأيكة)(2).

بخسه حقّه بمعنى: نقصه إيّاه وَ لاٰ تَبْخَسُوا أي: لا تنقصوا الناس حقوقهم، وهو عام في أن لا يهضم حقّ لأحد، ولا يغصب ملك ولا يتصرّف فيه

ص: 155


1- تاريخ الطبري ج 1:167.
2- الكشاف ج 3:332.

إلا بإذن مالكه.

وعثا في الأرض يعثو، وعثا يعثي، وعاث يعيث بمعنى، وذلك نحو: قطع الطريق وإهلاك الزرع.

وَ اَلْجِبِلَّةَ الخليقة، أي: ذوي الجبلّة، وهو كقولك: والخلق الأوّلين.

وَ مٰا أَنْتَ إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُنٰا دخلت الواو هنا لمعنى، وهو أنّهم قصدوا أنّ البشرية والتسحير كليهما مناف للرسالة عندهم. (إن) المخففة من الثقيلة، وهي ولامها تفرقتا علي فعل (الظن) وثاني مفعوليه، لأنّهما في الأصل يتفرقان علي المبتدأ والخبر، فلما كان باب (كان) وباب (ظننت) من جنس باب المبتدأ والخبر، قالوا أيضا في البابين: إن كان زيد لقائما، وإن نظنك لمن الكاذبين.

وقرئ: كِسَفاً بسكون السين وفتحها، وكلاهما جمع كسفة، أي: إن كنت صادقا فادع اللّه أن يسقط علينا كسفا من السماء.

قٰالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمٰا تَعْمَلُونَ أي: بأعمالكم وبما تستوجبون عليها من العقاب، فإن أراد أن يعاقبكم بإسقاط كسف من السماء فعل، وإن أراد عقابا آخر فعل فَأَخَذَهُمْ اللّه بمثل ما اقترحوه من عذاب اَلظُّلَّةِ . يروي: أنّه حبس عنهم الريح سبعا، وسلّط عليهم الومد(1) فأخذ بأنفاسهم، فخرجوا إلى البرية فأظلتهم سحابة وجدوا لها بردا ونسيما، فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا(2).

[سورة الشعراء (26): الآیات 192 الی 197]

وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ عَلىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ اَلْمُنْذِرِينَ بِلِسٰانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ وَ إِنَّهُ لَفِي زُبُرِ اَلْأَوَّلِينَ أَ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمٰاءُ بَنِي إِسْرٰائِيلَ

ص: 156


1- الومد: شدة حر الليل. (الصحاح: مادة ومد)
2- الكشف والبيان ج 7:179.

[سورة الشعراء (26): الآیات 198 الی 212]

وَ لَوْ نَزَّلْنٰاهُ عَلىٰ بَعْضِ اَلْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مٰا كٰانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ كَذٰلِكَ سَلَكْنٰاهُ فِي قُلُوبِ اَلْمُجْرِمِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتّٰى يَرَوُا اَلْعَذٰابَ اَلْأَلِيمَ فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لاٰ يَشْعُرُونَ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ أَ فَبِعَذٰابِنٰا يَسْتَعْجِلُونَ أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنٰاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جٰاءَهُمْ مٰا كٰانُوا يُوعَدُونَ مٰا أَغْنىٰ عَنْهُمْ مٰا كٰانُوا يُمَتَّعُونَ وَ مٰا أَهْلَكْنٰا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاّٰ لَهٰا مُنْذِرُونَ ذِكْرىٰ وَ مٰا كُنّٰا ظٰالِمِينَ وَ مٰا تَنَزَّلَتْ بِهِ اَلشَّيٰاطِينُ وَ مٰا يَنْبَغِي لَهُمْ وَ مٰا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ اَلسَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ

وَ إِنَّهُ الضمير للقرآن، والمراد با لتنزيل: المنزل.

وقرئ: نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ ، ونزّل به الروح، والباء في كلتا القراءتين للتعدية، أي: جعل اللّه الروح الأمين نازلا به.

عَلىٰ قَلْبِكَ أي: حفظك و فهمك إيّاه وأثبته في قلبك إثبات مالا ينسى، كقوله: سَنُقْرِئُكَ فَلاٰ تَنْسىٰ (1).

بِلِسٰانِ الباء يتعلّق ب - اَلْمُنْذِرِينَ أي: لتكون من الذين أنذروا بهذا اللسان وهم خمسة: هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمّد صلوات اللّه عليهم أجمعين، أو يتعلّق ب - نَزَلَ فيكون المعنى: نزّله باللسان العربي لتنذر به، لأنّه لو نزّله باللسان الأعجمي لقالوا: ما نصنع بما لا نفهمه ؟ فيتعذر الإنذار.

وفي هذا الوجه أنّ تنزيله بالعربية التي هي لسانك ولسان قومك تنزيل له

ص: 157


1- الأعلى: 6.

علي قلبك لانك تفهمه وتفهّمه قومك، ولو كان أعجميا لكان نازلا على سمعك دون قلبك، فكنت تسمع أجراس حروف ولا تفهم معانيها ولا تعيها.

وَ إِنَّهُ يعني القرآن لَفِي زُبُرِ اَلْأَوَّلِينَ يعني: ذكره مثبت في سائر الكتب السماوية علي وجه البشارة به وبمحمّد صلى الله عليه و آله و سلم، وقيل: إنّ معانيه من الدعاء إلى التوحيد وغيره فيها.

و قرئ: أَ وَ لَمْ يَكُنْ بالتذكير و آيَةً بالنصب علي أنّها خبره و أَنْ يَعْلَمَهُ هو الاسم، وقرئ: تكن بالتأنيث، وآية بالرفع على أنّ في (تكن) ضمير القصّة، واية خبر المبتدأ الذي هو أَنْ يَعْلَمَهُ ، والجملة خبر كان، والمعنى: ألم يكن علم علماء بني إسرائيل بمجيئه دلالة لهم علي صحّة نبوّته، وهم عبد اللّه بن سلام وغيره، كما قال سبحانه: وَ إِذٰا يُتْلىٰ عَلَيْهِمْ قٰالُوا آمَنّٰا بِهِ إِنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّنٰا إِنّٰا كُنّٰا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (1).

والأعجم الذي لا يفصح، يقال: في لسانه عجمة واستعجام.

كَذٰلِكَ سَلَكْنٰاهُ أي: كما أنزلنا القران عربيا مبينا أدخلناه وأوقعناه فِي قُلُوبِ الكافرين بأن قرأه رسولنا عليهم.

ثمّ أسند ترك الإيمان به إليهم بقوله: لاٰ يُؤْمِنُونَ بِهِ ولا يزالون علي التكذيب والجحود به حتى يعاينوا الوعيد ويروا العذاب، فيلحق بهم بَغْتَةً أي: مفاجأة وَ هُمْ لاٰ يَشْعُرُونَ بمجيئه.

أَ فَبِعَذٰابِنٰا يَسْتَعْجِلُونَ تبكيت لهم وتوبيخ. ثمّ قال: هب أنّ الأمر كما يظنون من التمتيع والتعمير، فإذا أتاهم العذاب ما ينفعهم حينئذ ما مضى من طول أعمارهم وطيب عيشهم.

ص: 158


1- القصص: 53.

لَهٰا مُنْذِرُونَ أي: رسل ينذرونهم.

ذِكْرىٰ منصوبة بمعنى تذكرة، إما لأنّ (أنذر) و (ذكّر) متقاربان، فكأنّه قال: مذكرون تذكرة، [وإما لأنّها حال من الضمير في مُنْذِرُونَ أي: ينذرونهم ذوي تذكرة](1)، وإما لأنّها مفعول له بمعنى: أنّهم ينذرونهم لأجل التذكرة. ويجوز أن يكون ذِكْرىٰ متعلّقة ب - أَهْلَكْنٰا مفعولا له، والمعنى: وما أهلكنا من أهل قرية ظالمة إلا بعدما ألزمناهم الحجّة بإرسال المنذرين إليهم، ليكون إهلاكهم تذكرة وعبرة لغيرهم وَ مٰا كُنّٰا ظٰالِمِينَ فنهلك قوما غير ظالمين.

كانوا يقولون: إنّما يتنزل على محمّد من جنس ما ينزل به الشياطين علي الكهنة، فكذّبهم اللّه بأنّ ذلك مما لا يتسهل للشياطين ولا يقدرون عليه، لأنّهم مرجومون بالشهب معزولون عن استماع كلام أهل السماء.

[سورة الشعراء (26): الآیات 213 الی 227]

فَلاٰ تَدْعُ مَعَ اَللّٰهِ إِلٰهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ اَلْمُعَذَّبِينَ وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ وَ اِخْفِضْ جَنٰاحَكَ لِمَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمّٰا تَعْمَلُونَ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَلْعَزِيزِ اَلرَّحِيمِ اَلَّذِي يَرٰاكَ حِينَ تَقُومُ وَ تَقَلُّبَكَ فِي اَلسّٰاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلىٰ مَنْ تَنَزَّلُ اَلشَّيٰاطِينُ تَنَزَّلُ عَلىٰ كُلِّ أَفّٰاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ اَلسَّمْعَ وَ أَكْثَرُهُمْ كٰاذِبُونَ وَ اَلشُّعَرٰاءُ يَتَّبِعُهُمُ اَلْغٰاوُونَ أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وٰادٍ يَهِيمُونَ وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مٰا لاٰ يَفْعَلُونَ إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ

ص: 159


1- ساقطة من ج.

[سورة الشعراء (26): آیة 227]

وَ ذَكَرُوا اَللّٰهَ كَثِيراً وَ اِنْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مٰا ظُلِمُوا وَ سَيَعْلَمُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ

علم عزّ اسمه أنّ ذلك لا يكون، لكنّه أراد أن يحرّك منه لازدياد الإخلاص والتقوى، وفيه لطف للمكلفين كما قال: وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنٰا بَعْضَ اَلْأَقٰاوِيلِ (1).

وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ أمر صلوات اللّه وسلامه عليه بإنذار الأقرب فا لأقرب من قومه، وأن يقدّم إنذارهم علي إنذار غيرهم. وروي: إنّه جمع بني عبد المطلب، وهم يومئذ أربعون رجلا - الرجل منهم يأكل الجذعة ويشرب العس - علي رجل شاة وقعب من لبن، فأكلوا وشربوا حتى صدروا، ثمّ أنذرهم فقال: يا بني عبد المطلب، إنّي أنا النذير إليكم من اللّه عزّوجل، فأسلموا و أطيعوني تهتدوا، ثمّ قال: من يؤاخيني ويؤازرني فيكون وليي ووصيي بعدي، وخليفتي في أهل بيتي ؟ فسكت القوم، وأعادها ثلاثا، كل ذلك يسكت القوم ويقول عليّ : أنا، فقال في المرة الثالثة: أنت. فقام القوم وهم يقولون لأبي طالب: أطع ابنك فقد أمّر عليك(2).

وخفض الجناح مثل في التواضع ولين الجانب.

فَإِنْ عَصَوْكَ فتبرأ منهم ومن أعمالهم.

وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللّه يكفك شرّ من يعصيك، وفوّض أمرك إلى من يقدر علي نفعك وضرّك، وقرئ: فتوكل - بالفاء - ويكون عطفا علي: فَقُلْ أو فَلاٰ تَدْعُ .

اَلَّذِي يَرٰاكَ ويطّلع عليك حِينَ تَقُومُ للتهجد.

و المراد ب - اَلسّٰاجِدِينَ المصلّون، وتقلّبه فيهم: تصرّفه فيما بينهم بقيامه

ص: 160


1- الحاقة: 44.
2- شواهد التنزيل ج 1:420، تاريخ الطبري ج 2:217 باختصار.

وركوعه وسجوده وقعوده إذا أمّهم، وقيل: معناه: وتقلّبك في أصلاب الموحّدين حتى أخرجك نبيّا(1)، وهو المروي عن أئمّة الهدي عليهم السلام(2).

ثمّ ذكر سبحانه من تَنَزَّلُ عليه الشياطين: كُلِّ أَفّٰاكٍ أَثِيمٍ هم الكهنة:

كشق(3) وسطيح(4)، والمتنبئة: كمسيلمة الكذاب و طليحة(5).

يُلْقُونَ اَلسَّمْعَ هم الشياطين كانوا قبل أن يحجبوا بالرجم يستمعون إلى الملأ الأعلى، فيختطفون بعض ما يتكلّمون به مما اطّلعوا عليه من الغيوب، ثمّ يُلْقُونَ ما يسمعونه أي: يوحون به إليهم.

وقوله: وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ (6)، وَ مٰا تَنَزَّلَتْ بِهِ اَلشَّيٰاطِينُ (7)، هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلىٰ مَنْ تَنَزَّلُ اَلشَّيٰاطِينُ أخوات، فرّق سبحانه بينهن بآيات ليست في معناهن لتطرية ذكر ما فيهن كرة بعد كرة، فيدلّ بذلك علي أنّ المعنى الذي نزل فيه من المعاني التي اشتدت كراهة اللّه لخلافها.

وَ اَلشُّعَرٰاءُ مبتدأ و يَتَّبِعُهُمُ اَلْغٰاوُونَ خبره، أي: لا يتبعهم علي كذبهم

ص: 161


1- الكشف والبيان ج 7:184.
2- تفسير القمي ج 2:125 باختلاف.
3- شق بن صعب بن يشكر القسري الأزدي، كاهن جاهلي، عاش إلى ما بعد ولادة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بقليل وقد عمّر طويلا. الأعلام ج 3:248.
4- ربيع بن ربيعة بن مسعود من بني مازن من الأزد، كاهن جاهلي غساني من المعمّرين، كان العرب يحتكمون إليه ويرضون بقضائه، مات بالشام بعد مولد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بقليل. الأعلام ج 3:38.
5- طليحة بن خويلد الاسدي كان يقال له طليحة الكذاب، وفد علي النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في وفد بني أسد سنة 9 ه - وأسلموا، ولما رجعوا ارتد طليحة وادعى النبوّة، في حياة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، ثم أسلم زمن عمر وقتل بنهاوند. الاعلام ج 3:332.
6- الشعراء: 192.
7- الشعراء: 210.

وباطلهم وفضول قولهم، وما هم عليه من الهجاء وتمزيق الأعراض، ومدح من لا يستحقّ المدح، ولا يستحسن ذلك منهم إلا الغاوون والسفهاء، وقيل:

الغاوون: الراوون(1)، وقيل: الشياطين(2)، وقيل: هم شعراء المشركين: عبد اللّه بن الزبعري، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وأبو غرة، وأمية بن أبي الصلت وغيرهم(3)، قالوا: نحن نقول مثل ما قال محمّد وكانوا يهجونه، ويجتمع إليهم الأعراب من قومهم يستمعون أشعارهم و أهاجيهم.

وقوله: فِي كُلِّ وٰادٍ يَهِيمُونَ مثل لذهابهم في كل شعب من القول، وقلة مبالاتهم بالغلو في المنطق ومجاوزة حد القصد فيه، وقذف التقي، وبهت البريء.

إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا استثنى الشعراء المؤمنين الذين يكثرون ذكر الله وتلاوة القرآن، وكان ذلك أغلب عليهم من الشعر، وإذا قالوا شعرا قالوه في توحيد اللّه و الحكمة والموعظة والآداب الحسنة ومدح رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم وصلحاء المؤمنين، وكان هجاؤهم على سبيل الانتصار والرد على من هجا المسلمين، وهم: عبد اللّه بن رواحة، والكعبان - كعب بن مالك وكعب بن زهير(4) - وحسان بن ثابت. قال عليهم السلام لكعب بن مالك: (اهجهم، فوالذي نفسي بيده لهو أشدّ عليهم من النبل)(5). وقال لحسان:

(قل وروح القدس معك)(6).

ص: 162


1- عن ابن عباس. تفسير الطبري ج 19:78.
2- عن مجاهد. تفسير الطبري ج 19:78.
3- عن ابن عباس. تفسير الطبري ج 19:79.
4- كعب بن زهير بن أبي سلمى الشاعر المشهور، قدم على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بعد انصرافه من الطائف مسلما وأنشده قصيدته المشهورة التي أولها: بانت سعاد... ينظر: الاستيعاب ج 3:297.
5- سنن البيهقي الكبري ج 10:239.
6- المستدرك على الصحيحين ج 3:487، الكافي ج 8:102 باختلاف يسير.

وَ سَيَعْلَمُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا وعيد بليغ وتهديد شديد.

أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ أيّ منصرف ينصرفون، أي: سيعلمون أن ليس لهم وجه من وجوه الانقلاب وهو النجاة. وقرأ الصادق عليه السلام: وسيعلم الذين ظلموا آل محمّد صلى الله عليه و آله و سلم حقّهم، ويشبه أن تكون قراءة علي سبيل التأويل.

ص: 163

سورة النمل

اشارة

مكية أربع وتسعون آية بصري، ثلاث كوفي، عدّ البصري مِنْ قَوٰارِيرَ آية.

وفي حديث أبيّ : (من قرأ (طس سليمان)، كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بسليمان وكذّب به، وهود وشعيب وصالح وإبراهيم، ويخرج من قبره وهو ينادي: لا إله إلا اللّه)(1).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة النمل (27): الآیات 1 الی 8]

طس تِلْكَ آيٰاتُ اَلْقُرْآنِ وَ كِتٰابٍ مُبِينٍ هُدىً وَ بُشْرىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاٰةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكٰاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ إِنَّ اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنّٰا لَهُمْ أَعْمٰالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ أُوْلٰئِكَ اَلَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ اَلْعَذٰابِ وَ هُمْ فِي اَلْآخِرَةِ هُمُ اَلْأَخْسَرُونَ وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى اَلْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ إِذْ قٰالَ مُوسىٰ لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نٰاراً سَآتِيكُمْ مِنْهٰا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهٰابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمّٰا جٰاءَهٰا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي اَلنّٰارِ

ص: 164


1- الكشف والبيان ج 7:188.

[سورة النمل (27): الآیات 8 الی 10]

وَ مَنْ حَوْلَهٰا وَ سُبْحٰانَ اَللّٰهِ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ يٰا مُوسىٰ إِنَّهُ أَنَا اَللّٰهُ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ وَ أَلْقِ عَصٰاكَ فَلَمّٰا رَآهٰا تَهْتَزُّ كَأَنَّهٰا جَانٌّ وَلّٰى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ يٰا مُوسىٰ لاٰ تَخَفْ إِنِّي لاٰ يَخٰافُ لَدَيَّ اَلْمُرْسَلُونَ

تِلْكَ مبتدأ و آيٰاتُ اَلْقُرْآنِ خبره، و هُدىً خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ مضمر، أو نصب علي الحال، أي: هادية ومبشرة.

وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أي: هؤلاء هم الموقنون بالآخرة، ومعناه: وما يوقن بالآخرة حقّ الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.

زَيَّنّٰا لَهُمْ أَعْمٰالَهُمْ أسند تزيين أعمالهم إلي ذاته، وقد أسند ذلك إلي الشيطان في قوله: وَ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطٰانُ أَعْمٰالَهُمْ (1)، وبين الإسنادين فرق، وذلك أنّ إسناده إلى الشيطان حقيقة، وإسناده إلى اللّه عزّ اسمه استعارة أو مجاز حكمي. فالاستعارة هي أنّه لما متّعهم بطول العمر والتوسعة في الرزق، فجعلوا إنعامه بذلك ذريعة إلى اتباع شهواتهم وإيثارهم الترفه ونفارهم عن لوازم التكليف، فكأنّه زيّن لهم بذلك أعمالهم، وإلى هذا أشارت الملائكة في قولهم: وَ لٰكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَ آبٰاءَهُمْ حَتّٰى نَسُوا اَلذِّكْرَ وَ كٰانُوا قَوْماً بُوراً (2).

وأما المجاز الحكمي: فهو أنّ إمهاله الشيطان وتخليته حتى زيّن لهم أعمالهم القبيحة، وخلقه فيهم شهوة القبيح الداعية لهم إليها، وحرمانه إيّاهم التوفيق عقوبة لهم علي كفرهم، كالأسباب للتزيين، فلذلك أضاف التزيين إلي ذاته.

والعمه: التحيّر والتردد.

ص: 165


1- النمل: 24.
2- الفرقان: 18.

و سُوءَ اَلْعَذٰابِ هوالقتل و الأسر يوم بدر.

و اَلْأَخْسَرُونَ أشدّ الناس خسرانا، لأنّهم يخسرون الثواب الدائم ويحصلون في العقاب الدائم.

لَتُلَقَّى اَلْقُرْآنَ أي: تؤتاه وتلقنه من عند أيّ حَكِيمٍ وأيّ عَلِيمٍ ، وهذا معنى مجيئهما نكرتين. وهذه الآية تمهيد لما يريد أن يقصّه بعدها من الأقاصيص، لما فيها من لطائف حكمته ودقائق علمه.

إِذْ منصوب بمضمر وهو (اذكر)، كأنّه قال علي أثر ذلك: خذ من آثار حكمته وعلمه قصّة موسى، ويجوز أن ينتصب ب - عَلِيمٍ . لم يكن مع موسى غير امرأته وقد كنى اللّه عنها بالأهل، فتبع ذلك ورود الخطاب علي لفظ الجمع وهو قوله: اُمْكُثُوا... آتِيكُمْ (1).

إِنِّي آنَسْتُ نٰاراً أي: أبصرتها، والشهاب: الشعلة، والقبس: النار المقبوسة، وأضاف الشهاب إلي القبس لأنه يكون قبسا وغير قبس. و قرئ: بِشِهٰابٍ منونا، فيكون قَبَسٍ بدلا أو صفة لما فيه من معنى القبس.

وقال: سَآتِيكُمْ فجاء بسين التسويف عدة لأهله أنّه يأتيهم به وإن أبطأ وجاء بلفظه، أو لأنه بني الأمر علي أنّه إن لم يظفر بأحد الأمرين لم يعدم الآخر:

إما هداية الطريق، وإما اقتباس النار، لأنّه كان قد ضل عن الطريق، وأراد بالخبر:

معرفة حال الطريق.

لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ تستدفئون بها، وما أدراه حين قال ذلك أنّه يظفر علي النار بعزّ الدنيا وعزّ الآخرة.

ص: 166


1- طه: 10.

أَنْ بُورِكَ مفسّرة، لأنّ النداء فيه معنى القول، أي: قيل له: بُورِكَ مَنْ فِي اَلنّٰارِ وَ مَنْ حَوْلَهٰا والمعنى: بورك من في مكان النار و من حول مكانها. ومكانها:

البقعة التي حصلت فيها وهي البقعة المباركة، ويدلّ عليه قراءة أبيّ : تباركت الأرض و من حولها.

والذي بوركت له البقعة وبورك من فيها وحواليها حدوث أمر ديني فيها، وهو تكليم اللّه جل جلاله موسى عليه السلام واستنباؤه له وإظهار المعجزات عليه، وقيل:

المراد بمن بورك فيهم: موسى والملائكة(1). والظاهر أنّه عام في كل من كان في تلك الأرض وذلك الوادي وحواليها من أرض الشام، كما وسم سبحانه أرض الشام بالبركات في قوله: وَ نَجَّيْنٰاهُ وَ لُوطاً إِلَى اَلْأَرْضِ اَلَّتِي بٰارَكْنٰا فِيهٰا لِلْعٰالَمِينَ (2).

والفائدة في ابتداء الخطاب من اللّه تعالي بذلك أنّه بشارة من اللّه تعالي لموسى عليه السلام بأنّه قد قضي أمر عظيم ينتشر منه في أرض الشام كلها البركات والخيرات.

وَ سُبْحٰانَ اَللّٰهِ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ إعلام بأنّ ذلك الأمر من جلائل الأمور، وأنّ مكوّنه ربّ العالمين.

إِنَّهُ الضمير للشأن أَنَا اَللّٰهُ مبتدأ و خبر، و اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ صفتان له، أي: أنا القوي القادر الذي لا يمتنع عليه شئ، المحكم لتدبيره.

وَ أَلْقِ عَصٰاكَ عطف علي بُورِكَ وكلاهما تفسير ل - نُودِيَ ، والمعنى:

قيل له: بورك من في النار، وقيل له: ألق عصاك، بدلالة قوله: وَ أَنْ أَلْقِ عَصٰاكَ في سورة القصص(3) علي تكرير حرف التفسير.

ص: 167


1- عن محمّد بن كعب. تفسير الطبري ج 19:83.
2- الأنبياء: 71.
3- الآية: 31.

وَ لَمْ يُعَقِّبْ أي: لم يرجع، يقال: عقّب المقاتل: إذا كرّ بعد الفرار، قال:

فما عقّبوا إذ قيل هل من معقّب *** ولا نزلوا يوم الكريهة منزلا(1)

وإنّما خاف لظنه أنّ ذلك لأمر أريد به، ويدلّ عليه قوله: إِنِّي لاٰ يَخٰافُ لَدَيَّ اَلْمُرْسَلُونَ .

[سورة النمل (27): الآیات 11 الی 14]

إِلاّٰ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَ أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضٰاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيٰاتٍ إِلىٰ فِرْعَوْنَ وَ قَوْمِهِ إِنَّهُمْ كٰانُوا قَوْماً فٰاسِقِينَ (12) فَلَمّٰا جٰاءَتْهُمْ آيٰاتُنٰا مُبْصِرَةً قٰالُوا هٰذٰا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَ جَحَدُوا بِهٰا وَ اِسْتَيْقَنَتْهٰا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلْمُفْسِدِينَ (1(4)

إِلاّٰ بمعنى (لكن)، لأنّه لما أطلق نفي الخوف عن الرسل كان ذلك مظنة لطروء الشبهة، فاستدرك ذلك ب - (لكن)، والمعنى: لكن مَنْ ظَلَمَ من غير المرسلين ثُمَّ بَدَّلَ توبة وندما علي ما فعله من السوء، وعزما علي أن لا يعود فيما بعد فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ لظلمه.

فِي تِسْعِ آيٰاتٍ كلام مستأنف، وحرف الجر فيه يتعلّق بمحذوف، و المعنى:

واذهب في تسع آيات إلى فرعون، ونحوه:

فقلت إلى الطّعام فقال منهم فريق نحسد الإنس الطّعاما(2)

ويجوز أن يكون المعنى: وَ أَلْقِ عَصٰاكَ ، وَ أَدْخِلْ يَدَكَ في جملة تِسْعِ آيٰاتٍ وعدا دهن.

ص: 168


1- لم أعثر على قائله في المصادر التوفرة.
2- البيت لشمير بن الحارث الضبي. النوادر في اللغة: 124، وفيه: زعيم نحسد....

المبصرة: الواضحة البيّنة، جعل الإبصار لها وهو في الحقيقة لمتأمليها لأنّهم ملابسوها، وكانوا بسبب منها بنظرهم وتفكرهم فيها، أو جعلت كأنّها تبصر فتهدي، لأنّ الأعمى لا يهتدي فضلا عن أن يهدي غيره، ومنه قولهم: كلمة عوراء لأنّها تغوي. وقرأ عليّ بن الحسين عليهما السلام وقتادة مبصرة، وهي نحو: مجنبة ومنحلة أي: مكانا يكثر فيه التبصرة.

الواو في وَ اِسْتَيْقَنَتْهٰا واو الحال، و (قد) مضمرة، والعلو: الكبر والترفع عن الإيمان بما جاء به موسى، كقوله: وَ كٰانُوا قَوْماً عٰالِينَ فَقٰالُوا أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنٰا وَ قَوْمُهُمٰا لَنٰا عٰابِدُونَ (1). والمعنى: جحدوها بألسنتهم واستيقنوها في قلوبهم، والاستيقان أبلغ من الإيقان.

[سورة النمل (27): الآیات 15 الی 19]

وَ لَقَدْ آتَيْنٰا دٰاوُدَ وَ سُلَيْمٰانَ عِلْماً وَ قٰالاَ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي فَضَّلَنٰا عَلىٰ كَثِيرٍ مِنْ عِبٰادِهِ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ وَرِثَ سُلَيْمٰانُ دٰاوُدَ وَ قٰالَ يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ عُلِّمْنٰا مَنْطِقَ اَلطَّيْرِ وَ أُوتِينٰا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ إِنَّ هٰذٰا لَهُوَ اَلْفَضْلُ اَلْمُبِينُ وَ حُشِرَ لِسُلَيْمٰانَ جُنُودُهُ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ وَ اَلطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتّٰى إِذٰا أَتَوْا عَلىٰ وٰادِ اَلنَّمْلِ قٰالَتْ نَمْلَةٌ يٰا أَيُّهَا اَلنَّمْلُ اُدْخُلُوا مَسٰاكِنَكُمْ لاٰ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمٰانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لاٰ يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضٰاحِكاً مِنْ قَوْلِهٰا وَ قٰالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ اَلَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلىٰ وٰالِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صٰالِحاً تَرْضٰاهُ وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبٰادِكَ اَلصّٰالِحِينَ

أي: عِلْماً جليلا سنيا، أو كثيرا من العلم، أي: آتيناهما علما فعملا به و علماه وَ قٰالاَ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي فَضَّلَنٰا عَلىٰ كَثِيرٍ مِنْ عِبٰادِهِ اَلْمُؤْمِنِينَ وفي هذا دلالة علي

ص: 169


1- المؤمنون: 46، 47.

شرف العلم وفضله وتقدّم أهله، وأنّ نعمة العلم من أجلّ النعم، وأنّ من أوتيه فقد أوتي فضلا علي كثير من الأمم.

وَ وَرِثَ سُلَيْمٰانُ دٰاوُدَ فيه دلالة على أنّ الأنبياء يورثون كتوريث غيرهم، لأنّ إطلاق اللفظ يقتضي ذلك.

وَ قٰالَ يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ عُلِّمْنٰا فيه تشهير لنعمة اللّه واعتراف بها، ودعاء للناس إلى التصديق بذكر المعجز الذي هو علم مَنْطِقَ اَلطَّيْرِ وغير ذلك مما أوتيه من جلائل الأمور. والمنطق: كل ما يصوّت به من المفرد والمؤلف، والذي علم سليمان من منطق الطير هو ما يفهم بعضه من بعض من معانيه وأغراضه، كما يحكى أنّه مر على بلبل في شجرة فقال: إنّه يقول: أكلت نصف ثمرة فعلي الدنيا العفاء.

وَ أُوتِينٰا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ يريد كثرة ما أوتيه إِنَّ هٰذٰا لَهُوَ اَلْفَضْلُ اَلْمُبِينُ وعن الصادق عليه السلام: (يعني الملك والنبوّة)(1).

سخّر اللّه له الريح والجن والإنس والطير، فكان إذا خرج إلى مجلسه عكف عليه الطير، وقام الجن والإنس حتى يجلس علي سريره، وكان لا يسمع بملك في ناحية من الأرض إلا أذلّه وأدخله في الإسلام. ويروي: أنّه خرج من بيت المقدس مع ستمائة ألف كرسي عن يمينه ويساره، وأمر الطير فأظلّتهم، وأمر الريح فحملتهم حتى وردت بهم المدائن، ثمّ رجع فبات في اصطخر(2)، فقال بعضهم لبعض: هل رأيتم ملكا قط [أعظم من هذا أو

ص: 170


1- لم أجده في المصادر المتوفرة.
2- أصطخر: من أقدم مدن فارس وأشهرها، بينها وبين شيراز اثنا عشر فرسخا. معجم البلدان ج 1:

سمعتم ؟ قالوا: لا، فنادي ملك من السماء: لثواب تسبيحة واحدة في اللّه](1)

أعظم مما رأيتم(2).

فَهُمْ يُوزَعُونَ أي: يحبس أوّلهم علي آخرهم بأن توقف هواديهم حتى يلحقهم تواليهم، فيكونوا مجتمعين لا يتخلّف منهم أحد، وذلك للكثرة العظيمة.

فسار سليمان بجنوده حَتّٰى إِذٰا أَتَوْا عَلىٰ وٰادِ اَلنَّمْلِ و هو واد بالطائف أو بالشام كثير النمل، وإنّما عدّي أَتَوْا ب - عَلىٰ لأنّ إتيانهم كان من فوق، أو هو من قولهم:

أتى علي الشيء: إذا أنفذه وبلغ آخره، كأنّهم أرادوا أن ينزلوا عند مقطع الوادي، لأنّهم ما دامت الريح تحملهم في الهواء لا يخاف عليهم حطمهم. ويمكن أن يكون جنود سليمان كانوا ركبانا ومشاة في ذلك الوقت ولم تحملهم الريح، أو كانت القصّة قبل أن يسخّر اللّه الريح له.

ولما كان صوت النمل مفهوما لسليمان عبّر عنه بالقول، ولما جعلت النملة قائلة والنمل مقولا لهم كما في أولي العقل أجري خطابهم مجرى خطابهم.

و لاٰ يَحْطِمَنَّكُمْ جواب الأمر أو نهي بدل من الأمر، لأن ادخلوا في مساكنكم في معنى: لا تكونوا حيث أنتم، والمراد: لا يحطمنكم جنود سليمان، فجاء بما هو أبلغ، ونحوه:

عجبت من نفسي ومن إشفاقها(3)

فَتَبَسَّمَ ضٰاحِكاً مِنْ قَوْلِهٰا أي: أخذ في الضحك، يعني: إنّه قد تجاوز حدّ التبسّم إلى الضحك، وكذلك ضحك الأنبياء، وإنّما ضحك لإعجابه بما دلّ

ص: 171


1- ساقطة من ج.
2- ينظر: العرائس: 172 وما بعدها.
3- الرجز لخليفة بن بلاد. أنساب الاشراف ج 12:384، وبقيته: ومن طرادي الطير عن أرزاقها.

من قولها علي ظهور شفقة جنوده وشهرة حالهم في التقوى حيث قالت: وَ هُمْ لاٰ يَشْعُرُونَ ، أو لسروره بما آتاه اللّه من إدراكه بسمعه ما همس به أصغر خلق اللّه و إحاطته بمعناه، ولذلك قال: رَبِّ أَوْزِعْنِي أي: اجعلني أزع شكر نعمتك عندي، وأرتبطه لا ينفلت عني، حتى لا أزال شاكرا لك وذاكرا إنعامك عَلَيَّ وَ عَلىٰ والدي بأن أكرمته بالنبوّة وغيرها، وعلى والدتي بأن زوجتها نبيّك، جعل النعمة عليهما نعمة عليه يلزمه شكرها.

وَ أَنْ أَعْمَلَ صٰالِحاً تَرْضٰاهُ استوفقه سبحانه لزيادة العمل الصالح في المستقبل.

فِي عِبٰادِكَ اَلصّٰالِحِينَ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق و من بعدهم من النبيّين، أي: أدخلني في جملتهم.

[سورة النمل (27): الآیات 20 الی 26]

وَ تَفَقَّدَ اَلطَّيْرَ فَقٰالَ مٰا لِيَ لاٰ أَرَى اَلْهُدْهُدَ أَمْ كٰانَ مِنَ اَلْغٰائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذٰاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطٰانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقٰالَ أَحَطْتُ بِمٰا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَ جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ اِمْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ لَهٰا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهٰا وَ قَوْمَهٰا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ وَ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطٰانُ أَعْمٰالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ اَلسَّبِيلِ فَهُمْ لاٰ يَهْتَدُونَ (24) أَلاّٰ يَسْجُدُوا لِلّٰهِ اَلَّذِي يُخْرِجُ اَلْخَبْ ءَ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ مٰا تُخْفُونَ وَ مٰا تُعْلِنُونَ (25) اَللّٰهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ (2(6)

أَمْ منقطعة. نظر سليمان عليه السلام إلى مكان الهدهد فلم يره، فقال: مٰا لِيَ

ص: 172

لا أراه ؟ علي معنى: أنّه لا يراه وهو حاضر، لساتر أو غيره، ثمّ لاح له أنّه غائب، فأضرب عن ذلك وأخذ يقول: أهو غائب ؟ كأنّه يسأل عن صحّة ما لاح له من غيبته، فهو نحو قولهم: إنّها لإبل أم شاء. ويروي أنّ أبا حنيفة سأل أبا عبد اللّه الصادق عليه السلام: (كيف تفقد سليمان الهدهد من بين الطير؟ فقال: لأنّ الهدهد يري الماء في بطن الأرض كما يري أحدكم الدهن في القارورة، فضحك أبو حنيفة وقال:

كيف لا يري الفخ في التراب ويري الماء في بطن الأرض ؟! قال: يا نعمان، أو ما علمت أنّه إذا نزل القدر غشي البصر)(1).

لَأُعَذِّبَنَّهُ بنتف ريشه وتشميسه، وقيل: بالتفريق بينه وبين إلفه. وقرئ:

ليأتينني - بنونين أوّلهما مشددة -، وبنون واحدة مشددة. والسلطان: الحجّة والعذر.

قرئ: فَمَكَثَ بفتح الكاف وضمها، غَيْرَ بَعِيدٍ كقولك: عن قريب. وصف مكثه بقصر المدة للدلالة علي إسراعه خوفا من سليمان وتسخيره له.

وقرئ: أَحَطْتُ بإدغام الطاء بالتاء بإطباق وبغير إطباق. وعن ابن عباس: (فأتاه الهدهد بحجّة وعذر فقال: اطلعت علي ما لم تطلع عليه وجئتك بخبر صادق لم تعلمه)(2). ألهم اللّه الهدهد فكافحه بهذا الكلام مع ما أوتي من العلوم الكثيرة، ابتلاء له في علمه وتنبيها له علي أنّ في أدنى خلقه من أحاط بِمٰا لَمْ تُحِطْ بِهِ ليكون لطفا له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء.

وقرئ: سَبَإٍ بالهمزة منونا وغير منون على منع الصرف، وسبا - با لألف -،

ص: 173


1- مجمع البيان ج 7-8:217 عن العياشي.
2- الدر المنثور ج 5:105.

ومثله في سورة سبأ: لَقَدْ كٰانَ لِسَبَإٍ (1)، وهو: سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، فمن جعله اسما للقبيلة لم يصرفه، ومن جعله اسما للحي أو الأب الأكبر صرفه، ثمّ سمّيت مدينة مأرب ب - (سبأ)، وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيّام، كما سمّيت مغافر ب - (مغافر بن أد). والنبأ: الخبر الذي له شأن.

وَجَدْتُ اِمْرَأَةً وهي بلقيس بنت شراحيل أو شرحيل، وكان أبوها ملك أرض اليمن كلها.

وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مما يحتاج إليه الملوك من زينة الدنيا وَ لَهٰا عَرْشٌ عَظِيمٌ سرير أعظم من سريرك، مقدّمه من ذهب مرصع بالياقوت الأحمر والزمرد الأخضر، ومؤخره من فضة، وكان عليه سبعة أبيات علي كل بيت باب مغلق. وقال أبو مسلم(2): أراد بالعرش الملك(3).

وقرئ: أَلاّٰ يَسْجُدُوا بالتشديد علي أنّ المراد: فصدّهم الشيطان عن السبيل لأن لا يسجدوا، فحذف الجار، وقرئ بالتخفيف وهو ألا يا اسجدوا:

(ألا) للتنبيه، و (يا) حرف النداء، والمنادي محذوف، كما حذفه من قال:

ألا يا اسلمي...(4)

اَلَّذِي يُخْرِجُ اَلْخَبْ ءَ أي: المخبوء، سمّاه بالمصدر، وهو النبات والمطر

ص: 174


1- سبأ: 15.
2- أبو مسلم محمّد بن بحر الاصبهاني، الكاتب المترسل الجدلي المعتزلي، له جامع التأويل لمحكم التنزيل على مذهب الاعتزال وغيره، ولد سنة 254 ه -، وتوفي سنة 322 ه -. الوافي بالوفيات ج 2: 175.
3- تفسير الماوردي ج 4:204.
4- ديوان شعر ذي الرمة: 206 وتمامه: ألا يا اسلمي يا دار ميّ على البلى ولا زال منهلّا بجرعائك القطر.

وغيرهما مما خبأه عزّ وجل من غيوبه، وقرئ: اَلْخَبْ ءَ بتخفيف الهمزة بالحذف.

وقيل: إنّ الجميع من قوله: أَحَطْتُ إلى قوله: اَلْعَظِيمِ من كلام الهدهد(1)، وقيل: أَلاّٰ يَسْجُدُوا إلي اخره كلام ربّ العزّة، أمر جميع خلقه بالسجود(2).

وفي إحدى القراءتين أمر بالسجود وفي الأخرى ذم لتاركه، فسجدة التلاوة مسنونة في كلتيهما، وإذا خفّف فالوقف علي لاٰ يَهْتَدُونَ ، و من شدّد لم يقف إلا علي اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ .

وقرئ: تُخْفُونَ و تُعْلِنُونَ بالتاء.

[سورة النمل (27): الآیات 27 الی 37]

قٰالَ سَنَنْظُرُ أَ صَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ اَلْكٰاذِبِينَ اِذْهَبْ بِكِتٰابِي هٰذٰا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مٰا ذٰا يَرْجِعُونَ قٰالَتْ يٰا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتٰابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمٰانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ أَلاّٰ تَعْلُوا عَلَيَّ وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ قٰالَتْ يٰا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مٰا كُنْتُ قٰاطِعَةً أَمْراً حَتّٰى تَشْهَدُونِ قٰالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَ أُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَ اَلْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مٰا ذٰا تَأْمُرِينَ قٰالَتْ إِنَّ اَلْمُلُوكَ إِذٰا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهٰا وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهٰا أَذِلَّةً وَ كَذٰلِكَ يَفْعَلُونَ وَ إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنٰاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ اَلْمُرْسَلُونَ فَلَمّٰا جٰاءَ سُلَيْمٰانَ قٰالَ أَ تُمِدُّونَنِ بِمٰالٍ فَمٰا آتٰانِيَ اَللّٰهُ خَيْرٌ مِمّٰا آتٰاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ اِرْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لاٰ قِبَلَ لَهُمْ بِهٰا وَ لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهٰا أَذِلَّةً وَ هُمْ صٰاغِرُونَ

سَنَنْظُرُ هو من النظر بمعنى الفكر والتأمل، والمراد أَ صَدَقْتَ أَمْ

ص: 175


1- عن ابن زيد. تفسير الطبري ج 19:94.
2- عن أبي عبيد. معالم التنزيل ج 3:115.

كذبت، إلا أنّ قوله: أَمْ كُنْتَ مِنَ اَلْكٰاذِبِينَ أبلغ.

تَوَلَّ عَنْهُمْ تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه ليكون ما يقولونه يسمع منك.

مٰا ذٰا يَرْجِعُونَ أي: ماذا يردّون من الجواب، ومنه قوله تعالي: يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلىٰ بَعْضٍ اَلْقَوْلَ (1) قيل: دخل عليها من الكوة(2) فألقى الكتاب إليها وتوارى في الكوة(3).

وفي الكلام اختصار كثير، أي: فمضى الهدهد وألقى إليهم الكتاب، فلما قرأته بلقيس قٰالَتْ لقومها بعد أن جمعتهم: يٰا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ يعني: الأشراف إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتٰابٌ كَرِيمٌ وصفته بالكرم لأنّه من عند ملك كريم، أو كتاب حسن مضمونه وما فيه، أو مختوم لقوله عليه السلام: (كرم الكتاب ختمه)(4)، أو لأنه صدّره ب - (بسم اللّه الرحمن الرحيم).

إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمٰانَ استئناف و تبيين لما ألقي إليها، كأنّه قيل لها: ممن هو، وما هو؟ فقالت: إنّه من سليمان.

و (أن) في أَلاّٰ تَعْلُوا مفسّرة، والمعنى: لا تتكبروا كما يفعل الملوك وَ أْتُونِي منقادين مستسلمين، أو مؤمنين.

الفتوى: الجواب في الحادثة، وأرادت أن يشيروا عليها بما عندهم فيما حدث لها من الرأي والتدبير، وقصدت بالرجوع إلى استشارتهم استعطافهم ليوافقوها

ص: 176


1- سبأ: 31.
2- الكوة: نقب البيت. (الصحاح: مادة كوى)
3- عن قتادة وغيره. تفسير الطبري ج 19:95.
4- الكشف والبيان ج 7:206 بالمعنى.

ويقوموا معها.

قٰاطِعَةً أَمْراً أي: فاصلة، لا أقطع أمرا إلا بحضوركم.

[نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ في الأجساد والآلات والعدد وَ أُولُوا بَأْسٍ : أي نجدة وبلاء في الحرب.

وَ اَلْأَمْرُ موكول إِلَيْكِ ](1) ونحن مطيعون لك، فمرينا بأمرك نطع أمرك ونتبع رأيك. فمالت إلي الصلح ورأت الابتداء بالأحسن، وذكرت في الجواب لهم عاقبة الحرب وسوء مغبّتها(2)، و إِنَّ اَلْمُلُوكَ إِذٰا دَخَلُوا قَرْيَةً قسرا وعنوة خرّبوها، وأذلّوا أعزّتها، وقتلوا وأسروا، ثمّ قا لت: وَ كَذٰلِكَ يَفْعَلُونَ أي: وهذه عادتهم المستمرة الثابتة التي لا تتغير، وقيل: هو تصديق من اللّه سبحانه لقولها(3).

ثمّ ذكرت حديث الهدية، وما رأت من الرأي في ذلك، أي: مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ رسلا بِهَدِيَّةٍ أمانعه بذلك عن ملكي.

فَنٰاظِرَةٌ أي: فمنتظرة ما يكون منه حتى أعمل علي حسب ذلك.

وقرئ: أَ تُمِدُّونَنِ بحذف الياء والاجتزاء بالكسرة، والهدية اسم المهدي، كما أنّ العطية اسم المعطى، فيضاف إلي المهدي والمهدى له، والمضاف إليه في قوله:

بِهَدِيَّتِكُمْ هو المهدى إليه، والمعنى: إنّ ما عندي خير مما عندكم، وذلك أن اللّه عزّ اسمه آتاني مالا مزيد عليه، فلا يمدّ مثلي بمال بَلْ أَنْتُمْ قوم لا تعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا، فلذلك تَفْرَحُونَ بما تزادون ويهدى إليكم، لأنّ ذلك مبلغ همتكم، وليس حالي كحالكم، فما أرضى منكم بشيء إلا بالإيمان.

ص: 177


1- ساقطة من ج.
2- المغبّة: العاقبة. (لسان العرب: مادة غبب)
3- عن ابن عباس. تفسير الطبري ج 19:97.

ولما أنكر عليهم إمداده بالمال أضرب عن ذلك إلي بيان السبب الذي حملهم عليه. ويجوز أن تكون الهدية مضافة إلى المهدي، أي: بل أنتم بهديتكم هذه التي أهديتموها تفرحون.

اِرْجِعْ خطاب للرسول.

لاٰ قِبَلَ لَهُمْ بِهٰا أي: لا طاقة، وحقيقته: المقابلة والمقاومة، والمعنى: لا يقدرون أن يقابلوهم.

مِنْهٰا من أرضها ومملكتها وهم ذليلون بذهاب ما كانوا فيه من العزّ والملك.

صٰاغِرُونَ بوقوعهم في الاستعباد والأسر.

[سورة النمل (27): الآیات 38 الی 44]

قٰالَ يٰا أَيُّهَا اَلْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهٰا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قٰالَ عِفْرِيتٌ مِنَ اَلْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقٰامِكَ وَ إِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قٰالَ اَلَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ اَلْكِتٰابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمّٰا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قٰالَ هٰذٰا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّمٰا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ قٰالَ نَكِّرُوا لَهٰا عَرْشَهٰا نَنْظُرْ أَ تَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ اَلَّذِينَ لاٰ يَهْتَدُونَ فَلَمّٰا جٰاءَتْ قِيلَ أَ هٰكَذٰا عَرْشُكِ قٰالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَ أُوتِينَا اَلْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهٰا وَ كُنّٰا مُسْلِمِينَ وَ صَدَّهٰا مٰا كٰانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ إِنَّهٰا كٰانَتْ مِنْ قَوْمٍ كٰافِرِينَ قِيلَ لَهَا اُدْخُلِي اَلصَّرْحَ فَلَمّٰا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَ كَشَفَتْ عَنْ سٰاقَيْهٰا قٰالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوٰارِيرَ قٰالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمٰانَ لِلّٰهِ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ

يروى أنّها أمرت عند خروجها إلى سليمان فجعل عرشها في آخر سبعة

ص: 178

أبيات، و وكّلت به حرسا يحفظونه، فأراد سليمان أن يريها بعض ما يخصّه به اللّه تعالى من المعجزات الشاهدة لنبوّته(1). وعن الباقر عليه السلام: قال عفريت من عفاريت الجن. والعفريت: المارد القوي الداهي.

مِنْ مَقٰامِكَ أي: مجلسك الذي تقضي فيه وَ إِنِّي علي الإتيان به لَقَوِيٌّ أَمِينٌ آتي به كما هو لا أبدّله.

و اَلَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ اَلْكِتٰابِ وزير سليمان وابن أخته، وهو آصف بن برخيا، وكان يعرف اسم اللّه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وهو قوله: يا إلهنا وإله كل شئ، إلها واحدا لا إله إلا أنت، وقيل هو: يا حي يا قيوم، وبالعبرانية: آهيا شراهيا(2)، وقيل هو: يا ذا الجلال والإكرام(3). وقيل: الذي عنده علم من الكتاب ملك أيد اللّه به سليمان(4)، وقيل: هو جبرئيل، والكتاب هو اللوح(5)، وقيل: هو من جنس كتب اللّه المنزلة علي أنبيائه، وقيل: هو علم الوحي والشرائع.

وقوله: آتِيكَ في الموضعين يجوز أن يكون فعلا واسم فاعل.

الطرف: تحريكك أجفانك إذا نظرت، فوضع موضع النظر، ولما كان الناظر موصوفا بإرسال الطرف في نحو قوله:

وكنت إذا أرسلت طرفك رائدا *** لقلبك يوما أتعبتك المناظر(6)

ص: 179


1- تفسير الطبري ج 19:100.
2- عن الكلبي. معالم التنزيل ج 3:118.
3- عن مجاهد. تفسير الطبري ج 19:102.
4- عن ابن بحر. تفسير الماوردي ج 4:213.
5- تفسير السمرقندي ج 2:583.
6- ديوان الحماسة: 372 دون نسبة، وفيه: وكنت متى....

وصف بردّ الطرف، ووصف الطرف بالارتداد، فعلي هذا يكون معنى قوله: قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ إنّك ترسل طرفك إلي شيء فقبل أن تردّه أبصرت العرش بين يديك. وروي: أنّ آصف قال لسليمان: مدّ عينيك حتى ينتهي طرفك، فمدّ عينيه فنظر نحو اليمن، ودعا آصف فغار العرش في مكانه بمأرب ثمّ نبع عند مجلس سليمان بالشام بقدرة اللّه قبل أن يرتدّ طرفه(1).

وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّمٰا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لأنّه يرتبط به النعمة، ويحط به عن نفسه عبء الواجب، ويستوجب المزيد.

ربي غني عن الشكر كَرِيمٌ بالإنعام علي الشاكر والكافر.

نَكِّرُوا لَهٰا عَرْشَهٰا اجعلوه متنكرا متغيرا عن شكله، أراد بذلك اعتبار عقلها.

نَنْظُرْ أَ تَهْتَدِي لمعرفته، أو للجواب علي الصواب إذا سئلت عنه، أو للدين والإيمان بنبوّة سليمان إذا رأت تلك المعجزة.

أَ هٰكَذٰا أربع كلمات: حرف الاستفهام، وحرف التنبيه، وكاف التشبيه، واسم الإشارة. أي: أمثل هذا عرشك ؟ ولم يقل: أهذا عرشك ؟ لئلا يكون تلقينا.

قٰالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ ولم تقل هو هو ولا ليس هو، وذلك من رجاحة عقلها، إذ لم تقطع في موضع الاحتمال.

وَ أُوتِينَا اَلْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهٰا قيل: هو من كلام بلقيس(2) أي: وأوتينا العلم باللّه وبقدرته وبصحّة نبوّة [سليمان من قبل هذه المعجزة، أو من قبل هذه الحالة، وقيل:

ص: 180


1- تفسير الطبري ج 19:103.
2- معالم التنزيل ج 3:119.

هو من كلام](1) سليمان وقومه(2) أي: وأوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة قبل مجيئها، أو أوتينا العلم باللّه وبقدرته قبل علمها ولم نزل علي دين الإسلام.

وَ صَدَّهٰا عن التقدّم إلي الإسلام عبادة الشمس ونشوؤها بين الكفار، وقيل: صدّها اللّه أو سليمان عما كٰانَتْ تَعْبُدُ بتقدير حذف الجار وإيصال الفعل(3).

والصرح: القصر، والممرد: المملس، وقيل: الصرح: الموضع البسيط المنكشف من غير سقف(4)، أمر سليمان الشياطين ببنائه وأجري تحته الماء، ثمّ وضع له فيه سرير فجلس عليه فَلَمّٰا رَأَتْهُ بلقيس حَسِبَتْهُ لُجَّةً وهي معظم الماء وَ كَشَفَتْ عَنْ سٰاقَيْهٰا لدخول الماء، فقال لها سليمان: إِنَّهُ صَرْحٌ مملس مِنْ قَوٰارِيرَ وليس بماء.

ظَلَمْتُ نَفْسِي يريد بكفرها فيما تقدّم.

[سورة النمل (27): الآیات 45 الی 50]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنٰا إِلىٰ ثَمُودَ أَخٰاهُمْ صٰالِحاً أَنِ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ فَإِذٰا هُمْ فَرِيقٰانِ يَخْتَصِمُونَ قٰالَ يٰا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ اَلْحَسَنَةِ لَوْ لاٰ تَسْتَغْفِرُونَ اَللّٰهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قٰالُوا اِطَّيَّرْنٰا بِكَ وَ بِمَنْ مَعَكَ قٰالَ طٰائِرُكُمْ عِنْدَ اَللّٰهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ وَ كٰانَ فِي اَلْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ يُصْلِحُونَ قٰالُوا تَقٰاسَمُوا بِاللّٰهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَ أَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مٰا شَهِدْنٰا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَ إِنّٰا لَصٰادِقُونَ وَ مَكَرُوا مَكْراً وَ مَكَرْنٰا مَكْراً وَ هُمْ

ص: 181


1- ساقطة من ج.
2- عن مجاهد. تفسير الطبري ج 19:105.
3- إعراب القرآن ج 3:213.
4- عن ابن عيسى. تفسير الماوردي ج 4:216.

[سورة النمل (27): الآیات 50 الی 53]

لاٰ يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنّٰا دَمَّرْنٰاهُمْ وَ قَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خٰاوِيَةً بِمٰا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَ أَنْجَيْنَا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كٰانُوا يَتَّقُونَ

هُمْ فَرِيقٰانِ مبتدأ وخبر، و إِذٰا خبر ثان، و يَخْتَصِمُونَ حال أو صفة ل - فَرِيقٰانِ أي: فريق مؤمن وفريق كافر، يقول كل فريق: الحقّ معي.

والسيئة: العقوبة، والحسنة: التوبة من الشرك، ومعنى استعجالهم بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ اَلْحَسَنَةِ أنّهم قالوا: إن كان ما أتيتنا به حقّا فأتنا بالعذاب.

هلا تَسْتَغْفِرُونَ اَللّٰهَ من الشرك بأن تؤمنوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فلا تعذّبون في الدنيا.

اِطَّيَّرْنٰا أي: تطيّرنا بك، ومعناه: تشاءمنا بك وبمن علي دينك، وكانوا قد قحطوا.

قٰالَ طٰائِرُكُمْ عِنْدَ اَللّٰهِ أي: سببكم الذي يجيء منه خيركم وشرّكم عند اللّه، وهو قدره وقسمه، إن شاء رزقكم وإن شاء حرمكم. ويجوز أن يريد عملكم مكتوب عند اللّه فمنه نزل بكم ما نزل عقوبة لكم وابتلاء، ومنه قوله: طٰائِرُكُمْ مَعَكُمْ (1)، وَ كُلَّ إِنسٰانٍ أَلْزَمْنٰاهُ طٰائِرَهُ فِي عُنُقِهِ (2).

بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ تختبرون وتبتلون أو تعذّبون.

وَ كٰانَ فِي اَلْمَدِينَةِ التي بها صالح، وهي الحجر تِسْعَةُ أنفس سعوا في

ص: 182


1- يس: 19.
2- الإسراء: 13.

عقر الناقة، وكانوا عتاة قوم صالح ومن أبناء أشرافهم، أي: شأنهم الإفساد البحت الذي لا يختلط بشيء من الصلاح.

تَقٰاسَمُوا يجوز أن يكون أمرا، و يجوز أن يكون خبرا في محلّ الحال بإضمار (قد) أي: قالوا متقاسمين: لَنُبَيِّتَنَّهُ أي: لنقتلن صالحا وأهله، و قرئ: لتبيّتنّه - بالتاء وضم التاء الثانية - ثمّ لتقولن، وعلي هذا يكون تَقٰاسَمُوا أمرا لا غير، والتقاسم: التحالف، والبيات: مباغتة العدو ليلا. وقرئ: مهلك من الهلاك، ومهلك من الإهلاك.

وَ مَكَرُوا مَكْراً بأن أخفوا تدبير الفتك بصالح وأهله وَ مَكَرْنٰا بإهلاكهم من حيث لاٰ يَشْعُرُونَ ، شبّهه بمكر الماكر علي سبيل الاستعارة.

أَنّٰا دَمَّرْنٰاهُمْ استئناف، ومن قرأ بالفتح رفعه بدلا من عٰاقِبَةُ ، أو علي أنّه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هي تدميرهم، أو نصبه علي خبر كٰانَ أي:

كان عاقبة مكرهم الدمار، أو علي معنى (لا نا).

و خٰاوِيَةً نصب علي الحال من معنى الإشارة، أي: فارغة خالية بظلمهم وكفرهم. وعن ابن عباس: (أجد في كتاب اللّه عزّ اسمه أنّ الظلم يخرب البيوت، وتلا هذه الآية)(1).

[سورة النمل (27): الآیات 54 الی 56]

وَ لُوطاً إِذْ قٰالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ اَلْفٰاحِشَةَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلرِّجٰالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ اَلنِّسٰاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ فَمٰا كٰانَ جَوٰابَ قَوْمِهِ إِلاّٰ أَنْ قٰالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنٰاسٌ يَتَطَهَّرُونَ

ص: 183


1- مجمع البيان ج 7-8:227.

[سورة النمل (27): الآیات 57 الی 58]

فَأَنْجَيْنٰاهُ وَ أَهْلَهُ إِلاّٰ اِمْرَأَتَهُ قَدَّرْنٰاهٰا مِنَ اَلْغٰابِرِينَ وَ أَمْطَرْنٰا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسٰاءَ مَطَرُ اَلْمُنْذَرِينَ

و أرسلنا لوطا.

وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ من: بصر القلب، أي: تعلمون أنّها فاحشة لم تسبقوا إليها، أو تبصرونها لأنّهم كانوا يرتكبون ذلك معالنين به، لا يستتر بعضهم من بعض خلاعة و مجانة، أو تبصرون آثار العصاة قبلكم وما نزل بهم.

تَجْهَلُونَ تفعلون فعل الجاهلين بأنّها فاحشة مع علمكم بذلك، أو تجهلون العاقبة.

يَتَطَهَّرُونَ يتنزهون عن هذا الفعل وينكرونه، وعن ابن عباس: (هو استهزاء)(1).

أي: قدّرنا كونها مِنَ اَلْغٰابِرِينَ أي: الباقين في العذاب، فالتقدير واقع علي الغبور في المعنى.

[سورة النمل (27): الآیات 59 الی 62]

قُلِ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ وَ سَلاٰمٌ عَلىٰ عِبٰادِهِ اَلَّذِينَ اِصْطَفىٰ آللّٰهُ خَيْرٌ أَمّٰا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً فَأَنْبَتْنٰا بِهِ حَدٰائِقَ ذٰاتَ بَهْجَةٍ مٰا كٰانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهٰا أَ إِلٰهٌ مَعَ اَللّٰهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ اَلْأَرْضَ قَرٰاراً وَ جَعَلَ خِلاٰلَهٰا أَنْهٰاراً وَ جَعَلَ لَهٰا رَوٰاسِيَ وَ جَعَلَ بَيْنَ اَلْبَحْرَيْنِ حٰاجِزاً أَ إِلٰهٌ مَعَ اَللّٰهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ (6(1) أَمَّنْ يُجِيبُ اَلْمُضْطَرَّ إِذٰا دَعٰاهُ وَ يَكْشِفُ اَلسُّوءَ وَ يَجْعَلُكُمْ

ص: 184


1- الكشاف ج 3:374.

[سورة النمل (27): الآیات 62 الی 65]

خُلَفٰاءَ اَلْأَرْضِ أَ إِلٰهٌ مَعَ اَللّٰهِ قَلِيلاً مٰا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمٰاتِ اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ وَ مَنْ يُرْسِلُ اَلرِّيٰاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَ إِلٰهٌ مَعَ اَللّٰهِ تَعٰالَى اَللّٰهُ عَمّٰا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ أَ إِلٰهٌ مَعَ اَللّٰهِ قُلْ هٰاتُوا بُرْهٰانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ قُلْ لاٰ يَعْلَمُ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ اَلْغَيْبَ إِلاَّ اَللّٰهُ وَ مٰا يَشْعُرُونَ أَيّٰانَ يُبْعَثُونَ

فيه بعث علي الاستفتاح بالتحميد والسلام علي المصطفين من عباده، والتيمّن بالذكرين، والاستظهار بهما علي قبول ما يلقى إلى السامعين، وقيل: اتصل بما قبله إذا جعل تحميدا علي الهالكين من كفار الأمم، والصلاة علي الأنبياء وأشياعهم الناجين(1). وعنهم عليهم السلام: (إنّ اَلَّذِينَ اِصْطَفىٰ : محمّد و آله عليهم السلام)(2).

آللّٰهُ خَيْرٌ لمن عبده أم الأصنام لعابديها؟ وهذا إلزام للحجّة علي المشركين بعد ذكر هلاك الكفار. وعن الصادق عليه السلام: يقول إذا قرأها: (اللّه خير - ثلاث مرات -)(3).

و (أم) في أَمّٰا يُشْرِكُونَ متصلة، والمعنى: أيّهما خير؟ وهي في: أَمَّنْ خَلَقَ منقطعة، والمعنى: بل أم من خلق السماوات والأرض خير. وفيه تقرير لهم بأنّ من قدر علي خلق العالم خير من جماد لا يقدر علي شيء.

وفي قوله: فَأَنْبَتْنٰا بِهِ و انتقاله إلى التكلّم عن ذاته بعد الإخبار عن الغيبة

ص: 185


1- معالم التنزيل ج 3:121.
2- تفسير القمي ج 2:129.
3- تهذيب الأحكام ج 2:297.

علي طريقة الالتفات، تأكيد لمعنى اختصاص الفعل بذاته، وأنّه لا يقدر على إنبات الحدائق مع بهجتها و بهائها إلا هو وحده. ألا تري كيف رشح معنى الاختصاص بقوله: مٰا كٰانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهٰا ومعنى الكينونة: الابتغاء، يعني:

أن تأتي ذلك من غيره محال، وكذلك قوله: بَلْ هُمْ بعد الخطاب أبلغ في تخطئة رأيهم.

والحديقة: البستان عليه حائط، من قولهم: أحدقوا به أي: أحاطوا به.

و ذٰاتَ بَهْجَةٍ بمعنى: جماعة حدائق ذات بهجة، كما يقال: النساء ذهبت، والبهجة: الحسن لأنّ الناظر يبتهج به.

أَ إِلٰهٌ مَعَ اَللّٰهِ أغيره يقرن به ويجعل شريكا له ؟ ولك أن تحقّق الهمزتين وتوسط بينهما مدة، وأن تخرج الثانية بين بين.

يَعْدِلُونَ [به غيره، أو يعدلون](1) عن الحقّ والتوحيد.

أَمَّنْ جَعَلَ وما بعده بدل من أَمَّنْ خَلَقَ وحكمها حكمه.

قَرٰاراً سوّاها للاستقرار عليها.

حٰاجِزاً أي: برزخا.

الاضطرار: افتعال من الضرورة، والمضطر: الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الأيّام إلى التضرّع إلي اللّه تعالي، يقال: اضطره إلى كذا، والفاعل وا لمفعول: مضطر.

وَ يَكْشِفُ اَلسُّوءَ أي: الشدّة وكل ما يسوء.

وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفٰاءَ اَلْأَرْضِ خلفاء فيها، تتوارثون التصرّف فيها خلفا

ص: 186


1- ساقطة من ج.

بعد سلف وقرنا بعد قرن، أو أراد بالخلافة الملك والتسلط.

و مٰا مزيدة أي: يذكّرون تذكيرا قليلا، والمعنى: نفي التذكّر. و قرئ بالياء مع الإدغام، وبالتاء مع الإدغام والحذف.

أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ بالنجوم في السماء، وبالعلامات في الأرض إذا جنّ عليكم الليل وأنتم مسافرون في البحر والبر؟.

أَمَّنْ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ أقرّوا بالابتداء والإنشاء فيلزمهم الإقرار بالإعادة بعد الفناء.

مِنَ اَلسَّمٰاءِ بإنزال الأمطار ومن اَلْأَرْضِ بالنبات و الثمار. وجاء قوله:

إِلاَّ اَللّٰهُ علي لغة بني تميم في قولهم: ما أتاني زيد إلا عمرو، وقول الشاعر:

وبلدة ليس بها أنيس *** إلّا اليعافير و إلّا العيس(1)

وإنّما اختير هذا ليؤول المعنى إلى قولك: إن كان اللّه ممن في السماوات والأرض ففيهم من يعلم الغيب، كما كان المعنى في البيت: إن كانت اليعافير أنيسا، ففيها أنيس.

أَيّٰانَ بمعنى متى.

[سورة النمل (27): الآیات 66 الی 70]

بَلِ اِدّٰارَكَ عِلْمُهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهٰا بَلْ هُمْ مِنْهٰا عَمُونَ وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَ إِذٰا كُنّٰا تُرٰاباً وَ آبٰاؤُنٰا أَ إِنّٰا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنٰا هٰذٰا نَحْنُ وَ آبٰاؤُنٰا مِنْ قَبْلُ إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ أَسٰاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ قُلْ سِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلْمُجْرِمِينَ وَ لاٰ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ

ص: 187


1- ديوان جران العود: 97، وفيه: بسابسا ليس به....

[سورة النمل (27): الآیات 70 الی 75]

وَ لاٰ تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمّٰا يَمْكُرُونَ وَ يَقُولُونَ مَتىٰ هٰذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ قُلْ عَسىٰ أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ اَلَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى اَلنّٰاسِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاٰ يَشْكُرُونَ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مٰا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ مٰا يُعْلِنُونَ وَ مٰا مِنْ غٰائِبَةٍ فِي اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ

قرئ: بَلِ اِدّٰارَكَ و ادّرك، وأصل ادّارك: تدارك فأدغمت التاء في الدال، وادّرك افتعل. ومعنى: ادّرك عِلْمُهُمْ : انتهى و تكامل، و اِدّٰارَكَ : تتابع و استحكم، يعني: إنّ أسباب استحكام علمهم وتكاملهم بأنّ القيامة كائنة لا ريب فيها قد حصلت لهم، ومكّنوا منها و من معرفتها، وهم شاكون جاهلون، وذلك قوله: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهٰا بَلْ هُمْ مِنْهٰا عَمُونَ يريد المشركين ممن في السماوات والأرض، لأنّهم لما كانوا في جملتهم نسب فعلهم إلى الجميع، كما يقال:

بنو فلان فعلوا كذا، وإنّما فعله ناس منهم.

ووجه آخر وهو: أن يكون ادّرك بمعنى انتهى وفني، من قولك: أدركت الثمرة، لأنّ تلك غايتها التي عندها تعدم، وقد فسّره الحسن ب - (اضمحل علمهم)(1).

وتدارك: من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك. ومعنى الإضراب ثلاث مرات أنّه وصفهم أوّلا بأنّهم لا يشعرون وقت البعث، ثمّ بأنّهم لا يعلمون بأنّ القيامة كائنة، ثمّ بأنّهم فِي شَكٍّ يستطيعون إزالته ولا يزيلونه، ثمّ بما هو أسوأ حالا وهو العمى، وجعل الآخرة مبدأ عماهم فلذلك عدّاه ب - (من) دون (عن)، لأنّ الكفر بالعاقبة هو الذي جعلهم كالبهائم لا يتدبرون.

ص: 188


1- تفسير الماوردي ج 4:224.

والعامل في (إذا) ما دلّ عليه أَ إِنّٰا لَمُخْرَجُونَ و هو يخرج، لأنّ بين يدي (عمل) اسم فاعل فيه موانع من العمل، وهي: همزة الاستفهام، وإن، ولام الابتداء، و واحدة منها كافية فكيف إذا اجتمع الجميع. والمراد الإخراج من الأرض أو من حال الفناء إلي الحياة، وتكرير حرف الاستفهام بإدخاله علي (إذا) و (إن) جميعا إنكار علي إنكار، وجحود بعد جحود، و الضمير في (إنا) لهم و لآبائهم، لأنّ كونهم تُرٰاباً قد تناولهم و آباءهم. فانظر كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلْمُجْرِمِينَ أي: الكافرين.

وَ لاٰ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ لأنّهم لم يتبعوك، والمراد لم يسلموا وَ لاٰ تَكُنْ فِي حرج صدر من مكرهم وكيدهم، ولا تبال بذلك، فإنّ الله يعصمك منهم، يقال: ضاق الشيء ضيقا بالفتح والكسر، وقد قرئ بهما جميعا.

استعجلوا العذاب الموعود، فقيل لهم: عَسىٰ أَنْ يَكُونَ ردفكم بعضه وهو عذاب يوم بدر، فزيدت اللام للتأكيد كما زيدت الباء في وَ لاٰ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ (1)، أو ضمّن رَدِفَ معنى فعل يتعدّي باللام نحو: دنا لكم، وأزف لكم، والمعنى:

تبعكم ولحقكم. و (عسى) و (لعل) و (سوف) في وعد الملوك ووعيدهم يدلّ علي صدق الأمر وجدّه، يعنون بذلك أنّهم لا يعجلون بالانتقام لوثوقهم بغلبتهم، و بأنّ الأمر لا يفوتهم.

والفضل: الإفضال أي: هو مفضل عليهم بتأخير العقوبة، وأكثرهم لا يعرفون حقّ النعمة فيه ولا يشكرونه.

كننت الشيء و أكننته: سترته، أي: يعلم ما يخفون وما يعلنون من عداوة رسول اللّه وكيده، وهو معاقبهم علي ذلك علي حسب استحقاقهم.

التاء في الغائبة والخافية بمنزلتها في العاقبة والعافية، والمعنى: الشيء

ص: 189


1- البقرة: 195.

الذي يغيب ويخفى، وهما اسمان، ويجوز أن يكونا صفتين، والتاء تكون للمبالغة ك - (الراوية) في قولهم: حماد الراوية، كأنّه قال: وما من شيء شديد الغيبوبة والخفاء إلا وقد علمه اللّه وأثبته في اللوح.

[سورة النمل (27): الآیات 76 الی 85]

إِنَّ هٰذَا اَلْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلىٰ بَنِي إِسْرٰائِيلَ أَكْثَرَ اَلَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَ إِنَّهُ لَهُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْعَلِيمُ فَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّٰهِ إِنَّكَ عَلَى اَلْحَقِّ اَلْمُبِينِ إِنَّكَ لاٰ تُسْمِعُ اَلْمَوْتىٰ وَ لاٰ تُسْمِعُ اَلصُّمَّ اَلدُّعٰاءَ إِذٰا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَ مٰا أَنْتَ بِهٰادِي اَلْعُمْيِ عَنْ ضَلاٰلَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاّٰ مَنْ يُؤْمِنُ بِآيٰاتِنٰا فَهُمْ مُسْلِمُونَ وَ إِذٰا وَقَعَ اَلْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنٰا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ اَلْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ اَلنّٰاسَ كٰانُوا بِآيٰاتِنٰا لاٰ يُوقِنُونَ وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيٰاتِنٰا فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتّٰى إِذٰا جٰاؤُ قٰالَ أَ كَذَّبْتُمْ بِآيٰاتِي وَ لَمْ تُحِيطُوا بِهٰا عِلْماً أَمّٰا ذٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَ وَقَعَ اَلْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمٰا ظَلَمُوا فَهُمْ لاٰ يَنْطِقُونَ

أي: يَقُصُّ عليهم ما اختلفوا فيه من أمر المسيح ومريم وأشياء كثيرة وقع بينهم الاختلاف فيه من الأحكام وغيرها، وكان ذلك من معجزات نبيّنا صلى الله عليه و آله و سلم، إذ كان لا يدرس كتبهم وأخبرهم بما فيها.

يَقْضِي بَيْنَهُمْ أي: بين من آمن بالقرآن ومن كفر به، أو بين المختلفين في الدين يوم القيامة.

بِحُكْمِهِ أي: بما يحكم به وهو عدله، فسمّى المحكوم به حكما، أو بحكمته.

وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ فلا يرد قضاؤه اَلْعَلِيمُ بمن يقضي له وعليه.

ص: 190

أمره بالتوكل علي اللّه وقلة المبالاة بأعداء الدين، وعلل التوكل بأنّه عَلَى اَلْحَقِّ و صاحب الحقّ حقيق بالوثوق بنصرة اللّه.

إِنَّكَ لاٰ تُسْمِعُ اَلْمَوْتىٰ و من سمع آيات اللّه وهو حي صحيح الحواس فلا تعيها أذنه، فحاله كحال الموتى الذين فقدوا مصحح السماع، رجاله كحال الصم الذين ينعق بهم فلا يسمعون.

و اَلْعُمْيِ الذين يضلون الطريق فلا يقدر أحد علي أن يجعلهم هداة بصراء إلا اللّه وحده.

وقوله: إِذٰا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ تأكيد لحال الأصم، لأنّه إذا ولى عن الداعي مدبرا كان أبعد عن إدراك صوته، وقرئ: ولا يسمع الصم، وما أنت تهدي العمي.

وهداه عن الضلال [كقوله: سقاه عن العيمة(1) أي: أبعده عنها بالسقي، وأبعده عن الضلال](2) بالهدي إِنْ تُسْمِعُ أي: ما تسمع إِلاّٰ من يطلب الحقّ ، ويعلم اللّه أنّه يؤمن بآياته ويصدق بها فَهُمْ مُسْلِمُونَ مخلصون.

وَ إِذٰا وَقَعَ اَلْقَوْلُ أي: حصل ما وعده اللّه من علامات قيام الساعة وظهور أشراطها.

أَخْرَجْنٰا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ اَلْأَرْضِ تخرج بين الصفا و المروة، فتخبر المؤمن بأنّه مؤمن والكافر بأنّه كافر. وعن حذيفة: أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال: (دابة الأرض طولها ستون ذراعا، لا يدركها طالب، ولا يفوتها هارب، فتسم المؤمن بين عينيه، وتسم الكافر بين عينيه، ومعها عصا موسى، وخاتم سليمان، فتجلو وجه المؤمن بالعصا،

ص: 191


1- العيمة: شهوة اللبن. (الصحاح: مادة عيم)
2- ساقطة من ج.

وتختم أنف الكافر بالخاتم حتى يقال: يا مؤمن، ويا كافر)(1). وروي: فتضرب المؤمن بين عينيه بعصا موسى فتنكت نكتة بيضاء فتفشو تلك النكتة في وجهه حتى يبيض لها وجهه، ويكتب بين عينيه: مؤمن، وتنكت الكافر بالخاتم فتفشو النكتة حتى يسودّ لها وجهه، ويكتب بين عينيه: كافر(2). وعن السدي: تكلّمهم ببطلان الأديان كلها سوى دين الإسلام(3). وعن محمّد بن كعب(4) قال: سئل عليّ عليه السلام عن الدابة فقال: (أما و اللّه مالها ذنب، وإنّ لها للحية)(5)، وفي هذا إشارة إلى أنّها من الإنس. وقد روي عنه عليه السلام أنّه قال: (أنا صاحب العصا والميسم)(6). وعن ابن عباس وغيره: تكلمهم من الكلم وهو الجرح، والمراد به الوسم بالعصا والخاتم، ويجوز أن يكون تكلمهم من الكلم أيضا علي معنى التكثير، يقال: فلان مكلم أي: مجرح، ويجوز أن يستدلّ بالتخفيف على أنّ المراد بالتكليم التجريح، كما فسّر لَنُحَرِّقَنَّهُ (7) بقراءة عليّ عليه السلام: لنحرقنّه، و يستدلّ بقراءة أبيّ : تنبئهم، وبقراءة ابن مسعود: تكلّمهم - بالتشديد - بأنّ الناس، علي أنّه من الكلام. وعن الباقر عليه السلام:

(كلم اللّه من قرأ تكلمهم، ولكن تكلّمهم) بالتشديد.

و قرئ: (إنّ ) بالكسر علي حكاية قول الدابة أو قوله تعالى عند ذلك، وإذا

ص: 192


1- الكشف والبيان ج 7:223.
2- الكشف والبيان ج 7:224.
3- معالم التنزيل ج 3:122.
4- أبو حمزة محمّد بن كعب بن سليم القرظي يعد من عباد أهل المدينة وعلمائهم، مات سنة 108 ه -. ينظر: مشاهير علماء الامصار: 108، معجم رجال الحديث ج 17:198.
5- تفسير الماوردي ج 4:226، التبيان ج 8:106.
6- بصائر الدرجات: 201.
7- طه: 97.

كانت حكاية لقول الدابة فمعنى بِآيٰاتِنٰا : بايات ربّنا، أو لأنّها من خواص خلق اللّه أضافت آيات اللّه إلى نفسها، كما يقول بعض خاصة الملك: بلادنا و جندنا، و ءانّما هي بلاد مولاه و جنده. والقراءة بفتح أن علي حذف الجار.

فَهُمْ يُوزَعُونَ أي: يحبس أوّلهم على اخرهم حتى يجتمعوا.

وَ يَوْمَ نَحْشُرُ منصوب بما دلّ عليه فَهُمْ يُوزَعُونَ ، لأنّ يَوْمَ هاهنا بمنزلة (إذا).

وقد استدلّ بعض الإمامية بهذه الآية علي صحّة الرجعة، وقال: إنّ المذكور فيها: يوم نحشر فيه من كل جماعة فوجا، وصفة يوم القيامة أنّه يحشر فيه الخلائق بأسرهم(1) كما قال سبحانه: وَ حَشَرْنٰاهُمْ فَلَمْ نُغٰادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (2). وورد عن آل محمّد عليهم السلام: (أنّ اللّه تعالى يحيي عند قيام المهدي عليه السلام قوما من أعدائهم قد بلغوا الغاية في ظلمهم واعتدائهم، وقوما من مخلصي أوليائهم قد ابتلوا بمعاناة كل عناء ومحنة في ولائهم، لينتقم هؤلاء من أولئك، ويتشفوا مما تجرعوه من الغموم بذلك، وينال كل من الفريقين بعض ما استحقّه من الثواب والعقاب)(3).

وهذا غير مستحيل في العقول فإنّ أحدا من المسلمين لا يشك في أنّه مقدور للّه تعالى، وقد نطق القران بوقوع أمثاله في الأمم الخالية ك - اَلَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيٰارِهِمْ وَ هُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ اَلْمَوْتِ (4)، والذي أماته الله مائة عام ثم بعثه(5).

ص: 193


1- الاعتقادات في دين الامامية: 63.
2- الكهف: 47.
3- ينظر: كتاب الإيقاظ من الهجعة: 223-280.
4- البقرة: 243.
5- البقرة: 259.

وروي عنه عليه السلام: (سيكون في أمّتي كل ما كان في بني إسرائيل، حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة)(1).

وعلي هذا فيكون المراد با لآيات: أئمّة الهدى عليهم السلام.

وقوله: وَ لَمْ تُحِيطُوا بِهٰا عِلْماً الواو للحال، فكأنّه قال: أكذبتم بها بادئ الرأي من غير فكر ونظر يؤدي إلى إحاطة العلم بكنهها، أو للعطف أي:

أجحدتموها ومع جحودكم لم تقصدوا معرفتها و تحقّقها.

أَمّٰا ذٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من غير الكفر و التكذيب بآيات اللّه، يعني: لم يكن لكم عمل في الدنيا غير ذلك.

وَ وَقَعَ اَلْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أي: غشيهم العذاب بسبب ظلمهم فشغلهم عن الاعتذار والنطق به.

[سورة النمل (27): الآیات 86 الی 92]

أَ لَمْ يَرَوْا أَنّٰا جَعَلْنَا اَللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَ اَلنَّهٰارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ إِلاّٰ مَنْ شٰاءَ اَللّٰهُ وَ كُلٌّ أَتَوْهُ دٰاخِرِينَ وَ تَرَى اَلْجِبٰالَ تَحْسَبُهٰا جٰامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ اَلسَّحٰابِ صُنْعَ اَللّٰهِ اَلَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمٰا تَفْعَلُونَ مَنْ جٰاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهٰا وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَ مَنْ جٰاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي اَلنّٰارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاّٰ مٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّمٰا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هٰذِهِ اَلْبَلْدَةِ اَلَّذِي حَرَّمَهٰا وَ لَهُ كُلُّ شَيْ ءٍ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ وَ أَنْ أَتْلُوَا اَلْقُرْآنَ فَمَنِ اِهْتَدىٰ

ص: 194


1- من لا يحضره الفقيه ج 1:130، مصنف ابن أبي شيبة ج 8:636.

[سورة النمل (27): الآیات 92 الی 93]

فَإِنَّمٰا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمٰا أَنَا مِنَ اَلْمُنْذِرِينَ وَ قُلِ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ سَيُرِيكُمْ آيٰاتِهِ فَتَعْرِفُونَهٰا وَ مٰا رَبُّكَ بِغٰافِلٍ عَمّٰا تَعْمَلُونَ

مُبْصِراً معناه: ليبصروا فيه طرق المكاسب.

فَفَزِعَ ولم يقل: فيفزع ليعلم أنّه كائن لا محالة، والمراد: أنّ أهل السماوات والأرض يفزعون عند النفخة الأولى.

إِلاّٰ مَنْ شٰاءَ اَللّٰهُ من الملائكة الذين ثبّتهم اللّه تعالى وهم: جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، وقيل: الشهداء(1). وقرئ: وكل آتوه، أي:

فاعلوه، وكلاهما محمول علي معنى كُلٌّ . و الداخر: الصاغر، ومعنى الإتيان: حضورهم الموقف بعد النفخة الثانية، ويجوز أن يكون المراد رجوعهم إلى أمره وانقيادهم له.

تَحْسَبُهٰا جٰامِدَةً من جمد في المكان إذا لم يبرح منه، تجمع الجبال وتسيّر كما تسيّر الريح السحاب، فإذا نظر إليها الناظر حسبها واقفة وَ هِيَ تَمُرُّ مرا حثيثا.

وهكذا الأجرام العظام المتكاثرة العدد إذا تحركت لا يتبين حركتها، كما قال النابغة الجعدي يصف جيشا:

بأرعن مثل الطّود تحسب أنّهم *** وقوف لحاج و الرّكاب تهملج(2)

صُنْعَ اَللّٰهِ مصدر مؤكد، و انتصابه بما دلّ عليه ما تقدّم من قوله: وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ اَلسَّحٰابِ ، وجعل هذا الصنع من جملة الأشياء التي أتى بها علي وجه الحكمة والإتقان وهو حسن الاتساق.

ص: 195


1- عن أبي هريرة مرفوعا. تفسير الطبري ج 20:13.
2- ديوان النابغة الجعدي: 49.

إِنَّهُ خَبِيرٌ بما يفعله العباد، وما يستحقّونه عليه فيجازيهم بحسب ذلك.

و قرئ: تَفْعَلُونَ بالتاء علي الخطاب.

وقرئ: من فزع يومئذ مجرورا با لإضافة، ويومئذ مفتوحا مع الإضافة لأنّه أضيف إلى غير متمكّن، ومنصوبا مع تنوين فَزَعٍ . ومن نوّن ففي انتصاب يَوْمَئِذٍ ثلاثة أوجه: أن يكون ظرفا للمصدر، وأن يكون صفة له كأنّه قال: من فزع يحدث يومئذ، وأن يتعلّق ب - آمِنُونَ كأنّه قال: وهم آمنون يومئذ من فزع شديد لا يكتنهه الوصف وهو خوف النار. وعن عليّ عليه السلام: (الحسنة حبّنا أهل البيت، والسيئة بغضنا)(1)، ويؤيده ما رووه عن جابر عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: (يا عليّ ، لو أنّ أمّتي صاموا حتى صاروا كالأوتار، وصلّوا حتى صاروا كالحنايا، ثمّ أبغضوك، لأكبّهم اللّه علي مناخرهم في النار)(2).

هَلْ تُجْزَوْنَ علي إضمار القول.

هٰذِهِ اَلْبَلْدَةِ يعني: مكة، خصّها اللّه سبحانه بإضافة اسمه إليها، وأشار إليها إشارة تعظيم لها، ووصف ذاته بالتحريم الذي هو خاص وصفها: لا يختلى خلاها، ولا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها، ومن التجأ إليها فهو آمن، ومن انتهك حرمتها فهو ظالم، وهو مالك كل شيء فيحرّم ما يشاء ويحلّ ما يشاء.

فَمَنِ اِهْتَدىٰ باتباعه إيّاي فمنفعة اهتدائه راجعة إليه لا إليّ وَ مَنْ ضَلَّ ولم يتبعني فلا عليّ ، وما أنا إلا رسول منذر، وليس عليّ إلا البلاغ المبين.

ثمّ أمره سبحانه أن يحمد الله علي ما آتاه من نعمة النبوّة، وأن يهدد أعداءه بما سيريهم سبحانه من الآيات التي تلجئهم إلى المعرفة والإقرار بأنّها آيات اللّه، وذلك

ص: 196


1- شواهد التنزيل ج 1:425. المحاسن ج 1:150.
2- شواهد التنزيل ج 1:426.

حين لا تنفعهم المعرفة، يعني في الآخرة، وقيل: هي العذاب في الدنيا والقتل يوم بدر فيشاهدونها(1). وقرئ: تَعْمَلُونَ بالتاء والياء.

ص: 197


1- الكشف والبيان ج 7:231.

سورة القصص

اشارة

مكية، وهي ثمان وثمانون آية، طسم كوفي، يَسْقُونَ غيرهم.

وفي حديث أبيّ : (من قرأها أعطى من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق موسى عليه السلام ومن كذّب به)(1).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة القصص (28): الآیات 1 الی 6]

طسم تِلْكَ آيٰاتُ اَلْكِتٰابِ اَلْمُبِينِ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسىٰ وَ فِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاٰ فِي اَلْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَهٰا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طٰائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنٰاءَهُمْ وَ يَسْتَحْيِي نِسٰاءَهُمْ إِنَّهُ كٰانَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ اَلْوٰارِثِينَ وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هٰامٰانَ وَ جُنُودَهُمٰا مِنْهُمْ مٰا كٰانُوا يَحْذَرُونَ

نَتْلُوا عَلَيْكَ بعض نَبَإِ مُوسىٰ وَ فِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ أي: محقّين كقوله:

تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ (2) .

ص: 198


1- الكشف والبيان ج 7:232 باختصار.
2- المؤمنون: 20.

لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ سبق في علمنا أنّهم يؤمنون، لأنّ التلاوة إنّما تنفع هؤلاء.

إِنَّ فِرْعَوْنَ جملة مستأنفة كالتفسير لما تقدّم.

عَلاٰ أي: بغى وتجبر فِي أرض مصر، وتجاوز الحد في الظلم.

وَ جَعَلَ أَهْلَهٰا شِيَعاً أي: فرقا يشيعونه علي ما يريد، أو يشيع بعضهم بعضا في طاعته، أو فرقا مختلفة قد أوقع بينهم العداوة، وهم: بنو إسرائيل والقبط يَسْتَضْعِفُ طٰائِفَةً مِنْهُمْ وهم بنو إسرائيل.

وسبب ذبح الأبناء أنّ كاهنا قال له: يولد مولود في بني إسرائيل يذهب ملكك علي يده، يُذَبِّحُ بدل من يَسْتَضْعِفُ ، و يَسْتَضْعِفُ إما حال من الضمير في جَعَلَ ، أو صفة ل - شِيَعاً ، أو كلام مستأنف.

وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ جملة معطوفة علي الكلام المتقدّم، لأنّ الجميع تفسير ل - نَبَإِ مُوسىٰ وَ فِرْعَوْنَ ، و نُرِيدُ حكاية حال ماضية، ويجوز أن يكون حالا من يَسْتَضْعِفُ أي: يستضعفهم فرعون ونحن نريد أن نمنّ عليهم وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً مقدّمين في الدين والدنيا، وقادة في الخير يقتدى بهم. وعن سيّد العابدين عليه السلام:

(والذي بعث محمّدا بالحقّ بشيرا ونذيرا، إنّ الأبرار منا أهل البيت، وشيعتهم بمنزلة موسى وشيعته، وإنّ عدونا وأشياعهم بمنزلة فرعون وأشياعه)(1).

وَ نَجْعَلَهُمُ اَلْوٰارِثِينَ يرثون فرعون وقومه ملكهم.

وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي أرض مصر والشام، أي: نجعلها لهم ممهّدة لا تنبو بهم كما كانت في أيّام الجبابرة، وننفذ أمرهم، ونطلق أيديهم فيها ونسلّطهم عليها. وقرئ:

ويري - بالياء -، فرعون وجنوده - بالرفع -، أي: يرون منه ما كانوا يحذرونه من

ص: 199


1- مجمع البيان ج 7-8:239 عن العياشي.

ذهاب ملكهم وهلاكهم.

[سورة القصص (28): الآیات 7 الی 10]

وَ أَوْحَيْنٰا إِلىٰ أُمِّ مُوسىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذٰا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اَلْيَمِّ وَ لاٰ تَخٰافِي وَ لاٰ تَحْزَنِي إِنّٰا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جٰاعِلُوهُ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هٰامٰانَ وَ جُنُودَهُمٰا كٰانُوا خٰاطِئِينَ وَ قٰالَتِ اِمْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ لاٰ تَقْتُلُوهُ عَسىٰ أَنْ يَنْفَعَنٰا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ هُمْ لاٰ يَشْعُرُونَ وَ أَصْبَحَ فُؤٰادُ أُمِّ مُوسىٰ فٰارِغاً إِنْ كٰادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لاٰ أَنْ رَبَطْنٰا عَلىٰ قَلْبِهٰا لِتَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ

اَلْيَمِّ البحر، وهو نيل مصر.

يعني: ألهمناها، أو أتاها جبرائيل بذلك أَنْ أَرْضِعِيهِ ما لم تخافي عليه فَإِذٰا خِفْتِ عَلَيْهِ القتل فاقذفيه في النيل وَ لاٰ تَخٰافِي عليه الغرق والضياع، والفرق بين الخوف والحزن: أنّ الخوف غمّ يلحق الإنسان لمتوقع، والحزن غم يلحقه لواقع؛ وهو فراقه والإخطار به. وقد نهيت عن الأمرين جميعا، ووعدت بما يسلّيها ويطمئن قلبها ويبهجها، وهو ردّه إليها وجعله مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ .

واللام في لِيَكُونَ لام (كي) التي معناها التعليل، ولكن معنى التعليل فيها وارد علي طريق المجاز، لأنّه لم يكن داعيهم إلى الالتقاط أن يكون لهم عَدُوًّا وَ حَزَناً ، غير أنّ ذلك لما كان نتيجة التقاطهم له وثمرته، شبّه بالداعي الذي يفعل الفعل لأجله. وقرئ: حزنا، وهما لغتان كالرشد والرشد.

كٰانُوا خٰاطِئِينَ في كل شيء، وليس خطأهم في تربية عدوهم ببدع منهم، أو كانوا مجرمين مذنبين، فعاقبهم اللّه بأن ربّى عدوهم الذي هو سبب

ص: 200

هلاكهم على أيديهم. و قرئ: خاطين بتخفيف الهمزة، أو هو من خطوت أي:

حاطين الصواب إلي الخطأ.

وروي أنّهم التقطوا التابوت فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نورا ففتحته فإذا بصبيّ يمصّ إبهامه فأحبّوه، فقالت آسية لفرعون: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ أي: هو قرة عين. وعن ابن عباس: (إنّ أصحاب فرعون جاءوا ليقتلوه فمنعتهم وقالت: لا تقتلوه، فقال فرعون: قرّة عين لك، فأما لي فلا، ولو أنّه أقرّ بأن يكون له قرّة عين كما أقرّت امرأته، لهداه اللّه به كما هداها)(1).

عَسىٰ أَنْ يَنْفَعَنٰا فإنّ فيه مخائل اليمن، توسمت في سيمائه النجابة المؤذنة بكونه نفاعا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً فأنّه أهل لأن يكون ولدا للملوك وَ هُمْ لاٰ يَشْعُرُونَ أنّهم وجدوا المطلوب الذي يطلبونه.

فٰارِغاً من الهم حين سمعت بعطف فرعون عليه وتبنّيه له. وقيل: فارغا:

صفرا من العقل حين سمعت بوقوعه في يد فرعون(2)، ونحوه: وَ أَفْئِدَتُهُمْ هَوٰاءٌ (3) أي: لا عقول فيها. قال حسان:

ألا أبلغ أبا سفيان عنّي *** فأنت مجوّف نخب هواء(4)

إِنْ كٰادَتْ لَتُبْدِي بِهِ معناه: إنّها كادت تذكر موسى فتقول: يا ابناه، من شدّة الوجد لَوْ لاٰ أَنْ رَبَطْنٰا عَلىٰ قَلْبِهٰا بإلهام الصبر لِتَكُونَ مِنَ المصدّقين بوعد اللّه في إِنّٰا رَادُّوهُ إِلَيْكِ ، وقيل: كادت تخبر أنّها أمه لما رأته عند

ص: 201


1- تفسير الطبري ج 20:22.
2- عن ابن عباس وغيره. تفسير الماوردي ج 4:238 بالمعنى.
3- إبرا هيم: 43.
4- ديوان حسان بن ثابت ج 1:18.

فرعون لشدّة سرورها به(1). والهاء في به لموسى، والمراد بأمره وقصّته.

[سورة القصص (28): الآیات 11 الی 16]

وَ قٰالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَ هُمْ لاٰ يَشْعُرُونَ وَ حَرَّمْنٰا عَلَيْهِ اَلْمَرٰاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقٰالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَ هُمْ لَهُ نٰاصِحُونَ فَرَدَدْنٰاهُ إِلىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهٰا وَ لاٰ تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اَللّٰهِ حَقٌّ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ وَ لَمّٰا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اِسْتَوىٰ آتَيْنٰاهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ وَ دَخَلَ اَلْمَدِينَةَ عَلىٰ حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهٰا فَوَجَدَ فِيهٰا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاٰنِ هٰذٰا مِنْ شِيعَتِهِ وَ هٰذٰا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغٰاثَهُ اَلَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى اَلَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسىٰ فَقَضىٰ عَلَيْهِ قٰالَ هٰذٰا مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطٰانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ قٰالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ

وَ قٰالَتْ أم موسى لأخت موسى: قُصِّيهِ أي: اتبعي أثره وتتبعي خبره.

فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ عن بعد. والمراد: فذهبت فوجدت آل فرعون أخرجوا التابوت وأخرجوا موسى، فرأت أخاها موسى وهم لا يحسون بأنّها أخته.

والتحريم: استعارة للمنع، لأنّ من حرّم عليه الشيء فقد منع ذلك، وذلك أنّ اللّه منع موسى أن يرضع ثديا، فكان لا يقبل ثدي مرضع حتى أهمّهم ذلك، و اَلْمَرٰاضِعَ جمع مرضع وهي التي ترضع، أو جمع مرضع وهو الرضاع أو موضع الرضاع يعني الثدي من قبل قصّها أثره. وروي أنّها لما قالت: وَ هُمْ

ص: 202


1- عن الكلبي. الكشف والبيان ج 7:238.

لَهُ نٰاصِحُونَ قال هامان: إنّها لتعرفه وتعرف أهله، فقالت: إنّما أردت: وهم للملك ناصحون(1).

والنصح: إخلاص العمل من شائب الفساد. فانطلقت إلى أمها فجاءت بها، والصبيّ على يد فرعون يقبّله شفقة عليه، إذ ألقى اللّه محبّته في قلبه، وهو يبكي بطلب الرضاع، فحين وجد ريحها استأنس إليها والتقم ثديها، فقال لها فرعون:

و من أنت منه، [فقد أبي كل ثدي إلا ثديك ؟](2) قالت: إنّي امرأة طيبة اللبن، لا أوتى بصبيّ إلا قبلني، فدفعه إليها وأجرى عليها، وذهبت به إلى بيتها، و أنجز اللّه وعده في الردّ، فعند ذلك استقر عندها أنّه يكون نبيّا، وذلك قوله: وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اَللّٰهِ حَقٌّ والمراد: ليثبت علمها ويتمكّن وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ أنّه حقّ كما علمت.

وَ اِسْتَوىٰ أي: اعتدل و استحكم وبلغ المبلغ الذي لا يزاد عليه وهو أربعون سنة.

آتَيْنٰاهُ حُكْماً و هو النبوّة وَ عِلْماً وهوا لتوراة.

وَ دَخَلَ اَلْمَدِينَةَ يعني: مصر، وقيل: مدينة منف من أرض مصر(3).

عَلىٰ حِينِ غَفْلَةٍ يعني: ما بين العشاءين، وقيل: وقت القائلة(4).

من شيعته ممن شايعه علي دينه من بني إسرائيل.

من عدوه من مخالفيه من القبط.

ص: 203


1- تاريخ الطبري ج 1:201.
2- ساقطة من ب، ط.
3- عن السدي وغيره. معالم التنزيل ج 3:128.
4- عن قتادة وغيره. تفسير الطبري ج 20:29.

والوكز: الدفع بأطراف الأصابع، وقيل: بجمع الكف(1).

هٰذٰا مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطٰانِ يعني: إنّ العمل الذي وقع القتل بسببه من عمل الشيطان إذ حصل بوسوسته إِنَّهُ عَدُوٌّ لبني آدم مُضِلٌّ ظاهر الإضلال.

قٰالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي بهذا القتل لأنّ القوم لو علموا بذلك لقتلوني، وقيل: إنّما قاله علي سبيل الانقطاع إلي اللّه، والاعتراف بالتقصير عن أداء حقوق نعمه(2).

[سورة القصص (28): الآیات 17 الی 21]

قٰالَ رَبِّ بِمٰا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ فَأَصْبَحَ فِي اَلْمَدِينَةِ خٰائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا اَلَّذِي اِسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قٰالَ لَهُ مُوسىٰ إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ فَلَمّٰا أَنْ أَرٰادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمٰا قٰالَ يٰا مُوسىٰ أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمٰا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاّٰ أَنْ تَكُونَ جَبّٰاراً فِي اَلْأَرْضِ وَ مٰا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ اَلْمُصْلِحِينَ وَ جٰاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى اَلْمَدِينَةِ يَسْعىٰ قٰالَ يٰا مُوسىٰ إِنَّ اَلْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ اَلنّٰاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْهٰا خٰائِفاً يَتَرَقَّبُ قٰالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظّٰالِمِينَ

بِمٰا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ يجوز أن يكون قسما جوابه محذوف، والتقدير: أقسم بإنعامك عليّ لأتحفظنّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ، وأن يكون معناه: بما أنعمت عليّ من القوة فلن أستعملها إلا في مظاهرة أوليائك المؤمنين، ولا أدع قبطيا يغلب أحدا من بني إسرائيل.

يَتَرَقَّبُ المكروه وهو أن يستقاد منه، أو ينتظر الأخبار في قتل القبطي

ص: 204


1- تفسير الطبري ج 20:29.
2- تنزيه الأنبياء: 87.

ويتجسس، لأنّه خاف من فرعون وقومه أن يكونوا عرفوا أنّه قتله، وقال للإسرائيلي: إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ لأنه كان سبب قتل رجل وهو يقاتل آخر.

فَلَمّٰا أخذته الرقّة علي الإسرائيلي و أَرٰادَ أن يدفع القبطي الذي هو عدوّ لموسى والإسرائيلي عنه و يَبْطِشَ به، وقرئ: يبطش - بالضم -.

والجبار: الذي يفعل ما يريد من الضرب والقتل بظلم، لا ينظر في العواقب، وقيل: هو المتعظم الذي لا يتواضع لأمر اللّه(1). ولما قال للإسرائيلي هذا اشتهر أمر القتل في المدينة، و أنهي إلى فرعون و همّوا بقتله.

وَ جٰاءَ رَجُلٌ قيل: هو مؤمن آل فرعون وكان ابن عم فرعون(2).

و يَسْعىٰ يجوز أن يكون في محلّ الرفع وصفا ل - رَجُلٌ ، ويجوز أن يكون منصوبا حالا عنه، لأنّه قد تخصّص بوصفه الذي هو مِنْ أَقْصَا اَلْمَدِينَةِ ، ويجوز أن يكون صلة ل - جٰاءَ فيكون يَسْعىٰ صفة ل - رَجُلٌ لا غير.

يَأْتَمِرُونَ يتشاورون بسببك، يقال: تا مر القوم وائتمروا، و لَكَ ليس بصلة ل - اَلنّٰاصِحِينَ بل هو بيان.

فَخَرَجَ موسى من مصر.

يَتَرَقَّبُ التعرض له في الطريق، أو أن يلحق.

قٰالَ رَبِّ نَجِّنِي من فرعون وقومه.

[سورة القصص (28): الآیات 22 الی 23]

وَ لَمّٰا تَوَجَّهَ تِلْقٰاءَ مَدْيَنَ قٰالَ عَسىٰ رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوٰاءَ اَلسَّبِيلِ (2(2) وَ لَمّٰا وَرَدَ مٰاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ اَلنّٰاسِ يَسْقُونَ

ص: 205


1- معاني القرآن و إعرابه ج 4:137.
2- عن قتادة. تفسير الطبري ج 20:33.

[سورة القصص (28): الآیات 23 الی 28]

وَ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ اِمْرَأَتَيْنِ تَذُودٰانِ قٰالَ مٰا خَطْبُكُمٰا قٰالَتٰا لاٰ نَسْقِي حَتّٰى يُصْدِرَ اَلرِّعٰاءُ وَ أَبُونٰا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقىٰ لَهُمٰا ثُمَّ تَوَلّٰى إِلَى اَلظِّلِّ فَقٰالَ رَبِّ إِنِّي لِمٰا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجٰاءَتْهُ إِحْدٰاهُمٰا تَمْشِي عَلَى اِسْتِحْيٰاءٍ قٰالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مٰا سَقَيْتَ لَنٰا فَلَمّٰا جٰاءَهُ وَ قَصَّ عَلَيْهِ اَلْقَصَصَ قٰالَ لاٰ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلظّٰالِمِينَ (25) قٰالَتْ إِحْدٰاهُمٰا يٰا أَبَتِ اِسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اِسْتَأْجَرْتَ اَلْقَوِيُّ اَلْأَمِينُ (26) قٰالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى اِبْنَتَيَّ هٰاتَيْنِ عَلىٰ أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمٰانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَ مٰا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شٰاءَ اَللّٰهُ مِنَ اَلصّٰالِحِينَ (27) قٰالَ ذٰلِكَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ أَيَّمَا اَلْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاٰ عُدْوٰانَ عَلَيَّ وَ اَللّٰهُ عَلىٰ مٰا نَقُولُ وَكِيلٌ (2(8)

تَوَجَّهَ تِلْقٰاءَ مَدْيَنَ صرف وجهه نحوها، وهي قرية شعيب، وعن ابن عباس: (خرج وليس له علم بالطريق إلا حسن ظنه بربّه)(1).

و سَوٰاءَ اَلسَّبِيلِ وسطه، وقيل: خرج خائفا لا يعيش إلا بورق الشجر(2).

وَ لَمّٰا وَرَدَ مٰاءَ مَدْيَنَ الذي يسقون منه وكان بئرا، ووروده: مجيئه والوصول إليه وجد فوق شفيره ومستقاه.

أُمَّةً جماعة كثيرة العدد من أناس مختلفين.

ص: 206


1- تفسير الطبري ج 20:34.
2- عن سعيد بن جبير. تفسير الطبري ج 20:34.

وَ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ أي: مكان أسفل من مكانهم اِمْرَأَتَيْنِ تَذُودٰانِ عنهما، والذود: الطرد والدفع، كانتا تكرهان المزاحمة على الماء، وقيل: كانتا لا تتمكّنان من السقي، لأنّ على الماء من هو أقوى منهما(1).

مٰا خَطْبُكُمٰا ما شأنكما، وأصله: ما مخطوبكما أي: مطلوبكما من الذياد.

و قرئ: يصدر الرعاء، أي: يصدروا مواشيهم من ورودهم، والرعاء: جمع الراعي كالصيام والقيام.

فَسَقىٰ لَهُمٰا فسقى غنمهما لأجلهما، وروي: أنّ الرعاء كانوا يضعون علي رأس البئر حجرا لا يقلّه إلا سبعة رجال، وقيل: عشرة، وقيل: أربعون، فأقلّه وحده، وسألهم دلوا فأعطوه دلوهم، وكان لا ينزعها إلا عشرة، فاستقى بها وحده مرة فروي غنمهما وأصدرهما(2). وإنّما فعل ذلك رغبة في المعروف وإغاثة للملهوف.

ولم يذكر مفعول يَسْقُونَ ، و تَذُودٰانِ ، و لاٰ نَسْقِي لأنّ الغرض هو الفعل لا المفعول. والوجه في مطابقة جوابهما لسؤاله أنّه سألهما عن سبب ذودهما الغنم، فقالتا: سبب ذلك أنّهما ضعيفتان لم تقدرا علي مزاحمة الرجال، ولابد لهما من تأخير السقي إلى أن يصدروا.

وَ أَبُونٰا شَيْخٌ كَبِيرٌ ضعيف كبير السن لا يقدر علي تولي السقي بنفسه، و كأنّما قالتا ذلك تعريضا للطلب منه الإعانة علي سقي غنمهما، وإبلاء للعذر في توليهما السقي بأنفسهما.

ثُمَّ تَوَلّٰى إِلَى ظل سمرة من شدّة الحر وهو جائع فقال: رَبِّ إِنِّي لِمٰا

ص: 207


1- معاني القرآن و إعرابه ج 4:139.
2- الدر المنثور ج 5:124.

أَنْزَلْتَ إِلَيَّ أي: لأيّ شيء قليل أو كثير فَقِيرٌ ، وإنّما تعدّي فَقِيرٌ باللام لأنّه ضمّن معنى سائل وطالب. وروي أنّه قال ذلك وخضرة البقل تري في بطنه من الهزال، وما سأل إلا خبزا يأكله(1).

عَلَى اِسْتِحْيٰاءٍ في موضع الحال، أي: مستحيية خفرة، وذلك أنّهما لما رجعتا إلي أبيهما قبل الناس وأغنامهما حفل بطان وقالتا: وجدنا رجلا صالحا رحمنا وسقى لنا، قال لإحداهما: عليّ به، فرجعت فتبعها موسى، فألصقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته، فقال لها: إمش خلفي وأريني السمت بقولك، فلما قصّ عليه قصّته قٰالَ لاٰ تَخَفْ فلا سلطان لفرعون بأرضنا. و اَلْقَصَصَ مصدر سمّي به المقصوص.

قٰالَتْ إِحْدٰاهُمٰا وهي كبراهما، وهي التي ذهبت به، وهي التي تزوجها.

وروي أنّ شعيبا قال لها: وكيف علمت قوته وأمانته ؟ فذكرت إقلال الحجر، ونزع الدلو، و أنّه صوّب رأسه حتى أبلغته رسالته، وأمرها بالمشي خلفه(2). وفي قولها حكمة جامعة لأنّه إذا حصلت الأمانة والكفاية في القيام بالأمر فقد تم المراد.

تَأْجُرَنِي من أجرته إذا كنت له أجيرا، و ثَمٰانِيَ حِجَجٍ ظرف له.

فَمِنْ عِنْدِكَ أي: فإتمامه من عندك، يعني: لا أوجبه عليك ولا ألزمكه، ولكنك إن فعلت فهو تبرع منك.

وَ مٰا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ بإتمام الأجلين و إيجابه.

مِنَ اَلصّٰالِحِينَ في حسن المعاملة ولين الجانب.

ص: 208


1- تفسير الطبري ج 20:38.
2- تفسير الطبري ج 20:40.

ذٰلِكَ مبتدأ و بَيْنِي وَ بَيْنَكَ خبره، أي: ذلك الذي قلته وعاهدتني فيه قائم بيننا لا نخرج عنه، أيّ أجل قَضَيْتُ من الأجلين: الثماني أو العشر، فلا يعتدى علي في طلب الزيادة عليه، و (ما) مؤكدة لإبهام (أي) زائدة في شياعها.

والوكيل: الذي وكل الأمر إليه، ولما استعمل بمعنى الشاهد والمهيمن عدّي ب - علي .

[سورة القصص (28): الآیات 29 الی 35]

فَلَمّٰا قَضىٰ مُوسَى اَلْأَجَلَ وَ سٰارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جٰانِبِ اَلطُّورِ نٰاراً قٰالَ لِأَهْلِهِ اُمْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نٰاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهٰا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ اَلنّٰارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمّٰا أَتٰاهٰا نُودِيَ مِنْ شٰاطِئِ اَلْوٰادِ اَلْأَيْمَنِ فِي اَلْبُقْعَةِ اَلْمُبٰارَكَةِ مِنَ اَلشَّجَرَةِ أَنْ يٰا مُوسىٰ إِنِّي أَنَا اَللّٰهُ رَبُّ اَلْعٰالَمِينَ (30) وَ أَنْ أَلْقِ عَصٰاكَ فَلَمّٰا رَآهٰا تَهْتَزُّ كَأَنَّهٰا جَانٌّ وَلّٰى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ يٰا مُوسىٰ أَقْبِلْ وَ لاٰ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ اَلْآمِنِينَ (31) اُسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضٰاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَ اُضْمُمْ إِلَيْكَ جَنٰاحَكَ مِنَ اَلرَّهْبِ فَذٰانِكَ بُرْهٰانٰانِ مِنْ رَبِّكَ إِلىٰ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ إِنَّهُمْ كٰانُوا قَوْماً فٰاسِقِينَ (32) قٰالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخٰافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَ أَخِي هٰارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسٰاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخٰافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قٰالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَ نَجْعَلُ لَكُمٰا سُلْطٰاناً فَلاٰ يَصِلُونَ إِلَيْكُمٰا بِآيٰاتِنٰا أَنْتُمٰا وَ مَنِ اِتَّبَعَكُمَا اَلْغٰالِبُونَ (3(5)

قرئ: جَذْوَةٍ بالحركات الثلاث، وفيها اللغات الثلاث، وهي العود الغليظ في رأسه نار.

ص: 209

و من الأولي والثانية لابتداء الغاية، أي: أتاه النداء من شاطئ الوادي من قبل الشجرة. و مِنَ اَلشَّجَرَةِ بدل من شٰاطِئِ اَلْوٰادِ وهو بدل الاشتمال، لأنّ الشجرة قد نبتت على الشاطئ.

والرهب: الخوف، والجناح المراد به اليد، لأنّ يد الإنسان بمنزلة جناحي الطائر، وإذا أدخل الإنسان يده اليمنى تحت عضد يده اليسرى فقد ضمّ جناحه إليه، من الرهب أي: من أجل الرهب، يعني: إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية فاضمم إليك جناحك.

فَذٰانِكَ قرئ مخففا ومشددا، فالمخفف تثنية ذاك، والمشدد تثنية ذلك.

بُرْهٰانٰانِ حجّتان بينتان، وسمّيت الحجّة برهانا لبياضها و وضوحها، وقالوا: امرأة برهرهة أي: بيضاء، وأبره الرجل: جاء بالبرهان، وكذلك السلطان مشتق من السليط وهو الزيت لإنارته.

والردء: اسم ما يعان به، فعل بمعنى مفعول به، كالدفء لما يدفأ به، قال:

و ردئي كلّ أبيض مشرفيّ *** شحيذ الحدّ عذب ذي فلول(1)

وقرئ: ردا - علي التخفيف -، وقرئ: يُصَدِّقُنِي بالرفع والجزم صفة وجوابا كقوله: وَلِيًّا يَرِثُنِي (2) سواء.

والمراد بالتصديق أن يخلص بلسانه الحقّ ويجادل به الكفار كما يفعله المصقع البليغ، فإنّه يجري مجري التصديق، كما أنّ البرهان يصدّق القول، أو يبين كلامه حتى يصدّقه الذي يخاف تكذيبه، وأسند التصديق إليه لأنّه السبب فيه على سبيل

ص: 210


1- البيت لسلامة بن جندل. شرح شواهد الكشاف: 499 وفيه: عضب، ولا يوجد في ديوانه.
2- مريم: 5، 6.

الاستعارة، ويدلّ عليه قوله: إِنِّي أَخٰافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ .

ومعنى سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ سنقويك به ونؤيدك بأن نقرنه إليك في النبوّة، لأنّ العضد قوام اليد، قال طرفة:

أبني لبينى لستم بيد إلّا يدا ليست لها عضد(1)

وَ نَجْعَلُ لَكُمٰا سُلْطٰاناً أي: غلبة و تسلطا، أو حجّة وبرهانا.

بِآيٰاتِنٰا يتعلّق ب - وَ نَجْعَلُ لَكُمٰا سُلْطٰاناً أي: نسلطكما، أو تعلّق ب - لا يصلون أي: تمتنعان منهم باياتنا، أو هو بيان ل - اَلْغٰالِبُونَ لا صلة، لأنّ الصلة لا تتقدّم علي الموصول، أو علي تقدير: إذهبا باياتنا.

[سورة القصص (28): الآیات 36 الی 42]

فَلَمّٰا جٰاءَهُمْ مُوسىٰ بِآيٰاتِنٰا بَيِّنٰاتٍ قٰالُوا مٰا هٰذٰا إِلاّٰ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَ مٰا سَمِعْنٰا بِهٰذٰا فِي آبٰائِنَا اَلْأَوَّلِينَ (36) وَ قٰالَ مُوسىٰ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جٰاءَ بِالْهُدىٰ مِنْ عِنْدِهِ وَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عٰاقِبَةُ اَلدّٰارِ إِنَّهُ لاٰ يُفْلِحُ اَلظّٰالِمُونَ (37) وَ قٰالَ فِرْعَوْنُ يٰا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ مٰا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يٰا هٰامٰانُ عَلَى اَلطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلىٰ إِلٰهِ مُوسىٰ وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ اَلْكٰاذِبِينَ (38) وَ اِسْتَكْبَرَ هُوَ وَ جُنُودُهُ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنٰا لاٰ يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنٰاهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْنٰاهُمْ فِي اَلْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلظّٰالِمِينَ (40) وَ جَعَلْنٰاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى اَلنّٰارِ وَ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ لاٰ يُنْصَرُونَ (41) وَ أَتْبَعْنٰاهُمْ فِي هٰذِهِ اَلدُّنْيٰا لَعْنَةً وَ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ هُمْ مِنَ اَلْمَقْبُوحِينَ (4(2)

ص: 211


1- ديوان طرفة بن العبد: 41.

أي: سِحْرٌ ظاهر افتراؤه، وليس بمعجز من اللّه.

فِي آبٰائِنَا حال عن هذا، أي: كائنا في زمان آبائنا، أي: لم نسمع بكون ما تدعيه فيهم.

رَبِّي أَعْلَمُ منكم بحال من يؤهله النبوّة ويبعثه بالهدي، يعني نفسه، ولو كان - كما تزعمون - كاذبا مفتريا لما أهّله لذلك، لأنّه غني حكيم لا يرسل الكاذبين و الساحرين، و لاٰ يُفْلِحُ عنده اَلظّٰالِمُونَ .

و عٰاقِبَةُ اَلدّٰارِ هي العاقبة المحمودة، يدلّ عليه قوله: أُولٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى اَلدّٰارِ جَنّٰاتُ عَدْنٍ (1). والدار هي الدنيا، و عقباها وعاقبتها أن يختم للعبد بالرضوان والرحمة. وقرئ: قال موسى - بغير واو - و تَكُونُ بالتاء والياء.

فَأَوْقِدْ لِي يٰا هٰامٰانُ عَلَى اَلطِّينِ أي: فأجّج النار علي الطين واتخذ الاجر فاجعل لي قصرا وبناء مرتفعا عاليا لَعَلِّي أقف علي حال إِلٰهِ مُوسىٰ و أشرف عليه. وهذا تلبيس من فرعون وإيهام علي العوام، إنّ الذي يدعو إليه موسى يجري مجراه في الحاجة إلي المكان، وقصد بنفي علمه بإله غيره نفي وجوده، يعني: مالكم من إله غيري، أو يريد أنّ إلها غيره غير معلوم عنده لكنّه مظنون.

والطلوع وا لإطلاع: الصعود.

وكل مستكبر متكبّر سوي اللّه عزّوجل فاستكباره بِغَيْرِ اَلْحَقِّ ، وهو جل جلاله المتكبّر علي الحقيقة، أي: المبالغ في كبرياء الشأن. قال عليه السلام - فيما حكاه عن ربّه عزّ اسمه -: (الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النار)(2). و قرئ يُرْجَعُونَ بالضم والفتح.

ص: 212


1- الرعد: 22، 23.
2- مسند الشهاب ج 2:330، الكافي ج 2:309.

فَأَخَذْنٰاهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْنٰاهُمْ فِي اَلْيَمِّ من الكلام الدال علي عظم شأنه وجلال كبريائه. شبّههم استحقارا لهم - وإن كانوا الجم الغفير - بكف من تراب أخذها الإنسان بكفّه فطرحه في البحر.

وَ جَعَلْنٰاهُمْ أَئِمَّةً أي: دعوناهم دعاة إلى النار، [وقلنا: إنّهم أئمّة دعاة إلى النار](1)، من قولك: جعله بخيلا، أي: دعاه وقال: إنّه بخيل. ومعناه: إنّهم دعاة إلى موجبات النار من الكفر والمعاصي، و يجوز أن يكون المعنى: خذلناهم حتى كانوا أئمّة الكفر ومنعناهم ألطافنا، وإنّما يمنع الألطاف من علم أنّها لا تنفع فيه، وهو المصمم علي الكفر الذي لا تغني عنه الآيات والنذر، فكأنّه قال: صمموا على الكفر حتى كانوا أئمّة فيه دعاة إليه، ولولا ذلك لما خذلناهم، و هم يوم القيامة مخذولون لا ينصرون.

مِنَ اَلْمَقْبُوحِينَ أي: من المطرودين المبعدين.

[سورة القصص (28): الآیات 43 الی 47]

وَ لَقَدْ آتَيْنٰا مُوسَى اَلْكِتٰابَ مِنْ بَعْدِ مٰا أَهْلَكْنَا اَلْقُرُونَ اَلْأُولىٰ بَصٰائِرَ لِلنّٰاسِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَ مٰا كُنْتَ بِجٰانِبِ اَلْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنٰا إِلىٰ مُوسَى اَلْأَمْرَ وَ مٰا كُنْتَ مِنَ اَلشّٰاهِدِينَ (44) وَ لٰكِنّٰا أَنْشَأْنٰا قُرُوناً فَتَطٰاوَلَ عَلَيْهِمُ اَلْعُمُرُ وَ مٰا كُنْتَ ثٰاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيٰاتِنٰا وَ لٰكِنّٰا كُنّٰا مُرْسِلِينَ (45) وَ مٰا كُنْتَ بِجٰانِبِ اَلطُّورِ إِذْ نٰادَيْنٰا وَ لٰكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مٰا أَتٰاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (4(6) وَ لَوْ لاٰ أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمٰا قَدَّمَتْ

ص: 213


1- ساقطة من ج.

[سورة القصص (28): الآیات 47 الی 50]

أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنٰا لَوْ لاٰ أَرْسَلْتَ إِلَيْنٰا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيٰاتِكَ وَ نَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمّٰا جٰاءَهُمُ اَلْحَقُّ مِنْ عِنْدِنٰا قٰالُوا لَوْ لاٰ أُوتِيَ مِثْلَ مٰا أُوتِيَ مُوسىٰ أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا بِمٰا أُوتِيَ مُوسىٰ مِنْ قَبْلُ قٰالُوا سِحْرٰانِ تَظٰاهَرٰا وَ قٰالُوا إِنّٰا بِكُلٍّ كٰافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتٰابٍ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ هُوَ أَهْدىٰ مِنْهُمٰا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمٰا يَتَّبِعُونَ أَهْوٰاءَهُمْ وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اِتَّبَعَ هَوٰاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّٰالِمِينَ (5(0)

انتصب بَصٰائِرَ علي الحال، والبصيرة نور القلب الذي يستبصر به، كما أنّ البصر نور العين الذي تبصر به، يعني: آتيناه الكتاب أنوارا للقلوب وَ هُدىً وإرشادا وَ رَحْمَةً لمن آمن به.

و اَلْغَرْبِيِّ : المكان الواقع في شق الغرب، وهو المكان الذي وقع فيه ميقات موسى عليه السلام من الطور، والخطاب لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، أي: وَ مٰا كُنْتَ حاضرا المكان الذي أوحينا فيه إلى موسى ولا كُنْتَ مِنَ اَلشّٰاهِدِينَ للوحي إليه أو علي الوحى إليه، حتى تقف بالمشاهدة علي ما جرى من أمره.

وَ لٰكِنّٰا أَنْشَأْنٰا بعد عهد الوحي إليه إلى عهدك قُرُوناً كثيرة فَتَطٰاوَلَ علي آخرهم، وهو القرن الذي أنت فيهم اَلْعُمُرُ أي: أمد انقطاع الوحي و اندرست العلوم فأرسلناك و أوحينا إليك قصص الأنبياء وقصّة موسى.

وَ مٰا كُنْتَ ثٰاوِياً أي: مقيما فِي أَهْلِ مَدْيَنَ وهم شعيب و المؤمنون به تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيٰاتِنٰا تعلّما منهم، يريد الآيات التي فيها قصّة شعيب وقومه و لكنا أرسلناك وعلمناكها و أخبرناك بها.

ص: 214

إِذْ نٰادَيْنٰا موسى، يريد ليلة المناجاة وَ لٰكِنْ علّمناك رَحْمَةً .

لِتُنْذِرَ قَوْماً هم العرب مٰا أَتٰاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ في زمان الفترة بينك وبين عيسى، وهو خمسمائة و خمسون سنة، ونحوه: لِتُنْذِرَ قَوْماً مٰا أُنْذِرَ آبٰاؤُهُمْ (1).

لو لا الأولى امتناعية وجوابها محذوف، والثانية تحضيضية، وإحدي الفاءين للعطف، والأخرى جواب لو لا لكونها في حكم الأمر من حيث أنّ الأمر يبعث علي الفعل، والباعث والمحرّض من باب واحد. و المعنى: لولا أنّهم قائلون إذا عوقبوا بكفرهم: هلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنٰا رَسُولاً يحتجون علينا بذلك لما أرسلنا إليهم، يريد أنّ إرسال الرسول إنّما هو لإلزام الحجّة إيّاهم، ولئلا تكون لهم الحجّة كقوله: لِئَلاّٰ يَكُونَ لِلنّٰاسِ عَلَى اَللّٰهِ حُجَّةٌ بَعْدَ اَلرُّسُلِ (2)، أَنْ تَقُولُوا مٰا جٰاءَنٰا مِنْ بَشِيرٍ وَ لاٰ نَذِيرٍ (3)، لَوْ لاٰ أَرْسَلْتَ إِلَيْنٰا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيٰاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَ نَخْزىٰ (4).

ولما كانت أكثر الأعمال بالأيدي اتسع فيه حتى عبّر عن كل عمل بتقديم الأيدي، وإن كان من أعمال القلوب.

فَلَمّٰا جٰاءَهُمُ اَلْحَقُّ وهو الرسول المصدّق بالمعجزات قٰالُوا لَوْ لاٰ أُوتِيَ مِثْلَ مٰا أُوتِيَ مُوسىٰ من فلق البحر وقلب العصا حيّة، أو الكتاب المنزل جملة واحدة، إلى غير ذلك من اقتراحاتهم المبنية علي التعنت والعناد.

أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا يعني: أبناء جنسهم ومن مذهبهم مذهبهم وعنادهم

ص: 215


1- يس: 6.
2- النساء: 165.
3- المائدة: 19.
4- طه: 134.

عنادهم، وهم الكفار في زمن موسى بِمٰا أُوتِيَ مُوسىٰ قالوا في موسى وهارون ساحران تظاهرا أي: تعاونا، و قرئ: سِحْرٰانِ أي: ذوا سحر، جعلوهما سحرين مبالغة في وصفهما بالسحر، أو أرادوا نوعان من السحر و إِنّٰا بِكُلٍّ واحد منهما كٰافِرُونَ .

و مِنْ قَبْلُ يتعلّق ب - أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا ، وإن تعلّق ب - أوتي انقلب المعنى إلى: أنّ أهل مكة الذين قالوا هذه المقالة كما كفروا بمحمّد صلى الله عليه و آله و سلم وبالقرآن، فقد كفروا بموسى والتوراة فقالوا في موسى ومحمّد: ساحران تظاهرا، أو في الكتابين:

سحران، وذلك حين بعثوا الرهط إلى رؤساء اليهود بالمدينة يسألونهم عن محمّد فأخبروهم أنّ نعته وصفته في كتابهم، فقالوا ذلك.

هُوَ أَهْدىٰ مما أنزل علي موسى و مما أنزل عليّ .

أي: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا دعاءك إلى الإتيان بالكتاب الأهدى فَاعْلَمْ أنّهم قد ألزموا، ولم يبق لهم حجّة إلا اتباع الهوي.

ثمّ قال: وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ لا يتبع في دينه إلا هَوٰاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اَللّٰهِ .

إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَهْدِي أي: لا يلطف بالقوم الثابتين علي الظلم. وقوله:

بِغَيْرِ هُدىً في موضع الحال، أي: مخذولا.

[سورة القصص (28): الآیات 51 الی 54]

وَ لَقَدْ وَصَّلْنٰا لَهُمُ اَلْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ اَلَّذِينَ آتَيْنٰاهُمُ اَلْكِتٰابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَ إِذٰا يُتْلىٰ عَلَيْهِمْ قٰالُوا آمَنّٰا بِهِ إِنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّنٰا إِنّٰا كُنّٰا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُولٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمٰا صَبَرُوا وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ اَلسَّيِّئَةَ وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ

ص: 216

[سورة القصص (28): الآیات 54 الی 58]

يُنْفِقُونَ وَ إِذٰا سَمِعُوا اَللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَ قٰالُوا لَنٰا أَعْمٰالُنٰا وَ لَكُمْ أَعْمٰالُكُمْ سَلاٰمٌ عَلَيْكُمْ لاٰ نَبْتَغِي اَلْجٰاهِلِينَ إِنَّكَ لاٰ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَ قٰالُوا إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنٰا أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبىٰ إِلَيْهِ ثَمَرٰاتُ كُلِّ شَيْ ءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنّٰا وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ وَ كَمْ أَهْلَكْنٰا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهٰا فَتِلْكَ مَسٰاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاّٰ قَلِيلاً وَ كُنّٰا نَحْنُ اَلْوٰارِثِينَ

أي: آتيناهم القرآن متتابعا متواصلا، وعدا و وعيدا، وعبراض ومواعظ، إرادة أن يتذكروا فيفلحوا، فنزلناه عليهم نزولا متصلا بعضه في إثر بعض.

اَلَّذِينَ آتَيْنٰاهُمُ اَلْكِتٰابَ مِنْ قَبْلِهِ أي: من قبل محمّد صلى الله عليه و آله و سلم أو القرآن، وهم مؤمنو أهل الكتاب، وقيل: هم أربعون من أهل الإنجيل، جاؤوا مع جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة، وثمانية من الشام، منهم بحيرا(1).

إِنَّهُ اَلْحَقُّ تعليل للإيمان به، لأنّ كونه حقّا من اللّه يوجب أن يؤمن به.

و إِنّٰا كُنّٰا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ بيان لقولهم: آمَنّٰا بِهِ أخبروا أنّ إيمانهم به متقادم، والإسلام صفة كل موحّد مصدّق بالوحي.

أُولٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمٰا صَبَرُوا بصبرهم علي الإيمان بالتوراة والإيمان بالقرآن، أو بصبرهم على الإيمان بالقرآن قبل نزوله وبعد نزوله، أو بصبرهم علي أذى المشركين وأهل الكتاب، ونحوه: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ

ص: 217


1- تفسير الماوردي ج 4:257.

رَحْمَتِهِ (1) .

وَ يَدْرَؤُنَ بالإيمان والطاعة المعاصي المتقدّمة أو بالحلم الأذي.

سَلاٰمٌ عَلَيْكُمْ متاركة و توديع. وعن الحسن: (كلمة حلم من المؤمنين)(2).

لاٰ نَبْتَغِي اَلْجٰاهِلِينَ لا نريد مخالطتهم، ولا نطلب مجالستهم و مصاحبتهم.

لاٰ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ لا تقدر أن تدخل في الإيمان كل من أحببت أن تدخل فيه من قومك وغيرهم وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ يدخل فيه مَنْ يَشٰاءُ و هو من علم أنّ الألطاف تنفع فيه وَ هُوَ أَعْلَمُ بالذين يهتدون باللطف. وكان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم حريصا علي إيمان قومه وإقرارهم بنبوّته، فأخبره سبحانه بأنّ ذلك ليس في مقدوره. وقالوا:

إنّ الآية نزلت في أبي طالب، وقد ورد عن أئمّة الهدى عليهم السلام: أنّ أبا طالب مات مسلما، وأجمعت الإمامية على ذلك، وأشعاره مشحونة بالإسلام و تصديق النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم(3).

وَ قٰالُوا إِنْ نَتَّبِعِ اَلْهُدىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ أي: نستلب مِنْ أَرْضِنٰا قيل:

إنّ القائل الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف(4)، قال: إنّما نحن أكلة رأس، أي: قليلون، ونخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب أن يتخطفونا من أرضنا، فردّ اللّه عليهم بقوله: أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً والعرب حوله يتغاورون، وهم آمنون في حرمهم لا يخافون تجبى إليهم الثمرات من كل أرض، فإذا خوّلهم اللّه ما خوّلهم من الأمن والرزق وهم كفرة عبدة أصنام، فكيف يعرّضهم للتخطف ويسلبهم الأمن إذا آمنوا به ووحّدوه وصدّقوا رسوله ؟!. وإسناد الأمن إلي أهل

ص: 218


1- الحديد: 28.
2- الكشاف ج 3:422.
3- ينظر: كتاب إيمان أبي طالب، شرح نهج البلاغة ج 14:71-81.
4- أسباب النزول: 239.

الحرم حقيقة وإلى الحرم مجاز.

و يُجْبىٰ من جبيت الماء في الحوض أي: جمعته، ومعنى الكلية الكثرة كما في قوله: وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ (1).

وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ تعلّق بقوله: مِنْ لَدُنّٰا أي: قليل منهم يقرّون بأنّ ذلك رزق من عند اللّه وأكثرهم لا يعلمون ذلك، ولو علموا ذلك لما خافوا التخطف إذا آمنوا به، و رِزْقاً مفعول له أو مصدر، لأنّ معنى يُجْبىٰ إِلَيْهِ ثَمَرٰاتُ كُلِّ شَيْ ءٍ ويرزق ثمرات كل شيء واحد.

وَ كَمْ أَهْلَكْنٰا تخويف لأهل مكة من سوء عاقبة قوم كانت حالهم مثل حالهم في كفرانهم نعم اللّه تعالى ومقابلتها بالأشر حتى دمّرهم اللّه وأبادهم.

وانتصب قوله: مَعِيشَتَهٰا بحذف الجار وإيصال الفعل كما في قوله:

وَ اِخْتٰارَ مُوسىٰ قَوْمَهُ (2) ، أو بالظرف بتقدير حذف الزمان المضاف أي: بطرت أيّام معيشتها، كخفوق النجم، أو بتضمين بطرت معنى غمطت و كفرت. والبطر:

سوء احتمال الغنى، وهو أن لا يحفظ حقّ اللّه فيه.

إِلاّٰ قَلِيلاً من السكنى لم يسكنها إلا المسافر ومار الطريق يوما أو ساعة.

وَ كُنّٰا نَحْنُ اَلْوٰارِثِينَ لتلك المساكن من ساكنيها تركناها علي حال لا يسكنها أحد، أو كنا خربناها فسويناها بالأرض.

[سورة القصص (28): الآیات 59 الی 60]

وَ مٰا كٰانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ اَلْقُرىٰ حَتّٰى يَبْعَثَ فِي أُمِّهٰا رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيٰاتِنٰا وَ مٰا كُنّٰا مُهْلِكِي اَلْقُرىٰ إِلاّٰ وَ أَهْلُهٰا ظٰالِمُونَ وَ مٰا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَمَتٰاعُ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ زِينَتُهٰا وَ مٰا عِنْدَ اَللّٰهِ

ص: 219


1- النمل: 23.
2- الأعراف: 155.

[سورة القصص (28): الآیات 60 الی 66]

خَيْرٌ وَ أَبْقىٰ أَ فَلاٰ تَعْقِلُونَ (60) أَ فَمَنْ وَعَدْنٰاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاٰقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنٰاهُ مَتٰاعَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ مِنَ اَلْمُحْضَرِينَ (61) وَ يَوْمَ يُنٰادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكٰائِيَ اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قٰالَ اَلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ رَبَّنٰا هٰؤُلاٰءِ اَلَّذِينَ أَغْوَيْنٰا أَغْوَيْنٰاهُمْ كَمٰا غَوَيْنٰا تَبَرَّأْنٰا إِلَيْكَ مٰا كٰانُوا إِيّٰانٰا يَعْبُدُونَ (63) وَ قِيلَ اُدْعُوا شُرَكٰاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَ رَأَوُا اَلْعَذٰابَ لَوْ أَنَّهُمْ كٰانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَ يَوْمَ يُنٰادِيهِمْ فَيَقُولُ مٰا ذٰا أَجَبْتُمُ اَلْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ اَلْأَنْبٰاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاٰ يَتَسٰاءَلُونَ (6(6)

أي: وَ مٰا كٰانَ من حكم رَبُّكَ أن يهلك القرى في الأرض حَتّٰى يَبْعَثَ في أم القرى أي: مكة رَسُولاً وهو محمّد صلوات اللّه عليه وآله خاتم الأنبياء، أو ما كان مهلك القرى في كل وقت حتى يبعث في القرية التي هي أمّها أي: أصلها رسولا لإلزام الحجّة عليهم. وهذا إخبار عن تنزهه عن الظلم حيث لا يهلكهم - مع كونهم ظالمين - إلا بعد تأكيد الحجّة عليهم ببعثة الرسل، مع علمه بأنّهم لا يؤمنون، ولم يجعل علمه بهم حجّة عليهم.

و ما أعطيتم من أسباب الدنيا فتمتع وزينة أيّاما قلائل، وهي مدة الحياة المنقضية.

وَ مٰا عِنْدَ اَللّٰهِ و هو الثواب خَيْرٌ وَ أَبْقىٰ لأنّ بقاءه سرمدي أَ فَلاٰ تَعْقِلُونَ و قرئ بالتاء والياء.

أَ فَمَنْ وَعَدْنٰاهُ هذا تقرير للآية التي قبلها، أي: أفبعد هذا التفاوت الظاهر يسوّى بين أبناء الدنيا وأبناء الآخرة.

ص: 220

والوعد الحسن: الثواب لأنه منافع دائمة مقارنة للتعظيم والإجلال.

فَهُوَ لاٰقِيهِ كقوله: وَ لَقّٰاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً (1).

مِنَ اَلْمُحْضَرِينَ أي: من الذين أحضروا النار، ونحوه: فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (2). وقرئ: ثمّ هو - بسكون الهاء -، كما قيل: عضد في عضد تشبيها للمنفصل بالمتصل، وسكون الهاء في وهو، فهو، لهو، أحسن، لأنّ الحرف الواحد لا ينطق به وحده، فهو كالمتصل.

شُرَكٰائِيَ مبني علي زعمهم، وهو تهكّم. ومفعولا (زعم) محذوفان هنا، والتقدير: [الذين كنتم تزعمونهم شركائي، وهذا جائز وإن لم يجز الاقتصار علي أحد المفعولين](3).

و اَلَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ الشياطين أو رؤساء الضلالة، ومعنى حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْقَوْلُ : وجب عليهم مقتضي القول وهو قوله: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ اَلْجِنَّةِ وَ اَلنّٰاسِ أَجْمَعِينَ (4).

هٰؤُلاٰءِ مبتدأ و اَلَّذِينَ أَغْوَيْنٰا صفته، وحذف العائد إلى الموصول، و أَغْوَيْنٰاهُمْ خبر المبتدأ، والكاف صفة مصدر محذوف، وتقديره: أغويناهم فغووا غيا مثل ما غوينا، يعنون أنّهم غووا باختيارهم كما غوينا نحن باختيارنا، لأنّ إغواءنا لهم كان وسوسة وتسويلا لا قسرا و إلجاء.

تَبَرَّأْنٰا إِلَيْكَ منهم ومما اختاروه من الكفر.

ص: 221


1- الإنسان: 11.
2- الصافات: 127.
3- ساقطة من ج.
4- هود: 119.

مٰا كٰانُوا إِيّٰانٰا يَعْبُدُونَ إنّما يعبدون أهواءهم ويطيعون شهواتهم، وإخلاء الجملتين من حرف العطف إنّما هو لتقريرهما معنى الجملة الأولي.

لَوْ أَنَّهُمْ كٰانُوا يَهْتَدُونَ لوجه من وجوه الحيل يدفعون به العذاب، ثمّ يبكّتون بالاحتجاج عليهم بإرسال الرسل، و يسألون سؤال تقرير الذنب.

فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ اَلْأَنْبٰاءُ فصارت الأنباء مشتبهة طرق جوابها عليهم فهم كالعمي تنسد عليهم طرق الأرض.

فَهُمْ لاٰ يَتَسٰاءَلُونَ لا يسأل بعضهم بعضا كما يتساءل الناس في المشكلات، لأنّهم يتساوون جميعا في عمى الأنباء عليهم وعجزهم عن الجواب، والمراد بالنبأ: الخبر عما أجاب به المرسل إليه رسوله.

[سورة القصص (28): الآیات 67 الی 73]

فَأَمّٰا مَنْ تٰابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صٰالِحاً فَعَسىٰ أَنْ يَكُونَ مِنَ اَلْمُفْلِحِينَ (67) وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ مٰا يَشٰاءُ وَ يَخْتٰارُ مٰا كٰانَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ سُبْحٰانَ اَللّٰهِ وَ تَعٰالىٰ عَمّٰا يُشْرِكُونَ (68) وَ رَبُّكَ يَعْلَمُ مٰا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ مٰا يُعْلِنُونَ (69) وَ هُوَ اَللّٰهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلْأُولىٰ وَ اَلْآخِرَةِ وَ لَهُ اَلْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اَللّٰهُ عَلَيْكُمُ اَللَّيْلَ سَرْمَداً إِلىٰ يَوْمِ اَلْقِيٰامَةِ مَنْ إِلٰهٌ غَيْرُ اَللّٰهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيٰاءٍ أَ فَلاٰ تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اَللّٰهُ عَلَيْكُمُ اَلنَّهٰارَ سَرْمَداً إِلىٰ يَوْمِ اَلْقِيٰامَةِ مَنْ إِلٰهٌ غَيْرُ اَللّٰهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَ فَلاٰ تُبْصِرُونَ (7(2) وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهٰارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ

ص: 222

[سورة القصص (28): الآیات 73 الی 75]

تَشْكُرُونَ وَ يَوْمَ يُنٰادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكٰائِيَ اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ وَ نَزَعْنٰا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنٰا هٰاتُوا بُرْهٰانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ اَلْحَقَّ لِلّٰهِ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مٰا كٰانُوا يَفْتَرُونَ

فَأَمّٰا مَنْ تٰابَ من المشر كين، وجمع بين الإيمان والعمل الصالح فَعَسىٰ أن يفلح عند اللّه، و (عسى) من الكرام تحقيق.

و اَلْخِيَرَةُ من التخيّر، كالطيرة من التطيّر، يستعمل بمعنى المصدر وبمعنى المتخيّر، يقال: محمّد صلى الله عليه و آله و سلم خيرة اللّه من خلقه. وقوله: مٰا كٰانَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ بيان لقوله: وَ يَخْتٰارُ ، فإنّ معناه: ويختار مٰا يَشٰاءُ ، ولهذا لم يدخل العاطف، والمعنى: إنّ الخيرة للّه في أفعاله، وهو أعلم بوجوه الحكمة فيها، وليس لأحد من خلقه الاختيار، إذ لا طريق له إلي العلم بجميع أحوال المختار. وقيل:

معناه: ويختار الذي لهم فيه الخيرة(1)، فحذف فيه كما حذف منه في قوله: إِنَّ ذٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ (2)، أن يختار للعباد ما هو خير لهم وأصلح وهو أعلم بمصالحهم من أنفسهم.

والحمد في الْآخِرَةِ قولهم: اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي صَدَقَنٰا وَعْدَهُ (3)، والتحميد هناك علي وجه اللذّة لا الكلفة.

أَ رَأَيْتُمْ معناه: أخبروني من يقدر علي هذا؟.

والسرمد: الدائم المتصل، من السرد، والميم مزيدة، والمراد بالضياء: ضوء

ص: 223


1- تفسير الطبري ج 20:64.
2- الشورى: 43.
3- الزمر: 74.

الشمس، وقرن به أَ فَلاٰ تَسْمَعُونَ لأنّ السمع يدرك مالا يدركه البصر من ذكر منافعه ووصف فوائده. وقرن بالليل أَ فَلاٰ تُبْصِرُونَ لأنّ غيرك يبصر ما تبصره من منفعة الظلام.

وَ مِنْ رَحْمَتِهِ زاوج بين الليل والنهار لِتَسْكُنُوا في أحدهما وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فضل اللّه في الآخر، و لإرادة شكركم، وقد سلكت فيه طريقة اللف.

وكرر سبحانه التوبيخ باتخاذ الشركاء إيذانا بأنّ الشرك أجلب الأشياء لغضب اللّه، كما أنّ التوحيد أجمع لمرضاته.

وَ نَزَعْنٰا أي: و أخرجنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً و هو نبيّهم، يشهد علي تلك الأمة بما كان منها، وقيل: هم عدول الآخرة الذين لا يخلو زمان من واحد منهم.

فَقُلْنٰا للأمة: هٰاتُوا بُرْهٰانَكُمْ فيما ذهبتم إليه وكنتم عليه.

فَعَلِمُوا حينئذ أَنَّ اَلْحَقَّ لِلّٰهِ ولرسوله وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مٰا كٰانُوا يفترونه من الأباطيل.

[سورة القصص (28): الآیات 76 الی 79]

إِنَّ قٰارُونَ كٰانَ مِنْ قَوْمِ مُوسىٰ فَبَغىٰ عَلَيْهِمْ وَ آتَيْنٰاهُ مِنَ اَلْكُنُوزِ مٰا إِنَّ مَفٰاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي اَلْقُوَّةِ إِذْ قٰالَ لَهُ قَوْمُهُ لاٰ تَفْرَحْ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُحِبُّ اَلْفَرِحِينَ وَ اِبْتَغِ فِيمٰا آتٰاكَ اَللّٰهُ اَلدّٰارَ اَلْآخِرَةَ وَ لاٰ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ اَلدُّنْيٰا وَ أَحْسِنْ كَمٰا أَحْسَنَ اَللّٰهُ إِلَيْكَ وَ لاٰ تَبْغِ اَلْفَسٰادَ فِي اَلْأَرْضِ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُحِبُّ اَلْمُفْسِدِينَ قٰالَ إِنَّمٰا أُوتِيتُهُ عَلىٰ عِلْمٍ عِنْدِي أَ وَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اَللّٰهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ اَلْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَ أَكْثَرُ جَمْعاً وَ لاٰ يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ اَلْمُجْرِمُونَ فَخَرَجَ عَلىٰ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قٰالَ اَلَّذِينَ يُرِيدُونَ اَلْحَيٰاةَ اَلدُّنْيٰا يٰا لَيْتَ

ص: 224

[سورة القصص (28): الآیات 79 الی 82]

لَنٰا مِثْلَ مٰا أُوتِيَ قٰارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَ قٰالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوٰابُ اَللّٰهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صٰالِحاً وَ لاٰ يُلَقّٰاهٰا إِلاَّ اَلصّٰابِرُونَ فَخَسَفْنٰا بِهِ وَ بِدٰارِهِ اَلْأَرْضَ فَمٰا كٰانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ وَ مٰا كٰانَ مِنَ اَلمُنْتَصِرِينَ وَ أَصْبَحَ اَلَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكٰانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اَللّٰهَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ وَ يَقْدِرُ لَوْ لاٰ أَنْ مَنَّ اَللّٰهُ عَلَيْنٰا لَخَسَفَ بِنٰا وَيْكَأَنَّهُ لاٰ يُفْلِحُ اَلْكٰافِرُونَ

قٰارُونُ اسم أعجمي كان من بني إسرائيل، وهو ابن خالة موسى، وكان أقرأ بني إسرائيل للتوراة، ولما جاوز بهم موسى البحر وصارت الرئاسة لهارون فقرّب القربان وجد قارون في نفسه.

فَبَغىٰ عَلَيْهِمْ من البغي الذي هو الكبر والبذخ.

والمفاتح: جمع المفتح، وهو ما يفتح به، وقيل: هي الخزائن(1)، واحدها مفتح. وناء به الحمل: إذا أثقله حتى أماله، والعصبة: الجماعة الكثيرة.

و إِذْ نصب ب - تنوء، تَفْرَحْ أي: لا تأشر ولا تتكبر بسبب كنوزك.

وَ اِبْتَغِ فِيمٰا آتٰاكَ اَللّٰهُ من الغنى اَلدّٰارَ اَلْآخِرَةَ بأن تفعل فيه أفعال الخير تزوّد بها إلى الآخرة.

وَ لاٰ تَنْسَ نَصِيبَكَ وهو أن تأخذ منها ما يكفيك.

وَ أَحْسِنْ إلى عباد اللّه كَمٰا أَحْسَنَ اَللّٰهُ إِلَيْكَ . وقيل: إنّ المخاطب بذلك

ص: 225


1- عن أبي صالح. تفسير الطبري ج 20:68.

موسى عليه السلام(1).

عَلىٰ عِلْمٍ علي استحقاق واستيجاب لما في من العلم الذي فضّلت به الناس، وذلك أنّه كان أعلم بني إسرائيل بالتوراة، وقيل: هو علم الكيمياء(2)، وقيل: علّم اللّه تعالى موسى عليه السلام علم الكيمياء فعلّمه موسى أخته فعلّمته أخته قارون(3).

وقال: عِنْدِي معناه: في ظني كما يقول: الأمر عندي كذا، أي: هو في ظني ورأيي هكذا.

أَ وَ لَمْ يَعْلَمْ في جملة ما عنده من العلم و قرأه في التوراة أَنَّ اَللّٰهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ من هو أقوى منه فلا يغتر بكثرة ماله وقوته، و يجوز أن يكون نفيا لعلمه بذلك.

وَ أَكْثَرُ جَمْعاً للمال، أو أكثر جماعة و عددا.

وَ لاٰ يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ اَلْمُجْرِمُونَ بل يدخلون النار بغير حساب.

فِي زِينَتِهِ التي كان يتزيّن بها وحشمه وخيله. والحظ والجد: البخت و الدولة.

ويلك: أصله الدعاء بالهلاك، ثمّ استعمل في الزجر والردع والبعث علي ترك مالا يرتضى.

والضمير في وَ لاٰ يُلَقّٰاهٰا للكلمة التي تكلّم بها العلماء، أو للثواب لأنّه في معنى المثوبة.

ص: 226


1- معاني القرآن للفراء ج 2:306.
2- عن ابن المسيب. الكشف والبيان ج 7:262.
3- الكشف والبيان ج 7:262.

مِنَ اَلمُنْتَصِرِينَ من المنتقمين من موسى، أو من الممتنعين من عذاب اللّه، يقال: نصره من عدوه فانتصر، أي: منعه منه فامتنع.

أراد بِالْأَمْسِ الوقت القريب علي طريق الاستعارة، والمكان: المنزلة.

(وي) مفصولة من (كأن) وهي كلمة تنبّه علي الخطأ وتندّم، و المعنى: إنّ القوم تنبّهوا علي خطئهم في تمنّيهم منزلة قارون وتندّموا، ثمّ قالوا: كأنّ اللّه، أي:

ما أشبه الحال بأنّ اَللّٰهَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشٰاءُ لا لكرامة وَ يَقْدِرُ أي: يضيق علي من يشاء لا لهوان، لكن بحسب المصلحة. ما أشبه الحال بأنّ الكافرين لا ينالون الفلاح.

وعند الكوفيين أنّ (ويك) بمعنى (ويلك)، وأنّ المعنى: ألم تعلم أنّه لا يفلح الكافرون، ويجوز أن تكون الكاف كاف الخطاب قد ضمت إلى (وي)، كقوله:

ويك عنتر أقدم(1)

و (أنّه) بمعنى (لأنّه)، واللام لبيان الذي قيل لأجله هذا القول، أو لأنّه يفلح الكافرون كان ذلك، وهو الخسف بقارون، وقرئ: لخسف بنا، وفيه ضمير للّه.

[سورة القصص (28): الآیات 83 الی 86]

تِلْكَ اَلدّٰارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُهٰا لِلَّذِينَ لاٰ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ فَسٰاداً وَ اَلْعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ مَنْ جٰاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهٰا وَ مَنْ جٰاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاٰ يُجْزَى اَلَّذِينَ عَمِلُوا اَلسَّيِّئٰاتِ إِلاّٰ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ إِنَّ اَلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لَرٰادُّكَ إِلىٰ مَعٰادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جٰاءَ بِالْهُدىٰ وَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ وَ مٰا كُنْتَ

ص: 227


1- شرح ديوان عنترة: 184، وصدره: ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها قيل الفوارس....

[سورة القصص (28): الآیات 86 الی 88]

تَرْجُوا أَنْ يُلْقىٰ إِلَيْكَ اَلْكِتٰابُ إِلاّٰ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلاٰ تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكٰافِرِينَ وَ لاٰ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيٰاتِ اَللّٰهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَ اُدْعُ إِلىٰ رَبِّكَ وَ لاٰ تَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ وَ لاٰ تَدْعُ مَعَ اَللّٰهِ إِلٰهاً آخَرَ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ كُلُّ شَيْ ءٍ هٰالِكٌ إِلاّٰ وَجْهَهُ لَهُ اَلْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ

تِلْكَ تعظيم للدار وتفخيم لها، أي: تلك التي بلغك صفتها.

علّق الوعد بترك إرادة العلو والفساد، ولم يقل: لا يعلون ولا يفسدون، كما علّق الوعيد بالركون في قوله: وَ لاٰ تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا (1). وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: (الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها)(2). وعن الفضيل أنّه قرأها ثمّ قال: (ذهبت الأماني هاهنا)(3).

وَ اَلْعٰاقِبَةُ الحميدي للذين اتقوا معاصي اللّه.

المعنى: فلا يجزون، فوضع الظاهر موضع الضمير، لأنّ في إسناد السيئات إليهم مكررا زيادة تهجين لهم.

إِنَّ اَلَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ أي: أوجب عليك تلاوته و تبليغه والعمل بما فيه ليثيبك عليه ثوابا لا يحاط بكنهه، و لَرٰادُّكَ بعد الموت إِلىٰ مَعٰادٍ أيّ معاد، وإلي معاد ليس لغيرك من الخلق، ونكّر المعاد لذلك، وقيل: أراد بالمعاد مكة فردّه إليها يوم الفتح(4)، ووجه

ص: 228


1- هود: 113.
2- تفسير الطبري ج 20:79.
3- الكشاف ج 3:435.
4- عن ابن عباس وغيره. تفسير الطبري ج 20:80.

تنكيره أن كان معادا له ذكر عال وشأن جليل، ظهر عزّ الإسلام وأهله به، وقيل:

نزلت عليه حين بلغ الجحفة في مهاجره وقد اشتاق إلى مكة(1).

ولما وعده الرد إلى معاد قال: قُلْ للمشركين: رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جٰاءَ بِالْهُدىٰ يعني: نفسه وما يستحقّه من الثواب في معاده.

وَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ يعنيهم وما يستحقّونه من العقاب في معادهم.

إِلاّٰ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ بمعنى (لكن) للاستدراك، أي: ولكن لرحمة من ربّك ألقي إليك، وقيل: هو محمول علي المعنى، والتقدير: وما ألقي إليك الكتاب إلا رحمة(2).

بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ أي: بعد وقت إنزاله إليك.

وقوله: فَلاٰ تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكٰافِرِينَ وما بعده من باب التهييج الذي سبق ذكره(3). وعن ابن عباس: (إنّ أكثر القرآن: إيّاك أعني فاسمعي يا جارة).

كُلُّ شَيْ ءٍ هٰالِكٌ أي: فان بائد إِلاّٰ وَجْهَهُ إلا ذاته.

ص: 229


1- تفسير مقاتل بن سليمان ج 2:508.
2- معاني القرآن للفراء ج 2:313.
3- ينظر: تفسير آل عمران: 60، الأنعام: 114.

سورة العنكبوت

اشارة

مكية وقيل: مدنية، وهي تسع وستون آية الم كوفي، مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ بصري.

وفي حديث أبيّ : (من قرأ (سورة العنكبوت) كان له من الأجر عشر حسنات بعدد المؤمنين والمنافقين)(1). وروي أبو بصير عن الصادق عليه السلام قال:

(من قرأ (سورتي العنكبوت والروم) في شهر رمضان في ليلة ثلاث وعشرين فهو و الله - يا أبا محمّد - من أهل الجنّة، لا أستثني فيه أبدا، ولا أخاف أن يكتب اللّه عليّ في يميني إثما، و إنّ لهاتين السورتين من اللّه مكانا)(2).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة العنكبوت (29): الآیات 1 الی 6]

الم (1) أَ حَسِبَ اَلنّٰاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّٰا وَ هُمْ لاٰ يُفْتَنُونَ (2) وَ لَقَدْ فَتَنَّا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ اَلْكٰاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ اَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئٰاتِ أَنْ يَسْبِقُونٰا سٰاءَ مٰا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كٰانَ يَرْجُوا لِقٰاءَ اَللّٰهِ فَإِنَّ أَجَلَ اَللّٰهِ لَآتٍ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ (5) وَ مَنْ جٰاهَدَ فَإِنَّمٰا يُجٰاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اَللّٰهَ لَغَنِيٌّ

.

ص: 230


1- الكشف والبيان ج 7:269.
2- ثواب الأعمال: 109

[سورة العنكبوت (29): الآیات 6 الی 7]

عَنِ اَلْعٰالَمِينَ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئٰاتِهِمْ وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ اَلَّذِي كٰانُوا يَعْمَلُونَ

الحسبان إنّما يتعلّق بمضامين الجمل، وتقدير الكلام هنا: أَ حَسِبَ اَلنّٰاسُ أَنْ يُتْرَكُوا غير مفتونين لأن يَقُولُوا آمَنّٰا ، وكان التقدير قبل المجيء بالحسبان:

تركهم غير مفتونين لقولهم: آمَنّٰا علي الابتداء والخبر، وغير مفتونين من تتمة الترك، لأنّه من الترك الذي هو بمعنى التصيير، كما في قول عنترة:

فتركته جزر السّباع ينشنه يقضمن حسن بنانه والمعصم(1)

وهذا كما تقول: خروجه لمخافة الشرّ، فصحّ أن يقع خبر مبتدأ وإن كان علة، وتقول: حسبت خروجه لمخافة الشرّ، فتجعلهما مفعولين كما جعلتهما مبتدءا وخبرا.

وَ هُمْ لاٰ يُفْتَنُونَ أي: لا يمتحنون بشدائد التكليف من مفارقة الأوطان ومجاهدة الأعداء، ولا يصابون بمصائب الدنيا ومحنها، بل يبتليهم اللّه يضروب المكاره حتى يبلو صبرهم وصحّة ضمائرهم، وليميز المخلص من غير المخلص، والراسخ في الدين من المضطرب فيه.

وَ لَقَدْ فَتَنَّا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني: أتباع الأنبياء قبلهم فقد أصابهم من الفتن بالفرائض التي افترضت عليهم أو بالشدائد والمحن. و جاء في الحديث: (قد كان من قبلكم يؤخذ فيوضع المنشار علي رأسه فيفرق فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه)(2).

ص: 231


1- شرح ديوان عنترة: 174، و فيه: ما بين قلة رأسه والمعصم.
2- سنن البيهقي الكبرى ج 9:5.

و لَيَعْلَمَنَّ اَللّٰهُ بالامتحان اَلَّذِينَ صَدَقُوا في الإيمان وَ لَيَعْلَمَنَّ اَلْكٰاذِبِينَ فيه، ولم يزل عزّ وعلا عالما بذلك، ولكنّه لا يعلمه موجودا إلا إذا وجد، والمعنى: و ليميزن الصادق من الكاذب، ورووا عن عليّ عليه السلام: فليعلمن، و ليعلمن - من الإعلام - أي: وليعرفنهم اللّه الناس من هم، أو ليسمنهم بسمة يعرفون بها من بياض الوجوه وسوادها. وروي: (إنّ العباس جاء إلى عليّ عليه السلام فقال له: إمش حتى يبايع لك الناس، فقال: أتراهم فاعلين ؟ قال: نعم، قال: فأين قول اللّه عزّ و جل: الم أَ حَسِبَ اَلنّٰاسُ ... الآيات)(1).

أَنْ يَسْبِقُونٰا أي: يفوتونا، يعني: إنّ الجزاء يلحقهم، مثل قوله: وَ مٰا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (2).

و أَمْ منقطعة، ومعنى الإضراب فيها: إنّ هذا الحسبان أبطل من الحسبان الأوّل، لأنّ ذلك يقدّر أنّه لا يمتحن لإيمانه، وهذا يظن أنّه لا يجازى بكفره وعصيانه.

سٰاءَ مٰا يَحْكُمُونَ أي: بئس الذي يحكمونه حكمهم هذا، أو بئس حكما يحكمونه حكمهم هذا، فحذف المخصوص بالذم.

لِقٰاءَ اَللّٰهِ مثل للوصول إلى العاقبة من لقاء الجزاء و البعث والحساب، مثّلت تلك الحال بحال عبد قدم علي سيّده بعد عهد بعيد وقد اطلع سيّده علي أحواله، فتلقّاه ببشر وترحيب أو تقطيب لما رضي أو سخط من أفعاله، فالمعنى:

من كان يرجو تلك الحال وأن يلقى فيها الكرامة من اللّه والبشري فَإِنَّ أَجَلَ اَللّٰهِ وهو الموت لَآتٍ لا محالة، فليبادر بالعمل الصالح الذي يحقّق رجاءه ويقرّبه

ص: 232


1- تفسير القمي ج 2:148.
2- الزمر: 51.

إلى اللّه، وقيل: يرجو: يخاف(1).

وَ مَنْ جٰاهَدَ أعداء الدين لإحيائه، وجاهد نفسه [التي هي أعدى أعدائه فَإِنَّمٰا يُجٰاهِدُ لأجل نفسه](2)، فإنّ المنفعة عائدة إليها، ف - إِنَّ اَللّٰهَ لَغَنِيٌّ عَنِ اَلْعٰالَمِينَ ولا يحتاج إلي طاعتهم، و إنّما يأمرهم وينهاهم لمنفعتهم.

لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئٰاتِهِمْ التي اقترفوها قبل ذلك، و لنبطلنها حتى يصير كأنّهم لم يعملوها وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ بحسناتهم التي كانوا يعملونها.

[سورة العنكبوت (29): الآیات 8 الی 13]

وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسٰانَ بِوٰالِدَيْهِ حُسْناً وَ إِنْ جٰاهَدٰاكَ لِتُشْرِكَ بِي مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاٰ تُطِعْهُمٰا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي اَلصّٰالِحِينَ (9) وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّٰا بِاللّٰهِ فَإِذٰا أُوذِيَ فِي اَللّٰهِ جَعَلَ فِتْنَةَ اَلنّٰاسِ كَعَذٰابِ اَللّٰهِ وَ لَئِنْ جٰاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنّٰا كُنّٰا مَعَكُمْ أَ وَ لَيْسَ اَللّٰهُ بِأَعْلَمَ بِمٰا فِي صُدُورِ اَلْعٰالَمِينَ (10) وَ لَيَعْلَمَنَّ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ اَلْمُنٰافِقِينَ (11) وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّبِعُوا سَبِيلَنٰا وَ لْنَحْمِلْ خَطٰايٰاكُمْ وَ مٰا هُمْ بِحٰامِلِينَ مِنْ خَطٰايٰاهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ إِنَّهُمْ لَكٰاذِبُونَ (12) وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقٰالَهُمْ وَ أَثْقٰالاً مَعَ أَثْقٰالِهِمْ وَ لَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ عَمّٰا كٰانُوا يَفْتَرُونَ (1(3)

أي: أمرنا الإنسان بأن يفعل بِوٰالِدَيْهِ حُسْناً [أو بإيلاء والديه حسنا](3)، أي: فعلا ذا حسن، يقال: وصّيته بأن يفعل شيئا وأمرته به، بمعنى.

ص: 233


1- عن سعيد بن جبير. الدر المنثور ج 5:141.
2- ساقطة من ج.
3- ساقطة من ج.

وَ إِنْ جٰاهَدٰاكَ أبواك لِتُشْرِكَ بِي مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ مالا علم لك بإلهيته وحملاك عليه فَلاٰ تُطِعْهُمٰا في الشرك، والمراد بنفي العلم نفي المعلوم، كأنّه قال:

لتشرك بي شيئا لا يصحّ أن يكون إلها. نبّه بذلك سبحانه علي أنّ كل حقّ - وإن عظم - ساقط إذا جاء حقّ اللّه، فإنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

ثمّ قال: إِلَيَّ مرجع المؤمن و المشرك منكم فأجازيكم بحسب استحقاقكم.

فِي اَلصّٰالِحِينَ أي: في جملتهم و زمرتهم في الجنّة.

مَنْ يَقُولُ آمَنّٰا بِاللّٰهِ أي: يؤمنون بألسنتهم، فإذا أصابهم أذى من الكفار فِي اَللّٰهِ أي: في ذات اللّه وبسبب دين اللّه، رجع عن الدين، وهو المراد بفتنة الناس، يعني: يصرفهم ما مسّهم من أذاهم عن الإيمان كما أنّ عذاب اللّه يصرف المؤمنين عن الكفر.

وإذا جٰاءَ نَصْرٌ من اللّه للمؤمنين ودولة لهم علي الكافرين قالوا: إِنّٰا كُنّٰا مَعَكُمْ أي: متابعين لكم في دينكم فأعطونا نصيبنا من الغنيمة.

ثمّ أخبر سبحانه بأنّه أعلم بِمٰا فِي صُدُورِ اَلْعٰالَمِينَ و من ذلك ما تخفيه صدور هؤلاء من النفاق. ثمّ وعد المؤمنين وأوعد المنافقين.

أمر الكفار أهل الإيمان باتباع سبيلهم وطريقتهم التي كانوا عليها، وأمروا نفوسهم بحمل خطاياهم، فعطف الأمر علي الأمر، وأرادوا ليجتمع هذان الأمران في الحصول: أن تتبعوا سبيلنا، وأن نحمل خطاياكم، والمعنى: تعليق الحمل بالاتباع، والمراد ما كان من قريش تقوله لمن آمن منهم: لا بعث ولا نشور، ولو كان ذلك فإنا نتحمل آثامكم.

ص: 234

وَ لَيَحْمِلُنَّ أثقال أنفسهم وَ أَثْقٰالاً أخر مَعَ أَثْقٰالِهِمْ وهي أثقال الذين كانوا سببا في آثامهم.

وَ لَيُسْئَلُنَّ سؤال تقريع و تعنيف عَمّٰا كٰانُوا يختلقونه من الأباطيل.

[سورة العنكبوت (29): الآیات 14 الی 19]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنٰا نُوحاً إِلىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاّٰ خَمْسِينَ عٰاماً فَأَخَذَهُمُ اَلطُّوفٰانُ وَ هُمْ ظٰالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنٰاهُ وَ أَصْحٰابَ اَلسَّفِينَةِ وَ جَعَلْنٰاهٰا آيَةً لِلْعٰالَمِينَ (15) وَ إِبْرٰاهِيمَ إِذْ قٰالَ لِقَوْمِهِ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ وَ اِتَّقُوهُ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمٰا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ أَوْثٰاناً وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ اَلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ لاٰ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اَللّٰهِ اَلرِّزْقَ وَ اُعْبُدُوهُ وَ اُشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَ إِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مٰا عَلَى اَلرَّسُولِ إِلاَّ اَلْبَلاٰغُ اَلْمُبِينُ (18) أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اَللّٰهُ اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذٰلِكَ عَلَى اَللّٰهِ يَسِيرٌ (1(9)

اَلطُّوفٰانُ ما أطاف و أحاط بكثرة و غلبة.

و الضمير في وَ جَعَلْنٰاهٰا للسفينة أو للقصّة.

و إِبْرٰاهِيمَ عطف على (نوح).

و إِذْ قٰالَ ظرف ل - أَرْسَلْنٰا أي: أرسلناه حين بلغ السنّ التي صلح فيها لأن يعظ قومه ويعرض عليهم الإيمان، ويأمرهم بالعبادة و التقوى.

إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي: إن كان فيكم علم بما هو خير لكم مما هو شرّ لكم، وإن نظرتم بعين البصيرة علمتم أنّه خَيْرٌ لَكُمْ .

ص: 235

أي: وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً بتسميتكم الأوثان شركاء للّه و آلهة أو شفعاء عند اللّه، وقيل: معناه: وتصنعون أصناما بأيديكم سمّاها إفكا، و نحتهم لها خلقا للإفك(1).

لاٰ يَمْلِكُونَ أن يرزقوكم شيئا من الرزق فاطلبوا عِنْدَ اَللّٰهِ اَلرِّزْقَ كله، فإنّه هو الرزاق وحده.

إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فاستعدوا للقائه بعبادته وَ اُشْكُرُوا لَهُ علي نعمه.

وَ إِنْ تكذّبوني فلا تضرّوني بتكذيبكم، فقد كذّبت الأمم رسلهم ولم يضرّوهم بالتكذيب بل ضرّوا أنفسهم، إذ حلّ بهم ما حلّ بسبب ذلك.

و اَلْبَلاٰغُ اَلْمُبِينُ الذي يزول معه الشك لاقترانه بالمعجزات.

وهذه الآية والآيات التي بعدها إلى قوله: فَمٰا كٰانَ جَوٰابَ قَوْمِهِ يحتمل أن تكون من جملة قول إبراهيم لقومه، وأن تكون آيات وقعت معترضة في شأن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وشأن قريش بين أوّل قصّة إبراهيم وآخرها، علي معنى: إنّكم يا معشر قريش إن تكذّبوا محمّدا فقد كذّب إبراهيم قومه، و كذّبت كل أمّة نبيّها.

وكذلك الآيات التابعة لها لأنّها ناطقة بدلائل التوحيد ووصف قدرة اللّه وإيضاح حججه.

وقرئ: أَ وَ لَمْ يَرَوْا بالتاء والياء.

وقوله: ثُمَّ يُعِيدُهُ إخبار با لإعادة بعد الموت غير معطوف علي يُبْدِئُ ، ولم تقع الرؤية عليه كما وقع النظر بعده علي البدء دون الإنشاء في قوله: كَيْفَ بَدَأَ اَلْخَلْقَ ثُمَّ اَللّٰهُ يُنْشِئُ اَلنَّشْأَةَ اَلْآخِرَةَ .

ص: 236


1- عن قتادة. تفسير الطبري ج 20:88.

ذٰلِكَ إشارة إلي معنى الإعادة في يُعِيدُهُ .

[سورة العنكبوت (29): الآیات 20 الی 25]

قُلْ سِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ اَلْخَلْقَ ثُمَّ اَللّٰهُ يُنْشِئُ اَلنَّشْأَةَ اَلْآخِرَةَ إِنَّ اَللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ يُعَذِّبُ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشٰاءُ وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ وَ مٰا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ فِي اَلسَّمٰاءِ وَ مٰا لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاٰ نَصِيرٍ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآيٰاتِ اَللّٰهِ وَ لِقٰائِهِ أُولٰئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَ أُولٰئِكَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ فَمٰا كٰانَ جَوٰابَ قَوْمِهِ إِلاّٰ أَنْ قٰالُوا اُقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجٰاهُ اَللّٰهُ مِنَ اَلنّٰارِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَ قٰالَ إِنَّمَا اِتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ أَوْثٰاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا ثُمَّ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَ مَأْوٰاكُمُ اَلنّٰارُ وَ مٰا لَكُمْ مِنْ نٰاصِرِينَ

اَلنَّشْأَةَ اَلْآخِرَةَ يدلّ علي أنّهما نشأتان، كل واحدة منهما ابتداء وإخراج من العدم إلى الوجود، لا فرق بينهما إلا أنّ الثانية إنشاء بعد إنشاء مثله، والأولى ليست كذلك. وقرئ: النشاة والنشأة كالرآفة والرأفة. و المعنى: ثمّ اللّه الذي أنشأ النشأة الأولى هو الذي ينشئ النشأة الآخرة، وللتنبيه علي هذا المعنى أظهر اسمه ولم يقل:

ثمّ ينشئ.

يُعَذِّبُ مَنْ يَشٰاءُ تعذيبه وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشٰاءُ رحمته وَ إِلَيْهِ تردّون وترجعون.

وَ مٰا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ربّكم، أي: لا تفوتونه إن هربتم من حكمه فِي اَلْأَرْضِ العريضة البسيطة وَ لاٰ فِي اَلسَّمٰاءِ التي هي أفسح منها لو كنتم فيها،

ص: 237

أو لا تعجزون أمره الجاري في السماء والأرض أن يجري عليكم فيصيبكم ببلاء يظهر في الأرض أو ينزل من السماء. وعن قتادة: (إنّ اللّه ذمّ قوما هانوا عليه فقال:

أُولٰئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وقال: لاٰ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اَللّٰهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْكٰافِرُونَ (1)

فينبغي للمؤمن أن لا ييأس من روح اللّه ولا من رحمته ولا يأمن عقابه، وصفة المؤمن أن يكون راجيا للّه خائفا)(2).

مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ قرئت منصوبة بغير إضافة وبإضافة، ومرفوعة كذلك.

والنصب [على وجهين: علي التعليل، أي: لتتوادوا بينكم وتتواصلوا لاتفاقكم علي عبادتها كما يتفق الناس](3) علي مذهب واحد فيكون ذلك سبب توادّهم، وعلي أن يكون مفعولا ثانيا، أي: اتخذتم الأوثان سبب المودّة بينكم، على تقدير حذف المضاف، أو اتخذتموها مودّة يعني: مودودة بينكم كقوله: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اَللّٰهِ (4).

والرفع علي وجهين أيضا: أن يكون خبرا ل - (إنّ ) علي أن تكون (ما) موصولة، وأن يكون خبر مبتدأ محذوف، والمعنى: إنّ الأوثان مودّة بينكم، أي: سبب مودّة أو مودودة، يعني: إنّما تتوادون عليها أو تودّونها فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا ثُمَّ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ تتباغضون وتتلاعنون، تتبرأ القادة من الأتباع وَ يَلْعَنُ الأتباع القادة.

[سورة العنكبوت (29): الآیات 26 الی 27]

فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَ قٰالَ إِنِّي مُهٰاجِرٌ إِلىٰ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (2(6) وَ وَهَبْنٰا لَهُ إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ جَعَلْنٰا فِي ذُرِّيَّتِهِ اَلنُّبُوَّةَ وَ اَلْكِتٰابَ وَ آتَيْنٰاهُ أَجْرَهُ فِي اَلدُّنْيٰا وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصّٰالِحِينَ

ص: 238


1- يوسف: 87.
2- معاني القرآن وإعرابه ج 4:165.
3- ساقطة من ج.
4- البقرة: 165.

[سورة العنكبوت (29): الآیات 28 الی 30]

وَ لُوطاً إِذْ قٰالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلْفٰاحِشَةَ مٰا سَبَقَكُمْ بِهٰا مِنْ أَحَدٍ مِنَ اَلْعٰالَمِينَ أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلرِّجٰالَ وَ تَقْطَعُونَ اَلسَّبِيلَ وَ تَأْتُونَ فِي نٰادِيكُمُ اَلْمُنْكَرَ فَمٰا كٰانَ جَوٰابَ قَوْمِهِ إِلاّٰ أَنْ قٰالُوا اِئْتِنٰا بِعَذٰابِ اَللّٰهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّٰادِقِينَ قٰالَ رَبِّ اُنْصُرْنِي عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْمُفْسِدِينَ

لُوطٍ أوّل من صدّق بإبراهيم، وهو ابن أخته.

وَ قٰالَ إبراهيم إِنِّي مُهٰاجِرٌ من كوثى - وهو سو اد الكوفة - إلى حر ان من أرض الشام، ثمّ منها إلى فلسطين، وكان معه في هجرته لوط وامرأته سارة وهاجر [وهو ابن خمس وسبعين سنة](1).

إِلىٰ رَبِّي إلى حيث أمرني ربّي بالهجرة إليه.

إِنَّهُ هُوَ اَلْعَزِيزُ الذي يمنعني من أعدائي اَلْحَكِيمُ الذي لا يأمرني إلا بما فيه مصلحتي.

و أَجْرَهُ فِي اَلدُّنْيٰا هو الذكر الحسن، والصلاة عليه إلي آخر الدهر، والذريّة الطيّبة، و أنّ أهل الملل كلهم يتولونه.

وَ لُوطاً عطف علي إِبْرٰاهِيمَ أو علي ما عطف عليه.

و اَلْفٰاحِشَةَ مفسّرة بقوله: أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلرِّجٰالَ . وقرئ: إنّكم بغير الاستفهام في الأوّل دون الثاني.

وقطع اَلسَّبِيلَ عمل قطاع الطريق من قتل الأنفس وأخذ الأموال،

ص: 239


1- زيادة من الكشاف يقتضيها السياق.

وقيل: هو قطعهم الناس عن الأسفار بإتيان هذه الفاحشة بالمجتازين في ديارهم(1)، وعن الحسن: (هو قطع النسل باختيار الرجال على النساء)(2).

و اَلْمُنْكَرَ هو الحذف بالحصا، فأيّهم أصابه ينكحونه، والصفع، وضرب المعازف، و القمار، و السباب، والفحش في المزاح، وقيل: كانوا يتحابقون(3)، وقيل: المجاهرة في ناديهم بذلك العمل(3). وكل معصية فإظهارها أقبح من سرّها، وفي الحديث: (من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له)(4). والنادي: مجتمع القوم، فإذا تفرّقوا عنه لا يكون ناديا.

إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّٰادِقِينَ فيما وعدتنا من نزول العذاب.

اُنْصُرْنِي عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْمُفْسِدِينَ الذين يفسدون الناس بحملهم علي ما كانوا عليه من الفاحشة طوعا وكرها، و بابتداعهم إيّاها، وبأن سنّوها لمن بعدهم.

[سورة العنكبوت (29): الآیات 31 الی 33]

وَ لَمّٰا جٰاءَتْ رُسُلُنٰا إِبْرٰاهِيمَ بِالْبُشْرىٰ قٰالُوا إِنّٰا مُهْلِكُوا أَهْلِ هٰذِهِ اَلْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهٰا كٰانُوا ظٰالِمِينَ (31) قٰالَ إِنَّ فِيهٰا لُوطاً قٰالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهٰا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ اِمْرَأَتَهُ كٰانَتْ مِنَ اَلْغٰابِرِينَ (32) وَ لَمّٰا أَنْ جٰاءَتْ رُسُلُنٰا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَ ضٰاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَ قٰالُوا لاٰ تَخَفْ وَ لاٰ تَحْزَنْ إِنّٰا مُنَجُّوكَ وَ أَهْلَكَ إِلاَّ اِمْرَأَتَكَ كٰانَتْ مِنَ اَلْغٰابِرِينَ (3(5)

ص: 240


1- عن ابن زيد. تفسير الطبري ج 20:93.
2- الكشاف ج 3:452 با لمعنى.
3- عن مجاهد وغيره. تفسير الطبري ج 20:93.
4- تحف العقول: 45، سنن البيهقي الكبرى ج 10:210.
5- عن عائشة. تفسير الطبري ج 20:93.

[سورة العنكبوت (29): الآیات 34 الی 38]

إِنّٰا مُنْزِلُونَ عَلىٰ أَهْلِ هٰذِهِ اَلْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ اَلسَّمٰاءِ بِمٰا كٰانُوا يَفْسُقُونَ وَ لَقَدْ تَرَكْنٰا مِنْهٰا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَ إِلىٰ مَدْيَنَ أَخٰاهُمْ شُعَيْباً فَقٰالَ يٰا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ وَ اُرْجُوا اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ وَ لاٰ تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دٰارِهِمْ جٰاثِمِينَ وَ عٰاداً وَ ثَمُودَ وَ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسٰاكِنِهِمْ وَ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطٰانُ أَعْمٰالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ اَلسَّبِيلِ وَ كٰانُوا مُسْتَبْصِرِينَ

مُهْلِكُوا أَهْلِ هٰذِهِ اَلْقَرْيَةِ إضافة تخفيف لا إضافة تعريف، ومعناه الاستقبال، و اَلْقَرْيَةِ هي سدوم التي قيل فيها: (أجور من قاضي سدوم)(1).

كٰانُوا ظٰالِمِينَ استمر بهم فعل الظلم في الأيّام السالفة و أصروا عليه.

وقرئ: لَنُنَجِّيَنَّهُ و مُنَجُّوكَ بالتشديد والتخفيف.

ضاق بِهِمْ ذَرْعاً أي: ضاق بشأنهم و تدبير أمرهم ذرعه أي: طاقته، جعلوا ضيق الذراع والذرع عبارة عن فقد الطاقة، كما قالوا: رحب الذراع، إذا كان مطيقا.

والرجز والرجس: العذاب، من قولهم: ارتجز وارتجس: إذا اضطرب لما يلحق المعذّب من القلق والاضطراب. والآية البيّنة: آثار منازلهم المتخربة، وقيل:

الماء الأسود علي وجه الأرض(2).

ص: 241


1- مجمع الأمثال ج 1:339.
2- عن مجاهد. الكشف والبيان ج 7:278.

لِقَوْمٍ يتعلّق ب - تَرَكْنٰا أو ب - بَيِّنَةً .

وَ اُرْجُوا اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ افعلوا ما ترجون منه العاقبة، فأقيم المسبب مقام السبب، أي: وارجوا ثواب اليوم الآخر بفعل الإيمان والطاعات، وقيل: هو من الرجاء بمعنى الخوف(1).

اَلرَّجْفَةُ الزلزلة الشديدة، وقيل: هي صيحة جبرائيل(2)، لأنّ القلوب رجفت لها.

فِي دٰارِهِمْ في بلدهم و أرضهم، و اكتفي بالواحد والمراد في ديارهم لأنّه لا يلتبس.

جٰاثِمِينَ باركين علي الركب ميتين.

و أهلكنا عٰاداً وَ ثَمُودَ ويدلّ عليه قوله: فَأَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ لأنه في معنى الإهلاك.

وَ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ يعني: ما وصفه من إهلاكهم مِنْ جهة مَسٰاكِنِهِمْ إذا نظرتم إليها عند مروركم بها.

وَ كٰانُوا مُسْتَبْصِرِينَ عقلاء متمكّنين من النظر ولم يفعلوا، أو كانوا متبيّنين أنّ العذاب نازل بهم.

[سورة العنكبوت (29): الآیات 39 الی 40]

وَ قٰارُونَ وَ فِرْعَوْنَ وَ هٰامٰانَ وَ لَقَدْ جٰاءَهُمْ مُوسىٰ بِالْبَيِّنٰاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ مٰا كٰانُوا سٰابِقِينَ فَكُلاًّ أَخَذْنٰا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنٰا عَلَيْهِ حٰاصِباً وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ

ص: 242


1- عن يوسف النحوي. الكشف والبيان ج 7:279.
2- تفسير مقاتل بن سليمان ج 2:519.

[سورة العنكبوت (29): الآیات 40 الی 44]

اَلصَّيْحَةُ وَ مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنٰا بِهِ اَلْأَرْضَ وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنٰا وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لٰكِنْ كٰانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ مَثَلُ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللّٰهِ أَوْلِيٰاءَ كَمَثَلِ اَلْعَنْكَبُوتِ اِتَّخَذَتْ بَيْتاً وَ إِنَّ أَوْهَنَ اَلْبُيُوتِ لَبَيْتُ اَلْعَنْكَبُوتِ لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ إِنَّ اَللّٰهَ يَعْلَمُ مٰا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ وَ تِلْكَ اَلْأَمْثٰالُ نَضْرِبُهٰا لِلنّٰاسِ وَ مٰا يَعْقِلُهٰا إِلاَّ اَلْعٰالِمُونَ خَلَقَ اَللّٰهُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ

وَ مٰا كٰانُوا سٰابِقِينَ أي: فائتين اللّه، أدركهم أمر اللّه فلم يفوتوه.

الحاصب لقوم لوط، وهي ريح عاصف فيها حصباء، وقيل: ملك كان يرميهم.

و اَلصَّيْحَةُ لمدين وثمود، والخسف لقارون، والغرق لقوم نوح وفرعون.

شبّه سبحانه ما اتخذوه متكلا في دينهم ومعوّلا عليه بما هو مثل في الضعف والوهن، وهو نسج العنكبوت.

والولي: المتولي للنصرة، وهو أبلغ من الناصر.

لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ أنّ هذا مثلهم، وأنّ أمر دينهم بلغ هذه الغاية في الضعف، أو إذا صحّ هذا التشبيه فقد تبيّن أنّ دينهم أوهن الأديان لو كانوا يعلمون.

ص: 243

وقرئ: يَدْعُونَ بالتاء والياء، وهذا أوكد مما تقدّم إذ لم يجعل ما يدعونه شيئا.

وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ فيه تجهيل لهم حيث عبدوا ما ليس بشيء، وتركوا عبادة القادر الحكيم.

وَ مٰا يَعْقِلُهٰا إِلاَّ اَلْعٰالِمُونَ أي: لا يعقل صحّة ضرب المثل بالعنكبوت والذباب وفائدته إلا العلماء باللّه، فإنّ الأمثال والتشبيهات هي الطرق إلى المعاني المحتجبة في الأستار، تكشف عنها وتصوّرها للأفهام، كما صوّر هذا التشبيه الفرق بين حال المشرك وحال الموحد. وروي عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّه تلا هذه الآية فقال:

(العالم الذي عقل عن اللّه فعمل بطاعته واجتنب سخطه)(1).

بِالْحَقِّ أي: بالغرض الصحيح الذي هو حقّ ، وهو أن تكونا مساكن عباده، وعبرة للمعتبرين، و دلالة للموحدين علي وحدانيته وكمال قدرته.

[سورة العنكبوت (29): الآیات 45 الی 48]

اُتْلُ مٰا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ اَلْكِتٰابِ وَ أَقِمِ اَلصَّلاٰةَ إِنَّ اَلصَّلاٰةَ تَنْهىٰ عَنِ اَلْفَحْشٰاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اَللّٰهِ أَكْبَرُ وَ اَللّٰهُ يَعْلَمُ مٰا تَصْنَعُونَ وَ لاٰ تُجٰادِلُوا أَهْلَ اَلْكِتٰابِ إِلاّٰ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَ قُولُوا آمَنّٰا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنٰا وَ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ إِلٰهُنٰا وَ إِلٰهُكُمْ وٰاحِدٌ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وَ كَذٰلِكَ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ اَلْكِتٰابَ فَالَّذِينَ آتَيْنٰاهُمُ اَلْكِتٰابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مِنْ هٰؤُلاٰءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَ مٰا يَجْحَدُ بِآيٰاتِنٰا إِلاَّ اَلْكٰافِرُونَ وَ مٰا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ

ص: 244


1- الكشف والبيان ج 7:280.

[سورة العنكبوت (29): الآیات 48 الی 49]

قَبْلِهِ مِنْ كِتٰابٍ وَ لاٰ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتٰابَ اَلْمُبْطِلُونَ بَلْ هُوَ آيٰاتٌ بَيِّنٰاتٌ فِي صُدُورِ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَ مٰا يَجْحَدُ بِآيٰاتِنٰا إِلاَّ اَلظّٰالِمُونَ

الصلاة لطف للمكلف في ترك المعاصي، فكأنّها ناهية عنها. وعن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:

(من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم تزده من اللّه إلا بعدا)(1).

وَ لَذِكْرُ اَللّٰهِ أَكْبَرُ والصلاة أكبر من غيرها من الطاعات، و سمّاها بذكر اللّه كما قال: فَاسْعَوْا إِلىٰ ذِكْرِ اَللّٰهِ (2) فكأنّه قال: الصلاة أكبر لأنّها ذكر اللّه.

وعن ابن عباس: (ولذكر اللّه إيّاكم برحمته أكبر من ذكركم إيّاه بطاعته)(3).

وَ اَللّٰهُ يَعْلَمُ مٰا تَصْنَعُونَ من الخير والطاعة فيثيبكم عليه.

وَ لاٰ تُجٰادِلُوا اليهود والنصاري إِلاَّ بالخصلة التي هِيَ أَحْسَنُ وهي مقابلة الخشونة باللين كقوله: اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (4)، وفي هذا دلالة علي أنّ الدعاء إلى اللّه تعالى يجب أن يكون علي أحسن الوجوه وألطفها.

إِلاَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فأفرطوا في الاعتداء والعناد، ولم ينجع فيهم الرفق واللطف.

وَ قُولُوا آمَنّٰا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنٰا وَ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ هومن جملة المجادلة التي هي أحسن.

ص: 245


1- مسند الشهاب ج 1:305.
2- الجمعة: 9.
3- الدر المنثور ج 5:146.
4- فصلت: 34.

وَ كَذٰلِكَ ومثل ذلك الإنزال أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ اَلْكِتٰابَ أي: أنزلناه مصدّقا لسائر الكتب السماوية.

فَالَّذِينَ آتَيْنٰاهُمُ اَلْكِتٰابَ هم عبد اللّه بن سلام وأضرابه.

وَ مِنْ هٰؤُلاٰءِ أي: و من أهل مكة. وقيل: أراد بالذين آتيناهم الكتاب من تقدّم عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم منهم وَ مِنْ هٰؤُلاٰءِ من في عهده منهم(1).

وَ مٰا يَجْحَدُ بِآيٰاتِنٰا مع ظهورها إِلاَّ المصممون علي الكفر.

وما كنت تقرأ من قبل القرآن كتابا، وكنت أميا لم تعرف بخط قط، إذ لو كان شيء من ذلك أي: من التلاوة والخط لاَرْتٰابَ اَلْمُبْطِلُونَ من أهل الكتاب و قالوا: الذي نجده في كتبنا: أمي لا يكتب ولا يقرأ وليس هو به، أو لارتاب مشركو مكة وقالوا: لعله تعلّمه أو خطّه بيده.

بل القرآن آيٰاتٌ بَيِّنٰاتٌ فِي صُدُورِ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وهم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والأئمّة والعلماء الذين حفظوه ووعوه، ورسخ معناه في قلوبهم. وهذان من خصائص القرآن: كون آياته بيّنات الإعجاز، وكونه محفوظا في الصدور يتلوه حملته ظاهرا، بخلاف سائر الكتب الإلهية فإنّها لم تكن معجزات، وما كانت تقرأ إلا من المصاحف.

وَ مٰا يَجْحَدُ بالآيات الواضحات إِلاَّ المكابرون المتوغلون في الظلم.

[سورة العنكبوت (29): الآیات 50 الی 51]

وَ قٰالُوا لَوْ لاٰ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيٰاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا اَلْآيٰاتُ عِنْدَ اَللّٰهِ وَ إِنَّمٰا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (5(0) أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنّٰا أَنْزَلْنٰا عَلَيْكَ اَلْكِتٰابَ يُتْلىٰ عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَرَحْمَةً وَ ذِكْرىٰ

ص: 246


1- تفسير الطبري ج 21:4.

[سورة العنكبوت (29): الآیات 51 الی 55]

لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قُلْ كَفىٰ بِاللّٰهِ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْبٰاطِلِ وَ كَفَرُوا بِاللّٰهِ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْخٰاسِرُونَ وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذٰابِ وَ لَوْ لاٰ أَجَلٌ مُسَمًّى لَجٰاءَهُمُ اَلْعَذٰابُ وَ لَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لاٰ يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذٰابِ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكٰافِرِينَ يَوْمَ يَغْشٰاهُمُ اَلْعَذٰابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَ يَقُولُ ذُوقُوا مٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

وقرئ: آيات أي: هلا أنزل عليه مثل ناقة صالح و مائدة عيسى ونحو ذلك.

إِنَّمَا اَلْآيٰاتُ عِنْدَ اَللّٰهِ ينزل أيتها شاء، ولو شاء أن ينزل ما يقترحونه لأنزله.

وَ إِنَّمٰا أَنَا منذر أنذر بما أعطيت من الآيات، وليس لي اختيار الآيات علي اللّه عزّ اسمه، مع علمي بأنّ الغرض من الآية ثبوت الدلالة، و الآيات كلها في حكم آية واحدة في ذلك.

أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنّٰا أَنْزَلْنٰا القرآن عليك وهو المعجزة الواضحة، والآية المغنية عن سائر الآيات، تدوم تلاوته عليهم في كل مكان وزمان، فلا يزال معهم آية ثابتة إلى آخر الدهر.

إِنَّ فِي ذٰلِكَ لنعمة عظيمة وتذكرة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ .

قُلْ كَفىٰ بِاللّٰهِ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ شَهِيداً لي بأن قد أبلغت الرسالة، وعليكم بأن كذّبتم وعاندتم.

ص: 247

يَعْلَمُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وهو مطّلع على أمري و أمركم، وعالم بحقّي وباطلكم.

وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْبٰاطِلِ منكم وهو ما يعبدون من دون اللّه.

أُولٰئِكَ هُمُ اَلْخٰاسِرُونَ المغبونون في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان.

استعجالهم العذاب: استهزاء منهم وتكذيب، ومنه قول النضر بن الحارث:

فَأَمْطِرْ عَلَيْنٰا حِجٰارَةً مِنَ اَلسَّمٰاءِ (1) .

وَ لَوْ لاٰ أَجَلٌ مُسَمًّى قد سمّاه اللّه، ووقت قدّره اللّه أوجبت الحكمة تأخيره إلى ذلك الوقت لَجٰاءَهُمُ اَلْعَذٰابُ و هو وقت فنائهم بآجالهم، وقيل: المراد با لأجل:

الآخرة(2)، لأنّ اللّه سبحانه وعد رسوله عليه السلام أن لا يعذّب أمّته ولا يستأصلهم، وأن يؤخر عذابهم إلى يوم القيامة.

وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بهم لأنّها مصيرهم لا محالة، فكأنّها أحاطت بهم، أو ستحيط بهم.

يَوْمَ يَغْشٰاهُمُ اَلْعَذٰابُ وعلي الأوّل ينتصب يَوْمَ يَغْشٰاهُمُ بمضمر.

و مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ كقوله: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهٰادٌ وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَوٰاشٍ (3)، لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ اَلنّٰارِ وَ مِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ (4).

وقرئ: وَ يَقُولُ بالياء والنون، أي: ذوقوا جزاء أعمالكم.

ص: 248


1- ينظر: تفسير الآية 32 من سورة الأنفال.
2- عن ابن عباس. معالم التنزيل ج 3:144.
3- الأعراف: 41.
4- الزمر: 16.

[سورة العنكبوت (29): الآیات 56 الی 62]

يٰا عِبٰادِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وٰاسِعَةٌ فَإِيّٰايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذٰائِقَةُ اَلْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنٰا تُرْجَعُونَ (57) وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ اَلْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا نِعْمَ أَجْرُ اَلْعٰامِلِينَ (58) اَلَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لاٰ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اَللّٰهُ يَرْزُقُهٰا وَ إِيّٰاكُمْ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ (60) وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اَللّٰهُ فَأَنّٰى يُؤْفَكُونَ (61) اَللّٰهُ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اَللّٰهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (6(1)

معناه: إذا لم يتسهّل لكم العبادة، ولم تتمش أمور دينكم في بلد أنتم فيه فاخرجوا منه إلى بلد آخر. وعن الصادق عليه السلام: (إذا عصي اللّه في أرض أنت بها فاخرج منها إلى غيرها)(2). وعن النبى صلى الله عليه و آله و سلم: (من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجب الجنّة، وكان رفيق إبراهيم و محمّد عليهما السلام)(2).

فَإِيّٰايَ فَاعْبُدُونِ هو في المتكلّم مثل: إيّاه ضربته في الغائب، وإياك ضربتك في المخاطب، والتقدير: فإياي فاعبدوني. والفاء جواب شرط محذوف، لأنّ المعنى:

إنّ أرضي واسعة فإن لم تخلصوا العبادة لي في أرض فأخلصوها في غيرها، ثمّ حذف الشرط و عوّض عن حذفه تقديم المفعول مع إفادة تقديمه معنى الاختصاص و الإخلاص.

ولما أمر عباده بالحرص علي العبادة والإخلاص فيها حتى يطلبوا لها أوفق

ص: 249


1- الكشف والبيان ج 7:288.
2- مجمع البيان ج 7-8:291.

البلاد، عقّبه بقوله: كُلُّ نَفْسٍ ذٰائِقَةُ اَلْمَوْتِ أي: واجد مرارته بأي أرض كان.

لَنُبَوِّئَنَّهُمْ [لننزلنهم مِنَ اَلْجَنَّةِ غُرَفاً أي: علالي عاليات، و قرئ:

لنثوينهم](1) من الثواء، يقال: ثوى في المنزل وأثوى غيره، والوجه في تعديته إلى الغرف أن يكون الأصل: لنثوينهم في غرف، فحذف الجار، أو أجري مجري للنزلنهم، أو شبه الظرف الموقّت بالمبهم.

اَلَّذِينَ صَبَرُوا علي مفارقة الأوطان لأجل الدين، وعلي المحن و الشدائد، وعلي الطاعات، وعن المعاصي، ولم يتوكلوا إلا علي ربّهم.

ولما أمروا بالهجرة من مكة خافوا الفقر والضيعة فقالوا: كيف نخرج إلى بلدة ليس لنا فيها معيشة ؟ فقيل: وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ و الدابة: كل نفس دبت علي وجه الأرض، عقلت أو لم تعقل.

لاٰ تَحْمِلُ رِزْقَهَا لا تستطيع أن تحمله لضعفها.

اَللّٰهُ يَرْزُقُهٰا وَ إِيّٰاكُمْ أي: لا يرزق تلك الدواب إلا اللّه، ولا يرزقكم أيضا إلا هو، وإن كنتم تطيقون حمل أرزاقكم و كسبها فلا تتركوا الهجرة بسبب الاهتمام للرزق.

وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ لقولكم: نخشى الفقر اَلْعَلِيمُ بضمائركم.

وَ لَئِنْ سألت هؤلاء المشركين من أهل مكة مَنْ خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ لأقرّوا بأنّه خالقهما ومسخّر الشمس والقمر و مسيّرهما.

فَأَنّٰى يُؤْفَكُونَ أي: فكيف يصرفون عن توحيد اللّه ؟.

وقدر الرزق وقتره: ضيقه، أي: ويقدر لمن يشاء، فوضع الضمير موضع

ص: 250


1- ساقطة من ج.

(من يشاء).

[سورة العنكبوت (29): الآیات 63 الی 69]

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً فَأَحْيٰا بِهِ اَلْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهٰا لَيَقُولُنَّ اَللّٰهُ قُلِ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاٰ يَعْقِلُونَ (63) وَ مٰا هٰذِهِ اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا إِلاّٰ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ اَلدّٰارَ اَلْآخِرَةَ لَهِيَ اَلْحَيَوٰانُ لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذٰا رَكِبُوا فِي اَلْفُلْكِ دَعَوُا اَللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ فَلَمّٰا نَجّٰاهُمْ إِلَى اَلْبَرِّ إِذٰا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمٰا آتَيْنٰاهُمْ وَ لِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّٰا جَعَلْنٰا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ اَلنّٰاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَ فَبِالْبٰاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَةِ اَللّٰهِ يَكْفُرُونَ (67) وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرىٰ عَلَى اَللّٰهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمّٰا جٰاءَهُ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكٰافِرِينَ (68) وَ اَلَّذِينَ جٰاهَدُوا فِينٰا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنٰا وَ إِنَّ اَللّٰهَ لَمَعَ اَلْمُحْسِنِينَ (6(9)

قُلِ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ علي ما وفق من توحيده، ونفي الأنداد عنه.

بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاٰ يَعْقِلُونَ ما يقولون وما فيه من الدلالة علي بطلان الشرك و صحّة التوحيد.

هٰذِهِ فيها ازدراء لأمر الدنيا وتحقير لها، أي: ما هي لسرعة زوالها عن أهلها إلا كما يلعب الصبيان ساعة ثمّ يتفرقون، وإنّ اَلْآخِرَةَ لَهِيَ اَلْحَيَوٰانُ أي:

ليس فيها إلا حياة دائمة لا موت فيها ولا تنغيص، فكأنّها في ذاتها حياة. والحيوان:

مصدر حيي، و أصله حييان فقلبت الثانية واوا، و به سمّي ما فيه حياة حيوانا.

لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ لم يؤثروا عليها الحياة الفانية.

واتصل قوله: فَإِذٰا رَكِبُوا بمحذوف دلّ عليه ما شرحه من أمرهم،

ص: 251

والمعنى: إنّهم علي ما وصفوا به من الشرك والعناد، فإذا ركبوا في الفلك دَعَوُا اَللّٰهَ كائنين في صورة من يخلص الدين للّه من المؤمنين، حيث لا يذكرون إلا اللّه، ولا يدعون معه إلها آخر فَلَمّٰا نَجّٰاهُمْ إِلَى اَلْبَرِّ وأمنوا عادوا إلي حالهم الأولى من الإشراك معه في العبادة.

لِيَكْفُرُوا ، وَ لِيَتَمَتَّعُوا قرئ بكسر اللامين، فيحتمل أن يكون لام (كي)، بمعنى: أنّهم يعودون إلى شركهم ليكونوا بالعود كافرين بنعمة اللّه قاصدين التمتع بها والتلذذ لا غير، وأن يكون لام الأمر علي معنى التهديد والتوعيد، وقراءة من قرأ: وليتمتعوا - بالسكون - تشهد له، ونحوه قوله سبحانه: اِعْمَلُوا مٰا شِئْتُمْ (1).

ثمّ ذكّرهم اللّه سبحانه النعمة عليهم في كونهم آمنين من القتل والغارة، والعرب حول مكة يغزو بعضهم بعضا ويتغاورون مع قلتهم وكثرة العرب، ووبّخهم بأنّهم يؤمنون بالباطل الذي هم عليه، وهذه النعمة الظاهرة إلى غيرها من نعم اللّه مكفورة عندهم.

أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ تقرير لثوائهم في جهنم، كقول الشاعر:

ألستم خير من ركب المطايا *** وأندى العالمين بطون راح(2)

والهمزة همزة الإنكار دخلت علي النفي فرجع إلى معنى التقرير، وفيها وجهان:

أحدهما: ألا يثوون في جهنم، وألا يستحقّون الثواء فيها وقد افتروا مثل هذا

ص: 252


1- فصلت: 40.
2- ديوان جرير: 77.

الكذب على اللّه في ادعائهم له شريكا، وكذّبوا بالحقّ هذا التكذيب ؟!.

والثاني: ألم يصحّ عندهم أن في جهنم مثواهم حتى اجترؤوا مثل هذه الجرأة ؟!.

وَ اَلَّذِينَ جٰاهَدُوا ما يجب مجاهدته من النفس الأمارة بالسوء، والشيطان وأعداء الدين.

فِينٰا أي: في حقّنا ولوجهنا ومن أجلنا.

لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنٰا لنزيدنهم هداية إلى السبيل الموصلة إلى ثوابنا، وتوفيقا لازدياد الطاعات الموجبة لرضائنا، كقوله: وَ اَلَّذِينَ اِهْتَدَوْا زٰادَهُمْ هُدىً (1)

وقيل: والذين جاهدوا فيما علموا لنهدينّهم إلى ما لم يعلموا(2).

ص: 253


1- محمّد: 17.
2- عن أبي سليمان الداراني وغيره. الكشف والبيان ج 7:290.

سورة الروم

اشارة

مكية، إلا آية منها، وهي قوله: فَسُبْحٰانَ اَللّٰهِ حِينَ تُمْسُونَ ، وهي ستون آية، الم كوفي، بِضْعِ سِنِينَ غيرهم.

في حديث أبيّ : (من قرأها كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كل ملك سبّح اللّه بين السماء والأرض، وأدرك ما ضيّع في يومه وليلته)(1).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة الروم (30): الآیات 1 الی 8]

الم غُلِبَتِ اَلرُّومُ فِي أَدْنَى اَلْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلّٰهِ اَلْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ اَلْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اَللّٰهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشٰاءُ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ وَعْدَ اَللّٰهِ لاٰ يُخْلِفُ اَللّٰهُ وَعْدَهُ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظٰاهِراً مِنَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ هُمْ عَنِ اَلْآخِرَةِ هُمْ غٰافِلُونَ أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مٰا خَلَقَ اَللّٰهُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا إِلاّٰ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنّٰاسِ بِلِقٰاءِ رَبِّهِمْ لَكٰافِرُونَ

اَلْأَرْضِ أرض العرب، لأنّ الأرض المعهودة عند العرب أرضهم،

ص: 254


1- الكشف والبيان ج 7:291.

والمعنى: غُلِبَتِ اَلرُّومُ فِي أَدْنَى أرض العرب منهم، وهي أطراف الشام، وقيل:

هي أرض الجزيرة، وهي أدنى أرض الروم إلى فارس(1). و البضع: ما بين الثلاث إلى العشر.

قيل: احتربت الروم وفارس بين أذرعات وبصرى، فغلبت فارس الروم، فبلغ الخبر مكة، فشق علي رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم والمسلمين، لأنّ فارس مجوس والروم أهل كتاب، وفرح المشركون وقالوا: أنتم و النصارى أهل كتاب، ونحن وفارس لا كتاب لنا، وقد ظهر إخواننا علي إخوانكم، ولنظهرنّ نحن عليكم، فنزلت(2).

وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ يعني: إنّ الروم من بعد غلبة فارس إيّاهم سيغلبونهم فِي بِضْعِ سِنِينَ . وهذه من الآيات الشاهدة علي صحّة نبوّة نبيّنا صلى الله عليه و آله و سلم، وأنّ القرآن من عند اللّه سبحانه، لأنّه أنبأ بما سيكون وهو الغيب الذي لا يعلمه إلا اللّه عزّ وجل. وعن أبي سعيد الخدري قال: (التقينا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ومشركو العرب، والتقت الروم وفارس، فنصرنا اللّه علي مشركي العرب ونصر اللّه الروم علي المجوس، ففرحنا بنصر اللّه إيّانا علي المشركين، ونصر أهل الكتاب على المجوس، فذلك قوله: وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ اَلْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اَللّٰهِ وهو يوم بدر)(3).

مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ أي: في أوّل الوقتين وآخرهما، حين غلبوا وحين يغلبون، يعني: إنّ كونهم مغلوبين أوّلا و غالبين آخرا ليس إلا بأمر اللّه وقضائه.

وَ يَوْمَئِذٍ ويوم يغلب الروم فارس يَفْرَحُ اَلْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اَللّٰهِ و تغليبه من له كتاب علي من لا كتاب له، وقيل: نصر اللّه أنّه ولّى بعض الظالمين

ص: 255


1- عن مجاهد. الكشف والبيان ج 7:294.
2- أسباب النزول: 243.
3- تفسير الطبري ج 21:12.

بعضا وفرّق بين كلمتهم، وفي ذلك قوة للإسلام.

وَعْدَ اَللّٰهِ مصدر مؤكد، كقولك: له عليّ ألف درهم اعترافا(1)، لأنّ معناه: اعترفت لك بها اعترافا، ووعد اللّه ذلك وعدا لأنّ الكلام المتقدّم في معنى وعدتم.

ثمّ ذمّهم اللّه تعالى بأنّهم بصراء بأمور الدنيا، يعلمون منافعها ومضارّها، غافلون عن أمور الدين، وعن الحسن: (بلغ من علم أحدهم بدنياه أنّه يقلّب الدرهم علي ظفره فيخبرك بوزنه، وما يحسن أن يصلي)(2).

وقوله: يَعْلَمُونَ بدل من لاٰ يَعْلَمُونَ ، وفي هذا الإبدال إيذان بأنّ عدم العلم الذي هو مثل الجهل، ووجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا، مستويان في أنفسهم. ويحتمل أن يكون ظرفا، فيكون المعنى: أو لم يحدثوا التفكّر في قلوبهم الفارغة من الفكر؟. والتفكّر لا يكون إلا في القلوب ولكنّه زيادة تصوير لحال المتفكرين، كما يقال: اعتقد في قلبه، أي: أو لم يتفكروا فيقولوا هذا القول أو فيعلموا ذلك ؟.

و يحتمل أن يكون صلة للتفكر، فيكون المعنى: أو لم يتفكروا في أنفسهم التي هي أقرب إليهم من غيرها من المخلوقات فيتدبّروا ما أودعها اللّه من غرائب الحكم الدالة علي التدبير دون الإهمال ؟.

وقوله: إِلاّٰ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى أي: ما خلقها باطلا و عبثا بغير غرض صحيح، وإنّما خلقها مقرونة بالحقّ مصحوبة بالحكمة وبتقدير أجل مسمّى لابد أن ينتهي إليه، وهو قيام الساعة ووقت الجزاء والحساب، والمراد بلقاء ربّهم: الأجل

ص: 256


1- في ب: عرفا.
2- معالم التنزيل ج 3:147.

المسمّى. و الباء في بِالْحَقِّ مثلها في قولك: اشتريت الفرس بسرجه و لجامه.

[سورة الروم (30): الآیات 9 الی 16]

أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كٰانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ أَثٰارُوا اَلْأَرْضَ وَ عَمَرُوهٰا أَكْثَرَ مِمّٰا عَمَرُوهٰا وَ جٰاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنٰاتِ فَمٰا كٰانَ اَللّٰهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لٰكِنْ كٰانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كٰانَ عٰاقِبَةَ اَلَّذِينَ أَسٰاؤُا اَلسُّواىٰ أَنْ كَذَّبُوا بِآيٰاتِ اَللّٰهِ وَ كٰانُوا بِهٰا يَسْتَهْزِؤُنَ (10) اَللّٰهُ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسّٰاعَةُ يُبْلِسُ اَلْمُجْرِمُونَ (12) وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكٰائِهِمْ شُفَعٰاءُ وَ كٰانُوا بِشُرَكٰائِهِمْ كٰافِرِينَ (13) وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسّٰاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَ أَمَّا اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا وَ لِقٰاءِ اَلْآخِرَةِ فَأُولٰئِكَ فِي اَلْعَذٰابِ مُحْضَرُونَ (1(6)

هذا تقرير لسيرهم في البلاد ونظرهم إلى آثار المهلكين من الأمم الخالية بتكذيبهم الرسل، ثمّ وصف أحوالهم وأنّهم كٰانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً .

وَ أَثٰارُوا اَلْأَرْضَ أي: حرثوا الأرض، و سمّي الثور لإثارته الأرض، والبقرة لبقرها، وهو الشق.

وَ عَمَرُوهٰا أَكْثَرَ مِمّٰا عمر هؤلاء، فَمٰا كٰانَ اَللّٰهُ لِيَظْلِمَهُمْ بتدميره إيّاهم، لأنّ حاله منافية للظلم ولكنّهم ظلموا أنفسهم بفعلهم ما أوجب تدميرهم.

وقرئ: عٰاقِبَةُ بالنصب والرفع. و اَلسُّواىٰ تأنيث الأسوء وهو

ص: 257

الأقبح، كما أنّ الحسنى تأنيث الأحسن. والمعنى: إنّهم عوقبوا في الدنيا بالدمار ثمّ كانت عا قبتهم السوأى، إلا أنّه [وضع المظهر موضع المضمر، فمن نصب عٰاقِبَةَ جعلها الخبر، والسوأى: هي العقوبة التي هي أسوأ العقوبات](1) في القيامة وهي جهنم.

و أَنْ كَذَّبُوا بمعنى لأن كذبوا.

ثُمَّ إِلَيْهِ أي: إلى ثوابه أو عقابه تُرْجَعُونَ وقرئ بالتاء والياء.

والإبلاس: أن يبقى يائسا ساكنا متحيّرا.

و شركاؤهم: الذين عبدوهم من دون اللّه وَ كٰانُوا بِشُرَكٰائِهِمْ كٰافِرِينَ يكفرون بإلهيتهم و يجحدونها.

و الضمير في يَتَفَرَّقُونَ للمسلمين والكافرين، يدلّ علي ذلك ما بعده، يتفرّقون فرقة لا اجتماع لها.

فِي رَوْضَةٍ في بستان وهي الجنّة، ونكّرت للتفخيم والإبهام، أي: في روضة وأيّ روضة، والروضة عند العرب: كل أرض ذات نبات وماء، وفي المثل:

(أحسن من بيضة في روضة)(2).

يُحْبَرُونَ يسرّون، وقيل: هو السماع في الجنّة(3).

مُحْضَرُونَ لا يغيبون عنه ولا يخفف عنهم.

ص: 258


1- ساقطة من ج.
2- مجمع الأمثال ج 1:406.
3- عن يحيى بن أبي كثير. تفسير الطبري ج 21:20.

[سورة الروم (30): الآیات 17 الی 25]

فَسُبْحٰانَ اَللّٰهِ حِينَ تُمْسُونَ وَ حِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَ لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ عَشِيًّا وَ حِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ مِنَ اَلْحَيِّ وَ يُحْيِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا وَ كَذٰلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَ مِنْ آيٰاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرٰابٍ ثُمَّ إِذٰا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَ مِنْ آيٰاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوٰاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهٰا وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَ مِنْ آيٰاتِهِ خَلْقُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلاٰفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوٰانِكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِلْعٰالِمِينَ (22) وَ مِنْ آيٰاتِهِ مَنٰامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ وَ اِبْتِغٰاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَ مِنْ آيٰاتِهِ يُرِيكُمُ اَلْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنَزِّلُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً فَيُحْيِي بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَ مِنْ آيٰاتِهِ أَنْ تَقُومَ اَلسَّمٰاءُ وَ اَلْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذٰا دَعٰاكُمْ دَعْوَةً مِنَ اَلْأَرْضِ إِذٰا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (2(5)

ثمّ عقّب سبحانه ذكر الوعد والوعيد بما يوصل إلى الوعد وينجي من الوعيد، والمراد بالتسبيح: ظاهره الذي هو تنزيه اللّه جل اسمه من السوء وذكره في هذه الأوقات، وقيل: هو الصلاة(1). وقيل لابن عباس: هل تجد الصلوات الخمس في القرآن ؟ قال: (نعم، وتلا هذه الآية)(2).

تُمْسُونَ صلاة المغرب والعشاء، و تُصْبِحُونَ صلاة الصبح.

ص: 259


1- عن ابن عباس وغيره. تفسير الطبري ج 21:20.
2- الكشف والبيان ج 7:298.

وَ عَشِيًّا صلاة العصر، وَ حِينَ تُظْهِرُونَ صلاة الظهر. وعن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم:

(من سرّه أن يكال له بالقفيز(1) الأوفى فليقل: فَسُبْحٰانَ اَللّٰهِ حِينَ تُمْسُونَ ... إلى قوله: وَ كَذٰلِكَ تُخْرَجُونَ )(2). ومثل ذلك الإخراج تخرجون من القبور وتبعثون.

خَلَقَكُمْ أي: خلق أصلكم من تراب.

و إِذٰا للمفاجأة. والتقدير: ثمّ فاجأتم وقت كونكم بشرا منتشرين في الأرض، كقوله: وَ بَثَّ مِنْهُمٰا رِجٰالاً كَثِيراً وَ نِسٰاءً (3).

مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي: من شكل أنفسكم وجنسها لا من جنس آخر.

[أَزْوٰاجاً لتطمئنوا إليها و تألفوا بها، وذلك لما بين الاثنين من جنس واحد من الإلف والسكون، وما](4) بين الجنسين المختلفين من التنافر.

وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً أي: توادا و تراحما بعد أن لم يكن بينكم معرفة ولا سبب يوجب التحاب والتعاطف من القرابة والرحم.

والألسنة: اللغات أو أجناس المنطق وأشكاله. خالف سبحانه بين هذه الأشياء حتى لا يكاد يسمع بين منطقين متفقين في شيء من صفات النطق وأحواله، وكذلك الصور و تخطيطها و الألوان وتنويعها، ولهذا الاختلاف وقع التعارف، ولو اتفقت وتشاكلت لوقع الالتباس.

و فِي ذٰلِكَ آية بيّنة في حكمة الصانع وكمال قدرته.

وقرئ: لِلْعٰالِمِينَ بفتح اللام وكسرها. ويشهد للكسر قوله: وَ مٰا

ص: 260


1- القفيز: مكيال وهو ثمانية مكاكيك. (الصحاح: مادة قفز)
2- الكشف والبيان ج 7:298.
3- النساء: 1.
4- ساقطة من ج.

يَعْقِلُهٰا إِلاَّ اَلْعٰالِمُونَ (1) .

مَنٰامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ هو من باب اللف وترتيبه، و من آياته منامكم و ابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار، إلا أنّه فصل بين القرينين [الأوّلين بالقرينين](2)

الآخرين لأنّهما زمانان، والزمان والواقع فيه كشيء واحد، مع إعانة اللف على الاتحاد، ويجوز أن يكون المراد: منامكم في الزمانين وابتغاؤكم من فضله فيهما، والأوّل أظهر لتكرره في القرآن.

وفي يُرِيكُمُ وجهان: أحدهما: إضمار (أن)، و الآخر: إنزال الفعل منزلة المصدر. وفسّر المثل: (تسمع بالمعيدي خير من أن تراه)(3) علي الوجهين.

خَوْفاً من الصاعقة أو من الإخلاف وَ طَمَعاً في الغيث. وقيل: خوفا للمسافر و طمعا للحاضر(4)، وهما منصوبان علي المفعول له، وكأنّه قيل: يجعلكم رائين البرق خوفا وطمعا، أو تقديره: إرادة خوف و إرادة طمع، فحذف المضاف.

ويجوز أن يكونا حالين أي: خائفين وطامعين.

وَ مِنْ آيٰاتِهِ قيام السماوات والأرض و استمساكهما بغير عمد بِأَمْرِهِ أي: بقوله: كونا قائمتين، والمراد بإقامته لهما وإرادته لكونهما علي صفة القيام دون الزوال.

و قوله: إِذٰا دَعٰاكُمْ بمنزلة (يريكم) في أنّ الجملة وقعت موقع المفرد علي المعنى، كأنّه قال: و من آياته قيام السماوات والأرض ثم خروج الموتى من القبور

ص: 261


1- العنكبوت: 43.
2- ساقطة من ج.
3- مجمع الأمثال ج 1:227.
4- عن قتادة. تفسير الطبري ج 21:22.

إذا دعاهم دَعْوَةً واحدة يا أهل القبور أخرجوا. والمراد: سرعة وجود ذلك من غير تلبث كما يجيب المدعو داعيه المطاع، وتقول: دعوت زيدا من أعلى الجبل فنزل عليّ ، ودعوته من أسفل الجبل فطلع إليّ .

و إذا الأولي للشرط، و الثانية للمفاجأة.

[سورة الروم (30): الآیات 26 الی 29]

وَ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قٰانِتُونَ وَ هُوَ اَلَّذِي يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَ لَهُ اَلْمَثَلُ اَلْأَعْلىٰ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ مِنْ شُرَكٰاءَ فِي مٰا رَزَقْنٰاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوٰاءٌ تَخٰافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ اَلْآيٰاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بَلِ اِتَّبَعَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوٰاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اَللّٰهُ وَ مٰا لَهُمْ مِنْ نٰاصِرِينَ

قٰانِتُونَ أي: مطيعون منقادون لوجود أفعاله فيهم.

وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ كما يجب عندكم أنّ من أعاد منكم صنعة شيء كان أهون عليه وأسهل من إنشائها، وتسمّون الماهر في صناعته معاودا، بمعنى: أنّه عاودها كرة بعد أخري حتى مرن عليها، و ذكّر الضمير لأنّ المراد: وأن يعيده أهون عليه، وقيل: الأهون بمعنى الهيّن(1)، كقول الشاعر:

لعمرك ما أدري وإنّي لأوجل(2)

ص: 262


1- عن ابن عباس. تفسير الطبري ج 21:24.
2- ديوان معن بن أوس المزني: 93. وبقيته: على أيّنا تغدو المنية أول.

أي: لوجل.

وَ لَهُ اَلْمَثَلُ اَلْأَعْلىٰ أي: الوصف الأعلى الذي ليس لغيره مثله، قد وصف به فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وهو أنّه القادر الذي لا يعجز عن شيء من(1) إنشاء وإعادة.

وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ القاهر اَلْحَكِيمُ المحكم لأفعاله. وعن قتادة: (المثل الأعلى قول: لا إله إلا اللّه وهو الوصف بالوحدانية)(2).

ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي: أخذ [لكم مثلا و انتزعه من أقرب شيء منكم وهو أنفسكم، ف - (من) هنا لابتداء](3) الغاية.

هَلْ لَكُمْ مِنْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ مِنْ شُرَكٰاءَ أي: هل ترضون لأنفسكم و عبيدكم أمثالكم بشر كبشر وعبيد كعبيد أن يشاركوكم فيما رَزَقْنٰاكُمْ من الأموال تكونون أنتم وهم فيه علي السواء من غير تفرقة بينكم و بينهم، تهابون أن تستبدوا بالتصرّف دونهم كما يهاب بعضكم بعضا من الأحرار، فإذا لم ترضوا بذلك لأنفسكم فكيف ترضون لربّ الأرباب و مالك الرقاب من العبيد والأحرار أن تجعلوا بعض عبيده له شركاء.

كَذٰلِكَ يعني: مثل هذا التفصيل نُفَصِّلُ اَلْآيٰاتِ أي: نبيّنها، لأنّ التمثيل مما يوضح المعاني الخفية، ويكون كالتشكيل والتصوير لها.

بَلِ اِتَّبَعَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أي: أشركوا، لقوله: إِنَّ اَلشِّرْكَ لَظُلْمٌ

ص: 263


1- في ب: في.
2- تفسير الطبري ج 21:25.
3- ساقطة من ج.

عَظِيمٌ (1) .

أَهْوٰاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أي: جاهلين، لأنّ العالم إذا ركب هواه ربّما ردعه علمه، والجاهل يهيم علي وجهه كالبهيمة لا يكفّه شيء.

فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اَللّٰهُ أي: خذله ولم يلطف به لعلمه أنّه ممن لا لطف له، أي: فمن يقدر علي هداية مثله، و يدلّ علي أنّ المراد بالإضلال الخذلان قوله:

وَ مٰا لَهُمْ مِنْ نٰاصِرِينَ .

[سورة الروم (30): الآیات 30 الی 37]

فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللّٰهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّٰاسَ عَلَيْهٰا لاٰ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللّٰهِ ذٰلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَ اِتَّقُوهُ وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ وَ لاٰ تَكُونُوا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ اَلَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كٰانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمٰا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) وَ إِذٰا مَسَّ اَلنّٰاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذٰا أَذٰاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذٰا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمٰا آتَيْنٰاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنٰا عَلَيْهِمْ سُلْطٰاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمٰا كٰانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَ إِذٰا أَذَقْنَا اَلنّٰاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهٰا وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمٰا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذٰا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اَللّٰهَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3(7)

أي: قوّم وَجْهَكَ لِلدِّينِ وعدّله غير ملتفت عنه يمينا وشمالا، وهو تمثيل لثباته علي الدين واستقامته عليه واهتمامه بأسبابه، فإنّ من اهتم بشيء قوّم له وجهه، وسدّد إليه نظره، وأقبل عليه بكلّه.

ص: 264


1- لقمان: 13.

حَنِيفاً حال من المأمور، أو من (الدين).

فِطْرَتَ اَللّٰهِ أي: الزموا فطرة الله، أو عليكم فطرة اللّه.

وقوله: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ حال من الضمير في (الزموا)، ولذلك أضمر علي خطاب الجماعة، وقوله: وَ اِتَّقُوهُ وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ وَ لاٰ تَكُونُوا معطوف علي هذا المضمر.

والفطرة: الخلقة، ألا ترى إلى قوله: لاٰ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللّٰهِ . و المعنى: إنّه خلقهم قابلين للتوحيد ودين الإسلام، غير نائين عنه ولا منكرين له، حتى لو تركوا لما اختاروا عليه دينا آخر، ومن غوي منهم فبإغواء شياطين الجن والإنس.

ومنه الحديث: (خلقت عبادي حنفاء، فاحتالتهم الشياطين عن دينهم، وأمروهم أن يشركوا بي غيري)(1)، وقوله عليه السلام: (كل مولود يولد علي الفطرة، حتى يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه وينصّرانه [ويمجّسانه](2)(3).

لاٰ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللّٰهِ أي: لا ينبغي أن تبدّل تلك الفطرة وتغيّر.

وخوطب الرسول صلى الله عليه و آله و سلم أوّلا فوحّد، ثمّ جمع ثانيا لأنّ خطابه عليه السلام خطاب لأمته.

مِنَ اَلَّذِينَ بدل من اَلْمُشْرِكِينَ ، فارقوا دينهم، أي: دين الإسلام.

و قرئ: فَرَّقُوا أي: جعلوه أديانا مختلفة لاختلاف أهوائهم.

وَ كٰانُوا شِيَعاً أي: فرقا، كل واحدة تشايع إمامها الذي أضلها، كُلُّ حِزْبٍ منهم فرح بمذهبه مسرور، يحسب باطله حقّا.

ص: 265


1- صحيح مسلم ج 8:159 باختلاف يسير.
2- ساقطة من ج.
3- مسند أحمد ج 2:233، أمالي السيّد المرتضى ج 3:2.

ويجوز أن يكون مِنَ اَلَّذِينَ منقطعا عما قبله، والمعنى: من المفارقين دينهم، كل حزب فرحين بما لديهم، لكنّه رفع فَرِحُونَ علي الوصف ل - (كل).

وَ إِذٰا مَسَّ اَلنّٰاسَ ضُرٌّ أي: مرض أو قحط أو شدّة انقطعوا إلى اللّه وأنابوا إليه ثُمَّ إِذٰا أَذٰاقَهُمْ ... رَحْمَةً بأن يخلصهم مما أصابهم قابلوا النعمة بالكفران.

واللام في لِيَكْفُرُوا مجاز، مثلها في لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً (1).

فَتَمَتَّعُوا نظير اِعْمَلُوا مٰا شِئْتُمْ (2).

فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وبال تمتعكم.

والسلطان: الحجّة. فَهُوَ يَتَكَلَّمُ مجاز، كما يقال: كتابه ينطق بكذا، ومعناه الدلالة، كأنّه قال: فهو يشهد بصحّة شركهم، و (ما) مصدرية، أي: بكونهم باللّه يشركون، ويجوز أن تكون موصولة ويرجع الضمير إليها، ومعناه: فهو يتكلّم بالأمر الذي بسببه يشركون.

وإذا أذقناهم رَحْمَةً أي: نعمة من مطر أو غنى أو صحّة فَرِحُوا بِهٰا .

وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي: بلاء من جدب أو فقر أو مرض بسبب معاصيهم قنطوا من الرحمة، ثمّ أنكر عليهم بأنّهم قد علموا أنّه الباسط القابض، فما لهم يَقْنَطُونَ من رحمته، ولا يرجعون إليه تائبين من المعاصي التي عوقبوا بالشدّة من أجلها حتى يعيد إليهم رحمته ؟!.

[سورة الروم (30): الآیات 38 الی 39]

فَآتِ ذَا اَلْقُرْبىٰ حَقَّهُ وَ اَلْمِسْكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ ذٰلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اَللّٰهِ وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ وَ مٰا آتَيْتُمْ مِنْ

ص: 266


1- القصص: 8.
2- فصلت: 40.

[سورة الروم (30): الآیات 39 الی 40]

رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوٰالِ اَلنّٰاسِ فَلاٰ يَرْبُوا عِنْدَ اَللّٰهِ وَ مٰا آتَيْتُمْ مِنْ زَكٰاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اَللّٰهِ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُضْعِفُونَ اَللّٰهُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكٰائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذٰلِكُمْ مِنْ شَيْ ءٍ سُبْحٰانَهُ وَ تَعٰالىٰ عَمّٰا يُشْرِكُونَ

عن أبي سعيد الخدري أنّه قال: (لما نزلت الآية أعطى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فاطمة فدكا و سلّمه إليها)(1)، وهو المروي عن أئمتنا عليهم السلام(2).

ولما ذكر أنّ السيئة أصابتهم بما قدّمت أيديهم أتبعه ذكر ما يجب فعله وذكر ما يجب تركه.

وحقّ ذي القربى: صلة الرحم، وحقّ المكسين وابن السبيل: نصيبهما الذي سمّي لهما.

يُرِيدُونَ وَجْهَ اَللّٰهِ أي: يقصدون جهة التقرّب إليه خالصا لا جهة أخري.

وَ مٰا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً قيل: إنّه الحلال، وهو أن يعطي العطية أو يهدي الهدية ليثاب أكثر منها فليس فيه أجر ولا وزر(3)، وهو المروي عن الباقر عليه السلام(4)، وقيل: هو مثل يَمْحَقُ اَللّٰهُ اَلرِّبٰا وَ يُرْبِي اَلصَّدَقٰاتِ (5) أي: ليزيد ويزكو في أموال الناس ولا يزكو عِنْدَ اَللّٰهِ ولا يبارك فيه.

وَ مٰا آتَيْتُمْ مِنْ زَكٰاةٍ تبتغون به وَجْهَ اَللّٰهِ خالصا لا تطلبون مكافأة

ص: 267


1- الدر المنثور ج 4:177.
2- التبيان ج 8:228.
3- عن سعيد بن جبير وغيره. الكشف والبيان ج 7:304.
4- تهذيب الأحكام ج 7:17 عن الصادق عليه السلام.
5- البقرة: 276.

فَأُولٰئِكَ هُمُ ذوو الأضعاف من الحسنات، ونظير المضعف المقوي والموسر لذوي القوة واليسار. و قرئ: ما أتيتم من ربا، وهو يؤول في المعنى إلى قراءة من مد، وهو كما يقول: أتيت الخطأ وآتيت الصواب، ولم يختلفوا في مٰا آتَيْتُمْ مِنْ زَكٰاةٍ أنّه بالمد. وقرئ: لتربوا، أي: لتزيدوا في أموالهم، أو لتصيروا ذوي زيادة فيما آتيتم من أموال الناس أي: تجتلبونها وتستدعونها.

وقوله: فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُضْعِفُونَ التفات حسن، كأنّه قال: فأولئك الذين يريدون وجه الله بصدقاتهم هم المضعفون، فهو أمدح لهم من أن يقول: فأنتم المضعفون. و الضمير الراجع إلى ما محذوف، أي: هم المضعفون به.

الله مبتدأ، و خبره اَلَّذِي خَلَقَكُمْ ، أي: اللّه هو فاعل هذه الأفعال التي لا يقدر عليها غيره، ثمّ قال: هَلْ مِنْ شُرَكٰائِكُمْ الذين اتخذتموهم آلهة من يفعل شيئا من تلك الأفعال حتى يصحّ ما ذهبتم إليه ؟! ثمّ نزّه نفسه عن أن يشرك معه غيره في العبادة.

[سورة الروم (30): الآیات 41 الی 45]

ظَهَرَ اَلْفَسٰادُ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ بِمٰا كَسَبَتْ أَيْدِي اَلنّٰاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ اَلَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قُلْ سِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كٰانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ اَلْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاٰ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اَللّٰهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ مَنْ عَمِلَ صٰالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ لِيَجْزِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لاٰ يُحِبُّ اَلْكٰافِرِينَ

المراد بالفساد فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ هو القحط وقلة الريع في الزراعات والبياعات، ومحق البركات من كل شيء.

ص: 268

بِمٰا كَسَبَتْ أَيْدِي اَلنّٰاسِ يعني: كفار مكة، يريد: بسبب كفرهم وشؤم معاصيهم. وعن الحسن: (إنّ المراد بالبحر مدن البحر وقراه التي علي شاطئه)(1).

وعن عكرمة: (إنّ العرب تسمّي الأمصار البحار)(2). ويجوز أن يريد ظهور الشرّ والمعاصي بكسب الناس ذلك، والأوّل أوجه.

لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ اَلَّذِي عَمِلُوا أي: وبال بعض أعمالهم في الدنيا قبل أن يعاقبهم بجميعها في الآخرة لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عما هم عليه.

ثمّ أكّد سبحانه تسبيب المعاصي لغضب اللّه ونكاله، حيث أمر بأن يسيروا في الأرض وينظروا كيف أهلك اللّه الأمم بمعاصيهم و شركهم.

القيّم: المستقيم، البليغ الاستقامة الذي لا يتأتى فيه عوج.

و تعلّق مِنَ اَللّٰهِ ب - يَأْتِيَ بمعنى: من قبل أن يأتي من اللّه يوم لا يردّه [أحد، كقوله تعالى: فَلاٰ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهٰا (3)، أو بمرد علي معنى: لا يردّه](4)هو بعد أن يجيء به، و لا ردّ له من جهته.

يَصَّدَّعُونَ يتصدعون أي: يتفرقون فيه: فريق في الجنّة وفريق في السعير.

مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ عقوبة كفره.

فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ أي: يوطئون لأنفسهم منازلهم كما لنفسه يوطئ من مهد فراشه وسوّاه لئلا يصيبه في مضجعه ما ينغص عليه مرقده، ويجوز أن يريد:

ص: 269


1- الكشف والبيان ج 7:305.
2- تفسير الطبري ج 21:32.
3- الأنبياء: 40.
4- ساقطة من ج.

فعلى أنفسهم يشفقون، من قولهم في الشفيق: (أمّ فرشت فأنامت)(1). وتقديم الظرفين للدلالة على أنّ ضرر الكفر ومنفعة الإيمان والصلاح لا يتعدّيان الكافر وا لمؤمن.

وقوله: لِيَجْزِيَ متعلّق ب - يَمْهَدُونَ لتعليله مِنْ فَضْلِهِ أي: مما يتفضّل عليهم بعد توفية الواجب من الثواب، أو أراد من عطائه وفواضله وهو الثواب. وترك الضمير إلي الصريح لتقرير أنّ الفلاح للمؤمن الصالح عنده، وقوله: إِنَّهُ لاٰ يُحِبُّ اَلْكٰافِرِينَ تقرير بعد تقرير علي الطرد والعكس.

[سورة الروم (30): الآیات 46 الی 53]

وَ مِنْ آيٰاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ اَلرِّيٰاحَ مُبَشِّرٰاتٍ وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ لِتَجْرِيَ اَلْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنٰا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلىٰ قَوْمِهِمْ فَجٰاؤُهُمْ بِالْبَيِّنٰاتِ فَانْتَقَمْنٰا مِنَ اَلَّذِينَ أَجْرَمُوا وَ كٰانَ حَقًّا عَلَيْنٰا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِينَ (47) اَللّٰهُ اَلَّذِي يُرْسِلُ اَلرِّيٰاحَ فَتُثِيرُ سَحٰاباً فَيَبْسُطُهُ فِي اَلسَّمٰاءِ كَيْفَ يَشٰاءُ وَ يَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى اَلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاٰلِهِ فَإِذٰا أَصٰابَ بِهِ مَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ إِذٰا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَ إِنْ كٰانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلىٰ آثٰارِ رَحْمَتِ اَللّٰهِ كَيْفَ يُحْيِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا إِنَّ ذٰلِكَ لَمُحْيِ اَلْمَوْتىٰ وَ هُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (50) وَ لَئِنْ أَرْسَلْنٰا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لاٰ تُسْمِعُ اَلْمَوْتىٰ وَ لاٰ تُسْمِعُ اَلصُّمَّ اَلدُّعٰاءَ إِذٰا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَ مٰا أَنْتَ بِهٰادِ اَلْعُمْيِ عَنْ ضَلاٰلَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاّٰ مَنْ يُؤْمِنُ بِآيٰاتِنٰا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (5(3)

ص: 270


1- مجمع الأمثال ج 1:35.

عدّد سبحانه الغرض في إرسال رياح الرحمة، وهو أن يبشّر بالغيث، وللإذاقة من الرحمة وهي المطر، وحصول الخصب الذي يتبعه الروح الذي مع هبوب الريح، وغير ذلك.

وَ لِتَجْرِيَ اَلْفُلْكُ في البحر عند هبوبها، وإنّما زاد بِأَمْرِهِ لأنّ الريح قد تهب ولا تكون مؤاتية.

وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ يريد: تجارة البحر [لأنّ الريح نعمة اللّه فيها](1)، ولتشكروا نعمة اللّه فيها. ويجوز أن يتعلّق وَ لِيُذِيقَكُمْ بمحذوف تقديره:

وليذيقكم وليكون كذا وكذا أرسلها، وأن يكون معطوفا علي مُبَشِّرٰاتٍ كأنّه قال: ليبشر كم وليذيقكم.

وفي قوله: وَ كٰانَ حَقًّا عَلَيْنٰا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِينَ تعظيم للمؤمنين ورفع من شأنهم حيث جعلهم مستحقّين لأن ينصرهم ويظهرهم.

فَيَبْسُطُهُ متصلا تارة وَ يَجْعَلُهُ كِسَفاً أي: قطعا متفرقة تارة فَتَرَى اَلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاٰلِهِ في التارتين جميعا.

والمراد ب - اَلسَّمٰاءِ : [سمت السماء كقوله: وَ فَرْعُهٰا فِي اَلسَّمٰاءِ (2)](3)، و بإصابة العباد: إصابة أراضيهم وبلادهم.

مِنْ قَبْلِهِ من باب التكرير للتوكيد كقوله: فَكٰانَ عٰاقِبَتَهُمٰا أَنَّهُمٰا فِي اَلنّٰارِ خٰالِدَيْنِ فِيهٰا (4).

ص: 271


1- ساقطة من ج.
2- إبراهيم: 24.
3- ساقطة من ج.
4- الحشر: 17.

و قرئ: إلى أثر و إلي آثر.

إِنَّ ذٰلِكَ للقادر الذي يحيي الناس من بعد موتهم.

فَرَأَوْهُ أي: فرأوا أثر رحمة اللّه التي هي الغيث وأثره النبات. و من قرأ بالجمع فالضمير يرجع إلى معناه، لأنّ معنى آثار الرحمة: النبات، واسم النبات يقع علي القليل والكثير، لأنه مصدر سمّي به ما ينبت.

واللام في (لئن) هي الموطئة للقسم، و لَظَلُّوا جواب القسم سدّ مسدّ الجوابين.

مُصْفَرًّا بعد الخضرة والنضرة.

ذمّهم اللّه سبحانه بأنّه إذا حبس عنهم القطر قنطوا و أبلسوا، فإذا رزقوا المطر استبشروا وابتهجوا، فإذا أرسل سبحانه ريحا فضربت زروعهم بالصفار كفروا بنعمة اللّه، وقيل: معناه: فرأوا السحاب مصفرا لأنه إذا كان كذلك لم يمطر(1).

[سورة الروم (30): الآیات 54 الی 58]

اَللّٰهُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَ شَيْبَةً يَخْلُقُ مٰا يَشٰاءُ وَ هُوَ اَلْعَلِيمُ اَلْقَدِيرُ وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسّٰاعَةُ يُقْسِمُ اَلْمُجْرِمُونَ مٰا لَبِثُوا غَيْرَ سٰاعَةٍ كَذٰلِكَ كٰانُوا يُؤْفَكُونَ وَ قٰالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَ اَلْإِيمٰانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتٰابِ اَللّٰهِ إِلىٰ يَوْمِ اَلْبَعْثِ فَهٰذٰا يَوْمُ اَلْبَعْثِ وَ لٰكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ فَيَوْمَئِذٍ لاٰ يَنْفَعُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَ لاٰ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ وَ لَقَدْ ضَرَبْنٰا لِلنّٰاسِ فِي هٰذَا اَلْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَ لَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ اَلَّذِينَ

ص: 272


1- عن علي بن عيسى. تفسير الماوردي ج 4:321.

[سورة الروم (30): الآیات 58 الی 60]

كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاّٰ مُبْطِلُونَ كَذٰلِكَ يَطْبَعُ اَللّٰهُ عَلىٰ قُلُوبِ اَلَّذِينَ لاٰ يَعْلَمُونَ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اَللّٰهِ حَقٌّ وَ لاٰ يَسْتَخِفَّنَّكَ اَلَّذِينَ لاٰ يُوقِنُونَ

مِنْ ضَعْفٍ قرئ بفتح الضاد وضمها، يعني: إنّ بنيتكم مجبولة علي الضعف وَ خُلِقَ اَلْإِنْسٰانُ ضَعِيفاً (1). أي: ابتدأناكم في أوّل الأمر ضعافا وذلك حال الطفولة حتى بلغتم وقت الشبيبة و الفتا وتلك حال القوة إلى وقت الاكتهال، ثمّ رددناكم(2) إلى الضعف وهو حال الشيخوخة و الهرم، وفي ذلك أوضح دلالة علي الصانع العليم القدير.

مٰا لَبِثُوا غَيْرَ سٰاعَةٍ أرادوا لبثهم في الدنيا، أو في القبور، أو في ما بين فناء الدنيا إلى البعث، وإنّما قدروا وقت لبثهم ساعة علي وجه الاستقصار له، أو ينسون أو يخمنون.

كَذٰلِكَ أي: مثل ذلك الإفك - وهو الصرف - كانوا يصرفون عن الصدق والتحقيق في الدنيا، وهكذا كانوا يبنون أمرهم علي خلاف الحقّ .

القائلون هم الملائكة أو الأنبياء أو المؤمنون.

فِي كِتٰابِ اَللّٰهِ في علم اللّه المثبت في اللوح المحفوظ، أو في علم الله وقضائه الذي أوجبه بحكمته، ردّوا ما قالوه و حلفوا عليه، ثمّ قرعوهم علي إنكار البعث بقولهم: فَهٰذٰا يَوْمُ اَلْبَعْثِ وَ لٰكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ إنّه حقّ ، فلا ينفعكم العلم به الآن.

ص: 273


1- النساء: 28.
2- فيج، د: ردكم.

فَيَوْمَئِذٍ لا يمكّنون من الاعتذار، ولو اعتذروا لم تقبل معاذيرهم، ولا يطلب منهم الإعتاب، يقال: استعتبني فلان فأعتبته، أي: استرضاني فأرضيته، وحقيقة أعتبته: أزلت عتبه. والمعنى: لا يقال لهم ارضوا ربّكم بتوبة وطاعة.

وَ لَقَدْ وصفنا لهم كل صفة كأنّها مثل في غرابتها، وقصصنا عليهم كل قصّة عجيبة كقصّة المبعوثين يوم القيامة وما يقولونه وما يقال لهم، ولكنّهم لقسوة قلوبهم وعنادهم إذا جئتهم بآية من آيات القرآن قالوا: جئتنا بزور وباطل.

كَذٰلِكَ أي: مثل ذلك الطبع يَطْبَعُ اَللّٰهُ عَلىٰ قُلُوبِ الجهلة فيمنعهم ألطافه الشارحة للصدور حتى سمّوا المحقّين مبطلين.

فَاصْبِرْ علي عداوتهم إِنَّ وَعْدَ اَللّٰهِ بنصرك وإظهار دينك علي كل الأديان حَقٌّ ولا يحملنك علي الخفة والجزع من كفرهم وعنادهم فإنّهم قوم ظانون لاٰ يُوقِنُونَ بأنّهم يبعثون.

ص: 274

سورة لقمان

اشارة

مكية سوي أربع آيات، وهي أربع وثلاثون آية، الم كوفي، مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ بصري.

في حديث أبيّ : (من قرأ (سورة لقمان) كان له لقمان رفيقا يوم القيامة، و أعطي من الحسنات عشرا بعدد من عمل بالمعروف و نهى عن المنكر)(1)، وعن الباقر عليه السلام: (من قرأ (سورة لقمان) في [كل] ليلة وكّل اللّه به في ليلته ثلاثين ملكا يحفظونه من إبليس وجنوده حتى يصبح، فإنّ قرأها بالنهار حفظوه من إبليس وجنوده حتى يمسي)(2).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة لقمان (31): الآیات 1 الی 7]

الم تِلْكَ آيٰاتُ اَلْكِتٰابِ اَلْحَكِيمِ هُدىً وَ رَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاٰةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكٰاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولٰئِكَ عَلىٰ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَهٰا هُزُواً أُولٰئِكَ لَهُمْ عَذٰابٌ مُهِينٌ وَ إِذٰا تُتْلىٰ

ص: 275


1- الكشف والبيان ج 7:309.
2- ثواب الأعمال: 110.

[سورة لقمان (31): الآیات 7 الی 11]

عَلَيْهِ آيٰاتُنٰا وَلّٰى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهٰا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ لَهُمْ جَنّٰاتُ اَلنَّعِيمِ خٰالِدِينَ فِيهٰا وَعْدَ اَللّٰهِ حَقًّا وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهٰا وَ أَلْقىٰ فِي اَلْأَرْضِ رَوٰاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ بَثَّ فِيهٰا مِنْ كُلِّ دٰابَّةٍ وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً فَأَنْبَتْنٰا فِيهٰا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ هٰذٰا خَلْقُ اَللّٰهِ فَأَرُونِي مٰا ذٰا خَلَقَ اَلَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ اَلظّٰالِمُونَ فِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ

هُدىً وَ رَحْمَةً بالنصب علي الحال من الآيات، والعامل فيها ما في تلك من معنى الإشارة. و قرئ بالرفع علي أنّه خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف.

لِلْمُحْسِنِينَ للذين يعملون الحسنات، وهم الذين وصفهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإيقان بالآخرة، كما يحكى عن الأصمعي(1) أنّه سئل عن الألمعي، فأنشد قول أوس بن حجر:

الألمعّي الّذي يظنّ بك الظّنّ *** كأن قد رأى وقد سمعا(2)

ولم يزد، أو للذين يعملون ما يحسن من الأعمال، ثمّ خصّ منهم القائمين بهذه الثلاث لفضلها.

واللهو: كل باطل ألهى عن الخير.

و لَهْوَ اَلْحَدِيثِ : هو الطعن في الحقّ والاستهزاء به، والتحدّث

ص: 276


1- أبو سعيد عبد الملك بن قريب بن عبد الملك الأصمعي الأديب المشهور، ولد سنة 122 ه - وقيل سنة 123 ه -، توفي سنة 216 ه -، وقيل غير ذلك. ينظر: وفيات الأعيان ج 2:344.
2- ديوان أوس بن حجر: 53.

بالخرافات والمضاحيك، والغناء والمعازف. والإضافة بمعنى (من) ومعناها التبيين، والمعنى: من يشتري اللهو من الحديث، وهو إضافة الشيء إلي ما هو منه كباب ساج وثوب خز.

وقيل: نزلت في النضر بن الحارث، وكان يتّجر إلي فارس فيشتري كتب الأعاجم ويحدّث بها قريشا ويقول: إن كان محمّد يحدّثكم بحديث عاد وثمود، فأنا أحدّثكم بحديث رستم واسفنديار والأكاسرة، فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن(1). فعلي هذا يكون يَشْتَرِي من الشراء، وعلي الأوّل يكون من قوله: اِشْتَرَوُا اَلْكُفْرَ بِالْإِيْمٰانِ (2) أي: استبدلوه منه واختاروه عليه، وعن قتادة:

(اشتراؤه: استحبابه، أي: يختار حديث الباطل علي حديث الحقّ )(3).

و قرئ: لِيُضِلَّ يضم الياء وفتحها، و قرئ: يتخذها بالرفع والنصب، فالرفع للعطف علي يَشْتَرِي ، والنصب للعطف علي لِيُضِلَّ و الضمير للسبيل لأنّها مؤنثة.

وقوله: بِغَيْرِ عِلْمٍ معناه: بغير علم بالتجارة، وبغير بصيرة بها حيث يشتري الباطل بالحقّ ، والضلال بالهدى، ونحوه قوله: فَمٰا رَبِحَتْ تِجٰارَتُهُمْ وَ مٰا كٰانُوا مُهْتَدِينَ (4) أي: ما كانوا بصراء بالتجارة.

وَلّٰى مُسْتَكْبِراً رافعا نفسه فوق مقدارها لا يعبأ باياتنا، فشبّه حاله حال من لم يسمعها وهو سامع كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ ثقلا. وقوله: كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهٰا

ص: 277


1- أسباب النزول: 244.
2- آل عمران: 177.
3- تفسير الطبري ج 21:39.
4- البقرة: 16.

في محلّ نصب حال من مُسْتَكْبِراً و كأن مخففة، والأصل: كأنّه، والضمير للشأن و كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً حال من كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهٰا ، ويجوز أن يكونا جميعا استئنافين.

وَعْدَ اَللّٰهِ حَقًّا مصدران مؤكدان، الأوّل مؤكد لنفسه والثاني مؤكد لغيره، لأنّ قوله: لَهُمْ جَنّٰاتُ اَلنَّعِيمِ في معنى: وعدهم اللّه جنات النعيم، فأكّد معنى الوعد بالوعد. وأما حَقًّا فدالّ علي معنى الثبات، أكّد به معنى الوعد، ومؤكدهما جميعا قوله: لَهُمْ جَنّٰاتُ اَلنَّعِيمِ .

وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ الذي يقدر علي كل شيء فيعطي النعيم من يشاء والبؤس من يشاء.

اَلْحَكِيمُ الذي لا يشاء إلا ما توجبه الحكمة. هذا إشارة إلى ما ذكر من مخلوقاته. والخلق بمعنى المخلوق.

و اَلَّذِينَ مِنْ دُونِهِ : آلهتهم، بكّتهم بأنّ هذه الأشياء العظيمة مما خلقه اللّه فَأَرُونِي ما خلقته آلهتكم حتى استوجبوا عندكم العبادة. ثمّ أضرب عن تبكيتهم إلى الشهادة عليهم بالتورط في ضلال ظاهر وعدول عن الحقّ .

[سورة لقمان (31): الآیات 12 الی 15]

وَ لَقَدْ آتَيْنٰا لُقْمٰانَ اَلْحِكْمَةَ أَنِ اُشْكُرْ لِلّٰهِ وَ مَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمٰا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللّٰهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَ إِذْ قٰالَ لُقْمٰانُ لاِبْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ يٰا بُنَيَّ لاٰ تُشْرِكْ بِاللّٰهِ إِنَّ اَلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسٰانَ بِوٰالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلىٰ وَهْنٍ وَ فِصٰالُهُ فِي عٰامَيْنِ أَنِ اُشْكُرْ لِي وَ لِوٰالِدَيْكَ إِلَيَّ اَلْمَصِيرُ (1(4) وَ إِنْ جٰاهَدٰاكَ عَلىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاٰ تُطِعْهُمٰا وَ صٰاحِبْهُمٰا

ص: 278

[سورة لقمان (31): الآیات 15 الی 19]

فِي اَلدُّنْيٰا مَعْرُوفاً وَ اِتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنٰابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يٰا بُنَيَّ إِنَّهٰا إِنْ تَكُ مِثْقٰالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ أَوْ فِي اَلْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اَللّٰهُ إِنَّ اَللّٰهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يٰا بُنَيَّ أَقِمِ اَلصَّلاٰةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ اِنْهَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ اِصْبِرْ عَلىٰ مٰا أَصٰابَكَ إِنَّ ذٰلِكَ مِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ (17) وَ لاٰ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنّٰاسِ وَ لاٰ تَمْشِ فِي اَلْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتٰالٍ فَخُورٍ (18) وَ اِقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَ اُغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ اَلْأَصْوٰاتِ لَصَوْتُ اَلْحَمِيرِ (1(9)

الأظهر أنّ لقمان لم يكن نبيّا وكان حكيما، وقيل: كان نبيّا(1)، وقيل: خيّر بين النبوّة و الحكمة فاختار الحكمة، وكان ابن أخت أيوب أو ابن خالته(2)، وقيل: إنّه عاش ألف سنة وأدرك داود عليه السلام وأخذ منه العلم، وقيل: إنّه دخل عليه وهو يسرد الدرع وقد ليّن الله له الحديد، فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة فسكت، فلما أتمّها لبسها وقال: نعم لبوس الحرب أنت، فقال لقمان: الصمت حكمة وقليل فاعله، فقال داود: بحقّ ما سمّيت حكيما(3).

إن هي المفسّرة، لأنّ إيتاء الحكمة في معنى القول، وقد نبّه سبحانه علي أنّ الحكمة الحقيقية والعلم الأصلي هو العمل بما هو عبادة اللّه والشكر له، حيث فسّر إيتاء الحكمة بالبعث علي الشكر.

فَإِنَّ اَللّٰهَ غَنِيٌّ لا يحتاح إلى الشكر حَمِيدٌ حقيق بأن يحمد وإن لم

ص: 279


1- عن عكرمة. تفسير الطبري ج 21:44.
2- عن قتادة. الدر المنثور ج 5:161.
3- العرائس: 165.

يحمده أحد.

و قرئ: يٰا بُنَيَّ بفتح الياء و كسرها في كل القرآن، ويا بنيّ ، و من كسر فهو علي قولك: يا غلام أقبل، و من فتح فهو علي قولك: يا غلاما أدبر، أبدلت الألف من ياء الإضافة ثمّ حذفت الألف للتخفيف، و من أسكن الياء في الوصل [فإنّه أجرى الوصل](1) مجري الوقف.

إِنَّ اَلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ لأنّ التسوية بين من لا نعمة إلا هي منه وبين من لا نعمة منه البتة ولا يتصور أن يكون منه نعمة، ظلم لا يحاط بكنهه.

حَمَلَتْهُ أُمُّهُ تهن وَهْناً عَلىٰ وَهْنٍ وهو مثل قولك: رجع عودا على بدء. وهو في موضع الحال، أي: يتزايد ضعفها ويتضاعف، لأنّ الحمل كلما عظم ازدادت المرأة ثقلا وضعفا.

أَنِ اُشْكُرْ تفسير ل - وَصَّيْنَا .

مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أراد بنفي العلم به نفيه، أي: لا تشرك بي ما ليس بشيء، كقوله: مٰا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ (2).

مَعْرُوفاً أي: صحابا معروفا حسنا بخلق جميل واحتمال وبرّ وصلة وما تقتضيه المروة.

وَ اِتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنٰابَ إِلَيَّ من المؤمنين في دينك، ولا تتبعهما في دينهما وإن أمرت بحسن مصاحبتهما فِي اَلدُّنْيٰا .

ثُمَّ إِلَيَّ مرجعك ومرجعهما فأجازيهما علي كفرهما وأجازيك علي

ص: 280


1- ساقطة من ج.
2- العنكبوت: 42.

إيمانك. وهذا كلام وقع في أثناء وصية لقمان علي سبيل الاستطراد، تأكيدا لما في وصية لقمان من النهي عن الشرك.

ولما وصّى بالوالدين ذكر ما تقاسيه الأم من المشاق في مدة الحمل والفصال، إيجابا للتوصية بالوالدة خصوصا وتذكيرا بعظيم حقّها مفردا.

و قرئ: مِثْقٰالَ حَبَّةٍ بالرفع والنصب، فمن نصب كان الضمير للهنة من الإساءة والإحسان، أي: إن كانت مثلا في الصغر كحبّة الخردل وكانت مع صغرها في أخفى موضع وأحرزه كجوف الصخرة أو حيث كانت فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ أَوْ فِي اَلْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا يوم القيامة فيحاسب بها عاملها.

إِنَّ اَللّٰهَ لَطِيفٌ يصل علمه إلى كل خفي خَبِيرٌ عالم بكنهه. ومن رفع ف - تك تامة، و أنّث مِثْقٰالَ لإضافته إلي حَبَّةٍ ، كما قيل:

كما شرقت صدر القنا من الدّم(1)

وهو من باب ما اكتسب فيه المضاف من المضاف إليه التأنيث. الصادق عليه السلام:

(إياكم والمحقّرات من الذنوب فإنّ لها من اللّه طالبا، لا يقولنّ أحدكم: أذنب وأستغفر اللّه، إنّ اللّه تعالي يقول: إِنْ تَكُ مِثْقٰالَ حَبَّةٍ ... الآية)(2).

وَ اِصْبِرْ عَلىٰ مٰا أَصٰابَكَ من الأذى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

إِنَّ ذٰلِكَ مما عزمه اللّه من الأمور، أي: قطعه قطع إيجاب وإلزام. ومنه الحديث: (إنّ اللّه يحبّ أن يؤخذ برخصه كما يحبّ أن يؤخذ بعزائمه)(3). وقيل:

ص: 281


1- ديوان الأعشى: 94، وصدره: وتشرق بالقول الذي قد أذعته.
2- الكافي ج 2:270 عن الباقر عليه السلام.
3- معجم الطبراني الكبير ج 11:256 بالمعنى، الآيات الناسخة والمنسوخة: 100.

من الأمور التي يجب الثبات عليها(1). وأصله من معزومات الأمور ومقطوعاتها، أو من عازمات الأمور، من قوله: فَإِذٰا عَزَمَ اَلْأَمْرُ (1)، كقولك: جدّ الأمر وصدق القتال، فهو مصدر وصف به الفاعل أو المفعول. وفيه دلالة علي أنّ هذه الطاعات كانت مأمورا بها في سائر الأمم.

وقرئ: تصاعر و تُصَعِّرْ من صاعر خده وصعّرها. ومعناه: أقبل علي الناس بوجهك تواضعا ولا تولّهم صفحة وجهك كما يفعل المتكبر.

مَرَحاً نصب علي الحال بمعنى: ولا تمش تمرح مرحا، أو أراد: ولا تمش لأجل المرح والأشر، لا يكن غرضك في المشي البطر والبطالة لا لكفاية مهم ديني أو دنيوي. والمختال: مقابل للماشي مرحا، والفخور للمصعّر خدّه كبرا.

وَ اِقْصِدْ فِي مَشْيِكَ إعدل فيه حتى يكون مشيا بين مشيين، لا تدب دبيب المتماوتين، ولا تثب وثوب الذعار.

وَ اُغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ أنقص منه.

إِنَّ أَنْكَرَ اَلْأَصْوٰاتِ أي: أوحشها من قولهم: شيء نكر: إذا أنكرته النفوس ونفرت و استوحشت منه.

[سورة لقمان (31): الآیات 20 الی 22]

أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اَللّٰهَ سَخَّرَ لَكُمْ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظٰاهِرَةً وَ بٰاطِنَةً وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يُجٰادِلُ فِي اَللّٰهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لاٰ هُدىً وَ لاٰ كِتٰابٍ مُنِيرٍ (20) وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمُ اِتَّبِعُوا مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ قٰالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مٰا وَجَدْنٰا عَلَيْهِ آبٰاءَنٰا أَ وَ لَوْ كٰانَ اَلشَّيْطٰانُ يَدْعُوهُمْ إِلىٰ عَذٰابِ اَلسَّعِيرِ (2(2) وَ مَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اَللّٰهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ

ص: 282


1- محمّد: 21.
2- الكشاف ج 3:497.

[سورة لقمان (31): الآیات 22 الی 28]

فَقَدِ اِسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ اَلْوُثْقىٰ وَ إِلَى اَللّٰهِ عٰاقِبَةُ اَلْأُمُورِ (22) وَ مَنْ كَفَرَ فَلاٰ يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنٰا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمٰا عَمِلُوا إِنَّ اَللّٰهَ عَلِيمٌ بِذٰاتِ اَلصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلىٰ عَذٰابٍ غَلِيظٍ (24) وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اَللّٰهُ قُلِ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ (25) لِلّٰهِ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ (26) وَ لَوْ أَنَّ مٰا فِي اَلْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاٰمٌ وَ اَلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مٰا نَفِدَتْ كَلِمٰاتُ اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مٰا خَلْقُكُمْ وَ لاٰ بَعْثُكُمْ إِلاّٰ كَنَفْسٍ وٰاحِدَةٍ إِنَّ اَللّٰهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (2(8)

مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ الشمس والقمر و النجوم.

وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ الحيوان والنبات والبحار والأنهار وغير ذلك.

وقرئ: نعمة و نِعْمَةَ ، والنعمة: كل نفع قصد به وجه الإحسان، و اللّه سبحانه خلق العالم كله نعمة، فما ليس بحيوان نعمة علي الحيوان ينتفع به، وأما الحيوان فإيجاده حيا نعمة عليه، لأنّه لولا إيجاده حيا لما صحّ منه الانتفاع، وكل ما أدى إلي الانتفاع وصحّحه فهو نعمة. والنعمة الظاهرة: كل ما يعلم بالمشاهدة، والباطنة: ما لا يعلم إلا بدليل أو غاب عن العباد علمه فلا يهتدون إليها.

أَ وَ لَوْ كٰانَ اَلشَّيْطٰانُ معناه: أيتبعونهم ولو كان الشيطان يدعوهم إلى العذاب ؟! أي: في حال دعاء الشيطان إيّاهم.

وَ مَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اَللّٰهِ أي: يفوّض أمره إليه ويتوكل عليه فَقَدِ اِسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ اَلْوُثْقىٰ هومن باب التمثيل، مثّلت حال المتوكل بحال من تدلى

ص: 283

[من موضع عال فاستمسك بعروة حبل وثيق يأمن انقطاعه.

و قرئ](1)فَلاٰ يَحْزُنْكَ ويحزنك من (حزن) و (أحزن)، والذي عليه الاستعمال: أحزنه، ويحزنه، والمعنى: لا يهمنّك كفر من كفر وكيده للإسلام، فإنّ اللّه سبحانه ينتقم منه.

إِنَّ اَللّٰهَ يعلم ما في صدور عباده، لا يخفى عليه شيء منه.

نُمَتِّعُهُمْ زمانا قليلا بدنياهم.

ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلىٰ عَذٰابٍ غَلِيظٍ شبّه إلزامهم التعذيب باضطرار المضطر إلى الشيء الذي لا يقدر علي الانفكاك منه، والمراد بالغلظ: الشدّة والثقل علي المعذّب.

قُلِ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ إلزام لهم علي إقرارهم بأنّ الذي خلق السماوات والأرض هو اللّه وحده، و أنّه يجب أن يكون له الحمد والشكر، وأن لا يعبد معه غيره بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ أنّ ذلك يلزمهم.

إِنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْغَنِيُّ عن حمد الحامدين، المستحقّ للحمد وإن لم يحمدوه.

و قرئ: وَ اَلْبَحْرُ بالنصب عطفا علي اسم (إنّ )، وبالرفع عطفا علي محلّ (إنّ ) ومعمولها، أي: ولو ثبت كون الأشجار أقلاما، وثبت البحر ممدودا بسبعة أبحر، أو علي الابتداء والواو للحال علي معنى: ولو أنّ الأشجار أقلام في حال كون البحر ممدودا، وهي من الأحوال التي حكمها حكم الظروف، ولا يعود منها ضمير إلى ذي الحال، كبيت امرئ القيس:

ص: 284


1- ساقطة من ج.

وقد أغتدي والطّير في و كناتها *** بمنجرد قيد الأوابد هيكل(1)

جعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة، وجعل الأبحر السبعة مملوءة مدادا، فهي تصب فيه مدادها أبدا صبا لا ينقطع، فمعناه: ولو أنّ أشجار الأرض أقلام والبحر ممدود بسبعة أبحر، وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات اللّه، لنفدت الأقلام والمداد وما نفدت كلماته. وقرأ الصادق عليه السلام: والبحر مداده ويقوي الوجه الثاني.

والأولى أن يكون كَلِمٰاتُ اَللّٰهِ عبارة عن مقدوراته ومعلوماته، لأنّها إذا كانت لا تتناهى فالكلمات التي تقع عبارة عنها أيضا لا تتناهى.

مٰا خَلْقُكُمْ وَ لاٰ بَعْثُكُمْ إِلاّٰ كخلق نفس واحدة وبعثها، والمعنى: إنّه يستوي في قدرته القليل والكثير، والواحد والجمع، إذ لا يشغله فعل عن فعل وشأن عن شأن.

إِنَّ اَللّٰهَ سَمِيعٌ يسمع كل مسموع بَصِيرٌ يبصر كل مبصر في حالة واحدة لا يشغله بعض عن بعض، فكذلك الخلق والبعث.

[سورة لقمان (31): الآیات 29 الی 32]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّٰهَ يُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهٰارِ وَ يُولِجُ اَلنَّهٰارَ فِي اَللَّيْلِ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ أَنَّ اَللّٰهَ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذٰلِكَ بِأَنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْحَقُّ وَ أَنَّ مٰا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلْبٰاطِلُ وَ أَنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ (30) أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَلْفُلْكَ تَجْرِي فِي اَلْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اَللّٰهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيٰاتِهِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِكُلِّ صَبّٰارٍ شَكُورٍ (3(1) وَ إِذٰا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اَللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ

ص: 285


1- ديوان امرئ القيس: 19.

[سورة لقمان (31): الآیات 32 الی 34]

فَلَمّٰا نَجّٰاهُمْ إِلَى اَلْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مٰا يَجْحَدُ بِآيٰاتِنٰا إِلاّٰ كُلُّ خَتّٰارٍ كَفُورٍ يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمْ وَ اِخْشَوْا يَوْماً لاٰ يَجْزِي وٰالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَ لاٰ مَوْلُودٌ هُوَ جٰازٍ عَنْ وٰالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اَللّٰهِ حَقٌّ فَلاٰ تَغُرَّنَّكُمُ اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا وَ لاٰ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللّٰهِ اَلْغَرُورُ إِنَّ اَللّٰهَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلسّٰاعَةِ وَ يُنَزِّلُ اَلْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ مٰا فِي اَلْأَرْحٰامِ وَ مٰا تَدْرِي نَفْسٌ مٰا ذٰا تَكْسِبُ غَداً وَ مٰا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اَللّٰهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ

أي: كل واحد من اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ يجري في فلكه علي و تيرة واحدة، ويقطعه إلى وقت معلوم: الشمس إلي آخر السنة والقمر إلى آخر الشهر، وعن الحسن: (الأجل المسمّى: يوم القيامة، لأنّه لا ينقطع جريهما إلا حينئذ)(1).

ذٰلِكَ الذي وصف من آثار صنعه وحكمته بسبب أنّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْحَقُّ الثابت إلهيته، وأنّ الذي يدعونه من دونه باطل، وأنّه اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ عن أن يشرك بِنِعْمَتِ اَللّٰهِ أي: بإحسانه ورحمته ليريكم بعض دلالاته علي كمال قدرته.

إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِكُلِّ مؤمن صَبّٰارٍ علي بلائه شَكُورٍ لنعمائه.

الظلل: جمع الظلّة، وهي كل ما أظلّك من جبل أو سحاب.

فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ في الإخلاص الذي كان عليه، وقيل: مؤمن قد ثبت علي ما عاهد عليه اللّه في البحر(2).

ص: 286


1- تفسير الماوردي ج 4:346.
2- عن ابن عباس. الكشف والبيان ج 7:322.

والختّار: الغدّ ار، والختر: أسوأ الغدر وأقبحه.

لاٰ يَجْزِي أي: لا يقضي وٰالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ شيئا، والمعنى: لا يجزي فيه فحذف.

و اَلْغَرُورُ : الشيطان.

إِنَّ اَللّٰهَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلسّٰاعَةِ استأثر به ولم يطلع عليه أحدا.

وَ يُنَزِّلُ اَلْغَيْثَ في آياته، ويعلم نزوله في مكانه و زمانه.

وَ يَعْلَمُ مٰا فِي أرحام الحوامل، أتام أم نا قص، أذكر أم أنثى، أواحد أم أكثر.

وَ مٰا تَدْرِي نَفْسٌ مٰا ذٰا تَكْسِبُ غَداً من خير أو شرّ و ما تدري نفس أين تَمُوتُ .

وجعل العلم للّه، والدراية [للعبد لما في الدراية](1) من معنى الختل والحيلة، أي: لا تعرف نفس وإن عملت حيلتها ما يختص بها من كسبها وعاقبتها، فمن أين له معرفة ما عداهما؟! وعن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: (مفاتيح الغيب خمس، وقرأ هذه الآية)(2).

ص: 287


1- ساقطة من ج.
2- مسند أحمد ج 2:24، وينظر: الخصال: 264.

سورة السجدة

اشارة

مكية غير ثلاث آيات، من قوله: أَ فَمَنْ كٰانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كٰانَ فٰاسِقاً إلى تمام الآيات، تسع وعشرون آية بصري، ثلاثون آية غيرهم.

في حديث أبيّ : (ومن قرأ (سورة ألم تنزيل) فكأنّما أحيا ليلة القدر)(1)، وعن الصادق عليه السلام: (من قرأ (سورة السجدة) في كل ليلة جمعة أعطاه اللّه كتابه بيمينه ولم يحاسبه بما كان منه، وكان من رفقاء محمّد وأهل بيته عليهم السلام)(2).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة السجده (32): الآیات 1 الی 5]

الم تَنْزِيلُ اَلْكِتٰابِ لاٰ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرٰاهُ بَلْ هُوَ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مٰا أَتٰاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ اَللّٰهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا فِي سِتَّةِ أَيّٰامٍ ثُمَّ اِسْتَوىٰ عَلَى اَلْعَرْشِ مٰا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاٰ شَفِيعٍ أَ فَلاٰ تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ مِنَ اَلسَّمٰاءِ إِلَى اَلْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كٰانَ مِقْدٰارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمّٰا تَعُدُّونَ

ص: 288


1- الكشف والبيان ج 7:325.
2- ثواب الأعمال: 110.

تَنْزِيلُ مبتدأ وخبره مِنْ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ ، و لاٰ رَيْبَ فِيهِ اعتراض.

أثبت أوّلا أنّ تنزيل الكتاب من ربّ العالمين، وأنّ ذلك مما لا ريب فيه، ثمّ أضرب عن ذلك إلى قوله: أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرٰاهُ ، لأنّ أَمْ هذه منقطعة إنكارا لقولهم، وتعجيبا منه لظهور الأمر في عجزهم عن الإتيان بسورة منه، ثمّ أضرب عن الإنكار إلى إثبات أنّه اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ، وقوله: لِتُنْذِرَ قَوْماً مٰا أَتٰاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ يعني: قريشا، إذ لم يأتهم نبيّ قبل نبيّنا صلى الله عليه و آله و سلم.

لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ استعار لفظ الترجي للإرادة.

مٰا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاٰ شَفِيعٍ هو على معنيين:

أحدهما: إنّكم إذا جاوزتم رضاه لم تجدوا لأنفسكم وليا، أي: ناصرا ينصركم ولا شفيعا يشفع لكم.

وا لآخر: أنّه سبحانه وليّكم الذي يتولي مصالحكم، وشفيعكم أي: ناصركم علي سبيل المجاز، لأنّ الشفيع ينصر المشفوع له.

يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ أي: أمر الوحي، فينزله مع جبرائيل من السماء إلى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ ما كان من قبول الوحي أو ردّه مع جبرائيل في وقت هو في الحقيقة أَلْفَ سَنَةٍ ، لأنّ المسافة في الهبوط والصعود مسيرة ألف سنة، لأنّ ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة، وهو يوم من أيّامكم، فيقطع جبرئيل مسيرة ألف سنة مما يعدّه البشر في يوم واحد. وقيل: معناه: يدبّر أمر الدنيا كلها من السماء إلى الأرض لألف سنة، وهو يوم من أيّام اللّه ثمّ يعرج إليه أي: يصير إليه، ويثبت عنده، ويكتب في صحف ملائكته كل وقت من أوقات هذه المدة ما يرتفع من ذلك الأمر إلى أن

ص: 289

تبلغ المدة آخرها، ثمّ يدبّر أيضا ليوم آخر، وهلم جرا إلي أن تقوم الساعة(1). وقيل:

يدبّر المأمور به من الطاعات وينزله مدبّرا من السماء إلى الأرض، فلا(2) يصعد إليه ذلك لقلة عمال اللّه المخلصين وقلة الأعمال الصاعدة، لأنّه لا يوصف بالصعود إلا الخالص.

[سورة السجده (32): الآیات 6 الی 12]

ذٰلِكَ عٰالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهٰادَةِ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ (6) اَلَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ وَ بَدَأَ خَلْقَ اَلْإِنْسٰانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاٰلَةٍ مِنْ مٰاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوّٰاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَ جَعَلَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصٰارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مٰا تَشْكُرُونَ (9) وَ قٰالُوا أَ إِذٰا ضَلَلْنٰا فِي اَلْأَرْضِ أَ إِنّٰا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقٰاءِ رَبِّهِمْ كٰافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفّٰاكُمْ مَلَكُ اَلْمَوْتِ اَلَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَ لَوْ تَرىٰ إِذِ اَلْمُجْرِمُونَ نٰاكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنٰا أَبْصَرْنٰا وَ سَمِعْنٰا فَارْجِعْنٰا نَعْمَلْ صٰالِحاً إِنّٰا مُوقِنُونَ (1(2)

و قرئ: خَلَقَهُ بفتح اللام وسكونها، فالأوّل علي الوصف لكل شيء، بمعنى: إنّ كل شيء خلقه فقد أحسنه، والثاني علي البدل، أي: أحسن خلق كل شيء، وأحسن بمعنى حسّن، يعني: إنّ جميع مخلوقاته حسنة وإن تفاوتت إلي حسن وأحسن منه، كما قال تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسٰانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (3). وقيل:

معناه: علم كيف يخلقه وأحسن معرفته، أي: عرفه معرفة حسنة بتحقيق وإتقان(4)،

ص: 290


1- عن مجاهد. تفسير الطبري ج 21:59.
2- في ب: ولم، وفي ج: ولا.
3- التين: 4.
4- عن مقاتل. معالم التنزيل ج 3:157.

ومنه: (قيمة كل امرئ ما يحسنه)(1).

وسمّيت الذرية نسلا لأنّها تنسل منه أي: تنفصل منه.

ثُمَّ سَوّٰاهُ أي: قوّمه، وأضاف الروح إلى ذاته إيذانا بأنّه خلق عجيب لا يعلم كنهه إلا هو.

أَ إِذٰا ضَلَلْنٰا فِي اَلْأَرْضِ أي: صرنا ترابا و ذهبنا مختلطين بتراب الأرض لا نتميّز منه كما يضل الماء في اللبن، أو غبنا في الأرض بالدفن فيها، كقول النابغة:

وآب مضلّوه بعين جليّة *** وغودر بالجولان حزم ونائل(2)

وقري: وَ إِذٰا و أَ إِنّٰا ، بالاستفهام وتركه، وروي عن عليّ عليه السلام وابن عباس: صللنا بالصاد وكسر اللام، من صل اللحم وأصل: إذا أنتن. وقيل: صرنا من جنس الصلة وهي الأرض(3). وانتصب الظرف بما دلّ عليه قوله: أَ إِنّٰا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ و هو نبعث أو يجدد خلقنا.

لِقٰاءِ رَبِّهِمْ هو الوصول إلى العاقبة من تلقّي ملك الموت وما وراءه. ولما ذكر كفرهم بالإنشاء أضرب عنه إلى ما هو أبلغ في الكفر، وهو أنّهم كافرون بجميع ما يكون في العاقبة لا بالإنشاء وحده، ألا تري كيف خوطبوا بالتوفي وبالرجوع(4)

إلى ربّهم بعد ذلك مبعوثين للجزاء؟! وهذا معنى لقاء اللّه.

والتوفّي: استيفاء النفس وهي الروح، وهي أن تقبض كلها لا يترك منها شيء، من قولهم: توفيت حقّي واستوفيته. وعن ابن عباس: (جعلت الدنيا لملك

ص: 291


1- نهج البلاغة: 578 ح 81.
2- ديوان النابغة الذبياني: 90.
3- تفسير الماوردي ج 4:356.
4- في ب: الرجوع.

الموت مثل الجام، يأخذ منها ما يشاء إذا حان القضاء)(1). وعن قتادة: (إنّ له أعوانا من ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، أي: يتوفاهم ومعه أعوانه)(2). وقيل: يدعو الأرواح فتجيبه ثمّ يأمر أعوانه بقبضها.

وَ لَوْ تَرىٰ خطاب لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وجواب (لو) محذوف، أي: لرأيت أمرا فظيعا وحالا سيئة. و يجوز أن يكون خطابا لكل أحد، كما يقال: فلان لئيم إن أكرمته أهانك، ولا يريد مخاطبا بعينه.

و إِذِ ظرف للرؤية.

نٰاكِسُوا رُؤُسِهِمْ مطرقوها ومطأطئوها حياء وذلا، يستغيثون بقولهم:

رَبَّنٰا أَبْصَرْنٰا وَ سَمِعْنٰا فلا يغاثون. والمعنى: أبصرنا صدق وعدك ووعيدك، وسمعنا منك تصديق رسلك، أو كنا عميا وصما فأبصرنا وسمعنا.

فَارْجِعْنٰا إلى الدنيا نعمل صالحا إِنّٰا مُوقِنُونَ اليوم.

[سورة السجده (32): الآیات 13 الی 17]

وَ لَوْ شِئْنٰا لَآتَيْنٰا كُلَّ نَفْسٍ هُدٰاهٰا وَ لٰكِنْ حَقَّ اَلْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ اَلْجِنَّةِ وَ اَلنّٰاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمٰا نَسِيتُمْ لِقٰاءَ يَوْمِكُمْ هٰذٰا إِنّٰا نَسِينٰاكُمْ وَ ذُوقُوا عَذٰابَ اَلْخُلْدِ بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمٰا يُؤْمِنُ بِآيٰاتِنَا اَلَّذِينَ إِذٰا ذُكِّرُوا بِهٰا خَرُّوا سُجَّداً وَ سَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ هُمْ لاٰ يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجٰافىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ اَلْمَضٰاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلاٰ تَعْلَمُ نَفْسٌ مٰا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزٰاءً بِمٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ (1(7)

ص: 292


1- مجمع البيان ج 7-8:328.
2- تفسير الطبري ج 21:62.

[سورة السجده (32): الآیات 18 الی 21]

أَ فَمَنْ كٰانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كٰانَ فٰاسِقاً لاٰ يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ فَلَهُمْ جَنّٰاتُ اَلْمَأْوىٰ نُزُلاً بِمٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَ أَمَّا اَلَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوٰاهُمُ اَلنّٰارُ كُلَّمٰا أَرٰادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهٰا أُعِيدُوا فِيهٰا وَ قِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذٰابَ اَلنّٰارِ اَلَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ اَلْعَذٰابِ اَلْأَدْنىٰ دُونَ اَلْعَذٰابِ اَلْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (2(1)

يريد: إنّا بنينا أمر التكليف علي الاختيار دون الاضطرار وَ لَوْ شِئْنٰا لَآتَيْنٰا كُلَّ نَفْسٍ هُدٰاهٰا علي طريق القسر و الإجبار ولكن حقّت كلمة العذاب، أي: علي أهل الضلال و العمى لاستحبابهم العمى علي الهدي.

ثمّ قال: فَذُوقُوا بنسيانكم العاقبة وقلة مبالاتكم بها وترك استعدادكم لها، والمراد بالنسيان خلاف التذكر.

إِنّٰا نَسِينٰاكُمْ أي: جازيناكم جزاء نسيانكم، [وقيل: هو بمعنى الترك، أي: تركتم الفكر في العاقبة فتركناكم من الرحمة(1). وفي استئناف قوله:

إِنّٰا نَسِينٰاكُمْ ](2) وبناء الفعل علي (إنّ ) واسمها تشديد في الانتقام منهم، أي: فذوقوا هذا، أي: ما أنتم فيه من نكس الرؤوس والغم والخزي بسبب نسيان اللقا،. وذوقوا عذاب المخلد في جهنم بسبب ما عملتم.

و ذُكِّرُوا بِهٰا أي: وعظوا فتذكّروا واتعظوا بأن سجدوا شكرا للّه سبحانه علي أن هداهم لمعرفته وتواضعا وخشوعا.

ص: 293


1- عن ابن عباس وغيره. الدر المنثور ج 5:174.
2- ساقطة من د.

وَ سَبَّحُوا ونزّهوا اللّه من نسبة القبائح إليه، وأثنوا عليه حامدين له.

تَتَجٰافىٰ جُنُوبُهُمْ أي: ترتفع وتتنحى عن المضاجع، وهي الفرش ومواضيع النوم والاضطجاع، وهم المتهجّدون بالليل الذين يقومون لصلاة الليل.

يَدْعُونَ رَبَّهُمْ لأجل خوفهم من سخطه وطمعهم في رحمته، وعن بلال عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: (عليكم بقيام الليل فإنّه دأب الصالحين قبلكم، وإنّ قيام الليل قربة إلى اللّه، ومنهاة عن الإثم، وتكفير للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد)(1).

وعنه عليه السلام: (شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزّه كفّ الأذى عن الناس)(2).

وقرئ: ما أخفى لهم علي البناء للفاعل، وهو اللّه عزّ وجل، و (ما) بمعنى الذي أو بمعنى أي، وروي عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: قرات أعين. أي: لا تعلم النفوس كلهن، ولا نفس واحدة منهن، ولا ملك مقرّب، ولا نبيّ مرسل أي نوع عظيم من الثواب خبّئ وادخر لأولئك، أو أي ذلك أخبئ وادخر لهم مما تقرّ به عيونهم، ولا مزيد علي هذه العدة ولا مطمح لهمة وراءها. ومثله الحديث: (يقول اللّه تعالى:

أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر علي قلب بشر بله ما أطلعتكم عليه، اقرأوا إن شئتم: فَلاٰ تَعْلَمُ نَفْسٌ ... الآية)(3).

كٰانَ مُؤْمِناً و كٰانَ فٰاسِقاً محمولان علي لفظ (من)، و لاٰ يَسْتَوُونَ محمول علي معناه، بدليل قوله: ف - أَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ و أَمَّا اَلَّذِينَ فَسَقُوا .

و جَنّٰاتُ اَلْمَأْوىٰ نوع من الجنان. وعن ابن عباس: (تأوي إليها أرواح

ص: 294


1- سنن الترمذي ج 5:212.
2- المستدرك على الصحيحين ج 4:325، ينظر: الخصال: 7.
3- صحيح مسلم ج 8:143.

الشهداء)(1). وقيل: هي عن يمين العرش.

نُزُلاً عطاء بأعمالهم، والنزل: عطاء النازل، ثمّ صار عاما.

فَمَأْوٰاهُمُ اَلنّٰارُ أي: النار لهم مكان جنّة المأوى للمؤمنين.

كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ فيه دلالة علي أنّ المراد بالفاسق هنا الكافر.

و اَلْعَذٰابِ اَلْأَدْنىٰ عذاب الدنيا من القتل و الأسر، وما محنوا به من السنة سبع سنين حتى أكلوا الجيف، وقيل: هو القتل يوم بدر بالسيف(2)، وقيل: الدابة والدجّال(3)، وقيل: عذاب القبر(4).

و اَلْعَذٰابِ اَلْأَكْبَرِ عذاب الآخرة.

لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي: يتوبون عن الكفر، أو لعلهم يريدون الرجوع ويطلبونه كقوله: فَارْجِعْنٰا نَعْمَلْ صٰالِحاً (5). وسمّيت إرادة الرجوع رجوعا كما سمّيت إرادة القيام قياما في قوله: إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاٰةِ (6).

[سورة السجده (32): الآیات 22 الی 24]

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيٰاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهٰا إِنّٰا مِنَ اَلْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ وَ لَقَدْ آتَيْنٰا مُوسَى اَلْكِتٰابَ فَلاٰ تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقٰائِهِ وَ جَعَلْنٰاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرٰائِيلَ وَ جَعَلْنٰا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنٰا لَمّٰا صَبَرُوا وَ كٰانُوا بِآيٰاتِنٰا يُوقِنُونَ

ص: 295


1- تفسير الطبري ج 27:33.
2- عن ابن مسعود وغيره. تفسير الطبري ج 21:69.
3- تفسير أبي جمزة الثمالي: 263.
4- عن مجاهد. تفسير الطبري ج 21:69.
5- السجدة: 12.
6- المائدة: 6.

[سورة السجده (32): الآیات 25 الی 30]

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ فِيمٰا كٰانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنٰا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ اَلْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسٰاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ أَ فَلاٰ يَسْمَعُونَ (26) أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّٰا نَسُوقُ اَلْمٰاءَ إِلَى اَلْأَرْضِ اَلْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعٰامُهُمْ وَ أَنْفُسُهُمْ أَ فَلاٰ يُبْصِرُونَ (27) وَ يَقُولُونَ مَتىٰ هٰذَا اَلْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ اَلْفَتْحِ لاٰ يَنْفَعُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِيمٰانُهُمْ وَ لاٰ هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ اِنْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (3(0)

معنى ثُمَّ : الاستبعاد لإعراضهم عن آيات اللّه مع وضوحها بعد التذكير بها.

و اَلْكِتٰابَ للجنس، والضمير في لِقٰائِهِ له، و المعنى: إنّا آتينا موسى مثل ما آتيناك [من الكتاب](1)، فلا تك في شك من أنّك لقيت مثله، إذ لقيناك مثل ما لقيناه من الوحي ونحوه: وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى اَلْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (2). وقيل: إنّ الضمير في لِقٰائِهِ لموسى(3)، والتقدير: من لقائك موسى أو من لقاء موسى إيّاك ليلة الإسراء بك إلى السماء، فقد روي أنّه عليه السلام قال: (رأيت ليلة أسري بي إلى السماء موسى بن عمران رجلا آدم طوالا جعدا كأنّه من رجال شنوءة)(4)

. وعلى هذا فيكون قد وعد عليه السلام أن يلقى موسى قبل ان يموت.

ص: 296


1- ساقطة من ج.
2- النمل: 6.
3- معاني القرآن وإعرابه ج 4:209.
4- صحيح البخاري ج 2:216.

وجعلنا الكتاب المنزل علي موسى هُدىً لقومه.

وَ جَعَلْنٰا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يقتدى بأقوالهم و أفعالهم.

يَهْدُونَ الناس إلى ما في التوراة من دين اللّه وشرائعه.

(لما صبروا) أي: لصبرهم، وكذلك: لنجعلن الكتاب المنزل إليك نورا وهدي و لنجعلن بعدك في أمّتك أئمّة يهدون الناس مثل تلك الهداية، لما صبروا عليه من نصرة الدين، وثبتوا عليه من الحقّ اليقين. وقرئ: لَمّٰا صَبَرُوا ومعناه:

لما صبروا جعلناهم أئمّة، وعن الحسن: (صبروا عن الدنيا)(1).

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ أي: يقضي فيميز المحقّ من المبطل. و هُوَ فصل، ويجوز ذلك في المضارع لأنّه يشبه الاسم، ولو قلت: إنّ زيدا هو فعل لم يجز.

الواو في أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ للعطف علي معطوف عليه منوي من جنس المعطوف، وقرئ بالنون والياء، والفاعل ما دلّ عليه كَمْ أَهْلَكْنٰا لأنّ كم لا تقع فاعلة، وتقديره: أولم يهد لهم كثرة إهلاكنا القرون! أو هذا الكلام كما هو بمضمونه، ومعناه كما تقول: تعصم لا إله إلا اللّه الدم والمال. ويجوز أن يكون فيه ضمير اللّه بدلالة القراءة بالنون، و الضمير في لهم لأهل مكة.

و اَلْقُرُونِ عاد وثمود و قوم لوط يمشي أهل مكة فِي مَسٰاكِنِهِمْ وديارهم وبلادهم.

اَلْجُرُزِ الأرض التي جرز نباتها أي: قطع، إما لعدم الماء وإما لأنّه رعي، ولا يقال للأرض التي لا تنبت: جرز، ويدلّ عليه قوله: فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً ، و الضمير في به للماء.

ص: 297


1- الكشاف ج 3:516.

تَأْكُلُ من الزرع أَنْعٰامُهُمْ من عصفه و أَنْفُسُهُمْ من حبّه.

الفتح: النصر أو الفصل بالحكومة من قوله: رَبَّنَا اِفْتَحْ بَيْنَنٰا (1)، وكانوا يسمعون المسلمين فيستفتحون اللّه عليهم ويقولون: يفتح اللّه بيننا وبينكم، فقالوا لهم: مَتىٰ هٰذَا اَلْفَتْحُ أي: في أي وقت يكون إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ في أنّه كائن ؟. و يَوْمَ اَلْفَتْحِ يوم القيامة، وقيل: يوم بدر(2)، وقيل: هو يوم فتح مكة(3).

وغرضهم في السؤال عن وقت الفتح هو التكذيب والاستهزاء، فوقع جوابهم علي حسب ما عرف من مرادهم في سؤالهم، فكأنّه قال: لا تستعجلوا به، فإنّ ذلك اليوم ستؤمنون ولا ينفعكم الإيمان كما لم ينفع فرعون إيمانه عند حلول البأس، وستنظرون ولا تنظرون.

وَ اِنْتَظِرْ حكم اللّه فيهم وانتظر النصرة عليهم وهلاكهم ف - إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ هلاككم والغلبة عليكم.

ص: 298


1- الأعراف: 89.
2- عن ابن عباس. الدر المنثور ج 5:179.
3- عن الكلبي. معالم التنزيل ج 3:160.

سورة الأحزاب

اشارة

مدنية، ثلاث وسبعون آية.

في حديث أبيّ : (من قرأ (سورة الأحزاب) و علّمها أهله وما ملكت يمينه أعطي الأمان من عذاب القبر)(1)، وعن الصادق عليه السلام: (من كان كثير القراءة ل - (سورة الأحزاب) كان يوم القيامة في جوار محمّد صلى الله عليه و آله و سلم وأزواجه)(2).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة الأحزاب (33): الآیات 1 الی 5]

يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ اِتَّقِ اَللّٰهَ وَ لاٰ تُطِعِ اَلْكٰافِرِينَ وَ اَلْمُنٰافِقِينَ إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَ اِتَّبِعْ مٰا يُوحىٰ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللّٰهِ وَ كَفىٰ بِاللّٰهِ وَكِيلاً (3) مٰا جَعَلَ اَللّٰهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَ مٰا جَعَلَ أَزْوٰاجَكُمُ اَللاّٰئِي تُظٰاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهٰاتِكُمْ وَ مٰا جَعَلَ أَدْعِيٰاءَكُمْ أَبْنٰاءَكُمْ ذٰلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوٰاهِكُمْ وَ اَللّٰهُ يَقُولُ اَلْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي اَلسَّبِيلَ (4) اُدْعُوهُمْ لِآبٰائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اَللّٰهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبٰاءَهُمْ فَإِخْوٰانُكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ مَوٰالِيكُمْ وَ لَيْسَ

ص: 299


1- الكشف والبيان ج 8:5.
2- ثواب الأعمال: 110.

[سورة الأحزاب (33): آیة 5]

عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ فِيمٰا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَ لٰكِنْ مٰا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَ كٰانَ اَللّٰهُ غَفُوراً رَحِيماً

ناداه سبحانه بالنبيّ وبالرسول، وترك نداءه باسمه كما قال: يٰا آدَمُ (1)، يٰا دٰاوُدُ (2)، يٰا مُوسىٰ (3)، إجلالا لمحلّه وتشريفا له.

اِتَّقِ اَللّٰهَ أي: دم علي ما أنت عليه من التقوى، واثبت عليه وازدد منه.

وَ لاٰ تُطِعِ اَلْكٰافِرِينَ وَ اَلْمُنٰافِقِينَ ولا تساعدهم علي شيء، ولا تقبل منهم رأيا ومشورة.

و قرئ: بما يعملون بالياء، أي: بما يعمل المنافقون من الكيد والمكر.

وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللّٰهِ و فوض أمرك إليه و كله إليه وَ كَفىٰ بِاللّٰهِ وَكِيلاً موكولا إليه كل أمر.

مٰا جَعَلَ اَللّٰهُ قلبين في جوف رجل، ولا زوجية وأمومة في امرأة، ولا بنوة ودعوة في رجل. والمعنى: إنّ الله عزّ اسمه كما ليس في حكمته أن يجعل للإنسان قلبين، لأنّه لو كان ذلك لكان لا ينفصل إنسان واحد من إنسانين، إذ كان يؤدي أن تكون الجملة الواحدة متصفة بكونها مريدة كارهة لشيء واحد في حالة واحدة إذا أريد بأحد القلبين وكره بالآخر، فكذلك لا تكون المرأة الواحدة أمّا لرجل وزوجة له، ولا يكون الرجل الواحد دعيا لرجل وابنا له، لأنّ الابن هو العريق في النسب، والدعيّ لاصق في التسمية لا غير، ولا يجتمع في الشيء أن يكون أصيلا

ص: 300


1- الأعراف: 19.
2- ص: 26.
3- الأعراف: 144.

وغير أصيل.

وهذا مثل ضربه اللّه تعالى في زيد بن حارثة، وهو رجل من كلب، سبي في الجاهلية فاشتراه حكيم بن حزام لعمّته خديجة، فلما تزوّجها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهبته له، وقيل: بل اشتراه رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم بسوق عكاظ وأسلم، فقدم أبوه حارثة بن شراحيل الكلبي مكة واستشفع بأبي طالب إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في أن يبيعه منه، فقال عليه السلام: هو حرّ فليذهب حيث شاء، فأبى زيد أن يفارق رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فقال أبوه: يا معشر قريش، اشهدوا أنّه ليس بابني، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: (اشهدوا أنّ زيدا ابني)، فكان يدعى زيد بن محمّد، فلما تزوّج النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم زينب بنت جحش - وكانت تحت زيد بن حارثة - قالت اليهود والمنافقون: تزوّج محمّد امرأة ابنه، وهو ينهى الناس عن ذلك، فأنزل اللّه عزّ وجل هذه الآية، قوله: مٰا كٰانَ مُحَمَّدٌ أَبٰا أَحَدٍ مِنْ رِجٰالِكُمْ وَ لٰكِنْ رَسُولَ اَللّٰهِ (1).

وقرئ: اللائي بهمزة ممدودة مشبعة بعدها ياء. وقرئ: اللآء بهمزة ممدودة مختلسة لا ياء بعدها، وقرئ: اللاي بغير همزة ولا مد حيث كانت من القرآن، وقرئ: تَظٰاهَرُونَ من: ظاهر، و تظاهرون من: اظّاهر بمعنى تظاهر، وتظهرون من: اظّهر بمعنى: تظهر.

وأصل الظهار أن يقول الرجل لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي، يقال: ظاهر من امرأته، وكان ذلك طلاقا في الجاهلية، يتجنّبون المرأة المظاهر منها كما يتجنب المطلّقة، فكان معنى قولهم: تظاهر منها: تباعد منها بجهة الظهار، وتظهّر منها:

تحرّز منها، وظاهر منها: حاذر منها، ونظيره: آلى من امرأته. لما ضمّن معنى التباعد منها، عدّي ب - (من). ومعنى قولهم: أنت عليّ كظهر أمي، أنّهم أرادوا أن يقولوا

ص: 301


1- الدر المنثور ج 5:181.

كبطن أمي في التحريم، فكنّوا عن البطن بالظهر، لأنّ ذكر البطن يقارب ذكر الفرج.

ذٰلِكُمْ النسب هو قَوْلُكُمْ بِأَفْوٰاهِكُمْ : هذا ابني، ولا حقيقة له عند اللّه وَ اَللّٰهُ يَقُولُ اَلْحَقَّ أي: لا يقول إلا الذي يوافق الحقيقة.

وَ هُوَ يَهْدِي اَلسَّبِيلَ ولا يهدي إلا سبيل الحقّ ، فقال ما هو الحقّ ، وهدى إلى ما هو سبيل الحقّ ، وهو قوله: اُدْعُوهُمْ لِآبٰائِهِمْ .

هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اَللّٰهِ أي: أعدل حكما و قولا.

فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا لهم آباء فهم إخوانكم فِي اَلدِّينِ و أولياؤكم، أي:

بنو أعمامكم أو ناصروكم، وقيل: وَ مَوٰالِيكُمْ : معتقوكم إذا أعتقتموهم فلكم ولاؤهم(1).

وَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ أي: إثم فِيمٰا أَخْطَأْتُمْ بِهِ إذا نسبتموهم إلى المتبنّي لظنكم أنّه أبوه.

و مٰا تَعَمَّدَتْ في محلّ الجر عطفا علي ما أخطأتم، ويجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر، والتقدير: ولكن ما تعمّدت قلوبكم فيه الجناح، ويجوز أن يكون المراد العفو عن الخطأ دون العمد علي طريق العموم، كقوله عليه السلام: (وضع عن أمّتي الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه)(2)، ويتناول خطأ التبني وعمده لعمومه.

[سورة الأحزاب (33): آیة 6]

اَلنَّبِيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْوٰاجُهُ أُمَّهٰاتُهُمْ وَ أُولُوا اَلْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اَللّٰهِ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُهٰاجِرِينَ إِلاّٰ أَنْ تَفْعَلُوا إِلىٰ أَوْلِيٰائِكُمْ مَعْرُوفاً كٰانَ

ص: 302


1- تفسير السمرقندي ج 3:41.
2- الكافي ج 2:463، معجم الطبراني الأوسط ج 8:161.

[سورة الأحزاب (33): الآیات 6 الی 11]

ذٰلِكَ فِي اَلْكِتٰابِ مَسْطُوراً (6) وَ إِذْ أَخَذْنٰا مِنَ اَلنَّبِيِّينَ مِيثٰاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْرٰاهِيمَ وَ مُوسىٰ وَ عِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ وَ أَخَذْنٰا مِنْهُمْ مِيثٰاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْئَلَ اَلصّٰادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَ أَعَدَّ لِلْكٰافِرِينَ عَذٰاباً أَلِيماً (8) يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جٰاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهٰا وَ كٰانَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جٰاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ إِذْ زٰاغَتِ اَلْأَبْصٰارُ وَ بَلَغَتِ اَلْقُلُوبُ اَلْحَنٰاجِرَ وَ تَظُنُّونَ بِاللّٰهِ اَلظُّنُونَا (10) هُنٰالِكَ اُبْتُلِيَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزٰالاً شَدِيداً (1(1)

اَلنَّبِيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ في كل شيء من أمور الدين والدنيا، ولذلك أطلق ولم يقيّد، فيجب عليهم أن يكون أحبّ إليهم من أنفسهم، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها، وحقّه أوجب عندهم من حقوقها، وشفقتهم عليه أكثر من شفقتهم عليها، وأن يبذلوها دونه إذا حلّ خطب، ويجعلوها فداه إذا لقحت حرب. وروي عن أبيّ وابن مسعود وابن عباس أنّهم قرأوا: النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم، وروي ذلك عن الباقر والصادق عليهما السلام. وعن مجاهد: (كل نبيّ أب لأمته)(1)، ولذلك صار المؤمنون إخوة لأنّ النبيّ أبوهم في الدين، وأزواجه أمهاتهم في تحريم النكاح، كما قال: وَ لاٰ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوٰاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً (2)، ولسن بأمهات لهم علي الحقيقة، إذ لو كن كذلك لكانت بناتهن أخوات، فكان لا يحلّ للمؤمن التزوّج بهن.

ص: 303


1- الكشاف ج 3:523.
2- الأحزاب: 53.

وَ أُولُوا اَلْأَرْحٰامِ أي: ذوو الأنساب بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ في الميراث بحقّ القرابة. وكان المسلمون في صدر الإسلام يتوارثون بالمؤاخاة في الدين وبالهجرة، فصارت هذه الآية ناسخة للتوارث بالهجرة والمؤاخاة.

فِي كِتٰابِ اَللّٰهِ في اللوح المحفوظ، أو في القرآن.

مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ يجوز أن يكون بيانا لأولي الأرحام، أي: الأقرباء من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضا من الأجانب، و يجوز أن يكون لابتداء الغاية، أي: أولي الأرحام بحقّ القرابة أولى بالميراث [من المؤمنين](1) بحقّ المؤاخاة، و من المهاجرين بحقّ الهجرة.

إِلاّٰ أَنْ تَفْعَلُوا إِلىٰ أَوْلِيٰائِكُمْ مَعْرُوفاً عنى بذلك وصية الرجل لإخوانه في الدين، وعدّي تَفْعَلُوا ب - إِلىٰ لأنّه في معنى تسدوا وتزلوا.

كٰانَ ذٰلِكَ المشار إليه من نسخ الميراث بالهجرة وردّه إلى أولي الأرحام مكتوبا في اللوح أو القرآن [أو التوراة](2).

واذكر حين أخذنا مِنَ اَلنَّبِيِّينَ جميعا مِيثٰاقَهُمْ بتبليغ الرسالة والدعاء إلي التوحيد، وَ مِنْكَ خصوصا وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْرٰاهِيمَ وَ مُوسىٰ وَ عِيسَى .

وإنّما فعلنا ذلك ليسأل اللّه تعالى يوم القيامة عند تواقف الأشهاد المؤمنين الذين صدقوا عهدهم، فيشهد الأنبياء لهم بأنّهم صدقوا عهدهم وكانوا مؤمنين، أو ليسأل الأنبياء ما الذي أجابتهم به أممهم كقوله: أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّٰاسِ اِتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلٰهَيْنِ (3)، أو ليسأل الذين صدقوا ماذا قصدتم بصدقكم وجه اللّه أم غيره ؟ وفيه

ص: 304


1- ساقطة من ج.
2- ساقطة من ج.
3- المائدة: 116.

تهديد للكاذب. قال الصادق عليه السلام: (إذا سئل الصادق عن صدقه على أي وجه قاله فيجازى بحسبه، فكيف يكون حال الكاذب ؟!)(1).

والميثاق الغليظ: اليمين باللّه علي الوفاء بما حملوا. والغلظ استعارة، والمراد:

عظم الميثاق وجلالة قدره في بابه.

اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ يوم الأحزاب، وهو يوم الخندق.

إِذْ جٰاءَتْكُمْ جُنُودٌ وهم الأحزاب الذين تحزبوا علي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فَأَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمْ رِيحاً وهي الصبا أرسلت عليهم حتى أكفأت قدورهم، ونزعت فساطيطهم، وسفت التراب في وجوههم. وفي الحديث: (نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور)(2).

وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهٰا وهم الملائكة.

وحين سمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بإقبالهم ضرب الخندق علي المدينة، أشار عليه بذلك سلمان الفارسي، ثمّ خرج ومعه ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب معسكره والخندق بينه وبين القوم، واشتد الخوف في المسلمين، ورفعت الذراري والنساء في الآطام، ونجم النفاق من المنافقين، وكانت قريش قد أقبلت حتى نزلت بين الجرف والغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم و من تابعهم من كنانة وأهل تهامة وقائدهم أبو سفيان، وأقبلت غطفان و من تابعهم من أهل نجد حتى نزلوا إلى جانب أحد وقائدهم عيينة بن حصين وعامر بن الطفيل، ومالأتهم اليهود من بني قريظة والنضير، وأقام المشركون بضعا وعشرين ليلة لم يكن بينهم وبين المسلمين قتال إلا الرمي بالنبل والحجارة، غير أنّ فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد

ص: 305


1- مجمع البيان ج 7-8:339، وهي نص عبارة الشيخ في التبيان ج 8:289 فلاحظ.
2- صحيح البخاري ج 1:183، الجعفريات ج 2:136.

ود، وضرار بن الخطاب، وهبيرة بن أبي وهب، ونوفل بن عبد اللّه خرجوا علي خيولهم حتى مروا ببني كنانة فقالوا: تهيأوا للحرب فستعلمون اليوم من الفرسان، ثمّ أقبلوا تعنق بهم خيولهم حتى وقفوا على الخندق فقالوا: واللّه إنّ هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها، ثمّ تيمموا مكانا ضيقا من الخندق فضربوا خيولهم فاقتحموا، ونادى عمرو وكان يعدّ بألف فارس: من يبارز؟ فقام عليّ عليه السلام وهو مقنّع في الحديد فقال: أنا له يا رسول اللّه، فقال النبيّ : (إنّه عمرو، اجلس)، ونادى عمرو الثانية والثالثة يقول: ألا رجل ؟ أين جنّتكم التي تزعمون أنّ من قتل منكم دخلها؟! فقام عليّ عليه السلام، فأذن له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، و ألبسه درعه ذات الفضول، وأعطاه ذا الفقار، وعمّمه عمامته السحاب، وقال: (اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوق رأسه، ومن تحت قدميه)، وتجاولا فضربه عمرو في الدرقة فقدّها وأصاب رأسه فشجّه، وضربه عليّ عليه السلام وثارت بينهما عجاجة، فسمع عليّ عليه السلام يكبّر، فقال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: (قتله والذي نفسي بيده)، فحزّ عليّ رأسه وأقبل نحو رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ووجهه يتهلل، فقال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: (أبشر يا عليّ ، فلو وزن اليوم عملك بعمل أمّة محمّد لرجح عملك بعملهم)(1).

إِذْ جٰاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ من أعلى الوادي من قبل المشرق بنو غطفان.

وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ من أسفل الوادي من قبل المغرب قريش.

وَ إِذْ زٰاغَتِ اَلْأَبْصٰارُ مالت عن سننها حيرة و شخوصا، وقيل: عدلت عن كل شيء فلم تلتفت إلا إلي عدوها لشدّة الخوف(2).

و اَلْحَنٰاجِرَ جمع الحنجرة وهي منتهى الحلقوم، قالوا: إذا انتفخت الرئة

ص: 306


1- ينظر: مغازي الواقدي ج 2:471، وتفسير القمي ج 2:183.
2- معاني القرآن للفراء ج 2:336.

من فزع أو غم أو غضب ربت وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة، ولذلك قيل للجبان: انتفخ سحره. ويجوز أن يكون ذلك مثلا في اضطراب القلوب و وجيبها وإن لم تبلغ الحناجر حقيقة.

وَ تَظُنُّونَ بِاللّٰهِ اَلظُّنُونَا المختلفة، زيدت الألف في الفاصلة كما زادوها في القافية، نحو قوله:

أقلّ اللوم عاذل و العتابا(1)

وكذلك اَلرَّسُولاَ (2) و اَلسَّبِيلاَ (3).

وَ زُلْزِلُوا زِلْزٰالاً شَدِيداً أي: أزعجوا أشدّ إزعاج.

[سورة الأحزاب (33): الآیات 12 الی 18]

وَ إِذْ يَقُولُ اَلْمُنٰافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مٰا وَعَدَنَا اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ إِلاّٰ غُرُوراً (12) وَ إِذْ قٰالَتْ طٰائِفَةٌ مِنْهُمْ يٰا أَهْلَ يَثْرِبَ لاٰ مُقٰامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ اَلنَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنٰا عَوْرَةٌ وَ مٰا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاّٰ فِرٰاراً (13) وَ لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطٰارِهٰا ثُمَّ سُئِلُوا اَلْفِتْنَةَ لَآتَوْهٰا وَ مٰا تَلَبَّثُوا بِهٰا إِلاّٰ يَسِيراً (14) وَ لَقَدْ كٰانُوا عٰاهَدُوا اَللّٰهَ مِنْ قَبْلُ لاٰ يُوَلُّونَ اَلْأَدْبٰارَ وَ كٰانَ عَهْدُ اَللّٰهِ مَسْؤُلاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ اَلْفِرٰارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ اَلْمَوْتِ أَوِ اَلْقَتْلِ وَ إِذاً لاٰ تُمَتَّعُونَ إِلاّٰ قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا اَلَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اَللّٰهِ إِنْ أَرٰادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرٰادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَ لاٰ يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ وَلِيًّا وَ لاٰ نَصِيراً (1(7) قَدْ يَعْلَمُ اَللّٰهُ اَلْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَ اَلْقٰائِلِينَ لِإِخْوٰانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنٰا وَ لاٰ

ص: 307


1- ديوان جرير: 58 و بقيته: وقولي إن أصبت لقد أصابا.
2- الأحزاب: 66.
3- الأحزاب: 67.

[سورة الأحزاب (33): الآیات 18 الی 20]

يَأْتُونَ اَلْبَأْسَ إِلاّٰ قَلِيلاً أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذٰا جٰاءَ اَلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشىٰ عَلَيْهِ مِنَ اَلْمَوْتِ فَإِذٰا ذَهَبَ اَلْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدٰادٍ أَشِحَّةً عَلَى اَلْخَيْرِ أُولٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اَللّٰهُ أَعْمٰالَهُمْ وَ كٰانَ ذٰلِكَ عَلَى اَللّٰهِ يَسِيراً يَحْسَبُونَ اَلْأَحْزٰابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَ إِنْ يَأْتِ اَلْأَحْزٰابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بٰادُونَ فِي اَلْأَعْرٰابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبٰائِكُمْ وَ لَوْ كٰانُوا فِيكُمْ مٰا قٰاتَلُوا إِلاّٰ قَلِيلاً

قيل: إنّ القائل معتب بن قشير وأضرابه من المنافقين قالوا: (كان محمّد يعدنا كنوز كسري وقيصر، ونحن لا نقدر أن نذهب إلى الغائط، هذا و اللّه الغرور)(1).

يَثْرِبَ اسم المدينة، وقيل: أرض وقعت المدينة في ناحية منها(2).

قرئ: لاٰ مُقٰامَ لَكُمْ بضم الميم وفتحها، أي: لا قرار لكم ها هنا ولا مكان تقيمون فيه أو تقومون فَارْجِعُوا إلى المدينة، أمروهم بالهرب من معسكر رسول اللّه، وقيل: قالوا لهم: ارجعوا كفّارا وأسلموا محمّدا وإلا فليست يثرب لكم بمكان(3).

إِنَّ بُيُوتَنٰا عَوْرَةٌ أي ذوات عورة، والعورة: الخلل، اعتذروا بأنّ بيوتهم مكشوفة ليست بحصينة، أو خالية من الرجال يخشى عليها السرّاق، فكذّبهم سبحانه بقوله: وَ مٰا هِيَ بِعَوْرَةٍ [بل هي حصينة، وإنّما يريدون الفرار.

ص: 308


1- عن ابن عباس وغيره. الدر المنثور ج 5:186.
2- مجاز القرآن ج 2:134.
3- عن الحسن. تفسير الماوردي ج 4:382.

وَ لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ المدينة أو بيوتهم، من قولهم: دخلت على فلان](1) بيته.

مِنْ أَقْطٰارِهٰا أي: جوانبها، يريد: ولو دخلت هذه العساكر مدينتهم وبيوتهم من نواحيها كلها ينهبونهم.

ثُمَّ سُئِلُوا عند ذلك الفزع و اَلْفِتْنَةَ أي: الردة و الرجعة إلى الكفر ومقاتلة المسلمين لأتوها أي: لجاؤوها و فعلوها، وقرئ: لأتوها أي: لأعطوها.

وَ مٰا تَلَبَّثُوا بِهٰا أي: وما لبثوا بالمدينة بعد ارتدادهم إِلاّٰ يَسِيراً فإنّ اللّه يهلكهم، وقيل: وما تلبّثوا بها أي: ما لبثوا عطاءها وإجابتهم إليها إلا يسيرا، ريثما يكون السؤال والجواب من غير توقف(2).

كٰانُوا عٰاهَدُوا رسول اللّه مِنْ قَبْلُ ليلة العقبة أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم.

مَسْؤُلاً أي: مطلوبا يسألون عنه في الآخرة.

قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ اَلْفِرٰارُ مما لا بد لكم من نزوله بكم من حتف أنف أو قتل، وإن نفعكم الفرار - مثلا - فمتعتم بالتأخير لم يكن ذلك التمتيع إلا زمانا قليلا.

اَلْمُعَوِّقِينَ المثبّطون عن رسول اللّه، وهم المنافقون يقولون لِإِخْوٰانِهِمْ من ضعفة المسلمين: ما محمّد وأصحابه إلا أكلة رأس ولو كانوا لحما لالتهمهم هؤلاء، فخلّوهم و هَلُمَّ إِلَيْنٰا أي: تعالوا و قرّبوا أنفسكم إلينا. وهي لغة الحجاز يسوون فيه بين الواحد والجماعة، وأما تميم فيقولون: هلم، هلما، هلموا، وهي صوت سمّي به فعل متعد مثل: احضر و قرّب.

ص: 309


1- ساقطة من ج.
2- معاني القرآن للفراء ج 2:337.

إِلاّٰ قَلِيلاً أي: إتيانا قليلا، يخرجون مع المؤمنين ولا يبارزون ولا يقاتلون إلا شيئا قليلا إذا اضطروا إليه، كقوله: مٰا قٰاتَلُوا إِلاّٰ قَلِيلاً (1).

أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ في وقت الحرب(2) أضناء بكم، يترفرفون حولكم كما يفعل الرجل بالذابّ عنه المحامي دونه عند الخوف، وقيل: معناه: أشحّة بالقتال معكم ولا ينصرونكم(3).

فَإِذٰا جٰاءَ اَلْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ في تلك الحالة كما ينظر المغشي عليه من معالجة سكرات الموت حذرا وخوفا ولواذا بك.

فَإِذٰا ذَهَبَ اَلْخَوْفُ وحيزت الغنائم نقلوا ذلك الشح عنكم إلى الخير وهو المال والغنيمة وقالوا: وفّروا قسمتنا، فإنّا قد شاهدناكم و بمكاننا غلبتم أعداءكم.

ونصب أشحة علي الحال أو علي الذم. والسلق: أصله الضرب، سلقه بالكلام أسمعه المكروه، أي: آذوكم و خاصموكم بألسنة سليطة ذربة.

يَحْسَبُونَ اَلْأَحْزٰابَ لم ينهزموا وقد انهزموا.

وَ إِنْ يَأْتِ اَلْأَحْزٰابُ كرة ثانية تمنّوا لخوفهم ما تمنّوا به هذه الكرة، أنّهم خارجون إلى البدو يَسْئَلُونَ عَنْ أخباركم وَ لَوْ كٰانُوا معكم و فِيكُمْ ووقع قتال، لم يقاتلوا معكم إلا قدرا يسيرا رياء وسمعة، ليوهموا أنّهم من جملتكم لا لنصرتكم.

ص: 310


1- الأحزاب: 20.
2- في ب: الخوف.
3- عن ابن كامل. تفسير الماوردي ج 4:385.

[سورة الأحزاب (33): الآیات 21 الی 25]

لَقَدْ كٰانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اَللّٰهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كٰانَ يَرْجُوا اَللّٰهَ وَ اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ وَ ذَكَرَ اَللّٰهَ كَثِيراً (21) وَ لَمّٰا رَأَ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْأَحْزٰابَ قٰالُوا هٰذٰا مٰا وَعَدَنَا اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ مٰا زٰادَهُمْ إِلاّٰ إِيمٰاناً وَ تَسْلِيماً (22) مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ رِجٰالٌ صَدَقُوا مٰا عٰاهَدُوا اَللّٰهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضىٰ نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ مٰا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اَللّٰهُ اَلصّٰادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَ يُعَذِّبَ اَلْمُنٰافِقِينَ إِنْ شٰاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَ رَدَّ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنٰالُوا خَيْراً وَ كَفَى اَللّٰهُ اَلْمُؤْمِنِينَ اَلْقِتٰالَ وَ كٰانَ اَللّٰهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (2(5)

لِمَنْ كٰانَ يَرْجُوا اَللّٰهَ بدل من لَكُمْ وهو مثل قولك: رجوت زيدا وفضله، أي: فضل زيد.

و الأسوة من الايتساء كالقدوة من الاقتداء، أي: كان لكم به اقتداء لو اقتديتم به في النصرة والصبر عند مواطن الكفاح كما فعل هو يوم أحد إذ كسرت رباعيته وشج وجهه وقتل عمه، فواساكم مع ذلك بنفسه، فهلا فعلتم مثل ما فعله هو.

وَ ذَكَرَ اَللّٰهَ كَثِيراً أي: قرن الرجاء بالطاعات الكثيرة، و المؤتسى به من كان كذلك.

وعدهم عزّ اسمه أن يزلزلوا حتى يستغيثوه في قوله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ وَ لَمّٰا يَأْتِكُمْ مَثَلُ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ (1)، فلما جاء الأحزاب واضطربوا

ص: 311


1- البقرة: 214.

قٰالُوا هٰذٰا مٰا وَعَدَنَا اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وأيقنوا بالنصر، وهذا إشارة إلى البلاء.

وَ مٰا زٰادَهُمْ إِلاّٰ إِيمٰاناً باللّه وَ تَسْلِيماً لقضائه.

رِجٰالٌ صَدَقُوا مٰا عٰاهَدُوا اَللّٰهَ عَلَيْهِ بأنّهم إذا لقوا حربا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا.

فَمِنْهُمْ مَنْ قَضىٰ نَحْبَهُ أي: قتل فوفى بنذره من الثبات مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وعن ابن عباس: (هو حمزة بن عبد المطلب و من قتل معه، وأنس بن النضر وأصحابه)(1).

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ النصرة والشهادة علي ما مضي عليه أصحابه.

وَ مٰا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً وما غيّروا العهد، لا المستشهد ولا من ينتظر الشهادة.

وعن عليّ عليه السلام: (فينا نزلت، وأنا واللّه المنتظر وما بدّلت تبديلا)(2).

لِيَجْزِيَ اَللّٰهُ اَلصّٰادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ في عهودهم وَ يُعَذِّبَ اَلْمُنٰافِقِينَ بنقض العهد.

إِنْ شٰاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ يعني: إن شاء قبل توبتهم وأسقط عقابهم، وإن شاء لم يقبل توبتهم وعذّبهم، والظاهر يقتضي بما يقتضيه العقل من الحكم.

وَ رَدَّ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يعني: الأحزاب بِغَيْظِهِمْ مغيظين، كقوله:

تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ (3) .

لَمْ يَنٰالُوا خَيْراً غير ظافرين. و هما حالان بتداخل أو تعاقب، ويجوز أن

ص: 312


1- تنوير المقباس: 352.
2- شواهد التنزيل ج 2:1، الخصال: 346.
3- المؤمنون: 20.

يكون الثانية بيانا للأولى أو استئنافا.

وَ كَفَى اَللّٰهُ اَلْمُؤْمِنِينَ اَلْقِتٰالَ بالريح والجنود. وعن ابن مسعود أنّه كان يقرأ: وكفى اللّه المؤمنين القتال بعليّ .

[سورة الأحزاب (33): الآیات 26 الی 27]

وَ أَنْزَلَ اَلَّذِينَ ظٰاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتٰابِ مِنْ صَيٰاصِيهِمْ وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ اَلرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَ تَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَ أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَ دِيٰارَهُمْ وَ أَمْوٰالَهُمْ وَ أَرْضاً لَمْ تَطَؤُهٰا وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً

[مِنْ صَيٰاصِيهِمْ ](1) من حصونهم، و الصيصية: ما تحصن به، يقال لقرن الظبي والبقر: صيصية، و لشوكة الديك التي في ساقه، ولشوكة الحائك أيضا، قال:

كوقع الصّياصي في النّسيج الممدّد(2)

وقرئ: اَلرُّعْبَ بضم العين و سكونها. وروي أنّ جبرائيل عليه السلام نزل علي رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم صبيحة الليلة التي انصرف عن الخندق إلى المدينة فقال: يا رسول الله، إنّ الملائكة لم تضع السلاح، إنّ اللّه يأمرك بالسير إلى بني قريظة [وأنا عامد إليهم، فعزم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم علي الناس أن لا يصلّوا العصر إلا في بني قريظة](3)، فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة حتى أجهدهم الحصار، فنزلوا علي حكم سعد ابن معاذ(4)، فحكم فيهم بأن يقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم ونساؤهم، وتغنم

ص: 313


1- ساقطة من ج.
2- البيت لدريد بن الصمة. الشعر والشعراء ج 2:750، وصدره: فجئت إليه و الرماح تنوشه.
3- ساقطة من ج.
4- سعد بن معاذ بن النعمان الأنصاري الاشهلي، أسلم بالمدينة بين العقبة الاولى والثانية، شهد بدرا وأحدا والخندق، رمي يوم الخندق بسهم فعاش شهرا ثم انتقض جرحه فمات. ينظر: الاستيعاب ج 2:27.

أموالهم، وتكون عقارهم للمهاجرين دون الأنصار، فالأنصار ذوو عقار وليس للمهاجرين عقار، فكبّر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقال لسعد: (لقد حكمت فيهم بحكم اللّه من فوق سبعة أرقعة)(1). والرقيع: اسم سماء الدنيا، فقتل مقاتلتهم وكانوا ستمائة مقاتل، وقيل: أربعمائة وخمسين، وسبي سبعمائة وخمسون(2).

وَ أَرْضاً لَمْ تَطَؤُهٰا بأقدامكم بعد، وسيفتحها اللّه عليكم، وهي خيبر، وقيل: مكة(3)، وقيل: فارس والروم(4)، وقيل: هي كل أرض تفتح إلي يوم القيامة(5)، وقيل: هي كل ما أفاء اللّه على رسوله مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب.

[سورة الأحزاب (33): الآیات 28 الی 33]

يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوٰاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَلْحَيٰاةَ اَلدُّنْيٰا وَ زِينَتَهٰا فَتَعٰالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَ أُسَرِّحْكُنَّ سَرٰاحاً جَمِيلاً وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ اَلدّٰارَ اَلْآخِرَةَ فَإِنَّ اَللّٰهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنٰاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً يٰا نِسٰاءَ اَلنَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفٰاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضٰاعَفْ لَهَا اَلْعَذٰابُ ضِعْفَيْنِ وَ كٰانَ ذٰلِكَ عَلَى اَللّٰهِ يَسِيراً وَ مَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ تَعْمَلْ صٰالِحاً نُؤْتِهٰا أَجْرَهٰا مَرَّتَيْنِ وَ أَعْتَدْنٰا لَهٰا رِزْقاً كَرِيماً يٰا نِسٰاءَ اَلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ اَلنِّسٰاءِ إِنِ اِتَّقَيْتُنَّ فَلاٰ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ اَلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَ قُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ

ص: 314


1- مغازي الواقدي ج 2:512.
2- عن قتادة. الدر المنثور ج 5:193.
3- عن قتادة. الدر المنثور ج 5:193.
4- عن الحسن. تفسير الطبري ج 21:98.
5- عن عكرمة. الدر المنثور ج 5:193.

[سورة الأحزاب (33): الآیات 33 الی 34]

وَ لاٰ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ اَلْجٰاهِلِيَّةِ اَلْأُولىٰ وَ أَقِمْنَ اَلصَّلاٰةَ وَ آتِينَ اَلزَّكٰاةَ وَ أَطِعْنَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً وَ اُذْكُرْنَ مٰا يُتْلىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيٰاتِ اَللّٰهِ وَ اَلْحِكْمَةِ إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ لَطِيفاً خَبِيراً

قالوا: إنّ أزواج النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم سألنه شيئا من عرض الدنيا وطلبن منه زيادة في النفقة وتغايرن، فاذي ذلك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و آلى منهن، وصعد إلى غرفة فمكث فيها شهرا، فنزلت آية التخيير(1).

فَتَعٰالَيْنَ أي: أقبلن بإرادتكن واختياركن لأحد أمرين، ولم يرد نهوضهن إليه بأنفسهن كما تقول: أقبل يخاصمني، وذهب يكلّمني.

أُمَتِّعْكُنَّ أعطكنّ متعة الطلاق وَ أُسَرِّحْكُنَّ أطلّقكن سَرٰاحاً جَمِيلاً طلاقا بالسنة من غير ضرار.

لِلْمُحْسِنٰاتِ المريدات الإحسان المطيعات للّه منكن.

واختلف في حكم التخيير، والمروي عن أئمّة الهدى عليهم السلام أنّ ذلك كان خاصا للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، ولو اخترن أنفسهنّ لبنّ منه [من غير طلاق](2)، وليس لغيره ذلك(3).

والفاحشة: السيئة البليغة في القبح، وهي الكبيرة، والمبيّنة: الظاهر فحشها.

والمراد: كل ما اقترفن من الكبائر.

ص: 315


1- الكشف والبيان ج 8:31.
2- ساقطة من ج، د.
3- ينظر: الوسائل ج 15 باب 41 من أبواب مقدمات الطلاق.

قرئ: يضعّف، و يُضٰاعَفْ بالياء على بناء الفعل للمفعول، و (نضعف) بالنون والبناء للفاعل، و إنّما ضوعف عذابهن لزيادة نعمة اللّه عليهن بنزول الوحي في بيوتهن و بمكان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم منهن، وزيادة قبح المعصية تتبع زيادة النعمة علي المعاصي من المعصي، ومتى ازداد الفعل قبحا ازداد عقابه شدّة، ولذلك تكون المعصية من العالم أقبح، وذم العقلاء له أكثر.

وَ كٰانَ ذٰلِكَ عَلَى اَللّٰهِ يَسِيراً إيذان بأنّ كونهن نساء النبيّ لا يغني عنهن شيئا.

و قرئ: مَنْ يَأْتِ ، وَ مَنْ يَقْنُتْ ، وَ تَعْمَلْ بالياء والتاء، و نُؤْتِهٰا بالياء و النون، أي: نعطها ثوابها مثلي ثواب غيرها، كما يكون عذابها ضعف عذاب غيرها.

وا لقنوت: الطاعة.

و (أحد) في الأصل: وحد، بمعنى الواحد، ثمّ وضع في النفي العام يستوي فيه المذكر والمؤنث والواحد والجمع. ومعنى قوله: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ اَلنِّسٰاءِ لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء في الفضل والسابقة.

إِنِ اِتَّقَيْتُنَّ أي: إن كنتن متقيات وأردتن التقوى فَلاٰ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ أي: لا ترققن الكلام للرجال مثل كلام المريبات والمومسات.

فَيَطْمَعَ اَلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ أي: نفاق وفجور.

وَ قُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً بعيدا من التهمة مستقيما بجدّ وخشونة من غير تخنث، أو قولا حسنا مع كونه خشنا.

وَ قَرْنَ قرئ بكسر القاف وفتحها، فالكسر من: وقر يقر وقارا، أو من:

ص: 316

قرّ يقرّ قرارا، حذفت الراء الأولى من أقررن ونقلت كسرتها إلى القاف كما يقال:

ظلن في ظللن، [والفتح أصله: أقررن حذفت الراء ونقلت الحركة إلي القاف مثل:

ظلن](1).

وَ لاٰ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ اَلْجٰاهِلِيَّةِ اَلْأُولىٰ و هي القديمة التي يقال لها: الجاهلية الجهلاء، وهي الزمن الذي ولد فيه إبراهيم عليه السلام، كانت المرأة تلبس الدرع من اللؤلؤ فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال، وقيل: ما بين آدم ونوح(2)، وقيل:

هي جاهلية الكفر قبل الإسلام(3).

أَهْلَ اَلْبَيْتِ نصب علي النداء أو علي المدح.

و اَلرِّجْسَ مستعار للذنوب، والطهر للتقوي، لأنّ عرض المقترف للقبيح يتدنس به كما يتلوث جسده بالأرجاس.

واتفقت الأمة علي أنّ المراد أهل بيت نبيّنا صلى الله عليه و آله و سلم(4). وعن أبي سعيد الخدري عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال: (نزلت في خمسة: فيّ وفي علي والحسن والحسين وفاطمة)(5).

وعن أم سلمة قالت: (جاءت فاطمة إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم تحمل حريرة لها، قال: ادعي زوجك وابنيك، فجاءت بهم فطعموا، ثمّ ألقى عليهم كساء خيبريا وقال: هؤلاء أهل بيتي وعترتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا، فقلت: يا رسول اللّه،

ص: 317


1- ساقطة من ج.
2- عن الحكم. تفسير الطبري ج 22:4.
3- عن ابن زيد. تفسير الطبري ج 22:4.
4- الكافي ج 1:287، صحيح مسلم ج 7:130، وينظر: كتاب آية التطهير في الخمسة أهل الكساء.
5- أسباب النزول: 251.

وأنا معهم ؟ قال: أنت علي خير)(1).

وَ اُذْكُرْنَ ولا تنسين مٰا يُتْلىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ من القرآن الذي هو ايات اللّه البيّنات والحكمة التي هي العلوم والشرائع، واعملن بموجبهما.

إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ لَطِيفاً خَبِيراً حين علم ما ينفعكم ويصلحكم في دينكم.

[سورة الأحزاب (33): الآیات 35 الی 37]

إِنَّ اَلْمُسْلِمِينَ وَ اَلْمُسْلِمٰاتِ وَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنٰاتِ وَ اَلْقٰانِتِينَ وَ اَلْقٰانِتٰاتِ وَ اَلصّٰادِقِينَ وَ اَلصّٰادِقٰاتِ وَ اَلصّٰابِرِينَ وَ اَلصّٰابِرٰاتِ وَ اَلْخٰاشِعِينَ وَ اَلْخٰاشِعٰاتِ وَ اَلْمُتَصَدِّقِينَ وَ اَلْمُتَصَدِّقٰاتِ وَ اَلصّٰائِمِينَ وَ اَلصّٰائِمٰاتِ وَ اَلْحٰافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ اَلْحٰافِظٰاتِ وَ اَلذّٰاكِرِينَ اَللّٰهَ كَثِيراً وَ اَلذّٰاكِرٰاتِ أَعَدَّ اَللّٰهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً وَ مٰا كٰانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لاٰ مُؤْمِنَةٍ إِذٰا قَضَى اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاٰلاً مُبِيناً وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اَللّٰهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اِتَّقِ اَللّٰهَ وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اَللّٰهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى اَلنّٰاسَ وَ اَللّٰهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشٰاهُ فَلَمّٰا قَضىٰ زَيْدٌ مِنْهٰا وَطَراً زَوَّجْنٰاكَهٰا لِكَيْ لاٰ يَكُونَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوٰاجِ أَدْعِيٰائِهِمْ إِذٰا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَ كٰانَ أَمْرُ اَللّٰهِ مَفْعُولاً

قيل: إنّ أم سلمة قالت: يا رسول اللّه، ذكر اللّه الرجال في القران بخير،

ص: 318


1- أسباب النزول: 252.

أفما فينا خير فنذكر به ؟ فنزلت الآية(1). وقيل: إنّ القائلة أسماء بنت عميس(2) لما رجدت من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب(3).

المسلم: الداخل في السلم، المنقاد غير المعاند، وقيل: المستسلم لأوامر اللّه، المفوّض أمره إلى اللّه(4).

والمؤمن: المصدّق باللّه ورسوله وبما يجب أن يصدّق به، والقانت: القائم بالطاعة الدائم عليها، والصادق: الذي يصدق في قوله وعمله ونيته، والصابر:

الذي يصبر علي الطاعة وعن المعصية، والخاشع: المتواضع للّه بقلبه وجوارحه، والمتصدّق: الذي يزكّي ماله، والذاكر اللّه كثيرا: من لا يخلو من ذكر اللّه بقلبه أو بلسانه أو بهما. وعن أبي سعيد الخدري عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال: (إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فتوضا وصليا ركعتين كتبا من الذاكرين اللّه كثيرا والذاكرات)(5).

وعن الصادق عليه السلام: (من بات علي تسبيح فاطمة عليها السلام كان من الذاكرين اللّه كثيرا و الذاكرات)(6).

والمعنى: والحافظاتها والذاكراته، فحذف لأنّ الظاهر يدلّ عليه، وعطف

ص: 319


1- تفسير الطبري ج 22:8-9.
2- أسماء بنت عميس بن معد الخثعمية، هاجرت إلى الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب فولدت له هناك محمّدا وعبد اللّه وعونا، فلما قتل جعفر في مؤتة تزوجها أبو بكر فولدت له محمّدا، ثم مات عنها فتزوجها علي عليه السلام فولدت له يحيى. ينظر: الاستيعاب ج 4:234.
3- أسباب النزول: 252.
4- التبيان ج 8:309.
5- سنن أبي داود ج 2:33 ح 1309.
6- مجمع البيان ج 7-8:358.

الإناث في الآية على الذكور من نحو قوله: ثَيِّبٰاتٍ وَ أَبْكٰاراً (1) في أنّهما جنسان مختلفان إذا اشتركا في حكم فلابد من أن يتوسط حرف العطف بينهما. وأما عطف الزوجين على الزوجين فإنّه من عطف الصفة علي الصفة بحرف الجمع، فكان معناه: إنّ الجامعين والجامعات لهذه الطاعات أعدّ الله لهم مغفرة.

خطب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم زينب بنت جحش الأسدية علي زيد بن حارثة مولاه وكانت بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب، فأبت وأبي أخوها عبد اللّه بن جحش، فنزل: وَ مٰا كٰانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لاٰ مُؤْمِنَةٍ إِذٰا قَضَى... الآية(2). أي: ما صحّ لرجل ولا امرأة من أهل الإيمان إذا قضى اللّه ورسوله أمرا من الأمور أن يكون لهم الاختيار من أمرهم علي اختيار اللّه لهم، بل من حقّهم أن يجعلوا رأيهم تبعا لرأيه، والخيرة ما يتخير، فلما نزلت قالا: رضينا يا رسول اللّه، فأنكحها زيدا وساق عنه إليها مهرها عشرة دنانير وستين درهما وخمارا وملحفة ودرعا وإزارا وخمسين مدا من طعام وثلاثين صاعا من تمر.

وقرئ: يَكُونَ بالتاء والياء.

وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اَللّٰهُ عَلَيْهِ بتوفيقك لعتقه ومحبّته وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بما وفقك اللّه فيه من اختصاصه وتبنّيه وهو زيد بن حارثة.

أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ يعني زينب بنت جحش، وذلك أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أتى منزل زيد ذات يوم، فإذا زينب جالسة وسط حجرتها تسحق طيبا بفهر لها، فدفع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم الباب فوقع بصره عليها فقال: سبحان اللّه خالق النور، تبارك اللّه أحسن الخالقين، ورجع، فجاء زيد فأخبرته زينب بما كان، فقال لها: لعلك

ص: 320


1- التحريم: 5.
2- الكشف والبيان ج 8:46.

وقعت في قلبه، فهل لك أن أطلّقك ؟ فقالت: أخشى أن تطلّقني ولا يتزوجني رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فجاء زيد وقال: يا رسول اللّه، إنّي أريد أن أفارق صاحبتي، فقال:

مالك ؟ أرابك منها شيء؟ قال: لا، واللّه ما رأيت منها إلا خيرا، ولكنّها تتعظم عليّ لشرفها وتؤذيني، فقال له: أمسك عليك زوجك واتق اللّه، ثمّ طلّقها بعد، فلما اعتدت قال رسول اللّه: ما أجد أحدا أوثق في نفسي منك، أخطب عليّ زينب، قال زيد: فانطلقت فإذا هي تخمر عجينها، فلما رأيتها عظمت في نفسي حتى ما أستطيع أن أنظر إليها حين علمت أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ذكرها، فوليتها ظهري وقلت:

يا زينب أبشري، إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يخطبك، ففرحت بذلك، وقالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربّي، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن زَوَّجْنٰاكَهٰا فتزوجها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ودخل بها، وما أولم علي امرأة من نسائه ما أولم عليها، ذبح شاة وأطعم الناس الخبز واللحم حتى امتدّ النهار(1).

وقوله: وَ اِتَّقِ اَللّٰهَ يريد: لا تطلّقها، وهو نهي تنزيه لا نهي تحريم؛ لأنّ الأولى أن لا يطلّق، وقيل: أراد اتق اللّه فلا تذمّها بالنسبة إلى الأذي والكبر.

وقوله: وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اَللّٰهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى اَلنّٰاسَ قيل: أخفى في نفسه أنّه إن طلّقها زيد تزوّجها، وخشي لائمة الناس أن يقولوا: أمره بطلاقها ثمّ تزوّجها(2)، وقيل: إنّ الذي أخفاه هو أنّ اللّه سبحانه أعلمه أنّها ستكون من أزواجه وأنّ زيدا سيطلّقها(3) فأبدى سبحانه ما أخفاه في نفسه بقوله: زَوَّجْنٰاكَهٰا .

ولم يرد سبحانه بقوله: وَ اَللّٰهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشٰاهُ خشية التقوي، لأنّه صلوات

ص: 321


1- الكشف والبيان ج 8:47.
2- الكشف والبيان ج 8:48.
3- تفسير الطبري ج 22:11.

اللّه عليه كان يتقي اللّه حقّ تقاته ويخشاه فيما يجب أن يخشاه فيه، ولكن المراد خشية الاستحياء، لأنّ الحياء من الشيمة الكريمة، وقد يستحي الإنسان ويتحفظ من شيء هو في نفسه مباح حلال عند اللّه، لئلا يطلق الجهّال الذين لا يعرفون حقائق الأمور ألسنتهم فيه، ألا تري أنّهم إذا طعموا في بيوته كانوا يستأنسون بالحديث ولا يريمون(1)، فكان يؤذيه قعودهم، ويصدّه الحياء أن يأمرهم بالانتشار حتى نزلت:

إِنَّ ذٰلِكُمْ كٰانَ يُؤْذِي اَلنَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ (2) .

فأخبر اللّه سبحانه الناس بما كان يضمره الرسول صلوات اللّه عليه واله وعاتبه عليه، وكأنّه سبحانه أراد منه أن يقول لزيد: أنت أعلم بشأنك، أو يصمت عند قوله: أريد مفارقتها، ليكون ظاهره مطابقا لباطنه، كما جاء في حديث إرادة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قتل عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح وقد كان أهدر دمه قبل ذلك، واعترض عثمان له بالشفاعة: أنّ عباد بن بشر(3) قال له: يا رسول الله، كان عيني إلي عينك انتظار أن تومئ إليّ فأقتله، فقال عليه السلام: (إنّ الأنبياء لا تكون لهم خائنة الأعين)(4) فلم يستجز الإشارة بقتل كافر وإن كان مباحا.

والواو في وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ ، وَ تَخْشَى اَلنّٰاسَ ، وَ اَللّٰهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشٰاهُ :

واو الحال، أي: تقول لزيد: أمسك عليك زوجك مخفيا في نفسك إرادة أن لا يمسكها، وتخفي خاشيا مقالة الناس، و تخشى الناس حقيقا في ذلك بأن تخشى اللّه. أو واو

ص: 322


1- يريمون: يبرحون. (الصحاح: مادة ريم)
2- الأحزاب: 53.
3- عباد بن بشر بن وقش الانصاري الاشهلي، أسلم بالمدينة على يد مصعب بن عمير شهد المشاهد كلها مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وكان ممن قتل كعب بن الأشرف، قتل يوم اليمامة وهو ابن خمس وأربعين سنة. ينظر: الاستيعاب ج 2:452.
4- ينظر: سنن أبي داود ج 3:59 ح 2683.

العطف كأنّه قيل: وإذ تجمع بين قولك: أمسك و إخفاء خلافه وخشية الناس.

فَلَمّٰا قَضىٰ زَيْدٌ مِنْهٰا وَطَراً أي: فلما لم يبق لزيد فيها حاجة وطاب عنها نفسه وطلّقها وانقضت عدتها زَوَّجْنٰاكَهٰا ، وقراءة أهل البيت عليهم السلام زوجتكها، وعن الصادق عليه السلام: (ما قرأتها علي أبي إلا كذلك، إلي أن قال: وما قرأ عليّ علي النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلا كذلك).

ثمّ بيّن سبحانه الغرض والمصلحة العامة في تزويجه إيّاها بقوله: لِكَيْ لاٰ يَكُونَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ أي: ضيق وإثم في أن يتزوجوا أَزْوٰاجِ أَدْعِيٰائِهِمْ وهم الذين تبنّوهم إِذٰا قَضَوْا من نسائهم وطرا أي: بلغوا منهن حاجتهم وفارقوهن، فلا يجرونهم في تحريم النساء مجري الابن من النسب أو الرضاع.

وَ كٰانَ أَمْرُ اَللّٰهِ مَفْعُولاً جملة اعتراضية، أي: كان أمر اللّه الذي يريد أن يكونه مكونا لا محالة. وروي أنّ زينب كانت تقول للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: (إنّي لأدلّ عليك بثلاث ليس من نسائك امرأة تدلّ بهن: جدّي وجدّك واحد، وزوجنيك اللّه، والسفير جبرائيل عليه السلام)(1).

[سورة الأحزاب (33): الآیات 38 الی 40]

مٰا كٰانَ عَلَى اَلنَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمٰا فَرَضَ اَللّٰهُ لَهُ سُنَّةَ اَللّٰهِ فِي اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ كٰانَ أَمْرُ اَللّٰهِ قَدَراً مَقْدُوراً اَلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسٰالاٰتِ اَللّٰهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لاٰ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اَللّٰهَ وَ كَفىٰ بِاللّٰهِ حَسِيباً مٰا كٰانَ مُحَمَّدٌ أَبٰا أَحَدٍ مِنْ رِجٰالِكُمْ وَ لٰكِنْ رَسُولَ اَللّٰهِ وَ خٰاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ وَ كٰانَ اَللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً

فَرَضَ اَللّٰهُ لَهُ أي: قسم اللّه وأوجب من التزوّج بامرأة المتبنى، ليبطل حكم الجاهلية في الأدعياء، ومنه فرض لفلان في الديوان كذا.

ص: 323


1- تفسير الطبري ج 22:11.

سُنَّةَ اَللّٰهِ اسم وضع موضع المصدر المؤكد لقوله تعالي: مٰا كٰانَ عَلَى اَلنَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ كأنّه قيل: سنّ اللّه ذلك سنّة في الذين خلوا من الأنبياء الماضين، وهو أن لا يحرج عليهم فيما أباح لهم الإقدام عليه من النكاح وغيره، وقد كان لداود مائة امرأة، ولسليمان ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سرية.

اَلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ يحتمل الوجوه الثلاثة من الإعراب: الجر على الوصف للأنبياء، والرفع والنصب علي المدح، أي: هم الذين يبلّغون، أو أعني الذين يبلّغون. و قرئ: رسا لة الله.

وَ كٰانَ أَمْرُ اَللّٰهِ المنزل على أنبيائه قَدَراً مَقْدُوراً حكما مبتوتا و قضاء مقضيا.

وَ لاٰ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اَللّٰهَ فيما يتعلّق بالتبليغ والأداء.

وَ كَفىٰ بِاللّٰهِ حَسِيباً كافيا للمخاوف، وقيل: حافظا لأعمال خلقه محاسبا مجازيا عليها(1).

مٰا كٰانَ مُحَمَّدٌ أَبٰا أَحَدٍ مِنْ رِجٰالِكُمْ أي: لم يكن أبا رجل منكم علي الحقيقة حتى يثبت بينه وبينه ما يثبت بين الأب وولده من حرمة الصهر والنكاح.

وَ لٰكِنْ كان رَسُولَ اَللّٰهِ وكل رسول أبو أمّته فيما يرجع إلي وجوب التوقير والتعظيم له عليهم، لا في سائر الأحكام الثابتة بين الآباء والأبناء، وزيد واحد من رجالكم الذين ليسوا بأولاده حقيقة، فكان حكمه حكمهم.

وَ خٰاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ آخرهم، ختمت النبوّة به، فشريعته باقية إلى آخر الدهر.

وكان صلوات اللّه عليه أبا للحسن والحسين لقوله: (ابناي هذان إمامان قاما أو

ص: 324


1- تفسير الطبري ج 22:12.

قعدا)(1) وهما من رجاله لا من رجالهم. وقرئ: خاتم النبيّين بفتح التاء بمعنى الطابع.

[سورة الأحزاب (33): الآیات 41 الی 48]

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا اَللّٰهَ ذِكْراً كَثِيراً وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً هُوَ اَلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلاٰئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ اَلظُّلُمٰاتِ إِلَى اَلنُّورِ وَ كٰانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاٰمٌ وَ أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِنّٰا أَرْسَلْنٰاكَ شٰاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً وَ دٰاعِياً إِلَى اَللّٰهِ بِإِذْنِهِ وَ سِرٰاجاً مُنِيراً وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اَللّٰهِ فَضْلاً كَبِيراً وَ لاٰ تُطِعِ اَلْكٰافِرِينَ وَ اَلْمُنٰافِقِينَ وَ دَعْ أَذٰاهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللّٰهِ وَ كَفىٰ بِاللّٰهِ وَكِيلاً

اُذْكُرُوا اَللّٰهَ أثنوا عليه بضروب الثناء من التحميد والتهليل والتمجيد والتسبيح والتكبير، وأكثروا ذلك. وعن الصادق عليه السلام: (من سبّح تسبيح فاطمة عليها السلام فقد ذكر الله ذكرا كثيرا)(2). وعنهم عليهم السلام: (من قال: سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلا الله واللّه أكبر ثلاثين مرة فقد ذكر اللّه كثيرا)(3).

وَ سَبِّحُوهُ التسبيح من جملة الذكر، واختصه من بين أنواعه اختصاص جبرئيل وميكائيل من بين الملائكة، ليبيّن فضله علي سائر الأذكار، لأنّ معناه: تنزيه ذاته عما لا يجوز عليه من الصفات والأفعال، ويجوز أن يريد بالذكر وإكثاره تكثير الطاعات، فإنّ كل طاعة من جملة الذكر.

ص: 325


1- الإرشاد: 220.
2- معاني الأخبار: 186.
3- تهذيب الأحكام ج 2:107.

ثمّ خصّ من ذلك التسبيح بُكْرَةً وَ أَصِيلاً وهو الصلاة في جميع أوقاتها؛ لفضل الصلاة علي غيرها، أو صلاة الفجر والعشاءين لأنّ أداءها أشق، ومراعاتها أشدّ.

ولما كان من شأن المصلي أن ينعطف وينحني في ركوعه وسجوده استعير لمن انعطف على غيره حنوا عليه، واستعمل في الرحمة والترؤف، ومنه قولهم: صلى اللّه عليه واله وسلم، أي: ترحّم عليه وترأف. وأما صلاة الملائكة فهي قولهم: اللهم صلّ على المؤمنين، جعلوا لكونهم مستجابي الدعوة كأنّهم فاعلون الرحمة والرأفة.

ونظيره قولهم: حيّاك اللّه، أي: أحياك وأبقاك، وحييته، أي: دعوت له بأن يحييه اللّه ويبقيه، لأنّه لاتكاله علي إجابة دعوته كأنّه يبقيه علي الحقيقة، وعليه قوله: إِنَّ اَللّٰهَ وَ مَلاٰئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى اَلنَّبِيِّ يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً (1) أي:

ادعوا اللّه بأن يصلّي عليه.

والمعنى: هو الذي يترحّم عليكم ويترأف حيث يأمركم بإكثار الخير والتوفر علي الطاعة، ليخرجكم من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة. وفي قوله: وَ كٰانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً دلالة علي أنّ المراد بالصلاة الرحمة.

تَحِيَّتُهُمْ هو من باب إضافة المصدر إلى المفعول، أي: يحيون يوم لقائه بسلام، وعن البراء بن عازب(2): (لا يقبض ملك الموت روح مؤمن إلا سلم

ص: 326


1- الأحزاب: 56.
2- البراء بن عازب بن الحارث الأنصاري، شهد مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم أربع عشرة غزوة وقيل خمس عشرة، شهد مع علي عليه السلام الجمل وصفين وقتال الخوارج، نزل الكوفة ومات في إمارة مصعب بن الزبير. ينظر: الإصابة ج 1:142، معجم رجال الحديث ج 3:269.

عليه)(1). وقيل: هو سلام الملائكة عند الخروج من القبور(2)، وقيل: عند دخول الجنّة(3)، كما قال: وَ اَلْمَلاٰئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بٰابٍ سَلاٰمٌ عَلَيْكُمْ (4).

وا لأجر الكريم: الجنّة.

إِنّٰا أَرْسَلْنٰاكَ شٰاهِداً علي أمّتك فيما يفعلونه، مقبولا قولك عند اللّه لهم وعليهم كما يقبل قول الشاهد العدل، وهو حال مقدّرة كمسألة الكتاب: مررت برجل معه صقر صائدا به غدا(5)، أي: مقدّرا به الصيد غدا.

بِإِذْنِهِ مستعار للتسهيل والتيسير، وفيه إيذان بأنّ دعاء أهل الشرك إلى التوحيد والشرائع أمر صعب لا يتسهل إلا بتيسير اللّه.

وَ سِرٰاجاً مُنِيراً يهتدى بك في الدين كما يهتدى بالسراج في ظلام الليل، أو يمدّ بنور نبوّتك نور البصائر كما يمدّ بنور السراج نور الأبصار.

والفضل الكبير: الزيادة علي ما يستحقّونه من الثواب، ويجوز أن يكون المراد أنّ لهم فضلا كبيرا علي سائر الأمم.

وَ لاٰ تُطِعِ اَلْكٰافِرِينَ معناه: الدوام علي ما كان عليه أو التهييج.

وَ دَعْ أَذٰاهُمْ أي: ودع أن تؤذيهم بضرب أو قتل وخذ بظاهرهم، وحسابهم على الله، ويكون المصدر مضافا إلى المفعول. قيل: وذلك قبل أن يؤمر

ص: 327


1- الدر المنثور ج 5:206.
2- عن أبي حمزة الثمالي. الكشف والبيان ج 8:52.
3- عن الكلبي. تفسير السمرقندي ج 3:61.
4- الرعد: 23، 24.
5- الكتاب ج 2:49.

بالقتال(1)، وقيل: معناه: ودع ما يؤذونك به، فيكون مضافا إلى الفاعل(2).

وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللّٰهِ فإنّه يكفيكهم وَ كَفىٰ بِاللّٰهِ وَكِيلاً كافيا مفوّضا إليه.

[سورة الأحزاب (33): الآیات 49 الی 50]

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا نَكَحْتُمُ اَلْمُؤْمِنٰاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمٰا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهٰا فَمَتِّعُوهُنَّ وَ سَرِّحُوهُنَّ سَرٰاحاً جَمِيلاً (49) يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِنّٰا أَحْلَلْنٰا لَكَ أَزْوٰاجَكَ اَللاّٰتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَ مٰا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمّٰا أَفٰاءَ اَللّٰهُ عَلَيْكَ وَ بَنٰاتِ عَمِّكَ وَ بَنٰاتِ عَمّٰاتِكَ وَ بَنٰاتِ خٰالِكَ وَ بَنٰاتِ خٰالاٰتِكَ اَللاّٰتِي هٰاجَرْنَ مَعَكَ وَ اِمْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهٰا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرٰادَ اَلنَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهٰا خٰالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنٰا مٰا فَرَضْنٰا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوٰاجِهِمْ وَ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُمْ لِكَيْلاٰ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَ كٰانَ اَللّٰهُ غَفُوراً رَحِيماً (5(0)

تَعْتَدُّونَهٰا تستوفون عددها من قولك: عددت الدراهم فاعتدها، وكلت الشيء فاكتاله. وفيه دليل علي أنّ العدّة حقّ واجب للرجال علي النساء.

فَمَتِّعُوهُنَّ إذا لم تفرضوا لهن صداقا.

وَ سَرِّحُوهُنَّ سَرٰاحاً جَمِيلاً من غير ضرار ولا منع واجب.

أُجُورَهُنَّ أي: مهورهن، لأنّ المهر أجر علي البضع، و إيتاؤها:

إعطاؤها عاجلا وفرضها وتسميتها في العقد. وقد اختار اللّه عزّ وجل لرسوله الأفضل و الأولى وهو تسمية المهر في العقد وسوق المهر إليها عاجلا، فإنّه أفضل من أن يسمّيه ويؤجله، ولذلك كان التعجيل ديدنهم وسنتهم. وكذلك الجارية إذا

ص: 328


1- عن الكلبي. تفسير الماوردي ج 4:411.
2- معاني القران و إعرابه ج 4:231.

كانت سبية مالكها ومما غنمه اللّه من دار الحرب كانت أحلّ وأطيب مما يشتري، وذلك قوله: مِمّٰا أَفٰاءَ اَللّٰهُ عَلَيْكَ .

وكذلك النساء اَللاّٰتِي هٰاجَرْنَ مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من قرابته غير المحارم أفضل من غير المهاجرات معه.

و أحللنا لك اِمْرَأَةً مصدقة بتوحيد اللّه إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهٰا لك بغير صداق إن آثر النبيّ نكاحها ورغب فيها خٰالِصَةً لَكَ أي: خاصة لك.

مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ أي: لا يحلّ لغيرك وهو لك حلال.

شرط سبحانه في الإحلال هبتها نفسها، وفي الهبة إرادة استنكاح رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وهو أن يطلب نكاحها ويرغب فيه، فكأنّه قال: أحللناها لك إن وهبت لك نفسها وأنت تريد أن تستنكحها، لأنّ إرادته هي قبول الهبة، وعدل عن الخطاب إلى الغيبة للإيذان بأنّه مما خصّ به، ومجيئه علي لفظ النبيّ للدلالة علي أنّ هذا الاختصاص تكرمة له لأجل النبوّة، وتكريره تقرير لاستحقاقه الكرامة لنبوّته.

خٰالِصَةً مصدر مؤكد، مثل: وَعْدَ اَللّٰهِ (1)، و صِبْغَةَ اَللّٰهِ (2)، أي:

خلص لك إحلال ما أحللنا لك خالصة، بمعنى خلوصا.

قَدْ عَلِمْنٰا مٰا فَرَضْنٰا على المؤمنين فِي أَزْوٰاجِهِمْ وإمائهم وعلى أي حدّ و صفة يجب أن يفرض عليهم، و آثرناك بالاختصاص بما خصصناك به لِكَيْلاٰ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ أي: ضيق في دينك و دنياك.

وَ كٰانَ اَللّٰهُ غَفُوراً لذنوب عباده رَحِيماً بالتوسعة عليهم.

ص: 329


1- يونس: 4.
2- البقرة: 138.

[سورة الأحزاب (33): الآیات 51 الی 54]

تُرْجِي مَنْ تَشٰاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشٰاءُ وَ مَنِ اِبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاٰ جُنٰاحَ عَلَيْكَ ذٰلِكَ أَدْنىٰ أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَ لاٰ يَحْزَنَّ وَ يَرْضَيْنَ بِمٰا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَ اَللّٰهُ يَعْلَمُ مٰا فِي قُلُوبِكُمْ وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) لاٰ يَحِلُّ لَكَ اَلنِّسٰاءُ مِنْ بَعْدُ وَ لاٰ أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوٰاجٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاّٰ مٰا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ رَقِيباً (52) يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَدْخُلُوا بُيُوتَ اَلنَّبِيِّ إِلاّٰ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلىٰ طَعٰامٍ غَيْرَ نٰاظِرِينَ إِنٰاهُ وَ لٰكِنْ إِذٰا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذٰا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَ لاٰ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذٰلِكُمْ كٰانَ يُؤْذِي اَلنَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَ اَللّٰهُ لاٰ يَسْتَحْيِي مِنَ اَلْحَقِّ وَ إِذٰا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتٰاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَرٰاءِ حِجٰابٍ ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ وَ مٰا كٰانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اَللّٰهِ وَ لاٰ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوٰاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذٰلِكُمْ كٰانَ عِنْدَ اَللّٰهِ عَظِيماً (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (5(4)

تُرْجِي بهمز وغير همز، تؤخر وَ تُؤْوِي تضم، يعني: تترك مضاجعة من تشاء منهن وتضاجع من تشاء، أو تطلّق من تشاء و تمسك من تشاء، أو لا تقسم لأيتهن شئت، و تقسم لمن شئت - وكان عليه السلام يقسم بين أزواجه فأبيح له ترك ذلك - أو تترك تزوّج من شئت من نساء أمّتك، وتتزوّج من شئت، وكان عليه السلام إذا خطب امرأة لم يكن لغيره أن يخطبها حتى يدعها، وروي أنّ عائشة قالت: (إنّي أري ربّك يسارع في هواك!)(1)

ص: 330


1- صحيح البخاري ج 3:245.

وَ مَنِ اِبْتَغَيْتَ أن تضمّها إليك مِمَّنْ عزلتهن فَلاٰ جُنٰاحَ عَلَيْكَ في ابتغائها، ذٰلِكَ التفويض إلي اختيارك ومشيئتك أَدْنىٰ إلى قرّة عيونهن وقلّة حزنهن ورضاهن جميعا، لأنّه إذا سوّى بينهن في الإيواء والإرجاء والعزل والابتغاء، ولم يكن لإحداهن مما تريد ومما لا تريد إلا مثل ما للأخري، وعلمن أنّ هذا التفويض من عند اللّه سكنت نفوسهن، وذهب التنافس، وحصل التراضي.

كُلُّهُنَّ تأكيد لنون وَ يَرْضَيْنَ .

وَ اَللّٰهُ يَعْلَمُ مٰا فِي قُلُوبِكُمْ فيه وعيد لمن لم يرض منهن بما فوض اللّه إلى مشيئة رسوله، وبعث علي طلب رضاه عليه السلام.

وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَلِيماً بمصالح عباده حَلِيماً لا يعاجلهم بالعقوبة.

و قرئ: لاٰ يَحِلُّ بالتاء و الياء. أي: لا تحلّ لَكَ اَلنِّسٰاءُ مِنْ بَعْدُ النساء اللواتي أحللناهن لك من الأجناس، من اللواتي أعطيت مهورهن، ومن المهاجرات القرائب، ومن الإماء المسبية، ومن وهبت نفسها له بجميع ما شاء من العدد.

وَ لاٰ أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ أي: بالمسلمات الكتابيات، لأنّه لا ينبغي أن يكن أمهات المسلمين إِلاّٰ مٰا مَلَكَتْ يَمِينُكَ من الكتابيات، وقيل: إنّ التبدّل المحرّم هو ما كان يفعل في الجاهلية، يقول الرجل للرجل: بادلني بامرأتك أبادلك بامرأتي، فينزل كل واحد منهما عن امرأته لصاحبه(1). ويحكى أنّ عيينة بن حصين(2) دخل علي النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وعنده عائشة من غير استئذان، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: (يا عيينة، أين الاستئذان ؟ قال:

يا رسول اللّه، ما استأذنت على رجل قط منذ أدركت، ثمّ قال: من هذه الجميلة إلى

ص: 331


1- الكشف والبيان ج 8:56.
2- عيينة بن حصن بن حذيفة الفزاري، كان من المؤلفة قلوبهم، أسلم قبل الفتح وشهده وشهد حنينا والطائف، عاش إلي زمن عثمان. ينظر: الإصابة ج 3:54.

جنبك ؟ فقال عليه السلام: (هذه عائشة بنت أبي بكر)، قال عيينة: أفلا أنزل لك عن أحسن نساء الخلق ؟ قال عليه السلام: (قد حرّم ذلك)، فلما خرج قالت عائشة: من هذا يا رسول الله ؟ فقال: (أحمق مطاع، وإنّه علي ما ترين لسيّد قومه)(1).

وقيل: معناه: لا يحلّ لك النساء من بعد نسائك اللاتي خيّرتهن فاخترن اللّه ورسوله وهن التسع، ولا أن تستبدل بهن أزواجا أخر(2).

وَ لَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ واستثنى ممن حرم عليه الإماء.

أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ في معنى الظرف، تقديره: إلا وقت أن يؤذن لكم.

غَيْرَ نٰاظِرِينَ حال من لاٰ تَدْخُلُوا وقع الاستثناء علي الوقت والحال معا، كأنّه قال: لا تدخلوا بيوت النبيّ إلا وقت الإذن، ولا تدخلوها إلا غير ناظرين. وهؤلاء قوم كانوا يتحيّنون [أي: يتعرضون](3) طعام رسول اللّه فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه. والمعنى: لا تدخلوا يا هؤلاء المتحيّنون إلا أن يؤذن لكم إلي طعام، وإلا فلو لم يكن لهؤلاء خصوصا لما جاز لأحد أن يدخل بيوت النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلا أن يؤذن له إذنا خاصا إلى طعام فحسب.

و إِنٰاهُ إدراكه ونضجه، يقال: أنى الطعام إني، وقيل: إناه: وقته(4)، أي:

غير ناظرين وقت الطعام وساعة أكله.

وروي: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أولم علي زينب بتمر وسويق وذبح شاة وأمر أنسا أن يدعو أصحابه، فترادفوا أفواجا، يأكل فوج فيخرج، ثمّ يدخل فوج، إلي أن

ص: 332


1- معاني الأخبار: 260، سنن الدارقطني ج 3:218.
2- عن قتادة. تفسير الطبري ج 22:21.
3- ساقطة من ج، د.
4- الكشف والبيان ج 8:58.

قال: يا نبيّ اللّه قد دعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه، فقال: ارفعوا طعامكم وتفرّق الناس وبقي ثلاثة نفر يتحدثون فأطالوا، فقام رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ليخرجوا، فطاف بالحجرات ورجع فإذا الثلاثة جلوس مكانهم، وكان صلوات اللّه عليه شديد الحياء فتولى، فلما رأوه متوليا خرجوا، فرجع ونزلت الآية(1).

مُسْتَأْنِسِينَ مجرور عطف علي: نٰاظِرِينَ ، أو منصوب علي ولا تدخلوها مُسْتَأْنِسِينَ أي: يستأنس بعضكم ببعض لأجل حديث يحدثه به، أو مستأنسين حديث أهل البيت، واستئناسه: تسمعه وتوجسه.

ولا بد في قوله: فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ من تقدير مضاف، أي: من إخراجكم، بدليل قوله: وَ اَللّٰهُ لاٰ يَسْتَحْيِي مِنَ اَلْحَقِّ ومعناه: إن إخراجكم حقّ ما ينبغي أن يستحيي منه، ولما كان الحياء مما يمنع الحيي من بعض الأفعال قيل:

واللّه لا يستحيي من الحقّ ، بمعنى: لا يمتنع منه ولا يتركه ترك الحيي منكم، وهذا أدب أدّب اللّه به الثقلاء. وعن عائشة قالت: (حسبك في الثقلاء أنّ اللّه تعالى لم يحتملهم وقال: (فإذا طعمتم فانتشروا)(2).

والضمير في سَأَلْتُمُوهُنَّ لنساء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، ولم يذكرن لأنّ الحال ينطق بذكرهن فَسْئَلُوهُنَّ المتاع. وقيل: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان يطعم ومعه بعض أصحابه فأصابت يد رجل منهم يد عائشة، فكره النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ذلك، فنزلت اية الحجاب(3). وروي أنّ بعضهم قال: أننهى أن نكلّم بنات عمنا إلا من وراء

ص: 333


1- أسباب النزول: 254.
2- الكشف والبيان ج 8:59.
3- عن مجاهد. تفسير الطبري ج 22:28.

الحجاب ؟! لئن مات محمّد لأتزوجن عائشة(1). وعن مقاتل: هو طلحة بن عبيد اللّه فنزلت: وَ مٰا كٰانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اَللّٰهِ (2). أي: وما صحّ لكم إيذاء رسول اللّه ولا نكاح أَزْوٰاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ .

وسمّى نكاحهن بعده عَظِيماً تعظيما لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وإيجابا لحرمته حيا وميتا عليه أفضل الصلاة والسلام.

إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً من نكاحهن علي ألسنتكم أَوْ تُخْفُوهُ في صدوركم فإنّ اللّه يعلم ذلك.

[سورة الأحزاب (33): الآیات 55 الی 58]

لاٰ جُنٰاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبٰائِهِنَّ وَ لاٰ أَبْنٰائِهِنَّ وَ لاٰ إِخْوٰانِهِنَّ وَ لاٰ أَبْنٰاءِ إِخْوٰانِهِنَّ وَ لاٰ أَبْنٰاءِ أَخَوٰاتِهِنَّ وَ لاٰ نِسٰائِهِنَّ وَ لاٰ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُنَّ وَ اِتَّقِينَ اَللّٰهَ إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً (55) إِنَّ اَللّٰهَ وَ مَلاٰئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى اَلنَّبِيِّ يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) إِنَّ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اَللّٰهُ فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذٰاباً مُهِيناً (57) وَ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنٰاتِ بِغَيْرِ مَا اِكْتَسَبُوا فَقَدِ اِحْتَمَلُوا بُهْتٰاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (5(8)

لما نزلت آية الحجاب قال الاباء والأبناء و الأقارب لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: أو نحن أيضا نكلّمهن من وراء حجاب ؟ فنزلت(3).

أي: لا إثم عليهن في أن لا يحتجبن عن هؤلاء، ولم يذكر العم والخال لأنّهما

ص: 334


1- أسباب النزول: 255.
2- معالم التنزيل ج 3:183.
3- الكشف والبيان ج 8:60.

يجريان مجري الوالدين، وقد سمّى اللّه العم أبا في قوله: وَ إِلٰهَ آبٰائِكَ إِبْرٰاهِيمَ وَ إِسْمٰاعِيلَ وَ إِسْحٰاقَ (1) وإسماعيل عم يعقوب. وقيل: كره ترك الاحتجاب عنهما لأنهما يصفانهن لأبنائهما، وأبناؤهما غير محارم(2).

وَ اِتَّقِينَ اَللّٰهَ في نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب دلالة علي فضل تشديد فيما أمرن به من الاحتجاب والاستتار، أي: واسلكن طريق التقوى فيما أمرتن به واحتطن فيه.

وكان اللّه عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ من السرّ والعلن، وظاهر الحجاب وباطنه شَهِيداً لا تتفاوت الأحوال في علمه.

صلاة اللّه علي النبيّ عليه السلام هي ما يفعله به من إعلاء درجاته ورفع منازله وتعظيم شأنه وغير ذلك من أنواع كراماته، وصلاة الملائكة عليه مسألتهم اللّه عزّ اسمه أن يفعل به مثل ذلك.

صَلُّوا عَلَيْهِ أي: قولوا: اللهم صل علي محمّد وال محمّد كما صليت علي إبراهيم وآل إبراهيم.

وَ سَلِّمُوا له في الأمور تَسْلِيماً أي: انقادوا لأمره و أطيعوه، أو سلموا عليه بأن تقولوا: السلام عليك يا رسول اللّه.

يُؤْذُونَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ أذى اللّه تعالى عبارة عن أذى رسوله وأوليائه، وإنّما أضافه إلي نفسه مبالغة في تعظيم المعصية. وعن عليّ عليه السلام: (حدّثني رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو [آخذ بشعره فقال: من اذي شعرة منك فقد آذاني، و من آذاني فقد آذي اللّه،

ص: 335


1- البقرة: 133.
2- عن عكرمة. الدر المنثور ج 5:215.

ومن آذى](1) اللّه فعليه لعنة اللّه)(2). وقيّد إيذاء المؤمنين والمؤمنات بعد أن أطلق إيذاء اللّه ورسوله، لأنّ إيذاء الله ورسوله لا يكون إلا بغير حقّ أبدا.

ومعنى بِغَيْرِ مَا اِكْتَسَبُوا بغير جناية أو استحقاق للأذي.

بُهْتٰاناً أي: كذبا، أي: فعلوا ما هو في الإثم مثل البهتان، يعني بذلك أذية اللسان.

[سورة الأحزاب (33): الآیات 59 الی 62]

يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوٰاجِكَ وَ بَنٰاتِكَ وَ نِسٰاءِ اَلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذٰلِكَ أَدْنىٰ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاٰ يُؤْذَيْنَ وَ كٰانَ اَللّٰهُ غَفُوراً رَحِيماً (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ اَلْمُنٰافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ اَلْمُرْجِفُونَ فِي اَلْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاٰ يُجٰاوِرُونَكَ فِيهٰا إِلاّٰ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمٰا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اَللّٰهِ فِي اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اَللّٰهِ تَبْدِيلاً (6(2)

الجلباب: ثوب واسع، أوسع من الخمار ودون الرداء، تلويه المرأة علي رأسها وتبقي منه ما ترسله علي صدرها. وعن ابن عباس: (الرداء الذي يستر من فوق إلى أسفل)(3)، وقيل: الجلباب: الملحفة وكل ما يتستر به من كساء أو غيره(4). قال الشاعر:

ص: 336


1- ساقطة من ج.
2- شواهد التنزيل ج 2:98. أمالي الصدوق: 271.
3- الكشاف ج 3:559.
4- لسان العرب: مادة جلب.

مجلبب من سواد الليل جلبابا(1)

ومعنى يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ : يرخينها عليهن ويغطين بها وجوههن وأعطافهن، يقال إذا زلّ الثوب عن وجه المرأة: أدني ثوبك علي وجهك.

وذلك أنّ النساء كن في أوّل الإسلام علي عادتهن في الجاهلية مبتذلات يبرزن(2)

في درع وخمار، لا فرق بين الحرّة والأمة، وكان أهل الشطارة والريبة يتعرضون للإماء، فربّما تعرضوا للحرّة بعلّة الأمة. فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء لئلا يطمع فيهن طامع، وذلك قوله: ذٰلِكَ أَدْنىٰ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاٰ يُؤْذَيْنَ أي: أقرب إلى أن لا يتعرض لهن ولا يلقين ما يكرهن. و (من) في: مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ للتبعيض، بمعنى: تجلببن ببعض جلابيبهن أو يرخين بعض جلابيبهن علي الوجه.

وَ كٰانَ اَللّٰهُ غَفُوراً رَحِيماً لما سلف منهن في ذلك.

وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي: ضعف في الإيمان، وقيل: هم الزناة وأهل الفجور(3)، من قوله: فَيَطْمَعَ اَلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ (4).

وَ اَلْمُرْجِفُونَ فِي اَلْمَدِينَةِ بالأخبار المضعّفة لقلوب المسلمين عن سرايا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، يقولون: هزموا وقتلوا، وأصله من الرجفة، وهي الزلزلة لكونه خبرا متزلزلا غير ثابت. والمعنى: لئن لم ينته المنافقون من عداوتهم وكيدهم، والفسقة عن إيذاء النساء، والمرجفون عما يؤلفونه(5) من أخبار السوء، لنأمرنك بأن تفعل

ص: 337


1- ديوان الخنساء: 7، وفيه: يعدو به سابح نهد مراكله مجلبب بسواد....
2- في ب: يترددن.
3- عن عكرمة وغيره. تفسير الطبري ج 22:34.
4- الأحزاب: 32.
5- في ب: يقولوه، وفي د: يقولونه.

بهم ما يسوؤهم وينوؤهم ويضطرهم إلى طلب الجلاء عن المدينة، ثمّ لا يساكنونك في المدينة إلا زمانا قليلا، فسمّى ذلك إغراء وهو التحريش علي سبيل المجاز.

مَلْعُونِينَ نصب علي الشتم أو الحال، أي: لاٰ يُجٰاوِرُونَكَ إلا ملعونين. دخل حرف الاستثناء علي الظرف والحال معا، كما مرّ ذكره في قوله:

إِلاّٰ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلىٰ طَعٰامٍ غَيْرَ نٰاظِرِينَ إِنٰاهُ (1) .

وقيل: إنّ قَلِيلاً منصوب علي الحال أيضا، أي: أقلاء أذلاء(2)، و لاٰ يُجٰاوِرُونَكَ عطف علي لَنُغْرِيَنَّكَ ، فهو جواب آخر للقسم.

سنة الله مصدر مؤكد، أي: سنّ اللّه في الذين ينافقون الأنبياء أن يقتلوا أينما ثقفوا.

[سورة الأحزاب (33): الآیات 63 الی 69]

يَسْئَلُكَ اَلنّٰاسُ عَنِ اَلسّٰاعَةِ قُلْ إِنَّمٰا عِلْمُهٰا عِنْدَ اَللّٰهِ وَ مٰا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اَلسّٰاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اَللّٰهَ لَعَنَ اَلْكٰافِرِينَ وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خٰالِدِينَ فِيهٰا أَبَداً لاٰ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لاٰ نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي اَلنّٰارِ يَقُولُونَ يٰا لَيْتَنٰا أَطَعْنَا اَللّٰهَ وَ أَطَعْنَا اَلرَّسُولاَ (66) وَ قٰالُوا رَبَّنٰا إِنّٰا أَطَعْنٰا سٰادَتَنٰا وَ كُبَرٰاءَنٰا فَأَضَلُّونَا اَلسَّبِيلاَ (67) رَبَّنٰا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ اَلْعَذٰابِ وَ اِلْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68) يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسىٰ فَبَرَّأَهُ اَللّٰهُ مِمّٰا قٰالُوا وَ كٰانَ عِنْدَ اَللّٰهِ وَجِيهاً (6(9)

كان المشركون يسألون عَنِ اَلسّٰاعَةِ ووقت قيامها استعجالا علي سبيل الإنكار، واليهود يسألون عن ذلك امتحانا، فأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بأن يجيبهم بأنّه

ص: 338


1- الأحزاب: 53.
2- معاني القران و إعرابه ج 4:236.

علم قد استأثر اللّه به، ثمّ قال: لعلها تَكُونُ قَرِيباً مجيئها، أو شيئا قريبا، أو في زمان قريب.

والسعير: النار المسعورة.

وتقليب الوجوه معناه: تصريفها في الجهات، كما أنّ البضعة من اللحم تدور في القدر من جهة إلى جهة إذا استجمعت غليا، أو تغييرها عن أحوالها، أو طرحها في النار منكوسين مقلوبين. وخصّ الوجوه بالذكر لأنّ الوجه أكرم الأعضاء، ويجوز أن يكون الوجه عبارة عن الجملة.

وانتصب يَوْمَ ب - يَقُولُونَ أوب (اذكر)، و يَقُولُونَ حال.

و قرئ: سٰادَتَنٰا وساداتنا وهم رؤساء الكفرة الذين أضلوهم، وزيادة الألف لإطلاق الصوت، جعل فواصل الآي كقوافي الشعر، وفائدتها الوقف والدلالة علي أنّ الكلام قد انقطع، وأنّ ما بعده مستأنف.

وقرئ كَبِيراً بالباء والثاء، والكثرة أشبه بالموضع لأنّهم يلعنون مرة بعد مرة، والكبير بمعنى: الشديد العظيم.

أي: آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ اَلْعَذٰابِ ضعفا لضلالهم و ضعفا لإضلالهم.

لاٰ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسىٰ قيل: نزلت في شأن زيد وزينب وما سمع فيه مما قاله بعض الناس. وقيل: في أذى موسى عليه السلام: هو حديث المومسة التي حملها قارون علي قذفه بنفسها(1). وقيل: اتهامهم إيّاه بقتل هارون، وقد كانا صعدا الجبل فمات هارون، فحملته الملائكة و مرّوا به علي بني إسرائيل ميتا، حتى عرفوا أنّه قد

ص: 339


1- عن أبي العالية. معالم التنزيل ج 3:185.

مات ولم يقتل(1). وقيل: قذفوه بعيب في جسده، من برص أو أدرة(2)، فأطلعهم اللّه علي أنه بريء منه(3).

وَجِيهاً ذا جاه ومنزلة عنده، فلذلك كان يميط عنه التهم، ويحافظ عليه لئلا يلحقه وصم، كما يفعل الملوك بمن له عندهم وجاهة.

والمعنى: فَبَرَّأَهُ اَللّٰهُ من قولهم أو من مقولهم، فيكون ما مصدرية أو موصولة. والمراد بالقول أو المقول مضمونه ومؤداه، وهو الأمر المعيب، كما سمّوا السبة بالقالة، والقالة بمعنى القول.

[سورة الأحزاب (33): الآیات 70 الی 73]

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمٰالَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ مَنْ يُطِعِ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فٰازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) إِنّٰا عَرَضْنَا اَلْأَمٰانَةَ عَلَى اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلْجِبٰالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهٰا وَ أَشْفَقْنَ مِنْهٰا وَ حَمَلَهَا اَلْإِنْسٰانُ إِنَّهُ كٰانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اَللّٰهُ اَلْمُنٰافِقِينَ وَ اَلْمُنٰافِقٰاتِ وَ اَلْمُشْرِكِينَ وَ اَلْمُشْرِكٰاتِ وَ يَتُوبَ اَللّٰهُ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنٰاتِ وَ كٰانَ اَللّٰهُ غَفُوراً رَحِيماً (7(3)

قَوْلاً سَدِيداً أي: قاصدا إلى الحقّ ، والسداد: القصد إلى الحقّ والقول بالعدل، يقال: سدد السهم نحو الرمية، كما قالوا: سهم قاصد. وقيل: إنّ المراد نهيهم عما خاضوا فيه من حديث زينب من غير عدل في القول(4)، وهو بعث

ص: 340


1- عن ابن عباس وغيره. الدر المنثور ج 5:224.
2- الأدرة: نفخة في الخصية. (الصحاح: مادة أدر)
3- عن أبي هريرة مرفوعا. تفسير الطبري ج 22:37.
4- عن ابن حيان. الكشف والبيان ج 8:67.

علي أن يسدّ قولهم في كل باب، لأنّ حفظ اللسان وسداد القول رأس الخير كله.

والمعنى: احفظوا ألسنتكم وسددوا قولكم، فإنّكم إذا فعلتم ذلك أعطاكم اللّه غاية مطلوبكم من تزكية أعمالكم، وتقبل حسناتكم، ومغفرة سيئاتكم.

ولما علّق سبحانه طاعته وطاعة رسوله بالفوز العظيم أتبعه قوله:

إِنّٰا عَرَضْنَا اَلْأَمٰانَةَ و هو يريد با لأمانة: الطاعة، فعظّم أمرها. والمعنى: إنّ هذه الأجرام العظام قد انقادت لأمر اللّه فلم تمتنع علي مشيئته إيجادا وتكوينا وتسوية علي أشكال متنوعة وصفات مختلفة، وأما الإنسان فلم يكن حاله فيما يصحّ منه من الطاعة ويليق به من الانقياد [لأوامر اللّه ونواهيه](1)، وهو حيوان عاقل صالح للتكليف مثل حال تلك الجمادات فيما يصحّ منها من الانقياد وعدم الامتناع.

والمراد بالأمانة: الطاعة لأنّها لازمة الأداء، وعرضها علي الجمادات وإباؤها وإشفاقها مجازا، وأما حمل الأمانة فمن قولك: فلان حامل الأمانة ومحتمل لها، تريد لا يؤديها إلى صاحبها حتى يخرج من عهدتها، لأنّ الأمانة كأنّها راكبة للمؤتمن عليها، فإذا أداها لم تبق راكبة له ولم يكن هو حاملا لها.

فالمعنى: فَأَبَيْنَ أن لا يؤدينها وأبي الإنسان إلا أن يكون محتملا لها لا يؤديها، ثمّ وصفه بالظلم لكونه تاركا لأداء الأمانة، وبالجهل لإغفاله ما يسعده مع تمكّنه من ذلك بأن يؤدي الأمانة.

واللام في لِيُعَذِّبَ لام التعليل علي طريق المجاز، لأنّ التعذيب نتيجة حمل الأمانة، كما أنّ التأديب في قولك: ضربته للتأديب نتيجة الضرب، أي:

ليعذّب اللّه حامل الأمانة وَ يَتُوبَ اَللّٰهُ علي غيره ممن لم يحملها، لأنّه إذا تيب علي الوافي كان ذلك نوعا من عذاب الغادر.

ص: 341


1- ساقطة من ج.

سورة سبأ

اشارة

مكية وهي أربع وخمسون آية.

وفي حديث أبيّ : (ومن قرأ (سورة سبأ) لم يبق نبيّ ولا رسول إلا كان له يوم القيامة رفيقا ومصافحا)(1)، وعن الصادق عليه السلام: (من قرأ الحمدين جميعا (سبأ وفاطر) في ليلة لم يزل في ليلته في حفظ اللّه وكلاءته، فإن قرأهما في نهاره لم يصبه فيه مكروه، وأعطي من خير الدنيا والآخرة ما لم يخطر علي قلبه ولم يبلغه مناه)(2).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة سبإ (34): الآیات 1 الی 4]

اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي لَهُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ وَ لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلْآخِرَةِ وَ هُوَ اَلْحَكِيمُ اَلْخَبِيرُ يَعْلَمُ مٰا يَلِجُ فِي اَلْأَرْضِ وَ مٰا يَخْرُجُ مِنْهٰا وَ مٰا يَنْزِلُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ وَ مٰا يَعْرُجُ فِيهٰا وَ هُوَ اَلرَّحِيمُ اَلْغَفُورُ وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لاٰ تَأْتِينَا اَلسّٰاعَةُ قُلْ بَلىٰ وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عٰالِمِ اَلْغَيْبِ لاٰ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقٰالُ ذَرَّةٍ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ لاٰ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ أَصْغَرُ مِنْ ذٰلِكَ وَ لاٰ أَكْبَرُ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ لِيَجْزِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ أُولٰئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ

ص: 342


1- الكشف والبيان ج 8:69.
2- ثواب الأعمال: 110.

[سورة سبإ (34): الآیات 4 الی 5]

وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ وَ اَلَّذِينَ سَعَوْا فِي آيٰاتِنٰا مُعٰاجِزِينَ أُولٰئِكَ لَهُمْ عَذٰابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ

مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ كله نعمة من الله، فكأنّه سبحانه وصف نفسه بالإنعام بجميع النعم الدنيوية، فمعناه: إنّه المحمود علي نعم [الدنيا.

وَ لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلْآخِرَةِ إيذان بأنّه المحمود علي نعم](1) الآخرة، وهي الثواب الدائم والنعيم المقيم.

وَ هُوَ اَلْحَكِيمُ الذي أحكم أمور الدارين اَلْخَبِيرُ بكل كائن وبكل ما سيكون.

يَعْلَمُ مٰا يَلِجُ فِي اَلْأَرْضِ من مطر أو كنز أو ميت وَ مٰا يَخْرُجُ مِنْهٰا من نبات أو جوهر أو حيوان وَ مٰا يَنْزِلُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ من ملك أو مطر أو رزق، وَ مٰا يَعْرُجُ فِيهٰا أي: ما يصعد من الملائكة و أعمال العباد.

وَ هُوَ مع كثرة نعمه و سبوغ فضله اَلرَّحِيمُ اَلْغَفُورُ لعباده المقصّرين في أداء الواجب من شكره.

قال منكر و البعث: لاٰ تَأْتِينَا اَلسّٰاعَةُ وهو نفي أو استبطاء علي طريق الهزء.

قُلْ بَلىٰ وَ رَبِّي أوجب ما بعد النفي ب - بَلىٰ علي معنى: أن ليس الأمر إلا إتيانها، ثمّ أكّده بالقسم باللّه عزّ وجل، ثمّ أكّد التوكيد القسمي بما أتبعه من وصف المقسم به بأنّه عٰالِمِ اَلْغَيْبِ لا يفوته مِثْقٰالُ ذَرَّةٍ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ لاٰ فِي اَلْأَرْضِ فيندرج تحته علمه بوقت قيام الساعة.

ص: 343


1- ساقطة من ج.

ثمّ أتبع القسم الحجّة القاطعة وهو لِيَجْزِيَ لأنّه ركّب في العقول أنّ المحسن لابد له من ثواب، والمسيء مستوجب العقاب، فاتصل لِيَجْزِيَ بقوله: لَتَأْتِيَنَّكُمْ تعليلا له.

و قرئ: عٰالِمِ اَلْغَيْبِ و علام الغيب بالجر صفة ل - رَبِّي و قرئ: عٰالِمِ بالرفع على المدح، [و لاٰ يَعْزُبُ بالضم والكسر من العزوب، وهو البعد](1).

وَ لاٰ أَصْغَرُ مِنْ ذٰلِكَ ذلك إشارة إلى مِثْقٰالُ ، وارتفع أَصْغَرُ علي أصل الابتداء، وهو كلام منقطع عما قبله، ولا يجوز أن يكون أَصْغَرُ عطفا علي مِثْقٰالُ لأنّ حرف الاستثناء يأباه.

سَعَوْا فِي آيٰاتِنٰا أي: عملوا بجهدهم في إبطال حججنا وبيّناتنا مقدّرين إعجاز ربّهم، أو ظانين أنّهم يفوتونه. وقرئ: معجزين، وقد مرّ ذكره في سورة الحج(2). [وقرئ: أَلِيمٌ با لرفع والجر. والرجز: أسوأ العذاب، والجر في (أليم) أبين صفة ل - رِجْزٍ ](3).

[سورة سبإ (34): الآیات 6 الی 9]

وَ يَرَى اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ اَلَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ اَلْحَقَّ وَ يَهْدِي إِلىٰ صِرٰاطِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَمِيدِ وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذٰا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرىٰ عَلَى اَللّٰهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي اَلْعَذٰابِ وَ اَلضَّلاٰلِ اَلْبَعِيدِ أَ فَلَمْ يَرَوْا إِلىٰ مٰا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مٰا خَلْفَهُمْ مِنَ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ

ص: 344


1- ساقطة من ب، ج.
2- الآية: 51
3- ساقطة من د.

[سورة سبإ (34): آیة 9]

إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ اَلْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ اَلسَّمٰاءِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ

يَرَى في موضع الرفع، أي: ويعلم اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ و هم أصحاب رسول اللّه، أو علماء أهل الكتاب الذين أسلموا اَلَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ ... اَلْحَقَّ و هما مفعولان ل - يَرَى و هو فصل. وقيل: (وَ يَرَى في موضع النصب عطفا علي لِيَجْزِيَ )(1)، أي: وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنّه الحقّ علما لا يتخالجه ريب، و اَلَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ هو القرآن.

وَ يَهْدِي القرآن إِلىٰ صِرٰاطِ اَلْعَزِيزِ الذي لا يغالب اَلْحَمِيدِ علي جميع أفعاله وهو اللّه سبحانه.

والعامل في إِذٰا ما دلّ عليه قوله: إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ وقد مرّ نظيره(2)، والممزّق مصدر أو مكان.

وأسقطت الهمزة في قوله: أَفْتَرىٰ دون قوله: (السحر) وكلتاهما همزة وصل، لأنّ القياس طرحها، ولكن لم تطرح هناك لخوف التباس الاستفهام بالخبر، لكون همزة الوصل مفتوحة، وهي مكسورة هنا فلا التباس، أي: أهو مفتر عَلَى اَللّٰهِ كَذِباً فيما نسب إليه أَمْ بِهِ جِنَّةٌ جنون يوهمه ذلك.

ثمّ قال: ليس محمّد من الافتراء والجنون في شيء، بَلِ هؤلاء الكافرون بالبعث واقعون فِي عذاب النار وَ اَلضَّلاٰلِ عن الحقّ وذلك أجن الجنون، ولما كان العذاب من لوازم الضلال جعلا كأنّهما مفتريان(3).

ص: 345


1- إعراب القرآن ج 3:332.
2- السجدة: 10.
3- في د: مقترنان.

ووصف الضلال ب - اَلْبَعِيدُ من الإسناد المجازي، لأنّ البعيد صفة الضال إذا بعد عن الجادة.

أَ فَلَمْ يَرَوْا أي: أعموا فلم ينظروا إلى اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ و أنّهما - حيثما كانوا - محيطتان بهم لا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما؟ وقيل: أفلم يتفكروا فيهما ولم يستدلّوا بذلك علي قدرتنا(1).

ثمّ ذكر سبحانه قدرته علي إهلاكهم بأن يخسف بِهِمُ اَلْأَرْضَ كما خسف بقارون، أو يسقط عَلَيْهِمْ قطعة من السماء .

إِنَّ فِي ذٰلِكَ النظر إلى السماء والأرض والفكر فيهما لدلالة لِكُلِّ عَبْدٍ مطيع للّه راجع إليه. و قرئ: إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ و نُسْقِطْ بالياء و النون في الجميع، و أدغم الكسائي الفاء في الباء في نَخْسِفْ بِهِمُ وليس بقويّ .

[سورة سبإ (34): الآیات 10 الی 14]

وَ لَقَدْ آتَيْنٰا دٰاوُدَ مِنّٰا فَضْلاً يٰا جِبٰالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ اَلطَّيْرَ وَ أَلَنّٰا لَهُ اَلْحَدِيدَ (10) أَنِ اِعْمَلْ سٰابِغٰاتٍ وَ قَدِّرْ فِي اَلسَّرْدِ وَ اِعْمَلُوا صٰالِحاً إِنِّي بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَ لِسُلَيْمٰانَ اَلرِّيحَ غُدُوُّهٰا شَهْرٌ وَ رَوٰاحُهٰا شَهْرٌ وَ أَسَلْنٰا لَهُ عَيْنَ اَلْقِطْرِ وَ مِنَ اَلْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ مَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنٰا نُذِقْهُ مِنْ عَذٰابِ اَلسَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مٰا يَشٰاءُ مِنْ مَحٰارِيبَ وَ تَمٰاثِيلَ وَ جِفٰانٍ كَالْجَوٰابِ وَ قُدُورٍ رٰاسِيٰاتٍ اِعْمَلُوا آلَ دٰاوُدَ شُكْراً وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبٰادِيَ اَلشَّكُورُ (1(3) فَلَمّٰا قَضَيْنٰا عَلَيْهِ اَلْمَوْتَ مٰا دَلَّهُمْ عَلىٰ مَوْتِهِ إِلاّٰ دَابَّةُ اَلْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمّٰا خَرَّ تَبَيَّنَتِ اَلْجِنُّ أَنْ لَوْ

ص: 346


1- عن قتادة. تفسير الماوردي ج 4:434.

[سورة سبإ (34): آیة 14]

كٰانُوا يَعْلَمُونَ اَلْغَيْبَ مٰا لَبِثُوا فِي اَلْعَذٰابِ اَلْمُهِينِ

يٰا جِبٰالُ إما أن يكون بدلا من فَضْلاً ، وإما من آتَيْنٰا بتقدير قولنا:

يا جبال، أو قلنا: يٰا جِبٰالُ أَوِّبِي من التأويب، أي: رجّعي معه التسبيح، ويجوز أن يكون اللّه سبحانه خلق فيها تسبيحا كما خلق الكلام في الشجرة، فيسمع من الجبال التسبيح كما يسمع من المسبّح معجزة لداود.

وقرئ: وَ اَلطَّيْرَ رفعا ونصبا عطفا علي لفظ الجبال ومحلّها. وجوزوا أن ينتصب بالعطف علي فَضْلاً بمعنى: و سخرنا له الطير، أو علي أنّه مفعول معه.

وَ أَلَنّٰا لَهُ اَلْحَدِيدَ وجعلناه له لينا كالطين والشمع يصرفه بيده كيف شاء من غير نار ولا ضرب بمطرقة.

أَنِ اِعْمَلْ سٰابِغٰاتٍ أي: دروعا واسعة صافية، وهو أوّل من اتخذها(1)، وكانت قبل صفائح.

وَ قَدِّرْ فِي اَلسَّرْدِ أي: في نسج الدروع، فلا تجعل مساميرها دقاقا فتغلق، ولا غلاظا فتفصم الحلق.

وَ اِعْمَلُوا الضمير لداود وأهله.

وسخرنا لِسُلَيْمٰانَ اَلرِّيحَ وقرئ: الريح بالرفع، أي: و لسليمان الريح مسخّرة، أو وله تسخير الريح.

غُدُوُّهٰا شَهْرٌ جريها بالغداة مسيرة شهر، وجريها بالعشي كذلك.

وَ أَسَلْنٰا لَهُ عَيْنَ اَلْقِطْرِ أي: أذبنا له معدن النحاس و أظهرناه له، ينبع كما ينبع الماء من العين، فلذلك سمّاه: عين القطر تسمية بما آل إليه، كما قال: إني

ص: 347


1- فيج: أحدثها.

أَرٰانِي أَعْصِرُ خَمْراً (1) ، وسخرنا له مِنَ اَلْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بحضرته ما يأمرهم به من الأعمال.

وَ مَنْ يَزِغْ أي: و من يعدل مِنْهُمْ عما أمرناهم به من طاعة سليمان نُذِقْهُ مِنْ عَذٰابِ اَلسَّعِيرِ في الآخرة، وقيل: في الدنيا، وقد و كّل اللّه به ملكا بيده سوط يضربه ضربة تحرقه(2).

والمحاريب: البيوت الشريفة، وقيل: هي المساجد والقصور يتعبد فيها(3).

وَ تَمٰاثِيلَ قيل: كانت غير صور الحيوان، كصور الأشجار وغيرها، لأنّ التمثال: كل ما صوّر علي صورة غيره من حيوان وغير حيوان، وروي ذلك عن الصادق عليه السلام(4). وروي أنّهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما، وإذا قعد أظلّه النسران بأجنحتهما من الشمس(5).

والجوابي: الحياض الكبار لأنّ الماء يجبى فيها أي: يجمع. جعل الفعل لها مجازا وهي من الصفات الغالبة كالدابة، والقياس أن تثبت الياء فيه، ومن حذف الياء في الوقف أو في الوصل والوقف فلأنّه مشبه بالفاصلة.

اِعْمَلُوا حكاية ما قيل لآل داود، وانتصب شُكْراً علي أنّه مفعول له، والمعنى: اعملوا للّه واعبدوه علي وجه الشكر لنعمه، وفيه دلالة علي أنّ العبادة

ص: 348


1- يوسف: 36
2- عن يحيى بن سلام. تفسير الماوردي ج 4:438.
3- عن قتادة. تفسير الطبري ج 22:49.
4- الكافي ج 6:527.
5- العرائس: 180.

يجب أن تؤدى علي وجه الشكر، أو علي الحال، أي: شاكرين أو على تقدير: اشكروا شكرا، لأنّ اعملوا فيه معنى الشكر من حيث أنّ العمل للمنعم شكر له.

و اَلشَّكُورُ : المتوفر علي أداء الشكر، الباذل وسعه فيه، وقد شغل به قلبه ولسانه وجوارحه اعتقادا واعترافا وكدحا.

فلما حكمنا علي سليمان اَلْمَوْتَ ما دلّ الجن عَلىٰ مَوْتِهِ إِلاّٰ دَابَّةُ اَلْأَرْضِ وهي الأرضة تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ وهي العصا الكبيرة يسوق بها الراعي غنمه، من: نسأته أي زجرته، وقرئ: منسأته بتخفيف الهمزة.

تَبَيَّنَتِ اَلْجِنُّ من تبيّن الشيء إذا ظهر وتجلى، و أن مع صلتها بدل من اَلْجِنُّ وهو بدل الاشتمال، تقول: تبيّن زيد جهله. أي: ظهر أنّ الجن لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ اَلْغَيْبَ مٰا لَبِثُوا فِي اَلْعَذٰابِ اَلْمُهِينِ ، أو علم الجن كلهم علما بينا بعد التباس الأمر علي عامتهم وتوهمهم أنّ كبارهم يعلمون الغيب، وعنهم عليهم السلام: تبينت الإنس، وهو قراءة أبيّ ، ويكون الضمير في كٰانُوا للجن في قوله: وَ مِنَ اَلْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ أي: علمت الإنس أن لو كان الجن [يصدقون فيما يوهمونهم من علمهم الغيب ما لبثوا، وفي قراءة ابن مسعود: تبينت الإنس أن الجن](1) لو كانوا يعلمون. وكان عمر سليمان ثلاثا وخمسين سنة، وملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة، فمدة ملكه أربعون سنة(2).

[سورة سبإ (34): الآیات 15 الی 16]

لَقَدْ كٰانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتٰانِ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمٰالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اُشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمْ سَيْلَ اَلْعَرِمِ وَ بَدَّلْنٰاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ

ص: 349


1- ساقطة من د.
2- الكشف والبيان ج 8:81.

[سورة سبإ (34): الآیات 16 الی 20]

ذَوٰاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَ أَثْلٍ وَ شَيْ ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذٰلِكَ جَزَيْنٰاهُمْ بِمٰا كَفَرُوا وَ هَلْ نُجٰازِي إِلاَّ اَلْكَفُورَ (17) وَ جَعَلْنٰا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ اَلْقُرَى اَلَّتِي بٰارَكْنٰا فِيهٰا قُرىً ظٰاهِرَةً وَ قَدَّرْنٰا فِيهَا اَلسَّيْرَ سِيرُوا فِيهٰا لَيٰالِيَ وَ أَيّٰاماً آمِنِينَ (18) فَقٰالُوا رَبَّنٰا بٰاعِدْ بَيْنَ أَسْفٰارِنٰا وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنٰاهُمْ أَحٰادِيثَ وَ مَزَّقْنٰاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِكُلِّ صَبّٰارٍ شَكُورٍ (19) وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاّٰ فَرِيقاً مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ (2(0)

سبأ: أبو عرب اليمن كلها فِي مَسْكَنِهِمْ أي: بلدهم. وقرئ: مساكنهم.

جَنَّتٰانِ بدل من آيَةٌ أو خبر مبتدأ محذوف، أي: الآية جنّتان، ومعنى كونهما آية: إنّ أهلهما أعرضوا عن شكر اللّه عليهما فخربهما اللّه وأبدلهم عنهما الخمط والأثل آية وعبرة لهم ولغيرهم، وقيل: إنّ الآية أنّه لم يكن في بلدهم بعوضة ولا ذباب ولا عقرب ولا حية، وكان الغريب إذا دخل بلدهم وفي ثيابه قمل ماتت(1).

ولم يرد بستانين فحسب، وإنّما أراد جماعتين من البساتين، جماعة عن يمين بلدتهم وأخرى عن شمالها، وكل واحدة من الجماعتين في تقاربهما وتضامّهما كأنّهما جنّة واحدة، أو أراد بستاني كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله، كما قال:

جَعَلْنٰا لِأَحَدِهِمٰا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنٰابٍ (2) .

كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ إما حكاية لما قال لهم أنبياء اللّه المبعوثون إليهم، أو لما قال لهم لسان الحال.

ص: 350


1- عن ابن زيد. تفسير الطبري ج 22:53.
2- الكهف: 32.

بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ أي: هذه البلدة بلدة طيبة مخصبة، نزهة أرضها عذبة ليست بسبخة.

وَ رَبٌّ غَفُورٌ أي: ربّكم الذي رزقكم وطلب شكركم غفور لمن شكره.

فَأَعْرَضُوا عن الحقّ ولم يشكروا اللّه عزّ اسمه.

فَأَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمْ سَيْلَ اَلْعَرِمِ والعرم: اسم الجرذ الذي نقب عليهم السكر(1)، ضربت لهم بلقيس الملكة بسدّ ما بين الجبلين بالصخر والقار، فحقنت به ماء العيون والأمطار، وتركت فيه خروقا علي مقدار ما يحتاجون إليه في سقيهم، فلما طغوا سلّط اللّه علي سدّهم الخلد(2) فنقبه من أسفله فغرّقهم، وقيل: العرم: جمع عرمة وهي الحجارة المركومة(3)، ويقال للكدس من الطعام: عرمة، والمراد: المسناة التي عقدوها سكرا. وقيل: العرم اسم واد كان يجتمع فيه السيول(4)، وقيل: العرم:

المطر الشديد.

وقرئ: أُكُلٍ بالضم والسكون، وبالتنوين والإضافة، ومن نوّن فالأصل ذواتي أكل أكل خمط، فحذف المضاف، أو وصف الأكل بالخمط، فكأنّه قال: ذواتي أكل بشع، ومن أضاف فكأنّه قال: ذواتي برير(5)، لأنّ أكل الخمط في معنى البرير، والأثل والسدر معطوفان علي أُكُلٍ لا علي خَمْطٍ ، لأنّ الأثل لا أكل له، وتسمية البدل جَنَّتَيْنِ لأجل المشاكلة، وفيه ضرب من

ص: 351


1- سكرت النهر: سددته. (الصحاح: مادة سكر)
2- الخلد: ضرب من الجرذان أعمى. (الصحاح: مادة خلد)
3- عن أبي ميسرة. تفسير الطبري ج 22:54.
4- عن ابن عباس وغيره. تفسير الطبري ج 22:55.
5- البرير: ثمر الاراك، واحدتها بريرة. (الصحاح: مادة برر)

التهكّم، وعن الحسن: (قلّل السدر لأنّه أكرم ما بدلوا)(1).

و قرئ: وَ هَلْ نُجٰازِي بالنون، والمعنى: ومثل هذا الجزاء لا يستحقّه إلا الكافر، وهو العقاب العاجل.

وَ جَعَلْنٰا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ قرى الشام اَلَّتِي بٰارَكْنٰا فِيهٰا بالماء والشجر قُرىً ظٰاهِرَةً متواصلة، يري بعضها من بعض لتقاربها، فهي ظاهرة لأعين الناظرين، أو راكبة متن الطريق ظاهرة للسائلة.

وَ قَدَّرْنٰا فِيهَا اَلسَّيْرَ من القرية إلي القرية مقدارا واحدا، كان الغادي منهم يقيل في قرية، والرائح يبيت في قرية إلى أن يبلغ الشام، لا يخاف جوعا ولا عطشا ولا عدوّا، ولا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء.

سِيرُوا أي: وقلنا لهم: سيروا ولا قول ثمّ ، لكن لما سهّلت لهم أسباب السير فكأنّهم أمروا به. والمعنى: سيروا إن شئتم بالليل وإن شئتم بالنهار، فإنّ الأمن فيها لا يختلف باختلاف الأوقات، أو سيروا فيها آمِنِينَ لا تخافون وإن تطاولت مدة سفركم فيها وامتدت أيّاما وليالي.

فَقٰالُوا رَبَّنٰا بٰاعِدْ و بعّد علي الدعاء، بطروا النعمة و ملّوا العافية فطلبوا الكد والتعب، وقرئ: ربّنا باعد بين أسفارنا وهو قراءة الباقر عليه السلام. (ربّنا) مبتدأ والمعنى خلاف الأوّل، وهو أنّهم استبعدوا مسائرهم علي قصرها لفرط تنعمهم.

فَجَعَلْنٰاهُمْ أَحٰادِيثَ يتحدّث الناس بهم، وفرّقناهم تفريقا اتخذه الناس مثلا مضروبا، يقولون: (ذهبوا أيدي سبأ)، و (تفرّقوا أيادي سبأ)(2)، قال كثير:

ص: 352


1- الكشاف ج 3:576.
2- مجمع الأمثال ج 2:4.

أيادي سبأ يا عزّ ما كنت بعدكم *** فلم يحل بالعينين بعدك منظر(1)

إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ و عبرا لِكُلِّ صَبّٰارٍ عن المعاصي شَكُورٍ للنعم بالطاعات.

و قرئ: صَدَّقَ بالتشديد والتخفيف، فمن شدد فعلي: حقّق [عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ، أو وجده صادقا، و من خفف فعلى: صدق](2) في ظنه. وقرئ:

صدق بالتشديد إبليس بالنصب ظنه بالرفع، و المعنى: وجد ظنه صادقا حين قال:

لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاّٰ قَلِيلاً (3) ، وَ لاٰ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شٰاكِرِينَ (4)، وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (5).

والضمير في عَلَيْهِمْ يعود إلي أهل سبأ، وقيل: يعود إلى الناس كلهم إلا من أطاع اللّه(6) وذلك قوله: إِلاّٰ فَرِيقاً مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ .

[سورة سبإ (34): الآیات 21 الی 23]

وَ مٰا كٰانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطٰانٍ إِلاّٰ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهٰا فِي شَكٍّ وَ رَبُّكَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ قُلِ اُدْعُوا اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ لاٰ يَمْلِكُونَ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ لاٰ فِي اَلْأَرْضِ وَ مٰا لَهُمْ فِيهِمٰا مِنْ شِرْكٍ وَ مٰا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَ لاٰ تَنْفَعُ اَلشَّفٰاعَةُ عِنْدَهُ إِلاّٰ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ

ص: 353


1- ديوان كثير: 328.
2- ساقطة من ج.
3- الإسراء: 62.
4- الأعراف: 17.
5- الحجر: 39.
6- عن مجاهد. الدر المنثور ج 5:235.

[سورة سبإ (34): الآیات 23 الی 25]

حَتّٰى إِذٰا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قٰالُوا مٰا ذٰا قٰالَ رَبُّكُمْ قٰالُوا اَلْحَقَّ وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ قُلِ اَللّٰهُ وَ إِنّٰا أَوْ إِيّٰاكُمْ لَعَلىٰ هُدىً أَوْ فِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ قُلْ لاٰ تُسْئَلُونَ عَمّٰا أَجْرَمْنٰا وَ لاٰ نُسْئَلُ عَمّٰا تَعْمَلُونَ

[أي: لم يكن لإبليس عليهم من سلطنة واستيلاء](1) يتمكّن بها من إجبارهم علي البغي والضلال، كما قال: [وَ مٰا كٰانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطٰانٍ إِلاّٰ أَنْ دَعَوْتُكُمْ (2) وتمكينه من الاستغواء بالوسوسة لغرض](3) صحيح وحكمة بالغة، وذلك أن يتميز المؤمن بالآخرة من الشاك فيها، وعلل ذلك بالعلم والمراد ما تعلّق به الحكم(4).

والحفيظ: المحافظ، وفعيل ومفاعل متآخيان.

وأحد مفعولي زَعَمْتُمْ الضمير المحذوف الراجع منه إلى الموصول، والمفعول الثاني: إما أن يكون مِنْ دُونِ اَللّٰهِ أو لاٰ يَمْلِكُونَ أو محذوفا، فلا يصحّ الأوّل لأنّ قولك: هم من دون اللّه لا يلتئم كلاما، ولا الثاني لأنّهم ما كانوا يزعمون ذلك، فبقي أن يكون محذوفا تقديره: زعمتموهم آلهة من دون اللّه، فحذف الموصوف لكونه مفهوما، وأقام صفته مقامه، فمفعولا زَعَمْتُمْ محذوفان كما تري بسببين مختلفين.

ثمّ أخبر عن آلهتهم بأنّهم لاٰ يَمْلِكُونَ زنة ذرّة من خير وشرّ ونفع وضرّ

ص: 354


1- ساقطة من ج.
2- إبراهيم: 22.
3- ساقطة من ج.
4- في د: العلم.

فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ لاٰ فِي اَلْأَرْضِ وليس لهم في شيء منهما نصيب ولا شرك وليس للّه مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ علي خلق شيء منهما.

يقال: الشفاعة لزيد علي معنى: إنّه الشافع، وعلي معنى إنّه المشفوع له، فيحتمل قوله: وَ لاٰ تَنْفَعُ اَلشَّفٰاعَةُ عِنْدَهُ إِلاّٰ كائنة لِمَنْ أَذِنَ لَهُ من الشافعين ومطلقة له، مثل الملائكة والأنبياء والأولياء، أو لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمن أذن له أي: لشفيعه، وهذا تكذيب لقولهم: هٰؤُلاٰءِ شُفَعٰاؤُنٰا عِنْدَ اَللّٰهِ (1).

واتصل قوله: حَتّٰى إِذٰا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ بما فهم من هذا الكلام من أنّ ثمّ انتظارا للإذن وفزعا من الراجين للشفاعة، والشفعاء هل يؤذن لهم أو لا يؤذن، وأنّه لا يطلق الإذن إلا بعد تربّص وتوقف، فكأنّه قال: يتربّصون مليا فزعين حَتّٰى إِذٰا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ أي: كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بأن يأذن ربّ العزّة في الشفاعة تباشروا بذلك، وسأل بعضهم بعضا: مٰا ذٰا قٰالَ رَبُّكُمْ قٰالُوا القول اَلْحَقَّ و هو الإذن بأن يشفعوا لمن ارتضى.

وقرئ: أَذِنَ لَهُ أي: أذن اللّه له، وأذن له علي البناء للمفعول، وقرئ:

(فزع) علي البناء للفاعل، وهو اللّه وحده.

وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ ذو العلو والكبرياء، لا يملك أحد أن يتكلّم ذلك اليوم إلا بإذنه.

ثمّ أمره عزّ اسمه أن يقررهم بقوله: مَنْ يَرْزُقُكُمْ ثمّ أمره أن يتولى الإجابة والإقرار عنهم بقوله: يرزقكم اَللّٰهُ وذلك للإعلام بأنّهم مقرّون به بقلوبهم إلا أنّه ربّما لم يتكلّموا به عنادا، وأمره أن يقول لهم بعد الإلزام: وَ إِنّٰا أَوْ إِيّٰاكُمْ لَعَلىٰ هُدىً أَوْ فِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ معناه: إنّ أحد الفريقين من الموحدين ومن

ص: 355


1- يونس: 18.

المشركين لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال، وهذا من الكلام المنصف الذي كل من سمعه قال لمن خوطب به: قد أنصفك صاحبك، وفي درجه بعد تقديم ما قدّم من التقرير البليغ، دلالة علي من هو علي الهدي ومن هو في الضلال المبيّن من الفريقين، ونحوه قول القائل لغيره: إنّ أحدنا لكاذب، وإن كان الكاذب معلوما، ومنه قول حسان:

أتهجوه ولست له بكفء *** فشرّكما لخيركما الفداء(1)

عَمّٰا أَجْرَمْنٰا من المعاصي وَ لاٰ نُسْئَلُ تعملونه، بل كل إنسان يسأل عما يعمله ويجازى علي فعله دون فعل غيره.

[سورة سبإ (34): الآیات 26 الی 30]

قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنٰا رَبُّنٰا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنٰا بِالْحَقِّ وَ هُوَ اَلْفَتّٰاحُ اَلْعَلِيمُ قُلْ أَرُونِيَ اَلَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكٰاءَ كَلاّٰ بَلْ هُوَ اَللّٰهُ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلاّٰ كَافَّةً لِلنّٰاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ وَ يَقُولُونَ مَتىٰ هٰذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعٰادُ يَوْمٍ لاٰ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سٰاعَةً وَ لاٰ تَسْتَقْدِمُونَ

يَفْتَحُ بَيْنَنٰا أي: يحكم بيننا ويفصل بِالْحَقِّ وَ هُوَ اَلْفَتّٰاحُ الحاكم اَلْعَلِيمُ بالحكم.

ومعنى قوله: أَرُونِيَ وقد كان يراهم ويعرفهم، أنّه أراد بذلك أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء باللّه، وينبئهم عن ضلالهم في ذلك.

و كَلاّٰ ردع لهم عن مذهبهم، ونبّه على غلطهم الفاحش بقوله: بَلْ هُوَ

ص: 356


1- ديوان حسان بن ثابت: 13.

اَللّٰهُ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ كأنّه قال: أين الذين ألحقتم به شركاء من هذه الصفات إذ هي للّه عزّ اسمه وحده.

إِلاّٰ كَافَّةً لِلنّٰاسِ أي: إلا رسالة عامة لهم محيطة بهم، لأنّها إذا عمّتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم، قال الزجّاج: (معناه: أرسلناك جامعا للناس في الإنذار و الإبلاع)(1)، فجعله حالا من الكاف، والتاء للمبالغة كتاء الراوية و العلامة.

وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ ما لهم في اتباعك من الثواب، وما عليهم في مخالفتك من العقاب، أو لا يعلمون رسالتك لإعراضهم عن النظر في معجزتك.

مِيعٰادُ يَوْمٍ أي: ميقات يوم ينزل بكم فيه ما وعدتموه، وهو إضافة تبيين ك - (سحق ثوب) و (باب ساج).

سألوا علي طريق التعنت فأجيبوا علي طريق التهديد أنّهم مرصدون بيوم يفاجئهم، فلا يستطيعون تأخرا عنه ولا تقدّما عليه.

[سورة سبإ (34): الآیات 31 الی 33]

وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهٰذَا اَلْقُرْآنِ وَ لاٰ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ لَوْ تَرىٰ إِذِ اَلظّٰالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلىٰ بَعْضٍ اَلْقَوْلَ يَقُولُ اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا لَوْ لاٰ أَنْتُمْ لَكُنّٰا مُؤْمِنِينَ قٰالَ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا أَ نَحْنُ صَدَدْنٰاكُمْ عَنِ اَلْهُدىٰ بَعْدَ إِذْ جٰاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَ قٰالَ اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ إِذْ تَأْمُرُونَنٰا أَنْ نَكْفُرَ بِاللّٰهِ وَ نَجْعَلَ لَهُ أَنْدٰاداً

ص: 357


1- معاني القران وإعرابه. ج 4:254.

[سورة سبإ (34): الآیات 33 الی 35]

وَ أَسَرُّوا اَلنَّدٰامَةَ لَمّٰا رَأَوُا اَلْعَذٰابَ وَ جَعَلْنَا اَلْأَغْلاٰلَ فِي أَعْنٰاقِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاّٰ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ وَ مٰا أَرْسَلْنٰا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاّٰ قٰالَ مُتْرَفُوهٰا إِنّٰا بِمٰا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كٰافِرُونَ وَ قٰالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوٰالاً وَ أَوْلاٰداً وَ مٰا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ

الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ كتب اللّه المتقدّمة، وقيل: هو يوم القيامة(1)، ومعناه: إنّهم جحدوا أن يكون القران من قبل(2) اللّه، وأن يكون للبعث والجزاء حقيقة. ثمّ أخبر سبحانه عن عاقبة أمرهم بأن قال: وَ لَوْ تَرىٰ يا محمّد أو أيّها السامع موقفهم في الآخرة وهم يتراجعون المجادلة بينهم، لرأيت أمرا عجيبا، فحذف جواب (لو).

و اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا هم الأتباع، و اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا هم الرؤساء وا لقادة.

وقوله: أَ نَحْنُ صَدَدْنٰاكُمْ عَنِ اَلْهُدىٰ إنكار أن يكونوا هم الصادين لهم عن الإيمان، وإثبات أنّهم هم الذين صدّوا بأنفسهم عنه باختيارهم، كأنّهم قالوا: أنحن أجبرناكم وحلنا بينكم وبين اختياركم ؟! بل أنتم آثرتم الضلال علي الهدي، وأمر الشهوة علي أمر النهى فكنتم مجرمين كافرين.

وقوله: بَعْدَ إِذْ جٰاءَكُمْ أضيف بَعْدَ إلى إِذْ اتساعا مع كونها من الظروف اللازمة، كما أضيفت هي إلى الجملة التي هي جٰاءَكُمْ فقد اتسع في الزمان ما لم يتسع في غيره، فأضيف إليه الزمان وأضيف إلى الجمل نحو: حينئذ ويومئذ، وجئتك أوان الحجّاج أمير وحين خرج زيد.

ص: 358


1- عن ابن عيسى. تفسير الماوردي ج 4:451.
2- في ب: كتب.

ثمّ كرّ المستضعفون علي المستكبرين بقولهم: بَلْ مَكْرُ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ فأبطلوا إضرابهم بإضرابهم، كأنّهم قالوا: ما كان الإجرام من جهتنا، بل من جهة مكركم لنا دائبا ليلا ونهارا، و حملكم إيّانا علي الكفر واتخاذ الأنداد. والمعنى:

مكركم في الليل والنهار، فاتسع في الظرف بإجرائه مجري المفعول به في إضافة المكر إليه، أو جعل ليلهم ونهارهم ماكرين علي الإسناد المجازي.

و الضمير في وَ أَسَرُّوا ضمير الجنس المشتمل على النوعين من المستكبرين والمستضعفين، وهم الظالمون في قوله سبحانه: إِذِ اَلظّٰالِمُونَ مَوْقُوفُونَ فندم الرؤساء علي ضلالهم و إضلالهم، والأتباع علي ضلالهم. والمعنى: أخفوا الندامة.

وقيل: أظهروها(1)، وهو من الأضداد، وقد فسّر علي الوجهين بيت امرئ القيس:

تجاوزت أحراسا إليها و معشرا *** عليّ حراصا لو يسرّون مقتلي(2)

فِي أَعْنٰاقِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أي: في أعناقهم فجاء بالمظهر للتنويه بذمهم.

[سورة سبإ (34): الآیات 36 الی 41]

قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ يَقْدِرُ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ (36) وَ مٰا أَمْوٰالُكُمْ وَ لاٰ أَوْلاٰدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنٰا زُلْفىٰ إِلاّٰ مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صٰالِحاً فَأُولٰئِكَ لَهُمْ جَزٰاءُ اَلضِّعْفِ بِمٰا عَمِلُوا وَ هُمْ فِي اَلْغُرُفٰاتِ آمِنُونَ (37) وَ اَلَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيٰاتِنٰا مُعٰاجِزِينَ أُولٰئِكَ فِي اَلْعَذٰابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ وَ مٰا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَ هُوَ خَيْرُ اَلرّٰازِقِينَ (39) وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاٰئِكَةِ أَ هٰؤُلاٰءِ إِيّٰاكُمْ كٰانُوا يَعْبُدُونَ (4(0) قٰالُوا سُبْحٰانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنٰا

ص: 359


1- الكشف و البيان ج 8:91.
2- ديوان امرئ القيس: 13 و فيه: تجاوزت أحراسا وأهوال معشر علي حراص لو يشرون مقتلي

[سورة سبإ (34): الآیات 41 الی 42]

مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كٰانُوا يَعْبُدُونَ اَلْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ فَالْيَوْمَ لاٰ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَ لاٰ ضَرًّا وَ نَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذٰابَ اَلنّٰارِ اَلَّتِي كُنْتُمْ بِهٰا تُكَذِّبُونَ

وَ مٰا أَمْوٰالُكُمْ التي خولتموها وَ لاٰ أَوْلاٰدُكُمْ التي رزقتموها بالجماعة التي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنٰا قربة، و الزلفى والزلفة كالقربى والقربة، ومخلّ زُلْفىٰ نصب علي المصدر، فهو كقوله: وَ اَللّٰهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ نَبٰاتاً (1).

إِلاّٰ مَنْ آمَنَ استثناء من (كم) في تُقَرِّبُكُمْ و المعنى: إنّ الأموال لا تقرّب أحدا إلا المؤمن الصالح الذي ينفقها في سبيل اللّه، والأولاد لا تقرّب أحدا إلا من رشحهم للصلاح وعلّمهم الدين.

فَأُولٰئِكَ لَهُمْ جَزٰاءُ اَلضِّعْفِ بأن يضاعف لهم حسناتهم فيجزي بالحسنة الواحدة عشرا فصاعدا إلى سبعمائة وأكثر، وجزاء الضعف من إضافة المصدر إلى المفعول. وأصله: فأولئك لهم أن يجازوا الضعف، ثمّ جزاء الضعف. وقرئ: جزاء الضعف علي فأولئك لهم الضعف جزاء، و قرئ: في الغرفة علي التوحيد.

و فِي اَلْغُرُفٰاتِ على الجمع، وهي البيوت فوق الأبنية.

آمِنُونَ من الغير(2) و الآفات والموت والحزن.

وَ اَلَّذِينَ يَسْعَوْنَ يجتهدون في إبطال آيٰاتِنٰا مُعٰاجِزِينَ لأنبيائنا، ومعجزين: مثبطين غيرهم عن طاعتهم.

أُولٰئِكَ محصلون في العذاب أحضروا فيه.

ص: 360


1- نوح: 17.
2- غير الدهر: أحواله المتغيرة. (لسان العرب: مادة غير)

وكرر قوله: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشٰاءُ لأنّ الأوّل خوطب به الكفار، والثاني وعظ للمؤمنين، فكأنّه قال: ليس إغناء الكفار لكرامتهم، و إغناء المؤمنين يجوز أن يكون زيادة في سعادتهم بأن ينفقوها في سبيل اللّه، ويدلّ عليه قوله: وَ مٰا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ أي: يعوّضه ويعطيكم خلفه، إما عاجلا بزيادة النعمة، وإما آجلا بالثواب الذي كل خلف دونهم.

وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً الغرض من سؤال الملائكة أن يقول ويقولوا، ويسأل ويجيبوا، فيكون تقريع الكفار أبلغ وتعييرهم أشدّ، ويكون اقتصاص ذلك زجرا للسامع ولطفا له، ونحوه قوله: يٰا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّٰاسِ اِتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلٰهَيْنِ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ (1).

والموالاة مفاعلة من الولي وهو القرب، كما أنّ المعاداة مفاعلة من العدو وهي البعد، والولي يقع على الموالي والموالى جميعا، والمعنى: أنت الذي نواليه من دونهم إذ لا موالاة بيننا وبينهم، فبيّنوا بإثبات موالاة اللّه ومعاداة الكفار براءتهم من الرضا بعبادتهم لهم.

بَلْ كٰانُوا يَعْبُدُونَ اَلْجِنَّ يريدون الشياطين حيث أطاعوهم في عبادة غير اللّه.

[سورة سبإ (34): الآیات 43 الی 44]

وَ إِذٰا تُتْلىٰ عَلَيْهِمْ آيٰاتُنٰا بَيِّنٰاتٍ قٰالُوا مٰا هٰذٰا إِلاّٰ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمّٰا كٰانَ يَعْبُدُ آبٰاؤُكُمْ وَ قٰالُوا مٰا هٰذٰا إِلاّٰ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمّٰا جٰاءَهُمْ إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ سِحْرٌ مُبِينٌ وَ مٰا آتَيْنٰاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهٰا وَ مٰا أَرْسَلْنٰا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ

ص: 361


1- المائدة: 116.

[سورة سبإ (34): الآیات 44 الی 48]

نَذِيرٍ (44) وَ كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ مٰا بَلَغُوا مِعْشٰارَ مٰا آتَيْنٰاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كٰانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمٰا أَعِظُكُمْ بِوٰاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلّٰهِ مَثْنىٰ وَ فُرٰادىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مٰا بِصٰاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاّٰ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذٰابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مٰا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّٰ عَلَى اَللّٰهِ وَ هُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاّٰمُ اَلْغُيُوبِ (4(8)

هٰذٰا الأولى إشارة إلى رسول اللّه، و الثانية إلي القرآن، والثالثة إلى الحقّ ، و الحقّ أمر النبوّة كله ودين الإسلام كما هو.

وفي قوله: وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا ولم يقل قالوا، وفي قوله: لِلْحَقِّ لَمّٰا جٰاءَهُمْ وما في اللامين من الإشارة إلي القائلين والمقول فيه، وما في لَمّٰا من المبادهة بالكفر؛ دليل علي أنّ الكلام صدر عن إنكار عظيم وغضب شديد، كأنّه قال: وقال أولئك الكفرة المتمرّدون بجرأتهم علي اللّه و مكابرتهم لمثل ذلك الحقّ الواضح قبل أن يختبروه ويتدبّروه: إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ سِحْرٌ مُبِينٌ فقضوا بأنّه سحر ظاهر.

وَ مٰا آتَيْنٰاهُمْ كتبا يدرسونها فيها برهان علي صحّة الشرك، ولا أَرْسَلْنٰا إِلَيْهِمْ نذيرا ينذرهم بالعقاب إن لم يشركوا كما قال: أَمْ أَنْزَلْنٰا عَلَيْهِمْ سُلْطٰاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمٰا كٰانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (1) أو أراد: ليس لهم عهد بإنزال الكتاب ولا بعث رسول، فهم أميون أهل جاهلية لا ملة لهم، كما قال: أَمْ آتَيْنٰاهُمْ كِتٰاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (2).

ثمّ توعّدهم علي تكذيبهم فقال: وَ كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كما كذّبوا،

ص: 362


1- الروم: 35.
2- الزخرف: 21.

وما بلغ هؤلاء مِعْشٰارَ ما آتينا أولئك من طول الأعمار وكثرة الأموال وعظم الأجسام، فحين كذبوا رُسُلِي جاءهم نكيري، أي: عقوبتي وتغييري لأحوالهم بالتدمير والاستئصال، ولم يغن عنهم ما استظهروا به من القوة والثروة، فما بال هؤلاء لا يحذرون أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك من النقمة ؟!.

قُلْ إِنَّمٰا أَعِظُكُمْ بخصلة واحدة، وفسّرها بقوله: أَنْ تَقُومُوا لِلّٰهِ مَثْنىٰ علي أنّه عطف بيان لها، وأراد بقيامهم: إما القيام عن مجلس رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وتفرّقهم عنه، وإما القيام الذي لا يراد به المثول على القدمين ولكن الانتصاب في الأمر والنهوض فيه بالهمّة. والمعنى: إنّما أعظكم بواحدة إن فعلتموها أصبتم الحقّ ، وهي أن تقوموا لوجه الله خالصا اثنين اثنين وواحدا واحدا.

ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا في أمر محمّد وما جاء به بعدل و إنصاف من غير عناد ومكابرة.

وأراد بقوله: مٰا بِصٰاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إنّ هذا الأمر العظيم الذي تحته ملك الدنيا والآخرة جميعا لا يتصدي لادّعاء مثله إلا أحد رجلين: إما مجنون لا يبالي بافتضاحه إذا طولب بالبرهان فعجز، وإما عاقل كامل مرشح للنبوّة مؤيد من عند اللّه بالآيات والحجج، وقد علمتم أنّ محمّدا ما به من جنون، بل علمتموه أرجح الناس عقلا، وأصدقهم قولا، وأجمعهم للمحامد.

و ما للنفي، أو يكون استئناف كلام تنبيها من اللّه علي طريقة النظر في أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ويجوز أن يكون المعنى: ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا فتعلموا ما بصاحبكم من جنّة. ويجوز أن تكون ما استفهامية بمعنى: أي شيء به من جنّة ؟ وهل رأيتم من منشئه إلى مبعثه وصمة فيه تنافي النبوّة ؟.

إِنْ هُوَ إِلاّٰ نَذِيرٌ أي: مخوف بَيْنَ يَدَيْ عَذٰابٍ شَدِيدٍ يوم القيامة.

ص: 363

مٰا سَأَلْتُكُمْ تقديره: أي شيء سألتكم مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ وفيه معنيان:

أحدهما: نفي مسألة الأجر رأسا كما يقول الرجل لصاحبه: إن أعطيتني شيئا فخذه، وهو يعلم أنّه لم يعطه شيئا، والمراد: لا أسألكم علي تبليغ الرسالة شيئا من عرض الدنيا فتتهموني، والآخر: أن يريد بالأجر ما يريده في قوله: قُلْ مٰا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاّٰ مَنْ شٰاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً (1) وفي قوله: قُلْ لاٰ أَسْئَلُكُمْ [عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبىٰ (2)؛ لأنّ اتخاذ السبيل إلى اللّه يصيبهم، ونفعه عائد إليهم، وكذلك المودة في القربى لأنّ ذخرها لهم دونه.

إِنْ أَجْرِيَ إِلاّٰ عَلَى اَللّٰهِ أي: ليس ثواب عملي إلا علي اللّه فهو](3) يثيبني عليه.

القذف: الرمي، وهو مستعار لمعنى الإلقاء، ومعنى يَقْذِفُ بِالْحَقِّ : يلقيه وينزله إلى أنبيائه، أو يلقيه علي الباطل فيدمغه ويزهقه.

عَلاّٰمُ اَلْغُيُوبِ رفع محمول علي محلّ إِنَّ مع اسمها، أو هو خبر مبتدأ محذوف.

[سورة سبإ (34): الآیات 49 الی 54]

قُلْ جٰاءَ اَلْحَقُّ وَ مٰا يُبْدِئُ اَلْبٰاطِلُ وَ مٰا يُعِيدُ قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمٰا أَضِلُّ عَلىٰ نَفْسِي وَ إِنِ اِهْتَدَيْتُ فَبِمٰا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ وَ لَوْ تَرىٰ إِذْ فَزِعُوا فَلاٰ فَوْتَ وَ أُخِذُوا مِنْ مَكٰانٍ قَرِيبٍ وَ قٰالُوا آمَنّٰا بِهِ وَ أَنّٰى لَهُمُ اَلتَّنٰاوُشُ مِنْ مَكٰانٍ بَعِيدٍ وَ قَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَ يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكٰانٍ بَعِيدٍ وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مٰا يَشْتَهُونَ

ص: 364


1- الفرقان: 57.
2- الشورى: 23.
3- ساقطة من ج.

[سورة سبإ (34): آیة 54]

كَمٰا فُعِلَ بِأَشْيٰاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كٰانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ

الحقّ : إما أن يبدئ فعلا أو يعيده، فإذا هلك لم يكن منه إبداء ولا إعادة، فجعلوا قولهم: لا يبدئ ولا يعيد مثلا للهلاك، ومنه قول عبيد:

أقفر من أهله عبيد *** فاليوم لا يبدي و لا يعيد(1)

والمعنى: جٰاءَ اَلْحَقُّ وهلك الباطل، وعن ابن مسعود قال: دخل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مكة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها يعود في يده ويقول:

(جاء الحقّ وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقا، جاء الحقّ وما يبدئ الباطل وما يعيد)(2).

قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ عن الحقّ كما زعمتم.

فَإِنَّمٰا أَضِلُّ عَلىٰ نَفْسِي أي: فإنّما يرجع وبال الضلال عليّ لأنّي المأخوذ به دون غيري.

وَ إِنِ اِهْتَدَيْتُ إلي الحقّ فبفضل رَبِّي حيث أوحى إليّ فله المنة بذلك علي.

وَ لَوْ تَرىٰ جوابه محذوف والتقدير: لرأيت أمرا عظيما.

و لَوْ و إِذْ والأفعال التي هي فَزِعُوا... وَ أُخِذُوا... وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ كلها للمضي، والمراد بها الاستقبال؛ لأنّ ما اللّه تعالى فاعله في المستقبل بمنزلة ما قد كان ووجد لتحقّقه، ووقت الفزع: وقت البعث.

فَلاٰ فَوْتَ لا يفوت منهم أحد.

ص: 365


1- ديوان عبيد بن الأبرص: 52.
2- معجم الطبراني الكبير ج 10:191.

والمكان القريب يعني به القبر، وقيل: هو فزعهم عند الموت ومعاينة ملائكة العذاب لقبض أرواحهم(1)، وقيل: يوم بدر حين ضربت أعناقهم فلم يستطيعوا فرارا(2)، وقيل: هو جيش(3) يخسف بهم بالبيداء، يؤخذون من تحت أقدامهم(4).

وَ أُخِذُوا عطف علي فَزِعُوا أي: فزعوا [وأخذوا فلا فوت لهم، أو علي لا فوت أي: إذ فزعوا](5) فلم يفوتوا وأخذوا.

وَ قٰالُوا أي: ويقولون في ذلك الوقت: آمَنّٰا بِهِ أي: بمحمّد صلى الله عليه و آله و سلم؛ لأنّ ذكره مرّ في قوله: مٰا بِصٰاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ .

وَ أَنّٰى لَهُمُ اَلتَّنٰاوُشُ وهو التناول السهل لشيء قريب، وهذا تمثيل لطلبهم ما لا يكون، وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت كما نفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا، مثّلت حالهم بحال من يريد تناول الشيء من مكان بعيد مثل ما يتناوله الآخر من موضع قريب تناولا سهلا، وقرئ: التناؤش همزت الواو المضمومة كما همزت واو أدؤر، وقيل: هو من النأش وهو الطلب، قال رؤبة:

إليك نأش القدر النّؤوش(6)

والنئيش: الحركة في الإبطاء، قال:

ص: 366


1- عن قتادة. الدر المنثور ج 5:240.
2- عن السدي وغيره. الدر المنثور ج 5:240.
3- في ب: حيث.
4- عن سعيد بن جبير وروي مرفوعا. تفسير الطبري ج 22:72.
5- ساقطة من ج.
6- ديوان رؤبة بن العجاج: 77.

تمنّى نئيشا أن يكون أطاعني *** وقد حدثت بعد الأمور أمور(1)

أي: أخيرا، فنصبه علي الظرف.

وَ يَقْذِفُونَ عطف علي كَفَرُوا علي حكاية الحال الماضية، أي:

وكانوا يرمون محمّدا صلى الله عليه و آله و سلم بالظنون الكاذبة، ويأتون به مِنْ مَكٰانٍ بَعِيدٍ ، [و هو قولهم: إنّه ساحر و شاعر وكذاب و مجنون، وقد أتوا به مِنْ مَكٰانٍ بَعِيدٍ أي:

من جهة بعيدة](2) من حاله، لأنّ أبعد شيء مما جاء به: السحر، والشعر، والجنون، وأبعد شيء من عادته الكذب، والزور.

وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ أي: فرّق بينهم وبين مشتهياتهم.

كَمٰا فُعِلَ بِأَشْيٰاعِهِمْ بأشباههم من كفرة الأمم وموافقيهم وأهل دينهم.

إِنَّهُمْ كٰانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ أي: مشكك، كما قالوا: عجب عجيب.

ص: 367


1- نهشل بن حري حياته وشعره: 68.
2- ساقطة من ج.

سورة فاطر

اشارة

أو سورة الملائكة، مكية إلا آيتين، وهي خمس وأربعون آية، لَهُمْ عَذٰابٌ شَدِيدٌ ، و أَنْ تَزُولاٰ ، و تَبْدِيلاً ثلاثهن بصري جديد، و اَلْبَصِيرُ و اَلنُّورُ غيرهم.

في حديث أبيّ : (من قرأ (سورة الملائكة) دعته يوم القيامة ثلاث أبواب من أبواب الجنّة: أن أدخل من أي الأبواب شئت)(1).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة فاطر (35): الآیات 1 الی 5]

اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ فٰاطِرِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ جٰاعِلِ اَلْمَلاٰئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنىٰ وَ ثُلاٰثَ وَ رُبٰاعَ يَزِيدُ فِي اَلْخَلْقِ مٰا يَشٰاءُ إِنَّ اَللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ مٰا يَفْتَحِ اَللّٰهُ لِلنّٰاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاٰ مُمْسِكَ لَهٰا وَ مٰا يُمْسِكْ فَلاٰ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خٰالِقٍ غَيْرُ اَللّٰهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ فَأَنّٰى تُؤْفَكُونَ وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَ إِلَى اَللّٰهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ إِنَّ وَعْدَ اَللّٰهِ حَقٌّ فَلاٰ تَغُرَّنَّكُمُ اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا وَ لاٰ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللّٰهِ اَلْغَرُورُ

ص: 368


1- الكشف والبيان ج 8:97.

فٰاطِرِ اَلسَّمٰاوٰاتِ إن جعلت الإضافة لفظية - بأن تكون في تقدير الانفصال - فهو بدل، و ءان جعلتها معنوية فهو صفة.

[مَثْنىٰ وَ ثُلاٰثَ وَ رُبٰاعَ صفة](1) ل - أَجْنِحَةٍ عدلت عن اثنين اثنين، [وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، ومعنى العدل: أنّك أردت بمثنى ما أردت باثنين اثنين](2)، والأصل أن تريد بالكلمة معناها دون كلمة أخرى، والعدل: أن تلفظ بكلمة وأنت تريد كلمة أخري. والمعنى: إنّه جعل من الملائكة خلقا أجنحتهم اثنان اثنان، أي:

لكل واحد جناحان، وخلقا أجنحتهم ثلاثة ثلاثة، وخلقا أجنحتهم أربعة أربعة.

يَزِيدُ فِي خلق الأجنحة وفي غير ذلك مٰا يَشٰاءُ مما تقتضيه حكمته ومشيئته. والآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق من طول قامة، واعتدال صورة، وقوة في البطش، وحصافة في العقل... إلى غير ذلك، وقيل: هو الوجه الحسن والصوت الحسن والشعر الحسن(3).

مٰا يَفْتَحِ اَللّٰهُ يعني: أيّ شيء يطلق اللّه.

مِنْ رَحْمَةٍ أي: من نعمة رزق أو مطر أو عافية أو صحّة أو غير ذلك من أصناف نعمه فلا أحد يقدر علي إمساكها، وأيّ شيء يُمْسِكْ اللّه فلا أحد يقدر علي إطلاقه، والفتح مستعار للإطلاق والإرسال بدلالة قوله: فَلاٰ مُرْسِلَ لَهُ مكان لا فاتح له.

وإنّما نكّر الرحمة لإرادة الشياع، كأنّه قال: من أية رحمة كانت سماوية أو أرضية، وأنّث الضمير أوّلا وذكّره ثانيا وهو يرجع في الحالين معا إلى ما حملا علي

ص: 369


1- ساقطة من ج.
2- ساقطة من ج.
3- ينظر: تفسير الماوردي ج 4:462.

اللفظ والمعنى، ولأنّ الأوّل فسّر بالرحمة فتبع الضمير التفسير، والثاني لم يفسّر فترك على أصل التذكير، ولأنّ تفسير الثاني يحتمل أن يكون مطلقا في كل ما يمسكه من غضبه ورحمته. وإنّما فسّر الأوّل دون الثاني ليدلّ علي أنّ رحمته سبقت غضبه.

و اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ بالقلب واللسان، واحفظوها من الغمط والكفران، و اشكروها با لاعتراف بها وطاعة موليها.

هَلْ مِنْ خٰالِقٍ غَيْرُ اَللّٰهِ قرئ: غَيْرُ بالرفع و الجر علي الوصف لفظا ومحلّا، و يَرْزُقُكُمْ يجوز أن يكون في محلّ جر بأن يكون صفة ل - خٰالِقٍ ، وأن لا يكون له محلّ بأن يكون محلّ مِنْ خٰالِقٍ رفعا بإضمار يرزقكم، ويفسّره هذا الظاهر، أو يكون كلاما مستأنفا بعد قوله: هَلْ مِنْ خٰالِقٍ غَيْرُ اَللّٰهِ ، وعلي الوجه الثالث يكون فيه دلالة علي أنّ الخالق لا يطلق علي غير اللّه عزّ وجل. وأما علي الوجهين المتقدّمين من الوصف والتفسير فلا دليل فيه علي اختصاص الاسم باللّه عزّ وجل؛ لأنه تقيّد بالرزق من السماء والأرض وخرج من الإطلاق، والرزق من السماء بالمطر و من الأرض بالنبات.

لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ جملة منفصلة لا محلّ لها.

فَأَنّٰى تُؤْفَكُونَ فمن أي وجه تصرفون عن التوحيد إلى الشرك، وعن الحقّ إلى الباطل ؟!، وقيل: كيف تصرفون عن هذه الأدلة التي أقيمت لكم علي التوحيد مع وضوحها؟!.

الأصل: وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فتأس بتكذيب الرسل من قبلك، فوضع فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ موضع فتأس به استغناء بالسبب عن المسبب، أعني:

بالتكذيب عن التأسي، ونكّر رُسُلٌ لأنّ تقديره: رسل ذوو عدد كثير وأولو آيات ومعجزات، ونحو ذلك.

ص: 370

إِنَّ وَعْدَ اَللّٰهِ الذي هو البعث والنشور والجنّة والنار والجزاء والحساب حَقٌّ فَلاٰ تخدعنّكم اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا فتغترّوا بملاذها، فإنّها عن قليل تنفد وتبيد.

و اَلْغَرُورُ : الشيطان، أو الدنيا وزينتها.

[سورة فاطر (35): الآیات 6 الی 10]

إِنَّ اَلشَّيْطٰانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمٰا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحٰابِ اَلسَّعِيرِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذٰابٌ شَدِيدٌ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اَللّٰهَ يُضِلُّ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ فَلاٰ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرٰاتٍ إِنَّ اَللّٰهَ عَلِيمٌ بِمٰا يَصْنَعُونَ وَ اَللّٰهُ اَلَّذِي أَرْسَلَ اَلرِّيٰاحَ فَتُثِيرُ سَحٰاباً فَسُقْنٰاهُ إِلىٰ بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنٰا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا كَذٰلِكَ اَلنُّشُورُ مَنْ كٰانَ يُرِيدُ اَلْعِزَّةَ فَلِلّٰهِ اَلْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ وَ اَلْعَمَلُ اَلصّٰالِحُ يَرْفَعُهُ وَ اَلَّذِينَ

يمكرون السّيّئات لهم عذاب شديد و مكر أولئك هو يبور لما ذكر الكافرين والمؤمنين قال للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ من هذين الفريقين كمن لم يزين له ؟ فكأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال: لا، فقال: فَإِنَّ اَللّٰهَ يُضِلُّ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ فَلاٰ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرٰاتٍ . ومعنى تزيين العمل والإضلال واحد، وهو أن يكون العاصي علي صفة لا يجدي عليه اللطف فيستوجب أن يخليه اللّه وشأنه، فعند ذلك يهيم في الضلال فيري القبيح حسنا والحسن قبيحا، فإذا خذله اللّه فمن حقّ الرسول صلوات اللّه عليه أن لا يهتم بأمره ولا يتحسّر. وعن الزجّاج: (إنّ المعنى: أفمن زين له سوء عمله [ذهبت نفسك عليهم حسرة ؟ فحذف لدلالة فَلاٰ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عليه، أو أفمن زين له سوء

ص: 371

عمله](1) كمن هداه اللّه ؟ فحذف لدلالة فَإِنَّ اَللّٰهَ يُضِلُّ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ عليه)(2).

و حَسَرٰاتٍ مفعول له، أي: فلا تهلك نفسك للحسرات، [و عَلَيْهِمْ صلة تَذْهَبْ كما تقول: هلك عليه حبّا، ويجوز أن يكون حالا، كأن كلها صارت حسرات](3) لفرط التحسّر.

فَتُثِيرُ سَحٰاباً أي: تهيجه، وجاء علي لفظ المضارع دون ما قبله وما بعده لتحكي الحال التي تقع فيها إثارة السحاب، [وتستحضر تلك الصورة البديعة الدالة علي كمال القدرة الربّانية، وكذلك سوق السحاب](4) إلى البلد الميت وإحياء الأرض بالمطر بعد موتها، لما كان من الدلائل علي القدرة قال: فَسُقْنٰاهُ ... فَأَحْيَيْنٰا معدولا بهما عن لفظ الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص.

والكاف في كَذٰلِكَ في محلّ الرفع، أي: مثل إحياء الموات نشور الأموات.

التقدير: من كان يريد العزّة فليطلبها عند اللّه، فوضع قوله: فَلِلّٰهِ اَلْعِزَّةُ جَمِيعاً موضعه استغناء به عنه لدلالته عليه، فإنّ الشيء لا يطلب إلا عند صاحبه و مالكه، ومعناه: العزّة كلها مختصة باللّه: عزّة الدنيا وعزّة الآخرة، فمن أراد العزّة فليتعزّز بطاعة اللّه، ويدلّ عليه ما رواه أنس عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال: (إنّ ربّكم يقول كل يوم: أنا العزيز، فمن أراد عزّ الدارين فليطع العزيز)(5).

ص: 372


1- ساقطة من د.
2- معاني القرآن وإعرابه ج 4:264.
3- ساقطة من ج.
4- ساقطة من د.
5- تاريخ بغداد ج 8:167.

ثمّ عرف سبحانه أنّ ما يطلب به العزّة عنده هو الإيمان والعمل الصالح بقوله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ وَ اَلْعَمَلُ اَلصّٰالِحُ يَرْفَعُهُ . و الكلم: جمع كلمة، وكل جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء جاز فيه التذكير والتأنيث، يقول: هذا كلم وهذه كلم، ومعنى الصعود هنا هو القبول، وكل ما يتقبله اللّه تعالى من الطاعات يوصف بالرفع والصعود، لأنّ الملائكة يكتبون أعمال بني آدم ويرفعونها إلى حيث يشاء اللّه تعالي، كما في قوله تعالى: كَلاّٰ إِنَّ كِتٰابَ اَلْأَبْرٰارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (1).

و اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ : [تمجيد اللّه وتقديسه وتحميده، وأطيب الكلم: لا إله إلا اللّه.

وَ اَلْعَمَلُ اَلصّٰالِحُ يَرْفَعُهُ أي: يرفع الكلم الطيب إلى اللّه](2)، فالهاء ضمير اَلْكَلِمُ ، وقيل: معناه: والعمل الصالح يرفعه الكلم الطيب(3)، أي: لا ينفع العمل الصالح إلا إذا صدر عن التوحيد، وقيل: معناه: والعمل الصالح يرفعه اللّه لصاحبه(4). فعلي الوجهين الأخيرين يكون الهاء ضمير (العمل).

وَ اَلَّذِينَ يَمْكُرُونَ المكرات اَلسَّيِّئٰاتِ أو أصناف المكر السيئات، فهي صفة للمصدر أو لما في حكمه، وقيل: (عنى بهن مكرات قريش حين اجتمعوا في دار الندوة وتداوروا الرأي في إحدي المكرات الثلاث: إما إثبات رسول اللّه، وإما قتله، وإما إخراجه، كما حكى اللّه سبحانه عنهم في قوله: وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ اَلَّذِينَ

ص: 373


1- المطففين: 18.
2- ساقطة من ج.
3- عن الكلبي وغيره. معالم التنزيل ج 3:195.
4- معاني القران وإعرابه. ج 4:265.

كَفَرُوا.. الآية(1)-(2).

وَ مَكْرُ أُولٰئِكَ الذين مكروا تلك المكرات هُوَ خاصة يَبُورُ أي:

يكسد ويفسد دون مكر اللّه بهم حين أخرجهم من مكة وقتلهم وأثبتهم في قليب بدر، فجمع اللّه عليهم مكراتهم.

[سورة فاطر (35): الآیات 11 الی 17]

وَ اَللّٰهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرٰابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوٰاجاً وَ مٰا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثىٰ وَ لاٰ تَضَعُ إِلاّٰ بِعِلْمِهِ وَ مٰا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لاٰ يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ إِنَّ ذٰلِكَ عَلَى اَللّٰهِ يَسِيرٌ وَ مٰا يَسْتَوِي اَلْبَحْرٰانِ هٰذٰا عَذْبٌ فُرٰاتٌ سٰائِغٌ شَرٰابُهُ وَ هٰذٰا مِلْحٌ أُجٰاجٌ وَ مِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهٰا وَ تَرَى اَلْفُلْكَ فِيهِ مَوٰاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهٰارِ وَ يُولِجُ اَلنَّهٰارَ فِي اَللَّيْلِ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذٰلِكُمُ اَللّٰهُ رَبُّكُمْ لَهُ اَلْمُلْكُ وَ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مٰا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لاٰ يَسْمَعُوا دُعٰاءَكُمْ وَ لَوْ سَمِعُوا مَا اِسْتَجٰابُوا لَكُمْ وَ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَ لاٰ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ أَنْتُمُ اَلْفُقَرٰاءُ إِلَى اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَ مٰا ذٰلِكَ عَلَى اَللّٰهِ بِعَزِيزٍ

أَزْوٰاجاً أي: أصنافا و ضروبا، أو ذكرانا و إناثا.

ولا تَحْمِلُ من الإناث حاملة ولدها في بطنها وَ لاٰ تَضَعُ إِلاّٰ بِعِلْمِهِ

ص: 374


1- الأنفال: 30.
2- عن أبي العالية. معالم التنزيل ج 3:195.

[إلا وهو عالم بذلك](1).

وَ مٰا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ معناه: وما يعمّر من أحد، وإنّما سمّاه معمّرا بما هو صائر إليه وَ لاٰ يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ بأن يذهب بعضه بمضي الليل و النهار إلا وهو فِي كِتٰابٍ محفوظ أثبته اللّه قبل كونه، وقيل: معناه: لا يطول عمر ولا يقصر إلا في كتاب، وهو أن يكتب في اللوح المحفوظ: لو أطاع الله فلان بقي إلي وقت كذا، و إذا عصى نقص من عمره الذي وقّت له(2). وإليه أشار رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في قوله: (إنّ الصدقة وصلة الرحم تعمران الديار وتزيدان في الأعمار)(3).

ثمّ ضرب البحرين - العذب والملح - مثلين للمؤمن والكافر، ثمّ قال علي سبيل الاستطراد في صفة البحرين وما علّق بهما من نعمة: وَ مِنْ كل واحد منهما تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا و هو السمك وَ تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً و هو اللؤلؤ و المرجان.

مِنْ فَضْلِهِ من فضل اللّه، ولم يجر له ذكر في الآية ولكن فيما قبلها، وإن لم يجر ذكره لم يشكل لدلالة المعنى عليه، وحرف الرجاء مستعار بمعنى الإرادة كأنّه قيل: لتبتغوا ولتشكروا. ويحتمل علي طريقة الاستطراد وهو أن يشبّه الجنسين بالبحرين، ويفضل البحر الأجاج علي الكافر بأنّه قد شارك العذب في منافع من السمك واللؤلؤ وجري الفلك فيه، والكافر خال من النفع.

ذٰلِكُمُ مبتدأ، و اَللّٰهُ رَبُّكُمْ لَهُ اَلْمُلْكُ أخبار مترادفة. والقطمير:

قشر النواة.

ص: 375


1- ساقطة من ج.
2- معاني القرآن للفراء ج 2:368.
3- ينظر: الكافي ج 2:150، مسند أبي يعلى ج 7:139.

لاٰ يَسْمَعُوا دُعٰاءَكُمْ لأنّهم جماد وَ لَوْ سَمِعُوا علي سبيل الفرض والتقدير ل - مَا اِسْتَجٰابُوا لَكُمْ لأنّهم لا يدعون ما تدعون لهم من الإلهية.

وَ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ يَكْفُرُونَ بإشراككم لهم و عبادتكم إيّاهم، يقولون(1): مٰا كُنْتُمْ إِيّٰانٰا تَعْبُدُونَ (2).

وَ لاٰ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ولا يخبرك بالأمر مخبر مثل خبير عالم به، يريد أنّ الخبير بالأمر وحده هو الذي يخبرك بالحقيقة دون سائر المخبرين. و المعنى: إنّ ما أخبرتكم به من حال معبوديهم هو الحقّ ، لأنّي عالم خبير بما أخبرتكم به.

وعرّف اَلْفُقَرٰاءُ ليريهم سبحانه أنّهم جنس الفقراء لشدّة افتقارهم إليه، ولو نكّر لكان المعنى: أنتم بعض الفقراء، ولما أثبت فقرهم إليه وغناه عنهم ذكر اَلْحَمِيدُ ليدلّ به علي أنّه الغني النافع خلقه بغناه المنعم عليهم، المستحقّ بإنعامه عليهم أن يحمدوه، والعزيز الممتنع.

[سورة فاطر (35): الآیات 18 الی 25]

وَ لاٰ تَزِرُ وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ وَ إِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلىٰ حِمْلِهٰا لاٰ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْ ءٌ وَ لَوْ كٰانَ ذٰا قُرْبىٰ إِنَّمٰا تُنْذِرُ اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ أَقٰامُوا اَلصَّلاٰةَ وَ مَنْ تَزَكّٰى فَإِنَّمٰا يَتَزَكّٰى لِنَفْسِهِ وَ إِلَى اَللّٰهِ اَلْمَصِيرُ وَ مٰا يَسْتَوِي اَلْأَعْمىٰ وَ اَلْبَصِيرُ وَ لاَ اَلظُّلُمٰاتُ وَ لاَ اَلنُّورُ وَ لاَ اَلظِّلُّ وَ لاَ اَلْحَرُورُ وَ مٰا يَسْتَوِي اَلْأَحْيٰاءُ وَ لاَ اَلْأَمْوٰاتُ إِنَّ اَللّٰهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشٰاءُ وَ مٰا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ إِنْ أَنْتَ إِلاّٰ نَذِيرٌ إِنّٰا أَرْسَلْنٰاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاّٰ خَلاٰ فِيهٰا نَذِيرٌ وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ

ص: 376


1- في ب: بقوله.
2- يونس: 28.

[سورة فاطر (35): الآیات 25 الی 26]

جٰاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنٰاتِ وَ بِالزُّبُرِ وَ بِالْكِتٰابِ اَلْمُنِيرِ ثُمَّ أَخَذْتُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كٰانَ نَكِيرِ

وزر الشيء: حمله.

وَ لاٰ تَزِرُ أي: لا تحمل نفس وٰازِرَةٌ يوم القيامة إلا وزرها الذي اقترفته، لا تؤخذ نفس بوزر غيرها. وفيه دليل علي أنّه سبحانه لا يؤاخذ نفسا بغير ذنبها.

وَ إِنْ تَدْعُ نفس مُثْقَلَةٌ بالآثام غيرها إلى أن تحمل شيئا من إثمها لم تجب ولم تغث ولم يحمل شيء من حملها، ولو كان المدعو بعض قرابتها أو أقرب الناس إليها، فكل نفس بما كسبت رهينة.

وقوله: بِالْغَيْبِ حال من الفاعل أو المفعول، أي: يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ غائبين عن عذابه، أو يخشون عذابه غائبا عنهم.

وَ مَنْ تَزَكّٰى ومن تطهّر بفعل الطاعات وترك المعاصي، وهو اعتراض مؤكد لخشيتهم وإقامتهم الصلاة لأنّهما من جملة التزكي.

وَ إِلَى اَللّٰهِ اَلْمَصِيرُ وعد لمن تزكى بالثواب.

وَ مٰا يَسْتَوِي اَلْأَعْمىٰ وَ اَلْبَصِيرُ الفرق بين الواوات أن بعضها ضمّت شفعا إلى شفع، وبعضها ضمّت وترا إلى وتر، والواو ربّما قرن بها لا في النفي؛ [لتأكيد معنى النفي](1).

و اَلْحَرُورُ والسموم الريح الحارة.

وقيل: إنّ الأعمى والبصير مثل للمؤمن والمشرك، والظلمات والنور للشرك والإيمان، والظل والحرور للجنّة والنار والأحياء والأموات للمؤمنين

ص: 377


1- ساقطة من ج.

والكفار(1)، أو العلماء والجهال.

إِنْ أَنْتَ إِلاّٰ نَذِيرٌ أي: ما عليك إلا التبليغ والإنذار، فإن كان المنذر ممن يسمع نفعه إنذارك، وإن كان من المصرّين فلا عليك.

بِالْحَقِّ حال من أحد الضميرين، بمعنى: محقّا أو محقّين، أو صفة للمصدر أي: إرسالا مصحوبا بالحقّ ، أو صلة بَشِيراً وَ نَذِيراً أي بشيرا بالوعد الحقّ ، [ونذيرا بالوعيد الحقّ ](2).

واكتفى في آخر الآية بذكر النذير عن البشير، لأنّ النذارة لما كانت مقرونة بالبشارة دلّت إحداهما علي الأخري، لا سيما وقد اشتملت الآية علي ذكرهما.

بِالْبَيِّنٰاتِ يريد المعجزات الدالة علي النبوّة وَ بِالزُّبُرِ يريد الصحف وَ بِالْكِتٰابِ اَلْمُنِيرِ يريد التوراة و الإنجيل.

[سورة فاطر (35): الآیات 27 الی 30]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّٰهَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً فَأَخْرَجْنٰا بِهِ ثَمَرٰاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوٰانُهٰا وَ مِنَ اَلْجِبٰالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوٰانُهٰا وَ غَرٰابِيبُ سُودٌ وَ مِنَ اَلنّٰاسِ وَ اَلدَّوَابِّ وَ اَلْأَنْعٰامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوٰانُهُ كَذٰلِكَ إِنَّمٰا يَخْشَى اَللّٰهَ مِنْ عِبٰادِهِ اَلْعُلَمٰاءُ إِنَّ اَللّٰهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ إِنَّ اَلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتٰابَ اَللّٰهِ وَ أَقٰامُوا اَلصَّلاٰةَ وَ أَنْفَقُوا مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ سِرًّا وَ عَلاٰنِيَةً يَرْجُونَ تِجٰارَةً لَنْ تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ

ص: 378


1- عن السدي. الدر المنثور ج 5:249.
2- ساقطة من ج.

ألوانها أجناسها من التين والرمان والعنب وغيرها، أو هيئاتها من الصفرة والخضرة والحمرة ونحوها.

والجدد: الخطط والطرائق، وجدة الحمار هي الخطة السوداء علي ظهره.

وَ غَرٰابِيبُ معطوف علي بِيضٌ أو علي جُدَدٌ ، كأنّه قال: وَ مِنَ اَلْجِبٰالِ مخطط ذو جدد، ومنها ما هو على لون واحد غرابيب. وعن عكرمة: (هي الجبال الطوال السود)(1). والوجه في قوله: وَ غَرٰابِيبُ سُودٌ مع أنّ الغرابيب تأكيد الأسود، أن يضمر المؤكد قبله ويكون سُودٌ الظاهر تفسيرا للمضمر، كقول النابغة:

والمؤمن العائذات الطّير يمسحها *** ركبان مكّة بين الغيل والسّند(2)

وإنّما يفعل ذلك لزيادة التوكيد، حيث يدلّ علي المعنى الواحد من طريقي الإظهار والإضمار جميعا، ولابد من تقدير حذف المضاف في قوله: وَ مِنَ اَلْجِبٰالِ جُدَدٌ بِيضٌ أي: ومن الجبال ذو جدد بيض وحمر وسود غرابيب، حتى يؤول إلى قوله: ومن الجبال... مختلف ألوانها، كما قال: ثَمَرٰاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوٰانُهٰا .

وَ مِنَ اَلنّٰاسِ وَ اَلدَّوَابِّ وَ اَلْأَنْعٰامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوٰانُهُ يعني: و منهم بعض مختلف ألوانه كذلك، [أي: كاختلاف الثمرات والجبال، وتم الكلام.

ثمّ قال: إِنَّمٰا يَخْشَى اَللّٰهَ مِنْ عِبٰادِهِ اَلْعُلَمٰاءُ و المعنى: إنّ الذين](3) يخشون اللّه من بين عباده هم العلماء دون غيرهم، إذ عرفوه حقّ معرفته، وعلموه حقّ

ص: 379


1- الكشاف ج 3:609.
2- ديوان النابغة الذبياني: 35 وفيه: تمسحها.... والسعد.
3- ساقطة من ج.

علمه. وعن الصادق عليه السلام: (يعني بالعلماء من صدّق فعله قوله، ومن لم يصدّق فعله قوله فليس بعالم)(1).

إِنَّ اَلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتٰابَ اَللّٰهِ أي: يداومون علي تلاوته، وهي شأنهم وديدنهم، وعن مطرف(2): (هي آية القراء)(3). و يَرْجُونَ خبر إن .

لَنْ تَبُورَ : لن تكسد ولن تفسد.

وتعلّق به لِيُوَفِّيَهُمْ أي: تجارة تنفق عند اللّه ليوفيهم بنفاقها عنده أُجُورَهُمْ وهي ما استحقّوه من الثواب وَ يَزِيدَهُمْ علي قدر استحقاقهم مِنْ فَضْلِهِ .

وإن شئت جعلت يَرْجُونَ في موضع الحال، بمعنى: فعلوا جميع ذلك من التلاوة وإقامة الصلاة والإنفاق راجين تجارة مربحة ليوفيهم، وخبر إن قوله: إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ أي: غفور لهم شكور لأعمالهم.

[سورة فاطر (35): الآیات 31 الی 34]

وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ مِنَ اَلْكِتٰابِ هُوَ اَلْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اَللّٰهَ بِعِبٰادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا اَلْكِتٰابَ اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْنٰا مِنْ عِبٰادِنٰا فَمِنْهُمْ ظٰالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سٰابِقٌ بِالْخَيْرٰاتِ بِإِذْنِ اَللّٰهِ ذٰلِكَ هُوَ اَلْفَضْلُ اَلْكَبِيرُ (32) جَنّٰاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهٰا يُحَلَّوْنَ فِيهٰا مِنْ أَسٰاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِبٰاسُهُمْ فِيهٰا حَرِيرٌ (3(3) وَ قٰالُوا اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا

ص: 380


1- الكافي ج 1:36.
2- أبو عبد الله مطرف بن عبد الله بن الشخير العامري البصري، كان سيدا كبير القدر له فضل وأدب و وقع في النفوس، مات سنة 95 ه -.. تذكرة الحفاظ ج 1:64.
3- تفسير الطبري ج 22:87.

[سورة فاطر (35): الآیات 34 الی 35]

اَلْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنٰا لَغَفُورٌ شَكُورٌ اَلَّذِي أَحَلَّنٰا دٰارَ اَلْمُقٰامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لاٰ يَمَسُّنٰا فِيهٰا نَصَبٌ وَ لاٰ يَمَسُّنٰا فِيهٰا لُغُوبٌ

مِنَ اَلْكِتٰابِ يعني: القرآن، و (من) للتبيين، أو يريد الجنس و (من) للتبعيض.

مُصَدِّقاً حال مؤكدة، لأنّ الحقّ لا ينفك عن هذا التصديق.

لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهِ أي: لما تقدّمه من الكتب، إنّه بِعِبٰادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ يعني: إنّه خبرك وأبصر شمائلك فرآك أهلا لما أوحاه إليك من الكتاب المعجز.

ثُمَّ أَوْرَثْنَا اَلْكِتٰابَ المعنى: إنّا أوحينا إليك القرآن مصدّقا لما قبله من الكتب موافقا لما بشّرت به تلك الكتب من حاله وحال من أتى به، ثمّ أورثناه الذين اصطفينا من عبادنا بعدك وهم علماء الأمة، لما ورد في الحديث: (إنّ العلماء ورثة الأنبياء)(1)، والمروي عن الباقر والصادق عليهما السلام أنّهما قالا: (هي لنا خاصة، و إيّانا عنى)(2). وهذا هو الصحيح، لأنّ الوصف بالاصطفاء أليق بهم، إذ هم ورثة الأنبياء، وقدوة العلماء، المستحفظون للكتاب، العارفون بحقائقه.

فَمِنْهُمْ ظٰالِمٌ لِنَفْسِهِ عن ابن عباس والحسن: (إنّ الضمير للعباد)(3)، واختاره المرتضى(4) قدس اللّه روحه قال: علل تعليقه سبحانه وراثة الكتاب بالمصطفين من عباده بأنّ فيهم من هو ظالم لنفسه ومن هو مقتصد و من هو سابق

ص: 381


1- الكافي ج 1:32، سنن ابن ماجة ج 1:81 ح 223 ضمن حديث طويل.
2- بصائر الدرجات: 45.
3- تفسير السمرقندي ج 3:100.
4- أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي كان نقيب الطالبيين وكان إماما في علم الكلام والأدب والشعر وله تصانيف كثيرة، ولد سنة 355 ه - وتوفي سنة 436 ه - ببغداد. ينظر: وفيات الأعيان ج 3:3.

بالخيرات(1). وقيل: إنّ الضمير للذين اصطفاهم اللّه(2). وروي عن الصادق عليه السلام أنّه قال: (الظالم لنفسه منا: من لا يعرف حقّ الإمام، والمقتصد منا: العارف بحقّ الإمام، والسابق بالخيرات: هو الإمام)(3). وكلّهم مغفور لهم، وذلك لاصطفاء وإيراث الكتاب، أو ذلك السبق بالخيرات هُوَ اَلْفَضْلُ اَلْكَبِيرُ .

و جَنّٰاتُ عَدْنٍ بدل من اَلْفَضْلُ اَلْكَبِيرُ الذي هو السبق بالخيرات، لأنه لما كان السبب في نيل الثواب نزل منزلة المسبب، كأنّه هو الثواب، فأبدلت عنه جَنّٰاتُ عَدْنٍ وقرئ: يدخلونها علي البناء للمفعول.

مِنْ أَسٰاوِرَ : من للتبعيض، أي: يُحَلَّوْنَ بعض أساور، كأنّه بعض سابق لسائر الأبعاض كما سبق المسوّرون به غيرهم.

وفي ذكر الشكور دلالة علي كثرة حسناتهم.

و اَلْمُقٰامَةِ بمعنى الإقامة.

مِنْ فَضْلِهِ من عطائه و أفضاله.

والنصب: العناء والمشقة التي تصيب المنتصب للأمر المزاول له، واللغوب:

الإعياء والفتور الذي يلحقه بسبب النصب، واللغوب نتيجة النصب.

[سورة فاطر (35): الآیات 36 الی 37]

وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نٰارُ جَهَنَّمَ لاٰ يُقْضىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَ لاٰ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذٰابِهٰا كَذٰلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَ هُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهٰا رَبَّنٰا أَخْرِجْنٰا نَعْمَلْ صٰالِحاً غَيْرَ اَلَّذِي كُنّٰا نَعْمَلُ أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ مٰا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَ جٰاءَكُمُ اَلنَّذِيرُ

ص: 382


1- رسائل الشريف المرتضى ج 3:22.
2- عن ابن عباس وغيره وروي مرفوعا. تفسير السمرقندي ج 3:100.
3- معاني الأخبار: 103 عن الباقر عليه السلام.

[سورة فاطر (35): الآیات 37 الی 40]

فَذُوقُوا فَمٰا لِلظّٰالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اَللّٰهَ عٰالِمُ غَيْبِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذٰاتِ اَلصُّدُورِ (38) هُوَ اَلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاٰئِفَ فِي اَلْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ لاٰ يَزِيدُ اَلْكٰافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاّٰ مَقْتاً وَ لاٰ يَزِيدُ اَلْكٰافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاّٰ خَسٰاراً (3(9) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ شُرَكٰاءَكُمُ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ أَرُونِي مٰا ذٰا خَلَقُوا مِنَ اَلْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ أَمْ آتَيْنٰاهُمْ كِتٰاباً فَهُمْ عَلىٰ بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ اَلظّٰالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاّٰ غُرُوراً

فَيَمُوتُوا [جواب النفي كَذٰلِكَ أي: مثل ذلك الجزاء نجازي، وقرئ:

يجزي.

وَ هُمْ يَصْطَرِخُونَ أي: يتصارخون](1)فِيهٰا يفتعلون من الصراخ وهو الصياح باستغاثة وجهد وشدّة.

والفائدة في قولهم: غَيْرَ اَلَّذِي كُنّٰا نَعْمَلُ من غير اكتفاء بقولهم:

صٰالِحاً أنّه للتحسّر علي ما عملوه من غير الصالح مع الاعتراف به، و لأنّهم كانوا يحسبون أنّهم علي سيرة صالحة فقالوا: أَخْرِجْنٰا نَعْمَلْ صٰالِحاً غَيْرَ اَلَّذِي كُنّٰا نحسبه صالحا فنعمله.

أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ توبيخ من اللّه، أي: فيقول لهم وهو متناول لكل عمر تمكّن فيه المكلف من إصلاح شأنه وإن قصر، وإن كان التوبيخ في المتطاول أعظم، وقد

ص: 383


1- ساقطة من ج.

قيل: إنه ستون سنة(1)، وقيل: أربعون(2)، وقيل: ثماني عشرة سنة(3).

وَ جٰاءَكُمُ اَلنَّذِيرُ [عطف علي معنى أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ كأنّه قيل: قد عمّرناكم وجاءكم النذير وهو النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أو القرآن، وقيل: النذير](4): الشيب(5)، وقيل: موت الأهل و الأقارب.

فَذُوقُوا العذاب.

إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذٰاتِ اَلصُّدُورِ كالتعليل، لأنه إذا علم ما في الصدور وهو أخفى ما يكون فقد علم كل غيب في العالم، وذات الصدور: مضمراتها وهي تأنيث ذو، وذو موضوع بمعنى الصحبة، فالمضمرات تصحب الصدور.

والخلائف: جمع خليفة وهو المستخلف.

فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي: ضرر كفره وعقاب كفره. والمقت: أشدّ البغض، وقيل لمن نكح امرأة أبيه: مقتي، لكونه ممقوتا في كل قلب.

أَرُونِي بدل من أَ رَأَيْتُمْ لأنّ معنى أرأيتم: أخبروني، فكأنّه قال:

اخبروني عن هؤلاء الشركاء وعما استحقّوا به العبادة، أروني أي جزء من أجزاء اَلْأَرْضِ خلقوه بأنفسهم أَمْ لَهُمْ مع الله شركة في خلق اَلسَّمٰاوٰاتِ والأرض، أم معهم كتاب من عند اللّه ينطق بأنّهم شركاؤه، فَهُمْ عَلىٰ حجّة من ذلك الكتاب ؟! أو يكون الضمير للمشركين كقوله: أَمْ آتَيْنٰاهُمْ كِتٰاباً مِنْ

ص: 384


1- عن ابن عباس وروي مرفوعا. تفسير الطبري ج 22:93.
2- عن الحسن. الدر المنثور ج 5:254.
3- عن قتادة. الدر المنثور ج 5:254.
4- ساقطة من ج.
5- عن ابن عباس وغيره. الدر المنثور ج 5:254.

قَبْلِهِ (1) ، أَمْ أَنْزَلْنٰا عَلَيْهِمْ سُلْطٰاناً (2).

بَلْ إِنْ يَعِدُ أي: ما يعد اَلظّٰالِمُونَ بَعْضُهُمْ وهم الرؤساء بَعْضاً وهم الأتباع إِلاّٰ غُرُوراً و هو قولهم: هٰؤُلاٰءِ شُفَعٰاؤُنٰا عِنْدَ اَللّٰهِ (3).

[سورة فاطر (35): الآیات 41 الی 45]

إِنَّ اَللّٰهَ يُمْسِكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ أَنْ تَزُولاٰ وَ لَئِنْ زٰالَتٰا إِنْ أَمْسَكَهُمٰا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كٰانَ حَلِيماً غَفُوراً وَ أَقْسَمُوا بِاللّٰهِ جَهْدَ أَيْمٰانِهِمْ لَئِنْ جٰاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدىٰ مِنْ إِحْدَى اَلْأُمَمِ فَلَمّٰا جٰاءَهُمْ نَذِيرٌ مٰا زٰادَهُمْ إِلاّٰ نُفُوراً اِسْتِكْبٰاراً فِي اَلْأَرْضِ وَ مَكْرَ اَلسَّيِّئِ وَ لاٰ يَحِيقُ اَلْمَكْرُ اَلسَّيِّئُ إِلاّٰ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّٰ سُنَّتَ اَلْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اَللّٰهِ تَبْدِيلاً وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اَللّٰهِ تَحْوِيلاً أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ كٰانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ ءٍ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ لاٰ فِي اَلْأَرْضِ إِنَّهُ كٰانَ عَلِيماً قَدِيراً وَ لَوْ يُؤٰاخِذُ اَللّٰهُ اَلنّٰاسَ بِمٰا كَسَبُوا مٰا تَرَكَ عَلىٰ ظَهْرِهٰا مِنْ دَابَّةٍ وَ لٰكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذٰا جٰاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ بِعِبٰادِهِ بَصِيراً

أَنْ تَزُولاٰ كراهة أن تزولا، أو يمنعهما من أن تزولا، لأنّ الإمساك منع.

إِنَّهُ كٰانَ حَلِيماً غَفُوراً غير معاجل بالعقوبة حيث يمسكهما، و كانتا جديرتين بأن تهدّا هدّا لعظم كلمة الشرك كما قال: تَكٰادُ اَلسَّمٰاوٰاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ

ص: 385


1- الزخرف: 21.
2- الروم: 35.
3- يونس: 18.

وَ تَنْشَقُّ اَلْأَرْضُ (1) . و إِنْ أَمْسَكَهُمٰا جواب القسم سد مسد جواب الشرط في وَ لَئِنْ زٰالَتٰا ، و من الأولى مزيدة والثانية للابتداء: من بعد إمساكه.

أي: وَ أَقْسَمُوا بأيمان غليظة لَئِنْ جٰاءَهُمْ نَذِيرٌ من جهة اللّه تعالى لَيَكُونُنَّ أَهْدىٰ إلي قبول قوله مِنْ إِحْدَى اَلْأُمَمِ الماضية، يعنون اليهود و النصارى.

مٰا زٰادَهُمْ إسناد مجازي لأنه هو السبب في أن زادوا أنفسهم نُفُوراً من الحق.

اِسْتِكْبٰاراً بدل من نُفُوراً ، أو مفعول له بمعنى: إلا أن نفروا لاستكبارهم ومكرهم، أو حال يعني: مستكبرين وماكرين برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم و المؤمنين.

ويجوز أن يكون وَ مَكْرَ اَلسَّيِّئِ معطوفا علي نُفُوراً ، وأصله: وإن مكروا السيئ أي: المكر السيئ ثمّ ومكر السيئ، ويدلّ عليه: وَ لاٰ يَحِيقُ اَلْمَكْرُ اَلسَّيِّئُ إِلاّٰ بِأَهْلِهِ . وعن كعب الأحبار أنّه قال لابن عباس: (قرأت في التوراة أنّه من حفر مغواة وقع فيها، قال: إنّي وجدت ذلك في كتاب اللّه، وقرأ الآية)(2). وفي أمثال العرب: (من حفر جبا وقع فيه منكبا)(3). وقرأ حمزة: ومكر السيئ بسكون الهمزة، وذلك لاستثقاله الحركات مع الياء والهمزة، ولعله اختلس فظن سكونا أو وقف وقفة خفيفة.

فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّٰ عادة اللّه في اَلْأَوَّلِينَ المكذّبين للرسل، وهو إنزال

ص: 386


1- مريم: 90.
2- الكشف والبيان ج 8:116.
3- المستقصى في أمثال العرب ج 2:354.

العذاب بهم و إهلاكهم ؟!، جعل استقبالهم(1) لذلك انتظارا له منهم. والتبديل:

تصيير الشيء مكان غيره، والتحويل: تصيير الشيء في غير المكان الذي كان فيه.

والتغيير: تصيير الشيء علي خلاف ما كان.

لِيُعْجِزَهُ أي: ليسبقه ويفوته.

بِمٰا كَسَبُوا من الشرك والتكذيب.

الضمير في ظَهْرِهٰا للأرض وإن لم يجر لها ذكر لعدم الالتباس، أي: ما ترك علي ظهر الأرض مِنْ دَابَّةٍ أي: نسمة تدبّ عليها، يريد: بني آدم، وقيل:

ما ترك بني آدم وغيرهم من سائر الدواب بشؤم كفرهم ومعاصيهم(2).

إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى إلى يوم القيامة.

كٰانَ بِعِبٰادِهِ بَصِيراً وعيد بالجزاء.

ص: 387


1- في ب: استئصالهم.
2- عن قتادة وغيره. تفسير السمرقندي ج 3:107.

سورة يس

اشارة

مكية إلا آية، وهي ثلاث وثمانون آية كوفي، واثنتان غيرهم، يس كوفي.

وفي حديث أبيّ : (من قرأ (سورة يس) يريد بها وجه اللّه عزّ وجل غفر اللّه له، وأعطي من الأجر كأنّما قرأ القرآن اثنتي عشرة مرة، وأيّما مريض قرئت عنده (سورة يس) نزل عليه بعدد كل حرف منها عشرة أملاك، يقومون بين يديه صفوفا، ويستغفرون له، ويشهدون قبضه، ويتبعون جنازته، ويصلّون عليه، ويشهدون دفنه... إلي آخر الخبر)(1)، وعن الصادق عليه السلام: (إنّ لكل شيء قلبا، وقلب القرآن يس، فمن قرأها في نهاره كان من المحفوظين والمرزوقين حتى يمسي، ومن قرأها في ليله قبل أن ينام وكل به ألف ملك يحفظونه من كل شيطان رجيم، ومن كل آفة، وإن مات في يومه أدخله اللّه الجنّة... الخبر بطوله)(2).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة يس (36): الآیات 1 الی 7]

يس وَ اَلْقُرْآنِ اَلْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ عَلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنْزِيلَ اَلْعَزِيزِ اَلرَّحِيمِ لِتُنْذِرَ قَوْماً مٰا أُنْذِرَ آبٰاؤُهُمْ فَهُمْ غٰافِلُونَ لَقَدْ حَقَّ اَلْقَوْلُ عَلىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاٰ

ص: 388


1- الكشف والبيان ج 8:119.
2- ثواب الأعمال: 110-111.

[سورة يس (36): الآیات 7 الی 10]

يُؤْمِنُونَ إِنّٰا جَعَلْنٰا فِي أَعْنٰاقِهِمْ أَغْلاٰلاً فَهِيَ إِلَى اَلْأَذْقٰانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَ جَعَلْنٰا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنٰاهُمْ فَهُمْ لاٰ يُبْصِرُونَ وَ سَوٰاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاٰ يُؤْمِنُونَ

قرئ (ياسين) با لإمالة والتفخيم في يا، وبإظهار النون وإخفائها، وكذلك ن وَ اَلْقَلَمِ (1). وعن ابن عباس: (معناه يا إنسان)(2)، وعن الحسن: (معناه يا رجل)(3)، وقيل: يا سيّد الأوّلين والآخرين(4). وعن عليّ عليه السلام: (هو اسم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم)(5).

وَ اَلْقُرْآنِ اَلْحَكِيمِ ذي الحكمة، أو لأنه دليل ناطق بالحكمة كالحي، أو لأنه كلام حكيم، فوصف بصفة المتكلم به.

إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ جواب القسم، عَلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ خبر بعد خبر، أي: إنّك لمن الرسل الثابتين علي طريق ثابت وشريعة واضحة.

وقرئ: تَنْزِيلَ بالرفع علي أنّه خبر مبتدأ محذوف، وبالنصب علي: أعني.

لِتُنْذِرَ قَوْماً لم ينذر آبٰاؤُهُمْ قبلهم، لأنّهم كانوا في زمان الفترة بين عيسى و نبيّنا عليهما السلام، ومثله: لِتُنْذِرَ قَوْماً مٰا أَتٰاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ (6)، وَ مٰا

ص: 389


1- ن: 1.
2- تفسير الطبري ج 22:97.
3- معاني القرآن للفراء ج 2:371.
4- تفسير الماوردي ج 5:5.
5- الكافي ج 6:20 عن أحدهما عليهما السلام.
6- القصص: 46.

أَرْسَلْنٰا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (1) ، فيكون مٰا أُنْذِرَ آبٰاؤُهُمْ في موضع نصب علي الصفة.

وقد فسّر مٰا أُنْذِرَ علي إثبات الإنذار بأن جعل ما مصدرية بمعنى: لتنذر قوما إنذار آبائهم، أو موصولة منصوبة علي المفعول الثاني بمعنى: لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم من العذاب كقوله: إِنّٰا أَنْذَرْنٰاكُمْ عَذٰاباً قَرِيباً (2).

وقوله: فَهُمْ غٰافِلُونَ علي التفسير الأوّل يتعلّق بالنفي، أي: لم ينذروا فهم غافلون، علي أنّ عدم إنذارهم سبب غفلتهم، وعلي الثاني يتعلّق بقوله: إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ لتنذر، كما تقول: أرسلتك إلي فلان لتنذره فإنّه غافل.

لَقَدْ حَقَّ اَلْقَوْلُ عَلىٰ أَكْثَرِهِمْ و هو قوله سبحانه: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ اَلْجِنَّةِ وَ اَلنّٰاسِ أَجْمَعِينَ (3) أي: ثبت عليهم هذا القول ووجب لأنّهم ممن علم من حالهم أنّهم يموتون علي الكفر.

ثمّ مثّل تصميمهم علي الكفر بأن جعلهم كالمغلولين المقمحين، في أنّهم لا يلتفتون إلي الحقّ ولا يعطفون أعناقهم نحوه، وكالحاصلين بين سدّين لا يبصرون ما بين أيديهم وما خلفهم في أن لا تأمل لهم ولا استبصار.

فَهِيَ إِلَى اَلْأَذْقٰانِ معناه: فالأغلال واصلة إلى الأذقان، فلا تخليه يطأطئ رأسه فلا يزال مقمحا، وهو الذي يرفع رأسه ويغض بصره، ويقال: قمح البعير: إذا رفع رأسه ولم يشرب الماء، وأقمحتها أنا، وبعير قامح، وإبل قماح، قال الشاعر يصف سفينة:

ص: 390


1- سبأ: 44.
2- النبأ: 40.
3- السجدة: 13.

ونحن على جوانبها قعود *** نغضّ الطّرف كالإبل القماح(1)

وعن ابن عباس: (أنّ المعني بذلك ناس من قريش همّوا بقتل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فلم يستطيعوا أن يبسطوا إليه يدا، وخرج إليهم وطرح التراب علي رؤوسهم وهم لا يبصرونه)(1). وعلى هذا فيكون معنى السدّين أنّه جعلهم لا يبصرونه.

ومعنى فَأَغْشَيْنٰاهُمْ : جعلنا علي أبصارهم غشاوة و حلنا بينهم وبينه.

[سورة يس (36): الآیات 11 الی 21]

إِنَّمٰا تُنْذِرُ مَنِ اِتَّبَعَ اَلذِّكْرَ وَ خَشِيَ اَلرَّحْمٰنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَ أَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنّٰا نَحْنُ نُحْيِ اَلْمَوْتىٰ وَ نَكْتُبُ مٰا قَدَّمُوا وَ آثٰارَهُمْ وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْنٰاهُ فِي إِمٰامٍ مُبِينٍ (12) وَ اِضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحٰابَ اَلْقَرْيَةِ إِذْ جٰاءَهَا اَلْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنٰا إِلَيْهِمُ اِثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمٰا فَعَزَّزْنٰا بِثٰالِثٍ فَقٰالُوا إِنّٰا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قٰالُوا مٰا أَنْتُمْ إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُنٰا وَ مٰا أَنْزَلَ اَلرَّحْمٰنُ مِنْ شَيْ ءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّٰ تَكْذِبُونَ (15) قٰالُوا رَبُّنٰا يَعْلَمُ إِنّٰا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَ مٰا عَلَيْنٰا إِلاَّ اَلْبَلاٰغُ اَلْمُبِينُ (17) قٰالُوا إِنّٰا تَطَيَّرْنٰا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَ لَيَمَسَّنَّكُمْ مِنّٰا عَذٰابٌ أَلِيمٌ (18) قٰالُوا طٰائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَ إِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَ جٰاءَ مِنْ أَقْصَا اَلْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعىٰ قٰالَ يٰا قَوْمِ اِتَّبِعُوا اَلْمُرْسَلِينَ (20) اِتَّبِعُوا مَنْ لاٰ يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَ هُمْ مُهْتَدُونَ (2(2)

ص: 391


1- الدر المنثور ج 5:259.
2- ديوان بشر بن أبي خازم: 48.

أي: إِنَّمٰا [ينتفع بإنذارك](1)مَنِ اِتَّبَعَ القران وَ خَشِيَ اللّه ملتبسا بِالْغَيْبِ يعني في حال غيبته عن الناس فبشّر من هذه صفته بِمَغْفِرَةٍ من اللّه لذنوبه وَ أَجْرٍ كَرِيمٍ ثواب عظيم خالص من الشوب.

نُحْيِ اَلْمَوْتىٰ نبعثهم يوم القيامة للجزاء، وعن الحسن: (إحياؤهم أن يخرجهم من الشرك إلى الإيمان)(2).

وَ نَكْتُبُ ما أسلفوا من الأعمال الصالحة وغيرها.

وَ آثٰارَهُمْ أي: و أعمالهم التي صارت سنة من بعدهم يقتدى فيها بهم حسنة كانت أم قبيحة، ومن الآثار الحسنة: علم علّم، أو كتاب في الدين صنّف، أو صدقة أجريت، أو وقف وقّف، أو مسجد للّه بني... ونحو ذلك. ومن الآثار السيئة: وظيفة ضارة علي المسلمين وظّفت، أو شيء صاد عن ذكر اللّه من الملاهي والألحان أحدثت... ونحو ذلك، ومثله قوله تعالي: يُنَبَّؤُا اَلْإِنْسٰانُ يَوْمَئِذٍ بِمٰا قَدَّمَ وَ أَخَّرَ (3) أي: قدّم من أعماله وأخر من آثاره.، وقيل: هي آثار المشائين إلى المساجد(4)، وقال عليه السلام: (إنّ أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم)(5).

والإمام المبين: هو اللوح المحفوظ، وقيل: هو صحائف الأعمال سمّاه مبينا لأنّه لا يندرس أثره.

ص: 392


1- في ب: ينفع إنذارك.
2- الكشاف ج 4:7.
3- القيامة: 13.
4- عن الضحاك وغيره. الكشف والبيان ج 8:122.
5- صحيح مسلم ج 2:130.

وَ اِضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً مثل لهم من قولهم: عندي من هذا الضرب كذا، أي من هذا المثال، والمعنى: واضرب لهم مثلا مثل أَصْحٰابَ اَلْقَرْيَةِ والمثل الثاني بيان للأوّل، و إِذْ بدل من أَصْحٰابَ اَلْقَرْيَةِ ، والقرية: أنطاكية.

والمرسلون: رسل عيسى عليه السلام إلى أهلها، بعثهم دعاة إلى الحقّ ، وكانوا عبدة الأوثان، وإنّما أضاف سبحانه إرسالهم إلى نفسه لأنّه أرسلهم بأمره.

فَعَزَّزْنٰا فقوّيناهما وشددنا ظهورهما برسول ثالث، يقال: المطر يعزز الأرض أي: يلبدها ويشدّها. و قرئ: فعززنا بالتخفيف من: عزّه يعزّه إذا غلبه، أي: فغلبنا وقهرنا بثالث. وترك ذكر المفعول به لأنّ الغرض ذكر المعزّز به وهو شمعون الصفا رأس الحواريين.

فَقٰالُوا إِنّٰا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ أوّلا و إِنّٰا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ثانيا، لأنّ الأوّل ابتداء إخبار، والثاني جواب عن إنكار.

وقوله: رَبُّنٰا يَعْلَمُ جار مجري القسم في التوكيد، ومثله قوله: شَهِدَ اَللّٰهُ (1)، و عَلِمَ اَللّٰهُ (2)، وإنّما حسن منهم هذا الجواب الوارد علي سبيل التوكيد لأنّهم حقّقوه بقوله: وَ مٰا عَلَيْنٰا إِلاَّ اَلْبَلاٰغُ اَلْمُبِينُ وهو الظاهر المكشوف بالآيات والمعجزات الشاهدة بصحّته، وإلا فلو قال المدعي: واللّه إنّي لصادق فيما أدّعي، ولم يحضر البيّنة لكان قبيحا.

قٰالُوا إِنّٰا تَطَيَّرْنٰا أي: تشاءمنا بِكُمْ وذلك أنّهم كرهوا دينهم ونفرت منه نفوسهم.

لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا عما تدعونه من الرسالة لَنَرْجُمَنَّكُمْ بالحجارة أو

ص: 393


1- آل عمران: 18.
2- البقرة: 187.

لنشتمنكم(1).

قال الرسل: طٰائِرُكُمْ مَعَكُمْ أي: سبب شؤمكم معكم، وهو إقامتكم علي الكفر والشرك، فأما الدعاء إلى الإيمان والتوحيد ففيه غاية اليمن والبركة.

أَ إِنْ ذُكِّرْتُمْ أي: أتطيّرون إن ذكّرتم، وقرئ: أن ذكرتم بالفتح، بمعنى: أتطيّرتم لئن ذكّرتم.

بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ في العصيان، فمن ثمّ أتاكم الشؤم لا من قبل الرسل وتذكيرهم إيّاكم، بل أنتم قوم مسرفون في ضلالكم، متمادون في غوايتكم حيث تتشائمون بمن يتبرك به.

رَجُلٌ يَسْعىٰ هو حبيب بن إسرائيل النجار، وكان منزله عند أقصى باب من أبواب المدينة، فلما بلغه أنّ قومه همّوا بقتل الرسل جاء يعدو ويشتد. وعن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: (سبّاق الأمم ثلاثة لم يكفروا باللّه طرفة عين: عليّ بن أبي طالب، وصاحب ياسين، ومؤمن آل فرعون، فهم الصدّيقون، وعليّ أفضلهم(2).

وقوله: مَنْ لاٰ يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَ هُمْ مُهْتَدُونَ كلمة جامعة في الترغيب فيهم، أي: لا تخسرون معهم شيئا من دنياكم وتربحون صحّة دينكم فتفوزون بخيري الدنيا والآخرة.

[سورة يس (36): الآیات 22 الی 26]

وَ مٰا لِيَ لاٰ أَعْبُدُ اَلَّذِي فَطَرَنِي وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَ أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ اَلرَّحْمٰنُ بِضُرٍّ لاٰ تُغْنِ عَنِّي شَفٰاعَتُهُمْ شَيْئاً وَ لاٰ يُنْقِذُونِ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ قِيلَ اُدْخُلِ

ص: 394


1- في ب: ليمسنكم.
2- أمالي الصدوق: 385، الكشف والبيان ج 8:126.

[سورة يس (36): الآیات 26 الی 30]

اَلْجَنَّةَ قٰالَ يٰا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمٰا غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَ اَلْمُكْرَمِينَ وَ مٰا أَنْزَلْنٰا عَلىٰ قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ اَلسَّمٰاءِ وَ مٰا كُنّٰا مُنْزِلِينَ إِنْ كٰانَتْ إِلاّٰ صَيْحَةً وٰاحِدَةً فَإِذٰا هُمْ خٰامِدُونَ يٰا حَسْرَةً عَلَى اَلْعِبٰادِ مٰا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّٰ كٰانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ

أبرز الكلام في معرض المناصحة لنفسه وهو يريد مناصحتهم تلطّفا لهم، فكأنّه قال: وما لكم لا تعبدون الذي فطركم ؟ ألا تري إلى قوله: وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ولم يقل: وإليه أرجع، ثمّ ساق كلامه ذلك المساق إلى أن قال: إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ .

يريد: فاسمعوا قولي وأطيعوني فقد نبّهتكم علي الحقّ الصريح والدين الصحيح الذي لا محيص عنه، وهو أنّ العبادة لا تصحّ إلا لمن أنشأ خلقكم وأوجدكم وإليه مرجعكم، ومن أنكر الأشياء في العقل أن تؤثروا علي عبادته عبادة أشياء، إن أرادكم هو بِضُرٍّ وشفع لكم هؤلاء لم تنفعكم شفاعتهم ولم يقدروا علي إنقاذكم، إنّكم في هذا الاختيار لواقعون فِي ضَلاٰلٍ ظاهر بيّن لا يخفى علي ذي حجى.

ثمّ إنّ قومه لما سمعوا منه ذلك القول وطئوه بأرجلهم حتى مات، فأدخله اللّه الجنّة وهو حيّ فيها يرزق، وذلك قوله: قِيلَ اُدْخُلِ اَلْجَنَّةَ ، وقيل: إنّهم قتلوه علي أنّ اللّه سبحانه أحياه وأدخله الجنّة، فلما دخلها قٰالَ يٰا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمٰا غَفَرَ لِي رَبِّي تمنّى أن يعلم قومه ما أعطاه اللّه تعالى من المغفرة وجزيل الثواب ليرغبوا في مثله ويؤمنوا لينالوا ذلك، وورد في حديث مرفوع: (أنّه نصح قومه

ص: 395

حيا وميتا)(1).

و (ما) في بِمٰا غَفَرَ لِي مصدرية أو موصولة، أي: [بمغفرة ربّي لي، أو](2)

بالذي غفره ربّي لي من الذنوب، و يجوز أن تكون استفهامية، أي بأيّ شيء غفر لي ؟ يريد ما كان منه معهم من المصابرة على الجهاد في إعزاز دين اللّه حتى قتل، إلا أنّه علي هذا الوجه بم غفر لي بطرح الألف أجود وإن كان إثباتها جائزا.

وَ مٰا أَنْزَلْنٰا عَلىٰ قَوْمِهِ مِنْ بعد قتله [مِنْ جُنْدٍ ](3) أي: لم ننزل لإهلاكهم جندا من جنود السماء كما فعلنا يوم بدر وَ مٰا كُنّٰا منزليهم علي الأمم إذا أهلكناهم.

إِنْ كٰانَتْ إِلاّٰ صَيْحَةً وٰاحِدَةً أي: لم يكن مهلكهم عن آخرهم إلا بأيسر أمر صيحة واحدة. أخذ جبرائيل بعضادتي باب المدينة وصاح بهم صيحة فماتوا عن آخرهم، لا يسمع لهم حس، كالنار إذا طفئت، وكأنّه قال عزّ اسمه: إن إنزال الجنود من السماء من عظائم الأمور التي لا يؤهل لها إلا مثلك يا محمّد، حيث أنزلوا يوم بدر والخندق وما كنا نفعله لغيرك. وقرئ: إلا صيحة بالرفع علي كان التامة، أي: ما وقعت إلا صيحة، والقياس التذكير؛ لأنّ المعنى: ما وقع شيء إلا صيحة، ولكن جوّز ذلك لأنّ الصيحة في حكم فاعل الفعل، ومثله بيت ذي الرمة:

وما بقيت إلّا الضّلوع الجراشع(4)

والقراءة بالنصب علي معنى: إن كانت الأخذة أو العقوبة إلا صيحة.

يٰا حَسْرَةً عَلَى اَلْعِبٰادِ نوديت الحسرة كأنّها قيل لها: تعال يا حسرة فهذا

ص: 396


1- تخريج الأحاديث و الآثار ج 3:163 عن تفسير ابن مردويه.
2- ساقطة من د.
3- ساقطة من ج.
4- ديوان شعر ذي الرمة: 341، وفيه: الا الصدور، وصدره: طوى النحز والارجاز ما في غروضها.

من أوقاتك التي حقّك أن تحضري فيها، وهي حال استهزائهم بالرسل. والمعنى:

إنّهم أحقّاء بأن يتحسّر عليهم المتحسّرون، أو هم متحسّر عليهم من جهة الملائكة والمؤمنين، ويجوز أن يكون من جهة اللّه تعالى علي سبيل الاستعارة في معنى تعظيم ما جنوه علي أنفسهم، وفرط إنكاره له وتعجّبه منه. وروي عن أبيّ بن كعب وابن عباس وعلي بن الحسين زين العابدين عليهما السلام: يا حسرة العباد علي الإضافة إليهم لاختصاصها بهم من حيث أنّها موجهة إليهم.

[سورة يس (36): الآیات 31 الی 40]

أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنٰا قَبْلَهُمْ مِنَ اَلْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاٰ يَرْجِعُونَ وَ إِنْ كُلٌّ لَمّٰا جَمِيعٌ لَدَيْنٰا مُحْضَرُونَ وَ آيَةٌ لَهُمُ اَلْأَرْضُ اَلْمَيْتَةُ أَحْيَيْنٰاهٰا وَ أَخْرَجْنٰا مِنْهٰا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَ جَعَلْنٰا فِيهٰا جَنّٰاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنٰابٍ وَ فَجَّرْنٰا فِيهٰا مِنَ اَلْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَ مٰا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَ فَلاٰ يَشْكُرُونَ سُبْحٰانَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلْأَزْوٰاجَ كُلَّهٰا مِمّٰا تُنْبِتُ اَلْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمّٰا لاٰ يَعْلَمُونَ وَ آيَةٌ لَهُمُ اَللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ اَلنَّهٰارَ فَإِذٰا هُمْ مُظْلِمُونَ وَ اَلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهٰا ذٰلِكَ تَقْدِيرُ اَلْعَزِيزِ اَلْعَلِيمِ وَ اَلْقَمَرَ قَدَّرْنٰاهُ مَنٰازِلَ حَتّٰى عٰادَ كَالْعُرْجُونِ اَلْقَدِيمِ لاَ اَلشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهٰا أَنْ تُدْرِكَ اَلْقَمَرَ وَ لاَ اَللَّيْلُ سٰابِقُ اَلنَّهٰارِ وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ

أَ لَمْ يَرَوْا ألم يعلموا، وهو معلّق عن العمل في كَمْ لأنّ (كم) لا يعمل فيها عامل قبلها، سواء كانت للاستفهام أم للخبر، لأنّ أصلها الاستفهام، و أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاٰ يَرْجِعُونَ بدل من كَمْ أَهْلَكْنٰا علي المعنى لا علي اللفظ، والتقدير: ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون قبلهم كونهم غير راجعين إليهم، أي: لا يعودون إلى

ص: 397

الدنيا، أفلا تعتبرون بهم ؟.

وقرئ: (لما) بالتخفيف علي أن يكون (ما) صلة للتوكيد، و (إن) مخففة من الثقيلة، والتقدير: وإنّه كلهم لمجموعون محشورون محضرون للحساب. و قرئ:

لَمّٰا بالتشديد بمعنى (إلا) كمسألة الكتاب: نشدتك باللّه لمّا فعلت(1)، و (إن) نافية والتقدير: ما كل إلا مجموعون محضرون لدينا، والتنوين في كُلٌّ عوض من المضاف إليه، وال - جَمِيعٌ فعيل بمعنى مفعول، يقال: حي جميع، وجاؤوا جميعا.

والقراءة بالميتة مخففة أشيع و أسلس على اللسان، و أَحْيَيْنٰاهٰا استئناف، بيان لكون الأرض الميتة آية، ودلالة لهم على قدرة اللّه على البعث، وكذلك نَسْلَخُ ويجوز أن يكونا صفتين ل - اَلْأَرْضُ و اَللَّيْلُ لأنّه أريد بهما الجنسان مطلقين، لا أرض ولا ليل بأعيانهما، فعوملا معاملة النكرات في وصفهما بالجمل، ونحوه:

ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني(2)

أي: أحييناها بالنبات وَ أَخْرَجْنٰا مِنْهٰا كل حبّ يتقوتونه مثل: الحنطة والشعير و الأرز ونحوها.

فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ قدّم الظرف للدلالة علي أنّ الحبّ هو الذي يتعلّق به معظم العيش ويقوم بالإرتزاق منه صلاح الإنس، وإذا قلّ جاء القحط.

وخصّ النخيل والأعناب لكثرة أنواعهما ومنافعهما.

وَ فَجَّرْنٰا في الأرض أو في الجنات من عيون الماء.

لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ والمعنى: ليأكلوا مما خلقه اللّه من الثمر، ومما عَمِلَتْهُ

ص: 398


1- حكاه عنه في التنبيه و الإيضاح ج 5:153.
2- البيت لرجل من بني سلول. الكتاب ج 3:24، وبقيته: فمضيت ثمت قلت لا يعنيني.

أَيْدِيهِمْ من الغرس والسقي والآبار وغير ذلك من الأعمال، إلى أن بلغ الثمر منتهاها وأوان أكلها. وقرئ: ثَمَرِهِ و ثمره بفتحتين وضمتين وضمة وسكون، وأصله: من ثمرنا كما قال: وَ جَعَلْنٰا ، وَ فَجَّرْنٰا فنقل الكلام من المتكلّم إلى الغيبة علي طريقة الالتفات. ويجوز أن يكون الضمير للنخيل وتترك الأعناب غير مرجوع إليها الضمير، لأنّها في حكم النخيل فيما علّق به من أكل ثمره، ويجوز أن يراد به: من ثمره المذكور وهو الحبّات، كما قال رؤبة:

فيها خطوط من سواد وبلق *** كأنّه في الجلد توليع البهق(1)

فسئل عنه فقال: أردت كأنّ ذاك.

ويجوز أن يكون (ما) في وَ مٰا عَمِلَتْهُ نافية، أي: ولم تعمل تلك الثمار أيديهم ولا يقدرون عليه، و قرئ علي الوجه الأوّل: وما عملت أيديهم من غير هاء.

و اَلْأَزْوٰاجَ : الأشكال والأصناف والأجناس من الأشياء.

وَ مِمّٰا لاٰ يَعْلَمُونَ أي: و من أزواج لم يطلعهم اللّه عليها، ولا توصلوا إلى معرفتها بطريق من طرق العلم، ولا يبعد أن يخلق اللّه من الحيوان والجماد ما لم يجعل للبشر طريقا إلى العلم به في بطون الأرض وقعر البحار.

سلخ الشاة: كشط جلدها عنها، فاستعير لإزالة الضوء وكشفه عن مكان الليل وملقى ظله.

فَإِذٰا هُمْ مُظْلِمُونَ أي: داخلون في ظلام الليل لا ضياء لهم فيه.

وَ اَلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهٰا أي: لحدّ لها موقّت مقدّر تنتهي إليه من

ص: 399


1- ديوان رؤبة بن العجاج: 104.

فلكها في آخر السنة، شبّه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره، أو منتهى لها من المشارق والمغارب حتى تبلغ أقصاها فذلك مستقرّها لأنّها لا تعدوه، أو لحدّ لها من مسيرها كل يوم في مرائي عيوننا وهو المغرب، وقرأ ابن مسعود: لا مستقر لها وهو قراءة أهل البيت عليهم السلام. ومعناه: أنّها لا تزال تجري لا يستقر ذلك الجري علي ذلك التقدير والحساب الدقيق الذي يكلّ الفطن عن استخراجه، تقدير الغالب بقدرته على كل مقدور، المحيط علما بكل معلوم.

وقرئ: وَ اَلْقَمَرَ بالرفع على الابتداء أو عطفا على اَللَّيْلُ أي: و من آياته القمر، و بالنصب بفعل مضمر يفسّره قَدَّرْنٰاهُ ، والمعنى: قدّرنا مسيره مَنٰازِلَ و هي ثمانية وعشرون منزلا، ينزل كل ليلة في واحد منها لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه، على تقدير مستو.

حَتّٰى عٰادَ كَالْعُرْجُونِ اَلْقَدِيمِ و هو عود العذق الذي تقادم عهده حتى يبس وتقوس، وقيل: إنّه يصير كذلك في كل ستة أشهر(1)، قال الزجّاج: (هو فعلون من الانعراج وهو الانعطاف)(2). والقديم يدق وينحني ويصفرّ، فشبه القمر به من ثلاثة أوجه.

لاَ اَلشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهٰا أَنْ تُدْرِكَ اَلْقَمَرَ في سرعة سيره فإنّها تقطع منازلها في سنة والقمر يقطعها في شهر، ولأنّ اللّه سبحانه باين بين فلكيهما ومجاريهما، فلا يمكن أن يدرك أحدهما الآخر.

وَ لاَ اَللَّيْلُ سٰابِقُ اَلنَّهٰارِ أي: ولم يسبق الليل النهار.

وَ كُلٌّ التنوين فيه عوض عن المضاف إليه، والمعنى وكلهم الشمس

ص: 400


1- عيون أخبار الرضا ج 1:241.
2- معاني القران و إعرابه ج 4:288.

والقمر والنجوم فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ يسيرون فيه بانبساط، وإنّما قيل بالواو والنون لما أضيف إليها ما هو من فعل العقلاء. وعن ابن عباس: (معناه: يجري كل واحد منهما في فلكه كما يدور المغزل في الفلكة)(1).

[سورة يس (36): الآیات 41 الی 50]

وَ آيَةٌ لَهُمْ أَنّٰا حَمَلْنٰا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي اَلْفُلْكِ اَلْمَشْحُونِ (41) وَ خَلَقْنٰا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مٰا يَرْكَبُونَ (42) وَ إِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاٰ صَرِيخَ لَهُمْ وَ لاٰ هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاّٰ رَحْمَةً مِنّٰا وَ مَتٰاعاً إِلىٰ حِينٍ (44) وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمُ اِتَّقُوا مٰا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَ مٰا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَ مٰا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيٰاتِ رَبِّهِمْ إِلاّٰ كٰانُوا عَنْهٰا مُعْرِضِينَ (46) وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمّٰا رَزَقَكُمُ اَللّٰهُ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشٰاءُ اَللّٰهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّٰ فِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ (47) وَ يَقُولُونَ مَتىٰ هٰذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ (48) مٰا يَنْظُرُونَ إِلاّٰ صَيْحَةً وٰاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَ هُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلاٰ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَ لاٰ إِلىٰ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (5(0)

قرئ: ذُرِّيَّتَهُمْ علي التوحيد و ذرياتهم علي الجمع، وهم أولادهم و من يهمّهم حمله، وقيل: إنّ اسم الذرية يقع علي النساء لأنّهن مزارعها. وفي الحديث:

(إنّه نهى عن قتل الذراري)(2)، وخصّهم بالحمل لضعفهم، و لأنّه لا قوة لهم علي السفر كقوة الرجال.

وَ خَلَقْنٰا لَهُمْ مِنْ مثل الفلك مٰا يَرْكَبُونَ يعني الإبل، وهي سفن البر،

ص: 401


1- تفسير الطبري ج 23:7.
2- صحيح ابن حبان ج 1:347، وينظر: الخصال: 214.

وقيل: اَلْفُلْكِ اَلْمَشْحُونِ سفينة نوح(1).

و مِنْ مِثْلِهِ أي: مثل ذلك الفلك ما يركبون من السفن والزوارق.

فَلاٰ صَرِيخَ لَهُمْ أي: لا مغيث لهم، أولا إغاثة، يقال: أتاهم الصريخ.

إِلاّٰ رَحْمَةً مِنّٰا أي: لرحمة منا و التمتع بالحياة إلي أجل يموتون فيه لابد لهم منه بعد النجاة من موت الغرق.

وجواب إِذٰا محذوف يدلّ عليه قوله: إِلاّٰ كٰانُوا عَنْهٰا مُعْرِضِينَ ، كأنّه قال: وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمُ اِتَّقُوا أعرضوا، ثمّ قال: وعادتهم الإعراض عند كل آية وموعظة. وعن الصادق عليه السلام: (معناه: اتقوا ما بين أيديكم من الذنوب وما خلفكم من العقوبة)(2).

إِنْ أَنْتُمْ إِلاّٰ فِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ قول اللّه سبحانه، أو حكاية قول المؤمنين لهم، أو هو من جملة جوابهم للمؤمنين.

وقرئ: وَ هُمْ يَخِصِّمُونَ بإدغام التاء من يختصمون في الصاد مع فتح الخاء وكسرها وإتباع الياء الخاء في الكسر، ويخصمون من خصمه يخصمه. أي:

يختصمون في أمورهم ويتبايعون في أسواقهم، يعني: إنّ القيامة تأتيهم بغتة فلا يقدرون على الإيصاء بشيء، ولا يرجعون إلى منازلهم من الأسواق.

[سورة يس (36): الآیات 51 الی 53]

وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَإِذٰا هُمْ مِنَ اَلْأَجْدٰاثِ إِلىٰ رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ قٰالُوا يٰا وَيْلَنٰا مَنْ بَعَثَنٰا مِنْ مَرْقَدِنٰا هٰذٰا مٰا وَعَدَ اَلرَّحْمٰنُ وَ صَدَقَ اَلْمُرْسَلُونَ إِنْ كٰانَتْ إِلاّٰ صَيْحَةً وٰاحِدَةً فَإِذٰا هُمْ

ص: 402


1- عن ابن عباس وغيره. تفسير الطبري ج 23:8.
2- مجمع البيان ج 7-8:427.

[سورة يس (36): الآیات 53 الی 61]

جَمِيعٌ لَدَيْنٰا مُحْضَرُونَ فَالْيَوْمَ لاٰ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ لاٰ تُجْزَوْنَ إِلاّٰ مٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّ أَصْحٰابَ اَلْجَنَّةِ اَلْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فٰاكِهُونَ هُمْ وَ أَزْوٰاجُهُمْ فِي ظِلاٰلٍ عَلَى اَلْأَرٰائِكِ مُتَّكِؤُنَ لَهُمْ فِيهٰا فٰاكِهَةٌ وَ لَهُمْ مٰا يَدَّعُونَ سَلاٰمٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ وَ اِمْتٰازُوا اَلْيَوْمَ أَيُّهَا اَلْمُجْرِمُونَ أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰا بَنِي آدَمَ أَنْ لاٰ تَعْبُدُوا اَلشَّيْطٰانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَ أَنِ اُعْبُدُونِي هٰذٰا صِرٰاطٌ مُسْتَقِيمٌ

اَلْأَجْدٰاثِ القبور يَنْسِلُونَ يعدون، وهي النفخة الثانية.

مَنْ بَعَثَنٰا مِنْ مَرْقَدِنٰا من حشرنا من منامنا الذي كنا فيه نياما؟ لأنّ إحياءهم كالإنباه من الرقاد، وقيل: إنّهم عدّوا أحوالهم في قبورهم بالإضافة إلى أهوال القيامة رقادا(1). وروي عن عليّ عليه السلام أنّه قرأ: من بعثنا علي من الجارة والمصدر.

هٰذٰا مبتدأ و مٰا وَعَدَ خبره وما مصدرية أو موصولة. ويجوز أن يكون هٰذٰا صفة ل - مَرْقَدِنٰا و مٰا وَعَدَ خبر مبتدأ محذوف أي: هذا وعد الرحمن. وعن قتادة: (أوّل الآية قول الكافر، وآخر الآية هٰذٰا مٰا وَعَدَ اَلرَّحْمٰنُ قول المسلم)(2)، وقيل: هو كلام الكافرين أيضا يتذكرون ما سمعوه من الرسل فيجيبون به أنفسهم أو يجيب بعضهم بعضا(3).

وإذا جعلت (ما) موصولة فتقديره: هذا الذي وعده الرحمن والذي صدقه المرسلون، أي: صدقوا فيه، من قولهم: صدقوهم القتال، والمثل: (صدقني سن

ص: 403


1- الكشف والبيان ج 8:130.
2- الدر المنثور ج 5:266.
3- عن ابن زيد. تفسير الطبري ج 23:12.

بكره)(1)، أي: هو الذي وعده اللّه في كتبه المنزلة علي ألسنة رسله الصادقين، وليس ببعث النائم من مرقده بل هو البعث الأكبر.

أي: لم تكن تلك المدة إلا مدة صيحة واحدة، فإذا الأوّلون والآخرون مجموعون لَدَيْنٰا في عرصات القيامة، محصلون في موقف الحساب فَالْيَوْمَ لاٰ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً .

إِنَّ أَصْحٰابَ اَلْجَنَّةِ اَلْيَوْمَ فِي شُغُلٍ حكاية ما يقال في ذلك اليوم، وفي مثل هذه الحكاية تصوير للموعود، وتمكين له في النفوس، وترغيب في الحرص علي العمل بما يثمره ويؤدي إليه فِي شُغُلٍ . وقرئ: شغل بسكون الغين وهما لغتان، أي: في أي شغل لا يحاط بوصفه، وهو النعيم الذي شملهم و شغلهم عما فيه أهل النار فلا يذكرونهم وإن كانوا أقاربهم، وقيل: شغلوا بافتضاض العذارى(2) وقيل:

باستماع الألحان(3).

وقرئ: فٰاكِهُونَ و فكهون والمعنى وا حد، أي: متنعمون متلذذون، ومنه الفاكهة لأنّها مما يتلذذ به، وقيل: فرحون طيبو النفوس معجبون بما هم فيه من الفكاهة وهي المزاح والأحاديث الطيبة.

هم يحتمل أن يكون مبتدأ، وأن يكون تأكيدا للضمير في شُغُلٍ وفي فٰاكِهُونَ علي أنّ أزواجهم تشاركهم في ذلك الشغل والتفكه والاتكاء عَلَى الحجلة، وقيل: كل ما اتكئ عليه فهو أريكة(4).

ص: 404


1- مجمع الأمثال ج 2:212.
2- عن ابن عباس. الدر المنثور ج 5:266.
3- عن وكيع بن الجراح. الكشف والبيان ج 8:131.
4- لسان العرب: مادة أرك.

وَ لَهُمْ مٰا يَدَّعُونَ أي: يتمنون ويشتهون، من قولهم: ادّع عليّ ما شئت، بمعنى: تمنّه عليّ ، وقيل: هو يفتعلون من الدعاء، أي: يدّعون به لأنفسهم(1)، كقولك: اشتوى إذا شوى لنفسه.

سَلاٰمٌ بدل من مٰا يَدَّعُونَ كأنّه قال لهم: سلام، يقال لهم قَوْلاً مِنْ جهة رَبٍّ رَحِيمٍ . والمعنى: إنّ اللّه سبحانه يسلّم عليهم بواسطة الملك أو بغير واسطة مبالغة في تعظيمهم، وذلك متمنّاهم، و لهم ذلك ما يمنعونه. وقيل: مٰا يَدَّعُونَ مبتدأ، و سَلاٰمٌ خبره بمعنى: ولهم ما يدعون سلام خالص لا شوب فيه، ف - قَوْلاً مصدر مؤكد لقوله: وَ لَهُمْ مٰا يَدَّعُونَ سَلاٰمٌ ، أي: عدة من ربّ رحيم(2).

وَ اِمْتٰازُوا أي: انفردوا عن المؤمنين وكونوا علي حدة، وذلك حين يحشر المؤمنون ويسار بهم إلى الجنّة، يقال: مزته فامتاز وانماز، وعن قتادة: (اعتزلوا عن كل خير)(3)، وعن الضحاك: الكل كافر بيت في النار يدخله فيردم بابه لا يرى ولا يري)(4).

هذا إشارة إلي ما عهد إليهم فيه من معصية الشيطان وطاعة الرحمن.

هٰذٰا صِرٰاطٌ مُسْتَقِيمٌ بليغ في استقامته، حقيق بأن يوصف بالكمال في

ص: 405


1- إعراب القرآن ج 3:401.
2- معاني القرآن و إعرابه ج 4:292.
3- تفسير الطبري ج 23:16.
4- معالم التنزيل ج 3:205.

[سورة يس (36): الآیات 62 الی 70]

وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَ فَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ هٰذِهِ جَهَنَّمُ اَلَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ اِصْلَوْهَا اَلْيَوْمَ بِمٰا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ اَلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلىٰ أَفْوٰاهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنٰا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ وَ لَوْ نَشٰاءُ لَطَمَسْنٰا عَلىٰ أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا اَلصِّرٰاطَ فَأَنّٰى يُبْصِرُونَ وَ لَوْ نَشٰاءُ لَمَسَخْنٰاهُمْ عَلىٰ مَكٰانَتِهِمْ فَمَا اِسْتَطٰاعُوا مُضِيًّا وَ لاٰ يَرْجِعُونَ وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي اَلْخَلْقِ أَ فَلاٰ يَعْقِلُونَ وَ مٰا عَلَّمْنٰاهُ اَلشِّعْرَ وَ مٰا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاّٰ ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كٰانَ حَيًّا وَ يَحِقَّ اَلْقَوْلُ عَلَى اَلْكٰافِرِينَ

جِبِلاًّ قرئ بضمتين، وبضمة وسكون وبضمتين وتشديدة، وبكسرتين وتشديدة، ومعناهن جميعا: الخلق الكثير الذي جبلوا علي خليقته، أضلهم الشيطان بأن دعاهم إلى الضلال وحملهم علي الضلال وأغواهم.

اِصْلَوْهَا اَلْيَوْمَ أي: الزموها وصيروا صلاها، أي: وقودها بسبب كفركم وتكذيبكم الأنبياء.

فَاسْتَبَقُوا اَلصِّرٰاطَ أي: إلى الصراط، فحذف الجار وأوصل الفعل، أو ضمّن استبقوا معنى: ابتدروا، أو نصب اَلصِّرٰاطَ علي الظرف، والمعنى:

ولو نشاء لمسخنا أعينهم، فلو حاولوا أن يستبقوا إلي الطريق الذي اعتادوا سلوكه إلى مقاصدهم كما كانوا يستبقون إليه ساعين في متصرّفاتهم لم يقدروا، فكيف يُبْصِرُونَ ويعلمون جهة السلوك وقد أعميناهم ؟!.

والمكانة والمكان واحد، كالمقامة والمقام. وقرئ عَلىٰ مَكٰانَتِهِمْ ومكاناتهم علي التوحيد والجمع، أي: لمسخناهم مسخا يجمدهم علي مكانهم لا

ص: 406

يقدرون أن يبرحوه بمضي ولا رجوع بأن نجعلهم حجارة، وقيل: لمسخناهم قردة وخنازير في منازلهم فلا يستطيعون مضيا عن العذاب ولا رجوعا إلى الخلقة الأولى بعد المسخ.

وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ أي: نقلبه في الخلق فنخلقه علي عكس ما خلقناه قبل، إذ كان يتزايد في القوة والعقل والعلم إلى أن استكمل قوته وبلغ أشدّه، وإذا انتهى نكسناه في الخلق، فجعلناه يتناقص حتى يرجع في حال شبيهة بحال الصبي في ضعف الجسد وقلة العقل والعلم، كما ينكس السهم فيجعل أعلاه أسفله، كما قال: ثُمَّ رَدَدْنٰاهُ أَسْفَلَ سٰافِلِينَ (1) ثمّ يُرَدُّ إِلىٰ أَرْذَلِ اَلْعُمُرِ لِكَيْلاٰ يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً (2). و قرئ: ننكسه من التنكيس.

وَ مٰا عَلَّمْنٰاهُ بتعليم القرآن اَلشِّعْرَ ومعناه: إنّ القرآن ليس بشعر، ولا مناسبة بينه وبين الشعر، لأنّ الشعر كلام موزون مقفى، وليس القرآن منه في شيء.

وَ مٰا يَنْبَغِي لَهُ أي: وما يصحّ له، وما ينطلب لو طلب، فلو أراد أن يقول الشعر لم يتأت له ولم يتسهل، حتى لو تمثّل ببيت شعر جري علي لسانه منكسرا، كما روي أنّه كان يتمثل بهذا البيت:

كفى الإسلام والشيب للمرء ناهيا

فقال أبو بكر: إنّما قال الشاعر

كفى الشّيب و الإسلام للمرء ناهيا

أشهد أنّك رسول اللّه(3)

ص: 407


1- التين: 5.
2- الحج: 5.
3- طبقات ابن سعد ج 1 ق 2:102.

وأما قوله عليه السلام: (أنا النّبيّ لا كذب أنا ابن عبد المطّلب)(1) وما روي من نحوه فإنّ ذلك كلام من جنس كلامه الذي كان يرمي به علي السليقة من غير صنعة فيه، إلا أنّه اتفق أن جاء موزونا من غير قصد منه، كما يتفق في كثير من إنشاءات الناس في خطبهم ومحاوراتهم أشياء موزونة ولا يسمّيها أحد شعرا، ولا يخطر ببال المتكلّم ولا السامع أنّه شعر، علي أنّ الخليل لم يكن يعد المشطور من الرجز شعرا(2).

ولما نفى سبحانه أن يكون القران شعرا قال: إِنْ هُوَ إِلاّٰ ذِكْرٌ أي: ما هو إلا ذكر من اللّه يوعظ به الإنس والجن كما قال: إِنْ هُوَ إِلاّٰ ذِكْرٌ لِلْعٰالَمِينَ (3)، وما هو إلا قرآن يقرأ في المحاريب، وينال بقراءته والعمل بما فيه فوز الدارين.

لِيُنْذِرَ القرآن أو الرسول مَنْ كٰانَ حَيًّا أي: عاقلا متأملا، لأنّ غير العاقل كالميت، أو من المعلوم من حاله أن يؤمن فيحيا بالإيمان.

وَ يَحِقَّ اَلْقَوْلُ أي: ويجب الوعيد عَلَى اَلْكٰافِرِينَ بكفرهم.

[سورة يس (36): الآیات 71 الی 76]

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّٰا خَلَقْنٰا لَهُمْ مِمّٰا عَمِلَتْ أَيْدِينٰا أَنْعٰاماً فَهُمْ لَهٰا مٰالِكُونَ وَ ذَلَّلْنٰاهٰا لَهُمْ فَمِنْهٰا رَكُوبُهُمْ وَ مِنْهٰا يَأْكُلُونَ وَ لَهُمْ فِيهٰا مَنٰافِعُ وَ مَشٰارِبُ أَ فَلاٰ يَشْكُرُونَ وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللّٰهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ لاٰ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَ هُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ فَلاٰ يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنّٰا نَعْلَمُ مٰا يُسِرُّونَ وَ مٰا يُعْلِنُونَ

ص: 408


1- مغازي الواقدي ج 1:280.
2- كتاب العين ج 6:64.
3- التكوير: 27.

مِمّٰا عَمِلَتْ أَيْدِينٰا أي: مما تولينا خلقه وإنشاءه ولم يقدر علي توليه غيرنا.

فَهُمْ لَهٰا مٰالِكُونَ أي: خلقنا أَنْعٰاماً لأجلهم فملّكناهم إيّاها فهم متصرّفون فيها تصرّف الملاك، أو فهم لها ضابطون قاهرون، لم نخلقها وحشية نافرة منهم لا يقدرون على ضبطها، فهي مسخرة لهم، وهو قوله: وَ ذَلَّلْنٰاهٰا لَهُمْ .

والركوب والركوبة: ما يركب، كما أنّ الحلوب والحلوبة: ما يحلب، أي:

فمنها ما ينتفعون بركوبه ومنها ما ينتفعون بذبحه وأكله.

وَ لَهُمْ فِيهٰا مَنٰافِعُ وَ مَشٰارِبُ منها لبس أصوافها وأوبارها وأشعارها، وشرب ألبانها إلي غير ذلك من وجوه الانتفاع بها، والمشارب: جمع المشرب وهو موضع الشّرب أو الشّرب.

وَ اِتَّخَذُوا... آلِهَةً يعبدونها طمعا في أن ينصروهم، ويدفعوا عنهم، ويشفعوا لهم عند اللّه، و الأمر على عكس ما قدروا فإنّهم يوم القيامة جُنْدٌ مُحْضَرُونَ لعذابهم لأنّهم يجعلون وقود النار، أو اتخذوهم طمعا في أن يتقووا بهم، والأمر بالضد مما توهّموه، إذ هم جند لآلهتهم يخدمونهم ويذبون عنهم، والآلهة ليس لهم قدرة علي نصرهم، فلا يهمنّك قولهم في تكذيبك و أذاهم إيّاك، فإنّا عالمون بما يُسِرُّونَ من عداوتهم وَ مٰا يُعْلِنُونَ وإنّا نجازيهم علي ذلك.

[سورة يس (36): الآیات 77 الی 81]

أَ وَ لَمْ يَرَ اَلْإِنْسٰانُ أَنّٰا خَلَقْنٰاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذٰا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَ ضَرَبَ لَنٰا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قٰالَ مَنْ يُحْيِ اَلْعِظٰامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا اَلَّذِي أَنْشَأَهٰا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلشَّجَرِ اَلْأَخْضَرِ نٰاراً فَإِذٰا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أَ وَ لَيْسَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِقٰادِرٍ

ص: 409

[سورة يس (36): الآیات 81 الی 83]

عَلىٰ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلىٰ وَ هُوَ اَلْخَلاّٰقُ اَلْعَلِيمُ إِنَّمٰا أَمْرُهُ إِذٰا أَرٰادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحٰانَ اَلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ

روي: أنّ أبي بن خلف و العاص بن وائل جاءا بعظم بال متفتت، وقالا: يا محمّد، أتزعم أنّ اللّه يبعث هذا؟! فقال: نعم، فنزلت(1).

قبّح اللّه سبحانه إنكارهم البعث تقبيحا عجيبا، حيث قررهم بأن خلقهم من النطفة التي هي أخس شيء، ثمّ عجب من حالهم بأن يتصدوا مع مهانة مبدئهم لمخاصمة الجبار ويقولوا: من يقدر علي إحياء الميت بعدما رمّت عظامه ؟! ثمّ يكون خصامه في ألزم وصف له، وهو كونه منشأ من موات وهو ينكر الإنشاء من الموات، فهذه مكابرة لا مطمح وراءها. وقيل: معناه: فإذا هو بعد ما كان ماء مهينا رجل مميز منطيق قادر علي الخصام، معرب عما في نفسه فصيح.

وسمّي قوله: مَنْ يُحْيِ اَلْعِظٰامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ مثلا لما دلّ عليه من قصّة عجيبة شبيهة بالمثل، وهي إنكار قدرة اللّه تعالى علي إحياء الموتى، أو لما فيه من التشبيه، لأنّ ما أنكر من قبيل ما يوصف اللّه بالقدرة عليه بدليل النشأة الأولى. فإذا قيل: من يحيي العظام وهي رميم علي طريق الإنكار لأن يكون ذلك مما يوصف سبحانه بالقدرة عليه، كان تعجيزا للّه وتشبيها له بخلقه في أنّهم غير موصوفين بالقدرة عليه. والرميم: ما بلي من العظام، ومثله: الرمة والرفات، وهو اسم غير صفة فلذلك لم يؤنث.

ويريد ب - اَلشَّجَرِ اَلْأَخْضَرِ المرخ والعفار، وهما شجرتان تتخذ الأعراب

ص: 410


1- ينظر: الكشف والبيان ج 8:137.

زنودها منهما، فبيّن سبحانه أنّ من قدر على أن يجعل في الشجر الذي هو في غاية الرطوبة نارا حتى إذا حكّ بعضه ببعض خرجت منه النار، قدر أيضا علي الإعادة.

وقرئ: يقدر أيضا هنا وفي الأحقاف(1).

واحتمل قوله: أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ معنيين: أن يخلق مثلهم في القمأة والصغر بالإضافة إلى السماوات والأرض، أو أن يعيدهم لأنّ الإعادة مثل الابتداء وليس به إنّما شأنه إِذٰا أَرٰادَ تكوين شيء أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ معناه أن يكوّنه من غير توقف فَيَكُونُ فيحدث، أي: فهو كائن لا محالة. وحقيقته: أنّه لا يمتنع عليه شيء من المكونات، وأنّه بمنزلة المأمور المطيع إذا ورد عليه أمر من الآمر المطاع، و (يكون) خبر مبتدأ محذوف تقديره: فهو يكون، فهي جملة معطوفة علي جملة هي: أمره أن يقول له كن. ومن قرأ بالنصب فللعطف علي يَقُولَ والمعنى: إنّه لا يجوز عليه شيء مما يجوز علي الأجسام إذا فعلت شيئا مما تقدر عليه من الأفعال المباشرة بمحال القدرة واستعمال الآلات، وما يتبع ذلك من التعب و اللغوب.

إِنَّمٰا أَمْرُهُ وهو القادر العالم لذاته أن يخلص داعيه إلى الفعل فيتكون الفعل، فكيف يعجز عزّ اسمه عن مقدور حتى يعجز عن الإعادة ؟!.

بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ أي: هو مالك كل شيء، والمتصرّف فيه بموجب مشيئته وقضايا حكمته، أي: فتنزيها له عن نفي القدرة علي الإعادة وعن كل ما لا يليق بصفاته. وعن ابن عباس: (كنت لا أعلم كيف خصّت (سورة يس) بالفضائل التي رويت في قراءتها، فإذا إنّه لهذه الآية)(2).

ص: 411


1- الآية 33.
2- الكشاف ج 4:32.

سورة الصافات

اشارة

مكية، وهي مائة وإحدي وثمانون آية بصري، اثنتان غيرهم، وَ مٰا كٰانُوا يَعْبُدُونَ غير البصري.

في حديث أبيّ : (من قرأ (سورة الصافات) أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل جني وشيطان، وتباعدت منه مردة الشياطين، وبرئ من الشرك، وشهد له حافظاه يوم القيامة أنّه كان مؤمنا بالمرسلين)(1)، وعن الصادق عليه السلام: (من قرأ (سورة الصافات) في كل جمعة لم يزل محفوظا من كل آفة، مدفوعا عنه كل بلية في حياته الدنيا، مرزوقا بأوسع ما يكون من الرزق، ولم يصبه اللّه في ماله ولا ولده ولا بدنه بسوء من شيطان رجيم ولا من جبار عنيد، وإن مات في يومه أو في ليلته بعثه اللّه شهيدا وأدخله الجنّة مع الشهداء)(2).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة الصافات (37): الآیات 1 الی 7]

وَ اَلصَّافّٰاتِ صَفًّا فَالزّٰاجِرٰاتِ زَجْراً فَالتّٰالِيٰاتِ ذِكْراً إِنَّ إِلٰهَكُمْ لَوٰاحِدٌ رَبُّ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا وَ رَبُّ اَلْمَشٰارِقِ إِنّٰا زَيَّنَّا اَلسَّمٰاءَ اَلدُّنْيٰا بِزِينَةٍ اَلْكَوٰاكِبِ وَ حِفْظاً

ص: 412


1- الكشف والبيان ج 8:138.
2- ثواب الأعمال: 112.

[سورة الصافات (37): الآیات 7 الی 10]

مِنْ كُلِّ شَيْطٰانٍ مٰارِدٍ لاٰ يَسَّمَّعُونَ إِلَى اَلْمَلَإِ اَلْأَعْلىٰ وَ يُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جٰانِبٍ دُحُوراً وَ لَهُمْ عَذٰابٌ وٰاصِبٌ إِلاّٰ مَنْ خَطِفَ اَلْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهٰابٌ ثٰاقِبٌ

قرئ بإدغام التاء في الصاد، وفي الزاي، وفي الذال، والأكثر الإظهار.

أقسم اللّه سبحانه بالملائكة تصفّ صفوفا في السماء، أو تصفّ أقدامها في الصلاة كما يصفّ المؤمنون، أو أجنحتها في الهواء منتظرة لأمر اللّه؛ وبالملائكة التي تزجر الخلق عن المعاصي زجرا، أو تزجر السحاب وتسوقها. وقيل: هي آيات القرآن الزاجرة عن القبائح(1). والتاليات: الملائكة تتلو كتاب اللّه الذي كتبه لها وفيه ذكر الحوادث، فتزداد يقينا بوجود المخبر علي وفق الخبر، وقيل: هي نفوس العلماء العمال(2).

اَلصَّافّٰاتِ أقدامها في التهجّد وسائر الصلوات وصفوف الجماعات.

فَالزّٰاجِرٰاتِ بالمواعظ والنصائح.

فَالتّٰالِيٰاتِ آيات اللّه الدارسات شرائعه.

وقيل: هي نفوس الغزاة في سبيل الله التي تصفّ الصفوف، وتزجر الخيل للجهاد، وتتلو الذكر مع ذلك لا يشغلها عنه تلك الشواغل، كما يحكى عن عليّ عليه السلام(3).

رَبُّ اَلسَّمٰاوٰاتِ خبر مبتدأ محذوف، أو خبر بعد خبر.

وَ رَبُّ اَلْمَشٰارِقِ مشارق الشمس: مطالعها، تطلع كل يوم من مشرق

ص: 413


1- عن قتادة. تفسير الطبري ج 23:23.
2- الكشاف ج 4:33.
3- الكشاف ج 4:34.

وتغرب من مغرب، وخصّ المشارق بالذكر لأنّ الشروق قبل الغروب.

اَلسَّمٰاءَ اَلدُّنْيٰا أي: القربى منكم.

بِزِينَةٍ اَلْكَوٰاكِبِ الزينة مصدر كالنسبة، أو اسم لما يزان به الشيء، كالليقة اسم لما يلاق به الدواة، وإن أردت المصدر فهي مضافة إلى الفاعل، أي: بأن زانتها الكواكب، وأصله: بزينة الكواكب، أو إلى المفعول أي: بأن زان اللّه الكواكب وحسّنها لأنّها إنّما زيّنت السماء لحسنها في ذواتها، وأصله: بزينة الكواكب وهي قراءة أبي بكر بن عياش(1). وإن أردت الاسم فللإضافة وجهان: أن تقع بيانا للزينة، لأنّ الزينة مبهمة في الكواكب وغيرها مما يزان به؛ وأن يراد ما زينت به الكواكب، وجاء عن ابن عباس: (بزينة الكواكب: بضوء الكواكب)(2).

ويجوز أن يراد أشكالها المختلفة، كشكل بنات نعش والثريا وغير ذلك من مسائرها ومطالعها، وقرئ علي هذا المعنى بِزِينَةٍ اَلْكَوٰاكِبِ بتنوين زينة وجر الكواكب علي الإبدال، ويجوز في نصب الكواكب أن يكون بدلا من محلّ بزينة.

وَ حِفْظاً محمول علي المعنى، لأنّ معناه: خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظا من الشياطين، كما قال: وَ لَقَدْ زَيَّنَّا اَلسَّمٰاءَ اَلدُّنْيٰا بِمَصٰابِيحَ وَ جَعَلْنٰاهٰا رُجُوماً لِلشَّيٰاطِينِ (3). ويجوز تقدير فعل معلل به، أي: وحفظا من كل شيطان زيّناها بالكواكب، وقيل: حفظناها حفظا من كل شيطان(4).

ص: 414


1- أبو بكر شعبة بن عياش بن سالم الحناط الاسدي النهشلي الكوفي، اختلف في اسمه، ولد سنة 95 ه - وقطع الاقراء قبل موته بسبع سنين، مات سنة 193 ه - وقيل سنة 194 ه -. ينظر: غاية النهاية في طبقات القراء ج 1:325.
2- الكشف والبيان ج 8:140.
3- الملك: 5.
4- معاني القرآن وإعرابه ج 4:298.

مٰارِدٍ خارج من الطاعة متملس منها.

و الضمير في لاٰ يَسَّمَّعُونَ ل - كُلِّ شَيْطٰانٍ ، لأنه في معنى الشياطين، وقرئ بالتخفيف والتشديد، وأصله يتسمعون، و التسمع: طلب السماع، يقال: تسمع فسمع أو فلم يسمع، وهو كلام منقطع مما قبله فيه اقتصاص حال المسترقة للسمع، وأنّهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة أو يتسمعوا إليه.

وهم مقذفون مِنْ كُلِّ جٰانِبٍ من جوانب السماء بالشهب، مدحورون عن ذلك أي: مدفوعون بالعنف مطرودون وَ لَهُمْ مع ذلك عَذٰابٌ وٰاصِبٌ أي:

دائم يوم القيامة.

إِلاّٰ مَنْ أمهل حتى خطف خطفة، أو استرق استراقة، فعندها يعاجله الهلاك بإتباع الشهاب الثاقب وهو النيّر المضيء، والفرق بين قولك: سمعت فلانا يتحدّث، وسمعت إليه يتحدّث، أنّ المعدّى بنفسه يفيد الإدراك، والمعدّي ب - (إلى) يفيد الإصغاء مع الإدراك.

و اَلْمَلَإِ اَلْأَعْلىٰ الملائكة، لأنّهم يسكنون السماوات، والإنس والجن الملأ الأسفل لأنّهم سكان الأرض، وعن ابن عباس: (هم أشراف الملائكة)(1)، وعنه:

(الكتبة من الملائكة)(2).

و دُحُوراً في موضع الحال، أي: مدحورين، أو مفعول له أي: يقذفون للدحور، و مَنْ خَطِفَ مرفوع الموضع بدل من الواو في لاٰ يَسَّمَّعُونَ أي: لا يسمع الشياطين إلا الشيطان الذي خطف الخطفة.

ص: 415


1- الكشاف ج 4:36.
2- الكشاف ج 4:36.

[سورة الصافات (37): الآیات 11 الی 26]

فَاسْتَفْتِهِمْ أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنٰا إِنّٰا خَلَقْنٰاهُمْ مِنْ طِينٍ لاٰزِبٍ بَلْ عَجِبْتَ وَ يَسْخَرُونَ وَ إِذٰا ذُكِّرُوا لاٰ يَذْكُرُونَ وَ إِذٰا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ وَ قٰالُوا إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ سِحْرٌ مُبِينٌ أَ إِذٰا مِتْنٰا وَ كُنّٰا تُرٰاباً وَ عِظٰاماً أَ إِنّٰا لَمَبْعُوثُونَ أَ وَ آبٰاؤُنَا اَلْأَوَّلُونَ قُلْ نَعَمْ وَ أَنْتُمْ دٰاخِرُونَ فَإِنَّمٰا هِيَ زَجْرَةٌ وٰاحِدَةٌ فَإِذٰا هُمْ يَنْظُرُونَ وَ قٰالُوا يٰا وَيْلَنٰا هٰذٰا يَوْمُ اَلدِّينِ هٰذٰا يَوْمُ اَلْفَصْلِ اَلَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ اُحْشُرُوا اَلَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْوٰاجَهُمْ وَ مٰا كٰانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ فَاهْدُوهُمْ إِلىٰ صِرٰاطِ اَلْجَحِيمِ وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ مٰا لَكُمْ لاٰ تَنٰاصَرُونَ بَلْ هُمُ اَلْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ

أي: فاستخبرهم أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أي: أقوي خلقا وأصعب خلقا أَمْ مَنْ خَلَقْنٰا [من الملائكة والسماوات والأرض والكواكب، وغلّب ما يعقل فقال:

أَمْ مَنْ خَلَقْنٰا ](1).

إِنّٰا خَلَقْنٰاهُمْ مِنْ طِينٍ لاٰزِبٍ يعني: آدم عليه السلام، فإنّهم نسله وذريته، واللازب:

الملتصق من الطين الحر، وهذه شهادة عليهم بالضعف والرخاوة، لأنّ ما يصنع من الطين غير موصوف بالصلابة والقوة.

بَلْ عَجِبْتَ من إنكارهم البعث وهم يسخرون من أمر البعث، أو عجبت من تكذيبهم إيّاك وهم يسخرون من تعجبك، و قرئ: بل عجبت وهو قراءة عليّ عليه السلام وابن عباس، ومعناه: بلغ من كثرة آياتي وعظم مخلوقاتي أن عجبت من إنكارهم البعث ممن هذه أفعاله، وهم يسخرون ممن يصفني بالقدرة علي البعث، ويكون العجب المسند إلى اللّه تعالى بمعنى الاستعظام. وقد جاء في

ص: 416


1- ساقطة من ج.

الحديث: (عجب ربّكم من إلّكم وقنوطكم وسرعة إجابته إيّاكم)(1). وقيل:

معناه: قل يا محمّد: بل عجبت(2).

وَ إِذٰا ذُكِّرُوا أي: خوّفوا باللّه ووعظوا بالقرآن لا يتعظون.

وَ إِذٰا رَأَوْا آيَةً من ايات اللّه معجزة كانشقاق القمر وغيره يَسْتَسْخِرُونَ أي: يبالغون في السخرية، أو يستدعي بعضهم بعضا للسخرية، أو يعتقدونه سخرية كما يقال: استقبحه أي: اعتقده قبيحا.

أَ وَ آبٰاؤُنَا عطف علي الضمير في مَبْعُوثُونَ ، وجوّز العطف عليه للفصل بهمزة الاستفهام، أو عطف علي موضع (إنّ ) واسمه، يعنون: إنّ آباءهم أقدم فبعثهم أبعد، وقرئ: أو آباؤنا ومثله في سورة الواقعة(3).

قُلْ نَعَمْ تبعثون وَ أَنْتُمْ دٰاخِرُونَ صاغرون أشدّ الصغار.

و إِنَّمٰا جواب شرط مقدر، والتقدير: إذا كان ذلك فما هي إلا زَجْرَةٌ وٰاحِدَةٌ أي: صيحة واحدة من إسرافيل وهي نفخة البعث فَإِذٰا هُمْ أحياء بصراء يَنْظُرُونَ وهي ضمير مبهم لا يرجع إلى شيء ويوضحها خبرها، ويجوز أن يكون: فإنّما البعثة زجرة واحدة.

وَ قٰالُوا أي: ويقولون معترفين على نفوسهم بالمعصية يٰا وَيْلَنٰا من العذاب هٰذٰا يَوْمُ الحساب أو الجزاء.

هٰذٰا يَوْمُ اَلْفَصْلِ أي: القضاء بين الخلائق وتميّز الحقّ من الباطل اَلَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ يقولون ذلك بعضهم لبعض، وقيل: هو كلام الملائكة

ص: 417


1- غريب الحديث ج 2:269.
2- عن علي بن سليمان. إعراب القرآن ج 3:413.
3- الآية: 48.

جوابا لهم(1).

اُحْشُرُوا خطاب اللّه للملائكة، أو خطاب بعض الملائكة لبعض.

وَ أَزْوٰاجَهُمْ أي: ضرباءهم وأشباههم من العصاة، أهل الزنا مع أهل الزنا، وأهل الخمر مع أهل الخمر، وقيل: وأزواجهم الكافرات(2)، وقيل: وقرناءهم من الشياطين(3).

فَاهْدُوهُمْ فعرفوهم طريق النار حتى يسلكوها.

وَ قِفُوهُمْ واحبسوهم عن دخول النار إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ عما دعوا إليه من البدع، وقيل: عن أعمالهم وخطيئاتهم(4)، وعن أبي سعيد الخدري وسعيد بن جبير:

(عن ولاية عليّ بن أبي طالب عليه السلام)(5). يقال: وقفت أنا، ووقفت غيري.

مٰا لَكُمْ لاٰ تَنٰاصَرُونَ هذا تهكّم بهم وتوبيخ لهم بالعجز عن التناصر بعد ما كانوا علي خلاف ذلك في الدنيا متناصرين.

بَلْ هُمُ اَلْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ قد أسلم بعضهم بعضا و خذله.

[سورة الصافات (37): الآیات 27 الی 33]

وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ يَتَسٰاءَلُونَ قٰالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنٰا عَنِ اَلْيَمِينِ قٰالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَ مٰا كٰانَ لَنٰا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطٰانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طٰاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنٰا قَوْلُ رَبِّنٰا إِنّٰا لَذٰائِقُونَ فَأَغْوَيْنٰاكُمْ إِنّٰا كُنّٰا غٰاوِينَ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي اَلْعَذٰابِ مُشْتَرِكُونَ

ص: 418


1- تفسير السمرقندي ج 3:131.
2- عن الحسن. معالم التنزيل ج 3:209.
3- عن الضحاك. معالم التنزيل ج 3:209.
4- عن عطية. الدر المنثور ج 5:273.
5- شواهد التنزيل ج 2:107.

[سورة الصافات (37): الآیات 34 الی 40]

إِنّٰا كَذٰلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ إِنَّهُمْ كٰانُوا إِذٰا قِيلَ لَهُمْ لاٰ إِلٰهَ إِلاَّ اَللّٰهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَ يَقُولُونَ أَ إِنّٰا لَتٰارِكُوا آلِهَتِنٰا لِشٰاعِرٍ مَجْنُونٍ بَلْ جٰاءَ بِالْحَقِّ وَ صَدَّقَ اَلْمُرْسَلِينَ إِنَّكُمْ لَذٰائِقُوا اَلْعَذٰابِ اَلْأَلِيمِ وَ مٰا تُجْزَوْنَ إِلاّٰ مٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِلاّٰ عِبٰادَ اَللّٰهِ اَلْمُخْلَصِينَ

يَتَسٰاءَلُونَ يتعاتبون ويتلاومون، يقول الغاوي للذي أغواه: لم أغويتني ؟ ويقول ذلك المغوي له: لم قبلت مني ؟.

و اَلْيَمِينِ مستعارة لجهة الخير وجانبه، ومعناه: إنّكم كنتم تأتوننا من قبل الدين فتروننا أنّ الحقّ والدين ما تضلوننا به، وقيل: إنّها مستعارة للقوة والقهر، لأنّ اليمين موصوفة بالقوة وبها يقع البطش(1)، ومعناه: أنّكم كنتم تأتوننا عن القوة والقهر فتجبروننا علي الضلال، فأجابوهم بأن قالوا: بل اللوم لازم لكم إذ لم يكن لَنٰا عَلَيْكُمْ قدرة نجبركم بها علي الغي بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طٰاغِينَ متجاوزين الحد في الكفر.

فَحَقَّ عَلَيْنٰا فلزمنا قَوْلُ رَبِّنٰا ووعيده: بأنّا ذائقون لعذابه لا محالة، لعلمه بحالنا و استحقاقنا العقوبة، ولو حكى الوعيد كما هو لقال: إنّكم لذائقون، ولكنّه عدل به إلى لفظ المتكلّم لأنّهم متكلّمون بذلك عن أنفسهم، ونحوه قول الشاعر:

لقد زعمت هوازن قلّ مالي(2)

ص: 419


1- معاني القرآن للفراء ج 2:384.
2- البيت لزيد بن الجهم الهلالي. الوافي بالوفيات ج 15:23، وفيه: تسائلني هوازن أين مالي وما لي غير ما أنفقت مال.

ولو حكى قولها لقال: قلّ مالك.

فَإِنَّهُمْ أي: فإنّ المتبوعين والتابعين جميعا يَوْمَئِذٍ في ذلك اليوم مُشْتَرِكُونَ في العذاب والإهانة، كما كانوا مشتركين في الغواية.

يَسْتَكْبِرُونَ أي: يأنفون من قول لا إله إلا اللّه، ويستخفون بمن يدعوهم إلى هذه المقالة.

إِنَّكُمْ أيّها المشركون لَذٰائِقُوا اَلْعَذٰابِ اَلْأَلِيمِ علي كفركم و نسبتكم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى الشعر و الجنون.

وَ مٰا تُجْزَوْنَ إِلاّٰ مثل ما عملتم جزاء سيئا بعمل سيئ.

إِلاّٰ عِبٰادَ اَللّٰهِ لكن عباد اللّه علي الاستثناء المنقطع.

[سورة الصافات (37): الآیات 41 الی 61]

أُولٰئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ فَوٰاكِهُ وَ هُمْ مُكْرَمُونَ فِي جَنّٰاتِ اَلنَّعِيمِ عَلىٰ سُرُرٍ مُتَقٰابِلِينَ يُطٰافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضٰاءَ لَذَّةٍ لِلشّٰارِبِينَ لاٰ فِيهٰا غَوْلٌ وَ لاٰ هُمْ عَنْهٰا يُنْزَفُونَ وَ عِنْدَهُمْ قٰاصِرٰاتُ اَلطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ يَتَسٰاءَلُونَ قٰالَ قٰائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كٰانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَ إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُصَدِّقِينَ أَ إِذٰا مِتْنٰا وَ كُنّٰا تُرٰاباً وَ عِظٰاماً أَ إِنّٰا لَمَدِينُونَ قٰالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوٰاءِ اَلْجَحِيمِ قٰالَ تَاللّٰهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وَ لَوْ لاٰ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ اَلْمُحْضَرِينَ أَ فَمٰا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلاّٰ مَوْتَتَنَا اَلْأُولىٰ وَ مٰا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هٰذٰا لَهُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ لِمِثْلِ هٰذٰا فَلْيَعْمَلِ اَلْعٰامِلُونَ

ص: 420

حكم لهم سبحانه بالرزق المعلوم المقدّر، ثمّ فسّر ذلك الرزق بالفواكه، وهي كل ما يتلذذ به ولا يتقوت لحفظ الصحّة. والمعنى: إنّ رزقهم كله فواكه، لأنّهم مستغنون عن حفظ الصحّة بالأقوات، إذ أجسامهم محكمة مخلوقة للأبد، فلا يأكلون ما يأكلون إلا للتلذذ، وقيل: معلوم الوقت، كقوله: وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهٰا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا (1).

وَ هُمْ مُكْرَمُونَ هو ما قاله الشيوخ(2) في حدّ الثواب: أنّه النفع المستحقّ المقارن للتعظيم والإجلال.

مُتَقٰابِلِينَ يستمتع بعضهم بالنظر إلى وجوه بعض، وهو أتمّ للأنس وا لسرور.

بِكَأْسٍ هو الإناء بما فيه من الشراب، وعن الأخفش: (كل كأس في القرآن فهي الخمر)(3).

مِنْ مَعِينٍ من شراب جار في أنهار ظاهرة للعيون، وصف بما يوصف به الماء لأنّه يجري في الجنّة كما يجري الماء.

بَيْضٰاءَ صفة للكأس لَذَّةٍ هي تأنيث اللذ ووزنه فعل مثل: صب وطب، وقال يصف النوم:

ولذّ كطعم الصّرخديّ تركته *** بأرض العدى من خشية الحدثان(4)

أو وصفت باللذّة كأنّها نفس اللذّة وذاتها.

ص: 421


1- مريم: 62.
2- في هامش د: يعني شيوخ المعتزلة.
3- الكشف والبيان ج 8:144.
4- أمالي القالي ج 1:210 دون نسبة وكذا في المصادر المتوفرة.

لاٰ فِيهٰا غَوْلٌ لا يغتال عقولهم فتذهب بها، ولا يصيبهم منها وجع.

وَ لاٰ هُمْ عَنْهٰا يُنْزَفُونَ من نزف الشارب: إذا ذهب عقله، ويقال للمطعون إذا خرج دمه كله: نزف فمات، وقرئ: ينزفون من أنزف الشارب: إذا ذهب عقله أو شرابه، ومعناه: صار ذا نزف، ومثله: أقشع السحاب وقشعته الريح، وأكب الرجل وكببته، وحقيقتهما: دخلا في القشع والكب.

قٰاصِرٰاتُ اَلطَّرْفِ قصرن طرفهن علي أزواجهن فلا يرين غيرهم، أو لا يفتحن أعينهن دلالا.

كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ في الأداحي، وهو بيض النعام، والعرب تشبّه بها النساء وتسمّيهن ببيضات الخدور.

فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ معطوف علي يُطٰافُ عَلَيْهِمْ والمعنى: يشربون فيتحادثون على الشراب فيقبل بَعْضُهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ يَتَسٰاءَلُونَ عما جري عليهم ولهم في الدنيا، إلا أنّه جيء به ماضيا علي عادة اللّه عزّ اسمه في إخباره.

قٰالَ قٰائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كٰانَ لِي قَرِينٌ في دار الدنيا أي: صاحب يختص بي يَقُولُ لي علي وجه الإنكار عليّ والتهجين لي: أَ إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُصَدِّقِينَ بالبعث وا لحساب.

لَمَدِينُونَ أي: لمجزيون، من الدين الذي هو الجزاء، أو لمسوسون مربوبون، من دانه إذا ساسه. وفي الحديث: (الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت)(1).

قٰالَ أي: ذلك القائل لإخوانه في الجنّة: هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ إلى النار

ص: 422


1- أمالي الشيخ الطوسي ج 2:143، كتاب الزهد والرقائق: 56.

لأريكم ذلك القرين ؟ وقيل: إنّ القائل هو اللّه تعالى(1)، وقيل: بعض الملائكة، يقال: طلع علينا فلان واطّلع وأطلع بمعنى واحد، عرض عليهم الاطلاع فاعترضوه فَاطَّلَعَ هو بعد ذلك فرأي قرينه فِي سَوٰاءِ اَلْجَحِيمِ في وسطها.

قٰالَ له: تَاللّٰهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ إن هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة، أي: إنك كدت تهلكني بما قلته لي ودعوتني إليه وَ لَوْ لاٰ نِعْمَةُ رَبِّي عليّ بالعصمة والتوفيق لَكُنْتُ مِنَ اَلْمُحْضَرِينَ الذين أحضروا العذاب معك في النار.

والفاء عاطفة علي محذوف تقديره: أنحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين ولا معذّبين ؟!. والمعنى: إنّ هذه حال المؤمنين أن لا يذوقوا إلا الموتة الأولى، بخلاف الكفار فإنّهم في الام وغموم وأحوال يتمنّون فيها الموت كل ساعة، وإنّما يقوله المؤمن تحدّثا بنعمة اللّه بمسمع من قرينه ليكون توبيخا له، و يجوز أن يكون قولهم جميعا.

وكذلك قوله: إِنَّ هٰذٰا لَهُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ أي: إنّ هذا الأمر الذي نحن فيه، وقيل: هو من قول اللّه عزّ اسمه تقريرا لقولهم.

تمت قصة المؤمن وقرينه.

[سورة الصافات (37): الآیات 62 الی 70]

أَ ذٰلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ اَلزَّقُّومِ (62) إِنّٰا جَعَلْنٰاهٰا فِتْنَةً لِلظّٰالِمِينَ (63) إِنَّهٰا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ اَلْجَحِيمِ (64) طَلْعُهٰا كَأَنَّهُ رُؤُسُ اَلشَّيٰاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهٰا فَمٰالِؤُنَ مِنْهَا اَلْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهٰا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى اَلْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبٰاءَهُمْ ضٰالِّينَ (69) فَهُمْ عَلىٰ آثٰارِهِمْ يُهْرَعُونَ (7(0)

ص: 423


1- الكشف والبيان ج 8:145.

[سورة الصافات (37): الآیات 71 الی 74]

وَ لَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ اَلْأَوَّلِينَ وَ لَقَدْ أَرْسَلْنٰا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ فَانْظُرْ كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلْمُنْذَرِينَ إِلاّٰ عِبٰادَ اَللّٰهِ اَلْمُخْلَصِينَ

ثمّ عاد سبحانه إلى ذكر الرزق المعلوم فقال: أَ ذٰلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أي: خير حاصلا، وأصل النزل: الفضل والريع في الطعام، فاستعير للحاصل من الشيء، وحاصل الرزق المعلوم: اللذّة والسرور، وحاصل شجرة الزقوم: الألم و الغم. و نُزُلاً منصوب علي التمييز أو الحال، والنزل: ما يقام للنازل بالمكان من الرزق.

ومعنى الأوّل: إنّ للرزق المعلوم نزلا، ولشجرة الزقوم نزلا، فأيّهما خير نزلا؟ ومعنى الثاني: إنّ الرزق المعلوم نزل أهل الجنّة، وشجرة الزقوم نزل أهل النار، فأيّهما خير في كونه نزلا؟.

فِتْنَةً لِلظّٰالِمِينَ افتتنوا بها إذ كذّبوا بكونها، وقيل: عذابا لهم(1)، من قوله:

يَوْمَ هُمْ عَلَى اَلنّٰارِ يُفْتَنُونَ (2) .

والطلع يكون للنخلة، فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم من حملها، وشبّه برؤوس الشياطين دلالة علي تناهيه في الكراهة وقبح المنظر، لأنّ الشيطان مكروه مستقبح في طباع الناس، وقيل: الشيطان: حية عرفاء قبيحة المنظر هائلة جدا(3)، وقيل: إنّ شجرا يقال له: الأستن خشنا منتنا مرّا منكر الصورة يسمّى ثمره: رؤوس الشياطين.

ص: 424


1- عن ابن عيسى. تفسير الماوردي ج 5:51.
2- الذاريات: 13.
3- معاني القرآن للفراء ج 2:387.

لَآكِلُونَ مِنْهٰا أي: من طلعها فَمٰالِؤُنَ بطونهم منه لشدّة ما يلحقهم من الجوع، فتغلي بطونهم ويعطشون فيسقون بعد ملي ما هو أحر، وهو الشراب المشوب بالحميم ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ بعد أكل الزقوم وشرب الحميم لَإِلَى اَلْجَحِيمِ وذلك أنّهم يوردون الحميم كما يورد الإبل الماء، ثمّ يردّون إلى الجحيم وهي النار المتوقدة.

إِنَّهُمْ صادفوا آبٰاءَهُمْ ذاهبين عن الحقّ ، فهم يسرعون عَلىٰ آثٰارِهِمْ ويتبعونهم اتباعا، أي: ضلّ قبل هؤلاء الكفار عن طريق الهدى أكثر الأوّلين من الأمم الخالية، وفيه دلالة علي أنّ أهل الحقّ في كل زمان كانوا أقل من أهل الباطل.

ولما ذكر إرسال المنذرين من الأنبياء والرسل، وسوء عاقبة المنذرين المكذبين عقّبه سبحانه بقصّة نوح عليه السلام ودعائه إيّاه حين يئس من قومه فقال:

[سورة الصافات (37): الآیات 75 الی 96]

وَ لَقَدْ نٰادٰانٰا نُوحٌ فَلَنِعْمَ اَلْمُجِيبُونَ وَ نَجَّيْنٰاهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ اَلْكَرْبِ اَلْعَظِيمِ وَ جَعَلْنٰا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ اَلْبٰاقِينَ وَ تَرَكْنٰا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ سَلاٰمٌ عَلىٰ نُوحٍ فِي اَلْعٰالَمِينَ إِنّٰا كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبٰادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا اَلْآخَرِينَ وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرٰاهِيمَ إِذْ جٰاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ إِذْ قٰالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ مٰا ذٰا تَعْبُدُونَ أَ إِفْكاً آلِهَةً دُونَ اَللّٰهِ تُرِيدُونَ فَمٰا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ اَلْعٰالَمِينَ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي اَلنُّجُومِ فَقٰالَ إِنِّي سَقِيمٌ فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ فَرٰاغَ إِلىٰ آلِهَتِهِمْ فَقٰالَ أَ لاٰ تَأْكُلُونَ مٰا لَكُمْ لاٰ تَنْطِقُونَ فَرٰاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ قٰالَ أَ تَعْبُدُونَ مٰا تَنْحِتُونَ وَ اَللّٰهُ خَلَقَكُمْ وَ مٰا تَعْمَلُونَ

ص: 425

أي: فَلَنِعْمَ اَلْمُجِيبُونَ نحن، واللام جواب قسم محذوف.

هُمُ اَلْبٰاقِينَ هم الذين بقوا وقد فني غيرهم، أو هم الذين بقوا متناسلين إلي يوم القيامة، فالناس كلهم من ولد نوح، فالعرب والعجم من أولاد سام بن نوح، والسودان من أولاد حام بن نوح، والترك والخزر ويأجوج من أولاد يافث بن نوح.

وَ تَرَكْنٰا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ من الأمم هذه الكلمة وهي سَلاٰمٌ عَلىٰ نُوحٍ أي:

يسلّمون عليه تسليما إلى يوم القيامة، وهو من الكلام المحكي.

ومعنى قوله: فِي اَلْعٰالَمِينَ : الدعاء بثبوت هذه التحية فيهم جميعا.

وعلل مجازاة نوح بتلك الكرامة من تبقية الذكر، وتسليم العالمين عليه إلى آخر الدهر بأنّه كان محسنا، ثمّ علل كونه محسنا بأنّه كان عبدا من عباده اَلْمُؤْمِنِينَ ، ليريك جلالة محلّ الإيمان.

مِنْ شِيعَتِهِ أي: ممن شايعه علي أصول الدين، أو شايعه علي التصلب في دين اللّه ومصابرة المكذبين، وتعلّق إِذْ بما في الشيعة من معنى المشايعة، أي: وإنّ ممن شايعه علي دينه وتقواه حين جٰاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ لإبراهيم، أو بمحذوف هو اذكر، ومعناه: حين أخلص للّه قلبه من كل ما سواه، فلم يتعلّق بشيء غيره، فضرب المجيء مثلا لذلك.

إِفْكاً مفعول له، والتقدير: أتريدون آلهة من دون الله إفكا؟! وإنّما قدّمه للعناية، وقدّم المفعول له على المفعول به لأنّه كان الأهم عنده أن يواجههم بأنّهم علي إفك وباطل في شركهم. ويجوز أن يكون إفكا مفعولا به، أي: أتريدون إفكا؟! ثمّ فسّر الإفك بقوله: آلهة من دون اللّه علي أنّها إفك في نفسها، ويجوز أن يكون حالا، أي: أتريدون آلهة من دون اللّه آفكين ؟!.

ص: 426

فَمٰا ظَنُّكُمْ بمن هو الحقيق بالعبادة ؟ لأنّ من كان ربّ العالمين استحقّ عليهم أن يعبدوه حتى تركتم عبادته إلى عبادة الأصنام. والمعنى: إنّه لا يقدر في ظن ولا وهم ما يصد عن عبادته، أو فما ظنكم به ماذا يفعل بكم وقد عبدتم غيره ؟.

فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي اَلنُّجُومِ في علم النجوم أو في كتابها أو في أحكامها، لأنّهم كانوا يتعاطون علم النجوم فأوهمهم أنّه استدلّ بأمارة في علم النجوم علي أنّه يسقم فَقٰالَ إِنِّي سَقِيمٌ أي: مشارف للسقم، وهو من معاريض الكلام، وإنّما نوي به أنّ من كان آخر أمره الموت سقيم. وروي عن الباقر والصادق عليهما السلام أنّهما قا لا: (و اللّه ما كان سقيما وما كذب)(1).

فَتَوَلَّوْا عَنْهُ فأعرضوا عنه وتركوه وخرجوا إلى عيدهم.

فَرٰاغَ إِلىٰ آلِهَتِهِمْ فمال إلى أصنامهم في خفية.

فَقٰالَ أَ لاٰ تَأْكُلُونَ مٰا لَكُمْ لاٰ تَنْطِقُونَ استهزاء بها وبانحطاطها عن حال عبدتها.

فَرٰاغَ عَلَيْهِمْ فأقبل عليهم يضربهم ضَرْباً ، أو فراغ عليهم ضربا بمعنى:

ضاربا.

بِالْيَمِينِ أي: ضربا شديدا قويا، لأنّ اليمين أقوي الجارحتين وأشدّهما، وقيل: بالقوة(2)، وقيل: بسبب الحلف(3) وهو قوله: وَ تَاللّٰهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنٰامَكُمْ (4).

فَأَقْبَلُوا بعد الفراغ من عيدهم إلى إبراهيم. قرئ: يزفون يسرعون، من

ص: 427


1- الكافي ج 2:217، ج 8:369.
2- معاني القرآن للفراء ج 2:384.
3- عن ابن عيسى. تفسير الماوردي ج 5:57.
4- الأنبياء: 57.

زفيف النعام، و يَزِفُّونَ من أزف: إذا دخل في الزفيف، أو من أزفه إذا حمله علي الزفيف، أي: يزف بعضهم بعضا، ويزفون خفيفا، من وزف يزف.

قٰالَ محتجا عليهم: أَ تَعْبُدُونَ ما تنحتونه بأيديكم.

وَ اَللّٰهُ خَلَقَكُمْ وخلق ما تعملونه من الأصنام، يقال: عمل النجار الباب والكرسي، وعمل الصائغ السوار والخاتم، والمراد: عمل أشكال هذه الأشياء وصورها دون جواهرها، والأصنام جواهر وأشكال، فخالق جواهرها هو اللّه، وعاملو أشكالها مصوروها ومشكلوها بنحتهم.

و وَ مٰا تَعْمَلُونَ ترجمة عن قوله: مٰا تَنْحِتُونَ ، و مٰا في: مٰا تَنْحِتُونَ موصولة ولا مقال فيها، فالعدول بها عن أختها تعسف.

[سورة الصافات (37): الآیات 97 الی 113]

قٰالُوا اِبْنُوا لَهُ بُنْيٰاناً فَأَلْقُوهُ فِي اَلْجَحِيمِ (97) فَأَرٰادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنٰاهُمُ اَلْأَسْفَلِينَ (98) وَ قٰالَ إِنِّي ذٰاهِبٌ إِلىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ اَلصّٰالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنٰاهُ بِغُلاٰمٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمّٰا بَلَغَ مَعَهُ اَلسَّعْيَ قٰالَ يٰا بُنَيَّ إِنِّي أَرىٰ فِي اَلْمَنٰامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مٰا ذٰا تَرىٰ قٰالَ يٰا أَبَتِ اِفْعَلْ مٰا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شٰاءَ اَللّٰهُ مِنَ اَلصّٰابِرِينَ (102) فَلَمّٰا أَسْلَمٰا وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَ نٰادَيْنٰاهُ أَنْ يٰا إِبْرٰاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ اَلرُّؤْيٰا إِنّٰا كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هٰذٰا لَهُوَ اَلْبَلاٰءُ اَلْمُبِينُ (106) وَ فَدَيْنٰاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَ تَرَكْنٰا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ (108) سَلاٰمٌ عَلىٰ إِبْرٰاهِيمَ (109) كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبٰادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ (111) وَ بَشَّرْنٰاهُ بِإِسْحٰاقَ نَبِيًّا مِنَ اَلصّٰالِحِينَ (11(2) وَ بٰارَكْنٰا عَلَيْهِ وَ عَلىٰ إِسْحٰاقَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمٰا مُحْسِنٌ وَ ظٰالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ

ص: 428

لما لزمته الحجّة قٰالُوا اِبْنُوا لَهُ بُنْيٰاناً وعن ابن عباس: (بنوا حائطا من الحجارة طوله في السماء ثلاثون ذراعا، [و عرضه عشرون ذراعا](1)، وملؤوه نارا وألقوه فيها)(2).

فَجَعَلْنٰاهُمُ اَلْأَسْفَلِينَ بأن أهلكناهم ونجّيناه وسلّمناه.

وَ قٰالَ إبراهيم: إِنِّي ذٰاهِبٌ إِلىٰ رَبِّي أي: مهاجر إلى حيث أمرني ربّي بالمهاجرة إليه من أرض الشام.

أي رَبِّ هَبْ لِي بعض اَلصّٰالِحِينَ يريد الولد، لأنّ لفظ الهبة علي الولد أغلب وإن كان قد جاء في الأخ حيث قال: وَ وَهَبْنٰا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنٰا أَخٰاهُ هٰارُونَ (3)، قال سبحانه: وَ وَهَبْنٰا لَهُ يَحْيىٰ (4)، وَ وَهَبْنٰا لَهُ إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ (5).

فَبَشَّرْنٰاهُ بِغُلاٰمٍ حَلِيمٍ اشتملت البشارة علي أنّ الولد ذكر، وأنّه يبقى حتى ينتهي في السن ويوصف بالحلم، وأيّ حلم أعظم من حلمه حين عرض عليه أبوه الذبح فقال: سَتَجِدُنِي إِنْ شٰاءَ اَللّٰهُ مِنَ اَلصّٰابِرِينَ ثمّ استسلم لذلك معه.

بيان: كأنّه لما قال: بَلَغَ مَعَهُ اَلسَّعْيَ أي: الحدّ الذي يقدر فيه علي السعي، قيل: مع من ؟ قال: مع أبيه، وكان إذ ذاك ابن ثلاث عشرة سنة، أتي في المنام فقيل له: اذبح ابنك، ورؤيا الأنبياء وحيّ فلهذا قال: إِنِّي أَرىٰ فِي اَلْمَنٰامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ والأولى أن يكون قد أوحي إليه في حال اليقظة، وتعبّد بأن يمضي ما يؤمر به في

ص: 429


1- ساقطة من ب.
2- تفسير مقاتل بن سليمان ج 3:103.
3- مريم: 53.
4- الأنبياء: 90.
5- الأنعام: 84.

حال النوم.

فَانْظُرْ مٰا ذٰا تَرىٰ أو أي شيء تري من الرأي، فيكون مٰا ذٰا في موضع نصب بمنزلة اسم واحد، وعلي الأوّل يكون ذا بمعنى الذي، أي: ما الذي تبصره من رأيك ؟ وما مبتدأ، والموصول مع صلته خبره، وقرئ: ماذا تري بضم التاء وكسر الراء، معناه: أجلدا تري علي ما تحمل عليه أم خورا؟.

اِفْعَلْ مٰا تُؤْمَرُ أي: ما تؤمر به، فحذف الجار كما حذف من قولهم:

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به(1)

أو أمرك علي إضافة المصدر إلي المفعول، وتسمية المأمور به أمرا.

وقرأ عليّ عليه السلام وابن عباس: سلما، يقال: سلم لأمر اللّه وأسلم واستسلم: إذا انقاد وخضع، وحقيقة معناه: أخلص نفسه للّه وجعلها سالمة له وخالصة. وعن قتادة في أَسْلَمٰا : (أسلم هذا ابنه، وهذا نفسه)(2).

وجواب (لما) محذوف، وتقديره: فَلَمّٰا أَسْلَمٰا وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَ نٰادَيْنٰاهُ أَنْ يٰا إِبْرٰاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ اَلرُّؤْيٰا كان ما كان مما لا يحيط به الوصف من شكرهما للّه علي ما أنعم به عليهما من دفع البلاء العظيم بعد حلوله، وما فازا به من رضوان اللّه واكتساب الثواب والأعواض الجليلة. والتل: الصرع، يقال: وضع جبينه علي الأرض لئلا يري وجهه فتلحقه رقة الآباء.

قَدْ صَدَّقْتَ اَلرُّؤْيٰا أي: فعلت ما أمرت به في الرؤيا.

وقوله: إِنّٰا كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ فيه تعليل لتخويل ما خولهما اللّه من

ص: 430


1- ديوان العباس بن مرداس السلمي: 31، وبقيته: فقد تركتك ذا مال وذا نشب.
2- تفسير الطبري ج 23:50.

الفرج بعد الشدّة.

إِنَّ هٰذٰا لَهُوَ اَلْبَلاٰءُ اَلْمُبِينُ أي: الامتحان الظاهر والمحنة الصعبة التي لا محنة أصعب منها، أو الاختبار البيّن الذي يتميّز فيه المخلصون من غيرهم.

وَ فَدَيْنٰاهُ بِذِبْحٍ و هو المهيأ لأن يذبح.

عَظِيمٍ ضخم الجثة سمين، والمفتدي منه هو اللّه عزّوجل لأنّه الآمر بالذبح، والفادي هو إبراهيم عليه السلام، وهب اللّه سبحانه له الكبش ليفدي به. وإنّما قال: وَ فَدَيْنٰاهُ إسنادا للفداء إلى السبب الذي هو الممكن من الفداء بهبته.

واختلف في الذبيح علي قولين: أحدهما: أنّه إسحاق، والأظهر في الروايات(1) أنّه إسماعيل، ويعضده قول النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: (أنا ابن الذبيحين)(2) وكذلك قوله سبحانه بعد قصّة الذبح: وَ بَشَّرْنٰاهُ بِإِسْحٰاقَ نَبِيًّا مِنَ اَلصّٰالِحِينَ ولا بد من تقدير مضاف محذوف، أي: بوجود إسحاق، و نَبِيًّا حال مقدّرة. والمعنى: بأن يوجد مقدّرة نبوّته، والعامل في الحال الوجود لا فعل البشارة، فيكون نظير قوله:

فَادْخُلُوهٰا خٰالِدِينَ (3) .

وقوله: مِنَ اَلصّٰالِحِينَ [حال ثانية وردت علي سبيل الثناء والتقريظ، لأنّ كل نبيّ لابد أن يكون من الصالحين](4).

وَ بٰارَكْنٰا عَلَيْهِ وَ عَلىٰ إِسْحٰاقَ أي: جعلنا ما أعطيناهما من الخير دائم البركة ثابتا ناميا، ويجوز أن يكون المراد كثرة ولدهما وبقاءهم قرنا بعد قرن إلى وقت قيام

ص: 431


1- في ب: الأقوال.
2- الخصال: 56، المستدرك على الصحيحين ج 2:559.
3- الزمر: 73.
4- ساقطة من ج.

الساعة.

[سورة الصافات (37): الآیات 114 الی 122]

وَ لَقَدْ مَنَنّٰا عَلىٰ مُوسىٰ وَ هٰارُونَ وَ نَجَّيْنٰاهُمٰا وَ قَوْمَهُمٰا مِنَ اَلْكَرْبِ اَلْعَظِيمِ وَ نَصَرْنٰاهُمْ فَكٰانُوا هُمُ اَلْغٰالِبِينَ وَ آتَيْنٰاهُمَا اَلْكِتٰابَ اَلْمُسْتَبِينَ وَ هَدَيْنٰاهُمَا اَلصِّرٰاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ وَ تَرَكْنٰا عَلَيْهِمٰا فِي اَلْآخِرِينَ سَلاٰمٌ عَلىٰ مُوسىٰ وَ هٰارُونَ إِنّٰا كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ إِنَّهُمٰا مِنْ عِبٰادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ

اَلْكَرْبِ اَلْعَظِيمِ تسخير قوم فرعون إيّاهم، واستعمالهم في الأعمال الشاقة.

وَ نَصَرْنٰاهُمْ الضمير لهما ولقومهما في قوله: وَ نَجَّيْنٰاهُمٰا وَ قَوْمَهُمٰا مِنَ اَلْكَرْبِ اَلْعَظِيمِ .

و اَلْكِتٰابَ اَلْمُسْتَبِينَ البليغ في بيانه وهو التوراة.

[سورة الصافات (37): الآیات 123 الی 132]

وَ إِنَّ إِلْيٰاسَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ إِذْ قٰالَ لِقَوْمِهِ أَ لاٰ تَتَّقُونَ أَ تَدْعُونَ بَعْلاً وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ اَلْخٰالِقِينَ اَللّٰهَ رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبٰائِكُمُ اَلْأَوَّلِينَ فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلاّٰ عِبٰادَ اَللّٰهِ اَلْمُخْلَصِينَ وَ تَرَكْنٰا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ سَلاٰمٌ عَلىٰ إِلْيٰاسِينَ إِنّٰا كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبٰادِنَا اَلْمُؤْمِنِينَ

اختلف في إِلْيٰاسَ فقيل: هو إدريس النبيّ (1)، وقيل: هو من بني إسرائيل من ولد هارون بن عمران ابن عم اليسع(2)، وقيل: إنّه استخلف اليسع علي بني

ص: 432


1- عن ابن مسعود وغيره. الدر المنثور ج 5:285.
2- عن ابن عباس. الكشف والبيان ج 8:158.

إسرائيل ورفعه اللّه تعالى وكساه الريش فصار إنسيا ملكيا وأرضيا سماويا(1)، وقيل: إنّ إلياس صاحب البراري، والخضر صاحب الجزائر، ويجتمعان كل يوم عرفة بعرفات(2).

وبعل: صنم لهم كانوا يعبدونه.

وقرئ: اَللّٰهَ رَبَّكُمْ بالرفع علي الابتداء، وبالنصب علي البدل.

فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ للحساب أو في العذاب أو النار. واستثنى من جملة قومه الذين أخلصوا عبادتهم للّه.

و قرئ: سَلاٰمٌ عَلىٰ إِلْيٰاسِينَ علي أنّه لغة في إلياس، وقرأ ابن مسعود والأعمش(3): وإنّ إدريس وعلي إدراسين، ولعل لزيادة الياء والنون معنى في السريانية، ولو كان جمعا - كما قيل - لعرّف بالألف واللام، و قرئ: علي آل ياسين ووجد في المصحف مفصولا من ياسين، وفي فصله منه دلالة علي أنّ آل [هو الذي تصغيره أهيل، قاله أبو علي الفارسي(4). وعن ابن عباس: (آل](5) ياسين: آل محمّد، وياسين اسم من أسمائه)(6).

ص: 433


1- الكشف والبيان ج 8:167.
2- الكشف والبيان ج 8:167.
3- سليمان بن مهران الأعمش أبو محمد الأسدي الكاهلي مولاهم الكوفي، ولد سنة 60 ه -، توفي سنة 148 ه -. ينظر غاية النهاية في طبقات القراء ج 1:315.
4- الحجة في علل القراءات السبع ج 4:229.
5- ساقطة من ب.
6- معاني الأخبار: 121، معجم الطبراني الكبير ج 11:56.

[سورة الصافات (37): الآیات 133 الی 148]

وَ إِنَّ لُوطاً لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْنٰاهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلاّٰ عَجُوزاً فِي اَلْغٰابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا اَلْآخَرِينَ وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَ بِاللَّيْلِ أَ فَلاٰ تَعْقِلُونَ وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى اَلْفُلْكِ اَلْمَشْحُونِ فَسٰاهَمَ فَكٰانَ مِنَ اَلْمُدْحَضِينَ فَالْتَقَمَهُ اَلْحُوتُ وَ هُوَ مُلِيمٌ فَلَوْ لاٰ أَنَّهُ كٰانَ مِنَ اَلْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَنَبَذْنٰاهُ بِالْعَرٰاءِ وَ هُوَ سَقِيمٌ وَ أَنْبَتْنٰا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ وَ أَرْسَلْنٰاهُ إِلىٰ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنٰاهُمْ إِلىٰ حِينٍ

لَتَمُرُّونَ علي منازلهم في متاجركم إلي الشام.

مُصْبِحِينَ داخلين في الصباح وَ بِاللَّيْلِ عطف عليه، أي: و ممسين أَ فَلاٰ تعتبرون بها.

إِذْ أَبَقَ أي: هرب من قومه إلى السفينة المملوءة من الناس والأحمال خوفا من أن ينزل العذاب بهم وهو مقيم فيهم.

فَسٰاهَمَ القوم أي: قارعهم.

فَكٰانَ مِنَ اَلْمُدْحَضِينَ أي: من المغلوبين المقروعين، والمراد: من الملقين في البحر.

فَالْتَقَمَهُ اَلْحُوتُ أي: ابتلعه.

وَ هُوَ مُلِيمٌ داخل في الملامة علي خروجه من بين قومه بغير أمر ربّه.

مِنَ اَلْمُسَبِّحِينَ الذاكرين اللّه كثيرا بالتسبيح والتقديس.

ص: 434

لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ حيا إِلىٰ يَوْمِ البعث، وعن قتادة: (لكان بطن الحوت قبرا له إلى يوم القيامة)(1).

فَنَبَذْنٰاهُ فطرحناه بالعراء، وهو المكان الخالي الذي لا نبت فيه ولا شجر وَ هُوَ مريض.

واليقطين: كل نبت ينبسط علي وجه الأرض ولا ساق له كشجر البطيخ والقثاء، وهو يفعيل من قطن بالمكان: إذا أقام به، وقيل: هو القرع(2)، وفائدته أنّ الذباب لا يجتمع عنده، وقيل: هو التين، وقيل: هو شجرة الموز، تغطى بورقها، واستظل بأغصانها، وأفطر علي ثمارها.

ومعنى أَنْبَتْنٰا عَلَيْهِ : أنبتناها فوقه كما يطنب البيت علي الإنسان.

وَ أَرْسَلْنٰاهُ إِلىٰ مِائَةِ أَلْفٍ عن قتادة: (أرسل إلي أهل نينوى من أرض الموصل)(3).

أَوْ يَزِيدُونَ في مرأى الناظر، إذا رآهم الرائي قال: هي مائة ألف أو أكثر. وقرأ الصادق عليه السلام: ويزيدون فا منوا وأنابوا(4).

فَمَتَّعْنٰاهُمْ إلى انقضاء آجالهم، يحتمل أن يكون أرسل إلى قوم بعد قومه، ويجوز أن يكون أرسل إلي الأوّلين.

ص: 435


1- تفسير الطبري ج 23:65.
2- عن ابن مسعود وغيره. تفسير الطبري ج 23:66.
3- الدر المنثور ج 5:291.
4- في ب: وتابوا.

[سورة الصافات (37): الآیات 149 الی 160]

فَاسْتَفْتِهِمْ أَ لِرَبِّكَ اَلْبَنٰاتُ وَ لَهُمُ اَلْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا اَلْمَلاٰئِكَةَ إِنٰاثاً وَ هُمْ شٰاهِدُونَ أَلاٰ إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اَللّٰهُ وَ إِنَّهُمْ لَكٰاذِبُونَ أَصْطَفَى اَلْبَنٰاتِ عَلَى اَلْبَنِينَ مٰا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَ فَلاٰ تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطٰانٌ مُبِينٌ فَأْتُوا بِكِتٰابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ اَلْجِنَّةِ نَسَباً وَ لَقَدْ عَلِمَتِ اَلْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ سُبْحٰانَ اَللّٰهِ عَمّٰا يَصِفُونَ إِلاّٰ عِبٰادَ اَللّٰهِ اَلْمُخْلَصِينَ

فَاسْتَفْتِهِمْ معطوف علي مثله في السورة(1) وإن تباعد ما بينهما.

أمر اللّه رسوله باستفتاء قريش عن وجه إنكار البعث أوّلا، ثمّ ساق الكلام موصولا بعضه ببعض، ثمّ أمره باستفتائهم عن وجه القسمة التي قسّموها ضيزى حيث جعلوا للّه الإناث ولأنفسهم الذكور في قولهم: الملائكة بنات اللّه مع كراهتهم لهن و وأدهم إيّاهن.

أَمْ خَلَقْنَا بل أخلقنا اَلْمَلاٰئِكَةَ إِنٰاثاً وَ هُمْ شٰاهِدُونَ حاضرون خلقنا إيّاهم، أي: كيف جعلوهم إناثا ولم يشهدوا. ولقد ارتكبوا ثلاثة أنواع من الكفر في ذلك:

أحدها: التجسيم، لأنّ الولادة مختصة بالأجسام.

والثاني: تفضيل أنفسهم علي ربّهم حيث اختاروا البنين لأنفسهم والبنات للّه.

والثالث: أنّهم استهانوا بالملائكة حيث أنثوهم.

ص: 436


1- الآية: 11.

أَصْطَفَى اَلْبَنٰاتِ دخلت همزة الاستفهام علي همزة الوصل فسقطت همزة الوصل، ونحوه قول ذي الرمة:

أستحدث الرّكب عن أشياعهم خبرا *** أم راجع القلب من أطرابه طرب(1)

مٰا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ للّه بالبنات و لأنفسكم بالبنين أَ فَلاٰ تنتهون عن مثل هذا القول.

أَمْ لَكُمْ سُلْطٰانٌ مُبِينٌ أي: حجّة نزلت عليكم من السماء بأنّ الملائكة بنات اللّه فَأْتُوا بِكِتٰابِكُمْ الذي أنزل عليكم في ذلك.

وَ جَعَلُوا بين اللّه وَ بَيْنَ اَلْجِنَّةِ نَسَباً وهو زعمهم أنّ الملائكة بنات اللّه، فأثبتوا بذلك جنسية جامعة له وللملائكة، وسمّوا: جنّة لاستتارهم عن العيون، وقيل: هو قول الزنادقة: إنّ الله خالق الخير، وإبليس خالق الشرّ(2).

وَ لَقَدْ عَلِمَتِ اَلْجِنَّةُ أي: الملائكة إِنَّهُمْ في ذلك كاذبون.

مُحْضَرُونَ النار معذّبون بما يقولون. ثمّ نزّه سبحانه نفسه عما وصفوه به.

إِلاّٰ عِبٰادَ اَللّٰهِ استثناء منقطع من الواو في يَصِفُونَ أي: يصفه هؤلاء بذلك، ولكن اَلْمُخْلَصِينَ براء من أن يصفوه به.

[سورة الصافات (37): الآیات 161 الی 171]

فَإِنَّكُمْ وَ مٰا تَعْبُدُونَ مٰا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفٰاتِنِينَ إِلاّٰ مَنْ هُوَ صٰالِ اَلْجَحِيمِ وَ مٰا مِنّٰا إِلاّٰ لَهُ مَقٰامٌ مَعْلُومٌ وَ إِنّٰا لَنَحْنُ اَلصَّافُّونَ وَ إِنّٰا لَنَحْنُ اَلْمُسَبِّحُونَ وَ إِنْ كٰانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنٰا ذِكْراً مِنَ اَلْأَوَّلِينَ لَكُنّٰا عِبٰادَ اَللّٰهِ اَلْمُخْلَصِينَ فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَ لَقَدْ

ص: 437


1- ديوان شعر ذي الرمة: 1.
2- عن الكلبي. تفسير الماوردي ج 5:70.

[سورة الصافات (37): الآیات 171 الی 182]

سَبَقَتْ كَلِمَتُنٰا لِعِبٰادِنَا اَلْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ اَلْمَنْصُورُونَ (172) وَ إِنَّ جُنْدَنٰا لَهُمُ اَلْغٰالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتّٰى حِينٍ (174) وَ أَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَ فَبِعَذٰابِنٰا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذٰا نَزَلَ بِسٰاحَتِهِمْ فَسٰاءَ صَبٰاحُ اَلْمُنْذَرِينَ (177) وَ تَوَلَّ عَنْهُمْ حَتّٰى حِينٍ (178) وَ أَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحٰانَ رَبِّكَ رَبِّ اَلْعِزَّةِ عَمّٰا يَصِفُونَ (180) وَ سَلاٰمٌ عَلَى اَلْمُرْسَلِينَ (181) وَ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ (18(2)

الضمير في عَلَيْهِ للّه عزّ اسمه، والمعنى: فإنّكم ومعبوديكم مٰا أَنْتُمْ وهم جميعا بِفٰاتِنِينَ علي اللّه، أي: لستم تفتنون علي اللّه أحدا بإغوائكم و استهزائكم، من قولك: فتن فلان علي فلان امرأته إذا أفسدها عليه.

إِلاّٰ مَنْ هُوَ صٰالِ اَلْجَحِيمِ أي: إلا من سبق في علم اللّه أنّه يستوجب صلي الجحيم بسوء أعماله.

ويحتمل أن يكون الواو في وَ مٰا تَعْبُدُونَ بمعنى: مع، فيجوز السكوت علي:

وَ مٰا تَعْبُدُونَ ، كما يجوز السكوت علي قولك: كل رجل وضيعته، فيكون المعنى:

فإنّكم مع معبوديكم، أي: فإنّكم قرناؤهم. والضمير في (عليه) ل - مٰا تَعْبُدُونَ ، أي: فما أنتم علي ما تعبدون بِفٰاتِنِينَ بباعثين، أو حاملين علي طريق الفتنة والإضلال إِلاّٰ مَنْ يصلي اَلْجَحِيمِ بسوء اختياره، و يحترق بها مثلكم.

وَ مٰا مِنّٰا إِلاّٰ لَهُ مَقٰامٌ مَعْلُومٌ أي: وما منا ملك، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه، كقوله:

أنا ابن جلا وطلّاع الثّنايا(1)

ص: 438


1- البيت لسحيم بن وثيل الرياحي. الأصمعيات: 3، وبقيته: متى أضع العمامة تعرفوني.

أي: مقام معلوم في السموات يعبد اللّه فيه، أو مقام في العبادة والانتهاء إلى أمر اللّه لا يتجاوز ما أمر به ورتب له، كما روي: (فمنهم سجود لا يركعون، وركوع لا ينتصبون، وصافّون لا يتزايلون)(1).

لَنَحْنُ اَلصَّافُّونَ نصفّ أقدامنا في الصلاة، أو أجنحتنا حول العرش داعين للمؤمنين، أو في الهواء منتظرين أمر اللّه، وقيل: إنّ المسلمين إنّما اصطفوا في الصلاة منذ نزلت هذه الآية(2) وليس يصطف أحد من أهل الملل في صلاتهم غير المسلمين.

و اَلْمُسَبِّحُونَ : المصلّون، أو المنزّهون.

(إن) هي المخففة من الثقيلة، وهم مشركو قريش كانوا يقولون: لَوْ أَنَّ عِنْدَنٰا ذِكْراً كتابا مِنَ كتب اَلْأَوَّلِينَ الذين نزل عليهم التوراة أو الإنجيل، لأخلصنا العبادة للّه، ولما خالفنا كما خالفوا، فجاءهم الذكر الذي هو سيّد الأذكار، وهو المعجز من بين الكتب فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة كفرهم.

الكلمة هي قوله: إِنَّهُمْ لَهُمُ اَلْمَنْصُورُونَ وَ إِنَّ جُنْدَنٰا لَهُمُ اَلْغٰالِبُونَ سمّاها كلمة وإن كانت كلمات عدّة؛ لأنّها لما انتظمت في معنى واحد كانت في حكم كلمة مفردة.

وهم في: لَهُمُ فصل، والمراد: الوعد بعلوّهم علي عدوهم في الدنيا، وعلوّهم عليهم في الآخرة.

فَتَوَلَّ عَنْهُمْ و أغض علي قذاهم واصبر علي أذاهم.

حَتّٰى حِينٍ إلى مدة يسيرة هي مدة الكف عن القتال.

وَ أَبْصِرْهُمْ وما يقضى عليهم من القتل والأسر عاجلا، والعذاب الأليم آجلا فَسَوْفَ يبصرونك وما يقضى لك من النصرة والتأييد اليوم والثواب

ص: 439


1- نهج البلاغة: 28
2- عن ابن جريج وغيره. الدر المنثور ج 5:293.

والنعيم غدا. والمراد بالأمر بإبصارهم علي الحال المنتظرة الموعودة الدالة [علي أنّها كائنة](1) لا محالة، قريبة الوقوع كأنّها قدام ناظريك، وفي ذلك تسلية له صلوات اللّه عليه وآله.

وكانت العرب تفاجئ أعداءها بالغارة صباحا، فخرج الكلام علي عادتهم، فكأنّ العذاب الذي ينزل بساحتهم جيش نزل بساحتهم فشنّ عليهم الغارة، ولأنّ اللّه سبحانه أجرى العادة بتعذيب الأمم وقت الصباح، كما قال: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ اَلصُّبْحُ (2).

والمعنى: فَسٰاءَ صَبٰاحُ اَلْمُنْذَرِينَ صباحهم.

وإنّما كرر قوله: وَ تَوَلَّ عَنْهُمْ ليكون تسلية علي تسلية، وتأكيدا لحصول الوعد علي تأكيد، وقيل: أريد بأحدهما الدنيا وبالآخر الآخرة. وفي قوله: أَبْصِرْ ، و يُبْصِرُونَ من غير تقييد بالمفعول فائدة زائدة، أي: ما لا يحيط به الوصف من ضروب المسرّة لك، وأنواع المساءة لهم.

رَبِّ اَلْعِزَّةِ أضاف الربّ إلى العزّة لاختصاصه بها، كأنّه قال: ذو العزّة، أو لأنّه لا عزّة لأحد إلا وهو مالكها، كما قال: وَ تُعِزُّ مَنْ تَشٰاءُ (3). وعن أمير المؤمنين عليه السلام: (من أراد أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه في مجلسه: سُبْحٰانَ رَبِّكَ رَبِّ اَلْعِزَّةِ عَمّٰا يَصِفُونَ إلى آخر السورة)(4).

ص: 440


1- ساقطة من ج.
2- هود: 81.
3- آل عمران: 26.
4- الكشف والبيان ج 8:174. وينظر: الكافي ج 2:496.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.