جوامع الجامع المجلد 2

هویة الکتاب

جوامع الجامع

كاتب: طبرسی، فضل بن حسن

الناشر: العتبة العباسیة المقدسة. قسم شؤون المعارف الإسلامیة و الإنسانیة

متابعة البحث: حکیم، جواد کاظم

عدد المجلدات:6

لسان: العربية

سنة النشر: 1439 هجری قمری|2018 میلادی

رمز الكونغرس: 9ج2ط 94/5 BP

ص: 1

اشارة

جوامع الجامع

ص: 2

جوامع الجامع

تألیف: فضل بن حسن طبرسی

العتبة العباسیة المقدسة. قسم شؤون المعارف الإسلامیة و الإنسانیة

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 4

سورة المائدة

اشارة

مدنية، وهي مائة وعشرون آية كوفي، ثلاث وعشرون بصري، بِالْعُقُودِ ، وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ، فَإِنَّكُمْ غٰالِبُونَ بصري.

في حديث أبيّ : (ومن قرأ (سورة المائدة) أعطي من الأجر بعدد كل يهودي ونصراني يتنفس في دار الدنيا عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات)(1)، أبو الجارود(2) عن الباقر عليه السلام: (من قرأ (سورة المائدة) في كل يوم خميس لم يلبس إيمانه بظلم ولا يشرك أبدا)(3).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة المائدة (5): آیة 1]

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اَلْأَنْعٰامِ إِلاّٰ مٰا يُتْلىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي اَلصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اَللّٰهَ يَحْكُمُ مٰا يُرِيدُ

ص: 5


1- الكشف والبيان ج 4:5.
2- أبو الجارود زياد بن المنذر الهمداني الأعمى، زيدي المذهب وإليه تنسب الزيدية الجارودية، من أصحاب الإمام الباقر عليه السلام والإمام الصادق عليه السلام، له كتاب التفسير. ينظر: معجم رجال الحديث ج 7:322.
3- ثواب الأعمال: 105 وفيه: لم يشرك.

وفى بعهده وأوفى بمعنى، والعقد: العهد، بمعنى المعقود، والعقود: عهود اللّه التي عقدها على عباده، وألزمها إيّاهم من الإيمان به وتحليل حلاله وتحريم حرامه، وقيل: هي العقود التي يتعاقدها الناس من المبايعة والمناكحة وغيرهما(1).

ثمّ أخذ سبحانه في تفصيل العقود التي أمر بالوفاء بها فقال: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اَلْأَنْعٰامِ والبهيمة: كل ذات أربع من دواب البر والبحر، وإضافتها إلي اَلْأَنْعٰامِ للبيان كخاتم فضة، ومعناه: البهيمة من الأنعام.

إِلاّٰ مٰا يُتْلىٰ عَلَيْكُمْ إلا محرّم ما يتلي عليكم في القرآن من نحو قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ ... الآية(2)، أو إلا ما يتلى عليكم آية تحريمه.

والأنعام: الأزواج الثمانية، وقيل: بهيمة الأنعام هي الظباء وبقر الوحش ونحوهما(3)، كأنّهم أرادوا ما يماثل الأنعام ويدانيها من جنس البهائم، فأضيفت إلى الأنعام لملابسة الشبه.

غَيْرَ مُحِلِّي اَلصَّيْدِ نصب علي الحال من الضمير في لَكُمْ أي: أحلّت لكم هذه الأشياء لا محلّين الصيد، وقال الأخفش(4): (انتصب عن قوله: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(5).

وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ حال عن مُحِلِّي اَلصَّيْدِ كأنّه قيل: أحلّ لكم بعض الأنعام

ص: 6


1- عن ابن زيد. تفسير الطبري ج 6:33.
2- المائدة: 3.
3- معاني القرآن للفراء ج 1:298.
4- أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش، كان مولى بني مجاشع من أهل بلخ، سكن البصرة، قرأ النحو على سيبويه وكان أسنّ منه، ورد بغداد وأقام بها مدة، له تصانيف كثيرة، مات سنة 216 ه -، وقيل غير ذلك. ينظر: بغية الوعاة ج 1:590.
5- معاني القرآن للأخفش: 271.

في حال امتناعكم من الصيد وأنتم محرمون لئلا يحرج عليكم.

إِنَّ اَللّٰهَ يَحْكُمُ مٰا يُرِيدُ من الأحكام، وحرم: جمع حرام وهو المحرم.

[سورة المائدة (5): آیة 2]

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تُحِلُّوا شَعٰائِرَ اَللّٰهِ وَ لاَ اَلشَّهْرَ اَلْحَرٰامَ وَ لاَ اَلْهَدْيَ وَ لاَ اَلْقَلاٰئِدَ وَ لاَ آمِّينَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرٰامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْوٰاناً وَ إِذٰا حَلَلْتُمْ فَاصْطٰادُوا وَ لاٰ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَ تَعٰاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوىٰ وَ لاٰ تَعٰاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوٰانِ وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ إِنَّ اَللّٰهَ شَدِيدُ اَلْعِقٰابِ

الشعائر: أعلام الحج وأعماله، جمع شعيرة وهي ما جعل شعارا وعلما للنسك من المواقف والطواف والسعي وغيرها، و اَلشَّهْرَ اَلْحَرٰامَ شهر الحج.

و اَلْهَدْيَ ما أهدي إلى البيت وتقرّب به إلي اللّه من النسائك، وهو جمع هدية كجدي في جمع جدية السرج.

و اَلْقَلاٰئِدَ جمع قلادة وهي ما يقلّد به الهدي من نعل أو غيره. والآمّون:

القاصدون، وآمّو البيت الحرام هم الحجّاج والعمّار.

وإحلال هذه الأشياء: أن يتهاون بحرمتها وتضيع، وأن يحال بينها وبين المتنسكين، وأن يحدث في شهر الحج ما يصدّ الناس عن الحج، وأن يتعرّض للهدي بالغصب أو بالمنع من بلوغ محلّه. وفي إحلال القلائد وجهان:

أحدهما: أن يراد ذوات القلائد من البدن والبقر، وإنّما عطف بها علي الهدي للاختصاص وزيادة التوصية بها كأنّه قيل: والقلائد منها خصوصا.

والثاني: أن ينهى عن التعرّض لقلائد الهدي، مبالغة في النهي عن التعرّض

ص: 7

للهدي، كأنّه قيل: ولا تحلّوا قلائدها فضلا عن أن تحلّوها، كقوله تعالى: و لا يبدين زينتهن (1) نهى عن إبداء الزينة فضلا عن إبداء مواقعها.

وَ لاَ آمِّينَ أي: ولا تحلّوا قوما قاصدين المسجد الحرام.

يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وهو الثواب وَ رِضْوٰاناً وأن يرضى عنهم، أي:

لا تتعرضوا لقوم هذه صفتهم تعظيما لهم.

وَ إِذٰا حَلَلْتُمْ فَاصْطٰادُوا هو إباحة للاصطياد بعد الحظر، كأنّه قيل: وإذا حللتم فلا جناح عليكم أن تصطادوا.

وجرم مثل كسب في تعدّيه إلي مفعول واحد واثنين، تقول: جرم ذنبا وجرّمته ذنبا، وكسب شيئا وكسبته إيّاه، وأوّل المفعولين في الآية ضمير المخاطبين، والثاني أَنْ تَعْتَدُوا .

و أَنْ صَدُّوكُمْ بفتح الهمزة متعلّق بالشنان وهو شدة البغض. وقرئ بسكون النون أيضا. والمعنى: ولا يكسبنكم بغض قوم الاعتداء، ولا يحملنكم عليه لأن صدّوكم عن المسجد الحرام، وهو منع أهل مكة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والمؤمنين يوم الحديبية عن العمرة. ومعنى الاعتداء: الانتقام منهم بإلحاق المكروه بهم.

وَ تَعٰاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوىٰ أي: على العفو والإغضاء.

وَ لاٰ تَعٰاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوٰانِ علي الانتقام والتشفّي، والأولى أن يكون محمولا علي العموم، فيتناول كل برّ وتقوي وكل إثم وظلم.

[سورة المائدة (5): آیة 3]

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ وَ اَلدَّمُ وَ لَحْمُ اَلْخِنْزِيرِ وَ مٰا أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّٰهِ بِهِ وَ اَلْمُنْخَنِقَةُ وَ اَلْمَوْقُوذَةُ وَ اَلْمُتَرَدِّيَةُ وَ اَلنَّطِيحَةُ وَ مٰا أَكَلَ اَلسَّبُعُ إِلاّٰ

ص: 8


1- النور: 31.

[سورة المائدة (5): آیة 3]

مٰا ذَكَّيْتُمْ وَ مٰا ذُبِحَ عَلَى اَلنُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلاٰمِ ذٰلِكُمْ فِسْقٌ اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاٰ تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِ اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلاٰمَ دِيناً فَمَنِ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجٰانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

كانوا يأكلون هذه المحرّمات: البهيمة التي تموت حتف أنفها، والدم يجعلونه في المباعر ويشوونه ويقولون: (لم يحرم من فزد له)(1) أي: فصد له.

وَ مٰا أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّٰهِ بِهِ أي: رفع الصوت به لغير اللّه، وهو قولهم: باسم اللات والعزّى عند ذبحه.

وَ اَلْمُنْخَنِقَةُ التي خنقت حتى ماتت، أو انخنقت هي بسبب.

وَ اَلْمَوْقُوذَةُ التي ضربت حتى ماتت.

وَ اَلْمُتَرَدِّيَةُ التي تردّت من جبل أو في بئر فماتت.

وَ اَلنَّطِيحَةُ التي نطحتها أخري فماتت بالنطح.

وَ مٰا أَكَلَ اَلسَّبُعُ بعضه إِلاّٰ مٰا ذَكَّيْتُمْ أي: أدركتم ذكاته وهو يضطرب اضطراب المذبوح أو تشخب أوداجه، عن الصادق عليه السلام: (أدنى مما يدرك به الذكاة أن تدركه يتحرك أذنه أو ذنبه أو تطرف عينه)(2).

وَ مٰا ذُبِحَ عَلَى اَلنُّصُبِ كانت لهم حجارة منصوبة حول البيت يعبدونها وهي الأوثان، ويذبحون لها وينضحون الدم علي ما أقبل منها إلى البيت، ويشرحون

ص: 9


1- مجمع الأمثال ج 3:113.
2- الاستبصار ج 4:73.

اللحم عليها يعظّمونها بذلك، قال الأعشى:

وذا النّصب المنصوب لا تنسكنّه *** ولا تعبد الشّيطان واللّه فاعبدا(1)

وجمعه الأنصاب، وقيل: النصب جمع والواحد نصاب.

وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلاٰمِ أي: وحرّم عليكم الاستقسام بالقداح، وهي سهام كانت لهم مكتوب علي بعضها: أمرني ربّي، وعلي بعضها: نهاني ربّي، وبعضها:

غفل. فمعنى الاستقسام بالأزلام: طلب معرفة ما يقسم له مما لم يقسم له بالأزلام.

وقيل: هو الميسر، وقسمتهم الجزور علي القداح العشرة، فالفذّ له سهم، والتوأم له سهمان، والمسبل له ثلاثة أسهم، والنافس له أربعة أسهم، والحلس له خمسة أسهم، والرقيب له ستة أسهم، والمعلى له سبعة أسهم، والسفيح والمنيح والوغد لا أنصباء لها، وكانوا يدفعون القداح إلى رجل يجيلها، وكان ثمن الجزور علي من يخرج له هذه الثلاثة التي لا أنصباء لها، وهو القمار الذي حرّمه اللّه عزّوجل(2). وقيل: هو الشطرنج والنرد(3).

ذٰلِكُمْ فِسْقٌ الإشارة إلى الاستقسام أو إلي تناول ما حرّم عليهم.

اليوم لم يرد يوما بعينه ومعناه الآن.

يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ أن يبطلوه وأن ترجعوا محلّلين لهذه المحرّمات، وقيل: يئسوا من دينكم أن يغلبوه، لأنّ اللّه تعالي وفى بعهده من إظهاره علي الدين كله.

ص: 10


1- ديوان الأعشى: 103 وفيه: الأوثان بدل الشيطان.
2- الخصال: 420.
3- عن سفيان بن وكيع. الكشف والبيان ج 4:15.

فَلاٰ تَخْشَوْهُمْ بعد إظهار الدين وزوال الخوف منهم إذ انقلبوا مغلوبين بعد أن كانوا غالبين وَ اِخْشَوْنِ وأخلصوا لي الخشية.

اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وما تحتاجون إليه في تكليفكم من الحلال والحرام والفرائض والأحكام.

وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي بولاية علي بن أبي طالب عليه السلام، روي عن الباقر والصادق عليهما السلام: (أنّه إنّما نزلت بعد أن نصب النبي صلى الله عليه و آله و سلم عليا عليه السلام علما للأنام يوم غدير خم عند منصرفه من حجّة الوداع، وهو آخر فريضة أنزلها اللّه تعالى ثم لم ينزل بعدها فريضة)(1).

وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلاٰمَ دِيناً أي: اخترته لك من بين الأديان، وآذنتكم بأنّه الدين المرضي عندي.

واتصل قوله: فَمَنِ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ بذكر المحرّمات، وقوله: ذٰلِكُمْ فِسْقٌ وما بعده اعتراض أكّد به معنى التحريم، لأنّ تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل والإسلام المرضي، والمعنى: فمن اضطر إلى الميتة أو غيرها في مجاعة غَيْرَ مُتَجٰانِفٍ لِإِثْمٍ أي: غير منحرف، نحو قوله: غَيْرَ بٰاغٍ وَ لاٰ عٰادٍ (2).

فَإِنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لا يؤاخذه بذلك.

[سورة المائدة (5): آیة 4]

يَسْئَلُونَكَ مٰا ذٰا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّبٰاتُ وَ مٰا عَلَّمْتُمْ مِنَ اَلْجَوٰارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّٰا عَلَّمَكُمُ اَللّٰهُ فَكُلُوا مِمّٰا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اُذْكُرُوا اِسْمَ اَللّٰهِ عَلَيْهِ وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ إِنَّ اَللّٰهَ سَرِيعُ اَلْحِسٰابِ

ص: 11


1- تفسير العياشي ج 1:293، وينظر: كتاب الغدير ج 1:230-237.
2- البقرة: 173.

مٰا ذٰا مبتدأ، و أُحِلَّ لَهُمْ خبره، أي: أيّ شيء أحلّ لهم من المطاعم ؟ كأنّهم حين تلي عليهم المآكل المحرّمة سألوا عما أحلّ لهم منها، ولم يقل: ماذا أحلّ لنا حكاية لما قالوه، لأنّ يَسْئَلُونَكَ بلفظ الغيبة، وهذا كما تقول: أقسم زيد ليفعلن، ولو قيل: لأفعلن، وأحلّ لنا لجاز.

قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّبٰاتُ وهو كل ما لم يأت تحريمه في الكتاب والسنة.

وَ مٰا عَلَّمْتُمْ مِنَ اَلْجَوٰارِحِ عطف علي اَلطَّيِّبٰاتُ أي: وصيد ما علّمتم فحذف المضاف، أو يجعل (ما (شرطية وجوابها فَكُلُوا مِمّٰا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ .

والجوارح: هي الكواسب من الكلاب عند أئمّة الهدى عليهم السلام، الصادق عليه السلام قال:

(لا تأكل إلا ما ذكيت إلا الكلاب، وكل شيء من السباع تمسك الصيد علي نفسها إلا الكلاب المعلّمة فإنّها تمسك علي صاحبها، وقال: إذا أرسلت الكلب المعلّم فاذكر اسم اللّه عليه فهو ذكاته)(1) وهو أن يقول: بسم اللّه واللّه أكبر.

مُكَلِّبِينَ حال من عَلَّمْتُمْ والمكلّب: مؤدب الكلاب ومضريها بالصيد لصاحبها.

و تُعَلِّمُونَهُنَّ حال ثانية أو استئناف.

مِمّٰا عَلَّمَكُمُ اَللّٰهُ من علم التكليب، لأنّه إلهام من اللّه ومكتسب بالعقل، وقيل: مما عرّفكم اللّه أن تعلّموه من اتباع الصيد بإرسال صاحبه وانزجاره بزجره، وإمساك الصيد عليه وأن لا يأكل منه(2).

وَ اُذْكُرُوا اِسْمَ اَللّٰهِ عَلَيْهِ عند الإرسال، أو إذا أدركتم ذكاته.

ص: 12


1- تفسير القمي ج 1:162.
2- عن السدي. تفسير الطبري ج 6:58.

وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ فلا تقربوا ما نهاكم عنه.

[سورة المائدة (5): آیة 5]

اَلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّبٰاتُ وَ طَعٰامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتٰابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعٰامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَ اَلْمُحْصَنٰاتُ مِنَ اَلْمُؤْمِنٰاتِ وَ اَلْمُحْصَنٰاتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتٰابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذٰا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسٰافِحِينَ وَ لاٰ مُتَّخِذِي أَخْدٰانٍ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمٰانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ مِنَ اَلْخٰاسِرِينَ

اَلطَّيِّبٰاتُ تقع علي كل مستطاب من الأطعمة إلا ما دلّ الدليل علي تحريمه.

وَ طَعٰامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتٰابَ حِلٌّ لَكُمْ قيل: هو ذبائحهم(1)، وقال الصادق عليه السلام:

(هو مختص بالحبوب وما لا يحتاج فيه إلي التذكية)(2).

وَ طَعٰامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ فلا جناح عليكم أن تطعموهم.

و المحصنات الحرائر والعفائف، [وإنّما خصّهن بعثا للمؤمنين علي أن يتخيروا لنطفهم، وإلا فغير العفائف](3) يصح نكاحهن، وكذلك الإماء المسلمات.

وَ اَلْمُحْصَنٰاتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتٰابَ مِنْ قَبْلِكُمْ قال أصحابنا: هن اللواتي أسلمن منهن(4)، وذلك أنّ قوما كانوا يتحرّجون من العقد علي من أسلمت عن كفر، فلذلك أفردن بالذكر، واحتجّوا بقوله سبحانه: وَ لاٰ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ

ص: 13


1- عن ابن عباس وغيره. تفسير الطبري ج 6:66.
2- ينظر: الوسائل ج 16 باب 51 من أبواب الأطعمة والأشربة.
3- ساقطة من ج.
4- التبيان ج 3:446.

اَلْكَوٰافِرِ (1) وقوله: وَ لاٰ تَنْكِحُوا اَلْمُشْرِكٰاتِ حَتّٰى يُؤْمِنَّ (2).

[إِذٰا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي: مهورهن](3)مُحْصِنِينَ أعفّاء غَيْرَ مُسٰافِحِينَ غير زانين وَ لاٰ مُتَّخِذِي أَخْدٰانٍ صدائق، والخدن يقع علي الذكر وا لأنثى.

وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمٰانِ ومن لم يؤمن من أهل الكتاب فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ .

وفي هذا دلالة علي أنّ حبوط العمل لا يترتب علي ثبوت الثواب، فإنّ الكافر ليس له عمل عليه ثواب.

[سورة المائدة (5): آیة 6]

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاٰةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرٰافِقِ وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضىٰ أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ أَوْ جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغٰائِطِ أَوْ لاٰمَسْتُمُ اَلنِّسٰاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ مٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاٰةِ مثل قوله: فَإِذٰا قَرَأْتَ اَلْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّٰهِ (4)

في أنّ المراد: إذا أردتم القيام إلى الصلاة، فعبّر عن إرادة الفعل بالفعل، لأنّ الفعل يوجد بالقصد والإرادة، ولأنّ من قام إلي الشيء كان قاصدا له لا محالة، فعبّر عن

ص: 14


1- الممتحنة: 10.
2- البقرة: 221.
3- ساقطة من أ، ب، ط.
4- النحل: 98.

القصد له بالقيام إليه.

فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وحدّ الوجه من قصاص شعر الرأس إلى محادر شعر الذقن طولا وما دخل بين الوسطى والإبهام عرضا.

وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرٰافِقِ والمرفق: ما يرتفق به من اليد أي: يتكأ عليه.

لا دليل في الآية علي دخول المرافق في الغسل، إلا أنّ أكثر الفقهاء ذهبوا إلى وجوب غسل المرافق في الوضوء، وهو مذهب أهل البيت عليهم السلام(1)، وأجمعت الأمة علي أنّ من بدأ في غسل اليدين من المرفقين صح وضوؤه، وأصحابنا يوجبونه(2).

وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ المراد إلصاق المسح بالرأس، وأصحابنا يوجبون أقل ما يقع عليه اسم المسح(3)، وهذا مذهب الشافعي(4).

وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ قرئ: بالجر والنصب، فالجر للعطف علي اللفظ، والنصب للعطف علي محلّ الجار والمجرور.

وقال جار اللّه: لما كانت الأرجل مظنة للإسراف المذموم في صب الماء عليها، فعطفت علي الممسوح لا لتمسح، لكن لينبّه علي وجوب الاقتصاد في صبّ الماء عليها. وقيل: إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ فجيء بالغاية إماطة لظن ظان يحسبها ممسوحة، لأنّ المسح لم يضرب له غاية في الشريعة(5).

وهذا كلام فاسد، لأنّ حقيقة العطف تقتضي أن يكون المعطوف في حكم

ص: 15


1- ينظر: الوسائل ج 1 باب 15 من أبواب الوضوء.
2- المهذب ج 1:43، وينظر: الناصريات: 118.
3- الخلاف ج 1:83، المهذب ج 1:44.
4- كتاب الأم ج 1:22.
5- الكشاف ج 1:611.

المعطوف عليه، وكيف يكون المسح في معنى الغسل ؟! وفائدة اللفظين مختلفة، ولفظ التنزيل قد فرّق بين الأعضاء المغسولة والأعضاء الممسوحة. وأما قوله: (لم يضرب للمسح غاية) فمما لا يخفى فساده، لأنّ ضرب الغاية لا يدلّ على الغسل، فلو صرّح فقيل: (وامسحوا بأرجلكم إلى الكعبين) لم يكن منكرا ولم يشك أحد في أنّه كان يجب المسح إلي الكعبين، فكذلك إذا جعل في حكم الممسوح بالعطف عليه، وقد بسطنا الكلام فيه في كتاب مجمع البيان(1)، ولا يحتمل هذا الكتاب أكثر مما ذكرناه. والكعبان عندنا هما العظمان الناتئان في القدمين عند معقد الشراك(2)، وإليه ذهب محمّد بن الحسن(3).

وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا أي: تطهّروا با لاغتسال.

مٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ في باب الطهارة حتى لا يرخص لكم في التيمم.

وَ لٰكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ بالتراب إذا أعوزكم التطهير بالماء.

وَلَّيْتُمْ برخصته إنعامه عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمته عليكم.

[سورة المائدة (5): الآیات 7 الی 8]

وَ اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ وَ مِيثٰاقَهُ اَلَّذِي وٰاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنٰا وَ أَطَعْنٰا وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ إِنَّ اَللّٰهَ عَلِيمٌ بِذٰاتِ اَلصُّدُورِ يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّٰامِينَ لِلّٰهِ شُهَدٰاءَ بِالْقِسْطِ

ص: 16


1- مجمع البيان ج 3-4:164-167.
2- الانتصار: 115.
3- المبسوط للسرخسي ج 1:9، وهو أبو عبد اللّه محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني بالولاء، ولد بواسط سنة 131 ه - ونشأ بالكوفة، فسمع من أبي حنيفة وغلب عليه مذهبه وعرف به، توفي بالري سنة 189 ه -. ينظر وفيات الأعيان ج 3:324.

[سورة المائدة (5): الآیات 8 الی 10]

وَ لاٰ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلىٰ أَلاّٰ تَعْدِلُوا اِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوىٰ وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ إِنَّ اَللّٰهَ خَبِيرٌ بِمٰا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلْجَحِيمِ (1(0)

وَ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ و هي نعمة الإسلام.

وَ مِيثٰاقَهُ اَلَّذِي وٰاثَقَكُمْ بِهِ أي: عاقدكم به عقدا وثيقا، وهو الميثاق الذي أخذه عليكم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حين بايعهم علي السمع والطاعة في حال اليسر والعسر فقبلوا وقالوا: سَمِعْنٰا وَ أَطَعْنٰا ، وقيل: هو ما بيّن لهم في حجّة الوداع من تحريم المحرّمات وفرض الولاية وغير ذلك عن الباقر عليه السلام(1).

وعدّي يَجْرِمَنَّكُمْ ب - عَلىٰ لأنه في معنى: ولا يحملنكم بغضكم للمشركين عَلىٰ أَلاّٰ تَعْدِلُوا أي: تتركوا العدل فتعتدوا عليهم بأن تنتصروا منهم، وتتشفوا ما في قلوبكم من الضغائن بارتكاب مالا يحلّ لكم من مثلة أو قتل أولاد أو نساء أو غير ذلك.

اِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوىٰ نهاهم أوّلا عن ترك العدل، ثم صرّح لهم با لأمر بالعدل تأكيدا، ثم ذكر لهم وجه الأمر بالعدل بقوله: هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوىٰ أي: أقرب إلى التقوى لكونه لطفا فيها. وإذا كان العدل إلى الكفار بهذه الصفة من القوة، فكيف يكون مع المؤمنين!.

لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ بيان للوعد بعد تمام الكلام قبله، كأنّه قدّم

ص: 17


1- التبيان ج 3:460.

لهم وعدا فقيل: أي شيء هو؟ فقال: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ .

وأجرى وَعَدَ مجري (قال) لأنّه ضرب من القول.

[سورة المائدة (5): آیة 11]

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ عَلَى اَللّٰهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ

روي: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أتى بني النضير مع جماعة من أصحابه يستقرضهم دية رجلين أصابهما رجل من أصحابه وهما في أمان منه فلزمه ديتهما، أو يستعينهم علي ذلك، فقالوا: نعم، اجلس حتى نطعمك ونعطيك ما تسأل، وهمّوا بالفتك به، فأخبره جبرئيل فخرج، وكان إحدى معجزاته صلى الله عليه و آله و سلم(1).

يقال: بسط إليه كفه إذا بطش به، ومعنى بسط اليد: مدّها إلى المبطوش به، وا لكف: المنع.

[سورة المائدة (5): آیة 12]

وَ لَقَدْ أَخَذَ اَللّٰهُ مِيثٰاقَ بَنِي إِسْرٰائِيلَ وَ بَعَثْنٰا مِنْهُمُ اِثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَ قٰالَ اَللّٰهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ اَلصَّلاٰةَ وَ آتَيْتُمُ اَلزَّكٰاةَ وَ آمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَ عَزَّرْتُمُوهُمْ وَ أَقْرَضْتُمُ اَللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ وَ لَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوٰاءَ اَلسَّبِيلِ

أمر اللّه بني إسرائيل بعد هلاك فرعون بمصر بأن يسيروا إلي أريحا من أرض الشام - وكان يسكنها الجبابرة - وقال: إنّي كتبتها لكم قرارا، وأمر موسى بأن يأخذ

ص: 18


1- سيرة ابن هشام ج 3:267.

من كل سبط نقيبا يكون كفيلا علي قومه بالوفاء بما أمروا به من الخروج إلى الجبابرة والجهاد وقائدا ورئيسا لهم، فاختار النقباء وأخذ الميثاق علي بني إسرائيل، وتكفّل لهم به النقباء وسار بهم، فلما دنا من أرضهم بعث النقباء يتجسسون، فرأوا أجراما عظيمة وقوة، فرجعوا فأخبروا موسى عليه السلام بذلك، فأمرهم أن يكتموا ذلك، فحدّثوا بذلك قومهم إلا كالب بن يوفنا من سبط يهودا، ويوشع بن نون من سبط افرائيم بن يوسف وكانا من النقباء، وقيل: كتم خمسة وأظهر الباقون. والنقيب: الذي ينقّب عن أحوال القوم، أي: يفتش عنها، كما قيل: عريف لأنّه يتعرفها.

إِنِّي مَعَكُمْ أي: ناصركم ومعينكم.

وَ عَزَّرْتُمُوهُمْ نصرتموهم ومنعتموهم من أيدي العدو، ومنه التعزير وهو التنكيل والمنع من معاودة الفساد.

وقيل: معناه: ولقد أخذنا ميثاقهم بالإيمان والعدل وبعثنا منهم اثنى عشر ملكا يقيمون فيهم العدل.

واللام في لَئِنْ أَقَمْتُمُ موطئة للقسم، وفي لَأُكَفِّرَنَّ جواب القسم سادّ مسدّ جواب القسم والشرط جميعا.

فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ مِنْكُمْ أي: بعد أخذ الميثاق وبعث النقباء.

فَقَدْ ضَلَّ أي: أخطأ سَوٰاءَ اَلسَّبِيلِ وزال عن قصد الطريق الواضح، لأنّ النعمة كلما عظمت وزادت كثرت المذمة في كفرانها وتمادت.

[سورة المائدة (5): الآیات 13 الی 14]

فَبِمٰا نَقْضِهِمْ مِيثٰاقَهُمْ لَعَنّٰاهُمْ وَ جَعَلْنٰا قُلُوبَهُمْ قٰاسِيَةً يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَنْ مَوٰاضِعِهِ وَ نَسُوا حَظًّا مِمّٰا ذُكِّرُوا بِهِ وَ لاٰ تَزٰالُ تَطَّلِعُ عَلىٰ خٰائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاّٰ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اِصْفَحْ إِنَّ اَللّٰهَ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ (1(3) وَ مِنَ اَلَّذِينَ قٰالُوا

ص: 19

[سورة المائدة (5): آیة 14]

إِنّٰا نَصٰارىٰ أَخَذْنٰا مِيثٰاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمّٰا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنٰا بَيْنَهُمُ اَلْعَدٰاوَةَ وَ اَلْبَغْضٰاءَ إِلىٰ يَوْمِ اَلْقِيٰامَةِ وَ سَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اَللّٰهُ بِمٰا كٰانُوا يَصْنَعُونَ

لَعَنّٰاهُمْ أي: أبعدناهم من رحمتنا وطردناهم.

وَ جَعَلْنٰا قُلُوبَهُمْ قٰاسِيَةً خذلناهم ومنعناهم الألطاف حتى قست قلوبهم، وا لقسوة: خلاف اللين والرقة، وقرئ: قسيّة، أي: رديّة مغشوشة.

يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ بيان لقسوة قلوبهم، فإنّ تغيير كلام اللّه والكذب عليه من القسوة.

وَ نَسُوا حَظًّا وتركوا نصيبا وافيا مِمّٰا ذُكِّرُوا بِهِ في التوراة، يعني:

إنّ إعراضهم عن التوراة إغفال حظ عظيم، أو يكون المعنى: فسدت قلوبهم فحرّفوا التوراة وذهبت أشياء منها عن حفظهم. وعن ابن مسعود: (قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية وتلا هذه الآية)(1).

وَ لاٰ تَزٰالُ تَطَّلِعُ عَلىٰ خٰائِنَةٍ مِنْهُمْ أي: خيانة منهم، أو علي نفس أو فرقة خائنة منهم.

إِلاّٰ قَلِيلاً مِنْهُمْ وهم الذين آمنوا منهم، وقيل: إلا قليلا داموا علي عهدهم.

فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اِصْفَحْ ماداموا علي عهدك ولم يخونوك.

وَ مِنَ اَلَّذِينَ قٰالُوا إِنّٰا نَصٰارىٰ سمّوا أنفسهم بذلك ادعاء لنصرة اللّه، وهم الذين قالوا لعيسى عليه السلام: نحن أنصار اللّه، ثم اختلفوا بعده نسطورية(2)

ص: 20


1- سنن الدارمي ج 1:105 بالمعنى.
2- النسطورية: هم أصحاب نسطور الحكيم الذي ظهر في زمن المأمون وتصرف في الأناجيل بحكم رأيه. ينظر: أقوالهم في الملل والنحل ج 2:44.

ويعقوبية(1) وملكانية(2) فصاروا أنصارا للشيطان.

فَأَغْرَيْنٰا فألصقنا وألزمنا من غري بالشيء: إذا لزمه ولصق به وأغراه غيره.

بَيْنَهُمُ بين فرق النصارى المختلفين، وقيل: بينهم وبين اليهود(3)، ونحوه: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ (4).

[سورة المائدة (5): الآیات 15 الی 16]

يٰا أَهْلَ اَلْكِتٰابِ قَدْ جٰاءَكُمْ رَسُولُنٰا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّٰا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ اَلْكِتٰابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جٰاءَكُمْ مِنَ اَللّٰهِ نُورٌ وَ كِتٰابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اَللّٰهُ مَنِ اِتَّبَعَ رِضْوٰانَهُ سُبُلَ اَلسَّلاٰمِ وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُمٰاتِ إِلَى اَلنُّورِ بِإِذْنِهِ وَ يَهْدِيهِمْ إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ

خاطب اليهود والنصاري قَدْ جٰاءَكُمْ رَسُولُنٰا محمّد صلى الله عليه و آله و سلم.

يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّٰا كُنْتُمْ تُخْفُونَ من أمر الرجم وأشياء حرّفتموها وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ مما تخفونه لا يبيّنه، وعن الحسن: (ويعفو عن كثير منكم لا يؤاخذه)(5).

ص: 21


1- اليعقوبية: هم أصحاب يعقوب قالوا بالأقانيم الثلاثة، وقالوا انقلبت الكلمة لحما ودما فصار الإله هو المسيح. ينظر: أقوالهم في الملل والنحل ج 2:48.
2- الملكانية: هم أصحاب ملكا الذي ظهر بالروم واستولي عليها، ومعظم الروم ملكانية وهم الذين قالوا بالتثليث. ينظر: أقوالهم في الملل والنحل ج 2:39.
3- عن مجاهد وغيره. تفسير الطبري ج 6:102.
4- الأنعام: 65.
5- الكشاف ج 1:617.

قَدْ جٰاءَكُمْ مِنَ اَللّٰهِ نُورٌ وهو محمّد صلى الله عليه و آله و سلم يهتدي به الخلق كما يهتدي بالنور، وقيل: هو القرآن لكشفه ظلمات الشك والشرك(1).

وَ كِتٰابٌ مُبِينٌ يبين ما كان خافيا على الناس من الحقّ ، أو مبين ظاهر الإعجاز.

يَهْدِي بِهِ اَللّٰهُ مَنِ اِتَّبَعَ رِضْوٰانَهُ يريد من آمن منهم.

سُبُلَ اَلسَّلاٰمِ أي: طرق النجاة من عذاب اللّه، أو سبل اللّه وهي شرائع الإسلام.

وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الكفر إلى الإيمان بِإِذْنِهِ أي: بلطفه ويرشدهم إلى طريق الحقّ أو طريق الجنّة.

[سورة المائدة (5): الآیات 17 الی 18]

لَقَدْ كَفَرَ اَلَّذِينَ قٰالُوا إِنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اَللّٰهِ شَيْئاً إِنْ أَرٰادَ أَنْ يُهْلِكَ اَلْمَسِيحَ اِبْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً وَ لِلّٰهِ مُلْكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا يَخْلُقُ مٰا يَشٰاءُ وَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ وَ قٰالَتِ اَلْيَهُودُ وَ اَلنَّصٰارىٰ نَحْنُ أَبْنٰاءُ اَللّٰهِ وَ أَحِبّٰاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشٰاءُ وَ لِلّٰهِ مُلْكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مٰا بَيْنَهُمٰا وَ إِلَيْهِ اَلْمَصِيرُ

كفّرهم الله تعالى بهذا القول، قيل: كان في النصارى قوم يبتّون القول بأنّ اللّه هو المسيح، وقيل: كأنّ مذهبهم يؤدي إلى ذلك وإن لم يصرّحوا به من حيث

ص: 22


1- عن الجبائي. التبيان ج 3:475.

اعتقدوا أنّه يخلق ويحيي ويميت ويدبّر أمر العالم.

فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اَللّٰهِ شَيْئاً أي: فمن يمنع من قدرته ومشيته شيئا.

إِنْ أَرٰادَ أَنْ يُهْلِكَ من دعوه إلها من المسيح وأمه. وعطف مَنْ فِي اَلْأَرْضِ علي المسيح أُمَّهُ ليدلّ علي أنّهما من جنسهم لا تفاوت في البشرية بينهما وبينهم.

يَخْلُقُ مٰا يَشٰاءُ من ذكر وأنثى، وما يشاء من أنثى من غير ذكر كما خلق عيسى، وما يشاء من غير ذكر وأنثى كما خلق آدم.

نَحْنُ أَبْنٰاءُ اَللّٰهِ أي: أشياع ابني اللّه عزير والمسيح، كما يقول أقرباء الملك:

نحن الملوك.

فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ أي: فإن صح أنّكم أبناء اللّه وأحبّاؤه، فلم تذنبون وتعذّبون بذنوبكم فتمسخون ؟!، ولو كنتم أبناء اللّه لكنتم من جنس الأب لا تعصون اللّه، ولو كنتم أحبّاءه لما عاقبكم.

بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ من جملة من خَلَقَ من البشر.

[سورة المائدة (5): آیة 19]

يٰا أَهْلَ اَلْكِتٰابِ قَدْ جٰاءَكُمْ رَسُولُنٰا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلىٰ فَتْرَةٍ مِنَ اَلرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مٰا جٰاءَنٰا مِنْ بَشِيرٍ وَ لاٰ نَذِيرٍ فَقَدْ جٰاءَكُمْ بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ وَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ

المعنى: يُبَيِّنُ لَكُمْ الدين والشرع، أو يبين لكم ما كنتم تخفونه، أو يبذل لكم البيان علي الإطلاق. ومحلّه النصب أي: مبيّنا لكم.

عَلىٰ فَتْرَةٍ متعلّق ب - جاءكم أي: جاءكم علي حين فترة من إرسال الرسل وانقطاع من الوحي.

ص: 23

أَنْ تَقُولُوا كراهة أن تقولوا مٰا جٰاءَنٰا مِنْ بَشِيرٍ بالثواب وَ لاٰ نَذِيرٍ بالعقاب.

فَقَدْ جٰاءَكُمْ متعلّق بمحذوف، أي: لا تعتذروا فقد جاءكم.

قالوا: كان بين عيسى ومحمّد صلوات اللّه عليهما خمسمائة وستون سنة(1)، وقيل: ستمائة سنة(2)، وعن الكلبي(3): كان بين موسى وعيسى ألف وسبعمائة سنة وألف نبي، وبين عيسى ومحمّد أربعة أنبياء: ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب وهو خالد بن سنان العبسي(4).

ومعنى الآية: الامتنان عليهم بإرسال الرسول إليهم بعد اندراس آثار الوحي أحوج ما يكونون إليه ليعدّوه أعظم نعمة من اللّه.

[سورة المائدة (5): الآیات 20 الی 22]

وَ إِذْ قٰالَ مُوسىٰ لِقَوْمِهِ يٰا قَوْمِ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيٰاءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَ آتٰاكُمْ مٰا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ اَلْعٰالَمِينَ يٰا قَوْمِ اُدْخُلُوا اَلْأَرْضَ اَلْمُقَدَّسَةَ اَلَّتِي كَتَبَ اَللّٰهُ لَكُمْ وَ لاٰ تَرْتَدُّوا عَلىٰ أَدْبٰارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خٰاسِرِينَ قٰالُوا يٰا مُوسىٰ إِنَّ فِيهٰا قَوْماً جَبّٰارِينَ وَ إِنّٰا لَنْ نَدْخُلَهٰا حَتّٰى يَخْرُجُوا مِنْهٰا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهٰا فَإِنّٰا دٰاخِلُونَ

ص: 24


1- عن قتادة برواية معمر. تفسير الطبري ج 6:107.
2- عن أبي عثمان النهاوندي. معالم التنزيل ج 1:277.
3- أبو النضر محمّد بن السائب بن بشر الكلبي، صاحب التفسير وعلم النسب، كان إماما في هذين العلمين، توفي سنة 146 ه - بالكوفة. ينظر: وفيات الأعيان ج 3:436، معجم رجال الحديث ج 17:114.
4- الكشاف ج 1:619.

لم يبعث في أمّة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء، وذلك من نعم اللّه تعالى عليهم وآلائه لديهم.

وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً لأنّ اللّه سبحانه ملّكهم ملك فرعون وملك الجبابرة، وقيل: إنّهم كانوا مملوكين في أيدي القبط، فسمّى اللّه سبحانه إنقاذهم منهم ملكا(1).

وَ آتٰاكُمْ مٰا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ اَلْعٰالَمِينَ من فلق البحر وتظليل الغمام وغير ذلك من الأمور العظام، وقيل: أراد عالمي زمانهم(2).

اَلْأَرْضَ اَلْمُقَدَّسَةَ أرض بيت المقدس، وقيل: فلسطين ودمشق وبعض الأردن(3)، وقيل: الشام(4). وكان بيت المقدس مستقر الأنبياء ومسكن المؤمنين.

اَلَّتِي كَتَبَ اَللّٰهُ لَكُمْ أي: قسمها لكم، أو خطّها في اللوح المحفوظ أنّها لكم.

وَ لاٰ تَرْتَدُّوا عَلىٰ أَدْبٰارِكُمْ ولا تنكصوا علي أعقابكم مدبرين من خوف الجبابرة جبنا، أو لا ترتدوا علي أدباركم في دينكم بعصيانكم نبيّكم ومخالفتكم أمر ربّكم، فترجعوا خٰاسِرِينَ ثواب الدنيا و الآخرة.

والجبار فعّال من جبره علي الأمر بمعنى أجبره، وهو الذي يجبر الناس علي ما يريد.

[سورة المائدة (5): آیة 23]

قٰالَ رَجُلاٰنِ مِنَ اَلَّذِينَ يَخٰافُونَ أَنْعَمَ اَللّٰهُ عَلَيْهِمَا اُدْخُلُوا عَلَيْهِمُ اَلْبٰابَ فَإِذٰا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غٰالِبُونَ وَ عَلَى اَللّٰهِ فَتَوَكَّلُوا

ص: 25


1- عن السدي. تفسير الطبري ج 6:109.
2- عن ابن عباس وغيره. تفسير الطبري ج 6:109.
3- عن الكلبي. معالم التنزيل ج 1:277.
4- عن قتادة. تفسير الطبري ج 6:110.

[سورة المائدة (5): الآیات 23 الی 26]

إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قٰالُوا يٰا مُوسىٰ إِنّٰا لَنْ نَدْخُلَهٰا أَبَداً مٰا دٰامُوا فِيهٰا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقٰاتِلاٰ إِنّٰا هٰاهُنٰا قٰاعِدُونَ قٰالَ رَبِّ إِنِّي لاٰ أَمْلِكُ إِلاّٰ نَفْسِي وَ أَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنٰا وَ بَيْنَ اَلْقَوْمِ اَلْفٰاسِقِينَ قٰالَ فَإِنَّهٰا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي اَلْأَرْضِ فَلاٰ تَأْسَ عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْفٰاسِقِينَ

الرجلان: كا لب ويوشع.

أي: يَخٰافُونَ اللّه ويخشونه كأنّه قال: رجلان من المتقين، وقيل: الواو لبني إسرائيل أي: مِنَ اَلَّذِينَ يخافونهم وهم الجبارون، وكانا منهم علي دين موسى لما بلغهما خبر موسى أتياه فاتبعاه(1).

أَنْعَمَ اَللّٰهُ عَلَيْهِمَا بالإيمان، وكان سعيد بن جبير يقرأ: يخافون - يضم الياء -، قالا لهم: إنّ العمالقة أجسام لا قلوب فيها، فلا تخافوهم وازحفوا إليهم فإنّكم غالبوهم، ويجوز أن يكون أَنْعَمَ اَللّٰهُ عَلَيْهِمَا في محلّ رفع وصفا ل - رَجُلاٰنِ ، ويجوز أن يكون اعتراضا لا محل له من الإعراب.

اُدْخُلُوا عَلَيْهِمُ اَلْبٰابَ يعني باب قريتهم.

قالوا لَنْ نَدْخُلَهٰا نفي لدخولهم في المستقبل على سبيل التأكيد، و أَبَداً تعليق للنفي المؤكد بالدهر المتطاول، و مٰا دٰامُوا فِيهٰا بيان للأبد.

فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقٰاتِلاٰ هذه استهانة منهم باللّه ورسوله وقلة مبالاة.

قٰالَ رَبِّ إِنِّي لاٰ أَمْلِكُ لنصرة دينك إِلاّٰ نَفْسِي وَ أَخِي هذه شكاية منه

ص: 26


1- عن ابن عباس. تفسير الطبري ج 6:114.

إلى اللّه تعالى بحزن ورقّة قلب.

وذكر في إعراب وَ أَخِي وجوه: أن يكون منصوبا معطوفا علي نَفْسِي ، وعلي الضمير في إِنِّي بمعنى: وإنّ أخي لا يملك إلا نفسه؛ وأن يكون مرفوعا عطفا علي محلّ (إنّ ) واسمها، كأنّه قيل: أنا لا أملك إلا نفسي وهارون كذلك لا يملك إلا نفسه، وعلى الضمير في لاٰ أَمْلِكُ وجاز للفصل؛ وأن يكون مجرورا عطفا على الضمير في نَفْسِي وهو ضعيف.

فَافْرُقْ أي: فافصل بيننا وبينهم بأن تحكم لنا بما نستحقّ وتحكم عليهم بما يستحقّون، وهو في معنى الدعاء عليهم.

فَإِنَّهٰا أي: فإنّ الأرض المقدسة مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ لا يدخلونها ولا يملكونه أَرْبَعِينَ سَنَةً . فقد روي: أنّ موسى سار بمن بقي من بني إسرائيل - وكان يوشع علي مقدّمته - ففتح أريحا وأقام فيها ما شاء اللّه ثم قبض، وقيل:

مات موسى في التيه، ومات هارون قبله بسنة، وسار يوشع بهم إلى أريحا، وقيل: لم يدخل الأرض المقدسة أحد ممن قال: إِنّٰا لَنْ نَدْخُلَهٰا وهلكوا في التيه، ونشأت ذراريهم فقاتلوا الجبارين ودخلوها، فيكون التقدير: كتب اللّه لكم الأرض المقدسة بشرط أن تجاهدوا أهلها، فلما أبوا الجهاد قيل: فإنّها محرّمة عليهم، فالعامل في الظرف يَتِيهُونَ .

يَتِيهُونَ فِي اَلْأَرْضِ أي: يسيرون فيها متحيّرين لا يهتدون طريقا، والتيه: المفازة التي يتاه فيها. فروي: أنّهم لبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ يسيرون كل يوم جادين حتى إذا أمسوا كانوا بحيث ارتحلوا عنه، وكان الغمام يظلّهم من حر الشمس، ويطلع لهم بالليل عمود من نور يضيء لهم، وينزل عليهم المن والسلوي، ولا تطول شعورهم، وإذا ولد لهم مولود كان عليه ثوب كالظفر،

ص: 27

يطول بطوله.

واختلف في موسى وهارون هل كانا معهم في التيه ؟ فقيل: لم يكونا معهم لقوله: فَافْرُقْ بَيْنَنٰا وَ بَيْنَ اَلْقَوْمِ اَلْفٰاسِقِينَ ، وقيل: كانا معهم إلا أنّه كان ذلك روحا لهما وسلاما لا عقوبة كالنار لإبراهيم(1).

فَلاٰ تَأْسَ فلا تحزن عليهم فإنّهم أحقّاء بالعذاب، لأنّه ندم علي الدعاء عليهم.

[سورة المائدة (5): الآیات 27 الی 30]

وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ اِبْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبٰا قُرْبٰاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمٰا وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ اَلْآخَرِ قٰالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قٰالَ إِنَّمٰا يَتَقَبَّلُ اَللّٰهُ مِنَ اَلْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مٰا أَنَا بِبٰاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخٰافُ اَللّٰهَ رَبَّ اَلْعٰالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحٰابِ اَلنّٰارِ وَ ذٰلِكَ جَزٰاءُ اَلظّٰالِمِينَ (2(9) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ اَلْخٰاسِرِينَ

ابنا آدم هما: هابيل وقابيل.

أوحى اللّه تعالي إلى آدم أن يزوّج كل واحد منهما توأمة الآخر، وكانت توأمة قابيل أجمل، فحسد عليها أخاه وأبي ذلك، فقال لهما ادم: قرّبا قربانا فمن أيكما قبل زوّجها، فقبل قربان هابيل بأن نزلت نار فأكلته، فازداد قابيل حسدا وسخطا وتوعّده بالقتل.

أي: اتل نبأهما تلاوة ملتبسة بالحقّ والصدق موافقا لما في كتب الأوّلين، أو اتل عليهم وأنت محقّ صادق إِذْ قَرَّبٰا نصب بالنبأ أي: قصّتهما في ذلك الوقت،

ص: 28


1- ينظر: الأقوال والقصة في تاريخ الطبري ج 1:222-227.

ويجوز أن يكون بدلا من نَبَأَ أي: نبأ ذلك الوقت علي تقدير حذف المضاف.

والقربان: اسم ما يتقرّب به إلى اللّه تعالي، يقال: قرّب نسكا وتقرّب به.

قٰالَ لَأَقْتُلَنَّكَ أي: قال الذي لم يتقبل قربانه منهما للذي تقبل قربانه:

لأقتلنك.

قٰالَ إِنَّمٰا يَتَقَبَّلُ اَللّٰهُ مِنَ اَلْمُتَّقِينَ كأنّه قال له: لم تقتلني ؟ قال: لأنّه تقبّل منك ولم يتقبّل مني، فقال: إنّما أوتيت من قبل نفسك لانسلاخك من لباس التقوي لا من قبلي فلم تقتلني ؟. وفيه دليل علي أنّ اللّه تعالى إنّما يقبل الطاعة ممن هو زاكي القلب متق.

مٰا أَنَا بِبٰاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ لأنّ إرادة القتل قبيحة، وإنّما يحسن من المظلوم قتل الظالم علي وجه المدافعة له طلبا للتخلص من غير أن يقصد إلى قتله، فكأنّه قال: لئن ظلمتني لم أظلمك.

إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ معناه: أن تحتمل إثم قتلي لك وإثم قتلك لي، والمراد بمثل إثمي علي الاتساع، فكأنّه قال: أريد أن تبوء بمثل إثمي لو بسطت إليك يدي، وقيل: إنّ المعنى: إنّي أريد أن تبوء بإثم قتلي وإثمك الذي من أجله لم يتقبّل قربانك.

فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ أي: فوسعته له ويسّرته، من طاع له المرتع:

إذا اتسع، أي: زيّنته له وشجّعته عليه.

فَقَتَلَهُ وقيل: إنّه كان أوّل قتيل في الناس.

فَأَصْبَحَ مِنَ اَلْخٰاسِرِينَ خسر الدنيا والآخرة وذهب عنه خيرهما.

ص: 29

[سورة المائدة (5): آیة 31]

فَبَعَثَ اَللّٰهُ غُرٰاباً يَبْحَثُ فِي اَلْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوٰارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قٰالَ يٰا وَيْلَتىٰ أَ عَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هٰذَا اَلْغُرٰابِ فَأُوٰارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ اَلنّٰادِمِينَ

روي: أنّه لما قتله تركه بالعراء لا يدري ما يصنع به، فقصده السباع فحمله في جراب علي ظهره حتى أروح، وعكفت عليه الطير والسباع فَبَعَثَ اَللّٰهُ غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه، ثم حفر له بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة، فقال يٰا وَيْلَتىٰ أَ عَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هٰذَا اَلْغُرٰابِ (1).

لِيُرِيَهُ اللّه أو ليريه الغراب أي: ليعلّمه، ولما كان سبب تعليمه فكأنّه قصد تعليمه، والسوءة: ما لا يجوز أن ينكشف من الجسد، وأصلها الفضيحة فكني بها عن العورة.

فَأُوٰارِيَ جواب الاستفهام.

فَأَصْبَحَ مِنَ اَلنّٰادِمِينَ علي قتله، لما تعب فيه من حمله علي ظهره وتحيّره في أمره وسخط أبيه ولم يندم ندم التائبين. وروي أنّه لما قتله اسودّ جسده وكان أبيض، فسأله آدم عن أخيه، فقال: ما كنت عليه وكيلا، فقال: بل قتلته، ولذلك اسودّ جلدك.

[سورة المائدة (5): آیة 32]

مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنٰا عَلىٰ بَنِي إِسْرٰائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسٰادٍ فِي اَلْأَرْضِ فَكَأَنَّمٰا قَتَلَ اَلنّٰاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْيٰاهٰا فَكَأَنَّمٰا أَحْيَا اَلنّٰاسَ جَمِيعاً وَ لَقَدْ جٰاءَتْهُمْ رُسُلُنٰا بِالْبَيِّنٰاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ فِي اَلْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ

ص: 30


1- العرائس: 29.

مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ أي: بسبب ذلك وبعلّته، وأصله من أجل عليهم شرا، أي: جناه، فإذا قلت: من أجلك فعلت [كذا، فكأنّك أردت من أن جنيت فعله وأوجبته فعلت](1)، ويدلّ عليه قولهم: من جراك.

و ذلك إشارة إلى القتل المذكور، و من لابتداء الغاية، أي: من ابتداء كَتَبْنٰا عَلىٰ بَنِي إِسْرٰائِيلَ من أجل ذلك، وقرئ: من إجل ذلك - بكسر الهمزة - ثم خفّفت الهمزة وكسرت النون بإلقاء كسرة الهمزة عليها.

أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أي: بغير قتل نفس بمعنى بغير قود.

أَوْ فَسٰادٍ فِي اَلْأَرْضِ [أو بغير فساد في الأرض](2) وهو الحرب للّه ورسوله وإخافة السبل.

فَكَأَنَّمٰا قَتَلَ اَلنّٰاسَ جَمِيعاً أي: فكأنّه قصد لقتلهم جميعا إذ قتل أخاهم، وصار الناس كلهم خصماءه في قتل تلك النفس.

وَ مَنْ أَحْيٰاهٰا بأن استنقذها من غرق أو حرق أو هدم ونحوها، أو أخرجها من ضلال إلى هدي.

فَكَأَنَّمٰا أَحْيَا اَلنّٰاسَ جَمِيعاً يأجره اللّه علي ذلك أجر من أحياهم بأسرهم، لأنّه في إسدائه المعروف إليهم بإحيائه أخاهم المؤمن بمنزلة من أحيا كل واحد منهم.

بَعْدَ ذٰلِكَ أي: بعد ما كتبنا عليهم فِي اَلْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ في القتل لا يبالون به.

ص: 31


1- ساقطة من ج.
2- ساقطة من ج.

[سورة المائدة (5): الآیات 33 الی 34]

إِنَّمٰا جَزٰاءُ اَلَّذِينَ يُحٰارِبُونَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَسٰاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاٰفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ اَلْأَرْضِ ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي اَلدُّنْيٰا وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذٰابٌ عَظِيمٌ إِلاَّ اَلَّذِينَ تٰابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

لفظة إِنَّمٰا تفيد إنّ المعنى: ما جزاؤهم إلا هذا.

يُحٰارِبُونَ اَللّٰهَ أي: أولياء اللّه كقوله: إِنَّ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللّٰهَ (1).

وَ رَسُولَهُ أي: ويحاربون رسوله، ومحاربة المسلمين في حكم محاربته.

وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَسٰاداً أي: مفسدين، أو لأنّ سعيهم في الأرض لما كأنّ علي طريق الفساد، نزّل منزلة أن يقال: ويفسدون في الأرض فسادا، ويجوز أن يكون مفعولا له أي: للفساد. وروي عن أئمتنا عليهم السلام: (إنّ المحارب كل من شهر السلاح وأخاف الطريق، وجزاؤه علي قدر استحقاقه: فإن جمع بين القتل وأخذ المال فجزاؤه أن يقتل ويصلب، وإن أفرد القتل فجزاؤه أن يقتل، وإن أفرد أخذ المال فجزاؤه أن تقطع يده لأخذ المال ورجله لإخافة السبيل، ومن أفرد الإخافة نفي من الأرض)(2).

وقوله: مِنْ خِلاٰفٍ معناه اليد اليمنى والرجل اليسري. والنفي هو أن ينفى من بلد إلي بلد إلى أن يتوب ويرجع.

ذٰلِكَ إشارة إلى ما ذكرناه.

ص: 32


1- الأحزاب: 57.
2- ينظر: الوسائل ج 18 باب 1 من أبواب حدّ المحارب.

لَهُمْ خِزْيٌ فِي اَلدُّنْيٰا أي: فضيحة وهوان.

وقوله: وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذٰابٌ عَظِيمٌ يدلّ على أنّ الحدود لا تكفّر المعاصي، لأنه بيّن أنّهم يستحقّون العذاب العظيم مع إقامة الحدود عليهم.

إِلاَّ اَلَّذِينَ تٰابُوا استثناء من المعاقبين، فأما حكم القتل والجرح وأخذ المال فإلى الأولياء.

[سورة المائدة (5): الآیات 35 الی 37]

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ اِبْتَغُوا إِلَيْهِ اَلْوَسِيلَةَ وَ جٰاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مٰا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذٰابِ يَوْمِ اَلْقِيٰامَةِ مٰا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ اَلنّٰارِ وَ مٰا هُمْ بِخٰارِجِينَ مِنْهٰا وَ لَهُمْ عَذٰابٌ مُقِيمٌ

اَلْوَسِيلَةَ كل ما يتوسل به إليه من الطاعات وترك المقبحات. وعن النبي صلى الله عليه و آله و سلم: (سلوا اللّه لي الوسيلة، فإنّها درجة في الجنّة لا ينالها إلا عبد واحد أرجو أن أكون أنا هو)(1)، وروي الأصبغ بن نباتة(2) عن علي عليه السلام: (في الجنّة لؤلؤتان إلى بطنان العرش: إحداهما بيضاء والأخري صفراء، في كل واحدة منهما سبعون ألف غرفة، فالبيضاء: الوسيلة لمحمّد صلى الله عليه و آله و سلم وأهل بيته، والصفراء: لإبراهيم وأهل بيته)(3).

ص: 33


1- صحيح مسلم ج 2:4.
2- الأصبغ بن نباتة المجاشعي، كان من خواص أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام وعمّر بعده. معجم رجال الحديث ج 3:213.
3- الكشف والبيان ج 4:59.

لِيَفْتَدُوا بِهِ ليجعلوه فدية لأنفسهم، وهذا تمثيل لنزول العذاب بهم، وأنّه لا سبيل لهم إلى الخلاص منه بوجه، و لَوْ مع ما في حيّزه خبر إن ، ووحّد الضمير في بِهِ مع أنّ المذكور شيئان، لأنه أجري مجري اسم الإشارة، أي: ليفتدوا بذلك، أو يكون نحو قوله:

فإنّي وقيّار بها لغريب(1)

ويروي أنّ نافع بن الأزرق(2) قال لابن عباس: (تزعم أنّ قوما يخرجون من النار وقال اللّه تعالى: وَ مٰا هُمْ بِخٰارِجِينَ مِنْهٰا ؟! فقال: ويحك اقرأ ما فوقها، هذا للكفار)(3).

[سورة المائدة (5): الآیات 38 الی 40]

وَ اَلسّٰارِقُ وَ اَلسّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا جَزٰاءً بِمٰا كَسَبٰا نَكٰالاً مِنَ اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَمَنْ تٰابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ فَإِنَّ اَللّٰهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللّٰهَ لَهُ مُلْكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ

هما مرفوعان على الابتداء والخبر محذوف، كأنّه قيل: وفيما فرض عليكم:

وَ اَلسّٰارِقَةُ أي: حكمهما، ويجوز أن يكون الخبر فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا ، ودخلت الفاء لأنّهما قد تضمنا معنى الشرط، فإنّ المعنى: والذي سرق والتي

ص: 34


1- البيت لضابئ بن حارث البرجمي. الاصمعيات: 184، وصدره: ومن يك امسى بالمدينة رحله.
2- نافع بن الأزرق الحنفي، كان من زعماء الخوارج وكان مسجونا في سجن ابن زياد ثم أطلقه، وغلب على الأهواز، قتل يوم دولاب سنة 65 ه -. ينظر: أنساب الأشراف ج 7:143.
3- تفسير الطبري ج 6:147.

سرقت فاقطعوا أيديهما أي: يديهما، ونحوه: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمٰا (1)، اكتفى بتثنية المضاف إليه عن تثنية المضاف. والمراد باليدين اليمينان، بدليل قراءة عبد اللّه بن مسعود: والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم.

والمقدار الذي يجب به القطع ربع دينار إذا سرق من الحرز، وإليه ذهب الشافعي(2) ومالك(3)، إلا أنّ المقطع عندهم هو الرسغ، وعندنا: أصول الأصابع ويترك الإبهام والكف، وفي المرة الثانية تقطع رجله اليسرى من أصل الساق ويترك عقبه يعتمد عليها في الصلاة، فإن سرق بعد ذلك خلّد في السجن، هذا هو المشهور من مذهب علي عليه السلام(4).

وقوله: جَزٰاءً مفعول له وكذا قوله: نَكٰالاً .

فَمَنْ تٰابَ من السرّاق.

مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ أي: سرقته.

وَ أَصْلَحَ أمره بالتفصي عن التبعات.

فَإِنَّ اَللّٰهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ويسقط عنه عقاب الآخرة.

[سورة المائدة (5): آیة 41]

يٰا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ لاٰ يَحْزُنْكَ اَلَّذِينَ يُسٰارِعُونَ فِي اَلْكُفْرِ مِنَ اَلَّذِينَ قٰالُوا آمَنّٰا بِأَفْوٰاهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَ مِنَ اَلَّذِينَ هٰادُوا سَمّٰاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمّٰاعُونَ لِقَوْمٍ

ص: 35


1- التحريم: 4.
2- كتاب الأم ج 6:134.
3- موطأ ما لك ج 2:173.
4- ينظر: الوسائل ج 18 باب 5 من أبواب حد السرقة.

[سورة المائدة (5): آیة 41]

آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوٰاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هٰذٰا فَخُذُوهُ وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَ مَنْ يُرِدِ اَللّٰهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اَللّٰهِ شَيْئاً أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اَللّٰهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي اَلدُّنْيٰا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذٰابٌ عَظِيمٌ (4(1)

وقرئ: لا يحزنك - بضم الياء - أي: لا يهمّنك مسارعة المنافقين.

اَلَّذِينَ يُسٰارِعُونَ فِي إظهار اَلْكُفْرِ بما يلوح من حالهم من آثار الكيد للإسلام.

وَ مِنَ اَلَّذِينَ هٰادُوا أي: ومن اليهود قوم سماعون ، فيكون منقطعا عما قبله، ويجوز أن يكون عطفا علي قوله: مِنَ اَلَّذِينَ قٰالُوا وارتفع سماعون علي (هم سماعون)، والضمير للمنافقين واليهود، أو لليهود.

ومعنى سَمّٰاعُونَ لِلْكَذِبِ : قابلون لما يفتريه الأحبار من الكذب علي اللّه وتحريف التوراة، ونحوه: سمع اللّه لمن حمده.

سَمّٰاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يعني: اليهود الذين لم يصلوا إلى مجلس رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لشدة عداوتهم إيّاه، أي: قابلون من الأحبار ومن أولئك المفرطين في العداوة. وقيل: معناه: سماعون إليك ليكذبوا عليك، بأن يزيدوا فيما سمعوا منك وينقصوا ويغيّروا، سماعون منك لأجل قوم آخرين من اليهود وجّهوهم عيونا ليبلغوهم ما سمعوا منك(1).

يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ يميلونه ويزيلونه عن مواضعه التي وضعه اللّه فيهملونه

ص: 36


1- معاني القران وإعرابه ج 2:174.

بغير مواضع [بعد أن كان ذا مواضع.

يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هٰذٰا المحرّف المزال عن مواضعه](1).

فَخُذُوهُ واعملوا به.

وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ أي: إن أفتاكم محمّد بخلافه فَاحْذَرُوا فهو الباطل.

وروي: إنّ شريفا من خيبر زنى بشريفة وهما محصنان، وحدّهما الرجم في التوراة، فكرهوا رجمهما لشرفهما، فبعثوا نفرا منهم إلي بني قريظة ليسألوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن ذلك، وقالوا: إن أمركم بالجلد فاقبلوا، وإن أمركم بالرجم فلا تقبلوا، وأرسلوا الزانيين معهم. فأمرهم بالرجم، فأبوا أن يأخذوا به، فقال له جبرئيل:

اجعل بينك وبينهم ابن صوريا، فقال: هل تعرفون شابا أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له: ابن صوريا؟ قالوا: نعم، وهو أعلم يهودي على وجه الأرض، ورضوا به حكما، فقال له رسول اللّه: أنشدك اللّه الذي لا إله إلا هو الذي فلق البحر ورفع فوقكم الطور وأنزل عليكم كتابه، هل تجدون فيه الرجم علي من أحصن ؟ قال:

نعم. فوثبت عليه سفلة اليهود، فقال: خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب، ثم سأل رسول اللّه عن أشياء كان يعرفها من أعلامه وأسلم، وقال: أشهد أنّك رسول اللّه النبيّ المبشر به. وأمر رسول اللّه بالزانيين فرجما عند باب مسجده(2).

وَ مَنْ يُرِدِ اَللّٰهُ فِتْنَتَهُ أي: تركه مفتونا وخذلانه.

فَلَنْ تَمْلِكَ أي: فلن تستطيع له من لطف اَللّٰهِ شَيْئاً أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اَللّٰهُ أَنْ يمنحهم من ألطافه ما يُطَهِّرَ به قلوبهم لأنّهم ليسوا من أهلها لعلمه أنّها لا تنجع فيهم.

ص: 37


1- ساقطة من ج.
2- الكشف والبيان ج 4:63.

[سورة المائدة (5): الآیات 42 الی 44]

سَمّٰاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكّٰالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جٰاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اَللّٰهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ (42) وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَ عِنْدَهُمُ اَلتَّوْرٰاةُ فِيهٰا حُكْمُ اَللّٰهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ وَ مٰا أُولٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنّٰا أَنْزَلْنَا اَلتَّوْرٰاةَ فِيهٰا هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا اَلنَّبِيُّونَ اَلَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هٰادُوا وَ اَلرَّبّٰانِيُّونَ وَ اَلْأَحْبٰارُ بِمَا اُسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتٰابِ اَللّٰهِ وَ كٰانُوا عَلَيْهِ شُهَدٰاءَ فَلاٰ تَخْشَوُا اَلنّٰاسَ وَ اِخْشَوْنِ وَ لاٰ تَشْتَرُوا بِآيٰاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْكٰافِرُونَ (4(4)

السحت: كل مالا يحلّ كسبه، وهو من سحته: إذا استأصله، لأنه مسحوت البركة، كما قال: يَمْحَقُ اَللّٰهُ اَلرِّبٰا (1)، وقرئ: السحت مخففا ومثقلا. وفي الحديث: (كل لحم نبت علي السحت فالنار أولى به)(2).

وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إذا تحاكم إليه أهل الكتاب مخيّرا بين أن يحكم بينهم وبين أن لا يحكم. وهذا التخيير عندنا ثابت للأئمّة في الشرع(3).

وَ إِنْ تُعْرِضْ عن الحكم بينهم.

فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً أي: لا يقدرون علي إضرار بك في دين أو دنيا.

بِالْقِسْطِ أي: بالعدل كما حكم عليه السلام بالرجم.

ص: 38


1- البقرة: 276.
2- معجم الطبراني الأوسط ج 4:378.
3- التبيان ج 3:524.

وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ تعجيب من تحكيمهم لمن لا يؤمنون به وبكتابه، مع أن الحكم منصوص عليه في كتابهم.

ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ [ذٰلِكَ وهو إشارة إلي حكم اللّه في التوراة، ويتركون الحكم به، وقيل: ثم يتولون من بعد](1) تحكيمك عن حكمك الموافق لما في كتابهم لا يرضون به.

وَ مٰا أُولٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ بكتابهم كما يدّعون.

فِيهٰا هُدىً يهدي للحقّ والعدل وَ نُورٌ يبيّن ما استبهم من الأحكام.

اَلَّذِينَ أَسْلَمُوا صفة للنبيين علي سبيل المدح، وفيه تعريض باليهود وأنّهم بعداء عن الإسلام الذي هو دين الأنبياء كلهم قديما وحديثا، وقوله: لِلَّذِينَ هٰادُوا يدلّ علي ذلك.

وَ اَلرَّبّٰانِيُّونَ وَ اَلْأَحْبٰارُ أي: والزهاد والعلماء من ولد هارون الذين التزموا طريقة النبيين وجانبوا دين اليهود.

بِمَا اُسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتٰابِ اَللّٰهِ بما سألهم أنبياؤهم حفظه من التوراة، أي:

بسبب إيصائهم إيّاهم أن يحفظوه من التغيير والتبديل. و (من) في مِنْ كِتٰابِ اَللّٰهِ للتبيين.

وَ كٰانُوا عَلَيْهِ شُهَدٰاءَ أي: رقباء لئلا يغيّروا. والمعنى يحكم بأحكام [التوراة اَلنَّبِيُّونَ بين موسى وعيسى وكان بينهما ألف نبي لِلَّذِينَ هٰادُوا يحملونهم علي أحكام](2) التوراة، لا يتركونهم أن يعدلوا عنها كما فعله

ص: 39


1- ساقطة من ج.
2- ساقطة من أ.

رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من حملهم علي حكم الرجم، وكذلك حكم اَلرَّبّٰانِيُّونَ وَ اَلْأَحْبٰارُ المسلمون بسبب ما استحفظهم أنبياؤهم مِنْ كِتٰابِ اَللّٰهِ وبسبب كونهم عَلَيْهِ شُهَدٰاءَ .

فَلاٰ تَخْشَوُا اَلنّٰاسَ نهي للحكام عن خشيتهم غير اللّه في حكوماتهم وادّهانهم فيها.

وَ لاٰ تَشْتَرُوا أي: لا تستبدلوا ولا تستعيضوا بآيات اللّه وأحكامه.

ثَمَناً قَلِيلاً و هو الرشوة وابتغاء الجاه وطلب الرياسة، كما فعله اليهود.

وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ مستهينا به فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْكٰافِرُونَ والظالمون والفاسقون.

وصف لهم بالعتوّ في كفرهم وظلمهم بآيات اللّه بالاستهانة بها، وتمرّدهم في فسقهم بأن حكموا بغيرها. وعن ابن عباس: (من جحد حكم اللّه كفر، ومن لم يحكم به وهو مقر فهو ظالم فاسق)(1). وعن حذيفة: (أنتم أشبه الأمم سمتا ببني إسرائيل، لتركبنّ طريقهم حذو النعل بالنعل، والقذة بالقذة، غير أنّي لا أدري أتعبدون العجل أم لا)(2).

[سورة المائدة (5): آیة 45]

وَ كَتَبْنٰا عَلَيْهِمْ فِيهٰا أَنَّ اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ اَلْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ اَلْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ اَلْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ اَلسِّنَّ بِالسِّنِّ وَ اَلْجُرُوحَ قِصٰاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّٰارَةٌ لَهُ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلظّٰالِمُونَ

ص: 40


1- تفسير الطبري ج 6:166.
2- الكشاف ج 1:638.

المعطوفات كلها قرئت بالنصب والرفع، وقرئت بالنصب إلا والجروح قصاص فإنّه بالرفع، والرفع للعطف علي محلّ أَنَّ اَلنَّفْسَ ، لأنّ المعنى: وَ كَتَبْنٰا عَلَيْهِمْ فِيهٰا النفس بالنفس: إما لإجراء كَتَبْنٰا مجرى (قلنا)، وإما لأنّ معنى الجملة التي هي قوله: اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ مما يقع عليه الكتب كما يقع عليه القراءة تقول: كتبت (الحمد للّه) وقرأت (سورة أنزلنا ها)، ولذلك قال الزجّاج: (لو قرئ:

إنّ النفس - بالكسر - لكان صحيحا)(1).

والمعنى: فرضنا عليهم فيها أَنَّ اَلنَّفْسَ مأخوذة بِالنَّفْسِ مقتولة بها إذا قتلتها بغير حقّ ، وَ اَلْعَيْنَ مفقوءة بِالْعَيْنِ ، وَ اَلْأَنْفَ مجدوع بِالْأَنْفِ ، وَ اَلْأُذُنَ مصلومة بِالْأُذُنِ ، وَ اَلسِّنَّ مقلوعة بِالسِّنِّ ، وَ اَلْجُرُوحَ ذات قصاص، وهو المقاصة فيما يمكن فيه القصاص.

فَمَنْ تَصَدَّقَ من أصحاب الحقوق بالقصاص وعفا عنه.

فَهُوَ كَفّٰارَةٌ لَهُ يكفّر به من سيئاته بقدر ما تصدّق.

[سورة المائدة (5): الآیات 46 الی 47]

وَ قَفَّيْنٰا عَلىٰ آثٰارِهِمْ بِعِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلتَّوْرٰاةِ وَ آتَيْنٰاهُ اَلْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ وَ مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلتَّوْرٰاةِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ اَلْإِنْجِيلِ بِمٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ فِيهِ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْفٰاسِقُونَ

قفّاه بفلان: عقبه به، تعدّى إلى المفعول الثاني بالباء، والمفعول الأوّل في الآية محذوف سدّ مسدّه الظرف الذي هو عَلىٰ آثٰارِهِمْ لأنه إذا قفّا به علي أثره فقد قفّا به إيّاه، والضمير في آثٰارِهِمْ للنبيين في قوله: يَحْكُمُ بِهَا اَلنَّبِيُّونَ .

وَ مُصَدِّقاً نصب علي الحال عطف على محلّ فِيهِ هُدىً .

ص: 41


1- معاني القران وإعرابه ج 2:179.

وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةً يجوز أن ينتصبا على الحال، وعلى المفعول له لقوله:

وَ لْيَحْكُمْ . وقرئ: وليحكم علي الأمر، بمعنى وقلنا: ليحكم، بِمٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ فِيهِ أي: في الإنجيل.

[سورة المائدة (5): الآیات 48 الی 50]

وَ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ اَلْكِتٰابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلْكِتٰابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ وَ لاٰ تَتَّبِعْ أَهْوٰاءَهُمْ عَمّٰا جٰاءَكَ مِنَ اَلْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنٰا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهٰاجاً وَ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وٰاحِدَةً وَ لٰكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مٰا آتٰاكُمْ فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْرٰاتِ إِلَى اَللّٰهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمٰا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَ أَنِ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ وَ لاٰ تَتَّبِعْ أَهْوٰاءَهُمْ وَ اِحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنّٰاسِ لَفٰاسِقُونَ أَ فَحُكْمَ اَلْجٰاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اَللّٰهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ

وَ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ اَلْكِتٰابَ أي: القرآن، والتعريف فيه للعهد، وفي الكتاب بعده للجنس، لأنّ المعنى: مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوراة والأنّجيل وكل كتاب أنزل من السماء سواه.

وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ أي: رقيبا علي سائر الكتب لأنّه يشهد لها بالصحة.

وَ لاٰ تَتَّبِعْ أَهْوٰاءَهُمْ ضمّن معناه معنى لا تنحرف ولذلك عدّي ب - (عن) كأنّه قيل: ولا تنحرف عَمّٰا جٰاءَكَ مِنَ اَلْحَقِّ متبعا أهواءهم.

لِكُلٍّ جَعَلْنٰا مِنْكُمْ أيّها الناس شِرْعَةً أي: شريعة.

وَ مِنْهٰاجاً طريقا واضحا في الدين تجزون عليه. وفيه دليل علي إنّا غير

ص: 42

متعبّدين بشرائع من كان قبلنا من الأنبياء.

وَ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وٰاحِدَةً أي: جماعة علي شريعة واحدة، أو ذوي أمّة واحدة، أي: دين واحد لا اختلاف فيه.

وَ لٰكِنْ أراد لِيَبْلُوَكُمْ فِي مٰا آتٰاكُمْ من الشرائع المختلفة، هل تعملون بها معتقدين أنّها مصالح لكم قد اختلفت بحسب اختلاف الأحوال، أو تتبعون الشبه وتفرطون في العمل.

فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْرٰاتِ فابتدروها.

إِلَى اَللّٰهِ مَرْجِعُكُمْ استئناف في معنى التعليل لاستباق الخيرات.

فَيُنَبِّئُكُمْ فيخبركم بما اختلفتم فيه من أمر دينكم، ويفصل بين محقّكم ومبطلكم، ويجازيكم علي حسب استحقاقكم.

وَ أَنِ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ معطوف علي الكتاب ، أي: وأنزلنا إليك أن احكم، وصلت (أن) بالأمر. ويجوز أن يكون معطوفا علي بِالْحَقِّ أي: أنزلناه بالحقّ وبأن احكم.

وَ اِحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ أن يضلوك ويستزلّوك عَنْ بَعْضِ مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ إِلَيْكَ بأن يطمعوك منهم في الإجابة إلى الإسلام ويقولوا: إنّا إن اتبعناك اتبعنا اليهود كلهم، وإنّ بيننا وبين قومنا خصومة، فاحكم لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدّقك، فأبى رسول اللّه ذلك.

يُرِيدُ اَللّٰهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بذنب التولي عن حكم اللّه، فوضع بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ موضع ذلك، والمراد: إنّ لهم ذنوبا جمة، هذا الذنب بعضها.

أَ فَحُكْمَ اَلْجٰاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ هذا تعيير لليهود بأنّهم أهل كتاب، وهم يبغون

ص: 43

حكم الملة الجاهلية التي هي هوي وجهل لا يصدر عن كتاب ولا يرجع إلى وحي.

وقرئ: تبغون - بالتاء - علي معنى قل لهم.

واللام في قوله: لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ للبيان كاللام في هَيْتَ لَكَ (1) أي: هذا الاستفهام لقوم يوقنون، فإنّهم هم الذين يتبيّنون أن لا أعدل ولا أحسن حكما من اللّه تعالى.

[سورة المائدة (5): الآیات 51 الی 53]

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَتَّخِذُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصٰارىٰ أَوْلِيٰاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّٰالِمِينَ فَتَرَى اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسٰارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشىٰ أَنْ تُصِيبَنٰا دٰائِرَةٌ فَعَسَى اَللّٰهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلىٰ مٰا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نٰادِمِينَ وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَ هٰؤُلاٰءِ اَلَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللّٰهِ جَهْدَ أَيْمٰانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمٰالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خٰاسِرِينَ

نهى سبحانه المؤمنين عن اتخاذهم أولياء ينصرونهم ويستنصرونهم ويوالونهم، ثم علل النهي بقوله: بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ أي: إنّما يوالي بعضهم بعضا لاجتماعهم في الكفر.

وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ من جملتهم وحكمه حكمهم، وهذا تشديد من اللّه في وجوب مجانبة المخالف في الدين، كما جاء في الحديث: (لا تراءى ناراهما)(2).

إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكافرين يمنعهم ألطافه ويخذلهم.

ص: 44


1- يوسف: 23.
2- المجازات النبوية: 265، معجم الطبراني الكبير ج 2:303.

فَتَرَى اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ شك ونفاق يُسٰارِعُونَ [فِيهِمْ في موالاتهم ويرغبون](1) فيها، ويعتذرون بأنّهم لا يأمنون أن تصيبهم دٰائِرَةٌ من دوائر الزمان، أي: صرف من صروفه فيحتاجوا إليهم وإلى معونتهم.

فَعَسَى اَللّٰهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ لرسول اللّه علي أعدائه.

أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ بقتل اليهود وإجلائهم من ديارهم فيصبح المنافقون نٰادِمِينَ علي ما أسرّوه فِي أَنْفُسِهِمْ من النفاق، وقيل: أو أمر من عنده وهو أن يؤمر النبي بإظهار أسرار المنافقين فيندموا(2).

وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ آمَنُوا قرئ بالنصب عطفا علي أَنْ يَأْتِيَ ، أو علي بِالْفَتْحِ أي: وبأن يقول؛ وبالرفع على أنّه كلام مبتدأ، أي: ويقول الذين آمنوا في ذلك الحال.

وقرئ: يقول - بغير واو -.

أَ هٰؤُلاٰءِ اَلَّذِينَ أَقْسَمُوا أي: حلفوا بِاللّٰهِ أغلظ الأيمان إنهم أولياؤكم.

حَبِطَتْ أَعْمٰالُهُمْ من جملة كلام المؤمنين، أي: بطلت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها في مرأي الناس.

فَأَصْبَحُوا خٰاسِرِينَ خسروا الدنيا والآخرة.

[سورة المائدة (5): آیة 54]

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اَللّٰهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى اَلْكٰافِرِينَ يُجٰاهِدُونَ فِي سَبِيلِ

ص: 45


1- ساقطة من ج.
2- معاني القرآن وإعرابه ج 1:181.

[سورة المائدة (5): آیة 54]

اَللّٰهِ وَ لاٰ يَخٰافُونَ لَوْمَةَ لاٰئِمٍ ذٰلِكَ فَضْلُ اَللّٰهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشٰاءُ وَ اَللّٰهُ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ

قرئ: من يرتدد ومن يرتدّ. وهو من الكائنات التي أخبر عنها في القرآن قبل كونها، وهو أنّ قوما يرتدّون بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وأنّه سبحانه ينصر دينه بقوم لهم هذه الصفات المذكورة، قيل: هم أهل اليمن، ولما نزلت أشار رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى أبي موسى الأشعري(1) فقال: (هم قوم هذا)(2)، وقال: (الإيمان يمان والحكمة يمانية)(3)، وقيل: هم الفرس، وأنّ رسول اللّه ضرب بيده علي عاتق سلمان فقال: (هذا وذووه)(4)، وقال: (لو كان الدين معلّقا بالثريا لناله رجال من أبناء فارس)(5). وعن أئمّة الهدي عليهم السلام وعمار وحذيفة: إنّهم عليّ عليه السلام وأصحابه حين قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين(6)، ويؤيده الحديث: (لتنتهنّ يا معشر قريش أو ليبعثنّ الله عليكم رجلا يضربكم على تأويل القران كما ضربتكم علي تنزيله، ثم قال من بعد: إنّه خاصف النعل في الحجرة) وكان عليّ عليه السلام يخصف نعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم(7).

ص: 46


1- أبو موسى عبد الله بن قيس بن سليم الأشعري، أسلم ورجع إلى بلاد قومه ثم قدم المدينة بعد فتح خيبر، كان أحد الحكمين بصفين والقصة مشهورة، مات سنة 42 ه - على قول. ينظر: الإصابة ج 2:359، معجم رجال الحديث ج 10:299.
2- مصنف ابن أبي شيبة ج 7:525.
3- مسند أحمد ج 2:277.
4- الكشف والبيان ج 4:79.
5- مصنف ابن أبي شيبة ج 7:563.
6- التبيان ج 3:546.
7- مصنف ابن أبي شيبة ج 7:498.

و أَذِلَّةٍ جمع ذليل، أي: عاطفين على المؤمنين علي وجه التذلل والتواضع أشداء عَلَى اَلْكٰافِرِينَ .

واللومة المرة من اللوم، وفيه أنّهم لا يخافون شيئا قط من لوم أحد من اللوّام.

ذٰلِكَ أي: محبّتهم ولين جانبهم علي المؤمنين وشدّتهم علي الكافرين فَضْلُ من الله ومنّة ولطف من جهته يعطيه من يعلم أنّه أهل له.

وَ اَللّٰهُ وٰاسِعٌ كثير الفواضل والألطاف عَلِيمٌ بمن هو من أهلها.

[سورة المائدة (5): الآیات 55 الی 56]

إِنَّمٰا وَلِيُّكُمُ اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاٰةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكٰاةَ وَ هُمْ رٰاكِعُونَ وَ مَنْ يَتَوَلَّ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اَللّٰهِ هُمُ اَلْغٰالِبُونَ

نزلت في عليّ عليه السلام حين سأله سائل وهو راكع في صلاته، فأومأ بخنصره اليمنى إليه، فأخذ السائل الخاتم من خنصره، ورواه الثعلبي(1) في تفسيره(2)، والحديث طويل رويناه في الكتاب الكبير(3)، وفيه: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: (اللهم اشرح لي صدري ويسّر لي أمري واجعل لي وزيرا من أهلي عليا أخي اشدد به ظهري)، قال أبو ذر(4): فواللّه ما استتم الكلمة حتى نزل جبرئيل فقال: يا محمّد اقرأ: إِنَّمٰا وَلِيُّكُمُ اَللّٰهُ ... الآية.

ص: 47


1- أبو إسحاق أحمد بن محمّد بن إبراهيم النيسابوري الثعلبي صاحب التفسير المشهور، توفي سنة 427 ه -. طبقات المفسرين ج 1:65.
2- الكشف والبيان ج 4:80.
3- مجمع البيان ج 3-4:210.
4- أبو ذر جندب بن جنادة الغفاري، الصحابي الجليل، أحد السابقين إلي الإسلام، توفي بالربذة سنة 31 ه - أو 32 ه -، وقصته مشهورة. ينظر: الإصابة ج 4:62، معجم رجال الحديث ج 4:167.

والمعنى: إِنَّمٰا وَلِيُّكُمُ أي: الذي يتولي تدبير كم ويلي أموركم اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا اَلَّذِينَ هذه صفاتهم.

وَ هُمْ رٰاكِعُونَ حال من يُؤْتُونَ اَلزَّكٰاةَ أي: يؤتونها في حال ركوعهم.

قال جار اللّه: وإنّما جيء به علي لفظ الجمع وإن كان السبب فيه رجلا واحدا، ليرغب الناس في مثل فعله، ولينبّه علي أنّ سجية المؤمنين يجب أن تكون علي هذه الغاية من الحرص علي البر والإحسان(1).

وأقول: قد اشتهر في اللغة العبارة عن الواحد بلفظ الجمع علي سبيل التعظيم، فلا يحتاج إلى الاستدلال عليه. وإذا ثبت أنّه المعني في الآية علي ما ذكرناه صحّت إمامته بالنص الصريح.

فَإِنَّ حِزْبَ اَللّٰهِ هُمُ اَلْغٰالِبُونَ من إقامة الظاهر مقام المضمر، أي: فإنّهم هم الغالبون.

[سورة المائدة (5): الآیات 57 الی 58]

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَتَّخِذُوا اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتٰابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ اَلْكُفّٰارَ أَوْلِيٰاءَ وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَ إِذٰا نٰادَيْتُمْ إِلَى اَلصَّلاٰةِ اِتَّخَذُوهٰا هُزُواً وَ لَعِباً ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاٰ يَعْقِلُونَ

وقرئ: وَ اَلْكُفّٰارَ بالجر ويعضده قراءة أبيّ : ومن الكفار، وفي القراءة بالنصب يكون الهزء من أهل الكتاب خاصة، وفصل بين المستهزئين منهم والكفار - وإن كانوا أيضا كفارا - إطلاقا للكفار علي المشركين خاصة.

وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ في موالاة الكفار إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حقّا.

ص: 48


1- الكشاف ج 1:649.

اِتَّخَذُوهٰا الضمير للصلاة، أو للمناداة، وكانوا إذا أذّن المؤذن للصلاة تضاحكوا فيما بينهم.

لاٰ يَعْقِلُونَ لأن هزأهم ولعبهم من أفعال السفهاء فكأنّه لا عقل لهم.

[سورة المائدة (5): آیة 59]

قُلْ يٰا أَهْلَ اَلْكِتٰابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنّٰا إِلاّٰ أَنْ آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْنٰا وَ مٰا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فٰاسِقُونَ

أي: ما تعيبون منا وتنكرون إِلاّٰ الإيمان بِاللّٰهِ والكتب المنزلة كلها.

وَ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فٰاسِقُونَ فيه وجوه: أن يكون عطفا علي أَنْ آمَنّٰا أي:

ما تنقمون منا إلا مخالفتكم حيث دخلنا في الإيمان وأنتم خارجون منه، ويجوز أن يكون عطفا علي المجرور أي: إلا الإيمان باللّه وبأنّ أكثركم فاسقون، ويجوز أن يكون تعليلا معطوفا علي تعليل محذوف أي: ما تنقمون منا إلا الإيمان لقلة إنصافكم ولأنّكم فاسقون.

[سورة المائدة (5): آیة 60]

قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذٰلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اَللّٰهِ مَنْ لَعَنَهُ اَللّٰهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ وَ جَعَلَ مِنْهُمُ اَلْقِرَدَةَ وَ اَلْخَنٰازِيرَ وَ عَبَدَ اَلطّٰاغُوتَ أُولٰئِكَ شَرٌّ مَكٰاناً وَ أَضَلُّ عَنْ سَوٰاءِ اَلسَّبِيلِ

ذٰلِكَ إشارة إلي المنقوم، ولابد من حذف مضاف، والتقدير: هل أنبئكم بشرّ من أهل ذلك، أو بشرّ من ذلك دين من لعنه اللّه، وضعت المثوبة موضع العقوبة، ومنه قوله: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ (1).

وكان اليهود يزعمون أنّ المسلمين مستوجبون للعقاب، فقيل لهم: من لعنه اللّه شر عقوبة في الحقيقة من أهل الإسلام في زعمكم. و مَنْ لَعَنَهُ اَللّٰهُ في موضع

ص: 49


1- آل عمران: 21.

الرفع أي: هو من لعنه اللّه، أو في محلّ الجر علي البدل من شر .

و وَ عَبَدَ اَلطّٰاغُوتَ عطف علي صلة من أي: ومن عبد الطاغوت، وقرئ: وعبد الطّاغوت - بضم الباء والإضافة - أي: وجعل منهم عبد الطاغوت، وهو للمبالغة في العبودية نحو حذر ويقظ، والمعنى فيه إنّه خذلهم حتى عبدوها.

والطاغوت: الشيطان. وقيل: إنّ من جعل منهم القردة هم أصحاب السبت، والخنازير: كفار أهل مائدة عيسى(1)، وقيل: إنّهما معا أصحاب السبت مسخ شبانهم قردة وشيوخهم خنازير(2).

أُولٰئِكَ شَرٌّ مَكٰاناً جعلت الشرارة للمكان وهي لأهله للمبالغة، وهو داخل في باب الكناية.

[سورة المائدة (5): الآیات 61 الی 63]

وَ إِذٰا جٰاؤُكُمْ قٰالُوا آمَنّٰا وَ قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَ هُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَ اَللّٰهُ أَعْلَمُ بِمٰا كٰانُوا يَكْتُمُونَ وَ تَرىٰ كَثِيراً مِنْهُمْ يُسٰارِعُونَ فِي اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوٰانِ وَ أَكْلِهِمُ اَلسُّحْتَ لَبِئْسَ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ لَوْ لاٰ يَنْهٰاهُمُ اَلرَّبّٰانِيُّونَ وَ اَلْأَحْبٰارُ عَنْ قَوْلِهِمُ اَلْإِثْمَ وَ أَكْلِهِمُ اَلسُّحْتَ لَبِئْسَ مٰا كٰانُوا يَصْنَعُونَ

نزلت في ناس من اليهود كانوا يظهرون الإيمان نفاقا.

وَ قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ أي: دخلوا كا فرين وخرجوا كا فرين، والتقدير ملتبسين بالكفر. فقوله: بِالْكُفْرِ و بِهِ حالان وكذلك قوله: وَ قَدْ دَخَلُوا و وَ هُمْ قَدْ خَرَجُوا ولذلك دخلت (قد) تقريبا للماضي من الحال أي: قٰالُوا آمَنّٰا وهذه حالهم.

ص: 50


1- الكشف والبيان ج 4:85.
2- عن ابن عباس. معالم التنزيل ج 1:291.

اَلْإِثْمَ الكذب بدليل قوله: عَنْ قَوْلِهِمُ اَلْإِثْمَ .

وَ اَلْعُدْوٰانِ : الظلم، [وقيل: الإثم: كلمة الشرك نحو قولهم: عُزَيْرٌ اِبْنُ اَللّٰهِ (1)](2)، وقيل: الإثم: ما يختص بهم، والعدوان ما يتعداهم إلى غيرهم.

لَبِئْسَ مٰا كٰانُوا يَصْنَعُونَ كأنّهم جعلوا آثم من مرتكبي الكبائر، لأنّ كل عامل لا يسمّى صانعا [ولا كل عمل يسمّى صناعة](3) حتى يتمكّن فيه ويمهر.

وعن ابن عباس: (هي أشدّ آية في القرآن)(4).

[سورة المائدة (5): آیة 64]

وَ قٰالَتِ اَلْيَهُودُ يَدُ اَللّٰهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِمٰا قٰالُوا بَلْ يَدٰاهُ مَبْسُوطَتٰانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشٰاءُ وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيٰاناً وَ كُفْراً وَ أَلْقَيْنٰا بَيْنَهُمُ اَلْعَدٰاوَةَ وَ اَلْبَغْضٰاءَ إِلىٰ يَوْمِ اَلْقِيٰامَةِ كُلَّمٰا أَوْقَدُوا نٰاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اَللّٰهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَسٰاداً وَ اَللّٰهُ لاٰ يُحِبُّ اَلْمُفْسِدِينَ (6(4)

غلّ اليد مستعار للبخل، وبسط اليد للجود، ومن تكلّم به لا يقصد إثبات يد، ولا يريد حقيقة غل ولا بسط، وإنّما هما عبارتان وقعتا متعاقبتين للبخل والجود، وقد استعملوا اليد حيث لا يصح اليد نحو قول الشاعر:

جاد الحمى بسط اليدين بوابل *** شكرت نداه تلاعه ووهاده(5)

وقول لبيد:

ص: 51


1- التوبة: 30.
2- ساقطة من ط.
3- ساقطة من أ، ب، ط.
4- تفسير الطبري ج 6:193.
5- لم أعثر على قائله في المصادر المتوفرة.

قد أصبحت بيد الشّمال زمامها(1)

غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ يجوز أن يكون دعاء عليهم بالبخل والنكد، ولذلك كانوا أبخل خلق اللّه، ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغلّ الأيدي حقيقة، يغلّون في الدنيا أسارى، وفي الآخرة با لأغلال في النار، ويجوز أن يكون إخبارا بأنّهم ألزموا البخل وجعلوا بخلاء.

وَ لُعِنُوا بِمٰا قٰالُوا أي: أبعدوا عن رحمة اللّه وعذّبوا.

بَلْ يَدٰاهُ مَبْسُوطَتٰانِ ثنّيت اليد هنا ليكون الإنكار لقولهم أبلغ، وعلي إثبات غاية السخاء أدلّ ، وذلك أنّ غاية ما يبذله السخي أن يعطي باليدين جميعا.

وقوله: يُنْفِقُ كَيْفَ يَشٰاءُ تأكيد أيضا للوصف بالسخاء، ودلالة علي أنّه لا ينفق إلا ما تقتضيه الحكمة والصلاح.

وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيٰاناً أي: يزدادون عند إنزال القرآن تماديا في الجحود وحسدا وَ كُفْراً بآيات اللّه.

وَ أَلْقَيْنٰا بَيْنَهُمُ اَلْعَدٰاوَةَ فكلماتهم مختلفة وقلوبهم شتى فلا تقع بينهم موافقة.

كُلَّمٰا أَوْقَدُوا نٰاراً لِلْحَرْبِ أي: كلما أرادوا محاربة النبي صلى الله عليه و آله و سلم غلبوا ولم يكن لهم ظفر قط، وقد أتاهم الإسلام وهم في ملك المجوس. وفي هذا دلالة علي صحة نبوّة نبيّنا، لأنّ اليهود كانوا في أشدّ بأس وأمنع دار حتى أنّ قريشا كانت تعتضد بهم، وكان الأوس والخزرج تتكثر بمظاهرتهم، فذلّوا وقهروا، وقتل النبي صلى الله عليه و آله و سلم بني قريظة، وأجلى بني النضير، وغلب علي خيبر وفدك، فاستأصل اللّه شأفتهم حتى أنّ اليوم تجد اليهود في كل بلدة من أذل الناس.

ص: 52


1- ديوان لبيد بن ربيعة العامري: 176، وفيه: وغداة ريح قد وزعت وقرة إذ...

وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَسٰاداً بمخالفة أمر الله و الاجتهاد في محو ذكر الرسول من كتبهم.

[سورة المائدة (5): الآیات 65 الی 66]

وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْكِتٰابِ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَكَفَّرْنٰا عَنْهُمْ سَيِّئٰاتِهِمْ وَ لَأَدْخَلْنٰاهُمْ جَنّٰاتِ اَلنَّعِيمِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقٰامُوا اَلتَّوْرٰاةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ وَ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ سٰاءَ مٰا يَعْمَلُونَ

وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْكِتٰابِ آمَنُوا بمحمّد صلى الله عليه و آله و سلم.

وَ اِتَّقَوْا وقرنوا إيمانهم بالتقوى.

لَكَفَّرْنٰا عَنْهُمْ تلك السيئات ولم نؤاخذهم بها.

وَ لَأَدْخَلْنٰاهُمْ مع المسلمين جَنّٰاتِ اَلنَّعِيمِ .

وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقٰامُوا أحكام اَلتَّوْرٰاةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ وحدودهما وما فيهما من نعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

وَ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ سائر كتب اللّه، لأنّهم كلفوا الإيمان بجميعها فكأنّها نزلت إليهم، وقيل: هو القرآن(1).

لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ المعنى: لوسّع اللّه عليهم الرزق وكانوا قد قحطوا، والمراد: لأفضنا عليهم بركات السماء وبركات الأرض، أو لأكثرنا ثمرات أشجارهم وغلات زروعهم، ولرزقناهم الجنان اليانعة الثمار يجتنون ثمار أشجارها ويلتقطون ما سقط منها علي الأرض.

مِنْهُمْ أُمَّةٌ أي: طائفة مُقْتَصِدَةٌ مسلمة آمنت بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم.

ص: 53


1- عن مجاهد. تفسير الطبري ج 6:197.

وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ سٰاءَ مٰا يَعْمَلُونَ فيه معنى التعجب، أي: ما أسوأ عملهم! وهم الذين أقاموا علي الكفر والجحود بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم.

[سورة المائدة (5): آیة 67]

يٰا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمٰا بَلَّغْتَ رِسٰالَتَهُ وَ اَللّٰهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنّٰاسِ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْكٰافِرِينَ

روي الكلبي عن أبي صالح(1) عن ابن عباس وجابر بن عبد اللّه: (إنّ اللّه تعالى أمر نبيّه أن ينصّب عليّا للناس ويخبرهم بولايته، فتخوف عليه السلام أن يقولوا حابى ابن عمه، وأن يشقّ ذلك علي جماعة من أصحابه، فنزلت هذه الآية، فأخذ بيده يوم غدير خم وقال: (من كنت مولاه فعليّ مولاه)(2).

وقرئ: فما بلغت رسالاته، أي: إن لم تبلغ هذه الرسالة فَمٰا بَلَّغْتَ إذا ما كلّفت به من الرسالات، وكنت كأنك لم تؤد منها شيئا قط، لأنّك إذا لم تؤدها فكأنّك أغفلت أداءها جميعا.

وَ اَللّٰهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنّٰاسِ هذا وعد من اللّه بالحفظ والكلاءة، ومعناه:

واللّه يضمن لك العصمة من أن ينالوك بسوء فما عذرك في مراقبتهم.

إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْكٰافِرِينَ يريد أن لا يمكّنهم من إنزال مكروه بك.

وعن أنس: (كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يحرس حتى نزلت الآية، فأخرج رأسه من قبة أدم فقال: (انصرفوا فقد عصمني اللّه من الناس)(3).

ص: 54


1- أبو صالح السمان ذكوان المدني، مولى جويرية الغطفانية، كان يجلب الزيت والسمن إلي الكوفة، شهد الدار وحصار عثمان، توفي سنة 101 ه -. تذكرة الحفاظ ج 1:89.
2- شواهد التنزيل ج 1:192.
3- الكشف والبيان ج 4:91.

[سورة المائدة (5): آیة 68]

قُلْ يٰا أَهْلَ اَلْكِتٰابِ لَسْتُمْ عَلىٰ شَيْ ءٍ حَتّٰى تُقِيمُوا اَلتَّوْرٰاةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ وَ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيٰاناً وَ كُفْراً فَلاٰ تَأْسَ عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْكٰافِرِينَ

عن ابن عباس: (نزلت في جماعة من اليهود قالوا للنبي عليه السلام: ألست تقرّ بأنّ التوراة من عند اللّه ؟ قال: بلى، قالوا: فإنّا نؤمن بها ولا نؤمن بما عداها)(1).

والمعنى: لَسْتُمْ عَلىٰ دين يعتد به حتى يسمّى شيئا لفساده وبطلانه، كما يقال: هذا ليس بشيء، يراد به التحقير.

حَتّٰى تُقِيمُوا اَلتَّوْرٰاةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ بالتصديق لما فيهما من البشارة بمحمّد والعمل بما فيهما وَ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ و هو القرآن.

فَلاٰ تَأْسَ أي: فلا تتأسف عليهم لزيادة طغيانهم وكفرهم، فأنّ ضرر ذلك يرجع إليهم لا إليك.

[سورة المائدة (5): آیة 69]

إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هٰادُوا وَ اَلصّٰابِئُونَ وَ اَلنَّصٰارىٰ مَنْ آمَنَ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ عَمِلَ صٰالِحاً فَلاٰ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاٰ هُمْ يَحْزَنُونَ

وَ اَلصّٰابِئُونَ رفع علي الابتداء وخبره محذوف، والنية به التأخير عما في حيّز إِنَّ أي: والصابئون كذلك، واستشهد لذلك سيبويه(2) بقول الشاعر:

وإلّا فاعلموا أنّا وأنتم *** بغاة ما بقينا في شقاق(3)

ص: 55


1- لباب النقول: 119 باختلاف.
2- أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر النحوي المشهور ب - (سيبويه)، إمام البصريين، أصله من البيضاء ونشأ بالبصرة، صاحب الكتاب في النحو، مات سنة 180 ه - على قول. بغية الوعاة ج 2:229.
3- البيت لبشر بن أبي خازم الأسدي ديوانه: 165، وفيه: ما حيينا بدل ما بقينا. الكتاب ج 2:156.

أي: فاعلموا أنّا بغاة وأنتم كذلك، وقول الآخر:

فإنّي وقيّار بها لغريب(1)

وإنّما سموا صابئين لأنّهم صبأوا عن الأديان كلها أي: خرجوا.

و مَنْ آمَنَ مبتدأ، وخبره فَلاٰ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ والتقدير: من آمن منهم، والجملة كما هي خبر إِنَّ . ويجوز أن يكون مَنْ آمَنَ منصوبا على البدل من اسم إِنَّ وما عطف عليه، أو من المعطوف عليه.

[سورة المائدة (5): الآیات 70 الی 71]

لَقَدْ أَخَذْنٰا مِيثٰاقَ بَنِي إِسْرٰائِيلَ وَ أَرْسَلْنٰا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمٰا جٰاءَهُمْ رَسُولٌ بِمٰا لاٰ تَهْوىٰ أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَ فَرِيقاً يَقْتُلُونَ وَ حَسِبُوا أَلاّٰ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَ صَمُّوا ثُمَّ تٰابَ اَللّٰهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَ صَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَ اَللّٰهُ بَصِيرٌ بِمٰا يَعْمَلُونَ

أي: أَخَذْنٰا ميثاقهم با لتوحيد و البشارة بمحمّد صلى الله عليه و آله و سلم.

وَ أَرْسَلْنٰا إِلَيْهِمْ رُسُلاً ليقفوهم على الأوامر والنواهي.

كُلَّمٰا جٰاءَهُمْ رَسُولٌ جملة شرطية، وجواب الشرط محذوف يدلّ عليه قوله: فَرِيقاً كَذَّبُوا وَ فَرِيقاً يَقْتُلُونَ لأنّ التقدير: كلما جاءهم رسول من تلك الرسل ناصبوه وخالفوه، وقوله: فَرِيقاً كَذَّبُوا كأنّه جواب سائل يسأل عنهم: كيف فعلوا برسلهم ؟ و يَقْتُلُونَ حكاية حال ماضية استحضارا لتلك الحال الشنيعة ليتعجب بها.

وقرئ: أَلاّٰ تَكُونَ بالنصب والرفع، والرفع علي تقدير: وحسبوا أنّه

ص: 56


1- البيت لضابئ بن حارث البرجمي. الأصمعيات: 184، وصدره: ومن يك امسى بالمدينة رحله.

لا تكون فتنة، فخففت (أن) وحذف ضمير الشأن، وجعل الحسبان بمنزلة العلم حيث أدخل على إن التي هي للتحقيق لقوته في صدورهم. والمعنى: وحسب بنو إسرائيل أنّهم لا تصيبهم من اللّه فِتْنَةٌ أي: بلاء وعذاب في الدنيا والآخرة.

فَعَمُوا عن الدين و صموا عن الحقّ ثُمَّ تٰابَ اَللّٰهُ عَلَيْهِمْ لما تابوا.

ثُمَّ عَمُوا وَ صَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ هو بدل من واو الضمير، أو هو علي قولهم: أكلوني البراغيث، أو هو علي أولئك كثير منهم، والمعنى: إنّ كثيرا منهم عادوا كما كانوا، وقيل: يعني بالكثير منهم من كان في عصر نبيّنا عليه السلام.

وَ اَللّٰهُ بَصِيرٌ بِمٰا يَعْمَلُونَ أي: عالم بأعمالهم. وفيه وعيد لهم.

[سورة المائدة (5): الآیات 72 الی 74]

لَقَدْ كَفَرَ اَلَّذِينَ قٰالُوا إِنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ وَ قٰالَ اَلْمَسِيحُ يٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّٰهِ فَقَدْ حَرَّمَ اَللّٰهُ عَلَيْهِ اَلْجَنَّةَ وَ مَأْوٰاهُ اَلنّٰارُ وَ مٰا لِلظّٰالِمِينَ مِنْ أَنْصٰارٍ لَقَدْ كَفَرَ اَلَّذِينَ قٰالُوا إِنَّ اَللّٰهَ ثٰالِثُ ثَلاٰثَةٍ وَ مٰا مِنْ إِلٰهٍ إِلاّٰ إِلٰهٌ وٰاحِدٌ وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمّٰا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ أَ فَلاٰ يَتُوبُونَ إِلَى اَللّٰهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَهُ وَ اَللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ

احتج سبحانه علي النصارى بقول عيسى: اُعْبُدُوا اَللّٰهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ إذ لم يفرّق بينه وبينهم في أنّه عبد مربوب مثلهم.

إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّٰهِ في عبادته أو فيما يختص به من صفاته أو أفعاله.

فَقَدْ حَرَّمَ اَللّٰهُ عَلَيْهِ اَلْجَنَّةَ التي هي دار الموحّدين، أي: حرمه دخولها

ص: 57

ومنعه منه كما يمنع المحرم من المحرّم عليه.

وَ مٰا لِلظّٰالِمِينَ مِنْ أَنْصٰارٍ يخلصونهم من عذاب اللّه، وظلمهم أنّهم عدلوا عن سبيل الحقّ فيما تقوّلوا علي عيسى.

و من في قوله: وَ مٰا مِنْ إِلٰهٍ إِلاّٰ إِلٰهٌ وٰاحِدٌ للاستغراق والعموم، وهي المقدرة مع (لا) التي لنفي الجنس في قولك: لا إله إلا اللّه. والتقدير: وما من إله قط في الوجود إلا إله موصوف بالوحدانية لا ثاني له في القدم، وهو اللّه وحده لا شريك له.

لَيَمَسَّنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ (من) للتبيين فكأنّه قال: ليمسّنّهم، ولكن أقام الظاهر موقع المضمر، لتتكرر شهادته عليهم بالكفر. ويجوز أن يكون (من) للتبعيض أيضا علي معنى: ليمسّنّ الذين بقوا علي الكفر منهم.

أَ فَلاٰ يَتُوبُونَ بعد هذا الوعيد الشديد مما هم عليه. وفيه تعجيب من إصرارهم علي الكفر.

وَ اَللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يستر الذنوب علي العباد ويرحمهم.

[سورة المائدة (5): الآیات 75 الی 77]

مَا اَلْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ إِلاّٰ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كٰانٰا يَأْكُلاٰنِ اَلطَّعٰامَ اُنْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ اَلْآيٰاتِ ثُمَّ اُنْظُرْ أَنّٰى يُؤْفَكُونَ قُلْ أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مٰا لاٰ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لاٰ نَفْعاً وَ اَللّٰهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ قُلْ يٰا أَهْلَ اَلْكِتٰابِ لاٰ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ اَلْحَقِّ وَ لاٰ تَتَّبِعُوا أَهْوٰاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ ضَلُّوا عَنْ سَوٰاءِ اَلسَّبِيلِ

ص: 58

أي: مَا هو إِلاّٰ رَسُولٌ من جنس الرسل الذين خلوا قبله، أتى بمعجزات باهرة من فعل اللّه تعالى كما أتوا بأمثالها.

وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ صدّقت بكلمات ربّها وكتبه، وما هي إلا كبعض النساء المصدقات.

كٰانٰا يَأْكُلاٰنِ اَلطَّعٰامَ هذا تصريح ببعدهما عما نسب إليهما، لأنّ من احتاج إلى الغذاء وما يتبعه من الهضم والنفض لم يكن إلا جسما مؤلفا محدثا. وقيل:

إنّه كناية عن قضاء الحاجة، فكأنّه ذكر الأكل وقصد بذلك الإخبار عن عاقبته(1).

اُنْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الأعلام من الأدلة الظاهرة علي بطلان قولهم.

ثُمَّ اُنْظُرْ أَنّٰى يُؤْفَكُونَ أي: كيف يصرفون عن استماع الحقّ وتدبّره!. والمعنى في قوله: ثُمَّ اُنْظُرْ تراخي ما بين العجبين، بمعنى: إنّه نبيّن لهم الآيات بيانا عجبا، ثم إنّ إعراضهم عنها أعجب منه.

والمراد بقوله: مٰا لاٰ يَمْلِكُ عيسى عليه السلام، أي: شيئا لا يستطيع أن يضرّكم بمثل ما يضرّكم اللّه به من البلاء والنقص من الأموال والأنفس، ولا أن ينفعكم بمثل ما ينفعكم اللّه به من الصحة والسعة والخصب، وصفة المعبود أن يكون قادرا علي كل شيء.

وَ اَللّٰهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ لما يقولون اَلْعَلِيمُ بما يعتقدون.

لاٰ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ أي: لا تتجاوزوا الحدّ الذي حدّه اللّه لكم إلى الازدياد.

غَيْرَ اَلْحَقِّ صفة للمصدر، أي: لا تغلوا غلوا غير الحقّ ، أي: غلوا

ص: 59


1- تفسير القمي ج 1:176.

باطلا وهو أن يتجاوز الحقّ ويتخطاه.

قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ هم أئمتهم في النصرانية كانوا علي الضلال قبل مبعث النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

وَ أَضَلُّوا كَثِيراً ممن تابعهم علي التثليث.

وَ ضَلُّوا لما بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عَنْ سَوٰاءِ اَلسَّبِيلِ حين كذّبوه وبغوا عليه.

[سورة المائدة (5): الآیات 78 الی 80]

لُعِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرٰائِيلَ عَلىٰ لِسٰانِ دٰاوُدَ وَ عِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ ذٰلِكَ بِمٰا عَصَوْا وَ كٰانُوا يَعْتَدُونَ كٰانُوا لاٰ يَتَنٰاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مٰا كٰانُوا يَفْعَلُونَ تَرىٰ كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مٰا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اَللّٰهُ عَلَيْهِمْ وَ فِي اَلْعَذٰابِ هُمْ خٰالِدُونَ

لعنوا عَلىٰ لِسٰانِ دٰاوُدَ لما اعتدوا في سبتهم، فقال: اللهم ألبسهم اللعنة مثل الرداء. فمسخهم اللّه قردة، وعلي لسان عِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ لما كفروا بعد نزول المائدة، فقال عيسى: اللهم عذّب من كفر بعد ما أكل من المائدة عذابا لا تعذبه أحدا من العالمين، والعنهم كما لعنت أصحاب السبت، فصاروا خنازير، وكانوا خمسة آلاف رجل.

ذٰلِكَ بِمٰا عَصَوْا أي: ذلك اللعن الشنيع بمعصيتهم واعتدائهم. ثم فسّر المعصية والاعتداء بقوله: كٰانُوا لاٰ يَتَنٰاهَوْنَ أي: لا ينهى بعضهم بعضا عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ ، ثم قال: لَبِئْسَ مٰا كٰانُوا يَفْعَلُونَ للتعجب من سوء فعلهم مؤكدا لذلك بالقسم. ويجوز أن يكون المعنى: كانوا لا

ص: 60

يتناهون أي لا يتناهون ولا يمتنعون عن منكر فعلوه، بل يصرّون عليه ويداومون علي فعله.

تَرىٰ كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أي: يوالون المشركين ويصادقونهم.

لَبِئْسَ مٰا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أي: لبئس زادهم إلى الآخرة.

أَنْ سَخِطَ اَللّٰهُ عَلَيْهِمْ أي: سخط اللّه عليهم وهو المخصوص بالذم.

والمعني بذلك كعب بن الأشرف وأصحابه حين استجاشوا(1) المشركين علي رسول اللّه وقالوا: هٰؤُلاٰءِ أَهْدىٰ مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (2).

[سورة المائدة (5): الآیات 81 الی 84]

وَ لَوْ كٰانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ اَلنَّبِيِّ وَ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اِتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيٰاءَ وَ لٰكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فٰاسِقُونَ (81) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ اَلنّٰاسِ عَدٰاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا اَلَّذِينَ قٰالُوا إِنّٰا نَصٰارىٰ ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْبٰاناً وَ أَنَّهُمْ لاٰ يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَ إِذٰا سَمِعُوا مٰا أُنْزِلَ إِلَى اَلرَّسُولِ تَرىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ اَلدَّمْعِ مِمّٰا عَرَفُوا مِنَ اَلْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنٰا آمَنّٰا فَاكْتُبْنٰا مَعَ اَلشّٰاهِدِينَ (8(3) وَ مٰا لَنٰا لاٰ نُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ مٰا جٰاءَنٰا مِنَ اَلْحَقِّ وَ نَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنٰا رَبُّنٰا مَعَ اَلْقَوْمِ اَلصّٰالِحِينَ

وَ لَوْ كٰانُوا يُؤْمِنُونَ إيمانا حقيقيا ما اتخذوا المشركين أَوْلِيٰاءَ كما لم يوالهم المسلمون.

ص: 61


1- استجاشوا: طلبوا منهم جيشا. (الصحاح: مادة جيش)
2- النساء: 51.

وَ لٰكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ متمردون في كفرهم.

ثم ذكر شدة عداوة اليهود للمؤمنين، ولين عريكة النصارى وميلهم إلى الإسلام، وقرن اليهود بالمشركين في العداوة، ونبّه علي تقدّم قدمهم فيها بتقديم ذكرهم، وعلل سهولة مأخذ النصارى وقرب مودتهم للمؤمنين بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْبٰاناً أي: علماء وعبّادا وَ أَنَّهُمْ قوم فيهم تواضع وإخبات ولا كبر فيهم، واليهود علي خلاف ذلك. وفيه دلالة علي أنّ العلم يهدي إلى الخير وينفع في أبواب البر، وكذلك التأله والتفكر في أمر الآخرة والبراءة من الكبر.

ثم وصفهم برقّة القلوب والبكاء عند استماع القرآن، وذلك نحو ما حكي عن النجاشي أنّه قال لجعفر بن أبي طالب - حين اجتمع في مجلسه المهاجرون إلى الحبشة وعمرو بن العاص مع من معه من المشركين وهم يغرونه عليهم -: هل في كتابكم ذكر مريم ؟ فقال جعفر: فيه سورة تنسب إليها، وقرأها إلى قوله: ذٰلِكَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ (1)، وقرأ سورة طه إلي قوله: وَ هَلْ أَتٰاكَ حَدِيثُ مُوسىٰ (2)

فبكى النجاشي، وكذلك فعل قومه الذين وفدوا علي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهم سبعون رجلا حين قرأ عليهم رسول اللّه سورة (يس) فبكوا(3).

واللام في للذين آمنوا يتعلّق ب - عَدٰاوَةً و مَوَدَّةً . ووصف اليهود بالعداوة، والنصاري بالمودة، ووصف العداوة با لأشدّ والمودة با لأقرب؛ يؤذن بتفاوت ما بين الفريقين.

يَقُولُونَ رَبَّنٰا آمَنّٰا المراد به إنشاء الإيمان والدخول فيه.

ص: 62


1- مريم: 34.
2- طه: 9.
3- تفسير الطبري ج 7:3 باختلاف.

فَاكْتُبْنٰا مَعَ اَلشّٰاهِدِينَ مع أمّة محمّد صلى الله عليه و آله و سلم الذين هم شهداء علي سائر الأمم يوم القيامة كما قال تعالى: لِتَكُونُوا شُهَدٰاءَ عَلَى اَلنّٰاسِ (1). وإنّما قالوا ذلك لأنّهم وجدوا ذكرهم في الإنجيل كذلك.

وَ مٰا لَنٰا لاٰ نُؤْمِنُ إنكار واستبعاد لانتفاء الإيمان مع ثبوت موجبه، وهو الطمع في أن ينعم اللّه عليهم بصحبة الصالحين. ومحلّ لاٰ نُؤْمِنُ النصب على الحال بمعنى: غير مؤمنين، والواو في وَ نَطْمَعُ واو الحال، والعامل في الأولى معنى الفعل في اللام. والمعنى: وأي شيء حصل لنا غير مؤمنين، وفي الثانية معنى هذا الفعل مقيدا بالحال الأولى، لأنّك لو قلت: مالنا ونطمع لم يكن كلاما. ويجوز أن يكون وَ نَطْمَعُ حالا من لاٰ نُؤْمِنُ .

[سورة المائدة (5): الآیات 85 الی 86]

فَأَثٰابَهُمُ اَللّٰهُ بِمٰا قٰالُوا جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا وَ ذٰلِكَ جَزٰاءُ اَلْمُحْسِنِينَ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلْجَحِيمِ

بِمٰا قٰالُوا أي: بما تكلّموا به عن اعتقاد وإخلاص، من قولك: هذا قول فلان أي: مذهبه واعتقاده. وذكر مجرد القول هنا، لأنّه قد سبق وصفهم بما يدلّ علي معرفتهم وإخلاصهم، وهو قوله: مِمّٰا عَرَفُوا مِنَ اَلْحَقِّ . والقول إذا اقترن به المعرفة فذلك الإيمان الحقيقي.

[سورة المائدة (5): الآیات 87 الی 88]

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تُحَرِّمُوا طَيِّبٰاتِ مٰا أَحَلَّ اَللّٰهُ لَكُمْ وَ لاٰ تَعْتَدُوا إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ وَ كُلُوا مِمّٰا رَزَقَكُمُ اَللّٰهُ حَلاٰلاً طَيِّباً وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ اَلَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ

روي: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ذكّر أصحابه يوما ووصف القيامة لهم فبالغ في

ص: 63


1- البقرة: 143.

الإنذار، فرقّوا واجتمع عشرة في بيت عثمان بن مظعون(1) واتفقوا على أن يصوموا النهار، ويقوموا الليل، ولا يناموا علي الفرش، ولا يأكلوا اللحم ولا الودك، ولا يقربوا النساء، ويلبسوا المسوح(2)، ويرفضوا الدنيا، ويسيحوا في الأرض، فبلغ ذلك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال لهم: (إنّي لم أؤمر بذلك، إنّ لأنفسكم عليكم حقّا، فصوموا وأفطروا، وقوموا وناموا، فإنّي أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآكل اللحم والدسم، وآتي النساء، ومن رغب عن سنتي فليس مني) ونزلت الآية(3).

لاٰ تُحَرِّمُوا أي: لا تمنعوا أنفسكم ما طاب ولذ من الحلال، ولا تقولوا:

حرّمنا الحلال علي أنفسنا تزهّدا ومبالغة منكم في العزم علي تركه.

وَ لاٰ تَعْتَدُوا أي: لا تتعدوا حدود ما أحلّ لكم إلي ما حرّم عليكم؛ أو جعل تحريم الطيبات اعتداء فنهى عن الاعتداء ليدخل تحته النهي عن تحريمها؛ أو أراد: ولا تسرفوا في تناول الطيبات.

وَ كُلُوا مِمّٰا رَزَقَكُمُ اَللّٰهُ أي: من الوجوه الطيبة التي تسمّى رزقا، وقوله:

حَلاٰلاً حال من مِمّٰا رَزَقَكُمُ اَللّٰهُ .

وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ تأكيد للوصية بما أمر به، وقوله: أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ استدعاء إلي التقوى بألطف الوجوه.

وتدلّ الايتان علي كراهية التفرد، والخروج مما عليه الناس في التأهل وطلب الولد وعمارة الأرض.

ص: 64


1- عثمان بن مظعون بن حبيب الجمحي، من السابقين إلي الإسلام، هاجر الهجرتين، توفي بعد شهوده بدرا وهو أول من مات بالمدينة من المهاجرين وأول من دفن بالبقيع منهم. ينظر: الإصابة ج 2:464.
2- المسوح: جمع مسح وهو الكساء من الشعر. (لسان العرب: مادة مسح)
3- أسباب النزول: 141.

[سورة المائدة (5): آیة 89]

لاٰ يُؤٰاخِذُكُمُ اَللّٰهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمٰانِكُمْ وَ لٰكِنْ يُؤٰاخِذُكُمْ بِمٰا عَقَّدْتُمُ اَلْأَيْمٰانَ فَكَفّٰارَتُهُ إِطْعٰامُ عَشَرَةِ مَسٰاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مٰا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيٰامُ ثَلاٰثَةِ أَيّٰامٍ ذٰلِكَ كَفّٰارَةُ أَيْمٰانِكُمْ إِذٰا حَلَفْتُمْ وَ اِحْفَظُوا أَيْمٰانَكُمْ كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ اَللّٰهُ لَكُمْ آيٰاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

اللغو في اليمين: هو الساقط الذي لا يتعلّق به حكم ويقع من غير قصد، مثل قول القائل: (لا واللّه) و (بلى واللّه).

بِمٰا عَقَّدْتُمُ اَلْأَيْمٰانَ أي: بتعقيدكم الأيمان وهو توثيقها بالقصد والنية، وقرئ: عقدتم [- بالتخفيف - وعاقدتم. والمعنى: ولكن يؤاخذكم بنكث ما عقدتم فحذف المضاف، أو بما](1) عقدتم إذا حنثتم، فحذف وقت المؤاخذة لكونه معلوما.

فَكَفّٰارَتُهُ أي: فكفارة حنثه إِطْعٰامُ عَشَرَةِ مَسٰاكِينَ يعطى كل واحد منهم مدّين أو مدّا، والمدّ: رطلان وربع.

مِنْ أَوْسَطِ مٰا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أي: من أقصده، لأنّ من الناس من يسرف في إطعام أهله ومنهم من يقتر، وأفضله الخبز واللحم، وأدونه الخبز والملح، وعن الصادق عليه السلام أنّه قرأ: أهاليكم - بسكون الياء - وهو اسم جمع لأهل كالليالي والأراضي. وأما تسكين الياء في حال النصب فللتخفيف كما قالوا: رأيت معدي كرب تشبيها للياء بالألف.

أَوْ كِسْوَتُهُمْ عطف علي إِطْعٰامُ والكسوة عندنا ثوبان: مئزر وقميص، وعند الضرورة قميص(2).

ص: 65


1- ساقطة من ج.
2- تهذيب الأحكام ج 8:296.

أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ عبد أو أمة، وهذه الثلاثة واجبة علي التخيير.

فَمَنْ لَمْ يَجِدْ إحداها فَصِيٰامُ ثَلاٰثَةِ أَيّٰامٍ متتابعات، وكذلك هو في قراءة أبيّ وابن مسعود.

ذلك المذكور كَفّٰارَةُ أَيْمٰانِكُمْ إِذٰا حَلَفْتُمْ وحنثتم. ترك ذكر الحنث لحصول العلم بأنّ الكفارة إنّما تجب بالحنث لا بنفس الحلف.

وَ اِحْفَظُوا أَيْمٰانَكُمْ فبرّوا فيها ولا تحنثوا، وقيل: احفظوها بأن تكفروها، وقيل: احفظوا كيف حلفتم بها ولا تنسوها تهاونا بها.

كَذٰلِكَ أي: مثل ذلك البيان.

يُبَيِّنُ اَللّٰهُ لَكُمْ آيٰاتِهِ أي: أحكام شريعته.

لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمته فيما يعلمكم ويبيّنه لكم.

[سورة المائدة (5): الآیات 90 الی 91]

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصٰابُ وَ اَلْأَزْلاٰمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمٰا يُرِيدُ اَلشَّيْطٰانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ اَلْعَدٰاوَةَ وَ اَلْبَغْضٰاءَ فِي اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اَللّٰهِ وَ عَنِ اَلصَّلاٰةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ

أكّد سبحانه تحريم الخمر والميسر بوجوه من التأكيد:

منها: أنّه قرنهما بعبادة الأنصاب التي هي الأصنام، ومنه قوله عليه السلام: (شارب الخمر كعابد الوثن)(1).

ومنها: أنّه جعلهما رجسا كما قال: فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ مِنَ اَلْأَوْثٰانِ (2).

ص: 66


1- علل الشرائع: 476.
2- الحج: 30.

ومنها: أنّه جعلهما من عمل الشيطان.

ومنها: أنّه أمر بالاجتناب.

ومنها: أنّه جعل الاجتناب من الفلاح. والهاء في فَاجْتَنِبُوهُ تعود إلى عَمَلِ اَلشَّيْطٰانِ ، أو إلى مضاف محذوف كأنّه قيل: إنّما شأن الخمر والميسر، أو تعاطي الخمر والميسر ونحو ذلك.

ومنها: أنّه ذكر نتائجهما من المفاسد التي هي وقوع التعادي والتباغض بين أصحاب الخمر والقمار، وما يؤديان إليه من الصدّ عَنْ ذِكْرِ اَللّٰهِ وَ عَنِ اَلصَّلاٰةِ التي هي عماد الدين.

وقوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ نهي بليغ، أي: فهل أنتم مع ما تلي عليكم من هذه الصوارف منتهون ؟.

[سورة المائدة (5): الآیات 92 الی 93]

وَ أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ اِحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمٰا عَلىٰ رَسُولِنَا اَلْبَلاٰغُ اَلْمُبِينُ لَيْسَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ جُنٰاحٌ فِيمٰا طَعِمُوا إِذٰا مَا اِتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ ثُمَّ اِتَّقَوْا وَ آمَنُوا ثُمَّ اِتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا وَ اَللّٰهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ

وَ اِحْذَرُوا أي: كونوا حذرين خائفين، أو واحذروا ما عليكم في ترك طاعة اللّه والرسول.

فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ ولم تعملوا بما أمرتكم به فَاعْلَمُوا أنّكم لن تضرّوا الرسول بتوليكم عما أداه إليكم، لأنّ الرسول لم يكلف إلا اَلْبَلاٰغُ اَلْمُبِينُ وإنّما أضررتم أنفسكم. وهذا وعيد.

لَيْسَ عَلَى المؤمنين الصالحين جُنٰاحٌ في أي شيء طعموه من المطاعم

ص: 67

المستلذّة إِذٰا مَا اِتَّقَوْا ما حرّم عليهم منها، وثبّتوا علي الإيمان والعمل الصالح وازدادوه.

ثُمَّ اِتَّقَوْا وَ آمَنُوا أي: ثم ثبتوا على التقوى والإيمان.

ثُمَّ اِتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا أي: ثم ثبتوا علي اتقاء المعاصي وأحسنوا أعمالهم، وأحسنوا إلى الناس يواسونهم بما رزقهم اللّه من الطيبات. وقيل: إنّ الاتقاء الأوّل هو اتقاء المعاصي العقلية التي تختص المكلف ولا تتعداه، والاتقاء الثاني هو اتقاء المعاصي السمعية، والاتقاء الثالث اتقاء مظالم العباد وما يتعدي إلى الغير من الظلم و الفساد.

[سورة المائدة (5): آیة 94]

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اَللّٰهُ بِشَيْ ءٍ مِنَ اَلصَّيْدِ تَنٰالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِمٰاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اَللّٰهُ مَنْ يَخٰافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اِعْتَدىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهُ عَذٰابٌ أَلِيمٌ

نزلت عام الحديبية، ابتلاهم اللّه بالصيد وهم محرمون، وكان قد كثر عندهم حتى أنّه كان يغشاهم في رحالهم، فيتمكّنون من صيده أخذا بأيديهم وطعنا برماحهم(1).

بِشَيْ ءٍ مِنَ اَلصَّيْدِ أي: بتحريم بعض الصيد، لأنّه عنى صيد البر خاصة، وأنّهم ابتلوا بذلك كما ابتلي أمّه موسى عليه السلام بصيد البحر وهو السمك.

لِيَعْلَمَ اَللّٰهُ مَنْ يَخٰافُهُ بِالْغَيْبِ أي: ليتميّز من يخاف عقاب الآخرة وهو غائب منتظر فيتقي الصيد ممن لا يخافه فيقدم عليه.

فَمَنِ اِعْتَدىٰ فصاد بَعْدَ ذٰلِكَ الابتلاء فالوعيد لاحق به.

ص: 68


1- الكشف والبيان ج 4:108.

[سورة المائدة (5): الآیات 95 الی 96]

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَقْتُلُوا اَلصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزٰاءٌ مِثْلُ مٰا قَتَلَ مِنَ اَلنَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بٰالِغَ اَلْكَعْبَةِ أَوْ كَفّٰارَةٌ طَعٰامُ مَسٰاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذٰلِكَ صِيٰاماً لِيَذُوقَ وَبٰالَ أَمْرِهِ عَفَا اَللّٰهُ عَمّٰا سَلَفَ وَ مَنْ عٰادَ فَيَنْتَقِمُ اَللّٰهُ مِنْهُ وَ اَللّٰهُ عَزِيزٌ ذُو اِنْتِقٰامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ اَلْبَحْرِ وَ طَعٰامُهُ مَتٰاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيّٰارَةِ وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ اَلْبَرِّ مٰا دُمْتُمْ حُرُماً وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ اَلَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9(6)

اَلصَّيْدَ ما يصاد من الوحش، أكل أم لم يؤكل.

وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ أي: محرمون بحج أو عمرة، جمع حرام.

وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً وهوأن يقتله وهو ذاكر لإحرامه، أو عالم بأنّ ما يقتله مما يحرم عليه قتله، وعن الزهري(1): (نزل الكتاب بالعمد وجرت السنة في الخطأ)(2).

فَجَزٰاءٌ مِثْلُ مٰا قَتَلَ برفع جَزٰاءُ و مِثْلُ ، معناه: فالواجب عليه جزاء يماثل ما قتل من الصيد. وقرئ: فجزاء مثل ما قتل علي الإضافة، والأصل فيه:

فجزاء مثل ما قتل بنصب مثل، ومعناه: فعليه أن يجزي مثل ما قتل، ثم أضيف المصدر إلى المفعول به.

مِنَ اَلنَّعَمِ وهي الإبل والبقر والغنم، ويقال للإبل أيضا: نعم وإن انفرد.

وهذه المماثلة عند أئمّة الهدى عليهم السلام إنّما تعتبر في الخلقة، ففي النعامة بدنة، وفي حمار

ص: 69


1- محمّد بن مسلم بن عبيد اللّه الزهري الفقيه المدني التابعي المعروف، توفي سنة 124 ه - على قول. ينظر: وفيات الأعيان ج 3:317، معجم رجال الحديث ج 17:286.
2- تفسير الطبري ج 7:28.

الوحش وبقر الوحش بقرة، وفي الظبي والأرنب ونحوهما شاة(1).

يَحْكُمُ بِهِ أي: بمثل ما قتل.

ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ أي: حكمان عدلان من الفقهاء ينظران إلى أشبه الأشياء به من النعم فيحكمان به، وقراءة السيدين الباقر والصادق عليهما السلام: ذو عدل منكم، المراد به الإمام.

هَدْياً حال من جَزٰاءُ لأنّه تخصص بالصفة فأشبه المعرفة، أو حال من الضمير في به ، أو بدل من محلّ مِثْلُ إذا جررته.

و بٰالِغَ اَلْكَعْبَةِ وصف له، أي: هديا يبلغ الكعبة، ومعنى بلوغه الكعبة أن يذبح بالحرم. وقال أصحابنا: إذا كان محرما بالعمرة ذبح أو نحر بمكة، وإن كان محرما بالحج فبمنى(2).

أَوْ كَفّٰارَةٌ معناه: أو الواجب عليه كفارة، وقرئ: أو كفّارة طعام مساكين - علي الإضافة - وتقديره: أو كفارة من طعام مساكين، كقولك: خاتم فضة. والمعنى:

خاتم من فضة. وهو أن يقوّم الجزاء ويفض ثمنه علي الحنطة ويتصدّق به علي كل مسكين نصف صاع.

أَوْ عَدْلُ ذٰلِكَ صِيٰاماً وعدل الشيء ما عادله من غير جنسه، وصياما تمييز للعدل.

و ذٰلِكَ إشارة إلي الطعام وهو أن يصام عن كل نصف صاع يوما.

والخيار في هذه الكفارات الثلاث إلي قاتل الصيد، وقيل: هي مرتّبة، وكلا

ص: 70


1- ينظر: الوسائل ج 9 باب 1 من أبواب كفارات الصيد.
2- الانتصار: 252، الخلاف ج 2:402.

القولين رواه أصحابنا(1).

لِيَذُوقَ متعلّق ب - جَزٰاءُ ، والمعنى: فالواجب عليه أن يجازى ويكفّر ليذوق سوء عاقبة فعله.

عَفَا اَللّٰهُ عَمّٰا سَلَفَ لكم من الصيد في حال الإحرام يعني الدفعة الأولى.

وَ مَنْ عٰادَ ثانية إلى قتل الصيد محرما فَيَنْتَقِمُ اَللّٰهُ مِنْهُ تقديره: فهو ينتقم اللّه منه ويعاقبه بما صنع ولا كفارة عليه.

أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ اَلْبَحْرِ أي: مصيداته وَ طَعٰامُهُ وما يطعم من صيده، والمعنى: أحلّ لكم الانتفاع بجميع ما يصاد في البحر، وأحلّ لكم أكل المأكول منه وهو السمك وحده.

مَتٰاعاً لَكُمْ مفعول له، أي: تمتيعا لكم، والمعنى: وأحلّ لكم طعام البحر تمتيعا لتنائكم(2) تأكلونه طريا، ولسيارتكم يتزودونه قديدا. ص(3): وطعامه حلّ لكم وللسيارة.

[سورة المائدة (5): الآیات 97 الی 100]

جَعَلَ اَللّٰهُ اَلْكَعْبَةَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرٰامَ قِيٰاماً لِلنّٰاسِ وَ اَلشَّهْرَ اَلْحَرٰامَ وَ اَلْهَدْيَ وَ اَلْقَلاٰئِدَ ذٰلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ يَعْلَمُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ وَ أَنَّ اَللّٰهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (97) اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ شَدِيدُ اَلْعِقٰابِ وَ أَنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مٰا عَلَى اَلرَّسُولِ إِلاَّ اَلْبَلاٰغُ وَ اَللّٰهُ يَعْلَمُ مٰا تُبْدُونَ وَ مٰا تَكْتُمُونَ (9(9) قُلْ لاٰ يَسْتَوِي اَلْخَبِيثُ وَ اَلطَّيِّبُ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ اَلْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اَللّٰهَ يٰا أُولِي اَلْأَلْبٰابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

ص: 71


1- تفسير العياشي ج 1:345.
2- تنأ بالبلد: قطن به وتوطّنه فهو تانئ وهم تناء. (الصحاح: مادة تنأ)
3- كذا في جميع النسخ.

اَلْبَيْتَ اَلْحَرٰامَ عطف بيان ل - اَلْكَعْبَةَ .

قِيٰاماً لِلنّٰاسِ أي: لمعايش الناس ومكاسبهم يستقيم به أمور دينهم ودنياهم، لما يتم به من أمر حجّهم وعمرتهم وتجارتهم وأنواع منافعهم. وجاء في الأثر: (أنّه لو ترك عاما واحدا لم يحج إليه لم يناظروا ولم يؤخروا)(1)، ومعناه:

يهلكوا.

وَ اَلشَّهْرَ اَلْحَرٰامَ أي: والشهر الذي يؤدى فيه الحج وهو ذو الحجّة، وقيل: عنى به جنس الأشهر الحرم الأربعة، واحد فرد وثلاثة سرد(2). وهو عطف علي اَلْكَعْبَةَ كما تقول: ظننت زيدا منطلقا وعمرا.

وَ اَلْهَدْيَ وَ اَلْقَلاٰئِدَ أي: [والمقلّد من الهدي](3) خصوصا، لأنّ الثواب فيه أكثر.

ذٰلِكَ إشارة إلي جعل الكعبة قياما للناس.

لِتَعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ يَعْلَمُ كل شيء فيعلم ما يصلحكم مما أمركم به.

مٰا عَلَى اَلرَّسُولِ إِلاَّ اَلْبَلاٰغُ فيه تهديد وإيذان بأنّ الرسول قد بلّغ ما وجب عليه تبليغه، وقامت عليكم الحجّة فلا عذر لكم في التقصير.

أي: لا يستوي الحلال والحرام، والصالح والطالح، والصحيح من المذهب والفاسد، فلا تعجبوا بكثرة الخبيث حتى تؤثروه لكثرته على الطيب القليل.

فَاتَّقُوا اَللّٰهَ واختاروا الطيب وإن قلّ علي الخبيث وإن كثر.

ص: 72


1- عن ابن عباس. الدر المنثور ج 2:56 بالمعنى.
2- عن الحسن. التبيان ج 4:33.
3- ساقطة من ج.

[سورة المائدة (5): الآیات 101 الی 102]

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَسْئَلُوا عَنْ أَشْيٰاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَ إِنْ تَسْئَلُوا عَنْهٰا حِينَ يُنَزَّلُ اَلْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اَللّٰهُ عَنْهٰا وَ اَللّٰهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (10(1) قَدْ سَأَلَهٰا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهٰا كٰافِرِينَ

أي: لا تكثروا مسألة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حتى تسألوه عن تكاليف شاقة عليكم، إن أفتاكم بها وكلّفكم إيّاها وجبت، وربّما غمّكم ذلك وشقّ عليكم. وذلك نحو ما روي: أنّ سراقة بن مالك(1) أو عكاشة بن محصن(2) قال: يا رسول اللّه أفي كل عام كتب الحج علينا؟ فأعرض عنه حتى أعاد المسألة ثلاثا، فقال: (ويحك وما يؤمنك أن أقول: نعم! واللّه لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم، ولو تركتم لكفرتم، فاتركوني ما تركتكم، فإنّما هلك من هلك قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)(3).

وَ إِنْ تَسْئَلُوا عن هذه التكاليف الصعبة في زمان الوحي تبد لكم تلك التكاليف التي تَسُؤْكُمْ وتؤمروا بتحملها. وقيل: إنّ رجلا يقال له: عبد اللّه سأل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال: من أبي ؟ وكان يطعن في نسبه، فقال له عليه السلام: حذافة. فنزلت(4).

ص: 73


1- سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي الكناني، أسلم يوم الفتح، قيل إنه توفي سنة 24 ه -. ينظر: الإصابة ج 2:19.
2- عكاشة بن محصن بن حرثان الأسدي، شهد بدرا وسائر المشاهد، قتله طليحة بن خويلد الأسدي في الردّة. الاستيعاب ج 3:155.
3- ينظر: تفسير الطبري ج 7:53.
4- تفسير الطبري ج 7:52.

عَفَا اَللّٰهُ عما سلف من مسألتكم فلا تعودوا إلى مثلها.

وَ اَللّٰهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ لا يعاجلكم بعقوبته.

قَدْ سَأَلَهٰا أي: قد سأل هذه المسألة قوم من الأوّلين.

ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهٰا أي: بمرجوعها أو بسببها كٰافِرِينَ وذلك أنّ بني إسرائيل كانوا يسألون أنبياءهم عن أشياء، فإذا أمروا بها تركوها فهلكوا.

[سورة المائدة (5): الآیات 103 الی 104]

مٰا جَعَلَ اَللّٰهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لاٰ سٰائِبَةٍ وَ لاٰ وَصِيلَةٍ وَ لاٰ حٰامٍ وَ لٰكِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّٰهِ اَلْكَذِبَ وَ أَكْثَرُهُمْ لاٰ يَعْقِلُونَ وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمْ تَعٰالَوْا إِلىٰ مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ وَ إِلَى اَلرَّسُولِ قٰالُوا حَسْبُنٰا مٰا وَجَدْنٰا عَلَيْهِ آبٰاءَنٰا أَ وَ لَوْ كٰانَ آبٰاؤُهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لاٰ يَهْتَدُونَ

البحيرة: الناقة إذا نتجت خمسة أبطن، فإن كان آخرها ذكرا بحروا أذنها أي:

شقّوها وحرّموا ركوبها، ولا تطرد عن ماء ولا مرعى، ولو لقيها المعيي لم يركبها.

والسائبة: ما كانوا يسيبونه، كان الرجل يقول: إذا قدمت من سفري أو برئت من مرضي فناقتي سائبة، فكانت كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها. وكان الرجل إذا أعتق عبدا قال: هو سائبة ولا عقل بينهما ولا ميراث، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم ولسدنة الأصنام.

والوصيلة في الغنم: كانت الشاة إذا ولدت أنثى فهي لهم، وإذا ولدت ذكرا ذبحوه لآلهتهم، فإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لأجلها.

والحامي: هو الفحل إذا نتجت من صلبه عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره، فلا يركب ولا يحمل عليه، و لا يمنع من ماء ولا مرعى.

ص: 74

ومعنى مٰا جَعَلَ اَللّٰهُ : ما شرع ذلك ولا أمر بالتبحير ولا بالتسييب ولا غير ذلك، ولكنهم بتحريمهم ما حرّموا يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّٰهِ اَلْكَذِبَ يدّعون أنّ اللّه حرّمها.

وَ أَكْثَرُهُمْ لاٰ يَعْقِلُونَ أنّ ذلك افتراء وكذب، يعني الاتباع للذين يقلّدون في تحريمها رؤساءهم.

والواو في قوله: أَ وَ لَوْ كٰانَ آبٰاؤُهُمْ واو الحال دخل عليه همزة الاستفهام التي للإنكار، والتقدير: أحسبهم ذلك ولو كان آباؤهم لاٰ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لاٰ يَهْتَدُونَ والاقتداء إنّما يصح بالعالم المهتدي، ولا يعرف ذلك إلا بالدليل.

[سورة المائدة (5): آیة 105]

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاٰ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اِهْتَدَيْتُمْ إِلَى اَللّٰهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

عَلَيْكُمْ من أسماء الأفعال ومعناه: إلزموا صلاح أنفسكم، وقوله: لاٰ يَضُرُّكُمْ جواب الأمر وهو مجزوم، وإنّما ضمّت الراء إتباعا لضمة الضاد، والأصل:

لا يضرركم، وقرئ: لا يضركم - بكسر الضاد وضمها - من ضاره يضيره ويضوره.

ويجوز أن يكون خبرا مرفوعا.

والمعنى: لا يضركم ضلال مَنْ ضَلَّ عن دينكم إِذَا كنتم مهتدين، وهو مثل قوله: فَلاٰ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرٰاتٍ (1). وكان المؤمنون يتأسفون حسرة علي أهل العناد من الكفار، يتمنّون دخولهم في الإسلام فخوطبوا بذلك.

وعن ابن مسعود أنّها قرئت عنده فقال: (إنّ هذا ليس بزمانها، إنّها اليوم مقبولة،

ص: 75


1- فاطر: 8.

ولكن يوشك أن يأتي زمان تأمرون فلا يقبل منكم، فحينئذ عليكم أنفسكم)(1).

فهو علي هذا تسلية لمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فلا يقبل منه، وبسط لعذره.

[سورة المائدة (5): آیة 106]

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا شَهٰادَةُ بَيْنِكُمْ إِذٰا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ حِينَ اَلْوَصِيَّةِ اِثْنٰانِ ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرٰانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَأَصٰابَتْكُمْ مُصِيبَةُ اَلْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمٰا مِنْ بَعْدِ اَلصَّلاٰةِ فَيُقْسِمٰانِ بِاللّٰهِ إِنِ اِرْتَبْتُمْ لاٰ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كٰانَ ذٰا قُرْبىٰ وَ لاٰ نَكْتُمُ شَهٰادَةَ اَللّٰهِ إِنّٰا إِذاً لَمِنَ اَلْآثِمِينَ

شَهٰادَةُ بَيْنِكُمْ مبتدأ، و اِثْنٰانِ خبره، والتقدير: شهادة [بينكم شهادة](2) اثنين. وأضيف المصدر الذي هو شهادة إلى (بين) فجعل الظرف اسما اتساعا. و إِذٰا حَضَرَ ظرف للشهادة و حِينَ اَلْوَصِيَّةِ بدل منه، وفي إبداله منه دلالة علي وجوب الوصية عند حضور الموت وظهور إماراته، لأنّ زمان حضور أسباب الموت جعل زمان الوصية.

إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ يعني: إن وقع الموت في السفر ولم يكن معكم رجلان عدلان.

مِنْكُمْ أي: من المسلمين فاستشهدوا علي الوصية آخرين.

مِنْ غَيْرِكُمْ أي: من أهل الذمة.

وروي: إنّ ثلاثة نفر خرجوا تجارا من المدينة إلي الشام: تميم بن أوس وعدي بن زيد - وهما نصرانيان - وابن أبي مارية مولي عمرو بن العاص، فمرض ابن أبي مارية وكتب كتاب وصية فيه ما معه من المتاع ودسّ كتابه في متاعه ولم يخبر به

ص: 76


1- تفسير الطبري ج 7:62.
2- ساقطة من ج.

صاحبيه، وأمرهما أن يدفعا متاعه إلى أهله ومات، ففتشا متاعه وأخذا إناء من فضة، ثم رجعا بالمال إلى الورثة، فوجدوا الكتاب فطالبوهما بالإناء فجحدا، فرفعوا أمرهم إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم فنزلت(1).

قوله: تَحْبِسُونَهُمٰا معناه: تقفونهما ليحلفا.

مِنْ بَعْدِ اَلصَّلاٰةِ أي: من بعد صلاة العصر وقت اجتماع الناس، وقيل:

أو الظهر(2)، وقيل: من بعد صلاة أهل دينهما يعني: الذميين(3).

فَيُقْسِمٰانِ بِاللّٰهِ إِنِ اِرْتَبْتُمْ في شهادتهما وشككتم واتهمتموهما، فقوله: إِنِ اِرْتَبْتُمْ اعتراض بين القسم والمقسم عليه وهو قوله: لاٰ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً أي:

لا نستبدل بتحريف شهادتنا ذا ثمن، فحذف المضاف في الموضعين، لأنّ من المعلوم أن المبيع يشتري دون ثمنه. وقيل: إنّ الضمير في به للقسم، يعني: لا نستبدل بالقسم باللّه عرضا من الدنيا، أي: لا نحلف باللّه كاذبين لأجل المال.

وَ لَوْ كٰانَ ذٰا قُرْبىٰ الضمير في كٰانَ للمقسم له، أي: ولو كان من نقسم له قريبا منا، ولا نحابي في شهادتنا أحدا.

وَ لاٰ نَكْتُمُ شَهٰادَةَ اَللّٰهِ التي أمرنا اللّه بحفظها وألزمنا أداءها. ورووا عن علي عليه السلام والشعبي الوقف علي شهادة وابتداء (ءاللّه) بالمد علي طرح حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه، وروي أيضا بغير مد، وذلك علي ما ذكره سيبويه: أنّ منهم من يحذف حرف القسم ولا يعوض منه همزة الاستفهام فيقول:

ص: 77


1- أسباب النزول: 146.
2- عن الحسن. معالم التنزيل ج 1:304.
3- عن ابن عباس. تفسير الطبري ج 7:72.

اللّه لقد كان كذا(1).

إِنّٰا إِذاً أي: إن فعلنا ذلك لَمِنَ اَلْآثِمِينَ .

[سورة المائدة (5): الآیات 107 الی 108]

فَإِنْ عُثِرَ عَلىٰ أَنَّهُمَا اِسْتَحَقّٰا إِثْماً فَآخَرٰانِ يَقُومٰانِ مَقٰامَهُمٰا مِنَ اَلَّذِينَ اِسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ اَلْأَوْلَيٰانِ فَيُقْسِمٰانِ بِاللّٰهِ لَشَهٰادَتُنٰا أَحَقُّ مِنْ شَهٰادَتِهِمٰا وَ مَا اِعْتَدَيْنٰا إِنّٰا إِذاً لَمِنَ اَلظّٰالِمِينَ ذٰلِكَ أَدْنىٰ أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهٰادَةِ عَلىٰ وَجْهِهٰا أَوْ يَخٰافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمٰانٌ بَعْدَ أَيْمٰانِهِمْ وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ اِسْمَعُوا وَ اَللّٰهُ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفٰاسِقِينَ

أي: فَإِنْ اطلع عَلىٰ أَنَّهُمَا اِسْتَحَقّٰا إِثْماً أي: فعلا ما يوجب إثما واستوجبا أن يقال: إنّهما من اَلْآثِمِينَ بخيانتهما.

فَآخَرٰانِ أي: فشاهدان آخران يَقُومٰانِ مَقٰامَهُمٰا مِنَ اَلَّذِينَ اِسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الإثم، والمعنى: من الذين جني عليهم وهم أهل الميت وعشيرته، وفي الحديث: أنّه لما عثر علي خيانة الرجلين، ووجد الإناء بمكة بعد أن استحلفهما رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عند المنبر، حلف رجلان من ورثته أنّه إناء صاحبهما، وأنّهما خانا وكذبا فدفع الإناء إليهما(2).

و اَلْأَوْلَيٰانِ الأحقّان بالشهادة لقرابتهما، وارتفاعهما علي أنّهما بدل من آخَرٰانِ ، أو من الضمير في يَقُومٰانِ ، أو علي (هما الأوليان) كأنّه قيل:

ومن هما؟ فقيل: اَلْأَوْلَيٰانِ . وقرئ: الأوّلين علي أنّه وصف ل - اَلَّذِينَ اِسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ علي البناء للفاعل، ومعناه: من الورثة الذين استحقّ عليهم الأوليان من بينهم بالشهادة أن يجردوهما عن القيام بالشهادة، ويظهروا بهما كذب الكاذبين.

ص: 78


1- ينظر: الكتاب ج 3:499.
2- ينظر: الكشف والبيان ج 4:120.

فَيُقْسِمٰانِ أي: يحلفان بِاللّٰهِ لَشَهٰادَتُنٰا وقولنا في وصية صاحبنا أَحَقُّ بالقبول مِنْ شَهٰادَتِهِمٰا وقولهما وَ مَا اِعْتَدَيْنٰا وما جاوزنا الحقّ فيما طلبناه من حقّنا.

ذٰلِكَ الذي تقدّم من بيان الحكم.

أَدْنىٰ أي: أقرب إلى أن يأتي الشهداء علي نحو تلك الحادثة بِالشَّهٰادَةِ عَلىٰ وَجْهِهٰا .

أَوْ يَخٰافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمٰانٌ أي: أو أقرب إلى أن يخافوا أن تكثر أيمان شهود آخرين بَعْدَ أَيْمٰانِهِمْ فيفتضحوا بظهور كذبهم كما جري في هذه القصّة، فربّما لا يحلفون كاذبين ويتحفظون في الشهادة مخافة ردّ اليمين إلى المستحقّ عليهم.

وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ أن تخونوا وتحلفوا كاذبين.

وَ اِسْمَعُوا سمع إجابة وقبول.

[سورة المائدة (5): الآیات 109 الی 110]

يَوْمَ يَجْمَعُ اَللّٰهُ اَلرُّسُلَ فَيَقُولُ مٰا ذٰا أُجِبْتُمْ قٰالُوا لاٰ عِلْمَ لَنٰا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّٰمُ اَلْغُيُوبِ (10(9) إِذْ قٰالَ اَللّٰهُ يٰا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ اُذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَ عَلىٰ وٰالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ اَلْقُدُسِ تُكَلِّمُ اَلنّٰاسَ فِي اَلْمَهْدِ وَ كَهْلاً وَ إِذْ عَلَّمْتُكَ اَلْكِتٰابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ اَلتَّوْرٰاةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهٰا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَ تُبْرِئُ اَلْأَكْمَهَ وَ اَلْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَ إِذْ تُخْرِجُ اَلْمَوْتىٰ بِإِذْنِي وَ إِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرٰائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنٰاتِ فَقٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ سِحْرٌ مُبِينٌ

يَوْمَ يَجْمَعُ ظرف لقوله: لاٰ يَهْدِي أي: لا يهديهم طريق الجنّة يومئذ

ص: 79

كما يهدي غيرهم، أو يوم يجمع اللّه الرسل يكون كذا وكذا، أو نصب ب - (اذكر).

مٰا ذٰا أُجِبْتُمْ أي: أيّ إجابة أجبتم ؟ وهذا السؤال توبيخ لقومهم، ولذلك قٰالُوا لاٰ عِلْمَ لَنٰا وكلوا الأمر إلي علمه بسوء إجابتهم، ولجأوا إليه في الانتقام منهم، وقيل: معناه: أنت أعلم بحالهم منا، فعلمنا مغمور بعلمك وساقط معه لأنّك عَلاّٰمُ اَلْغُيُوبِ ، وقيل: معناه: لا علم لنا بما كان منهم بعدنا(1).

إِذْ قٰالَ اَللّٰهُ بدل من يَوْمَ يَجْمَعُ والمعنى: إنّه يوبّخ الكافرين يومئذ بسؤال الرسل عن إجابتهم، وبتقرير ما أظهر علي أيديهم من الآيات والمعجزات فكذّبوهم أو اتخذوهم آلهة.

أَيَّدْتُكَ قوّيتك بِرُوحِ اَلْقُدُسِ بجبرئيل عليه السلام، وقيل: بالكلام الذي يحيا به الدين.

تُكَلِّمُ اَلنّٰاسَ طفلا وَ كَهْلاً ، و فِي اَلْمَهْدِ في موضع الحال، والمعنى: تكلّمهم في هاتين الحالتين من غير أن يتفاوت كلامك في حين الطفولة وحين الكهولة الذي هو وقت بلوغ الأشدّ، والحدّ الذي يستنبأ فيه الأنبياء.

وَ إِذْ عَلَّمْتُكَ اَلْكِتٰابَ أي: الكتابة وَ اَلْحِكْمَةَ الكلام المحكم، وقيل:

المراد بهما جنس الكتاب والحكمة، وخص وَ اَلتَّوْرٰاةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ مما تناولاه.

وَ إِذْ تَخْلُقُ أي: تصوّر وتقدّر.

مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ أي: هيئة مثل هيئة الطير الذي تريد.

بإذني بأمري وتسهيلي.

فَتَنْفُخُ الضمير للكاف، لأنّها صفة الهيئة التي كان يخلقها عيسى وينفخ

ص: 80


1- عن ابن جريج. تفسير الطبري ج 7:82.

فيها، ولا يرجع إلى الهيئة المضاف إليها لأنّها ليست من خلقه ونفخه في شيء، وكذلك الضمير في فَتَكُونُ .

وإذ تبرئ اَلْأَكْمَهَ وَ اَلْأَبْرَصَ نسب ذلك إليه لما كان بدعائه وسؤاله.

وَ إِذْ تُخْرِجُ اَلْمَوْتىٰ من القبور حتى يشاهدهم الناس أحياء.

وَ إِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرٰائِيلَ عَنْكَ يعني: اليهود حين همّوا بقتله.

[سورة المائدة (5): الآیات 111 الی 113]

وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى اَلْحَوٰارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي قٰالُوا آمَنّٰا وَ اِشْهَدْ بِأَنَّنٰا مُسْلِمُونَ إِذْ قٰالَ اَلْحَوٰارِيُّونَ يٰا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنٰا مٰائِدَةً مِنَ اَلسَّمٰاءِ قٰالَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قٰالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهٰا وَ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنٰا وَ نَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنٰا وَ نَكُونَ عَلَيْهٰا مِنَ اَلشّٰاهِدِينَ

وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى اَلْحَوٰارِيِّينَ أي: ألهمتهم، وقيل: ألقيت إليهم بالآيات التي أريتهم إيّاها(1)، وقيل: أمرتهم علي ألسنة الرسل(2).

مُسْلِمُونَ أي: مخلصون، من أسلم وجهه للّه.

هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ معناه: هل يفعل ذلك ربّك بمسألتك إيّاه ليكون علما علي صدقك ؟ وقيل: معناه: هل يقدر ربّك(3)، وإنّما قالوه قبل أن تستحكم معرفتهم باللّه وصفاته، ولذلك قال عيسى عليه السلام لهم: اِتَّقُوا اَللّٰهَ ولا تشكّوا في اقتداره واستطاعته، ولا تقترحوا عليه ما تشتهون من الآيات فتهلكوا

ص: 81


1- معاني القرآن وإعرابه ج 2:219.
2- الكشاف ج 1:692.
3- معاني القران وإعرابه ج 2:220.

إذا عصيتموه بعدها. وقرأ الصادق عليه السلام: هل تستطيع ربّك، أي: هل تستطيع سؤال ربّك. والمائدة: الخوان يكون عليه الطعام، وهي من ماده أي: أعطاه.

وَ نَكُونَ عَلَيْهٰا مِنَ اَلشّٰاهِدِينَ نشهد عليها عند الذين لم يحضروها من بني إسرائيل، أو من الشاهدين للّه بالوحدانية ولك بالنبوة عاكفين عليها، وَ نَكُونَ عَلَيْهٰا في موضع الحال.

[سورة المائدة (5): الآیات 114 الی 115]

قٰالَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ اَللّٰهُمَّ رَبَّنٰا أَنْزِلْ عَلَيْنٰا مٰائِدَةً مِنَ اَلسَّمٰاءِ تَكُونُ لَنٰا عِيداً لِأَوَّلِنٰا وَ آخِرِنٰا وَ آيَةً مِنْكَ وَ اُرْزُقْنٰا وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلرّٰازِقِينَ قٰالَ اَللّٰهُ إِنِّي مُنَزِّلُهٰا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذٰاباً لاٰ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ اَلْعٰالَمِينَ

ثم سأل عيسى عليه السلام وأجيب إلى ذلك ليلزموا الحجّة ويرسل عليهم العذاب إذا خالفوا.

اَللّٰهُمَّ أصله يا اللّه، رَبَّنٰا نداء ثان.

تَكُونُ لَنٰا عِيداً [أي: يكون يوم نزولها عيدا](1) وهو يوم الأحد ومن ثم اتخذه النصاري عيدا، وقيل: العيد: السرور العائد ولذلك يقال: يوم عيد، أي:

تكون لنا سرورا وفرحا.

لِأَوَّلِنٰا وَ آخِرِنٰا بدل من لنا بتكرير العامل، أي: لمن في زماننا من أهل ديننا ولمن يأتي بعدنا، وقيل: معناه: يأكل منها آخر الناس كما يأكل أوّلهم(2)، وقيل: للمتقدّمين منا والأتباع.

وَ آيَةً مِنْكَ أي: ودلالة منك عظيمة الشأن تدل علي توحيدك وصحة

ص: 82


1- ساقطة من ط.
2- عن ابن عباس. تفسير الطبري ج 7:86.

نبوة نبيك.

فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ أي: بعد إنزالها عليكم.

فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذٰاباً أي: تعذيبا.

لاٰ أُعَذِّبُهُ الضمير للمصدر، ولو أريد ما يعذّب به لم يكن بد من الباء.

وروي: أنّ عيسى عليه السلام لبس صوفا وقال: اللهم أنزل علينا مائدة، فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين وهم ينظرون إليها، فبكى عيسى عليه السلام وقال: اللهم اجعلني من الشاكرين، وكشف المنديل وقال: بسم اللّه خير الرازقين، فإذا سمكة مشوية بلا فلوس ولا شوك وعند رأسها ملح وعند ذنبها خلّ وحولها من ألوان البقول ما عدا الكراث(1)، وقيل: نزلت الملائكة بها، عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات فأكل منها آخر الناس كما أكل أوّلهم(2). وعن الحسن: (إنّ المائدة ما نزلت، ولو نزلت لكان عبدا إلي يوم القيامة لقوله: وَ آخِرِنٰا )(3).

[سورة المائدة (5): الآیات 116 الی 117]

وَ إِذْ قٰالَ اَللّٰهُ يٰا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّٰاسِ اِتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلٰهَيْنِ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ قٰالَ سُبْحٰانَكَ مٰا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مٰا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مٰا فِي نَفْسِي وَ لاٰ أَعْلَمُ مٰا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّٰمُ اَلْغُيُوبِ مٰا قُلْتُ لَهُمْ إِلاّٰ مٰا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مٰا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّٰا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ اَلرَّقِيبَ

ص: 83


1- الدر المنثور ج 2:346.
2- عن ابن عباس. تفسير الطبري ج 7:85.
3- تفسير الطبري ج 7:87.

[سورة المائدة (5): الآیات 117 الی 118]

عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبٰادُكَ وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ

المعنى: إِذْ يقول اَللّٰهَ يوم القيامة: يٰا عِيسىٰ و هو استفهام يراد به التقريع لمن ادّعى ذلك عليه من النصارى، واستعظام لذلك القول.

سُبْحٰانَكَ من أن يكون لك شريك.

مٰا يَكُونُ لِي ما ينبغي لي أَنْ أَقُولَ قولا لا يحقّ لي أن أقوله وأنا عبد مثلهم، وإنّما تحقّ العبادة لك وحدك.

تَعْلَمُ مٰا فِي نَفْسِي أي: في قلبي، والمعنى: تعلم معلومي ولا أعلم معلومك، وإنّما قال: فِي نَفْسِكَ سلوكا بالكلام طريق المشاكلة.

إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّٰمُ اَلْغُيُوبِ تقرير للجملتين معا، لأنّ ما انطوت عليه النفوس من جملة الغيوب، ولا ينتهي علم أحد إلي ما يعلمه سبحانه.

أَنِ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ هي (أن) المفسّرة، ومعناه: ما أمرتهم إلا بما أمرتني به.

وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً أي: رقيبا كالشاهد علي المشهود عليه أمنعهم من أن يقولوا ذلك ويعتقدوه.

فَلَمّٰا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ اَلرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ تمنعهم من القول به بما نصبت لهم من الأدلة، وأرسلت إليهم من الرسل.

إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبٰادُكَ الذين عرفتهم عاصين مكذّبين لرسلك منكرين بيّناتك.

وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ القادر علي العقاب والثواب.

اَلْحَكِيمُ الذي لا يفعلهما إلا عن حكمة وصواب. والمعنى: إن غفرت

ص: 84

لهم مع كفرهم فالمغفرة حسنة في العقل لكل مجرم، وكلما كان الجرم أعظم فالعفو عنه أحسن.

[سورة المائدة (5): الآیات 119 الی 120]

قٰالَ اَللّٰهُ هٰذٰا يَوْمُ يَنْفَعُ اَلصّٰادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنّٰاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا أَبَداً رَضِيَ اَللّٰهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ذٰلِكَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ لِلّٰهِ مُلْكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مٰا فِيهِنَّ وَ هُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ

هٰذٰا يَوْمُ بالرفع والإضافة، وبالنصب: إما على أنّه ظرف ل - قٰالَ وإما علي أن هٰذٰا مبتدأ والظرف خبر. والمعنى: هذا الذي ذكرناه من كلام عيسى واقع يوم يَنْفَعُ ، ولا يجوز أن يكون فتحا كقوله تعالى: يَوْمَ لاٰ تَمْلِكُ (1) لأنّه مضاف إلى متمكّن. والمعنى: يَنْفَعُ اَلصّٰادِقِينَ ما صدقوا فيه في دار التكليف، وقيل: تصديقهم لأنبياء اللّه وكتبه(2)، وقيل: صدقهم في الشهادة لأنبيائهم بالبلاغ(3).

لِلّٰهِ مُلْكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ نزّه سبحانه نفسه عن قول النصاري، وإنّما قال: وَ مٰا فِيهِنَّ ولم يقل: (ومن فيهن) تغليبا للعقلاء، لأنّ (ما) يتناول الأجناس كلها تناولا عاما، فلو أبصرت شخصا من بعيد قلت: ما هو؟ قبل أن تعرف أمن العقلاء هو أو من غيرهم، فكان لفظة (ما) بإرادة العموم أولى.

ص: 85


1- الانفطار: 19.
2- تفسير الماوردي ج 2:90.
3- تفسير الماوردي ج 2:90.

سورة الأنعام

اشارة

مكية غير آيات ست، وهي مائة وخمس وستون آية كوفي، ست بصري، لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ كوفي، كُنْ فَيَكُونُ و إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ غيرهم.

وفي حديث أبيّ : (أنزلت عليّ (الأنعام) جملة واحدة يشيّعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد، فمن قرأها صلّي عليه أولئك السبعون ألف ملك بعدد كل آية من الأنعام يوما وليلة)(1). وروي الحسين بن خالد(2) عن الرضا عليه السلام مثل ذلك، إلا أنّه قال: (سبّحوا له إلى يوم القيامة)(3).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة الأنعام (6): الآیات 1 الی 2]

اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ جَعَلَ اَلظُّلُمٰاتِ وَ اَلنُّورَ ثُمَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضىٰ أَجَلاً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ

جَعَلَ اَلظُّلُمٰاتِ وَ اَلنُّورَ أي: أنشأهما وأحدثهما، والفرق بين الخلق والجعل:

ص: 86


1- الكشف والبيان ج 4:131.
2- الحسين بن خالد الصيرفي من أصحاب الرضا عليه السلام، وعدّه البرقي من أصحاب الامام الكاظم عليه السلام. ينظر: معجم رجال الحديث ج 5:232.
3- تفسير القمي ج 1:193.

أنّ الخلق فيه معنى التقدير، والجعل فيه معنى التصيير كإنشاء شيء من شيء، أو تصيير شيء شيئا، أو نقله من مكان إلى مكان، ومن ذلك: وَ جَعَلَ مِنْهٰا زَوْجَهٰا (1)، وَ جَعَلَ اَلظُّلُمٰاتِ وَ اَلنُّورَ ، و جَعَلَكُمْ أَزْوٰاجاً (2). والمعنى: إنّه خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ وما اشتملا عليه من أجناس المخلوقات، وأنشأ الليل والنهار ومالا يقدر عليه سواه، ثم إنّهم يعدلون به مالا يقدر علي شيء منه. وهذا استبعاد لفعلهم.

وكذلك ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ استبعاد لأن يمتروا فيه بعد أن ثبت أنّه محييهم ومميتهم وباعثهم.

وقوله: ثُمَّ قَضىٰ أَجَلاً معناه: كتب وقدّر أجلا، يعني: أجل الموت، وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ أجل القيامة. وقيل: الأجل الأوّل ما بين أن يخلق إلى أن يموت، والثاني ما بين الموت والبعث(3).

[سورة الأنعام (6): الآیات 3 الی 5]

وَ هُوَ اَللّٰهُ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ فِي اَلْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ وَ يَعْلَمُ مٰا تَكْسِبُونَ وَ مٰا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيٰاتِ رَبِّهِمْ إِلاّٰ كٰانُوا عَنْهٰا مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمّٰا جٰاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبٰاءُ مٰا كٰانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ

فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ متعلّق بمعنى اسم اللّه، كأنّه قيل: وهو المعبود فيهما، ومثله قوله: وَ هُوَ اَلَّذِي فِي اَلسَّمٰاءِ إِلٰهٌ وَ فِي اَلْأَرْضِ إِلٰهٌ (4)، أو هو المعروف بالإلهية أو المتوحّد بالإلهية فيهما.

ص: 87


1- الأعراف: 189.
2- فاطر: 11.
3- عن الحسن. تفسير الطبري ج 7:94.
4- الزخرف: 84.

وعلي هذا فقوله: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ تقرير له، لأنّ من استوي في علمه السر والعلانية هو اللّه وحده.

ويجوز أن يكون هُوَ ضمير الشأن و اَللّٰهُ ... يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ مبتدأ وخبرا. و فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ يتعلّق ب - يعلم . ويجوز أن يكون فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ خبرا بعد خبر، علي معنى أنّه الله، وأنّه في السماوات والأرض، بمعنى أنّه عالم بما فيهما لا يخفى عليه شيء منه، فكأنّ ذاته فيهما؛ و يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ ، خبر ثالث، أو كلام مبتدأ بمعنى: هو يعلم سركم وجهركم.

وَ يَعْلَمُ مٰا تَكْسِبُونَ من الخير والشر ويثيب عليه ويعاقب.

و من في قوله: مِنْ آيَةٍ للاستغراق، وفي مِنْ آيٰاتِ رَبِّهِمْ للتبعيض، أي: وما يظهر لهم دليل من الدلائل التي يجب فيها النظر وبها يحصل الاعتبار إِلاّٰ كٰانُوا عَنْهٰا مُعْرِضِينَ لا يلتفتون إليه ولا يستدلون به.

فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ الذي أتاهم به محمّد صلى الله عليه و آله و سلم وهو القران الذي تحدّوا به فعجزوا عنه.

فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أخبار الشيء الذي استهزؤوا به وهو القرآن، أي:

سيعلمون بأي شيء استهزؤوا في الآخرة أو في الدنيا.

[سورة الأنعام (6): آیة 6]

أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنٰا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنّٰاهُمْ فِي اَلْأَرْضِ مٰا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَ أَرْسَلْنَا اَلسَّمٰاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرٰاراً وَ جَعَلْنَا اَلْأَنْهٰارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنٰاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ أَنْشَأْنٰا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ

مكن له في الأرض: جعل له مكانا، ومكنه في الأرض: أثبته فيها، و منه

ص: 88

قوله تعالي: وَ لَقَدْ مَكَّنّٰاهُمْ فِيمٰا إِنْ مَكَّنّٰاكُمْ فِيهِ (1)، ولتقارب المعنيين جمع بينهما في قوله: مَكَّنّٰاهُمْ فِي اَلْأَرْضِ مٰا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ .

والمعني: أ لم ير كفار قريش كَمْ أَهْلَكْنٰا مِنْ أمة، وكل أمة مقترنة في وقت قرن، أعطيناهم من البسطة في الأجسام و السعة في الأموال ما لم نعطكم.

عدل عن الغيبة إلي الخطاب علي طريقة الالتفات.

وَ أَرْسَلْنَا اَلسَّمٰاءَ يعني: المطر هنا عَلَيْهِمْ مِدْرٰاراً مغزارا، والمراد به:

الغيث والبركة.

وَ أَنْشَأْنٰا و خلقنا من بعد هلاكهم أمة أخري. و فيه دلالة علي أنه سبحانه لا يتعاظمه أن يفني عالما و ينشئ عالما آخر كقوله: وَ لاٰ يَخٰافُ عُقْبٰاهٰا (2).

[سورة الأنعام (6): الآیات 7 الی 10]

وَ لَوْ نَزَّلْنٰا عَلَيْكَ كِتٰاباً فِي قِرْطٰاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقٰالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ سِحْرٌ مُبِينٌ وَ قٰالُوا لَوْ لاٰ أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَ لَوْ أَنْزَلْنٰا مَلَكاً لَقُضِيَ اَلْأَمْرُ ثُمَّ لاٰ يُنْظَرُونَ وَ لَوْ جَعَلْنٰاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنٰاهُ رَجُلاً وَ لَلَبَسْنٰا عَلَيْهِمْ مٰا يَلْبِسُونَ وَ لَقَدِ اُسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحٰاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مٰا كٰانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ

كِتٰاباً أي: مكتوبا.

فِي قِرْطٰاسٍ في صحيفة.

فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ ولم نقتصر بهم علي الرؤية والمعاينة لئلا يقولوا: سكّرت أبصرنا، لقالوا: إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ سِحْرٌ لعظم عنادهم وقسوة قلوبهم.

ص: 89


1- الأحقاف: 26.
2- الشمس: 15.

لَوْ لاٰ أُنْزِلَ أي: هلا أنزل على محمّد ملك نشاهده فنصدّقه.

وَ لَوْ أَنْزَلْنٰا مَلَكاً علي ما اقترحوا لَقُضِيَ اَلْأَمْرُ أي: لقضي أمر إهلاكهم ثُمَّ لاٰ يُنْظَرُونَ بعد نزوله طرفة عين، لأنّهم لا يؤمنون عند مشاهدة تلك الآية التي لا شيء أبين منها فتقتضي الحكمة استئصالهم.

وَ لَوْ جَعَلْنٰاهُ مَلَكاً أي: ولو جعلنا الرسول ملكا كما اقترحوه.

لَجَعَلْنٰاهُ رَجُلاً لأرسلناه في صورة رجل، كما كان ينزل جبرئيل علي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في أحوال في صورة دحية الكلبي(1).

وَ لَلَبَسْنٰا ولخلطنا عَلَيْهِمْ مٰا يخلطون علي أنفسهم حينئذ، فإنّهم يقولون إذا رأوا الملك في صورة رجل: هذا إنسان وليس بملك، وكذّبوه كما كذّبوا محمّدا صلى الله عليه و آله و سلم، فإذا فعلوا ذلك خذلوا كما أنّهم مخذولون اليوم، فهذا لبس اللّه عليهم.

وَ لَقَدِ اُسْتُهْزِئَ تسلية للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عما كان يلقاه من قومه.

فَحٰاقَ بهم فأحاط بهم الشيء الذي كانوا يستهزئون به وهو الحقّ حيث أهلكوا من أجل الاستهزاء به، وقيل: فأحاط بهم العذاب الذي يسخرون من وقوعه(2).

[سورة الأنعام (6): الآیات 11 الی 12]

قُلْ سِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ ثُمَّ اُنْظُرُوا كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلْمُكَذِّبِينَ قُلْ لِمَنْ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ قُلْ لِلّٰهِ كَتَبَ عَلىٰ نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلىٰ يَوْمِ اَلْقِيٰامَةِ لاٰ رَيْبَ فِيهِ

ص: 90


1- دحية بن خليفة بن فروة الكلبي، كان من كبار الصحابة، شهد أحدا وما بعدها من المشاهد، وهو رسول النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلى قيصر، بقي إلي زمن معاوية. ينظر: الاستيعاب ج 1:472.
2- عن السدي. تفسير الطبري ج 7:98.

[سورة الأنعام (6): الآیات 12 الی 13]

اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاٰ يُؤْمِنُونَ وَ لَهُ مٰا سَكَنَ فِي اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ

سِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ سافروا فيها ثُمَّ اُنْظُرُوا بأبصاركم وتفكروا بقلوبكم كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلْمُكَذِّبِينَ المستهزئين بالرسل من الأمم السالفة.

لِمَنْ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ سؤال تبكيت.

و قُلْ لِلّٰهِ تقرير لهم، أي: هو للّه لا خلاف بيني وبينكم في ذلك، ولا تقدرون أن تضيفوا شيئا منه إلى غيره.

كَتَبَ عَلىٰ نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ أي: أوجبها علي ذاته في هدايتكم إلى معرفته، ونصب الأدلة لكم علي توحيده بما أنتم تعترفون به من خلق السماوات والأرض، وقيل: أوجب الرحمة علي نفسه في إمهال عباده ليتداركوا ما فرط منهم ويتوبوا(1)، وقيل: كتب الرحمة لأمة محمّد صلى الله عليه و آله و سلم بأن لا يعذّبهم في الدنيا بعذاب الاستئصال بل يؤخرهم إلى يوم القيامة(2).

ثم فسّر الرحمة بقوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلىٰ يَوْمِ اَلْقِيٰامَةِ علي ما ذكرنا أنّ المراد به إمهال العاصي ليتوب أو تأخير عذابهم، وقيل: إنّه وعيد علي كفرهم وتركهم النظر، ومعناه: ليجمعن آخركم إلي أوّلكم قرنا بعد قرن إِلىٰ يَوْمِ اَلْقِيٰامَةِ فيجازيكم علي شرككم.

اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ قيل: هو بدل من الكاف والميم في لَيَجْمَعَنَّكُمْ ، وعلى هذا فلا يجوز الوقف علي لاٰ رَيْبَ فِيهِ . والصواب: الوقف والابتداء ب - اَلَّذِينَ خَسِرُوا وخبره فَهُمْ لاٰ يُؤْمِنُونَ . والمعنى: الذين خسروا أنفسهم

ص: 91


1- معاني القرآن وإعرابه ج 2:231.
2- تفسير ابن عباس ج 2:6.

لاختيارهم الكفر فهم لا يصدّقون بالحقّ .

و لَهُ عطف على لِلّٰهِ .

مٰا سَكَنَ وتمكن فِي اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ ذكر في الأوّل السماوات والأرض، وذكر هنا الليل والنهار، فالأوّل يجمع المكان والثاني يجمع الزمان، وهما ظرفان لجميع الموجودات من الأجسام والأعراض. فالمراد بالسكون هنا الحلول والسكنى.

[سورة الأنعام (6): الآیات 14 الی 16]

قُلْ أَ غَيْرَ اَللّٰهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فٰاطِرِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ هُوَ يُطْعِمُ وَ لاٰ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَ لاٰ تَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنِّي أَخٰافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذٰابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَ ذٰلِكَ اَلْفَوْزُ اَلْمُبِينُ

الإنكار في اتخاذ غير اللّه وليا لا في اتخاذ الولي، فلذلك أولاه همزة الاستفهام دون الفعل الذي هو أَتَّخِذُ ونحوه: قُلْ أَ فَغَيْرَ اَللّٰهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا اَلْجٰاهِلُونَ (1).

فٰاطِرِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ أي: منشئهما وخالقهما من غير احتذاء علي مثال.

وَ هُوَ يُطْعِمُ وَ لاٰ يُطْعَمُ أي: وهو يرزق ولا يرزق. والمعنى: إنّ المنافع كلها من عنده، ولا يجوز عليه الانتفاع.

قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أي: أمرني ربّي أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ لأنّ النبيّ

ص: 92


1- الزمر: 64.

سابق أمّته في الإسلام، كقوله: وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُسْلِمِينَ (1).

وَ لاٰ تَكُونَنَّ أي: وقيل لي: وَ لاٰ تَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ أي: أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك.

مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ العذاب يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ اللّه الرحمة العظمى وهي النجاة، كما تقول: من أطعمته من جوع فقد أحسنت إليه، تريد فقد أتممت الإحسان إليه. أو فقد أثابه وأدخله الجنّة، لأنّ من لم يعذّب فلابد أن يثاب. وقرئ:

من يصرف عنه - على البناء للفاعل -. والمعنى: من يصرف اللّه عنه في ذلك اليوم أي: من يدفع اللّه عنه ويحفظه، وترك ذكر المصروف وهو العذاب، لكونه معلوما ومذكورا قبله.

[سورة الأنعام (6): الآیات 17 الی 20]

وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اَللّٰهُ بِضُرٍّ فَلاٰ كٰاشِفَ لَهُ إِلاّٰ هُوَ وَ إِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ وَ هُوَ اَلْقٰاهِرُ فَوْقَ عِبٰادِهِ وَ هُوَ اَلْحَكِيمُ اَلْخَبِيرُ قُلْ أَيُّ شَيْ ءٍ أَكْبَرُ شَهٰادَةً قُلِ اَللّٰهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هٰذَا اَلْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ أَ إِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اَللّٰهِ آلِهَةً أُخْرىٰ قُلْ لاٰ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمٰا هُوَ إِلٰهٌ وٰاحِدٌ وَ إِنَّنِي بَرِيءٌ مِمّٰا تُشْرِكُونَ اَلَّذِينَ آتَيْنٰاهُمُ اَلْكِتٰابَ يَعْرِفُونَهُ كَمٰا يَعْرِفُونَ أَبْنٰاءَهُمُ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاٰ يُؤْمِنُونَ

إِنْ يَمْسَسْكَ اَللّٰهُ بِضُرٍّ من مرض أو فقر أو مكروه فَلاٰ قادر علي كشفه إِلاّٰ هُوَ وَ إِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ من صحة أو غنى فَهُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ يقدر علي إدامته وإزالته.

ص: 93


1- الأنعام: 163.

وَ هُوَ اَلْقٰاهِرُ فَوْقَ عِبٰادِهِ هذا تصوير للقهر والعلو بالغلبة والقدرة، كقوله: وَ إِنّٰا فَوْقَهُمْ قٰاهِرُونَ (1) يريد أنّهم تحت تسخيره وتذليله.

و اَلْخَبِيرُ العالم بكل ما يصح أن يخبر به.

والشيء أعم العام لوقوعه علي كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه.

قُلْ أَيُّ شَيْ ءٍ أعظم شَهٰادَةً وأصدق.

قُلِ اَللّٰهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ يشهد لي بالنبوة وبتبليغ الرسالة إليكم وتكذيبكم إيّاي.

وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هٰذَا اَلْقُرْآنُ حجّة ودلالة على صدقي.

لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ لأخوّفكم به من عذاب اللّه.

وَ مَنْ بَلَغَ أي: ولأنذر به من بلغه إلى يوم القيامة. وروي عنهم عليهم السلام أنّ المعنى: (ومن بلغ أن يكون إماما من آل محمّد فهو ينذر - أيضا - بالقرآن)(2).

أَ إِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ استفهام إنكاري، أي: كيف تشهدون أَنَّ مَعَ اَللّٰهِ آلِهَةً أُخْرىٰ بعد قيام الحجّة بوحدانية اللّه تعالى ؟! قُلْ لاٰ أَشْهَدُ بإثبات الشريك له.

قُلْ إِنَّمٰا هُوَ إِلٰهٌ وٰاحِدٌ وَ إِنَّنِي بَرِيءٌ مِمّٰا تُشْرِكُونَ به من الأوثان وغيرها. وهذه شهادة بالوحدانية، وبراءة من كل دين يؤدي إلي الشرك.

[سورة الأنعام (6): الآیات 21 الی 22]

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرىٰ عَلَى اَللّٰهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيٰاتِهِ إِنَّهُ لاٰ يُفْلِحُ اَلظّٰالِمُونَ وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ

ص: 94


1- الأعراف: 127.
2- تفسير العياشي ج 1:356.

[سورة الأنعام (6): الآیات 22 الی 24]

شُرَكٰاؤُكُمُ اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاّٰ أَنْ قٰالُوا وَ اَللّٰهِ رَبِّنٰا مٰا كُنّٰا مُشْرِكِينَ اُنْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مٰا كٰانُوا يَفْتَرُونَ

وقرئ: ويوم يحشرهم، ثم يقول - با لياء - أي: يحشرهم اللّه.

أَيْنَ شُرَكٰاؤُكُمُ اَلَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أنّها تنفعكم، وأضيف الشركاء إليهم لأنّهم اتخذوها لأنفسهم.

ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ أي: كفرهم، أي: لم تكن عاقبة كفرهم وشركهم إلا جحوده والتبرؤ منه، والحلف علي الانتفاء منه. وقيل: معناه: لم تكن معذرتهم حين وبّخوا بشركهم، أو لم يكن جوابهم حين سئلوا واختبر ما عندهم بالسؤال إلا هذا القول(1). وقرئ: لم تكن - بالتاء - وفتنتهم - با لنصب -.

وإنّما أنث أَنْ قٰالُوا لوقوع الخبر مؤنثا كقولهم: من كانت أمّك، وقرئ بالياء ونصب الفتنة. وقرئ بالتاء ورفع الفتنة، وقرئ: ربّنا - بالنصب - علي الدعاء و النداء.

وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مٰا كٰانُوا يَفْتَرُونَ أي: يفترون إلهيته وشفاعته، وإنّما يصح وقوع الكذب منهم مع اطلاعهم علي حقائق الأمور ومعارفهم الضرورية، لما يلحقهم من الدهش والحيرة من أهوال ذلك اليوم وشدائده، والمبتلى قد ينطق بما لا ينفعه من غير روية وفكر في عاقبة.

[سورة الأنعام (6): آیة 25]

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَ جَعَلْنٰا عَلىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذٰانِهِمْ وَقْراً وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاٰ يُؤْمِنُوا بِهٰا حَتّٰى إِذٰا جٰاؤُكَ يُجٰادِلُونَكَ

ص: 95


1- عن قتادة. تفسير الطبري ج 7:106.

[سورة الأنعام (6): الآیات 25 الی 26]

يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ أَسٰاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ وَ إِنْ يُهْلِكُونَ إِلاّٰ أَنْفُسَهُمْ وَ مٰا يَشْعُرُونَ

روي أنّه اجتمع الوليد بن المغيرة وأبو جهل وأبو سفيان والنضر وعتبة وشيبة وأضرابهم يستمعون تلاوة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فقالوا للنضر: يا أبا قتيلة ما يقول محمّد؟ فقال: والذي جعلها بيته - يعني الكعبة - ما أدري ما يقول، إلا أنّه يحرّك لسانه ويقول أساطير الأوّلين مثل ما حدّثتكم، وقال أبو سفيان: لا، أراه حقّا، فقال أبو جهل: كلا، فنزلت(1).

والأكنة علي القلوب والوقر في الآذان، مثل في نبوّ(2) قلوبهم وأسماعهم عن قبوله.

وأسند الفعل إلى نفسه في قوله: وَ جَعَلْنٰا ليدلّ علي أنّه أمر ثابت مستقر فيهم كأنّهم مجبولون عليه، أو هو حكاية لما كانوا ينطقون به من قولهم: وَ فِي آذٰانِنٰا وَقْرٌ وَ مِنْ بَيْنِنٰا وَ بَيْنِكَ حِجٰابٌ (3).

و يُجٰادِلُونَكَ في موضع الحال، و يَقُولُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا تفسير لجدالهم.

والمعنى: إنّه بلغ تكذيبهم با لآيات إلى أنّهم يجادلونك ويناكرونك، ويجعلون كلام اللّه الذي هو أصدق الحديث أكاذيب وخرافات، وهي الغاية في التكذيب.

وَ هُمْ يَنْهَوْنَ الناس عن القرآن، أو عن الرسول واتباعه، ويثبطونهم عن التصديق به.

ص: 96


1- أسباب النزول: 147 باختصار.
2- النبوّ: التجافي والتباعد. (الصحاح: مادة نبا)
3- فصلت: 5.

وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ بأنفسهم فيضلّون ويضلّون.

وما يُهْلِكُونَ إِلاّٰ أَنْفُسَهُمْ ولا يتعدي ضررهم إلى غيرهم وإن ظنوا أنّهم يضرّون رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

[سورة الأنعام (6): الآیات 27 الی 28]

وَ لَوْ تَرىٰ إِذْ وُقِفُوا عَلَى اَلنّٰارِ فَقٰالُوا يٰا لَيْتَنٰا نُرَدُّ وَ لاٰ نُكَذِّبَ بِآيٰاتِ رَبِّنٰا وَ نَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدٰا لَهُمْ مٰا كٰانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَ لَوْ رُدُّوا لَعٰادُوا لِمٰا نُهُوا عَنْهُ وَ إِنَّهُمْ لَكٰاذِبُونَ

جواب لَوْ تَرىٰ محذوف، وا لتقدير: لرأيت أمرا فظيعا. و المعنى: ولو تري إذ أطلعوا علي النار حتى يعاينوها، أو أدخلوها فعرفوا مقدار عذابها، من قولك:

وقفته علي كذا: إذا عرفته وفهمته، فَقٰالُوا يٰا لَيْتَنٰا نُرَدُّ تم هنا تمنيهم.

ثم ابتدأوا وَ لاٰ نُكَذِّبَ [أي: ونحن لا نكذّب](1)بِآيٰاتِ رَبِّنٰا ونؤمن.

ويجوز أن يكون معطوفا علي نُرَدُّ ، أو حالا علي معنى: يا ليتنا نردّ غير مكذّبين وكائنين من المؤمنين، فيدخل تحت حكم التمنّي. وقرئ: ولا نكذّب ونكون - بالنصب - بإضمار (أن) علي جواب التمنّي، ومعناه: إن رددنا لم نكذّب ونكن من المؤمنين.

بَلْ بَدٰا لَهُمْ مٰا كٰانُوا يُخْفُونَ من الناس من قبائحهم و فضائحهم في صحفهم وبشهادة جوارحهم عليهم، فلذلك تمنّوا ما تمنّوا ضجرا، لا أنّهم عازمون على أنّهم لو ردّوا لآمنوا، بل لَوْ رُدُّوا إلي الدنيا لَعٰادُوا لِمٰا نُهُوا عَنْهُ من الكفر.

وَ إِنَّهُمْ لَكٰاذِبُونَ فيما وعدوا من أنفسهم لا يوفون به.

[سورة الأنعام (6): الآیات 29 الی 30]

وَ قٰالُوا إِنْ هِيَ إِلاّٰ حَيٰاتُنَا اَلدُّنْيٰا وَ مٰا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وَ لَوْ تَرىٰ إِذْ

ص: 97


1- ساقطة من ج.

[سورة الأنعام (6): آیة 30]

وُقِفُوا عَلىٰ رَبِّهِمْ قٰالَ أَ لَيْسَ هٰذٰا بِالْحَقِّ قٰالُوا بَلىٰ وَ رَبِّنٰا قٰالَ فَذُوقُوا اَلْعَذٰابَ بِمٰا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ

وَ قٰالُوا عطف علي قوله: لَعٰادُوا أي: ولو ردّوا لكفروا وقالوا: ما هِيَ إِلاّٰ حَيٰاتُنَا اَلدُّنْيٰا كما كانوا يقولونه قبل معاينة القيامة، أو عطف علي قوله:

وَ إِنَّهُمْ لَكٰاذِبُونَ [أي: وهم كاذبون](1) في كل شيء، وهم الذين قالوا ذلك.

وَ لَوْ تَرىٰ إِذْ وُقِفُوا عَلىٰ رَبِّهِمْ للتوبيخ والسؤال كما يوقف العبد الجاني بين يدي مولاه. وقيل: وقفوا علي جزاء ربّهم(2)، وقيل: عرفوه حقّ التعريف(3) كما يقال: وقفته علي كلام فلان، أي: عرفته إيّاه.

قٰالَ أَ لَيْسَ هٰذٰا بِالْحَقِّ هذا تعيير من اللّه لهم علي تكذيبهم بالبعث.

بِمٰا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي: بكفركم.

[سورة الأنعام (6): الآیات 31 الی 32]

قَدْ خَسِرَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقٰاءِ اَللّٰهِ حَتّٰى إِذٰا جٰاءَتْهُمُ اَلسّٰاعَةُ بَغْتَةً قٰالُوا يٰا حَسْرَتَنٰا عَلىٰ مٰا فَرَّطْنٰا فِيهٰا وَ هُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزٰارَهُمْ عَلىٰ ظُهُورِهِمْ أَلاٰ سٰاءَ مٰا يَزِرُونَ وَ مَا اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا إِلاّٰ لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ لَلدّٰارُ اَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَ فَلاٰ تَعْقِلُونَ

كَذَّبُوا بِلِقٰاءِ اَللّٰهِ ببلوغ الآخرة وما يتصل بها من الجزاء، و حَتّٰى غاية ل - كَذَّبُوا أي: دام تكذيبهم إلي حسرتهم وقت مجيء الساعة.

بَغْتَةً أي: فجأة، و انتصابها علي الحال بمعنى: باغتة، أو علي المصدر

ص: 98


1- ساقطة من ط.
2- التبيان ج 4:120.
3- التبيان ج 4:121.

بمعنى: بغتتهم بغتة.

فَرَّطْنٰا فِيهٰا الضمير للحياة الدنيا وإن لم يجر لها ذكر للعلم بها، أو للساعة علي معنى: قصّرنا في شأنها، نحو قوله: فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اَللّٰهِ (1).

وَ هُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزٰارَهُمْ عَلىٰ ظُهُورِهِمْ هو مثل قوله: فَبِمٰا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ (2)، لأنّ الأثقال تحمل علي الظهور في العادة، كما أنّ الكسب يكون بالأيدي.

سٰاءَ مٰا يَزِرُونَ أي: بئس شيئا يزرون وزرهم، حذف المخصوص بالذم.

وجعل سبحانه أعمال الدنيا لعبا ولهوا، لأنّها لا تجدي ولا تعقب نفعا كما تعقب أعمال الآخرة المنافع العظيمة، وقرئ: ولدار الآخرة، وتقديره: ولدار الساعة الآخرة، لأنّ الشيء لا يضاف إلى نفسه.

وقوله: لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ دليل علي أنّ ما سوي أعمال المتقين لعب و لهو.

[سورة الأنعام (6): الآیات 33 الی 34]

قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ اَلَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاٰ يُكَذِّبُونَكَ وَ لٰكِنَّ اَلظّٰالِمِينَ بِآيٰاتِ اَللّٰهِ يَجْحَدُونَ وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلىٰ مٰا كُذِّبُوا وَ أُوذُوا حَتّٰى أَتٰاهُمْ نَصْرُنٰا وَ لاٰ مُبَدِّلَ لِكَلِمٰاتِ اَللّٰهِ وَ لَقَدْ جٰاءَكَ مِنْ نَبَإِ اَلْمُرْسَلِينَ

قَدْ هاهنا بمنزلة (ربّما) الذي يجيء لزيادة الفعل وكثرته، و الهاء في إنه ضمير الشأن.

و لَيَحْزُنُكَ قرئ بفتح الياء وضم الزاي، وبضم الياء وكسر الزاي.

و اَلَّذِي يَقُولُونَ هو قولهم: شاعر مجنون، وساحر كذاب.

ص: 99


1- الزمر: 56.
2- الشورى: 30.

فَإِنَّهُمْ لاٰ يُكَذِّبُونَكَ قرئ بالتشديد والتخفيف، من كذّبه: إذا جعله كاذبا، و أكذبه: إذا وجده كاذبا، والمعنى: إنّهم لا يكذّبونك في الحقيقة، وإنّما يكذّبون اللّه لأنّك رسوله المصدق بالمعجزات، فتكذيبك راجع إليه و إلى جحود آياته، وهذا تسلية له عليه السلام. وقيل: معناه: فإنّهم لا يكذّبونك بقلوبهم ولكنهم يجحدون بألسنتهم(1) كقوله تعالى: وَ جَحَدُوا بِهٰا وَ اِسْتَيْقَنَتْهٰا أَنْفُسُهُمْ (2).

وَ لٰكِنَّ اَلظّٰالِمِينَ أقام الظاهر مقام الضمير ليدلّ علي أنّهم ظلموا في جحودهم بِآيٰاتِ اَللّٰهِ ، وعن علي عليه السلام أنّه قرئ عنده: لاٰ يُكَذِّبُونَكَ فقال:

(بلى واللّه فقد كذّبوه، ولكن لا يكذبونك: لا يأتون بحقّ أحقّ من حقّك)(3).

وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ تسلية أيضا.

فَصَبَرُوا عَلىٰ مٰا كُذِّبُوا وَ أُوذُوا أي: علي تكذيبهم و إيذائهم حَتّٰى جاءهم نَصْرُنٰا إيّاهم علي المكذّبين.

وَ لاٰ مُبَدِّلَ لِكَلِمٰاتِ اَللّٰهِ أي: لمواعيده من قوله: وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنٰا لِعِبٰادِنَا اَلْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ اَلْمَنْصُورُونَ (4).

وَ لَقَدْ جٰاءَكَ مِنْ نَبَإِ اَلْمُرْسَلِينَ أي: بعض أنبائهم و قصصهم وما كابدوا من قومهم.

[سورة الأنعام (6): آیة 35]

وَ إِنْ كٰانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرٰاضُهُمْ فَإِنِ اِسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي اَلْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي اَلسَّمٰاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ لَجَمَعَهُمْ

ص: 100


1- عن قتادة. تفسير الطبري ج 7:115.
2- النمل: 14.
3- الكافي ج 8:200 باختلاف.
4- الصافات: 171، 172.

[سورة الأنعام (6): الآیات 35 الی 37]

عَلَى اَلْهُدىٰ فَلاٰ تَكُونَنَّ مِنَ اَلْجٰاهِلِينَ إِنَّمٰا يَسْتَجِيبُ اَلَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَ اَلْمَوْتىٰ يَبْعَثُهُمُ اَللّٰهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ وَ قٰالُوا لَوْ لاٰ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اَللّٰهَ قٰادِرٌ عَلىٰ أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ

كان يعظم علي النبي صلى الله عليه و آله و سلم إعراض قومه عن الإيمان وقبول دينه فنزلت(1)، ونحوه: فَلَعَلَّكَ بٰاخِعٌ نَفْسَكَ (2).

فَإِنِ اِسْتَطَعْتَ أي: إن قدرت وتهيأ لك إن تطلب نَفَقاً فِي اَلْأَرْضِ أي: سربا و منفذا تنفذ فيه إلى ما تحتها حتى تطلع لهم آية يؤمنون عندها.

أَوْ سُلَّماً فِي اَلسَّمٰاءِ فَتَأْتِيَهُمْ منها بِآيَةٍ [فافعل، أي: إنّك لا تستطيع ذلك، وحذف جواب (إن)، وقيل: فتأتيهم بآية](3) أفضل مما آتيناهم به، يريد أنّه لا آية أفضل منه(4).

وَ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى اَلْهُدىٰ بأن يأتيهم بآية ملجئة، ولكنه لا يفعل لخروجه عن الحكمة.

فَلاٰ تَكُونَنَّ مِنَ الذين يجهلون ذلك و يرومون ما هو خلافه.

إِنَّمٰا يَسْتَجِيبُ اَلَّذِينَ يَسْمَعُونَ والذين تحرص علي إيمانهم بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون، ثم وصف اَلْمَوْتىٰ بأنّه يَبْعَثُهُمُ من القبور يوم القيامة ويحكم فيهم.

ص: 101


1- الكشف والبيان ج 4:145 بالمعنى.
2- الكهف: 6.
3- ساقطة من ج.
4- عن ابن عباس. تفسير الطبري ج 7:117.

ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ فحينئذ يسمعون، وأما قبل ذلك فلا سبيل إلي إسماعهم.

وَ قٰالُوا لَوْ لاٰ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ تركوا الاعتداد بما نزل عليه من آيات اللّه والمعجزات مع كثرتها، كأنّه لم ينزل عليه شيء من الآيات عنادا منهم.

قُلْ إِنَّ اَللّٰهَ قٰادِرٌ عَلىٰ أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً تضطرهم إلى الإيمان كنتق الجبل علي بني إسرائيل ونحوه، أو آية إن جحدوها جاءهم العذاب.

وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ أنّه سبحانه يقدر عليه، وأنّ صارفا من الحكمة يصرف عنه.

[سورة الأنعام (6): الآیات 38 الی 39]

وَ مٰا مِنْ دَابَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ طٰائِرٍ يَطِيرُ بِجَنٰاحَيْهِ إِلاّٰ أُمَمٌ أَمْثٰالُكُمْ مٰا فَرَّطْنٰا فِي اَلْكِتٰابِ مِنْ شَيْ ءٍ ثُمَّ إِلىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا صُمٌّ وَ بُكْمٌ فِي اَلظُّلُمٰاتِ مَنْ يَشَأِ اَللّٰهُ يُضْلِلْهُ وَ مَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ

جمع بهذين القولين جميع الحيوانات، لأنّها لا تخلو من أن تكون مما يدبّ علي الأرض أو مما يطير.

إِلاّٰ أُمَمٌ أَمْثٰالُكُمْ مكتوبة أرزاقها و آجالها و أعمالها، كما كتبت أرزاقكم و آجالكم و أعمالكم، وقيل: أشباهكم في أنّ الله أبدعها، وفي دلالتها علي وحدانيته، وفي أنّهم يموتون و يحشرون.

مٰا فَرَّطْنٰا ما تركنا.

فِي اَلْكِتٰابِ أي: في اللوح المحفوظ.

مِنْ شَيْ ءٍ من ذلك لم نكتبه ولم نثبت ما وجب إثباته مما يختص به، وقيل:

المراد بالكتاب القرآن، لأنّه تعالي ذكر فيه جميع ما يحتاج إليه من أمور الدين و الدنيا،

ص: 102

إما مجملا وإما مفصلا(1).

ثُمَّ إِلىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ يعني الأمم كلها فيعوّضها و ينتصف لبعضها من بعض، وفيه دلالة علي عظم قدرته و لطف تدبيره في الخلائق المختلفة الأجناس وحفظه لما لها وعليها، وأنّ المكلفين لم يختصوا بذلك دون من سواهم.

ولما ذكر من خلائقه ما يشهد لربوبيته قال: وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا صُمٌّ أي:

صم لا يسمعون كلام المنبه.

وَ بُكْمٌ لا ينطقون بالحقّ ، خابطون في ظلمات الكفر، فهم غافلون عن تأمل ذلك.

و مَنْ يَشَأِ اَللّٰهُ يُضْلِلْهُ أي: يخذله ولا يلطف به، لأنه ليس من أهله.

وَ مَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ أي: يلطف به لأنّه من أهله.

[سورة الأنعام (6): الآیات 40 الی 41]

قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتٰاكُمْ عَذٰابُ اَللّٰهِ أَوْ أَتَتْكُمُ اَلسّٰاعَةُ أَ غَيْرَ اَللّٰهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ بَلْ إِيّٰاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مٰا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شٰاءَ وَ تَنْسَوْنَ مٰا تُشْرِكُونَ

أَ رَأَيْتَكُمْ معناه: أخبروني، و (كم) لا محلّ له من الإعراب، لأنّك تقول:

أرأيتك زيدا ما شأنه، فلو جعلت للكاف محلا لكنت كأنّك تقول: أرأيت نفسك زيدا ما شأنه، وذلك فاسد. والمعنى: أخبروني إِنْ أَتٰاكُمْ عَذٰابُ اَللّٰهِ في الدنيا أَوْ أَتَتْكُمُ القيامة من تدعون ؟، ثم بكّتهم بقوله: أَ غَيْرَ اَللّٰهِ تَدْعُونَ أي: أتخصّون آلهتكم بالدعوة كما هي عادتكم إذا أصابكم ضر، أم تخصّون اللّه دونها؟.

بَلْ إِيّٰاهُ تَدْعُونَ بل تخصّون اللّه بالدعاء دون الآلهة.

ص: 103


1- تفسير الماوردي ج 2:112.

فَيَكْشِفُ مٰا تَدْعُونَ إلى كشفه إِنْ شٰاءَ أن يتفضّل عليكم بكشفه.

وَ تَنْسَوْنَ مٰا تُشْرِكُونَ أي: و تتركون الهتكم ولا تذكرونها في ذلك الوقت.

[سورة الأنعام (6): الآیات 42 الی 45]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنٰا إِلىٰ أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنٰاهُمْ بِالْبَأْسٰاءِ وَ اَلضَّرّٰاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْ لاٰ إِذْ جٰاءَهُمْ بَأْسُنٰا تَضَرَّعُوا وَ لٰكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطٰانُ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ فَلَمّٰا نَسُوا مٰا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنٰا عَلَيْهِمْ أَبْوٰابَ كُلِّ شَيْ ءٍ حَتّٰى إِذٰا فَرِحُوا بِمٰا أُوتُوا أَخَذْنٰاهُمْ بَغْتَةً فَإِذٰا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دٰابِرُ اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا وَ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ

البأساء من البأس أو البؤس، والضرّاء من الضرّ، وقيل: البأساء: من القحط والجوع، والضرّاء: المرض ونقصان الأنفس وا لأموال(1). والمعنى: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنٰا إليهم الرسل فكذّبوهم.

فَأَخَذْنٰاهُمْ بالبليات في أنفسهم وأموالهم، لكي يتضرّعوا ويخضعوا ويتذللوا ويتوبوا عن ذنوبهم.

فَلَوْ لاٰ إِذْ جٰاءَهُمْ بَأْسُنٰا تَضَرَّعُوا معناه: نفي التضرّع، كأنّه قيل: فلم يتضرّعوا إذ جاءهم بأسنا، ولكنه جاء ب - لَوْ لاٰ ليدلّ علي أنّه لم يكن لهم عذر في ترك التضرّع إلا عنادهم وقسوة قلوبهم.

فَلَمّٰا نَسُوا مٰا ذُكِّرُوا بِهِ من البأساء والضراء، أي: تركوا الاتعاظ به.

فَتَحْنٰا عَلَيْهِمْ أَبْوٰابَ كُلِّ شَيْ ءٍ من الصحة والتوسعة في الرزق وأصناف النعم، كما يفعل الوالد البار بولده العاق يخاشنه تارة و يلاطفه أخري

ص: 104


1- عن ابن مسعود. تفسير الطبري ج 2:58.

طلبا لصلاحه.

حَتّٰى إِذٰا فَرِحُوا بِمٰا أُوتُوا من الخير و النعم، ولم يزيدوا إلا على البطر و الأشر، وما تصدّوا لتوبة ولا اعتذار.

أَخَذْنٰاهُمْ بَغْتَةً أي: مفاجأة من حيث لا يشعرون.

فَإِذٰا هُمْ مُبْلِسُونَ آيسون من النجاة والرحمة، وقيل: متحيّرون منقطعو الحجة(1).

فَقُطِعَ دٰابِرُ اَلْقَوْمِ أي: اخرهم لم يترك منهم أحد، و استؤصلت شأفتهم بالعذاب فلم يبق لهم عقب و لا نسل.

وَ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ علي إهلاك أعدائه و إعلاء كلمته. وهذا إيذان بوجوب الحمد للّه عند هلاك الظلمة، وأنّه من أجلّ النعم.

[سورة الأنعام (6): الآیات 46 الی 49]

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اَللّٰهُ سَمْعَكُمْ وَ أَبْصٰارَكُمْ وَ خَتَمَ عَلىٰ قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلٰهٌ غَيْرُ اَللّٰهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ اُنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ اَلْآيٰاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتٰاكُمْ عَذٰابُ اَللّٰهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلظّٰالِمُونَ وَ مٰا نُرْسِلُ اَلْمُرْسَلِينَ إِلاّٰ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَ أَصْلَحَ فَلاٰ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاٰ هُمْ يَحْزَنُونَ وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا يَمَسُّهُمُ اَلْعَذٰابُ بِمٰا كٰانُوا يَفْسُقُونَ

إِنْ أَخَذَ اَللّٰهُ سَمْعَكُمْ وَ أَبْصٰارَكُمْ بأن يصمّكم و يعميكم.

وَ خَتَمَ عَلىٰ قُلُوبِكُمْ بأن يغطي عليها ما يذهب عقلكم و يسلب تمييزكم.

ص: 105


1- تفسير الطبري ج 7:124.

مَنْ إِلٰهٌ غَيْرُ اَللّٰهِ يَأْتِيكُمْ بما أخذ منكم و ختم عليه، أو أراد يأتيكم بذاك، فوضع الهاء موضع اسم الإشارة.

اُنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ اَلْآيٰاتِ أي: نوجهها في الجهات التي نظهرها أتم الإظهار، مرة في جهة النعمة ومرة في جهة الشدة.

ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ أي: يعرضون عنها بعد ظهورها.

وإنّما قابل البغتة بالجهرة لما في البغتة من معنى الخفية، وهو وقوع الأمر من غير أن يشعر به و تظهر إماراته، وعن الحسن: (ليلا أو نهارا)(1).

هَلْ يُهْلَكُ أي: ما يهلك هلاك تعذيب وسخط.

إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلظّٰالِمُونَ الذين ظلموا بكفرهم و فسادهم.

إِلاّٰ مُبَشِّرِينَ من آمن بهم وبما جاءوا به وَ مُنْذِرِينَ من عصاهم و كذّبهم.

يَمَسُّهُمُ اَلْعَذٰابُ جعل العذاب ماسّا، كأنّه حي يفعل بهم ما يريد من الآلام، ونحوه: إِذٰا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكٰانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهٰا تَغَيُّظاً وَ زَفِيراً (2).

[سورة الأنعام (6): آیة 50]

قُلْ لاٰ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزٰائِنُ اَللّٰهِ وَ لاٰ أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ وَ لاٰ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّٰ مٰا يُوحىٰ إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي اَلْأَعْمىٰ وَ اَلْبَصِيرُ أَ فَلاٰ تَتَفَكَّرُونَ

أي: لا أدعي ملك خَزٰائِنُ رحمة اَللّٰهِ وَ لاٰ أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ الذي يختص اللّه بعلمه، وإنّما أعلم منه ما يعلّمني اللّه و يخصّني به.

ص: 106


1- معالم التنزيل ج 1:316.
2- الفرقان: 12.

وَ لاٰ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ لأنّي إنسان تعرفون نسبي، لا أقدر علي ما يقدر عليه الملك.

إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّٰ مٰا يُوحىٰ إِلَيَّ أي: ما أنبئكم بما كان فيما مضى وبما يكون فيما يستقبل إلا بالوحي.

قُلْ هَلْ يَسْتَوِي اَلْأَعْمىٰ وَ اَلْبَصِيرُ أي: الضال و المهتدي.

أَ فَلاٰ تَتَفَكَّرُونَ فلا تكونوا ضالين أشباه العميان و تنصفوا من أنفسكم.

[سورة الأنعام (6): الآیات 51 الی 52]

وَ أَنْذِرْ بِهِ اَلَّذِينَ يَخٰافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلىٰ رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَ لاٰ شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَ لاٰ تَطْرُدِ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدٰاةِ وَ اَلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مٰا عَلَيْكَ مِنْ حِسٰابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ وَ مٰا مِنْ حِسٰابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ اَلظّٰالِمِينَ

وَ أَنْذِرْ بِهِ الضمير يرجع إلي مٰا يُوحىٰ .

و اَلَّذِينَ يَخٰافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلىٰ رَبِّهِمْ الذين يعترفون بالبعث و الحشر.

الصادق عليه السلام: (أنذر بالقرآن الذين يرجون الوصول إلى ربّهم، ترغّبهم فيما عنده، فإنّ القرآن شافع مشفع)(1).

لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ أي: من دون اللّه وَلِيٌّ وَ لاٰ شَفِيعٌ فإنّ شفاعة الشافعين من الأنبياء والمؤمنين تكون بإذن اللّه فهي راجعة إليه سبحانه. علي أنّ هذه الجملة في موضع الحال من يُحْشَرُوا والمعنى: يخافون أن يحشروا غير منصورين ولا مشفوعا لهم، ولابد من هذه الحال، لأنّ كل الناس محشور، فالمخوف إنّما هو

ص: 107


1- مجمع البيان ج 3-4:304.

الحشر علي هذه الحال.

ثم ذكر سبحانه المتقين وأمر بتقديمهم و تقريبهم، فقال: وَ لاٰ تَطْرُدِ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ و يعبد ونه.

بِالْغَدٰاةِ وَ اَلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ يطلبون ثوابه ويبتغون مرضاته. والوجه يعبّر به عن ذات الشيء و حقيقته. روي: أنّ رؤساء قريش قالوا لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:

لو طردت هؤلاء الأعبد - يعنون فقراء المؤمنين - جلسنا إليك، فقال عليه السلام: ما أنا بطارد المؤمنين، قالوا: فأقمهم عنا إذا جئنا، قال: نعم، طمعا في إيمانهم(1).

مٰا عَلَيْكَ مِنْ حِسٰابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ كقوله: إِنْ حِسٰابُهُمْ إِلاّٰ عَلىٰ رَبِّي (2)، وذلك أنّهم طعنوا في دينهم وإخلاصهم. والمعنى: ولو كان الأمر كما يقولون عند اللّه فما عليك إلا اعتبار الظاهر، وإن كان باطنهم غير مرضي فحسابهم عليهم لا يتعدّاهم إليك، كما أنّ حسابك لا يتعدّاك إليهم، كقوله: وَ لاٰ تَزِرُ وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ (3). وقيل: إنّ الضمير للمشركين(4). والمعنى: لا يؤاخذون بحسابك ولا أنت تؤاخذ بحسابهم حتى يهمك إيمانهم، و يجرّك الحرص عليه إلي أن تطرد المؤمنين.

و قوله: فَتَطْرُدَهُمْ جواب النفي، و فَتَكُونَ جواب النهي، و يجوز أن يكون عطفا علي فَتَطْرُدَهُمْ علي وجه التسبيب، لأنّ كونه ظالما مسبب عن طردهم. وقرئ: بالغدوة و العشي.

ص: 108


1- أسباب النزول: 149.
2- الشعراء: 113.
3- الأنعام: 164.
4- عن الحسن. تفسير الماوردي ج 2:118.

[سورة الأنعام (6): الآیات 53 الی 55]

وَ كَذٰلِكَ فَتَنّٰا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَ هٰؤُلاٰءِ مَنَّ اَللّٰهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنٰا أَ لَيْسَ اَللّٰهُ بِأَعْلَمَ بِالشّٰاكِرِينَ وَ إِذٰا جٰاءَكَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيٰاتِنٰا فَقُلْ سَلاٰمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلىٰ نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهٰالَةٍ ثُمَّ تٰابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَ كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ اَلْآيٰاتِ وَ لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ اَلْمُجْرِمِينَ

أي: ومثل ذلك الفتن العظيم فَتَنّٰا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ أي: ابتليناهم بهم، وذلك أنّ المشركين قالوا: أَ هٰؤُلاٰءِ يعنون المسلمين.

مَنَّ اَللّٰهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنٰا أي: أنعم اللّه عليهم بالتوفيق لإصابة الحقّ من دوننا ونحن الرؤساء والأشراف وهم العبيد و الأنذال، إنكارا لأن يكون أمثالهم علي الحقّ ، ونحوه: لَوْ كٰانَ خَيْراً مٰا سَبَقُونٰا إِلَيْهِ (1). ومعنى فتنّاهم: خذلناهم فافتتنوا حتى كان افتتانهم سببا لهذا القول، لأنه لا يقول مثل هذا القول إلا مفتون مخذول.

أَ لَيْسَ اَللّٰهُ بِأَعْلَمَ بِالشّٰاكِرِينَ أي: اللّه أعلم بمن يقع منه الإيمان والشكر فيوفقه للإيمان، ومن صمم علي كفره يخذله ويمنعه التوفيق.

فَقُلْ سَلاٰمٌ عَلَيْكُمْ هو أمر بتبليغ سلام اللّه إليهم، أو أمر بأن يبدأهم بالسلام تبجيلا لهم، وكذلك قوله: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلىٰ نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ من جملة ما يقول لهم ليسرّوا. وقرئ: إنّه، و أنّه بالكسر علي الاستئناف كأنّه تفسير للرحمة، وبالفتح علي الإبدال من الرحمة.

ص: 109


1- الأحقاف: 11.

بِجَهٰالَةٍ في موضع الحال، أي: عمله وهو جاهل، بمعنى: إنّه عمل عمل الجاهلين، لأنّ من عمل ما يستوبل عاقبته عالما بذلك فهو من أهل الجهل، ويجوز أن يراد عمله جاهلا بما يتبعه من الضرر و المكروه، ومن كان حكيما لم يقدم علي فعل شيء حتى يعلم حاله.

وقرئ: وَ لِتَسْتَبِينَ بالتاء والياء مع رفع سَبِيلُ لأنّها تذكّر و تؤنّث، و بالتاء على خطاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم ونصب السبيل، يقال: استبان الأمر وتبين و استبنته و تبينته. والمعنى: ومثل ذلك التفصيل البين نُفَصِّلُ آيات القرآن في صفة أحوال من لا يرجى إسلامه، و من يرى فيه أمارات القبول وتباشير الإيمان، و لتستوضح سبيلهم فتعامل كلا منهم بما يجب أن يعامل به؛ فصلنا ذلك التفصيل.

[سورة الأنعام (6): الآیات 56 الی 58]

قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ قُلْ لاٰ أَتَّبِعُ أَهْوٰاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَ مٰا أَنَا مِنَ اَلْمُهْتَدِينَ قُلْ إِنِّي عَلىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ كَذَّبْتُمْ بِهِ مٰا عِنْدِي مٰا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاّٰ لِلّٰهِ يَقُصُّ اَلْحَقَّ وَ هُوَ خَيْرُ اَلْفٰاصِلِينَ قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مٰا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ اَلْأَمْرُ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ اَللّٰهُ أَعْلَمُ بِالظّٰالِمِينَ

نُهِيتُ عن عبادة ما تعبدون مِنْ دُونِ اَللّٰهِ .

قُلْ لاٰ أَتَّبِعُ أَهْوٰاءَكُمْ أي: لا أجري علي طريقتكم التي سلكتموها من اتباع الهوي دون اتباع الدليل.

قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً أي: إن اتبعت أهواءكم فأنا ضال.

وَ مٰا أَنَا مِنَ اَلْمُهْتَدِينَ السالكين طريق الهدى، يعني: إنّكم كذلك.

ص: 110

قُلْ إِنِّي عَلىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي أي: إنّي من معرفة من ربّي، و أنّه لا معبود سواه علي حجّة واضحة وَ كَذَّبْتُمْ بِهِ أنتم حيث أشركتم به غيره، وإذا كان الشيء ثابتا عندك ببرهان قاطع قلت: أنا علي يقين منه وعلي بيّنة منه، وقيل: معناه:

علي حجّة من جهة ربّي وهو القرآن(1).

وَ كَذَّبْتُمْ بِهِ أي: بالبيّنة، وذكّر الضمير علي تأويل القرآن.

مٰا عِنْدِي مٰا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ يعني: العذاب الذي استعجلوه في قولهم: فَأَمْطِرْ عَلَيْنٰا حِجٰارَةً مِنَ اَلسَّمٰاءِ (2).

إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاّٰ لِلّٰهِ في تأخير عذابكم.

يقضي اَلْحَقَّ أي: القضاء الحقّ في كل ما يقضي من التأخير و التعجيل وَ هُوَ خَيْرُ اَلْفٰاصِلِينَ أي: القاضين، وقرئ: يَقُصُّ اَلْحَقَّ أي: يتبع الحقّ و الحكمة فيما يحكم به و يقدّره، من قولهم: قصّ أثره.

قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي أي: في قدرتي مٰا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من العذاب.

لَقُضِيَ اَلْأَمْرُ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ لأهلكتكم عاجلا غضبا لربّي.

[سورة الأنعام (6): الآیات 59 الی 60]

وَ عِنْدَهُ مَفٰاتِحُ اَلْغَيْبِ لاٰ يَعْلَمُهٰا إِلاّٰ هُوَ وَ يَعْلَمُ مٰا فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ وَ مٰا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاّٰ يَعْلَمُهٰا وَ لاٰ حَبَّةٍ فِي ظُلُمٰاتِ اَلْأَرْضِ وَ لاٰ رَطْبٍ وَ لاٰ يٰابِسٍ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ وَ هُوَ اَلَّذِي يَتَوَفّٰاكُمْ بِاللَّيْلِ وَ يَعْلَمُ مٰا جَرَحْتُمْ بِالنَّهٰارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضىٰ أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

ص: 111


1- تفسير الماوردي ج 2:120.
2- الأنفال: 32.

المفاتح: جمع مفتح وهو المفتاح، وجعل سبحانه للغيب مفاتح على طريق الاستعارة، لأنّ بالمفاتح يتوصل إلي ما في المخازن المغلقة، أراد أنّه هو المتوصل إلى جميع المغيّبات بذاته وحده، لا يتوصل إليها سواه كما يتوصل إلي ما في المخازن من عنده مفاتح أقفاله.

وَ لاٰ حَبَّةٍ ، وَ لاٰ رَطْبٍ وَ لاٰ يٰابِسٍ عطف علي وَرَقَةٍ و داخل في حكمها، أي: وَ مٰا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ ولا شيء من هذه الأشياء إلا يعلمه، وقوله: إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ كالتكرير لقوله: إِلاّٰ يَعْلَمُهٰا ، لأنّ معنى إِلاّٰ يَعْلَمُهٰا و إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ واحد. والكتاب المبين: علم اللّه، أو اللوح المحفوظ، أو القرآن.

وَ هُوَ اَلَّذِي يَتَوَفّٰاكُمْ بِاللَّيْلِ أي: يقبض أرواحكم عن التصرّف بالنوم كما يقبضها بالموت.

وَ يَعْلَمُ مٰا جَرَحْتُمْ أي: كسبتم من الأعمال بِالنَّهٰارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ من القبور.

فِيهِ أي: في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل و كسب الأعمال بالنهار ومن أجله.

لِيُقْضىٰ أَجَلٌ مُسَمًّى وهو الأجل الذي سمّاه وضربه لبعث الموتى وجزائهم علي أعمالهم.

ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ و هو المرجع إلي موقف الحساب.

ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في ليلكم و نهاركم، وقيل: ثم يبعثكم من

ص: 112

نومكم(1) أي: ينبّهكم في النهار لتستوفوا آجالكم. جعل سبحانه انتباههم من النوم بعثا.

[سورة الأنعام (6): آیة 61]

وَ هُوَ اَلْقٰاهِرُ فَوْقَ عِبٰادِهِ وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتّٰى إِذٰا جٰاءَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنٰا وَ هُمْ لاٰ يُفَرِّطُونَ

أي: وَ هُوَ المقتدر المستعلي علي عباده.

وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ ملائكة حَفَظَةً يحفظون أعمالكم وهم الكرام الكاتبون. والفائدة في ذلك أنّ العباد إذا علموا أنّ الملائكة يحفظون أعمالهم في صحائف تعرض علي رؤوس الأشهاد يوم القيامة كان ذلك أزجر لهم عن القبيح.

تَوَفَّتْهُ رُسُلُنٰا استوفت روحه، وهم ملك الموت وأعوانه، و حَتّٰى هذه التي للاستئناف وما بعدها جملة. وقرئ: توفاه - بالإمالة -. و يجوز أن يكون ماضيا، وأن يكون مضارعا بمعنى تتوفاه.

وَ هُمْ لاٰ يُفَرِّطُونَ أي: لا يتوانون ولا ينقصون مما أمروا به ولا يزيدون فيه، والتفريط: التقصير والتأخير عن الحد، وا لإفراط: مجاوزة الحد.

[سورة الأنعام (6): الآیات 62 الی 64]

ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اَللّٰهِ مَوْلاٰهُمُ اَلْحَقِّ أَلاٰ لَهُ اَلْحُكْمُ وَ هُوَ أَسْرَعُ اَلْحٰاسِبِينَ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمٰاتِ اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً لَئِنْ أَنْجٰانٰا مِنْ هٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلشّٰاكِرِينَ قُلِ اَللّٰهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهٰا وَ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ

ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اَللّٰهِ أي: إلى حكمه وجزائه.

مَوْلاٰهُمُ أي: مالكهم الذي يلي عليهم أمورهم.

ص: 113


1- عن مجاهد. تفسير الطبري ج 7:831.

اَلْحَقِّ العدل الذي لا يحكم إلا بالحقّ .

أَلاٰ لَهُ اَلْحُكْمُ يومئذ لا حكم فيه لغيره.

وَ هُوَ أَسْرَعُ اَلْحٰاسِبِينَ لا يشغله حساب عن حساب.

قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمٰاتِ اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ مجاز عن مخاوفهما و أهوالهما، يقال لليوم الشديد: يوم مظلم ذو كواكب، أي اشتدت ظلمته حتى صار كالليل تَدْعُونَهُ متضرّعين بألسنتكم ومسرّين في أنفسكم.

لَئِنْ أنجيتنا علي إرادة القول، أي قائلين: إن أنجيتنا من هذه الظلمة والشدة. وقرئ: ينجيكم - بالتشديد والتخفيف - ولئن أنجانا، وخفية - بالضم والكسر -.

قُلِ اَللّٰهُ يُنَجِّيكُمْ يخلّصكم من هذه الشدة وَ مِنْ كُلِّ غمّ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ باللّه بعد قيام الحجّة عليكم.

[سورة الأنعام (6): آیة 65]

قُلْ هُوَ اَلْقٰادِرُ عَلىٰ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذٰاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ اُنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ اَلْآيٰاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ

أي: هُوَ اَلْقٰادِرُ عَلىٰ أَنْ يرسل عَلَيْكُمْ عَذٰاباً مِنْ فَوْقِكُمْ كما أمطر علي قوم لوط، وعلي أصحاب الفيل الحجارة، وعلي قوم نوح الطوفان أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ كما أغرق فرعون، و خسف بقارون، وقيل: مِنْ فَوْقِكُمْ من قبل أكابركم و سلاطينكم الظلمة، و مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ من قبل سفلتكم وعبيدكم(1)، وقيل: هو حبس المطر والنبات.

ص: 114


1- عن ابن عباس. تفسير الطبري ج 7:138.

أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً أي: يخلطكم فرقا مختلفي الأهواء، كل فرقة منكم مشايعة لإمامها، ومعنى خلطهم: أن يختلطوا و يشتبكوا في ملاحم القتال.

وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ أي: يقتل بعضكم بعضا، ونحوه قوله: وَ كَذٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ اَلظّٰالِمِينَ بَعْضاً (1)، الصادق عليه السلام: (هو سوء الجوار)(2). والمعنى في الآية: الوعيد بأحد أصناف العذاب المعدودة. وفي الحديث: (إذا وضع السيف في أمّتي لم يرفع عنها إلي يوم القيامة)(3).

[سورة الأنعام (6): الآیات 66 الی 69]

وَ كَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَ هُوَ اَلْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ وَ إِذٰا رَأَيْتَ اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيٰاتِنٰا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتّٰى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَ إِمّٰا يُنْسِيَنَّكَ اَلشَّيْطٰانُ فَلاٰ تَقْعُدْ بَعْدَ اَلذِّكْرىٰ مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظّٰالِمِينَ وَ مٰا عَلَى اَلَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسٰابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ وَ لٰكِنْ ذِكْرىٰ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ

وَ كَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ الضمير للعذاب.

وَ هُوَ اَلْحَقُّ أي: لابد أن ينزل بهم.

قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ بحفيظ، أي: وكّل إليّ أمركم أمنعكم من التكذيب إجبارا، إنّما أنا منذر.

لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ أي: لكل شيء ينبأ به ويخبر وقت استقرار وحصول لابد

ص: 115


1- الأنعام: 129.
2- تفسير القمي ج 1:204.
3- المستدرك على الصحيحين ج 4:449.

منه. وقيل: الضمير في بِهِ للقرآن(1).

وَ إِذٰا رَأَيْتَ اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي الاستهزاء بآياتنا والطعن فيها فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ فلا تجالسهم وقم عنهم حَتّٰى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ فلا بأس أن تجالسهم حينئذ.

وَ إِمّٰا يُنْسِيَنَّكَ اَلشَّيْطٰانُ النهي عن مجالستهم فَلاٰ تَقْعُدْ معهم بَعْدَ اَلذِّكْرىٰ ، ويجوز أن يراد: وإن أنساك الشيطان قبل النهي قبح مجالستهم، فلا تقعد معهم بعد أن ذكّرناك قبحها و نبّهناك عليه.

وَ مٰا عَلَى اَلَّذِينَ يَتَّقُونَ أي: وما يلزم المتقين الذين يجالسونهم شيء مما يحاسبون عليه من ذنوبهم.

وَ لٰكِنْ عليهم أن يذكّروهم ذِكْرىٰ إذا سمعوهم يخوضون فيها بأن يقوموا عنهم و يظهروا الكراهية لهم.

لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ يجتنبون الخوض كراهية لمساءتهم أو حياء. ويجوز أن يكون ذِكْرىٰ رفعا علي: ولكن عليهم ذكري.

[سورة الأنعام (6): آیة 70]

وَ ذَرِ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَ لَهْواً وَ غَرَّتْهُمُ اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا وَ ذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمٰا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهٰا مِنْ دُونِ اَللّٰهِ وَلِيٌّ وَ لاٰ شَفِيعٌ وَ إِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاٰ يُؤْخَذْ مِنْهٰا أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمٰا كَسَبُوا لَهُمْ شَرٰابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَ عَذٰابٌ أَلِيمٌ بِمٰا كٰانُوا يَكْفُرُونَ

اِتَّخَذُوا دِينَهُمْ الذي كلفوه ودعوا إليه وهو دين الإسلام.

لَعِباً وَ لَهْواً حيث سخروا به و استهزؤوا منه، ومعنى ذرهم: أعرض

ص: 116


1- عن السدي. تفسير الطبري ج 7:147.

عنهم ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم.

وَ ذَكِّرْ بِهِ أي: بالقرآن.

أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمٰا كَسَبَتْ أي: مخافة أن تسلم نفس إلى الهلاك والعذاب، و ترتهن بسوء كسبها.

وَ إِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ أي: وإن تفد كل فداء لاٰ يُؤْخَذْ مِنْهٰا .

أُولٰئِكَ إشارة إلى اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً .

اَلَّذِينَ أُبْسِلُوا أي: أسلموا إلى الهلاك بِمٰا كَسَبُوا بكسبهم و عملهم.

[سورة الأنعام (6): الآیات 71 الی 72]

قُلْ أَ نَدْعُوا مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مٰا لاٰ يَنْفَعُنٰا وَ لاٰ يَضُرُّنٰا وَ نُرَدُّ عَلىٰ أَعْقٰابِنٰا بَعْدَ إِذْ هَدٰانَا اَللّٰهُ كَالَّذِي اِسْتَهْوَتْهُ اَلشَّيٰاطِينُ فِي اَلْأَرْضِ حَيْرٰانَ لَهُ أَصْحٰابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى اَلْهُدَى اِئْتِنٰا قُلْ إِنَّ هُدَى اَللّٰهِ هُوَ اَلْهُدىٰ وَ أُمِرْنٰا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ اَلْعٰالَمِينَ وَ أَنْ أَقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ وَ اِتَّقُوهُ وَ هُوَ اَلَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ

أي: أنعبد مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مٰا لاٰ يَنْفَعُنٰا إن عبدناه وَ لاٰ يَضُرُّنٰا إن تركنا عبادته.

وَ نُرَدُّ عَلىٰ أَعْقٰابِنٰا راجعين عن ديننا الذي هو خير الأديان بَعْدَ إِذْ هَدٰانَا اَللّٰهُ له.

كَالَّذِي اِسْتَهْوَتْهُ اَلشَّيٰاطِينُ فِي اَلْأَرْضِ كالذي ذهبت به مردة الجن و الغيلان في المهامه(1). و الاستهواء استفعال من هوي في الأرض: إذا ذهب، كأنّ المعنى: طلبت هويّه، و موضع الكاف نصب علي الحال من الضمير في نُرَدُّ ،

ص: 117


1- المهامه جمع المهمه: المفازة البعيدة الأطراف. (الصحاح: مادة مهه)

أي: أننكص مشبهين من اِسْتَهْوَتْهُ اَلشَّيٰاطِينُ .

حَيْرٰانَ لا يهتدي إلي طريق، تائها ضالا.

له أي: لهذا المستهوى أَصْحٰابٌ رفقة.

يَدْعُونَهُ إِلَى اَلْهُدَى أي: إلى الطريق المستوي، أو إلى أن يهدوه الطريق المستقيم، يقولون له: اِئْتِنٰا وقد اعتسف التيه تابعا للجن لا يجيبهم ولا يأتيهم.

وهذا مبني علي ما تزعمه العرب أنّ الجن تستهوي الإنسان و الغيلان كذلك، فشبّه به الضال عن الإسلام الذي لا يلتفت إلى دعاء المسلمين إيّاه.

قُلْ إِنَّ هُدَى اَللّٰهِ و هو الإسلام هُوَ اَلْهُدىٰ وحده وما سواه ضلال وَ أُمِرْنٰا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ اَلْعٰالَمِينَ .

وَ أَنْ أَقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ أي: أمرنا لأن نسلم ولأن أقيموا، بمعنى للإسلام ولإقامة الصلاة، ومعنى اللام التعليل للأمر، وتقديره: أمرنا، وقيل لنا: أسلموا لأجل أن نسلم.

وَ هُوَ اَلَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فيجازي كل عامل منكم بعمله.

[سورة الأنعام (6): آیة 73]

وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ اَلْحَقُّ وَ لَهُ اَلْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ عٰالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهٰادَةِ وَ هُوَ اَلْحَكِيمُ اَلْخَبِيرُ

قَوْلُهُ اَلْحَقُّ مبتدأ و يَوْمَ يَقُولُ خبره مقدّما عليه كما تقول: يوم الجمعة القتال، واليوم بمعنى الحين، أو يكون قَوْلُهُ اَلْحَقُّ مبتدأ و خبرا و يَوْمَ يَقُولُ ظرفا. والمعنى: وهو الذي خلق السماوات والأرض قائما بالحقّ و الحكمة، وحين يقول لشيء من الأشياء: كُنْ فَيَكُونُ ذلك الشيء.

ص: 118

قَوْلُهُ اَلْحَقُّ و الحكمة، أي: لا يكون شيئا من السماوات والأرض وسائر المكونات إلا عن حكمة وصواب.

و يَوْمَ يُنْفَخُ ظرف لقوله: وَ لَهُ اَلْمُلْكُ كقوله: لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ (1).

ويجوز أن يكون قَوْلُهُ اَلْحَقُّ فاعل يَكُونُ علي معنى: وحين يقول لقوله الحقّ أي: لقضائه الحقّ : كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ اَلْحَقُّ ، وينتصب يَوْمَ يَقُولُ بمحذوف دلّ عليه قَوْلُهُ اَلْحَقُّ ، كأنّه قيل: ويوم يكون ويجدد الخلق يقوم بالحقّ ، ووجب له الملك في اليوم الذي فيه ينفخ في الصور لا يبقى لأحد فيه ملك.

ويجوز أن يكون يَوْمَ يُنْفَخُ فِي اَلصُّورِ بدلا من يَوْمَ يَقُولُ .

والصور: قرن ينفخ فيه إسرافيل نفختين، فيفنى الخلق بالنفخة الأولى و يحيون بالثانية، وعن الحسن: (إنّه جمع صورة)(2).

عٰالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهٰادَةِ رفع علي المدح.

[سورة الأنعام (6): الآیات 74 الی 75]

وَ إِذْ قٰالَ إِبْرٰاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَ تَتَّخِذُ أَصْنٰاماً آلِهَةً إِنِّي أَرٰاكَ وَ قَوْمَكَ فِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ وَ كَذٰلِكَ نُرِي إِبْرٰاهِيمَ مَلَكُوتَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ اَلْمُوقِنِينَ

و قرئ: آزر - بالضم - على النداء.

ولا خلاف بين النسابين أنّ اسم أبي إبراهيم تارخ، قال أصحابنا: إنّ آزر كان اسم جد إبراهيم لأمه، وروي أيضا أنّه كان عمّه، وقالوا: إنّ آباء نبيّنا صلى الله عليه و آله و سلم إلى

ص: 119


1- غافر: 16.
2- معالم التنزيل ج 1:320.

ادم كانوا موحدين(1)، ورووا عنه عليه السلام أنّه قال: (لم يزل ينقلني اللّه تعالي من صلب الطاهرين إلى أرحام المطهرات، لم يدنسني بدنس الجاهلية)(2)، وقد قيل: إنّ آزر اسم صنم(3)، فيجوز أن ينبز به للزومه عبادته.

والهمزة في أَ تَتَّخِذُ للإنكار، وقوله: فَلَمّٰا جَنَّ عَلَيْهِ اَللَّيْلُ من بعد عطف علي قٰالَ إِبْرٰاهِيمُ ، وقوله: وَ كَذٰلِكَ نُرِي إِبْرٰاهِيمَ جملة اعتراضية بين المعطوف و المعطوف عليه. والمعنى: ومثل ذلك التعريف نعرّف به إبراهيم مَلَكُوتَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ يعني: الربوبية و الإلهية، و نوفّقه لمعرفتها و نهديه لطريق النظر والاستدلال وَ لِيَكُونَ مِنَ اَلْمُوقِنِينَ فعلنا ذلك.

و نُرِي حكاية حال ماضية.

[سورة الأنعام (6): الآیات 76 الی 79]

فَلَمّٰا جَنَّ عَلَيْهِ اَللَّيْلُ رَأىٰ كَوْكَباً قٰالَ هٰذٰا رَبِّي فَلَمّٰا أَفَلَ قٰالَ لاٰ أُحِبُّ اَلْآفِلِينَ (76) فَلَمّٰا رَأَى اَلْقَمَرَ بٰازِغاً قٰالَ هٰذٰا رَبِّي فَلَمّٰا أَفَلَ قٰالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلضّٰالِّينَ (77) فَلَمّٰا رَأَى اَلشَّمْسَ بٰازِغَةً قٰالَ هٰذٰا رَبِّي هٰذٰا أَكْبَرُ فَلَمّٰا أَفَلَتْ قٰالَ يٰا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمّٰا تُشْرِكُونَ (7(8) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ حَنِيفاً وَ مٰا أَنَا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ

كان القوم يعبدون الأصنام و الشمس والقمر والكواكب، فأراد أن ينبّههم علي خطئهم، ويرشدهم و يبصرهم طريق النظر والاستدلال، ليعرفوا أنّ شيئا منها لا يصح أن يكون إلها، لوضوح دلالة الحدوث فيها.

ص: 120


1- التبيان ج 4:189.
2- أمالي الشيخ الطوسي ج 1:186 وج 2:114، كتاب الشفا ج 1:167.
3- عن مجاهد. تفسير الطبري ج 7:158.

قٰالَ هٰذٰا رَبِّي قول من ينصف خصمه مع علمه أنّه مبطل، فيحكي قوله كما هو غير متعصب لمذهبه، ليكون ذلك أدعى إلي الحقّ وأرفع للشغب، ثم يبطله بعد بالحجّة في قوله: لاٰ أُحِبُّ اَلْآفِلِينَ أي: لا أحبّ عبادة الأرباب المحتجبين بحجاب، المتغيرين من حال إلى حال، المنتقلين من مكان إلى مكان، فإنّ ذلك من صفات الأجسام ودلائل الحدوث.

وقوله: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي تنبيه لقومه علي أنّ من اتخذ القمر إلها - وهو آفل مثل الكواكب - يكون ضالا، و أنّ الهداية إلى الحقّ تكون بتوفيق اللّه تعالى ولطفه، وقوله: هٰذٰا أَكْبَرُ أيضا من باب استعمال الإنصاف مع الخصوم، ثم قال: إِنِّي بَرِيءٌ مِمّٰا تُشْرِكُونَ من الأجرام التي تجعلونها شركاء لخالقها.

وأما وجه التذكير في قوله: هٰذٰا رَبِّي مع أنّ الإشارة للشمس، فهو أنّه جعل المبتدأ مثل الخبر لكونهما عبارة عن شيء واحد، كقولهم: من كانت أمك، و ليصون الربّ عن شبهة التأنيث، ألا تراهم لم يقولوا للّه سبحانه علاّمة، وإن كان العلّامة أبلغ من علّام، لهذا المعنى.

إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ أي: للذي دلّت هذه المحدثات علي أنّه صانعها، و مبدعها الذي دبّر أحوالها: مسيرها، و انتقالها، وطلوعها، وأفولها.

وقيل: إنّ هذا كان استدلّاله في نفسه في زمان مهلة النظر وخطور الخاطر الموجب عليه الفكر فحكاه اللّه سبحانه(1). و الأوّل أظهر، لقوله: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي وقوله: يٰا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمّٰا تُشْرِكُونَ .

ص: 121


1- عن البلخي وغيره. التبيان ج 4:197.

[سورة الأنعام (6): الآیات 80 الی 82]

وَ حٰاجَّهُ قَوْمُهُ قٰالَ أَ تُحٰاجُّونِّي فِي اَللّٰهِ وَ قَدْ هَدٰانِ وَ لاٰ أَخٰافُ مٰا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً أَ فَلاٰ تَتَذَكَّرُونَ وَ كَيْفَ أَخٰافُ مٰا أَشْرَكْتُمْ وَ لاٰ تَخٰافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللّٰهِ مٰا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطٰاناً فَأَيُّ اَلْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمٰانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولٰئِكَ لَهُمُ اَلْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ

كان القوم حاجّوه و خاصموه في الدين وفي التوحيد وترك عبادة آلهتهم منكرين لذلك، فقال لهم: أَ تُحٰاجُّونِّي فِي اَللّٰهِ وَ قَدْ هداني إلى التوحيد وَ لاٰ أَخٰافُ مٰا تُشْرِكُونَ بِهِ لأنّهم قد خوّفوه أنّ آلهتهم تصيبه بمكروه.

إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ رَبِّي شَيْئاً إلا وقت مشيئة ربّي شيئا يخاف فحذف الوقت، أي: لا أخاف معبوداتكم في وقت قط، لأنّها لا تقدر علي نفع وضر إلا إذا شاء ربّي أن يصيبني بمخوف من جهتها مثل أن يرجمني بكوكب، أو يشاء الإضرار بي ابتداء.

وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً فلا يستبعد أن يكون في علمه إنزال مخوف بي.

أَ فَلاٰ تَتَذَكَّرُونَ فتميّزوا بين القادر والعاجز.

وَ كَيْفَ أَخٰافُ لتخويفكم شيئا لا يتعلّق به ضرر وأنتم لاٰ تَخٰافُونَ ما يتعلّق به كل خوف وهو إشراككم بِاللّٰهِ مٰا لَمْ يُنَزِّلْ بإشراكه سُلْطٰاناً أي: حجّة، إذ لا يصح أن يكون عليه حجّة، فكأنّه قال: ومالكم تنكرون عليّ الأمن في موضع الأمن، ولا تنكرون علي أنفسكم الأمن في موضع الخوف.

فَأَيُّ اَلْفَرِيقَيْنِ يعني: فريق المشركين وفريق الموحدين أَحَقُّ بِالْأَمْنِ .

ص: 122

ثم استأنف الجواب عن السؤال بقوله: اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمٰانَهُمْ بِظُلْمٍ أي: معصية، وعن ابن عباس: (هو الشرك)(1) لقوله: إِنَّ اَلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (2).

أُولٰئِكَ لَهُمُ اَلْأَمْنُ من الله وَ هُمْ محكوم لهم بالاهتداء.

[سورة الأنعام (6): الآیات 83 الی 87]

وَ تِلْكَ حُجَّتُنٰا آتَيْنٰاهٰا إِبْرٰاهِيمَ عَلىٰ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجٰاتٍ مَنْ نَشٰاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَ وَهَبْنٰا لَهُ إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنٰا وَ نُوحاً هَدَيْنٰا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ دٰاوُدَ وَ سُلَيْمٰانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسىٰ وَ هٰارُونَ وَ كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ وَ زَكَرِيّٰا وَ يَحْيىٰ وَ عِيسىٰ وَ إِلْيٰاسَ كُلٌّ مِنَ اَلصّٰالِحِينَ وَ إِسْمٰاعِيلَ وَ اَلْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كلاًّ فَضَّلْنٰا عَلَى اَلْعٰالَمِينَ وَ مِنْ آبٰائِهِمْ وَ ذُرِّيّٰاتِهِمْ وَ إِخْوٰانِهِمْ وَ اِجْتَبَيْنٰاهُمْ وَ هَدَيْنٰاهُمْ إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ

وَ تِلْكَ إشارة إلى جميع ما احتج به إبراهيم عليه السلام علي قومه، من قوله: فَلَمّٰا جَنَّ عَلَيْهِ اَللَّيْلُ إلى قوله: وَ هُمْ مُهْتَدُونَ .

آتَيْنٰاهٰا إِبْرٰاهِيمَ أي: أرشدناه إليها وأخطرناها بباله.

نَرْفَعُ دَرَجٰاتٍ مَنْ نَشٰاءُ في العلم و الحكمة. وقرئ بالتنوين أي: نرفع من نشاء درجات، كقوله: وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجٰاتٍ (3).

وَ وَهَبْنٰا لإبراهيم إِسْحٰاقَ ابنه وَ يَعْقُوبَ ابن إسحاق كُلاًّ

ص: 123


1- تفسير الطبري ج 7:169.
2- لقمان: 13.
3- البقرة: 253.

هدينا إلى النبوة ونيل الكرامات.

وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ الضمير لنوح أو لإبراهيم.

دٰاوُدَ أي: وهدينا دا ود.

وَ مِنْ آبٰائِهِمْ في موضع النصب عطفا علي كُلاًّ بمعنى: و فضّلنا بعض آبائهم وَ ذُرِّيّٰاتِهِمْ .

وَ اِجْتَبَيْنٰاهُمْ اصطفيناهم.

[سورة الأنعام (6): الآیات 88 الی 90]

ذٰلِكَ هُدَى اَللّٰهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ آتَيْنٰاهُمُ اَلْكِتٰابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهٰا هٰؤُلاٰءِ فَقَدْ وَكَّلْنٰا بِهٰا قَوْماً لَيْسُوا بِهٰا بِكٰافِرِينَ أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ هَدَى اَللّٰهُ فَبِهُدٰاهُمُ اِقْتَدِهْ قُلْ لاٰ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاّٰ ذِكْرىٰ لِلْعٰالَمِينَ

ذٰلِكَ إشارة إلى ما تقدّم من التفضيل و الاجتباء.

هُدَى اَللّٰهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشٰاءُ ممن لم يسمّهم في هذه الآيات.

وَ لَوْ أَشْرَكُوا مع فضلهم و تقدّمهم وما رفع لهم من الدرجات، لحبطت أعمالهم وكانوا كغيرهم في ذلك، ونحوه: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ (1).

أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ آتَيْنٰاهُمُ أعطيناهم.

اَلْكِتٰابَ يريد به الجنس.

وَ اَلْحُكْمَ بين الناس، و قيل: الحكمة.

فَإِنْ يَكْفُرْ بِهٰا بالكتاب والحكم والنبوة، أو با لنبوة هٰؤُلاٰءِ يعني: أهل

ص: 124


1- الزمر: 65.

مكة فَقَدْ وَكَّلْنٰا بِهٰا قَوْماً وهم الأنبياء الذين جري ذكرهم ومن تابعهم، آمنوا بما أتى به نبيّنا صلى الله عليه و آله و سلم قبل وقت مبعثه، وقيل: هم كل من آمن بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم، وقيل: هم الأنصار(1). ومعنى توكيلهم بها: إنّهم وفّقوا للإيمان بها كما يوكل الرجل بالشيء ليقوم به ويتعهده. والباء في بها صلة يَكْفُرْ وفي بِكٰافِرِينَ لتأكيد النفي.

فَبِهُدٰاهُمُ اِقْتَدِهْ أي: فاختص هداهم بالاقتداء ولا تقتد إلا بهم، ففي تقديم المفعول هذا المعنى. ويريد بهداهم طريقتهم في الإيمان باللّه و توحيده و عدله وفي أصول الدين، دون الشرائع فإنّها يتطرق إليها النسخ فهي هدى ما لم تنسخ. والهاء في اِقْتَدِهْ للوقف.

قُلْ لاٰ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً أي: لا أطلب منكم علي تبليغ الرسالة جعلا، كما لم تسأله الأنبياء قبلي فإنّه ينفّر عن القبول.

إِنْ هُوَ إِلاّٰ ذِكْرىٰ لِلْعٰالَمِينَ فيه دليل علي أنّ نبيّنا عليه السلام مبعوث إلى كافة العالمين، وأنّ النبوة مختومة به.

[سورة الأنعام (6): آیة 91]

وَ مٰا قَدَرُوا اَللّٰهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قٰالُوا مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ عَلىٰ بَشَرٍ مِنْ شَيْ ءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ اَلْكِتٰابَ اَلَّذِي جٰاءَ بِهِ مُوسىٰ نُوراً وَ هُدىً لِلنّٰاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرٰاطِيسَ تُبْدُونَهٰا وَ تُخْفُونَ كَثِيراً وَ عُلِّمْتُمْ مٰا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَ لاٰ آبٰاؤُكُمْ قُلِ اَللّٰهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ

أي: ما عرفوه حقّ معرفته، وما عظّموه حقّ عظمته، وما وصفوه بما يجب أن يوصف به من الرحمة علي عباده واللطف بهم حين قٰالُوا مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ عَلىٰ بَشَرٍ مِنْ شَيْ ءٍ فأنكروا بعثة الرسل والوحي إليهم، وذلك من أعظم رحمته و أجلّ ألطافه.

وإنّما قاله اليهود مبالغة في إنكار نزول القران علي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فألزموا ما لابد

ص: 125


1- عن ابن عباس. تفسير الطبري ج 7:175.

لهم من الإقرار به من إنزال التوراة علي موسى، و أدرج تحت الإلزام توبيخهم وذمّهم بتحريفهم للتوراة و إبداء بعضها وإخفاء بعض، فقيل: جٰاءَ بِهِ مُوسىٰ نُوراً يستضاء به في الدين وَ هُدىً لِلنّٰاسِ يهتدون به تَجْعَلُونَهُ قَرٰاطِيسَ ورقات متفرقة، ليتمكّنوا مما حاولوه من الإبداء والإخفاء. وقرئ: تجعلونه - بالتاء والياء - وكذلك تبدونها وتخفون.

و وَ عُلِّمْتُمْ خطاب لليهود، أي: علّمتم علي لسان محمّد مما أوحي إليه مٰا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ مع أنكم حملة التوراة.

وَ لاٰ آبٰاؤُكُمْ أي: ولم يعلمه آباؤكم الذين كانوا قبلكم وهم أعلم منكم، ونحوه: إِنَّ هٰذَا اَلْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلىٰ بَنِي إِسْرٰائِيلَ أَكْثَرَ اَلَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (1).

قُلِ اَللّٰهُ أنزله ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ أي: في باطلهم الذي يخوضون و يَلْعَبُونَ حال من ذَرْهُمْ أو من خَوْضِهِمْ ، و يجوز أن يكون فِي خَوْضِهِمْ حالا من يَلْعَبُونَ أي: خائضين في الباطل، ويجوز أن يكون صلة ل - يَلْعَبُونَ أو ل - ذَرْهُمْ .

[سورة الأنعام (6): آیة 92]

وَ هٰذٰا كِتٰابٌ أَنْزَلْنٰاهُ مُبٰارَكٌ مُصَدِّقُ اَلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ لِتُنْذِرَ أُمَّ اَلْقُرىٰ وَ مَنْ حَوْلَهٰا وَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ هُمْ عَلىٰ صَلاٰتِهِمْ يُحٰافِظُونَ

يعني: القرآن مُبٰارَكٌ كثير المنافع والفوائد، قراءته خير، والعمل به خير، وفيه علم الأوّلين والآخرين، وفيه الحلال والحرام، وهو باق إلي آخر التكليف لا يرد عليه نسخ مُصَدِّقُ اَلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من التوراة والإنجيل وغيرهما.

ص: 126


1- النمل: 76.

وَ لِتُنْذِرَ معطوف علي ما دلّ عليه صفة كِتٰابٌ كأنّه قيل: للبركات ولتصديق ما تقدّمه من الكتب و للإنذار. و قرئ: لتنذر - بالتاء والياء -.

وسمّيت مكة أم القرى لأنّها مكان أوّل بيت وضع للناس، و لأنّها قبلة لأهل القرى و محجّهم، و لأنّها أعظم القرى شأنا، ولأنّ الأرض بأسرها دحيت من تحتها فكأنّها تولدت منها.

وَ اَلَّذِينَ يصدّقون بِالْآخِرَةِ و يخافونها يُؤْمِنُونَ بِهِ أي: با لقرآن، وذلك أنّ أصل الدين خوف العاقبة، فمن خافها يحمله الخوف علي أن يؤمن.

وخصّ الصلاة بالذكر من بين سائر الفرائض لأنّها عماد الدين، ومن حافظ عليها كانت له لطفا في المحافظة علي أخواتها.

[سورة الأنعام (6): آیة 93]

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرىٰ عَلَى اَللّٰهِ كَذِباً أَوْ قٰالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ ءٌ وَ مَنْ قٰالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ وَ لَوْ تَرىٰ إِذِ اَلظّٰالِمُونَ فِي غَمَرٰاتِ اَلْمَوْتِ وَ اَلْمَلاٰئِكَةُ بٰاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ اَلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذٰابَ اَلْهُونِ بِمٰا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اَللّٰهِ غَيْرَ اَلْحَقِّ وَ كُنْتُمْ عَنْ آيٰاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ

اِفْتَرىٰ عَلَى اَللّٰهِ كَذِباً فزعم أنّ اللّه بعثه نبيّا وهو مسيلمة الكذاب. وروي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: (رأيت فيما يرى النائم كأنّ في يدي سوارين من ذهب فكبرا عليّ و أهمّاني، فأوحى الله إليّ أن أنفخهما، فنفختهما، فطارا عني، فأوّلتهما الكذّابين اللذين أنا بينهما: كذاب اليمامة: مسيلمة، وكذاب صنعاء: الأسود العنسي)(1).

وَ مَنْ قٰالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ هو عبد اللّه بن سعد ابن أبي سرح(2)، وقيل:

ص: 127


1- سنن البيهقي الكبري ج 8:175 باختلاف يسير.
2- عبد الله بن سعد بن أبي سرح القرشي العامري، كان أخا عثمان من الرضاعة، وكان يكتب للنبي صلى الله عليه و آله و سلم --

هو النضر بن الحارث و المستهزئون قالوا: لو نشاء لقلنا مثل هذا.

غَمَرٰاتِ اَلْمَوْتِ شدائده و سكراته، [وأصل الغمرة ما يغمر من الماء فاستعيرت للشدة الغالبة.

بٰاسِطُوا](1) أَيْدِيهِمْ يبسطون إليهم أيديهم يقولون: هاتوا أرواحكم أخرجوها إلينا من أجسادكم، وهذه عبارة عن العنف في السياق و التغليظ والإرهاق في الإزهاق، فعل الغريم الملحّ يبسط يده إلى من عليه الحقّ ويقول له:

أخرج إليّ مالي عليك، وقيل: معناه: باسطو أيديهم عليهم بالعذاب(2).

أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ خلّصوها من أيدينا، أي: لا تقدرون علي الخلاص.

اَلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ يعني: وقت الإماتة، أو الوقت الذي يلحقهم فيه العذاب في البرزخ و القيامة.

و اَلْهُونِ الهوان الشديد، وإضافة العذاب إليه كقولك: رجل سوء، تريد التمكّن في الهوان وأنّه عريق فيه.

وَ كُنْتُمْ عَنْ آيٰاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ فلا تؤمنون بها.

[سورة الأنعام (6): آیة 94]

وَ لَقَدْ جِئْتُمُونٰا فُرٰادىٰ كَمٰا خَلَقْنٰاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ تَرَكْتُمْ مٰا خَوَّلْنٰاكُمْ وَرٰاءَ ظُهُورِكُمْ وَ مٰا نَرىٰ مَعَكُمْ شُفَعٰاءَكُمُ اَلَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكٰاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ مٰا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ

فُرٰادىٰ منفردين عن أموالكم وأولادكم، وعن أوثانكم التي زعمتم أنّها

ص: 128


1- ساقطة من ج.
2- عن الضحاك. تفسير الطبري ج 7:183.

شفعاؤكم وشركاء للّه.

كَمٰا خَلَقْنٰاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ علي الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد، وفي الحديث: (تحشرون حفاة عراة غرلا)(1) أي: قلفا.

وَ تَرَكْتُمْ مٰا خَوَّلْنٰاكُمْ أي: ما ملكناكم في الدنيا فشغلتم به عن الآخرة وَرٰاءَ ظُهُورِكُمْ لم تحملوا منه شيئا و استمتع به غيركم.

أَنَّهُمْ فِيكُمْ أي: في استعبادكم شُرَكٰاءُ لأنّهم حين دعوهم آلهة وعبدوها فقد جعلوها للّه شركاء فيهم وفي استعبادهم.

لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ أي: وقع التقطّع بينكم، كما تقول: جمع بين الشيئين تريد أوقع الجمع بينهما علي إسناد الفعل إلي مصدره بهذا التأويل. وقرئ: بينكم علي إسناد الفعل إلى الظرف كما تقول: قوتل خلفكم.

[سورة الأنعام (6): الآیات 95 الی 96]

إِنَّ اَللّٰهَ فٰالِقُ اَلْحَبِّ وَ اَلنَّوىٰ يُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ مُخْرِجُ اَلْمَيِّتِ مِنَ اَلْحَيِّ ذٰلِكُمُ اَللّٰهُ فَأَنّٰى تُؤْفَكُونَ فٰالِقُ اَلْإِصْبٰاحِ وَ جَعَلَ اَللَّيْلَ سَكَناً وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ حُسْبٰاناً ذٰلِكَ تَقْدِيرُ اَلْعَزِيزِ اَلْعَلِيمِ

فٰالِقُ اَلْحَبِّ بالنبات وَ اَلنَّوىٰ بالشجر، وقيل: أراد الشقين اللذين في النواة و الحنطة(2).

يُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ أي: الحيوان و النامي من النطف والبيض و الحبّ و النوى وَ مُخْرِجُ هذه الأشياء الميتة من الحيوان والنامي.

وَ مُخْرِجُ اَلْمَيِّتِ مِنَ اَلْحَيِّ عطف علي فٰالِقُ اَلْحَبِّ وَ اَلنَّوىٰ لا علي الفعل،

ص: 129


1- مسند أحمد ج 6:53.
2- عن مجاهد. تفسير الطبري ج 7:186.

وموقعه موقع الجملة المبيّنة، لأنّ فلق الحبّ والنوى بالنبات والشجر الناميين من جنس إخراج الحي من الميت.

ذٰلِكُمُ اَللّٰهُ أي: ذلك المحيي و المميت هو اللّه الذي تحقّ له الربوبية.

فَأَنّٰى تُؤْفَكُونَ فكيف تصرفون عنه وعن قوله إلى غيره.

و اَلْإِصْبٰاحِ مصدر سمّي به الصبح، و المعنى: فالق ظلمة الإصباح وهي الغبش في آخر الليل، أو فالق الإصباح الذي هو عمود الفجر عن بياض النهار، لأنّ الظلمة هي التي تنفلق عن الصبح كما قال الشاعر:

تفرّي ليل عن بياض نهار(1)

وقرئ: وجعل الليل، لأنّ اسم الفاعل الذي قبله بمعنى المضي، ولذلك عطف عليه وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ أي: وجعل الشمس والقمر حُسْبٰاناً .

و السكن ما يسكن إليه الرجل ويطمئن استرواحا إليه من زوج أو حبيب، ومنه قيل للمرأة: سكن، لأنّه يستأنس بها، والليل يطمئن إليه التعب بالنهار لاستراحته فيه. ويمكن أن يراد: وجعل الليل مسكونا فيه من قوله: لِتَسْكُنُوا فِيهِ (2).

والحسبان - بالضم - مصدر حسب، والمعنى: وجعل الشمس والقمر علي حسبان، لأنّ حساب الأوقات يعلم بدورهما ومسيرهما، أو محسوبين حسبانا.

ذٰلِكَ التسيير بالحساب المعلوم تَقْدِيرُ اَلْعَزِيزِ الذي قهر هما بتسخيرهما اَلْعَلِيمِ بتدبير هما و تدوير هما ومسيرهما.

ص: 130


1- ديوان أبي نؤاس: 410، وفيه عن أديم..، وصدره: تردّت به ثم انفرت عن أديمه.
2- يونس: 67.

[سورة الأنعام (6): الآیات 97 الی 98]

وَ هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلنُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهٰا فِي ظُلُمٰاتِ اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا اَلْآيٰاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وٰاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا اَلْآيٰاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ

يعني: فِي ظُلُمٰاتِ الليل ب - اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ ، وأضاف الظلمات إلى البر والبحر لملابستها إيّاهما، أو لتشبيه الطرق المشتبهة بالظلمات.

وقرئ: فَمُسْتَقَرٌّ بفتح القاف و كسرها: فمن فتح كان المستودع اسم مكان مثله أو مصدرا، ومن كسر كان اسم فاعل، والمستودع اسم مفعول. والمعنى: فلكم مستقر في الرحم ومستودع في الصلب، أو مستقر فوق الأرض ومستودع تحتها، أو فمنكم مستقر في القبر و منكم مستودع في الدنيا. وعن الحسن: (يا ابن آدم أنت وديعة في أهلك ويوشك أن تلحق بصاحبك)(1)، وأنشد قول لبيد:

و ما المال و الأهلون إلّا وديعة *** ولابدّ يوما أن تردّ الودائع(2)

[سورة الأنعام (6): آیة 99]

وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً فَأَخْرَجْنٰا بِهِ نَبٰاتَ كُلِّ شَيْ ءٍ فَأَخْرَجْنٰا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرٰاكِباً وَ مِنَ اَلنَّخْلِ مِنْ طَلْعِهٰا قِنْوٰانٌ دٰانِيَةٌ وَ جَنّٰاتٍ مِنْ أَعْنٰابٍ وَ اَلزَّيْتُونَ وَ اَلرُّمّٰانَ مُشْتَبِهاً وَ غَيْرَ مُتَشٰابِهٍ اُنْظُرُوا إِلىٰ ثَمَرِهِ إِذٰا أَثْمَرَ وَ يَنْعِهِ إِنَّ فِي ذٰلِكُمْ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ

كل ما علاك فأظلّك فهو سماء، وهو هنا السحاب.

فَأَخْرَجْنٰا بِهِ بالماء نَبٰاتَ كُلِّ شَيْ ءٍ نبت كل صنف من أصناف الحبوب.

ص: 131


1- معالم التنزيل ج 1:326.
2- ديوان لبيد بن ربيعة العامري: 89.

يعني: إنّ السبب واحد وهو الماء و المسببات صنوف، وهو كقوله: يُسْقىٰ بِمٰاءٍ وٰاحِدٍ وَ نُفَضِّلُ بَعْضَهٰا عَلىٰ بَعْضٍ فِي اَلْأُكُلِ (1).

فَأَخْرَجْنٰا مِنْهُ أي: من النبات.

خَضِراً أي: نبتا غضا أخضر، وهو ما تشعّب من أصل النبات الخارج من الحبة.

نُخْرِجُ مِنْهُ من الخضر حَبًّا مُتَرٰاكِباً قد تركب بعضه علي بعض مثل سنبلة الحنطة و الشعير و غيرهما.

و قِنْوٰانٌ رفع بالابتداء، و مِنَ اَلنَّخْلِ خبره، و مِنْ طَلْعِهٰا بدل منه، كأنّه قيل: و كائنة من طلع النخل قنوان. ويجوز أن يكون الخبر محذوفا لدلالة أخرجنا عليه، تقديره: و مخرجة من طلع النخل قنوان. و القنوان: جمع قنو كصنوان وصنو.

دٰانِيَةٌ سهلة المجتنى قريبة التناول، وعن الحسن: (قريب بعضها من بعض)(2).

وَ جَنّٰاتٍ مِنْ أَعْنٰابٍ بالنصب عطف علي نَبٰاتَ كُلِّ شَيْ ءٍ أي: و أخرجنا به جنات من أعناب. وقرئ: وجنات - بالرفع - على معنى: و حاصلة أو مخرجة من النخل قنوان وجنات من أعناب أي: من نبات أعناب، أو يراد: و ثم جنات من أعناب أي: مع النخل.

وَ اَلزَّيْتُونَ أي: و أخرجنا به الزيتون وَ اَلرُّمّٰانَ ، والأحسن أن يكون

ص: 132


1- الرعد: 4.
2- تفسير الماوردي ج 2:149.

نصبهما علي الاختصاص، كقوله: وَ اَلْمُقِيمِينَ اَلصَّلاٰةَ (1) لفضل هذين الصنفين.

مُشْتَبِهاً وَ غَيْرَ مُتَشٰابِهٍ يقال: اشتبه الشيئان و تشابها، والافتعال و التفاعل يشتر كان كثيرا، وتقديره: والزيتون متشابها وغير متشابه والرمان كذلك، والمعنى:

متشابها بعضه وغير متشابه بعضه في القدر واللون والطعم.

اُنْظُرُوا إِلىٰ ثَمَرِهِ إِذٰا أَثْمَرَ أي: أخرج ثمره كيف يخرجه ضئيلا صغيرا، و انظروا إلي حال ينعه، أي: نضجه كيف يكون جامعا لمنافع و ملاذ، نظر اعتبار واستبصار و استدلال علي اقتدار مقدّره وتدبير مدبّره ينقله من حال إلى حال، يقال: ينعت الثمرة ينعا و ينعا.

[سورة الأنعام (6): الآیات 100 الی 103]

وَ جَعَلُوا لِلّٰهِ شُرَكٰاءَ اَلْجِنَّ وَ خَلَقَهُمْ وَ خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَ بَنٰاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحٰانَهُ وَ تَعٰالىٰ عَمّٰا يَصِفُونَ بَدِيعُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ أَنّٰى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ صٰاحِبَةٌ وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ ذٰلِكُمُ اَللّٰهُ رَبُّكُمْ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ خٰالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ فَاعْبُدُوهُ وَ هُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ لاٰ تُدْرِكُهُ اَلْأَبْصٰارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ اَلْأَبْصٰارَ وَ هُوَ اَللَّطِيفُ اَلْخَبِيرُ

وَ جَعَلُوا لِلّٰهِ شُرَكٰاءَ فهما مفعولا جعل، و اَلْجِنَّ بدل من شُرَكٰاءَ ، و يجوز أن يكون شُرَكٰاءَ اَلْجِنَّ مفعولين قدّم ثانيهما علي الأوّل، أي: جعلوا الجن شركاء للّه. وفائدة تقديم لِلّٰهِ شُرَكٰاءَ استعظام أن يتخذ للّه شريكا من كان ملكا أو جنيا أو إنسيا. والمراد بالجن: الملائكة جعلوهم للّه أندادا، ونحوه: وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ اَلْجِنَّةِ نَسَباً (2)، و قيل: هم الذين قالوا: إنّ اللّه خالق الخير وإبليس خالق

ص: 133


1- النساء: 162.
2- الصافات: 158.

الشر(1).

وَ خَلَقَهُمْ أي: وخلق الجاعلين للّه شركاء، معناه: وإن علموا أنّ اللّه خالقهم دون الجن، ولم يمنعهم علمهم أن يتخذوا من لا يخلق شريكا للخالق، وقيل: الضمير ل - اَلْجِنَّ .

وَ خَرَقُوا لَهُ أي: و اختلقوا للّه بَنِينَ وَ بَنٰاتٍ ، فإنّ المشركين قالوا:

الملائكة بنات اللّه، وقال أهل الكتابين: عُزَيْرٌ اِبْنُ اَللّٰهِ و اَلْمَسِيحُ اِبْنُ اَللّٰهِ (2).

يقال: خلق الإفك و اختلقه و خرقه و اخترقه بمعنى. و قرئ: و خرّقوا - بالتشديد - للتكثير.

بِغَيْرِ عِلْمٍ من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه، و لكن جهلا منهم بعظمة اللّه تعالى.

بَدِيعُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ خبر مبتدأ محذوف، أي: هو مبدعهما و منشئهما ابتداء لا من شيء ولا علي مثال سبق، ويجوز أن يكون مبتدأ، و خبره أَنّٰى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ ، وقيل: بَدِيعُ اَلسَّمٰاوٰاتِ من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها، كقولك:

فلان بديع الشعر، أي: بديع شعره؛ أو هو بديع في السماوات والأرض كقولك:

فلان ثبت الغدر، أي: ثابت فيه، والمعنى: هو عديم النظير والمثل فيهما.

أَنّٰى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ أي: من أين يكون له ولد ولا يستقيم أن يوصف بالولادة، لأنّ الولادة من صفات الأجسام، وصانع الأجسام ليس بجسم حتى يكون والدا، ولأنّ الولادة لا تكون إلا بين زوجين ولا يصح أن يكون له صاحبة تزاوجه.

ص: 134


1- عن الكلبي. معالم التنزيل ج 1:326.
2- التوبة: 30.

وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ و من كان بهذه الصفة فهو غني عن كل شيء.

ذٰلِكُمُ إشارة إلى الموصوف بالصفات المتقدّمة، وهو مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة له، وهي: اَللّٰهُ ، رَبُّكُمْ ، لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ ، خٰالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ أي: ذلكم الجامع لهذه الصفات فَاعْبُدُوهُ لأنّ من استجمعت له هذه الصفات حقّت له العبادة.

وَ هُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ أي: حفيظ مدبّر، ولكل شيء من الأرزاق و الآجال مالك.

لاٰ تُدْرِكُهُ اَلْأَبْصٰارُ البصر: الجوهر اللطيف الذي به تدرك المبصرات، والمعنى: إنّه متعال أن يكون مبصرا في ذاته، فالأبصار لا تدركه، لأنّها إنّما تدرك ما كان في جهة أصلا أو تابعا كالأجسام والألوان.

وَ هُوَ يُدْرِكُ اَلْأَبْصٰارَ و هو للطف إدراكه للمدركات، يدرك تلك الجواهر اللطيفة التي ركّبها اللّه في حاسة النظر وهي الأبصار ولا يدركها مدرك سواه.

وَ هُوَ اَللَّطِيفُ يلطف عن أن تدركه الأبصار اَلْخَبِيرُ بكل لطيف، فهو يدرك الأبصار ولا تلطف عن إدراكه. وهذا من باب اللف والنشر. وروي عن الرضا عليه السلام: (إنّها الأبصار التي في القلوب)(1)، أي: لا يقع عليه الأوهام ولا يدرك كيف هو.

[سورة الأنعام (6): آیة 104]

قَدْ جٰاءَكُمْ بَصٰائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهٰا

ص: 135


1- تفسير العياشي ج 1:373.

[سورة الأنعام (6): الآیات 104 الی 105]

وَ مٰا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ وَ كَذٰلِكَ نُصَرِّفُ اَلْآيٰاتِ وَ لِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَ لِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ

البصيرة: البيّنة والدلالة التي يستبصر بها الشيء علي ما هو به، وهي نور القلب كما أنّ البصر نور العين، أي: جٰاءَكُمْ من الوحي والتنبيه علي ما يجوز علي اللّه و مالا يجوز ما هو للقلوب كالبصائر.

فَمَنْ أَبْصَرَ الحقّ وآمن فَلِنَفْسِهِ أبصر ولها نظر وَ مَنْ عَمِيَ عنه فعلي نفسه عمى و إياها ضر.

وَ مٰا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أحفظ أعمالكم و أجازيكم عليها، إنّما أنا منذر واللّه هو الحفيظ عليكم.

وَ لِيَقُولُوا جوابه محذوف تقديره: و ليقولوا درست نصرّفها.

ومعنى دَرَسْتَ : قرأت و تعلّمت ذلك من اليهود، وقرئ: دارست، أي: دارست أهل الكتاب و ذاكرتهم؛ و درست أي: عفت هذه الآيات؛ وفي قراءة عبد الله: درس، أي: درس محمّد.

وَ لِنُبَيِّنَهُ الفرق بين هذا اللام واللام في لِيَقُولُوا أنّ هذا حقيقة وذاك مجاز، وذلك لأنّ الآيات صرّفت للتبيين ولم تصرّف ليقولوا دارست، ولكن لما حصل هذا القول بتصريف الآيات كما حصل التبيين شبّه به. و الضمير في وَ لِنُبَيِّنَهُ للآيات لأنّها في معنى القران، أو يعود إلى القرآن وإن لم يجر له ذكر لكونه معلوما، أو إلى الكتاب المقدّر في قوله: درست ودارست.

اتّبع ما أوحى إليك من رّبّك لا إله إلّا هو و أعرض عن المشركين و لو شاء اللّه ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا

ص: 136

[سورة الأنعام (6): الآیات 107 الی 108]

وَ مٰا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ وَ لاٰ تَسُبُّوا اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ فَيَسُبُّوا اَللّٰهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذٰلِكَ زَيَّنّٰا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلىٰ رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ

لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ اعتراض أكّد به إيجاب اتباع الوحي.

وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْمُشْرِكِينَ أي: لا تخالطهم ولا تلاطفهم.

وَ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ لاضطرهم إلى الإيمان قسرا و إجبارا.

وَ لاٰ تَسُبُّوا آلهة اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ فَيَسُبُّوا اَللّٰهَ عَدْواً أي:

ظلما وعدوانا. كان المسلمون يسبّون آلهتهم فنهوا لئلا يكون سبّهم سببا لسبّ اللّه.

وفيه دلالة علي أنّ النهي عن المنكر - الذي هو من أجلّ الطاعات - إذا علم أنّه يؤدي إلى زيادة الشرّ ينقلب معصية، فصار النهي عن ذلك النهي من جملة الواجبات.

بِغَيْرِ عِلْمٍ أي: علي جهالة باللّه.

كَذٰلِكَ زَيَّنّٰا أي: مثل ذلك التزيين زيّنا لِكُلِّ أُمَّةٍ من أمم الكفار عَمَلَهُمْ أي: خلّيناهم وما عملوا ولم نمنعهم حتى حسن عندهم عملهم السيئ.

فَيُنَبِّئُهُمْ فيوبّخهم عليه و يعاتبهم و يعاقبهم.

[سورة الأنعام (6): الآیات 109 الی 110]

وَ أَقْسَمُوا بِاللّٰهِ جَهْدَ أَيْمٰانِهِمْ لَئِنْ جٰاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهٰا قُلْ إِنَّمَا اَلْآيٰاتُ عِنْدَ اَللّٰهِ وَ مٰا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهٰا إِذٰا جٰاءَتْ لاٰ يُؤْمِنُونَ وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصٰارَهُمْ كَمٰا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ نَذَرُهُمْ فِي طُغْيٰانِهِمْ يَعْمَهُونَ

أي: حلفوا بِاللّٰهِ مجدّين مجتهدين لَئِنْ جٰاءَتْهُمْ آيَةٌ من الآيات التي

ص: 137

اقترحوها لَيُؤْمِنُنَّ بِهٰا .

قُلْ إِنَّمَا اَلْآيٰاتُ عِنْدَ اَللّٰهِ و هو قادر عليها، ولكنه لا ينزلها إلا علي مقتضي الحكمة، أو إنّما الآيات عند اللّه لا عندي فكيف آتيكم بها.

وَ مٰا يُشْعِرُكُمْ أي: وما يدريكم أن الآية التي تقترحونها إِذٰا جٰاءَتْ لاٰ يُؤْمِنُونَ بها، يعني: أنا أعلم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون بها وأنتم لا تدرون بذلك.

وذلك أنّ المؤمنين كانوا يطمعون في إيمانهم عند مجيء تلك الآية و يتمنّون مجيئها، فأخبرهم سبحانه أنّهم لا يدرون ما سبق علمه به من أنّهم لا يؤمنون بها، ألا تري إلى قوله: كَمٰا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ .

وقيل: إنّ أَنَّهٰا بمعنى لعلها(1) من قول العرب: إئت السوق أنّك تشتري لحما، أي: لعلك، و يقوّيها قراءة أبيّ : لعلها إذا جاءتهم لا يؤمنون، وقرئ:

إنّها - بالكسر - علي أنّ الكلام قد تم قبله. والمعنى: وما يشعركم ما يكون منهم، ثم أخبرهم بعلمه فيهم فقال: إنّها إذا جاءت لا يؤمنون بها البتة. و منهم من جعل (لا) مزيدة في قراءة الفتح.

وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ ... وَ نَذَرُهُمْ عطف علي لاٰ يُؤْمِنُونَ داخل في حكم وَ مٰا يُشْعِرُكُمْ ، بمعنى: وما يشعركم أنّهم لا يؤمنون وما يشعركم أنّا نقلّب أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصٰارَهُمْ أي: نطبع علي قلوبهم وأبصارهم فلا يفقهون ولا يبصرون الحقّ كما كانوا عند نزول آياتنا أوّلا، لا يؤمنون بها لكونهم مطبوعا علي قلوبهم، وما يشعركم أنّا نذرهم فِي طُغْيٰانِهِمْ أي: نخلّيهم و شأنهم لا نكفّهم عن الطغيان حتى يعمهوا فيه.

ص: 138


1- عن الخليل بن أحمد. الدر المنثور ج 3:39.

[سورة الأنعام (6): الآیات 111 الی 113]

وَ لَوْ أَنَّنٰا نَزَّلْنٰا إِلَيْهِمُ اَلْمَلاٰئِكَةَ وَ كَلَّمَهُمُ اَلْمَوْتىٰ وَ حَشَرْنٰا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْ ءٍ قُبُلاً مٰا كٰانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اَللّٰهُ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ وَ كَذٰلِكَ جَعَلْنٰا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيٰاطِينَ اَلْإِنْسِ وَ اَلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ اَلْقَوْلِ غُرُوراً وَ لَوْ شٰاءَ رَبُّكَ مٰا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَ مٰا يَفْتَرُونَ وَ لِتَصْغىٰ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ لِيَرْضَوْهُ وَ لِيَقْتَرِفُوا مٰا هُمْ مُقْتَرِفُونَ

وَ لَوْ أَنَّنٰا نَزَّلْنٰا إِلَيْهِمُ اَلْمَلاٰئِكَةَ يشهدون لنبيّنا بالرسالة، و أحيينا اَلْمَوْتىٰ حتى يشهدوا له، وهذا كقولهم: لَوْ لاٰ أُنْزِلَ عَلَيْنَا اَلْمَلاٰئِكَةُ (1)، فَأْتُوا بِآبٰائِنٰا (2).

وَ حَشَرْنٰا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْ ءٍ كقولهم: أَوْ تَأْتِيَ بِاللّٰهِ وَ اَلْمَلاٰئِكَةِ قَبِيلاً (3)، ومعنى قوله: قُبُلاً كفلاء بصحة ما بشّرنا به و أنذرنا، أو جماعات، أو مقابلة، و قرئ:

قبلا، أي: عيانا.

إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اَللّٰهُ مشية إكراه و قسر.

وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ فيقسمون باللّه جهد أيمانهم علي ما لا يشعرون من حال قلوبهم عند نزول الآيات، أو ولكن أكثر المسلمين يجهلون أنّ هؤلاء لا يؤمنون طوعا ولو أتوا بكل آية.

وَ كَذٰلِكَ جَعَلْنٰا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا وكما خلّينا بينك وبين أعدائك، كذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء و أعدائهم، لم نمنعهم عن العداوة لما فيه من الامتحان

ص: 139


1- الفرقان: 21.
2- الدخان: 36.
3- الإسراء: 92.

الذي هو سبب ظهور الثبات والصبر وكثرة الثواب والأجر.

و شَيٰاطِينَ بدل من عَدُوًّا ، أو هما مفعولا جَعَلْنٰا .

و يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلىٰ بَعْضٍ يوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس، وبعض الجن إلى بعض، وبعض الإنس إلي بعض زُخْرُفَ اَلْقَوْلِ ما يزيّنه من القول والإغراء علي المعاصي و يموّهه.

غُرُوراً أخذا علي غرّة و خدعا.

وَ لَوْ شٰاءَ اللّه مٰا فَعَلُوهُ أي: ما عادوك، أو ما أوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول بأن يكفّهم عنه اضطرارا.

وَ لِتَصْغىٰ جوابه محذوف تقديره: وليكون ذلك الإصغاء جَعَلْنٰا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا علي أنّ اللام لام الصيرورة، والضمير في إِلَيْهِ وفي فَعَلُوهُ واحد، أي: ولتميل إلى ما ذكر من عداوة الأنبياء ووسوسة الشياطين أَفْئِدَةُ الكفار وَ لِيَرْضَوْهُ لأنفسهم وَ لِيَقْتَرِفُوا مٰا هُمْ مُقْتَرِفُونَ من الآثام.

[سورة الأنعام (6): الآیات 114 الی 115]

أَ فَغَيْرَ اَللّٰهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ اَلْكِتٰابَ مُفَصَّلاً وَ اَلَّذِينَ آتَيْنٰاهُمُ اَلْكِتٰابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاٰ تَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُمْتَرِينَ وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلاً لاٰ مُبَدِّلَ لِكَلِمٰاتِهِ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ

أي: ءأطلب غير اللّه حاكما يحكم بيني وبينكم، و يميّز المحقّ منا من المبطل.

وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ اَلْكِتٰابَ المعجز مُفَصَّلاً مبيّنا فيه الحلال والحرام و الكفر والإيمان، والشهادة لي بالصدق وعليكم با لافتراء.

وَ اَلَّذِينَ آتَيْنٰاهُمُ اَلْكِتٰابَ يعني: التوراة والإنجيل يَعْلَمُونَ أنّ القران

ص: 140

مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ .

فَلاٰ تَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُمْتَرِينَ هو من باب التهييج و الإلهاب كقوله: وَ لاٰ تَكُونَنَّ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (1)، أي: فلا تشكنّ في أنّ أهل الكتاب يعلمون أنّه منزل بالحقّ وإن جحده أكثرهم، ويجوز أن يكون فَلاٰ تَكُونَنَّ خطابا لكل أحد، علي معنى أنّه إذا تظاهرت الحجج على صحته فلا ينبغي أن يمتري فيه أحد.

وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ أي: حجّة ربّك وأمره ونهيه ووعده ووعيده صِدْقاً وَ عَدْلاً ، وقيل: هي القرآن(2).

لاٰ مُبَدِّلَ لِكَلِمٰاتِهِ أي: لا أحد يبدّل شيئا من ذلك بما هو أصدق وأعدل.

صِدْقاً وَ عَدْلاً نصب علي الحال. وقرئ: كلمات ربّك.

[سورة الأنعام (6): الآیات 116 الی 117]

وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاّٰ يَخْرُصُونَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ

أي: وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ الناس أضلّوك، لأنّ الأكثر في الغالب يتّبعون الأهواء، ثم قال: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ وهو ظنّهم أنّ آباءهم كانوا محقّين فهم يقلّدونهم. وفيه: أنّه لا عبرة في معرفة الحقّ بالكثرة وإنّما الاعتبار بالحجّة.

و يَخْرُصُونَ يقدّرون أنّهم علي شيء، أو يكذبون.

مَنْ يَضِلُّ يجوز أن يكون استفهاما فيكون تعليقا، ويجوز أن يكون

ص: 141


1- الأنعام: 14.
2- تفسير الطبري ج 8:7.

منصوبا بفعل مضمر يدلّ عليه قوله: أعلم لأنّ (أفعل من كذا) لا يتعدّي إلى المفعول به، ويجوز أن يكون علي حذف الباء ليقابل قوله: وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ .

[سورة الأنعام (6): الآیات 118 الی 120]

فَكُلُوا مِمّٰا ذُكِرَ اِسْمُ اَللّٰهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيٰاتِهِ مُؤْمِنِينَ وَ مٰا لَكُمْ أَلاّٰ تَأْكُلُوا مِمّٰا ذُكِرَ اِسْمُ اَللّٰهِ عَلَيْهِ وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مٰا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاّٰ مَا اُضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَ إِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوٰائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ وَ ذَرُوا ظٰاهِرَ اَلْإِثْمِ وَ بٰاطِنَهُ إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْسِبُونَ اَلْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمٰا كٰانُوا يَقْتَرِفُونَ

فَكُلُوا مسبب عن إنكار اتباع المضلين الذين يحلّون الحرام و يحرّمون الحلال، وذلك أنّهم قالوا للمسلمين: أتأكلون ما قتلتم أنتم ولا تأكلون ما قتل ربّكم ؟! فقيل: فَكُلُوا مِمّٰا ذُكِرَ اِسْمُ اَللّٰهِ عَلَيْهِ خاصة دون ما ذكر عليه اسم غيره أو مات حتف أنفه، وما ذكر اسم اللّه عليه هو المذكّى ب - (بسم الله).

وَ مٰا لَكُمْ أَلاّٰ تَأْكُلُوا [وأي شيء عرض](1) لكم في أن لا تأكلوا (و قد فصّل لكم ما حرّم عليكم) مما لم يحرّم علي لسان الرسول. وقرئ: فَصَّلَ لَكُمْ مٰا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ علي البناء للفاعل، وهو اللّه عزّ وجل.

إِلاّٰ مَا اُضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ مما حرّم عليكم فإنّه يحلّ لكم في حال الضرورة.

وَ إِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ فيحرّمون ويحلّلون بِأَهْوٰائِهِمْ وشهواتهم. ومن قرأ بالضم أراد يضلّون أشياعهم.

بِغَيْرِ عِلْمٍ بغير تعلّق بشرع.

وَ ذَرُوا ظٰاهِرَ اَلْإِثْمِ وَ بٰاطِنَهُ أي: ما أعلنتم منه وما أسررتم، وقيل:

ص: 142


1- في ب، ج: وأي غرض.

ما عملتم بجوارحكم وما نويتم بقلوبكم(1)، وقيل: الظاهر الزنا والباطن اتخاذ الأخدان(2).

و يَكْسِبُونَ اَلْإِثْمَ يرتكبون القبيح. و الاقتراف: الاكتساب

[سورة الأنعام (6): الآیات 121 الی 122]

وَ لاٰ تَأْكُلُوا مِمّٰا لَمْ يُذْكَرِ اِسْمُ اَللّٰهِ عَلَيْهِ وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ وَ إِنَّ اَلشَّيٰاطِينَ لَيُوحُونَ إِلىٰ أَوْلِيٰائِهِمْ لِيُجٰادِلُوكُمْ وَ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ أَ وَ مَنْ كٰانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنٰاهُ وَ جَعَلْنٰا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنّٰاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي اَلظُّلُمٰاتِ لَيْسَ بِخٰارِجٍ مِنْهٰا كَذٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكٰافِرِينَ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ

وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ الضمير يرجع إلي مصدر الفعل، أي: و إنّ الأكل منه لفسق، أو إلى مِمّٰا لَمْ يُذْكَرِ اِسْمُ اَللّٰهِ عَلَيْهِ علي: و إنّ أكله لفسق. وفيه دلالة علي تحريم ذبائح أهل الكتاب أيضا، لأنه لا يصح منهم القصد إلى ذكر اسم اللّه تعالى، وأما المسلم فإذا لم يسمّ اللّه تعالي متعمّدا لم تحلّ ذبيحته، وإذا كان ناسيا حلّ أكلها.

وَ إِنَّ اَلشَّيٰاطِينَ لَيُوحُونَ أي: يوسوسون إِلىٰ أَوْلِيٰائِهِمْ من المشركين لِيُجٰادِلُوكُمْ بقولهم: ولا تأكلون مما قتله اللّه.

وَ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ لأنّ من اتبع غير اللّه في دينه فقد أشرك به.

ثم مثّل سبحانه من هداه بعد الضلالة ب - مَنْ كٰانَ مَيْتاً فأحياه وجعل لَهُ نُوراً يستضيء به بين اَلنّٰاسِ ، ومن بقي على الضلالة بالخابط في الظلمات لا يخرج منها، وقوله: كَمَنْ مَثَلُهُ معناه: كمن صفته هذه وهي قوله: في

ص: 143


1- عن مجاهد. معالم التنزيل ج 1:330.
2- عن السدي. تفسير الطبري ج 8:11.

اَلظُّلُمٰاتِ لَيْسَ بِخٰارِجٍ مِنْهٰا [بمعنى: هو في الظلمات ليس بخارج](1)، كقوله: مَثَلُ اَلْجَنَّةِ اَلَّتِي وُعِدَ اَلْمُتَّقُونَ فِيهٰا أَنْهٰارٌ (2) أي: صفتها هذه وهي قوله: فيها أنهار.

كَذٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكٰافِرِينَ عن الحسن: (زيّنه - واللّه - لهم الشيطان و أنفسهم)(3).

[سورة الأنعام (6): الآیات 123 الی 124]

وَ كَذٰلِكَ جَعَلْنٰا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكٰابِرَ مُجْرِمِيهٰا لِيَمْكُرُوا فِيهٰا وَ مٰا يَمْكُرُونَ إِلاّٰ بِأَنْفُسِهِمْ وَ مٰا يَشْعُرُونَ وَ إِذٰا جٰاءَتْهُمْ آيَةٌ قٰالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتّٰى نُؤْتىٰ مِثْلَ مٰا أُوتِيَ رُسُلُ اَللّٰهِ اَللّٰهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسٰالَتَهُ سَيُصِيبُ اَلَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغٰارٌ عِنْدَ اَللّٰهِ وَ عَذٰابٌ شَدِيدٌ بِمٰا كٰانُوا يَمْكُرُونَ

المعنى: خلّيناهم وشأنهم لِيَمْكُرُوا فِيهٰا ولم نكفّهم عن المكر، وخصّ الأكابر لأنّهم الحاملون علي الضلال و الماكرون بالناس، وهو كقوله:

أَمَرْنٰا مُتْرَفِيهٰا (4) تقول: هو أكبر قومه، وهم أكابر قومهم.

وَ مٰا يَمْكُرُونَ إِلاّٰ بِأَنْفُسِهِمْ لأنّ مكرهم يحيق بهم، روي: أنّ أبا جهل قال: زاحمنا بني عبد مناف في الشرف، حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا: منا نبيّ يوحى إليه، واللّه لا نرضى به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه فنزلت(5).

ص: 144


1- ساقطة من ب.
2- محمّد: 15.
3- التبيان ج 4:281.
4- الإسراء: 16.
5- عن مقاتل. معالم التنزيل ج 1:331.

ونحوها قوله: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتىٰ صُحُفاً مُنَشَّرَةً (1).

اَللّٰهُ أَعْلَمُ كلام مستأنف للإنكار عليهم، أي: إنّ اللّه لا يصطفي للرسالة إلا من علم أنّه يصلح لها وهو أعلم بموضعها.

سَيُصِيبُ أكابر الذين أجرموا صَغٰارٌ و قمأة(2) بعد كبرهم و عظمهم وَ عَذٰابٌ شَدِيدٌ في الدارين.

[سورة الأنعام (6): آیة 125]

فَمَنْ يُرِدِ اَللّٰهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاٰمِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمٰا يَصَّعَّدُ فِي اَلسَّمٰاءِ كَذٰلِكَ يَجْعَلُ اَللّٰهُ اَلرِّجْسَ عَلَى اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ

فَمَنْ يُرِدِ اَللّٰهُ أَنْ يَهْدِيَهُ أي: يلطف به و يوفقه، ولا يفعل ذلك إلا بمن يعلم أنّ له لطفا يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاٰمِ بأن يثبّت عزمه عليه و يقوّي دواعيه علي التمسّك به، لطفا له بذلك ومنّا عليه حتى يحبّ الدخول فيه و تسكن نفسه إليه.

وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ أي: يخذله و يخليه وشأنه وهو الذي لا لطف له يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً بأن يمنعه ألطافه حتى يقسو قلبه وينبو من قبول الحقّ ، و ينسد فلا يدخله الإيمان. وقرئ: حرجا - بفتح الراء و كسرها -، فالفتح علي الوصف بالمصدر.

كَذٰلِكَ يَجْعَلُ اَللّٰهُ اَلرِّجْسَ أي: الخذلان ومنع التوفيق، وصفه بنقيض ما يوصف به التوفيق من الطيب، أو أراد الفعل الذي يؤدي إلى الرجس وهو العذاب.

ص: 145


1- المدثر: 52.
2- قمؤ الرجل صار قميئا: هو الصغير الذليل. (الصحاح: مادة قمأ)

[سورة الأنعام (6): الآیات 126 الی 128]

وَ هٰذٰا صِرٰاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا اَلْآيٰاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ لَهُمْ دٰارُ اَلسَّلاٰمِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ هُوَ وَلِيُّهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يٰا مَعْشَرَ اَلْجِنِّ قَدِ اِسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ اَلْإِنْسِ وَ قٰالَ أَوْلِيٰاؤُهُمْ مِنَ اَلْإِنْسِ رَبَّنَا اِسْتَمْتَعَ بَعْضُنٰا بِبَعْضٍ وَ بَلَغْنٰا أَجَلَنَا اَلَّذِي أَجَّلْتَ لَنٰا قٰالَ اَلنّٰارُ مَثْوٰاكُمْ خٰالِدِينَ فِيهٰا إِلاّٰ مٰا شٰاءَ اَللّٰهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ

وَ هٰذٰا طريق رَبِّكَ وعادته في التوفيق والخذلان.

مُسْتَقِيماً عادلا مطردا لا اعوجاج فيه، و انتصب علي أنّه حال مؤكدة نحو قوله: وَ هُوَ اَلْحَقُّ مُصَدِّقاً (1).

لَهُمْ دٰارُ اَلسَّلاٰمِ أي: للذين تذكّروا و عرفوا الحقّ دار اللّه يعني الجنّة، أضافها إلي نفسه تعظيما لها، أو دار السلامة من كل آفة وبلية.

عِنْدَ رَبِّهِمْ أي: هي مضمونة لهم عند ربّهم يوصلهم إليها لا محالة، كما تقول: لفلان عندي حقّ لا ينسى.

وَ هُوَ وَلِيُّهُمْ مواليهم و محبّهم.

بِمٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ أي: بسبب أعمالهم، أو متوليهم بجزاء ما كانوا يعملون.

وَ يَوْمَ نحشرهم، منصوب بمحذوف، أي: واذكر يوم نحشرهم جَمِيعاً قلنا: يٰا مَعْشَرَ اَلْجِنِّ ، أو يوم نحشرهم و قلنا: يٰا مَعْشَرَ اَلْجِنِّ كان ما لا يوصف لفظاعته، والجن هم الشياطين.

قَدِ اِسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ اَلْإِنْسِ أضللتم منهم كثيرا، كما يقال: استكثر فلان

ص: 146


1- البقرة: 91.

من الأشياع.

وَ قٰالَ أَوْلِيٰاؤُهُمْ مِنَ اَلْإِنْسِ الذين اتبعوهم و أطاعوهم: رَبَّنَا اِسْتَمْتَعَ بَعْضُنٰا بِبَعْضٍ أي: انتفع الإنس بالشياطين حيث دلّوهم علي الشهوات وما يوصل إليها، و انتفع الجن بالإنس حيث أطاعوهم.

وَ بَلَغْنٰا أَجَلَنَا اَلَّذِي أَجَّلْتَ لَنٰا يعنون يوم البعث.

قال اللّه تعالى لهم: اَلنّٰارُ مَثْوٰاكُمْ أي: مقامكم خٰالِدِينَ فِيهٰا مؤبدين إِلاّٰ مٰا شٰاءَ اَللّٰهُ من أوقات حشرهم من قبورهم ومقدار مدتهم في محاسبتهم. وقيل: إنّ الاستثناء لغير الكفار من عصاة المسلمين، فإنّهم في مشيئة اللّه إن شاء عذّبهم وإن شاء عفا عنه، أو لمن آمن من الكفار.

[سورة الأنعام (6): الآیات 129 الی 130]

وَ كَذٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ اَلظّٰالِمِينَ بَعْضاً بِمٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ يٰا مَعْشَرَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيٰاتِي وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقٰاءَ يَوْمِكُمْ هٰذٰا قٰالُوا شَهِدْنٰا عَلىٰ أَنْفُسِنٰا وَ غَرَّتْهُمُ اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا وَ شَهِدُوا عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كٰانُوا كٰافِرِينَ

أي: مثل ذلك نُوَلِّي بَعْضَ اَلظّٰالِمِينَ بَعْضاً نخلّيهم حتى يتولى بعضهم بعضا، كما فعل الشياطين وغواة الإنس.

بِمٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ أي: بسبب ما كسبوا من الكفر و المعاصي.

أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ اختلف في أنّ الجن هل بعث إليهم رسل منهم ؟ فقال بعضهم: بعث إليهم رسول من جنسهم، و تعلّق بظاهر هذه الآية(1)، وقال الآخرون: الرسل من الإنس خاصة(2). وإنّما قيل: رُسُلٌ مِنْكُمْ لأنّه لما جمع

ص: 147


1- عن الضحاك. تفسير الطبري ج 8:27.
2- عن ابن جريج. تفسير الطبري ج 8:27.

الثقلان في الخطاب صح ذلك وإن كان من أحدهما، كقوله: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اَللُّؤْلُؤُ وَ اَلْمَرْجٰانُ (1) وإن كان اللؤلؤ يخرج من الملح دون العذب، وعن ابن عباس: (إنّما بعث الرسول من الإنس، ثم كان هو يرسل إلى الجن رسولا منهم)(2).

يَقُصُّونَ أي: يتلون عَلَيْكُمْ حججي و دلائلي و يخوفونكم لِقٰاءَ يَوْمِكُمْ هٰذٰا .

قٰالُوا شَهِدْنٰا عَلىٰ أَنْفُسِنٰا هذا حكاية لتصديقهم و إيجابهم قوله، و إقرارهم بأنّ حجّة اللّه لازمة لهم.

[سورة الأنعام (6): الآیات 131 الی 135]

ذٰلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ اَلْقُرىٰ بِظُلْمٍ وَ أَهْلُهٰا غٰافِلُونَ وَ لِكُلٍّ دَرَجٰاتٌ مِمّٰا عَمِلُوا وَ مٰا رَبُّكَ بِغٰافِلٍ عَمّٰا يَعْمَلُونَ وَ رَبُّكَ اَلْغَنِيُّ ذُو اَلرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مٰا يَشٰاءُ كَمٰا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ إِنَّ مٰا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَ مٰا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ قُلْ يٰا قَوْمِ اِعْمَلُوا عَلىٰ مَكٰانَتِكُمْ إِنِّي عٰامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عٰاقِبَةُ اَلدّٰارِ إِنَّهُ لاٰ يُفْلِحُ اَلظّٰالِمُونَ

ذٰلِكَ إشارة إلى ما تقدّم من بعثه الرسل إليهم، وتقديره: الأمر ذلك أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ تعليل، أي: الأمر ما قصصنا عليك لانتفاء كون ربّك مُهْلِكَ اَلْقُرىٰ بِظُلْمٍ أي: بسبب ظلم أقدموا عليه، أو ظالما علي معنى: إنّه لو أهلكهم من غير تنبيه برسول وكتاب لكان ظالما، وهو متعال عن الظلم.

ص: 148


1- الرحمن: 22.
2- تفسير الطبري ج 8:27.

وَ لِكُلٍّ من المكلفين دَرَجٰاتٌ مِمّٰا عَمِلُوا أي: مراتب من أعمالهم علي حسب ما يستحقّونه، وقيل: أراد درجات ودركات من جزاء أعمالهم فغلّب منازل أهل الجنّة.

وَ مٰا رَبُّكَ بِغٰافِلٍ أي: ساه عَمّٰا يَعْمَلُونَ فلا يخفى عليه مقاديره وما يستحقّ عليه.

وَ رَبُّكَ اَلْغَنِيُّ عن عباده وعن عبادتهم.

ذُو اَلرَّحْمَةِ يترحّم عليهم بالتكليف ليعرضهم للمنافع العظيمة التي لا يحسن إيصالهم إليها إلا بالاستحقاق لاقترانها بالتعظيم والإجلال.

إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أيّها العصاة.

وَ يَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مٰا يَشٰاءُ أي: و ينشئ من بعد إهلاككم و إذهابكم خلقا غيركم يطيعونه يكونون خلفاء لكم كَمٰا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ تقدّموكم.

إِنَّ مٰا تُوعَدُونَ من الحشر و الثواب والعقاب وتفاوت أهل الجنّة والنار في الدرجات و الدركات لَآتٍ لا محالة وَ مٰا أَنْتُمْ بخارجين عن ملكه.

اِعْمَلُوا عَلىٰ مَكٰانَتِكُمْ المكانة تكون مصدرا ل - (مكن): إذا تمكّن أبلغ التمكّن، وتكون بمعنى المكان يقال: مكان ومكانة و مقام و مقامة، أي: اعملوا علي تمكّنكم من أمركم و أقصى استطاعتكم و إمكانكم، أو اعملوا علي حالكم التي أنتم عليها.

إِنِّي عٰامِلٌ علي مكانتي التي أنا عليها. والمعنى: اثبتوا علي كفركم

ص: 149

وعداوتكم فإنّي ثابت على الإسلام وعلي مصابرتكم.

فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أيّنا تكون له العاقبة المحمودة، وهذا نحو قوله:

اِعْمَلُوا مٰا شِئْتُمْ (1) في أنّه علي طريق التهديد و التسجيل على المأمور بأنّه لا يأتي منه إلا الشر، فكأنّه واجب عليه وهو مأمور به ليس له أن يعمل بخلافه.

مَنْ تَكُونُ لَهُ عٰاقِبَةُ اَلدّٰارِ إن كان بمعنى (أي) فمحلّه الرفع ويكون تعليقا، وإن كان بمعنى (الذي) فمحلّه النصب.

و عٰاقِبَةُ اَلدّٰارِ العاقبة الحسنى التي خلق اللّه هذه الدار لها، وهو وعيد.

[سورة الأنعام (6): آیة 136]

وَ جَعَلُوا لِلّٰهِ مِمّٰا ذَرَأَ مِنَ اَلْحَرْثِ وَ اَلْأَنْعٰامِ نَصِيباً فَقٰالُوا هٰذٰا لِلّٰهِ بِزَعْمِهِمْ وَ هٰذٰا لِشُرَكٰائِنٰا فَمٰا كٰانَ لِشُرَكٰائِهِمْ فَلاٰ يَصِلُ إِلَى اَللّٰهِ وَ مٰا كٰانَ لِلّٰهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلىٰ شُرَكٰائِهِمْ سٰاءَ مٰا يَحْكُمُونَ

يعني: كفار مكة و أسلافهم، كانوا يعيّنون أشياء مِنَ اَلْحَرْثِ وَ اَلْأَنْعٰامِ للّه و أشياء منهما لآلهتهم، فإذا رأوا ما جعلوه للّه ناميا زاكيا رجعوا فجعلوه للآلهة، وإذا زكا ما جعلوه للآلهة تركوه لها، و اعتلّوا لذلك بأنّ اللّه غني.

وقوله: مِمّٰا ذَرَأَ فيه أنّ الله هو الذي ذرأه وزكّاه، فكان أولى بأن يجعل له الزاكي.

وقرئ: بزعمهم - يضم الزاي وفتحها - أي: زعموا أنّه للّه، واللّه لم يأمرهم بذلك.

وسمّى الأوثان شركاءهم لأنّهم أشركوهم في أموالهم وفي أنعامهم.

ص: 150


1- فصلت: 40.

سٰاءَ مٰا يَحْكُمُونَ في إيثار آلهتهم علي اللّه، وعملهم علي ما لم يشرع لهم.

[سورة الأنعام (6): الآیات 137 الی 138]

وَ كَذٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاٰدِهِمْ شُرَكٰاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَ لِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ مٰا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَ مٰا يَفْتَرُونَ وَ قٰالُوا هٰذِهِ أَنْعٰامٌ وَ حَرْثٌ حِجْرٌ لاٰ يَطْعَمُهٰا إِلاّٰ مَنْ نَشٰاءُ بِزَعْمِهِمْ وَ أَنْعٰامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهٰا وَ أَنْعٰامٌ لاٰ يَذْكُرُونَ اِسْمَ اَللّٰهِ عَلَيْهَا اِفْتِرٰاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمٰا كٰانُوا يَفْتَرُونَ

أي: ومثل ذلك التزيين الذي هو تزيين الشرك في قسمة القربات بين اللّه وآلهتهم زَيَّنَ لهم شُرَكٰاؤُهُمْ من الشياطين، أو من سدنة الأصنام قَتْلَ أَوْلاٰدِهِمْ بالوأد(1) خيفة العيلة أو العار. وقرئ: (زيّن) علي البناء للمفعول الذي هو قتل أولادهم - بالنصب - شركائهم - بالجر - علي إضافة قتل إلى شركائهم، والفصل بينهما بغير الظرف كما جاء في الشعر:

فزججتها بمزجّة زجّ القلوص أبي مزاده(2)

والتقدير: زيّن لهم أن قتل شركاؤهم أولادهم.

لِيُرْدُوهُمْ أي: ليهلكوهم با لإغواء.

وَ لِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وليخلطوه عليهم ويشبّهوه، ودينهم هو ما كانوا عليه من دين إسماعيل، وقيل: دينهم الذي كان يجب أن يكونوا عليه.

وَ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ مشيئة قسر مٰا فَعَلُوهُ أي: ما فعل المشركون ما زيّن

ص: 151


1- وأد ابنته وأدا: أي دفنها في القبر وهي حيّة. (الصحاح: مادة وأد)
2- لم أعثر على قائله في المصادر المتوفرة.

لهم من القتل.

فَذَرْهُمْ وَ مٰا يَفْتَرُونَ أي: وافتراؤهم أو ما يفترونه من الإفك.

حِجْرٌ فعل بمعنى مفعول كالذبح والطحن بمعنى المذبوح والمطحون، ويستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، لأنّ حكمه حكم الأسماء غير الصفات، وعن ابن مسعود وأبيّ : حرج، وهو من التضييق.

وكانوا إذا عيّنوا شيئا من حرثهم وأنعامهم لآلهتهم قالوا: لاٰ يَطْعَمُهٰا إِلاّٰ مَنْ نَشٰاءُ يعنون خدم الأصنام والرجال دون النساء.

بِزَعْمِهِمْ من غير حجّه لهم فيه.

وَ أَنْعٰامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهٰا هي البحائر والسوائب والحوامي.

وَ أَنْعٰامٌ لاٰ يَذْكُرُونَ اِسْمَ اَللّٰهِ عَلَيْهَا في الذبح والنحر، وإنّما يذكرون عليها أسماء الأصنام، وقيل: لا يحجّون عليها ولا يلبّون علي ظهورها(1). والمعنى: إنّهم قسمّوا أنعامهم فقالوا: هذه أنعام حجر، وهذه أنعام محرّمة الظهور، وهذه أنعام لا يذكر عليها اسم اللّه، فجعلوها أجناسا بدعواهم الباطلة، ونسبوا ذلك التقسيم إلى اللّه.

اِفْتِرٰاءً عَلَيْهِ أي: فعلوا ذلك كله علي جهة الافتراء، فهو مفعول له أو حال.

[سورة الأنعام (6): الآیات 139 الی 140]

وَ قٰالُوا مٰا فِي بُطُونِ هٰذِهِ اَلْأَنْعٰامِ خٰالِصَةٌ لِذُكُورِنٰا وَ مُحَرَّمٌ عَلىٰ أَزْوٰاجِنٰا وَ إِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكٰاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ قَدْ خَسِرَ

ص: 152


1- عن أبي وائل. تفسير الطبري ج 8:35.

[سورة الأنعام (6): آیة 140]

اَلَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلاٰدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ حَرَّمُوا مٰا رَزَقَهُمُ اَللّٰهُ اِفْتِرٰاءً عَلَى اَللّٰهِ قَدْ ضَلُّوا وَ مٰا كٰانُوا مُهْتَدِينَ

كانوا يقولون في أجنّة البحائر والسوائب: إنّ ما ولد منها حيا فهو خالص للذكور، وما ولد منها ميتا اشترك فيه الذكور و الإناث.

وأنّث خٰالِصَةً للحمل علي المعنى، لأنّ ما في معنى الأجنّة، وذكّر مُحَرَّمٌ للحمل علي اللفظ. ويجوز أن يكون التاء للمبالغة كالتاء في راوية الشعر، وأن يكون مصدرا وقع موقع الخالص كالعافية أي: ذو خالصة، ويدلّ عليه قراءة من قرأ: خالصة - بالنصب - علي أنّ قوله: لِذُكُورِنٰا هو الخبر و خٰالِصَةً مصدر مؤكد.

وَ إِنْ يَكُنْ مَيْتَةً وإن يكن ما في بطونها ميتة، وقرئ: وإن تكن، علي:

وإن تكن الأجنّة ميتة. وقرئ: وإن تكن - بالتأنيث - ميتة - بالرفع - علي كان التامة.

وذكّر الضمير في قوله: فَهُمْ فِيهِ شُرَكٰاءُ [لأنّ الميتة لكل ميت ذكرا أو أنثى، فكأنّه قيل: وإن يكن ميت فهم فيه شركاء](1).

سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ أي: جزاء وصفهم الكذب علي اللّه في التحليل والتحريم من قوله: وَ تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ اَلْكَذِبَ (2)، هٰذٰا حَلاٰلٌ وَ هٰذٰا حَرٰامٌ (3).

سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ أي: جهلا وخفة حلم وذهابا عن الصواب، جهلوا أنّ اللّه هو رازق أولادهم لا هم. وقرئ: قتّلوا - بالتشديد -.

ص: 153


1- ساقطة من أ.
2- النحل: 62.
3- النحل: 116.

وَ حَرَّمُوا مٰا رَزَقَهُمُ من البحائر والسوائب وغيرهما.

[سورة الأنعام (6): آیة 141]

وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَ جَنّٰاتٍ مَعْرُوشٰاتٍ وَ غَيْرَ مَعْرُوشٰاتٍ وَ اَلنَّخْلَ وَ اَلزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَ اَلزَّيْتُونَ وَ اَلرُّمّٰانَ مُتَشٰابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشٰابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذٰا أَثْمَرَ وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصٰادِهِ وَ لاٰ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاٰ يُحِبُّ اَلْمُسْرِفِينَ

ثم ذكر سبحانه إنشاءه الأشياء فقال: وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَ جَنّٰاتٍ من الكروم معروشات مسموكات مرفوعات با لدعائم.

وَ غَيْرَ مَعْرُوشٰاتٍ متروكات علي وجه الأرض لم تعرش.

وَ اَلنَّخْلَ وَ اَلزَّرْعَ أي: وأنشأ النخل والزرع.

مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ في اللون والطعم والحجم والرائحة [وقرئ: أكله بالضم والسكون](1) وهو ثمره الذي يؤكل. والضمير للنخل، والزرع داخل في حكمه لكونه معطوفا عليه، و مُخْتَلِفاً حال مقدّرة، لأنّه لم يكن وقت الإنشاء كذلك، وأنشأ الزيتون وَ اَلرُّمّٰانَ مُتَشٰابِهاً في الطعم واللون والحجم وَ غَيْرَ مُتَشٰابِهٍ فيها.

وإنّما قال: إِذٰا أَثْمَرَ ليعلم أن وقت إباحة الأكل مِنْ ثَمَرِهِ وقت الإطلاع، ولا يتوهم أنّه غير مباح أكله قبل وقت الإيناع.

وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصٰادِهِ وهو ما تيسّر إعطاؤه المساكين من الضغث بعد الضغث والحفنة بعد الحفنة وهو المروي عنهم عليهم السلام(2)، وقيل: إنّه الزكاة: العشر

ص: 154


1- ساقطة من أ، ب، ط.
2- ينظر: الوسائل ج 6 باب 13، 14 من أبواب زكاة الغلات.

أو نصف العشر(1)، أي: لا تؤخّروه عن أوّل وقت يمكن فيه الإيتاء.

وَ لاٰ تُسْرِفُوا بأن تتصدّقوا بالجميع ولا تبقوا للعيال شيئا.

[سورة الأنعام (6): الآیات 142 الی 144]

وَ مِنَ اَلْأَنْعٰامِ حَمُولَةً وَ فَرْشاً كُلُوا مِمّٰا رَزَقَكُمُ اَللّٰهُ وَ لاٰ تَتَّبِعُوا خُطُوٰاتِ اَلشَّيْطٰانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ثَمٰانِيَةَ أَزْوٰاجٍ مِنَ اَلضَّأْنِ اِثْنَيْنِ وَ مِنَ اَلْمَعْزِ اِثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ اَلْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اِشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحٰامُ اَلْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ وَ مِنَ اَلْإِبِلِ اِثْنَيْنِ وَ مِنَ اَلْبَقَرِ اِثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ اَلْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اِشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحٰامُ اَلْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدٰاءَ إِذْ وَصّٰاكُمُ اَللّٰهُ بِهٰذٰا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرىٰ عَلَى اَللّٰهِ كَذِباً لِيُضِلَّ اَلنّٰاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّٰالِمِينَ

عطف حَمُولَةً وَ فَرْشاً علي جَنّٰاتٍ . أي: وأنشأ مِنَ اَلْأَنْعٰامِ ما تحمل عليه الأثقال وما يفرش للذبح، أو ينسج من وبره وصوفه وشعره الفرش، وقيل: الحمولة: الكبار التي تصلح للحمل، والفرش: الصغار لدنوها من الأرض فهي كالفرش المفروش عليها(2).

ثَمٰانِيَةَ أَزْوٰاجٍ بدل من حَمُولَةً وَ فَرْشاً .

اثنين أي: زوجين اثنين، يريد الذكر و الأنثى كالكبش والنعجة، و التيس والعنز، والجمل والناقة، والثور والبقرة، فإنّ الواحد يسمّى فردا إذا كان وحده، وإذا كان معه غيره من جنسه فهما زوجان، يدلّ عليه قوله: خَلَقَ اَلزَّوْجَيْنِ اَلذَّكَرَ

ص: 155


1- عن ابن عباس وغيره. تفسير الطبري ج 8:40.
2- عن ابن مسعود وغيره. تفسير الطبري ج 8:46.

وَ اَلْأُنْثىٰ (1) وقوله: ثَمٰانِيَةَ أَزْوٰاجٍ .

ثم فسّرها بقوله: مِنَ اَلضَّأْنِ اِثْنَيْنِ وَ مِنَ اَلْمَعْزِ اِثْنَيْنِ و مِنَ اَلْإِبِلِ اِثْنَيْنِ وَ مِنَ اَلْبَقَرِ اِثْنَيْنِ . والضأن والمعز جمع ضائن وما عز.

والهمزة في آلذَّكَرَيْنِ للإنكار، والمراد بالذكرين: الذكر من الضأن ومن المعز، و بالأنثيين: الأنثى من الضأن ومن المعز. و المعنى: إنكار أن يحرّم اللّه من جنسي الغنم - ضأنها ومعزها - شيئا من نوعي ذكورها وإناثها، ولا مما تحمل إناث الجنسين.

وكذلك القول في آلذَّكَرَيْنِ من جنسي الإبل والبقر و الأنثيين منهما وما تحمل إناثهما. وذلك أنّهم كانوا يحرّمون ذكور الأنعام تارة، وإناثها تارة، وأولادها كيفما كانت ذكرا أو إناثا أو مختلطة تارة، وكانوا يقولون: قد حرّمها اللّه، فأنكر ذلك عليهم.

نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ أخبروني بأمر معلوم من جهة اللّه يدلّ علي تحريم ما حرّمتم إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ في أنّ اللّه حرّمه.

أَمْ كُنْتُمْ شُهَدٰاءَ بل أكنتم شهداء حين امركم ربّكم بهذا التحريم ؟!. ومعناه: أعرفتم توصية اللّه به مشاهدين، لانكم لا تؤمنون بالرسل وتقولون: إنّ اللّه حرّم هذا الذي تحرّمونه ؟! فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرىٰ عَلَى اَللّٰهِ كَذِباً فنسب إليه تحريم ما لم يحرّم لِيُضِلَّ اَلنّٰاسَ وهو عمرو بن لحي بن قمعة الذي بحّر البحائر وسيّب السوائب.

ص: 156


1- النجم: 45.

فقوله: وَ هُوَ اَلَّذِي أَنْشَأَ جَنّٰاتٍ تمامه عند قوله: وَصّٰاكُمُ اَللّٰهُ بِهٰذٰا .

وقوله: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إلى قوله: اَلْمُسْرِفِينَ اعتراض، وكذلك قوله:

كُلُوا مِمّٰا رَزَقَكُمُ اَللّٰهُ و نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إلي تمام الآيتين. والاعتراضات لتأكيد التحليل والاحتجاج علي من ذهب إلي التحريم.

[سورة الأنعام (6): آیة 145]

قُلْ لاٰ أَجِدُ فِي مٰا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلىٰ طٰاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّٰ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّٰهِ بِهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لاٰ عٰادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

ثم أخذ في بيان المحرّمات، وقوله: فِي مٰا أُوحِيَ إِلَيَّ إيذان بأنّ التحريم إنّما يثبت بوحي من اللّه لا بما تهواه النفوس.

مُحَرَّماً أي: طعاما محرّما من المطاعم التي حرّمتموها.

إِلاّٰ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أي: إلا أن يكون الشيء المحرّم ميتة.

أَوْ دَماً مَسْفُوحاً مصبوبا سائلا كالدم في العروق لا كالكبد أو المختلط باللحم لا يمكن تخليصه منه.

أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أي: نجس.

أَوْ فِسْقاً عطف علي المنصوب قبله و أُهِلَّ صفة له.

فَمَنِ اُضْطُرَّ فمن دعته الضرورة إلي أكل شيء من هذه المحرّمات.

غَيْرَ بٰاغٍ علي مضطر مثله وَ لاٰ عٰادٍ أي: متجاوز قدر حاجته من تناوله.

ص: 157

[سورة الأنعام (6): الآیات 146 الی 147]

وَ عَلَى اَلَّذِينَ هٰادُوا حَرَّمْنٰا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَ مِنَ اَلْبَقَرِ وَ اَلْغَنَمِ حَرَّمْنٰا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمٰا إِلاّٰ مٰا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمٰا أَوِ اَلْحَوٰايٰا أَوْ مَا اِخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذٰلِكَ جَزَيْنٰاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَ إِنّٰا لَصٰادِقُونَ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وٰاسِعَةٍ وَ لاٰ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ اَلْقَوْمِ اَلْمُجْرِمِينَ

ذو الظفر: كل ماله إصبع من دابة أو طائر وَ مِنَ اَلْبَقَرِ وَ اَلْغَنَمِ حَرَّمْنٰا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمٰا هو كقولك: من زيد أخذت ماله، تريد با لإضافة زيادة الربط، والمعنى: إنّه حرّم عليهم لحم كل ذي ظفر وشحمه وكل شيء منه، ولم يحرّم عليهم من البقر والغنم إلا الشحوم الخاصة وهي الثروب وشحوم الكلى.

وقوله: إِلاّٰ مٰا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمٰا معناه: إلا ما اشتمل علي الظهور و الجنوب.

أَوِ اَلْحَوٰايٰا أو ما اشتمل علي الأمعاء.

أَوْ مَا اِخْتَلَطَ بِعَظْمٍ وهو شحم الإلية.

ذٰلِكَ الجزاء جَزَيْنٰاهُمْ بِبَغْيِهِمْ بسبب ظلمهم وَ إِنّٰا لَصٰادِقُونَ فيما أوعدنا به العصاة، وفي الإخبار عن بغيهم.

فَإِنْ كَذَّبُوكَ فيما تقول فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وٰاسِعَةٍ لا يعجل بالعقوبة، ولا يدفع عذابه إذا جاء وقته.

[سورة الأنعام (6): آیة 148]

سَيَقُولُ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ مٰا أَشْرَكْنٰا وَ لاٰ آبٰاؤُنٰا وَ لاٰ حَرَّمْنٰا مِنْ شَيْ ءٍ كَذٰلِكَ كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتّٰى ذٰاقُوا بَأْسَنٰا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنٰا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ

ص: 158

[سورة الأنعام (6): الآیات 148 الی 150]

اَلظَّنَّ وَ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّٰ تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلّٰهِ اَلْحُجَّةُ اَلْبٰالِغَةُ فَلَوْ شٰاءَ لَهَدٰاكُمْ أَجْمَعِينَ قُلْ هَلُمَّ شُهَدٰاءَكُمُ اَلَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اَللّٰهَ حَرَّمَ هٰذٰا فَإِنْ شَهِدُوا فَلاٰ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَ لاٰ تَتَّبِعْ أَهْوٰاءَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا وَ اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ هُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ

هذا إخبار بما سوف يقولونه، ثم لما قالوه قال: وَ قٰالُوا لَوْ شٰاءَ اَلرَّحْمٰنُ مٰا عَبَدْنٰاهُمْ (1)، وزعموا أنّ شركهم وشرك آبائهم وتحريمهم ما حرّموه بمشيئة اللّه وإرادته، ولولا أنّه شاء ذلك لم يكن شيء منه، وهذا مذهب المجبّرة(2) بعينه.

كَذٰلِكَ جاء اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بالتكذيب المطلق، لأنّ اللّه سبحانه ركّب في العقول ما دلّ علي علمه بالقبائح، وبغناه عنها وبراءته عن مشيئة القبائح وإرادتها، وأخبر أنبياؤه بذلك، فمن علّق وجود الكفر بمشيئته فقد كذّب التكذيب كله، وهو تكذيب اللّه وكتبه ورسله، ونبذ أدلة العقل والسمع وراء ظهره.

كَذٰلِكَ أي: مثل ذلك التكذيب الذي صدر من هؤلاء كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ .

حَتّٰى ذٰاقُوا بَأْسَنٰا حتى أنزلنا عليهم العذاب بتكذيبهم.

قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ من أمر معلوم يصح الاحتجاج به فيما قلتم فَتُخْرِجُوهُ لَنٰا ، وهذا من التهكّم والشهادة بأنّ مثل قولهم محال أن يكون له حجة.

ص: 159


1- الزخرف: 20.
2- الجبر: هو نفي الفعل حقيقة من العبد وإضافته إلي الرب تعالي، والمجبّرة أصناف. ينظر: الملل و النحل ج 1:112.

إِنْ تَتَّبِعُونَ أي: ما تتبعون في قولكم هذا إِلاَّ اَلظَّنَّ .

وَ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّٰ تَخْرُصُونَ تقدّرون أن الأمر كما تزعمون، أو تكذبون.

قُلْ فَلِلّٰهِ اَلْحُجَّةُ اَلْبٰالِغَةُ أي: فإن كان الأمر كما زعمتم أنّ ما أنتم عليه بمشيئة اللّه، فلله الحجّة البالغة عليكم علي قود مذهبكم، فإنّه يقتضي أن تعلّقوا دين من يخالفكم أيضا بمشيئة اللّه.

فَلَوْ شٰاءَ لَهَدٰاكُمْ أَجْمَعِينَ منكم ومن مخالفيكم في الدين، فينبغي أن توالوهم ولا تعادوهم، لأنّ المشيئة تجمع بين ما أنتم عليه وما هم عليه.

هَلُمَّ يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، وبنو تميم تؤنث وتجمع، والمعنى: هاتوا شُهَدٰاءَكُمُ اَلَّذِينَ يَشْهَدُونَ بصحة ما تدعونه من أَنَّ اَللّٰهَ حَرَّمَ هٰذٰا .

فَإِنْ شَهِدُوا فَلاٰ تَشْهَدْ مَعَهُمْ أي: لا تسلّم لهم ما شهدوا به ولا تصدّقهم، لأنّه إذا سلّم لهم فكأنّه شهد مثل شهادتهم وكان واحدا منهم.

[سورة الأنعام (6): آیة 151]

قُلْ تَعٰالَوْا أَتْلُ مٰا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاّٰ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوٰالِدَيْنِ إِحْسٰاناً وَ لاٰ تَقْتُلُوا أَوْلاٰدَكُمْ مِنْ إِمْلاٰقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيّٰاهُمْ وَ لاٰ تَقْرَبُوا اَلْفَوٰاحِشَ مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا وَ مٰا بَطَنَ وَ لاٰ تَقْتُلُوا اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّٰهُ إِلاّٰ بِالْحَقِّ ذٰلِكُمْ وَصّٰاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ

مٰا حَرَّمَ منصوب ب - أَتْلُ بمعنى: أتل الذي حرّمه ربّكم، أو ب - حرم بمعنى: أتل أيّ شيء حرّم ربّكم لأنّ التلاوة من القول.

وأن في أَلاّٰ تُشْرِكُوا مفسّرة و (لا) للنهي، وإن جعلت أن الناصبة

ص: 160

للفعل كان أَلاّٰ تُشْرِكُوا بدلا من مٰا حَرَّمَ ، إلا أنّ القول الأوّل أوجه ليكون (لا تشركوا)، وَ لاٰ تَقْرَبُوا ، و لا تقتلوا ، وَ لاٰ تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ نواهي، وتنعطف الأوامر عليها وهي قوله: وَ بِالْوٰالِدَيْنِ إِحْسٰاناً فإنّ التقدير: وأحسنوا با لوالدين إحسانا وَ أَوْفُوا ، وَ إِذٰا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا .

ويجوز أن تقف علي قوله: حَرَّمَ رَبُّكُمْ ثم تبتدئ فتقول: عَلَيْكُمْ أَلاّٰ تُشْرِكُوا أي: عليكم ترك الإشراك، على أن تكون (أن) الناصبة للفعل.

وَ لاٰ تَقْتُلُوا أَوْلاٰدَكُمْ مِنْ إِمْلاٰقٍ أي: من أجل إملاق وخشيته، وهو الفقر.

اَلْفَوٰاحِشَ المعاصي والقبائح مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا وَ مٰا بَطَنَ مثل قوله:

وَ ذَرُوا ظٰاهِرَ اَلْإِثْمِ وَ بٰاطِنَهُ (1) ، وعن الباقر عليه السلام: (ما ظهر هو الزنا، وما بطن هو المخالة)(2).

وأعاد ذكر النهي عن القتل وإن كان داخلا في الفواحش تعظيما لأمره.

إِلاّٰ بِالْحَقِّ كالقصاص والقتل علي الردة والرجم.

و اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّٰهُ هي نفس المسلم والمعاهد.

[سورة الأنعام (6): الآیات 152 الی 153]

وَ لاٰ تَقْرَبُوا مٰالَ اَلْيَتِيمِ إِلاّٰ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّٰى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا اَلْكَيْلَ وَ اَلْمِيزٰانَ بِالْقِسْطِ لاٰ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّٰ وُسْعَهٰا وَ إِذٰا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كٰانَ ذٰا قُرْبىٰ وَ بِعَهْدِ اَللّٰهِ أَوْفُوا ذٰلِكُمْ وَصّٰاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَ أَنَّ هٰذٰا صِرٰاطِي مُسْتَقِيماً

ص: 161


1- الأنعام: 120.
2- التبيان ج 4:341.

[سورة الأنعام (6): آیة 153]

فَاتَّبِعُوهُ وَ لاٰ تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذٰلِكُمْ وَصّٰاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ

المراد بالقرب التصرّف فيه.

إِلاّٰ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [بالخصلة التي هي أحسن](1) ما يفعل بمال اليتيم، وهي حفظه وتثميره، والمعنى: احفظوه عليه حَتّٰى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وهو بلوغ الحلم وكمال العقل، ثم ادفعوه إليه.

بِالْقِسْطِ با لتسوية والعدل.

لاٰ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّٰ وُسْعَهٰا وهو ما يسعها ولا تعجز عنه، وإنّما أتبع الأمر بإيفاء الكيل والوزن ذلك، لأنّ مراعاة التعديل فيهما علي الحد الذي لا زيادة فيه ولا نقصان مما يتعذر، فأمر ببلوغ الوسع وأنّ ما وراءه معفو عنه.

وَ إِذٰا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا أي: فقولوا الحقّ وَ لَوْ كٰانَ المقول له أو عليه في شهادة أو غيرها ذٰا قُرْبىٰ من القائل، أي: من أهل قرابته.

وَ أَنَّ هٰذٰا صِرٰاطِي مُسْتَقِيماً قرئ بالفتح علي تقدير: ولأنّ هذا صراطي مستقيما فَاتَّبِعُوهُ ، وهذا علي قياس قول سيبويه(2) في نحو قوله: وَ أَنَّ اَلْمَسٰاجِدَ لِلّٰهِ فَلاٰ تَدْعُوا (3) و لِإِيلاٰفِ قُرَيْشٍ ... فَلْيَعْبُدُوا (4) فيكون - علي هذا - قوله. وَ أَنَّ هٰذٰا صِرٰاطِي مُسْتَقِيماً علة للاتباع. وقرئ: وأن هذا - بالتخفيف - على: وأنّه هذا صراطي، على أنّ (الهاء) ضمير الشأن، وقرئ: وإن - بالكسر -

ص: 162


1- ساقطة من ج.
2- الكتاب ج 3:127.
3- الجن: 18.
4- قريش: 1-3.

فيكون كأنّه قيل: واتبعوا صراطي إنّه مستقيم.

وَ لاٰ تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ الطرق المختلفة في الدين من اليهودية و النصرانية والمجوسية وسائر البدع و الشبهات.

فَتَفَرَّقَ بِكُمْ أصله تتفرّق، أي: فتفرّقكم أيادي سبأ.

عَنْ سَبِيلِهِ عن صراط اللّه المستقيم وهو دين الإسلام، وقرئ: فتفرق - بإدغام التاء في التاء -. وروي: أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم خطّ خطا ثم قال: (هذا سبيل الرشد، ثم خطّ عن يمينه وعن شماله خطوطا ثم قال: هذه سبل علي كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم تلا هذه الآية: وَ أَنَّ هٰذٰا صِرٰاطِي مُسْتَقِيماً )(1).

وعن ابن عباس: (هذه الآيات محكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب)(2).

[سورة الأنعام (6): الآیات 154 الی 157]

ثُمَّ آتَيْنٰا مُوسَى اَلْكِتٰابَ تَمٰاماً عَلَى اَلَّذِي أَحْسَنَ وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقٰاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَ هٰذٰا كِتٰابٌ أَنْزَلْنٰاهُ مُبٰارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَ اِتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمٰا أُنْزِلَ اَلْكِتٰابُ عَلىٰ طٰائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنٰا وَ إِنْ كُنّٰا عَنْ دِرٰاسَتِهِمْ لَغٰافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنّٰا أُنْزِلَ عَلَيْنَا اَلْكِتٰابُ لَكُنّٰا أَهْدىٰ مِنْهُمْ فَقَدْ جٰاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيٰاتِ اَللّٰهِ وَ صَدَفَ عَنْهٰا سَنَجْزِي اَلَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيٰاتِنٰا سُوءَ اَلْعَذٰابِ بِمٰا كٰانُوا يَصْدِفُونَ

عطف ثُمَّ آتَيْنٰا على وَصّٰاكُمْ بِهِ [والمعنى: ذلكم وصاكم به](3)

ص: 163


1- مسند أحمد ج 1:435.
2- معالم التنزيل ج 1:338.
3- ساقطة من ج.

يا بني آدم قديما وحديثا، ثم إنّا آتينا مُوسَى اَلْكِتٰابَ ، وقيل: هو عطف علي ما تقدّم من قوله: وَ وَهَبْنٰا لَهُ إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ (1).

تَمٰاماً عَلَى اَلَّذِي أَحْسَنَ أي: تماما للكرامة والنعمة على من كان محسنا صالحا يريد جنس المحسنين، أو أراد به موسى عليه السلام أي: تتمة للكرامة على [العبد الذي أحسن الطاعة في التبليغ وفي كل ما أمر به، أو تماما علي](2) الذي أحسن موسى من العلم والشرائع، من أحسن الشيء: إذا أجاد معرفته، أي: زيادة علي علمه علي وجه التتميم.

أَنْ تَقُولُوا كراهة أن تقولوا: إِنَّمٰا أُنْزِلَ اَلْكِتٰابُ عَلىٰ طٰائِفَتَيْنِ يريدون اليهود والنصاري.

وَ إِنْ كُنّٰا هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، أي: وإنّه كُنّٰا عَنْ دِرٰاسَتِهِمْ لَغٰافِلِينَ و الهاء ضمير الشأن، والدراسة: القراءة، أي: لم نعرف مثل دراستهم.

أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنّٰا أُنْزِلَ عَلَيْنَا اَلْكِتٰابُ لَكُنّٰا أَهْدىٰ مِنْهُمْ في المبادرة إلى قبوله و التمسّك به، لجودة أذهاننا وثقابة أفهامنا، فإنّ العرب كانوا يدلون بحدّة الذهن وذكاء الحدس، وحفظ أيّامهم ووقائعهم وخطبهم و أشعارهم.

فَقَدْ جٰاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ تبكيت لهم، وهو علي قراءة من قرأ:

يقولوا - بالياء - علي لفظ الغيبة أحسن لما فيه من الالتفات. والمعنى: إن صدقتم فيما كنتم تعدّونه من أنفسكم فقد جاءكم بيّنة من ربّكم، فحذف الشرط.

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيٰاتِ اَللّٰهِ بعد ما عرف صحتها وصدقها، أو

ص: 164


1- الأنعام: 84.
2- ساقطة من ج.

تمكّن من معرفة ذلك.

وَ صَدَفَ عَنْهٰا الناس فضلّ وأضلّ .

[سورة الأنعام (6): آیة 158]

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّٰ أَنْ تَأْتِيَهُمُ اَلْمَلاٰئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيٰاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيٰاتِ رَبِّكَ لاٰ يَنْفَعُ نَفْساً إِيمٰانُهٰا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمٰانِهٰا خَيْراً قُلِ اِنْتَظِرُوا إِنّٰا مُنْتَظِرُونَ

أي: ما ينتظر هؤلاء إِلاّٰ أَنْ تَأْتِيَهُمُ ملائكة الموت أو العذاب.

أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أي: كل آيات ربّك بدلالة قوله: أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيٰاتِ رَبِّكَ يريد آيات القيامة والهلاك الكلي، وبعض الآيات أشراط الساعة كطلوع الشمس من مغربها وغير ذلك.

يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيٰاتِ رَبِّكَ [التي يزول التكليف عندها](1).

لاٰ يَنْفَعُ نَفْساً إِيمٰانُهٰا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ أي: لا ينفع الإيمان حينئذ نفسا غير مقدّمة إيمانها من قبل ظهور الآيات، ولا ينفع الكسب للخيرات في الإيمان حينئذ نفسا غير كاسبة لها فِي إِيمٰانِهٰا من قبل ظهورها. وفي هذا دلالة علي أنّ كسب الخير الذي هو عمل الجوارح، غير الإيمان الذي هو عمل القلب، ألا ترى أنّه عطف هذا علي ذاك، و الشيء لا يعطف علي نفسه وإنّما يعطف علي غيره.

قُلِ اِنْتَظِرُوا إِنّٰا مُنْتَظِرُونَ وعيد وتهديد. وقرئ: تأتيهم الملائكة - بالتاء والياء -.

ص: 165


1- ساقطة من ج.

[سورة الأنعام (6): الآیات 159 الی 160]

إِنَّ اَلَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كٰانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ ءٍ إِنَّمٰا أَمْرُهُمْ إِلَى اَللّٰهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَفْعَلُونَ مَنْ جٰاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثٰالِهٰا وَ مَنْ جٰاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاٰ يُجْزىٰ إِلاّٰ مِثْلَهٰا وَ هُمْ لاٰ يُظْلَمُونَ

فَرَّقُوا دِينَهُمْ بأن جعلوه أديانا.

وَ كٰانُوا شِيَعاً أي: أحزابا وفرقا يكفّر بعضهم بعضا، كل فرقة تشيع إماما لها. وفي الحديث: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، كلها في الهاوية إلا واحدة وهي الناجية، و افترقت النصاري على اثنتين وسبعين فرقة، كلها في الهاوية إلا واحدة وهي الناجية، و تفترق أمّتي علي ثلاث وسبعين فرقة، كلها في الهاوية إلا وا حدة)(1). وقرئ: فارقوا دينهم، أي: تركوه.

لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ ءٍ أي: من السؤال عنهم وعن تفرّقهم، وقيل: معناه:

إنّك علي المباعدة التامة من الاجتماع معهم في شيء من مذاهبهم الفاسدة.

إِنَّمٰا أَمْرُهُمْ و الحكم بينهم في اختلافهم إِلَى اَللّٰهِ .

فَلَهُ عَشْرُ أَمْثٰالِهٰا أقيمت الصفة مقام الموصوف، تقديره: عشر حسنات أمثالها، و قرئ: عشر أمثالها - برفعهما جميعا - علي الوصف، وهذا أقل ما وعد من الأضعاف، فقد وعد بالواحد سبعمائة، و وعد أضعافا مضاعفة بغير حساب.

ومضاعفة الحسنات فضل ومكافأة السيئات عدل.

وَ هُمْ لاٰ يُظْلَمُونَ لا ينقص من ثوابهم ولا يزاد علي عقابهم.

ص: 166


1- سنن ابن ماجة ج 2:1322 ح 3992، أمالي الشيخ الطوسي ج 2:136 عن علي عليه السلام.

[سورة الأنعام (6): الآیات 161 الی 163]

قُلْ إِنَّنِي هَدٰانِي رَبِّي إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرٰاهِيمَ حَنِيفاً وَ مٰا كٰانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلاٰتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيٰايَ وَ مَمٰاتِي لِلّٰهِ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ لاٰ شَرِيكَ لَهُ وَ بِذٰلِكَ أُمِرْتُ وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُسْلِمِينَ

دِيناً بدل من موضع قوله: إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ فإنّ المعنى: هداني صراطا، والقيّم فيعل من قام كالسيّد والهيّن، وقرئ: قِيَماً و هو مصدر بمعنى القيام وصف به.

و مِلَّةَ إِبْرٰاهِيمَ عطف بيان، و حَنِيفاً حال من إِبْرٰاهِيمَ أي: هداني و عرّفني ملة إبراهيم في حال حنيفيته.

إِنَّ صَلاٰتِي وَ نُسُكِي أي: عبادتي و تقرّبي كله، وقيل: و ذبحي فجمع بين الصلاة و الذبح(1)، ونحوه: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ اِنْحَرْ (2)، وقيل: و مناسك حجّي(3).

وَ مَحْيٰايَ وَ مَمٰاتِي وما آتيه في حال حياتي و أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح لِلّٰهِ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ خالصة لوجهه.

وَ بِذٰلِكَ الإخلاص أُمِرْتُ وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُسْلِمِينَ لأنّ إسلام كل نبيّ متقدّم لإسلام أمّته.

[سورة الأنعام (6): الآیات 164 الی 165]

قُلْ أَ غَيْرَ اَللّٰهِ أَبْغِي رَبًّا وَ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ لاٰ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاّٰ عَلَيْهٰا وَ لاٰ تَزِرُ وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ ثُمَّ إِلىٰ رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمٰا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَ هُوَ اَلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاٰئِفَ اَلْأَرْضِ وَ رَفَعَ

ص: 167


1- عن سعيد بن جبير و غيره. تفسير الطبري ج 8:83.
2- الكوثر: 2.
3- عن مقاتل. معالم التنزيل ج 1:340.

[سورة الأنعام (6): آیة 165]

بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجٰاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مٰا آتٰاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ اَلْعِقٰابِ وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ

هذا جواب عن دعائهم إيّاه إلى عبادة آلهتهم، و الهمزة للإنكار، أي: منكر أن أَبْغِي رَبًّا غيره وَ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْ ءٍ فكل من دونه مربوب، ليس في الوجود من له الربوبية غيره، ونحوه: أَ فَغَيْرَ اَللّٰهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ (1).

وَ لاٰ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاّٰ عَلَيْهٰا جواب عن قولهم: اِتَّبِعُوا سَبِيلَنٰا وَ لْنَحْمِلْ خَطٰايٰاكُمْ (2).

وَ لاٰ تَزِرُ وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ معناه: لا تؤخذ نفس آثمة بإثم نفس أخري.

جَعَلَكُمْ خَلاٰئِفَ اَلْأَرْضِ يخلف أهل كل عصر أهل العصر الذي قبله، كلما مضى قرن خلفهم قرن، يجري ذلك علي انتظام واتساق إلى يوم القيامة، وقيل:

المراد بذلك أمّة نبيّنا محمّد صلى الله عليه و آله و سلم لأنه خاتم النبيين فخلفت أمّته سائر الأمم(3).

وَ رَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجٰاتٍ في الشرف والرزق، وقيل: في الصورة والعقل والمال و العمر.

لِيَبْلُوَكُمْ فِي مٰا آتٰاكُمْ كيف تشكرون نعمه، وكيف يصنع الشريف بالوضيع و الغني بالفقير.

إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ اَلْعِقٰابِ بمن كفر نعمته وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لمن قام بشكرها، ووصف العقاب بالسرعة لأنّ كل ما هو آت قريب.

ص: 168


1- الزمر: 64.
2- العنكبوت: 12.
3- عن السدي. تفسير الطبري ج 8:84.

سورة الأعراف

اشارة

مكية، مائتان وست آيات كوفي، خمس بصري، عدّ الكوفي المص و كَمٰا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ، وعدّ البصري مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ .

في حديث أبيّ : (من قرأ (سورة الأعراف) جعل اللّه بينه وبين إبليس سترا وكان آدم له شفيعا يوم القيامة)(1)، الصادق عليه السلام: (من قرأها في كل شهر كان يوم القيامة من الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون، فإن قرأها في كل جمعة كان ممن لا يحاسب يوم القيامة)(2).

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة الأعراف (7): الآیات 1 الی 3]

المص كِتٰابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلاٰ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَ ذِكْرىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ اِتَّبِعُوا مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لاٰ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيٰاءَ قَلِيلاً مٰا تَذَكَّرُونَ

أي: هو كِتٰابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ بأمر اللّه تعالى فَلاٰ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ أي: من تبليغه، والحرج: الضيق، لأنّه عليه السلام كان يخاف تكذيب قومه له و إعراضهم عن قبول قوله و أذاهم له، فكان يضيق صدره من الأداء ولا ينبسط له، فامنه اللّه

ص: 169


1- الكشف والبيان ج 4:214.
2- ثواب الأعمال: 105.

سبحانه وأمره بترك المبالاة بهم.

لِتُنْذِرَ بِهِ تعلّق ب - أُنْزِلَ إِلَيْكَ أي: أنزل إليك لإنذارك به، وَ ذِكْرىٰ يحتمل النصب علي معنى: لتنذر به و تذكّر تذكيرا، فإنّ الذكري في معنى التذكير؛ والرفع علي أنّه خبر مبتدأ محذوف، أو عطف علي كِتٰابٌ ؛ و الجر للعطف علي محلّ (أن تنذر) أي: للإنذار والذكرى.

اِتَّبِعُوا مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ من القرآن والوحي.

وَ لاٰ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ الضمير ل - مٰا أُنْزِلَ أي: ولا تتبعوا من دون دين اللّه دين أوليائكم، أو ل - رَبِّكُمْ . أي: ولا تتبعوا من دون اللّه أَوْلِيٰاءَ ، أي: ولا تتولوا من دونه من شياطين الإنس والجن، فيحملوكم علي الأهواء والبدع، و يضلوكم عن دين اللّه و عما أمركم باتباعه، وعن الحسن: (يا ابن ادم أمرت باتباع كتاب اللّه وسنة نبيه، واللّه ما أنزلت آية إلا ويجب أن تعلم فيما أنزلت وما معناها)(1).

قَلِيلاً مٰا تَذَكَّرُونَ أي: تتذكرون فأدغم، وقرئ: تذكرون - خفيفة الذال بحذف التاء -، وقرئ: يتذكرون - بياء وتاء - أي: يتذكرون تذكّرا قليلا حيث يتركون دين اللّه ويتبعون غيره.

[سورة الأعراف (7): الآیات 4 الی 5]

وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنٰاهٰا فَجٰاءَهٰا بَأْسُنٰا بَيٰاتاً أَوْ هُمْ قٰائِلُونَ فَمٰا كٰانَ دَعْوٰاهُمْ إِذْ جٰاءَهُمْ بَأْسُنٰا إِلاّٰ أَنْ قٰالُوا إِنّٰا كُنّٰا ظٰالِمِينَ

فَجٰاءَهٰا أي: فجاء أهلها.

بَأْسُنٰا أي: عذابنا.

بَيٰاتاً مصدر وضع موضع الحال، أي: بائتين أو قائلين. ويجوز أن لايقدر

ص: 170


1- الكشاف ج 2:86.

حذف المضاف في القرية ويكون الضمير في أَهْلَكْنٰاهٰا للقرية، لأنّ القرية تهلك كما يهلك أهلها، فلا حاجة بنا إلى الإضمار.

و قوله: أَوْ هُمْ قٰائِلُونَ لم يحتج فيه إلى الواو، لأنّ الضمير العائد قد أغنى عنه، و لأنّها إذا عطفت علي حال قبلها يحذف الواو استثقالا لاجتماع حرفي عطف، لأنّ واو الحال هي واو العطف استعيرت للوصل. والمعنى: وكم من قرية أردنا إهلاكها فجاءها عذابنا في هذين الوقتين: وقت البيات ووقت القيلولة، لأنّهما وقتا الغفلة والدعة فيكون نزول العذاب فيهما أشدّ.

فَمٰا كٰانَ دَعْوٰاهُمْ ما كانوا يدّعون من دينهم إلا اعترافهم ببطلانه وقولهم:

إِنّٰا كُنّٰا ظٰالِمِينَ فيما كنا عليه، أو فما كان دعاؤهم ربّهم إلا اعترافهم بظلمهم و تحسّرهم علي ما كان منهم.

و دَعْوٰاهُمْ خبر كٰانَ ، و أَنْ قٰالُوا رفع لأنه اسمه، ويجوز العكس.

[سورة الأعراف (7): الآیات 6 الی 9]

فَلَنَسْئَلَنَّ اَلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ اَلْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَ مٰا كُنّٰا غٰائِبِينَ وَ اَلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ اَلْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوٰازِينُهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ وَ مَنْ خَفَّتْ مَوٰازِينُهُ فَأُولٰئِكَ اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمٰا كٰانُوا بِآيٰاتِنٰا يَظْلِمُونَ

أي: فَلَنَسْئَلَنَّ المرسل إِلَيْهِمْ وهم الأمم، نسألهم عما أجابوا به رسلهم.

وَ لَنَسْئَلَنَّ اَلْمُرْسَلِينَ عما أجيبوا به وعما عملت أممهم فيما جاؤوا به.

فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ علي الرسل و المرسل إليهم ما كان منهم.

بِعِلْمٍ أي: عالمين بأحوالهم الظاهرة و الباطنة وَ مٰا كُنّٰا غٰائِبِينَ عنهم

ص: 171

و عما وجد منهم. وأما المعنى في سؤالهم مع علمه بأحوالهم، فالتوبيخ و التقرير عليهم، وازدياد سرور المثابين بالثناء عليهم، وغم المعاقبين بإظهار قبائحهم.

وَ اَلْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ اَلْحَقُّ يعني: وزن الأعمال و التمييز بين خفيفها و راجحها.

ورفعه علي الابتداء و اَلْحَقُّ صفته، و يَوْمَئِذٍ خبر المبتدأ، أي: والوزن يوم يسأل اللّه الأمم ورسلهم الوزن الحقّ ، أي: العدل. واختلف في كيفية الوزن: فقيل:

إنّه عبارة عن القضاء الحقّ و الحكم العدل(1)، وقيل: توزن صحف الأعمال بميزان له كفتان تأكيدا للحجّة وإظهارا للنصفة(2).

فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوٰازِينُهُ جمع ميزان أو موزون، فمن رجحت أعماله الموزونة التي لها قدر ووزن وهي الحسنات، أو ما توزن به حسناتهم.

بِآيٰاتِنٰا يَظْلِمُونَ أي: يكذبون بها ظلما كقوله: فَظَلَمُوا بِهٰا (3).

[سورة الأعراف (7): الآیات 10 الی 12]

وَ لَقَدْ مَكَّنّٰاكُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ جَعَلْنٰا لَكُمْ فِيهٰا مَعٰايِشَ قَلِيلاً مٰا تَشْكُرُونَ وَ لَقَدْ خَلَقْنٰاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنٰاكُمْ ثُمَّ قُلْنٰا لِلْمَلاٰئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّٰ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ اَلسّٰاجِدِينَ قٰالَ مٰا مَنَعَكَ أَلاّٰ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قٰالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نٰارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ

مَكَّنّٰاكُمْ فِي اَلْأَرْضِ جعلنا لكم فيها مكانا، أو ملكناكم فيها و أقدرناكم علي التصرّف فيها.

وَ جَعَلْنٰا لَكُمْ فِيهٰا مَعٰايِشَ جمع معيشة، وهي ما يعاش به من أنواع الرزق

ص: 172


1- عن مجاهد. تفسير الطبري ج 8:91.
2- عن ابن عباس وغيره. الدر المنثور ج 3:70.
3- الأعراف: 103.

ووجوه النعم و المنافع، أو ما يتوصل به إلي ذلك. والوجه التصريح بالياء، وقرأ بعضهم بالهمزة علي التشبيه بصحائف.

وَ لَقَدْ خَلَقْنٰاكُمْ أي: خلقنا أباكم ادم طينا غير مصوّر ثم صوّرناه بعد ذلك ثُمَّ قُلْنٰا لِلْمَلاٰئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ .

و (لا) في قوله: أَلاّٰ تَسْجُدَ صلة بدليل قوله: مٰا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمٰا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ (1)، و الفائدة في زيادتها توكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه وتحقيقه، كأنّه قيل: ما منعك أن تحقّق السجود وتلزمه نفسك إِذْ أَمَرْتُكَ ، لأنّ أمري لك بالسجود قد أوجبته عليك لابد لك منه، قٰالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نٰارٍ وعن ابن عباس: (قاس إبليس فأخطأ القياس، وهو أوّل من قاس)(2).

وإنّما دخلت الشبهة عليه من حيث ظن أنّ النار أشرف من الطين، ومن حقّ الأشرف أن لا يؤمر بالسجود للأدون، فكأنّه قال: من كان علي مثل صفتي يستبعد أن يؤمر بما أمرت به.

[سورة الأعراف (7): الآیات 13 الی 18]

قٰالَ فَاهْبِطْ مِنْهٰا فَمٰا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهٰا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ اَلصّٰاغِرِينَ قٰالَ أَنْظِرْنِي إِلىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ قٰالَ إِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ قٰالَ فَبِمٰا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرٰاطَكَ اَلْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمٰانِهِمْ وَ عَنْ شَمٰائِلِهِمْ وَ لاٰ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شٰاكِرِينَ قٰالَ اُخْرُجْ مِنْهٰا مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ

فَاهْبِطْ مِنْهٰا أي: من الجنّة، أو من السماء، أو من الدرجة أو المنزلة التي

ص: 173


1- ص: 75.
2- معالم التنزيل ج 2:3.

أنت عليها.

فَمٰا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ عن أمر اللّه فِيهٰا .

فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ اَلصّٰاغِرِينَ أي: من أهل الصغار والهوان علي اللّه وعلي أوليائه لتكبّرك، وذلك أنّه لما أظهر الاستكبار ألبس لباس الصغار. وفي الحديث:

(من تكبّر وضعه اللّه، و من تواضع رفعه اللّه)(1).

قٰالَ أَنْظِرْنِي أي: أمهلني و أخّرني في الأجل.

إِلىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي: بعث الخلق من قبورهم.

قٰالَ فَبِمٰا أَغْوَيْتَنِي أي: بسبب إغوائك إيّاي، وهو تكليفه إيّاه ما وقع به في الغي ولم يثبت كما ثبتت الملائكة، وعن بعضهم: أمرتني بالسجود فحملتني الأنفة علي معصيتك(2). فبسبب وقوعي في الغي لأجتهدن في إغوائهم حتى يفسدوا بسببي كما فسدت بسببهم. والباء يتعلّق بفعل القسم المحذوف أي: فبسبب إغوائك إيّاي أقسم.

لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرٰاطَكَ اَلْمُسْتَقِيمَ أي: لأعترضن لهم على طريق الإسلام كما يعترض العدو علي الطريق ليقطعه علي المارة. و انتصب صِرٰاطَكَ علي الظرف.

ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ من الجهات الأربع التي يأتي منها العدو في الغالب، وهذا مثل لوسوسته إليهم علي كل وجه يقدر عليه، وعن الباقر عليه السلام: (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ :

أهوّن عليهم أمر الآخرة، وَ مِنْ خَلْفِهِمْ : آمرهم بجمع الأموال و منعها عن الحقوق لتبقى لورثتهم، وَ عَنْ أَيْمٰانِهِمْ : أفسد عليهم أمر دينهم بتزيين الضلالة و تحسين الشبهة، وَ عَنْ شَمٰائِلِهِمْ : بتحبيب اللذات إليهم و تغليب الشهوات علي

ص: 174


1- تحف العقول: 32، مسند الشهاب ج 1:219.
2- عن الاصم. الكشاف ج 2:91.

قلوبهم)(1).

وَ لاٰ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شٰاكِرِينَ قاله تظنيا بدليل قوله: وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ (2)، وقيل: سمعه من الملائكة بإخبار اللّه لهم.

قٰالَ اُخْرُجْ مِنْهٰا مَذْؤُماً من ذأمه: إذا ذمّه.

مَدْحُوراً مطرودا.

لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ اللام فيه موطئة للقسم، و لَأَمْلَأَنَّ جواب القسم وقد سدّ مسدّ جواب الشرط مِنْكُمْ أي: منك ومنهم فغلّب ضمير المخاطب كما في قوله: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (3).

[سورة الأعراف (7): الآیات 19 الی 22]

وَ يٰا آدَمُ اُسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ اَلْجَنَّةَ فَكُلاٰ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمٰا وَ لاٰ تَقْرَبٰا هٰذِهِ اَلشَّجَرَةَ فَتَكُونٰا مِنَ اَلظّٰالِمِينَ فَوَسْوَسَ لَهُمَا اَلشَّيْطٰانُ لِيُبْدِيَ لَهُمٰا مٰا وُورِيَ عَنْهُمٰا مِنْ سَوْآتِهِمٰا وَ قٰالَ مٰا نَهٰاكُمٰا رَبُّكُمٰا عَنْ هٰذِهِ اَلشَّجَرَةِ إِلاّٰ أَنْ تَكُونٰا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونٰا مِنَ اَلْخٰالِدِينَ وَ قٰاسَمَهُمٰا إِنِّي لَكُمٰا لَمِنَ اَلنّٰاصِحِينَ فَدَلاّٰهُمٰا بِغُرُورٍ فَلَمّٰا ذٰاقَا اَلشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمٰا سَوْآتُهُمٰا وَ طَفِقٰا يَخْصِفٰانِ عَلَيْهِمٰا مِنْ وَرَقِ اَلْجَنَّةِ وَ نٰادٰاهُمٰا رَبُّهُمٰا أَ لَمْ أَنْهَكُمٰا عَنْ تِلْكُمَا اَلشَّجَرَةِ وَ أَقُلْ لَكُمٰا إِنَّ اَلشَّيْطٰانَ لَكُمٰا عَدُوٌّ مُبِينٌ

أي: وقلنا: يٰا آدَمُ .

فَوَسْوَسَ لَهُمَا اَلشَّيْطٰانُ أي: تكلّم كلاما خفيا يكرره، ومنه: (وسوس

ص: 175


1- تفسير القمي ج 1:224 بالمعنى.
2- سبأ: 20.
3- الأعراف: 138.

الحليّ )(1)، وهو فعل غير متعدّ، ورجل موسوس بكسر الواو ولا يقال: موسوس بالفتح ولكن موسوس له أو إليه، ومعنى وسوس له: فعل الوسوسة لأجله، ووسوس إليه: ألقاها إليه.

لِيُبْدِيَ لَهُمٰا جعل ذلك غرضا له ليسوؤهما إذا رأيا ما يؤثران ستره مكشوفا، وفيه دليل علي أنّ كشف العورة لم يزل مستقبحا في العقول. والمواراة:

جعل الشيء وراء ما يستره، ولم يهمز الواو المضمومة في (وري) كما همز واو (أو يصل) لأنّ الواو الثانية مدّة.

إِلاّٰ أَنْ تَكُونٰا إلا كراهة أن تكونا مَلَكَيْنِ أوهمهما أنّهما إذا أكلا من هذه الشجرة تغيّرت صورتهما إلى صورة الملك.

أَوْ تَكُونٰا مِنَ اَلْخٰالِدِينَ من الذين لا يموتون ويبقون في الجنّة.

وَ قٰاسَمَهُمٰا وأقسم لهما إِنِّي لَكُمٰا لَمِنَ اَلنّٰاصِحِينَ أي: المخلصين النصيحة في دعائكما إلى التناول من هذه الشجرة، ولذلك تأكّدت شبهتهما إذ ظنا أنّ أحدا لا يقسم باللّه كاذبا.

فَدَلاّٰهُمٰا بِغُرُورٍ من تدلية الدلو وهو إرسالها في البئر، أي: نزلهما إلى الأكل من الشجرة بما غرّهما به من القسم باللّه عزّ وجل. وعن قتادة: (وإنّما يخدع المؤمن باللّه)(2)، وعن ابن عمر: (إنّه كان إذا رأي من عبده حسن صلاة أعتقه، فقيل له:

إنّهم يخدعونك، فقال: من خدعنا باللّه انخدعنا له)(3).

فَلَمّٰا ذٰاقَا اَلشَّجَرَةَ وجدا طعمها آخذين في الأكل منها.

ص: 176


1- الحلي: نبات يخرج علي أطرافه مثل السنبل. (لسان العرب: مادة جمح)
2- تفسير الطبري ج 8:105.
3- طبقات ابن سعد ج 4 ق 1:123.

بَدَتْ لَهُمٰا سَوْآتُهُمٰا ظهرت لهما عوراتهما.

وَ طَفِقٰا يقال: طفق يفعل كذا بمعنى جعل يفعل.

يَخْصِفٰانِ ورقة فوق ورقة علي عوراتهما كما يخصف النعل.

مِنْ وَرَقِ اَلْجَنَّةِ قيل: كان ورق التين(1).

أَ لَمْ أَنْهَكُمٰا عتاب من اللّه وتنبيه علي الخطأ حيث لم يحذرا ما حذّرهما اللّه من عداوة إبليس ومكره.

[سورة الأعراف (7): الآیات 23 الی 25]

قٰالاٰ رَبَّنٰا ظَلَمْنٰا أَنْفُسَنٰا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنٰا وَ تَرْحَمْنٰا لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلْخٰاسِرِينَ قٰالَ اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتٰاعٌ إِلىٰ حِينٍ قٰالَ فِيهٰا تَحْيَوْنَ وَ فِيهٰا تَمُوتُونَ وَ مِنْهٰا تُخْرَجُونَ

سمّيا خطأهما ظلما لأنفسهما وقالا: لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلْخٰاسِرِينَ وإن كان ذلك تركا للمندوب عندنا، لأنّ الأنبياء معصومون منزّهون عن ارتكاب القبائح، علي عادة أولياء اللّه في استعظام الصغير من الزلات، و استصغار العظيم من الحسنات.

اِهْبِطُوا الخطاب لآدم وحواء وإبليس.

و بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ في محلّ النصب علي الحال، أي: متعادين يعاديهما إبليس و يعاديانه.

وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ أي: موضع استقرار، أو استقرار.

وَ مَتٰاعٌ إِلىٰ حِينٍ وانتفاع بعيش إلى انقضاء آجالكم.

قٰالَ اللّه سبحانه فيها في الأرض تَحْيَوْنَ تعيشون وَ فِيهٰا

ص: 177


1- عن ابن عباس. تفسير الطبري ج 8:106.

تَمُوتُونَ وَ مِنْهٰا تُخْرَجُونَ عند البعث.

[سورة الأعراف (7): الآیات 26 الی 27]

يٰا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنٰا عَلَيْكُمْ لِبٰاساً يُوٰارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً وَ لِبٰاسُ اَلتَّقْوىٰ ذٰلِكَ خَيْرٌ ذٰلِكَ مِنْ آيٰاتِ اَللّٰهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ يٰا بَنِي آدَمَ لاٰ يَفْتِنَنَّكُمُ اَلشَّيْطٰانُ كَمٰا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ اَلْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمٰا لِبٰاسَهُمٰا لِيُرِيَهُمٰا سَوْآتِهِمٰا إِنَّهُ يَرٰاكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاٰ تَرَوْنَهُمْ إِنّٰا جَعَلْنَا اَلشَّيٰاطِينَ أَوْلِيٰاءَ لِلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ

جعل ما في الأرض منزلا من السماء لأنّه ثم قضي وكتب، ومنه: وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ اَلْأَنْعٰامِ ثَمٰانِيَةَ أَزْوٰاجٍ (1).

والريش: لباس الزينة استعير من ريش الطير لأنه لباسه و زينته، و المعنى:

أَنْزَلْنٰا عَلَيْكُمْ لباسين: لِبٰاساً يُوٰارِي عوراتكم، و لباسا يزينكم.

وَ لِبٰاسُ اَلتَّقْوىٰ وهو الورع والخشية من اللّه، وهو مبتدأ، و خبره الجملة التي هي ذٰلِكَ خَيْرٌ ، كأنّه قيل: هو خير، لأنّ أسماء الإشارة تقرب من الضمائر فيما يرجع إلى عود الذكر. وقيل: لباس التقوي خبر مبتدأ محذوف أي: وهو لباس التقوى، ثم قيل: ذٰلِكَ خَيْرٌ ، و قيل: المراد بلباس التقوي ما يلبس من الدروع و المغافر(2) و غيرهما مما يتقى به في الحرب(3). و قرئ: و لباس التّقوى - بالنصب - عطفا علي لباسا وريشا.

ذٰلِكَ مِنْ آيٰاتِ اَللّٰهِ الدالة علي فضله ورحمته علي عباده، يعني: إنزال اللباس عليهم.

ص: 178


1- الزمر: 6.
2- المغافر: زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس يلبس تحت القلنسوة. (الصحاح: مادة غفر)
3- عن زيد بن علي معالم التنزيل ج 2:5.

لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فيعرفوا عظيم النعمة فيه. وهذه الآية واردة علي سبيل الاستطراد عقيب ذكر بدوّ السوآت، إظهارا لنعمته فيما خلق من اللباس.

لاٰ يَفْتِنَنَّكُمُ اَلشَّيْطٰانُ أي: لا يضلّنكم عن الدين ولا يصرفنكم عن الحقّ بأن يدعوكم إلى المعاصي التي تميل إليها نفوسكم، ولا يمحّننّكم بأن لا تدخلوا الجنّة كما محّن أبويكم بأن أخرجهما منها.

يَنْزِعُ عَنْهُمٰا لِبٰاسَهُمٰا في موضع نصب علي الحال، أي: أخرجهما نازعا لباسهما عنهما بأن كان السبب في نزع لباسهما عنهما.

إِنَّهُ يَرٰاكُمْ هُوَ تعليل للنهي والتحذير من فتنة الشيطان بأنّه بمنزلة العدو المداجي الذي يكيدكم من حيث لا تشعرون.

وَ قَبِيلُهُ وجنوده من الشياطين مِنْ حَيْثُ لاٰ تَرَوْنَهُمْ ، عن ابن عباس: (إنّ اللّه تعالي جعلهم يجرون من بني آدم مجري الدم، وصدور بني آدم مساكن لهم)(1)، وعن قتادة: (واللّه إنّ عدوا يراك ولا تراه لشديد المؤونة إلا من عصم الله)(2).

إِنّٰا جَعَلْنَا اَلشَّيٰاطِينَ أَوْلِيٰاءَ لِلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ أي: خلّينا بينهم وبينهم، لم نكفّهم عنهم حتى تولّوهم وأطاعوهم فيما سوّلوا لهم من مخالفة اللّه.

[سورة الأعراف (7): الآیات 28 الی 30]

وَ إِذٰا فَعَلُوا فٰاحِشَةً قٰالُوا وَجَدْنٰا عَلَيْهٰا آبٰاءَنٰا وَ اَللّٰهُ أَمَرَنٰا بِهٰا قُلْ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَأْمُرُ بِالْفَحْشٰاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اَللّٰهِ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ اُدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ كَمٰا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدىٰ

ص: 179


1- تفسير ابن عباس ج 2:87.
2- الدر المنثور ج 3:76.

[سورة الأعراف (7): آیة 30]

وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلضَّلاٰلَةُ إِنَّهُمُ اِتَّخَذُوا اَلشَّيٰاطِينَ أَوْلِيٰاءَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ

أي: وَ إِذٰا فَعَلُوا معصية كبيرة اعتذروا بأنّ آباءهم كانوا يفعلونها، و بأنّ اللّه أمرهم بأن يفعلوها، وكلاهما عذر باطل، لأنّ أحدهما تقليد والآخر كذب و افتراء علي اللّه.

قُلْ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَأْمُرُ بِالْفَحْشٰاءِ لأنّه لا يفعل القبيح فكيف يأمر بفعله.

أَ تَقُولُونَ عَلَى اَللّٰهِ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ إنكار لإضافتهم القبيح إليه و شهادة عليهم بالجهل.

قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ أي: بالعدل وبما يشهد العقل أنّه مستقيم حقّ حسن، وقيل بالتوحيد(1).

وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ أي وقل: أقيموا وجوهكم، أي: اقصدوا عبادته مستقيمين إليها غير عادلين إلى غيرها.

عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ في كل وقت سجود، أو في كل مكان سجود وهو الصلاة.

وَ اُدْعُوهُ و اعبدوه مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ أي: الطاعة مبتغين بها وجهه خالصا.

كَمٰا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ كما أنشأكم ابتداء يعيدكم فيجازيكم علي أعمالكم فأخلصوا له العبادة.

فَرِيقاً هَدىٰ وهم المؤمنون وفّقهم للإيمان.

ص: 180


1- عن الضحاك. معالم التنزيل ج 2:5.

وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ اَلضَّلاٰلَةُ أي: الخذلان إذ لم يقبلوا الهدى ولم يكن لهم لطف فهم يضلون ولا يهتدون. وانتصب قوله: وَ فَرِيقاً بفعل مضمر يفسّره ما بعده، والتقدير: وخذل فريقا حقّ عليهم الضلالة.

إنهم إنّ الفريق الذين حقّ عليهم الضلالة اِتَّخَذُوا اَلشَّيٰاطِينَ أَوْلِيٰاءَ أطاعوهم فيما أمروهم به.

[سورة الأعراف (7): الآیات 31 الی 33]

يٰا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا وَ لاٰ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاٰ يُحِبُّ اَلْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللّٰهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبٰادِهِ وَ اَلطَّيِّبٰاتِ مِنَ اَلرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا خٰالِصَةً يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ اَلْآيٰاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّمٰا حَرَّمَ رَبِّيَ اَلْفَوٰاحِشَ مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا وَ مٰا بَطَنَ وَ اَلْإِثْمَ وَ اَلْبَغْيَ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ أَنْ تُشْرِكُوا بِاللّٰهِ مٰا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطٰاناً وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اَللّٰهِ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ

أي: خُذُوا ثيابكم التي تتزينون بها عِنْدَ كُلِّ صلاة. وروي: إنّ الحسن بن علي عليهما السلام كان إذا قام إلي الصلاة لبس أجود ثيابه، فقيل له في ذلك، فقال: (إنّ اللّه جميل يحبّ الجمال فأتجمّل لربّي، وقرأ الآية)(1). وقيل: هو أمر بلبس الثياب في الصلاة والطواف، وكانوا يطوفون عراة، وقالوا: لا نعبد اللّه في ثياب أذنبنا فيها(2)، وقيل: أخذ الزينة هو التمشّط عند كل صلاة(3).

وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا وَ لاٰ تُسْرِفُوا عن ابن عباس: (كل ما شئت والبس ما شئت

ص: 181


1- تفسير العياشي ج 2:14.
2- عن ابن عباس وغيره. تفسير الطبري ج 8:119.
3- ينظر: الوسائل ج 1 باب 71 من أبواب آداب الحمام.

ما أخطأتك خصلتان: سرف، و مخيلة)(1).

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللّٰهِ أي: من حرّم الثياب التي يتزيّن بها الناس وكل ما يتجمل به مما أخرجه اللّه من الأرض لِعِبٰادِهِ .

وَ اَلطَّيِّبٰاتِ مِنَ اَلرِّزْقِ المستلذات من المآكل و المشارب. ومعنى الاستفهام إنكار تحريم هذه الأشياء.

قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا غير خالصة لهم، لأنّ المشركين يشركونهم فيها.

خٰالِصَةً يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ لهم لا يشركهم فيها أحد. ولم يقل: هي للذين آمنوا و لغيرهم في الحياة الدنيا، لينبّه علي أنّها خلقت للذين آمنوا، و أنّ الكافرين تبع لهم.

و قرئ: خالصة - بالنصب - علي الحال، وبالرفع علي أنّها خبر بعد خبر.

إِنَّمٰا حَرَّمَ رَبِّيَ اَلْفَوٰاحِشَ أي: لم يحرّم ربّي إلا الفواحش، والفاحشة: ما تزايد قبحه.

مٰا ظَهَرَ مِنْهٰا وَ مٰا بَطَنَ ما علن منها وما خفي.

وَ اَلْإِثْمَ عام في كل ذنب، وقيل: شرب الخمر(2).

وَ اَلْبَغْيَ الظلم و الكبر بِغَيْرِ اَلْحَقِّ تأكيد.

وَ أَنْ تُشْرِكُوا بِاللّٰهِ مٰا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطٰاناً فيه تهكّم، لأنه لا يجوز أن ينزل سلطانا وبرهانا بأن يشرك به غيره.

وَ أَنْ تَقُولُوا أي: تتقولوا علي اللّه و تفتروا الكذب من التحريم وغيره.

ص: 182


1- الكشف والبيان ج 4:229.
2- عن الكاظم عليه السلام. تفسير العياشي ج 2:17، وعن الحسن. الكشف والبيان ج 4:231.

[سورة الأعراف (7): الآیات 34 الی 37]

وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذٰا جٰاءَ أَجَلُهُمْ لاٰ يَسْتَأْخِرُونَ سٰاعَةً وَ لاٰ يَسْتَقْدِمُونَ يٰا بَنِي آدَمَ إِمّٰا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيٰاتِي فَمَنِ اِتَّقىٰ وَ أَصْلَحَ فَلاٰ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاٰ هُمْ يَحْزَنُونَ وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا وَ اِسْتَكْبَرُوا عَنْهٰا أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرىٰ عَلَى اَللّٰهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيٰاتِهِ أُولٰئِكَ يَنٰالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ اَلْكِتٰابِ حَتّٰى إِذٰا جٰاءَتْهُمْ رُسُلُنٰا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قٰالُوا أَيْنَ مٰا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ قٰالُوا ضَلُّوا عَنّٰا وَ شَهِدُوا عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كٰانُوا كٰافِرِينَ

وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ وعيد لكفار قريش بالعذاب النازل في أجل معلوم عند اللّه كما نزل بالأمم قبلهم.

يٰا بَنِي آدَمَ خطاب الجميع المكلفين من بني آدم.

إِمّٰا يَأْتِيَنَّكُمْ إن يأتكم رُسُلٌ من جنسكم، وإنّما ضمّت (ما) إلي (إن) الشرطية توكيدا لمعنى الشرط، ولذلك لزمت فعلها النون الثقيلة أو الخفيفة، وجزاء الشرط الفاء وما بعده من الشرط والجزاء. والمعنى: فَمَنِ اِتَّقىٰ منكم، وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا منكم.

فَمَنْ أَظْلَمُ أي: فمن أشنع ظلما مِمَّنِ قال عَلَى اَللّٰهِ ما لم يقله أَوْ كَذَّبَ ما قاله.

أُولٰئِكَ يَنٰالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ اَلْكِتٰابِ أي: مما كتب لهم من الأعمار والأرزاق.

حَتّٰى إِذٰا جٰاءَتْهُمْ رُسُلُنٰا : حَتّٰى غاية لنيلهم نصيبهم و استيفائهم إيّاه، أي: إلي وقت وفاتهم، وهي التي يبتدأ بعدها الكلام، و المستأنف هنا الجملة

ص: 183

الشرطية، و يَتَوَفَّوْنَهُمْ حال من الرسل، والمراد بالرسل هنا: ملك الموت و أعوانه.

قالوا أي: الرسل أَيْنَ الآلهة التي كنتم تدعونها.

قٰالُوا ضَلُّوا عَنّٰا أي: غابوا عنا فلا نراهم ولا ننتفع بهم، اعترافا منهم بأنّهم لم يكونوا علي شيء فيما كانوا عليه.

[سورة الأعراف (7): الآیات 38 الی 39]

قٰالَ اُدْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ فِي اَلنّٰارِ كُلَّمٰا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهٰا حَتّٰى إِذَا اِدّٰارَكُوا فِيهٰا جَمِيعاً قٰالَتْ أُخْرٰاهُمْ لِأُولاٰهُمْ رَبَّنٰا هٰؤُلاٰءِ أَضَلُّونٰا فَآتِهِمْ عَذٰاباً ضِعْفاً مِنَ اَلنّٰارِ قٰالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَ لٰكِنْ لاٰ تَعْلَمُونَ وَ قٰالَتْ أُولاٰهُمْ لِأُخْرٰاهُمْ فَمٰا كٰانَ لَكُمْ عَلَيْنٰا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا اَلْعَذٰابَ بِمٰا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ

أي: يقول اللّه جل جلاله للكفار يوم القيامة: اُدْخُلُوا فِي أُمَمٍ أي: كائنين في جملة أُمَمٍ وفي غمارهم مصاحبين لهم، والمعنى: ادخلوا في النار مع أمم قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ وتقدّم زمانهم زمانكم.

كُلَّمٰا دَخَلَتْ أُمَّةٌ من هذه الأمم النار لَعَنَتْ أُخْتَهٰا التي ضلت بالاقتداء بها.

حَتّٰى إِذَا اِدّٰارَكُوا أي: تداركوا فِيهٰا بمعنى: تلاحقوا واجتمعوا في النار قٰالَتْ أُخْرٰاهُمْ منزلة وهي الأتباع و السفلة لِأُولاٰهُمْ منزلة وهي القادة والرؤساء، ومعنى لِأُولاٰهُمْ لأجل أولاهم، لأنّ خطابهم مع اللّه لا معهم.

رَبَّنٰا هٰؤُلاٰءِ أَضَلُّونٰا أي: دعونا إلى الضلال و حملونا عليه فَآتِهِمْ عَذٰاباً ضِعْفاً أي: مضاعفا.

ص: 184

قٰالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ أي: لكل من رؤساء الضلالة وأتباعهم عذاب مضاعف، لأنّ جميعهم كانوا ضالين مضلين وَ لٰكِنْ لاٰ تَعْلَمُونَ . قرئ بالتاء والياء.

وَ قٰالَتْ أُولاٰهُمْ لِأُخْرٰاهُمْ أي: وقال الرؤساء للأتباع: فَمٰا كٰانَ لَكُمْ عَلَيْنٰا مِنْ فَضْلٍ عطفوا هذا الكلام علي قول اللّه سبحانه للأتباع: لِكُلٍّ ضِعْفٌ أي: فقد ثبت أن لا فضل لَكُمْ عَلَيْنٰا فإنّا قد استوينا في استحقاق الضعف.

فَذُوقُوا اَلْعَذٰابَ من قول الرؤساء، أو من قول اللّه لكلا الفريقين جميعا.

بِمٰا كُنْتُمْ تكسبونه باختياركم لا باختيارنا لكم.

[سورة الأعراف (7): الآیات 40 الی 43]

إِنَّ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا وَ اِسْتَكْبَرُوا عَنْهٰا لاٰ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوٰابُ اَلسَّمٰاءِ وَ لاٰ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ حَتّٰى يَلِجَ اَلْجَمَلُ فِي سَمِّ اَلْخِيٰاطِ وَ كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُجْرِمِينَ لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهٰادٌ وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَوٰاشٍ وَ كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلظّٰالِمِينَ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ لاٰ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّٰ وُسْعَهٰا أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلْجَنَّةِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ وَ نَزَعْنٰا مٰا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ اَلْأَنْهٰارُ وَ قٰالُوا اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي هَدٰانٰا لِهٰذٰا وَ مٰا كُنّٰا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لاٰ أَنْ هَدٰانَا اَللّٰهُ لَقَدْ جٰاءَتْ رُسُلُ رَبِّنٰا بِالْحَقِّ وَ نُودُوا أَنْ تِلْكُمُ اَلْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهٰا بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

لاٰ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوٰابُ اَلسَّمٰاءِ أي: لا يصعد لهم عمل صالح، ونحوه: إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ (1)، وقيل: لا تصعد أرواحهم إذا ماتوا كما تصعد أرواح المؤمنين(2)، و قيل: لا تنزل عليهم البركة ولا يغاثون كما قال: فَفَتَحْنٰا أَبْوٰابَ

ص: 185


1- فاطر: 10.
2- عن ابن عباس وغيره. تفسير الطبري ج 8:129.

اَلسَّمٰاءِ (1) . وقرئ: لا تفتح بالتشديد والتخفيف والتاء والياء.

[وَ لاٰ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ حَتّٰى يَلِجَ اَلْجَمَلُ فِي سَمِّ اَلْخِيٰاطِ ](2) أي: لا يدخلون الجنّة حتى يكون مالا يكون أبدا من ولوج الجمل - الذي لا يلج إلا في باب واسع - في ثقب الإبرة، والخياط والمخيط: ما يخاط به وهو الإبرة.

وَ كَذٰلِكَ أي: ومثل ذلك الجزاء الفظيع نَجْزِي سائر اَلْمُجْرِمِينَ .

وقد كرره فقال: وَ كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلظّٰالِمِينَ عن ابن عباس: (يريد الذين أشركوا به و اتخذوا من دونه إلها)(3). و المهاد: الفراش، و الغواشي: الأغطية.

لاٰ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّٰ وُسْعَهٰا جملة معترضة بين المبتدأ و الخبر للترغيب في اكتساب مالا يبلغه وصف الوصاف من النعيم الدائم مع الإجلال و التعظيم بما هو في الوسع، وهو الإمكان الواسع غير الضيق من الإيمان والعمل الصالح.

وَ نَزَعْنٰا مٰا فِي صُدُورِهِمْ قلوبهم مِنْ غِلٍّ علي إخوانهم في الدنيا، فسلمت قلوبهم وطهرت من الحقد والحسد و الشحناء، ولم يكن بينهم إلا التعاطف و التراحم و التواد.

اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ اَلَّذِي هَدٰانٰا لِهٰذٰا أي: وفّقنا لموجب هذا الفوز العظيم و الذخر الجسيم.

وَ مٰا كُنّٰا لِنَهْتَدِيَ اللام لتأكيد النفي، أي: وما يصح لنا أن نهتدي لَوْ لاٰ هداية اللّه وتوفيقه. وقرئ: ما كنا لنهتدي - بغير واو - علي أنّها جملة موضحة للأولى.

لَقَدْ جٰاءَتْ رُسُلُ رَبِّنٰا بِالْحَقِّ من جهة اللّه تعالى، و نبّهونا علي الاهتداء

ص: 186


1- القمر: 11.
2- زيادة يقتضيها السياق.
3- مجمع البيان ج 3-4:419.

فاهتدينا باتباع قولهم، يقولون ذلك سرورا و اغتباطا بما نالوا و تلذذا بالتكلّم به لا تعبدا.

وَ نُودُوا أَنْ تِلْكُمُ اَلْجَنَّةُ : (أن) مخففة من الثقيلة، تقديره: وَ نُودُوا بأنّه تلكم الجنّة، و الضمير ضمير الشأن، ويجوز أن يكون بمعنى (أي) لأنّ المناداة من القول كأنّه قيل: وقيل لهم: تلكم الجنّة أُورِثْتُمُوهٰا بسبب أعمالكم.

[سورة الأعراف (7): الآیات 44 الی 45]

وَ نٰادىٰ أَصْحٰابُ اَلْجَنَّةِ أَصْحٰابَ اَلنّٰارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنٰا مٰا وَعَدَنٰا رَبُّنٰا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مٰا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قٰالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اَللّٰهِ عَلَى اَلظّٰالِمِينَ اَلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ يَبْغُونَهٰا عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ كٰافِرُونَ

أن في قوله: أَنْ قَدْ وَجَدْنٰا يحتمل أن تكون مخففة من الثقيلة، وأن تكون مفسّرة كالتي ذكرت قبل، وكذلك أَنْ لَعْنَةُ اَللّٰهِ عَلَى اَلظّٰالِمِينَ ، وإنّما قالوا لهم ذلك ابتهاجا و اغتباطا بحالهم و شماتة بأصحاب النار، ولتكون هذه الحكاية لطفا لمن سمعها، وكذلك قول المؤذن بينهم: أَنْ لَعْنَةُ اَللّٰهِ عَلَى اَلظّٰالِمِينَ ، وقيل:

هو مالك خازن النار يأمره اللّه تعالى بذلك، فينادي نداء يسمع أهل الجنّة وأهل النار(1). وروي عن علي عليه السلام أنّه قال: (أنا ذلك المؤذن)(2). وقرئ: أنّ - بالتشديد - لعنة اللّه - بالنصب - وقرئ: نعم - بكسر العين - كل القرآن.

ولم يقل: وعدكم ربّكم كما قيل: وَعَدَنٰا و أطلق، ليتناول كل ما وعد اللّه من البعث و الحساب و الثواب والعقاب، لأنّهم كانوا مكذّبين بذلك أجمع.

يَصُدُّونَ أي: يعرضون عن دين اللّه وشريعته، أو يصرفون غيرهم عنها.

ص: 187


1- الكشاف ج 2:106.
2- شواهد التنزيل ج 1:202، معاني الأخبار: 57.

وَ يَبْغُونَهٰا عِوَجاً أي: يطلبون لها الاعوجاج بالشبه التي يتوهمون أنّها قادحة فيها.

وَ هُمْ بالدار الْآخِرَةِ وهي القيامة جاحدون.

[سورة الأعراف (7): الآیات 46 الی 47]

وَ بَيْنَهُمٰا حِجٰابٌ وَ عَلَى اَلْأَعْرٰافِ رِجٰالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمٰاهُمْ وَ نٰادَوْا أَصْحٰابَ اَلْجَنَّةِ أَنْ سَلاٰمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهٰا وَ هُمْ يَطْمَعُونَ وَ إِذٰا صُرِفَتْ أَبْصٰارُهُمْ تِلْقٰاءَ أَصْحٰابِ اَلنّٰارِ قٰالُوا رَبَّنٰا لاٰ تَجْعَلْنٰا مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظّٰالِمِينَ

وبين الجنّة والنار أو بين أهليهما حِجٰابٌ أي: ستر، ونحوه: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ (1).

وَ عَلَى اَلْأَعْرٰافِ أي: وعلي أعراف الحجاب - وهو السور المضروب بين الجنّة والنار - وهي أعاليه، جمع عرف مستعار من عرف الفرس والديك رِجٰالٌ قال الصادق عليه السلام: (الأعراف: كثبان بين الجنّة والنار، يوقف عليها كل نبيّ وكل خليفة نبي مع المذنبين من أهل زمانه، كما يقف صاحب الجيش مع الضعفاء من جنده، وقد سيق المحسنون إلي الجنّة، فيقول ذلك الخليفة للمذنبين الواقفين معه:

انظروا إلي إخوانكم المحسنين قد سيقوا إلى الجنّة، فيسلّم عليهم المذنبون، وذلك قوله: سَلاٰمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهٰا وَ هُمْ يَطْمَعُونَ أن يدخلهم اللّه إيّاها بشفاعة النبيّ والإمام، وينظر هؤلاء المذنبون إلى أهل النار فيقولون: رَبَّنٰا لاٰ تَجْعَلْنٰا... إلي آخره(2)، وقيل: إنّهم قوم استوت حسناتهم و سيئاتهم [فحالت حسناتهم بينهم وبين النار، وحالت سيئاتهم بينهم وبين الجنّة](3) فجعلوا هنالك حتى يقضي اللّه

ص: 188


1- الحديد: 13.
2- تفسير القمي ج 1:231 باختلاف.
3- ساقطة من ج.

فيهم ما يشاء و يدخلهم الجنّة(1).

يَعْرِفُونَ كُلاًّ من زمر السعداء و الأشقياء.

بِسِيمٰاهُمْ بعلامتهم التي أعلمهم اللّه بها.

وَ إِذٰا صُرِفَتْ أَبْصٰارُهُمْ تِلْقٰاءَ أَصْحٰابِ اَلنّٰارِ ورأوا ما هم فيه من العذاب استعاذوا باللّه و قٰالُوا رَبَّنٰا لاٰ تَجْعَلْنٰا منهم، وفي هذا أنّ صارفا يصرف أبصارهم [لينظروا فيستعيذوا. الصادق عليه السلام: وإذا قلبت أبصارهم](2) تلقاء أصحاب النار قالوا: عائذا بك أن تجعلنا مع القوم الظالمين، وكذلك هو في مصحف عبد اللّه بن مسعود.

[سورة الأعراف (7): الآیات 48 الی 49]

وَ نٰادىٰ أَصْحٰابُ اَلْأَعْرٰافِ رِجٰالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمٰاهُمْ قٰالُوا مٰا أَغْنىٰ عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَ مٰا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَ هٰؤُلاٰءِ اَلَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاٰ يَنٰالُهُمُ اَللّٰهُ بِرَحْمَةٍ اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ لاٰ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَ لاٰ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ

[الصادق عليه السلام](3): وينادي أصحاب الأعراف وهم الأنبياء و الخلفاء رِجٰالاً من أهل النار ورؤساء الكفار يقولون لهم - مقرّعين -: مٰا أَغْنىٰ عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ و استكباركم.

أَ هٰؤُلاٰءِ اَلَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاٰ يَنٰالُهُمُ اَللّٰهُ بِرَحْمَةٍ إشارة لهم إلي أهل الجنّة الذين كان الرؤساء يستضعفونهم و يحتقرونهم لفقرهم، و يستطيلون عليهم بدنياهم، و يقسمون أنّ اللّه لا يدخلهم الجنّة.

اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ يقول أصحاب الأعراف لهؤلاء المستضعفين عن أمر من اللّه عزّوجل لهم بذلك: ادخلوا الجنّة.

ص: 189


1- عن حذيفة وغيره. تفسير الطبري ج 8:137.
2- ساقطة من ج.
3- ساقطة من أ، ج.

لاٰ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَ لاٰ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ أي: لا خائفين ولا محزونين. وروي الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: (نحن نوقف يوم القيامة بين الجنّة والنار، فمن نصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنّة، ومن أبغضنا عرفناه بسيماه فأدخلناه النار)(1).

[سورة الأعراف (7): الآیات 50 الی 51]

وَ نٰادىٰ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ أَصْحٰابَ اَلْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنٰا مِنَ اَلْمٰاءِ أَوْ مِمّٰا رَزَقَكُمُ اَللّٰهُ قٰالُوا إِنَّ اَللّٰهَ حَرَّمَهُمٰا عَلَى اَلْكٰافِرِينَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَ لَعِباً وَ غَرَّتْهُمُ اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا فَالْيَوْمَ نَنْسٰاهُمْ كَمٰا نَسُوا لِقٰاءَ يَوْمِهِمْ هٰذٰا وَ مٰا كٰانُوا بِآيٰاتِنٰا يَجْحَدُونَ

أَفِيضُوا عَلَيْنٰا فيه دليل علي أنّ الجنّة فوق النار.

أَوْ مِمّٰا رَزَقَكُمُ اَللّٰهُ من الأطعمة والفواكه.

قٰالُوا إِنَّ اَللّٰهَ حَرَّمَهُمٰا حرّم شراب الجنّة وطعامها عَلَى اَلْكٰافِرِينَ .

اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَهُمْ الذي كان يلزمهم التديّن به لَهْواً وَ لَعِباً فحرّموا ما شاؤوا واستحلّوا ما شاؤوا.

فَالْيَوْمَ نَنْسٰاهُمْ أي: نعاملهم معاملة المنسي في النار فلا نجيب لهم دعوة، ولا نرحم لهم عبرة.

كَمٰا نَسُوا لِقٰاءَ يَوْمِهِمْ هٰذٰا فلم يخطروه ببالهم ولم يهتموا به.

و (ما) في الموضعين مصدرية، والتقدير: كنسيانهم وكونهم جاحدين بِآيٰاتِنٰا .

ص: 190


1- شواهد التنزيل ج 1:198.

[سورة الأعراف (7): الآیات 52 الی 53]

وَ لَقَدْ جِئْنٰاهُمْ بِكِتٰابٍ فَصَّلْنٰاهُ عَلىٰ عِلْمٍ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّٰ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ اَلَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جٰاءَتْ رُسُلُ رَبِّنٰا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنٰا مِنْ شُفَعٰاءَ فَيَشْفَعُوا لَنٰا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ اَلَّذِي كُنّٰا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مٰا كٰانُوا يَفْتَرُونَ

بِكِتٰابٍ يعني: القرآن.

عَلىٰ عِلْمٍ أي: عالمين، كيف نفصّل أحكامه ومواعظه و جميع معانيه، حتى جاء قيما غير ذي عوج. و هُدىً وَ رَحْمَةً حال من (الهاء) في فَصَّلْنٰاهُ ، كما أنّ عَلىٰ عِلْمٍ حال من (نا) في فَصَّلْنٰاهُ .

إِلاّٰ تَأْوِيلَهُ إلا عاقبة أمره، وما يؤول إليه من تبيّن صدقه، وظهور صحة ما نطق به من الوعد و الوعيد.

يَوْمَ يَأْتِي عاقبة ما وعدوا به.

يَقُولُ اَلَّذِينَ نَسُوهُ أي تركوا العمل به ترك الناسي له قَدْ جٰاءَتْ رُسُلُ رَبِّنٰا بِالْحَقِّ اعترفوا بأنّهم جاؤوا بالحقّ .

فَهَلْ لَنٰا مِنْ شُفَعٰاءَ فَيَشْفَعُوا لَنٰا في إزالة العقاب.

أَوْ نُرَدُّ أو هل نرد إلى الدنيا فَنَعْمَلَ غَيْرَ اَلَّذِي كُنّٰا نَعْمَلُ . وارتفع نُرَدُّ لوقوعه موقعا يصلح للاسم، كما تقول ابتداء: هل يضرب زيد.

[سورة الأعراف (7): آیة 54]

إِنَّ رَبَّكُمُ اَللّٰهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّٰامٍ ثُمَّ اِسْتَوىٰ عَلَى اَلْعَرْشِ يُغْشِي اَللَّيْلَ اَلنَّهٰارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ وَ اَلنُّجُومَ مُسَخَّرٰاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاٰ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ تَبٰارَكَ اَللّٰهُ رَبُّ اَلْعٰالَمِينَ

ص: 191

[سورة الأعراف (7): الآیات 55 الی 56]

اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً إِنَّهُ لاٰ يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ وَ لاٰ تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاٰحِهٰا وَ اُدْعُوهُ خَوْفاً وَ طَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اَللّٰهِ قَرِيبٌ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ

إِنَّ سيدكم و مالككم اَللّٰهُ اَلَّذِي أنشأ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ و أوجدهما.

فِي سِتَّةِ أَيّٰامٍ في مقدار ستة أيّام من أيّام الدنيا، لأنّ إنشاء الشيء بعد الشيء علي ترتيب، أدلّ علي كون فاعله عليما حكيما يدبّره علي مقتضي حكمته، أو لأنّه أراد تعليم خلقه التثبّت و التأنّي في الأمور.

يُغْشِي اَللَّيْلَ اَلنَّهٰارَ و قرئ بالتخفيف، أي: يلحق الليل بالنهار والنهار بالليل، بأن يأتي أحدهما عقيب الاخر.

يَطْلُبُهُ حَثِيثاً [بأن يأتي في أثره كما يأتي الشيء في أثر الشيء طالبا له](1)، و حَثِيثاً حال من الفاعل أو المفعول أو منهما جميعا، ومثله تَحْمِلُهُ في قوله:

فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهٰا تَحْمِلُهُ (2) .

وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ وَ اَلنُّجُومَ مُسَخَّرٰاتٍ قرئ الجميع بالنصب حملا علي خلق أي: خلقهن جاريات على حسب تدبيره، وقرئ - أيضا - جميعا بالرفع على الابتداء والخبر.

بِأَمْرِهِ أي: بمشيته وتصريفه، وسمّى ذلك أمرا علي التشبيه كأنّهن مأمورات بذلك.

ص: 192


1- ساقطة من ج.
2- مريم: 27.

أَلاٰ لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ أي: هو الذي خلق الأشياء وهو الذي صرّفها علي حسب إرادته.

تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً نصب على الحال، أي: ذوي تضرّع وخفية، وكذا قوله:

خَوْفاً وَ طَمَعاً ، و التضرّع من الضراعة وهي الذل أي: تذللا وتملقا، وقرئ:

خفية - بكسر الخاء - وهما لغتان.

إِنَّهُ لاٰ يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ أي: المجاوزين الحد المرسوم في جميع العبادات و الدعوات. وقيل: التضرّع: رفع الصوت، والخفية: السر(1) أي: ادعوه علانية وسرا، وقيل: معناهما تخشّعا وسرا(2).

وَ لاٰ تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ بالعمل بالمعاصي.

بَعْدَ إِصْلاٰحِهٰا بعد أن أصلحها اللّه بالكتب والرسل.

إِنَّ رَحْمَتَ اَللّٰهِ قَرِيبٌ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ إنّما ذكّر قَرِيبٌ علي معنى الترحّم، أو لأنه صفة موصوف محذوف، أي: شيء قريب، أو لأنّ تأنيث الرحمة غير حقيقي. والمحسن: فاعل الإحسان.

[سورة الأعراف (7): الآیات 57 الی 58]

وَ هُوَ اَلَّذِي يُرْسِلُ اَلرِّيٰاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتّٰى إِذٰا أَقَلَّتْ سَحٰاباً ثِقٰالاً سُقْنٰاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنٰا بِهِ اَلْمٰاءَ فَأَخْرَجْنٰا بِهِ مِنْ كُلِّ اَلثَّمَرٰاتِ كَذٰلِكَ نُخْرِجُ اَلْمَوْتىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَ اَلْبَلَدُ اَلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبٰاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ اَلَّذِي خَبُثَ لاٰ يَخْرُجُ إِلاّٰ نَكِداً كَذٰلِكَ نُصَرِّفُ اَلْآيٰاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ

قرئ: نشرا مصدر نشر، لأنّ أرسل ونشر متقاربان فكأنّه قال: ينشر الرياح

ص: 193


1- عن قتادة. الدر المنثور ج 3:92.
2- تفسير الطبري ج 8:147.

نشرا، ويجوز أن يكون واقعا موقع الحال بمعنى منتشرات(1)، ونشرا جمع نشور، ونشرا بتخفيفه كرسل ورسل، وقرئ: بشرا جمع بشيرة، و بُشْراً بتخفيفه.

بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي: أمام نعمته وهي الغيث الذي هو من أحسن النعم أثرا و أجلّها قدرا.

حَتّٰى إِذٰا أَقَلَّتْ أي: حملت و رفعت.

سَحٰاباً ثِقٰالاً بالماء جمع سحابة.

سُقْنٰاهُ الضمير للسحاب علي اللفظ.

لِبَلَدٍ مَيِّتٍ لأجل بلد ليس فيه حيا(2) و لسقيه.

فَأَنْزَلْنٰا بِهِ بالبلد أو بالسحاب اَلْمٰاءَ فَأَخْرَجْنٰا بِهِ بهذا الماء مِنْ كُلِّ اَلثَّمَرٰاتِ .

كَذٰلِكَ نُخْرِجُ اَلْمَوْتىٰ أي: مثل ذلك الإخراج وهو إخراج الثمرات نحيي الأموات بعد موتها.

لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فيؤديكم التذكر إلي أنّه لا فرق بين الإخراجين، إذ كل منهما إعادة للشيء بعد إنشائه.

وَ اَلْبَلَدُ اَلطَّيِّبُ الأرض العذاة(3) الكريمة التربة.

يَخْرُجُ نَبٰاتُهُ زرعه خروجا زاكيا ناميا بأمر رَبِّهِ .

وَ اَلَّذِي خَبُثَ وهو السبخة التي لا تنبت ما ينتفع به لاٰ يَخْرُجُ نباته

ص: 194


1- في ب، ج، ط: منشرات.
2- الحيا - مقصور -: المطر والخصب. (الصحاح: مادة حيا)
3- العذاة: الطيبة التربة. (الصحاح: مادة عذا)

إِلاّٰ نَكِداً فحذف المضاف الذي هو النبات، وأقيم المضاف إليه مقامه فاستكن في الفعل، أو يكون التقدير: ونبات الذي خبث، و النكد: العسر الممتنع من الخروج.

كَذٰلِكَ أي: مثل ذلك التصريف.

نُصَرِّفُ اَلْآيٰاتِ نرددها و نكررها لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ نعمة اللّه تعالى.

[سورة الأعراف (7): الآیات 59 الی 64]

لَقَدْ أَرْسَلْنٰا نُوحاً إِلىٰ قَوْمِهِ فَقٰالَ يٰا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ مٰا لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخٰافُ عَلَيْكُمْ عَذٰابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قٰالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنّٰا لَنَرٰاكَ فِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ قٰالَ يٰا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاٰلَةٌ وَ لٰكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسٰالاٰتِ رَبِّي وَ أَنْصَحُ لَكُمْ وَ أَعْلَمُ مِنَ اَللّٰهِ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جٰاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلىٰ رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَ لِتَتَّقُوا وَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنٰاهُ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ فِي اَلْفُلْكِ وَ أَغْرَقْنَا اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا إِنَّهُمْ كٰانُوا قَوْماً عَمِينَ

لَقَدْ أَرْسَلْنٰا جواب قسم محذوف. هو نوح بن لمك بن متوشلخ بن اخنوخ وهو إدريس النبي عليه السلام. و قرئ: غيره - بالجر - علي اللفظ، و بالرفع علي محلّ مِنْ إِلٰهٍ .

و قوله: مٰا لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُهُ بيان لوجه اختصاصه بالعبادة.

و قوله: إِنِّي أَخٰافُ عَلَيْكُمْ عَذٰابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ بيان للداعي إلى عبادته بأنّه هو الذي يحذر عقابه دون من كانوا يعبدونه من دونه. واليوم العظيم: هو يوم القيامة أو يوم نزول العذاب عليهم.

ص: 195

و اَلْمَلَأُ : السادة و الأشراف.

فِي ضَلاٰلٍ أي: ذهاب عن الحقّ والصواب. والمراد بالرؤية رؤية القلب الذي هو العلم، وقيل: رؤية البصر أي: نراك بأبصارنا على هذه الحال(1).

لَيْسَ بِي ضَلاٰلَةٌ أي: ليس بي شيءمن الضلال.

أُبَلِّغُكُمْ بيان لكونه رسول ربّ العالمين، وهي جملة مستأنفة.

رِسٰالاٰتِ رَبِّي ما أوحي إليّ في الأوقات المتطاولة، وفي المعاني المختلفة من الأوامر والنواهي.

وَ أَنْصَحُ لَكُمْ في زيادة اللام دلالة علي إمحاض النصيحة للمنصوح له.

وَ أَعْلَمُ مِنَ اَللّٰهِ أي: من صفاته وأحواله وشدة بطشه على أعدائه مالا تعلمونه.

أَ وَ عَجِبْتُمْ الهمزة للإنكار، والواو للعطف، و المعطوف عليه محذوف، كأنّه قال: أكذبتم و عجبتم من أَنْ جٰاءَكُمْ ذِكْرٌ أي: موعظة مِنْ رَبِّكُمْ عَلىٰ رَجُلٍ علي لسان رجل مِنْكُمْ مثل قوله: مٰا وَعَدْتَنٰا عَلىٰ رُسُلِكَ (2). وذلك أنّهم تعجبوا من نبوّة نوح وقالوا: مٰا هٰذٰا إِلاّٰ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ (3).

لِيُنْذِرَكُمْ ليحذركم عاقبة الكفر.

وَ لِتَتَّقُوا و لتوجد منكم التقوى وهي خشية اللّه بسبب الإنذار.

وَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ و لترحموا بالتقوى إن وجدت منكم.

ص: 196


1- التبيان في إعراب القرآن: 577.
2- آل عمران: 194.
3- المؤمنون: 24.

فَأَنْجَيْنٰاهُ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ وكانوا أربعين رجلا وأربعين امرأة، وقيل: كانوا عشرة: بنوه: سام وحام ويافث وستة ممن امن به(1).

وتعلّق قوله فِي اَلْفُلْكِ ب - مَعَهُ كأنّه قال: والذين استقروا معه في الفلك أو صحبوه فيه، أو ب - (أنجينا) أي: أنجيناهم في السفينة من الطوفان.

قَوْماً عَمِينَ أي: عمي القلوب غير مستبصرين.

[سورة الأعراف (7): الآیات 65 الی 69]

وَ إِلىٰ عٰادٍ أَخٰاهُمْ هُوداً قٰالَ يٰا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ مٰا لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُهُ أَ فَلاٰ تَتَّقُونَ قٰالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنّٰا لَنَرٰاكَ فِي سَفٰاهَةٍ وَ إِنّٰا لَنَظُنُّكَ مِنَ اَلْكٰاذِبِينَ قٰالَ يٰا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفٰاهَةٌ وَ لٰكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسٰالاٰتِ رَبِّي وَ أَنَا لَكُمْ نٰاصِحٌ أَمِينٌ أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جٰاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلىٰ رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَ اُذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفٰاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَ زٰادَكُمْ فِي اَلْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاٰءَ اَللّٰهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

أَخٰاهُمْ في النسب يعني واحدا منهم من قولك: يا أخا العرب للواحد منهم، وإنّما جعل واحدا منهم، ليكونوا به أسكن و بحاله أعرف في صدقه وأمانته، وهو هود بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح.

و عطف أَخٰاهُمْ علي نُوحاً ، و هُوداً عطف بيان له، وحذف العاطف من قوله: قٰالَ يٰا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ لأنّه علي تقدير سؤال سائل سأل فقال: ما قال لهم هود؟ فقيل: قٰالَ يٰا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ ، وكذلك قوله: قٰالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا .

ص: 197


1- عن ابن إسحاق. الكشف والبيان ج 4:245.

و السفاهة: خفة الحلم و سخافة العقل، وصفوه بالسفه حيث هجر دينهم إلى دين اللّه، وقالوا: فِي سَفٰاهَةٍ جعلوا السفاهة ظرفا علي طريق المجاز، يريدون أنّه متمكّن فيها غير خال عنها، وفي إجابة نوح وهود وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام من نسبوهم إلى الضلالة و السفاهة بالكلام الصادر عن الإغضاء و المجاملة - مع علمهم بأنّ خصومهم أضلّ الخلق و أسفههم - أدب حسن، وحكاية اللّه ذلك تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء و يدارونهم.

وَ أَنَا لَكُمْ نٰاصِحٌ فيما أدعوكم إليه من توحيد اللّه وطاعته.

أَمِينٌ ثقة مأمون في تأدية الرسالة فلا أكذب ولا أغيّر.

إِذْ جَعَلَكُمْ أي: وقت جعلكم.

خُلَفٰاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ أي: خلفتموهم في الأرض من بعد هلاك قوم نوح بالعصيان.

وَ زٰادَكُمْ فِي اَلْخَلْقِ بَصْطَةً فيما خلق من أجرامكم ذهابا في الطول و البدانة، قال الباقر عليه السلام: (كانوا كالنخل الطوال، وكان الرجل منهم ينحو الجبل بيده فيهدّ منه قطعة)(1).

فَاذْكُرُوا آلاٰءَ اَللّٰهِ في استخلافكم و بسطة أجسامكم وما سواهما من نعمه، وواحد الآلاء إلى، ونحوه: إني وآناء.

[سورة الأعراف (7): الآیات 70 الی 71]

قٰالُوا أَ جِئْتَنٰا لِنَعْبُدَ اَللّٰهَ وَحْدَهُ وَ نَذَرَ مٰا كٰانَ يَعْبُدُ آبٰاؤُنٰا فَأْتِنٰا بِمٰا تَعِدُنٰا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّٰادِقِينَ قٰالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَ غَضَبٌ أَ تُجٰادِلُونَنِي

ص: 198


1- التبيان ج 4:475.

[سورة الأعراف (7): الآیات 71 الی 72]

فِي أَسْمٰاءٍ سَمَّيْتُمُوهٰا أَنْتُمْ وَ آبٰاؤُكُمْ مٰا نَزَّلَ اَللّٰهُ بِهٰا مِنْ سُلْطٰانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ اَلْمُنْتَظِرِينَ فَأَنْجَيْنٰاهُ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنّٰا وَ قَطَعْنٰا دٰابِرَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا وَ مٰا كٰانُوا مُؤْمِنِينَ

أنكروا اختصاصه للّه بالعبادة وتركه دين آبائهم في ترك عبادة الأصنام إلفا منهم بما نشأوا عليه.

فَأْتِنٰا بِمٰا تَعِدُنٰا استعجال منهم بالعذاب.

قٰالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ أي: وجب عليكم أو نزل عليكم، فجعل المتوقع بمنزلة الواقع.

رِجْسٌ أي: عذاب، من الإرجاس وهو الاضطراب.

أَ تُجٰادِلُونَنِي فِي أَسْمٰاءٍ سَمَّيْتُمُوهٰا أي: في أشياء ما هي إلا أسماء ليس تحتها مسمّيات، لأنّكم سمّيتموها آلهة ومعنى الإلهية فيها معدوم، ونحوه قوله: مٰا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ (1).

فَانْتَظِرُوا عذاب اللّه فإنّه نازل بكم إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ اَلْمُنْتَظِرِينَ لنزوله بكم.

وَ قَطَعْنٰا دٰابِرَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا أي: دمّرناهم واستأصلناهم عن آخرهم.

[سورة الأعراف (7): آیة 73]

وَ إِلىٰ ثَمُودَ أَخٰاهُمْ صٰالِحاً قٰالَ يٰا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ مٰا لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُهُ قَدْ جٰاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هٰذِهِ نٰاقَةُ اَللّٰهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهٰا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اَللّٰهِ وَ لاٰ تَمَسُّوهٰا

ص: 199


1- العنكبوت: 42.

[سورة الأعراف (7): الآیات 73 الی 74]

بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ وَ اُذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفٰاءَ مِنْ بَعْدِ عٰادٍ وَ بَوَّأَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهٰا قُصُوراً وَ تَنْحِتُونَ اَلْجِبٰالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاٰءَ اَللّٰهِ وَ لاٰ تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ

أي: وأرسلنا إِلىٰ ثَمُودَ . قرئ بمنع الصرف علي تأويل القبيلة، وهو ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح، وصالح من ولد ثمود.

قَدْ جٰاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ أي: دلالة معجزة وآية ظاهرة شاهدة علي صحة نبوتي.

هٰذِهِ نٰاقَةُ اَللّٰهِ كأنّه قيل: ما هذه البيّنة ؟ فقال: هٰذِهِ نٰاقَةُ اَللّٰهِ أضافها إلى الله لأنّه خلقها بلا واسطة، وخرجت من صخرة ملساء تمخضت بها تمخض النتوج بولدها، ثم انصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء لا يعلم ما بين جنبيها إلا اللّه عظما وهم ينظرون، ثم نتجت ولدا مثلها في العظم، وكان لها شرب يوم تشرب فيه ماء الوادي كله، وتسقيهم اللبن بدله، ولهم شرب يوم يخصهم لا تقرب فيه ماءهم.

و آيَةً نصب علي الحال، والعامل فيها ما دلّ عليه اسم الإشارة التي هي هٰذِهِ من معنى الفعل، كأنّه قيل: أشير إليها آية، و لكم بيان لمن هي له آية موجبة عليه الإيمان خاصة وهم ثمود، لأنّهم عاينوها وسمع غيرهم خبرها وليس الخبر كالمعاينة، فكأنّه قال: لكم خصوصا.

فَذَرُوهٰا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اَللّٰهِ أي: الأرض أرض اللّه والناقة ناقة اللّه فذروها تأكل في أرض ربّها، فليست الأرض لكم ولاما فيها من النبات من

ص: 200

إنباتكم.

وَ لاٰ تَمَسُّوهٰا بِسُوءٍ أي: بعقر أو نحر أو شيء من الأذي إكراما لآية اللّه.

وَ اُذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفٰاءَ في الأرض بأن مكّنكم فيها مِنْ بَعْدِ عٰادٍ .

وَ بَوَّأَكُمْ ونزّلكم وجعل لكم فيها مساكن تأوون إليها.

تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهٰا قُصُوراً أي: تبنونها من سهولة الأرض بما تعملون منها من اللبن والآجر.

وَ تَنْحِتُونَ اَلْجِبٰالَ بُيُوتاً تسكنونها في الشتاء.

و بُيُوتاً نصب علي الحال، كما يقال: خط هذا الثوب قميصا، وهي من الحال المقدرة لأنّ الجبل لا يكون بيتا في حال النحت، ولا الثوب قميصا في حال الخياطة.

فَاذْكُرُوا آلاٰءَ اَللّٰهِ أي: نعمه عليكم بما أعطاكم من القوة والتمكّن في الأرض.

وَ لاٰ تَعْثَوْا أي: ولا تبالغوا في الفساد.

[سورة الأعراف (7): الآیات 75 الی 79]

قٰالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَ تَعْلَمُونَ أَنَّ صٰالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قٰالُوا إِنّٰا بِمٰا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قٰالَ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا إِنّٰا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كٰافِرُونَ فَعَقَرُوا اَلنّٰاقَةَ وَ عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَ قٰالُوا يٰا صٰالِحُ اِئْتِنٰا بِمٰا تَعِدُنٰا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ فَأَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دٰارِهِمْ جٰاثِمِينَ فَتَوَلّٰى

ص: 201

[سورة الأعراف (7): آیة 79]

عَنْهُمْ وَ قٰالَ يٰا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسٰالَةَ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ وَ لٰكِنْ لاٰ تُحِبُّونَ اَلنّٰاصِحِينَ

قرأ ابن عامر(1): وقال الملأ - بإثبات الواو -.

و اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا أي: تعظّموا و أنفوا من اتباع الرسول الداعي إلي اللّه.

لِلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا للذين استضعفوهم واستذلوهم.

و لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل من اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا ، والضمير في مِنْهُمْ يعود إلي قَوْمِهِ أو إلى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا .

أَ تَعْلَمُونَ أَنَّ صٰالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ إنّما قالوه على سبيل السخرية.

فَعَقَرُوا اَلنّٰاقَةَ أسند العقر إلي جميعهم لأنّه كان برضاهم وإن لم يعقرها إلا بعضهم، وهو قدار بن سالف مع أصحابه، وكان أحمر أزرق قصيرا، وكانوا تسعة رهط. وقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: (يا عليّ من أشقى الأوّلين ؟ قال: اللّه ورسوله أعلم، قال عليه السلام: عاقر الناقة، أتدري من أشقى الآخرين ؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال:

الذي يخضب هذه من هذا، وأشار إلى لحيته - أي لحية عليّ - ورأسه)(2).

وَ عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ تولوا عنه واستكبروا عن امتثاله عاتين، وأمر ربّهم هو ما أمر به علي لسان صالح من قوله: فَذَرُوهٰا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اَللّٰهِ أو شأن ربّهم وهو دينه.

اِئْتِنٰا بِمٰا تَعِدُنٰا أي: من العذاب، وإنّما استعجلوه لتكذيبهم به، ولذلك

ص: 202


1- عبد اللّه بن عامر بن يزيد اليحصبي إمام أهل الشام في القراءة والذي انتهت إليه مشيخة الاقراء بها، ولي القضاء بدمشق وتوفي بها يوم عاشوراء سنة 118 ه -. ينظر: غاية النهاية في طبقات القراء ج 1:423.
2- مسند أبي يعلى ج 1:377.

علقوه بما كانوا به كافرين وهو كونه مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ .

فَأَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ أي: الصيحة التي زلزلت لها الأرض واضطربوا لها.

فَأَصْبَحُوا فِي دٰارِهِمْ أي: بلادهم ومساكنهم.

جٰاثِمِينَ أي: ميتين هامدين لا يتحركون، يقال: الناس جثم، أي: قعود لا حراك بهم.

فَتَوَلّٰى عَنْهُمْ تولي متحسّر علي ما فاته من إيمانهم متحزّن لهم.

وَ قٰالَ يٰا قَوْمِ لَقَدْ بذلت فيكم وسعي ولم آل جهدا في النصيحة لكم.

والظاهر يدلّ علي أنّه كان مشاهدا لما جري عليهم، وأنّه تولي عنهم بعد ما أبصرهم موتى صرعى.

[سورة الأعراف (7): الآیات 80 الی 84]

وَ لُوطاً إِذْ قٰالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ اَلْفٰاحِشَةَ مٰا سَبَقَكُمْ بِهٰا مِنْ أَحَدٍ مِنَ اَلْعٰالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلرِّجٰالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ اَلنِّسٰاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ وَ مٰا كٰانَ جَوٰابَ قَوْمِهِ إِلاّٰ أَنْ قٰالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنٰاسٌ يَتَطَهَّرُونَ فَأَنْجَيْنٰاهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ اِمْرَأَتَهُ كٰانَتْ مِنَ اَلْغٰابِرِينَ وَ أَمْطَرْنٰا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلْمُجْرِمِينَ

أي: وأرسلنا لُوطاً ، و إِذْ ظرف ل - أَرْسَلْنٰا .

أَ تَأْتُونَ اَلْفٰاحِشَةَ أتفعلون السيئة المتمادية في القبح وهي إتيان الرجال في أد با رهم.

مٰا سَبَقَكُمْ بِهٰا أي: ما عملها قبلكم أحد، والباء للتعدية، ومنه قوله عليه السلام:

ص: 203

(سبقك بها عكاشة)(1)، و (من) في مِنْ أَحَدٍ مزيدة لتوكيد النفي وإفادة معنى الاستغراق، و (من) الثانية للتبعيض.

إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلرِّجٰالَ من أتى المرأة: إذا غشيها.

شَهْوَةً مفعول له أي: للاشتهاء لا حامل لكم عليه إلا مجرد الشهوة من غير داع آخر، ويجوز أن يكون حالا أي: مشتهين تابعين للشهوة.

مِنْ دُونِ اَلنِّسٰاءِ في موضع الحال أيضا، أي: تاركين إتيان النساء اللاتي أباح اللّه إتيانهن.

بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ متجاوزون الحد في الفساد حتى تجاوزتم المعتاد إلى غير المعتاد.

وَ مٰا كٰانَ جَوٰابَ قَوْمِهِ إِلاّٰ أَنْ قٰالُوا يعني: ما أجابوا لوطا عما كلّمهم به بما يكون جوابا، ولكنهم جاؤوا بما لا يتعلّق بكلامه ونصيحته من الأمر بإخراجه ومن معه من المؤمنين من قريتهم.

إِنَّهُمْ أُنٰاسٌ يَتَطَهَّرُونَ من الفواحش والخبائث.

فَأَنْجَيْنٰاهُ أي: فخلّصنا لوطا وَ أَهْلَهُ المختصين به من الهلاك.

إِلاَّ اِمْرَأَتَهُ كٰانَتْ مِنَ اَلْغٰابِرِينَ الذين غبروا في ديارهم أي: بقوا فيها فهلكوا، أو كانت كافرة موالية لأهل سدوم.

وَ أَمْطَرْنٰا عَلَيْهِمْ مَطَراً أي: أرسلنا عليهم الحجارة إرسال المطر نحو قوله: وَ أَمْطَرْنٰا عَلَيْهِمْ حِجٰارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (2)، والمعنى: وأمطرنا عليهم نوعا من

ص: 204


1- صحيح مسلم ج 1:137.
2- الحجر: 74.

المطر عجيبا، ونحوه قوله: فَسٰاءَ مَطَرُ اَلْمُنْذَرِينَ (1).

[سورة الأعراف (7): الآیات 85 الی 87]

وَ إِلىٰ مَدْيَنَ أَخٰاهُمْ شُعَيْباً قٰالَ يٰا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ مٰا لَكُمْ مِنْ إِلٰهٍ غَيْرُهُ قَدْ جٰاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا اَلْكَيْلَ وَ اَلْمِيزٰانَ وَ لاٰ تَبْخَسُوا اَلنّٰاسَ أَشْيٰاءَهُمْ وَ لاٰ تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاٰحِهٰا ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَ لاٰ تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرٰاطٍ تُوعِدُونَ وَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ تَبْغُونَهٰا عِوَجاً وَ اُذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَ اُنْظُرُوا كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلْمُفْسِدِينَ وَ إِنْ كٰانَ طٰائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَ طٰائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتّٰى يَحْكُمَ اَللّٰهُ بَيْنَنٰا وَ هُوَ خَيْرُ اَلْحٰاكِمِينَ

وأرسلنا إِلىٰ مَدْيَنَ أَخٰاهُمْ شُعَيْباً وكان يقال لشعيب: خطيب الأنبياء، لحسن مراجعته قومه، وكانوا أهل بخس للمكيال والميزان.

قَدْ جٰاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي: معجزة شاهدة بصحة نبوتي أوجبت عليكم الإيمان بي.

فَأَوْفُوا اَلْكَيْلَ وَ اَلْمِيزٰانَ أريد بالكيل آلة الكيل وهو المكيال، أو سمّى ما يكال به بالكيل كما قيل العيش لما يعاش به، أو أريد أوفوا الكيل ووزن الميزان، أو يكون الميزان بمعنى المصدر كالميعاد والميلاد.

ص: 205


1- الشعراء: 173.

وَ لاٰ تَبْخَسُوا ولا تنقصوا، وإنّما قيل: أَشْيٰاءَهُمْ لأنّهم كانوا يبخسون الناس كل شيء في مبايعاتهم.

بَعْدَ إِصْلاٰحِهٰا بعد الإصلاح فيها، أي: لاٰ تُفْسِدُوا فيها بَعْدَ ما أصلح فيها الصالحون من الأنبياء وأتباعهم، فتكون هذه الإضافة كما في قوله:

بَلْ مَكْرُ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ (1) أي: مكركم في الليل والنهار، أو بعد إصلاح أهلها على حذف المضاف.

ذٰلِكُمْ إشارة إلى ما ذكر من الوفاء بالكيل والميزان وترك البخس والإفساد في الأرض.

خَيْرٌ لَكُمْ في الإنسانية وحسن الأحدوثة وما تطلبونه من الربح، لأنّ الناس إذا عرفوا منكم النصفة والأمانة رغبوا في متاجرتكم.

إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مصدّقين لي في قولي.

وَ لاٰ تَقْعُدُوا بِكُلِّ منهج من مناهج الدين مقتدين بالشيطان في قوله: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرٰاطَكَ اَلْمُسْتَقِيمَ (2) تتوعدون من آمن بالله وَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ وكانوا يجلسون علي الطرق فيقولون لمن يمر بها: إنّ شعيبا كذّاب فلا يفتننكم عن دينكم، كما كان تفعل قريش بمكة.

وَ تَبْغُونَهٰا عِوَجاً أي: وتطلبون لسبيل اللّه عوجا، والمعنى: تصفونها للناس بأنّها سبيل معوجة غير مستقيمة لتصدوهم عن سلوكها والدخول فيها.

وَ اُذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً : إذ مفعول به غير ظرف، أي:

واذكروا علي وجه الشكر وقت كونكم قليلا عددكم. قالوا: إنّ مدين بن إبراهيم

ص: 206


1- سبأ: 33.
2- الأعراف: 16.

الخليل تزوج بنت لوط فولدت له، فرمى اللّه في نسلها بالبركة والنماء فكثروا(1)، ويجوز: إذ كنتم فقراء مقلّين فجعلكم أغنياء مكثرين.

وَ اُنْظُرُوا كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ من أفسد قبلكم كقوم نوح وهود وصالح ولوط، وكانوا قريبي العهد بهم.

وَ إِنْ كٰانَ جماعة مِنْكُمْ آمَنُوا وصدّقوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وقبلوا قولي، وجماعة لم يصدّقوني.

فَاصْبِرُوا فتربّصوا وانتظروا حَتّٰى يَحْكُمَ اَللّٰهُ بين الفريقين بأن ينصر المحقّ علي المبطل، وهذا [وعد للمؤمنين و](2) وعيد للكافرين.

[سورة الأعراف (7): الآیات 88 الی 89]

قٰالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يٰا شُعَيْبُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنٰا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنٰا قٰالَ أَ وَ لَوْ كُنّٰا كٰارِهِينَ قَدِ اِفْتَرَيْنٰا عَلَى اَللّٰهِ كَذِباً إِنْ عُدْنٰا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجّٰانَا اَللّٰهُ مِنْهٰا وَ مٰا يَكُونُ لَنٰا أَنْ نَعُودَ فِيهٰا إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اَللّٰهُ رَبُّنٰا وَسِعَ رَبُّنٰا كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً عَلَى اَللّٰهِ تَوَكَّلْنٰا رَبَّنَا اِفْتَحْ بَيْنَنٰا وَ بَيْنَ قَوْمِنٰا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْفٰاتِحِينَ

أي: قال الذين رفعوا أنفسهم فوق مقدارها من قوم شعيب: ليكونن أحد الأمرين: إما إخراجكم من بلدتنا، أو عودكم في الكفر، وقد يكون العود بمعنى الصيرورة كما في قول الشاعر:

تلك المكارم لا قعبان من لبن *** شيبا بماء فعادا بعد أبوالا(3)

ص: 207


1- تفسير السمرقندي ج 1:546.
2- ساقطة من أ، ب، ط.
3- أمية بن أبي الصلت حياته وشعره: 350.

قال شعيب: أَ وَ لَوْ كُنّٰا كٰارِهِينَ الواو واو الحال، والهمزة للاستفهام، أي: أتعيدوننا في ملتكم وتردوننا إليها في حال كوننا كارهين للدخول فيها؟ يريد أنّا مع كراهتنا لذلك لما عرفناه من بطلانه لا نرجع، وأنّكم لا تقدرون علي ردّنا إلى دينكم على كره منا، فيكون كٰارِهِينَ علي هذا بمعنى: مكرهين.

قَدِ اِفْتَرَيْنٰا عَلَى اَللّٰهِ كَذِباً إِنْ عُدْنٰا فِي مِلَّتِكُمْ معناه: إن عدنا في ملتكم بَعْدَ إِذْ نَجّٰانَا اَللّٰهُ مِنْهٰا بأن أقام لنا الدلّائل علي بطلانها وأوضح الحقّ لنا، فقد افترينا علي اللّه كذبا فيما دعوناكم إليه.

وَ مٰا يَكُونُ لَنٰا أي: وما ينبغي لنا وما يصح لنا أَنْ نَعُودَ فِيهٰا إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اَللّٰهُ خذلاننا ومنعنا الألطاف بأن يعلم أنّها لا تنفع فينا فيكون فعلها بنا عبثا، واللّه عزّ اسمه متعال عن فعل العبث، ويدلّ علي هذا قوله: وَسِعَ رَبُّنٰا كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً أي: هو عالم لذاته، يعلم كل شيء مما كان ويكون، فهو يعلم أحوال عباده كيف تتحول وقلوبهم كيف تتقلب.

عَلَى اَللّٰهِ تَوَكَّلْنٰا في أن يثبّتنا علي الإيمان ويوفّقنا لازدياد الإيقان.

ويجوز أن يكون قوله: إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اَللّٰهُ تعليقا لما لا يكون بما علم أنّه لا يكون علي وجه التبعيد، لأنّ مشيئة اللّه لعودهم في الكفر محال خارج عن الحكمة.

رَبَّنَا اِفْتَحْ بَيْنَنٰا [أي: احكم بيننا](1)وَ بَيْنَ قَوْمِنٰا بِالْحَقِّ والفتاحة:

الحكومة، أو أظهر أمرنا حتى ينفتح ما بيننا وبين قومنا وينكشف، بأن تنزل عليهم عذابا يتبين معه أنّا علي الحقّ وأنّهم على الباطل.

وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْفٰاتِحِينَ الحاكمين.

ص: 208


1- ساقطة من أ، ج.

[سورة الأعراف (7): الآیات 90 الی 95]

وَ قٰالَ اَلْمَلَأُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اِتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخٰاسِرُونَ فَأَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دٰارِهِمْ جٰاثِمِينَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا اَلَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كٰانُوا هُمُ اَلْخٰاسِرِينَ فَتَوَلّٰى عَنْهُمْ وَ قٰالَ يٰا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسٰالاٰتِ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسىٰ عَلىٰ قَوْمٍ كٰافِرِينَ وَ مٰا أَرْسَلْنٰا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاّٰ أَخَذْنٰا أَهْلَهٰا بِالْبَأْسٰاءِ وَ اَلضَّرّٰاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنٰا مَكٰانَ اَلسَّيِّئَةِ اَلْحَسَنَةَ حَتّٰى عَفَوْا وَ قٰالُوا قَدْ مَسَّ آبٰاءَنَا اَلضَّرّٰاءُ وَ اَلسَّرّٰاءُ فَأَخَذْنٰاهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لاٰ يَشْعُرُونَ

أي: قٰالَ الأشراف اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ للذين دونهم يثبطونهم عن الإيمان: لَئِنِ اِتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخٰاسِرُونَ لاستبدالكم الضلالة بالهدي، وقيل: تخسرون باتباعه فوائد البخس والتطفيف، لأنه ينهاكم عنهما ويحملكم علي الإيفاء والتسوية(1). واللام في لَئِنِ اِتَّبَعْتُمْ موطئة للقسم، وجواب القسم إِنَّكُمْ إِذاً لَخٰاسِرُونَ وقد سدّ مسدّ جواب الشرط.

الذين كذبوا شعيبا مبتدأ، وخبره كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا ، وكذلك كٰانُوا هُمُ اَلْخٰاسِرِينَ . وفي هذا الابتداء معنى الاختصاص، كأنّه قيل: الذين كذّبوا شعيبا هم المخصوصون بالهلاك والاستئصال كأن لم يقيموا في دارهم، لأنّ الذين اتبعوا شعيبا أنجاهم اللّه.

الذين كذبوا شعيبا هم المخصوصون بالخسران العظيم دون أتباعه لأنّهم الرابحون. وفي هذا الابتداء والتكرير تسفيه لرأي الملأ وردّ لمقالتهم ومبالغة

ص: 209


1- التبيان ج 4:501.

في ذلك.

فَتَوَلّٰى عَنْهُمْ شعيب لما رأي إقبال العذاب عليهم.

وَ قٰالَ يٰا قَوْمِ لَقَدْ أعذرت إليكم في النصيحة وإبلاغ الرسالة والتحذير مما حلّ بكم فلم تصدّقوني.

فَكَيْفَ آسىٰ أي: فكيف أحزن عَلىٰ قَوْمٍ ليسوا بأهل للحزن عليهم لكفرهم واستحقاقهم العذاب النازل بهم.

و اَلْبَأْسٰاءِ : البؤس والفقر، وَ اَلضَّرّٰاءِ : الضرّ والمرض.

لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ أي: ليتضرّعوا ويتوبوا ويتذللوا.

ثُمَّ بَدَّلْنٰا مَكٰانَ اَلسَّيِّئَةِ اَلْحَسَنَةَ أي: رفعنا السيئة يعني: ما كانوا فيه من البلاء والمحنة، ووضعنا الحسنة مكانها يعني: الرخاء والسعة والصحة.

حَتّٰى عَفَوْا أي: كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم من قولهم: عفا النبات، وعفا الشحم والوبر: إذا كثرت، ومنه قوله صلى الله عليه و آله و سلم: (واعفوا اللحى)(1).

وَ قٰالُوا قَدْ مَسَّ آبٰاءَنَا اَلضَّرّٰاءُ وَ اَلسَّرّٰاءُ يريد أبطرتهم النعمة وأشروا فقالوا: هذه عادة الدهر يعاقب في الناس بين الضراء والسراء، وقد مسّ آباءنا نحو ذلك فلم ينتقلوا عما كانوا عليه، فكونوا علي ما أنتم عليه كما كان آباؤكم كذلك.

فَأَخَذْنٰاهُمْ بَغْتَةً فجأة، عبرة لمن بعدهم.

وَ هُمْ لاٰ يَشْعُرُونَ أنّ العذاب نازل بهم إلا بعد حلوله.

[سورة الأعراف (7): آیة 96]

وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرىٰ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنٰا عَلَيْهِمْ بَرَكٰاتٍ مِنَ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لٰكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنٰاهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ

ص: 210


1- معاني الأخبار: 277، سنن البيهقي الكبرى ج 1:149.

[سورة الأعراف (7): الآیات 97 الی 99]

أَ فَأَمِنَ أَهْلُ اَلْقُرىٰ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنٰا بَيٰاتاً وَ هُمْ نٰائِمُونَ أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ اَلْقُرىٰ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنٰا ضُحًى وَ هُمْ يَلْعَبُونَ أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اَللّٰهِ فَلاٰ يَأْمَنُ مَكْرَ اَللّٰهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْخٰاسِرُونَ

اللام في اَلْقُرىٰ إشارة إلى القري التي دلّ عليها قوله: وَ مٰا أَرْسَلْنٰا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ ، فكأنّه قال: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ تلك اَلْقُرىٰ الذين كذّبوا و أهلكوا آمَنُوا بدل كفرهم وَ اِتَّقَوْا الشرك والمعاصي لَفَتَحْنٰا عَلَيْهِمْ بَرَكٰاتٍ أي: خيرات نامية مِنَ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ بإنزال المطر و إخراج النبات. والمعنى:

لآتيناهم بالخير من كل وجه.

وَ لٰكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنٰاهُمْ بسوء كسبهم.

ومعنى فتح البركات: تيسيرها عليهم كما ييسّر أمر الأبواب المغلقة بفتحها، ومنه قولهم: فتحت علي القارئ: إذا تعذرت عليه القراءة فيسّرتها عليه بالتلقين.

أَ فَأَمِنَ أَهْلُ اَلْقُرىٰ المكذّبون لنبيّنا(1).

أَنْ يَأْتِيَهُمْ عذابنا بَيٰاتاً أي: بائتين أو وقت بيات، ويجوز أن يكون البيات بمعنى التبييت كالسلام بمعنى التسليم فيكون - أيضا - حالا أو ظرفا.

و ضُحًى نصب علي الظرف، وهو في الأصل اسم لضوء الشمس إذا أشرقت وارتفعت. والفاء والواو في أَ فَأَمِنَ و أَ وَ أَمِنَ حرفا عطف دخلت عليهما همزة الإنكار، والمعطوف عليه قوله: فَأَخَذْنٰاهُمْ بَغْتَةً وما بينهما اعتراض.

أي: أبعد ذلك أمن أَهْلُ اَلْقُرىٰ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنٰا بَيٰاتاً وأمنوا أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنٰا

ص: 211


1- في ب، ج: لنبيّها.

ضُحًى . وقرئ: أو أمن - بسكون الواو - علي العطف ب - (أو).

وَ هُمْ يَلْعَبُونَ أي: يشتغلون بما لا ينفعهم كأنّهم يلعبون.

وقوله: أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اَللّٰهِ تكرير لقوله: أَ فَأَمِنَ أَهْلُ اَلْقُرىٰ .

و مكر الله استعارة لأخذه العبد من حيث لا يشعر، ولاستدراجه إيّاه بالصحة والسلامة وظاهر النعمة، وعن الربيع بن خيثم(1): (إنّ ابنته قالت له:

مالي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام ؟ قال: يا بنتاه إنّ أباك يخاف البيات)(2).

فَلاٰ يَأْمَنُ مَكْرَ اَللّٰهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْخٰاسِرُونَ فيه تنبيه علي ما يجب أن يكون عليه المكلف من الخوف لعقاب اللّه، فيكون كالمحارب الذي يخاف من أعدائه البيات والغيلة، ليسارع إلى الطاعة واجتناب المعصية، ولا يستشعر الأمن من ذلك، فيكون قد خسر دنياه وآخرته بالوقوع في المعاصي.

[سورة الأعراف (7): الآیات 100 الی 102]

أَ وَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ اَلْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهٰا أَنْ لَوْ نَشٰاءُ أَصَبْنٰاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ نَطْبَعُ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاٰ يَسْمَعُونَ تِلْكَ اَلْقُرىٰ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبٰائِهٰا وَ لَقَدْ جٰاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنٰاتِ فَمٰا كٰانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمٰا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذٰلِكَ يَطْبَعُ اَللّٰهُ عَلىٰ قُلُوبِ اَلْكٰافِرِينَ وَ مٰا وَجَدْنٰا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَ إِنْ وَجَدْنٰا أَكْثَرَهُمْ لَفٰاسِقِينَ

المعنى: أَ وَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يخلفون من خلا قبلهم في ديارهم ويرثونهم أرضهم هذا الشأن، وهو أنّا لَوْ نَشٰاءُ أَصَبْنٰاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ كما أصبنا من قبلهم

ص: 212


1- أبو يزيد الربيع بن خيثم الثوري الكوفي، الزاهد المشهور، من كبار التابعين، توفي زمن يزيد بن معاوية. ينظر: تذكرة الحفاظ ج 1:57، معجم رجال الحديث ج 7:117.
2- شعب الإيمان ج 1:543.

وأهلكناهم كما أهلكنا أولئك. وقد قرئ: أو لم نهد - بالنون - وعلى ذلك فيكون أَنْ لَوْ نَشٰاءُ أَصَبْنٰاهُمْ منصوب الموضع، بمعنى: أو لم نبيّن لهم هذا الشأن، ولذلك عدّي الهداية باللام لأنه بمعنى التبيين.

وَ نَطْبَعُ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ معطوف علي ما دلّ عليه معنى أَ وَ لَمْ يَهْدِ ، فكأنّه قيل: يغفلون عن الهداية ونطيع على قلوبهم.

تِلْكَ اَلْقُرىٰ مبتدأ وخبر، و نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبٰائِهٰا حال؛ ويجوز أن يكون اَلْقُرىٰ صفة ل - تِلْكَ ، و نَقُصُّ خبرا، أي: تلك القرى المذكورة نقصّ عليك بعض أنبائها لتخبر قومك بها فيعتبروا ويحذروا عن الإصرار علي مثل حالهم.

فَمٰا كٰانُوا لِيُؤْمِنُوا عند مجيء الرسل بالبيّنات بِمٰا كَذَّبُوا به من قبل مجيئهم، أو فما كانوا ليؤمنوا إلى آخر أعمارهم بما كذّبوا به أوّلا حين جاءتهم الرسل، أي: استمروا علي التكذيب إلى أن ماتوا مصرّين. ومعنى اللام تأكيد النفي وأنّ الإيمان كان منافيا لحالهم.

كَذٰلِكَ أي: مثل ذلك الطبع الشديد نطبع عَلىٰ قُلُوبِ اَلْكٰافِرِينَ .

وَ مٰا وَجَدْنٰا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ الضمير للناس علي الإطلاق، [أي: ما وجدنا لأكثر الناس من عهد](1) فإنّ الأكثر ينقض عهد اللّه في الإيمان والتقوى.

وَ إِنْ وَجَدْنٰا و إنّ الشأن والحديث وجدنا أكثرهم فاسقين خارجين عن الطاعة، والآية اعتراض.

ويجوز أن يرجع الضمير إلى الأمم المذكورين، وأنّهم كانوا إذا عاهدوا اللّه في

ص: 213


1- ساقطة من ج.

ضرّ: لئن أنجيتنا لنؤمنن، ثم لما نجّاهم نكثوا. والوجود بمعنى العلم من قولك:

(وجدت زيدا ذا الحفاظ).

[سورة الأعراف (7): الآیات 103 الی 108]

ثُمَّ بَعَثْنٰا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسىٰ بِآيٰاتِنٰا إِلىٰ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ فَظَلَمُوا بِهٰا فَانْظُرْ كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلْمُفْسِدِينَ وَ قٰالَ مُوسىٰ يٰا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ حَقِيقٌ عَلىٰ أَنْ لاٰ أَقُولَ عَلَى اَللّٰهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرٰائِيلَ قٰالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهٰا إِنْ كُنْتَ مِنَ اَلصّٰادِقِينَ فَأَلْقىٰ عَصٰاهُ فَإِذٰا هِيَ ثُعْبٰانٌ مُبِينٌ وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذٰا هِيَ بَيْضٰاءُ لِلنّٰاظِرِينَ

فَظَلَمُوا بِهٰا معناه: فكفروا بِآيٰاتِنٰا ، أجرى الظلم مجرى الكفر كما قال: إِنَّ اَلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (1)، أو فظلموا الناس بسببها حين صدوهم عنها وآذوا الذين آمنوا بها.

حَقِيقٌ عَلىٰ أَنْ لاٰ أَقُولَ جائز أن يكون ضمّن حَقِيقٌ معنى حريص، كما ضمّن هيّجني معنى ذكّرني في بيت النابغة:

إذا تغنّى الحمام الورق هيّجني *** ولو تعزّيت عنها أمّ عمّار(2)

ويجوز أن يكون موسى عليه السلام أغرق في وصف نفسه بالصدق في ذلك المقام، فقال: أنا حقيق علي قول الحقّ ، أي: واجب علي قول الحقّ أن أكون أنا قائله، ولا يرضى إلا مثلي ناطقا به. وقرأ نافع: حقيق عليّ أن لا أقول، ومعناه: واجب عليّ .

ص: 214


1- لقمان: 13.
2- ديوان النابغة الذبياني: 51، وفيه: وإن تغربت...

فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرٰائِيلَ أي: خلّهم حتى يذهبوا معي راجعين إلى الأرض المقدسة التي هي وطنهم، وذلك أنّ فرعون والقبط كانوا قد استعبدوا بني إسرائيل واستخدموهم في الأعمال الشاقة، فأنقذهم اللّه بموسى، وكان بين اليوم الذي دخل يوسف مصر واليوم الذي دخله موسى أربعمائة عام.

قٰالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ من عند من أرسلك بِآيَةٍ فَأْتِ بِهٰا لتصح دعواك ويثبت صدقك.

فَأَلْقىٰ موسى عَصٰاهُ فَإِذٰا هِيَ ثُعْبٰانٌ مُبِينٌ ظاهر أمره لا يشك في أنّه ثعبان، وروي: أنّه كان ثعبانا ذكرا أشعر فاغرا فاه بين لحييه كذا ذراعا، وضع لحيه الأسفل في الأرض ولحيه الأعلى علي سور القصر، فوثب فرعون من سريره وهرب وأحدث وصاح: يا موسى خذه وأنا أومن بك وأرسل معك بني إسرائيل، فأخذه موسى فعاد عصا(1).

وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذٰا هِيَ بَيْضٰاءُ بياضا نورانيا غلب شعاعها شعاع الشمس، وكان موسى عليه السلام ادم فيما يروي(2).

لِلنّٰاظِرِينَ أي: للنظارة هناك.

[سورة الأعراف (7): الآیات 109 الی 114]

قٰالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هٰذٰا لَسٰاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمٰا ذٰا تَأْمُرُونَ (110) قٰالُوا أَرْجِهْ وَ أَخٰاهُ وَ أَرْسِلْ فِي اَلْمَدٰائِنِ حٰاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سٰاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَ جٰاءَ اَلسَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قٰالُوا إِنَّ لَنٰا لَأَجْراً إِنْ كُنّٰا نَحْنُ اَلْغٰالِبِينَ (11(3) قٰالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ لَمِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ

ص: 215


1- تاريخ الطبري ج 1:209.
2- عن مجاهد. تفسير الطبري ج 9:11.

[سورة الأعراف (7): الآیات 115 الی 116]

يٰا مُوسىٰ إِمّٰا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمّٰا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ اَلْمُلْقِينَ قٰالَ أَلْقُوا فَلَمّٰا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ اَلنّٰاسِ وَ اِسْتَرْهَبُوهُمْ وَ جٰاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ

في سورة الشعراء: قٰالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ (1)، وهنا قٰالَ اَلْمَلَأُ ويمكن أن يكون قاله هو وقالوه هم، فحكى قوله هنالك وقولهم هنا، أو قالوه عنه للناس علي طريق التبليغ، كما يفعله الملوك يبلغ خواصهم ما يرونه من الرأي إلى العامة، ويدلّ عليه أنّهم أجابوه في قولهم: أَرْجِهْ وَ أَخٰاهُ . وقوله: فَمٰا ذٰا تَأْمُرُونَ من آمرته فأمرني بكذا: إذا شاورته فأشار عليك برأي.

قٰالُوا أَرْجِهْ أي: أخّره وَ أَخٰاهُ وأصدرهما عنك حتى ترى رأيك فيهما وتدبّر أمرهما. وقرئ: أرجئه - با لهمزة - وأرجأه وأرجاه لغتان.

قٰالُوا إِنَّ لَنٰا لَأَجْراً أي: جعلا علي الغلبة. وقرئ: إِنَّ لَنٰا لَأَجْراً علي الإخبار وإثبات الأجر العظيم وإيجابه كأنّهم قالوا: لابد لنا من أجر، والتنكير للتعظيم، قالت العرب: إنّ له لإبلا، يقصدون الكثرة.

وقوله: وَ إِنَّكُمْ لَمِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ معطوف علي محذوف سدّ مسدّه حرف الإيجاب، أي: نعم إنّ لكم لأجرا وإنّكم لمن المقرّبين، يعني لا أقتصر بكم علي الأجر وحده وإنّ لكم مع الأجر ما يقلّ عنده الأجر وهو التبجيل والتقريب.

وروي أنّه قال لهم: تكونون أوّل من يدخل وآخر من يخرج(2).

وتخيير السحرة موسى عليه السلام مراعاة منهم لأدب حسن معه، كما يفعل أهل

ص: 216


1- الآية: 34.
2- عن الكلبي. معالم التنزيل ج 2:21.

الصناعات إذا التقوا، وقولهم: وَ إِمّٰا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ اَلْمُلْقِينَ فيه ما يدل علي رغبتهم في أن يلقوا قبله، وهو تأكيد الضمير المستكن بالمنفصل وتعريف الخبر، وقد سوّغ لهم موسى ما رغبوا فيه قلة مبالاة بهم، وثقة بما كان بصدده من المعجز الإلهي والتأييد السماوي.

فَلَمّٰا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ اَلنّٰاسِ بما أروهم من الحيل والشعوذة، فقد روي أنّهم ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا، فإذا هي أمثال الحيات قد ملأت الأرض وركب بعضها بعضا(1).

وَ اِسْتَرْهَبُوهُمْ وأرهبوهم إرهابا شديدا كأنّهم استدعوا رهبتهم.

وَ جٰاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ أي: عظيم في باب السحر، وذلك أنّهم جعلوا في حبالهم وخشبهم ما يوهم الحركة وخيّل إلى الناس أنّها تسعى.

[سورة الأعراف (7): الآیات 117 الی 126]

وَ أَوْحَيْنٰا إِلىٰ مُوسىٰ أَنْ أَلْقِ عَصٰاكَ فَإِذٰا هِيَ تَلْقَفُ مٰا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ اَلْحَقُّ وَ بَطَلَ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنٰالِكَ وَ اِنْقَلَبُوا صٰاغِرِينَ وَ أُلْقِيَ اَلسَّحَرَةُ سٰاجِدِينَ قٰالُوا آمَنّٰا بِرَبِّ اَلْعٰالَمِينَ رَبِّ مُوسىٰ وَ هٰارُونَ قٰالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هٰذٰا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي اَلْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهٰا أَهْلَهٰا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلاٰفٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قٰالُوا إِنّٰا إِلىٰ رَبِّنٰا مُنْقَلِبُونَ وَ مٰا تَنْقِمُ مِنّٰا إِلاّٰ أَنْ آمَنّٰا بِآيٰاتِ رَبِّنٰا لَمّٰا جٰاءَتْنٰا رَبَّنٰا أَفْرِغْ عَلَيْنٰا صَبْراً وَ تَوَفَّنٰا مُسْلِمِينَ

معناه: فألقاها فصارت حيّة عظيمة.

ص: 217


1- تاريخ الطبري ج 1:211.

فَإِذٰا هِيَ تَلْقَفُ مٰا يَأْفِكُونَ (ما) مصدرية أو موصولة، أي: تلقف إفكهم تسمية للمأفوك بالإفك، أو ما يأفكونه، أي: يقلبونه عن الحقّ إلي الباطل ويزورونه.

وروي: أنّها تلقفت ملء الوادي من الخشب والحبال ورفعها موسى فعادت عصا كما كانت(1)، وأعدم اللّه بقدرته تلك الأجرام العظيمة أو فرّقها أجزاء لطيفة، وكلا الأمرين يعلم كل عاقل أنّه لا يدخل تحت مقدور البشر.

فَوَقَعَ اَلْحَقُّ فحصل وثبت.

وَ اِنْقَلَبُوا صٰاغِرِينَ أي: صاروا أذلاء مبهوتين.

وَ أُلْقِيَ اَلسَّحَرَةُ أي: وخرّوا سجدا كأنّما ألقاهم ملق لشدة خرورهم، وقيل: إنّهم لم يتمالكوا مما رأوا فكأنّهم ألقوا.

قٰالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ علي الإخبار، أي: فعلتم هذا الفعل، وقرئ:

أ آمنتم - بحرف الاستفهام - ومعناه الإنكار.

قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ قبل أن آمركم بالإيمان به وآذن لكم فيه.

إِنَّ هٰذٰا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي اَلْمَدِينَةِ إنّ صنعكم هذا لحيلة احتلتموها أنتم وموسى في مصر قبل أن تخرجوا منها إلى هذه الصحراء، وتواطأتم على ذلك لغرض لكم، وهو أن تخرجوا منها القبط وتسكنوها بني إسرائيل، وكان ذلك الكلام من فرعون تمويها علي الناس لئلا يتبعوا السحرة في الإيمان.

فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وعيد مجمل. وقد فصّل الإجمال بقوله: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلاٰفٍ أي: من كل شق طرفا، وعن الحسن: (هو أن يقطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى)(2)، وقيل: إنّ أوّل من قطع من خلاف وصلب

ص: 218


1- تاريخ الطبري ج 1:211.
2- التبيان ج 4:542.

فرعون(1).

إِنّٰا إِلىٰ رَبِّنٰا مُنْقَلِبُونَ أي: لا نبالي بالموت لانقلابنا إلى لقاء ربّنا ورحمته، أو إنّا جميعا ننقلب إلي اللّه فيحكم بيننا.

وَ مٰا تَنْقِمُ مِنّٰا إِلاّٰ أَنْ آمَنّٰا أي: وما تعيب منا إلا الإيمان بِآيٰاتِ اللّه، وهو أصل كل منقبة وخير، ومثله قول الشاعر:

و لا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم بهنّ فلول من قراع الكتائب(2)

رَبَّنٰا أَفْرِغْ عَلَيْنٰا صَبْراً أفض علينا صبرا واسعا كثيرا حتى يغمرنا كما يفرغ الماء إفراغا.

وَ تَوَفَّنٰا مُسْلِمِينَ ثابتين علي الإسلام.

[سورة الأعراف (7): الآیات 127 الی 129]

وَ قٰالَ اَلْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَ تَذَرُ مُوسىٰ وَ قَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ قٰالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنٰاءَهُمْ وَ نَسْتَحْيِي نِسٰاءَهُمْ وَ إِنّٰا فَوْقَهُمْ قٰاهِرُونَ قٰالَ مُوسىٰ لِقَوْمِهِ اِسْتَعِينُوا بِاللّٰهِ وَ اِصْبِرُوا إِنَّ اَلْأَرْضَ لِلّٰهِ يُورِثُهٰا مَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ وَ اَلْعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ قٰالُوا أُوذِينٰا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنٰا وَ مِنْ بَعْدِ مٰا جِئْتَنٰا قٰالَ عَسىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ

لما أسلم السحرة قال الملأ ذلك تحريضا لفرعون على موسى.

وَ يَذَرَكَ عطف علي لِيُفْسِدُوا لأنّه إذا تركهم ولم يمنعهم وكان ذلك

ص: 219


1- عن ابن عباس تفسير الطبري ج 9:16.
2- ديوان النابغة الذبياني: 11.

مؤديا إلي تركه وترك آلهته، فكأنّه تركهم لذلك. وروي عن عليّ عليه السلام أنّه قرأ: ويذرك وإلاهتك، أي: عبادتك. وعن ابن عباس: (إنّه لما آمن السحرة أسلم من بني إسرائيل ستمائة ألف نفس)(1). فأرادوا بالفساد في الأرض ذلك، وخافوا أن يغلبوا علي الملك، وقيل: إنّ فرعون صنع لقومه أصناما وأمرهم أن يعبدوها تقرّبا إليه(2)، ولذلك قال: أَنَا رَبُّكُمُ اَلْأَعْلىٰ (3).

سَنُقَتِّلُ أَبْنٰاءَهُمْ أي: سنعيد عليهم ما كنا نفعله بهم من قتل الأبناء، ليعلموا أنّا علي ما كنا عليه من الغلبة والقهر، وأنّهم مقهورون تحت أيدينا كما كانوا، وأنّ غلبة موسى لا أثر لها في ملكنا.

قٰالَ مُوسىٰ عند ذلك لِقَوْمِهِ اِسْتَعِينُوا بِاللّٰهِ يسكّنهم ويسلّيهم ويعدهم النصر من اللّه.

وقوله: إِنَّ اَلْأَرْضَ لِلّٰهِ يُورِثُهٰا مَنْ يَشٰاءُ يجوز أن يكون اللام للعهد ويعني: أرض مصر خاصة، ويجوز أن يكون للجنس فيتناول أرض مصر أيضا.

وَ اَلْعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ بشارة بأنّ الخاتمة المحمودة للمتمسّكين بالتقوى، وأنّ المشيئة متناولة لهم.

قٰالُوا أُوذِينٰا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنٰا وَ مِنْ بَعْدِ مٰا جِئْتَنٰا يعنون قتل أبنائهم قبل مولد موسى، وإعادته عليهم من بعد نبوته وتأييده بالمعجزات.

وقوله: عَسىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ تصريح بما أشار إليه من البشارة ورمز به قبل، وهو إهلاك فرعون واستخلافهم بعده في أرض مصر.

ص: 220


1- تفسير الطبري ج 9:19.
2- عن السدي. معالم التنزيل ج 2:22.
3- النازعات: 24.

فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ فيري الكائن منكم من العمل حسنه وقبيحه ليجازيكم علي حسب ما يوجد منكم.

[سورة الأعراف (7): الآیات 130 الی 131]

وَ لَقَدْ أَخَذْنٰا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَ نَقْصٍ مِنَ اَلثَّمَرٰاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فَإِذٰا جٰاءَتْهُمُ اَلْحَسَنَةُ قٰالُوا لَنٰا هٰذِهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسىٰ وَ مَنْ مَعَهُ أَلاٰ إِنَّمٰا طٰائِرُهُمْ عِنْدَ اَللّٰهِ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ

أي: عاقبنا قوم فِرْعَوْنَ الذين يؤول أمرهم إليه.

بِالسِّنِينَ بسني القحط. والسنة من الأسماء الغالبة كالدابة والنجم، وقالوا: أسنت القوم: أقحطوا. وعن ابن عباس: (إنّ السنين كانت لباديتهم وأهل مواشيهم، وكان نقص الثمرات في أمصارهم)(1).

لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فيتبيّنوا أنّ ذلك لإصرارهم علي الكفر.

فَإِذٰا جٰاءَتْهُمُ اَلْحَسَنَةُ من الخصب والرخاء.

قٰالُوا لَنٰا هٰذِهِ أي: هذه مختصة بنا ونحن مستحقّوها، واللام مثلها في قولك: الجلّ للفرس.

وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ من جدب وضيقة.

يَطَّيَّرُوا أي: يتطيروا بِمُوسىٰ وَ مَنْ مَعَهُ ويتشاءموا بهم ويقولوا: لولا مكانهم لما أصابتنا، كما قال الكفار لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: هٰذِهِ مِنْ عِنْدِكَ (2).

أَلاٰ إِنَّمٰا طٰائِرُهُمْ عِنْدَ اَللّٰهِ أي: سبب خيرهم وشرّهم عند اللّه وهو

ص: 221


1- الكشاف ج 1:144.
2- النساء: 78.

حكمته ومشيئته، واللّه هو الذي يشاء ما يصيبهم وليس شؤم أحد ولا يمنه بسبب فيه، كقوله: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ (1).

[سورة الأعراف (7): الآیات 132 الی 136]

وَ قٰالُوا مَهْمٰا تَأْتِنٰا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنٰا بِهٰا فَمٰا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ فَأَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمُ اَلطُّوفٰانَ وَ اَلْجَرٰادَ وَ اَلْقُمَّلَ وَ اَلضَّفٰادِعَ وَ اَلدَّمَ آيٰاتٍ مُفَصَّلاٰتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَ كٰانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ وَ لَمّٰا وَقَعَ عَلَيْهِمُ اَلرِّجْزُ قٰالُوا يٰا مُوسَى اُدْعُ لَنٰا رَبَّكَ بِمٰا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا اَلرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَ لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرٰائِيلَ فَلَمّٰا كَشَفْنٰا عَنْهُمُ اَلرِّجْزَ إِلىٰ أَجَلٍ هُمْ بٰالِغُوهُ إِذٰا هُمْ يَنْكُثُونَ فَانْتَقَمْنٰا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنٰاهُمْ فِي اَلْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا وَ كٰانُوا عَنْهٰا غٰافِلِينَ

مَهْمٰا هي (ما) المتضمنة معنى الجزاء ضمّت إليها (ما) المزيدة المؤكدة للجزاء في نحو: أَيْنَمٰا تَكُونُوا (2)، و وَ إِمّٰا نُرِيَنَّكَ (3) إلا أنّ الألف قلبت هاء استثقالا لتكرير المتجانسين. ومحلّ مَهْمٰا الرفع بمعنى: أيّما شيء تأتنا به، أو النصب بمعنى: أيّما شيء تحضرنا تأتنا به، و مِنْ آيَةٍ تبيين ل - مَهْمٰا وذكّر الضمير في به علي اللفظ وفي بِهٰا علي المعنى، وقد رجع كلاهما إلى مَهْمٰا وهو في معنى الآية، ونحوه قول زهير:

ومهما يكن عند امرئ من خليقة *** و إن خالها تخفى على النّاس تعلم(4)

ص: 222


1- النساء: 78.
2- النساء: 78.
3- يونس: 46.
4- شعر زهير بن أبي سلمى: 28، وفيه: ومهما تكن....

والمعنى: إنّهم قالوا لموسى: أيّ شيء تَأْتِنٰا بِهِ مِنْ الآيات لِتَسْحَرَنٰا لتموّه علينا بِهٰا فَمٰا نَحْنُ لَكَ بمصدّقين، أرادوا أنّهم مصرّون علي تكذيبه وإن أتى بجميع الآيات.

فَأَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمُ اَلطُّوفٰانَ وهو ما طاف بهم وغلبهم من مطر أو سيل، قيل: إنّه أرسل عليهم السماء حتى كادوا يهلكون، إذ امتلأت بيوتهم ماء حتى قاموا في الماء إلي تراقيهم فمن جلس غرق، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل قطرة(1)، وقيل: الطوفان: الجدري(2)، وهم أوّل من عذبوا بذلك فبقي في الأرض، وقيل:

هو الموت الذريع(3).

فقالوا لموسى اُدْعُ لَنٰا رَبَّكَ يكشف عنا ونحن نؤمن بك، فدعا فرفع، فلم يؤمنوا، فبعث اللّه عليهم الجراد فأكلت عامة زرعهم وثمارهم، ثم أكلت كل شيء حتى الأبواب وسقوف البيوت، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منها شيء، ففزعوا إلي موسى، فدعا فكشف عنهم، فما آمنوا.

فسلّط اللّه عليهم القمل وهو الحمنان كبار القردان، وقيل: الدبا وهو أولاد الجراد(4)، وقيل: البراغيث(5)، وكان يدخل بين ثوب أحدهم وبين جلده فيمصّه، ففزعوا إلى موسى، فرفع عنهم، فقالوا: قد تحقّقنا الآن أنّك ساحر.

ص: 223


1- معالم التنزيل ج 2:23.
2- عن أبي قلابة معالم التنزيل ج 2:23.
3- عن مجاهد. تفسير الطبري ج 9:21.
4- عن ابن عباس وغيره. تفسير الطبري ج 9:22.
5- عن ابن زيد. تفسير الطبري ج 9:22.

فأرسل اللّه عليهم الضفادع فامتلأت منها أبنيتهم(1) وأطعمتهم، وكان الرجل منهم إذا أراد أن يتكلّم وثب الضفدع إلي فيه، فضجّوا وفزعوا إلي موسى وقالوا: ارحمنا هذه المرة ونتوب ولا نعود، فدعا فكشف عنهم، ولم يؤمنوا.

فأرسل اللّه عليهم الدم فصارت مياههم دما، وإذا شربه الإسرائيلي كان ماء، وكان القبطي يقول للإسرائيلي: خذ الماء في فيك وصبّه في فيّ ، فكان إذا صبّه في فم القبطي تحوّل دما، وعطش فرعون حتى أشفى علي الهلاك فكان يمص الأشجار الرطبة، فإذا مضغها صار ماؤها الطيب ملحا أجاجا، وروي: أنّ موسى عليه السلام مكث فيهم بعدما غلب السحرة عشرين سنة يريهم هذه الآيات(2).

آيٰاتٍ مُفَصَّلاٰتٍ مبيّنات ظاهرات، أو فصل بين بعضها وبعض بزمان تمتحن فيه أحوالهم وينظر أيوفون بما وعدوا من أنفسهم أم ينكثون، إلزاما للحجّة عليهم.

بِمٰا عَهِدَ عِنْدَكَ (ما) مصدرية أي: بعهده عندك وهو النبوة، والباء: إما أن يتعلّق بقوله: اُدْعُ لَنٰا رَبَّكَ علي وجهين: أحدهما: أسعفنا إلى ما نطلب إليك من الدعاء لنا بحقّ ما عندك من عهد اللّه، أو ادع اللّه متوسلا إليه بعهده عندك؛ وإما أن يكون قسما أي: أقسمنا بعهد اللّه عندك لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا اَلرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ .

وقوله: إِلىٰ أَجَلٍ إلى حدّ من الزمان هُمْ بٰالِغُوهُ لا محالة فيعذبون إِذٰا هُمْ يَنْكُثُونَ جواب (لما)، يعني: فَلَمّٰا كَشَفْنٰا عَنْهُمُ فاجأوا

ص: 224


1- في ب، ج: آنيتهم.
2- الكشاف ج 2:148.

النكث وبادروه ولم يؤخروه.

فَانْتَقَمْنٰا مِنْهُمْ فأردنا الانتقام منهم.

فَأَغْرَقْنٰاهُمْ فِي اَلْيَمِّ أي: البحر الذي لا يدرك قعره، وقيل: هو لجة البحر.

بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا أي: كان إغراقهم بسبب تكذيبهم بِآيٰاتِنٰا وغفلتهم عنها.

[سورة الأعراف (7): الآیات 137 الی 140]

وَ أَوْرَثْنَا اَلْقَوْمَ اَلَّذِينَ كٰانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشٰارِقَ اَلْأَرْضِ وَ مَغٰارِبَهَا اَلَّتِي بٰارَكْنٰا فِيهٰا وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ اَلْحُسْنىٰ عَلىٰ بَنِي إِسْرٰائِيلَ بِمٰا صَبَرُوا وَ دَمَّرْنٰا مٰا كٰانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَ قَوْمُهُ وَ مٰا كٰانُوا يَعْرِشُونَ وَ جٰاوَزْنٰا بِبَنِي إِسْرٰائِيلَ اَلْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلىٰ أَصْنٰامٍ لَهُمْ قٰالُوا يٰا مُوسَى اِجْعَلْ لَنٰا إِلٰهاً كَمٰا لَهُمْ آلِهَةٌ قٰالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هٰؤُلاٰءِ مُتَبَّرٌ مٰا هُمْ فِيهِ وَ بٰاطِلٌ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ قٰالَ أَ غَيْرَ اَللّٰهِ أَبْغِيكُمْ إِلٰهاً وَ هُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى اَلْعٰالَمِينَ

اَلْقَوْمَ هم بنو إسرائيل كان يستضعفهم فرعون وقومه.

و اَلْأَرْضِ أرض مصر والشام، ملكها بنو إسرائيل بعد العمالقة والفراعنة، فتصرّفوا في نواحيها الشرقية والغربية كيف شاءوا.

اَلَّتِي بٰارَكْنٰا فِيهٰا بأنواع الخصب من الزروع والثمار والعيون والأنهار.

وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ اَلْحُسْنىٰ وهو قوله: وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا... إلي قوله: مٰا كٰانُوا يَحْذَرُونَ (1)، و اَلْحُسْنىٰ تأنيث (الأحسن)

ص: 225


1- القصص: 5، 6.

صفة للكلمة ومعنى تمّت على بني إسرائيل: مضت عليهم، من قولك: تم علي الأمر: إذا مضى عليه واستمر.

بِمٰا صَبَرُوا بسبب صبرهم.

وَ دَمَّرْنٰا مٰا كٰانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَ قَوْمُهُ وَ ما كانوا يعملونه من العمارات وبناء القصور وَ مٰا كٰانُوا يَعْرِشُونَ من الجنات. وقرئ: يعرشون - يضم الراء وكسرها -. وهذا آخر ما اقتص اللّه سبحانه من نبأ فرعون والقبط وتكذيبهم بآيات اللّه.

ثم اقتص سبحانه نبأ بني إسرائيل وما أحدثوه بعد إنقاذهم من فرعون ومعاينتهم الآيات العظام.

وَ جٰاوَزْنٰا بِبَنِي إِسْرٰائِيلَ اَلْبَحْرَ يعني: النيل نهر مصر.

فَأَتَوْا فمرّوا عَلىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلىٰ أَصْنٰامٍ لَهُمْ قرئ بضم الكاف وكسرها، يواظبون علي عبادتها، وقيل: كانت تماثيل بقر(1)، وذلك أوّل شأن العجل.

قٰالُوا يٰا مُوسَى اِجْعَلْ لَنٰا صنما نعكف عليه إِلٰهاً كَمٰا لَهُمْ آلِهَةٌ أصنام يعكفون عليها. و (ما) كافة للكاف ولذلك وقعت الجملة بعدها.

قٰالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ فوصفهم بالجهل المطلق، لتعجبه من قولهم عقيب ما رأوا من الآيات الباهرة.

إِنَّ هٰؤُلاٰءِ يعني: عبدة التماثيل.

مُتَبَّرٌ مٰا هُمْ فِيهِ أي: مدمّر مكسّر ما هم فيه من عبادة الأصنام، أي: يتبّر

ص: 226


1- عن ابن جريج. تفسير الطبري ج 9:31.

اللّه دينهم ويهدمه علي يدي، ويحطم أصنامهم هذه ويجعلها رضاضا.

وَ بٰاطِلٌ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ أي: ما عملوا شيئا من عبادتها فيما سلف إلا وهو باطل مضمحل لا ينتفعون به.

قٰالَ أَ غَيْرَ اَللّٰهِ أَبْغِيكُمْ إِلٰهاً أغير اللّه المستحقّ للعبادة أطلب لكم معبودا، وهو فعل بكم ما فعل من الاختصاص بالنعمة التي لم يعطها أحدا غيركم لتخصّوه بالعبادة ولا تشركوا به غيره ؟!. ومعنى الهمزة الإنكار والتعجب من طلبهم عبادة غير اللّه مع كونهم مغمورين في نعمة اللّه.

[سورة الأعراف (7): الآیات 141 الی 142]

وَ إِذْ أَنْجَيْنٰاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ اَلْعَذٰابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنٰاءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِسٰاءَكُمْ وَ فِي ذٰلِكُمْ بَلاٰءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ وَ وٰاعَدْنٰا مُوسىٰ ثَلاٰثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْنٰاهٰا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقٰاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَ قٰالَ مُوسىٰ لِأَخِيهِ هٰارُونَ اُخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لاٰ تَتَّبِعْ سَبِيلَ اَلْمُفْسِدِينَ

وقرئ: أنجاكم.

يَسُومُونَكُمْ سُوءَ اَلْعَذٰابِ أي: يبغونكم شدة العذاب، من سام السلعة: إذا طلبها، وهي جملة في موضع الحال من المخاطبين، أو من آل فرعون، أو جملة مستأنفة لا محلّ لها.

وَ فِي ذٰلِكُمْ إشارة إلى الإنجاء أو العذاب، والبلاء: النعمة أو المحنة.

وقرئ: يقتلون - بالتخفيف -.

كان موسى عليه السلام وعد بني إسرائيل بمصر إن أهلك اللّه عدوهم أتاهم بكتاب من عند اللّه فيه بيان ما يأتون و ما يذرون، فلما هلك فرعون سأل موسى ربّه

ص: 227

الكتاب، فأمره بصوم ثلاثين وهو شهر ذي القعدة، ثم أنزل عليه التوراة في العشر وكلّمه فيها، وعن الحسن: (كان الموعد أربعين ليلة، فأجمل في سورة البقرة(1)

وفصل هاهنا)(2).

و مِيقٰاتُ رَبِّهِ ما وقّت له من الوقت وضربه له، و أَرْبَعِينَ لَيْلَةً نصب علي الحال، أي: تم الميقات بالغا هذا العدد.

وَ قٰالَ مُوسىٰ وقت خروجه إلى الميقات.

و هٰارُونَ جر عطف بيان ل - لِأَخِيهِ .

اُخْلُفْنِي فِي قَوْمِي كن خليفتي فيهم.

وَ أَصْلِحْ وكن مصلحا، أو أصلح ما يجب أن يصلح من أمور بني إسرائيل في حال غيبتي، ومن دعاك منهم إلى الإفساد فلا تطعه ولا تتبعه. وفي هذا دلالة علي أنّ منزلة الإمامة غير داخلة في النبوة، إذ لو كانت داخلة فيها لما احتاج هارون إلى استخلاف موسى إيّاه في القيام بأمر أمّته مع كونه نبيّا.

[سورة الأعراف (7): آیة 143]

وَ لَمّٰا جٰاءَ مُوسىٰ لِمِيقٰاتِنٰا وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ قٰالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قٰالَ لَنْ تَرٰانِي وَ لٰكِنِ اُنْظُرْ إِلَى اَلْجَبَلِ فَإِنِ اِسْتَقَرَّ مَكٰانَهُ فَسَوْفَ تَرٰانِي فَلَمّٰا تَجَلّٰى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسىٰ صَعِقاً فَلَمّٰا أَفٰاقَ قٰالَ سُبْحٰانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُؤْمِنِينَ

لِمِيقٰاتِنٰا أي: لوقتنا الذي وقّتنا له وحددناه، ومعنى اللام الاختصاص، فكأنّه قال: واختص مجيئه لميقاتنا، كما تقول: أتيته لخمس خلون من الشهر.

ص: 228


1- الآية: 51.
2- التبيان ج 4:565.

وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ من غير واسطة كما يكلّم الملك، وتكليمه أن ينشئ الكلام منطوقا به في بعض الأجرام كما خلقه مخطوطا في اللوح، لأنّ الكلام عرض لابد له من محلّ يقوم به، وروي: أنّه عليه السلام كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة(1).

قٰالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ المفعول الثاني محذوف، يعني: أرني نفسك أنظر إليك، أي: اجعلني متمكّنا من رؤيتك بأن تتجلى لي فأنظر إليك وأراك، وإنّما طلب الرؤية لقومه حين قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّٰى نَرَى اَللّٰهَ جَهْرَةً (2)، ولذلك دعاهم سفهاء وضلالا، وقال - لما أخذتهم الرجفة -: أَ تُهْلِكُنٰا بِمٰا فَعَلَ اَلسُّفَهٰاءُ مِنّٰا (3)، ولم يسأل ذلك إلا بعد أن أنكر عليهم ونبّههم علي الحقّ فلجّوا وتمادوا في لجاجهم، فأراد أن يسمعوا النص من عند اللّه باستحالة الرؤية عليه، وهو قوله: لَنْ تَرٰانِي ليتيقنوا وتزول شبهتهم.

ومعنى لَنْ : تأكيد النفي الذي تعطيه (لا)، وذلك أنّ (لا) تنفي المستقبل، تقول: لا أفعل غدا، فإذا أكّدت النفي قلت: لن أفعل غدا، والمعنى: إنّ فعله ينافي حالي، كقوله سبحانه: لَنْ يَخْلُقُوا ذُبٰاباً وَ لَوِ اِجْتَمَعُوا لَهُ (4). فقوله: لاٰ تُدْرِكُهُ اَلْأَبْصٰارُ (5) نفي للرؤية فيما يستقبل، وقوله: لَنْ تَرٰانِي تأكيد وبيان أنّ الرؤية منافية لصفاته.

وَ لٰكِنِ اُنْظُرْ إِلَى اَلْجَبَلِ معناه: إنّ النظر إليّ محال فلا تطلبه، ولكن عليك

ص: 229


1- عيون أخبار الرضا ج 1:159 بالمعنى.
2- البقرة: 55.
3- الأعراف: 155.
4- الحج: 73.
5- الأنعام: 103.

بنظر آخر وهو أن تنظر إلي الجبل الذي يرجف بك وبمن طلبت الرؤية لأجلهم كيف أفعل به، وكيف أجعله دكا بسبب طلبك الرؤية، لتستعظم ما أقدمت عليه بما أريك من عظم أثره، كأنّه جلّ جلاله حقّق عند طلب الرؤية ما مثله عند نسبة الولد إليه في قوله: وَ تَخِرُّ اَلْجِبٰالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمٰنِ وَلَداً (1).

فَإِنِ اِسْتَقَرَّ مَكٰانَهُ كما كان مستقرا ثابتا فَسَوْفَ تَرٰانِي تعليق لوجود الرؤية بوجود ما لا يكون من استقرار الجبل مكانه حين يدكه دكا ويسويه با لأرض.

فَلَمّٰا تَجَلّٰى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ أي: ظهر له اقتداره وتصدى له أمره وإرادته.

جَعَلَهُ دَكًّا أي: مدكوكا، مصدر بمعنى مفعول، والدك والدق مثلان، وقرئ: دكاء، والدكاء: الربوة الناشزة من الأرض لا تبلغ أن تكون جبلا، أو يريد أرضا دكاء: مستوية، من قولهم: ناقة دكاء: مستوية السنام.

وَ خَرَّ مُوسىٰ صَعِقاً من هول ما رأي، وصعق من باب فعلته ففعل، تقول:

صعقته فصعق وأصله من الصاعقة، ومعناه: خرّ مغشيا عليه غشية كالموت.

فَلَمّٰا أَفٰاقَ من صعقته قٰالَ سُبْحٰانَكَ أنزّهك مما لا يجوز عليك.

تُبْتُ إِلَيْكَ من طلب الرؤية وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُؤْمِنِينَ بأنّك لا ترى.

وقيل: في الآية وجه آخر: وهو أن يكون المراد بقوله: أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ عرّفني نفسك تعريفا واضحا جليا بإظهار بعض آيات الآخرة التي تضطر الخلق إلى معرفتك أَنْظُرْ إِلَيْكَ أعرفك معرفة ضرورية كأنّي أنظر إليك، كما جاء في

ص: 230


1- مريم: 90، 91.

الحديث: (سترون ربّكم كما ترون القمر ليلة البدر)(1) بمعنى: ستعرفونه معرفة جلية هي في الجلاء مثل إبصاركم القمر إذا امتلأ واستوى بدرا.

قال: لَنْ تَرٰانِي لن تطيق معرفتي علي هذه الطريقة، ولن تحتمل قوتك تلك الآية.

وَ لٰكِنِ اُنْظُرْ إِلَى اَلْجَبَلِ فإنّي أورد عليه آية من تلك الآيات فَإِنِ ثبت لتجلّيها و اِسْتَقَرَّ مَكٰانَهُ فَسَوْفَ تثبت لها وتطيقها.

فَلَمّٰا تَجَلّٰى رَبُّهُ فلما ظهرت للجبل آية من آيات ربّه جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسىٰ صَعِقاً لعظم ما رأي.

فَلَمّٰا أَفٰاقَ قٰالَ سُبْحٰانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ مما اقترحت وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُؤْمِنِينَ بعظمتك وجلالك.

[سورة الأعراف (7): الآیات 144 الی 145]

قٰالَ يٰا مُوسىٰ إِنِّي اِصْطَفَيْتُكَ عَلَى اَلنّٰاسِ بِرِسٰالاٰتِي وَ بِكَلاٰمِي فَخُذْ مٰا آتَيْتُكَ وَ كُنْ مِنَ اَلشّٰاكِرِينَ وَ كَتَبْنٰا لَهُ فِي اَلْأَلْوٰاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ ءٍ فَخُذْهٰا بِقُوَّةٍ وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهٰا سَأُرِيكُمْ دٰارَ اَلْفٰاسِقِينَ

قٰالَ اللّه سبحانه يٰا مُوسىٰ إِنِّي اتخذتك صفوة وفضلتك عَلَى أهل زمانك من اَلنّٰاسِ بِرِسٰالاٰتِي و هي أسفار التوراة، وقرئ: برسالتي - علي التوحيد -.

وَ بِكَلاٰمِي وبتكليمي إيّاك.

فَخُذْ مٰا آتَيْتُكَ أي: أعطيتك من شرف النبوة والحكمة.

وَ كُنْ مِنَ اَلشّٰاكِرِينَ علي النعمة في ذلك فهي من أجلّ النعم، وقيل:

ص: 231


1- سنن الترمذي ج 4:93، ينظر: المجازات النبوية: 47.

خرّ موسى صعقا يوم عرفة، وأعطي التوراة يوم النحر(1).

وَ كَتَبْنٰا لَهُ فِي اَلْأَلْوٰاحِ يريد ألواح التوراة، واختلف في عددها وفي جوهرها: فقيل: كانت سبعة ألواح(2)، وقيل: عشرة(3)، وقيل: لوحين(4). وأنّها كانت من زمرد(5)، وقيل: من زبرجدة خضراء(6) أو ياقوتة حمراء(7)، وقيل: كانت من خشب نزل من السماء(8).

مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ في محلّ النصب مفعول وَ كَتَبْنٰا ، و مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلاً بدل منه، والمعنى: كتبنا له فيها كل شيء احتاجت إليه بنو إسرائيل في دينهم من المواعظ، وتفصيل الأحكام والحلال والحرام، وذكر الجنّة والنار، وغير ذلك من العبر والأخبار.

فَخُذْهٰا بِقُوَّةٍ أي: بجد واجتهاد وإقبال وعزيمة، فعل أولي العزم من الرسل، وهو عطف علي كَتَبْنٰا لَهُ . والتقدير: فقلنا له: خذها، [ويجوز أن يكون بدلا من قوله: فَخُذْ مٰا آتَيْتُكَ ، والضمير في فَخُذْهٰا ](9) للألواح، أو لكل شيء لأنّه في معنى الأشياء، أو للرسالات.

ص: 232


1- عن الكلبي. العرائس: 121.
2- عن ابن عباس. الدر المنثور ج 3:121.
3- عن وهب بن منبه. معالم التنزيل ج 2:28.
4- معاني القرآن وإعرابه ج 2:375.
5- عن مجاهد الدر المنثور ج 3:121.
6- عن الكلبي. معالم التنزيل ج 2:28.
7- عن سعيد بن جبير. معالم التنزيل ج 2:28.
8- عن الحسن. معالم التنزيل ج 2:28.
9- ساقطة من ج.

وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهٰا أي: فيها ما هو حسن وأحسن كالاقتصاص والعفو، والانتصار والصبر، فمرهم أن يأخذوا بما هو أدخل في الحسن وأكثر للثواب، كقوله: وَ اِتَّبِعُوا أَحْسَنَ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ (1)، وقيل: يأخذوا بما هو واجب أو ندب، لأنّه أحسن من المباح.

سَأُرِيكُمْ دٰارَ اَلْفٰاسِقِينَ أي: منازل القرون الماضية المخالفة لأمر اللّه لتعتبروا بها، وقيل: دار الفاسقين نار جهنم(2)، فلتكن منكم علي ذكر لتحذروا أن تكونوا منهم.

[سورة الأعراف (7): الآیات 146 الی 147]

سَأَصْرِفُ عَنْ آيٰاتِيَ اَلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاٰ يُؤْمِنُوا بِهٰا وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ اَلرُّشْدِ لاٰ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ اَلغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا وَ كٰانُوا عَنْهٰا غٰافِلِينَ وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا وَ لِقٰاءِ اَلْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمٰالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاّٰ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ

سَأَصْرِفُ المتكبرين عَنْ آيٰاتِيَ بالطبع علي قلوبهم وخذلانهم، فلا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها. وفي الحديث: (إذا عظّمت أمّتي الدنيا نزعت عنها هيبة الإسلام، وإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حرمت بركة الوحي)(3). وقيل: معناه: سأصرفهم عن إبطالها وإن اجتهدوا كما اجتهد فرعون في إبطال آية موسى فأبى اللّه إلا علو أمره.

ص: 233


1- الزمر: 55.
2- عن الحسن وغيره. تفسير الطبري ج 9:41.
3- الدر المنثور ج 2:302.

بِغَيْرِ اَلْحَقِّ فيه وجهان أحدهما: أن يكون حالا أي: يتكبّرون غير محقّين، لأنّ التكبّر بالحقّ للّه وحده.

والآخر: أن يكون صلة للتكبّر أي: يتكبّرون بما ليس بحقّ .

وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ من الآيات المنزلة عليهم لاٰ يُؤْمِنُوا بِهٰا .

ذٰلِكَ رفع أو نصب، أي: ذلك الصرف بسبب تكذيبهم، أو صرفهم اللّه ذلك الصرف بسببه.

وَ لِقٰاءِ اَلْآخِرَةِ من إضافة المصدر إلى المفعول به، أي: ولقائهم الآخرة وما وعد اللّه فيها.

[سورة الأعراف (7): الآیات 148 الی 149]

وَ اِتَّخَذَ قَوْمُ مُوسىٰ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوٰارٌ أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاٰ يُكَلِّمُهُمْ وَ لاٰ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اِتَّخَذُوهُ وَ كٰانُوا ظٰالِمِينَ وَ لَمّٰا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَ رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قٰالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنٰا رَبُّنٰا وَ يَغْفِرْ لَنٰا لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلْخٰاسِرِينَ

مِنْ بَعْدِهِ أي: من بعد خروجه إلى الطور.

مِنْ حُلِيِّهِمْ التي استعاروها من قوم فرعون وبقيت في أيديهم بعد هلاك فرعون وقومه، فاتخذ السامري منها عِجْلاً جَسَداً لا روح فيه. وهو بدل من عِجْلاً .

لَهُ خُوٰارٌ أي: صوت، والحلي جمع حلى، وقرئ: حليهم - بكسر الحاء - علي الإتباع، ومن حليهم علي التوحيد، وهو اسم ما يتحسّن به من الذهب والفضة،

ص: 234

وقيل: كان جسدا ذا لحم ودم كسائر الأجساد(1)، وعن الحسن: (إنّ السامري قبض قبضة من تراب أثر حافر فرس جبرئيل يوم قطع البحر، فقذفه في فيّ العجل فكان عجلا له خوار)(2).

أَ لَمْ يَرَوْا حين اتخذوه إلها أَنَّهُ لاٰ يقدر علي كلام ولا علي هداية سبيل حتى لا يتخذوه معبودا، ثم ابتدأ فقال: اِتَّخَذُوهُ أي: أقدموا علي ما أقدموا عليه من الأمر المنكر وَ كٰانُوا ظٰالِمِينَ في كل شيء، فلم تكن عبادة العجل أمرا بدعا منهم.

وَ لَمّٰا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ ولما اشتد ندمهم علي عبادة العجل، لأنّ من شأن من اشتدت حسرته أن يعض علي يديه غما فتصير يده مسقوطا فيها، لأنّ فاه قد وقع فيها.

وَ رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا وتبيّنوا ضلالهم بعبادة العجل حين رجع إليهم موسى قٰالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنٰا رَبُّنٰا . وقرئ: لئن لم ترحمنا - بالتاء - ربّنا - بالنصب - علي النداء - وتغفر لنا - بالتاء - أيضا. وعن الحسن: (كلهم عبدوا العجل إلا هارون بدلالة قول موسى: رَبِّ اِغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي (3)، وقال غيره: لم يعبده الكل(4).

[سورة الأعراف (7): آیة 150]

وَ لَمّٰا رَجَعَ مُوسىٰ إِلىٰ قَوْمِهِ غَضْبٰانَ أَسِفاً قٰالَ بِئْسَمٰا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَ عَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَ أَلْقَى اَلْأَلْوٰاحَ وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قٰالَ اِبْنَ أُمَّ إِنَّ اَلْقَوْمَ اِسْتَضْعَفُونِي وَ كٰادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلاٰ تُشْمِتْ بِيَ

ص: 235


1- عن قتادة وغيره. معالم التنزيل ج 2:29.
2- معالم التنزيل ج 2:28.
3- التبيان ج 4:580.
4- عن الجبائي. التبيان ج 4:580.

[سورة الأعراف (7): الآیات 150 الی 151]

اَلْأَعْدٰاءَ وَ لاٰ تَجْعَلْنِي مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظّٰالِمِينَ قٰالَ رَبِّ اِغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي وَ أَدْخِلْنٰا فِي رَحْمَتِكَ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ اَلرّٰاحِمِينَ

الأسف: الشديد الغضب، وقيل: الحزين(1).

قٰالَ بِئْسَمٰا خَلَفْتُمُونِي أي: قمتم مقامي وكنتم خلفائي مِنْ بَعْدِي حيث عبدتم العجل مكان عبادة اللّه، وفاعل بئس مضمر يفسّره ما خلفتموني، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم.

أَ عَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ تقول: عجلت عن الأمر: إذا تركته غير تام، وأعجلني عنه غيري، ويضمّن معنى سبق، فيقال: عجلت الأمر، فالمعنى: أعجلتم عن أمر ربّكم وهو انتظار موسى حافظين لعهده، فبنيتم الأمر علي أنّ الميعاد قد بلغ آخره، وحدّثتم أنفسكم بموتي ففعلتم ما فعلتم، وروي: أنّ السامري قال لهم: إنّ موسى لن يرجع وأنّه قد مات.

وَ أَلْقَى اَلْأَلْوٰاحَ أي: طرحها لما لحقه من الضجر غضبا للّه وحمية لدينه.

وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ أي: بشعر رأسه يَجُرُّهُ إِلَيْهِ لشدة ما ورد عليه من الأمر.

قال هارون اِبْنَ أُمَّ قرئ بالفتح تشبيها بخمسة عشر، وبالكسر علي طرح ياء الإضافة. وعن الحسن: (واللّه لقد كان أخاه لأبيه وأمه، وإنّما نسبه إلى الأم لأنّ ذكر الأم أبلغ وأنسب في الاستعطاف)(2).

إِنَّ اَلْقَوْمَ الذين تركتني بين أظهرهم اِسْتَضْعَفُونِي قهروني واتخذوني

ص: 236


1- عن ابن عباس وغيره. تفسير الطبري ج 9:44.
2- التبيان ج 4:582.

ضعيفا، ولم آل جهدا في كفّهم بالإنذار والوعظ.

وَ كٰادُوا يَقْتُلُونَنِي أي: همّوا بقتلي لشدة إنكاري عليهم.

فَلاٰ تُشْمِتْ بِيَ اَلْأَعْدٰاءَ فلا تفعل بي ما هو أمنيتهم من الإساءة بي.

وَ لاٰ تَجْعَلْنِي مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظّٰالِمِينَ أي: قرينا لهم في إظهار الموجدة عليّ .

قٰالَ رَبِّ اِغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي بيّن بهذا الدعاء أنّه لم يجر رأسه إليه لعصيان وجد منه، وإنّما فعله كما يفعل الإنسان بنفسه عند شدة الغضب علي غيره.

وَ أَدْخِلْنٰا فِي رَحْمَتِكَ أي: نعمتك وجنّتك.

[سورة الأعراف (7): الآیات 152 الی 154]

إِنَّ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا اَلْعِجْلَ سَيَنٰالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ ذِلَّةٌ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُفْتَرِينَ وَ اَلَّذِينَ عَمِلُوا اَلسَّيِّئٰاتِ ثُمَّ تٰابُوا مِنْ بَعْدِهٰا وَ آمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهٰا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَ لَمّٰا سَكَتَ عَنْ مُوسَى اَلْغَضَبُ أَخَذَ اَلْأَلْوٰاحَ وَ فِي نُسْخَتِهٰا هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ

غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ ذِلَّةٌ الغضب: ما أمروا به من قتل أنفسهم، والذلة:

خروجهم من ديارهم، لأنّ الغربة ذلة، وقيل: هي الجزية المضروبة عليهم(1).

وَ كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُفْتَرِينَ علي اللّه، ولا فرية أعظم من قول السامري:

هٰذٰا إِلٰهُكُمْ وَ إِلٰهُ مُوسىٰ (2) .

وَ اَلَّذِينَ عَمِلُوا اَلسَّيِّئٰاتِ من الكفر والمعاصي.

ثُمَّ تٰابُوا رجعوا من بعدها إلي اللّه وأخلصوا الإيمان.

ص: 237


1- عن ابن عباس. معالم التنزيل ج 2:29.
2- طه: 88.

إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بعد تلك العظائم لَغَفُورٌ رَحِيمٌ .

وَ لَمّٰا سَكَتَ عَنْ مُوسَى اَلْغَضَبُ هذا مثل، كأنّ الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول له: ألق الألواح وجرّ برأس أخيك إليك فترك النطق بذلك، والمعنى: ولما طفئ غضبه أَخَذَ اَلْأَلْوٰاحَ التي ألقاها.

وَ فِي نُسْخَتِهٰا وفيما نسخ فيها وكتب، والنسخة فعلة بمعنى مفعول كالخطبة.

هُدىً دلالة وبيان لما يحتاج إليها من أمور الدين.

وَ رَحْمَةٌ ونعمة ومنفعة لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ دخلت اللام لتقدّم المفعول، تقول: لك ضربت، ونحوه: لِلرُّءْيٰا تَعْبُرُونَ (1).

[سورة الأعراف (7): آیة 155]

وَ اِخْتٰارَ مُوسىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقٰاتِنٰا فَلَمّٰا أَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ قٰالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيّٰايَ أَ تُهْلِكُنٰا بِمٰا فَعَلَ اَلسُّفَهٰاءُ مِنّٰا إِنْ هِيَ إِلاّٰ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهٰا مَنْ تَشٰاءُ وَ تَهْدِي مَنْ تَشٰاءُ أَنْتَ وَلِيُّنٰا فَاغْفِرْ لَنٰا وَ اِرْحَمْنٰا وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْغٰافِرِينَ

تقديره: وَ اِخْتٰارَ مُوسىٰ من قومه فحذف الجار سَبْعِينَ رَجُلاً خرج بهم إلى طور سيناء لميقات ربّه، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله، ودنا موسى ودخل فيه ودخلوا وسجدوا فسمعوا كلام اللّه، ثم انكشف الغمام فطلبوا الرؤية فأنكر عليهم، فقالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّٰى نَرَى اَللّٰهَ جَهْرَةً (2) فقال: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ فأجيب ب - لَنْ تَرٰانِي ، ورجف بهم الجبل فصعقوا.

ص: 238


1- يوسف: 43.
2- البقرة: 55.

فَلَمّٰا أَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ قٰالَ موسى رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيّٰايَ ، وهذا تمنّ منه للإهلاك قبل أن يري ما رأي من تبعة طلب الرؤية أَ تُهْلِكُنٰا يعني: نفسه وإياهم بِمٰا فَعَلَ اَلسُّفَهٰاءُ مِنّٰا لأنّه إنّما طلب الرؤية زجرا للسفهاء وهم طلبوه سفها وجهلا.

إِنْ هِيَ إِلاّٰ فِتْنَتُكَ أي: محنتك وابتلاؤك حين كلّمتني وسمعوا كلامك، فاستدلّوا بالكلام علي الرؤية استدلالا فاسدا حتى افتتنوا وضلوا.

تُضِلُّ بِهٰا بالمحنة الجاهلين أي: غير الثابتين في معرفتك وَ تَهْدِي العالمين بك. وجعل ذلك إضلالا وهدي من اللّه، لأنّ محنته لما كانت سببا لأن ضلوا واهتدوا، فكأنّه أضلهم بها وهداهم.

أَنْتَ وَلِيُّنٰا مولانا والقائم بأمورنا.

[سورة الأعراف (7): الآیات 156 الی 157]

وَ اُكْتُبْ لَنٰا فِي هٰذِهِ اَلدُّنْيٰا حَسَنَةً وَ فِي اَلْآخِرَةِ إِنّٰا هُدْنٰا إِلَيْكَ قٰالَ عَذٰابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشٰاءُ وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ فَسَأَكْتُبُهٰا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكٰاةَ وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِآيٰاتِنٰا يُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْرٰاةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهٰاهُمْ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ اَلطَّيِّبٰاتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ اَلْخَبٰائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ اَلْأَغْلاٰلَ اَلَّتِي كٰانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اِتَّبَعُوا اَلنُّورَ اَلَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ

أي: أثبت لَنٰا فِي هٰذِهِ اَلدُّنْيٰا حَسَنَةً أي: عافية وحياة طيبة وَ فِي اَلْآخِرَةِ الجنّة.

ص: 239

إِنّٰا هُدْنٰا إِلَيْكَ أي: تبنا إليك، من هاد إليه: إذا رجع وتاب، والهود جمع هائد وهو التائب.

قٰالَ عَذٰابِي من صفته انّي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشٰاءُ ممن عصاني واستحقّه بعصياني.

وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ فما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلا وهو متقلب في نعمتي.

فَسَأَكْتُبُهٰا هذه الرحمة كتبة خاصة منكم يا بني إسرائيل.

لِلَّذِينَ يكونون في آخر الزمان من أمّة محمّد صلى الله عليه و آله و سلم.

وَ اَلَّذِينَ هُمْ بجميع آياتنا وكتبنا يُؤْمِنُونَ لا يكفرون بشيء منها.

اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ الذي نوحي إليه كتابا مختصا به وهو القرآن.

اَلنَّبِيَّ المؤيّد بالمعجزات.

اَلَّذِي يَجِدُونَهُ أي: يجدون نعته أولئك الذين يتبعونه من بني إسرائيل مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْرٰاةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ .

وَ يُحِلُّ لَهُمُ ما حرّم عليهم من الأشياء الطيبة كالشحوم وغيرها، أو ما طاب في الشريعة.

وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ اَلْخَبٰائِثَ ما يستخبث نحو الميتة والدم ولحم الخنزير، أو ما خبث في الحكم من المكاسب الخبيثة.

وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والإصر: الثقل الذي يأصر صاحبه أي: يحبسه من الحراك لثقله، وهو مثل لثقل تكليفهم نحو قتل الأنفس في التوراة، وكذلك اَلْأَغْلاٰلَ مثل لما كان في شرائعهم من التكاليف الشاقة، نحو قرض موضع

ص: 240

النجاسة من الجلد والثوب، وإحراق الغنائم، وتحريم السبت.

وَ عَزَّرُوهُ ومنعوه حتى لا يقوي عليه عدو، وأصل العزر: المنع، ومنه التعزير للضرب دون الحد، لأنه يمنع من معاودة القبيح.

و اَلنُّورَ القرآن.

أُنْزِلَ مَعَهُ أي: مع نبوته. أو تعلّق مَعَهُ ب - وَ اِتَّبَعُوا أي: واتبعوا القرآن الذي أنزل مع اتباع النبي والعمل بسنته، أو واتبعوا القرآن كما اتبعه النبي تصاحبونه في اتباعه.

[سورة الأعراف (7): الآیات 158 الی 160]

قُلْ يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ إِنِّي رَسُولُ اَللّٰهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً اَلَّذِي لَهُ مُلْكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ اَلنَّبِيِّ اَلْأُمِّيِّ اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ كَلِمٰاتِهِ وَ اِتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَ مِنْ قَوْمِ مُوسىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ وَ قَطَّعْنٰاهُمُ اِثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبٰاطاً أُمَماً وَ أَوْحَيْنٰا إِلىٰ مُوسىٰ إِذِ اِسْتَسْقٰاهُ قَوْمُهُ أَنِ اِضْرِبْ بِعَصٰاكَ اَلْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اِثْنَتٰا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنٰاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَ ظَلَّلْنٰا عَلَيْهِمُ اَلْغَمٰامَ وَ أَنْزَلْنٰا عَلَيْهِمُ اَلْمَنَّ وَ اَلسَّلْوىٰ كُلُوا مِنْ طَيِّبٰاتِ مٰا رَزَقْنٰاكُمْ وَ مٰا ظَلَمُونٰا وَ لٰكِنْ كٰانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ

جَمِيعاً نصب علي الحال من إِلَيْكُمْ .

اَلَّذِي لَهُ مُلْكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ في موضع الجر على الوصف للّه، أو النصب علي المدح بإضمار أعني، و لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ بدل من الصلة التي هي لَهُ مُلْكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ ، وكذلك يُحيِي وَ يُمِيتُ ، وفي لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ بيان

ص: 241

للجملة قبلها، لأنّ من ملك العالم كان هو الإله علي الحقيقة، وفي يُحيِي وَ يُمِيتُ بيان لاختصاصه بالإلهية، لأنه لا يقدر علي الإحياء والإماتة غيره.

وَ كَلِمٰاتِهِ يريد بها ما أنزل عليه وعلي من تقدّمه من الرسل.

لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ إرادة أن تهتدوا.

وَ مِنْ قَوْمِ مُوسىٰ أُمَّةٌ هم المؤمنون التائبون من بني إسرائيل.

يَهْدُونَ الناس بكلمة اَلْحَقُّ ويدلّونهم علي الاستقامة ويرشدونهم، وبالحقّ يَعْدِلُونَ بينهم في الحكم لا يجورون. أو أراد الذين وصفهم ممن أدرك النبي صلى الله عليه و آله و سلم و آمن به من أعقابهم، وقيل: إنّهم قوم من بني إسرائيل فتح اللّه لهم نفقا في الأرض حتى خرجوا من وراء الصين، وهم هنالك حنفاء مسلمون يستقبلون قبلتنا(1).

وَ قَطَّعْنٰاهُمُ وصيّرناهم قطعا أي: فرقا، وميّزنا بعضهم من بعض.

والأسباط: أولاد الولد جمع سبط، والأسباط في ولد يعقوب بن إسحاق بمنزلة القبائل في ولد إسماعيل، وكانوا اثنا عشر سبطا. وقوله: أَسْبٰاطاً بدل من اِثْنَتَيْ عَشْرَةَ والمميّز محذوف، والتقدير: اثنتا عشرة فرقة.

و أُمَماً نصب علي الحال، يعني: إنّ كل سبط من الأسباط كانت أمّة عظيمة وجماعة كثيرة.

فَانْبَجَسَتْ فانفجرت وهو الانفتاح بسعة وكثرة، قال العجاج:

وكيف غربى دالج تبجّسا(2)

ص: 242


1- عن ابن جريج. تفسير الطبري ج 9:60.
2- ديوان العجاج ج 1:185.

قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنٰاسٍ أي: كل أمّة من تلك الأمم مَشْرَبَهُمْ ، وا لأناس جمع غير تكسير نحو: رخال(1) وتؤام وأخوات لها.

[سورة الأعراف (7): الآیات 161 الی 164]

وَ إِذْ قِيلَ لَهُمُ اُسْكُنُوا هٰذِهِ اَلْقَرْيَةَ وَ كُلُوا مِنْهٰا حَيْثُ شِئْتُمْ وَ قُولُوا حِطَّةٌ وَ اُدْخُلُوا اَلْبٰابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئٰاتِكُمْ سَنَزِيدُ اَلْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ اَلَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ اَلسَّمٰاءِ بِمٰا كٰانُوا يَظْلِمُونَ وَ سْئَلْهُمْ عَنِ اَلْقَرْيَةِ اَلَّتِي كٰانَتْ حٰاضِرَةَ اَلْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي اَلسَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتٰانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَ يَوْمَ لاٰ يَسْبِتُونَ لاٰ تَأْتِيهِمْ كَذٰلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَفْسُقُونَ وَ إِذْ قٰالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اَللّٰهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذٰاباً شَدِيداً قٰالُوا مَعْذِرَةً إِلىٰ رَبِّكُمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ

اَلْقَرْيَةَ بيت المقدس. وقرئ: تغفر لكم خطيئاتكم وخطيئتكم أيضا، وقرئ: نغفر لكم - بالنون - خطيئاتكم وخطاياكم.

وسلهم واسأل اليهود، وقرئ: وَ سْئَلْهُمْ وهو سؤال تقرير وتقريع بقديم كفرهم وتجاوزهم لحدود اللّه.

حٰاضِرَةَ اَلْبَحْرِ قريبة منه.

إِذْ يَعْدُونَ فِي اَلسَّبْتِ إذ يتجاوزون حدّ اللّه فيه، وهو اصطيادهم في يوم السبت وقد نهوا عنه. والسبت مصدر سبتت اليهود: إذا عظمت سبتها بترك الصيد والاشتغال بالتعبد، وكذلك قوله: يَوْمَ سَبْتِهِمْ معناه: يوم تعظيمهم

ص: 243


1- رخال جمع رخل وهي الأنثى من أولاد الضأن. (الصحاح: مادة رخل)

أمر السبت، و إِذْ يَعْدُونَ محلّه جر بدل من اَلْقَرْيَةَ والمراد بالقرية أهلها. والتقدير: واسألهم عن أهل القرية وقت عدوانهم في السبت وهو بدل الاشتمال، ويجوز أن يكون منصوب المحلّ ب - كٰانَتْ أوب حٰاضِرَةَ ، و إِذْ تَأْتِيهِمْ منصوب ب - يَعْدُونَ ، ويجوز أن يكون بدلا بعد بدل.

شُرَّعاً ظاهرة على وجه الماء، وعن الحسن: (تشرع الحيتان علي أبوابهم كأنّها الكباش البيض)(1)، يقال: شرع علينا فلان: إذا دنا منا وأشرف علينا.

كَذٰلِكَ أي: مثل ذلك البلاء نبلوهم بسبب فسقهم.

وَ إِذْ قٰالَتْ معطوف علي إِذْ يَعْدُونَ وإعرابه إعرابه.

أُمَّةٌ مِنْهُمْ أي: جماعة من أهل القرية من صلحائهم يئسوا من قبولهم وعظهم لآخرين كانوا ينهونهم ويعظونهم.

لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اَللّٰهُ مُهْلِكُهُمْ أي: مخترمهم في الدنيا بسبب معصيتهم أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذٰاباً شَدِيداً في الآخرة.

قال الواعظون: مَعْذِرَةً إِلىٰ رَبِّكُمْ أي: موعظتنا معذرة إلى الله، وتأدية لفرضه في النهي عن المنكر وَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ولطمعنا أن يتقوا ويرجعوا. وقرئ:

معذرة - بالنصب - أي: وعظنا هم معذرة، أو اعتذرنا معذرة.

[سورة الأعراف (7): الآیات 165 الی 166]

فَلَمّٰا نَسُوا مٰا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا اَلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلسُّوءِ وَ أَخَذْنَا اَلَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذٰابٍ بَئِيسٍ بِمٰا كٰانُوا يَفْسُقُونَ فَلَمّٰا عَتَوْا عَنْ مٰا نُهُوا عَنْهُ قُلْنٰا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خٰاسِئِينَ

فَلَمّٰا نَسُوا يعني: أهل القرية، أي تركوا ما ذكرهم به الصالحون ترك الناسي

ص: 244


1- تفسير الماوردي ج 2:272.

لما ينساه أَنْجَيْنَا اَلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلسُّوءِ وَ أَخَذْنَا اَلَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذٰابٍ بَئِيسٍ أي:

شديد.

ولم يذكر الفرقة الثالثة التي قالت: لِمَ تَعِظُونَ أهي من الناجية أم من الهالكة. واختلف في ذلك: فقيل: هلكت الفرقتان ونجت الفرقة الناهية(1)، وروي ذلك عن الصادق عليه السلام(2)، وقيل: نجت الفرقتان وهلكت الواحدة وهي الآخذة للحيتان(3)، لأنّ الناهي إذا علم أنّ النهي لا يؤثر في المنهي سقط عنه النهي. وقرئ:

بعذاب بيس علي تخفيف العين من بئس ونقل حركتها إلى الفاء، وقلب الهمزة ياء كذيب في ذئب، وقرئ - أيضا - بالهمزة، وقرئ: بيئس، على وزن فيعل فيكون وصفا كضيغم.

فَلَمّٰا عَتَوْا عَنْ مٰا نُهُوا عَنْهُ أي: تكبّروا عن ترك ما نهوا عنه.

قُلْنٰا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً عبارة عن مسخهم قردة.

خٰاسِئِينَ مطرودين مبعدين، وقيل: إنّهم بقوا كذلك ثلاثة أيّام ينظر إليهم الناس ثم هلكوا ولم يتناسلوا(4).

[سورة الأعراف (7): الآیات 167 الی 168]

وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلىٰ يَوْمِ اَلْقِيٰامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ اَلْعَذٰابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ اَلْعِقٰابِ وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَ قَطَّعْنٰاهُمْ فِي اَلْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ اَلصّٰالِحُونَ وَ مِنْهُمْ دُونَ ذٰلِكَ وَ بَلَوْنٰاهُمْ بِالْحَسَنٰاتِ وَ اَلسَّيِّئٰاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ

ص: 245


1- عن ابن عباس. تفسير الطبري ج 9:67.
2- الكافي ج 8:158.
3- عن السدي وغيره. تفسير الطبري ج 9:64.
4- عن ابن عباس. الكشف والبيان ج 4:298.

هو تفعّل من الإيذان وهو الإعلام. ومعناه: واذكر إذ عزم ربك لأنّ العازم علي الأمر يحدّث به نفسه ويؤذنها بفعله، وأجري مجري فعل القسم ك - عَلِمَ اَللّٰهُ (1) و شَهِدَ اَللّٰهُ (2)، ولذلك أجيب بما يجاب به القسم وهو قوله:

لَيَبْعَثَنَّ ، فكأنّه قال: وَ إِذْ كتب ربك علي نفسه وأوجب لَيَبْعَثَنَّ علي اليهود إِلىٰ يَوْمِ اَلْقِيٰامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ اَلْعَذٰابِ فكانوا يؤدون الجزية إلى المجوس إلى أن بعث اللّه محمّدا صلى الله عليه و آله و سلم [ثم ضربها عليهم](3) فلا تزال مضروبة عليهم إلى آخر الدهر.

ومعنى لَيَبْعَثَنَّ : ليسلّطنّ عليهم كقوله: بَعَثْنٰا عَلَيْكُمْ عِبٰاداً لَنٰا (4).

وَ قَطَّعْنٰاهُمْ فِي اَلْأَرْضِ أُمَماً أي: فرّقناهم في البلاد فرقا وجماعات شتى، فلا يكاد يخلو بلد من فرقة منهم.

مِنْهُمُ اَلصّٰالِحُونَ وهم الذين آمنوا باللّه ورسله.

وَ مِنْهُمْ دُونَ ذٰلِكَ أي: ومنهم ناس دون ذلك الوصف أي: منحطون عنه، فقوله: دُونَ ذٰلِكَ في محلّ الرفع، لأنه صفة لموصوف محذوف، ونحوه قوله: وَ مٰا مِنّٰا إِلاّٰ لَهُ مَقٰامٌ مَعْلُومٌ (5) أي: وما منا أحد إلا له مقام.

وَ بَلَوْنٰاهُمْ بِالْحَسَنٰاتِ وَ اَلسَّيِّئٰاتِ بالنعم والنقم والمنح والمحن.

ص: 246


1- البقرة: 187.
2- آل عمران: 18.
3- ساقطة من ج.
4- الإسراء: 5.
5- الصافات: 164.

لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ينتهون فينيبون(1).

[سورة الأعراف (7): الآیات 169 الی 170]

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا اَلْكِتٰابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هٰذَا اَلْأَدْنىٰ وَ يَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنٰا وَ إِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثٰاقُ اَلْكِتٰابِ أَنْ لاٰ يَقُولُوا عَلَى اَللّٰهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ وَ دَرَسُوا مٰا فِيهِ وَ اَلدّٰارُ اَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَ فَلاٰ تَعْقِلُونَ وَ اَلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتٰابِ وَ أَقٰامُوا اَلصَّلاٰةَ إِنّٰا لاٰ نُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُصْلِحِينَ

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي: من بعد المذكورين خلف وهم الذين كانوا في زمن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم. قال الفراء(2): يقال: خلف صدق، وخلف سوء - بالسكون -(3)، قال لبيد:

ذهب الذين يعاش في أكنافهم *** وبقيت في خلف كجلد الأجرب(4)

وَرِثُوا اَلْكِتٰابَ بقيت التوراة في أيديهم بعد سلفهم يقرؤونها ويدرسونها ولا يعملون بها.

يَأْخُذُونَ عَرَضَ هٰذَا اَلْأَدْنىٰ أي: متاع هذا الشيء الأدنى، يريد الدنيا وما يتمتع به منها. وفي قوله: هٰذَا اَلْأَدْنىٰ تحقير وتخسيس، وهو: إما من الدنو بمعنى القرب، وإما من الدناءة وسقوط الحال. والمراد: ما كانوا يأخذونه من الرشا في الأحكام وعلي تحريف الكلم للتسهيل علي العامة.

ص: 247


1- في أ: يتنبهون فينتبهون.
2- أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد اللّه الديلمي، إمام العربية، كان أعلم الكوفيين بالنحو بعد الكسائي، مات سنة 207 ه - عن سبع وستين سنة. ينظر: بغية الوعاة ج 2:333.
3- معاني القرآن للفراء ج 1:399.
4- ديوان لبيد بن ربيعة العامري: 36.

وَ يَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنٰا أي: لا يؤاخذنا اللّه بما أخذنا.

وَ إِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ الواو للحال، أي: يرجون المغفرة وهم مصرون عائدون إلى مثل فعلهم.

أَ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثٰاقُ اَلْكِتٰابِ ألم يؤخذ علي هؤلاء المرتشين الميثاق في التوراة أن لا يكذبوا علي اللّه ولا يضيفوا إليه إلا ما أنزله، كأنّه قيل: ألم يقل لهم: أن لا تقولوا علي اللّه إلا الحقّ .

وَ دَرَسُوا مٰا فِيهِ وقرأوا ما فيه فهم ذاكرون لذلك.

وَ اَلدّٰارُ اَلْآخِرَةُ خَيْرٌ من ذلك العرض الحقير لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ محارم اللّه.

أَ فَلاٰ تَعْقِلُونَ قرئ بالياء والتاء.

وَ اَلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتٰابِ مرفوع بالابتداء، وخبره: إِنّٰا لاٰ نُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُصْلِحِينَ ، والمعنى: لا نضيع أجرهم، وضع الظاهر موضع المضمر، لأنّ المصلحين في معنى اَلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتٰابِ . ويجوز أن يكون مجرورا عطفا علي اَلَّذِينَ يَتَّقُونَ ، ويكون قوله: إِنّٰا لاٰ نُضِيعُ اعتراضا.

وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنّه ظلّة و ظنّوا أنّه واقع بهم خذوا ما ءاتيناكم بقوّة و اذكروا ما فيه لعلّكم تتّقون نَتَقْنَا اَلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ قلعناه ورفعناه كقوله: وَ رَفَعْنٰا فَوْقَهُمُ اَلطُّورَ (1).

والظلة: كل ما أظلّك من سقيفة.

وَ ظَنُّوا أَنَّهُ وٰاقِعٌ بِهِمْ وعلموا أنّه ساقط عليهم، وذلك أنّهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة، فرفع اللّه الطور علي رؤوسهم مقدار عسكرهم، وكان فرسخا في

ص: 248


1- النساء: 154.

فرسخ، وقيل لهم: إن قبلتموها بما فيها وإلا ليقعن عليكم، فلما نظروا إلى الجبل خرّوا سجدا علي أحد شقي وجوههم ينظرون إلى الجبل فرقا من سقوطه.

خُذُوا مٰا آتَيْنٰاكُمْ بِقُوَّةٍ علي إرادة القول، أي: وقلنا: خذوا، أو قائلين:

خذوا ما آتيناكم من الكتاب بقوة أي: بجد وعزم علي احتمال تكاليفه.

وَ اُذْكُرُوا مٰا فِيهِ من الأوامر والنواهي ولا تنسوه.

[سورة الأعراف (7): الآیات 172 الی 174]

وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قٰالُوا بَلىٰ شَهِدْنٰا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ إِنّٰا كُنّٰا عَنْ هٰذٰا غٰافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمٰا أَشْرَكَ آبٰاؤُنٰا مِنْ قَبْلُ وَ كُنّٰا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَ فَتُهْلِكُنٰا بِمٰا فَعَلَ اَلْمُبْطِلُونَ وَ كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ اَلْآيٰاتِ وَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ

وقرئ ذرياتهم. ومن أفرد فللاستغناء عن جمعه لوقوعه علي الجمع، ألا تري إلي قوله تعالى: وَ كُنّٰا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ . مِنْ ظُهُورِهِمْ بدل من بَنِي آدَمَ بدل البعض من الكل.

ومعنى أخذ ذرياتهم من ظهورهم: إخراجهم من أصلابهم، وقوله: وَ أَشْهَدَهُمْ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ وقوله: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قٰالُوا بَلىٰ شَهِدْنٰا من باب التمثيل. والمعنى في ذلك إنّه نصب لهم الأدلة على ربوبيته، وشهدت بها عقولهم التي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الضلالة والهداية، فكأنّه أشهدهم عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ وقررهم وقال لهم: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ ؟ و كأنّهم قٰالُوا بَلىٰ أنت ربّنا شَهِدْنٰا على أنفسنا وأقررنا بربوبيتك.

أَنْ تَقُولُوا مفعول له، أي: نصبنا الأدلة التي تشهد العقول علي صحتها كراهة أن تقولوا يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ إِنّٰا كُنّٰا عَنْ هٰذٰا غٰافِلِينَ لم ننبّه عليه، أو كراهة أن تَقُولُوا : إِنَّمٰا أَشْرَكَ آبٰاؤُنٰا مِنْ قَبْلُ وَ كُنّٰا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ فاقتدينا

ص: 249

بهم، لأنّ نصب الأدلة علي التوحيد قائم معهم، فلا عذر لهم في الإعراض عنه والإقبال علي تقليد الآباء والاقتداء بهم، [كما لا عذر لآبائهم](1) في الشرك وقد نصبت الأدلة لهم علي التوحيد.

أَ فَتُهْلِكُنٰا بِمٰا فَعَلَ اَلْمُبْطِلُونَ أي: كانوا السبب في شركنا لتأسيسهم الشرك لنا وتقدّمهم فيه.

وَ كَذٰلِكَ أي: ومثل ذلك التفصيل البليغ نُفَصِّلُ اَلْآيٰاتِ لهم.

وَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وإرادة أن يرجعوا عن شركهم نفصلها، وقرئ: أن يقولوا - بالياء -.

[سورة الأعراف (7): الآیات 175 الی 178]

وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ اَلَّذِي آتَيْنٰاهُ آيٰاتِنٰا فَانْسَلَخَ مِنْهٰا فَأَتْبَعَهُ اَلشَّيْطٰانُ فَكٰانَ مِنَ اَلْغٰاوِينَ وَ لَوْ شِئْنٰا لَرَفَعْنٰاهُ بِهٰا وَ لٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى اَلْأَرْضِ وَ اِتَّبَعَ هَوٰاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ اَلْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذٰلِكَ مَثَلُ اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا فَاقْصُصِ اَلْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ سٰاءَ مَثَلاً اَلْقَوْمُ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا وَ أَنْفُسَهُمْ كٰانُوا يَظْلِمُونَ مَنْ يَهْدِ اَللّٰهُ فَهُوَ اَلْمُهْتَدِي وَ مَنْ يُضْلِلْ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْخٰاسِرُونَ

وَ اُتْلُ علي اليهود خبر اَلَّذِي آتَيْنٰاهُ آيٰاتِنٰا فَانْسَلَخَ مِنْهٰا هو عالم من علماء بني إسرائيل أوتي علم بعض كتب اللّه، وقيل: هو من الكنعانيين، واسمه بلعم بن باعورا(2).

ص: 250


1- ساقطة من ج.
2- عن ابن عباس. تفسير الطبري ج 9:82.

فَانْسَلَخَ مِنْهٰا من الآيات بأن كفر بها ونبذها وراء ظهره.

فَأَتْبَعَهُ اَلشَّيْطٰانُ فلحقه الشيطان وأدركه وصار قرينا له، أو فأتبعه خطواته.

فَكٰانَ مِنَ اَلْغٰاوِينَ أي: من الضالين الكافرين. قال الباقر عليه السلام:

(الأصل فيه بلعم، ثم ضربه اللّه مثلا لكل مؤثر هواه علي هدي اللّه من أهل القبلة)(1).

وَ لَوْ شِئْنٰا لَرَفَعْنٰاهُ بِهٰا أي: لعظّمناه ورفعناه إلى منازل الأبرار من العلماء بتلك الآيات.

وَ لٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى اَلْأَرْضِ مال إلي الدنيا ورغب فيها، وإنّما علّق رفعه بمشيئة اللّه تعالى ولم يعلّقه بفعله الذي يستحقّ به الرفع، لأنّ مشيئة اللّه رفعه تابعة للزومه الآيات، فذكرت المشيئة والمراد ما هي تابعة له، فكأنّه قيل: ولو لزمها لرفعناه بها. ألا تري إلى قوله: وَ لٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى اَلْأَرْضِ فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله، فوجب أن يكون وَ لَوْ شِئْنٰا في معنى ما هو فعله.

فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ اَلْكَلْبِ أي: فصفته كصفة الكلب في أخسّ أحواله، وهي حال دوام اللهث به واتصاله، سواء حمل عليه أي: شدّ عليه وهيج فطرد أو ترك غير محمول عليه، وذلك أنّ سائر الحيوان لا يكون منه اللهث إلا إذا هيج وحرك وإلا لم يلهث، والكلب يتصل لهثه في الحالتين جميعا. فكان حقّ الكلام أن يقال: ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض فحططناه، ولكن تمثيله بالكلب في أخسّ أحواله في معنى ذلك.

ص: 251


1- التبيان ج 5:38.

ومحلّ الجملة الشرطية النصب على الحال، كأنّه قيل: كمثل الكلب ذليلا دائم الذلة لاهثا في الحالين. وقيل: إنّ بلعم طلب منه قومه أن يدعو علي موسى ومن معه، فأبى وقال: كيف أدعو على من معه الملائكة!، فألحّوا عليه حتى فعل، فخرج لسانه فوقع علي صدره وجعل يلهث كما يلهث الكلب(1).

ذٰلِكَ مَثَلُ اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا من اليهود بعد ما قرأوا نعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في التوراة، وبشّروا الناس بقرب مبعثه وكانوا يستفتحون به.

فَاقْصُصِ قصص بلعم الذي هو نحو قصصهم.

لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فيحذرون مثل عاقبته إذا ساروا بسيرته وزاغوا شبه زيغه، ويعلمون أنّك علمته من جهة الوحي فتزداد الحجّة لزوما لهم.

سٰاءَ مَثَلاً اَلْقَوْمُ أي: مثل القوم وَ أَنْفُسَهُمْ كٰانُوا يَظْلِمُونَ تقديم المفعول به للاختصاص، فكأنّه قيل: وخصّوا أنفسهم بالظلم لم يتعدّها إلى غيرها.

فَهُوَ اَلْمُهْتَدِي فهو محمول علي اللفظ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْخٰاسِرُونَ محمول علي المعنى.

[سورة الأعراف (7): الآیات 179 الی 181]

وَ لَقَدْ ذَرَأْنٰا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاٰ يَفْقَهُونَ بِهٰا وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لاٰ يُبْصِرُونَ بِهٰا وَ لَهُمْ آذٰانٌ لاٰ يَسْمَعُونَ بِهٰا أُولٰئِكَ كَالْأَنْعٰامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْغٰافِلُونَ وَ لِلّٰهِ اَلْأَسْمٰاءُ اَلْحُسْنىٰ فَادْعُوهُ بِهٰا وَ ذَرُوا اَلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمٰائِهِ سَيُجْزَوْنَ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ وَ مِمَّنْ خَلَقْنٰا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ

ص: 252


1- العرائس: 142.

أي: خلقنا كَثِيراً مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ علي أنّ مصيرهم إلى جهنم بسوء اختيارهم، وهم الذين علم اللّه أنّه لا لطف لهم. جعلهم سبحانه في أنّهم لا يتدبرون أدلة اللّه وبيّناته بعقولهم، ولا ينظرون إلي مخلوقاته نظر اعتبار، ولا يسمعون ما يتلي عليهم من المواعظ والأذكار، ولا يأتي منهم إلا أفعال أهل النار؛ مخلوقين للنار.

أُولٰئِكَ كَالْأَنْعٰامِ في عدم التدبّر والتفكر والنظر للاعتبار.

بَلْ هُمْ أَضَلُّ فإنّ البهائم إذا زجرت انزجرت، وإذا أرشدت إلى طريق اهتدت، وهؤلاء لا يهتدون إلى شيء من أمور الديانات مع ما ركب فيهم من العقول الدالة علي الرشاد الصارفة عن العناد.

أُولٰئِكَ هُمُ اَلْغٰافِلُونَ الكاملون في الغفلة.

وَ لِلّٰهِ اَلْأَسْمٰاءُ اَلْحُسْنىٰ التي هي أحسن الأسماء، لأنّها تتضمن معاني حسنة، بعضها يرجع إلى صفات ذاته كالعالم والقادر والحي والإله، وبعضها يرجع إلى صفات فعله كالخالق والرازق والبارئ والمصور، وبعضها تفيد التمجيد والتقديس كالقدّوس والغني والواحد.

فَادْعُوهُ بِهٰا فسمّوه بتلك الأسماء.

وَ ذَرُوا اَلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمٰائِهِ أي: واتركوا الذين يعدلون بأسمائه عما هي عليه فيسمّون بها أصنامهم، أو يصفونه [بما لا يليق به ويسمّونه بما لا يجوز تسميته به](1).

وَ مِمَّنْ خَلَقْنٰا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه كان يقول إذا قرأها: (هذه لكم وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها وَ مِنْ قَوْمِ مُوسىٰ

ص: 253


1- ساقطة من ج.

أُمَّةٌ ... الآية(1)(2)، وعن علي عليه السلام قال: (والذي نفسي بيده، لتفترقنّ هذه الأمة علي ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا فرقة وممن خلقنا أمّة يهدون بالحقّ ...

الآية، فهذه التي تنجو)(3). وعن الباقر والصادق عليهما السلام أنّهما قالا: (نحن هم)(4).

[سورة الأعراف (7): الآیات 182 الی 186]

وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاٰ يَعْلَمُونَ وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا مٰا بِصٰاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاّٰ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مٰا خَلَقَ اَللّٰهُ مِنْ شَيْ ءٍ وَ أَنْ عَسىٰ أَنْ يَكُونَ قَدِ اِقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّٰهُ فَلاٰ هٰادِيَ لَهُ وَ يَذَرُهُمْ فِي طُغْيٰانِهِمْ يَعْمَهُونَ

الاستدراج من الدرجة بمنزلة الاستصعاد و الاستنزال درجة بعد درجة، و المعنى: سنستدنيهم قليلا قليلا إلى الهلاك حتى يقعوا فيه بغتة مِنْ حَيْثُ لاٰ يَعْلَمُونَ ما يراد بهم.

وَ أُمْلِي لَهُمْ عطف علي سَنَسْتَدْرِجُهُمْ وهو داخل في حكم السين.

إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ سمّاه كيدا [لأنّه شبيه بالكيد](5)، لأنّه في الظاهر إحسان وفي الحقيقة خذلان.

أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا هؤلاء الكفار فيعلموا مٰا بِصٰاحِبِهِمْ بمحمّد صلى الله عليه و آله و سلم مِنْ

ص: 254


1- الأعراف: 159.
2- تفسير الطبري ج 9:92.
3- تفسير العياشي ج 2:43، الدر المنثور ج 3:149.
4- تفسير العياشي ج 2:42، الكافي ج 1:414.
5- ساقطة من ط.

جِنَّةٍ أي: جنون، وكانوا يقولون: شاعر مجنون. وعن قتادة: (إنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان علي الصفا فدعاهم فخذا فخذا يحذّرهم بأس اللّه، فقال قائلهم: إنّ صاحبكم هذا لمجنون بات يهوّت إلى الصباح)(1).

أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا نظر استدلال فِي مَلَكُوتِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ فيما يدلان عليه من عظم الملك.

وَ مٰا خَلَقَ اَللّٰهُ مِنْ شَيْ ءٍ وفيما خلق الله مما يقع عليه اسم الشيء من أجناس خلقه التي لا يحصرها العدد، وفي أَنْ عَسىٰ أَنْ يَكُونَ قَدِ اِقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ ولعلهم يموتون عن قريب، فيسارعوا إلى النظر فيما ينجيهم قبل مغافصة الأجل(2). و إِنَّ هذه مخففة من الثقيلة، وأصله: وأنّه عسى، علي أنّ الضمير ضمير الشأن.

فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ أي: بعد القرآن يُؤْمِنُونَ . والمعنى: لعل أجلهم قد اقترب، فمالهم لا يبادرون إلى الإيمان بالقرآن قبل الفوت ؟! وبأي حديث أحقّ منه يريدون أن يؤمنوا؟!.

وقرئ: ويذرهم بالياء والنون، وبالرفع والجزم، والرفع علي الاستئناف، والجزم عطف علي محلّ فَلاٰ هٰادِيَ لَهُ كأنّه قيل: من يضلل اللّه لا يهده أحد ويذرهم.

[سورة الأعراف (7): الآیات 187 الی 188]

يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلسّٰاعَةِ أَيّٰانَ مُرْسٰاهٰا قُلْ إِنَّمٰا عِلْمُهٰا عِنْدَ رَبِّي لاٰ يُجَلِّيهٰا لِوَقْتِهٰا إِلاّٰ هُوَ ثَقُلَتْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ لاٰ تَأْتِيكُمْ إِلاّٰ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهٰا قُلْ إِنَّمٰا عِلْمُهٰا عِنْدَ اَللّٰهِ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ قُلْ لاٰ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَ لاٰ ضَرًّا إِلاّٰ مٰا شٰاءَ اَللّٰهُ

ص: 255


1- تفسير الطبري ج 9:93.
2- مغافصة الاجل: أخذه إياهم على غرة. (الصحاح: مادة غفص)

[سورة الأعراف (7): آیة 188]

وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ اَلْخَيْرِ وَ مٰا مَسَّنِيَ اَلسُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاّٰ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ

الساعة: من الأسماء الغالبة كالنجم للثريا، وسمّيت القيامة ب - اَلسّٰاعَةِ لوقوعها بغتة، أو لأنّها علي طولها عند اللّه كساعة من ساعات الخلق.

و أَيّٰانَ بمعنى متى، وقيل: اشتقاقه من أي، لأنّ معناه أيّ وقت.

و مُرْسٰاهٰا إرساؤها أو وقت إرسائها أي: إثباتها، ورسو كل شيء ثباته واستقراره، والمعنى: متى يرسيها اللّه ؟.

قل إنما علمها أي: علم وقت إرسائها عنده قد استأثر به لم يخبر به أحدا من خلقه ليكون العباد علي حذر منه، وذلك أدعى لهم إلي الطاعة وأزجر عن المعصية، كما أخفى سبحانه وقت الموت لذلك.

لاٰ يُجَلِّيهٰا لِوَقْتِهٰا إِلاّٰ هُوَ أي: لا تزال خفية لا يكشف خفاء علمها إلا هو وحده إذا جاء بها في وقتها.

ثَقُلَتْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ أي: أهمّ شأن الساعة أهل السماوات والأرض من الملائكة والجن والإنس، فكل منهم يودّ أن يتجلى له علمها، وشق عليه خفاؤها وثقل عليه، أو ثقلت فيهما لأنّ أهليهما يتوقعونها ويخافون شدائدها وأهوالها.

لاٰ تَأْتِيكُمْ إِلاّٰ بَغْتَةً أي: فجأة علي غفلة منكم. وفي الحديث: (إنّ الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه، والرجل يسقي ماشيته، والرجل يقوّم سلعته في سوقه، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه)(1).

كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهٰا أي: كأنّك عالم بها، وأصله: كأنّك أحفيت في السؤال عنها

ص: 256


1- تفسير الطبري ج 9:95.

حتى علمتها، أي: استقصيت وألحفت، وقيل: إنّ عَنْهٰا يتعلّق ب - يسئلونك أي: يسألونك عنها [كأنّك حفي أي: عالم بها(1)، وقيل: كأنّك حفي](2) بالسؤال عنها تحبّه وتؤثره، يعني: إنّك تكره السؤال عنها لأنّه من علم الغيب الذي استأثر اللّه به.

وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ أنّه المختص بالعلم بها.

قُلْ لاٰ أَمْلِكُ لِنَفْسِي هو إظهار العبودية، أي: أنا عبد ضعيف لا أملك لنفسي اجتلاب نفع ولا دفع ضرر.

إِلاّٰ مٰا شٰاءَ ربّي ومالكي من النفع لي والدفع عني.

وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ اَلْغَيْبَ لكانت حالي علي خلاف ما هي عليه، فكنت أستكثر المنافع وأجتنب المضار، ولم أكن غالبا مرة ومغلوبا أخري في الحروب، ورابحا وخاسرا في المتاجر.

إِنْ أَنَا إِلاّٰ عبد أرسلت بشيرا ونذيرا، وما من شأني علم الغيب.

[سورة الأعراف (7): الآیات 189 الی 193]

هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وٰاحِدَةٍ وَ جَعَلَ مِنْهٰا زَوْجَهٰا لِيَسْكُنَ إِلَيْهٰا فَلَمّٰا تَغَشّٰاهٰا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمّٰا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اَللّٰهَ رَبَّهُمٰا لَئِنْ آتَيْتَنٰا صٰالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلشّٰاكِرِينَ فَلَمّٰا آتٰاهُمٰا صٰالِحاً جَعَلاٰ لَهُ شُرَكٰاءَ فِيمٰا آتٰاهُمٰا فَتَعٰالَى اَللّٰهُ عَمّٰا يُشْرِكُونَ أَ يُشْرِكُونَ مٰا لاٰ يَخْلُقُ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ وَ لاٰ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَ لاٰ أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى اَلْهُدىٰ لاٰ يَتَّبِعُوكُمْ سَوٰاءٌ عَلَيْكُمْ أَ دَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صٰامِتُونَ

ص: 257


1- عن الضحاك. تفسير الطبري ج 9:96.
2- ساقطة من ب.

خَلَقَكُمْ خطاب لبني ادم.

مِنْ نَفْسٍ وٰاحِدَةٍ و هي نفس آدم عليه السلام.

وَ جَعَلَ مِنْهٰا زَوْجَهٰا وهي حواء خلقها من جسد آدم من ضلع من أضلاعه، أو من جنسها كقوله: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوٰاجاً (1).

لِيَسْكُنَ إِلَيْهٰا ليطمئن إليها ويأنس بها، لأنّ الجنس إلى الجنس أميل وبه انس، وذكّر لِيَسْكُنَ ذهابا إلى معنى النفس ليبيّن أنّ المراد بها آدم، ولأنّ الذكر هو الذي يسكن إلى الأنثى ويتغشاها، والتغشي كناية عن الجماع، وكذلك الغشيان و الإتيان.

حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً وهو الماء الذي حصل في رحمها خفّ عليها ولم تستثقله.

فَمَرَّتْ بِهِ أي: استمرت بالحمل علي الخفة وقامت به وقعدت كما كانت قبل ذلك، لم يمنعها الحمل عن شيء من التصرّف.

فَلَمّٰا أَثْقَلَتْ أي: حان وقت ثقل حملها كما يقال: أقربت.

دَعَوَا اَللّٰهَ أي: دعا آدم وحواء ربّهما ومالك أمرهما الذي هو الحقيق بأن يلتجأ إليه فقالا: لَئِنْ آتَيْتَنٰا صٰالِحاً لئن وهبت لنا ولدا سويا قد صلح بدنه وبرئ، وقيل: ولدا ذكرا(2)، لأنّ الذكورة من الصلاح والجودة. والضمير في آتَيْتَنٰا و لَنَكُونَنَّ لهما ولكل من تناسل من ذريتهما.

فَلَمّٰا آتٰاهُمٰا ما طلباه من الولد الصالح السوي.

ص: 258


1- الشوري: 11.
2- عن الحسن. تفسير الطبري ج 9:98.

جَعَلاٰ لَهُ شُرَكٰاءَ أي: جعل أولادهما له شركاء، على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وكذلك فِيمٰا آتٰاهُمٰا أي: آتى أولادهما، وقد دلّ علي ذلك قوله: فَتَعٰالَى اَللّٰهُ عَمّٰا يُشْرِكُونَ حيث جمع الضمير. ومعنى إشراكهم فيما اتاهم اللّه: تسميتهم أولادهم بعبد العزّى وعبد مناة وعبد يغوث وما أشبه ذلك مكان عبد اللّه وعبد الرحمن. وقرئ: جعلا له شركا، أي: ذوي شرك وهم الشركاء.

وفي الآية وجه آخر: وهو أن يكون الخطاب لقريش وهم آل قصي، أي:

خلقكم من نفس قصي وجعل من جنسها زوجها عربية قرشية، فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح السوي جعلا له شركاء فيما آتاهما حيث سمّيا أولادهما الأربعة بعبد مناف وعبد العزّى وعبد قصي وعبد الدار.

أَ يُشْرِكُونَ مٰا لاٰ يقدر علي خلق شيء وَ هُمْ يُخْلَقُونَ لأنّ عبدتهم يخلقونهم فهم أعجز من عبدتهم.

وَ لاٰ يَسْتَطِيعُونَ لعبدتهم نَصْراً وَ لاٰ أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ فيدفعون عنها ما يعتريها من الحوادث.

وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى اَلْهُدىٰ أي: إلي ما هو هدي، أو إلى أن يهدوكم.

لاٰ يَتَّبِعُوكُمْ إلي مرادكم وطلبتكم، ولا يجيبوكم كما يجيبكم الله.

سَوٰاءٌ عَلَيْكُمْ أَ دَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ صمتّم عن دعائهم في أنّه لا فلاح معهم.

[سورة الأعراف (7): الآیات 194 الی 195]

إِنَّ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ عِبٰادٌ أَمْثٰالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهٰا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهٰا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ

ص: 259

[سورة الأعراف (7): آیة 195]

بِهٰا أَمْ لَهُمْ آذٰانٌ يَسْمَعُونَ بِهٰا قُلِ اُدْعُوا شُرَكٰاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاٰ تُنْظِرُونِ

إِنَّ اَلَّذِينَ تعبدونهم وتسمّونهم آلهة مِنْ دُونِ اَللّٰهِ عِبٰادٌ أَمْثٰالُكُمْ استهزاء بهم، أي: نهاية أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء، فإن ثبت ذلك فهم عباد أمثالكم لا تفاضل بينكم.

فَادْعُوهُمْ في مهماتكم ولصرف الأسواء عنكم.

ثم أبطل أن يكونوا عبادا أمثالهم بقوله: أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهٰا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهٰا ، ثم قال: قُلِ اُدْعُوا شُرَكٰاءَكُمْ واستعينوا بهم في عداوتي ثم كيدوني جميعا أنتم وشركاؤكم.

فَلاٰ تُنْظِرُونِ فإنّي لا أبالي بكم. وهذا لا يقوله إلا من هو واثق بعصمة اللّه، وكانوا قد خوّفوه بآلهتهم فأمر أن يجيبهم بذلك.

[سورة الأعراف (7): الآیات 196 الی 199]

إِنَّ وَلِيِّيَ اَللّٰهُ اَلَّذِي نَزَّلَ اَلْكِتٰابَ وَ هُوَ يَتَوَلَّى اَلصّٰالِحِينَ وَ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاٰ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَ لاٰ أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى اَلْهُدىٰ لاٰ يَسْمَعُوا وَ تَرٰاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَ هُمْ لاٰ يُبْصِرُونَ خُذِ اَلْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْجٰاهِلِينَ

إِنَّ ناصري وحافظي ودافع شرّكم عني اَللّٰهُ اَلَّذِي نَزَّلَ القرآن وأعزّني برسالته وَ هُوَ يَتَوَلَّى اَلصّٰالِحِينَ ومن عادته أن ينصر المطيعين له الصالحين من عباده.

وَ تَرٰاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ أي: يشبهون الناظرين إليك، لأنّهم صوّروا

ص: 260

أصنامهم بصورة من يقلب حدقته إلى الشيء ليراه.

وَ هُمْ لاٰ يُبْصِرُونَ وهم لا يدركون المرئي.

خُذِ اَلْعَفْوَ أي: خذ ما عفا لك من أفعال الناس وأخلاقهم وما يأتي منهم من غير كلفة، ولا تداقهم، واقبل الميسور منهم، ونحوه قوله عليه السلام: (يسّروا ولا تعسّروا)(1). أمر سبحانه بالتسامح وترك الاستقصاء في القضاء والاقتضاء.

وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ بالمعروف والجميل من الأفعال والحميد من الخصال.

وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْجٰاهِلِينَ ولا تكافئ السفهاء بمثل سفههم، وأعرض عما يسوؤك منهم. وقيل: إنّه لما نزلت الآية سأل جبرئيل، فقال: لا أدري حتى أسأل، ثم أتاه فقال: يا محمّد إنّ اللّه يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك(2). وعن الصادق عليه السلام: (أمر اللّه نبيه بمكارم الأخلاق، وليس في القران آية أجمع لمكارم الأخلاق منها)(3).

[سورة الأعراف (7): الآیات 200 الی 203]

وَ إِمّٰا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ اَلشَّيْطٰانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّٰهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِنَّ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا إِذٰا مَسَّهُمْ طٰائِفٌ مِنَ اَلشَّيْطٰانِ تَذَكَّرُوا فَإِذٰا هُمْ مُبْصِرُونَ وَ إِخْوٰانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي اَلغَيِّ ثُمَّ لاٰ يُقْصِرُونَ وَ إِذٰا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قٰالُوا لَوْ لاٰ اِجْتَبَيْتَهٰا قُلْ إِنَّمٰا أَتَّبِعُ مٰا يُوحىٰ إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هٰذٰا بَصٰائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ

وَ إِمّٰا ينخسنك مِنَ اَلشَّيْطٰانِ نخس في القلب يوسوسك علي خلاف

ص: 261


1- صحيح البخاري ج 1:24، رسائل الشريف المرتضى ج 2:246.
2- تفسير الطبري ج 9:105.
3- الكشف والبيان ج 4:318.

ما أمرت به فَاسْتَعِذْ بِاللّٰهِ ولا تطعه، وجعل النزغ نازغا مثل قولهم: جدّ جدّه.

والنزغ والنسغ والنخس بمعنى، كأنّه ينخس الإنسان حين يغريه علي المعاصي.

وقرئ: طيف و طٰائِفٌ وهو مصدر قولهم: طاف به الخيال يطيف طيفا، أو هو تخفيف طيّف فيعل من طاف يطيف ك - (ليّن)، أو من طاف يطوف ك - (هيّن).

وهذا تأكيد وتقرير لما تقدّم من وجوب الاستعاذة باللّه عند نزغ الشيطان، وأنّ المتقين هذه عادتهم إذا أصابهم أدنى لمة مِنَ اَلشَّيْطٰانِ تَذَكَّرُوا ما أمر الله به ونهى عنه، فأبصروا الرشد ودفعوا الوسوسة.

وأما إخوان الشياطين الذين ليسوا بمتقين فإنّ الشياطين يَمُدُّونَهُمْ فِي اَلغَيِّ أي: يكونون مددا لهم ويزيدونهم فيه. وقرئ: يمدونهم، من الإمداد، وفي الشواذ: يمادونهم، وا لمعنى: يعاونونهم.

ثُمَّ لاٰ يُقْصِرُونَ أي: لا يمسكون عن إغوائهم حتى يصرّوا ولا يرجعوا.

وقوله: وَ إِخْوٰانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ كقول الشاعر:

قوم إذا الخيل جالوا في كواثبها *** فوارس الخيل لا ميل ولا قزم(1)

في أنّ الخبر جري علي غير من هو له.

ويجوز أن يراد بالإخوان: الشياطين ويرجع الضمير إلى اَلْجٰاهِلِينَ فيكون الخبر جاريا علي من هو له. والأوّل أوجه، لأنّ إِخْوٰانُهُمْ في مقابلة اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا ، وجاز جمع الضمير في إِخْوٰانُهُمْ والشيطان مفرد لأنّ المراد به الجنس، فهو كقوله: أَوْلِيٰاؤُهُمُ اَلطّٰاغُوتُ (2).

ص: 262


1- البيت لزياد بن منقذ العبدي. ديوان الحماسة: 435، وفيه: وهم اذا الخيل حالوا....
2- البقرة: 257.

وَ إِذٰا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ مقترحة قٰالُوا لَوْ لاٰ اِجْتَبَيْتَهٰا اجتبى الشيء:

إذا جباه لنفسه بمعنى جمعه، كقوله: اجتمعته، أو جبى إليه فاجتباه أي: أخذه، والمعنى: هلا اجتمعتها افتعالا من عند نفسك، لأنّهم كانوا يقولون: إن هذا إلا إفك مفترى، أو هلا أخذتها منزلة عليك مقترحة.

قُلْ إِنَّمٰا أَتَّبِعُ مٰا يُوحىٰ إِلَيَّ مِنْ رَبِّي ولست بمفتعل للآيات، أو لست بمقترح لها.

هٰذٰا بَصٰائِرُ أي: هذا القرآن حجج بيّنة ودلائل واضحة يعود الناس بها بصراء بعد العمى، أو هو بمنزلة بصائر القلوب.

[سورة الأعراف (7): الآیات 204 الی 206]

وَ إِذٰا قُرِئَ اَلْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً وَ دُونَ اَلْجَهْرِ مِنَ اَلْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصٰالِ وَ لاٰ تَكُنْ مِنَ اَلْغٰافِلِينَ إِنَّ اَلَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لاٰ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبٰادَتِهِ وَ يُسَبِّحُونَهُ وَ لَهُ يَسْجُدُونَ

هذا الظاهر يوجب استماع القرآن والإنصات له وقت قراءته في الصلاة وغير الصلاة، وقيل: إنّه في الصلاة خاصة خلف الإمام الذي يؤتم به إذا سمعت قراءته، وكان المسلمون يتكلّمون في الصلاة فنزلت(1)، ثم صار سنّة في غير الصلاة أن ينصت القوم في المجلس الذي يقرأ فيه القرآن. وقيل: معناه: إذا تلا عليكم الرسول القرآن عند نزوله فاستمعوا له(2). قال الصادق عليه السلام: (إذا قرئ عندك القرآن وجب عليك الإنصات والاستماع)(3).

ص: 263


1- أسباب النزول: 159.
2- عن الجبائي. التبيان ج 5:81.
3- تفسير العياشي ج 2:44.

لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لترحموا بذلك.

وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ هو عام في الأذكار من قراءة القرآن والدعاء والتسبيح والتهليل.

تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً أي: متضرّعا وخائفا.

وَ دُونَ اَلْجَهْرِ ومتكلّما كلاما دون الجهر، لأنّ الإخفاء أدخل في الإخلاص، وأبعد من الرياء، وأقرب إلى القبول.

بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصٰالِ بالغدوات والعشيات لفضل هذين الوقتين. وقيل:

المراد به دوام الذكر واتصاله.

وَ لاٰ تَكُنْ مِنَ اَلْغٰافِلِينَ عن ذكر اللّه اللاهين عنه.

إِنَّ اَلَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ وهم الملائكة، والمعنى في عِنْدَ : دنو المنزلة والزلفة والقرب من فضل اللّه ورحمته، لتوفرهم علي طاعته.

لاٰ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبٰادَتِهِ مع جلالة قدرهم وعلو أمرهم.

وَ يُسَبِّحُونَهُ ينزهونه عما لا يليق به.

وَ لَهُ يَسْجُدُونَ ويختصونه بالسجود والعبادة، وهذا أوّل سجدات القرآن.

ص: 264

سورة الأنفال

اشارة

مدنية، وهي ست وسبعون آية بصري، خمس كوفي. ثُمَّ يُغْلَبُونَ و مَفْعُولاً الأوّل بصري، بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ كوفي.

في خبر أبيّ : (ومن قرأ (سورة الأنفال وبراءة) فأنا شفيع له وشاهد له يوم القيامة أنّه بريء من النفاق، وأعطي من الأجر بعدد كل منافق ومنافقة في دار الدنيا عشر حسنات، ومحي عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وكان العرش وحملته يصلّون عليه أيّام حياته في دار الدنيا)(1)، قال الصادق عليه السلام: (من قرأهما في كل شهر لم يدخله نفاق أبدا، وكان من شيعة أمير المؤمنين حقّا، ويأكل يوم القيامة من موائد الجنّة معهم حتى يفرغ الناس من الحساب)(2).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة الأنفال (8): آیة 1]

يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفٰالِ قُلِ اَلْأَنْفٰالُ لِلّٰهِ وَ اَلرَّسُولِ فَاتَّقُوا اَللّٰهَ وَ أَصْلِحُوا ذٰاتَ بَيْنِكُمْ وَ أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

قرأ ابن مسعود وعليّ بن الحسين زين العابدين والباقر والصادق عليهم السلام: يسألونك

ص: 265


1- الكشف والبيان ج 4:324.
2- تفسير العياشي ج 2:46.

الأنفال. وهذه القراءة مؤدية للسبب في القراءة الأخري التي هي عَنِ اَلْأَنْفٰالِ ، وذلك أنّهم إنّما سألوه عنها استعلاما لحالها، هل يسوغ طلبها؟. وفي القراءة بالنصب تصريح بطلبها، وبيان عن الغرض في السؤال عنها.

والنفل: الزيادة علي الشيء، قال لبيد:

إنّ تقوى ربّنا خير نفل *** وبإذن اللّه ريثي وعجل(1)

قال الصادق عليه السلام: (الأنفال كل ما أخذ من دار الحرب بغير قتال، وكل أرض انجلى أهلها عنها بغير قتال أيضا - وسمّاها الفقهاء فيئا - والأرضون الموات، والآجام، وبطون الأودية، وقطائع الملوك، وميراث من لا وارث له، وهي للّه والرسول ولمن قام مقامه بعده)(2).

فَاتَّقُوا اَللّٰهَ باتقاء مخالفة ما يأمركم هو ورسوله به.

وَ أَصْلِحُوا ذٰاتَ بَيْنِكُمْ حقيقته أحوال بينكم، والمعنى: أصلحوا ما بينكم من الأحوال حتى تكون أحوال ألفة واتفاق ومودة، ونحوه: ذات الصدور، وهي مضمراتها.

[سورة الأنفال (8): الآیات 2 الی 4]

إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ إِذٰا ذُكِرَ اَللّٰهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذٰا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيٰاتُهُ زٰادَتْهُمْ إِيمٰاناً وَ عَلىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاٰةَ وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجٰاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ

ص: 266


1- ديوان لبيد بن ربيعة العامري: 139.
2- ينظر: الوسائل ج 6: باب 1 من أبواب الأنفال.

أي: إِنَّمَا الكاملون في الإيمان اَلَّذِينَ من صفتهم أنّهم إِذٰا ذُكِرَ اَللّٰهُ عندهم واقتداره وأليم عقابه علي المعاصي وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أي: خافت وَ إِذٰا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيٰاتُهُ زٰادَتْهُمْ إِيمٰاناً أي: ازدادوا بها يقينا وطمأنينة نفس، وتصديقا إلى تصديقهم بما أنزل قبل ذلك من القرآن.

وَ عَلىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وإليه يفوّضون أمورهم فيما يخافون ويرجون.

وخصّ الصلاة والزكاة بالذكر لعظم شأنهما وتأكّد الأمر فيهما.

أُولٰئِكَ المستجمعون لهذه الخصال هم الذين استحقّوا إطلاق اسم الإيمان علي الحقيقة.

و حَقًّا صفة لمصدر محذوف، أي: إيمانا حقّا، أو هو مصدر مؤكد للجملة التي هي أُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُؤْمِنُونَ كما تقول: هو عبد اللّه حقّا، أي: حقّ ذلك حقّا.

دَرَجٰاتٌ شرف وكرامة وعلو رتبة وَ مَغْفِرَةٌ وتجاوز لسيئاتهم وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ نعيم الجنّة، أي: منافع دائمة، علي سبيل التعظيم، وهذا معنى الثواب.

[سورة الأنفال (8): الآیات 5 الی 8]

كَمٰا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ لَكٰارِهُونَ يُجٰادِلُونَكَ فِي اَلْحَقِّ بَعْدَ مٰا تَبَيَّنَ كَأَنَّمٰا يُسٰاقُونَ إِلَى اَلْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اَللّٰهُ إِحْدَى اَلطّٰائِفَتَيْنِ أَنَّهٰا لَكُمْ وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذٰاتِ اَلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَ يُرِيدُ اَللّٰهُ أَنْ يُحِقَّ اَلْحَقَّ بِكَلِمٰاتِهِ وَ يَقْطَعَ دٰابِرَ اَلْكٰافِرِينَ لِيُحِقَّ اَلْحَقَّ وَ يُبْطِلَ اَلْبٰاطِلَ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُجْرِمُونَ

الكاف في محلّ الرفع علي أنّه خبر مبتدأ محذوف، أي: هذه الحال كحال

ص: 267

إخراجك، والمعنى: إنّ حالهم في كراهة ما حكم اللّه في الأنفال مثل حالهم في كراهة خروجك من بيتك للحرب. ويجوز أن يكون في محلّ النصب علي أنّه صفة لمصدر الفعل المقدّر في قولك: الأنفال للّه والرسول، أي: الأنفال استقرت للّه والرسول، وثبتت مع كراهتهم ثباتا مثل ثبات إخراج ربّك إيّاك من بيتك مع كراهتهم، فعلي هذا لا يكون الوقف من قوله: قُلِ اَلْأَنْفٰالُ إلى قوله: بِالْحَقِّ . وعلى الأوّل جاز الوقف علي قوله: وَ اَلرَّسُولِ وقوله: مُؤْمِنِينَ .

و مِنْ بَيْتِكَ يريد بيته بالمدينة، أو المدينة نفسها، لأنّها مهاجره ومسكنه.

بِالْحَقِّ أي: إخراجا ملتبسا بالحكمة والصواب الذي لا محيد عنه، وهو الجهاد.

وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ لَكٰارِهُونَ في موضع الحال، أي: أخرجك في حال كراهتهم.

يُجٰادِلُونَكَ فِي اَلْحَقِّ فيما دعوتهم إليه، وهو تلقي النفير، وهو جيش قريش لإيثارهم عليه تلقي العير.

بَعْدَ مٰا تَبَيَّنَ بعد إعلام رسول اللّه بأنّهم ينصرون.

وجدالهم أنّهم قالوا: ما خرجنا إلا للعير، وذلك: أنّ عير قريش أقبلت من الشام معها أربعون راكبا منهم أبو سفيان وعمرو بن العاص، فأخبر جبرئيل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأخبر المسلمين، فأعجبهم تلقي العير، فلما خرجوا بلغ أهل مكة خبر خروجهم، فنادي أبو جهل فوق الكعبة: يا أهل مكة النجا النجا على كل صعب وذلول، عيركم، أموالكم، إن أصابها محمّد لن تفلحوا بعدها أبدا. وخرج أبو جهل بجميع أهل مكة وهم النفير، وفي المثل السائر: لا في العير ولا في النفير(1)، فقيل

ص: 268


1- مجمع الأمثال ج 3:168.

له: إنّ العير أخذت طريق الساحل ونجت، فارجع بالناس إلى مكة، فقال: لا والله حتى ننحر الجزر ونشرب الخمر ببدر، فتتسامع العرب بأنّ محمّدا لم يصب العير، وأنّا أغضضناه، فمضى بهم إلى بدر - وبدر ماء كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوما في السنة - ونزل جبرئيل فقال: يا محمّد إنّ اللّه وعدكم إِحْدَى اَلطّٰائِفَتَيْنِ :

إما العير وإما قريشا، فاستشار النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أصحابه وقال: ما تقولون ؟ إن القوم قد خرجوا من مكة فالعير أحبّ إليكم أم النفير؟ قالوا: بل العير أحبّ إلينا من لقاء العدو. فتغيّر وجه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقال: إنّ العير قد مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل، فقالوا: يا رسول اللّه عليك بالعير ودع العدو، فقام رجال من أصحابه وقالوا، ثمّ قام المقداد بن عمرو وقال: واللّه لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا وشوك الهراس لخضناه معك، ولا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقٰاتِلاٰ إِنّٰا هٰاهُنٰا قٰاعِدُونَ (1) ولكنّا نقول: امض لما أمرك ربّك فإنّا معك مقاتلون مادامت منا عين تطرف، وقام سعد بن معاذ وقال:

يا رسول اللّه امض لما أردت، فوالذي بعثك بالحقّ لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلّف منا رجل واحد، ولعل اللّه يريك منا ما تقرّ به عينك، فسر بنا علي بركة اللّه، ففرح رسول اللّه بقوله، وقال: سيروا على بركة اللّه وأبشروا، فإنّ اللّه وعدني إحدي الطائفتين، واللّه لكأنّي أنظر إلي مصارع القوم(2).

وقوله: كَأَنَّمٰا يُسٰاقُونَ إِلَى اَلْمَوْتِ تشبيه حالهم بحال من يعتلّ (3) إلي القتل وهو ناظر إلى أسباب الموت لا يشك فيه.

ص: 269


1- المائدة: 24.
2- ينظر: مغازي الواقدي ج 1:19-49.
3- يعتل: يجذب جذبا عنيفا. (الصحاح: مادة عتل)

و إِذْ منصوب بإضمار (اذكر)، و أَنَّهٰا لَكُمْ بدل من إِحْدَى اَلطّٰائِفَتَيْنِ .

و غَيْرَ ذٰاتِ اَلشَّوْكَةِ العير، لأنه لم يكن فيها إلا أربعون فارسا، والشوكة: الحدة، مستعارة من حدة الشوك، أي: تتمنون أن يكون العير لكم، ولا تريدون الطائفة الأخري التي هي ذات الشدّة والحدة.

وَ يُرِيدُ اَللّٰهُ أَنْ يُحِقَّ اَلْحَقَّ أي: يثبته، بأن يعزّ الإسلام ويعلي كلمته، ويهلك وجوه قريش علي أيديكم بِكَلِمٰاتِهِ بآياته المنزلة في محاربتهم وَ يَقْطَعَ دٰابِرَ اَلْكٰافِرِينَ باستئصالهم وقتلهم وأسرهم وطرحهم في قليب بدر. والدابر:

الآخر، من دبر: إذا أدبر. والمعنى: إنّكم تريدون الفائدة العاجلة، واللّه يريد ما يرجع إلى علو أمور الدين ونصرة الحقّ ، ولذلك اختار لكم الطائفة الأخري ذات الشوكة، وغلب كثرتهم بقلتكم، وأذلهم وأعزّكم.

وقوله: لِيُحِقَّ اَلْحَقَّ تعلّق بمحذوف، تقديره: ليحقّ الحقّ ويبطل الباطل فعل ذلك.

[سورة الأنفال (8): الآیات 9 الی 12]

إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجٰابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ اَلْمَلاٰئِكَةِ مُرْدِفِينَ وَ مٰا جَعَلَهُ اَللّٰهُ إِلاّٰ بُشْرىٰ وَ لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَ مَا اَلنَّصْرُ إِلاّٰ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ إِذْ يُغَشِّيكُمُ اَلنُّعٰاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ اَلشَّيْطٰانِ وَ لِيَرْبِطَ عَلىٰ قُلُوبِكُمْ وَ يُثَبِّتَ بِهِ اَلْأَقْدٰامَ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى اَلْمَلاٰئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا اَلَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا

ص: 270

[سورة الأنفال (8): الآیات 12 الی 14]

اَلرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ اَلْأَعْنٰاقِ وَ اِضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنٰانٍ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ مَنْ يُشٰاقِقِ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ اَللّٰهَ شَدِيدُ اَلْعِقٰابِ ذٰلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَ أَنَّ لِلْكٰافِرِينَ عَذٰابَ اَلنّٰارِ

إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ بدل من إِذْ يَعِدُكُمُ اَللّٰهُ ، وقيل: إنّه يتعلّق بقوله:

لِيُحِقَّ اَلْحَقَّ وَ يُبْطِلَ اَلْبٰاطِلَ . واستغاثتهم: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لما نظر إلى المشركين وهم ألف، وإلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف، استقبل القبلة ومدّ يديه يدعو:

(اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض) فما زال كذلك حتى سقط رداؤه من منكبه(1).

فَاسْتَجٰابَ لَكُمْ فأغاثكم وأجاب دعوتكم أَنِّي مُمِدُّكُمْ أصله:

بأنّي ممدّكم، فحذف الجار.

وقرئ: مُرْدِفِينَ بكسر الدال وفتحها، من قولك: ردفه: إذا تبعه، وأردفته إيّاه: إذا أتبعته، ويقال: أردفته وأتبعته: إذا جئت بعده. فعلي الأوّل يكون معنى مردفين - بكسر الدال -: متبعين بعضهم بعضا، أو متبعين أنفسهم المؤمنين.

وعلي الثاني يكون معناه: متّبعين بعضهم لبعض، أو متّبعين للمؤمنين يحفظونهم.

ومن قرأ بفتح الدال فمعناه: متبعين أو متّبعين.

وَ مٰا جَعَلَهُ اَللّٰهُ أي: وما جعل اللّه إمدادكم بالملائكة إِلاّٰ بُشْرىٰ أي: بشارة لكم بالنصر كالسكينة لبني إسرائيل. والمعنى: أنّكم استغثتم ربّكم وتضرّعتم، فكان الإمداد بالملائكة بشارة لكم بالنصر، وتسكينا منكم، وربطا

ص: 271


1- مسند أحمد ج 1:30.

على قلوبكم.

وَ مَا اَلنَّصْرُ إِلاّٰ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ أي: وما النصر بالملائكة وغيرهم من الأسباب إلا من عند اللّه، ينصر من يشاء، قلّ العدد أم كثر.

إِذْ يُغَشِّيكُمُ اَلنُّعٰاسَ بدل ثان من إِذْ يَعِدُكُمُ اَللّٰهُ ، أو منصوب بالنصر أو بما جعله اللّه، وقرئ: يغشيكم، بالتخفيف والتشديد، ونصب النعاس والضمير للّه عزّ وجل.

و أَمَنَةً مفعول له، و منه صفة ل - أَمَنَةً ، أي: أمنة حاصلة لكم من اللّه. و المعنى: إذ تنعسون لأمنكم الحاصل من اللّه بإزالة الرعب من قلوبكم.

وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ قرئ بالتشديد والتخفيف مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً أي: مطرا.

و رِجْزَ اَلشَّيْطٰانِ : وسوسته إليهم. وذلك أنّ المشركين قد سبقوهم إلى الماء، ونزل المسلمون في كثيب أعفر تسوخ فيه الأقدام وناموا، فاحتلم أكثرهم، فتمثّل لهم إبليس وقال: يا أصحاب محمّد أنتم تزعمون أنّكم علي الحقّ وأنّتم تصلّون علي جنابة وقد عطشتم، ولو كنتم علي حقّ ما غلبكم هؤلاء علي الماء، وهاهم الآن يمشون إليكم فيقتلونكم ويسوقون بقيتكم إلي مكة، فحزنوا لذلك.

فأنزل اللّه المطر فمطروا ليلا حتى جري الوادي، واغتسلوا وتوضأوا، واتخذوا الحياض علي عدوة الوادي، وتلبّد الرمل الذي كان بينهم وبين العدو حتى ثبت الأقدام عليه، وزالت وسوسة الشيطان.

والضمير في به للماء، أو ليربط، لأنّ الجرأة تثبّت [القدم](1) في مواطن الحرب.

ص: 272


1- ساقطة من ج.

إِذْ يُوحِي يجوز أنّ يكون بدلا ثالثا من إِذْ يَعِدُكُمُ اَللّٰهُ ، وأن ينتصب ب - وَ يُثَبِّتَ .

أَنِّي مَعَكُمْ أعينكم علي التثبيت فثبتوهم.

وقوله: سَأُلْقِي... فَاضْرِبُوا يجوز أن يكون تفسيرا لقوله: أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا ، ولا معونة أعظم من إلقاء الرعب في قلوب الكفار، ولا تثبيت أبلغ من ضرب أعناقهم، ويجوز أن يكون غير تفسير، وأن يراد بالتثبيت أن يظهروا ما تيقن به المؤمنون أنّهم أمدّوا بهم.

فَاضْرِبُوا فَوْقَ اَلْأَعْنٰاقِ التي هي المذابح، وقيل: أراد الرؤوس(1).

والبنان: الأصابع، يريد به الأطراف. و المعنى: فَاضْرِبُوا المقاتل والأطراف من اليدين والرجلين. ويجوز أن يكون من قوله: سَأُلْقِي... إلى قوله: كُلَّ بَنٰانٍ عقيب قوله: فَثَبِّتُوا اَلَّذِينَ آمَنُوا تلقينا للملائكة ما يثبّتونهم به، أي:

قولوا لهم قولي: سَأُلْقِي .

ذٰلِكَ إشارة إلي ما وقع بهم من القتل والعقاب العاجل، أي: ذلك العقاب وقع بهم بسبب مشاقتهم. والمشاقة مشتقة من الشق لأنّ كلا المتعاديين في شق خلاف شق صاحبه. والكاف في ذٰلِكَ لخطاب الرسول أو لخطاب كل أحد، وفي ذٰلِكُمْ للكفرة علي طريقة الالتفات. و ذٰلِكَ مبتدأ، و بِأَنَّهُمْ خبره.

و ذٰلِكُمْ في محلّ الرفع أيضا، أي: ذلكم العقاب أو العقاب ذلكم فَذُوقُوهُ ، ويجوز أن يكون في محلّ النصب على تقدير: عليكم ذلكم فَذُوقُوهُ ، كقولك: زيدا فاضربه.

ص: 273


1- عن عكرمة. تفسير الطبري ج 9:132.

وَ أَنَّ لِلْكٰافِرِينَ عطف علي ذٰلِكُمْ في الوجهين، أو نصب علي أنّ (الواو) بمعنى (مع)، أي: ذوقوا هذا العذاب العاجل مع الآجل الذي لكم في الآخرة، فوضع الظاهر موضع الضمير.

[سورة الأنفال (8): الآیات 15 الی 17]

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا لَقِيتُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلاٰ تُوَلُّوهُمُ اَلْأَدْبٰارَ وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاّٰ مُتَحَرِّفاً لِقِتٰالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بٰاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اَللّٰهِ وَ مَأْوٰاهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ قَتَلَهُمْ وَ مٰا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ رَمىٰ وَ لِيُبْلِيَ اَلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاٰءً حَسَناً إِنَّ اَللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

الزحف: الجيش الذي يري لكثرته كأنّه يزحف أي: يدب دبيبا، من زحف الصبي: إذا دبّ علي استه، سمّي بالمصدر، والجمع زحوف. والمعنى: إذا لقيتموهم للقتال وهم كثير جم وأنتم قليل فلا تفرّوا، فضلا عن أن تساووهم في العدد أو تدانوهم. فيكون زَحْفاً حالا من اَلَّذِينَ كَفَرُوا ، ويجوز أن يكون حالا من الفريقين، أي: إذا لقيتموهم متزاحفين أنتم وهم، أو حالا من المؤمنين، كأنّهم أخبروا بما سيكون منهم يوم حنين(1) حين ولّوا مدبرين وهم زحف اثنا عشر ألفا.

وفي قوله: وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ أمارة عليه.

إِلاّٰ مُتَحَرِّفاً لِقِتٰالٍ هو الكر بعد الفر، يخيل عدوه أنّه منهزم ثمّ يعطف عليه، وهو نوع من مكائد الحرب أَوْ مُتَحَيِّزاً أي: أو منحازا إِلىٰ فِئَةٍ إلى جماعة أخري من المسلمين سوي الفئة التي هو فيها. وانتصابهما علي الحال و إِلاّٰ لغو، أو علي الاستثناء من المولين، أي: ومن يولهم إلا رجلا منهم متحرّفا أو متحيّزا.

ص: 274


1- ينظر: مغازي الواقدي ج 3:885 وما بعدها.

ووزن متحيّز متفيعل لا متفعل، لأنّه من حاز يجوز، فبناء متفعّل منه متحوّز.

فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ الفاء جواب شرط محذوف، تقديره: إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ قَتَلَهُمْ بأن أنزل الملائكة، وألقى الرعب في قلوبهم وقوّى قلوبكم.

وَ مٰا رَمَيْتَ أنت يا محمّد إِذْ رَمَيْتَ وذلك أنّ قريشا لما جاءت بخيلائها أتاه جبرئيل فقال: خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فقال لعليّ عليه السلام: (أعطني قبضة من حصباء الوادي) فأعطاه، فرمى بها في وجوههم، وقال: (شاهت الوجوه)، فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه، فانهزموا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ رَمىٰ حيث أثّرت الرمية ذلك الأثر العظيم. أثبت الرمي لرسول اللّه لأنّه وجد منه صورة، ونفاه عنه معنى لأنّ أثره الذي لا يدخل في قدرة البشر فعل اللّه عزّ و علا، فكأنّه فاعل الرمية علي الحقيقة، وكأنّها لم توجد من الرسول أصلا. وقرئ: ولكن اللّه قتلهم، ولكن اللّه رمى.

وَ لِيُبْلِيَ اَلْمُؤْمِنِينَ وليعطيهم بَلاٰءً عطاء حَسَناً جميلا، قال زهير:

وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو(1)

والمعنى: وللإحسان إلى المؤمنين والإنعام عليهم فعل ما فعل، ولم يفعله إلا لذلك.

إِنَّ اَللّٰهَ سَمِيعٌ لأقوالهم عَلِيمٌ بأحوالهم.

[سورة الأنفال (8): الآیات 18 الی 19]

ذٰلِكُمْ وَ أَنَّ اَللّٰهَ مُوهِنُ كَيْدِ اَلْكٰافِرِينَ إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جٰاءَكُمُ اَلْفَتْحُ وَ إِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ إِنْ تَعُودُوا نَعُدْ

ص: 275


1- شعر زهير بن أبي سلمى: 40، وصدره: رأى اللّه بالإحسان ما فعلا بكم.

[سورة الأنفال (8): الآیات 19 الی 21]

وَ لَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَ لَوْ كَثُرَتْ وَ أَنَّ اَللّٰهَ مَعَ اَلْمُؤْمِنِينَ يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ لاٰ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَ لاٰ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قٰالُوا سَمِعْنٰا وَ هُمْ لاٰ يَسْمَعُونَ

ذٰلِكُمْ إشارة إلى البلاء الحسن، ومحلّه الرفع، أي: الغرض ذلكم، وَ أَنَّ اَللّٰهَ مُوهِنُ عطف على ذٰلِكُمْ يعني: إنّ الغرض إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين. وقرئ: موهّن - بالتشديد - وقرئ على الإضافة، وعلي الأصل الذي هو التنوين والإعمال.

إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جٰاءَكُمُ اَلْفَتْحُ خطاب لأهل مكة علي طريق التهكّم، وذلك أنّهم حين أرادوا أن ينفروا تعلّقوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين. وروي: أنّ أبا جهل قال يوم بدر: اللهم أيّنا كان أهجر وأقطع للرحم فأحنه(1) اليوم(2)، أي: فأهلكه. وقيل:

إِنْ تَسْتَفْتِحُوا خطاب للمؤمنين و وَ إِنْ تَنْتَهُوا للكافرين(3)، أي: وإن تنتهوا عن عداوة رسول اللّه فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ إِنْ تَعُودُوا لمحاربته نَعُدْ لنصرته عليكم. وقرئ: وأنّ اللّه - بالفتح - علي: ولأنّ اللّه مع المؤمنين كان ذلك، وبالكسر وهو الأوجه، ويقويه قراءة عبد اللّه: واللّه مع المؤمنين.

وقرئ: وَ لاٰ تَوَلَّوْا بحذف التاء وإدغامها في التاء، والضمير في عَنْهُ لرسول اللّه، لأنّ المعنى: أطيعوا رسول اللّه، كقوله: وَ اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ

ص: 276


1- أحنه: أهلكه. (الصحاح: مادة حين)
2- تاريخ الطبري ج 2:281.
3- الكشف والبيان ج 4:340.

يُرْضُوهُ (1) ، ولأنّ طاعة الله وطاعة الرسول شيء واحد، ورجوع الضمير إلى أحدهما رجوع إليهما، كما تقول: الإحسان والإجمال لا ينفع في فلان.

وَ أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ دعاءه لكم.

وَ لاٰ تَكُونُوا كَالَّذِينَ ادعوا السماع وَ هُمْ لاٰ يَسْمَعُونَ لأنّهم ليسوا بمصدّقين فكأنّهم غير سامعين.

[سورة الأنفال (8): الآیات 22 الی 25]

إِنَّ شَرَّ اَلدَّوَابِّ عِنْدَ اَللّٰهِ اَلصُّمُّ اَلْبُكْمُ اَلَّذِينَ لاٰ يَعْقِلُونَ وَ لَوْ عَلِمَ اَللّٰهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَجِيبُوا لِلّٰهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذٰا دَعٰاكُمْ لِمٰا يُحْيِيكُمْ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَ اِتَّقُوا فِتْنَةً لاٰ تُصِيبَنَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ شَدِيدُ اَلْعِقٰابِ

إِنَّ شَرَّ من يدب علي وجه الأرض، أو إنّ شرّ البهائم، جعلهم من جنس البهائم ثمّ جعلهم شرّها اَلصُّمُّ اَلْبُكْمُ أي: الذين هم صمّ عن الحقّ لا يسمعونه، بكم لا يقرّون به.

وَ لَوْ عَلِمَ اَللّٰهُ في هؤلاء الصم البكم خَيْراً أي: انتفاعا باللطف لَأَسْمَعَهُمْ للطف بهم حتى يسعوا سماع المصدّقين وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وأعرضوا. وفي هذا دلالة علي أنّه سبحانه لا يمنع أحدا اللطف، وإنّما لا يلطف لمن يعلم أنّه لا ينتفع به. وقال الباقر عليه السلام: (هم بنو عبد الدار لم يسلم منهم غير مصعب

ص: 277


1- التوبة: 62.

بن عمير وسويد بن حرملة)(1) كانوا يقولون: نحن صمّ بكم عما جاء به محمّد، وقد قتلوا جميعا بأحد، كانوا أصحاب اللواء.

إِذٰا دَعٰاكُمْ وحّد الضمير، لأنّ استجابة رسول اللّه استجابة اللّه، والمراد بالاستجابة: الطاعة والامتثال لِمٰا يُحْيِيكُمْ من علوم الدين والشرائع، لأنّ العلم حياة والجهل موت. وقيل: لمجاهدة الكفار(2) وللشهادة(3) لقوله: بَلْ أَحْيٰاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ (4).

وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ أي: يملك علي المرء قلبه فيغيّر نياته ويفسخ عزائمه، ويبدله بالذكر نسيانا وبالنسيان ذكرا، وبالخوف أمنا وبالأمن خوفا، وقيل: معناه: إنّ المرء لا يستطيع أن يكتم اللّه بقلبه شيئا(5) وهو يطّلع علي ضمائره وخواطره، فكأنّه بينه وبين قلبه، وقيل: معناه: أنّه يميت المرء فتفوته الفرصة التي هو واجدها، وهي التمكّن من إخلاص القلب ومعالجة أدوائه وردّه سليما كما يريده اللّه، فاغتنموا هذه الفرصة وأخلصوا قلوبكم، واعلموا أنّكم إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فيثيبكم علي حسب سلامة القلوب وإخلاص الطاعة. وعن الصادق عليه السلام: (يحول بين المرء وبين أن يعلم أنّ الباطل حقّ )(6).

ص: 278


1- التبيان ج 5:117.
2- عن ابن إسحاق. معالم التنزيل ج 2:52.
3- عن القتيبي. معالم التنزيل ج 2:52.
4- آل عمران: 169.
5- عن قتادة. تفسير الطبري ج 9:143.
6- كتاب التوحيد: 291.

وَ اِتَّقُوا فِتْنَةً أي: بلية، وقيل: ذنبا(1)، وقيل: عذابا(2)، وقيل: هو إقرار المنكر بين أظهرهم(3).

وقوله: لاٰ تُصِيبَنَّ لا يخلو أن يكون جوابا للأمر، أو نهيا بعد أمر معطوفا عليه بحذف الواو، أو صفة ل - فِتْنَةً . فإذا كان جوابا فالمعنى: إن أصابتكم لا تصيب الظالمين مِنْكُمْ خَاصَّةً ولكنّها تعمّكم، [وإنّما جاز دخول النون في جواب الأمر لأنّ فيه معنى النهي](4)، كما تقول: إنزل عن الدابة لا تطرحك، ويجوز: لا تطرحنّك. وإذا كانت نهيا بعد أمر فكأنّه قيل: واحذروا بلية أو ذنبا أو عقابا، ثمّ قيل: لا تتعرضوا للظلم فتصيب البلية أو العقاب أو أثر الذنب ووباله من ظلم منكم خاصة. وكذلك إذا جعلته صفة على إرادة القول كأنّه قيل: وَ اِتَّقُوا فِتْنَةً مقولا فيها: لاٰ تُصِيبَنَّ ، ونظيره قول الشاعر:

حتّى إذا جنّ الظّلام واختلط *** جاءوا بمذق هل رأيت الذّئب قط(5)

أي: بمذق يقال فيه هذا القول، لأنّ فيه لون الزرقة التي هي للذئب، ويعضده قراءة ابن مسعود: لتصيبن، علي جواب القسم المحذوف، وتكون (من) للتبيين على هذا، لأنّ المعنى: لا تصيبنكم أو لتصيبنكم خاصة علي ظلمكم، لأنّ الظلم أقبح منكم من سائر الناس.

وعن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية قال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: (من ظلم عليّا

ص: 279


1- الكشاف ج 2:211.
2- عن الجبائي. التبيان ج 5:121.
3- عن ابن عباس. تفسير الطبري ج 9:144.
4- ساقطة من ج.
5- لم أعثر على قائله في المصادر المتوفرة.

مقعدي هذا بعد وفاتي، فكأنّما جحد نبوّتي ونبوّة الأنبياء قبلي) أورده الحاكم أبو القاسم الحسكاني(1) في كتاب شواهد التنزيل مرفوعا(2). وعن ابن عباس أيضا: أنّه سئل عن هذه الفتنة، فقال: (أبهموا ما أبهم اللّه)(3)، وعن السدي: (نزلت في أهل بدر فاقتتلوا يوم الجمل)(4).

[سورة الأنفال (8): الآیات 26 الی 28]

وَ اُذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي اَلْأَرْضِ تَخٰافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ اَلنّٰاسُ فَآوٰاكُمْ وَ أَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَ رَزَقَكُمْ مِنَ اَلطَّيِّبٰاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَخُونُوا اَللّٰهَ وَ اَلرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَمٰانٰاتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّمٰا أَمْوٰالُكُمْ وَ أَوْلاٰدُكُمْ فِتْنَةٌ وَ أَنَّ اَللّٰهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ

وَ اُذْكُرُوا معاشر المهاجرين إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ أي: وقت كونكم أقلة أذلة، ف - إذ هنا مذكور مفعول به وليس بظرف.

مُسْتَضْعَفُونَ تستضعفكم قريش فِي اَلْأَرْضِ يعني: أرض مكة قبل الهجرة تَخٰافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ اَلنّٰاسُ أي: يستلبكم المشركون من العرب إن خرجتم منها فَآوٰاكُمْ إلي المدينة وَ أَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ أي: قوّاكم بمظاهر النصر بإمداد الملائكة يوم بدر وَ رَزَقَكُمْ مِنَ اَلطَّيِّبٰاتِ يعني: الغنائم لَعَلَّكُمْ

ص: 280


1- أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله بن أحمد القرشي العامري الحنفي الحاكم، و يعرف بابن الحذاء، شيخ متقن ذو عناية تامة بعلم الحديث، و كان معمرا عالي الإسناد، توفي بعد سنة 470 ه -. ينظر: تذكرة الحفاظ ج 3:1200.
2- شواهد ا لتنزيل ج 1:206.
3- مجمع البيان ج 3-4:534.
4- تفسير الطبري ج 9:144.

تَشْكُرُونَ إرادة أن تشكروا هذه النعم. وعن قتادة: (كانت العرب أذلّ الناس، وأشقاهم عيشا، وأعراهم جلدا، يؤكلون ولا يأكلون، فمكّن اللّه لهم في البلاد، ووسّع عليهم في الرزق والغنائم، وجعلهم ملوكا)(1).

ومعنى الخون: النقص، كما أنّ معنى الوفاء: التمام، ومنه تخونه أي: تنقصه، ثمّ استعمل في ضد الأمانة والوفاء، لأنّك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان فيه، والمعنى: لا تخونوا اللّه بترك أوامره، والرسول بترك سنته وشرائعه، و أَمٰانٰاتِكُمْ فيما بينكم بأن لا تحفظوها وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وبال ذلك وعقابه، وقيل: وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنّكم تخونون(2)، يعني: إنّ الخيانة توجد منكم عن عمد. ويحتمل أن يكون وَ تَخُونُوا جزما داخلا في حكم النهي، وأن يكون نصبا بإضمار (أن)، نحو: لا تأكل السمك وتشرب اللبن.

وَ اِعْلَمُوا أَنَّمٰا أَمْوٰالُكُمْ وَ أَوْلاٰدُكُمْ فِتْنَةٌ جعلهم فتنة، لأنّهم سبب الوقوع في الفتنة وهي الإثم أو العذاب، أو يريد: محنة من اللّه ليبلوكم كيف تحافظون فيهم علي حدوده وَ أَنَّ اَللّٰهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ فعليكم أن تزهدوا في الدنيا، ولا تحرصوا علي جمع المال وحبّ الولد، ولاتؤثرو هما علي نعيم الأبد.

[سورة الأنفال (8): الآیات 29 الی 30]

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اَللّٰهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقٰاناً وَ يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اَللّٰهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اَللّٰهُ وَ اَللّٰهُ خَيْرُ اَلْمٰاكِرِينَ

ص: 281


1- تفسير الطبري ج 9:145.
2- عن ابن زيد. تفسير الطبري ج 9:147.

فُرْقٰاناً أي: فتحا ونصرا، كقوله: يَوْمَ اَلْفُرْقٰانِ (1) لأنّه يفرق بين الحقّ بإعزاز أهله والباطل بإذلال أهله، أو هداية ونورا وتوفيقا وشرحا للصدور، أو بيانا وظهورا يشهر أمركم في أقطار الأرض.

وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لما فتح اللّه عليه، ذكّره مكر قريش به حين كان بمكة ليشكر النعمة الجليلة في إنجائه منهم واستيلائه عليهم، أي: واذكر إذ يمكرون بك حين اجتمعوا في دار الندوة وتآمروا في أمرك، فقال بعضهم: نحبسه في بيت ونلقي إليه الطعام والشراب، وقال بعضهم: نحمله على جمل ونخرجه من بين أظهرنا، وقال أبو جهل: نأخذ من كل بطن غلاما ونعطيه سيفا صارما فيضربونه ضربة رجل واحد، فيتفرّق دمه في القبائل فلا يقوى بنو هاشم علي حرب قريش كلهم، فإذا طلبوا العقل عقلناه، فقال إبليس - وكان قد دخل عليهم في صورة شيخ من أهل نجد -: هذا الفتى أجودكم رأيا. فتفرّقوا على رأيه مجمعين علي قتله(2).

وعن ابن عباس: لِيُثْبِتُوكَ : ليقيدوك ويوثقوك(3)، وقيل: ليثخنوك بالضرب والجرح(4) من قولهم: ضربوه حتى أثبتوه لا حراك به، وفلان مثبت وجعا.

وَ يَمْكُرُونَ ويخفون المكائد وَ يَمْكُرُ اَللّٰهُ ويخفي اللّه ما أعد لهم حتى يأتيهم بغتة.

ص: 282


1- الأنفال: 41.
2- ينظر: سيرة ابن هشام ج 2:124-126.
3- تفسير الطبري ج 9:148.
4- عن أبان بن تغلب وغيره. الكشف والبيان ج 4:350.

وَ اَللّٰهُ خَيْرُ اَلْمٰاكِرِينَ أي: مكره أنفذ من مكر غيره، أو لأنّه لا ينزل إلا ما هو حقّ وعدل.

[سورة الأنفال (8): الآیات 31 الی 34]

وَ إِذٰا تُتْلىٰ عَلَيْهِمْ آيٰاتُنٰا قٰالُوا قَدْ سَمِعْنٰا لَوْ نَشٰاءُ لَقُلْنٰا مِثْلَ هٰذٰا إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ أَسٰاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ وَ إِذْ قٰالُوا اَللّٰهُمَّ إِنْ كٰانَ هٰذٰا هُوَ اَلْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنٰا حِجٰارَةً مِنَ اَلسَّمٰاءِ أَوِ اِئْتِنٰا بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَ مٰا لَهُمْ أَلاّٰ يُعَذِّبَهُمُ اَللّٰهُ وَ هُمْ يَصُدُّونَ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ وَ مٰا كٰانُوا أَوْلِيٰاءَهُ إِنْ أَوْلِيٰاؤُهُ إِلاَّ اَلْمُتَّقُونَ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ

لَوْ نَشٰاءُ لَقُلْنٰا مِثْلَ هٰذٰا قائله: النضر بن الحارث بن كلدة، وأسر يوم بدر فقتله النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم صبرا بيد عليّ عليه السلام، وإنّما قاله صلفا ونفاجة، فإنّهم لم يتوانوا في مشيتهم لو استطاعوا ذلك، وإلا فما منعهم أن يشاؤوا غلبة من تحدّاهم وقرعهم بالمعجز حتى يغلبوه مع فرط حرصهم علي قهره وغلبته ؟!.

إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ أَسٰاطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ قاله النضر أيضا، وذلك أنّه جاء بحديث رستم وإسفنديار من بلاد فارس، وزعم أنّ هذا مثل ذلك.

وهو القائل: اَللّٰهُمَّ إِنْ كٰانَ هٰذٰا هُوَ اَلْحَقَّ أي: إن كان القرآن هو الحقّ فعاقبنا علي إنكاره بالسجيل كما فعلت بأصحاب الفيل، أو بعذاب آخر. ومراده أن ينفي كونه حقّا، وإذا انتفى كونه حقّا لم يستوجب منكره عذابا، فكان تعليق العذاب بكونه حقّا مع اعتقاد أنّه ليس بحقّ كتعليقه بالمحال.

لِيُعَذِّبَهُمْ اللام لتأكيد النفي، والدلالة علي أنّ تعذيبهم وهو بين أظهرهم

ص: 283

غير مستقيم في الحكمة، ومن قضية حكمة اللّه أن لا يعذّب قوما عذاب استئصال ونبيّهم بين أظهرهم. وفيه إشعار بأنّهم مرصدون بالعذاب إذا هاجر عنهم بدلالة قوله: وَ مٰا لَهُمْ أَلاّٰ يُعَذِّبَهُمُ اَللّٰهُ ، فكأنّه قال: ما يعذّبهم وأنت فيهم، وهو معذّبهم إذا فارقتهم وَ مٰا لَهُمْ أَلاّٰ يُعَذِّبَهُمُ .

وقوله: وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ في موضع الحال، أي: وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ مُعَذِّبَهُمْ وفيهم من يستغفر، وهم المسلمون بين أظهرهم من المستضعفين الذين تخلفوا بعد خروج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهم على عزم الهجرة، وقيل: معناه نفي الاستغفار عنهم، أي: ولو كانوا ممن يؤمن باللّه ويستغفر لما عذّبهم، ولكنّهم لا يؤمنون ولا يستغفرون(1).

وَ مٰا لَهُمْ أَلاّٰ يُعَذِّبَهُمُ اَللّٰهُ وأي شيء لهم في انتفاء العذاب عنهم، يعني:

لاحظّ لهم في ذلك وَ هُمْ معذّبون لا محالة، وكيف لا يعذّبون وحالهم أنّهم يَصُدُّونَ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ أولياءه وَ مٰا كٰانُوا أَوْلِيٰاءَهُ أي: وما استحقّوا مع شركهم باللّه وعداوتهم لرسوله أن يكونوا ولاة أمره إِنْ أَوْلِيٰاؤُهُ إِلاَّ اَلْمُتَّقُونَ إنّما يستحقّ ولايته من كان تقيا من المسلمين وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ كأنّه استثنى من يعلم ويعاند، أو أراد بالأكثر الجميع كما يراد بالقلة العدم.

[سورة الأنفال (8): الآیات 35 الی 36]

وَ مٰا كٰانَ صَلاٰتُهُمْ عِنْدَ اَلْبَيْتِ إِلاّٰ مُكٰاءً وَ تَصْدِيَةً فَذُوقُوا اَلْعَذٰابَ بِمٰا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوٰالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ فَسَيُنْفِقُونَهٰا

ص: 284


1- عن قتادة. تفسير الطبري ج 9:155.

[سورة الأنفال (8): الآیات 36 الی 37]

ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِلىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اَللّٰهُ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ اَلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْخٰاسِرُونَ

المكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق، وهو ضرب اليد علي اليد، وهو تفعلة من الصدي، والمعنى: إنّهم وضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة، كما أنّ الشاعر في قوله:

ما كنت أخشى أن يكون عطاؤه *** أداهم سودا أو محدرجة سمرا(1)

وضع القيود والسياط موضع العطاء.

وذلك أنّهم كانوا يطوفون بالبيت عراة وهم مشبكون بين أصابعهم يصفّرون فيها ويصفّقون، وكانوا يفعلون نحو ذلك إذا قرأ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في صلاته يخلطون عليه.

فَذُوقُوا عذاب القتل والأسر يوم بدر.

بِمٰا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بسبب كفركم.

يُنْفِقُونَ أَمْوٰالَهُمْ نزلت في المطعمين يوم بدر، وكان كل يوم يطعم واحد منهم عشر جزور، وقيل: إنّهم قالوا لكل من كانت له تجارة في العير: أعينوا بهذا المال علي حرب محمّد لعلنا ندرك منه ثأرنا بما أصيب منا ببدر(2)، [وقيل: نزلت في أبي سفيان وقد استأجر ليوم أحد ألفين من الأحابيش سوي من استجاش من

ص: 285


1- شرح ديوان الفرزدق ج 1:227.
2- سيرة ابن هشام ج 3:64.

العرب(1)](2).

لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ أي: كان غرضهم في الإنفاق الصدّ عن اتباع محمّد صلى الله عليه و آله و سلم وهو سبيل الله.

ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثمّ تكون عاقبة إنفاقها حسرة ثُمَّ يُغْلَبُونَ آخر الأمر يغلبهم المؤمنون، والكافرون إِلىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ .

لِيَمِيزَ اَللّٰهُ الفريق اَلْخَبِيثَ مِنَ الفريق اَلطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ اَلْخَبِيثَ بَعْضَهُ فوق بعض في جهنم يضيقها عليهم فَيَرْكُمَهُ عبارة عن الجمع والضم حتى يتراكموا، كقوله: كٰادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (3)، وقيل: نفقة الكافر من نفقة المؤمن، ويجعل نفقة الكافر بعضها علي بعض فوق بعض فيركمه ويجمعه جميعا فيجعله في جهنم يعاقبهم به(4)، كما قال: يَوْمَ يُحْمىٰ عَلَيْهٰا فِي نٰارِ جَهَنَّمَ ... الآية(5). وقرئ: لِيَمِيزَ علي التخفيف.

[سورة الأنفال (8): الآیات 38 الی 40]

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مٰا قَدْ سَلَفَ وَ إِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ اَلْأَوَّلِينَ وَ قٰاتِلُوهُمْ حَتّٰى لاٰ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ اَلدِّينُ كُلُّهُ لِلّٰهِ فَإِنِ اِنْتَهَوْا فَإِنَّ اَللّٰهَ بِمٰا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ مَوْلاٰكُمْ نِعْمَ اَلْمَوْلىٰ وَ نِعْمَ اَلنَّصِيرُ

ص: 286


1- عن سعيد بن جبير وغيره. تفسير الطبري ج 9:159.
2- ساقطة من أ، ب، ط.
3- الجن: 19.
4- عن مقاتل. تفسير السمرقندي ج 2:21.
5- التوبة: 35.

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي: قل لأجلهم هذا القول وهو إِنْ يَنْتَهُوا ، ولو كان بمعنى خاطبهم به لقيل: إن تنتهوا - بالتاء - يغفر لكم، أي: إن ينتهوا عما هم عليه بالدخول في الإسلام يُغْفَرْ لَهُمْ مٰا قَدْ سَلَفَ من الشرك وعداوة الرسول وَ إِنْ يَعُودُوا لعداوته وقتاله فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ اَلْأَوَّلِينَ الذين تحزّبوا على أنبياء اللّه في تدميرهم، فليتوقعوا مثل ذلك إن لم ينتهوا.

وَ قٰاتِلُوهُمْ حَتّٰى لاٰ تَكُونَ فِتْنَةٌ أي: إلي أن لا يوجد فيهم شرك وَ يَكُونَ اَلدِّينُ كُلُّهُ لِلّٰهِ ويضمحل كل دين باطل ويبقى دين الإسلام وحده. قال الصادق عليه السلام: (لم يجئ تأويل هذه الآية، ولو قد قام قائمنا بعد سيرى من يدركه ما يكون من تأويل هذه الآية، وليبلغن دين محمّد صلى الله عليه و آله و سلم ما بلغ الليل حتى لا يكون شرك علي ظهر الأرض)(1).

فَإِنِ اِنْتَهَوْا عن الكفر وأسلموا فَإِنَّ اَللّٰهَ بِمٰا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يثيبهم علي توبتهم وإسلامهم. وقرئ: تعملون - بالتاء - فيكون المعنى: فإنّ اللّه بما تعملون من الجهاد في سبيله بَصِيرٌ يجازيكم عليه أحسن الجزاء.

وَ إِنْ تَوَلَّوْا ولم ينتهوا فثقوا بولاية اللّه ونصرته.

[سورة الأنفال (8): الآیات 41 الی 42]

وَ اِعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبىٰ وَ اَلْيَتٰامىٰ وَ اَلْمَسٰاكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّٰهِ وَ مٰا أَنْزَلْنٰا عَلىٰ عَبْدِنٰا يَوْمَ اَلْفُرْقٰانِ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعٰانِ وَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ اَلدُّنْيٰا وَ هُمْ بِالْعُدْوَةِ اَلْقُصْوىٰ وَ اَلرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ لَوْ تَوٰاعَدْتُمْ

ص: 287


1- تفسير العياشي ج 2:56.

[سورة الأنفال (8): آیة 42]

لاَخْتَلَفْتُمْ فِي اَلْمِيعٰادِ وَ لٰكِنْ لِيَقْضِيَ اَللّٰهُ أَمْراً كٰانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيىٰ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ إِنَّ اَللّٰهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ

(ما) موصولة، و مِنْ شَيْ ءٍ بيانه، فَأَنَّ لِلّٰهِ مبتدأ، وخبره مخذوف تقديره: فواجب، أو فحقّ أنّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ .

قال أصحابنا رضوان اللّه عليهم أجمعين: إنّ الخمس يقسّم علي ستة أسهم - كما في الآية -: سهم للّه، وسهم للرسول صلى الله عليه و آله و سلم، وسهم لذوي القربى، فهذه الأسهم الثلاثة اليوم للإمام القائم مقام الرسول صلى الله عليه و آله و سلم، وسهم ليتامى آل محمّد، وسهم لمساكينهم، وسهم لأبناء سبيلهم، لا يشركهم في ذلك غيرهم، لأنّ اللّه سبحانه حرّم عليهم الصدقة لكونها أوساخ الناس وعوّضهم من ذلك الخمس(1). وروي ذلك الطبري(2) عن عليّ بن الحسين زين العابدين ومحمّد بن عليّ الباقر صلوات اللّه عليهما(3). ورووا عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قيل له: إنّ اللّه تعالى قال: وَ اَلْيَتٰامىٰ وَ اَلْمَسٰاكِينِ فقال: (أيتامنا و مساكيننا)(4).

وقوله: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّٰهِ تعلّق بمحذوف يدلّ عليه وَ اِعْلَمُوا ، والمعنى: إن كنتم آمنتم باللّه فاعلموا أنّ الخمس من الغنيمة يجب التقرّب به،

ص: 288


1- ينظر: الوسائل ج 6 باب 1 من أبواب قسمة الخمس.
2- أبو جعفر محمّد بن جرير بن يزيد الطبري، صاحب التصانيف المشهورة في التفسير والتاريخ، ولد بآمل سنة 224 ه - واستوطن بغداد وأقام بها إلى حين وفاته سنة 310 ه -. ينظر: طبقات المفسّرين ج 2: 106.
3- تفسير الطبري ج 10:7، وفيه عن زين العابدين عليه السلام فقط.
4- الكشف والبيان ج 4:361.

فاقطعوا عنه أطماعكم واقتنعوا بالأخماس الأربعة.

وَ مٰا أَنْزَلْنٰا معطوف علي بِاللّٰهِ أي: إن كنتم آمنتم باللّه وبالمنزل عَلىٰ عَبْدِنٰا يَوْمَ اَلْفُرْقٰانِ يعني: يوم بدر.

و اَلْجَمْعٰانِ : الفريقان من المسلمين والكافرين، والمراد: ما أنزل من الآيات والملائكة والفتح يومئذ.

إِذْ بدل من يَوْمَ اَلْفُرْقٰانِ ، والعدوة: شط الوادي، بالكسر والضم، و اَلدُّنْيٰا و اَلْقُصْوىٰ تأنيث الأدنى والأقصى، والقياس أن تقلب الواو ياء كالعليا، إلا أنّ القصوى جاءت علي الأصل شاذا كالقود. والعدوة الدنيا مما يلي المدينة، والعدوة القصوى مما يلي مكة.

وَ اَلرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ يعني أبا سفيان و العير أَسْفَلَ نصب علي الظرف، معناه: مكانا أسفل من مكانكم يقودون العير بالساحل، ومحلّه رفع لأنّه خبر المبتدأ.

والفائدة في ذكر هذه المراكز، الإخبار عن الحال الدالة علي قوة المشركين وضعف المسلمين، وأنّ غلبتهم علي مثل هذه الحال أمر إلهي لم يتيسّر إلا بحوله وقوته، وذلك أنّ العدوة القصوى كان فيها الماء، ولا ماء بالعدوة الدنيا وهي خبار(1) تسوخ فيها الأرجل، وكانت العير وراء ظهورهم مع كثرة عددهم، وكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم وتحملهم علي أن لا يبرحوا مواطنهم ويبذلوا نهاية نجدتهم، وفيه تصوير ما دبّره عزّ اسمه من أمر وقعة بدر لِيَقْضِيَ اَللّٰهُ أَمْراً كٰانَ مَفْعُولاً من إعزاز دينه و إعلاء كلمته.

وَ لَوْ تَوٰاعَدْتُمْ أنتم وأهل مكة وتواضعتم بينكم علي موعد تلتقون

ص: 289


1- الخبار: الأرض الرخوة ذات الحجرة. (الصحاح خبر)

فيه للقتال، لخالف بعضكم بعضا، فثبّطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد، وثبّطهم ما في قلوبهم من الرعب، فلم يتفق لكم من اللقاء ما وفقه اللّه.

لِيَقْضِيَ متعلّق بمحذوف، أي: ليقضي أمرا كان واجبا أن يفعل، دبّر ذلك، وقوله: لِيَهْلِكَ بدل منه، واستعير الهلاك والحياة للكفر وا لإسلام، أي:

ليصدر كفر من كفر عن وضوح بيّنة وقيام حجّة عليه، ويصدر إسلام من أسلم عن يقين وعلم بأنّه الدين الحقّ الذي يجب التمسّك به.

لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ يعلم كيف يدبر أموركم.

[سورة الأنفال (8): الآیات 43 الی 44]

إِذْ يُرِيكَهُمُ اَللّٰهُ فِي مَنٰامِكَ قَلِيلاً وَ لَوْ أَرٰاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَ لَتَنٰازَعْتُمْ فِي اَلْأَمْرِ وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذٰاتِ اَلصُّدُورِ وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ اِلْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اَللّٰهُ أَمْراً كٰانَ مَفْعُولاً وَ إِلَى اَللّٰهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ

إِذْ نصب بإضمار اذكر، أو هو بدل ثان من يَوْمَ اَلْفُرْقٰانِ ، أو متعلّق بقوله: لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ أي: يعلم المصالح إذ يقللهم في عينك.

فِي مَنٰامِكَ أي: في رؤياك، وذلك أنّ اللّه سبحأنّه أراهم إيّاه في رؤياه قليلا، فأخبر بذلك أصحابه فكان تشجيعا لهم، وعن الحسن: فِي مَنٰامِكَ : في عينك لأنّها مكان النوم(1). والفشل: الجبن، أي: لجبنتم وهبتم الإقدام، ولتنازعتم في الرأي وتفرقت كلمتكم فيما تصنعون.

وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ سَلَّمَ أي: أنعم بالسلامة من الفشل والتنازع إِنَّهُ عَلِيمٌ

ص: 290


1- معالم التنزيل ج 2:59.

بِذٰاتِ اَلصُّدُورِ يعلم ما سيكون فيها من الجرأة والجبن.

وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ أي: يبصّركم إيّاهم، و قَلِيلاً نصب على الحال.

وإنّما قلّلهم في أعينهم تصديقا لرؤيا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم. وعن ابن مسعود: لقد قلّلوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي: أتراهم سبعين ؟ قال: أراهم مائة، فأسرنا رجلا منهم فقلنا: كم كنتم ؟ قال: ألفا(1).

وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ حتى قال قائل منهم: إنّما هم أكلة جزور(2)، وإنّما قللهم في أعينهم ليجترئوا عليهم قبل اللقاء، ثمّ كثّرهم فيها بعد اللقاء لتفجأهم الكثرة فيهابوا، وتفلّ شوكتهم حين يرون ما لم يكن في حسابهم، وذلك قوله: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ اَلْعَيْنِ (3)، ويمكن أن يكونوا قد أبصروا الكثير قليلا بأن ستر اللّه عنهم بعض أولئك بساتر.

[سورة الأنفال (8): الآیات 45 الی 47]

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَ اُذْكُرُوا اَللّٰهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَ أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ لاٰ تَنٰازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ اِصْبِرُوا إِنَّ اَللّٰهَ مَعَ اَلصّٰابِرِينَ وَ لاٰ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيٰارِهِمْ بَطَراً وَ رِئٰاءَ اَلنّٰاسِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ بِمٰا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ

أي: إذا حاربتم جماعة كافرة، وإنّما لم يصفهم لأنّ المؤمنين لا يحاربون إلا الكفار، واللقاء اسم للقتال غالب.

ص: 291


1- تفسير الطبري ج 10:10.
2- القائل أبو جهل. تاريخ الطبري ج 2:279.
3- آل عمران: 13.

فَاثْبُتُوا لقتالهم ولا تفرّوا وَ اُذْكُرُوا اَللّٰهَ كَثِيراً في مواطن القتال، مستعينين به مستظهرين بذكره لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي: تظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة.

وَ لاٰ تَنٰازَعُوا أي: لا تتنازعوا فيما بينكم فتضعفوا عن قتال عدوكم، و تفشلوا منصوب بإضمار (أن).

والريح: الدولة، شبّهت في نفوذ أمرها بالريح وهبوبها، قالوا: هبّت رياح فلان: إذا دالت له الدولة ونفذ أمره، وقيل: لم يكن قط نصر إلا بريح يبعثها اللّه(1).

وفي الحديث: (نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور)(2).

كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيٰارِهِمْ هم أهل مكة خرجوا ليحموا عيرهم، فأتاهم رسول أبي سفيان وهم بالجحفة(3): أن ارجعوا فقد سلمت عيركم، فأبى أبو جهل وقال: حتى نقدم بدرا نشرب بها الخمور وتعزف علينا القيان، فذلك بطرهم، ورئاؤهم الناس إطعامهم، فوافوها فسقوا كأس الحمام مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القيان.

[سورة الأنفال (8): آیة 48]

وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطٰانُ أَعْمٰالَهُمْ وَ قٰالَ لاٰ غٰالِبَ لَكُمُ اَلْيَوْمَ مِنَ اَلنّٰاسِ وَ إِنِّي جٰارٌ لَكُمْ فَلَمّٰا تَرٰاءَتِ اَلْفِئَتٰانِ نَكَصَ عَلىٰ عَقِبَيْهِ وَ قٰالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرىٰ مٰا لاٰ تَرَوْنَ إِنِّي أَخٰافُ اَللّٰهَ وَ اَللّٰهُ شَدِيدُ اَلْعِقٰابِ

ص: 292


1- عن ابن زيد. تفسير الطبري ج 10:12.
2- صحيح مسلم ج 3:27، الجعفريات ج 2:136.
3- الجحفة: قرية كبيرة على طريق المدينة من مكة على أربع مراحل، وبينها وبين المدينة ست مراحل وهي ميقات أهل مصر والشام إن لم يمروا على المدينة. معجم البلدان ج 2:111.

قيل: إنّ قريشا لما اجتمعت للمسير ذكرت ما بينها وبين كنانة من الحرب فكاد ذلك يثنيهم، فتمثّل لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الكناني وكان من أشرافهم - فقال: لاٰ غٰالِبَ لَكُمُ اَلْيَوْمَ وإنّي مجيركم من بني كنانة، فلما رأي الملائكة تنزل نَكَصَ ، ولما نكص قال له الحارث بن هشام - وكانت يده في يده -: إلي أين ؟ أتخذلنا في هذه الحال ؟ فقال: إِنِّي أَرىٰ مٰا لاٰ تَرَوْنَ ودفع في صدره وانطلق، وانهزموا، فلما بلغوا مكة قالوا: هزم الناس سراقة، فبلغ ذلك سراقة، فقال: والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم(1).

[سورة الأنفال (8): الآیات 49 الی 51]

إِذْ يَقُولُ اَلْمُنٰافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هٰؤُلاٰءِ دِينُهُمْ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّٰهِ فَإِنَّ اَللّٰهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَ لَوْ تَرىٰ إِذْ يَتَوَفَّى اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلْمَلاٰئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبٰارَهُمْ وَ ذُوقُوا عَذٰابَ اَلْحَرِيقِ ذٰلِكَ بِمٰا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اَللّٰهَ لَيْسَ بِظَلاّٰمٍ لِلْعَبِيدِ

إِذْ يَقُولُ اَلْمُنٰافِقُونَ بالمدينة وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الشاكون في الإسلام غَرَّ هٰؤُلاٰءِ دِينُهُمْ يعنون المسلمين، أي: اغترّوا بدينهم وأنّهم ينصرون من أجله، فخرجوا مع قلّتهم إلى قتال المشركين مع كثرتهم.

وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّٰهِ فَإِنَّ اَللّٰهَ عَزِيزٌ غالب ينصر الضعيف علي القوي، والقليل علي الكثير.

وَ لَوْ تَرىٰ أي: ولو عاينت وشاهدت، لأنّ (لو) يرد المضارع إلى معنى الماضي، كما أنّ (إن) تردّ الماضي إلى معنى الاستقبال، و إِذْ نصب علي الظرف، وقرئ: يتوفى - بالياء والتاء -.

ص: 293


1- سيرة ابن هشام ج 2:301.

و يَضْرِبُونَ حال، وعن مجاهد: أَدْبٰارَهُمْ : أستاههم ولكن اللّه كريم يكنّي(1)، وقيل: يضربون ما أقبل منه وما أدبر، والمراد به قتلى بدر(2). و ذُوقُوا معطوف علي يَضْرِبُونَ علي إرادة القول، أي: ويقولون: ذُوقُوا عَذٰابَ اَلْحَرِيقِ بعد هذا في الآخرة. وقيل: كانت مع الملائكة مقامع من حديد كلما ضربوا بها التهبت النار في جراحاتهم(3).

ذٰلِكَ بِمٰا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ يحتمل أن يكون من كلام اللّه، ومن كلام الملائكة، و ذٰلِكَ مبتدأ، و بِمٰا قَدَّمَتْ خبره، وَ أَنَّ اَللّٰهَ عطف عليه، أي:

ذلك العذاب بسببين: بسبب كفركم ومعاصيكم، وبأنّ اللّه يعذّب الكفار بالعدل، لأنه لا يظلم عباده في عقوبتهم. وقد بالغ في نفي الظلم عن نفسه بقوله: لَيْسَ بِظَلاّٰمٍ لِلْعَبِيدِ .

[سورة الأنفال (8): الآیات 52 الی 54]

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيٰاتِ اَللّٰهِ فَأَخَذَهُمُ اَللّٰهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اَللّٰهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ اَلْعِقٰابِ ذٰلِكَ بِأَنَّ اَللّٰهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهٰا عَلىٰ قَوْمٍ حَتّٰى يُغَيِّرُوا مٰا بِأَنْفُسِهِمْ وَ أَنَّ اَللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيٰاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنٰاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ أَغْرَقْنٰا آلَ فِرْعَوْنَ وَ كُلٌّ كٰانُوا ظٰالِمِينَ

الكاف في محلّ الرفع، أي: دأب هؤلاء مثل دأب آلِ فِرْعَوْنَ . ودأبهم:

عادتهم وعملهم الذي دأبوا فيه، أي: داوموا عليه، و كَفَرُوا تفسير لدأب آل

ص: 294


1- تفسير الطبري ج 10:17.
2- عن ابن عباس. تفسير الطبري ج 10:17.
3- الكشف والبيان ج 4:367.

فرعون.

و ذٰلِكَ إشارة إلي ما حلّ بهم، أي: ذٰلِكَ العذاب بسبب أن الله لا يصحّ في حكمته أن يغيّر نعمته عند قَوْمٍ حَتّٰى يُغَيِّرُوا مٰا بهم من الحال، وعن السدي: (النعمة محمّد صلى الله عليه و آله و سلم أنعم اللّه به على قريش فكفروا به وكذّبوه فنقله إلى الأنصار)(1).

وَ أَنَّ اَللّٰهَ سَمِيعٌ لما يقول مكذبو الرسل عَلِيمٌ بما يفعلون.

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ تكرير للتأكيد. وفي قوله: بِآيٰاتِ رَبِّهِمْ زيادة دلالة علي كفران النعم. وفي ذكر الإغراق بيان للأخذ بالذنوب.

وَ كُلٌّ كٰانُوا ظٰالِمِينَ أي: وكل من غرقى آل فرعون وقتلى قريش كانوا ظالمين أنفسهم بكفرهم ومعاصيهم.

[سورة الأنفال (8): الآیات 55 الی 58]

إِنَّ شَرَّ اَلدَّوَابِّ عِنْدَ اَللّٰهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لاٰ يُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ عٰاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَ هُمْ لاٰ يَتَّقُونَ فَإِمّٰا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي اَلْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ وَ إِمّٰا تَخٰافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيٰانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلىٰ سَوٰاءٍ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُحِبُّ اَلْخٰائِنِينَ

اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لاٰ يُؤْمِنُونَ أي: أصرّوا علي الكفر فلا يتوقع منهم إيمان، وهم بنو قريظة عاهدهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم علي أن لا يمالئوا عليه عدوا، فنكثوا بأن أعانوا مشركي مكة بالسلاح وقالوا: نسينا وأخطأنا، ثمّ عاهدهم فنكثوا ومالؤوا عليه الأحزاب يوم الخندق.

ص: 295


1- تفسير الطبري ج 10:18.

اَلَّذِينَ عٰاهَدْتَ مِنْهُمْ بدل من اَلَّذِينَ كَفَرُوا أي: الذين عاهدتهم من الذين كفروا، جعلهم شرّ الدواب لأنّ شرّ الناس الكفار، وشرّ الكفار المصرّون منهم، وشرّ المصرّين الذين ينقضون العهد.

وَ هُمْ لاٰ يَتَّقُونَ أي: لا يخافون عاقبة الغدر، ولا يبالون ما فيه من العار و النار.

فَإِمّٰا تَثْقَفَنَّهُمْ أي: تصادفنّهم فِي اَلْحَرْبِ ، و المعنى: إن ظفرت بهم وأدركتهم فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ أي: ففرّق عن محاربتك و مناصبتك من وراءهم من الكفرة بقتلهم شرّ قتلة، حتى لا يجسر عليك بعدهم أحد، اعتبارا بهم واتعاظا بحالهم.

وَ إِمّٰا تَخٰافَنَّ مِنْ قَوْمٍ معاهدين خِيٰانَةً ونكثا للعهد فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ أي: فاطرح إليهم العهد عَلىٰ سَوٰاءٍ على طريق مقتصد مستو، وذلك بأن تخبرهم بنبذ العهد إخبارا ظاهرا مكشوفا، وتبين لهم أنّك قطعت ما بينك وبينهم، ولا تبدأهم بالقتال وهم على توهم بقاء العهد فيكون ذلك خيانة إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُحِبُّ اَلْخٰائِنِينَ فلا تخنهم بأن تناجزهم القتال من غير إعلامهم بالنبذ، وقيل: معناه علي استواء في العلم بنقض العهد. والجار والمجرور في موضع الحال، كأنّه قيل: فانبذ إليهم ثابتا علي طريق قصد سوي، أو حاصلين علي استواء في العلم علي أنّها حال من النابذ والمنبوذ إليهم معا.

[سورة الأنفال (8): الآیات 59 الی 60]

وَ لاٰ يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لاٰ يُعْجِزُونَ وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِبٰاطِ اَلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اَللّٰهِ وَ عَدُوَّكُمْ وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاٰ تَعْلَمُونَهُمُ اَللّٰهُ يَعْلَمُهُمْ وَ مٰا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لاٰ

ص: 296

[سورة الأنفال (8): الآیات 60 الی 61]

تُظْلَمُونَ وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهٰا وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللّٰهِ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ

سَبَقُوا أي: فاتوا من أن يظفر بهم.

إِنَّهُمْ لاٰ يُعْجِزُونَ أي: لا يفوتون ولا يجدون طالبهم عاجزا عن إدراكهم.

وقرئ: أنّهم - بالفتح - بمعنى لأنّهم، وكل واحدة من المكسورة والمفتوحة تعليل، إلا أنّ المكسورة على طريقة الاستئناف والمفتوحة تعليل صريح. والمعنى: لا تحسبنّ يا محمّد الكافرين قد فاتوك فإنّ الله يظفرك بهم ويظهرك عليهم، وفي الشواذ قراءة ابن محيصن(1): لا يعجزون - بكسر النون -، وقرئ: ولا يحسبن - بالياء - على أنّ الفعل ل - اَلَّذِينَ كَفَرُوا ، كأنّه قيل: لا يحسبن الذين كفروا أن سبقوا، فحذفت (أن)، كقوله: وَ مِنْ آيٰاتِهِ يُرِيكُمُ اَلْبَرْقَ (2)، أو علي أنّ المعنى: ولا يحسبنهم الذين كفروا سبقوا.

والقوة: كل ما يتقوّى به في الحرب من العدد، والرباط: اسم للخيل التي تربط في سبيل اللّه، ويجوز أن يسمّى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة، ويجوز أن يكون جمع ربيط كفصال جمع فصيل.

تُرْهِبُونَ قرئ بالتخفيف والتشديد، يقال: أرهبته ورهّبته، أي:

تخيفون بما تعدونه عَدُوَّ اَللّٰهِ وَ عَدُوَّكُمْ يعني أهل مكة.

وَ آخَرِينَ أي: وترهبون كفارا آخرين من دون هؤلاء لاٰ تَعْلَمُونَهُمُ

ص: 297


1- محمّد بن عبد الرحمن بن محيصن السهمي مولاهم المكي المقرئ، كان له اختيار في القراءة خرج به عن إجماع أهل بلده فرغب الناس عن قراءته، قيل: إنه مات سنة 123 ه - وقيل 122 ه -. ينظر: غاية النهاية في طبقات القراء ج 2:167.
2- الروم: 24.

لأنّهم يصلّون ويصومون ويقولون: لا إله إلا اللّه، محمّد رسول اللّه اَللّٰهُ يَعْلَمُهُمْ لأنه المطّلع على الأسرار وَ مٰا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ في الجهاد يوفر عليكم ثوابه وَ أَنْتُمْ لاٰ تُظْلَمُونَ لا تنقصون شيئا منه.

وَ إِنْ جَنَحُوا جنح له وإليه: مال، والسلم - بفتح السين وكسرها -:

الصلح، يؤنث تأنيث نقيضها وهي الحرب، قال:

السّلم تأخذ منها ما رضيت به *** والحرب يكفيك من أنفاسها جرع(1)

وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللّٰهِ ولا تخف من خديعتهم ومكرهم، فإنّ اللّه عاصمك وكافيك من مكرهم.

[سورة الأنفال (8): الآیات 62 الی 66]

وَ إِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اَللّٰهُ هُوَ اَلَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً مٰا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ حَسْبُكَ اَللّٰهُ وَ مَنِ اِتَّبَعَكَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ حَرِّضِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَى اَلْقِتٰالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صٰابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاٰ يَفْقَهُونَ اَلْآنَ خَفَّفَ اَللّٰهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صٰابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ مَعَ اَلصّٰابِرِينَ

وَ إِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ في الصلح بأن يقصدوا به دفع أصحابك عن

ص: 298


1- ديوان العباس بن مرداس السلمي: 86.

القتال حتى يقوي أمرهم فيبدؤوكم بالقتال من غير استعداد منكم.

فَإِنَّ حَسْبَكَ اَللّٰهُ أي: محسبك اللّه هُوَ اَلَّذِي أَيَّدَكَ أي: قوّاك بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ الذين ينصرونك علي أعدائك، يريد الأنصار وهم: الأوس و الخزرج.

وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ مٰا أَلَّفْتَ حتى صاروا متحابين متوادّين بعد ما كان بينهم من التضاغن والتحارب ولم يكن لبغضائهم أمد، فأنساهم الله ذلك كله حتى تصافوا وعادوا إخوانا.

لَوْ أَنْفَقْتَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً لما أمكنك التأليف بين قلوبهم وإزالة ضغائن الجاهلية عنهم وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ بالإسلام.

وَ مَنِ اِتَّبَعَكَ الواو بمعنى (مع)، وما بعده منصوب، لأنّ عطف الظاهر المجرور علي المكنى قبيح، والمعنى: كفاك وكفى متبعيك مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ اللّه ناصرا، أو يكون في محلّ الرفع أي: كفاك اللّه وكفاك المؤمنون، وهذه الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال(1).

والتحريض: المبالغة في الحث علي الأمر، من الحرض وهو أن ينهكه المرض حتى يشفى علي الموت، وهذه عدة من اللّه بأنّ الجماعة من المؤمنين إن صبروا غلبوا عشرة أمثالهم من الكفار بتأييد اللّه.

بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاٰ يَفْقَهُونَ أي: بسبب أنّ الكفار جهلة يقاتلون على غير احتساب ثواب كالبهائم.

ص: 299


1- عن الكلبي. تفسير الماوردي ج 2:331.

وعن ابن جريج(1): (كان عليهم أن لا يفرّوا(2) ويثبت الواحد للعشرة)(3).

وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعث حمزة بن عبد المطلب في ثلاثين راكبا، فلقي أبا جهل في ثلاثمائة راكب، فثقل عليهم ذلك وضجّوا منه بعد مدة، فنسخ وخفف عنهم بمقاومة الواحد الاثنين(4). وقرئ: ضعفا - بفتح الضاد وضمها - وضعفاء جمع ضعيف، وقرئ: يكن في الموضعين بالياء والتاء، والمراد بالضعف: الضعف في البدن، وقيل: في البصيرة والاستقامة في الدين، وكانوا متفاوتين في ذلك.

[سورة الأنفال (8): الآیات 67 الی 69]

مٰا كٰانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرىٰ حَتّٰى يُثْخِنَ فِي اَلْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ اَلدُّنْيٰا وَ اَللّٰهُ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ وَ اَللّٰهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْ لاٰ كِتٰابٌ مِنَ اَللّٰهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمٰا أَخَذْتُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ فَكُلُوا مِمّٰا غَنِمْتُمْ حَلاٰلاً طَيِّباً وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ إِنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

الإثخان: كثرة القتل والمبالغة فيه، من قولهم: أثخنته الجراحات حتى أثبتته، وأصله من الثخانة التي هي الغلظ والكثافة. والمعنى: مٰا استقام لِنَبِيٍّ وما صحّ له أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرىٰ حَتّٰى يذل الكفر ويضعفه بإشاعة القتل في أهله، ويعزّ الإسلام ويقويه بالاستيلاء والقهر، وكان هذا يوم بدر، فلما كثر المسلمون نزل:

فَإِمّٰا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمّٰا فِدٰاءً (5) . وروي: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أتي بسبعين أسيرا فيهم العباس عمّه وعقيل بن أبي طالب، ولم يؤسر أحد من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

ص: 300


1- عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الرومي الأموي مولاهم، ولد سنة نيف وسبعين، مات سنة 150 ه -. ينظر: طبقات المفسّرين ج 1:352.
2- في أ، ج: ينفروا.
3- تفسير الطبري ج 10:27.
4- ينظر: مغازي الواقدي ج 1:9.
5- محمّد: 4.

و عَرَضَ اَلدُّنْيٰا حطامها، سمّي بذلك لأنّه حدث قليل اللبث، يريد الفداء. والخطاب للمؤمنين الذين رغبوا في أخذ الفداء من الأسري.

وَ اَللّٰهُ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ أي: تريدون عاجل الحظ من عرض الدنيا، والله يريد لكم ثواب الآخرة وَ اَللّٰهُ عَزِيزٌ يغلب أولياءه على أعدائه، ويتمكّنون منهم قتلا وأسرا ويطلق لهم الفداء، ولكنّه حَكِيمٌ يؤخر ذلك وهم يعجلون.

لَوْ لاٰ كِتٰابٌ مِنَ اَللّٰهِ أي: حكم منه سَبَقَ إثباته في اللوح بإباحة الغنائم لكم لَمَسَّكُمْ فِيمٰا استحللتم قبل الإباحة عَذٰابٌ عَظِيمٌ ، وقيل: لولا كتاب من اللّه في القرآن أنّه لا يعذّبكم والنبيّ بين أظهركم.

فَكُلُوا مِمّٰا غَنِمْتُمْ هذا إباحة للفداء لأنه من جملة الغنائم، وقيل: إنّهم أمسكوا عن الغنائم ولم يمدّوا أيديهم إليها، فنزلت الآية(1). ومعنى الفاء التسبيب، أي: قد أبحت لكم الغنائم فكلوا مما غنمتم.

و حَلاٰلاً نصب علي الحال من المغنوم، أو صفة للمصدر، أي: أكلا حلالا.

[سورة الأنفال (8): الآیات 70 الی 71]

يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ اَلْأَسْرىٰ إِنْ يَعْلَمِ اَللّٰهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمّٰا أُخِذَ مِنْكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اَللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَ إِنْ يُرِيدُوا خِيٰانَتَكَ فَقَدْ خٰانُوا اَللّٰهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

وقرئ: مِنَ اَلْأَسْرىٰ وهو أقيس من الأساري، لأنّ الأسير فعيل بمعنى مفعول، وذلك يجمع علي فعلي نحو جرحى وقتلى، وقالوا: أساري، تشبيها ب - (كسالى)، كما شبهوا (كسلى) ب - (أسرى).

ص: 301


1- معالم التنزيل ج 2:64.

قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ أي: لمن في ملكتكم، فكأنّ أيديكم قابضة عليهم إِنْ يَعْلَمِ اَللّٰهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً خلوص عقيدة وصحّة نية في الإيمان يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمّٰا أُخِذَ مِنْكُمْ من الفداء: إما أن يخلفكم أضعافه في الدنيا أو يثيبكم في الآخرة.

وروي: أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال للعباس: (افد ابني أخويك) عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث، فقال: أتتركني أتكفف قريشا ما بقيت ؟ قال: فأين الذهب الذي دفعته إلي أم الفضل، وقلت: إن حدث بي حدث فهو لك و للفضل وعبد اللّه وقثم ؟ فقال العباس: وما يدريك ؟ قال: أخبرني به ربّي، قال: أشهد أنّك صادق، وأن لا إله إلا اللّه، وأنّك عبده ورسوله، واللّه لم يطّلع عليه أحد إلا اللّه، ولقد دفعت إليها في سواد الليل، ولقد كنت مرتابا في أمرك، فأما إذ أخبرتني بذلك فلا ريب. قال العباس:

فأبدلني اللّه خيرا من ذلك: لي الآن عشرون عبدا إن أدناهم ليضرب في عشرين ألفا، وأعطاني زمزم، وما أحبّ أن لي بها جميع أموال أهل مكة، وأنا أنتظر المغفرة من ربّي(1)

.

وَ إِنْ يُرِيدُوا خِيٰانَتَكَ نكث ما بايعوك عليه، ومنع ما ضمنوا من الفداء فَقَدْ خٰانُوا اَللّٰهَ مِنْ قَبْلُ بأن خرجوا إلي بدر وقاتلوا مع المشركين فَأَمْكَنَ اللّه مِنْهُمْ وسيمكّن منهم إن أعادوا الخيانة.

[سورة الأنفال (8): الآیات 72 الی 73]

إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هٰاجَرُوا وَ جٰاهَدُوا بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ اَلَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهٰاجِرُوا مٰا لَكُمْ مِنْ وَلاٰيَتِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ حَتّٰى يُهٰاجِرُوا وَ إِنِ اِسْتَنْصَرُوكُمْ فِي اَلدِّينِ فَعَلَيْكُمُ اَلنَّصْرُ إِلاّٰ عَلىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثٰاقٌ وَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا

ص: 302


1- الكشف والبيان ج 4:374.

[سورة الأنفال (8): الآیات 73 الی 75]

بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ إِلاّٰ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي اَلْأَرْضِ وَ فَسٰادٌ كَبِيرٌ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هٰاجَرُوا وَ جٰاهَدُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ اَلَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَ هٰاجَرُوا وَ جٰاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولٰئِكَ مِنْكُمْ وَ أُولُوا اَلْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ

هٰاجَرُوا أي: فارقوا أوطانهم وقومهم حبّا للّه ولرسوله، وهم المهاجرون من مكة إلى المدينة.

وَ اَلَّذِينَ آووهم إلي ديارهم ونصروهم على أعدائهم هم الأنصار.

بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ أي: يتولى بعضهم بعضا في الميراث. وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالمؤاخاة الأولى حتى نسخ ذلك بقوله: وَ أُولُوا اَلْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ . وقرئ: من ولايتهم - بالفتح والكسر، قال الزجّاج: هي بفتح الواو من النصرة والنسب، وبالكسر هي بمنزلة الإمارة(1). والوجه في الآية أنّه شبّه تولي بعضهم بعضا بالصناعة والعمل، لأنّ كل ما كان من هذا الجنس فمكسور كالصياغة والكتابة، وكأنّ الرجل بتوليه صاحبه يباشر أمرا ويزاول عملا.

وَ إِنِ اِسْتَنْصَرُوكُمْ أي: وإن طلب المؤمنون الذين لم يهاجروا منكم النصرة لهم علي الكفار فَعَلَيْكُمُ اَلنَّصْرُ لهم إِلاّٰ عَلىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثٰاقٌ وعهد، فلا يجوز لكم نصركم عليهم.

وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ معناه نهي المسلمين عن موالاة الكفار

ص: 303


1- لسان العرب: مادة ولي.

ومعاونتهم وإن كانوا أقارب، وأن يتركوا يتولى بعضهم بعضا.

إِلاّٰ تَفْعَلُوهُ أي: إن لا تفعلوا ما أمرتكم به من تواصل المسلمين وتولي بعضهم بعضا حتى في التوارث، تفضيلا لنسبة الإسلام علي نسبة القرابة، ولم تقطعوا العلائق بينكم وبين الكفار تحصل فِتْنَةٌ فِي اَلْأَرْضِ ومفسدة كبيرة، لأنّ المسلمين ما لم يكونوا يدا واحدة على أهل الشرك كان الشرك ظاهرا، وتجرأ أهله علي أهل الإسلام ودعوهم إلى الكفر.

ثمّ عاد سبحانه إلى ذكر المهاجرين و الأنصار وأثنى عليهم بقوله: أُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لأنّهم حقّقوا إيمانهم بالهجرة والنصرة والانسلاخ من الأهل والمال لأجل الدين.

وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ يريد: اللاحقين بعد السابقين إلى الهجرة، كقوله:

وَ اَلَّذِينَ جٰاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ ... الآية(1).

فَأُولٰئِكَ مِنْكُمْ من جملتكم، و حكمهم حكمكم في وجوب موالاتهم ونصرتهم وإن تأخر إيمانهم وهجرتهم.

وَ أُولُوا اَلْأَرْحٰامِ وأولو القرابات أولى بالتوارث، بعضهم أحقّ بميراث بعض من غيرهم، وهو نسخ للتوارث بالهجرة والنصرة.

فِي كِتٰابِ اَللّٰهِ أي: في حكمه، وقيل: في اللوح المحفوظ(2)، وقيل: في القرآن.

وفيه دلالة علي أنّ من كان أقرب إلى الميت في النسب كان أولى بالميراث.

ص: 304


1- الحشر: 10.
2- تفسير ابن عباس ج 2:177.

سورة التوبة

اشارة

مدنية، وهي مائة وتسع وعشرون آية كوفي، ثلاثون بصري، عدّ البصري:

بَرِيءٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ .

وعن الصادق عليه السلام قال: (الأنفال وبراءة واحدة)(1)، وعن عليّ عليه السلام: (لم ينزل (بسم اللّه الرحمن الرحيم) علي رأس سورة براءة، لأنّ بسم اللّه للأمان والرحمة، ونزلت براءة لرفع الأمان وللسيف)(2). وقيل: إنّ السورتين كانتا تدعيان القرينتين، وتعدّان السابعة من السبع الطوال(3).

[سورة التوبة (9): الآیات 1 الی 4]

بَرٰاءَةٌ مِنَ اَللّٰهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى اَلَّذِينَ عٰاهَدْتُمْ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي اَلْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اَللّٰهِ وَ أَنَّ اَللّٰهَ مُخْزِي اَلْكٰافِرِينَ وَ أَذٰانٌ مِنَ اَللّٰهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى اَلنّٰاسِ يَوْمَ اَلْحَجِّ اَلْأَكْبَرِ أَنَّ اَللّٰهَ بَرِيءٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اَللّٰهِ وَ بَشِّرِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ إِلاَّ اَلَّذِينَ عٰاهَدْتُمْ مِنَ

ص: 305


1- تفسير العياشي ج 2:73.
2- الدر المنثور ج 3:209.
3- الدر المنثور ج 3:208.

[سورة التوبة (9): آیة 4]

اَلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَ لَمْ يُظٰاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلىٰ مُدَّتِهِمْ إِنَّ اَللّٰهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ

بَرٰاءَةٌ خبر مبتدأ محذوف، و مِنَ لابتداء الغاية. والمعنى: هذه براءة واصلة مِنَ اَللّٰهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى اَلَّذِينَ عٰاهَدْتُمْ ، ويجوز أن تكون بَرٰاءَةٌ مبتدأ وإن كانت نكرة لتخصّصها بصفتها، والخبر إِلَى اَلَّذِينَ عٰاهَدْتُمْ كما تقول: رجل من قريش في الدار. والمراد: إنّ اللّه ورسوله قد برئا من العهد الذي عاهدتم به اَلْمُشْرِكِينَ وأنّ عهدهم منبوذ إليهم.

فَسِيحُوا فِي اَلْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ هذا خطاب للمشركين، أمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر وهي الأشهر الحرم آمنين أين شاؤوا لا يتعرض لهم، وذلك لصيانة الأشهر الحرم من القتل والقتال فيها. وقيل: إنّ (براءة) نزلت في شوال سنة تسع من الهجرة والأشهر الأربعة: شوال، وذو القعدة، وذو الحجّة، والمحرّم(1)، وقيل: هي عشرون من ذي الحجّة والمحرّم وصفر وشهر ربيع الأوّل، وعشر من شهر ربيع الآخر(2)، وكانت حرما لأنّهم أومنوا فيها وحرم قتلهم وقتالهم، وهو الأصحّ .

وأجمع المفسّرون علي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حين نزلت (براءة) دفعها إلى أبي بكر ثمّ أخذها منه ودفعها إلى عليّ عليه السلام، وإن اختلفوا في تفصيله، وقد شرحناه في الكتاب الكبير(3). وعن الباقر عليه السلام قال: (خطب عليّ عليه السلام الناس يوم النحر واخترط سيفه فقال: لا يطوفنّ بالبيت عريان، ولا يحجنّ البيت مشرك، ومن كانت له مدّة فهو

ص: 306


1- عن الزهري. تفسير الطبري ج 10:44.
2- عن الضحاك وغيره. تفسير الطبري ج 10:43.
3- مجمع البيان ج 5-6:3، وانظر الدر المنثور ج 3:209-210.

إلى مدّته، ومن لم يكن له مدّة فمدّته أربعة أشهر، وقرأ عليهم سورة براءة)(1).

وقيل: إنّه قرأ ثلاث عشرة اية من أوّل براءة(2)، وقيل: ثلاثين أو أربعين آية(3).

وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اَللّٰهِ أي: لا تفوتونه وإن أمهلكم وَ أَنَّ اَللّٰهَ مُخْزِي اَلْكٰافِرِينَ أي: مذلّهم في الدنيا بالقتل، وفي الآخرة بالعذاب.

وَ أَذٰانٌ مِنَ اَللّٰهِ الوجه في رفعه ما ذكرناه في بَرٰاءَةٌ بعينه، ثمّ الجملة معطوفة علي مثلها، وهو بمعنى الإيذان كما أنّ الأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء. والجملة الأولى إخبار بثبوت البراءة، والجملة الثانية إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت من البراءة الواصلة من اللّه ورسوله إلى المعاهدين والناكثين لجميع الناس، من عاهد منهم ومن لم يعاهد.

يَوْمَ اَلْحَجِّ اَلْأَكْبَرِ يوم عرفة، وقيل: يوم النحر(4)، لأنّ فيه تمام الحج ومعظم أفعاله. وروي أنّ عليّا عليه السلام أخذ رجل بلجام دابته فقال: ما الحج الأكبر؟ فقال: (هذا، خلّ عن دابتي)(5).

أَنَّ اَللّٰهَ بَرِيءٌ حذفت الباء تخفيفا. وقرئ في الشواذ: إنّ اللّه - بالكسر - لأنّ الأذان في معنى القول و رسوله عطف علي الضمير في بَرِيءٌ أو علي محلّ (إن) المكسورة واسمها. وقرئ بالنصب عطفا علي اسم (أنّ )، أو لأنّ الواو بمعنى (مع).

ص: 307


1- تفسير العياشي ج 2:74. سيرة ابن هشام ج 4:256.
2- عن مجاهد. الكشاف ج 2:243.
3- عن السدي. تاريخ الطبري ج 3:154.
4- عن الباقر عليه السلام تفسير العياشي ج 2:75، وروي مرفوعا تفسير الطبري ج 10:53.
5- تفسير الطبري ج 10:50.

فَإِنْ تُبْتُمْ من الكفر والغدر فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ من الإقامة عليهما وَ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ عن الإيمان فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اَللّٰهِ غير سابقين اللّه، ولا فائتين بأسه وعذابه.

إِلاَّ اَلَّذِينَ عٰاهَدْتُمْ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ استثناء من فَسِيحُوا فِي اَلْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لأنّ الاستثناء بمعنى الاستدراك. والمعنى: ولكن الذين لم ينكثوا ولم ينقصوا من شرط العهد شَيْئاً وَ لَمْ يُظٰاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً من أعدائكم فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلىٰ انقضاء مُدَّتِهِمْ التي وقع العهد إليها، ولا تجعلوا الوفي كا لغا در.

[سورة التوبة (9): الآیات 5 الی 6]

فَإِذَا اِنْسَلَخَ اَلْأَشْهُرُ اَلْحُرُمُ فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ اُحْصُرُوهُمْ وَ اُقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تٰابُوا وَ أَقٰامُوا اَلصَّلاٰةَ وَ آتَوُا اَلزَّكٰاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ اِسْتَجٰارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّٰى يَسْمَعَ كَلاٰمَ اَللّٰهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاٰ يَعْلَمُونَ

أي: إذا انسلخ الأشهر التي أبيح فيها للناكثين أن يسيحوا في الأرض فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ فضعوا السيف فيهم حيث كانوا وأين وجدوا، في حلّ أو حرم وَ خُذُوهُمْ أي: إئسروهم، و الأخيذ: الأسير.

وَ اُحْصُرُوهُمْ أي: قيّدوهم وامنعوهم من التصرّف في البلاد، وقيل:

حولوا بينهم وبين المسجد الحرام(1).

وَ اُقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ أي: كل ممر وطريق ترصدونهم به،

ص: 308


1- معاني القرآن للفراء ج 1:421.

وانتصب علي الظرف كقوله: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرٰاطَكَ اَلْمُسْتَقِيمَ (1).

فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ أي: دعوهم يتصرّفون في البلاد، أو فكفّوا عنهم ولا تتعرضوا لهم، أو دعوهم يحجّوا ويدخلوا المسجد الحرام إِنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يغفر لهم ما قد سلف من كفرهم وغدرهم.

أَحَدٌ مرفوع بفعل الشرط، وهو مضمر يفسّره الظاهر، تقديره: وإن استجارك [أحد استجارك](2). والمعنى: وإن جاءك أحد من المشركين بعد انقضاء الأشهر لا عهد بينك وبينه فاستأمنك ليسمع ما تدعو إليه من القرآن والدين فامنه فَأَجِرْهُ حَتّٰى يَسْمَعَ كَلاٰمَ اَللّٰهِ ويتدبّره، فإنّ معظم الأدلة فيه ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ بعد ذلك، يعني داره التي يأمن فيها إن لم يسلم، ثمّ قاتله إن شئت من غير غدر ولا خيانة، وهذا الحكم ثابت في كل وقت.

ذٰلِكَ أي: ذلك الأمر بالإجارة بسبب أنهم قوم جهلة لاٰ يَعْلَمُونَ الإيمان فآمنهم حتى يسمعوا ويعلموا.

[سورة التوبة (9): الآیات 7 الی 8]

كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اَللّٰهِ وَ عِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ عٰاهَدْتُمْ عِنْدَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ فَمَا اِسْتَقٰامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اَللّٰهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ كَيْفَ وَ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاٰ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَ لاٰ ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوٰاهِهِمْ وَ تَأْبىٰ قُلُوبُهُمْ وَ أَكْثَرُهُمْ فٰاسِقُونَ

كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ صحيح، ومحال أن يثبت لهم عهد مع إضمارهم الغدر والنكث، فلا تطمعوا في ذلك، ولكن اَلَّذِينَ عٰاهَدْتُمْ منهم

ص: 309


1- الأعراف: 16.
2- ساقطة من ج.

عِنْدَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ ولم يظهر منهم نكث كبني كنانة وبني ضمرة، فتربّصوا أمرهم ولا تقاتلوهم.

فَمَا اِسْتَقٰامُوا لَكُمْ علي العهد فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ علي مثله.

كَيْفَ تكرار لاستبعاد ثبات المشر كين علي العهد، وحذف الفعل لكونه معلوما، أي: كَيْفَ يكون لهم عهد و حالهم أنّهم إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ويظفروا بكم بعد ما سبق لهم من الأيمان والمواثيق لاٰ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَ لاٰ ذِمَّةً أي: لا يحفظوا فيكم قرابة ولا عهدا، قال حسان:

لعمرك إنّ إلّك من قريش *** كإلّ السّقب من رأل النّعام(1)

وقيل: إلّا: حلفا(2)، وقيل: إلّا: إلها(3).

يُرْضُونَكُمْ كلام مبتدأ في وصف حالهم من مخالفة الباطن الظاهر.

وإباء القلوب: مخالفة ما فيها من الأضغان لما يجرونه علي ألسنتهم من الكلام الجميل.

وَ أَكْثَرُهُمْ فٰاسِقُونَ متمردون في الكفر والشرك، لا مروّة تردعهم كما توجد في بعض الكفار من التعفف عما يثلم العرض والتفادي عن النكث.

[سورة التوبة (9): الآیات 9 الی 11]

اِشْتَرَوْا بِآيٰاتِ اَللّٰهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سٰاءَ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ لاٰ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَ لاٰ ذِمَّةً وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُعْتَدُونَ فَإِنْ تٰابُوا وَ أَقٰامُوا اَلصَّلاٰةَ

ص: 310


1- ديوان حسان بن ثابت: 218.
2- عن قتادة. تفسير الطبري ج 10:60.
3- عن مجاهد. تفسير الطبري ج 10:59.

[سورة التوبة (9): الآیات 11 الی 13]

وَ آتَوُا اَلزَّكٰاةَ فَإِخْوٰانُكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ نُفَصِّلُ اَلْآيٰاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمٰانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقٰاتِلُوا أَئِمَّةَ اَلْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاٰ أَيْمٰانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ أَ لاٰ تُقٰاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمٰانَهُمْ وَ هَمُّوا بِإِخْرٰاجِ اَلرَّسُولِ وَ هُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَ تَخْشَوْنَهُمْ فَاللّٰهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

استبدلوا بِآيٰاتِ اَللّٰهِ أي: بالقرآن والإسلام ثَمَناً قَلِيلاً و هو اتباع الأهواء والشهوات فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ فعدلوا عنه وصرفوا غيرهم.

و اَلْمُعْتَدُونَ المجاوزون الغاية في الظلم والكفر.

فَإِنْ تٰابُوا عن الكفر ونقض العهد، فهم إخوانكم حذف المبتدأ.

وَ نُفَصِّلُ اَلْآيٰاتِ ونبيّنها. وهذا اعتراض، فكأنّه قيل: ومن تأمل تفصيلها فهو العالم.

وَ إِنْ نَكَثُوا أي: نقضوا عهودهم بعد أن عقدوها وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ وعابوه فَقٰاتِلُوا أَئِمَّةَ اَلْكُفْرِ أي: فقاتلوهم، وضع الظاهر موضع المضمر إشعارا بأنّهم إذا نكثوا في حال الشرك تمرّدا وطرحا لعادات الكرام الأوفياء من العرب.

ثمّ آمنوا وَ أَقٰامُوا اَلصَّلاٰةَ وَ آتَوُا اَلزَّكٰاةَ وصاروا إخوانا للمسلمين فِي اَلدِّينِ ، ثمّ رجعوا فارتدّوا عن الإسلام ونكثوا ما بايعوا عليه من الإيمان وطعنوا في دين اللّه، فهم رؤساء الكفر والضلالة والمتقدّمون فيه. وعن حذيفة:

ص: 311

(لم يأت أهل هذه الآية بعد)(1). وقرأ عليّ عليه السلام هذه الآية يوم الجمل، ثمّ قال: (أما واللّه لقد عهد إليّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقال لي: يا عليّ لتقاتلنّ الفئة الناكثة والفئة الباغية والفئة المارقة)(2).

لاٰ أَيْمٰانَ لَهُمْ أي: لا عهود لهم يعني: لا يحفظونها. وقرئ بكسر الهمزة، أي: فلا يعطون الأمان بعد النكث والردة، أو لا إسلام لهم ولا إيمان علي الحقيقة، ولا اعتبار بما أظهروه من الإيمان.

لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ يتعلّق ب - قٰاتِلُوا أي: ليكن غرضكم في مقاتلتهم أن ينتهوا عما هم عليه، وهذا من غاية كرمه سبحانه وفضله.

أَ لاٰ تُقٰاتِلُونَ دخلت الهمزة للتقرير، ومعناه: الحضّ علي المقاتلة.

نَكَثُوا أَيْمٰانَهُمْ التي عقدوها وَ هَمُّوا بِإِخْرٰاجِ اَلرَّسُولِ من مكة حين تشاوروا في أمره، حتى أذن اللّه له في الهجرة فخرج بنفسه وَ هُمْ بَدَؤُكُمْ بالمقاتلة - والبادئ أظلم - فما يمنعكم أن تقاتلوهم بمثله ؟!.

أَ تَخْشَوْنَهُمْ تقريع بالخشية منهم وتوبيخ عليها فَاللّٰهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ فقاتلوا أعداءه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإنّ المؤمن لا يخشى إلا اللّه.

[سورة التوبة (9): الآیات 14 الی 16]

قٰاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اَللّٰهُ بِأَيْدِيكُمْ وَ يُخْزِهِمْ وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَ يُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَ يَتُوبُ اَللّٰهُ عَلىٰ مَنْ يَشٰاءُ وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَ لَمّٰا يَعْلَمِ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ جٰاهَدُوا مِنْكُمْ وَ لَمْ

ص: 312


1- تفسير الطبري ج 10:63.
2- تفسير العياشي ج 2:78.

[سورة التوبة (9): آیة 16]

يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اَللّٰهِ وَ لاٰ رَسُولِهِ وَ لاَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَ اَللّٰهُ خَبِيرٌ بِمٰا تَعْمَلُونَ

وبّخهم بترك القتال، ثمّ أكّد ذلك بالأمر بالقتال فقال: قٰاتِلُوهُمْ ، ثمّ وعدهم أنّه يُعَذِّبْهُمُ بأيديهم قتلا، ويخزيهم أسرا، وينصرهم عَلَيْهِمْ ويشفي صُدُورَ طائفة من المؤمنين وهم خزاعة. وعن ابن عباس: (هم بطون من اليمن قدموا مكة وأسلموا فلقوا منهم أذى، فقال لهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: (أبشروا فإنّ الفرج قريب)(1).

وَ يُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ لما لقوا منهم من المكروه، وقد أنجز اللّه هذه المواعيد كلها لهم، فكان ذلك دليلا علي صحّة نبوّة نبيّه عليه السلام.

وَ يَتُوبُ اَللّٰهُ عَلىٰ مَنْ يَشٰاءُ استئناف كلام، وفيه إخبار بأنّ بعض أهل مكة سيتوب عن كفره، وقد كان ذلك - أيضا - فقد أسلم كثير منهم.

وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ يعلم ما سيكون كما يعلم ما قد كان حَكِيمٌ لا يفعل إلا ما فيه الحكمة.

أَوْ منقطعة وفي الهمزة معنى التوبيخ، يعني: أنّكم لا تتركون على ما أنتم عليه حتى يميز المخلصون منكم وهم المجاهدون في سبيل اللّه لوجه اللّه، ولم يتخذوا وَلِيجَةً أي: بطانة وأولياء يوالونهم ويفشون إليهم أسرارهم.

و لَمّٰا معناها التوقع، ودلّت علي أنّ تمييز ذلك وإيضاحه متوقع، وقوله:

وَ لَمْ يَتَّخِذُوا عطف على جٰاهَدُوا فهو داخل - أيضا - في الصلة، فكأنّه قيل: ولما يعلم اللّه المجاهدين منكم والمخلصين غير المتخذين وليجة من دون اللّه.

ص: 313


1- الكشاف ج 2:252.

والوليجة: فعيلة من ولج، كالدخيلة من دخل.

والمراد بنفي العلم نفي المعلوم، كما يقال: ما علم اللّه ما قيل في فلان، أي:

ما وجد ذلك منه.

[سورة التوبة (9): الآیات 17 الی 18]

مٰا كٰانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسٰاجِدَ اَللّٰهِ شٰاهِدِينَ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمٰالُهُمْ وَ فِي اَلنّٰارِ هُمْ خٰالِدُونَ إِنَّمٰا يَعْمُرُ مَسٰاجِدَ اَللّٰهِ مَنْ آمَنَ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ أَقٰامَ اَلصَّلاٰةَ وَ آتَى اَلزَّكٰاةَ وَ لَمْ يَخْشَ إِلاَّ اَللّٰهَ فَعَسىٰ أُولٰئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ اَلْمُهْتَدِينَ

ما صحّ لِلْمُشْرِكِينَ وما استقام لهم أَنْ يَعْمُرُوا مَسٰاجِدَ اَللّٰهِ يعني: عمارة المسجد الحرام، وإنّما جمع لأنّ كل موضع منه مسجد، أو لأنه قبلة المساجد كلها فعامره كعامر جميع المساجد، أو أريد جنس المساجد فيدخل فيه ما هو صدرها ومقدّمها. وقرئ: مسجد اللّه.

شٰاهِدِينَ حال من الواو في يَعْمُرُوا ، ومعنى شهادتهم عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ : ظهور كفرهم، وأنّهم نصبوا أصنامهم حول البيت وطافوا حول البيت عراة، وكلما طافوا شوطا سجدوا لها، وقيل: هو قولهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك. وروي: أنّ المهاجرين و الأنصار عيّروا أسارى بدر، ووبّخ عليّ العباس بقتال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وقطيعة الرحم، فقال العباس: تذكرون مساوئنا وتكتمون محاسننا؟ فقالوا: أو لكم محاسن ؟ قا لوا: نعم، إنّا لنعمر المسجد الحرام و نحجب الكعبة ونسقي الحجيج ونفكّ العاني، فنزلت(1).

أُولٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمٰالُهُمْ التي هي العمارة والسقاية والحجابة وفك

ص: 314


1- أسباب النزول: 168.

العناة.

إِنَّمٰا يَعْمُرُ أي: إنّما يستقيم عمارة هؤلاء، والعمارة تتناول بناءها، ورمّ ما استرم منها، وكنسها وتنظيفها، وتنويرها بالمصابيح، وزيارتها للعبادة والذكر - ومن الذكر درس العلم بل هو أفضله وأجلّه - وصيانتها عن فضول الكلام. وفي الحديث: (يأتي في آخر الزمان ناس من أمّتي يأتون المساجد يقعدون فيها حلقا، ذكرهم الدنيا وحبّ الدنيا، لا تجالسوهم فليس للّه بهم حاجة)(1).

وَ لَمْ يَخْشَ إِلاَّ اَللّٰهَ يعني: الخشية والتقوى في أبواب الدين، وأن لا يختار علي رضا اللّه رضا غيره.

[سورة التوبة (9): الآیات 19 الی 22]

أَ جَعَلْتُمْ سِقٰايَةَ اَلْحٰاجِّ وَ عِمٰارَةَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ جٰاهَدَ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ لاٰ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّٰالِمِينَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هٰاجَرُوا وَ جٰاهَدُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اَللّٰهِ وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْفٰائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَ رِضْوٰانٍ وَ جَنّٰاتٍ لَهُمْ فِيهٰا نَعِيمٌ مُقِيمٌ خٰالِدِينَ فِيهٰا أَبَداً إِنَّ اَللّٰهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ

التقدير: أَ جَعَلْتُمْ أهل سِقٰايَةَ اَلْحٰاجِّ وَ عِمٰارَةَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ [كَمَنْ آمَنَ بِاللّٰهِ ويعضده قراءة من قرأ: سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام](2)، وهو إنكار تشبيه المشركين بالمسلمين، وتشبيه أعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة وأن يسوّى بينهم، وجعلت تسويتهم ظلما بعد ظلمهم بالكفر.

ص: 315


1- معجم الطبراني الكبير ج 10:199، تنبيه الخواطر: 77 باختلاف يسير.
2- ساقطة من ج.

أي: هم أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اَللّٰهِ من غيرهم من المؤمنين الذين لم يفعلوا هذه الأشياء وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْفٰائِزُونَ المختصون با لفوز.

ونكّر المبشّر به من الرحمة والرضوان والنعيم المقيم، لوقوع ذلك وراء صفة الواصف وتعريف المعرف.

[سورة التوبة (9): الآیات 23 الی 24]

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَتَّخِذُوا آبٰاءَكُمْ وَ إِخْوٰانَكُمْ أَوْلِيٰاءَ إِنِ اِسْتَحَبُّوا اَلْكُفْرَ عَلَى اَلْإِيمٰانِ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلظّٰالِمُونَ قُلْ إِنْ كٰانَ آبٰاؤُكُمْ وَ أَبْنٰاؤُكُمْ وَ إِخْوٰانُكُمْ وَ أَزْوٰاجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوٰالٌ اِقْتَرَفْتُمُوهٰا وَ تِجٰارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسٰادَهٰا وَ مَسٰاكِنُ تَرْضَوْنَهٰا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اَللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهٰادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّٰى يَأْتِيَ اَللّٰهُ بِأَمْرِهِ وَ اَللّٰهُ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفٰاسِقِينَ

لما أمر المؤمنون بالهجرة وأرادوا أن يهاجروا، فمنهم من تعلّقت به زوجته، ومنهم من تعلّق به أبواه وأولاده، فكانوا يمنعونهم من الهجرة فيتركونها لأجلهم، فبيّن سبحانه أنّ أمر الدين مقدّم علي النسب، وإذا وجب قطع قرابة الوالدين والولد فا لأجنبي أولي.

إِنِ اِسْتَحَبُّوا اَلْكُفْرَ أي: اختاروه عَلَى اَلْإِيمٰانِ . وفي الحديث:

(لا يجد أحدكم طعم الإيمان حتى يحبّ في اللّه ويبغض في اللّه)(1). وقرئ:

عشيرتكم علي الواحد.

فَتَرَبَّصُوا حَتّٰى يَأْتِيَ اَللّٰهُ بِأَمْرِهِ وعيد، عن الحسن: (بعقوبة عاجلة أو

ص: 316


1- معاني الأخبار: 379، سنن النسائي ج 8:94 بالمعنى.

آجلة)(1). وهذه آية شديدة كلّف المؤمن فيها أن يتجرد من الآباء والأبناء والعشائر وجميع حظوظ الدنيا لأجل الدين.

اللهم وفّقنا لما يوافق رضاك حتى نحبّ فيك الأبعدين ونبغض فيك الأقربين.

[سورة التوبة (9): الآیات 25 الی 27]

لَقَدْ نَصَرَكُمُ اَللّٰهُ فِي مَوٰاطِنَ كَثِيرَةٍ وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضٰاقَتْ عَلَيْكُمُ اَلْأَرْضُ بِمٰا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اَللّٰهُ سَكِينَتَهُ عَلىٰ رَسُولِهِ وَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ أَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهٰا وَ عَذَّبَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ ذٰلِكَ جَزٰاءُ اَلْكٰافِرِينَ ثُمَّ يَتُوبُ اَللّٰهُ مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ عَلىٰ مَنْ يَشٰاءُ وَ اَللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ

مَوٰاطِنَ الحرب: مقاماتها ومواقفها.

و حُنَيْنٍ : واد بين مكة والطائف، كانت فيه الوقعة بين المسلمين وهم اثنا عشر ألفا، منهم عشرة آلاف حضروا فتح مكة، وقد انضم إليهم من الطلقاء ألفان؛ وبين هوازن وثقيف وهم أربعة آلاف في من انضوى إليهم من أمداد العرب، فلما التقوا قال رجل من المسلمين: لن نغلب اليوم من قلة، فساءت مقالته رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وقيل: إنّ قائلها أبو بكر(2)، وذلك قوله: أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ .

فاقتتلوا قتالا شديدا، وأدركت المسلمين كلمة الإعجاب بالكثرة فانهزموا حتى بلغ فلّهم مكة، وبقي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في مركزه لا يتحلحل، وبقي عليّ عليه السلام ومعه

ص: 317


1- تفسير الماوردي ج 2:349.
2- مغازي الواقدي ج 3:890.

الراية يقاتلهم، والعباس بن عبد المطلب آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم عن يمينه وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب عن يساره في تسعة من بني هاشم وعاشرهم أيمن بن أم أيمن، وقتل يومئذ، وقال صلى الله عليه و آله و سلم للعباس - وكان صيّتا(1) -: صح بالناس، فنادي: يا معشر المهاجرين والأنصار، يا أهل بيعة الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة، إلى أين تفرون ؟ هذا رسول اللّه، فكرّوا وهم يقولون: لبيك لبيك، ونزلت الملائكة عليهم البياض علي خيول بلق، فنظر رسول اللّه إلي قتال المسلمين فقال:

(الآن حمي الوطيس، أنا النبيّ لا كذب، أنا ابن عبد المطلب) ونزل النصر من عند الله وانهزمت هوازن(2).

قوله: بِمٰا رَحُبَتْ : (ما) مصدرية، والباء بمعنى (مع)، أي: مع رحبها، والجار والمجرور في موضع الحال، والمعنى: لا تجدون موضعا تستصلحونه لهربكم إليه لفرط رعبكم، فكأنّها ضاقت عليكم ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثمّ انهزمتم.

ثُمَّ أَنْزَلَ اَللّٰهُ سَكِينَتَهُ رحمته التي سكنوا بها عَلىٰ رَسُولِهِ وَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ الذين ثبتوا معه وَ عَذَّبَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بالقتل والأسر وسبي النساء والذراري وسلب الأموال.

ثُمَّ يَتُوبُ اَللّٰهُ أي: يسلم من بعد ذلك ناس منهم، وقيل: إنّه سبي يومئذ ستة آلاف نفس، وأخذ من الإبل والبقر ما لا يحصى(3).

[سورة التوبة (9): آیة 28]

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاٰ يَقْرَبُوا اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرٰامَ بَعْدَ عٰامِهِمْ هٰذٰا وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً

ص: 318


1- صيّتا: شديد الصوت. (الصحاح: مادة صوت)
2- ينظر: سيرة ابن هشام ج 4:80 وما بعدها.
3- سيرة ابن هشام ج 4:131.

[سورة التوبة (9): آیة 28]

فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اَللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شٰاءَ إِنَّ اَللّٰهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

النّجس مصدر، ومعناه: ذو نجس، لأنّ معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس، أو جعلوا كأنّهم النجاسة بعينها مبالغة في وصفهم بها، وعن ابن عباس:

(أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير)(1)، وعن الحسن: (من صافح مشركا توضأ)(2). وعن الصادقين عليهما السلام: (من صافح الكافر ويده رطبة غسل يده، وإلا مسحها بالحائط)(3).

فَلاٰ يَقْرَبُوا اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرٰامَ فلا يحجّوا ولا يعتمروا كما كانوا يفعلون في الجاهلية بَعْدَ حج عٰامِهِمْ هٰذٰا وهو عام تسع من الهجرة.

وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً أي: فقرا بسبب منع المشركين من الحج، وما كان لكم في قدومهم عليكم من الإرفاق والمكاسب فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اَللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ من عطائه وتفضله علي وجه آخر، فأسلم أهل جدة وصنعاء وجرش وتبالة فحملوا الطعام إلى مكة، فكان ذلك أعود عليهم، وأرسل السماء عليهم مدرارا أكثر بها خيرهم.

[سورة التوبة (9): آیة 29]

قٰاتِلُوا اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ لاٰ بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ لاٰ يُحَرِّمُونَ مٰا حَرَّمَ اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ لاٰ يَدِينُونَ دِينَ اَلْحَقِّ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتٰابَ حَتّٰى يُعْطُوا اَلْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صٰاغِرُونَ

عن ابن عباس: (ألقى الشيطان في قلوبهم الخوف وقال: من أين تأكلون ؟

ص: 319


1- تفسير الطبري ج 10:74.
2- تفسير الطبري ج 10:74.
3- لم أعثر عليه عنهم عليهم السلام، و إنما هو معنى عبارة الشيخ في تهذيب الأحكام ج 1:262.

فأمرهم اللّه تعالى بقتال أهل الكتاب، وأغناهم بالجزية وبفتح البلاد والغنائم)(1).

مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتٰابَ بيان ل - الذين مع ما في حيّزه، نفى عن اليهود والنصارى الإيمان باللّه، لأنّهم أضافوا إليه مالا يليق به، ونفى عنهم الإيمان بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ لأنّهم في ذلك علي خلاف ما ينبغي، ونفى عنهم تحريم مٰا حَرَّمَ اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ لأنّهم لا يحرّمون ما حرّم في الكتاب والسنة.

وسمّيت الجزية: جزية، لأنّها قطعة مما علي أهل الذمة أن يجزوه أي يقضوه.

عَنْ يَدٍ : إما أن يراد يد المعطي، أو يد الآخذ، فمعناه علي الأوّل: حتى يعطوها عن يد مؤاتية غير ممتنعة، كما يقال: أعطى بيده: إذا أصحب وانقاد، أو حتى يعطوها عن يد إلى يد نقدا غير نسيئة ولا مبعوثا علي يد أحد. ومعناه علي إرادة يد الآخذ: حتى يعطوها عن يد قاهرة مستولية، أو عن إنعام عليهم.

وَ هُمْ صٰاغِرُونَ أي: تؤخذ منهم الجزية علي الصغار والذل، وهو أن يأتي بها بنفسه ماشيا غير راكب، ويسلّمها وهو قائم والآخذ جالس، وأن يؤخذ بتلبيبه(2) ويقال له: أدّها.

[سورة التوبة (9): الآیات 30 الی 31]

وَ قٰالَتِ اَلْيَهُودُ عُزَيْرٌ اِبْنُ اَللّٰهِ وَ قٰالَتِ اَلنَّصٰارىٰ اَلْمَسِيحُ اِبْنُ اَللّٰهِ ذٰلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوٰاهِهِمْ يُضٰاهِؤُنَ قَوْلَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قٰاتَلَهُمُ اَللّٰهُ أَنّٰى يُؤْفَكُونَ اِتَّخَذُوا أَحْبٰارَهُمْ وَ رُهْبٰانَهُمْ أَرْبٰاباً مِنْ دُونِ اَللّٰهِ وَ اَلْمَسِيحَ اِبْنَ مَرْيَمَ وَ مٰا أُمِرُوا إِلاّٰ لِيَعْبُدُوا

ص: 320


1- الدر المنثور ج 3:227.
2- لبّبت الرجل تلبيبا، إذا جمعت ثيابه عند صدره ونحره في الخصومة ثم جررته. (الصحاح: مادة لبب)

[سورة التوبة (9): الآیات 31 الی 33]

إِلٰهاً وٰاحِداً لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ سُبْحٰانَهُ عَمّٰا يُشْرِكُونَ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اَللّٰهِ بِأَفْوٰاهِهِمْ وَ يَأْبَى اَللّٰهُ إِلاّٰ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْكٰافِرُونَ هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدىٰ وَ دِينِ اَلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُشْرِكُونَ

عُزَيْرٌ اِبْنُ اَللّٰهِ مبتدأ وخبر، وهو اسم أعجمي، ولعجمته وتعريفه امتنع من الصرف، ومن نوّنه جعله عربيا. وإنّما قال ذلك جماعة من اليهود ولم يقله كلهم.

ذٰلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوٰاهِهِمْ معناه: إنّهم اخترعوه بأفواههم لم يأتهم به كتاب، ومالهم به حجّة يُضٰاهِؤُنَ قَوْلَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أي: يضاهي قولهم قولهم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. والمعنى: إنّ الذين كانوا في عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم من اليهود والنصاري يضاهي قولهم قول قدمائهم، يريد أنّه كفر قديم فيهم، أو يضاهي قولهم قول المشركين: إنّ الملائكة بنات اللّه. وقرئ:

يضاهئون - بالهمزة - من قولهم: امرأة ضهيأ علي فعيل، وهي التي ضاهأت الرجال في أنّها لا تحيض.

قٰاتَلَهُمُ اَللّٰهُ أي: لعنهم أَنّٰى يُؤْفَكُونَ كيف يصرفون عن الحقّ .

اِتَّخَذُوا أَحْبٰارَهُمْ وَ رُهْبٰانَهُمْ أَرْبٰاباً بأن أطاعوهم في تحليل ما حرّم اللّه وتحريم ما حلّله، كما يطاع الأرباب في أوامرهم وَ اَلْمَسِيحَ اِبْنَ مَرْيَمَ أهّلوه للعبادة حين جعلوه ابنا للّه.

وَ مٰا أُمِرُوا إِلاّٰ لِيَعْبُدُوا إِلٰهاً وٰاحِداً أمرتهم بذلك أدلة العقل والنصوص في التوراة والإنجيل.

ص: 321

سُبْحٰانَهُ تنزيه له عن الإشراك واستبعاد له.

يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اَللّٰهِ بِأَفْوٰاهِهِمْ مثّل سبحانه حالهم في طلبهم إبطال نبوّة محمّد صلى الله عليه و آله و سلم بتكذيبه، بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم، يريد اللّه أن يبلغه الغاية القصوى من الإضاءة والإنارة ليطفئه بنفخه.

لِيُظْهِرَهُ أي: ليظهر الرسول علي أهل الأديان كلهم، أو ليظهر دين الحقّ علي كل دين.

وقد جري (أبي) مجري لم يرد، ولذلك قابل يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا بقوله: وَ يَأْبَى اَللّٰهُ ، فكأنّه قال: ولا يريد اللّه إلا أن يتم نوره.

[سورة التوبة (9): الآیات 34 الی 35]

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلْأَحْبٰارِ وَ اَلرُّهْبٰانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ اَلنّٰاسِ بِالْبٰاطِلِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ وَ لاٰ يُنْفِقُونَهٰا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمىٰ عَلَيْهٰا فِي نٰارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوىٰ بِهٰا جِبٰاهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هٰذٰا مٰا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مٰا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ

أكل المال بِالْبٰاطِلِ : عبارة عن أخذه وتناوله من الجهة التي يحرم منها أخذه. والمعنى: إنّهم كانوا يأخذون الرشا في الأحكام وفي تخفيف الشرائع عن عوامّهم.

وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ يحتمل أن يكون إشارة إلي الكثير من الأحبار والرهبان، ويحتمل أن يكون المراد به المسلمين الكانزين غير المنفقين، قرن بينهم وبين المرتشين من اليهود والنصاري.

ص: 322

وعنى بترك الإنفاق في سبيل اللّه: منع الزكاة. وفي الحديث: (ما أدّي زكاته فليس بكنز وإن كان باطنا، وما بلغ أن يزكى فلم يزك فهو كنز وإن كان ظاهرا)(1).

وَ لاٰ يُنْفِقُونَهٰا الضمير يرجع إلى المعنى، لأنّ كل واحد من الذهب والفضة جملة وافية دنانير ودراهم، فهو كقوله: وَ إِنْ طٰائِفَتٰانِ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ اِقْتَتَلُوا (2)، وقيل:

معناه: ولا ينفقونها والذهب، كما أنّ معنى قوله:

فإنّي وقيّار بها لغريب(3)

فإنّي بها لغريب وقيار كذلك.

وإنّما خصّ الذهب والفضة من بين الأموال بالذكر، لأنّهما قانون التمول وأثمان الأشياء، ولا يكنزهما إلا من فضلا عن حاجته.

يَوْمَ يُحْمىٰ عَلَيْهٰا فِي نٰارِ جَهَنَّمَ أي: يوقد علي الكنوز أو علي الذهب والفضة حتى تصير نارا فَتُكْوىٰ بِهٰا أي: بتلك الكنوز المحماة جِبٰاهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ خصّت هذه الأعضاء لأنّهم لم يطلبوا بترك الإنفاق إلا الأغراض الدنيوية، من وجاهة عند الناس، وأن يكون ماء وجوههم مصونا، ومن أكل طيبات يتضلعون منها فينفخون جنوبهم، ومن لبس ثياب ناعمة يطرحونها علي ظهورهم، وقيل: لأنّهم كانوا يعبسون وجوههم للفقير ويولونه جنوبهم في المجالس وظهورهم(4).

هٰذٰا مٰا كَنَزْتُمْ علي إرادة القول.

ص: 323


1- أمالي الشيخ الطوسي ج 2:133، سنن البيهقي الكبرى ج 4:83.
2- الحجرات: 9.
3- البيت لضابئ بن حارث البرجمي. الأصمعيات: 184، وصدره: ومن يك امسى بالمدينة رحله.
4- عن أبي بكر الوراق. معالم التنزيل ج 2:80.

لِأَنْفُسِكُمْ لانتفاع أنفسكم فَذُوقُوا وبال الذي كنتم تكنزونه، أو وبال كونكم كانزين.

[سورة التوبة (9): آیة 36]

إِنَّ عِدَّةَ اَلشُّهُورِ عِنْدَ اَللّٰهِ اِثْنٰا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتٰابِ اَللّٰهِ يَوْمَ خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ مِنْهٰا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذٰلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ فَلاٰ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَ قٰاتِلُوا اَلْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمٰا يُقٰاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ مَعَ اَلْمُتَّقِينَ

فِي كِتٰابِ اَللّٰهِ أي: في اللوح المحفوظ، أو في القرآن، أو فيما أثبته من حكمه ورآه حكمة وصوابا.

مِنْهٰا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثلاثة سرد: ذوالقعدة، وذو الحجّة، والمحرّم، وواحد فرد وهو رجب، ومنه قوله صلوات اللّه عليه في خطبته في حجّة الوداع: (ألا إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم)(1). والمعنى: رجعت الأشهر إلي ما كانت عليه، وعاد الحج في ذي الحجّة، وبطل النسيء الذي كان في الجاهلية.

ذٰلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ يعني: إنّ تحريم الأشهر الأربعة هو الدين المستقيم دين إبراهيم وإسماعيل، وكانت العرب قد تمسّكت به وراثة منهما، وكانوا يعظمون الأشهر الحرم، ويحرّمون القتال فيها، حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه لم يهجه. وسمّوا رجبا: الأصم، ومنصل الأسنة حتى أحدثوا النسيء فغيّروا. وقيل: ذلك الحساب القيم لا ما أحدثوه من النسيء.

فَلاٰ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ بأن تجعلوا حرامها حلالا.

ص: 324


1- سيرة ابن هشام ج 4:334.

كافة حال من الفاعل أو المفعول.

مَعَ اَلْمُتَّقِينَ أي: ناصرهم، حثهم علي التقوى بضمان النصرة لأهلها.

[سورة التوبة (9): آیة 37]

إِنَّمَا اَلنَّسِيءُ زِيٰادَةٌ فِي اَلْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عٰاماً وَ يُحَرِّمُونَهُ عٰاماً لِيُوٰاطِؤُا عِدَّةَ مٰا حَرَّمَ اَللّٰهُ فَيُحِلُّوا مٰا حَرَّمَ اَللّٰهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمٰالِهِمْ وَ اَللّٰهُ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْكٰافِرِينَ

اَلنَّسِيءُ تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر، وذلك أنّهم كانوا أصحاب حروب، فإذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شقّ عليهم ترك المحاربة، فكانوا يحلّونه ويحرّمون مكانه شهرا آخر، وذلك قوله: لِيُوٰاطِؤُا عِدَّةَ مٰا حَرَّمَ اَللّٰهُ أي: ليوافقوا العدّة التي هي الأربعة ولا يخالفوها، وقد خالفوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم، وربّما زادوا في عدّة الشهور فيجعلونها ثلاثة عشر شهرا ليتسع لهم الوقت، ولذلك قال: إِنَّ عِدَّةَ اَلشُّهُورِ عِنْدَ اَللّٰهِ اِثْنٰا عَشَرَ شَهْراً يعني: من غير زيادة زادوها.

والضمير في يُحِلُّونَهُ و وَ يُحَرِّمُونَهُ ل - اَلنَّسِيءُ أي: إذا أحلّوا شهرا من الأشهر الحرم عاما رجعوا فحرّموه في العام القابل.

وقرئ: يُضَلُّ علي البناء للمفعول، وقرئ: يضلّ ، علي أنّ الفعل للّه تعالي، ويضل قراءة الأكثرين. وقرئ: النسيء - بالتشديد - وهو تخفيف الهمزة في النسيء، وعن الصادق عليه السلام: النسيء علي وزن الهدي، وهو علي إبدال الياء من الهمزة، وهو مصدر نسأه: إذا أخّره، يقال: نسأه نساء ونسيئا نحو مسّه مسّا ومسيسا.

فَيُحِلُّوا مٰا حَرَّمَ اَللّٰهُ معناه: فيحلّوا بمواطأة العدّة وحدها ما حرم الله من القتال.

ص: 325

زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمٰالِهِمْ خذلهم اللّه فحسبوا أعمالهم القبيحة حسنة وَ اَللّٰهُ لاٰ يَهْدِي أي: لا يلطف بهم بل يخذلهم.

[سورة التوبة (9): الآیات 38 الی 39]

يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا مٰا لَكُمْ إِذٰا قِيلَ لَكُمُ اِنْفِرُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ اِثّٰاقَلْتُمْ إِلَى اَلْأَرْضِ أَ رَضِيتُمْ بِالْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا مِنَ اَلْآخِرَةِ فَمٰا مَتٰاعُ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا فِي اَلْآخِرَةِ إِلاّٰ قَلِيلٌ إِلاّٰ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذٰاباً أَلِيماً وَ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَ لاٰ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ

أصله: تثاقلتم، فأدغمت التاء في الثاء ثمّ أدخلت همزة الوصل، أي: تباطأتم، وضمّن معنى الميل فعدّي ب - إِلَى . و المعنى: ملتم إلى الدنيا ولذاتها، وكرهتم مشاق السفر، ونحوه: أَخْلَدَ إِلَى اَلْأَرْضِ وَ اِتَّبَعَ هَوٰاهُ (1)، وقيل: ملتم إلى الإقامة بأرضكم ودياركم(2). وكان ذلك في غزوة تبوك في سنة عشر بعد رجوعهم من الطائف، استنفروا في وقت قحط وقيظ مع بعد الشقة وكثرة العدو فشقّ ذلك عليهم، وقيل: إنّه صلوات اللّه عليه ما خرج في غزوة إلا ورّى عنها بغيرها إلا في غزوة تبوك، ليستعد الناس تمام العدّة(3).

مِنَ اَلْآخِرَةِ بدل الآخرة، ونحوه: لَجَعَلْنٰا مِنْكُمْ مَلاٰئِكَةً (4).

فَمٰا مَتٰاعُ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا فِي جنب اَلْآخِرَةِ إِلاّٰ قَلِيلٌ .

إِلاّٰ تَنْفِرُوا سخط عظيم علي المتثاقلين، حيث هددهم بعذاب عظيم

ص: 326


1- الأعراف: 176.
2- تفسير الطبري ج 10:94.
3- سيرة ابن هشام ج 4:159.
4- الزخرف: 60.

مطلق يتناول عذاب الدارين، وأنّه يهلكهم وَ يَسْتَبْدِلْ بهم قَوْماً آخرين خيرا منهم وأطوع، وأنّه غني عنهم في نصرة دينه، لا يؤثر تثاقلهم فيها شَيْئاً . وقيل:

الضمير للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلم(1)، أي: لا تضرّوه شيئا لأنّ اللّه وعد أن يعصمه من الناس ولا يخذله بل ينصره، ووعد اللّه كائن لا محالة.

[سورة التوبة (9): آیة 40]

إِلاّٰ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اَللّٰهُ إِذْ أَخْرَجَهُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا ثٰانِيَ اِثْنَيْنِ إِذْ هُمٰا فِي اَلْغٰارِ إِذْ يَقُولُ لِصٰاحِبِهِ لاٰ تَحْزَنْ إِنَّ اَللّٰهَ مَعَنٰا فَأَنْزَلَ اَللّٰهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَ أَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهٰا وَ جَعَلَ كَلِمَةَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلسُّفْلىٰ وَ كَلِمَةُ اَللّٰهِ هِيَ اَلْعُلْيٰا وَ اَللّٰهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ

أي: إن تركتم نصرته فإنّ اللّه قد أوجب له النصرة، وجعله منصورا حين لم يكن معه إلارجل واحد، فلن يخذله من بعد.

إِذْ أَخْرَجَهُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أسند الإخراج إلى الكفار كما في قوله: مِنْ قَرْيَتِكَ اَلَّتِي أَخْرَجَتْكَ (2)، لأنّهم حين همّوا بإخراجه أذن اللّه له في الخروج عنهم، فكأنّهم أخرجوه.

ثٰانِيَ اِثْنَيْنِ أحد اثنين كقوله: ثٰالِثُ ثَلاٰثَةٍ (3)، وهما رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأبو بكر. وانتصابه علي الحال، و إِذْ هُمٰا بدل من إِذْ أَخْرَجَهُ ، و إِذْ يَقُولُ بدل ثان. و اَلْغٰارِ : الثقب العظيم في الجبل، وهو هاهنا غار ثور،

ص: 327


1- معاني القرآن وإعرابه ج 2:448.
2- محمّد: 13.
3- المائدة: 73.

جبل في يمنى مكة علي مسيرة ساعة.

لاٰ تَحْزَنْ أي: لا تخف إِنَّ اَللّٰهَ مَعَنٰا مطّلع علينا وعالم بحالنا يحفظنا وينصرنا. ولما دخلا الغار بعث الله حمامتين فباضتا في أسفله، والعنكبوت فنسجت عليه، وقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: (اللهم أعم أبصارهم) فجعلوا يترددون حول الغار ولا يفطنون، أخذ الله بأبصارهم عنه(1).

فَأَنْزَلَ اَللّٰهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ قرأ الصادق عليه السلام: علي رسوله. وسكينته: ما ألقى في قلبه من الأمنة التي سكن إليها، وأيقن أنّهم لا يصلون إليه. والجنود:

الملائكة يوم بدر وا لأحزاب وحنين، أو ذلك اليوم صرفوا وجوه الكفار وأبصارهم عن أن يروه.

و كَلِمَةَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا دعوتهم إلى الكفر و كَلِمَةُ اَللّٰهِ دعوته إلى الإسلام، وقرئ: وكلمة اللّه - بالنصب - و هِيَ فصل، وفيها تأكيد فضل كلمة اللّه في العلو، وأنّها المختصة به دون سائر الكلم.

[سورة التوبة (9): الآیات 41 الی 43]

اِنْفِرُوا خِفٰافاً وَ ثِقٰالاً وَ جٰاهِدُوا بِأَمْوٰالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لَوْ كٰانَ عَرَضاً قَرِيباً وَ سَفَراً قٰاصِداً لاَتَّبَعُوكَ وَ لٰكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ اَلشُّقَّةُ وَ سَيَحْلِفُونَ بِاللّٰهِ لَوِ اِسْتَطَعْنٰا لَخَرَجْنٰا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَ اَللّٰهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكٰاذِبُونَ عَفَا اَللّٰهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتّٰى يَتَبَيَّنَ لَكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ تَعْلَمَ اَلْكٰاذِبِينَ

خِفٰافاً في النفور لنشاطكم له وَ ثِقٰالاً عنه لمشقته عليكم، أو

ص: 328


1- انظر قصة الهجرة السيرة الحلبية ج 2:44 وما بعدها.

خِفٰافاً من السلاح وَ ثِقٰالاً منه، أو خِفٰافاً لقلة عيالكم وَ ثِقٰالاً لكثرته، أو ركبانا ومشاة، أو شبابا وشيوخا، أو صحاحا ومراضا. عن ابن عباس:

(نسخت بقوله: لَيْسَ عَلَى اَلضُّعَفٰاءِ وَ لاٰ عَلَى اَلْمَرْضىٰ (1)-(2).

وَ جٰاهِدُوا بِأَمْوٰالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ إيجاب للجهاد بهما إن أمكن، أو بأحدهما علي حسب الحال والحاجة.

والعرض: ما عرض لك من منافع الدنيا. والمعنى: لَوْ كٰانَ ما دعوا إليه غنما قَرِيباً وَ سَفَراً قٰاصِداً أي: وسطا مقاربا لاَتَّبَعُوكَ .

و اَلشُّقَّةُ : المسافة الشاقة.

وسيحلف المتخلفون عند رجوعك من غزوة تبوك بِاللّٰهِ يقولون: لَوِ اِسْتَطَعْنٰا . وقوله: لَخَرَجْنٰا سدّ مسدّ جواب (لو) وجواب القسم جميعا، والإخبار بما سوف يكون بعد قفوله من حلفهم واعتذارهم، وقد كان من جملة المعجزات، والمراد ب - لَوِ اِسْتَطَعْنٰا : استطاعة العدّة، أو استطاعة الأبدان كأنّهم تمارضوا.

يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بدل من سَيَحْلِفُونَ ، أو حال بمعنى: مهلكين، أي:

يوقعونها في الهلاك بحلفهم الكاذب.

عَفَا اَللّٰهُ عَنْكَ هذا من لطيف المعاتبة، بدأه بالعفو قبل العتاب، ويجوز العتاب من اللّه فيما غيره منه أولى لاسيما للأنبياء.

ولا يصحّ ما قاله جار اللّه: (إنّ عَفَا اَللّٰهُ عَنْكَ كناية عن الجناية)(3).

ص: 329


1- التوبة: 91.
2- الكشاف ج 2:273.
3- الكشاف ج 2:274.

حاشا سيّد الأنبياء وخير بني حواء من أن ينسب إليه جناية.

[سورة التوبة (9): الآیات 44 الی 48]

لاٰ يَسْتَأْذِنُكَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ أَنْ يُجٰاهِدُوا بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّمٰا يَسْتَأْذِنُكَ اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ اِرْتٰابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ وَ لَوْ أَرٰادُوا اَلْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَ لٰكِنْ كَرِهَ اَللّٰهُ اِنْبِعٰاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَ قِيلَ اُقْعُدُوا مَعَ اَلْقٰاعِدِينَ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مٰا زٰادُوكُمْ إِلاّٰ خَبٰالاً وَ لَأَوْضَعُوا خِلاٰلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ اَلْفِتْنَةَ وَ فِيكُمْ سَمّٰاعُونَ لَهُمْ وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ بِالظّٰالِمِينَ لَقَدِ اِبْتَغَوُا اَلْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَ قَلَّبُوا لَكَ اَلْأُمُورَ حَتّٰى جٰاءَ اَلْحَقُّ وَ ظَهَرَ أَمْرُ اَللّٰهِ وَ هُمْ كٰارِهُونَ

أي: ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أَنْ يُجٰاهِدُوا ، أو كراهة أن يجاهدوا.

إِنَّمٰا يَسْتَأْذِنُكَ المنافقون.

يَتَرَدَّدُونَ عبارة عن التحيّر، لأنّ التردد صفة المتحيّر كما أنّ الثبات صفة المستبصر.

وَ لٰكِنْ كَرِهَ اَللّٰهُ اِنْبِعٰاثَهُمْ خروجهم إلى الغزو لعلمه بأنّهم لو خرجوا لكانوا يمشون بالنميمة من المسلمين.

فَثَبَّطَهُمْ أي: بطأ بهم وكسلهم وخذلهم لما علم منهم من الفساد. وإنّما وقع الاستدراك ب - (لكن) لأنّ قوله: وَ لَوْ أَرٰادُوا اَلْخُرُوجَ يعطي معنى النفي، فكأنّه قيل: لم يخرجوا ولكن تثبّطوا عن الخروج، لأنّ اللّه كره انبعاثهم فضعّف

ص: 330

رغبتهم في الانبعاث.

وَ قِيلَ اُقْعُدُوا مَعَ النساء والصبيان، وهو إذن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم لهم في القعود. وفي هذا دلالة علي أنّ إذنه عليه السلام لهم غير قبيح، وإن كان الأولي أن لا يأذن ليظهر للناس نفاقهم.

ثمّ بيّن سبحانه وجه الحكمة في تثبيطهم عن الخروج فقال: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ أي: لو خرج هؤلاء معكم إلى الجهاد مٰا زٰادُوكُمْ بخروجهم إِلاّٰ خَبٰالاً أي: فسادا وشرّا، وتقديره: ما زادوكم شيئا إلا خبالا.

وَ لَأَوْضَعُوا خِلاٰلَكُمْ أي: ولسعوا بينكم بالتفريق والنمائم وإفساد ذات البين، يقال: وضع البعير وضعا: إذا أسرع، وأوضعته أنا، و المعنى: ولأوضعوا ركائبهم بينكم، والمراد: الإسراع بالفساد، لأنّ الراكب أسرع من الماشي.

يَبْغُونَكُمُ اَلْفِتْنَةَ أي: يحاولون أن يفتنوكم بأن يوقعوا الخلاف فيما بينكم، ويفسدوا نياتكم في غزواتكم.

وَ فِيكُمْ سَمّٰاعُونَ لَهُمْ أي: عيون نمامون يسمعون حديثكم فينقلونه إليهم، أو فيكم قوم يسمعون قول المنافقين ويقبلونه ويطيعونهم، يريد من كان ضعيف الإيمان من جملة المسلمين.

وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ بِالظّٰالِمِينَ المصرّين علي الفساد.

لَقَدِ اِبْتَغَوُا اَلْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ الفتنة: اسم يقع علي كل شرّ وفساد، أي:

نصبوا لك الغوائل وسعوا في تشتيت شملك، وعن سعيد بن جبير: (وقفوا لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في غزوة تبوك على الثنية ليلة العقبة ليفتكوا به وهم اثنا عشر رجلا)(1).

ص: 331


1- لم أعثر عليه عن ابن جبير وفي الكشاف ج 2:277 عن ابن جريج.

وَ قَلَّبُوا لَكَ اَلْأُمُورَ أي: ودبّروا لك الحيل والمكائد، واحتالوا في إبطال أمرك حَتّٰى جٰاءَ اَلْحَقُّ وهو تأييدك ونصرتك وَ ظَهَرَ أَمْرُ اَللّٰهِ و غلب دينه وعلا أهله. وَ هُمْ كٰارِهُونَ في موضع الحال.

[سورة التوبة (9): الآیات 49 الی 52]

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ اِئْذَنْ لِي وَ لاٰ تَفْتِنِّي أَلاٰ فِي اَلْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكٰافِرِينَ إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنٰا أَمْرَنٰا مِنْ قَبْلُ وَ يَتَوَلَّوْا وَ هُمْ فَرِحُونَ قُلْ لَنْ يُصِيبَنٰا إِلاّٰ مٰا كَتَبَ اَللّٰهُ لَنٰا هُوَ مَوْلاٰنٰا وَ عَلَى اَللّٰهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنٰا إِلاّٰ إِحْدَى اَلْحُسْنَيَيْنِ وَ نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اَللّٰهُ بِعَذٰابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينٰا فَتَرَبَّصُوا إِنّٰا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ

ومن هؤلاء المنافقين مَنْ يَقُولُ اِئْذَنْ لِي في القعود عن الجهاد وَ لاٰ تَفْتِنِّي ولا توقعني في الفتنة وهي الإثم بأن لا تأذن لي، فإنّي إن تخلّفت بغير إذنك أثمت، وقيل: هو الجد بن قيس(1) قال: قد علمت الأنصار أنّي مستهتر(2) بالنساء فلا تفتنّي ببنات الأصفر، يعني: نساء الروم، ولكني أعينك بمال فاتركني(3).

أَلاٰ فِي اَلْفِتْنَةِ سَقَطُوا أي: إن الفتنة هي التي سقطوا فيها، وهي فتنة

ص: 332


1- الجد بن قيس بن صخر الأنصاري السلمي، كان ممن يغمص عليه النفاق، قيل: إنه مات في زمن عثمان. ينظر: الاستيعاب ج 1:250.
2- مستهتر به: مولع به لا يبالي ما قيل فيه. (الصحاح: مادة هتر)
3- أسباب النزول: 172.

التخلف.

وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكٰافِرِينَ أي: بهم يوم القيامة، أو محيطة بهم الآن، لأنّ أسباب إحاطتها بهم معهم، فكأنّهم في وسطها.

إن تصبك في بعض غزواتك حَسَنَةٌ أي: ظفر وغنم ونعمة من اللّه تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ شدّة وبلية ونكبة، نحو ما كان يوم أحد يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنٰا أَمْرَنٰا الذي نحن متسمّون به من الحذر والعمل بالحزم مِنْ قَبْلُ ما وقع هذا البلاء، وتولوا عن مقام التحدّث بذلك وا لاجتماع له وَ هُمْ فَرِحُونَ مسرورون.

وقرأ عبد اللّه: هل يصيبنا. واللام في قوله: مٰا كَتَبَ اَللّٰهُ لَنٰا للاختصاص، أي: لَنْ يُصِيبَنٰا إِلاّٰ اختصنا اللّه بإثباته وإيجابه من النصرة أو الشهادة.

هُوَ مَوْلاٰنٰا يتولانا ونتولاه.

وَ عَلَى اَللّٰهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ أي: وحقّ المؤمنين أن لا يتوكلوا علي غير اللّه تعالى فليفعلوا ما هو حقّهم.

قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنٰا هل تتوقعون إِلاّٰ إِحْدَى اَلْحُسْنَيَيْنِ أي:

إحدى العاقبتين اللتين كل واحدة منهما هي حسنى العواقب، وهما: النصرة والشهادة وَ نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ إحدى السوأتين من العواقب، و إنّهما: أَنْ يُصِيبَكُمُ اَللّٰهُ بِعَذٰابٍ مِنْ عِنْدِهِ أي: من السماء كما نزل على عاد وثمود أَوْ بعذاب بِأَيْدِينٰا وهو القتل علي الكفر فَتَرَبَّصُوا بنا ما ذكرنا من عواقبنا إِنّٰا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ فلابد أن يلقى كلنا ما يتربّصه لا يتجاوزه.

ص: 333

[سورة التوبة (9): الآیات 53 الی 55]

قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فٰاسِقِينَ وَ مٰا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقٰاتُهُمْ إِلاّٰ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّٰهِ وَ بِرَسُولِهِ وَ لاٰ يَأْتُونَ اَلصَّلاٰةَ إِلاّٰ وَ هُمْ كُسٰالىٰ وَ لاٰ يُنْفِقُونَ إِلاّٰ وَ هُمْ كٰارِهُونَ فَلاٰ تُعْجِبْكَ أَمْوٰالُهُمْ وَ لاٰ أَوْلاٰدُهُمْ إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهٰا فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كٰافِرُونَ

طَوْعاً أَوْ كَرْهاً حال، أي: طائعين أو مكرهين، وهو أمر في معنى الخبر، والمعنى: لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ أنفقتم طوعا أو كرها، ونحوه قوله: اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاٰ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ (1) وقول كثير:

أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة *** لدينا ولا مقليّة إن تقلّت(2)

أي: لن يغفر اللّه لهم أستغفرت لهم أو لم تستغفر لهم، ولا نلومك أسأت إلينا أو أحسنت، وإنّما يجوز هذا إذا دلّ الكلام عليه، كما جاز عكسه في قولك: رحم اللّه زيدا وغفر له.

إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فٰاسِقِينَ تعليل لرد إنفاقهم.

أَنَّهُمْ كَفَرُوا فاعل (منع)، أي: لم يمنع المنافقين قبول نفقاتهم إلا كفرهم بِاللّٰهِ وَ بِرَسُولِهِ . وقرئ: تُقْبَلَ بالتاء والياء.

والإعجاب بالشيء أن تسرّ به سرور راض به متعجب من حسنه، والمعنى:

فلا تستحسن ما أوتوا من زينة الدنيا، فإنّ اللّه أعطاهم ذلك للعذاب، بأن عرضه

ص: 334


1- التوبة: 80.
2- ديوان كثير: 101.

للغنائم والسبي وبلاهم فيه بالآفات والمصائب، وكلفهم الإنفاق منه في أبواب الخير وَ هُمْ كٰارِهُونَ علي رغم أنوفهم، وأذاقهم أنواع الكلف في جمع الأموال وتربية الأولاد.

وقوله: وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كٰافِرُونَ مثل قوله: إِنَّمٰا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدٰادُوا إِثْماً (1) ومعناه: الاستدراج بالنعم، أي: و يُرِيدُ أن يديم عليهم نعمته إلى أن يموتوا وَ هُمْ كٰافِرُونَ مشتغلون بالتمتع عن النظر للعاقبة.

[سورة التوبة (9): الآیات 56 الی 59]

وَ يَحْلِفُونَ بِاللّٰهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَ مٰا هُمْ مِنْكُمْ وَ لٰكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغٰارٰاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَ هُمْ يَجْمَحُونَ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي اَلصَّدَقٰاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهٰا رَضُوا وَ إِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهٰا إِذٰا هُمْ يَسْخَطُونَ وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مٰا آتٰاهُمُ اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ قٰالُوا حَسْبُنَا اَللّٰهُ سَيُؤْتِينَا اَللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ رَسُولُهُ إِنّٰا إِلَى اَللّٰهِ رٰاغِبُونَ

لَمِنْكُمْ أي: من جملة المسلمين.

يَفْرَقُونَ يخافون القتل والأسر فيتظاهرون با لإسلام تقية.

لَوْ يَجِدُونَ مكانا يلجؤون إليه متحصنين به من رأس جبل أو قلعة أَوْ مَغٰارٰاتٍ أي: غيرانا أَوْ مُدَّخَلاً وهو: مفتعل من الدخول، وأصله:

مدتخلا، يبدل التاء بعد الدال دالا. وقرئ: مدخلا، أي: موضع دخول يأوون إليه ونفقا ينجحرون فيه.

لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَ هُمْ يَجْمَحُونَ يسرعون إسراعا لا يردّهم شيء، من الفرس الجموح.

ص: 335


1- آل عمران: 178.

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ أي: يعيبك فِي قسمة اَلصَّدَقٰاتِ ويطعن عليك، ثمّ وصفهم بأنّ رضاهم وسخطهم لأنفسهم لا للدين، و إِذٰا للمفاجأة، أي: فإن لم يعطوا منها فاجؤوا السخط.

وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا جواب (لو) مخذوف، تقديره: ولو أنّهم رضوا مٰا أعطاهم اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ من الغنيمة والصدقة وطابت به نفوسهم وَ قٰالُوا مع ذلك: حَسْبُنَا اَللّٰهُ سيعطينا اَللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ وإنعامه وَ رَسُولُهُ إِنّٰا إِلَى اَللّٰهِ في أن يوسّع علينا من فضله لراغبون لكان خيرا لهم.

[سورة التوبة (9): آیة 60]

إِنَّمَا اَلصَّدَقٰاتُ لِلْفُقَرٰاءِ وَ اَلْمَسٰاكِينِ وَ اَلْعٰامِلِينَ عَلَيْهٰا وَ اَلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي اَلرِّقٰابِ وَ اَلْغٰارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

إِنَّمَا لقصر الصدقات على هذه الأصناف الثمانية، وأنّها مختصة بها لا تتجاوزها إلي غيرها، ونحوه: إنّما السخاء لحاتم، أي: ليس لغيره، ويحتمل أن تصرف إلى بعضها. وعن حذيفة وابن عباس وغيرهما من الصحابة أنّهم قالوا: (في أي صنف منها وضعتها أجزأك)(1)، وهو مذهبنا(2).

والفقراء: هم المتعففون الذين لا يسألون، وَ اَلْمَسٰاكِينِ الذين يسألون، وقيل بالعكس(3)، والأوّل أصحّ . وقيل: الفقير: الذي لا شيء له، والمسكين: الذي

ص: 336


1- ينظر: الدر المنثور ج 3:250.
2- ينظر: الوسائل ج: 6 باب 28 من ابواب المستحقين للزكاة.
3- عن الصادق عليه السلام. تفسير العياشي ج 2:90، ورواه أبو هريرة مرفوعا. الكشف والبيان ج 5:57.

له بلغة من العيش لا تكفيه(1)، وقيل بالعكس(2).

والعاملون عليها: هم السعاة الذين يقبضونها.

وَ اَلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ أشراف من العرب كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يتألفهم علي أن يسلموا فيرضخ لهم شيئا منها حين كان في المسلمين قلة.

و اَلرِّقٰابِ المكاتبون يعاونون منها في فك رقابهم من الرق، والعبيد إذا كانوا في شدّة يشترون ويعتقون ويكون ولاؤهم لأرباب الزكاة.

وَ اَلْغٰارِمِينَ وهم الذين ركبتهم الديون في غير معصية ولا إسراف.

وَ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ وهو الجهاد وجميع مصالح المسلمين.

وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ وهو المسافر المنقطع به عن ماله فهو فقير حيث هو، غنيّ حيث ماله.

فَرِيضَةً في معنى المصدر المؤكد، لأنّ قوله: إِنَّمَا اَلصَّدَقٰاتُ لِلْفُقَرٰاءِ معناه: فرض اللّه الصدقات لهم، وإنّما عدل عن (اللام) إلى (في) في الأربعة الأخيرة، ليدلّ علي أنّهم أحقّ بأن توضع فيهم الصدقات ممن سبق ذكره، لأنّ (في) للوعاء.

وإنّما وقعت الآية في أثناء ذكر المنافقين، لتدلّ بكون هذه الأصناف مصارف الصدقات خاصة، علي أنّ أهل النفاق ليسوا من مستحقيها، وأنّهم بعداء من مصارفها، فما لهم وللتكلّم فيها ولمن قاسمها؟!.

[سورة التوبة (9): آیة 61]

وَ مِنْهُمُ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَلنَّبِيَّ وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا

ص: 337


1- الاقتصاد: 282.
2- (الصحاح: مادة فقر، سكن)

[سورة التوبة (9): الآیات 61 الی 63]

مِنْكُمْ وَ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اَللّٰهِ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ يَحْلِفُونَ بِاللّٰهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَ اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كٰانُوا مُؤْمِنِينَ أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحٰادِدِ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نٰارَ جَهَنَّمَ خٰالِداً فِيهٰا ذٰلِكَ اَلْخِزْيُ اَلْعَظِيمُ

الأذن: الرجل الذي يصدّق كل ما يسمع ويقبل قول كل أحد، سمّي بالعضو الذي هو آلة السماع، كأنّ جملته أذن سامعة كما سموا الربيئة(1) بالعين.

و أُذُنُ خَيْرٍ كقولك: رجل صدق، تريد الجودة والصلاح، كأنّه سبحانه قال: نعم هو أذن ولكن نعم الأذن، أو يريد: هو أذن في الخير وفيما يجب سماعه، وليس بأذن في غير ذلك، ويدلّ عليه قراءة حمزة: ورحمة - بالجر - عطفا عليه، أي:

هو أذن خير لكم ورحمة لا يسمع غيرهما ولا يقبله. ثمّ فسّر كونه أذن خير بأنّه يصدّق بِاللّٰهِ ويقبل من اَلْمُؤْمِنِينَ ويصدّقهم فيما يخبرونه به، ولهذا عدّى الأوّل بالباء والثاني باللام، كما في قوله: وَ مٰا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنٰا (2).

وهو رَحْمَةٌ لمن آمن مِنْكُمْ أي: أظهر الإيمان أيّها المنافقون، حيث يسمع منكم ويقبل إيمانكم ولا يفضحكم مراعاة لما رأي اللّه سبحانه من المصلحة في الإبقاء عليكم، فهو أذن - كما قلتم - إلا أنّه أذن خير لكم لا أذن سوء. فسلّم لهم قولهم فيه، إلا أنّه فسّر بما هو مدح له وإن كانوا قصدوا به المذمة، وأنّه من أهل سلامة القلب. وروي: أنّ جماعة ذمّوه وبلغه ذلك، فقال بعضهم: لا عليكم، فإنّما

ص: 338


1- الربيئة: الطليعة. (الصحاح: مادة ربأ)
2- يوسف: 17.

هو أذن سامعة، يسمع كلام المبلّغ ونحن نأتيه فنعتذر إليه فيسمع عذرنا أيضا(1).

وقرئ: أذن خير لكم، وهو خبر مبتدأ محذوف، وخير مثله، أي: هو أذن هو خير لكم، يعني: إن كان كما تقولون فهو خير لكم، لأنّه يقبل عذركم ولا يكافئكم علي سوء دخلتكم.

يَحْلِفُونَ بِاللّٰهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ الخطاب للمسلمين، وكان المنافقون يتكلّمون بالمطاعن، ثمّ يأتونهم فيعتذرون إليهم ويحلفون ليرضوا عنهم، فقيل لهم: أن كنتم مُؤْمِنِينَ كما تزعمون [فأحقّ من أرضيتم اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ بالطاعة والموافقة، وإنّما وحّد الضمير](2) لأنّه لا تفاوت بين رضا اللّه ورسوله، فهما في حكم مرضيّ واحد، أو واللّه أحقّ أن يرضوه ورسوله كذلك.

المحادة: مفاعلة من الحد، أي: المنع.

فَأَنَّ لَهُ أي: فحقّ أنّ له نٰارَ جَهَنَّمَ ، ويجوز أن يكون فَأَنَّ لَهُ معطوفا علي أَنَّهُ علي أنّ جواب (من) محذوف، والتقدير: أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحٰادِدِ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ يهلك فَأَنَّ لَهُ نٰارَ جَهَنَّمَ .

[سورة التوبة (9): الآیات 64 الی 66]

يَحْذَرُ اَلْمُنٰافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمٰا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اِسْتَهْزِؤُا إِنَّ اَللّٰهَ مُخْرِجٌ مٰا تَحْذَرُونَ وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمٰا كُنّٰا نَخُوضُ وَ نَلْعَبُ قُلْ أَ بِاللّٰهِ وَ آيٰاتِهِ وَ رَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ لاٰ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمٰانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طٰائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طٰائِفَةً بِأَنَّهُمْ كٰانُوا مُجْرِمِينَ

ص: 339


1- أسباب النزول: 173.
2- ساقطة من ج.

كانوا يستهزئون با لإسلام وأهله، وكانوا يحذرون أن يفضحهم اللّه بالوحي فيهم.

و الضمير في عَلَيْهِمْ و تُنَبِّئُهُمْ للمؤمنين، وفي قُلُوبِهِمْ للمنافقين، وصحّ ذلك لأنّ المعنى يقود إليه، ويجوز أن يكون الضمير في الكل للمنافقين، لأنّ السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم، والمعنى: أنّها تذيع أسرارهم فكأنّها تخبرهم بها، وقيل: معناه ليحذر اَلْمُنٰافِقُونَ علي الأمر.

قُلِ اِسْتَهْزِؤُا وعيد بلفظ الأمر إِنَّ اَللّٰهَ مُخْرِجٌ أي: مظهر مٰا تَحْذَرُونَ إظهاره من نفاقكم. وكان النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم يسير منصرفه من غزوة تبوك وبين يديه أربعة نفر يسيرون ويضحكون ويقولون: انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتح قصور الشام وحصونه، هيهات هيهات، فأخبره جبرئيل عليه السلام بذلك، فقال لعمار: إنّ هؤلاء يستهزئون بي وبالقرآن وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمٰا كُنّٰا نتحدّث بحديث الركب، فاتبعهم عمار وقال لهم: ممّ تضحكون ؟ قالوا: كنا نتحدّث بحديث الركب، فقال عمار: صدق اللّه ورسوله احترقتم أحرقكم اللّه، فأقبلوا إلى رسول اللّه يعتذرون، فنزلت الآيات(1). وقيل: نزلت في اثني عشر رجلا وقفوا علي العقبة ليفتكوا برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وقال بعضهم لبعض: إن فطن نقول: إنّما كنا نخوض ونلعب(2).

لاٰ تَعْتَذِرُوا لا تشتغلوا باعتذاراتكم الكاذبة فأنّها لا تنفعكم بعد ظهور أسراركم قَدْ كَفَرْتُمْ [قد أظهرتم كفركم](3)بَعْدَ إظهاركم الإيمان.

ص: 340


1- ينظر: الكشف والبيان ج 5:65.
2- تفسير العياشي ج 2:95، وينظر: الكشف والبيان ج 5:64.
3- ساقطة من ج.

إِنْ نَعْفُ عَنْ طٰائِفَةٍ مِنْكُمْ بإحداثهم الإيمان بعد النفاق نُعَذِّبْ طٰائِفَةً بِأَنَّهُمْ كٰانُوا مُجْرِمِينَ مصرّين على النفاق، أو إن نعف عن طائفة منكم لم يؤذوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ولم يستهزئوا به نعذّب طائفة بأنّهم كانوا مؤذين لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم مستهزئين. وقرئ: إن يعف عن طائفة يعذّب طائفة - علي البناء للفاعل - وهو اللّه عزّو جل.

[سورة التوبة (9): الآیات 67 الی 70]

اَلْمُنٰافِقُونَ وَ اَلْمُنٰافِقٰاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمَعْرُوفِ وَ يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اَللّٰهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ اَلْمُنٰافِقِينَ هُمُ اَلْفٰاسِقُونَ وَعَدَ اَللّٰهُ اَلْمُنٰافِقِينَ وَ اَلْمُنٰافِقٰاتِ وَ اَلْكُفّٰارَ نٰارَ جَهَنَّمَ خٰالِدِينَ فِيهٰا هِيَ حَسْبُهُمْ وَ لَعَنَهُمُ اَللّٰهُ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ مُقِيمٌ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كٰانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَ أَكْثَرَ أَمْوٰالاً وَ أَوْلاٰداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاٰقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاٰقِكُمْ كَمَا اِسْتَمْتَعَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاٰقِهِمْ وَ خُضْتُمْ كَالَّذِي خٰاضُوا أُولٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمٰالُهُمْ فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْخٰاسِرُونَ أَ لَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَ عٰادٍ وَ ثَمُودَ وَ قَوْمِ إِبْرٰاهِيمَ وَ أَصْحٰابِ مَدْيَنَ وَ اَلْمُؤْتَفِكٰاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنٰاتِ فَمٰا كٰانَ اَللّٰهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لٰكِنْ كٰانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ

بَعْضُهُمْ مِنْ جملة بعض وبعضهم منضاف إلى بعض، وهو تكذيب لهم فيما حلفوا: إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ ، وتحقيق لقوله: وَ مٰا هُمْ مِنْكُمْ (1).

ص: 341


1- التوبة: 56.

ثمّ وصفهم بما يدلّ علي مضادة حالهم لحال المؤمنين بقوله: يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وهو الكفر والمعاصي وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمَعْرُوفِ من الإيمان والطاعات وَ يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ شحا بالخيرات والصدقات والإنفاق في سبيل اللّه نَسُوا اَللّٰهَ أغفلوا ذكره فَنَسِيَهُمْ فتركهم عن رحمته وفضله.

إِنَّ اَلْمُنٰافِقِينَ هُمُ اَلْفٰاسِقُونَ هم الكاملون في الفسق الذي هو التمرد في الكفر والانسلاخ عن كل خير.

خٰالِدِينَ فِيهٰا أي: مقدّرا لهم الخلود فيها هِيَ حَسْبُهُمْ دلالة علي عظم عذابها، وأنّه لا شيء أبلغ منه، نعوذ باللّه منها.

وَ لَعَنَهُمُ اَللّٰهُ أبعدهم من خيره وأهانهم وَ لَهُمْ عَذٰابٌ مُقِيمٌ سوي الصلي بالنار، ودائم كعذاب النار، أو عذاب مقيم معهم في العاجل لا ينفكون منه، وهو ما يقاسونه من تعب النفاق وما يخافونه أبدا من الفضيحة.

ومحلّ الكاف رفع تقديره: أنتم مثل الذين من قبلكم ، أو نصب تقديره:

فعلتم مثل فعل الذين من قبلكم وهو أنّكم استمتعتم وخضتم كما استمتعوا وخاضوا، وقوله: كٰانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ تفسير لتشبيههم بهم، وتمثيل لفعلهم بفعلهم.

والخلاق: النصيب، وهو ما خلق للإنسان أي: قدّر، كما قيل: له قسم ونصيب، لأنّه قسم له ونصب أي: أثبت.

وَ خُضْتُمْ أي: دخلتم في الباطل واللهو كَالَّذِي خٰاضُوا كالفوج الذي خاضوا، أو كالخوض الذي خاضوا. وعن ابن عباس: (هؤلاء بنو إسرائيل شبّهنا بهم، والذي نفسي بيده لتتبعنّهم حتى لو دخل الرجل منهم جحر ضبّ

ص: 342

لدخلتموه)(1).

وَ أَصْحٰابِ مَدْيَنَ قوم شعيب.

وَ اَلْمُؤْتَفِكٰاتِ مدائن قوم لوط أهلكها اللّه بالخسف وقلبها عليهم، من الإفك وهو القلب والصرف.

فَمٰا كٰانَ اَللّٰهُ لِيَظْلِمَهُمْ فما صحّ منه أن يظلمهم، لأنّه حكيم لا يجوز أن يفعل القبيح ويعاقب بغير جرم.

وَ لٰكِنْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ بالكفر فاستحقّوا العقاب.

[سورة التوبة (9): الآیات 71 الی 73]

وَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِنٰاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاٰةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكٰاةَ وَ يُطِيعُونَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ أُولٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اَللّٰهُ إِنَّ اَللّٰهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَعَدَ اَللّٰهُ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنٰاتِ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا وَ مَسٰاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنّٰاتِ عَدْنٍ وَ رِضْوٰانٌ مِنَ اَللّٰهِ أَكْبَرُ ذٰلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ جٰاهِدِ اَلْكُفّٰارَ وَ اَلْمُنٰافِقِينَ وَ اُغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَ مَأْوٰاهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ

بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ في مقابلة قوله: بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أي: يلزم كل واحد منهم موالاة بعض ونصرته، وهم يد واحدة علي من سواهم.

سَيَرْحَمُهُمُ اَللّٰهُ السين تفيد وجود الرحمة لا محالة وتؤكد الوعد، ونحوه:

ص: 343


1- تفسير الطبري ج 10:122.

سَيَجْعَلُ لَهُمُ اَلرَّحْمٰنُ وُدًّا (1) ، و نُعَذِّبْ طٰائِفَةً بِأَنَّهُمْ كٰانُوا مُجْرِمِينَ (2).

عَزِيزٌ غالب علي كل شيء قادر عليه، فهو يقدر علي الثواب والعقاب حَكِيمٌ واضع كل شيء موضعه.

وَ مَسٰاكِنَ طَيِّبَةً يطيب العيش فيها، بناها اللّه من اللؤلؤ والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر.

و عَدْنٍ علم بدليل قوله: جَنّٰاتِ عَدْنٍ اَلَّتِي وَعَدَ اَلرَّحْمٰنُ عِبٰادَهُ بِالْغَيْبِ (3)، ويدلّ عليه ما رواه أبو الدرداء(4) عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: (عدن: دار اللّه التي لم ترها عين ولم تخطر علي قلب بشر، لا يسكنها غير ثلاثة: النبيّون والصدّيقون والشهداء، يقول اللّه عزّ وجل: طوبى لمن دخلك)(5)، وقيل: هي مدينة في الجنّة(6).

وَ رِضْوٰانٌ مِنَ اَللّٰهِ أي: وشيء من رضوان اللّه أَكْبَرُ من ذلك كله، لأنّ رضاه سبب كل سعادة وموجب كل فوز، وبه ينال تعظيمه وكرامته، والكرامة أكبر أصناف الثواب.

ذٰلِكَ إشارة إلى ما وعد اللّه أو إلى الرضوان، أي: هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ وحده دون ما يعدّه الناس فوزا.

ص: 344


1- مريم: 96.
2- التوبة: 66.
3- مريم: 61.
4- عويمر بن عامر، وقيل عويمر بن زيد بن قيس الأنصاري الخزرجي الصحابي المشهور، شهد الخندق وما بعدها من المشاهد، قيل: توفي في زمن عثمان، وقيل: إنه مات بعد صفين. ينظر: الاستيعاب ج 3:15.
5- تفسير الطبري ج 10:124.
6- عن الضحاك. تفسير الطبري ج 10:125.

جٰاهِدِ اَلْكُفّٰارَ بالسيف وَ اَلْمُنٰافِقِينَ بالحجّة. الصادق عليه السلام: جاهد الكفار بالمنافقين. وقال: (هل سمعتم أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قاتل منافقا؟! إنّما كان يتألفهم)(1).

وَ اُغْلُظْ عَلَيْهِمْ ولا تحابهم، وعن الحسن: (جهاد المنافقين إقامة الحدود عليهم)(2).

[سورة التوبة (9): آیة 74]

يَحْلِفُونَ بِاللّٰهِ مٰا قٰالُوا وَ لَقَدْ قٰالُوا كَلِمَةَ اَلْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاٰمِهِمْ وَ هَمُّوا بِمٰا لَمْ يَنٰالُوا وَ مٰا نَقَمُوا إِلاّٰ أَنْ أَغْنٰاهُمُ اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَ إِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اَللّٰهُ عَذٰاباً أَلِيماً فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ مٰا لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاٰ نَصِيرٍ

حلفوا بِاللّٰهِ مٰا قٰالُوا ما حكي عنهم وَ لَقَدْ قٰالُوا كَلِمَةَ اَلْكُفْرِ وأظهروا كفرهم بعد إظهارهم الإسلام.

وَ هَمُّوا بِمٰا لَمْ يَنٰالُوا وهمّوا بالفتك برسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وذلك عند مرجعه من تبوك، تواثق اثنا عشر رجلا - وقيل: خمسة عشر - علي أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذا تسنّم العقبة بالليل، فأخذ عمار بن ياسر بخطام ناقته يقودها، وحذيفة خلفها يسوقها، فبينا هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وبقعقعة السلاح، فالتفت فإذا قوم متلثمون، فقال: إليكم يا أعداء اللّه، وضرب وجوه رواحلهم حتى نحّاهم، فلما نزل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قال لحذيفة: من عرفت منهم ؟ قال: لم أعرف منهم أحدا، فقال صلى الله عليه و آله و سلم: إنّه فلان وفلان، حتى عدّهم كلهم، فقال

ص: 345


1- مجمع البيان ج 9-10:60.
2- تفسير الطبري ج 10:126.

حذيفة: ألا تقتلهم يا رسول اللّه ؟ فقال: أكره أن تقول العرب: لما ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم(1). وعن الباقر عليه السلام: (كان ثمانية منهم من قريش وأربعة من العرب)(2).

وَ مٰا نَقَمُوا أي: وما أنكروا وما عابوا إِلاّٰ أَنْ أَغْنٰاهُمُ اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ والمعنى: إنّهم جعلوا موضع شكر النعمة كفرانها، وكان الواجب عليهم أن يقابلوها بالشكر.

[سورة التوبة (9): الآیات 75 الی 78]

وَ مِنْهُمْ مَنْ عٰاهَدَ اَللّٰهَ لَئِنْ آتٰانٰا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَ لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلصّٰالِحِينَ فَلَمّٰا آتٰاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَ تَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفٰاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمٰا أَخْلَفُوا اَللّٰهَ مٰا وَعَدُوهُ وَ بِمٰا كٰانُوا يَكْذِبُونَ أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَ نَجْوٰاهُمْ وَ أَنَّ اَللّٰهَ عَلاّٰمُ اَلْغُيُوبِ

هو ثعلبة بن حاطب(3) قال: يا رسول اللّه، ادع اللّه أن يرزقني مالا، فقال:

(يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه)، فقال: والذي بعثك بالحقّ لئن رزقني مالا لأعطين كل ذي حقّ حقّه، فدعا له، فاتخذ غنما، فنمت كما ينمى الدود حتى ضاقت بها المدينة، فنزل واديا وانقطع عن الجماعة والجمعة، وبعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إليه المصدّق ليأخذ الصدقة فأبى وبخل، فقال: وما هذه إلا أخت الجزية، فقال عليه السلام: (يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة)(4).

ص: 346


1- ينظر: مغازي الواقدي ج 3:1042 وما بعدها.
2- التبيان ج 5:303.
3- ثعلبة بن حاطب بن عمرو الأنصاري مانع الصدقة، شهد بدرا وأحدا، مات في زمن عمر، وقيل في زمن عثمان. ينظر: الاستيعاب ج 1:200.
4- أسباب النزول: 176.

فَأَعْقَبَهُمْ عن الحسن: (أنّ الضمير للبخل)(1)، أي: فأورثهم البخل نِفٰاقاً متمكّنا فِي قُلُوبِهِمْ لأنّه كان سببا فيه وداعيا إليه. والظاهر أنّ الضمير للّه عزّ وجل، أي: فخذلهم حتى نافقوا وتمكّن النفاق في قلوبهم فلا ينفك عنها حتى يموتوا بسبب إخلافهم ما وعدوا اللّه من التصدق والصلاح، وبكونهم كاذبين، ومنه جعل خلف الموعد ثلث النفاق(2). وعن عليّ عليه السلام:

(سرّهم ونجواهم: ما أسرّوه من النفاق والعزم على إخلاف ما وعدوه، وما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدين وتسمية الصدقة جزية)(3).

[سورة التوبة (9): الآیات 79 الی 80]

اَلَّذِينَ يَلْمِزُونَ اَلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ فِي اَلصَّدَقٰاتِ وَ اَلَّذِينَ لاٰ يَجِدُونَ إِلاّٰ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اَللّٰهُ مِنْهُمْ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاٰ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اَللّٰهُ لَهُمْ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ اَللّٰهُ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفٰاسِقِينَ

اَلَّذِينَ يَلْمِزُونَ في محلّ النصب أو الرفع علي الذم، والمطّوع:

المتبرع، وأصله: المتطوع، أي: يعيبون المتطوعين بالصدقة مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ ويطعنون عليهم فِي اَلصَّدَقٰاتِ ويعيبون اَلَّذِينَ لاٰ يَجِدُونَ إِلاّٰ طاقتهم فيتصدّقون با لقليل فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ ويستهزئون.

سَخِرَ اَللّٰهُ مِنْهُمْ هو مثل قوله: اَللّٰهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ (4) في أنّه خبر غير دعاء.

ص: 347


1- الكشاف ج 2:293.
2- ينظر: من لا يحضره الفقيه ج 4:361، صحيح البخاري ج 1:15.
3- لم أعثر عليها رواية عنه عليه السلام وهي عين عبارة صاحب الكشاف فلاحظ.
4- البقرة: 15.

وقوله: اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أمر في معنى الخبر، والمعنى: لن يغفر اللّه لهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم، وفيه معنى الشرط. والسبعون جار في كلامهم مجري المثل للتكثير، قال عليّ عليه السلام:

لأصبحنّ العاصي وابن العاصي *** سبعين ألفا عاقدي النّواصي(1)

[سورة التوبة (9): الآیات 81 الی 83]

فَرِحَ اَلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاٰفَ رَسُولِ اَللّٰهِ وَ كَرِهُوا أَنْ يُجٰاهِدُوا بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ قٰالُوا لاٰ تَنْفِرُوا فِي اَلْحَرِّ قُلْ نٰارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كٰانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَ لْيَبْكُوا كَثِيراً جَزٰاءً بِمٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ فَإِنْ رَجَعَكَ اَللّٰهُ إِلىٰ طٰائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقٰاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ اَلْخٰالِفِينَ

فَرِحَ اَلْمُخَلَّفُونَ الذين خلّفهم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ولم يخرجهم معه إلى تبوك، لما استأذنوه في التأخر فأذن لهم.

بِمَقْعَدِهِمْ بقعودهم عن الغزو.

و خِلاٰفَ رَسُولِ اَللّٰهِ : خلفه، يقال: أقام خلاف الحي أي: بعدهم، وقيل:

هو بمعنى المخالفة، لأنّهم خالفوه حيث قعدوا ونهض. وانتصب بأنّه مفعول له أو حال، أي: قعدوا لمخالفة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أو مخالفين له.

وَ كَرِهُوا أَنْ يُجٰاهِدُوا بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ هو تعريض بالمؤمنين وبتحمّلهم المشاق العظيمة لوجه اللّه في بذل أموالهم ونفوسهم وَ قٰالُوا لهم أو قال بعضهم

ص: 348


1- وقعة صفين: 153.

لبعض: لا تخرجوا إلى الغزو في هذا اَلْحَرِّ .

قُلْ نٰارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا استجهال لهم، فإنّ من تصوّن من مشقة ساعة فوقع بذلك التصوّن في مشقة الأبد كان أجهل من كل جاهل.

فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً معناه: فسيضحكون قليلا ويبكون كَثِيراً جَزٰاءً إلا أنّه أخرج علي لفظ الأمر، للدلالة علي أنّه حتم واجب لا يكون غيره.

وإنّما قال: إِلىٰ طٰائِفَةٍ مِنْهُمْ لأنّ منهم من تاب وندم علي التخلف أو اعتذر بعذر صحيح.

فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ إلي غزوة بعد غزوة تبوك.

أَوَّلَ مَرَّةٍ هي الخرجة إلي غزوة تبوك.

مَعَ اَلْخٰالِفِينَ مرّ تفسيره(1).

[سورة التوبة (9): الآیات 84 الی 85]

وَ لاٰ تُصَلِّ عَلىٰ أَحَدٍ مِنْهُمْ مٰاتَ أَبَداً وَ لاٰ تَقُمْ عَلىٰ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ مٰاتُوا وَ هُمْ فٰاسِقُونَ وَ لاٰ تُعْجِبْكَ أَمْوٰالُهُمْ وَ أَوْلاٰدُهُمْ إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهٰا فِي اَلدُّنْيٰا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كٰافِرُونَ

مات صفة ل - أَحَدٍ ، وإنّما قيل بلفظ الماضي والمعنى علي الاستقبال علي تقدير الكون والوجود، لأنّه كائن موجود لا محالة.

إِنَّهُمْ كَفَرُوا تعليل للنهي. وكان صلى الله عليه و آله و سلم يصلّي عليهم ويجري عليهم أحكام المسلمين، وكان إذا صلّي علي ميّت وقف علي قبره ساعة ويدعو له، فنهي عن الأمرين بسبب كفرهم باللّه وموتهم علي النفاق.

ص: 349


1- ينظر: تفسير الآية 46 من السورة.

وأعيد قوله: تُعْجِبْكَ أَمْوٰالُهُمْ لأنّ تجدد النزول له شأن في تقرير ما نزل له وتأكيده، لاسيما إذا تراخى ما بين النزولين، ويجوز أن يكون النزولان في فريقين من المنافقين.

[سورة التوبة (9): الآیات 86 الی 89]

وَ إِذٰا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللّٰهِ وَ جٰاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اِسْتَأْذَنَكَ أُولُوا اَلطَّوْلِ مِنْهُمْ وَ قٰالُوا ذَرْنٰا نَكُنْ مَعَ اَلْقٰاعِدِينَ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ اَلْخَوٰالِفِ وَ طُبِعَ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاٰ يَفْقَهُونَ لٰكِنِ اَلرَّسُولُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جٰاهَدُوا بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ أُولٰئِكَ لَهُمُ اَلْخَيْرٰاتُ وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ أَعَدَّ اَللّٰهُ لَهُمْ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا ذٰلِكَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ

يجوز أن يراد السورة بتمامها وأن يراد بعضها، كما يقع القرآن والكتاب علي كله وعلي بعضه.

أَنْ آمِنُوا هي (أن) المفسّرة.

أُولُوا اَلطَّوْلِ ذوو الفضل والسعة، من طال عليه طولا.

مَعَ اَلْقٰاعِدِينَ الذين لهم عذر في التخلف.

رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ اَلْخَوٰالِفِ وهم النساء والصبيان والمرضى فَهُمْ لاٰ يَفْقَهُونَ ما في الجهاد من السعادة والفوز، وما في التخلف من الشقاوة.

لٰكِنِ اَلرَّسُولُ إن تخلف هؤلاء فقد نهد إلى الغزو مع المؤمنين، ونحوه:

فَإِنْ يَكْفُرْ بِهٰا هٰؤُلاٰءِ ... الآية(1).

ص: 350


1- الأنعام: 89.

اَلْخَيْرٰاتُ الجنّة ونعيمها، وقيل: منافع الدارين(1).

[سورة التوبة (9): آیة 90]

وَ جٰاءَ اَلْمُعَذِّرُونَ مِنَ اَلْأَعْرٰابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَ قَعَدَ اَلَّذِينَ كَذَبُوا اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ سَيُصِيبُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ

اَلْمُعَذِّرُونَ المقصرون، من عذر في الأمر: إذا توانى ولم يجدّ فيه، وحقيقته:

أن يوهم أنّ له عذرا فيما يفعل ولا عذر له، أو: المعتذرون بإدغام التاء في الذال ونقل حركتها إلي العين، ويجوز في العربية كسر العين لالتقاء الساكنين وضمها لاتباع الميم ولكن لم يثبت بهما قراءة؛ وهم: الذين يعتذرون بالباطل. وقرئ: المعذرون - بالتخفيف - وهو الذي يجتهد في العذر ويبالغ فيه.

وَ قَعَدَ اَلَّذِينَ كَذَبُوا اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ في ادعائهم الإيمان، فلم يجيئوا ولم يعتذروا، وعن أبي عمرو بن العلاء: (كلا الفريقين كان مسيئا، جاء فريق فعذروا وجنح آخرون فقعدوا)(2).

سَيُصِيبُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ من الأعراب عَذٰابٌ أَلِيمٌ بالقتل في الدنيا وبالنار في الآخرة.

[سورة التوبة (9): الآیات 91 الی 92]

لَيْسَ عَلَى اَلضُّعَفٰاءِ وَ لاٰ عَلَى اَلْمَرْضىٰ وَ لاٰ عَلَى اَلَّذِينَ لاٰ يَجِدُونَ مٰا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذٰا نَصَحُوا لِلّٰهِ وَ رَسُولِهِ مٰا عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَ اَللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَ لاٰ عَلَى اَلَّذِينَ إِذٰا مٰا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاٰ أَجِدُ مٰا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ اَلدَّمْعِ حَزَناً أَلاّٰ يَجِدُوا مٰا

ص: 351


1- الكشاف ج 2:300.
2- معالم التنزيل ج 2:97.

[سورة التوبة (9): الآیات 92 الی 93]

يُنْفِقُونَ إِنَّمَا اَلسَّبِيلُ عَلَى اَلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَ هُمْ أَغْنِيٰاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ اَلْخَوٰالِفِ وَ طَبَعَ اَللّٰهُ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ

اَلضُّعَفٰاءِ الزمنى و الهرمى، و اَلَّذِينَ لاٰ يَجِدُونَ الفقراء، والنصح لِلّٰهِ وَ رَسُولِهِ : الإيمان والطاعة في السرّ والعلانية.

مٰا عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ أي: المعذورين الناصحين مِنْ سَبِيلٍ ومعنى لا سبيل عليهم: لا جناح عليهم ولا طريق للعاتب عليهم.

قُلْتَ لاٰ أَجِدُ حال من الكاف في أَتَوْكَ ، وقد مضمر قبله، والمعنى:

ولا على الذين إذا ما أتوك وأنت قائل: لا أجد تَوَلَّوْا وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ اَلدَّمْعِ .

و (من) للبيان، والجار والمجرور في محلّ النصب علي التمييز، أي: تفيض دمعا، وهو أبلغ من قولك: يفيض دمعها، لأنّ العين جعلت كأنّها كلها دمع فائض.

أَلاّٰ يَجِدُوا أي: لأن لا يجدوا، و محلّه نصب لأنّه مفعول له وناصبه المفعول له الذي هو حَزَناً .

و رَضُوا استئناف، كأنّه قيل: ما بالهم استأذنوا وَ هُمْ أَغْنِيٰاءُ ؟ فقيل: رضوا بالدناءة والانتظام في جملة اَلْخَوٰالِفِ وَ طَبَعَ اَللّٰهُ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ يعني:

إنّ السبب في استئذانهم رضاهم بالدناءة وخذلان اللّه إيّاهم.

[سورة التوبة (9): الآیات 94 الی 95]

يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذٰا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لاٰ تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اَللّٰهُ مِنْ أَخْبٰارِكُمْ وَ سَيَرَى اَللّٰهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلىٰ عٰالِمِ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهٰادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ سَيَحْلِفُونَ بِاللّٰهِ لَكُمْ إِذَا اِنْقَلَبْتُمْ

ص: 352

[سورة التوبة (9): الآیات 95 الی 96]

إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَ مَأْوٰاهُمْ جَهَنَّمُ جَزٰاءً بِمٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَرْضىٰ عَنِ اَلْقَوْمِ اَلْفٰاسِقِينَ

لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ علة للنهي عن الاعتذار، لأنّ غرض المعتذر أن يصدّق فيما يعتذر به، فإذا علم أنّه مكذّب فينبغي أن يترك الاعتذار. وقوله: قَدْ نَبَّأَنَا اَللّٰهُ مِنْ أَخْبٰارِكُمْ علة لانتفاء تصديقهم، لأنّ اللّه سبحانه إذا أعلم بأخبارهم وأحوالهم و أسرارهم لم يستقم تصديقهم في معاذيرهم.

وَ سَيَرَى اَللّٰهُ عَمَلَكُمْ أتتوبون أم تثبتون علي كفركم ؟.

ثُمَّ تُرَدُّونَ إليه وهو عٰالِمِ كل غيب وشهادة وسرّ وعلن، فيجازيكم علي حسب ذلك.

لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ لتصفحوا عن جرمهم ولا توبخوهم فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ فأعطوهم طلبتهم.

إِنَّهُمْ رِجْسٌ تعليل لترك معاتبتهم، والمراد: أنّ العتاب لا ينجع فيهم ولا يصلحهم، (إنّما يعاتب الأديم ذو البشرة)(1)، ويوبّخ المؤمن علي الزلة ليطهّره التوبيخ بالحمل علي التوبة، وهؤلاء أرجاس لا سبيل إلي تطهيرهم.

لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ أي: غرضهم في الحلف طلب رضاكم لينفعهم ذلك في دنياهم، ولا ينفعهم رضاكم إذا كان اللّه ساخطا عليهم.

ص: 353


1- جمهرة الأمثال ج 1:9.

[سورة التوبة (9): الآیات 97 الی 99]

اَلْأَعْرٰابُ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفٰاقاً وَ أَجْدَرُ أَلاّٰ يَعْلَمُوا حُدُودَ مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ عَلىٰ رَسُولِهِ وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَ مِنَ اَلْأَعْرٰابِ مَنْ يَتَّخِذُ مٰا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَ يَتَرَبَّصُ بِكُمُ اَلدَّوٰائِرَ عَلَيْهِمْ دٰائِرَةُ اَلسَّوْءِ وَ اَللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَ مِنَ اَلْأَعْرٰابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ يَتَّخِذُ مٰا يُنْفِقُ قُرُبٰاتٍ عِنْدَ اَللّٰهِ وَ صَلَوٰاتِ اَلرَّسُولِ أَلاٰ إِنَّهٰا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اَللّٰهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

اَلْأَعْرٰابُ أهل البدو أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفٰاقاً من أهل الحضر لقسوة قلوبهم وجفائهم، ونشوئهم في بعد من مشاهدة العلماء وسماع التنزيل وَ أَجْدَرُ أَلاّٰ يَعْلَمُوا حُدُودَ مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ من الشرائع والأحكام.

وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ بحال أهل الوبر والمدر حَكِيمٌ فيما يحكم به عليهم.

مَغْرَماً أي: غرامة وخسرانا، فلا ينفق إلا تقية من أهل الإسلام ورياء، لا لوجه اللّه وَ يَتَرَبَّصُ بِكُمُ دوائر الزمان وحوادث الأيّام، لتذهب غلبتكم عليه فيتخلص من إعطاء الصدقة.

عَلَيْهِمْ دٰائِرَةُ اَلسَّوْءِ دعاء معترض، وقرئ: السوء - بالضم - وهو العذاب، و اَلسَّوْءِ بالفتح ذم للدائرة، كما يقال: رجل سوء، ونقيضه رجل صدق، قال:

وكنت كذئب السّوء لمّا رأى دما *** بصاحبه يوما أحال على الدّم(1)

وَ اَللّٰهُ سَمِيعٌ لأقوالهم عَلِيمٌ بأحوالهم.

ص: 354


1- شرح ديوان الفرزدق ج 2:749.

قُرُبٰاتٍ مفعول ثان ل - يَتَّخِذُ والمعنى: أنّ ما ينفقه سبب لحصول القربات عِنْدَ اَللّٰهِ وَ صَلَوٰاتِ اَلرَّسُولِ ، لأنّ الرسول كان يدعو للمتصدّقين بالخير والبركة ويستغفر لهم، كقوله: (اللهم صلّ علي آل أبي أوفى)(1) لما أتاه أبو أوفى بصدقته. فلما كان ما ينفق سببا لذلك قيل: يَتَّخِذُ مٰا يُنْفِقُ قربات وصلوات.

أَلاٰ إِنَّهٰا قُرْبَةٌ لَهُمْ هذا شهادة من اللّه للمتصدّق بصحّة ما اعتقده من كون نفقته قربات وصلوات وتصديق لرجائه، علي طريق الاستئناف مع حرفي التنبيه والتحقيق المؤذنين بثبات الأمر وتحقّقه، و سَيُدْخِلُهُمُ اَللّٰهُ كذلك لما في السين من تحقّق الوعد، وقرئ: قربة - بضم الراء -.

[سورة التوبة (9): آیة 100]

وَ اَلسّٰابِقُونَ اَلْأَوَّلُونَ مِنَ اَلْمُهٰاجِرِينَ وَ اَلْأَنْصٰارِ وَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسٰانٍ رَضِيَ اَللّٰهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنّٰاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا اَلْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا أَبَداً ذٰلِكَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ

وَ اَلسّٰابِقُونَ اَلْأَوَّلُونَ مِنَ اَلْمُهٰاجِرِينَ هم الذين صلّوا إلى القبلتين، وقيل: الذين شهدوا بدرا(2)، ومن الأنصار أهل بيعة العقبة الأولي وكانوا اثني عشر رجلا، وأهل العقبة الثانية وكانوا سبعين رجلا، والذين آمنوا حين قدم عليهم مصعب بن عمير فعلّمهم القران. وقرئ: الأنصار - بالرفع - عطفا علي وَ اَلسّٰابِقُونَ .

وارتفع اَلسّٰابِقُونَ بالابتداء وخبره رَضِيَ اَللّٰهُ عَنْهُمْ . وقرأ ابن كثير:

من تحتها.

ص: 355


1- صحيح البخاري ج 1:261.
2- عن عطاء بن أبي رباح. معالم التنزيل ج 2:98.

[سورة التوبة (9): الآیات 101 الی 102]

وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ اَلْأَعْرٰابِ مُنٰافِقُونَ وَ مِنْ أَهْلِ اَلْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى اَلنِّفٰاقِ لاٰ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلىٰ عَذٰابٍ عَظِيمٍ وَ آخَرُونَ اِعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صٰالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً عَسَى اَللّٰهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

ومن جملة من حول بلدتكم وهي المدينة مِنَ اَلْأَعْرٰابِ الذين يسكنون البدو مُنٰافِقُونَ وهم جهينة وأسلم وغفار وأشجع ومزينة، كانوا نازلين حول المدينة.

وَ مِنْ أَهْلِ اَلْمَدِينَةِ عطف علي خبر المبتدأ الذي هو مِمَّنْ حَوْلَكُمْ ، ويجوز أن يكون جملة معطوفة علي المبتدأ والخبر إذا قدّرت: ومن أهل المدينة قوم مَرَدُوا عَلَى اَلنِّفٰاقِ علي أن يكون مَرَدُوا صفة موصوف محذوف كقوله:

أنا ابن جلا وطلّاع الثّنايا(1)

أي: ابن رجل وضح أمره.

و مَرَدُوا عَلَى اَلنِّفٰاقِ تمهّروا فيه، من قولهم: مرد فلان علي عمله، ومرد عليه: إذا درب به حتى لان عليه ومهر فيه، ودلّ علي مهارتهم فيه بقوله: لاٰ تَعْلَمُهُمْ أي: يخفون عليك مع فطنتك وصدق فراستك، لفرط تنوقهم في تحامي ما يشكك في أمرهم، ثمّ قال: نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ أي: لا يعلمهم إلا اللّه المطلع علي البواطن، لأنّهم يبطنون الكفر في ضمائرهم ويظهرون لك الإيمان وظاهر الإخلاص الذي لا تشك معه في أمرهم.

ص: 356


1- البيت لسحيم بن وثيل الرياحي. الأصمعيات: 3، وبقيته: متى أضع العمامة تعرفوني.

سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ هما: ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم، وعذاب القبر ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلىٰ عَذٰابٍ عَظِيمٍ في النار.

وَ آخَرُونَ اِعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ولم يعتذروا بالمعاذير الكاذبة كغيرهم، وهم ثلاثة نفر من الأنصار: أبو لبابة بن عبد المنذر، وأوس بن حذام، وثعلبة بن وديعة.

خَلَطُوا عَمَلاً صٰالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً فيه دلالة علي بطلان القول بالإحباط، لأنّه لو كان أحد العملين محبطا لم يكن لقوله: خَلَطُوا معنى، لأنّ الخلط يستعمل في الجمع مع امتزاج كخلط الماء واللبن، وبغير امتزاج كخلط الدنانير والدراهم. و آخر أي: وعملا آخر.

[سورة التوبة (9): الآیات 103 الی 105]

خُذْ مِنْ أَمْوٰالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِهٰا وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاٰتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَ اَللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ هُوَ يَقْبَلُ اَلتَّوْبَةَ عَنْ عِبٰادِهِ وَ يَأْخُذُ اَلصَّدَقٰاتِ وَ أَنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلتَّوّٰابُ اَلرَّحِيمُ وَ قُلِ اِعْمَلُوا فَسَيَرَى اَللّٰهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ سَتُرَدُّونَ إِلىٰ عٰالِمِ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهٰادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

تُطَهِّرُهُمْ صفة ل - صَدَقَةً ، والتاء فيه للخطاب أو للتأنيث، أي: صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ أنت وَ تُزَكِّيهِمْ بِهٰا فيكون كلا الفعلين مسندا إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم، أو صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ تلك الصدقة وَ تُزَكِّيهِمْ أنت بِهٰا أي: تنسبهم إلى الزكاة. والتزكية:

مبالغة في التطهير وزيادة فيه، أو بمعنى الإنماء والبركة في المال.

وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ أي: وترحّم عليهم بالدعاء لهم بقبول صدقاتهم.

إِنَّ صَلاٰتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ إنّ دعواتك يسكنون إليها وتطمئن قلوبهم بها.

ص: 357

وَ اَللّٰهُ سَمِيعٌ يسمع دعاءك لهم عَلِيمٌ يعلم ما يكون منهم.

وقرئ: صَلاٰتَكَ علي التوحيد هنا وفي هود(1).

أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ هُوَ يَقْبَلُ اَلتَّوْبَةَ إذا صحّت ويقبل اَلصَّدَقٰاتِ إذا صدرت عن خلوص النية. و هو للتخصيص والتأكيد، و وَ أَنَّ اَللّٰهَ من شأنه قبول توبة التائبين.

وَ قُلِ لهؤلاء التائبين: اِعْمَلُوا فإنّ عَمَلَكُمْ لا يخفى علي اللّه وعلي رسوله وعلي المؤمنين، خيرا كان أو شرا. وروي أصحابنا: (أنّ أعمال الأمة تعرض علي النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في كل اثنين وخميس فيعرفها، وكذلك تعرض علي الأئمّة القائمين مقامه وهم المعنيون بقوله: وَ اَلْمُؤْمِنُونَ )(2).

وَ سَتُرَدُّونَ سترجعون إِلىٰ اللّه الذي يعلم السرّ والعلانية فَيُنَبِّئُكُمْ بأعمالكم ويجازيكم عليها.

[سورة التوبة (9): آیة 106]

وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اَللّٰهِ إِمّٰا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمّٰا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

قرئ: مُرْجَوْنَ ، ومرجؤون من أرجيته وأرجأته: إذا أخّرته.

أي: وَ آخَرُونَ من المتخلفين موقوف أمرهم: إما أن يُعَذِّبُهُمْ اللّه إن بقوا علي الإصرار ولم يتوبوا، وَ إِمّٰا أن يَتُوبُ عَلَيْهِمْ إن تابوا، وهم

ص: 358


1- الآية: 87.
2- ينظر: الكافي ج 1:219، بصائر الدرجات: 424.

ثلاثة: كعب بن مالك(1) وهلال بن أمية(2) ومرارة بن الربيع(3). أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أصحابه أن لا يكلّموهم ففعلوا ذلك، ثمّ تاب اللّه عليهم بعد خمسين يوما، وتصدّق كعب بثلث ماله شكرا للّه علي توبته.

[سورة التوبة (9): الآیات 107 الی 110]

وَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرٰاراً وَ كُفْراً وَ تَفْرِيقاً بَيْنَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ إِرْصٰاداً لِمَنْ حٰارَبَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنٰا إِلاَّ اَلْحُسْنىٰ وَ اَللّٰهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكٰاذِبُونَ لاٰ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى اَلتَّقْوىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجٰالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَ اَللّٰهُ يُحِبُّ اَلْمُطَّهِّرِينَ أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيٰانَهُ عَلىٰ تَقْوىٰ مِنَ اَللّٰهِ وَ رِضْوٰانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيٰانَهُ عَلىٰ شَفٰا جُرُفٍ هٰارٍ فَانْهٰارَ بِهِ فِي نٰارِ جَهَنَّمَ وَ اَللّٰهُ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّٰالِمِينَ لاٰ يَزٰالُ بُنْيٰانُهُمُ اَلَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاّٰ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ

قرأ أهل المدينة والشام: الذين اتخذوا - بغير واو - وكذلك هو في مصاحفهم لأنّها قصّة برأسها.

روي: أنّ بني عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قبا وصلّي فيه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم حسدتهم أخوتهم بنو غنم بن عوف وقالوا: نبني مسجدا نصلي فيه ولا نحضر جماعة محمّد. فبنوا مسجدا إلي جنب مسجد قبا، وقالوا لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو يتجهز

ص: 359


1- كعب بن مالك بن أبي كعب الأنصاري السلمي، أحد شعراء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم شهد العقبة، توفي سنة 50 ه -. ينظر: الاستيعاب ج 3:286.
2- هلال بن أمية بن عامر الأنصاري الواقفي، شهد بدرا وما بعدها، عاش إلى زمن معاوية. ينظر: الإصابة ج 3:606.
3- مرارة بن الربيع الأنصاري الأوسي، شهد بدرا. ينظر: الإصابة ج 3:396.

إلي تبوك: إنّا نحبّ أن تأتينا فتصلي لنا فيه، فقال صلى الله عليه و آله و سلم: إنّي علي جناح سفر. ولما انصرف من تبوك نزلت، فأرسل من هدم المسجد وأحرقه، وأمر أن يتخذ مكانه كناسة تلقى فيها الجيف والقمامة(1).

ضِرٰاراً مضارة لإخوانهم أصحاب مسجد قبا، معازة وَ كُفْراً وتقوية للنفاق وَ تَفْرِيقاً بَيْنَ اَلْمُؤْمِنِينَ لأنّهم كانوا يصلّون مجتمعين في مسجد قبا، فأرادوا أن يتفرّقوا عنه وتختلف كلمتهم.

وَ إِرْصٰاداً لِمَنْ حٰارَبَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ أي: وإعدادا لأجل من حارب اللّه ورسوله، وهو أبو عامر الراهب، وكان قد ترهّب في الجاهلية ولبس المسوح، فلما قدم النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم المدينة حسده وحزّب عليه الأحزاب، ثمّ هرب بعد فتح مكة وخرج إلى الروم وتنصّر، وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة(2)، قتل يوم أحد وكان جنبا فغسّلته الملائكة، وكان هؤلاء يتوقعون رجوع أبي عامر إليهم، وأعدّوا هذا المسجد له ليصلّي فيه ويظهر علي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.

يتعلّق مِنْ قَبْلُ ب - اِتَّخَذُوا أي: اتخذوا مسجدا من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف، أو يتعلّق ب - حٰارَبَ أي: لأجل من حارب اللّه ورسوله من قبل أن يتخذوا المسجد.

وَ لَيَحْلِفُنَّ يعني هؤلاء المنافقين: ما أَرَدْنٰا إِلاَّ الفعلة اَلْحُسْنىٰ أو الإرادة الحسنى وهي: الصلاة وذكر اللّه والتوسعة على المصلين.

لاٰ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً أي: لا تصلّ فيه أبدا، يقال: فلان يقوم بالليل أي:

ص: 360


1- ينظر: سيرة ابن هشام ج 4:173.
2- حنظلة بن أبي عامر الانصاري الأوسي شهد أحدا وهو جنب واستشهد بها، فقال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: إن صاحبكم تغسّله الملائكة. ينظر: الإصابة ج 1:361.

يصلي.

لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى اَلتَّقْوىٰ هو مسجد قبا أسسه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وصلّي فيه أيّام مقامه بقبا، وقيل: هو مسجد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بالمدينة(1).

مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ من أيّام وجوده أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ أي: أولى بأن تصلي فِيهِ رِجٰالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا روي: أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال لهم: (إنّ اللّه عزّوجل قد أثنى عليكم فماذا تفعلون في طهوركم ؟ قالوا: نغسل أثر الغائط، فقال:

أنزل اللّه فيكم: وَ اَللّٰهُ يُحِبُّ اَلْمُطَّهِّرِينَ )(2) أي: المتطهّرين، ومحبّتهم للتطهّر:

أنّهم يؤثرونه ويحرصون عليه، ومحبّة اللّه إيّاهم: أنّه يرضى عنهم ويحسن إليهم كما يفعل المحبّ بمحبوبه.

وقرئ: أسس بنيانه ، و اسس بنيانه، وفي الشواذ: أسس بنيانه - على الإضافة - وهو جمع أساس. والمعنى: أفمن أسّس بنيان دينه على قاعدة محكمة وهي الحقّ الذي هو تقوي اللّه ورضوانه خَيْرٌ أَمْ مَنْ أسّسه على قاعدة هي أضعف القواعد وأقلها بقاء، وهو الباطل والنفاق الذي مثله مثل شَفٰا جُرُفٍ هٰارٍ في قلة الثبات.

والشفا: الشفير، وجرف الوادي: جانبه الذي ينحفر أصله بالماء وتجرفه السيول، والهار: الهائر الذي أشفى علي السقوط والتهدم، ووزنه (فعل) قصر عن هائر كخلف عن خالف، ونظيره: شاك وصات من شائك وصائت، وألفه ليست بألف فاعل، وأصله هور وشوك وصوت.

ص: 361


1- عن زيد بن ثابت وغيره. تفسير الطبري ج 11:21.
2- التبيان ج 5:346، تاريخ المدينة المنورة ج 1:47.

ولما جعل الجرف الهار مجازا عن الباطل قيل: فَانْهٰارَ بِهِ فِي نٰارِ جَهَنَّمَ .

والمعنى: فهوى به الباطل في نار جهنم، فكأنّ المبطل أسّس بنيانا علي شفير جهنم فطاح به إلي قعرها.

رِيبَةً أي: شكا في الدين ونفاقا. والمعنى: لاٰ يَزٰالُ هدم بُنْيٰانُهُمُ اَلَّذِي بنوه سبب شك ونفاق فِي قُلُوبِهِمْ لا يضمحل أثره إِلاّٰ أَنْ تَقَطَّعَ أي: تتقطع قلوبهم قطعا وتتفرق أجزاء، فحينئذ يسلون عنه، والريبة باقية فيها مادامت سالمة. وقرئ: تقطع، بالتخفيف والتشديد. ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها بقتلهم أو في النار. وقرئ: إلى أن، وروي ذلك عن الصادق عليه السلام، وفي قراءة عبد اللّه: ولو قطعت قلوبهم. وقيل: معناه: إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندما علي تفريطهم.

[سورة التوبة (9): الآیات 111 الی 112]

إِنَّ اَللّٰهَ اِشْتَرىٰ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوٰالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي اَلتَّوْرٰاةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ وَ اَلْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اَللّٰهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ اَلَّذِي بٰايَعْتُمْ بِهِ وَ ذٰلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ اَلتّٰائِبُونَ اَلْعٰابِدُونَ اَلْحٰامِدُونَ اَلسّٰائِحُونَ اَلرّٰاكِعُونَ اَلسّٰاجِدُونَ اَلْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ اَلنّٰاهُونَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ اَلْحٰافِظُونَ لِحُدُودِ اَللّٰهِ وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ

عبّر سبحانه عن إثابتهم بالجنّة علي بذلهم أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوٰالَهُمْ في سبيله:

بالاشتراء، وجعل الثواب ثمنا وأعمالهم الحسنة مثمنا تمثيلا، وروي: أنّه تاجرهم

ص: 362

فأغلى لهم الثمن(1). وعن الصادق عليه السلام: (ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنّة، فلا تبيعوها إلا بها)(2). وعن الحسن: (أنفسا هو خلقها، وأموالا هو رزقها)(3). وروي: أنّ الأنصار حين بايعوه على العقبة قال عبد اللّه بن رواحة(4): (اشترط لربّك ولنفسك ما شئت، قال: أشترط لربّي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم، قال: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: لكم الجنّة، قالوا:

ربح البيع لا نقيل ولا نستقبل)(5).

يُقٰاتِلُونَ فيه معنى الأمر، كقوله: تُجٰاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ ... (ثمّ قال) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ (6)، وقرئ: (فيقتلون ويقتلون) - علي العكس -.

وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا مصدر مؤكد، يعني: أنّ الوعد الذي وعده للمجاهدين في سبيله وعد ثابت قد أثبته فِي اَلتَّوْرٰاةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ كما أثبته في اَلْقُرْآنِ .

وَ مَنْ أَوْفىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اَللّٰهِ أي: لا أحد أوفى بعهده من اللّه، لأنّ الخلف قبيح لا يقدم عليه الكريم [من الخلق مع جوازه عليهم لحاجتهم](7)، فكيف بالكريم الغني الذي لا يجوز عليه فعل القبيح.

فَاسْتَبْشِرُوا أي: فافرحوا بهذه المبايعة إذ بعتم فانيا بباق وزائلا بدائم.

ص: 363


1- عن الحسن وغيره. تفسير الطبري ج 11:27.
2- الكافي ج 1:19 عن الكاظم عليه السلام، الكشف والبيان ج 5:97.
3- الكشاف ج 2:313.
4- عبد اللّه بن رواحة بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي، الصحابي الجليل، كان أحد النقباء ليلة العقبة وشهد بدرا وما بعدها إلي أن استشهد بمؤتة، وكان أحد أمراء تلك الغزوة. ينظر: الإصابة ج 2:306.
5- أسباب النزول: 181.
6- الصف: 11، 12.
7- ساقطة من أ.

وَ ذٰلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ والظفر اَلْعَظِيمُ ولا ترغيب في الجهاد أحسن وأبلغ منه.

اَلتّٰائِبُونَ رفع علي المدح، أي: هم التائبون، يعني: المؤمنين المذكورين، ويدلّ عليه قراءة أبيّ وعبد اللّه والباقر والصادق عليهما السلام: التائبين - بالياء - إلى قوله:

والحافظين نصبا علي المدح، أو جرا علي الصفة ل - اَلْمُؤْمِنِينَ . ويجوز أن يكون اَلتّٰائِبُونَ مبتدأ، وخبره اَلْعٰابِدُونَ ، وما بعده خبر بعد خبر، أي:

التائبون من الكفر علي الحقيقة هم الجامعون لهذه الخصال.

و اَلْعٰابِدُونَ هم الذين أخلصوا في عبادة اللّه.

و اَلسّٰائِحُونَ الصائمون، شبّهوا بذوي السياحة في الأرض في امتناعهم من شهواتهم، وقيل: هم طلاب العلم يسيحون في الأرض يطلبونه من مظانه(1).

وَ اَلْحٰافِظُونَ لِحُدُودِ اَللّٰهِ القائمون بأوامره، المجتنبون لنواهيه.

[سورة التوبة (9): الآیات 113 الی 114]

مٰا كٰانَ لِلنَّبِيِّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كٰانُوا أُولِي قُرْبىٰ مِنْ بَعْدِ مٰا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحٰابُ اَلْجَحِيمِ وَ مٰا كٰانَ اِسْتِغْفٰارُ إِبْرٰاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاّٰ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهٰا إِيّٰاهُ فَلَمّٰا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّٰهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرٰاهِيمَ لَأَوّٰاهٌ حَلِيمٌ

عن الحسن: (إنّ المسلمين قالوا: ألا نستغفر لآبائنا الذين ماتوا في الجاهلية ؟ فنزلت).

أي: لا ينبغي لنبيّ ولا مؤمن أن يدعو لكافر ويستغفر له، ولا يصحّ ذلك

ص: 364


1- عن عكرمة. الدر المنثور ج 3:282.

في حكمة اللّه وَ لَوْ كٰانُوا قرابتهم مِنْ بَعْدِ مٰا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ ماتوا علي الشرك.

إِلاّٰ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهٰا إِيّٰاهُ أي: وعدها إبراهيم أباه وهو قوله:

لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ (1) ، ويدلّ عليه قراءة الحسن: وعدها أباه.

فَلَمّٰا تَبَيَّنَ لَهُ من جهة الوحي أَنَّهُ لن يؤمن ويموت كافرا، وانقطع رجاؤه عن إيمانه تَبَرَّأَ مِنْهُ .

والأوّاه: فعّال من أوه، وهو الذي يكثر التأوّه والبكاء والدعاء، ويكثر ذكر اللّه عزّ اسمه.

[سورة التوبة (9): الآیات 115 الی 116]

وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدٰاهُمْ حَتّٰى يُبَيِّنَ لَهُمْ مٰا يَتَّقُونَ إِنَّ اَللّٰهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ إِنَّ اَللّٰهَ لَهُ مُلْكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ مٰا لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاٰ نَصِيرٍ

أي: لا يؤاخذ الله عباده الذين هَدٰاهُمْ للإسلام، ولا يسمّيهم ضلالا ولا يخذلهم بارتكاب المحظورات إلا بعد أن يُبَيِّنَ لَهُمْ حظرها عليهم، ويعلمهم أنّها واجبة الاتقاء والاجتناب، فأما قبل البيان فلا سبيل عليهم.

والمراد ب - مٰا يَتَّقُونَ : ما يجب اتقاؤه للنهي، فأما ما يعلم بالعقل من القبائح فغير موقوف علي التوقيف.

[سورة التوبة (9): آیة 117]

لَقَدْ تٰابَ اَللّٰهُ عَلَى اَلنَّبِيِّ وَ اَلْمُهٰاجِرِينَ وَ اَلْأَنْصٰارِ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ فِي سٰاعَةِ اَلْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مٰا كٰادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ

ص: 365


1- الممتحنة: 4.

[سورة التوبة (9): الآیات 117 الی 119]

مِنْهُمْ ثُمَّ تٰابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ وَ عَلَى اَلثَّلاٰثَةِ اَلَّذِينَ خُلِّفُوا حَتّٰى إِذٰا ضٰاقَتْ عَلَيْهِمُ اَلْأَرْضُ بِمٰا رَحُبَتْ وَ ضٰاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَ ظَنُّوا أَنْ لاٰ مَلْجَأَ مِنَ اَللّٰهِ إِلاّٰ إِلَيْهِ ثُمَّ تٰابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اَللّٰهَ هُوَ اَلتَّوّٰابُ اَلرَّحِيمُ يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ كُونُوا مَعَ اَلصّٰادِقِينَ

إنّما ذكر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم استفتاحا باسمه ولأنّه سبب توبتهم، وإلا فمن المعلوم أنّه لم يكن منه ما أوجب التوبة، وروي عن الرضا عليه السلام أنّه قرأ: لقد تاب اللّه بالنّبيّ علي المهاجرين. وهو بعث للمؤمنين على التوبة، وأنّه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى الاستغفار والتوبة.

فِي سٰاعَةِ اَلْعُسْرَةِ في وقتها، وقد تستعمل الساعة في معنى الزمان المطلق كما يستعمل الغداة والعشية واليوم، نحو قوله:

عشيّة قارعنا جذام وحميرا(1)

غداة طفت علماء بكر بن وائل(2)

أي: علي الماء.

و اَلْعُسْرَةِ : حالهم في غزوة تبوك، كان يعتقب العشرة علي بعير واحد، وكان زادهم الشعير المسوّس والتمر المدوّد والإهالة السنخة(3)، وبلغت الشدّة بهم

ص: 366


1- البيت لزفر بن الحارث الكلابي. شرح ديوان الحماسة ج 1:79، وفيه: وكنا حسبنا كل بيضاء شحمة ليالي لاقينا...
2- البيت لقطري بن الفجاءة. شرح ديوان الحماسة ج 1:5، وبقيته: وعجنا صدور الخيل نحو تميم.
3- الإهالة السنخة: دسم اللحم الفاسد. (الصحاح: مادة سنخ)

أن اقتسم التمرة اثنان، وربّما مصّها الجماعة ليشربوا عليها الماء، وكانوا في حمارة القيظ(1) وفي الضيقة الشديدة من القحط وقلة الماء كاد تزيغ قلوب فريق منهم عن الثبات علي الإيمان، أو عن اتباع الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في تلك الغزوة. وفي كٰادَ ضمير الأمر والشأن، وشبّهه سيبويه بقولهم: ليس خلق اللّه مثله(2). وقرئ: يَزِيغُ - بالياء -. قيل: إنّ قوما منهم همّوا بالانصراف من غزاتهم بغير استئذان، فعصمهم الله تعالى حتى مضوا ثمّ تاب عليهم من بعد ذلك الزيغ.

إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ تداركهم برأفته ورحمته.

وَ عَلَى اَلثَّلاٰثَةِ اَلَّذِينَ خُلِّفُوا وهم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية، خلّفوا عن قبول التوبة بعد قبول توبة من قبل توبتهم، وقيل: خلّفوا عن غزوة تبوك لما تخلّفوا. وقراءة أهل البيت عليهم السلام وأبي عبد الرحمن السلمي(3): خالفوا.

بِمٰا رَحُبَتْ أي: برحبها، والمعنى: مع سعتها، وهو مثل لحيرتهم في أمرهم، كأنّهم لا يجدون في الأرض موضع قرار.

وَ ضٰاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ أي: قلوبهم من فرط الوحشة والغم وَ ظَنُّوا وعلموا أَنْ لاٰ مَلْجَأَ مِنَ سخط اَللّٰهِ إِلاّٰ إِلَيْهِ ثُمَّ تٰابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا [ثمّ رجع عليهم بالقبول والرحمة مرة بعد أخري ليستقيموا](4) علي توبتهم ويثبتوا، أو ليتوبوا أيضا في المستقبل إن فرطت منهم خطيئة، علما منهم بأنّ اللّه توّاب على من تاب ولو

ص: 367


1- حمارة القيظ: شدة حره. (الصحاح: مادة حمر)
2- الكتاب ج 1:70.
3- عبد الله بن حبيب بن ربيعة أبو عبد الرحمن السلمي قارئ الكوفة، ولد في حياة النبي صلى الله عليه و آله و سلم، توفي سنة 74 ه - على قول. ينظر غاية النهاية في طبقات القراء ج 1:413.
4- ساقطة من ج.

عاد في اليوم سبعين مرة.

مَعَ اَلصّٰادِقِينَ الذين صدقوا في دين اللّه نية وقولا وعملا، وعن الباقر عليه السلام: (كونوا مع آل محمّد)(1). وقرأ ابن عباس: من الصادقين، وروي أيضا ذلك عن الصادق عليه السلام.

[سورة التوبة (9): الآیات 120 الی 121]

مٰا كٰانَ لِأَهْلِ اَلْمَدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ اَلْأَعْرٰابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اَللّٰهِ وَ لاٰ يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لاٰ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لاٰ نَصَبٌ وَ لاٰ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ لاٰ يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ اَلْكُفّٰارَ وَ لاٰ يَنٰالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاّٰ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صٰالِحٌ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ وَ لاٰ يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَ لاٰ كَبِيرَةً وَ لاٰ يَقْطَعُونَ وٰادِياً إِلاّٰ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اَللّٰهُ أَحْسَنَ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ

ظاهره خبر ومعناه نهي، مثل قوله: وَ مٰا كٰانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اَللّٰهِ (2).

وَ لاٰ يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ أمروا بصحبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم علي البأساء والضرّاء، وبأن يكابدوا معه الشدائد برغبة ونشاط.

ذٰلِكَ إشارة إلى ما دلّ عليه قوله: ما كان لهم أن يتخلفوا، من وجوب مشايعته، أي ذٰلِكَ الوجوب بسبب أنهم لا يصيبهم شيء من عطش ولا تعب ولا مجاعة في طريق الجهاد، ولا يضعون أقدامهم ولا يدوسون بحوافر خيولهم وأخفاف رواحلهم موضعا يَغِيظُ اَلْكُفّٰارَ وطؤهم إيّاه، ولا

ص: 368


1- تفسير القمي ج 1:307، الكشف والبيان ج 5:109.
2- الأحزاب: 53.

يتصرّفون في أرضهم تصرّفا يضيق صدورهم وَ لاٰ يَنٰالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً ولا يرزئونهم شيئا بقتل أو أسر أو أمر يغمّهم إِلاّٰ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صٰالِحٌ واستوجبوا الثواب عند اللّه.

والموطئ: إما مصدر كالمورد وإما مكان. والنيل: يجوز أن يكون مصدرا مؤكدا وأن يكون بمعنى المنيل، وهو عام في كل ما يسوؤهم ويضرّهم.

وَ لاٰ يَقْطَعُونَ وٰادِياً أي: أرضا في ذهابهم ومجيئهم. والوادي: كل منعرج بين جبال وآكام يكون منفذا للسيل، وهو في الأصل فاعل من ودى: إذا سال، ومنه الودي.

إِلاّٰ كُتِبَ لَهُمْ ذلك الإنفاق وقطع الوادي.

وتعلّق لِيَجْزِيَهُمُ ب - كُتِبَ أي: أثبت في صحائفهم لأجل الجزاء.

[سورة التوبة (9): الآیات 122 الی 125]

وَ مٰا كٰانَ اَلْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لاٰ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي اَلدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا قٰاتِلُوا اَلَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ اَلْكُفّٰارِ وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ مَعَ اَلْمُتَّقِينَ وَ إِذٰا مٰا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زٰادَتْهُ هٰذِهِ إِيمٰاناً فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا فَزٰادَتْهُمْ إِيمٰاناً وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَ أَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزٰادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَ مٰاتُوا وَ هُمْ كٰافِرُونَ

لِيَنْفِرُوا اللام لتأكيد النفي. والمعنى: أنّ نفير الكافة عن أوطانهم لطلب الفقه والعلم غير صحيح ولا ممكن، وفيه: أنّه لو صحّ وأمكن ولم يؤد إلى مفسدة لوجب علي الكافة، لأنّ طلب العلم فريضة علي كل مسلم.

ص: 369

فَلَوْ لاٰ نَفَرَ فحين لم يمكن نفير الكافة فهلا نفر مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ أي: جماعة كثيرة طٰائِفَةٌ أي: جماعة قليلة منهم لِيَتَفَقَّهُوا فِي اَلدِّينِ ليتكلفوا الفقاهة فيه، ويتجشموا المشاق في تحصيلها وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ وليجعلوا غرضهم بالتفقه إنذار قومهم وإرشادهم لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ عقاب اللّه ويطيعونه.

قٰاتِلُوا اَلَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ اَلْكُفّٰارِ أي: يقربون منكم، فإنّ القتال واجب مع جميع الكفار، ولكن الأقرب فالأقرب أوجب، ونظيره: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ (1). وقد حارب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم قومه ثمّ غيرهم من العرب، وقيل: هم قريظة والنضير وفدك وخيبر(2). والأوّل أصحّ ، لأنّ السورة نزلت في سنة تسع، وقد فرغ النبيّ من أولئك.

وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً أي: شدّة وصبرا علي جهادهم، ونحوه: وَ اُغْلُظْ عَلَيْهِمْ (3).

فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ فمن المنافقين من يقول بعضهم لبعض: أَيُّكُمْ زٰادَتْهُ هٰذِهِ السورة إيمانا استهزاء باعتقاد المؤمنين زيادة الإيمان بزيادة العلم الحاصل بالوحي.

فَزٰادَتْهُمْ إِيمٰاناً أي: تصديقا ويقينا وثلجا لصدورهم.

وقوله: فَزٰادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ أي: كفرا مضموما إلي كفرهم، لأنّهم بتجديد الوحي جدّدوا كفرا ونفاقا فازداد كفرهم عنده واستحكم.

ص: 370


1- الشعراء: 214.
2- عن ابن عباس. معالم التنزيل ج 2:111.
3- التحريم: 9.

[سورة التوبة (9): الآیات 126 الی 129]

أَ وَ لاٰ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عٰامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاٰ يَتُوبُونَ وَ لاٰ هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَ إِذٰا مٰا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلىٰ بَعْضٍ هَلْ يَرٰاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ اِنْصَرَفُوا صَرَفَ اَللّٰهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاٰ يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جٰاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مٰا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (12(8) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اَللّٰهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ هُوَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ

قرئ: أَ وَ لاٰ يَرَوْنَ بالتاء أيضا يُفْتَنُونَ أي: يبتلون ويمتحنون بالمرض والقحط وغيرهما من البلايا ثُمَّ لا ينتهون و لاٰ يَتُوبُونَ من نفاقهم وَ لاٰ هُمْ يَذَّكَّرُونَ لا يعتبرون، أو يبتلون بالجهاد مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ويعاينون أمره وما ينزل اللّه عليه من النصرة والتأييد، أو يفتنهم الشيطان فينقضون عهودهم مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فيقتلهم وينكل بهم ثمّ لا ينزجرون.

نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلىٰ بَعْضٍ أي: تغامزوا بعيونهم إنكارا للوحي قائلين: هَلْ يَرٰاكُمْ مِنْ أَحَدٍ من المسلمين لننصرف فإنّا لا نصبر على استماعه، أو ترامقوا يتشاورون في تدبير الخروج والانسلال.

ثُمَّ اِنْصَرَفُوا صَرَفَ اَللّٰهُ قُلُوبَهُمْ دعاء عليهم بالخذلان، أو بصرف قلوبهم عما في قلوب أهل الإيمان من الانشراح بسبب أنهم قوم لا يفقهون لا يتدبرون حتى يفقهوا ويعلموا.

مِنْ أَنْفُسِكُمْ من جنسكم ومن نسبكم عربي قرشي مثلكم، شديد عَلَيْهِ - لكونه بعضا منكم - عنتكم ولقاؤكم المكروه، فهو يخاف عليكم سوء

ص: 371

العاقبة والوقوع في العذاب.

حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ حتى لا يخرج أحد منكم عن الاستسعاد به وبدينه الذي جاء به.

بِالْمُؤْمِنِينَ منكم ومن غيركم رَؤُفٌ رَحِيمٌ . وقرئ: من أنفسكم أي: من أشرفكم وأفضلكم، وقيل: هي قراءة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وفاطمة عليها السلام.

فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الإيمان بك فاستعن باللّه وفوّض إليه، فإنّه يكفيك أمرهم وينصرك عليهم. وقيل: هي آخر آية نزلت من السماء(1)، وهذه السورة آخر سورة كاملة نزلت(2).

عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (سألته عن سورة التوبة ؟ فقال: تلك الفاضحة، ما زال ينزل منهم ومنهم، حتى خشينا أن لا يبقى منا أحد إلا ذكر)(3).

ص: 372


1- عن أبيّ بن كعب. تفسير الطبري ج 11:57.
2- عن البراء. الدر المنثور ج 3:208.
3- الدر المنثور ج 3:208.

سورة يونس

اشارة

مكية، وهي مائة وتسع ايات.

وفي حديث أبيّ : (من قرأها أعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد من صدّق بيونس وكذّب به، وبعدد من غرق مع فرعون)(1)، وعن الصادق عليه السلام:

(من قرأها في كل شهرين لم يخف عليه أن يكون من الجاهلين، وكان يوم القيامة من المقرّبين)(2).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة يونس (10): الآیات 1 الی 2]

الر تِلْكَ آيٰاتُ اَلْكِتٰابِ اَلْحَكِيمِ أَ كٰانَ لِلنّٰاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنٰا إِلىٰ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ اَلنّٰاسَ وَ بَشِّرِ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قٰالَ اَلْكٰافِرُونَ إِنَّ هٰذٰا لَسٰاحِرٌ مُبِينٌ

تِلْكَ إشارة إلى ما تضمّنته السورة من الآيات.

اَلْكِتٰابِ اَلْحَكِيمِ اللوح المحفوظ، أو القرآن ذي الحكمة لاشتماله عليها، أو نطقه بها.

أَ كٰانَ لِلنّٰاسِ عَجَباً الهمزة لإنكار التعجب والتعجيب منه، و أن

ص: 373


1- الكشف والبيان ج 5:116.
2- ثواب الأعمال: 106.

أَوْحَيْنٰا اسم (كان)، و عَجَباً خبره. ومعنى اللام في لِلنّٰاسِ : إنّهم جعلوه لهم أعجوبة يتعجبون منها، والذي تعجبوا منه: أن يوحى لِلنّٰاسِ بشر يكون رجلا من جنس رجالهم دون أن يكون عظيما من عظمائهم. وهذا ليس بعجيب، لأنّ اللّه إنّما يختار من يستقل بما اختير له من أعباء الرسالة.

أَنْ أَنْذِرِ اَلنّٰاسَ : (أن) هي المفسّرة، لأنّ أَوْحَيْنٰا فيه معنى القول، ويجوز أن تكون المخففة من الثقيلة، وأصله: أنّه أنذر الناس، علي معنى: أنّ الشأن قولنا: أنذر الناس أَنَّ لَهُمْ أي: بأنّ لهم، فحذف الباء.

قَدَمَ صِدْقٍ أي: سابقة وفضلا عِنْدَ رَبِّهِمْ ، ولما كان السعي والسبق بالقدم سمّيت المسعاة الجميلة والسابقة قدما، كما سمّيت النعمة يدا وباعا، لأنّها تعطى باليد وصاحبها يبوع بها. وإضافته إلى صِدْقٍ دلالة علي زيادة فضل، وأنّه من السوابق العظيمة.

إِنَّ هٰذٰا الكتاب لسحر. وقرئ: لَسٰاحِرٌ فعلي هذه القراءة يكون هٰذٰا إشارة إلي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وهو دليل عجزهم واعترافهم بذلك، وإن كانوا كاذبين في تسميته سحرا.

[سورة يونس (10): الآیات 3 الی 4]

إِنَّ رَبَّكُمُ اَللّٰهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّٰامٍ ثُمَّ اِسْتَوىٰ عَلَى اَلْعَرْشِ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ مٰا مِنْ شَفِيعٍ إِلاّٰ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذٰلِكُمُ اَللّٰهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَ فَلاٰ تَذَكَّرُونَ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اَللّٰهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ بِالْقِسْطِ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرٰابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَ عَذٰابٌ أَلِيمٌ بِمٰا كٰانُوا يَكْفُرُونَ

ص: 374

يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ يقضيه ويقدّره ويرتّبه في مراتبه علي أحكام عواقبه، كما يفعل الناظر في أدبار الأمور، والأمر: أمر الخلق كله. وقد دلّ سبحانه بالجملة قبلها علي عظمة ملكوته بخلق اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي وقت يسير مع بسطتها واتساعها، وبالاستواء عَلَى اَلْعَرْشِ ، ثمّ أتبعها هذه الجملة لزيادة الدلالة علي العظمة في أنّه لا يخرج شيء من قضائه وتقديره، وكذا قوله: مٰا مِنْ شَفِيعٍ إِلاّٰ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ دليل علي العزّة والكبرياء.

ذٰلِكُمُ إشارة إلي المعلوم بتلك العظمة، أي: ذلك العظيم الموصوف بما وصف به هو الله الذي يستحقّ العبادة منكم، وهو رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ وحده ولا تشركوا به بعض خلقه من ملك أو إنسان فضلا عن جماد لا يضرّ ولا ينفع أَ فَلاٰ تَذَكَّرُونَ وأصله تتذكرون، يعني: أنّ أدنى تذكر ينبه على الخطأ فيما أنتم عليه.

إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً أي: إليه رجوعكم جميعا في العاقبة فاستعدوا للقائه.

وَعْدَ اَللّٰهِ مصدر مؤكد لقوله: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ، و حَقًّا مصدر مؤكد لقوله: وَعْدَ اَللّٰهِ .

إِنَّهُ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ استئناف معناه التعليل لوجوب المرجع إليه، وهو أنّ الغرض بابتداء الخلق وإعادته جزاء المكلفين علي أعمالهم. وقرئ: أنّه - بالفتح - بمعنى: لأنّه، أو هو منصوب بالفعل الذي نصب وَعْدَ اَللّٰهِ أي: وعد اللّه وعدا إبداءه الخلق ثمّ إعادته، والمعنى: إعادة الخلق بعد إبدائه.

بِالْقِسْطِ أي: بالعدل، وهو متعلّق ب - (يجزي) والمعنى: ليجزيهم بقسطه ويوفيهم أجورهم، أو بقسطهم وعدلهم حين آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ لأنّ الشرك

ص: 375

ظلم، ويؤيد هذا الوجه أنّه يقابل قوله: بِمٰا كٰانُوا يَكْفُرُونَ .

[سورة يونس (10): الآیات 5 الی 6]

هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ اَلشَّمْسَ ضِيٰاءً وَ اَلْقَمَرَ نُوراً وَ قَدَّرَهُ مَنٰازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ اَلسِّنِينَ وَ اَلْحِسٰابَ مٰا خَلَقَ اَللّٰهُ ذٰلِكَ إِلاّٰ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ اَلْآيٰاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ إِنَّ فِي اِخْتِلاٰفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ وَ مٰا خَلَقَ اَللّٰهُ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ

الياء في ضِيٰاءً منقلبة عن واو ضواء لكسرة ما قبلها، والضياء أقوي من النور.

وَ قَدَّرَهُ أي: قدّر القمر، مَنٰازِلَ أي: ذا منازل، أو قدر مسيره منازل، كقوله: وَ اَلْقَمَرَ قَدَّرْنٰاهُ مَنٰازِلَ (1).

وَ اَلْحِسٰابَ حساب الأوقات من الأشهر والأيّام والليالي، ذٰلِكَ إشارة إلى المذكور، أي: ما خلقه إِلاّٰ ملتبسا بِالْحَقِّ الذي هو الحكمة البالغة ولم يخلقه عبثا.

وخصّ المتقين لأنّهم يحذرون العاقبة فيدعوهم ذلك إلى التأمل والنظر.

[سورة يونس (10): الآیات 7 الی 9]

إِنَّ اَلَّذِينَ لاٰ يَرْجُونَ لِقٰاءَنٰا وَ رَضُوا بِالْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ اِطْمَأَنُّوا بِهٰا وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ آيٰاتِنٰا غٰافِلُونَ أُولٰئِكَ مَأْوٰاهُمُ اَلنّٰارُ بِمٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمٰانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ اَلْأَنْهٰارُ

ص: 376


1- يس: 39.

[سورة يونس (10): الآیات 9 الی 10]

فِي جَنّٰاتِ اَلنَّعِيمِ دَعْوٰاهُمْ فِيهٰا سُبْحٰانَكَ اَللّٰهُمَّ وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيهٰا سَلاٰمٌ وَ آخِرُ دَعْوٰاهُمْ أَنِ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ

أي: لا يأملون حسن لقائنا كما يأمله السعداء، ولا يخافون سوء لقائنا وَ رَضُوا بِالْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا قنعوا بها من الآخرة، واختاروا القليل الفاني علي الكثير الباقي وَ اِطْمَأَنُّوا بِهٰا وسكنوا إليها سكون من لا يزعج عنها وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ آيٰاتِنٰا غٰافِلُونَ ذاهبون عن تأملها، ذاهلون عن النظر فيها.

يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمٰانِهِمْ يوفّقهم بسبب إيمانهم للاستقامة على سلوك الطريق الموصل إلى الثواب، ولذلك جعل قوله: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ اَلْأَنْهٰارُ بيانا له وتفسيرا، لأنّ التمسّك بسبب السعادة كالوصول إليها، أو يَهْدِيهِمْ في الآخرة بنور إيمانهم إلى سبيل الجنّة، نحو قوله: يَسْعىٰ نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمٰانِهِمْ (1).

دعواهم أي: دعاؤهم فِيهٰا سُبْحٰانَكَ اَللّٰهُمَّ . ومعناه: اللهم إنّا نسبّحك، كما ورد في دعاء القنوت: (اللهم إيّاك نعبد ولك نصلّي ونسجد)(2).

ويجوز أن يراد بالدعاء العبادة علي معنى: أنّه لا تكليف في الجنّة ولا عبادة، وما عبادتهم إلا أن يسبّحوا اللّه ويحمدوه، وينطقون بذلك تلذذا من غير كلفة.

وَ آخِرُ دَعْوٰاهُمْ وخاتمة دعائهم أن يقولوا: اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ .

وقوله: وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيهٰا سَلاٰمٌ معناه: إنّ بعضهم يحيي بعضا بالسلام، وقيل: هي تحية الملائكة إيّاهم(3)، فيكون المصدر مضافا إلى المفعول، وقيل: هي

ص: 377


1- الحديد: 12.
2- (2) المزار: 121، مصنف ابن أبي شيبة ج 2:213.
3- عن الضحاك. تفسير السمرقندي ج 2:105.

تحية اللّه لهم(1). و (أن) هي المخففة من الثقيلة، وأصله: أنّه الحمد للّه.

[سورة يونس (10): الآیات 11 الی 12]

وَ لَوْ يُعَجِّلُ اَللّٰهُ لِلنّٰاسِ اَلشَّرَّ اِسْتِعْجٰالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ اَلَّذِينَ لاٰ يَرْجُونَ لِقٰاءَنٰا فِي طُغْيٰانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَ إِذٰا مَسَّ اَلْإِنْسٰانَ اَلضُّرُّ دَعٰانٰا لِجَنْبِهِ أَوْ قٰاعِداً أَوْ قٰائِماً فَلَمّٰا كَشَفْنٰا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنٰا إِلىٰ ضُرٍّ مَسَّهُ كَذٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ

وضع وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيهٰا سَلاٰمٌ موضع تعجيله لهم الخير إشعارا بسرعة إجابته لهم حتى كأنّ استعجالهم بالخير تعجيل له، والمراد قول من قال: فَأَمْطِرْ عَلَيْنٰا حِجٰارَةً مِنَ اَلسَّمٰاءِ (2). والمعنى: ولو عجّلنا لهم الشر الذي دعوا به كما نعجّل لهم الخير ونجيبهم إليه لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ لأميتوا وأهلكوا. وقرئ: لقضى إليهم أجلهم، وتنصره قراءة عبد اللّه: لقضينا إليهم أجلهم.

[فَنَذَرُ اَلَّذِينَ لاٰ يَرْجُونَ لِقٰاءَنٰا معناه: فلا نعجّل لهم الشرّ ولا نقضي إليهم أجلهم](3)، فنذرهم فِي طُغْيٰانِهِمْ أي: فنمهلهم ونملي لهم إلزاما للحجّة عليهم.

وقوله: لِجَنْبِهِ في موضع الحال أي: مضطجعا، والمعنى: أنّه لا يزال داعيا لا يفتر في الدعاء حتى يزول عنه اَلضُّرُّ فهو يدعو في حالاته كلها يستدفع البلاء. و اَلْإِنْسٰانَ للجنس.

فَلَمّٰا كَشَفْنٰا أي: أزلنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ أي: مضى علي طريقته الأولى قبل

ص: 378


1- معاني القرآن وإعرابه ج 3:8.
2- الأنفال: 32.
3- ساقطة من ج.

أن يمسّه الضرّ، أو مرّ عن موقف الدعاء والتضرّع لا يرجع إليه كأنّه لا عهد له به.

كأن تخفيف (كأنّ ) وحذف ضمير الشأن منه، قوله:

كأن ظبية تعطو إلى وارق السّلم(1)

كَذٰلِكَ أي: مثل ذلك التزيين زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ زين الشيطان بوسوسته لهم ترك الدعاء عند الرخاء واتباع الشهوات والأماني الباطلة.

[سورة يونس (10): الآیات 13 الی 14]

وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا اَلْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمّٰا ظَلَمُوا وَ جٰاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنٰاتِ وَ مٰا كٰانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْقَوْمَ اَلْمُجْرِمِينَ ثُمَّ جَعَلْنٰاكُمْ خَلاٰئِفَ فِي اَلْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ

لَمّٰا ظرف ل - أَهْلَكْنَا ، والواو في وَ جٰاءَتْهُمْ للحال، أي: وَ جٰاءَتْهُمْ بالتكذيب وقد جاءتهم رُسُلُهُمْ بالمعجزات والدلالات.

وَ مٰا كٰانُوا لِيُؤْمِنُوا اللام لتأكيد النفي، أي: وما كانوا يؤمنون حقّا. والمعنى:

إنّ السبب في إهلاكهم تكذيبهم الرسل، وعلم الله إصرارهم على الكفر، وأنّه لا فائدة في إمهالهم بعد أن ألزمهم الحجّة بإرسال الرسل.

كَذٰلِكَ أي: مثل ذلك الجزاء يعني الإهلاك نَجْزِي المشركين في المستقبل إذا لم يؤمنوا، وهو وعيد لأهل مكة.

ثُمَّ جَعَلْنٰاكُمْ خَلاٰئِفَ أي: استخلفناكم فِي اَلْأَرْضِ مِنْ بعد القرون التي أهلكناها لِنَنْظُرَ أتعملون خيرا أم شرّا فنعاملكم علي حسب أعمالكم.

ص: 379


1- البيت لعلباء بن ارقم اليشكري. الأصمعيات: 157. وقيل لغيره، ينظر: خزانة الأدب ج 10: 413، وصدره: ويوما توافينا بوجه مقسم

و كَيْفَ في محلّ نصب ب - تَعْمَلُونَ : إما حالا وإما مصدرا. والنظر هنا مستعار بمعنى العلم المحقّق الذي هو العلم بالشيء موجودا، شبّه بنظر الناظر وعيان المعاين في تحقّقه.

[سورة يونس (10): الآیات 15 الی 17]

وَ إِذٰا تُتْلىٰ عَلَيْهِمْ آيٰاتُنٰا بَيِّنٰاتٍ قٰالَ اَلَّذِينَ لاٰ يَرْجُونَ لِقٰاءَنَا اِئْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هٰذٰا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مٰا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقٰاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّٰ مٰا يُوحىٰ إِلَيَّ إِنِّي أَخٰافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذٰابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلْ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ مٰا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لاٰ أَدْرٰاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلاٰ تَعْقِلُونَ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرىٰ عَلَى اَللّٰهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيٰاتِهِ إِنَّهُ لاٰ يُفْلِحُ اَلْمُجْرِمُونَ

أي: قالوا: اِئْتِ بِقُرْآنٍ آخر ليس فيه ما يغيظنا من ذم عبادة الأوثان والوعيد لعابديها أَوْ بَدِّلْهُ بأن تجعل مكان آية عذاب آية رحمة، وتسقط ذكر الآلهة وذم عبادتها، فأمر بأن يجيب عن التبديل لأنّه داخل تحت مقدور الإنسان، فأما الإتيان بقرآن آخر فغير مقدور عليه للإنسان.

مٰا يَكُونُ لِي ما ينبغي لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقٰاءِ نَفْسِي من قبل نفسي، من غير أن يأمرني بذلك ربّي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّٰ مٰا يُوحىٰ إِلَيَّ لا آتي ولا أذر شيئا من نحو ذلك إلا متبعا لوحي اللّه، إن نسخت آية أو بدّلت مكان أخري تبعت ذلك، وليس إليّ تبديل ولا نسخ إِنِّي أَخٰافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي في التبديل والنسخ من عند نفسي عَذٰابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ .

قُلْ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ مٰا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ يعني: إنّ تلاوته ليست إلا بمشيئة

ص: 380

اللّه وإحداثه أمرا عجيبا خارقا للعادة، وهو أن يخرج رجل أميّ لم يتعلم ساعة من عمره، ولا نشأ في بلد فيه العلماء، فيقرأ عليكم كتابا بهر بفصاحته كل كلام فصيح، مشحونا بعلوم الأصول والفروع والإخبار بما كان ويكون لا يعلمها إلا اللّه، وقد نشأ فيكم لم تسمعوا منه حرفا من ذلك منذ أربعين سنة.

وَ لاٰ أَدْرٰاكُمْ بِهِ أي: ولا أعلمكم به على لسان. وقرئ: و لأدراكم به علي إثبات الإدراء، واللام لام الابتداء، والمعنى: لو شاء اللّه ما تلوته أنا عليكم و لأعلمكم به على لسان غيري، ولكنّه خصّني بهذه الكرامة.

فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً أي: فقد أقمت فيما بينكم ناشئا وكهلا فلم تعرفوني متعاطيا شيئا من نحوه فتتهموني باختراعه أَ فَلاٰ تَعْقِلُونَ فتعلموا أنّه ليس إلا من عند اللّه تبارك وتعالى.

[سورة يونس (10): الآیات 18 الی 19]

وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مٰا لاٰ يَضُرُّهُمْ وَ لاٰ يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هٰؤُلاٰءِ شُفَعٰاؤُنٰا عِنْدَ اَللّٰهِ قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اَللّٰهَ بِمٰا لاٰ يَعْلَمُ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ لاٰ فِي اَلْأَرْضِ سُبْحٰانَهُ وَ تَعٰالىٰ عَمّٰا يُشْرِكُونَ وَ مٰا كٰانَ اَلنّٰاسُ إِلاّٰ أُمَّةً وٰاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَ لَوْ لاٰ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمٰا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ

كان أهل الطائف يعبدون اللات، وأهل مكة العزّي ومناة وهبل وإسافا ونائلة، وكانوا يقولون: هٰؤُلاٰءِ شُفَعٰاؤُنٰا عِنْدَ اَللّٰهِ .

قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اَللّٰهَ أتخبرونه بكونهم شفعاء عنده وهو إخبار بِمٰا ليس بمعلوم للّه، وإذا لم يكن معلوما له - وهو العالم بالذات المحيط بجميع المعلومات - لم يكن شيئا، لأنّ الشيء ما يصحّ أن يعلم وقد أخبرتم بما لا يدخل تحت الصحّة.

ص: 381

وقوله: فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ لاٰ فِي اَلْأَرْضِ تأكيد لنفيه، لأنّ ما لا يوجد فيهما فهو منتف معدوم.

عَمّٰا يُشْرِكُونَ (ما) موصولة أو مصدرية، أي: عن الشركاء الذين يشركونهم به، أو عن إشراكهم. وقرئ: تشركون - بالتاء -.

وَ مٰا كٰانَ اَلنّٰاسُ إِلاّٰ أُمَّةً وٰاحِدَةً متفقين علي ملة واحدة ودين واحد من غير أن يختلفوا بينهم، وذلك في عهد آدم إلى أن قتل قابيل هابيل، وقيل: بعد الطوفان(1).

وَ لَوْ لاٰ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ وهو تأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمٰا اختلفوا فِيهِ ويميز المحقّ من المبطل، ولكن الحكمة أوجبت أن تكون هذه الدار للتكليف وتلك للثواب والعقاب.

[سورة يونس (10): الآیات 20 الی 21]

وَ يَقُولُونَ لَوْ لاٰ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا اَلْغَيْبُ لِلّٰهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ اَلْمُنْتَظِرِينَ وَ إِذٰا أَذَقْنَا اَلنّٰاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرّٰاءَ مَسَّتْهُمْ إِذٰا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيٰاتِنٰا قُلِ اَللّٰهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنٰا يَكْتُبُونَ مٰا تَمْكُرُونَ

أرادوا آيَةٌ من الآيات التي كانوا يقترحونها فَقُلْ إِنَّمَا اَلْغَيْبُ لِلّٰهِ هو المختص به، والصارف عن إنزال الآيات المقترحة أمر مغيب لا يعلمه إلا هو فَانْتَظِرُوا نزول ما اقترحتموه.

إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ اَلْمُنْتَظِرِينَ لما يفعل الله بكم لعنادكم وتماديكم في جحود الآيات الباهرة التي لم ينزل علي أحد من الأنبياء مثلها، ومن جملتها القرآن المعجز الباقي على وجه الدهر.

ص: 382


1- عن أبي روق. الكشف والبيان ج 5:125.

إذا الأولى للشرط، و الأخيرة جوابها، وهي ظرف مكان. والمكر: إخفاء المكيدة وطيّها، من الجارية الممكورة: المطوية الخلق.

و مَسَّتْهُمْ خالطتهم حتى أحسّوا بسوء أثرها فيهم، وهو أنّه سبحانه سلط علي أهل مكة القحط سبع سنين حتى كادوا يهلكون، ثمّ لما رحمهم بالحيا صاروا يطعنون في آيات اللّه ويعادون رسوله و يكيدونه، فلذلك وصفهم بسرعة المكر حتى أتى بكلمة المفاجأة، فكأنّه قال: فاجأوا وقوع المكر منهم وسارعوا إليه.

قُلِ اَللّٰهُ أَسْرَعُ مَكْراً يدبّر عقابكم و يوقعه بكم قبل أن تدبّروا في إطفاء نور الإسلام.

إِنَّ رُسُلَنٰا يَكْتُبُونَ مٰا تَمْكُرُونَ إعلام بأن ما يظنونه خافيا غير خاف عند اللّه.

[سورة يونس (10): الآیات 22 الی 23]

هُوَ اَلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ حَتّٰى إِذٰا كُنْتُمْ فِي اَلْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِهٰا جٰاءَتْهٰا رِيحٌ عٰاصِفٌ وَ جٰاءَهُمُ اَلْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكٰانٍ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اَللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنٰا مِنْ هٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلشّٰاكِرِينَ فَلَمّٰا أَنْجٰاهُمْ إِذٰا هُمْ يَبْغُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ إِنَّمٰا بَغْيُكُمْ عَلىٰ أَنْفُسِكُمْ مَتٰاعَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا ثُمَّ إِلَيْنٰا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

قرئ: ينشركم، من النشر، ومثله: ثُمَّ إِذٰا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (1). والمعنى:

هُوَ اَلَّذِي يمكّنكم من السير بما هيأ لكم من أسباب السير فِي اَلْبَرِّ بخلق الدواب و تسخيرها لكم وفي اَلْبَحْرِ بإرسال الرياح التي تجري السفن في

ص: 383


1- الروم: 20.

الجهات المختلفة حَتّٰى إِذٰا كُنْتُمْ فِي اَلْفُلْكِ خصّ الخطاب براكبي البحر، أي: إذا كنتم في السفن.

وَ جَرَيْنَ بِهِمْ عدل عن الخطاب إلى الغيبة للمبالغة، كأنّه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها، أي: وجرت الفلك أي: السفن بالناس بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ لينة يستطيبونها.

وجواب إِذٰا قوله: جٰاءَتْهٰا رِيحٌ عٰاصِفٌ أي: شديدة الهبوب هائلة.

وَ جٰاءَهُمُ اَلْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكٰانٍ من أمكنة الموج وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ وهو مثل في الهلاك، دَعَوُا اَللّٰهَ هو بدل من وَ ظَنُّوا لأنّ دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك، وهو ملتبس به. و الجملة الشرطية الواقعة بعد حَتّٰى بما في حيّزها غاية للتسيير، فكأنّه قال: هو الذي يسيّركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة وكان كيت وكيت من مجيء الريح العاصف وتراكم الأمواج والظن للهلاك و الدعاء بالإنجاء.

وقال: مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ لأنّهم لا يدعون حينئذ غيره معه لَئِنْ أَنْجَيْتَنٰا علي إرادة القول، أو لأنّ دَعَوُا من جملة القول.

يَبْغُونَ فِي اَلْأَرْضِ يفسدون فيها و يعيثون ممعنين في ذلك.

وقرئ: مَتٰاعَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا بالنصب، والفرق بين القراءتين أنّك إذا رفعت كان المتاع خبر المبتدأ الذي هو بَغْيُكُمْ ، و عَلىٰ أَنْفُسِكُمْ صلته كقوله:

فَبَغىٰ عَلَيْهِمْ (1) . ومعناه: إنّما بغيكم على أمثالكم، أي: بغي بعضكم علي بعض منفعة الحياة الدنيا لا بقاء لها. وإذا نصبت فالخبر عَلىٰ أَنْفُسِكُمْ والمعنى: إنّما

ص: 384


1- القصص: 76.

بغيكم وبال علي أنفسكم، و مَتٰاعَ مصدر مؤكد. وفي الحديث: (لا تمكر ولا تعن ماكرا، ولا تبغ ولا تعن باغيا، ولا تنكث ولا تعن ناكثا، وكان يتلوها)(1).

وروي: (ثنتان يعجّلهما اللّه في الدنيا: البغي، وعقوق الوالدين)(2).

[سورة يونس (10): الآیات 24 الی 26]

إِنَّمٰا مَثَلُ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا كَمٰاءٍ أَنْزَلْنٰاهُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبٰاتُ اَلْأَرْضِ مِمّٰا يَأْكُلُ اَلنّٰاسُ وَ اَلْأَنْعٰامُ حَتّٰى إِذٰا أَخَذَتِ اَلْأَرْضُ زُخْرُفَهٰا وَ اِزَّيَّنَتْ وَ ظَنَّ أَهْلُهٰا أَنَّهُمْ قٰادِرُونَ عَلَيْهٰا أَتٰاهٰا أَمْرُنٰا لَيْلاً أَوْ نَهٰاراً فَجَعَلْنٰاهٰا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذٰلِكَ نُفَصِّلُ اَلْآيٰاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَ اَللّٰهُ يَدْعُوا إِلىٰ دٰارِ اَلسَّلاٰمِ وَ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا اَلْحُسْنىٰ وَ زِيٰادَةٌ وَ لاٰ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَ لاٰ ذِلَّةٌ أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلْجَنَّةِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ

شبّه حال اَلدُّنْيٰا في سرعة انقضائها بحال نَبٰاتُ اَلْأَرْضِ في جفافه بعد خضرته و نضرته.

فَاخْتَلَطَ بِهِ فاشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضا.

إِذٰا أَخَذَتِ اَلْأَرْضُ زُخْرُفَهٰا وَ اِزَّيَّنَتْ مثّل الأرض بالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون، فاكتستها وتزيّنت بغيرها من أنواع الزين، وأصل (ازّيّنت): تزيّنت.

قٰادِرُونَ عَلَيْهٰا متمكّنون منها محصلون لمنفعتها.

أَتٰاهٰا أَمْرُنٰا وهو ضرب زروعها ببعض العاهات و الآفات بعد

ص: 385


1- كتاب الزهد و الرقائق: 252.
2- التاريخ الكبير ج 1:166.

أمنهم و إيقانهم أنّه قد سلم فَجَعَلْنٰاهٰا أي: فجعلنا زرعها حَصِيداً شبيها بما يحصد من الزرع من قطعه و استئصاله كَأَنْ لَمْ تَغْنَ [أي: كأن لم تغن](1)

زرعها، فحذف المضاف، أي: لم ينبت، ولابد من حذف المضاف - الذي هو الزرع - في هذه المواضع وإلا لم يستقم المعنى. وعن الحسن: كأن لم يغن - بالياء - علي أنّ الضمير للمضاف المحذوف الذي هو الزرع.

و الأمس: مثل في الوقت القريب، كأنّه قيل: كأن لم يوجد من قبل.

دٰارِ اَلسَّلاٰمِ الجنّة، أضافها إلى اسمه. وقيل: السلام: السلامة(2)، لأنّ أهلها سالمون من كل مكروه، وقيل: لفشوّ السلام بينهم وتسليم الملائكة عليهم(3).

وَ يَهْدِي ويوفق مَنْ يَشٰاءُ وهم الذين لهم في المعلوم لطف يجدي عليهم.

و اَلْحُسْنىٰ : المثوبة الحسنى وَ زِيٰادَةٌ وما يزيد علي المثوبة وهي التفضّل، ويدلّ عليه قوله: وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ (4)، وعن عليّ عليه السلام: (الزيادة: غرفة من لؤلؤة واحدة)(5)، وعن ابن عباس: (الزيادة: عشر أمثالها)(6)، وعن مجاهد:

(الزيادة: مغفرة من اللّه ورضوان)(7).

ص: 386


1- ساقطة من ط.
2- معاني القرآن و إعرابه ج 3:15.
3- عن الحسن. الكشف والبيان ج 5:128.
4- فاطر: 30.
5- تفسير الطبري ج 11:75.
6- تفسير الطبري ج 11:76.
7- تفسير الطبري ج 11:76.

وَ لاٰ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ ولا يغشاها قَتَرٌ غبرة فيها سواد وَ لاٰ ذِلَّةٌ ولا أثر هوان. والمعنى: لا يرهقهم ما يرهق أهل النار، كقوله: تَرْهَقُهٰا قَتَرَةٌ (1)، و تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ (2).

[سورة يونس (10): الآیات 27 الی 30]

وَ اَلَّذِينَ كَسَبُوا اَلسَّيِّئٰاتِ جَزٰاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهٰا وَ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مٰا لَهُمْ مِنَ اَللّٰهِ مِنْ عٰاصِمٍ كَأَنَّمٰا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اَللَّيْلِ مُظْلِماً أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكٰانَكُمْ أَنْتُمْ وَ شُرَكٰاؤُكُمْ فَزَيَّلْنٰا بَيْنَهُمْ وَ قٰالَ شُرَكٰاؤُهُمْ مٰا كُنْتُمْ إِيّٰانٰا تَعْبُدُونَ فَكَفىٰ بِاللّٰهِ شَهِيداً بَيْنَنٰا وَ بَيْنَكُمْ إِنْ كُنّٰا عَنْ عِبٰادَتِكُمْ لَغٰافِلِينَ هُنٰالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مٰا أَسْلَفَتْ وَ رُدُّوا إِلَى اَللّٰهِ مَوْلاٰهُمُ اَلْحَقِّ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مٰا كٰانُوا يَفْتَرُونَ

وَ اَلَّذِينَ كَسَبُوا إما أن يكون معطوفا علي قوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا كأنّه قيل: وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها، وإما أن يكون تقديره: وجزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها. و المعنى: جزاؤهم أن تجازى سيئة واحدة بمثلها لا يزاد عليها. وهذا أوجه لأنّ في الأوّل عطفا علي عاملين، وفي هذا دليل علي أن المراد بالزيادة الفضل.

مٰا لَهُمْ مِنَ اَللّٰهِ مِنْ عٰاصِمٍ أي: لا يعصمهم أحد من سخط اللّه وعذابه، أو مالهم من جهة اللّه من يعصمهم كما يكون للمؤمنين.

مُظْلِماً حال من الليل، ومن قرأ: قطعا - بالسكون - جعله صفة له.

مَكٰانَكُمْ إلزموا مكانكم لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل بكم، و أَنْتُمْ

ص: 387


1- عبس: 41.
2- المعارج: 44.

تأكيد للضمير في مَكٰانَكُمْ ، لأنّه سدّ مسدّ إلزموا، وَ شُرَكٰاؤُكُمْ عطف عليه.

فَزَيَّلْنٰا بَيْنَهُمْ ففرّقنا بينهم و قطعنا الوصل التي كانت بينهم في الدنيا.

مٰا كُنْتُمْ إِيّٰانٰا تَعْبُدُونَ إنّما كنتم تعبدون الشياطين حيث أمروكم أن تتخذوا للّه أندادا فأطعتموهم.

إِنْ كُنّٰا هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة، وهم الملائكة و المسيح ومن عبدوه من دون اللّه من أولي العقل، وقيل: هم الأصنام ينطقها اللّه عزّ و جل بذلك مكان الشفاعة التي رجوها منهم(1).

هُنٰالِكَ أي: في ذلك [المقام، أو في ذلك](2) الوقت على الاستعارة تَبْلُوا أي: تختبر و تذوق كُلُّ نَفْسٍ مٰا أَسْلَفَتْ من العمل فتعرف كيف هو، أنافع أم ضار؟ أو مقبول أو مردود؟، ومنه يَوْمَ تُبْلَى اَلسَّرٰائِرُ (3).

وقرئ: تتلوا، أي: تتبع ما أسلفت، لأنّ عمله هو الذي يهديه إلى طريق الجنّة أو إلى طريق النار، أو تقرأ في صحيفتها ما قدّمت من خير أو شرّ.

مَوْلاٰهُمُ اَلْحَقِّ ربّهم الصادق ربوبيته، أو الذي يتولى حسابهم العدل الذي لا يجور.

وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مٰا كٰانُوا يَفْتَرُونَ وضاع عنهم ما كانوا يدعون أنّهم شركاء للّه تعالى.

ص: 388


1- عن مجاهد. تفسير الطبري ج 11:79.
2- ساقطة من ج.
3- الطارق: 9.

[سورة يونس (10): الآیات 31 الی 33]

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصٰارَ وَ مَنْ يُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ مِنَ اَلْحَيِّ وَ مَنْ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اَللّٰهُ فَقُلْ أَ فَلاٰ تَتَّقُونَ فَذٰلِكُمُ اَللّٰهُ رَبُّكُمُ اَلْحَقُّ فَمٰا ذٰا بَعْدَ اَلْحَقِّ إِلاَّ اَلضَّلاٰلُ فَأَنّٰى تُصْرَفُونَ كَذٰلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى اَلَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لاٰ يُؤْمِنُونَ

أي: مَنْ يَرْزُقُكُمْ منهما جميعا؟ لم يقتصر برزقكم علي جهة واحدة ليفيض عليكم نعمته.

أَمَّنْ يَمْلِكُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصٰارَ من يستطيع خلقهما و تسويتهما علي الحد الذي هما عليه من الفطرة العجيبة ؟ أو من يحميهما ويحصنهما من الآفات ؟ وَ مَنْ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ ومن يلي تدبير أمر العالم كله ؟ أَ فَلاٰ تَتَّقُونَ عقابه في عبادة غيره.

فَذٰلِكُمُ إشارة إلى من هذه صفته وأفعاله اَللّٰهُ رَبُّكُمُ اَلْحَقُّ الثابت ربوبيته و إلهيته ثباتا لا ريب فيه لمن نظر فَمٰا ذٰا بَعْدَ اَلْحَقِّ إِلاَّ اَلضَّلاٰلُ لأنّ الحقّ والضلال لا واسطة بينهما، فمن تعدّي الحقّ وقع في الضلال فَأَنّٰى تُصْرَفُونَ عن الحق ؟.

كَذٰلِكَ أي: مثل ذلك الحقّ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي: كما حقّ وثبت أنّ الحقّ بعده الضلال، فكذلك حقّت كلمة ربّك عَلَى اَلَّذِينَ تمرّدوا في الكفر وخرجوا إلى الغاية القصوى فيه.

أَنَّهُمْ لاٰ يُؤْمِنُونَ بدل من الكلمة، أي: حقّ عليهم انتفاء الإيمان وعلم اللّه ذلك منهم، أو أراد بالكلمة: العذاب، و أَنَّهُمْ لاٰ يُؤْمِنُونَ تعليل، بمعنى:

لأنّهم لا يؤمنون.

ص: 389

[سورة يونس (10): الآیات 34 الی 36]

قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكٰائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اَللّٰهُ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنّٰى تُؤْفَكُونَ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكٰائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ قُلِ اَللّٰهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاٰ يَهِدِّي إِلاّٰ أَنْ يُهْدىٰ فَمٰا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ وَ مٰا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاّٰ ظَنًّا إِنَّ اَلظَّنَّ لاٰ يُغْنِي مِنَ اَلْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اَللّٰهَ عَلِيمٌ بِمٰا يَفْعَلُونَ

وضع سبحانه إعادة الخلق موضع ما يكون دافعه مكابرا لظهور برهانه، ثمّ قال لنبيّه: قُلِ اَللّٰهُ يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ أمره أن ينوب عنهم في الجواب، إذ لا يدعهم لجاجهم و مكابرتهم أن ينطقوا بكلمة الحقّ .

هداه للحقّ وإلى الحقّ لغتان، فجمع سبحانه بين اللغتين، ويقال: هدي بنفسه، بمعنى: اهتدى، كما يقال: شرى بمعنى: اشترى، ومنه قراءة من قرأ: أمن لا يهدّي.

[و قرئ: لا يهدي](1) بفتح الهاء و بكسرها، و بكسر الهاء والياء، وأصله: يهتدي، فأدغم وفتحت الهاء لحركة التاء، أو كسرت لالتقاء الساكنين، وكسرت الياء لاتباع ما بعدها. ومعناه: إنّ اللّه وحده هو الذي يهدي للحقّ بما ركب في المكلفين من العقول، ومكّنهم من النظر في الأدلة ووفّقهم [ووقفهم](2) علي الشرائع، فهل من شركائكم الذين جعلتموهم للّه أندادا أحد يهدي إلى الحق مثل هداية اللّه ؟.

ثمّ قال: أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ هذه الهداية أَحَقُّ با لاتباع أم الذي لاٰ يَهِدِّي أي: لا يهتدي بنفسه، أو لا يهدي غيره إِلاّٰ أَنْ يهديه اللّه، أو لا يهتدي إلا أن ينقله اللّه من حاله إلى أن يجعله حيوانا [مكلفا](3) فيهديه ؟! فَمٰا لَكُمْ كَيْفَ

ص: 390


1- ساقطة من ج.
2- ساقطة من أ، ج، وفي ط: و أعلمهم الشرائع.
3- ساقطة من أ، ط.

تَحْكُمُونَ بالباطل.

وَ مٰا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ في إقرارهم باللّه إِلاّٰ ظَنًّا لأنّه قول لا يسند إلى دليل إِنَّ اَلظَّنَّ في معرفة اللّه لاٰ يُغْنِي مِنَ اَلْحَقِّ و هو العلم شَيْئاً .

إِنَّ اَللّٰهَ عَلِيمٌ بِمٰا يَفْعَلُونَ وعيد.

[سورة يونس (10): الآیات 37 الی 40]

وَ مٰا كٰانَ هٰذَا اَلْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرىٰ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ وَ لٰكِنْ تَصْدِيقَ اَلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ اَلْكِتٰابِ لاٰ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرٰاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَ اُدْعُوا مَنِ اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ بَلْ كَذَّبُوا بِمٰا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَ لَمّٰا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذٰلِكَ كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلظّٰالِمِينَ وَ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ لاٰ يُؤْمِنُ بِهِ وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ

أي: وَ مٰا كٰانَ هٰذَا اَلْقُرْآنُ افتراء مِنْ دُونِ اَللّٰهِ وَ لٰكِنْ كان تَصْدِيقَ اَلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وهو ما تقدّمه من الكتب المنزلة، لأنّه معجز دونها، وهو عيار عليها وشاهد بصحّتها.

ومعنى وَ مٰا كٰانَ ... أَنْ يُفْتَرىٰ : وما صحّ وما استقام وكان محالا أن يكون مثله في إعجازه و علو شأنّه مفترى.

وَ تَفْصِيلَ اَلْكِتٰابِ و تبيين ما شرع وفرض من الأحكام، من قوله: كِتٰابَ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ (1).

وَ لٰكِنْ كان القرآن تصديقا للكتب السماوية و تفصيلا للأحكام

ص: 391


1- النساء: 24.

الشرعية، منتفيا عنه الريب كائنا مِنْ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ .

أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَرٰاهُ بل أيقولون: اختلقه ؟! والهمزة: إما تقرير لإلزام الحجّة عليهم، أو استبعاد لقولهم وإنكار، والمعنيان متقاربان.

قُلْ إن افتريته كما زعمتم فَأْتُوا أنتم بِسُورَةٍ مفتراة مِثْلِهِ في البلاغة وحسن النظم، كما أنتم مثلي في العربية والفصاحة وَ اُدْعُوا مَنِ اِسْتَطَعْتُمْ للاستعانة به علي الإتيان بمثله مِنْ دُونِ اَللّٰهِ يعني: إنّ اللّه وحده هو القادر على أن يأتي بمثله، لا يقدر علي ذلك أحد غيره، فاستعينوا بكل من دونه علي ذلك إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ أنّه افتراء.

بَلْ كَذَّبُوا بالقران قبل أن يعلموا كنه أمره، و يقفوا علي تَأْوِيلُهُ و معانيه، لنفورهم عما يخالف ما ألفوه من دين آبائهم. وقيل: وَ لَمّٰا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ أي: ولم يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب - أي عاقبته - حتى تبيّن لهم أهو كذب أم صدق، يعني: إنّه كتاب معجز من جهتين: إعجاز نظمه، وما فيه من الإخبار بالغائبات، فسارعوا إلي التكذيب قبل أن ينظروا في بلوغه حد الإعجاز، وقبل أن يختبروا إخباره بالمغيبات.

وَ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ في نفسه ويعلم أنّه حقّ ، ولكنّه يعاند وَ مِنْهُمْ مَنْ لاٰ يصدّق به ، أو و منهم من سيؤمن به في المستقبل، و منهم من يصرّ علي الكفر وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ بالمعاندين، أو المصرّين.

[سورة يونس (10): الآیات 41 الی 43]

وَ إِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَ لَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمّٰا أَعْمَلُ وَ أَنَا بَرِيءٌ مِمّٰا تَعْمَلُونَ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ اَلصُّمَّ وَ لَوْ كٰانُوا لاٰ يَعْقِلُونَ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَ فَأَنْتَ

ص: 392

[سورة يونس (10): الآیات 43 الی 44]

تَهْدِي اَلْعُمْيَ وَ لَوْ كٰانُوا لاٰ يُبْصِرُونَ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَظْلِمُ اَلنّٰاسَ شَيْئاً وَ لٰكِنَّ اَلنّٰاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ

و إن يئست من إجابتهم و أصرّوا علي تكذيبك فتبرأ منهم وخلّهم، فقد أعذرت إليهم، ومثله: فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمّٰا تَعْمَلُونَ (1)، قُلْ يٰا أَيُّهَا اَلْكٰافِرُونَ ... إلي آخر السورة(2)، وقيل: هي منسوخة بآية القتال(3).

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ [أي: ناس يستمعون إليك](4) إذا قرأت القرآن و علّمت الأحكام، و لكنّهم لا يقبلون ولا يعون؛ وناس ينظرون إليك ويعاينون دلالاتك وأعلام نبوّتك، ولكنّهم لا يصدّقون.

ثمّ قال: أتقدر علي إسماع اَلصُّمَّ ولو انضم إلى صممهم عدم العقل ؟! لأنّ الأصم العاقل ربّما استدلّ وعلم، و أتطمع أن تقدر علي هداية اَلْعُمْيَ ولو انضم إلى فقد البصر فقد البصيرة ؟! يعني: إنّهم في اليأس من قبولهم و تصديقهم كالصم و العمي الذين لا عقول لهم ولا بصائر.

إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَظْلِمُ اَلنّٰاسَ شَيْئاً لا ينقصهم شيئا مما يتصل بمصالحهم، أو لا يظلمهم في تعذيبهم يوم القيامة، بل العذاب لاحق بهم علي سبيل العدل وا لاستحقاق.

ص: 393


1- الشعراء: 216.
2- سورة الجحد.
3- الناسخ والمنسوخ: 131.
4- ساقطة من ج.

[سورة يونس (10): الآیات 45 الی 47]

وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّٰ سٰاعَةً مِنَ اَلنَّهٰارِ يَتَعٰارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقٰاءِ اَللّٰهِ وَ مٰا كٰانُوا مُهْتَدِينَ وَ إِمّٰا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ اَلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنٰا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اَللّٰهُ شَهِيدٌ عَلىٰ مٰا يَفْعَلُونَ وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذٰا جٰاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لاٰ يُظْلَمُونَ

يستقربون أيّام لبثهم في الدنيا لقلة انتفاعهم بها، وقيل: في القبور لهول ما يرون(1).

يَتَعٰارَفُونَ بَيْنَهُمْ يعرف بعضهم بعضا كأنّهم لم يتعارفوا إلا قليلا، وذلك عند خروجهم من القبور، ثمّ ينقطع التعارف بينهم لشدّة الأمر عليهم.

وقوله: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا حال من (هم) أي: نحشرهم مشابهة أحوالهم أحوال من لم يلبث إِلاّٰ سٰاعَةً ، و يَتَعٰارَفُونَ جملة مبيّنة لقوله: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّٰ سٰاعَةً ، لأنّ التعارف لا يبقى مع طول العهد ويصير تناكرا، أو يتعلّق بالظرف.

قَدْ خَسِرَ علي إرادة القول، أي: يتعارفون بينهم قائلين ذلك، أو هو شهادة من اللّه علي خسرانهم. والمعنى: قد خسروا في تجارتهم و بيعهم الإيمان بالكفر.

وَ مٰا كٰانُوا مُهْتَدِينَ للتجارة عارفين بها، وهو استئناف فيه معنى التعجب، كأنّه قال: ما أخسرهم!.

فَإِلَيْنٰا مَرْجِعُهُمْ جواب [نَتَوَفَّيَنَّكَ ، وجواب](2)نُرِيَنَّكَ محذوف

ص: 394


1- معاني القرآن وإعرابه ج 3:22.
2- ساقطة من ج.

كأنّه قال: وإما نرينك بعض الذي نعدهم في الدنيا فذاك، أو نتوفينك قبل أن نريكه فنحن نريكه في الآخرة.

ثُمَّ اَللّٰهُ شَهِيدٌ ذكر الشهادة والمراد مقتضي الشهادة وهو العقاب، فكأنّه قال: ثمّ اللّه معاقب عَلىٰ مٰا يَفْعَلُونَ .

وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ يبعث إليهم فَإِذٰا جٰاءَ رَسُولُهُمْ بالمعجزات فكذّبوه قُضِيَ بَيْنَهُمْ أي: بين النبيّ ومن كذبه بِالْقِسْطِ بالعدل، فأنجي الرسول وعذّب المكذبون، وقيل: وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ يوم القيامة رسول تنسب إليه فَإِذٰا جٰاءَ رَسُولُهُمْ الموقف فيشهد عليهم بالكفر والإيمان قُضِيَ بَيْنَهُمْ (1).

[سورة يونس (10): الآیات 48 الی 52]

وَ يَقُولُونَ مَتىٰ هٰذَا اَلْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ قُلْ لاٰ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَ لاٰ نَفْعاً إِلاّٰ مٰا شٰاءَ اَللّٰهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذٰا جٰاءَ أَجَلُهُمْ فَلاٰ يَسْتَأْخِرُونَ سٰاعَةً وَ لاٰ يَسْتَقْدِمُونَ قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَتٰاكُمْ عَذٰابُهُ بَيٰاتاً أَوْ نَهٰاراً مٰا ذٰا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ اَلْمُجْرِمُونَ أَ ثُمَّ إِذٰا مٰا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَ قَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذٰابَ اَلْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاّٰ بِمٰا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ

مَتىٰ هٰذَا اَلْوَعْدُ استعجال لما وعدوا من العذاب علي سبيل التكذيب و الاستبعاد.

قُلْ لاٰ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا من فقر أو مرض وَ لاٰ نَفْعاً من غنى أو صحّة إِلاّٰ مٰا شٰاءَ اَللّٰهُ استثناء منقطع، أي: ولكن ما شاء اللّه من ذلك كائن فكيف أملك لكم الضرّ.

ص: 395


1- عن مجاهد. تفسير الطبري ج 11:85.

لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ في عذابهم وحدّ محدود من الزمان إِذٰا جٰاءَ ذلك الوقت أنجز وعدكم فلا تستعجلوه.

أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَتٰاكُمْ عَذٰابُهُ بَيٰاتاً ظرف، أي: وقت بيات فيبيتكم وأنتم نائمون أَوْ نَهٰاراً أي: في وقت أنتم فيه مشتغلون بطلب معاشكم، و البيات بمعنى التبييت، كالسلام بمعنى التسليم.

مٰا ذٰا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ اَلْمُجْرِمُونَ أي: أيّ شيء يستعجلون من العذاب ؟ وليس شيء منه يوجب الاستعجال، ويجوز أن يكون معناه التعجب، كأنّه قال:

أيّ هول شديد يستعجلون منه ؟!. وقيل: الضمير في مِنْهُ للّه تعالى، وتعلّق الاستفهام ب - أَ رَأَيْتُمْ . و المعنى: أخبروني ماذا يستعجل منه المجرمون، وجواب الشرط محذوف وهو تندموا علي الاستعجال، أو تعرفوا الخطأ فيه.

و يجوز أن يكون مٰا ذٰا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ اَلْمُجْرِمُونَ جوابا للشرط، كقولك: إن أتيتك ماذا تطعمني ؟، ثمّ تتعلّق الجملة ب - أَ رَأَيْتُمْ ، وأن يكون أَ ثُمَّ إِذٰا مٰا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ جواب الشرط، و مٰا ذٰا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ اَلْمُجْرِمُونَ اعتراضا. والمعنى:

إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان به.

ودخول حرف الاستفهام علي ثمّ كدخوله علي الواو والفاء في قوله:

أَ فَأَمِنَ (1) ، أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ اَلْقُرىٰ (2).

آلْآنَ على إرادة القول، أي: قيل لهم إذا آمنوا بعد وقوع العذاب: الآن آمنتم به وقد كنتم تكذبون به ؟ لأنّ استعجالهم كان للتكذيب.

ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عطف علي (قيل) المضمر قبل آلْآنَ .

ص: 396


1- الأعراف: 97.
2- الأعراف: 98.

[سورة يونس (10): الآیات 53 الی 56]

وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَ رَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَ مٰا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ وَ لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مٰا فِي اَلْأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَ أَسَرُّوا اَلنَّدٰامَةَ لَمّٰا رَأَوُا اَلْعَذٰابَ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لاٰ يُظْلَمُونَ أَلاٰ إِنَّ لِلّٰهِ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ أَلاٰ إِنَّ وَعْدَ اَللّٰهِ حَقٌّ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ

أي: و يستخبرونك فيقولون: أَ حَقٌّ هُوَ ، وهو استفهام علي وجه الإنكار وا لاستهزاء.

قُلْ إِي ومعناه: نعم في القسم، كما كان (هل) بمعنى (قد) في الاستفهام خاصة.

وَ مٰا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ بفائتين العذاب، وهو لاحق بكم لا محالة.

ظَلَمَتْ صفة نَفْسٍ أي: وَ لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظالمة مٰا فِي الدنيا اليوم من خزائنها و أموالها علي كثرتها لاَفْتَدَتْ بِهِ لجعلته فدية لها، يقال: فداه فافتدى.

وَ أَسَرُّوا اَلنَّدٰامَةَ لَمّٰا رَأَوُا اَلْعَذٰابَ لأنّهم بهتوا لرؤيتهم ما لم يحتسبوا، عاينوا من تفاقم الأمر ما سلبهم قواهم فلم يطيقوا عنده بكاء ولا صراخا سوي إسرار الندامة في القلوب، وقيل: أسرّ الرؤساء منهم الندامة من أتباعهم حياء منهم وخوفا من توبيخهم(1)، وقيل: وَ أَسَرُّوا اَلنَّدٰامَةَ أخلصوها، لأنّ سرّ الشيء خالصه، وقيل: معناه: أظهروها(2).

ص: 397


1- معاني القرآن للفراء ج 1:469.
2- عن أبي عبيدة. معالم التنزيل ج 2:119.

وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بين الظالمين و المظلومين.

ثمّ ذكر سبحانه أنّ له الملك كله، و أنّه المثيب و المعاقب، و أنّ ما وعده حَقٌّ ، وهو القادر علي الإحياء و الإماتة لا يقدر عليهما غيره، وإلى حسابه وجزائه المرجع، ليعلم أنّ الأمر كذلك فيخاف ويرجى.

[سورة يونس (10): الآیات 57 الی 60]

يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ قَدْ جٰاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ شِفٰاءٌ لِمٰا فِي اَلصُّدُورِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اَللّٰهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمّٰا يَجْمَعُونَ قُلْ أَ رَأَيْتُمْ مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرٰاماً وَ حَلاٰلاً قُلْ آللّٰهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اَللّٰهِ تَفْتَرُونَ وَ مٰا ظَنُّ اَلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّٰهِ اَلْكَذِبَ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ إِنَّ اَللّٰهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى اَلنّٰاسِ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاٰ يَشْكُرُونَ

أي: قد جاءكم كتاب جامع لهذه الفوائد من مَوْعِظَةٌ و تنبيه علي التوحيد وَ شِفٰاءٌ أي: دواء لِمٰا فِي اَلصُّدُورِ من العقائد الفاسدة وَ هُدىً أي: دلالة تؤدي إلى الحقّ وَ رَحْمَةٌ لمن آمن به وعمل بما فيه.

الأصل: قُلْ بِفَضْلِ اَللّٰهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فليفرحوا فَبِذٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ، و التكرير للتأكيد و التقرير، وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا، و أحد الفعلين حذف لدلالة الآخر عليه، ودخلت الفاء لمعنى الشرط، أي: إن فرحوا بشيء فليخصّوهما بالفرح فإنّه لا مفروح به أحقّ منهما.

وقرئ: فلتفرحوا - بالتاء - علي الأصل والقياس. وقيل: فضل اللّه: الإسلام، ورحمته: القرآن(1). وعن الباقر عليه السلام: (فضل اللّه: رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ورحمته: عليّ بن

ص: 398


1- عن الحسن وغيره. تفسير الطبري ج 11:87.

أبي طالب عليه السلام)(1).

أَ رَأَيْتُمْ أخبروني، و مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ : ما منصوب ب - أَنْزَلَ أو ب - أَ رَأَيْتُمْ في معنى: أخبرونيه.

فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرٰاماً وَ حَلاٰلاً أي: أنزله اللّه رزقا حلالا كله، فجعلتم بعضه حلالا وبعضه حراما، كقولهم: هٰذِهِ أَنْعٰامٌ وَ حَرْثٌ حِجْرٌ (2).

قُلْ آللّٰهُ أَذِنَ لَكُمْ : [قل تكرير، و آللّٰهُ أَذِنَ لَكُمْ تعلّق ب - أَ رَأَيْتُمْ ، أي أخبروني: آللّه أذن لكم](3) في التحريم والتحليل أم تكذبون علي اللّه في نسبة ذلك إليه ؟. ويجوز أن تكون أم منقطعة، بمعنى: بل أتفترون علي اللّه ؟ تقريرا للافتراء. وكفى بهذه الآية زاجرة عن التجوز فيما يسأل عنه من أحكام الشرع، وباعثة علي وجوب الاحتياط فيه، وأن لا يقال: جائز وغير جائز إلا بعد الإيقان والإتقان، حتى لا يكون مفتريا علي اللّه.

وَ مٰا ظَنُّ اَلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّٰهِ وأيّ شيء ظن المفترين في ذلك اليوم ما يصنع بهم فيه ؟ وهو يوم الجزاء بالإحسان والإساءة، وهو وعيد عظيم حيث أبهم أمره.

إِنَّ اَللّٰهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى اَلنّٰاسِ بما فعل بهم من ضروب الإنعام وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاٰ يَشْكُرُونَ نعمه.

[سورة يونس (10): آیة 61]

وَ مٰا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَ مٰا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَ لاٰ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاّٰ كُنّٰا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَ مٰا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ

ص: 399


1- تفسير القمي ج 1:313.
2- الأنعام: 138.
3- ساقطة من ج.

[سورة يونس (10): الآیات 61 الی 65]

مِثْقٰالِ ذَرَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ فِي اَلسَّمٰاءِ وَ لاٰ أَصْغَرَ مِنْ ذٰلِكَ وَ لاٰ أَكْبَرَ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ أَلاٰ إِنَّ أَوْلِيٰاءَ اَللّٰهِ لاٰ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاٰ هُمْ يَحْزَنُونَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كٰانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ اَلْبُشْرىٰ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ فِي اَلْآخِرَةِ لاٰ تَبْدِيلَ لِكَلِمٰاتِ اَللّٰهِ ذٰلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ وَ لاٰ يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلّٰهِ جَمِيعاً هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ

ما نافية، والخطاب لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، والشأن: الأمر، وهو من شأنت شأنه، ومعناه: قصدت قصده، والضمير في مِنْهُ للشأن، لأنّ تلاوة القرآن شأن من معظم شأن رسول اللّه، أو للتنزيل. أي: وَ مٰا تَتْلُوا من التنزيل مِنْ قُرْآنٍ ، وهو إضمار قبل الذكر للتفخيم.

وَ لاٰ تَعْمَلُونَ أنتم جميعا مِنْ عَمَلٍ إِلاّٰ كُنّٰا عَلَيْكُمْ شُهُوداً شاهدين، به عالمين.

إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ من أفاض في العمل: إذا اندفع فيه.

وَ مٰا يَعْزُبُ قرئ بالضم والكسر، أي وما يغيب وما يبعد عَنْ علم رَبِّكَ .

مِنْ مِثْقٰالِ ذَرَّةٍ في موضع رفع وَ لاٰ أَصْغَرَ مِنْ ذٰلِكَ وَ لاٰ أَكْبَرَ قرئ بالنصب و الرفع، فالرفع علي الابتداء ليكون كلاما برأسه، و النصب علي نفي الجنس. فأما العطف علي موضع مِنْ مِثْقٰالِ ذَرَّةٍ في الرفع، و العطف علي لفظ مِثْقٰالِ في النصب، إذا جعلته فتحا في موضع الجر؛ فليسا بالوجه، لأنّ قولك:

لا يعزب عنه شيء إلا في كتاب لا وجه له.

أَلاٰ إِنَّ أَوْلِيٰاءَ اَللّٰهِ لاٰ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاٰ هُمْ يَحْزَنُونَ وهم الذين يتولونه

ص: 400

بالطاعة و يتولاهم بالحفظ و الكرامة، وقد أبان عنهم بقوله: اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كٰانُوا يَتَّقُونَ . وعن سعيد بن جبير، قال: سئل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عن أولياء اللّه، فقال: (هم الذين يذكر اللّه برؤيتهم)(1)، يعني: في السمت و الهيئة، وقيل: هم المتحابون في اللّه(2).

اَلَّذِينَ آمَنُوا نصب أو رفع علي المدح أو الابتداء، والخبر: لَهُمُ اَلْبُشْرىٰ . والبشرى فِي اَلدُّنْيٰا : ما بشّر اللّه المتقين في غير موضع من كتابه.

وعن النبيّ عليه السلام: (هي في الدنيا الرؤيا الصالحة يراها المؤمن لنفسه أو ترى له، وفي الآخرة الجنّة)(3). وعنه عليه السلام: (ذهبت النبوّة و بقيت المبشرات)(4). وعن عطاء:

(لهم البشري عند الموت يأتيهم الملائكة بالرحمة)(5)، قال اللّه تعالي: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلاٰئِكَةُ أَلاّٰ تَخٰافُوا وَ لاٰ تَحْزَنُوا... الآية(6). وأما البشرى في الآخرة فتلقّي الملائكة إيّاهم مسلّمين مبشّرين بالفوز والكرامة وغير ذلك من البشارات، نحو إعطاء الصحف بأيمانهم، وما يرون من بياض وجوههم.

لاٰ تَبْدِيلَ لِكَلِمٰاتِ اَللّٰهِ لا تغيير لأقواله، ولا إخلاف لمواعيده.

ذٰلِكَ إشارة إلى كونهم مبشّرين في الدارين، وكلتا الجملتين اعتراض.

وَ لاٰ يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ تكذيبهم وتدبيرهم في إبطال أمرك وسائر ما

ص: 401


1- تفسير الطبري ج 11:91.
2- عن أبي هريرة مرفوعا. تفسير الطبري ج 11:92.
3- صحيح مسلم ج 2:48، الكافي ج 8:90 باختصار.
4- سنن ابن ماجة ج 2:1283، ح 3896.
5- الكشف والبيان ج 5:139.
6- فصلت: 30.

يتكلّمون به في شأنك.

إِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلّٰهِ استئناف فيه تعليل، كأنّه قال: مالي لا أحزن ؟ فأجيب:

إِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلّٰهِ جَمِيعاً أي: إنّ الغلبة والقهر جميعا لله وفي ملكته، لا يملك أحد شيئا منهما، لا هم ولا غيرهم، فهو يغلبهم و ينصرك عليهم، إِنّٰا لَنَنْصُرُ رُسُلَنٰا (1).

هُوَ اَلسَّمِيعُ لما يقولون اَلْعَلِيمُ بما يعزمون عليه، فيكافئهم بذلك.

[سورة يونس (10): الآیات 66 الی 70]

أَلاٰ إِنَّ لِلّٰهِ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ وَ مٰا يَتَّبِعُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ شُرَكٰاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاّٰ يَخْرُصُونَ هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ اَلنَّهٰارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ قٰالُوا اِتَّخَذَ اَللّٰهُ وَلَداً سُبْحٰانَهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ لَهُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطٰانٍ بِهٰذٰا أَ تَقُولُونَ عَلَى اَللّٰهِ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّ اَلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّٰهِ اَلْكَذِبَ لاٰ يُفْلِحُونَ مَتٰاعٌ فِي اَلدُّنْيٰا ثُمَّ إِلَيْنٰا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ اَلْعَذٰابَ اَلشَّدِيدَ بِمٰا كٰانُوا يَكْفُرُونَ

مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ هم العقلاء المميّزون من الملائكة والإنس والجن، وإنّما خصّهم ليبين أنّهم إذا كانوا عبيده وفي ملكته ولا يصلح أحد منهم للإلهية، فما وراءهم مما لا يعقل ولا يميّز أحقّ أن لا يكون شريكا له.

ومعنى وَ مٰا يتبعون شُرَكٰاءَ : وما يتبعون حقيقة الشركاء، لأنّ شركة اللّه في الإلهية محال إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ظنهم أنّهم شركاء وَ إِنْ هُمْ إِلاّٰ

ص: 402


1- غافر: 51.

يَخْرُصُونَ يقدّرون تقديرا باطلا. ويجوز أن يكون وَ مٰا يَتَّبِعُ استفهاما، أي:

وأيّ شيء يتّبعون ؟ وعلي هذا فيكون شُرَكٰاءَ نصبا ب - يَدْعُونَ ، وعلي الأوّل ب - وَ مٰا يَتَّبِعُ ، وكان حقّه: وما يتّبع الذين يدعون من دون اللّه شركاء شركاء، فاقتصر علي أحدهما للدلالة. ويجوز أن تكون ما موصولة عطفا علي من ، بمعنى: وللّه ما يتّبعه الذين يدعون من دون اللّه شركاء، أي: وله شركاؤهم.

ثمّ نبّه على عظيم نعمته بأنّه جعل اَللَّيْلَ مظلما وَ اَلنَّهٰارَ مضيئا مُبْصِراً ليسكنوا في الليل، و يبصروا في النهار مطالب أرزاقهم.

سُبْحٰانَهُ تنزيه له عن اتخاذ الولد هُوَ اَلْغَنِيُّ علة لنفي الولد، لأنّ ما يطلب به الولد من يلد، وما يطلبه له، السبب في كله الحاجة، وإذا كانت عنه منتفية كان الولد عنه منتفيا.

لَهُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ فهو مستغن عن اتخاذ أحد منهم ولدا.

إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطٰانٍ أي: ما عندكم من حجّة بِهٰذٰا القول، ولما نفى عنهم الحجّة جعلهم غير عالمين، فدلّ بذلك علي أنّ كل قول ليس عليه برهان فهو جهل وليس بعلم.

إِنَّ اَلَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّٰهِ اَلْكَذِبَ بإضافة الولد إليه.

مَتٰاعٌ فِي اَلدُّنْيٰا أي: افتراؤهم هذا متاع قليل و منفعة يسيرة في الدنيا ثم يلقون الشقاء المؤبد بعده.

[سورة يونس (10): آیة 71]

وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قٰالَ لِقَوْمِهِ يٰا قَوْمِ إِنْ كٰانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقٰامِي وَ تَذْكِيرِي بِآيٰاتِ اَللّٰهِ فَعَلَى اَللّٰهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ

ص: 403

[سورة يونس (10): الآیات 71 الی 73]

وَ شُرَكٰاءَكُمْ ثُمَّ لاٰ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اُقْضُوا إِلَيَّ وَ لاٰ تُنْظِرُونِ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمٰا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّٰ عَلَى اَللّٰهِ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنٰاهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي اَلْفُلْكِ وَ جَعَلْنٰاهُمْ خَلاٰئِفَ وَ أَغْرَقْنَا اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا فَانْظُرْ كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلْمُنْذَرِينَ

إِنْ كٰانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ أي: شقّ وثقل عليكم مَقٰامِي مكاني، يعني: نفسه، كما يقال: فعلت كذا لمكان فلان، ومنه: وَ لِمَنْ خٰافَ مَقٰامَ رَبِّهِ (1) يعني: خاف ربّه، أو يريد: قيامي و مكثي بين أظهركم مددا طوالا، أو مقامي وَ تَذْكِيرِي لأنّهم كانوا إذا وعظوا قاموا علي أرجلهم ليكون كلامهم مسموعا.

فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ من أجمع علي الأمر و أجمع الأمر و أزمعه: إذا عزم عليه، والواو بمعنى (مع) أي: فأجمعوا أمركم مع شركائكم و احتشدوا فيما تريدون من إهلاكي، و ابذلوا وسعكم فيه ثُمَّ لاٰ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً أي: ولا يكن قصدكم إلى إهلاكي مستورا عليكم و لكن مكشوفا مشهورا تجاهرونني به. و الغمّة:

السترة، من غمّه: إذا ستره، ومنه الحديث: (لا غمّة في فرائض اللّه)(2) أي: لا تستر، ولكن يجاهر بها. ويجوز أن يكون المعنى: ثمّ أهلكوني لئلا يكون عيشكم بسببي غمّة، أي: غما وهما، والغمّة والغم بمعنى كالكربة و الكرب.

ثُمَّ اُقْضُوا إِلَيَّ ذلك الأمر الذي تريدون بي، أي: أدّوا إليّ ما هو حقّ عليكم عندكم، من إهلاكي كما يقضي الرجل غريمه وَ لاٰ تُنْظِرُونِ ولا تمهلوني.

فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فإن أعرضتم عن نصيحتي وعن اتباع الحقّ .

ص: 404


1- الرحمن: 46.
2- كتاب الشفا ج 1:76.

فَمٰا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فما كان عندي ما ينفّركم عني من طمع في أموالكم، وطلب أجر على موعظتكم.

إِنْ أَجْرِيَ إِلاّٰ عَلَى اَللّٰهِ و هو الثواب الذي يثيبني في الآخرة.

وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ المستسلمين لأمر اللّه، أو الذين لا يطلبون علي تعليم الدين أجرا ولا يأخذون به دنيا، يريدون: أنّ ذلك مقتضي الإسلام.

فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنٰاهُ وَ مَنْ مَعَهُ أي: فتمّوا علي تكذيبه، وكان تكذيبهم له في آخر المدة الطويلة كتكذيبهم في أولها.

فَنَجَّيْنٰاهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي السفينة وَ جَعَلْنٰاهُمْ خَلاٰئِفَ خلفاء لمن هلك بالغرق.

فَانْظُرْ كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلْمُنْذَرِينَ هذا تعظيم لما جرى عليهم، وتحذير لمكذبي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عن مثله.

[سورة يونس (10): الآیات 74 الی 78]

ثُمَّ بَعَثْنٰا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلىٰ قَوْمِهِمْ فَجٰاؤُهُمْ بِالْبَيِّنٰاتِ فَمٰا كٰانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمٰا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذٰلِكَ نَطْبَعُ عَلىٰ قُلُوبِ اَلْمُعْتَدِينَ ثُمَّ بَعَثْنٰا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسىٰ وَ هٰارُونَ إِلىٰ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِ بِآيٰاتِنٰا فَاسْتَكْبَرُوا وَ كٰانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ فَلَمّٰا جٰاءَهُمُ اَلْحَقُّ مِنْ عِنْدِنٰا قٰالُوا إِنَّ هٰذٰا لَسِحْرٌ مُبِينٌ قٰالَ مُوسىٰ أَ تَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمّٰا جٰاءَكُمْ أَ سِحْرٌ هٰذٰا وَ لاٰ يُفْلِحُ اَلسّٰاحِرُونَ قٰالُوا أَ جِئْتَنٰا لِتَلْفِتَنٰا عَمّٰا وَجَدْنٰا عَلَيْهِ آبٰاءَنٰا وَ تَكُونَ لَكُمَا اَلْكِبْرِيٰاءُ فِي اَلْأَرْضِ وَ مٰا نَحْنُ لَكُمٰا بِمُؤْمِنِينَ

أي: بَعَثْنٰا مِنْ بعد نوح رُسُلاً يعني: هودا وصالحا وإبراهيم و لوطا

ص: 405

و شعيبا فَجٰاؤُهُمْ بالمعجزات و الحجج المبيّنة لدعواهم.

فَمٰا كٰانُوا لِيُؤْمِنُوا أي: فما كان إيمانهم إلا ممتنعا لتصميمهم علي الكفر بِمٰا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ يريد: أنّهم كانوا أهل جاهلية قبل بعثة الرسل، فلم يكن بين حالتيهم فرق قبل البعثة وبعدها.

كَذٰلِكَ أي: مثل ذلك الطبع نَطْبَعُ عَلىٰ قُلُوبِ اَلْمُعْتَدِينَ كأنّ الطبع جار مجري الكناية عن عنادهم، لأنّ الخذلان يتبعه، ألا ترى أنّه وصفهم بالاعتداء وأسنده إليهم.

مِنْ بَعْدِهِمْ أي: من بعد الرسل.

فَاسْتَكْبَرُوا عن قبول الآيات بعد تبيّنها وَ كٰانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ كفارا ذوي آثام عظام، فلذلك استكبروا عنها و اجترؤوا علي ردها.

فَلَمّٰا عرفوا أنّه هو اَلْحَقُّ و أنّه مِنْ عند اللّه قٰالُوا إِنَّ هٰذٰا لَسِحْرٌ مُبِينٌ .

أَ تَقُولُونَ لِلْحَقِّ أي: أتعيبونه و تطعنون فيه ؟ ونحوه: سَمِعْنٰا فَتًى يَذْكُرُهُمْ (1)[أي: يعيبهم](2).

أَ سِحْرٌ هٰذٰا إنكار لما قالوه في عيبه والطعن عليه، ويجوز أن يكون مفعول أَ تَقُولُونَ محذوفا، وهو ما دلّ عليه قولهم: إِنَّ هٰذٰا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ، ثمّ قال: أَ سِحْرٌ هٰذٰا .

لِتَلْفِتَنٰا لتصرفنا، و اللفت و الفتل مثلان، مطاوعهما: الالتفات و الانفتال.

ص: 406


1- الأنبياء: 60.
2- ساقطة من ج.

عَمّٰا وَجَدْنٰا عَلَيْهِ آبٰاءَنٰا يريدون عبادة الأصنام.

وَ تَكُونَ لَكُمَا اَلْكِبْرِيٰاءُ أي: الملك، لأنّ الملوك موصوفون بالكبر. و قرئ:

ويكون - بالياء -.

[سورة يونس (10): الآیات 79 الی 83]

وَ قٰالَ فِرْعَوْنُ اِئْتُونِي بِكُلِّ سٰاحِرٍ عَلِيمٍ فَلَمّٰا جٰاءَ اَلسَّحَرَةُ قٰالَ لَهُمْ مُوسىٰ أَلْقُوا مٰا أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَلَمّٰا أَلْقَوْا قٰالَ مُوسىٰ مٰا جِئْتُمْ بِهِ اَلسِّحْرُ إِنَّ اَللّٰهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُصْلِحُ عَمَلَ اَلْمُفْسِدِينَ وَ يُحِقُّ اَللّٰهُ اَلْحَقَّ بِكَلِمٰاتِهِ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُجْرِمُونَ فَمٰا آمَنَ لِمُوسىٰ إِلاّٰ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلىٰ خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعٰالٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ اَلْمُسْرِفِينَ

مٰا جِئْتُمْ بِهِ : ما موصولة، و اَلسِّحْرُ خبر المبتدأ، أي: الذي جئتم به هو السحر، لا الذي سمّيتموه سحرا من المعجزات، و قرئ: السحر - علي [الاستفهام - وعلي هذه القراءة تكون ما استفهامية، بمعنى: أي شيء جئتم به ؟ أهو](1) السحر؟.

إِنَّ اَللّٰهَ سَيُبْطِلُهُ سيظهر بطلانه إنّه لاٰ يُصْلِحُ عَمَلَ اَلْمُفْسِدِينَ لا يثبته ولا يديمه، بل يدمر عليه.

وَ يُحِقُّ اَللّٰهُ اَلْحَقَّ و يثبته بِكَلِمٰاتِهِ بقضاياه ووعده النصر.

فَمٰا آمَنَ لِمُوسىٰ في أوّل أمره إِلاّٰ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ أي: طائفة من ذراري بني إسرائيل، كأنّه قال: إلا أولاد من أولاد قومه، وذلك أنّه دعا الآباء فلم يجيبوه خوفا مِنْ فِرْعَوْنَ ، وقيل: هم بنو إسرائيل، وكانوا ستمائة ألف(2)، وكان

ص: 407


1- ساقطة من ج.
2- عن ابن عباس. الكشف والبيان ج 5:143.

يعقوب دخل مصر منهم باثنين وسبعين، وإنّما سمّاهم ذرية على وجه التصغير لقلتهم با لإضافة إلي قوم فرعون، وقيل: الضمير في قَوْمِهِ لفرعون، والذرية:

مؤمن آل فرعون و آسية امرأته وخازنه وامرأة خازنه و ماشطة امرأته(1).

و الضمير في وَ مَلاَئِهِمْ يرجع إلى فرعون، والمعنى: حزب آل فرعون كما يقال: ربيعة ومضر، ويجوز أن يرجع إلى الذرية، أي: علي خوف من فرعون وخوف من أشراف بني إسرائيل، لأنّهم كانوا يمنعونهم خوفا من فرعون عليهم وعلي أنفسهم، ويدلّ عليه قوله: أَنْ يَفْتِنَهُمْ أي: يعذّبهم.

وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعٰالٍ أي: قاهر فِي اَلْأَرْضِ ، وَ إِنَّهُ لَمِنَ اَلْمُسْرِفِينَ في الظلم والفساد، وفي الكبر و العتو.

[سورة يونس (10): الآیات 84 الی 86]

وَ قٰالَ مُوسىٰ يٰا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّٰهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فَقٰالُوا عَلَى اَللّٰهِ تَوَكَّلْنٰا رَبَّنٰا لاٰ تَجْعَلْنٰا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ اَلظّٰالِمِينَ وَ نَجِّنٰا بِرَحْمَتِكَ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلْكٰافِرِينَ

فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا أي: إليه أسندوا أموركم في العصمة من فرعون، ثمّ شرط في التوكل الإسلام، وهو أن يسلموا نفوسهم للّه، أي: يجعلوها له سالمة خالصة لا حظّ للشيطان فيها.

فَقٰالُوا عَلَى اَللّٰهِ تَوَكَّلْنٰا لا جرم قبل اللّه توكلهم، وأجاب دعاءهم، و نجّاهم وأهلك أعداءهم، و جعلهم خلفاء في أرضه.

لاٰ تَجْعَلْنٰا فِتْنَةً أي: موضع فتنة لهم، أي: عذاب يعذّبوننا أو يفتنوننا عن ديننا، أو فتنة لهم يفتتنون بنا، يقولون: لو كان هؤلاء على الحقّ لما أصيبوا.

ص: 408


1- عن سعيد بن جبير. تفسير الطبري ج 11:107.

وَ نَجِّنٰا بِرَحْمَتِكَ مِنَ قوم فرعون و استعبادهم إيّانا.

[سورة يونس (10): الآیات 87 الی 89]

وَ أَوْحَيْنٰا إِلىٰ مُوسىٰ وَ أَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءٰ ا لِقَوْمِكُمٰا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَ اِجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ قٰالَ مُوسىٰ رَبَّنٰا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ زِينَةً وَ أَمْوٰالاً فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا رَبَّنٰا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اِطْمِسْ عَلىٰ أَمْوٰالِهِمْ وَ اُشْدُدْ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ فَلاٰ يُؤْمِنُوا حَتّٰى يَرَوُا اَلْعَذٰابَ اَلْأَلِيمَ قٰالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمٰا فَاسْتَقِيمٰا وَ لاٰ تَتَّبِعٰانِّ سَبِيلَ اَلَّذِينَ لاٰ يَعْلَمُونَ

تبوأ المكان: اتخذه مباءة، نحو توطّنه: اتخذه وطنا. و المعنى: اجعلا بِمِصْرَ بُيُوتاً من بيوته مباءة لِقَوْمِكُمٰا و مرجعا يرجعون إليه وَ اِجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ تلك قِبْلَةً أي: مساجد يذكر فيها اسم اللّه، وقيل: اجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضا(1).

وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ داوموا علي فعلها.

وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ خطاب لموسى، وقيل: لمحمّد صلى الله عليه و آله و سلم(2).

و الزينة: ما يتزيّن به من لباس أو حليّ أو فراش أو غير ذلك.

لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ قيل: هو دعاء بلفظ الأمر كقوله: رَبَّنَا اِطْمِسْ عَلىٰ أَمْوٰالِهِمْ وَ اُشْدُدْ لما لم يبق له طمع في إيمانهم، اشتد غضبه عليهم فدعا اللّه عليهم بما علم أنّه لا يكون غيره، ليشهد عليهم أنّهم لا يستحقّون إلا الخذلان، وأن يخلي بينهم وبين ضلالهم.

ص: 409


1- عن سعيد بن جبير. تفسير الطبري ج 11:107.
2- الكشف والبيان ج 5:144.

ومعنى الطمس علي الأموال: تغييرها عن جهتها إلى جهة لا ينتفع بها، قيل:

صارت جميع أموالهم حجارة(1). والشدّ علي القلوب: عبارة عن الخذلان والطبع.

فَلاٰ يُؤْمِنُوا جواب للدعاء.

وقيل: إنّ (اللام) في لِيُضِلُّوا للتعليل علي أنّهم جعلوا نعمة اللّه سببا في الضلال فكأنّهم أعطوها ليضلوا، وقوله: فَلاٰ يُؤْمِنُوا عطف علي لِيُضِلُّوا ، وقوله: رَبَّنَا اِطْمِسْ عَلىٰ أَمْوٰالِهِمْ وَ اُشْدُدْ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ دعاء معترض بين المعطوف والمعطوف عليه، وكان موسى عليه السلام يدعو وهارون يؤمن فسمّاهما داعيين.

فَاسْتَقِيمٰا فاثبتا علي ما أنتما عليه من الدعوة والزيادة في إلزام الحجّة.

الصادق عليه السلام: (مكث فرعون بعد هذا الدعاء أربعين سنة)(2).

وَ لاٰ تَتَّبِعٰانِّ سَبِيلَ اَلَّذِينَ لاٰ يَعْلَمُونَ أي: لا تتبعا طريق الجهلة ولا تعجلا. و قرئ: و لا تتبعان - بالنون الخفيفة وكسرها - لالتقاء الساكنين تشبيها بنون التثنية.

[سورة يونس (10): الآیات 90 الی 92]

وَ جٰاوَزْنٰا بِبَنِي إِسْرٰائِيلَ اَلْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَ جُنُودُهُ بَغْياً وَ عَدْواً حَتّٰى إِذٰا أَدْرَكَهُ اَلْغَرَقُ قٰالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاَّ اَلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرٰائِيلَ وَ أَنَا مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنّٰاسِ عَنْ آيٰاتِنٰا لَغٰافِلُونَ

أي: عبرنا بهم اَلْبَحْرَ حتى جاوزوه سالمين فَأَتْبَعَهُمْ لحقهم فِرْعَوْنُ وَ جُنُودُهُ يقال: تبعته حتى أتبعته.

ص: 410


1- عن قتادة وغيره. تفسير الطبري ج 11:109.
2- تفسير العياشي ج 2:127.

قرئ: أَنَّهُ بالفتح علي حذف الباء، وإنّه - بالكسر - على الاستئناف، بدلا من آمنت . كرر المعنى الواحد ثلاث مرات في ثلاث عبارات حرصا على القبول، ثمّ لم يقبل منه حيث أخطأ وقته و قاله في وقت الإلجاء، وكانت المرة الواحدة كافية وقت الاختيار وبقاء التكليف.

آلْآنَ أي: أتؤمن الساعة في وقت الاضطرار حين أدركك الغرق ؟ ويحكى: أنّه حين قال: آمنت، أخذ جبرئيل من رمل البحر فدسّه في فيه.

وَ كُنْتَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ أي: الضالين المضلين عن الإيمان.

قرئ: نُنَجِّيكَ بالتشديد والتخفيف، أي: نبعدك مما وقع فيه قومك، وقيل: نلقيك بنجوة من الأرض وهي المكان المرتفع(1).

بِبَدَنِكَ في موضع الحال، أي: في الحال التي لا روح فيك وإنّما أنت بدن، أو ببدنك كاملا سويا لم ينقص منه شيء ولم يتغير، أو بدرعك وكانت له درع من ذهب يعرف بها.

لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً لمن وراءك من الناس علامة، وهم بنو إسرائيل، وكان في أنفسهم أنّ فرعون أجلّ شأنا من أن يغرق، فألقاه اللّه علي الساحل حتى عاينوه، ومعنى كونه آية: أن يظهر للناس عبوديته و مهانته، و أنّ ما كان يدعيه من الربوبية محال، وأن يكون عبرة يعتبر بها الأمم بعده فلا يجترئوا علي ما اجترأ عليه.

[سورة يونس (10): الآیات 93 الی 94]

وَ لَقَدْ بَوَّأْنٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَ رَزَقْنٰاهُمْ مِنَ اَلطَّيِّبٰاتِ فَمَا اِخْتَلَفُوا حَتّٰى جٰاءَهُمُ اَلْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ فِيمٰا كٰانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمّٰا أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ فَسْئَلِ اَلَّذِينَ

ص: 411


1- عن يونس بن حبيب النحوي. الدر المنثور ج 3:316.

[سورة يونس (10): الآیات 94 الی 97]

يَقْرَؤُنَ اَلْكِتٰابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جٰاءَكَ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاٰ تَكُونَنَّ مِنَ اَلمُمْتَرِينَ وَ لاٰ تَكُونَنَّ مِنَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِ اَللّٰهِ فَتَكُونَ مِنَ اَلْخٰاسِرِينَ إِنَّ اَلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاٰ يُؤْمِنُونَ وَ لَوْ جٰاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتّٰى يَرَوُا اَلْعَذٰابَ اَلْأَلِيمَ

مُبَوَّأَ صِدْقٍ منزلا صالحا مرضيا وهو بيت المقدس والشام.

وَ رَزَقْنٰاهُمْ مِنَ اَلطَّيِّبٰاتِ وهي الأشياء اللذيذة.

فَمَا اِخْتَلَفُوا في دينهم، وما تشعبوا فيه شعبا حَتّٰى جٰاءَهُمُ اَلْعِلْمُ بدين الحقّ و لزمهم الثبات عليه، وقيل: العلم بمحمّد صلى الله عليه و آله و سلم و نعته(1)، و اختلافهم فيه: أنّه هو أم ليس به.

فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ أي: فإن وقع لك شك فرضا وتقديرا فَسْئَلِ علماء أهل الكتاب فإنّهم محيطون علما بصحّة ما أنزل إليك، وعن الصادق عليه السلام: (لم يشك ولم يسأل)(2).

لَقَدْ جٰاءَكَ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أي: ثبت عندك بالآيات و البراهين أنّ ما أتاك هو الحقّ الذي لا مدخل فيه للمرية فَلاٰ تَكُونَنَّ مِنَ اَلمُمْتَرِينَ .

وَ لاٰ تَكُونَنَّ مِنَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِ اَللّٰهِ أي: فاثبت علي ما أنت عليه من انتفاء المرية و التكذيب بآيات اللّه عنك، وقيل: خوطب رسول اللّه والمراد أمّته(3).

ص: 412


1- الكشف والبيان ج 5:148.
2- تفسير القمي ج 1:317.
3- معاني القران و إعرابه ج 3:32.

والمعنى: فإن كنتم في شك مما أنزلنا إليكم، كقوله: وَ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (1)، وقيل: الخطاب للسامع ممن يجوز عليه الشك(2)، كقول العرب: (إذا عزّ أخوك فهن)(3). وقيل: (إن) للنفي(4)، أي: فما كنت في شك فاسأل. والمعنى: لا نأمرك بالسؤال لأنّك شاك ولكن لتزداد يقينا، كما ازداد إبراهيم بمعاينة إحياء الموتى.

حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ ثبت عليهم قول اللّه الذي كتبه في اللوح وأخبر به الملائكة أنّهم يموتون كفارا، فلا يكون غيره، وتلك كتابة علم لا كتابة إرادة، تعالى اللّه عن ذلك.

[سورة يونس (10): الآیات 98 الی 99]

فَلَوْ لاٰ كٰانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهٰا إِيمٰانُهٰا إِلاّٰ قَوْمَ يُونُسَ لَمّٰا آمَنُوا كَشَفْنٰا عَنْهُمْ عَذٰابَ اَلْخِزْيِ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ مَتَّعْنٰاهُمْ إِلىٰ حِينٍ وَ لَوْ شٰاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ اَلنّٰاسَ حَتّٰى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ

فهلا كٰانَتْ قَرْيَةٌ واحدة من القرى التي أهلكناها تابت عن الكفر، و آمَنَتْ وقت بقاء التكليف قبل معاينة البأس، ولم تؤخر التوبة كما أخّرها فرعون إلى أن أدركه الغرق فَنَفَعَهٰا إِيمٰانُهٰا بأن يقبله اللّه منها.

إِلاّٰ قَوْمَ يُونُسَ استثناء من القرى، لأنّ المراد أهاليها، وهو استثناء منقطع بمعنى: ولكن قوم يونس، ويجوز أن يكون متصلا و الجملة في معنى النفي، كأنّه قيل: ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس. وكان قد بعث إلى نينوى من

ص: 413


1- النساء: 174.
2- عن القتيبي. تفسير السمرقندي ج 2:132.
3- مجمع الأمثال ج 1:35.
4- معاني القران وإعرابه ج 3:33.

أرض الموصل، فكذبوه، فذهب عنهم مغاضبا، فلما فقدوه خافوا نزول العذاب، فلبسوا المسوح وعجّوا وبكوا، فصرف اللّه عنهم العذاب وكان قد نزل وقرب منهم(1)، وعن الفضيل بن عياض(2): (إنّهم قالوا: اللهم إنّ ذنوبنا قد عظمت وجلّت، وأنت أعظم منها و أجلّ ، افعل بنا ما أنت أهله، ولا تفعل بنا ما نحن أهله)(3).

وَ لَوْ شٰاءَ رَبُّكَ مشيئة الإلجاء لَآمَنَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ كُلُّهُمْ علي وجه الإحاطة و العموم جَمِيعاً مجتمعين علي الإيمان، يدلّ عليه قوله: أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ اَلنّٰاسَ . يعني: إنّما يقدر الله علي إكراههم لا أنت، لأنّه هو يقدر أن يفعل في قلوبهم ما يضطرون عنده إلي الإيمان، وليس ذلك في مقدور القدّر، ولا يستطيعه البشر.

[سورة يونس (10): الآیات 100 الی 103]

وَ مٰا كٰانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ وَ يَجْعَلُ اَلرِّجْسَ عَلَى اَلَّذِينَ لاٰ يَعْقِلُونَ قُلِ اُنْظُرُوا مٰا ذٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مٰا تُغْنِي اَلْآيٰاتُ وَ اَلنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاٰ يُؤْمِنُونَ فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاّٰ مِثْلَ أَيّٰامِ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ اَلْمُنْتَظِرِينَ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنٰا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا كَذٰلِكَ حَقًّا عَلَيْنٰا نُنْجِ اَلْمُؤْمِنِينَ

وَ مٰا كٰانَ لِنَفْسٍ من النفوس التي علم اللّه أنّها تؤمن.

أَنْ تُؤْمِنَ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ أي: بتسهيله وتوفيقه له و تمكينه منه ودعائه

ص: 414


1- الكشف والبيان ج 5:151.
2- أبو علي الفضيل بن عياض بن مسعود التميمي، الزاهد المشهور، ولد بأبيورد ونشأ بها ثم انتقل إلي مكة وجاور بها إلى أن مات سنة 187 ه -. ينظر: وفيات الأعيان ج 3:215، معجم رجال الحديث ج 14:352.
3- الكشاف ج 2:372.

إليه.

وَ يَجْعَلُ اَلرِّجْسَ عَلَى اَلَّذِينَ لاٰ يَعْقِلُونَ قابل الإذن بالرجس وهو الخذلان، والنفس المعلوم إيمانها بالذين لا يعقلون وهم المصرّون علي الكفر، كقوله: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاٰ يَعْقِلُونَ (1). وسمّى الخذلان رجسا وهو العذاب لأنّه سببه.

مٰا ذٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ من العبر وا لآيات.

وَ مٰا تُغْنِي اَلْآيٰاتُ وَ اَلنُّذُرُ الرسل المنذرون أو الإنذارات عَنْ قَوْمٍ لاٰ يُؤْمِنُونَ أي: لا يتوقع إيمانهم، و مٰا نافية أو استفهامية.

و أَيّٰامِ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ وقائع اللّه فيهم، كما يقال: أيّام العرب، لوقائعها.

ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنٰا عطف علي كلام محذوف يدلّ عليه ما قبله، كأنّه قال:

نهلك الأمم ثمّ ننجّى رسلنا، علي حكاية الأحوال الماضية وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا معهم، وكذلك نُنْجِ اَلْمُؤْمِنِينَ أي: مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين منكم و نهلك المشركين.

و حَقًّا عَلَيْنٰا اعتراض، يعني: حقّ ذلك علينا حقّا، و قرئ: ننجّي - بالتشديد -.

[سورة يونس (10): الآیات 104 الی 105]

قُلْ يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلاٰ أَعْبُدُ اَلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ وَ لٰكِنْ أَعْبُدُ اَللّٰهَ اَلَّذِي يَتَوَفّٰاكُمْ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ أَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَ لاٰ تَكُونَنَّ مِنَ

ص: 415


1- البقرة: 171.

[سورة يونس (10): الآیات 105 الی 109]

اَلْمُشْرِكِينَ وَ لاٰ تَدْعُ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مٰا لاٰ يَنْفَعُكَ وَ لاٰ يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ اَلظّٰالِمِينَ وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اَللّٰهُ بِضُرٍّ فَلاٰ كٰاشِفَ لَهُ إِلاّٰ هُوَ وَ إِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاٰ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ وَ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ قُلْ يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ قَدْ جٰاءَكُمُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اِهْتَدىٰ فَإِنَّمٰا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّمٰا يَضِلُّ عَلَيْهٰا وَ مٰا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ وَ اِتَّبِعْ مٰا يُوحىٰ إِلَيْكَ وَ اِصْبِرْ حَتّٰى يَحْكُمَ اَللّٰهُ وَ هُوَ خَيْرُ اَلْحٰاكِمِينَ

إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ صحّة دِينِي فهذا ديني، وهو: أنّي لاٰ أَعْبُدُ الحجارة التي تعبدونها مِنْ دُونِ من هو ربّكم و إلهكم وَ لٰكِنْ أَعْبُدُ اَللّٰهَ اَلَّذِي يَتَوَفّٰاكُمْ فهو الحقيق بأن يخاف و يرجى و يعبد وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المصدّقين بالتوحيد.

وَ أَنْ أَقِمْ و الباء مراد فحذف، أي: بأن أكون وبأن أقم، فإنّ (أن) قد توصل بالأمر والنهي، وشبّه ذلك بقولهم: أنت الذي تفعل - علي الخطاب - لأنّ الغرض وصلها بما يكون معه في معنى المصدر، والأمر والنهي يدلّان علي المصدر كما يدلّ غيرهما من الأفعال.

أَقِمْ وَجْهَكَ استقم و التفت إليه فلا تلتفت يمينا ولا شمالا.

و حَنِيفاً حال من اَلدِّينِ أو من الوجه.

فَإِنْ فَعَلْتَ أي: فإن دعوت مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مٰا لاٰ يَنْفَعُكَ وَ لاٰ يَضُرُّكَ فكنّى عنه بالفعل إيجازا.

فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ اَلظّٰالِمِينَ : إِذاً جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدر، كأنّ

ص: 416

سائلا سأل عن تبعة عبادة غير اللّه، فأعلم أنّ الشرك من أعظم الظلم.

ثمّ عقب النهي عن عبادة مالا ينفع ولا يضرّ بأنّ اللّه هو الضار و النافع الذي إن أصابك بِضُرٍّ لم يقدر علي كشفه إِلاّٰ هُوَ وَ إِنْ أرادك بِخَيْرٍ لم يردّ أحد ما يريد بك من فضله فهو الحقيق بأن يعبد دون الأوثان.

قَدْ جٰاءَكُمُ اَلْحَقُّ فلم يبق لكم عذر، ولا لكم علي اللّه حجّة فَمَنِ اختار الهدي واتباع الحقّ لم ينفع إلا نفسه وَ مَنْ اختار الضلال لم يضرّ إلا نفسه.

واللام وعلي دليلان علي معنى النفع والضرر.

وَ مٰا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ بحفيظ موكل إليّ أمركم و حملكم علي ما أريد، إنّما أنا بشير ونذير.

وَ اِصْبِرْ علي دعوتهم و احتمال أذاهم حَتّٰى يَحْكُمَ اَللّٰهُ لك بالنصر عليهم والغلبة وَ هُوَ خَيْرُ اَلْحٰاكِمِينَ لأنّه لا يحكم إلا بالحقّ والعدل.

ص: 417

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.