جوامع الجامع المجلد 3

هویة الکتاب

جوامع الجامع

كاتب: طبرسی، فضل بن حسن

الناشر: العتبة العباسیة المقدسة. قسم شؤون المعارف الإسلامیة و الإنسانیة

متابعة البحث: حکیم، جواد کاظم

عدد المجلدات:6

لسان: العربية

سنة النشر: 1439 هجری قمری|2018 میلادی

رمز الكونغرس: 9ج2ط 94/5 BP

ص: 1

اشارة

جوامع الجامع

تألیف: فضل بن حسن طبرسی

العتبة العباسیة المقدسة. قسم شؤون المعارف الإسلامیة و الإنسانیة

ص: 2

جوامع الجامع

تألیف: فضل بن حسن طبرسی

العتبة العباسیة المقدسة. قسم شؤون المعارف الإسلامیة و الإنسانیة

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 4

سورة هود

اشارة

مكية، مائة و إحدى وعشرون آية بصري، ثلاث كوفي، عدّ الكوفي: بَرِيءٌ مِمّٰا تُشْرِكُونَ ، فِي قَوْمِ لُوطٍ .

في حديث أبيّ : (ومن قرأ (سورة هود) أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بنوح وكذّب به وهود وصالح وشعيب ولوط وإبراهيم وموسى، وكان يوم القيامة من السعداء)(1)، قال الباقر عليه السلام: (من قرأها في كل جمعة بعثه اللّه يوم القيامة في زمرة النبيّين، وحوسب حسابا يسيرا، ولم تعرف له خطيئة عملها يوم القيامة)(2).

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة هود (11): الآیات 1 الی 5]

الر كِتٰابٌ أُحْكِمَتْ آيٰاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاّٰ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللّٰهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ وَ أَنِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتٰاعاً حَسَناً إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخٰافُ عَلَيْكُمْ عَذٰابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ إِلَى اَللّٰهِ مَرْجِعُكُمْ وَ هُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ أَلاٰ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ

ص: 5


1- الكشاف ج 2:439 باختصار.
2- ثواب الأعمال: 106.

[سورة هود (11): آیة 5]

لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلاٰ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيٰابَهُمْ يَعْلَمُ مٰا يُسِرُّونَ وَ مٰا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذٰاتِ اَلصُّدُورِ

أُحْكِمَتْ آيٰاتُهُ نظمت نظما محكما لا نقص فيه ولا خلل كالبناء المحكم، أو جعلت آياته حكيمة، من حكم: إذا صار حكيما، كقوله: آيٰاتُ اَلْكِتٰابِ اَلْحَكِيمِ (1)، أو منعت من الفساد، من أحكم الدابة: وضع عليها الحكمة ليمنعها من الجماح، قال جرير:

أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم *** إنّي أخاف عليكم أن أغضبا(2)

ثُمَّ فُصِّلَتْ كما تفصّل القلائد، بدلائل التوحيد والمواعظ و الأحكام والقصص، أو جعلت فصولا: آية آية وسورة سورة، أو فرّقت في التنزيل فلم تنزل جملة واحدة. ومعنى ثُمَّ : التراخي في الحال لا في الوقت، كما تقول: هي محكمة أحسن الإحكام ثمّ مفصلة أحسن التفصيل. و كِتٰابٌ : خبر مبتدأ محذوف.

مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ أحكمها، و خَبِيرٍ : عالم فصّلها، أي: بيّنها و شرحها.

أَلاّٰ تَعْبُدُوا مفعول له، أي: لأن لا تعبدوا، أو تكون (أن) مفسّرة، لأنّ في تفصيل الآيات معنى القول، كأنّه قيل: قال: لا تعبدوا إلا اللّه، أو أمركم أن لا تعبدوا إلا اللّه، أي: أمركم بالتوحيد.

وَ أَنِ اِسْتَغْفِرُوا أي: وأمركم با لاستغفار.

و الضمير في مِنْهُ للّه، أي: إنّني لكم نذير وبشير من جهته، كقوله:

ص: 6


1- يونس: 1.
2- ديوان جرير: 47.

رَسُولٌ مِنَ اَللّٰهِ (1) ، أو هي صلة ل - نَذِيرٍ أي: أنذركم مِنْهُ ومن عذابه إن كفرتم، و أبشّركم بثوابه إن آمنتم.

ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يعني: استغفروا من الشرك ثمّ أخلصوا التوبة و استقيموا عليها كقوله: ثُمَّ اِسْتَقٰامُوا (2).

يُمَتِّعْكُمْ في الدنيا بالنعم السابغة و المنافع المتتابعة إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى إلى أن يتوفاكم.

وَ يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ أي: و يعط في الآخرة كل ذي فضل في العمل وزيادة فيه جزاء فضله لا يبخس، أو فضله في الثواب والدرجات وَ إِنْ تَوَلَّوْا أي: تتولوا، فحذف إحدى التاءين.

عَذٰابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ يوم القيامة، و بيّن العذاب بأنّ مرجعهم إلي القادر علي ما يريده من عذابهم.

يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ أي: يزورون عن الحقّ وينحرفون عنه، لأنّ من أقبل علي الشيء استقبله بصدره، ومن انحرف عنه ثنى عنه صدره.

لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أي: يريدون ليستخفوا من اللّه، فلا يطلع رسوله و المؤمنين على ازورارهم.

أَلاٰ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيٰابَهُمْ معناه: يتغطّون بثيابهم كراهة لاستماع كلام اللّه، كقوله: جَعَلُوا أَصٰابِعَهُمْ فِي آذٰانِهِمْ وَ اِسْتَغْشَوْا ثِيٰابَهُمْ (3)، ثمّ قال: يَعْلَمُ مٰا يُسِرُّونَ وَ مٰا يُعْلِنُونَ يعني: أنّه لا تفاوت في علمه بين إسرارهم و إعلانهم. وفي

ص: 7


1- البيّنة: 2.
2- الأحقاف: 13.
3- نوح: 7.

قراءة أهل البيت عليهم السلام: يثنوني صدورهم، على يفعوعل، من الثني وهو بناء مبالغة.

و قرئ بالتاء والياء.

[سورة هود (11): الآیات 6 الی 8]

وَ مٰا مِنْ دَابَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ إِلاّٰ عَلَى اَللّٰهِ رِزْقُهٰا وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهٰا وَ مُسْتَوْدَعَهٰا كُلٌّ فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّٰامٍ وَ كٰانَ عَرْشُهُ عَلَى اَلْمٰاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ لَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ اَلْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ سِحْرٌ مُبِينٌ وَ لَئِنْ أَخَّرْنٰا عَنْهُمُ اَلْعَذٰابَ إِلىٰ أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مٰا يَحْبِسُهُ أَلاٰ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَ حٰاقَ بِهِمْ مٰا كٰانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ

عَلَى اَللّٰهِ رِزْقُهٰا لما ضمن سبحانه أن يتفضّل بالرزق، عليهم وتكفّل به صار التفضّل واجبا، فلذلك جاء بلفظ الوجوب كالنذور الواجبة علي العباد.

وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهٰا موضع قرارها و مسكنها وَ مُسْتَوْدَعَهٰا حيث كانت مودعة فيه قبل الاستقرار من أصلاب الاباء و أرحام الأمهات، أو البيض.

كُلٌّ أي: كل واحدة من الدواب ورزقها و مستقرها و مستودعها فِي كِتٰابٍ في اللوح المحفوظ، يعني: إنّ ذكرها مكتوب فيه ظاهر.

وَ كٰانَ عَرْشُهُ عَلَى اَلْمٰاءِ أي: ما كان تحته خلق إلا الماء، قبل خلق السماوات والأرض وارتفاعه فوقها، وفيه دلالة علي أنّ العرش والماء كانا مخلوقين قبل خلق السماوات والأرض.

لِيَبْلُوَكُمْ يتعلّق ب - خَلَقَ أي: خلقهن لحكمة بالغة، وهي أن يجعلها مساكن لعباده، وينعم عليهم فيها بفنون النعم، و يكلفهم و يعرضهم لثواب

ص: 8

الآخرة. ولما أشبه ذلك اختبار المختبر قال: لِيَبْلُوَكُمْ أي: ليفعل بكم ما يفعل المبتلي لأحوالكم كيف تعملون.

أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً تعليق، لأنّ في الاختبار معنى العلم، وهو طريق إليه، والذين هم أحسن عملا: هم المتقون، فخصّهم بالذكر تشريفا لهم و ترغيبا في حيازة فضلهم.

وَ لَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ اَلْمَوْتِ فتوقّعوه، لقالوا: إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ سِحْرٌ مُبِينٌ أي: أمر باطل، و أشاروا بهذا إلى القرآن لأنّ القرآن هو الناطق بالبعث، فإذا جعلوه سحرا فقد اندرج تحته إنكار ما فيه من البعث وغيره، وقرئ: إلا ساحر، يريدون الرسول.

و اَلْعَذٰابَ عذاب الآخرة، وقيل: عذاب يوم بدر(1).

إِلىٰ أُمَّةٍ أي: حين، والمعنى: إلى جماعة من الأوقات لَيَقُولُنَّ مٰا يَحْبِسُهُ أي: ما يمنعه من النزول استعجالا له.

و يَوْمَ يَأْتِيهِمْ منصوب بخبر لَيْسَ ، وفيه دليل علي جواز تقديم خبر (ليس) على (ليس)، لأنّ المعمول لا يقع إلا حيث يجوز وقوع العامل فيه.

ووضع يَسْتَهْزِؤُنَ موضع يستعجلون، لأنّ استعجالهم كان علي وجه الاستهزاء.

وَ حٰاقَ بِهِمْ في معنى: يحيق، إلا أنّه جاء علي عادة اللّه في إخباره.

[سورة هود (11): الآیات 9 الی 10]

وَ لَئِنْ أَذَقْنَا اَلْإِنْسٰانَ مِنّٰا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنٰاهٰا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ وَ لَئِنْ أَذَقْنٰاهُ نَعْمٰاءَ بَعْدَ ضَرّٰاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ

ص: 9


1- تفسير ابن عباس ج 2:278.

[سورة هود (11): الآیات 10 الی 11]

ذَهَبَ اَلسَّيِّئٰاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلاَّ اَلَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ أُولٰئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ

اَلْإِنْسٰانَ للجنس.

رَحْمَةً أي: نعمة من صحّة أو ثروة أو نحو ذلك ثُمَّ نَزَعْنٰاهٰا أي:

سلبناها منه إِنَّهُ لَيَؤُسٌ شديد اليأس، قنوط من أن تعود إليه تلك النعمة المنزوعة، قاطع رجاءه من سعة فضل اللّه كَفُورٌ عظيم الكفران لنعمه.

ذَهَبَ اَلسَّيِّئٰاتُ عَنِّي أي: المصائب التي ساءتني وحزنتني.

إِنَّهُ لَفَرِحٌ أي: أشر بطر فَخُورٌ علي الناس بما أنعم اللّه عليه، قد شغله الفرح والفخر عن الشكر.

إِلاَّ اَلَّذِينَ صَبَرُوا أي: قابلوا الشدّة بالصبر، والنعمة بالشكر.

[سورة هود (11): الآیات 12 الی 14]

فَلَعَلَّكَ تٰارِكٌ بَعْضَ مٰا يُوحىٰ إِلَيْكَ وَ ضٰائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لاٰ أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جٰاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمٰا أَنْتَ نَذِيرٌ وَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرٰاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيٰاتٍ وَ اُدْعُوا مَنِ اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمٰا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اَللّٰهِ وَ أَنْ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ

كانوا يقترحون عليه أشياء تعنتا، فقالوا: لَوْ لاٰ أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جٰاءَ مَعَهُ مَلَكٌ ، وكان يضيق صدره صلوات اللّه عليه وآله بما يقولونه.

أَنْ يَقُولُوا كراهة أن يقولوا: هلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ ما اقترحناه من الكنوز والملائكة ؟ و لم أنزل عليه ما لا نريده ولا نقترحه ؟.

ص: 10

إِنَّمٰا أَنْتَ نَذِيرٌ أي: ليس عليك إلا إنذارهم بما أوحي إليك.

وَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ يحفظ ما يقولون ثمّ يفعل بهم ما يجب أن يفعل، فكل أمرك إليه، وعليك بتبليغ الوحي غير مبال بمقالاتهم ولا ملتفت إلى فعالهم من استكبارهم و استهزائهم.

أَمْ منقطعة، والضمير في اِفْتَرٰاهُ ل - مٰا يُوحىٰ إِلَيْكَ .

تحداهم بِعَشْرِ سُوَرٍ ثمّ تحداهم بسورة واحدة لما استبان عجزهم عن الإتيان بالعشر مِثْلِهِ بمعنى: أمثاله، لأنه أراد مماثلة كل واحدة منها له مُفْتَرَيٰاتٍ صفة ل - بِعَشْرِ سُوَرٍ . والمعنى: هبوا أنّي افتريته من عند نفسي كما زعمتم فَأْتُوا أنتم بكلام مِثْلِهِ في حسن النظم و الفصاحة مفتري مختلق من عند أنفسكم، فأنتم فصحاء مثلي تقدرون علي مثل ما أقدر عليه من الكلام.

فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ أي: لك وللمؤمنين.

فَاعْلَمُوا أيّها المؤمنون، أي: اثبتوا علي العلم الذي أنتم عليه وازدادوا يقينا.

أَنَّمٰا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اَللّٰهِ أي: أنزل ملتبسا بما لا يعلمه إلا اللّه من نظم معجز لجميع الخلق، وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليه، واعلموا عند ذلك: أَنْ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ اللّه وحده، و أنّ توحيده هو الحقّ ، والشرك به هو الظلم الصريح فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ مخلصون موقنون بعد قيام الحجّة القاطعة ؟.

و يجوز أن يكون الخطاب للكفار، فيكون المعنى: فإن لم يستجب لكم من تدعونهم إلي معارضته، فقد قامت عليكم الحجّة، فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ متابعون بالإسلام معتقدون للتوحيد.

ص: 11

[سورة هود (11): الآیات 15 الی 17]

مَنْ كٰانَ يُرِيدُ اَلْحَيٰاةَ اَلدُّنْيٰا وَ زِينَتَهٰا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمٰالَهُمْ فِيهٰا وَ هُمْ فِيهٰا لاٰ يُبْخَسُونَ أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ إِلاَّ اَلنّٰارُ وَ حَبِطَ مٰا صَنَعُوا فِيهٰا وَ بٰاطِلٌ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ أَ فَمَنْ كٰانَ عَلىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شٰاهِدٌ مِنْهُ وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتٰابُ مُوسىٰ إِمٰاماً وَ رَحْمَةً أُولٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ اَلْأَحْزٰابِ فَالنّٰارُ مَوْعِدُهُ فَلاٰ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يُؤْمِنُونَ

نُوَفِّ إِلَيْهِمْ نوصل إليهم و نوفّر عليهم أجور أَعْمٰالَهُمْ من غير بخس في الدنيا، وهو ما يرزقون فِيهٰا من الصحّة والرزق، وقيل: هم أهل الرياء(1).

وَ حَبِطَ مٰا صَنَعُوا أي: ما صنعوه، أو صنيعهم فِيهٰا في الآخرة.

يعني: لم يكن لصنيعهم ثواب، لأنّهم لم يريدوا به الآخرة، و إنّما أرادوا به الدنيا وقد وفى إليهم ما أرادوا.

وَ بٰاطِلٌ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ أي: كان عملهم في نفسه باطلا، لأنّه لم يعمل للوجه الصحيح الذي هو ابتغاء وجه اللّه، فلا ثواب يستحقّ عليه ولا أجر.

التقدير: أَ فَمَنْ كٰانَ عَلىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كمن كان يريد الحياة الدنيا، أي:

علي برهان من اللّه وبيان وحجّة علي أنّ دين الإسلام حقّ وهو دليل العقل.

والمعنى: إنّهم لا يقاربونهم في المنزلة، وبين الفريقين تفاوت شديد وبون بعيد وَ يَتْلُوهُ و يتبع ذلك البرهان شٰاهِدٌ يشهد بصحّته وهو القرآن مِنْهُ من اللّه، وقيل: البيّنة: القرآن، و الشاهد: جبرئيل يتلو القرآن(2)، وقيل: أفمن كان

ص: 12


1- عن مجاهد. تفسير الطبري ج 12:9.
2- عن ابن عباس. تفسير الطبري ج 12:11.

على بيّنة هو النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، والشاهد منه: عليّ بن أبي طالب عليه السلام يشهد له وهو منه(1)، وهو المروي عنهم عليهم السلام(2).

وَ مِنْ قَبْلِهِ من قبل القران كِتٰابُ مُوسىٰ وهو التوراة يتلوه أيضا في التصديق.

إِمٰاماً مؤتما به في الدين قدوة فيه وَ رَحْمَةً ونعمة عظيمة علي المنزل عليهم.

أُولٰئِكَ يعني: من كان علي بيّنة يُؤْمِنُونَ بِهِ أي: بالقران.

وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ اَلْأَحْزٰابِ يعني: أهل مكة ومن وافقهم وضامّهم من المتحزبين علي رسول اللّه عليه السلام فَالنّٰارُ مَوْعِدُهُ .

فَلاٰ تَكُ فِي مِرْيَةٍ أي: شك من القرآن، أو من الموعد.

[سورة هود (11): الآیات 18 الی 22]

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرىٰ عَلَى اَللّٰهِ كَذِباً أُولٰئِكَ يُعْرَضُونَ عَلىٰ رَبِّهِمْ وَ يَقُولُ اَلْأَشْهٰادُ هٰؤُلاٰءِ اَلَّذِينَ كَذَبُوا عَلىٰ رَبِّهِمْ أَلاٰ لَعْنَةُ اَللّٰهِ عَلَى اَلظّٰالِمِينَ اَلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ يَبْغُونَهٰا عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كٰافِرُونَ أُولٰئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي اَلْأَرْضِ وَ مٰا كٰانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مِنْ أَوْلِيٰاءَ يُضٰاعَفُ لَهُمُ اَلْعَذٰابُ مٰا كٰانُوا يَسْتَطِيعُونَ اَلسَّمْعَ وَ مٰا كٰانُوا يُبْصِرُونَ أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مٰا كٰانُوا يَفْتَرُونَ لاٰ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ هُمُ اَلْأَخْسَرُونَ

ص: 13


1- تفسير الطبري ج 12:11.
2- تفسير العياشي ج 2:142.

يُعْرَضُونَ عَلىٰ رَبِّهِمْ أي: يحبسون ويوقفون موقفا يراهم الخلائق للمطالبة بما عملوا ويشهد عليهم اَلْأَشْهٰادُ من الملائكة الحفظة والأنبياء بأنّهم الكاذبون عَلَى اللّه بأنّه اتخذ ولدا وشريكا، و أنّهم أضافوا إليه ما لم ينزله، ويقولون: أَلاٰ لَعْنَةُ اَللّٰهِ عَلَى اَلظّٰالِمِينَ .

اَلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ أي: يغوون الخلق و يصرفونهم عن دين اللّه.

وَ يَبْغُونَهٰا عِوَجاً أي: يصفونها بالاعوجاج وهي مستقيمة، أو يبغون أهلها أن يعوجّوا با لارتداد، و هُمْ الثانية: فصل أكّد به كفرهم بالآخرة.

أُولٰئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ أي: فائتين اللّه فِي الدنيا أن يعاقبهم لو أراد عقابهم وَ مٰا كٰانَ لَهُمْ من يتولاهم فينصرهم و يمنعهم منه، و لكنّه أراد إنظارهم وتأخير عقابهم إلي هذا اليوم، وهو من كلام الأشهاد. وقرئ: يضعّف.

مٰا كٰانُوا يَسْتَطِيعُونَ اَلسَّمْعَ المعنى: إنّهم لفرط تصامهم عن استماع الحقّ كأنّهم لا يستطيعون السمع.

خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بأن اشتروا عبادة الآلهة بعبادة اللّه.

وَ ضَلَّ عَنْهُمْ أي: وضاع عنهم ما اشتروه، وهو مٰا كٰانُوا يَفْتَرُونَ من شفاعة آلهتهم لهم.

لاٰ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ هُمُ اَلْأَخْسَرُونَ أي: لا ينفعهم ذلك، كسب ذلك الفعل لهم الخسران، وقيل: معناه: حقّا إنّهم أخسر الناس في الآخرة.

ص: 14

[سورة هود (11): الآیات 23 الی 24]

إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ وَ أَخْبَتُوا إِلىٰ رَبِّهِمْ أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلْجَنَّةِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ مَثَلُ اَلْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمىٰ وَ اَلْأَصَمِّ وَ اَلْبَصِيرِ وَ اَلسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيٰانِ مَثَلاً أَ فَلاٰ تَذَكَّرُونَ

وَ أَخْبَتُوا إِلىٰ رَبِّهِمْ اطمأنوا إليه و خشعوا له وانقطعوا إلى عبادته وذكره، من الخبت وهو الأرض المستوية.

شبّه فريق الكفار ب - كَالْأَعْمىٰ وَ اَلْأَصَمِّ و فريق المؤمنين بالبصير وَ اَلسَّمِيعِ و هو من اللف و الطباق، وفيه معنيان: أن يشبّه الفريق بشيئين، كما شبّه امرؤ القيس [قلوب الطير بالحشف و العناب في قوله](1):

كأنّ قلوب الطّير رطبا و يابسا *** لدى وكرها العنّاب و الحشف البالي(2)

وأن يشبّهه بالذي جمع بين العمى و الصمم، و بالذي جمع بين السمع والبصر، علي أن يكون الواو في وَ اَلْأَصَمِّ وفي وَ اَلسَّمِيعِ لعطف الصفة علي الصفة.

هَلْ يَسْتَوِيٰانِ الفريقان مَثَلاً تشبيها.

[سورة هود (11): الآیات 25 الی 27]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنٰا نُوحاً إِلىٰ قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لاٰ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللّٰهَ إِنِّي أَخٰافُ عَلَيْكُمْ عَذٰابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ فَقٰالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مٰا نَرٰاكَ إِلاّٰ بَشَراً مِثْلَنٰا وَ مٰا نَرٰاكَ اِتَّبَعَكَ إِلاَّ اَلَّذِينَ هُمْ أَرٰاذِلُنٰا بٰادِيَ اَلرَّأْيِ وَ مٰا نَرىٰ لَكُمْ عَلَيْنٰا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كٰاذِبِينَ

ص: 15


1- ساقطة من ب.
2- ديوان امرئ القيس: 38.

[سورة هود (11): آیة 28]

قٰالَ يٰا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتٰانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَ نُلْزِمُكُمُوهٰا وَ أَنْتُمْ لَهٰا كٰارِهُونَ

قرئ: إنّي - بالفتح والكسر - فالفتح على أرسلناه بأنّي لكم نذير. والمعنى:

أَرْسَلْنٰا نُوحاً ملتبسا بهذا الكلام وهو قوله: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ بالكسر، فلما اتصل به الجار فتح كما فتح (كأن) و أصله الكسر في قولك: إنّ زيدا كالأسد.

وأما كسر (إنّ ) فعلي إرادة القول.

أَنْ لاٰ تَعْبُدُوا بدل من إِنِّي لَكُمْ أي: أرسلنا بأن لا تعبدوا إِلاَّ اَللّٰهَ ، أو تكون (أن) مفسّرة متعلّقة ب - أَرْسَلْنٰا أوب نَذِيرٌ .

أَلِيمٍ مجاز في صفة يَوْمٍ أو عَذٰابَ ، لأنّ الأليم في الحقيقة هو المعذّب، و نظيره قولهم: نهاره صائم و ليله قائم.

اَلْمَلَأُ الأشراف، لأنّهم يملؤون القلوب هيبة.

مٰا نَرٰاكَ إِلاّٰ بَشَراً مِثْلَنٰا ظنوا أنّ الرسول ينبغي أن يكون من غير جنس المرسل إليه. و الأراذل: جمع الأرذل.

و بٰادِيَ اَلرَّأْيِ قرئ بالهمز وغير الهمز، بمعنى: اتبعوك أوّل الرأي، أو ظاهر الرأي، و إنّما انتصب علي الظرف، و أصله: [وقت حدوث أوّل رأيهم أو](1)

وقت حدوث ظاهر رأيهم فحذف المضاف، وأريد: إنّ اتباعهم لك إنّما كان بديهة من غير روية ونظر، و إنّما استرذلوهم لفقرهم وقلة ذات يدهم.

وَ مٰا نَرىٰ لَكُمْ عَلَيْنٰا مِنْ فَضْلٍ أي: زيادة شرف تؤهلكم للنبوّة.

أَ رَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كُنْتُ عَلىٰ برهان مِنْ رَبِّي وشاهد يشهد بصحّة

ص: 16


1- ساقطة من أ، ب، ج.

نبوّتي وَ آتٰانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ بإيتاء البيّنة، علي أنّ البيّنة هي الرحمة بعينها. ويجوز أن يريد بالبيّنة: المعجزة، وبالرحمة: النبوّة، فعميت عليكم أي: خفيت بعد البيّنة، و قرئ: فَعُمِّيَتْ أي: أخفيت عَلَيْكُمْ .

أَ نُلْزِمُكُمُوهٰا وَ أَنْتُمْ لَهٰا كٰارِهُونَ أي: أنكرهكم علي قبولها، و نجبركم على الاهتداء بها وَ أَنْتُمْ تكرهونها ولا تختارونها ولا إكراه في الدين.

[سورة هود (11): الآیات 29 الی 31]

وَ يٰا قَوْمِ لاٰ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مٰالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاّٰ عَلَى اَللّٰهِ وَ مٰا أَنَا بِطٰارِدِ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاٰقُوا رَبِّهِمْ وَ لٰكِنِّي أَرٰاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ وَ يٰا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اَللّٰهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَ فَلاٰ تَذَكَّرُونَ وَ لاٰ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزٰائِنُ اَللّٰهِ وَ لاٰ أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ وَ لاٰ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَ لاٰ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اَللّٰهُ خَيْراً اَللّٰهُ أَعْلَمُ بِمٰا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ اَلظّٰالِمِينَ

الضمير في عَلَيْهِ يرجع إلى قوله: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ .

إِنَّهُمْ مُلاٰقُوا رَبِّهِمْ معناه: إنّهم يلاقون اللّه فيعاقب من طردهم، أو يلاقونه فيجازيهم علي ما يعتقدونه من الإخلاص في الإيمان كما ظهر لي منهم، أو علي ما تقرفونهم(1) به من خلاف ذلك.

تَجْهَلُونَ الحقّ وأهله، أو تسفهون علي المؤمنين، أو تجهلون لقاء ربّكم.

مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اَللّٰهِ من يمنعني من انتقام اللّه و عذابه إِنْ طَرَدْتُهُمْ ، وكانوا يسألونه أن يطردهم ليؤمنوا، أنفة من أن يكونوا معهم على سواء.

وَ لاٰ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزٰائِنُ اَللّٰهِ فأدعي فضلا عليكم في الدنيا حتى

ص: 17


1- تقرفونهم: تعيبونهم. (الصحاح: مادة قرف)

تجحدوا فضلي بقولكم: وَ مٰا نَرىٰ لَكُمْ عَلَيْنٰا مِنْ فَضْلٍ ، وَ لاٰ أدعي أنّي أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ حتى أطّلع علي نفوس أتباعي و ضمائر قلوبهم، وَ لاٰ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ حتى تقولوا لي: ما أنت إلا بشر مثلنا، ولا أحكم علي من تسترذلونه لفقرهم أنّ اللّه لن يؤتيهم خيرا كما تقولون لهوانهم عليه إِنِّي إِذاً لَمِنَ اَلظّٰالِمِينَ إن قلت شيئا من ذلك.

والازدراء: افتعال من زرى عليه: إذا عابه.

[سورة هود (11): الآیات 32 الی 35]

قٰالُوا يٰا نُوحُ قَدْ جٰادَلْتَنٰا فَأَكْثَرْتَ جِدٰالَنٰا فَأْتِنٰا بِمٰا تَعِدُنٰا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّٰادِقِينَ قٰالَ إِنَّمٰا يَأْتِيكُمْ بِهِ اَللّٰهُ إِنْ شٰاءَ وَ مٰا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ وَ لاٰ يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كٰانَ اَللّٰهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرٰاهُ قُلْ إِنِ اِفْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرٰامِي وَ أَنَا بَرِيءٌ مِمّٰا تُجْرِمُونَ

أي: حاججتنا وزدت في مجادلتنا علي قدر الكفاية فَأْتِنٰا بِمٰا تَعِدُنٰا من العذاب فإنّا لا نؤمن بك.

قٰالَ إِنَّمٰا يَأْتِيكُمْ بِهِ اَللّٰهُ وليس الإتيان به إليّ إِنْ شٰاءَ تعجيله لكم.

وقوله: إِنْ كٰانَ اَللّٰهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ شرط، جزاؤه ما دلّ عليه قوله: لاٰ يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي ، وهذا الدال في حكم ما دلّ عليه، فوصل بشرط كما يوصل الجزاء بالشرط في قولهم: إن أحسنت إليّ أحسنت إليك إن أمكنني. وأما المعنى في قوله:

إِنْ كٰانَ اَللّٰهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ فهو أنّ الكافر إذا علم اللّه منه الإصرار علي الكفر فخلاه و شأنه ولم يقسره علي الإيمان سمّي ذلك إغواء و إضلالا، كما أنّه إذا عرف منه الإرعواء إلي الإيمان فلطف به سمّى إرشادا و هداية.

ص: 18

فَعَلَيَّ إِجْرٰامِي معناه: إن صحّ وثبت أنّي اِفْتَرَيْتُهُ فعليّ عقوبة إجرامي أي: افترائي، وكان حقّي حينئذ أن تعرضوا عني. وَ أَنَا بَرِيءٌ أي: ولم يثبت ذلك وأنا بريء منه.

ومعنى مِمّٰا تُجْرِمُونَ : من إجرامكم في إسناد الافتراء عليّ ، فلا وجه لإعراضكم عني.

[سورة هود (11): الآیات 36 الی 39]

وَ أُوحِيَ إِلىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاّٰ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلاٰ تَبْتَئِسْ بِمٰا كٰانُوا يَفْعَلُونَ وَ اِصْنَعِ اَلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنٰا وَ وَحْيِنٰا وَ لاٰ تُخٰاطِبْنِي فِي اَلَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ وَ يَصْنَعُ اَلْفُلْكَ وَ كُلَّمٰا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قٰالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنّٰا فَإِنّٰا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمٰا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذٰابٌ يُخْزِيهِ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذٰابٌ مُقِيمٌ

أقنطه اللّه سبحانه من إيمانهم.

إِلاّٰ مَنْ قَدْ آمَنَ إلا من قد وجد منه ما كان يتوقع من الإيمان، و قَدْ للتوقع.

فَلاٰ تَبْتَئِسْ أي: فلا تحزن حزن بائس مسكين، قال:

ما يقسم اللّه فاقبل غير مبتئس *** منه واقعد كريما ناعم البال(1)

أي: فلا تحزن بما فعلوه من تكذيبك وإيذائك، فقد حان وقت الانتقام لك منهم و إنجائك.

بِأَعْيُنِنٰا في موضع الحال، أي: اِصْنَعِ اَلْفُلْكَ ملتبسا بِأَعْيُنِنٰا ، كأنّ

ص: 19


1- ديوان حسان بن ثابت: 192 وفيه: أقبل.

من اللّه سبحانه معه أعينا تكلؤه أن يزيغ في صنعته عن الصواب وَ وَحْيِنٰا وأنّا نوحي إليك و نلهمك كيف تصنع. وعن ابن عباس: لم يعلم كيف صنعة الفلك، فأوحى اللّه إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر(1).

وَ لاٰ تُخٰاطِبْنِي فِي اَلَّذِينَ ظَلَمُوا ولا تدعني في شأن قومك واستدفاع العذاب عنهم بشفاعتك إِنَّهُمْ محكوم عليهم بالإغراق، وقد وجب ذلك فلا سبيل إلي كفه.

وَ يَصْنَعُ اَلْفُلْكَ حكاية حال ماضية.

سَخِرُوا مِنْهُ و من عمله السفينة، وكان يعملها في برية في أبعد موضع من الماء، فكانوا يتضاحكون و يقولون: يا نوح، صرت نجّارا بعدما كنت نبيّا.

فَإِنّٰا نَسْخَرُ مِنْكُمْ في المستقبل كما تستخرون منا الساعة إذا وقع عليكم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة.

مَنْ يَأْتِيهِ في محلّ النصب ب - تَعْلَمُونَ ، أي: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ الذي يَأْتِيهِ عَذٰابٌ يُخْزِيهِ وهو عذاب الدنيا وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ حلول الدين و الحقّ اللازم عَذٰابٌ مُقِيمٌ و هو عذاب الآخرة، و يجوز أن يكون مَنْ استفهامية ويكون تعليقا.

[سورة هود (11): الآیات 40 الی 42]

حَتّٰى إِذٰا جٰاءَ أَمْرُنٰا وَ فٰارَ اَلتَّنُّورُ قُلْنَا اِحْمِلْ فِيهٰا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اِثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلاّٰ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ اَلْقَوْلُ وَ مَنْ آمَنَ وَ مٰا آمَنَ مَعَهُ إِلاّٰ قَلِيلٌ وَ قٰالَ اِرْكَبُوا فِيهٰا بِسْمِ اَللّٰهِ مَجْرٰاهٰا وَ مُرْسٰاهٰا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَ هِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبٰالِ وَ نٰادىٰ

ص: 20


1- تفسير الطبري ج 12:21.

[سورة هود (11): الآیات 42 الی 43]

نُوحٌ اِبْنَهُ وَ كٰانَ فِي مَعْزِلٍ يٰا بُنَيَّ اِرْكَبْ مَعَنٰا وَ لاٰ تَكُنْ مَعَ اَلْكٰافِرِينَ قٰالَ سَآوِي إِلىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ اَلْمٰاءِ قٰالَ لاٰ عٰاصِمَ اَلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اَللّٰهِ إِلاّٰ مَنْ رَحِمَ وَ حٰالَ بَيْنَهُمَا اَلْمَوْجُ فَكٰانَ مِنَ اَلْمُغْرَقِينَ

حَتّٰى هذه هي التي يبتدأ بعدها الكلام، دخلت علي الجملة من الشرط وا لجزاء.

وَ فٰارَ اَلتَّنُّورُ بالماء، أي: ارتفع الماء بشدّة اندفاع، وهو تنور الخابزة، وكان في ناحية الكوفة، وقيل: التنور: وجه الأرض(1).

وَ أَهْلَكَ عطف علي اِثْنَيْنِ ، وكذلك وَ مَنْ آمَنَ ، يعني: و احمل أهلك و المؤمنين من غيرهم، و اِثْنَيْنِ مفعول اِحْمِلْ ، و المراد ب - كُلٍّ زَوْجَيْنِ : الشياع، وقرئ: من كلّ - بالتنوين وحذف المضاف إليه من كل - والمراد:

من كل شيء زوجين، فعلى هذا يكون انتصاب اِثْنَيْنِ على أنّه صفة ل - زَوْجَيْنِ .

واستثنى من أهله مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ اَلْقَوْلُ أنّه من أهل النار للعلم بأنّه يختار الكفر.

وَ مٰا آمَنَ مَعَهُ إِلاّٰ قَلِيلٌ قيل: كانوا ثمانية(2)، وقيل: كانوا اثنين وسبعين رجلا و امرأة(3).

وَ قٰالَ اِرْكَبُوا فِيهٰا نوح لمن معه: اِرْكَبُوا فِيهٰا . وقرئ: مَجْرٰاهٰا

ص: 21


1- عن ابن عباس. تفسير الطبري ج 12:24.
2- عن قتادة وغيره. تفسير الطبري ج 12:26.
3- عن مقاتل. الكشف والبيان ج 5:169.

وَ مُرْسٰاهٰا بضم الميم وفتحه، واتفقوا علي ضم الميم في مُرْسٰاهٰا إلا ما روي عن ابن محيصن: أنّه فتح الميم فيهما، من جري ورسا: إما مصدرين، أو وقتين، أو مكانين. والمعنى: اركبوا فيها مسمّين اللّه، أو قائلين: بِسْمِ اَللّٰهِ وقت إجرائها ووقت إرسائها، أو وقت جريها و وقت رسوها، علي القراءة الأخري. ويجوز أن يكونا مصدرين حذف منهما الوقت المضاف، كقولهم: خفوق النجم و مقدم الحاج. ويجوز أن يكونا مكاني الإجراء و الإرساء، و انتصابهما بما في بِسْمِ اَللّٰهِ من معنى الفعل، أو بما فيه من إرادة القول. وروي: أنّ نوحا كان يقول إذا أراد أن تجري: بسم اللّه، وإذا أراد أن ترسو قال: بسم اللّه(1). ويجوز أن يراد: باللّه إجراؤها و إرساؤها، أي: بأمره ومشيئته، وا لاسم مقحم.

وَ هِيَ تَجْرِي بِهِمْ معناه: أنّ السفينة تجري بنوح و من معه علي الماء فِي أمواج كَالْجِبٰالِ في عظمها و ارتفاعها. وقرأ عليّ عليه السلام: ونادى نوح ابنه - بفتح الهاء - اكتفى بالفتحة عن الألف، وروي أيضا: ابنها، و الضمير لامرأته.

وَ كٰانَ فِي مَعْزِلٍ و هو مفعل من عزله عنه: إذا نحّاه و أبعده. يعني:

وكان في مكان عزل فيه نفسه عن أبيه وعن مركب المؤمنين، وقيل: كان في معزل عن دين أبيه(2).

يٰا بُنَيَّ قرئ بفتح الياء وكسرها، فالكسر للاقتصار عليه من ياء الإضافة، والفتح للاقتصار عليه من الألف المبدلة من ياء الإضافة في قولك: يا بنيا، أو سقطت الياء والألف لالتقاء الساكنين، لأنّ الراء بعدهما ساكنة.

لاٰ عٰاصِمَ اَلْيَوْمَ مِنْ الطوفان إِلاّٰ مَنْ رَحِمَ اللّه، أي: إلا مكان من

ص: 22


1- عن الضحاك وغيره. تفسير الطبري ج 12:28.
2- معاني القران و إعرابه ج 3:54.

رحم اللّه من المؤمنين، يعني: السفينة، أو لا عاصم اليوم إلا الراحم وهو اللّه تعالى، وقيل: لا عاصم بمعنى: لا ذا عصمة إلا من رحمه اللّه، كقوله: مٰاءٍ دٰافِقٍ (1)، و عِيشَةٍ رٰاضِيَةٍ (2). وقيل: إِلاّٰ مَنْ رَحِمَ استثناء منقطع، كأنّه قيل: ولكن من رحمه اللّه فهو معصوم.

[سورة هود (11): الآیات 44 الی 49]

وَ قِيلَ يٰا أَرْضُ اِبْلَعِي مٰاءَكِ وَ يٰا سَمٰاءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ اَلْمٰاءُ وَ قُضِيَ اَلْأَمْرُ وَ اِسْتَوَتْ عَلَى اَلْجُودِيِّ وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ اَلظّٰالِمِينَ وَ نٰادىٰ نُوحٌ رَبَّهُ فَقٰالَ رَبِّ إِنَّ اِبْنِي مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ اَلْحَقُّ وَ أَنْتَ أَحْكَمُ اَلْحٰاكِمِينَ قٰالَ يٰا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صٰالِحٍ فَلاٰ تَسْئَلْنِ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ اَلْجٰاهِلِينَ قٰالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مٰا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَ إِلاّٰ تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ اَلْخٰاسِرِينَ قِيلَ يٰا نُوحُ اِهْبِطْ بِسَلاٰمٍ مِنّٰا وَ بَرَكٰاتٍ عَلَيْكَ وَ عَلىٰ أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنّٰا عَذٰابٌ أَلِيمٌ تِلْكَ مِنْ أَنْبٰاءِ اَلْغَيْبِ نُوحِيهٰا إِلَيْكَ مٰا كُنْتَ تَعْلَمُهٰا أَنْتَ وَ لاٰ قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هٰذٰا فَاصْبِرْ إِنَّ اَلْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ

نداء الأرض والسماء بما ينادي به العقلاء مما يدلّ علي كمال العزّة و الاقتدار، وأنّ هذه الأجرام العظيمة منقادة لتكوينه فيها ما يشاء غير ممتنعة عليه، كأنّها عقلاء مميّزون قد عرفوا جلالته و عظمته، فهم ينقادون له و يمتثلون علي الفور من غير ريث.

ص: 23


1- الطارق: 6.
2- القارعة: 7.

والبلع: عبارة عن النشف، والإقلاع: الإمساك.

وَ غِيضَ اَلْمٰاءُ من غاضه: إذا نقصه.

وَ قُضِيَ اَلْأَمْرُ و أنجز الموعود في إهلاك القوم.

وَ اِسْتَوَتْ أي: استقرت السفينة عَلَى اَلْجُودِيِّ و هو جبل بالموصل.

وَ قِيلَ بُعْداً يقال: بعد بعدا وبعدا: إذا أرادوا البعد البعيد من حيث الهلاك والموت ونحو ذلك، ولذلك اختص بدعاء السوء، ومجيء إخباره عزّ اسمه عن الفعل المبني للمفعول للدلالة علي الجلال والعظمة، وأنّ تلك الأمور العظام لا تكون إلا بفعل قاهر قادر لا يشارك في أفعاله، فلا يذهب الوهم إلى أنّ غيره يقول:

يا أرض، ويا سماء، وأنّ أحدا سواه يقضي ذلك.

إِنَّ اِبْنِي مِنْ أَهْلِي أي: بعض أهلي، لأنّه كان ابنه من صلبه، أو كان ربيبا له فهو بعض أهله وَ إِنَّ وَعْدَكَ اَلْحَقُّ لاشك في إنجازه، وقد و عدتني أن تنجي أهلي وَ أَنْتَ أَحْكَمُ اَلْحٰاكِمِينَ أي: أعدلهم و أعلمهم.

إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ الذين وعدتك بنجاتهم معك، لأنّه ليس علي دينك إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صٰالِحٍ تعليل لانتفاء كونه من أهله، وفيه إيذان بأن قرابة الدين غامرة لقرابة النسب، وجعلت ذاته عملا غير صالح مبالغة في ذمّه، كقول الخنساء:

فإنّما هي إقبال و إدبار(1)

وقرئ: إنّه عمل غير صالح، و قرئ: فلا تسألن - بكسر النون - بالياء و بغير ياء، وقرئ: فلا تسألن مشددة النون مفتوحة، ولا تسألني بالتشديد وإثبات الياء وغير ياء. والمعنى: فلا تلتمس مني التماسا لا تعلم أصواب هو أم غير صواب

ص: 24


1- ديوان الخنساء: 48. وصدره: ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت.

حتى تقف علي كنهه. وذكر السؤال دليل على أنّ النداء كان قبل أن يغرق، وجعل سبحانه سؤال مالا يعرف كنهه جهلا، ثمّ وعظه أن لا يعود إليه وإلي أمثاله من فعل اَلْجٰاهِلِينَ .

أَنْ أَسْئَلَكَ أن أطلب منك في المستقبل مٰا لا علم لِي بصحّته، تأدبا بأدبك و اتعاظا بموعظتك.

وَ إِلاّٰ تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ اَلْخٰاسِرِينَ قاله علي سبيل الخضوع للّه عزّ اسمه والتذلل له و الاستكانة.

بِسَلاٰمٍ مِنّٰا أي: مسلّما محفوظا من جهتنا، أو مسلّما عليك مكرّما وَ بَرَكٰاتٍ عَلَيْكَ و مباركا عليك، و البركات: الخيرات النامية.

وَ عَلىٰ أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ : (من) للبيان، يريد: الأمم الذين كانوا معه في السفينة، لأنّهم كانوا جماعات، و لأنّ الأمم تشعبت منهم. و يجوز أنّ تكون (من) لابتداء الغاية، أي: وعلي أمم ناشئة ممن معك، وهي الأمم إلى آخر الدهر، وهذا أوجه. و أُمَمٍ رفع با لابتداء، و سَنُمَتِّعُهُمْ صفته، والخبر محذوف تقديره:

وممن معك أمم سنمتعهم. والمعنى: إنّ السلام منا و البركات عليك وعلي أمم مؤمنين ينشؤون ممن معك، وممن معك أمم ممتعون بالدنيا صائرون إلي النار، وكان نوح أبا الأنبياء، والخلق بعد الطوفان منه وممن كان معه في السفينة.

تِلْكَ إشارة إلي قصّة نوح، و محلّها رفع بالابتداء، و الجمل بعدها أخبار، أي: تلك القصّة بعض أَنْبٰاءِ اَلْغَيْبِ موحاة إِلَيْكَ مجهولة عندك وعند قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هٰذٰا أي: من قبل إيحائي إليك، أو من قبل هذا العلم الذي كسبته بالوحي، أو من قبل هذا الوقت.

فَاصْبِرْ على تبليغ الرسالة وعلي أذى قومك كما صبر نوح.

ص: 25

إِنَّ اَلْعاقِبَةَ في الفوز و النصر والغلبة لِلْمُتَّقِينَ .

[سورة هود (11): الآیات 50 الی 60]

وَ إِلىٰ عٰادٍ أَخٰاهُمْ هُوداً قٰالَ يٰا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ مٰا لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّٰ مُفْتَرُونَ يٰا قَوْمِ لاٰ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاّٰ عَلَى اَلَّذِي فَطَرَنِي أَ فَلاٰ تَعْقِلُونَ وَ يٰا قَوْمِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ اَلسَّمٰاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرٰاراً وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلىٰ قُوَّتِكُمْ وَ لاٰ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ قٰالُوا يٰا هُودُ مٰا جِئْتَنٰا بِبَيِّنَةٍ وَ مٰا نَحْنُ بِتٰارِكِي آلِهَتِنٰا عَنْ قَوْلِكَ وَ مٰا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اِعْتَرٰاكَ بَعْضُ آلِهَتِنٰا بِسُوءٍ قٰالَ إِنِّي أُشْهِدُ اَللّٰهَ وَ اِشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمّٰا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاٰ تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اَللّٰهِ رَبِّي وَ رَبِّكُمْ مٰا مِنْ دَابَّةٍ إِلاّٰ هُوَ آخِذٌ بِنٰاصِيَتِهٰا إِنَّ رَبِّي عَلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مٰا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَ يَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَ لاٰ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ وَ لَمّٰا جٰاءَ أَمْرُنٰا نَجَّيْنٰا هُوداً وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنّٰا وَ نَجَّيْنٰاهُمْ مِنْ عَذٰابٍ غَلِيظٍ وَ تِلْكَ عٰادٌ جَحَدُوا بِآيٰاتِ رَبِّهِمْ وَ عَصَوْا رُسُلَهُ وَ اِتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبّٰارٍ عَنِيدٍ وَ أُتْبِعُوا فِي هٰذِهِ اَلدُّنْيٰا لَعْنَةً وَ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ أَلاٰ إِنَّ عٰاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلاٰ بُعْداً لِعٰادٍ قَوْمِ هُودٍ

أَخٰاهُمْ في النسب دون الدين، أي: واحدا منهم، عطف علي أَرْسَلْنٰا نُوحاً ، و هُوداً عطف بيان.

إِنْ أَنْتُمْ إِلاّٰ مُفْتَرُونَ علي اللّه كذبا باتخاذكم الأوثان له شركاء.

أَ فَلاٰ تَعْقِلُونَ إذ تردّون نصيحة من لا يطلب عليها أجرا إلا من اللّه، ولا

ص: 26

شيء أنفى للتهمة من حسم المطامع.

المدرار: الكثير الدرور، كالمغزار، رغّبهم في الإيمان بكثرة المطر وزيادة القوة، لأنّ القوم كانوا أصحاب زروع وبساتين، وكانوا يدلون بالقوة والبطش والنجدة.

وعن الحسن بن عليّ عليهما السلام: أنّه وفد علي معاوية، فلما خرج تبعه بعض حجّابه وقال:

إنّي رجل ذو مال ولا يولد لي، فعلّمني شيئا لعل الله يرزقني ولدا، فقال عليه السلام: (عليك بالاستغفار)، فكان يكثر الاستغفار حتى ربّما استغفر في اليوم سبعمائة مرة، فولد له عشرة بنين، فبلغ ذلك معاوية، فقال: هلا سألته ممّ قال ذلك ؟ فوفد وفدة أخرى، فسأله الرجل، فقال: (ألم تسمع قول اللّه عزّ اسمه في قصة هود: وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلىٰ قُوَّتِكُمْ وفي قصّة نوح: وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوٰالٍ وَ بَنِينَ (1)(2).

وَ لاٰ تَتَوَلَّوْا ولا تعرضوا عني وعما أدعوكم إليه.

مُجْرِمِينَ مصرّين علي إجرامكم وآثامكم.

مٰا جِئْتَنٰا بِبَيِّنَةٍ كذب منهم وجحود، كما قالت قريش لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

لَوْ لاٰ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ (3) مع كثرة آياته ومعجزاته.

عَنْ قَوْلِكَ حال من الضمير في بِتٰارِكِي آلِهَتِنٰا بمعنى: وما نترك الهتنا صادرين عن قولك.

اِعْتَرٰاكَ مفعول نَقُولُ ، و إِلاَّ لغو، والمعنى: ما نقول إلا قولنا:

اعتراك بعض آلهتنا بسوء أي: خبّلك ومسّك بجنون، لسبّك إيّاها وعداوتك لها، مكافأة منها لك، فمن ثمّ تتكلّم بكلام المجانين.

ص: 27


1- نوح: 12.
2- الكشاف ج 2:402.
3- يونس: 20.

قٰالَ هود: إِنِّي أُشْهِدُ اَللّٰهَ واجههم بهذا الكلام لثقته بربّه و اعتصامه به، كما قال نوح لقومه: ثُمَّ اُقْضُوا إِلَيَّ وَ لاٰ تُنْظِرُونِ (1).

مِمّٰا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ من إشراككم آلهة من دونه، أو مما تشركونه من آلهة من دونه، أي: أنتم تجعلونها شركاء له ولم يجعلها هو شركاء.

فَكِيدُونِي جَمِيعاً أنتم والهتكم من غير إنظار، فإنّي لا أبالي بكم ولا بكيدكم.

ولما ذكر توكّله علي اللّه و وثوقه به و بكلاءته، وصفه بما يوجب التوكّل عليه من اشتمال ربوبيته عليه وعليهم، وكون كل دَابَّةٍ تحت ملكته وقهره، و الأخذ بِنٰاصِيَتِهٰا : تمثيل لذلك.

إِنَّ رَبِّي عَلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ أي: علي طريق الحقّ والعدل لا يفوته ظالم.

فَإِنْ تَوَلَّوْا أي: تتولوا، لم أعاتب علي التفريط في الإبلاغ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مٰا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ فأبيتم إلا تكذيب الرسالة.

وَ يَسْتَخْلِفُ رَبِّي كلام مستأنف، يريد: و يهلككم اللّه و يجيء بقوم آخرين يخلفونكم في دياركم وأموالكم وَ لاٰ تَضُرُّونَهُ بتوليكم شَيْئاً من ضرر قط، و إنّما تضرّون أنفسكم.

إِنَّ رَبِّي عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ أي: رقيب عليه مهيمن، فما تخفى عليه أعمالكم، ولا يغفل عن مؤاخذتكم.

وَ لَمّٰا جٰاءَ أَمْرُنٰا نَجَّيْنٰا هُوداً وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا حين أهلكنا عدوهم بِرَحْمَةٍ مِنّٰا وَ نَجَّيْنٰاهُمْ مِنْ عَذٰابٍ غَلِيظٍ و هو السموم التي كانت تدخل في أنوفهم و تخرج من أدبارهم فتقطعهم عضوا عضوا، وقيل: أراد بالتنجية الثانية إنجاءهم من عذاب

ص: 28


1- يونس: 71.

الآخرة(1).

وَ تِلْكَ عٰادٌ إشارة إلى آثارهم و قبورهم، ثمّ استأنف وصفهم فقال: جَحَدُوا بِآيٰاتِ رَبِّهِمْ وَ عَصَوْا رُسُلَهُ لأنّهم إذا عصوا رسولهم فقد عصوا جميع رسل اللّه.

كُلِّ جَبّٰارٍ عَنِيدٍ يريد رؤساءهم ودعاتهم إلى تكذيب الرسل.

وَ أُتْبِعُوا فِي هٰذِهِ اَلدُّنْيٰا لَعْنَةً جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين تكبّهم علي وجوههم في عذاب اللّه، و تكرير أَلاٰ مع الشهادة بكفرهم والدعاء عليهم تفظيع لأمرهم، وبعث علي الاعتبار بهم، والحذر من مثل حالهم.

[سورة هود (11): الآیات 61 الی 67]

وَ إِلىٰ ثَمُودَ أَخٰاهُمْ صٰالِحاً قٰالَ يٰا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ مٰا لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ وَ اِسْتَعْمَرَكُمْ فِيهٰا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ قٰالُوا يٰا صٰالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينٰا مَرْجُوًّا قَبْلَ هٰذٰا أَ تَنْهٰانٰا أَنْ نَعْبُدَ مٰا يَعْبُدُ آبٰاؤُنٰا وَ إِنَّنٰا لَفِي شَكٍّ مِمّٰا تَدْعُونٰا إِلَيْهِ مُرِيبٍ قٰالَ يٰا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتٰانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اَللّٰهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمٰا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ وَ يٰا قَوْمِ هٰذِهِ نٰاقَةُ اَللّٰهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهٰا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اَللّٰهِ وَ لاٰ تَمَسُّوهٰا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذٰابٌ قَرِيبٌ فَعَقَرُوهٰا فَقٰالَ تَمَتَّعُوا فِي دٰارِكُمْ ثَلاٰثَةَ أَيّٰامٍ ذٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ فَلَمّٰا جٰاءَ أَمْرُنٰا نَجَّيْنٰا صٰالِحاً وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنّٰا وَ مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ اَلْقَوِيُّ اَلْعَزِيزُ وَ أَخَذَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا اَلصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيٰارِهِمْ

ص: 29


1- معاني القران وإعرابه ج 3:59.

[سورة هود (11): الآیات 67 الی 68]

جٰاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهٰا أَلاٰ إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلاٰ بُعْداً لِثَمُودَ

هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ وَ اِسْتَعْمَرَكُمْ معناه: ما أنشأكم من الأرض إلا هو ولا استعمركم فِيهٰا غيره. و إنشاؤهم منها هو خلق آدم من تراب، و استعمارهم فيها هو: أمرهم بعمارتها، وا لعمارة متنوعة إلى واجب، ومندوب، و مباح، ومكروه.

وقيل: (استعمركم) من العمر(1)، نحو: استبقاكم، من البقاء، وقيل: هو من العمرى(2)، فيكون (استعمركم) بمعنى: أعمركم، أي: أعمركم فيها دياركم ثمّ هو وارثها منكم إذا انقضت أعماركم، أو بمعنى: جعلكم معمّرين دياركم فيها، لأنّ الرجل إذا ورث داره غيره من بعده فكأنّما أعمره إيّاها، لأنّه يسكنها عمره ثمّ يتركها لغيره.

إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ داني الرحمة مُجِيبٌ لمن دعاه.

كُنْتَ فِينٰا فيما بيننا مَرْجُوًّا نرجو منك الخير، لما كانت تلوح فيك من مخايله، فكنا نسترشدك في تدابيرنا، و نشاورك في أمورنا، فالآن انقطع رجاؤنا عنك، وعلمنا أن لا خير فيك.

يَعْبُدُ آبٰاؤُنٰا حكاية حال ماضية.

مُرِيبٍ من أرابه: إذا أوقعه في الريبة، أو من أراب الرجل: إذا كان ذا ريبة.

وَ آتٰانِي مِنْهُ رَحْمَةً وهي النبوّة.

فَمٰا تَزِيدُونَنِي بما تقولون غَيْرَ تَخْسِيرٍ غير أن أخسركم، أي: أنسبكم إلى

ص: 30


1- عن الضحاك. الكشف والبيان ج 5:176.
2- عن مجاهد. تفسير الطبري ج 12:38.

الخسران و أقول لكم: إنّكم خاسرون.

آيَةً نصب علي الحال، والعامل [فيها معنى الإشارة، و لَكُمْ حال أيضا من آيَةً متقدّمة عليها، لأنّها لو تأخرت لكانت صفة لها، فلما تقدّمت انتصبت علي الحال](1).

فَذَرُوهٰا تَأْكُلْ أي: فاتركوها آكلة فِي أَرْضِ اَللّٰهِ ولا تصيبوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ إن فعلتم ذلك عَذٰابٌ قَرِيبٌ عاجل لا يستأخر.

فَعَقَرُوهٰا فَقٰالَ صالح: تَمَتَّعُوا استمتعوا بالعيش فِي دٰارِكُمْ في بلدكم، و يسمّى البلد الدار، لأنّه يدار فيه بالتصرّف، يقال: ديار بكر، لبلادهم.

ثَلاٰثَةَ أَيّٰامٍ قيل: عقروها يوم الأربعاء و هلكوا يوم السبت(2)، ذٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ فيه، فاتسع في الظرف بحذف الحرف و إجرائه مجري المفعول به، نحو قوله:

و يوم شهدناه سليما وعامرا(3)

أو مَكْذُوبٍ مصدر كالمعقول و المجلود، أي: غير كذب.

وَ مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ قرئ مفتوح الميم، لأنّه مضاف إلي (إذ) وهو غير متمكّن، كقوله:

على حين عاتبت المشيب على الصبا(4)

ص: 31


1- ساقطة من ج.
2- معاني القرآن و إعرابه ج 2:351.
3- الكتاب ج 1:178 لرجل من بني عامر، و بقيته: قليل سوى الطعن النهال نوافله.
4- ديوان النابغة الذبياني: 79، و بقيته: فقلت ألما أصح والشيب وازع.

وقرئ مكسور الميم، لأنه اسم معرب فانجر بالإضافة. والمعنى: ونجّيناهم من خزي ذلك اليوم ومهانته وذلته و فضيحته، كما قال: وَ نَجَّيْنٰاهُمْ مِنْ عَذٰابٍ غَلِيظٍ (1)، ولا خزي أعظم من خزي من كان هلاكه بغضب اللّه وبأسه.

و قرئ: إِنَّ ثَمُودَ و لِثَمُودَ بمنع الصرف و بالتنوين في جميع القرآن، فالصرف لأنّه اسم الحي أو الأب الأكبر، ومنع الصرف للتعريف والتأنيث بمعنى القبيلة.

[سورة هود (11): الآیات 69 الی 76]

وَ لَقَدْ جٰاءَتْ رُسُلُنٰا إِبْرٰاهِيمَ بِالْبُشْرىٰ قٰالُوا سَلاٰماً قٰالَ سَلاٰمٌ فَمٰا لَبِثَ أَنْ جٰاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمّٰا رَأىٰ أَيْدِيَهُمْ لاٰ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَ أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قٰالُوا لاٰ تَخَفْ إِنّٰا أُرْسِلْنٰا إِلىٰ قَوْمِ لُوطٍ وَ اِمْرَأَتُهُ قٰائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنٰاهٰا بِإِسْحٰاقَ وَ مِنْ وَرٰاءِ إِسْحٰاقَ يَعْقُوبَ قٰالَتْ يٰا وَيْلَتىٰ أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ وَ هٰذٰا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هٰذٰا لَشَيْ ءٌ عَجِيبٌ قٰالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اَللّٰهِ رَحْمَتُ اَللّٰهِ وَ بَرَكٰاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ اَلْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ فَلَمّٰا ذَهَبَ عَنْ إِبْرٰاهِيمَ اَلرَّوْعُ وَ جٰاءَتْهُ اَلْبُشْرىٰ يُجٰادِلُنٰا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْرٰاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوّٰاهٌ مُنِيبٌ يٰا إِبْرٰاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هٰذٰا إِنَّهُ قَدْ جٰاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذٰابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ

رُسُلُنٰا يعني: الملائكة، وكانوا ثلاثة: جبرئيل وميكائيل و إسرافيل، الصادق عليه السلام: (كانوا أربعة و رابعهم ملك آخر)(2)، وقيل: كانوا تسعة(3)، وقيل:

ص: 32


1- هود: 58.
2- تفسير العياشي ج 2:153.
3- عن الضحاك. معالم التنزيل ج 2:135.

أحد عشر، وكانوا علي صور الغلمان(1).

بِالْبُشْرىٰ هي البشارة بإسحاق. وعن الباقر عليه السلام: (إنّ هذه البشارة كانت بإسماعيل من هاجر)(2).

قٰالُوا سَلاٰماً أي: سلّمنا عليك سلاما، أو أصبت سلاما أي: سلامة.

قٰالَ إبراهيم سَلاٰمٌ أي: أمركم سلام، وقرئ: سلم، وهو بمعنى:

سلام، مثل حلّ و حلال وحرم وحرام، قال الشاعر:

مررنا فقلنا إيه سلم فسلّمت *** كما اكتلّ بالبرق الغمام اللّوائح(3)

فَمٰا لَبِثَ أَنْ جٰاءَ بِعِجْلٍ أي: فما لبث في المجيء بل عجّل فيه، أو فما لبث مجيئه.

و الحنيذ: المشوي بالحجارة المحماة في أخدود من الأرض، وقيل: هو المشوي يقطر دسمه(4)، ويدلّ عليه قوله: بِعِجْلٍ سَمِينٍ (5).

فَلَمّٰا رَأىٰ إبراهيم أيدي الملائكة لاٰ تَصِلُ إلى العجل الحنيذ، أنكرهم، يقال: نكره وأنكره واستنكره بمعنى، و إنّما أنكرهم، لأنه خاف أن يكونوا نزلوا لأمر أنكره اللّه من قومه، ولذلك قٰالُوا لاٰ تَخَفْ إِنّٰا أُرْسِلْنٰا إِلىٰ قَوْمِ لُوطٍ .

وَ أَوْجَسَ أي: أضمر مِنْهُمْ خوفا.

ص: 33


1- عن السدي. معالم التنزيل ج 2:135.
2- تفسير العياشي ج 2:152.
3- ديوان شعر ذي الرمة: 664.
4- عن شمر بن عطية. تفسير الطبري ج 12:43.
5- الذاريات: 26.

وَ اِمْرَأَتُهُ قٰائِمَةٌ وراء الستر تسمع تحاورهم، وقيل: كانت قائمة تخدمهم(1)، فَضَحِكَتْ سرورا بزوال الخيفة، أو بهلاك أهل الخبائث، وقيل:

فَضَحِكَتْ : حاضت(2)، وهي سارة، وكانت ابنة عم إبراهيم.

فَبَشَّرْنٰاهٰا بِإِسْحٰاقَ بنبيّ بين نبيّين، و الوراء: ولد الولد. و قرئ: يَعْقُوبَ بالنصب، كأنّه قال: ووهبنا لها إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، علي طريقة قوله:

مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة *** و لا ناعب إلّا بشؤم غرابها(3)

ومن قرأ: يعقوب - بالرفع - فارتفاعه بالابتداء أو بالظرف.

والألف في يٰا وَيْلَتىٰ مبدلة من ياء الإضافة، وكذا في يا عجبا، ويا لهفا.

و شَيْخاً نصب علي الحال، والعامل فيه معنى الإشارة، وكان لها ثمان وسبعون سنة و لإبراهيم مائة سنة.

إِنَّ هٰذٰا لَشَيْ ءٌ عَجِيبٌ أن يولد ولد بين هرمين.

رَحْمَتُ اَللّٰهِ وَ بَرَكٰاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ اَلْبَيْتِ أي: إنّ هذه وأمثالها مما يكرمكم اللّه به يا أهل بيت النبوّة، فليس هذا مكان عجب. وقيل: الرحمة: النبوّة، و البركات:

الأسباط من بني إسرائيل، لأنّ الأنبياء منهم.

حَمِيدٌ فاعل لما يستحقّ به الحمد من عباده.

مَجِيدٌ كريم كثير الإحسان إليهم.

و أَهْلَ اَلْبَيْتِ نصب على النداء، أو علي المدح.

ص: 34


1- عن ابن عباس. الدر المنثور ج 3:339.
2- عن مجاهد. تفسير الطبري ج 12:44.
3- البيت للأحوص الرياحي. البيان والتبيين ج 2:261، وفيه: إلا ببين غرابها.

فَلَمّٰا ذَهَبَ عَنْ إِبْرٰاهِيمَ اَلرَّوْعُ أي: لما اطمأن قلبه بعد الخوف وملئ سرورا بسبب البشري بدل الغم، فرغ للمجادلة. وجواب (لما) محذوف تقديره: اجترأ علي خطابنا، أو قال: كيت وكيت، ثمّ استأنف يُجٰادِلُنٰا فِي قَوْمِ لُوطٍ ، وقيل:

إنّ يُجٰادِلُنٰا جواب (لمّا)، و إنّما جيء به مضارعا لحكاية الحال، و قيل: إنّ (لمّا) يردّ المضارع إلي معنى الماضي، كما أنّ (إن) ترد الماضي إلى معنى الاستقبال، وقيل:

معناه: أخذ يجادلنا، أو أقبل يجادلنا، أي: يجادل رسلنا.

فِي قَوْمِ لُوطٍ أي: في معناهم، و مجادلته إيّاهم أنّه قال لهم: إن كان فيها خمسون من المؤمنين أتهلكونهم ؟ قالوا: لا، قال: فأربعون ؟ قالوا: لا، فما زال ينقص حتى قال: فواحد؟ قالوا: لا، قال: إنّ فيها لوطا، قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله(1).

إِنَّ إِبْرٰاهِيمَ لَحَلِيمٌ غير عجول علي من أساء إليه أَوّٰاهٌ كثير الدعاء مُنِيبٌ راجع إلى اللّه تعالى بما يحبّ ويرضى، وفيه بيان: أنّ هذه الصفات مما حمله على المجادلة فيهم رجاء أن يرفع العذاب عنهم.

يٰا إِبْرٰاهِيمُ علي إرادة القول، أي: قالت له الملائكة: أَعْرِضْ عَنْ هٰذٰا الجدال وإن كانت الرحمة دأبك، فلا فائدة فيه.

إِنَّهُ قَدْ جٰاءَ أَمْرُ رَبِّكَ أي: قضاؤه وحكمه الذي لا يصدر إلا عن حكمة، والعذاب نازل بهم لا محالة لا مرد له بجدال ولا غيره.

[سورة هود (11): الآیات 77 الی 78]

وَ لَمّٰا جٰاءَتْ رُسُلُنٰا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَ ضٰاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَ قٰالَ هٰذٰا يَوْمٌ عَصِيبٌ وَ جٰاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَ مِنْ قَبْلُ كٰانُوا

ص: 35


1- الكشف والبيان ج 5:180.

[سورة هود (11): الآیات 78 الی 83]

يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئٰاتِ قٰالَ يٰا قَوْمِ هٰؤُلاٰءِ بَنٰاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اَللّٰهَ وَ لاٰ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَ لَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ قٰالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مٰا لَنٰا فِي بَنٰاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مٰا نُرِيدُ قٰالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ قٰالُوا يٰا لُوطُ إِنّٰا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اَللَّيْلِ وَ لاٰ يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ اِمْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهٰا مٰا أَصٰابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ اَلصُّبْحُ أَ لَيْسَ اَلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ فَلَمّٰا جٰاءَ أَمْرُنٰا جَعَلْنٰا عٰالِيَهٰا سٰافِلَهٰا وَ أَمْطَرْنٰا عَلَيْهٰا حِجٰارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَ مٰا هِيَ مِنَ اَلظّٰالِمِينَ بِبَعِيدٍ

يعني: ساء لُوطاً مجيء الرسل وَ ضٰاقَ بمجيئهم ذرعه، وذلك لأنّه حسب أنّهم آدميون ورأي حسن صورتهم و جمال جملتهم، فخاف عليهم خبث قومه وسوء سيرتهم.

و يَوْمٌ عَصِيبٌ و عصبصب: شديد، من عصبه: إذا شدّه.

وروي: أنّ لوطا قد تقدّمهم وهم يمشون خلفه إلى المنزل، فقال في نفسه:

أي شيء صنعت ؟! آتي بهم قومي وأنا أعرفهم، فالتفت إليهم و قال: إنّكم لتأتون شرار خلق اللّه، وكان اللّه سبحانه قال لجبرئيل: لا تهلكهم حتى يشهد عليهم ثلاث شهادات، فقال جبرئيل: هذه واحدة، ثمّ مشى لوط، ثمّ التفت إليهم ثانيا وقال ذلك، ثمّ التفت ثالثة عند باب المدينة وقال ذلك، فقال جبرئيل: هذه الثلاثة، فدخلوا معه منزله ولم يعلم بذلك أحد، فصعدت امرأته فوق السطح فصفّقت، فلم يسمعوا، فدخنت، فلما رأوا الدخان أقبلوا يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ أي: يسرعون كما يدفعون دفعا.

ص: 36

وَ مِنْ قبل ذلك الوقت كٰانُوا يَعْمَلُونَ الفواحش فضروا بها و مرنوا عليها.

قٰالَ لوط هٰؤُلاٰءِ بَنٰاتِي فتزوّجوهن، وكان تزويج المسلمات من الكفار جائزا، كما زوّج رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم ابنتيه من عتبة بن أبي لهب و أبي العاص بن الربيع قبل أن يسلما وهما كافران. وقيل: كان لهم سيّدان مطاعان فأراد أن يزوّجهما ابنتيه(1).

هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ أي: هن أحلّ لكم من الرجال فَاتَّقُوا اَللّٰهَ في مواقعة الذكور.

وَ لاٰ تُخْزُونِ أي: لا تفضحون، من الخزي، أو لا تخجلون، من الخزاية وهي الحياء فِي ضَيْفِي في حقّ أضيافي، فإنّه إذا خزي ضيف الرجل أو جاره فقد خزي الرجل، وذلك من الكرم.

أَ لَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ رجل واحد يهتدي إلى سبيل الرشد في الكف عن القبيح.

قٰالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مٰا لَنٰا فِي بَنٰاتِكَ مِنْ حَقٍّ لا نا لا نتزوّجهنّ ، أو مالنا فيهن من حاجة لأنّا نرغب عن نكاح الإناث، وَ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مٰا نُرِيدُ عنوا إتيان الذكور.

وجواب لَوْ محذوف، يعني: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً لفعلت بكم وصنعت، أي: لو قويت عليكم بنفسي أَوْ أويت إِلىٰ قوي أمتنع به منكم لدفعتكم عن أضيافي، فشبّه القوي العزيز بالركن من الجبل في شدّته و منعته، ولذلك قال جبرئيل: إنّ ركنك لشديد، افتح الباب ودعنا وإياهم، ففتح الباب ودخلوا،

ص: 37


1- الكشف والبيان ج 5:181.

فضرب جبرئيل بجناحه وجوههم وطمس أعينهم فأعماهم.

قالت الملائكة: إِنّٰا رُسُلُ رَبِّكَ أرسلنا لهلاكهم فلا تغتم لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بسوء أبدا.

فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ قرئ بالقطع و الوصل، أي: سر بأهلك ليلا، و القطع:

القطعة العظيمة من الليل، كأنّما قطع بنصفين.

وَ لاٰ يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أي: ولا يتخلف منكم أحد، أو لا ينظر أحد منكم وراءه، و الأوّل أوجه.

إِلاَّ اِمْرَأَتَكَ قرئ بالنصب والرفع. وروي: أنّه قال: متى موعد إهلاكهم ؟ قالوا: اَلصُّبْحُ فقال: أريد أسرع من ذلك، لضيق صدره بهم، فقالوا: أَ لَيْسَ اَلصُّبْحُ بِقَرِيبٍ .

جَعَلْنٰا عٰالِيَهٰا سٰافِلَهٰا جعل جبرئيل جناحه في أسفلها ثمّ رفعها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب وصياح الديكة، ثمّ قلبها عليهم، و أتبعوا الحجارة من فوقهم.

مِنْ سِجِّيلٍ هي كلمة معرّبة من: سنك كل، بدليل قوله: حِجٰارَةً مِنْ طِينٍ (1).

مَنْضُودٍ نضد في السماء نضدا معدّا للعذاب، وقيل: أرسل بعضه في أثر بعض متتابعا(2).

مُسَوَّمَةً معلّمة للعذاب.

ص: 38


1- الذاريات: 33.
2- عن ابن عباس. معالم التنزيل ج 2:138.

وَ مٰا هِيَ مِنَ كل ظالم بِبَعِيدٍ . وفيه وعيد لكفار قريش.

[سورة هود (11): الآیات 84 الی 90]

وَ إِلىٰ مَدْيَنَ أَخٰاهُمْ شُعَيْباً قٰالَ يٰا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ مٰا لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُهُ وَ لاٰ تَنْقُصُوا اَلْمِكْيٰالَ وَ اَلْمِيزٰانَ إِنِّي أَرٰاكُمْ بِخَيْرٍ وَ إِنِّي أَخٰافُ عَلَيْكُمْ عَذٰابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ وَ يٰا قَوْمِ أَوْفُوا اَلْمِكْيٰالَ وَ اَلْمِيزٰانَ بِالْقِسْطِ وَ لاٰ تَبْخَسُوا اَلنّٰاسَ أَشْيٰاءَهُمْ وَ لاٰ تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بَقِيَّتُ اَللّٰهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَ مٰا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ قٰالُوا يٰا شُعَيْبُ أَ صَلاٰتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مٰا يَعْبُدُ آبٰاؤُنٰا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوٰالِنٰا مٰا نَشٰؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ اَلْحَلِيمُ اَلرَّشِيدُ قٰالَ يٰا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ رَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَ مٰا أُرِيدُ أَنْ أُخٰالِفَكُمْ إِلىٰ مٰا أَنْهٰاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ اَلْإِصْلاٰحَ مَا اِسْتَطَعْتُ وَ مٰا تَوْفِيقِي إِلاّٰ بِاللّٰهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ وَ يٰا قَوْمِ لاٰ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقٰاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مٰا أَصٰابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صٰالِحٍ وَ مٰا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ وَ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ

إِنِّي أَرٰاكُمْ بِخَيْرٍ أي: برخص من السعر وثروة وسعة تغنيكم عن التطفيف، أو أراكم بخير ونعمة من اللّه فلا تزيلوه عنكم بما أنتم عليه.

يَوْمٍ مُحِيطٍ مهلك من قوله: وَ أُحِيطَ بِثَمَرِهِ (1)، و أصله من إحاطة العدو، ووصف اليوم به لأنّ الزمان يشتمل علي ما يحدث فيه. و البخس: النقص و الهضم.

ص: 39


1- الكهف: 42.

وَ لاٰ تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ نهي عن السرقة والغارة وقطع السبيل.

بَقِيَّتُ اَللّٰهِ ما يبقي لكم من الحلال بعد التنزّه عما هو حرام عليكم خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي: بشرط الإيمان لظهور فائدتها مع الإيمان من حصول الثواب مع النجاة من العقاب، أو يريد: إن كنتم مصدّقين لي في نصيحتي لكم.

وَ مٰا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أحفظ أعمالكم عليكم و أجازيكم عليها، إنّما أنا نذير ناصح لكم.

كان شعيب كثير الصلوات فقصدوا بقولهم: أَ صَلاٰتُكَ تَأْمُرُكَ الهزء، و المعنى: أصلاتك التي تداوم عليها تأمرك بتكليف أَنْ نَتْرُكَ مٰا يَعْبُدُ آبٰاؤُنٰا أَوْ أَنْ نترك فعل مٰا نَشٰؤُا في أموالنا؟ فحذف المضاف، لأنّ الإنسان لا يؤمر بفعل غيره. وقرئ: أصلاتك علي التوحيد.

إِنَّكَ لَأَنْتَ اَلْحَلِيمُ اَلرَّشِيدُ أرادوا بذلك نسبته إلي غاية السفه و الغي، فعكسوا ليتهكّموا به.

وَ رَزَقَنِي مِنْهُ أي: من لدنه رِزْقاً حَسَناً و هو ما رزقه من النبوّة و الحكمة، وقيل: أراد رزقا حلالا طيبا من غير بخس(1). وجواب أَ رَأَيْتُمْ محذوف، والمعنى: أخبروني إِنْ كُنْتُ عَلىٰ حجّة واضحة ويقين مِنْ رَبِّي وكنت نبيّا علي الحقيقة: أيصحّ لي أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان والكف عن القبائح، والأنبياء لا يبعثون إلا لذلك ؟!.

وَ مٰا أُرِيدُ أَنْ أُخٰالِفَكُمْ إِلىٰ مٰا أَنْهٰاكُمْ عَنْهُ معناه: وما أريد أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لأستبدّ بها دونكم.

ص: 40


1- عن الضحاك. الدر المنثور ج 3:347.

إِنْ أُرِيدُ أي: ما أريد إِلاَّ اَلْإِصْلاٰحَ وهو أن أصلحكم بموعظتي و نصيحتي.

مَا اِسْتَطَعْتُ ظرف، أي: مدة استطاعتي للإصلاح و مادمت متمكّنا منه، أو بدل من اَلْإِصْلاٰحَ أي: المقدار الذي استطعت منه، ويجوز أن يكون مفعولا اَلْإِصْلاٰحَ كقوله:

ضعيف النّكاية أعداءه(1)

أي: ما أريد إلا أن أصلح ما استطعت إصلاحه من فاسدكم.

وَ مٰا تَوْفِيقِي إِلاّٰ بِاللّٰهِ وما كوني موفقا لإصابة الحقّ فيما آتي وأذر إلا بمعونته وتوفيقه، والمعنى: إنّه استوفق ربّه في إمضاء أمره على رضا اللّه، وطلب منه التأييد والنصر علي عدوه، وفي ضمنه تهديد للكفار وحسم لأطماعهم منه.

لاٰ يَجْرِمَنَّكُمْ لا يكسبنكم شِقٰاقِي أي: خلافي و عداوتي إصابة العذاب.

وَ مٰا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ يعني: إنّهم أهلكوا في عهد قريب من عهدكم فهم أقرب الهالكين منكم.

رَحِيمٌ وَدُودٌ عظيم الرحمة متودد إلى عباده بكثرة الإنعام عليهم، مريد لمنافعهم.

قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مّمّا تقول و إنّا لنراك فينا ضعيفا و لولا رهطك لرجمناك و ما أنت علينا بعزيز قال يا قوم أرهطى أعزّ عليكم مّن اللّه و اتّخذتموه وراءكم ظهريّا إنّ

ص: 41


1- الكتاب ج 1:192 دون نسبة، و بقيته: يخال الفرار يراخي الأجل.

[سورة هود (11): الآیات 92 الی 95]

رَبِّي بِمٰا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وَ يٰا قَوْمِ اِعْمَلُوا عَلىٰ مَكٰانَتِكُمْ إِنِّي عٰامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذٰابٌ يُخْزِيهِ وَ مَنْ هُوَ كٰاذِبٌ وَ اِرْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ وَ لَمّٰا جٰاءَ أَمْرُنٰا نَجَّيْنٰا شُعَيْباً وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنّٰا وَ أَخَذَتِ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا اَلصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيٰارِهِمْ جٰاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهٰا أَلاٰ بُعْداً لِمَدْيَنَ كَمٰا بَعِدَتْ ثَمُودُ

مٰا نَفْقَهُ أي: ما نفهم كَثِيراً مِمّٰا تَقُولُ ، وكانوا يفهمونه و لكنّهم لم يقبلوه، فكأنّهم لم يفقهوه.

وَ إِنّٰا لَنَرٰاكَ فِينٰا ضَعِيفاً لا قوة لك ولا عزّ فيما بيننا فلا تقدر علي الامتناع منا إن أردنا بك مكروها.

وَ لَوْ لاٰ رَهْطُكَ لَرَجَمْنٰاكَ أي: قتلناك شرّ قتلة، و الرهط: من الثلاثة إلى العشرة وَ مٰا أَنْتَ عَلَيْنٰا بِعَزِيزٍ فندع قتلك لعزّتك علينا، ولكن لم نقتلك لأجل قومك، والمراد: ما أنت بعزيز علينا بل رهطك هم الأعزّة علينا، ولذلك قال في جوابهم: أَ رَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اَللّٰهِ وَ اِتَّخَذْتُمُوهُ وَرٰاءَكُمْ ظِهْرِيًّا و نسيتموه وجعلتموه كالشيء المنبوذ وراء الظهر لا يعبأ به. و الظهري منسوب إلى الظهر، والكسر من تغييرات النسب.

إِنَّ رَبِّي بِمٰا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ قد أحاط بأعمالكم علما، فلا يخفى عليه شيء منها.

اِعْمَلُوا عَلىٰ مَكٰانَتِكُمْ المكانة: إما مصدر من مكن مكانة فهو مكين، أو اسم المكان، يقال: مكان ومكانة، والمعنى: اعملوا قارّين علي مكانكم الذي أنتم

ص: 42

عليه من الشرك و العداوة لي، أو اعملوا متمكّنين من عداوتي مطيقين لها.

إِنِّي عٰامِلٌ علي حسب ما يؤتيني اللّه من النصرة و التأييد و يمكّنني.

سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ يجوز أن يكون مَنْ استفهامية معلّقة لفعل العلم عن عمله فيها، كأنّه قال: سوف تعلمون أينا يأتيه عَذٰابٌ يُخْزِيهِ و أينا هُوَ كٰاذِبٌ ، ويجوز أن تكون موصولة، والمعنى: سوف تعلمون الشقي الذي يأتيه عذاب يخزيه والذي هو كاذب.

وَ اِرْتَقِبُوا وانتظروا العاقبة إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ منتظر، و الرقيب بمعنى الراقب أو بمعنى المراقب أو بمعنى المرتقب.

الجاثم: اللازم لمكانه لا يريم. روي: أنّ جبرئيل صاح بهم صيحة فزهق روح كل واحد منهم حيث هو(1).

كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا كأن لم يقيموا فِي دِيٰارِهِمْ أحياء متصرّفين مترددين.

[سورة هود (11): الآیات 96 الی 102]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنٰا مُوسىٰ بِآيٰاتِنٰا وَ سُلْطٰانٍ مُبِينٍ إِلىٰ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَ مٰا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ اَلنّٰارَ وَ بِئْسَ اَلْوِرْدُ اَلْمَوْرُودُ وَ أُتْبِعُوا فِي هٰذِهِ لَعْنَةً وَ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ بِئْسَ اَلرِّفْدُ اَلْمَرْفُودُ ذٰلِكَ مِنْ أَنْبٰاءِ اَلْقُرىٰ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهٰا قٰائِمٌ وَ حَصِيدٌ وَ مٰا ظَلَمْنٰاهُمْ وَ لٰكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمٰا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ اَلَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مِنْ شَيْ ءٍ لَمّٰا جٰاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ مٰا زٰادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ وَ كَذٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذٰا أَخَذَ اَلْقُرىٰ وَ هِيَ ظٰالِمَةٌ إِنَّ

ص: 43


1- الكشف والبيان ج 5:187.

[سورة هود (11): الآیات 102 الی 105]

أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خٰافَ عَذٰابَ اَلْآخِرَةِ ذٰلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ اَلنّٰاسُ وَ ذٰلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَ مٰا نُؤَخِّرُهُ إِلاّٰ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لاٰ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاّٰ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ

بِآيٰاتِنٰا أي: بحججنا و معجزاتنا.

وَ سُلْطٰانٍ مُبِينٍ وحجّة ظاهرة مخلصة من التلبيس و التمويه.

وَ مٰا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ أي: ما في أمره رشد، إنّما هو غي وضلال.

يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ يتقدّمهم إلى النار وهم يتبعونه كما كان لهم قدوة في الضلال. و يجوز أن يريد بقوله: وَ مٰا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ وما أمره بصالح العاقبة حميدها، ويكون قوله: يَقْدُمُ قَوْمَهُ تفسيرا لذلك و إيضاحا.

فَأَوْرَدَهُمُ اَلنّٰارَ أتى بلفظ الماضي لأنّ الماضي يدلّ علي أمر موجود مقطوع به، والمراد: يقدمهم فيوردهم النار لا محالة وَ بِئْسَ اَلْوِرْدُ الذي يردونه النار، لأنّ الورد إنّما يراد لتسكين العطش و تبريد الأكباد والنار ضده. و الورد: الماء الذي يورد، و الإبل الواردة أيضا.

وَ أُتْبِعُوا فِي هٰذِهِ أي: في الدنيا لَعْنَةً و يلعنون يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ .

بِئْسَ اَلرِّفْدُ اَلْمَرْفُودُ رفدهم، أي: بئس العون المعان، وذلك أنّ اللعنة في الدنيا رفد للعذاب و مدد له وقد رفدت باللعنة في الآخرة، وقيل: بئس العطاء المعطى(1).

ذٰلِكَ مِنْ أَنْبٰاءِ اَلْقُرىٰ أي: ذلك النبأ بعض أنباء القرى المهلكة.

ص: 44


1- عن القتيبي. تفسير السمرقندي ج 2:169.

نَقُصُّهُ عَلَيْكَ خبر بعد خبر. مِنْهٰا الضمير للقرى، أي: بعضها قٰائِمٌ أي: باق وبعضها عافي الأثر، كالزرع القائم على ساقه و المحصود، وهذه جملة مستأنفة لا محلّ لها.

وَ مٰا ظَلَمْنٰاهُمْ بإهلاكنا وَ لٰكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بارتكاب ما به أهلكوا.

فَمٰا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ فما قدرت أن تردّ عنهم بأس اللّه اَلَّتِي يَدْعُونَ أي: يعبدونها، وهي حكاية حال ماضية.

لَمّٰا جٰاءَ أَمْرُ رَبِّكَ أي: عذابه ونقمته، و لَمّٰا منصوب ب - ما أغنت، والتتبيب: التخسير، ومنه تبّبه: أوقعه في الخسران.

وَ كَذٰلِكَ الكاف مرفوع المحلّ ، أي: ومثل ذلك الأخذ أَخْذُ رَبِّكَ ، وَ هِيَ ظٰالِمَةٌ حال من اَلْقُرىٰ .

أَلِيمٌ شَدِيدٌ وجيع صعب علي المأخوذ، حذّر سبحانه من وخامة عاقبة الظلم لكل أهل قرية ظالمة، بل لكل ظالم ظلم غيره أو نفسه.

إِنَّ فِي ذٰلِكَ إشارة إلي ما قصّ اللّه من قصص الأمم الهالكة بذنوبها.

لَآيَةً لعبرة لِمَنْ خٰافَ لأنه ينظر إلى ما أحلّ اللّه بالمجرمين في الدنيا، و هو أنموذج لما أعدّه لهم في الآخرة، [فإذا رأي عظمه و شدّته اعتبر به عظم العذاب الموعود في الآخرة](1) فيكون له لطفا في زيادة الخشية، ونحوه: إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشىٰ (2).

ذٰلِكَ إشارة إلى يوم القيامة يدلّ عليه قوله: عَذٰابَ اَلْآخِرَةِ .

ص: 45


1- ساقطة من ج.
2- النازعات: 26.

و اَلنّٰاسُ رفع باسم المفعول الذي هو مَجْمُوعٌ كما يرفع بفعله إذا قلت: يجمع له الناس، أي: ذٰلِكَ يَوْمٌ موصوف بأن يكون موعدا لجمع الناس له صفة لازمة.

وَ ذٰلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ أي: مشهود فيه، يشهد فيه الخلائق الموقف لا يغيب عنه أحد، قال الشاعر:

في محفل من نواصي النّاس مشهود(1)

الأجل يطلق علي مدة التأجيل وعلي منتهاها، فيقولون: انتهى الأجل، وبلغ الأجل آخره، ويقولون: حلّ الأجل، فَإِذٰا جٰاءَ أَجَلُهُمْ (2) يراد آخر مدة التأجيل. والعدّ إنّما هو للمدة لا لغايتها و منتهاها، فالمعنى: ما نؤخره إلا لانتهاء

مدة معدودة فحذف المضاف.

وقرئ: يَوْمَ يَأْتِ بغير ياء، ونحوه قولهم: لا أدر - بحذف الياء - للاجتزاء بالكسرة عنها، و فاعل يأتي): اللّه عزّ وجل، لقوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّٰ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اَللّٰهُ (3)، وَ جٰاءَ رَبُّكَ (4)، ويدلّ عليه قراءة من قرأ: وما يؤخره - بالياء - وقوله:

بِإِذْنِهِ . ويجوز أن يكون الفاعل ضميرا ل - يَوْمَ كقوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ اَلسّٰاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ (5).

ص: 46


1- البيت لأم قيس الضبية. شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ج 3:1060، وصدره: ومشهد قد كفيت الغائبين به في مجمع..
2- الأعراف: 34.
3- البقرة: 210.
4- الفجر: 22.
5- الزخرف: 66.

و انتصب الظرف ب - لاٰ تَكَلَّمُ أي: لا تتكلّم، والمراد بإتيان اليوم: إتيان هوله و شدائده.

فَمِنْهُمْ الضمير لأهل الموقف، ولم يذكروا لأنّ ذلك معلوم.

[سورة هود (11): الآیات 106 الی 110]

فَأَمَّا اَلَّذِينَ شَقُوا فَفِي اَلنّٰارِ لَهُمْ فِيهٰا زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ خٰالِدِينَ فِيهٰا مٰا دٰامَتِ اَلسَّمٰاوٰاتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاّٰ مٰا شٰاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعّٰالٌ لِمٰا يُرِيدُ وَ أَمَّا اَلَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي اَلْجَنَّةِ خٰالِدِينَ فِيهٰا مٰا دٰامَتِ اَلسَّمٰاوٰاتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاّٰ مٰا شٰاءَ رَبُّكَ عَطٰاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ فَلاٰ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمّٰا يَعْبُدُ هٰؤُلاٰءِ مٰا يَعْبُدُونَ إِلاّٰ كَمٰا يَعْبُدُ آبٰاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِنّٰا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ وَ لَقَدْ آتَيْنٰا مُوسَى اَلْكِتٰابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَ لَوْ لاٰ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ

الزفير: إخراج النفس، والشهيق: ردّه قال الشماخ:

بعيد مدى التّطريب أوّل صوته *** زفير و يتلوه شهيق محشرج(1)

مٰا دٰامَتِ اَلسَّمٰاوٰاتُ وَ اَلْأَرْضُ يعني: المبدّلتين، أي: مادامت سماوات الآخرة وأرضها وهي مخلوقة للأبد، وكل ما علاك وأظلّك فهو سماء، ولابد لأهل الآخرة مما يظلّهم و يقلّهم، وقيل: إنّ ذلك عبارة عن التأبيد(2) كقول العرب: ما لاح كوكب، وما أقام ثبير ورضوى، وغير ذلك من كلمات التأبيد.

إِلاّٰ مٰا شٰاءَ رَبُّكَ هو استثناء من الخلود في عذاب النار و من الخلود في

ص: 47


1- ديوان الشماخ بن ضرار الذبياني: 88 باختلاف.
2- عن ابن زيد. تفسير الطبري ج 12:70.

نعيم الجنّة، وذلك أن أهل النار لا يعذّبون بالنار وحدها، بل يعذّبون بأنواع من العذاب، وبما هو أغلظ من الجميع وهو سخط اللّه عليهم وإهانته إيّاهم، وكذلك أهل الجنّة لهم سوى الجنّة مما هو أكبر منها وهو رضوان اللّه وإكرامه وتبجيله، فهو المراد بالاستثناء.

وقيل: المراد بالاستثناء من اَلَّذِينَ شَقُوا و خلودهم، من شاء اللّه أن يخرجه من النار بتوحيده و إيمانه، لإيصال الثواب الذي استحقّوه بطاعتهم إليهم، ويكون (ما) بمعنى (من)، كما يروى عن العرب: سبحان ما سبحت له، يقولونه عند سماع الرعد، وكقوله: سَبَّحَ لِلّٰهِ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ (1).

والمراد بالاستثناء من اَلَّذِينَ سُعِدُوا و خلودهم في الجنّة أيضا، هؤلاء الذين ينقلون إلي الجنّة من النار، والمعنى: خالدين فيها إلا ما شاء ربّك من الوقت الذي أدخلهم فيه النار قبل أن ينقلهم إلى الجنّة، ف - (ما) هاهنا علي بابه والاستثناء في الثاني من الزمان، والاستثناء في الأوّل من الأعيان. وعن قتادة: اللّه أعلم بثنياه، ذكر لنا أنّ ناسا يصيبهم سفع(2) من النار بذنوبهم ثمّ يتفضل اللّه عليهم فيدخلهم الجنّة، يسمّون الجهنّميين، وهم الذين أنفذ فيهم الوعيد ثمّ أخرجوا بالشفاعة(3).

وقرئ: سُعِدُوا بضم السين، ويكون علي هذا أسعده اللّه فهو مسعود، وسعد الرجل فهو سعيد، ونحوه: حزن الرجل و حزنته.

عَطٰاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ أي: غير مقطوع، ولكنّه ممتد إلى غير نهاية.

ولما قصّ قصص الكفار وما حلّ بهم من نقمة اللّه سبحانه قال: فَلاٰ تَكُ

ص: 48


1- الحشر: 1.
2- السفع: اللفح اليسير الذي يغير لون البشرة. (الصحاح مادة: سفع).
3- تفسير الطبري ج 12:70.

فِي مِرْيَةٍ مِمّٰا يَعْبُدُ هٰؤُلاٰءِ أي: فلا تشك بعد ما أنزل عليك من هذه القصص في سوء عاقبة عبادتهم للأوثان، و تعرّضهم بها لما أصاب أمثالهم قبلهم، تسلية لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ووعدا له بالانتقام منهم ووعيدا لهم.

مٰا يَعْبُدُونَ إِلاّٰ كَمٰا يَعْبُدُ آبٰاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ أي: حالهم في الشرك مثل حال آبائهم من غير تفاوت بين الحالتين، فسينزل بهم مثل ما نزل بآبائهم، وهو استئناف معناه: تعليل النهي عن المرية.

وَ إِنّٰا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ أي: حظهم من العذاب كما وفينا آباءهم أنصباءهم.

فَاخْتُلِفَ فِيهِ أي: آمن به قوم وكفر به قوم، كما اختلف في القران.

وَ لَوْ لاٰ كَلِمَةٌ يعني: كلمة الإنظار إلى يوم القيامة لَقُضِيَ بين قوم موسى أو بين قومك. وهذا من جملة التسلية أيضا.

[سورة هود (11): الآیات 111 الی 113]

وَ إِنَّ كُلاًّ لَمّٰا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمٰالَهُمْ إِنَّهُ بِمٰا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَاسْتَقِمْ كَمٰا أُمِرْتَ وَ مَنْ تٰابَ مَعَكَ وَ لاٰ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَ لاٰ تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ اَلنّٰارُ وَ مٰا لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مِنْ أَوْلِيٰاءَ ثُمَّ لاٰ تُنْصَرُونَ

وَ إِنَّ كُلاًّ التنوين عوض عن المضاف إليه، يعني: وإن كلهم أي: جميع المختلفين فيه لَيُوَفِّيَنَّهُمْ جواب قسم محذوف، واللام في لَمّٰا موطئة للقسم و (ما) مزيدة، والمعنى: وإن جميعهم واللّه ليوفينهم رَبُّكَ أَعْمٰالَهُمْ من حسن أو قبيح و إيمان وكفر. وقرئ: وإن كلا - بالتخفيف - علي إعمال المخففة عمل الثقيلة

ص: 49

[اعتبارا لأصلها الذي هو التثقيل](1). وقرئ: لما - بالتشديد - مع (إن) الثقيلة و الخفيفة، وكلاهما مشكل عند النحويين، إذ ليس يجوز أن يراد ب - (لما) معنى الحين، ولا معنى (إلا) كالتي في قولهم: نشدتك اللّه لما فعلت وإلا فعلت، ولا معنى (لم).

و أحسن ما يصرف إليه أن يقال: إنّه أراد (لما) من قوله: أَكْلاً لَمًّا (2)، ثمّ وقف فقال: (لمّا)، ثمّ أجرى الوصل مجري الوقف، ويكون المعنى: وإن كلا ملمومين يعني: مجموعين، كأنّه قال: وإن كلا جميعا، كقوله: فَسَجَدَ اَلْمَلاٰئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (3). و يجوز أن يكون (لما) مصدرا علي زنة فعلى، مثل: الدعوى و الشروى.

فَاسْتَقِمْ كَمٰا أُمِرْتَ أي: فاستقم استقامة مثل الاستقامة التي أمرت بها علي جادة الحقّ غير عادل عنها.

وَ مَنْ تٰابَ مَعَكَ عطف علي الضمير المستكن في استقم، وجاز ذلك من غير تأكيد بالضمير المنفصل، لأنّ الفاصل قام مقامه. والمعنى: فاستقم أنت وليستقم من تاب معك عن الكفر وآمن معك.

وَ لاٰ تَطْغَوْا ولا تخرجوا عن حدود اللّه.

إِنَّهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ عالم فهو مجازيكم به.

وعن الصادق عليه السلام: (فَاسْتَقِمْ كَمٰا أُمِرْتَ أي: افتقر إلي اللّه بصحّة العزم)(4). وعن ابن عباس: (ما نزلت آية كانت أشق علي رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم من هذه

ص: 50


1- ساقطة من ج.
2- الفجر: 19.
3- الحجر: 30.
4- الكشاف ج 2:433.

الآية)(1)، ولهذا قال: (شيّبتني هود و الواقعة و أخواتهما)(2).

وَ لاٰ تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا ولا تميلوا إلي الذين وجد منهم الظلم، والنهي متناول للدخول معهم في ظلمهم، و إظهار الرضا بفعلهم، و مصاحبتهم، و مصادقتهم، و مداهنتهم. وعن الحسن: (جعل اللّه الدين بين لائين: لاٰ تَطْغَوْا و لاٰ تَرْكَنُوا (3). وفي الحديث: (من دعا لظالم بالبقاء فقد أحبّ أن يعصى اللّه في أرضه)(4).

وَ مٰا لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مِنْ أَوْلِيٰاءَ حال من قوله: فَتَمَسَّكُمُ اَلنّٰارُ أي: فتمسّكم النار وأنتم علي هذه الحال، ومعناه: ومالكم من أنصار يقدرون علي منعكم من عذابه غيره ثُمَّ لا ينصركم هو.

[سورة هود (11): الآیات 114 الی 116]

وَ أَقِمِ اَلصَّلاٰةَ طَرَفَيِ اَلنَّهٰارِ وَ زُلَفاً مِنَ اَللَّيْلِ إِنَّ اَلْحَسَنٰاتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئٰاتِ ذٰلِكَ ذِكْرىٰ لِلذّٰاكِرِينَ وَ اِصْبِرْ فَإِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ فَلَوْ لاٰ كٰانَ مِنَ اَلْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْفَسٰادِ فِي اَلْأَرْضِ إِلاّٰ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنٰا مِنْهُمْ وَ اِتَّبَعَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مٰا أُتْرِفُوا فِيهِ وَ كٰانُوا مُجْرِمِينَ

طَرَفَيِ اَلنَّهٰارِ غدوة وعشية.

وَ زُلَفاً مِنَ اَللَّيْلِ و ساعات من الليل، وهي ساعته القريبة من آخر النهار، من أزلفه: إذا قربه، وصلاة الغداة: صلاة الفجر، وصلاة العشية: المغرب، وصلاة

ص: 51


1- معالم التنزيل ج 2:141.
2- الخصال: 182، المستدرك على الصحيحين ج 2:343.
3- الكشاف ج 2:433.
4- إرشاد القلوب ج 1:76، إحياء علوم الدين ج 2:144.

الزلف: العشاء الآخرة، وترك ذكر الظهر والعصر، لأنّهما مذكوران علي التبع للطرف الأخير لأنّهما بعد الزوال، وقد قال سبحانه: أَقِمِ اَلصَّلاٰةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ إِلىٰ غَسَقِ اَللَّيْلِ (1). وا لدلوك: الزوال. وقرئ: وزلفا - بضمتين -.

إِنَّ اَلْحَسَنٰاتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئٰاتِ قيل: معناه: إنّ الصلوات الخمس تكفّر ما بينها من الذنوب(2)، لأنّ اَلْحَسَنٰاتِ معرّفة باللام، وقد تقدّم ذكر الصلوات.

وعن عليّ عليه السلام: (إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال: أرجى آية في كتاب اللّه هذه الآية)(3). وقيل:

إنّ الحسنات يكن لطفا في ترك السيئات.

ذٰلِكَ إشارة إلى قوله: فَاسْتَقِمْ وما بعده.

ذِكْرىٰ لِلذّٰاكِرِينَ عظة للمتعظين.

وَ اِصْبِرْ علي الامتثال بما أمرت به، و الانتهاء عما نهيت عنه فَإِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ . وهذه الآيات اشتملت علي الاستقامة، و إقامة الصلوات، والانتهاء عن الطغيان والركون إلي الظلمة، وغير ذلك من الطاعات.

فَلَوْ لاٰ كٰانَ أي: فهلا كان مِنَ اَلْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ أي: أولو فضل وخير، و سمّى الفضل والجودة بقية، لأنّ الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده و أفضله، فصار مثلا في الجودة والفضل، ويقال: فلان من بقية القوم أي: من خيارهم، وقد تكون البقية بمعنى: البقوى، وعلي ذلك فيكون معناه: فهلا كان منهم ذوو بقاء علي أنفسهم، وصيانة لها من سخط اللّه وعقابه.

إِلاّٰ قَلِيلاً استثناء منقطع معناه: و لكن قليلا مِمَّنْ أَنْجَيْنٰا مِنْهُمْ ،

ص: 52


1- الإسراء: 78.
2- عن ابن عباس وغيره. تفسير الطبري ج 12:79.
3- تفسير العياشي ج 2:161.

و (من) للبيان.

وَ اِتَّبَعَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مٰا أُتْرِفُوا فِيهِ أراد ب - اَلَّذِينَ ظَلَمُوا تاركي النهي عن المنكرات، أي: اتبعوا ما عودوا من التنعم وطلب أسباب العيش الهنيء، ورفضوا ما وراء ذلك.

[سورة هود (11): الآیات 117 الی 123]

وَ مٰا كٰانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ اَلْقُرىٰ بِظُلْمٍ وَ أَهْلُهٰا مُصْلِحُونَ وَ لَوْ شٰاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ اَلنّٰاسَ أُمَّةً وٰاحِدَةً وَ لاٰ يَزٰالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاّٰ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ اَلْجِنَّةِ وَ اَلنّٰاسِ أَجْمَعِينَ وَ كُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبٰاءِ اَلرُّسُلِ مٰا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤٰادَكَ وَ جٰاءَكَ فِي هٰذِهِ اَلْحَقُّ وَ مَوْعِظَةٌ وَ ذِكْرىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ قُلْ لِلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ اِعْمَلُوا عَلىٰ مَكٰانَتِكُمْ إِنّٰا عٰامِلُونَ وَ اِنْتَظِرُوا إِنّٰا مُنْتَظِرُونَ وَ لِلّٰهِ غَيْبُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ اَلْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَ مٰا رَبُّكَ بِغٰافِلٍ عَمّٰا تَعْمَلُونَ

كٰانَ بمعنى: صحّ واستقام، واللام لتأكيد النفي، و بِظُلْمٍ حال عن الفاعل. و المعنى: استحال في الحكمة أن يهلك اللّه اَلْقُرىٰ ظالما لها وَ أَهْلُهٰا قوم مُصْلِحُونَ تنزيها لذاته عن الظلم، و إيذانا بأنّ إهلاك المصلحين ظلم مستحيل عليه، وقيل: الظلم: الشرك(1)، أي: لا يهلك القرى بسبب شرك أهلها وهم مصلحون يتعاطون الحقّ فيما بينهم، ولا يضمون إلى ظلمهم فسادا آخر.

وَ لَوْ شٰاءَ رَبُّكَ لاضطر اَلنّٰاسَ إلي أن يكونوا أهل أُمَّةً وٰاحِدَةً

ص: 53


1- عن ابن عباس. تفسير السمرقندي ج 2:175.

[أي: ملة واحدة](1) وهي ملة الإسلام، و لكنّه مكّنهم من الاختيار ليستحقّوا الثواب، فاختار بعضهم الحقّ و بعضهم الباطل فاختلفوا وَ لاٰ يَزٰالُونَ مُخْتَلِفِينَ .

إِلاّٰ ناسا هداهم اللّه و لطف بهم، فاتفقوا علي دين الحقّ غير مختلفين فيه.

وَ لِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ : (ذلك) إشارة إلى ما دلّ عليه الكلام الأوّل، يعني:

ولذلك من التمكين و الاختيار الذي كان عنه الاختلاف خَلَقَهُمْ ليثيب الذي يختار الحقّ بحسن اختياره.

وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ وهي قوله للملائكة: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ اَلْجِنَّةِ وَ اَلنّٰاسِ أَجْمَعِينَ .

وَ كُلاًّ أي: وكل نبأ نَقُصُّ عَلَيْكَ ، و مِنْ أَنْبٰاءِ اَلرُّسُلِ بيان ل - (كل)، و مٰا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤٰادَكَ بدل من كُلاًّ . ويجوز أن يكون المعنى:

وكل اقتصاص نقصّ ، علي معنى: وكل نوع من أنواع الاقتصاص نقصّ عليك علي الأساليب المختلفة، و مٰا نُثَبِّتُ مفعول نَقُصُّ ، ومعنى تثبيت فؤاده:

زيادة يقينه وطمأنينة قلبه، لأنّ تكاثر الأدلة أثبت للقلب.

وَ جٰاءَكَ فِي هٰذِهِ السورة، أو في هذه الأنباء المقصوصة فيها ما هو حقّ وَ مَوْعِظَةٌ وتذكير.

اِعْمَلُوا عَلىٰ مَكٰانَتِكُمْ على حالكم التي أنتم عليها إِنّٰا عٰامِلُونَ .

وَ اِنْتَظِرُوا بنا الدوائر إِنّٰا مُنْتَظِرُونَ أن ينزل بكم نحو ما قصّ اللّه من النقم النازلة بأمثالكم.

وَ لِلّٰهِ غَيْبُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ لا تخفى عليه خافية، فلا يخفى عليه

ص: 54


1- ساقطة من أ.

أعمالكم وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ اَلْأَمْرُ فينتقم لك منهم فَاعْبُدْهُ وَ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ فإنّه ينصرك ويكفيك أمرهم.

ص: 55

سورة يوسف

اشارة

مكية، وهي مائة وإحدي عشرة آية بالإجماع.

في حديث أبيّ : (علّموا أرقّاءكم (سورة يوسف)، فأيّما مسلم تلاها و علّمها أهله وما ملكت يمينه، هوّن اللّه عليه سكرات الموت، وأعطاه القوة أن لا يحسد مسلما)(1)، وعن الصادق عليه السلام: (من قرأها في كل يوم أو في ليلة بعثه اللّه يوم القيامة وجماله مثل جمال يوسف، ولا يصيبه فزع، وكان من خيار عباد اللّه الصالحين)(2).

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة يوسف (12): الآیات 1 الی 5]

الر تِلْكَ آيٰاتُ اَلْكِتٰابِ اَلْمُبِينِ إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ اَلْقَصَصِ بِمٰا أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ هٰذَا اَلْقُرْآنَ وَ إِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ اَلْغٰافِلِينَ إِذْ قٰالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يٰا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سٰاجِدِينَ قٰالَ يٰا بُنَيَّ لاٰ تَقْصُصْ رُؤْيٰاكَ عَلىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ اَلشَّيْطٰانَ لِلْإِنْسٰانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ

ص: 56


1- الكشف والبيان ج 5:196.
2- ثواب الأعمال: 106.

اَلْكِتٰابِ اَلْمُبِينِ الظاهر أمره في الإعجاز، أو المبين أنّه من عند اللّه لا من عند البشر، أو المبين الواضح الذي لا تشتبه معانيه علي العرب لنزوله بلسانهم.

قُرْآناً عَرَبِيًّا حال. لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ إرادة أن تفهموه و تحيطوا بمعانيه، ولو جعلناه قرآنا أعجميا لالتبس عليكم.

و اَلْقَصَصِ يكون مصدرا، أو يكون بمعنى المقصوص، كالنقص و الحسب، فإنّ أريد المصدر فالمعنى: نحن نقصّ عليك أحسن الاقتصاص بِمٰا أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ أي: بإيحائنا إليك هذه السورة، فيكون أَحْسَنَ نصبا على المصدر لإضافته إلى المصدر، والمراد بأحسن الاقتصاص: أنّه اقتص علي أبدع أسلوب و أحسن طريقة وأعجب نظم.

وإنّ أريد ب - اَلْقَصَصِ المقصوص، فالمعنى: نحن نقصّ عليك أحسن ما يقصّ من الأحاديث في بابه، لما يتضمّن من النكت و الحكم و العبر التي ليست في غيرها.

وَ إِنْ كُنْتَ : (إن) مخففة من الثقيلة، و الضمير في قَبْلِهِ يعود إلى أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ أي: وإنّ الحديث وإن كنت من قبل إيحائنا إليك من اَلْغٰافِلِينَ عنه، ما كان لك به علم قط.

إِذْ قٰالَ يُوسُفُ بدل من أَحْسَنَ اَلْقَصَصِ و هو من بدل الاشتمال، لأنّ الوقت مشتمل علي ما يقصّ فيه.

يٰا أَبَتِ قرئ بكسر التاء وفتحها، وهي تاء التأنيث جعلت عوضا من ياء الإضافة، و إنّما صحّ أن تكون عوضا منها لأنّ التأنيث والإضافة يتناسبان في أنّ كل واحد منهما زيادة مضمومة إلى الاسم في آخره. ومن فتح حذف الألف من يٰا أَبَتِ وأبقى الفتحة دليلا عليها.

ص: 57

إِنِّي رَأَيْتُ من الرؤيا، وعن ابن عباس: (إنّ يوسف رأى في المنام ليلة القدر أحد عشر كوكبا نزلن من السماء فسجدن له، ورأى الشمس والقمر نزلا من السماء فسجدا له، فالشمس والقمر أبواه والكواكب إخوته الأحد عشر)(1)، وقيل: الشمس أبوه والقمر خالته، وذلك أنّ أمه راحيل قد ماتت(2).

و يجوز أن يكون الواو في وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ بمعنى (مع) أي: رأيت الكواكب مع الشمس والقمر.

و رَأَيْتُهُمْ كلام مستأنف علي تقدير سؤال وقع جوابا له، كأنّه قال له يعقوب: كيف رأيتها؟ فقال: رَأَيْتُهُمْ لِي سٰاجِدِينَ .

قٰالَ يعقوب: لاٰ تَقْصُصْ رُؤْيٰاكَ عَلىٰ إِخْوَتِكَ خاف عليه حسد إخوته له و بغيهم عليه، لما عرف من دلالة رؤياه علي أنّ اللّه يبلغه من شرف الدارين أمرا عظيما.

فَيَكِيدُوا منصوب بإضمار (أن)، والمعنى: إن قصصتها عليهم كادوك.

ضمّن قوله: يكيدوا معنى (يحتالوا) فعدّاه باللام ليفيد معنى الفعلين، ثمّ أكّده بالمصدر فقال: كَيْداً .

عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة.

[سورة يوسف (12): الآیات 6 الی 8]

وَ كَذٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَ يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحٰادِيثِ وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ عَلىٰ آلِ يَعْقُوبَ كَمٰا أَتَمَّهٰا عَلىٰ أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرٰاهِيمَ وَ إِسْحٰاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لَقَدْ كٰانَ فِي يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ آيٰاتٌ لِلسّٰائِلِينَ إِذْ قٰالُوا لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلىٰ أَبِينٰا مِنّٰا وَ نَحْنُ

ص: 58


1- الكشف والبيان ج 5:198.
2- عن قتادة. الكشف والبيان ج 5:198.

[سورة يوسف (12): الآیات 8 الی 9]

عُصْبَةٌ إِنَّ أَبٰانٰا لَفِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ اُقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اِطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَ تَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صٰالِحِينَ

الاجتباء: الاصطفاء.

و اَلْأَحٰادِيثِ الرؤي جمع الرؤيا، لأنّ الرؤيا: إما حديث نفس، أو حديث ملك أو شيطان، وتأويلها: عبارتها و تفسيرها. وكان يوسف عليه السلام أعبر الناس للرؤيا و أصحّهم عبارة لها. وقيل: هو معاني كتب اللّه تعالى وسنن الأنبياء وما غمض علي الناس من مقاصدها، يفسّرها لهم و يشرحها، وهي اسم جمع للحديث.

ومعنى إتمام النعمة: أنّه وصل نعمة الدنيا لهم بنعمة الآخرة فجعلهم أنبياء وملوكا ثمّ نقلهم إلى نعيم الآخرة والدرجات العلى من الجنّة.

و آلِ يَعْقُوبَ أهله و نسله، وأصل آل: أهل، بدليل أنّ تصغيره أهيل، إلا أنّه لا يستعمل إلا فيمن له خطر فيقال: آل النبيّ وآل الملك.

و إِبْرٰاهِيمَ عطف بيان ل - أَبَوَيْكَ .

إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ بموضع الاجتباء حَكِيمٌ في إتمام الإنعام علي من يستحقّه.

فِي يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ في قصّتهم وحديثهم آيٰاتٌ أي: علامات ود لائل علي حكمته، أو عبر و أعاجيب لِلسّٰائِلِينَ عن قصّتهم، أو آيات علي نبوّة محمّد لِلسّٰائِلِينَ للذين سألوه من اليهود عنها فأخبرهم بالصحّة من غير سماع ولا قراءة كتاب. فقد روي: أنّهم قالوا لكبراء المشركين: سلوا محمّدا لم انتقل آل يعقوب من الشام إلي مصر، وعن قصّة يوسف ؟. وقرئ: آية.

لَيُوسُفُ لام الابتداء، وفيها تأكيد وتحقيق لمضمون الجملة، أرادوا: أنّ

ص: 59

زيادة محبّته ليوسف وأخيه بنيامين أمر ثابت لا شبهة فيه، وإنّما قالوا: أَخُوهُ لأنّ أمهما كانت واحدة.

وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ حال، والمراد: إنّه يفضّلهما في المحبّة علينا وهما ابنان صغيران لا كفاية فيهما، ونحن جماعة: عشرة رجال كفاة نقوم بمرافقه.

إِنَّ أَبٰانٰا لَفِي ذهاب عن طريق الحقّ والثواب. والعصبة و العصابة:

العشرة فصاعدا، سمّوا بذلك لأنّهم تعصب بهم الأمور.

اُقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اِطْرَحُوهُ أَرْضاً مجهولة بعيدة من العمران، هذا هو المعنى في تنكيرها و إخلائها من الوصف، ولإبهامها من هذا الوجه نصبت نصب الظروف المبهمة.

يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ يقبل عليكم إقبالة واحدة ولا يلتفت عنكم إلى غيركم، وقيل: يَخْلُ لَكُمْ : يفرغ لكم من الشغل بيوسف(1).

وَ تَكُونُوا مِنْ بعد يوسف، أي: بعد قتله أو تغريبه قَوْماً صٰالِحِينَ تائبين إلى اللّه مما جنيتم عليه، أو تصلح دنياكم وتنتظم أموركم.

[سورة يوسف (12): الآیات 10 الی 14]

قٰالَ قٰائِلٌ مِنْهُمْ لاٰ تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَ أَلْقُوهُ فِي غَيٰابَتِ اَلْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ اَلسَّيّٰارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فٰاعِلِينَ قٰالُوا يٰا أَبٰانٰا مٰا لَكَ لاٰ تَأْمَنّٰا عَلىٰ يُوسُفَ وَ إِنّٰا لَهُ لَنٰاصِحُونَ أَرْسِلْهُ مَعَنٰا غَداً يَرْتَعْ وَ يَلْعَبْ وَ إِنّٰا لَهُ لَحٰافِظُونَ قٰالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَ أَخٰافُ أَنْ يَأْكُلَهُ اَلذِّئْبُ وَ أَنْتُمْ عَنْهُ غٰافِلُونَ قٰالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ اَلذِّئْبُ وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنّٰا إِذاً لَخٰاسِرُونَ

ص: 60


1- تفسير الطبري ج 12:93.

القائل: يهوذا، وكان أحسن إخوته رأيا فيه، وهو الذي قال: فَلَنْ أَبْرَحَ اَلْأَرْضَ حَتّٰى يَأْذَنَ لِي أَبِي (1)، قٰالَ لهم: القتل أمر عظيم.

وَ أَلْقُوهُ فِي غَيٰابَتِ اَلْجُبِّ و هو غوره وما غاب منه عن عين الناظر و أظلم من أسفله. و قرئ: غيابات في الموضعين علي الجمع. و الجب: البئر التي لم تطو.

يَلْتَقِطْهُ يأخذه بَعْضُ اَلسَّيّٰارَةِ وهم الذين يسيرون في الأرض إِنْ كُنْتُمْ فٰاعِلِينَ أي: إن كنتم علي أن تفعلوا ما يحصل به غرضكم فهذا هو الرأي.

مالك لا تأمننا - بإظهار النونين - وقرئ: لاٰ تَأْمَنّٰا بالإدغام بإشمام وغير إشمام. والمعنى: لم تخافنا عليه ونحن نريد له الخير و نحبّه، وما فعلنا في أمره ما يدلّ علي خلاف النصيحة ؟.

و قرئ: نرتع و نلعب بالنون فيهما، و بالياء فيهما، و الجزم، و قرئ: الأوّل بالنون والثاني بالياء. وأصل الرتعة: الخصب والسعة. والمعنى: ننال ما نحتاج إليه ونتسع في أكل الفواكه وغيرها، وقرئ: يرتع - بكسر العين - و يلعب - بالياء فيهما و بالنون - من ارتعى يرتعي، يقال: رعى وارتعى، مثل: شوى واشتوى، وقد يستقيم أن يقال: نرتع وإنّما ترتع إبلهم، فيكون علي حذف المضاف، وأرادوا به اللعب المباح مثل الرمي و الاستباق بالأقدام.

لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ اعتذر إليهم بشيئين: أحدهما: أنّ مفارقته إيّاه مما يحزنه لأنّه كان لا يصبر عنه ساعة، والآخر: خوفه عليه من عدوة الذئب إذا غفلوا عنه برعيهم ولعبهم.

لَئِنْ أَكَلَهُ اَلذِّئْبُ اللام موطئة للقسم، و إِنّٰا إِذاً لَخٰاسِرُونَ جواب

ص: 61


1- يوسف: 80.

القسم وقد سدّ مسدّ جواب الشرط.

والواو في وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ واو الحال. حلفوا له: لئن كان ما خافه من خطفة الذئب أخاهم من بينهم - و حالهم أنّهم عشرة رجال، بمثلهم تعصب الأمور و تستكفي الخطوب - إنّهم إذا لقوم هالكون ضعفا وخورا وعجزا، أو مستحقّون أن يهلكوا لأنّه لا غناء عندهم، أو مستحقّون لأن يدعى عليهم بالخسار والدمار فيقال: خسّرهم اللّه، حين أكل الذئب بعضهم وهم حضور.

[سورة يوسف (12): الآیات 15 الی 18]

فَلَمّٰا ذَهَبُوا بِهِ وَ أَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيٰابَتِ اَلْجُبِّ وَ أَوْحَيْنٰا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هٰذٰا وَ هُمْ لاٰ يَشْعُرُونَ وَ جٰاؤُ أَبٰاهُمْ عِشٰاءً يَبْكُونَ قٰالُوا يٰا أَبٰانٰا إِنّٰا ذَهَبْنٰا نَسْتَبِقُ وَ تَرَكْنٰا يُوسُفَ عِنْدَ مَتٰاعِنٰا فَأَكَلَهُ اَلذِّئْبُ وَ مٰا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنٰا وَ لَوْ كُنّٰا صٰادِقِينَ وَ جٰاؤُ عَلىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قٰالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اَللّٰهُ اَلْمُسْتَعٰانُ عَلىٰ مٰا تَصِفُونَ

أَنْ يَجْعَلُوهُ مفعول أَجْمَعُوا من أجمع الأمر و أزمعه، وجواب (لما) محذوف، والتقدير: فعلوا به ما فعلوا من الأذي. فقد روي: أنّهم لما برزوا به إلى البرية أظهروا له العداوة و أخذوا يضربونه، فلما أرادوا إلقاءه في الجب ربطوا يديه و نزعوا قميصه ودلوه في البئر، فلما بلغ نصفها ألقوه وكان في البئر ماء فسقط فيه، ثمّ آوي إلي صخرة فقام عليها، وكان إبراهيم خليل الرحمن لما ألقي في النار عريانا أتاه جبرئيل بقميص من حرير الجنّة فألبسه إيّاه، فدفعه إبراهيم إلى إسحاق، وإسحاق إلى يعقوب، وجعله يعقوب في تميمة علّقها في عنق يوسف، فجاء جبرئيل [فأخرجه و ألبسه إيّاه، وهو القميص الذي وجد يعقوب](1) ريحه لما فصلت العير

ص: 62


1- ساقطة من ج.

من مصر(1).

وَ أَوْحَيْنٰا إِلَيْهِ أوحى إليه في الصغر كما أوحى إلي يحيى وعيسى لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هٰذٰا ، و إنّما أوحى إليه ليبشّر بما يؤول إليه أمره، والمعنى:

لتتخلصن مما أنت فيه، و لتحدّثن إخوتك بما فعلوا بك وَ هُمْ لاٰ يَشْعُرُونَ أنّك يوسف، لعلو شأنك و لطول عهدهم بك، وقيل: يريد وهم لا يشعرون بإيحائنا إليه و إزالتنا الوحشة عنه، و يحسبون أنّه مستوحش(2).

وجاء إخوته أَبٰاهُمْ عِشٰاءً آخر النهار، وأظهروا البكاء ليوهموه أنّهم صادقون.

قٰالُوا يٰا أَبٰانٰا إِنّٰا ذَهَبْنٰا نَسْتَبِقُ أي: نتسابق في العدو أو في الرمي، و قيل:

في تفسيره: ننتضل(3)، وَ مٰا أَنْتَ بمصدق لَنٰا وَ لَوْ كُنّٰا من أهل الصدق عندك لشدّة محبّتك ليوسف، فكيف وأنت سيئ الظن بنا غير واثق بقولنا!.

بِدَمٍ كَذِبٍ أي: ذي كذب، أو وصف بالمصدر مبالغة، كقول الشاعر:

فهنّ به جود و أنتم به بخل(4)

وروي: إنّ يعقوب أخذ القميص و ألقاه علي وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص و قال: تاللّه ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا، أكل ابني ولم

ص: 63


1- تاريخ الطبري ج 1:170.
2- عن قتادة. تفسير الطبري ج 12:96.
3- معاني القرآن وإعرابه ج 3:95.
4- أساس البلاغة ج 1:140 دون نسبة، وصدره: وفيهن فضل قد عرفنا مكانه.

يمزق عليه قميصه(1).

عَلىٰ قَمِيصِهِ محله نصب على الظرف، أي: وَ جٰاؤُ فوق قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ، ولا يجوز أن يكون حالا متقدّمة، لأن الحال عن المجرور لا يتقدّم عليه.

قٰالَ بَلْ سَوَّلَتْ أي: سهّلت لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً عظيما ارتكبتموه من يوسف وهوّنته في أعينكم. والسول: الاسترخاء.

فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أي: فأمري صبر جميل، أو فصبر جميل أمثل، وفي الحديث:

(إنّ الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه)(2) يعني: إلى الخلق، لقوله: إِنَّمٰا أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اَللّٰهِ (3).

وَ اَللّٰهُ اَلْمُسْتَعٰانُ عَلىٰ احتمال ما تصفونه من هلاك يوسف.

[سورة يوسف (12): الآیات 19 الی 20]

وَ جٰاءَتْ سَيّٰارَةٌ فَأَرْسَلُوا وٰارِدَهُمْ فَأَدْلىٰ دَلْوَهُ قٰالَ يٰا بُشْرىٰ هٰذٰا غُلاٰمٌ وَ أَسَرُّوهُ بِضٰاعَةً وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ بِمٰا يَعْمَلُونَ وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرٰاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَ كٰانُوا فِيهِ مِنَ اَلزّٰاهِدِينَ

سَيّٰارَةٌ جماعة مارّة تسير من قبل مدين إلي مصر، وذلك بعد ثلاثة أيّام من إلقاء يوسف في الجب، فأخطأوا الطريق فنزلوا قريبا منه.

فَأَرْسَلُوا وٰارِدَهُمْ والوارد: الذي يرد ليستقي للقوم، أي: بعثوا رجلا يطلب لهم الماء، وهو مالك بن ذعر.

فَأَدْلىٰ دَلْوَهُ في البئر، فتعلق يوسف بالحبل، فلما خرج إذا هو بغلام أحسن ما يكون من الغلمان، قٰالَ يا بشراي، أي: أضاف البشرى إلى نفسه،

ص: 64


1- الكشف والبيان ج 5:203.
2- الكافي ج 2:93، تفسير الطبري ج 12:99.
3- يوسف: 86.

و قرئ: يٰا بُشْرىٰ نادي: البشري، كأنّه قال: تعالي فهذا أوانك.

وَ أَسَرُّوهُ الضمير للوارد وأصحابه: أخفوه من الرفقة، وقيل: أخفوا أمره ووجدانهم له في الجب وقالوا لهم: دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر(1)، وعن ابن عباس: (أنّ الضمير لإخوة يوسف وأنّهم قالوا للرفقة: هذا غلام لنا قد أبق فاشتروه منا، وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه)(2).

وانتصب بِضٰاعَةً علي الحال، أي: أخفوه متاعا للتجارة، و البضاعة: ما يبضع من المال للتجارة، أي: يقطع.

وَ شَرَوْهُ باعوه بِثَمَنٍ بَخْسٍ مبخوس ناقص عن القيمة نقصانا ظاهرا.

دَرٰاهِمَ لا دنانير مَعْدُودَةٍ قليلة تعدّ عدّا ولا توزن، وعن ابن عباس:

(كانت عشرين درهما)(3).

وَ كٰانُوا فِيهِ مِنَ اَلزّٰاهِدِينَ ممن يرغب عما في يده فيبيعه بما طفّ (4) من الثمن، لأنّهم التقطوه، و الملتقط للشيء لا يبالي بم باعه. ويجوز أن يكون المعنى:

و اشتروه من إخوته يعني الرفقة وكانوا من الزاهدين في نفس يوسف.

[سورة يوسف (12): آیة 21]

وَ قٰالَ اَلَّذِي اِشْتَرٰاهُ مِنْ مِصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوٰاهُ عَسىٰ أَنْ يَنْفَعَنٰا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ كَذٰلِكَ مَكَّنّٰا لِيُوسُفَ فِي اَلْأَرْضِ وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحٰادِيثِ وَ اَللّٰهُ غٰالِبٌ عَلىٰ أَمْرِهِ وَ لٰكِنَّ

ص: 65


1- عن مجاهد وغيره. تفسير الطبري ج 12:100.
2- تفسير الطبري ج 12:101.
3- تفسير الطبري ج 12:103.
4- طفّ : قلّ ، و الطفيف: القليل. (الصحاح: مادة طفف).

[سورة يوسف (12): الآیات 21 الی 23]

أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ وَ لَمّٰا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنٰاهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ وَ رٰاوَدَتْهُ اَلَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهٰا عَنْ نَفْسِهِ وَ غَلَّقَتِ اَلْأَبْوٰابَ وَ قٰالَتْ هَيْتَ لَكَ قٰالَ مَعٰاذَ اَللّٰهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوٰايَ إِنَّهُ لاٰ يُفْلِحُ اَلظّٰالِمُونَ

اَلَّذِي اِشْتَرٰاهُ مِنْ مِصْرَ هو العزيز الذي كان على خزائن مصر، واسمه قطفير أو اطفير، و الملك يومئذ: الريان بن الوليد، وعن ابن عباس: (العزيز ملك مصر)، وقيل: اشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة، وأقام في منزله ثلاث عشرة سنة، و استوزره الريان بن الوليد وهو ابن ثلاثين سنة، وآتاه اللّه الحكمة والعلم وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة، وقيل: اشتراه العزيز بأربعين دينارا وزوج نعل و ثوبين أبيضين(1).

وقال لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوٰاهُ أي: اجعلي منزله ومقامه عندنا كريما، أي:

حسنا مرضيا بدليل قوله: إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوٰايَ ومعناه: تعهّديه بالإحسان حتى تكون نفسه طيبة في صحبتنا.

عَسىٰ أَنْ يَنْفَعَنٰا لعله ينفعنا بكفايته وأمانته، أو نتبناه و نقيمه مقام الولد، وكان قد تفرّس فيه الرشد فقال ذلك.

وَ كَذٰلِكَ أي: ومثل ذلك الإنجاء و العطف، والمراد: كما أنجيناه و عطفنا عليه العزيز مَكَّنّٰا له فِي أرض مصر، و جعلناه ملكا يتصرّف فيها بأمره ونهيه وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحٰادِيثِ كان ذلك الإنجاء والتمكين.

وَ اَللّٰهُ غٰالِبٌ عَلىٰ أَمْرِهِ لا يمنع مما يشاء و يقضي، أو على أمر يوسف يدبّره

ص: 66


1- ينظر: القصة والأقوال في تاريخ الطبري ج 1:172.

لا يكله إلى غيره.

وقيل في الأشدّ: ثماني عشرة سنة، وعشرون، وثلاث وثلاثون، وأربعون، و قيل: أقصاه ثنتان وستون سنة(1).

حُكْماً أي: حكمة، يعني: النبوّة وَ عِلْماً بالشريعة، وقيل: الحكم علي الناس والعلم بوجوه المصالح.

وَ كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ فيه تنبيه علي أنّ اللّه آتاه الحكم والعلم جزاء علي إحسانه في العمل وتقواه. وعن الحسن: (من أحسن عبادة ربّه في شبيبته آتاه الحكمة في اكتهاله)(2).

و المراودة: مفاعلة من راد يرود: إذا جاء وذهب، والمعنى: خادعته عَنْ نَفْسِهِ أي: فعلت ما يفعله المخادع بصاحبه عن الشيء الذي لا يريد أن يخرجه من يده، يحتال أن يغلبه عليه و يأخذه منه، وهي عبارة عن التمحّل لمواقعته إيّاها.

و هَيْتَ لَكَ أي: أقبل وتعال، و قرئ: [هيت لك - بضم التاء - و](3)

هيت لك - بكسر الهاء وفتح التاء - وهئت لك - بالهمزة وضم التاء - بمعنى تهيأت لك. يقال: هاء يهيئ، واللام من صلة الفعل وأما في الأصوات فللبيان، كأنّه قيل:

لك أقول هذا.

مَعٰاذَ اَللّٰهِ أعوذ باللّه معاذا.

إِنَّهُ الضمير للشأن و الحديث.

ص: 67


1- ينظر: الأقوال في تفسير الطبري ج 12:105.
2- الكشاف ج 2:454.
3- ساقطة من ج.

رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوٰايَ مبتدأ وخبر، يريد قطفير حين قال لامرأته: أَكْرِمِي مَثْوٰاهُ فليس جزاؤه أن أخلفه في أهله بسوء و أخونه.

[سورة يوسف (12): الآیات 24 الی 29]

وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِهٰا لَوْ لاٰ أَنْ رَأىٰ بُرْهٰانَ رَبِّهِ كَذٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ اَلسُّوءَ وَ اَلْفَحْشٰاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبٰادِنَا اَلْمُخْلَصِينَ وَ اِسْتَبَقَا اَلْبٰابَ وَ قَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَ أَلْفَيٰا سَيِّدَهٰا لَدَى اَلْبٰابِ قٰالَتْ مٰا جَزٰاءُ مَنْ أَرٰادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاّٰ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ قٰالَ هِيَ رٰاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَ شَهِدَ شٰاهِدٌ مِنْ أَهْلِهٰا إِنْ كٰانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَ هُوَ مِنَ اَلْكٰاذِبِينَ وَ إِنْ كٰانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَ هُوَ مِنَ اَلصّٰادِقِينَ فَلَمّٰا رَأىٰ قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قٰالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هٰذٰا وَ اِسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ اَلْخٰاطِئِينَ

همّ بالأمر: إذا قصده وعزم عليه، والمعنى: وَ لَقَدْ هَمَّتْ بمخالطته وَ هَمَّ بمخالطتها.

لَوْ لاٰ أَنْ رَأىٰ بُرْهٰانَ رَبِّهِ جوابه محذوف تقديره: لولا أن رأي برهان ربّه لخالطها، فحذف لأنّ قوله: وَ هَمَّ بِهٰا يدلّ عليه، كقولك: هممت بقتله لولا أنّي خفت اللّه، معناه: لولا أنّي خفت اللّه لقتلته. والمراد في قوله: وَ هَمَّ بِهٰا : أنّ نفسه مالت إلى المخالطة و نازعت إليها عن شهوة الشباب ميلا يشبه الهمّ بها والقصد إليها، ولو لم يكن ذلك الميل الشديد المسمّى همّا لشدته لما كان صاحبه ممدوحا عند اللّه بالامتناع، ولو كان همّه كهمّها لما مدحه اللّه بأنّه: مِنْ عِبٰادِنَا اَلْمُخْلَصِينَ .

و يجوز أن يريد بقوله: وَ هَمَّ بِهٰا وشارف أن يهمّ بها، كما يقول الرجل:

ص: 68

قتلته لو لم أخف اللّه. ومن حقّ القارئ أن يقف علي وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ و يبتدئ وَ هَمَّ بِهٰا لَوْ لاٰ أَنْ رَأىٰ بُرْهٰانَ رَبِّهِ [ومن حقّ المفسّر أن يفسّر برهان ربّه](1).

كَذٰلِكَ الكاف في محلّ النصب أي: مثل ذلك التثبيت ثبتناه، أو في محلّ الرفع أي: الأمر مثل ذلك.

لِنَصْرِفَ عَنْهُ اَلسُّوءَ من خيانة السيّد وَ اَلْفَحْشٰاءَ من الزنا إِنَّهُ مِنْ عِبٰادِنَا المخلصين الذين أخلصوا دينهم للّه، وبالفتح: الذين أخلصهم اللّه لطاعته بأن عصمهم.

وَ اِسْتَبَقَا اَلْبٰابَ و تسابقا إلى الباب، علي حذف الجار أو علي تضمّنه معنى ابتدرا، ففرّ منها يوسف فأسرع يريد الباب البراني ليخرج، و أسرعت وراءه لتمنعه الخروج.

وَ قَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ اجتذبته من خلفه فانقدّ، أي: انشق وَ أَلْفَيٰا سَيِّدَهٰا و صادفا بعلها وهو قطفير.

و مٰا نافية، أي: ليس جزاؤه إلا السجن، أو استفهامية بمعنى: أي شيء جزاؤه إلا السجن ؟ كما تقول: من في الدار إلا زيد؟. وقيل: العذاب الأليم:

الضرب بالسياط(2).

ولما عرضته للسجن والعذاب وأغرت به، وجب عليه الدفع عن النفس ف - قٰالَ هِيَ رٰاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ولولا ذلك لكتم عليها.

وَ شَهِدَ شٰاهِدٌ مِنْ أَهْلِهٰا قيل: كان ابن عم لها وكان جالسا مع زوجها

ص: 69


1- ساقطة من ج، ط.
2- عن ابن عباس. الكشف والبيان ج 5:214.

عند الباب(1)، وقيل: كان ابن خال لها صبيا في المهد(2). وسمّي قوله شهادة لما أدى مؤدي الشهادة في أن ثبت به قول يوسف وبطل قولها.

فَلَمّٰا رَأىٰ يعني: قطفير، وعلم براءة يوسف وصدقه وكذبها قٰالَ إِنَّهُ أي: إنّ قولك: مٰا جَزٰاءُ مَنْ أَرٰادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً أو إنّ هذا الأمر مِنْ كَيْدِكُنَّ ، و استعظم كيد النساء لأنّهن ألطف مكيدة وأنفذ حيلة من الرجال.

يُوسُفُ حذف منه حرف النداء لأنه منادى قريب أَعْرِضْ عَنْ هٰذٰا الأمر و اكتمه ولا تحدّث به.

وَ اِسْتَغْفِرِي أنت لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ القوم المتعمّدين للذنب، يقال: خطئ إذا أذنب متعمدا.

[سورة يوسف (12): الآیات 30 الی 35]

وَ قٰالَ نِسْوَةٌ فِي اَلْمَدِينَةِ اِمْرَأَتُ اَلْعَزِيزِ تُرٰاوِدُ فَتٰاهٰا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهٰا حُبًّا إِنّٰا لَنَرٰاهٰا فِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ فَلَمّٰا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَ أَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَ آتَتْ كُلَّ وٰاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَ قٰالَتِ اُخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمّٰا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَ قُلْنَ حٰاشَ لِلّٰهِ مٰا هٰذٰا بَشَراً إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ مَلَكٌ كَرِيمٌ قٰالَتْ فَذٰلِكُنَّ اَلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَ لَقَدْ رٰاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مٰا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَ لَيَكُوناً مِنَ اَلصّٰاغِرِينَ قٰالَ رَبِّ اَلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمّٰا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِلاّٰ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ اَلْجٰاهِلِينَ فَاسْتَجٰابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ ثُمَّ بَدٰا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مٰا رَأَوُا اَلْآيٰاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتّٰى حِينٍ

ص: 70


1- عن السدي. تاريخ الطبري ج 1:173.
2- ينظر: الكشف والبيان ج 5:215.

وَ قٰالَ جماعة من النساء، و النسوة: اسم مفرد لجمع المرأة، وتأنيثه غير حقيقي كتأنيث اللمّة، وفيه لغتان: كسر النون وضمها.

فِي اَلْمَدِينَةِ في مصر.

اِمْرَأَتُ اَلْعَزِيزِ يردن قطفير، و العزيز: الملك بلسان العرب.

فَتٰاهٰا غلامها.

شَغَفَهٰا خرق حبّه شغاف قلبها حتى وصل إلى الفؤاد، و الشغاف:

حجاب القلب، وروي عن أهل البيت عليهم السلام: شعفها - بالعين - من شعف البعير: إذا هنأه فأحرقه بالقطران، قال امرؤ القيس:

كما شعف المهنوءة الرّجل الطّالي(1)

و حُبًّا نصب علي التمييز.

إِنّٰا لَنَرٰاهٰا فِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ أي: في خطأ وبعد عن الصواب.

فَلَمّٰا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ باغتيابهن و تعييرهن و قولهن: امرأة العزيز عشقت عبدها الكنعاني.

أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ دعتهن وَ أَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً ما يتكئن عليه من نمارق، وقصدت بتلك الهيئة - وهي قعودهن متكئات والسكاكين في أيديهن - أن يدهشن عند رؤيته و يشغلن عن نفوسهن فيقطعن أيديهن، وقيل: مُتَّكَأً مجلس طعام(2)، لأنّهم كانوا يتكئون للطعام والشراب والحديث كعادة المترفين، وقيل: مُتَّكَأً

ص: 71


1- ديوان امرئ القيس: 33، وفيه: أيقتلني أني شغفت فؤادها كما شغف...
2- عن الحسن وغيره. تفسير الطبري ج 12:119.

طعاما يجزّ جزّا(1)، أي: يعتمد بالسكين، لأنّ القاطع يتكئ على المقطوع بالسكين.

أَكْبَرْنَهُ أعظمنه وهبن ذلك الحسن الرائع والجمال الرائق. قيل: كان يوسف إذا سار في أزقة مصر يري تلألؤ وجهه على الجدار كما يري نور الشمس من الماء عليها(2)، وقيل: ورث الجمال من جدته سارة(3).

وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ جرحنها.

حٰاشَ كلمة تفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء، تقول: أساء القوم حاش زيد، فمعنى حٰاشَ لِلّٰهِ : براءة اللّه و تنزيه اللّه من صفات العجز، والتعجب من قدرته علي خلق جميل مثله، وأما قوله: حٰاشَ لِلّٰهِ مٰا عَلِمْنٰا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ (4)

فالتعجّب من قدرته علي خلق عفيف مثله.

مٰا هٰذٰا بَشَراً نفين عنه البشرية، لغرابة حاله في الحسن، و أثبتن له الملكية لما هو مركوز في الطباع أنّه لا أحسن من الملك.

قٰالَتْ فَذٰلِكُنَّ اَلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ولم تقل: فهذا وهو حاضر، رفعا لمنزلته في الحسن و استحقاق أن يحبّ و يفتتن به، أو تقول: هو ذلك العبد الذي صورتن في أنفسكن ثمّ لمتنني فيه، ولو صورتنه بما عاينتن لعذرتنني في الافتتان به.

فَاسْتَعْصَمَ أي: امتنع أشدّ امتناع كأنّه في عصمة، واجتهد في الاستزادة منها، ونحوه: استمسك. وفي هذا برهان قوي علي أنّ يوسف بريء مما أضاف إليه الحشوية من همّ المعصية.

ص: 72


1- عن الضحاك. تفسير الطبري ج 12:120.
2- الدر المنثور ج 4:17.
3- العرائس: 68.
4- يوسف: 51.

وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مٰا آمُرُهُ الأصل: ما آمر به، فحذف الجار، كما في قولك:

أمرتك الخير.

لَيُسْجَنَنَّ ليحبسن في السجن وَ لَيَكُوناً بالنون الخفيفة ولذلك كتبت في المصحف ألفا.

قٰالَ رَبِّ اَلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ أي: أسهل عليّ مِمّٰا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ من الفاحشة، أو نزول السجن أحبّ إليّ من ركوب المعصية. روي: أنّ النسوة لما خرجن من عندها أرسلت كل واحدة منهن إلي يوسف سرّا تسأله الزيارة(1)، وقيل: إنّهن قلن له: أطع مولاتك فإنّها مظلومة وأنت تظلمها(2). وقرئ: السّجن - بالفتح - علي المصدر.

وَ إِلاّٰ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ فزع إلى ألطاف اللّه تعالى و عصمته كعادة الأنبياء والأولياء فيما وطّن عليه نفسه من الصبر.

أَصْبُ إِلَيْهِنَّ أمل إليهن وَ أَكُنْ مِنَ اَلْجٰاهِلِينَ الذين لا يعملون بما يعلمون، أومن السفهاء لأنّ الحكيم لايفعل القبيح.

ثُمَّ بَدٰا لَهُمْ الفاعل مضمر لدلالة ما يفسّره عليه وهو لَيَسْجُنُنَّهُ ، والمعنى: بدا لهم بداء، أي: ظهر لهم رأي ليسجننه مِنْ بَعْدِ مٰا رَأَوُا اَلْآيٰاتِ وهي الشواهد علي براءته حَتّٰى حِينٍ إلى زمان.

و الضمير في لَهُمْ ل - اَلْعَزِيزِ وأهله.

ص: 73


1- عن الجبائي. التبيان ج 6:135.
2- تفسير السمرقندي ج 2:191.

[سورة يوسف (12): الآیات 36 الی 40]

وَ دَخَلَ مَعَهُ اَلسِّجْنَ فَتَيٰانِ قٰالَ أَحَدُهُمٰا إِنِّي أَرٰانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَ قٰالَ اَلْآخَرُ إِنِّي أَرٰانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ اَلطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنٰا بِتَأْوِيلِهِ إِنّٰا نَرٰاكَ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ قٰالَ لاٰ يَأْتِيكُمٰا طَعٰامٌ تُرْزَقٰانِهِ إِلاّٰ نَبَّأْتُكُمٰا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمٰا ذٰلِكُمٰا مِمّٰا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كٰافِرُونَ وَ اِتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبٰائِي إِبْرٰاهِيمَ وَ إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ مٰا كٰانَ لَنٰا أَنْ نُشْرِكَ بِاللّٰهِ مِنْ شَيْ ءٍ ذٰلِكَ مِنْ فَضْلِ اَللّٰهِ عَلَيْنٰا وَ عَلَى اَلنّٰاسِ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَشْكُرُونَ يٰا صٰاحِبَيِ اَلسِّجْنِ أَ أَرْبٰابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اَللّٰهُ اَلْوٰاحِدُ اَلْقَهّٰارُ مٰا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّٰ أَسْمٰاءً سَمَّيْتُمُوهٰا أَنْتُمْ وَ آبٰاؤُكُمْ مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ بِهٰا مِنْ سُلْطٰانٍ إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاّٰ لِلّٰهِ أَمَرَ أَلاّٰ تَعْبُدُوا إِلاّٰ إِيّٰاهُ ذٰلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ

وَ دَخَلَ مَعَهُ اَلسِّجْنَ فَتَيٰانِ أي: عبدان للملك - ملك مصر - مصاحبين له، لأنّ (مع) تدلّ علي الصحبة. والفتيان: خباز الملك وشرابيه أدخلا السجن ساعة أدخل يوسف، نمى إلى الملك أنّهما يسمّانه.

إِنِّي أَرٰانِي يعني: في المنام، وهي حكاية حال ماضية أَعْصِرُ خَمْراً يعني: عنبا، تسمية للعنب بما يؤول إليه.

مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ من الذين يحسنون عبارة الرؤيا، أو من المحسنين إلى أهل السجن، فأحسن إلينا بأن تفرّج عنا الغمة بتأويل ما رأينا إن كانت لك يد في تأويل الرؤيا. روي: أنّه كان إذا مرض رجل منهم قام عليه، وإذا ضاق علي أحد

ص: 74

منهم مكانه وسّع له، وإن احتاج جمع له(1). وعن الشعبي: (أنّ الفتيين امتحناه، فقال الشرابي: إنّي أراني في بستان فإذا بأصل حبلة(2) عليها ثلاثة عناقيد من عنب فقطعتها و عصرتها في كأس الملك وسقيته، وقال الخباز: إنّي أراني وفوق رأسي ثلاث سلال فيها أنواع الأطعمة فإذا سباع الطير ينهبن منها)(3).

نَبِّئْنٰا بتأويل ذلك.

ولما استعبراه و وصفاه بالإحسان، ابتدأ فوصف نفسه بما هو فوق علم العلماء وهو الإخبار بالغيب، وأنّه ينبّئهما بما يحمل إليهما من الطعام في السجن قبل أن يأتيهما، ويصفه لهما ويقول: اليوم يَأْتِيكُمٰا طَعٰامٌ بصفة كذا وكذا فيجدانه علي ما أخبر به، وجعل ذلك تخلصا إلى أن يذكر لهما التوحيد و يعرض عليهما الإيمان ويقبح إليهما الشرك باللّه.

ذٰلِكُمٰا إشارة إلى التأويل، أي: ذلك التأويل والإخبار بالغائبات مِمّٰا عَلَّمَنِي رَبِّي وأوحى به إليّ ، ولم أقله عن تكهن و تنجم.

إِنِّي تَرَكْتُ يجوز أن يكون استئناف كلام، وأن يكون تعليلا لما قبله أي:

علمني ربّي لأنّي تركت مِلَّةَ أولئك وَ اِتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبٰائِي الأنبياء المذكورين وهي الملة الحنيفية، وذكر آباءه ليريهما أنّه من أهل بيت النبوّة ومعدن الوحي بعد أن عرّفهما أنّه نبيّ يوحى إليه، ليقوّي رغبتهما في الاستماع إليه.

مٰا كٰانَ لَنٰا أي: ما صحّ لنا - معشر الأنبياء - الشرك بِاللّٰهِ .

ذٰلِكَ التمسّك بالتوحيد مِنْ فَضْلِ اَللّٰهِ عَلَيْنٰا وَ عَلَى اَلنّٰاسِ علي الرسل

ص: 75


1- تاريخ الطبري ج 1:176.
2- الحبلة: القضيب من الكرم. (الصحاح: مادة حبل)
3- الكشاف ج 2:469.

وعلي المرسل إليهم وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ المرسل إليهم لاٰ يَشْكُرُونَ فضل اللّه فيشر كون.

يٰا صٰاحِبَيِ اَلسِّجْنِ يريد: يا صاحبيّ في السجن، فأضافهما إلى السجن، كقوله:

يا سارق اللّيلة أهل الدّار(1)

فكما أنّ الليلة مسروق فيها غير مسروقة، فكذلك السجن مصحوب فيه غير مصحوب، وإنّما المصحوب غيره وهو يوسف عليه السلام، ويجوز أن يريد: يا ساكني السجن، كقوله عزّ اسمه: أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ وَ أَصْحٰابُ اَلْجَنَّةِ (2).

أَ أَرْبٰابٌ مُتَفَرِّقُونَ في العدد، أي: أأن يكون لكما أرباب شتى يستعبدكما هذا و يستعبدكما هذا خَيْرٌ لكما أَمِ أن يكون لكما ربّ واحد قاهر لا يغالب ولا يشارك في الربوبية ؟!. وهذا مثل ضربه لعبادة اللّه وحده و لعبادة الأصنام.

مٰا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّٰ أَسْمٰاءً فارغة سمّيتم بها، يقال: سمّيته بزيد و سمّيته زيدا مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ بتسميتها مِنْ سُلْطٰانٍ أي: حجّة.

إِنِ اَلْحُكْمُ في أمر الدين والعبادة إِلاّٰ لِلّٰهِ ، ثمّ بين ما حكم اللّه فقال:

أَمَرَ أَلاّٰ تَعْبُدُوا إِلاّٰ إِيّٰاهُ ذٰلِكَ اَلدِّينُ الثابت با لدلائل.

[سورة يوسف (12): آیة 41]

يٰا صٰاحِبَيِ اَلسِّجْنِ أَمّٰا أَحَدُكُمٰا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَ أَمَّا اَلْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ اَلطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ اَلْأَمْرُ اَلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيٰانِ

ص: 76


1- خزانة الأدب ج 3:108 دون نسبة، وكذا في المصادر المتوفرة.
2- الحشر: 20.

[سورة يوسف (12): آیة 42]

وَ قٰالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نٰاجٍ مِنْهُمَا اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسٰاهُ اَلشَّيْطٰانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي اَلسِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ

أَمّٰا أَحَدُكُمٰا يعني: الشرابي فَيَسْقِي رَبَّهُ أي: سيّده.

قُضِيَ اَلْأَمْرُ أي: قطع وفرغ منه. وروي: أنّهما قالا: ما رأينا شيئا، فأخبرهما أنّ ذلك كائن صدقتما أو كذبتما(1).

وَ قٰالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نٰاجٍ مِنْهُمَا الظن هنا بمعنى العلم، كما في قوله: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاٰقٍ حِسٰابِيَهْ (2).

اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ صفني عند الملك بصفتي و أخبره بحالي و أنّي حبست ظلما، فأنسى الشرابي اَلشَّيْطٰانُ ذِكْرَ رَبِّهِ أن يذكره لربّه، وقيل:

أنسى الشيطان يوسف ذكر ربّه في تلك الحال حين وكل أمره إلى غيره حتى استغاث بمخلوق(3).

و البضع: ما بين الثلاث إلي التسع. وأصحّ الأقوال: أنّه لبث في السجن سبع سنين.

[سورة يوسف (12): الآیات 43 الی 45]

وَ قٰالَ اَلْمَلِكُ إِنِّي أَرىٰ سَبْعَ بَقَرٰاتٍ سِمٰانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجٰافٌ وَ سَبْعَ سُنْبُلاٰتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يٰابِسٰاتٍ يٰا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيٰايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيٰا تَعْبُرُونَ قٰالُوا أَضْغٰاثُ أَحْلاٰمٍ وَ مٰا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ اَلْأَحْلاٰمِ بِعٰالِمِينَ وَ قٰالَ اَلَّذِي نَجٰا مِنْهُمٰا

ص: 77


1- تاريخ الطبري ج 1:176.
2- الحاقة: 20.
3- عن مجاهد. تفسير الطبري ج 12:133.

[سورة يوسف (12): الآیات 45 الی 49]

وَ اِدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا اَلصِّدِّيقُ أَفْتِنٰا فِي سَبْعِ بَقَرٰاتٍ سِمٰانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجٰافٌ وَ سَبْعِ سُنْبُلاٰتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يٰابِسٰاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى اَلنّٰاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ قٰالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمٰا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاّٰ قَلِيلاً مِمّٰا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ سَبْعٌ شِدٰادٌ يَأْكُلْنَ مٰا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاّٰ قَلِيلاً مِمّٰا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ عٰامٌ فِيهِ يُغٰاثُ اَلنّٰاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ

قرأ الصادق عليه السلام: وسبع سنابل... يأكلن ما قرّبتم لهن.

لما دنا فرج يوسف من الحبس رأي الملك - وهو الريان بن الوليد - رؤيا هالته:

رأي سَبْعِ بَقَرٰاتٍ سِمٰانٍ خرجن من نهر يابس، و سَبْعِ بقرات عِجٰافٌ فأكلت العجاف السمان، ورأي سَبْعِ سُنْبُلاٰتٍ خُضْرٍ قد انعقد حبّها، وسبعا أُخَرَ يٰابِسٰاتٍ قد استحصدت، فالتوت اليابسات علي الخضر حتى غلبن عليها.

فجمع الأشراف و الكهان وقصّ رؤياه عليهم وقال اَلْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيٰايَ أي: عبّروا ما رأيت في منامي إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيٰا تَعْبُرُونَ أي: إن كنتم تنتدبون لعبارة الرؤيا، وحقيقة عبرت الرؤيا: ذكرت عاقبتها، كما تقول: عبرت النهر: إذا قطعته حتى تبلغ آخر عرضه.

وأما اللام في قوله: لِلرُّءْيٰا إما أن تكون للبيان كقوله: وَ كٰانُوا فِيهِ مِنَ اَلزّٰاهِدِينَ (1)، وإما أن تدخل لأنّ المعمول إذا تقدّم علي عامله لم يقو علي العمل، فعضد باللام كما يعضد به اسم الفاعل إذا قيل: هو عابر للرؤيا لانحطاطه عن

ص: 78


1- يوسف: 20.

الفعل في القوة، ويجوز أن يكون لِلرُّءْيٰا خبر كان، كما تقول: كان فلان لهذا الأمر: إذا كان مستقلا به متمكّنا منه.

و تَعْبُرُونَ خبر بعد خبر، أو حال.

والسبب في وقوع عِجٰافٌ جمعا لعجفاء - وأفعل وفعلاء لا يجمعان علي فعال - حمله علي سِمٰانٍ لأنه نقيضه، وهم يحملون النظير علي النظير و النقيض علي النقيض.

وَ أُخَرَ يٰابِسٰاتٍ أي: وسبعا أخر.

و أَضْغٰاثُ أَحْلاٰمٍ : تخاليطها و أباطيلها، وما يكون منها من وسوسة أو حديث نفس، وأصل الأضغاث: ما جمع من أخلاط النبات وحزم، والواحد ضغث، والإضافة بمعنى (من)، أي: أضغاث من أحلام، والمعنى: هي أضغاث أحلام.

وَ اِدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أي: بعد مدة طويلة.

أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ أنا أخبركم به عمن عنده علمه.

فَأَرْسِلُونِ فابعثوني إليه لأسأله ومروني باستعباره، فأرسلوه إلى يوسف، فأتاه فقال: يُوسُفُ أَيُّهَا اَلصِّدِّيقُ أيّها البليغ في الصدق، وإنّما قاله لأنّه تعرف صدقه في تأويل رؤياه ورؤيا صاحبه، ولذلك كلّمه كلام محترز فقال: لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى اَلنّٰاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ لأنّه ليس علي يقين من الرجوع فربّما اخترم دونه، ولا من علمهم فربّمالم يعلموا.

ومعنى لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ : لعلهم يعلمون فضلك و مكانك من العلم فيطلبونك و يخلصونك من حبسك، وعن ابن عباس: (لم يكن السجن في

ص: 79

المدينة)(1).

تَزْرَعُونَ خبر في معنى الأمر، كقوله: تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجٰاهِدُونَ (2)، ويدلّ عليه قوله: فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ .

قرئ: دَأَباً بسكون الهمزة وتحريكها، وهما مصدرا دأب في العمل، وهو حال من المأمورين، أي: دائبين: إما علي تدأبون دأبا، وإما علي إيقاع دَأَباً بمعنى: ذوي دأب.

فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ لئلا يتسوس.

و يَأْكُلْنَ من الإسناد المجازي: جعل أكل أهلهن مسندا إليهن.

تُحْصِنُونَ تحرزون وتخبؤون.

يُغٰاثُ اَلنّٰاسُ من الغوث أو من الغيث، يقال: غيثت البلاد: إذا مطرت، ومنه قول الأعرابية: غثنا ما شئنا.

يَعْصِرُونَ العنب والسمسم. و قرئ: يعصرون من عصره: إذا أنجاه، وقيل: معناه: يمطرون(3). تأوّل البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخصبة، والعجاف واليابسات بسنين مجدبة، ثمّ بشّرهم بعد الفراغ من تأويل الرؤيا بأنّ العام الثامن يجيء مباركا خصيبا كثير الخير، وذلك من جهة الوحي.

[سورة يوسف (12): الآیات 50 الی 51]

وَ قٰالَ اَلْمَلِكُ اِئْتُونِي بِهِ فَلَمّٰا جٰاءَهُ اَلرَّسُولُ قٰالَ اِرْجِعْ إِلىٰ رَبِّكَ فَسْئَلْهُ مٰا بٰالُ اَلنِّسْوَةِ اَللاّٰتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ قٰالَ مٰا

ص: 80


1- تفسير الطبري ج 12:136.
2- الصف: 11.
3- عن الصادق عليه السلام. تفسير العياشي ج 2:180.

[سورة يوسف (12): الآیات 51 الی 53]

خَطْبُكُنَّ إِذْ رٰاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حٰاشَ لِلّٰهِ مٰا عَلِمْنٰا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قٰالَتِ اِمْرَأَةُ اَلْعَزِيزِ اَلْآنَ حَصْحَصَ اَلْحَقُّ أَنَا رٰاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ اَلصّٰادِقِينَ (51) ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَ أَنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَهْدِي كَيْدَ اَلْخٰائِنِينَ (52) وَ مٰا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ اَلنَّفْسَ لَأَمّٰارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاّٰ مٰا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (5(3)

تأنّى عليه السلام و تثبّت في إجابة الملك، و قدّم سؤال النسوة ليظهر براءة ساحته عما اتهم به وحبس لأجله، و من كرمه عليه السلام وحسن أدبه أنّه لم يذكر امرأة العزيز مع ما صنعت به من السجن والعذاب، واقتصر علي ذكر اَلنِّسْوَةِ اَللاّٰتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ .

مٰا خَطْبُكُنَّ ما شأنكن إِذْ رٰاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ هل وجدتن منه ميلا إليكن ؟.

قُلْنَ حٰاشَ لِلّٰهِ تعجبا من عفته ونزاهته عن الريبة.

اَلْآنَ حَصْحَصَ اَلْحَقُّ أي: ثبت الحقّ واستقر، وهو من حصحص البعير:

إذا ألقى ثفناته للإناخة، ولا مزيد علي شهادتهن له بالبراءة واعترافهن علي أنفسهن بأنّه لم يفعل شيئا مما قرفنه(1) به لأنّهن خصومه، وإذا اعترف الخصم بأنّ صاحبه علي الحقّ وهو علي الباطل لم يبق لأحد كلام.

ذٰلِكَ أي: ذلك التشمر والتثبّت لِيَعْلَمَ العزيز أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بظهر الغيب في حرمته، وقوله: بِالْغَيْبِ في محلّ النصب علي الحال من الفاعل أو المفعول، بمعنى: وأنا غائب عنه أو هو غائب عني وليعلم أَنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَهْدِي كَيْدَ اَلْخٰائِنِينَ أي: لا ينفذه ولا يسدده.

ص: 81


1- قرفنه: رمينه واتهمنه. (الصحاح: مادة قرف)

ثمّ تواضع للّه وبين أنّ ما فيه من الأمانة إنّما هو بتوفيق اللّه وعصمته، فقال:

وَ مٰا أُبَرِّئُ نَفْسِي من الزلل.

إِنَّ اَلنَّفْسَ لَأَمّٰارَةٌ بِالسُّوءِ أراد الجنس إِلاّٰ مٰا رَحِمَ رَبِّي [إلا البعض الذي رحمه ربّي](1) بالعصمة، ويجوز أن يكون بمعنى الزمان، أي: وقت رحمة ربّي، وقيل: هو من كلام امرأة العزيز(2)، أي: ذلك الذي قلت ليعلم يوسف أنّي لم أكذب عليه في حال الغيبة وصدقت فيما سئلت عنه، وما أبرئ نفسي مع ذلك من الخيانة فإنّي خنته حين قذفته وسجنته، تريد الاعتذار مما كان منها. [والوجه الأخير أجود عندي](3).

[سورة يوسف (12): الآیات 54 الی 57]

وَ قٰالَ اَلْمَلِكُ اِئْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمّٰا كَلَّمَهُ قٰالَ إِنَّكَ اَلْيَوْمَ لَدَيْنٰا مَكِينٌ أَمِينٌ قٰالَ اِجْعَلْنِي عَلىٰ خَزٰائِنِ اَلْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ وَ كَذٰلِكَ مَكَّنّٰا لِيُوسُفَ فِي اَلْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهٰا حَيْثُ يَشٰاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنٰا مَنْ نَشٰاءُ وَ لاٰ نُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ وَ لَأَجْرُ اَلْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ كٰانُوا يَتَّقُونَ

أَسْتَخْلِصْهُ وأستخصّه متقاربان، والمعنى: إنّه جعله خالصا لنفسه وخاصا به يرجع إليه في تدبيره.

فَلَمّٰا كَلَّمَهُ وعرف فضله وأمانته، لأنّه استدلّ بكلامه علي عقله، وبعفته علي أمانته.

قٰالَ إِنَّكَ أيّها الصدّيق اَلْيَوْمَ لَدَيْنٰا مَكِينٌ ذو مكانة ومنزلة أَمِينٌ

ص: 82


1- ساقطة من ج.
2- تفسير القمي ج 1:346.
3- ساقطة من ب، ج، ط.

مؤتمن علي كل شيء. ثمّ قال: أيّها الصدّيق، إنّي أحبّ أن أسمع رؤياي منك، قال:

نعم أيّها الملك رأيت سبع بقرات، فوصف لونهن وأحوالهن ووصف السنابل علي الهيئة التي رآها، ثمّ قال له: من حقّك أن تجمع الطعام وتزرع زرعا كثيرا في هذه السنين المخصبة، وتبني الأهراء(1) فيأتيك الخلق من النواحي ويمتارون منك، ويجتمع لك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد قبلك، فقال الملك: من لي بهذا؟ فقال اِجْعَلْنِي عَلىٰ خَزٰائِنِ اَلْأَرْضِ أي: ولّني خزائن أرضك إِنِّي حَفِيظٌ لما استودعتني أحفظه عن أن تجري فيه خيانة عَلِيمٌ بوجوه التصرّف.

وصف نفسه بالأمانة والكفاية اللتين يطلبهما الملوك ممن يولونه، و إنّما طلب يوسف عليه السلام الولاية ليتوصل بذلك إلى إمضاء أحكام الله وبسط العدل، ووضع الحقوق مواضعها، ويتمكّن من الأمور التي كانت مفوّضة إليه من حيث كان نبيّا إماما، ولعلمه أنّ غيره لا يقوم في ذلك مقامه. وفي ذلك دلالة على جواز تولي القضاء من جهة السلطان الجائر إذا كان فيه تمكّن من إقامة الحقّ وتنفيذ أحكام الدين، وقيل: إنّ الملك كان يصدر عن رأيه ولا يعترض عليه في كل ما رأي، فكان في حكم التابع له والمطيع(2).

كَذٰلِكَ أي: ومثل ذلك التمكين الظاهر مَكَّنّٰا لِيُوسُفَ فِي أرض مصر.

يَتَبَوَّأُ مِنْهٰا حَيْثُ يَشٰاءُ أي: كل مكان أراد أن يتخذه منزلا ومتبوءا لم يمتنع منه لاستيلائه علي جميعها. وقرئ: نشاء - بالنون -.

نُصِيبُ بِرَحْمَتِنٰا بعطائنا في الدنيا والدين مَنْ نَشٰاءُ وَ لاٰ نُضِيعُ أَجْرَ

ص: 83


1- الأهراء: جمع الهريّ ، وهو البيت الضخم لطعام السلطان. العين ج 4:84.
2- الكشف والبيان ج 5:232.

اَلْمُحْسِنِينَ في الدنيا.

وَ لَأَجْرُ اَلْآخِرَةِ خَيْرٌ لهم.

[سورة يوسف (12): الآیات 58 الی 62]

وَ جٰاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَ هُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ وَ لَمّٰا جَهَّزَهُمْ بِجَهٰازِهِمْ قٰالَ اِئْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَ لاٰ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي اَلْكَيْلَ وَ أَنَا خَيْرُ اَلْمُنْزِلِينَ فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاٰ كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَ لاٰ تَقْرَبُونِ قٰالُوا سَنُرٰاوِدُ عَنْهُ أَبٰاهُ وَ إِنّٰا لَفٰاعِلُونَ وَ قٰالَ لِفِتْيٰانِهِ اِجْعَلُوا بِضٰاعَتَهُمْ فِي رِحٰالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهٰا إِذَا اِنْقَلَبُوا إِلىٰ أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ

لما تمكّن يوسف بمصر وقحط الناس جمع يعقوب بنيه وقال: بلغني أنّه يباع الطعام بمصر وأنّ صاحبه رجل صالح، فاذهبوا إليه، فتجهزوا وساروا حتى وردوا مصر فَدَخَلُوا علي يوسف فَعَرَفَهُمْ لأنّ همّته كانت معقودة بهم وبمعرفتهم وَ هُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ لم يعرفوه لطول العهد، و لاعتقادهم أنّه قد هلك.

وَ لَمّٰا جَهَّزَهُمْ بِجَهٰازِهِمْ أي: أصلحهم بعدّتهم وأوقر ركائبهم بما طلبوه من الميرة قٰالَ اِئْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ .

لابد من مقدّمة سبقت معهم حتى جرت هذه المسألة. روي: أنّه لما راهم قال: من أنتم ؟ قالوا: نحن إخوة عشرة وأبونا نبيّ من الأنبياء اسمه: يعقوب، وكنا اثنا عشر إخوة فهلك منا واحد، قال: فأين الأخ الحادي عشر؟ قالوا: هو عند أبيه يتسلى به من الهالك.

قٰالَ يوسف: اِئْتُونِي به أَ لاٰ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي اَلْكَيْلَ ولا أبخس أحدا شيئا وَ أَنَا خَيْرُ اَلْمُنْزِلِينَ المضيفين.

ص: 84

فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فليس لَكُمْ عِنْدِي طعام أكيله عليكم.

وقوله: وَ لاٰ تَقْرَبُونِ يجوز أن يكون مجزوما عطفا علي محلّ قوله: فَلاٰ كَيْلَ لَكُمْ كأنّه قال: فإن لم تأتوني به تحرموا ولا تقربوا، ويجوز أن يكون بمعنى النهي.

قٰالُوا سَنُرٰاوِدُ عَنْهُ أَبٰاهُ أي: سنخادعه عنه و نحتال حتى ننتزعه من يده.

وَ إِنّٰا لَفٰاعِلُونَ لقادرون علي ذلك.

وقال لفتيته، و قرئ: لفتيانه، وهما: جمع فتى، مثل إخوة و إخوان في جمع أخ، وفعلة: جمع القلة، وفعلان: جمع الكثرة، أي: لغلمانه الكيالين اِجْعَلُوا بِضٰاعَتَهُمْ فِي رِحٰالِهِمْ يعني: ثمن طعامهم وما كانوا جاؤوا به في أوعيتهم، واحدها رحل، يقال للوعاء: رحل، وللمسكن: رحل، [وللدابة رحل](1) وأصله: الشيء المعدّ للرحيل.

لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهٰا لعلهم يعرفون حقّ ردها و حقّ التكرم بإعطاء البدلين.

إِذَا اِنْقَلَبُوا إِلىٰ أَهْلِهِمْ وفرغوا ظروفهم.

لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ لعل معرفتهم بذلك تدعوهم إلى الرجوع إلينا، قيل: لم ير من الكرم أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمنا(2).

[سورة يوسف (12): الآیات 63 الی 64]

فَلَمّٰا رَجَعُوا إِلىٰ أَبِيهِمْ قٰالُوا يٰا أَبٰانٰا مُنِعَ مِنَّا اَلْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنٰا أَخٰانٰا نَكْتَلْ وَ إِنّٰا لَهُ لَحٰافِظُونَ قٰالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاّٰ كَمٰا أَمِنْتُكُمْ عَلىٰ أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللّٰهُ خَيْرٌ حٰافِظاً

ص: 85


1- ساقطة من أ، ب، ط.
2- الكشف والبيان ج 5:236.

[سورة يوسف (12): الآیات 64 الی 66]

وَ هُوَ أَرْحَمُ اَلرّٰاحِمِينَ وَ لَمّٰا فَتَحُوا مَتٰاعَهُمْ وَجَدُوا بِضٰاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قٰالُوا يٰا أَبٰانٰا مٰا نَبْغِي هٰذِهِ بِضٰاعَتُنٰا رُدَّتْ إِلَيْنٰا وَ نَمِيرُ أَهْلَنٰا وَ نَحْفَظُ أَخٰانٰا وَ نَزْدٰادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذٰلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ قٰالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتّٰى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اَللّٰهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاّٰ أَنْ يُحٰاطَ بِكُمْ فَلَمّٰا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قٰالَ اَللّٰهُ عَلىٰ مٰا نَقُولُ وَكِيلٌ

مُنِعَ مِنَّا اَلْكَيْلُ أرادوا قول يوسف: فَلاٰ كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي لأنّه إذا أعلمهم بمنع الكيل فقد منعهم الكيل.

فَأَرْسِلْ مَعَنٰا أَخٰانٰا بنيامين نَكْتَلْ برفع المانع من الكيل ونكتل ما نحتاج إليه من الطعام. وقرئ: يكتل - بالياء - أي: يكتل أخونا فينضم اكتياله إلى اكتيالنا، أو يكن سببا للاكتيال.

قٰالَ هَلْ آمَنُكُمْ أي: لا آمنكم علي بنيامين في الذهاب به إِلاّٰ كَمٰا أَمِنْتُكُمْ عَلىٰ أَخِيهِ يوسف إذ قلتم فيه: وَ إِنّٰا لَهُ لَحٰافِظُونَ (1) كما تقولونه في أخيه ثمّ لم تفوا بضمانكم.

فَاللّٰهُ خَيْرٌ حٰافِظاً فتوكل علي اللّه فيه ودفعه إليهم. و حٰافِظاً نصب علي التمييز كقولهم: للّه درّه فارسا. ويجوز أن يكون حالا. وقرئ: حفظا.

وَ هُوَ أَرْحَمُ اَلرّٰاحِمِينَ يرحم ضعفي وكبر سني، فيحفظه ويردّه عليّ ولا يجمع عليّ مصيبتين.

وَ لَمّٰا فَتَحُوا مَتٰاعَهُمْ أي: أوعية طعامهم وَجَدُوا بِضٰاعَتَهُمْ رُدَّتْ

ص: 86


1- يوسف: 12.

إِلَيْهِمْ ، و قرأ يحيى بن وثاب(1): ردّت - بكسر الراء - علي أنّ كسر المال المدغمة نقلت إلى الراء.

مٰا نَبْغِي : لَمّٰا للنفي، أي: ما نبغي في القول، أو ما نبتغي شيئا وراء ما فعل بنا من الإحسان والإكرام، أو للاستفهام بمعنى: أي شيء نطلب وراء هذا من الإحسان ؟ وقيل: معناه: ما نريد منك بضاعة أخرى.

وقوله: هٰذِهِ بِضٰاعَتُنٰا رُدَّتْ إِلَيْنٰا جملة مستأنفة موضحة لقوله: مٰا نَبْغِي والجمل بعدها معطوفة عليها علي معنى: أنّ بضاعتنا ردت إلينا فنستظهر بها.

وَ نَمِيرُ أَهْلَنٰا في رجوعنا إلى الملك وَ نَحْفَظُ أَخٰانٰا فما يصيبه شيء مما تخافه وَ نَزْدٰادُ باستحضار أخينا وسق بعير زائدا علي أوساق أباعرنا، فأي شيء نطلب وراء هذه المباغي التي نستصلح بها أحوالنا؟.

ذٰلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ أي: ذلك مكيل قليل لا يكفينا، يعنون: ما يكال لهم، فأرادوا أن يزدادوا إليه ما يكال لأخيهم، أو يكون ذٰلِكَ إشارة إلى كيل بعير، أي: ذلك الكيل شيء قليل لا يضايقنا فيه الملك، أو سهل عليه لا يتعاظمه.

حَتّٰى تُؤْتُونِ أي: تعطوني ما أتوثق به مِنَ عند اَللّٰهِ من عهد أو حلف.

لَتَأْتُنَّنِي بِهِ جواب القسم، لأنّ المعنى: حتى تقسموا باللّه لتأتنني به.

إِلاّٰ أَنْ يُحٰاطَ بِكُمْ إلا أن تغلبوا فلم تقدروا علي الإتيان به، أو إلا أن تهلكوا.

ص: 87


1- يحيى بن وثاب الاسدي مولاهم الكوفي، تابعي من العبّاد، كان مقرئ أهل الكوفة في زمانه، مات سنة 103 ه -. ينظر: غاية النهاية في طبقات القراء ج 2:380.

فَلَمّٰا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ أي: أعطوه ما يوثق به من العهود و الأيمان.

قٰالَ يعقوب اَللّٰهُ عَلىٰ مٰا نَقُولُ وَكِيلٌ أي: رقيب مطلع، إن أخلفتم انتصف لي منكم.

[سورة يوسف (12): الآیات 67 الی 68]

وَ قٰالَ يٰا بَنِيَّ لاٰ تَدْخُلُوا مِنْ بٰابٍ وٰاحِدٍ وَ اُدْخُلُوا مِنْ أَبْوٰابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَ مٰا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اَللّٰهِ مِنْ شَيْ ءٍ إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاّٰ لِلّٰهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ عَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُتَوَكِّلُونَ وَ لَمّٰا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مٰا كٰانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اَللّٰهِ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّٰ حٰاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضٰاهٰا وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمٰا عَلَّمْنٰاهُ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ

نهاهم أن يدخلوا مِنْ بٰابٍ وٰاحِدٍ لأنّهم كانوا ذوي جمال وبهاء وهيئة حسنة، وقد شهروا في مصر بالقربة من الملك والتكرمة الخاصة التي لم تكن لغيرهم، فخاف عليهم العين.

وَ مٰا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اَللّٰهِ مِنْ شَيْ ءٍ يعني: إن أراد اللّه بكم سوءا، لم ينفعكم ولم يدفع عنكم ما أشرت به عليكم من التفرّق، وهو مصيبكم لا محالة إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاّٰ لِلّٰهِ .

وَ لَمّٰا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ أي: متفرّقين.

مٰا كٰانَ يُغْنِي عَنْهُمْ رأي يعقوب ودخولهم متفرّقين شيئا قط.

إِلاّٰ حٰاجَةً استثناء منقطع علي معنى: ولكن حاجة فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضٰاهٰا و هي إظهار الشفقة عليهم بما قاله لهم.

وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ أي: إنّه لذو يقين ومعرفة باللّه.

ص: 88

لِمٰا عَلَّمْنٰاهُ أي: من أجل تعليمنا إيّاه.

[سورة يوسف (12): الآیات 69 الی 76]

وَ لَمّٰا دَخَلُوا عَلىٰ يُوسُفَ آوىٰ إِلَيْهِ أَخٰاهُ قٰالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلاٰ تَبْتَئِسْ بِمٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ فَلَمّٰا جَهَّزَهُمْ بِجَهٰازِهِمْ جَعَلَ اَلسِّقٰايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا اَلْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسٰارِقُونَ قٰالُوا وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مٰا ذٰا تَفْقِدُونَ قٰالُوا نَفْقِدُ صُوٰاعَ اَلْمَلِكِ وَ لِمَنْ جٰاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ قٰالُوا تَاللّٰهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مٰا جِئْنٰا لِنُفْسِدَ فِي اَلْأَرْضِ وَ مٰا كُنّٰا سٰارِقِينَ قٰالُوا فَمٰا جَزٰاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كٰاذِبِينَ قٰالُوا جَزٰاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزٰاؤُهُ كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلظّٰالِمِينَ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعٰاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اِسْتَخْرَجَهٰا مِنْ وِعٰاءِ أَخِيهِ كَذٰلِكَ كِدْنٰا لِيُوسُفَ مٰا كٰانَ لِيَأْخُذَ أَخٰاهُ فِي دِينِ اَلْمَلِكِ إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اَللّٰهُ نَرْفَعُ دَرَجٰاتٍ مَنْ نَشٰاءُ وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ

آوىٰ إِلَيْهِ أي: ضمّ إليه أَخٰاهُ بنيامين. روي: أنّهم قا لوا له: هذا أخونا قد جئناك به، فقال: أحسنتم، فأنزلهم وأكرمهم وأجلس كل اثنين منهم علي مائدة فبقي بنيامين وحده، فأجلسه معه علي مائدته وقال له: أتحبّ أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك ؟ قال: من يجد أخا مثلك ؟! ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف وقام إليه وعانقه وقال له: إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلاٰ تَبْتَئِسْ فلا تحزن بِمٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ بنا فيما مضى، فإنّ اللّه تعالى قد أحسن إلينا وجمعنا، ولا تعلمهم بما أعلمتك(1).

ص: 89


1- الكشف والبيان ج 5:238.

و اَلسِّقٰايَةَ : مشربة يسقى بها وهي الصواع، قيل: كان يسقى بها الملك ثمّ جعلت صاعا يكال به وكانت من فضة مموهة بالذهب(1)، وقيل: كانت من ذهب مرصعة بالجواهر(2).

ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ ثمّ نادى مناد، يقال: آذن: أعلم، و أذّن: أكثر الإعلام، و اَلْعِيرُ : الإبل التي عليها الأحمال لأنّها تعير، أي: تجيء وتذهب، وقيل: هي قافلة الحمير(3) ثمّ كثر حتى قيل لكل قافلة: عير. والمراد: أصحاب العير كقوله: يا خيل اللّه اركبي.

وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ أي: قال المنادي: من جٰاءَ بالصواع فله حِمْلُ بَعِيرٍ من الطعام وَ أَنَا بذلك كفيل: ضامن أؤديه إليه.

تَاللّٰهِ قسم فيه معنى التعجب مما أضيف إليهم.

و إنّما قالوا: لَقَدْ عَلِمْتُمْ فاستشهدوا بعلمهم لما ثبت عندهم من دلائل دينهم وأمانتهم وحسن سيرتهم في معاملتهم معهم مرة بعد أخري، ولأنّهم ردّوا بضاعتهم التي وجدوها في رحالهم مخافة أن يكون وضع ذلك بغير إذن العزيز وَ مٰا كُنّٰا سٰارِقِينَ وما كنا موصوفين بالسرقة قط.

قٰالُوا فَمٰا جَزٰاؤُهُ الهاء للصواع، أي: فما جزاء سرقته إِنْ كُنْتُمْ كٰاذِبِينَ في ادعائكم البراءة منه ؟.

قٰالُوا جَزٰاؤُهُ أي: جزاء سرقته أخذ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ ، وكانت السّنّة في بني إسرائيل أن يسترق السارق سنة فلذلك استفتوا في جزائه.

ص: 90


1- تاريخ الطبري ج 1:181.
2- العرائس: 82.
3- عن مجاهد. تفسير الطبري ج 13:12.

و قولهم: فَهُوَ جَزٰاؤُهُ معناه: فهو جزاؤه لا غير، كقولك: حقّ فلان أن يكرم وينعم عليه فذلك حقّه، أي: فهو حقّه، ويجوز أن يكون جَزٰاؤُهُ مبتدأ والجملة الشرطية خبره، والأصل: جزاؤه من وجد في رحله فهو هو، فوضع جَزٰاؤُهُ موضع (هو) إقامة للظاهر مقام المضمر.

فَبَدَأَ بتفتيش أوعيتهم قَبْلَ وِعٰاءِ أَخِيهِ بنيامين لنفي التهمة ثُمَّ اِسْتَخْرَجَهٰا مِنْ وعائه. والصواع يذكّر ويؤنث.

كَذٰلِكَ أي: مثل ذلك الكيد العظيم كِدْنٰا لِيُوسُفَ يعني: علّمناه إيّاه وأوحينا به إليه.

مٰا كٰانَ لِيَأْخُذَ أَخٰاهُ فِي دِينِ اَلْمَلِكِ هذا تفسير للكيد وبيان له، لأنّه كان في دين ملك مصر وحكمه في السارق أن يضرب ويغرم مثل ما أخذ لا أن يستعبد.

إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اَللّٰهُ أي: ما كان يأخذه إلا بمشيئة اللّه و إذنه فيه.

نَرْفَعُ دَرَجٰاتٍ مَنْ نَشٰاءُ في العلم كما رفعنا درجة يوسف فيه. وقرئ:

يرفع - بالياء - ودرجات - با لتنوين -.

وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ أرفع درجة منه في علمه حتى ينتهي إلى اللّه تعالي العالم لذاته، فلا يختص بمعلوم دون معلوم فيقف عليه ولا يتعداه.

[سورة يوسف (12): الآیات 77 الی 79]

قٰالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهٰا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَ لَمْ يُبْدِهٰا لَهُمْ قٰالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكٰاناً وَ اَللّٰهُ أَعْلَمُ بِمٰا تَصِفُونَ قٰالُوا يٰا أَيُّهَا اَلْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنٰا مَكٰانَهُ إِنّٰا نَرٰاكَ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ قٰالَ مَعٰاذَ اَللّٰهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاّٰ مَنْ وَجَدْنٰا مَتٰاعَنٰا عِنْدَهُ إِنّٰا

ص: 91

[سورة يوسف (12): الآیات 79 الی 80]

إِذاً لَظٰالِمُونَ فَلَمَّا اِسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قٰالَ كَبِيرُهُمْ أَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبٰاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اَللّٰهِ وَ مِنْ قَبْلُ مٰا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ اَلْأَرْضَ حَتّٰى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اَللّٰهُ لِي وَ هُوَ خَيْرُ اَلْحٰاكِمِينَ

أَخٌ لَهُ عنوا به يوسف، واختلف فيما أضافوه إلى يوسف من السرقة، وأصحّ الأقوال فيه: أنّ عمّته كانت تحضنه بعد وفاة أمه و تحبّه حبّا شديدا، فلما ترعرع أراد يعقوب استرداده منها، وكانت منطقة إسحاق عندها لكونها أكبر ولده وكانوا يتوارثونها بالكبر، فعمدت إلى المنطقة وشدّتها علي يوسف تحت ثيابه وادّعت أنّه سرقها، فحبسته بذلك السبب عندها(1).

فَأَسَرَّهٰا يُوسُفُ هذا إضمار قبل الذكر على شريطة التفسير، و تفسيره:

أَنْتُمْ شَرٌّ مَكٰاناً فكأنّه قال: فأسرّ الجملة أو الكلمة التي هي قوله: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكٰاناً ، والمعنى: قال في نفسه: أنتم شرّ مكانا، لأنّ قوله: قٰالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكٰاناً بدل من فَأَسَرَّهٰا أي: أنتم شرّ منزلة في السرقة، لانكم سرقتم أخاكم من أبيكم.

وَ اَللّٰهُ أَعْلَمُ بِمٰا تَصِفُونَ يعلم أنّه ليس الأمر كما تصفون، ولم يصحّ لي ولا لأخي سرقة.

ثمّ رفقوا في القول واستعطفوه بذكر أبيهم يعقوب، وأنّه شيخ كبير السن أو كبير القدر، وأنّ بنيامين أحبّ إليه منهم فَخُذْ أَحَدَنٰا مَكٰانَهُ - أي: بدله علي وجه الاسترهان أو الاستعباد إِنّٰا نَرٰاكَ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ إلينا فأتمم إحسانك،

ص: 92


1- تاريخ الطبري ج 1:170. تفسير العياشي ج 2:185.

أو اجر علي عادتك في الإحسان فإنّه عادتك.

قٰالَ مَعٰاذَ اَللّٰهِ هو كلام موجه ظاهره: أنّه يجب أخذ من وجد الصواع في رحله على مقتضي فتياكم، فلو أخذنا غيره كان ظلما عندكم فلا تطلبوا مني ما تعرفون أنّه ظلم، وباطنه: أنّ اللّه تعالى أمرني بأخذ بنيامين واحتباسه لمصالح علمها في ذلك، فلو أخذت غيره كنت ظالما عاملا بخلاف ما أمرت به. ومعنى مَعٰاذَ اَللّٰهِ أَنْ نَأْخُذَ : نعوذ باللّه معاذا من أن نأخذ.

و إِذاً جواب لهم و جزاء، لأنّ المعنى: إن نأخذ بدله ظلمنا.

فَلَمَّا اِسْتَيْأَسُوا يئسوا خَلَصُوا أي: اعتزلوا وانفردوا عن الناس خالصين لا يشوبهم سواهم.

نَجِيًّا ذوي نجوى، فيكون النجي مصدرا بمعنى التناجي، كما قيل:

وَ إِذْ هُمْ نَجْوىٰ (1) تنزيلا للمصدر منزلة الوصف، أو قوما نجيا أي: مناجيا لمناجاة بعضهم بعضا، فيكون مثل العشير والسمير بمعنى المعاشر والمسامر، ومنه قوله تعالى: وَ قَرَّبْنٰاهُ نَجِيًّا (2). وكان تناجيهم في تدبير أمرهم: أيرجعون أم يقيمون، وإذا رجعوا فماذا يقولون لأبيهم في شأن أخيهم.

قٰالَ كَبِيرُهُمْ في السن وهو روبيل، وقيل: رئيسهم وهو شمعون(3)، وقيل: كبيرهم في الرأي والعقل وهو يهوذا أو لاوي(4).

أَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبٰاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اَللّٰهِ ذكّرهم الوثيقة التي

ص: 93


1- الإسراء: 47.
2- مريم: 52.
3- عن مجاهد. معالم التنزيل ج 2:163.
4- عن الكلبي ومحمّد بن إسحاق. الكشف والبيان ج 5:245.

أخذها عليهم يعقوب.

وَ مِنْ قَبْلُ مٰا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فيه وجوه:

أن تكون مٰا مزيدة، أي: و من قبل هذا قصّرتم في شأن يوسف ولم تحفظوا عهد أبيكم.

وأن تكون مصدرية علي أن تكون مبتدأ و مِنْ قَبْلُ خبره، أي: وقع من قبل تفريطكم في يوسف، أو يكون في محلّ نصب عطفا علي مفعول أَ لَمْ تَعْلَمُوا أي: ألم تعلموا أخذ أبيكم موثقا عليكم وتفريطكم من قبل في يوسف ؟.

وأن تكون موصولة بمعنى: ومن قبل هذا ما فرطتموه، أي: قدّمتموه في حقّ يوسف من الخيانة العظيمة، ومحلّه الرفع أو النصب علي الوجهين.

فَلَنْ أَبْرَحَ اَلْأَرْضَ فلن أفارق أرض مصر حَتّٰى يَأْذَنَ لِي أَبِي في الانصراف إليه أَوْ يَحْكُمَ اَللّٰهُ لِي بالخروج منها، أو بالانتصاف ممن أخذ أخي، أو بخلاصه من يده.

[سورة يوسف (12): الآیات 81 الی 86]

اِرْجِعُوا إِلىٰ أَبِيكُمْ فَقُولُوا يٰا أَبٰانٰا إِنَّ اِبْنَكَ سَرَقَ وَ مٰا شَهِدْنٰا إِلاّٰ بِمٰا عَلِمْنٰا وَ مٰا كُنّٰا لِلْغَيْبِ حٰافِظِينَ وَ سْئَلِ اَلْقَرْيَةَ اَلَّتِي كُنّٰا فِيهٰا وَ اَلْعِيرَ اَلَّتِي أَقْبَلْنٰا فِيهٰا وَ إِنّٰا لَصٰادِقُونَ قٰالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اَللّٰهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ وَ تَوَلّٰى عَنْهُمْ وَ قٰالَ يٰا أَسَفىٰ عَلىٰ يُوسُفَ وَ اِبْيَضَّتْ عَيْنٰاهُ مِنَ اَلْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ قٰالُوا تَاللّٰهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتّٰى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ اَلْهٰالِكِينَ قٰالَ إِنَّمٰا أَشْكُوا بَثِّي

ص: 94

[سورة يوسف (12): الآیات 86 الی 87]

وَ حُزْنِي إِلَى اَللّٰهِ وَ أَعْلَمُ مِنَ اَللّٰهِ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ يٰا بَنِيَّ اِذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ وَ لاٰ تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اَللّٰهِ إِنَّهُ لاٰ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اَللّٰهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْكٰافِرُونَ

وَ مٰا شَهِدْنٰا عليه إِلاّٰ بِمٰا عَلِمْنٰا في الظاهر أنّ الصواع استخرج من وعائه.

وَ مٰا كُنّٰا لِلْغَيْبِ أي: للأمر الخفي حٰافِظِينَ ولم نشعر أسرق أم دسّ الصاع في رحله.

وَ سْئَلِ اَلْقَرْيَةَ اَلَّتِي كُنّٰا فِيهٰا هي مصر، أي: أرسل إلى أهلها فسلهم عن كنه القصة وَ اَلْعِيرَ اَلَّتِي أَقْبَلْنٰا فِيهٰا أي: أصحاب العير. والمعنى: فرجعوا إلى أبيهم وقالوا له: ما قال أخوهم.

فقال بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً أردتموه، وإلا فما أدرى ذلك الرجل أنّ السارق يؤخذ بسرقته لولا تعليمكم.

عَسَى اَللّٰهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً بيوسف وأخيه وروبيل أو غيره إِنَّهُ هُوَ اَلْعَلِيمُ بحالي في الحزن والأسف اَلْحَكِيمُ الذي لم يبتلني إلا لحكمة ومصلحة.

وَ تَوَلّٰى وأعرض عَنْهُمْ كراهة لما جاؤوا به.

وَ قٰالَ يٰا أَسَفىٰ أضاف الأسف إلى نفسه، والألف بدل من ياء الإضافة، و الأسف: أشدّ الحزن والحسرة، وتأسفه عَلىٰ يُوسُفَ دون غيره دليل علي أنّه لم يقع فائت عنده موقعه، و أنّ الرزء فيه كان عنده غضا طريا مع طول العهد.

وَ اِبْيَضَّتْ عَيْنٰاهُ مِنَ اَلْحُزْنِ والبكاء حتى أشرف علي العمى فكان لا

ص: 95

يري إلا رؤية ضعيفة، وقيل: إنّه عمي(1).

فَهُوَ كَظِيمٌ أي: مملوّ من الغيظ علي أولاده ولا يظهر ما يسؤهم.

تَفْتَؤُا أي: لا تفتؤ، حذف حرف النفي لأنّه لا يلتبس بالإثبات لأنه لو كان إثباتا لم يكن بد من اللام والنون، ونحوه:

فقلت يمين اللّه أبرح قاعدا(2)

ومعنى لا تفتؤ: لا تزال، كما يقال: ما فتئ يفعل كذا.

حَتّٰى تَكُونَ حَرَضاً أي: مشفيا علي الهلاك، وأحرضه المرض، ويستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث لأنه مصدر، والصفة حرض، ومثله: دنف ودنف.

البث: أصعب الهم الذي لا يصبر عليه صاحبه فيبثه إلي الناس، أي: ينشره.

و إِنَّمٰا أَشْكُوا معناه: لا أشكو إلى أحد و إنّما أشكو إِلَى اَللّٰهِ وَ أَعْلَمُ من صنع اَللّٰهِ ورحمته مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ وحسن ظني به أنّه يأتيني بالفرج من حيث لا أحتسب. وروي: أنّه رأى ملك الموت عليه السلام فسأله: هل قبضت روح يوسف ؟ فقال: لا، فعلم أنّه حيّ (3).

فقال: اِذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ أي: فتعرّفوا منهما وتطلّبوا خبرهما، وهو تفعّل من الإحساس وهو المعرفة.

ص: 96


1- تفسير القمي ج 1:327.
2- ديوان امرئ القيس: 32، وبقيته: ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي.
3- تفسير العياشي ج 2:190، الدر المنثور ج 4:32.

مِنْ رَوْحِ اَللّٰهِ من فرجه و تنفيسه، وقيل: من رحمته(1).

إِنَّهُ لاٰ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اَللّٰهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْكٰافِرُونَ لأنّ المؤمن من اللّه على خير، يرجوه عند البلاء، ويشكره في الرخاء.

[سورة يوسف (12): الآیات 88 الی 93]

فَلَمّٰا دَخَلُوا عَلَيْهِ قٰالُوا يٰا أَيُّهَا اَلْعَزِيزُ مَسَّنٰا وَ أَهْلَنَا اَلضُّرُّ وَ جِئْنٰا بِبِضٰاعَةٍ مُزْجٰاةٍ فَأَوْفِ لَنَا اَلْكَيْلَ وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنٰا إِنَّ اَللّٰهَ يَجْزِي اَلْمُتَصَدِّقِينَ قٰالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مٰا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جٰاهِلُونَ قٰالُوا أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قٰالَ أَنَا يُوسُفُ وَ هٰذٰا أَخِي قَدْ مَنَّ اَللّٰهُ عَلَيْنٰا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ قٰالُوا تَاللّٰهِ لَقَدْ آثَرَكَ اَللّٰهُ عَلَيْنٰا وَ إِنْ كُنّٰا لَخٰاطِئِينَ قٰالَ لاٰ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اَلْيَوْمَ يَغْفِرُ اَللّٰهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ اَلرّٰاحِمِينَ اِذْهَبُوا بِقَمِيصِي هٰذٰا فَأَلْقُوهُ عَلىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَ أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ

اَلضُّرُّ الهزال من الجوع والشدّة، شكوا إلى يوسف ما نالهم من القحط وهلاك المواشي.

والبضاعة المزجاة: المدفوعة، يدفعها كل تاجر رغبة عنها وتحقيرا لها، من أزجيته: إذا دفعته وطردته، قيل: كانت من متاع الأعراب: الصوف والسمن(2)، وقيل: كانت دراهم زيوفا لا تنفق في ثمن الطعام(3).

ص: 97


1- عن قتادة. تفسير الطبري ج 13:33.
2- عن عبد الله بن الحارث. تفسير الطبري ج 13:34.
3- عن عكرمة الدر المنثور ج 4:33.

فَأَوْفِ لَنَا اَلْكَيْلَ كما كنت توفيه في السنين الماضية.

وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنٰا وتفضّل علينا بالمسامحة، وزدنا علي حقّنا إِنَّ اَللّٰهَ يَجْزِي اَلْمُتَصَدِّقِينَ يثيبهم علي صدقاتهم بأفضل منها.

فرقّ يوسف لهم ولم يتمالك أن عرّفهم نفسه، و قال لهم: هَلْ عَلِمْتُمْ مٰا فَعَلْتُمْ استفهم عن وجه القبح الذي يجب أن يراعيه التائب، أي: هل علمتم قبح مٰا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جٰاهِلُونَ لا تعلمون قبحه فلذلك أقدمتم عليه، يعني: هل علمتم قبحه فتبتم إلى اللّه منه ؟ لأنّ علم القبح يجر إلي التوبة.

وكان كلامه شفقة عليهم ونصحا لهم في الدين، إيثارا لحقّ اللّه علي حقّ نفسه في ذلك المقام الذي ينفث فيه المصدور ويتشفى المحنق المغيظ. وقيل: معناه: إذ أنتم صبيان أو شبان حين يغلب علي الإنسان الجهل(1).

وقرئ: وَ إِنَّكَ علي الاستفهام، وإنّك علي الإيجاب، قيل: إنّه تبسّم فأبصروا ثناياه فعرفوه وكانت كاللؤلؤ المنظوم(2)، وقيل: رفع التاج عن رأسه فعرفوه(3).

إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ من يخف اللّه وعقابه وَ يَصْبِرْ عن المعصية وعلي الطاعة فَإِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُضِيعُ أجرهم، فوضع اَلْمُحْسِنِينَ موضع الضمير، لاشتماله علي المتقين والصابرين.

لَقَدْ آثَرَكَ اَللّٰهُ عَلَيْنٰا أي: فضّلك علينا بالتقوى والصبر وسيرة المحسنين، وإنّ شأننا وحالنا أنّا كُنّٰا لَخٰاطِئِينَ متعمّدين للإثم، لا جرم

ص: 98


1- عن الحسن. معالم التنزيل ج 2:165.
2- عن ابن عباس برواية الضحاك. معالم التنزيل ج 2:166.
3- عن ابن عباس برواية عطاء. معالم التنزيل ج 2:166.

أنّ اللّه أعزّك وأذلنا.

لاٰ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ لا عتب ولا تعيير ولا تأنيب عليكم اَلْيَوْمَ أي:

لا أثر بكم اليوم فيما فعلتم يَغْفِرُ اَللّٰهُ لَكُمْ ذنوبكم، دعا لهم بالمغفرة لما فرط منهم.

اِذْهَبُوا بِقَمِيصِي هٰذٰا ، قيل: إنّه القميص المتوارث الذي كان في تعويذ يوسف وكان من الجنّة(1).

يَأْتِ بَصِيراً أي: يرجع بصيرا، أو يأت إليّ وهو بصير، وينصره قوله:

وَ أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ أي: ليأتيني أبب وآله جميعا.

[سورة يوسف (12): الآیات 94 الی 98]

وَ لَمّٰا فَصَلَتِ اَلْعِيرُ قٰالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لاٰ أَنْ تُفَنِّدُونِ قٰالُوا تَاللّٰهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاٰلِكَ اَلْقَدِيمِ فَلَمّٰا أَنْ جٰاءَ اَلْبَشِيرُ أَلْقٰاهُ عَلىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قٰالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اَللّٰهِ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ قٰالُوا يٰا أَبٰانَا اِسْتَغْفِرْ لَنٰا ذُنُوبَنٰا إِنّٰا كُنّٰا خٰاطِئِينَ قٰالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ

وَ لَمّٰا خرجت القافلة وانفصلت اَلْعِيرُ من مصر قٰالَ أَبُوهُمْ يعقوب لولد ولده ومن حوله: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ أوجده اللّه تعالى ريح القميص حين أقبل من مسيرة ثمان أو عشر.

لَوْ لاٰ أَنْ تُفَنِّدُونِ أي: تنسبوني إلي الفند وهو الخرف، والمعنى: لولا تفنيدكم إيّاي لصدّقتموني.

ص: 99


1- تفسير القمي ج 1:355، وروي مرفوعا. الدر المنثور ج 4:34.

إِنَّكَ لَفِي ضَلاٰلِكَ اَلْقَدِيمِ أي: في ذهابك عن الصواب قدما في إفراط محبّتك ليوسف ورجائك للقائه، وكان عندهم أنّه قد مات.

فَلَمّٰا أَنْ جٰاءَ اَلْبَشِيرُ أَلْقٰاهُ يعني: القميص، طرحه عَلىٰ وجه يعقوب، أو ألقاه يعقوب.

فَارْتَدَّ فرجع بَصِيراً قٰالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ يعني قوله: وَ لاٰ تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اَللّٰهِ (1).

وقوله: إِنِّي أَعْلَمُ كلام مبتدأ لم يقع عليه القول، ويجوز أيضا أن يكون واقعا عليه.

سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ قيل: إنّه أخّر الاستغفار إلى وقت السحر(2)، لأنّه أقرب إلى إجابة الدعاء، وقيل: إلي سحر ليلة الجمعة(3).

[سورة يوسف (12): الآیات 99 الی 102]

فَلَمّٰا دَخَلُوا عَلىٰ يُوسُفَ آوىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَ قٰالَ اُدْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شٰاءَ اَللّٰهُ آمِنِينَ وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى اَلْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَ قٰالَ يٰا أَبَتِ هٰذٰا تَأْوِيلُ رُءْيٰايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهٰا رَبِّي حَقًّا وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ اَلسِّجْنِ وَ جٰاءَ بِكُمْ مِنَ اَلْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ اَلشَّيْطٰانُ بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمٰا يَشٰاءُ إِنَّهُ هُوَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ اَلْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحٰادِيثِ فٰاطِرَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصّٰالِحِينَ ذٰلِكَ مِنْ

ص: 100


1- يوسف: 87.
2- عن ابن مسعود وغيره. تفسير الطبري ج 13:42.
3- عن الصادق عليه السلام. تفسير العياشي ج 2:196، وروي مرفوعا. الدر المنثور ج 4:36.

[سورة يوسف (12): آیة 102]

أَنْبٰاءِ اَلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ مٰا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَ هُمْ يَمْكُرُونَ

معنى دخولهم عَلىٰ يُوسُفَ قبل دخولهم مصر: أنّهم حين استقبلهم يوسف كأنّه نزل لهم في بيت أو مضرب هناك، فدخلوا عليه وضم إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ثمّ قٰالَ لهم: اُدْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شٰاءَ اَللّٰهُ آمِنِينَ وتعلّقت المشيئة بالدخول مقيدا بالأمن، والتقدير: ادخلوا مصر آمنين إن شاء اللّه دخلتموه آمنين، ثمّ حذف الجزاء لدلالة الكلام عليه، ثمّ اعترض بالجملة الجزائية بين الحال وذي الحال.

وقوله: آوىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ معناه: ضمهما إليه واعتنقهما.

ولما دخل مصر وجلس في مجلسه مستويا علي سريره واجتمعوا إليه أكرم أبويه فرفعهما عَلىٰ السرير وَ خَرُّوا لَهُ يعني: الإخوة الأحد عشر سُجَّداً وكانت السجدة عندهم جارية مجري التحية والتكرمة، وقيل: معناه: خرّ إخوته وأبواه لأجله سجدا للّه شكرا(1)، ويعضده ما روي عن الصادق عليه السلام أنّه قرأ: وخرّوا للّه ساجدين.

وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي يقال: أحسن به وإليه، وأساء به وإليه، قال:

أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة *** لدينا ولا مقليّة إن تقلّت(2)

و اَلْبَدْوِ البادية، وهم كانوا أهل بادية وأصحاب مواشي، ينتقلون في المياه والمناجع.

نَزَغَ اَلشَّيْطٰانُ بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي أي: أفسد بيننا وحرش.

إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ في تدبير عباده يسهل لهم العسير، وبلطفه اجتمعنا.

ص: 101


1- عن ابن عباس وغيره. تفسير الطبري ج 13:44. تفسير العياشي ج 2:197.
2- ديوان كثير: 101.

وروي: أنّ يعقوب أقام معه أربعا وعشرين سنة ثمّ مات ودفن بالشام عن وصية منه بذلك(1)، وقيل: إنّه عاش مع يوسف حولين(2)، وعاش يوسف بعد أبيه ثلاثا وعشرين سنة، فلما تم أمره وعلم أنّه لا يدوم ملكه طلبت نفسه الملك الدائم الذي لا يفنى، فتمنّى الموت وما تمنّاه نبيّ قبله ولا بعده، فتوفّاه اللّه طيبا طاهرا.

و مِنْ في قوله: مِنَ اَلْمُلْكِ و مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحٰادِيثِ للتبعيض، لأنّه لم يؤت إلا بعض ملك الدنيا أو بعض ملك مصر، وبعض التأويل.

أنت ولي أنت الذي تتولاني بالنعمة في الدارين، وتوصل الملك الفاني بالملك الباقي.

فٰاطِرَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وصف لقوله: رَبِّ أو نصب علي النداء وَ أَلْحِقْنِي بِالصّٰالِحِينَ من آبائي، أو علي العموم.

ذٰلِكَ إشارة إلى ما سبق من نبأ يوسف وهو مبتدأ، و مِنْ أَنْبٰاءِ اَلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ خبران، والمعنى: إنّ هذا النبأ غيب لم يحصل لك إلا من جهة الوحي، لأنّك لم تحضر بني يعقوب حين أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَ هُمْ يَمْكُرُونَ بيوسف، ويبغون له الغوائل حتى ألقوه في الجب.

[سورة يوسف (12): الآیات 103 الی 107]

وَ مٰا أَكْثَرُ اَلنّٰاسِ وَ لَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ وَ مٰا تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاّٰ ذِكْرٌ لِلْعٰالَمِينَ وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهٰا وَ هُمْ عَنْهٰا مُعْرِضُونَ وَ مٰا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّٰهِ إِلاّٰ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ أَ فَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غٰاشِيَةٌ مِنْ عَذٰابِ اَللّٰهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ اَلسّٰاعَةُ بَغْتَةً وَ هُمْ لاٰ يَشْعُرُونَ

ص: 102


1- العرائس: 87.
2- عن الباقر عليه السلام. تفسير العياشي ج 2:198.

[سورة يوسف (12): الآیات 108 الی 109]

قُلْ هٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اَللّٰهِ عَلىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اِتَّبَعَنِي وَ سُبْحٰانَ اَللّٰهِ وَ مٰا أَنَا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ قَبْلِكَ إِلاّٰ رِجٰالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ اَلْقُرىٰ أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَدٰارُ اَلْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا أَ فَلاٰ تَعْقِلُونَ

وَ مٰا أَكْثَرُ اَلنّٰاسِ يريد العموم، وعن ابن عباس: (يريد أهل مكة)(1)، أي: وما هم بمؤمنين وَ لَوْ حَرَصْتَ علي إيمانهم، لعنادهم وتصميمهم علي الكفر.

وَ مٰا تَسْئَلُهُمْ علي تبليغ الرسالة أجرا فيصدهم ذلك عن الإيمان.

إِنْ هُوَ إِلاّٰ ذِكْرٌ عظة من اللّه تعالى لِلْعٰالَمِينَ عامة، يعني: القران.

وكم مِنْ آيَةٍ أي: علامة ودلالة علي توحيد اللّه يَمُرُّونَ عَلَيْهٰا ويشاهدونها وهم معرضون عنها، لا يعتبرون بها.

وَ مٰا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ في إقرارهم بِاللّٰهِ وبأنّه خلقهم وخلق السماوات والأرض إِلاّٰ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ بعبادة الأوثان، يريد: مشركي قريش، وقيل: هم الذين يشبهون اللّه بخلقه(2)، [وقيل: هم أهل الكتاب معهم شرك وإيمان(3) [(4). وعن الباقر عليه السلام: (إنّه شرك الطاعة لا شرك العبادة)(5)، أطاعوا

ص: 103


1- الكشاف ج 2:508.
2- عن السدي. تفسير الماوردي ج 3:87.
3- ساقطة من ب.
4- عن ابن عباس. تفسير الطبري ج 13:51.
5- تفسير العياشي ج 2:199.

الشيطان في ارتكاب المعاصي.

أَ فَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غٰاشِيَةٌ أي: نقمة تغشاهم، وعذاب يغمرهم.

قُلْ هٰذِهِ سَبِيلِي هذه السبيل التي هي الدعوة إلى الإيمان والتوحيد سبيلي، ثمّ فسّر سبيله بقوله: أَدْعُوا إِلَى اَللّٰهِ عَلىٰ بَصِيرَةٍ أي: أدعو إلي دينه مع حجّة واضحة، و أَنَا : تأكيد للضمير المستكن في أَدْعُوا ، و مَنِ اِتَّبَعَنِي عطف عليه، أي: أدعو إليها أنا ويدعو إليها من اتبعني؛ ويجوز أن يكون عَلىٰ بَصِيرَةٍ حالا من أَدْعُوا عاملة الرفع في أَنَا وَ مَنِ اِتَّبَعَنِي ، وَ سُبْحٰانَ اَللّٰهِ و أنزّه اللّه من الشركاء.

إِلاّٰ رِجٰالاً لا ملائكة، وقرئ: نُوحِي إِلَيْهِمْ بالنون.

مِنْ أَهْلِ اَلْقُرىٰ لأنّهم أعلم وأحلم، وأهل البوادي أهل الجفاء والقسوة.

وَ لَدٰارُ الساعة اَلْآخِرَةِ ، أو الحا لة اَلْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا أي:

خافوا اللّه فلم يشركوا به.

[سورة يوسف (12): الآیات 110 الی 111]

حَتّٰى إِذَا اِسْتَيْأَسَ اَلرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جٰاءَهُمْ نَصْرُنٰا فَنُجِّيَ مَنْ نَشٰاءُ وَ لاٰ يُرَدُّ بَأْسُنٰا عَنِ اَلْقَوْمِ اَلْمُجْرِمِينَ لَقَدْ كٰانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي اَلْأَلْبٰابِ مٰا كٰانَ حَدِيثاً يُفْتَرىٰ وَ لٰكِنْ تَصْدِيقَ اَلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ

هنا حذف دلّ الكلام عليه، كأنّه قيل: وما أرسلنا قبلك إلا رجالا قد تأخّر نصرنا إيّاهم كما أخّرناه عن هذه الأم.

حَتّٰى إِذَا استيأسوا عن النصر وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا أي: فظن

ص: 104

اَلرُّسُلُ أنّهم قد كذبهم قومهم فيما وعدوهم من العذاب والنصر عليهم، وقرئ: كذبوا - بالتخفيف - وهو قراءة أئمّة الهدى عليهم السلام. ومعناه: وظن المرسل إليهم أنّ الرسل قد كذبوهم فيما أخبروهم به من نصرة الله إيّاهم، جاء الرسل نَصْرُنٰا بإرسال العذاب علي الكفار، فننجي مَنْ نَشٰاءُ أي: نخلص من نشاء من العذاب عند نزوله، وقرئ: فَنُجِّيَ بالتشديد علي لفظ الماضي المبني للمفعول.

والمراد ب مَنْ نَشٰاءُ : المؤمنون، ويبين ذلك قوله: وَ لاٰ يُرَدُّ بَأْسُنٰا عَنِ اَلْقَوْمِ اَلْمُجْرِمِينَ .

الضمير في قَصَصِهِمْ راجع إلى يوسف وإخوته.

عِبْرَةٌ أي: اعتبار للعقلاء، فإنّ نبيّنا صلى الله عليه و آله و سلم لم يقرأ كتابا ولا سمع حديثا ولا خالط أهله، ثمّ حدّثهم به في حسن نظمه ومعانيه بحيث لم يردّ عليه أحد من ذلك شيئا، وفيه أوضح برهان علي صحّة نبوّته.

مٰا كٰانَ القران حَدِيثاً يُفْتَرىٰ أي: يختلق وَ لٰكِنْ كان تَصْدِيقَ اَلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي: قبله من الكتب السماوية وَ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ ءٍ يحتاج إليه في الدين وَ هُدىً ودلالة وَ رَحْمَةً ونعمة ينتفع بها المؤمنون علما وعملا.

ص: 105

سورة الرعد

اشارة

مختلف فيها، وهي خمس وأربعون آية بصري، وثلاث كوفي، عدّ غير الكوفي لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ، اَلظُّلُمٰاتِ وَ اَلنُّورَ .

في حديث أبيّ : (ومن قرأ (سورة الرعد) أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل سحاب مضى وكل سحاب يكون إلى يوم القيامة، وكان يوم القيامة من الموفين بعهد اللّه)(1)، وعن الصادق عليه السلام: (من أكثر قراءة (الرعد) لم يصبه اللّه بصاعقة أبدا، وأدخل الجنّة بغير حساب)(2).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة الرعد (13): الآیات 1 الی 3]

المر تِلْكَ آيٰاتُ اَلْكِتٰابِ وَ اَلَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ اَلْحَقُّ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يُؤْمِنُونَ اَللّٰهُ اَلَّذِي رَفَعَ اَلسَّمٰاوٰاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهٰا ثُمَّ اِسْتَوىٰ عَلَى اَلْعَرْشِ وَ سَخَّرَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ يُفَصِّلُ اَلْآيٰاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقٰاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وَ هُوَ اَلَّذِي مَدَّ اَلْأَرْضَ وَ جَعَلَ فِيهٰا رَوٰاسِيَ وَ أَنْهٰاراً وَ مِنْ كُلِّ اَلثَّمَرٰاتِ جَعَلَ فِيهٰا زَوْجَيْنِ اِثْنَيْنِ يُغْشِي اَللَّيْلَ اَلنَّهٰارَ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ

ص: 106


1- الكشف والبيان ج 5:267.
2- ثواب الأعمال: 106.

تِلْكَ مبتدأ، و آيٰاتُ اَلْكِتٰابِ خبره.

وَ اَلَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ من القران كله هو اَلْحَقُّ الذي لا مزيد عليه.

اَللّٰهُ مبتدأ، و اَلَّذِي رَفَعَ خبره، بدليل قوله: وَ هُوَ اَلَّذِي مَدَّ اَلْأَرْضَ ، ويجوز أن يكون صفة وقوله: يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ يُفَصِّلُ اَلْآيٰاتِ خبرا بعد خبر.

تَرَوْنَهٰا كلام مستأنف بمعنى: وأنتم ترونها كذلك، ليس دونها دعامة ولا فوقها علاقة، وقيل: تَرَوْنَهٰا صفة ل - عَمَدٍ ، وقرئ: عمد - بضمتين - يعني: بغير عمد مرئية، وإنّما تعمّدها قدرة اللّه عزّ وجل.

يُدَبِّرُ أمر ملكوته وأمور خلقه علي الوجه الذي توجبه الحكمة.

يُفَصِّلُ آياته في كتبه المنزلة لعلكم تُوقِنُونَ بالجزاء، وبأنّ هذا المدبّر المفصّل قادر على البعث والنشور، ولابد لكم من الرجوع إليه.

مَدَّ اَلْأَرْضَ بسطها طولا وعرضا وَ جَعَلَ فِيهٰا رَوٰاسِيَ جبالا ثوابت.

وَ مِنْ كُلِّ اَلثَّمَرٰاتِ جَعَلَ فِيهٰا زَوْجَيْنِ اِثْنَيْنِ أي: خلق فيها من جميع أنواعها زوجين زوجين: أسود وأبيض وحلوا وحامضا ورطبا ويابسا، وما أشبه ذلك من الأصناف المختلفة.

يُغْشِي اَللَّيْلَ اَلنَّهٰارَ يلبس ظلمة الليل ضياء النهار فيصير مظلما بعد أن كان مضيئا.

[سورة الرعد (13): الآیات 4 الی 5]

وَ فِي اَلْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجٰاوِرٰاتٌ وَ جَنّٰاتٌ مِنْ أَعْنٰابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوٰانٌ وَ غَيْرُ صِنْوٰانٍ يُسْقىٰ بِمٰاءٍ وٰاحِدٍ وَ نُفَضِّلُ بَعْضَهٰا عَلىٰ بَعْضٍ فِي اَلْأُكُلِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَ إِذٰا كُنّٰا تُرٰاباً أَ إِنّٰا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولٰئِكَ

ص: 107

[سورة الرعد (13): آیة 5]

اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَ أُولٰئِكَ اَلْأَغْلاٰلُ فِي أَعْنٰاقِهِمْ وَ أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ

قِطَعٌ مُتَجٰاوِرٰاتٌ بقاع مختلفة مع كونها متجاورة متلاصقة: طيبة إلى سبخة، وصلبة إلى رخوة، وصالحة للزرع والشجر إلى أخري علي عكسها، مع انتظام جميعها في جنس الأرضية، وكذلك الكروم والزروع والنخيل النابتة في هذه القطع مختلفة الأجناس والأنواع وهي تسقى بِمٰاءٍ وٰاحِدٍ ، وتراها متغايرة الثمار في الأشكال والهيئات والطعوم والروائح، متفاضلة فيها.

و فِي ذٰلِكَ دلالة علي صنع القادر العالم الموقع أفعاله علي وجه دون وجه. وقرئ: وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان - بالجر - عطفا علي أعناب.

والصنوان: جمع صنو، وهي النخلة لها رأسان وأصلهما واحد، وقرئ يضم الصاد وكسرها وهما لغتان، وقرئ: يسقى بالتاء والياء، وقرئ: نفضل بالنون والياء فِي اَلْأُكُلِ يضم الكاف وسكونها.

وَ إِنْ تَعْجَبْ يا محمّد من قولهم في إنكار البعث، فقولهم عجب حقيق بأن يتعجب منه، لأنّ من قدر علي إنشاء ما عدّد عليك من الصنائع العجيبة والفطر البديعة كانت الإعادة أهون عليه.

أَ إِذٰا كُنّٰا إلى آخر قولهم، يجوز أن يكون [في محلّ الرفع بدلا من قَوْلُهُمْ ، وأن يكون](1) في محلّ نصب بالقول، و (إذا) نصب بما دلّ عليه قوله: أَ إِنّٰا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ فكأنّه قيل: أنبعث إذا متنا وكنا ترابا.

أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أولئك المتمادون في كفرهم الكاملون فيه.

ص: 108


1- ساقطة من أ.

وَ أُولٰئِكَ اَلْأَغْلاٰلُ فِي أَعْنٰاقِهِمْ وصف لهم بالإصرار، كقوله: إِنّٰا جَعَلْنٰا فِي أَعْنٰاقِهِمْ أَغْلاٰلاً (1)، وكقول الشاعر:

لهم عن الرّشد أغلال وأقياد(2)

أو هو من جملة الوعيد.

[سورة الرعد (13): الآیات 6 الی 11]

وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ اَلْحَسَنَةِ وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ اَلْمَثُلاٰتُ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّٰاسِ عَلىٰ ظُلْمِهِمْ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ اَلْعِقٰابِ وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لاٰ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمٰا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هٰادٍ اَللّٰهُ يَعْلَمُ مٰا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثىٰ وَ مٰا تَغِيضُ اَلْأَرْحٰامُ وَ مٰا تَزْدٰادُ وَ كُلُّ شَيْ ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدٰارٍ عٰالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهٰادَةِ اَلْكَبِيرُ اَلْمُتَعٰالِ سَوٰاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ اَلْقَوْلَ وَ مَنْ جَهَرَ بِهِ وَ مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَ سٰارِبٌ بِالنَّهٰارِ لَهُ مُعَقِّبٰاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُغَيِّرُ مٰا بِقَوْمٍ حَتّٰى يُغَيِّرُوا مٰا بِأَنْفُسِهِمْ وَ إِذٰا أَرٰادَ اَللّٰهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلاٰ مَرَدَّ لَهُ وَ مٰا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وٰالٍ

بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ اَلْحَسَنَةِ بالعذاب والنقمة قبل الرحمة، بالعافية والإحسان إليهم بالإمهال. وذلك أنّهم سألوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أن يأتيهم بالعذاب.

وَ قَدْ خَلَتْ أي: وقد مضت مِنْ قَبْلِهِمُ اَلْمَثُلاٰتُ أي: عقوبات أمثالهم من المكذبين، وسمّيت العقوبة مثلة لما بين العقاب والمعاقب عليه من

ص: 109


1- يس: 8.
2- ديوان الأفوه الأودي: 67، وصدره: كيف الرشاد إذا ما كنت في نفر.

المماثلة، وجزاء السيئة سيئة مثلها، ويقال: أمثلت الرجل من صاحبه وأقصصته منه، والمثال: القصاص.

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّٰاسِ عَلىٰ ظُلْمِهِمْ أي: مع ظلمهم أنفسهم بالذنوب، ومحلّه النصب على الحال، بمعنى: ظالمين لأنفسهم. وعن سعيد بن المسيب(1): (لما نزلت هذه الآية قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: (لولا عفو اللّه وتجاوزه ما هنأ أحدا العيش، ولولا وعيد اللّه وعقابه لاتكل كل أحد)(2).

لَوْ لاٰ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ لم يعتدّوا بالآيات المنزلة علي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عنادا، فاقترحوا نحو آيات موسى وعيسى عليهما السلام من انقلاب العصا حية وإحياء الموتى، فقيل: إِنَّمٰا أَنْتَ يا محمّد مُنْذِرٌ مخوّف لهم من سوء العاقبة، وما عليك إلا الإتيان بما يصحّ به أنّك رسول منذر، والآيات كلها متساوية في حصول صحّة الدعوى بها.

وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هٰادٍ يهديهم إلي الدين، ويدعوهم إلى اللّه بوجه من الهداية وبآية خصّ بها، ولم يجعل الأنبياء شرعا سواء في الآيات والمعجزات.

اَللّٰهُ يَعْلَمُ مٰا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثىٰ وَ مٰا إما موصولة [في مٰا تَحْمِلُ و مٰا تَغِيضُ و مٰا تَزْدٰادُ ، وإما مصدرية، فإن كانت موصولة](3) فالمعنى: إنّه يعلم ما تحمله من الولد على أي حال هو، من ذكورة وأنوثة وتمام وخداج وحسن وقبح وغير ذلك من الصفات، ويعلم مٰا تغيضه اَلْأَرْحٰامُ أي: تنقصه، يقال: غاض الماء

ص: 110


1- أبو محمّد سعيد بن المسيب بن حزن المخزومي القرشي، من كبار التابعين، ولد في زمن عمر، وتوفي بالمدينة سنة 91 ه - علي قول. ينظر: وفيات الأعيان ج 2:117، معجم رجال الحديث ج 8:133.
2- تفسير ابن أبي حاتم ج 10:3273.
3- ساقطة من ج.

وغضته أنا، وَ مٰا تَزْدٰادُ أي: تأخذه زائدا، ومما تنقصه الرحم وتزداده عدد الولد، فإنّ الرحم يشتمل علي واحد واثنين وثلاثة وأكثر، ومنه حدّ الولد في أن يكون تاما ومخدجا، ومنه مدة الولادة.

وإن كانت مصدرية فالمعنى: إنّه يعلم حمل كل أنثى، ويعلم غيض الأرحام وازديادها، لا يخفى عليه شيء من ذلك، ويجوز أن يراد غيوض ما في الأرحام وزيادته، فأسند الفعل إلى الأرحام وهو لما فيها، علي أن يكون الفعلان غير متعدّيين، ويعضده قول الحسن: (الغيضوضة: أن تضع لثمانية أشهر أو أقل من ذلك، والازدياد: أن تزيد علي تسعة أشهر)(1)، وعنه: (الغيض: أن يكون سقطا لغير تمام، والازدياد ما ولد لتمام)(2).

وَ كُلُّ شَيْ ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدٰارٍ مقدّر وحدّ لا يجاوزه ولا يقصر عنه.

اَلْكَبِيرُ العظيم الشأن الذي كل شيء دونه.

اَلْمُتَعٰالِ المستعلي عل كل شيء بقدرته، أو الذي كبر عن صفات المخلوقين.

وَ سٰارِبٌ أي: ذاهب في سربه - بالفتح - أي: في طريقه ومذهبه، يقال:

سرب في الأرض سروبا، والمعنى: سواء عنده من استخفى أي: طلب الخفاء في مختبأ بِاللَّيْلِ في ظلمته، ومن يضطرب في كل وجه ظاهرا بِالنَّهٰارِ يبصره كل أحد.

و الضمير في لَهُ راجع إلى مِنْ والمعنى: لمن أسرّ و من جهر، ومن استخفى ومن سرب.

ص: 111


1- الكشف والبيان ج 5:272.
2- تفسير الماوردي ج 3:96.

مُعَقِّبٰاتٌ أي: جماعات من الملائكة تعتقب في حفظه وكلاءته، والأصل:

معتقبات، فأدغمت التاء في القاف، أو مفعّلات من عقبه: إذا جاء علي عقبه، كما يقال: قفّاه، لأنّ بعضهم يعقب بعضا، أو لأنّهم يعقبون ما يتكلّم به فيكتبونه.

يَحْفَظُونَهُ هما صفتان جميعا، وليس مِنْ أَمْرِ اَللّٰهِ بصلة للحفظ، كأنّه قيل: له معقبات من أمر الله، أو يحفظونه من أجل [أمر اللّه تعالى أي: من أجل](1)

أنّ الله أمرهم بحفظه، والدليل عليه قراءة عليّ عليه السلام وابن عباس وجعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام: له رقيب من بين يديه ومعقّبات من خلفه يحفظونه بأمر اللّه.

إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُغَيِّرُ مٰا بِقَوْمٍ من العافية والنعمة حَتّٰى يُغَيِّرُوا مٰا بِأَنْفُسِهِمْ من الحال الجميلة بكثرة المعاصي.

وَ مٰا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وٰالٍ يلي أمرهم ويدفع عنهم.

[سورة الرعد (13): الآیات 12 الی 15]

هُوَ اَلَّذِي يُرِيكُمُ اَلْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنْشِئُ اَلسَّحٰابَ اَلثِّقٰالَ وَ يُسَبِّحُ اَلرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَ اَلْمَلاٰئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَ يُرْسِلُ اَلصَّوٰاعِقَ فَيُصِيبُ بِهٰا مَنْ يَشٰاءُ وَ هُمْ يُجٰادِلُونَ فِي اَللّٰهِ وَ هُوَ شَدِيدُ اَلْمِحٰالِ لَهُ دَعْوَةُ اَلْحَقِّ وَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاٰ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ ءٍ إِلاّٰ كَبٰاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى اَلْمٰاءِ لِيَبْلُغَ فٰاهُ وَ مٰا هُوَ بِبٰالِغِهِ وَ مٰا دُعٰاءُ اَلْكٰافِرِينَ إِلاّٰ فِي ضَلاٰلٍ وَ لِلّٰهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ ظِلاٰلُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصٰالِ

خَوْفاً وَ طَمَعاً لا يجوز أن يكون انتصابهما على المفعول له، لأنّهما ليسا بفعل فاعل الفعل المعلل إلا أن يكون على تقدير حذف مضاف، أي: إرادة خوف وطمع، أو على معنى: إخافة وإطماعا، ويجوز أن يكون انتصابهما على

ص: 112


1- ساقطة من ج.

الحال من اَلْبَرْقَ كأنّه في نفسه خوف وطمع، أو علي: ذا خوف وطمع، أو من المخاطبين أي: خائفين وطامعين.

ومعنى الخوف والطمع: أنّه يخاف عند لمع البرق من وقوع الصواعق ويطمع في الغيث، وقيل: يخاف المطر من له فيه ضرر كالمسافر و من له بيت يكف عليه، ويطمع فيه من له نفع فيه(1).

وَ يُنْشِئُ اَلسَّحٰابَ اَلثِّقٰالَ بالماء يرفعها من الأرض ويجريها في الجو.

وَ يُسَبِّحُ اَلرَّعْدُ أي: سامع الرعد من العباد حامدين له، يقولون: سبحان اللّه والحمد للّه، وقيل: إنّ الرعد ملك موكّل بالسحاب يزجره بصوته، فهو يسبّح اللّه ويحمده(2).

وَ اَلْمَلاٰئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ أي: يسبّح الملائكة من هيبته وجلاله.

ولما ذكر سبحانه ما دلّ علي أنّه العالم القادر علي كل شيء قال: وَ هُمْ يعني: الكفار الذين أنكروا آياته يُجٰادِلُونَ فِي اَللّٰهِ حيث ينكرون علي رسوله ما يصفه به من القدرة علي البعث والإعادة ويتخذون له الشركاء والأنداد، فهذا جدالهم.

و اَلْمِحٰالِ : المماحلة وهي المماكرة والمكايدة، ومنه تمحّل لكذا: إذا تكلّف استعمال الحيلة واجتهد فيه، ومحل بفلان: إذا سعى به إلى السلطان، ومنه الحديث:

(ولا تجعله بنا ماحلا مصدّقا)(3) يعني: القرآن. والمعنى: إنّه شديد المكر بأعدائه،

ص: 113


1- عن قتادة. تفسير الطبري ج 13:82.
2- عن ابن عباس. الدر المنثور ج 4:50.
3- لم أجده بهذا اللفظ، و إنما يوجد بلفظ: (القران شافع مشفّع وما حل مصدّق). الكافي ج 2:599، معجم الطبراني الكبير ج 10:198.

يأتيهم بالهلاك من حيث لا يشعرون.

لَهُ دَعْوَةُ اَلْحَقِّ معناه: إنّه سبحانه يدعى فيستجيب الدعوة، فأضيفت الدعوة إلي اَلْحَقِّ لكونها مختصة بالحقّ وبمعزل من الباطل، وقيل: إنّ معناه:

دعوة المدعو الحقّ الذي يسمع ويجيب وهو اللّه سبحانه، وعن الحسن: (الحقّ هو اللّه، وكل دعاء إليه دعوة الحقّ )(1).

وَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ أي: والآلهة الذين يدعونهم الكفار من دون اللّه لاٰ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ ءٍ من طلباتهم إِلاّٰ كَبٰاسِطِ كَفَّيْهِ إلا استجابة كاستجابة باسط كفيه، أي: كاستجابة اَلْمٰاءِ من بسط كفيه إليه يطلب منه أن يبلغ فٰاهُ ، والماء جماد لا يشعر ببسط كفيه ولا بحاجته إليه، ولا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه، وقيل: معناه: أنّهم كمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه فيبسطهما ناشرا أصابعه فلم تلق كفاه منه شيئا.

إِلاّٰ فِي ضَلاٰلٍ أي: في ضياع لا جدوي فيه.

وَ لِلّٰهِ يَسْجُدُ أي: ينقادون لإحداث ما أراده فيهم من أفعاله شاؤوا أم أبوا، وينقاد له وَ ظِلاٰلُهُمْ أيضا، حيث يتصرّف علي مشيئته في الامتداد والتقلص والفيء والزوال.

[سورة الرعد (13): آیة 16]

قُلْ مَنْ رَبُّ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ قُلِ اَللّٰهُ قُلْ أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيٰاءَ لاٰ يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لاٰ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي اَلْأَعْمىٰ وَ اَلْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي اَلظُّلُمٰاتُ وَ اَلنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلّٰهِ شُرَكٰاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشٰابَهَ اَلْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اَللّٰهُ خٰالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ اَلْوٰاحِدُ اَلْقَهّٰارُ

قُلْ يا محمّد لهؤلاء الكفار: مَنْ رَبُّ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ و مدبّرهما؟ فإذا

ص: 114


1- الكشاف ج 2:521.

استعجم عليهم الجواب ولا يمكنهم أن يقولوا: الأصنام، فلقّنهم و قُلِ اَللّٰهُ ، فإنّهم لا يقدرون أن ينكرونه.

قُلْ أَ فَاتَّخَذْتُمْ بعد أن علمتموه ربّ السماوات والأرض مِنْ دُونِهِ أَوْلِيٰاءَ فجعلتم ما كان يجب أن يكون سبب التوحيد من علمكم وإقراركم سبب الإشراك.

لاٰ يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ أي: لا يستطيعون لها نَفْعاً وَ لاٰ ضَرًّا فكيف يستطيعونه لغيرهم، وقد آثرتموهم علي الخالق الرازق فما أبين ضلالكم!.

أَمْ جَعَلُوا بل أجعلوا، وهي همزة الإنكار.

خَلَقُوا صفة ل - شُرَكٰاءَ يعني: إنّهم لم يتخذوا لِلّٰهِ شُرَكٰاءَ خالقين قد خَلَقُوا مثل خلق اللّه فَتَشٰابَهَ عليهم خلق اللّه وخلقهم حتى يقولوا:

قدر هؤلاء علي الخلق كما قدر اللّه عليه فاستحقّوا العبادة، فنتخذهم له شركاء ونعبدهم كما عبدنا اللّه، ولكنّهم اتخذوا له شركاء عاجزين لا يقدرون علي شيء.

قُلِ اَللّٰهُ خٰالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ لا خالق سواه، فلا يكون له شريك في العبادة.

وَ هُوَ اَلْوٰاحِدُ في الإلهية اَلْقَهّٰارُ لا يغالب، ومن سواه مربوب ومقهور.

[سورة الرعد (13): الآیات 17 الی 18]

أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً فَسٰالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهٰا فَاحْتَمَلَ اَلسَّيْلُ زَبَداً رٰابِياً وَ مِمّٰا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي اَلنّٰارِ اِبْتِغٰاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتٰاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ اَللّٰهُ اَلْحَقَّ وَ اَلْبٰاطِلَ فَأَمَّا اَلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفٰاءً وَ أَمّٰا مٰا يَنْفَعُ اَلنّٰاسَ فَيَمْكُثُ فِي اَلْأَرْضِ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ اَللّٰهُ اَلْأَمْثٰالَ لِلَّذِينَ اِسْتَجٰابُوا لِرَبِّهِمُ اَلْحُسْنىٰ وَ اَلَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مٰا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْا بِهِ أُولٰئِكَ لَهُمْ سُوءُ اَلْحِسٰابِ وَ مَأْوٰاهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمِهٰادُ

ص: 115

هذا مثل ضربه اَللّٰهُ تعالى للحقّ وأهله والباطل وأهله. فمثّل الحقّ وأهله بالماء الذي ينزله مِنَ اَلسَّمٰاءِ فتسيل به أَوْدِيَةٌ الناس فيحيون به وينتفعون منه بأنواع المنافع، وبالفلز الذي ينتفعون به في اتخاذ الحلي والآلات المختلفة، وأنّ ذلك ماكث في الأرض باق بقاء ظاهرا، يثبت الماء في منافعه ويبقي آثاره في العيون والآبار والحبوب والثمار التي تنبت به، وكذلك الجواهر تبقى أزمنة طويلة.

وشبّه الباطل في سرعة اضمحلاله ووشك زواله وخلّوه من المنفعة بزبد السيل الذي يرمي به، وبزبد الفلز الذي يطفو فوقه إذا أذيب.

وقوله: بِقَدَرِهٰا معناه: بمقدارها الذي عرف اللّه أنّه نافع غير ضار للممطور عليهم.

والفائدة في قوله: اِبْتِغٰاءَ حِلْيَةٍ كالفائدة في قوله: بِقَدَرِهٰا لأنه جمع الماء والفلز في النفع في قوله: وَ أَمّٰا مٰا يَنْفَعُ اَلنّٰاسَ فَيَمْكُثُ فِي اَلْأَرْضِ ، فذكر وجه الانتفاع بما يوقد عليه منه ويذاب وهو الحلية والمتاع.

وقوله: وَ مِمّٰا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي اَلنّٰارِ اِبْتِغٰاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتٰاعٍ عبارة جامعة لأنواع الفلز مع إظهار الكبرياء في ذكره علي وجه التهاون به كما جاء في ذكر الاجر فَأَوْقِدْ لِي يٰا هٰامٰانُ عَلَى اَلطِّينِ (1).

و مِنَ لابتداء الغاية، أي: ومنه ينشأ زَبَداً مثل زبد الماء، أو للتبعيض بمعنى: وبعضه زبد. والرابي: العالي المنتفخ علي وجه الماء. والجفاء: المتفرق، جفأه السيل أي: رمى به، وجفأت القدر بزبدها، وقرئ: يوقدون - بالياء - أي: يوقد الناس.

لِلَّذِينَ اِسْتَجٰابُوا اللام متعلّقة ب - يَضْرِبُ أي: كذلك يضرب اللّه الأمثال

ص: 116


1- القصص: 38.

للذين استجابوا وهم المؤمنون وللذين لَمْ يَسْتَجِيبُوا وهم الكافرون، أي: هما مثلا الفريقين.

و اَلْحُسْنىٰ صفة لمصدر اِسْتَجٰابُوا أي: استجابوا الاستجابة الحسنى.

وقوله: لَوْ أَنَّ لَهُمْ كلام مبتدأ في ذكر ما أعدّ لغير المستجيبين.

وقيل: إنّ الكلام قد تم عند قوله: كَذٰلِكَ يَضْرِبُ اَللّٰهُ اَلْأَمْثٰالَ وما بعده كلام مستأنف، و اَلْحُسْنىٰ مبتدأ، خبره لِلَّذِينَ اِسْتَجٰابُوا . و المعنى: لهم المثوبة الحسنى وهي الجنّة، و وَ اَلَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا مبتدأ، خبره لَوْ مع ما في حيّزه.

و سُوءُ اَلْحِسٰابِ المناقشة في الحساب، وعن النخعي(1): (أن يحاسب الرجل بذنوبه كلها لا يغفر منها شيء)(2). الصادق عليه السلام: (هو أن لا يقبل لهم حسنة، ولا يغفر لهم سيئة)(3).

[سورة الرعد (13): الآیات 19 الی 22]

أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ اَلْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمىٰ إِنَّمٰا يَتَذَكَّرُ أُولُوا اَلْأَلْبٰابِ اَلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اَللّٰهِ وَ لاٰ يَنْقُضُونَ اَلْمِيثٰاقَ وَ اَلَّذِينَ يَصِلُونَ مٰا أَمَرَ اَللّٰهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخٰافُونَ سُوءَ اَلْحِسٰابِ وَ اَلَّذِينَ صَبَرُوا اِبْتِغٰاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَ أَقٰامُوا اَلصَّلاٰةَ وَ أَنْفَقُوا مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ سِرًّا وَ عَلاٰنِيَةً وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ اَلسَّيِّئَةَ

ص: 117


1- إبراهيم بن يزيد بن الأسود النخعي، الفقيه الكوفي، أحد كبار التابعين، توفي سنة 95 ه - على قول وله تسع وأربعون سنة، وقيل ثمان وخمسون. ينظر: وفيات الاعيان ج 1:6، معجم رجال الحديث ج 1:325.
2- تفسير الطبري ج 13:93.
3- تفسير العياشي ج 2:210 بالمعنى.

[سورة الرعد (13): الآیات 22 الی 24]

أُولٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى اَلدّٰارِ جَنّٰاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهٰا وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبٰائِهِمْ وَ أَزْوٰاجِهِمْ وَ ذُرِّيّٰاتِهِمْ وَ اَلْمَلاٰئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بٰابٍ سَلاٰمٌ عَلَيْكُمْ بِمٰا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى اَلدّٰارِ

دخلت همزة الإنكار علي الفاء لإنكار أن تقع شبهة بعد ما ضرب من المثل في أنّ حال من علم أَنَّمٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ اَلْحَقُّ فاستجاب، بخلاف حال الجاهل الذي لم يستبصر فيستجيب، وبينهما من البون ما بين الزبد والماء والخبث والإبريز.

إِنَّمٰا يَتَذَكَّرُ أُولُوا اَلْأَلْبٰابِ الذين يعملون علي قضايا عقولهم فيتفكرون ويستبصرون.

اَلَّذِينَ يُوفُونَ مبتدأ، وخبره أُولٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى اَلدّٰارِ ، ويجوز أن يكون صفة ل - أُولُوا اَلْأَلْبٰابِ . و الأوّل أوجه.

مٰا أَمَرَ اَللّٰهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ من الأرحام والقرابات، ويدخل فيه وصل قرابة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقرابة المؤمنين الثابتة بسبب الإيمان، بالإحسان إليهم بحسب الطاقة والذبّ عنهم ونصرتهم والنصيحة لهم وعيادة مرضاهم وحضور جنائزهم، ومنه مراعاة حقّ الخدم والجيران والرفقاء في السفر.

وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ أي: يخافون وعيده كله وَ يَخٰافُونَ خصوصا سُوءَ اَلْحِسٰابِ فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا.

وَ اَلَّذِينَ صَبَرُوا على القيام بأوامر اللّه ومشاق التكليف، وعلي المصائب في النفوس والأموال، وعن معاصي الله اِبْتِغٰاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ لا لغرض من الأغراض الدنيوية، أو ليقال: ما أصبره وأوقره، ولئلا يشمت به الأعداء، كقوله:

ص: 118

وتجلّدي للشّامتين أريهم *** أنّي لريب الدّهر لا أتضعضع(1)

وَ أَنْفَقُوا مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ من الحلال، لأنّ الحرام لا يكون رزقا ولا يسند إلى اللّه.

سِرًّا وَ عَلاٰنِيَةً يتناول النافلة، لأنّها في السرّ أفضل، فأما الفرائض فالمجاهرة بها أفضل، نفيا للتهمة.

وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ اَلسَّيِّئَةَ يدفعونها، ومنه الحديث: (أتبع السيئة الحسنة تمحها)(2)، وعن ابن عباس: (يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سيئ غيرهم)(3)، وعن الحسن: (إذا حرموا أعطوا، وإذا ظلموا عفوا، وإذا قطعوا وصلوا)(4).

أُولٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى اَلدّٰارِ عاقبة الدنيا وهي الجنّة، لأنّها التي أراد اللّه أن تكون عاقبة الدنيا ومرجع أهلها.

و جَنّٰاتُ عَدْنٍ بدل من عُقْبَى اَلدّٰارِ .

مِنْ آبٰائِهِمْ جمع أبوي كل واحد منهم، فكأنّه قيل: من آبائهم وأمهاتهم.

جعل سبحانه من ثواب المطيع سروره بما يريه في أهله وأنسابه وذريته وإلحاقهم به في الجنّة وَ اَلْمَلاٰئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بٰابٍ من أبواب قصورهم.

سَلاٰمٌ عَلَيْكُمْ في موضع الحال، لأنّ المعنى: قائلين: سلام عليكم أو

ص: 119


1- البيت لأبي ذؤيب الهذلي. شرح أشعار الهذليين ج 1:10.
2- المستدرك على الصحيحين ج 1:54، تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: 98.
3- معالم التنزيل ج 2:177 بالمعنى.
4- معالم التنزيل ج 2:177.

مسلّمين.

وتعلّق قوله: بِمٰا صَبَرْتُمْ بمحذوف تقديره: هذا بما صبرتم، يعنون: هذا الثواب بما صبرتم، أي: بسبب صبركم، أو يدل ما احتملتم من مشاق الصبر.

والمعنى: لئن تعبتم في الدنيا لقد استرحتم الساعة. ويجوز أن يتعلّق ب - سَلاٰمٌ أي:

نسلّم عليكم ونكرمكم بصبركم.

[سورة الرعد (13): الآیات 25 الی 30]

وَ اَلَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اَللّٰهِ مِنْ بَعْدِ مِيثٰاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ مٰا أَمَرَ اَللّٰهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ أُولٰئِكَ لَهُمُ اَللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ اَلدّٰارِ اَللّٰهُ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ يَقْدِرُ وَ فَرِحُوا بِالْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ مَا اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا فِي اَلْآخِرَةِ إِلاّٰ مَتٰاعٌ وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لاٰ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اَللّٰهَ يُضِلُّ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنٰابَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اَللّٰهِ أَلاٰ بِذِكْرِ اَللّٰهِ تَطْمَئِنُّ اَلْقُلُوبُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ طُوبىٰ لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ كَذٰلِكَ أَرْسَلْنٰاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهٰا أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ اَلَّذِي أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ وَ هُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمٰنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ مَتٰابِ

مِنْ بَعْدِ مِيثٰاقِهِ أي: من بعد ما أوثقوه به من الاعتراف والقبول.

وَ يُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ بمعاصي اللّه وظلم عباده وإخراب بلاده وَ لَهُمْ سُوءُ اَلدّٰارِ أي: عذاب النار.

اَللّٰهُ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ أي: اللّه وحده هو يبسط الرزق ويقدره دون غيره، وهو الذي بسط رزق قريش.

وَ فَرِحُوا بما بسط لهم منه فرح بطر لا فرح سرور بفضل اللّه وإنعامه

ص: 120

عليهم، وليست هذه اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا فِي جنب نعيم اَلْآخِرَةِ إِلاّٰ مَتٰاعٌ أي: شيء قليل يتمتع به كعجالة الراكب ثمّ يفنى ويضمحل، وخفي عليهم ذلك حتى آثروه علي النعيم الدائم.

وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لاٰ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ هو جار مجرى التعجب من قولهم، مع كثرة آياته الباهرة التي لم يؤتها نبيّ قبله، وكفى بالقرآن وحده آية معجزة، فإذا لم يعتدّوا بها كان موضعا للتعجب، فكأنّه قيل لهم: ما أشدّ عنادكم!.

إِنَّ اَللّٰهَ يُضِلُّ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنٰابَ ممن كان مثلكم في التصميم علي الكفر، فلا سبيل إلي اهتدائهم وإن أنزلت كل آية.

وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ كان علي خلاف صفتكم، ومعنى الإنابة: الإقبال علي الحقّ ، والدخول في نوبة الخير، و اَلَّذِينَ آمَنُوا بدل من مَنْ أَنٰابَ .

وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اَللّٰهِ بذكر رحمة اللّه ومغفرته.

اَلَّذِينَ آمَنُوا مبتدأ و طُوبىٰ لَهُمْ خبره، وطوبى: من طاب، مصدر كبشرى وزلفى، ومعنى طوبى لك: أصبت خيرا وطيبا، واللام للبيان، مثلها في:

سقيا لك. والواو في طوبى منقلبة عن ياء لضمة ما قبلها، كواو موقن وموسر.

وعن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: (إنّ طوبى شجرة أصلها في داري وفرعها علي أهل الجنّة. وقال مرة أخري: في دار عليّ . فقيل له في ذلك، فقال: إنّ داري ودار عليّ في الجنّة بمكان واحد)(1).

كَذٰلِكَ أي: مثل ذلك الإرسال أَرْسَلْنٰاكَ يعني: أرسلناك إرسالا له فضل علي غيره من الإرسالات.

ص: 121


1- شواهد التنزيل ج 1:304.

فِي أُمَّةٍ قَدْ تقدّمتها أُمَمٌ كثيرة، فهي آخر الأمم وأنت خاتم الأنبياء.

لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الكتاب العظيم اَلَّذِي أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ وحال هؤلاء أنّهم يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمٰنِ الواسع الرحمة، فكفروا بنعمته في إرسال مثلك إليهم، وإنزال هذا القرآن المعجز عليهم.

قُلْ هُوَ الرحمن رَبِّي وخالقي لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ تعالى عن الشركاء وا لأنداد.

عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في نصرتي عليكم وَ إِلَيْهِ مآبي، فيثيبني علي مصابرتكم ومجاهدتكم.

[سورة الرعد (13): الآیات 31 الی 34]

وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ اَلْجِبٰالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ اَلْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ اَلْمَوْتىٰ بَلْ لِلّٰهِ اَلْأَمْرُ جَمِيعاً أَ فَلَمْ يَيْأَسِ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشٰاءُ اَللّٰهُ لَهَدَى اَلنّٰاسَ جَمِيعاً وَ لاٰ يَزٰالُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمٰا صَنَعُوا قٰارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دٰارِهِمْ حَتّٰى يَأْتِيَ وَعْدُ اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُخْلِفُ اَلْمِيعٰادَ وَ لَقَدِ اُسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كٰانَ عِقٰابِ أَ فَمَنْ هُوَ قٰائِمٌ عَلىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمٰا كَسَبَتْ وَ جَعَلُوا لِلّٰهِ شُرَكٰاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمٰا لاٰ يَعْلَمُ فِي اَلْأَرْضِ أَمْ بِظٰاهِرٍ مِنَ اَلْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَ صُدُّوا عَنِ اَلسَّبِيلِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّٰهُ فَمٰا لَهُ مِنْ هٰادٍ لَهُمْ عَذٰابٌ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ لَعَذٰابُ اَلْآخِرَةِ أَشَقُّ وَ مٰا لَهُمْ مِنَ اَللّٰهِ مِنْ وٰاقٍ

جواب لَوْ محذوف، والمعنى: وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ اَلْجِبٰالُ عن مقارّها، وزعزعت عن أماكنها أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ اَلْأَرْضُ حتى تتصدع وتشقق

ص: 122

قطعا، وقيل: معناه: شققت فجعلت أنهارا وعيونا(1). أَوْ كُلِّمَ بِهِ اَلْمَوْتىٰ فتسمع وتجيب؛ لكان هذا القرآن، لعظم قدره وجلالة أمره. وقيل: لما آمنوا به(2)، كقوله:

وَ لَوْ أَنَّنٰا نَزَّلْنٰا... الآية(3). وعن الفراء: (أنّه يتعلّق بما قبله)(4)، والمعنى: وهم يكفرون بالرحمن ولو أنّ قرآنا سيّرت به الجبال، وما بينهما اعتراض.

بَلْ لِلّٰهِ اَلْأَمْرُ جَمِيعاً بل للّه القدرة علي كل شيء، وهو قادر علي الآيات التي اقترحوها لكنّه لا يفعل، لما يعلمه من المصلحة.

أَ فَلَمْ يَيْأَسِ أي: أفلم يعلم، وهي لغة قوم من النخع، وقيل: إنّما استعمل اليأس بمعنى العلم لتضمّنه معناه(5)، لأنّ اليائس عن الشيء عالم بأنّه لا يكون، كما استعمل الرجاء بمعنى الخوف لذلك، ويدلّ عليه أنّ أهل البيت عليهم السلام وابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين قرأوا: أفلم يتبيّن، وهو تفسير أَ فَلَمْ يَيْأَسِ .

ويجوز أن يكون المعنى: أولم يقنط عن إيمان هؤلاء الكفار اَلَّذِينَ آمَنُوا ب - أَنْ لَوْ يَشٰاءُ اَللّٰهُ لَهَدَى اَلنّٰاسَ جَمِيعاً ولهداهم.

وَ لاٰ يَزٰالُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمٰا صَنَعُوا من كفرهم وسوء أفعالهم قٰارِعَةٌ أي: داهية تقرعهم من صنوف المصائب في نفوسهم وأموالهم أَوْ تَحُلُّ القارعة قَرِيباً مِنْ دٰارِهِمْ حَتّٰى يَأْتِيَ وَعْدُ اَللّٰهِ وهو موتهم أو القيامة، وقيل: المراد بالقارعة:

ص: 123


1- الكشف والبيان ج 5:292.
2- معاني القرآن وإعرابه ج 3:148.
3- الأنعام: 111.
4- معاني القران للفراء ج 2:63.
5- عن ابن عباس. معاني القرآن للفراء ج 2:64.

سرايا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم التي كان يبعثها إليهم فتغير حول مكة وتختطف منهم(1)، أو: تحلّ أنت يا محمّد بجيشك قريبا من دارهم كما حلّ بالحديبية حتى يأتي وعد اللّه وهو فتح مكة، لأنه سبحانه وعده ذلك.

والإملاء: الإمهال وأن يترك ملاوة من الزمان في خفض وأمن كالبهيمة يملي لها في المرعى، وهذا وعيد لهم.

أَ فَمَنْ هُوَ قٰائِمٌ احتجاج عليهم في إشراكهم باللّه، يعني: أفاللّه الذي هو رقيب عَلىٰ كُلِّ نَفْسٍ صالحة أو طالحة بِمٰا كَسَبَتْ يعلم خيره وشرّه، ويعدّ لكل جزاءه؛ كمن ليس كذلك ؟. ويجوز أن يقدّر ما يكون خبرا للمبتدأ ويعطف عليه وَ جَعَلُوا ، وتقديره: أفمن هو بهذه الصفة لم يوحّدوه وجعلوا له وهو اللّه الذي يستحقّ العبادة وحده شُرَكٰاءَ .

قُلْ سَمُّوهُمْ أي: جعلتم له شركاء فسمّوهم له من هم، وأنبئوه بأسمائهم.

ثمّ قال: أَمْ تُنَبِّئُونَهُ هي أَمْ المنقطعة، أي: بل أتنبئونه بشركاء لا يعلمهم فِي اَلْأَرْضِ وهو العالم بما في السماوات والأرض، [فإذا لم يعلمهم فإنّهم ليسوا بشيء يتعلّق بهم العلم، والمراد: نفي أن يكون له شركاء، ونحوه:

قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اَللّٰهَ بِمٰا لاٰ يَعْلَمُ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ لاٰ فِي اَلْأَرْضِ (2) [(3).

أَمْ بِظٰاهِرٍ مِنَ اَلْقَوْلِ بل أتسمّونهم شركاء بظاهر من القول ليس له حقيقة، وهذه الأساليب العجيبة في الاحتجاج تنادي بلسان فصيح أنّها ليست من كلام البشر.

ص: 124


1- عن عكرمة وغيره. تفسير الطبري ج 13:105.
2- ساقطة من ط.
3- يونس: 18.

وَ صُدُّوا قرئ: بفتح الصاد وضمها.

وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّٰهُ و من يخذله لعلمه بأنّه لا يهتدي فَمٰا لَهُ مِنْ أحد يقدر على هدايته.

لَهُمْ عَذٰابٌ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا بالقتل والسبي وسائر المحن تلحقهم عقوبة لهم علي كفرهم.

وَ مٰا لَهُمْ مِنَ اَللّٰهِ مِنْ وٰاقٍ أي: دافع يدفع عنهم عذابه.

[سورة الرعد (13): الآیات 35 الی 37]

مَثَلُ اَلْجَنَّةِ اَلَّتِي وُعِدَ اَلْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ أُكُلُهٰا دٰائِمٌ وَ ظِلُّهٰا تِلْكَ عُقْبَى اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ عُقْبَى اَلْكٰافِرِينَ اَلنّٰارُ وَ اَلَّذِينَ آتَيْنٰاهُمُ اَلْكِتٰابَ يَفْرَحُونَ بِمٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مِنَ اَلْأَحْزٰابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمٰا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اَللّٰهَ وَ لاٰ أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَ إِلَيْهِ مَآبِ وَ كَذٰلِكَ أَنْزَلْنٰاهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَ لَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْوٰاءَهُمْ بَعْدَ مٰا جٰاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ مٰا لَكَ مِنَ اَللّٰهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاٰ وٰاقٍ

مَثَلُ اَلْجَنَّةِ صفتها التي هي في غرابة المثل، وهو مبتدأ محذوف الخبر عند سيبويه(1)، أي: فيما نقصّ عليكم مثل الجنّة، وعند غيره الخبر: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ كما تقول: صفة زيد أسمر. وعن الزجّاج: (معناه: مثل الجنّة جنّة تجري من تحتها الأنهار)(2)، علي حذف الموصوف تمثيلا لما غاب عنا بما نشاهد.

أُكُلُهٰا دٰائِمٌ كقوله: لاٰ مَقْطُوعَةٍ وَ لاٰ مَمْنُوعَةٍ (3)، وَ ظِلُّهٰا دائم

ص: 125


1- الكتاب ج 1:143.
2- معاني القران وإعرابه ج 3:150.
3- الواقعة: 33.

لا ينسخ كما ينسخ في الدنيا بالشمس.

وَ اَلَّذِينَ آتَيْنٰاهُمُ اَلْكِتٰابَ وهم: عبد اللّه بن سلام وكعب وأصحابهما و من أسلم من النصاري وهم ثمانون رجلا: أربعون بنجران واثنان وثلاثون بأرض الحبشة [وثمانية باليمن](1).

يَفْرَحُونَ بِمٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مِنَ اَلْأَحْزٰابِ أي: و من أحزابهم، وهم كفارهم المتحزبون علي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالعداوة مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ مما يخالف أحكامهم، وغير ذلك مما حرّفوه وبدّلوه من الشرائع.

قُلْ إِنَّمٰا أُمِرْتُ فيما أنزل إليّ ب - أَنْ أَعْبُدَ اَللّٰهَ وَ لاٰ أُشْرِكَ بِهِ فإنكاركم له إنكار لعبادة اللّه وتوحيده.

إِلَيْهِ أَدْعُوا خصوصا لا أدعو إلى غيره وَ إِلَيْهِ لا إلي غيره مرجعي، فلا معنى لإنكاركم وأنتم تقولون مثل ذلك.

وَ كَذٰلِكَ ومثل ذلك الإنزال أَنْزَلْنٰاهُ مأمورا فيه بعبادة اللّه وتوحيده والدعوة إليه وإلي دينه.

حُكْماً عَرَبِيًّا حكمة عربية مترجمة بلسان العرب، و انتصابه علي الحال.

وَ لَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْوٰاءَهُمْ في أمور يدعونك إلى أن توافقهم عليها ما هي إلا أهواء وشبه بَعْدَ ثبوت اَلْعِلْمِ عندك بالحجج والدلائل والبيّنات، لم ينصرك اللّه وخذلك، فلا يقيك منه وٰاقٍ . وهذا من باب الإلهاب والتهييج والبعث للسامعين علي الصلابة في الدين، والتثبّت فيه من الزلة عند الشبهة بعد الاستمساك بالحجّة.

ص: 126


1- ساقطة من أ، و في ج: وثمانية بالروم وكانوا على دين عيسى.

[سورة الرعد (13): الآیات 38 الی 40]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنٰا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَ جَعَلْنٰا لَهُمْ أَزْوٰاجاً وَ ذُرِّيَّةً وَ مٰا كٰانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتٰابٌ يَمْحُوا اَللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتٰابِ وَ إِنْ مٰا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ اَلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمٰا عَلَيْكَ اَلْبَلاٰغُ وَ عَلَيْنَا اَلْحِسٰابُ

كانوا يعيّرون رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بكثرة تزوّج النساء، فقيل: إنّ الرسل قبله كانوا مثله ذوي أزواج وذرية.

وَ مٰا كٰانَ لهم أن يأتوا بآيات برأيهم وبما يقترح عليهم منها، والشرائع مصالح تختلف باختلاف الأوقات والأحوال، فلكل وقت حكم يكتب علي العباد، أي: يفرض عليهم علي ما يقتضيه استصلاحهم.

يَمْحُوا اَللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ وَ يُثْبِتُ أي: ينسخ ما يستصوب نسخه وَ يُثْبِتُ بدله ما يري المصلحة في إثباته أو يتركه غير منسوخ، وقيل: يمحو من ديوان الحفظة ما يشاء من ذنوب المؤمنين فضلا فيسقط عقابه، ويترك ذنوب من يريد عقابه مثبتا عدلا(1)، وقيل: يمحو بعض الخلائق ويثبت بعضا من الأناسي وسائر الحيوان والنبات والأشجار وصفاتها وأحوالها، فيمحوا من الرزق والأجل ويزيد فيهما، ويمحو السعادة والشقاوة ويثبتهما(2).

وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتٰابِ أصل كل كتاب وهو اللوح المحفوظ، لأنّ كل كائن مكتوب فيه.

وَ إِنْ مٰا نُرِيَنَّكَ وكيفما دارت الحال أريناك بَعْضَ اَلَّذِي وعدنا

ص: 127


1- عن سعيد بن جبير. تفسير الطبري ج 13:114.
2- عن ابن مسعود وغيره. تفسير الطبري ج 13:113.

هؤلاء الكفار من نصر المؤمنين عليهم، وتمكينك منهم بالقتل والأسر واغتنام الأموال، أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل ذلك فَإِنَّمٰا يجب عَلَيْكَ تبليغ الرسالة فحسب وَ عَلَيْنَا حسابهم لا عليك، نجازيهم وننتقم منهم إما عاجلا وإما آجلا.

[سورة الرعد (13): الآیات 41 الی 43]

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّٰا نَأْتِي اَلْأَرْضَ نَنْقُصُهٰا مِنْ أَطْرٰافِهٰا وَ اَللّٰهُ يَحْكُمُ لاٰ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَ هُوَ سَرِيعُ اَلْحِسٰابِ وَ قَدْ مَكَرَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلّٰهِ اَلْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مٰا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَ سَيَعْلَمُ اَلْكُفّٰارُ لِمَنْ عُقْبَى اَلدّٰارِ وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفىٰ بِاللّٰهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْكِتٰابِ

يريد: أرض الكفر نَنْقُصُهٰا مِنْ أَطْرٰافِهٰا بما نفتح علي المسلمين من بلادهم، فننقص بلاد الحرب ونزيد في بلاد الإسلام وذلك من آيات النصر. والمعنى:

عليك البلاغ ولا يهمّنك ما وراء ذلك، فنحن نكفيكه ونتم ما وعدناك من الظفر وإعلاء كلمة الإسلام، وقيل: ننقصها بذهاب علمائها وخيار أهلها(1).

لاٰ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ لا رادّ لحكمه، والمعقّب: الذي يكرّ علي الشيء فيبطله، وهو جملة في موضع الحال، كأنّه قيل: واللّه يحكم نافذا حكمه.

وَ قَدْ مَكَرَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وصفهم بالمكر، ثمّ جعل مكرهم كلا مكر بالإضافة إلى مكره، فقال: فَلِلّٰهِ اَلْمَكْرُ جَمِيعاً ، ثمّ فسّر ذلك بقوله: يَعْلَمُ مٰا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَ سَيَعْلَمُ اَلْكُفّٰارُ لِمَنْ عُقْبَى اَلدّٰارِ ، لأنّ من علم ما تكسب كل نفس وأعدّ لها جزاءها فهو المكر كله، لأنه يأتيهم من حيث لا يشعرون. وقرئ: الكافر، والمراد بالكافر: الجنس.

ص: 128


1- عن ابن عباس وغيره. تفسير الطبري ج 13:117.

كَفىٰ بِاللّٰهِ شَهِيداً بما أظهر من المعجزات علي نبوّتي.

وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْكِتٰابِ الذي عنده علم القرآن وما ألف عليه من النظم المعجز، وقيل: و من هو من علماء أهل الكتاب الذين أسلموا، لأنّهم يشهدون بنعته في كتبهم(1)، وقيل: هو الله عزّ وجل والكتاب هو اللوح المحفوظ(2)، وقيل: هو عليّ بن أبي طالب عليه السلام(3) الصادق عليه السلام: (إيّانا عنى، وعليّ أوّلنا وأفضلنا وخيرنا بعد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم)(4).

ص: 129


1- عن قتادة. تفسير الطبري ج 13:119.
2- عن سعيد بن جبير وغيره. تفسير الطبري ج 13:119.
3- عن ابن عباس وغيره، وعن أبي سعيد الخدري مرفوعا. شواهد التنزيل ج 1:307.
4- بصائر الدرجات: 214.

سورة إبراهيم

اشارة

مكية إلا آيتين، إحدي وخمسون آية بصري، اثنتان كوفي، عدّ الكوفي بِخَلْقٍ جَدِيدٍ آية.

في حديث أبيّ : (من قرأ (سورة إبراهيم) أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من عبد الأصنام ومن لم يعبدها)(1)، الصادق عليه السلام: (من قرأ (سورة إبراهيم والحجر) في ركعتين جميعا في كل جمعة لم يصبه فقر ولا جنون ولا بلوى)(2).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة إبراهيم (14): الآیات 1 الی 4]

الر كِتٰابٌ أَنْزَلْنٰاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ اَلنّٰاسَ مِنَ اَلظُّلُمٰاتِ إِلَى اَلنُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلىٰ صِرٰاطِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَمِيدِ اَللّٰهِ اَلَّذِي لَهُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ وَ وَيْلٌ لِلْكٰافِرِينَ مِنْ عَذٰابٍ شَدِيدٍ اَلَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ اَلْحَيٰاةَ اَلدُّنْيٰا عَلَى اَلْآخِرَةِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ يَبْغُونَهٰا عِوَجاً أُولٰئِكَ فِي ضَلاٰلٍ بَعِيدٍ وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ رَسُولٍ إِلاّٰ بِلِسٰانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اَللّٰهُ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ

ص: 130


1- الكشف والبيان ج 5:304.
2- ثواب الأعمال: 107.

مِنَ اَلظُّلُمٰاتِ إِلَى اَلنُّورِ من الضلالة إلى الهدي، ومن الكفر إلي الإيمان.

بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بتسهيله وتيسيره، مستعار من الإذن الذي هو تسهيل للحجاب، والمراد: ما يمنحهم سبحانه من التوفيق والألطاف.

إِلىٰ صِرٰاطِ اَلْعَزِيزِ بدل من قوله: إِلَى اَلنُّورِ بتكرير العامل.

اَللّٰهِ بالجر عطف بيان ل - اَلْعَزِيزِ اَلْحَمِيدِ ، لأنّه جري مجري الأعلام، لاختصاصه بالمعبود الذي تحقّ له العبادة، كما غلب النجم للثريا. وقرئ بالرفع علي هو اللّه. والويل: نقيض الوأل وهو النجاة، وهو اسم معنى كالهلاك، إلا أنّه لا يشتق منه فعل، إنّما يقال: ويلا له، فينصب نصب المصادر، ثمّ يرفع رفعها لإفادة معنى الثبات فيقال: ويل له، كما يقال: سلام عليك. والمعنى: إنّهم يولولون مِنْ عَذٰابٍ شَدِيدٍ ويضجّون منه فيقولون: يا ويلاه، كقوله تعالى: دَعَوْا هُنٰالِكَ ثُبُوراً (1).

اَلَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ مبتدأ، خبره أُولٰئِكَ فِي ضَلاٰلٍ بَعِيدٍ ، ويجوز أن يكون مجرورا صفة للكافرين، ومنصوبا علي الذم أو مرفوعا علي: أعني الذين يستحبّون، أو هم الذين يستحبّون. والاستحباب: استفعال من المحبّة ومعناه:

الإيثار.

وَ يَبْغُونَهٰا عِوَجاً أي: ويطلبون لسبيل اللّه اعوجاجا، وأن يدلّوا الناس علي أنّها سبيل ناكبة عن الحقّ غير مستوية، والأصل: يبغون لها، فحذف الجار وأوصل الفعل.

فِي ضَلاٰلٍ بَعِيدٍ أي: ضلوا عن طريق الحقّ ووقعوا دونه بمراحل،

ص: 131


1- الفرقان: 13.

ووصف الضلال بالبعد مجاز، وإنّما البعد في الحقيقة للضال، [لأنّه هو الذي يتباعد عن الطريق](1)، فهو نحو قولهم: جدّ جدّه.

إِلاّٰ بِلِسٰانِ قَوْمِهِ أي: بلغة قومه.

لِيُبَيِّنَ لَهُمْ أي: ليفقهوا عنه ما يدعوهم إليه.

فَيُضِلُّ اَللّٰهُ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ هو مثل قوله: فَمِنْكُمْ كٰافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ (2)، لأنّه سبحانه لا يضل إلا من يعلم أنّه لن يؤمن، ولا يهدي إلا من يعلم أنّه يؤمن. والمراد بالإضلال: التخلية ومنع الألطاف، والمراد بالهداية:

التوفيق واللطف، فكان ذلك كناية عن الكفر والإيمان.

[سورة إبراهيم (14): الآیات 5 الی 8]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنٰا مُوسىٰ بِآيٰاتِنٰا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ اَلظُّلُمٰاتِ إِلَى اَلنُّورِ وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيّٰامِ اَللّٰهِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِكُلِّ صَبّٰارٍ شَكُورٍ وَ إِذْ قٰالَ مُوسىٰ لِقَوْمِهِ اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجٰاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ اَلْعَذٰابِ وَ يُذَبِّحُونَ أَبْنٰاءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِسٰاءَكُمْ وَ فِي ذٰلِكُمْ بَلاٰءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذٰابِي لَشَدِيدٌ وَ قٰالَ مُوسىٰ إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اَللّٰهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ

أَنْ أَخْرِجْ هي أَنْ المفسّرة، لأنّ الإرسال فيه معنى القول، فكأنّه قال: أرسلناه وقلنا له: أَخْرِجْ قَوْمَكَ ، ويجوز أن تكون (أن) الناصبة للفعل،

ص: 132


1- ساقطة من ج.
2- التغابن: 2.

والتقدير: بأن أخرج قومك، ويجوز أن يوصل (أن) بفعل الأمر، لأنّ الغرض وصلها بما يكون معه في تأويل المصدر وهو الفعل، والأمر وغيره سواء في الفعلية.

وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيّٰامِ اَللّٰهِ أي: وأنذرهم بوقائع اللّه الواقعة علي الأمم قبلهم، ومنه: أيّام العرب لحروبها و ملاحمها، كيوم بعاث(1) ويوم النسار(2) ويوم الفجار(3) ونحوها، وعن ابن عباس: (هي نعماؤه وبلاؤه)(4).

لِكُلِّ صَبّٰارٍ يصبر علي بلاء اللّه شَكُورٍ يشكر نعمه.

إِذْ أَنْجٰاكُمْ ظرف للنعمة بمعنى الإنعام، أي: إنعامه عَلَيْكُمْ ذلك الوقت، ويجوز أن يكون بدلا من نِعْمَةَ اَللّٰهِ أي: اُذْكُرُوا وقت إنجائكم وهو بدل الاشتمال.

وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ من جملة ما قٰالَ مُوسىٰ لِقَوْمِهِ أي: واذكروا حين تأذّن ربّكم. وتأذن وآذن بمعنى، مثل توعّد وأوعد وتفضّل وأفضل، ولابد في تفعّل من زيادة معنى ليس في أفعل، كأنّه قال: وإذ آذن ربّكم إيذانا بليغا ينتفي عنده الشكوك. والمعنى: وإذ تأذّن ربّكم فقال: لَئِنْ شَكَرْتُمْ ما خولتم من نعمة الإنجاء وغيرها لَأَزِيدَنَّكُمْ نعمة إلى نعمة وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ

ص: 133


1- هو آخر الحروب المشهورة بين الأوس والخزرج قبل الإسلام، وفيه ظهرت الأوس وحلفاؤها على الخزرج. ينظر: الكامل في التاريخ ج 1:417 وما بعدها.
2- هو يوم من أيّام العرب تحالفت فيه أسد وطي وغطفان ولحقت بهم ضبّة وعدي، فغزوا بني عامر فقتلوهم قتلا شديدا. ينظر: نهاية الإرب ج 15:421.
3- أيّام الفجار عدّة، وسمّيت الفجار لأنّها كانت في الأشهر الحرم، وكانت بين قريش ومن معها من كنانة وبين قيس عيلان في الجاهلية. ينظر: نهاية الإرب ج 15:423.
4- الكشف والبيان ج 5:305.

وغمطتم(1) ما أنعمت به عليكم إِنَّ عَذٰابِي لَشَدِيدٌ لمن كفر نعمتي.

إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ والناس جميعهم فمضرّة كفرانكم عائدة عليكم، واللّه غني عن شكركم.

حَمِيدٌ مستوجب للحمد بكثرة أنعمه وإن لم يحمده حامد.

[سورة إبراهيم (14): الآیات 9 الی 10]

أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَ عٰادٍ وَ ثَمُودَ وَ اَلَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لاٰ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اَللّٰهُ جٰاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنٰاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوٰاهِهِمْ وَ قٰالُوا إِنّٰا كَفَرْنٰا بِمٰا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَ إِنّٰا لَفِي شَكٍّ مِمّٰا تَدْعُونَنٰا إِلَيْهِ مُرِيبٍ قٰالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِي اَللّٰهِ شَكٌّ فٰاطِرِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرَكُمْ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى قٰالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُنٰا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونٰا عَمّٰا كٰانَ يَعْبُدُ آبٰاؤُنٰا فَأْتُونٰا بِسُلْطٰانٍ مُبِينٍ

وَ اَلَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مبتدأ، وخبره لاٰ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اَللّٰهُ وهي جملة اعتراضية، أو اَلَّذِينَ في محل جر عطفا علي قَوْمِ نُوحٍ ، و لاٰ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اَللّٰهُ اعتراض. والمعنى: إنّهم من الكثرة بحيث لا يعلم عددهم إلا اللّه، وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال: (كذب النسّابون)(2)، وقيل: إنّ بين عدنان وإسماعيل ثلاثين أبا لا يعرفون(3).

فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوٰاهِهِمْ أي: فعضوا علي أصابع أيديهم من

ص: 134


1- غمطه: حقّره. (الصحاح: مادة غمط)
2- تفسير الطبري ج 13:125.
3- عن ابن عباس. تفسير الماوردي ج 3:124.

شدّة الغيظ والضجر لما جاءت به الرسل، كقوله: عَضُّوا عَلَيْكُمُ اَلْأَنٰامِلَ مِنَ اَلْغَيْظِ (1)، أو أشاروا بأيديهم إلي ألسنتهم وما نطقت به من قولهم: إِنّٰا كَفَرْنٰا بِمٰا أُرْسِلْتُمْ بِهِ أي: هذا جوابنا لكم ليس عندنا غيره إقناطا لهم من التصديق، أو وضعوا أيديهم علي أفواههم يقولون للأنبياء: اسكتوا. وقيل: الأيدي جمع يد وهي: النعمة، بمعنى الأيادي، أي: ردّوا نعم الأنبياء التي هي أجل النعم من مواعظهم والشرائع التي أوحيت إليهم في أفواههم، لأنّهم إذا لم يقبلوها فكأنّهم ردّوها في أفواههم ورجعوها إلى حيث جاءت منه علي طريق المثل.

شك مُرِيبٍ : موقع في الريبة، أو ذي ريبة.

أَ فِي اَللّٰهِ شَكٌّ دخلت همزة الإنكار علي الظرف، لأنّ الكلام في المشكوك فيه وأنّه لا يحتمل الشك، لا في الشك.

يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ أي: لأجل المغفرة، كما تقول: دعوته ليأكل معي، أو يدعوكم إلى الإيمان ليغفر لكم.

وَ يُؤَخِّرَكُمْ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى أي: إلى وقت بيّن مقداره وسمّاه، يبلغكموه إن آمنتم وإلا عاجلكم بالهلاك قبل ذلك الوقت.

إِنْ أَنْتُمْ أي: ما أنتم إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُنٰا لا فضل لكم علينا، فلم خصصتم بالنبوّة ؟.

بِسُلْطٰانٍ مُبِينٍ بحجّة واضحة، أرادوا بذلك ما اقترحوه من الآيات تعنتا وعنادا.

ص: 135


1- آل عمران: 119.

[سورة إبراهيم (14): الآیات 11 الی 12]

قٰالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ يَمُنُّ عَلىٰ مَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ وَ مٰا كٰانَ لَنٰا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطٰانٍ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ وَ عَلَى اَللّٰهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ مٰا لَنٰا أَلاّٰ نَتَوَكَّلَ عَلَى اَللّٰهِ وَ قَدْ هَدٰانٰا سُبُلَنٰا وَ لَنَصْبِرَنَّ عَلىٰ مٰا آذَيْتُمُونٰا وَ عَلَى اَللّٰهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُتَوَكِّلُونَ

إِنْ نَحْنُ إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ تسليم لقولهم، يعنون: أنّهم مثلهم في البشرية وحدها.

وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ يَمُنُّ عَلىٰ مَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ بالنبوّة، ولا يخصّهم بتلك الكرامة إلا لخصائص فيهم ليست في أبناء جنسهم.

وَ مٰا صحّ لَنٰا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بالآية التي اقترحتموها إِلاّٰ بمشيئة اَللّٰهَ .

وَ عَلَى اَللّٰهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ أمر منهم للمؤمنين كافة بالتوكل وقصدوا بذلك أنفسهم، أي: ومن حقّنا أن نتوكل علي اللّه في الصبر علي معاداتكم وعنادكم، وأي عذر لَنٰا في أَلاّٰ نَتَوَكَّلَ عَلَى اَللّٰهِ وَ قَدْ فعل بنا ما يوجب توكلنا عليه، وهو التوفيق لهداية كل واحد منا إلي السبيل الذي يجب عليه سلوكه في الدين.

[سورة إبراهيم (14): الآیات 13 الی 16]

وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنٰا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنٰا فَأَوْحىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ اَلظّٰالِمِينَ وَ لَنُسْكِنَنَّكُمُ اَلْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذٰلِكَ لِمَنْ خٰافَ مَقٰامِي وَ خٰافَ وَعِيدِ وَ اِسْتَفْتَحُوا وَ خٰابَ كُلُّ جَبّٰارٍ عَنِيدٍ مِنْ

ص: 136

[سورة إبراهيم (14): الآیات 16 الی 18]

وَرٰائِهِ جَهَنَّمُ وَ يُسْقىٰ مِنْ مٰاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَ لاٰ يَكٰادُ يُسِيغُهُ وَ يَأْتِيهِ اَلْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكٰانٍ وَ مٰا هُوَ بِمَيِّتٍ وَ مِنْ وَرٰائِهِ عَذٰابٌ غَلِيظٌ مَثَلُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمٰالُهُمْ كَرَمٰادٍ اِشْتَدَّتْ بِهِ اَلرِّيحُ فِي يَوْمٍ عٰاصِفٍ لاٰ يَقْدِرُونَ مِمّٰا كَسَبُوا عَلىٰ شَيْ ءٍ ذٰلِكَ هُوَ اَلضَّلاٰلُ اَلْبَعِيدُ

أي: لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ بلادنا، إلا أن ترجعوا إلي أدياننا و مذاهبنا.

لَنُهْلِكَنَّ اَلظّٰالِمِينَ حكاية تقتضي إضمار القول أو أجري الإيحاء مجري القول، والمراد بالأرض: أرض الظالمين وديارهم. وفي الحديث: (من آذي جاره ورّثه اللّه داره)(1).

ذٰلِكَ إشارة إلى ما قضى اللّه به من الهلاك للظالمين وإسكان المؤمنين ديارهم، أي: ذلك الأمر حقّ .

لِمَنْ خٰافَ مَقٰامِي أي: موقفي وهو موقف الحساب، لأنه موقف اللّه الذي يقف فيه عباده، أو علي إقحام المقام.

وَ اِسْتَفْتَحُوا واستنصروا اللّه على أعدائهم، أو استحكموا اللّه وسألوه القضاء بينهم [وبين أعدائهم](2)، من الفتاحة وهي الحكومة، ومنه: رَبَّنَا اِفْتَحْ بَيْنَنٰا وَ بَيْنَ قَوْمِنٰا بِالْحَقِّ (3)، وهو عطف علي فَأَوْحىٰ إِلَيْهِمْ .

وَ خٰابَ كُلُّ جَبّٰارٍ عَنِيدٍ معناه: فنصروا وظفروا وخاب كل جبار

ص: 137


1- تفسير القمي ج 1:368 باختصار، التذكرة الحمدونية ج 1:185 باختلاف يسير.
2- ساقطة من أ، ب، ط.
3- الأعراف: 89.

وهم قومهم.

مِنْ وَرٰائِهِ من بين يدي هذا الجبار نار جَهَنَّمُ يلقى فيها ما يلقى.

وَ يُسْقىٰ مِنْ مٰاءٍ صَدِيدٍ هو عطف بيان، كأنّه قال: ويسقى من ماء، فأبهمه إبهاما ثمّ بيّنه بقوله: صَدِيدٍ وهوما يسيل من جلود أهل النار من الدم والقيح.

يَتَجَرَّعُهُ يتكلف جرعه وَ لاٰ يَكٰادُ يُسِيغُهُ دخل كاد للمبالغة، أي: ولا يقارب أن يسيغه فكيف تكون الإساغة، كقوله: لَمْ يَكَدْ يَرٰاهٰا (1) أي: لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها.

وَ يَأْتِيهِ اَلْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكٰانٍ كأنّ أسباب الموت قد أحاطت به من كل الجهات وَ مٰا هُوَ بِمَيِّتٍ فيستريح.

وَ مِنْ وَرٰائِهِ عَذٰابٌ غَلِيظٌ أي: ومن بين يديه عذاب أشدّ مما قبله وأغلظ.

مَثَلُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ مبتدأ محذوف الخبر عند سيبويه(2)، والتقدير: فيما نقصّ عليكم مثل الذين كفروا.

وقوله: أَعْمٰالُهُمْ كَرَمٰادٍ جملة مستأنفة علي تقدير جواب سائل يقول:

كيف مثلهم ؟ فقيل: أعمالهم كرماد، [أو يكون أَعْمٰالُهُمْ ](3) بدلا من مَثَلُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا ، والتقدير: مثل أعمال الذين كفروا كَرَمٰادٍ اِشْتَدَّتْ بِهِ اَلرِّيحُ فذرته وسفته فِي يَوْمٍ عٰاصِفٍ جعل العصف لليوم وهو لما فيه، كما تقول: يوم

ص: 138


1- النور: 40.
2- الكتاب ج 1:143.
3- ساقطة من أ.

ماطر.

و أَعْمٰالُهُمْ هي: المكارم التي كانت لهم من صلة الأرحام، وعتق الرقاب، وإغاثة الملهوفين، وإكرام الأضياف، وغير ذلك من صنائعهم، شبّهت في حبوطها وذهابها هباء منثورا لبنائها علي غير أساس من معرفة اللّه تعالي والإيمان به، برماد طيرته الريح العاصف.

لاٰ يَقْدِرُونَ يوم القيامة منها عَلىٰ شَيْ ءٍ كما لا يقدر من الرماد المطير علي شيء، يعني: لايرون لشيء منها ثوابا.

[سورة إبراهيم (14): الآیات 19 الی 21]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّٰهَ خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَ مٰا ذٰلِكَ عَلَى اَللّٰهِ بِعَزِيزٍ وَ بَرَزُوا لِلّٰهِ جَمِيعاً فَقٰالَ اَلضُّعَفٰاءُ لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا إِنّٰا كُنّٰا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنّٰا مِنْ عَذٰابِ اَللّٰهِ مِنْ شَيْ ءٍ قٰالُوا لَوْ هَدٰانَا اَللّٰهُ لَهَدَيْنٰاكُمْ سَوٰاءٌ عَلَيْنٰا أَ جَزِعْنٰا أَمْ صَبَرْنٰا مٰا لَنٰا مِنْ مَحِيصٍ

بِالْحَقِّ بالحكمة والغرض الصحيح ولم يخلقهما عبثا ولا شهوة، وقرئ:

خالق السماوات والأرض.

إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أي: يعدمكم ويخلق مكانكم خلقا آخرين.

وَ مٰا ذٰلِكَ عَلَى اَللّٰهِ بممتنع متعذّر، بل هو عليه هيّن يسير، لأنّه قادر لذاته، لا اختصاص له بمقدور دون مقدور.

وَ بَرَزُوا لِلّٰهِ ويبرزون يوم القيامة للّه، أي: يظهرون من قبورهم ويخرجون منها لحكم اللّه وحسابه.

ص: 139

و اَلضُّعَفٰاءُ الأتباع و العوام، والذين اِسْتَكْبَرُوا سادتهم وكبراؤهم الذين استتبعوهم واستغووهم وصدوهم عن اتباع الأنبياء واستماع كلامهم.

والتبع: جمع التابع، مثل: خادم وخدم وغائب وغيب.

قٰالُوا لَوْ هَدٰانَا اَللّٰهُ لَهَدَيْنٰاكُمْ أي: لو هدانا اللّه إلى طريق الخلاص من العقاب لهديناكم إلى ذلك.

سَوٰاءٌ عَلَيْنٰا أَ جَزِعْنٰا أَمْ صَبَرْنٰا مستويان علينا الجزع والصبر.

مٰا لَنٰا مِنْ مَحِيصٍ أي: منجى ومهرب.

[سورة إبراهيم (14): الآیات 22 الی 23]

وَ قٰالَ اَلشَّيْطٰانُ لَمّٰا قُضِيَ اَلْأَمْرُ إِنَّ اَللّٰهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ اَلْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَ مٰا كٰانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطٰانٍ إِلاّٰ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاٰ تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ مٰا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَ مٰا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمٰا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ اَلظّٰالِمِينَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ وَ أُدْخِلَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهٰا سَلاٰمٌ

يقول اَلشَّيْطٰانُ و هو إبليس، يقوم خطيبا في الأشقياء من الجن والإنس إذا قُضِيَ اَلْأَمْرُ أي: قطع وفرغ من الأمر وهو الحساب: إِنَّ اَللّٰهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ اَلْحَقِّ وهو البعث والجزاء علي الأعمال فوفى لكم بما وعدكم وَ وَعَدْتُكُمْ خلاف ذلك فَأَخْلَفْتُكُمْ ولم أوف لكم بما وعدتكم.

وَ مٰا كٰانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطٰانٍ أي: تسلّط وقهر، فأقسركم علي الكفر والمعاصي وأكرهكم عليها.

إِلاّٰ أَنْ دَعَوْتُكُمْ إلا دعائي إيّاكم إلى الضلال بوسوستي وتزييني، وليس

ص: 140

الدعاء من جنس السلطان، ولكنّه كقولهم: ما تحيتهم إلا الضرب.

فَلاٰ تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ حيث اغتررتم بي وأطعتموني إذ دعوتكم، ولم تطيعوا ربّكم إذ دعاكم.

مٰا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَ مٰا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ لا ينجي بعضنا بعضا من عذاب الله ولا يغيثه، والإصراخ: الإغاثة.

و (ما) في بِمٰا أَشْرَكْتُمُونِ مصدرية، يعني: كَفَرْتُ اليوم بإشراككم إيّاي مِنْ قَبْلُ هذا اليوم أي: في الدنيا، ونحوه: وَ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ (1)، ومعنى كفره بإشراكهم إيّاه: تبرؤه منه واستنكاره له.

وقيل: تعلّق مِنْ قَبْلُ ب - كَفَرْتُ ، و (ما) موصولة أي: كفرت من قبل حين أبيت السجود لآدم بالذي أشركتمونيه وهو اللّه جل جلاله، تقول: شركت زيدا، ثمّ تقول: أشركنيه فلان أي: جعلني له شريكا، وهذا آخر قول إبليس.

وقوله: إِنَّ اَلظّٰالِمِينَ قول اللّه عزّ وجل، ويحتمل أن يكون من جملة قول إبليس.

[سورة إبراهيم (14): الآیات 24 الی 27]

أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اَللّٰهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهٰا ثٰابِتٌ وَ فَرْعُهٰا فِي اَلسَّمٰاءِ تُؤْتِي أُكُلَهٰا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهٰا وَ يَضْرِبُ اَللّٰهُ اَلْأَمْثٰالَ لِلنّٰاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اُجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ اَلْأَرْضِ مٰا لَهٰا مِنْ قَرٰارٍ يُثَبِّتُ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ اَلثّٰابِتِ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ فِي اَلْآخِرَةِ

ص: 141


1- فاطر: 14.

[سورة إبراهيم (14): الآیات 27 الی 30]

وَ يُضِلُّ اَللّٰهُ اَلظّٰالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اَللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اَللّٰهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دٰارَ اَلْبَوٰارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهٰا وَ بِئْسَ اَلْقَرٰارُ وَ جَعَلُوا لِلّٰهِ أَنْدٰاداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى اَلنّٰارِ

ضَرَبَ اَللّٰهُ مَثَلاً أي: اعتمد مثلا ووضعه.

و كَلِمَةً منصوبة بفعل مضمر، أي: جعل كلمة طيبة كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ، وهو تفسير لقوله: ضَرَبَ اَللّٰهُ مَثَلاً كما تقول: أكرم الأمير زيدا: كساه حلّة وحمله علي فرس. ويجوز أن ينتصب مَثَلاً و كَلِمَةً ب - ضَرَبَ أي: ضرب كلمة طيبة مثلا، بمعنى: جعلها مثلا.

ثمّ قال: كَشَجَرَةٍ علي أنّها خير مبتدأ محذوف، أي: هي كشجرة طيبة.

أَصْلُهٰا ثٰابِتٌ في الأرض: ضارب بعروقه فيها وَ فَرْعُهٰا فِي اَلسَّمٰاءِ أي: في جهة العلو والصعود، أي: وفروعها، علي الاكتفاء بلفظ الجنس.

والكلمة الطيبة: كلمة التوحيد، وقيل: هي كل كلمة حسنة كالتسبيحة والتحميدة والتوبة والاستغفار، وأما الشجرة: فكل شجرة مثمرة طيبة الثمار كالنخلة والتين والرمان وغير ذلك، وعن ابن عباس: (شجرة في الجنّة)(1). وعن الباقر عليه السلام: (الشجرة: رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، و فرعها: عليّ ، وعنصر الشجرة: فاطمة، وثمرها: أولادها، وأغصانها وورقها: شيعتها)(2).

تُؤْتِي أُكُلَهٰا كُلَّ حِينٍ تعطي ثمرها كل وقت وقته اللّه لإثمارها،

ص: 142


1- تفسير الطبري ج 13:137.
2- معاني الأخبار: 380 وفيه: وغصن الشجرة بدل وعنصر الشجرة.

الصادق: (وعن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: أنا شجرة، وفاطمة فرعها، وعليّ لقاحها، والحسن والحسين ثمرها، وشيعتنا أوراقها)(1).

بِإِذْنِ رَبِّهٰا بتيسير خالقها وتكوينه.

كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ كمثل شجرة، أي: صفتها كصفتها. والكلمة الخبيثة:

كلمة الشرك، وقيل: كل كلمة قبيحة، وأما الشجرة الخبيثة: فكل شجرة لا يطيب ثمرها كشجرة الحنظل والكشوث(2). وقال الباقر عليه السلام: (بنو أمية)(3).

اُجْتُثَّتْ أي: استوصلت، وهي في مقابلة قوله: أَصْلُهٰا ثٰابِتٌ .

مٰا لَهٰا مِنْ قَرٰارٍ أي: استقرار، يقال: قرّ قرارا مثل: ثبت ثباتا، شبّه بها القول الذي لم يعضد بحجّة فهو داحض غير ثابت يضمحل عن قريب، ونحوه:

(الباطل لجلج)(4).

والقول اَلثّٰابِتِ الذي ثبت بالحجّة والبرهان في قلب صاحبه وتمكّن فيه واطمأنت إليه نفسه، وتثبيتهم به في الدنيا أنّهم إذا فتنوا في دينهم لم يزلّوا وَ فِي اَلْآخِرَةِ أنّهم إذا سئلوا في القبر عن معتقدهم ودينهم ونبيّهم يقول كل منهم: اللّه ربّي وديني الإسلام ونبيّي محمّد صلى الله عليه و آله و سلم، فيقول له الملكان: نم قرير العين نوم الشاب الناعم.

وَ يُضِلُّ اَللّٰهُ اَلظّٰالِمِينَ الذين لم يتمسّكوا بحجّة في دينهم، واقتصروا

ص: 143


1- شواهد التنزيل ج 1:312، أمالي الشيخ الطوسي ج 1:18.
2- الكشوث: نبت يتعلّق بأغصان الشجر من غير أن يضرب بعرق في الارض. (الصحاح: مادة كشث).
3- تفسير القمي ج 1:369.
4- مجمع الأمثال ج 1:367.

علي تقليد شيوخهم في الدنيا، فلا يثبتون في مواقف الفتن، وتزل أقدامهم عن الحقّ ، وهم في الآخرة أضل وأذل.

وَ يَفْعَلُ اَللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ ولا يشاء إلا ما توجبه الحكمة من تثبيت المؤمنين وتأييدهم وخذلان الظالمين.

بَدَّلُوا نِعْمَتَ اَللّٰهِ كُفْراً [أي: شكر نعمة اللّه كفرا](1) بأن وضعوه مكانه، وقيل: هم الأفجران من قريش: بنو أمية وبنو المغيرة، فأما بنو أمية فمتّعوا إلى حين، وأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر(2).

وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ ممن تابعهم علي الكفر دٰارَ اَلْبَوٰارِ أي: الهلاك.

جَهَنَّمَ عطف بيان ل - دٰارَ اَلْبَوٰارِ .

وقرئ: لِيُضِلُّوا بفتح الياء وضمها، ولما كان الضلال والإضلال نتيجة اتخاذ الأنداد أدخل اللام وإن لم يكن غرضا علي طريق التشبيه والتقريب.

تَمَتَّعُوا إيذان بأنّهم كأنّهم مأمورون بالتمتع لانغماسهم فيه، وأنّهم لا يعرفون غيره ولا يريدونه.

[سورة إبراهيم (14): الآیات 31 الی 33]

قُلْ لِعِبٰادِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ وَ يُنْفِقُوا مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ سِرًّا وَ عَلاٰنِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاٰ بَيْعٌ فِيهِ وَ لاٰ خِلاٰلٌ اَللّٰهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ اَلثَّمَرٰاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَلْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي اَلْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَلْأَنْهٰارَ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ دٰائِبَيْنِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهٰارَ

ص: 144


1- ساقطة من ب.
2- عن علي عليه السلام وعمر وغيرهما. تفسير الطبري ج 13:146.

[سورة إبراهيم (14): آیة 34]

وَ آتٰاكُمْ مِنْ كُلِّ مٰا سَأَلْتُمُوهُ وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اَللّٰهِ لاٰ تُحْصُوهٰا إِنَّ اَلْإِنْسٰانَ لَظَلُومٌ كَفّٰارٌ

المقول مخذوف، لأنّ جواب قُلْ يدلّ عليه، والتقدير: قُلْ لِعِبٰادِيَ أقيموا الصلاة وأنفقوا يُقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ وَ يُنْفِقُوا ، وقيل: هو بمعنى: ليقيموا ولينفقوا وهو المقول. وجاز حذف اللام لأنّ الأمر الذي هو قُلْ عوض منه، ولو قيل ابتداء: يُقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ وَ يُنْفِقُوا لم يجز.

وانتصب سِرًّا وَ عَلاٰنِيَةً علي الحال، بمعنى: مسرّين ومعلنين، أو علي الظرف أي: وقتي سرّ وعلانية، أو علي المصدر أي: إنفاق سرّ وإنفاق علانية.

والخلال: المخالة.

اَللّٰهِ مبتدأ، و اَلَّذِي خَلَقَ خبره، و مِنَ اَلثَّمَرٰاتِ بيان للرزق، أي:

أخرج به رزقا هو ثمرات، ويجوز أن يكون مِنَ اَلثَّمَرٰاتِ مفعول أَخْرَجَ ، و رِزْقاً حالا من المفعول، أو نصبا علي المصدر ل - (أخرج) لأنّه في معنى: رزق.

لِتَجْرِيَ فِي اَلْبَحْرِ بِأَمْرِهِ أي: بقوله: كن فيكون.

دٰائِبَيْنِ يدأبان في سيرهما، لا يفتران في منافع الخلق وإصلاح ما يصلحان من الأرض والأبدان والنبات.

وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهٰارَ يتعاقبان لمعاشكم وسباتكم.

وَ آتٰاكُمْ مِنْ كُلِّ مٰا سَأَلْتُمُوهُ من جميع ما سألتموه نظرا في مصالحكم، و مِنْ للتبعيض، وقيل: معناه: من كل شيء سألتموه ولم تسألوه(1)، فتكون مٰا موصوفة بالجملة وحذف ولم تسألوه، لأنّ ما أبقي

ص: 145


1- عن ركانة بن هاشم. تفسير الطبري ج 13:150.

يدلّ على ما ألقي، ومثله: سَرٰابِيلَ تَقِيكُمُ اَلْحَرَّ (1) وحذف (والبرد). و قرئ:

من كل - بالتنوين - وهو قراءة السيّدين: الباقر والصادق عليهما السلام، وعلى هذا فيكون مٰا سَأَلْتُمُوهُ نفيا ومحلّه نصب علي الحال، أي: آتاكم من جميع ذلك غير سائليه، أو تكون مٰا موصولة بمعنى: وآتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه، فكأنّكم سألتموه أو طلبتموه بلسان الحال.

لاٰ تُحْصُوهٰا أي: لا تعدّوها ولا تطيقوا حصرها.

لَظَلُومٌ للنعمة لا يشكرها كَفّٰارٌ يكفرها، أو ظلوم في الشدّة يشكو ويجزع، كفار في النعمة يجمع ويمنع.

[سورة إبراهيم (14): الآیات 35 الی 41]

وَ إِذْ قٰالَ إِبْرٰاهِيمُ رَبِّ اِجْعَلْ هَذَا اَلْبَلَدَ آمِناً وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنٰامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ اَلنّٰاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصٰانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ رَبَّنٰا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوٰادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ اَلْمُحَرَّمِ رَبَّنٰا لِيُقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ اَلنّٰاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ اُرْزُقْهُمْ مِنَ اَلثَّمَرٰاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ رَبَّنٰا إِنَّكَ تَعْلَمُ مٰا نُخْفِي وَ مٰا نُعْلِنُ وَ مٰا يَخْفىٰ عَلَى اَللّٰهِ مِنْ شَيْ ءٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ فِي اَلسَّمٰاءِ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى اَلْكِبَرِ إِسْمٰاعِيلَ وَ إِسْحٰاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ اَلدُّعٰاءِ رَبِّ اِجْعَلْنِي مُقِيمَ اَلصَّلاٰةِ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنٰا وَ تَقَبَّلْ دُعٰاءِ رَبَّنَا اِغْفِرْ لِي وَ لِوٰالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ اَلْحِسٰابُ

يريد اَلْبَلَدَ الحرام آمِناً ذا أمن، ويقال: جنّبه الشرّ وجنّبه الخير

ص: 146


1- النحل: 81.

وأجنبه، والمعنى: ثبّتني وَ بَنِيَّ على اجتناب عبادة اَلْأَصْنٰامَ وأراد بنيه من صلبه.

إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ اَلنّٰاسِ فأعوذ بك لأن تعصمني وبنيّ من ذلك، ومعنى إضلالهن الناس: إنّهم ضلوا بسببهن فكأنّهن أضللنهم، كما يقال: غرّته الدنيا بمعنى: اغتر بها وبسببها.

فَمَنْ تَبِعَنِي علي ملتي فَإِنَّهُ مِنِّي أي: هو بعضي، لاختصاصه بي وملابسته لي، ونحوه قوله عليه السلام: (من غشّنا فليس منا)(1) أي: ليس بعض المؤمنين، لأنّ الغش ليس من أفعالهم.

وَ مَنْ عَصٰانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ تستر علي العباد معاصيهم رَحِيمٌ بهم.

مِنْ ذُرِّيَّتِي أي: بعض أولادي وهو إسماعيل وأولاده.

بِوٰادٍ هو وادي مكة غَيْرِ ذِي زَرْعٍ لا يكون فيه شيء من زرع قط.

عِنْدَ بَيْتِكَ اَلْمُحَرَّمِ الذي لم يزل ممنّعا عزيزا يهابه كل جبار كالشيء المحرّم الذي حقّه أن يجتنب، أو جعل محرّما [علي الطوفان ممنوعا منه، كما سمّي عتيقا لأنّه أعتق منه، أو هو محرّم](2) محترم عظيم الحرمة لا يحلّ انتهاكها، وما حوله حرم لحرمته.

رَبَّنٰا لِيُقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ يتعلّق اللام ب - أَسْكَنْتُ أي: ما أسكنتهم بهذا الوادي إلا ليقيموا الصلاة عند بيتك المحرّم ويعمروه بذكرك وعبادتك.

فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ أفئدة اَلنّٰاسِ ، و مِنْ للتبعيض.

ص: 147


1- سنن الدارمي ج 2:248، الكافي ج 5:160 بالمعنى.
2- ساقطة من ج.

تَهْوِي إِلَيْهِمْ أي: تسرع إليهم وتفزع، وقرئ: تهوى إليهم، من هوى يهوى: إذا أحبّ ، ضمّن معنى تنزع فعدّي تعديته، وهي قراءة أهل البيت عليهم السلام.

وَ اُرْزُقْهُمْ مِنَ اَلثَّمَرٰاتِ مع سكناهم واديا ليس فيه شيء منها بأن تجلب إليهم من البلاد لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ النعمة في أن يرزقوا أنواع الثمرات حاضرة في واد يباب(1).

إِنَّكَ تَعْلَمُ مٰا نُخْفِي وَ مٰا نُعْلِنُ أي: تعلم السرّ كما تعلم العلن علما لا تفاوت فيه، فلا حاجة بنا إلى الدعاء والطلب، إنّما ندعوك إظهارا للعبودية لك، وافتقارا إلى ما عندك، واستعجالا لنيل مواهبك.

وَ مٰا يَخْفىٰ عَلَى اَللّٰهِ الذي هو علام الغيوب مِنْ شَيْ ءٍ فِي كل مكان من الأرض والسماء. و مِنْ للاستغراق.

عَلَى اَلْكِبَرِ أي: مع الكبر، كقول الشاعر:

إنّي على ما ترين من كبري *** أعلم من حيث يؤكل الكتف(2)

وهو في موضع الحال، أي: وهب لي وأنا كبير أو في حال الكبر.

إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ اَلدُّعٰاءِ أي: مجيبه و قابله، وهو إضافة الصفة إلى مفعولها، والأصل: لسميع الدعاء.

وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي أي: وبعض ذريتي عطفا علي الضمير المنصوب في اِجْعَلْنِي .

وَ تَقَبَّلْ دُعٰاءِ أي: عبادتي، أو وأجب دعائي، لأنّ قبول الدعاء:

ص: 148


1- يباب: خراب. (الصحاح: مادة يبب).
2- جمهرة الامثال ج 2:422 دون نسبة، وفيه: من أين....

الإجابة، وقبول الطاعة: الإثابة.

رَبَّنَا اِغْفِرْ لِي وَ لِوٰالِدَيَّ وفي هذا دلالة علي أنّ أبويه لم يكونا كافرين، و إنّما كان آزر عمّه أو جدّه لأمه على الخلاف فيه، لأنّه سأل المغفرة لهما يَوْمَ يَقُومُ اَلْحِسٰابُ وهو يوم القيامة. وقرئ: و لولديّ ، وهو قراءة أهل البيت عليهم السلام، وهما إسماعيل وإسحاق.

و يَقُومُ اَلْحِسٰابُ معناه: يثبت، وهو مستعار من قيام القائم علي الرجل، يدلّ عليه قولهم: قامت الحرب علي ساق، ويجوز أن يسند إلى الحساب قيام أهله إسنادا مجازيا، أو أن يكون مثل وَ سْئَلِ اَلْقَرْيَةَ (1).

[سورة إبراهيم (14): الآیات 42 الی 45]

وَ لاٰ تَحْسَبَنَّ اَللّٰهَ غٰافِلاً عَمّٰا يَعْمَلُ اَلظّٰالِمُونَ إِنَّمٰا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ اَلْأَبْصٰارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لاٰ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَ أَفْئِدَتُهُمْ هَوٰاءٌ وَ أَنْذِرِ اَلنّٰاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ اَلْعَذٰابُ فَيَقُولُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنٰا أَخِّرْنٰا إِلىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَ نَتَّبِعِ اَلرُّسُلَ أَ وَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مٰا لَكُمْ مِنْ زَوٰالٍ وَ سَكَنْتُمْ فِي مَسٰاكِنِ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَ تَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنٰا بِهِمْ وَ ضَرَبْنٰا لَكُمُ اَلْأَمْثٰالَ

هذا وعيد للظالم و تسلية للمظلوم.

تَشْخَصُ فِيهِ اَلْأَبْصٰارُ أي: أبصارهم لا تقرّ في أماكنها من هول ما تري في ذلك اليوم.

ص: 149


1- يوسف: 82.

مُهْطِعِينَ مسرعين إلي الداعي، وقيل: الإهطاع: أن تقبل ببصرك علي ما ترى تديم النظر إليه لا تطرف(1).

مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ رافعي رؤوسهم.

لاٰ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ لا ترجع إليهم أعينهم، فلا يغمضونها ولا يطبقونها لكنّها مفتوحة ممدودة من غير تحريك الأجفان.

وَ أَفْئِدَتُهُمْ هَوٰاءٌ أي خلاء خالية عن العقول، وصفت الأفئدة بالهواء إذا كان صاحبها لا قوة في قلبه ولا جرأة، قال حسان:

فأنت مجوّف نخب هواء(2)

وعن ابن جريج: (هواء: صفر من الخير خاوية منه)(3).

يَوْمَ يَأْتِيهِمُ اَلْعَذٰابُ مفعول ثان ل - أَنْذِرِ و هو يوم القيامة.

أَخِّرْنٰا إِلىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ردّنا إلى الدنيا و أمهلنا إلي أمد من الزمان قريب نتدارك ما فرطنا فيه من إجابة دعوتك واتباع رسلك، و يجوز أن يكون المراد يوم هلاكهم بالعذاب العاجل، أو يوم موتهم معذّبين فيسألون يومئذ تأخيرهم إلى أجل كما في قوله: لَوْ لاٰ أَخَّرْتَنِي إِلىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ (4).

أَ وَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ علي إرادة القول، أي: حلفتم مٰا لَكُمْ مِنْ انتقال إلى دار أخري، أو قلتم ذلك بلسان الحال حيث بنيتم شديدا وأمّلتم

ص: 150


1- عن ابن عباس وغيره. تفسير الطبري ج 13:157.
2- ديوان حسان بن ثابت ج 1:18، وصدره: ألا أبلغ أبا سفيان عني.
3- الكشاف ج 2:564.
4- المنافقين: 10.

بعيدا. و مٰا لَكُمْ جواب القسم وإن جاء بلفظ الخطاب.

يقال: سكن الدار وسكن فيها، من السكنى أو من السكون، أي: اطمأننتم فيها طيبي النفوس سائرين سيرة من قبلكم في الظلم. وَ تَبَيَّنَ لَكُمْ با لإخبار و المشاهدة كَيْفَ أهلكناهم وَ ضَرَبْنٰا لَكُمُ اَلْأَمْثٰالَ فلم تعتبروا.

[سورة إبراهيم (14): الآیات 46 الی 52]

وَ قَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَ عِنْدَ اَللّٰهِ مَكْرُهُمْ وَ إِنْ كٰانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ اَلْجِبٰالُ فَلاٰ تَحْسَبَنَّ اَللّٰهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اَللّٰهَ عَزِيزٌ ذُو اِنتِقٰامٍ يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ وَ اَلسَّمٰاوٰاتُ وَ بَرَزُوا لِلّٰهِ اَلْوٰاحِدِ اَلْقَهّٰارِ وَ تَرَى اَلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي اَلْأَصْفٰادِ سَرٰابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرٰانٍ وَ تَغْشىٰ وُجُوهَهُمُ اَلنّٰارُ لِيَجْزِيَ اَللّٰهُ كُلَّ نَفْسٍ مٰا كَسَبَتْ إِنَّ اَللّٰهَ سَرِيعُ اَلْحِسٰابِ هٰذٰا بَلاٰغٌ لِلنّٰاسِ وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ وَ لِيَعْلَمُوا أَنَّمٰا هُوَ إِلٰهٌ وٰاحِدٌ وَ لِيَذَّكَّرَ أُولُوا اَلْأَلْبٰابِ

وَ قَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ العظيم.

وَ عِنْدَ اَللّٰهِ مَكْرُهُمْ يمكن أن يكون مضافا إلي الفاعل كالأوّل، والمعنى:

وعند اللّه مكرهم يجازيهم عليه، وأن يكون مضافا إلى المفعول، والمعنى: وعند اللّه مكرهم الذي يمكرهم به وهو عذابهم الذي يأتيهم من حيث لا يشعرون.

وَ إِنْ كٰانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ اَلْجِبٰالُ أي: وإن كان مكرهم لعظمه وكبره يكاد يزيل الجبال عن أماكنها. وعلي هذا تكون (إن) هي المخففة من الثقيلة، واللام في لِتَزُولَ هي الفارقة. وقد جعلت (إن) نافية واللام مؤكدة لها، كقوله: وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ لِيُضِيعَ إِيمٰانَكُمْ (1)، أي: وما كان مكرهم لتزول منه

ص: 151


1- البقرة: 143.

ما هو مثل الجبال من دلائل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وشرائعه في الثبات والتمكّن. وقرأ عليّ عليه السلام وعمر وابن مسعود: وإن كاد مكرهم.

فَلاٰ تَحْسَبَنَّ اَللّٰهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ مثل قوله: إِنّٰا لَنَنْصُرُ رُسُلَنٰا (1)، كَتَبَ اَللّٰهُ لَأَغْلِبَنَّ [أَنَا وَ رُسُلِي (2)، وقدّم الوعد ليعلم أنّه لا يخلف الوعد أصلا، ثمّ قال](3): رُسُلَهُ ليؤذن أنّه إذا لم يخلف أحدا وعده، فكيف يخلفه رسله الذين هم خيرته من عباده ؟!.

يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ بدل من يَوْمَ يَأْتِيهِمْ أو على الظرف للانتقام، والمعنى: يوم تبدّل هذه الأرض التي تعرفونها أرضا أخرى غيرها، وكذلك اَلسَّمٰاوٰاتُ . والتبديل: التغيير، وقد يكون في الذوات كقولك: بدّلت الدراهم دنانير، ومنه: بَدَّلْنٰاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهٰا (4)، وَ بَدَّلْنٰاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ (5)، وقد يكون في الأوصاف كقولك: بدّلت الحلقة خاتما: إذا أذبتها وسويتها خاتما فنقلتها من شكل إلى شكل. واختلف في تبديل الأرض والسماوات، فقيل: تبدّل أوصافها فتسير علي الأرض جبالها، وتفجّر بحارها، وتسوّى فلا يري فيها عوج ولا أمت(6)، وقيل: تخلق أرض وسماوات أخر(7).

مُقَرَّنِينَ قرن بعضهم مع بعض ومع الشياطين، أو مغللين قرنت أيديهم

ص: 152


1- غافر: 51.
2- المجادلة: 21.
3- ساقطة من ج.
4- النساء: 56.
5- سبأ: 16.
6- عن ابن عباس. الدر المنثور ج 4:91.
7- عن مجاهد. تفسير الطبري ج 13:164.

إلى أرجلهم فِي اَلْأَصْفٰادِ أي: الأغلال.

سَرٰابِيلُهُمْ أي: قميصهم مِنْ قَطِرٰانٍ وهو ما يطلى به الإبل الجربى فيحرق الجرب والجلد. و قرئ: من قطران، والقطر: النحاس أو الصفر المذاب، و الآني: المتناهي حرّه.

وَ تَغْشىٰ وُجُوهَهُمُ اَلنّٰارُ خصّ الوجوه لأنّ الوجه أعزّ موضع في ظاهر البدن وأشرفه كالقلب في باطنه، ولذلك قال: تَطَّلِعُ عَلَى اَلْأَفْئِدَةِ (1).

لِيَجْزِيَ اَللّٰهُ هومن صلة قوله: وَ تَرَى اَلْمُجْرِمِينَ أي: يفعل بهم ما يفعل ليجزي اللّه كُلَّ نَفْسٍ مٰا كَسَبَتْ .

هٰذٰا بَلاٰغٌ لِلنّٰاسِ أي: كفاية للتذكير والموعظة، ويعني بها ما وصفه من قوله: فَلاٰ تَحْسَبَنَّ إلى قوله: سَرِيعُ اَلْحِسٰابِ .

وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ معطوف علي محذوف، أي: لينصحوا ولينذروا به أي:

بهذا البلاغ وَ لِيَعْلَمُوا أَنَّمٰا هُوَ إِلٰهٌ وٰاحِدٌ لأنّ الخوف يدعو إلى النظر الموصل إلى التوحيد، وقيل: معناه: هذا القرآن عظة با لغة كافية للناس، أنزل ليبلّغوا [ولينذروا بما فيه من الوعيد، وليعلموا](2) أنّما هو إله واحد بالنظر في الأدلة المؤدية إلى التوحيد المثبتة في القرآن، وليتذكر وليتعظ به أُولُوا اَلْأَلْبٰابِ ذوو العقول والنهى.

ص: 153


1- الهمزة: 7.
2- ساقطة من ج.

سورة الحجر

اشارة

مكية، وهي تسع وتسعون آية بلا خلاف.

في حديث أبيّ : (من قرأها أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد المهاجرين وا لأنصار والمستهزئين بمحمّد صلى الله عليه و آله و سلم)(1).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة الحجر (15): الآیات 1 الی 8]

الر تِلْكَ آيٰاتُ اَلْكِتٰابِ وَ قُرْآنٍ مُبِينٍ رُبَمٰا يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كٰانُوا مُسْلِمِينَ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَ يَتَمَتَّعُوا وَ يُلْهِهِمُ اَلْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَ مٰا أَهْلَكْنٰا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاّٰ وَ لَهٰا كِتٰابٌ مَعْلُومٌ مٰا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهٰا وَ مٰا يَسْتَأْخِرُونَ وَ قٰالُوا يٰا أَيُّهَا اَلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ مٰا تَأْتِينٰا بِالْمَلاٰئِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّٰادِقِينَ مٰا نُنَزِّلُ اَلْمَلاٰئِكَةَ إِلاّٰ بِالْحَقِّ وَ مٰا كٰانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ

رُبَمٰا قرئ بتشديد الباء وتخفيفها، ودخلت علي الفعل المضارع وإن كانت إنّما تدخل علي الماضي، فإنّها إنّما تدلّ علي أمر قد مضى، لأنّ المترقب في إخبار اللّه عزّوجل بمنزلة الماضي المقطوع به في التحقق، فكأنّه قال: ربّما ودّوا. والمعنى:

ص: 154


1- الكشف والبيان ج 5:330.

ربّما يتمنى الكفار يوم القيامة إذا عاينوا حالهم وحال المسلمين، [فقالوا: يا ليتنا كنا مسلمين](1). وروي: أنّ ذلك يكون إذا رأوا المسلمين يخرجون من النار(2).

و لَوْ كٰانُوا مُسْلِمِينَ حكاية ودادتهم.

ذَرْهُمْ أي: اقطع طمعك منهم ودعهم عن النهي عما هم عليه وخلّهم يَأْكُلُوا وَ يَتَمَتَّعُوا بدنياهم، و يشغلهم أملهم الكاذب عن اتباعك فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ سوء صنيعهم. وهذا إيذان بأنّهم لا ينفعهم الوعظ ولا ينجع فيهم النصح، ومبالغة في الإنذار وإلزام للحجّة.

إِلاّٰ وَ لَهٰا كِتٰابٌ صفة ل - قَرْيَةٍ ، والقياس أن لا يتوسط الواو بينهما كما في قوله: وَ مٰا أَهْلَكْنٰا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاّٰ لَهٰا مُنْذِرُونَ (3)، وإنّما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف، كما تقول في الحال: جاءني زيد عليه ثوب، وجاءني وعليه ثوب. ومعناه:

مكتوب مَعْلُومٌ وهو أجلها الذي كتب في اللوح، ألا تري إلى قوله: مٰا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهٰا في موضع كتابها، و أنّث الأمة أوّلا ثمّ ذكّرها ثانيا حملا على اللفظ والمعنى، وأراد: وَ مٰا يَسْتَأْخِرُونَ عنه فحذف.

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلذِّكْرُ كان هذا النداء منهم علي وجه الاستهزاء، كما قال فرعون: إِنَّ رَسُولَكُمُ اَلَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (4). والمعنى: إنّك لتقول قول المجانين حين تدّعي أنّ اللّه تعالى نزّل عليك الذكر.

وركبت لَوْ مع لا و مٰا لمعنيين: أحدهما: امتناع الشيء لوجود

ص: 155


1- ساقطة من أ، ط.
2- الدر المنثور ج 4:92.
3- الشعراء: 208.
4- الشعراء: 27.

غيره، و الآخر: التحضيض، وأما (هل) فلم تركب إلا مع (لا) وحدها للتحضيض، قال ابن مقبل:

لوما الحياء و لو ما الدّين عبتكما *** ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري(1)

والمعنى: هلا تأتينا بالملائكة يشهدون بصدقك، أو هلا يأتوننا الملائكة للعقاب علي تكذيبنا إيّاك.

ما تنزل، أي: ما تتنزل الملائكة، و قرئ: نُنَزِّلُ بالنونين اَلْمَلاٰئِكَةَ بالنصب، وقرئ: تنزل الملائكة، علي البناء للمفعول.

إِلاّٰ بِالْحَقِّ إلا تنزيلا ملتبسا بالحقّ أي: بالحكمة والمصلحة، وقيل:

بالوحي أو بالعذاب(2).

و إِذاً جواب وجزاء، والتقدير: لو نزّلنا الملائكة ما كانوا مُنْظَرِينَ أي: مؤخّرين ممهلين، والمعنى: لا نمهلهم ساعة.

[سورة الحجر (15): الآیات 9 الی 16]

إِنّٰا نَحْنُ نَزَّلْنَا اَلذِّكْرَ وَ إِنّٰا لَهُ لَحٰافِظُونَ وَ لَقَدْ أَرْسَلْنٰا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ اَلْأَوَّلِينَ وَ مٰا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّٰ كٰانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ كَذٰلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ اَلْمُجْرِمِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ قَدْ خَلَتْ سُنَّةُ اَلْأَوَّلِينَ وَ لَوْ فَتَحْنٰا عَلَيْهِمْ بٰاباً مِنَ اَلسَّمٰاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقٰالُوا إِنَّمٰا سُكِّرَتْ أَبْصٰارُنٰا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ وَ لَقَدْ جَعَلْنٰا فِي اَلسَّمٰاءِ بُرُوجاً وَ زَيَّنّٰاهٰا

ص: 156


1- ديوان ابن مقبل: 76، وفيه: لولا الحياء....
2- عن مجاهد. تفسير الطبري ج 14:6.

[سورة الحجر (15): الآیات 16 الی 18]

لِلنّٰاظِرِينَ وَ حَفِظْنٰاهٰا مِنْ كُلِّ شَيْطٰانٍ رَجِيمٍ إِلاّٰ مَنِ اِسْتَرَقَ اَلسَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهٰابٌ مُبِينٌ

هذا ردّ لإنكارهم واستهزائهم في قولهم: يٰا أَيُّهَا اَلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلذِّكْرُ ، ولذلك قال: إِنّٰا نَحْنُ فأكّد عليهم إنّه هو المنزّل للقرآن علي القطع والثبات، وإنّه حافظه من كل زيادة ونقصان وتغيير وتحريف، بخلاف الكتب المتقدّمة فإنّه لم يتول حفظها و إنّما استحفظها الربّانيين ولم يكل القرآن إلى غير حفظه، وعن الفراء:

(يجوز أن يكون الضمير في لَهُ لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم)(1)، كقوله: وَ اَللّٰهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنّٰاسِ (2).

فِي شِيَعِ اَلْأَوَّلِينَ أي: في فرقهم وطوائفهم، والشيعة: الفرقة إذا اتفقوا في مذهب وطريقة، أي: نبأنا من قبلك رسلا فيهم.

وَ مٰا يَأْتِيهِمْ حكاية حال ماضية، لأنّ (ما) لا يدخل علي مضارع إلا وهو في معنى الحال، ولا علي ماض إلا وهو قريب من الحال.

و الضمير في نَسْلُكُهُ للذكر، وسلكت الخيط في الإبرة وأسلكته:

أدخلته فيها ونظمته، أي: مثل ذلك السلك ونحوه نسلك الذكر فِي قُلُوبِ اَلْمُجْرِمِينَ ، علي معنى: إنّه يلقيه في قلوبهم مكذبا به غير مقبول، كما لو أنزلت بلئيم حاجة فلم يجبك إليها تقول: كذلك أنزلها باللئام، يعني: هذا الإنزال أنزلها بهم مردودة غير مقضية.

و لاٰ يُؤْمِنُونَ بِهِ في محلّ النصب على الحال أي: غير مؤمنين به، أو هو بيان

ص: 157


1- معاني القرآن للفراء ج 2:85.
2- المائدة: 67.

لقوله: كَذٰلِكَ نَسْلُكُهُ .

وَ قَدْ خَلَتْ سُنَّةُ اَلْأَوَّلِينَ أي: طريقتهم التي سنّها اللّه في إهلاكهم حين كذّبوا رسلهم، وهو وعيد.

وقرئ: يَعْرُجُونَ بضم الراء وكسرها.

و سُكِّرَتْ بالتثقيل والتخفيف، والمعنى: حبست عن الإبصار، من السكر أو السكر، أي: كما يحبس النهر من الجري، يريد: إنّ هؤلاء المشركين بلغ من عنادهم أن لو فتح لهم باب من أبواب السماء، ويسّر لهم معراج يصعدون فيه إليها لقالوا: هو شيء خيّل إلينا علي غير حقيقة، بل قالوا: قد سحرنا محمّد بذلك، وقيل:

الضمير للملائكة(1)، أي: لو أريناهم الملائكة يصعدون في السماء عيانا لَقٰالُوا ذلك. وذكر ظلوا ليجعل عروجهم بالنهار ليكونوا مستوضحين لما يرونه، وقال: إِنَّمٰا ليدلّ علي أنّهم يقطعون بأنّ ذلك ليس إلا تسكيرا لأبصارهم.

مَنِ اِسْتَرَقَ في محلّ النصب علي الاستثناء. عن ابن عباس: (إنّهم كانوا لا يحجبون عن السماوات، فلما ولد عيسى منعوا من ثلاث سماوات، فلما ولد محمّد صلى الله عليه و آله و سلم منعوا من السماوات كلها)(2).

شِهٰابٌ مُبِينٌ أي: ظاهر للمبصرين.

[سورة الحجر (15): الآیات 19 الی 21]

وَ اَلْأَرْضَ مَدَدْنٰاهٰا وَ أَلْقَيْنٰا فِيهٰا رَوٰاسِيَ وَ أَنْبَتْنٰا فِيهٰا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْزُونٍ وَ جَعَلْنٰا لَكُمْ فِيهٰا مَعٰايِشَ وَ مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرٰازِقِينَ وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّٰ عِنْدَنٰا خَزٰائِنُهُ وَ مٰا نُنَزِّلُهُ إِلاّٰ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ

ص: 158


1- عن ابن عباس وغيره. تفسير الطبري ج 14:8.
2- الكشف والبيان ج 5:333.

[سورة الحجر (15): الآیات 22 الی 25]

وَ أَرْسَلْنَا اَلرِّيٰاحَ لَوٰاقِحَ فَأَنْزَلْنٰا مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً فَأَسْقَيْنٰاكُمُوهُ وَ مٰا أَنْتُمْ لَهُ بِخٰازِنِينَ وَ إِنّٰا لَنَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ نَحْنُ اَلْوٰارِثُونَ وَ لَقَدْ عَلِمْنَا اَلْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَ لَقَدْ عَلِمْنَا اَلْمُسْتَأْخِرِينَ وَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ

مَدَدْنٰاهٰا بسطناها وجعلنا لها طولا وعرضا رَوٰاسِيَ جبالا ثابتة.

و الموزون: المقدر المعلوم، وزن بميزان الحكمة، أو الذي له وزن وقدر في أبواب المنفعة، وقيل: هو ما يوزن نحو الذهب والفضة وغيرهما(1).

مَعٰايِشَ بياء صريحة بخلاف الشمائل ونحوها فإنّها تهمز وتصريح الياء فيها خطأ، أو يخرج الياء بين بين.

وَ مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرٰازِقِينَ عطف علي مَعٰايِشَ أو علي محلّ لَكُمْ ، كأنّه قيل: وجعلنا لكم فيها معايش وجعلنا لكم من لستم له برازقين، وأراد بهم العيال والمماليك الذين يحسبون أنّهم يرزقونهم وإنّما اللّه رازقهم وإياهم. ولا يجوز أن يكون مجرورا عطفا علي الضمير المجرور في لَكُمْ .

وما مِنْ شَيْ ءٍ ينتفع به العباد إِلاّٰ ونحن قادرون علي إيجاده وتكوينه، وضرب الخزائن مثلا لاقتداره علي كل مقدور.

وَ مٰا نُنَزِّلُهُ أي: وما نعطيه إِلاّٰ بمقدار مَعْلُومٍ نعلم أنّه مصلحة لهم.

لَوٰاقِحَ فيه قولان: أحدهما: أنّ معناها الملاقح، جمع ملقحة، كما قال الشاعر:

ص: 159


1- عن ابن زيد. تفسير الطبري ج 14:12.

ومختبط ممّا تطيح الطّوائح(1)

أراد المطاوح جمع مطيحة.

والثاني: أنّه يقال: ريح لاقح: إذا جاءت بخير، وضدّها العقيم، ونحوه:

سحاب ماطر.

فَأَسْقَيْنٰاكُمُوهُ فجعلناه لكم سقيا.

وَ مٰا أَنْتُمْ لَهُ بِخٰازِنِينَ نفى عنهم ما أثبته لنفسه في قوله: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّٰ عِنْدَنٰا خَزٰائِنُهُ أي: نحن الخازنون للماء، القادرون علي خلقه في السماء و إنزاله منها، ولا تقدرون علي ذلك.

وَ نَحْنُ اَلْوٰارِثُونَ الباقون بعد هلاك الخلق كله، وهو استعارة من وارث الميت، لأنّه يبقى بعد فناء الموروث منه. وفي حديثه صلوات اللّه عليه وآله: (اللهم متّعنا بأبصارنا وأسماعنا واجعله الوارث منا)(2).

وَ لَقَدْ عَلِمْنَا من استقدم ولادة وموتا و من استأخر، أي: تأخّر من الأوّلين والآخرين، أو من خرج من أصلاب الرجال و من لم يخرج بعد، أو من تقدّم في الإسلام، أو في صف الجماعة و من تأخّر.

هُوَ يَحْشُرُهُمْ أي: هو وحده القادر علي حشرهم، والعالم بحصرهم مع كثرتهم ووفور عدتهم.

إِنَّهُ حَكِيمٌ باهر الحكمة عَلِيمٌ واسع العلم، أحاط بكل شيء علما.

ص: 160


1- البيت لنهشل بن حري. خزانة الأدب ج 1:297، وصدره: ليبك يزيد ضارع لخصومه.
2- كتاب الزهد والرقائق: 145، وينظر: الكافي ج 2:578.

[سورة الحجر (15): الآیات 26 الی 40]

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسٰانَ مِنْ صَلْصٰالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ وَ اَلْجَانَّ خَلَقْنٰاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نٰارِ اَلسَّمُومِ وَ إِذْ قٰالَ رَبُّكَ لِلْمَلاٰئِكَةِ إِنِّي خٰالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصٰالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذٰا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سٰاجِدِينَ فَسَجَدَ اَلْمَلاٰئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاّٰ إِبْلِيسَ أَبىٰ أَنْ يَكُونَ مَعَ اَلسّٰاجِدِينَ قٰالَ يٰا إِبْلِيسُ مٰا لَكَ أَلاّٰ تَكُونَ مَعَ اَلسّٰاجِدِينَ قٰالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصٰالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ قٰالَ فَاخْرُجْ مِنْهٰا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَ إِنَّ عَلَيْكَ اَللَّعْنَةَ إِلىٰ يَوْمِ اَلدِّينِ قٰالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ قٰالَ فَإِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ إِلىٰ يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ قٰالَ رَبِّ بِمٰا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاّٰ عِبٰادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ

الصلصال: الطين اليابس الذي يصلصل وهو غير مطبوخ، فإذا طبخ فهو فخار. والحمأ: الطين الأسود المتغير، والمسنون: المصور، وسنة الوجه: صورته، وقيل: هو المصبوب المفرغ كأنّه أفرغ حتى صار صورة(1)، وحقّ مَسْنُونٍ - بمعنى: مصوّر - أن يكون صفة ل - صَلْصٰالٍ ، كأنّه أفرغ الحمأ فصوّر منها تمثال إنسان أجوف فيبس حتى إذا نقر صلصل، ثمّ غير بعد ذلك فصير إنسانا.

وَ اَلْجَانَّ للجن كادم للناس.

مِنْ نٰارِ اَلسَّمُومِ من نار الحر الشديد النافذ في المسام.

و اذكر إِذْ قٰالَ رَبُّكَ وقت قوله: فَإِذٰا سَوَّيْتُهُ وَ أي: عدّلت خلقته

ص: 161


1- مجاز القران ج 1:351.

وأكملتها وهيأتها لنفخ الروح فيها.

وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي معناه: أحييته، وليس ثمّ نفخ ولا منفوخ فيها، و إنّما هو تمثيل لتحصيل ما يحيى به فيه.

مٰا لَكَ أَلاّٰ تَكُونَ حذف حرف الجر مع (أن) والتقدير: مالك في أن لا تكون مَعَ اَلسّٰاجِدِينَ ، والمعنى: أي غرض لك في إبائك السجود، وأي داع لك إليه ؟.

لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ [اللام لتأكيد النفي، أي: لا يصحّ مني أن أسجد ويستحيل مني ذلك](1).

رَجِيمٌ مرجوم، ملعون، مطرود من الرحمة، مبعد منها، و الضمير في مِنْهٰا يعود إلى الجنّة، أو إلي السماء، أو إلى الملائكة.

و يَوْمِ اَلدِّينِ و يَوْمِ يُبْعَثُونَ و يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ في معنى واحد، خولف بين العبارات سلوكا لطريق البلاغة، وقيل: إنّما سأل الإنظار إلى اليوم الذي فيه يبعثون لئلا يموت، لأنّه لا يموت يوم البعث أحد، فلم يجب إلى ذلك وأنظر إلى آخر أيّام التكليف.

بِمٰا أَغْوَيْتَنِي الباء للقسم و (ما) مصدرية، وجواب القسم لَأُزَيِّنَنَّ ، والمعنى: أقسم بإغوائك إيّاي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ ، ومعنى إغوائه إيّاه: تسبيبه لغيّه بأن أمره بالسجود لآدم فأفضى ذلك إلى غيّه، وما الأمر بالسجود إلا حسن وتعريض للثواب بالتواضع والخضوع لأمر الله، ولكن الملعون اختار الاستكبار فهلك وغوي باختياره.

ص: 162


1- ساقطة من ج.

ويجوز أن لا يكون بِمٰا أَغْوَيْتَنِي قسما ويقدّر قسم محذوف، ويكون المعنى: بسبب تسبيبك لإغوائي أقسم لأفعلن بهم نحو ما فعلت بي من التسبيب لإغوائهم، بأن أزيّن لهم المعاصي وأوسوس إليهم ما يكون سبب هلاكهم.

فِي اَلْأَرْضِ أي: في الدنيا التي هي دار الغرور، كقوله تعالى: أَخْلَدَ إِلَى اَلْأَرْضِ [وَ اِتَّبَعَ هَوٰاهُ (1)، أو أراد: لأجعلن مكان التزيين عندهم الأرض](2)

ولأوقعن تزييني فيها، أي: لأزيننها في أعينهم حتى يستحبّوها علي الآخرة ويطمئنوا إليها. ثمّ استثنى اَلْمُخْلَصِينَ لأنّه علم أنّهم لا يقبلون قوله.

[سورة الحجر (15): الآیات 41 الی 50]

قٰالَ هٰذٰا صِرٰاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبٰادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطٰانٌ إِلاّٰ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْغٰاوِينَ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهٰا سَبْعَةُ أَبْوٰابٍ لِكُلِّ بٰابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي جَنّٰاتٍ وَ عُيُونٍ اُدْخُلُوهٰا بِسَلاٰمٍ آمِنِينَ وَ نَزَعْنٰا مٰا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوٰاناً عَلىٰ سُرُرٍ مُتَقٰابِلِينَ لاٰ يَمَسُّهُمْ فِيهٰا نَصَبٌ وَ مٰا هُمْ مِنْهٰا بِمُخْرَجِينَ نَبِّئْ عِبٰادِي أَنِّي أَنَا اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ وَ أَنَّ عَذٰابِي هُوَ اَلْعَذٰابُ اَلْأَلِيمُ

أي: هٰذٰا طريق حقّ عَلَيَّ أن أراعيه، وهو أن لا يكون لك سُلْطٰانٌ علي عبادي إلا من اختار منهم متابعتك لغوايته. وقرئ: صراط عليّ ، وهو من علو الشرف والفضل.

لَمَوْعِدُهُمْ الضمير ل - اَلْغٰاوِينَ .

ص: 163


1- الأعراف: 176.
2- ساقطة من ج.

وأبواب جهنم: أطباقها، بعضها فوق بعض.

جُزْءٌ مَقْسُومٌ أي: نصيب مفروض.

والمتقون: الذين يتقون ما يجب عليهم اتقاؤه مما نهوا عنه، يقال لهم: اُدْخُلُوهٰا بِسَلاٰمٍ أي: سالمين مسلّمين من الآفات آمِنِينَ من الإخراج منها.

والغل: الحقد الكامن في القلب، معناه: وأزلنا ما كان في قلوبهم من أسباب العداوة في الدنيا، وقيل: معناه: طهّرنا قلوبهم من أن يتحاسدوا علي الدرجات في الجنة.

و إِخْوٰاناً نصب علي الحال، و عَلىٰ سُرُرٍ مُتَقٰابِلِينَ كذلك: أي: كائنين علي مجالس السرور متواجهين ينظر بعضهم إلى وجه بعض.

لاٰ يَمَسُّهُمْ فِيهٰا تعب وعناء.

ثمّ قرر ما ذكره من الوعد ومكّنه في نفوسهم بقوله: نَبِّئْ عِبٰادِي أَنِّي أَنَا وحدي اَلْغَفُورُ للذنوب اَلرَّحِيمُ الكثير الرحمة وَ أَنَّ عَذٰابِي هو المستأهل لأن يسمّى أليما، فارجوا رحمتي وخافوا عذابي.

[سورة الحجر (15): الآیات 51 الی 60]

وَ نَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرٰاهِيمَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقٰالُوا سَلاٰماً قٰالَ إِنّٰا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قٰالُوا لاٰ تَوْجَلْ إِنّٰا نُبَشِّرُكَ بِغُلاٰمٍ عَلِيمٍ قٰالَ أَ بَشَّرْتُمُونِي عَلىٰ أَنْ مَسَّنِيَ اَلْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قٰالُوا بَشَّرْنٰاكَ بِالْحَقِّ فَلاٰ تَكُنْ مِنَ اَلْقٰانِطِينَ قٰالَ وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ اَلضّٰالُّونَ قٰالَ فَمٰا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا اَلْمُرْسَلُونَ قٰالُوا إِنّٰا أُرْسِلْنٰا إِلىٰ قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلاّٰ آلَ لُوطٍ إِنّٰا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ اِمْرَأَتَهُ قَدَّرْنٰا إِنَّهٰا لَمِنَ اَلْغٰابِرِينَ

ص: 164

وَ نَبِّئْهُمْ عطف علي نَبِّئْ عِبٰادِي ، أي: وأخبرهم عنهم ليتخذوا ما أحلّ بقوم لوط من العذاب عبرة يعتبرون بها سخط اللّه وانتقامه من المجرمين، ويتحقّقوا عنده أنّ عذابه هو العذاب الأليم.

فَقٰالُوا سَلاٰماً أي: نسلّم عليك سلاما، أو سلّمت سلاما.

فَقٰالُوا إبراهيم إِنّٰا مِنْكُمْ وَجِلُونَ أي: خائفون، وكان خوفه لأنّهم دخلوا بغير إذن وبغير وقت، أو لامتناعهم من الأكل.

إِنّٰا نُبَشِّرُكَ استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل، المعنى: إنّك آمن مبشّر فلا توجل.

قٰالَ أَ بَشَّرْتُمُونِي مع مس اَلْكِبَرُ بأن يولد لي ؟ أي: أنّ الولادة أمر عجيب مع الكبر.

فَبِمَ تُبَشِّرُونَ وهي (ما) الاستفهامية دخلها معنى التعجب، كأنّه قال:

فبأي أعجوبة تبشّرون ؟!. وقرئ بفتح النون وكسرها، علي حذف نون الجمع، والأصل تبشّرون، و قرئ بإثبات الياء تبشّروني، وتبشرونّ - بإدغام نون الجمع في نون العماد -.

قٰالُوا بَشَّرْنٰاكَ بِالْحَقِّ أي: باليقين الذي لا لبس فيه فَلاٰ تَكُنْ مِنَ اَلْقٰانِطِينَ أي: الآيسين. و قرئ: يَقْنَطُ بكسر النون وفتحها.

إِلاَّ اَلضّٰالُّونَ أي: المخطئون سبيل الصواب، يعني: لم أستنكره قنوطا من رحمته ولكن استبعادا له في العادة الجارية بين الخلق.

فَمٰا خَطْبُكُمْ أي: فما شأنكم الذي بعثتم له ؟.

وقوله: إِلاّٰ آلَ لُوطٍ إن كان استثناء من قَوْمٍ كان منقطعا، لأنّ

ص: 165

القوم موصوفون بالإجرام فاختلف لذلك الجنسان، وإن كان استثناء من الضمير في مُجْرِمِينَ كان متصلا، كأنّه قال: إِلىٰ قَوْمٍ قد أجرموا كلهم إلا آل لوط.

وقوله: إِلاَّ اِمْرَأَتَهُ استثناء من الضمير المجرور في لَمُنَجُّوهُمْ وليس استثناء من الاستثناء.

إِنَّهٰا لَمِنَ اَلْغٰابِرِينَ تعليق، لأنّ التقدير يتضمّن معنى العلم، ولذلك فسّر العلماء تقدير اللّه تعالي أعمال العباد بالعلم، و إنّما أسند الملائكة فعل التقدير إلى أنفسهم وهو للّه تعالي لما لهم من القرب والاختصاص باللّه، كما يقول خاصة الملك:

فعلنا كذا وأمرنا بكذا، والمدبر والآمر هو الملك لا هم. وقرئ: قدرنا بالتخفيف، وكذلك في النمل(1).

[سورة الحجر (15): الآیات 61 الی 77]

فَلَمّٰا جٰاءَ آلَ لُوطٍ اَلْمُرْسَلُونَ قٰالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ قٰالُوا بَلْ جِئْنٰاكَ بِمٰا كٰانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ وَ أَتَيْنٰاكَ بِالْحَقِّ وَ إِنّٰا لَصٰادِقُونَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اَللَّيْلِ وَ اِتَّبِعْ أَدْبٰارَهُمْ وَ لاٰ يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَ اُمْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ وَ قَضَيْنٰا إِلَيْهِ ذٰلِكَ اَلْأَمْرَ أَنَّ دٰابِرَ هٰؤُلاٰءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ وَ جٰاءَ أَهْلُ اَلْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ قٰالَ إِنَّ هٰؤُلاٰءِ ضَيْفِي فَلاٰ تَفْضَحُونِ وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ لاٰ تُخْزُونِ قٰالُوا أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ اَلْعٰالَمِينَ قٰالَ هٰؤُلاٰءِ بَنٰاتِي إِنْ كُنْتُمْ فٰاعِلِينَ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ فَجَعَلْنٰا عٰالِيَهٰا سٰافِلَهٰا وَ أَمْطَرْنٰا عَلَيْهِمْ حِجٰارَةً مِنْ سِجِّيلٍ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ وَ إِنَّهٰا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ

ص: 166


1- وهي قوله تعالي: قَدَّرْنٰاهٰا مِنَ اَلْغٰابِرِينَ الآية: 57.

مُنْكَرُونَ أي: تنكركم نفسي وتنفر منكم فأخاف أن تطرقوني بشرّ، يدلّ عليه قولهم: بَلْ جِئْنٰاكَ بِمٰا كٰانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ أي: ما جئناك بما تنكرنا لأجله، بل جئناك بما فيه فرحك وسرورك وهو العذاب الذي كنت تخوفهم به وتتوعدهم بنزوله فيمترون أي: يشكون فيه.

وَ أَتَيْنٰاكَ بِالْحَقِّ باليقين عن عذابهم وَ إِنّٰا لَصٰادِقُونَ في الإخبار بنزوله بهم.

فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ قرئ بقطع الهمزة ووصلها، من سرى وأسرى.

بِقِطْعٍ مِنَ اَللَّيْلِ و هو من آخره بعد ما يمضي أكثر الليل.

وَ اِتَّبِعْ أَدْبٰارَهُمْ أي: اقتف آثارهم وكن وراءهم لتكون عينا عليهم فلا يتخلف أحد منهم.

وَ لاٰ يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إلى ما خلف ورائه في المدينة، أو هو كناية عن مواصلة السير وترك التوقف، لأنّ من يلتفت لابد له في ذلك من أدنى وقفة.

وَ اُمْضُوا أي: اذهبوا إلي حَيْثُ تُؤْمَرُونَ أي: إلى الموضع الذي أمرتم بالذهاب إليه وهو الشام. وعدّي اُمْضُوا إلي حَيْثُ كما يعدّى إلي الظرف المبهم، لأنّ (حيث) مبهم في الأمكنة، وكذلك الضمير في تؤمرونه.

وعدّي وَ قَضَيْنٰا ب - (إلى) لأنّ المعنى: و أوحينا إِلَيْهِ ذٰلِكَ اَلْأَمْرَ مقضيا، وفسّر اَلْأَمْرَ بقوله: أَنَّ دٰابِرَ هٰؤُلاٰءِ مَقْطُوعٌ وفي إبهامه وتفسيره تعظيم للأمر. وقرئ: إنّ - بالكسر - علي الاستئناف، كأنّ قائلا قال: أخبرنا عن ذلك الأمر؟ فقيل: إنّ دابر هؤلاء مقطوع. ودابرهم: آخرهم، يعني: يستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحد.

ص: 167

مُصْبِحِينَ أي: داخلين في وقت الصبح.

وَ جٰاءَ أَهْلُ اَلْمَدِينَةِ وهي سدوم التي يضرب بقاضيها المثل في الجور(1)، مستبشرين بالملائكة.

فَلاٰ تَفْضَحُونِ بفضيحة ضيفي، لأنّ من أسيء إلى ضيفه أو جاره فقد أسيء إليه.

وَ لاٰ تُخْزُونِ ولا تذلوني بإذلال ضيفي، من الخزي، أو لا تشوروا بي، من الخزاية وهي الحياء.

عَنِ اَلْعٰالَمِينَ أي: عن أن تجير منهم أحدا أو تدفع عنهم أو تمنع بيننا وبينهم، وهو ما أوعدوه من قولهم: قٰالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يٰا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُخْرَجِينَ (2)، وقيل: عن ضيافة الناس وإنزالهم(3).

هٰؤُلاٰءِ بَنٰاتِي إشارة إلى النساء، لأنّ كل أمّة أولاد نبيّها، أي: هؤلاء بناتي فانكحوهن وخلّوا بنيّ فلا تتعرضوا لهم.

إِنْ كُنْتُمْ فٰاعِلِينَ شك في قبولهم لقوله، فكأنّه قال: إن فعلتم ما أقوله لكم وما أظنكم تفعلون، وقيل: معناه: إن كنتم متزوجين(4).

لَعَمْرُكَ أي: وحياتك يا محمّد ومدة بقائك، وعن المبرد: (هو دعاء معناه:

أسأل الله عمرك)(5). وتقديره: لعمرك مما أقسم به، والعمر والعمر واحد إلا أنّهم

ص: 168


1- يقال: أجور من قاضي سدوم. مجمع الأمثال ج 1:339.
2- الشعراء: 167.
3- عن قتادة. تفسير الطبري ج 14:30.
4- معاني القران وإعرابه ج 3:183.
5- الكامل في اللغة والأدب ج 4:165 بالمعنى.

خصّوا القسم بالمفتوح لخفة الفتحة.

إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ أي: في غوايتهم التي أذهبت عقولهم يتحيّرون.

فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّيْحَةُ وهي صيحة جبرئيل مُشْرِقِينَ داخلين في الشروق وهو طلوع الشمس.

مِنْ سِجِّيلٍ من طين عليه كتاب.

والمتوسّم: المتفرّس المتأمّل المتثبّت في نظره حتى يعرف حقيقة سمة الشيء.

الصادق عليه السلام: (نحن المتوسّمون)(1)، وفي الحديث: (إنّ للّه عبادا يعرفون الناس بالتوسّم)(2).

وَ إِنَّهٰا وإن آثارها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ثابت يسلكه الناس لم يندرس بعد وهم يبصرون تلك الآثار، وهي تنبيه لقريش، كقوله: وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (3).

[سورة الحجر (15): الآیات 78 الی 86]

وَ إِنْ كٰانَ أَصْحٰابُ اَلْأَيْكَةِ لَظٰالِمِينَ فَانْتَقَمْنٰا مِنْهُمْ وَ إِنَّهُمٰا لَبِإِمٰامٍ مُبِينٍ وَ لَقَدْ كَذَّبَ أَصْحٰابُ اَلْحِجْرِ اَلْمُرْسَلِينَ وَ آتَيْنٰاهُمْ آيٰاتِنٰا فَكٰانُوا عَنْهٰا مُعْرِضِينَ وَ كٰانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ اَلْجِبٰالِ بُيُوتاً آمِنِينَ فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ فَمٰا أَغْنىٰ عَنْهُمْ مٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ وَ مٰا خَلَقْنَا اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا إِلاّٰ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ اَلسّٰاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ اَلصَّفْحَ اَلْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ اَلْخَلاّٰقُ اَلْعَلِيمُ

ص: 169


1- الاختصاص: 303.
2- معجم الطبراني الاوسط ج 3:207.
3- الصافات: 137.

أَصْحٰابُ اَلْأَيْكَةِ قوم شعيب، و تقديره: و إنّه كان أصحاب الأيكة ظالمين.

وَ إِنَّهُمٰا يعني: قرى قوم لوط والأيكة لَبِإِمٰامٍ مُبِينٍ لبطريق واضح يؤم و يتبع ويهتدى به.

و أَصْحٰابُ اَلْحِجْرِ : ثمود، والحجر: واديهم، وهو بين المدينة والشام.

آمِنِينَ من أن تنهدم بيوتهم ومن نقب اللصوص لوثاقتها واستحكامها، أو آمنين من عذاب اللّه، يحسبون أن الجبال تحميهم منه.

فَمٰا أَغْنىٰ عَنْهُمْ فما دفع عنهم العذاب مٰا كٰانُوا يكسبونه من البناء الوثيق والمال والعدد.

إِلاّٰ بِالْحَقِّ أي: إلا خلقا ملتبسا بالحقّ والحكمة والثواب لا باطلا وعبثا، أو بسبب العدل والإنصاف يوم الجزاء علي الأعمال.

وَ إِنَّ اَلسّٰاعَةَ لَآتِيَةٌ فينتقم الله لك فيها من أعدائك، ويجازيك وإياهم وجميع الخلائق علي أعمالهم.

فَاصْفَحِ أي: فأعرض عنهم و احتمل ما تلقى منهم إعراضا جميلا بحلم و إغضاء.

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ اَلْخَلاّٰقُ الذي خلقك وخلقهم اَلْعَلِيمُ بحالك وحالهم.

[سورة الحجر (15): الآیات 87 الی 94]

وَ لَقَدْ آتَيْنٰاكَ سَبْعاً مِنَ اَلْمَثٰانِي وَ اَلْقُرْآنَ اَلْعَظِيمَ لاٰ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلىٰ مٰا مَتَّعْنٰا بِهِ أَزْوٰاجاً مِنْهُمْ وَ لاٰ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ اِخْفِضْ جَنٰاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ قُلْ إِنِّي أَنَا اَلنَّذِيرُ اَلْمُبِينُ كَمٰا أَنْزَلْنٰا عَلَى اَلْمُقْتَسِمِينَ اَلَّذِينَ جَعَلُوا اَلْقُرْآنَ عِضِينَ فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمّٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ فَاصْدَعْ

ص: 170

[سورة الحجر (15): الآیات 94 الی 96]

بِمٰا تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْمُشْرِكِينَ إِنّٰا كَفَيْنٰاكَ اَلْمُسْتَهْزِئِينَ اَلَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اَللّٰهِ إِلٰهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ

سَبْعاً أي: سبع آيات وهي الفاتحة، أو سبع سور وهي السبع الطوال، و السابعة الأنفال وبراءة لأنّهما في حكم سورة واحدة، ولذلك لم يفصل بينهما ب - (بسم اللّه الرحمن الرحيم). والأوّل أصحّ .

و اَلْمَثٰانِي من التثنية وهو التكرير، لأنّ الفاتحة تكرر قراءتها في الصلاة، أو من الثناء لاشتمالها علي الثناء علي اللّه، والواحدة مثناة: مفعلة، أي: موضع ثناء أو تثنية، و مِنَ إما للبيان أو للتبعيض.

لاٰ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أي: لا تطمح ببصرك إِلىٰ مٰا مَتَّعْنٰا بِهِ أَزْوٰاجاً أي: أصنافا من المشركين من أنواع النعم طموح راغب فيه متمن له، واستغن بما أوتيت من النعمة التي كل نعمة - وإن عظمت - فهي بالإضافة إليها نزرة يسيرة وهي القرآن العظيم.

وَ لاٰ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ إن لم يؤمنوا فيتقوى بهم الإسلام وأهله، وتواضع لمن معك من المؤمنين، وطب نفسا عن إيمان الأغنياء والأقوياء.

وَ قُلْ لهم إِنِّي أَنَا اَلنَّذِيرُ اَلْمُبِينُ أنذركم ببيان وبرهان أنّ عذاب اللّه نازل بكم، وأبيّن لكم ما تحتاجون إليه وما أرسلت به إليكم.

كَمٰا أَنْزَلْنٰا عَلَى اَلْمُقْتَسِمِينَ فيه وجهان:

أحدهما: أن يتعلّق بقوله: وَ لَقَدْ آتَيْنٰاكَ أي: أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا علي اليهود والنصارى وهم المقتسمون اَلَّذِينَ جَعَلُوا اَلْقُرْآنَ عِضِينَ إذ قالوا بعنادهم: بعضه حقّ موافق للتوراة والإنجيل وبعضه باطل مخالف لهما، فاقتسموه

ص: 171

إلى حقّ وباطل وعضوه.

والثاني: أن يتعلّق بقوله: وَ قُلْ إِنِّي أَنَا اَلنَّذِيرُ اَلْمُبِينُ أنذركم عذابا مثل ما أنزلنا على المقتسمين الذين اقتسموا مداخل مكة أيّام الموسم، وهم ستة عشر رجلا بعثهم الوليد بن المغيرة فقعدوا في كل مدخل ينفّرون الناس عن الإيمان برسول الله، يقول بعضهم: لا تغترّوا بالخارج منا والمدّعي النبوّة فإنّه ساحر، ويقول الآخر: كذّاب، و الآخر: شاعر، فأهلكهم اللّه يوم بدر وقبله بآفات.

عِضِينَ أجزاء، جمع عضة، وأصله عضوة، فعلة من عضا الشاة إذا جعلها أعضاء.

لَنَسْئَلَنَّهُمْ عبارة عن الوعيد، وقيل: نسألهم سؤال توبيخ وتقريع: لم عضيتم ؟!(1).

فَاصْدَعْ بِمٰا تُؤْمَرُ أي: فاجهر به وأظهره، يقال: صدع بالحجّة: إذا تكلّم بها جهارا، من الصديع وهو الصبح، والأصل: بما تؤمر به من الشرائع، فحذف الجار، كما في قول الشاعر:

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به(2)

ثمّ حذف ضمير المفعول، ويجوز أن تكون (ما) مصدرية، أي: بأمرك، وهو مصدر من المبني للمفعول.

والمستهزئون: خمسة نفر ذوو أسنان وشرف: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب بن عبد مناف، والحارث بن

ص: 172


1- عن ابن عباس. تفسير الطبري ج 14:46.
2- ديوان العباس بن مرداس السلمي: 31، وبقيته: فقد تركتك ذا مال وذا نشب.

الطلاطلة، ماتوا كلهم قبل بدر. قال جبرئيل للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: (أمرت أن أكفيكهم، فأومأ إلى ساق الوليد فمرّ وهو يجرّ ثوبه، فتعلّقت بثوبه شوكة فمنعه الكبر أن يخفض رأسه فينزعها، فخدشت ساقه فمات من ذلك؛ وأومأ إلى أخمص العاص بن وائل فوطأ شبرمة(1) فدخلت فيها وقال: لدغت، ولم يزل يحكّها حتى مات؛ وأشار إلى عيني الأسود فعمي، وجعل يضرب رأسه علي الجدار حتى مات؛ وأشار إلي أنف الحارث فامتخط قيحا فمات؛ وأشار إلي بطن الأسود فاستسقى فمات)(2).

فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وعيد.

[سورة الحجر (15): الآیات 97 الی 99]

وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمٰا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ اَلسّٰاجِدِينَ وَ اُعْبُدْ رَبَّكَ حَتّٰى يَأْتِيَكَ اَلْيَقِينُ

أي: بِمٰا يَقُولُونَ من تكذيبك، والطعن فيك وفي القرآن.

فَسَبِّحْ أي: فافزع إلى اللّه عزّ اسمه فيما يأتيك، يكشف عنك الغم ويكفيك المهم.

وَ كُنْ مِنَ الذين يسجدون للّه. كان صلوات اللّه عليه وآله وسلم إذا حزنه أمر فزع إلي الصلاة(3).

ودم علي عبادة رَبَّكَ حَتّٰى يَأْتِيَكَ اَلْيَقِينُ أي: الموت، يعني: مادمت حيا.

ص: 173


1- الشبرمة واحدة الشبرم وهي شجرة شاكة لها زهرة حمراء. (اللسان: مادة شبرم)
2- ينظر: سيرة ابن هشام ج 2:50-52.
3- سنن أبي داود ج 2:36 ح 1319، ينظر: الكافي ج 3:480.

سورة النحل

اشارة

وتسمّى أيضا سورة النعم، أكثرها مكي، مائة وثمان وعشرون آية بلا خلاف.

في حديث أبيّ : (من قرأها لم يحاسبه اللّه تعالى علي النعم التي أنعمها عليه في دار الدنيا، وإن مات في يوم تلاها أو ليلة أعطي من الأجر كالذي مات فأحسن الوصية)(1)، وعن الباقر عليه السلام: (من قرأها في كل شهر كفي المغرم في الدنيا وسبعين نوعا من أنواع البلاء أهونه الجنون والجذام والبرص، وكان مسكنه في جنّة عدن وهي وسط الجنان)(2).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة النحل (16): الآیات 1 الی 5]

أَتىٰ أَمْرُ اَللّٰهِ فَلاٰ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحٰانَهُ وَ تَعٰالىٰ عَمّٰا يُشْرِكُونَ يُنَزِّلُ اَلْمَلاٰئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلىٰ مَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ أَنَا فَاتَّقُونِ خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعٰالىٰ عَمّٰا يُشْرِكُونَ خَلَقَ اَلْإِنْسٰانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذٰا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَ اَلْأَنْعٰامَ خَلَقَهٰا لَكُمْ فِيهٰا دِفْ ءٌ وَ مَنٰافِعُ وَ مِنْهٰا

ص: 174


1- الكشف والبيان ج 6:5 باختصار.
2- ثواب الأعمال: 107.

[سورة النحل (16): الآیات 5 الی 7]

تَأْكُلُونَ وَ لَكُمْ فِيهٰا جَمٰالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ وَ تَحْمِلُ أَثْقٰالَكُمْ إِلىٰ بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بٰالِغِيهِ إِلاّٰ بِشِقِّ اَلْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ

قرب أَمْرُ اَللّٰهِ بعذاب هؤلاء الكفار، أو أتى أمر القيامة، أي: هو بمنزلة الآتي الواقع وإن كان منتظرا لقرب وقوعه.

فَلاٰ تَسْتَعْجِلُوهُ كانوا يستعجلون ذلك كما حكى اللّه عنهم قولهم: فَأَمْطِرْ عَلَيْنٰا حِجٰارَةً مِنَ اَلسَّمٰاءِ (1).

سُبْحٰانَهُ وَ تَعٰالىٰ عَمّٰا يُشْرِكُونَ تبرأ عزّ وجل عن أن يكون له شريك وأن تكون آلهتهم له شركاء فتكون (ما) موصولة، أو عن إشراكهم فتكون مصدرية، وقرئ: يشركون بالياء والتاء.

وقرئ: يُنَزِّلُ با لتخفيف والتشديد، و اَلْمَلاٰئِكَةَ با لنصب، وقرئ:

تنزل الملائكة، أي: تتنزل بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ بما يحيي القلوب الميتة بالجهل من وحيه، أو بما يقوم في الدين مقام الروح في الجسد.

و أَنْ أَنْذِرُوا بدل من الروح أي: ينزلهم بأن أنذروا، والتقدير: بأنّه، و الضمير للشأن أي: بأنّ الشأن أقول لكم: أنذروا، أو تكون اَلْأَنْفُسِ مفسّرة، لأنّ تنزيل الملائكة بالوحي فيه معنى القول، ومعنى أنذروا: أعلموا بأنّه لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ أَنَا من نذرت بكذا: إذا علمته، أي: يقول لهم: أعلموا الناس قولي: لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ أَنَا فَاتَّقُونِ .

ثمّ دلّ علي وحدانيته وأنّه لا إله إلا هو بذكر ما لا يقدر عليه غيره من خلق

ص: 175


1- الأنفال: 32.

اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ وخلق اَلْإِنْسٰانَ وما يصلحه وما لابد له منه من خلق البهائم لأكله وركوبه وحمل أثقاله وسائر حاجاته، وخلق ما لا يعلمون من أصناف خلقه تعالى وجلّ من أن يشرك به غيره.

فَإِذٰا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ معناه: فإذا هو مجادل للخصوم، منطيق، مبين عن نفسه بعدما كان نطفة جمادا، وقيل: فإذا هو خصيم لربّه، منكر لخالقه.

و وَ اَلْأَنْعٰامَ الأزواج الثمانية، وأكثر ما يقع علي الإبل، وانتصب بفعل مضمر يفسّره الظاهر. والدفء: اسم ما يدفأ به، كالملء اسم ما يملأ به، وهو اللباس المعمول من صوف أو وبر أو شعر.

وَ مَنٰافِعُ هي نسلها ودرّها وغير ذلك من الحمل والركوب وإثارة الأرض.

ومنّ سبحانه بالتجمّل بها كما منّ بالانتفاع بها، لأنّها من أغراض أصحاب المواشي، لأنّهم إذا أراحوها بالعشي وسرحوها بالغداة فزيّنت الأفنية وتجاوب فيها الثغاء والرغاء، فرحت أربابها وأجلّهم الناظرون إليها، فكسبتهم الجاه والحرمة عند الناس، وقدّم الإراحة علي السرح لأنّ الجمال في الإراحة أظهر إذا أقبلت ملأي البطون حافلة الضروع.

و قرئ: بِشِقِّ اَلْأَنْفُسِ بفتح الشين وكسرها، وهما لغتان في معنى المشقة، والفرق بينهما: أنّ المفتوح مصدر شقّ الأمر عليه، وحقيقته راجعة إلى الشق الذي هو الصدع، وأما الشّق: فالنصف، كأنّه يذهب نصف قوته لما يناله من الجهد.

والمعنى: وَ تَحْمِلُ أَثْقٰالَكُمْ إِلىٰ بَلَدٍ بعيد لَمْ تَكُونُوا بٰالِغِيهِ في التقدير: لو لم يخلق الإبل، إلا بجهد أنفسكم ومشقتها. ويجوز أن يكون المعنى: لم

ص: 176

تكونوا بالسوء بها إلا بشق الأنفس، وقيل: إنّ البلد مكة(1).

إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث رحمكم بخلق هذه الحوامل وتيسير هذه المصالح.

[سورة النحل (16): الآیات 8 الی 13]

وَ اَلْخَيْلَ وَ اَلْبِغٰالَ وَ اَلْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهٰا وَ زِينَةً وَ يَخْلُقُ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ وَ عَلَى اَللّٰهِ قَصْدُ اَلسَّبِيلِ وَ مِنْهٰا جٰائِرٌ وَ لَوْ شٰاءَ لَهَدٰاكُمْ أَجْمَعِينَ هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرٰابٌ وَ مِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ اَلزَّرْعَ وَ اَلزَّيْتُونَ وَ اَلنَّخِيلَ وَ اَلْأَعْنٰابَ وَ مِنْ كُلِّ اَلثَّمَرٰاتِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهٰارَ وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ وَ اَلنُّجُومُ مُسَخَّرٰاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَ مٰا ذَرَأَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوٰانُهُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ

عطف اَلْخَيْلَ علي اَلْأَنْعٰامِ ، أي: خلق هؤلاء للركوب وللزينة، وعطف زِينَةً علي محلّ لِتَرْكَبُوهٰا ولم يرد المعطوف والمعطوف عليه علي سنن واحد، لأنّ الركوب فعل المخاطبين، والزينة فعل الزائن وهو الخالق عزّ اسمه.

وَ يَخْلُقُ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ من أنواع الحيوان والنبات والجماد لمنافعكم.

والمراد بالسبيل: الجنس، ولذلك أضاف إليها القصد وقال: وَ مِنْهٰا جٰائِرٌ ، والقصد مصدر بمعنى الفاعل، سبيل قصد وقاصد أي: مستقيم، كأنّه

ص: 177


1- عن عكرمة. معالم التنزيل ج 2:202.

يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه، ومعنى قوله: وَ عَلَى اَللّٰهِ قَصْدُ اَلسَّبِيلِ : إنّ هداية الطريق الموصل إلى الحقّ واجبة عليه، ونحوه: إِنَّ عَلَيْنٰا لَلْهُدىٰ (1).

وَ مِنْهٰا أي: و من السبيل جٰائِرٌ عن القصد، فأعلم سبحانه بأنّ السبيل العادل عن الحقّ لا يضاف إليه بقوله: وَ مِنْهٰا جٰائِرٌ ، ولو كان الأمر علي ما ظنه المجبّرة لقال: وعليه جائرها أو وعليه الجائر.

وَ لَوْ شٰاءَ لَهَدٰاكُمْ أَجْمَعِينَ قسرا و إلجاء إلى السبيل القصد.

أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً أي: مطرا لَكُمْ مِنْهُ شَرٰابٌ أي: لكم هو شراب كقوله:

يأبى الظّلامة منه النّوفل الزّفر(2)

والشراب: ما يشرب.

وقوله: شَجَرٌ يعني: الشجر الذي ترعاه المواشي، وقيل: معناه لكم من ذلك الماء شراب وَ مِنْهُ شرب شَجَرٌ أو سقي شجر فحذف المضاف، أو لكم من إنباته شجر أو من سقيه شجر فحذف المضاف إلى الهاء في وَ مِنْهُ كما قال زهير:

أمن أمّ أوفى دمنة لم تكلّم(3)

أي: من ناحية أم أوفى.

ص: 178


1- الليل: 12.
2- البيت لأعشى باهلة. ملحق ديوان الأعشى: 267، وصدره: أخو رغائب يعطيها ويسألها.
3- شعر زهير بن أبي سلمى: 42. وبقيته: بحومانة الدراج فالمتثلم.

تُسِيمُونَ من سامت الماشية: إذا رعت فهي سائمة وأسمتها أنا.

وقرئ: يُنْبِتُ بالياء والنون.

وَ مِنْ كُلِّ اَلثَّمَرٰاتِ (من) للتبعيض، لأنّ كل الثمرات لا تكون إلا في الجنّة، وأنبت في الأرض بعض من كلها.

يَتَفَكَّرُونَ ينظرون فيستدلّون بها عليه وعلي كمال حكمته وقدرته.

[وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهٰارَ وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ وَ اَلنُّجُومُ ](1) قرئ جميعها بالنصب، فيكون المعنى: وجعل النجوم مسخرات، إذ لا يصلح أن يقال: وسخّر النجوم مسخّرات، ويجوز أن يكون المعنى: أنّه سخّرها أنواعا من التسخير، جمع مسخّر، بمعنى تسخير، من قولك: سخّره اللّه مسخّرا، فكأنّه قال: وسخّرها لكم تسخيرات بأمره. وقرئ بنصب اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهٰارَ وحدهما ورفع ما بعدهما علي الابتداء والخبر، و قرئ: وَ اَلنُّجُومُ مُسَخَّرٰاتٌ بالرفع وما قبله بالنصب.

إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ جمع الآية هنا، لأنّ الآثار العلوية أظهر دلالة للعقلاء علي عظمة اللّه وباهر قدرته.

وَ مٰا ذَرَأَ لَكُمْ معطوف علي اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهٰارَ ، يعني: ما خلق فيها من حيوان ونبات وغير ذلك من أنواع النعم مختلف الهيئات والأشكال لا يشبه بعضها بعضا.

[سورة النحل (16): آیة 14]

وَ هُوَ اَلَّذِي سَخَّرَ اَلْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهٰا وَ تَرَى اَلْفُلْكَ مَوٰاخِرَ فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

ص: 179


1- زيادة يقتضيها السياق.

[سورة النحل (16): الآیات 15 الی 18]

وَ أَلْقىٰ فِي اَلْأَرْضِ رَوٰاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ أَنْهٰاراً وَ سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَ عَلاٰمٰاتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاٰ يَخْلُقُ أَ فَلاٰ تَذَكَّرُونَ وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللّٰهِ لاٰ تُحْصُوهٰا إِنَّ اَللّٰهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ

سَخَّرَ اَلْبَحْرَ أي: ذلّله لكم وسهل لكم الطريق إلى ركوبه، واستخراج ما فيه من المنافع.

وأراد باللحم الطري: السمك، وصفه بالطراوة لأنّ الفساد يسرع إليه فيسارع إلى أكله لئلا يفسد، والحلية: هي اللؤلؤ والمرجان.

تَلْبَسُونَهٰا أي: تتزينون بها وتلبسونها نساءكم.

مَوٰاخِرَ أي: شواق لماء البحر بحيازيمها، وعن الفراء: (المخر: صوت جري الفلك بالرياح)(1). وابتغاء الفضل: التجارة.

أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ كراهة أن تميل بكم وتضطرب.

وَ أَنْهٰاراً وجعل فيها أنهارا، لأنّ في أَلْقىٰ معنى (جعل)، كما قال سبحانه: أَ لَمْ نَجْعَلِ اَلْأَرْضَ مِهٰاداً وَ اَلْجِبٰالَ أَوْتٰاداً (2).

وَ سُبُلاً أي: طرقا تَهْتَدُونَ بها إلى حيث شئتم من البلاد.

وَ عَلاٰمٰاتٍ وهي معالم الطرق وكل ما يستدلّ به المارة من جبل وسهل وغير ذلك. والمراد بالنجم: الجنس، كما يقال: كثر الدرهم في أيدي الناس،

ص: 180


1- معاني القرآن للفراء ج 2:98.
2- النبأ: 6، 7.

وعن السدي: (هو الثريا والفرقدان وبنات نعش والجدي)(1)، وكأنّه سبحانه بتقديم النجم وإقحام هُمْ فيه والخروج من الخطاب إلى الغيبة أراد أنّ قريشا - خصوصا - لهم اهتداء بالنجوم خصوصا في أسفارهم، وكان لهم بذلك علم لم يكن مثله لغيرهم، فكان الشكر أوجب عليهم فلذلك خصصوا. الصادق عليه السلام:

(نحن العلامات، والنجم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم)(2).

كَمَنْ لاٰ يَخْلُقُ أريد به الأصنام، وجعل (من) فيما لا يعقل لما اتصل بذكر الخالق أفلا تتذكرون فتعتبرون.

لاٰ تُحْصُوهٰا أي: لا تضبطوا عددها فضلا عن أن تطيقوا القيام بشكرها.

إِنَّ اَللّٰهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ يتجاوز عن تقصيركم في أداء شكر نعمه ولا يقطعها عنكم.

[سورة النحل (16): الآیات 19 الی 23]

وَ اَللّٰهُ يَعْلَمُ مٰا تُسِرُّونَ وَ مٰا تُعْلِنُونَ وَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ لاٰ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوٰاتٌ غَيْرُ أَحْيٰاءٍ وَ مٰا يَشْعُرُونَ أَيّٰانَ يُبْعَثُونَ إِلٰهُكُمْ إِلٰهٌ وٰاحِدٌ فَالَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ لاٰ جَرَمَ أَنَّ اَللّٰهَ يَعْلَمُ مٰا يُسِرُّونَ وَ مٰا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاٰ يُحِبُّ اَلْمُسْتَكْبِرِينَ

يَدْعُونَ قرئ بالياء والتاء، نفى عنهم خصائص الإلهية بنفي كونهم خالقين، وأحياء لا يموتون، وعالمين بوقت البعث، وأثبت لهم صفات الخلق بأنّهم مخلوقون وأنّهم أموات وأنّهم جاهلون بالغيب، أي: لو كانوا آلهة علي الحقيقة لكانوا أحياء غير أموات وأمرهم علي العكس من ذلك.

ص: 181


1- معالم التنزيل ج 2:203.
2- الكافي ج 1:207.

و الضمير في يُبْعَثُونَ للداعين، أي: لا يشعرون متى يبعث عابدوهم، وفيه تهكّم بالمشركين، وأنّ آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم فكيف يكون لهم وقت جزاء منهم على عبادتهم ؟!.

لاٰ جَرَمَ حقّا أَنَّ اَللّٰهَ يَعْلَمُ سرّهم وعلانيتهم فيجازيهم، وهو وعيد.

[سورة النحل (16): الآیات 24 الی 29]

وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمْ مٰا ذٰا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قٰالُوا أَسٰاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ لِيَحْمِلُوا أَوْزٰارَهُمْ كٰامِلَةً يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ وَ مِنْ أَوْزٰارِ اَلَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاٰ سٰاءَ مٰا يَزِرُونَ قَدْ مَكَرَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اَللّٰهُ بُنْيٰانَهُمْ مِنَ اَلْقَوٰاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ اَلسَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ أَتٰاهُمُ اَلْعَذٰابُ مِنْ حَيْثُ لاٰ يَشْعُرُونَ ثُمَّ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ يُخْزِيهِمْ وَ يَقُولُ أَيْنَ شُرَكٰائِيَ اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قٰالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ إِنَّ اَلْخِزْيَ اَلْيَوْمَ وَ اَلسُّوءَ عَلَى اَلْكٰافِرِينَ اَلَّذِينَ تَتَوَفّٰاهُمُ اَلْمَلاٰئِكَةُ ظٰالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا اَلسَّلَمَ مٰا كُنّٰا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلىٰ إِنَّ اَللّٰهَ عَلِيمٌ بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُوا أَبْوٰابَ جَهَنَّمَ خٰالِدِينَ فِيهٰا فَلَبِئْسَ مَثْوَى اَلْمُتَكَبِّرِينَ

مٰا ذٰا منصوب ب - أَنْزَلَ بمعنى: أيّ شيء أنزل ربّكم ؟، أو مرفوع بالابتداء بمعنى: أيّ شيء أنزله ربّكم ؟. فإذا نصبت فمعنى أَسٰاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ :

ما يدّعون نزوله أساطير الأوّلين، وإذا رفعت فالمعنى: المنزل أساطير الأوّلين، أي:

أحاديث الأوّلين وأباطيلهم.

لِيَحْمِلُوا أَوْزٰارَهُمْ أي: قالوا ذلك إضلالا للناس وصدّا عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فحملوا أوزار ضلالهم كٰامِلَةً وبعض أَوْزٰارِ من أضلوهم، لأنّ

ص: 182

المضل والضال شريكان، هذا يضله وهذا يطاوعه على إضلاله. وجاء باللام من غير أن يكون غرضا، نحو قولك: خرجت من البلد مخافة الشرّ.

بِغَيْرِ عِلْمٍ حال من المفعول، أي: يضلون من لا يعلم أنّهم ضلال، وإنّما وصف بالضلال من لا يعلم، لأنّه كان عليه أن يبحث وينظر بعقله حتى يميز بين المحقّ والمبطل.

و اَلْقَوٰاعِدِ أساطين البناء، وقيل: الأساس(1)، وهذا تمثيل لاستئصالهم.

والمعنى: إنّهم سووا منصوبات ليمكروا اللّه بها فجعل اللّه هلاكهم في تلك المنصوبات، كحال قوم بنوا بنيانا وعمدوه بالأساطين فأتى البنيان من الأساطين بأن ضعضعت فسقط عليهم السقف وهلكوا، و من أمثالهم: (من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا)(2). والمراد بإتيان اللّه: إتيان أمره. مِنَ اَلْقَوٰاعِدِ من جهة القواعد. و قرأ الصادق عليه السلام: فأتى اللّه بيتهم.

يُخْزِيهِمْ أي: يذلهم بعذاب الخزي، يعني: هذا لهم في الدنيا ثمّ العذاب في الآخرة.

أَيْنَ شُرَكٰائِيَ أضافهم إلى نفسه علي طريق الاستهزاء بهم ليوبخهم بذلك.

تُشَاقُّونَ أي: تعادون المؤمنين وتخاصمونهم في شأنهم و معناهم.

و قرئ بكسر النون بمعنى: تشاقونني، لأنّ مشاقة المؤمنين كأنّها مشاقة اللّه.

و اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ هم: الأنبياء والعلماء من أممهم، وقيل: هم الملائكة(3).

ص: 183


1- تفسير الطبري ج 14:67.
2- المستقصى في أمثال العرب ج 2:354.
3- تفسير ابن عباس ج 3:87.

تَتَوَفّٰاهُمُ قرئ بالتاء والياء، و بإدغام التاء في التاء.

فَأَلْقَوُا اَلسَّلَمَ أي: تسالموا وأخبتوا وجاؤوا بخلاف ما كانوا عليه في الدنيا من الشقاق والكبر، وقالوا: مٰا كُنّٰا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ جحدوا ما وجد منهم من الكفر والعدوان في الدنيا، فردّ عليهم أولو العلم: إِنَّ اَللّٰهَ عَلِيمٌ بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فهو يجازيكم عليه، وهذا أيضا من الشماتة، وكذلك فَادْخُلُوا أَبْوٰابَ جَهَنَّمَ .

[سورة النحل (16): الآیات 30 الی 34]

وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا مٰا ذٰا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قٰالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هٰذِهِ اَلدُّنْيٰا حَسَنَةٌ وَ لَدٰارُ اَلْآخِرَةِ خَيْرٌ وَ لَنِعْمَ دٰارُ اَلْمُتَّقِينَ جَنّٰاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهٰا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ لَهُمْ فِيهٰا مٰا يَشٰاؤُنَ كَذٰلِكَ يَجْزِي اَللّٰهُ اَلْمُتَّقِينَ اَلَّذِينَ تَتَوَفّٰاهُمُ اَلْمَلاٰئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلاٰمٌ عَلَيْكُمْ اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّٰ أَنْ تَأْتِيَهُمُ اَلْمَلاٰئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذٰلِكَ فَعَلَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ مٰا ظَلَمَهُمُ اَللّٰهُ وَ لٰكِنْ كٰانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فَأَصٰابَهُمْ سَيِّئٰاتُ مٰا عَمِلُوا وَ حٰاقَ بِهِمْ مٰا كٰانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ

خَيْراً أي: أنزل خيرا، ونصب هذا ورفع الأوّل فصلا بين جواب المقرّ وبين جواب الجاحد، فهؤلاء أطبقوا الجواب علي السؤال مفعولا للإنزال فقالوا:

خيرا، وأولئك عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا: هو أساطير الأوّلين وليس من الإنزال في شيء.

لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا وما بعده بدل من خَيْراً حكاية لقول الذين اتقوا، أي: قالوا هذا القول، ويجوز أن يكون كلاما مبتدأ عدة للقائلين.

ص: 184

حَسَنَةٌ أي: مكافأة في الدنيا بإحسانهم، ولهم في الآخرة ما هو خير منها.

وَ لَنِعْمَ دٰارُ اَلْمُتَّقِينَ دار الآخرة، فحذف المخصوص بالمدح لتقدّم ذكره.

جَنّٰاتُ عَدْنٍ خبر مبتدأ محذوف، ويجوز أن يكون المخصوص بالمدح.

طَيِّبِينَ طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي، لأنّه في مقابلة ظٰالِمِي أَنْفُسِهِمْ .

يَقُولُونَ سَلاٰمٌ عَلَيْكُمْ سلامة لكم من كل سوء.

تَأْتِيَهُمُ اَلْمَلاٰئِكَةُ لقبض الأرواح أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ بالعذاب المستأصل أو القيامة.

كَذٰلِكَ أي: مثل ذلك الفعل من الشرك والتكذيب فَعَلَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ مٰا ظَلَمَهُمُ اَللّٰهُ بتدميرهم وَ لٰكِنْ كٰانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ لأنّهم فعلوا ما استوجبوا به التدمير.

[سورة النحل (16): الآیات 35 الی 37]

وَ قٰالَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ مٰا عَبَدْنٰا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ نَحْنُ وَ لاٰ آبٰاؤُنٰا وَ لاٰ حَرَّمْنٰا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ كَذٰلِكَ فَعَلَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى اَلرُّسُلِ إِلاَّ اَلْبَلاٰغُ اَلْمُبِينُ وَ لَقَدْ بَعَثْنٰا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ وَ اِجْتَنِبُوا اَلطّٰاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اَللّٰهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ اَلضَّلاٰلَةُ فَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلْمُكَذِّبِينَ إِنْ تَحْرِصْ عَلىٰ هُدٰاهُمْ فَإِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَ مٰا لَهُمْ مِنْ نٰاصِرِينَ

كَذٰلِكَ فَعَلَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الكفار والضلال: أشركوا باللّه وحرّموا

ص: 185

ما أحلّ اللّه وارتكبوا ما حرّمه، فلما نبهوا علي قبح أفعالهم نسبوها إلى اللّه وقالوا:

لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ لم نفعلها فَهَلْ عَلَى اَلرُّسُلِ إِلاَّ أن يبلّغوا الحقّ ، وأنّ اللّه لا يشاء الشرك والمعاصي بالبيان والبرهان.

فِي كُلِّ أُمَّةٍ أي: ما من أمّة إلا وقد بَعَثْنٰا فيهم رَسُولاً يأمرهم بالخير الذي هو عبادة اللّه، وينهاهم عن الشرّ الذي هو اختيار(1)اَلطّٰاغُوتَ .

فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اَللّٰهُ أي: لطف به لعلمه أنّه من أهل اللطف وَ مِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ اَلضَّلاٰلَةُ أي: ثبت عليه الخذلان والترك من اللطف لتصميمه علي الكفر.

فَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُرُوا ما فعلت ب - اَلْمُكَذِّبِينَ حتى لا يبقى لكم شبهة في أنّي لا أريد الشر حيث أفعل ما أفعل بالأشرار.

ثمّ ذكر سبحانه عناد قريش، وحرص النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم علي إيمانهم، وعرّفه أنّهم ممن حقّت عليهم الضلالة، وأنّه لاٰ يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ أي: لا يلطف بمن يخذله، وقيل: معناه: لا يهتدي(2)، يقال: هداه اللّه فهدي، وقرئ: لا يهدي علي البناء للمفعول، والعائد إلي مَنْ الموصولة الهاء المحذوفة، أي: من يضله.

[سورة النحل (16): الآیات 38 الی 40]

وَ أَقْسَمُوا بِاللّٰهِ جَهْدَ أَيْمٰانِهِمْ لاٰ يَبْعَثُ اَللّٰهُ مَنْ يَمُوتُ بَلىٰ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ اَلَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَ لِيَعْلَمَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كٰانُوا كٰاذِبِينَ إِنَّمٰا قَوْلُنٰا لِشَيْ ءٍ إِذٰا أَرَدْنٰاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ

بَلىٰ إثبات لما بعد النفي، أي: بلي يبعثهم، و وَعْداً مصدر مؤكد لما

ص: 186


1- في أ، ب، ج: اجتناب.
2- ينظر: معاني القرآن للفراء ج 2:99.

دلّ عليه بَلىٰ ، لأن يَبْعَثُ موعد من اللّه. ثمّ بيّن أنّ الوفاء بذلك الوعد حقّ واجب عليه في الحكمة وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ أنّهم يبعثون، أو أنّه وعد واجب علي اللّه لأنّهم يقولون: لا يجب علي اللّه شيء من مواجب الحكمة.

لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الضمير ل - مَنْ يَمُوتُ و هو عام للمؤمنين والكافرين.

و اَلَّذِي اختلفوا فِيهِ هو الحقّ وَ لِيَعْلَمَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كذبوا في قولهم: لا يبعث اللّه من يموت.

قَوْلُنٰا مبتدأ، و أَنْ نَقُولَ خبره، و كُنْ فَيَكُونُ من (كان) التامة، أي:

إذا أردنا وجود شيء فليس إلا أن نقول له: أحدث فهو محدث عقيب ذلك لا يتوقف، وهذا مثل في أنّ مرادا لا يمتنع عليه، وأنّ وجوده عند إرادته مثل وجود المأمور به عند أمر الآمر المطاع إذا ورد علي المأمور المطيع الممتثل، ولا قول هناك.

وقرئ: فيكون - بالنصب - عطفا علي نَقُولَ .

[سورة النحل (16): الآیات 41 الی 44]

وَ اَلَّذِينَ هٰاجَرُوا فِي اَللّٰهِ مِنْ بَعْدِ مٰا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي اَلدُّنْيٰا حَسَنَةً وَ لَأَجْرُ اَلْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ اَلَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ قَبْلِكَ إِلاّٰ رِجٰالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنٰاتِ وَ اَلزُّبُرِ وَ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ اَلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّٰاسِ مٰا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ

وَ اَلَّذِينَ هٰاجَرُوا هم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه، ظلمهم أهل مكة ففرّوا بدينهم إلي اللّه، فهاجر بعضهم إلى الحبشة ثمّ بعد هاجروا إلى المدينة، وقيل: (هم الذين كانوا محبوسين بمكة بعد هجرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وكلما خرجوا تبعوهم

ص: 187

وردّوهم، منهم بلال وصهيب(1) وعمار وخباب(2)(3).

فِي اَللّٰهِ في حقّه ولوجهه.

حَسَنَةً صفة لمصدر محذوف، أي: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ تبوئة حسنة، وعن أمير المؤمنين عليه السلام: لنثوينّهم. ومعناه: إثواءة حسنة، أي: لننزلنهم في الدنيا منزلة حسنة، وهي الغلبة علي أهل مكة الذين ظلموهم، وعلي العرب قاطبة، وعلي أهل المشرق والمغرب، وقيل: لنبوئنهم مباءة حسنة وهي المدينة حيث آواهم الأنصار ونصروهم(4).

لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ الضمير للكفار، أي: لو علموا أنّ اللّه يجمع للمهاجرين الدنيا والآخرة لرغبوا في دينهم، ويجوز أن يكون الضمير للمهاجرين، أي: لو كانوا يعلمون ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبرهم.

اَلَّذِينَ صَبَرُوا أي: هم الذين صبروا، أو أعني الذين صبروا، وكلاهما مدح، صبروا علي العذاب وعلي مفارقة الوطن وعلي الجهاد.

قالت قريش: اللّه لا يرسل إلينا بشرا مثلنا، فقال: وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ قَبْلِكَ إِلاّٰ رِجٰالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ على ألسنة الملائكة فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ وهم أهل الكتاب ليعلموكم أنّه سبحانه لم يبعث إلي من تقدّم من الأمم إلا البشر، وقيل: إنّ أهل

ص: 188


1- صهيب بن سنان الرومي، الصحابي المشهور، كان من السابقين إلي الإسلام، مات بالمدينة سنة 38 ه -، وقيل سنة 39 ه -. ينظر: الاستيعاب ج 2:174، معجم رجال الحديث ج 9:147.
2- خباب بن الأرت التميمي، الصحابي الجليل، كان من السابقين إلي الإسلام، شهد المشاهد كلها مع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم مات بالكوفة سنة 37 ه -. ينظر: الاستيعاب ج 1:423، معجم رجال الحديث ج 7:47.
3- أسباب النزول: 196.
4- عن قتادة وغيره. تفسير الطبري ج 14:73.

الذكر: أهل القرآن، والذكر: القران(1)، وقيل: أهل العلم(2). وعن الباقر عليه السلام:

(نحن أهل الذكر)(3).

بِالْبَيِّنٰاتِ يتعلّق ب - مٰا أَرْسَلْنٰا ويدخل تحت الاستثناء، أي: وما أرسلنا إلا رجا لا با لبيّنات، كما تقول: ما ضربت إلا زيدا با لسوط، وأصله: ضربت زيدا بالسوط، أو يتعلّق ب - رِجٰالاً صفة له، أي: رجالا ملتبسين بالبيّنات، أو ب - نُوحِي أي: نوحي إليهم بالبيّنات، وقوله: فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ [اعتراض.

وَ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ اَلذِّكْرَ أي: القرآن، إنّما سمّي ذكرا لأنّه موعظة وتنبيه للغافلين.

لِتُبَيِّنَ لِلنّٰاسِ مٰا نزل اللّه إِلَيْهِمْ في الذكر](4) مما أمروا به ونهوا عنه إرادة أن يتفكروا فينتبهوا.

[سورة النحل (16): الآیات 45 الی 50]

أَ فَأَمِنَ اَلَّذِينَ مَكَرُوا اَلسَّيِّئٰاتِ أَنْ يَخْسِفَ اَللّٰهُ بِهِمُ اَلْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ اَلْعَذٰابُ مِنْ حَيْثُ لاٰ يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمٰا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلىٰ تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلىٰ مٰا خَلَقَ اَللّٰهُ مِنْ شَيْ ءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلاٰلُهُ عَنِ اَلْيَمِينِ وَ اَلشَّمٰائِلِ سُجَّداً لِلّٰهِ وَ هُمْ دٰاخِرُونَ وَ لِلّٰهِ يَسْجُدُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ مِنْ دٰابَّةٍ وَ اَلْمَلاٰئِكَةُ وَ هُمْ لاٰ يَسْتَكْبِرُونَ يَخٰافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ مٰا يُؤْمَرُونَ

ص: 189


1- عن ابن زيد. تفسير الطبري ج 14:75.
2- تفسير الماوردي ج 3:189.
3- الكافي ج 1:211، تفسير الطبري ج 14:75.
4- ساقطة من ج.

أي: مَكَرُوا المكرات اَلسَّيِّئٰاتِ ، يريد: أهل مكة وما مكروا به رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

فِي تَقَلُّبِهِمْ حال، أي: متقلبين في أسفارهم ومتاجرهم.

عَلىٰ تَخَوُّفٍ أي: متخوّفين، وهو أن يهلك قوما قبلهم فيتخوّفوا، أي:

يَأْخُذَهُمْ العذاب وهم متخوّفون متوقعون، وهو خلاف قوله: مِنْ حَيْثُ لاٰ يَشْعُرُونَ ، وقيل: معناه: علي تنقّص(1)، أي: يأخذهم علي أن يتنقّصهم شيئا بعد شيء في أنفسهم وأموالهم حتى يهلكوا.

فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث يحلم عنكم ولا يعذّبكم عاجلا.

وقرئ: أَ وَ لَمْ يَرَوْا ، و يَتَفَيَّؤُا بالتاء والياء.

مٰا خَلَقَ اَللّٰهُ مٰا موصولة، وهو مبهم بيانه: مِنْ شَيْ ءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلاٰلُهُ .

و اَلْيَمِينِ بمعنى الأيمان سُجَّداً حال من الظلال وَ هُمْ دٰاخِرُونَ حال من الضمير في ظِلاٰلُهُ لأنه في معنى الجمع، وهو ما خلق اللّه من كل شيء له ظل، وجمع بالواو والنون لأنّ الدخور من أوصاف العقلاء، أو لأنّ في جملة ذلك من يعقل فغلّب العقلاء. والمعنى: أو لم يروا إلى ما خلق اللّه من الأجرام التي لها ظلال متفيّئة عن أيمانها وشمائلها، أي: عن جانبي كل واحد منها، مستعار من يمين الإنسان وشماله، أي: يرجع الظلال من جانب إلي جانب منقادة لله، غير ممتنعة عليه فيما سخرها له من التفيّؤ، والأجرام في أنفسها - أيضا - داخرة صاغرة منقادة لأفعال اللّه فيها.

مِنْ دٰابَّةٍ بيان ل - مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ جميعا، علي أنّ في

ص: 190


1- عن مجاهد وغيره. تفسير الطبري ج 14:78.

السماوات خلقا للّه يدبّون فيها، أو بيان ل - مٰا فِي اَلْأَرْضِ وحده، و يراد ب - مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ الملائكة، وكرر ذكرهم علي معنى: وَ اَلْمَلاٰئِكَةُ خصوصا من بين الساجدين لأنّهم أعبد الخلق، أو يراد ملائكة الأرض من الحفظة وغيرهم، [والمراد بسجود المكلفين: طاعتهم وعبادتهم، وبسجود غيرهم](1): انقيادها لإرادة اللّه وأنّها غير ممتنعة عليه.

يَخٰافُونَ حال من الضمير في لاٰ يَسْتَكْبِرُونَ ، أو استئناف لبيان نفي الاستكبار وتأكيده، لأنّ من خاف اللّه لم يستكبر عن عبادته.

مِنْ فَوْقِهِمْ إن تعلّق ب - يَخٰافُونَ فالمعنى: يخافونه أن يرسل عليهم عذابا من فوقهم، وإن تعلّق ب - رَبَّهُمْ فهو حال منه، أي: يخافون ربّهم غالبا لهم قاهرا، كقوله: وَ إِنّٰا فَوْقَهُمْ قٰاهِرُونَ (2).

[سورة النحل (16): الآیات 51 الی 55]

وَ قٰالَ اَللّٰهُ لاٰ تَتَّخِذُوا إِلٰهَيْنِ اِثْنَيْنِ إِنَّمٰا هُوَ إِلٰهٌ وٰاحِدٌ فَإِيّٰايَ فَارْهَبُونِ وَ لَهُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لَهُ اَلدِّينُ وٰاصِباً أَ فَغَيْرَ اَللّٰهِ تَتَّقُونَ وَ مٰا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اَللّٰهِ ثُمَّ إِذٰا مَسَّكُمُ اَلضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ ثُمَّ إِذٰا كَشَفَ اَلضُّرَّ عَنْكُمْ إِذٰا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمٰا آتَيْنٰاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ

إِلٰهَيْنِ اِثْنَيْنِ هو تأكيد للعدد ودلالة علي العناية به، ألا تري أنّك لو قلت: إنّما هو إله، ولم تؤكده بواحد لم يحسن، وخيل أنّك أثبت الإلهية لا الوحدانية.

فَإِيّٰايَ فَارْهَبُونِ نقل الكلام من الغيبة إلي التكلّم علي طريقة الالتفات، لأنّ الغائب هو المتكلّم، ولأنّه أبلغ في الترهيب من قوله: وإياه فارهبوه، ومن أن

ص: 191


1- ساقطة من ج.
2- الأعراف: 127.

يجيء ما قبله علي لفظ التكلّم.

و اَلدِّينُ : الطاعة، وٰاصِباً حال عمل فيها الظرف، والواصب:

الواجب الثابت، لأنّ كل نعمة منه فالطاعة واجبة له على كل منعم عليه، ويجوز أن يكون من الوصب، أي: وله الدين ذا كلفة ومشقة ولذلك سمّي تكليفا، أو وله الجزاء دائما ثابتا سرمدا لا يزال يعني: الثواب والعقاب.

وَ مٰا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ أي: ما اتصل بكم من نعمة في النفس أو المال فهو من اللّه.

و إليه تجئرون أي: فما تتضرّعون إلا إليه، والجؤار: رفع الصوت بالدعاء. وقرئ: تجرون، بطرح الهمزة وإلقاء حركتها علي الجيم.

إِذٰا فَرِيقٌ مِنْكُمْ يجوز أن يكون الضمير في وَ مٰا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ عاما ويريد بالفريق فريق الكفرة، وأن يكون الخطاب للكفار، و مِنْكُمْ للبيان لا للتبعيض، كأنّه قال: إذا فريق كافر وهم أنتم، ويجوز أن يكون فيهم من اعتبر، كقوله: فَلَمّٰا نَجّٰاهُمْ إِلَى اَلْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ (1).

لِيَكْفُرُوا بِمٰا آتَيْنٰاهُمْ من نعمة الكشف عنهم، كأنّهم جعلوا غرضهم في الشرك كفران النعمة.

فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ تخلية ووعيد، ويجوز أن يكون لِيَكْفُرُوا و فَتَمَتَّعُوا من الأمر الوارد بمعنى الخذلان والتخلية، واللام لام الأمر.

[سورة النحل (16): الآیات 56 الی 57]

وَ يَجْعَلُونَ لِمٰا لاٰ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ تَاللّٰهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمّٰا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ وَ يَجْعَلُونَ لِلّٰهِ اَلْبَنٰاتِ سُبْحٰانَهُ وَ لَهُمْ مٰا يَشْتَهُونَ

ص: 192


1- لقمان: 32.

[سورة النحل (16): الآیات 58 الی 60]

وَ إِذٰا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ يَتَوٰارىٰ مِنَ اَلْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مٰا بُشِّرَ بِهِ أَ يُمْسِكُهُ عَلىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي اَلتُّرٰابِ أَلاٰ سٰاءَ مٰا يَحْكُمُونَ لِلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ اَلسَّوْءِ وَ لِلّٰهِ اَلْمَثَلُ اَلْأَعْلىٰ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ

أي: لما لا يعلمونها، يريد: آلهتهم، لأنّهم اعتقدوا فيها أنّها تضرّ وتنفع وتشفع وهي جماد، فهم إذا جاهلون بها، وقيل: الضمير في لاٰ يَعْلَمُونَ للآلهة، أي: لأشياء غير موصوفة بالعلم، أي: يتقرّبون إليها، ف - يَجْعَلُونَ لها نَصِيباً في أنعامهم وزروعهم وهي لا تشعر بذلك.

لَتُسْئَلُنَّ وعيد عَمّٰا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ من الإفك في زعمكم أنّها آلهة، وأنّها أهل للتقرّب إليها.

زعموا أنّ الملائكة بنات اللّه سُبْحٰانَهُ تنزيه لذاته من نسبة الولد إليه، أو تعجّب من قولهم.

وَ لَهُمْ مٰا يَشْتَهُونَ يعني: البنين، ومحلّه نصب عطف علي اَلْبَنٰاتِ أي:

وجعلوا لأنفسهم ما يشتهونه من الذكور، أو رفع علي الابتداء.

و ظَلَّ بمعنى: صار، كما يستعمل أصبح وأمسى وبات بمعنى الصيرورة، أي: صار وَجْهُهُ مُسْوَدًّا مربدا من الكابة، فهو كَظِيمٌ مملوء حنقا على المرأة.

يَتَوٰارىٰ يستخفي مِنَ اَلْقَوْمِ مِنْ أجل سُوءِ المبشّر بِهِ ويحدّث نفسه وينظر أَ يُمْسِكُهُ عَلىٰ هوان وذل أَمْ يَدُسُّهُ فِي اَلتُّرٰابِ أي: يئده.

أَلاٰ سٰاءَ مٰا يَحْكُمُونَ حيث يجعلون الولد الذي هو عندهم بهذا المحلّ للّه تعالى، ويجعلون لأنفسهم من هو علي العكس من هذه الصفة.

ص: 193

مَثَلُ اَلسَّوْءِ أي: صفة السوء، وهي الحاجة إلي الولد، أو صفة النقص من الجهل والعجز.

وَ لِلّٰهِ اَلْمَثَلُ اَلْأَعْلىٰ وهو صفات الإلهية والغنى عن الصاحبة والولد، والنزاهة عن صفات المخلوقين.

[سورة النحل (16): الآیات 61 الی 65]

وَ لَوْ يُؤٰاخِذُ اَللّٰهُ اَلنّٰاسَ بِظُلْمِهِمْ مٰا تَرَكَ عَلَيْهٰا مِنْ دَابَّةٍ وَ لٰكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذٰا جٰاءَ أَجَلُهُمْ لاٰ يَسْتَأْخِرُونَ سٰاعَةً وَ لاٰ يَسْتَقْدِمُونَ وَ يَجْعَلُونَ لِلّٰهِ مٰا يَكْرَهُونَ وَ تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ اَلْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ اَلْحُسْنىٰ لاٰ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ اَلنّٰارَ وَ أَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ تَاللّٰهِ لَقَدْ أَرْسَلْنٰا إِلىٰ أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطٰانُ أَعْمٰالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اَلْيَوْمَ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ وَ مٰا أَنْزَلْنٰا عَلَيْكَ اَلْكِتٰابَ إِلاّٰ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ اَلَّذِي اِخْتَلَفُوا فِيهِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَ اَللّٰهُ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً فَأَحْيٰا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ

بِظُلْمِهِمْ أي: بكفرهم ومعاصيهم.

عَلَيْهٰا أي: علي الأرض، أي: لأهلك الدواب كلها بشؤم ظلم الظالمين، وقيل: ما ترك من دابة ظالمة تدبّ عليها(1)، وعن ابن عباس: (من مشرك)(2).

وَ يَجْعَلُونَ لِلّٰهِ مٰا يَكْرَهُونَ لأنفسهم من البنات ومن شركاء في رئاستهم و من الاستخفاف برسولهم، ويجعلون له أرذل أموالهم ولأصنامهم أكرمها وَ تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ مع ذلك اَلْكَذِبَ .

ص: 194


1- تفسير الماوردي ج 3:196.
2- الكشاف ج 2:613.

و أَنَّ لَهُمُ اَلْحُسْنىٰ بدل من اَلْكَذِبَ ، وهو قول قريش: لنا البنون، أو هو قولهم: إن كان ما يقوله محمّد حقّا فإنّ لنا الجنّة.

مُفْرَطُونَ قرئ مفتوح الراء ومكسورها، وبالتخفيف والتشديد، فالمفتوح بمعنى: مقدّمون إلي النار معجّلون إليها، من أفرطت فلانا وفرّطته في طلب الماء، أي: قدّمته، وقيل: منسيون متروكون(1)، من أفرطت فلانا خلفي: إذا خلّفته ونسيته. والمكسور المخفف من الإفراط في المعاصي، وبالتشديد من التفريط في الطاعات.

فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اَلْيَوْمَ أي: فهو قرينهم في الدنيا، جعل اَلْيَوْمَ عبارة عن زمان الدنيا، ويجوز أن يرجع الضمير إلى مشركي قريش، أي: زين اَلشَّيْطٰانُ للكفار قبلهم أَعْمٰالَهُمْ فهو ولي هؤلاء لأنّهم منهم.

وَ هُدىً وَ رَحْمَةً عطف علي محلّ لِتُبَيِّنَ .

و اَلَّذِي اِخْتَلَفُوا فِيهِ هو البعث، لأنّ بعضهم كان يؤمن به وأشياء من التحريم والتحليل.

لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع إنصاف وتدبر، لأنّ من لم يسمع بقلبه فكأنّه أصم.

[سورة النحل (16): الآیات 66 الی 69]

وَ إِنَّ لَكُمْ فِي اَلْأَنْعٰامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمّٰا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ لَبَناً خٰالِصاً سٰائِغاً لِلشّٰارِبِينَ وَ مِنْ ثَمَرٰاتِ اَلنَّخِيلِ وَ اَلْأَعْنٰابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَ أَوْحىٰ رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ أَنِ اِتَّخِذِي مِنَ اَلْجِبٰالِ بُيُوتاً وَ مِنَ اَلشَّجَرِ وَ مِمّٰا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ اَلثَّمَرٰاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً

ص: 195


1- عن سعيد بن جبير وغيره. تفسير الطبري ج 14:86.

[سورة النحل (16): الآیات 69 الی 70]

يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهٰا شَرٰابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوٰانُهُ فِيهِ شِفٰاءٌ لِلنّٰاسِ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَ اَللّٰهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفّٰاكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلىٰ أَرْذَلِ اَلْعُمُرِ لِكَيْ لاٰ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اَللّٰهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ

و قرئ: نُسْقِيكُمْ بفتح النون وضمها، هاهنا وفي (المؤمنون)(1) وهو استئناف، كأنّه قيل: كيف العبرة ؟ فقيل: بسقيكم مِمّٰا فِي بُطُونِهِ . وإذا ذكّر اَلْأَنْعٰامِ فعلي أن يكون اسما مفردا بمعنى الجمع، مثل نعم في قوله:

في كلّ عام نعم تحوونه *** يلقحه قوم وتنتجونه(2)

وإذا أنث فلأنّه تكسير (نعم)، والمعنى: أنّه سبحانه يخلق اللبن وسيطا بين الفرث والدم يكتنفانه، وبينه وبينهما برزخ من قدرة اللّه عزّ اسمه لا يشوبانه ولا يبغي أحدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة، بل هو خالص من ذلك كله.

سٰائِغاً أي: سهل المرور في الحلق.

و مِنْ الأولي للتبعيض، لأنّ اللبن بعض ما في بطونه، والثانية لابتداء الغاية، لأنّ بين الفرث والدم مكان الاستقاء الذي منه يبتدئ.

وَ مِنْ ثَمَرٰاتِ اَلنَّخِيلِ يتعلّق بمحذوف، والتقدير: ونسقيكم من ثمرات النخيل وَ اَلْأَعْنٰابِ أي: من عصيرها، و تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً بيان لكيفية الإسقاء، أو يتعلّق ب - تَتَّخِذُونَ وتكون مِنْهُ تكريرا للظرف للتوكيد، والهاء في مِنْهُ يعود إلى الثمرات، لأنّ الثمر بمعنى الثمرات، ويجوز أن يعود إلى موصوف محذوف و تَتَّخِذُونَ صفة له، والتقدير: ما تتخذون منه سكرا،

ص: 196


1- الآية: 21.
2- البيت لقيس بن حصين الحارثي. خزانة الادب ج 1:412.

وتكون (ما) نكرة موصوفة، أو ثمر تتخذون منه سكرا وَ رِزْقاً حَسَناً لأنّهم كانوا يأكلون بعضها ويتخذون بعضها سكرا. والسكر: الخمر وكل ما يسكر، سمّيت بالمصدر من سكر سكرا وسكرا، قال:

فجاؤونا بهم سكر علينا *** فأجلى اليوم والسّكران صاحي(1)

والرزق الحسن: ما هو حلال منها كالخل والدبس والتمر والزبيب.

وَ أَوْحىٰ رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ أي: ألهمها وقذف في قلوبها وعلّمها علي وجه لا سبيل لأحد إلي الوقوف عليه، فأنّ صنعتها الأنيقة ولطفها في تدبير أمرها والعجائب المركبة في طباعها شواهد بيّنة علي أنّ اللّه سبحانه أودعها علما بذلك.

أَنِ اِتَّخِذِي هي (أن) المفسّرة، لأنّ الإيحاء فيه معنى القول، وقرئ: بيوتا بكسر الباء لأجل الياء في جميع القرآن، و يَعْرِشُونَ بضم الراء وكسرها، أي:

ومن الكرم الذي يعرشونه، أي: يتخذون منه العريش، و الضمير في يَعْرِشُونَ للناس. و مِنَ في جميعها للتبعيض، لأنّها لا تبني بيوتها في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش ولا في كل مكان منها.

ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ اَلثَّمَرٰاتِ أي: من أي ثمرة شئت و اشتهيت، فإذا أكلتها فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ أي: الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل، أو إذا أكلت الثمار فاسلكي إلى بيوتك راجعة سبل ربّك لا تتوعر عليك ولا تضلين فيها.

و ذُلُلاً جمع ذلول حال من سُبُلَ رَبِّكِ ، لأنّ اللّه ذللها لها وسهلها، أو من الضمير في فَاسْلُكِي أي: وأنت ذلل منقادة لما أمرت به.

يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهٰا شَرٰابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوٰانُهُ يعني: العسل اختلفت ألوانه:

ص: 197


1- أساس البلاغة: 450 دون نسبة، وكذا في المصادر المتوفرة.

أبيض وأصفر وأحمر فِيهِ شِفٰاءٌ لِلنّٰاسِ لأنّه من جملة الأشفية والأدوية المشهورة، وتنكيره: إما لتعظيم الشفاء الذي فيه، أو لأنّ فيه بعض الشفاء، وقال: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهٰا وإن كانت تلقيه من أفواهها كالريق، لئلا يظن أنّه ليس من بطنها.

إِلىٰ أَرْذَلِ اَلْعُمُرِ أي: أخسّه وأحقره، وهو خمس وسبعون سنة عن عليّ عليه السلام(1)، وتسعون سنة عن قتادة(2)، لأنّه لا عمر أسوء حالا من عمر الهرم.

لِكَيْ لاٰ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً ليصير إلى حال شبيهة بحال الطفولة في النسيان، وأن يعلم شيئا ثمّ ينسى فلا يعلمه إن سئل عنه، وقيل: لئلا يعلم زيادة علم علي علمه.

[سورة النحل (16): الآیات 71 الی 74]

وَ اَللّٰهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلىٰ بَعْضٍ فِي اَلرِّزْقِ فَمَا اَلَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلىٰ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوٰاءٌ أَ فَبِنِعْمَةِ اَللّٰهِ يَجْحَدُونَ وَ اَللّٰهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوٰاجاً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوٰاجِكُمْ بَنِينَ وَ حَفَدَةً وَ رَزَقَكُمْ مِنَ اَلطَّيِّبٰاتِ أَ فَبِالْبٰاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَتِ اَللّٰهِ هُمْ يَكْفُرُونَ وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مٰا لاٰ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ شَيْئاً وَ لاٰ يَسْتَطِيعُونَ فَلاٰ تَضْرِبُوا لِلّٰهِ اَلْأَمْثٰالَ إِنَّ اَللّٰهَ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ

أي: جعلكم متفاوتين فِي اَلرِّزْقِ فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم وهم بشر مثلكم، فأنتم لا تسوون بينكم وبينهم فيما أنعم اللّه به عليكم، ولا تجعلونهم فيه شركاء، ولا ترضون ذلك لأنفسكم، فكيف رضيتم أن تجعلوا عبيده له شركاء،

ص: 198


1- التبيان ج 6:405، تفسير الطبري ج 14:95.
2- معالم التنزيل ج 2:209.

وتوجّهوا العبادة والقرب إليهم كما توجّهون ذلك إليه ؟!. وقيل: معناه: إنّ الموالي والمماليك اللّه رازقهم جميعا فهم سواء في رزقه سَوٰاءٌ فلا يحسب الموالي أنّهم يرزقونهم من عندهم، و إنّما هو رزق اللّه أجراه إليهم علي أيديهم، وقيل: معناه: فلم يرد الموالي فضل ما رزقوه علي مماليكهم حتى يتساووا في المطعم والملبس. ويحكى عن أبي ذر: أنّه سمع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يقول: (إنّما هم إخوانكم فاكسوهم مما تلبسون وأطعموهم مما تطعمون)(1)، فما رئي عبده بعد ذلك إلا ورداؤه رداؤه وإزاره إزاره من غير تفاوت.

أَ فَبِنِعْمَةِ اَللّٰهِ يَجْحَدُونَ فجعل ذلك من جملة جحود النعمة. و قرئ:

يَجْحَدُونَ بالياء والتاء.

مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي: من جنسكم.

وَ حَفَدَةً أي: خدما وأعوانا. الصادق عليه السلام: (هم أختان الرجل علي بناته)(2). وقيل: هم أولاد الأولاد(3)، وهو جمع حافد، وحفد الرجل: أسرع في الطاعة والخدمة. وفي الدعاء: (إليك نسعى ونحفد)(4).

مِنَ اَلطَّيِّبٰاتِ يعني: بعضها.

أَ فَبِالْبٰاطِلِ يُؤْمِنُونَ وهو ما يعتقدون من منفعة الأصنام وشفاعتها ويكفرون بِنِعْمَةِ اَللّٰهِ المشاهدة التي لا شبهة فيها، وقيل: يريد بنعمة اللّه: رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والقران والإسلام، أي: هم كافرون بها منكرون لها.

ص: 199


1- سنن أبي داود ج 4:342 ح 5158، أمالي الشيخ الطوسي ج 2:18.
2- تفسير القمي ج 1:387.
3- عن ابن عباس وغيره. تفسير الطبري ج 14:98.
4- المزار: 121، مصنف عبد الرزاق 3:119.

رِزْقاً مصدر و شَيْئاً منتصب به، كقوله: أَوْ إِطْعٰامٌ ... يَتِيماً... أَوْ مِسْكِيناً (1)، أي: مٰا لاٰ يَمْلِكُ أن يرزق شيئا، ويجوز أن يكون بمعنى ما يرزق، فيكون شَيْئاً بدلا منه بمعنى قليلا.

و مِنَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ صلة للرزق إن كان مصدرا، بمعنى: لا يرزق من السماوات مطرا و من الأرض نباتا، أو صفة إن كان اسما لما يرزق.

و الضمير في وَ لاٰ يَسْتَطِيعُونَ ل - مٰا لأنه في معنى الآلهة بعدما قيل:

لاٰ يَمْلِكُ علي اللفظ، ويجوز أن يكون للكفار، أي: ولا يستطيعون مع أنّهم أحياء شيئا من ذلك فكيف بالجماد؟!.

فَلاٰ تَضْرِبُوا لِلّٰهِ اَلْأَمْثٰالَ [تمثيل للإشراك باللّه والتشبيه به، لأنّ من يضرب الأمثال](2) يشبه حالا بحال وقصّة بقصّة.

إِنَّ اَللّٰهَ يَعْلَمُ ما تفعلونه ويعاقبكم عليها وَ أَنْتُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ ذلك.

[سورة النحل (16): الآیات 75 الی 77]

ضَرَبَ اَللّٰهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لاٰ يَقْدِرُ عَلىٰ شَيْ ءٍ وَ مَنْ رَزَقْنٰاهُ مِنّٰا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَ جَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ وَ ضَرَبَ اَللّٰهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمٰا أَبْكَمُ لاٰ يَقْدِرُ عَلىٰ شَيْ ءٍ وَ هُوَ كَلٌّ عَلىٰ مَوْلاٰهُ أَيْنَمٰا يُوَجِّهْهُ لاٰ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ هُوَ عَلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَ لِلّٰهِ غَيْبُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مٰا أَمْرُ اَلسّٰاعَةِ إِلاّٰ كَلَمْحِ اَلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اَللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ

ص: 200


1- البلد: 14-16.
2- ساقطة من أ.

ذكر مَمْلُوكاً ليميز العبد من الحر لأنّهما من عباد اللّه.

و مَنْ في قوله: وَ مَنْ رَزَقْنٰاهُ موصوفة، أي: وحرا رزقناه ليطابق عَبْداً ، ويجوز أن تكون موصولة.

و هل يستون معناه: هل يستوي الأحرار والعبيد؟ وإذا كان القادر والعاجز لا يستويان، فكيف يسوّى بين الحجارة وبين اللّه القادر علي ما يشاء الرازق جميع خلقه ؟!.

الأبكم: الذي ولد أخرس فلا يفهم ولا يفهم.

وَ هُوَ كَلٌّ عَلىٰ مَوْلاٰهُ أي: ثقل وعيال علي من يلي أمره ويعوله.

أَيْنَمٰا يُوَجِّهْهُ حيثما يرسله في حاجة أو يصرفه في كفاية مهم لم ينفع ولم يَأْتِ بنجح ولا يهتدي إلي منفعة.

هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَ مَنْ كان سليم الحواس نفاعا كافيا ذا رشد وديانة فهو يَأْمُرُ الناس بِالْعَدْلِ والخير وَ هُوَ في نفسه عَلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ أي: دين قويم وسيرة صالحة.

وهذان مثلان ضربهما اللّه لنفسه ولما يفيضه علي عباده من النعم الدينية والدنيوية، وللأصنام التي هي جماد وموات لا تنفع ولا تضرّ، وقيل: ضربهما اللّه مثلين للكافر والمؤمن(1).

وَ لِلّٰهِ غَيْبُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ أي: يختص به علم ما غاب منهما عن العباد وخفي عليهم علمه.

إِلاّٰ كَلَمْحِ اَلْبَصَرِ أي: هو عند اللّه وإن تراخى، كما يقولونه في الشيء

ص: 201


1- عن ابن عباس. تفسير الطبري ج 14:100.

الذي يستقربونه: هو كلمح البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إذا بالغتم في استقرابه، ونحوه: وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمّٰا تَعُدُّونَ (1)، يعني: إنّه عنده قريب دان وهو عندكم بعيد، وقيل: معناه: إنّ إقامة الساعة وإحياء جميع الأموات تكون في أقرب وقت وأوحاه.

إِنَّ اَللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فهو يقدر علي أن يقيم الساعة.

[سورة النحل (16): الآیات 78 الی 80]

وَ اَللّٰهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهٰاتِكُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ جَعَلَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصٰارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أَ لَمْ يَرَوْا إِلَى اَلطَّيْرِ مُسَخَّرٰاتٍ فِي جَوِّ اَلسَّمٰاءِ مٰا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اَللّٰهُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَ اَللّٰهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ اَلْأَنْعٰامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهٰا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَ يَوْمَ إِقٰامَتِكُمْ وَ مِنْ أَصْوٰافِهٰا وَ أَوْبٰارِهٰا وَ أَشْعٰارِهٰا أَثٰاثاً وَ مَتٰاعاً إِلىٰ حِينٍ

قرئ: أُمَّهٰاتِكُمْ بضم الهمزة وكسرها في جميع القرآن.

لاٰ تَعْلَمُونَ شَيْئاً في موضع الحال، المعنى: غير عالمين شيئا من حقّ المنعم الذي خلقكم في البطون، ويجوز أن يكون شَيْئاً مصدرا، والمعنى: لا تعلمون علما.

وَ جَعَلَ لَكُمُ أي: و ركّب فيكم هذه الأشياء لإزالة الجهل الذي ولدتم عليه، واكتساب العلم والعمل به من شكر المنعم وطاعته وعبادته.

وقرئ: أَ لَمْ يَرَوْا بالياء والتاء.

ص: 202


1- الحج: 47.

مُسَخَّرٰاتٍ مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المؤاتية لذلك، والجو: الهواء المتباعد من الأرض في سمت العلو، والسكاك واللوح أبعد منه.

مٰا يُمْسِكُهُنَّ في قبضهن وبسطهن ووقوفهن إِلاَّ اَللّٰهُ جل جلاله.

مِنْ بُيُوتِكُمْ التي تسكنونها من الحجر والمدر والخيام والأخبية.

سَكَناً هو فعل بمعنى مفعول، وهو ما يسكن إليه من بيت أو إلف(1).

بُيُوتاً هي القباب من الأدم والأنطاع.

تَسْتَخِفُّونَهٰا ترونها خفيفة المحمل يَوْمَ ظَعْنِكُمْ أي: ارتحالكم من بلد إلى بلد. وقرئ بفتح العين وسكونها.

وَ يَوْمَ إِقٰامَتِكُمْ أي: تخف عليكم في أوقات السفر والحضر جميعا.

وَ مَتٰاعاً أي: شيئا ينتفع به إِلىٰ حِينٍ إلى أن تبلى، أو إلي أن تموتوا.

[سورة النحل (16): الآیات 81 الی 85]

وَ اَللّٰهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمّٰا خَلَقَ ظِلاٰلاً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْجِبٰالِ أَكْنٰاناً وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرٰابِيلَ تَقِيكُمُ اَلْحَرَّ وَ سَرٰابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذٰلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمٰا عَلَيْكَ اَلْبَلاٰغُ اَلْمُبِينُ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اَللّٰهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهٰا وَ أَكْثَرُهُمُ اَلْكٰافِرُونَ وَ يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لاٰ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ لاٰ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ وَ إِذٰا رَأَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا اَلْعَذٰابَ فَلاٰ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَ لاٰ هُمْ يُنْظَرُونَ

ص: 203


1- الإلف: الأليف. (الصحاح: مادة ألف).

مِمّٰا خَلَقَ من الأشجار والأبنية أشياء تستظلون بها في الحر والبرد أَكْنٰاناً جمع (كن) وهو ما يستكن به من الغيران والبيوت المنحوتة في الجبال.

سَرٰابِيلَ أي: قمصا من القطن والكتان والصوف وغيرها تَقِيكُمُ اَلْحَرَّ ، ولم يذكر البرد لأنّ الوقاية من الحر عندهم أهم، ودلّ ذكر الحر علي البرد.

وَ سَرٰابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ يريد الدروع والجواشن. والسربال عام يقع علي كل ما كان من حديد أو غيره.

لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ تنظرون في نعمه الفاشية فتؤمنون به وتنقادون له.

فَإِنْ تَوَلَّوْا فلم يقبلوا منك فقد أعذرت وأديت ما وجب عليك من التبليغ.

يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اَللّٰهِ التي عددناها حيث يعترفون بها وأنّها من اللّه ثُمَّ يُنْكِرُونَهٰا بعبادتهم غير اللّه وَ أَكْثَرُهُمُ الجاحدون، وقيل: نعمة اللّه:

نبوّة محمّد صلى الله عليه و آله و سلم(1) كانوا يعرفونها ثمّ ينكرونها عنادا، وأكثرهم المنكرون بقلوبهم.

شَهِيداً وهو نبيّها أو إمامها القائم مقامه يشهد لهم وعليهم بالإيمان والتصديق والكفر والتكذيب.

ثُمَّ لاٰ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا في الاعتذار، والمعنى: لا حجّة لهم، فدلّ بترك الإذن علي أن لا حجّة لهم ولا عذر.

وَ لاٰ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ يسترضون، أي: لا يقال لهم: أرضوا ربّكم، لأنّ الآخرة ليست بدار تكليف.

ص: 204


1- عن السدي. تفسير الطبري ج 14:105.

وانتصب يَوْمَ نَبْعَثُ بمحذوف، والتقدير: واذكر يوم نبعث، أو: يوم نبعث وقعوا فيما وقعوا فيه.

وكذا قوله: وَ إِذٰا رأوا اَلْعَذٰابَ أي: إذا رأوه ثقل عليهم فَلاٰ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ .

[سورة النحل (16): الآیات 86 الی 90]

وَ إِذٰا رَأَى اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكٰاءَهُمْ قٰالُوا رَبَّنٰا هٰؤُلاٰءِ شُرَكٰاؤُنَا اَلَّذِينَ كُنّٰا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ اَلْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكٰاذِبُونَ وَ أَلْقَوْا إِلَى اَللّٰهِ يَوْمَئِذٍ اَلسَّلَمَ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مٰا كٰانُوا يَفْتَرُونَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ زِدْنٰاهُمْ عَذٰاباً فَوْقَ اَلْعَذٰابِ بِمٰا كٰانُوا يُفْسِدُونَ وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ جِئْنٰا بِكَ شَهِيداً عَلىٰ هٰؤُلاٰءِ وَ نَزَّلْنٰا عَلَيْكَ اَلْكِتٰابَ تِبْيٰاناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرىٰ لِلْمُسْلِمِينَ إِنَّ اَللّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسٰانِ وَ إِيتٰاءِ ذِي اَلْقُرْبىٰ وَ يَنْهىٰ عَنِ اَلْفَحْشٰاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ وَ اَلْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ

شُرَكٰاؤُنَا أي: آلهتنا التي دعوناها شركاء.

فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ اَلْقَوْلَ أي: قال الذين عبدوهم لهم بإنطاق اللّه إيّاهم:

إِنَّكُمْ لَكٰاذِبُونَ في إنّا أمرناكم بعبادتنا أو في قولكم: إنّا آلهة.

وَ أَلْقَوْا يعني: الذين أشركوا اَلسَّلَمَ أي: الاستسلام لأمر اللّه وحكمه بعد الإباء والاستكبار في الدنيا.

وَ ضَلَّ عَنْهُمْ أي: بطل عنهم مٰا كٰانُوا يَفْتَرُونَ من أنّ للّه شركاء و أنّهم يشفعون لهم.

ص: 205

اَلَّذِينَ كَفَرُوا وحملوا غيرهم على الكفر يضاعف اللّه عقابهم كما ضاعفوا كفرهم بِمٰا كٰانُوا يُفْسِدُونَ بكونهم مفسدين للناس بصدهم عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ .

شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ يعني: نبيّهم الذي أرسل إليهم، أو الحجّة الذي هو إمام عصرهم.

وَ جِئْنٰا بِكَ يا محمّد شَهِيداً عَلىٰ هٰؤُلاٰءِ أي: أمّتك.

تِبْيٰاناً أي: بيانا بليغا لِكُلِّ شَيْ ءٍ من أمور الدين، فما من شيء منها إلا وقد بيّن في القران: إما بالنص عليه، أو الإحالة علي ما يوجب العلم من بيان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، أو الحجج القائمين مقامه، أو إجماع الأمة، فيكون علي هذا حكم جميعها مستفادا من القران.

بِالْعَدْلِ بالواجب من الإنصاف بين الخلق وغير ذلك.

وَ اَلْإِحْسٰانِ و هو التفضل والندب، ولفظ الإحسان جامع لكل خير.

وَ إِيتٰاءِ ذِي اَلْقُرْبىٰ وإعطاء الأقارب جميعا حقّهم وصلتهم، وقيل:

هم قرابة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم(1).

وَ يَنْهىٰ عَنِ اَلْفَحْشٰاءِ أي: الفاحشة وهي ما جاوز حدود اللّه وَ اَلْمُنْكَرِ ما تنكره العقول وَ اَلْبَغْيِ طلب التطاول بالظلم.

[سورة النحل (16): الآیات 91 الی 92]

وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اَللّٰهِ إِذٰا عٰاهَدْتُمْ وَ لاٰ تَنْقُضُوا اَلْأَيْمٰانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهٰا وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اَللّٰهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اَللّٰهَ يَعْلَمُ مٰا تَفْعَلُونَ وَ لاٰ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهٰا مِنْ بَعْدِ

ص: 206


1- عن الباقر عليه السلام. تفسير العياشي ج 2:267.

[سورة النحل (16): الآیات 92 الی 94]

قُوَّةٍ أَنْكٰاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمٰانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبىٰ مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمٰا يَبْلُوكُمُ اَللّٰهُ بِهِ وَ لَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ مٰا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وٰاحِدَةً وَ لٰكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ وَ لَتُسْئَلُنَّ عَمّٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَ لاٰ تَتَّخِذُوا أَيْمٰانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهٰا وَ تَذُوقُوا اَلسُّوءَ بِمٰا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ لَكُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ

عهد اللّه: هو البيعة لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم علي الإسلام والإيمان لقوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يُبٰايِعُونَكَ إِنَّمٰا يُبٰايِعُونَ اَللّٰهَ (1).

وَ لاٰ تَنْقُضُوا اَلْأَيْمٰانَ البيعة بَعْدَ تَوْكِيدِهٰا أي: بعد توثيقها باسم اللّه، وأكّد ووكّد لغتان، وا لأصل: الواو والهمزة بدل منه.

وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اَللّٰهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً رقيبا وشاهدا، لأنّ الكفيل يراقب حال المكفول به ويراعيه.

وَ لاٰ تَكُونُوا في نقض الأيمان كالمرأة الَّتِي غزلت ثمّ نَقَضَتْ غَزْلَهٰا بعد إبرامه وإحكامه فجعلته أَنْكٰاثاً جمع نكث، وهو ما ينكث فتله، وهي ريطة بنت سعد بن تيم بن مرة من قريش، كانت تغزل مع جواريها إلى انتصاف النهار ثمّ تأمرهنّ فينقضن ما غزلن.

أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ بسبب أن تكون أمة، يعني: جماعة قريش هِيَ أَرْبىٰ مِنْ أُمَّةٍ أي: أزيد عددا وأوفر ما لا من أمّة من جماعة المؤمنين.

ص: 207


1- الفتح: 10.

إِنَّمٰا يَبْلُوكُمُ اَللّٰهُ بِهِ الضمير لقوله: أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ لأنّه في معنى المصدر، أي: إنّما يختبركم بكونهم أربى لينظر أتوفون بعهد اللّه وبيعة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أم تغترّون بكثرة قريش وقوّتهم وثروتهم وقلة غيرهم من المؤمنين وصفهم وفقرهم.

وَ لَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ وعيد وتحذير من مخالفة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم.

وَ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وٰاحِدَةً مسلمة مؤمنة وَ لٰكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشٰاءُ وهو أن يخذل من علم أنّه يختار الضلال والكفر، ويلطف بمن علم أنّه يختار الإيمان، يعني: إنّه بني الأمر علي الاختيار لا علي الإجبار، وحقّق ذلك بقوله:

وَ لَتُسْئَلُنَّ عَمّٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ .

ثمّ كرر النهي عن اتخاذ الأيمان دَخَلاً بينهم، تأكيدا عليهم، والدخل: أن يكون الباطن خلاف الظاهر، فيكون داخل القلب علي الكفر والظاهر علي الوفاء.

فَتَزِلَّ قَدَمٌ أي: فتزل أقدامكم عن محجّة الإسلام بَعْدَ ثُبُوتِهٰا عليها، و إنّما وحّدت القدم ونكّرت لاستعظام أن تزلّ قدم واحدة عن طريق الحقّ بعد أن ثبتت عليه فكيف بأقدام كثيرة.

وَ تَذُوقُوا اَلسُّوءَ في الدنيا بصدودكم عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ أو بصدّكم غيركم عنها، لأنّهم لو نقضوا أيمان البيعة وارتدّوا لاتخذوا نقضها سنة لغيرهم يستنون بها وَ لَكُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ في الآخرة. الصادق عليه السلام: (نزلت هذه الآية في ولاية عليّ عليه السلام والبيعة له حين قال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: سلّموا علي عليّ بإمرة المؤمنين)(1).

ص: 208


1- تفسير العياشي ج 2:268.

[سورة النحل (16): الآیات 95 الی 100]

وَ لاٰ تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اَللّٰهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمٰا عِنْدَ اَللّٰهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مٰا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ مٰا عِنْدَ اَللّٰهِ بٰاقٍ وَ لَنَجْزِيَنَّ اَلَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ مَنْ عَمِلَ صٰالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثىٰ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيٰاةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ فَإِذٰا قَرَأْتَ اَلْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّٰهِ مِنَ اَلشَّيْطٰانِ اَلرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطٰانٌ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمٰا سُلْطٰانُهُ عَلَى اَلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ

وَ لاٰ تستبدلوا بِعَهْدِ اَللّٰهِ وبيعة رسول اللّه ثَمَناً قَلِيلاً عرضا يسيرا من الدنيا إِنَّمٰا عِنْدَ اَللّٰهِ من الثواب علي الوفاء بالعهود خَيْرٌ لَكُمْ وأشرف إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الفرق بين الخير والشرّ.

مٰا عِنْدَكُمْ من متاع الدنيا يَنْفَدُ أي: يفنى. وقرئ: لنجزين بالياء وا لنون.

حَيٰاةً طَيِّبَةً يعني: في الدنيا، وهو الظاهر لقوله: وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ ، وعده اللّه ثواب الدنيا و الآخرة، وعن ابن عباس: (الحياة الطيبة: الرزق الحلال)(1)، وعن الحسن: (القناعة)(2)، وقيل: يعني في الجنّة(3)، ولا يطيب لمؤمن حياة إلا في الجنّة.

ولما ذكر العمل الصالح وثوابه وصل به قوله: فَإِذٰا قَرَأْتَ اَلْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ

ص: 209


1- تفسير الطبري ج 14:114.
2- تفسير الطبري ج 14:115.
3- عن قتادة وغيره. تفسير الطبري ج 14:115.

بِاللّٰهِ ليعلم أنّ الاستعاذة من جملة العمل الصالح، يعني: فإذا أردت قراءة القرآن فاستعذ، كقوله: إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاٰةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ (1) وكما تقول: إذا أكلت فسمّ اللّه، وإنّما عبّر عن إرادة الفعل بلفظ الفعل، لأنّ الفعل يوجد عند القصد والإرادة بغير فاصل.

لَيْسَ لَهُ سُلْطٰانٌ أي: تسلط علي أولياء اللّه، يعني: أنّهم لا يقبلون منه ما يريده منهم إِنَّمٰا سُلْطٰانُهُ عَلَى من يتولاه ويطيعه.

بِهِ مُشْرِكُونَ الضمير في بِهِ يرجع إلى رَبِّهِمْ ، ويجوز أن يرجع إلى اَلشَّيْطٰانِ أي: بسببه مشركون.

[سورة النحل (16): الآیات 101 الی 105]

وَ إِذٰا بَدَّلْنٰا آيَةً مَكٰانَ آيَةٍ وَ اَللّٰهُ أَعْلَمُ بِمٰا يُنَزِّلُ قٰالُوا إِنَّمٰا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ اَلْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هُدىً وَ بُشْرىٰ لِلْمُسْلِمِينَ وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمٰا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسٰانُ اَلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هٰذٰا لِسٰانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ إِنَّ اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِآيٰاتِ اَللّٰهِ لاٰ يَهْدِيهِمُ اَللّٰهُ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ إِنَّمٰا يَفْتَرِي اَلْكَذِبَ اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِآيٰاتِ اَللّٰهِ وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْكٰاذِبُونَ

تبديل الآية مَكٰانَ الآية هو النسخ.

وَ اَللّٰهُ أَعْلَمُ بِمٰا يُنَزِّلُ فينزل في كل وقت ما توجبه المصلحة، وما كان مصلحة أمس جاز أن يصير مفسدة اليوم وخلافه مصلحة، وهو سبحانه عالم بالمصالح كلها.

ص: 210


1- المائدة: 6.

قٰالُوا إِنَّمٰا أَنْتَ مُفْتَرٍ أي: كاذب تأمر أمس بأمر واليوم بخلافه.

بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ جواز النسخ، وأنّه من عند اللّه لجهلهم.

قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ اَلْقُدُسِ يعني: جبرئيل، أضيف إلى اَلْقُدُسِ وهو الطهر كقولهم: حاتم الجود، وزيد الخير، والمراد: الروح المقدس، وحاتم الجواد، وزيد الخير. والمقدس: المطهر من المآثم. وفي يُنَزِّلُ و نَزَّلَهُ من المعنى أنّه نزّله شيئا بعد شيء علي حسب المصالح، وفيه إشارة إلي أنّ التبديل أيضا من باب المصالح.

بِالْحَقِّ في موضع الحال من الهاء في نَزَّلَهُ أي: ملتبسا بالحكمة، يعني: أنّ النسخ من جملة الحقّ .

لِيُثَبِّتَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بما فيه من الحجج و البيّنات فيزدادوا تصديقا ويقولوا: هو الحقّ من ربّنا.

وَ هُدىً وَ بُشْرىٰ معطوفان علي محلّ لِيُثَبِّتَ والتقدير: تثبيتا لهم وهداية وتبشيرا.

إِنَّمٰا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ قالوا: يعلّمه غلام رومي كان لحويطب بن عبد العزّى اسمه: عايش أو يعيش، أسلم وحسن إسلامه وكان صاحب كتاب، وقيل: هو سلمان الفارسي(1) قالوا: إنّه يتعلم القصص منه.

لِسٰانُ اَلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ أي: لغة الذي يضيفون إليه التعليم ويميلون إليه القول أعجمية، من ألحد القبر ولحده فهو ملحد وملحود: إذا أمال حفره عن الاستقامة، ثمّ استعير ذلك لكل إمالة عن استقامة، فقالوا: ألحد

ص: 211


1- عن الضحاك. تفسير الطبري ج 14:120.

فلان في قوله، وألحد في دينه.

وَ هٰذٰا يعني: القران لِسٰانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ذو بيان وفصاحة.

وقرئ: يلحدون بفتح الياء والحاء.

إِنَّ اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِآيٰاتِ اَللّٰهِ أي: يعلم اللّه منهم أنّهم لا يؤمنون لاٰ يَهْدِيهِمُ اَللّٰهُ لا يلطف بهم ويخذلهم.

إِنَّمٰا يَفْتَرِي اَلْكَذِبَ رد لقولهم: إِنَّمٰا أَنْتَ مُفْتَرٍ ، أي: إنّما يليق افتراء الكذب بمن لا يؤمن باللّه، لأنّ الإيمان يمنع من الكذب.

[سورة النحل (16): الآیات 106 الی 110]

مَنْ كَفَرَ بِاللّٰهِ مِنْ بَعْدِ إِيمٰانِهِ إِلاّٰ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ وَ لٰكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اَللّٰهِ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اِسْتَحَبُّوا اَلْحَيٰاةَ اَلدُّنْيٰا عَلَى اَلْآخِرَةِ وَ أَنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْكٰافِرِينَ أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ طَبَعَ اَللّٰهُ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ أَبْصٰارِهِمْ وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْغٰافِلُونَ لاٰ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ هُمُ اَلْخٰاسِرُونَ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هٰاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مٰا فُتِنُوا ثُمَّ جٰاهَدُوا وَ صَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهٰا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ

مَنْ كَفَرَ بدل من اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِآيٰاتِ اَللّٰهِ ، والمعنى: إنّما يفتري الكذب مَنْ كَفَرَ بِاللّٰهِ مِنْ بَعْدِ إِيمٰانِهِ واستثنى منهم المكره. ويجوز أن ينتصب على الذم، أو يكون شرطا مبتدأ محذوف الجواب، لأنّ جواب مَنْ شَرَحَ يدلّ عليه، كأنّه قيل: من كفر باللّه فعليهم غضب من اللّه، إلا من أكره. وروي:

أنّ أناسا من أهل مكة ارتدّوا عن الإسلام، وكان فيهم من أكره فأجري كلمة

ص: 212

الكفر علي لسانه وهو معتقد للإيمان، منهم عمار وأبواه ياسر وسمية، وصهيب وبلال وخباب، وقتل أبو عمار وأمه فأعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا، فقال قوم من المسلمين: كفر عمار، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: (كلا، إنّ عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه. وجاء عمار إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو يبكي، فقال له: ما وراءك ؟ قال: شرّ يا رسول اللّه، ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، فجعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يمسح عينيه ويقول: مالك، إن عادوا لك فعد لهم بما قلت)(1).

ذٰلِكَ إشارة إلي الوعيد بسبب استحبابهم اَلدُّنْيٰا عَلَى اَلْآخِرَةِ واستحقاقهم خذلان اللّه بكفرهم.

أُولٰئِكَ هُمُ الكاملون في الغفلة فلا أحد أغفل منهم، إذ غفلوا عن تدبر عاقبة حالهم في الآخرة وذلك غاية الغفلة.

ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ دلالة علي تباعد حال هؤلاء من حال أولئك وهم عمار وأصحابه، ومعنى إنّ ربّك لهم: إنّه لهم لا عليهم، بمعنى: إنّه وليهم وناصرهم لا عدوهم وخاذلهم. وقيل: إنّ خبر إِنَّ قوله: غَفُورٌ رَحِيمٌ ، وهذا من باب ما جاء في القرآن تكرير إِنَّ ، وكذلك الآية التي فيما بعد: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا اَلسُّوءَ بِجَهٰالَةٍ ... .

مِنْ بَعْدِ مٰا فُتِنُوا أي: عذّبوا في اللّه وأكرهوا علي الكفر فأعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرّهم.

ص: 213


1- أسباب النزول: 198.

[سورة النحل (16): الآیات 111 الی 115]

يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجٰادِلُ عَنْ نَفْسِهٰا وَ تُوَفّٰى كُلُّ نَفْسٍ مٰا عَمِلَتْ وَ هُمْ لاٰ يُظْلَمُونَ وَ ضَرَبَ اَللّٰهُ مَثَلاً قَرْيَةً كٰانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهٰا رِزْقُهٰا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكٰانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اَللّٰهِ فَأَذٰاقَهَا اَللّٰهُ لِبٰاسَ اَلْجُوعِ وَ اَلْخَوْفِ بِمٰا كٰانُوا يَصْنَعُونَ وَ لَقَدْ جٰاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ اَلْعَذٰابُ وَ هُمْ ظٰالِمُونَ فَكُلُوا مِمّٰا رَزَقَكُمُ اَللّٰهُ حَلاٰلاً طَيِّباً وَ اُشْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّٰاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمٰا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةَ وَ اَلدَّمَ وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ وَ مٰا أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّٰهِ بِهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لاٰ عٰادٍ فَإِنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

انتصب يَوْمَ تَأْتِي ب - رَحِيمٌ أو ب - (اذكر)، والمعنى: يوم يأتي كُلُّ إنسان يجادل عَنْ ذاته لا يهمّه غيرها، كل يقول: نفسي نفسي. ومعنى المجادلة:

الاحتجاج عنها والاعتذار لها، كقولهم: هٰؤُلاٰءِ أَضَلُّونٰا (1) ونحو ذلك.

وَ ضَرَبَ اَللّٰهُ مَثَلاً قَرْيَةً أي: جعل القرية التي هذه صفتها مثلا لكل قوم أنعم اللّه عليهم فبطروا وكفروا النعمة وتولوا، فأنزل اللّه بهم العذاب والنقمة.

مُطْمَئِنَّةً أي: قارة ساكنة لا يزعجها خوف أو ضيق.

رَغَداً أي: واسعا، وسمّي أثر اَلْجُوعِ وَ اَلْخَوْفِ لباسا لأنّ أثرهما يظهر علي الإنسان كما يظهر اللباس، وقيل: لأنه شملهم الجوع والخوف كما يشمل اللباس البدن، فكأنّه قال: فأذاقهم ما غشيهم وشملهم من الجوع والخوف(2)،

ص: 214


1- الأعراف: 38.
2- الكشاف ج 2:639.

وقيل: هذه القرية هي مكة(1) عذّبهم اللّه بالجوع سبع سنين حتى أكلوا القد والعلهز - وهو الوبر يخلط بالدم والقراد ويؤكل - وكانوا مع ذلك خائفين من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وأصحابه يغيرون على قوافلهم، وذلك حين دعا عليهم [فقال: (اللهم اشدد وطأتك علي مضر واجعل عليهم](2) سنين كسني يوسف)(3).

وَ هُمْ ظٰالِمُونَ في موضع الحال.

ثمّ خاطب المؤمنين بقوله: فَكُلُوا أي: كلوا مِمّٰا أعطاكم اَللّٰهُ من الغنائم وأحلّها لكم، وما بعده مفسّر في سورة البقرة(4).

[سورة النحل (16): الآیات 116 الی 119]

وَ لاٰ تَقُولُوا لِمٰا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ اَلْكَذِبَ هٰذٰا حَلاٰلٌ وَ هٰذٰا حَرٰامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اَللّٰهِ اَلْكَذِبَ إِنَّ اَلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّٰهِ اَلْكَذِبَ لاٰ يُفْلِحُونَ مَتٰاعٌ قَلِيلٌ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ وَ عَلَى اَلَّذِينَ هٰادُوا حَرَّمْنٰا مٰا قَصَصْنٰا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ مٰا ظَلَمْنٰاهُمْ وَ لٰكِنْ كٰانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا اَلسُّوءَ بِجَهٰالَةٍ ثُمَّ تٰابُوا مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ وَ أَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهٰا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ

يجوز أن تكون (ما) موصولة، وينتصب اَلْكَذِبَ ب - لاٰ تَقُولُوا ، والمعنى: ولا تقولوا الكذب لِمٰا تصفه أَلْسِنَتُكُمُ من البهائم بالحلّ والحرمة في قولكم: مٰا فِي بُطُونِ هٰذِهِ اَلْأَنْعٰامِ خٰالِصَةٌ لِذُكُورِنٰا وَ مُحَرَّمٌ عَلىٰ

ص: 215


1- عن ابن عباس وغيره. تفسير الطبري ج 14:125.
2- ساقطة من ج.
3- صحيح البخاري ج 1:145، قرب الاسناد: 184.
4- الآية 172، 173.

أَزْوٰاجِنٰا (1) . واللام مثلها في قولك: ولا تقولوا لما أحلّ اللّه: هو حرام، وقوله:

هٰذٰا حَلاٰلٌ وَ هٰذٰا حَرٰامٌ بدل من اَلْكَذِبَ . ويجوز أن تكون (ما) مصدرية، وينتصب اَلْكَذِبَ ب - تَصِفُ ، والمعنى: ولا تقولوا: هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم [الكذب، أي: لا تحرّموا ولا تحلّلوا لأجل قول كذب نطقت به ألسنتكم](2) لا لأجل حجّة، لِتَفْتَرُوا عَلَى اَللّٰهِ في إضافة التحريم والتحليل إليه، واللام في لِتَفْتَرُوا من التعليل الذي لا يتضمّن معنى الغرض.

مَتٰاعٌ قَلِيلٌ خبر مبتدأ محذوف، أي: منفعتهم فيما هم عليه من أفعال الجاهلية منفعة قليلة وعقابها عظيم.

مٰا قَصَصْنٰا عَلَيْكَ يعني في سورة الأنعام(3).

بِجَهٰالَةٍ في موضع الحال، أي: عَمِلُوا اَلسُّوءَ جاهلين غير متدبرين للعاقبة.

مِنْ بَعْدِهٰا أي: من بعد التوبة أو الجهالة.

[سورة النحل (16): الآیات 120 الی 124]

إِنَّ إِبْرٰاهِيمَ كٰانَ أُمَّةً قٰانِتاً لِلّٰهِ حَنِيفاً وَ لَمْ يَكُ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ شٰاكِراً لِأَنْعُمِهِ اِجْتَبٰاهُ وَ هَدٰاهُ إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَ آتَيْنٰاهُ فِي اَلدُّنْيٰا حَسَنَةً وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصّٰالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ أَنِ اِتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرٰاهِيمَ حَنِيفاً وَ مٰا كٰانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ إِنَّمٰا جُعِلَ اَلسَّبْتُ عَلَى اَلَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِيهِ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ فِيمٰا كٰانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ

ص: 216


1- الأنعام: 139.
2- ساقطة من أ.
3- الآية: 146.

كٰانَ أُمَّةً أي: كان وحده أمّة من الأمم لكماله في صفات الخير، وعن مجاهد: (كان مؤمنا وحده منفردا في دهره بالتوحيد والناس كفار)(1)، وعن قتادة:

(كان إمام هدي وقدوة يؤتم به)(2).

قٰانِتاً مطيعا لِلّٰهِ دائما علي عبادته حَنِيفاً مستقيما في الطاعة، مائلا إلى الإسلام غير زائل عنه.

وَ لَمْ يَكُ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ تكذيب لكفار قريش في زعمهم أنّهم على ملة إبراهيم.

شٰاكِراً لِأَنْعُمِهِ يعني: لأنعم اللّه تعالى معترفا بها. روي: أنّه كان لا يتغدي إلا مع ضيف(3).

[اِجْتَبٰاهُ اختصه واصطفاه للنبوّة وَ هَدٰاهُ إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ إلى ملة الإسلام](4).

حَسَنَةً عن قتادة: (هي تنويه اللّه باسمه وذكره حتى أنّه ليس من أهل دين إلا وهم يتولونه)(5)، وقيل: هي النبوّة(6)، وقيل: هي قول المصلي منا: كما صليت علي إبراهيم وآل إبراهيم(7).

ص: 217


1- الدر المنثور ج 4:134.
2- الدر المنثور ج 4:134.
3- العرائس: 61.
4- ساقطة من أ، ب، ج.
5- تفسير الطبري ج 14:130.
6- الكشف والبيان ج 6:50.
7- عن مقاتل بن حيان. معالم التنزيل ج 2:216.

لَمِنَ اَلصّٰالِحِينَ أي: من أهل الجنّة، وناهيك بهذا ترغيبا في الصلاح.

ثُمَّ أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ وفي ثُمَّ هذه تعظيم لمنزلة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وإعلام بأنّ أفضل ما أوتي خليل اللّه من الكرامة اتباع نبيّنا عليه السلام ملته من قبل أنّها دلّت علي تباعد هذا النعت في المرتبة من بين سائر النعوت التي أثنى اللّه عليه بها.

[إِنَّمٰا جُعِلَ اَلسَّبْتُ ](1) المعنى: إِنَّمٰا جُعِلَ وبال اَلسَّبْتُ وهو المسخ عَلَى اَلَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِيهِ فأحلّوا الصيد فيه تارة وحرّموا أخري، وكان الواجب عليهم أن يحرّموه علي كلمة واحدة ويتفقوا فيه.

[سورة النحل (16): الآیات 125 الی 128]

اُدْعُ إِلىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ اَلْمَوْعِظَةِ اَلْحَسَنَةِ وَ جٰادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَ إِنْ عٰاقَبْتُمْ فَعٰاقِبُوا بِمِثْلِ مٰا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصّٰابِرِينَ وَ اِصْبِرْ وَ مٰا صَبْرُكَ إِلاّٰ بِاللّٰهِ وَ لاٰ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لاٰ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمّٰا يَمْكُرُونَ إِنَّ اَللّٰهَ مَعَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ اَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ

اُدْعُ إِلىٰ دين رَبِّكَ الذي هو [طريق إلى مرضاته بِالْحِكْمَةِ بالمقالة المحكمة الصحيحة وهي](2) الدليل الموضح للحقّ ، وقيل: بالقرآن(3).

وَ اَلْمَوْعِظَةِ اَلْحَسَنَةِ وهي التي لا تخفى عليهم أنّك تناصحهم بها وتنفعهم فيها.

ص: 218


1- زيادة يقتضيها السياق.
2- ساقطة من أ.
3- تفسير الطبري ج 14:131.

وَ جٰادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي: بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين من غير فظاظة وعنف ليكونوا أقرب إلى الإجابة.

وَ إِنْ عٰاقَبْتُمْ وإن أردتم معاقبة غيركم علي وجه المجازاة فعاقبوه بقدر مٰا عُوقِبْتُمْ بِهِ ولا تزيدوا عليه، وسمّى الفعل الأوّل باسم الثاني للمزاوجة.

وكان المشركون قد مثّلوا بقتلى أحد وبحمزة بن عبد المطلب، أخذت هند كبده فجعلت تلوكه، وجدعوا أنفه وأذنه، فقال المسلمون: لئن أمكننا اللّه منهم لنمثّلن بالأحياء فضلا عن الأموات، فنزلت(1).

لَهُوَ خَيْرٌ الضمير يرجع إلى الصبر وهو مصدر صَبَرْتُمْ ، ويراد ب - اَلصّٰابِرِينَ المخاطبون، و المعنى: ولئن صبرتم لصبركم خير لكم، فوضع الصابرين موضع الضمير ثناء من اللّه عليهم بأنّهم صابرون، ويجوز أن يراد جنس الصابرين، أي: الصبر خير للصابرين.

وَ اِصْبِرْ أنت يا محمّد فيما تلقاه من الأذى وَ مٰا صَبْرُكَ إِلاّٰ بتوفيق اللّه وتثبيته.

وَ لاٰ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي: علي المشركين في إعراضهم عنك، أو علي قتلى أحد فإنّ اللّه تعالي نقلهم إلى كرامته.

وقرئ: في ضيق بفتح الضاد وكسرها، أي: لا يضيقن صدرك من مكرهم.

مَعَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا أي: هو ولي الذين اتقوا الشرك والكبائر و ولي اَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ في أعمالهم.

ص: 219


1- أسباب النزول: 199-200.

سورة الإسراء

اشارة

مكية، وهي مائة وإحدي عشرة آية كوفي، عشر في غيرهم، عدّ الكوفي لِلْأَذْقٰانِ سُجَّداً .

في حديث أبيّ : (من قرأ (سورة بني إسرائيل) فرقّ قلبه عند ذكر الوالدين أعطي في الجنّة قنطارين من الأجر)(1)، الصادق عليه السلام: (من قرأها في كل ليلة جمعة لم يمت حتى يدرك القائم، ويكون من أصحابه)(2).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة الإسراء (17): الآیات 1 الی 3]

سُبْحٰانَ اَلَّذِي أَسْرىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ إِلَى اَلْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى اَلَّذِي بٰارَكْنٰا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيٰاتِنٰا إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ وَ آتَيْنٰا مُوسَى اَلْكِتٰابَ وَ جَعَلْنٰاهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرٰائِيلَ أَلاّٰ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنٰا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كٰانَ عَبْداً شَكُوراً

سُبْحٰانَ علم للتسبيح [كعثمان للرجل](3)، وانتصابه بفعل مضمر ترك

ص: 220


1- الكشف والبيان ج 6:54.
2- تفسير العياشي ج 2:276.
3- ساقطة من أ، ط.

إظهاره، والتقدير: أسبّح اللّه سبحانا، ثمّ نزل سُبْحٰانَ منزلة الفعل فسدّ مسدّه، ودلّ علي التنزيه البليغ من جميع القبائح.

و أَسْرىٰ وسرى بمعنى، ونكّر قوله: لَيْلاً لتقليل مدة الإسراء، وأنّه أسري به [بعض](1) ليلة من جملة الليالي من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة، وقد عرج به إلي السماء من بيت المقدس في تلك الليلة، وبلغ البيت المعمور وبلغ سدرة المنتهى، وقيل: إنّه كان قبل الهجرة بسنة(2).

و اَلْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى بيت المقدس، لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد.

بٰارَكْنٰا حَوْلَهُ يريد بركات الدين والدنيا، لأنّه متعبد الأنبياء ومهبط الوحي، وهو محفوف با لأنهار الجارية والأشجار المثمرة.

لِنُرِيَهُ مِنْ آيٰاتِنٰا العجيبة التي منها إسراؤه في ليلة واحدة من مكة إلى هناك، والعروج به إلى السماء، ورؤية الأنبياء، والبلوغ إلى البيت المعمور وسدرة المنتهى. وروي: أنّه لما رجع وحدّث بذلك قريشا كذّبوه، وفيهم من سافر إلى بيت المقدس فاستنعتوه مسجد بيت المقدس، فجلي له فطفق ينظر إليه وينعته لهم حتى وصف جملته، ثمّ قالوا له: أخبرنا عن عيرنا، فأخبرهم بعدد جمالها وأحمالها، وقال:

يقدمها جمل أورق(3)، ويطلع عليكم عند طلوع الشمس، فخرجوا يشتدون نحو الثنية فقال قائل منهم: هذه واللّه الشمس قد طلعت، وقال آخر: هذه واللّه الإبل قد أقبلت يقدمها جمل أورق كما قال محمّد، ثمّ لم يؤمنوا وقالوا: هذا سحر(4).

ص: 221


1- ساقطة من أ، ط.
2- طبقات ابن سعد ج 1 ق 1:143.
3- الأورق من الإبل: الذي في لونه بياض إلي سواد. (الصحاح: مادة ورق).
4- الكشف والبيان ج 6:68.

وقرئ: ألا يتخذوا - بالياء - علي: لئلا يتخذوا، وبالتاء علي: أن لا تتخذوا، كقولك: كتبت إليه أن افعل كذا.

وَكِيلاً أي: معتمدا تكلون إليه أموركم.

ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنٰا مَعَ نُوحٍ نصب علي الاختصاص، وقيل: علي النداء في قراءة من قرأ: لا تتخذوا - بالتاء - علي النهي، والمعنى: قلنا لهم: لا تتخذوا من دوني وكيلا يا ذرية من حملنا مع نوح، أو لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح وكيلا، فيكون وَكِيلاً موحّد اللفظ مجموع المعنى، كرفيق في قوله: وَ حَسُنَ أُولٰئِكَ رَفِيقاً (1)، أي: لا تجعلوهم أربابا.

ومن ذرية من حمل مع نوح عزير وعيسى، ذكّرهم سبحانه نعمته في إنجاء آبائهم من الغرق بحملهم في السفينة.

إِنَّهُ أي: إنّ نوحا كٰانَ عَبْداً شَكُوراً كثير الشكر. روي عن الباقر والصادق عليهما السلام: (أنّه كان إذا أصبح وأمسى قال: اللهم إنّي أشهدك أنّ ما أصبح أو أمسى بي من نعمة في دين أو دنيا فمنك وحدك لا شريك لك، لك الحمد ولك الشكر بها عليّ حتى ترضى وبعد الرضا، فهذا كان شكره)(2).

[سورة الإسراء (17): الآیات 4 الی 7]

وَ قَضَيْنٰا إِلىٰ بَنِي إِسْرٰائِيلَ فِي اَلْكِتٰابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي اَلْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً فَإِذٰا جٰاءَ وَعْدُ أُولاٰهُمٰا بَعَثْنٰا عَلَيْكُمْ عِبٰاداً لَنٰا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجٰاسُوا خِلاٰلَ اَلدِّيٰارِ وَ كٰانَ وَعْداً مَفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنٰا لَكُمُ اَلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَ أَمْدَدْنٰاكُمْ بِأَمْوٰالٍ وَ بَنِينَ وَ جَعَلْنٰاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ

ص: 222


1- النساء: 69.
2- علل الشرائع ج 1:29.

[سورة الإسراء (17): الآیات 7 الی 8]

لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهٰا فَإِذٰا جٰاءَ وَعْدُ اَلْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَ لِيَدْخُلُوا اَلْمَسْجِدَ كَمٰا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ لِيُتَبِّرُوا مٰا عَلَوْا تَتْبِيراً عَسىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَ إِنْ عُدْتُمْ عُدْنٰا وَ جَعَلْنٰا جَهَنَّمَ لِلْكٰافِرِينَ حَصِيراً

أي: أوحينا إِلىٰ بَنِي إِسْرٰائِيلَ وحيا مقضيا مقطوعا بأنّهم يفسدون فِي اَلْأَرْضِ لا محالة، ويعلون أي: يتعظمون ويبغون، والمراد ب - اَلْكِتٰابِ التوراة.

وقوله: لَتُفْسِدُنَّ جواب قسم محذوف، أو يكون القضاء المقطوع به جاريا مجري القسم فيكون لَتُفْسِدُنَّ جوابا له، فكأنّه قال: أقسمنا لتفسدن مَرَّتَيْنِ : أولاهما: قتل زكريا وحبس إرميا حين أنذرهم سخط اللّه، والأخري:

قتل يحيى بن زكريا وقصد قتل عيسى.

عِبٰاداً لَنٰا وعن عليّ عليه السلام: عبيدا لنا، وهم سنحاريب وجنوده، وقيل:

بختنصر(1)، فقتلوا علماءهم وأحرقوا التوراة وخرّبوا المسجد وقتلوا سبعين ألفا منهم وسبوا سبعين ألفا.

ومعنى قوله: بَعَثْنٰا عَلَيْكُمْ : خلينا بينهم وبين ما فعلوا ولم نمنعهم، فهو كقوله: وَ كَذٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ اَلظّٰالِمِينَ بَعْضاً بِمٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ (2)، وأسند الجوس إليهم وهو التردد خِلاٰلَ اَلدِّيٰارِ بالفساد، وتخريب المسجد وإحراق التوراة من جملة الجوس.

وقوله: وَعْدُ أُولاٰهُمٰا معناه: وعد عقاب أولاهما وَ كٰانَ وعد العقاب

ص: 223


1- عن ابن إسحاق. معالم التنزيل ج 2:225.
2- الأنعام: 129.

وَعْداً لابد أن يفعل.

ثُمَّ رَدَدْنٰا لَكُمُ اَلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ أي: الدولة والغلبة علي الذين بعثوا عليكم، وأظهرناكم عليهم وأكثرنا أموالكم وأولادكم.

وَ جَعَلْنٰاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً أكثر عددا من أعدائكم، وهو جمع نفر كالمعيز والعبيد، وقيل: النفير: من ينفر مع الرجل من قومه.

إِنْ أَحْسَنْتُمْ فالإحسان مختص ب - أنفسكم و إن أسأتم فالإساءة مختصة بها، لا يتعدّي النفع والضرر إلى غيركم. وعن عليّ عليه السلام: (ما أحسنت إلى أحد ولا أسأت إليه وتلا هذه الآية)(1).

فَإِذٰا جٰاءَ وَعْدُ المرة اَلْآخِرَةِ بعثناهم لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ حذف لدلالة ذكره أوّلا عليه، والمعنى: ليجعلوا وجوهكم تبدو آثار المساءة والكابة فيها.

و قرئ: ليسوء، و الضمير للّه أو للوعد أو للبعث، ولنسوء - بالنون -.

وقوله: مٰا عَلَوْا محلّه نصب بأنّه مفعول وَ لِيُتَبِّرُوا أي: ليهلكوا كل شيء غلبوه واستولوا عليه، ويجوز أن يكون بمعنى: مدة علوهم.

عَسىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ بعد المرة الثانية إن تبتم وَ إِنْ عُدْتُمْ مرة أخري ثالثة عُدْنٰا إلى عقوبتكم، وقد عادوا فأعاد الله عليهم النقمة بتسليط الأكاسرة عليهم، وقيل: ببعث محمّد صلى الله عليه و آله و سلم، فالمؤمنون يأخذون منهم الجزية إلى يوم القيامة(2).

و الحصير: السجن.

ص: 224


1- تنبيه الغافلين: 136.
2- عن قتادة. تفسير الطبري ج 15:35.

[سورة الإسراء (17): الآیات 9 الی 12]

إِنَّ هٰذَا اَلْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَ يُبَشِّرُ اَلْمُؤْمِنِينَ اَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلصّٰالِحٰاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً وَ أَنَّ اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنٰا لَهُمْ عَذٰاباً أَلِيماً وَ يَدْعُ اَلْإِنْسٰانُ بِالشَّرِّ دُعٰاءَهُ بِالْخَيْرِ وَ كٰانَ اَلْإِنْسٰانُ عَجُولاً وَ جَعَلْنَا اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهٰارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنٰا آيَةَ اَللَّيْلِ وَ جَعَلْنٰا آيَةَ اَلنَّهٰارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ اَلسِّنِينَ وَ اَلْحِسٰابَ وَ كُلَّ شَيْ ءٍ فَصَّلْنٰاهُ تَفْصِيلاً

يَهْدِي للملة لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ الملل، أو للطريقة أو للحالة التي هي أشدّ استقامة.

وعطف قوله: وَ أَنَّ اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ علي أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً علي معنى: أنّه يُبَشِّرُ اَلْمُؤْمِنِينَ ببشارتين: بثوابهم وبعقاب أعدائهم.

وَ يَدْعُ اَلْإِنْسٰانُ ربّه عند غضبه بِالشَّرِّ علي نفسه و أهله وماله كما يدعوه لهم بِالْخَيْرِ وَ كٰانَ اَلْإِنْسٰانُ عَجُولاً يتسرّع إلى طلب كل ما يقع في قلبه ويخطر بباله لا يتأنّى فيه.

آيَتَيْنِ أي: دلالتين تدلان على وحدانية خالقهما، لما في كل واحد منهما من الفوائد، فكل واحد من اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهٰارَ آية في نفسه، وعلى هذا فيكون إضافة آيَةَ إلى اَللَّيْلَ و اَلنَّهٰارَ للتبيين كإضافة العدد إلى المعدود، أي: فَمَحَوْنٰا الآية التي هي الليل وَ جَعَلْنَا الآية التي هي النهار مُبْصِرَةً . وقيل: إنّ المراد: وجعلنا نيري الليل والنهار آيتين، يعني: الشمس والقمر فمحونا آية الليل، أي: فجعلنا الليل ممحو الضوء مظلما، وجعلنا النهار مبصرا يبصر فيه الأشياء، أو فمحونا آية الليل التي هي القمر حيث لم يخلق له شعاعا كشعاع الشمس، وجعلنا الشمس

ص: 225

ذات شعاع يبصر في ضوئها كل شيء.

لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ لتتوصلوا ببياض النهار إلي التصرّف في معايشكم وطلب أرزاقكم.

وَ لِتَعْلَمُوا باختلاف الليل والنهار عَدَدَ اَلسِّنِينَ والشهور وجنس اَلْحِسٰابَ وآجال الديون وغير ذلك، ولولاهما لم يعلم شيء من ذلك، ولتعطلت الأمور.

وَ كُلَّ شَيْ ءٍ فَصَّلْنٰاهُ تَفْصِيلاً بيّناه بيانا غير ملتبس، وميّزناه تمييزا بيّنا غير خاف.

[سورة الإسراء (17): الآیات 13 الی 15]

وَ كُلَّ إِنسٰانٍ أَلْزَمْنٰاهُ طٰائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ كِتٰاباً يَلْقٰاهُ مَنْشُوراً اِقْرَأْ كِتٰابَكَ كَفىٰ بِنَفْسِكَ اَلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً مَنِ اِهْتَدىٰ فَإِنَّمٰا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّمٰا يَضِلُّ عَلَيْهٰا وَ لاٰ تَزِرُ وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ وَ مٰا كُنّٰا مُعَذِّبِينَ حَتّٰى نَبْعَثَ رَسُولاً

طٰائِرَهُ عمله، وقيل: هو من قولك: طار له سهم: إذا خرج، يعني:

ألزمناه ما طار من عمله، يريد: أنّ عمله له لازم لزوم القلادة أو الغل العنق لا ينفك عنه، كما قيل في المثل: (تقلدها طوق الحمامة)(1). وقرئ: ونخرج له - بالنون -، ويخرج له - بالياء - و الضمير للّه عزّ و جل، ويخرج علي البناء للمفعول، ويخرج من خرج، و الضمير للطائر أي: يخرج الطائر كِتٰاباً .

وانتصب كِتٰاباً علي الحال.

ص: 226


1- مجمع الأمثال ج 1:256.

وقرئ: يلقّاه - بالتشديد - على البناء للمفعول. و يَلْقٰاهُ مَنْشُوراً صفتان لكتاب، أو يَلْقٰاهُ صفة، و مَنْشُوراً حال من يَلْقٰاهُ .

اِقْرَأْ علي إرادة القول، وعن قتادة: (يقرأ ذلك اليوم من لم يكن في الدنيا قارئا)(1).

و بِنَفْسِكَ في محلّ الرفع فاعل كَفىٰ ، و حَسِيباً تمييز، وهو بمعنى حاسب، كضريب القداح بمعنى ضاربها.

و عَلَيْكَ يتعلّق به من قولهم: حسب عليه كذا، ويجوز أن يكون بمعنى الكافي ووضع موضع الشهيد فعدّي ب - (علي)، لأنّ الشاهد يكفي المدعي ما أهمّه، وذكّر حَسِيباً لأنّه بمنزلة الشهيد والقاضي، والأغلب أنّ ذلك يتولاه الرجال، فكأنّه قال: كفى بنفسك رجلا حسيبا، أو تأوّل النفس بالشخص، كما يقال: ثلاثة أنفس.

وَ لاٰ تَزِرُ وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ أي: كل نفس حاملة وزرها ولا تحمل وزر نفس أخري.

وَ مٰا كُنّٰا مُعَذِّبِينَ وما صحّ منا في الحكمة أن نعذّب قوما إلا بعد أن نَبْعَثَ إليهم رَسُولاً فنلزمهم الحجّة.

[سورة الإسراء (17): الآیات 16 الی 18]

وَ إِذٰا أَرَدْنٰا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنٰا مُتْرَفِيهٰا فَفَسَقُوا فِيهٰا فَحَقَّ عَلَيْهَا اَلْقَوْلُ فَدَمَّرْنٰاهٰا تَدْمِيراً وَ كَمْ أَهْلَكْنٰا مِنَ اَلْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَ كَفىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبٰادِهِ خَبِيراً بَصِيراً مَنْ كٰانَ يُرِيدُ اَلْعٰاجِلَةَ عَجَّلْنٰا لَهُ فِيهٰا مٰا نَشٰاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنٰا لَهُ

ص: 227


1- تفسير الطبري ج 15:41.

[سورة الإسراء (17): الآیات 18 الی 22]

جَهَنَّمَ يَصْلاٰهٰا مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَ مَنْ أَرٰادَ اَلْآخِرَةَ وَ سَعىٰ لَهٰا سَعْيَهٰا وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولٰئِكَ كٰانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً كُلاًّ نُمِدُّ هٰؤُلاٰءِ وَ هَؤُلاٰءِ مِنْ عَطٰاءِ رَبِّكَ وَ مٰا كٰانَ عَطٰاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً اُنْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنٰا بَعْضَهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجٰاتٍ وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلاً لاٰ تَجْعَلْ مَعَ اَللّٰهِ إِلٰهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً

المعنى: وَ إِذٰا أَرَدْنٰا أَنْ نُهْلِكَ أهل قَرْيَةً بعد قيام الحجّة عليهم وإرسال الرسل إليهم أَمَرْنٰا مُتْرَفِيهٰا المتنعّمين فيها بالإيمان والطاعة توكيدا للحجّة عليهم فَفَسَقُوا فِيهٰا بالمعاصي.

فَحَقَّ عَلَيْهَا اَلْقَوْلُ أي: فوجب حينئذ علي أهلها الوعيد فأهلكناها إهلاكا، و إنّما خصّ المترفين - وهم الرؤساء - بالذكر لأنّ غيرهم تبع لهم، وقيل: معناه: كثّرنا مترفيها(1)

، فيكود من باب أمّرته فأمر، أي: كثّرته فكثر، مثل: بشّرته فبشر. و في الحديث: (خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة)(2) أي: كثيرة النتاج. وقرئ:

امرنا، أي: أفعلنا، من أمر وآمره غيره، وأمرنا بمعناه، أو من أمر إمارة وأمّره اللّه، أي: جعلناهم أمراء وسلطناهم.

و كَمْ مفعول أَهْلَكْنٰا ، و مِنَ اَلْقُرُونِ تبيين ل - كَمْ وتمييز له، يعني: عادا وثمودا وقرونا بين ذلك كثيرا.

مِنَ كانت اَلْعٰاجِلَةَ وهي النعم الدنيوية همته ولم يرد غيرها تفضّلنا عليه ب - مٰا نَشٰاءُ منها لِمَنْ نُرِيدُ فقيّد الأمر بقيدين: أحدهما: تقييد المعجل

ص: 228


1- عن قتادة وغيره. تفسير الطبري ج 15:43.
2- معاني الأخبار: 278، معجم الطبراني الكبير ج 7:91.

بالمشيئة، والثاني: تقييد المعجل له بإرادته. وقوله: لِمَنْ نُرِيدُ بدل من لَهُ بدل البعض من الكل، لأنّ الضمير في لَهُ يرجع إلى مَنْ وهو للكثرة، وقيل: هو من يريد الدنيا بعمل الآخرة كالمرائي والمنافق.

مَدْحُوراً مطرودا من رحمة اللّه تعالى.

وَ سَعىٰ لَهٰا سَعْيَهٰا أي: حقّها من السعي، اشترط ثلاث شرائط في كون السعي مَشْكُوراً : إرادة الآخرة، والسعي فيما كلّف من الفعل والترك، والإيمان الصحيح؛ وشكر اللّه سعيه هو ثوابه علي الطاعة.

كُلاًّ أي: كل واحد من الفريقين، والتنوين عوض من المضاف إليه.

نمدّهم: نزيدهم من عطائنا، ونجعل الانف منه مددا للسالف لا نقطعه، فنرزق المطيع والعاصي جميعا علي وجه التفضل، وَ مٰا كٰانَ عَطٰاءُ رَبِّكَ وفضله ممنوعا لا يمنع من عاص لعصيانه.

اُنْظُرْ بعين الاعتبار كَيْفَ جعلناهم متفاوتين في التفضل، ودرجات الآخرة ومراتبها أَكْبَرُ والتفاوت فيها أكثر.

فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً يعني: أنّك إذا فعلت ذلك بقيت ما عشت مذموما على ألسنة العقلاء مَخْذُولاً لا ناصر لك، وقيل: معنى القعود: الذل والخزي والعجز لا الجلوس، كما يقال: قعد به الضعف.

[سورة الإسراء (17): الآیات 23 الی 24]

وَ قَضىٰ رَبُّكَ أَلاّٰ تَعْبُدُوا إِلاّٰ إِيّٰاهُ وَ بِالْوٰالِدَيْنِ إِحْسٰاناً إِمّٰا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ اَلْكِبَرَ أَحَدُهُمٰا أَوْ كِلاٰهُمٰا فَلاٰ تَقُلْ لَهُمٰا أُفٍّ وَ لاٰ تَنْهَرْهُمٰا وَ قُلْ لَهُمٰا قَوْلاً كَرِيماً وَ اِخْفِضْ لَهُمٰا جَنٰاحَ اَلذُّلِّ مِنَ اَلرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ اِرْحَمْهُمٰا كَمٰا رَبَّيٰانِي صَغِيراً

ص: 229

[سورة الإسراء (17): آیة 25]

رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمٰا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صٰالِحِينَ فَإِنَّهُ كٰانَ لِلْأَوّٰابِينَ غَفُوراً

معناه: أمر رَبِّكَ أمرا مقطوعا به.

أَلاّٰ تَعْبُدُوا : (أن) بمعنى أي، و لا تعبدوا نهي، أو يريد: بأن لا تعبدوا.

وَ بِالْوٰالِدَيْنِ أي: وأحسنوا بالوالدين إِحْسٰاناً ، أو بأن تحسنوا بالوالدين إحسانا.

أَمَّا هي (إن) الشرطية زيدت عليها (ما) توكيدا، ولذلك دخلت النون المؤكدة في الفعل، و أَحَدِهِمٰا فاعل يَبْلُغَنَّ . وقرئ: يبلغان، وعلي هذا فيكون أَحَدُهُمٰا بدلا من ألف الضمير، و كِلاٰهُمٰا عطف علي أَحَدُهُمٰا .

أُفٍّ صوت يدلّ علي تضجر. وقرئ: أف، - بالتنوين والكسر -، وأف - بالفتح - وكذلك في الأنبياء(1) وا لأحقاف(2)، وقرأ أبو السمال(3): أف - بالضم -.

فأما الكسر فعلي أصل البناء، وأما الفتح فتخفيف للضمة والتشديد ك - (ثم)، وأما الضم فللإتباع ك - (منذ).

ومعنى قوله: يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ اَلْكِبَرَ أَحَدُهُمٰا أَوْ كِلاٰهُمٰا : أن يكبرا ويكونا كلّا علي ولدهما لا كافل لهما غيره، فهما عنده في بيته وكنفه وذلك أشق عليه، وربّما تولى منهما ما كانا يتوليان منه في حال صغره، فأمر بأن يستعمل معهما

ص: 230


1- الآية: 67.
2- الآية: 17.
3- أبو السمال قعنب بن أبي قعنب العدوي البصري، له اختيار في القراءة شاذ عن العامة. ينظر: غاية النهاية في طبقات القراء ج 2:27.

لين الجانب وخفض الجناح والاحتمال حتى لا يقول لهما - عند الضجر بما يستقذر منهما أو يستثقل من مؤونتهما -: أف، فضلا عما يزيد عليه.

ولقد بالغ عزّ وعلا في التوصية بهما حيث شفع الإحسان إليهما بتوحيده، ثمّ ضيّق الأمر في البر بهما حتى لم يرخّص في أدنى كلمة تدلّ على التضجر مع موجبات الضجر. وعن الصادق عليه السلام: (أدنى العقوق: أف، ولو علم اللّه شيئا أهون من أف لنهى عنه)(1).

وَ لاٰ تَنْهَرْهُمٰا أي: لا تزجرهما عما يفعلانه، ولا تمتنع من شيء أراداه منك.

وَ قُلْ لَهُمٰا بدل التأفيف والنهر قَوْلاً كَرِيماً جميلا كما يقتضيه حسن الأدب، وقيل: هو أن يقول: يا أبتاه ويا أماه كما قال إبراهيم عليه السلام لأبيه مع كفره: يٰا أَبَتِ (2)، ولا تدعوهما بأسمائهما فإنّه من الجفاء وسوء الأدب(3).

وفي جَنٰاحَ اَلذُّلِّ وجهان: أحدهما: أن يكون كإضافة حاتم إلى الجود إذا قلت: حاتم الجود، أي: فاخفض لهما جناحك الذليل. و الآخر: أن تجعل لذلّه جناحا منخفضا، كما جعل لبيد للشمال يدا وللقرّة زماما في قوله:

و غداة ريح قد كشفت و قرّة *** قد أصبحت بيد الشّمال زمامها(4)

أراد المبالغة في التواضع والتذلل لهما.

مِنَ اَلرَّحْمَةِ من فرط رحمتك لهما لكبرهما، ولا تكتف برحمتك عليهما

ص: 231


1- الكافي ج 2:348.
2- مريم: 42.
3- عن الحسن الدر المنثور ج 4:171.
4- ديوان لبيد بن ربيعة العامري: 176، وفيه: قد وزعت... إذ....

التي لا بقاء لها، بل ادع اللّه سبحانه بأن يرحمهما رحمته الباقية، واجعل ذلك جزاء لرحمتهما عليك في حال صغرك وتربيتهما لك. وفي الصحيح: أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال:

(رغم أنفه - ثلاث مرات - قالوا: من يا رسول اللّه ؟ قال: من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما ولم يدخل الجنّة)(1). وعن حذيفة: أنّه استأذن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في قتل أبيه وهو في صف المشركين، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: (دعه يليه غيرك)(2).

بِمٰا فِي نُفُوسِكُمْ بما في ضمائركم من البر والعقوق.

إِنْ تَكُونُوا قاصدين إلى الصلاح والبر فَإِنَّهُ كٰانَ لِلْأَوّٰابِينَ أي:

التوابين الراجعين إلي اللّه فيما يتوبهم غَفُوراً .

[سورة الإسراء (17): الآیات 26 الی 30]

وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبىٰ حَقَّهُ وَ اَلْمِسْكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ وَ لاٰ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ اَلْمُبَذِّرِينَ كٰانُوا إِخْوٰانَ اَلشَّيٰاطِينِ وَ كٰانَ اَلشَّيْطٰانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً وَ إِمّٰا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ اِبْتِغٰاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهٰا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً وَ لاٰ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلىٰ عُنُقِكَ وَ لاٰ تَبْسُطْهٰا كُلَّ اَلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّهُ كٰانَ بِعِبٰادِهِ خَبِيراً بَصِيراً

وصى سبحانه بغير الوالدين من القرابات، وبأن يؤتى حقّهم بعد أن وصى بهما، وقيل: إنّ المراد بذي القربى: قرابة النبيّ (3). وعن أبي سعيد الخدري(4): (أنّه لما

ص: 232


1- صحيح مسلم ج 8:5.
2- الكشاف ج 2:660.
3- عن الأئمّة عليهم السلام. تفسير الطبري ج 15:53، تفسير العياشي ج 2:287.
4- أبو سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري الخزرجي، الصحابي المشهور، أول مشاهده الخندق توفي سنة 74 ه -. ينظر: الاستيعاب ج 2:47، معجم رجال الحديث ج 8:48.

نزلت أعطى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فاطمة فدكا)(1).

وَ اَلْمِسْكِينَ أي: وآت المسكين حَقَّهُ الذي جعله اللّه له من الزكاة، وآت اِبْنَ اَلسَّبِيلِ حقّه و هو المنقطع به من المجتازين.

وَ لاٰ تُبَذِّرْ والتبذير: تفريق المال فيما لا ينبغي، وإنفاقه علي وجه الإسراف.

وعن مجاهد: (لو أنفق مدّا في باطل كان تبذيرا، ولو أنفق جميع ماله في الحقّ لم يكن مبذّرا)(2). ومرّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بسعد(3) وهو يتوضأ فقال: (ما هذا السرف يا سعد؟! قال: أو في الوضوء سرف ؟ قال: نعم وإن كنت علي نهر جار)(4).

إِخْوٰانَ اَلشَّيٰاطِينِ أمثالهم السالكون طريقتهم، وهذا غاية الذم وَ كٰانَ اَلشَّيْطٰانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً فلا ينبغي أن يطاع فإنّه لا يدعو إلا إلى مثل فعله من الشرّ.

وإن تعرض عن هؤلاء الذين أمرتك بإيتاء حقوقهم حياء من الرد، لتبتغي الفضل مِنْ رَبِّكَ والسعة التي يمكنك معها البذل فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً أي: عدهم عدة جميلة، فوضع الابتغاء موضع فقد الرزق، لأنّ فاقد الرزق مبتغ له. ويجوز أن يتعلّق اِبْتِغٰاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ بجواب الشرط مقدّما عليه، أي: فقل لهم قولا سهلا تطييبا لقلوبهم ابتغاء رحمة اللّه التي ترجوها برحمتك عليهم. ويجوز أن يكون الإعراض عنهم كناية عن عدم الاستطاعة، أي: وإن لم تنفعهم.

ثمّ أمر سبحانه بالاقتصاد الذي هو بين الإسراف والتقتير، وهو تمثيل لمنع

ص: 233


1- شواهد التنزيل ج 1:339.
2- تفسير الطبري ج 15:54.
3- سعد بن أبي وقاص القرشي الزهري، شهد بدرا وسائر الشاهد، أحد الستة الذين جعل فيهم الشوري، توفي في زمن معاوية. ينظر: الاستيعاب ج 2:18، معجم رجال الحديث ج 8:54.
4- سنن ابن ماجة ج 1:147 ح 425.

الشحيح وإعطاء المسرف.

فَتَقْعُدَ مَلُوماً أي: فتصير ملوما عند اللّه، لأنّ المسرف غير مرضي عنده وعند الناس مَحْسُوراً منقطعا بك لا شيء عندك، وقيل: محسورا: عريانا(1).

إِنَّ رَبَّكَ يوسع اَلرِّزْقَ ويضيقه بحسب المصلحة مع سعة خزائنه.

[سورة الإسراء (17): الآیات 31 الی 35]

وَ لاٰ تَقْتُلُوا أَوْلاٰدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاٰقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيّٰاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كٰانَ خِطْأً كَبِيراً وَ لاٰ تَقْرَبُوا اَلزِّنىٰ إِنَّهُ كٰانَ فٰاحِشَةً وَ سٰاءَ سَبِيلاً وَ لاٰ تَقْتُلُوا اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّٰهُ إِلاّٰ بِالْحَقِّ وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنٰا لِوَلِيِّهِ سُلْطٰاناً فَلاٰ يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ إِنَّهُ كٰانَ مَنْصُوراً وَ لاٰ تَقْرَبُوا مٰالَ اَلْيَتِيمِ إِلاّٰ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّٰى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ اَلْعَهْدَ كٰانَ مَسْؤُلاً وَ أَوْفُوا اَلْكَيْلَ إِذٰا كِلْتُمْ وَ زِنُوا بِالْقِسْطٰاسِ اَلْمُسْتَقِيمِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً

كانوا يئدون بناتهم خَشْيَةَ الفقر وهو الإملاق، فذلك قتلهم أولادهم، فنهاهم اللّه سبحانه عن ذلك وضمن لهم أرزاقهم. وقرئ: خطأ، يقال: خطأ خطأ، أي: أثم إثما، والخطأ والخطأ كالحذر والحذر، وقرئ: خطاء - بالكسر والمد -.

فٰاحِشَةً قبيحة زائدة علي حد القبح.

وَ سٰاءَ سَبِيلاً أي: وبئس طريقا طريقه وهو أن يغصب علي الغير امرأته أو أخته أو بنته من غير سبب، والسبب ممكن وهو النكاح المشروع.

إِلاّٰ بِالْحَقِّ وهو أن يكفر بعد إيمان، أو يزني بعد إحصان، أو يقتل مؤمنا

ص: 234


1- عن الصادق عليه السلام. تفسير القمي ج 1:381.

عمدا.

وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً غير راكب واحدة من هذه الثلاث فَقَدْ جَعَلْنٰا لِوَلِيِّهِ الذي بينه وبينه قرابة توجب المطالبة بدمه سُلْطٰاناً أي: تسلّطا على القاتل في الاقتصاص منه.

وقرئ: فَلاٰ يُسْرِفْ بالياء والتاء، فالياء علي أنّ الضمير للولي، أي:

فلا يقتل الولي غير القاتل، ولا اثنين والقاتل واحد كعادة الجاهلية، أو لا يمثل بالقاتل، وقيل: إنّ الضمير للقاتل الأوّل، والتاء علي أنّ الخطاب للولي أو قاتل المظلوم.

إِنَّهُ كٰانَ مَنْصُوراً والضمير: إما للولي أي: نصره اللّه بأن أوجب له القصاص، وإما للمظلوم، لأنّ اللّه ناصره بأن أوجب القصاص بقتله ويثيبه في الآخرة.

بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وهي حفظه عليه.

إِنَّ اَلْعَهْدَ كٰانَ مَسْؤُلاً أي: مطلوبا يطلب من المعاهد أن يفي به، ويجوز أن يكون تخييلا، كأنّه يقال للعهد: لم نكثت ؟ توبيخا للناكث كما تسأل الموؤودة بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (1).

وقرئ: بِالْقِسْطٰاسِ بضم القاف وكسرها، وهو الميزان صغيرا كان أو كبيرا.

وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً وأحسن عاقبة، وهو تفعيل من آل: إذا رجع، وهو ما يؤول إليه.

ص: 235


1- التكوير: 9.

[سورة الإسراء (17): الآیات 36 الی 40]

وَ لاٰ تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ اَلْفُؤٰادَ كُلُّ أُولٰئِكَ كٰانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً وَ لاٰ تَمْشِ فِي اَلْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ اَلْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ اَلْجِبٰالَ طُولاً كُلُّ ذٰلِكَ كٰانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً ذٰلِكَ مِمّٰا أَوْحىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ اَلْحِكْمَةِ وَ لاٰ تَجْعَلْ مَعَ اَللّٰهِ إِلٰهاً آخَرَ فَتُلْقىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً أَ فَأَصْفٰاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَ اِتَّخَذَ مِنَ اَلْمَلاٰئِكَةِ إِنٰاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً

يقال: قفا أثره وقافه واقتفاه واقتافه بمعنى: اتبعه، ومنه القافة. أي: لا تكن في اتباعك مٰا لا علم لَكَ بِهِ من قول أو فعل كمن يتبع مسلكا لا يعلم أنّه يوصله إلى مقصده، والمراد: النهي عن أن يقول الرجل ما لا يعلم أو يعمل بما لا يعلم، ويدخل فيه النهي عن اتباع الظن وعن التقليد، وعن الحسن: الا تقف أخاك المسلم إذا مرّ بك فتقول: هذا يفعل كذا، ورأيته يفعل كذا ولم تر، وسمعته ولم تسمع)(1).

أُولٰئِكَ إشارة إلى اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ اَلْفُؤٰادَ .

و عَنْهُ في موضع الفاعل، أي: كُلُّ واحد منها كان مَسْؤُلاً عنه، فمسؤول مسند إلى الجار والمجرور، يقال للإنسان: لم سمعت ما لا يحلّ لك سماعه ؟ ولم نظرت إلى ما لا يحلّ لك النظر إليه ؟ ولم عزمت علي ما لا يحلّ لك العزم عليه ؟.

مَرَحاً حال، أي: ذا مرح.

لَنْ تَخْرِقَ اَلْأَرْضَ لن تجعل فيها خرقا بشدّة وطئك لها وَ لَنْ تَبْلُغَ اَلْجِبٰالَ

ص: 236


1- الكشف و البيان ج 6:98.

طُولاً بتطاولك، وهذا تهكّم بالمختال.

قرئ: سيئة و سَيِّئُهُ علي إضافة سيء إلي ضمير كُلُّ ، والسيئة في حكم الأسماء بمنزلة الإثم والذنب، فلذلك قال: سَيِّئُهُ مع قوله: مَكْرُوهاً إذ لا اعتبار بتأنيثه، أي: كل ما نهى عنه من هذه الخصال المعدودة كان إثما مكروها.

ذٰلِكَ إشارة إلى ما تقدّم من قوله: لاٰ تَجْعَلْ مَعَ اَللّٰهِ إِلٰهاً آخَرَ إلى هذه الغاية، وسمّاه حكمة، لأنه كلام محكم لا مجال فيه للفساد بوجه. وعن ابن عباس:

(إنّ هذه الثماني عشرة آية كانت في ألواح موسى أوّلها: (لا تجعل مع اللّه إلها آخر)، جعل اللّه سبحانه فاتحتها وخاتمتها النهي عن الشرك)(1)، لأنّ التوحيد رأس كل حكمة.

أَ فَأَصْفٰاكُمْ أي: أفخصّكم رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وهم أفضل الأولاد لم يجعل فيهم نصيبا لنفسه واتخذ الأدون وهي البنات وهذا خلاف الحكمة. وهو خطاب للذين قالوا: الملائكة بنات اللّه.

إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً بإضافتكم إليه الأولاد ثمّ بتفضيلكم أنفسكم عليه.

[سورة الإسراء (17): الآیات 41 الی 44]

وَ لَقَدْ صَرَّفْنٰا فِي هٰذَا اَلْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَ مٰا يَزِيدُهُمْ إِلاّٰ نُفُوراً قُلْ لَوْ كٰانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمٰا يَقُولُونَ إِذاً لاَبْتَغَوْا إِلىٰ ذِي اَلْعَرْشِ سَبِيلاً سُبْحٰانَهُ وَ تَعٰالىٰ عَمّٰا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً تُسَبِّحُ لَهُ اَلسَّمٰاوٰاتُ اَلسَّبْعُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّٰ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لٰكِنْ لاٰ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كٰانَ حَلِيماً غَفُوراً

ص: 237


1- الكشاف ج 2:668.

صَرَّفْنٰا أي: كررنا الدلائل وفصّلنا العبر فيه، أو أوقعنا التصريف فيه وجعلناه مكانا للتكرير لِيَذَّكَّرُوا ليتعظوا ويعتبروا. و قرئ: ليذكروا.

وَ مٰا يَزِيدُهُمْ إِلاّٰ نُفُوراً عن الحقّ ، وعن سفيان: (زادني خضوعا ما زاد أعداءك نفورا)(1).

إِذاً يدلّ علي أنّ قوله: لاَبْتَغَوْا جواب عن مقالة المشركين وجزاء ل - لَوْ ، والمعنى: لطلبوا إِلىٰ من له الملك والإلهية سَبِيلاً بالمغالبة، كما يفعل الملوك بعضهم ببعض. وفيه إشارة إلى دليل التمانع كما في قوله: لَوْ كٰانَ فِيهِمٰا آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّٰهُ لَفَسَدَتٰا (2).

عُلُوًّا في معنى: تعاليا، والمراد: البراءة من ذلك والنزاهة، ووصف العلو بالكبر مبالغة في معنى البراءة عما وصفوه به.

تُسَبِّحُ لَهُ اَلسَّمٰاوٰاتُ بلسان الحال، حيث تدلّ علي صانعها وعلي صفاته العلى، فكأنّها تنطق بذلك، وكأنّها تنزّه اللّه عما لا يجوز عليه من الشركاء، وليس شيء من الموجودات إِلاّٰ و يُسَبِّحُ بحمد اللّه علي هذا الوجه، إذ كلها حادث مصنوع [يحتاج إلي صانع غير مصنوع](3)، فهو يدلّ علي إثبات قديم غنيّ عن كل شيء سواه، لا يجوز عليه ما يجوز علي المحدثات.

وَ لٰكِنْ لاٰ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ أي: لا تعلمون تسبيح هذه الأشياء، إذ لم تنظروا فيها فتعلموا دلالتها علي التوحيد.

إِنَّهُ كٰانَ حَلِيماً غَفُوراً لا يعاجلكم بالعقاب علي سوء نظركم وشرككم.

ص: 238


1- الكشاف ج 2:669.
2- الأنبياء: 22.
3- ساقطة من أ.

[سورة الإسراء (17): الآیات 45 الی 49]

وَ إِذٰا قَرَأْتَ اَلْقُرْآنَ جَعَلْنٰا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجٰاباً مَسْتُوراً وَ جَعَلْنٰا عَلىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذٰانِهِمْ وَقْراً وَ إِذٰا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي اَلْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلىٰ أَدْبٰارِهِمْ نُفُوراً نَحْنُ أَعْلَمُ بِمٰا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَ إِذْ هُمْ نَجْوىٰ إِذْ يَقُولُ اَلظّٰالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاّٰ رَجُلاً مَسْحُوراً اُنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ اَلْأَمْثٰالَ فَضَلُّوا فَلاٰ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً وَ قٰالُوا أَ إِذٰا كُنّٰا عِظٰاماً وَ رُفٰاتاً أَ إِنّٰا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً

حِجٰاباً مَسْتُوراً أي: ذا ستر كقولك: سيل مفعم أي: ذو إفعام، وقيل:

حجابا مستورا عن العيون من قدرة اللّه تعالى لا يبصر. حجبه اللّه سبحانه عن أبصار أعدائه من المشركين فكانوا يمرّون به ولا يرونه.

وَحْدَهُ من نوع قولهم: رجع عوده علي بدئه، في أنّه مصدر يسدّ مسدّ الحال، يقال: وحد يحد وحدا وحدة، والأصل يحد وحده. والنفور: مصدر بمعنى التولية، أو جمع نافر كشهود جمع شاهد، أي: أحبّوا أن تذكر معه آلهتهم لأنّهم مشركون، فإذا لم تذكرهم نفروا.

بِمٰا يَسْتَمِعُونَ بِهِ من اللغو والاستهزاء بالقران، و بِهِ في موضع الحال، أي: يستمعون هازئين.

و إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ نصب ب - أَعْلَمُ أي: أعلم وقت استماعهم بما به يستمعوا.

وَ إِذْ هُمْ نَجْوىٰ وبما يتناجون به إذ هم ذوو نجوى، أي: متناجون.

إِذْ يَقُولُ بدل من إِذْ هُمْ أي: ما تَتَّبِعُونَ إِلاّٰ رَجُلاً قد سحر فجنّ

ص: 239

واختلط عليه عقله، وإنّما قالوا ذلك لينفّروا عنه.

كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ اَلْأَمْثٰالَ مثّلوك بالساحر والمجنون فَضَلُّوا في ذلك ضلال المتحيّر في أمره لا يدري كيف يتوجه.

وَ رُفٰاتاً أي: ترابا وغبارا وانتثر لحومنا، أنبعث بعد ذلك خَلْقاً جَدِيداً .

[سورة الإسراء (17): الآیات 50 الی 55]

قُلْ كُونُوا حِجٰارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمّٰا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنٰا قُلِ اَلَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَ يَقُولُونَ مَتىٰ هُوَ قُلْ عَسىٰ أَنْ يَكُونَ قَرِيباً يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَ تَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّٰ قَلِيلاً وَ قُلْ لِعِبٰادِي يَقُولُوا اَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ اَلشَّيْطٰانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ اَلشَّيْطٰانَ كٰانَ لِلْإِنْسٰانِ عَدُوًّا مُبِيناً رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لَقَدْ فَضَّلْنٰا بَعْضَ اَلنَّبِيِّينَ عَلىٰ بَعْضٍ وَ آتَيْنٰا دٰاوُدَ زَبُوراً

ردّ قوله: كُونُوا حِجٰارَةً علي قولهم: كُنّٰا عِظٰاماً ، فكأنّه قال: كونوا حجارة أَوْ حَدِيداً ولا تكونوا عظاما فإنّه يقدر علي إعادتكم أحياء، وردّكم إلى رطوبة الحي و غضاضته.

أَوْ خَلْقاً مِمّٰا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ عن قبول الحياة، ويعظم عندكم أن يحييه اللّه.

قُلِ اَلَّذِي فَطَرَكُمْ أي: خلقكم أَوَّلَ مَرَّةٍ فإن من قدر على الإنشاء كان علي الإعادة أقدر، وإنّما قال ذلك لكونهم مقرّين بالنشأة الأولي فَسَيُنْغِضُونَ أي: فسيحرّكون نحوك رُؤُسَهُمْ تعجبا واستهزاء.

ص: 240

يَوْمَ يَدْعُوكُمْ أي: يبعثكم فتنبعثون منقادين غير ممتنعين، والدعاء والاستجابة كلاهما مجاز هنا.

بِحَمْدِهِ حال منهم أي: حامدين للّه، موحّدين، وعن سعيد بن جبير:

(يخرجون من قبورهم قائلين: سبحانك اللهم وبحمدك)(1).

وَ تَظُنُّونَ أنّكم ما لَبِثْتُمْ في الدنيا إِلاّٰ قَلِيلاً لسرعة انقلاب الدنيا إلى الآخرة، أو لعلمكم بطول اللبث في الآخرة. ونزل النفي منزلة الاستفهام في التعليق.

وَ قُلْ للمؤمنين: يَقُولُوا للمشركين الكلمة اَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، وفسّر اَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ بقوله: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ولا تقولوا لهم ما يغيظهم ويغضبهم، وقيل: معناه: مرهم يقولوا الكلمة الحسنى وهي كلمة الشهادتين والأقوال المندوب إليها.

إِنَّ اَلشَّيْطٰانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ أي: يفسد بينهم ويغري بعضهم علي بعض ليوقع بينهم العداوة والبغضاء.

رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بأحوالكم وتدبير أموركم إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ بفضله وإن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ بعدله.

وَكِيلاً أي: ربّا موكولا إليك أمرهم تجبرهم علي الإسلام، و إنّما أرسلناك بشيرا ونذيرا فدارهم واحتمل منهم.

وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ ردّ علي كفار قريش في إنكارهم نبوّة نبيّنا محمّد صلى الله عليه و آله و سلم، أي:

ربّك أعلم بأحوال مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ و مقاديرهم، فلا يختار من يختاره

ص: 241


1- الدر المنثور ج 4:188.

من الملائكة والأنبياء لميله إليهم، وإنّما يختارهم لعلمه ببواطنهم وبما يستأهل كل واحد منهم.

وَ لَقَدْ فَضَّلْنٰا إشارة إلى تفضيل رسول اللّه وَ آتَيْنٰا دٰاوُدَ زَبُوراً دلالة علي تفضيله - أيضا - فإنّه خاتم الأنبياء، ومكتوب في زبور داود: أَنَّ اَلْأَرْضَ يَرِثُهٰا عِبٰادِيَ اَلصّٰالِحُونَ (1) وهم محمّد وأهل بيته عليهم السلام.

[سورة الإسراء (17): الآیات 56 الی 60]

قُلِ اُدْعُوا اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلاٰ يَمْلِكُونَ كَشْفَ اَلضُّرِّ عَنْكُمْ وَ لاٰ تَحْوِيلاً أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلىٰ رَبِّهِمُ اَلْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخٰافُونَ عَذٰابَهُ إِنَّ عَذٰابَ رَبِّكَ كٰانَ مَحْذُوراً وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاّٰ نَحْنُ مُهْلِكُوهٰا قَبْلَ يَوْمِ اَلْقِيٰامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهٰا عَذٰاباً شَدِيداً كٰانَ ذٰلِكَ فِي اَلْكِتٰابِ مَسْطُوراً وَ مٰا مَنَعَنٰا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيٰاتِ إِلاّٰ أَنْ كَذَّبَ بِهَا اَلْأَوَّلُونَ وَ آتَيْنٰا ثَمُودَ اَلنّٰاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهٰا وَ مٰا نُرْسِلُ بِالْآيٰاتِ إِلاّٰ تَخْوِيفاً وَ إِذْ قُلْنٰا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحٰاطَ بِالنّٰاسِ وَ مٰا جَعَلْنَا اَلرُّؤْيَا اَلَّتِي أَرَيْنٰاكَ إِلاّٰ فِتْنَةً لِلنّٰاسِ وَ اَلشَّجَرَةَ اَلْمَلْعُونَةَ فِي اَلْقُرْآنِ وَ نُخَوِّفُهُمْ فَمٰا يَزِيدُهُمْ إِلاّٰ طُغْيٰاناً كَبِيراً

اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ هم الملائكة، وقيل: عيسى وعزير(2)، وقيل: نفر من الجن عبدهم قوم من العرب ثمّ أسلم الجن(3). والمعنى: ادعوهم فإنّهم لا يقدرون علي أن يكشفوا عَنْكُمْ الضرّ وَ لاٰ أن يحوّلوه عنكم إلى غيركم.

ص: 242


1- الأنبياء: 105.
2- عن ابن عباس. تفسير الطبري ج 15:73.
3- عن ابن مسعود. تفسير الطبري ج 15:72.

أُولٰئِكَ مبتدأ، وخبره يَبْتَغُونَ يعني: إنّ آلهتهم يبتغون اَلْوَسِيلَةَ و هي القربة إِلىٰ الله عزّ وجل، و أَيُّهُمْ بدل من واو يَبْتَغُونَ ، و (أي) اسم موصول، أي: يبتغي من هو أَقْرَبُ منهم الوسيلة إلى اللّه فكيف غير الأقرب!، أو ضمّن يَبْتَغُونَ معنى يحرصون، [أي: يحرصون](1) أيّهم يكون أقرب إلي اللّه، وذلك بأن يزيدوا في الطاعة والخير وَ يَرْجُونَ ويخافون كغيرهم فكيف تدعونهم آلهة!.

إِلاّٰ نَحْنُ مُهْلِكُوهٰا بالموت أَوْ مُعَذِّبُوهٰا بالقتل وأنواع العذاب، وقيل: الهلاك للصالحة والعذاب للطالحة(2)، والكتاب: اللوح المحفوظ.

استعار سبحانه المنع لترك إرسال الآيات من أجل صارف الحكمة. و إِنْ الأولى منصوبة الموضع والثانية مرفوعته. والمعنى: ولم يمنعنا إرسال الآيات إلا تكذيب الأوّلين، يريد الآيات التي اقترحوها من إحياء الموتى، وأن يحوّل الصفا ذهبا وغير ذلك. وقد حكم اللّه تعالى في الأمم أنّ من كذّب بالآية المقترحة عوجل بعذاب الاستئصال، وقد علم سبحانه أنّه لو أرسل هذه الآيات لكذّبوا بها واستوجبوا العذاب العاجل المستأصل، و من حكمه سبحانه في هذه الأمة أن لا يعذّبهم بعذاب الاستئصال تشريفا لنبيّه عليه السلام، وأن يؤخر أمرهم إلي يوم القيامة.

ثمّ ذكر سبحانه من الآيات التي كَذَّبَ بِهَا اَلْأَوَّلُونَ فأهلكوا: ناقة صالح، لأنّ آثارهم في بلاد العرب قريبة منهم.

مُبْصِرَةً بيّنة فَظَلَمُوا أي: فكفروا بِهٰا وَ مٰا نُرْسِلُ بِالْآيٰاتِ التي نظهرها علي الأنبياء إِلاّٰ تَخْوِيفاً وإنذارا بعذاب الآخرة.

ص: 243


1- ساقطة من أ.
2- تفسير مقاتل بن سليمان ج 2:262.

واذكر إِذْ قُلْنٰا لَكَ أي: أوحينا إليك: إِنَّ رَبَّكَ أَحٰاطَ بِالنّٰاسِ بقريش، يعني: بشّرناك بوقعة بدر ونصرتك عليهم وهو قوله: سَيُهْزَمُ اَلْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ اَلدُّبُرَ (1)، سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ إِلىٰ جَهَنَّمَ (2)، فجعله سبحانه كأن قد كان، فقال: أحاط بالناس، على عادته سبحانه في إخباره، وقيل: معناه: أحاط علما بأحوال الناس وأفعالهم، وما يستحقّونه عليها من الثواب والعقاب وهو قادر علي فعل ذلك بهم، عالم بما يصلحهم(3)، وهذا وعد له بالعصمة من أذي قومه.

واختلف في اَلرُّؤْيَا اَلَّتِي أريها النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، فقيل: هي رؤية العين المذكورة في أوّل السورة من الإسراء إلى بيت المقدس والمعراج(4)، وأراد بالفتنة: الامتحان وشدّة التكليف ليعرض المصدّق بذلك لجزيل الثواب والمكذّب لأليم العقاب، وقيل: هي الرؤيا التي في قوله: لَقَدْ صَدَقَ اَللّٰهُ رَسُولَهُ اَلرُّؤْيٰا بِالْحَقِّ (5) رأي أنّه سيدخل مكة وهو بالمدينة فصدّه المشركون عن دخولها يوم الحديبية، و إنّما كانت فتنة لما دخل علي بعض المسلمين من الشبهة والشك فقال: أليس قد أخبرتنا بأن ندخل المسجد الحرام آمنين ؟ فقال عليه السلام: (لم أقل: إنّكم تدخلونها العام، لتدخلنها إن شاء اللّه)، ورجع ثمّ دخلها في العام القابل(6). وقيل: هي رؤيا رآها في منامه أنّ قرودا تصعد منبره وتنزل(7)، وقيل - على هذا التأويل -: إنّ اَلشَّجَرَةَ اَلْمَلْعُونَةَ فِي

ص: 244


1- القمر: 45.
2- آل عمران: 12.
3- التبيان ج 6:494.
4- عن سعيد بن جبير وغيره. تفسير الطبري ج 15:76.
5- الفتح: 27.
6- عن ابن عباس. تفسير الطبري ج 15:77، وينظر: القصة في مغازي الواقدي ج 2:609.
7- الكشف والبيان ج 6:111.

اَلْقُرْآنِ هي بنو أمية، أخبره اللّه سبحانه بتغلّبهم علي مقامه وقتلهم ذريته(1)، وقيل: إنّ الشجرة الملعونة هي شجرة الزقوم لعنت في القران(2) حيث لعن طاعموها من الكفار، فوصفت بلعن أصحابها علي المجاز.

وَ نُخَوِّفُهُمْ بمخاوف الدنيا والآخرة فَمٰا يَزِيدُهُمْ التخويف إِلاّٰ طُغْيٰاناً كَبِيراً أي: عتوا في الكفر لا يرجعون عنه.

[سورة الإسراء (17): الآیات 61 الی 65]

وَ إِذْ قُلْنٰا لِلْمَلاٰئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّٰ إِبْلِيسَ قٰالَ أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً قٰالَ أَ رَأَيْتَكَ هٰذَا اَلَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلىٰ يَوْمِ اَلْقِيٰامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاّٰ قَلِيلاً قٰالَ اِذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزٰاؤُكُمْ جَزٰاءً مَوْفُوراً وَ اِسْتَفْزِزْ مَنِ اِسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ وَ شٰارِكْهُمْ فِي اَلْأَمْوٰالِ وَ اَلْأَوْلاٰدِ وَ عِدْهُمْ وَ مٰا يَعِدُهُمُ اَلشَّيْطٰانُ إِلاّٰ غُرُوراً إِنَّ عِبٰادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطٰانٌ وَ كَفىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلاً

طِيناً حال من الموصول الذي هو مَنْ خَلَقْتَ على معنى: أَ أَسْجُدُ له وهو طين أي: أصله طين، أو من الضمير المحذوف من الصلة على معنى: لِمَنْ كان في وقت خلقه طينا.

والكاف في أَ رَأَيْتَكَ للخطاب، و هٰذَا مفعول به، والمعنى: أخبرني

ص: 245


1- الدر المنثور ج 4:191، التبيان ج 6:494.
2- الصافات: 62، الدخان: 43، الواقعة: 52، والقول عن ابن عباس وغيره. تفسير الطبري ج 15:

عن هٰذَا اَلَّذِي كرّمته عَلَيَّ أي: فضّلته عليّ [لم اخترته عليّ ](1) وأنا خير منه ؟ فحذف للاختصار.

ثمّ ابتدأ فقال: لَئِنْ أَخَّرْتَنِ واللام لتوطئة القسم لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ لأستأصلنّهم بالإغواء ولأستولينّ عليهم، من احتنك الجراد الأرض: إذا أكل ما عليها، وأصله من الحنك. و إنّما طمع الملعون في ذلك لأنه سبحانه أخبر الملائكة أنّه سيجعل في الأرض من يفسد فيها ويسفك الدماء.

اِذْهَبْ معناه: امض لشأنك الذي اخترته، وليس هو من الذهاب الذي هو ضد المجيء، ثمّ قال: فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزٰاؤُكُمْ كما قال موسى للسامري: فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي اَلْحَيٰاةِ أَنْ تَقُولَ لاٰ مِسٰاسَ (2). والتقدير: فإنّ جهنم جزاؤهم وجزاؤك، فغلّب المخاطب علي الغائب فقال: جَزٰاؤُكُمْ .

جَزٰاءً مَوْفُوراً مصدر على إضمار (تجازون)، أو لأنّ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزٰاؤُكُمْ بمعنى: تجازون، والموفور: الموفر الكامل.

وَ اِسْتَفْزِزْ واستخفّ مَنِ اِسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ واستزلهم بوسوستك، و الفز: الخفيف.

و وَ أَجْلِبْ من الجلبة وهي الصياح، أي: صحّ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ وا حشرهم عليهم، و الرجل: اسم جمع للراجل، ونظيره الركب والصحب، و قرئ:

وَ رَجِلِكَ علي أنّ فعلا بمعنى فاعل [وبضم جيمها فيكون مثل ندس وندس وحدث وحدث](3)، يقال: رجل ورجل، أي: را جل، ومعناه: وجمعك الرجل.

ص: 246


1- ساقطة من أ.
2- طه: 97.
3- ساقطة من أ، ط.

وَ شٰارِكْهُمْ فِي اَلْأَمْوٰالِ وَ اَلْأَوْلاٰدِ يريد كل معصية تحملهم عليها: في باب الأموال كالربا والإنفاق في الفسق ومنع الزكاة، وفي باب الأولاد بالزنا ودعوي الولد بغير سبب.

وَ عِدْهُمْ بالمواعيد الكاذبة من: شفاعة الآلهة وتمني البقاء وطول الأمل.

إِنَّ عِبٰادِي الصالحين لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطٰانٌ أي: لا تقدر أن تغويهم لأنّهم لا يغترون بك وَ كَفىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلاً لهم، يتوكلون عليه في الاستعاذة منك فيحفظهم من شرّك.

[سورة الإسراء (17): الآیات 66 الی 69]

رَبُّكُمُ اَلَّذِي يُزْجِي لَكُمُ اَلْفُلْكَ فِي اَلْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كٰانَ بِكُمْ رَحِيماً وَ إِذٰا مَسَّكُمُ اَلضُّرُّ فِي اَلْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاّٰ إِيّٰاهُ فَلَمّٰا نَجّٰاكُمْ إِلَى اَلْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَ كٰانَ اَلْإِنْسٰانُ كَفُوراً أَ فَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جٰانِبَ اَلْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حٰاصِباً ثُمَّ لاٰ تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تٰارَةً أُخْرىٰ فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قٰاصِفاً مِنَ اَلرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمٰا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاٰ تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنٰا بِهِ تَبِيعاً

يُزْجِي لَكُمُ اَلْفُلْكَ أي: يسيّر ويجري لكم السفن فِي اَلْبَحْرِ .

وَ إِذٰا مَسَّكُمُ اَلضُّرُّ أي: خوف الغرق ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ أي: ذهب عن أوهامكم و خواطركم كل من تدعونه إِلاّٰ إِيّٰاهُ وحده، فلا ترجون هناك النجاة إلا من عنده، ولا يخطر ببالكم أنّ غيره يقدر على إنقاذكم.

فَلَمّٰا نَجّٰاكُمْ من البحر إِلَى اَلْبَرِّ فأمنتم حملكم ذلك على الإعراض.

و جٰانِبَ اَلْبَرِّ منصوب ب - يَخْسِفَ مفعول به، كا لأرض في قوله: فَخَسَفْنٰا

ص: 247

بِهِ وَ بِدٰارِهِ اَلْأَرْضَ (1) ، و بِكُمْ حال، والمعنى: أن يقلب جانب البر وأنتم عليه.

أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حٰاصِباً وهي الريح التي تحصب، أي: ترمي بالحصباء. والمعنى: وإن لم يصبكم بالهلاك من تحتكم بالخسف أصابكم به من فوقكم بريح يرسلها عليكم فيها الحصباء يرجمكم بها ثُمَّ لاٰ تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً حافظا يصرف عنكم ذلك.

أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يقوي دواعيكم إلى أن ترجعوا فتركبوا البحر الذي نجّاكم منه فأعرضتم فينتقم منكم بأن يرسل عليكم قاصفا وهي اَلرِّيحِ التي لها قصيف، أي: صوت شديد، كأنّها تتقصف أي: تتكسّر، وقيل: هي التي لا تمر بشيء إلا قصفته(2).

فَيُغْرِقَكُمْ وقرئ بالتاء يعني: الريح، وبالنون، وكذلك يَخْسِفَ و يُرْسِلَ ، و يُعِيدَكُمْ قرئ بالياء والنون.

بِمٰا كَفَرْتُمْ أي: بكفرانكم النعمة في الإنجاء.

و التبيع: المطالب من قوله: فَاتِّبٰاعٌ بِالْمَعْرُوفِ (3) أي: مطالبة، قال الشماخ:

كما لاذ الغريم من التّبيع(4)

والمعنى: إنّا نفعل ما نفعل بهم ثُمَّ لاٰ تَجِدُوا أحدا يطالبنا بما فعلنا، انتصارا منا.

ص: 248


1- القصص: 81.
2- مجاز القرآن ج 1:385.
3- البقرة: 178.
4- ديوان الشماخ بن ضرار الذبياني: 227، وصدره: تلوذ ثعالب الشرفين منها.

[سورة الإسراء (17): الآیات 70 الی 72]

وَ لَقَدْ كَرَّمْنٰا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْنٰاهُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ وَ رَزَقْنٰاهُمْ مِنَ اَلطَّيِّبٰاتِ وَ فَضَّلْنٰاهُمْ عَلىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنٰا تَفْضِيلاً يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنٰاسٍ بِإِمٰامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتٰابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولٰئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتٰابَهُمْ وَ لاٰ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً وَ مَنْ كٰانَ فِي هٰذِهِ أَعْمىٰ فَهُوَ فِي اَلْآخِرَةِ أَعْمىٰ وَ أَضَلُّ سَبِيلاً

يعني: كرّمناهم بالنطق والعقل والتمييز والصورة الحسنة والقامة المعتدلة، وتدبير أمر المعاش والمعاد، وبتسليطهم علي ما في الأرض، وتسخير سائر الحيوانات لهم وَ حَمَلْنٰاهُمْ فِي اَلْبَرِّ علي الدواب وفي اَلْبَحْرِ علي السفن وَ فَضَّلْنٰاهُمْ عَلىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنٰا هو ما سوى الملائكة، لأنّ الفضل عام في جنس الملائكة و خاص في بني آدم.

بِإِمٰامِهِمْ بمن ائتموا به من نبيّ أو إمام أو كتاب. الصادق عليه السلام: (ألا تحمدون اللّه ؟! إذا كان يوم القيامة فدعي كل قوم إلي من يتولّونه، وفزعنا إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وفزعتم إلينا، فإلى أين ترون يذهب بكم ؟! إلى الجنّة وربّ الكعبة - قالها ثلاثا -)(1).

فَمَنْ أُوتِيَ من هؤلاء كِتٰابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولٰئِكَ إشارة إلي مَنْ لأنّه في معنى الجمع يَقْرَؤُنَ كِتٰابَهُمْ لا يجتنبون عن قراءته لما يرون فيه من مواجب السرور وَ لاٰ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً هو المفتول الذي في شق النواة، أي: لا ينقصون من ثوابهم أدنى شيء.

وَ مَنْ كٰانَ فِي الدنيا أَعْمىٰ لا يهتدي إلى طريق النجاة فَهُوَ فِي

ص: 249


1- بشارة المصطفى: 144 باختلاف يسير.

اَلْآخِرَةِ أَعْمىٰ لا يهتدي إلى طريق الجنّة، ويجوز أن يكون الثاني بمعنى التفضيل، ولذلك قرأ أبو عمرو الأوّل ممالا والثاني بالتفخيم، لأنّ أفعل التفضيل تمامه ب - (من) فكانت ألفه كأنّها في وسط الكلمة، كقولك: أعمالكم.

[سورة الإسراء (17): الآیات 73 الی 77]

وَ إِنْ كٰادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ اَلَّذِي أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنٰا غَيْرَهُ وَ إِذاً لاَتَّخَذُوكَ خَلِيلاً وَ لَوْ لاٰ أَنْ ثَبَّتْنٰاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَأَذَقْنٰاكَ ضِعْفَ اَلْحَيٰاةِ وَ ضِعْفَ اَلْمَمٰاتِ ثُمَّ لاٰ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنٰا نَصِيراً وَ إِنْ كٰادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ اَلْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهٰا وَ إِذاً لاٰ يَلْبَثُونَ خِلاٰفَكَ إِلاّٰ قَلِيلاً سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنٰا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنٰا وَ لاٰ تَجِدُ لِسُنَّتِنٰا تَحْوِيلاً

إِنْ هذه مخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، ومعناه:

إنّ الحديث أو الأمر قاربوا أن يصرفوك عَنِ القرآن اَلَّذِي أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ أي: عن حكمه، لتضيف إلينا ما لم ننزله عليك.

وَ إِذاً لاَتَّخَذُوكَ خَلِيلاً أي: ولو اتبعت مرادهم لأظهروا خلتك. روي:

أنّ قريشا قالوا للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: لا ندعك تستلم الحجر الأسود حتى تلمّ بآلهتنا، فقال في نفسه: ما عليّ في أن ألمّ بها واللّه يعلم أنّي لها كاره ويدعوني أستلم الحجر، فأنزلت(1).

وروي غير ذلك وهو مذكور في موضعه(2).

وَ لَوْ لاٰ أَنْ ثَبَّتْنٰاكَ أي: لولا تثبيتنا لك بالعصمة والألطاف لَقَدْ قاربت أن تميل إِلَيْهِمْ أدنى ميل فتعطيهم بعض ما سألوك.

ص: 250


1- لباب النقول: 177.
2- ينظر: الدر المنثور ج 4:194.

إِذاً لَأَذَقْنٰاكَ ضِعْفَ عذاب اَلْحَيٰاةِ وَ ضِعْفَ عذاب اَلْمَمٰاتِ يعني: عذاب الدنيا والآخرة مضاعفين، أي: لضاعفنا لك العذاب المعجّل للعصاة في الحياة الدنيا وما نؤخّره لما بعد الموت، وفي هذا دليل علي أنّ القبيح يكون عظم قبحه على مقدار عظم شأن فاعله. وعن ابن عباس: (إنّ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم معصوم، و إنّما هو تخويف لئلا يركن مؤمن إلى مشرك في شيء من أحكام الله تعالي)(1).

وَ إِنْ كٰادُوا يعني: قريشا لَيَسْتَفِزُّونَكَ ليز عجونك مِنَ اَلْأَرْضِ أرض مكة بالإخراج.

وَ إِذاً لاٰ يَلْبَثُونَ أي: لا يبقون بعد إخراجك إِلاّٰ زمانا قَلِيلاً فأنّ اللّه يهلكهم، وقد أهلكوا ببدر بعد إخراجه بقليل، أو إلا ناسا قليلا منهم يريد من انفلت منهم يوم بدر ومن امن، وقيل: من أرض المدينة، لأنّ اليهود قالوا له:

إنّ الأنبياء بعثوا بالشام وهي مهاجر إبراهيم، فلو خرجت إلى الشام لآمنّا بك، فهمّ بالخروج إلى الشام فنزلت(2).

وقرئ: خلفك وخلافك ومعناهما واحد، قال:

عفت الدّيار خلافهم فكأنّما *** بسط الشّواطب بينهنّ حصيرا(3)

أي: بعدهم.

سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنٰا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنٰا يعني: إنّ كل قوم أخرجوا رسولهم من بينهم فسنّة أن يهلكهم. وانتصابه بأنّه مصدر مؤكد، أي: سنّ اللّه ذلك سنة.

ص: 251


1- مجمع البيان ج 5-6:432.
2- أسباب النزول: 204.
3- شعر الحارث بن خالد المخزومي: 63، وفيه: عقب الرذاذ خلافهم...

[سورة الإسراء (17): الآیات 78 الی 82]

أَقِمِ اَلصَّلاٰةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ إِلىٰ غَسَقِ اَللَّيْلِ وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ كٰانَ مَشْهُوداً وَ مِنَ اَللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نٰافِلَةً لَكَ عَسىٰ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقٰاماً مَحْمُوداً وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَ أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَ اِجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطٰاناً نَصِيراً وَ قُلْ جٰاءَ اَلْحَقُّ وَ زَهَقَ اَلْبٰاطِلُ إِنَّ اَلْبٰاطِلَ كٰانَ زَهُوقاً وَ نُنَزِّلُ مِنَ اَلْقُرْآنِ مٰا هُوَ شِفٰاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لاٰ يَزِيدُ اَلظّٰالِمِينَ إِلاّٰ خَسٰاراً

الدلوك: الزوال، وقيل: هو الغروب(1)، والأوّل أصحّ ، لتكون الآية جامعة للصلوات الخمس، فصلاتا دلوك الشمس: الظهر والعصر، وصلاتا غَسَقِ اَللَّيْلِ :

المغرب والعشاء الآخرة، والمراد ب - وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ : صلاة الفجر.

و غَسَقِ اَللَّيْلِ : أوّل بدو الليل وظلمته، مَشْهُوداً يشهده ملائكة الليل والنهار، يصعد هؤلاء وينزل هؤلاء، فهو في آخر ديوان الليل وأوّل ديوان النهار.

ويجوز أن يكون وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ حثا علي طول القراءة في صلاة الفجر لكونها مشهودة بالجماعة الكثيرة ليسمع الناس القرآن فيكثر الثواب.

وَ مِنَ اَللَّيْلِ وعليك بعض الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ والتهجّد: ترك الهجود للصلاة، ونحوه: التأثّم والتحرّج، ويقال للنوم: التهجّد أيضا.

نٰافِلَةً لَكَ أي: عبادة زائدة لك علي الصلوات الخمس، وضع نٰافِلَةً موضع تهجّدا، لأنّ التهجّد عبادة زائدة فجمعهما معنى واحد، فالمعنى: إنّ التهجّد زيد لك علي الصلوات المكتوبة فريضة عليك خاصة وتطوعا لغيرك، وقيل: معناه:

ص: 252


1- عن ابن مسعود. تاريخ الطبري ج 15:91.

نافلة لك ولغيرك(1). وخصّ بالخطاب لما في ذلك من دعاء الغير إلى الاستنان بسنّته.

مَقٰاماً مَحْمُوداً نصب علي الظرف، أي: عَسىٰ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ فيقيمك مقاما محمودا، أو ضمّن يَبْعَثَكَ معنى: يقيمك، ويجوز أن يكون حالا بمعنى:

ذا مقام محمود، ومعنى المقام المحمود: المقام الذي يحمده فيه الأوّلون والآخرون، وهو مقام الشفاعة، يسأل فيه فيعطى، ويشفع فيه فيشفع، ويشرف فيه علي جميع الخلائق فيوضع في كفه لواء الحمد يجتمع تحته الأنبياء والملائكة.

و مُدْخَلَ و مُخْرَجَ بمعنى المصدر، أي: أَدْخِلْنِي في جميع ما أرسلتني به إدخالا مرضيا وَ أَخْرِجْنِي منه إخراجا مرضيا يحمد عاقبته، وقيل: يريد إدخاله مكة ظاهرا عليها بالفتح وإخراجه منها سالما(2)، وقيل: هو عام.

سُلْطٰاناً حجّة تنصرني علي من خالفني، أو ملكا وعزّا ناصرا للإسلام علي الكفر، فأجيبت دعوته صلوات اللّه عليه وآله بقوله: لِيُظْهِرَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ (3)، فَإِنَّ حِزْبَ اَللّٰهِ هُمُ اَلْغٰالِبُونَ (4).

وكان حول البيت ثلاثمائة وستون صنما لقبائل العرب يحجّون إليها، فلما نزلت هذه الآية يوم الفتح قال جبرئيل لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: (خذ مخصرتك ثمّ ألقها)، فجعل يأتي صنما صنما وينكت بالمخصرة في عينه ويقول: جٰاءَ اَلْحَقُّ وَ زَهَقَ اَلْبٰاطِلُ ، فينكب الصنم لوجهه، فألقاها جميعا، وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة وكان من قوارير صفر، فقال: (يا عليّ ارم به)، فحمله رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتى صعد فرمى به فكسره،

ص: 253


1- عن مجاهد وغيره. معالم التنزيل ج 2:241.
2- عن الضحاك. معالم التنزيل ج 2:243.
3- الفتح: 28.
4- المائدة: 56.

فجعل أهل مكة يتعجبون ويقولون: ما رأينا رجلا أسحر من محمّد(1).

وَ زَهَقَ اَلْبٰاطِلُ هلك وذهب، من قولهم: زهقت نفسه: إذا ضجت.

و اَلْحَقُّ الإسلام، و اَلْبٰاطِلُ الشرك كٰانَ زَهُوقاً أي: مضمحلا غير ثابت.

مِنَ اَلْقُرْآنِ : (من) للتبيين أو للتبعيض، أي: كل شيء نزل من القرآن فهو شفاء للمؤمنين يزدادون به إيمانا، فيقع منهم موقع الشفاء من المرضى. وعن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: (من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه اللّه)(2).

ولا يزداد به الكافرون إِلاّٰ خَسٰاراً أي: نقصانا، لتكذيبهم به وكفرهم.

[سورة الإسراء (17): الآیات 83 الی 87]

وَ إِذٰا أَنْعَمْنٰا عَلَى اَلْإِنْسٰانِ أَعْرَضَ وَ نَأىٰ بِجٰانِبِهِ وَ إِذٰا مَسَّهُ اَلشَّرُّ كٰانَ يَؤُساً قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلىٰ شٰاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدىٰ سَبِيلاً وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ مٰا أُوتِيتُمْ مِنَ اَلْعِلْمِ إِلاّٰ قَلِيلاً وَ لَئِنْ شِئْنٰا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ ثُمَّ لاٰ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنٰا وَكِيلاً إِلاّٰ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كٰانَ عَلَيْكَ كَبِيراً

وَ إِذٰا أَنْعَمْنٰا عَلَى اَلْإِنْسٰانِ با لصحّة والغناء أَعْرَضَ عن ذكر اللّه تعالي كأنّه مستغن عنه وَ نَأىٰ بِجٰانِبِهِ تأكيد للإعراض، لأنّ معنى الإعراض عن الشيء:

أن يوليه عرض وجهه، ومعنى النأي بالجانب: أن يوليه ظهره، أو يريد التجبر والاستكبار، لأنّ ذلك من عادة المتكبر المعجب بنفسه.

وَ إِذٰا مَسَّهُ اَلشَّرُّ أي: المحنة والشدّة، أو الفقر كٰانَ يَؤُساً شديد القنوط واليأس من رجاء الفرج. وقرئ: وناء بجانبه، قدّم اللام علي العين كما قالوا: راء

ص: 254


1- الكشف والبيان ج 6:128 باختصار.
2- الكشف والبيان ج 6:129.

في رأي، أو يكون من ناء: إذا نهض.

قُلْ كل أحد يَعْمَلُ عَلىٰ شٰاكِلَتِهِ أي: مذهبه وطريقته التي تشاكل حاله في الهدي والضلال، بدلالة قوله: فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدىٰ سَبِيلاً أي:

أسدّ طريقة وأصوب مذهبا.

و اَلرُّوحِ المسؤول عنه هو الروح الذي في الحيوان، سئل عليه السلام عن حقيقته فأخبر أنّه مِنْ أَمْرِ اللّه، أي: مما استأثر اللّه به، وقيل: إنّ اليهود قالت: إن أجاب محمّد عن الروح فليس بنبيّ ، وإن لم يجب فهو نبيّ فإنّا نجد في كتبنا ذلك(1)، وقيل:

هو جبرئيل عليه السلام(2)، أو ملك من الملائكة يقوم صفا والملائكة صفا(3)، وقيل: هو القر ان(4).

و مِنْ أَمْرِ رَبِّي أي: من وحيه وكلامه، ليس من كلام البشر.

وَ مٰا أُوتِيتُمْ الخطاب عام إِلاّٰ قَلِيلاً أي: شيئا يسيرا، لأنّ معلومات اللّه سبحانه لا نهاية لها.

لَنَذْهَبَنَّ جواب قسم محذوف وسدّ مسدّ جواب الشرط، والمعنى: إن شِئْنٰا ذهبنا بالقرآن ومحوناه عن الصدور فلم نترك له أثرا ثُمَّ لاٰ تَجِدُ لَكَ بعد الذهاب بِهِ من يتوكل عَلَيْنٰا باسترداده و إعادته محفوظا مسطورا.

إِلاّٰ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إلا أن يرحمك ربّك فيردّه عليك، كأنّ رحمته تتوكل عليه بالرد، أو يكون استثناء منقطعا بمعنى: ولكن رحمة من ربّك تركته

ص: 255


1- أسباب النزول: 205.
2- عن قتادة. تفسير الطبري ج 15:105.
3- عن ابن عباس وغيره. تفسير الطبري ج 15:105.
4- عن الحسن. تفسير الماوردي ج 3:269.

غير مذهوب به. وهذا امتنان منه سبحانه ببقاء القرآن محفوظا بعد المنة في تنزيله وتحفيظه.

[سورة الإسراء (17): الآیات 88 الی 93]

قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هٰذَا اَلْقُرْآنِ لاٰ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كٰانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً وَ لَقَدْ صَرَّفْنٰا لِلنّٰاسِ فِي هٰذَا اَلْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبىٰ أَكْثَرُ اَلنّٰاسِ إِلاّٰ كُفُوراً وَ قٰالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّٰى تَفْجُرَ لَنٰا مِنَ اَلْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ اَلْأَنْهٰارَ خِلاٰلَهٰا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ اَلسَّمٰاءَ كَمٰا زَعَمْتَ عَلَيْنٰا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّٰهِ وَ اَلْمَلاٰئِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقىٰ فِي اَلسَّمٰاءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتّٰى تُنَزِّلَ عَلَيْنٰا كِتٰاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحٰانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاّٰ بَشَراً رَسُولاً

أي: لو تظاهر الثقلان عَلىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هٰذَا اَلْقُرْآنِ في فصاحته وبلاغته وحسن تأليفه ونظمه لعجزوا عن الإتيان بِمِثْلِهِ .

وَ لَقَدْ صَرَّفْنٰا لِلنّٰاسِ أي: بيّنا لهم وكررنا مِنْ كُلِّ معنى هو كالمثل في حسنه وغرابته، وقد احتاجوا إليه في دينهم ودنياهم فلم يرضوا.

إِلاّٰ كُفُوراً أي: جحودا.

ولما تبيّن إعجاز القرآن، وانضاف إليه غيره من المعجزات ولزمتهم الحجّة قٰالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّٰى تَفْجُرَ أي: تفتح لَنٰا مِنَ أرض مكة يَنْبُوعاً أي: عينا ينيع منه الماء لا ينقطع، وهو يفعول كيعبوب من عبّ . و قرئ: تفجر - بالتخفيف -.

وقولهم: كَمٰا زَعَمْتَ عنوا به قوله تعالى: إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ اَلْأَرْضَ

ص: 256

أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ اَلسَّمٰاءِ (1) . وقرئ: كسفا - بفتح السين وسكونه - جمع كسفة.

قَبِيلاً أي: كفيلا بما تقول، شاهدا بصحّته، والمعنى: أو تأتي باللّه قبيلا وبالملائكة قبيلا، كقوله:

رماني بأمر كنت منه ووالدي *** بريّا ومن جول الطّويّ رماني(2)

أو يريد: مقابلا لنا حتى نشاهده ونعاينه، أو جمع قبيلة أي: جماعة، حالا من اَلْمَلاٰئِكَةِ .

وا لزخرف: الذهب.

أَوْ تَرْقىٰ فِي معارج اَلسَّمٰاءِ فحذف المضاف وَ لَنْ نُؤْمِنَ لأجل رقيك حَتّٰى تُنَزِّلَ عَلَيْنٰا من السماء كِتٰاباً فيه تصديقك، و إنّما قصدوا بهذه الاقتراحات اللجاج والعناد.

قُلْ سُبْحٰانَ رَبِّي [وقرئ: قال سبحان ربّي](3)، تعجّب من اقتراحاتهم عليه هَلْ كُنْتُ إِلاّٰ بَشَراً مثل سائر الرسل، وقد كانوا لا يأتون أممهم إلا بما يظهره اللّه عليهم من الآيات، وليس أمر الآيات إليّ ، إنّما هو إلي اللّه وهو العالم بالمصالح، فلا وجه لطلبكم إيّاها مني.

[سورة الإسراء (17): الآیات 94 الی 95]

وَ مٰا مَنَعَ اَلنّٰاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جٰاءَهُمُ اَلْهُدىٰ إِلاّٰ أَنْ قٰالُوا أَ بَعَثَ اَللّٰهُ بَشَراً رَسُولاً قُلْ لَوْ كٰانَ فِي اَلْأَرْضِ مَلاٰئِكَةٌ يَمْشُونَ

ص: 257


1- سبأ: 9.
2- شعر عمرو بن احمر الباهلي: 187، وفيه: ومن أجل....
3- ساقطة من ب، ج.

[سورة الإسراء (17): الآیات 95 الی 100]

مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنٰا عَلَيْهِمْ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مَلَكاً رَسُولاً قُلْ كَفىٰ بِاللّٰهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ إِنَّهُ كٰانَ بِعِبٰادِهِ خَبِيراً بَصِيراً وَ مَنْ يَهْدِ اَللّٰهُ فَهُوَ اَلْمُهْتَدِ وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيٰاءَ مِنْ دُونِهِ وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ عَلىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَ بُكْماً وَ صُمًّا مَأْوٰاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمٰا خَبَتْ زِدْنٰاهُمْ سَعِيراً ذٰلِكَ جَزٰاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيٰاتِنٰا وَ قٰالُوا أَ إِذٰا كُنّٰا عِظٰاماً وَ رُفٰاتاً أَ إِنّٰا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اَللّٰهَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ قٰادِرٌ عَلىٰ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَ جَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاٰ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى اَلظّٰالِمُونَ إِلاّٰ كُفُوراً قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزٰائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ اَلْإِنْفٰاقِ وَ كٰانَ اَلْإِنْسٰانُ قَتُوراً

أي: وَ مٰا مَنَعَ اَلنّٰاسَ الإيمان بالقرآن وبنبوّة محمّد صلى الله عليه و آله و سلم إِلاّٰ إنكارهم أن يرسل اللّه البشر، ف - أَنَّ الأولى مفعول ثان ل - مَنَعَ ، و أَنَّ الثانية فاعل، والهمزة في أَ بَعَثَ اَللّٰهُ للإنكار، فبيّن سبحانه أنّ ما أنكروه غير منكر، و إنّما المنكر خلافه عند اللّه، لأنّ حكمته البالغة تقتضي أن لا يرسل الملك بالوحي إلا إلى الأنبياء أو إلى أمثاله من الملائكة.

ثمّ قرر سبحانه بأنّه لَوْ كٰانَ فِي اَلْأَرْضِ مَلاٰئِكَةٌ يَمْشُونَ على أرجلهم مُطْمَئِنِّينَ ساكنين في الأرض لنزّل اللّه عَلَيْهِمْ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مَلَكاً رَسُولاً يهديهم إلى الرشد و يعلّمهم الدين، فأما الإنس فإنّما يرسل الملك إلى من يختاره منهم للنبوّة فيقوم بدعوتهم و إرشادهم.

شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ علي أنّي قضيت ما عليّ من التبليغ وأنّكم كذّبتم، إِنَّهُ كٰانَ بِعِبٰادِهِ خَبِيراً عالما بأحوالهم، وهذا وعيد للكفار وتسلية للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

ص: 258

و شَهِيداً تمييز أو حال.

وَ مَنْ يَهْدِ اَللّٰهُ أي: يوفّقه فَهُوَ اَلْمُهْتَدِ وَ مَنْ يُضْلِلْ و من يخذل فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيٰاءَ أي: أنصارا.

عَلىٰ وُجُوهِهِمْ يسحبون عليها إلى النار كما يفعل في الدنيا بمن يبالغ في إهانته وتعذيبه.

عُمْياً عما يسرّهم وَ بُكْماً عن التكلّم بما ينفعهم وَ صُمًّا عما يمتعهم، كما كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحقّ ويتصامون عن استماعه، ويجوز أن يحشروا وقد إيفت(1) حواسهم من الموقف إلى النار بعد الحساب، فقد أخبر عنهم بأنّهم يتكلّمون.

كُلَّمٰا خَبَتْ أي: كلما احترقت جلودهم ولحومهم فسكن لهبها بدلوا غيرها فرجعت ملتهبة مستعرة.

ذٰلِكَ جَزٰاؤُهُمْ و هو تسليط النار علي أجزائهم تأكلها وتفنيها ثمّ إعادتها، ليزيد بذلك تحسّرهم علي التكذيب بالبعث.

أَ وَ لَمْ يعلموا أَنَّ من قدر علي خلق اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ فهو قٰادِرٌ عَلىٰ خلق أمثالهم من الإنس، لأنّهم ليسوا بأشدّ خلقا منهن كما قال: أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ اَلسَّمٰاءُ بَنٰاهٰا (2).

وَ جَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاٰ رَيْبَ فِيهِ وهو الموت أو القيامة، فأبوا مع وضوح الدليل إِلاّٰ الجحود.

ص: 259


1- إيفت حواسهم: أصابتها آفة. (الصحاح: مادة اوف).
2- النازعات: 27.

قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ تقديره: لو تملكون أنتم تملكون، لأنّ لَوْ لا تدخل إلا علي الفعل، فأضمر تملكون علي شريطة التفسير، وأبدل من الضمير المتصل الذي هو الواو ضمير منفصل وهو أَنْتُمْ ، ف - أَنْتُمْ فاعل الفعل المضمر و تَمْلِكُونَ تفسيره، أي: لو ملكتم خَزٰائِنَ أرزاق اللّه ونعمه علي خلقه لَأَمْسَكْتُمْ شحا و بخلا. والقتور: البخيل، وقيل: هو جواب قولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّٰى تَفْجُرَ لَنٰا وما اقترحوه من الزخرف وغيره، ويريد: أنّهم لو ملكوا خزائن اللّه لبخلوا بها.

[سورة الإسراء (17): الآیات 101 الی 105]

وَ لَقَدْ آتَيْنٰا مُوسىٰ تِسْعَ آيٰاتٍ بَيِّنٰاتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرٰائِيلَ إِذْ جٰاءَهُمْ فَقٰالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يٰا مُوسىٰ مَسْحُوراً قٰالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مٰا أَنْزَلَ هٰؤُلاٰءِ إِلاّٰ رَبُّ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ بَصٰائِرَ وَ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يٰا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً فَأَرٰادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ فَأَغْرَقْنٰاهُ وَ مَنْ مَعَهُ جَمِيعاً وَ قُلْنٰا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرٰائِيلَ اُسْكُنُوا اَلْأَرْضَ فَإِذٰا جٰاءَ وَعْدُ اَلْآخِرَةِ جِئْنٰا بِكُمْ لَفِيفاً وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْنٰاهُ وَ بِالْحَقِّ نَزَلَ وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلاّٰ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً

الآيات التسع: هي العصا، واليد، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والحجر، والبحر، والطور الذي رفع فوق بني إسرائيل، هذا قول ابن عباس(1)، وقد ذكر أيضا: الطوفان، والسنون، ونقص من الثمرات، مكان الحجر، والبحر، والطور(2)، وقيل: إنّها تسع آيات في الأحكام، فروي: أنّ بعض اليهود سأل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن ذلك فقال: (أوحى الله إلي موسى أن: قل لبني إسرائيل: لا تشركوا

ص: 260


1- تفسير الماوردي ج 3:277 باختلاف.
2- عن الحسن وغيره. تفسير الطبري ج 15:115.

باللّه شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرّم اللّه إلا بالحقّ ، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تقذفوا محصنة، ولا تفرّوا من الزحف، وأنتم يا يهود خاصة لا تعدوا في السبت)، فقبل اليهودي يده وقال: أشهد أنّك نبيّ (1).

فَسْئَلْ بَنِي إِسْرٰائِيلَ أي: سلهم من فرعون وقل له: أرسل معي بني إسرائيل، أو سلهم عن حال دينهم، أو سلهم أن يعاضدوك، وقيل: معناه: فاسأل يا رسول اللّه المؤمنين من بني إسرائيل وهم عبد اللّه بن سلام وأصحابه لتزداد يقينا وطمأنينة قلب. وعلي القول الأوّل تعلّق إِذْ جٰاءَهُمْ بالقول المحذوف، أي فقلنا له: سلهم، وأما علي القول الثاني فتعلّق ب - آتَيْنٰا أو بإضمار (اذكر)، والمعنى: إذ جاء آباءهم مَسْحُوراً سحرت فخولط عقلك.

قٰالَ لَقَدْ عَلِمْتَ يا فرعون مٰا أَنْزَلَ هٰؤُلاٰءِ الآيات إِلاّٰ رَبُّ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ بَصٰائِرَ حججا وبيّنات مكشوفات ولكنك معاند، وقرئ: علمت، بمعنى: لست بمسحور بل أنا عالم بصحّة الأمر، ثمّ قابل ظنه بظنه، فكأنّه قال:

إن ظننتني مسحورا فإنّي أظنك مَثْبُوراً هالكا، وظني أصحّ من ظنك، فإنّ له أمارة ظاهرة وهي إنكارك ما تعرف صحّته وعنادك.

فَأَرٰادَ فرعون أَنْ يستخف موسى وقومه مِنَ أرض مصر ويخرجهم منها، أو ينفيهم عن ظهر اَلْأَرْضِ بالقتل، فاستفززناه بأن أغرقناه وقومه بأجمعهم.

وَ قُلْنٰا لبني إسرائيل اُسْكُنُوا أرض مصر فَإِذٰا جٰاءَ وَعْدُ اَلْآخِرَةِ وهو قيام الساعة جِئْنٰا بِكُمْ لَفِيفاً جميعا مختلطين ثمّ يحكم بينكم، واللفيف:

ص: 261


1- معجم الطبراني الكبير ج 8:70.

الجماعات من قبائل شتى.

وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْنٰاهُ أي: ما أنزلنا القرآن إلا بالحقّ والحكمة وما نَزَلَ إلا بالحكمة، لاشتماله علي الهداية إلي الخيرات وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلاّٰ لتبشرهم وتنذرهم.

[سورة الإسراء (17): الآیات 106 الی 111]

وَ قُرْآناً فَرَقْنٰاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى اَلنّٰاسِ عَلىٰ مُكْثٍ وَ نَزَّلْنٰاهُ تَنْزِيلاً قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لاٰ تُؤْمِنُوا إِنَّ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذٰا يُتْلىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقٰانِ سُجَّداً وَ يَقُولُونَ سُبْحٰانَ رَبِّنٰا إِنْ كٰانَ وَعْدُ رَبِّنٰا لَمَفْعُولاً وَ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقٰانِ يَبْكُونَ وَ يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً قُلِ اُدْعُوا اَللّٰهَ أَوِ اُدْعُوا اَلرَّحْمٰنَ أَيًّا مٰا تَدْعُوا فَلَهُ اَلْأَسْمٰاءُ اَلْحُسْنىٰ وَ لاٰ تَجْهَرْ بِصَلاٰتِكَ وَ لاٰ تُخٰافِتْ بِهٰا وَ اِبْتَغِ بَيْنَ ذٰلِكَ سَبِيلاً وَ قُلِ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي اَلْمُلْكِ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ اَلذُّلِّ وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً

وَ قُرْآناً منصوب بفعل مضمر يفسّره: فَرَقْنٰاهُ ، وقرئ بالتخفيف، وروي عن عليّ عليه السلام بالتشديد وعن ابن عباس وأبيّ وغيرهم، ومعنى المشدد:

وجعلناه مفرّقا منجّما في النزول.

عَلىٰ مُكْثٍ أي: على تثبّت وتؤدة وترتيل ليكون أمكن في قلوبهم وَ نَزَّلْنٰاهُ على حسب الحاجة والحوادث. وعن ابن عباس: (لأن أقرأ سورة البقرة وأرتّلها أحبّ إليّ من أن أقرأ القرآن هذّا)(1).

قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لاٰ تُؤْمِنُوا أمر بالإعراض عنهم وقلة الاكتراث بهم و بإيمانهم، وأنّهم إن لم يدخلوا في الإيمان، فإنّ من هم أفضل منهم من الذين قرأوا الكتب وعلموا الشرائع قد آمنوا به، وصحّ عندهم أنّه النبيّ الموعود في كتبهم،

ص: 262


1- سنن البيهقي الكبرى ج 2:396 بالمعنى.

فإذا تلي عَلَيْهِمْ خروا سُجَّداً تعظيما لأمر اللّه، و لإنجازه ما وعده في الكتب المنزلة من بعثة محمّد صلى الله عليه و آله و سلم وإنزال القرآن عليه، وهو المراد بالوعد في قوله: إِنْ كٰانَ وَعْدُ رَبِّنٰا لَمَفْعُولاً أي: إنّه كان وعد اللّه حقّا كائنا.

و إنّما ذكر الذقن لأنّ الساجد أقرب شيء منه إلي الأرض ذقنه، ومعنى اللام:

الاختصاص، لأنّهم جعلوا أذقانهم ووجوههم للسجود والخرور.

وكرر قوله: يَخِرُّونَ لِلْأَذْقٰانِ لاختلاف الحالين، وهما: خرورهم في حال كونهم ساجدين، وخرورهم في حال كونهم باكين وَ يَزِيدُهُمْ القرآن خُشُوعاً أي: لين قلب وتواضعا للّه.

والدعاء بمعنى التسمية لا بمعنى النداء، وهو يتعدّى إلي مفعولين، تقول:

دعوته زيدا، ثمّ تترك أحد المفعولين استغناء عنه فتقول: دعوت زيدا.

و اَللّٰهَ و اَلرَّحْمٰنَ يريد بهما الاسم لا المسمّى، و أَوِ للتخيير، أي:

سمّوا اللّه بهذا الاسم أو بهذا. والتنوين في أيّ عوض من المضاف إليه، و مٰا مزيدة مؤكدة للشرط، و تَدْعُوا مجزوم با لشرط الذي يتضمّنه أيّ والمعنى: أيّ هذين الاسمين سمّيتم أو ذكرتم فَلَهُ اَلْأَسْمٰاءُ اَلْحُسْنىٰ ، والضمير في لِلّٰهِ لا يرجع إلى أحد الاسمين لكن إلى مسمّاهما وهو ذاته عزّ اسمه، لأنّ التسمية للذات لا للاسم، والمراد: أَيًّا ما تدعوه فهو حسن، فوضع موضعه فَلَهُ اَلْأَسْمٰاءُ اَلْحُسْنىٰ لأنّه إذا حسنت أسماؤه كلها حسن هذان الاسمان لأنّهما منها، والمعنى في كون أسمائه أحسن الأسماء: أنّها تستقل بمعاني التمجيد والتعظيم و التقديس.

وَ لاٰ تَجْهَرْ بقراءة صلاتك حذف المضاف لفقد الالتباس، لأنّ الجهر والمخافتة معلوم أنّهما صفتان للصوت لا غير، والصلاة عبارة عن أفعال مخصوصة

ص: 263

وأذكار.

وَ اِبْتَغِ بَيْنَ الجهر والمخافتة سَبِيلاً وسطا، وقيل: بأن تجهر بصلاة الليل وتخافت بصلاة النهار(1)، وقيل: بصلاتك: بدعائك(2).

وَلِيٌّ مِنَ اَلذُّلِّ ناصر من الذل ومانع له منه يتعزّز به، أو لا يوالي أحدا من أجل مذلة به ليدفعها بموالاته.

ص: 264


1- من لا يحضره الفقيه ج 1:202.
2- عن مجاهد وغيره. تفسير الطبري ج 15:122.

سورة الكهف

اشارة

مكية، مائة وإحدي عشرة آية بصري، عشر كوفي، عدّ البصري عِنْدَهٰا قَوْماً .

في حديث أبيّ : (من قرأها فهو معصوم ثمانية أيّام من كل فتنة، ومن قرأ الآية التي في آخرها حين يأخذ مضجعه كان له في مضجعه نورا يتلألأ إلى الكعبة، حشو ذلك النور ملائكة يصلّون عليه حتى يقوم)(1)، الصادق عليه السلام: (من قرأها في كل ليلة جمعة لم يمت إلا شهيدا، وبعثه اللّه مع الشهداء)(2).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة الكهف (18): الآیات 1 الی 5]

اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي أَنْزَلَ عَلىٰ عَبْدِهِ اَلْكِتٰابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَ يُبَشِّرَ اَلْمُؤْمِنِينَ اَلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلصّٰالِحٰاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً مٰاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً وَ يُنْذِرَ اَلَّذِينَ قٰالُوا اِتَّخَذَ اَللّٰهُ وَلَداً مٰا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَ لاٰ لِآبٰائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوٰاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاّٰ كَذِباً

ص: 265


1- تفسير السمرقندي ج 2:366.
2- ثواب الأعمال: 107.

علّم سبحانه عباده كيف يحمدونه على أجلّ نعمه عليهم، وهي ما أنزله عَلىٰ عَبْدِهِ محمّد صلى الله عليه و آله و سلم من القرآن الذي هو سبب نجاتهم.

وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً أي: شيئا من العوج، والعوج في المعاني كالعوج في الأعيان، والمراد به: نفي التناقض عن معانيه.

وانتصب قَيِّماً بمضمر وليس بحال من اَلْكِتٰابَ ، لأنّ قوله: وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً معطوف علي أَنْزَلَ فهو داخل في حيّز الصلة، فمن جعله حالا من (الكتاب) يكون فاصلا بين الحال وذي الحال ببعض الصلة وذلك غير جائز، والتقدير: ولم يجعل له عوجا بل جعله قَيِّماً لأنّه إذا نفي عنه العوج فقد أثبت له الاستقامة، وجمع بينهما للتأكيد، وقيل: معناه: قيما بمصالح العباد، أو قيما علي سائر الكتب شاهدا بصحّتها(1).

لِيُنْذِرَ الذين كفروا بَأْساً شَدِيداً فاقتصر علي أحد المفعولين.

مِنْ لَدُنْهُ أي: صادرا من عنده. و الأجر الحسن: الجنّة.

مٰاكِثِينَ أي: لابثين فِيهِ مؤبدين.

مٰا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ لأنه ليس مما يعلم لاستحالته.

كَلِمَةً نصب علي التمييز، وفيه معنى التعجب، كأنّه قال: ما أكبرها كلمة، وقيل: كَبُرَتْ مثل نعمت، و كَلِمَةً تفسير لفاعل كَبُرَتْ ، و تَخْرُجُ صفة لموصوف محذوف، والتقدير: كبرت الكلمة كلمة خارجة إِنْ يَقُولُونَ . والكلمة هي قولهم: اِتَّخَذَ اَللّٰهُ وَلَداً سمّيت كلمة كما سمّوا القصيدة كلمة.

ص: 266


1- معاني القرآن للفراء ج 2:133.

[سورة الكهف (18): الآیات 6 الی 8]

فَلَعَلَّكَ بٰاخِعٌ نَفْسَكَ عَلىٰ آثٰارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهٰذَا اَلْحَدِيثِ أَسَفاً إِنّٰا جَعَلْنٰا مٰا عَلَى اَلْأَرْضِ زِينَةً لَهٰا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ إِنّٰا لَجٰاعِلُونَ مٰا عَلَيْهٰا صَعِيداً جُرُزاً

بٰاخِعٌ أي: قاتل نَفْسَكَ وجدا وأسفا إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بالقرآن، شبّهه برجل فارقه أعزّته فهو يتحسّر عَلىٰ آثٰارِهِمْ و يبخع نفسه تلهّفا علي فراقهم.

و أَسَفاً حال أو مفعول له، والأسف: المبالغة في الحزن والغضب، ورجل أسف و أسيف.

مٰا عَلَى اَلْأَرْضِ يعني: ما يصلح أن يكون زِينَةً وحلية للأرض ولأهلها من زخارف الدنيا وما يستحسن منها.

لِنَبْلُوَهُمْ أي: لنختبرهم أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وهو من كان أزهد فيها.

ثمّ زهد سبحانه فيها بقوله: وَ إِنّٰا لَجٰاعِلُونَ مٰا عَلَيْهٰا من هذه الزينة صَعِيداً جُرُزاً أي: مثل أرض بيضاء لا نبات فيها بعد أن كانت خضراء مؤنقة في زوال بهجته وذهاب رونقه وحسنه.

[سورة الكهف (18): الآیات 9 الی 12]

أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحٰابَ اَلْكَهْفِ وَ اَلرَّقِيمِ كٰانُوا مِنْ آيٰاتِنٰا عَجَباً إِذْ أَوَى اَلْفِتْيَةُ إِلَى اَلْكَهْفِ فَقٰالُوا رَبَّنٰا آتِنٰا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَ هَيِّئْ لَنٰا مِنْ أَمْرِنٰا رَشَداً فَضَرَبْنٰا عَلَى آذٰانِهِمْ فِي اَلْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ثُمَّ بَعَثْنٰاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ اَلْحِزْبَيْنِ أَحْصىٰ لِمٰا لَبِثُوا أَمَداً

اَلْكَهْفِ الغار الواسع في الجبل، واختلف في اَلرَّقِيمِ فقيل: هو

ص: 267

لوح من رصاص رقصت فيه أسماؤهم جعل على باب الكهف(1)، وقيل: هو اسم الوادي الذي كان فيها الكهف(2)، وقيل: هم النفر الثلاثة الذين دخلوا في غار فانسدّ عليهم، فدعا كل واحد منهم بما عمله للّه خالصا ففرّج عنهم(3).

كٰانُوا آية عجبا مِنْ آيٰاتِنٰا وصفا بالمصدر، أو ذات عجب.

آتِنٰا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً أي: رحمة من خزائن رحمتك، وهي المغفرة والرزق والأمن من الأعداء.

وَ هَيِّئْ لَنٰا مِنْ أَمْرِنٰا الذي نحن فيه رَشَداً حتى نكون بسببه راشدين، أو اجعل أمرنا رشدا كله كقولك: رأيت منك رشدا.

فَضَرَبْنٰا عَلَى آذٰانِهِمْ حجابا من أن تسمع، يعني: أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم منها الأصوات، فحذف المفعول الذي هو الحجاب، كما قالوا: بني على امرأته، يعنون: بني عليها القبة.

سِنِينَ عَدَداً أي: ذوات عدد أي: سنين كثيرة.

ثُمَّ بَعَثْنٰاهُمْ أي: أيقظناهم من نومهم.

أَيُّ اَلْحِزْبَيْنِ فيه معنى الاستفهام، ولذلك علّق عنه لِنَعْلَمَ فلم يعمل فيه، و أَحْصىٰ فعل ماض، ومعناه: أي الحزبين من المؤمنين والكافرين من قوم أصحاب الكهف ضبط أمدا لأوقات لبثهم، ولا يكون أَحْصىٰ من أفعل التفضيل في شيء، لأنّه لا يبنى من غير الثلاثي المجرد.

ولم يزل سبحانه عالما بذلك، و إنّما أراد ما تعلّق به العلم من ظهور الأمر لهم

ص: 268


1- الكشف والبيان ج 6:147.
2- عن قتادة وغيره. تفسير الطبري ج 15:131.
3- مسند أحمد ج 4:274.

ليزدادوا إيمانا، وقيل: يعني بالحزبين: أصحاب الكهف وأنّهم لما استيقظوا اختلفوا في مقدار لبثهم.

[سورة الكهف (18): الآیات 13 الی 16]

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْنٰاهُمْ هُدىً وَ رَبَطْنٰا عَلىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قٰامُوا فَقٰالُوا رَبُّنٰا رَبُّ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلٰهاً لَقَدْ قُلْنٰا إِذاً شَطَطاً هٰؤُلاٰءِ قَوْمُنَا اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لاٰ يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطٰانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرىٰ عَلَى اَللّٰهِ كَذِباً وَ إِذِ اِعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ مٰا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اَللّٰهَ فَأْوُوا إِلَى اَلْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً

وَ زِدْنٰاهُمْ هُدىً بالتوفيق وا لألطاف المقوية لدواعيهم.

وَ رَبَطْنٰا عَلىٰ قُلُوبِهِمْ أي: قوّيناها وشددنا عليها حتى صبروا علي هجر الأوطان والفرار بالدين إلي بعض الغيران إِذْ قٰامُوا بين يدي ملكهم الجبار دقيانوس من غير مبالاة به فَقٰالُوا رَبُّنٰا الذي نعبده رَبُّ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ .

شَطَطاً أي: قولا ذا شطط، وهو الإفراط في الظلم، من شطّ: إذا بعد.

هٰؤُلاٰءِ مبتدأ و قَوْمُنَا عطف بيان، وخبره اِتَّخَذُوا وهو إخبار في معنى الإنكار.

لَوْ لاٰ يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ أي: هلا يأتون على عبادتهم بِسُلْطٰانٍ بَيِّنٍ بحجّة ظاهرة، وهو تبكيت لأنّ الإتيان بالحجّة على ذلك محال، وفيه دلالة على فساد التقليد.

اِفْتَرىٰ عَلَى اَللّٰهِ كَذِباً بنسبة الشريك إليه.

ص: 269

وَ إِذِ اِعْتَزَلْتُمُوهُمْ خطاب من تمليخا - وهو رئيس أصحاب الكهف - لأصحابه وَ مٰا يَعْبُدُونَ في محلّ النصب للعطف علي الضمير، يعني: وإذ اعتزلتموهم واعتزلتم معبوديهم.

إِلاَّ اَللّٰهَ يجوز أن يكون استثناء متصلا علي أنّهم كانوا يعترفون باللّه ويشركون معه، وأن يكون منقطعا. وقيل: هو اعتراض ومعناه: الإخبار من اللّه تعالى أنّهم لم يعبدوا غير اللّه.

مِرْفَقاً قرئ بفتح الميم وكسرها، وهو ما يرتفق به أي: ينتفع.

[سورة الكهف (18): الآیات 17 الی 20]

وَ تَرَى اَلشَّمْسَ إِذٰا طَلَعَتْ تَزٰاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذٰاتَ اَلْيَمِينِ وَ إِذٰا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذٰاتَ اَلشِّمٰالِ وَ هُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذٰلِكَ مِنْ آيٰاتِ اَللّٰهِ مَنْ يَهْدِ اَللّٰهُ فَهُوَ اَلْمُهْتَدِ وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً وَ تَحْسَبُهُمْ أَيْقٰاظاً وَ هُمْ رُقُودٌ وَ نُقَلِّبُهُمْ ذٰاتَ اَلْيَمِينِ وَ ذٰاتَ اَلشِّمٰالِ وَ كَلْبُهُمْ بٰاسِطٌ ذِرٰاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اِطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرٰاراً وَ لَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً وَ كَذٰلِكَ بَعَثْنٰاهُمْ لِيَتَسٰاءَلُوا بَيْنَهُمْ قٰالَ قٰائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قٰالُوا لَبِثْنٰا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قٰالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمٰا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هٰذِهِ إِلَى اَلْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهٰا أَزْكىٰ طَعٰاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَ لْيَتَلَطَّفْ وَ لاٰ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَ لَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً

قرئ: تَزٰاوَرُ بالتخفيف والتشديد، فالتخفيف لحذف التاء، والتشديد للإدغام، وقرئ: تزورّ، علي وزن تحمرّ وكلها من الزور وهو الميل.

ص: 270

و ذٰاتَ اَلْيَمِينِ جهة اليمين، وحقيقتها الجهة المسماة باليمين تَقْرِضُهُمْ تقطعهم لا تقربهم، من معنى القطيعة والصرم وَ هُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ أي: في متسع من الكهف. ومعناه: إنّهم لا تصيبهم الشمس في طلوع نهارهم ولا في غروبها مع أنّهم في مكان واسع منفتح من غارهم، ينالهم فيه برد النسيم وروح الهواء.

ذٰلِكَ مِنْ آيٰاتِ اَللّٰهِ وهو ما صنعه بهم من ازورار الشمس وقرضها طالعة وغاربة، وقوله: مَنْ يَهْدِ اَللّٰهُ فَهُوَ اَلْمُهْتَدِ ثناء عليهم بأنّهم جاهدوا في اللّه فلطف بهم، وأرشدهم إلى نيل تلك الكرامة.

وَ تَحْسَبُهُمْ خطاب لكل أحد، والأيقاظ جمع يقظ، أي: وَ هُمْ نيام وعيونهم مفتحة، فيحسبهم من ينظر إليهم أَيْقٰاظاً وقيل: لكثرة تقلبهم(1).

وقرأ الصادق عليه السلام: وكالبهم أي: صاحب كلبهم.

بٰاسِطٌ ذِرٰاعَيْهِ حكاية حال ماضية، لأنّ اسم الفاعل لا يعمل إلا إذا كان بمعنى المضارع، ولا يعمل إذا كان في معنى الماضي. والوصيد: الفناء، وقيل:

العتبة(2). والرعب: الخوف الذي يرعب الصدر، أي: يملؤه، وذلك لما ألبسهم اللّه من الهيبة، وقيل: لطول أظفارهم وشعورهم(3)، وقيل: لوحشة مكانهم(4).

وكما أنمناهم تلك النومة بَعَثْنٰاهُمْ منها لِيَتَسٰاءَلُوا بَيْنَهُمْ أي: ليسأل بعضهم بعضا، ويتعرّفوا حالهم وما صنع اللّه بهم، فيعتبروا ويستدلوا علي معرفة صانعهم، ويزدادوا يقينا إلى يقينهم.

ص: 271


1- معاني القران وإعرابه ج 3:274.
2- عن عطاء. معالم التنزيل ج 2:258.
3- معاني القرآن وإعرابه ج 3:275.
4- الكشف والبيان ج 6:161.

قٰالُوا لَبِثْنٰا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ لأنّهم دخلوا الكهف غدوة وانتبهوا بعد الزوال فظنوا أنّهم في يومهم، فلما نظروا إلى طول أظفارهم وشعورهم قٰالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمٰا لَبِثْتُمْ أي: ربّكم أعلم بذلك، لا طريق لكم إلى علمه، فخذوا في شيء آخر مما يهمكم.

و قرئ: بِوَرِقِكُمْ بكسر الراء وسكونها وهو الفضة.

أَيُّهٰا أي: أي أهلها، فحذف، مثل: وَ سْئَلِ اَلْقَرْيَةَ (1).

أَزْكىٰ طَعٰاماً أي: أطيب وأحلّ وأكثر وأرخص.

وَ لْيَتَلَطَّفْ أي: وليتكلف اللطف في أمر البيع أو في أمر التخفي حتى لا يعرف.

وَ لاٰ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً أي: لا يخبرن بمكانكم أحدا من أهل المدينة.

إِنَّهُمْ إِنْ يعلموا بمكانكم ويطّلعوا عَلَيْكُمْ يقتلوكم بالرجم وهي أخبث القتلة أَوْ يدخلوكم فِي مِلَّتِهِمْ بالعنف و يصيروكم إليها وَ لَنْ تُفْلِحُوا إن دخلتم في دينهم أَبَداً .

[سورة الكهف (18): الآیات 21 الی 22]

وَ كَذٰلِكَ أَعْثَرْنٰا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اَللّٰهِ حَقٌّ وَ أَنَّ اَلسّٰاعَةَ لاٰ رَيْبَ فِيهٰا إِذْ يَتَنٰازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقٰالُوا اِبْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيٰاناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قٰالَ اَلَّذِينَ غَلَبُوا عَلىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً سَيَقُولُونَ ثَلاٰثَةٌ رٰابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَ يَقُولُونَ خَمْسَةٌ سٰادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَ يَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَ ثٰامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مٰا يَعْلَمُهُمْ إِلاّٰ قَلِيلٌ فَلاٰ تُمٰارِ فِيهِمْ

ص: 272


1- يوسف: 82.

[سورة الكهف (18): الآیات 22 الی 24]

إِلاّٰ مِرٰاءً ظٰاهِراً وَ لاٰ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً وَ لاٰ تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فٰاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اَللّٰهُ وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ إِذٰا نَسِيتَ وَ قُلْ عَسىٰ أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هٰذٰا رَشَداً

وكما أنمناهم وبعثناهم لما في ذلك من الحكمة أطلعنا عَلَيْهِمْ ليعلم الذين أطلعناهم علي حالهم أَنَّ وَعْدَ اَللّٰهِ الذي هو البعث حَقٌّ لأنّ حالهم في نومهم وانتباههم كحال من يموت ثمّ يبعث.

و إِذْ يَتَنٰازَعُونَ يتعلّق ب - أَعْثَرْنٰا أي: أعثرناهم عليهم حين يَتَنٰازَعُونَ بَيْنَهُمْ أمر دينهم، ويختلفون في البعث، فكان يقول بعضهم: يبعث الأرواح دون الأجساد، ويقول بعضهم: يبعث الأجساد مع الأرواح؛ حتى يرتفع الخلاف ويتبين أنّ الأجساد تبعث حية حساسة فيها أرواحها كما كانت قبل الموت.

فَقٰالُوا حين توفى اللّه أصحاب الكهف: اِبْنُوا علي باب كهفهم بُنْيٰاناً كما تبنى المقابر.

قٰالَ اَلَّذِينَ غَلَبُوا عَلىٰ أَمْرِهِمْ من المسلمين وملكهم: لَنَتَّخِذَنَّ علي باب الكهف مَسْجِداً يصلّي فيه المسلمون ويتبركون بمكانهم.

رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ أحياء نيام هم أم أموات ؟ فقد قيل: إنّهم ماتوا، وقيل:

إنّهم لا يموتون إلى يوم القيامة.

سَيَقُولُونَ الضمير لمن خاض في قصّتهم في زمان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من أهل الكتاب والمسلمين.

و ثَلاٰثَةٌ خبر مبتدأ محذوف، أي: هم ثلاثة، وكذلك خَمْسَةٌ و سَبْعَةٌ .

و رٰابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ جملة من مبتدأ وخبر وقعت صفة ل - ثَلاٰثَةٌ ، وكذلك

ص: 273

سٰادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ و وَ ثٰامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ .

وأما الواو الداخلة علي الجملة الثالثة فإنّها دخلت علي الجملة الواقعة صفة للنكرة، كما تدخل علي الجملة الواقعة حالا عن المعرفة، تقول: جاءني رجل ومعه آخر، وجاءني زيد ومعه غلامه، وفائدة الواو تأكيد لصوق الصفة بالموصوف، والدلالة علي أنّ اتصافه بها أمر ثابت مستقر، فهذه الواو تؤذن بأنّ قول الذين قالوا: سَبْعَةٌ وَ ثٰامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قول صادر عن علم لا عن رجم ظن كقول غيرهم.

ومعنى قوله: رَجْماً بِالْغَيْبِ : رميا بالخبر الخفي وإتيانا به، نحو قوله:

وَ يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ (1) أي: يأتون به، أو وضع الرجم موضع الظن كأنّه قال: ظنا بالغيب، قال زهير:

وما هو عنها بالحديث المرجّم(2)

أي: المظنون.

وعن ابن عباس: (حين وقعت الواو انقطعت العدّة)(3)، يعني: لم يبق بعدها عدّة عادّ يلتفت إليها، وثبت أنّهم سبعة وثامنهم كلبهم علي القطع، ويدلّ عليه أنّه سبحانه أتبع القولين قوله: رَجْماً بِالْغَيْبِ و أتبع القول الثالث قوله: مٰا يَعْلَمُهُمْ إِلاّٰ قَلِيلٌ ، وقال ابن عباس: (أنا من أولئك القليل)(4).

فَلاٰ تُمٰارِ فِيهِمْ أي: فلا تجادل أهل الكتاب في أمر أصحاب الكهف

ص: 274


1- سبأ: 53.
2- شعر زهير بن أبي سلمى: 18، وصدره: وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم.
3- تفسير الماوردي ج 3:297.
4- تفسير الطبري ج 15:150.

إِلاّٰ جدالا ظٰاهِراً بحجّة ودلالة، تقصّ عليهم ما أوحى اللّه إليك، وهو كقوله: وَ جٰادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (1).

وَ لاٰ تَسْتَفْتِ ولا تسأل أَحَداً منهم عن قصّتهم.

وَ لاٰ تَقُولَنَّ لأجل شَيْ ءٍ تعزم عليه: إِنِّي فٰاعِلٌ ذٰلِكَ الشيء غَداً أي: فيما يستقبل من الأوقات.

إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اَللّٰهُ متعلّق بالنهي لا بقوله: إِنِّي فٰاعِلٌ لأنّه لو قال: إنّي فاعل كذا إلا أن يشاء اللّه كان معناه: إلا أن تعترض مشيئة اللّه دون فعله، وذلك ما لا مدخل فيه للنهي. وتعلّقه بالنهي علي وجهين:

أحدهما: لا تقولن ذلك القول إلا أن يشاء اللّه أن تقوله بأن يأذن لك فيه.

والثاني: لا تقولن ذلك إلا بأن يشاء اللّه أي: بمشيئة اللّه، وهو في موضع الحال يعني: إلا ملتبسا بمشيئة اللّه، قائلا: إن شاء اللّه.

وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ [أي: مشيئة ربّك](2) وقل: إن شاء اللّه إِذٰا اعتراك نسيان لذلك، يعني: إِذٰا نَسِيتَ كلمة الاستثناء ثمّ ذكرت فتداركها، وعن ابن عباس: (ولو بعد سنة)(3)، وعن الصادق عليه السلام: (ما لم ينقطع الكلام)(4)، وقيل:

معناه: واذكر ربّك إذا اعتراك النسيان ليذكّرك المنسي.

وَ قُلْ عَسىٰ أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي بشيء آخر بدل هذا المنسي أقرب منه رَشَداً وأدنى خيرا ومنفعة. وقيل: معناه: لعل ربّي يؤتيني من البيّنات على أنّي نبيّ ما هو

ص: 275


1- النحل: 125.
2- ساقطة من ب.
3- تفسير الطبري ج 15:151.
4- لم أعثر عليه في المصادر المتوفرة.

أعظم في الدلالة من نبأ أصحاب الكهف، وقد فعل سبحانه ذلك حيث قصّ عليه أخبار الأنبياء وأنبأه من الغيوب بما هو أعظم من ذلك.

[سورة الكهف (18): الآیات 25 الی 29]

وَ لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاٰثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَ اِزْدَادُوا تِسْعاً قُلِ اَللّٰهُ أَعْلَمُ بِمٰا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَ أَسْمِعْ مٰا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاٰ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً وَ اُتْلُ مٰا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتٰابِ رَبِّكَ لاٰ مُبَدِّلَ لِكَلِمٰاتِهِ وَ لَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً وَ اِصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدٰاةِ وَ اَلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَ لاٰ تَعْدُ عَيْنٰاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ لاٰ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنٰا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنٰا وَ اِتَّبَعَ هَوٰاهُ وَ كٰانَ أَمْرُهُ فُرُطاً وَ قُلِ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شٰاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شٰاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنّٰا أَعْتَدْنٰا لِلظّٰالِمِينَ نٰاراً أَحٰاطَ بِهِمْ سُرٰادِقُهٰا وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغٰاثُوا بِمٰاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي اَلْوُجُوهَ بِئْسَ اَلشَّرٰابُ وَ سٰاءَتْ مُرْتَفَقاً

وَ لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ... الآية بيان لما أجمل في قوله: فَضَرَبْنٰا عَلَى آذٰانِهِمْ ...

الآية(1).

و سِنِينَ عطف بيان ل - ثَلاٰثَ مِائَةٍ ، و قرئ: ثلاثمائة سنين مضافا، على وضع الجمع موضع الواحد في التمييز، كما قال سبحانه: بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمٰالاً (2).

وَ اِزْدَادُوا تِسْعاً أي: تسع سنين، لأنّ ما قبله دلّ عليه.

قُلِ اَللّٰهُ أَعْلَمُ بِمٰا لَبِثُوا يريد أنّه أعلم من الذين اختلفوا فيهم بمدة لبثهم،

ص: 276


1- الآية: 11.
2- الكهف: 103.

والحقّ ما أخبرك به. وروي: أنّ يهوديا سأل عليّا عليه السلام عن مدة لبثهم، فأخبر بما في القرآن، فقال: إنّا نجد في كتابنا ثلاثمائة، فقال عليه السلام: (ذاك بسنيّ الشمس وهذا بسنيّ القمر)(1).

ثمّ ذكر اختصاصه بما غاب في اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وأنّه العالم بذلك، ثمّ جاء بما دلّ علي التعجب من إدراكه المسموعات والمبصرات، للدلالة علي أنّ أمره في الإدراك خارج عن حدّ ما عليه إدراك كل سامع ومبصر، لأنّه يدرك ألطف الأشياء وأصغرها.

مٰا لَهُمْ الضمير لأهل السماوات والأرض مِنْ وَلِيٍّ أي: متول لأمورهم، وليس يُشْرِكُ فِي قضائه أَحَداً منهم. وقرئ: ولا تشرك - بالتاء و الجزم علي النهي -.

لاٰ مُبَدِّلَ لِكَلِمٰاتِهِ لا يقدر أحد علي تبديل أحكام كلماته وتغييرها ولا تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً و موئلا، يقال: التحد إلى كذا: إذا مال إليه.

وَ اِصْبِرْ نَفْسَكَ أي: احبسها مَعَ المؤمنين اَلَّذِينَ يداومون علي الدعاء عند الصباح والمساء، وقيل: المراد ب الغداة و العشي: صلاة الفجر وا لعصر(2) وقرئ: با لغدوة.

وَ لاٰ تَعْدُ عَيْنٰاكَ عَنْهُمْ أي: لا تتجاوز عيناك عنهم بالنظر إلى غيرهم من أبناء الدنيا تُرِيدُ زِينَةَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا في مجالسة أهل الغنى، وهي جملة في موضع الحال. وكان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم حريصا علي إيمان عظماء المشركين طمعا في إيمان أتباعهم، فأمر بالإقبال علي فقراء المؤمنين كخباب وعمار وأبي ذر وغيرهم، وأن لا يرفع

ص: 277


1- معالم التنزيل ج 2:260.
2- عن قتادة. الكشف والبيان ج 6:166.

بصره عنهم.

مَنْ أَغْفَلْنٰا قَلْبَهُ أي: جعلنا قلبه غافلا بالخذلان، أو وجدناه غافلا عَنْ ذِكْرِنٰا ، أولم نسمه بالذكر ولم نجعله من الذين كتبنا في قلوبهم الإيمان، من أغفل إبله: إذا تركها بغير وسم. وَ اِتَّبَعَ هَوٰاهُ في أفعاله ومشتهياته.

فُرُطاً أي: إفراطا وتجاوزا للحد، ونبذا للحقّ وراء ظهره، من قولهم:

فرس فرط أي: متقدّم للخيل.

وَ قُلِ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ اَلْحَقُّ خبر مبتدأ محذوف، والمعنى: جاء الحقّ وزاحت العلل فلم يبق إلا اختياركم لنفوسكم ما شئتم من الأخذ في طريق النجاة أو في طريق الهلاك.

أَعْتَدْنٰا أي: أعددنا وهيّأنا للذين ظلموا أنفسهم بعبادة غير اللّه، وشبّه سبحانه ما يحيط بِهِمْ من النار من جوانبهم بالسرادق.

يُغٰاثُوا بِمٰاءٍ كَالْمُهْلِ وهو كل شيء أذيب كالنحاس والصفر، وقيل: هو دردي الزيت(1)، وروي: أنّه كعكر الزيت(2) فإذا قرب إليه سقطت فروة رأسه.

يَشْوِي اَلْوُجُوهَ إذا قدّم ليشرب انشوى الوجه من حرارته بِئْسَ اَلشَّرٰابُ ذلك وَ سٰاءَتْ النار مُرْتَفَقاً متكأ، من المرفق، وهو يشاكل قوله:

وَ حَسُنَتْ مُرْتَفَقاً .

[سورة الكهف (18): الآیات 30 الی 31]

إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ إِنّٰا لاٰ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً أُولٰئِكَ لَهُمْ جَنّٰاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ اَلْأَنْهٰارُ

ص: 278


1- عن ابن مسعود وغيره. الدر المنثور ج 4:221.
2- عن ابن عباس وروي مرفوعا. الدر المنثور ج 4:220-221.

[سورة الكهف (18): آیة 31]

يُحَلَّوْنَ فِيهٰا مِنْ أَسٰاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ يَلْبَسُونَ ثِيٰاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَ إِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهٰا عَلَى اَلْأَرٰائِكِ نِعْمَ اَلثَّوٰابُ وَ حَسُنَتْ مُرْتَفَقاً

وقع قوله: مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً موقع الضمير العائد إلي اسم إِنَّ ، و أُولٰئِكَ استئناف كلام، ويجوز أن يكون أُولٰئِكَ خبر إِنَّ و إِنّٰا لاٰ نُضِيعُ اعتراضا.

و مِنْ في مِنْ أَسٰاوِرَ لابتداء الغاية، وفي مِنْ ذَهَبٍ للتبيين، والسندس: ما رقّ من الديباج، والإستبرق: ما غلظ منه.

مُتَّكِئِينَ فِيهٰا عَلَى اَلْأَرٰائِكِ أي: متنعمين في تلك الجنات علي السرر في الحجال، لأنّ الاتكاء هيئة أهل التنعم من الملوك وغيرهم.

[سورة الكهف (18): الآیات 32 الی 36]

وَ اِضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنٰا لِأَحَدِهِمٰا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنٰابٍ وَ حَفَفْنٰاهُمٰا بِنَخْلٍ وَ جَعَلْنٰا بَيْنَهُمٰا زَرْعاً كِلْتَا اَلْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهٰا وَ لَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَ فَجَّرْنٰا خِلاٰلَهُمٰا نَهَراً وَ كٰانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقٰالَ لِصٰاحِبِهِ وَ هُوَ يُحٰاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مٰالاً وَ أَعَزُّ نَفَراً وَ دَخَلَ جَنَّتَهُ وَ هُوَ ظٰالِمٌ لِنَفْسِهِ قٰالَ مٰا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هٰذِهِ أَبَداً وَ مٰا أَظُنُّ اَلسّٰاعَةَ قٰائِمَةً وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهٰا مُنْقَلَباً

مثّل سبحانه حال المؤمنين والكافرين بحال رَجُلَيْنِ متجاورين كان لِأَحَدِهِمٰا بستانان أجنهما الأشجار مِنْ أَعْنٰابٍ وهما محفوفتان بِنَخْلٍ يطيف النخل بهما، وبين البستانين مزرعة، وعن ابن عباس: (كانا ابني ملك في بني إسرائيل ورثا مالا جزيلا، فأخذ المؤمن منهما حقّه وتقرّب به إلى اللّه، وأخذ الآخر

ص: 279

حقّه فتملك به الجنّتين والضياع والأموال)(1).

كِلْتَا اَلْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهٰا أي: كل واحدة من البستانين أعطت غلتها، و آتَتْ محمولة علي اللفظ، لأنّ لفظ كِلْتَا مفرد.

وَ لَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً أي: لم تنقص وَ فَجَّرْنٰا أي: وشققنا وسط الجنّتين ماء جاريا.

وَ كٰانَ لَهُ ثَمَرٌ أي: أنواع من المال، من ثمر ماله: إذا كثر. وقرئ: ثمر وثمر بضمتين وبسكون الميم أيضا في الموضعين، ويجوز أن يكون ثمر جمع ثمرة أو جمع ثمار ثمّ يخفف ويقال: ثمر مثل كتب، وقرئ: بفتح الثاء والميم وهو جمع ثمرة:

ما يجتنى من ذي الثمرة.

وَ أَعَزُّ نَفَراً يعني: أنصارا وحشما، وقيل: أولادا ذكورا(2) لأنّهم ينفرون معه.

و يُحٰاوِرُهُ يراجعه الكلام، من حار يحور: إذا رجع.

وَ دَخَلَ جَنَّتَهُ آخذا بيد صاحبه المسلم يطوف به ويريه أملاكه ويفاخره بأمواله وَ هُوَ ظٰالِمٌ لِنَفْسِهِ أي: معجب بما أوتي، مفتخر به، كافر لنعمة ربّه.

وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلىٰ رَبِّي أقسم علي أنّه إن ردّ إلى ربّه علي سبيل التقدير كما يزعم صاحبه ليجدن في الآخرة خَيْراً من جنّته في الدنيا، وقرئ: خيرا منهما بعود الضمير إلى اَلْجَنَّتَيْنِ .

مُنْقَلَباً مرجعا و عاقبة، وانتصابه علي التمييز.

ص: 280


1- الكشف والبيان ج 6:169.
2- تفسير مقاتل بن سليمان ج 2:289.

[سورة الكهف (18): الآیات 37 الی 44]

قٰالَ لَهُ صٰاحِبُهُ وَ هُوَ يُحٰاوِرُهُ أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرٰابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوّٰاكَ رَجُلاً لٰكِنَّا هُوَ اَللّٰهُ رَبِّي وَ لاٰ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً وَ لَوْ لاٰ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مٰا شٰاءَ اَللّٰهُ لاٰ قُوَّةَ إِلاّٰ بِاللّٰهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مٰالاً وَ وَلَداً فَعَسىٰ رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَ يُرْسِلَ عَلَيْهٰا حُسْبٰاناً مِنَ اَلسَّمٰاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أَوْ يُصْبِحَ مٰاؤُهٰا غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً وَ أُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلىٰ مٰا أَنْفَقَ فِيهٰا وَ هِيَ خٰاوِيَةٌ عَلىٰ عُرُوشِهٰا وَ يَقُولُ يٰا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ وَ مٰا كٰانَ مُنْتَصِراً هُنٰالِكَ اَلْوَلاٰيَةُ لِلّٰهِ اَلْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوٰاباً وَ خَيْرٌ عُقْباً

خَلَقَكَ أي: خلق أصلك مِنْ تُرٰابٍ لأنّ خلق أصله سبب في خلقه، فكأنّ خلقه خلق له.

ثُمَّ سَوّٰاكَ أي: عدّلك وأكملك إنسانا معتدل الخلق بالغا مبلغ الرجال.

لٰكِنَّا أصله: (لكن أنا) فحذفت الهمزة وألقيت حركتها علي نون (لكن) فالتقت النونان فأدغم، و هُوَ ضمير الشأن، أي: الشأن اَللّٰهُ رَبِّي ، والجملة خبر أَنَا والراجع منها إليه ياء الضمير. وقرئ بحذف ألف أَنَا في الوصل، وقرئ أيضا بإثباتها في الوصل والوقف جميعا، وحسن ذلك وقوع الألف عوضا من حذف الهمزة، يقول لصاحبه: أنت كافر باللّه لكني مؤمن موحد.

مٰا شٰاءَ اَللّٰهُ مٰا موصولة مرفوعة المحل علي خبر الابتداء، والتقدير:

الأمر ما شاء اللّه، أو شرطية منصوبة المحل والجزاء محذوف، والتقدير: أي شيء شاء اللّه كان. والمعنى هلا قُلْتَ عند دخول جَنَّتَكَ : الأمر ما شاء اللّه،

ص: 281

اعترافا بأنّها حصلت لك بمشيئة اللّه وفضله، وأنّ أمرها بيده إن شاء حال بينك وبينها ونزع بركتها عنك.

لاٰ قُوَّةَ إِلاّٰ بِاللّٰهِ إقرارا بأنّ قوته علي عمارتها بمعونته، إذ لا يقوي أحد في بدنه وما يملكه إلا بالله.

و أَنَا فصل، و أَقَلَّ مفعول ثان ل - تَرَنِ ، وفي قوله: وَ وَلَداً دلالة علي أنّ النفر في قوله: وَ أَعَزُّ نَفَراً المراد به الأولاد. والمعنى: إِنْ ترني أفقر مِنْكَ فأنا أتوقع من صنع اللّه إِنْ يرزقني خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ ويسلبك نعمه، ويخرب جنّتك لإيماني وكفرانك.

والحسبان: مصدر بمعنى الحساب، أي: مقدارا قدّره اللّه وحسبه وهو الحكم بتخريبها، وقيل: حُسْبٰاناً : مرامي من عذابه: حجارة أو صاعقة(1).

صَعِيداً زَلَقاً أرضا مستوية لا نبات عليها، يزلق عنها القدم لملاستها، و زَلَقاً و غَوْراً كلاهما وصف بالمصدر.

وَ أُحِيطَ به عبارة عن الهلاك، وأصل الإحاطة: إدارة الحائط علي الشيء، وتقليب الكفين عبارة عن الندم والتحسّر، لأنّ النادم يفعل ذلك، فكأنّه قال:

فأصبح يندم عَلىٰ مٰا أَنْفَقَ فِيهٰا أي: في عمارتها.

وَ هِيَ خٰاوِيَةٌ عَلىٰ عُرُوشِهٰا يعني: سقطت عروش كرومها علي الأرض وسقطت فوقها الكروم، قالوا: أرسل اللّه عليها نارا فأهلكها وغار ماؤها(2). ثمّ تمنى لو لم يكن مشركا حتى لا يهلك الله بستانه، ويجوز أن يكون توبة من الشرك ودخولا في الإيمان.

ص: 282


1- مجاز القران ج 1:403.
2- عن ابن عباس وغيره. تفسير الطبري ج 15:165.

وقرئ: لَمْ تَكُنْ بالتاء والياء، و يَنْصُرُونَهُ [محمول علي المعنى دون اللفظ، والمعنى: لَمْ تَكُنْ لَهُ جماعة تقدر على نصرته](1) [مِنْ دُونِ اَللّٰهِ ](2)

أي: هو سبحانه وحده القادر علي نصرته، لا يقدر أحد غيره أن ينصره، إلا أنّه لم ينصره لأنّه استوجب الخذلان.

وَ مٰا كٰانَ مُنْتَصِراً أي: ممتنعا بقوته عن انتقام الله.

قرئ: اَلْوَلاٰيَةُ بفتح الواو وكسرها، والفتح بمعنى النصرة، والكسر بمعنى السلطان والملك.

و هُنٰالِكَ أي: في ذلك المقام وتلك الحال النصرة لِلّٰهِ وحده لا يستطيعها أحد سواه، أو السلطان للّه لا يمتنع منه، أو في مثل تلك الحال الشديدة يتولى اللّه ويؤمن به كل مضطر، يعني: إنّ قوله: يٰا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ كلمة ألجأته الضرورة إليها.

و اَلْحَقِّ قرئ بالرفع صفة ل - اَلْوَلاٰيَةُ ، وبالجر صفة للّه.

هُوَ خَيْرٌ ثَوٰاباً لأوليائه و وَ خَيْرٌ عُقْباً أي: عاقبة، يعني: عاقبة طاعته خير من عاقبة طاعة غيره، و قرئ بضم القاف وسكونها.

[سورة الكهف (18): الآیات 45 الی 48]

وَ اِضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا كَمٰاءٍ أَنْزَلْنٰاهُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبٰاتُ اَلْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ اَلرِّيٰاحُ وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ مُقْتَدِراً اَلْمٰالُ وَ اَلْبَنُونَ زِينَةُ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ اَلْبٰاقِيٰاتُ اَلصّٰالِحٰاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوٰاباً وَ خَيْرٌ أَمَلاً وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ اَلْجِبٰالَ وَ تَرَى اَلْأَرْضَ بٰارِزَةً وَ حَشَرْنٰاهُمْ فَلَمْ نُغٰادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً وَ عُرِضُوا عَلىٰ رَبِّكَ صَفًّا

ص: 283


1- ساقطة من ج.
2- ساقطة من أ.

[سورة الكهف (18): الآیات 48 الی 49]

لَقَدْ جِئْتُمُونٰا كَمٰا خَلَقْنٰاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً وَ وُضِعَ اَلْكِتٰابُ فَتَرَى اَلْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّٰا فِيهِ وَ يَقُولُونَ يٰا وَيْلَتَنٰا مٰا لِهٰذَا اَلْكِتٰابِ لاٰ يُغٰادِرُ صَغِيرَةً وَ لاٰ كَبِيرَةً إِلاّٰ أَحْصٰاهٰا وَ وَجَدُوا مٰا عَمِلُوا حٰاضِراً وَ لاٰ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً

فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبٰاتُ اَلْأَرْضِ أي: تكاثف بسببه حتى خالط بعضه بعضا فَأَصْبَحَ هَشِيماً متهشّما متحطّما تَذْرُوهُ اَلرِّيٰاحُ فتنقله من موضع إلى موضع، و قرئ: تذروه الريح. شبّه حال الدنيا في نضرتها و بهجتها وما يتعقبها من الهلاك بحال النبات يكون أخضر ثمّ يهيج فتطيره الرياح.

وَ اَلْبٰاقِيٰاتُ اَلصّٰالِحٰاتُ هي الطاعات والحسنات يبقى ثوابها أبدا، وقيل:

هي الصلوات الخمس(1).

خير ثَوٰاباً يعني: ما يتعلّق بها من الثواب، وما يتعلّق بها من الأمل، لأنّ صاحبها يأمل في الدنيا ثواب اللّه ونصيبه في الآخرة.

و قرئ: تسير، من سيّرت، و نُسَيِّرُ من سيّرنا. وتسييرها: قلعها من أماكنها وجعلها هباء منثورا، أو تسييرها في الجو.

بٰارِزَةً ليس عليها ما يسترها مما كان عليها.

وَ حَشَرْنٰاهُمْ جمعناهم إلى الموقف، ويقال: غا دره وأغدره أي: تركه، ومنه الغدير: ما غادره السيل.

وشبّهت حالهم بحال الجنود يعرضون علي الملك صَفًّا مصطفّين ظاهرين، تري جماعتهم كما يري كل واحد منهم.

ص: 284


1- عن ابن عباس وغيره. تفسير الطبري ج 15:165.

لَقَدْ جِئْتُمُونٰا على إرادة القول، والمعنى: قلنا لهم: لقد بعثناكم كَمٰا أنشأناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ ، وقيل: جئتمونا عراة لا شيء معكم.

مَوْعِداً أي: وقتا لإنجاز ما وعدتم علي ألسنة الرسل من البعث.

و اَلْكِتٰابُ للجنس، يعني: صحائف الأعمال.

يٰا وَيْلَتَنٰا ينادون هلكتهم الخاصة من بين الهلكات.

صَغِيرَةً وَ لاٰ كَبِيرَةً عبارة عن الإحاطة بالجميع إِلاّٰ أَحْصٰاهٰا أي:

عدّها و ضبطها وَ وَجَدُوا مٰا عَمِلُوا حٰاضِراً في الصحف، أو وجدوا جزاء ما عملوا.

وَ لاٰ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً أي: لا ينقص ثواب محسن، ولا يزيد في عقاب مسيء.

[سورة الكهف (18): الآیات 50 الی 55]

وَ إِذْ قُلْنٰا لِلْمَلاٰئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّٰ إِبْلِيسَ كٰانَ مِنَ اَلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيٰاءَ مِنْ دُونِي وَ هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظّٰالِمِينَ بَدَلاً مٰا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لاٰ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَ مٰا كُنْتُ مُتَّخِذَ اَلْمُضِلِّينَ عَضُداً وَ يَوْمَ يَقُولُ نٰادُوا شُرَكٰائِيَ اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَ جَعَلْنٰا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً وَ رَأَى اَلْمُجْرِمُونَ اَلنّٰارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوٰاقِعُوهٰا وَ لَمْ يَجِدُوا عَنْهٰا مَصْرِفاً وَ لَقَدْ صَرَّفْنٰا فِي هٰذَا اَلْقُرْآنِ لِلنّٰاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَ كٰانَ اَلْإِنْسٰانُ أَكْثَرَ شَيْ ءٍ جَدَلاً وَ مٰا مَنَعَ اَلنّٰاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جٰاءَهُمُ اَلْهُدىٰ وَ يَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاّٰ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ اَلْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ اَلْعَذٰابُ قُبُلاً

كٰانَ مِنَ اَلْجِنِّ كلام مستأنف، و الفاء للتسبيب، جعل كونه من الجن سببا

ص: 285

في فسقه، ومعنى فسق: خرج عما أمره به ربّه من السجود، أو صار فاسقا كافرا بسبب أَمْرِ رَبِّهِ الذي هو قوله: اُسْجُدُوا .

أَ فَتَتَّخِذُونَهُ الهمزة للإنكار والتعجب، أي: أبعد ما وجد منه تتخذونه وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيٰاءَ مِنْ دُونِي وتستبدلونهم بي ؟! بِئْسَ البدل من الله إبليس لمن استبدله.

وقرئ: ما أشهدناهم، أي: ما أحضرت إبليس وذريته خَلْقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ أي: اعتضادا بهم وَ لاٰ أشهدت بعضهم خَلْقَ بعض، وهو كقوله: وَ لاٰ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ (1).

وَ مٰا كُنْتُ مُتَّخِذَ اَلْمُضِلِّينَ عَضُداً وضع اَلْمُضِلِّينَ موضع الضمير ذما لهم بالإضلال، أي: فما لكم تتخذونهم شركاء لي في العبادة.

وقرئ: يَقُولُ بالياء والنون، وأضاف الشركاء إليه علي زعمهم توبيخا لهم يريد الجن.

والموبق: المهلك، من وبق يبق: إذا هلك. ويجوز أن يكون مصدرا أي:

وَ جَعَلْنٰا بَيْنَهُمْ واديا من أودية جهنم، هو مكان الهلاك والعذاب الشديد مشتركا يهلكون فيه جميعا، وعن الفراء: (البين: الوصل، أي: جعلنا تواصلهم في الدنيا هلاكا يوم القيامة)(2). ويجوز أن يريد بالشركاء: الملائكة وعزيرا وعيسى، وبالموبق: البرزخ البعيد، أي: جعلنا بينهم أمدا بعيدا.

فَظَنُّوا أي: فأيقنوا أَنَّهُمْ مُوٰاقِعُوهٰا مخالطوها واقعون في عذابها.

مَصْرِفاً أي: معدلا.

ص: 286


1- النساء: 29.
2- معاني القرآن للفراء ج 2:147.

أَكْثَرَ شَيْ ءٍ جَدَلاً أي: أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدل إن فصلتها، جدلا: خصومة ومماراة في الباطل، وانتصابه علي التمييز.

أَنْ الأولي نصب، والثانية رفع وقبلها مضاف محذوف، والتقدير:

وَ مٰا مَنَعَ اَلنّٰاسَ الإيمان والاستغفار إِلاّٰ انتظار أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ اَلْأَوَّلِينَ وهي الإهلاك اَلْأَوَّلِينَ انتظار أن يَأْتِيَهُمُ عذاب الآخرة قُبُلاً عيانا. و قرئ:

قبلا أنواعا.

[سورة الكهف (18): الآیات 56 الی 59]

وَ مٰا نُرْسِلُ اَلْمُرْسَلِينَ إِلاّٰ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ يُجٰادِلُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبٰاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ اَلْحَقَّ وَ اِتَّخَذُوا آيٰاتِي وَ مٰا أُنْذِرُوا هُزُواً وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيٰاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهٰا وَ نَسِيَ مٰا قَدَّمَتْ يَدٰاهُ إِنّٰا جَعَلْنٰا عَلىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذٰانِهِمْ وَقْراً وَ إِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى اَلْهُدىٰ فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً وَ رَبُّكَ اَلْغَفُورُ ذُو اَلرَّحْمَةِ لَوْ يُؤٰاخِذُهُمْ بِمٰا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ اَلْعَذٰابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً وَ تِلْكَ اَلْقُرىٰ أَهْلَكْنٰاهُمْ لَمّٰا ظَلَمُوا وَ جَعَلْنٰا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً

جدالهم: قولهم للأنبياء: مٰا أَنْتُمْ إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُنٰا (1)، وَ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ لَأَنْزَلَ مَلاٰئِكَةً (2) ونحو ذلك.

لِيُدْحِضُوا أي: ليزيلوا ويبطلوا، من إدحاض القدم وهو إزلاقها.

وَ مٰا أُنْذِرُوا : (ما) موصولة والعائد إليها من الصلة محذوف، أي: وما أنذروا من البعث والجزاء، أو مصدرية بمعنى: وإنذارهم هُزُواً أي: موضع

ص: 287


1- يس: 15.
2- المؤمنون: 24.

استهزاء.

بِآيٰاتِ رَبِّهِ بالقرآن، ولذلك عاد الضمير إليه مذكّرا في قوله: أَنْ يَفْقَهُوهُ أي: لا أحد أظلم ممن ذكّر بالقرآن فلم يتذكر حين ذكّر، وأعرض عنه جانبا وَ نَسِيَ عاقبة مٰا قَدَّمَتْ يَدٰاهُ من الكفر والمعاصي غير مفكر فيها.

ثمّ علل إعراضهم ونسيانهم بأنّهم مطبوع عَلىٰ قُلُوبِهِمْ ، وجمع بعد الإفراد للحمل علي لفظ (من) ومعناه.

فَلَنْ يَهْتَدُوا أي: فلا يكون منهم اهتداء البتة، و إِذاً جواب وجزاء يعني: أنّهم جعلوا ما كان يجب أن يكون سبب الاهتداء سببا في انتفائه.

و اَلْغَفُورُ : البليغ المغفرة ذُو اَلرَّحْمَةِ الموصوف بالرحمة فلا يُؤٰاخِذُهُمْ عاجلا مع استحقاقهم العذاب.

بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ يعني: يوم القيامة، وقيل: يوم بدر(1).

لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً ملجأ ومنجا، يقال: وأل إليه: إذا لجأ إليه، و وأل: إذا نجى.

وَ تِلْكَ اَلْقُرىٰ إشارة إلى قرى عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم، و اَلْقُرىٰ صفة ل - تِلْكَ و تِلْكَ مبتدأ، و أَهْلَكْنٰاهُمْ خبره. ويجوز أن يكون تِلْكَ اَلْقُرىٰ نصبا بفعل مضمر يفسّره أهلكنا، والمعنى: وتلك أصحاب القرى أَهْلَكْنٰاهُمْ لَمّٰا ظَلَمُوا مثل ظلم قريش.

وَ جَعَلْنٰا لِمَهْلِكِهِمْ أي: لإهلاكهم أو لوقت إهلاكهم، وقرئ: لمهلكهم، ومعناه: لهلاكهم، أو لوقت هلاكهم مَوْعِداً معلوما، والموعد: وقت أو

ص: 288


1- تفسير الطبري ج 15:174.

مصدر.

[سورة الكهف (18): الآیات 60 الی 64]

وَ إِذْ قٰالَ مُوسىٰ لِفَتٰاهُ لاٰ أَبْرَحُ حَتّٰى أَبْلُغَ مَجْمَعَ اَلْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً فَلَمّٰا بَلَغٰا مَجْمَعَ بَيْنِهِمٰا نَسِيٰا حُوتَهُمٰا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي اَلْبَحْرِ سَرَباً فَلَمّٰا جٰاوَزٰا قٰالَ لِفَتٰاهُ آتِنٰا غَدٰاءَنٰا لَقَدْ لَقِينٰا مِنْ سَفَرِنٰا هٰذٰا نَصَباً قٰالَ أَ رَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنٰا إِلَى اَلصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ اَلْحُوتَ وَ مٰا أَنْسٰانِيهُ إِلاَّ اَلشَّيْطٰانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَ اِتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي اَلْبَحْرِ عَجَباً قٰالَ ذٰلِكَ مٰا كُنّٰا نَبْغِ فَارْتَدّٰا عَلىٰ آثٰارِهِمٰا قَصَصاً

فتاه: يوشع بن نون، وسمّاه فتاه لأنه كان يخدمه ويتبعه ليأخذ منه العلم. وفي الحديث: (ليقل أحدكم: فتاي وفتاتي، ولا يقل: عبدي وأمتي)(1).

و لاٰ أَبْرَحُ بمعنى: لا أزال، وخبره محذوف لدلالة الحال عليه، لأنّها كانت حال سفر، فلو كان بمعنى: لا أزول لدلّ علي الإقامة، فلابد أن يكون المعنى: لاٰ أَبْرَحُ أسير حَتّٰى أَبْلُغَ مَجْمَعَ اَلْبَحْرَيْنِ وهو المكان الذي وعد فيه موسى لقاء الخضر عليه السلام، وهو ملتقى بحري فارس والروم، فبحر الروم مما يلي المغرب وبحر فارس مما يلي المشرق.

أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً أو أسير زمانا طويلا، والحقب: ثمانون سنة، أو سبعون.

نَسِيٰا حُوتَهُمٰا أي: نسيا تفقّد أمره وما يكون منه مما جعل أمارة علي وجدان البغية، وقيل: نسي يوشع أن يقدّمه ونسي موسى أن يأمره فيه بشيء، وكان سمكة مملوحة. وقيل: إنّ يوشع حمل الحوت والخبز في المكتل فنزلا ليلة علي شاطئ عين تسمّى عين الحياة ونام موسى، فلما أصاب السمكة روح الماء وبرده عاشت

ص: 289


1- مسند أحمد ج 2:508.

ووقعت في الماء، وقيل: توضأ يوشع من تلك العين فانتضح الماء علي الحوت فعاش ووثب في الماء(1).

فَاتَّخَذَ الحوت سَبِيلَهُ أي: طريقه فِي اَلْبَحْرِ سَرَباً أي: مسلكا يذهب فيه، صار الماء عليه مثل الطاق وحصل من الماء في مثل السرب.

فَلَمّٰا جٰاوَزٰا الموعد وهو الصخرة لنسيان موسى تفقّد أمر الحوت، ونسيان يوشع أن يذكر لموسى ما رآه من حوته ووقوعه في الماء، ألقي علي موسى النصب والجوع ولم يجع ولم يتعب قبل ذلك، فتذكر موسى الحوت وطلبه.

وقوله: مِنْ سَفَرِنٰا هٰذٰا إشارة إلى مسيرهما حين جاوزا الصخرة وسارا تلك الليلة والغد إلى الظهر.

ولما طلب موسى الحوت ذكر يوشع ما رأي منه وما اعتراه من نسيانه إلى تلك الغاية، فدهش فطفق يسأل موسى عن سبب ذلك، فكأنّه قٰالَ أَ رَأَيْتَ ما دهاني إِذْ أَوَيْنٰا إِلَى اَلصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ اَلْحُوتَ ونسيت حديثه، وقيل: معناه:

تركت الحوت وفقدته.

و أَنْ أَذْكُرَهُ بدل من الهاء في أَنْسٰانِيهُ أي: وما أنساني ذكره إِلاَّ اَلشَّيْطٰانُ وقرأ حمزة: وَ مٰا أَنْسٰانِيهُ وفي الفتح عَلَيْهُ اَللّٰهَ (2) بضم الهاء.

و عَجَباً مفعول ثان ل - اِتَّخَذَ مثل سَرَباً ، أي: واتخذ سبيله سبيلا عجبا وهو كونه مثل السرب، وقوله: وَ مٰا أَنْسٰانِيهُ إِلاَّ اَلشَّيْطٰانُ أَنْ أَذْكُرَهُ اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه.

ذٰلِكَ إشارة إلى اتخاذه سبيلا، أي: ذلك الذي كُنّٰا نطلب من العلامة.

ص: 290


1- ينظر: الأقوال والقصة الدر المنثور ج 4:229 وما بعدها.
2- الآية: 10.

فَارْتَدّٰا أي: رجعا في الطريق الذي جاءا منه يقصّان آثارهما قَصَصاً ، وقرئ: نَبْغِ بغير ياء في الوصل وإثباتها أحسن.

[سورة الكهف (18): الآیات 65 الی 75]

فَوَجَدٰا عَبْداً مِنْ عِبٰادِنٰا آتَيْنٰاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنٰا وَ عَلَّمْنٰاهُ مِنْ لَدُنّٰا عِلْماً قٰالَ لَهُ مُوسىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلىٰ أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّٰا عُلِّمْتَ رُشْداً قٰالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلىٰ مٰا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً قٰالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شٰاءَ اَللّٰهُ صٰابِراً وَ لاٰ أَعْصِي لَكَ أَمْراً قٰالَ فَإِنِ اِتَّبَعْتَنِي فَلاٰ تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْ ءٍ حَتّٰى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً فَانْطَلَقٰا حَتّٰى إِذٰا رَكِبٰا فِي اَلسَّفِينَةِ خَرَقَهٰا قٰالَ أَ خَرَقْتَهٰا لِتُغْرِقَ أَهْلَهٰا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً قٰالَ أَ لَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قٰالَ لاٰ تُؤٰاخِذْنِي بِمٰا نَسِيتُ وَ لاٰ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً فَانْطَلَقٰا حَتّٰى إِذٰا لَقِيٰا غُلاٰماً فَقَتَلَهُ قٰالَ أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً قٰالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً

رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنٰا هي الوحي والنبوّة مِنْ لَدُنّٰا مما يختص بنا من العلم وهو الإخبار عن الغيوب.

وقرئ: رشدا ومعناه: علما ذا رشد أرشد به في ديني.

لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ نفي استطاعة الصبر معه علي وجه التأكيد كأنّها مما لا يصحّ ثبوته، وعلل ذلك بأنّه يأتي بما لا يعرف هو باطنه ولا يعلم حقيقته فظاهره عنده منكر. والخبر: العلم، و خُبْراً تمييز، أي: لَمْ يحط بِهِ خبرك.

وَ لاٰ أَعْصِي في محلّ نصب عطف على صٰابِراً أي: سَتَجِدُنِي صابرا وغير عاص، وعلّق صبره بمشيئة اللّه علما منه بشدّة الأمر.

ص: 291

وقرئ: فَلاٰ تَسْئَلْنِي بالنون الثقيلة، والمعنى: إنّ من شرط اتباعك لي أن لا تسألني عَنْ شَيْ ءٍ أفعله مما تنكره عليّ إذ يخفى عليك وجه حسنه حَتّٰى أكون أنا مفسّره لَكَ . وهذا من أدب المتعلم علي العالم والمتبوع علي التابع.

فَانْطَلَقٰا علي ساحل البحر يطلبان السفينة حَتّٰى إِذٰا رَكِبٰا فِي اَلسَّفِينَةِ أخذ الخضر الفأس فخرق السفينة بأن قلع لوحين مما يلي الماء منها، فحشاها موسى بثوبه وجعل يقول: أَ خَرَقْتَهٰا لِتُغْرِقَ أَهْلَهٰا ، و قرئ: ليغرق أهلها.

لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً أي: عظيما، من قولهم: أمر الأمر: إذا عظم.

بِمٰا نَسِيتُ أي: بشيء نسيته، أو بالذي نسيته، أو بنسياني، [أراد: أنّه نسي وصيته ولا مؤاخذة علي الناسي، وعن أبيّ : (إنّه لم ينس ولكنّه من معاريض الكلام)(1) [(2)، أراد: إنّه أخرج الكلام في معرض النهي عن المؤاخذة بالنسيان يوهمه أنّه قد نسي، ويجوز أن يريد بالنسيان: الترك، أي: لاٰ تُؤٰاخِذْنِي بِمٰا تركت من وصيتك أوّل مرة.

وَ لاٰ تُرْهِقْنِي أي: لا تكلّفني مِنْ أَمْرِي مشقة، وعاملني باليسر، ورهقه:

غشيه، وأرهقه إيّاه، فكأنّه قال: ولا تغشني عُسْراً من أمري وهو اتباعه إيّاه، وقرئ: عسرا بضمتين.

فخرجا من البحر وانطلقا يمشيان، فلقيا غُلاٰماً فَقَتَلَهُ الخضر.

زَكِيَّةً أي: طاهرة من الذنوب، وقرئ: زاكية.

بِغَيْرِ نَفْسٍ أي: لم يقتل نفسا فيقتص منها.

ص: 292


1- ساقطة من أ.
2- تفسير الطبري ج 15:184.

نُكْراً أي: فظيعا منكرا. و قرئ بضمتين.

[أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ ](1) وفي زيادة لَكَ هنا زيادة العتاب علي ترك الوصية.

[سورة الكهف (18): الآیات 76 الی 82]

قٰالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْ ءٍ بَعْدَهٰا فَلاٰ تُصٰاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً فَانْطَلَقٰا حَتّٰى إِذٰا أَتَيٰا أَهْلَ قَرْيَةٍ اِسْتَطْعَمٰا أَهْلَهٰا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمٰا فَوَجَدٰا فِيهٰا جِدٰاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقٰامَهُ قٰالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً قٰالَ هٰذٰا فِرٰاقُ بَيْنِي وَ بَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مٰا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً أَمَّا اَلسَّفِينَةُ فَكٰانَتْ لِمَسٰاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي اَلْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهٰا وَ كٰانَ وَرٰاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً وَ أَمَّا اَلْغُلاٰمُ فَكٰانَ أَبَوٰاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينٰا أَنْ يُرْهِقَهُمٰا طُغْيٰاناً وَ كُفْراً فَأَرَدْنٰا أَنْ يُبْدِلَهُمٰا رَبُّهُمٰا خَيْراً مِنْهُ زَكٰاةً وَ أَقْرَبَ رُحْماً وَ أَمَّا اَلْجِدٰارُ فَكٰانَ لِغُلاٰمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي اَلْمَدِينَةِ وَ كٰانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمٰا وَ كٰانَ أَبُوهُمٰا صٰالِحاً فَأَرٰادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغٰا أَشُدَّهُمٰا وَ يَسْتَخْرِجٰا كَنزَهُمٰا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَ مٰا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذٰلِكَ تَأْوِيلُ مٰا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً

بَعْدَهٰا أي: بعد هذه المرة، أو بعد المسألة فَلاٰ تُصٰاحِبْنِي أي: فلا تتابعني علي صحبتك وإن طلبتها، وقرئ: فلا تصحبني، أي: فلا تكن صاحبي.

قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً أي: قد أعذرت فيما بيني وبينك إذ أخبرتني أن لا أستطيع معك صبرا. وعن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: (استحيا نبيّ اللّه موسى، فلو صبر لرأى ألفا من العجائب)(2). وقرئ: من لدني بتخفيف النون.

ص: 293


1- زيادة يقتضيها السياق.
2- تفسير الطبري ج 15:186 بالمعنى.

أَهْلَ قَرْيَةٍ هي أنطاكية، وقيل: أيلة(1)، وقيل: قرية علي ساحل البحر تسمّى ناصرة(2).

أَنْ يُضَيِّفُوهُمٰا أي: لم يضفهما أحد من أهلها، [والتضييف والإضافة](3)

بمعنى، وعن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: (كانوا أهل قرية لئاما)(4)، وقيل: شرّ القري التي لا يضاف الضيف فيها، ولا يعرف لابن السبيل حقّه(5).

يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ أي: أشرف علي أن ينهدم، استعيرت الإرادة للمشارفة والقرب كما استعير الهمّ والعزم لذلك، قال:

يريد الرّمح صدر أبي براء *** ويرغب عن دماء بني عقيل(6)

وقال حسان:

إنّ دهرا يلفّ شملي بجمل *** لزمان يهمّ بالإحسان(7)

وانقض: أسرع سقوطه، وهو انفعل مطاوع قضضته، وقيل: هو افعلّ من النقض كأحمرّ من الحمرة.

فَأَقٰامَهُ بيده، وقيل: مسحه بيده فقام واستوي(8). ولما أقام الجدار

ص: 294


1- عن ابن سيرين. تفسير الطبري ج 15:186.
2- عن الصادق عليه السلام. تفسير العياشي ج 2:333.
3- في ب: التضيّف والضيافة.
4- صحيح مسلم ج 7:106.
5- عن قتادة. تفسير الطبري ج 15:186.
6- البيت للحارثي. مجاز القرآن ج 1:410، وفيه: صدر بني براء....
7- ديوان حسان بن ثابت ج 1:517، والبيت ساقط في ج.
8- عن سعيد بن جبير. معالم التنزيل ج 2:270.

وكانت الحال حال افتقار إلى المطعم ولم يجدا مواسيا، لم يملك موسى عليه السلام نفسه أن قٰالَ لَوْ شِئْتَ اتخذت عَلَيْهِ أَجْراً حتى نسدّ به جوعتنا. وقرئ: لتخذت، والتاء من تخذت أصل، اتخذ افتعل منه كاتبع من تبع، وليس من الأخذ في شيء.

قٰالَ هٰذٰا أي: هذا الاعتراض سبب الفراق، والأصل: هذا فراق بيني وبينك، فأضاف المصدر إلى الظرف كما يضاف إلى المفعول به.

لِمَسٰاكِينَ لفقراء يَعْمَلُونَ بها فِي اَلْبَحْرِ ويتعيشون بها.

وَرٰاءَهُمْ أمامهم كقوله: وَ مِنْ وَرٰائِهِمْ بَرْزَخٌ (1)، وقيل: خلفهم(2)، وكان طريقهم في رجوعهم عليه، وما كان عندهم خبره فأعلم اللّه به الخضر وهو جلندي، وقرأ أبيّ وعبد اللّه: كلّ سفينة صالحة غصبا.

وقرأ أبيّ وابن عباس: وأما الغلام فكان كافرا وأبواه مؤمنين. وكلاهما قراءة أهل البيت عليهم السلام.

فَخَشِينٰا أي: فخفنا أَنْ يغشى الوالدين المؤمنين طُغْيٰاناً عليهما وَ كُفْراً لنعمتهما بعقوقه وسوء صنيعه، ويلحق بهما بلاء، أو يعذّبهما برأيه فيحملهما علي الطغيان والكفران.

وقرئ: يُبْدِلَهُمٰا بالتشديد والتخفيف. والزكاة: الطهارة والنقاء من الذنوب، والرحم: الرحمة والعطف. الصادق عليه السلام: (إنّهما أبدلا بالغلام المقتول جارية فولدت سبعين نبيّا)(3).

ص: 295


1- المؤمنون: 100.
2- معاني القرآن وإعرابه ج 3:305.
3- تفسير العياشي ج 2:336.

واختلف في الكنز، فقيل: مال مدفون من الذهب والفضة(1)، وقيل: كتب علم مدفونة(2)، وقيل: لوح من ذهب مكتوب فيه: عجبا لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، عجبا لمن أيقن بالرزق كيف يتعب، عجبا لمن أيقن بالموت كيف يفرح، عجبا لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، عجبا لمن رأي الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، لا إله إلا اللّه محمّد رسول اللّه(3). الصادق عليه السلام: (إنّه كان بينهما وبين ذلك الأب الصالح سبعة آباء)(4).

رَحْمَةً مفعول له، أو مصدر منصوب ب - أراد ربك لأنّه في معنى رحمهما، وما فعلت ما رأيت عَنْ أَمْرِي أي: عن اجتهادي ورأيي، و إنّما فعلته بأمر اللّه، وفي قراءة عليّ عليه السلام: وما فعلته يا موسى عن أمري.

[سورة الكهف (18): الآیات 83 الی 92]

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي اَلْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً إِنّٰا مَكَّنّٰا لَهُ فِي اَلْأَرْضِ وَ آتَيْنٰاهُ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً حَتّٰى إِذٰا بَلَغَ مَغْرِبَ اَلشَّمْسِ وَجَدَهٰا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَ وَجَدَ عِنْدَهٰا قَوْماً قُلْنٰا يٰا ذَا اَلْقَرْنَيْنِ إِمّٰا أَنْ تُعَذِّبَ وَ إِمّٰا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً قٰالَ أَمّٰا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذٰاباً نُكْراً وَ أَمّٰا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صٰالِحاً فَلَهُ جَزٰاءً اَلْحُسْنىٰ وَ سَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنٰا يُسْراً ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتّٰى إِذٰا بَلَغَ مَطْلِعَ اَلشَّمْسِ وَجَدَهٰا تَطْلُعُ عَلىٰ قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهٰا سِتْراً كَذٰلِكَ وَ قَدْ أَحَطْنٰا بِمٰا لَدَيْهِ خُبْراً ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً

ص: 296


1- عن عكرمة. تفسير الطبري ج 16:6.
2- عن ابن عباس وغيره. تفسير الطبري ج 16:5.
3- عن الصادق عليه السلام. الكشف والبيان ج 6:188.
4- تفسير الطبري ج 16:5.

ذو القرنين هو الإسكندر الذي ملك الدنيا، وقيل: ملك الدنيا مؤمنان: ذو القرنين وسليمان، وكافران: نمرود وبخت نصر(1). واختلف فيه فقيل: كان عبدا صالحا أعطاه اللّه العلم والحكمة وملكه الأرض، وقيل: كان نبيّا فتح الله على يديه الأرض(2). وعن عليّ عليه السلام: (كان عبدا صالحا ضرب علي قرنه الأيمن في طاعة اللّه فمات، ثمّ بعثه الله فضرب علي قرنه الأيسر فمات فبعثه الله، فسمّي ذا القرنين، وفيكم مثله)(3). وقيل: سمّي ذا القرنين لأنه قد بلغ قطري الأرض من المشرق والمغرب(4)، وقيل: كان لتاجه قرنان.

والسائلون: هم اليهود، سألوه علي وجه الامتحان، وقيل: سأله أبو جهل وأشياعه(5).

وَ آتَيْنٰاهُ مِنْ أسباب كُلِّ شَيْ ءٍ أراده من أغراضه ومقاصده في ملكه سَبَباً طريقا موصلا إليه، فأراد بلوغ المغرب فاتبع سببا يوصله إليه حتى بلغ، وكذلك أراد المشرق فاتبع سببا وأراد بلوغ السدّين فاتبع سببا، وقرئ: فَأَتْبَعَ بقطع الهمزة، أي: فأتبع أمره سببا، أو أتبع ما هو عليه سببا.

وقرئ: حَمِئَةٍ من حمئت البئر: إذا صارت فيها الحمأة، وحامية، أي:

حارة.

وَ وَجَدَ عند العين ناسا كانوا كفرة، فخيّره اللّه بين أن يعذّبهم بالقتل وأن

ص: 297


1- الخصال: 232.
2- عن عكرمة. تفسير السمرقندي ج 2:359.
3- تفسير الطبري ج 16:8، تفسير العياشي ج 2:339.
4- عن الزهري. الدر المنثور ج 4:242.
5- تفسير الطبري ج 15:127.

يدعوهم إلى الإسلام، فاختار دعوتهم واستمالتهم، فقال: أما من دعوته فأبى إلا البقاء علي أعظم الظلم وهو الكفر فذاك هو المعذّب في الدارين.

وَ أَمّٰا مَنْ آمَنَ و أصلح فله جزاء الحسنى، أي: جزاء الفعلة الحسنى.

وقرئ: جَزٰاءً بالنصب والتنوين، ومعناه: فله المثوبة الحسنى جزاء أي: مجزية، فهو مصدر وضع موضع الحال.

مِنْ أَمْرِنٰا يُسْراً أي: لا نأمره بالصعب الشاق ولكن بالسهل المتيسّر من الخراج وغير ذلك، وتقديره: ذا يسر.

وقرئ: مَطْلِعَ بفتح اللام وكسرها وهو مصدر، والمعنى: بلغ مكان مطلع الشمس.

عَلىٰ قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهٰا سِتْراً لم يكن بها جبل ولا شجر ولا بناء، وعن كعب: (كان أرضهم لا تمسك الأبنية وبها أسراب، فإذا طلعت الشمس دخلوها، فإذا غربت تصرّفوا في أمورهم ومعايشهم)(1)، وقيل: الستر: اللباس(2)، وعن مجاهد: (من لا يلبس الثياب من السودان عند مطلع الشمس أكثر من جميع أهل الأرض)(3).

كَذٰلِكَ أي: أمر ذي القرنين كذلك، أي: كما وصفناه تعظيما لأمره.

وَ قَدْ أَحَطْنٰا بِمٰا لَدَيْهِ من الجنود والآلات وأسباب الملك.

خُبْراً أي: علما تكثيرا لذلك. وقيل: يريد بَلَغَ مَطْلِعَ اَلشَّمْسِ مثل ذلك أي: كما بلغ مغربها، وقيل: تطلع علي قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليهم،

ص: 298


1- عن قتادة. الكشف والبيان ج 6:192.
2- تفسير ابن عباس ج 3:192.
3- الكشاف ج 2:745.

ومعناه: أنّهم كفرة مثلهم، وحكمهم مثل حكمهم في تعذيبه لمن بقي منهم علي الكفر وإحسانه إلى من آمن منهم.

[سورة الكهف (18): الآیات 93 الی 98]

حَتّٰى إِذٰا بَلَغَ بَيْنَ اَلسَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمٰا قَوْماً لاٰ يَكٰادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً قٰالُوا يٰا ذَا اَلْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلىٰ أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنٰا وَ بَيْنَهُمْ سَدًّا قٰالَ مٰا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْماً آتُونِي زُبَرَ اَلْحَدِيدِ حَتّٰى إِذٰا سٰاوىٰ بَيْنَ اَلصَّدَفَيْنِ قٰالَ اُنْفُخُوا حَتّٰى إِذٰا جَعَلَهُ نٰاراً قٰالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً فَمَا اِسْطٰاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَ مَا اِسْتَطٰاعُوا لَهُ نَقْباً قٰالَ هٰذٰا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذٰا جٰاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكّٰاءَ وَ كٰانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا

السدّان: جبلان سدّ ذو القرنين ما بينهما، و قرئ: بالضم والفتح، وقيل:

ما كان من عمل العباد فهو مفتوح، وما كان من خلق اللّه فهو مضموم، لأنّه فعل بمعنى مفعول فعله اللّه وخلقه، والمفتوح مصدر فهو حدث يحدثه الناس.

و بَيْنَ انتصب علي أنّه مفعول به، كما انجر بالإضافة في قوله: هٰذٰا فِرٰاقُ بَيْنِي وَ بَيْنِكَ (1). وهذا المكان في منقطع أرض الترك مما يلي المشرق.

مِنْ دُونِهِمٰا قَوْماً قيل: هم الترك(2).

لاٰ يَكٰادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً أي: لا يكادون يفهمونه إلا بجهد ومشقة من إشارة ونحوها، و قرئ: يفقهون، أي: لا يفهمون السامع كلامهم ولا يبيّنونه، لأنّ لغتهم غريبة مجهولة.

ص: 299


1- الكهف: 78.
2- عن ابن جريج. الدر المنثور ج 4:249.

يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ اسمان أعجميان، وقرئا: بالهمزة.

مُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ قيل: كانوا يأكلون الناس(1). وقيل: كانوا يخرجون أيّام الربيع فلا يتركون شيئا أخضر إلا أكلوه ولا يابسا إلا احتملوه(2). وعن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في صفتهم: (أنّه لا يموت أحد منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلهم قد حمل السلاح)(3). وقيل: إنّهم صنفان: طوال مفرطو الطول وقصار مفرطو القصر(4).

وقرئ: خَرْجاً وخراجا، أي: جعلا نخرجه من أموالنا، ونظيرهما النول وا لنوال.

مٰا مَكَّنِّي أي: ما جعلني ربّي فيه مكينا من كثرة المال واليسار خَيْرٌ مما تبذلونه لي من الخراج فلا حاجة بي إليه، وقرئ: بالإدغام وفكه.

فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أي: برجال وصناع يحسنون البناء وبالآلات.

رَدْماً أي: حاجزا حصينا، والردم: أكبر من السد، قيل: حفر للأساس حتى بلغ الماء، وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب، والبنيان من زبر الحديد بينهما الحطب والفحم حتى سدّ ما بين الجبلين إلى أعلاهما، ثمّ وضع المنافيخ حتى إذا صارت كالنار صب النحاس المذاب علي الحديد المحمى فالتصق بعضه ببعض وصار جبلا صلدا(5).

ص: 300


1- عن سعيد بن عبد العزيز. تفسير الطبري ج 16:14.
2- عن الكلبي. معالم التنزيل ج 2:273.
3- تفسير الطبري ج 16:19.
4- عن عليّ عليه السلام. الكشف والبيان ج 6:196.
5- الكشف والبيان ج 6:196.

والصدفان بفتحتين: جانبا الجبلين، لأنّهما يتصادفان أي: يتقابلان، وقرئ:

الصدفين بضمتين وبضمة وسكون.

وا لقطر: النحاس المذاب، و قِطْراً منصوب ب - أُفْرِغْ وتقديره: آتوني قطرا أفرغ عليه قطرا، فحذف الأوّل لدلالة الثاني عليه. وقرئ: قال ائتوني، أي:

جيئوني.

فَمَا اِسْطٰاعُوا بحذف التاء للخفة، وقرئ: فما اصطاعوا بقلب السين صادا أَنْ يَظْهَرُوهُ أن يعلوه، أي: لا حيلة لهم في صعوده لارتفاعه وملاسته، ولا في نقبه لصلابته وثخانته.

هٰذٰا إشارة إلى السد، أي: هذا السد نعمة من اللّه ورحمة علي عباده.

فَإِذٰا جٰاءَ وَعْدُ رَبِّي أي: دنا مجيء يوم القيامة جعل السد دكا، أي: مدكوكا مبسوطا مسوّى بالأرض، وكل ما انبسط بعد ارتفاع فقد اندك. وقرئ: دَكّٰاءَ بالمد، أي: أرضا مستوية.

وَ كٰانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا هذا آخر حكاية قول ذي القرنين.

[سورة الكهف (18): الآیات 99 الی 106]

وَ تَرَكْنٰا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَجَمَعْنٰاهُمْ جَمْعاً وَ عَرَضْنٰا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكٰافِرِينَ عَرْضاً اَلَّذِينَ كٰانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطٰاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَ كٰانُوا لاٰ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً أَ فَحَسِبَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبٰادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيٰاءَ إِنّٰا أَعْتَدْنٰا جَهَنَّمَ لِلْكٰافِرِينَ نُزُلاً قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمٰالاً اَلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآيٰاتِ رَبِّهِمْ وَ لِقٰائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمٰالُهُمْ فَلاٰ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ وَزْناً ذٰلِكَ جَزٰاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمٰا كَفَرُوا وَ اِتَّخَذُوا آيٰاتِي وَ رُسُلِي هُزُواً

ص: 301

وَ تَرَكْنٰا بَعْضَهُمْ أي: وجعلنا بعض الخلق يوم خروج يأجوج ومأجوج يَمُوجُ فِي بَعْضٍ أي: يضطربون ويختلطون إنسهم وجنّهم حيارى، أو يكون الضمير ليأجوج ومأجوج وأنّهم يموجون حين يخرجون مما وراء السد مزدحمين في البلاد. وقد روي: أنّهم يأتون البحر فيشربون ماءه ويأكلون دوابه، ثمّ يأكلون الشجر ومن ظفروا به ممن لم يتحصن منهم من الناس، ثمّ يبعث اللّه نغفا(1) في أقفائهم فتدخل آذانهم فيهلكون بها.

وَ عَرَضْنٰا جَهَنَّمَ وأبرزنا ها لهم فرأوها وشاهدوها.

عَنْ ذِكْرِي عن آياتي والتفكر فيها، ونحوه: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ (2).

وَ كٰانُوا لاٰ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً أي: وكانوا صما عنه.

وقراءة أمير المؤمنين عليه السلام: أفحسب الذين كفروا، أي: أفكافيهم ومحسبهم أَنْ يَتَّخِذُوا عِبٰادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيٰاءَ وهم الملائكة، فهو مبتدأ وخبر، وبمنزلة الفعل والفاعل، لأنّ اسم الفاعل إذا اعتمد علي الهمزة ساوي الفعل في العمل، كقولك:

أقائم الزيدان، والمعنى: إنّ ذلك لا يكفيهم ولا ينفعهم عند اللّه كما حسبوا. وأما القراءة المشهورة فمعناها: أفحسبوا أن يتخذوهم من دوني أربابا ينصرونهم، أي:

لا يكونون لهم أولياء ناصرين، والنزل: ما يقام للنزيل وهو الضيف، ونحوه:

فَبَشِّرْهُمْ بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ (3) .

اَلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ أي: ضاع وبطل عملهم، وهم الرهبان وَ هُمْ يظنون أَنَّهُمْ محسنون، وأنّ أفعالهم طاعة وقربة. وعن عليّ عليه السلام: هو كقوله: عٰامِلَةٌ

ص: 302


1- النغف - محرّكة -: الدود الذي يكون في أنوف الإبل والغنم. (الصحاح: مادة نغف)
2- البقرة: 171.
3- آل عمران: 21.

نٰاصِبَةٌ (1) وقال: (منهم أهل حروراء)(2).

فَلاٰ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ وَزْناً أي: لا يكون لهم عندنا وزن ومقدار، ونزدري بهم.

[سورة الكهف (18): الآیات 107 الی 110]

إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ كٰانَتْ لَهُمْ جَنّٰاتُ اَلْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خٰالِدِينَ فِيهٰا لاٰ يَبْغُونَ عَنْهٰا حِوَلاً قُلْ لَوْ كٰانَ اَلْبَحْرُ مِدٰاداً لِكَلِمٰاتِ رَبِّي لَنَفِدَ اَلْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمٰاتُ رَبِّي وَ لَوْ جِئْنٰا بِمِثْلِهِ مَدَداً قُلْ إِنَّمٰا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحىٰ إِلَيَّ أَنَّمٰا إِلٰهُكُمْ إِلٰهٌ وٰاحِدٌ فَمَنْ كٰانَ يَرْجُوا لِقٰاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صٰالِحاً وَ لاٰ يُشْرِكْ بِعِبٰادَةِ رَبِّهِ أَحَداً

الحول: التحول، يقال: حال عن مكانه حولا، كما قالوا: عادني حبّها عودا، أي: لا يطلبون تحولا عَنْهٰا إلى موضع آخر لكمال طيبها.

المداد: اسم ما تمدّ به الدواة، والمعنى: لَوْ كتبت كلمات علم اللّه وحكمته و كٰانَ اَلْبَحْرُ مِدٰاداً لها، والمراد بالبحر: الجنس لَنَفِدَ اَلْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ الكلمات وَ لَوْ جِئْنٰا بمثل البحر مدادا لنفد أيضا و الكلمات لا تنفد. و مَدَداً تمييز، كقولك: لي مثله رجلا، والمدد مثل المداد: وهو ما يمد به، وقرئ: ينفد بالياء.

فَمَنْ كٰانَ يَرْجُوا أي: يأمل حسن لِقٰاءَ رَبِّهِ و أن يلقاه لقاء رضا وقبول، أو فمن كان يخاف سوء لقائه. والمراد بالنهي عن الإشراك بالعبادة: أن لا يرائي بعمله، وأن لا يبتغي به إلا وجه ربّه خالصا لا يريد به غيره. وعن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال: (قال اللّه عزّ و جل: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه

ص: 303


1- الغاشية: 3.
2- تفسير الطبري ج 16:27، تفسير العياشي ج 2:352.

بريء، فهو للذي أشرك)(1). وعن الصادق عليه السلام: (ما من أحد يقرأ آخر الكهف عند النوم إلا تيقظ في الساعة التي يريدها)(2).

ص: 304


1- سنن ابن ماجة ج 2:1405، ح 4202، وينظر: الكافي ج 2:295.
2- الكافي ج 2:540.

سورة مريم

اشارة

مكية، ثمان وتسعون آية، عدّ الكوفي كهيعص آية ولم يعدّها غيرهم، ولم يعدّوا اَلرَّحْمٰنُ مَدًّا وعدّها غيرهم.

وفي حديث أبيّ : (من قرأها أعطي من الأجر بعدد كل من صدّق بزكريا ويحيى ومريم وعيسى وموسى وهارون وإبراهيم و إسحاق ويعقوب وإسماعيل عشر حسنات... الخبر بتمامه)(1)، وعن الصادق عليه السلام: (من أدمن قراءة (سورة مريم عليها السلام) لم يمت في الدنيا حتى يصيب منها ما يغنيه في نفسه وماله وولده، وأعطي في الآخرة مثل ملك سليمان بن داود في الدنيا)(2).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة مريم (19): الآیات 1 الی 7]

كهيعص ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيّٰا إِذْ نٰادىٰ رَبَّهُ نِدٰاءً خَفِيًّا قٰالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ اَلْعَظْمُ مِنِّي وَ اِشْتَعَلَ اَلرَّأْسُ شَيْباً وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعٰائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَ إِنِّي خِفْتُ اَلْمَوٰالِيَ مِنْ وَرٰائِي وَ كٰانَتِ اِمْرَأَتِي عٰاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا يٰا زَكَرِيّٰا

ص: 305


1- الكشف والبيان ج 6:205، وتمامه: وبعدد من دعا للّه ولدا، وبعدد من لم يدع له ولدا.
2- ثواب الأعمال: 108.

[سورة مريم (19): الآیات 7 الی 9]

إِنّٰا نُبَشِّرُكَ بِغُلاٰمٍ اِسْمُهُ يَحْيىٰ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا قٰالَ رَبِّ أَنّٰى يَكُونُ لِي غُلاٰمٌ وَ كٰانَتِ اِمْرَأَتِي عٰاقِراً وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ اَلْكِبَرِ عِتِيًّا قٰالَ كَذٰلِكَ قٰالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً

قرأ أبو عمرو بإمالة (هاء) وتفخيم (ياء)، وقرئ على عكسه، وقرئ بإمالتهما.

أي: هذا ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ زكريا عَبْدَهُ ، ف - ذِكْرُ مضاف إلى المفعول، و رَحْمَتِ مضاف إلى الفاعل، وانتصب عَبْدَهُ لأنّه مفعول رَحْمَتِ رَبِّكَ ، والرحمة: إجابته إيّاه حين دعاه وسأله الولد.

إِذْ نٰادىٰ رَبَّهُ نِدٰاءً أي: دعا ربّه دعاء خَفِيًّا يخفيه في نفسه. وفي الحديث: (خير الدعاء الخفي)(1). وعن الحسن: (دعاء لا رياء فيه)(2). أو أخفاه لئلا يلام في طلب الولد وقت الشيخوخة.

وأضاف الوهن إلى (العظم) لأنّ به قوام البدن، فإذا وهن تساقطت قوته، واللام للجنس، يعني: إنّ هذا الجنس الذي هو العمود والقوام قد أصابه الوهن، وشبّه الشيب بشواظ النار في بياضه، وانتشاره في شعره باشتعال النار، وأسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس وجعل الشيب مميزا، ولم يقل:

رأسي اكتفاء بعلم المخاطب أنّه رأسه، ثمّ توسل إليه سبحانه بما سلف له معه من الاستجابة.

و اَلْمَوْلىٰ : هم العمومة وبنو العم مِنْ وَرٰائِي أي: من بعد موتي.

ص: 306


1- إرشاد القلوب ج 2:154، مسند أحمد ج 1:172، وفيه: خير الذكر الخفي.
2- الكشاف ج 3:3.

وقرأ عليّ بن الحسين ومحمّد بن عليّ عليهم السلام: خفّت الموالي من ورائي، ومعناه: قل بنو عمي وأهلي و من أخلفه من بعدي.

وَ كٰانَتِ اِمْرَأَتِي عقيما لا تلد فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا أي: ولدا يليني ويكون أولى بميراثي. وقوله: مِنْ لَدُنْكَ تأكيد لكونه وَلِيًّا مرضيا بكونه مضافا إلى اللّه وصادرا من عنده.

يَرِثُنِي وَ يَرِثُ بالجزم علي الجواب للدعاء، وبالرفع علي الصفة، كقوله:

رِدْءاً يُصَدِّقُنِي (1) . وقرأ عليّ عليه السلام وابن عباس وجعفر بن محمّد عليه السلام والحسن وجماعة: يرثني وارث من آل يعقوب. ويسمّى التجريد في علم البيان، وتقديره:

فهب لي وليا يرثني به وارث من آل يعقوب وهو نفسه الوارث، وهذا ضرب غريب كأنّه جرد منه وارثا، ومثله قوله: لَهُمْ فِيهٰا دٰارُ اَلْخُلْدِ (2) وهي نفسها دار الخلد.

وَ اِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا أي: واجعل يا ربّ هذا الولي مرضيا عندك ممتثلا لأمرك.

لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا لم يسمّ أحد ب - يَحْيىٰ قبله. وعن الصادق عليه السلام:

(وكذلك الحسين عليه السلام لم يكن له من قبل سميّ ، ولم تبك السماء إلا عليهما أربعين صباحا، قيل له: وما كان بكاؤها؟ قال: كانت تطلع حمراء وتغيب حمراء، وكان قاتل يحيى ولد زنا، وقاتل الحسين عليه السلام ولد زنا)(3). وعن مجاهد: (سَمِيًّا أي:

ص: 307


1- القصص: 34.
2- فصلت: 28.
3- كامل الزيارات: 77 باختصار.

مثلا وشبيها)(1)، كقوله: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (2)، وإنّما قيل للمثل: سميّ ، لأنّ كل متشابهين يسمّى كل واحد منهما باسم شبيهه، فكل واحد منهما سميّ لصاحبه.

وَ كٰانَتِ اِمْرَأَتِي عٰاقِراً أي: كانت علي صفة العقر حين أنا شاب وكهل، فما رزقت الولد لاختلال أحد السببين، أفحين اختل السببان جميعا أرزقه ؟!.

والعتي: اليبس والجساوة في العظام والمفاصل من أجل الكبر. وقرئ:

عِتِيًّا بكسر العين، وكذلك صِلِيًّا (3)، و جِثِيًّا (4)، و بُكِيًّا (5).

كَذٰلِكَ الكاف رفع، أي: الأمر كذلك تصديق له، ثمّ ابتدأ قٰالَ رَبُّكَ ، أو هو نصب ب - قٰالَ ، و (ذلك) إشارة إلى مبهم يفسّره هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ، ونحوه:

وَ قَضَيْنٰا إِلَيْهِ ذٰلِكَ اَلْأَمْرَ أَنَّ دٰابِرَ هٰؤُلاٰءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (6) .

وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً يعتدّ به. وقرئ: وقد خلقناك.

[سورة مريم (19): الآیات 10 الی 13]

قٰالَ رَبِّ اِجْعَلْ لِي آيَةً قٰالَ آيَتُكَ أَلاّٰ تُكَلِّمَ اَلنّٰاسَ ثَلاٰثَ لَيٰالٍ سَوِيًّا فَخَرَجَ عَلىٰ قَوْمِهِ مِنَ اَلْمِحْرٰابِ فَأَوْحىٰ إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا يٰا يَحْيىٰ خُذِ اَلْكِتٰابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَيْنٰاهُ اَلْحُكْمَ صَبِيًّا وَ حَنٰاناً مِنْ لَدُنّٰا وَ زَكٰاةً وَ كٰانَ تَقِيًّا

ص: 308


1- تفسير الطبري ج 16:38.
2- مريم: 65.
3- الآية: 70.
4- الآية: 68.
5- الآية: 58.
6- الحجر: 66.

[سورة مريم (19): الآیات 14 الی 15]

وَ بَرًّا بِوٰالِدَيْهِ وَ لَمْ يَكُنْ جَبّٰاراً عَصِيًّا وَ سَلاٰمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا

يعني: رَبِّ اِجْعَلْ لِي علامة أعلم بها وقوع ما بشرت به قٰالَ :

علامتك أن تمنع الكلام فلا تطيقه وأنت سوي الخلق ما بك خرس. ودلّ ذكر الليالي هنا والأيّام في آل عمران(1) علي أنّ ذلك كان ثلاثة أيّام بلياليها.

فَأَوْحىٰ أي: أشار إليهم بيده، وقيل: كتب لهم علي الأرض(2).

سَبِّحُوا أي: صلّوا، أو هو علي الظاهر و أَنْ هي المفسّرة.

خُذِ اَلْكِتٰابَ أي: التوراة بِقُوَّةٍ بجدّ وصحّة عزيمة علي القيام به.

وَ آتَيْنٰاهُ اَلْحُكْمَ أي: الحكمة والنبوّة في حال صباه وهو ابن ثلاث سنين.

وَ حَنٰاناً وآتيناه رحمة مِنْ عندنا وتعطفا وتحننا علي العباد، وقيل للّه عزّ اسمه: حنّان، كما قيل: رحيم علي سبيل الاستعارة.

وَ زَكٰاةً لمن قبل دينه فيكون زكيا طاهرا، وبارا.

بِوٰالِدَيْهِ محسنا إليهما، مطيعا لهما، طالبا رضاهما وَ لَمْ يَكُنْ متكبرا متطاولا علي الناس.

عَصِيًّا عاصيا لربّه.

وَ سَلاٰمٌ عَلَيْهِ منا في هذه الأحوال. وخصّه سبحانه بالكرامة والسلامة في هذه المواطن الثلاثة التي هي أوحش المواطن: يَوْمَ وُلِدَ فيري نفسه خارجا مما كان فيه وَ يَوْمَ يَمُوتُ فيري أشياء ليس له بها عهد وَ يَوْمَ يُبْعَثُ فيري نفسه

ص: 309


1- الآية: 41.
2- عن مجاهد. تفسير الطبري ج 16:42.

في المحشر العظيم.

[سورة مريم (19): الآیات 16 الی 24]

وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتٰابِ مَرْيَمَ إِذِ اِنْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهٰا مَكٰاناً شَرْقِيًّا فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجٰاباً فَأَرْسَلْنٰا إِلَيْهٰا رُوحَنٰا فَتَمَثَّلَ لَهٰا بَشَراً سَوِيًّا قٰالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمٰنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قٰالَ إِنَّمٰا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاٰماً زَكِيًّا قٰالَتْ أَنّٰى يَكُونُ لِي غُلاٰمٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا قٰالَ كَذٰلِكِ قٰالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنّٰاسِ وَ رَحْمَةً مِنّٰا وَ كٰانَ أَمْراً مَقْضِيًّا فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكٰاناً قَصِيًّا فَأَجٰاءَهَا اَلْمَخٰاضُ إِلىٰ جِذْعِ اَلنَّخْلَةِ قٰالَتْ يٰا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هٰذٰا وَ كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا فَنٰادٰاهٰا مِنْ تَحْتِهٰا أَلاّٰ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا

إِذِ بدل من مَرْيَمَ وهو بدل الاشتمال، وفيه دلالة علي أنّ المقصود بذكر مريم ذكر هذا الوقت لوقوع قصّتها العجيبة فيه، و اِنْتَبَذَتْ أي: اعتزلت في مكان مما يلي شرقي بيت المقدس قد تخلّت للعبادة فيه، و إنّما اتخذت النصاري الشرق قبلة لأنّ مريم انتبذت مَكٰاناً شَرْقِيًّا .

فَاتَّخَذَتْ مِنْ دون أهلها حِجٰاباً أي: سترا وحاجزا بينها وبينهم.

فَأَرْسَلْنٰا إِلَيْهٰا رُوحَنٰا يعني: جبرئيل عليه السلام، أضافه إلى نفسه تشريفا له، فأتاها فانتصب بين يديها في صورة آدمي شاب سوي الخلق، لم ينتقص من صورة الآدمي شيئا.

قٰالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمٰنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا أرادت: إن كان يرجى منك أن تتقي اللّه وتخشاه فإنّي عائذة به منك.

ص: 310

قٰالَ إِنَّمٰا أَنَا رَسُولُ من استعذت به لِأَهَبَ لَكِ لأكون سببا في هبة غُلاٰماً زَكِيًّا طاهرا من الأدناس، أو تام في أفعال الخير، أو هو حكاية لقول اللّه عزّ وجل. وقرئ: ليهب، و الضمير للربّ وهو الواهب.

وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ جعل المس عبارة عن النكاح الحلال، كقوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ (1)، ويقال في الزنا: فجر بها وما أشبه ذلك.

والبغيّ : الفاجرة التي تبغي الرجال، وهي فعول عند المبرّد - بغوي - فأدغمت الواو في الياء(2)، وقيل: هي فعيل، ولو كانت فعولا لكان يقال: بغو كما قيل: فلان نهو عن المنكر.

وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنّٰاسِ فعلنا ذلك فحذف، أو هو معطوف علي تعليل مضمر، أي: لنبيّن به قدرتنا ولنجعله آية.

وَ كٰانَ أَمْراً مَقْضِيًّا مقدّرا، مسطورا في اللوح لابد من جريه عليك، أو كان أمرا حقيقا بأن يقضي لكونه آية ورحمة، والمراد بالآية: العبرة والبرهان علي قدرة اللّه تعالى، و بالرحمة: الشرائع والألطاف، وما كان كذلك فهو جدير بالتكوين.

[فَحَمَلَتْهُ ](3) وعن ابن عباس: (فاطمأنت إلي قوله فدنا منها فنفخ في جيب درعها فحملت من ساعتها)(4). وعن الباقر عليه السلام: (فكمل الولد في الرحم من ساعته كما يكمل الولد في أرحام النساء بتسعة أشهر)(5). وقيل: حملته وهي

ص: 311


1- البقرة: 237.
2- ينظر الكامل في اللغة والأدب ج 2:189.
3- زيادة يقتضيها السياق.
4- الدر المنثور ج 4:265.
5- الكافي ج 8:332 عن الصادق عليه السلام.

بنت ثلاث عشرة سنة(1)، وقيل: بنت عشر(2).

فَانْتَبَذَتْ بِهِ أي: اعتزلت وهو في بطنها، كقوله تعالى: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ (3) أي: تنبت ودهنها فيها. والجار والمجرور في موضع الحال.

قَصِيًّا بعيدا من أهلها.

و (أجاء) منقول من (جاء)، إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء، ونظيره: آتى حيث لم يستعمل إلا في الإعطاء.

و اَلْمَخٰاضُ : تمخّض الولد في بطنها، أي: ألجأها وجع الولادة إِلىٰ جِذْعِ نخلة في الصحراء يابسة، ليس لها ثمرة ولا خضرة، وكان الوقت شتاء، والتعريف للعهد، أي: اَلنَّخْلَةِ المعروفة في تلك الصحراء.

وقرئ: مِتُّ بالضم والكسر، يقال: مات يموت، ومات يمات.

وَ كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا أي: شيئا حقيرا متروكا، وهو ما من حقّه أن يطرح وينسى كخرقة الحائض، كما أنّ الذبيح اسم ما من شأنه أن يذبح. و قرئ:

نَسْياً بالفتح وهما لغتان كالوتر والوتر.

فَنٰادٰاهٰا مِنْ تَحْتِهٰا عيسى أو جبرئيل، و الضمير في مِنْ تَحْتِهٰا ل - اَلنَّخْلَةِ .

وقرئ: من تحتها. وقيل: كان أسفل منها تحت الأكمة فصاح بها: أَلاّٰ تَحْزَنِي .

وسئل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عن السريّ ، فقال: (هو الجدول)(4)، قال لبيد:

ص: 312


1- تاريخ الطبري ج 2:13.
2- تفسير مقاتل بن سليمان ج 2:310.
3- المؤمنون: 20.
4- المستدرك على الصحيحين ج 2:373.

فتوسّطا عرض السّريّ فصدّعا *** مسجورة متجاورا قلّامها(1)

أي: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تحت قدميك نهرا تشربين منه وتتطهرين، وقيل:

السريّ : الشريف الرفيع، من السرو يعني: عيسى عليه السلام، وعن الحسن: (كان واللّه عبدا سريّا)(2).

[سورة مريم (19): الآیات 25 الی 33]

وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ اَلنَّخْلَةِ تُسٰاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا فَكُلِي وَ اِشْرَبِي وَ قَرِّي عَيْناً فَإِمّٰا تَرَيِنَّ مِنَ اَلْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمٰنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اَلْيَوْمَ إِنْسِيًّا فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهٰا تَحْمِلُهُ قٰالُوا يٰا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا يٰا أُخْتَ هٰارُونَ مٰا كٰانَ أَبُوكِ اِمْرَأَ سَوْءٍ وَ مٰا كٰانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا فَأَشٰارَتْ إِلَيْهِ قٰالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كٰانَ فِي اَلْمَهْدِ صَبِيًّا قٰالَ إِنِّي عَبْدُ اَللّٰهِ آتٰانِيَ اَلْكِتٰابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا وَ جَعَلَنِي مُبٰارَكاً أَيْنَ مٰا كُنْتُ وَ أَوْصٰانِي بِالصَّلاٰةِ وَ اَلزَّكٰاةِ مٰا دُمْتُ حَيًّا وَ بَرًّا بِوٰالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبّٰاراً شَقِيًّا وَ اَلسَّلاٰمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا

أي: واجذبي إِلَيْكِ بِجِذْعِ اَلنَّخْلَةِ . وقرئ: تُسٰاقِطْ بالتاء والياء والتشديد، والأصل: تتساقط ويتساقط فأدغم، وتساقط - بطرح التاء الثانية - وتساقط - بضم التاء وكسر القاف - والتاء ل - اَلنَّخْلَةِ والياء للجذع. و رُطَباً تمييز أو مفعول علي حسب القراءة، والباء في بِجِذْعِ اَلنَّخْلَةِ مزيدة للتأكيد كما في

ص: 313


1- ديوان لبيد بن ربيعة العامري: 170.
2- الدر المنثور ج 4:269.

قوله: وَ لاٰ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ (1)، أو علي معنى: افعلي الهزّ به. والجني: المجني، من جنيت الثمرة.

فَكُلِي يا مريم من هذا الرطب وَ اِشْرَبِي من ماء السريّ ، وقد جعلنا لك في السريّ والرطب فائدتين: إحداهما: الأكل والشرب، وا لأخري: قرة العين وسلوة الصدر لكونهما معجزتين. وعن الباقر عليه السلام: (لم تستشف النفساء بمثل الرطب، لأنّ اللّه أطعمه مريم في نفاسها)(2).

فَإِمّٰا تَرَيِنَّ أصله: ترأين إلا أنّ الاستعمال بغير همز، والياء فيه ضمير المخاطب المؤنث، أي: إن تري أَحَداً من البشر يسألك عن ولدك فَقُولِي إِنِّي أوجبت علي نفسي صوما أي: صمتا، يريد إمساكا عن الكلام، لأنّهم كانوا لا يتكلّمون في صيامهم، وقد نهى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عن صوم الصمت لأنّه نسخ في شريعته(3).

تَحْمِلُهُ حال من الضمير المرفوع في فَأَتَتْ أو من الهاء المجرور في بِهِ أو منهما جميعا.

شَيْئاً فَرِيًّا أي: عظيما بديعا أو أمرا قبيحا.

و هٰارُونَ كان أخاها من أبيها، وكان معروفا بحسن الطريقة، وقيل: هو أخو موسى عليه السلام، وكانت من ولده(4) كما يقال: يا أخا تميم أي: يا واحدا منهم، وقيل:

رجل صالح أو طالح في زمانها شبّهوها به(5)، أي: كنت عندنا مثله في الصلاح، أو

ص: 314


1- البقرة: 195.
2- المحاسن ج 2:535 عن الصادق عليه السلام.
3- من لا يحضره الفقيه ج 4:266، الاستذكار ج 6:190.
4- عن السدي. تفسير الطبري ج 16:59.
5- ينظر: الدر المنثور ج 4:270.

شبّهوها به في الفساد.

فَأَشٰارَتْ إِلَيْهِ فأومأت إلى عيسى بأن كلّموه.

مَنْ كٰانَ فِي اَلْمَهْدِ صَبِيًّا أي: من وجد صبيا في المهد.

أنطقه اللّه أوّلا بأنّه عَبْدُ اَللّٰهِ ردا لقول النصارى آتٰانِيَ اَلْكِتٰابَ يعني:

الإنجيل وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا أكمل اللّه عقله واستنبأه طفلا.

وَ جَعَلَنِي مُبٰارَكاً أي: نفاعا، معلما للخير حيث مٰا كُنْتُ وَ أَوْصٰانِي بِالصَّلاٰةِ وَ اَلزَّكٰاةِ كلفنيهما مٰا بقيت حَيًّا مكلفا.

وَ بَرًّا بِوٰالِدَتِي أي: بارا بوالدتي مؤديا شكرها وَ لَمْ يَجْعَلْنِي من الجبابرة الأشقياء.

وَ اَلسَّلاٰمُ عَلَيَّ أدخل لام التعريف لتعرفه بالذكر قبله، كقولك: جاءنا رجل فكان من فعل الرجل كذا، والمعنى: ذلك السلام الموجّه إلي يحيى في المواطن الثلاثة موجّه إليّ .

[سورة مريم (19): الآیات 34 الی 40]

ذٰلِكَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ اَلْحَقِّ اَلَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مٰا كٰانَ لِلّٰهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحٰانَهُ إِذٰا قَضىٰ أَمْراً فَإِنَّمٰا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَ إِنَّ اَللّٰهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هٰذٰا صِرٰاطٌ مُسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ اَلْأَحْزٰابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ أَسْمِعْ بِهِمْ وَ أَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنٰا لٰكِنِ اَلظّٰالِمُونَ اَلْيَوْمَ فِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ اَلْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ اَلْأَمْرُ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ وَ هُمْ لاٰ يُؤْمِنُونَ إِنّٰا نَحْنُ نَرِثُ اَلْأَرْضَ وَ مَنْ عَلَيْهٰا وَ إِلَيْنٰا يُرْجَعُونَ

أي: ذٰلِكَ الذي قال: إنّي عبد اللّه عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ ، لا ما يقوله

ص: 315

النصاري من: أنّه ابن اللّه، وأنّه إله.

قَوْلَ اَلْحَقِّ قرئ بالنصب والرفع، فالرفع على أنّه خبر مبتدأ محذوف، أو على أنّه خبر بعد خبر، أو بدل؛ والنصب على المدح إن فسّر ب - (كلمة اللّه)، وعلي أنّه مصدر مؤكد لمضمون الجملة إن أريد قول الصدق كقولك: هو عبد اللّه الحقّ لا الباطل، وإنّما قيل لعيسى عليه السلام: (كلمة اللّه) و قَوْلَ اَلْحَقِّ ، لأنّه لم يولد إلا بكلمة اللّه وحدها، وهي قوله: كُنْ من غير واسطة أب، تسمية للمسبب باسم السبب، كما سمّي الغيث بالسماء. أي: أمره حقّ يقين وهم فِيهِ يَمْتَرُونَ يشكّون، أو يتمارون يتلاحون. قالت اليهود: ساحر كذاب، و قالت النصارى: ابن اللّه وثالث ثلاثة.

مٰا كٰانَ لِلّٰهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ تكذيب للنصارى وتبكيت لهم بالدلالة علي انتفاء الولد عنه، وأنّه مما لا يتصور في العقول، وأنّ من المحال أن يكون ذاته كذات من ينشأ منه الولد.

ثمّ بيّن سُبْحٰانَهُ إحالته بأنّ من أراد شيئا من الأجناس كلها أوجده ب - كُنْ فهو منزّه من شبه الحيوان الوالد.

وقرئ: وَ إِنَّ اَللّٰهَ بفتح الهمزة وكسرها، فالفتح علي معنى: ولأنّه رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ، أو بأنّه أي: بسبب ذلك فاعبدوه، والكسر علي استئناف الكلام.

و اَلْأَحْزٰابُ : اليهود والنصاري، وقيل: النصاري، لأنّهم تفرّقوا ثلاث فرق: نسطورية، ويعقوبية، وملكائية(1).

وقال: مِنْ بَيْنِهِمْ لأنّ منهم من ثبت علي الحقّ .

ص: 316


1- عن قتادة. تفسير الطبري ج 16:65.

مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ : من شهودهم هول الحساب والجزاء في يوم القيامة، أو من مكان الشهود فيه وهو الموقف، أو من وقت الشهود، أو من شهادة ذلك اليوم عليهم، وأن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بسوء أعمالهم، أو من مكان الشهادة أو وقتها.

أَسْمِعْ بِهِمْ وَ أَبْصِرْ أي: ما أسمعهم وأبصرهم، ولا يوصف اللّه بالتعجب، والمراد: إنّ إسماعهم وإبصارهم يومئذ جدير بأن يتعجب منهما بعدما كانوا صما عميا في الدنيا.

لٰكِنِ اَلظّٰالِمُونَ وقع الظاهر موقع المضمر إيذانا بأن لا ظلم أعظم من ظلمهم حيث أغفلوا النظر والاستماع.

إِذْ قُضِيَ اَلْأَمْرُ فرغ من الحساب، وحكم بين الخلائق بالعدل، وتصادر الفريقان إلى الجنّة والنار. و إِذْ بدل من يَوْمَ اَلْحَسْرَةِ أو منصوب ب - اَلْحَسْرَةِ ، وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ يتعلّق بقوله: فِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ ، و أَنْذِرْهُمْ اعتراض، أو يتعلّق ب - أَنْذِرْهُمْ والمعنى: وأنذرهم علي هذه الحال غافلين غير مؤمنين.

إِنّٰا نَحْنُ نَرِثُ اَلْأَرْضَ وَ مَنْ عَلَيْهٰا أي: نميت سكانها، فلا يبقى فيها مالك ولا متصرّف.

[سورة مريم (19): الآیات 41 الی 45]

وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتٰابِ إِبْرٰاهِيمَ إِنَّهُ كٰانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا إِذْ قٰالَ لِأَبِيهِ يٰا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مٰا لاٰ يَسْمَعُ وَ لاٰ يُبْصِرُ وَ لاٰ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً يٰا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جٰاءَنِي مِنَ اَلْعِلْمِ مٰا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرٰاطاً سَوِيًّا يٰا أَبَتِ لاٰ تَعْبُدِ اَلشَّيْطٰانَ إِنَّ اَلشَّيْطٰانَ كٰانَ لِلرَّحْمٰنِ عَصِيًّا يٰا أَبَتِ إِنِّي أَخٰافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذٰابٌ مِنَ اَلرَّحْمٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطٰانِ

ص: 317

[سورة مريم (19): الآیات 45 الی 50]

وَلِيًّا قٰالَ أَ رٰاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يٰا إِبْرٰاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اُهْجُرْنِي مَلِيًّا قٰالَ سَلاٰمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كٰانَ بِي حَفِيًّا وَ أَعْتَزِلُكُمْ وَ مٰا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ وَ أَدْعُوا رَبِّي عَسىٰ أَلاّٰ أَكُونَ بِدُعٰاءِ رَبِّي شَقِيًّا فَلَمَّا اِعْتَزَلَهُمْ وَ مٰا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ وَهَبْنٰا لَهُ إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ كُلاًّ جَعَلْنٰا نَبِيًّا وَ وَهَبْنٰا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنٰا وَ جَعَلْنٰا لَهُمْ لِسٰانَ صِدْقٍ عَلِيًّا

فِي اَلْكِتٰابِ في القرآن، والصدّيق: من أبنية المبالغة، أي: المبالغ في الصدق وكثير التصديق لكتب اللّه وأنبيائه، وكان نَبِيًّا في نفسه.

و إِذْ قٰالَ بدل من إِبْرٰاهِيمُ وما بينهما اعتراض، أو يتعلّق ب - كٰانَ أي: كان جامعا لخصائص الصدّيقين والأنبياء حين خاطب أباه تلك المخاطبات في أحسن ترتيب، فطلب منه العلة أوّلا في عبادته مٰا لاٰ يَسْمَعُ وَ لاٰ يُبْصِرُ مع أن العبادة لا يستحقّها إلا المنعم الذي له غاية الإنعام، وهو اللّه الخالق الرازق الذي منه أصول النعم.

ثمّ دعاه إلى اتباعه بأن قال: قَدْ جٰاءَنِي مِنَ اَلْعِلْمِ باللّه والمعرفة به مٰا لَمْ يَأْتِكَ ، ثمّ نهاه عن عبادة اَلشَّيْطٰانَ وطاعته فيما يدعوه إليه، وذكر عصيان الشيطان للرحمن واستكباره، ثمّ خوّفه سوء العاقبة لما هو فيه.

وصدّر كل نصيحة من هذه النصائح بقوله: يٰا أَبَتِ استعطافا له، والتاء في يٰا أَبَتِ عوض من ياء الإضافة، فلا يقال: يا أبتي. و قرئ: يا أبت - بفتح التاء -.

ص: 318

و مٰا في مٰا لاٰ يَسْمَعُ و مٰا لَمْ يَأْتِكَ يجوز أن تكون موصولة وموصوفة، والمفعول في لاٰ يَسْمَعُ و وَ لاٰ يُبْصِرُ غير منوي، والمراد: ما ليس به استماع ولا إبصار، و شَيْئاً في موضع المصدر، أي: شيئا من الغناء، أو مفعول به من قولهم: أغن عني وجهك، أي: أبعد عني.

أَ رٰاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي أي: أمعرض أنت عن عبادة آلهتي التي هي الأصنام، وزاهد فيها؟ لَئِنْ لَمْ تمتنع عن هذا لَأَرْجُمَنَّكَ أي: لأرمينّك بلساني، يريد الشتم والذم، ومنه الرجيم: المرمي باللعن؛ أو لأقتلنّك من رجم الزاني؛ أو لأطردنّك رميا بالحجارة. وأصل الرجم: الرمي بالرجام.

مَلِيًّا أي: زمانا طويلا، من الملاوة. وعطف وَ اُهْجُرْنِي علي محذوف، أي: لأرجمنّك فاحذرني واهجرني.

سَلاٰمٌ عَلَيْكَ سلام توديع ومتاركة ومباعدة منه، كقوله: وَ إِذٰا خٰاطَبَهُمُ اَلْجٰاهِلُونَ قٰالُوا سَلاٰماً (1). ويجوز أن يكون دعاء له بالسلامة استمالة، ويدلّ عليه أنّه وعده الاستغفار. والحفيّ : البليغ في البر والألطاف، يقال: حفي به وتحفي به.

وَ أَعْتَزِلُكُمْ أي: وأتنحى منكم جانبا، أراد مهاجرته إلي الشام.

وَ أَدْعُوا رَبِّي أي: أعبده، ومنه قوله عليه السلام: (الدعاء هو العبادة)(2)، ويجوز أن يريد بالدعاء ما حكاه اللّه في سورة الشعراء(3)، وقوله: عَسىٰ أَلاّٰ أَكُونَ بِدُعٰاءِ رَبِّي شَقِيًّا فيه تعريض لشقاوتهم بدعاء آلهتهم مع التواضع للّه عزّ اسمه في كلمة عَسىٰ .

ص: 319


1- الفرقان: 63.
2- الكافي ج 2:467، مسند أحمد ج 4:267.
3- الآيات 83-89.

ولما فارقهم وتركهم وهب اللّه سبحانه لَهُ أولادا أنبياء، وأراد بالرحمة:

النبوّة، وعن الحسن: (المال والبنون)(1)، وهي عامة في كل خير ديني ودنيوي أوتوه، ولسان الصدق: الثناء الحسن، وعبّر باللسان عما يوجد باللسان، كما يعبّر باليد عما يطلق باليد وهي العطية، قال:

إنّي أتتني لسان لا أسرّ بها(2)

أي: رسالة، ولسان العرب: لغتهم وكلامهم.

عَلِيًّا أي: مرتفعا، فكل أهل الأديان يتولونه ويثنون عليه وعلي ذريته، وقيل: معناه: أعلينا ذكرهم بأنّ محمّدا وأمته يذكرونهم بالجميل، ويصلّون عليهم إلى يوم القيامة.

[سورة مريم (19): الآیات 51 الی 58]

وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتٰابِ مُوسىٰ إِنَّهُ كٰانَ مُخْلَصاً وَ كٰانَ رَسُولاً نَبِيًّا وَ نٰادَيْنٰاهُ مِنْ جٰانِبِ اَلطُّورِ اَلْأَيْمَنِ وَ قَرَّبْنٰاهُ نَجِيًّا وَ وَهَبْنٰا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنٰا أَخٰاهُ هٰارُونَ نَبِيًّا وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتٰابِ إِسْمٰاعِيلَ إِنَّهُ كٰانَ صٰادِقَ اَلْوَعْدِ وَ كٰانَ رَسُولاً نَبِيًّا وَ كٰانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاٰةِ وَ اَلزَّكٰاةِ وَ كٰانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتٰابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كٰانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وَ رَفَعْنٰاهُ مَكٰاناً عَلِيًّا أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللّٰهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَ مِمَّنْ حَمَلْنٰا مَعَ نُوحٍ وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرٰاهِيمَ وَ إِسْرٰائِيلَ وَ مِمَّنْ هَدَيْنٰا وَ اِجْتَبَيْنٰا إِذٰا تُتْلىٰ عَلَيْهِمْ آيٰاتُ اَلرَّحْمٰنِ خَرُّوا سُجَّداً وَ بُكِيًّا

قرئ: مُخْلَصاً بفتح اللام وكسرها، ومعناه بالكسر: إنّه أخلص العبادة

ص: 320


1- الكشف والبيان ج 6:218 عن الكلبي.
2- البيت لأعشى باهلة. ملحق ديوان الأعشى: 266، وبقيته: من علو لا عجب منها ولا سخر.

عن الشرك والرياء، وأخلص نفسه وأسلم وجهه للّه، وبالفتح: إنّه الذي أخلصه اللّه. والرسول: من الأنبياء الذي معه كتاب، والنبيّ : الذي ينبئ عن اللّه وإن لم يكن معه كتاب.

و اَلْأَيْمَنِ من اليمين، أي: من ناحية اَلطُّورِ اليمنى، أو من اليمن فيكون صفة ل - اَلطُّورِ ، وَ قَرَّبْنٰاهُ حيث كلّمناه بغير واسطة ملك ورفعنا منزلته.

نَجِيًّا أي: مناجيا كليما.

مِنْ رَحْمَتِنٰا أي: من أجل رحمتنا له وَهَبْنٰا لَهُ هارون.

صٰادِقَ اَلْوَعْدِ إذا وعد بشيء وفى به، وذكر بصدق الوعد و إن كان غيره من الأنبياء كذلك، تشريفا له وإكراما، أو لأنّه المشهور من خصاله، وناهيك أنّه وعد من نفسه الصبر علي الذبح حيث قال: سَتَجِدُنِي إِنْ شٰاءَ اَللّٰهُ مِنَ اَلصّٰابِرِينَ (1)

فوفى، وعن ابن عباس: (إنّه واعد رجلا أن ينتظره في مكان ونسي الرجل فانتظره سنة)(2).

وَ كٰانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ وقومه بِالصَّلاٰةِ والعبادة ليجعلهم قدوة لمن وراءهم، ولأنّهم أولى بذلك من سائر الناس، وهو كقوله: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ (3)، قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ (4)، وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاٰةِ (5).

قيل: سمّي إِدْرِيسَ لكثرة دراسته كتاب اللّه. وفيه نظر، لأنّ الاسم

ص: 321


1- الصافات: 102.
2- تفسير الماوردي ج 3:376.
3- الشعراء: 214.
4- التحريم: 6.
5- طه: 132.

أعجمي، ولذلك امتنع من الصرف، ولو كان إفعيلا من الدرس لم يكن فيه إلا سبب واحد وهو العلمية فكان يجب أن ينصرف.

والمكان العليّ : شرف النبوّة والقربة من اللّه، وقد أنزل اللّه تعالى عليه ثلاثين صحيفة، وهو أوّل من خاط الثياب ولبسها وكانوا يلبسون الجلود، وهو أوّل من خطّ بالقلم ونظر في علم النجوم والحساب، وقيل: لأنّه رفع إلي السماء الرابعة(1)

أو السادسة(2).

أُولٰئِكَ إشارة إلى المذكورين في السورة من زكريا إلى إدريس عليهما السلام.

و مِنَ في مِنَ اَلنَّبِيِّينَ للبيان، لأنّ جميع الأنبياء منعم عليهم، و مِنَ الثانية للتبعيض. والبكي: جمع باك، كالسجود والقعود في جمع ساجد وقاعد.

[سورة مريم (19): الآیات 59 الی 65]

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضٰاعُوا اَلصَّلاٰةَ وَ اِتَّبَعُوا اَلشَّهَوٰاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلاّٰ مَنْ تٰابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صٰالِحاً فَأُولٰئِكَ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ وَ لاٰ يُظْلَمُونَ شَيْئاً جَنّٰاتِ عَدْنٍ اَلَّتِي وَعَدَ اَلرَّحْمٰنُ عِبٰادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كٰانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا لاٰ يَسْمَعُونَ فِيهٰا لَغْواً إِلاّٰ سَلاٰماً وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهٰا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا تِلْكَ اَلْجَنَّةُ اَلَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبٰادِنٰا مَنْ كٰانَ تَقِيًّا وَ مٰا نَتَنَزَّلُ إِلاّٰ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مٰا بَيْنَ أَيْدِينٰا وَ مٰا خَلْفَنٰا وَ مٰا بَيْنَ ذٰلِكَ وَ مٰا كٰانَ رَبُّكَ نَسِيًّا رَبُّ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا فَاعْبُدْهُ وَ اِصْطَبِرْ لِعِبٰادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا

يقال: خلفه: إذا عقبه، ثمّ يقال في عقب الخير: خلف - بالفتح - وفي عقب السوء خلف - بالسكون - كما قيل: وعد في ضمان الخير ووعيد في ضمان الشرّ، وعن

ص: 322


1- عن أبي سعيد الخدري. تفسير الطبري ج 16:73.
2- عن ابن عباس. تفسير الطبري ج 16:72.

ابن عباس: (هم اليهود)(1)، وقيل: أَضٰاعُوا اَلصَّلاٰةَ بتأخيرها عن أوقاتها(2).

وَ اِتَّبَعُوا اَلشَّهَوٰاتِ رووا عن عليّ عليه السلام: (من بني الشديد، وركب المنظور، ولبس المشهور)(3). وكل شرّ عند العرب غيّ ، وكل خير رشاد، قال:

فمن يلق خيرا يحمد النّاس أمره *** ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما(4)

وقيل: يريد جزاء غيّ (5)، كقوله: يَلْقَ أَثٰاماً (6) أي: مجازاة أثام، أو غَيًّا عن طريق الجنّة، وقيل: غيّ : واد في جهنم(7).

لاٰ يُظْلَمُونَ أي: لا ينقصون شَيْئاً من جزاء أعمالهم ولا يمنعونه.

جَنّٰاتِ عَدْنٍ بدل من اَلْجَنَّةَ ، لأنّ اَلْجَنَّةَ اشتملت عليها. قيل: إنّ المأتي مفعول بمعنى فاعل، والوجه: أنّ الوعد هو الجنّة وهم يأتونها، أو هو من قولك: أتى إليه إحسانا، فمعناه: كٰانَ وَعْدُهُ مفعولا منجزا.

لَغْواً أي: فضول كلام لا طائل فيه، وهو تنبيه علي وجوب تجنب اللغو حيث نزّه اللّه عنه الدار التي لا تكليف فيها إِلاّٰ تسليم بعضهم علي بعض أو تسليم الملائكة عليهم، أي: فإن كان ذلك لغوا ف - لاٰ يَسْمَعُونَ إلا ذلك، فيكون من قبيل قول الشاعر:

ص: 323


1- الكشاف ج 3:26.
2- عن ابن مسعود وغيره. تفسير الطبري ج 16:74.
3- الكشف والبيان ج 6:221.
4- البيت للمرقش الأصغر. الشعر والشعراء ج 1:215، وفيه: ومن يلق....
5- معاني القرآن وإعرابه ج 3:336.
6- الفرقان: 68.
7- عن ابن عباس مرفوعا. الدر المنثور ج 4:278.

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم *** بهنّ فلول من قراع الكتائب(1)

كانت العرب تكره الوجبة، وهي الأكلة الواحدة في اليوم الواحد، فأخبر سبحانه أنّ لَهُمْ في الجنّة رِزْقُهُمْ فِيهٰا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا وهي العادة المحمودة، ولا يكون ثمّ ليل ولا نهار ولكن علي التقدير.

وقرئ: نُورِثُ بالتشديد، والمعنى: يبقي عليه الجنّة كما يبقى علي الوارث مال الموروث، وقيل: أورثوا من الجنّة المساكن التي كانت لأهل النار لو أطاعوا(2).

وَ مٰا نَتَنَزَّلُ حكاية قول جبرئيل عليه السلام حين استبطأه رسول اللّه، والتنزّل له معنيان: أحدهما: النزول علي مهل، والآخر: النزول علي الإطلاق. والمراد هنا:

أنّ نزولنا وقتا بعد وقت ليس إِلاّٰ بِأَمْرِ اللّه لَهُ مٰا قدامنا وَ مٰا خَلْفَنٰا من الجهات والأماكن وما نحن فيها، فلا ننتقل من جهة إلي جهة إلا بأمره ومشيئته، وقيل: ما مضى من أعمارنا وما بقي منها والحال التي نحن فيها، وقيل: ما مضى من أمر الدنيا وما يستقبل من أمر الآخرة(3).

وَ مٰا بَيْنَ ذٰلِكَ ما بين النفختين وهو أربعون سنة. وقيل: الأرض التي بين أيدينا إذا نزلنا والسماء التي وراءنا وما بين السماء والأرض(4).

وَ مٰا كٰانَ رَبُّكَ نَسِيًّا أي: تاركا لك يا محمّد، كقوله: مٰا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ مٰا قَلىٰ (5)، وقيل: وما كان ربّك ناسيا لأعمال العاملين.

ص: 324


1- ديوان النابغة الذبياني: 11.
2- عن ابن شودب. الدر المنثور ج 4:278.
3- عن الربيع وغيره. تفسير الطبري ج 16:78.
4- الكشف والبيان ج 6:223.
5- الضحى: 3.

وكيف يجوز النسيان والغفلة علي من له ملك اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا فحين عرفته بهذه الصفة فَاعْبُدْهُ وحده وَ اِصْطَبِرْ لمشاق عبادته هل تعلم له سميا أي: مثلا وشبيها، أي: إذا صحّ أن لا معبود إلا هو وحده لم يكن بد من عبادته. وعن ابن عباس: (لا يسمّى أحد الرحمن غيره)(1)، وقيل: لم يسمّ شيء باللّه قط(2).

[سورة مريم (19): الآیات 66 الی 74]

وَ يَقُولُ اَلْإِنْسٰانُ أَ إِذٰا مٰا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَ وَ لاٰ يَذْكُرُ اَلْإِنْسٰانُ أَنّٰا خَلَقْنٰاهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ اَلشَّيٰاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى اَلرَّحْمٰنِ عِتِيًّا ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلىٰ بِهٰا صِلِيًّا وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاّٰ وٰارِدُهٰا كٰانَ عَلىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ نَذَرُ اَلظّٰالِمِينَ فِيهٰا جِثِيًّا وَ إِذٰا تُتْلىٰ عَلَيْهِمْ آيٰاتُنٰا بَيِّنٰاتٍ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ اَلْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقٰاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا وَ كَمْ أَهْلَكْنٰا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثٰاثاً وَ رِءْياً

يجوز أن يكون المراد ب - اَلْإِنْسٰانُ الجنس بأسره، لما كانت هذه المقالة موجودة في جنسهم أسندت إلى جميعهم، وأن يكون بعض الجنس وهم الكفرة. وانتصب إِذٰا بفعل مضمر يدلّ عليه لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا ، لأنّ ما بعد لام الابتداء لا يعمل فيما قبله، ودخلت مٰا للتوكيد، كأنّهم قالوا: أحقّا أنّا سنخرج أحياء بعد الموت ؟!. والواو عطفت لاٰ يَذْكُرُ علي يَقُولُ ، والمعنى: أيقول ذلك ولا

ص: 325


1- الدر المنثور ج 4:279.
2- عن الكلبي. معالم التنزيل ج 3:9.

يتذكر حال النشأة الأولى حتى لا ينكر النشأة الأخرى، فإنّ تلك أعجب وأدلّ علي قدرة الصانع، إذ أخرج الجواهر من العدم إلى الوجود علي غير مثال سبق من غيره.

وأما الثانية فقد تقدّمت نظيرتها وليس فيها إلا ردّها علي ما كانت عليه مجموعة بعد التفريق، وقوله: وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً دليل علي هذا المعنى. و قرئ: أَ وَ لاٰ يَذْكُرُ بالتخفيف.

مِنْ قَبْلُ أي: من قبل الحالة التي هو فيها وهي حالة بقائه.

أقسم سبحانه باسمه مضافا إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، تفخيما لشأنه ورفعا لقدره، ويجوز أن تكون الواو في وَ اَلشَّيٰاطِينَ للعطف، وأن تكون بمعنى مع، أي:

يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أضلوهم، يقرن كل كافر مع شيطان في سلسلة ثُمَّ يحضرون حَوْلَ جَهَنَّمَ متجاثين مستوفزين علي الركب، متخاصمين يتبرأ بعضهم من بعض، ومثله: وَ تَرىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جٰاثِيَةً (1).

والشيعة هنا هي الطائفة التي شاعت، أي: تبعت غاويا من الغواة، والمعنى:

نستخرج مِنْ كُلِّ طائفة من طوائف الغي والضلال أعتاهم وأعصاهم، فإذا اجتمعوا طرحناهم في النار علي الترتيب، نقدّم أولاهم بالعذاب فأولاهم، ويجوز أن يريد بأشدّهم عِتِيًّا : رؤساء الشيع و أئمتهم لتضاعف جرمهم، فإنّهم ضلّال ومضلّون، كقوله: وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقٰالَهُمْ وَ أَثْقٰالاً مَعَ أَثْقٰالِهِمْ (2).

واختلف في إعراب أَيُّهُمْ أَشَدُّ فقال الخليل(3): (إنّه مرفوع علي الحكاية،

ص: 326


1- الجاثية: 28.
2- العنكبوت: 13.
3- الخليل بن أحمد بن عمرو الفراهيدي البصري، صاحب العربية والعروض، له كتاب العين المشهور، توفي سنة 175 ه - على قول. ينظر: بغية الوعاة ج 1:557.

والتقدير: لننزعنّ الذين يقال فيهم أيّهم أشدّ)(1)، وقال سيبويه: (هو مبني علي الضم لسقوط صدر الجملة التي هي صلة أَيُّهُمْ ، وأصله: لننزعنّ من كل شيعة أيّهم هو أشدّ منصوبا)(2).

وَ إِنْ مِنْكُمْ التفات إلي الإنسان، ويعضده قراءة ابن عباس: منهم. أو خطاب للناس من غير التفات إلي المذكور، فإن أريد الجنس كله فمعنى الورود:

دخولهم فيها وهي خامدة فيعبرها المؤمنون وتنهار النار بغيرهم، وعن ابن مسعود والحسن: (هو الجواز علي الصراط، لأنّ الصراط ممدود عليها)(3)، وعن ابن عباس: (قد يرد الشيء الشيء وإن لم يدخله، كقوله: وَ لَمّٰا وَرَدَ مٰاءَ مَدْيَنَ (4)، ووردت القافلة البلد وإن لم تدخله)(5)، وعن مجاهد: ورود المؤمن النار هو مس الحمى جسده في الدنيا(6)، لقوله عليه السلام: (الحمى من فيح جهنم)(7)، و (الحمى حظ كل مؤمن من النار)(8).

وإن أريد الكفار خاصة فالمعنى ظاهر.

والحتم مصدر حتم الأمر: إذا أوجبه فسمّي به الموجب، أي: وكان ورودهم واجبا علي اللّه، أوجبه علي نفسه وقضى به.

ص: 327


1- الكتاب ج 2:399.
2- الكتاب ج 2:399.
3- الدر المنثور ج 4:281.
4- القصص: 23.
5- الكشاف ج 3:34.
6- تفسير الطبري ج 16:83.
7- صحيح البخاري ج 4:14، المجازات النبوية: 422 باختلاف.
8- مسند الشهاب ج 1:72، الكافي ج 3:112.

وقرئ: نُنَجِّي و ننجي - بالتشديد والتخفيف -. جِثِيًّا حال، وهو جمع جاث.

بَيِّنٰاتٍ ظاهرات الحجج، مبيّنات المقاصد، وهي حال مؤكدة، كقوله تعالي: وَ هُوَ اَلْحَقُّ مُصَدِّقاً (1).

وقرئ: مقاما - بالضم - وهو موضع الإقامة، و قرئ بالفتح وهو موضع القيام.

والندي: المجلس وحيث ينتدي القوم، والمعنى: إنّهم إذا سمعوا الآيات قالوا: أَيُّ اَلْفَرِيقَيْنِ من المؤمنين بها والجاحدين لها أوفر حظا من الدنيا.

و كَمْ مفعول أَهْلَكْنٰا ، و مِنْ تبيين لإبهامها، أي: كثيرا من القرون أهلكنا، و هُمْ أَحْسَنُ في موضع نصب صفة ل - كَمْ .

والأثاث: متاع البيت. وقرئ: وَ رِءْياً بالهمزة وغير الهمزة وهو فعل بمعنى مفعول من رأيت، ومن لم يهمز قلب الهمزة ياء وأدغم، ويجوز أن يكون من الريّ الذي هو النعمة والترفه، من قولهم: ريّان من النعم.

[سورة مريم (19): الآیات 75 الی 80]

قُلْ مَنْ كٰانَ فِي اَلضَّلاٰلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ اَلرَّحْمٰنُ مَدًّا حَتّٰى إِذٰا رَأَوْا مٰا يُوعَدُونَ إِمَّا اَلْعَذٰابَ وَ إِمَّا اَلسّٰاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكٰاناً وَ أَضْعَفُ جُنْداً وَ يَزِيدُ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ اِهْتَدَوْا هُدىً وَ اَلْبٰاقِيٰاتُ اَلصّٰالِحٰاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوٰاباً وَ خَيْرٌ مَرَدًّا أَ فَرَأَيْتَ اَلَّذِي كَفَرَ بِآيٰاتِنٰا وَ قٰالَ لَأُوتَيَنَّ مٰالاً وَ وَلَداً أَطَّلَعَ اَلْغَيْبَ أَمِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمٰنِ عَهْداً كَلاّٰ سَنَكْتُبُ مٰا يَقُولُ وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ اَلْعَذٰابِ مَدًّا وَ نَرِثُهُ مٰا يَقُولُ وَ يَأْتِينٰا فَرْداً

ص: 328


1- البقرة: 91.

المعنى: مدّ لَهُ اَلرَّحْمٰنُ أي: أمهله وأملى له في العمر، فأتى به علي لفظ الأمر ليعلم بذلك أنّه حتم مفعول لا محالة كالمأمور به، ليقطع عذر الضال إذ عمّره ما يمكنه التذكر فيه، أو يكون في معنى الدعاء بأن يمهله اللّه، أو بمعنى: فليعش ما شاء فإنّه لا ينفعه طول عمره.

حَتّٰى إِذٰا رَأَوْا الموعود رأي العين: إِمَّا اَلْعَذٰابَ في الدنيا وهو ظفر المسلمين بهم وتعذيبهم إيّاهم قتلا وأسرا وَ إِمَّا اَلسّٰاعَةَ أي: يوم القيامة، وما ينالهم من النكال، فحينئذ يعلمون أنّ الأمر على عكس ما قدروه، وأنّهم شَرٌّ مَكٰاناً وَ أَضْعَفُ جُنْداً لا خَيْرٌ مَقٰاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا كما قالوه.

و حَتّٰى هذه هي التي تحكى بعدها الجمل، والجملة هي قوله: إِذٰا رَأَوْا مٰا يُوعَدُونَ ... فَسَيَعْلَمُونَ . والندي: المجلس الجامع لوجوه القوم.

وَ يَزِيدُ معطوف علي موضع فَلْيَمْدُدْ ، والمعنى: يزيد في ضلال الضلال بخذلانه، ويزيد في هداية المهتدين بتوفيقه.

وَ اَلْبٰاقِيٰاتُ اَلصّٰالِحٰاتُ و هي أعمال الآخرة كلها خَيْرٌ ثوابا من مفاخرات الكفار وَ خَيْرٌ مرجعا و عاقبة أو خير منفعة، من قولهم: ليس لهذا الأمر مرد وهو أرد عليك أي: أنفع، قال:

ولا يردّ بكاي زندا(1)

ولما كانت رؤية الشيء طريقا إلى علمه وصحّة الخبر عنه، استعملوا أرأيت في معنى أخبر، والفاء جاءت للتعقيب، فكأنّه قال: أخبر أيضا بقصّة هذا الكافر عقيب حديث أولئك وهو العاص بن وائل: كان لخباب بن الأرت عليه دين

ص: 329


1- شعر عمرو بن معديكرب الزبيدي: 65 وصدره: ما إن جزعت ولا هلعت

فتقاضاه، فقال: لا واللّه حتى تكفر بمحمّد، فقال: لا والله لا أكفر بمحمّد حيا ولا ميتا، ولا حين تبعث. قال: فإنّي لمبعوث ؟! فإذا بعثت سيكون لي مال وولد فأعطيك(1).

أَطَّلَعَ اَلْغَيْبَ من قولهم: اطّلع الجبل: إذا ارتقى إلى أعلاه، والمعنى: أو قد بلغ من عظمة قدره أن ارتقى إلى علم الغيب حتى علم أنّا سنؤتيه مالا وولدا أَمِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اللّه عَهْداً ؟ فإنّ ما ادعاه لا يتوصل إليه إلا بأحد هذين الطريقين.

وقرئ: ولدا وهو جمع ولد.

كَلاّٰ ردع وتنبيه علي الخطأ، أي: هو مخطئ فيما تصوره لنفسه وتمناه، فليرتدع عنه.

وَ نَرِثُهُ مٰا يَقُولُ أي: ما عنده من المال والولد بإهلاكنا إيّاه.

وَ يَأْتِينٰا فَرْداً وحيدا بلا مال ولا ولد ولا عدّة ولا عدد.

[سورة مريم (19): الآیات 81 الی 91]

وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اَللّٰهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلاّٰ سَيَكْفُرُونَ بِعِبٰادَتِهِمْ وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا أَ لَمْ تَرَ أَنّٰا أَرْسَلْنَا اَلشَّيٰاطِينَ عَلَى اَلْكٰافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا فَلاٰ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمٰا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا يَوْمَ نَحْشُرُ اَلْمُتَّقِينَ إِلَى اَلرَّحْمٰنِ وَفْداً وَ نَسُوقُ اَلْمُجْرِمِينَ إِلىٰ جَهَنَّمَ وِرْداً لاٰ يَمْلِكُونَ اَلشَّفٰاعَةَ إِلاّٰ مَنِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمٰنِ عَهْداً وَ قٰالُوا اِتَّخَذَ اَلرَّحْمٰنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكٰادُ اَلسَّمٰاوٰاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ اَلْأَرْضُ وَ تَخِرُّ اَلْجِبٰالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمٰنِ وَلَداً

أي: ليتعزّزوا بآلهتهم بأن يكونوا لهم شفعاء في الآخرة.

ص: 330


1- أسباب النزول: 212.

كَلاّٰ ردع لهم وإنكار لتعزّزهم بهم سَيَكْفُرُونَ الضمير للآلهة أي:

سيجحدون عبادتهم وينكرونها ويقولون: واللّه ما عبدتمونا، كقوله: وَ إِذٰا رَأَى اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكٰاءَهُمْ قٰالُوا رَبَّنٰا هٰؤُلاٰءِ شُرَكٰاؤُنَا اَلَّذِينَ كُنّٰا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ اَلْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكٰاذِبُونَ (1)، أو للمشركين، أي: ينكرون أن يكونوا عبدوها كما في قوله: وَ اَللّٰهِ رَبِّنٰا مٰا كُنّٰا مُشْرِكِينَ (2).

وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا هو في مقابلة لَهُمْ عِزًّا والمراد: ضد العزّ وهو الذل والهوان، أي: يكونون عليهم ضدا لما قصدوه وذلا لهم لا عزّا، أو يكونون عليهم عونا، والضد: العون، لأنه يضاده بإعانته عليه، و إنّما وحّد لأنّهم كشيء واحد في تضامهم وتوافقهم، كقوله عليه السلام: (وهم يد على من سواهم)(3).

تَؤُزُّهُمْ أَزًّا أي: تزعجهم إزعاجا من الطاعة إلى المعصية، وتهيجهم وتغريهم لها بالوساوس، والمعنى: خلينا بينهم وبينهم ولم نمنعهم ولم نحل بينهم وبينهم با لإلجاء.

فَلاٰ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ بأن يهلكوا ويبيدوا حتى تستريح منهم، فليس بينك وبين هلاكهم إلا أيّاما معدودة قليلة. وعن ابن عباس: أنّه كان إذا قرأها بكى وقال: (آخر العدد خروج نفسك، آخر العدد فراق أهلك، آخر العدد دخول قبرك)(4). وعن ابن السماك(5): (إذا كانت الأنفاس بالعدد، ولم يكن لها مدد، فما

ص: 331


1- النحل: 86.
2- الأنعام: 23.
3- أمالي المفيد: 187، سنن النسائي ج 8:19.
4- الكشاف ج 3:42.
5- أبو عمرو عثمان بن أحمد الدقاق (ابن السماك) من أهل بغداد، كان مكثرا من الحديث ويقال له الباز الأشهب، مات في ربيع الآخر سنة 344 ه - ببغداد ودفن بمقبرة باب الدير. ينظر: الأنساب ج 3:290.

أسرع ما تنفد)(1).

ذكر اَلْمُتَّقِينَ بلفظ التبجيل، وهو أنّهم يجمعون إلي ربّهم الذي غمرهم برحمته كما يفد الوفاد علي الملوك ينتظرون فضله وإكرامه، وذكر الكافرين بأنّهم يساقون إلى النار باستخفاف وإهانة كأنّهم إبل عطاش تساق إلي الماء.

لاٰ يَمْلِكُونَ الواو ضمير العباد، ودلّ عليه ذكر اَلْمُتَّقِينَ و اَلْمُجْرِمِينَ .

و مَنِ اِتَّخَذَ بدل، ويجوز أن تكون علامة الجمع علي لغة من قال: أكلوني البراغيث، والفاعل مَنِ اِتَّخَذَ لأنّه في معنى الجمع، وإن نصبت مَنِ اِتَّخَذَ علي تقدير حذف المضاف جاز، أي: إِلاّٰ شفاعة من اتخذ، والمراد: لا يملكون أن يشفع لهم، واتخاذ العهد هو الاستظهار بالإيمان والإقرار بوحدانية اللّه وتصديق أنبيائه وأوليائه. وقيل: إنّ المعنى: لا يشفع إلا من أطلق الرحمن له الشفاعة وأذن له فيه كالأنبياء والأئمّة وخيار المؤمنين. وعن ابن مسعود: إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال لأصحابه ذات يوم: (أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند اللّه عهدا؟ قالوا:

وكيف ذلك ؟ قال: يقول: اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، إنّي أعهد إليك بأنّي أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأنّ محمّدا عبدك ورسولك، و إنّك إن تكلني إلى نفسي تقرّبني من الشرّ وتباعدني من الخير، وإنّي لا أثق إلا برحمتك، فاجعل لي عندك عهدا توفينيه يوم القيامة، إنّك لا تخلف الميعاد.

فإذا قال ذلك طبع عليه بطابع ووضع تحت العرش، فإذا كان يوم القيامة نادي مناد: أين الذين لهم عند الرحمن عهد فيدخلون الجنّة)(2).

والإد: العظيم المنكر، وقيل: العجب.

ص: 332


1- الكشف والبيان ج 6:230.
2- الكشف والبيان ج 6:231.

و قرئ: تَكٰادُ بالياء والتاء، و قرئ: ينفطرن من الانفطار، و يَتَفَطَّرْنَ .

و هَدًّا أي: مهدودة، أو تهدّ هدّا، أو مفعول له أي: لأنّها تهدّ.

و أَنْ دَعَوْا يجوز أن يكون مجرورا بدلا من الهاء في مِنْهُ ؛ ومنصوبا بتقدير سقوط اللام وإفضاء الفعل أي: لأن دعوا، فيكون قد علل الخرور بالهدّ، والهدّ بدعاء الولد للرحمن؛ ومرفوعا بأنّه فاعل هَدًّا أي: تَخِرُّ لأنّ هدّها دعاء الولد للرحمن.

[سورة مريم (19): الآیات 92 الی 98]

وَ مٰا يَنْبَغِي لِلرَّحْمٰنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ إِلاّٰ آتِي اَلرَّحْمٰنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصٰاهُمْ وَ عَدَّهُمْ عَدًّا وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ فَرْداً إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ اَلرَّحْمٰنُ وُدًّا فَإِنَّمٰا يَسَّرْنٰاهُ بِلِسٰانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ اَلْمُتَّقِينَ وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا وَ كَمْ أَهْلَكْنٰا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً

انبغى مطاوع بغى: إذا طلب، أي: مٰا يتأتى للّه اتخاذ الولد، وما ينطلب له لو طلب مثلا لأنّه مستحيل.

لَقَدْ أَحْصٰاهُمْ أي: حصرهم بعلمه، والمعنى: ما من معبود لهم في السماوات والأرض من الملائكة ومن الناس إِلاّٰ وهو يأتي اَلرَّحْمٰنِ أي:

يأوي إليه عَبْداً منقادا لا يدعي لنفسه ما يدعيه هؤلاء له.

وَ كُلُّهُمْ مقهورون، متقلبون في ملكوته، وهو محيط بهم وبجمل أمورهم وتفاصيلها وكيفيتهم وكميتهم لا يفوته شيء من أحوالهم، وكل واحد منهم يأتيه

ص: 333

يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ منفردا، بريئا من هؤلاء المشركين.

وُدًّا عن ابن عباس: (يعني يحبّهم اللّه ويحبّبهم إلي خلقه)(1)، وروي عن الباقر عليه السلام وجابر بن عبد اللّه: إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال لعليّ عليه السلام: (قل: اللهم اجعل لي عندك عهدا، واجعل لي في قلوب المؤمنين ودّا، فقالهما، فنزلت)(2). وعن قتادة:

(ما أقبل العبد إلي اللّه تعالى إلا أقبل اللّه بقلوب العباد إليه)(3).

بلّغ هذا القرآن وبشّر به وأنذر فَإِنَّمٰا أنزلناه بِلِسٰانِكَ أي: بلغتك وهو اللسان العربي، و يَسَّرْنٰاهُ لك لتبشّر وتنذر. واللد: جمع الألد وهو الشديد الخصومة بالباطل، الآخذ في كل لديد أي: كل جانب من الجدال، يريد أهل مكة.

وَ كَمْ أَهْلَكْنٰا تخويف لهم، و تُحِسُّ من أحسّه: إذا شعر به، ومنه الحاسّة.

والركز: الصوت الخفي، أي: لا يري لهم عين ولا يسمع لهم صوت، وكانوا أكثر أموالا وأكبر أجساما وأشدّ خصاما من هؤلاء، فحكم هؤلاء حكمهم.

ص: 334


1- تفسير الطبري ج 16:100.
2- شواهد التنزيل ج 1:359. الكشف والبيان ج 6:233.
3- تفسير الطبري ج 16:100.

سورة طه

اشارة

مكية، وهي مائة وخمس وثلاثون آية كوفي، اثنتان بصري، عدّ الكوفي:

طه ، نُسَبِّحَكَ كَثِيراً ، وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً ، لِنَفْسِي ، مٰا غَشِيَهُمْ ، رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ، وعدّ البصري: فُتُوناً ، مِنِّي هُدىً ، زَهْرَةَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا .

في حديث أبيّ : (من قرأها أعطي يوم القيامة ثواب المهاجرين والأنصار)(1)، وعن الصادق عليه السلام: (لا تدعوا قراءة (طه)، فإنّ اللّه يحبّها ويحبّ من يقرأها، ومن أدمن قراءتها أعطاه اللّه كتابه بيمينه ولم يحاسبه بما عمل في الإسلام، وأعطي من الأجر حتى يرضى)(2).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة طه (20): الآیات 1 الی 7]

طه مٰا أَنْزَلْنٰا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لِتَشْقىٰ إِلاّٰ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشىٰ تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ اَلْأَرْضَ وَ اَلسَّمٰاوٰاتِ اَلْعُلىٰ اَلرَّحْمٰنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوىٰ لَهُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا وَ مٰا تَحْتَ اَلثَّرىٰ وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ اَلسِّرَّ وَ أَخْفىٰ

ص: 335


1- الكشاف ج 3:100 مرسلا.
2- ثواب الأعمال: 108.

[سورة طه (20): آیة 8]

اَللّٰهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ لَهُ اَلْأَسْمٰاءُ اَلْحُسْنىٰ

قرئ بتفخيم الطاء وإمالة الهاء، وقرئ بإمالتهما وتفخيمهما، وعن الحسن:

(طه، وفسّر بأنّه أمر بالوطء، وأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان يقوم في تهجّده علي إحدي رجليه، فأمر بأن يطأ الأرض بقدميه معا)، وروي ذلك عن الصادق عليه السلام(1)، والأصل طأ، فقلبت همزته هاء، أو قلبت ألفا في يطأ ثمّ بني عليه الأمر، والهاء للسكت.

مٰا أَنْزَلْنٰا إن جعلت طه اسما للسورة احتمل أن يكون خبرا عنه وهو مبتدأ و اَلْقُرْآنَ أوقع موقع الضمير لأنّ السورة قرآن، واحتمل أن يكون جوابا له وهو قسم.

لِتَشْقىٰ أي: لتتعب هذا التعب، وكان عليه السلام يصلّي الليل كله ويعلّق صدره بحبل حتى لا يغلبه النوم، فأمره اللّه سبحانه أن يخففه علي نفسه. والشقاء يجيء بمعنى التعب، ومنه المثل: (أتعب من رائض مهر وأشقى من رائض مهر)(2).

تَذْكِرَةً علة للفعل، و لِتَشْقىٰ كذلك، إلا أنّ هذا وجب مجيئه مع اللام لأنّه ليس بفاعل الفعل المعلل، والمعنى: لكن أنزلناه لتذكّر به من يخشى اللّه.

والتذكرة بمعنى التذكير.

تَنْزِيلاً أي: ننزل تنزيلا، ويجوز أن ينصب ب - أَنْزَلْنٰا لأن معنى ما أنزلناه إلا تذكرة: أنزلناه تذكرة، أو يكون بمعنى: أنزله اللّه تذكرة لمن يخشى تنزيل اللّه، وما بعد تَنْزِيلاً إلى قوله: لَهُ اَلْأَسْمٰاءُ اَلْحُسْنىٰ تعظيم لشأن المنزل لنسبته إلى من هذه أفعاله وصفاته.

ص: 336


1- ينظر تفسير القمي ج 2:57.
2- مجمع الأمثال ج 1:260.

و اَلْعُلىٰ جمع العليا تأنيث الأعلى، ووصف اَلسَّمٰاوٰاتِ بذلك دلالة علي عظم اقتدار من يخلق مثلها في علوها.

و اَلرَّحْمٰنُ مرفوع على المدح علي تقدير: هو الرحمن، و الجملة التي هي عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوىٰ يجوز أن تكون خبرا لمبتدأ محذوف، وأن تكون مع اَلرَّحْمٰنُ خبرين للمبتدأ.

ولما كان الاستواء عَلَى اَلْعَرْشِ الذي هو سرير الملك مما يردف الملك جعلوه كناية عن الملك فقالوا: استوى علي العرش بمعنى: ملك، ونحوه: قولهم:

يد فلان مبسوطة أي: هو جواد، ويده مغلولة أي: هو بخيل، من غير تصور يد ولا غلّ ولا بسط.

وَ مٰا تَحْتَ اَلثَّرىٰ أي: ما في ضمن الأرض من الكنوز والأموات.

يَعْلَمُ اَلسِّرَّ وهو ما أسررته إلى غيرك وَ أَخْفىٰ من ذلك وهو ما أخطرته ببالك، أو ما أسررته في نفسك وَ أَخْفىٰ منه وهو ما ستسرّه فيها، والمعنى: وإن تجهر بذكر اللّه وغيره فاعلم أنّه غني عن جهرك لأنه يعلم السرّ وأخفى منه.

و اَلْحُسْنىٰ تأنيث الأحسن.

[سورة طه (20): الآیات 9 الی 16]

وَ هَلْ أَتٰاكَ حَدِيثُ مُوسىٰ إِذْ رَأىٰ نٰاراً فَقٰالَ لِأَهْلِهِ اُمْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نٰاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهٰا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى اَلنّٰارِ هُدىً فَلَمّٰا أَتٰاهٰا نُودِيَ يٰا مُوسىٰ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوٰادِ اَلْمُقَدَّسِ طُوىً وَ أَنَا اِخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمٰا يُوحىٰ إِنَّنِي أَنَا اَللّٰهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَ أَقِمِ اَلصَّلاٰةَ لِذِكْرِي إِنَّ اَلسّٰاعَةَ آتِيَةٌ أَكٰادُ أُخْفِيهٰا لِتُجْزىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمٰا تَسْعىٰ فَلاٰ يَصُدَّنَّكَ عَنْهٰا مَنْ لاٰ يُؤْمِنُ بِهٰا وَ اِتَّبَعَ هَوٰاهُ فَتَرْدىٰ

ص: 337

ثمّ قفّاه بقصّة موسى عليه السلام ليقتدي به في الصبر علي تكاليف الرسالة ومقاساة الشدائد.

و إِذْ ظرف ل - حَدِيثُ أو مفعول ل - (اذكر). استأذن موسى عليه السلام شعيبا في الخروج إلى أمه، وخرج بأهله، فولد له في الطريق ابن في ليلة شاتية مظلمة، وقد ضل الطريق وتفرّقت ماشيته ولم ينقدح زناده، ف - رَأىٰ نٰاراً من بعيد فَقٰالَ لِأَهْلِهِ اُمْكُثُوا في مكانكم.

إِنِّي آنَسْتُ أي: أبصرت، والإيناس: الإبصار البيّن الذي لا شبهة فيه، وقيل: هو إبصار ما يؤنس به(1)، ولما كان الإيناس متيقنا حقّقه بلفظة (إنّ )، ولما كان الإتيان بالقبس - وهو النار المقتبسة - ووجود الهدى متوقعين بني الأمر فيهما علي الرجاء والطمع فقال: لَعَلِّي لئلا يعد ما ليس الوفاء به مستيقنا.

وأراد ب - هُدىً قوما يهدونه إلي الطريق، أو ينفعونه بهداهم في أبواب الدين، لأنّ أفكار الأبرار مغمورة بالهمم الدينية في جميع أحوالهم، والمعنى: ذوي هدي، أو إذا وجد الهداة فقد وجد الهدي.

وقرئ: أنّي - با لفتح - أي: نُودِيَ بأنّي أَنَا رَبُّكَ . ومن كسر فالمعنى:

نودي فقيل: يٰا مُوسىٰ ، أو لأنّ النداء ضرب من القول، والمعنى في تكرير الضمير: توكيد الدلالة وتحقيق المعرفة. وروي: إنّه حين انتهى رأي شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها تتوقد فيها نار بيضاء، وسمع تسبيح الملائكة، ورأي نورا عظيما لم تكن الخضرة تطفئ النار ولا النار تحرق الخضرة، فعلم أنّه لأمر عظيم، فبهت فألقيت عليه السكينة(2).

ص: 338


1- التبيان ج 7:162.
2- الكشف والبيان ج 6:239.

ثمّ نودي: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ أمر بخلع النعلين لأنّهما كانتا من جلد حمار ميت، وقيل: ليباشر الوادي بقدميه متبركا به واحتراما له(1).

طُوىً قرئ بالتنوين وغير التنوين بتأويل المكان والبقعة، وقيل: سمّي به لأنّه قدّس مرتين فكأنّه طوي بالبركة كرتين(2).

وَ أَنَا اِخْتَرْتُكَ أي: اصطفيتك للرسالة، و قرئ: وإنّا اخترناك.

لِمٰا يُوحىٰ تعلّق اللام ب - استمع أو ب - اِخْتَرْتُكَ ، و (ما) موصولة أو مصدرية.

لِذِكْرِي أي: لتذكرني فإنّ ذكري أن أعبد ويصلي لي، أو لتذكرني فيها لأنّ اَلصَّلاٰةَ تشتمل علي الأذكار، وعن مجاهد: (لأنّي ذكرتها في الكتب وأمرت بها)(3)، وقيل: لأن أذكرك بالمدح والثناء وأجعل لك لسان صدق، أو لذكري خاصة لا تشوبه بذكر غيري، أو لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلاة. واللام مثلها في قولك: جئتك لوقت كذا ولست مضين، ومثله قوله: قَدَّمْتُ لِحَيٰاتِي (4)، وقيل:

إنّه ذكر الصلاة بعد نسيانها(5) أي: أقمها متى ذكرت كنت في وقتها أو لم تكن، وروي ذلك عن الباقر عليه السلام(6)، وكان ينبغي أن يقال: لذكرها، ولكنّه علي حذف المضاف أي: لذكر صلاتي، أو لأنه إذا ذكر الصلاة فقد ذكر اللّه.

ص: 339


1- عن الحسن. تفسير الطبري ج 16:109-110.
2- عن الحسن. تفسير الطبري ج 16:109-110.
3- الكشاف ج 3:55 دون نسبة إلى مجاهد.
4- الفجر: 24.
5- عن ابن عباس وغيره. الدر المنثور ج 4:294.
6- الكافي ج 3:293 با لمعنى.

أَكٰادُ أُخْفِيهٰا أي: فلا أقول: هي آتِيَةٌ لفرط إرادتي إخفاءها، ولولا ما في الإخبار بإتيانها مع تعمية وقتها من اللطف لما أخبرت به. وفي مصحف أبيّ :

أكاد أخفيها من نفسي، وروي ذلك عن الصادق عليه السلام.

لِتُجْزىٰ يتعلّق ب - آتِيَةٌ ، بِمٰا تَسْعىٰ أي: بسعيها.

فَلاٰ يَصُدَّنَّكَ عن تصديقها، والضمير للقيامة أو عن الصلاة.

مَنْ لاٰ يُؤْمِنُ بِهٰا بالقيامة، ولا يهولنّك كثرة عددهم ووفور سوادهم فإنّ بناء أمرهم علي اتباع الهوي.

فَتَرْدىٰ أي: فتهلك.

[سورة طه (20): الآیات 17 الی 36]

وَ مٰا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يٰا مُوسىٰ قٰالَ هِيَ عَصٰايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهٰا وَ أَهُشُّ بِهٰا عَلىٰ غَنَمِي وَ لِيَ فِيهٰا مَآرِبُ أُخْرىٰ قٰالَ أَلْقِهٰا يٰا مُوسىٰ فَأَلْقٰاهٰا فَإِذٰا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعىٰ قٰالَ خُذْهٰا وَ لاٰ تَخَفْ سَنُعِيدُهٰا سِيرَتَهَا اَلْأُولىٰ وَ اُضْمُمْ يَدَكَ إِلىٰ جَنٰاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضٰاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرىٰ لِنُرِيَكَ مِنْ آيٰاتِنَا اَلْكُبْرىٰ اِذْهَبْ إِلىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغىٰ قٰالَ رَبِّ اِشْرَحْ لِي صَدْرِي وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي وَ اُحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسٰانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَ اِجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هٰارُونَ أَخِي اُشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنٰا بَصِيراً قٰالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يٰا مُوسىٰ

بِيَمِينِكَ في موضع الحال، والعامل فيه معنى الإشارة، و إنّما سأله ليريه عظم ما يفعله بها، وينبّهه علي باهر قدرته.

ص: 340

أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهٰا أعتمد عليها إذا مشيت أو وقفت علي رأس القطيع.

وَ أَهُشُّ أي: أخبط الورق بِهٰا عَلىٰ رؤوس غَنَمِي تأكله.

وَ لِيَ فِيهٰا مَآرِبُ أُخْرىٰ أي: حاجات أخر، قالوا: انقطع لسانه من الهيبة فأجمل.

تَسْعىٰ أي: تمشي بسرعة وخفة حركة، وعن ابن عباس: (انقلب ثعبانا ذكرا يبتلع الصخر والشجر، فلما رآه موسى خاف)(1).

ولما قٰالَ سبحانه: خُذْهٰا وَ لاٰ تَخَفْ بلغ من ذهاب خوفه أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحيها.

والسيرة: من السير كالركبة من الركوب ثمّ نقلت إلى معنى الطريقة فقيل:

سير الأوّلين، فيجوز أن ينتصب علي الظرف أي: سَنُعِيدُهٰا في طريقتها اَلْأُولىٰ أي: في حال ما كانت عصا، ويجوز أن يكون مفعولا ثانيا ل - (أعاد)، أو ينتصب بفعل مضمر والمعنى: سنعيدها سائرة سِيرَتَهَا اَلْأُولىٰ حيث كنت تتوكأ عليها ولك فِيهٰا المآرب التي عرفتها.

وَ اُضْمُمْ يَدَكَ إِلىٰ جَنٰاحِكَ إلى جنبك تحت العضد مستعار من جناح الطائر.

مِنْ غَيْرِ سُوءٍ كناية عن البرص كما كني عن العورة بالسوأة(2). روي:

أنّه عليه السلام كان آدم(3)، فأخرج يده من مدرعته بَيْضٰاءَ لها شعاع كشعاع الشمس

ص: 341


1- الدر المنثور ج 4:295.
2- كما قال عزّوجل: مٰا وُورِيَ عَنْهُمٰا مِنْ سَوْآتِهِمٰا. الأعراف: 20.
3- آدم: أسمر. (الصحاح: مادة أدم)

يغشي البصر(1).

وقوله: بَيْضٰاءَ و آيَةً حالان، و مِنْ غَيْرِ سُوءٍ حال من معنى بَيْضٰاءَ أي: ابيضت من غير سوء، ويجوز أن ينتصب آيَةً بإضمار خذ ونحوه، وتعلّق به لِنُرِيَكَ أي: خذ هذه الآية أيضا بعد قلب العصا حية لنريك بهاتين الآيتين بعض آيَةً أُخْرىٰ أو لنريك بهما الكبرى من آياتنا، ويجوز أن يكون التقدير: لنريك من آياتنا فعلنا ذلك.

ولما أمره سبحانه بالذهاب إِلىٰ فِرْعَوْنَ عرف أنّه كلّف أمرا عظيما، فسأل ربّه أن يشرح صدره حتى لا يضجر ولا يغتم، ويستقبل الشدائد بجميل الصبر، وأن يسهّل عليه أمره الذي هو خلافة اللّه في أرضه وما يصحبها من مقاساة الخطوب الجليلة، وعن ابن عباس: (كان في لسانه رتة(2) لما روي من حديث الجمرة)(3).

واختلف في زوال العقدة: فقيل: انحلّت عن لسانه وزالت، وهو الصحيح لقوله: أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يٰا مُوسىٰ ، وقيل: بقي بعضها(4) لقوله: وَ أَخِي هٰارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسٰاناً (5).

والوزير من الوزر، لأنّه يتحمل عن الملك أوزاره، أو من الوزر، لأنّ الملك يعتصم برأيه، أو من المؤازرة وهي المعاونة. وَزِيراً و هٰارُونَ مفعولان ل - اِجْعَلْ أي: اجعل هارون وزيرا لِي فقدّم عناية بأمر الوزارة، وقيل:

ص: 342


1- الكشف والبيان ج 6:242.
2- الرتة: العجمة في الكلام. (الصحاح: مادة رتت).
3- تاريخ الطبري ج 1:201.
4- عن الجبائي. التبيان ج 7:170.
5- القصص: 34.

إنّ المفعولين لِي وَزِيراً و هٰارُونَ عطف بيان. وقرأ ابن عامر: اشدد، وأشركه - علي الجواب -.

والأزر: القوة، وأزره: قوّاه، أي: اجعله شريكي في الرسالة حتى نتعاون علي عبادتك وذكرك ونتزايد الخير.

إِنَّكَ كُنْتَ بِنٰا بَصِيراً أي: عالما بأحوالنا، وأنّ هارون نعم المعين لي والشاد لعضدي.

والسؤل: الطلبة، فعل في معنى مفعول كالخبز والأكل بمعنى المخبوز والمأكول.

[سورة طه (20): الآیات 37 الی 48]

وَ لَقَدْ مَنَنّٰا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرىٰ إِذْ أَوْحَيْنٰا إِلىٰ أُمِّكَ مٰا يُوحىٰ أَنِ اِقْذِفِيهِ فِي اَلتّٰابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي اَلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ اَلْيَمُّ بِالسّٰاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَ عَدُوٌّ لَهُ وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَ لِتُصْنَعَ عَلىٰ عَيْنِي إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلىٰ مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنٰاكَ إِلىٰ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهٰا وَ لاٰ تَحْزَنَ وَ قَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنٰاكَ مِنَ اَلْغَمِّ وَ فَتَنّٰاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلىٰ قَدَرٍ يٰا مُوسىٰ وَ اِصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي اِذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآيٰاتِي وَ لاٰ تَنِيٰا فِي ذِكْرِي اِذْهَبٰا إِلىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغىٰ فَقُولاٰ لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشىٰ قٰالاٰ رَبَّنٰا إِنَّنٰا نَخٰافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنٰا أَوْ أَنْ يَطْغىٰ قٰالَ لاٰ تَخٰافٰا إِنَّنِي مَعَكُمٰا أَسْمَعُ وَ أَرىٰ فَأْتِيٰاهُ فَقُولاٰ إِنّٰا رَسُولاٰ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ وَ لاٰ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنٰاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَ اَلسَّلاٰمُ عَلىٰ مَنِ اِتَّبَعَ اَلْهُدىٰ إِنّٰا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنٰا أَنَّ اَلْعَذٰابَ عَلىٰ مَنْ كَذَّبَ وَ تَوَلّٰى

ص: 343

أَوْحَيْنٰا إِلىٰ أُمِّكَ أي: ألهمناها مٰا يلهم، وهو ما كان سبب نجاتك من القتل، أو بعثنا إليها ملكا كما بعثنا إلى مريم.

أَنِ اِقْذِفِيهِ في اليم أي: ضعيه وألقيه، وهي أَنِ المفسّرة، لأنّ الوحي بمعنى القول، والضمائر كلها ترجع إلى موسى.

فَلْيُلْقِهِ اَلْيَمُّ بِالسّٰاحِلِ و هو شط البحر، كأنّه أمر البحر كما أمر أم موسى، وهذا علي طريق المجاز جعله كذي تمييز، أمر بذلك ليطيع، لما كانت مشيئته عزّ اسمه إلقاءه إلى الساحل يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَ عَدُوٌّ لَهُ وهو فرعون، لأنّه تصوّر أنّ ملكه ينقرض علي يده.

مِنِّي إن تعلّق ب - أَلْقَيْتُ فالمعنى: إنّي أحببتك ومن أحبّه اللّه أحبّته القلوب، وإن تعلّق بمحذوف هو صفة ل - مَحَبَّةً ، فالمعنى: أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً واقعة مِنِّي قد ركزته أنا في القلوب وزرعته فيها ولذلك أحبّك فرعون وكل من رآك.

و لِتُصْنَعَ معطوف علي علة مضمرة، مثل: ليعطف عليك ونحوه، أو حذف المعلل أي: ولتصنع فعلت ذلك. والمعنى: ولتربى وتغذى ويحسن إليك وأنا أراعيك كما يراعى الرجل الشيء بعينه إذا اعتنى به، وكما تقول للصانع:

اصنع هذا علي عيني أنظر إليك ليكون صنيعك علي حسب ما أريده منك. وقرئ:

ولتصنع بالجزم وسكون اللام أو كسرها علي أنّه أمر.

والعامل في إِذْ تَمْشِي : أَلْقَيْتُ أو تصنع، أو يكون بدلا من إِذْ أَوْحَيْنٰا .

وروي: أنّ أخت موسى عليه السلام لما قالت لها أمه: قصّيه، اتبعت موسى متعرّفة خبره، فرأتهم يطلبون له مرضعة يقبل ثديها لأنّه كان لا يقبل ثدي امرأة، فقالت:

ص: 344

هَلْ أَدُلُّكُمْ فجاءت بأم موسى فقبل ثديها(1).

وَ قَتَلْتَ نَفْساً يعني: القبطي الذي استغاثه عليه الذي هو من شيعته فوكزه فقتله فَنَجَّيْنٰاكَ مِنَ غمّ القصاص و من بأس فرعون.

و فُتُوناً يجوز أن يكون مصدرا علي فعول في المتعدّي كالشكور والثبور، وأن يكون جمع فتن أو فتنة كبدور في جمع بدرة، أي: فَتَنّٰاكَ ضروبا من الفتن فتنة بعد فتنة، وذاك أنّه ولد في عام كان يقتل فيه الولدان، وألقته أمه في البحر، وهمّ فرعون بقتله، وقتل القبطي، وآجر نفسه عشر سنين. والفتنة: المحنة وكل ما يشق علي الإنسان.

و مَدْيَنَ علي ثماني مراحل من مصر.

عَلىٰ قَدَرٍ علي مقدار من الزمان يوحى فيه إلي الأنبياء وهو رأس أربعين سنة، وقيل: معناه: سبق في قدري وقضائي أن أكلّمك في وقت بعينه، فجئت علي ذلك القدر(2).

وَ اِصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي اتخذتك صنيعتي وخالصتي، واختصصتك بكرامتي.

وَ لاٰ تَنِيٰا فِي ذِكْرِي الونى: الفتور والتقصير، يعني: ولا تنسياني ولا أزال منكما علي ذكر حيثما كنتما، أو يريد بالذكر تبليغ الرسالة أي: لا تضعفا في ذلك ولا تقصرا.

والقول اللين: نحو قوله تعالى: هَلْ لَكَ إِلىٰ أَنْ تَزَكّٰى وَ أَهْدِيَكَ إِلىٰ رَبِّكَ

ص: 345


1- العرائس: 103.
2- معاني القرآن للفراء ج 2:179.

فَتَخْشىٰ (1) ، وقيل: عداه شبابا لا يهرم بعده، وملكا لا ينزع منه إلا بالموت(2)، واذهبا علي رجائكما وطمعكما فعل من يبذل أقصى وسعه وطاقته، و إنّما أرسلهما إليه مع علمه بأنّه لا يؤمن، إلزاما للحجّة.

يَتَذَكَّرُ أي: يتأمل فينصف من نفسه ويذعن للحقّ أَوْ يَخْشىٰ أن يكون الأمر كما تصفان.

نَخٰافُ أي: نخاف إِنَّنٰا يعجل عَلَيْنٰا بالعقوبة، يقال: فرط منه فعل أي: سبق، وفرس فرط: يسبق الخيل.

أَوْ أَنْ يَطْغىٰ أي: يجاوز الحد في الإساءة بنا.

إِنَّنِي مَعَكُمٰا بالحفظ و النصرة، أي: حافظكما وناصركما أَسْمَعُ وَ أَرىٰ ما يجري بينكما وبينه، وكانت بنو إسرائيل في ملكة فرعون، والقبط يعذّبونهم بتكليف الأعمال الشاقة والسخرة في كل شيء.

قَدْ جِئْنٰاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ أي: بمعجزة وبرهان علي ما ادعيناه وسلام الملائكة، أو السلامة من عذاب اللّه عَلىٰ المهتدين، و اَلْعَذٰابَ عَلىٰ المكذّبين.

[سورة طه (20): الآیات 49 الی 55]

قٰالَ فَمَنْ رَبُّكُمٰا يٰا مُوسىٰ قٰالَ رَبُّنَا اَلَّذِي أَعْطىٰ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدىٰ قٰالَ فَمٰا بٰالُ اَلْقُرُونِ اَلْأُولىٰ قٰالَ عِلْمُهٰا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتٰابٍ لاٰ يَضِلُّ رَبِّي وَ لاٰ يَنْسىٰ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ مَهْداً وَ سَلَكَ لَكُمْ فِيهٰا سُبُلاً وَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً فَأَخْرَجْنٰا بِهِ أَزْوٰاجاً مِنْ نَبٰاتٍ شَتّٰى كُلُوا وَ اِرْعَوْا أَنْعٰامَكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِأُولِي اَلنُّهىٰ مِنْهٰا خَلَقْنٰاكُمْ وَ فِيهٰا نُعِيدُكُمْ

ص: 346


1- النازعات: 18، 19.
2- عن السدي. معالم التنزيل ج 3:16.

[سورة طه (20): الآیات 55 الی 56]

وَ مِنْهٰا نُخْرِجُكُمْ تٰارَةً أُخْرىٰ وَ لَقَدْ أَرَيْنٰاهُ آيٰاتِنٰا كُلَّهٰا فَكَذَّبَ وَ أَبىٰ

خاطب الاثنين ووجه النداء إلى موسى، لأنّ الأصل في النبوّة موسى، أو حمله خبثه علي استدعاء كلام موسى دون كلام أخيه لما عرف من فصاحة هارون.

خَلْقَهُ مفعول أوّل ل - أَعْطىٰ أي: أعطى خلقه يعني: خليقته كُلَّ شَيْ ءٍ يحتاجون إليه، أو مفعول ثان بمعنى: أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يوافق المنفعة المنوطة به كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار، والأذن الشكل الذي يطابق الاستماع، وكذلك باقي الأعضاء. وقيل: أعطى كل حيوان نظيره في الخلق والصورة أي: زوجه(1)، وقرئ: خلقه، أي: كل شيء خلقه اللّه لم يخله من عطائه وإنعامه.

ما بال القرون الأولي أي: ما حال الأمم الماضية في السعادة و الشقاوة ؟ فأجاب بأنّ علم أحوالها مكتوب عند رب في اللوح المحفوظ، لا يخطئ شيئا ولا ينساه، وقيل: لا يتركه حتى يجازيه، أي: لاٰ يَضِلُّ كما تضل أنت وَ لاٰ يَنْسىٰ كما تنسى يا مدعي الربوبية.

اَلَّذِي جَعَلَ صفة ل - رَبِّي أو خبر مبتدأ محذوف. مهدا أي: مهّدها مهدا، أو يمهّدونها فهي لهم كالمهد الذي يمهّد للصبي، و قرئ: مَهْداً أي:

فراشا وبساطا.

وَ سَلَكَ لَكُمْ أي: حصل لكم فيها سبلا فَأَخْرَجْنٰا ، انتقل فيه من لفظ الغيبة إلي لفظ المتكلّم علي طريقة الالتفات، ومنه قوله تعالى: وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ

ص: 347


1- عن ابن عباس وغيره. تفسير الطبري ج 16:131.

اَلسَّمٰاءِ مٰاءً فَأَخْرَجْنٰا بِهِ نَبٰاتَ كُلِّ شَيْ ءٍ (1) وفيه تخصيص بأنّا نحن نقدر على مثل ذلك ولا يدخل تحت قدرة أحد.

أَزْوٰاجاً أصنافا، و شَتّٰى جمع شتيت. والنبات: مصدر سمّي به النابت كما سمّي بالنبت فاستوي فيه الواحد والجمع، يعني: إنّها مختلفة النفع والطعم واللون والرائحة والشكل. والمعنى: قائلين: كُلُوا وَ اِرْعَوْا حال من الضمير في أَخْرَجْنٰا أي: مبيحين أكلها والانتفاع بها.

أَرَيْنٰاهُ آيٰاتِنٰا كُلَّهٰا يعني: الآيات التسع، أي: معجزاتنا الدالة علي صدق موسى عليه السلام فَكَذَّبَ بجميع ذلك وَ أَبىٰ أن يؤمن.

[سورة طه (20): الآیات 57 الی 66]

قٰالَ أَ جِئْتَنٰا لِتُخْرِجَنٰا مِنْ أَرْضِنٰا بِسِحْرِكَ يٰا مُوسىٰ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنٰا وَ بَيْنَكَ مَوْعِداً لاٰ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَ لاٰ أَنْتَ مَكٰاناً سُوىً قٰالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ اَلزِّينَةِ وَ أَنْ يُحْشَرَ اَلنّٰاسُ ضُحًى فَتَوَلّٰى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتىٰ قٰالَ لَهُمْ مُوسىٰ وَيْلَكُمْ لاٰ تَفْتَرُوا عَلَى اَللّٰهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذٰابٍ وَ قَدْ خٰابَ مَنِ اِفْتَرىٰ فَتَنٰازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَ أَسَرُّوا اَلنَّجْوىٰ قٰالُوا إِنْ هٰذٰانِ لَسٰاحِرٰانِ يُرِيدٰانِ أَنْ يُخْرِجٰاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمٰا وَ يَذْهَبٰا بِطَرِيقَتِكُمُ اَلْمُثْلىٰ فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ اِئْتُوا صَفًّا وَ قَدْ أَفْلَحَ اَلْيَوْمَ مَنِ اِسْتَعْلىٰ قٰالُوا يٰا مُوسىٰ إِمّٰا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمّٰا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقىٰ قٰالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذٰا حِبٰالُهُمْ وَ عِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهٰا تَسْعىٰ

قوله: بِسِحْرِكَ تعلل من فرعون، وإلا فلا يخفى علي أحد أنّ ساحرا لا

ص: 348


1- الأنعام: 99.

يقدر على أن يخرج ملكا مثله من أرضه بالسحر، ويلوح من كلامه هذا أنّه كان يخاف منه أن يغلبه على ملكه.

مَوْعِداً مصدر بمعنى الوعد على تقدير مضاف محذوف، أي: مكان موعد، و الهاء في نُخْلِفُهُ للموعد، و مَكٰاناً بدل من المكان المحذوف، وهو بمعنى الوقت في قوله: مَوْعِدُكُمْ أي: وقت الموعد يَوْمُ اَلزِّينَةِ و هو يطابق ما تقدّم معنى وإن لم يطابقه لفظا من حيث أنّ الاجتماع يوم الزينة لابد أن يكون في مكان مشهور، فبذكر الزمان يعلم المكان.

ويجوز أن لا يقدّر في الأوّل مضاف محذوف ويكون المعنى: اجعل بيننا وبينك وعدا لا نخلفه، وينتصب مَكٰاناً بالمصدر، ويكون مَوْعِدُكُمْ معناه:

وعدكم وعد يوم الزينة. وقرئ: لا نخلفه - بالجزم - علي جواب الأمر. وقرئ:

سوى، وسوى بكسر السين وضمها، ومعناه: منصفا بيننا وبينك أي: يستوي مسافته علي الفريقين. وقرئ: يوم الزينة - بالنصب - وهو مثل قولك: قيامك يوم الجمعة، فيكون مَوْعِدُكُمْ مصدرا والظرف خبرا عنه، أو علي تقدير: إنجاز موعدكم يوم الزينة.

و أَنْ يُحْشَرَ في موضع جر، أي: موعدكم يوم الزينة وحشر الناس، فيكون معطوفا علي اَلزِّينَةِ ، أو في موضع رفع، أي: إنجاز موعدكم وحشر الناس ضُحًى في يوم الزينة، وهو يوم عيد كان لهم في كل عام، وقيل: يوم كانوا يتخذون فيه سوقا ويتزينون ذلك اليوم(1)، و إنّما واعدهم ذلك اليوم ليكون ظهور دين اللّه وعلو كلمته وزهوق الباطل علي رؤوس الأشهاد ويشيع ذلك في الناس.

فَتَوَلّٰى فِرْعَوْنُ أي: انصرف فَجَمَعَ كَيْدَهُ أي: حيلته ومكره وذلك

ص: 349


1- عن سعيد بن جبير. تفسير الطبري ج 16:131.

جمعه السحرة.

لاٰ تَفْتَرُوا عَلَى اَللّٰهِ كَذِباً أي: لا تكذبوا علي الله بأن تدعوا آياته ومعجزاته سحرا. قرئ: فيسحتكم، وفيسحتكم. والسحت والإسحات بمعنى وهو الاستئصال.

فَتَنٰازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ أي: تشاوروا وتجاذبوا أهداب القول.

وَ أَسَرُّوا اَلنَّجْوىٰ يعني: السحرة، ونجواهم: إن غلبنا موسى اتبعناه، وقيل: إن كان ساحرا فسنغلبه وإن كان من السماء فله أمر(1). ولما قٰالَ لَهُمْ مُوسىٰ وَيْلَكُمْ لاٰ تَفْتَرُوا قالوا: ما هذا بقول ساحر.

قال فرعون وقومه للسحرة: إنّ هذان لساحران، وهي لغة بلحرث بن كعب، جعلوا الاسم المثنى نحو الأسماء التي آخرها ألف كعصا وسلمى ولم يقلبوها ياء في الجر والنصب، وقيل: إِنْ هنا بمعنى: نعم، وساحران خبر مبتدأ محذوف تقديره: لهما ساحران، وقرئ: إِنْ هٰذٰانِ لَسٰاحِرٰانِ وهو مثل قولك:

إن زيد لمنطلق، واللام هي الفارقة بين (إن) النافية والمخففة من الثقيلة، وقرأ أبو عمرو: إنّ هذين لساحران علي الوجه الظاهر، وقرئ: هذان بتشديد النون وهو لغة.

و اَلْمُثْلىٰ تأنيث الأمثل، وهو الأفضل و الأشبه بالحقّ ، والمعنى: يُرِيدٰانِ أَنْ يصرفا وجوه الناس إليهما. وقيل: الطريقة: اسم لوجوه الناس وأشرافهم الذين هم قدوة لغيرهم(2)، ويقال أيضا للواحد: هو طريقة قومه، وقيل: إنّ

ص: 350


1- عن قتادة. تفسير الطبري ج 16:136.
2- عن مجاهد وغيره. تفسير الطبري ج 16:138.

طريقتهم المثلى: بنو إسرائيل وكانوا أكثر القوم عددا وما لا(1)، أي: يريدان أن يذهبا بهم لأنفسهم لقول موسى: فَأَرْسِلْ مَعَنٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ (2).

فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ أي: أزمعوه واجعلوه مجمعا عليه حتى لا تختلفوا، وهذا قول فرعون للسحرة أو قول بعض لبعض، وقرئ: فاجمعوا، ويعضده قوله:

فَجَمَعَ كَيْدَهُ .

ثُمَّ اِئْتُوا صَفًّا أي: مصطفّين مجتمعين ليكون أشدّ لهيبتكم.

وَ قَدْ أَفْلَحَ اَلْيَوْمَ مَنِ اِسْتَعْلىٰ أي: فاز من غلب وعلا.

أَنْ تُلْقِيَ مرفوع بأنّه خبر مبتدأ محذوف، أي: الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا، أو منصوب بفعل مضمر معناه: اختر أحد الأمرين، وهذا التخيير منهم حسن أدب وخفض جناح له.

فَإِذٰا حِبٰالُهُمْ : (إذا) هذه للمفاجأة، والتقدير: فإذا حبالهم وعصيّهم مخيلة إليه السعي، وقوله: أَنَّهٰا تَسْعىٰ فاعل يُخَيَّلُ ، و الضمير في إِلَيْهِ يرجع إلى موسى عليه السلام، وقيل: إلى فرعون. و قرئ: تخيل - بالتاء - علي أن يكون مسندا إلى ضمير الحبال و العصي، ويكون أَنَّهٰا تَسْعىٰ بدلا من الضمير وهو بدل الاشتمال، كقولك:

أعجبني زيد علمه.

[سورة طه (20): الآیات 67 الی 71]

فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسىٰ قُلْنٰا لاٰ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْأَعْلىٰ وَ أَلْقِ مٰا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مٰا صَنَعُوا إِنَّمٰا صَنَعُوا كَيْدُ سٰاحِرٍ وَ لاٰ يُفْلِحُ اَلسّٰاحِرُ حَيْثُ أَتىٰ فَأُلْقِيَ اَلسَّحَرَةُ سُجَّداً قٰالُوا آمَنّٰا بِرَبِّ هٰارُونَ وَ مُوسىٰ قٰالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ اَلَّذِي

ص: 351


1- عن قتادة. تفسير الطبري ج 16:138.
2- طه: 47.

[سورة طه (20): الآیات 71 الی 76]

عَلَّمَكُمُ اَلسِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلاٰفٍ وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ اَلنَّخْلِ وَ لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنٰا أَشَدُّ عَذٰاباً وَ أَبْقىٰ قٰالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلىٰ مٰا جٰاءَنٰا مِنَ اَلْبَيِّنٰاتِ وَ اَلَّذِي فَطَرَنٰا فَاقْضِ مٰا أَنْتَ قٰاضٍ إِنَّمٰا تَقْضِي هٰذِهِ اَلْحَيٰاةَ اَلدُّنْيٰا إِنّٰا آمَنّٰا بِرَبِّنٰا لِيَغْفِرَ لَنٰا خَطٰايٰانٰا وَ مٰا أَكْرَهْتَنٰا عَلَيْهِ مِنَ اَلسِّحْرِ وَ اَللّٰهُ خَيْرٌ وَ أَبْقىٰ إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاٰ يَمُوتُ فِيهٰا وَ لاٰ يَحْيىٰ وَ مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ اَلصّٰالِحٰاتِ فَأُولٰئِكَ لَهُمُ اَلدَّرَجٰاتُ اَلْعُلىٰ جَنّٰاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا وَ ذٰلِكَ جَزٰاءُ مَنْ تَزَكّٰى

أوجس الخوف: أضمر شيئا منه، وكان إيجاس الخيفة من موسى عليه السلام للجبلة البشرية عند رؤية أمر فظيع، وقيل: لأجل أن يتخالج فيه شك علي الناس فلا

يتبعوه(1).

إِنَّكَ أَنْتَ اَلْأَعْلىٰ فيه تقرير لقهره و غلبته، وتأكيد بالاستئناف و بكلمة التحقيق وبتكرير الضمير وبلام التعريف وبلفظ العلو - وهو الغلبة الظاهرة - وبلفظ التفضيل.

قرئ: تلقف - بالرفع - علي الاستئناف أو علي الحال، أي: ألقها متلقفة، وقرئ: تلقف بالتخفيف.

مٰا صَنَعُوا أي: ما زوروا وا فتعلوا إِنَّمٰا صَنَعُوا أي: الذي صنعوه كَيْدُ سحر، أي: ذوي سحر، أو بين الكيد بسحر كما بين المائة بدرهم، لأنّ الكيد يكون سحرا أو غير سحر، ومثله: علم فقه. و قرئ: كيد ساحر، وحّد لأنّ القصد معنى

ص: 352


1- تفسير مقاتل بن سليمان ج 2:333.

الجنسية لا معنى العدد، يدلّ عليه قوله: وَ لاٰ يُفْلِحُ اَلسّٰاحِرُ أي: هذا الجنس حَيْثُ أَتىٰ هو كقولهم: أينما كان، و أية سلك.

وهاهنا حذف أي: فألقى عصاه فتلقفت ما صنعوا فَأُلْقِيَ اَلسَّحَرَةُ سُجَّداً .

وعن عكرمة: (لما سجدوا أراهم اللّه في سجودهم منازلهم التي يصيرون إليها في الجنة)(1).

قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ أي: من غير إذني.

إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ أي: رئيسكم وأسحركم وأستاذكم ومعلمكم.

مِنْ خِلاٰفٍ هوأن يقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، لأنّ كل واحد من العضوين يخالف الاخر بشيئين: بأنّ هذا يد وذاك رجل وهذا يمين وذاك شمال.

و مِنْ لابتداء الغاية، لأنّ القطع مبتدأ من مخالفة العضو العضو، والجار والمجرور في موضع الحال، أي: لأقطعنّها مختلفات.

فِي جُذُوعِ اَلنَّخْلِ شبّه تمكّن المصلوب في الجذع بتمكّن الشيء في وعائه فهذا معنى (في).

وَ لَتَعْلَمُنَّ أيّها السحرة أَيُّنٰا أَشَدُّ عَذٰاباً يريد الملعون نفسه وموسى عليه السلام، بدليل قوله: آمَنْتُمْ لَهُ ، واللام مع الإيمان لغير اللّه في القرآن كقوله: يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ (2)، وقيل: يريد اللّه تعالي.

قٰالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ أي: لن نختارك عَلىٰ مٰا أتانا مِنَ المعجزات وعلي اَلَّذِي فَطَرَنٰا أي: خلقنا، أو هو قسم أي: واللّه الذي فطرنا.

ص: 353


1- الدر المنثور ج 4:303.
2- التوبة: 61.

فَاقْضِ مٰا أَنْتَ قٰاضٍ أي: فاصنع ما أنت صانعه فإنّا لا نرجع عن الإيمان، أو فاحكم ما أنت حاكمه.

هٰذِهِ اَلْحَيٰاةَ اَلدُّنْيٰا منصوبة علي الظرف.

وَ مٰا أَكْرَهْتَنٰا عَلَيْهِ روي: إنّهم قالوا لفرعون: أرنا موسى نائما، ففعل، فوجدوه تحرسه عصاه، فقالوا: ما هذا بسحر، فإنّ الساحر إذا نام بطل سحره، فأبى فرعون إلا أن يعملوا، فذلك إكراههم(1).

وَ اَللّٰهُ خَيْرٌ لنا منك وثوابه أَبْقىٰ لنا من ثوابك.

والآيات الثلاث بعد حكاية قولهم، وقيل: هي خبر من اللّه عزّ وجل.

مُجْرِماً أي: كافرا.

و اَلْعُلىٰ جمع العليا تأنيث الأعلى.

و تَزَكّٰى تطهّر من أدناس الذنوب، وعن ابن عباس: (قال: لا إله إلا اللّه)(2).

[سورة طه (20): الآیات 77 الی 82]

وَ لَقَدْ أَوْحَيْنٰا إِلىٰ مُوسىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبٰادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي اَلْبَحْرِ يَبَساً لاٰ تَخٰافُ دَرَكاً وَ لاٰ تَخْشىٰ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ اَلْيَمِّ مٰا غَشِيَهُمْ وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ مٰا هَدىٰ يٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنٰاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَ وٰاعَدْنٰاكُمْ جٰانِبَ اَلطُّورِ اَلْأَيْمَنَ وَ نَزَّلْنٰا عَلَيْكُمُ اَلْمَنَّ وَ اَلسَّلْوىٰ كُلُوا مِنْ طَيِّبٰاتِ مٰا رَزَقْنٰاكُمْ وَ لاٰ تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوىٰ وَ إِنِّي لَغَفّٰارٌ لِمَنْ تٰابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صٰالِحاً ثُمَّ اِهْتَدىٰ

ص: 354


1- عن عبد العزيز بن أبان. معالم التنزيل ج 3:18.
2- الكشاف ج 3:77.

[سورة طه (20): الآیات 83 الی 86]

وَ مٰا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يٰا مُوسىٰ قٰالَ هُمْ أُولاٰءِ عَلىٰ أَثَرِي وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضىٰ قٰالَ فَإِنّٰا قَدْ فَتَنّٰا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَ أَضَلَّهُمُ اَلسّٰامِرِيُّ فَرَجَعَ مُوسىٰ إِلىٰ قَوْمِهِ غَضْبٰانَ أَسِفاً قٰالَ يٰا قَوْمِ أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَ فَطٰالَ عَلَيْكُمُ اَلْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي

أَنْ أَسْرِ بِعِبٰادِي أي: سر بهم ليلا من أرض مصر، فاجعل لَهُمْ طَرِيقاً فِي اَلْبَحْرِ يَبَساً أي: يابسا، من قولهم: ضرب له في ماله سهما، أو ضرب اللبن أي:

عمله، وأصل اليبس مصدر.

لاٰ تَخٰافُ حال من الضمير في فَاضْرِبْ ، وقرئ: لا تخف، علي الجواب.

دَرَكاً هو اسم من الإدراك، أي: لا يدركك فرعون وجنوده ولا يلحقونك. وإذا قرئ: لا تخف - بالجزم - ففي لاٰ تَخْشىٰ وجهان: أن يكون مقطوعا من الأوّل أي: وأنت لا تخشى، وأن يكون الألف للإطلاق من أجل الفاصلة كقوله: فَأَضَلُّونَا اَلسَّبِيلاَ (1).

مٰا غَشِيَهُمْ من جوامع الكلم المستقلة بالمعاني الكثيرة مع قلتها، وفيه تفخيم للأمر.

و مٰا هَدىٰ تهكّم به لقوله: وَ مٰا أَهْدِيكُمْ إِلاّٰ سَبِيلَ اَلرَّشٰادِ (2).

يٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ خطاب لهم بعد إنجائهم من البحر و إهلاك فرعون، أي:

ص: 355


1- الأحزاب: 67.
2- غافر: 29.

قلنا لبني إسرائيل أو للذين كانوا في عهد نبيّنا صلى الله عليه و آله منّ اللّه عليهم بما فعل بأسلافهم.

و قرئ: أنجيتكم، وواعدتكم، ورزقتكم. وقرئ: وعدناكم. ذكّرهم النعمة في إنجائهم و إهلاك عدوهم وفيما وعد موسى عليه السلام من المناجاة بجانب اَلطُّورِ وكتب التوراة في الألواح، ونسب المواعدة إليهم حيث كانت لنبيّهم ولنقبائهم، وإليهم رجعت منافعها التي بها قوام دينهم.

وَ لاٰ تَطْغَوْا فِيهِ أي: لا تتعدوا حدود اللّه تعالى.

فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي أي: فيجب عليكم عقوبتي، من حلّ الدين يحلّ : إذا وجب أداؤه، و قرئ: فيحلّ - يضم الحاء - أي: فينزل، لأنّ الغضب بمعنى العقوبة وَ مَنْ يَحْلِلْ بالضم والكسر.

فَقَدْ هَوىٰ أي: هلك، وأصله: أن يسقط من جبل، كما قيل:

هوى من رأس مرقبة *** ففتّت تحتها كبده(1)

أي سقط سقوطا لا نهوض بعده.

ثُمَّ اِهْتَدىٰ أي: استقام واستمر عليه حتى يموت. وعن الباقر عليه السلام: (ثمّ اهتدي إلى ولايتنا أهل البيت)(2).

وَ مٰا أَعْجَلَكَ أي شيء عجل بك عنهم ؟ وكان قد مضي مع النقباء إلى الطور، ثمّ تقدّمهم شوقا إلى كلام ربّه.

قٰالَ موسى عليه السلام هُمْ أُولاٰءِ عَلىٰ أَثَرِي يدركونني عن قريب، وسبقتهم إليك حرصا على تحصيل رضاك.

ص: 356


1- لم أعثر على قائله في المصادر المتوفرة.
2- تفسير فرات: 257، شواهد التنزيل ج 1:357.

فَتَنّٰا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ يريد الذين خلّفهم مع هارون، أضاف سبحانه الفتنة إلى نفسه والضلال إلى السامري، ليدلّ علي أنّ الفتنة غير الإضلال، أي:

امتحناهم بخلق العجل وحملهم السامري علي الضلال وأوقعهم فيه بقوله: هٰذٰا إِلٰهُكُمْ وَ إِلٰهُ مُوسىٰ . والمراد بالفتنة: تشديد التكليف عليهم بما حدث فيهم من أمر العجل، ليظهر المؤمن المخلص من المنافق.

والوعد الحسن: هو أن وعدهم إعطاء التوراة التي فيها هدي ونور.

و اَلْعَهْدُ : الزمان، يريد مدة مفارقته لهم، يقال: طال عهدي بك أي:

طال زماني بسبب مفارقتك، وهم وعدوه أن يقيموا علي ما تركهم عليه من الإيمان فأخلفوا موعده بعبادتهم العجل.

[سورة طه (20): الآیات 87 الی 96]

قٰالُوا مٰا أَخْلَفْنٰا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنٰا وَ لٰكِنّٰا حُمِّلْنٰا أَوْزٰاراً مِنْ زِينَةِ اَلْقَوْمِ فَقَذَفْنٰاهٰا فَكَذٰلِكَ أَلْقَى اَلسّٰامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوٰارٌ فَقٰالُوا هٰذٰا إِلٰهُكُمْ وَ إِلٰهُ مُوسىٰ فَنَسِيَ أَ فَلاٰ يَرَوْنَ أَلاّٰ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَ لاٰ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَ لاٰ نَفْعاً وَ لَقَدْ قٰالَ لَهُمْ هٰارُونُ مِنْ قَبْلُ يٰا قَوْمِ إِنَّمٰا فُتِنْتُمْ بِهِ وَ إِنَّ رَبَّكُمُ اَلرَّحْمٰنُ فَاتَّبِعُونِي وَ أَطِيعُوا أَمْرِي قٰالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عٰاكِفِينَ حَتّٰى يَرْجِعَ إِلَيْنٰا مُوسىٰ قٰالَ يٰا هٰارُونُ مٰا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلاّٰ تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي قٰالَ يَا بْنَ أُمَّ لاٰ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لاٰ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرٰائِيلَ وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي قٰالَ فَمٰا خَطْبُكَ يٰا سٰامِرِيُّ قٰالَ بَصُرْتُ بِمٰا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ اَلرَّسُولِ فَنَبَذْتُهٰا وَ كَذٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي

ص: 357

بِمَلْكِنٰا قرئ بالحركات الثلاث، أي: مٰا أَخْلَفْنٰا مَوْعِدَكَ بأن ملكنا أمرنا، أي: لو ملكنا أمرنا وخلينا ورأينا لما أخلفناه، ولكن غلبنا من جهة السامري وكيده.

والمعنى: حملنا أحمالا مِنْ حلي القبط التي استعرناها منهم فَقَذَفْنٰاهٰا في نار السامري التي أوقدها في الحفرة وأمرنا أن نطرح فيها الحلي. و قرئ: حُمِّلْنٰا أي: جعلنا نحمل أوزار القوم.

فَكَذٰلِكَ أَلْقَى اَلسّٰامِرِيُّ أراهم أنّه يلقي حليا في يده، وإنّما ألقى التربة التي أخذها من موطئ فرس جبرئيل.

فَأَخْرَجَ لَهُمْ من الحفرة عِجْلاً جَسَداً .

فَنَسِيَ أي: فنسي موسى أن يطلبه هاهنا وذهب يطلبه عند الطور ويكون من قول السامري، أو فنسي السامري أي: ترك ما كان عليه من الإيمان الظاهر.

أَلاّٰ يَرْجِعُ من رفعه فعلي أنّ (أن) هي المخففة من الثقيلة، و من نصبه فعلي أنّها الناصبة للفعل.

مِنْ قَبْلُ أي: من قبل أن يعود موسى إليهم، و (لا) مزيدة، والمعنى: ما منعك أن تتبعني في شدّة الزجر عن الكفر وقتال من كفر بمن آمن، أو مالك لم تلحقني ؟. وكان موسى عليه السلام شديد الغضب للّه ولدينه مجبولا علي الحدّة والخشونة في ذات اللّه، فلم يتمالك حين رأي القوم يعبدون العجل بعد رؤيتهم المعجزات والآيات أن ألقى الألواح لما عرته من الدهشة غضبا لله وحمية، وعنف بأخيه وخليفته علي قومه إذ أجراه مجرى نفسه إذا غضب في القبض علي شعر رأسه ووجهه.

ص: 358

إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرٰائِيلَ أي: لو قاتلت بعضهم ببعض لتفرّقوا وتفانوا، فأردت أن تكون أنت الملاقي لأمرهم بنفسك، وخشيت عتابك على ترك ما أوصيتني به حين قلت: اُخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ (1).

فَمٰا خَطْبُكَ يٰا سٰامِرِيُّ أي: فما شأنك وما دعاك إلى ما صنعت ؟ وهو مصدر خطب الأمر: إذا طلبه، فكأنّه قال: ما طلبك ؟.

قٰالَ بَصُرْتُ بِمٰا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ أي: رأيت ما لم يروه، أو علمت ما لم يعلموه، من البصيرة، وعن ابن مسعود وأبيّ والحسن: فقبصت قبصة - بالصاد -.

ومعنى الضاد المعجمة: الأخذ بجميع الكف، والصاد المهملة: بأطراف الأصابع.

روي: أنّ موسى عليه السلام لما حلّ ميعاد ذهابه إلى الطور أرسل اللّه تعالي جبرئيل راكب حيزوم فرس الحياة ليذهب به، فأبصره السامري فقال: إنّ لهذا شأنا، فقبض قبضة من تربة موطئه، فلما سأله موسى عن قصّته قال: قبضت من أثر فرس الرسول الذي أرسل إليك فنبذتها في العجل، وكما حدّثتك يا موسى(2).

سَوَّلَتْ أي: زيّنت لِي نَفْسِي من أخذ القبضة و إلقائها في صورة العجل.

[سورة طه (20): الآیات 97 الی 100]

قٰالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي اَلْحَيٰاةِ أَنْ تَقُولَ لاٰ مِسٰاسَ وَ إِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَ اُنْظُرْ إِلىٰ إِلٰهِكَ اَلَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عٰاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي اَلْيَمِّ نَسْفاً إِنَّمٰا إِلٰهُكُمُ اَللّٰهُ اَلَّذِي لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً كَذٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبٰاءِ مٰا قَدْ سَبَقَ وَ قَدْ آتَيْنٰاكَ مِنْ لَدُنّٰا ذِكْراً مَنْ

ص: 359


1- الأعراف: 142.
2- العرائس: 124.

[سورة طه (20): الآیات 100 الی 104]

أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ وِزْراً خٰالِدِينَ فِيهِ وَ سٰاءَ لَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ حِمْلاً يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ وَ نَحْشُرُ اَلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً يَتَخٰافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّٰ عَشْراً نَحْنُ أَعْلَمُ بِمٰا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاّٰ يَوْماً

عوقب السامريّ في الدنيا بأن منع من مخالطة الناس منعا كليا، وحرمت عليهم مكالمته ومبايعته ومجالسته ومؤاكلته، وإذا اتفق أن يماس أحدا، رجلا كان أو امرأة حمّ الماس والممسوس، فكان يهيم في البرية مع الوحش، و إذا لقي أحدا قال:

لاٰ مِسٰاسَ أي: لا تقربني ولا تمسّني. وقيل: إنّ ذلك بقي في ولده إلى اليوم، إن مسّ واحد من غيرهم واحدا منهم حمّ كلاهما في الوقت(1).

لَنْ تُخْلَفَهُ وَ أي: لن يخلفك اللّه تعالى موعده الذي وعدك علي الشرك والفساد في الأرض، ينجزه لك في الآخرة، فأنت ممن خسر الدنيا والآخرة. وقرئ:

لن تخلفه - بكسر اللام - وهو من أخلفت الموعد: إذا وجدته خلفا، وقرئ: لن نخلفه - بالنون - حكاية لقوله عزّ وجل.

ظَلْتَ أي: ظللت، حذفت اللام الأولى. وقرئ: لنحرقنه وهي قراءة عليّ عليه السلام، ومعناه: لنبردنّه بالمبرد و لنحتنّه حتا. ويجوز أن يكون لَنُحَرِّقَنَّهُ مبالغة في حرق: إذا برد، وهذه القراءة تدلّ علي أنّه كان ذهبا وفضة ولم يصر حيوانا.

كُلَّ شَيْ ءٍ مفعول وَسِعَ ، و عِلْماً منصوب علي التمييز وهو في المعنى فاعل.

كَذٰلِكَ أي: مثل ذلك الاقتصاص وهو ما قصصنا عليك من قصّة

ص: 360


1- الكشف والبيان ج 6:258.

موسى وفرعون نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ سائر أخبار الأمم السالفة و أحوالهم تكثيرا في آياتك ومعجزاتك.

والمراد بالذكر: القران، لأنّ فيه ذكر كل ما يحتاج إليه من أمور الدين، أي:

ذِكْراً مشتملا على هذه الأقاصيص وعلي الأخبار الحقيقة بالتفكر فيها، فمن أقبل عليه سعد و نجا، و من أعرض عنه فقد شقي وهوى.

والمراد بالوزر: العقوبة لما فيها من الثقل والصعوبة تشبيها بالحمل الثقيل الذي يفدح حمله، أو لأنّها جزاء الوزر الذي هو الإثم.

خٰالِدِينَ حمل علي معنى مَنْ ، ووحّد الضمير في أَعْرَضَ حملا على اللفظ، فِيهِ أي: في ذلك الوزر أو في احتماله وَ سٰاءَ حكمه حكم بئس، وفيه ضمير مبهم يفسّره حِمْلاً ، والمخصوص بالذم محذوف لدلالة الوزر الذي تقدّم ذكره عليه، تقديره: وساء حملا وزرهم، ونحوه: وَ سٰاءَتْ مَصِيراً (1) أي جهنم.

و لَهُمْ للبيان، مثله في هَيْتَ لَكَ (2).

وقرأ أبو عمرو: ننفخ - بالنون -.

وقيل في الزرق: أنّ المراد: العمى(3)، وقيل: العطاش يظهر في عيونهم كا لزرقة(4)، وقيل: زرق العيون: سود الوجوه(5).

يَتَخٰافَتُونَ أي: يتسارّون بَيْنَهُمْ يقول بعضهم لبعض: ما لَبِثْتُمْ

ص: 361


1- النساء: 97.
2- يوسف: 23.
3- معاني القرآن للفراء ج 2:191.
4- تهذيب اللغة ج 8:428.
5- عن الضحاك وغيره. تفسير الفخر الرازي ج 22:14.

إِلاّٰ عشر ليال، وإنّما يتخافتون لما اعتراهم من الرعب والهول، استقصروا مدة لبثهم في الدنيا لاستطالتهم في الآخرة، أو مدة لبثهم في القبور.

و أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً أوفرهم عقلا و أصوبهم رأيا عند نفسه، ونحوه: قٰالُوا لَبِثْنٰا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ (1).

[سورة طه (20): الآیات 105 الی 114]

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْجِبٰالِ فَقُلْ يَنْسِفُهٰا رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُهٰا قٰاعاً صَفْصَفاً لاٰ تَرىٰ فِيهٰا عِوَجاً وَ لاٰ أَمْتاً يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ اَلدّٰاعِيَ لاٰ عِوَجَ لَهُ وَ خَشَعَتِ اَلْأَصْوٰاتُ لِلرَّحْمٰنِ فَلاٰ تَسْمَعُ إِلاّٰ هَمْساً يَوْمَئِذٍ لاٰ تَنْفَعُ اَلشَّفٰاعَةُ إِلاّٰ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمٰنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلاً يَعْلَمُ مٰا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مٰا خَلْفَهُمْ وَ لاٰ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً وَ عَنَتِ اَلْوُجُوهُ لِلْحَيِّ اَلْقَيُّومِ وَ قَدْ خٰابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصّٰالِحٰاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلاٰ يَخٰافُ ظُلْماً وَ لاٰ هَضْماً وَ كَذٰلِكَ أَنْزَلْنٰاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَ صَرَّفْنٰا فِيهِ مِنَ اَلْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً فَتَعٰالَى اَللّٰهُ اَلْمَلِكُ اَلْحَقُّ وَ لاٰ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً

يَنْسِفُهٰا رَبِّي أي: يجعلها بمنزلة الرمل، ثمّ يرسل عليها الرياح فتذريها وتفرّقها كما تذري الطعام.

فَيَذَرُهٰا أي: فيذر مقارها و مراكزها، أو يكون الضمير للأرض وإن لم يجر لها ذكر.

لاٰ تَرىٰ فِيهٰا عِوَجاً أي: اعوجاجا وَ لاٰ أَمْتاً ولا نتوا يسيرا، وعن

ص: 362


1- المؤمنون: 113.

الحسن: (العوج: ما انخفض من الأرض، والأمت: ما ارتفع من الروابي)(1).

وأضاف اليوم إلى وقت نسف الجبال في قوله: يَوْمَئِذٍ أي: يوم إذ نسفت، ويجوز أن يكون بدلا بعد بدل من يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ .

يَتَّبِعُونَ صوت اَلدّٰاعِيَ إلي المحشر، وهو إسرافيل الذي ينفخ في الصور يدعو الناس قائما على صخرة بيت المقدس، فيقبلون من كل أوب إلي صوته.

لاٰ عِوَجَ لَهُ أي: لا يعوج له مدعو، بل يستوون إليه من غير انحراف.

وَ خَشَعَتِ اَلْأَصْوٰاتُ أي: خفضت من شدّة الفزع وخفتت.

فَلاٰ تَسْمَعُ إِلاّٰ هَمْساً وهو الركز الخفي، ومنه الحروف المهموسة، وقيل:

هو من هميس الإبل، وهو صوت أخفافها إذا مشت، أي: لا تسمع إلا خفق الأقدام ونقلها إلي المحشر.

مَنْ يجوز فيه الرفع والنصب، فالرفع علي البدل من الشفاعة بتقدير حذف المضاف، أي: لا تنفع الشفاعة إلا مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمٰنُ ، والنصب علي المفعولية. ومعنى أَذِنَ لَهُ ، وَ رَضِيَ لَهُ : لأجله، كا للام في قوله: وَ قٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كٰانَ خَيْراً مٰا سَبَقُونٰا إِلَيْهِ (2).

يَعْلَمُ مٰا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أي: ما تقدّمهم من الأحوال وَ مٰا خَلْفَهُمْ أي: ما يستقبلونه وَ لاٰ يُحِيطُونَ بمعلوماته عِلْماً .

وَ عَنَتِ وجوه العصاة أي: خشعت و ذلّت إذا عاينت أهوال يوم القيامة، وقيل: المراد بالوجوه: الرؤساء والملوك، أي: صاروا كالعناة وهم الأسارى،

ص: 363


1- معالم التنزيل ج 3:21.
2- الأحقاف: 11.

وقوله: وَ قَدْ خٰابَ وما بعده اعتراض.

فَلاٰ يَخٰافُ ظُلْماً و هو أن يؤخذ بذنب لم يعمله، أو لا يجزى بعمله، وَ لاٰ هَضْماً و هو أن يكسر من حقّه فلا يوفى له، أو يبطل بعض حسناته. وقرئ: فلا يخف علي النهي، والمعنى: فليأمن الظلم و الهضم.

وَ كَذٰلِكَ عطف علي كَذٰلِكَ نَقُصُّ أي: مثل ذلك الإنزال، و كما أنزلنا عليك هؤلاء الآيات المتضمّنة للوعيد أنزلنا القرآن كله.

وَ صَرَّفْنٰا أي: و كررنا فِيهِ ايات اَلْوَعِيدِ وبيّناها علي ألفاظ مختلفة ليتقوا المعاصي أَوْ يُحْدِثُ القرآن لَهُمْ شرفا بإيمانهم به، أو اعتبارا بأن يذكروا به عقاب اللّه للأمم.

فَتَعٰالَى اَللّٰهُ اَلْمَلِكُ اَلْحَقُّ استعظام له سبحانه، ولما يصرف عليه عباده من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده، وما يجري عليه أمور ملكوته.

ولما ذكر القرآن وإنزاله قال علي سبيل الاستطراد: وإذا لقّنك جبرئيل الوحي ف - لاٰ تَعْجَلْ بتلاوته قبل أن يفرغ من قراءته، ولا تكن قراءتك مساوقة لقراءته، ونحوه: لاٰ تُحَرِّكْ بِهِ لِسٰانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (1)، وقيل: معناه: لا تقرئه أصحابك حتى يبيّن لك ما كان مجملا(2)، واسترد من اللّه سبحانه علما إلى علمك وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً إلى علم.

[سورة طه (20): الآیات 115 الی 117]

وَ لَقَدْ عَهِدْنٰا إِلىٰ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً وَ إِذْ قُلْنٰا لِلْمَلاٰئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّٰ إِبْلِيسَ أَبىٰ فَقُلْنٰا يٰا آدَمُ إِنَّ هٰذٰا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ فَلاٰ يُخْرِجَنَّكُمٰا مِنَ اَلْجَنَّةِ فَتَشْقىٰ

ص: 364


1- القيامة: 16.
2- عن مجاهد وغيره. تفسير الطبري ج 16:160.

[سورة طه (20): الآیات 118 الی 123]

إِنَّ لَكَ أَلاّٰ تَجُوعَ فِيهٰا وَ لاٰ تَعْرىٰ وَ أَنَّكَ لاٰ تَظْمَؤُا فِيهٰا وَ لاٰ تَضْحىٰ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ اَلشَّيْطٰانُ قٰالَ يٰا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلىٰ شَجَرَةِ اَلْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لاٰ يَبْلىٰ فَأَكَلاٰ مِنْهٰا فَبَدَتْ لَهُمٰا سَوْآتُهُمٰا وَ طَفِقٰا يَخْصِفٰانِ عَلَيْهِمٰا مِنْ وَرَقِ اَلْجَنَّةِ وَ عَصىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوىٰ ثُمَّ اِجْتَبٰاهُ رَبُّهُ فَتٰابَ عَلَيْهِ وَ هَدىٰ قٰالَ اِهْبِطٰا مِنْهٰا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمّٰا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اِتَّبَعَ هُدٰايَ فَلاٰ يَضِلُّ وَ لاٰ يَشْقىٰ

عطف سبحانه قصّة آدم علي قوله: وَ صَرَّفْنٰا فِيهِ مِنَ اَلْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ، والمعنى: وأقسم قسما لَقَدْ وصيّنا أباهم بأن لا يقرب الشجرة فَنَسِيَ العهد ولم يتذكر الوصية، يقال: عهد الملك إلى فلان وأو عز إليه وعزم عليه.

وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً يجوز أن يكون من الوجود الذي هو بمعنى العلم ومفعولاه لَهُ عَزْماً ، وأن يكون نقيض العدم، كأنّه قال: وعدمنا له عزما، وقيل: فَنَسِيَ معناه: فترك الأمر(1).

وَ إِذْ منصوب بمضمر، أي: واذكر وقت ما جري عليه من معاداة إبليس ووسوسته إليه، وتزيينه له الأكل من الشجرة.

أَبىٰ جملة مستأنفة كأنّه جواب قائل يقول: لم لم يسجد؟ والوجه: أن لا يقدّر له مفعول وهو السجود، وأن يكون معناه: أظهر الإباء وتوقف.

وقوله: فَلاٰ يُخْرِجَنَّكُمٰا معناه: فلا يكونن سببا لإخراجكما.

فَتَشْقىٰ أسند الشقاء إلى آدم دون حواء بعد اشتراكهما في الخروج، لأنّ

ص: 365


1- عن ابن عباس وغيره. تفسير الطبري ج 16:160.

المراد بالشقاء هنا التعب في طلب القوت ومعاناة العمل وذلك معصوب برأس الرجل، وعن سعيد بن جبير: (إنّه أهبط إلي آدم ثور أحمر، فكان يحرث عليه ويرشح العرق من جبينه، فذلك هو الشقاوة)(1).

و قرئ: وَ أَنَّكَ بفتح الهمزة وكسرها، ووجه الفتح: العطف علي أَلاّٰ تَجُوعَ والتقدير: وإنّ لك أنّك لا تظمأ، والكسر: علي الاستئناف. و الشبع، والري، والكسوة، والكن، هي الأقطاب التي يدور عليها كفاف الإنسان، فذكر سبحانه استجماعها له في الجنّة، وأنّه لا يحتاج إلي كفاية كاف ولا إلي كسب كاسب، كما أنّ أهل الدنيا يحتاجون إلي ذلك، وذكرها بلفظ النفي لنقائضها التي هي الجوع، والعري، والظمأ، والضحى، ليطرق سمعه بأسامي أصناف الشقوة التي حذره منها حتى يتحرز عن السبب الموقع فيها كراهة لها.

فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ اَلشَّيْطٰانُ أي: أنهى إليه الوسوسة كما يقال: أسرّ إليه، وأضاف الشجرة إلى اَلْخُلْدِ و هو الخلود، لأنّ من أكل مِنْهٰا خلد بزعمه.

وطفق يفعل كذا مثل: جعل يفعل، وأخذ يفعل، وحكمها حكم (كاد) في أنّ خبرها الفعل المضارع، وهي للشروع في أوّل الأمر، وكاد للدنو من الأمر.

يَخْصِفٰانِ عَلَيْهِمٰا أي: يلزقان بسوآتهما مِنْ وَرَقِ اَلْجَنَّةِ للتستر، وهو ورق التين.

وَ عَصىٰ آدَمُ رَبَّهُ أي: خالف ما أمره به ربّه، و المعصية: مخالفة الأمر، سواء كان الأمر واجبا أو ندبا.

فَغَوىٰ أي: فخاب من الثواب الذي كان يستحقّه على فعل المأمور به،

ص: 366


1- تفسير الطبري ج 16:161.

أو خاب مما كان يطمع فيه بأكل الشجرة من الخلود، ويستشهد على ذلك بقول الشاعر:

فمن يلق خيرا يحمد النّاس أمره *** ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما(1)

ثُمَّ اِجْتَبٰاهُ رَبُّهُ أي: اصطفاه ربّه وقرّبه إليه، من قولهم: جبى إليّ كذا فاجتبيته.

فَتٰابَ عَلَيْهِ أي: قبل توبته وهداه إلى ذكره، وقيل: وهداه للكلمات التي تلقّاها منه(2).

ولما كان آدم وحواء أصلي البشر جعلا كأنّهما البشر، فخوطبا مخاطبتهم فقيل:

فَإِمّٰا يَأْتِيَنَّكُمْ علي لفظ الجماعة كما أسند الفعل إلى السبب وهو في الحقيقة للمسبب.

والمراد بالهدي: الكتاب والشريعة. وعن ابن عباس: (ضمن اللّه لمن اتبع القران أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثمّ تلا قوله: فَمَنِ اِتَّبَعَ هُدٰايَ فَلاٰ يَضِلُّ وَ لاٰ يَشْقىٰ )(3).

[سورة طه (20): الآیات 124 الی 127]

وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ أَعْمىٰ قٰالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمىٰ وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً قٰالَ كَذٰلِكَ أَتَتْكَ آيٰاتُنٰا فَنَسِيتَهٰا وَ كَذٰلِكَ اَلْيَوْمَ تُنْسىٰ وَ كَذٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَ لَمْ يُؤْمِنْ بِآيٰاتِ رَبِّهِ وَ لَعَذٰابُ اَلْآخِرَةِ أَشَدُّ

ص: 367


1- البيت للمرقش الأصغر. الشعر والشعراء ج 1:215، وفيه: ومن يلق....
2- تفسير السمرقندي ج 2:415.
3- تفسير الطبري ج 16:163.

[سورة طه (20): الآیات 127 الی 130]

وَ أَبْقىٰ أَ فَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنٰا قَبْلَهُمْ مِنَ اَلْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسٰاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِأُولِي اَلنُّهىٰ وَ لَوْ لاٰ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكٰانَ لِزٰاماً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى فَاصْبِرْ عَلىٰ مٰا يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ اَلشَّمْسِ وَ قَبْلَ غُرُوبِهٰا وَ مِنْ آنٰاءِ اَللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَ أَطْرٰافَ اَلنَّهٰارِ لَعَلَّكَ تَرْضىٰ

وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ القران، وقيل: عن الدلائل فلم ينظر فيها.

فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً أي: عيشا ضيقا، و الضنك مصدر يستوي في الوصف به المذكر والمؤنث، والمعنى فيه: إنّ مع الدين القناعة والتوكل علي اللّه والرضا بقسمته، فصاحبه ينفق مما رزق بسهولة وسماح فيكون في رفاهية من عيشه، ومن أعرض عن الدين استولى عليه الحرص والجشع، ويتسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الإنفاق فيعيش في ضنك.

وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ أَعْمىٰ البصر، وقيل: أعمى عن الحجّة لا يهتدي إليها(1)، والأوّل أوجه لأنّه الظاهر.

كَذٰلِكَ أي: مثل ذلك فعلت أنت، ثمّ فسّره بأن آياتنا أَتَتْكَ واضحة منيرة فلم تنظر إليها بعين المعتبر وتركتها وعميت عنها ف - كَذٰلِكَ نتركك علي عماك، ولا نزيل غطاءه عن عينيك.

ولما توعّد المعرض عن ذكره بعقوبتين: المعيشة الضنك في الدنيا، وحشره أعمى في الآخرة؛ ختم آيات الوعيد بقوله: وَ لَعَذٰابُ اَلْآخِرَةِ أَشَدُّ وَ أَبْقىٰ كأنّه قال:

وللحشر على العمى الذي لا يزول أبدا أشدّ من ضيق العيش المنقضي، أو أراد

ص: 368


1- عن مجاهد وغيره. تفسير الطبري ج 16:165.

ولتركنا إيّاه في العمى أشدّ وأبقى من تركه لآياتنا.

وفاعل أَ فَلَمْ يَهْدِ الجملة بعده، والمراد: ألم يهد لهم هذا بمضمونه ومعناه، كما أنّ قوله تعالى: وَ تَرَكْنٰا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ سَلاٰمٌ عَلىٰ نُوحٍ فِي اَلْعٰالَمِينَ (1) معناه:

تركنا عليه هذا الكلام، ويجوز أن يكون فيه ضمير اللّه أو الرسول، ويدلّ عليه القراءة بالنون.

يَمْشُونَ فِي مَسٰاكِنِهِمْ يريد أنّ قريشا يتقلبون في بلاد عاد وثمود ويعاينون آثار إهلاكهم.

إِنَّ فِي ذٰلِكَ لعبرا و دلالات لذوي العقول.

وَ لَوْ لاٰ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ و هي العدة بتأخير جزائهم إلى الآخرة لَكٰانَ مثل إهلاكنا عادا وثمودا لازما لهؤلاء الكفرة. واللزام: إما مصدر لازم وصف به، وإما فعال بمعنى مفعل كأنّه آلة اللزوم، لفرط لزومه كما قيل: لزاز خصم.

وَ أَجَلٌ مُسَمًّى معطوف علي كَلِمَةٌ أو علي الضمير في (كان) أي: لكان الأخذ العاجل وأجل مسمّى لازمين له كما كانا لازمين لعاد وثمود.

وقوله: بِحَمْدِ رَبِّكَ في موضع نصب علي الحال، أي: وأنت حامد لربّك علي أن وفّقك للتسبيح وأعانك عليه، والمراد بالتسبيح: الصلاة، أو هو علي الظاهر.

قَبْلَ طُلُوعِ اَلشَّمْسِ يعني: صلاة الفجر.

وَ قَبْلَ غُرُوبِهٰا يعني: الظهر والعصر، لأنّهما واقعتان في النصف الأخير من النهار بين زوال الشمس وغروبها.

ص: 369


1- الصافات: 78، 79.

وَ مِنْ آنٰاءِ اَللَّيْلِ أي: ساعاته، وعن ابن عباس: (هي صلاة الليل كله)(1)، وقيل: إنّ قبل غروبها هو صلاة العصر و (أطراف النهار) هو الظهر لأنّ وقته الزوال وهو طرف النصف الأوّل وطرف النصف الثاني من النهار(2).

وقد يؤول أيضا التسبيح في آنٰاءِ اَللَّيْلِ بصلاة العتمة، وفي (أطراف النهار) بصلاة الفجر والمغرب، فيكون تكرارا علي إرادة الاختصاص كما في قوله:

حٰافِظُوا عَلَى اَلصَّلَوٰاتِ وَ اَلصَّلاٰةِ اَلْوُسْطىٰ (3) . و من حمل التسبيح علي الظاهر قال: أراد المداومة علي التسبيح والتحميد في عموم الأوقات.

لَعَلَّكَ تَرْضىٰ بالشفاعة والدرجة الرفيعة. وقرئ بفتح التاء كما في قوله:

وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضىٰ (4) .

[سورة طه (20): الآیات 131 الی 135]

وَ لاٰ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلىٰ مٰا مَتَّعْنٰا بِهِ أَزْوٰاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَ رِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ أَبْقىٰ وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاٰةِ وَ اِصْطَبِرْ عَلَيْهٰا لاٰ نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَ اَلْعٰاقِبَةُ لِلتَّقْوىٰ وَ قٰالُوا لَوْ لاٰ يَأْتِينٰا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَ وَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مٰا فِي اَلصُّحُفِ اَلْأُولىٰ وَ لَوْ أَنّٰا أَهْلَكْنٰاهُمْ بِعَذٰابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقٰالُوا رَبَّنٰا لَوْ لاٰ أَرْسَلْتَ إِلَيْنٰا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيٰاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَ نَخْزىٰ قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحٰابُ اَلصِّرٰاطِ اَلسَّوِيِّ وَ مَنِ اِهْتَدىٰ

ص: 370


1- تفسير الطبري ج 16:168.
2- عن قتادة وغيره. تفسير الطبري ج 16:168.
3- البقرة: 238.
4- الضحى: 5.

أي: لاٰ تَمُدَّنَّ نظر عَيْنَيْكَ ، و مدّ النظر تطويله وأن لا يكاد يردّه، استحسانا للمنظور إليه و إعجابا به، و تمنّيا أن يكون ذلك له. وقد قال بعض الزهاد: ويجب غض الطرف عن أبنية الظلمة وملابسهم المحرّمة، لأنّهم اتخذوا ذلك لعيون الناظرة، فالناظر إليها محصّل لغرضهم وكأنّه يحملهم على اتخاذها.

أَزْوٰاجاً مِنْهُمْ أصنافا من الكفرة، ويجوز أن ينتصب حالا من هاء الضمير، والفعل واقع على مِنْهُمْ ، كأنّه قال: إلى الذي متعنا به وهو أصناف بعضهم وناسا منهم.

وفي انتصاب زَهْرَةَ اَلْحَيٰاةِ وجوه: أن ينتصب علي الذم وهو النصب علي الاختصاص، وعلي تضمين مَتَّعْنٰا معنى أعطينا وخوّلنا، وكونه مفعولا ثانيا له، وعلي إبداله من محلّ الجار والمجرور، وعلي إبداله من أَزْوٰاجاً علي تقدير:

ذوي زهرة، والزهرة: الزينة والبهجة. وقرئ بفتح الهاء فيكون لغة في الزهرة كما جاء في الجهرة: الجهرة، أو يكون جمع زاهر وصفا لهم بأنّهم زاهرو الدنيا، لتهلل وجوههم وصفاء ألوانهم مما يتنعمون.

لِنَفْتِنَهُمْ لنبلوهم، أو لنعذّبهم في الآخرة بسببه.

وَ رِزْقُ رَبِّكَ المدّخر لك في الآخرة خَيْرٌ منه و أدوم، أو ما رزقت من نعمة النبوّة خير مما متعناهم به.

وَ أْمُرْ أَهْلَكَ أي: أهل بيتك بِالصَّلاٰةِ واستعينوا بها علي خصاصتكم وَ اِصْطَبِرْ عَلَيْهٰا و اصبر علي فعلها والأمر بها، ولا تهتم بأمر الرزق والمعيشة، فإنّ رزقك مكفيّ من عندنا لاٰ نَسْئَلُكَ أن ترزق نفسك ولا أهلك. وعن أبي سعيد الخدري: لما نزلت هذه الآية كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يأتي باب فاطمة و عليّ عليهما السلام تسعة أشهر وقت كل صلاة فيقول: (الصلاة رحمكم اللّه إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ

ص: 371

اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (1) )(2). وعن بكر بن عبد اللّه المزني(3): (أنّه كان إذا أصاب أهله خصاصة قال: قوموا فصلّوا، بهذا أمر اللّه ورسوله، ثمّ يتلو هذه الآية)(4).

وَ اَلْعٰاقِبَةُ المحمودة لِلتَّقْوىٰ أي: لأهل التقوى.

وَ قٰالُوا لَوْ لاٰ يَأْتِينٰا بِآيَةٍ اقترحوا علي عادتهم في التعنت آية علي النبوّة، فقيل لهم: أَ وَ لَمْ تأتكم آية هي أصل الآيات وأجلّها في باب الإعجاز؟ يعني:

القرآن، وذلك أنّ القرآن به يستدلّ علي صحّة سائر الكتب المنزلة، وجميعها مفتقرة إلى شهادته علي صحّة ما فيها كما يحتاج المحتج عليه إلى شهادة الحجّة، لأنّه معجز وتلك الكتب ليست بمعجزات.

وذكّر الضمير الراجع إلى البيّنة في مِنْ قَبْلِهِ لأنّها في معنى الدليل و البرهان.

كُلٌّ أي: كل واحد منا ومنكم مُتَرَبِّصٌ منتظر للعاقبة، فنحن ننتظر وعد اللّه لنا فيكم، وأنتم تتربّصون بنا الدوائر.

و اَلصِّرٰاطِ اَلسَّوِيِّ : الدين المستقيم.

وفي قوله: وَ لَوْ أَنّٰا أَهْلَكْنٰاهُمْ ... الآية دلالة علي وجوب اللطف، و أنه إنما بعث الرسول لكونه لطفا، و لو لم يبعثه لكان للخلق الحجة عليه سبحانه و تعالي.

ص: 372


1- الأحزاب: 33.
2- شواهد ا لتنزيل ج 2:29 باختلاف يسير، و ينظر: تفسير الحبري: 297-309.
3- بكر بن عبد الله المزني أبو عبد الله البصري، من الرواة المشهورين، مات سنة 106 ه -. ينظر: معجم رجال الحديث ج 3:372. تقريب التهذيب ج 1:135.
4- الكشف و البيان ج 6:267.

سورة الأنبياء

اشارة

مكية، و هي مائة و اثنتا عشرة آية كوفي، و إحدي عشرة آية غيرهم، عد الكوفي لاٰ يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لاٰ يَضُرُّكُمْ .

في حديث أبيّ : (من قرأ (سورة الأنبياء) حاسبه اللّه حسابا يسيرا، وصافحه وسلّم عليه كل نبيّ ذكر اسمه في القرآن)(1)، وقال أبو عبد اللّه عليه السلام: (من قرأها حبّا لها كان ممن رافق النبيّين في جنات النعيم، وكان مهيبا في أعين الناس في الدنيا)(2).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة الأنبياء (21): الآیات 1 الی 5]

اِقْتَرَبَ لِلنّٰاسِ حِسٰابُهُمْ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ مٰا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اِسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ لاٰهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَ أَسَرُّوا اَلنَّجْوَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هٰذٰا إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَ فَتَأْتُونَ اَلسِّحْرَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ قٰالَ رَبِّي يَعْلَمُ اَلْقَوْلَ فِي اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ بَلْ قٰالُوا أَضْغٰاثُ أَحْلاٰمٍ بَلِ اِفْتَرٰاهُ بَلْ هُوَ شٰاعِرٌ فَلْيَأْتِنٰا بِآيَةٍ كَمٰا أُرْسِلَ اَلْأَوَّلُونَ

ص: 373


1- الكشف والبيان ج 6:268.
2- ثواب الأعمال: 108.

اللام في لِلنّٰاسِ لتوكيد معنى إضافة الحساب إلى الناس، والأصل:

اقترب حساب الناس، ثمّ اقترب للناس الحساب، ثمّ اِقْتَرَبَ لِلنّٰاسِ حِسٰابُهُمْ والمراد: اقتراب القيامة، وإذا اقتربت فقد اقترب ما يكون فيها من الحساب والثواب والعقاب وغير ذلك، وإنّما وصفت بالقرب لأنّ كل آت وإن طالت مدة ترقّبه قريب، وإنّما البعيد هو الذي وجد وانقرض. وفي كلام أمير المؤمنين عليه السلام: (إنّ الدنيا ولّت حذّاء(1)، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء)(2).

وصفهم بالغفلة مع الإعراض على معنى: أنّهم غافلون عن حسابهم، ساهون لا يتفكرون في عاقبتهم، وإذا نبّهوا عن سنة الغفلة بما يتلي عليهم من الآيات أعرضوا عن التفكر فيها والتدبر لها والإيمان بها.

ثمّ قرر سبحانه إعراضهم عن تنبيه المنبّه بأنّ اللّه يجدد لهم الذكر وقتا فوقتا، ويحدث لهم الآية بعد الآية والسورة بعد السورة ليتعظوا، فما يزيدهم استماع الآي والسور إلا لعبا وتلهيا.

وقوله: وَ هُمْ يَلْعَبُونَ لاٰهِيَةً قُلُوبُهُمْ حالان مترادفتان أو متداخلتان.

وأبدل اَلَّذِينَ ظَلَمُوا من واو وَ أَسَرُّوا إيذانا بأنّهم الموسومون بالظلم فيما أسرّوا به، أو يكون علي لغة من قال: أكلوني البراغيث، أو هو مبتدأ وخبره وَ أَسَرُّوا اَلنَّجْوَى قدّم عليه، والمعنى: وهؤلاء أَسَرُّوا اَلنَّجْوَى بالغوا في إخفاتها، فوضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا علي فعلهم بأنّه ظلم.

هَلْ هٰذٰا إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَ فَتَأْتُونَ اَلسِّحْرَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ هذا الكلام كله في محلّ النصب بدلا من اَلنَّجْوَى أي: و أسرّوا هذا الحديث، ويجوز

ص: 374


1- ولّت حذّاء: أدبرت بسرعة. (الصحاح: مادة حذذ)
2- نهج البلاغة: 100.

أن يتعلّق بقالوا مضمرا.

اعتقدوا أنّ الرسول من اللّه لا يكون إلا ملكا، وأنّ كل من ادّعى الرسالة من البشر وأتى بالمعجز فهو ساحر، وما أتى به فهو سحر، فلذلك قالوا: أفتأتون السحر وأنتم تعاينون أنّه سحر؟.

وقرئ: قٰالَ رَبِّي علي الخبر عن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، ولم يقل: يعلم السرّ، لأنّ القول عام يشمل السرّ والجهر، فكان في العلم به العلم بالسرّ وزيادته، ثمّ بيّن ذلك بقوله: وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ أي: العالم لذاته لا تخفى عليه خافية.

ثمّ أضربوا عن قولهم: هو سحر، إلى أنّه تخاليط أَحْلاٰمٍ ، ثمّ إلي أنّه كلام مفتري من عنده، ثمّ إلي أنّه قول شاعر؛ لأنّ (الباطل لجلج)(1)، والمبطل متحيّر لا يثبت علي قول واحد.

وصحّة التشبيه في قوله: كَمٰا أُرْسِلَ اَلْأَوَّلُونَ من حيث أنّه في معنى: كما أتى الأوّلون بالآيات، لأنّ إرسال الرسل متضمّن للإتيان بالآيات، فلا فرق بين أن يقول: أرسل محمّد، وبين قولك: أتى محمّد بالمعجز.

[سورة الأنبياء (21): الآیات 6 الی 10]

مٰا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنٰاهٰا أَ فَهُمْ يُؤْمِنُونَ وَ مٰا أَرْسَلْنٰا قَبْلَكَ إِلاّٰ رِجٰالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ وَ مٰا جَعَلْنٰاهُمْ جَسَداً لاٰ يَأْكُلُونَ اَلطَّعٰامَ وَ مٰا كٰانُوا خٰالِدِينَ ثُمَّ صَدَقْنٰاهُمُ اَلْوَعْدَ فَأَنْجَيْنٰاهُمْ وَ مَنْ نَشٰاءُ وَ أَهْلَكْنَا اَلْمُسْرِفِينَ لَقَدْ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكُمْ كِتٰاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَ فَلاٰ تَعْقِلُونَ

ص: 375


1- مجمع الأمثال ج 1:367.

في قوله: أَ فَهُمْ يُؤْمِنُونَ دلالة علي أنّهم أعتى من الأمم التي اقترحت علي أنبيائها الآيات ووعدوهم أن يؤمنوا عندها، فلما جاءتهم خالفوا و أخلفوا الوعد فأهلكهم اللّه، أي: فلو أعطيناهم ما اقترحوا لكانوا أنكث منهم.

واختلف في أهل اَلذِّكْرِ فقيل: هم أهل الكتاب(1)، وقيل: هم أهل العلم بأخبار من مضى من الأمم(2). وعن عليّ عليه السلام: (نحن أهل الذكر)(3).

لاٰ يَأْكُلُونَ اَلطَّعٰامَ صفة الجسد، والمعنى: وما جعلنا الأنبياء قبله ذوي جسد غير طاعمين، و وحّد الجسد لإرادة الجنس، كأنّه قال: ذوي ضرب من الأجساد، وهذا ردّ لقولهم: مٰا لِهٰذَا اَلرَّسُولِ يَأْكُلُ اَلطَّعٰامَ (4).

وَ مٰا كٰانُوا خٰالِدِينَ أي: ما أخرجناهم عن حدّ البشرية بأن أوحينا إليهم.

ثُمَّ صَدَقْنٰاهُمُ اَلْوَعْدَ أي: في الوعد، فهو مثل قوله: وَ اِخْتٰارَ مُوسىٰ قَوْمَهُ (5) أي: من قومه. ومنه قولهم: (صدقني سن بكره)(6)، وصدقوهم القتال.

فَأَنْجَيْنٰاهُمْ من أعدائهم وأنجينا مَنْ نَشٰاءُ من المؤمنين بهم وَ أَهْلَكْنَا اَلْمُسْرِفِينَ وهم المشركون، أسرفوا على أنفسهم بتكذيبهم الأنبياء.

فِيهِ ذِكْرُكُمْ أي: شرفكم وصيتكم، كما في قوله: وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ

ص: 376


1- عن قتادة. تفسير الطبري ج 17:4.
2- معاني القران وإعرابه ج 3:385.
3- تفسير الطبري ج 17:5، بصائر الدرجات: 40 عن الباقر عليه السلام، الكافي ج 1:210 عن الصادق عليه السلام.
4- الفرقان: 7.
5- الأعراف: 155.
6- مجمع الأمثال ج 2:212.

وَ لِقَوْمِكَ (1) ، أو موعظتكم، أو فيه مكارم الأخلاق التي كنتم تطلبون بها الثناء وحسن الذكر، كالسخاء وأداء الأمانة والوفاء وحسن الجوار وصدق الحديث وأشباهها من محاسن الأفعال.

[سورة الأنبياء (21): الآیات 11 الی 20]

وَ كَمْ قَصَمْنٰا مِنْ قَرْيَةٍ كٰانَتْ ظٰالِمَةً وَ أَنْشَأْنٰا بَعْدَهٰا قَوْماً آخَرِينَ فَلَمّٰا أَحَسُّوا بَأْسَنٰا إِذٰا هُمْ مِنْهٰا يَرْكُضُونَ لاٰ تَرْكُضُوا وَ اِرْجِعُوا إِلىٰ مٰا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَ مَسٰاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ قٰالُوا يٰا وَيْلَنٰا إِنّٰا كُنّٰا ظٰالِمِينَ فَمٰا زٰاَلَتْ تِلْكَ دَعْوٰاهُمْ حَتّٰى جَعَلْنٰاهُمْ حَصِيداً خٰامِدِينَ وَ مٰا خَلَقْنَا اَلسَّمٰاءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا لاٰعِبِينَ لَوْ أَرَدْنٰا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاَتَّخَذْنٰاهُ مِنْ لَدُنّٰا إِنْ كُنّٰا فٰاعِلِينَ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى اَلْبٰاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذٰا هُوَ زٰاهِقٌ وَ لَكُمُ اَلْوَيْلُ مِمّٰا تَصِفُونَ وَ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مَنْ عِنْدَهُ لاٰ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبٰادَتِهِ وَ لاٰ يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهٰارَ لاٰ يَفْتُرُونَ

هذا كلام وارد عن غضب شديد، لأنّ القصم أفظع الكسر، بخلاف الفصم، وهو سبحانه قاصم الجبارين، وأراد بالقرية أهلها ولذلك وصفها بالظلم، والمعنى: أهلكنا قوما وأنشأنا قوما آخرين، وعن ابن عباس: (أنّها حضور، وهي وسحول قريتان باليمن، تنسب إليهما الثياب)(2). وفي الحديث: (كفن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في ثوبين سحوليين)(3)،

ص: 377


1- الزخرف: 44.
2- معالم التنزيل ج 3:24.
3- معجم الطبراني الكبير ج 18:231.

ويروى: (حضوريين)(1). بعث اللّه إليهم نبيّا اسمه حنظلة فقتلوه، فسلّط عليهم بخت نصر كما سلّط علي أهل بيت المقدس فاستأصلهم. فظاهر الآية على الكثرة، ولعل ابن عباس ذكر حضور بأنّها إحدى القرى التي أرادها اللّه بهذه الآية.

فلما علموا شدّة بطشنا بأجسامهم وشاهدوا عذابنا ركضوا من ديارهم، و الركض: ضرب الدابة بالرجل، أي: هربوا وانهزموا من قريتهم لما أدركتهم مقدّمة العذاب، فقيل لهم: لاٰ تَرْكُضُوا والقول محذوف، و يحتمل أن يكون القائل بعض الملائكة، أو من هناك من المؤمنين وَ اِرْجِعُوا إِلىٰ مٰا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ من العيش الرافه والحال الناعمة، و الإتراف: إبطار النعمة، وهي الترفه.

لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ تهكّم بهم، أي: ارجعوا إلى نعمتكم و مساكنكم لعلكم تسألون غدا عما جري عليكم ونزل بأموالكم و مساكنكم، فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة، أو ارجعوا واجلسوا في مجالسكم ومراتبكم كما كنتم كذلك حتى تسألكم حشمكم ومن تملكون أمره ويقولوا لكم: بم تأمرون ؟ وماذا ترسمون ؟ كعادة المنعّمين، أو يسألكم الناس في أنديتكم المعاونة في الخطوب النازلة، ويستشفون بآرائكم في المهمات الكارثة.

تِلْكَ إشارة إلى يٰا وَيْلَنٰا .

والدعوي بمعنى الدعوة، أي: فَمٰا زٰاَلَتْ تِلْكَ الدعوى دَعْوٰاهُمْ ، و إنّما سمّيت دعوي، لأنّ المولول كأنّه يدعو الويل فيقول: تعال يا ويل فهذا وقتك.

والحصيد: الزرع المحصود، أي: جعلناهم مثل الحصيد، شبّههم به في استئصالهم، أي: جعلناهم جامعين لمماثلة الحصيد والخمود، كما يقال: جعلته حلوا حامضا أي: جامعا للطعمين.

ص: 378


1- الفائق في غريب الحديث ج 2:124.

وما جعلنا هذا السقف المرفوع وهذا المهاد الموضوع وَ مٰا بَيْنَهُمٰا من أنواع الخلائق للهو واللعب، وإنّما سويناها للفوائد الدينية والحكم الإلهية.

لاَتَّخَذْنٰاهُ مِنْ لَدُنّٰا أي: من جهة قدرتنا، واللهو: الولد، وقيل: المرأة(1)، وقيل: مِنْ لَدُنّٰا أي: من الملائكة لا من الإنس(2)، وهو ردّ لولادة المسيح وعزير.

بَلْ إضراب عن اتخاذ اللهو، كأنّه قال: سبحاننا أن نتخذ اللهو واللعب، [بل من موجب حكمتنا أن نغلب اللهو](3) بالجد و ندحض الباطل بِالْحَقِّ .

واستعار لذلك القذف والدفع تصويرا لإبطاله به ومحقه، فجعله كأنّه جرم صلب كالصخرة مثلا قذف به علي جرم رخو أجوف فدمغه، ثمّ قال: وَ لَكُمُ اَلْوَيْلُ مِمّٰا تَصِفُونَ به مما لا يجوز عليه.

وَ مَنْ عِنْدَهُ هم الملائكة، يعني: أنّهم منزّلون منه منزلة المقرّبين عند الملوك، لشرفهم علي الخلق وكرامتهم عليه.

وَ لاٰ يَسْتَحْسِرُونَ أي: لا يعيون ولا يملون.

يُسَبِّحُونَ أي: ينزهون الله تعالى عما لا يليق بصفاته علي الدوام في اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهٰارَ لا يضعفون عنه.

[سورة الأنبياء (21): الآیات 21 الی 24]

أَمِ اِتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ اَلْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ لَوْ كٰانَ فِيهِمٰا آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّٰهُ لَفَسَدَتٰا فَسُبْحٰانَ اَللّٰهِ رَبِّ اَلْعَرْشِ عَمّٰا يَصِفُونَ لاٰ يُسْئَلُ عَمّٰا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ أَمِ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً

ص: 379


1- عن الحسن. تفسير الطبري ج 17:8.
2- عن السدي. الدر المنثور ج 4:315.
3- ساقطة من ج.

[سورة الأنبياء (21): الآیات 24 الی 30]

قُلْ هٰاتُوا بُرْهٰانَكُمْ هٰذٰا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَ ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ اَلْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاّٰ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ أَنَا فَاعْبُدُونِ وَ قٰالُوا اِتَّخَذَ اَلرَّحْمٰنُ وَلَداً سُبْحٰانَهُ بَلْ عِبٰادٌ مُكْرَمُونَ لاٰ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مٰا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مٰا خَلْفَهُمْ وَ لاٰ يَشْفَعُونَ إِلاّٰ لِمَنِ اِرْتَضىٰ وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَ مَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلٰهٌ مِنْ دُونِهِ فَذٰلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلظّٰالِمِينَ أَ وَ لَمْ يَرَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ كٰانَتٰا رَتْقاً فَفَتَقْنٰاهُمٰا وَ جَعَلْنٰا مِنَ اَلْمٰاءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ أَ فَلاٰ يُؤْمِنُونَ

أَمِ هذه منقطعة بمعنى (بل) والهمزة، وقد دلّت علي الإضراب عما قبلها، وا لإنكار لما بعدها، وهو أن يتخذوا مِنَ اَلْأَرْضِ آلهة يُنْشِرُونَ الموتى، و من أعظم المنكرات أن ينشر الموات الأموات، وإذا ادّعوا لها الإلهية لزمهم أن يدّعوا لها الإنشار، لأنّه لا يستحقّ هذا الاسم إلا القادر علي كل مقدور.

وقوله: مِنَ اَلْأَرْضِ من نحو قولك: فلان من الكوفة، تريد أنّه كوفي، فيه إيذان بأنّها الأصنام التي تعبد في الأرض، أو يريد آلهة من جنس الأرض، لأنّها إما أن تنحت من بعض حجارة الأرض، أو تعمل من بعض جواهرها.

وقرئ: ينشرون، ويقال: أنشر اللّه الموتى ونشرها، وهما لغتان.

ثمّ دلّ سبحانه علي توحيده فقال: لَوْ كٰانَ فِيهِمٰا أي: في السماء والأرض آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّٰهُ لَفَسَدَتٰا وصفت الآلهة ب - إِلاَّ كما توصف ب - (غير)، كما لو قيل:

آلهة غير اللّه، ولا يجوز أن يكون بدلا، لأنّ البدل لا يسوغ إلا في غير الموجب،

ص: 380

كقوله: وَ لاٰ يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ اِمْرَأَتَكَ (1) وذلك أنّ أعم العام يصحّ نفيه ولا يصحّ إيجابه. والمعنى: لو كان يدبّر أمرهما آلهة شتى غير الواحد الذي هو منشئهما ومحدثهما لَفَسَدَتٰا ولم ينتظم أمرهما. وفي هذا دليل التمانع الذي بني عليه المتكلّمون مسألة التوحيد.

لاٰ يُسْئَلُ عَمّٰا يَفْعَلُ لأنّ أفعاله كلها حكمة وصواب، ولا يجوز عليه فعل القبيح وَ هُمْ يُسْئَلُونَ لأنّهم مملوكون مستعبدون، يقع منهم الحسن والقبيح، فهم جدراء بأن يقال لهم: لم فعلتم ؟ في كل شيء فعلوه.

وكرر أَمِ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً استعظاما لكفرهم.

قُلْ لهم: هٰاتُوا بُرْهٰانَكُمْ علي ذلك من جهة العقل أو من جهة الوحي، فإنّكم لا تجدون كتابا من كتب الأوّلين إلا وفيه الدعاء إلي التوحيد والنهي عن الشرك.

هٰذٰا القرآن ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ أي: عظة الذين معي، يعني: أمّته وَ ذِكْرُ الذين قَبْلِي من أمم الأنبياء ممن نجا بالإيمان، أو هلك بالكفر. وعن الصادق عليه السلام:

(يعني بذكر مَنْ مَعِيَ من معه وما هو كائن، وبذكر مَنْ قَبْلِي ما قد كان)(2).

ثمّ ذمّهم سبحانه بالجهل في قوله: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ اَلْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ عن التأمل والنظر.

و قرئ: نُوحِي ويوحى. وهذه الآية مقررة لما قبلها من اي التوحيد.

وَ قٰالُوا اِتَّخَذَ اَلرَّحْمٰنُ وَلَداً هم خزاعة حيث قالوا: الملائكة بنات اللّه.

ص: 381


1- هود: 81.
2- بصائر الدرجات: 130.

سُبْحٰانَهُ نزّه ذاته عن ذلك، ثمّ أخبر عنهم بأنّهم عِبٰادٌ ، والعبودية تنافي الولادة.

مُكْرَمُونَ أكرمهم اللّه وقرّبهم.

لاٰ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يعني: يتبعون قوله ولا يقولون شيئا حتى يقوله، فلا يسبق قولهم قوله، وكما أنّ قولهم تابع لقوله فعملهم أيضا كذلك مبني علي أمره، لا يعملون عملا لم يأمرهم به، وجميع ما يأتون ويذرون مما قدّموا وأخّروا بعين اللّه، يحيط علما بما عملوا وما هم عاملون، ولا يجترئون أن يشفعوا إِلاّٰ لِمَنِ اِرْتَضىٰ اللّه دينه، أو ارتضى أن يشفع فيه وأهّله للشفاعة وهم المؤمنون، ثمّ إنّهم مع هذا كله مِنْ خشية اللّه مُشْفِقُونَ خائفون وجلون من التقصير في عبادته.

ثمّ أوعد بعذاب جهنم من أشرك منهم إن كان ذلك علي سبيل الفرض والتمثيل، تقطيعا لأمر الشرك، كما قال: وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ (1).

و قرئ: ألم ير - بغير واو - والمعنى: إنّ السماء كانت لاصقة بالأرض لا فضاء بينهما، أو كانت اَلسَّمٰاوٰاتِ متلاصقات وكذلك الأرضون لا فرج بينها، ففتقهما اللّه و فرح بينهما. وقيل: فَفَتَقْنٰاهُمٰا بالمطر والنبات بعد ما كانت مصمتة(2) وهو المروي عنهم عليهم السلام(3).

و إنّما قال: كٰانَتٰا ولم يقل: كن، لأنّ المراد جماعة السماوات وجماعة

ص: 382


1- الأنعام: 88.
2- عن ابن عباس. الدر المنثور ج 4:317.
3- تفسير القمي ج 2:70. التبيان ج 7:242.

الأرض، كما قيل: لقاحان سوداوان أي: جماعتان، فعل في المضمر مثل ما فعل في المظهر.

وَ جَعَلْنٰا لا يخلو أن يتعدّي إلى واحد أو اثنين، فإن كان الأوّل فالمعنى:

خلقنا مِنَ اَلْمٰاءِ كُلَّ حيوان كقوله: وَ اَللّٰهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مٰاءٍ (1)، أو كأنّما خلقناه من الماء لحاجته إليه وقلة صبره عنه كقوله: خُلِقَ اَلْإِنْسٰانُ مِنْ عَجَلٍ (2).

وإن كان الثاني فالمعنى: صيّرنا كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ بسبب مِنَ اَلْمٰاءِ لا بد له منه، ويكون (من) هنا كما في قوله عليه السلام: (ما أنا من دد ولا الدد مني)(3).

[سورة الأنبياء (21): الآیات 31 الی 35]

وَ جَعَلْنٰا فِي اَلْأَرْضِ رَوٰاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَ جَعَلْنٰا فِيهٰا فِجٰاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ وَ جَعَلْنَا اَلسَّمٰاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَ هُمْ عَنْ آيٰاتِهٰا مُعْرِضُونَ وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهٰارَ وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ وَ مٰا جَعَلْنٰا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ اَلْخُلْدَ أَ فَإِنْ مِتَّ فَهُمُ اَلْخٰالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذٰائِقَةُ اَلْمَوْتِ وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ اَلْخَيْرِ فِتْنَةً وَ إِلَيْنٰا تُرْجَعُونَ

رَوٰاسِيَ أي: جبال ثوابت، أي: كراهة أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وتضطرب، أو لأن لا تميد بهم، فحذف (لا) واللام، و إنّما حذف الا) لعدم الالتباس، كما زيد لذلك في نحو قوله: لِئَلاّٰ يَعْلَمَ أَهْلُ اَلْكِتٰابِ (4) وهذا مذهب الكوفيين.

وَ جَعَلْنٰا فِيهٰا أي: في الرواسي فِجٰاجاً أي: طرقا واسعة بينها، جمع

ص: 383


1- النور: 45.
2- الأنبياء: 37.
3- معجم الطبراني الكبير ج 19:344، أمالي السيّد المرتضى ج 1:25.
4- الحديد: 29.

فج، وهي صفة ل - (سبل)، فلما تقدّمت عليها جعلت حالا منها.

سَقْفاً مَحْفُوظاً من أن يسقط إلي الأرض ويتزلزل، أو محفوظا بالشهب عن أن يتسمع الشياطين علي سكانه من الملائكة.

وَ هُمْ عَنْ آيٰاتِهٰا أي: عما وضع اللّه فيها من الأدلة والعبر بالشمس والقمر وسائر الكواكب ومسائرها علي الحساب القويم والترتيب المستقيم الدال علي الحكمة البالغة، فمن أعرض عن الاستدلال بها علي عظم شأن من أوجدها وبديع حكمته فلا جهل أعظم من جهله.

كُلٌّ التنوين فيه عوض عن المضاف إليه، أي: كلهم فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ، والضمير للشمس والقمر، والمراد: جنس الطوالع كل يوم وليلة، ولذلك جعلت متكاثرة لتكاثر مطالعها، وهو السبب في جمعها بالشموس والأقمار وإن كانت الشمس واحدة والقمر واحدا، وإنّما جعل الضمير واو العقلاء للوصف بفعلهم وهو السباحة.

كانوا قد تمنّوا موته عليه السلام ليشمتوا بذلك فنفى اللّه عنه الشماتة بهذا، أي: قضي اللّه أن لا يخلد في الدنيا بشرا، فإن مِتَّ أنت أيبقى هؤلاء؟!.

و فِتْنَةً مصدر مؤكد ل - نَبْلُوكُمْ من غير لفظه، أي: نختبركم بما يجب فيه الصبر من البلايا، وبما يجب فيه الشكر من العطايا، وَ إِلَيْنٰا مرجعكم فنجازيكم علي حسب ما يوجد منكم من الصبر والشكر.

[سورة الأنبياء (21): الآیات 36 الی 37]

وَ إِذٰا رَآكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاّٰ هُزُواً أَ هٰذَا اَلَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَ هُمْ بِذِكْرِ اَلرَّحْمٰنِ هُمْ كٰافِرُونَ خُلِقَ اَلْإِنْسٰانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيٰاتِي

ص: 384

[سورة الأنبياء (21): الآیات 37 الی 40]

فَلاٰ تَسْتَعْجِلُونِ وَ يَقُولُونَ مَتىٰ هٰذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ لَوْ يَعْلَمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لاٰ يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ اَلنّٰارَ وَ لاٰ عَنْ ظُهُورِهِمْ وَ لاٰ هُمْ يُنْصَرُونَ بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاٰ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهٰا وَ لاٰ هُمْ يُنْظَرُونَ

الذكر يكون بالخير وبالشرّ، فإذا دلّت الحال علي أحدهما أطلق، تقول للرجل: سمعت فلانا يذكرك، فإن كان الذاكر صديقا فهو ثناء، وإن كان عدوا فهو ذم، ومنه قوله: أَ هٰذَا اَلَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وقوله: سَمِعْنٰا فَتًى يَذْكُرُهُمْ (1). والمعنى: إنّهم يذكرون آلهتهم بما يجب أن لا تذكر به ككونهم شفعاء وشهداء، ويسوؤهم أن يذكرها ذاكر بخلاف ذلك.

و هُمْ كٰافِرُونَ بما يجب أن يذكر اللّه به من الوحدانية لا يصدّقون به، فهم أحقّ بأن يتخذوا هُزُواً منك لأنّهم مبطلون وأنت محقّ . والجملة في موضع [النصب علي البدل من](2) الهزء وهو الكفر باللّه، ويجوز أن يكون في موضع الحال علي حذف القول، أي: قائلين: أَ هٰذَا اَلَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ .

كانوا يستعجلون عذاب اللّه ويقولون: مَتىٰ هٰذَا اَلْوَعْدُ ، فأراد اللّه سبحانه نهيهم عن الاستعجال فقدّم أوّلا ذم الإنسان علي العجلة وأنّه مطبوع عليها، ثمّ نهاهم وزجرهم، فكأنّه قال: ليس ببدع منكم أن تستعجلوا، فإنّكم مجبولون علي ذلك وهو سجيتكم، وعن ابن عباس: (إنّه أراد بالإنسان آدم، إنّه لما بلغ الروح

ص: 385


1- الأنبياء: 60.
2- ساقطة من ب، ط.

صدره أراد أن يقوم)(1)، والظاهر أنّ المراد به الجنس، وقيل: العجل: الطين بلغة حمير(2) واستشهد بقول شاعرهم:

والنّبع ينبت بين الصّخر ضاحية *** والنّخل ينبت بين الماء و العجل(3)

وجواب لَوْ محذوف [أي: لو علموا لما قاموا على الكفر ولما استعجلوا](4)، و حِينَ مفعول يَعْلَمُ ، أي: لَوْ يَعْلَمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا الوقت الذي يستعجلون عنه بقولهم: متى هذا الوعد، وهو وقت صعب تحيط بهم فيه النار من ورائهم وقدامهم، فلا يقدرون علي دفعها من نفوسهم، ولا يجدون ناصرا ينصرهم، لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء. ويجوز أن يكون يَعْلَمُ متروكا بلا تعدية بمعنى: لو كان معهم علم ولم يكونوا جاهلين لما كانوا مستعجلين، ويكون حِينَ منصوبا بمضمر، أي: حِينَ لاٰ يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ اَلنّٰارَ يعلمون أنّهم كانوا علي الباطل.

بَلْ تفجأهم الساعة أو النار التي وعدوا بها فتغلبهم، ويقال لمن غلب في الحجاج: مبهوت، وفي قوله: وَ لاٰ هُمْ يُنْظَرُونَ تذكير بإنظاره وإمهاله إيّاهم، أي: لا يمهلون بعد طول الإمهال.

[سورة الأنبياء (21): الآیات 41 الی 42]

وَ لَقَدِ اُسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحٰاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مٰا كٰانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ

ص: 386


1- الكشاف ج 3:117.
2- عن أبي عبيد. الكشف والبيان ج 6:276.
3- البيت للشماخ. تفسير مقاتل بن سليمان ج 2:373 وفيه: و النبع منبته بالصخر... وهو غير موجود في ديوانه.
4- ساقطة من ب، ج.

[سورة الأنبياء (21): الآیات 42 الی 45]

مِنَ اَلرَّحْمٰنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنٰا لاٰ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَ لاٰ هُمْ مِنّٰا يُصْحَبُونَ بَلْ مَتَّعْنٰا هٰؤُلاٰءِ وَ آبٰاءَهُمْ حَتّٰى طٰالَ عَلَيْهِمُ اَلْعُمُرُ أَ فَلاٰ يَرَوْنَ أَنّٰا نَأْتِي اَلْأَرْضَ نَنْقُصُهٰا مِنْ أَطْرٰافِهٰا أَ فَهُمُ اَلْغٰالِبُونَ قُلْ إِنَّمٰا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَ لاٰ يَسْمَعُ اَلصُّمُّ اَلدُّعٰاءَ إِذٰا مٰا يُنْذَرُونَ

ثمّ سلى سبحانه نبيّه صلى الله عليه و آله و سلم عن استهزائهم به بأنّ له في الأنبياء قبله أسوة، و أنّه يحلّ بهم وبال استهزائهم كما حلّ بأولئك.

مِنَ اَلرَّحْمٰنِ أي: من بأس الرحمن وعذابه، والكلاءة: الحفظ، بل هم مُعْرِضُونَ عن ذكر ربّهم لا يخطرونه ببالهم فضلا عن أن يخافوا بأسه، والمراد أنّه أمر بسؤالهم عن الكالئ، ثمّ بيّن أنّهم لا يصلحون لذلك، لإعراضهم عن ذكر من يكلؤهم. ثمّ أضرب عن ذلك بما في (أم) من معنى (بل)، وقال: أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ العذاب تتجاوز منعنا وحفظنا، ثمّ استأنف فبيّن أنّ ما ليس بقادر علي نصر نفسه ومنعها، ولا بمصحوب من اللّه بالنصر كيف يمنع غيره وينصره ؟! ثمّ قال: بَلْ ما هم فيه من الكلاءة إنّما هو منا، أمهلناهم ومتعناهم بالحياة الدنيا كما متعنا آبٰاءَهُمْ حَتّٰى طٰالَ عَلَيْهِمُ الأمد، فظنوا أنّهم لا ينزع عنهم ثوب الأمن والطمأنينة.

أَ فَلاٰ يَرَوْنَ أَنّٰا ننقص أرض الكفر بتسليط المسلمين عليها وإظهارهم

ص: 387

علي أهلها، وقيل: ننقصها بموت العلماء(1). وعلي القول الأوّل ففي قوله: أَنّٰا نَأْتِي اَلْأَرْضَ نَنْقُصُهٰا تصوير لما كان يجريه اللّه علي أيدي المسلمين من الغلبة علي ديار المشركين، والنقص من أطرافها.

وقرئ: لا تسمع الصّمّ - علي الخطاب للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم -.

[سورة الأنبياء (21): الآیات 46 الی 50]

وَ لَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذٰابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يٰا وَيْلَنٰا إِنّٰا كُنّٰا ظٰالِمِينَ وَ نَضَعُ اَلْمَوٰازِينَ اَلْقِسْطَ لِيَوْمِ اَلْقِيٰامَةِ فَلاٰ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ إِنْ كٰانَ مِثْقٰالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنٰا بِهٰا وَ كَفىٰ بِنٰا حٰاسِبِينَ وَ لَقَدْ آتَيْنٰا مُوسىٰ وَ هٰارُونَ اَلْفُرْقٰانَ وَ ضِيٰاءً وَ ذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ هُمْ مِنَ اَلسّٰاعَةِ مُشْفِقُونَ وَ هٰذٰا ذِكْرٌ مُبٰارَكٌ أَنْزَلْنٰاهُ أَ فَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ

أي: وإن مسّهم مما أنذروا به أدنى شيء لذلّوا وأقروا بالظلم علي أنفسهم، وفي النفحة معنى القلة لبناء المرة، ولقولهم: نفحته الدابة وهو ريح يسير، ونفحه بعطية إذا رضخه.

وَ نَضَعُ اَلْمَوٰازِينَ ذوات القسط فحذف المضاف، ووصفت الموازين با لقسط وهو العدل مبالغة، كأنّها في أنفسها قسط لأهل يَوْمِ اَلْقِيٰامَةِ أي: لأجلهم، أو هو كاللام في قولك: لخمس ليال خلون من الشهر، ومنه قول النابغة:

توسّمت آيات لها فعرفتها *** لستّة أعوام وذا العام سابع(2)

ص: 388


1- عن الضحاك وغيره. تفسير الماوردي ج 3:449.
2- ديوان النابغة الذبياني: 79، وفيه: توهمت.

فَلاٰ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً لا ينقص من إحسان محسن، ولا يزاد في إساءة مسيء.

وَ إِنْ كٰانَ الظلامة مِثْقٰالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنٰا بِهٰا أحضرناها للمجازاة. ويجوز أن يؤنث ضمير المثقال لإضافته إلى الحبّة، كما يقال: ذهبت بعض أصابعه، وقرأ الصادق عليه السلام وابن عباس ومجاهد: آتينا بها - بالمد -، وهي مفاعلة من الإتيان بمعنى: المجازاة والمكافاة، لأنّهم أتوه با لأعمال وأتاهم بالجزاء.

و اَلْفُرْقٰانَ : التوراة، و ضِيٰاءً أي: و آتيناهما به ضياء وَ ذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ والمعنى: إنّه في نفسه ضياء وذكري، أو يريد أتيناهما بما فيه من الشرائع ضياء وذكري، وقيل: اَلْفُرْقٰانَ فلق البحر(1)، وقيل: المخرج من الشبهات(2).

ومحلّ اَلَّذِينَ جر على الوصف، أو نصب علي المدح، أو رفع عليه.

وَ هٰذٰا القرآن ذِكْرٌ مُبٰارَكٌ و بركته: خيره ومنافعه، ودوام ذلك إلى يوم القيامة.

[سورة الأنبياء (21): الآیات 51 الی 58]

وَ لَقَدْ آتَيْنٰا إِبْرٰاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَ كُنّٰا بِهِ عٰالِمِينَ إِذْ قٰالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ مٰا هٰذِهِ اَلتَّمٰاثِيلُ اَلَّتِي أَنْتُمْ لَهٰا عٰاكِفُونَ قٰالُوا وَجَدْنٰا آبٰاءَنٰا لَهٰا عٰابِدِينَ قٰالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَ آبٰاؤُكُمْ فِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ قٰالُوا أَ جِئْتَنٰا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اَللاّٰعِبِينَ قٰالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ اَلَّذِي فَطَرَهُنَّ وَ أَنَا عَلىٰ ذٰلِكُمْ مِنَ اَلشّٰاهِدِينَ وَ تَاللّٰهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنٰامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذٰاذاً إِلاّٰ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ

ص: 389


1- عن الضحاك. الكشاف ج 3:121.
2- عن محمّد بن كعب. الكشاف ج 3:121.

[سورة الأنبياء (21): الآیات 59 الی 60]

قٰالُوا مَنْ فَعَلَ هٰذٰا بِآلِهَتِنٰا إِنَّهُ لَمِنَ اَلظّٰالِمِينَ قٰالُوا سَمِعْنٰا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقٰالُ لَهُ إِبْرٰاهِيمُ

الرشد: الاهتداء لوجوه الصلاح، ومعنى إضافته إليه: أنّه رشد مثله، وأنّه رشد له شأن، وقيل: هو الحجج الموصلة إلى التوحيد(1)، وقيل: النبوّة(2).

مِنْ قَبْلُ أي: من قبل موسى وهارون.

وَ كُنّٰا بِهِ أي: بصفاته الرضية وأسراره عٰالِمِينَ حتى أهّلناه لخلتنا.

إِذْ يتعلّق ب - آتينا أوب رُشْدَهُ ، وقوله: مٰا هٰذِهِ اَلتَّمٰاثِيلُ تصغير لشأن آلهتهم، وتحقير لها، ولم ينو للعاكفين مفعولا وأجراه مجري ما لا يتعدّي، أي:

فاعلون للعكوف لها، ولو قصد التعدية لقال: عٰاكِفُونَ عليها. وروي عن الأصبغ بن نباتة أنّه قال: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام مرّ بقوم يلعبون الشطرنج فقال: (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ؟! لقد عصيتم اللّه ورسوله)(3).

اعترفوا بتقليد الآباء حين لم يجدوا حجّة في عبادتها، وكفى أهل التقليد عارا وسبّة أنّ عابدي الأوثان منهم.

أَنْتُمْ من التوكيد الذي لا يصحّ الكلام مع الإخلال به، لأنّ العطف علي ضمير هو في حكم بعض الفعل لا يجوز، أي: أنتم و من قلّدتموهم قد انخرطتم في سلك ضلال ظاهر غير خاف.

قٰالُوا له: هذا الذي جِئْتَنٰا به أجدّ هو وحقّ أَمْ هزل و لعب! إذ

ص: 390


1- التبيان ج 7:255.
2- عن ابن عيسى. تفسير الماوردي ج 3:450.
3- مجمع البيان ج 7-8:52 عن العياشي، سنن البيهقي الكبرى ج 10:212.

تعجّبوا من تضليله إيّاهم، واستبعدوا أن يكونوا علي ضلال.

و الضمير في فَطَرَهُنَّ للسماوات وا لأرض، أو للتماثيل.

وَ تَاللّٰهِ التاء فيها بدل من الواو المبدّلة من الباء، وفي التاء زيادة معنى وهو التعجب، كأنّه تعجب من تسهل الكيد علي يده وتأتيه، لصعوبته وتعذره في زمن نمرود مع فرط عتوه واستكباره، وعن قتادة: (قال ذلك سرّا من قومه)(1).

وروي: إنّهم خرجوا في يوم عيد لهم، فجعل إبراهيم أصنامهم جذاذا أي:

قطعا، من الجذّ وهو القطع، كسّرها كلها بفأس في يده حتى إذا لم يبق إلا الصنم الكبير علّق الفأس في عنقه(2). وقرئ: جذاذا جمع جذيذ، و إنّما استبقى الكبير، لأنّه غلب في ظنه أنّهم لا يرجعون إلا إِلَيْهِ ، لما كانوا يسمعونه من إنكاره لدينهم وسبه لآلهتهم، فأراد أن يبكتهم بقوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هٰذٰا فَسْئَلُوهُمْ . وعن الكلبي: (إِلَيْهِ أي: إلى (كبيرهم) كما يرجع إلى العالم في حلّ المشكلات)(3)، فيقولون له: ما لهؤلاء مكسورة وما لك صحيحا والفأس علي عاتقك ؟ فتبيّن لهم أنّه عاجز لا ينفع ولا يضرّ، وأنّهم في عبادته علي غاية الجهل.

إِنَّهُ لَمِنَ اَلظّٰالِمِينَ أي: من فعل هذا الكسر والحطم إنّه لشديد الظلم، لجرأته على الهتنا.

إِبْرٰاهِيمُ خبر مبتدأ محذوف، أو منادى، و الأوجه أن يكون فاعل يُقٰالُ ، لأنّ المراد الاسم لا المسمّى.

ص: 391


1- تفسير الطبري ج 17:28.
2- عن السدي. تفسير الطبري ج 17:28.
3- الكشاف ج 3:123.

[سورة الأنبياء (21): الآیات 61 الی 70]

قٰالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلىٰ أَعْيُنِ اَلنّٰاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قٰالُوا أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هٰذٰا بِآلِهَتِنٰا يٰا إِبْرٰاهِيمُ قٰالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هٰذٰا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كٰانُوا يَنْطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلىٰ أَنْفُسِهِمْ فَقٰالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ اَلظّٰالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلىٰ رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مٰا هٰؤُلاٰءِ يَنْطِقُونَ قٰالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مٰا لاٰ يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لاٰ يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَ لِمٰا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ أَ فَلاٰ تَعْقِلُونَ قٰالُوا حَرِّقُوهُ وَ اُنْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فٰاعِلِينَ قُلْنٰا يٰا نٰارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاٰماً عَلىٰ إِبْرٰاهِيمَ وَ أَرٰادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنٰاهُمُ اَلْأَخْسَرِينَ

أي: فجيئوا بِهِ عَلىٰ أَعْيُنِ اَلنّٰاسِ أي: معاينا مشاهدا بمرأى من الناس ومنظر، فهو في موضع الحال لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ عليه بما فعله، أو يحضرون عقوبتنا له.

فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هٰذٰا من معاريض الكلام، ولم يكن قصدا من إبراهيم عليه السلام إلى أن ينسب الفعل إلى الصنم، و إنّما قصد تقريره لنفسه علي هذا الأسلوب تبكيتا لهم، كما لو قال لك صاحبك وقد كتبت كتابا بخط رائق وأنت مشهور بحسن الخط: أنت كتبت هذا؟ و صاحبك أمي لا يحسن الكتابة، فقلت له: بل كتبته أنت، وقصدك بهذا الجواب تقريره لك مع الاستهزاء به، لا نفيه عنك وإثباته لصاحبك الأمي.

وقيل: إنّ تقديره: بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون فاسألوهم، فعلّق الكلام بشرط لا يوجد(1).

ص: 392


1- عن القتيبي. الكشف والبيان ج 6:280، تنزيه الأنبياء: 29.

وقيل: إنّ التقدير: بَلْ فَعَلَهُ من فعله ويوقف عليه، ويبتدأ فيقرأ كَبِيرُهُمْ هٰذٰا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كٰانُوا يَنْطِقُونَ (1).

فلما ألقمهم الحجر فَرَجَعُوا إِلىٰ أَنْفُسِهِمْ فَقٰالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ اَلظّٰالِمُونَ علي الحقيقة لا من ظلمتموه حين قلتم: مَنْ فَعَلَ هٰذٰا بِآلِهَتِنٰا إِنَّهُ لَمِنَ اَلظّٰالِمِينَ .

ونكست الشيء: قلبته فجعلت أسفله أعلاه، وانتكس: انقلب، والمعنى:

انتكسوا عن كونهم مجادلين لإبراهيم وصاروا مجادلين عنه حين نفوا عنها القدرة علي النطق، أو يريد قلبوا علي رُؤُسِهِمْ لفرط إطراقهم، خجلا مما بهتهم به إبراهيم، فما أجابوا جوابا إلا ما هو حجّة عليهم.

أُفٍّ صوت يعلم به أنّ صاحبه متضجر، تأفف بهم إذ أضجره ما رأي من ثباتهم علي عبادتها بعد وضوح الحقّ وانقطاع العذر، واللام لبيان المتأفف به، أي: لَكُمْ و لآلهتكم هذا التأفف.

ولما غلبوا أزمعوا علي إهلاكه وتحريقه، فجمعوا الحطب حتى أنّ الرجل ليمرض فيوصي بماله يشتري به حطب لإبراهيم! ثمّ أشعلوا نارا عظيما كادت الطير تحترق في الجو من وهجها، ثمّ وضعوه في المنجنيق مقيّدا مغلولا فرموا به فيها، وذكر أنّ جبرائيل قال له حين رمي به: هل لك حاجة ؟ قال: أما إليك فلا، قال:

فاسأل ربّك، قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي(2). وعن الصادق عليه السلام: (أنّه قال:

يا اللّه يا واحد يا أحد يا صمد يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، فحسرت النار عنه، و أنّه لمحتبي ومعه جبرائيل وهما يتحدّثان في روضة خضراء)(3).

ص: 393


1- عن الكسائي. الكشف والبيان ج 6:280.
2- الكشف والبيان ج 6:281.
3- تفسير القمي ج 2:73. الكافي ج 8:369 باختلاف يسير.

كُونِي بَرْداً وَ سَلاٰماً يعني: ذات برد وسلام، فبولغ في ذلك، كأنّ ذاتها برد وسلام، والمراد: ابردي فيسلم منك إبراهيم، وابردي بردا غير ضار، وعن ابن عباس: (لو لم يقل ذلك لأهلكته ببردها)(1). نزع اللّه عن النار طبعها من الحرّ والإحراق وأبقاها علي الإنارة والإشراق كما كانت، والتحقيق: أنّ النار من جهة مطاوعتها فعل اللّه تعالى وإرادته كانت كمأمور أمر بشيء فامتثله.

وَ أَرٰادُوا أن يكيدوه فما كانوا إلا مغلوبين مقهورين.

[سورة الأنبياء (21): الآیات 71 الی 75]

وَ نَجَّيْنٰاهُ وَ لُوطاً إِلَى اَلْأَرْضِ اَلَّتِي بٰارَكْنٰا فِيهٰا لِلْعٰالَمِينَ وَ وَهَبْنٰا لَهُ إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ نٰافِلَةً وَ كُلاًّ جَعَلْنٰا صٰالِحِينَ وَ جَعَلْنٰاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنٰا وَ أَوْحَيْنٰا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْرٰاتِ وَ إِقٰامَ اَلصَّلاٰةِ وَ إِيتٰاءَ اَلزَّكٰاةِ وَ كٰانُوا لَنٰا عٰابِدِينَ وَ لُوطاً آتَيْنٰاهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ نَجَّيْنٰاهُ مِنَ اَلْقَرْيَةِ اَلَّتِي كٰانَتْ تَعْمَلُ اَلْخَبٰائِثَ إِنَّهُمْ كٰانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فٰاسِقِينَ وَ أَدْخَلْنٰاهُ فِي رَحْمَتِنٰا إِنَّهُ مِنَ اَلصّٰالِحِينَ

أي: نجينا إبراهيم ولوطا - وهو ابن أخيه - من نمرود وكيده من كوثى(2)

إِلَى اَلْأَرْضِ اَلَّتِي بٰارَكْنٰا فِيهٰا وهي الشام. وبركاتها الواصلة إلى العالمين: أنّ أكثر الأنبياء بعثوا فيها فانتشرت في العالمين شرائعهم، وقيل: إنّها بلاد خصب تكثر أشجارها وثمارها ويطيب العيش فيها، روي: أنّه نزل بفلسطين، ولوط بالمؤتفكة،

ص: 394


1- الدر المنثور ج 4:323.
2- كوثى: هي ناحية من أرض بابل كان فيها مولد إبراهيم الخليل عليه السلام، وبها طرح في النار. ينظر: معجم البلدان ج 4:487.

وبينهما مسيرة يوم وليلة(1).

والنافلة: ولد الولد، قيل: إنّه سأل الولد فأعطي إِسْحٰاقَ وأعطي يَعْقُوبَ نٰافِلَةً أي: زيادة و فضلا من غير سؤال(2)، أي: صٰالِحِينَ للنبوّة والرسالة.

وَ جَعَلْنٰاهُمْ أَئِمَّةً يقتدى بهم في دين اللّه.

يَهْدُونَ إلى طريق الحقّ والدين القويم بِأَمْرِنٰا وكل من صلح أن يكون قدوة للخلق، فالهداية محتومة عليه، مأمور هو بها من جهة اللّه تعالى، و أوّلها أن يهتدي بنفسه ليعم الانتفاع بهداه، وتسكن النفوس إلى الاقتداء به.

و لُوطاً منصوب بفعل مضمر.

آتَيْنٰاهُ يفسّره حُكْماً أي: حكمة وهو ما يجب فعله، أو فصلا بين الخصوم، وقيل: هو النبوّة(3). و اَلْقَرْيَةِ سدوم.

فِي رَحْمَتِنٰا أي: في أهل رحمتنا، أو في الجنّة.

[سورة الأنبياء (21): الآیات 76 الی 79]

وَ نُوحاً إِذْ نٰادىٰ مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنٰا لَهُ فَنَجَّيْنٰاهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ اَلْكَرْبِ اَلْعَظِيمِ وَ نَصَرْنٰاهُ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا إِنَّهُمْ كٰانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنٰاهُمْ أَجْمَعِينَ وَ دٰاوُدَ وَ سُلَيْمٰانَ إِذْ يَحْكُمٰانِ فِي اَلْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ اَلْقَوْمِ وَ كُنّٰا لِحُكْمِهِمْ شٰاهِدِينَ فَفَهَّمْنٰاهٰا سُلَيْمٰانَ وَ كُلاًّ آتَيْنٰا حُكْماً وَ عِلْماً وَ سَخَّرْنٰا مَعَ دٰاوُدَ اَلْجِبٰالَ

ص: 395


1- تاريخ الطبري ج 1:151.
2- عن ابن زيد وغيره. تفسير الطبري ج 17:36.
3- تفسير السمرقندي ج 2:433.

[سورة الأنبياء (21): الآیات 79 الی 80]

يُسَبِّحْنَ وَ اَلطَّيْرَ وَ كُنّٰا فٰاعِلِينَ وَ عَلَّمْنٰاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شٰاكِرُونَ

أي: مِنْ قَبْلُ هؤلاء المذكورين.

وَ نَصَرْنٰاهُ مِنَ اَلْقَوْمِ أي: جعلناه منتصرا منهم، من: نصرته فانتصر.

و اَلْكَرْبِ اَلْعَظِيمِ : الطوفان وما كان فيه من تكذيب قومه.

واذكر دٰاوُدَ وَ سُلَيْمٰانَ ، و إِذْ بدل منهما. والنفش: الانتشار بالليل.

لِحُكْمِهِمْ جمع الضمير لأنّه أرادهما والمتحاكمين إليهما.

والضمير في فهمناها للحكومة أو للفتوى، حكم داود عليه السلام بالغنم لصاحب الحرث، فقال سليمان عليه السلام - وهو ابن إحدي عشرة سنة -: غير هذا يا نبيّ اللّه، أرفق بالفريقين، فقال: وما ذاك ؟ قال: يدفع الغنم إلى صاحب الحرث فينتفع بها، والحرث إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان، فقال: القضاء ما قضيت، وأمضى الحكم بذلك(1). والصحيح: أنّهما جميعا حكما بالوحي، إلا أنّ حكومة سليمان نسخت حكومة داود، لأنّ الأنبياء لا يجوز أن يحكموا بالظن والاجتهاد، ولهم طريق إلى العلم.

وفي قوله: وَ كُلاًّ آتَيْنٰا حُكْماً وَ عِلْماً دلالة علي أنّ كليهما كان مصيبا.

يُسَبِّحْنَ حال بمعنى: مسبّحات، ويجوز أن يكون علي الاستئناف، كأنّ قائلا قال: كيف سخّرهن ؟ فقال: يسبحن.

و اَلطَّيْرَ إما معطوف علي اَلْجِبٰالَ وإما مفعول معه، وكانت الجبال تجاوبه بالتسبيح، وكانت الطير تسبح معه بالغداة والعشي.

ص: 396


1- تاريخ الطبري ج 1:253.

وَ كُنّٰا فٰاعِلِينَ أي: قادرين علي أن نفعل هذا وإن كان عجبا عندكم، وقيل: وكنا نفعل مثل ذلك بالأنبياء(1).

واللبوس: اللباس، والمراد هنا الدرع، وأوّل من صنع الدرع داود، وإنّما كانت صفائح فسردها(2) وحلّقها فجمعت الخفة والتحصين.

وقرئ: لِتُحْصِنَكُمْ بالنون والتاء والياء، فالنون للّه عزّ وجل، والياء لداود أو للبوس، والتاء للصنعة. والبأس: المراد به الحرب والقتال.

[سورة الأنبياء (21): الآیات 81 الی 86]

وَ لِسُلَيْمٰانَ اَلرِّيحَ عٰاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلىٰ اَلْأَرْضِ اَلَّتِي بٰارَكْنٰا فِيهٰا وَ كُنّٰا بِكُلِّ شَيْ ءٍ عٰالِمِينَ وَ مِنَ اَلشَّيٰاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَ يَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذٰلِكَ وَ كُنّٰا لَهُمْ حٰافِظِينَ وَ أَيُّوبَ إِذْ نٰادىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ اَلضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ اَلرّٰاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنٰا لَهُ فَكَشَفْنٰا مٰا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَ آتَيْنٰاهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنٰا وَ ذِكْرىٰ لِلْعٰابِدِينَ وَ إِسْمٰاعِيلَ وَ إِدْرِيسَ وَ ذَا اَلْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ اَلصّٰابِرِينَ وَ أَدْخَلْنٰاهُمْ فِي رَحْمَتِنٰا إِنَّهُمْ مِنَ اَلصّٰالِحِينَ

اَلرِّيحَ عطف علي اَلْجِبٰالَ . كانت الريح مطيعة لسليمان إذا أراد أن تعصف عصفت، وإذا أراد أن ترخي أرخت، وذلك قوله: رُخٰاءً حَيْثُ أَصٰابَ (3)، وكان هبوبها علي حسب ما يريد ويحتكم آية إلى آية.

وَ كُنّٰا بِكُلِّ شَيْ ءٍ عٰالِمِينَ : تجري الأشياء على ما يقتضيه علمنا و حكمتنا.

ص: 397


1- تفسير ابن عباس ج 3:272.
2- السرد: الثقب و نسج الدروع. (الصحاح: مادة سرد)
3- ص: 36.

يَغُوصُونَ لَهُ في البحار فيستخرجون الجواهر وَ يَعْمَلُونَ له أعمالا سواء من بناء المدائن والقصور، واختراع الصنائع العجيبة، واللّه جل اسمه يحفظهم من أن يمتنعوا عليه أو يزيغوا عن أمره، أو يكون منهم فساد فيما عملوه.

ناداه ب - أَنِّي مَسَّنِيَ اَلضُّرُّ والضرّ - بالضم -: الضرر في النفس من مرض و هزال، وبالفتح: الضرر في كل شيء.

ألطف في السؤال حيث ذكر عن نفسه ما يوجب الرحمة، وذكر ربّه بغاية الرحمة وكنى عن المطلوب.

فَكَشَفْنٰا مٰا بِهِ مِنْ الأوجاع والأمراض، وكان أيوب كثير الأولاد والأموال، فابتلاه اللّه تعالى بذهاب ولده وماله، وبالمرض في بدنه ثلاث عشرة سنة أو سبع سنين وسبعة أشهر، فلما كشف اللّه ضرّه أحيا ولده ورزقه مثلهم ونوافل منهم.

رَحْمَةً منا، أي: لرحمتنا العابدين وذكرنا إيّاهم بالإحسان لا ننساهم، أو رَحْمَةً منا لأيوب وتذكرة لغيره من العابدين، ليصبروا كما صبر حتى يثابوا كما أثيب في الدنيا والآخرة.

وَ ذَا اَلْكِفْلِ قيل: هو إلياس، وقيل: هو اليسع، وقيل: إنّه نبيّ كان بعد سليمان، يقضي بين الناس كقضاء داود، ولم يغضب قط إلا للّه عزّ وجل(1).

[سورة الأنبياء (21): الآیات 87 الی 88]

وَ ذَا اَلنُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغٰاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنٰادىٰ فِي اَلظُّلُمٰاتِ أَنْ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ أَنْتَ سُبْحٰانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلظّٰالِمِينَ فَاسْتَجَبْنٰا لَهُ وَ نَجَّيْنٰاهُ مِنَ اَلْغَمِّ

ص: 398


1- عن الجواد عليه السلام. قصص الأنبياء للراوندي: 212.

[سورة الأنبياء (21): الآیات 88 الی 90]

وَ كَذٰلِكَ نُنْجِي اَلْمُؤْمِنِينَ وَ زَكَرِيّٰا إِذْ نٰادىٰ رَبَّهُ رَبِّ لاٰ تَذَرْنِي فَرْداً وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْوٰارِثِينَ فَاسْتَجَبْنٰا لَهُ وَ وَهَبْنٰا لَهُ يَحْيىٰ وَ أَصْلَحْنٰا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كٰانُوا يُسٰارِعُونَ فِي اَلْخَيْرٰاتِ وَ يَدْعُونَنٰا رَغَباً وَ رَهَباً وَ كٰانُوا لَنٰا خٰاشِعِينَ

اَلنُّونِ الحوت، وصاحبه يونس بن متى، برم بقومه لطول ما ذكّرهم فلم يذّكّروا وأقاموا علي كفرهم، فراغمهم فظن أنّ ذلك سائغ حيث لم يفعله إلا غضبا للّه وأنفة لدينه وبغضا للكفر وأهله، وقد كان الأولى به أن يصابر وينتظر الإذن من اللّه جل اسمه في مهاجرتهم فابتلي ببطن الحوت.

ومعنى مغاضبته لقومه: أنّه أغضبهم بمفارقته لخوفهم حلول العقاب عليهم عندها. وسأل معاوية ابن عباس كيف يظن نبيّ اللّه أن لا يقدر عليه ؟ فقال: هو من القدر لا من القدرة(1)، يعني: أن لن نضيّق عليه كما في قوله: وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ (2). وقيل: إنّه استفهام تقديره: أفظن أن لن نقدر عليه ؟ فحذف الهمزة(3)، وقيل: معناه: فظن أن لم تعمل فيه قدرتنا(4).

فِي اَلظُّلُمٰاتِ أي: في الظلمة الشديدة في البحر في بطن الحوت، أي: بأنّه لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ أَنْتَ ، أو هو بمعنى: إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلظّٰالِمِينَ أي: من الذين يقع منهم الظلم. وقرئ: ننجي، وننّجي، ونجي - بنون واحدة وبتشديد الجيم -

ص: 399


1- الكشاف ج 3:132.
2- الطلاق: 7.
3- عن ابن زيد. تفسير الطبري ج 17:63.
4- معاني القرآن للفراء ج 2:209 باختلاف.

والنون لا تدغم في الجيم، وربّما أخفيت فحذفت في الكتابة وهي في اللفظ ثابتة، فظن الراوي ذلك إدغاما.

سأل اللّه تعالي زكريا أن يرزقه وارثا، ولا يدعه فَرْداً بلا ولد، ثمّ رد الأمر إلي الله واستسلم فقال: وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْوٰارِثِينَ يعني: إن لم ترزقني ولدا يرثني فلا أبالي فإنّك خير وارث.

وَ أَصْلَحْنٰا لَهُ زَوْجَهُ أي: و جعلناها صالحة لأن تلد بعد أن كانت عاقرا. وقيل: معناه: جعلناها حسنة الخلق وكانت سيئة الخلق(1). وقيل: رددنا عليها شبابها.

إِنَّهُمْ الضمير للأنبياء المذكورين، أي: استحقّوا الإجابة منا لمسارعتهم فِي اَلْخَيْرٰاتِ ومبادرتهم إلي الطاعات.

رَغَباً وَ رَهَباً أي: راغبين وراهبين كقوله تعالى: يَحْذَرُ اَلْآخِرَةَ وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ (2).

خٰاشِعِينَ أي: ذللا لأمر اللّه، وقيل: متواضعين لأمر اللّه تعالى(3)، وعن مجاهد: (الخشوع: الخوف الدائم في القلب)(4).

[سورة الأنبياء (21): الآیات 91 الی 93]

وَ اَلَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهٰا فَنَفَخْنٰا فِيهٰا مِنْ رُوحِنٰا وَ جَعَلْنٰاهٰا وَ اِبْنَهٰا آيَةً لِلْعٰالَمِينَ إِنَّ هٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وٰاحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ

ص: 400


1- عن عطاء بن أبي رباح وغيره. الدر المنثور ج 4:334.
2- الزمر: 9.
3- عن مجاهد. الدر المنثور ج 4:334.
4- معالم التنزيل ج 3:39.

[سورة الأنبياء (21): الآیات 93 الی 97]

كُلٌّ إِلَيْنٰا رٰاجِعُونَ فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصّٰالِحٰاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلاٰ كُفْرٰانَ لِسَعْيِهِ وَ إِنّٰا لَهُ كٰاتِبُونَ وَ حَرٰامٌ عَلىٰ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنٰاهٰا أَنَّهُمْ لاٰ يَرْجِعُونَ حَتّٰى إِذٰا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ وَ هُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَ اِقْتَرَبَ اَلْوَعْدُ اَلْحَقُّ فَإِذٰا هِيَ شٰاخِصَةٌ أَبْصٰارُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يٰا وَيْلَنٰا قَدْ كُنّٰا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هٰذٰا بَلْ كُنّٰا ظٰالِمِينَ

أَحْصَنَتْ فَرْجَهٰا إحصانا كليا من الحلال والحرام جميعا، كقولها: وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا (1).

فَنَفَخْنٰا فِيهٰا مِنْ رُوحِنٰا أي: فعلنا النفخ فيها من جهة روحنا وهو جبرائيل عليه السلام، لأنه نفخ في جيب درعها فوصل النفخ إلى جوفها. وإن جعلت نفخ الروح بمعنى الإحياء كما في قوله: وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي (2) أي: أحييته، فالمعنى: فنفخنا الروح في عيسى فيها أي: أحييناه في جوفها، كما يقول الزامر:

نفخت في بيت فلان، أي: نفخت في المزمار في بيته.

وَ جَعَلْنٰاهٰا وَ اِبْنَهٰا آيَةً لِلْعٰالَمِينَ لم يقل: آيتين، لأنّ حالهما آية واحدة وهي ولادتها إيّاه من غير فحل.

والمراد بالأمّة: ملّة الإسلام، يعني: إنّ ملّة الإسلام ملّتكم التي يجب أن تكونوا عليها لا تنحرفون عنها، يشار إليها ملّة وٰاحِدَةً غير مختلفة وَ إِنّٰا إلهكم إله واحد فاعبدوني.

ص: 401


1- مريم: 20.
2- الحجر: 29.

الأصل: وتقطعتم، إلا أنّ الكلام صرف إلى الغيبة علي طريقة الالتفات، كأنّه يقبح عندهم فعلهم ويقول لهم: ألا ترون إلي عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين اللّه ؟ والمعنى: جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا كما يتقسم الجماعة الشيء فيصير لهذا نصيب ولذلك نصيب، تمثيلا لاختلافهم فيه، وصيرورتهم فرقا وأحزابا شتى يتبرأ بعضهم من بعض، ثمّ أوعدهم بأنّ هؤلاء الفرق المختلفة إليه يرجعون فيجازيهم بما عملوا.

الكفران: مثل في حرمان الثواب، كما أنّ الشكر مثل في الإثابة إذا قيل: اللّه شكور، أي: لا يكفر سعيه.

وَ إِنّٰا لَهُ كٰاتِبُونَ أي: نحن كاتبون ذلك السعي، نثبته في صحيفة عمله.

وَ حَرٰامٌ مستعار للممتنع وجوده، كما في قوله سبحانه: إِنَّ اَللّٰهَ حَرَّمَهُمٰا عَلَى اَلْكٰافِرِينَ (1) أي: منعهما منهم، وأبي أن يكونا لهم، وقرئ: وحرم، ومعناه:

ممتنع من قَرْيَةٍ قدّرنا إهلاكها وغير متصور رجوعهم من الكفر إلي الإسلام، و لاٰ مزيدة. وقال الزجّاج: (تقديره: حرام علي قرية أهلكناها أن يتقبّل منهم عمل لأنّهم لا يرجعون)(2). وعلي هذا فيكون حَرٰامٌ خبر مبتدأ محذوف. ويجوز أن يكون التقدير: وحرام عليها ذلك المذكور في الآية المتقدّمة من السعي المشكور غير المكفور، لأنّهم لا يرجعون عن الكفر.

وتعلّقت حَتّٰى ب - حَرٰامٌ وهي غاية له، لأنّ امتناع رجوعهم لا يزول حتى يوم القيامة، و حَتّٰى هذه هي التي يحكى بعدها الكلام، والجملة

ص: 402


1- الأعراف: 50.
2- معاني القرآن و إعرابه ج 3:405.

الشرطية هنا هي الكلام المحكي بعد حَتّٰى أعني: إِذٰا وما في حيّزها.

أي: فتح سد يَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ فحذف المضاف، وقرئ: فتّحت - بالتشديد -.

والحدب: النشر من الأرض، والنسلان والعسلان: الإسراع.

و إِذٰا هي ظرف المفاجأة وتسدّ في الجزاء مسدّ الفاء، فإذا جاءت الفاء معها تعاونتا علي وصل الجزاء بالشرط فيتأكّد، ولو قيل: إذا هي شاخصة أو فهي شاخصة لجاز، وهي ضمير مبهم يفسّره الإبصار.

و يٰا وَيْلَنٰا تعلّق بمحذوف، والتقدير: يقولون: يٰا وَيْلَنٰا وهو في موضع الحال من اَلَّذِينَ كَفَرُوا .

[سورة الأنبياء (21): الآیات 98 الی 105]

إِنَّكُمْ وَ مٰا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهٰا وٰارِدُونَ لَوْ كٰانَ هٰؤُلاٰءِ آلِهَةً مٰا وَرَدُوهٰا وَ كُلٌّ فِيهٰا خٰالِدُونَ لَهُمْ فِيهٰا زَفِيرٌ وَ هُمْ فِيهٰا لاٰ يَسْمَعُونَ إِنَّ اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنىٰ أُولٰئِكَ عَنْهٰا مُبْعَدُونَ لاٰ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهٰا وَ هُمْ فِي مَا اِشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خٰالِدُونَ لاٰ يَحْزُنُهُمُ اَلْفَزَعُ اَلْأَكْبَرُ وَ تَتَلَقّٰاهُمُ اَلْمَلاٰئِكَةُ هٰذٰا يَوْمُكُمُ اَلَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ يَوْمَ نَطْوِي اَلسَّمٰاءَ كَطَيِّ اَلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمٰا بَدَأْنٰا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنٰا إِنّٰا كُنّٰا فٰاعِلِينَ وَ لَقَدْ كَتَبْنٰا فِي اَلزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ اَلذِّكْرِ أَنَّ اَلْأَرْضَ يَرِثُهٰا عِبٰادِيَ اَلصّٰالِحُونَ

حَصَبُ جَهَنَّمَ : وقودها وحطبها.

وَ مٰا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ يحتمل الأوثان والشياطين، لأنّهم بطاعتهم لهم

ص: 403

في حكم عبدتهم، والفائدة في مقارنتهم بآلهتهم: أنّهم قدّروا أنّهم يشفعون لهم عند اللّه، فإذا صادفوا الأمر علي عكس ما قدّروه لم يكن شيء أبغض إليهم منهم.

اَلْحُسْنىٰ الخصلة المفضلة في الحسن، وهي السعادة أو البشارة بالثواب أو التوفيق للطاعة.

والحسيس: الصوت الذي يحس، والشهوة: طلب النفس اللذّة يقال: اشتهى شهوة.

وقرئ: لا يحزنهم. و اَلْفَزَعُ اَلْأَكْبَرُ : النفخة الأخيرة، كقوله: وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ (1) وعن الحسن: (حين يؤمر بهم إلى النار)(2)، وعن الضحاك(3): (حين يطبق علي النار)(4)، وقيل: حين يذبح الموت علي صورة كبش أملح وينادي: يا أهل الجنّة خلود لا موت، ويا أهل النار خلود لا موت(5).

وَ تَتَلَقّٰاهُمُ اَلْمَلاٰئِكَةُ أي: تستقبلهم علي أبواب الجنّة بالتهنئة، يقولون: هٰذٰا وقت ثوابكم اَلَّذِي وعدكم ربّكم قد حلّ .

و يَوْمَ نَطْوِي منصوب ب - لاٰ يَحْزُنُهُمُ أوب تَتَلَقّٰاهُمُ ، و قرئ: يوم تطوي السماء - علي البناء للمفعول -.

ص: 404


1- النمل: 87.
2- تفسير الطبري ج 17:78.
3- أبو القاسم الضحاك بن مزاحم الهلالي الخراساني المفسر، من الطبقة الخامسة، مات بعد المائة. ينظر: طبقات المفسرين ج 1:216.
4- معالم التنزيل ج 3:41.
5- عن ابن جريج. تفسير الطبري ج 17:78.

و اَلسِّجِلِّ الصحيفة، أي: كما يطوي الطومار للكتابة، أي: ليكتب فيه، أو لما يكتب فيه، لأنّ الكتاب أصله المصدر كالبناء، ثمّ يوقع علي المكتوب. وقرئ:

لِلْكُتُبِ والمراد بذلك المكتوبات أي: لما يكتب فيه من المعاني الكثيرة.

قيل: السجل: ملك يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه(1)، وقيل: هو اسم كاتب للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم(2)، وعلي هذا فالكتاب: اسم للصحيفة المكتوب فيها.

أَوَّلَ خَلْقٍ مفعول نعيد الذي يفسّره نُعِيدُهُ ، و (ما) كافة للكاف، والمعنى: نعيد أوّل الخلق كما بدأناه، تشبيها للإعادة بالابتداء في تناول القدرة لهما علي السواء. وأوّل الخلق: إيجاده من عدم، أي: فكما أوجدناه أوّلا من عدم نعيده ثانيا، وقوله: أَوَّلَ خَلْقٍ كقولك: هو أوّل رجل جاءني، تريد: أوّل الرجال، ولكنك نكّرته ووحدّته إرادة تفصيلهم رجلا رجلا، فكذلك معنى أَوَّلَ خَلْقٍ : أوّل الخلق، بمعنى: أوّل الخلائق، لأنّ الخلق مصدر لا يجمع.

ويجوز فيه وجه آخر: وهو أن ينتصب الكاف بفعل مضمر يفسّره نُعِيدُهُ و (ما) موصولة، أي: نعيد مثل الذي بدأناه نعيده، و أَوَّلَ خَلْقٍ ظرف ل - بَدَأْنٰا أي: أوّل ما خلق، أو حال من الهاء المحذوف من الصلة.

وَعْداً مصدر مؤكد، لأنّ قوله: نُعِيدُهُ عدة للإعادة.

إِنّٰا كُنّٰا فٰاعِلِينَ أي: قادرين علي أن نفعل ذلك.

قيل: اَلزَّبُورِ اسم لجنس ما أنزل علي الأنبياء من الكتب، و اَلذِّكْرِ : أم

ص: 405


1- عن السدي وغيره. الدر المنثور ج 4:340.
2- عن ابن عباس. تفسير الطبري ج 17:82.

الكتاب يعني: اللوح(1)، وقيل: زبور داود، و الذكر: التوراة(2).

أي: يَرِثُهٰا المؤمنون، كقوله: وَ أَوْرَثْنَا اَلْقَوْمَ اَلَّذِينَ كٰانُوا يُسْتَضْعَفُونَ ...

الآية(3). وعن الباقر عليه السلام: (هم أصحاب المهدي في آخر الزمان)(4). وقيل:

الأرض هي أرض الجنّة(5).

[سورة الأنبياء (21): الآیات 106 الی 112]

إِنَّ فِي هٰذٰا لَبَلاٰغاً لِقَوْمٍ عٰابِدِينَ وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلاّٰ رَحْمَةً لِلْعٰالَمِينَ قُلْ إِنَّمٰا يُوحىٰ إِلَيَّ أَنَّمٰا إِلٰهُكُمْ إِلٰهٌ وٰاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلىٰ سَوٰاءٍ وَ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مٰا تُوعَدُونَ إِنَّهُ يَعْلَمُ اَلْجَهْرَ مِنَ اَلْقَوْلِ وَ يَعْلَمُ مٰا تَكْتُمُونَ وَ إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَ مَتٰاعٌ إِلىٰ حِينٍ قٰالَ رَبِّ اُحْكُمْ بِالْحَقِّ وَ رَبُّنَا اَلرَّحْمٰنُ اَلْمُسْتَعٰانُ عَلىٰ مٰا تَصِفُونَ

هٰذٰا إشارة إلى المذكور في السورة من الأخبار والمواعظ.

لَبَلاٰغاً أي: كفاية موصلة إلى البغية.

كان صلوات اللّه عليه واله رَحْمَةً لِلْعٰالَمِينَ كافة، إذ جاء بما يسعدهم إن اتبعوه، ومن لم يتبعه فقد أتي من عند نفسه، وقيل: إنّ الوجه في كونه رَحْمَةً

ص: 406


1- عن مجاهد وغيره. تفسير الطبري ج 17:81.
2- عن الشعبي. تفسير الطبري ج 17:81.
3- الأعراف: 137.
4- تفسير القمي ج 2:77.
5- عن سعيد بن جبير وغيره. تفسير الطبري ج 17:82.

للكافرين: أنّ عقابهم أخّر بسببه، وأمنوا به عذاب الاستئصال(1).

إِنَّمٰا لقصر الحكم على شيء، كما يقال: إنّما زيد قائم، أو لقصر الشيء على حكم، كقولك: إنّما يقوم زيد، وقد اجتمع كلاهما في الآية، لأنّ إِنَّمٰا يُوحىٰ إِلَيَّ مع فاعله بمنزلة: إنّما يقوم زيد، و أَنَّمٰا إِلٰهُكُمْ إِلٰهٌ وٰاحِدٌ بمنزلة:

إنّما زيد قائم، وفائدة اجتماعهما: الدلالة علي أنّ الوحي إلى رسوله مقصور على أنّ اللّه عزّ اسمه استأثر بالوحدانية.

وفي قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أنّ الوحي الوارد علي هذه الطريقة موجب أن تخلصوا التوحيد للّه. ويجوز أن يكون (ما) موصولة، فيكون معناه: أنّ الذي يوحى إليّ .

ومعنى آذَنْتُكُمْ : أعلمتكم، ولكنّه كثر استعماله في معنى الإنذار، ومنه قول ابن حلّزة:

آذنتنا ببينها أسماء(2)

والمعنى: إنّي بعد إعراضكم عن قبول توحيد اللّه وتنزيهه عن الأنداد، كرجل بينه وبين أعدائه هدنة، فنبذ إليهم العهد وآذنهم جميعا بذلك.

عَلىٰ سَوٰاءٍ أي: مستوين في الإعلام به لم يطوه عن أحد منهم.

و مٰا تُوعَدُونَ من غلبة المسلمين عليكم أو القيامة، كائن لا محالة إلا أنّ اللّه تعالى لم يطلعني عليه.

إِنَّهُ يَعْلَمُ سبحانه يَعْلَمُ السرّ والعلانية منكم، وهو مجازيكم علي

ص: 407


1- عن ابن عباس. تفسير الطبري ج 17:83.
2- ديوان الحارث بن حلزة اليشكري: 66، وبقيته: ربّ ثاو يملّ منه الثواء.

ذلك.

وما أَدْرِي لعل تأخير هذا الموعد امتحان لَكُمْ لينظر كيف تعملون، أو تمتيع لكم إِلىٰ حِينٍ ليكون ذلك حجّة عليكم.

و قرئ: قُلْ علي حكاية قول النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، و رَبِّ اُحْكُمْ علي الاكتفاء بالكسرة، وربّ احكم - علي الضم - وربّي أحكم - علي أفعل التفضيل -.

أمر عليه السلام باستعجال العذاب لقومه فعذّبوا ببدر. ومعنى قوله: بِالْحَقِّ :

لاتحابهم، وافعل بهم ما يستحقّونه.

عَلىٰ مٰا تَصِفُونَ من الحال التي تجري علي خلاف ما تظنون، وقد نصر رسوله صلى الله عليه و آله و سلم عليهم، وخذلهم وخيّب ظنونهم.

ص: 408

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.