جوامع الجامع
كاتب: طبرسی، فضل بن حسن
الناشر: العتبة العباسیة المقدسة. قسم شؤون المعارف الإسلامیة و الإنسانیة
متابعة البحث: حکیم، جواد کاظم
عدد المجلدات:6
لسان: العربية
سنة النشر: 1439 هجری قمری|2018 میلادی
رمز الكونغرس: 9ج2ط 94/5 BP
ص: 1
بسم الله الرحمن الرحیم
ص: 2
ص: 3
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه الذي جمع جوامع كلامه في كتابه العزيز الحميد، الذي لاٰ يَأْتِيهِ اَلْبٰاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاٰ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ، وصلّى اللّه علي نبيّه المبعوث لنشر كتابه، وعلي آله ذوي القربى، مبيّني آياته، وحجّاب بابه.
وبعد:
مهما بعد المجتمع الإنسانيّ اليوم عن جادة الطريق تراه يتعطش إلي الغذاء الروحيّ ، فهو المنهل له والمعين، والناس علي اختلاف أديانهم ومشاربهم يسلكون طريق الدين بفطرتهم، فتري كتب الأديان السماويّة فيها حجّة للخلق بين اتّباعها وعدم اتّباعها، حجّة تجسدها الآية الشريفة لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيىٰ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ، والقرآن منها ظهر لِيُحِقَّ اَلْحَقَّ وَ يُبْطِلَ اَلْبٰاطِلَ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُجْرِمُونَ .
وقد ضمّ القران الكريم ما بين (محكم ومتشابه، وحلال وحرام، وناسخ ومنسوخ، وأمر ونهي، وخاص وعام، و..)، وهدانا اللّه تعالي إليه بتبيانه عن لسان رسوله وأهل بيته صلوات اللّه عليهم أجمعين، ثمّ وصل حديثهم عن طريق أولي العلم من خلقه، فضمّته التفاسير والمصنّفات.
و (جوامع الجامع) الكتاب الذي بين يديك للمفسّر الجليل أمين الإسلام الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسيّ (ت 548 ه -) تفسير وسيط في
ص: 4
صرّح به في أوّله، وتممه في اثنى عشر شهرا بعدد خلفاء النبيّ صلّي اللّه عليه وآله وسلم ونقباء موسى عليه السلام، فقد شرع فيه بتاريخ (18) من صفر سنة 542 ه -، وفرغ منه في (24) من محرّم سنة 543 ه -، وهو من التفاسير التي أبقاها لنا الدهر، وصاغها جوهرة نتزيّن بها في حياتنا العلميّة والعمليّة.
ويسرّ قسم شؤون المعارف الإسلاميّة والإنسانية التابع للعتبة العبّاسيّة المقدسة أن يعنى بنشر التفسير هذا بحلته القشيبة، التي ازدانت بالتحقيق الرشيق المعتمد علي عدّة نسخ للكتاب، وعلي الفهارس الفنيّة التي تسهّل وصول الباحثين لمرادهم العلميّ ، ونحن إذ نستبشر بطباعته اليوم، نقدّم جزيل شكرنا وامتنانا إلي فضيلة السيّد جواد السيّد كاظم السيّد محسن الحكيم على تحقيقه الكتاب، داعين له بالتوفيق الدائم والتسديد لتحقيق كتب أخري من كتب التراث الإسلاميّ .
والحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام علي محمّد و آله الطاهرين.
عمار الهلالي رئيس قسم شؤون المعارف الإسلامية و الإنسانية كربلاء المقدسة 24 \ربيع الثاني\ 1439 ه - 13\3\2018 م
ص: 5
ص: 6
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه ربّ العالمين والصلاة والسلام علي خاتم الأنبياء والمرسلين محمّد وآله الطيبين الطاهرين.
وبعد..
فلما كان مؤلّف الكتاب الشيخ أمين الإسلام أبو عليّ الفضل بن الحسن الطبرسيّ رحمه الله من عيون الطائفة وأجلّائها وأعلامها، الذين لا يكاد يخلو كتاب من كتب التراجم من ذكرهم، فقد كان عالما، فاضلا، فقيها، محدّثا، نحويّا، مفسّرا، أديبا، شاعرا، وبارزا في علمي الحساب والجبر؛ لذلك رأيت أن أترجم له ترجمة مختصرة مع ذكر مصادرها لمن أراد التوسّع فيها(1).
ص: 7
أصله من طبرس، وهو منزل بين قاسان وأصفهان كما صرّح بذلك معاصره المؤرخ عليّ بن زيد البيهقيّ (1) في كتابه (تاريخ بيهق)(2)، وقد ذهب الكثير من الباحثين إلى أنّ أصله من طبرستان(3)، وهي بلاد مازندران الحالية.
لم تذكر المصادر المتوفّرة سنة ولادته بالتحديد، ولكن بملاحظة كتابيه (مجمع البيان) و (جوامع الجامع) يتضح أنّه ولد في العقد السابع من القرن الخامس الهجريّ ، فقد ذكر في مقدّمة مجمع البيان: (أنّه ذرّف علي الستين...) وقال في نهاية الجزء الأوّل منه: (أنّه فرغ من تأليفه سنة 530 ه -)، و قال في مقدّمة جوامع الجامع:
(فلقد ذرّفت علي السبعين سنينا)، وقال في خاتمته: (وكان ابتدائي بتأليفه سنة 542 ه -)، ومن هذا يظهر أنّ ولادته كانت في أواخر الستينيات من القرن الخامس الهجريّ .
استوطن مدينة مشهد، وكان يختلف إلى تاج القراء الكرمانيّ - أحد علماء النحو والتفسير - ثمّ عاد إلي بيهق سنة 523 ه -، وأشرف علي مدرسة (دروازهء عراق)(4).
ص: 8
شيوخة فى الرواية:
ذكرت المصادر أنّه يروي عن جماعة من الأعلام، منهم:
1 - السيّد أبو طالب محمّد بن الحسين الحسينيّ القصبيّ الجرجانيّ (1).
2 - السيّد أبو الحمد مهديّ بن نزار الحسينيّ القائينيّ (2).
3 - الشيخ أبو عليّ الحسن ابن الشيخ الطوسيّ (3).
4 - الشيخ أبو الوفاء عبد الجبار بن عبد اللّه بن عليّ المقرئ النيسابوريّ الرازيّ الملقّب بالمفيد(4).
5 - الشيخ الحسن بن الحسين بن الحسن بن بابويه القمّيّ الرازيّ المدعو (حسكا)، وهو جدّ الشيخ منتجب الدين ابن بابويه صاحب الفهرست(5).
6 - الشيخ موفّق الدين الحسين بن أبي الفتح الواعظ البكر آباديّ الجرجانيّ (6).
7 - الشيخ أبو الفتح عبيد اللّه(7) بن عبد الكريم بن هوازن القشيريّ المتوفى
ص: 9
سنة (521 ه)(1)، حيث روى عنه صحيفة الرضا عليه السلام في سنة (501 ه) داخل القبّة التي فيها قبر الإمام الرضا عليه السلام(2).
(8) - الشيخ أبو الحسن عبيد اللّه بن محمّد بن أحمد البيهقيّ (3).
9 - الحاكم الموفّق بن عبد اللّه العارف النوقانيّ (4).
10 - الشيخ أبو عبد اللّه جعفر بن محمّد الدوريستيّ (5).
11 - الشيخ أبو القاسم محمود بن حمزة بن نصر الكرمانيّ المعروف ب - (تاج القرّاء)(6).
الرازيّ القمّيّ (1).
4 - السيّد الجليل الإمام ضياء الدين فضل اللّه بن عليّ بن عبيد اللّه الحسنيّ الراونديّ (2).
5 - الشيخ الإمام قطب الدين أبو الحسين سعيد بن هبة اللّه بن الحسن الراونديّ ، المعروف ب - (القطب الراونديّ )(3).
6 - السيّد عزّ الدين شرفشاه بن محمّد الحسينيّ الأفطسيّ النيسابوريّ من آل زبارة(4)، والذي سكن في النجف مجاورا حتى مات بها، وإليه ينسب جبل شرفشاه في محلّة العمارة.
7 - الشيخ أبو محمّد عبد اللّه بن جعفر بن محمّد الدوريستيّ (5).
8 - الشيخ أبو الفضل شاذان بن جبرائيل القمّيّ (6).
9 - الشيخ برهان الدين محمّد بن محمّد بن عليّ القزوينيّ (7).
ص: 11
مصنفاته:
1 - الآداب الدينيّة للخزانة المعينيّة(1)، (مطبوع).
2 - الاختيار من شرح الحماسة - الطائيّة - للمرزوقي(2).
3 - الاختيار من المقتصد في النحو، لعبد القاهر الجرجانيّ (3)، والذي شرح فيه كتاب الإيضاح لأبي عليّ الفارسيّ .
4 - إعلام الوري بأعلام الهدي(4)، (مطبوع).
5 - تاج المواليد(5)، (مطبوع).
6 - جوامع الجامع، وهو الكتاب الذي بين يديك.
7 - جواهر النحو(6).
8 - عدّة السفر وعمدة الحضر(7).
9 - غنية العابد ومنية الزاهد(8).
10 - الفائق(9).
ص: 12
11 - الكاف الشاف من كتاب الكشاف(1).
12 - كنوز النجاح(2).
13 - المؤتلف من المختلف(3)، (مطبوع).
14 - مجمع البيان لعلوم القران(4)، (مطبوع).
15 - النور المبين(5).
و غيرها(1).
وهناك مصنّفات نسبت له في بعض المصادر وثبت أنّها لغيره، مثل كتاب الاحتجاج للشيخ أحمد بن عليّ بن أبي طالب الطبرسيّ ، وكتاب شواهد التنزيل للحاكم الحسكانيّ ، وكتاب مشكاة الأنوار لحفيد المصنّف الشيخ عليّ بن الحسن بن الفضل الطبرسيّ . وجميعها مطبوعة.
شعره:
ذكر البيهقيّ في تاريخه: إنّ له أشعارا كثيرة نظمها في عهد الصبا، وذكر بعضها في كتابه (الوشاح)(2) من جملتها:
إلهي بحقّ المصطفى ووصيّه *** وسبطيه والسّجّاد ذي الثّفنات
وباقر علم الأنبياء وجعفر *** وموسى نجيّ اللّه في الخلوات
وبالطّهر مولانا الرّضا و محمّد *** تلاه عليّ خيرة الخيرات
و بالحسن الهادي و بالقائم الذي *** يقوم على اسم اللّه بالبركات
أنلني إلهي ما رجوت بحبّهم *** و بدّل خطيئاتي بهم حسنات(3)
وله أيضا:
أطيّب يومي بذكراكم *** وأسعد نومي برؤياكم
لئن غبتم عن مغانيكم *** فإنّ فؤادي مغناكم
ص: 14
فلا بأس إن ريب دهري أتى *** بما لا يسّر رعاياكم
فنصر من اللّه يأتيكم *** و فضل من اللّه يغشاكم
و عقد ولائي لكم شاهد *** بأنّي فتاكم ومولاكم
لكم في جدودكم أسوة *** إذا ساءكم عيش دنياكم
وكم مثلها أفرجت عنكم *** وحطّ بها من خطاياكم
كما صفّي التّبر في كوره *** كذلكم اللّه صفّاكم
وله أيضا:
قل للّذي يبغي إلي قصر العلا *** درجا على لغب به و قصور
أقصر فقد خلق المحامد والعلا *** لمحمّد بن أخي العلا منصور
غيث إذا غيض المكارم خضرم *** ليث إذا حمي الحمام هصور
و تقاصرت أيدي الورى عن مبتغى *** كرم عليه سوى الورى مقصور
لو عصر من خدّيه ماء حيائه *** قدح العلا من مائه المعصور(1)
كما ورد في مقدّمة كتابه (مجمع البيان) ثلاثة أبيات في مدح جلال الدين أبي منصور محمّد بن يحيى الحسينيّ :
حتّى يجوز من المنى غاياتها *** متلقّيا بيمينه راياتها
و يفوز بالآمال غير مدافع *** يتلو عليه سعده آياتها
و تظلّ شمس المجد في ساحاته *** تجلو عليه جرمها بأناتها(2)
ص: 15
الملك علاء الدولة عليّ بن شهريار:
لأنّها الغاية القصوى التي عجزت *** عن أن تأمّل إدراكاتها الهمم
ما تستحقّ ملوك الدّهر مرتبة *** إلّا لصاحبها من فوقها قدم
فرأيه إن دجا ليل الشّكوك هدي *** وظلّه إن خطا صرف الرّدي حرم
كما ورد هذان البيتان في نفس المقدّمة في مدح الملك المذكور:
فكلّ أروع من آل النّبيّ نجد *** جذلان يرفل من نعماء في حلل
فلو أجاب كتاب اللّه سائله *** من خير هذا الوري لم يسم غير علي(1)
وفاته ومدفنه:
توفي بقصبة سبزوار ليلة العاشر من ذي الحجّة سنة 548 ه -، ونقل إلى مدينة مشهد ودفن في الموقع الذي يقال له (قتلكاه)، ثم نقل منه إلى مشهد الإمام الرضا عليه السلام، وقبره الآن معروف يزار ويتبرّك به، وقد أرّخ وفاته البروجرديّ في نخبة المقال(2):
وفضل بن الحسن بن الفضل *** أبو عليّ الطبرسيّ العدل
شيخ ابن شهر آشوب عنه ينشر *** مفسّر عام الوفاة (محشر)
548 ه -
ص: 16
ذكر المصنّف في مقدّمة الكتاب أنّه لما فرغ من تأليف كتابه (مجمع البيان في تفسير القرآن)، عثر علي كتاب (الكشاف) للزمخشري المتوفى سنة (538 ه -) واستفاد منه في تفسيره الثاني (الكاف الشاف)، ثمّ اقترح عليه ولده أبو نصر الحسن أن يؤلّف كتابا ثالثا يكون مجمع بينهما، فاستجاب لطلبه وصنّف تفسيره الثالث - كتابنا هذا - وأسماه (جوامع الجامع).
ومن الواضح أنّه لم يتخذ نفس المنهجيّة التي اتبعها في (مجمع البيان)، بل اتبع بشكل كامل منهجيّة صاحب الكشاف في ترتيبه، ولكنّه كان يختصر منه بشكل غير مخلّ ، ليكون كما أراد كتابا وسيطا خفيف الحجم، كثير الغنم.
فقد كان يذكر مجموعة من الآيات الشريفة - كما في الكشاف - ثمّ يعمد إلى شرحها مستعينا بأقوال المفسّرين من الصحابة والتابعين وغيرهم، وزاد علي الكشاف بنقل ما روي عن الأئمّة عليهم السلام في معنى الآية مورد التفسير.
كما يتطرّق إلي ألفاظ الآيات الكريمة من حيث المعنى اللغويّ ، والنحو، والصرف، والبلاغة، والبيان، وفي هذا كان يتبع صاحب الكشاف في الأعم الأغلبّ ، وكان يشير إلى مواضع الاختلاف معه، كما في تفسير الآية (6) من سورة البقرة، و الآية 88 من سور الزخرف، والآيات (13-14) من سورة الإنسان.
كما تبع صاحب الكشاف في اعتماد بعض القراءات على غير رواية المصاحف المتداولة، ولم يعتمدها هو في (مجمع البيان)، مثل قوله تعالى: يَقُصُّ اَلْحَقَّ (1)،
ص: 17
و قوله تعالى: «وَ سْئَلْهُمْ عَنِ اَلْقَرْيَةِ » (1)، و قوله تعالى: «إِنَّ هٰذٰا لَسٰاحِرٌ مُبِينٌ » (2)وغيرها.
أما بالنسبة لآيات الأحكام فقد كان يذكر ما روي عن الأئمّة عليهم السلام في ذلك، أو أقوال علمائنا بالحكم المفروض، إضافة إلي أقوال الشافعيّ وأبي حنيفة، ولم يذكر قول مالك إلا مرّة واحدة في حدّ السرقة في تفسير الآية (38) من سورة المائدة.
أما بالنسبة لمسائل العقائد فقد كان يردّ علي صاحب الكشاف بشكل علميّ مستدلّ بما يوافق الطريقة الحقّة، كما في تفسير الآية (48) من سورة النساء، والآية (6) و الآية (55) من سورة المائدة، و الآية (43) من سورة التوبة، و الآية (1) من سورة التحريم، والآية (1) من سورة الكوثر.
النسخ المعتمدة في التحقيق:
اعتمدت في تحقيق الكتاب على النسخ الخطيّة التاليّة:
1 - النسخة المحفوظة في مكتبة الإمام الحكيم العامّة بالرقم 1978.
وهي نسخة حسنة الخط، وتشتمل علي المجلد الأولى من الكتاب - من المقدّمة إلى آخر سورة الكهف - كتبها سلطان حسن الحسينيّ القمّيّ المجاور بالنجف المقدّس في الحضرة الغرويّة المرتضويّة. وهي بدون تاريخ، وعليها تاريخ إنهاء كتبه السيّد جعفر بن أحمد الملحوس الحسينيّ (3) ما نصّه: (أنهاه دامت سيادته في عدة مجالس آخرها يوم الخميس الحادي والعشرين من جمادي الآخرة سنة ثمان
ص: 18
الحسينيّ عفا الله عنه). ويظهر أنّ الإنهاء هو إنهاء قراءة الناسخ علي السيّد الملحوس.
ويذكر أنّ الناسخ قام بكتابة نسخة من كتاب (تحرير الأحكام الشرعية) للعلامة الحليّ المتوفى سنة (726 ه -) بتاريخ شهر رجب سنة (833 ه -)(1)، ونسخة من كتاب (التنقيح الرائع) للمقداد السيوريّ المتوفى سنة (826 ه -) بتاريخ شهر ربيع الأول سنة (834 ه -)(2).
وقد كتبت الآيات بالمداد الأحمر، وعلي النسخة هوامش كثيرة و بلاغات.
وتقع في 204 ورقة، وقياسها 27 * 18 سم، وعدد أسطرها 29.
وقد رمزت لها بالرمز (أ).
2 - النسخة المحفوظة في مكتبة الإمام الحكيم العامّة بالرقم 1064.
نسخة حسنة الخط، كتبها ماجد بن مسعود بن شمس بن كمال المهزمي يوم الثلاثاء التاسع عشر من شهر ذي القعدة سنة (985 ه -).
وقد كتبت الايات بالمداد الأحمر، وعلي النسخة هوامش توضيحية وكلمات نسخ البدل، وقد تضررت بدايتها و نهايتها بالرطوبة، و النسخة ناقصة الصفحة الأخيرة.
تقع في 358 ورقة، وقياسها 21 * 30 سم، وعدد أسطرها 27.
وقد رمزت لها بالرمز (ب).
3 - النسخة المحفوظة في مكتبة الإمام الحكيم العامّة بالرقم 857.
ص: 19
نسخة حسنة الخط مجهولة الناسخ، كتبت سنة (1081 ه) وقد كتبت الآيات بالمداد الأحمر، والنسخة ناقصة الصفحة الأولى.
تقع في 473 ورقة، وقياس 8، 25 * 5، 15 سم، وعدد أسطرها 27.
وقد رمزت لها بالرمز (ج).
4 - النسخة المحفوظة في مكتبة الإمام الحكيم العامّة بالرقم 1952.
تشتمل علي المجلد الثاني من سورة مريم إلى آخر الكتاب، وقد وضع خط علي الآيات المفسّرة، مجهولة الناسخ والتاريخ، عليها بعض الشروح والهوامش وكلمات نسخ البدل.
تقع في 333 ورقة، وقياسها 3، 25 * 5، 19 سم، وعدد أسطرها 23.
وقد رمزت لها بالرمز (د).
5 - النسخة المطبوعة بتحقيق السيّد محمّد عليّ القاضيّ الطباطبائيّ ، والمطبوعة في إيران سنة 1379 ه -. وقد رمزت لها بالرمز (ط).
لقد حرصت أن يكون تحقيق الكتاب منصبّا بالدرجة الأولى على الوصول لأقرب نصّ وضعه المصنّف رحمه الله، وبالدرجة الثانية علي عدم إثقال الهامش من حيث التعليق، أو شرح الأبيات الشعريّة، أو بيان صحة الخبر من عدمه، أو بيان وثاقة الراوي من عدمها، و أمثال ذلك؛ لكي يكون كما أراده مصنّفه رحمه الله: (كتابا وسيطا خفيف الحجم، كثير الغنم، لا يصعب حمله، ويسهل حفظه، ويكثر معناه وإن قلّ لفظه)
ص: 20
1 - كتابة النص القرآنيّ المفسّر طبقا للمصحف المتداول، وإن اعتمد المصنف رحمه الله في بعض المواضع القراءات الأخري كما أشرت إلي ذلك سابقا. ولم أقم بإرجاع القراءات المختلفة التي نقلها المصنف رحمه الله إلي قرّائها، اعتمادا علي كونها مذكورة في كتاب (النشر في القراءات العشر) لابن الجزري.
2 - ضبط النص بمقابلة النسخ و استخلاص نسخة تلفيقية منها، مع الإشارة إلي مواضع الاختلاف الضروريّة بينها، والرجوع إلي (مجمع البيان) وإلي (الكشاف) للترجيح عند اختلاف النسخ، وأهملت ما لم يكن له تأثير بالمعنى حرصا علي عدم إثقال الهامش، ففي بعض النسخ - مثلا - كلمة (سبحانه) بعد لفظ الجلالة، وفي أخري (تعالي)، وفي الثالثة (عزّ و جل)، أو عند ذكر النبيّ صلى الله عليه و آله، ففي بعضها (عليه السلام) وفي الأخري (صلوات اللّه عليه) وفي الثالثة (صلّى الله عليه وآله وسلم)، وأمثال ذلك.
3 - استخدام علامات الترقيم المتعارفة.
4 - تخريج الآيات الشريفة المستخدمة كشواهد من قبل المؤلّف رحمه الله.
5 - تخريج الأحاديث الشريفة و الروايات والأخبار من مصادرها المعتبرة من كتب الفريقين قدر الإمكان.
6 - ترجمة مختصرة للأعلام المذكورين في الكتاب، مع ذكر مصادر الترجمة لكل منهم.
7 - بيان معنى الكلمات اللغويّة الصعبة والمبهمة من المصادر اللغويّة.
8 - إرجاع الأقوال المصرّح بأسماء قائليها الواردة في الكتاب إلي مصادرها، ونسبة الأقوال الأخري إلي قائليها بالاعتماد علي المصادر.
ص: 21
9 - إرجاع الأشعار و الأراجيز المصرّع بأسماء قائليها الواردة في الكتاب إلى مصادرها، ونسبة الأخرى إلي قائليها بالاعتماد على المصادر.
10 - تخريج الأمثال المذكورة في الكتاب.
11 - التعريف بشكل مختصر بأسماء البقاع و الأماكن الواردة في الكتاب بالرجوع إلي مصادرها.
12 - كتابة النسخة وفق القواعد الإملائيّة.
13 - إعداد فهارس عامّة في آخر الكتاب تضمّنت فهرسا للأحاديث الشريفة و الأخبار، وآخر للأعلام، وفهرسا للأمثال، وآخر للأبيات الشعريّة و الأراجيز، وفهرسا للأماكن والبقاع... الخ.
14 - ذكر المصادر المعتمدة في التحقيق.
ولا يسعني في هذا المقام إلا أن أتوجّه ببالغ الشكر والامتنان للعتبة العباسية المقدّسة ممثّلة بالمتولي الشرعي للعتبة سماحة السيد أحمد الصافي «دام عزه»، كما لا يفوتني تقديم الشكر لقسم شؤون المعارف الإسلامية والإنسانية ورئيسه سماحة الشيخ عمار الهلالي «دام توفيقه» علي جهودهم في مراجعة الكتاب وطبعه.
وفي الختام أرجو من القارئ الكريم التجاوز والصفح عما وقع فيه من الخلل والتقصير، كما أشكره تعالي شأنه علي توفيقه لإكمال الكتاب، سائلا منه أن يجعل عملي خالصا لوجهه الكريم، وأن ينفعني به يوم ألقاه، وما توفيقي إلا باللّه عليه توكلت وإليه أنيب، و هو حسبي ونعم الوكيل.
جواد السيد كاظم الحكيم النجف الأشرف
ص: 22
ص: 23
ص: 24
الصورة
ص: 25
الصورة
ص: 26
الصورة
ص: 27
الصورة
ص: 28
الصورة
ص: 29
الصورة
ص: 30
الصورة
ص: 31
الصورة
ص: 32
الصورة
ص: 33
الصورة
ص: 34
جوامع الجامع
ص: 1
ص: 2
جوامع الجامع
ص: 3
ص: 4
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين..
الحمد للّه الذي أكرمنا بكتابه الكريم، ومنّ علينا بالسبع المثاني والقرآن العظيم، وما ضمّنه من الآيات والذكر الحكيم، فهو النور الساطع برهانه، والفرقان الصادع تبيانه، والمعجز الباقي علي مرّ الدهور، والحجّة الثابتة سجيس العصور(1)، يهدي إلى صالح القول والعمل، ويثبت من الميل والزلل، لا تمجّه الأسماع، ولا تملّه الطباع، معدن كل علم، ومنبع كل حكم، وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين، نزل به الروح الأمين علي خاتم النبيين ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين.
ثم الصلاة والسلام علي الرسول الأمين والنبيّ المكين، محمّد خير البشر، وسيّد البشر(2)، وأكرم النذر، المنتجب من أشرف المناصب، المنتخب من أعلى المناسب، الذي سما بسمو انتسابه اسم (عدنان)(3) و (مضر)(4)، وبعلو قدره علا
ص: 5
كعب (كعب)(1) وكبر، وبنضرة جاهه وجه (النضر)(2) نضر، وبرفعة أمره استمر أمر (مرّة)(3) وأمر، فأسرته خير الأسر، وشجرته أكرم الشجر، وعترته أفضل العتر، صلّي اللّه عليه وعلي أهل بيته الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.
أما بعد: فإنّي لما فرغت من كتابي الكبير في التفسير الموسوم ب - (مجمع البيان لعلوم القرآن)(4)، ثم عثرت من بعد بالكتاب (الكشاف لحقائق التنزيل)(5) لجار اللّه العلامة(6)، واستخلصت من بدائع معانيه وروائع ألفاظه ومبانيه، مالا يلفى مثله في كتاب مجتمع الأطراف، ورأيت أن أسمه وأسمّيه ب - (الكاف الشاف)، فخرج الكتابان إلي الوجود، وقد ملكا أزمّة القلوب، إذ أحرزا من فنون العلم غاية المطلوب، وجادت جدواهما، وتراءت ناراهما، وبعد في استجماع جواهر الألفاظ وزواهر المعاني مداهما، فسارا في الأمصار مسير الأمثال، وسريا في الأقطار مسرى الخيال؛ اقترح عليّ من حلّ منّي محلّ السواد من البصر، والسويداء من الفؤاد، ولدي أبو نصر الحسن(7) - أحسن اللّه نصره وأرشد أمري وأمره - أن أجرّد من
ص: 6
الكتابين كتابا ثالثا يكون مجمع بينهما، ومحجر عينهما، يأخذ بأطرافهما ويتصف بأوصافهما، ويزيد بأبكار الطرائف وبواكر اللطائف عليهما، فيتحقّق ما قيل: إنّ الثالث خير؛ فإنّ الكتب الكبار قد يشق علي الشادي حملها، ويثقل علي الناقل نقلها، فأكثر أبناء الزمان تقصر هممهم عن احتمال أعباء العلم الثقيلة، و الإجراء في حلباته المديدة الطويلة.
فاستعفيته من ذلك مرة بعد أخري، لما كنت أجده في نفسي من ضعف المنة ووهن القوة، فلقد ذرّفت(1) على السبعين سنيا، وبلغت من الكبر عتيا، وصرت كالحنية(2) حنيا، واشتعل الرأس شيبا، وقاربت شمس العمر مغيبا.
فأبى إلا المراجعة فيه والعود، والاستشفاع بمن لم أستجز له الرد، فلم أجد بدّا من صرف وجه الهمّة إليه، و الإقبال بكلّ العزيمة عليه، وهممت أن أضع يدي فيه، ثم استخرت اللّه تعالي وتقدّس في الابتداء منه بمجموع مجمع جامع للكلم الجوامع، أسميه كتاب (جوامع الجامع).
ولاشك أنّه اسم وفق للمسمّى، ولفظ طبق للمعنى، وأرجو أن يكون - بتوفيق اللّه وعونه، وفيض فضله ومنّه - كتابا وسيطا خفيف الحجم، كثير الغنم، لا يصعب حمله، ويسهل حفظه، ويكثر معناه وإن قلّ لفظه، يروع موضوعه، ويروق مسموعه، ينظم وسائط القلائد، ويحوي بسائط الفوائد، يستضئ العلماء بغرره ودرره، ويفتقر الفضلاء إلى فقره، فيكتب علي وجه الدهر، ويعلّق في كعبة المجد والفخر.
ومما حداني إليه، وحثّني وبعثني عليه، أن خطر ببالي وهجس بضميري، بل
ص: 7
ألقي في روعي محبّة الاستمداد من كلام جار اللّه العلامة ولطائفه، فإنّ لألفاظه لذّة الجدة ورونق الحداثة، مقتصرا فيه علي إيراد المعنى البحت، والإشارة إلى مواضع النكت، بالعبارات الموجزة، والإيماءات المعجزة، مما يناسب الحقّ والحقيقة، ويطابق الطريقة المستقيمة. وإذا ورد في أثناء الآيات شيء قد تقدّم الكلام في نظيره، أعوّل في أكثره علي المذكور قبل؛ إيثارا للإيجاز والاختصار.
وأنا أسأل اللّه الكريم المنان، مستشفعا إليه بمحمّد المصطفى واله مصابيح الإيمان ومفاتيح الجنان، عليه وعليهم الصلاة والسلام ما اختلف الضياء والظلام، أن يجعل وكدي(1) وكدّي في تأليفه - مع تخاذل الأعضاء وتواكل الأجزاء - موجبا لغفرانه، ومؤديا إلي رضوانه، ويمنّ بالتسهيل والتيسير، فإنّ تيسير العسير عليه - جلّت قدرته - يسير، وهو علي ما يشاء قدير، نعم المولي ونعم النصير.
ص: 8
مكية، سبع آيات بلا خلاف، إلا أنّ أهل مكة عدّوا بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ آية من الفاتحة، وغيرهم عدّوا أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ آية.
وروي عن ابن عباس أنّه قال: من ترك بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ فقد ترك مائة وأربع عشرة اية من كتاب اللّه تعالى(1). وعن الصادق عليه السلام أنّه سئل عن قوله تعالى: سَبْعاً مِنَ اَلْمَثٰانِي (2)، فقال: (هي سورة الحمد، وهي سبع آيات منها بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ )(3). وعن أبيّ بن كعب(4) قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم. (أيّما مسلم قرأ فاتحة الكتاب أعطي من الأجر كأنّما قرأ ثلثي القرآن، وأعطي من الأجر كأنّما تصدّق علي كل مؤمن ومؤمنة)(5). وعن جابر بن عبد
ص: 9
اللّه(1) عن النبي صلى الله عليه و آله قال: (هي شفاء من كل داء إلا السام، والسام الموت)(2).
بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ
أصل الاسم: سمو، لأنّ جمعه أسماء وتصغيره (سمي).
اَللّٰهِ أصله: إله، فحذفت الهمزة وعوّض عنها حرف التعريف، ولذلك قيل في النداء: يا اللّه - بقطع الهمزة - كما يقال: يا إله. ومعناه: إنّه الذي تحقّ له العبادة، وإنّما حقّت له العبادة لقدرته علي أصول النعم.
فهذا الاسم مختص بالمعبود بالحقّ لا يطلق علي غيره، وهو اسم غير صفة لأنّك تصفه فتقول: إله واحد، ولا تصف به فلا تقول: شيء إله.
(الرحمن) فعلان من (رحم) ك - (غضبان)، و (الرحيم) فعيل منه ك - (عليم).
وفي اَلرَّحْمٰنِ من المبالغة ما ليس في اَلرَّحِيمِ ، ولذلك قيل: (الرحمن بجميع الخلق، والرحيم بالمؤمنين خاصة)(3). ورووا عن الصادق عليه السلام أنّه قال:
(الرحمن اسم خاص بصفة عامة، والرحيم اسم عام بصفة خاصة)(4).
وتعلّقت الباء في بِسْمِ اَللّٰهِ بمحذوف تقديره: بسم اللّه أقرأ، ليختص اسم اللّه بالابتداء به، كما يقال للمعرس: باليمن والبركة، بمعنى: أعرست. وإنّما قدّر المحذوف متأخرا لأنّهم يبتدئون با لأهم عندهم، ويدلّ على ذلك قوله: بِسْمِ
ص: 10
اَللّٰهِ مَجْرٰاهٰا وَ مُرْسٰاهٰا (1) .
اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ اَلْحَمْدُ والمدح أخوان، وهو الثناء علي الجميل من نعمة وغيرها، وأما الشكر فعلي النعمة خاصة، والحمد باللسان وحده، والشكر يكون بالقلب وباللسان وبالجوارح، ومنه قوله عليه السلام: (الحمد رأس الشكر)(2)، والمعنى في كونه رأس الشكر: إنّ الذكر باللسان أجلى وأوضح وأدلّ على مكان النعمة، وأشيع للثناء علي موليها من الاعتقاد وعمل الجوارح. ونقيض الحمد الذم، ونقيض الشكر الكفران.
وإنّما عدل بالحمد عن النصب الذي هو الأصل في كلامهم - علي أنّه من المصادر التي تنصب بأفعال مضمرة، كقولهم: شكرا وعجبا... ونحو ذلك - إلى الرفع علي الابتداء، للدلالة علي ثبات المعنى واستقراره، دون تجدّده وحدوثه في نحو قولك: أحمد اللّه حمدا. ومعناه: الثناء الحسن الجميل والمدح الكامل الجزيل للمعبود المنعم بجلائل النعم، المنشئ للخلائق والأمم.
والربّ : السيّد والمالك، ومنه قول صفوان(3) لأبي سفيان(4): (لأن يربّني رجل من قريش أحبّ إليّ من أن يربّني رجل من هوازن)(5). يقال: ربّه يربّه فهو
ص: 11
ربّ ، ولم يطلقوا الربّ إلا في اللّه وحده، ويقيّد في غيره فيقال: ربّ الدار، وربّ الضيعة.
والعالم: اسم لأولي العلم من الملائكة والثقلين(1). وقيل: هو اسم لما يعلم به الصانع من الجواهر والأجسام والأعراض. وجمع بالواو والنون - وإن كان اسما غير صفة - لدلالته علي معنى العلم، وليشمل كل جنس مما سمّي به.
اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ مرّ معناهما.
مٰالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ من قرأ: ملك يوم الدين، فلأنّ الملك يعمّ و الملك يخصّ ، ولقوله سبحانه:
مَلِكِ اَلنّٰاسِ (2) ، ومن قرأ: مالك - بالألف - فهو إضافة اسم الفاعل إلى الظرف علي طريق الاتساع، أجري الظرف مجري المفعول به والمعنى علي الظرفية. والمراد:
مالك الأمر كله في يوم الدين، وهو يوم الجزاء من قولهم: (كما تدين تدان)(3).
وهذه الأوصاف التي هي كونه سبحانه ربّا مالكا للعالمين لا يخرج منهم شيء من ملكوته و ربوبيته، وكونه منعما بالنعم المتوافرة الباطنة والظاهرة، وكونه مالكا للأمر كله في الدار الآخرة بعد الدلالة علي اختصاص الحمد به في قوله:
اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ ؛ فيها دلالة باهرة علي أنّ من كانت هذه صفاته لم يكن أحد أحقّ منه بالحمد والثناء.
-- الحنبل - وهو أخوه لأمه - في غزوة حنين. ينظر: تاريخ الطبري ج 3:128، سيرة ابن هشام ج 4:123.
ص: 12
إِيّٰاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّٰاكَ نَسْتَعِينُ (إيّا) ضمير منفصل للمنصوب، والكاف والهاء والياء اللاحقة به في (إيّاك) و (إيّاه) و (إيّاي) لبيان الخطاب والغيبة و التكلّم، ولا محلّ لها من الإعراب، إذ هي حروف عند المحقّقين، وليست بأسماء مضمرة كما قال بعضهم(1).
وتقديم المفعول إنّما هو لقصد الاختصاص، والمعنى: نخصّك بالعبادة ونخصّك بطلب المعونة.
والعبادة ضرب من الشكر وغاية فيه وكيفيته، وهي أقصى غاية الخضوع والتذلل، ولذلك لا تحسن إلا للّه سبحانه الذي هو مولي أعظم النعم، فهو حقيق بغاية الشكر.
وإنّما عدل فيه عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب علي عادة العرب في تفننهم في محاوراتهم، ويسمّى هذا التفاتا. وقد يكون من الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى التكلّم، كقوله سبحانه: حَتّٰى إِذٰا كُنْتُمْ فِي اَلْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ (2)، وقوله: اَللّٰهُ اَلَّذِي أَرْسَلَ اَلرِّيٰاحَ فَتُثِيرُ سَحٰاباً فَسُقْنٰاهُ (3).
وأما الفائدة المختصة به في هذا الموضع، فهي أنّ المعبود الحقيق بالحمد والثناء لما أجري عليه صفاته العليا، تعلّق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بالعبادة والاستعانة به في المهمات، فخوطب ذلك المعلوم المتميّز بتلك الصفات، فقيل: إيّاك - يا من هذه صفاته - نخصّ بالعبادة والاستعانة، لا نعبد غيرك ولا نستعينه، ليكون
ص: 13
الخطاب أدلّ على (أنّ العبادة له لذلك المتميّز الذي لا تحقّ العبادة إلا له)(1).
وقرنت الاستعانة بالعبادة ليجمع بين ما يتقرّب به العباد إلى ربّهم وبين ما يطلبونه ويحتاجون إليه من جهته، وقدّمت العبادة علي الاستعانة، لأنّ تقديم الوسيلة يكون قبل طلب الحاجات ليستوجبوا الإجابة إليها، وأطلقت الاستعانة ليتناول كل مستعان فيه.
والأحسن أن تراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة، فيكون قوله:
اِهْدِنَا بيانا للمطلوب من المعونة، كأنّه قيل: كيف أعينكم ؟ فقالوا:
اِهْدِنَا اَلصِّرٰاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ أصل (هدى) أن يتعدّى باللام أو ب - (إلي)، كقوله تعالي: يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ (2)، و وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ (3)، فعومل معاملة (اختار) في قوله تعالى: وَ اِخْتٰارَ مُوسىٰ قَوْمَهُ (4).
و (السراط) - بالسين - الجادة، من سرط الشيء إذا ابتلعه، لأنه يسرط المارة إذا سلكوه، كما سمّي لقما لأنّه يلتقم السابلة؛ وبالصاد من قلب السين صادا لأجل الطاء، وهي اللغة الفصحاء.
و اَلصِّرٰاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ هو الدين الحقّ الذي لا يقبل اللّه من العباد غيره.
وإنّما سمّي الدين صراطا، لأنّه يؤدي بمن يسلكه إلى الجنّة، كما أنّ الصراط يؤدي
ص: 14
بمن يسلكه إلى مقصده.
وعلى هذا فمعنى اِهْدِنَا : زدنا هدى بمنح الألطاف، كقوله سبحانه:
وَ اَلَّذِينَ اِهْتَدَوْا زٰادَهُمْ هُدىً (1) . ورووا عن أمير المؤمنين عليه السلام: أنّ معناه:
ثبّتنا(2). وفي بعض الأخبار: إ نّ الصادق عليه السلام قرأ: اهدنا صراط المستقيم، بإضافة (صراط) إلي (المستقيم).
صِرٰاطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اَلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ اَلضّٰالِّينَ هو بدل من اَلصِّرٰاطَ اَلْمُسْتَقِيمَ ، وهو في حكم تكرير العامل، فكأنّه قال:
اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم. وفائدة البدل التوكيد، والإشعار بأنّ الطريق المستقيم بيانه وتفسيره: صراط من خصّهم اللّه تعالى بعصمته، وأمدّهم بخواصّ نعمته، واحتجّ بهم علي بريّته، وفضّلهم علي كثير من خليقته، فيكون ذلك شهادة لصراطهم بالاستقامة علي آكد الوجوه، كما تقول: هل أدلّك علي أكرم الناس فلان ؟ فيكون ذلك أبلغ في وصفه بالكرم من قولك: هل أدلّك علي فلان الأكرم ؟ لأنّك تثبت كرمه مجملا أولا ومفصّلا ثانيا، وأوقعت فلانا تفسيرا للأكرم، فجعلته علما في الكرم، فكأنّك قلت: من أراد رجلا جامعا للكرم فعليه بفلان، فهو المعيّن لذلك غير مدافع فيه.
وأطلق الإنعام ليشمل كل إنعام.
وروي عن أهل البيت عليهم السلام: صراط من أنعمت عليهم، وعن عمر بن الخطاب
ص: 15
وعمرو بن الزبير(1). والصحيح هو المشهور.
غَيْرِ اَلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بدل من اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ، علي معنى:
إنّ المنعم عليهم هم الذين سلموا من غضب اللّه والضلال؛ أو صفة علي معنى:
إنّهم جمعوا بين النعمة المطلقة وهي نعمة العصمة، وبين السلامة من غضب اللّه والضلالة. ويجوز أن يكون (غير) هاهنا صفة وإن كان (غير) لا يقع صفة للمعرفة، ولا يتعرف بالإضافة إلى المعرفة، لأنّ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ لا توقيت فيهم، فهو كقوله:
و لقد أمرّ على اللئيم يسبّني *** فمضيت ثمّت قلت لا يعنيني(2)
ولأنّ اَلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ و اَلضّٰالِّينَ خلاف المنعم عليهم، فليس في (غير) إذا الإبهام الذي يأبى له أن يتعرف.
وقيل: (إنّ اَلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ هم اليهود، لقوله تعالى: مَنْ لَعَنَهُ اَللّٰهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ (3)، و اَلضّٰالِّينَ هم النصاري، لقوله تعالي: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ (4)(5).
ومعنى غضب اللّه: إرادة الانتقام منهم وإنزال العقاب بهم، وأن يفعل بهم ما يفعله الملك إذا غضب علي من تحت يده.
ص: 16
ومحلّ عَلَيْهِمْ الأولى نصب علي المفعولية، ومحلّ عَلَيْهِمْ الثانية رفع علي الفاعلية.
وأصل الضلال: الهلاك، ومنه قوله: وَ أَضَلَّ أَعْمٰالَهُمْ (1) أي: أهلكها.
والضلال في الدين هو الذهاب عن الحقّ .
ص: 17
مدنية، مائتان وست وثمانون آية كوفي، وسبع بصري. الم و تَتَفَكَّرُونَ كوفي، إِلاّٰ خٰائِفِينَ و قَوْلاً مَعْرُوفاً و اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ بصري.
عن أبيّ عن النبي صلى الله عليه و آله قال: (من قرأ (سورة البقرة) فصلوات اللّه عليه ورحمته، وأعطي من الأجر كالمرابط في سبيل اللّه سنة لا تسكن روعته)(1)، وقال لي: (يا أبيّ ، مر المسلمين أن يتعلموا (سورة البقرة)، فإنّ تعلّمها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة، قلت: يا رسول اللّه من البطلة ؟ قال: السحرة)(2).
وعن الصادق عليه السلام قال: (من قرأ (البقرة وآل عمران) جاء يوم القيامة يظلانه علي رأسه مثل الغمامتين أو مثل الغيابتين)(3).
بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ
الم
اختلف في هذه الفواتح المفتتح بها السور، فورد عن أئمتنا عليهم السلام: (إنّها من
ص: 18
المتشابهات التي استأثر اللّه بعلمها، ولا يعلم تأويلها غيره)(1). وعن الشعبي(2) قال:
(للّه تعالى في كل كتاب سرّ، وسرّه في القرآن حروف التهجّي في أوائل السور)(3).
وقال الأكثرون في ذلك وجوها:
منها: أنّها أسماء للسور، تعرف كل سورة بما افتتحت به.
ومنها: أنّها أقسام أقسم اللّه تعالى بها لكونها مباني كتبه، ومعاني أسمائه وصفاته، وأصول كلام الأمم كلها.
ومنها: أنّها مأخوذة من صفات اللّه عزّ وجل، كقول ابن عباس في كهيعص (4):
(إ نّ الكاف من كاف، والهاء من هاد، والياء من حكيم، والعين من عليم، والصاد من صادق؛ و الم معناه: أنا اللّه أعلم).
ومنها: أنّ كل حرف منها يدلّ علي مدة قوم و آجال آخرين، إلى غير ذلك من الوجوه(5).
علي أنّ هذه الفواتح وغيرها من الألفاظ التي يتهجى بها عند المحقّقين أسماء، مسمّياتها حروف الهجاء التي ركّبت منها الكلم، وحكمها أن تكون موقوفة كأسماء الأعداد، تقول: (ألف)، (لام)، (ميم)، كما تقول: (وا حد)، (اثنان)، (ثلاثة). فإذا وليتها العوامل أعربت، فقيل: هذه (ألف)، وكتبت (لاما)، ونظرت إلي (ميم).
ص: 19
قال الشاعر:
إذا اجتمعوا على ألف وياء *** وواو هاج بينهم جدال(1)
ذٰلِكَ اَلْكِتٰابُ لاٰ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ
إن جعلت الم اسما للسورة، ففيه وجوه:
أحدها: أنّ الم مبتدأ، و ذٰلِكَ مبتدأ ثانيا، و اَلْكِتٰابُ خبره، والجملة خبر المبتدأ الأولى. فيكون المعنى: إن ذلك هو الكتاب الكامل الذي يستأهل أن يسمّى كتابا، كأنّ ما سواه من الكتب ناقص بالإضافة إليه، كما تقول:
هو الرجل، أي: الكامل في الرجولية.
والثاني: أن يكون اَلْكِتٰابُ صفة. فيكون المعنى: هو ذلك الكتاب الموعود.
والثالث: أن يكون التقدير: هذه الم فتكون جملة، و ذٰلِكَ اَلْكِتٰابُ جملة أخري.
وإن جعلت الم بمنزلة الصوت كان ذٰلِكَ مبتدأ، اَلْكِتٰابُ خبره، أي: ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل؛ أو اَلْكِتٰابُ صفة، والخبر ما بعده، أو قدّر مبتدأ محذوف، أي: هو - يعني المؤلّف من هذه الحروف - ذلك الكتاب.
والريب: مصدر رابه يريبه، إذا حصل فيه الريبة، وحقيقة الريبة: قلق النفس واضطرابها. وفي الحديث: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)(2)، والمعنى: إنّه من
ص: 20
وضوح دلالته بحيث لا ينبغي أن يرتاب فيه، إذ لا مجال للريبة فيه.
والمشهور الوقف علي فِيهِ ، وبعض القراء يقف علي لاٰ رَيْبَ ، ولابد لمن يقف عليه أن ينوي خبرا، ونظيره قوله: لاٰ ضَيْرَ (1)، والتقدير: لا ريب هُدىً لِلْمُتَّقِينَ والهدى: مصدر علي فعل كالسرى، وهو الدلالة الموصلة إلى البغية، وقد وضع المصدر الذي هو (هدي) موضع الوصف الذي هو (هاد).
والمتقي في الشريعة هو الذي يقي نفسه تعاطي ما يستحقّ به العقاب من فعل أو ترك، وسمّاهم عند مشارفتهم لاكتساء لباس التقوي: (متقين)، كقول النبي صلى الله عليه و آله: (من قتل قتيلا فله سلبه)(2)، وقوله تعالى: وَ لاٰ يَلِدُوا إِلاّٰ فٰاجِراً كَفّٰاراً (3) أي: صائرا إلى الفجور والكفر. فكأنّه قال: هدي للصائرين إلى التقى.
ولم يقل: هدي للضالين، لأنّ الضالين فريقان: فريق علم بقاؤهم علي الضلالة، وفريق علم مصيرهم إلي الهدي، فلا يكون هدي لجميعهم.
وأيضا: فقد صدّرت السورة التي هي أولى الزهراوين(4)، وسنام القرآن، وأول المثاني؛ بذكر المرتضين من عباد اللّه وهم المتقون.
اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاٰةَ
الموصول إما أن يكون مجرورا بأنّه صفة ل - اَلْمُتَّقِينَ ، أو منصوبا، أو مرفوعا
ص: 21
علي المدح علي تقدير: أعني الذين يؤمنون، أو هم الذين يؤمنون. وإما أن يكون منقطعا عما قبله مرفوعا علي الابتداء وخبره أُولٰئِكَ عَلىٰ هُدىً .
والإيمان إفعال من الأمن. يقال: (أمنت شيئا) و (آمنت غيري)، ثم يقال:
(آمنه) إذا صدّقه، وحقيقته: آمنه التكذيب و المخالفة. وعدّي بالباء فقيل: (آمن به)، لأنّه ضمّن معنى: أقرّ و اعترف. ويجوز أن يكون علي قياس فعلته فأفعل، فيكون (آمن) بمعنى صار ذا أمن في نفسه بإظهار التصديق.
وحقيقة الإيمان في الشرع هو المعرفة باللّه وصفاته، وبرسله، وبجميع ما جاءت به رسله؛ وكل عارف بشيء فهو مصدّق به.
ولما ذكر سبحانه الإيمان علّقه بِالْغَيْبِ ، ليعلم أنّه التصديق للّه تعالى فيما أخبر به رسوله مما غاب عن العباد علمه، من ذكر القيامة والجنّة والنار وغير ذلك.
ويجوز أن يكون بِالْغَيْبِ في موضع الحال، ولا يكون صلة ل - يُؤْمِنُونَ ، أي: يؤمنون غائبين عن مرأي الناس، وحقيقته متلبسين بالغيب، كقوله: يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ (1) فيكون الغيب بمعنى: الغيبة والخفاء. وعلى المعنى الأول يكون
الغيب بمعنى: الغائب، من قولك: غاب الشيء غيبا، فيكون مصدرا سمّي به.
ثم عطف - سبحانه - علي الإيمان بذكر الصلاة التي هي رأس العبادات البدنية، فقال: وَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاٰةَ أي: يحافظون عليها و يتشمرون لأدائها، من قولهم: (قام بالأمر)، أي يؤدونها، فعبّر عن الأداء بالإقامة. أو يعدّلون أركانها، من قولهم: أقام العود، إذا قوّمه.
وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ
ص: 22
ثم عطف علي ذلك بالعبادة المالية التي هي الإنفاق، فقال: وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ أسند الرزق إلى نفسه، للإعلام بأنّهم ينفقون الحلال الطلق الذي يستأهل أن يسمّى رزقا من اللّه تعالي، و (من) للتبعيض، فكأنّه يقول: و يخصّون بعض المال الحلال بالتصدّق به. وجائز أن يراد به الزكاة المفروضة لاقترانه بالصلاة، وأن يراد هي وغيرها من الصدقات و النفقات في وجوه البر لمجيئه مطلقا. وعن الصادق عليه السلام:
(ومما علّمناهم يبثّون)(1).
وَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مٰا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
يحتمل أن يراد بهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب كعبد اللّه بن سلام(2) وغيره، فيكون المعطوف غير المعطوف عليه، ويحتمل أن يراد وصف الأوّلين، فيكون المعنى: إنّهم الجامعون بين تلك الصفات.
وهذه وقوله: هُمْ يُوقِنُونَ تعريض بأهل الكتاب، وأنّهم يثبتون أمر الآخرة علي خلاف حقيقته، ولا يصدر قولهم عن إيقان.
والآخرة: تأنيث الاخر وهي صفة الدار، بدليل قوله تعالى: تِلْكَ اَلدّٰارُ اَلْآخِرَةُ (3) وهي من الصفات الغالبة وكذلك (الدنيا).
والإيقان واليقين: هو العلم الحاصل بعد استدلال ونظر، ولذلك لا يطلق الموقن علي اللّه تعالى لاستواء الأشياء في الجلاء عنده.
ص: 23
أُولٰئِكَ عَلىٰ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ
الجملة في محلّ الرفع إن كان اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ مبتدأ، وإلا فلا محلّ لها.
وفي اسم الإشارة الذي هو أُولٰئِكَ إيذان بأنّ ما يرد عقيبه فالمذكورون قبله أهل له من أجل الخصال التي عددت لهم.
ومعنى الاستعلاء في قوله: عَلىٰ هُدىً مثل لتمكّنهم من الهدي واستقرارهم عليه، شبّهت حالهم بحال من اعتلى شيئا وركبه. ومعنى مِنْ رَبِّهِمْ : منحوه و أعطوه من عنده، وهو اللطف والتوفيق علي أعمال البر.
ونكّر هُدىً ليفيد ضربا مبهما لا يبلغ كنهه، كأنّه قيل: علي أيّ هدي.
وفي تكرير أولئك تنبيه علي أنّهم تميّزوا بكل واحدة من الإثرتين اللتين هما الهدي والفلاح عن غيرهم.
و هم سمّاه البصريون فصلا، والكوفيون عمادا. وفائدته: الدلالة علي أنّ المذكور بعده خبر لا صفة وتوكيد، و إيجاب أنّ فائدة الخبر ثابتة للمخبر عنه دون غيره. ويجوز أن يكون هم مبتدأ و اَلْمُفْلِحُونَ خبره، والجملة خبر أولئك .
والمفلح: الفائز بالبغية، كأنّه الذي انفتحت له وجوه الظفر. والمفلج - بالجيم - مثله.
وقوله: عَلىٰ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ أدغمت بغنّة وغير غنّة، والغنّة: صوت خفي يخرج من الخيشوم.
والنون الساكنة والتنوين لهما ثلاثة أحوال مع الحروف في جميع القران:
ص: 24
الإظهار، وذلك مع حروف الحلق.
والإدغام، وذلك مع الميم، نحو هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ ، و وَ عَلىٰ أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ (1)، لا يجوز إلا الإدغام هنا لاشتراك النون والميم في الغنّة.
والإخفاء، وذلك مع سائر الحروف، نحو مِنْ دَابَّةٍ (2) و وَ مَنْ فِيهٰا (3).
وهذا عند جميع القراء إلا أبا عمرو(4) وحمزة(5) والكسائي(6) فإنّهم يدغمونهما في اللام والراء نحو: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ و مِنْ رَبِّهِمْ ، ويدغمهما حمزة والكسائي في الياء نحو: مَنْ يَقُولُ (7)، ويدغمهما حمزة في الواو، نحو: ظُلُمٰاتٌ وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ (8). فاللام والراء والواو والياء عندهم بمنزلة الميم، ويقال لها: حروف يرملون، لأنّها أيضا تدغم في النون نحو: (منّي) و (منّا).
إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا سَوٰاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاٰ يُؤْمِنُونَ
ص: 25
لما قدّم سبحانه ذكر الأتقياء، عقّبه بذكر الأشقياء وهم الكفار الذين لا ينفع معهم اللطف، وسواء عليهم وجود الكتاب وعدمه، وإنذار الرسول وترك إنذاره.
و سَوٰاءٌ اسم بمعنى الاستواء، وصف به كما يوصف بالمصادر، وهو خبر (إنّ ).
و أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ في موضع الرفع بالفاعلية، كأنّه قيل: مستو عليهم إنذارك وعدمه، كما تقول: إنّ زيدا مختصم أخوه وابن عمه. أو يكون أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ في موضع الابتداء، و سَوٰاءٌ خبرا مقدّما بمعنى:
سواء عليهم إنذارك وعدمه، والجملة خبر ل - (إنّ ). كذا ذكره جار اللّه العلامة - للّه درّه -(1)، وما أوردناه في مجمع البيان(2) فهو من كلام أبي علي الفارسي(3).
والإنذار: التخويف من عقاب اللّه تعالى.
وقوله: لاٰ يُؤْمِنُونَ جملة مؤكدة للجملة قبلها، أو خبر ل - إن والجملة قبلها اعتراض.
قيل: نزلت هذه الآية والتي بعدها في أبي جهل وأضرابه(4)، وعلي هذا فيكون التعريف في اَلَّذِينَ كَفَرُوا للعهد. وقيل: هي في جميع من صمّم علي كفره على العموم(5)، فيكون التعريف للجنس.
ص: 26
خَتَمَ اَللّٰهُ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ وَ عَلىٰ سَمْعِهِمْ وَ عَلىٰ أَبْصٰارِهِمْ غِشٰاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ
الختم والكتم أخوان.
والغشاوة فعالة من غشّاه: إذا غطّاه، وهذا البناء لما يشتمل علي الشيء كالعمامة.
والختم علي القلوب والأسماع وتغشية الأبصار من باب المجاز، وهو نوعان:
استعارة وتمثيل، و يحتمل هنا كلا النوعين.
أما الاستعارة، فأن يجعل قلوبهم - لأنّ الحقّ لا ينفذ فيها لإعراضهم و استكبارهم عن قبوله - و أسماعهم - لأنّها تنبو عن استماعه - كأنّهما مختوم عليهما، وأبصارهم كأنّما غطي عليها وحيل بينها وبين الإدراك.
وأما التمثيل، فأن تمثل حيث لم يستنفعوا بها في الأغراض الدينية التي خلقوا من أجلها بأشياء ضرب حجاب بينها وبين الانتفاع بها بالختم والتغطية.
وأما إسناد الختم إلى اللّه، فللتنبيه علي أنّ هذه الصفة في فرط تمكّنها كالشيء الخلقي غير العرضي، كما يقال: فلان مجبول علي كذا ومفطور عليه، يريدون أنّه مبالغ في الثبات عليه.
ووجه آخر: وهو أنّهم لما علم اللّه سبحانه أنّه لا طريق لهم إلى أن يؤمنوا طوعا و اختيارا فلم يبق إلا القسر والإلجاء، ولم يقسرهم لئلا ينتقض الغرض في التكليف، عبّر عن ترك الإلجاء والقسر بالختم، إشعارا بأنّهم قد بلغوا الغاية القصوى في لجاجهم واستشرائهم(1) في الغيّ والضلال.
ص: 27
ووحّد السمع لأنّه مصدر في الأصل، والمصادر لا تجمع، و لأنّهم قالوا:
كلوا في بعض بطنكم تعفّوا *** فإنّ زمانكم زمن خميص(1)
يفعلون ذلك إذا أمن اللبس، وإذا لم يؤمن لم يفعلوا، لا تقول: (ثوبهم) و (غلامهم) وأنت تريد الجمع.
والبصر: نور العين، وهو ما يبصر به الرائي، كما أنّ البصيرة نور القلب وهو ما به يستبصر ويتأمل.
والعذاب مثل النكال بناء ومعنى، لأنّك تقول: أعذب عن الشيء إذا أمسك عنه، كما تقول: نكل عنه، ثم اتسع فيه فسمّي كل ألم فادح عذابا وإن لم يكن نكالا، أي: عقابا يرتدع به الجاني.
والعظيم: نقيض الحقير كما أنّ الكبير نقيض الصغير، فإنّ العظيم فوق الكبير، كما إنّ الحقير دون الصغير. ويستعملان في الجثث والأحداث جميعا، تقول:
رجل عظيم وكبير جثته أو خطره.
وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَ بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ مٰا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ
افتتح سبحانه بذكر الذين آمنوا باللّه سرّا وعلانية، ثم ثنّى بالذين كفروا قلوبا وألسنة، ثم ثلّث بالمنافقين الذين أبطنوا خلاف ما أظهروا، وهم أخبث الكفار وأمقتهم عنده. ووصف حال الذين كفروا في آيتين، وحال الذين نافقوا في ثلاث عشرة آية، وقصّتهم معطوفة علي قصّتهم كما تعطف الجملة علي الجملة.
وأصل (ناس) أناس حذفت همزته تخفيفا، وحذفها مع لام التعريف كاللازم، لا يكاد يقال: الأناس. ويشهد لأصله (إنسان) و (إنس)، وسمّوا بذلك
ص: 28
لظهورهم، وأنّهم يؤنسون أي: يبصرون، كما سمّي الجن جنا لاجتنانهم.
و من في مَنْ يَقُولُ موصوفة، كأنّه يقول: ومن الناس ناس يقولون كذا، كقوله: مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ رِجٰالٌ (1)، هذا إن جعلت اللام للجنس، وإن جعلتها للعهد فموصولة، كقوله: وَ مِنْهُمُ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَلنَّبِيَّ (2).
وفي تكرير (الباء) أنّهم ادّعوا كل واحد من الإيمانين علي صفة الصحة، وفي قوله: وَ مٰا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ من التوكيد و المبالغة ما ليس في قولك: وما آمنوا، لأنّ فيه إخراج ذواتهم و أنفسهم من أن تكون طائفة من طوائف المؤمنين، فقد انطوي تحته نفي ما ادّعوه لأنفسهم من الإيمان علي القطع.
يُخٰادِعُونَ اَللّٰهَ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ مٰا يَخْدَعُونَ إِلاّٰ أَنْفُسَهُمْ وَ مٰا يَشْعُرُونَ
المعنى: إنّ هؤلاء المنافقين قد صنعوا صنع الخادعين، حيث تظاهروا بالإيمان وهم كافرون، وصنع اللّه معهم صنع الخادع، حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم، وهم عنده أهل الدرك الأسفل من النار(3)، وكذلك صورة صنع المؤمنين معهم حيث امتثلوا أمر الله فيهم، فإنّ حقيقة الخدع أن يوهم الرجل صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه.
ويجوز أن يريد: يخادعون رسول اللّه، لأنّ طاعته طاعة اللّه ومعصيته معصية اللّه، كما يقال: قال الملك كذا، وإنّما القائل وزيره أو خاصته الذين قولهم قوله.
ص: 29
وَ مٰا يَخْدَعُونَ إِلاّٰ أَنْفُسَهُمْ لأنّ ضررها يلحقهم ولا يعدوهم إلي غيرهم.
ومن قرأ: يخادعون، أتى به علي لفظ يفاعلون للمبالغة.
والنفس: ذات الشيء وحقيقته، ثم قيل للقلب: نفس، لأنّ النفس به نفس.
قالوا: (المرء بأصغريه)(1)، أي بقلبه ولسانه. وقيل أيضا للروح: نفس، وللدم:
نفس، لأنّ قوامها بالدم، وللماء: نفس، لفرط حاجتها إليه، ونفس الرجل أي:
عين، وحقيقته: أصيبت نفسه، كما قيل: صدر الرجل وفئد، وقالوا: فلان يؤامر نفسه، إذا تردد في الأمر واتجه له رأيان لا يدري علي أيّهما يعوّل، كأنّهم أرادوا داعي النفس.
والمراد با لأنفس هاهنا: ذواتهم، ويجوز أن يراد قلوبهم ودواعيهم وآراؤهم.
والشعور: علم الإنسان بالشيء علم حس، ومشاعر الإنسان: حواسه.
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزٰادَهُمُ اَللّٰهُ مَرَضاً وَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ بِمٰا كٰانُوا يَكْذِبُونَ
استعير المرض لأعراض القلب، كسوء الاعتقاد، والغلّ ، والحسد، وغير ذلك مما هو فساد وآفة شبيهة بالمرض، كما استعيرت الصحة والسلامة في نقائض ذلك. والمراد به هاهنا ما في قلوبهم من الكفر، أو من الغلّ والحنق علي رسول اللّه صلى الله عليه و آله والمؤمنين.
فَزٰادَهُمُ اَللّٰهُ مَرَضاً بما ينزل علي رسوله من الوحي، فيكفرون به ويزدادون كفرا إلي كفرهم، فكأنّه سبحانه زادهم ما ازدادوه. أسند الفعل إلى
ص: 30
السبب كما أسنده إلي السورة في قوله: فَزٰادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ (1) لكونها سببا. أو أراد: كلما زاد رسوله نصرة وتمكّنا في البلاد والعباد ازدادوا غلا وحسدا، أو ازدادت قلوبهم ضعفا وجبنا وخورا(2).
و (ألم) فهو (أليم) ك - (وجع) فهو (وجيع)، ووصف العذاب به كقوله:
تحيّة بينهم ضرب وجيع(3)
وهذا علي طريقة قولهم: (جدّ جدّه). والألم في الحقيقة للمؤلم كما أنّ الجدّ للجادّ.
بِمٰا كٰانُوا يَكْذِبُونَ أي: بكذبهم. وفي هذا إشارة إلي قبح الكذب، وأنّ لحوق العذاب الأليم من أجل كذبهم. وقرئ: يكذّبون، من كذّبه الذي هو نقيض صدّقه، أو من كذّب الذي هو مبالغة في كذب، أو بمعنى الكثرة.
وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمْ لاٰ تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ قٰالُوا إِنَّمٰا نَحْنُ مُصْلِحُونَ
هذا معطوف علي يَكْذِبُونَ ، ويجوز أن يكون معطوفا على يَقُولُ آمَنّٰا لأنّك لو قلت: ومن الناس من إذا قيل لهم: لا تفسدوا، صح الكلام.
والفساد: خروج الشيء عن حال استقامته وكونه منتفعا به، ونقيضه الصلاح. وكان فساد المنافقين بميلهم إلى الكفار، و إفشاء أسرار المسلمين إليهم و إغرائهم عليهم.
و معنى إِنَّمٰا نَحْنُ مُصْلِحُونَ : إنّ صفة المصلحين تمحّضت لهم وخلصت
ص: 31
من غير شائبة قادحة فيها بوجه من وجوه الفساد.
أَلاٰ إِنَّهُمْ هُمُ اَلْمُفْسِدُونَ وَ لٰكِنْ لاٰ يَشْعُرُونَ
أَلاٰ مركّبة من همزة الاستفهام وحرف النفي، لإعطاء معنى التنبيه علي تحقيق ما بعدها، و الاستفهام إذا دخل على النفي أفاد تحقيقا، كقوله: أَ لَيْسَ ذٰلِكَ بِقٰادِرٍ (1).
ردّ اللّه سبحانه دعواهم أنّهم المصلحون أبلغ ردّ بما في كلتا الكلمتين: (ألا) و (إن) من التأكيدين، وبتعريف الخبر، وتوسيط الفصل، وقوله: لاٰ يَشْعُرُونَ .
وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمٰا آمَنَ اَلنّٰاسُ قٰالُوا أَ نُؤْمِنُ كَمٰا آمَنَ اَلسُّفَهٰاءُ أَلاٰ إِنَّهُمْ هُمُ اَلسُّفَهٰاءُ وَ لٰكِنْ لاٰ يَعْلَمُونَ
السفه: خفة الحلم وسخافة العقل. والمعنى: إذا نصحوا وبصّروا طريق الرشد بأن قيل لهم: صدّقوا رسول اللّه كما صدّقه الناس.
واللام في اَلنّٰاسُ للعهد، أي: كما آمن أصحاب رسول اللّه وهم ناس معهودون، أو عبد اللّه بن سلام وأضرابه، أي: كما آمن أصحابكم و إخوانكم؛ أو للجنس، أي: كما آمن الكاملون في الإنسانية. أو جعل المؤمنون كأنّهم الناس علي الحقيقة، ومن عداهم كالبهائم في فقد التمييز بين الحقّ والباطل.
و الاستفهام في أَ نُؤْمِنُ للإنكار. واللام في السفهاء مشار بها إلى الناس.
وفصلت هذه الآية ب - لاٰ يَعْلَمُونَ والتي قبلها ب - لاٰ يَشْعُرُونَ ، لأنّ أمر الديانة والوقوف علي أنّ المؤمنين علي الحقّ وهم علي الباطل يحتاج إلى نظر و استدلال
ص: 32
حتى يعلم، وأما النفاق وما فيه من الفساد فأمر دنيوي، فهو كالمحسوس المشاهد؛ ولأنّه قد ذكر السفه فكان ذكر العلم معه أحسن.
وَ إِذٰا لَقُوا اَلَّذِينَ آمَنُوا قٰالُوا آمَنّٰا وَ إِذٰا خَلَوْا إِلىٰ شَيٰاطِينِهِمْ قٰالُوا إِنّٰا مَعَكُمْ إِنَّمٰا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ
هذا بيان ما كانوا يعملونه مع المؤمنين، أي: إذا لقوهم أوهموهم أنّهم معهم، وإذا فارقوهم إلى رؤسائهم من الكفار أو اليهود الذين أمروهم بالتكذيب قالوا:
إنّا علي دينكم، وصدقوهم ما في قلوبهم.
وخلوت بفلان وخلوت إليه بمعنى: انفردت معه.
و إِنّٰا مَعَكُمْ أي: إنّا مصاحبوكم و موافقوكم علي دينكم.
وقولهم: إِنَّمٰا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ توكيد لقولهم: إِنّٰا مَعَكُمْ ، لأن المعنى في إِنّٰا مَعَكُمْ الثبات علي اليهودية، وقولهم: إِنَّمٰا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ ردّ للإسلام ودفع له، لأنّ المستهزئ بالشيء وهو المستخف به منكر له ودافع، ويجوز أن يكون بدلا منه أو استئنافا.
اَللّٰهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيٰانِهِمْ يَعْمَهُونَ
معنى استهزاء اللّه سبحانه وتعالي بهم: إنزال الهوان والحقارة بهم، و إجراء أحكام المسلمين عليهم عاجلا وقد أعدّ لهم أليم العقاب آجلا. وسمّى جزاء الاستهزاء باسمه كقوله: وَ جَزٰاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهٰا (1).
وفي استئناف قوله: اَللّٰهُ يَسْتَهْزِئُ من غير حرف عطف، أنّ اللّه تعالى هو الذي يتولى الاستهزاء بهم انتقاما للمؤمنين، ولا يحوج المؤمنين إلى أن يعارضوهم
ص: 33
بذلك.
وقوله: وَ يَمُدُّهُمْ من مدّ الجيش وأمدّه إذا زاده. والمعنى: إنّه يمنعهم ألطافه التي يمنحها للمؤمنين، ويخذلهم بسبب كفرهم، فتبقى قلوبهم يتزايد الرين والظلمة فيها، كما يتزايد الانشراح والنور في قلوب المؤمنين. وأسند ذلك التزايد إلى اللّه سبحانه لأنّه مسبب عن فعله بهم بسبب كفرهم. وعن الحسن البصري(1)
قال: (في ضلالتهم يتمادون)(2).
والطغيان: الغلو في الكفر، ومجاوزة الحد في العتو. وفي إضافة الطغيان إليهم ما يدلّ علي أنّ الطغيان والتمادي في الضلال مما اقترفته نفوسهم.
والعمه مثل العمى، إلا أنّ العمه في الرأي خاصة، وهو التحيّر والتردد، لا يدري أين يتوجه.
أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ اِشْتَرَوُا اَلضَّلاٰلَةَ بِالْهُدىٰ فَمٰا رَبِحَتْ تِجٰارَتُهُمْ وَ مٰا كٰانُوا مُهْتَدِينَ
معنى اشتراء الضلالة بالهدي: اختيارها عليه واستبدالها به علي سبيل الاستعارة، لأنّ الاشتراء فيه إعطاء بدل وأخذ آخر.
و اَلضَّلاٰلَةَ : الجور عن القصد، وفي المثل: (ضلّ دريص نفقه)(3)، فاستعير للذهاب عن الصواب في الدين.
والربح: الفضل علي رأس المال، وأسند الخسران إلى التجارة مجازا. والمعنى:
ص: 34
إنّ المطلوب في التجارة سلامة رأس المال والربح، وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين معا، لأنّ رأس المال كان هو الهدي فلم يبق لهم، ولم يصيبوا الربح لأنّ الضال خاسر.
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ اَلَّذِي اِسْتَوْقَدَ نٰاراً فَلَمّٰا أَضٰاءَتْ مٰا حَوْلَهُ ذَهَبَ اَللّٰهُ بِنُورِهِمْ وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُمٰاتٍ لاٰ يُبْصِرُونَ
ثم زاد سبحانه في الكشف عن حالهم يضرب المثل، فقال: مَثَلُهُمْ أي: حالهم كحال اَلَّذِي اِسْتَوْقَدَ نٰاراً ، وضع (الذي) موضع (الذين)، كقوله سبحانه: وَ خُضْتُمْ كَالَّذِي خٰاضُوا (1)، أو قصد جنس المستوقدين، أو أراد الجمع الذي استوقد نارا. علي أنّ المنافقين لم تشبّه ذواتهم بذات المستوقد، بل شبّهت قصّتهم بقصّة المستوقد، فلا يلزم تشبيه الجماعة بالواحد.
واستوقد: طلب الوقود، والوقود: سطوع النار وارتفاع لهبها. وا لإضاءة: فرط الإنارة، وهي متعدّية في الآية، ويحتمل أن تكون غير متعدّية مسندة إلى مٰا حَوْلَهُ .
والتأنيث للحمل على المعنى، لأنّ ما حول المستوقد أشياء و أماكن.
وجواب لَمّٰا : ذَهَبَ اَللّٰهُ بِنُورِهِمْ ، ويجوز أن يكون محذوفا، لطول الكلام وأمن الالتباس، كأنّه قيل: فلما أضاءت ما حوله خمدت فبقوا متحيّرين متحسّرين علي فوت الضوء. وعلي هذا فيكون ذَهَبَ اَللّٰهُ بِنُورِهِمْ كلاما مستأنفا، كأنّهم لما شبّهت حالهم بحال المستوقد اعترض سائل فقال: ما بالهم قد أشبهت حالهم حال هذا المستوقد؟ فقيل له: ذهب اللّه بنورهم.
ويجوز أن يكون قوله: ذَهَبَ اَللّٰهُ بِنُورِهِمْ بدلا من جملة التمثيل علي سبيل
ص: 35
البيان.
والفرق بين (أذهبه) و (ذهب به): أنّ معنى أذهبه: أزاله وجعله ذاهبا، وذهب به: استصحبه ومضى به معه، قال: فَلَمّٰا ذَهَبُوا بِهِ (1). فالمعنى: أخذ اللّه نورهم و أمسكه، وما يمسك اللّه فلا مرسل له، فهو أبلغ من الإذهاب.
و (ترك) بمعنى طرح وخلى، قالوا: (تركه ترك الظبي ظله)(2). فإذا ضمّن معنى (صيّر) تعدّى إلى مفعولين وجري مجري أفعال القلوب، نحو قول عنترة:
فتركته جزر السّباع ينشنه *** يقضمن حسن بنانه والمعصم(3)
والمراد بالإضاءة انتفاع المنافقين بالكلمة المجراة علي ألسنتهم، ووراء استضاءتهم بنور هذه الكلمة ظلمة النفاق الذي ترمي بهم إلي ظلمة سخط اللّه والعقاب الدائم. ويجوز أن يكون قد شبّه اطلاع اللّه علي أسرارهم بذهاب اللّه بنورهم.
ووجه آخر: وهو أنّهم لما وصفوا باشتراء الضلالة بالهدى، عقّب ذلك بهذا التمثيل، ليمثل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد، والضلالة التي اشتروها بذهاب اللّه بنورهم.
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاٰ يَرْجِعُونَ
كانت حواسّهم صحيحة، لكنهم لما أبوا أن يصيخوا مسامعهم إلى الحقّ ، وأن ينطقوا ألسنتهم بالحقّ ، وأن ينظروا ويتبصروا بعيونهم؛ جعلوا كأنّهم انتقضت
ص: 36
بني مشاعرهم التي هي أصل الإحساس والإدراك كقوله:
صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به *** و إن ذكرت بسوء عندهم أذنوا(1)
و لاٰ يَرْجِعُونَ معناه: لا يعودون إلى الهدي بعد أن باعوه، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها، أو بقوا متحيّرين لا يدرون أيتقدّمون أم يتأخرون، وكيف يرجعون إلى حيث ابتدأوا منه ؟.
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ اَلسَّمٰاءِ فِيهِ ظُلُمٰاتٌ وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصٰابِعَهُمْ فِي آذٰانِهِمْ مِنَ اَلصَّوٰاعِقِ حَذَرَ اَلْمَوْتِ وَ اَللّٰهُ مُحِيطٌ بِالْكٰافِرِينَ
الصيّب: المطر الذي يصوب، أي: ينزل ويقع، ويقال للسحاب: صيّب أيضا.
هذا تمثيل آخر لحال المنافقين، ليكون كشفا لها بعد كشف. والمعنى: أو كمثل ذوي صيّب، أي: كمثل قوم أخذهم المطر علي هذه الصفة فلقوا منها ما لقوا.
قالوا: شبّه دين الإسلام بالصيّب، لأنّ القلوب تحيى به كما تحيى الأرض بالمطر، وشبّه ما يتعلّق به من شبهات الكفار بالظلمات، وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق، وما يصيبهم من أهل الإسلام بالصواعق.
وقيل: شبّه القرآن بالمطر، وما فيه من الابتلاء والزجر بالظلمات والرعد، وما فيه من البيان بالبرق، وما فيه من الوعيد آجلا والدعاء إلى الجهاد عاجلا بالصواعق.
وجاءت هذه الأشياء منكّرة، لأنّ المراد أنواع منها، كأنّه قيل: في الصيّب ظلمات داجية، ورعد قاصف، وبرق خاطف.
ص: 37
والضمير في يَجْعَلُونَ يرجع إلى أصحاب الصيّب المضاف، مع كونه محذوفا وقيام الصيّب مقامه. و يَجْعَلُونَ استئناف لا محلّ له.
و مِنَ اَلصَّوٰاعِقِ يتعلّق ب - يَجْعَلُونَ أي: من أجل الصواعق يجعلون أصابعهم في آذانهم. وصعقته الصاعقة: أهلكته فصعق أي: مات إما بشدة الصوت أو با لإحراق. و حَذَرَ اَلْمَوْتِ مفعول له.
ومعنى إحاطة اللّه بالكافرين: إنّهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط به حقيقة. وهذه الجملة اعتراض.
يَكٰادُ اَلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصٰارَهُمْ كُلَّمٰا أَضٰاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَ إِذٰا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قٰامُوا وَ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصٰارِهِمْ إِنَّ اَللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ
الخطف: الأخذ بسرعة.
لما ذكر الرعد و البرق علي ما يؤذن بالشدة والهول، فكأنّ قائلا قال: كيف حالهم مع مثل ذلك البرق ؟ فقيل: يَكٰادُ اَلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصٰارَهُمْ ، فهذه جملة مستأنفة أيضا لا محلّ لها. و كُلَّمٰا أَضٰاءَ لَهُمْ استئناف ثالث، كأنّه جواب لمن يقول: كيف يصنعون في حالتي خفوق البرق وخفوته ؟.
وهذا تمثيل لشدّة الأمر علي المنافقين بشدّته علي أصحاب الصيّب وما هم فيه من غاية التحيّر والجهل بما يأتون به ويذرون، إذا خفق البرق مع خوفهم أن يخطف أبصارهم انتهزوا تلك الخفقة فرصة، فخطوا خطوات يسيرة، فإذا خفي بقوا واقفين متحيّرين، ولو شاء اللّه لزاد في قصيف الرعد فأصمّهم، وفي بريق البرق فأعماهم.
ص: 38
و أَضٰاءَ إما متعدّ والمفعول محذوف، بمعنى: كلما نوّر لهم مسلكا أخذوه، وإما غير متعدّ بمعنى: كلما لمع لهم مشوا في مطرح نوره. ومعنى قٰامُوا وقفوا وثبتوا في مكانهم.
[ومفعول شٰاءَ محذوف، لأنّ الجواب يدلّ عليه](1). والمعنى: ولو شاء اللّه أن يذهب بسمعهم وأبصارهم لذهب بهما، وقد كثر هذا الحذف في (شاء) و (أراد)، ولم يبرزوا المفعول إلا في النادر، كقوله: لَوْ أَرَدْنٰا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاَتَّخَذْنٰاهُ مِنْ لَدُنّٰا (2)، لَوْ أَرٰادَ اَللّٰهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (3).
والشيء: ما يصح أن يعلم ويخبر عنه.
يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ وَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
ولما عدّد سبحانه فرق المكلفين من المؤمنين والكفار والمنافقين، أقبل عليهم بالخطاب، وهو من الالتفات الذي تقدّم ذكره(4)، وهو فن من الكلام فيه هزّ وتحريك من السامع، وتنبيه واستدعاء لإصغائه إلى الحديث.
و (يا) حرف وضع في أصله لنداء البعيد، و (أي) و (الهمزة) لنداء القريب، و (أي) وصلة إلى نداء ما فيه الألف واللام، كما أنّ (ذو) و (الذي) وصلتان إلى الوصف بأسماء الأجناس، ووصف المعارف بالجمل.
ص: 39
وهو اسم مبهم يحتاج إلى ما يوضحه، فلابد أن يردفه اسم جنس أو ما يجري مجراه يتصف به حتى يتضح المقصود بالنداء، والذي عمل فيه حرف النداء (أي) والاسم التابع له صفته. وقد كثر في كتاب اللّه النداء علي هذه الطريقة، لاستقلاله بأوجه من التأكيد في التدرج من الإبهام إلي التوضيح.
وكلمة التنبيه المقحمة بين (أي) وصفته لتعاضد حرف النداء بتأكيد معناه، وتكون عوضا مما يستحقّه من الإضافة.
وكل ما نادى اللّه لأجله عباده من الأوامر، والنواهي، والوعد، والوعيد، وغير ذلك؛ أمور عظام ومعان جليلة عليهم أن يتيقظوا لها، فاقتضت الحال أن ينادوا بالآكد الأبلغ.
اَلَّذِي خَلَقَكُمْ صفة ل - رَبَّكُمُ جرت عليه علي سبيل المدح والثناء، أي:
اُعْبُدُوا رَبَّكُمُ علي الحقيقة. والخلق: إيجاد الشيء علي تقدير واستواء.
و (لعل) للترجي أو الإشفاق، وقد جاء في مواضع من القران علي سبيل الإطماع(1)، ولكن لأنه إطماع من كريم رحيم إذا أطمع فعل ما يطمع فيه لا محالة، جري إطماعه مجري وعده المحتوم وفاؤه به.
و (لعل) في الآية ليس مما ذكرته في شيء، بل هو واقع موقع المجاز، لأنّه سبحانه خلق عباده ليكلّفهم، وأزاح عللهم في التكليف من الإقدار والتمكين وأراد منهم الخير، فهم في صورة المرجو منهم أن يتّقوا، لترجّح أمرهم - وهم مختارون بين الطاعة والمعصية - كما ترجحت حال المرتجي بين أن يفعل وأن لا يفعل، ومصداقه قوله: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (2)، وإنّما يبلو ويختبر من
ص: 40
تخفى عليه العواقب، ولكن شبّه بالاختبار بناء أمرهم علي الاختيار.
اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ فِرٰاشاً وَ اَلسَّمٰاءَ بِنٰاءً وَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مٰاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ اَلثَّمَرٰاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلاٰ تَجْعَلُوا لِلّٰهِ أَنْدٰاداً وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
قدّم سبحانه من موجبات عبادته خلقهم أحياء قادرين أولا، ثم خلق الأرض التي هي مستقرّهم الذي لابد لهم منه و مفترشهم، ثم خلق السماء التي هي كالقبة المضروبة علي هذا المستقر، ثم ما سوّاه سبحانه من شبه عقد النكاح بينهما بإنزال الماء من المظلّة منهما علي المقلّة، و الإخراج به من بطنها أشباه النسل من ألوان الثمار رزقا لبني ادم، ليقابلوا هذه النعمة العظيمة بواجب الشكر، ويتفكروا في خلق أنفسهم وخلق ما فوقهم وما تحتهم، فيعلموا أنّه لابد لها من خالق ليس كمثلها، حتى لا يجعلوا المخلوقات أندادا له وهم يعلمون أنّها لا تقدر علي بعض ما هو قادر عليه.
ومعنى جعل الأرض فراشا وبساطا ومهادا للناس: إنّهم يتقلبون عليها كما يتقلب علي الفراش والبساط والمهاد.
والبناء مصدر سمي به المبنى، وأبنية العرب: أخبيتهم، ومنه: بني علي امرأته.
و (من) في مِنَ اَلثَّمَرٰاتِ للتبعيض، كأنّه قال: أنزلنا من السماء بعض الماء، فأخرجنا به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم، لأنه لم ينزل من السماء الماء كله، ولا أخرج بالمطر جميع الثمرات، ولا جعل الرزق كله في الثمرات. و يجوز أن تكون (من) للبيان، كما تقول: أنفقت من الدراهم ألفا.
ص: 41
وإذا كانت (من) للتبعيض كان قوله: رِزْقاً منصوبا بأنّه مفعول له، وإذا كانت للبيان كان رِزْقاً مفعولا به ل - (أخرج).
والند: المثل، ولا يقال الند إلا للمثل المخالف المناوئ، أي: هو الذي خصّكم بهذه الدلائل النيّرة الشاهدة بالوحدانية، فلا تتخذوا له شركاء وَ أَنْتُمْ أهل المعرفة و التمييز، أو أنتم تعلمون ما بينه و بينها من التفاوت، أو أنتم تعلمون أنه لا يماثل.
وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّٰا نَزَّلْنٰا عَلىٰ عَبْدِنٰا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ اُدْعُوا شُهَدٰاءَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ
لما احتج سبحانه علي الناس بالتوحيد وعلّم الطريق إلى تصحيحه، عطف على ذلك الحجّة على نبوة نبيه محمّد صلى الله عليه و آله فقال: إن ارتبتم فيما نَزَّلْنٰا ، أتى بلفظ التنزيل، لأنّ المراد النزول علي سبيل التدريج نجوما سورة بعد سورة، وآيات بعد آيات علي حسب النوازل و الحوادث عَلىٰ عَبْدِنٰا ورسولنا محمّد، فهاتوا أنتم سورة من أصغر السور.
والسورة إن كانت واوها أصلا: فإما أن سمّيت بسور المدينة، لأنّها طائفة من القرآن محدودة، أو لأنّها محتوية علي فنون من العلم كاحتواء سور المدينة علي ما فيها؛ وإما أن سمّيت بالسورة التي هي الرتبة، لأنّ السور بمنزلة المنازل والمراتب، أو لرفعة شأنها في الدين.
وإن كانت واوها منقلبة عن همزة، فلأنّها قطعة من القران، كالسؤرة التي هي البقية من الشيء.
مِنْ مِثْلِهِ متعلّق ب - (سورة) صفة لها، أي بسورة كائنة من مثله، والضمير ل - مِمّٰا نَزَّلْنٰا أو ل - عَبْدِنٰا . ويجوز أن يتعلّق بقوله: فَأْتُوا والضمير للعبد،
ص: 42
والمعنى: فأتوا بسورة مما هو علي صفته في البيان الغريب وحسن النظم، أو هاتوا ممن هو علي حاله من كونه بشرا عربيا أو أميّا، لم يأخذ من العلماء ولم يقرأ الكتب.
وردّ الضمير إلي المنزّل أوجه، لقوله: بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وقوله: لاٰ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ (1)، ولأنّ الحديث في المنزّل لا في المنزّل عليه، فمن حقّه أن لا يرد الضمير إلي غيره، لأنّ المعنى: وإن ارتبتم في أنّ القرآن منزّل من عند الله فهاتوا أنتم نبذا مما يماثله ويجانسه.
وإن كان الضمير مردودا إلي رسول اللّه صلى الله عليه و آله فالمعنى: وإن ارتبتم في أنّ محمّدا منزل عليه فهاتوا قرآنا من مثله.
والشهداء: جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة، والمعنى: ادعوا كل من يشهدكم واستظهروا به من الجن والإنس إلا اللّه تعالي فإنّه القادر علي أن يأتي بمثله دون كل شاهد.
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا اَلنّٰارَ اَلَّتِي وَقُودُهَا اَلنّٰاسُ وَ اَلْحِجٰارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكٰافِرِينَ
لما أرشدهم سبحانه إلى الوجه الذي منه يعرفون صحة نبوة النبي صلى الله عليه و آله قال لهم: فإذا لم تعارضوه بسورة مثله، ولم يتيسر لكم ذلك، وبان لكم أنّه معجز، فامنوا واتقوا النار المعدّة لمن كذّب به.
وفيه دليلان علي إثبات نبوته: صحة كون القرآن معجزا، والإخبار بأنّهم لن يفعلوا أبدا، وهو غيب لا يعلمه إلا اللّه تعالى.
والوقود: ما يوقد به النار وهو الحطب، والمعنى في قوله: وَقُودُهَا
ص: 43
اَلنّٰاسُ وَ اَلْحِجٰارَةُ إنّها نار ممتازة عن النيران الأخر، بأنّها لا تتقد إلا بالناس والحجارة. وقرن الناس بالحجارة، لأنّهم قرنوا بها أنفسهم في الدنيا، حيث نحتوها أصناما، وجعلوها للّه أندادا وعبدوها من دونه، قال سبحانه: إِنَّكُمْ وَ مٰا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ (1).
ومعنى أُعِدَّتْ : هيّئت وجعلت عدّة لعذابهم.
وَ بَشِّرِ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ كُلَّمٰا رُزِقُوا مِنْهٰا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قٰالُوا هٰذَا اَلَّذِي رُزِقْنٰا مِنْ قَبْلُ وَ أُتُوا بِهِ مُتَشٰابِهاً وَ لَهُمْ فِيهٰا أَزْوٰاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ
ثم ذكر سبحانه الترغيب بعد الترهيب، وشفع الإنذار بالبشارة، فبشّر عباده الذين جمعوا بين الإيمان وصالح الأعمال، بعد أن أنذر الكفار وأوعدهم بالعذاب والنكال. والبشارة: الإخبار بما يظهر سرور المخبر به.
والجنّة: البستان من النخل والشجر، وأصلها من الستر، فكأنّها لتكاثفها والتفاف أغصان أشجارها سمّيت بالجنّة التي هي المرة من مصدر (جنّه) إذا ستره.
ولولا أنّ الماء الجاري من أعظم النعم وأكبر اللذات، لما جاء اللّه سبحانه بذكر الجنات مشفوعا بذكر الأنهار الجارية من تحتها في قرن واحد، كالشيئين لابد لأحدهما من صاحبه. وإسناد الجري إلى الأنهار إسناد مجازي، كقولهم: بنو فلان يطؤهم الطريق.
ص: 44
وإنّما نكّرت الجنات، لأنّ دار الثواب تشتمل علي جنات كثيرة مرتبة علي حسب استحقاق كل طبقة من أهلها. وعرّفت الأنهار لإرادة الجنس، كما تقول:
لفلان بستان فيه الماء الجاري والعنب والفواكه، أو يراد الأنهار المذكورة في قوله تعالى: فِيهٰا أَنْهٰارٌ مِنْ مٰاءٍ غَيْرِ آسِنٍ ... الآية(1).
كُلَّمٰا رُزِقُوا إما أن يكون صفة ثانية ل - جَنّٰاتٍ ، أو خبر مبتدأ محذوف، أو جملة مستأنفة. والمعنى: إنّهم كلما رزقوا من أشجار الجنات نوعا من أنواع الثمار رزقا قٰالُوا هٰذَا مثل اَلَّذِي رُزِقْنٰا مِنْ قَبْلُ وشبهه، بدليل قوله: وَ أُتُوا بِهِ مُتَشٰابِهاً ، وهذا كقولك: أبو يوسف(2) أبو حنيفة(3)، تريد أنّه لاستحكام الشبه كأنّ ذاته ذاته.
والضمير في قوله: وَ أُتُوا بِهِ يرجع إلي المرزوق في الدنيا والآخرة جميعا، لأنّ قوله: هٰذَا اَلَّذِي رُزِقْنٰا مِنْ قَبْلُ انطوي تحته ذكر ما رزقوه في الدارين.
ويجوز أن يرجع الضمير في وَ أُتُوا بِهِ إلى الرزق، كما أنّ هٰذَا إشارة إليه.
فيكون المعنى: إنّ ما يرزقونه من ثمرات الجنّة يأتيهم متجانسا في نفسه، كما يحكى عن الحسن: (يؤتى أحدهم بالصحفة فيأكل منها، ثم يؤتى بالأخرى، فيقول: هذا الذي أتينا به من قبل، فيقول الملك: كل فاللون واحد والطعم مختلف)(4).
وَ لَهُمْ فِيهٰا أَزْوٰاجٌ مُطَهَّرَةٌ طهرن مما يختص بالنساء من الحيض، وما
ص: 45
لا يختص بهنّ من الأقذار والأدناس، ويدخل تحت ذلك الطهر من دنس الطباع وسائر العيوب.
والخلد: الثبات الدائم والبقاء اللازم الذي لا ينقطع.
إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مٰا بَعُوضَةً فَمٰا فَوْقَهٰا فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ أَمَّا اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مٰا ذٰا أَرٰادَ اَللّٰهُ بِهٰذٰا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ مٰا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفٰاسِقِينَ
لما ضرب اللّه تعالي المثلين للمنافقين قبل هذه الآية، قالوا: اللّه أعلى وأجلّ من أن يضرب هذه الأمثال، فنزلت الآية(1)، لبيان أنّ ما استنكروه من أن تكون المحقّرات من الأشياء مضروبا بها المثل ليس بموضع للاستنكار، لأنّ في التمثيل كشف المعنى ورفع الحجاب عن المطلوب، فإن كان الممثّل له عظيما كان المتمثّل به مثله، وإن كان حقيرا كان المتمثّل به كذلك.
ووصف القديم سبحانه بالحياء في مثل قوله صلى الله عليه و آله: (إنّ اللّه حيي كريم يستحيي إذا رفع العبد إليه يديه أن يردّهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا)(2) جار مجري التمثيل، لأنّ الحياء تغيّر وانكسار يعتري الإنسان من تخوّف ما يعاب به ويذم، واشتقاقه من الحياة، يقال: حيي الرجل، كما يقال: نسي، وحشي، وشظي الفرس: إذا اعتلّت منه هذه الأعضاء.
جعل الحيي لما يعتريه من الانكسار منتقص الحياة، فمثّل تركه سبحانه تخييب
ص: 46
العبد لكرمه بترك من ترك ردّ المحتاج إليه حياء منه. وكذلك المعنى في الآية: إنّ اللّه تعالى لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحيي أن يتمثل بها لحقارتها.
و ما هذه إبهامية وهي التي إذا اقترنت بنكرة زادته شياعا، تقول:
أعطني كتابا ما، أو هي صلة زيدت للتأكيد نحو التي في قوله: فَبِمٰا رَحْمَةٍ مِنَ اَللّٰهِ (1). والمعنى: إ نّ الله لا يستحيي ولا يترك أن يتمثل للأنداد بما لا شيء أصغر منه وأقل.
وانتصب بَعُوضَةً بأنّها عطف بيان أو مفعول ل - يَضْرِبَ ، و مثلا حال عن النكرة مقدّمة عليه، أو انتصبا مفعولين ل - يَضْرِبَ ، لأنّه أجري مجري (جعل).
فَمٰا فَوْقَهٰا فيه معنيان:
أحدهما: فما تجاوزها وزاد عليها في المعنى الذي ضربت فيه مثلا، وهو القلة وا لحقارة.
والآخر: فما زاد عليها في الحجم.
و اَلْحَقُّ : الثابت الذي لا يسوغ إنكاره، يقال: (حقّ الأمر) إذا ثبت ووجب.
و مٰا ذٰا فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون (ذا) اسما موصولا بمعنى (الذي) فيكون كلمتين.
و الآخر: أن يكون (ذا) مركّبة مع (ما) فتكون كلمة واحدة.
والضمير في أَنَّهُ اَلْحَقُّ للمثل أو ل - أَنْ يَضْرِبَ ، و مثلا نصب
ص: 47
علي التمييز.
وقوله: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً جار مجرى التفسير والبيان للجملتين المتقدّمتين، وأنّ فريق العالمين بأنّه الحقّ وفريق الجاهلين المستهزئين به كلاهما موصوف بالكثرة، وأنّ العلم بكونه حقّا من باب الهدي، وأنّ الجهل بحسن مورده من باب الضلالة.
وإسناد الإضلال إلى اللّه سبحانه إسناد الفعل إلى السبب، لأنه لما ضرب المثل فضلّ به قوم واهتدى به قوم تسبّب لضلالتهم وهداهم.
والفسق: الخروج عن طاعة اللّه.
اَلَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اَللّٰهِ مِنْ بَعْدِ مِيثٰاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ مٰا أَمَرَ اَللّٰهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْخٰاسِرُونَ
النقض: الفسخ، وشاع استعمال النقض في إبطال العهد من جهة أنّهم سمّوا العهد بالحبل علي الاستعارة، ومنه قول ابن التيّهان(1) في بيعة العقبة: (يا رسول اللّه إنّ بيننا وبين القوم حبا لا ونحن قاطعوها، فنخشى إن اللّه أعزّك و أظهرك أن ترجع إلى قومك)(2).
و عَهْدَ اَللّٰهِ هو ما ركز في عقولهم من الحجّة علي التوحيد، [أو ما أخذ عليهم في التوراة من إتباع محمّد صلى الله عليه و آله](3)، أو ما أخذ عليهم من الميثاق بأنّه إذا بعث
ص: 48
إليهم رسول مؤيد بالمعجزات صدّقوه واتبعوه.
والضمير في مِيثٰاقِهِ للعهد. ويجوز أن يكون الميثاق بمعنى: التوثقة، كما أنّ الميعاد والميلاد بمعنى الوعد والولادة. ويجوز أن يرجع الضمير إلي اللّه، أي:
من بعد توثقته عليهم.
ومعنى قطعهم مٰا أَمَرَ اَللّٰهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ : قطعهم الأرحام وموالاة المؤمنين. وقيل: قطعهم ما بين الأنبياء من الاجتماع علي الحقّ في إيمانهم ببعض وكفرهم ببعض(1).
والأمر: طلب الفعل ممن هو دونك، وبه سمّي الأمر الذي هو واحد الأمور، لأنّ الداعي الذي يدعو إليه شبّه بامر يأمر به.
هُمُ اَلْخٰاسِرُونَ لأنّهم استبدلوا النقض بالوفاء، والقطع بالوصل، والفساد بالصلاح.
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّٰهِ وَ كُنْتُمْ أَمْوٰاتاً فَأَحْيٰاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
معنى الهمزة التي في كَيْفَ مثله في قولك: أتكفرون باللّه ومعكم ما يصرف عن الكفر ويدعو إلي الإيمان، وهو الإنكار والتعجب.
والواو في قوله: وَ كُنْتُمْ أَمْوٰاتاً للحال، أي وقصّتكم هذه وحالكم أنّكم كنتم أمواتا نطفا في أصلاب آبائكم فَأَحْيٰاكُمْ فجعلكم أحياء ثُمَّ يُمِيتُكُمْ بعد هذه الحياة ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بعد الموت. وهذا الإحياء الثاني يجوز أن يراد به الإحياء في القبر، و بقوله: ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ الحشر والنشور، و يجوز أن يراد بالإحياء
ص: 49
النشور، وبا لرجوع المصير إلى الحساب والجزاء.
وعطف الأول بالفاء، لأنّ الإحياء الأول يعقب الموت بغير تراخ، وعطف الآخرين ب - ثم ، لأنّ الموت قد تراخى عن الإحياء، والإحياء الثاني متراخ عن الموت إن أريد به النشور، أو الإحياء في القبر، والرجوع إلى الجزاء أيضا متراخ عن النشور.
هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مٰا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اِسْتَوىٰ إِلَى اَلسَّمٰاءِ فَسَوّٰاهُنَّ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ
قوله: لَكُمْ أي: لأجلكم و لانتفاعكم به في دنياكم، بأن تتمتعوا منه بفنون المطاعم و المناكح و المراكب والمناظر البهيجة، وفي دينكم بأن تنظروا فيه وما يتضمنه من عجائب الصنع الدالة علي الصانع القادر الحكيم. وفي هذا دلالة علي أنّ أصل الأشياء الإباحة إلى أن يمنع الشرع بالنهي، وجائز لكل أحد أن يتناولها ويستنفع بها.
و جَمِيعاً نصب علي الحال من قوله: مٰا فِي اَلْأَرْضِ .
وا لاستواء: الاعتدال و الاستقامة، يقال: استوى العود، ثم قيل: استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصده قصدا مستويا من غير أن يلوي إلى شيء، ومنه استعير قوله: ثُمَّ اِسْتَوىٰ إِلَى اَلسَّمٰاءِ أي: قصد إليها بإرادته ومشيئته بعد خلق ما في الأرض، من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر. والمراد بالسماء جهات العلو، كأنّه قال: ثم استوى إلى فوق.
والضمير في فَسَوّٰاهُنَّ ضمير مبهم، و سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ تفسيره،
ص: 50
كقولهم: (ربّه رجلا). وقيل: الضمير راجع إلى السماء(1)، والسماء في معنى الجنس.
ومعنى (سوّاهن): عدّل خلقهن وأتمّه وقوّمه.
وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ فلذلك خلق السماوات والأرض خلقا محكما متقنا من غير تفاوت علي حسب ما اقتضته الحكمة.
وَ إِذْ قٰالَ رَبُّكَ لِلْمَلاٰئِكَةِ إِنِّي جٰاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً قٰالُوا أَ تَجْعَلُ فِيهٰا مَنْ يُفْسِدُ فِيهٰا وَ يَسْفِكُ اَلدِّمٰاءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قٰالَ إِنِّي أَعْلَمُ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ
لما ذكر سبحانه إنعامه علينا بخلق السماء والأرض وما فيهما، ذكر نعمته علينا بخلق أبينا آدم عليه السلام.
و وَ إِذْ نصب بإضمار اذكر، ويجوز أن ينتصب ب - قٰالُوا ، و جٰاعِلٌ من جعل الذي له مفعولان، و المعنى مصيّر فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً .
والخليفة: من يخلف غيره، والمعنى: خليفة منكم، لأنّ الملائكة كانوا سكان الأرض فخلفهم ادم فيها وذريته، و استغنى بذكر آدم عن ذكر بنيه كما تستغني بذكر أبي القبيلة في قولك: ربيعة ومضر، أو يريد من يخلفكم، أو خلقا يخلفكم فوحّد لذلك. ويجوز أن يريد خليفة مني، لأنّ آدم كان خليفة اللّه في أرضه وهو الصحيح، لقوله: يٰا دٰاوُدُ إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ (2).
قٰالُوا أَ تَجْعَلُ فِيهٰا مَنْ يُفْسِدُ إنّما عرفوا ذلك حتى تعجّبوا منه من جهة اللوح، أو عرفوه بإخبار اللّه تعالى.
ص: 51
وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ الواو للحال، كما تقول: أتحسن إلى فلان وأنا أحقّ منه بالإحسان. و التسبيح: تبعيد الله من السوء.
و بِحَمْدِكَ في موضع الحال، أي: نسبّح حامدين لك و ملتبسين بحمدك.
قٰالَ إِنِّي أَعْلَمُ من المصالح في ذلك ما هو خفي عليكم ولا تعلمونه، ولم يبين لهم تلك المصالح، لأنّ العباد يكفيهم أن يعلموا أنّ أفعال اللّه تعالى كلها حسنة، وإن خفي عليهم وجه الحكمة، علي أنّه قد بيّن لهم بعض ذلك في قوله:
[وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْمٰاءَ كُلَّهٰا... الآية](1).
وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْمٰاءَ كُلَّهٰا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى اَلْمَلاٰئِكَةِ فَقٰالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمٰاءِ هٰؤُلاٰءِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ
أي: أسماء المسمّيات كلها، فحذف المضاف إليه لكونه معلوما مدلولا عليه بذكر الأسماء، لأنّ الاسم لابد له من مسمّى، وعوض منه اللام كقوله: وَ اِشْتَعَلَ اَلرَّأْسُ شَيْباً (2)، وليس التقدير: وعلّم آدم مسمّيات الأسماء، فيكون حذفا للمضاف، لأنّ التعليم يتعلّق بالأسماء لا بالمسمّيات، [لقوله: أَنْبِئُونِي بِأَسْمٰاءِ هٰؤُلاٰءِ ، ومعنى تعليمه أسماء](3) المسمّيات أنّه أراه الأجناس التي خلقها، وعلّمه أنّ هذا اسمه فرس وهذا اسمه كذا، وعلّمه أحوالها وما يتعلّق بها من المنافع الدينية والدنيوية.
ص: 52
ثُمَّ عَرَضَهُمْ أي: عرض المسمّيات عَلَى اَلْمَلاٰئِكَةِ ، وإنّما ذكّر لأنّ في المسمّيات العقلاء فغلّبهم فَقٰالَ للملائكة: أَنْبِئُونِي بِأَسْمٰاءِ هٰؤُلاٰءِ استنبأهم وقد علم عجزهم عن الإنباء علي سبيل التبكيت.
إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ أي: في زعمكم أنّي أستخلف في الأرض من يفسد فيها إرادة للرد عليهم، وليبيّن أنّ في من يستخلفه من الفوائد العلمية - التي هي أصول الفوائد كلها - ما يستأهلون لأجله أن يستخلفوا، فبيّن لهم بذلك بعض ما أجمل من ذكر المصالح في استخلافهم في قوله: إِنِّي أَعْلَمُ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ .
قٰالُوا سُبْحٰانَكَ لاٰ عِلْمَ لَنٰا إِلاّٰ مٰا عَلَّمْتَنٰا إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ
قالت الملائكة: سُبْحٰانَكَ تنزيها لك عن أن يعلم الغيب أحد سواك، أو تعظيما لك عن أن يعترض عليك في حكمك.
لاٰ عِلْمَ لَنٰا إِلاّٰ مٰا عَلَّمْتَنٰا وليس هذا في ما علمتنا إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَلِيمُ بجميع المعلومات، وهو صيغة مبالغة للعالم اَلْحَكِيمُ المحكم لأفعاله.
قٰالَ يٰا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمٰائِهِمْ فَلَمّٰا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمٰائِهِمْ قٰالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ مٰا تُبْدُونَ وَ مٰا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ
أَنْبِئْهُمْ أي: أخبر الملائكة بأسمائهم علّق الإنباء بالأسماء لا بالمسمّيات، فلم يقل: أنبئهم بهم، لما قلناه من أنّ التعليم يتعلّق بالأسماء.
فَلَمّٰا أَنْبَأَهُمْ آدم، أي: أخبر الملائكة بأسمائهم أي: باسم كل شيء ومنافعه ومضاره وخواصه قال سبحانه للملائكة: أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ
غَيْبَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ أي: أعلم ما غاب فيهما عنكم فلم تشاهدوه، كما أعلم ما حضركم فشاهدتموه.
ص: 53
غَيْبَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ أي: أعلم ما غاب فيهما عنكم فلم تشاهدوه، كما أعلم ما حضركم فشاهدتموه.
وَ أَعْلَمُ مٰا تُبْدُونَ وَ مٰا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ أي: ما تعلنونه وما تضمرونه.
وفي هذا أنّ تعليمه سبحانه الأسماء كلها بما فيها من المعاني وفتق لسانه بذلك، معجزة أقامها اللّه تعالى للملائكة، دالة علي نبوته وجلالة قدره وتفضيله عليهم.
وَ إِذْ قُلْنٰا لِلْمَلاٰئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّٰ إِبْلِيسَ أَبىٰ وَ اِسْتَكْبَرَ وَ كٰانَ مِنَ اَلْكٰافِرِينَ
إِلاّٰ إِبْلِيسَ استثناء متصل عند من ذهب إلى أنّ إبليس من الجن، وكان بين أظهر الألوف من الملائكة مغمورا بهم، ثم استثني منهم استثناء واحد منهم.
و يجوز أن يكون منقطعا.
أَبىٰ أي: امتنع مما أمر به وَ اِسْتَكْبَرَ عنه وَ كٰانَ مِنَ جنس كافري الجن و شياطينهم. ولاشك أنّ الاستثناء متصل عند من ذهب إلي أنّه من الملائكة.
وفي الآية دلالة علي فضل آدم عليه السلام علي جميع الملائكة، لأنه قدّمه علي الملائكة إذ أمرهم بالسجود له، ولا يجوز تقديم المفضول علي الفاضل. ولو لم يكن سجود الملائكة له علي وجه التعظيم لشأنه وتقديمه عليهم، لم يكن لامتناع إبليس عن السجود له، وقوله: أَ رَأَيْتَكَ هٰذَا اَلَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ (1)، وقوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ (2)؛ وجه، ولكان يجب علي اللّه تعالى أن يعلمه أنّه لم يأمره بالسجود له على
ص: 54
وجه تعظيمه وتفضيله عليه، ولما جاز أن يفعل ذلك إذا كان ذلك سبب معصية إبليس، فعلمنا أنّه لم يكن ذلك إلا علي وجه التفضيل له عليهم.
وَ قُلْنٰا يٰا آدَمُ اُسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ اَلْجَنَّةَ وَ كُلاٰ مِنْهٰا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمٰا وَ لاٰ تَقْرَبٰا هٰذِهِ اَلشَّجَرَةَ فَتَكُونٰا مِنَ اَلظّٰالِمِينَ
أَنْتَ تأكيد للضمير المستكن في اُسْكُنْ ليصح العطف عليه، و رَغَداً وصف للمصدر، أي: أكلا رغدا واسعا رافها، و حَيْثُ للمكان المبهم، أي:
أيّ مكان من الجنّة شِئْتُمٰا . والمعنى: اتخذ أنت و امرأتك الجنّة مسكنا ومأوي.
وَ كُلاٰ مِنْهٰا أي: من الجنّة كثيرا واسعا حيث شئتما من بقاع الجنّة.
وَ لاٰ تَقْرَبٰا هٰذِهِ اَلشَّجَرَةَ أي: لا تأكلا منها، والمعنى: لا تقرباها بالأكل.
وهو نهي تنزيه عندنا لا نهي تحريم، وكانا بالتناول منها تاركين نفلا وفضلا.
فَتَكُونٰا مِنَ اَلظّٰالِمِينَ أي: الباخسين الثواب [والناقصين للحظ](1)
لأنفسكما بترك هذا المندوب إليه. [فصورته النهي والمعنى الأمر، أي: اتركا واهجرا، وهكذا قوله: اِعْمَلُوا مٰا شِئْتُمْ (2) صورته الأمر ومعناه النهي، ولا يجوز أن يحمل علي ظاهر النهي فتصير نهيا لكراهة الناهي المؤكل عنه، والحكيم لا ينهى إلا عن القبيح، والقبيح علي الأنبياء غير جائز.
والشجرة المنهية عنها الحنطة. وقيل: الكافور(3). وقيل: التين والعنب(4)](5).
ص: 55
فَأَزَلَّهُمَا اَلشَّيْطٰانُ عَنْهٰا فَأَخْرَجَهُمٰا مِمّٰا كٰانٰا فِيهِ وَ قُلْنَا اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتٰاعٌ إِلىٰ حِينٍ
فَأَزَلَّهُمَا أي: حملهما علي الزلة.
اَلشَّيْطٰانُ يعني: إبليس، نسب الزلة إلي الشيطان لما وقعت بدعائه ووسوسته.
عَنْهٰا عن الجنّة.
فَأَخْرَجَهُمٰا مِمّٰا كٰانٰا فِيهِ من المنزلة والنعمة والدعة، وأضاف الإخراج إلى الشيطان لأنه كان السبب فيه، وإنّما أخرج اللّه آدم من الجنّة، لأنّ المصلحة اقتضت بعد تناوله الشجرة إهباطه إلى الأرض وابتلاءه بالتكليف وسلبه ثياب الجنّة، كما تقتضي الحكمة الإفقار بعد الإغناء، والإماتة بعد الإحياء. ومن قرأ: فأزالهما، فالمعنى: فأزالهما مما كانا فيه من النعيم والكرامة أو من الجنّة.
وَ قُلْنَا اِهْبِطُوا خطاب لآدم وحواء، والمراد: هما وذريتهما، لأنّهما لما كانا أصل الإنس جعلا كأنّهما الإنس كلهم، ويدلّ عليه قوله في موضع آخر: قٰالَ اِهْبِطٰا مِنْهٰا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ (1). والمعنى فيه: ما عليه الناس من التعادي والمخالفة وتضليل بعضهم لبعض.
والهبوط: النزول إلى الأرض، والمستقر: موضع الاستقرار أو الاستقرار.
وَ مَتٰاعٌ أي: تمتع با لعيش إِلىٰ حِينٍ إلي يوم القيامة، وقيل: إلى الموت(2).
ص: 56
قال ابن السراج(1): (لو قيل: (ولكم في الأرض مستقر ومتاع) لظن أنّ ذلك غير منقطع، فقيل: (إلى حين) أي: إلي حين انقطاعه)(2).
فَتَلَقّٰى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمٰاتٍ فَتٰابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ اَلتَّوّٰابُ اَلرَّحِيمُ
معنى تلقي الكلمات استقبالها بالأخذ والقبول والعمل بها، أي: أخذها رَبِّهِ علي سبيل الطاعة، ورغب إلى اللّه بها، أو سأله بحقّها فَتٰابَ اللّه عَلَيْهِ . ومن قرأ: فتلقى آدم - بالنصب - كلمات - بالرفع - فالمعنى: إ نّ الكلمات استقبلت آدم عليه السلام بأن بلغته.
و الكلمات هي قوله: قٰالاٰ رَبَّنٰا ظَلَمْنٰا أَنْفُسَنٰا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنٰا وَ تَرْحَمْنٰا لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلْخٰاسِرِينَ (3)، وقيل: هي قوله: لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنّه لا يغفر الذنوب إلا أنت(4)، وفي رواية أهل البيت عليهم السلام: إنّ الكلمات هي أسماء أصحاب الكساء عليهم السلام(5). واكتفى بذكر توبة آدم عن ذكر توبة حواء لأنّها كانت تبعا له.
و اَلتَّوّٰابُ : الكثير القبول للتوبة، وهو في صفة العباد: الكثير التوبة.
قُلْنَا اِهْبِطُوا مِنْهٰا جَمِيعاً فَإِمّٰا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدٰايَ فَلاٰ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاٰ هُمْ يَحْزَنُونَ
ص: 57
كرر سبحانه قُلْنَا اِهْبِطُوا للتأكيد، ولما تبعه من قوله: فَإِمّٰا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً أي: فإن يأتكم مني هدي برسول أبعثه إليكم وكتاب أنزله عليكم.
فَمَنْ تَبِعَ هُدٰايَ بأن يقتدي برسولي ويؤمن به وبكتابه فَلاٰ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من العقاب وَ لاٰ هُمْ يَحْزَنُونَ علي فوت الثواب.
وجواب الشرط الأول الشرط الثاني مع جوابه، [كقولك: إن جئتني فإن قدرت أحسنت إليك](1).
وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ
وَ اَلَّذِينَ جحدوا رسلنا وَ كَذَّبُوا بدلالاتنا ف - أُولٰئِكَ الملازمون للنار هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ أي: دائمون مؤبدون.
يٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ اَلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَ إِيّٰايَ فَارْهَبُونِ
لما عمّ سبحانه جميع خلقه بالخطاب، وذكر لهم الحجج علي توحيده، وعددّ عليهم صنوف نعمه؛ خصّ بني إسرائيل [عقيب ذلك بذكر ما أسداه إليهم من النعم، فقال: يٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ ](2). و إسرائيل هو (يعقوب) لقب له، ومعناه في لسانهم: (صفوة اللّه)، وقيل: (عبد اللّه)(3).
اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ اَلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ أي: لا تخلّوا بشكرها و استعظموها، وأراد
ص: 58
بالنعمة: ما أنعم به علي آبائهم من كثرة الأنبياء فيهم، و إنجائهم من فرعون، وغير ذلك مما عدّده سبحانه عليهم.
وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أي: بما عاهدتموني عليه من الإيمان بي والطاعة لي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ بما عاهدتكم عليه من حسن الثواب. وقيل: أوفوا بعهدي في محمّد صلى الله عليه و آله و سلم أنّ من آمن به كان له أجران، و من كفر به تكاملت أوزاره؛ أوف بعهدكم أدخلكم الجنة(1).
وَ إِيّٰايَ فَارْهَبُونِ أي: فلا تنقضوا عهدي، وهو من قولك: زيدا رهبته.
ف - (إياي) ضمير منصوب بفعل مضمر يفسّره (ارهبون).
وَ آمِنُوا بِمٰا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمٰا مَعَكُمْ وَ لاٰ تَكُونُوا أَوَّلَ كٰافِرٍ بِهِ وَ لاٰ تَشْتَرُوا بِآيٰاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَ إِيّٰايَ فَاتَّقُونِ
أي: وصدّقوا بما أنزلته علي محمّد من القرآن مُصَدِّقاً لِمٰا مَعَكُمْ من التوراة.
وَ لاٰ تَكُونُوا أَوَّلَ كٰافِرٍ بِهِ أي: أول من كفر به، أو أول فريق كافر به، أو ولا يكن كل واحد منكم أول كافر به، كما يقال: كسانا الأمير حلّة، أي: كسا كل واحد منا حلّة. وهذا تعريض بأنّه كان يجب أن يكون اليهود أول من يؤمن به، لمعرفتهم به و بصفته، و لأنّهم كانوا يبشّرون الناس بزمانه، ويستفتحون علي الذين كفروا، وكانوا يقولون: إنّا نتبعه أول الناس كلهم، فلما بعث كان أمرهم علي العكس، كقوله: فَلَمّٰا جٰاءَهُمْ مٰا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ (2). وقيل: الضمير في بِهِ
ص: 59
لما معكم(1)، لأنّهم إذا كفروا بما يصدّقه فقد كفروا به.
وَ لاٰ تَشْتَرُوا بِآيٰاتِي ثَمَناً قَلِيلاً الاشتراء استعارة للاستبدال، كما في قوله:
اِشْتَرَوُا اَلضَّلاٰلَةَ بِالْهُدىٰ (2) أي: لا تستبدلوا بآياتي ثمنا، وإلا فالثمن هو المشترى به. و الثمن القليل: الرئاسة التي كانت لهم في قومهم خافوا فوتها باتباعه فاستبدلوها بآيات اللّه.
وَ لاٰ تَلْبِسُوا اَلْحَقَّ بِالْبٰاطِلِ وَ تَكْتُمُوا اَلْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
الباء في قوله: بِالْبٰاطِلِ يجوز أن تكون مثل ما في قولك: لبست الشيء بالشيء: خلطته به، فيكون المعنى: ولا تكتبوا في التوراة ما ليس منها فيختلط الحقّ بالباطل. ويجوز أن تكون باء الاستعانة كما في قولك: كتبت بالقلم فيكون المعنى:
ولا تجعلوا الحقّ ملتبسا مشتبها بباطلكم الذي تكتبونه.
وَ تَكْتُمُوا جزم معطوف علي تَلْبِسُوا بمعنى: ولا تكتموا، أو منصوب بإضمار (أن)، أي: ولا تجمعوا بين لبس الحقّ بالباطل و كتمان الحقّ ، كقولك: لا تأكل السمك وتشرب اللبن.
وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنّه حقّ و تجحدون ما تعلمون.
وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ وَ آتُوا اَلزَّكٰاةَ وَ اِرْكَعُوا مَعَ اَلرّٰاكِعِينَ
أي: وأدّوا اَلصَّلاٰةَ بأركانها، و أعطوا ما فرض اللّه عليكم من اَلزَّكٰاةَ .
وَ اِرْكَعُوا مَعَ اَلرّٰاكِعِينَ من المسلمين، لأنّ اليهود لا ركوع لهم في صلاتهم.
ص: 60
وقيل: إنّ المراد به صلاة الجماعة(1).
أَ تَأْمُرُونَ اَلنّٰاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ اَلْكِتٰابَ أَ فَلاٰ تَعْقِلُونَ
الهمزة للتقرير مع التوبيخ و التعجيب من حالهم. و البرّ: سعة الخير، ومنه (البرّ) لسعته، ويتناول كل خير، ومنه قولهم: صدقت وبررت، وكانوا يأمرون أقاربهم في السرّ باتباع محمّد ولا يتبعونه.
وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ تتركونها من البر.
وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ اَلْكِتٰابَ تبكيت، مثل قوله: وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (2)، يعني:
تتلون التوراة و فيها صفة محمّد صلى الله عليه و سلم.
أَ فَلاٰ تَعْقِلُونَ توبيخ عظيم بمعنى: أفلا تفطنون لقبح ما تقدمون عليه، فيصدكم استقباحه عن ارتكابه فكأنّكم قد سلبت عقولكم.
وَ اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاٰةِ وَ إِنَّهٰا لَكَبِيرَةٌ إِلاّٰ عَلَى اَلْخٰاشِعِينَ (4(5) اَلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاٰقُوا رَبِّهِمْ وَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ رٰاجِعُونَ
وَ اِسْتَعِينُوا في حوائجكم إلى اللّه بالجمع بين الصبر والصلاة، وأن تصلّوا صابرين علي تكاليف الصلاة، وما يجب فيها من إخلاص القلب ودفع الوساوس، أو و استعينوا علي البلايا بالصبر عليها و الالتجاء إلى الصلاة. وقيل:
الصبر: الصوم(3)، ومنه قيل لشهر رمضان: شهر الصبر.
ص: 61
وَ إِنَّهٰا الضمير للصلاة أو للاستعانة لَكَبِيرَةٌ أي: شاقة ثقيلة إِلاّٰ عَلَى اَلْخٰاشِعِينَ لأنّهم الذين يتوقعون ما ادّخر للصابرين علي مشاقها فتهون عليهم.
والخشوع: الإخبات والتطامن. والخضوع: اللين وا لانقياد.
[اَلَّذِينَ يَظُنُّونَ ](1) أي: يتوقعون لقاء ثوابه ونيل ما عنده. وفي مصحف عبد اللّه(2): يعلمون، ولذلك فسّر يَظُنُّونَ ب - (يتيقنون)(3)، وكان النبي صلى الله عليه و آله و سلم يقول: (يا بلال(4) روّحنا)(5)، وقال: (وجعلت قرّة عيني في الصلاة)(6).
يٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ اَلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى اَلْعٰالَمِينَ وَ اِتَّقُوا يَوْماً لاٰ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لاٰ
يقبل منها شفعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ في موضع نصب عطف علي نِعْمَتِيَ أي: اذكروا نعمتي وتفضيلي إياكم.
عَلَى اَلْعٰالَمِينَ علي الجم الغفير من الناس، كقوله: بٰارَكْنٰا فِيهٰا لِلْعٰالَمِينَ (7)،
ص: 62
يقال: رأيت عالما من الناس، يراد به الكثرة. أو تفضيلي إيّاكم في أشياء مخصوصة كإنزال المن والسلوي، والآيات الكثيرة كفلق البحر، وتغريق فرعون، وكثرة الرسل فيكم.
وَ اِتَّقُوا يَوْماً يريد يوم القيامة لاٰ تَجْزِي أي: لا تقضي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً حقّا وجب عليها للّه أو لغيره، كقوله: لاٰ يَجْزِي وٰالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَ لاٰ مَوْلُودٌ هُوَ جٰازٍ عَنْ وٰالِدِهِ شَيْئاً (1). وهذه الجملة منصوبة الموضع صفة ل - يَوْماً والعائد منها إلي الموصوف محذوف تقديره: لا تجزي فيه، حذف الجار ثم حذف الضمير.
ومعنى التنكير إنّ نفسا من الأنفس لا تجزي عن نفس منها شيئا من الأشياء.
وَ لاٰ يُقْبَلُ مِنْهٰا شَفٰاعَةٌ هذا مختص باليهود، فإنّهم قالوا: آباؤنا يشفعون لنا، فأويسوا، لأنّ الأمة مجمعة علي أنّ لنبينا صلوات اللّه عليه وآله شفاعة مقبولة وإن اختلفوا في كيفيتها، وإجماعها حجّة.
وَ لاٰ يُؤْخَذُ مِنْهٰا عَدْلٌ أي: فدية، لأنّها معادلة للمفدي.
وَ لاٰ هُمْ يُنْصَرُونَ يعني: ما دلّت عليه النفس المنكّرة من النفوس الكثيرة، والتذكير بمعنى العباد والأناسي كما قالوا: ثلاثة أنفس.
وَ إِذْ نَجَّيْنٰاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ اَلْعَذٰابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنٰاءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِسٰاءَكُمْ وَ فِي ذٰلِكُمْ بَلاٰءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ
أصل آلِ أهل، ولذلك صغّر ب - (أهيل)، فأبدلت هاؤه ألفا، وخصّ استعماله بأولي الخطر والشأن كالملوك وأشباههم.
ص: 63
و فِرْعَوْنَ علم لمن ملك العمالقة، مثل (قيصر) لملك الروم، و (كسري) لملك الفرس.
يَسُومُونَكُمْ من سامه خسفا إذا أولاه ظلما، وأصله من سام السلعة إذا طلبها، كأنّه بمعنى يبغونكم سُوءَ اَلْعَذٰابِ ويريدونكم عليه. و السوء: مصدر السيئ، وسوء الفعل قبحه.
و يُذَبِّحُونَ بيان ل - يَسُومُونَكُمْ ، ولذلك ترك العاطف. وإنّما فعلوا بهم ذلك لأنّ الكهنة أنذروا فرعون بأنّه يولد مولود يكون علي يده هلاكه كما أنذر نمرود، فلم يغن عنهما تحفّظهما وكان ما شاء اللّه أن يكون.
والبلاء: المحنة إن أشير ب - ذٰلِكُمْ إلى صنيع فرعون، والنعمة إن أشير به إلى الإنجاء.
وَ إِذْ فَرَقْنٰا بِكُمُ اَلْبَحْرَ فَأَنْجَيْنٰاكُمْ وَ أَغْرَقْنٰا آلَ فِرْعَوْنَ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ
فَرَقْنٰا بِكُمُ اَلْبَحْرَ فصلنا بين بعضه وبعض حتى صارت فيه مسالك لكم، يقال: فرق بين الشيئين وفرّق - بالتشديد - بين الأشياء.
والمعنى في بِكُمُ إنّهم كانوا يسلكونه ويتفرّق الماء عند سلوكهم، فكأنّما فرق بهم. ويجوز أن يراد بسببكم وبسبب إنجائكم. ويجوز أن يكون في موضع الحال بمعنى: فرقناه ملتبسا بكم.
وروي: أنّ بني إسرائيل قالوا لموسى: أين أصحابنا لا نراهم ؟ فقال: سيروا فإنّهم علي طريق مثل طريقكم، قالوا: لا نرضى حتى نراهم، فقال: اللهم أعنّي
ص: 64
علي أخلاقهم السيئة، فأوحى اللّه إليه: أن قل بعصاك هكذا، فصارت فيها كوى(1)
وسمع بعضهم كلام بعض(2).
وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إلي ذلك وتشاهدونهم لا تشكون فيه.
وَ إِذْ وٰاعَدْنٰا مُوسىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اِتَّخَذْتُمُ اَلْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظٰالِمُونَ
أي: وعدنا موسى أن ننزل عليه التوراة، وضربنا له ميقاتا ذا القعدة وعشر ذي الحجة.
وقيل: أَرْبَعِينَ لَيْلَةً لأنّ الشهور عددها بالليالي. ومن قرأ: واعدنا، فلأنّ اللّه تعالى وعده الوحي، ووعد هو المجيء للميقات إلي الطور.
ثُمَّ اِتَّخَذْتُمُ اَلْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ أي: من بعد مضيّه إلى الطور وَ أَنْتُمْ ظٰالِمُونَ باتخاذكم العجل إلها.
ثُمَّ عَفَوْنٰا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَ إِذْ آتَيْنٰا مُوسَى اَلْكِتٰابَ وَ اَلْفُرْقٰانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ أي: من بعد ارتكابكم الأمر العظيم.
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ النعمة في العفو عنكم.
وَ إِذْ آتَيْنٰا أي: واذكروا إذ أعطينا مُوسَى اَلْكِتٰابَ وَ اَلْفُرْقٰانَ أي:
الجامع بين كونه كتابا منزلا وفرقانا فارقا بين الحقّ والباطل يعني التوراة، كقولك: (رأيت الغيث والليث) أي: الرجل الجامع بين الجود والجرأة، ونحوه
ص: 65
قوله: وَ لَقَدْ آتَيْنٰا مُوسىٰ وَ هٰارُونَ اَلْفُرْقٰانَ وَ ضِيٰاءً وَ ذِكْراً (1) أي: الكتاب الجامع بين كونه فرقانا وضياء وذكرا.
ويجوز أن يريد ب - اَلْكِتٰابَ التوراة و ب - اَلْفُرْقٰانَ البرهان الفارق بين الكفر والإيمان من العصا واليد وغيرهما من الآيات، أو الشرع الفارق بين الحلال والحرام، أو انفراق البحر، أو النصر الذي فرّق بينه وبين عدوه، كقوله: يَوْمَ اَلْفُرْقٰانِ (2) يريد يوم بدر.
وَ إِذْ قٰالَ مُوسىٰ لِقَوْمِهِ يٰا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخٰاذِكُمُ اَلْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلىٰ بٰارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بٰارِئِكُمْ فَتٰابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ اَلتَّوّٰابُ اَلرَّحِيمُ
واذكروا إِذْ قٰالَ مُوسىٰ لعبدة العجل من قومه بعد رجوعه إليهم: يٰا قَوْمِ إِنَّكُمْ أضررتم أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخٰاذِكُمُ اَلْعِجْلَ معبودا.
والبارئ: الذي برأ الخلق بريئا من التفاوت، ومتميّزا بعضهم من بعض بالصور والأشكال المختلفة.
فَتُوبُوا إِلىٰ خالقكم ومنشئكم.
فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أي: ليقتل بعضكم بعضا. أمر من لم يعبد العجل أن يقتل من عبده. روي: أنّ الرجل كان يبصر ولده وقريبه فلم يمكنهم إمضاء أمر اللّه سبحانه، فأرسل اللّه عليهم ضبابة لا يتراءون تحتها، وأمروا أن يحتبوا بأفنية بيوتهم، وأخذ الذين لم يعبدوا العجل سيوفهم فقتلوهم إلى المساء حتى دعا موسى وهارون، وقالا: يا ربّ ، هلكت بنو إسرائيل، البقية البقية، فكشفت الضبابة
ص: 66
ونزلت التوبة، فسقطت الشفار من أيديهم، وكانت القتلي سبعين ألفا(1).
ذٰلِكُمْ إشارة إلي التوبة مع القتل خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بٰارِئِكُمْ من إيثار الحياة الفانية. وكرّر ذكر بارئكم تعظيما لما أتوا به مع كونه خالقا لهم.
فَتٰابَ عَلَيْكُمْ تقديره: ففعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم.
إِنَّهُ هُوَ اَلتَّوّٰابُ القابل للتوبة عن عباده، اَلرَّحِيمُ بهم.
وَ إِذْ قُلْتُمْ يٰا مُوسىٰ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّٰى نَرَى اَللّٰهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ اَلصّٰاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ
قيل: إنّ القائلين هذا القول هم السبعون الذين صعقوا(2).
أي: لن نصدّقك في قولك حَتّٰى نَرَى اَللّٰهَ عيانا، وهي مصدر من قولك:
جهر بالقراءة، كأنّ الذي يري بالعين جاهر بالرؤية، والذي يري بالقلب مخافت بها.
وانتصابها علي المصدر، لأنّها نوع من الرؤية فنصبت بفعلها كما تنصب القرفصاء بفعل الجلوس؛ أو علي الحال بمعنى ذوي جهرة.
و اَلصّٰاعِقَةُ نار وقعت من السماء فأحرقتهم. وقيل: صيحة جاءت من السماء(3). والظاهر أنّه أصابهم ما ينظرون إليه فخرّوا صعقين ميتين.
ثُمَّ بَعَثْنٰاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
ثم أحييناكم مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لاستكمال آجالكم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمة اللّه بعدما كفرتموها إذ رأيتم بأس اللّه في رميكم بالصاعقة، أو لعلكم تشكرون
ص: 67
نعمة البعث بعد الموت.
وَ ظَلَّلْنٰا عَلَيْكُمُ اَلْغَمٰامَ وَ أَنْزَلْنٰا عَلَيْكُمُ اَلْمَنَّ وَ اَلسَّلْوىٰ كُلُوا مِنْ طَيِّبٰاتِ مٰا رَزَقْنٰاكُمْ وَ مٰا ظَلَمُونٰا وَ لٰكِنْ كٰانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
وجعلنا اَلْغَمٰامَ يظلّكم، وكان ذلك في التيه، سخّر اللّه لهم السحاب يسير بسيرهم يظلّهم من الشمس، وينزل بالليل عمود من نار يسيرون في ضوئه.
وَ أَنْزَلْنٰا عَلَيْكُمُ اَلْمَنَّ وَ اَلسَّلْوىٰ كان ينزل عليهم الترنجبين مثل الثلج، ويبعث اللّه الجنوب(1) فتحشر عليهم السلوى وهي السماني(2) فيذبح الرجل منها ما يكفيه.
كُلُوا مِنْ طَيِّبٰاتِ مٰا رَزَقْنٰاكُمْ علي إرادة القول.
وَ مٰا ظَلَمُونٰا يعني: فظلموا بأن كفروا هذه النعمة وما ظلمونا، فاختصر لدلالة وَ مٰا ظَلَمُونٰا عليه.
وَ إِذْ قُلْنَا اُدْخُلُوا هٰذِهِ اَلْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهٰا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَ اُدْخُلُوا اَلْبٰابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطٰايٰاكُمْ وَ سَنَزِيدُ اَلْمُحْسِنِينَ
اَلْقَرْيَةَ بيت المقدس، وقيل: أريحا من قري الشام(3)، أمروا بدخولها بعد التيه.
ص: 68
و اَلْبٰابَ باب القرية. وقيل: هو باب القبّة التي كانوا يصلّون إليها.
وهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى، أمروا بالسجود عند الانتهاء إلي الباب شكرا للّه وتواضعا. وقيل: السجود أن ينحنوا داخلين ليكون دخولهم بخشوع(1). وقيل: طؤطئ لهم الباب ليخفضوا رؤوسهم فلم يخفضوها(2).
وَ قُولُوا حِطَّةٌ هي فعلة من الحطّ كالجلسة والركبة، وهي خبر مبتدأ محذوف، أي: مسألتنا حطّة. والأصل النصب بمعنى: حطّ عنا ذنوبنا حطّة، ورفع ليعطي معنى الثبات، كقوله: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ (3). وروي عن الباقر عليه السلام أنّه قال:
(نحن باب حطّتكم)(4).
وَ سَنَزِيدُ اَلْمُحْسِنِينَ أي: ومن كان محسنا منكم كانت تلك الكلمة سببا في زيادة ثوابه، ومن كان مسيئا يغفر له ويصفح عن ذنوبه.
فَبَدَّلَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ اَلَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنٰا عَلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ اَلسَّمٰاءِ بِمٰا كٰانُوا يَفْسُقُونَ
أي: فخالف الذين عصوا ووضعوا مكان حِطَّةٌ ، قَوْلاً غَيْرَ اَلَّذِي قِيلَ لَهُمْ أي: ليس معناه معنى ما أمروا به، ولم يمتثلوا أمر اللّه، وقيل: إنّهم قالوا مكان حِطَّةٌ : حنطة(5). وقيل: قالوا: حطا سمقاثا(6)، أي: حنطة حمراء، استهزاء منهم
ص: 69
بما قيل لهم.
وفي تكرير الذين ظلموا زيادة في تقبيح أمرهم، وإيذان بأنّ إنزال العذاب عليهم لظلمهم. والرجز: العذاب، وروي: أنّه مات منهم في ساعة واحدة أربعة وعشرون ألفا من كبرائهم(1).
وَ إِذِ اِسْتَسْقىٰ مُوسىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اِضْرِبْ بِعَصٰاكَ اَلْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اِثْنَتٰا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنٰاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اَللّٰهِ وَ لاٰ تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ
عطشوا في التيه، فاستسقى موسى لهم ودعا لهم بالسقيا.
فَقُلْنَا اِضْرِبْ بِعَصٰاكَ اَلْحَجَرَ اللام إما للعهد والإشارة إلي حجر معلوم، فقد روي: أنّه حجر حمله معه من الطور، وكان حجرا مربعا له أربعة أوجه كانت تنبع من كل وجه ثلاث أعين، لكل سبط عين تسيل في جدول إلي السبط الذي هي له(2). وإما للجنس، أي: اضرب الشيء الذي يقال له: الحجر، فقد روي عن الحسن: (أنّه لم يأمره أن يضرب حجرا بعينه، قال: وهذا أظهر في الحجّة وأبين في القدرة)(3).
فَانْفَجَرَتْ أي: ضرب فانفجرت مِنْهُ اِثْنَتٰا عَشْرَةَ عَيْناً لكل سبط عين.
قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنٰاسٍ يريد كل سبط مَشْرَبَهُمْ عينهم التي يشربون منها.
ص: 70
كُلُوا علي إرادة القول وَ اِشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اَللّٰهِ مما رزقكم الله من الطعام والشراب وهو المن والسلوى وماء العيون. وقيل: الماء ينبت منه الزروع والثمار فهو رزق يؤكل منه ويشرب.
وَ لاٰ تَعْثَوْا العثي: أشدّ الفساد، أي: لا تتمادوا في الفساد.
مُفْسِدِينَ أي: في حال إفسادكم.
وَ إِذْ قُلْتُمْ يٰا مُوسىٰ لَنْ نَصْبِرَ عَلىٰ طَعٰامٍ وٰاحِدٍ فَادْعُ لَنٰا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنٰا مِمّٰا تُنْبِتُ اَلْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهٰا وَ قِثّٰائِهٰا وَ فُومِهٰا وَ عَدَسِهٰا وَ بَصَلِهٰا قٰالَ أَ تَسْتَبْدِلُونَ اَلَّذِي هُوَ أَدْنىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اِهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مٰا سَأَلْتُمْ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ اَلذِّلَّةُ وَ اَلْمَسْكَنَةُ وَ بٰاؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اَللّٰهِ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كٰانُوا يَكْفُرُونَ بِآيٰاتِ اَللّٰهِ وَ يَقْتُلُونَ اَلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ ذٰلِكَ بِمٰا عَصَوْا وَ كٰانُوا يَعْتَدُونَ
وَ إِذْ قُلْتُمْ نسب قول أسلافهم إليهم يٰا مُوسىٰ لَنْ نَصْبِرَ عَلىٰ طَعٰامٍ وٰاحِدٍ أرادوا بالواحد مالا يختلف ولا يتبدّل، ولو كان على مائدة الرجل ألوان عدة يداوم عليها كل يوم لا يبدّلها، جاز أن يقال: لا يأكل فلان إلا طعاما واحدا، ويراد بالوحدة: نفي التبدّل والاختلاف.
فَادْعُ لَنٰا أي: لأجلنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنٰا أي: يظهر لنا ويوجد لنا.
مِمّٰا تُنْبِتُ اَلْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهٰا البقل: ما أنبتته الأرض من الخضر، والفوم:
الحنطة، ومنه: فوّموا لنا أي: اختبزوا. وقيل: هو الثوم(1). قيل: إنّهم كانوا قوما
ص: 71
فلاحة فنزعوا إلى أصلهم، ولم يريدوا إلا ما ألفوه وضروا به من الأشياء المتفاوتة، لأصول والحبوب ونحو ذلك.
قٰالَ أَ تَسْتَبْدِلُونَ اَلَّذِي هُوَ أَدْنىٰ أي: هو أقرب منزلة وأدون مقدارا، والدنو والقرب يعبّر بهما عن قلة المقدار، فيقال: هو أدنى المحلّ وقريب المنزلة، كما يعبّر بالبعد عن عكس ذلك، فيقال: بعيد المحلّ ويعيد الهمة، يريدون الرفعة والعلو.
اِهْبِطُوا مِصْراً أي: انحدروا إليه من التيه، ويمكن أن يريد الاسم العلم، وصرفه مع اجتماع السببين: العلم والتأنيث لسكون وسطه، وإن أريد به البلد فما فيه إلا سبب واحد.
وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ اَلذِّلَّةُ أي: جعلت الذلة محيطة بهم مشتملة عليهم، فهم فيها كما أنّ من ضربت عليه القبة يكون فيها، أو ألصقت بهم حتى لزمتهم ضربة لازب، كما يضرب الطين علي الحائط فيلزمه، فاليهود صاغرون أذلاء أهل مسكنة:
إما علي الحقيقة، وإما لتفاقرهم خيفة أن تضاعف عليهم الجزية.
وَ بٰاؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اَللّٰهِ أي: صاروا أحقّاء بغضبه من قولهم: باء فلان بفلان إذا كان حقيقا بأن يقتل به لمساواته له.
ذلك إشارة إلى ما تقدّم من ضرب الذلة والمسكنة، وكونهم أهل غضبه.
بِأَنَّهُمْ كٰانُوا يَكْفُرُونَ أي: بسبب كفرهم وقتلهم الأنبياء قتلوا زكريا ويحيى وشعيا وغيرهم.
بِغَيْرِ اَلْحَقِّ معناه: أنّهم قتلوهم بغير الحقّ عندهم، لأنّهم لم يقتلوا ولا أفسدوا في الأرض فيقتلوا.
ص: 72
ذلك تكرار للإشارة.
بِمٰا عَصَوْا بسبب معصيتهم واعتدائهم حدود اللّه في كل شيء.
إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هٰادُوا وَ اَلنَّصٰارىٰ وَ اَلصّٰابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ عَمِلَ صٰالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لاٰ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاٰ هُمْ يَحْزَنُونَ
إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا بألسنتهم وهم المنافقون، وَ اَلَّذِينَ هٰادُوا تهوّدوا، يقال: هاد وتهود إذا دخل في اليهودية، وهو هائد والجمع هود، وَ اَلنَّصٰارىٰ جمع نصران [يقال: رجل نصران](1)، وامرأة نصرانة، والنصراني الياء فيه للمبالغة كالتي في أحمري، لأنّهم نصروا المسيح، وَ اَلصّٰابِئِينَ من صبأ إذا خرج من الدين، وهم قوم عدلوا عن دين اليهودية والنصرانية، وعبدوا الملائكة أو النجوم.
مَنْ آمَنَ من هؤلاء الكفرة إيمانا خالصا.
وَ عَمِلَ صٰالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ الذي يستوجبونه بإيمانهم وأعمالهم.
ومحلّ مَنْ آمَنَ رفع بالابتداء، وخبره: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ ، لتضمّن من معنى الشرط، والجملة خبر إِنَّ ؛ أو نصب بدل من اسم إِنَّ والمعطوف عليه، و خبر إِنَّ : فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ .
وَ إِذْ أَخَذْنٰا مِيثٰاقَكُمْ وَ رَفَعْنٰا فَوْقَكُمُ اَلطُّورَ خُذُوا مٰا آتَيْنٰاكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اُذْكُرُوا مٰا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ فَلَوْ لاٰ فَضْلُ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ اَلْخٰاسِرِينَ
واذكروا وَ إِذْ أَخَذْنٰا مِيثٰاقَكُمْ بالعمل علي ما في التوراة وَ رَفَعْنٰا فَوْقَكُمُ
ص: 73
اَلطُّورَ حتى قبلتم وأعطيتم الميثاق. وذلك أنّ موسى جاءهم بالألواح، فرأوا ما فيها من التكاليف الشاقة فأبوا قبولها، فأمر جبرئيل فقلع الطور من أصله ورفعه فوقهم، وقال لهم موسى: إن قبلتم وإلا ألقي عليكم، حتى قبلوا وسجدوا للّه تعالى ملاحظين إلى الجبل، فمن ثم يسجد اليهود علي أحد شقي وجوههم.
خُذُوا على إرادة القول، أي: قلنا خُذُوا مٰا آتَيْنٰاكُمْ من الكتاب.
بِقُوَّةٍ أي: بجدّ ويقين وعزيمة.
وَ اُذْكُرُوا مٰا فِيهِ وادرسوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه.
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ رجاء منكم أن تكونوا متقين.
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ ثم أعرضتم عن الميثاق والوفاء به.
فَلَوْ لاٰ فَضْلُ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وتوفيقه للتوبة لَكُنْتُمْ مِنَ اَلْخٰاسِرِينَ لخسرتم.
وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ اَلَّذِينَ اِعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي اَلسَّبْتِ فَقُلْنٰا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خٰاسِئِينَ فَجَعَلْنٰاهٰا نَكٰالاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهٰا وَ مٰا خَلْفَهٰا وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ
اَلسَّبْتِ مصدر سبتت اليهود إذا عظّمت يوم السبت. المعنى: وَ لَقَدْ عرفتم اَلَّذِينَ اِعْتَدَوْا أي: جاوزوا ما حدّ لهم في السبت من تعظيمه واشتغلوا بالصيد. وذلك أنّ اللّه ابتلاهم فما كان يبقى حوت في البحر إلا ظهر يوم السبت، فإذا مضي تفرّقت، فحفروا حياضا عند البحر وشرعوا إليها الجداول، فكانت الحيتان تدخلها فيصطادونها يوم الأحد، فذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم.
فَقُلْنٰا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خٰاسِئِينَ أي: كونوا جامعين بين القردية والخسوء.
ص: 74
فَجَعَلْنٰاهٰا يعني: المسخة نَكٰالاً عبرة تنكل من اعتبرها، أي: تمنعه لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهٰا لما قبلها وَ مٰا خَلْفَهٰا وما بعدها من الأمم والقرون، لأنّ مسختهم ذكرت في كتب الأولين [فاعتبروا بها](1)، واعتبر بها من بلغتهم من الآخرين. أو أريد ب - لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهٰا ما بحضرتها من الأمم.
وَ مَوْعِظَةً [أي: زجرا ونهيا](2)لِلْمُتَّقِينَ الذين نهوهم عن الاعتداء من صالحي قومهم، أو لكل متق سمعها.
وَ إِذْ قٰالَ مُوسىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اَللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قٰالُوا أَ تَتَّخِذُنٰا هُزُواً قٰالَ أَعُوذُ بِاللّٰهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْجٰاهِلِينَ قٰالُوا اُدْعُ لَنٰا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنٰا مٰا هِيَ قٰالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهٰا بَقَرَةٌ لاٰ فٰارِضٌ وَ لاٰ بِكْرٌ عَوٰانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ فَافْعَلُوا مٰا تُؤْمَرُونَ
كان في بني إسرائيل شيخ موسر قتله قرابة له ليرثوه، فطرحوه علي طريق سبط من أسباط بني إسرائيل، ثم جاءوا يطلبون بدمه، فأمرهم اللّه أن يذبحوا بقرة ويضربوه ببعضها ليحيي فيخبرهم بقاتله.
قٰالُوا أَ تَتَّخِذُنٰا هُزُواً أتجعلنا أهل هزو، أو مهزوا بنا أو الهزو نفسه.
قٰالَ أَعُوذُ بِاللّٰهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْجٰاهِلِينَ أي: من المستهزئين، ليدل علي أنّ الاستهزاء لا يصدر إلا عن الجاهل. وقرئ: هزوا و هزءا، مثل كفوا وكفؤا، وبالضمتين والواو فيهما.
قٰالُوا اُدْعُ لَنٰا رَبَّكَ أي: سل لنا ربّك، وكذا هو في قراءة عبد اللّه.
ص: 75
مٰا هِيَ سؤال عن حالها وصفتها، وذلك أنّهم تعجبوا من بقرة ميتة يضرب ببعضها ميت فيحيى، فسألوا عن صفة تلك البقرة العجيبة الشأن.
قٰالُوا موسي إِنَّهُ سبحانه يَقُولُ إِنَّهٰا بَقَرَةٌ لا مسنّة ولا فتيّة.
فرضت البقرة فروضا أي: أسنّت.
عَوٰانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ أي: نصف وسط بين الصغيرة والكبيرة.
وجاز دخول بين علي ذٰلِكَ ، لاله في معنى شيئين حيث وقع مشارا به إلي ما ذكر من الفارض والبكر، وجاز أن يشار به إلى مؤنثين لأنّه في تأويل ما ذكر وما تقدّم.
فَافْعَلُوا مٰا تُؤْمَرُونَ أي: ما تؤمرونه بمعنى تؤمرون به، ويجوز أن يكون بمعنى أمركم أي: مأموركم، تسمية للمفعول بالمصدر كضرب الأمير.
قٰالُوا اُدْعُ لَنٰا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنٰا مٰا لَوْنُهٰا قٰالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهٰا بَقَرَةٌ صَفْرٰاءُ فٰاقِعٌ لَوْنُهٰا تَسُرُّ اَلنّٰاظِرِينَ (69) قٰالُوا اُدْعُ لَنٰا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنٰا مٰا هِيَ إِنَّ اَلْبَقَرَ تَشٰابَهَ عَلَيْنٰا وَ إِنّٰا إِنْ شٰاءَ اَللّٰهُ لَمُهْتَدُونَ (7(0) قٰالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهٰا بَقَرَةٌ لاٰ ذَلُولٌ تُثِيرُ اَلْأَرْضَ وَ لاٰ تَسْقِي اَلْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاٰ شِيَةَ فِيهٰا قٰالُوا اَلْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهٰا وَ مٰا كٰادُوا يَفْعَلُونَ
فٰاقِعٌ توكيد ل - صَفْرٰاءُ ، ولم يقع خبرا عن اللون، و لونها فاعله، لأنّ اللون من سبب الصفراء وملتبس بها، فلا فرق بين أن يقول: صفراء فاقع لونها وصفراء فاقعة، وعن وهب(1): (إذا نظرت إليها خيل إليك أن شعاع
ص: 76
الشمس يخرج من جلدها)(1). والسرور: لذّة في القلب عند حصول نفع أو توقعه.
وقولهم: مٰا هِيَ مرة ثانية تكرير للسؤال عن حالها وصفتها ليزدادوا بيانا لوصفها. وروي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: (لو اعترضوا أدنى بقرة فذبحوها لكفتهم، ولكن شدّدوا فشدّد اللّه عليهم، والاستقصاء شؤم)(2).
إِنَّ اَلْبَقَرَ تَشٰابَهَ عَلَيْنٰا أي: إ نّ البقر الموصوف بالتعوين والصفرة كثير فاشتبه علينا أيّها نذبح.
وَ إِنّٰا إِنْ شٰاءَ اَللّٰهُ لَمُهْتَدُونَ إلي البقرة المراد ذبحها، أو إلى ما خفي علينا من أمر القاتل. وفي الحديث: (لو لم يستثنوا لما بيّنت لهم آخر الأبد)(3) أي: لو لم يقولوا: إن شاء اللّه.
لاٰ ذَلُولٌ لم تذلل للكراب و إثارة الأرض وَ لاٰ هي من النواضح ف - تَسْقِي اَلْحَرْثَ .
و لا الأولي للنفي، والثانية مزيدة لتوكيد الأولي، لأنّ المعنى: لا ذلول تثير وتسقي، علي أنّ الفعلين صفتان ل - ذَلُولٌ ، كأنّه قيل: لا ذلول مثيرة وساقية.
مُسَلَّمَةٌ سلّمها الله من العيوب، أو معفاة من العمل سلّمها أهلها منه، أو مخلصة اللون من سلّم له كذا إذا خلص له.
لاٰ شِيَةَ فِيهٰا لم يشب صفرتها شيء من الألوان، فهي صفراء كلها حتى قرنها وظلفها، وهي في الأصل مصدر وشّاه وشيا وشية: إذا خلط بلونه لونا آخر، ومنه: ثور موشّى القوائم.
ص: 77
قٰالُوا اَلْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ أي: بحقيقة وصف البقرة الجامعة لهذه الأوصاف كلها فَذَبَحُوهٰا .
وقوله: وَ مٰا كٰادُوا يَفْعَلُونَ استبطاء لهم واستثقال لاستقصائهم، أي:
ما كادوا يذبحونها وما كادت تنتهي سؤالاتهم. وقيل: وما كادوا يذبحونها لغلاء ثمنها(1)، وقيل: لخوف الفضيحة في ظهور القاتل(2).
فأما اختلاف العلماء في أنّ تكليفهم كان واحدا وهو ذبح البقرة المخصوصة باللون والصفات، أو كان متغايرا وكلما راجعوا تغيّرت مصلحتهم إلى تكليف آخر، فمذكور في كتاب مجمع البيان(1)، فمن أراد ذلك فليقف عليه هناك.
والنسخ قبل الفعل جائز، وقبل وقت الفعل غير جائز، لأنّه يؤدي إلى البداء.
وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّٰارَأْتُمْ فِيهٰا وَ اَللّٰهُ مُخْرِجٌ مٰا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (7(2) فَقُلْنٰا اِضْرِبُوهُ بِبَعْضِهٰا كَذٰلِكَ يُحْيِ اَللّٰهُ اَلْمَوْتىٰ وَ يُرِيكُمْ آيٰاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
خوطبت الجماعة لوجود القتل فيهم فَادّٰارَأْتُمْ (3) أي: اختلفتم فِيهٰا واختصمتم في أمرها، لأنّ المتخاصمين يدرأ بعضهم بعضا أي: يدفعه، أو تدافعتم بأن طرح بعضكم قتلها علي بعض فدفع المطروح عليه الطارح، أو دفع بعضكم بعضا عن البراءة واتهمه.
وَ اَللّٰهُ مُخْرِجٌ أي: مظهر مٰا كُنْتُمْ تكتمونه من أمر القتل ولا يتركه
ص: 78
مكتوما. وهذه جملة اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه وهما فَادّٰارَأْتُمْ و قُلْنٰا .
والضمير في اِضْرِبُوهُ إما أن يرجع إلي النفس علي تأويل الشخص، أو إلى القتيل لما دل عليه قوله: مٰا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ .
بِبَعْضِهٰا ببعض البقرة، والتقدير: فضربوه فحيي كَذٰلِكَ يُحْيِ اَللّٰهُ اَلْمَوْتىٰ فحذف لأنّ ما أبقي يدلّ علي ما ألقي. روي: أنّهم لما ضربوه قام بإذن اللّه وأوداجه تشخب دما، وقال: قتلني فلان، فقتل ولم يورّث قاتل بعد ذلك(1).
وَ يُرِيكُمْ آيٰاتِهِ دلائله علي أنّه قادر علي كل شيء.
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي: تعملون علي قضية عقولكم في أنّ من قدر علي إحياء نفس واحدة قدر علي إحياء النفوس كلها، لعدم الاختصاص حتى لا تنكروا البعث.
وإنّما قدّمت قصّة الأمر بذبح البقرة علي ذكر القتيل مع تقدّمه، لأنّ الغرض ذكر قصّتين كل واحدة منهما تختص بنوع من التقريع، فلو عمل علي عكسه لكانت قصّة واحدة وذهب الغرض في ذلك.
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجٰارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَ إِنَّ مِنَ اَلْحِجٰارَةِ لَمٰا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ اَلْأَنْهٰارُ وَ إِنَّ مِنْهٰا لَمٰا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ اَلْمٰاءُ وَ إِنَّ مِنْهٰا لَمٰا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اَللّٰهِ وَ مَا اَللّٰهُ بِغٰافِلٍ عَمّٰا تَعْمَلُونَ
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ المعنى في ثُمَّ استبعاد القسوة من بعد ما
ص: 79
ذكر مما يوجب لين القلوب ورقّتها من إحياء القتيل وغير ذلك من الآيات.
فَهِيَ في قسوتها مثل الحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً منها. والمعنى: إنّ من عرفها شبّهها بالحجارة، أو قال: هي أقسى من الحجارة، أو من عرف حالها شبّهها بالحجارة أو بجوهر أقسى منها.
وَ إِنَّ مِنَ اَلْحِجٰارَةِ بيان لفضل قسوة قلوبهم علي الحجارة. والتفجّر:
التفتّح بالسعة والكثرة، والمعنى: إنّ من الحجارة ما فيه خروق واسعة يتدفق منها الماء الكثير.
وَ إِنَّ مِنْهٰا لَمٰا يَشَّقَّقُ أي: يتشقق، أدغم التاء في الشين، أي: ينشق طولا أو عرضا فينبع منه الماء.
وَ إِنَّ مِنْهٰا لَمٰا يَهْبِطُ أي: يتردي من أعلى الجبل. والخشية مجاز عن انقيادها لأمر اللّه، وقلوب هؤلاء لا تنقاد ولا تفعل ما أمرت به.
وَ مَا اَللّٰهُ بِغٰافِلٍ عَمّٰا تَعْمَلُونَ أيّها المكذّبون. ومن قرأ بالياء، فالمراد: عما يعمل هؤلاء أيّها المسلمون.
أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَ قَدْ كٰانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاٰمَ اَللّٰهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مٰا عَقَلُوهُ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ
الخطاب لرسولى اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والمسلمين، أي: أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لأجل دعوتكم فيستجيبوا لَكُمْ كما قال: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ (1).
وَ قَدْ كٰانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ أي: طائفة من أسلاف اليهود يَسْمَعُونَ كَلاٰمَ
ص: 80
اَللّٰهِ في التوراة ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ كما حرّفوا صفة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وآية الرجم.
مِنْ بَعْدِ مٰا عَقَلُوهُ أي: فهموه وضبطوه ولم يبق لهم شبهة في صحته وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أنّهم كاذبون، يعني: إن حرّف هؤلاء فلهم سابقة في ذلك.
وَ إِذٰا لَقُوا اَلَّذِينَ آمَنُوا قٰالُوا آمَنّٰا وَ إِذٰا خَلاٰ بَعْضُهُمْ إِلىٰ بَعْضٍ قٰالُوا أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِمٰا فَتَحَ اَللّٰهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَ فَلاٰ تَعْقِلُونَ أَ وَ لاٰ يَعْلَمُونَ أَنَّ اَللّٰهَ يَعْلَمُ مٰا يُسِرُّونَ وَ مٰا يُعْلِنُونَ
وَ إِذٰا لَقُوا اَلَّذِينَ آمَنُوا يعني: اليهود قٰالُوا آمَنّٰا بأنّكم علي الحقّ ، وبأنّ محمّدا هو النبيّ المبشر به في التوراة.
وَ إِذٰا خَلاٰ بَعْضُهُمْ إِلىٰ بَعْضٍ أي: صاروا في الموضع الذي ليس فيه غيرهم.
قالوا أي: قال بعضهم لبعض أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِمٰا فَتَحَ اَللّٰهُ عَلَيْكُمْ بما بيّن لكم في التوراة من صفة محمّد.
لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ ليحتجّوا عليكم بما أنزل ربّكم في كتابه، جعلوا محاجّتهم به وقولهم: هو في كتابكم هكذا محاجّة عند اللّه، كما يقال: (هو عند اللّه هكذا)، أو (هو في كتاب اللّه هكذا) بمعنى واحد، أو يكون المراد ليكون لهم الحجّة عليكم عند اللّه في إيمانهم بمحمّد إذ كنتم مخبرين بصحة أمره من كتابكم.
أَ فَلاٰ تَعْقِلُونَ أنّ ذلك حجّة عليكم.
أَ وَ لاٰ يعلم هؤلاء اليهود أَنَّ اَللّٰهَ يَعْلَمُ مٰا يُسِرُّونَ من الكفر وَ مٰا يُعْلِنُونَ من الإيمان.
ص: 81
ومنهم أمّيّون لا يعلمون الكتاب إلّا أمانيّ وإن هم إلّا يظنّون أُمِّيُّونَ لا يحسنون الكتابة فيطالعوا التوراة ويتحقّقوا ما فيها.
لاٰ يَعْلَمُونَ اَلْكِتٰابَ أي: التوراة.
إِلاّٰ أَمٰانِيَّ إلا ما هم عليه من أمانيّهم: أنّ اللّه يعفو عنهم ولا يؤاخذهم بخطاياهم، وأنّ آباءهم الأنبياء يشفعون لهم. وقيل: إلا أكاذيب مختلقة من علمائهم فيقبلونها علي التقليد(1). كما قال أحدهم: هذا شيء رويته أم تمنّيته، أي: اختلقته.
وقيل: إلا ما يقرؤون(2)، من قول الشاعر:
تمنّى كتاب الله أوّل ليله(3)
وهذا من الاستثناء المنقطع كقوله: مٰا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اِتِّبٰاعَ اَلظَّنِّ (4).
وَ إِنْ هُمْ أي: وما هم إِلاّٰ يَظُنُّونَ أي: يشكّون وهم متمكّنون من العلم بالحقّ .
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ اَلْكِتٰابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هٰذٰا مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّٰا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمّٰا يَكْسِبُونَ
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ اَلْكِتٰابَ المحرّف بِأَيْدِيهِمْ تأكيد، كما تقول: رآه
ص: 82
بعينه وسمعه بأذنه، والويل: كلمة التحسّر والتفجّع وهو في الآية العذاب.
لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أي: ليأخذوا به ما كانوا يأخذونه من عوامّهم من الأموال، وصفه بالقلّة لأنّ متاع الدنيا قليل.
وقوله: مِمّٰا يَكْسِبُونَ أي: من الرشا.
وَ قٰالُوا لَنْ تَمَسَّنَا اَلنّٰارُ إِلاّٰ أَيّٰاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اَللّٰهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اَللّٰهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اَللّٰهِ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ
وقالت اليهود: لَنْ تَمَسَّنَا اَلنّٰارُ أي: لن تصيبنا النار.
إِلاّٰ أَيّٰاماً مَعْدُودَةً أي: قلائل أربعين يوما عدد أيّام عبادة العجل، وعن مجاهد(1): (قالوا: مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وإنّما نعذّب مكان كل ألف سنة يوما)(2).
فَلَنْ يُخْلِفَ اَللّٰهُ عَهْدَهُ متعلّق بمحذوف تقديره: إن اتخذتم عنده عهدا فلن يخلف اللّه عهده.
و أم إما أن تكون معادلة لهمزة الاستفهام بمعنى: أي الأمرين كائن علي سبيل التقرير، لأنّ العلم واقع بكون أحدهما، وإما أن تكون منقطعة بمعنى: بل أتقولون.
ص: 83
بَلىٰ مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحٰاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلْجَنَّةِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ
بَلىٰ إثبات لما بعد حرف النفي وهو قوله: لَنْ تَمَسَّنَا اَلنّٰارُ أي:
بلي تمسّكم النار علي سبيل الخلود بدلالة قوله: هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ .
والسيئة هنا: الشرك، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة(1) وغيرهم(2)، وهو الصحيح، لأنّ ما عدا الشرك لا يستحقّ به الخلود في النار عندنا.
وَ أَحٰاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ أي: أحدقت به من كل جانب كقوله: وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكٰافِرِينَ (3)، أو أهلكته كقوله: إِلاّٰ أَنْ يُحٰاطَ بِكُمْ (4)، و وَ أُحِيطَ بِثَمَرِهِ (5)، والمراد: سدّت عليه طريق النجاة. وقيل: المراد بذلك الإصرار علي الذنب(6).
وفي قوله: وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا... الآية وعد لأهل التصديق والطاعة بالثواب الدائم، كما أوعد قبله أهل الجحود والإصرار علي الكبائر الموبقة بالعقاب الدائم.
ص: 84
وَ إِذْ أَخَذْنٰا مِيثٰاقَ بَنِي إِسْرٰائِيلَ لاٰ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اَللّٰهَ وَ بِالْوٰالِدَيْنِ إِحْسٰاناً وَ ذِي اَلْقُرْبىٰ وَ اَلْيَتٰامىٰ وَ اَلْمَسٰاكِينِ وَ قُولُوا لِلنّٰاسِ حُسْناً وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ وَ آتُوا اَلزَّكٰاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاّٰ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَ أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ
لاٰ تَعْبُدُونَ إخبار في معنى النهي، كما يقال: (تذهب إلى فلان تقول له كذا وكذا)، يراد به الأمر، وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي، لأنه كأنّه قد سورع إلى امتثاله فأخبر عنه، ويؤيده قراءة عبد اللّه وأبيّ : (لا تعبدوا). ولابد من إرادة القول، ويدلّ عليه قوله: وَ قُولُوا .
وتقدير قوله: وَ بِالْوٰالِدَيْنِ إِحْسٰاناً : [وتحسنون بالوالدين إحسانا](1)، أو أحسنوا.
وقيل: إ نّ قوله: لاٰ تَعْبُدُونَ جواب القسم، لأنّ أخذ الميثاق في معنى القسم، كأنّه قيل: وإذ أقسمنا عليهم لا تعبدون(2)، وقيل: معناه أن لا تعبدوا، فلما حذف (أن) رفع(3)، كقوله:
ألا أيّهذا الزّاجري أحضر الوغى(4)
وَ ذِي اَلْقُرْبىٰ أي: وبذي القربى أن تصلوا قرابته، وباليتامى أن تعطفوا عليهم بالشفقة والرأفة، وبالمساكين أن تؤتوهم حقوقهم.
ص: 85
وَ قُولُوا لِلنّٰاسِ حُسْناً أي: قولا هو حسن في نفسه لإفراط حسنه. وقرئ:
حسنا، وحسنى علي المصدر كبشرى. وعن الباقر عليه السلام: (قولوا للناس ما تحبّون أن يقال لكم)(1).
وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ أي: أدّوها بحدودها وأركانها وَ آتُوا اَلزَّكٰاةَ أعطوها أهلها.
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ هذا علي طريق الالتفات، أي: توليتم عن الميثاق وتركتموه إِلاّٰ قَلِيلاً مِنْكُمْ وهم الذين أسلموا منهم.
وَ أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ عادتكم الإعراض عن المواثيق.
وَ إِذْ أَخَذْنٰا مِيثٰاقَكُمْ لاٰ تَسْفِكُونَ دِمٰاءَكُمْ وَ لاٰ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ
لاٰ تَسْفِكُونَ دِمٰاءَكُمْ وَ لاٰ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ أي: لا يفعل ذلك بعضكم ببعض، جعل غير الرجل نفسه إذا اتصل به أصلا أو دينا، وقيل: المعنى فيه إنّه إذا قتل غيره فكأنّما قتل نفسه لأنه يقتص منه.
ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ بالميثاق واعترفتم على أنفسكم بلزومه وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ عليها.
وقيل: أنتم تشهدون اليوم يا معاشر اليهود علي إقرار أسلافكم بهذا الميثاق(2).
ثُمَّ أَنْتُمْ هٰؤُلاٰءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيٰارِهِمْ تَظٰاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوٰانِ وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسٰارىٰ تُفٰادُوهُمْ وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرٰاجُهُمْ أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ
ص: 86
اَلْكِتٰابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمٰا جَزٰاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنْكُمْ إِلاّٰ خِزْيٌ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ يُرَدُّونَ إِلىٰ أَشَدِّ اَلْعَذٰابِ وَ مَا اَللّٰهُ بِغٰافِلٍ عَمّٰا تَعْمَلُونَ
ثُمَّ أَنْتُمْ هٰؤُلاٰءِ استبعاد لما أسند إليهم من القتل والإجلاء والعدوان بعد أخذ الميثاق منهم وإقرارهم وشهادتهم، يعني: ثم أنتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون.
يعني: إنّكم قوم آخرون غير أولئك المقرّين تنزيلا، لتغيّر الصفة منزلة تغيّر الذات، كما تقول: رجعت بغير الوجه الذي خرجت به.
وقوله: تَقْتُلُونَ بيان لقوله: ثُمَّ أَنْتُمْ هٰؤُلاٰءِ ، وقيل: هٰؤُلاٰءِ موصول بمعنى الذين. وقريء تَظٰاهَرُونَ بحذف التاء، و تظاهرون بإدغامها، وا لأصل تتظاهرون، أي: تتعاونون عليهم.
وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسٰارىٰ وقرئ: أسري تُفٰادُوهُمْ أي: وأنتم مع قتلكم من تقتلون منهم إذا وجدتموه أسيرا في أيدي غيركم فديتموهم، وقتلكم وإخراجكم إيّاهم حرام عليكم كما أنّ تركهم أسرى في أيدي غيركم حرام عليكم، فكيف تستجيزون قتلهم ولا تستجيزون ترك فدائهم من عدوّهم ؟! وقرئ: تفدوهم، لأنّ الفعل بين اثنين.
و هو ضمير الشأن و مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرٰاجُهُمْ خبره، ويجوز أن يكون مبهما تفسيره إِخْرٰاجُهُمْ .
أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ اَلْكِتٰابِ أي: با لفداء وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ أي:
بالقتال والجلاء. وذلك أنّ قريظة كانوا حلفاء الأوس، والنضير كانوا حلفاء الخزرج، فكان كل فريق منهم يقاتل مع حلفائه، فإذا غلبوا خرّبوا ديارهم
ص: 87
وأخرجوهم، وإذا أسر رجل من الفريقين فدوه.
والخزي: قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير، وقيل: الجزية.
وَ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ يُرَدُّونَ إِلىٰ أَشَدِّ اَلْعَذٰابِ الذي أعدّه اللّه لأعدائه. وقرئ:
(تردّون) و (يعملون) بالتاء والياء.
أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ اِشْتَرَوُا اَلْحَيٰاةَ اَلدُّنْيٰا بِالْآخِرَةِ فَلاٰ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ اَلْعَذٰابُ وَ لاٰ هُمْ يُنْصَرُونَ
أي: رضوا ب - اَلْحَيٰاةَ اَلدُّنْيٰا عوضا من نعيم الآخرة.
فَلاٰ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ عذاب الدنيا بنقصان الجزية وكذلك عذاب الآخرة.
وَ لاٰ هُمْ يُنْصَرُونَ أي: لا ينصرهم أحد بالدفع عنهم.
وَ لَقَدْ آتَيْنٰا مُوسَى اَلْكِتٰابَ وَ قَفَّيْنٰا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَ آتَيْنٰا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ اَلْبَيِّنٰاتِ وَ أَيَّدْنٰاهُ بِرُوحِ اَلْقُدُسِ أَ فَكُلَّمٰا جٰاءَكُمْ رَسُولٌ بِمٰا لاٰ تَهْوىٰ أَنْفُسُكُمُ اِسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ
اَلْكِتٰابَ التوراة، آتاه إيّاها جملة واحدة.
وَ قَفَّيْنٰا أي: أتبعنا، من القفا، وقفّاه به: أتبعه إيّاه، أي: أرسلنا علي إثره كثيرا من الرسل، كقوله: ثُمَّ أَرْسَلْنٰا رُسُلَنٰا تَتْرٰا (1).
و عِيسَى بالسريانية: أيشوع، و مَرْيَمَ بمعنى الخادم.
و اَلْبَيِّنٰاتِ المعجزات الواضحات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه و الأبرص، و الإخبار بالمغيّبات.
ص: 88
وَ أَيَّدْنٰاهُ بِرُوحِ اَلْقُدُسِ بالروح المقدّسة، كما يقال: حاتم الجود، لأنّه لم تضمّه الأصلاب و لا أرحام الطوامث. وقيل: بجبرئيل(1)، وقيل: باسم اللّه الأعظم الذي كان يحيي الموتى بذكره(2).
والمعنى: ولقد آتينا يا بني إسرائيل أنبياءكم ما آتيناهم أَ فَكُلَّمٰا جٰاءَكُمْ رَسُولٌ منهم بالحقّ اِسْتَكْبَرْتُمْ عن الإيمان به، فوسّط بين الفاء وما تعلّقت به همزة التوبيخ والتعجيب من شأنهم، ويجوز أن يريد: ولقد آتيناهم ما [آتيناكم](3) ففعلتم ما فعلتم، ثم وبّخهم علي ذلك [بقوله: فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ ](4).
ودخول (الفاء) لعطفه علي المقدّر، ولم يقل: وفريقا قتلتم، لأنّه أريد الحال الماضية، لأنّ الأمر فظيع فأريد استحضاره في النفوس وتصويره في القلوب.
وَ قٰالُوا قُلُوبُنٰا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اَللّٰهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مٰا يُؤْمِنُونَ
قُلُوبُنٰا غُلْفٌ جمع أغلف، أي: هي خلقت مغشاة بأغطية لا يصل إليها ما جاء به محمّد صلى الله عليه و آله و سلم ولا تفقهه، مستعار من الأغلف الذي لم يختن، كقولهم: قُلُوبُنٰا فِي أَكِنَّةٍ (5).
ثم ردّ اللّه عليهم بقوله: بَلْ لَعَنَهُمُ اَللّٰهُ بِكُفْرِهِمْ أي: ليس ذلك كما زعموا:
أنّ قلوبهم خلقت كذلك، لأنّها خلقت علي الفطرة، لكن اللّه لعنهم وخذلهم بسبب كفرهم وأبعدهم من رحمته.
ص: 89
فَقَلِيلاً مٰا يُؤْمِنُونَ فإيمانا قليلا يؤمنون. و مٰا مزيدة، وهو إيمانهم ببعض الكتاب، ويجوز أن يكون القلة بمعنى العدم.
وَ لَمّٰا جٰاءَهُمْ كِتٰابٌ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ مُصَدِّقٌ لِمٰا مَعَهُمْ وَ كٰانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّٰا جٰاءَهُمْ مٰا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اَللّٰهِ عَلَى اَلْكٰافِرِينَ
كِتٰابٌ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ هو القرآن مُصَدِّقٌ لِمٰا مَعَهُمْ من الكتب المنزلة - التوراة والإنجيل وغيرهما - لا يخالفها.
وجواب لما محذوف وهو نحو كذّبوا به وما أشبهه. وقيل: إنّ قوله:
فَلَمّٰا جٰاءَهُمْ مٰا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ في موضع جواب لما الأول، وكرر لما لطول الكلام، وقيل: إنّ جواب الثاني أغنى عن جواب الأول.
وَ كٰانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى اَلَّذِينَ كَفَرُوا يستنصرون علي المشركين إذا قاتلوهم، يقولون: اللهم انصرنا بالنبيّ المبعوث في آخر الزمان الذي نجد نعته في التوراة، وكانوا يقولون: قد أظلّ زمان نبيّ يخرج بتصديق ما قلنا، فنقتلكم معه قتل عاد وإرم.
فَلَمّٰا جٰاءَهُمْ مٰا عَرَفُوا من الحقّ كَفَرُوا بِهِ بغيا وحسدا وحرصا على الرئاسة.
فَلَعْنَةُ اَللّٰهِ أي: غضبه وعذابه عَلَى اَلْكٰافِرِينَ أي: عليهم، وضع الظاهر موضع الضمير.
بِئْسَمَا اِشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اَللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلىٰ مَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ فَبٰاؤُ
ص: 90
بِغَضَبٍ عَلىٰ غَضَبٍ وَ لِلْكٰافِرِينَ عَذٰابٌ مُهِينٌ وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ قٰالُوا نُؤْمِنُ بِمٰا أُنْزِلَ عَلَيْنٰا وَ يَكْفُرُونَ بِمٰا وَرٰاءَهُ وَ هُوَ اَلْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمٰا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيٰاءَ اَللّٰهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
(ما) نكرة منصوبة مفسرة لفاعل (بئس)، أي: بئس شيئا اِشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ والمخصوص با لذم أَنْ يَكْفُرُوا ، و اِشْتَرَوْا بمعنى باعوا.
بَغْياً أي: حسدا وطلبا لما ليس لهم، وهو مفعولى له.
أَنْ يُنَزِّلَ اَللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ أي: علي أن ينزّل اللّه من فضله الذي هو الوحي والنبوة عَلىٰ مَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ وتقتضي حكمته إرساله.
فَبٰاؤُ بِغَضَبٍ عَلىٰ غَضَبٍ فصاروا أحقّاء لغضب متوال، لأنّهم كفروا بنبيّ الحقّ وبغوا عليه، وقيل: بكفرهم بمحمّد صلى الله عليه و آله و سلم بعد عيسى عليه السلام(1).
وقوله: بِمٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ مطلق في كل كتاب أنزله الله، وقوله: بِمٰا أُنْزِلَ عَلَيْنٰا مقيّد با لتوراة.
وَ يَكْفُرُونَ بِمٰا وَرٰاءَهُ أي: قالوا ذلك والحال أنّهم يكفرون بما وراء التوراة وَ هُوَ اَلْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمٰا مَعَهُمْ منها غير مخالف له. وفيه ردّ لمقالتهم، لأنّهم إذا كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها.
قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيٰاءَ اَللّٰهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ اعتراض عليهم بقتلهم الأنبياء مع ادعائهم الإيمان بالتوراة، والتوراة لا ترخّص في قتل الأنبياء.
ص: 91
وَ لَقَدْ جٰاءَكُمْ مُوسىٰ بِالْبَيِّنٰاتِ ثُمَّ اِتَّخَذْتُمُ اَلْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظٰالِمُونَ
يعني: جٰاءَكُمْ مُوسىٰ بالمعجزات الدالة علي صدقه.
ثُمَّ اِتَّخَذْتُمُ اَلْعِجْلَ إلها معبودا من بعد مجيئه، أو من بعد موسى لما مضى إلى ميقات ربّه.
وَ أَنْتُمْ ظٰالِمُونَ وأنتم واضعون العبادة في غير موضعها، فتكون الجملة حالا؛ أو تكون اعتراضا، بمعنى: وأنتم قوم عادتكم الظلم.
وَ إِذْ أَخَذْنٰا مِيثٰاقَكُمْ وَ رَفَعْنٰا فَوْقَكُمُ اَلطُّورَ خُذُوا مٰا آتَيْنٰاكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اِسْمَعُوا قٰالُوا سَمِعْنٰا وَ عَصَيْنٰا وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ اَلْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمٰا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمٰانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
كرر سبحانه ذكر الطور ورفعه فوقهم، لما في الثانية من الزيادة غير المذكورة في الأولي مع ما فيه من التوكيد.
وَ اِسْمَعُوا لما أمرتم به في التوراة.
قٰالُوا سَمِعْنٰا قولك وَ عَصَيْنٰا أمرك.
وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ اَلْعِجْلَ أي: تغلغل في بواطنهم وتداخلها حبّ العجل والحرص علي عبادته، كما يتداخل الثوب الصبغ. وقوله: فِي قُلُوبِهِمُ بيان لمكان الإشراب، كقوله: إِنَّمٰا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نٰاراً (1).
بِكُفْرِهِمْ أي: بسبب كفرهم.
ص: 92
قُلْ بِئْسَمٰا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمٰانُكُمْ بالتوراة، لأنّه ليس في التوراة عبادة العجل، وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكّم، كما قال قوم شعيب: أَ صَلاٰتُكَ تَأْمُرُكَ (1)، وكذلك إضافة الإيمان إليهم.
وقوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ تشكيك في إيمانهم، وقدح في صحة دعواهم له.
قُلْ إِنْ كٰانَتْ لَكُمُ اَلدّٰارُ اَلْآخِرَةُ عِنْدَ اَللّٰهِ خٰالِصَةً مِنْ دُونِ اَلنّٰاسِ فَتَمَنَّوُا اَلْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ
خٰالِصَةً نصب علي الحال من اَلدّٰارُ اَلْآخِرَةُ والمراد الجنّة، أي:
خالصة لكم خاصة بكم ليس لأحد سواكم فيها حقّ كما تزعمون في قولكم: لَنْ يَدْخُلَ اَلْجَنَّةَ إِلاّٰ مَنْ كٰانَ هُوداً (2).
و اَلنّٰاسِ للجنس، وقيل: للعهد وهم المسلمون(3).
فَتَمَنَّوُا اَلْمَوْتَ لأنّ من أيقن أنّه من أهل الجنّة اشتاق إليها وتمنّى سرعة الوصول إلى نعيمها، كما روي: أنّ عليا عليه السلام كان يطوف بين الصفين بصفّين في غلالة(4)، فقال له ابنه الحسن عليه السلام: (ما هذا بزيّ المحاربين)!، فقال: (يا بني لا يبالي أبوك علي الموت سقط، أم عليه سقط الموت)(5). ويروي: أنّ حبيب
ص: 93
بن مظاهر(1) ضحك يوم الطف(2)، فقيل له في ذلك، فقال: (وأيّ موضع أحقّ بالسرور من هذا الموضع ؟! واللّه ما هو إلا أن يقبل علينا هؤلاء القوم بسيوفهم فنعانق الحور العين)(3).
وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمٰا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ بِالظّٰالِمِينَ
هذا من المعجزات لأنّه إخبار بالغيب، وكان كما أخبر به، وفي الحديث: (لو تمنّوا الموت لغصّ كل إنسان منهم بريقه فمات مكانه، وما بقي علي وجه الأرض يهودي)(4).
بِمٰا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي: بما أسلفوا من موجبات النار من تحريف كتاب اللّه، والكفر بمحمّد صلى الله عليه و آله و سلم، وغير ذلك من أنواع الكفر. والتمنّي: قول الإنسان بلسانه: ليت لي كذا.
وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ بِالظّٰالِمِينَ تهديد لهم.
وَ لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ اَلنّٰاسِ عَلىٰ حَيٰاةٍ وَ مِنَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَ مٰا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ اَلْعَذٰابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَ اَللّٰهُ بَصِيرٌ بِمٰا يَعْمَلُونَ
هو من (وجدت) بمعنى (علمت) في قولهم: وجدت زيدا ذا الحفاظ،
ص: 94
ومفعولاه (هم) و أَحْرَصَ اَلنّٰاسِ . ونكّر حَيٰاةٍ لأنّه أراد علي حياة مخصوصة متطاولة.
وَ مِنَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا محمول علي المعنى، لأنّ معنى أَحْرَصَ اَلنّٰاسِ :
أحرص من الناس، وجاز ذلك وإن دخل الذين أشركوا تحت الناس، لأنّهم أفردوا بالذكر من جهة أنّ حرصهم أشدّ. ويجوز أن يراد: وأحرص من الذين أشركوا، فحذف لدلالة أَحْرَصَ اَلنّٰاسِ عليه. وفيه توبيخ شديد، لأنّ حرص المشركين على الحياة غير مستبعد لأنّها جنّتهم ولم يؤمنوا بعاقبة، فإذا زادوا عليهم في الحرص وهم مقرّون بالجزاء كانوا أحقّاء بأعظم التوبيخ.
وقيل: أراد بالذين أشركوا المجوس لأنّهم كانوا يقولون لملوكهم: (عش ألف نيروز - هزار سال بزي -)(1).
وقيل: وَ مِنَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا كلام مبتدأ، أي: ومنهم ناس.
يَوَدُّ أَحَدُهُمْ علي حذف الموصوف، كقوله: وَ مٰا مِنّٰا إِلاّٰ لَهُ مَقٰامٌ مَعْلُومٌ (2).
والضمير في وَ مٰا هُوَ لأحدهم، و أَنْ يُعَمَّرَ فاعل ل - بِمُزَحْزِحِهِ أي:
وما أحدهم بمزحزحه من العذاب تعميره. وقيل: الضمير لما دلّ عليه يعمر من مصدره، و أَنْ يُعَمَّرَ بدل منه، ويجوز أن يكون هُوَ مبهما و أَنْ يُعَمَّرَ مبيّنه. والزحزحة: التنحية والتبعيد.
وقوله: لَوْ يُعَمَّرُ في معنى التمنّي، وكان القياس: لو أعمر، إلا أنّه أجري علي لفظ الغيبة لقوله: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ كقولك: حلف باللّه ليفعلن، فقوله: لو
ص: 95
يعمر حكاية لودادتهم.
قُلْ مَنْ كٰانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اَللّٰهِ مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهِ وَ هُدىً وَ بُشْرىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ مَنْ كٰانَ عَدُوًّا لِلّٰهِ وَ مَلاٰئِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكٰالَ فَإِنَّ اَللّٰهَ عَدُوٌّ لِلْكٰافِرِينَ
روي: أنّ عبد اللّه بن صوريا - وهو من أحبار فدك(1) - سأل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عمن يهبط عليه بالوحي، فقال: جبرئيل، فقال: ذاك عدوّنا ولو كان غيره لآمنّا بك، فنزلت جوابا لقوله وردّا عليه(2).
قل يا محمّد: من عادي جبرئيل من أهل الكتاب فَإِنَّهُ نزّل القران. أضمر ما لم يسبق ذكره، وفيه فخامة لشأنه، إذ جعله لفرط شهوته كأنّه يدلّ علي نفسه.
عَلىٰ قَلْبِكَ أي: حفّظه إيّاك وفهّمكه بإذن اللّه، أي: بتيسيره وتسهيله.
والمعنى: أنّه لا وجه لمعاداته حيث نزّل كتابا مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب فيكون مصدّقا لكتابهم، فلو أنصفوا لأحبّوه وشكروا له صنيعه في إنزاله ما يصحح الكتاب المنزل عليهم.
وَ هُدىً وَ بُشْرىٰ أي: وهاديا ومبشرا لِلْمُؤْمِنِينَ بالنعيم الدائم.
وإنّما أعاد ذكر جبرئيل وميكائيل بعد ذكر الملائكة لفضلهما، فأفردهما بالذكر كأنّهما من جنس آخر، وهو مما ذكر: أنّ التغاير في الوصف ينزل منزلة التغاير في
ص: 96
الذات. [الصادق عليه السلام](1) كان يقرأ جبريل وميكال بغير همزة.
فَإِنَّ اَللّٰهَ عَدُوٌّ لِلْكٰافِرِينَ أراد عدوّ لهم، وضع الظاهر موضع الضمير ليدلّ على أنّه سبحانه إنّما عاداهم لكفرهم، وأنّ عداوة الملائكة كفر.
وَ لَقَدْ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ آيٰاتٍ بَيِّنٰاتٍ وَ مٰا يَكْفُرُ بِهٰا إِلاَّ اَلْفٰاسِقُونَ أَ وَ كُلَّمٰا عٰاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاٰ يُؤْمِنُونَ
آيٰاتٍ أي: معجزات ظاهرات واضحات وَ مٰا يَكْفُرُ بِهٰا إِلاَّ المتمرّدون من الكفرة، وعن الحسن: (إذا استعمل الفسق في نوع من المعاصي وقع علي أعظم ذلك النوع من كفر وغيره)(2).
واللام في اَلْفٰاسِقُونَ للجنس، والأولى أن تكون إشارة إلى أهل الكتاب.
أَ وَ كُلَّمٰا الواو للعطف على محذوف، معناه: أكفروا بالآيات البيّنات وَ كُلَّمٰا عٰاهَدُوا . واليهود موصوفون بنقض العهد قال سبحانه: اَلَّذِينَ عٰاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ (3). والنبذ: الرمي بالشيء ورفضه.
وقال: فَرِيقٌ مِنْهُمْ لأنّ منهم من لم ينقض.
بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاٰ يُؤْمِنُونَ بالتوراة وليسوا من الدين في شيء، فلا يبالون بنقض الميثاق ولا يعدّونه ذنبا.
ص: 97
وَ لَمّٰا جٰاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ مُصَدِّقٌ لِمٰا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتٰابَ كِتٰابَ اَللّٰهِ وَرٰاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ
كِتٰابَ اَللّٰهِ يعني: التوراة، لأنّهم بكفرهم برسول اللّه المصدّق لها كافرون بها نابذون لها، أو يريد القرآن نبذوه بعد أن لزمهم أن يتلقوه بالقبول.
كَأَنَّهُمْ لاٰ يَعْلَمُونَ أنّه كتاب اللّه، يعني: إنّهم يعلمون ذلك ولكنهم يكابرون ويعاندون.
ونبذوه وَرٰاءَ ظُهُورِهِمْ مثل لتركهم وإعراضهم عنه.
وَ اِتَّبَعُوا مٰا تَتْلُوا اَلشَّيٰاطِينُ عَلىٰ مُلْكِ سُلَيْمٰانَ وَ مٰا كَفَرَ سُلَيْمٰانُ وَ لٰكِنَّ اَلشَّيٰاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ اَلنّٰاسَ اَلسِّحْرَ وَ مٰا أُنْزِلَ عَلَى اَلْمَلَكَيْنِ بِبٰابِلَ هٰارُوتَ وَ مٰارُوتَ وَ مٰا يُعَلِّمٰانِ مِنْ أَحَدٍ حَتّٰى يَقُولاٰ إِنَّمٰا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاٰ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمٰا مٰا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ وَ مٰا هُمْ بِضٰارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ وَ يَتَعَلَّمُونَ مٰا يَضُرُّهُمْ وَ لاٰ يَنْفَعُهُمْ وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اِشْتَرٰاهُ مٰا لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ خَلاٰقٍ وَ لَبِئْسَ مٰا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ
المعنى: إنّ هذا الفريق المذكور من اليهود نبذوا كتاب اللّه.
وَ اِتَّبَعُوا مٰا تَتْلُوا اَلشَّيٰاطِينُ أي: واتبعوا كتب السحر التي كانت تقرأها الشياطين على عهد مُلْكِ سُلَيْمٰانَ وفي زمانه، وكانوا يقولون: هذا علم
ص: 98
سليمان، وبه يسخّر الجن والإنس والريح.
وَ مٰا كَفَرَ سُلَيْمٰانُ هذا تكذيب للشياطين ودفع لما بهتوه به من العمل بالسحر وسمّاه كفرا.
وَ لٰكِنَّ اَلشَّيٰاطِينَ هم الذين كَفَرُوا باستعمال السحر وتدوينه في كتب يقرؤونها ويعلّمونها اَلنّٰاسَ يقصدون بذلك إغواءهم.
وَ مٰا أُنْزِلَ عَلَى اَلْمَلَكَيْنِ قيل: هو عطف علي مٰا تَتْلُوا أي: واتبعوا ما أنزل علي الملكين بِبٰابِلَ .
هٰارُوتَ وَ مٰارُوتَ عطف بيان للملكين علمان لهما، والذي أنزل عليهما علم السحر ابتلاء من اللّه للناس، من تعلّمه منهم وعمل به كان كافرا، ومن تجنّبه أو تعلّمه لأن لا يعمل به ولكن ليتوقاه كان مؤمنا، كما ابتلي قوم طالوت بالنهر فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي (1).
وَ مٰا يُعَلِّمٰانِ مِنْ أَحَدٍ أي: وما يعلّم الملكان أحدا حَتّٰى ينبّهاه و يَقُولاٰ له إِنَّمٰا نَحْنُ فِتْنَةٌ أي: ابتلاء واختبار من اللّه فَلاٰ تَكْفُرْ أي: فلا تتعلم معتقدا أنّه حقّ فتكفر.
فَيَتَعَلَّمُونَ الضمير لما دلّ عليه من أحد، أي: فيتعلم الناس من الملكين مٰا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ أي: علم السحر الذي يكون سببا في التفريق بين الزوجين من حيلة وتمويه كالنفث في العقد ونحو ذلك مما يحدث اللّه عنده الفرك(2) والنشوز والخلاف ابتلاء منه.
ص: 99
وَ مٰا هُمْ بِضٰارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ لأنّه ربّما يحدث اللّه عنده فعلا من أفعاله وربّما لم يحدث.
وَ يَتَعَلَّمُونَ مٰا يَضُرُّهُمْ وَ لاٰ يَنْفَعُهُمْ لأنّهم يقصدون به الشر.
وَ لَقَدْ عَلِمُوا أي: علم هؤلاء اليهود.
لَمَنِ اِشْتَرٰاهُ أي: استبدل مٰا تَتْلُوا اَلشَّيٰاطِينُ علي كتاب اللّه مٰا لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ خَلاٰقٍ أي: نصيب.
وَ لَبِئْسَ مٰا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أي: باعوها.
لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ أي: يعملون بعلمهم، جعلهم حين لم يعملوا كأنّهم لم يعلموا.
وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ خَيْرٌ لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ
يريد وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا برسول اللّه وَ اِتَّقَوْا اللّه فتركوا ما هم عليه من نبذ كتاب اللّه واتباع كتب الشياطين لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ خَيْرٌ أي: لَوْ كٰانُوا يَعْلَمُونَ أنّ ثواب اللّه خير مما هم فيه، وقد علموا ولكنه سبحانه جهّلهم لتركهم العمل بالعلم.
وجواب لو قوله: لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ خَيْرٌ . وإنّما أوثرت الجملة الاسمية علي الفعلية، لما في ذلك من الدلالة علي ثبات المثوبة واستقرارها. والمعنى:
لشيء من الثواب خير لهم. وقيل: إنّ جواب لو محذوف يدلّ الكلام عليه أي: لأثيبوا.
ص: 100
يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَقُولُوا رٰاعِنٰا وَ قُولُوا اُنْظُرْنٰا وَ اِسْمَعُوا وَ لِلْكٰافِرِينَ عَذٰابٌ أَلِيمٌ
كان المسلمون يقولون لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إذا ألقى إليهم شيئا من العلم:
رٰاعِنٰا يا رسول اللّه، أي: راقبنا وانتظرنا حتى نفهمه ونحفظه، وكانت لليهود كلمة يتسابّون بها وهي (راعينا)، فلما سمعوا بقول المسلمين: رٰاعِنٰا ، افترصوه وخاطبوا الرسول به وهم يعنون تلك اللفظة عندهم، فنهي المؤمنون عنها وأمروا بما هو في معناها وهو اُنْظُرْنٰا من نظره: إذا انتظره.
وَ اِسْمَعُوا وأحسنوا سماع ما يكلّمكم به النبي صلى الله عليه و آله و سلم بآذان واعية حتى لا تحتاجوا إلي الاستعادة وطلب المراعاة، أو واسمعوا سماع قبول وطاعة ولا يكن مثل سماع اليهود حيث قالوا: سَمِعْنٰا وَ عَصَيْنٰا (1).
وَ لِلْكٰافِرِينَ أي: ولليهود الذين سبّوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم عَذٰابٌ أَلِيمٌ أي: مؤلم.
مٰا يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ اَلْكِتٰابِ وَ لاَ اَلْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ اَللّٰهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشٰاءُ وَ اَللّٰهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ
من الأولى للبيان، لأنّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا جنس تحته نوعان:
أَهْلِ اَلْكِتٰابِ والمشركون، والثانية مزيدة للاستغراق، والثالثة لابتداء الغاية. والخير: الوحي، وكذلك الرحمة كقوله: أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ (2).
ص: 101
والمعنى: إنّ اليهود والمشركين يرون أنفسهم أحقّ بالوحي فيحسدونكم، وما يحبّون أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ شيء من الوحي.
وَ اَللّٰهُ يَخْتَصُّ بالنبوة مَنْ يَشٰاءُ ولا يشاء إلا ما تقتضيه الحكمة.
وَ اَللّٰهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ إيذان بأنّ إيتاء النبوة من الفضل العظيم، كقوله: إِنَّ فَضْلَهُ كٰانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (1).
مٰا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهٰا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهٰا أَوْ مِثْلِهٰا أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللّٰهَ لَهُ مُلْكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ مٰا لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاٰ نَصِيرٍ
نسخ الآية: إزالتها بإبدال أخري مكانها، وإنساخها: الأمر بنسخها، ونسؤها: تأخيرها وإذهابها لا إلى بدل، وإنساؤها: أن يذهب بحفظها عن القلوب.
والمعنى: إنّ كل آية نذهب بها على ما توجبه الحكمة وتقتضيه المصلحة من إزالة لفظها وحكمها معا، أو من إزالة أحدهما إلى بدل، أو لا إلي بدل نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهٰا للعباد أي: بآية العمل بها أحوز للثواب أَوْ مِثْلِهٰا في ذلك الثواب.
أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فهو يقدر علي الخير، وما هو خير منه، وعلي مثله في ذلك، و أَنَّ اَللّٰهَ لَهُ مُلْكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ فهو يملك تدبيركم ويجريه علي حسب مصالحكم، وهو أعلم بما يتعبّدكم به من ناسخ ومنسوخ.
وَ مٰا لَكُمْ سوي اَللّٰهِ مِنْ وَلِيٍّ يقوم بأموركم وَ لاٰ نَصِيرٍ أي:
ناصر ينصركم.
ص: 102
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَمٰا سُئِلَ مُوسىٰ مِنْ قَبْلُ وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ اَلْكُفْرَ بِالْإِيمٰانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوٰاءَ اَلسَّبِيلِ
لما بيّن سبحانه أنّه مدبّر أمورهم، أراد أن يوصيهم بالثقة به فيما هو أصلح لهم مما يتعبّدهم به، وأن لا يقترحوا علي رسولهم ما اقترحته آباء اليهود علي موسى من الأشياء التي كانت عقباها وبالا عليهم، كقولهم: أَرِنَا اَللّٰهَ جَهْرَةً (1) وغير ذلك.
وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ اَلْكُفْرَ بِالْإِيمٰانِ بأن ترك الثقة بالآيات وشك فيها واقترح غيرها، فَقَدْ ضَلَّ سَوٰاءَ اَلسَّبِيلِ أي: ذهب عن قصد الطريق واستقامته.
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتٰابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمٰانِكُمْ كُفّٰاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مٰا تَبَيَّنَ لَهُمُ اَلْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اِصْفَحُوا حَتّٰى يَأْتِيَ اَللّٰهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اَللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ
معناه: تمنّى كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتٰابِ كحيي بن أخطب وكعب بن الأشرف وأمثالهما.
لَوْ يَرُدُّونَكُمْ علي معنى: أن يردّوكم يا معشر المؤمنين، أي: يرجعوكم مِنْ بَعْدِ إِيمٰانِكُمْ كُفّٰاراً حَسَداً منهم لكم بما أعدّ اللّه لكم من الثواب والفضل. وانتصب حَسَداً بأنّه مفعول له.
وتعلّق قوله: مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ب - وَدَّ أي: ودّوا ذلك وتمنّوه من قبل أنفسهم وشهواتهم لا من قبل الميل مع الحقّ ، لأنّهم ودّوا ذلك مِنْ بَعْدِ مٰا
ص: 103
تَبَيَّنَ لَهُمُ أنّكم علي اَلْحَقُّ فكيف يكون تمنّيهم من قبل الحقّ؟!. ويجوز أن يتعلّق ب - حَسَداً أي: حسدا من أصل نفوسهم فيكون علي طريق التوكيد.
فَاعْفُوا وَ اِصْفَحُوا أي: فاسلكوا معهم سبيل العفو والصفح عما يكون منهم من الجهل والعداوة حَتّٰى يَأْتِيَ اَللّٰهُ بِأَمْرِهِ الذي هو قتل بني قريظة، وإجلاء بني النضير، وإذلال من سواهم من اليهود بضرب الجزية عليهم.
إِنَّ اَللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فهو يقدر علي الانتقام منهم.
وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ وَ آتُوا اَلزَّكٰاةَ وَ مٰا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
لما أمر سبحانه المسلمين بالصفح عنهم، عقّبه بالأمر بالصلاة والزكاة ليستعينوا بهما علي ما شقّ عليهم من شدّة عداوة اليهود لهم كما قال: وَ اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاٰةِ (1).
وما تقدّموا مِنْ خَيْرٍ من صلاة أو صدقة أو غيرهما من الطاعات تَجِدُوهُ أي: تجدوا ثوابه عِنْدَ اَللّٰهِ .
إِنَّ اَللّٰهَ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ عالم لا يضيع عنده عمل عامل.
وَ قٰالُوا لَنْ يَدْخُلَ اَلْجَنَّةَ إِلاّٰ مَنْ كٰانَ هُوداً أَوْ نَصٰارىٰ تِلْكَ أَمٰانِيُّهُمْ قُلْ هٰاتُوا بُرْهٰانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ بَلىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّٰهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ لاٰ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاٰ هُمْ يَحْزَنُونَ
الضمير في قٰالُوا لأهل الكتاب، والمعنى: وقالت اليهود: لَنْ يَدْخُلَ اَلْجَنَّةَ
ص: 104
إِلاّٰ مَنْ كٰانَ هُوداً وقالت النصارى: لن يدخل الجنّة إلا من كان نَصٰارىٰ ، فلفّ بين القولين ثقة بأنّ السامع يردّ إلى كل فريق قوله، وأمنا من الالتباس لما علم من الخلاف بين الفريقين، ونحوه قوله تعالى: وَ قٰالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصٰارىٰ (1).
والهود جمع الهائد، ووحّد اسم كٰانَ حملا علي لفظ مَنْ في قوله: مَنْ كٰانَ هُوداً ، وجمع خبره حملا علي معناه.
تِلْكَ أَمٰانِيُّهُمْ إشارة إلى أمنيتهم أن لا ينزل علي المؤمنين خير من ربّهم، وأمنيتهم أن يردّوهم كفارا، وأمنيتهم أن لا يدخل الجنّة غيرهم. أي: تلك الأماني الكاذبة أمانيهم.
قُلْ هٰاتُوا بُرْهٰانَكُمْ أي: حجّتكم إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ في قولكم:
لَنْ يَدْخُلَ اَلْجَنَّةَ إِلاّٰ مَنْ كٰانَ هُوداً أَوْ نَصٰارىٰ . وفي هذا دليل علي أنّ كل قول لا دليل عليه فهو باطل. وهات بمعنى أحضر.
بَلىٰ إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنّة.
مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّٰهِ أي: من أخلص نفسه للّه لا يشرك به غيره وَ هُوَ مُحْسِنٌ في عمله فَلَهُ أَجْرُهُ الذي يستوجبه.
ويجوز أن يكون مَنْ أَسْلَمَ مبتدأ، ويكون مَنْ متضمنا معنى الشرط، وجوابه فَلَهُ أَجْرُهُ ؛ ويجوز أن يكون فاعلا لفعل محذوف، أي: بَلىٰ يدخلها مَنْ أَسْلَمَ ، ويكون فَلَهُ أَجْرُهُ معطوفا علي يدخلها مَنْ أَسْلَمَ .
وَ قٰالَتِ اَلْيَهُودُ لَيْسَتِ اَلنَّصٰارىٰ عَلىٰ شَيْ ءٍ وَ قٰالَتِ اَلنَّصٰارىٰ لَيْسَتِ اَلْيَهُودُ عَلىٰ شَيْ ءٍ وَ هُمْ يَتْلُونَ اَلْكِتٰابَ كَذٰلِكَ قٰالَ اَلَّذِينَ
ص: 105
لاٰ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّٰهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ فِيمٰا كٰانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
على شيء مبالغة عظيمة، أي: ليسوا علي شيء يصح ويعتّد به، كقولهم:
أقل من لا شيء.
وَ هُمْ يَتْلُونَ اَلْكِتٰابَ الواو للحال والكتاب للجنس، أي: قالوا ذلك وحالهم أنّهم من أهل العلم والتلاوة للكتب.
كَذٰلِكَ أي: مثل ذلك الذي سمعت به وعلي ذلك المنهاج قال الجهلة اَلَّذِينَ لا علم عندهم ولا كتاب، كعبدة الأوثان والدهرية ونحوهم قالوا لأهل كل دين: ليسوا علي شيء. وهذا توبيخ لهم حيث نظموا نفوسهم - مع علمهم - في سلك من لا يعلم.
فَاللّٰهُ يَحْكُمُ بين اليهود والنصاري بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ فِيمٰا كٰانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فيريهم من يدخل الجنّة ومن يدخل النار عيانا.
وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسٰاجِدَ اَللّٰهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ وَ سَعىٰ فِي خَرٰابِهٰا أُولٰئِكَ مٰا كٰانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهٰا إِلاّٰ خٰائِفِينَ لَهُمْ فِي اَلدُّنْيٰا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذٰابٌ عَظِيمٌ
أَنْ يُذْكَرَ في موضع النصب بأنّه المفعول الثاني ل - مَنَعَ ، تقول: منعته كذا، ومثله: وَ مٰا مَنَعَ اَلنّٰاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا (1)، ويجوز أن يكون منصوبا بأنّه مفعول له بمعنى: منعها كراهة أن يذكر.
وهو حكم عام في جنس مَسٰاجِدَ اَللّٰهِ ، وأنّ مانعها من ذكر اللّه في غاية الظلم.
ص: 106
وروي عن الصادق عليه السلام: (أنّ المراد بذلك: قريش، حين منعوا رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم دخول مكة والمسجد الحرام عام الحديبية)(1)، وبه قال بعض المفسّرين(2). وقال بعضهم:
إنّهم الروم، غزوا بيت المقدس وسعوا في خرابه إلى أن أظهر اللّه المسلمين عليهم في أيّام عمر، فصاروا لا يدخلونها إلا خائفين يتهيّبون المؤمنين أن يبطشوا بهم(3).
وعلي القول الأول فقد روي: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أمر أن ينادى: ألا لا يحجنّ بعد هذا العام مشرك، ولا يطوفنّ بالبيت عريان(4).
فالمعنى: أُولٰئِكَ المانعون مٰا كٰانَ لَهُمْ في حكم اللّه أن يدخلوا مساجد اللّه إِلاّٰ خٰائِفِينَ ، لأنّ اللّه تعالي قد حكم وكتب في اللوح أنّه يعزّ الدين، وينصر عليهم المؤمنين.
لَهُمْ فِي اَلدُّنْيٰا خِزْيٌ أي: قتل وسبي، أو ذلّة بضرب الجزية عليهم.
وقيل: بفتح مدائنهم قسطنطينية ورومية عند قيام المهدي عليه السلام(5).
وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذٰابٌ عَظِيمٌ في نار جهنم.
وَ لِلّٰهِ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ
وَ لِلّٰهِ بلاد اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ والأرض كلها هو مالكها.
فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا أي: ففي أيّ مكان فعلتم التولية، يعني: تولية وجوهكم
ص: 107
شطر القبلة، بدليل قوله: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ ... الآية(1).
فَثَمَّ وَجْهُ اَللّٰهِ أي: جهته التي أمر بها ورضيها، والمعنى: إذا منعتم أن تصلّوا في المسجد الحرام فقد جعلت لكم الأرض مسجدا، فصلّوا في أي بقعة شئتم من بقاعها، وافعلوا التولية فيها، فإنّ التولية لا تختص بمسجد دون مسجد.
إِنَّ اَللّٰهَ واسع الرحمة يريد التوسعة على عباده والتيسير عليهم عَلِيمٌ بمصالحهم.
وقيل: إنّها نزلت في صلاة التطوّع علي الراحلة للمسافر أينما توجهت راحلته(2)، وهو المروي عنهم عليهم السلام(3).
وَ قٰالُوا اِتَّخَذَ اَللّٰهُ وَلَداً سُبْحٰانَهُ بَلْ لَهُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قٰانِتُونَ بَدِيعُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ إِذٰا قَضىٰ أَمْراً فَإِنَّمٰا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
ثم ردّ اللّه علي اليهود والنصاري قولهم: اِتَّخَذَ اَللّٰهُ وَلَداً وهم الذين قالوا: اَلْمَسِيحُ اِبْنُ اَللّٰهِ (4) و عُزَيْرٌ اِبْنُ اَللّٰهِ (5)، وعلي من قال: الملائكة بنات اللّه.
سُبْحٰانَهُ تنزيه له عن ذلك وتبعيد.
بَلْ لَهُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وهو خالقه ومالكه، ومن جملته الملائكة وعزير والمسيح.
ص: 108
كُلٌّ لَهُ قٰانِتُونَ مطيعون منقادون لا يمتنع شيء منهم عن تقديره وتكوينه ومشيئته، ومن كان بهذه الصفة لم يجانس، ومن حقّ الولد أن يكون من جنس الوالد.
والتنوين في كُلٌّ عوض من المضاف إليه، أي: كل من في السماوات والأرض، وجاء بلفظة ما دون (من) كقولهم: سبحان ما سخركنّ لنا.
ويقال: بدع الشيء فهو بديع، و بَدِيعُ اَلسَّمٰاوٰاتِ من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها، أي: بديع سماواته وأرضه، وقيل: هو بمعنى المبدع(1).
وقوله: كُنْ فَيَكُونُ أي: أحدث فيحدث، وهو من (كان) التامة، وهذا تمثيل ولا قول هناك. والمعنى: إنّ ما قضاه من الأمور وأراد كونه، يتكون ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف، كالمأمور المطيع إذا أمر لا يتوقف. أكّد بهذا استبعاد الولادة، لأنّ من كانت هذه صفته في كمال القدرة، فحاله مباينة لحال الأجسام في توالدها.
وَ قٰالَ اَلَّذِينَ لاٰ يَعْلَمُونَ لَوْ لاٰ يُكَلِّمُنَا اَللّٰهُ أَوْ تَأْتِينٰا آيَةٌ كَذٰلِكَ قٰالَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشٰابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا اَلْآيٰاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ
أي: وَ قٰالَ الجاهلون من المشركين، وقيل: من أهل الكتاب(2)، نفى عنهم العلم لأنّهم لم يعملوا به.
لَوْ لاٰ يُكَلِّمُنَا اَللّٰهُ أي: هلا يكلّمنا كما يكلّم الملائكة وكلّم موسى،
ص: 109
استكبارا منهم وعتوا.
أَوْ تَأْتِينٰا آيَةٌ هذا جحود منهم لأن يكون ما آتاهم من آيات اللّه آيات.
كَذٰلِكَ قٰالَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ حيث اقترحوا الآيات على موسى عليه السلام.
تَشٰابَهَتْ قُلُوبُهُمْ أي: قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى كقوله سبحانه:
أَ تَوٰاصَوْا بِهِ (1) .
قَدْ بَيَّنَّا اَلْآيٰاتِ لِقَوْمٍ ينصفون ف - يُوقِنُونَ أنّها آيات يجب الاعتراف بها والاكتفاء بوجودها عن غيرها.
إِنّٰا أَرْسَلْنٰاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لاٰ تُسْئَلُ عَنْ أَصْحٰابِ اَلْجَحِيمِ وَ لَنْ تَرْضىٰ عَنْكَ اَلْيَهُودُ وَ لاَ اَلنَّصٰارىٰ حَتّٰى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اَللّٰهِ هُوَ اَلْهُدىٰ وَ لَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْوٰاءَهُمْ بَعْدَ اَلَّذِي جٰاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ مٰا لَكَ مِنَ اَللّٰهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاٰ نَصِيرٍ
إِنّٰا أَرْسَلْنٰاكَ لأنّ تبشّر وتنذر لا لتجبر علي الإيمان، وهذه تسلية له صلى الله عليه و آله و سلم لئلا يضيق صدره بإصرارهم علي الكفر، ولا نسألك عَنْ أَصْحٰابِ اَلْجَحِيمِ ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بلّغت واجتهدت في الدعوة. وأما قراءة نافع(2): (ولا تسأل) فهو على النهي، وقيل: إنّ معناه تفخيم الشأن كما يقول القائل: لا تسأل عن حال فلان، أي: قد صار إلي أكثر مما تريده، أو أنت لا تستطيع استماع خبره.
ص: 110
وكان اليهود قالوا للنبي: لن نرضى عنك - وإن طلبت رضانا بجهدك - حتى تتبع ملّتنا، فحكى اللّه كلامهم، ولذلك قال: قُلْ إِنَّ هُدَى اَللّٰهِ هُوَ اَلْهُدىٰ جوابا لهم عن قولهم، يعني: إنّ هدى اللّه الذي هو الإسلام هو الهدي الحقّ والذي يصح أن يسمّى هدي.
وَ لَئِنِ اِتَّبَعْتَ أقوالهم التي هي أهواء وبدع.
بَعْدَ اَلَّذِي جٰاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ أي: من الدين المعلوم صحته بالدلائل و البراهين.
الّذين ءاتيناهم الكتاب يتلونه حقّ تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون يعني: الذين آمنوا من جملة أهل الكتاب يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاٰوَتِهِ لا يحرّفونه ولا يغيّرون ما فيه من نعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم. الصادق عليه السلام قال: (إنّ حقّ تلاوته هو الوقوف عند ذكر الجنّة والنار)(1)، يسأل في الأولى ويستعيذ في الأخري.
أُولٰئِكَ يُؤْمِنُونَ بكتابهم دون المحرّفين.
وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ من المحرّفين فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْخٰاسِرُونَ حيث اشتروا الضلالة بالهدي.
يٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ اَلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى اَلْعٰالَمِينَ وَ اِتَّقُوا يَوْماً لاٰ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لاٰ يُقْبَلُ مِنْهٰا عَدْلٌ وَ لاٰ تَنْفَعُهٰا شَفٰاعَةٌ وَ لاٰ هُمْ يُنْصَرُونَ
ص: 111
قد تقدّم مثل الآيتين(1)، ولما بعد ما بين الكلامين حسن الإعادة والتكرير، إبلاغا في التنبيه والاحتجاج، وتأكيدا للتذكير.
وَ إِذِ اِبْتَلىٰ إِبْرٰاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمٰاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قٰالَ إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً قٰالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قٰالَ لاٰ يَنٰالُ عَهْدِي اَلظّٰالِمِينَ
العامل في إِذِ مضمر نحو اذكر إِذِ اِبْتَلىٰ إِبْرٰاهِيمَ أي: اختبر إبراهيم رَبُّهُ بِكَلِمٰاتٍ بأوامر ونواه. واختبار اللّه عبده مجاز عن تمكينه من اختيار أحد الأمرين: ما يريده اللّه، وما يشتهيه العبد، كأنّه يمتحنه ليعرف ما يكون منه حتى يجازيه علي حسب ذلك.
فَأَتَمَّهُنَّ أي: فقام بهن حقّ القيام، وأدّاهن حقّ التأدية من غير تفريط وتقصير. أو يكون تقديره: وإذ ابتلي إبراهيم ربّه بكلمات كان كيت وكيت. ويجوز أن يكون العامل في إِذِ قوله: قٰالَ إِنِّي جٰاعِلُكَ .
ويكون علي القول الأول قد استؤنف الكلام، كأنّه قيل: فماذا قال له ربّه حين أتمّ الكلمات ؟ فقيل: قٰالَ إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً ؛ وعلي الثاني هي جملة معطوفة علي ما قبلها، أو يكون بيانا وتفسيرا لقوله: اِبْتَلىٰ فيراد بالكلمات ما ذكره من الإمامة.
وقيل في (الكلمات): هي خمس في الرأس: الفرق، وقصّ الشارب، والسواك، والمضمضة، والاستنشاق؛ وخمس في البدن: الختان، والاستحداد، و الاستنجاء، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط(2). وقيل: (هي ثلاثون خصلة من شرائع الإسلام:
ص: 112
عشر في براءة: اَلتّٰائِبُونَ اَلْعٰابِدُونَ (1)، وعشر في الأحزاب: إِنَّ اَلْمُسْلِمِينَ وَ اَلْمُسْلِمٰاتِ (2)، وعشر في المؤمنون(3)، وسأل سائل إلى قوله: وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَلىٰ صَلاٰتِهِمْ يُحٰافِظُونَ (4)(5)، وقيل: هي مناسك الحج(6)، وقيل: هي الكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه، وهي أسماء محمّد وأهل بيته عليه وعليهم السلام، عن الصادق عليه السلام(7).
والإمام اسم من يؤتمّ به، جعله سبحانه إماما يأتمّون به في دينهم، ويقوم بتدبيرهم وسياسة أمورهم.
وقوله: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي عطف علي الكاف، كأنّه قال: وجاعل بعض ذريتي ؟ كما يقال لك: سأكرمك، فتقول: وزيدا؟.
قٰالَ لاٰ يَنٰالُ عَهْدِي اَلظّٰالِمِينَ أي: من كان ظالما من ذريتك لا يناله استخلافي وعهدي إليه بالإمامة، وإنّما ينال من لا يفعل ظلما. وهذا يدلّ علي وجوب العصمة للإمام، لأنّ من ليس بمعصوم فقد يكون ظالما إما لنفسه وإما لغيره.
ص: 113
وَ إِذْ جَعَلْنَا اَلْبَيْتَ مَثٰابَةً لِلنّٰاسِ وَ أَمْناً وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقٰامِ إِبْرٰاهِيمَ مُصَلًّى وَ عَهِدْنٰا إِلىٰ إِبْرٰاهِيمَ وَ إِسْمٰاعِيلَ أَنْ طَهِّرٰا بَيْتِيَ لِلطّٰائِفِينَ وَ اَلْعٰاكِفِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ
اَلْبَيْتَ اسم غالب للكعبة كالنجم للثريا.
مَثٰابَةً لِلنّٰاسِ مرجعا يثاب إليه كل عام.
وَ أَمْناً موضع أمن كقوله: حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ اَلنّٰاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ (1)، ولأنّ الجاني يأوي إليه فلا يتعرض له حتى يخرج.
وَ اِتَّخِذُوا علي إرادة القولى، أي: وقلنا لهم: اتخذوا منه موضع صلاة تصلّون فيه.
و مَقٰامِ إِبْرٰاهِيمَ الموضع الذي كان فيه الحجر حين وضع قدميه عليه، أمرنا بالصلاة عنده بعد الطواف. وقرئ: (واتخذوا) بلفظ الماضي عطفا على جَعَلْنَا أي: واتخذ الناس من مقام إبراهيم موضع صلاة. ومن قرأ: وَ اِتَّخِذُوا علي الأمر وقف علي قوله: وَ أَمْناً . ومن قرأ: (واتخذوا) علي الخبر لم يقف، لأنّ قوله: (واتخذوا) عطف علي جَعَلْنَا .
وَ عَهِدْنٰا إِلىٰ إِبْرٰاهِيمَ وَ إِسْمٰاعِيلَ أمرناهما ب - أَنْ طَهِّرٰا بَيْتِيَ أو أي: طهّرا بيتي، فتكون (أن) المفسرة التي تكون عبارة عن القول، أي طهّراه من الأوثان والخبائث كلها. وأضاف (البيت) إلى نفسه تفضيلا له علي سائر البقاع.
لِلطّٰائِفِينَ أي: للدائرين حوله.
وَ اَلْعٰاكِفِينَ أي: المجاورين له والمقيمين بحضرته.
ص: 114
وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ أي: المصلّين عنده، لأنّ الركوع والسجود من هيئات المصلي.
وَ إِذْ قٰالَ إِبْرٰاهِيمُ رَبِّ اِجْعَلْ هٰذٰا بَلَداً آمِناً وَ اُرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ اَلثَّمَرٰاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ قٰالَ وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلىٰ عَذٰابِ اَلنّٰارِ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ
أي: اِجْعَلْ هٰذٰا البلد وهو مكة بَلَداً آمِناً ذا أمن، كقوله: فِي عِيشَةٍ رٰاضِيَةٍ (1) أي: ذات رضا، وبلد آهل، أي: ذو أهل، أو آمنا يؤمن فيه، كقولهم:
ليل نائم، أي: ينام فيه.
وَ اُرْزُقْ أَهْلَهُ يعني: وارزق المؤمنين منهم خاصة، لأنّ قوله: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل من أَهْلَهُ ، وَ مَنْ كَفَرَ عطف علي مَنْ آمَنَ ، كما أنّ قوله: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي عطف علي الكاف في جٰاعِلُكَ .
وإنّما خصّ إبراهيم عليه السلام المؤمنين بالدعاء حتى قال سبحانه: وَ مَنْ كَفَرَ ، لأنّ اللّه كان أعلمه أنّه يكون في ذريته ظالمون بقوله: لاٰ يَنٰالُ عَهْدِي اَلظّٰالِمِينَ فعرّفه سبحانه الفرق بين الرزق والإمامة، لأنّ الاستخلاف استرعاء يختص بمن لا يقع منه الظلم، بخلاف الرزق فإنّه قد يكون استدراجا للمرزوق وإلزاما للحجّة. والمعنى: قال: وأرزق من كفر فَأُمَتِّعُهُ . ويجوز أن يكون وَ مَنْ كَفَرَ مبتدأ متضمّنا معنى الشرط و فَأُمَتِّعُهُ جوابا للشرط، أي: ومن كفر فأنا أمتعه.
وقرئ: فأمتعه.
ثُمَّ أَضْطَرُّهُ أي: أدفعه إِلىٰ عَذٰابِ اَلنّٰارِ دفع المضطر الذي لا يملك
ص: 115
الامتناع مما اضطر إليه.
وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْرٰاهِيمُ اَلْقَوٰاعِدَ مِنَ اَلْبَيْتِ وَ إِسْمٰاعِيلُ رَبَّنٰا تَقَبَّلْ مِنّٰا إِنَّكَ أَنْتَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ رَبَّنٰا وَ اِجْعَلْنٰا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنٰا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنٰا مَنٰاسِكَنٰا وَ تُبْ عَلَيْنٰا إِنَّكَ أَنْتَ اَلتَّوّٰابُ اَلرَّحِيمُ
يَرْفَعُ حكاية حال ماضية، و اَلْقَوٰاعِدَ : جمع القاعدة، وهي الأساس لما فوقه، وهي صفة غالبة ومعناها الثابتة. ورفع القواعد: البناء عليها لأنّها إذا بني عليها ارتفعت، ويجوز أن يكون المراد بها سافات البناء لأنّ كل ساف(1) قاعدة لما يبنى عليه ويوضع فوقه، وروي: أنّ إبراهيم عليه السلام كان يبني وإسماعيل يناوله الحجارة(2).
رَبَّنٰا أي يقولان: ربّنا، وهذا الفعل في محلّ النصب علي الحال.
تَقَبَّلْ مِنّٰا فيه دلالة علي أنّهما بنيا الكعبة مسجدا لا مسكنا، لأنّهما التمسا القبول الذي معناه الإثابة، والثواب إنّما يطلب علي الطاعات.
إِنَّكَ أَنْتَ اَلسَّمِيعُ لدعائنا اَلْعَلِيمُ بنياتنا.
وإنّما لم يقل: قواعد البيت بل أبهمت القواعد ثم بينّت بعد الإبهام، لما في الإيضاح بعد الإبهام من تفخيم شأن المبيّن.
رَبَّنٰا وَ اِجْعَلْنٰا مُسْلِمَيْنِ لَكَ أي: مخلصين لك أوجهنا من قوله: أَسْلَمَ
ص: 116
وَجْهَهُ لِلّٰهِ (1) ، أو مستسلمين لك خاضعين منقادين، ومعناه: زدنا إخلاصا أو خضوعا وإذعانا لك.
وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنٰا أي: واجعل من ذريتنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ . و من للتبعيض أو للتبيين كقوله: وَعَدَ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ (2)، وروي عن الصادق عليه السلام: (إنّه أراد بالأمّة بني هاشم خاصة)(3).
وَ أَرِنٰا مَنٰاسِكَنٰا أي: وعرّفنا وبصّرنا متعبداتنا في الحج لنقضي عباداتنا علي حد ما توقفنا عليه. وقد قرئ بسكون الراء من وَ أَرِنٰا قياسا علي (فخذ) في (فخذ)، وهي قراءة مسترذلة، إلا أن يقرأ بإشمام الكسرة.
وَ تُبْ عَلَيْنٰا قالا هذه الكلمة انقطاعا إلي اللّه ليقتدي بهما، أو استتابا لذريتهما.
إِنَّكَ أَنْتَ اَلتَّوّٰابُ القابل للتوبة اَلرَّحِيمُ بعبادك.
رَبَّنٰا وَ اِبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيٰاتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتٰابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ
وَ اِبْعَثْ في الأمة المسلمة رَسُولاً مِنْهُمْ من أنفسهم وهو نبيّنا محمّد صلى الله عليه و آله و سلم، قال عليه السلام: (أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشري عيسى، ورؤيا أمي)(4).
يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيٰاتِكَ يقرأ عليهم ويبلّغهم ما يوحى إليه.
وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتٰابَ وهو القرآن وَ اَلْحِكْمَةَ وهي الشريعة وبيان
ص: 117
الأحكام.
وَ يُزَكِّيهِمْ ويطّهرهم من الشرك والأدناس.
إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ القوي في كمال قدرتك اَلْحَكِيمُ المحكم لبدائع صنعك.
ومن يرغب عن مّلّة إبراهيم إلّا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدّنيا وإنّه في الأخرة لمن الصّالحين وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرٰاهِيمَ التي هي الحقّ والحقيقة، وهو إنكار واستبعاد لأن يكون في العقلاء من يرغب عنه.
و مَنْ سَفِهَ في محلّ الرفع علي البدل من الضمير المستكن في يَرْغَبُ ، ومعنى سَفِهَ نَفْسَهُ امتهنها واستخف بها. وأصل السفه: الخفّة، [وقيل: إنّ نَفْسَهُ منصوبة على نزع الخافض، أي: سفه في نفسه](1)، وقيل: إنّ نَفْسَهُ منصوبة على التمييز نحو غبن رأيه، [وقيل: معناه سفه في نفسه، فحذف الجار كقولهم: زيد ظني مقيم، أي: في ظني](2). والأول أوجه.
وَ لَقَدِ اِصْطَفَيْنٰاهُ بيان لخطأ رأي من رغب عن ملته، أي: اجتبيناه بالرسالة وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصّٰالِحِينَ الفائزين، ومن جمع الكرامة عند اللّه في الدارين لم يكن أحد أولى بأن يرغب في طريقته منه.
إِذْ قٰالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قٰالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ اَلْعٰالَمِينَ وَ وَصّٰى بِهٰا إِبْرٰاهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يٰا بَنِيَّ إِنَّ اَللّٰهَ اِصْطَفىٰ لَكُمُ اَلدِّينَ فَلاٰ
ص: 118
تَمُوتُنَّ إِلاّٰ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
إِذْ قٰالَ ظرف ل - اِصْطَفَيْنٰاهُ أي: اخترناه في ذلك الوقت، ومعنى قٰالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ : أخطر بباله النظر في الدلائل المفضية به إلى التوحيد و الإسلام.
قٰالَ أَسْلَمْتُ أي: فنظر وعرف، وقيل: إنّ معنى أَسْلَمَ : أذعن وأطع.
وقرئ: (وأوصى) بالألف. و الضمير في بِهٰا لقوله: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ اَلْعٰالَمِينَ علي تأويل الكلمة [و الجملة، ومثله الضمير في قوله: وَ جَعَلَهٰا كَلِمَةً بٰاقِيَةً (1)[(2)فإنّه يرجع إلى قوله: إِنَّنِي بَرٰاءٌ مِمّٰا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اَلَّذِي فَطَرَنِي (3).
و (يعقوب) عطف علي إِبْرٰاهِيمُ داخل في حكمه، يعني: ووصّى بها يعقوب بنيه أيضا.
اِصْطَفىٰ لَكُمُ اَلدِّينَ معناه: أعطاكم الدين الذي هو صفوة الأديان وهو دين الإسلام، ووفقكم للأخذ به.
فَلاٰ تَمُوتُنَّ إِلاّٰ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي: فلا يكن موتكم إلا علي حال كونكم ثابتين علي الإسلام، فالنهي علي الحقيقة عن كونهم مخالفي الإسلام إذا ماتوا، والنكتة في إدخال حرف النهي علي الموت أنّ فيه إظهارا لكون الموت علي خلاف الإسلام موتا لا خير فيه.
ص: 119
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدٰاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ اَلْمَوْتُ إِذْ قٰالَ لِبَنِيهِ مٰا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قٰالُوا نَعْبُدُ إِلٰهَكَ وَ إِلٰهَ آبٰائِكَ إِبْرٰاهِيمَ وَ إِسْمٰاعِيلَ وَ إِسْحٰاقَ إِلٰهاً وٰاحِداً وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
أَمْ هي المنقطعة، أي: بل أنتم شهداء، ومعنى الهمزة فيها الإنكار، أي: ما كنتم حاضرين يعقوب. والشهيد: الحاضر.
إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ اَلْمَوْتُ أي: حين احتضر. والخطاب للمؤمنين، يعني: ما شهدتم ذلك وإنّما حصل لكم العلم به من طريق الوحي. وقيل: الخطاب لليهود(1)، لأنّهم كانوا يقولون ما مات نبي إلا علي اليهودية، فتكون أَمْ علي هذا متصلة علي أن يقدّر قبلها محذوف، كأنّه قيل: أتدّعون علي الأنبياء اليهودية أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت. يعني: إنّ أوائلكم كانوا مشاهدين له إذ أراد بنيه علي ملة الإسلام، وقد علمتم ذلك، فما لكم تدّعون علي الأنبياء ما هم منه براء؟.
مٰا تَعْبُدُونَ أي: أيّ شيء تعبدون مِنْ بَعْدِي أي: من بعد وفاتي ؟، فحذف المضاف.
و إِبْرٰاهِيمَ وَ إِسْمٰاعِيلَ وَ إِسْحٰاقَ عطف بيان ل - آبٰائِكَ ، وجعل إسماعيل وهو عمّه من جملة آبائه، لأنّ العم أب والخالة أم لانخراطهما في سلك واحد وهو الأخوة لا تفاوت بينهما.
إِلٰهاً وٰاحِداً بدل من إِلٰهَ آبٰائِكَ ، وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ حال من فاعل نَعْبُدُ أو من مفعوله لرجوع الضمير إليه في له . ويجوز أن يكون
ص: 120
جملة معطوفة على نَعْبُدُ ، أو جملة اعتراضية، أي: ومن حالنا أنّا له مسلمون.
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهٰا مٰا كَسَبَتْ وَ لَكُمْ مٰا كَسَبْتُمْ وَ لاٰ تُسْئَلُونَ عَمّٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ
تِلْكَ إشارة إلي الأمّة المذكورة التي هي إبراهيم ويعقوب وبنوهما الموحّدون، والمعنى: إنّ أحدا لا ينفعه كسب غيره متقدّما كان أو متأخرا، وذلك أنّهم افتخروا بأوائلهم.
وَ لاٰ تُسْئَلُونَ عَمّٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ لا تؤاخذون بسيّئاتهم كما لا تنفعكم حسناتهم.
وَ قٰالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصٰارىٰ تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرٰاهِيمَ حَنِيفاً وَ مٰا كٰانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ
الضمير في وَ قٰالُوا يرجع إلى اليهود والنصاري، أي: قالت اليهود: كُونُوا هُوداً ، وقالت النصاري: كونوا نصارى تَهْتَدُوا تصيبوا طريق الهدى والحقّ .
قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرٰاهِيمَ بل نكون أهل ملّة إبراهيم كقول عدي بن حاتم(1):
(إنّي من دين)(2)، أي: من أهل دين، وقيل: بل نتبع ملّة إبراهيم(3).
و حَنِيفاً حال من المضاف إليه، كقولك: رأيت وجه هند قائمة.
والحنيف: المائل عن كل دين إلى دين الحقّ .
ص: 121
وَ مٰا كٰانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ تعريض بأهل الكتاب وغيرهم، لأنّ كلا منهم يدّعي اتباع ملة إبراهيم؛ وهو علي الشرك.
قُولُوا آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْنٰا وَ مٰا أُنْزِلَ إِلىٰ إِبْرٰاهِيمَ وَ إِسْمٰاعِيلَ وَ إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْبٰاطِ وَ مٰا أُوتِيَ مُوسىٰ وَ عِيسىٰ وَ مٰا أُوتِيَ اَلنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاٰ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
قُولُوا خطاب للمسلمين، أمرهم اللّه سبحانه بإظهار ما تديّنوا به علي الشرح، فبدأ بالإيمان بِاللّٰهِ لأنه أوّل الواجبات، وثنّى بالإيمان با لقرآن والكتب المنزلة علي الأنبياء المذكورين.
وَ اَلْأَسْبٰاطِ حفدة يعقوب وذراري أبنائه الإثني عشر، جمع السبط، وكان الحسن والحسين عليهما السلام سبطي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.
لاٰ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصاري، و أَحَدٍ في معنى الجماعة ولذلك صح دخول بَيْنَ عليه.
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مٰا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اِهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمٰا هُمْ فِي شِقٰاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اَللّٰهُ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ صِبْغَةَ اَللّٰهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اَللّٰهِ صِبْغَةً وَ نَحْنُ لَهُ عٰابِدُونَ
فَإِنْ آمَنُوا أي: إن آمن هؤلاء الكفار بِمِثْلِ مٰا آمَنْتُمْ بِهِ أي: مثل إيمانكم باللّه وكتبه ورسله. والباء مزيدة، و ما مصدرية.
فَقَدِ اِهْتَدَوْا أي: فقد سلكوا طريق الهداية.
وَ إِنْ تَوَلَّوْا عما تقولون لهم ولم ينصفوا، أو تولوا عن الدخول في مثل
ص: 122
إيمانكم.
فَإِنَّمٰا هُمْ فِي شِقٰاقٍ أي: مناوأة ومعاندة لا غير، وليسوا من طلب الحقّ في شيء.
فَسَيَكْفِيكَهُمُ اَللّٰهُ هذا ضمان من اللّه لإظهار نبيّه عليهم، وكفايته من يشاقّه من اليهود والنصارى. وفيه دلالة علي صحة نبوّته، لأنّه سبحانه قد أنجز وعده فوافق المخبر الخبر. ومعنى السين: إ نّ ذلك كائن لا مخالة وإن تأخر إلي حين.
وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ وعيد لهم، أو وعد لرسول اللّه، أي: يسمع ما ينطقون به ويعلم ما يضمرون فيعاقبهم علي ذلك، أو يسمع ما تدعو به ويعلم نيّتك وإرادتك من إظهار الدين وهو مستجيب لك.
صِبْغَةَ اَللّٰهِ مصدر مؤكد ينتصب عن قوله: آمَنّٰا بِاللّٰهِ كما انتصب وَعْدَ اَللّٰهِ (1) عما تقدّمه. وهي فعلة من (صبغ) كالجلسة من (جلس)، وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ. والمعنى: تطهير اللّه، لأنّ الإيمان يطهّر النفوس.
والأصل فيه: إنّ النصاري كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية ويقولون: هو تطهير لهم، فأمر المسلمون أن يقولوا: آمنا باللّه وصبغنا اللّه بالإيمان صبغة لا مثل صبغتكم، وطهّرنا به تطهيرا لا مثل تطهيركم، ولا صبغة أحسن من صبغة اللّه.
وَ نَحْنُ لَهُ عٰابِدُونَ عطف علي آمَنّٰا بِاللّٰهِ .
ص: 123
قُلْ أَ تُحَاجُّونَنٰا فِي اَللّٰهِ وَ هُوَ رَبُّنٰا وَ رَبُّكُمْ وَ لَنٰا أَعْمٰالُنٰا وَ لَكُمْ أَعْمٰالُكُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ
أمر نبيّه أن يقول لليهود وغيرهم: أَ تُحَاجُّونَنٰا فِي اَللّٰهِ أي: أتجادلوننا في أمر الله واصطفائه النبي من العرب دونكم وَ هُوَ رَبُّنٰا وَ رَبُّكُمْ نشترك جميعا في أنّا عبيده وهو ربّنا، [وهو يصيب بكرامته من يشاء من عباده إذا كان أهلا للكرامة](1).
وَ لَنٰا أَعْمٰالُنٰا وَ لَكُمْ أَعْمٰالُكُمْ يعني: إ نّ العمل هو أساس الأمر، وكما أنّ لكم أعمالا يعتبرها اللّه في إعطاء الكرامة ومنعها، فإنّ لنا أعمالا معتبرة في ذلك.
وَ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ موحّدون نخلصه بالإيمان والإيقان فلا تستبعدوا أن نؤهّل للكرامة بالنبوة. وهذا ردّ لقولهم: نحن أحقّ بالنبوة، لأنّا أهل الكتاب والعرب عبدة الأوثان.
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرٰاهِيمَ وَ إِسْمٰاعِيلَ وَ إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْبٰاطَ كٰانُوا هُوداً أَوْ نَصٰارىٰ قُلْ أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اَللّٰهُ وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهٰادَةً عِنْدَهُ مِنَ اَللّٰهِ وَ مَا اَللّٰهُ بِغٰافِلٍ عَمّٰا تَعْمَلُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهٰا مٰا كَسَبَتْ وَ لَكُمْ مٰا كَسَبْتُمْ وَ لاٰ تُسْئَلُونَ عَمّٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ
من قرأ: أَمْ تَقُولُونَ بالتاء فإنّ أم يمكن أن تكون متصلة معادلة للهمزة في أَ تُحَاجُّونَنٰا بمعنى: أي الأمرين تأتون: المحاجة في حكمة اللّه أم ادعاء اليهودية والنصرانية على الأنبياء؟ والمراد بالاستفهام الإنكار؛ ويمكن أن تكون منقطعة بمعنى: بل أتقولون، والهمزة للإنكار. ومن قرأ بالياء فلا تكون أم
ص: 124
إلا منقطعة.
قُلْ أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اَللّٰهُ يعني: إنّ اللّه شهد لهم بملّة الإسلام في قوله: مٰا كٰانَ إِبْرٰاهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لاٰ نَصْرٰانِيًّا... الآية(1).
وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهٰادَةً عِنْدَهُ مِنَ اَللّٰهِ أي: كتم شهادة اللّه التي عنده أنّه شهد بها وهي شهادته لإبراهيم عليه السلام بالحنيفية، ويحتمل معنيين:
أحدهما: إنّه لا أحد أظلم من أهل الكتاب لكتمانهم هذه الشهادة مع علمهم بها.
والآخر: لا أحد أظلم منا لو كتمنا هذه الشهادة، فنحن لا نكتمها.
و (من) في قوله: مِنَ اَللّٰهِ مثلها في قولك: هذه شهادة [مني لفلان إذا شهدت](2) له، ومثله بَرٰاءَةٌ مِنَ اَللّٰهِ (3).
سَيَقُولُ اَلسُّفَهٰاءُ مِنَ اَلنّٰاسِ مٰا وَلاّٰهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ اَلَّتِي كٰانُوا عَلَيْهٰا قُلْ لِلّٰهِ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ
سَيَقُولُ أي: سوف يقول الجهّال الخفاف الأحلام وهم اليهود، لكراهتهم التوجه إلي الكعبة.
مٰا وَلاّٰهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ ما صرفهم عن بيت المقدس الذي كان قبلتهم يتوجهون إليها في صلاتهم. وقيل: هم المنافقون(4) قالوا ذلك لحرصهم علي
ص: 125
الاستهزاء بالإسلام، وقيل: هم المشركون(1) قالوا: رغب عن قبلة آبائه ثم رجع إليها، وليرجعنّ إلي دينهم.
قُلْ لِلّٰهِ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ أي: بلاد المشرق والمغرب.
يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ من أهلها إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو ما توجبه الحكمة والصلاح من توجيههم تارة إلى بيت المقدس وأخرى إلى الكعبة.
وَ كَذٰلِكَ جَعَلْنٰاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدٰاءَ عَلَى اَلنّٰاسِ وَ يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَ مٰا جَعَلْنَا اَلْقِبْلَةَ اَلَّتِي كُنْتَ عَلَيْهٰا إِلاّٰ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ اَلرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلىٰ عَقِبَيْهِ وَ إِنْ كٰانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاّٰ عَلَى اَلَّذِينَ هَدَى اَللّٰهُ وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ لِيُضِيعَ إِيمٰانَكُمْ إِنَّ اَللّٰهَ بِالنّٰاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ
وَ كَذٰلِكَ أي: ومثل ذلك الجعل العجيب والإنعام بالهداية جَعَلْنٰاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً أي: خيارا، وهو وصف بالاسم الذي هو وسط الشيء، ولذلك استوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث. وإنّما قيل للخيار: وسط، لأنّ الأطراف يتسارع إليها الفساد والأوساط محفوظة مكنونة؛ أو عدولا لأنّ الوسط عدل بين الأطراف ليس إلى بعضها أقرب من بعض.
لِتَكُونُوا شُهَدٰاءَ عَلَى اَلنّٰاسِ روي: أنّ الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء، فيطالب اللّه الأنبياء بالبيّنة علي أنّهم قد بلّغوا وهو أعلم، فيؤتى بأمة محمّد فيشهدون لهم، وهو صلوات اللّه عليه وآله يزكيهم(2). ويروي عن علي عليه السلام أنّه قال (إنّ الله إيّانا عنى، فرسول اللّه شاهد علينا، ونحن شهداء اللّه علي خلقه وحجّته
ص: 126
في أرضه)(1). وقيل: لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا، أي: حجّة عليهم فتبيّنوا لهم الحقّ والدين.
وَ يَكُونَ اَلرَّسُولُ مؤديا للشرع وأحكام الدين إليكم. والشاهد مبيّن، ويقال للشاهد: بيّنة.
ولما كان الشهيد كالرقيب جيء ب - على التي هي كلمة الاستعلاء، كما في قوله تعالى: كُنْتَ أَنْتَ اَلرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (2).
اَلَّتِي كُنْتَ عَلَيْهٰا ليست بصفة للقبلة، وإنّما هي المفعول الثاني ل - (جعل).
يريد: وَ مٰا جَعَلْنَا اَلْقِبْلَةَ الجهة التي كنت عليها وهي الكعبة، لأنّه عليه السلام كان يصلّي بمكة إلي الكعبة، ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة تألّفا لليهود، ثم حوّل إلى الكعبة، فيقول: وما جعلنا قبلتك الجهة التي كنت تستقبلها بمكة أولا ثم رددناك إليها ثانيا إلا امتحانا للناس وابتلاء لِنَعْلَمَ الثابت علي الإسلام مِمَّنْ هو على حرف منه فينكص عَلىٰ عَقِبَيْهِ ويرتد. وقيل: يريد بالتي كنت عليها بيت المقدس(3)، أي: جعلناها جهتك التي كنت تستقبلها لنمتحن الناس، وننظر من يتبعك منهم ومن لا يتبعك، وعن ابن عباس قال: (كانت قبلته بمكة بيت المقدس إلا أنّه كان يجعل الكعبة بينه وبينه)(4).
وقوله: لِنَعْلَمَ معناه: لنعلمه علما يتعلّق به الجزاء، وهو أن يعلمه موجودا حاصلا.
ص: 127
وَ إِنْ كٰانَتْ هي (إن) المخففة التي تلزمها اللام الفارقة. لَكَبِيرَةً لثقيلة شاقة.
إِلاّٰ عَلَى اَلَّذِينَ هَدَى اَللّٰهُ إلا علي الذين صدقوا في اتباع الرسول، الذين لطف اللّه بهم وكانوا أهلا للطفه.
وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ لِيُضِيعَ إِيمٰانَكُمْ أي: ثباتكم علي الإيمان، بل شكر صنيعكم وأعدّ لكم الثواب الجزيل. وقيل: معناه: من كان صلّي إلي بيت المقدس قبل التحويل فصلاته غير ضائعة(1).
إِنَّ اَللّٰهَ بِالنّٰاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ لا يضيع أجورهم ولا يترك مصالحهم.
قَدْ نَرىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اَلسَّمٰاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضٰاهٰا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ وَ حَيْثُ مٰا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَ إِنَّ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتٰابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ مَا اَللّٰهُ بِغٰافِلٍ عَمّٰا يَعْمَلُونَ
قَدْ نَرىٰ ربّما نري، ومعناه: كثرة الرؤية كقول الشاعر:
قد أترك القرن مصفرّا أنامله(2)
تَقَلُّبَ وَجْهِكَ تردد وجهك فِي جهة اَلسَّمٰاءِ . وكان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ينتظر الوحي من السماء في تحويله إلى الكعبة، لأنّها قبلة أبيه إبراهيم، ومفخرة العرب ومطافهم، فيكون أدعى لهم إلي الإيمان، ولمخالفة اليهود.
فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضٰاهٰا فلنعطينك ولنمكّننك من استقبالها، من قولهم:
ص: 128
ولّيته كذا، أي: جعلته واليا عليه، أو فلنجعلنك تلي سمتها دون سمت بيت المقدس.
فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ أي: نحوه. قيل: كان ذلك في رجب بعد زوال الشمس قبل قتال بدر بشهرين ورسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في مسجد بني سلمة وقد صلّي بأصحابه ركعتين من صلاة الظهر، فتحوّل في الصلاة وحوّل الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال، فسمّي المسجد مسجد القبلتين(1).
و شطر نصب علي الظرف، أي: اجعل تولية الوجه تلقاء اَلْمَسْجِدِ أي: في جهته وسمته.
وَ حَيْثُ مٰا كُنْتُمْ أينما كنتم من الأرض فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وهو خطاب لجميع أهل الآفاق.
وَ إِنَّ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتٰابَ يعني: علماء اليهود والنصاري لَيَعْلَمُونَ أنّ التحويل إلى الكعبة هو اَلْحَقُّ لأنّه كان في بشارة أنبيائهم برسول اللّه أنّه يصلّي إلى القبلتين.
وَ لَئِنْ أَتَيْتَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتٰابَ بِكُلِّ آيَةٍ مٰا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَ مٰا أَنْتَ بِتٰابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَ مٰا بَعْضُهُمْ بِتٰابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَ لَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْوٰاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ اَلظّٰالِمِينَ
اللام في وَ لَئِنْ أَتَيْتَ هي الموطئة للقسم، و مٰا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ جواب القسم المحذوف وقد سدّ مسدّ جواب الشرط. يعني: إن أتيتهم بِكُلِّ آيَةٍ
ص: 129
بكل برهان قاطع علي أنّ التوجه إلى الكعبة هو الحقّ مٰا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ لأنّ تركهم اتباعك ليس عن شبهة تزيلها الحجّة، إنّما هو عن عناد ومكابرة، لعلمهم بما في كتبهم من نعتك وكونك علي الحقّ .
وَ مٰا أَنْتَ بِتٰابِعٍ قِبْلَتَهُمْ حسم لأطماعهم، إذ قالوا: لو ثبت علي قبلتنا لكنّا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره [تغريرا له](1)، وطمعوا في رجوعه إلى قبلتهم.
وَ مٰا بَعْضُهُمْ بِتٰابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ يعني: إنّهم مع اتفاقهم علي مخالفتك مختلفون في شأن القبلة لا يرجى اتفاقهم، وذلك أنّ اليهود تستقبل بيت المقدس، والنصاري مطلع الشمس.
وقوله: وَ لَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْوٰاءَهُمْ بعد بيان حاله المعلومة عنده في قوله:
وَ مٰا أَنْتَ بِتٰابِعٍ قِبْلَتَهُمْ كلام وارد علي سبيل الفرض والتقدير، بمعنى: ولئن اتبعتهم مثلا من بعد وضوح الأمر إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ اَلظّٰالِمِينَ لمن المرتكبين الظلم الفاحش. وفي ذلك زيادة تحذير وتهجين لحال من يترك الدليل بعد تثبّته.
اَلَّذِينَ آتَيْنٰاهُمُ اَلْكِتٰابَ يَعْرِفُونَهُ كَمٰا يَعْرِفُونَ أَبْنٰاءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ اَلْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاٰ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ
يَعْرِفُونَهُ الضمير لرسول اللّه، أي: يعرفون رسول اللّه معرفة جلية كَمٰا يَعْرِفُونَ أَبْنٰاءَهُمْ لا يشتبه عليهم أبناؤهم وأبناء غيرهم. وجاز الإضمار وإن لم يجر له ذكر، لأنّ الكلام يدلّ عليه؛ ومثل هذا الإضمار فيه تفخيم وإيذان بأنّه لشهرته
ص: 130
معلوم بغير إعلام، وقيل: الضمير للعلم، أو للقرآن، أو لتحويل القبلة(1).
وَ إِنَّ فَرِيقاً خصّ الفريق منهم استثناء لمن آمن منهم كعبد اللّه بن سلام وكعب الأحبار(2).
اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ مبتدأ وخبر، وفيه وجهان: أن تكون اللام للعهد والإشارة إلى الحقّ الذي عليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وأن تكون للجنس علي معنى: الحقّ من ربّك لا من غيره. ويجوز أن يكون اَلْحَقَّ خبر مبتدأ محذوف، فيكون مِنْ رَبِّكَ في محلّ النصب علي الحال، أو يكون خبرا بعد خبر.
فَلاٰ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ الشاكّين في كتمانهم الحقّ مع علمهم، أو في أنّه من ربّك.
وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهٰا فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْرٰاتِ أَيْنَ مٰا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اَللّٰهُ جَمِيعاً إِنَّ اَللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ
وَ لِكُلٍّ أي: لكل أهل ملة وِجْهَةٌ أي: قبلة هُوَ مُوَلِّيهٰا وجهه، فحذف أحد المفعولين، وقيل: هُوَ اللّه تعالي(3)، أي: الله موليها إيّاه. وقرئ: هو مولاها، أي: هو مولي تلك الجهة قد ولّيها [أي: مصروفا اليها](4). والمعنى: لكل أمّة قبلة تتوجّه إليها منكم ومن غيركم.
فَاسْتَبِقُوا أنتم اَلْخَيْرٰاتِ واسبقوا إليها غيركم في أمر القبلة وغيرها.
ص: 131
ويجوز أن يكون المعنى: ولكل منكم يا أمّة محمّد جهة يصلّي إليها جنوبية أو شمالية أو شرقية أو غربية، فاستبقوا الفاضلات من الجهات وهي الجهات المسامتة للكعبة وإن اختلفت.
أَيْنَ مٰا تَكُونُوا من الجهات المختلفة يَأْتِ بِكُمُ اَللّٰهُ جَمِيعاً يجمعكم ويجعل صلواتكم كأنّها إلى جهة واحدة، وكأنّكم تصلّون حاضري المسجد الحرام.
وقيل: أينما كنتم من البلاد فيدرككم الموت يأت بكم اللّه إلى المحشر يوم القيامة، أي: يحشركم جميعا(1). وروي عنهم عليهم السلام: (أنّ المراد به أصحاب المهدي في آخر الزمان)(2).
وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ وَ إِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ مَا اَللّٰهُ بِغٰافِلٍ عَمّٰا تَعْمَلُونَ وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ وَ حَيْثُ مٰا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاّٰ يَكُونَ لِلنّٰاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ اَلَّذِينَ
ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشونى ولأتمّ نعمتي عليكم و لعلّكم تهتدون وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ أي: ومن أي بلد خرجت فاستقبل بوجهك نحو اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ إذا صليت.
وَ إِنَّهُ أي: إنّ هذا المأمور به لَلْحَقُّ الثابت الذي لا يزول بنسخ مِنْ رَبِّكَ .
وَ مَا اَللّٰهُ بِغٰافِلٍ عَمّٰا تَعْمَلُونَ تهديد. وهذا التكرير لتأكيد أمر القبلة،
ص: 132
لأنّ النسخ من مظان الشبهة، ولأنّه نيط بكل واحد ما لم ينط بالآخر فاختلفت فوائدها.
إِلاَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا استثناء من اَلنّٰاسِ ، ومعناه: لِئَلاّٰ يَكُونَ حجّة لأحد من اليهود إلا للمعاندين منهم القائلين: إنّ محمّدا ما ترك قبلتنا إلي الكعبة إلا ميلا إلى دين قومه وحبّا لبلده، ولو كان علي الحقّ للزم قبلة الأنبياء. وأما الحجّة التي كانت للمنصفين منهم لو لم يحوّل القبلة فهي أنّهم كانوا يقولون: ماله لا يحوّل إلي قبلة أبيه إبراهيم كما هو مذكور في نعته في التوراة ؟!. وإنّما أطلق اسم الحجّة عليه لأنّهم كانوا يسوقونه سياق الحجّة.
ويجوز أن يكون المعنى: لِئَلاّٰ يَكُونَ للعرب عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ في ترككم التوجه إلى الكعبة التي هي قبلة إبراهيم وإسماعيل أبي العرب.
إِلاَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وهم أهل مكة حين يقولون: بدا له فرجع إلى قبلة آبائه، ويوشك أن يرجع إلى دينهم.
فَلاٰ تَخْشَوْهُمْ فلا تخافوا مطاعنهم في قبلتكم وَ اِخْشَوْنِي ولا تخالفوا أمري.
وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي متعلّق اللام محذوف، أي: ولإتمامي النعمة عليكم وإرادتي اهتداءكم أمرتكم بذلك؛ أو هو معطوف علي علة مقدرة، كأنّه قيل: واخشوني لأوفقكم ولأتم نعمتي عليكم، وقيل: هو معطوف علي (لئلا يكون)، وفي الحديث:
(تمام النعمة دخول الجنّة)(1).
ص: 133
كَمٰا أَرْسَلْنٰا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيٰاتِنٰا وَ يُزَكِّيكُمْ وَ يُعَلِّمُكُمُ اَلْكِتٰابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ يُعَلِّمُكُمْ مٰا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اُشْكُرُوا لِي وَ لاٰ تَكْفُرُونِ
الكاف: إما أن يتعلّق بما قبله، أي: ولأتم نعمتي عليكم في الآخرة بالثواب، كما أتممتها عليكم في الدنيا بإرسال الرسول؛ وإما أن يتعلّق بما بعده، أي: كما ذكرتكم بإرسال الرسول.
فَاذْكُرُونِي بالطاعة أَذْكُرْكُمْ با لثواب.
وَ اُشْكُرُوا لِي ما أنعمت به عليكم وَ لاٰ تَكْفُرُونِ ولا تجحدوا نعمائي.
ويعني بالرسول: محمّدا صلى الله عليه و آله و سلم. مِنْكُمْ أي: من نسبكم، منّ سبحانه عليهم بكونه عليه السلام من العرب لما حصل لهم بذلك من الشرف.
يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاٰةِ إِنَّ اَللّٰهَ مَعَ اَلصّٰابِرِينَ وَ لاٰ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ أَمْوٰاتٌ بَلْ أَحْيٰاءٌ وَ لٰكِنْ لاٰ تَشْعُرُونَ
خاطب سبحانه المؤمنين وأمرهم بأن يستعينوا بِالصَّبْرِ و هو حبس النفس علي المكروه وحبسها عن المحبوب، و ب - اَلصَّلاٰةِ لما فيها من الذكر والخشوع إِنَّ اَللّٰهَ مَعَ اَلصّٰابِرِينَ بالمعونة والنصرة.
أَمْوٰاتٌ أي: لاٰ تَقُولُوا : هم أَمْوٰاتٌ بَلْ هم أَحْيٰاءٌ عند اللّه وَ لٰكِنْ لاٰ تَشْعُرُونَ كيف حالهم في حياتهم. قال الحسن: (إنّ الشهداء أحياء
ص: 134
عند اللّه تعرض أرزاقهم علي أرواحهم فيصل إليهم الروح والفرح، كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوة وعشيا فيصل إليهم الألم والوجع)(1).
قالوا: ويجوز أن يجمع اللّه من أجزاء الشهيد جملة فيحييها ويوصل إليها النعيم وإن كانت في حجم الذرة، وقيل: نزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر(2).
وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ اَلْخَوْفِ وَ اَلْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ اَلْأَمْوٰالِ وَ اَلْأَنْفُسِ وَ اَلثَّمَرٰاتِ وَ بَشِّرِ اَلصّٰابِرِينَ اَلَّذِينَ إِذٰا أَصٰابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قٰالُوا إِنّٰا لِلّٰهِ وَ إِنّٰا إِلَيْهِ رٰاجِعُونَ أُولٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوٰاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُهْتَدُونَ
وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ ولنصيبنكم إصابة تشبه فعل المختبر لأحوالكم، هل تصبرون وتسلمون لحكم اللّه أم لا.
بِشَيْ ءٍ أي: بقليل من كل هذه البلايا أو بطرف منه.
وَ بَشِّرِ اَلصّٰابِرِينَ المسترجعين عند البلاء، لأنّ الاسترجاع تسليم وإذعان.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: (إنّ قولنا: (إنّا للّه) إقرار علي أنفسنا بالملك، وقولنا: (إنّا إليه راجعون) إقرار علي أنفسنا بالهلك)(3).
وإنّما قلل في قوله: بِشَيْ ءٍ ليؤذن أنّ كل بلاء أصاب الإنسان وإن جلّ ففوقه ما يقلّ هذا بالإضافة إليه.
وقوله: وَ نَقْصٍ عطف علي شَيْ ءٍ أو علي اَلْخَوْفِ ، بمعنى: وشيء من نقص الأموال.
ص: 135
وَ بَشِّرِ خطاب لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أو لكل من تتأتى منه البشارة.
والصلاة من اللّه: العطف والرأفة، جمع بينها وبين الرحمة كقوله: رَأْفَةً وَ رَحْمَةً (1)، و رَؤُفٌ رَحِيمٌ (2). والمعنى: عليهم رأفة بعد رأفة، ورحمة بعد رحمة.
وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُهْتَدُونَ لطريق الصواب حيث استرجعوا وسلّموا لأمر اللّه.
إِنَّ اَلصَّفٰا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعٰائِرِ اَللّٰهِ فَمَنْ حَجَّ اَلْبَيْتَ أَوِ اِعْتَمَرَ فَلاٰ جُنٰاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمٰا وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اَللّٰهَ شٰاكِرٌ عَلِيمٌ
اَلصَّفٰا وَ اَلْمَرْوَةَ علمان للجبلين، والشعائر: جمع شعيرة وهي العلامة، أي: هما من أعلام مناسكه ومتعبداته، والحج: القصد، وا لاعتمار: الزيارة، وهما في الشرع: قصد البيت وزيارته للنسكين المعروفين، وهما في المعاني كالنجم والبيت في الأعيان.
و يَطَّوَّفَ أصله: (يتطوف) فأدغم، وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام: أن يطوف بهما.
وإنّما قال: فَلاٰ جُنٰاحَ عَلَيْهِ والسعي بينهما واجب، لأنّه كان علي الصفا إساف وعلي المروة نائلة، وهما صنمان. يروي: أنّهما كانا رجلا وامرأة زنيا في الكعبة فمسخا حجرين فوضعا عليهما ليعتبر بهما، فلما طالت المدة عبدا. وكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما، فلما جاء الإسلام كره المسلمون الطواف بينهما لأجل
ص: 136
فعل الجاهلية فرفع عنهم الجناح(1).
وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً أي: من تبرّع بالسعي بين الصفا والمروة بعدما أدي الواجب.
فَإِنَّ اَللّٰهَ شٰاكِرٌ مجاز علي ذلك عَلِيمٌ بقدر الجزاء فلا يبخس أحدا حقه.
إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مٰا أَنْزَلْنٰا مِنَ اَلْبَيِّنٰاتِ وَ اَلْهُدىٰ مِنْ بَعْدِ مٰا بَيَّنّٰاهُ لِلنّٰاسِ فِي اَلْكِتٰابِ أُولٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اَللّٰهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اَللاّٰعِنُونَ إِلاَّ اَلَّذِينَ تٰابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا اَلتَّوّٰابُ اَلرَّحِيمُ
يعني: أحبار اليهود، أي: يَكْتُمُونَ ما أنزلناه في التوراة من الآيات الشاهدة علي صحة نبوة محمّد صلى الله عليه و آله و سلم، والهادية إلى نعته وصفته، والأمر باتباعه والإيمان به.
مِنْ بَعْدِ مٰا بَيَّنّٰاهُ ولخّصناه لِلنّٰاسِ فِي اَلْكِتٰابِ أي: في التوراة، لم ندع فيه موضع إشكال ولا اشتباه علي أحد منهم، فكتموا ذلك المبيّن الملخص.
أُولٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اَللّٰهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اَللاّٰعِنُونَ من الملائكة والمؤمنين.
اَلَّذِينَ تٰابُوا أي: ندموا علي ما فعلوا وَ أَصْلَحُوا نياتهم فيما يستقبل من الأوقات، وتداركوا ما فرط منهم وَ بَيَّنُوا ما قد بيّنه اللّه في كتابهم، أو بيّنوا للناس ما أحدثوه من توبتهم ليعرفوا بضد ما عرفوا به ويقتدي غيرهم بهم.
فَأُولٰئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ أقبل توبتهم [وَ أَنَا اَلتَّوّٰابُ القابل للتوبة
ص: 137
اَلرَّحِيمُ بعباده](1).
إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ مٰاتُوا وَ هُمْ كُفّٰارٌ أُولٰئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اَللّٰهِ وَ اَلْمَلاٰئِكَةِ وَ اَلنّٰاسِ أَجْمَعِينَ (16(1) خٰالِدِينَ فِيهٰا لاٰ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ اَلْعَذٰابُ وَ لاٰ هُمْ يُنْظَرُونَ
أي: إِنَّ اَلَّذِينَ ماتوا من هؤلاء الكاتمين ولم يتوبوا.
أُولٰئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اَللّٰهِ ذكر سبحانه لعنتهم أحياء ثم ذكر لعنتهم أمواتا.
ومعنى قوله: وَ اَلنّٰاسِ أَجْمَعِينَ والمراد به: من يعتدّ بلعنه وهم المؤمنون، وقيل: إ نّ يوم القيامة يلعن بعضهم بعضا.
خٰالِدِينَ فِيهٰا في اللعنة، وقيل: في النار إلا أنّها أضمرت لتفخيم شأنها وتهويل أمرها(2).
وَ لاٰ هُمْ يُنْظَرُونَ لا يمهلون - من الإنظار -، أو لا ينتظرون، أو لا ينظر اللّه إليهم نظر رحمة.
واللعن من اللّه: الإبعاد من الرحمة وإيجاب العقاب، ومن الناس: هو الدعاء عليهم بذلك.
إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلاٰفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ وَ اَلْفُلْكِ اَلَّتِي تَجْرِي فِي اَلْبَحْرِ بِمٰا يَنْفَعُ اَلنّٰاسَ وَ مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ مِنْ مٰاءٍ فَأَحْيٰا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا وَ بَثَّ فِيهٰا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ
ص: 138
وَ تَصْرِيفِ اَلرِّيٰاحِ وَ اَلسَّحٰابِ اَلْمُسَخَّرِ بَيْنَ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (16(4)
إِلٰهٌ وٰاحِدٌ فرد في الإلهية لا شريك له فيها، فلا يصح أن يسمّى غيره إلها، و لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ تقرير للوحدانية بنفي غيره وإثباته، و هو بدل من موضع لاٰ إِلٰهَ وهو الرفع، لأنّ لا مع ما بعدها مبتدأ، وهكذا في قولك: الا إله إلا اللّه): (اللّه) بدل من موضع (لا إله) والخبر محذوف، والتقدير: اللّه في الوجود.
اَلرَّحْمٰنُ اَلرَّحِيمُ المولي لجميع النعم: أصولها وفروعها، ولا شيء سواه بهذه الصفة، فإن كل ما سواه إما نعمة، وإما منعم عليه.
وروي: إنّ المشركين كان لهم حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، فلما سمعوا هذه الآية قالوا: إن كنت صادقا فأت بآية نعرف بها صدقك، فنزل(1):
إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وإنشائهما علي سبيل الاختراع والإبداع.
وَ اِخْتِلاٰفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ أي: اعتقابهما، كل واحد منهما يعقب الآخر ويخلفه، أو اختلافهما في الجنس والهيئة والصفة.
وَ اَلْفُلْكِ أي: السفن.
اَلَّتِي تَجْرِي فِي اَلْبَحْرِ بِمٰا يَنْفَعُ اَلنّٰاسَ أي: بالذي ينفعهم فتكون (ما) موصولة، أو بنفعهم فتكون (ما) مصدرية.
وَ مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ مِنَ اَلسَّمٰاءِ أي: من نحو السماء أو من السحاب مِنْ مٰاءٍ فَأَحْيٰا بِهِ اَلْأَرْضَ بالإنبات و إنماء النبات، أو أهل الأرض بإخراج الأقوات.
وَ بَثَّ فِيهٰا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ عطف علي أَنْزَلَ أي: وما أنزل في الأرض
ص: 139
من ماء وبثّ فيها من كل دابة، ويجوز أن يكون عطفا علي فَأَحْيٰا أي: فأحيا بالمطر الأرض وبثّ فيها من كل دابة، لأنّهم ينمون ويعيشون بالحيا والخصب.
وَ تَصْرِيفِ اَلرِّيٰاحِ في مهابها قبولا ودبورا وشمالا وجنوبا، وفي أحوالها باردة وحارة ولينة وعاصفة.
وَ اَلسَّحٰابِ اَلْمُسَخَّرِ للرياح تقلّبه في سكائك الجو بَيْنَ اَلسَّمٰاءِ وَ اَلْأَرْضِ بمشيئة الله يمطر حيث شاء.
لَآيٰاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي: ينظرون بعيون عقولهم ويعتبرون بها، لأنّها دلائل علي عظيم القدرة وعجيب الحكمة.
وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ أَنْدٰاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اَللّٰهِ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلّٰهِ وَ لَوْ يَرَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ اَلْعَذٰابَ أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلّٰهِ جَمِيعاً وَ أَنَّ اَللّٰهَ شَدِيدُ اَلْعَذٰابِ
وَ مِنَ اَلنّٰاسِ (من) للتبعيض، أي: وبعض الناس مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ أَنْدٰاداً أمثالا من الأصنام التي يعبدونها، وقيل: من الرؤساء(1) بدلالة قوله: إِذْ تَبَرَّأَ اَلَّذِينَ اُتُّبِعُوا مِنَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوا ، وقال الباقر عليه السلام: (هم أئمّة الظلمة وأشياعهم)(2).
يُحِبُّونَهُمْ يعظّمونهم ويخضعون لهم ويحبّون عبادتهم والانقياد لهم.
كَحُبِّ اَللّٰهِ أي: كما يحبّ اللّه، علي أنّه مصدر من الفعل المبني للمفعول.
واستغنى عن ذكر من يحبّه لأنّه معلوم، وقيل: كحبّهم اللّه، أي: يسوون بينه وبينهم
ص: 140
في محبّتهم(1).
وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلّٰهِ لأنّهم لا يعدلون عنه إلي غيره، بخلاف المشركين فإنّهم يعدلون من صنم إلي غيره.
وَ لَوْ يَرَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا باتخاذ الأنداد، أي: ولو يعلم هؤلاء الذين أشركوا (أن) القدرة كلها (لله) علي كل شيء دون أندادهم، ويعلمون شدة عقابه للظالمين إذا عاينوا العذاب يوم القيامة لكان منهم مالا يدخل تحت الوصف من الندم والتحسر فحذف الجواب.
وقرئ: (ولو تري) بالتاء علي خطاب الرسول، أو كل مخاطب، أي: ولو تري ذلك لرأيت أمرا عظيما وخطبا جسيما. وقرئ: (إذ يرون) علي البناء للمفعول، و (إذ) في المستقبل كقوله: وَ نٰادىٰ أَصْحٰابُ اَلْجَنَّةِ (2).
إِذْ تَبَرَّأَ اَلَّذِينَ اُتُّبِعُوا مِنَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوا وَ رَأَوُا اَلْعَذٰابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ اَلْأَسْبٰابُ وَ قٰالَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنٰا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمٰا تَبَرَّؤُا مِنّٰا كَذٰلِكَ يُرِيهِمُ اَللّٰهُ أَعْمٰالَهُمْ حَسَرٰاتٍ عَلَيْهِمْ وَ مٰا هُمْ بِخٰارِجِينَ مِنَ اَلنّٰارِ
إِذْ تَبَرَّأَ بدل من إِذْ يَرَوْنَ اَلْعَذٰابَ أي: تبرأ المتبوعون وهم الرؤساء من الأتباع.
وَ رَأَوُا اَلْعَذٰابَ الواو للحال، أي: تبرؤوا في حال رؤيتهم العذاب.
وَ تَقَطَّعَتْ عطف علي تَبَرَّأَ .
ص: 141
و اَلْأَسْبٰابُ الأسباب التي كانت بينهم يتواصلون عليها، والأرحام التي كانوا يتعاطفون بها. والمعنى: زال عنهم كل سبب يمكن أن يتوصل به من مودة أو عهد أو قرابة فلا ينتفعون بشيء من ذلك.
وَ قٰالَ الأتباع: لَوْ أَنَّ لَنٰا كَرَّةً أي: عودة إلي دار الدنيا فَنَتَبَرَّأَ فيها من الرؤساء كَمٰا تَبَرَّؤُا مِنّٰا في الآخرة. و لَوْ في معنى التمنّي، ولذلك أجيب بالفاء الذي يجاب به التمنّي، كأنّه قيل: ليت لنا كرّة فنتبرأ منهم.
كَذٰلِكَ أي: مثل ذلك الإراءة الفظيعة يُرِيهِمُ اَللّٰهُ أَعْمٰالَهُمْ حَسَرٰاتٍ أي: ندامات، والمعنى: إنّ أعمالهم تنقلب حسرات عَلَيْهِمْ فلا يرون إلا حسرات مكان أعمالهم.
وَ مٰا هُمْ بِخٰارِجِينَ مِنَ اَلنّٰارِ أي: يخلدون فيها. وفي هم دلالة علي قوة أمرهم فيما أسند إليهم لا علي الاختصاص.
يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ كُلُوا مِمّٰا فِي اَلْأَرْضِ حَلاٰلاً طَيِّباً وَ لاٰ تَتَّبِعُوا خُطُوٰاتِ اَلشَّيْطٰانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ إِنَّمٰا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَ اَلْفَحْشٰاءِ وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اَللّٰهِ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ
هذا خطاب لجميع بني آدم.
حَلاٰلاً مفعول كُلُوا أو حال من ما فِي اَلْأَرْضِ .
طَيِّباً طاهرا من كل شبهة.
وَ لاٰ تَتَّبِعُوا خُطُوٰاتِ اَلشَّيْطٰانِ فتدخلوا في حرام أو شبهة. و (من) للتبعيض، لأنّ كل ما في الأرض غير مأكول. والخطوة: ما بين قدمي الخاطي، والخطوة: المرة من الخطو كالغرفة والغرفة، واتبع خطواته ووطئ علي عقبه في
ص: 142
معنى: اقتدي به واستن بسنته.
عَدُوٌّ مُبِينٌ أي: ظاهر العداوة.
إِنَّمٰا يَأْمُرُكُمْ بيان لوجوب الكفّ عن اتباعه وظهور عداوته، أي: لا يأمركم بخير قط، إنّما يأمركم بِالسُّوءِ بالقبيح وَ اَلْفَحْشٰاءِ ما يتجاوز الحد في القبح. وقيل: السوء مالا حدّ فيه، والفحشاء ما يجب فيه الحد(1).
وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اَللّٰهِ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ وهو أن تقولوا: هذا حلال وهذا حرام بغير علم. ويدخل فيه كل ما يضاف إلى اللّه سبحانه مما لا يجوز عليه، وجميع الاعتقادات الباطلة والمذاهب الفاسدة.
وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمُ اِتَّبِعُوا مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ قٰالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مٰا أَلْفَيْنٰا عَلَيْهِ آبٰاءَنٰا أَ وَ لَوْ كٰانَ آبٰاؤُهُمْ لاٰ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لاٰ يَهْتَدُونَ
الضمير في لَهُمُ للناس، وعدل بالخطاب عنهم علي طريقة الالتفات لبيان ضلالهم، فإنّه لا ضال أضل من المقلّد، كأنّه يقول للعقلاء: انظروا إلى هؤلاء الحمقى ماذا يقولون، والقائل لهم هو النبي صلى الله عليه و آله و سلم والمسلمون، والمقول لهم: المشركون أو قوم من اليهود.
و أَلْفَيْنٰا وجد نا.
أَ وَ لَوْ كٰانَ آبٰاؤُهُمْ الواو للحال، والهمزة بمعنى الرد والتعجيب، معناه: أيتبعون آباءهم ولو كانوا لاٰ يَعْقِلُونَ شَيْئاً من الدين وَ لاٰ يَهْتَدُونَ للصواب.
وَ مَثَلُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ اَلَّذِي يَنْعِقُ بِمٰا لاٰ يَسْمَعُ إِلاّٰ دُعٰاءً
ص: 143
ونداء صمّ بكم عمى فهم لا يعقلون لابد ها هنا من حذف المضاف، والتقدير: وَ مَثَلُ داعي اَلَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ اَلَّذِي يَنْعِقُ ، أو مثل الذين كفروا كبهائم الذي ينعق. والمعنى:
ومثل داعيهم إلى الإيمان في أنّهم لا يسمعون من الدعاء إلا جرس النغمة والصوت من غير تفهم واستبصار، كمثل الناعق بالبهائم التي لا تسمع إِلاّٰ دُعٰاءً الناعق ونداءه، ولا تفقه شيئا آخر ولا تعي كما يفهم العقلاء ويعون.
ونعق الراعي بالغنم: إذا صوّت بها، وأما نغق الغراب فبالغين.
صُمٌّ أي: هم صمّ ، رفع علي الذم.
يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبٰاتِ مٰا رَزَقْنٰاكُمْ وَ اُشْكُرُوا لِلّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّٰاهُ تَعْبُدُونَ
أي: كُلُوا مِنْ مستلذات مٰا رَزَقْنٰاكُمْ لأنّ ما رزقه اللّه تعالى لا يكون إلا حلالا.
وَ اُشْكُرُوا لِلّٰهِ الذي رزقكم إيّاها إِنْ صح أنّكم تخصونه بالعبادة وتقرّون أنّه المنعم علي الحقيقة. وفي الحديث: (يقول اللّه تعالى: إنّي والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري)(1).
إِنَّمٰا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةَ وَ اَلدَّمَ وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ وَ مٰا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اَللّٰهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ بٰاغٍ وَ لاٰ عٰادٍ فَلاٰ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
اَلْمَيْتَةَ ما يموت من الحيوان.
ص: 144
وخصّ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ لأنّه المعظم والمقصود، وإلا فجملته محرّمة.
وَ مٰا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اَللّٰهِ أي: رفع به الصوت للصنم، وكذلك قول أهل الجاهلية: باسم اللات والعزّي.
فَمَنِ اُضْطُرَّ إلى أكل هذه الأشياء ضرورة مجاعة أو إكراه.
غَيْرَ بٰاغٍ علي مضطر آخر بالاستئثار عليه وَ لاٰ عٰادٍ سد الجوعة.
وعنهم عليهم السلام: (غير باغ علي إمام المسلمين، ولا عاد بالمعصية طريقة المحقّين)(1).
فَلاٰ إِثْمَ عَلَيْهِ أي: لا حرج عليه.
إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ مِنَ اَلْكِتٰابِ وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولٰئِكَ مٰا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ اَلنّٰارَ وَ لاٰ يُكَلِّمُهُمُ اَللّٰهُ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ وَ لاٰ يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ اِشْتَرَوُا اَلضَّلاٰلَةَ بِالْهُدىٰ وَ اَلْعَذٰابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمٰا أَصْبَرَهُمْ عَلَى اَلنّٰارِ ذٰلِكَ بِأَنَّ اَللّٰهَ نَزَّلَ اَلْكِتٰابَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ اَلَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِي اَلْكِتٰابِ لَفِي شِقٰاقٍ بَعِيدٍ
أعيد ذكر اليهود الذين تقدّم ذكرهم.
فِي بُطُونِهِمْ أي: ملء بطونهم، يقال: أكل فلان في بطنه، وأكل في بعض بطنه.
إِلاَّ اَلنّٰارَ لأنّه إذا أكل ما يؤدي إلى النار فكأنّه أكل النار، ومنه قولهم:
أكل فلان الدم إذا أكل الدية التي هي بدل منه.
ص: 145
وَ لاٰ يُكَلِّمُهُمُ تعريض بحرمانهم حال أهل الجنّة في إكرام اللّه إيّاهم بكلامه وتزكيتهم بالثناء عليهم. وقيل: نفي الكلام عبارة عن غضبه عليهم(1).
فَمٰا أَصْبَرَهُمْ عَلَى اَلنّٰارِ تعجب من حالهم في جرأتهم علي النار والتباسهم بموجبات النار، وقيل: معناه أيّ شيء صبّرهم علي النار(2)، يقال: أصبره و صبّره بمعنى.
ذٰلِكَ العذاب بسبب إِنَّ اَللّٰهَ تعالى نَزَّلَ اَلْكِتٰابَ أي: نزّل ما نزّل من الكتاب بِالْحَقِّ .
وَ إِنَّ اَلَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِي كتب اللّه فقالوا في بعضها: حقّ ، وفي بعضها: باطل، وهم أهل الكتاب لَفِي شِقٰاقٍ أي: في خلاف بَعِيدٍ عن الحقّ .
و (الكتاب) للجنس، أو يكون المعنى: كفرهم ذلك بسبب أنّ اللّه نزّل القران بالحقّ ، وإنّ الذين اختلفوا فيه فقالوا: سحر، أو شعر، أو أساطير لفي شقاق بعيد عن الاجتماع علي الصواب.
لَيْسَ اَلْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ وَ لٰكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ اَلْمَلاٰئِكَةِ وَ اَلْكِتٰابِ وَ اَلنَّبِيِّينَ وَ آتَى اَلْمٰالَ عَلىٰ حُبِّهِ ذَوِي اَلْقُرْبىٰ وَ اَلْيَتٰامىٰ وَ اَلْمَسٰاكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ وَ اَلسّٰائِلِينَ وَ فِي اَلرِّقٰابِ وَ أَقٰامَ اَلصَّلاٰةَ وَ آتَى اَلزَّكٰاةَ وَ اَلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذٰا عٰاهَدُوا وَ اَلصّٰابِرِينَ فِي اَلْبَأْسٰاءِ وَ اَلضَّرّٰاءِ وَ حِينَ اَلْبَأْسِ أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُتَّقُونَ
ص: 146
الخطاب لأهل الكتاب، لأنّ اليهود كانت تصلي قبل المغرب إلى بيت المقدس والنصارى قبل المشرق، وذلك أنّهم أكثروا الخوض في أمر القبلة حين حوّل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى الكعبة، وزعم كل واحد من الفريقين: أنّ البر هو التوجه إلى قبلته، فرّد عليهم وقيل لهم: لَيْسَ اَلْبِرَّ فيما أنتم عليه لأنه منسوخ. وقيل: كثر خوض المسلمين وأهل الكتاب في أمر القبلة فقيل: ليس كل البر أمر القبلة، ولكن البر الذي يجب صرف الهمة إليه بر مَنْ آمَنَ وقام بهذه الأعمال(1)، والبر: اسم لكل فعل مرضي. وقرئ: البر بالنصب علي أنّه خبر مقدّم.
وَ لٰكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ علي تأويل حذف المضاف، أي: برّ من آمن، أو يكون البرّ بمعنى: ذي البرّ، أو يكون البرّ بمعنى: البارّ كما قالت:
فإنّما هي إقبال وإدبار(2)
وقال المبرد(3): (لو كنت ممن يقرأ القرآن لقرأت: ولكن البرّ بفتح الباء)(4).
و (الكتاب) جنس الكتب أو القرآن.
عَلىٰ حُبِّهِ مع حبّ المال والشح به كما قال ابن مسعود [رواية عن رسول صلى الله عليه و آله و سلم حين سئل عنه: أي الصدقة أفضل ؟ فقال صلى الله عليه و آله و سلم](5): (أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان
ص: 147
كذا)(1). وقيل: علي حبّ الله(2)، وقيل: علي حبّ الإيتاء(3)، أي: يعطيه وهو طيب النفس بإعطائه.
والمسكين: الدائم السكون إلى الناس لأنّه لا شيء له كالمسكير: الدائم السكر.
وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ المسافر المنقطع به، جعل ابنا للسبيل لملازمته له، كما يقال للص القاطع: ابن الطريق. وقيل: هو الضيف(4) لأنّ السبيل يرعف به.
وَ اَلسّٰائِلِينَ الطالبين للصدقة، وقيل: المستطعمين(5). وفي الحديث:
(للسائل حقّ وإن جاء علي فرس)(6).
وَ فِي اَلرِّقٰابِ وفي معاونة المكاتبين حتى يفكّوا رقابهم، وقيل: في ابتياع الرقاب وإعتاقها(7). وعن الشعبي قال: (إ نّ في المال حقّا سوي الزكاة وتلا هذه الآية)(8)، لأنّه ذكر إيتاء المال في هذه الوجوه ثم قيل: وَ آتَى اَلزَّكٰاةَ .
وَ اَلْمُوفُونَ عطف علي مَنْ آمَنَ .
وأخرج وَ اَلصّٰابِرِينَ منصوبا علي الاختصاص والمدح إظهارا لفضل
ص: 148
الصبر في الشدائد ومواطن القتال علي سائر الأعمال.
و اَلْبَأْسٰاءِ الفقر والشدة وَ اَلضَّرّٰاءِ المرض والزمانة وَ حِينَ اَلْبَأْسِ أي: وقت القتال وجهاد الكفار.
أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا أي: كانوا صادقين جادّين في الدين وَ أُولٰئِكَ الذين اتقوا النار بفعل هذه الخصال.
يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِصٰاصُ فِي اَلْقَتْلىٰ اَلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ اَلْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ اَلْأُنْثىٰ بِالْأُنْثىٰ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ فَاتِّبٰاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَدٰاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسٰانٍ ذٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ فَمَنِ اِعْتَدىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهُ عَذٰابٌ أَلِيمٌ وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصٰاصِ حَيٰاةٌ يٰا أُولِي اَلْأَلْبٰابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
كُتِبَ عَلَيْكُمُ أي: فرض وأوجب اَلْقِصٰاصُ المساواة في القتلى، وهو أن يفعل بالقاتل مثل ما فعله بالمقتول اَلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ اَلْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ اَلْأُنْثىٰ بِالْأُنْثىٰ .
وعن الصادق عليه السلام قال: (لا يقتل حرّ بعبد، ولكن يضرب ضربا شديدا، ويغرّم دية العبد، ولا يقتل الرجل بالمرأة إلا إذا أدّي إلي أهله نصف ديته)(1).
فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ معناه: فمن عفي له من جهة أخيه شيء من العفو، كما يقال: سير بزيد بعض السير. ولا يصح أن يكون شَيْ ءٌ في معنى المفعول به، لأنّ (عفا) لا يتعدي إلى مفعول به إلا بواسطة. و (أخوه) هو ولي المقتول، وذكر بلفظ الأخوة ليعطف أحدهما علي صاحبه بذكر ما هو ثابت بينهما من أخوّة الإسلام، ويقال: عفوت له ذنبه، وعفوت لفلان عما جنى، فيعدّى إلى
ص: 149
المذنب باللام، ويعدّي إلى الجاني وإلي الذنب ب - (عن) فيقال: عفوت عن فلان وعن وإنّما قيل: شيء من العفو للإشعار بأنّه إذا عفي له طرف من العفو وبعض منه، بأن يعفى عن بعض الدم أو عفا عنه بعض الورثة، تم العفو وسقط القصاص ولم يجب إلا الدية.
فَاتِّبٰاعٌ بِالْمَعْرُوفِ أي: فليكن اتباع، أو فالأمر اتباع. وهذه توصية للعافي والمعفو عنه جميعا، أي: فليتبع الولي القاتل بالمعروف بأن لا يعنف به ولا يطالبه إلا مطالبة جميلة، وليؤد إليه القاتل بدل الدم أداء بِإِحْسٰانٍ بأن لا يمطله ولا يبخسه.
ذلك الحكم المذكور من القصاص أو العفو أو الدية تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ لأنّ أهل التوراة كتب عليهم القصاص أو العفو وحرّم عليهم أخذ الدية، وعلي أهل الإنجيل العفو أو الدية وحرّم القصاص.
فَمَنِ اِعْتَدىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ بأن قتل بعد قبول الدية أو العفو، أو تجاوز ما شرع له من قتل غير القاتل فَلَهُ عَذٰابٌ أَلِيمٌ أي: نوع من العذاب شديد الألم في الآخرة.
وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصٰاصِ حَيٰاةٌ فيه فصاحة عجيبة، وذلك أنّ القصاص قتل وتفويت للحياة وقد جعل ظرفا ومكانا للحياة، وفي تعريف القصاص وتنكير الحياة معنى: إنّ لكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة، وذلك أنّهم كانوا [قبل الإسلام](1) يقتلون بالواحد الجماعة، ويقتلون بالمقتول غير قاتله فتقع الفتنة، فكانت في القصاص حياة أي حياة أو نوع من الحياة، وهي الحياة
ص: 150
الحاصلة بالارتداع عن القتل لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل فسلم صاحبه من القتل وسلم هو من القود، فكان القصاص سبب حياة نفسين.
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [أي لكي تتقوا](1) القتل خوفا من القصاص، أو لعلكم تعملون عمل أهل التقوي.
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذٰا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً اَلْوَصِيَّةُ لِلْوٰالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى اَلْمُتَّقِينَ
اَلْوَصِيَّةُ فاعل (كتب) وذكّر للفاصل، ولأنّها بمعنى: أن يوصي ولذلك ذكّر الراجع في قوله: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مٰا سَمِعَهُ .
إِذٰا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ إذا دنا منه وظهرت إماراته.
إِنْ تَرَكَ خَيْراً أي: مالا.
لِلْوٰالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ أي: لوالديه وأقربائه.
بِالْمَعْرُوفِ أي: بالشيء الذي يعرف العقلاء أنّه لا جور فيه ولا حيف.
حَقًّا مصدر مؤكد، أي: حقّ ذلك حقّا عَلَى اَلْمُتَّقِينَ علي من آثر التقوي.
قالوا: إ نّ هذه الآية منسوخة(2) بقوله عليه السلام: (لا وصية لوارث)(3). ولم يجوّز أصحابنا نسخ القرآن بخبر الواحد، وقالوا: إنّ الوصية لذي القرابة من أوكد السنن، ورووا عن الباقر عليه السلام: (أنّه سئل هل تجوز الوصية للوارث ؟ فقال: نعم،
ص: 151
وتلا هذه الآية)(1).
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مٰا سَمِعَهُ فَإِنَّمٰا إِثْمُهُ عَلَى اَلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اَللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَمَنْ خٰافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاٰ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
فَمَنْ بَدَّلَهُ أي: فمن غيّر الإيصاء عن وجهه من الأوصياء أو الشهود بَعْدَ مٰا سَمِعَهُ وتحقّقه.
فَإِنَّمٰا إِثْمُهُ عَلَى اَلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ أي: فما إثم الإيصاء المغيّر أو إثم التبديل إلا علي مبدليه دون غيرهم من الموصي والموصى له لأنّهما بريئان من الجنف.
إِنَّ اَللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وعيد للمبدل.
فَمَنْ خٰافَ أي: فمن توقع وعلم، وقد شاع في كلامهم أخاف أن يقع كذا يريدون التوقع والظن الغالب الجاري مجري العلم.
مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أي: ميلا عن الحقّ بالخطأ في الوصية أَوْ إِثْماً أو تعمّدا للجنف.
فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ أي: بين الورثة والموصى لهم فَلاٰ إِثْمَ عَلَيْهِ لأنّ تبديله تبديل باطل إلي حقّ .
يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيٰامُ كَمٰا كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيّٰاماً مَعْدُودٰاتٍ فَمَنْ كٰانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّٰامٍ أُخَرَ وَ عَلَى اَلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعٰامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ
ص: 152
خَيْرٌ لَهُ وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
كُتِبَ عَلَيْكُمُ أي: فرض عليكم اَلصِّيٰامُ كَمٰا كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ من الأنبياء وأممهم من لدن عهد آدم إلى عهدكم، وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: (أولهم آدم)(1). يعني: إنّ الصوم عبادة قديمة ما أخلى اللّه تعالى أمّة من إيجابها عليهم، لم يوجبها عليكم وحدكم.
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ بالمحافظة عليها وتعظيمها [لأصالتها و قدمها](2)، أو لعلكم تتقون المعاصي، لأنّ الصائم أردع لنفسه عن مواقعة السوء.
أَيّٰاماً مَعْدُودٰاتٍ موقّتات بعدد معلوم، أو قلائل كقوله: دَرٰاهِمَ مَعْدُودَةٍ (3)، وأصله: أنّ المال القليل يقدّر بالعدد، والكثير يحثى حثيا. والمعنى يقتضي أن يكون أَيّٰاماً منصوبا ب - اَلصِّيٰامُ كما تقول: نويت الخروج يوم الجمعة، إلا أنّ الصيغة تأباه للفصل بينه وبين (أيّام) بقوله: كَمٰا كُتِبَ ، فينبغي أن يكون انتصابه بفعل مضمر نحو: صوموا أيّاما، لدلالة قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيٰامُ عليه.
أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ أو راكب سفر فَعِدَّةٌ أي: فعليه عدّة مِنْ أَيّٰامٍ أُخَرَ .
وفيه دلالة علي أنّ المسافر والمريض مكتوب عليهما الإفطار وأنّ يصوما أيّاما أخر، وفي الحديث: (الصائم في السفر كالمفطر في الحضر)(4).
وَ عَلَى اَلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ وعلي المطيقين للصيام الذين لا عذر لهم إن أفطروا
ص: 153
فِدْيَةٌ طَعٰامُ وعن الباقر عليه السلام: طعام مساكين. وكان ذلك في بدء الإسلام فرض عليهم الصوم ولم يتعوّدوا فاشتدّ عليهم فرخّص لهم في الإفطار والفدية.
فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فزاد علي مقدار الفدية فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ فالتطوع أخير له.
وقرئ: ومن يطّوّع بمعنى: يتطوع.
وَ أَنْ تَصُومُوا أيّها المطيقون خَيْرٌ لَكُمْ من الفدية وتطوع الخير.
ثم نسخ ذلك بقوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ . وروي أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السلام: أنّ معناه: (وعلي الذين كانوا يطيقون الصوم ثم أصابهم كبر أو عطاش أو شبه ذلك فدية لكل يوم مدّ من الطعام)(1). وعلي هذا فلا نسخ.
شَهْرُ رَمَضٰانَ اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ هُدىً لِلنّٰاسِ وَ بَيِّنٰاتٍ مِنَ اَلْهُدىٰ وَ اَلْفُرْقٰانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَ مَنْ كٰانَ مَرِيضاً أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّٰامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اَللّٰهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لاٰ يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ وَ لِتُكْمِلُوا اَلْعِدَّةَ وَ لِتُكَبِّرُوا اَللّٰهَ عَلىٰ مٰا هَدٰاكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
الرمضان مصدر (رمض): إذا احترق - من الرمضاء - فأضيف إليه الشهر وجعل علما، ومنع الصرف للتعريف والألف والنون. وهو مبتدأ خبره اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ ، أو بدل من اَلصِّيٰامُ في قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيٰامُ ، أو خبر مبتدأ محذوف، أي: هذه الأيّام المعدودات شَهْرُ رَمَضٰانَ .
ومعنى أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ ابتدأ فيه إنزاله وكان ذلك في ليلة القدر، وقيل: أنزل جملة إلى السماء الدنيا ثم نزل إلى الأرض نجوما(2)، وقيل: أنزل في شأنه
ص: 154
القرآن(1) وهو قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيٰامُ .
هُدىً لِلنّٰاسِ وَ بَيِّنٰاتٍ نصب علي الحال، أي: أنزل وهو هاد للناس إلي الحقّ ، [وهو آيات واضحات مما يهدي إلى الحقّ ](2) ويفرّق بين الحقّ والباطل، ذكر أولا أنّه هدي ثم ذكر أنّه بيّنات من جملة ما هدي الله به وفرّق به بين الحقّ والباطل من الكتب السماوية.
فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ أي: فمن كان حاضرا مقيما غير مسافر في الشهر فليصم فيه ولا يفطر، والشهر منصوب على الظرف وكذلك الهاء في فَلْيَصُمْهُ ، ولا يكون مفعولا به، لأنّ المقيم والمسافر كلاهما شاهدان للشهر.
وَ مَنْ كٰانَ مَرِيضاً أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ حدّ المرض الذي يوجب الإفطار:
ما يخاف بالصوم الزيادة المفرطة فيه، وحدّ السفر الذي يوجب الإفطار: ثمانية فراسخ.
يُرِيدُ اَللّٰهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ أي: يريد أن ييسر عليكم ولا يعسر، وقد نفى عنكم الحرج في الدين، وأمركم بالحنيفية السمحة التي لا إصر فيها، ومن جملة ذلك: ما أمركم بالإفطار في السفر والمرض.
وَ لِتُكْمِلُوا اَلْعِدَّةَ الفعل المعلل محذوف ويدلّ عليه ما سبق، والتقدير:
ولتكملوا العدة ولتكبّروا اللّه علي ما هداكم ولعلكم تشكرون شرع ذلك لكم.
ويجوز أن يكون وَ لِتُكْمِلُوا معطوفا على علة مقدرة، كأنّه قيل: يريد اللّه ليسهّل عليكم ولتكملوا العدة.
ص: 155
والمراد بالتكبير عندنا: التكبير عقيب أربع صلوات: المغرب، والعشاء ليلة الفطر، والغداة، وصلاة العيد(1).
وَ إِذٰا سَأَلَكَ عِبٰادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدّٰاعِ إِذٰا دَعٰانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ
فَإِنِّي قَرِيبٌ تمثيل لحاله في سرعة إجابته لمن دعاه بحال من قرب مكانه، ونحوه قوله تعالي: وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ اَلْوَرِيدِ (2).
فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي إذا دعوتهم للإيمان والطاعة، كما أنّي أجيبهم إذا دعوني لحوائجهم.
وَ لْيُؤْمِنُوا بِي روي عن الصادق عليه السلام: أنّ معناه: (وليتحقّقوا أنّي قادر علي إعطائهم ما سألوه)(3).
لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ أي: لعلهم يصيبون الحقّ ويهتدون إليه.
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ اَلصِّيٰامِ اَلرَّفَثُ إِلىٰ نِسٰائِكُمْ هُنَّ لِبٰاسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِبٰاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اَللّٰهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتٰانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتٰابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفٰا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ اِبْتَغُوا مٰا كَتَبَ اَللّٰهُ لَكُمْ وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا حَتّٰى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اَلْخَيْطُ اَلْأَبْيَضُ مِنَ اَلْخَيْطِ اَلْأَسْوَدِ مِنَ اَلْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا اَلصِّيٰامَ إِلَى اَللَّيْلِ وَ لاٰ تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عٰاكِفُونَ فِي اَلْمَسٰاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اَللّٰهِ فَلاٰ تَقْرَبُوهٰا كَذٰلِكَ
ص: 156
يُبَيِّنُ اَللّٰهُ آيٰاتِهِ لِلنّٰاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ
اَلرَّفَثُ أصله: القول الفاحش، فكنى به عن الجماع، وعدّي ب - إلى لتضمّنه معنى الإفضاء.
هُنَّ لِبٰاسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِبٰاسٌ لَهُنَّ استئناف كالبيان لسبب الإحلال، وهو أنّه إذا كانت بينكم وبينهن المخالطة والمعانقة قلّ صبركم عنهن، فلذلك رخّص لكم في مباشرتهن.
والاختيان: من الخيانة، كالاكتساب من الكسب، أي: علم اللّه أنّكم كنتم تنقصون أنفسكم حظها من الخير فَتٰابَ عَلَيْكُمْ فرخّص لكم وأزال التشديد عنكم. قال الصادق عليه السلام: (كان الأكل محرّما في شهر رمضان بالليل بعد النوم، وكان النكاح حراما بالليل والنهار، وكان رجل من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يقال له: مطعم بن جبير نام قبل أن يفطر، وحضر حفر الخندق فأغمي عليه. وكان قوم من الشبان ينكحون بالليل سرا في شهر رمضان، فنزلت الآية، فأحلّ النكاح بالليل والأكل بعد النوم، فذلك قوله: وَ عَفٰا عَنْكُمْ )(1).
وَ اِبْتَغُوا مٰا كَتَبَ اَللّٰهُ لَكُمْ من الولد بالمباشرة، أي: لا تباشروا لقضاء الشهوة وحدها، ولكن لابتغاء ما وضع اللّه النكاح له من التناسل، وقيل: وابتغوا ما كتب اللّه لكم من الإباحة بعد الحظر(2).
وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا حَتّٰى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اَلْخَيْطُ اَلْأَبْيَضُ مِنَ اَلْخَيْطِ اَلْأَسْوَدِ وهو أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق كالخيط الممدود.
ص: 157
مِنَ اَلْخَيْطِ اَلْأَسْوَدِ وهو ما يمتد معه من ظلمة الليل، شبّها بخيطين، وقوله: مِنَ اَلْفَجْرِ بيان للخيط الأبيض، واكتفى به عن بيان الخيط الأسود.
وَ لاٰ تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عٰاكِفُونَ أي: معتكفون في المساجد، والاعتكاف:
أن يحبس نفسه في المسجد للعبادة.
تِلْكَ الأحكام التي ذكرت حُدُودُ اَللّٰهِ أي: حرمات اللّه ومناهيه فَلاٰ تَقْرَبُوهٰا فلا تأتوها. وفي الحديث: (إ نّ لكل ملك حمى، وإنّ حمى اللّه محارمه، فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه)(1). والرتع حول الحمى والقرب منه واحد.
كَذٰلِكَ أي: مثل ذلك البيان. يُبَيِّنُ اَللّٰهُ حججه و دلّائله لِلنّٰاسِ علي ما أمرهم به ونهاهم عنه لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ معاصيه ومناهيه.
وَ لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ وَ تُدْلُوا بِهٰا إِلَى اَلْحُكّٰامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوٰالِ اَلنّٰاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
أي: لا يأكل بعضكم مال بعض بِالْبٰاطِلِ بالوجه الذي لا يحلّ ولم يشرعه اللّه.
وَ تُدْلُوا أي: ولا تدلوا بِهٰا أي: ولا تلقوا أمرها والحكومة فيها إِلَى اَلْحُكّٰامِ لِتَأْكُلُوا بالتحاكم فَرِيقاً طائفة مِنْ أَمْوٰالِ اَلنّٰاسِ بِالْإِثْمِ بشهادة الزور، أو باليمين الكاذبة، أو بالصلح مع العلم بأنّ المقضي له ظالم. وقيل: وتدلوا وتلقوا بعضها إلى حكام السوء علي وجه الرشوة(2).
ص: 158
وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنّكم علي الباطل، وارتكاب المعصية مع العلم بقبحها أقبح.
يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوٰاقِيتُ لِلنّٰاسِ وَ اَلْحَجِّ وَ لَيْسَ اَلْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهٰا وَ لٰكِنَّ اَلْبِرَّ مَنِ اِتَّقىٰ وَ أْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوٰابِهٰا وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
يَسْئَلُونَكَ عَنِ أحوال اَلْأَهِلَّةِ في زيادتها ونقصانها، ووجه الحكمة في ذلك.
قُلْ هِيَ مَوٰاقِيتُ لِلنّٰاسِ أي: معالم يوقّت بها الناس مزارعهم ومتاجرهم ومحال ديونهم وصومهم وفطرهم وعدد نسائهم وغير ذلك، ومعالم للحج يعرف بها وقته.
وَ لَيْسَ اَلْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهٰا كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا بيوتهم من أبوابها ونقبوا في ظهور بيوتهم نقبا منه يدخلون ويخرجون، فقيل لهم:
لَيْسَ اَلْبِرُّ بتحرّجكم من دخول الباب وَ لٰكِنَّ اَلْبِرَّ برّ مَنِ اِتَّقىٰ ما حرّم اللّه. [والتقدير: ولكن البرّ برّ من اتقى، أو ولكن ذا البرّ برّ](1).
وَ أْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوٰابِهٰا وقيل: معناه باشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشر عليها أي الأمور كانت.
وَ قٰاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ اَلَّذِينَ يُقٰاتِلُونَكُمْ وَ لاٰ تَعْتَدُوا إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ
ص: 159
قيل: إنّها أول آية نزلت في القتال بالمدينة(1).
والمقاتلة فِي سَبِيلِ اللّٰهِ هو الجهاد لإعزاز دين الله و إعلاء كلمته.
اَلَّذِينَ يُقٰاتِلُونَكُمْ يناجزونكم القتال دون المحاجزين، وعلي هذا فيكون منسوخا بقوله: وَ قٰاتِلُوا اَلْمُشْرِكِينَ كَافَّةً (2). ويجوز أن يريد الذين يناصبونكم القتال دون الصبيان والنساء، أو يريد الكفرة كلهم، لأنّهم جميعا يقصدون مقاتلة أهل الإسلام فهم في حكم المقاتلة فلا يكون حكم الآية منسوخا.
وَ لاٰ تَعْتَدُوا بقتال من نهيتم عن قتاله، أو بالمثلة، أو بالمفاجأة من غير دعوة.
وَ اُقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَ اَلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ اَلْقَتْلِ وَ لاٰ تُقٰاتِلُوهُمْ عِنْدَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ حَتّٰى يُقٰاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قٰاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذٰلِكَ جَزٰاءُ اَلْكٰافِرِينَ فَإِنِ اِنْتَهَوْا فَإِنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وجدتموهم وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ أي: أخرجوهم من مكة كما أخرجوكم منها، وقد فعل ذلك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يوم الفتح بمن لم يسلم منهم.
وَ اَلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ اَلْقَتْلِ أي: المحنة والبلاء الذي ينزل بالإنسان يتعذب به أشدّ عليه من القتل. جعل الإخراج من الوطن من المحن التي يتمنّى عندها الموت. وقيل: الفتنة عذاب الآخرة، كما قال: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ (3)، وقيل: الشرك
ص: 160
أعظم من القتل في الحرم(1)، وذلك أنّهم كانوا يستعظمون القتل في الحرم ويعيبون المسلمين به. وقرئ: ولا تقتلوهم... حتى يقتلوكم فيه... فإن قتلوكم. جعل وقوع القتل في بعضهم كوقوعه فيهم، قال الشاعر:
فإن تقتلونا نقتّلكم(2)
فَإِنِ اِنْتَهَوْا عن الشرك والقتل كقوله: إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مٰا قَدْ سَلَفَ (3).
وَ قٰاتِلُوهُمْ حَتّٰى لاٰ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ اَلدِّينُ لِلّٰهِ فَإِنِ اِنْتَهَوْا فَلاٰ عُدْوٰانَ إِلاّٰ عَلَى اَلظّٰالِمِينَ
حَتّٰى لاٰ تَكُونَ فِتْنَةٌ أي: شرك وَ يَكُونَ اَلدِّينُ لِلّٰهِ خالصا ليس للشيطان فيه نصيب.
فَإِنِ اِنْتَهَوْا عن الشرك فَلاٰ عُدْوٰانَ إِلاّٰ عَلَى اَلظّٰالِمِينَ أي: فلا تعتدوا علي المنتهين، لأنّ مقاتلة المنتهين عدوان وظلم، فوضع قوله: إِلاّٰ عَلَى اَلظّٰالِمِينَ موضع المنتهين.
اَلشَّهْرُ اَلْحَرٰامُ بِالشَّهْرِ اَلْحَرٰامِ وَ اَلْحُرُمٰاتُ قِصٰاصٌ فَمَنِ اِعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ مَعَ اَلْمُتَّقِينَ
[أي: قتال الشهر الحرام بالشهر الحرام، والباء للبدلية، أي: قتالكم إيّاهم في
ص: 161
الشهر الحرام بقتالهم إيّاكم في الشهر الحرام](1).
قاتلهم المشركون عام الحديبية في الشهر الحرام وهو ذوالقعدة، فقيل لهم عند خروجهم لقضاء العمرة وكراهتهم القتال وذلك في ذي القعدة: اَلشَّهْرُ اَلْحَرٰامُ بِالشَّهْرِ اَلْحَرٰامِ أي: هذا الشهر بذلك الشهر وهتكه بهتكه، يعني: تهتكون حرمته عليهم كما هتكوا حرمته عليكم.
وَ اَلْحُرُمٰاتُ قِصٰاصٌ أي: كل حرمة يجري فيها القصاص، فمن هتك حرمة اقتص منه بأن تهتك له حرمة، فحين هتكوا حرمة شهركم فافعلوا بهم مثل ذلك ولا تبالوا. ثم أكّد ذلك بقوله: فَمَنِ اِعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ ... إلى آخره.
وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ في حال كونكم منتصرين، فمن اعتدى عليكم فلا تعتدوا، [أي: فلا تجاوزوا](2) إلى مالا يحلّ لكم.
وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ لاٰ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ وَ أَحْسِنُوا إِنَّ اَللّٰهَ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ
وَ أَنْفِقُوا من أموالكم في الجهاد وأبواب البر.
وَ لاٰ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ أي: الهلاك، والباء مزيدة كما يقال للمنقاد:
أعطى بيده، بزيادة الباء. والمعنى: ولا تقبضوا التهلكة بأيديكم، أي: لا تجعلوها آخذة بأيديكم مالكة لكم. وقيل: معناه ولا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة بأيديكم بأن تتركوا الإنفاق في سبيل اللّه فيغلب عليكم العدو(3) كما يقال: فلان أهلك نفسه
ص: 162
بيده. وقيل: هو نهي عن الإسراف في النفقة(1).
وَ أَحْسِنُوا أمر بالاقتصاد إِنَّ اَللّٰهَ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ أي: المقتصدين.
وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلّٰهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ وَ لاٰ تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتّٰى يَبْلُغَ اَلْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كٰانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيٰامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذٰا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى اَلْحَجِّ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيٰامُ ثَلاٰثَةِ أَيّٰامٍ فِي اَلْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذٰا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كٰامِلَةٌ ذٰلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حٰاضِرِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ شَدِيدُ اَلْعِقٰابِ
وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ أي: ائتوا بالحج والعمرة تامّين كاملين بشرائطهما و أركانهما ومنا سكهما.
لله أي: لوجه اللّه خالصا، و أقيموهما إلى آخر ما فيهما. وظاهر الأمر يقتضي الوجوب، فدلّ الأمر بإتمامهما علي أنّ العمرة واجبة مثل الحج.
فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ أي: منعكم خوف أو عدو أو مرض عن المضي إليه وأنتم محرمون بحج أو عمرة فامتنعتم لذلك.
فما استيسر من الهدي أي: ما تيسّر من الهدي. يقال: يسر الأمر واستيسر، وصعب و استصعب ضده.
و الهدي : جمع هدية، أي: فعليكم إذا أردتم التحلّل من الإحرام ما تيسّر من الهدي من بعير أو بقرة أو شاة، أو فاهدوا ما تيسّر.
وَ لاٰ تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ الخطاب للمحصرين، أي: لا تحلّوا حَتّٰى تعلموا
ص: 163
أنّ الهدي الذي بعثتموه قد بلغ مَحِلَّهُ أي: مكانه الذي يجب نحره فيه أو ذبحه.
ومحلّه منى يوم النحر إن كان الإحرام بالحج، ومكة إن كان الإحرام بالعمرة.
هذا إذا كان محصرا بالمرض، وأما إن كان محصرا بالعدو وهو المصدود، فمحلّه الموضع الذي يصدّ فيه، لأنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم نحر هديه بالحديبية(1).
فَمَنْ كٰانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ يحتاج فيه إلى الحلق للمداواة، أو تأذى بهوام رأسه فحلق لذلك العذر.
فَفِدْيَةٌ أي: فعليه فدية، أي: بدل وجزاء يقوم مقامه مِنْ صِيٰامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ . وروي عن أئمتنا عليهم السلام: (أنّ الصيام ثلاثة أيّام، والصدقة علي ستة مساكين)(2)، وروي: عشرة(3)، و النسك شاة، وهو مخيّر فيها، ورووا ذلك أيضا عن النبي صلى الله عليه و سلم(4). والنسك مصدر، وقيل: جمع نسيكة أي: ذبيحة.
فَإِذٰا أَمِنْتُمْ الإحصار يعني: فإذا لم تحصروا وكنتم في حال أمن وسعة.
فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى اَلْحَجِّ وتمتعه بالعمرة إلي وقت الحج هو أنّه إذا أحلّ من عمرته انتفع باستباحة ما كان محرّما عليه إلى أن يحرم بالحج.
فما استيسر من الهدي هو هدي المتعة، وهو واجب بالإجماع علي خلاف
ص: 164
في أنّه نسك أو جبران، فعندنا(1) وعند أبي حنيفة أنّه نسك يأكل منه(2)، وعند الشافعي(3) هو جبران جار مجري الجنايات ولا يأكل منه(4).
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الهدي فعليه صيام ثَلاٰثَةِ أَيّٰامٍ فِي اَلْحَجِّ أي: في وقته، والأفضل أن يصوم يوما قبل التروية و التروية وعرفة وَ سَبْعَةٍ إِذٰا رَجَعْتُمْ إلى أهاليكم.
تِلْكَ عَشَرَةٌ كٰامِلَةٌ توكيد فيه وزيادة توصية بصيامها و إتمامها.
ذٰلِكَ إشارة إلى التمتع لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حٰاضِرِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ ، وحاضروا المسجد الحرام من كان بينهم وبينه اثنا عشر ميلا فما دونها من كل جانب.
وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ في المحافظة علي أوامره ونواهيه.
وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ شَدِيدُ اَلْعِقٰابِ لمن خالف أمره وتعدّى حدوده.
اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومٰاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ اَلْحَجَّ فَلاٰ رَفَثَ وَ لاٰ فُسُوقَ وَ لاٰ جِدٰالَ فِي اَلْحَجِّ وَ مٰا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اَللّٰهُ وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ اَلزّٰادِ اَلتَّقْوىٰ وَ اِتَّقُونِ يٰا أُولِي اَلْأَلْبٰابِ
أي: وقت اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومٰاتٌ كقولك: البرد شهران. والأشهر المعلومات: شوال، وذو القعدة، وعشر ذي الحجّة. وفائدة كونها أشهر الحج: أنّ
ص: 165
الإحرام بالحج أو بالعمرة التي يتمتع بها إلي الحج لا يصحّ إلا فيها.
فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ اَلْحَجَّ أي: أحرم فيهن بالحج فَلاٰ رَفَثَ أي: فلا جماع وَ لاٰ فُسُوقَ أي: ولا كذب، وقيل: لا خروج عن حدود الشريعة(1).
وَ لاٰ جِدٰالَ فِي اَلْحَجِّ و هو قول: (لا واللّه) و (بلى واللّه) عندنا(2)، وقالوا:
إنّه المراء والسباب(3).
وَ مٰا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ هذا حثّ علي أفعال الخير والبر.
وَ تَزَوَّدُوا واتقوا الاستطعام و إبرام الناس و التثقيل عليهم فَإِنَّ خَيْرَ اَلزّٰادِ اَلتَّقْوىٰ .
وَ اِتَّقُونِ وخافوا عقابي يٰا أُولِي اَلْأَلْبٰابِ فإنّ قضية اللب تقوي اللّه، ومن لم يتقه من الألباء فكأنّه لا لب له.
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذٰا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفٰاتٍ فَاذْكُرُوا اَللّٰهَ عِنْدَ اَلْمَشْعَرِ اَلْحَرٰامِ وَ اُذْكُرُوهُ كَمٰا هَدٰاكُمْ وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ اَلضّٰالِّينَ
كانوا يتحرجون عن التجارة في الحج و يسمّون من يخرج بالتجارة: الداج، فرفع عنهم الجناح في ذلك.
أَنْ تَبْتَغُوا في أن تبتغوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ أي: إعطاء منه
ص: 166
و تفضلا وهو النفع والربح في التجارة.
فَإِذٰا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفٰاتٍ أي: دفعتم بكثرة، وهو من إفاضة الماء وهو صبّه بكثرة، وأصله: أفضتم أنفسكم. و (عرفات) علم للموقف سمّي بجمع ك - (أذرعات)، وهي من الأسماء المرتجلة.
فَاذْكُرُوا اَللّٰهَ عِنْدَ اَلْمَشْعَرِ فيه دلالة علي أنّ الوقوف بالمشعر الحرام فريضة، لأنّ ظاهر الأمر علي الوجوب، وإذا أوجب اللّه تعالى الذكر فيه فقد أوجب الكون فيه. والمعنى: فإذا أفضتم من عرفات فكونوا بالمشعر الحرام واذكروا اللّه عنده.
وَ اُذْكُرُوهُ كَمٰا هَدٰاكُمْ (ما) مصدرية أو كافة، أي: اذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة، أو اذكروه كما علّمكم كيف تذكرونه.
وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ من قبل الهدي لَمِنَ اَلضّٰالِّينَ أي: الجاهلين لا تعرفون كيف تذكرونه و تعبدونه، و (إن) هي المخففة من الثقيلة.
وروي عن جابر: (أنّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم لما صلّي الفجر بالمزدلفة بغلس ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام فدعا وكبّر وهلّل، ولم يزل واقفا حتى أسفر)(1).
والمشعر: المعلم، لأنّه معلم للعبادة، ووصف بالحرام لحرمته، وسمّيت المزدلفة: جمعا، لأنّ آدم اجتمع فيها مع حواء، وازدلف منها أي: دنا منها. [وقيل:
تسمّى المزدلفة: جمعا، بفعل أهلها لأنّهم مزدلفون إلى اللّه، أي: يتقربون فيها بالوقوف](2)، وقيل: لأنّه يجمع فيها بين الصلاتين(3).
ص: 167
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفٰاضَ اَلنّٰاسُ وَ اِسْتَغْفِرُوا اَللّٰهَ إِنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَإِذٰا قَضَيْتُمْ مَنٰاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اَللّٰهَ كَذِكْرِكُمْ آبٰاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنٰا آتِنٰا فِي اَلدُّنْيٰا وَ مٰا لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ خَلاٰقٍ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنٰا آتِنٰا فِي اَلدُّنْيٰا حَسَنَةً وَ فِي اَلْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنٰا عَذٰابَ اَلنّٰارِ أُولٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمّٰا كَسَبُوا وَ اَللّٰهُ سَرِيعُ اَلْحِسٰابِ
ثم لتكن إفاضتكم مِنْ حَيْثُ أَفٰاضَ اَلنّٰاسُ ولا تكن من المزدلفة، وذلك لما كان عليه الحمس(1) من الترفّع علي الناس عن أن يساووهم في الموقف، وقولهم: نحن أهل اللّه وسكان حرمه فلا نخرج منه، فيقفون بجمع وسائر الناس بعرفات. وقيل: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس وهم الحمس، أي: من المزدلفة إلى منى بعد الإفاضة من عرفات. [وقيل في القول الاول الخطاب للحمس بأن يفعلوا مثل ما يفعله سائر الناس في الوقوف بعرفات، وفي القول الثاني الخطاب لجميع المؤمنين. وهذا أقرب إلى الصواب، لأنّ ذكر الإفاضة من عرفات ذكر في قوله: فإذا أفضتم من عرفات](2).
وَ اِسْتَغْفِرُوا اَللّٰهَ واطلبوا المغفرة من الله.
فَإِذٰا قَضَيْتُمْ مَنٰاسِكَكُمْ فإذا أدّيتم مناسككم، والمنسك: إما موضع النسك، أو مصدر جمع لأنّه يشتمل علي أفعال، أي: فإذا فرغتم من أفعال الحج فَاذْكُرُوا اَللّٰهَ كَذِكْرِكُمْ آبٰاءَكُمْ فأكثروا ذكر اللّه وبالغوا فيه كما
ص: 168
تفعلونه في ذكر آبائكم ومفاخرهم وأيّامهم. وكانوا إذا قضوا مناسكهم وقفوا بين المسجد بمنى وبين الجبل فيعدّون فضائل آبائهم ويذكرون أيّامهم.
أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً في موضع جر عطفا علي ما أضيف إليه الذكر في قوله: كَذِكْرِكُمْ كما تقول: كذكر قريش آباءهم أو قوم أشدّ منهم ذكرا، أو في موضع نصب عطفا علي آبٰاءَكُمْ بمعنى: أو أشدّ ذكرا من آبائكم علي أنّ ذِكْراً من فعل المذكور.
فَمِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَقُولُ فإنّ الناس من بين مقلّ لا يطلب بذكر اللّه إلا الدنيا ومكثر يطلب خير الدارين، فكونوا من المكثرين.
آتِنٰا فِي اَلدُّنْيٰا اجعل إيتاءنا، أي: إعطاءنا في الدنيا خاصة.
وَ مٰا لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ خَلاٰقٍ يعني: من طلب خلاق أي: نصيب، لأنّ همّه مقصور علي الدنيا.
أُولٰئِكَ الداعون بالحسنتين لَهُمْ نَصِيبٌ من جنس ما اكتسبوا من الأعمال الحسنة وهو الثواب الذي هو المنافع الحسنة، أو من أجل ما كسبوا، أو لهم نصيب مما دعوا به يعطيهم منه بحسب مصالحهم في الدنيا و استحقاقهم في الآخرة، وسمّى الدعاء كسبا لأنّه من الأعمال والأعمال موصوفة بالكسب. ويجوز أن يكون أُولٰئِكَ للفريقين جميعا.
وَ اَللّٰهُ سَرِيعُ اَلْحِسٰابِ يحاسب الخلائق علي كثرة [عددهم وكثرة](1) أعمالهم لا يشغله حساب أحد عن حساب غيره، وروي: أنّه يحاسب الخلق في قدر حلب شاة(2)، وروي: في مقدار فواق ناقة، وروي: في مقدار لمحة.
ص: 169
وَ اُذْكُرُوا اَللّٰهَ فِي أَيّٰامٍ مَعْدُودٰاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاٰ إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلاٰ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اِتَّقىٰ وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
الأيّام المعدودات: أيّام التشريق، والمعلومات: عشر ذي الحجّة، وذكر اللّه فيها التكبير في أعقاب الصلوات.
فَمَنْ تَعَجَّلَ أي: من تعجّل في النفر أو استعجل النفر من منى فِي يَوْمَيْنِ بعد يوم النحر إذا فرغ من رمي الجمار.
فلا إثم عليه في التعجيل وَ مَنْ تَأَخَّرَ حتى رمى في اليوم الثالث فَلاٰ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اِتَّقىٰ الصيد، وقيل: لمن اتقى الكبائر(1).
وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ باجتناب معاصيه وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فيجازيكم علي أعمالكم.
وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ يُشْهِدُ اَللّٰهَ عَلىٰ مٰا فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ اَلْخِصٰامِ وَ إِذٰا تَوَلّٰى سَعىٰ فِي اَلْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهٰا وَ يُهْلِكَ اَلْحَرْثَ وَ اَلنَّسْلَ وَ اَللّٰهُ لاٰ يُحِبُّ اَلْفَسٰادَ
ثم ذكر سبحانه حال المنافقين بعد ذكره أعمال المؤمنين.
وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ أي: يروقك ويعظم في قلبك.
فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا الجار يتعلّق بالقول، أي: يعجبك ما يقوله في معنى الدنيا لأنّه [يطلب به حظا من حظوظ الدنيا.
ص: 170
وَ يُشْهِدُ اَللّٰهَ عَلىٰ مٰا فِي قَلْبِهِ ](1) من محبّتك وَ هُوَ أَلَدُّ اَلْخِصٰامِ وهو شديد الجدال و المخاصمة، و إضافة ألد إلى اَلْخِصٰامِ بمعنى (في) كقولهم:
ثبت الغدر.
وَ إِذٰا تَوَلّٰى أي: ملك الأمر وصار واليا.
[سَعىٰ فِي اَلْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهٰا أي](2) فعل بظلمه وسوء سريرته ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض بإهلاك اَلْحَرْثَ وَ اَلنَّسْلَ . وقيل: يظهر الظلم حتى يمنع اللّه بشؤم ظلمه القطر فيهلك الحرث والنسل(3)، وقيل معناه:
وإذا تولى عنك وأعرض بعد إلانة المنطق(4).
وَ اَللّٰهُ لاٰ يُحِبُّ العمل ب - اَلْفَسٰادَ .
وَ إِذٰا قِيلَ لَهُ اِتَّقِ اَللّٰهَ أَخَذَتْهُ اَلْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَ لَبِئْسَ اَلْمِهٰادُ
أَخَذَتْهُ اَلْعِزَّةُ من قولك: أخذته بكذا إذا حملته عليه و ألزمته إيّاه، أي:
حملته العزّة التي فيه علي الإثم المنهي عنه و ألزمته ارتكابه.
وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اِبْتِغٰاءَ مَرْضٰاتِ اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ رَؤُفٌ بِالْعِبٰادِ
يَشْرِي نَفْسَهُ أي: يبيعها لابتغاء مَرْضٰاتِ اَللّٰهِ أي: يبذل نفسه
ص: 171
حتى يقتل. وقيل: نزلت في أمير المؤمنين عليه السلام حين بات علي فراش النبي صلى الله عليه و سلم وهرب النبي إلى الغار(1)، وقيل: نزلت في كل مجاهد في سبيل اللّه(2).
وَ اَللّٰهُ رَؤُفٌ بِالْعِبٰادِ [اي: رحيم بهم](3) حيث كلّفهم الجهاد وعرّضهم لثواب الشهداء.
يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُدْخُلُوا فِي اَلسِّلْمِ كَافَّةً وَ لاٰ تَتَّبِعُوا خُطُوٰاتِ اَلشَّيْطٰانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَتْكُمُ اَلْبَيِّنٰاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
قريء اَلسِّلْمِ بكسر السين وفتحها، قال أبو عبيدة(4): (السّلم - بالكسر - وا لإسلام واحد، والسلم: الاستسلام)(5). والمعنى: ادخلوا في الإسلام والطاعة، وروي أصحابنا: أنّه الدخول في الولاية(6).
كَافَّةً أي: جميعا لا يخرج أحد منكم يده عن طاعته، وهو من الكفّ كأنّهم كفوا أن يخرج منهم أحد باجتماعهم.
[فَإِنْ زَلَلْتُمْ عن الدخول في السلم مِنْ ](7) بَعْدِ مٰا جٰاءَتْكُمُ
ص: 172
الحجج علي أنّ ما دعيتم إليه حقّ فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ عَزِيزٌ غالب لا يعجزه الانتقام منكم حَكِيمٌ لا ينتقم إلا بحقّ .
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّٰ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اَللّٰهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ اَلْغَمٰامِ وَ اَلْمَلاٰئِكَةُ وَ قُضِيَ اَلْأَمْرُ وَ إِلَى اَللّٰهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ
إتيان اللّه: إتيان أمره وبأسه كقوله: أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ (1)، جٰاءَهُمْ بَأْسُنٰا (2)، ويجوز أن يكون المأتي به محذوفا بمعنى: أَنْ يَأْتِيَهُمُ اَللّٰهُ ببأسه للدلالة عليه بقوله: فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ عَزِيزٌ يعني: غالب وقهار.
فِي ظُلَلٍ مِنَ اَلْغَمٰامِ جمع ظلّة وهي ما أظلّك. وَ اَلْمَلاٰئِكَةُ بالرفع، وقد قرئ بالجر عطفا علي ظُلَلٍ أو اَلْغَمٰامِ .
وَ قُضِيَ اَلْأَمْرُ وأتمّ أمر إهلاكهم وفرغ منه.
وَ إِلَى اَللّٰهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ وقرئ: (ترجع) و (يرجع) [علي بناء الفاعل والمفعول](3) بالتأنيث والتذكير فيهما.
سَلْ بَنِي إِسْرٰائِيلَ كَمْ آتَيْنٰاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اَللّٰهِ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَتْهُ فَإِنَّ اَللّٰهَ شَدِيدُ اَلْعِقٰابِ
سَلْ أمر للرسول أو لكل أحد.
ص: 173
كَمْ آتَيْنٰاهُمْ [أي: أعطيناهم](1)مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ أي: دلالة معجزة علي أيدي أنبيائهم، أو آية في التوراة شاهدة علي صحة نبوة محمّد صلى الله عليه و سلم، فمنهم من آمن، ومنهم من جحد، ومنهم من أقرّ، ومنهم من بدّل.
وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اَللّٰهِ آيات الله التي هي أجلّ نعمة من اللّه، لكونها أسباب الهدى والنجاة من النار. و تبديلهم إيّاها: أنّ الله سبحانه أظهرها لتكون أسباب نجاتهم فجعلوها أسباب ضلالهم، أو حرّفوا آيات التوراة الدالة علي نعت محمّد صلى الله عليه و سلم، و كَمْ يحتمل معنى الاستفهام والخبر معا.
مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَتْهُ معناه: من بعد ما تمكّن من معرفتها، أو من بعد ما عرفها فَإِنَّ اَللّٰهَ شَدِيدُ اَلْعِقٰابِ له.
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا وَ يَسْخَرُونَ مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ وَ اَللّٰهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشٰاءُ بِغَيْرِ حِسٰابٍ
الذي زيّن لهم اَلدُّنْيٰا هو الشيطان حسّنها في أعينهم بوساوسه فلا يريدون غيرها، ويجوز أن يجعل ما خلق اللّه فيها من الأشياء المشتهيات وما ركّبه فيهم من الشهوة لها تزيينا، لأنّ التكليف لا يتم إلا مع الشهوة.
وَ يَسْخَرُونَ مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا لزهدهم فيها، أو من المؤمنين الذين لاحظّ لهم منها.
وَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ لأنّهم في عليين وهم في سجين، أو حالهم عالية لحالهم لأنّهم في كرامة وهم في هوان.
وَ اَللّٰهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشٰاءُ بِغَيْرِ حِسٰابٍ بغير تقدير، فيوسّع اللّه علي من توجب
ص: 174
الحكمة التوسعة عليه، أو يعطي أهل الجنّة مالا يأتي عليه الحساب.
كٰانَ اَلنّٰاسُ أُمَّةً وٰاحِدَةً فَبَعَثَ اَللّٰهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتٰابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّٰاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اِخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَتْهُمُ اَلْبَيِّنٰاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ اَلْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اَللّٰهُ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ
كٰانَ اَلنّٰاسُ أُمَّةً وٰاحِدَةً متفقين علي الفطرة فاختلفوا فَبَعَثَ اَللّٰهُ اَلنَّبِيِّينَ .
وحذف (فاختلفوا) لدلالة قوله: لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّٰاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ عليه، وفي قراءة عبد اللّه: كان الناس أمّة واحدة فاختلفوا فبعث اللّه. وقيل: إنّ معناه: كان الناس أمّة واحدة كفارا فبعث اللّه النبيين فاختلفوا عليهم(1). والأول أوجه [لأنّ الأمم كلهم اختلفوا في أنبيائهم فمنهم من صدّقهم ومنهم من كذّبهم](2).
وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتٰابَ يريد به الجنس، أو أنزل مع كل واحد منهم كتابه.
لِيَحْكُمَ اللّه أو الكتاب أو النبي المنزل عليه بَيْنَ اَلنّٰاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ في الحقّ والدين الذي اختلفوا فيه بعد الاتفاق.
وَ مَا اِخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ أوتوا الكتاب المنزل لإزالة الخلاف، يعني:
إنّهم جعلوا نزول الكتاب الذي أنزل لإزالة الاختلاف سببا في شدة الاختلاف.
بَغْياً حسدا و ظلما بينهم لحرصهم علي الدنيا.
فَهَدَى اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ اَلْحَقِّ ، (من) للتبيين، أي:
ص: 175
فهداهم للحقّ الذي اختلف فيه من اختلف.
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ وَ لَمّٰا يَأْتِكُمْ مَثَلُ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ اَلْبَأْسٰاءُ وَ اَلضَّرّٰاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتّٰى يَقُولَ اَلرَّسُولُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتىٰ نَصْرُ اَللّٰهِ أَلاٰ إِنَّ نَصْرَ اَللّٰهِ قَرِيبٌ
أَمْ منقطعة معناها: بل أحسبتم، والهمزة فيها للتقرير واستبعاد الحسبان.
لما ذكر ما كانت عليه الأمم من الاختلاف علي النبيين بعد مجيء البيّنات تشجيعا لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والمؤمنين علي الصبر مع الذين اختلفوا عليه من المشركين واليهود وعداوتهم له، قال لهم علي طريقة الالتفات: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ وَ لَمّٰا يَأْتِكُمْ .
لَمّٰا للتوقّع وهي في النفي نظير (قد) في الإثبات، والمعنى: إ نّ إتيان ذلك متوقع منتظر.
مَثَلُ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ أي: حالهم التي هي مثل في الشدة.
و مَسَّتْهُمُ بيان للمثل وهو استئناف، كأن قائلا قال: كيف كان ذلك المثل ؟ فقيل: مَسَّتْهُمُ اَلْبَأْسٰاءُ وَ اَلضَّرّٰاءُ من القتل والخروج عن الأهل والمال.
وَ زُلْزِلُوا وأزعجوا إزعاجا شديدا شبيها بالزلزلة بما أصابهم من الأهوال.
حَتّٰى يَقُولَ اَلرَّسُولُ إلى الغاية التي قال الرسول ومن مَعَهُ وَ فيها: مَتىٰ نَصْرُ اَللّٰهِ طلبوا النصرة وتمنّوه واستطالوا زمان الشدة. وفيه دليل علي تناهي الأمر في الشدة، لأنّ الرسل إذا لم يبق لهم صبر حتى ضجّوا كان البلاء في غاية الشدة.
أَلاٰ إِنَّ نَصْرَ اَللّٰهِ قَرِيبٌ علي إرادة القول، أي: فقيل لهم ذلك إجابة لهم
ص: 176
إلى طلبتهم من عاجل النصر. وقرئ: حَتّٰى يَقُولَ اَلرَّسُولُ بالنصب علي إضمار (أن) ومعنى الاستقبال، لأنّ (أن) علم له، وبالرفع علي معنى الحال إلا أنّها حال ماضية محكية.
يَسْئَلُونَكَ مٰا ذٰا يُنْفِقُونَ قُلْ مٰا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوٰالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ وَ اَلْيَتٰامىٰ وَ اَلْمَسٰاكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ وَ مٰا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اَللّٰهَ بِهِ عَلِيمٌ
مٰا ذٰا يُنْفِقُونَ أي شيء ينفقون ؟.
والسؤال عن الإنفاق يتضمن السؤال عن مصرف النفقة، لأنّ النفقة لا يعتدّ بها إلا إذا وقع موقعها، ولذلك جاء الجواب ببيان مصارف النفقة. مٰا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ أي: مال فَلِلْوٰالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ .
كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِتٰالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَ عَسىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اَللّٰهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ
وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ من الكراهة بدليل قوله: وَ عَسىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً ثم إنّه يجوز أن يكون بمعنى الكراهة علي وضع المصدر موضع الوصف كقول الخنساء:
فإنّما هي إقبال وإدبار(1)
كأنّه في نفسه كراهة لفرط كراهتهم له، ويجوز أن يكون فعلا بمعنى مفعول كالخبز بمعنى المخبوز، أي: وهو مكروه لكم، وقد يكون الشيء مكروها في طبع الإنسان و إن كان يريده لأنّ اللّه تعالى أمره بذلك.
ص: 177
وَ عَسىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً في الحال وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ في العاقبة، كما تكرهون القتال لما فيه من المخاطرة بالروح، وهو خير لكم لأنّ فيه إحدي الحسنيين: إما الظفر و الغنيمة وإما الشهادة والجنّة.
وَ اَللّٰهُ يَعْلَمُ ما يصلحكم وما هو خير لكم وَ أَنْتُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ ذلك.
يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلشَّهْرِ اَلْحَرٰامِ قِتٰالٍ فِيهِ قُلْ قِتٰالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ كُفْرٌ بِهِ وَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ وَ إِخْرٰاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اَللّٰهِ وَ اَلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ اَلْقَتْلِ وَ لاٰ يَزٰالُونَ يُقٰاتِلُونَكُمْ حَتّٰى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اِسْتَطٰاعُوا وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كٰافِرٌ فَأُولٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمٰالُهُمْ فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ
بعث رسول اللّه صلى الله عليه و سلم عبد اللّه بن جحش(1) علي سرية في جمادي الآخرة قبل قتال بدر بشهرين، ليترصد عيرا لقريش فيها عمرو بن عبد اللّه الحضرمي، فقتلوه واستاقوا العير وفيها من تجارة الطائف، وكان ذلك أول يوم من رجب وهم يظنونه من جمادي الآخرة، فقالت قريش: قد استحلّ محمّد الشهر الحرام، فنزلت(2).
أي: يسألك الكفار أو المسلمون عن القتال في الشهر الحرام، و قتال فيه بدل الاشتمال من الشهر الحرام.
ص: 178
قُلْ قِتٰالٌ فِيهِ كَبِيرٌ أي: إثم كبير، وجاز الابتداء بالنكرة لأنّه تخصص بقوله: فيه .
وَ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ [أي منع وهو](1) مبتدأ و أكبر خبره، والمعنى:
و كبائر قريش: من صدّهم عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ وعن اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ وكفرهم باللّه وَ إِخْرٰاجُ أهل المسجد الحرام مِنْهُ وهم رسول اللّه و المؤمنون أَكْبَرُ عِنْدَ اَللّٰهِ مما فعلته السريّة من القتال في الشهر الحرام علي سبيل الخطأ و البناء علي الظن.
وَ اَلْفِتْنَةُ الإخراج أو الشرك.
وَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرٰامِ عطف علي سَبِيلِ اَللّٰهِ [لا علي الضمير المجرور في به](2).
وَ لاٰ يَزٰالُونَ يُقٰاتِلُونَكُمْ إخبار عن دوام عداوة الكفار للمسلمين، و حَتّٰى معناه: التعليل، أي: يُقٰاتِلُونَكُمْ كي يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ .
و إِنِ اِسْتَطٰاعُوا استبعاد لاستطاعتهم.
[وَ مَنْ يَرْتَدِدْ أي:](3) يرجع عَنْ دِينِهِ إلى دينهم فَيَمُتْ علي الردة فَأُولٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمٰالُهُمْ فِي اَلدُّنْيٰا لما يفوتهم فيها من ثمرات الإسلام وفي اَلْآخِرَةِ لما يفوتهم من الثواب.
إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هٰاجَرُوا وَ جٰاهَدُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ أُولٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
ص: 179
نزلت في قصة عبد اللّه بن جحش وأصحابه وقتلهم الحضرمي في رجب بأنّ ظن قوم أنّهم إن سلموا من الإثم فليس لهم أجر فنزلت.
أُولٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اَللّٰهِ وهي النصرة و الغنيمة في الدنيا، و المثوبة في العقبى، وعن قتادة: (هؤلاء خيار هذه الأمّة، ثم جعلهم اللّه أهل رجاء كما تسمعون، وأنّه من رجا طلب، ومن خاف هرب)(1).
يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمٰا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنٰافِعُ لِلنّٰاسِ وَ إِثْمُهُمٰا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمٰا وَ يَسْئَلُونَكَ مٰا ذٰا يُنْفِقُونَ قُلِ اَلْعَفْوَ كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ اَللّٰهُ لَكُمُ اَلْآيٰاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْيَتٰامىٰ قُلْ إِصْلاٰحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَ إِنْ تُخٰالِطُوهُمْ فَإِخْوٰانُكُمْ وَ اَللّٰهُ يَعْلَمُ اَلْمُفْسِدَ مِنَ اَلْمُصْلِحِ وَ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اَللّٰهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
إِثْمٌ كَبِيرٌ من قرأ بالباء فلأنّهم استعملوا في الذنب إذا كان موبقا الكبير كقوله: كَبٰائِرَ اَلْإِثْمِ (2)، و كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ (3). وقالوا في غير الموبق: صغير وصغيرة، ولم يقولوا: قليل، ومقابل الكثير القليل، ومن قرأ بالثاء فللآية في المائدة:
إِنَّمٰا يُرِيدُ اَلشَّيْطٰانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ اَلْعَدٰاوَةَ وَ اَلْبَغْضٰاءَ ... الآية(4)، وللخبر: (لعن رسول اللّه صلى الله عليه و سلم في الخمر عشرة...)(5).
ص: 180
والخمر كل شراب مسكر مغط للعقل والتمييز، وكأنّها سمّيت بالمصدر من خمره خمرا: إذا ستره للمبالغة.
والميسر مصدر من يسر كالموعد والمرجع من فعلهما، واشتقاقه من اليسر، كأنّه أخذ مال بيسر من غير كدّ أو من اليسار لأنّه سلب يساره. و عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم:
(إياكم وهاتين الكعبتين المشؤومتين فإنّهما من ميسر العجم)(1). وعن علي عليه السلام:
(إنّ النرد والشطرنج من الميسر)(2).
وَ إِثْمُهُمٰا أي: وعقاب الإثم في تعاطيهما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمٰا وهو الالتذاذ بشرب الخمر والقمار والطرب فيهما، والتوصل بهما إلي مصادقة الفتيان ومعاشرتهم والنيل من أعطيتهم.
يَسْئَلُونَكَ مٰا ذٰا يُنْفِقُونَ أي شيء ينفقون ؟ والسائل عمرو بن الجموح(3).
قُلِ اَلْعَفْوَ العفو نقيض الجهد، وهو أن ينفق ما لا يبلغ إنفاقه منه الجهد واستفراغ الوسع، قال:
خذي العفو منّي تستديمي مودّتي(4)
وقرئ بالنصب والرفع.
فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ يتعلّق ب - تَتَفَكَّرُونَ أي: لعلكم تتفكرون في الدارين وما يتعلّق بهما، فتأخذون بما هو أصلح لكم كما بيّنت لكم أنّ العفو أصلح
ص: 181
من الجهد في النفقة. أو تتفكرون في الدارين فتؤثرون أبقاهما و أكثرهما منافع، أو يتعلّق ب - يُبَيِّنُ على معنى: يبيّن لكم الآيات في أمور الدارين لعلكم تتفكرون.
ولما نزل إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ اَلْيَتٰامىٰ ظُلْماً... الآية(1) اعتزلوا اليتامى وتركوا مخالطتهم و الاهتمام بأمورهم، فشقّ ذلك عليهم، فقيل: إِصْلاٰحٌ لَهُمْ خَيْرٌ أي: مداخلتهم على وجه الإصلاح لهم و لأموالهم خير من مجانبتهم.
وَ إِنْ تُخٰالِطُوهُمْ و تعاشروهم فهم إخوانكم في الدين، ومن حقّ الأخ أن يخالط أخاه.
وَ اَللّٰهُ يَعْلَمُ اَلْمُفْسِدَ مِنَ اَلْمُصْلِحِ أي: لا يخفى علي اللّه من داخلهم بإصلاح وإفساد فيجازيه علي حسب مداخلته.
وَ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ لَأَعْنَتَكُمْ لحملكم علي العنت وهو المشقة، وضيّق عليكم في أمر اليتامى و مخالطتهم.
إِنَّ اَللّٰهَ عَزِيزٌ غالب قادر علي ما يشاء حَكِيمٌ يفعل ما توجبه الحكمة.
وَ لاٰ تَنْكِحُوا اَلْمُشْرِكٰاتِ حَتّٰى يُؤْمِنَّ وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَ لاٰ تُنْكِحُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَتّٰى يُؤْمِنُوا وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى اَلنّٰارِ وَ اَللّٰهُ يَدْعُوا إِلَى اَلْجَنَّةِ وَ اَلْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَ يُبَيِّنُ آيٰاتِهِ لِلنّٰاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
أي: لا تتزوجوا النساء الكافرات حتى يؤمن .
وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ أي: مملوكة مؤمنة خير من حرة مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ
ص: 182
أَعْجَبَتْكُمْ أي: ولو كان الحال أنّ المشركة تعجبكم بجمالها أو مالها و تحبّونها فإنّ المؤمنة خير منها.
وَ لاٰ تُنْكِحُوا اَلْمُشْرِكِينَ النساء المسلمات حَتّٰى يُؤْمِنُوا وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ حرّ مُشْرِكٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ جماله أو ماله أو حاله.
أُولٰئِكَ إشارة إلى المشركين والمشركات.
يَدْعُونَ إِلَى اَلنّٰارِ أي: يدعون إلى الكفر فحقّهم أن لا يوالوا ولا يصاهروا.
وَ اَللّٰهُ يَدْعُوا إِلَى اَلْجَنَّةِ أي: إلى فعل ما يوجب الجنّة وَ اَلْمَغْفِرَةِ من الإيمان والطاعة.
بِإِذْنِهِ أي: بأمره وتوفيقه للعمل الذي يوصل إلي الجنّة.
وَ يُبَيِّنُ آيٰاتِهِ أي: أوامره ونواهيه لِلنّٰاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي:
يتعظون.
وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا اَلنِّسٰاءَ فِي اَلْمَحِيضِ وَ لاٰ تَقْرَبُوهُنَّ حَتّٰى يَطْهُرْنَ فَإِذٰا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اَللّٰهُ إِنَّ اَللّٰهَ يُحِبُّ اَلتَّوّٰابِينَ وَ يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ
المحيض مصدر حاضت تحيض، نحو: جاء مجيئا وبات مبيتا.
قُلْ هُوَ أَذىً أي: الحيض شيء يستقذر ويؤذي من يقربه نفرة منه.
فَاعْتَزِلُوا اَلنِّسٰاءَ فاجتنبوا مجامعة النساء فِي وقت المحيض ، وَ لاٰ تَقْرَبُوهُنَّ بالجماع حَتّٰى يَطْهُرْنَ أي: ينقطع الدم عنهن. ومن قرأ: حتى يطّهرن فإنّما هو يتطهرن أي: يغتسلن.
ص: 183
فَإِذٰا تَطَهَّرْنَ أي: اغتسلن، وقيل: توضأن(1)، أو غسلن الفرج بعد انقطاع دم الحيض.
فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اَللّٰهُ أي: من الجهة التي يحلّ أن يؤتين منها، ولا تقربوهن من حيث لا يحلّ بأن يكنّ محرمات أو معتكفات أو صائمات، ولو أراد الفرج لقال: في حيث.
إِنَّ اَللّٰهَ يُحِبُّ اَلتَّوّٰابِينَ من الذنوب وَ يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ بالماء.
نِسٰاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّٰى شِئْتُمْ وَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاٰقُوهُ وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ
نِسٰاؤُكُمْ ذوات حَرْثٌ لَكُمْ منهن تحرثون الولد و اللذّة.
فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أي: نساءكم أَنّٰى شِئْتُمْ من أين شئتم وكيف شئتم، كما تأتون أراضيكم التي تحرثونها من أي جهة شئتم.
وَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ ما يجب تقديمه من الأعمال الصالحة، وقيل: هو التسمية عند الوطء(2)، وقيل: هو طلب الولد(3).
وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ ولا تجترئوا علي المناهي.
وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاٰقُوهُ أي: ملاقو جزائه فتزوّدوا ما لا تفتضحون به.
وَ لاٰ تَجْعَلُوا اَللّٰهَ عُرْضَةً لِأَيْمٰانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا
ص: 184
وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ اَلنّٰاسِ وَ اَللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
العرضة: فعلة بمعنى مفعول كالغرفة و القبضة، وهي اسم ما تعرضه دون الشيء، من عرض العود علي الإناء فيعترض دونه ويصير حاجزا ومانعا منه، تقول: فلان عرضة دون الخير، والعرضة - أيضا -: المعرض للأمر، قال:
فلا تجعلوني عرضة للّوائم(1)
ومعنى الآية علي الأولي: أنّ الرجل كان يحلف علي بعض الخيرات من صلة الرحم أو غيرها، ثم يقول: أخاف أن أحنث في يميني، فيترك البرّ إرادة أن يبرّ في يمينه، فقيل لهم: لاٰ تَجْعَلُوا اَللّٰهَ عُرْضَةً لِأَيْمٰانِكُمْ أي: حاجزا لما حلفتم عليه. وسمّي المحلوف عليه يمينا لتلبّسه باليمين كما جاء في الخبر: (إذا حلفت علي يمين)(2) أي: علي شيء مما يحلف عليه.
وقوله: أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا عطف بيان لِأَيْمٰانِكُمْ أي:
للأمور المحلوف عليها التي هي البرّ والتقوي والإصلاح بين الناس.
وتعلّقت اللام في قوله: لِأَيْمٰانِكُمْ بالفعل، أي: [ولا تجعلوا اللّه لأيمانكم برزخا وحاجزا، ويجوز أن يتعلّق ب - عُرْضَةً لأنّ فيها معنى الاعتراض](3) أي: لا تجعلوه شيئا يعترض البرّ، من اعترضني كذا. ويجوز أن يكون اللام للتعليل، و يتعلّق أَنْ تَبَرُّوا بالفعل أو بالعرضة، أي: ولا تجعلوا اللّه لأجل أيمانكم به عرضة لأن تبرّوا.
ص: 185
ومعنى الآية علي الأخري: ولا تجعلوا اللّه معرضا لأيمانكم فتبتذلوه بكثرة الحلف به، و أَنْ تَبَرُّوا علة للنهي، أي: إرادة أن تبرّوا وتتقوا، لأنّ الحلاف مجترئ علي اللّه فلا يكون برّا متقيا، ولا يثق به الناس فلا يدخلونه في إصلاح ذات بينهم.
لاٰ يُؤٰاخِذُكُمُ اَللّٰهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمٰانِكُمْ وَ لٰكِنْ يُؤٰاخِذُكُمْ بِمٰا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَ اَللّٰهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ
اللغو: الساقط الذي لا يعتدّ به من كلام وغيره، واللغو من اليمين: الساقط الذي لا يعتدّ به في الأيمان، وهو ما يجري علي عادة اللسان من قول: الا واللّه) و (بلى واللّه) من غير عقد علي يمين يقتطع بها مال أو يظلم بها أحد.
والمعنى: لا يؤاخذكم بلغو اليمين الذي لا قصد معه ولا يلزمكم به الكفارة وَ لٰكِنْ يُؤٰاخِذُكُمْ بِمٰا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ من الأيمان وهو ما عزمتموه كقوله سبحانه:
بِمٰا عَقَّدْتُمُ اَلْأَيْمٰانَ (1) ، لأنّ كسب القلب هو العقد والنية، أي: بما نوت قلوبكم وقصدته من الأيمان.
وَ اَللّٰهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ حيث لم يؤاخذكم بلغو الأيمان.
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسٰائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فٰاؤُ فَإِنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَ إِنْ عَزَمُوا اَلطَّلاٰقَ فَإِنَّ اَللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ [أي: يحلفون](2)مِنْ نِسٰائِهِمْ عدّي (آلى) الذي هو بمعنى حلف ب - مِنْ لأنّ هذا الحلف قد ضمّن معنى البعد، فكأنّه قيل: يبعدون من
ص: 186
نسائهم مؤلين أي حالفين. ويجوز أن يكون المراد: لهم من نسائهم تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كقولهم: لي منك كذا.
والإيلاء من المرأة أن يقول الرجل: واللّه إنّي لا أقربك، ثم أقام على يمينه.
و الحكم في ذلك: أنّ المرأة إذا استعدت عليه إلى الحاكم، أنظره الحاكم بعد الرفع إليه أربعة أشهر، ويقول له بعد مضي الأشهر الأربعة إذا لم يراجع زوجته: فيء أو طلّق.
فَإِنْ فٰاؤُ أي: رجعوا بأن يكفّروا عن اليمين، ويجامعوا عند القدرة عليه، أو يراجعوا بالقول عند العجز عن الجماع فَإِنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لا يتبعه بعقوبة.
وَ إِنْ عَزَمُوا اَلطَّلاٰقَ و تلفّظوا به فَإِنَّ اَللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يسمع قوله ويعلم ضميره.
وَ اَلْمُطَلَّقٰاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاٰثَةَ قُرُوءٍ وَ لاٰ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مٰا خَلَقَ اَللّٰهُ فِي أَرْحٰامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذٰلِكَ إِنْ أَرٰادُوا إِصْلاٰحاً وَ لَهُنَّ مِثْلُ اَلَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ لِلرِّجٰالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَ اَللّٰهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
وَ اَلْمُطَلَّقٰاتُ يعني: المدخول بهن من ذوات الحيض غير الحوامل، لأنّ في الآية بيان عدتهن. واللفظ مطلق في تناول الجنس، صالح لكله وبعضه، فجاء في أحد ما يصلح له كاللفظ المشترك.
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ خبر في معنى الأمر، والمراد: و ليتربّص المطلقات.
وإخراج الأمر في صورة الخبر تأكيد للأمر وإشعار بأنّه مما يجب أن يتلقى بالامتثال، فكأنّهن امتثلن الأمر بالتربّص فهو يخبر عنه موجودا، ونحوه قولهم في الدعاء:
ص: 187
(رحمك اللّه).
ومعنى يَتَرَبَّصْنَ : ينتظرن بِأَنْفُسِهِنَّ انقضاء ثَلاٰثَةَ قُرُوءٍ فلا يتزوجن. والمراد بالقروء: الأطهار عندنا(1) وعند الشافعي(2)، وذهب أبو حنيفة إلى أنّها ثلاث حيض(3). وهي جمع (قرء) أو (قرء). و انتصب ثَلاٰثَةَ قُرُوءٍ علي أنّه مفعول به، أي: يتربّصن مضي ثلاثة قروء، أو علي أنّه ظرف أي: مدة ثلاثة قروء.
وَ لاٰ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مٰا خَلَقَ اَللّٰهُ فِي أَرْحٰامِهِنَّ من الولد أو من دم الحيض، وذلك إذا أرادت المرأة فراق زوجها فكتمت حملها لئلا ينتظر بطلاقها أن تضع ولئلا يشفق علي الولد فيترك طلاقها، أو كتمت حيضها وقالت - وهي حائض -:
قد طهرت استعجالا للطلاق.
إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ تعظيم لفعلهن، وأنّ من آمن باللّه لا يجترئ علي مثله من العظائم.
وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذٰلِكَ أي: أزواجهن أولي بمراجعتهن، وهي ردّهن إلى الحالة الأولى في ذلك الأجل الذي قدّر لهن في مدة العدّة.
إِنْ أَرٰادُوا بالرجعة إِصْلاٰحاً لما بينهم وبينهن ولم يريدوا مضارّتهن.
وَ لَهُنَّ مِثْلُ اَلَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ويجب لهنّ من الحقّ علي الرجال مثل الذي يجب لهم عليهن.
بِالْمَعْرُوفِ بالوجه الذي لا ينكر في الشرع وعادات الناس، فلا يكلفنهم ما ليس لهن و لا يكلفونهن ما ليس لهم.
ص: 188
وَ لِلرِّجٰالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ أي: زيادة في الحقّ و فضيلة بقيامهم عليهن.
اَلطَّلاٰقُ مَرَّتٰانِ فَإِمْسٰاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسٰانٍ وَ لاٰ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّٰا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاّٰ أَنْ يَخٰافٰا أَلاّٰ يُقِيمٰا حُدُودَ اَللّٰهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّٰ يُقِيمٰا حُدُودَ اَللّٰهِ فَلاٰ جُنٰاحَ عَلَيْهِمٰا فِيمَا اِفْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اَللّٰهِ فَلاٰ تَعْتَدُوهٰا وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اَللّٰهِ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلظّٰالِمُونَ
اَلطَّلاٰقُ بمعنى التطليق كالسلام والكلام بمعنى التسليم و التكليم، أي: التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة علي التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدة، ولم يرد بالمرتين التثنية ولكن التكرير، كقوله تعالى: ثُمَّ اِرْجِعِ اَلْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ (1) أي: كرّة بعد كرّة.
فَإِمْسٰاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسٰانٍ هذا تخيير لهم بعد أن علّمهم كيف يطلّقون، بين أن يمسكوا النساء مع حسن العشرة والقيام بحقوقهن، وبين أن يسرّحوهن سراحا جميلا. وقيل: معناه: الطلاق الرجعي مرتان، لأنّه لا رجعة بعد الثلاث(2) فإمساك برجعة أو تسريح بإحسان بأن لا يراجعها حتى تبين بالعدّة.
وقيل: بأن يطلّقها الثالثة(3)، وروي: أنّ سائلا سأل رسول اللّه صلى الله عليه و سلم: أين الثالثة ؟ فقال صلى الله عليه و سلم: (أو تسريح بإحسان)(4).
وَ لاٰ يَحِلُّ لَكُمْ خطاب للأزواج.
ص: 189
أَنْ تَأْخُذُوا مِمّٰا آتَيْتُمُوهُنَّ من المهر شَيْئاً إِلاّٰ أَنْ يخاف الزوجان ترك إقامة حدود الله فيما يلزمهما من مواجب الزوجية لما يحدث من نشوز المرأة وسوء خلقها.
فَلاٰ جُنٰاحَ عَلَيْهِمٰا فلا جناح علي الرجل فيما أخذ، وعلي المرأة فِيمَا اِفْتَدَتْ بِهِ أي: فدت به نفسها واختلعت به، من بذل ما أوتيت من المهر، أو الزيادة علي المهر إن كان النشوز والبغض منها وحدها، وإن كان منهما فدون المهر. وقرئ:
أن يخافا على البناء للمفعول، وإبدال أن لا يقيما من ألف الضمير في يخافا، وهو من بدل الاشتمال، كقولك: خيف زيد تركه إقامة حدود اللّه، ونحوه: وَ أَسَرُّوا اَلنَّجْوَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا (1).
فَإِنْ طَلَّقَهٰا فَلاٰ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّٰى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهٰا فَلاٰ جُنٰاحَ عَلَيْهِمٰا أَنْ يَتَرٰاجَعٰا إِنْ ظَنّٰا أَنْ يُقِيمٰا حُدُودَ اَللّٰهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اَللّٰهِ يُبَيِّنُهٰا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
فإن طلقها الطلاق المذكور الموصوف با لتكرار في قوله: اَلطَّلاٰقُ مَرَّتٰانِ فَإِمْسٰاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسٰانٍ ، أو فإن طلّقها مرة ثالثة بعد المرتين فَلاٰ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ أي: من بعد ذلك التطليق حَتّٰى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ حتى تتزوج غيره. والنكاح يسند إلى المرأة كما يسند إلى الرجل كالتزويج.
فإن طلقها الزوج الثاني فَلاٰ جُنٰاحَ عَلَيْهِمٰا أَنْ يَتَرٰاجَعٰا أن يرجع كل واحد منهما إلي صاحبه بالمزاوجة.
إِنْ ظَنّٰا إن كان في ظنهما أنّهما يقيمان حقوق الزوجية. ولم يقل: إن علما،
ص: 190
لأنّ اليقين مغيّب عنهما لا يعلمه إلا اللّه. ومن فسّر الظن هنا بالعلم فقد وهم لفظا ومعنى، لأنّك لا تقول: علمت أن يقوم زيد، ولكن ظننت أنّه يقوم، ولأنّ الإنسان لا يعلم ما في الغد وإنّما يظن ظنا.
وَ إِذٰا طَلَّقْتُمُ اَلنِّسٰاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ لاٰ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرٰاراً لِتَعْتَدُوا وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَ لاٰ تَتَّخِذُوا آيٰاتِ اَللّٰهِ هُزُواً وَ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ وَ مٰا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ اَلْكِتٰابِ وَ اَلْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ
فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي: آخر عدّتهن وقاربن انقضاءها، والأجل يقع علي المدة كلها وعلي آخرها، يقال لعمر الإنسان: أجل، وللموت الذي ينتهي به: أجل.
فَأَمْسِكُوهُنَّ أي: راجعوهن قبل انقضاء العدّة.
بمعروف بما يجب لها من القيام بواجبها من غير طلب ضرار بالمراجعة.
أَوْ سَرِّحُوهُنَّ أو اتركوهن حتى تنقضي عدّتهن فيكنّ أملك بأنفسهن.
وَ لاٰ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرٰاراً لا لرغبة فيهن بل لطلب الإضرار بهن بتطويل العدّة عليهن.
لِتَعْتَدُوا أي: لتظلموهن وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بتعريضها لعذاب اللّه.
وَ لاٰ تَتَّخِذُوا آيٰاتِ اَللّٰهِ هُزُواً أي: لا تستخفوا بأوامره ونواهيه.
وَ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ فيما أباحه لكم من الأزواج و الأموال وَ مٰا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ من القرآن والعلوم التي بيّنها لكم.
ص: 191
يَعِظُكُمْ بِهِ أي: بما أنزل عليكم لتتعظوا.
وذكر النعمة مقابلتها بالشكر.
وَ إِذٰا طَلَّقْتُمُ اَلنِّسٰاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاٰ تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوٰاجَهُنَّ إِذٰا تَرٰاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذٰلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كٰانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ ذٰلِكُمْ أَزْكىٰ لَكُمْ وَ أَطْهَرُ وَ اَللّٰهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ
فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي: انقضت عدّتهن.
فَلاٰ تَعْضُلُوهُنَّ أي: لا تمنعوهن ظلما عن التزوج. وهذا إما أن يكون خطابا للأزواج الذين يعضلون نساءهم بعد انقضاء العدة ظلما لا يتركونهن يتزوّجن من شئن من الأزواج، وإما أن يكون خطابا للأولياء في عضلهن أن يرجعن إلى أزواجهن. والعضل: الحبس والتضييق.
إِذٰا تَرٰاضَوْا إذا تراضى الخطّاب والنساء بِالْمَعْرُوفِ بما يحسن في الدين والمروءة من الشرائط.
ذلك الذي سبق من الأمر والنهي يُوعَظُ بِهِ .
ذٰلِكُمْ أَزْكىٰ لَكُمْ أي: خير لكم وأفضل وَ أَطْهَرُ من أدناس الآثام.
وَ اَللّٰهُ يَعْلَمُ ما في ذلك من الزكاء والطهر، أو يعلم ما تستصلحون به من الأحكام والشرائع وَ أَنْتُمْ لا تعلمونه.
وَ اَلْوٰالِدٰاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاٰدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كٰامِلَيْنِ لِمَنْ أَرٰادَ أَنْ يُتِمَّ
ص: 192
اَلرَّضٰاعَةَ وَ عَلَى اَلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاٰ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاّٰ وُسْعَهٰا لاٰ تُضٰارَّ وٰالِدَةٌ بِوَلَدِهٰا وَ لاٰ مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَ عَلَى اَلْوٰارِثِ مِثْلُ ذٰلِكَ فَإِنْ أَرٰادٰا فِصٰالاً عَنْ تَرٰاضٍ مِنْهُمٰا وَ تَشٰاوُرٍ فَلاٰ جُنٰاحَ عَلَيْهِمٰا وَ إِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلاٰدَكُمْ فَلاٰ جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ إِذٰا سَلَّمْتُمْ مٰا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
يُرْضِعْنَ مثل (تربّصن) في أنّه خبر في معنى الأمر المؤكد، أي: و لترضع الأمهات أَوْلاٰدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كٰامِلَيْنِ تامين أربعة وعشرين شهرا، وإنّما أكّد لرفع الإبهام لأنّه يتسامح فيه، يقول الرجل: أقمت عند فلان حولين ولم يستكملهما.
وقوله: لِمَنْ أَرٰادَ أَنْ يُتِمَّ اَلرَّضٰاعَةَ بيان لمن توجه إليه الحكم، أي: هذا الحكم لمن أراد إتمام الرضاع، أي: ليس ذلك بوقت لا ينقص منه بعد أن لا يكون في الفطام ضرر. وقيل: إنّ اللام يتعلّق ب - يُرْضِعْنَ كما تقول: أرضعت فلانة لفلان ولده، أي: يرضعن حولين لمن أراد أن يتم الرضاعة من الآباء، لأنّ الأب يجب عليه إرضاع الولد دون الأم [لقوله تعالى: وَ إِنْ تَعٰاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرىٰ (1)](2)، وعليه أن يتخذ له ظئرا، إلا إذا تطوّعت الأم بإرضاعه، وهي مندوبة إلى الإرضاع ولا تجبر على ذلك.
وا لأمر للوالدات با لإرضاع أمر علي الندب، وقيل: أراد بالوالدات المطلّقات و إيجاب النفقة والكسوة لأجل الرضاع(3).
ص: 193
وَ عَلَى اَلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ أي: وعلي الذي ولد له وهو الوالد - و له في محلّ الرفع علي الفاعلية - أن يرزقهن ويكسوهن إذا أرضعن ولده.
بالمعروف تفسيره ما يتبعه، وهو أن لا يكلف واحد منهما ما ليس في وسعه ولا يتضارا. وقرئ: لا تضار بالرفع علي الإخبار، ويحتمل أن يكون الأصل لا تضارر، ولا تضارر - بكسر الراء وفتحها - و (لا تضار) بالفتح على النهي.
والمعنى: لا تضار وٰالِدَةٌ زوجها بسبب ولدها بأن تطلب منه ما ليس بعدل من النفقة والكسوة، وأن تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد وَ لاٰ يضار مولود له امرأته بسبب ولده بأن يمنعها شيئا مما وجب عليه، أو يأخذه منها وهي تطلب إرضاعه.
وكذلك إذا كان مبنيا للمفعول فهو نهي عن أن يلحق بها الضرار من قبل الزوج، وعن أن يلحق الضرار بالزوج من قبلها بسبب الولد.
وَ عَلَى اَلْوٰارِثِ مِثْلُ ذٰلِكَ عطف على قوله: وَ عَلَى اَلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ ، وما بينهما تفسير للمعروف معترض بين المعطوف والمعطوف عليه. والمعنى: وعلى وارث المولود له بعد موته مثل ما وجب عليه من الرزق والكسوة بالمعروف.
فَإِنْ أَرٰادٰا فِصٰالاً صادرا عَنْ تَرٰاضٍ مِنْهُمٰا وَ تَشٰاوُرٍ فَلاٰ جُنٰاحَ عَلَيْهِمٰا في ذلك، زادا علي الحولين أو نقصا، وهذه توسعة بعد التحديد.
وَ إِنْ أَرَدْتُمْ خطاب للآباء.
أَنْ تَسْتَرْضِعُوا المراضع أَوْلاٰدَكُمْ [أي: وإن أردتم أن تتخذوا ظئرا ليرضع أولادكم إذا لم ترضع الأولاد الأمهات لعلة أو مرض أو لقلة اللبن أو للحمل أو لإرادتها زوجا آخر إذا كانت مطلّقة، أو لانكم تريدون أن يكون الولد
ص: 194
عندكم.
فَلاٰ جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ أي: لا حرج عليكم. وتقديره خطابا للآباء أن يسترضعوا المراضع أولادكم](1) فحذف أحد المفعولين للاستغناء عنه.
إِذٰا سَلَّمْتُمْ إلى المراضع مٰا آتَيْتُمْ ما أردتم إيتاءه. وقرئ: ما أتيتم، من أتى إليه إحسانا إذا فعله. وقيل: إذا سلّمتم إلى الأم أجرة المثل بمقدار ما أرضعت(2).
وَ اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْوٰاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً فَإِذٰا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاٰ جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ فِيمٰا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
هو علي تقدير حذف المضاف، تقديره: وأزواج اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ ...
يَتَرَبَّصْنَ ، وقيل: معناه: والذين يتوفون منكم أي: يقبضون ويموتون ويتركون أزواجا يتربّصن بعدهم، كقولهم: السمن منوان بدرهم أي: منوان منه.
ومعنى يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ : يعتددن هذه المدة وهي أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعشرة أيّام، وقيل: (عشرا) ذهابا إلي الليالي والأيّام داخلة معها، ولا يستعمل التذكير فيه علي إرادة الأيّام، يقال: صمت عشرا.
فَإِذٰا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فإذا انقضت عدّتهن فَلاٰ جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ أيّها الأولياء و الأئمّة فِيمٰا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ من التعريض للخطّاب.
بِالْمَعْرُوفِ بالوجه الذي لا ينكره الشرع.
ص: 195
وهذه الآية ناسخة للآية المتأخرة عنها الواردة في عدّة المتوفى عنها زوجها(1)
وإن كانت مقدّمة عليها في التلاوة.
وَ لاٰ جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ فِيمٰا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ اَلنِّسٰاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اَللّٰهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَ لٰكِنْ لاٰ تُوٰاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاّٰ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَ لاٰ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ اَلنِّكٰاحِ حَتّٰى يَبْلُغَ اَلْكِتٰابُ أَجَلَهُ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ يَعْلَمُ مٰا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ
وَ لاٰ جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ أيّها الرجال فِيمٰا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ اَلنِّسٰاءِ المعتدّات، والتعريض هو أن يقول لها: (إنّك الجميلة) أو (صالحة)، أو (إنّي أحبّ امرأة صفتها كذا) ويذكر بعض صفاتها، ونحو ذلك من الكلام الذي يوهم أنّه يريد نكاحها حتى تحبس نفسها عليه إن رغبت فيه، ولا يصرّح بالنكاح فلا يقول:
(إنّي أريد أن أنكحك) أو (أتزوّجك).
أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ أي: سترتم و أضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه بألسنتكم لا معرّضين ولا مصرّحين.
عَلِمَ اَللّٰهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ لا محالة برغبتكم فيهن خوفا منكم أن يسبقكم غيركم إليهن فأباح لكم ذلك، فاذكروهن وَ لٰكِنْ لاٰ تُوٰاعِدُوهُنَّ سِرًّا والسرّ كناية عن الوطء، لأنّه مما يسرّ، ثم عبّر به عن النكاح الذي هو العقد، لأنه سبب فيه كما فعل بالنكاح.
إِلاّٰ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وهو أن تعرّضوا و لا تصرّحوا، أي: لا تواعدوهن إلا بالتعريض، أو لا تواعدوهن إلا مواعدة معروفة غير منكرة.
ص: 196
وَ لاٰ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ اَلنِّكٰاحِ من عزم الأمر وعزم عليه، وهو مبالغة في النهي عن عقد النكاح في العدّة، لأنّ العزم علي الفعل متقدّم، فإذا نهى عنه كان عن الفعل أنهى. ومعناه: ولا تعزموا عقد عقدة النكاح في العدّة حَتّٰى يَبْلُغَ اَلْكِتٰابُ أَجَلَهُ يعني: ما كتب وفرض من العدّة.
وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ يَعْلَمُ مٰا فِي أَنْفُسِكُمْ من العزم علي ما لا يجوز فَاحْذَرُوهُ ولا تعزموا عليه.
لاٰ جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ اَلنِّسٰاءَ مٰا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَ مَتِّعُوهُنَّ عَلَى اَلْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَى اَلْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتٰاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ
لاٰ جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ لا تبعة عليكم من إيجاب مهر إِنْ طَلَّقْتُمُ اَلنِّسٰاءَ مٰا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ ما لم تجامعوهن.
و يجوز أن تكون مٰا هاهنا شرطية بمعنى: إن لم تمسّوهن. ويجوز أن تكون بمعنى المدة، أي: مدة لم تمسّوهنّ فيها فيكون نصبا علي الظرف. وقرئ:
(تماسوهن)، والمعنى فيهما واحد.
أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً [إلا أن تفرضوا لهنّ فريضة](1) أو حتى تفرضوا لهنّ فريضة. وفرض الفريضة: تسمية المهر، وذلك أن المطلّقة غير المدخول بها إن سمّي لها مهر فلها نصف المسمّى، وإن لم يسمّ لها مهر فليس لها إلا المتعة.
وَ مَتِّعُوهُنَّ أي: أعطوهنّ من مالكم ما يتمتعن به.
عَلَى اَلْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَى اَلْمُقْتِرِ قَدَرُهُ أي: علي الغني الذي هو في سعة لغناه
ص: 197
علي قدر حاله، وعلي الفقير الذي هو في ضيق علي قدر حاله. ومعنى قدره :
مقداره الذي يطيقه، والقدر والقدر لغتان.
مَتٰاعاً تأكيد ل - وَ مَتِّعُوهُنَّ أي: تمتيعا.
بِالْمَعْرُوفِ بالوجه الذي يحسن في الشرع والمروءة.
حَقًّا صفة ل - مَتٰاعاً أي: واجبا عليهم، أو حقّ ذلك حقّا.
عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ علي الذين يحسنون إلى المطلّقات بالتمتيع، وسمّاهم قبل الفعل محسنين كما قال عليه السلام: (من قتل قتيلا فله سلبه)(1).
وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مٰا فَرَضْتُمْ إِلاّٰ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اَلنِّكٰاحِ وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوىٰ وَ لاٰ تَنْسَوُا اَلْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اَللّٰهَ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
هذا يدلّ علي أن (الجناح) في الآية المتقدّمة المراد به تبعة المهر، لأنّ قوله:
فَنِصْفُ مٰا فَرَضْتُمْ إثبات للجناح المنفي هناك، وتقديره: فالواجب نصف ما فرضتم.
إِلاّٰ أَنْ يَعْفُونَ يعني: المطلّقات، أي: يتركن ما يجب لهن من نصف المهر فلا يطالبن الأزواج بذلك.
أَوْ يَعْفُوَا اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اَلنِّكٰاحِ و هو الولي الذي يلي عقد نكاحهن.
و إن هذه هي الناصبة للفعل، و يَعْفُونَ فعل النسوة في محلّ النصب.
ص: 198
وَ لاٰ تَنْسَوُا اَلْفَضْلَ بَيْنَكُمْ أي: التفضّل، معناه: ولا تنسوا أن يتفضّل بعضكم علي بعض ولا تستقصوا.
حٰافِظُوا عَلَى اَلصَّلَوٰاتِ وَ اَلصَّلاٰةِ اَلْوُسْطىٰ وَ قُومُوا لِلّٰهِ قٰانِتِينَ
داوموا عَلَى اَلصَّلَوٰاتِ في مواقيتها بأداء أركانها.
وَ اَلصَّلاٰةِ اَلْوُسْطىٰ بين الصلوات، أو الفضلى من قولهم للأفضل:
الأوسط. وإنّما أفردت وعطفت علي اَلصَّلَوٰاتِ لانفرادها بالفضل، وروي عنهم عليهم السلام: (أنّها صلاة الظهر)(1)، وقيل: هي صلاة العصر(2)، وروي ذلك - أيضا - مرفوعا(3)، وقيل: صلاة الفجر(4) يدلّ عليه قوله: وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ كٰانَ مَشْهُوداً (5).
وَ قُومُوا لِلّٰهِ قٰانِتِينَ أي: داعين في قيامكم. وعن الصادق عليه السلام قال:
(القنوت: الدعاء في الصلاة في حال القيام)(6).
فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجٰالاً أَوْ رُكْبٰاناً فَإِذٰا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اَللّٰهَ كَمٰا عَلَّمَكُمْ مٰا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ
أي: فإن كان بكم خوف من عدو أو غيره فصلّوا راجلين، والرجال جمع
ص: 199
راجل كالقيام جمع قائم.
أَوْ رُكْبٰاناً [على ظهور دوابكم، عنى بذلك صلاة الخوف.
فَإِذٰا أَمِنْتُمْ من الخوف](1)فَاذْكُرُوا اَللّٰهَ كَمٰا عَلَّمَكُمْ من صلاة الأمن، أو فاشكروا اللّه علي الأمن و اذكروه بالعبادة كما أحسن إليكم بما علّمكم كيف تصلّون في حال الأمن والخوف.
وَ اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْوٰاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوٰاجِهِمْ مَتٰاعاً إِلَى اَلْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرٰاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاٰ جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ فِي مٰا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَ اَللّٰهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
من قرأ: وصيّة - بالرفع - فالتقدير: وحكم اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ ، أو وصية الذين يتوفون وصية لأزواجهم، أو والذين يتوفون أهل وصية فحذف المضاف.
ومن قرأ: (وصيّة) - بالنصب - فا لتقدير: والذين يتوفّون يوصون وصية كقولك:
(إنّما أنت سير البريد) بإضمار (تسير).
مَتٰاعاً نصب بالوصية أو ب - (يوصون) إذا أضمرته.
و غَيْرَ إِخْرٰاجٍ مصدر مؤكد، أو بدل من مَتٰاعاً ، أو حال من الأزواج أي: غير مخرجات. والمعنى: إنّ حقّ الذين يتوفون عن أزواجهم أن يوصوا قبل أن يموتوا بأن تمتع أزواجهم بعدهم حولا كاملا، أي: ينفق عليهن من تركته ولا يخرجن من مساكنهن، وكان ذلك قبل الإسلام، ثم نسخت المدة بقوله:
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً .
فِي مٰا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ من التزيّن و التعرّض للأزواج من
ص: 200
مَعْرُوفٍ ليس بمنكر شرعا.
وَ لِلْمُطَلَّقٰاتِ مَتٰاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى اَلْمُتَّقِينَ كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ اَللّٰهُ لَكُمْ آيٰاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
قيل: المراد بالمتاع النفقة المذكورة في قوله تعالى: مَتٰاعاً إِلَى اَلْحَوْلِ (1)، وقيل: المراد بالمتاع المتعة فتكون مخصوصة بالآية المتقدّمة، فإنّ المتعة للمطلّقة التي لم يدخل بها ولم يفرض لها مهر، فأما المدخول بها فلها مهر مثلها إن لم يسمّ لها مهر، وما سمّي لها إن فرض لها مهر، وإن لم يدخل بها فنصف المهر.
أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيٰارِهِمْ وَ هُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ اَلْمَوْتِ فَقٰالَ لَهُمُ اَللّٰهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيٰاهُمْ إِنَّ اَللّٰهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى اَلنّٰاسِ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَشْكُرُونَ
أَ لَمْ تَرَ تقرير لمن سمع بقصّتهم من أهل الكتاب، و تعجيب من شأنهم. ويجوز أن يخاطب به من لم ير ولم يسمع، لأنّ هذا يجري مجري المثل في معنى التعجب. وهؤلاء قوم وقع فيهم الطاعون فخرجوا هاربين فأماتهم اللّه ثم أحياهم ليعتبروا ويعلموا أنّه لا مفر من حكم اللّه. وقيل: هم قوم من بني إسرائيل دعاهم ملكهم إلي الجهاد، فهربوا حذرا من الموت، فأماتهم اللّه ثم أحياهم(2).
وَ هُمْ أُلُوفٌ فيه دليل علي الألوف الكثيرة.
فَقٰالَ لَهُمُ اَللّٰهُ مُوتُوا معناه: فأماتهم اللّه، وإنّما جيء به على هذه العبارة للدلالة علي أنّهم ماتوا ميتة إنسان واحد بمشية اللّه.
ص: 201
إِنَّ اَللّٰهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى اَلنّٰاسِ حيث يبصّرهم ما يعتبرون به.
وساق سبحانه هذه القصّة بعثا علي الجهاد بدلالة قوله بعد.
وَ قٰاتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
أي: سَمِيعٌ يسمع ما يقوله المتخلفون والسابقون عَلِيمٌ بما يضمرونه.
مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضٰاعِفَهُ لَهُ أَضْعٰافاً كَثِيرَةً وَ اَللّٰهُ يَقْبِضُ وَ يَبْصُطُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
إقراض اللّه مثل لتقديم العمل الذي يطلب به ثوابه، وهو تلطف للدعاء إلى فعله وتأكيد للجزاء عليه، والقرض الحسن: إما المجاهدة نفسها، وإما النفقة في سبيل اللّه.
أَضْعٰافاً كَثِيرَةً لا يعلم كنهها إلا اللّه، وقيل: هو أنّ الواحد بسبعمائة(1).
وَ اَللّٰهُ يَقْبِضُ وَ يَبْصُطُ يوّسع علي عباده ويقتر، فلا تبخلوا عليه بما وسّع عليكم لئلا يبدلكم الضيقة بالسعة.
أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرٰائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسىٰ إِذْ قٰالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ اِبْعَثْ لَنٰا مَلِكاً نُقٰاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ قٰالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِتٰالُ أَلاّٰ تُقٰاتِلُوا قٰالُوا وَ مٰا لَنٰا أَلاّٰ نُقٰاتِلَ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ قَدْ أُخْرِجْنٰا مِنْ دِيٰارِنٰا وَ أَبْنٰائِنٰا فَلَمّٰا كُتِبَ عَلَيْهِمُ اَلْقِتٰالُ تَوَلَّوْا إِلاّٰ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ بِالظّٰالِمِينَ
ص: 202
اَلْمَلَإِ : الجماعة الأشراف من الناس، لأنّ هيبتهم تملأ الصدور.
مِنْ بَعْدِ مُوسىٰ من بعد وفاته.
إِذْ قٰالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ هو يوشع أو شمعون أو إشموئيل وهو الأعرف.
اِبْعَثْ لَنٰا مَلِكاً أنهض للقتال معنا أميرا ننتهي إلى أمره نقاتل في سبيل الله ونصدر في تدبير الحرب عن رأيه.
قٰالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِتٰالُ أَلاّٰ تُقٰاتِلُوا أي: لعلكم إن فرض عليكم القتال مع ذلك الملك ألا تقاتلوا وتجبنوا، بمعنى: أتوقّع جبنكم عن القتال، فأدخل هَلْ مستفهما عما هو متوقع عنده ومظنون، وأراد بالاستفهام التقرير وأن يثبت أنّ المتوقع كائن.
قٰالُوا وَ مٰا لَنٰا أَلاّٰ نُقٰاتِلَ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ وأي داع لنا إلي ترك القتال، وأي غرض لنا فيه.
وَ قَدْ أُخْرِجْنٰا مِنْ دِيٰارِنٰا وَ أَبْنٰائِنٰا وذلك أنّ قوم جالوت كانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين فأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين.
فَلَمّٰا كُتِبَ عَلَيْهِمُ اَلْقِتٰالُ تَوَلَّوْا إِلاّٰ قَلِيلاً مِنْهُمْ كان عددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر على عدد أهل بدر.
وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ بِالظّٰالِمِينَ وعيد لهم علي ظلمهم في ترك الجهاد والقعود عن القتال.
وَ قٰالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اَللّٰهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طٰالُوتَ مَلِكاً قٰالُوا أَنّٰى يَكُونُ لَهُ اَلْمُلْكُ عَلَيْنٰا وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ اَلْمٰالِ قٰالَ إِنَّ اَللّٰهَ اِصْطَفٰاهُ عَلَيْكُمْ وَ زٰادَهُ
ص: 203
بَسْطَةً فِي اَلْعِلْمِ وَ اَلْجِسْمِ وَ اَللّٰهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشٰاءُ وَ اَللّٰهُ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ
طٰالُوتَ اسم أعجمي كجالوت وداود، وفيه سببان: التعريف والعجمة.
أَنّٰى يَكُونُ كيف يكون ؟ ومن أين يكون ؟ وهو إنكار لتملّكه عليهم، والمعنى: كيف يتملك علينا والحال أنّه لا يستحقّ التملك لوجود من هو أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ ، وأنّه فقير ولابد للملك من مال يتقوّى به ؟ وإنّما قالوا ذلك لأنّ النبوة كانت في سبط لاوي بن يعقوب والملك في سبط يهودا، ولم يكن طالوت من أحد السبطين.
قٰالَ إِنَّ اَللّٰهَ اِصْطَفٰاهُ أي: اختاره عَلَيْكُمْ وهو أعلم بالمصالح منكم، ثم ذكر سبحانه خصلتين هما أعلى رتبة في الفضل من النسب والمال وهما:
العلم المبسوط والجسامة، فقال: وَ زٰادَهُ بَسْطَةً أي: سعة و امتدادا فِي اَلْعِلْمِ وَ اَلْجِسْمِ وكان أعلم بني إسرائيل في وقته و أتمهم جسما و أشجعهم.
وَ اَللّٰهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشٰاءُ أي: الملك له فهو يعطيه من يشاء.
وَ اَللّٰهُ وٰاسِعٌ الفضل والعطاء عَلِيمٌ بمن يصطفيه للرئاسة والملك.
وَ قٰالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ اَلتّٰابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمّٰا تَرَكَ آلُ مُوسىٰ وَ آلُ هٰارُونَ تَحْمِلُهُ اَلْمَلاٰئِكَةُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
اَلتّٰابُوتُ صندوق التوراة، وكان موسى عليه السلام إذا قاتل قوما قدّمه، فكانت تسكن نفوس بني إسرائيل ولا يفرّون. والسكينة: السكون والطمأنينة،
ص: 204
وقيل: هي صورة كانت فيه من زبرجد أو ياقوت، لها جناحان ورأس كرأس الهر وذنب كذنبه، فيزف التابوت نحو العدو وهم يمضون معه، فإذا استقر ثبتوا وسكنوا ونزل النصر(1)، وعن علي عليه السلام: (كانت فيه ريح هفافة من الجنّة ولها وجه كوجه الإنسان)(2).
وَ بَقِيَّةٌ مِمّٰا تَرَكَ آلُ مُوسىٰ هي: عصا موسى ورضاض الألواح وشيء من التوراة، وكان قد رفعه الله بعد موسى فنزلت به الملائكة تَحْمِلُهُ وهم ينظرون إليه، وكان ذلك آية لاصطفاء اللّه طالوت.
و آلُ مُوسىٰ و وَ آلُ هٰارُونَ الأنبياء من بني يعقوب بعدهما، لأنّ عمران هو ابن قاهث بن لاوي بن يعقوب، فكان أولاد يعقوب آلهما، ويجوز أن يراد مما تركه موسى وهارون و آل مفخم.
فَلَمّٰا فَصَلَ طٰالُوتُ بِالْجُنُودِ قٰالَ إِنَّ اَللّٰهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاّٰ مَنِ اِغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاّٰ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمّٰا جٰاوَزَهُ هُوَ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قٰالُوا لاٰ طٰاقَةَ لَنَا اَلْيَوْمَ بِجٰالُوتَ وَ جُنُودِهِ قٰالَ اَلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاٰقُوا اَللّٰهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ مَعَ اَلصّٰابِرِينَ
فَصَلَ عن موضع كذا: إذا انفصل عنه وجاوزه، وأصله فصل نفسه، ثم كثر حذف المفعول حتى صار في حكم اللازم. ومعناه: انفصل عن البلد بِالْجُنُودِ
ص: 205
وكانوا ثلاثين ألف مقاتل، وقيل: سبعين ألفا(1).
قال طالوت إِنَّ اَللّٰهَ مُبْتَلِيكُمْ أي: مختبركم بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ من النهر بأن كرع في مائه فَلَيْسَ مِنِّي أي: ليس من جملتي وأشياعي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ أي: لم يذقه فَإِنَّهُ مِنِّي يقال: طعم الشيء: إذا ذاقه.
إِلاّٰ مَنِ اِغْتَرَفَ استثناء من قوله: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي ومعناه:
الرخصة في اغتراف الغرفة باليد دون الكروع، يدلّ عليه قوله: فَشَرِبُوا مِنْهُ أي: فكرعوا فيه إِلاّٰ قَلِيلاً مِنْهُمْ . وقرئ: غُرْفَةً بفتح الغين وضمّها، فالفتح بمعنى المصدر والضم بمعنى المغروف.
وقيل: لم يبق مع طالوت إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا(2).
فَلَمّٰا جٰاوَزَهُ أي: تخطى النهر طالوت وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ يعني:
القليل من أصحابه ورأوا كثرة عدد جنود جالوت قٰالُوا لاٰ طٰاقَةَ لَنَا قيل:
إنّ الضمير في قٰالُوا للكثير الذين شربوا و انخذلوا(3).
و اَلَّذِينَ يَظُنُّونَ هم القليل الذين ثبتوا معه وتيقنوا أَنَّهُمْ يلقون اللّه.
كَمْ مِنْ فِئَةٍ أي: فرقة قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اَللّٰهِ بنصر اللّه لأنّه إذا أذن في القتال نصر فيه.
وَ لَمّٰا بَرَزُوا لِجٰالُوتَ وَ جُنُودِهِ قٰالُوا رَبَّنٰا أَفْرِغْ عَلَيْنٰا صَبْراً وَ ثَبِّتْ أَقْدٰامَنٰا وَ اُنْصُرْنٰا عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْكٰافِرِينَ
ص: 206
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اَللّٰهِ وَ قَتَلَ دٰاوُدُ جٰالُوتَ وَ آتٰاهُ اَللّٰهُ اَلْمُلْكَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمّٰا يَشٰاءُ وَ لَوْ لاٰ دَفْعُ اَللّٰهِ اَلنّٰاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ اَلْأَرْضُ وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى اَلْعٰالَمِينَ
أي ظهروا لمحاربة لِجٰالُوتَ وَ جُنُودِهِ قٰالُوا رَبَّنٰا أَفْرِغْ عَلَيْنٰا أي:
صبّ علينا صَبْراً وَ ثَبِّتْ أَقْدٰامَنٰا أي: وفقنا للثبوت عند مداحض الحرب بتقوية القلوب وإلقاء الرعب في قلوب الأعداء.
وكان ايشا أبو داود في عسكر طالوت مع ستة من بنيه أو عشرة، وكان داود أصغرهم يرعى الغنم، فبعث طالوت إلى ايشا أن احضر وأحضر ولدك، فجاء ومعه ولده، فمر داود في طريقه بثلاثة أحجار دعاه كل واحد منها أن يحمله وقال: إنّك تقتل بنا جالوت، فحملها في مخلاته ورمى بها جالوت فقتله، وزوجّه طالوت بنته.
وَ آتٰاهُ اَللّٰهُ اَلْمُلْكَ في الأرض المقدسة، وما اجتمعت بنو إسرائيل علي ملك قط قبل داود.
وَ اَلْحِكْمَةَ النبوة.
وَ عَلَّمَهُ مِمّٰا يَشٰاءُ من صنعة الدروع وكلام الطير والنمل.
وَ لَوْ لاٰ دَفْعُ اَللّٰهِ ولولا أن يدفع اللّه بعض الناس بِبَعْضٍ لغلب المفسدون و لَفَسَدَتِ اَلْأَرْضُ وبطلت منافعها. وقيل: ولولا أن اللّه ينصر المسلمين علي الكفار لعمّ الكفر ونزل العذاب و استؤصل أهل الأرض(1).
ص: 207
تِلْكَ آيٰاتُ اَللّٰهِ نَتْلُوهٰا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ
تِلْكَ إشارة إلى القصص التي اقتصّها من حديث إماتة الألوف من الناس و إحيائهم، و تمليك طالوت، و نزول التابوت، وغلبة الجبابرة علي يد صبي.
آيٰاتُ اَللّٰهِ دلالاته علي كمال قدرته نقرأها عَلَيْكَ .
و تِلْكَ مبتدأ [و آيٰاتُ اَللّٰهِ خبره، و نَتْلُوهٰا حال، و يجوز أن تكون آيٰاتُ اَللّٰهِ بدلا من تِلْكَ ](1) و نَتْلُوهٰا الخبر.
بِالْحَقِّ باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب لأنّه في كتبهم كذلك.
وَ إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ حيث تخبر بها من غيرأن تعرف بقراءة وكتابة.
تِلْكَ اَلرُّسُلُ فَضَّلْنٰا بَعْضَهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اَللّٰهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجٰاتٍ وَ آتَيْنٰا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ اَلْبَيِّنٰاتِ وَ أَيَّدْنٰاهُ بِرُوحِ اَلْقُدُسِ وَ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ مَا اِقْتَتَلَ اَلَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَتْهُمُ اَلْبَيِّنٰاتُ وَ لٰكِنِ اِخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ مَا اِقْتَتَلُوا وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ يَفْعَلُ مٰا يُرِيدُ
تِلْكَ اَلرُّسُلُ إشارة إلى الرسل التي ذكرت قصصها في السورة، أو التي ثبت علمها عند رسول اللّه صلى الله عليه و سلم.
فَضَّلْنٰا بَعْضَهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ لما أوجب ذلك من تفاضلهم في مراتبهم.
مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اَللّٰهُ أي: فضّله اللّه بأن كلّمه من غير سفير، وهو موسى عليه السلام.
وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجٰاتٍ أي: و منهم من رفعه علي سائر الأنبياء، فكان بعد
ص: 208
تفاوتهم في الفضل أفضل منهم بدرجات كثيرة، وهو محمّد صلوات اللّه عليه وآله لأنّه المفضّل عليهم حيث أوتي ما لم يؤته أحد من المعجزات الموفية علي ألف وأكثر، وبعث إلى الإنس والجن، وخصّ بالمعجزة القائمة إلى يوم القيامة وهي القران. وفي هذا الإبهام من تعظيم شأنه وإعلاء مكانه مالا يخفى، لأنّ فيه أنّه العلم الذي لا يشتبه والمشهور الذي لا يخفى.
وَ آتَيْنٰا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ اَلْبَيِّنٰاتِ كإحياء الموتى وإبراء الأكمه و الأبرص.
وَ أَيَّدْنٰاهُ بِرُوحِ اَلْقُدُسِ تقدّم تفسيره(1).
و لو شاء الله مشيئة إلجاء و قسر مَا اِقْتَتَلَ اَلَّذِينَ مِنْ بعد الرسل لاختلافهم في الدين و تكفير بعضهم بعضا.
وَ لٰكِنِ اِخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ لالتزامه دين الأنبياء وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ لإعراضه عنه.
وَ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ مَا اِقْتَتَلُوا كرره للتأكيد.
وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ يَفْعَلُ مٰا يُرِيدُ من الخذلان و العصمة.
يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمّٰا رَزَقْنٰاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاٰ بَيْعٌ فِيهِ وَ لاٰ خُلَّةٌ وَ لاٰ شَفٰاعَةٌ وَ اَلْكٰافِرُونَ هُمُ اَلظّٰالِمُونَ
أنفقوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا تقدرون فيه علي تدارك ما فاتكم من الإنفاق، لأنّه لاٰ بَيْعٌ فِيهِ حتى تبتاعوا ما تنفقونه وَ لاٰ خُلَّةٌ حتى يسامحكم أخلاؤكم به.
وَ لاٰ شَفٰاعَةٌ عام يراد به الخاص بلا خلاف، لأنّ الأمّة اجتمعت علي
ص: 209
إثبات الشفاعة يوم القيامة، وإن اختلفوا في كيفيتها.
وَ اَلْكٰافِرُونَ هُمُ اَلظّٰالِمُونَ لأنّ الكفر هو غاية الظلم.
اَللّٰهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ لاٰ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لاٰ نَوْمٌ لَهُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ مَنْ ذَا اَلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّٰ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مٰا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مٰا خَلْفَهُمْ وَ لاٰ يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّٰ بِمٰا شٰاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ لاٰ يَؤُدُهُ حِفْظُهُمٰا وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْعَظِيمُ
اَلْحَيُّ الذي يصح أن يكون قادرا عالما وهو الباقي الذي لا يتطرق إليه الفناء، و اَلْقَيُّومُ الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظهم.
لاٰ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ و هو ما يتقدّم النوم من الفتور الذي يسمّى النعاس وَ لاٰ نَوْمٌ وهو تأكيد للقيوم وبيان له، لأنّ من جاز عليه النوم والسنة لا يكون قيوما.
لَهُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ يملكهما ويملك تدبير ما فيهما.
مَنْ ذَا اَلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ بيان لكبريائه و ملكوته بأنّ أحدا لا يملك أن يتكلّم يوم القيامة إلا إذا أذن له في الكلام.
يَعْلَمُ مٰا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مٰا خَلْفَهُمْ الضمير لما في السماوات وما في الأرض لأنّ فيهم العقلاء، أو لما دلّ عليه مَنْ ذَا اَلَّذِي من الملائكة و الأنّبياء، أي: يعلم ما كان قبلهم وما يكون بعدهم، ويعلم أحوالهم و المرتضى منهم للشفاعة وغير المرتضى.
وَ لاٰ يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ أي: معلوماته.
إِلاّٰ بِمٰا شٰاءَ أي: بما علّم و أطلع عليه، و الإحاطة بالشيء علما أن يعلم
ص: 210
كما هو علي الحقيقة.
وَسِعَ كُرْسِيُّهُ أي: علمه اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضَ روي ذلك عنهم عليهم السلام(1)، و سمّي العلم: كرسيا، تسمية بمكانه الذي هو كرسي [العالم، وقيل: كرسيّه: ملكه تسمية بمكانه الذي هو كرسي الملك، وقيل: الكرسي](2) سرير دون العرش دونه السماوات وا لأرض(3).
ترتبت هذه الجمل من غير حرف عطف، لأنّ كل جملة منها واردة علي سبيل البيان لما ترتبت عليه، والبيان متحد بالمبيّن، فالأولى أن لا يتوسط بينهما حرف عطف.
وَ لاٰ يَؤُدُهُ حِفْظُهُمٰا لا يثقله ولا يشق عليه حفظ السماوات والأرض.
وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ الشأن اَلْعَظِيمُ الملك.
وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: (سمعت نبيّكم علي أعواد المنبر وهو يقول: من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنّة إلا الموت، ولا يواظب عليها إلا صدّيق أو عابد، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه اللّه علي نفسه وجاره و جار جاره و الأبيات حوله)(4).
لاٰ إِكْرٰاهَ فِي اَلدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ اَلرُّشْدُ مِنَ اَلْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّٰاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللّٰهِ فَقَدِ اِسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ اَلْوُثْقىٰ لاَ اِنْفِصٰامَ لَهٰا وَ اَللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
ص: 211
يعني: إنّ أمور الدين جارية علي التمكّن و الاختيار لا علي القسر و الإجبار، ونحوه: وَ لَوْ شٰاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ ... الآية(1)، أي: لو شاء لأجبرهم على الإيمان لكنه لم يفعل وبنى الأمر على الاختيار. وقيل: هو بمعنى النهي أي:
لا تكرهوا في الدين(2)، ثم قالوا: هو منسوخ بآية السيف(3)، وقيل: هو مخصوص بأهل الكتاب إذا أدّوا الجزية(4).
قَدْ تَبَيَّنَ اَلرُّشْدُ مِنَ اَلْغَيِّ قد تميّز الإيمان من الكفر بالدلائل النيرة.
فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّٰاغُوتِ أي: بالشيطان والأصنام وَ يُؤْمِنْ بِاللّٰهِ فَقَدِ اِسْتَمْسَكَ بالعصمة الوثيقة لاَ اِنْفِصٰامَ لَهٰا لا انقطاع لها. وهذا تمثيل لما يعلم بالنظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس الذي ينظر إليه عيانا.
اَللّٰهُ وَلِيُّ اَلَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُمٰاتِ إِلَى اَلنُّورِ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيٰاؤُهُمُ اَلطّٰاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ اَلنُّورِ إِلَى اَلظُّلُمٰاتِ أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ
اَللّٰهُ وَلِيُّ يريدون أن يؤمنوا يلطف بهم حتى يُخْرِجُهُمْ بلطفه وتوفيقه من ظلمات الكفر إلي نور الإيمان، أو يخرجهم من الشبه في الدين إن وقعت لهم بما يوفقهم له من حلّها حتى يخرجوا منها إلى نور اليقين.
وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أي: صمموا علي الكفر فأمرهم علي العكس.
ص: 212
أَوْلِيٰاؤُهُمُ اَلطّٰاغُوتُ أي: الشياطين يتولون أمورهم.
يُخْرِجُونَهُمْ من نور البيّنات إلى ظلمات الشك والشرك.
أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِي حَاجَّ إِبْرٰاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتٰاهُ اَللّٰهُ اَلْمُلْكَ إِذْ قٰالَ إِبْرٰاهِيمُ رَبِّيَ اَلَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ قٰالَ أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ قٰالَ إِبْرٰاهِيمُ فَإِنَّ اَللّٰهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ اَلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهٰا مِنَ اَلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ اَلَّذِي كَفَرَ وَ اَللّٰهُ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّٰالِمِينَ
أَ لَمْ تَرَ تعجيب من محاجّة نمرود في اللّه وكفره به.
أَنْ آتٰاهُ اَللّٰهُ اَلْمُلْكَ متعلّق ب - حَاجَّ أي: لأن آتاه اللّه الملك، علي معنى: إنّ إيتاء الملك أورثه البطر و العتو فحاجّ إبراهيم لذلك، أو وضع المحاجة في ربّه موضع ما وجب عليه من الشكر علي إيتاء الملك، نحو قوله: وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (1)، و يجوز أن يكون المعنى: حاجّ وقت أن آتاه اللّه الملك.
ومعنى (آتاه الملك): إنّه آتاه ما غلب به و تملك من الأموال والخدم و الأتباع.
إِذْ قٰالَ نصب ب - حَاجَّ أو بدل من أَنْ آتٰاهُ إذا جعل بمعنى الوقت.
أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ يريد أخلّي من وجب عليه القتل و أميت بالقتل.
الصادق عليه السلام قال: (إنّ إبراهيم عليه السلام قال له: فأحيي من قتلته إن كنت صادقا)(2).
ثم استظهر عليه بقوله: فَإِنَّ اَللّٰهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ اَلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهٰا مِنَ اَلْمَغْرِبِ انتقل إلى مالا يقدر فيه علي نحو ذلك الجواب ليبهته.
ص: 213
[فَبُهِتَ أي: تحيّر وعيي](1). وهذا دليل علي جواز الانتقال من حجّة إلى حجة.
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلىٰ قَرْيَةٍ وَ هِيَ خٰاوِيَةٌ عَلىٰ عُرُوشِهٰا قٰالَ أَنّٰى يُحْيِي هٰذِهِ اَللّٰهُ بَعْدَ مَوْتِهٰا فَأَمٰاتَهُ اَللّٰهُ مِائَةَ عٰامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قٰالَ كَمْ لَبِثْتَ قٰالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قٰالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عٰامٍ فَانْظُرْ إِلىٰ طَعٰامِكَ وَ شَرٰابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَ اُنْظُرْ إِلىٰ حِمٰارِكَ وَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّٰاسِ وَ اُنْظُرْ إِلَى اَلْعِظٰامِ كَيْفَ نُنْشِزُهٰا ثُمَّ نَكْسُوهٰا لَحْماً فَلَمّٰا تَبَيَّنَ لَهُ قٰالَ أَعْلَمُ أَنَّ اَللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ
أَوْ كَالَّذِي معناه: أو أرأيت مثل الذي مرّ، فحذف لدلالة أَ لَمْ تَرَ عليه، لأنّ كلتيهما كلمة تعجيب. ويجوز أن يحمل علي المعنى كأنّه قيل: أرأيت كالذي حاجّ إبراهيم أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلىٰ قَرْيَةٍ والمار عزير أو ارمياء، أراد أن يعاين إحياء الموتى ليزداد بصيرة.
قٰالَ أَنّٰى يُحْيِي هٰذِهِ اَللّٰهُ هذا اعتراف بالعجز عن معرفة طريقة الإحياء و استعظام لقدرة المحيي. والقرية: بيت المقدس حين خرّبه بخت نصر، وقيل: هي القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت(2).
وَ هِيَ خٰاوِيَةٌ عَلىٰ عُرُوشِهٰا أي: ساقطة علي أبنيتها و سقوفها، كأنّ سقوفها سقطت ثم وقع البنيان عليها، قال: كيف يحيي اللّه هذه القرية بعد خرابها؟ أطلق لفظ (القرية) وأراد أهلها، و أحبّ أن يريه اللّه إحياءها مشاهدة.
ص: 214
فَأَمٰاتَهُ اَللّٰهُ مِائَةَ عٰامٍ روي: أنّه مات ضحى وبعث بعد مائة سنة قبل غيبوبة الشمس، فقال قبل النظر إلى الشمس: لَبِثْتُ يَوْماً ثم التفت فرأي بقية من الشمس فقال: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ (1)، وروي: أنّ طعامه كان تينا وعنبا وشرابه عصيرا أو لبنا، فوجد التين والعنب كما جنيا والشراب علي حاله(2).
لَمْ يَتَسَنَّهْ أي: لم تغيره السنون، والهاء أصلية أو هاء سكت، واشتقاقه من (السنة) علي الوجهين، لأنّ لامها (هاء) أو (واو)، وذلك أنّ الشيء يتغير بمرور الزمان عليه، وقيل: أصله يتسنن من الحمأ المسنون فقلبت نونه حرف علة كتقضي البازي.
وَ اُنْظُرْ إِلىٰ حِمٰارِكَ كيف تفرّقت عظامه و نخرت وكان له حمار قد ربطه. و يجوز أن يكون المراد: وانظر إليه سالما في مكانه كما ربطته وذلك من أعظم الآيات.
وَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّٰاسِ فعلنا ذلك، يريد إحياءه بعد الموت، وحفظ طعامه وشرابه. وقيل: إنّه أتى قومه راكب حماره وقال: أنا عزير، فكذّبوه، فقال: هاتوا التوراة، فأخذ يهذّها هذّا عن ظهر قلبه وهم ينظرون في الكتاب فما خرم حرفا، فقالوا: هو ابن اللّه(3)، ولم يقرأ التوراة ظاهرا أحد قبل عزير، فذلك كونه آية.
وَ اُنْظُرْ إِلَى اَلْعِظٰامِ وهي عظام الحمار أو عظام الموتى الذين تعجّب من إحيائهم كَيْفَ نُنْشِزُهٰا نحييها. وننشرها من نشر اللّه الموتى بمعنى:
ص: 215
أنشرهم، وننشزها - بالزاي - أي: نحرّكها ونرفع بعضها إلى بعض للتركيب.
وفاعل تَبَيَّنَ مضمر تقديره: فلما تبيّن له أنّ اللّه علي كل شيء قدير قٰالَ أَعْلَمُ أَنَّ اَللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، نحو قولهم: ضربني وضربت زيدا. ويجوز أن يكون المعنى: فلما تبيّن له ما أشكل عليه.
وقرئ: قال إعلم - علي لفظ الأمر - كأنّه حاطب نفسه، كقول الأعشى:
ودّع هريرة إنّ الرّكب مرتحل(1)
وَ إِذْ قٰالَ إِبْرٰاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ اَلْمَوْتىٰ قٰالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قٰالَ بَلىٰ وَ لٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قٰالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ اَلطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اِجْعَلْ عَلىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ اُدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَ اِعْلَمْ أَنَّ اَللّٰهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
رَبِّ أَرِنِي أي: بصّرني كَيْفَ تُحْيِ اَلْمَوْتىٰ .
قٰالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قال له ذلك سبحانه وقد علم أنّه أثبت الناس إيمانا، ليجيب بما أجاب به لما فيه من الفائدة للسامعين، وهذا ألف استفهام المراد به التقرير.
قٰالَ بَلىٰ هو إيجاب بعد النفي معناه: بلى آمنت.
وَ لٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ليزيد سكونا وطمأنينة، بأن يضام العلم الضروري علم الاستدلال، و تظاهر الأدلة أزيد للبصيرة واليقين، وأراد بطمأنينة القلب:
العلم الذي لا مجال فيه للشك. واللام تعلّقت بمحذوف تقديره: سألت ذلك ليطمئن قلبي.
ص: 216
قٰالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ اَلطَّيْرِ طاووسا، وديكا، وغرابا، وحمامة.
فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ بضم الصاد وكسرها بمعنى: فأملهن واضممهن إليك.
ثُمَّ اِجْعَلْ عَلىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً أي: فجزّئهنّ وفرّق أجزاءهنّ علي الجبال التي بحضرتك وفي أرضك، وكانت أربعة أجبل.
ثُمَّ اُدْعُهُنَّ و قل لهن: تعالين بإذن اللّه.
يَأْتِينَكَ سَعْياً أي: ساعيات مسرعات في طيرانهن أو في مشيهن علي أرجلهن.
وروي: أنّه أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويقطّعها ويفرّق أجزاءها ويخلط ريشها ودماءها ولحومها وأن يمسك رؤوسها، ثم أمر بأن يجعل أجزاءها علي الجبال علي كل جبل ربعا من كل طائر، ثم يصيح بها: تعالين بإذن اللّه، فجعل كل جزء يطير إلى الآخر حتى صارت جثثا، ثم أقبلن فانضممن إلى رؤوسهن كل جثة إلى رأسها(1). وقرئ: (جزؤا) بضمتين، و (جزّا) بالتشديد، ووجهه: أنّه خفّف بطرح همزته ثم شدّد كما يشدّد في الوقف إجراء للوصل مجري الوقف.
مَثَلُ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰالَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنٰابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اَللّٰهُ يُضٰاعِفُ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ اَللّٰهُ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ
لابد من تقدير حذف مضاف، أي: مثل نفقة اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ : كَمَثَلِ حَبَّةٍ ، أو مثلهم كمثل باذر حبّة. والمنبت هو الله ولكن الحبّة لما كانت سببا أسند إليها الإنبات، كما يسند إلى الأرض وإلى الماء. وهذا التمثيل تصوير لمضاعفة الحسنات كأنّها موضوعة بحذاء العين.
ص: 217
وَ اَللّٰهُ يُضٰاعِفُ لِمَنْ يَشٰاءُ أي: يزيد علي سبعمائة.
وَ اَللّٰهُ وٰاسِعٌ المقدرة عَلِيمٌ بمن يستحقّ الزيادة.
اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰالَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ ثُمَّ لاٰ يُتْبِعُونَ مٰا أَنْفَقُوا مَنًّا وَ لاٰ أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لاٰ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاٰ هُمْ يَحْزَنُونَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَ مَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهٰا أَذىً وَ اَللّٰهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ
المنّ : أن يعتدّ علي من أحسن إليه بإحسانه ويريه أنّه أوجب عليه حقّا له، والأذي: أن يتطاول عليه بسبب ما أسدى إليه.
ومعنى ثُمَّ : إظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المنّ والأذي، وأنّ تركهما خير من الإنفاق، كما جعل الاستقامة علي الإيمان خيرا من الدخول فيه بقوله: ثُمَّ اِسْتَقٰامُوا (1).
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ رد جميل وَ مَغْفِرَةٌ وعفو عن السائل إذا وجد منه ما يثقل علي المسؤول، أو نيل مغفرة من اللّه بسبب الرد الجميل، أو عفو من جهة السائل، لأنّه إذا ردّه ردا جميلا عذره.
خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهٰا أَذىً وَ اَللّٰهُ غَنِيٌّ لا حاجة به إلى منفق يمنّ ويؤذي.
حَلِيمٌ عن المعاجلة بالعقوبة. وفيه ذرو من الوعيد(2).
يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تُبْطِلُوا صَدَقٰاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ اَلْأَذىٰ كَالَّذِي يُنْفِقُ مٰالَهُ رِئٰاءَ اَلنّٰاسِ وَ لاٰ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ
ص: 218
صَفْوٰانٍ عَلَيْهِ تُرٰابٌ فَأَصٰابَهُ وٰابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاٰ يَقْدِرُونَ عَلىٰ شَيْ ءٍ مِمّٰا كَسَبُوا وَ اَللّٰهُ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْكٰافِرِينَ
كَالَّذِي يُنْفِقُ مٰالَهُ معناه: لاٰ تُبْطِلُوا صَدَقٰاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ اَلْأَذىٰ كإبطال المنافق كَالَّذِي يُنْفِقُ مٰالَهُ رِئٰاءَ اَلنّٰاسِ لا يريد بإنفاقه رضاء اللّه وثواب الآخرة.
فَمَثَلُهُ أي: مثله ونفقته التي لا ينتفع بها البتة.
كَمَثَلِ صَفْوٰانٍ أي: حجر أملس عَلَيْهِ تُرٰابٌ فَأَصٰابَهُ وٰابِلٌ مطر عظيم القطر فَتَرَكَهُ صَلْداً أجرد نقيا من التراب الذي كان عليه.
لاٰ يَقْدِرُونَ عَلىٰ شَيْ ءٍ مِمّٰا كَسَبُوا أي: لا يحصلون مما أنفقوه من ثوابه علي شيء كما لا يحصل أحد علي شيء من التراب الذي أذهبه المطر من الحجر الصلد.
ويجوز أن يكون الكاف في محلّ النصب علي الحال، أي: لاٰ تُبْطِلُوا صَدَقٰاتِكُمْ مماثلين كَالَّذِي يُنْفِقُ . وأراد بالذي ينفق الجنس أو الفريق الذي ينفق، فلذلك قال بعده: لاٰ يَقْدِرُونَ .
وَ مَثَلُ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰالَهُمُ اِبْتِغٰاءَ مَرْضٰاتِ اَللّٰهِ وَ تَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصٰابَهٰا وٰابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهٰا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهٰا وٰابِلٌ فَطَلٌّ وَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
وَ تَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ معناه: وليتثبّتوا من أنفسهم ببذل المال الذي هو أخو الروح، وبذله أشقّ علي النفس من أكثر العبادات الشاقة. ويجوز أن يراد
ص: 219
وتصديقا للإسلام وتحقيقا للجزاء من أصل أنفسهم، لأنّه إذا أنفق المسلم ماله في سبيل الله علم أنّ تصديقه بالثواب من أصل نفسه وإخلاص قلبه.
و مِنْ علي التفسير الأول للتبعيض مثلها في قولهم: هزّ من عطفه، ومعنى التبعيض: إنّ من بذل ماله فقد ثبت بعض نفسه، ومن بذل ماله وروحه فقد ثبتها كلها. وعلى الآخر لابتداء الغاية كقوله: حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ (1).
والمعنى: وَ مَثَلُ نفقة هؤلاء كَمَثَلِ جَنَّةٍ أي: بستان بِرَبْوَةٍ بمكان مرتفع، وخصها لأنّ الشجر فيها أزكى وأحسن ثمرا.
أَصٰابَهٰا وٰابِلٌ مطر عظيم القطر فَآتَتْ أُكُلَهٰا ثمرتها ضِعْفَيْنِ مثلي ما كانت تثمر بسبب الوابل.
فَإِنْ لَمْ يُصِبْهٰا وٰابِلٌ فَطَلٌّ فمطر صغير القطر يكفيها لكرم منبتها.
أو مثّل حالهم عند اللّه بالجنّة علي الربوة، ونفقتهم الكثيرة والقليلة بالوابل والطل، وكما أنّ كل واحد من المطرين يضعف أكل الجنّة، فكذلك نفقتهم كثيرة كانت أو قليلة زاكية عند اللّه.
أَ يَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنٰابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ لَهُ فِيهٰا مِنْ كُلِّ اَلثَّمَرٰاتِ وَ أَصٰابَهُ اَلْكِبَرُ وَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفٰاءُ فَأَصٰابَهٰا إِعْصٰارٌ فِيهِ نٰارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ اَللّٰهُ لَكُمُ اَلْآيٰاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ
أَ يَوَدُّ أَحَدُكُمْ الهمزة للإنكار، والواو في قوله: وَ أَصٰابَهُ اَلْكِبَرُ للحال لا للعطف، ومعناه: أيودّ أحدكم أن تكون له جنّة وقد أصابه الكبر.
ص: 220
والإعصار: الريح التي تستدير ثم تسطع نحو السماء كالعمود، وهذا مثل لمن يعمل الأعمال الحسنة لا يبتغي بها وجه اللّه تعالى، فإذا كان يوم القيامة وجدها محبطة لا ثواب عليها، فيتحسّر عند ذلك حسرة من كانت له جنّة من أبهج الجنان وأبهاها وفيها أنواع الثمار، فبلغه اَلْكِبَرُ وَ لَهُ أولاد ضُعَفٰاءُ والجنّة معاشهم فهلكت بالصاعقة. قال الحسن: (هذا مثل قلّ واللّه من يعقله من الناس: شيخ كبير ضعف جسمه وكثر صبيانه أفقر ما يكون إلى جنّته، وإنّ أحدكم واللّه أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا)(1).
يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبٰاتِ مٰا كَسَبْتُمْ وَ مِمّٰا أَخْرَجْنٰا لَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ وَ لاٰ تَيَمَّمُوا اَلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاّٰ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ
أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبٰاتِ مٰا كَسَبْتُمْ أي: من جياد مكسوباتكم وخيارها، وقيل: من حلالها(2).
وَ مِمّٰا أَخْرَجْنٰا لَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ من الغلات والثمار. والمعنى: ومن طيبات ما أخرجنا لكم، إلا أنّه حذف لأنّه ذكر الطيبات قبل.
وَ لاٰ تَيَمَّمُوا اَلْخَبِيثَ ولا تقصدوا المال الرديء مِنْهُ تُنْفِقُونَ أي:
تخصونه بالإنفاق، وهو في محلّ الحال.
وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ أي: وحالكم أنّكم لا تأخذونه في حقوقكم.
إِلاّٰ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ أي: إلا بأن تتسامحوا في أخذه وتترخصوا فيه، من قولهم: أغمض فلان عن بعض حقّه: إذا غض بصره، ويقال: أغمض البائع إذا لم
ص: 221
يستقص كأنّه لا يبصر، وعن ابن عباس: (كانوا يتصدّقون بحشف التمر فنهوا عنه)(1).
اَلشَّيْطٰانُ يَعِدُكُمُ اَلْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشٰاءِ وَ اَللّٰهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلاً وَ اَللّٰهُ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ يُؤْتِي اَلْحِكْمَةَ مَنْ يَشٰاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ اَلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَ مٰا يَذَّكَّرُ إِلاّٰ أُولُوا اَلْأَلْبٰابِ
يَعِدُكُمُ اَلْفَقْرَ بالإنفاق في وجوه البر وبإنفاق الجيد من المال، والوعد يستعمل في الخير والشر.
وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشٰاءِ ويغريكم علي البخل ومنع الزكوات إغراء الآمر للمأمور، والعرب تسمّي البخيل فاحشا كما قال طرفة:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي *** عقيلة مال الفاحش المتشدّد(2)
وَ اَللّٰهُ يَعِدُكُمْ في الإنفاق مَغْفِرَةً لذنوبكم وكفارة لها وَ فَضْلاً وأن يخلف عليكم أفضل مما أنفقتم، وقيل: وثوابا عليه في الآخرة.
يُؤْتِي اَلْحِكْمَةَ أي: يعطي اللّه الحكمة، أي: العلم ويوفق للعمل به، والحكيم عند اللّه هو العالم العامل. وقيل: الحكمة: القران والفقه(3). وقرئ: (ومن يؤت) بكسر التاء بمعنى: ومن يؤته اللّه الحكمة.
و خَيْراً كَثِيراً تنكير تعظيم، كأنّه قيل: فقد أوتي أيّ خير كثير.
ص: 222
وَ مٰا يَذَّكَّرُ إِلاّٰ أُولُوا اَلْأَلْبٰابِ أي: العلماء الحكماء العمال.
وَ مٰا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اَللّٰهَ يَعْلَمُهُ وَ مٰا لِلظّٰالِمِينَ مِنْ أَنْصٰارٍ إِنْ تُبْدُوا اَلصَّدَقٰاتِ فَنِعِمّٰا هِيَ وَ إِنْ تُخْفُوهٰا وَ تُؤْتُوهَا اَلْفُقَرٰاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ يُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئٰاتِكُمْ وَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
وَ مٰا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ في سبيل اللّه أو في سبيل الشيطان.
أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ في طاعة أو في معصية فَإِنَّ اَللّٰهَ يَعْلَمُهُ لا يخفى عليه فيجازي عليه بحسبه.
وَ مٰا لِلظّٰالِمِينَ الذين ينفقون أموالهم في المعاصي، أو يمنعون الزكوات، أو لا يوفون بالنذور، أو ينذرون في المعاصي.
مِنْ أَنْصٰارٍ ممن ينصرهم من اللّه ويمنع عنهم عذاب اللّه.
و (ما) في فَنِعِمّٰا هِيَ نكرة، أي: فنعم شيئا إبداؤها، وقرئ بكسر النون وفتحها.
وَ إِنْ تُخْفُوهٰا وَ تُؤْتُوهَا اَلْفُقَرٰاءَ أي: تعطوها إيّاهم مع الإخفاء.
فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أي: فالإخفاء خير لكم. والمراد بالصدقات المتطوّع بها، لأنّ الأفضل في الفرائض الإظهار.
(ونكفّر) قرئ بالنون مرفوعا عطفا علي محلّ ما بعد الفاء، أو علي أنّه خبر مبتدأ محذوف أي: ونحن نكفّر، مجزوما عطفا علي محلّ الفاء، وما بعده لأنه جواب الشرط، وقرئ: وَ يُكَفِّرُ بالياء مرفوعا والفعل للّه أو للإخفاء.
ص: 223
لَيْسَ عَلَيْكَ هُدٰاهُمْ وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ وَ مٰا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَ مٰا تُنْفِقُونَ إِلاَّ اِبْتِغٰاءَ وَجْهِ اَللّٰهِ وَ مٰا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لاٰ تُظْلَمُونَ
أي: لا يجب عَلَيْكَ أن تجعلهم مهتدين إلى الانتهاء عما نهوا عنه من المنّ والأذي والإنفاق من الخبيث وغير ذلك، وما عليك إلا البلاغ.
وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ يَهْدِي مَنْ يَشٰاءُ يلطف بمن يعلم أنّ اللطف ينفع فيه فينتهي عما نهي عنه.
و ما تنفقوا من خير من مال فَلِأَنْفُسِكُمْ فهو لأنفسكم لا ينتفع به غيركم، فلا تمنّوا به علي من تنفقونه عليه ولا تؤذوه.
وَ مٰا تُنْفِقُونَ أي: وليست نفقتكم إِلاَّ لابتغاء وَجْهِ اَللّٰهِ ولطلب ما عنده فما بالكم تمنّون بها وتنفقون الخبيث الذي لا يتوجه بمثله إلى اللّه.
وَ مٰا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ثوابه أضعافا مضاعفة، فلا عذر لكم في أن ترغبوا عن الإنفاق، وأن يكون على أحسن الوجوه وأجملها.
لِلْفُقَرٰاءِ اَلَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ لاٰ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي اَلْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ اَلْجٰاهِلُ أَغْنِيٰاءَ مِنَ اَلتَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمٰاهُمْ لاٰ يَسْئَلُونَ اَلنّٰاسَ إِلْحٰافاً وَ مٰا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اَللّٰهَ بِهِ عَلِيمٌ
الجار يتعلّق بمحذوف، والتقدير: اعمدوا لِلْفُقَرٰاءِ أو اجعلوا ما تنفقونه للفقراء. ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي: صدقاتكم للفقراء.
ص: 224
و اَلَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ هم الذين أحصرهم الجهاد.
لاٰ يَسْتَطِيعُونَ لاشتغالهم به ضَرْباً فِي اَلْأَرْضِ للكسب. قيل: وهم أصحاب الصفّة وهم نحو من أربعمائة رجل، لم يكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر، فكانوا في صفّة المسجد - وهي سقيفته - يتعلّمون القرآن بالليل ويرضخون(1)
النوى بالنهار، وكانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فمن كان عنده فضل أتاهم به إذا أمسى(2).
يَحْسَبُهُمُ اَلْجٰاهِلُ بحالهم أَغْنِيٰاءَ مِنَ اَلتَّعَفُّفِ أي: مستغنين من أجل تعففهم عن المسألة.
تَعْرِفُهُمْ بِسِيمٰاهُمْ من صفرة الوجه ورثاثة الحال، أو الخضوع الذي هو شعار الصالحين.
لاٰ يَسْئَلُونَ اَلنّٰاسَ إِلْحٰافاً أي إلحاحا، ومعناه: إن سألوا سألوا بتلطّف ولم يلحّوا. وقيل: هو نفي للسؤال والإلحاف جميعا(3) كقول امرئ القيس:
على لاحب لا يهتدى بمناره(4)
يريد: نفي المنار والاهتداء به.
اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ سِرًّا وَ عَلاٰنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لاٰ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاٰ هُمْ يَحْزَنُونَ
ص: 225
أي: يعمّون أوقاتهم وأحوالهم بالصدقة لحرصهم علي الخير. وعن ابن عباس: (نزلت في علي عليه السلام، كانت معه أربعة دراهم فتصدّق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا وبدرهم سرا وبدرهم علانية)(1). وروي ذلك عن الباقر والصادق عليهما السلام(2).
اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ اَلرِّبٰا لاٰ يَقُومُونَ إِلاّٰ كَمٰا يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطٰانُ مِنَ اَلْمَسِّ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قٰالُوا إِنَّمَا اَلْبَيْعُ مِثْلُ اَلرِّبٰا وَ أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ وَ حَرَّمَ اَلرِّبٰا فَمَنْ جٰاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهىٰ فَلَهُ مٰا سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اَللّٰهِ وَ مَنْ عٰادَ فَأُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ
اَلرِّبَوا كتب بالواو علي لغة من يفخم كما كتبت الصلوة والزكوة بالواو، وزيدت الألف بعدها تشبيها بواو الجمع.
لاٰ يَقُومُونَ إذا بعثوا من قبورهم إِلاّٰ كَمٰا يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطٰانُ أي: المصروع مِنَ اَلْمَسِّ وهو الجنون، ورجل ممسوس [أي: ممسوس](3).
وتعلّق من ب - لاٰ يَقُومُونَ أي: لا يقومون من المسّ الذي بهم إلا كما يقوم المصروع، ويجوز أن يتعلّق ب - يقوم أي: كما يقوم المصروع من جنونه، والمعنى: إنّهم يقومون يوم القيامة مخبلين كالمصروعين يعرفون بتلك السيماء عند أهل الموقف.
ذٰلِكَ العقاب بسبب بِأَنَّهُمْ قٰالُوا إِنَّمَا اَلْبَيْعُ مِثْلُ اَلرِّبٰا أي: البيع الذي لا ربا فيه مثل البيع الذي فيه الربا، وقوله: وَ أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ وَ حَرَّمَ اَلرِّبٰا إنكار
ص: 226
لتسويتهم بينهما، ودلالة علي بطلان قياسهم الربا علي البيع.
فَمَنْ جٰاءَهُ مَوْعِظَةٌ أي: فمن بلغه وعظ مِنْ رَبِّهِ وزجر بالنهي عن الربا فَانْتَهىٰ فتبع النهي وامتنع منه فَلَهُ مٰا سَلَفَ فلا يؤاخذ بما مضى منه وَ أَمْرُهُ إِلَى اَللّٰهِ يحكم في شأنه يوم القيامة.
وَ مَنْ عٰادَ إلى الربا بعد التحريم وقال ما كان يقوله: من أنّ البيع مثل الربا فَأُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ لأنّ ذلك القول لا يصدر إلا من كافر مستحلّ للربا، فلهذا توعد بعذاب الأبد.
يَمْحَقُ اَللّٰهُ اَلرِّبٰا وَ يُرْبِي اَلصَّدَقٰاتِ وَ اَللّٰهُ لاٰ يُحِبُّ كُلَّ كَفّٰارٍ أَثِيمٍ
يَمْحَقُ اَللّٰهُ اَلرِّبٰا أي: يذهب ببركته ويهلك المال الذي يدخل فيه.
وَ يُرْبِي اَلصَّدَقٰاتِ أي: ما يتصدّق به بأن يضاعف عليه الثواب ويزيد المال الذي أخرجت منه الصدقة ويبارك فيه، وفي الحديث: (ما نقص مال من صدقة)(1).
وَ اَللّٰهُ لاٰ يُحِبُّ كُلَّ كَفّٰارٍ أَثِيمٍ هذا تغليظ في أمر الربا، وإيذان بأنّه من فعل الكفار لا من فعل المسلمين.
إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ وَ أَقٰامُوا اَلصَّلاٰةَ وَ آتَوُا اَلزَّكٰاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لاٰ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاٰ هُمْ يَحْزَنُونَ يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ ذَرُوا مٰا بَقِيَ مِنَ اَلرِّبٰا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اَللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوٰالِكُمْ لاٰ تَظْلِمُونَ وَ لاٰ
ص: 227
تُظْلَمُونَ
الفرق بين قوله: لَهُمْ أَجْرُهُمْ وقوله في موضع آخر: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ (1)
أنّ الفاء فيها دلالة علي أنّ الإنفاق به استحقّ الأجر، وطرح الفاء عار عن هذه الدلالة.
وَ ذَرُوا مٰا بَقِيَ مِنَ اَلرِّبٰا روي: أنّها نزلت في ثقيف، وكان لهم علي قوم من قريش مال فطالبوهم عند المحلّ بالمال والربا(2)، وقيل: إنّهم أخذوا ما شرطوا علي الناس من الربا وبقيت لهم بقايا فأمروا أن يتركوها ولا يطالبوا بها(3).
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إن صحّ إيمانكم.
فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اَللّٰهِ أي: فاعلموا بها، من أذن بالشيء: إذا علم به. وقرئ:
فآذنوا، أي: فأعلموا بها غيركم، وهو من الأذن وهو الاستماع، لأنه من طرق العلم.
والمعنى: فَأْذَنُوا بنوع من الحرب عظيم من عند اَللّٰهِ وَ رَسُولِهِ .
وَ إِنْ تُبْتُمْ من الارتباء فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوٰالِكُمْ لاٰ تَظْلِمُونَ المديونين بطلب الزيادة وَ لاٰ تُظْلَمُونَ بالنقصان منها.
وَ إِنْ كٰانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلىٰ مَيْسَرَةٍ وَ أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَ اِتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اَللّٰهِ ثُمَّ تُوَفّٰى كُلُّ نَفْسٍ مٰا كَسَبَتْ وَ هُمْ لاٰ يُظْلَمُونَ
أي: و إن وقع غريم من غرمائكم ذُو عُسْرَةٍ أي: ذو إعسار.
ص: 228
فَنَظِرَةٌ أي: فالحكم أو فالأمر نظرة، أي: إنظار.
إِلىٰ مَيْسَرَةٍ إلى يسار، أي: وقت يسار، وهو خبر في معنى الأمر. والمراد:
فأنظروه إلي وقت يساره، والميسرة يضم السين وفتحها لغتان، وقرئ: (إلى ميسره) بالإضافة إلى الهاء وحذف التاء عند الإضافة، كقوله: وَ إِقٰامَ اَلصَّلاٰةِ (1).
وَ أَنْ تَصَدَّقُوا أي: تتصدّقوا خَيْرٌ لَكُمْ ندب سبحانه إلى أن يتصدّقوا برؤوس أموالهم علي من أعسر من غرمائهم أو ببعضها، كما قال: وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوىٰ (2).
إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنّه خير لكم.
وقرئ: ترجعون و تُرْجَعُونَ علي البناء للفاعل والمفعول، أي: واخشوا واحذروا يَوْماً تردّون فِيهِ إِلَى جزاء اَللّٰهِ . وعن ابن عباس: (إنّها آخر آية نزل بها جبرئيل وقال: ضعها في رأس المائتين والثمانين من البقرة)(3).
يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا تَدٰايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كٰاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَ لاٰ يَأْبَ كٰاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمٰا عَلَّمَهُ اَللّٰهُ فَلْيَكْتُبْ وَ لْيُمْلِلِ اَلَّذِي عَلَيْهِ اَلْحَقُّ وَ لْيَتَّقِ اَللّٰهَ رَبَّهُ وَ لاٰ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كٰانَ اَلَّذِي عَلَيْهِ اَلْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاٰ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَ اِسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونٰا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ اِمْرَأَتٰانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ اَلشُّهَدٰاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدٰاهُمٰا
ص: 229
فَتُذَكِّرَ إِحْدٰاهُمَا اَلْأُخْرىٰ وَ لاٰ يَأْبَ اَلشُّهَدٰاءُ إِذٰا مٰا دُعُوا وَ لاٰ تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلىٰ أَجَلِهِ ذٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اَللّٰهِ وَ أَقْوَمُ لِلشَّهٰادَةِ وَ أَدْنىٰ أَلاّٰ تَرْتٰابُوا إِلاّٰ أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً حٰاضِرَةً تُدِيرُونَهٰا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ أَلاّٰ تَكْتُبُوهٰا وَ أَشْهِدُوا إِذٰا تَبٰايَعْتُمْ وَ لاٰ يُضٰارَّ كٰاتِبٌ وَ لاٰ شَهِيدٌ وَ إِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اَللّٰهُ وَ اَللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ
إِذٰا تَدٰايَنْتُمْ أي: تعاملتم وداين بعضكم بعضا، تقول: داينت الرجل إذا عاملته بدين معطيا أو آخذا، كما تقول: بايعته إذا بعته أو باعك.
بِدَيْنٍ إِلىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى أي: بدين مؤجل فَاكْتُبُوهُ ، وإنّما ذكّر (الدّين) ليرجع الضمير إليه في قوله تعالي: فَاكْتُبُوهُ ، ولأنّ الدين يتنوع إلى مؤجل وحال، وقيل: مُسَمًّى ليعلم أنّ من حقّ الأجل أن يكون معلوما موقتا بالسنين أو الشهور أو الأيّام، وهذا الأمر مندوب إليه، قال ابن عباس: (والمراد به السلم، لما حرم اللّه الربا أباح السلم)(1).
وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كٰاتِبٌ بِالْعَدْلِ أي: كاتب مأمون علي ما يكتب، يكتب بالاحتياط والنصفة لا يزيد على ما يجب أن يكتب ولا ينقص، فقوله:
بالعدل صفة ل - كاتب . وفي هذا دلالة علي أنّ الكاتب يجب أن يكون فقيها عالما بالشروط حتى يجيء مكتوبه معدلا بالشرع.
وَ لاٰ يَأْبَ كٰاتِبٌ أي: ولا يمتنع أحد من الكتّاب أَنْ يَكْتُبَ كَمٰا عَلَّمَهُ
ص: 230
الله كتابة الوثائق، وقيل: كما نفعه اللّه بتعليمها فلينفع الناس بكتابته(1). وهو فرض علي الكفاية عند أكثر المفسرين(2).
ويجوز أن يتعلّق كَمٰا عَلَّمَهُ اَللّٰهُ ب - أَنْ يَكْتُبَ فيكون نهيا عن الامتناع عن الكتابة المقيّدة، ثم قيل له: فَلْيَكْتُبْ أي: فليكتب تلك الكتابة ولا يعدل عنها، ويجوز أن يتعلّق بقوله: فَلْيَكْتُبْ فيكون نهيا عن الامتناع عن الكتابة على الإطلاق، ثم أمر بها مقيّدة.
وَ لْيُمْلِلِ اَلَّذِي عَلَيْهِ اَلْحَقُّ أي: وليكن المملي من وجب عليه الحقّ لأنّه هو المشهود علي ثباته في ذمته وإقراره به، والإملاء والإملال لغتان نطق بهما القرآن:
فَهِيَ تُمْلىٰ عَلَيْهِ (3) .
وَ لاٰ يَبْخَسْ مِنْهُ أي: من الحقّ شَيْئاً .
فَإِنْ كٰانَ اَلَّذِي عَلَيْهِ اَلْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً السفيه: المحجور عليه لتبذيره أو الجاهل بالإملاء، والضعيف: الصبي أو الشيخ الخرف.
أَوْ لاٰ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ بنفسه لعيّ أو خرس.
فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ الذي يلي أمره من وصيّ إن كان سفيها أو ضعيفا، أو وكيل إن كان غير مستطيع، أو ترجمان يملّ عنه وهو يصدّقه، ففي قوله: أَنْ يُمِلَّ هُوَ أنّه غير مستطيع بنفسه ولكن بغيره وهو الذي يترجم عنه.
وَ اِسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ واطلبوا أن يشهد لكم شهيدان علي الدين.
ص: 231
مِنْ رِجٰالِكُمْ من رجال المؤمنين.
فَإِنْ لَمْ يَكُونٰا فإن لم يكن الشهيدان رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ اِمْرَأَتٰانِ فليشهد رجل وامرأتان. وشهادة النساء مقبولة عندنا في غير رؤية الهلال والطلاق مع الرجال علي تفصيل فيه، وهي مقبولة علي الانفراد فيما لا يستطيع الرجال النظر إليه مثل العذرة والأمور الباطنة للنساء(1).
مِمَّنْ تَرْضَوْنَ ممن تعرفون عدالته وهو مرضي عندكم.
مِنَ اَلشُّهَدٰاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدٰاهُمٰا أن لا تهتدي إحدي المرأتين للشهادة بأن تنساها من قولهم: ضل الطريق: إذا لم يهتد له، وهو في موضع النصب بأنّه مفعول له، أي: إرادة أن تضل. لما كان الضلال سببا للإذكار كانت إرادة الضلال إرادة للإذكار، فكأنّه قيل: إرادة أن تذكّر إحداهما الأخري إن ضلت، ومثله قولهم:
أعددت الخشبة أن يميل الحائط فادعمه. وقرئ: (فتذكر)، وهما لغتان، يقال:
(أذكره) و (ذكّره)، وقرأ حمزة: (إن تضل إحداهما) علي الشرط (فتذكر) بالرفع، كقوله: وَ مَنْ عٰادَ فَيَنْتَقِمُ اَللّٰهُ مِنْهُ (2).
وَ لاٰ يَأْبَ اَلشُّهَدٰاءُ إِذٰا مٰا دُعُوا ليقيموا الشهادة، وقيل: ليستشهدوا، وقيل لهم: شهداء قبل التحمّل، تنزيلا لما يقارب منزلة الكائن.
وَ لاٰ تَسْئَمُوا ولا تملّوا أن تكتبوا الحقّ صَغِيراً كان الحقّ أَوْ كَبِيراً إِلىٰ أَجَلِهِ إلي وقته الذي اتفق الغريمان علي تسميته.
ذٰلِكُمْ إشارة إلى أَنْ تَكْتُبُوهُ لأنّه في معنى المصدر، أي: ذلكم الكتب.
ص: 232
أَقْسَطُ عِنْدَ اَللّٰهِ أي: أعدل، من القسط وَ أَقْوَمُ لِلشَّهٰادَةِ وأعون علي إقامة الشهادة وَ أَدْنىٰ أَلاّٰ تَرْتٰابُوا وأقرب من انتفاء الريب في مبلغ الحقّ والأجل.
إِلاّٰ أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً حٰاضِرَةً تُدِيرُونَهٰا أريد بالتجارة: ما يتجر فيه من الأبدال، والمعنى: إلا أن تتبايعوا بيعا ناجزا يدا بيد فلا بأس أن لا تكتبوه، لأنّه لا يتوهم فيه ما يتوهم في التداين.
ومعنى تُدِيرُونَهٰا بَيْنَكُمْ : تعاطونها يدا بيد. وقرئ تِجٰارَةً حٰاضِرَةً بالنصب علي معنى: إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة.
وَ أَشْهِدُوا إِذٰا تَبٰايَعْتُمْ أمر بالإشهاد مطلقا لأنّه أحوط.
وَ لاٰ يُضٰارَّ يحتمل البناء للفاعل والمفعول، والمعنى: نهى الكاتب والشهيد عن ترك الإجابة إلى ما يطلب منهما، وعن التحريف والزيادة والنقصان، أو النهي عن الضرار بهما بأن يعجلا عن مهم، أو لا يكلف الكاتب الكتبة في حال عذر ولا يتفرغ لذلك، ولا يدعى الشاهد إلى إثبات الشهادة أو إقامتها في وقت لا يتفرغ له.
وَ إِنْ تَفْعَلُوا وءان تضاروا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ فإنّ الضرار فسوق، وقيل: وإن تفعلوا شيئا مما نهيتم عنه فإنّه خروج مما أمر اللّه سبحانه به(1).
وَ إِنْ كُنْتُمْ عَلىٰ سَفَرٍ وَ لَمْ تَجِدُوا كٰاتِباً فَرِهٰانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ اَلَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمٰانَتَهُ وَ لْيَتَّقِ اَللّٰهَ رَبَّهُ وَ لاٰ تَكْتُمُوا اَلشَّهٰادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْهٰا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ
ص: 233
عَلىٰ سَفَرٍ أي: مسافرين.
فَرِهٰانٌ أي: فالذي يستوثق به رهان. وقرئ: (فرهن)، وكلاهما جمع الرهن، وقد يخفف فيقال: (رهن). وليس الغرض تخصيص الارتهان بحال السفر، ولكن السفر لما كان مظنة لإعواز الكتب والإشهاد، أمر المسافر بأن يقيم الارتهان مقام الكتاب والإشهاد علي سبيل الإرشاد إلي حفظ المال، والقبض شرط في صحة الرهن.
فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي: فإن أمن بعض الدائنين بعض المديونين لحسن ظنه به فَلْيُؤَدِّ اَلَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمٰانَتَهُ وهو الذي عليه الحقّ ، أمر بأن يؤديه إلى صاحب الحقّ وافيا وقت محلّه من غير مطل ولا تسويف. وسمّي الدين أمانة لائتمانه عليه بترك الارتهان منه.
وَ لاٰ تَكْتُمُوا اَلشَّهٰادَةَ خطاب للشهود.
وَ مَنْ يَكْتُمْهٰا مع علمه بالمشهود به وتمكّنه من أدائها.
فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ هو خبر (إن)، و قَلْبُهُ مرفوع به علي الفاعلية، كأنّه قيل: فإنّه يأثم قلبه، والمعنى فيه: إ نّ كتمان الشهادة من آثام القلوب ومن معاظم الذنوب.
لِلّٰهِ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ وَ إِنْ تُبْدُوا مٰا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحٰاسِبْكُمْ بِهِ اَللّٰهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشٰاءُ وَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ
أي: وَ إِنْ تظهروا مٰا فِي أَنْفُسِكُمْ من السوء أَوْ تُخْفُوهُ فإنّ
ص: 234
اللّه تعالى يعلم ذلك ويجازيكم عليه، ولا يدخل فيما يخفيه الإنسان من الوساوس وحديث النفس، لأنّ ذلك مما ليس في وسعه الخلو منه، ولكن ما اعتقده وعزم عليه. وعن عبد اللّه بن عمر: (أنّه تلاها فقال: لئن أخذنا اللّه بهذا لنهلكن، ثم بكى حتى سمع نشيجه(1)، فذكر لابن عباس فقال: يغفر اللّه لأبي عبد الرحمن، قد وجد المسلمون منها مثل ما وجد، فنزل: لاٰ يُكَلِّفُ اَللّٰهُ ... الآية(2)(3).
آمَنَ اَلرَّسُولُ بِمٰا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّٰهِ وَ مَلاٰئِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لاٰ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قٰالُوا سَمِعْنٰا وَ أَطَعْنٰا غُفْرٰانَكَ رَبَّنٰا وَ إِلَيْكَ اَلْمَصِيرُ
وَ اَلْمُؤْمِنُونَ يجوز أن يكون عطفا علي اَلرَّسُولُ ، فيكون الضمير في كُلٌّ الذي التنوين نائب عنه راجعا إلى الرسول والمؤمنين، أي: كلهم آمَنَ بِاللّٰهِ وَ مَلاٰئِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ ويوقف عليه.
ويجوز أن يكون مبتدأ فيكون الضمير للمؤمنين، أي: كل واحد منهم آمن.
وقرئ: (وكتابه)، ويراد به: الجنس أو القرآن، وعن ابن عباس قال: (الكتاب أكثر من الكتب)(4). وإنّما قال ذلك لأنه إذا أريد بالواحد الجنس والجنسية قائمة في وحدان الجنس كلها لم يخرج منه شيء، وأما الجمع فلا يدخل تحته إلا ما فيه الجنسية من الجموع.
ص: 235
[لاٰ نُفَرِّقُ ](1) يقولون: لاٰ نُفَرِّقُ .
وقوله: سَمِعْنٰا بمعنى: أجبنا.
و غُفْرٰانَكَ منصوب بإضمار فعله، يقال: غفرانك لا كفرانك، أي:
نستغفرك ولا نكفرك.
لاٰ يُكَلِّفُ اَللّٰهُ نَفْساً إِلاّٰ وُسْعَهٰا لَهٰا مٰا كَسَبَتْ وَ عَلَيْهٰا مَا اِكْتَسَبَتْ رَبَّنٰا لاٰ تُؤٰاخِذْنٰا إِنْ نَسِينٰا أَوْ أَخْطَأْنٰا رَبَّنٰا وَ لاٰ تَحْمِلْ عَلَيْنٰا إِصْراً كَمٰا حَمَلْتَهُ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِنٰا رَبَّنٰا وَ لاٰ تُحَمِّلْنٰا مٰا لاٰ طٰاقَةَ لَنٰا بِهِ وَ اُعْفُ عَنّٰا وَ اِغْفِرْ لَنٰا وَ اِرْحَمْنٰا أَنْتَ مَوْلاٰنٰا فَانْصُرْنٰا عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْكٰافِرِينَ
الوسع: ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه، أي: لاٰ يُكَلِّفُ اَللّٰهُ نَفْساً إِلاّٰ ما يتيسر عليها ويتسع فيه طوقها، وهذا إخبار عن عدله ورحمته.
لَهٰا مٰا كَسَبَتْ من خير وَ عَلَيْهٰا مَا اِكْتَسَبَتْ من شر، لا يؤاخذ بذنبها غيرها ولا يثاب بطاعتها غيرها. وذكر النسيان والخطأ والمراد بهما: ما هما مسببان عنه من التفريط والإغفال. وقيل: إنّ المراد ب - نَسِينٰا تركنا، و ب - أَخْطَأْنٰا أذنبنا(2). وروي عن ابن عباس: (إنّ معناه: لا تعاقبنا إن عصيناك جاهلين أو متعمدين)(3).
والإصر: العبء الذي يأصر حامله، أي: يحبسه مكانه لا يستقل به لثقله،
ص: 236
استعير المتكلمون الشاق نحو: قتل الأنفس، وقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب، وغير ذلك.
وَ لاٰ تُحَمِّلْنٰا مٰا لاٰ طٰاقَةَ لَنٰا بِهِ من العقوبات النازلة بمن قبلنا، طلبوا الإعفاء عن التكليفات الشاقة التي كلفها من قبلهم، ثم عما نزل عليهم من العقوبات علي تفريطهم في المحافظة عليها.
أَنْتَ مَوْلاٰنٰا سيدنا ونحن عبيدك، أو متولي أمورنا وناصرنا.
فَانْصُرْنٰا فإنّ من حقّ المولى أن ينصر عبده، أو فإنّ ذلك عادتك، أي:
فأعنّا عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْكٰافِرِينَ بالقهر لهم والغلبة بالحجّة عليهم.
وروي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: (أوتيت خواتيم (سورة البقرة) من كنز تحت العرش لم يؤتهن نبي قبلي)(1).
ص: 237
مدنية كلها، وهي مائتا آية. عدّ الكوفي الم آية و وَ اَلْإِنْجِيلَ الثاني آية، وترك وَ أَنْزَلَ اَلْفُرْقٰانَ ، وعدّ البصري وَ رَسُولاً إِلىٰ بَنِي إِسْرٰائِيلَ آية.
وفي حديث أبيّ : (ومن قرأ (سورة آل عمران) أعطي بكل اية منها أمانا على جسر جهنم)(1). وروي بريدة(2) عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: (تعلّموا (سورة البقرة وسورة آل عمران) فإنّهما الزهراوان، وإنّهما تظلان صاحبهما يوم القيامة كأنّهما غمامتان، أو غيابتان، أو فرقان من طير صواف)(3).
بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ الم اَللّٰهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ اَلْكِتٰابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهِ وَ أَنْزَلَ اَلتَّوْرٰاةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنّٰاسِ وَ أَنْزَلَ اَلْفُرْقٰانَ إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآيٰاتِ اَللّٰهِ لَهُمْ عَذٰابٌ شَدِيدٌ وَ اَللّٰهُ عَزِيزٌ ذُو اِنْتِقٰامٍ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَخْفىٰ عَلَيْهِ شَيْ ءٌ فِي اَلْأَرْضِ وَ لاٰ فِي اَلسَّمٰاءِ
ص: 238
من فتح (ميم اللّه) ألقى عليه حركة الهمزة حين أسقطها للتخفيف.
وقيل: نزّل اَلْكِتٰابَ وهو القرآن وَ أَنْزَلَ اَلتَّوْرٰاةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ لأنّ القرآن نزل منجّما، ونزل الكتابان جملة.
بِالْحَقِّ أي: بالصدق وبما توجبه الحكمة مُصَدِّقاً لِمٰا قبله من كتاب ورسول.
وَ أَنْزَلَ اَلْفُرْقٰانَ يعني: القرآن، كرر ذكره بما هو نعت له ومدح من كونه فارقا بين الحقّ والباطل، بعد ما ذكره باسم الجنس تعظيما لشأنه، أو أراد جنس الكتب السماوية، لأنّها كلها فرقان تفرق بين الحقّ والباطل. الصادق عليه السلام: (الفرقان كل آية محكمة في الكتاب)(1).
إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآيٰاتِ اَللّٰهِ من الكتب المنزلة وغيرها لَهُمْ عَذٰابٌ شَدِيدٌ .
وَ اَللّٰهُ عَزِيزٌ ذُو اِنْتِقٰامٍ له انتقام شديد، لا يقدر علي مثله منتقم.
لاٰ يَخْفىٰ عَلَيْهِ شَيْ ءٌ فِي العالم فعبّر عنه بالأرض والسماء.
هُوَ اَلَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي اَلْأَرْحٰامِ كَيْفَ يَشٰاءُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ
هُوَ اَلَّذِي يخلق صوركم المختلفة المتفاوتة فِي اَلْأَرْحٰامِ .
كَيْفَ يَشٰاءُ علي أي صفة يشاء من قبيح أو صبيح، ذكر أو أنثى.
لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ اَلْعَزِيزُ في جلاله اَلْحَكِيمُ في أفعاله. وعن سعيد بن
ص: 239
جبير(1) قال: (هذا حجاج علي من زعم أنّ عيسى كان ربّا)(2)، كأنّه نبّه بكونه مصوّرا في الرحم علي أنّه عبد كغيره، وكان يخفى عليه مالا يخفى علي اللّه.
هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ اَلْكِتٰابَ مِنْهُ آيٰاتٌ مُحْكَمٰاتٌ هُنَّ أُمُّ اَلْكِتٰابِ وَ أُخَرُ مُتَشٰابِهٰاتٌ فَأَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مٰا تَشٰابَهَ مِنْهُ اِبْتِغٰاءَ اَلْفِتْنَةِ وَ اِبْتِغٰاءَ تَأْوِيلِهِ وَ مٰا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللّٰهُ وَ اَلرّٰاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّٰا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنٰا وَ مٰا يَذَّكَّرُ إِلاّٰ أُولُوا اَلْأَلْبٰابِ
آيٰاتٌ مُحْكَمٰاتٌ أحكمت عباراتها بأن حفظت من الاحتمال والاشتباه.
هُنَّ أُمُّ اَلْكِتٰابِ أي: أصل الكتاب، تحمل المتشابهات عليها وتردّ إليها وَ أُخَرُ مُتَشٰابِهٰاتٌ مشتبهات محتملات. ولو كان القران كله محكما لتعلّق الناس به لسهولة مأخذه، ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى النظر والاستدلال، ولو فعلوا ذلك لعطّلوا الطريق الذي به يتوصل إلى معرفة اللّه وتوحيده، ولكان لا يتبين فضل العلماء الذين يتعبون القرائح في استخراج معاني المتشابه وردّ ذلك إلى المحكم.
فَأَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ أي: ميل عن الحقّ .
فَيَتَّبِعُونَ مٰا تَشٰابَهَ مِنْهُ فيتعلّقون بالمتشابه الذي يحتمل ما يذهب إليه أهل البدعة مما لا يطابق المحكم، ويحتمل ما يطابقه من قول أهل الحقّ .
اِبْتِغٰاءَ اَلْفِتْنَةِ طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم وَ اِبْتِغٰاءَ تَأْوِيلِهِ وطلب أن يؤوّلوه التأويل الذي يشتهونه.
وَ مٰا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللّٰهُ وَ اَلرّٰاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ أي: لا يهتدي إلى تأويله الحقّ
ص: 240
الذي يجب أن يحمل عليه إلا اللّه والعلماء الذين رسخوا في العلم، أي: ثبتوا فيه وتمكّنوا.
وبعضهم يقف على إِلاَّ اَللّٰهُ ويبتدئ وَ اَلرّٰاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّٰا بِهِ ، ويفسّرون المتشابه بأنّه ما استأثر اللّه بعلمه. والأوّل أوجه، وهو المروي عن الباقر عليه السلام قال: (كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أفضل الراسخين في العلم)(1).
و يَقُولُونَ كلام مستأنف موضح لحال الراسخين، والمعنى: هؤلاء الراسخون العالمون بالتأويل يَقُولُونَ آمَنّٰا بِهِ أي: بالمتشابه.
كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنٰا أي: كل واحد منه ومن المحكم من عنده، أو بالكتاب كل من متشابهه ومحكمه من عند اللّه الحكيم الذي لا يتناقض كلامه.
وَ مٰا يَذَّكَّرُ إِلاّٰ أُولُوا اَلْأَلْبٰابِ مدح للراسخين بحسن التأمل والتفكر وا لتذكر.
ويجوز أن يكون يَقُولُونَ حالا من الراسخين.
رَبَّنٰا لاٰ تُزِغْ قُلُوبَنٰا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنٰا وَ هَبْ لَنٰا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ اَلْوَهّٰابُ رَبَّنٰا إِنَّكَ جٰامِعُ اَلنّٰاسِ لِيَوْمٍ لاٰ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُخْلِفُ اَلْمِيعٰادَ
لاٰ تُزِغْ قُلُوبَنٰا لا تختبرنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنٰا وأرشدتنا إلى دينك، ونظيره قوله: فَلَمّٰا كُتِبَ عَلَيْهِمُ اَلْقِتٰالُ تَوَلَّوْا (2)، فأضافوا ما يقع من زيغ القلوب [إليه سبحانه لما كان عند امتحانه، أو لا تمنعنا لطفك الذي معه تستقيم
ص: 241
القلوب](1) فتميل قلوبنا عن الإيمان بعد إذ لطفت بنا.
وَ هَبْ لَنٰا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً من عندك نعمة بالتوفيق والمعونة.
إِنَّكَ جٰامِعُ اَلنّٰاسِ لِيَوْمٍ تجمعهم لحساب يوم أو لجزاء يوم، كقوله: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ اَلْجَمْعِ (2).
و اَلْمِيعٰادَ : الموعد.
إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوٰالُهُمْ وَ لاٰ أَوْلاٰدُهُمْ مِنَ اَللّٰهِ شَيْئاً وَ أُولٰئِكَ هُمْ وَقُودُ اَلنّٰارِ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا فَأَخَذَهُمُ اَللّٰهُ بِذُنُوبِهِمْ وَ اَللّٰهُ شَدِيدُ اَلْعِقٰابِ
(من) في قوله: مِنَ اَللّٰهِ مثل الذي في قوله: إِنَّ اَلظَّنَّ لاٰ يُغْنِي مِنَ اَلْحَقِّ شَيْئاً (3). والمعنى: لا تغني عَنْهُمْ أَمْوٰالُهُمْ من رحمة اَللّٰهِ أو من طاعة اللّه شَيْئاً أي: بدل رحمة اللّه وطاعته، ومثله: (ولا ينفع ذا الجد منك الجد)(4)، أي: لا ينفعه جدّه من الدنيا بدلك، أي: بدل طاعتك وعبادتك وما عندك.
وَقُودُ اَلنّٰارِ أي: حطب النار تتقد النار بأجسامهم.
والدأب: مصدر (دأب في العمل) إذا كدح فيه، فوضع موضع ما عليه الإنسان من شأنه وحاله. ومحلّ (الكاف) رفع، وتقديره: دأب هؤلاء الكفرة كَدَأْبِ من قبلهم من آلِ فِرْعَوْنَ وغيرهم. ويجوز أن يكون منصوب المحلّ بقوله: لَنْ تُغْنِيَ أو بالوقود. والمعنى: لن تغني عنهم أموالهم مثل ما لم
ص: 242
تغن عن آل فرعون، أو توقد بهم النار كما توقد بهم، كما تقول: (إنّك لتظلم الناس كدأب أبيك)، تريد: كظلم أبيك، أي: مثل ما كان يظلمهم، وإنّ فلانا لمحارف(1)
كدأب أبيه، تريد: كما حورف أبوه.
كَذَّبُوا بِآيٰاتِنٰا تفسير لدأبهم بما فعلوا وفعل بهم، كأنّه جواب لمن يسأل عن حالهم.
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ إِلىٰ جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ اَلْمِهٰادُ قَدْ كٰانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ اِلْتَقَتٰا فِئَةٌ تُقٰاتِلُ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ أُخْرىٰ كٰافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ اَلْعَيْنِ وَ اَللّٰهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشٰاءُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي اَلْأَبْصٰارِ
اَلَّذِينَ كَفَرُوا قيل: هم اليهود جمعهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعد وقعة بدر في سوق بني قينقاع فقال: يا معشر اليهود، إحذروا مثل ما نزل بقريش، وأسلموا قبل أن ينزل بكم مثل ما نزل بهم، فقد عرفتم أنّي نبيّ مرسل. فقالوا: (لا يغرّنّك أنّك لقيت قوما أغمارا(2) لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، ولئن قاتلتنا لعرفت إنّا نحن الناس) فنزلت الآية(3).
ومن قرأ: (سيغلبون ويحشرون) فهو في مثل قوله: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مٰا قَدْ سَلَفَ (4) أي: قل لهم قولي لك: سيغلبون، ومن قرأ بالتاء
ص: 243
أجرى الجميع علي الخطاب، والمعنى: ستصيرون مغلوبين في الدنيا وتحشرون إلى جهنم في الآخرة.
وقيل: إنّ المراد بالذين كفروا: مشركو مكة(1)، أي: ستغلبون يوم بدر، وأيّهما أريد فقد فعل الله ذلك، فإنّ اليهود قد غلبوا بقتل بني قريظة وإجلاء بني النضير، [وفتح خيبر](2) ووضع الجزية على من بقي منهم، وغلب المشركون أيضا.
قَدْ كٰانَ لَكُمْ آيَةٌ أي: دلالة معجزة علي صدق نبيّنا محمّد صلى الله عليه و آله و سلم.
فِي فِئَتَيْنِ اِلْتَقَتٰا يوم بدر: فرقة تُقٰاتِلُ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ أي: في دينه وطاعته وهم الرسول وأصحابه، وفرقة أُخْرىٰ كٰافِرَةٌ وهم مشركو مكة.
يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ يري المشركون المسلمين مثلي المشركين في العدد قريبا من ألفين أو مثلي عدد المسلمين ستمائة ونيفا وعشرين، أراهم اللّه إيّاهم مع قلّتهم أضعافهم ليجبنوا عن قتالهم، وكان ذلك مددا من اللّه لهم كما أمدّهم بالملائكة.
ويدلّ عليه قراءة من قرأ بالتاء، أي: ترون يا مشركي قريش المسلمين مثلي فئتكم الكافرة أو مثليهم أنفسهم.
فإن قيل: فكيف قال في سورة الأنفال: وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ (3)؟.
فالجواب: أنّهم قلّلوا أوّلا في أعينهم حتى اجترؤوا عليهم، فلما التحم القتال كثّروا في أعينهم حتى غلبوا، فكان التقليل والتكثير في حالتين مختلفتين.
رَأْيَ اَلْعَيْنِ يعني رؤية ظاهرة مكشوفة معاينة.
وَ اَللّٰهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشٰاءُ كما أيّد المسلمين يوم بدر.
ص: 244
زُيِّنَ لِلنّٰاسِ حُبُّ اَلشَّهَوٰاتِ مِنَ اَلنِّسٰاءِ وَ اَلْبَنِينَ وَ اَلْقَنٰاطِيرِ اَلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ اَلذَّهَبِ وَ اَلْفِضَّةِ وَ اَلْخَيْلِ اَلْمُسَوَّمَةِ وَ اَلْأَنْعٰامِ وَ اَلْحَرْثِ ذٰلِكَ مَتٰاعُ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ اَللّٰهُ عِنْدَهُ حُسْنُ اَلْمَآبِ
حُبُّ اَلشَّهَوٰاتِ أي: المشتهيات، جعل سبحانه الأعيان التي ذكرها شهوات مبالغة في كونها مشتهاة محروصا علي الاستمتاع بها.
والمزيّن هو اللّه سبحانه بما جعل في الطباع من الميل إليها تشديدا للتكليف، كقوله: إِنّٰا جَعَلْنٰا مٰا عَلَى اَلْأَرْضِ زِينَةً لَهٰا لِنَبْلُوَهُمْ (1)، وعن الحسن: (زيّنها الشيطان لهم لأنّا لا نعلم أحدا أذمّ لها من خالقها)(2).
ثم قدّم سبحانه ذكر اَلنِّسٰاءِ لأنّ الفتنة بهن أعظم، ثم ثنّى بالبنين لأنّ حبّهم داع إلى جمع الحرام. والقنطار: المال الكثير، قيل: ملء مسك ثور ذهبا(3)، وقيل: سبعون ألف دينار(4)، وقيل: مائة ألف دينار(5).
و اَلْمُقَنْطَرَةِ بنيت من لفظ القناطير للتأكيد، كما يقال: ألف مؤلّف، وبدرة مبدّرة.
و اَلْمُسَوَّمَةِ المعلّمة أو المرعية من أسام الدابة وسوّمها.
وَ اَلْأَنْعٰامِ االأزواج الثمانية.
ص: 245
ذٰلِكَ المذكور مَتٰاعُ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا .
قُلْ أَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذٰلِكُمْ لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّٰاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا وَ أَزْوٰاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ رِضْوٰانٌ مِنَ اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ بَصِيرٌ بِالْعِبٰادِ اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنٰا إِنَّنٰا آمَنّٰا فَاغْفِرْ لَنٰا ذُنُوبَنٰا وَ قِنٰا عَذٰابَ اَلنّٰارِ اَلصّٰابِرِينَ وَ اَلصّٰادِقِينَ وَ اَلْقٰانِتِينَ وَ اَلْمُنْفِقِينَ وَ اَلْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحٰارِ
تم الكلام عند قوله: ذٰلِكُمْ ، وقوله: لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّٰاتٌ كلام مستأنف فيه دلالة علي بيان ما هو خير مِنْ ذٰلِكُمْ . ويجوز أن يتعلّق اللام ب - خَيْرٌ ، واختص المتقين لأنّهم هم المنتفعون به. وترتفع جَنّٰاتٌ علي هو جنات.
وَ اَللّٰهُ بَصِيرٌ بِالْعِبٰادِ يجازيهم بأفعالهم علي قدر استحقاقهم.
اَلَّذِينَ يَقُولُونَ في محلّ نصب أو رفع علي المدح، أو في موضع جر صفة للمتقين أو للعباد، والواو المتوسطة بين الصفات للدلالة علي كمالهم في كل واحدة منها.
وَ اَلْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحٰارِ المصلّين وقت السحر، وقيل: الذين تنتهي صلاتهم إلى وقت السحر ثم يستغفرون ويدعون(1).
شَهِدَ اَللّٰهُ أَنَّهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ وَ اَلْمَلاٰئِكَةُ وَ أُولُوا اَلْعِلْمِ قٰائِماً بِالْقِسْطِ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّٰهِ
ص: 246
اَلْإِسْلاٰمُ وَ مَا اِخْتَلَفَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتٰابَ إِلاّٰ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَهُمُ اَلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِآيٰاتِ اَللّٰهِ فَإِنَّ اَللّٰهَ سَرِيعُ اَلْحِسٰابِ
شبّه سبحانه دلالته علي وحدانيته بالأفعال التي لا يقدر عليها غيره، والآيات الناطقة بتوحيده مثل سورة الإخلاص وآية الكرسي وغيرهما، بشهادة الشاهد في البيان والكشف، وكذلك إقرار الملائكة وأولي العلم بذلك.
قٰائِماً بِالْقِسْطِ مقيما للعدل فيما يقسم للعباد من الآجال والأرزاق، وفيما يأمر به عباده من الإنصاف والعمل علي السوية فيما بينهم، وانتصابه علي أنّه حال مؤكدة من اسم اللّه، كقوله: وَ هُوَ اَلْحَقُّ مُصَدِّقاً (1).
وقوله: إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّٰهِ اَلْإِسْلاٰمُ جملة مستأنفة مؤكدة للجملة الأولى، والفائدة فيه أنّ قوله: لا إله إلا هو توحيد، وقوله: قٰائِماً بِالْقِسْطِ تعديل، فإذا تبعه قوله: إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّٰهِ اَلْإِسْلاٰمُ فقد آذن أنّ الإسلام هو العدل والتوحيد، وهو الدين عند اللّه، وما عداه فليس من الدين. وقرئ: أنّ الدين بالفتح علي أنّه بدل من الأوّل، كأنّه قال: شهد اللّه أنّ الدين عند اللّه الإسلام.
و اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتٰابَ هم اليهود والنصاري. واختلافهم أنّهم تركوا الإسلام مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَهُمُ اَلْعِلْمُ أنّه الحقّ ، فثلّثت النصاري، وقالت اليهود:
عزير ابن اللّه، واختلف الفريقان في نبوة محمّد صلى الله عليه و آله و سلم وقد وجدوا نعته في كتبهم، وجاءهم العلم بأنّه رسول اللّه ونبيّه.
بَغْياً بَيْنَهُمْ أي: حسدا بينهم وطلبا منهم للرئاسة لا شبهة في الإسلام.
ص: 247
وَ مَنْ يَكْفُرْ بِآيٰاتِ اَللّٰهِ أي: بالقرآن، أو بالتوراة وا لإنجيل وما فيهما من صفة محمّد صلى الله عليه و آله و سلم.
فَإِنَّ اَللّٰهَ سَرِيعُ اَلْحِسٰابِ لا يفوته شيء من أعمالهم.
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّٰهِ وَ مَنِ اِتَّبَعَنِ وَ قُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتٰابَ وَ اَلْأُمِّيِّينَ أَ أَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اِهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمٰا عَلَيْكَ اَلْبَلاٰغُ وَ اَللّٰهُ بَصِيرٌ بِالْعِبٰادِ
فإن جادلوك في الدين فَقُلْ : أخلصت نفسي وجملتي لله وحده، لم أجعل فيها لغيره شريكا بأن أعبده وأعبد إلها معه. والمعنى: إنّ ديني التوحيد، وهو الأصل الذي يلزم جميع المكلفين الإقرار به.
وَ مَنِ اِتَّبَعَنِ عطف علي التاء في أسلمت ، ويجوز أن يكون الواو بمعنى (مع) فيكون مفعولا معه.
وَ قُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتٰابَ من اليهود والنصارى وَ اَلْأُمِّيِّينَ الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب.
أَ أَسْلَمْتُمْ يعني: إنّه قد أتاكم من البيّنات ما يوجب الإسلام، فهل أسلمتم أم أنتم بعد علي كفركم ؟، ومثله قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (1)، لفظه لفظ الاستفهام والمراد الأمر.
فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اِهْتَدَوْا فقد نفعوا أنفسهم حيث خرجوا من الضلال إلى الهدي.
وَ إِنْ تَوَلَّوْا لم يضرّوك فإنّك رسول ما عليك إلا البلاغ والتنبيه علي
ص: 248
طريق الرشد والهدي.
إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيٰاتِ اَللّٰهِ وَ يَقْتُلُونَ اَلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ يَقْتُلُونَ اَلَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ اَلنّٰاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمٰالُهُمْ فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ مٰا لَهُمْ مِنْ نٰاصِرِينَ
هم أهل الكتاب قتلت أوائلهم الأنبياء وأتباعهم من عبّاد بني إسرائيل، وكان هؤلاء راضين بما فعل أولئك، وحاولوا قتل رسول اللّه صلى الله عليه و سلم والمؤمنين لولا عصمة اللّه.
وقوله: بِغَيْرِ حَقٍّ المراد به: إنّ قتلهم لا يكون إلا بغير حقّ ، كقوله:
وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اَللّٰهِ إِلٰهاً آخَرَ لاٰ بُرْهٰانَ لَهُ بِهِ (1) .
حَبِطَتْ أَعْمٰالُهُمْ فِي اَلدُّنْيٰا إذ لم ينالوا بها الثناء والمدح، ولم تحقن دماؤهم وأموالهم، وفي اَلْآخِرَةِ لأنّهم لم يستحقّوا بها الثواب فصارت كأنّها لم تكن. وهذا هو حقيقة الحبوط، وهو الوقوع علي خلاف الوجه المأمور به فلا يستحقّ عليه الثواب والأجر.
أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتٰابِ يُدْعَوْنَ إِلىٰ كِتٰابِ اَللّٰهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلّٰى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَ هُمْ مُعْرِضُونَ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قٰالُوا لَنْ تَمَسَّنَا اَلنّٰارُ إِلاّٰ أَيّٰاماً مَعْدُودٰاتٍ وَ غَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مٰا كٰانُوا يَفْتَرُونَ فَكَيْفَ إِذٰا جَمَعْنٰاهُمْ لِيَوْمٍ لاٰ رَيْبَ فِيهِ وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مٰا كَسَبَتْ وَ هُمْ لاٰ يُظْلَمُونَ
ص: 249
يريد أحبار اليهود، أي: أعطوا حظا وافرا من التوراة، أو من جنس الكتب المنزلة.
و (من) إما للتبعيض وإما للبيان.
يُدْعَوْنَ إِلىٰ كِتٰابِ اَللّٰهِ وهو التوراة لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ وذلك أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم دخل مدارسهم فدعاهم، فقال له بعضهم: علي أي دين أنت ؟ قال: علي ملّة إبراهيم. فقالوا: إ نّ إبراهيم كان يهوديا، فقال: إنّ بيننا وبينكم التوراة، فأبوا فنزلت(1). وقيل: نزلت في الرجم وقد اختلفوا فيه(2).
ثُمَّ يَتَوَلّٰى فَرِيقٌ مِنْهُمْ استبعاد لتوليهم بعد علمهم أنّ الرجوع إلى كتاب اللّه واجب وَ هُمْ مُعْرِضُونَ الإعراض عادتهم.
ذٰلِكَ التولي والإعراض بسبب بِأَنَّهُمْ قٰالُوا لَنْ تَمَسَّنَا اَلنّٰارُ إِلاّٰ أَيّٰاماً مَعْدُودٰاتٍ أي: قلائل، أربعين يوما أو سبعة أيّام.
وَ غَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مٰا كٰانُوا يَفْتَرُونَ أي: افتراؤهم وهو قولهم: نَحْنُ أَبْنٰاءُ اَللّٰهِ وَ أَحِبّٰاؤُهُ (3).
فَكَيْفَ يصنعون إِذٰا جَمَعْنٰاهُمْ لِيَوْمٍ أي: لجزاء يوم لاٰ رَيْبَ فِيهِ أي: لا شك فيه لمن نظر في الأدلة.
وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ جزاء مٰا كَسَبَتْ .
وَ هُمْ لاٰ يُظْلَمُونَ يرجع إلى كُلُّ نَفْسٍ علي المعنى، لأنّه في معنى كل الناس.
ص: 250
قُلِ اَللّٰهُمَّ مٰالِكَ اَلْمُلْكِ تُؤْتِي اَلْمُلْكَ مَنْ تَشٰاءُ وَ تَنْزِعُ اَلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشٰاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشٰاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشٰاءُ بِيَدِكَ اَلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهٰارِ وَ تُولِجُ اَلنَّهٰارَ فِي اَللَّيْلِ وَ تُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ تُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ مِنَ اَلْحَيِّ وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشٰاءُ بِغَيْرِ حِسٰابٍ
اَللّٰهُمَّ الميم فيه عوض من (يا) ولذلك لا يجتمعان، وهذا من خصائص هذا الاسم، كما اختص بالتاء في القسم، وبدخول حرف النداء عليه وفيه لام التعريف.
مٰالِكَ اَلْمُلْكِ أي: تملك جنس الملك فتتصرّف فيه تصرّف الملاك فيما يملكونه.
تُؤْتِي اَلْمُلْكَ مَنْ تَشٰاءُ تعطي من تشاء من الملك النصيب الذي قسمته له.
وَ تَنْزِعُ اَلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشٰاءُ النصيب الذي أعطيته منه. فالملك الأوّل عام، والآخران خاصان بعضان من الكل.
وَ تُعِزُّ مَنْ تَشٰاءُ من أوليائك في الدنيا والدين وَ تُذِلُّ مَنْ تَشٰاءُ من أعدائك.
بِيَدِكَ اَلْخَيْرُ تؤتيه أولياءك على رغم من أعدائك.
تُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهٰارِ أي: تنقص من الليل وتجعل ذلك النقصان زيادة في النهار، وتنقص من النهار وتجعل ذلك النقصان زيادة في الليل.
وَ تُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ أي: من النطفة وَ تُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ أي: النطفة
ص: 251
مِنَ اَلْحَيِّ وقيل: تخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن(1).
وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشٰاءُ بِغَيْرِ حِسٰابٍ بغير تقتير.
لّا يتّخذ المؤمنون الكافرين أولاء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من اللّه في شى إلّا أن تتّقوا منهم تقاة و يحذّركم اللّه نفسه و إلى الله المصير نهى سبحانه المؤمنين أن يوالوا الْكٰافِرِينَ لقرابة بينهم أو صداقة قبل الإسلام أو غير ذلك من الأسباب التي يتصادق بها، وقد كرر ذلك في القرآن: لاٰ تَتَّخِذُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصٰارىٰ أَوْلِيٰاءَ (2)، لاٰ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ...
الآية(3). والحبّ في اللّه والبغض في اللّه أصل كبير من أصولى الإيمان.
مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ المعنى: إنّ لكم في موالاة المؤمنين مندوحة عن موالاة الكافرين فلا تؤثروهم عليهم.
وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اَللّٰهِ فِي شَيْ ءٍ أي: فليس من ولاية اللّه في شيء، يعني: إنّه منسلخ عن ولاية اللّه رأسا، وهذا أمر معقول فإنّ مصادقة الصديق ومصادقة عدوه متنافيان، قال:
تودّ عدوّي ثمّ تزعم أّنني *** صديقك إنّ الرّأي منك لعازب(4)
وقوله: مِنَ اَللّٰهِ في موضع النصب علي الحال، لأنه في الأصل فليس في شيء ثابت من اللّه، فلما تقدّم انتصب علي الحال، ومثله شعرا:
ص: 252
ليسوا من الشّرّ في شيء وإن هانا(1)
إِلاّٰ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقٰاةً إلا أن تخافوا من جهتهم أمرا يجب اتقاؤه.
وقرئ: تقيّة، وهما جميعا مصدر اتقى تقاة وتقية وتقوي. وهذه رخصة في موالاتهم عند الخوف، والمراد بهذه الموالاة المخالفة الظاهرة والقلب مطمئن بالعداوة.
وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللّٰهُ نَفْسَهُ فلا تتعرضوا لسخطه بموالاة أعدائه، وهذا وعيد شديد.
قُلْ إِنْ تُخْفُوا مٰا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اَللّٰهُ وَ يَعْلَمُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ وَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ
إِنْ تُخْفُوا مٰا فِي صُدُورِكُمْ من ولاية الكفار أو غيرها مما لا يرضي اللّه.
يَعْلَمْهُ اَللّٰهُ ولم يخف عليه وهو يَعْلَمُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ لا يخفى عليه منه شيء، فلا يخفى عليه سرّكم وجهركم.
وَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فهو قادر علي عقوبتكم. وهذا بيان لقوله:
وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللّٰهُ نَفْسَهُ وهي ذاته المتميّزة من سائر الذوات القادرة العالمة، فلا تختص بمقدور دون مقدور، ولا بمعلوم دون معلوم، فكان أحقّ بأن يتقى ويحذر.
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مٰا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ مٰا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهٰا وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللّٰهُ نَفْسَهُ وَ اَللّٰهُ رَؤُفٌ بِالْعِبٰادِ
يَوْمَ منصوب ب - تَوَدُّ أي: يوم القيامة حين تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ خيرها وشرّها حاضرين تتمنى لَوْ أَنَّ بَيْنَهٰا وبين ذلك اليوم وهوله أَمَداً بَعِيداً ،
ص: 253
فالضمير في بينه ل - (اليوم).
ويجوز أن ينتصب يَوْمَ بمضمر نحو: اذكر، ويرتفع وَ مٰا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ علي الابتداء، و تَوَدُّ خبره. أي: والذي عملته من سوء تودّ هي لو تباعد ما بينها وبينه، وتكون (ما) موصولة ولا يجوز أن تكون شرطية لارتفاع تَوَدُّ .
ويجوز أن يكون وَ مٰا عَمِلَتْ عطفا علي ما عملت ، ويكون تَوَدُّ حالا. أي: يوم تجد عملها محضرا وادّة تباعد ما بينها وبين اليوم أو عمل السوء.
وقوله: مُحْضَراً أي: مكتوبا في صحفهم يقرؤونه، ونحوه: وَ وَجَدُوا مٰا عَمِلُوا حٰاضِراً (1). والأمد: المسافة، كقوله: يٰا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ اَلْمَشْرِقَيْنِ (2).
وَ اَللّٰهُ رَؤُفٌ بِالْعِبٰادِ رحيم بهم، فلا تأمنوا عقابه ولا تيأسوا من رحمته.
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّٰهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّٰهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ اَللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ اَلرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُحِبُّ اَلْكٰافِرِينَ
نزلت الآية في قوم من أهل الكتاب قالوا: نحن أحبّاء اللّه، فجعل اللّه سبحانه مصداق ذلك اتباع رسوله صلى الله عليه و سلم فقال: إِنْ كُنْتُمْ صادقين في دعوى محبّة اللّه فَاتَّبِعُونِي فإنّكم إن فعلتم ذلك أحبّكم الله وغفر لكم. ومحبّة اللّه للعبد هي إرادة ثوابه، ومحبّة العبد للّه هي إرادة طاعته، فإنّ المحبّة من جنس الإرادة.
ثم أكّد ذلك بقوله: قُلْ أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ اَلرَّسُولَ أي: إن كنتم تحبّون اللّه كما
ص: 254
تدّعون، فأظهروا دلالة صدق المحبّة بطاعة اللّه وطاعة رسوله.
فَإِنْ تَوَلَّوْا عن طاعة اللّه ورسوله. ويحتمل أن يكون ماضيا وأن يكون مضارعا بمعنى: فإن تتولوا، ويدخل في جملة ما يقوله الرسول لهم.
فَإِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُحِبُّ اَلْكٰافِرِينَ أي: لا يحبّهم ولا يريد ثوابهم من أجل كفرهم، فوضع الظاهر موضع المضمر لهذا المعنى.
إِنَّ اَللّٰهَ اِصْطَفىٰ آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْرٰاهِيمَ وَ آلَ عِمْرٰانَ عَلَى اَلْعٰالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهٰا مِنْ بَعْضٍ وَ اَللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
آلَ إِبْرٰاهِيمَ : إسماعيل وإسحاق وأولادهما.
و آلَ عِمْرٰانَ : موسى وهارون ابنا عمران بن يصهر. وقيل: عيسى بن مريم بنت عمران بن ماثان(1)، وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة.
و ذُرِّيَّةً بدل من آلَ إِبْرٰاهِيمَ وَ آلَ عِمْرٰانَ .
بَعْضُهٰا مِنْ بَعْضٍ يعني: إنّ الآلين ذرية واحدة متسلسلة بعضها متشعب من بعض، وفي قراءة أهل البيت عليهم السلام: وآل محمّد على العالمين، وقيل: إنّ آل إبراهيم هم آل محمّد الذين هم أهل بيته(2).
ومن اصطفاه اللّه تعالى واختاره من خلقه لا يكون إلا معصوما مطهّرا عن القبائح، وعلي هذا فيجب أن يكون الاصطفاء مخصوصا بمن كان معصوما من آل إبراهيم و آل عمران نبيّا كان أو إماما.
ص: 255
إِذْ قٰالَتِ اِمْرَأَتُ عِمْرٰانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مٰا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ فَلَمّٰا وَضَعَتْهٰا قٰالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهٰا أُنْثىٰ وَ اَللّٰهُ أَعْلَمُ بِمٰا وَضَعَتْ وَ لَيْسَ اَلذَّكَرُ كَالْأُنْثىٰ وَ إِنِّي سَمَّيْتُهٰا مَرْيَمَ وَ إِنِّي أُعِيذُهٰا بِكَ وَ ذُرِّيَّتَهٰا مِنَ اَلشَّيْطٰانِ اَلرَّجِيمِ
يجوز أن يكون إِذْ منصوبا بقوله: سَمِيعٌ عَلِيمٌ ، [أي: سميع عليم](1)
لقول امرأة عمران ونيّتها، وقيل: هو منصوب ب - (اذكر).
وهي امرأة عمران بن ماثان أم مريم البتول جدّة عيسى عليه السلام واسمها حنة، وكانتا أختين: إحداهما هذه والأخري عند زكريا عليه السلام واسمها ايشاع واسم أبيهما قاقوذ، فيحيى ومريم ابنا خالة.
مُحَرَّراً أي: معتقا لخدمة بيت المقدس لا يد لي عليه ولا أستخدمه. وروي عن الصادق عليه السلام: (إنّ اللّه عزّ وجل أوحى إلى عمران أنّي واهب لك ولدا مباركا يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذني، فحدّث امرأته حنة بذلك، فلما حملت قالت: (ربّ إنّي نذرت لك ما في بطني محررا)(2).
فَتَقَبَّلْ مِنِّي أي: نذري قبول رضا.
إِنَّكَ أَنْتَ اَلسَّمِيعُ بما أقول اَلْعَلِيمُ بما أنوي.
فَلَمّٰا وَضَعَتْهٰا وكانت ترجو أن يكون غلاما خجلت واستحيت، و قٰالَتِ منكّسة رأسها: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهٰا أُنْثىٰ وَ اَللّٰهُ أَعْلَمُ بِمٰا وَضَعَتْ وإنّما قالت ذلك تحسّرا، لأنّها كانت ترجو أن تلد ذكرا، ولذلك نذرته محررا، ولذلك قال اللّه تعالى: وَ اَللّٰهُ أَعْلَمُ
ص: 256
بِمٰا وَضَعَتْ تعظيما لموضوعها، أي: واللّه أعلم بالشيء الذي وضعت وبما علق به من عظائم الأمور وهي لا تعلم ذلك.
وقرئ: (بما وضعت) بضم التاء، وروي ذلك عن علي عليه السلام، بمعنى: ولعل للّه فيه سرا وحكمة، ولعل هذه الأنثى خير من الذكر تسلية لنفسها.
ومريم في لغتهم هي العابدة.
فَتَقَبَّلَهٰا رَبُّهٰا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَ أَنْبَتَهٰا نَبٰاتاً حَسَناً وَ كَفَّلَهٰا زَكَرِيّٰا كُلَّمٰا دَخَلَ عَلَيْهٰا زَكَرِيَّا اَلْمِحْرٰابَ وَجَدَ عِنْدَهٰا رِزْقاً قٰالَ يٰا مَرْيَمُ أَنّٰى لَكِ هٰذٰا قٰالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشٰاءُ بِغَيْرِ حِسٰابٍ
فَتَقَبَّلَهٰا رَبُّهٰا فرضي بها بالنذر مكان الذكر بِقَبُولٍ حَسَنٍ فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون القبول اسما لما يقبل به الشيء كالسعوط والوجور لما يسعط به ويوجر، وهو اختصاصه لها بإقامتها مقام الذكر ولم يقبل قبلها أنثى في ذلك، أو بأن تسلّمها من أمها عقيب الولادة قبل أن تصلح للسدانة.
والثاني: أن يكون مصدرا على تقدير حذف المضاف، بمعنى: فتقبلها بذي قبول حسن، أي: بأمر ذي قبول حسن وهو الاختصاص.
وَ أَنْبَتَهٰا نَبٰاتاً حَسَناً أي: جعل نشوءها نشوءا حسنا، وربّاها تربية حسنة، وأصلح أمرها في جميع أحوالها.
وقرئ: وَ كَفَّلَهٰا بالتشديد، زكريا بالنصب. والفعل للّه تعالى، بمعنى: وضمّها إليه وجعله كافلا لها وضامنا لمصالحها. وقرئ: (زكريا) بالقصر
ص: 257
والمد. وقيل: إنّه بني لها زكريا محرابا في المسجد، أي: غرفة تصعد إليها بسلّم(1)، وقيل: المحراب أشرف المجالس ومقدّمها(2)، كأنّها وضعت في أشرف موضع من بيت المقدس، وقيل: كانت مساجدهم تسمّى المحاريب(3).
وَجَدَ عِنْدَهٰا رِزْقاً كان رزقها ينزل عليها من الجنّة، فكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء.
أَنّٰى لَكِ هٰذٰا [من أين لك هذا](4) الرزق الذي لا يشبه أرزاق الدنيا؟.
قٰالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ أي: من الجنّة.
وفي كتاب الكشاف: (عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه جاع في زمن قحط، فأهدت له فاطمة عليها السلام رغيفين وبضعة لحم آثرته بها، فرجع جها إليها وقال: هلمّي يا بنية، فكشفت عن الطبق فإذا هو مملوء خبزا ولحما، فبهتت وعلمت أنّها نزلت من عند اللّه، فقال لها: أنّى لك هذا؟ فقالت: هو من عند اللّه، إ نّ اللّه يرزق من يشاء بغير حساب. فقال عليه السلام: الحمد للّه الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل، ثم جمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم علي بن أبي طالب والحسن والحسين وجميع أهل بيته عليه حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو، فأوسعت فاطمة علي جيرانها)(5).
إِنَّ اَللّٰهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشٰاءُ من جملة كلام مريم، أو من كلام ربّ العزّة.
بِغَيْرِ حِسٰابٍ بغير تقدير لكثرته، أو تفضلا بغير محاسبة ومجازاة علي
ص: 258
عمل.
هُنٰالِكَ دَعٰا زَكَرِيّٰا رَبَّهُ قٰالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ اَلدُّعٰاءِ فَنٰادَتْهُ اَلْمَلاٰئِكَةُ وَ هُوَ قٰائِمٌ يُصَلِّي فِي اَلْمِحْرٰابِ أَنَّ اَللّٰهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيىٰ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اَللّٰهِ وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً وَ نَبِيًّا مِنَ اَلصّٰالِحِينَ
هُنٰالِكَ أي: في ذلك المكان حيث هو قاعد في المسجد عند مريم في المحراب، أو في ذلك الوقت فقد يستعار (هنا) و (ثم) و (حيث) للزمان.
لما رأي حال مريم من كرامتها علي اللّه ومنزلتها، رغب في أن يكون له ولد من ايشاع مثل ولد أختها حنة في الكرامة علي اللّه، وإن كانت عاقرا عجوزا.
قٰالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً أي: ولدا مباركا تقيا نقيا، وإنّما أنّث علي لفظ الذرية، والذرية تقع علي الواحد والجمع.
إِنَّكَ سَمِيعُ اَلدُّعٰاءِ أي: مجيبه.
فَنٰادَتْهُ اَلْمَلاٰئِكَةُ قيل: ناداه جبرئيل عليه السلام(1). وقرئ: (فناديه) علي التذكير والإمالة، وقرئ: أَنَّ اَللّٰهَ يُبَشِّرُكَ بالفتح علي تقدير: بأنّ اللّه، وبالكسر علي تقدير إرادة القول، ولأنّ النداء ضرب من القول، وقرئ: يبشرك بفتح الياء والتخفيف من بشره يبشره.
و يُحْيِي إن كان أعجميا فإنّما منع الصرف للتعريف والعجمة، وإن كان عربيا فللتعريف ووزن الفعل.
مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اَللّٰهِ أي: بعيسى مؤمنا به. قيل: إنّه أوّل من آمن به،
ص: 259
وإنّما سمّي كلمة لأنه لم يوجد إلا بكلمة اللّه وحدها وهو قوله: كن من غير سبب آخر(1)، وقيل: مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اَللّٰهِ : مؤمنا بكتاب منه(2)، وسمّي الكتاب (كلمة) كما قيل: (كلمة الحويدرة)(3) لقصيدته.
وَ سَيِّداً يسود قومه ويفوقهم في الشرف والعلم والعبادة.
وَ حَصُوراً لا يقرب النساء حصرا لنفسه ومنعا من الشهوات.
وَ نَبِيًّا مِنَ اَلصّٰالِحِينَ أي: رسولا شريفا رفيع المنزلة كائنا من جملة الأنبياء الصالحين.
قٰالَ رَبِّ أَنّٰى يَكُونُ لِي غُلاٰمٌ وَ قَدْ بَلَغَنِيَ اَلْكِبَرُ وَ اِمْرَأَتِي عٰاقِرٌ قٰالَ كَذٰلِكَ اَللّٰهُ يَفْعَلُ مٰا يَشٰاءُ قٰالَ رَبِّ اِجْعَلْ لِي آيَةً قٰالَ آيَتُكَ أَلاّٰ تُكَلِّمَ اَلنّٰاسَ ثَلاٰثَةَ أَيّٰامٍ إِلاّٰ رَمْزاً وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَ سَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَ اَلْإِبْكٰارِ
قال زكريا: أَنّٰى يَكُونُ لِي غُلاٰمٌ هذا استبعاد من حيث العادة وَ قَدْ بَلَغَنِيَ اَلْكِبَرُ كقولهم: أدركته السن العالية، والمعنى: أثّر فيّ الكبر وأضعفني، وكانت له تسع وتسعون سنة، وقيل: مائة وعشرون سنة ولامرأته ثمان وتسعون سنة(4).
قٰالَ كَذٰلِكَ اَللّٰهُ أي: يفعل اللّه ما يشاء من الأفعال العجيبة الخارقة
ص: 260
للعادة مثل ذلك الفعل، وهو خلق الولد بين الشيخ الفاني والعجوز العاقر، أو كَذٰلِكَ اَللّٰهُ مبتدأ وخبر، أي: علي نحو هذه الصفة اللّه، و يَفْعَلُ مٰا يَشٰاءُ بيان له.
قٰالَ رَبِّ اِجْعَلْ لِي آيَةً أي: علامة أعرف بها وقت الحمل، لأتلقّى هذه النعمة إذا جاءت بالشكر.
قٰالَ آيَتُكَ أَلاّٰ تقدر علي تكليم اَلنّٰاسَ ثَلاٰثَةَ أَيّٰامٍ إِلاّٰ رَمْزاً إشارة بيد أو برأس أو غيرهما، وأصله التحرك.
وإنّما خص تكليم الناس ليعلمه أنّ حبس لسانه يكون عن القدرة علي تكليمهم خاصة، ويكون قادرا علي التكليم بذكر اللّه، ولذلك قال: وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً يعني: في أيّام عجزك عن تكليم الناس، وهي من المعجزات الباهرة.
وَ سَبِّحْ بِالْعَشِيِّ من حين تزول الشمس إلى أن تغيب.
وَ اَلْإِبْكٰارِ من طلوع الفجر إلى وقت الضحى.
وَ إِذْ قٰالَتِ اَلْمَلاٰئِكَةُ يٰا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّٰهَ اِصْطَفٰاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اِصْطَفٰاكِ عَلىٰ نِسٰاءِ اَلْعٰالَمِينَ يٰا مَرْيَمُ اُقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اُسْجُدِي وَ اِرْكَعِي مَعَ اَلرّٰاكِعِينَ
إِذْ هذه معطوفة علي إِذْ قٰالَتِ اِمْرَأَتُ عِمْرٰانَ .
كلّمتها الملائكة شفاها و قٰالَتِ لها: إِنَّ اَللّٰهَ اِصْطَفٰاكِ أوّلا إذ تقبّلك من أمك وربّاك واختصك بأنواع الكرامة.
وَ طَهَّرَكِ من الأدناس والأقذار العارضة للنساء مثل الحيض والنفاس.
وَ اِصْطَفٰاكِ آخرا عَلىٰ نِسٰاءِ اَلْعٰالَمِينَ بأن وهب لك عيسى من غير
ص: 261
أب، ولم يكن ذلك لأحد من النساء.
يٰا مَرْيَمُ اُقْنُتِي لِرَبِّكِ أمرت بالصلاة بذكر القنوت والسجود، لكونهما من هيئات الصلاة وأركانها، ثم قيل لها: وَ اِرْكَعِي مَعَ اَلرّٰاكِعِينَ بمعنى: ولتكن صلاتك مع المصلّين في الجماعة، أو انظمي نفسك في جملة المصلّين وكوني في عدادهم.
ذٰلِكَ مِنْ أَنْبٰاءِ اَلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ مٰا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاٰمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَ مٰا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ
ذٰلِكَ إشارة إلى ما سبق من نبأ زكريا ويحيى ومريم.
مِنْ أَنْبٰاءِ اَلْغَيْبِ من الأخبار التي لم تعرفها إلا بالوحي.
نُوحِيهِ إِلَيْكَ أي: نلقيه إليك معجزة لك، لأنّ علم ما غاب عن الإنسان لا يمكن حصوله إلا بدراسة الكتب أو بالتعلّم أو بالوحي. ومعلوم أنّك لم تشاهد هذه القصص، ولم تقرأها من كتاب ولا تعلمتها، إذ كان نشوؤك بين قوم لم يكونوا أهل كتاب، فوضح أنّك لم تعرف ذلك إلا بالوحي.
وَ مٰا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاٰمَهُمْ التي كانوا يكتبون بها التوراة في الماء يقترعون علي مريم، فارتزّ(1) قلم زكريا وارتفع فوق الماء، ورسبت أقلام الباقين من الأحبار.
أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ أي: ليعلموا أيّهم يكفلها وَ مٰا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ في شأنها.
ص: 262
إِذْ قٰالَتِ اَلْمَلاٰئِكَةُ يٰا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّٰهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اِسْمُهُ اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ مِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ وَ يُكَلِّمُ اَلنّٰاسَ فِي اَلْمَهْدِ وَ كَهْلاً وَ مِنَ اَلصّٰالِحِينَ قٰالَتْ رَبِّ أَنّٰى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قٰالَ كَذٰلِكِ اَللّٰهُ يَخْلُقُ مٰا يَشٰاءُ إِذٰا قَضىٰ أَمْراً فَإِنَّمٰا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
إِذْ قٰالَتِ بدل من وَ إِذْ قٰالَتِ ، ويجوز أن يبدل من إِذْ يَخْتَصِمُونَ .
يُبَشِّرُكِ يخبرك بما يسرّك.
بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اِسْمُهُ اَلْمَسِيحُ وأصله مشيحا بالعبرانية، ومعناه: المبارك، كقوله: وَ جَعَلَنِي مُبٰارَكاً أَيْنَ مٰا كُنْتُ (1)، وكذلك عيسى معرّب من ايشوع، وقيل: إنّما سمّي مسيحا، لأنّ جبرئيل مسحه بجناحيه وقت ولادته، يعوّذه بذلك من الشيطان(2)، وقيل: لأنّه كان لا يمسح ذا عاهة بيده إلا برأ(3).
وإنّما قيل: اِسْمُهُ اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ وهذه ثلاثة أشياء: الاسم منها عيسى، والمسيح لقب من ألقابه الشريفة، والابن صفة؛ لأنّ الاسم يكون علامة للمسمّى يتميّز بها عن غيره، فكأنّه قيل: إنّ مجموع هذه الثلاثة هو الذي يتميّز بذلك عن غيره.
وَجِيهاً حال من كَلِمَةٍ ، وكذلك وَ مِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ ، وَ يُكَلِّمُ ، وَ مِنَ اَلصّٰالِحِينَ . أي: يبشّرك به موصوفا بهذه الصفات، وصحّ الحال من النكرة لكونها موصوفة.
ص: 263
والوجاهة فِي اَلدُّنْيٰا هي النبوة والرئاسة علي الناس، وفي اَلْآخِرَةِ الشفاعة وعلو الرتبة، وكونه مِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ رفعه إلى السماء.
وقوله: فِي اَلْمَهْدِ في موضع النصب علي الحال من وَ يُكَلِّمُ ، و كَهْلاً عطف عليه. والمعنى: يكلّم الناس طفلا وكهلا كلام الأنبياء من غير تفاوت بين الحالتين.
وَ يُعَلِّمُهُ اَلْكِتٰابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ اَلتَّوْرٰاةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ وَ رَسُولاً إِلىٰ بَنِي إِسْرٰائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اَللّٰهِ وَ أُبْرِئُ اَلْأَكْمَهَ وَ اَلْأَبْرَصَ وَ أُحْيِ اَلْمَوْتىٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ وَ أُنَبِّئُكُمْ بِمٰا تَأْكُلُونَ وَ مٰا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَ مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ اَلتَّوْرٰاةِ وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ اَلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُونِ
وَ يُعَلِّمُهُ عطف علي يُبَشِّرُكَ ، أو علي يَخْلُقُ ، أو علي وَجِيهاً ، أو هو كلام مستأنف. وقرئ: وَ يُعَلِّمُهُ بالياء والنون.
وقوله: وَ رَسُولاً و وَ مُصَدِّقاً فيهما وجهان:
أحدهما: إنّ التقدير: ويقول: أرسلت رسولا بأنّي قد جئتكم ومصدّقا لما بين يدي.
والثاني: إنّ الرسول والمصدّق فيهما معنى النطق، فكأنّه قيل: وناطقا بأنّي قد جئتكم، وناطقا بأنّي أصدّق ما بين يدي.
و أَنِّي أَخْلُقُ في موضع نصب بدل من أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ ، أو في موضع
ص: 264
جر بدل من آيَةٍ ، أو في موضع رفع علي هي أنّي أخلق لكم. وقرئ: إنّي أخلق - بالكسر - علي الاستئناف. والمعنى: إنّي أقدّر لكم شيئا مثل صورة الطير.
فَأَنْفُخُ فِيهِ أي: في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير.
فَيَكُونُ طَيْراً كسائر الطيور حيا.
بإذن الله بقدرته وأمره.
وَ أُبْرِئُ اَلْأَكْمَهَ أي: الذي يولد أعمى وَ اَلْأَبْرَصَ الذي به وضح.
وإنّما كرر بإذن الله دفعا لوهم من توهّم فيه الإلهية.
وَ أُنَبِّئُكُمْ بما تأكلونه وما تدخرونه فِي بُيُوتِكُمْ . كان يقول: يا فلان أكلت كذا، ويا فلان خبئ لك كذا.
وقوله: وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ محمول علي قوله: بِآيَةٍ أي: جئتكم بآية من ربّكم ولأحلّ لكم، ويجوز أن يكون وَ مُصَدِّقاً محمولا عليه أيضا، أي: جئتكم بآية وجئتكم مصدّقا.
والذي أحلّ لهم عيسى عليه السلام وقد كان محرّما عليهم في شريعة موسى هو: لحم الإبل، والشحم، والثرب(1)، ولحم بعض الحيتان.
وَ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي: حجّة شاهدة علي صحة نبوتي.
فَاتَّقُوا اَللّٰهَ في مخالفتي وتكذيبي وأطيعوني.
إِنَّ اَللّٰهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هٰذٰا صِرٰاطٌ مُسْتَقِيمٌ
ص: 265
فَلَمّٰا أَحَسَّ عِيسىٰ مِنْهُمُ اَلْكُفْرَ قٰالَ مَنْ أَنْصٰارِي إِلَى اَللّٰهِ قٰالَ اَلْحَوٰارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصٰارُ اَللّٰهِ آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَ اِشْهَدْ بِأَنّٰا مُسْلِمُونَ رَبَّنٰا آمَنّٰا بِمٰا أَنْزَلْتَ وَ اِتَّبَعْنَا اَلرَّسُولَ فَاكْتُبْنٰا مَعَ اَلشّٰاهِدِينَ وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اَللّٰهُ وَ اَللّٰهُ خَيْرُ اَلْمٰاكِرِينَ
إِنَّ اَللّٰهَ مالكي ومالككم، إنّما قال ذلك ليكون حجّة علي النصاري في قولهم: المسيح ابن اللّه، والمعنى: لا تنسبوني إليه فإنّما أنا عبد له كما أنّكم عبيد له.
فَلَمّٰا أَحَسَّ أي: علم عِيسىٰ مِنْهُمُ اَلْكُفْرَ علما لا شبهة فيه كعلم ما يدرك بالحواس.
قٰالَ مَنْ أَنْصٰارِي إِلَى اَللّٰهِ أي: من الذين يضيفون أنفسهم إلى اللّه ينصرونني كما ينصرني ؟ فيكون إِلَى اَللّٰهِ من صلة أَنْصٰارِي . ويجوز أن يكون متعلّقا بمحذوف حالا من الياء، أي: من أنصاري ذاهبا إلى اللّه.
قٰالَ اَلْحَوٰارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصٰارُ اَللّٰهِ أي: أنصار دينه ورسوله، وحواريّ الرجل صفوته وخاصته، ويقال لنساء الحضر: الحواريات، لنظافتهن وخلوص ألوانهن. والحواريون كانوا اثنى عشر رجلا، قيل: سمّوا بذلك لأنّهم كانوا نورانيين عليهم أثر العبادة(1)، أو لنقاء قلوبهم كما ينقى الثوب بالتحوير، وقيل:
كانوا قصّارين يبيّضون الثياب(2). وإنّما طلبوا شهادته لأنّ الرسل يشهدون يوم القيامة لقومهم وعليهم.
ص: 266
وقوله: مَعَ اَلشّٰاهِدِينَ أي: مع الأنبياء الذين يشهدون لأممهم، وقيل:
مع أمّة محمّد صلى الله عليه و آله و سلم لأنّهم شهداء علي الناس(1).
وَ مَكَرُوا الواو لكفار بني إسرائيل، ومكرهم أنّهم وكّلوا به من يقتله غيلة.
وَ مَكَرَ اَللّٰهُ بأن رفع عيسى عليه السلام إلى السماء، وألقى شبهه علي من أراد اغتياله حتى قتل.
وَ اَللّٰهُ خَيْرُ اَلْمٰاكِرِينَ أقواهم مكرا وأنفذهم كيدا وأقدرهم علي العقاب من حيث لا يشعر المعاقب.
إِذْ قٰالَ اَللّٰهُ يٰا عِيسىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رٰافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ جٰاعِلُ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوكَ فَوْقَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِلىٰ يَوْمِ اَلْقِيٰامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمٰا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
إِذْ قٰالَ اَللّٰهُ ظرف ل - خَيْرُ اَلْمٰاكِرِينَ أو ل - مَكَرَ اَللّٰهُ .
إِنِّي مُتَوَفِّيكَ أي: مستوفي أجلك، ومعناه: إنّي عاصمك من أن يقتلك الكفار، ومؤخرك إلى أجل كتبته لك، ومميتك حتف أنفك لا قتلا بأيديهم.
وَ رٰافِعُكَ إِلَيَّ أي: إلي سمائي ومقر ملائكتي.
وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا من سوء جوارهم وخبث صحبته.
وقيل: متوفيك: قابضك من الأرض، من توفيت مالي علي فلان إذا استوفيته(2)،
ص: 267
وقيل: متوفيك في وقتك بعد النزول من السماء ورافعك الآن(1)، وقيل: متوفيك:
متوفي نفسك بالنوم من قوله: وَ اَلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنٰامِهٰا (2) ورافعك وأنت نائم حتى لا يلحقك خوف، وتستيقظ وأنت في السماء آمن مقرّب(3).
وَ جٰاعِلُ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوكَ فَوْقَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِلىٰ يَوْمِ اَلْقِيٰامَةِ يعلونهم بالحجّة، وفي أكثر الأحوال بالحجّة والسيف، ومتّبعوه هم المسلمون دون الذين كذّبوه وكذبوا عليه من اليهود والنصاري.
فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ تفسير الحكم فيما بعد وهو قوله: فَأُعَذِّبُهُمْ ، فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ .
فَأَمَّا اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذٰاباً شَدِيداً فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ مٰا لَهُمْ مِنْ نٰاصِرِينَ وَ أَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ اَللّٰهُ لاٰ يُحِبُّ اَلظّٰالِمِينَ ذٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ اَلْآيٰاتِ وَ اَلذِّكْرِ اَلْحَكِيمِ
ذٰلِكَ إشارة إلى ما سبق من نبأ عيسى عليه السلام وغيره، وهو مبتدأ خبره نَتْلُوهُ عَلَيْكَ ، و مِنَ اَلْآيٰاتِ خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف. ويجوز أن يكون ذٰلِكَ بمعنى (الذي)، و نَتْلُوهُ صلته، و مِنَ اَلْآيٰاتِ الخبر.
و اَلذِّكْرِ اَلْحَكِيمِ القرآن، لأنّه بما فيه من الحكمة كأنّه ينطق بالحكمة، كما تسمّى الدلالة دليلا وإن كان الدليل هو الدال.
ص: 268
إِنَّ مَثَلَ عِيسىٰ عِنْدَ اَللّٰهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرٰابٍ ثُمَّ قٰالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاٰ تَكُنْ مِنَ اَلْمُمْتَرِينَ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ فَقُلْ تَعٰالَوْا نَدْعُ أَبْنٰاءَنٰا وَ أَبْنٰاءَكُمْ وَ نِسٰاءَنٰا وَ نِسٰاءَكُمْ وَ أَنْفُسَنٰا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اَللّٰهِ عَلَى اَلْكٰاذِبِينَ
إِنَّ شأن عيسى عليه السلام وحاله العجيبة كشأن آدَمَ .
وقوله: خَلَقَهُ مِنْ تُرٰابٍ جملة مفسّرة لما له شبّه عيسى بآدم، أي: خلق آدم من تراب ولا أب هنا ولا أم، فكذلك حال عيسى. والوجود من غير أب وأم أغرب وأدخل في باب خرق العادة من الوجود من غير أب. والمعنى: قدّره جسدا من طين ثُمَّ قٰالَ لَهُ كُنْ أي: أنشأه بشرا كما قال: ثُمَّ أَنْشَأْنٰاهُ خَلْقاً آخَرَ (1).
وقوله: فَيَكُونُ حكاية حال ماضية.
اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ خبر مبتدأ محذوف أي: هو الحقّ ، كقول أهل خيبر: (محمّد وا لخميس)(2) أي: الجيش.
فَلاٰ تَكُنْ مِنَ اَلْمُمْتَرِينَ من باب التهييج لزيادة الطمأنينة واليقين.
فَمَنْ حَاجَّكَ من النصارى فِيهِ أي: في عيسى.
مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ أي: من البيّنات الموجبة للعلم.
فَقُلْ تَعٰالَوْا هلمّوا، والمراد المجيء بالرأي والعزم كما تقول: تعال نفكّر في هذه المسألة.
ص: 269
نَدْعُ أَبْنٰاءَنٰا وَ أَبْنٰاءَكُمْ أي: يدع كل مني ومنكم أبناءه ونساءه ومن نفسه كنفسه إلي المباهلة.
ثُمَّ نَبْتَهِلْ أي: نتباهل بأن نقول: بهلة اللّه علي الكاذب منا ومنكم.
والبهلة - بالفتح والضم -: اللعنة، وبهله اللّه: لعنه وأبعده من رحمته، من قولك:
أبهله إذا أهمله، وناقة باهل: لا صرار(1) عليه. هذا أصل الابتهال، ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه وإن لم يكن التعانا.
نزلت الآيات في وفد نجران(2): العاقب والسيّد ومن معهما، ولما دعاهم النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلى المباهلة قالوا: حتى نرجع وننظر، فلما خلا بعضهم إلى بعض قالوا للعاقب - وكان ذا رأيهم -: يا عبد المسيح ما ترى ؟ قال: واللّه لقد عرفتم أنّ محمّدا نبيّ مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم، واللّه ما باهل قوم نبيّا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم، فإن أبيتم إلا إلف دينكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم.
وذلك بعد أن غدا النبي صلى الله عليه و آله و سلم آخذا بيد علي بن أبي طالب والحسن والحسين بين يديه وفاطمة خلفه، وخرج النصاري يقدمهم أسقفهم أبو حارثة، فقال الأسقف: إنّي لأري وجوها لو شاء اللّه أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى علي وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة، فقالوا: يا أبا القاسم إنّا لا نباهلك ولكن نصالحك.
فصالحهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم علي أن يؤدّوا إليه كل عام ألفي حلّة: ألف في صفر
ص: 270
وألف في رجب، وعلي عارية ثلاثين درعا وعارية ثلاثين فرسا وثلاثين رمحا إن وقع كيد باليمن، وقال: والذي نفسي بيده إنّ الهلاك قد تدلّى علي أهل نجران، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير، ولاضطرم عليهم الوادي نارا، ولما حال الحول علي النصاري كلهم حتى يهلكوا(1).
وفي هذه الآية أوضح دلالة علي فضل أصحاب الكساء عليهم السلام، وعلوّ درجتهم، وبلوغ مرتبتهم في الكمال إلي حد لا يدانيهم أحد من الخلق.
إِنَّ هٰذٰا لَهُوَ اَلْقَصَصُ اَلْحَقُّ وَ مٰا مِنْ إِلٰهٍ إِلاَّ اَللّٰهُ وَ إِنَّ اَللّٰهَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اَللّٰهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ قُلْ يٰا أَهْلَ اَلْكِتٰابِ تَعٰالَوْا إِلىٰ كَلِمَةٍ سَوٰاءٍ بَيْنَنٰا وَ بَيْنَكُمْ أَلاّٰ نَعْبُدَ إِلاَّ اَللّٰهَ وَ لاٰ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لاٰ يَتَّخِذَ بَعْضُنٰا بَعْضاً أَرْبٰاباً مِنْ دُونِ اَللّٰهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اِشْهَدُوا بِأَنّٰا مُسْلِمُونَ
إِنَّ هٰذٰا الذي قصّ عليك من نبأ عيسى وغيره لَهُوَ اَلْقَصَصُ اَلْحَقُّ والحديث الصدق.
[و (من) في قوله](2): وَ مٰا مِنْ إِلٰهٍ إِلاَّ اَللّٰهُ بمنزلة البناء علي الفتح في (لا إله إلا اللّه) في إفادة معنى الاستغراق، وهو ردّ علي النصاري في قولهم بالتثليث.
فَإِنَّ اَللّٰهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ وعيد لهم.
ولما تمّ الحجاج علي القوم دعاهم سبحانه إلي التوحيد فقال: قُلْ يٰا أَهْلَ اَلْكِتٰابِ تَعٰالَوْا إِلىٰ كَلِمَةٍ سَوٰاءٍ اي: مستوية بَيْنَنٰا وَ بَيْنَكُمْ لا يختلف فيها القرآن والتوراة والإنجيل، وتفسير الكلمة قوله: أَلاّٰ نَعْبُدَ إِلاَّ اَللّٰهَ وَ لاٰ نُشْرِكَ بِهِ
ص: 271
شَيْئاً وَ لاٰ يَتَّخِذَ بَعْضُنٰا بَعْضاً أَرْبٰاباً مِنْ دُونِ اَللّٰهِ يعني: هلمّوا إليها حتى لا نقول:
عزير ابن اللّه، والمسيح ابن اللّه، لأنّ كل واحد منهما بعضنا وبشر مثلنا، ولا نطيع الأحبار فيما أحدثوا من التحريم والتحليل، كقوله: اِتَّخَذُوا أَحْبٰارَهُمْ وَ رُهْبٰانَهُمْ أَرْبٰاباً مِنْ دُونِ اَللّٰهِ ... الآية(1). وقال عدي بن حاتم: ما كنا نعبدهم يا رسول اللّه، قال: (أليس كانوا يحلّون لكم ويحرّمون فتأخذون بقولهم ؟!)، قال: نعم. [قال:
فَإِنْ تَوَلَّوْا عن التوحيد.
فَقُولُوا اِشْهَدُوا بِأَنّٰا مُسْلِمُونَ أي: لزمتكم الحجّة فوجب عليكم أن تعترفوا بأنّا مسلمون دونكم. ويجوز أن يكون من باب التعريض، ومعناه:
اشهدوا بأنّكم كافرون حيث توليتم عن الحقّ بعد ظهوره.
يٰا أَهْلَ اَلْكِتٰابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرٰاهِيمَ وَ مٰا أُنْزِلَتِ اَلتَّوْرٰاةُ وَ اَلْإِنْجِيلُ إِلاّٰ مِنْ بَعْدِهِ أَ فَلاٰ تَعْقِلُونَ هٰا أَنْتُمْ هٰؤُلاٰءِ حٰاجَجْتُمْ فِيمٰا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمٰا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ اَللّٰهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ مٰا كٰانَ إِبْرٰاهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لاٰ نَصْرٰانِيًّا وَ لٰكِنْ كٰانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ مٰا كٰانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ
اجتمعت أحبار اليهود والنصاري عند رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وزعم كل فريق منهم أنّ إِبْرٰاهِيمَ كان منهم، فقيل لهم: إ نّ اليهودية حدثت بعد نزول التوراة، والنصرانية بعد نزول الإنجيل، وبين إبراهيم وموسى ألف سنة، وبينه وبين
ص: 272
عيسى ألفان، فكيف يكون إبراهيم على دين لم يحدث إلا بعد عهده بأزمنة كثيرة ؟!.
أَ فَلاٰ تَعْقِلُونَ حتى لا تجادلوا مثل هذا الجدال المحال ؟!.
(ها) للتنبيه و أَنْتُمْ هٰؤُلاٰءِ مبتدأ وخبر، و حٰاجَجْتُمْ جملة مستأنفة مبيّنة للجملة الأولي. يعني أنتم هؤلاء الأشخاص الجهّال، بيان جهلكم وقلة عقلكم أنّكم جادلتم فِيمٰا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ مما نطق به التوراة والإنجيل.
فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمٰا لا ذكر له في كتابيكم من دين إبراهيم ؟!.
وَ اَللّٰهُ يَعْلَمُ شأن إبراهيم ودينه وَ أَنْتُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ فلا تتكلّموا فيه.
ثم أعلمهم بأنّ إبراهيم بريء من دينهم وما كان إلا حَنِيفاً مُسْلِماً .
وَ مٰا كٰانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ أراد بالمشركين اليهود والنصاري لإشراكهم به عزيرا والمسيح.
إِنَّ أَوْلَى اَلنّٰاسِ بِإِبْرٰاهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ وَ هٰذَا اَلنَّبِيُّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَللّٰهُ وَلِيُّ اَلْمُؤْمِنِينَ وَدَّتْ طٰائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتٰابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَ مٰا يُضِلُّونَ إِلاّٰ أَنْفُسَهُمْ وَ مٰا يَشْعُرُونَ
إِنَّ أَوْلَى اَلنّٰاسِ أخص الناس بِإِبْرٰاهِيمَ وأقربهم منه، من الولي وهو القرب لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ في زمانه وبعده وَ هٰذَا اَلنَّبِيُّ خصوصا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا من أمّته وَ اَللّٰهُ وَلِيُّ اَلْمُؤْمِنِينَ يتولى نصرتهم.
وَدَّتْ طٰائِفَةٌ أي: تمنّت جماعة مِنْ أَهْلِ اَلْكِتٰابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ هم اليهود
ص: 273
دعوا حذيفة(1) وعمارا(2) ومعاذا(3) إلى اليهودية.
وَ مٰا يُضِلُّونَ إِلاّٰ أَنْفُسَهُمْ وما يعود وبال الإضلال إلا عليهم، لأنّ العذاب يضاعف لهم بضلالهم وإضلالهم، أو ما يقدرون علي إضلال المسلمين وإنّما يضلّون أمثالهم.
وَ مٰا يَشْعُرُونَ أي: وما يعلمون أنّ وبال ذلك يعود عليهم.
يٰا أَهْلَ اَلْكِتٰابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيٰاتِ اَللّٰهِ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ يٰا أَهْلَ اَلْكِتٰابِ لِمَ تَلْبِسُونَ اَلْحَقَّ بِالْبٰاطِلِ وَ تَكْتُمُونَ اَلْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
بِآيٰاتِ اَللّٰهِ بالتوراة والإنجيل. وكفرهم بها: أنّهم لا يؤمنون بما نطقت به من صحة نبوة محمّد صلى الله عليه و آله و سلم ونعته.
وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ تعترفون بأنّها آيات اللّه، أو تكفرون بالقرآن ودلائل نبوة الرسول وأنتم تشهدون نعته في الكتابين.
لِمَ تَلْبِسُونَ اَلْحَقَّ بِالْبٰاطِلِ الباطل: ما حرّفوه من التوراة، والحقّ : ما تركوه على حاله.
ص: 274
وَ تَكْتُمُونَ اَلْحَقَّ وهو نبوة محمّد صلى الله عليه و آله و سلم.
وَ قٰالَتْ طٰائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتٰابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ اَلنَّهٰارِ وَ اُكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَ لاٰ تُؤْمِنُوا إِلاّٰ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ اَلْهُدىٰ هُدَى اَللّٰهِ أَنْ يُؤْتىٰ أَحَدٌ مِثْلَ مٰا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحٰاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ اَلْفَضْلَ بِيَدِ اَللّٰهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشٰاءُ وَ اَللّٰهُ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشٰاءُ وَ اَللّٰهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ
تواطأ اثنا عشر رجلا من أحبار يهود خيبر وقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمّد أوّل النهار من غير اعتقاد وَ اُكْفُرُوا به آخر النهار، وقولوا: إنّا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا، فوجدنا محمّدا ليس بذلك المنعوت، وظهر لنا كذبه وبطلان دينه؛ فإذا فعلتم ذلك شكّ أصحابه في دينهم ويقولون: ما رجعوا - وهم أهل الكتاب - إلا لأمر قد تبيّن لهم.
و وَجْهَ اَلنَّهٰارِ أوله، وقوله: وَ لاٰ تُؤْمِنُوا يتعلّق بقوله: أَنْ يُؤْتىٰ أَحَدٌ [وما بينهما اعتراض، أي: ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد](1)مِثْلَ مٰا أُوتِيتُمْ إلا لأهل دينكم دون غيرهم. والمراد: وأسرّوا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب اللّه مثل ما أوتيتم، ولا تفشوه إلا عند أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم تصديقكم بذلك ثباتا، ودون المشركين لئلا يدعوهم ذلك إلى الإسلام.
أَوْ يُحٰاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ عطف علي أَنْ يُؤْتىٰ والضمير في يُحٰاجُّوكُمْ ل - (أحد) لأنه في معنى الجمع، يعني: ولا تؤمنوا لغير من تبع دينكم، إ نّ المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحقّ ، ويغالبونكم عند اللّه بالحجّة.
ص: 275
ومعنى الاعتراض بقوله: قُلْ إِنَّ اَلْهُدىٰ هُدَى اَللّٰهِ أنّ المراد بذلك: قل يا محمّد لهم: إنّ من شاء الله أن يوفقه حتى يسلم أو يزيد ثباته علي الإسلام كان ذلك، ولم تنفع حيلتكم ومكركم، وكذلك قوله: قُلْ إِنَّ اَلْفَضْلَ بِيَدِ اَللّٰهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشٰاءُ المراد به: الهداية والتوفيق.
وفي الآية وجه آخر: وهو أن يتم الكلام عند قوله: لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ علي معنى: لا تؤمنوا هذا الإيمان الظاهر إلا لمن كانوا تابعين لدينكم ممن أسلموا منكم، لأنّ رجوعهم كان أرجى عندهم، ولأنّ الإسلام منهم كان أغيظ لهم.
وقوله: أَنْ يُؤْتىٰ أَحَدٌ معناه: لأن يؤتى أحد مِثْلَ مٰا أُوتِيتُمْ دبرتم ذلك وفعلتموه لا لشيء آخر، يعني: إنّ ما بكم من الحسد لمن أوتي مثل ما أوتيتم من فضل العلم والكتاب، دعاكم إلى أن قلتم ما قلتم، والدليل عليه قراءة ابن كثير(1): (أأن يؤتى أحد) بزيادة همزة الاستفهام للتقرير والتوبيخ بمعنى: ألأن يؤتى أحد. ومعنى أَوْ يُحٰاجُّوكُمْ علي هذا إنّكم دبّرتم ما دبّرتم لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، ولما يتصل به عند كفركم به من محاجتهم لكم عند ربّكم.
ووجه آخر: وهو أن يكون هُدَى اَللّٰهِ بدلا من اَلْهُدىٰ ، و أَنْ يُؤْتىٰ أَحَدٌ خبر إن . والمعنى: قل: إ نّ هدى اللّه أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم حتى يحاجوكم عند ربّكم فيقرعوا باطلكم بحقّهم ويدحضوا حجّتكم.
ووجه آخر: وهو أن يتعلّق الكلامان ب - قل . والمعنى: قل لهم هذين القولين أي: أكّد عليهم أنّ الهدي هدي اللّه، وهو ما فعله من إيتاء الكتاب غيركم، وأنكر عليهم أن يكيدوا بما كادوا به، كأنّه قيل: قل: إِنَّ اَلْهُدىٰ هُدَى اَللّٰهِ ، وقل:
ص: 276
ألأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم قلتم ما قلتم وكدتم ما كدتم ؟.
وفي هذه الآيات معجزة باهرة لنبيّنا صلى الله عليه و آله و سلم حيث أخبرهم عن سرائرهم.
وَ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتٰابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطٰارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينٰارٍ لاٰ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاّٰ مٰا دُمْتَ عَلَيْهِ قٰائِماً ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قٰالُوا لَيْسَ عَلَيْنٰا فِي اَلْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَ يَقُولُونَ عَلَى اَللّٰهِ اَلْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ بَلىٰ مَنْ أَوْفىٰ بِعَهْدِهِ وَ اِتَّقىٰ فَإِنَّ اَللّٰهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ
إِلاّٰ مٰا دُمْتَ عَلَيْهِ قٰائِماً معناه: إلا مدة دوامك عليه يا صاحب الحقّ قائما علي رأسه تطالبه بالعنف.
ذٰلِكَ إشارة إلي ترك الأداء الذي دلّ عليه لاٰ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ومعناه: إنّ تركهم أداء الحقوق بسبب قولهم: لَيْسَ عَلَيْنٰا فِي اَلْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ أي: ليس علينا عقاب ولا ذم في شأن الأميين الذين ليسوا علي ديننا، وكانوا يستحلّون ظلم من خالفهم ويقولون: لم تجعل لهم في كتابنا حرمة.
وَ يَقُولُونَ عَلَى اَللّٰهِ اَلْكَذِبَ بادعائهم أنّ ذلك في كتابهم وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أنّهم كاذبون.
بَلىٰ إثبات لما نفوه، أي: بلي عليهم سبيل في الأميين، وقوله: مَنْ أَوْفىٰ بِعَهْدِهِ جملة مستأنفة، أي: كل من أوفى بما عاهد عليه وَ اِتَّقىٰ اللّه في ترك الخيانة والغدر فَإِنَّ اَللّٰهَ يحبّه، وضع الظاهر موضع المضمر.
إِنَّ اَلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اَللّٰهِ وَ أَيْمٰانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولٰئِكَ لاٰ خَلاٰقَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ وَ لاٰ يُكَلِّمُهُمُ اَللّٰهُ وَ لاٰ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ وَ لاٰ يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ
ص: 277
يَشْتَرُونَ يستبدلون بما عاهدوا اللّه عليه من الإيمان بنبيّنا محمّد صلى الله عليه و آله و سلم.
وَ أَيْمٰانِهِمْ أي: بما حلفوا به من قولهم: واللّه لنؤمنن به ولننصرنه.
ثَمَناً قَلِيلاً متاع الدنيا من الرئاسة وأخذ الرشوة ونحو ذلك.
وقيل: نزلت في حيّ بن أخطب وكعب بن الأشرف وأضرابهما من اليهود، كتموا ما في التوراة وحرّفوه(1).
وَ لاٰ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ مجاز عن الاستهانة بهم، يقال: فلان لا ينظر إلى فلان، يراد سخطه عليه وترك اعتداده به.
وَ لاٰ يُزَكِّيهِمْ ولا يثني عليهم.
وَ إِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتٰابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ اَلْكِتٰابِ وَ مٰا هُوَ مِنَ اَلْكِتٰابِ وَ يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ وَ مٰا هُوَ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ وَ يَقُولُونَ عَلَى اَللّٰهِ اَلْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ
يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ يقلبونها بقراءة الكتاب عن الصحيح إلي المحرّف.
لِتَحْسَبُوهُ الضمير يرجع إلى ما دلّ عليه يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتٰابِ وهو المحرّف، أي: لتظنّوا أيّها المسلمون ذلك المحرّف من كتاب اللّه وَ مٰا هُوَ مِنَ اَلْكِتٰابِ المنزل علي موسى ولكنهم يخترعون.
وَ يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ هو تأكيد لقوله: هُوَ مِنَ اَلْكِتٰابِ وزيادة تشنيع عليهم. وقيل: هم اليهود الذين قدموا علي كعب بن الأشرف وكتبوا كتابا بدّلوا فيه صفة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، ثم أخذت قريظة ما كتبوه فخلطوه بما كان عندهم
ص: 278
من الكتاب(1).
مٰا كٰانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اَللّٰهُ اَلْكِتٰابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنّٰاسِ كُونُوا عِبٰاداً لِي مِنْ دُونِ اَللّٰهِ وَ لٰكِنْ كُونُوا رَبّٰانِيِّينَ بِمٰا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ اَلْكِتٰابَ وَ بِمٰا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَ لاٰ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا اَلْمَلاٰئِكَةَ وَ اَلنَّبِيِّينَ أَرْبٰاباً أَ يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
قيل: إنّ أبا رافع القرظي ورئيس وفد نجران قالا: (يا محمّد أتريد أن نعبدك ونتخذك إلها؟ فقال: معاذ اللّه أن أعبد غير اللّه، أو آمر بعبادة غير اللّه، ما بذلك بعثني، ولا بذلك أمرني)، فنزلت(2).
وَ اَلْحُكْمَ : والحكمة وهي السنّة.
أي: ما ينبغي لِبَشَرٍ ولا يحلّ له، وليس من صفة الأنبياء الذين خصّهم اللّه بالحكمة وَ اَلنُّبُوَّةَ أن يدعو الناس إلي عبادتهم. وهذا تكذيب لمن اعتقد عبادة عيسى.
وَ لٰكِنْ كُونُوا رَبّٰانِيِّينَ أي: ولكن يقول: كونوا ربّانيين، والربّاني منسوب إلى الربّ بزيادة الألف والنون كما يقال: لحياني، وهو شديد التمسّك بدين اللّه.
وقيل: الربّانيون: العلماء الفقهاء(3)، أي: كونوا علماء فقهاء. وقيل: كونوا معلّمين الناس من علمكم(4)، كما يقال: أنفق بمالك. أي: من مالك.
ص: 279
بما كنتم أي: بسبب كونكم عالمين، وبسبب كونكم دارسين للعلم.
وقرئ: تُعَلِّمُونَ من التعليم.
وقرئ: وَ لاٰ يَأْمُرَكُمْ بالنصب عطفا علي ثُمَّ يَقُولَ وفيه وجهان:
أحدهما: أن يجعل (لا) مزيدة لتأكيد معنى النفي في قوله: مٰا كٰانَ أي:
ما كان لِبَشَرٍ أن يستنبئه اللّه ويجعله داعيا إلى اللّه وإلى إخلاص العبادة له وترك الأنداد، ثم يأمر الناس بأن يكونوا عبادا له ويأمركم أَنْ تَتَّخِذُوا اَلْمَلاٰئِكَةَ وَ اَلنَّبِيِّينَ أَرْبٰاباً .
والثاني: أن يجعل الا) غير مزيدة، والمعنى: إن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم كان ينهى قريشا عن عبادة الملائكة، وينهى اليهود والنصاري عن عبادة عزير والمسيح، فلما قالوا له: أنتخذك ربّا؟ قيل لهم: ما كان لبشر أن يستنبئه اللّه، ثم يأمر الناس بعبادته وينهاهم عن عبادة الملائكة والأنبياء.
والقراءة بالرفع علي ابتداء الكلام أظهر، وينصرها قراءة عبد اللّه بن مسعود:
ولن يأمركم. و الضمير في لاٰ يَأْمُرَكُمْ و أ يأمركم للبشر، وقيل: للّه(1).
والهمزة في أ يأمركم للإنكار، والمعنى: إنّ اللّه تعالي إنّما يبعث النبي ليدعو الناس إلى الإيمان، فكيف يدعو النبي المسلمين إلى الكفر؟!.
وَ إِذْ أَخَذَ اَللّٰهُ مِيثٰاقَ اَلنَّبِيِّينَ لَمٰا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتٰابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جٰاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمٰا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قٰالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلىٰ ذٰلِكُمْ إِصْرِي قٰالُوا أَقْرَرْنٰا قٰالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ اَلشّٰاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلّٰى
ص: 280
بَعْدَ ذٰلِكَ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْفٰاسِقُونَ
المعنى: أَخَذَ اَللّٰهُ الميثاق علي اَلنَّبِيِّينَ بذلك، وعن الصادق عليه السلام أنّ المعنى: (وإذ أخذ اللّه ميثاق أمم النبيين كل أمّة بتصديق نبيّها والعمل بما جاءهم به، فما وفوا به وتركوا كثيرا من شرائعهم)(1).
واللام في لَمٰا آتَيْتُكُمْ لتوطئة القسم، وفي لَتُؤْمِنُنَّ لجواب القسم، لأنّ أخذ الميثاق في معنى الاستحلاف. [ويجوز أن تكون (ما) شرطية و لَتُؤْمِنُنَّ قد سدّ مسدّ جواب القسم وجواب الشرط معا](2)، ويجوز أن تكون (ما) موصولة بمعنى للذي آتيتكموه لتؤمنن به. [وقرئ: لما آتيناكم](3)، وقرئ: لما آتيتكم، بكسر اللام ومعناه: لأجل إيتائي إيّاكم بعض الكتاب والحكمة ثم لمجيء رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به، فتكون (ما) علي هذا مصدرية، والفعلان معها وهما آتَيْتُكُمْ و جٰاءَكُمْ في معنى المصدرين، واللام داخلة للتعليل، أي: أخذ اللّه ميثاقكم لتؤمننّ بالرسول ولتنصرنه لأجل أنّي آتيتكم الحكمة، وأنّ الرسول الذي آمركم بالإيمان به ونصرته موافق لكم غير مخالف.
ويجوز أن تكون (ما) موصولة، وإن عطف بقوله: ثُمَّ جٰاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمٰا مَعَكُمْ علي قوله: آتَيْتُكُمْ ، لأنّ لِمٰا مَعَكُمْ في معنى لَمٰا آتَيْتُكُمْ فكأنّه قيل: للذي آتيتكموه وجاءكم رسول مصدق له.
قال أي: قال اللّه للنبيين أَ أَقْرَرْتُمْ به وصدّقتموه.
وَ أَخَذْتُمْ عَلىٰ ذٰلِكُمْ إِصْرِي أي: عهدي علي أممكم، وسمّي العهد إصرا
ص: 281
لأنّه مما يؤصر أي: يشدّ ويعقد.
قال الأنبياء: أَقْرَرْنٰا بما أمرتنا بالإقرار به.
قال اللّه فَاشْهَدُوا بذلك علي أممكم وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ اَلشّٰاهِدِينَ .
وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: (لم يبعث اللّه نبيا إلا أخذ عليه العهد لئن بعث اللّه محمّدا وهو حيّ ليؤمننّ به ولينصرنّه، وأمره أن يأخذ العهد بذلك علي أمته)(1).
فَمَنْ تَوَلّٰى بَعْدَ ذٰلِكَ الميثاق والتوكيد.
فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْفٰاسِقُونَ أي: المتمردون من الكفار.
أَ فَغَيْرَ دِينِ اَللّٰهِ يَبْغُونَ وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ قُلْ آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَ مٰا أُنْزِلَ عَلَيْنٰا وَ مٰا أُنْزِلَ عَلىٰ إِبْرٰاهِيمَ وَ إِسْمٰاعِيلَ وَ إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْبٰاطِ وَ مٰا أُوتِيَ مُوسىٰ وَ عِيسىٰ وَ اَلنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاٰ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
دخلت همزة الإنكار علي فاء العطف التي عطفت جملة على جملة. والمعنى:
فأولئك هم الفاسقون فغير دين اللّه يبغون ثم توسطت همزة الإنكار بينهما.
ويجوز أن يكون عطفا علي محذوف، والتقدير: أيتولون فغير دين اللّه يبغون. وقرأ أبو عمرو: يَبْغُونَ بالياء، وإليه ترجعون بالتاء مضموما، لأنّ الباغين هم المتولون، والراجعون جميع الناس. وقرئا بالياء معا وبالتاء معا.
وأنّتصب طَوْعاً وَ كَرْهاً على الحال أي: طائعين ومكرهين. وقيل:
ص: 282
طوعا لأهل السماوات خاصة، وأما أهل الأرض فمنهم من أسلم طوعا بالنظر في الأدلة، ومنهم من أسلم كرها بالسيف أو بمعاينة ما يلجئ إلى الإسلام كنتق الجبل فوق بني إسرائيل أو عند رؤية البأس بالإشفاء على الموت(1)فَلَمّٰا رَأَوْا بَأْسَنٰا قٰالُوا آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَحْدَهُ (2).
ثم أمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم بأن يخبر عن نفسه وعمّن معه بالإيمان، فلذلك وحّد الضمير في قُلْ وجمع في آمَنّٰا . ويجوز أن يؤمر بأن يتكلّم عن نفسه كما يتكلّم الملوك إجلالا من اللّه لقدر نبيه.
وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي: موحّدون مخلصون أنفسنا له لا نجعل له شريكا في العبادة.
وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اَلْإِسْلاٰمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ مِنَ اَلْخٰاسِرِينَ
أي: وَ مَنْ يطلب غَيْرَ اَلْإِسْلاٰمِ وهو التوحيد وإسلام الوجه للّه دِيناً يدين به فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ بل يعاقب عليه.
وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ مِنَ اَلْخٰاسِرِينَ من الذين وقعوا في الخسران مطلقا من غير تقييد.
كَيْفَ يَهْدِي اَللّٰهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمٰانِهِمْ وَ شَهِدُوا أَنَّ اَلرَّسُولَ حَقٌّ وَ جٰاءَهُمُ اَلْبَيِّنٰاتُ وَ اَللّٰهُ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّٰالِمِينَ أُولٰئِكَ جَزٰاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اَللّٰهِ وَ اَلْمَلاٰئِكَةِ
ص: 283
وَ اَلنّٰاسِ أَجْمَعِينَ خٰالِدِينَ فِيهٰا لاٰ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ اَلْعَذٰابُ وَ لاٰ هُمْ يُنْظَرُونَ إِلاَّ اَلَّذِينَ تٰابُوا مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
وَ شَهِدُوا عطف علي ما في أَيْمٰانِهِمْ من معنى الفعل، لأنّ معناه بعد أن آمنوا وشهدوا، ويجوز أن يكون الواو للحال بإضمار (قد) أي: كفروا وقد شهدوا أَنَّ اَلرَّسُولَ حَقٌّ .
ومعنى الآية: كيف يهديهم اللّه إلي طريق الإيمان وقد تركوه ؟! أي: لا طريق يهديهم به إلى الإيمان وقد تركوا الوجه الذي هداهم به ولا طريق غيره. وقيل:
معناه: كيف يلطف بهم اللّه وليسوا من أهل اللطف لما علم سبحانه من تصميمهم علي الكفر، ودلّ علي تصميمهم بأنّهم كفروا بعد ما شهدوا أنّ الرسول حقّ ، وبعد ما جاءتهم المعجزات التي تثبت بها النبوة، وهم اليهود كفروا بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم بعد أن كانوا مؤمنين به(1). وقيل: نزلت في رهط كانوا أسلموا ثم رجعوا عن الإسلام ولحقوا بمكة(2).
إِلاَّ اَلَّذِينَ تٰابُوا مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ الكفر والارتداد وَ أَصْلَحُوا ما أفسدوا أو دخلوا في الصلاح.
إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمٰانِهِمْ ثُمَّ اِزْدٰادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلضّٰالُّونَ إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ مٰاتُوا وَ هُمْ كُفّٰارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْ ءُ اَلْأَرْضِ ذَهَباً وَ لَوِ اِفْتَدىٰ بِهِ أُولٰئِكَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ وَ مٰا لَهُمْ مِنْ نٰاصِرِينَ
ص: 284
يعني: اليهود اَلَّذِينَ كَفَرُوا بعيسى بَعْدَ إِيمٰانِهِمْ بموسى ثُمَّ اِزْدٰادُوا كُفْراً بكفرهم بمحمّد صلى الله عليه و آله و سلم، أو كفروا برسول اللّه بعد أن كانوا به مؤمنين قبل مبعثه، ثم ازدادوا كفرا بإصرارهم على ذلك، وعداوتهم له، ونقضهم عهده، وصدّهم عن الإيمان به.
لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ لأنّها لا تقع علي وجه الإخلاص، ويدلّ عليه قوله:
وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلضّٰالُّونَ أي: عن الحقّ والصواب. وقيل: لن تقبل توبتهم عند رؤية البأس(1)، والمعنى: إنّهم لا يتوبون إلا عند معاينة الموت.
وَ مٰاتُوا وَ هُمْ كُفّٰارٌ أي: علي كفرهم فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ فدية ولو افتدى ب - مِلْ ءُ اَلْأَرْضِ ذَهَباً ، ويجوز أن يكون المراد: وَ لَوِ اِفْتَدىٰ بمثله، والمثل يحذف كثيرا في كلامهم قالوا: ضربته ضرب زيد، أي: مثل ضربه، وقضية ولا أبا حسن لها، أي: ولا مثل أبي حسن، كما أنّه يراد مثل في نحو قولهم: مثلك لا يفعل كذا أي: أنت لا تفعل.
لَنْ تَنٰالُوا اَلْبِرَّ حَتّٰى تُنْفِقُوا مِمّٰا تُحِبُّونَ وَ مٰا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فَإِنَّ اَللّٰهَ بِهِ عَلِيمٌ
أي: لَنْ تبلغوا حقيقة اَلْبِرَّ ، ولن تكونوا أبرارا، وقيل: لن تنالوا بر اللّه وهو الثواب(2).
حَتّٰى تُنْفِقُوا مِمّٰا تُحِبُّونَ أي: حتى تنفقوا من أموالكم التي تحبّونها كقوله: أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبٰاتِ مٰا كَسَبْتُمْ وَ مِمّٰا أَخْرَجْنٰا لَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ وَ لاٰ تَيَمَّمُوا
ص: 285
اَلْخَبِيثَ ... الآية(1). وقرأ عبد اللّه: حتى تنفقوا بعض ما تحبّون. وهو دلالة علي أنّ (من) هنا للتبعيض نحو: أخذت من المال.
وَ مٰا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ (من) هنا للتبيين، أي: من أيّ شيء كان طيّب تحبّونه أو خبيث تكرهونه.
فَإِنَّ اَللّٰهَ عليم بكل شيء تنفقونه فيجازيكم بحسبه.
كُلُّ اَلطَّعٰامِ كٰانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرٰائِيلَ إِلاّٰ مٰا حَرَّمَ إِسْرٰائِيلُ عَلىٰ نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ اَلتَّوْرٰاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرٰاةِ فَاتْلُوهٰا إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ فَمَنِ اِفْتَرىٰ عَلَى اَللّٰهِ اَلْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلظّٰالِمُونَ قُلْ صَدَقَ اَللّٰهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرٰاهِيمَ حَنِيفاً وَ مٰا كٰانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ
أي: كُلُّ أنواع اَلطَّعٰامِ أو كل المطعومات.
كٰانَ حِلاًّ الحلّ مصدر حلّ الشيء حلا كقولك: عزّ الشيء عزّا، وذلّت الدابة ذلا، ولذلك استوي المذكر والمؤنث والواحد والجمع في الوصف به، قال سبحانه: لاٰ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ (2).
والذي حَرَّمَ إِسْرٰائِيلُ و هو يعقوب عَلىٰ نَفْسِهِ لحوم الإبل وألبانها، وقيل: العروق ولحم الإبل، كان به عرق النساء، فأشارت عليه الأطباء باجتنابه، ففعل ذلك بإذن من اللّه(3) فكان كتحريم اللّه ابتداء.
والمعنى: إ نّ المطاعم كلها لم تزل حلالا لبني إسرائيل من قبل إنزال التوراة،
ص: 286
وتحريم ما حرّم عليهم منها لظلمهم وبغيهم، لم يحرّم منها شيء قبل ذلك غير المطعوم الذي حرّمه إسرائيل علي نفسه. وهذا رد على اليهود حيث أرادوا براءة ساحتهم مما نطق به القرآن من تحريم الطيبات عليهم لبغيهم وظلمهم في قوله:
ذٰلِكَ جَزَيْنٰاهُمْ بِبَغْيِهِمْ (1) ، وقوله: فَبِظُلْمٍ مِنَ اَلَّذِينَ هٰادُوا حَرَّمْنٰا عَلَيْهِمْ طَيِّبٰاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ ... الآية(2)، فقالوا: لسنا بأوّل من حرّمت عليه، وقد كانت محرّمة على نوح وإبراهيم ومن بعده من بني إسرائيل إلى أن انتهى التحريم إلينا.
فكذّبهم اللّه تعالى ثم قال: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرٰاةِ فَاتْلُوهٰا حتى يتبيّن أنّه تحريم حادث بسبب ظلمكم وبغيكم، لا تحريم قديم كما زعمتم [فلم يجسروا علي إخراج التوراة وبهتوا.
فَمَنِ اِفْتَرىٰ عَلَى اَللّٰهِ اَلْكَذِبَ بزعمه](3) أنّ ذلك كان محرّما علي الأنبياء، وعلي بني إسرائيل قبل إنزال التوراة فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلظّٰالِمُونَ لأنفسهم.
قُلْ صَدَقَ اَللّٰهُ تعريض بكذبهم، أي: ثبت أنّ اللّه صادق فيما أنزله وأنتم الكاذبون.
فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرٰاهِيمَ وهي ملة الإسلام التي عليها محمّد ومن آمن معه، ثم برّأ سبحانه إبراهيم مما كان ينسبه اليهود والمشركون إليه من كونه علي دينهم فقال:
وَ مٰا كٰانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ .
ص: 287
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّٰاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبٰارَكاً وَ هُدىً لِلْعٰالَمِينَ فِيهِ آيٰاتٌ بَيِّنٰاتٌ مَقٰامُ إِبْرٰاهِيمَ وَ مَنْ دَخَلَهُ كٰانَ آمِناً وَ لِلّٰهِ عَلَى اَلنّٰاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللّٰهَ غَنِيٌّ عَنِ اَلْعٰالَمِينَ
وُضِعَ لِلنّٰاسِ صفة ل - بَيْتٍ والمعنى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ جعل متعبّدا لِلنّٰاسِ للبيت الذي بِبَكَّةَ وهي الكعبة. وبكة: علم للبلد الحرام. ومكة وبكة لغتان فيه، وقيل: مكة: البلد، وبكة: موضع المسجد لأنّها مزدحم الناس للطواف(1).
مُبٰارَكاً كثير الخير والبركة لثبوت العبادة فيه دائما، وانتصابه علي الحال من الضمير في الظرف.
وَ هُدىً لِلْعٰالَمِينَ لأنه قبلتهم ومتعبدهم. وقيل: دلالة لهم علي اللّه عزّ اسمه بإهلاكه كل من قصده من الجبابرة كأصحاب الفيل وغيرهم.
فِيهِ آيٰاتٌ بَيِّنٰاتٌ يجوز أن يكون مَقٰامُ إِبْرٰاهِيمَ وحده عطف بيان ل - آيٰاتٌ بمعنى: إنّها بمنزلة آيات كثيرة لقوة دلالته علي قدرة اللّه من تأثير قدمه في حجر صلد وغوصه فيها إلى الكعبين. ويجوز أن يكون المراد فيه آيات بيّنات مقام إبراهيم، وأمن من دخله، لأنّ الاثنين نوع من الجمع. ويجوز أن يذكر هاتان الآيتان ويطوي غيرهما دلالة علي تكاثر الآيات أي: وآيات كثيرة سواهما كقول جرير:
ص: 288
كانت حنيفة أثلاثا فثلثهم *** من العبيد و ثلث من مواليها(1)
وطوي الثلث الآخر.
وكان الرجل لو جنى كل جناية ثم لجأ إلي الحرم لم يطلب. وقيل: إنّه خبر معناه الأمر، فمن وجب عليه حدّ فلاذ بالحرم، لا يبايع ولا يعامل حتى يخرج، فيقام عليه الحد ولا يتعرّض له فيه، وهو المروي عن أئمتنا عليهم السلام(2)، وروي أيضا: إنّ من دخله عارفا بما أوجبه اللّه عليه كان آمنا في الآخرة من النار(3).
وَ لِلّٰهِ عَلَى اَلنّٰاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ وقرئ بكسر الحاء.
مَنِ اِسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً فيه أنواع من التوكيد والتشديد في الحج، فإنّ قوله: وَ لِلّٰهِ عَلَى اَلنّٰاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ يدلّ علي أنّه حقّ واجب في رقاب الناس لا يخرجون عن عهدته، ثم أبدل عنه مَنِ اِسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً إيضاحا بعد الإبهام وتفصيلا بعد الإجمال، ثم قال: وَ مَنْ كَفَرَ مكان قوله: ومن لم يحج، تغليظا علي تارك الحج كما جاء في الحديث: (من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر)(4).
ثم قال: فَإِنَّ اَللّٰهَ غَنِيٌّ عَنِ اَلْعٰالَمِينَ ولم يقل (عنه)، ليكون بدلالته علي الاستغناء الكامل أدلّ علي عظم سخط اللّه الذي وقع الاستغناء عبارة عنه، وفي الأثر: (لو ترك الناس الحج عاما واحدا ما نوظروا)(5) أي: ما أمهلوا.
ص: 289
قُلْ يٰا أَهْلَ اَلْكِتٰابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيٰاتِ اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ شَهِيدٌ عَلىٰ مٰا تَعْمَلُونَ قُلْ يٰا أَهْلَ اَلْكِتٰابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهٰا عِوَجاً وَ أَنْتُمْ شُهَدٰاءُ وَ مَا اَللّٰهُ بِغٰافِلٍ عَمّٰا تَعْمَلُونَ
الواو في قوله: وَ اَللّٰهُ شَهِيدٌ للحال، والمعنى لِمَ تَكْفُرُونَ بالآيات التي دلّتكم علي صدق محمّد والحال أنّ اللّه يشاهد أعمالكم فيجازيكم عليها؟! فكيف تجسرون علي الكفر بآياته ؟!.
و سَبِيلِ اَللّٰهِ التي أمر بسلوكها هو دين الإسلام، وكانوا يحتالون لصدّ المؤمنين عنه بجهدهم، ويغرون بين الأوس والخزرج يذكّرونهم الحروب التي كانت بينهم في الجاهلية ليعودوا لمثلها.
تَبْغُونَهٰا عِوَجاً تطلبون لها اعوجاجا وميلا عن الاستقامة وَ أَنْتُمْ شُهَدٰاءُ بأنّها سبيل اللّه الذي ارتضاه وتجدون ذلك في كتابكم، أو أنتم شهداء بين أهل دينكم يثقون بأقوالكم وهم الأحبار.
وَ مَا اَللّٰهُ بِغٰافِلٍ عَمّٰا تَعْمَلُونَ وعيد لهم.
يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتٰابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمٰانِكُمْ كٰافِرِينَ وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَ أَنْتُمْ تُتْلىٰ عَلَيْكُمْ آيٰاتُ اَللّٰهِ وَ فِيكُمْ رَسُولُهُ وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللّٰهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ
خاطب سبحانه الأوس والخزرج فقال: إِنْ تُطِيعُوا هؤلاء اليهود في إحياء الضغائن التي كانت بينكم في الجاهلية يَرُدُّوكُمْ كفارا بَعْدَ إِيمٰانِكُمْ .
ثم عظّم الشأن عليهم بأن قال: وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ أي: ومن أين يتطرّق
ص: 290
إليكم الكفر والحال أنّ آيات اللّه تُتْلىٰ عَلَيْكُمْ على لسان رسوله وهو بين أظهركم يعظكم وينبّهكم، ومن يتمسّك بدين اللّه فقد حصل له الهدي لا محالة.
يأيّها الّذين ءامنوا اتّقوا اللّه حقّ تقاته ولا تموتنّ إلّا و أنتم مّسلمون
وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللّٰهِ جَمِيعاً وَ لاٰ تَفَرَّقُوا وَ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدٰاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوٰاناً وَ كُنْتُمْ عَلىٰ شَفٰا حُفْرَةٍ مِنَ اَلنّٰارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهٰا كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ اَللّٰهُ لَكُمْ آيٰاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
اِتَّقُوا اَللّٰهَ حَقَّ تُقٰاتِهِ أي: واجب تقواه وهو القيام بالواجبات واجتناب المحرّمات، وعن الصادق عليه السلام: (هو أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر)(1)، ونحوه قوله: فَاتَّقُوا اَللّٰهَ مَا اِسْتَطَعْتُمْ (2) أي: بالغوا في التقوي حتى لا تتركوا من المستطاع منها شيئا.
وَ لاٰ تَمُوتُنَّ أي: لا تكونن علي حال سوى حال الإسلام إذا أدرككم الموت، كما تقولى لمن تستعين به علي القتال: لا تأتني إلا وأنت علي فرس، فلا تنهاه عن الإتيان ولكنك تنهاه عن خلاف الحال التي ذكرتها في وقت الإتيان.
وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللّٰهِ جَمِيعاً أي: واجتمعوا علي التمسّك بعهد اللّه على عباده وهو الإيمان والطاعة، أو بالقران، قال الصادق عليه السلام: (نحن حبل اللّه)(3).
وَ لاٰ تَفَرَّقُوا أي: لا تتفرقوا عن الحقّ بالاختلاف بينكم كما اختلف اليهود والنصاري، وكانوا في الجاهلية متعادين قد تطاولت الحروب بين الأوس والخزرج
ص: 291
مائة وعشرين سنة إلى أن ألّف اللّه بين قلوبهم بالنبي صلى الله عليه و آله و سلم.
فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوٰاناً متواصلين متحابين.
وَ كُنْتُمْ عَلىٰ شَفٰا حُفْرَةٍ علي جرف حفرة من نار جهنم قد أشفيتم علي أن تقعوا فيها لما كنتم عليه من الكفر فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهٰا بالإسلام.
كَذٰلِكَ أي: مثل ذلك البيان يُبَيِّنُ اَللّٰهُ لَكُمْ آيٰاتِهِ إرادة أن تزدادوا هدي.
وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى اَلْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ وَ لاٰ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اِخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَهُمُ اَلْبَيِّنٰاتُ وَ أُولٰئِكَ لَهُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ
قيل: إ نّ (من) هنا للتبعيض، لأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات، ولا يصلح لذلك إلا من يعلم المعروف معروفا والمنكر منكرا فيعلم كيف يباشر ذلك ويرتبه، فإنّ الجاهل ربّما نهى عن معروف أو أمر بمنكر.
وقيل: إنّ (من) للتبيين بمعنى: وكونوا أمّة تأمرون بالمعروف كقوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّٰاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ (1).
وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ الأحقّاء بالفلاح دون غيرهم، وذكر سبحانه الدعاء إلى الخير أوّلا، لأنّه عام في التكاليف من الأفعال والتروك، ثم ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثانيا، لأنّ ذلك خاص.
وَ لاٰ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اِخْتَلَفُوا وهم اليهود والنصارى.
ص: 292
مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَهُمُ اَلْبَيِّنٰاتُ الموجبة للاتفاق والائتلاف والاجتماع علي كلمة الحق.
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا اَلَّذِينَ اِسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمٰانِكُمْ فَذُوقُوا اَلْعَذٰابَ بِمٰا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَ أَمَّا اَلَّذِينَ اِبْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اَللّٰهِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ تِلْكَ آيٰاتُ اَللّٰهِ نَتْلُوهٰا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَ مَا اَللّٰهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعٰالَمِينَ
يَوْمَ تَبْيَضُّ نصب بقوله: لَهُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ . البياض من النور، والسواد من الظلمة، فمن كان من أهل نور الحقّ وسم ببياض اللون، وأشرق وجهه، وابيضت صحيفته، وسعى نوره بين يديه وبيمينه، ومن كان من أهل ظلمة الباطل وسم بسواد اللون، وكسف وجهه، واسودّت صحيفته، وأحاطت به الظلمة من كل جانب، نعوذ باللّه وفضله من ظلمة الباطل وأهله.
أَ كَفَرْتُمْ فيقال لهم: أَ كَفَرْتُمْ والهمزة للتوبيخ والتعجيب من حالهم، وقيل: هم أهل البدع والأهواء والآراء الباطلة(1)، وقيل: هم المرتدّون(2)، وقيل:
هم الخوارج(3).
فَفِي رَحْمَتِ اَللّٰهِ أي: نعمته وهو الثواب الدائم.
وقوله: هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ [استئناف كأنّه قيل: كيف يكونون فيها؟ فقيل:
هم فيها خالدون](4) لا يظعنون عنها ولا يموتون.
ص: 293
تِلْكَ آيٰاتُ اَللّٰهِ الواردة في الوعد والوعيد.
نَتْلُوهٰا عَلَيْكَ ملتبسة بِالْحَقِّ والعدل.
وَ مَا اَللّٰهُ يُرِيدُ ظُلْماً فيأخذ أحدا بغير جرم، أو يزيد في عقاب مجرم، أو ينقص من ثواب محسن فيكون ظلما.
وقال: لِلْعٰالَمِينَ علي معنى ما يريد شيئا من الظلم لأحد من خلقه.
وَ لِلّٰهِ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ وَ إِلَى اَللّٰهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّٰاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ اَلْكِتٰابِ لَكٰانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ أَكْثَرُهُمُ اَلْفٰاسِقُونَ
بيّن سبحانه وجه استغنائه عن الظلم بقوله: وَ لِلّٰهِ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ وإليه ترجع أمورهم، وقع المظهر موقع المضمر ليكون أفخم في الذكر.
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ معناه: وجدتم خير أمة، لأنّ (كان) عبارة عن وجود الشيء في زمان ماض، ولا دليل فيه علي العدم السابق، ولا علي الانقطاع الطارئ، وقيل: كنتم في علم اللّه خير أمة، أو كنتم في الأمم قبلكم مذكورين بأنّكم خير أمّة موصوفين به(1).
أُخْرِجَتْ أظهرت لِلنّٰاسِ .
وقوله: تَأْمُرُونَ كلام مستأنف بيّن به كونهم خير أمة، كما يقال: زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويحسن إليهم.
وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ اَلْكِتٰابِ بالنبيّ وبما جاء به لَكٰانَ ذلك الإيمان
ص: 294
خَيْراً لَهُمْ في الدنيا والآخرة.
مِنْهُمُ اَلْمُؤْمِنُونَ كعبد الله بن سلام وأصحابه من اليهود، والنجاشي وأصحابه من النصارى.
وَ أَكْثَرُهُمُ اَلْفٰاسِقُونَ المتمردون في الكفر.
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاّٰ أَذىً وَ إِنْ يُقٰاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ اَلْأَدْبٰارَ ثُمَّ لاٰ يُنْصَرُونَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ اَلذِّلَّةُ أَيْنَ مٰا ثُقِفُوا إِلاّٰ بِحَبْلٍ مِنَ اَللّٰهِ وَ حَبْلٍ مِنَ اَلنّٰاسِ وَ بٰاؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اَللّٰهِ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ اَلْمَسْكَنَةُ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كٰانُوا يَكْفُرُونَ بِآيٰاتِ اَللّٰهِ وَ يَقْتُلُونَ اَلْأَنْبِيٰاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذٰلِكَ بِمٰا عَصَوْا وَ كٰانُوا يَعْتَدُونَ
هذا تثبيت لمن أسلم من اليهود ووعد لهم بأنّهم منصورون، فإنّهم كانوا يؤذونهم بالتوبيخ والتهديد وغير ذلك، فقال سبحانه: إنّهم لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاّٰ ضرارا مقصورا علي أَذىً بقول من طعن في الدين، أو وعيد، أو نحو ذلك.
وَ إِنْ يُقٰاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ اَلْأَدْبٰارَ منهزمين.
ثُمَّ لاٰ يُنْصَرُونَ أي: لا يعاونون ولا ينصرهم أحد. وفي هذا دلالة علي صحة نبوة نبيّنا محمّد صلى الله عليه و آله و سلم لوقوع مخبره على وفق الخبر، فإنّ اليهود لم يثبتوا قط للمسلمين ولم يضرّوهم بقتل وأسر.
وإنّما لم يجزم قوله: لاٰ يُنْصَرُونَ لأنّه عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الإخبار ابتداء، فكأنّه قيل: ثم أخبركم أنّهم لا ينصرون.
وقوله: بِحَبْلٍ مِنَ اَللّٰهِ في موضع النصب علي الحال علي تقدير: إلا معتصمين بحبل اللّه وحبل الناس. والمعنى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ اَلذِّلَّةُ كما يضرب
ص: 295
البيت علي أهله أَيْنَ مٰا وجدوا وظفر بهم في عامة الأحوال، إلا في حال اعتصامهم بذمة اللّه وذمة المسلمين، أي: لا عزّ لهم قط إلا هذه الواحدة، وهي التجاؤهم إلى الذمة لقبولهم الجزية.
وَ بٰاؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اَللّٰهِ استوجبوه.
ذلك إشارة إلى ضرب الذلة والمسكنة واستيجاب غضب اللّه، أي: ذلك كائن بسبب كفرهم بِآيٰاتِ اَللّٰهِ وقتلهم اَلْأَنْبِيٰاءَ .
ثم قال: ذلك بسبب عصيانهم واعتدائهم.
لَيْسُوا سَوٰاءً مِنْ أَهْلِ اَلْكِتٰابِ أُمَّةٌ قٰائِمَةٌ يَتْلُونَ آيٰاتِ اَللّٰهِ آنٰاءَ اَللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ يُسٰارِعُونَ فِي اَلْخَيْرٰاتِ وَ أُولٰئِكَ مِنَ اَلصّٰالِحِينَ
الضمير في لَيْسُوا لأهل الكتاب.
سَوٰاءً أي: مستوين.
وقوله: مِنْ أَهْلِ اَلْكِتٰابِ أُمَّةٌ قٰائِمَةٌ كلام مستأنف لبيان قوله: لَيْسُوا سَوٰاءً ، كما أنّ قوله: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ بيان لقوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ .
وقوله: قٰائِمَةٌ معناه: مستقيمة عادلة، وهم الذين أسلموا منهم. وعبّر عن تهجدهم وصلاتهم بالليل بتلاوة آيات اللّه في ساعات الليل مع السجود، لأنّه بيان لفعلهم.
وَ يُسٰارِعُونَ فِي اَلْخَيْرٰاتِ يبادرون إلى فعل الطاعات.
ص: 296
وَ أُولٰئِكَ مِنَ اَلصّٰالِحِينَ الذين صلحت أحوالهم عند اللّه.
وما يفعلوا من خير فلن يكفروه واللّه عليم بالمتّقين لما وصف سبحانه نفسه بالشكر في قوله: وَ اَللّٰهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (1) بمعنى:
توفية الثواب، نفى هنا نقيض ذلك بقوله: فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وعدّاه إلى مفعولين، لأنّه ضمّنه معنى الحرمان، كأنّه قال: فلن يحرموه، أي: لن يحرموا جزاءه.
وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ أي: بأحوالهم فيجازيهم بجزيل الثواب.
إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوٰالُهُمْ وَ لاٰ أَوْلاٰدُهُمْ مِنَ اَللّٰهِ شَيْئاً وَ أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ مَثَلُ مٰا يُنْفِقُونَ فِي هٰذِهِ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهٰا صِرٌّ أَصٰابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَ مٰا ظَلَمَهُمُ اَللّٰهُ وَ لٰكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
الصر: الريح الباردة، ومثله الصرصر.
شبّه سبحانه ما كانوا ينفقونه من أموالهم في المآثر وكسب الثناء بين الناس لا يبتغون بذلك وجه اللّه، بالزرع الذي أهلكه البرد فذهب حطاما. وقيل: هو ما أنفقوه في عداوة الرسول فضاع عنهم إذ لم يبلغوا بإنفاقه مقاصدهم(2).
وشبّه ب - حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فأهلك عقوبة لهم علي معاصيهم، لأنّ الإهلاك عن السخط أشدّ.
وَ مٰا ظَلَمَهُمُ اَللّٰهُ بأن لم يقبل نفقاتهم.
ص: 297
وَ لٰكِنْ ظلموا أنفسهم حيث لم يأتوا بها علي الوجه الذي يستحقّ به الثواب.
يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَتَّخِذُوا بِطٰانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاٰ يَأْلُونَكُمْ خَبٰالاً وَدُّوا مٰا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ اَلْبَغْضٰاءُ مِنْ أَفْوٰاهِهِمْ وَ مٰا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنّٰا لَكُمُ اَلْآيٰاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ هٰا أَنْتُمْ أُولاٰءِ تُحِبُّونَهُمْ وَ لاٰ يُحِبُّونَكُمْ وَ تُؤْمِنُونَ بِالْكِتٰابِ كُلِّهِ وَ إِذٰا لَقُوكُمْ قٰالُوا آمَنّٰا وَ إِذٰا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ اَلْأَنٰامِلَ مِنَ اَلْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اَللّٰهَ عَلِيمٌ بِذٰاتِ اَلصُّدُورِ
بطانة الرجل ووليجته: خاصّته وصفيّه الذي يستبطن أمره، مأخوذة من بطانة الثوب. ومثله قولهم: فلان شعار فلان، وعن النبي صلى الله عليه و آله و سلم: (الأنصار شعار والناس دثار)(1).
مِنْ دُونِكُمْ أي: من دون أبناء جنسكم وهم المسلمون، ويجوز تعلّقه ب - لاٰ تَتَّخِذُوا أ وب - بِطٰانَةً علي الوصف أي: بِطٰانَةً كائنة مِنْ دُونِكُمْ .
لاٰ يَأْلُونَكُمْ خَبٰالاً من قولهم: ألا في الأمر يألو: إذا قصّر فيه، ثم استعمل متعدّيا إلى مفعولين في قولهم: لا آلوك نصحا، والمعنى: لا أمنعك نصحا. والخبال:
الفساد.
وَدُّوا مٰا عَنِتُّمْ أي: ودّوا عنتكم، و (ما) مصدرية، والعنت: شدة الضرر والمشقة، أي: تمنّوا أن يضروكم في دينكم ودنياكم أشدّ الضرر.
قَدْ بَدَتِ اَلْبَغْضٰاءُ مِنْ أَفْوٰاهِهِمْ لأنّهم لا يضبطون أنفسهم وينفلت من
ص: 298
ألسنتهم ما يعلم به بغضهم للمسلمين.
قَدْ بَيَّنّٰا لَكُمُ اَلْآيٰاتِ الدالة علي وجوب الإخلاص في موالاة أولياء اللّه ومعاداة أعدائه.
إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ما بيّن لكم فعملتم به.
والأحسن أن تكون هذه الجمل كلها مستأنفات علي وجه التعليل للنهي عن اتخاذهم بطانة.
هٰا للتنبيه و أَنْتُمْ مبتدأ و أُولاٰءِ خبره، أي: أنتم أولاء الخاطئون في موالاة منافقي أهل الكتاب. وقيل: أُولاٰءِ موصول و تُحِبُّونَهُمْ صلته، والواو في وَ تُؤْمِنُونَ للحال من قوله: وَ لاٰ يُحِبُّونَكُمْ ، والحال أنّكم تؤمنون بكتابهم وهم مع ذلك لا يحبّونكم، فما بالكم تحبّونهم وهم لا يؤمنون بكتابكم!.
وفيه توبيخ بأنّهم في باطلهم أصلب منكم في حقّكم.
ويوصف النادم والمغتاظ بعضّ الأنامل والبنان.
قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ دعاء عليهم بأن يزداد غيظهم بزيادة ما يغيظهم من عزّ الإسلام وأهله حتى يهلكوا به.
إِنَّ اَللّٰهَ عَلِيمٌ بِذٰاتِ اَلصُّدُورِ بمضمرات الصدور، وهو يعلم ما في صدور المنافقين من البغضاء. ويجوز أن يكون قوله تعالي: قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ أمرا لرسول اللّه بطيب النفس وقوة الرجاء والإبشار بوعد اللّه أن يهلكوا غيظا بإعزاز الإسلام وإذلالهم به فلا يكون هناك قول.
ص: 299
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهٰا وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا لاٰ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اَللّٰهَ بِمٰا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
أي: إن تصبكم أيّها المؤمنون نصرة وغنيمة ونعمة من اللّه تعالى تَسُؤْهُمْ تحزنهم وَ إِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ أي: محنة بإصابة العدو منكم يَفْرَحُوا بِهٰا .
وَ إِنْ تَصْبِرُوا علي عداوتهم وَ تَتَّقُوا ما نهيتم عنه من موالاتهم، أو وَ إِنْ تَصْبِرُوا علي مشاق الدين وتكاليفه وَ تَتَّقُوا اللّه في اجتناب محارمه، كنتم في كنف اللّه وحفظه ف - لاٰ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً . وقرئ: لا يضركم من ضاره يضيره، ويضركم علي أنّ ضمة الراء لاتباع ضمة الضاد، وقرئ: لا يضرّكم بفتح الراء.
علّم اللّه المسلمين أن يستعينوا علي كيد العدو بالصبر والتقوي.
وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ اَلْمُؤْمِنِينَ مَقٰاعِدَ لِلْقِتٰالِ وَ اَللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ هَمَّتْ طٰائِفَتٰانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاٰ وَ اَللّٰهُ وَلِيُّهُمٰا وَ عَلَى اَللّٰهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ
وا ذكر إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ با لمدينة إلي أحد.
خرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم يوم الجمعة بعد الجمعة، وأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوال، وصفّ أصحابه للقتال وأمّر عبد اللّه بن جبير(1) علي الرماة وقال لهم: (انضحوا عنا بالنبل لا يأتونا من ورائنا).
ص: 300
تُبَوِّئُ اَلْمُؤْمِنِينَ أي: تنزلهم وتهيئ لهم.
مَقْعَدِ أي: مواطن ومواقف لِلْقِتٰالِ . وقد استعمل المقعد والمقام في معنى المكان، ومنه قوله تعالى: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ (1)، وقوله: قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقٰامِكَ (2) أي: من مجلسك وموضع حكمك.
إِذْ هَمَّتْ بدل من إِذْ غَدَوْتَ أو تعلّق بقوله: وَ اَللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .
طٰائِفَتٰانِ أي: حيّان من الأنصار: بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس وهما الجناحان.
خرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في ألف، والمشركون في ثلاثة آلاف، ووعدهم الفتح إن صبروا، فانخزل(3) عبد اللّه بن أبيّ بثلث الناس، وقال: يا قوم علام نقتل أنفسنا وأولادنا؟! فتبعهم عمرو بن حزم الأنصاري(4) فقال: أنشدكم اللّه في نبيّكم وأنفسكم، فقال عبد اللّه: لو نعلم قتالا لاتبعناكم، فهمّ الحيّان باتباع عبد اللّه، فعصمهم اللّه فمضوا مع رسول اللّه صلى الله عليه و سلم(5).
والظاهر أنّها كانت همّة وحديث نفس، ولو كانت عزيمة لما ثبتت معها الولاية، واللّه تعالي يقول: وَ اَللّٰهُ وَلِيُّهُمٰا أي: ناصرهما ومتولي أمرهما. والفشل:
الجبن والخور.
ص: 301
وَ عَلَى اَللّٰهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ أمرهم سبحانه بأن لا يتوكلوا إلا عليه، ولا يفوضوا أمورهم إلا إليه.
وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اَللّٰهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اَللّٰهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاٰثَةِ آلاٰفٍ مِنَ اَلْمَلاٰئِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلىٰ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هٰذٰا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاٰفٍ مِنَ اَلْمَلاٰئِكَةِ مُسَوِّمِينَ وَ مٰا جَعَلَهُ اَللّٰهُ إِلاّٰ بُشْرىٰ لَكُمْ وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَ مَا اَلنَّصْرُ إِلاّٰ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَكِيمِ
وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اَللّٰهُ بِبَدْرٍ بما أمدّكم به من الملائكة، وبتقوية قلوبكم، وإلقاء الرعب في قلوب أعدائكم.
وَ أَنْتُمْ في حال قلة وذلة. وا لأذلة: جمع القلة للذليل، والذلال: جمع الكثرة.
وإنّما جيء بلفظ القلة ليدلّ علي أنّهم علي ذلتهم كانوا قليلا، وذلتهم: ضعف حالهم وقلة سلاحهم ومالهم. وذلك أنّهم خرجوا علي النواضح يعتقب النفر منهم علي البعير الواحد، وما كان معهم إلا فرسان: فرس للمقداد بن عمرو(1) وفرس لمرثد بن أبي مرثد(2)، وقلّتهم أنّهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا: سبعة وسبعون من المهاجرين ومائتان وستة وثلاثون من الأنصار، وكان صاحب راية رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والمهاجرين علي بن أبي طالب عليه السلام وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة(3)، وكان
ص: 302
معهم من السلاح ستة أدرع وثمانية أسياف ومن الإبل سبعون بعيرا، وكان عدد المشركين نحوا من ألف مقاتل ومعهم مائة فرس(1).
وبدر: اسم ماء بين مكة والمدينة كان لرجل يسمّى بدرا فسمّي به.
فَاتَّقُوا اَللّٰهَ في الثبات مع رسوله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ما أنعم به عليكم من نصرته.
إِذْ تَقُولُ ظرف ل - نَصَرَكُمُ علي أن يكون قال لهم ذلك يوم بدر، والخطاب للنبي صلى الله عليه و آله و سلم؛ أو بدل ثان من إِذْ غَدَوْتَ علي أن يكون قال لهم ذلك يوم أحد، مع اشتراط الصبر والتقوي عليهم، فلم يصبروا عن الغنائم ولم يتقوا، حيث خالفوا أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فلم تنزل الملائكة.
ومعنى: أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ إنكار أن لا يكفيهم الإمداد بِثَلاٰثَةِ آلاٰفٍ مِنَ اَلْمَلاٰئِكَةِ .
و بَلىٰ إيجاب لما بعد لَنْ يعني: بل يكفيكم الإمداد بهم، ثم قال: إن تصبروا وتتقوا يُمْدِدْكُمْ بأكثر من ذلك العدد مُسَوِّمِينَ للقتال.
وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هٰذٰا يعني: المشركين، من قولك: قفل فلان من غزوته وخرج من فوره إلي غزوة أخري، ومنه قولنا في أصول الفقه: الأمر علي الفور دون التراخي. وهو مصدر من فارت القدر: إذا غلت، فاستعير للسرعة.
والمعنى: إن يأتوكم من ساعتهم هذه يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بالملائكة في حال إتيانهم لا يتأخر نزولهم عن إتيانهم، يريد إ نّ اللّه يعجل نصرتكم إن صبرت، وقرئ: منزلين ومنزّلين مخففا ومشددا، ومسوّمين ومسوّمين بمعنى: معلّمين ومعلمين أنفسهم
ص: 303
أو خيلهم.
وَ مٰا جَعَلَهُ اَللّٰهُ الهاء ل - أَنْ يُمِدَّكُمْ أي: وما جعل الله إمدادكم بالملائكة إلا بشارة لَكُمْ بأنّكم تنصرون.
وَ لِتَطْمَئِنَّ به قُلُوبُكُمْ كما كانت السكينة لبني إسرائيل بشارة بالنصر وطمأنينة لقلوبهم.
وَ مَا اَلنَّصْرُ بإمداد الملائكة إِلاّٰ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ اَلْعَزِيزِ الذي لا يغالب في حكمه اَلْحَكِيمِ الذي يعطي النصر ويمنعه بحسب ما يراه من المصلحة.
لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خٰائِبِينَ لَيْسَ لَكَ مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْ ءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظٰالِمُونَ وَ لِلّٰهِ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشٰاءُ وَ اَللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
المعنى: ليهلك طائفة مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بالقتل والأسر، وهو ما كان يوم بدر قتل منهم سبعون وأسر سبعون، وأكثرهم رؤساء قريش وصناديدهم.
أَوْ يَكْبِتَهُمْ أو يخزيهم بالخيبة مما أمّلوا من الظفر بكم، ويغيظهم بالهزيمة فَيَنْقَلِبُوا خٰائِبِينَ غير ظافرين، ونحوه: وَ رَدَّ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنٰالُوا خَيْراً (1). ويقال: كبته، بمعنى كبده إذا ضرب كبده بالغيظ والحرقة. واللام متعلّقة بقوله: وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اَللّٰهُ أو بقوله: وَ مَا اَلنَّصْرُ إِلاّٰ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ .
وقوله: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ عطف على ما قبله، و لَيْسَ لَكَ مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْ ءٌ اعتراض. والمعنى: إنّ اللّه مالك أمرهم، فإما أن يهلكهم أو يهزمهم، أو يتوب عليهم
ص: 304
إن أسلموا أَوْ يُعَذِّبَهُمْ إن أصرّوا علي الكفر، وليس لك من أمرهم شيء وإنّما أنت نبيّ مبعوث لإنذارهم.
وقيل: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ نصب بإضمار (أن) و (أن يتوب) في حكم اسم معطوف ب - (أو) علي الأمر أو على (شيء). أي: ليس لك من أمرهم شيء أو من التوبة عليهم أو من تعذيبهم. [أو ليس لك من أمرهم شيء أو التوبة عليهم أو تعذيبهم](1). وقيل: أَوْ بمعنى (إلا أن) على معنى ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب اللّه عليهم، فتفرح بحالهم أو يعذبهم فتتشفى منهم.
يَغْفِرُ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشٰاءُ إنّما أبهم الأمر في التعذيب والمغفرة ليقف المكلف بين الخوف والرجاء، فلا يأمن من عذاب اللّه ولا ييأس من روح اللّه ورحمته.
يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَأْكُلُوا اَلرِّبَوا أَضْعٰافاً مُضٰاعَفَةً وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَ اِتَّقُوا اَلنّٰارَ اَلَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكٰافِرِينَ وَ أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ اَلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
هذا نهي عن أكل اَلرِّبَوا مع توبيخ لهم بما كانوا عليه من تضعيفه، كان الرجل منهم إذا بلغ الدين محلّه زاد في الأجل، فربما يستغرق بالشيء اليسير مال المديون.
وَ اِتَّقُوا اَلنّٰارَ اَلَّتِي أُعِدَّتْ أي: هيئت واتخذت لِلْكٰافِرِينَ . والوجه في تخصيص الكافرين بإعداد النار لهم أنّهم معظم أهل النار، كان أبو حنيفة يقول:
(هي أخوف آية في القرآن، أوعد اللّه المؤمنين بالنار المعدّة للكافرين إن لم يتقوه
ص: 305
في اجتناب محارمه)(1). وقد أمدّ ذلك بما أتبعه من تعليق الرجاء منهم لرحمته بأن يتوفروا علي طاعته وطاعة رسوله.
وَ سٰارِعُوا إِلىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا اَلسَّمٰاوٰاتُ وَ اَلْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي اَلسَّرّٰاءِ وَ اَلضَّرّٰاءِ وَ اَلْكٰاظِمِينَ اَلْغَيْظَ وَ اَلْعٰافِينَ عَنِ اَلنّٰاسِ وَ اَللّٰهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ
قرأ أهل المدينة والشام: سارعوا - بغير واو -.
ومعنى المسارعة إلي المغفرة والجنّة: الإقبال علي ما يستحقّ به الثواب من فعل الطاعات وأداء الفرائض.
و عَرْضُهَا اَلسَّمٰاوٰاتُ وَ اَلْأَرْضُ أي: عرضها كعرض السماوات و الأرض، والمراد وصفها بالسعة فشبّهت بأوسع ما علمه الناس من خلق اللّه، وخصّ العرض لأنّه في العادة أدنى من الطول للمبالغة كقوله: بَطٰائِنُهٰا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ (2).
وفي قوله: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ دلالة علي أنّ الجنّة مخلوقة اليوم، لأنّها لا تكون معدّة إلا وهي مخلوقة.
اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي اَلسَّرّٰاءِ وَ اَلضَّرّٰاءِ صفة للمتقين، ومعناه: إنّهم ينفقون في حال الرخاء واليسر، وفي حال الضيق والعسر ما قدروا عليه من قليل أو كثير، لا يمنعهم حال نعمة ولا حال محنة من المعروف.
وكظم الغيظ: أن يمسك علي ما في نفسه منه بالصبر ولا يظهره، من كظم القربة: إذا ملأها وشدّ فاها، وكظم البعير: إذا لم يجتر، وفي الحديث: (من كظم
ص: 306
غيظا وهو يقدر علي إنفاذه ملأ اللّه قلبه أمنا وإيمانا)(1).
وَ اَلَّذِينَ إِذٰا فَعَلُوا فٰاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اَللّٰهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ إِلاَّ اَللّٰهُ وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلىٰ مٰا فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أُولٰئِكَ جَزٰاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ جَنّٰاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا وَ نِعْمَ أَجْرُ اَلْعٰامِلِينَ
وَ اَلَّذِينَ عطف علي اَلْمُتَّقِينَ وقوله: أُولٰئِكَ إشارة إلى الفريقين.
ويجوز أن يكون وَ اَلَّذِينَ مبتدأ، وخبره أُولٰئِكَ .
فٰاحِشَةً فعلة متزايدة القبح أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بمقارفة الذنب.
ذَكَرُوا اَللّٰهَ أي: ذكروا نهي اللّه ووعيده أو عقابه فانزجروا عن المعصية.
فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ بأن قالوا: اللهم اغفر لنا ذنوبنا.
وَ مَنْ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ إِلاَّ اَللّٰهُ وصف لذاته بسعة الرحمة. وهي جملة اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه، منبّهة علي لطيف فضله وجليل عفوه وكرمه، باعثة علي التوبة وطلب المغفرة.
وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلىٰ مٰا فَعَلُوا أي: علي أفعالهم القبيحة، وفي الحديث: (ما أصرّ من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة)(2).
وَ هُمْ يَعْلَمُونَ حال من فعل الإصرار. والمعنى: وليسوا ممن يصرّون علي الذنوب وهم عالمون بالنهي عنها والوعيد عليها. وفي هذا بيان أنّ المؤمنين
ص: 307
ثلاث طبقات: (متّقون، وتائبون، ومصرون)، وأنّ للمتقين والتائبين منهم الجنّة و المغفرة.
وَ نِعْمَ أَجْرُ اَلْعٰامِلِينَ المخصوص بالمدح محذوف، تقديره: ونعم أجر العاملين ذلك، أي: المغفرة والجنات.
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كٰانَ عٰاقِبَةُ اَلْمُكَذِّبِينَ هٰذٰا بَيٰانٌ لِلنّٰاسِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ وَ لاٰ تَهِنُوا وَ لاٰ تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
قَدْ مضت مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ يريد ما سنّه اللّه تعالى في الأمم الخالية المكذّبة رسلها من الاستئصال بالعذاب، وتبقية الآثار في الديار للاتعاظ والانزجار وا لاعتبار.
فَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فتعرفوا أخبار المكذّبين، وانظروا إلى ما نزل بهم لتنتهوا عن مثل ما فعلوه.
هٰذٰا بَيٰانٌ لِلنّٰاسِ أي: إيضاح لسوء عَقِبِهِ من كذّب، وحثّ علي النظر في آثار هلاكهم.
وَ هُدىً زيادة تثبيت وَ مَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ للذين اتقوا من المؤمنين.
وقوله: وَ لاٰ تَهِنُوا وَ لاٰ تَحْزَنُوا تسلية من اللّه تعالي لرسوله وللمؤمنين عما أصابهم يوم أحد. والمعنى: ولا تضعفوا عن الجهاد لما أصابكم، ولا تبالوا بذلك، ولا تحزنوا علي من قتل منكم.
وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ أي: وحالكم أنّكم أعلى منهم وأغلب، لأنّكم أصبتم
ص: 308
منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم يوم أحد. أو يكون هذا بشارة لهم بالعلو والغلبة في العاقبة كقوله: وَ إِنَّ جُنْدَنٰا لَهُمُ اَلْغٰالِبُونَ (1).
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي: ولا تهنوا إن صحّ إيمانكم، لأنّ صحة الإيمان توجب الثقة باللّه وقلة المبالاة بأعداء اللّه، ويجوز أن يريد: وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مصدّقين بما يعدكم اللّه من الغلبة.
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ اَلْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَ تِلْكَ اَلْأَيّٰامُ نُدٰاوِلُهٰا بَيْنَ اَلنّٰاسِ وَ لِيَعْلَمَ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدٰاءَ وَ اَللّٰهُ لاٰ يُحِبُّ اَلظّٰالِمِينَ وَ لِيُمَحِّصَ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ اَلْكٰافِرِينَ
قرئ: قرح بفتح القاف وضمها وهما لغتان، وقيل: هي - بالفتح -:
الجراحات، و بالضم: ألمها.
يعني: إن تصبكم جراحة وألم يوم أحد فلقد أصاب القوم ذلك يوم بدر، ثم لم يضعف ذلك قلوبهم ولم يثبّطهم عن معاودتكم بالقتال، وقيل: معناه: إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم في هذا اليوم قبل أن تخالفوا أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم(2).
وَ تِلْكَ اَلْأَيّٰامُ تِلْكَ مبتدأ، و اَلْأَيّٰامُ صفته، و نُدٰاوِلُهٰا خبره، ويجوز أن يكون تِلْكَ اَلْأَيّٰامُ مبتدأ وخبرا. والمراد بالأيّام: أوقات الظفر والغلبة.
نُدٰاوِلُهٰا أي: نصرّفها بَيْنَ اَلنّٰاسِ نديل تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء،
ص: 309
كما قيل في المثل: (الحرب سجال)(1).
وَ لِيَعْلَمَ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا يجوز ان يكون المعلل محذوفا، والمعنى: وليتميز الثابتون منكم علي الإيمان من غيرهم فعلنا ذلك، وهو من باب التمثيل، أي: فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم من الثابت على الإيمان منكم ومن غير الثابت، وإلا فإنّه سبحانه لم يزل عالما بما يكون قبل كونه. وقيل: معناه: وليعلمهم علما يتعلّق به الجزاء، وهو أن يعلمهم موجودا منهم الثبات.
ويجوز أن تكون العلة محذوفة، وهذا عطف عليه بمعنى: وفعلنا ذلك ليكون كيت وكيت وليعلم اللّه، وإنّما حذف ليؤذن بأنّ المصلحة فيما فعل ليست بواحدة.
وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدٰاءَ أي: وليكرم ناسا منكم بالشهادة، يريد بذلك شهداء أحد، أو يتخذ منكم من يصلح للشهادة علي الأمم يوم القيامة من قوله:
لِتَكُونُوا شُهَدٰاءَ عَلَى اَلنّٰاسِ (2) .
وَ اَللّٰهُ لاٰ يُحِبُّ اَلظّٰالِمِينَ اعتراض بين بعض التعليل وبعض، أي: واللّه لا يحبّ من ليس من هؤلاء الثابتين علي الإيمان المجاهدين في سبيل اللّه الممحصين من الذنوب. و التمحيص: التطهير.
وَ يَمْحَقَ اَلْكٰافِرِينَ أي: يهلكهم، يعني: [إن كانت الدولة علي المؤمنين فللتمييز والتمحيص وغير ذلك مما هو صلاح لهم](3)، وإن كانت الدولة علي الكافرين فلمحقهم أي: إهلاكهم ومحو آثارهم.
ص: 310
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ وَ لَمّٰا يَعْلَمِ اَللّٰهُ اَلَّذِينَ جٰاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ اَلصّٰابِرِينَ وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ اَلْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ
أَمْ منقطعة، والتقدير: بل أحسبتم ومعنى الهمزة فيها الإنكار وَ لَمّٰا يَعْلَمِ اَللّٰهُ بمعنى: ولما تجاهدوا، لأنّ العلم يتعلّق بالمعلوم فنزل نفي العلم منزلة نفي متعلّقه لأنه ينتفي بانتفائه، تقول: (ما علم اللّه في فلان خيرا)، تريد ما فيه خير حتى يعلمه.
و لَمّٰا بمعنى: (لم) إلا أنّ فيه ضربا من التوقّع، فدلّ علي نفي الجهاد فيما مضى وعلي توقّعه فيما يستقبل.
وَ يَعْلَمَ اَلصّٰابِرِينَ منصوب بإضمار (أن) والواو بمعنى الجمع كقولك:
(لا تأكل السمك وتشرب اللبن). والمعنى: أظننتم أنّكم تدخلون الجنّة ولما يقع العلم بجهاد المجاهدين منكم والعلم بصبر الصابرين.
وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ اَلْمَوْتَ خطاب للذين لم يشهدوا بدرا، وكانوا يتمنّون أن يشهدوا غزاة مع رسول اللّه ليفوزوا بالشهادة، وهم الذين ألحّوا علي رسول اللّه في الخروج إلى المشركين وكان رأيه صلى الله عليه و آله و سلم في الإقامة بالمدينة. أي: وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ اَلْمَوْتَ قبل أن تعرفوا شدّته وتشاهدوه.
فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ مشاهدين له حين قتل منكم من قتل وشارفتم أن تقتلوا، ويجوز تمنّي الشهادة، لأنّ المراد منه نيل كرامة الشهداء لا غير.
وَ مٰا مُحَمَّدٌ إِلاّٰ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ أَ فَإِنْ مٰاتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ عَلىٰ أَعْقٰابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ
ص: 311
اَللّٰهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اَللّٰهُ اَلشّٰاكِرِينَ وَ مٰا كٰانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ كِتٰاباً مُؤَجَّلاً وَ مَنْ يُرِدْ ثَوٰابَ اَلدُّنْيٰا نُؤْتِهِ مِنْهٰا وَ مَنْ يُرِدْ ثَوٰابَ اَلْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهٰا وَ سَنَجْزِي اَلشّٰاكِرِينَ
رمى عبد اللّه بن قمئة عليه اللعنة يوم أحد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بحجر فكسر رباعيته وشجّ وجهه وأقبل يريد قتله، فذبّ عنه مصعب بن عمير(1) وهو صاحب الراية، فقتله ابن قمئة وهو يري أنّه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فقال: قد قتلت محمّدا، وفشا في القوم: أنّ محمّدا قد قتل فانهزموا، وجعل رسول اللّه يقول: (إليّ عباد اللّه)، حتى انحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم علي الفرار، فقالوا: يا رسول اللّه أتانا الخبر بأنّك قتلت فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين، فنزلت(2).
وروي أنّه قال بعضهم: ليت عبد اللّه بن أبيّ يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان، وقال أنس بن النضر(3) - عم أنس بن مالك(4) -: إن كان محمّد قتل فإنّ ربّ محمّد حيّ لا يموت، وما تصنعون بالحياة بعد رسول اللّه ؟! فقاتلوا علي ما قاتل عليه رسول اللّه وموتوا علي ما مات عليه، ثم قال: اللهم إنّي أعتذر إليك مما يقول هؤلاء
ص: 312
- يعني المسلمين - [وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء - يعني المنافقين -](1) ثم شدّ بسيفه فقاتل حتى قتل(2).
والمعنى: وَ مٰا مُحَمَّدٌ إِلاّٰ رَسُولٌ مضت مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ بعثوا فأدوا الرسالة وماتوا وقتل بعضهم، وأنّه سيمضي كما مضوا، وأتباع كل رسول بقوا متمسّكين بدينه بعد مضيّه.
أَ فَإِنْ مٰاتَ محمّد أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ عَلىٰ أَعْقٰابِكُمْ . المعنى: أفإن أماته اللّه أو قتله الكفار ارتددتم كفارا بعد إيمانكم ؟ فالفاء لتعليق الجملة الشرطية بالجملة قبلها، والهمزة للإنكار.
وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلىٰ عَقِبَيْهِ ومن يرتدد عن دينه.
فَلَنْ يَضُرَّ اَللّٰهَ شَيْئاً ولم يضر إلا نفسه.
وَ سَيَجْزِي اَللّٰهُ اَلشّٰاكِرِينَ الذين لم ينقلبوا [كأنس بن النضر وأضرابه، وسمّاهم شاكرين](3) لأنّهم شكروا نعمة الإسلام فيما فعلوا.
وَ مٰا كٰانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ يعني: إنّ موت النفوس محال أن يكون إلا بمشية اللّه، فأخرجه مخرج فعل لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلا بإذن اللّه له فيه تمثيلا. وفيه تحريض علي الجهاد، وإخبار بأنّه لا يقدّم أجلا لم يحضر، وتركه لا يؤخر أجلا قد حضر.
كِتٰاباً مصدر مؤكد، لأنّ المعنى: كتب الموت كتابا.
مُؤَجَّلاً موقتا له أجل معلوم لا يتقدّم ولا يتأخر.
ص: 313
و من يرد بجهاده ثَوٰابَ اَلدُّنْيٰا يعني: الغنيمة.
نؤته منها من ثوابها وَ مَنْ يُرِدْ ثَوٰابَ اَلْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهٰا من ثوابها.
وَ سَنَجْزِي اَلشّٰاكِرِينَ الذين لم يشغلهم شيء عن الجهاد.
وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قٰاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمٰا وَهَنُوا لِمٰا أَصٰابَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ مٰا ضَعُفُوا وَ مَا اِسْتَكٰانُوا وَ اَللّٰهُ يُحِبُّ اَلصّٰابِرِينَ وَ مٰا كٰانَ قَوْلَهُمْ إِلاّٰ أَنْ قٰالُوا رَبَّنَا اِغْفِرْ لَنٰا ذُنُوبَنٰا وَ إِسْرٰافَنٰا فِي أَمْرِنٰا وَ ثَبِّتْ أَقْدٰامَنٰا وَ اُنْصُرْنٰا عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْكٰافِرِينَ فَآتٰاهُمُ اَللّٰهُ ثَوٰابَ اَلدُّنْيٰا وَ حُسْنَ ثَوٰابِ اَلْآخِرَةِ وَ اَللّٰهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ
قرئ: قتل وقاتل والفاعل رِبِّيُّونَ أو الضمير المستكن فيه العائد إلى نَبِيٍّ ، و مَعَهُ [رِبِّيُّونَ حال منه، بمعنى: قتل كائنا معه ربّيون، والربّيون:
الربّانيون.
فَمٰا وَهَنُوا عند قتل النبي](1)وَ مٰا ضَعُفُوا عن الجهاد بعده وَ مَا اِسْتَكٰانُوا للعدو. هذا تعرض بالوهن الذي أصابهم عند الإرجاف بقتل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وبضعفهم عند ذلك واستكانتهم للمشركين حين أرادوا أن يعتضدوا بالمنافق عبد الله بن أبيّ في طلب الأمان من أبي سفيان.
وَ مٰا كٰانَ قَوْلَهُمْ إِلاّٰ هذا القول، وهو إضافة الذنوب و الإسراف إلى أنفسهم مع كونهم ربّانيين كسرا لنفوسهم واستقصارا لها، والدعاء بالاستغفار منها قبل طلبهم بتثبيت الأقدام في مواطن الحرب والنصرة علي العدو، ليكون طلبهم أقرب إلى الإجابة.
ص: 314
فَآتٰاهُمُ اَللّٰهُ ثَوٰابَ اَلدُّنْيٰا من النصرة والغنيمة والعزّة، وخصّ ثَوٰابِ اَلْآخِرَةِ بالحسن دلالة علي فضيلته.
يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا اَلَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلىٰ أَعْقٰابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خٰاسِرِينَ بَلِ اَللّٰهُ مَوْلاٰكُمْ وَ هُوَ خَيْرُ اَلنّٰاصِرِينَ
عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: (نزلت في قول المنافقين للمسلمين عند الهزيمة:
ارجعوا إلي إخوانكم وادخلوا في دينهم)(1).
والمعنى: إِنْ تُطِيعُوا الكافرين وأصغيتم إلى قولهم: لو كان محمّد نبيا لما غلب، أو استأمنتم أبا سفيان وأصحابه فاستكنتم لهم.
يَرُدُّوكُمْ عَلىٰ أَعْقٰابِكُمْ أي: يرجعوكم كفارا في دينهم كما كنتم فترجعوا خٰاسِرِينَ قد تبدّلتم الكفر با لإيمان والنار بالجنّة.
بَلِ اَللّٰهُ مَوْلاٰكُمْ أي: ناصركم وهو أولي بأن تطيعوه، ولا تحتاجون معه إلى نصرة أحد وولايته.
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلرُّعْبَ بِمٰا أَشْرَكُوا بِاللّٰهِ مٰا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطٰاناً وَ مَأْوٰاهُمُ اَلنّٰارُ وَ بِئْسَ مَثْوَى اَلظّٰالِمِينَ وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اَللّٰهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتّٰى إِذٰا فَشِلْتُمْ وَ تَنٰازَعْتُمْ فِي اَلْأَمْرِ وَ عَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مٰا أَرٰاكُمْ مٰا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلدُّنْيٰا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ ثُمَّ
ص: 315
صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَ لَقَدْ عَفٰا عَنْكُمْ وَ اَللّٰهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ
قذف اللّه فِي قُلُوبِ المشركين الخوف يوم أحد، فانهزموا إلى مكة بعد أن كان لهم القوة والغلبة، ولما كانوا ببعض الطريق تلاوموا وقالوا: [بئس ما فعلنا](1) لا محمّدا قتلنا ولا الكواعب أردفنا، قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد تركناهم، ارجعوا فاستأصلوهم. فلما عزموا على ذلك ألقى اللّه في قلوبهم اَلرُّعْبَ فأمسكوا.
بِمٰا أَشْرَكُوا أي: بسبب إشراكهم، والمعنى: كان السبب في إلقاء اللّه الرعب في قلوبهم إشراكهم بِاللّٰهِ آلهة لم ينزل اللّه بإشراكها حجّة، وما عنى اللّه سبحانه أنّ هناك حجّة لم تنزل عليهم، وإنّما أراد نفي الحجّة ونزولها جميعا، كقول الشاعر:
ولا ترى الضّبّ بها ينجحر(2)
وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اَللّٰهُ وَعْدَهُ هو أنّه سبحانه وعدهم النصر بشرط الصبر والتقوى في قوله: بَلىٰ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هٰذٰا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ (3)، وقد وفى لهم بما وعدهم، وذلك أنّ رسول الله أقام الرماة عند الجبل - جبل أحد - حين جعل الجبل خلف ظهره واستقبل المدينة، وأمرهم أن يثبتوا في مكانهم ولا يبرحوا كانت الدولة للمسلمين أو عليهم، فلما أقبل المشركون
ص: 316
جعل الرماة يرشقون خيلهم، وغيرهم يضربونهم بالسيوف حتى انهزموا، وذلك قوله تعالى: إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ أي: تقتلونهم قتلا ذريعا.
حَتّٰى إِذٰا فَشِلْتُمْ والفشل: الجبن وضعف الرأي.
وَ تَنٰازَعْتُمْ فِي اَلْأَمْرِ وذلك قولهم: قد انهزم المشركون فما وقوفنا هنا؟ وقال بعضهم: لا نخالف أمر رسول اللّه، فثبت مكانه عبد اللّه بن جبير - وهو أمير الرماة - في نفر دون العشرة وهم المعنيون بقوله: وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ ونفر الباقون ينهبون وهم الذين أرادوا الدنيا، فكرّ المشركون علي الرماة وقتلوا أعبد اللّه بن جبير وأقبلوا علي المسلمين حتى هزموهم وقتلوا](1) من قتلوا، وهو قوله: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ أي: ليمتحن صبركم وثباتكم علي الشدائد.
وَ لَقَدْ عَفٰا عَنْكُمْ بعد أن خالفتم أمر الرسول وَ اَللّٰهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ يتفضّل عليهم بالعفو.
ومتعلّق قوله: حَتّٰى إِذٰا فَشِلْتُمْ محذوف تقديره: حتى إذا فشلتم منعكم نصره.
إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لاٰ تَلْوُونَ عَلىٰ أَحَدٍ وَ اَلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرٰاكُمْ فَأَثٰابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلاٰ تَحْزَنُوا عَلىٰ مٰا فٰاتَكُمْ وَ لاٰ مٰا أَصٰابَكُمْ وَ اَللّٰهُ خَبِيرٌ بِمٰا تَعْمَلُونَ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ اَلْغَمِّ أَمَنَةً نُعٰاساً يَغْشىٰ طٰائِفَةً مِنْكُمْ وَ طٰائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ
ص: 317
يَظُنُّونَ بِاللّٰهِ غَيْرَ اَلْحَقِّ ظَنَّ اَلْجٰاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنٰا مِنَ اَلْأَمْرِ مِنْ شَيْ ءٍ قُلْ إِنَّ اَلْأَمْرَ كُلَّهُ لِلّٰهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مٰا لاٰ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كٰانَ لَنٰا مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْ ءٌ مٰا قُتِلْنٰا هٰاهُنٰا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ اَلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ اَلْقَتْلُ إِلىٰ مَضٰاجِعِهِمْ وَ لِيَبْتَلِيَ اَللّٰهُ مٰا فِي صُدُورِكُمْ وَ لِيُمَحِّصَ مٰا فِي قُلُوبِكُمْ وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ بِذٰاتِ اَلصُّدُورِ
الإصعاد: الذهاب في الأرض والإبعاد فيه، تقول: صعد في الجبل وأصعد في الأرض، والمعنى: ولقد عفا عنكم وقت إصعادكم أي: ذهابكم في وادي أحد للانهزام.
وَ لاٰ تَلْوُونَ عَلىٰ أَحَدٍ أي: لا تلتفتون إلى من خلفكم في الحرب، لا يقف أحد منكم علي أحد.
وَ اَلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ يقول: (إليّ عباد اللّه أنا رسول اللّه من يكرّ فله الجنّة)(1).
فِي أُخْرٰاكُمْ أي: في ساقتكم وجماعتكم الأخري أي: المتأخرة، تقول:
جئت في آخر الناس وأخراهم، كما تقول: في أوّلهم وأولاهم بتأويل مقدّمتهم وجماعتهم الأولى.
فَأَثٰابَكُمْ عطف علي صَرَفَكُمْ أي: فجازاكم اللّه غَمًّا حين صرفكم عنه وابتلاكم بسبب غم أذقتموه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بعصيانكم إيّاه، أو غَمًّا متصلا بِغَمٍّ بما أرجف به من قتل رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وبالجرح،
ص: 318
والقتل، وظفر المشركين، وفوت الغنيمة.
لِكَيْلاٰ تَحْزَنُوا عَلىٰ مٰا فٰاتَكُمْ من الغنيمة و لا تحزنوا أيضا علي مٰا أَصٰابَكُمْ من الشدائد في سبيل اللّه.
وَ اَللّٰهُ خَبِيرٌ أي: عليم بأعمالكم.
ثم ذكر سبحانه ما أنعم عليهم بعد ذلك فقال: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ اَلْغَمِّ أَمَنَةً نُعٰاساً يَغْشىٰ طٰائِفَةً مِنْكُمْ هم أهل الصدق واليقين، وذلك أنّه تعالى أنزل الأمن علي المؤمنين وأزال عنهم الخوف الذي كان بهم حتى نعسوا وغلبهم النوم، وروي عن أبي طلحة(1) أنّه قال: (غشينا النعاس ونحن في مصافنا، فكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه ثم يسقط فيأخذه، وما أحد إلا ويميل تحت جحفته)(2).
وقوله تعالي: نُعٰاساً بدل من أَمَنَةً ، ويجوز أن يكون هو المفعول و أَمَنَةً حال منه مقدّمة عليه كما تقول: رأيت راكبا رجلا. وقرئ: يَغْشىٰ بالياء والتاء ردا علي النعاس أو الأمنة.
وَ طٰائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ وهم المنافقون مالهم إلا همّ أنفسهم لا همّ الدين ولا همّ رسول اللّه والمسلمين.
يَظُنُّونَ بِاللّٰهِ غَيْرَ الظن اَلْحَقِّ الذي يجب أن يظن به، فقوله: غَيْرَ اَلْحَقِّ في حكم المصدر و ظَنَّ اَلْجٰاهِلِيَّةِ بدل منه. ويجوز أن يكون المعنى: يظنون بالله ظن الجاهلية، و غَيْرَ اَلْحَقِّ تأكيد ل - يَظُنُّونَ كما تقول: هذا القول غير
ص: 319
ما تقول.
يقولون لرسول اللّه يسألونه هَلْ لَنٰا مِنَ اَلْأَمْرِ مِنْ شَيْ ءٍ معناه: هل لنا من أمر اللّه نصيب قط؟ يعنون: النصر والظفر.
قُلْ إِنَّ اَلْأَمْرَ كُلَّهُ لِلّٰهِ ولأوليائه المؤمنين وهو النصرة والغلبة.
يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مٰا لاٰ يُبْدُونَ لَكَ معناه: يخفون الشك والنفاق وما لا يستطيعون إظهاره لك.
يَقُولُونَ لَوْ كٰانَ لَنٰا مِنَ اَلْأَمْرِ أي: من الظفر الذي وعدنا به شَيْ ءٌ مٰا قُتِلْنٰا أي: ما قتل أصحابنا هٰاهُنٰا في هذه المعركة.
قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ أي: من علم اللّه منه أنّه يقتل ويصرع في هذا المصرع، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ لم يكن بدّ من وجوده، فلو قعدتم في بيوتكم لَبَرَزَ من بينكم اَلَّذِينَ علم اللّه أنّهم يقتلون إِلىٰ مَضٰاجِعِهِمْ وهي مصارعهم ليكون ما علم اللّه أنّه يكون.
وَ لِيَبْتَلِيَ اَللّٰهُ مٰا فِي صُدُورِكُمْ من الإخلاص وَ لِيُمَحِّصَ مٰا فِي قُلُوبِكُمْ من وساوس الشيطان فعل ذلك، أو فعل ذلك لمصالح كثيرة وللابتلاء والتمحيص.
[واللام في وَ لِيَبْتَلِيَ اَللّٰهُ متعلّقة ب - (فعل ذلك) دلّ عليه الكلام تقديره: وليبتلي اللّه ما في صدوركم فرض عليكم القتال وَ لِيُمَحِّصَ عطف على وَ لِيَبْتَلِيَ اَللّٰهُ ](1).
إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعٰانِ إِنَّمَا اِسْتَزَلَّهُمُ اَلشَّيْطٰانُ بِبَعْضِ مٰا كَسَبُوا وَ لَقَدْ عَفَا اَللّٰهُ عَنْهُمْ إِنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ
ص: 320
حَلِيمٌ يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَ قٰالُوا لِإِخْوٰانِهِمْ إِذٰا ضَرَبُوا فِي اَلْأَرْضِ أَوْ كٰانُوا غُزًّى لَوْ كٰانُوا عِنْدَنٰا مٰا مٰاتُوا وَ مٰا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اَللّٰهُ ذٰلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَ اَللّٰهُ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
اِسْتَزَلَّهُمُ اَلشَّيْطٰانُ أي: طلب زلّتهم ودعاهم إلى الزلل بِبَعْضِ مٰا كَسَبُوا من ذنوبهم، والمعنى: إِنَّ اَلَّذِينَ انهزموا يَوْمَ أحد كان السبب في انهزامهم أنّهم كانوا أطاعوا اَلشَّيْطٰانُ فاقترفوا ذنوبا، فلذلك منعتهم التأييد والتوفيق في تقوية القلوب حتى تولوا، وقال الحسن: (استزلهم بقبول ما زيّن لهم من الهزيمة)(1).
وقوله: بِبَعْضِ مٰا كَسَبُوا مثل قوله: وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (2).
وذكر البلخي(3): (إنّه لم يبق يوم أحد مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم إلا ثلاثة عشر نفسا: خمسة من المهاجرين وثمانية من الأنصار، وقد اختلف في الخمسة إلا في علي عليه السلام وطلحة)(4).
قال الصادق عليه السلام: (نظر رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم إلى جبرئيل بين السماء والأرض علي كرسي من ذهب وهو يقول: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا عليّ )(5). ويروي: أنّ عليا عليه السلام كان يقاتلهم ذلك اليوم حتى أصابه في وجهه ورأسه ويديه وبطنه ورجليه
ص: 321
سبعون جراحة، فقال جبرئيل: إنّ هذه لهي المواساة يا محمّد، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم:
(وما يمنعه من هذا فإنّه مني وأنا منه)، قال جبرئيل: وأنا منكما(1).
وَ قٰالُوا لِإِخْوٰانِهِمْ أي: لأجل إخوانهم.
إِذٰا ضَرَبُوا فِي اَلْأَرْضِ أي: سافروا فيها وأبعدوا للتجارة أو غيرها أَوْ كٰانُوا غُزًّى جمع غاز. وقوله: إِذٰا ضَرَبُوا حكاية حال ماضية، ومعناه: حين يضربون في الأرض.
وقوله: لِيَجْعَلَ متعلّق ب - قٰالُوا أي: قالوا ذٰلِكَ واعتقدوه ليكون حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ ، وتكون اللام للعاقبة كما في قوله: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً (2). ويجوز أن يكون المعنى: لا تكونوا مثلهم في النطق بذلك القول واعتقاده، ليجعله اللّه حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ خاصة ويصون منها قلوبكم. وإنّما أسند الفعل إلي اللّه تعالى، لأنه سبحانه عند ذلك الاعتقاد الفاسد يضع الحسرة في قلوبهم ويضيق صدورهم، وهو كقوله: يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً (3).
وَ اَللّٰهُ يُحْيِي وَ يُمِيتُ ردّ لقولهم، أي: الأمر بيده فقد يحيي المسافر والغازي، ويميت القاعد والمقيم وَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فلا تكونوا مثلهم.
وَ لَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اَللّٰهِ وَ رَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمّٰا يَجْمَعُونَ وَ لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اَللّٰهِ تُحْشَرُونَ فَبِمٰا رَحْمَةٍ مِنَ اَللّٰهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ اَلْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شٰاوِرْهُمْ فِي اَلْأَمْرِ فَإِذٰا عَزَمْتَ
ص: 322
فَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ يُحِبُّ اَلْمُتَوَكِّلِينَ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اَللّٰهُ فَلاٰ غٰالِبَ لَكُمْ وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا اَلَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَ عَلَى اَللّٰهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ
لَمَغْفِرَةٌ جواب لقسم وقد سدّ مسدّ جواب الشرط، وكذا قوله: لَإِلَى اَللّٰهِ تُحْشَرُونَ .
كذّب سبحانه فيما قال الكفار في زعمهم أن من ضرب في الأرض أو غزا لو كان عندهم في المصر لم يمت، ونهى المسلمين عن ذلك الاعتقاد لأنّه سبب التخلف عن الجهاد، ثم قال: ولو كان الأمر كما تزعمون، وتمّ عليكم ما تخافون من الهلاك بالموت أو القتل في سبيل اللّه، فإنّ ما تنالونه من المغفرة والرحمة بالموت في سبيل اللّه خَيْرٌ مِمّٰا تجمعونه من منافع الدنيا لو لم تموتوا، أو مما يجمعه الكفار فيمن قرأ بالياء، ثم قال: وَ لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اَللّٰهِ الرحيم تُحْشَرُونَ .
وقرئ: مُتُّمْ يضم الميم وكسرها من مات يموت، ومات يمات.
فَبِمٰا رَحْمَةٍ مِنَ اَللّٰهِ : (ما) مزيدة للتوكيد والدلالة علي أنّ لينه لهم ما كان إلا برحمة من اللّه.
وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا أي: جافيا سيئ الخلق غَلِيظَ اَلْقَلْبِ قاسيه.
لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ لتفرّقوا عنك، لا يبقى حولك أحد منهم.
فَاعْفُ عَنْهُمْ ما بينك وبينهم.
وَ اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ ما بينهم وبيني إتماما للشفقة عليهم.
وَ شٰاوِرْهُمْ فِي [اَلْأَمْرِ يعني: في](1) أمر الحرب ونحوه مما لم ينزل عليك
ص: 323
وحي فيه، لتطيب نفوسهم أو لتستظهر برأيهم، قال الحسن: (أراد أن يستنّ به من بعده فقد علم اللّه أنّه لم يكن يحتاج إليهم)(1). وفي الحديث: (ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم)(2).
فَإِذٰا عَزَمْتَ فإذا قطعت الرأي علي شيء بعد الشورى فَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّٰهِ في إمضاء أمرك علي الأرشد الأصلح، فإنّ ذلك لا يعلمه إلا اللّه. وروي عن جعفر الصادق عليه السلام: فإذا عزمت - بالضم - بمعنى: فإذا عزمت لك على شيء وأرشدتك إليه، فتوكل عليّ ولا تشاور بعد ذلك أحدا.
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اَللّٰهُ كما نصركم يوم بدر فلا أحد يغلبكم.
وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ ويمنعكم معونته، ويخلّ بينكم وبين أعدائكم بمعصيتكم إيّاه فَمَنْ ذَا اَلَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ أي: من بعد خذلانه.
وَ عَلَى اَللّٰهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ هذا تنبيه علي وجوب التوكل علي اللّه سبحانه.
وَ مٰا كٰانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمٰا غَلَّ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ ثُمَّ تُوَفّٰى كُلُّ نَفْسٍ مٰا كَسَبَتْ وَ هُمْ لاٰ يُظْلَمُونَ أَ فَمَنِ اِتَّبَعَ رِضْوٰانَ اَللّٰهِ كَمَنْ بٰاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اَللّٰهِ وَ مَأْوٰاهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ هُمْ دَرَجٰاتٌ عِنْدَ اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ بَصِيرٌ بِمٰا يَعْمَلُونَ
غلّ شيئا من المغنم غلولا وأغلّ : [إذا أخذه في خفية، وفي الحديث: (الا
ص: 324
إغلال ولا إسلال)(1)، ويقال: أغلّه أي](2): وجده غالا. والمعنى: ما صح لِنَبِيٍّ [أَنْ يَغُلَّ فإنّ النبوة تنافي الغلول، ومن قرأ: يغل فالمعنى: ماصح لنبي](3)
أن يوجد غالا، ولا يوجد غالا إلا إذا كان غالا.
وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمٰا غَلَّ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ أي: يأتي بالشيء الذي غلّه بعينه يحمله، كما جاء في الحديث: (جاء يوم القيامة يحمله علي عنقه)(4)، ويجوز أن يراد: يأتي بما يحتمل من إثمه وتبعته.
ثُمَّ تُوَفّٰى كُلُّ نَفْسٍ مٰا كَسَبَتْ جيء بالعام ليدخل تحته كل كاسب من غال وغيره.
وَ هُمْ لاٰ يُظْلَمُونَ أي: يعدل بينهم في الجزاء، وكل جزاؤه علي قدر كسبه.
ثم بيّن سبحانه أنّ من اتبع رضاء اللّه في ترك الغلول ليس كَمَنْ بٰاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اَللّٰهِ في فعل الغلول، ثم قال: هُمْ دَرَجٰاتٌ أي: ذوو درجات عِنْدَ اَللّٰهِ ، والمراد: تفاوت مراتب أهل الثواب، ومراتب أهل العقاب، أو تفاوت ما بين الثواب وا لعقاب.
وَ اَللّٰهُ بَصِيرٌ بِمٰا يَعْمَلُونَ أي: عالم بأعمالهم ودرجاتها فيجازيهم علي حسبها.
لَقَدْ مَنَّ اَللّٰهُ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيٰاتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتٰابَ وَ اَلْحِكْمَةَ
ص: 325
وَ إِنْ كٰانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ أَ وَ لَمّٰا أَصٰابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهٰا قُلْتُمْ أَنّٰى هٰذٰا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اَللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ
منّ الله علي من آمن مع رسول اللّه من قومه، وخصّ اَلْمُؤْمِنِينَ منهم لأنّهم هم المنتفعون بمبعثه.
إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي: من جنسهم عربيا مثلهم، وقيل: من ولد إسماعيل كما أنّهم كانوا من ولده.
ووجه المنة عليهم في ذلك أنّه إذا كان منهم كان اللسان واحدا فيسهل عليهم أخذ ما يجب عليهم أخذه عنه، وفي كونه من أنفسهم شرف لهم كقوله: وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ (1). وروي: أنّ قراءة فاطمة عليها السلام من أنفسهم، ومعناه: من أشرفهم.
يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيٰاتِهِ بعد أن كانوا أهل جاهلية لم يسمعوا شيئا من الوحي.
وَ يُزَكِّيهِمْ أي: ويطهّرهم من الدنس وأوضار(2) الكفر.
وَ يُعَلِّمُهُمُ القرآن والسنة بعد ما كانوا أجهل الناس وأبعدهم من دراسة العلوم.
وَ إِنْ كٰانُوا مِنْ قَبْلُ بعثة الرسول لَفِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ . (إن) هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، وتقديره: وإنّ الشأن والحديث كانوا من قبل لفي ضلال مبين، أي: ظاهر.
ص: 326
و لَمّٰا نصب ب - قُلْتُمْ ، و أَصٰابَتْكُمْ في محلّ الجر بإضافة لَمّٰا إليه، وتقديره: أقلتم حين أصابتكم مصيبة يوم أحد من قتل سبعين منكم قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهٰا يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين: أَنّٰى هٰذٰا أي: من أين أصابنا هذا وفينا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ونحن مسلمون وهم مشركون ؟!. و أَنّٰى هٰذٰا في موضع نصب لأنّه مقول، والهمزة للتقرير والتقريع.
قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ أي: أنتم السبب فيما أصابكم لاختياركم الخروج من المدينة، أو لتخليتكم المركز، وعن علي عليه السلام: (لأخذكم الفداء من أسارى بدر قبل أن يؤذن لكم)(1).
إِنَّ اَللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فهو قادر علي أن ينصركم فيما بعد.
وَ مٰا أَصٰابَكُمْ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعٰانِ فَبِإِذْنِ اَللّٰهِ وَ لِيَعْلَمَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ لِيَعْلَمَ اَلَّذِينَ نٰافَقُوا وَ قِيلَ لَهُمْ تَعٰالَوْا قٰاتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ أَوِ اِدْفَعُوا قٰالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتٰالاً لاَتَّبَعْنٰاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمٰانِ يَقُولُونَ بِأَفْوٰاهِهِمْ مٰا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَ اَللّٰهُ أَعْلَمُ بِمٰا يَكْتُمُونَ
وَ مٰا أَصٰابَكُمْ يوم أحد يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعٰانِ جمعكم وجمع المشركين فهو كائن بِإِذْنِ اَللّٰهِ أي: بتخليته.
وَ لِيَعْلَمَ اَلْمُؤْمِنِينَ وليتميّز المؤمنون والمنافقون، ويظهر إيمان هؤلاء ونفاق هؤلاء. وإنّما استعار لفظ الإذن لتخلية الكفار، وأنّه لم يمنعهم ليبتليهم، لأنّ الآذن مخلّ بين المأذون ومراده.
وَ قِيلَ لَهُمْ عطف علي نٰافَقُوا ، ويجوز أن يكون كلاما مبتدأ، وهم
ص: 327
عبد اللّه بن أبيّ وأصحابه انخزلوا يوم أحد وقالوا: علام نقتل أنفسنا؟، وكانوا ثلاثمائة، فقال لهم عبد اللّه بن عمرو بن حزام الأنصاري: تعالوا قاتلوا، أو ادفعوا عن حريمكم إن لم تقاتلوا، قٰالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتٰالاً لاَتَّبَعْنٰاكُمْ فقال لهم: أبعدكم اللّه، اللّه يغني عنكم.
وقوله: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمٰانِ أي: تباعدوا بهذا الفعل والقول عن الإيمان المظنون بهم واقتربوا من الكفر، وقيل: هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان، لأنّ تقليلهم سواد المسلمين تقوية للمشركين.
يَقُولُونَ بِأَفْوٰاهِهِمْ من كلمة الإيمان وما يقرب إلى الرسول مٰا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ فإنّ في قلوبهم الكفر. والمعنى: إ نّ الإيمان موجود في أفواههم معدوم في قلوبهم.
وَ اَللّٰهُ أَعْلَمُ بِمٰا يَكْتُمُونَ من النفاق.
اَلَّذِينَ قٰالُوا لِإِخْوٰانِهِمْ وَ قَعَدُوا لَوْ أَطٰاعُونٰا مٰا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ اَلْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ
محلّ اَلَّذِينَ يجوز أن يكون نصبا علي الذم، أو علي البدل من اَلَّذِينَ نٰافَقُوا ، أو رفعا علي هم الذين قالوا، أو جرا بدلا من الضمير في بِأَفْوٰاهِهِمْ .
لِإِخْوٰانِهِمْ أي: لأجل إخوانهم من جنس المنافقين المقتولين يوم أحد، أو إخوانهم في النسب.
وَ قَعَدُوا أي: وقد قعدوا، وهي جملة في موضع الحال.
لَوْ أَطٰاعُونٰا إخواننا فيما أمرناهم به من القعود مٰا قُتِلُوا كما لم نقتل.
قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ أي: فادفعوا عن أنفسكم الموت إِنْ كُنْتُمْ
صٰادِقِينَ في هذه المقالة، لأنّكم إن دفعتم القتل الذي هو أحد أسباب الموت، لم تقدروا علي دفع سائر أسبابه. وروي: أنّه مات يوم قالوا هذه المقالة سبعون منافقا(1).
ص: 328
صٰادِقِينَ في هذه المقالة، لأنّكم إن دفعتم القتل الذي هو أحد أسباب الموت، لم تقدروا علي دفع سائر أسبابه. وروي: أنّه مات يوم قالوا هذه المقالة سبعون منافقا(1).
وَ لاٰ تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ أَمْوٰاتاً بَلْ أَحْيٰاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمٰا آتٰاهُمُ اَللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاّٰ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاٰ هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اَللّٰهِ وَ فَضْلٍ وَ أَنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُؤْمِنِينَ
الخطاب لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، أو لكل أحد. وقرئ: تَحْسَبَنَّ بفتح السين، و (قتّلوا) بالتشديد.
فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ أي: في الجهاد ونصرة دين اللّه.
بَلْ أَحْيٰاءٌ أي: بل هم أحياء يُرْزَقُونَ [مثل ما يرزق سائر الأحياء يأكلون ويشربون.
فَرِحِينَ بِمٰا آتٰاهُمُ اَللّٰهُ ](2) مِنْ فَضْلِهِ و هو التوفيق في الشهادة وما ساقه إليهم من الكرامة ومواد السعادة.
وَ يَسْتَبْشِرُونَ بإخوانهم المجاهدين بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ أي: لم يقتلوا بعد فيلحقوا بهم.
[مِنْ خَلْفِهِمْ يريد الذين من خلفهم قد بقوا بعدهم، وقيل: لم يلحقوا
ص: 329
بهم](1)، أي: لم يدركوا فضلهم ومراتبهم ومنزلتهم(2).
أَلاّٰ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ بدل من اَلَّذِينَ ، والمعنى: ويستبشرون بما تبيّن لهم من حال من تركوا خلفهم من المؤمنين، وهو أنّهم يبعثون آمنين يوم القيامة، بشّرهم اللّه بذلك فهم مستبشرون به.
وكرر يَسْتَبْشِرُونَ ليتعلّق به ما هو بيان لقوله: أَلاّٰ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاٰ هُمْ يَحْزَنُونَ من ذكر نعمة اللّه وفضله. وقرئ: وَ أَنَّ اَللّٰهَ بالفتح عطفا علي النعمة والفضل، وبالكسر علي الابتداء وعلي أنّ الجملة اعتراض، وهي قراءة الكسائي. وفيه دلالة علي أنّ الثواب مستحقّ وأنّ اللّه لا يبطله، ولذلك أضاف نفي الإضاعة إلى نفسه.
اَلَّذِينَ اِسْتَجٰابُوا لِلّٰهِ وَ اَلرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مٰا أَصٰابَهُمُ اَلْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اِتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ اَلَّذِينَ قٰالَ لَهُمُ اَلنّٰاسُ إِنَّ اَلنّٰاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزٰادَهُمْ إِيمٰاناً وَ قٰالُوا حَسْبُنَا اَللّٰهُ وَ نِعْمَ اَلْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اَللّٰهِ وَ فَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَ اِتَّبَعُوا رِضْوٰانَ اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمٰا ذٰلِكُمُ اَلشَّيْطٰانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيٰاءَهُ فَلاٰ تَخٰافُوهُمْ وَ خٰافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
اَلَّذِينَ اِسْتَجٰابُوا مبتدأ، وخبره لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا إلى آخره؛ أو جر صفة للمؤمنين؛ أو نصب علي المدح.
لما انصرف أبو سفيان وأصحابه من أحد فبلغوا الروحاء(3) ندموا وهمّوا
ص: 330
بالرجوع، فبلغ ذلك رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم فأراد أن يريهم من نفسه وأصحابه قوة، فندب أصحابه للخروج وقال: (لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس) فخرج مع جماعة حتى بلغ حمراء الأسد - وهي على ثمانية أميال من المدينة - فألقى اللّه الرعب في قلوب المشركين فذهبوا، فنزلت(1).
وأما قوله: اَلَّذِينَ قٰالَ لَهُمُ اَلنّٰاسُ إِنَّ اَلنّٰاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فحديثه: إنّ أبا سفيان لما انصرف من أحد نادي: يا محمّد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت، فقال صلى الله عليه و سلم: (إن شاء اللّه)، فلما كان القابل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مر الظهران(2)، فألقى اللّه سبحانه الرعب في قلبه فبدا له أن يرجع، فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمرا، فقال: يا نعيم إنّي واعدت محمّدا أن نلتقي بموسم بدر، وأنّ هذا عام جدب وقد بدا لي، فالحق بالمدينة وثبّطهم ولك عندي عشر من الإبل، فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهزون، فقال لهم: ما هذا بالرأي أتوكم في دياركم فلم يفلت منكم أحد إلا شريدا، فتريدون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم عند الموسم، فواللّه لا يفلت منكم أحد، فقال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: (والذي نفسي بيده لأخرجن وإن لم يخرج معي أحد)، فخرج في سبعين راكبا وهم يقولون: حسبنا اللّه ونعم الوكيل حتى وافوا بدرا، وأقاموا بها ثماني ليال، وكانت معهم تجارات فباعوها وأصابوا خيرا ثم انصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين. ورجع أبو سفيان إلى مكة فسمّى أهل مكة جيشه جيش السويق، قالوا: إنّما خرجتم لتشربوا السويق(3).
و الناس الأوّل: نعيم بن مسعود، لأنّه من جنس الناس، ولأنّه ربّما لم
ص: 331
يخل من ناس وصلوا جناح كلامه، و الناس الثاني: أبو سفيان وأصحابه.
والضمير المستكن في فَزٰادَهُمْ يرجع إلى المقول الذي هو: إِنَّ اَلنّٰاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ، أو إلى مصدر قٰالُوا ، أو إلي نعيم.
ومعنى حَسْبُنَا اَللّٰهُ : محسبنا اللّه، أي: كافينا، يقال: أحسبه الشيء إذا كفاه.
وَ نِعْمَ اَلْوَكِيلُ أي: نعم الموكول إليه هو.
فَانْقَلَبُوا أي: فرجعوا من بدر بِنِعْمَةٍ مِنَ اَللّٰهِ وهو السلامة و فضل وهو الربح في التجارة.
إِنَّمٰا ذٰلِكُمُ المثبط هو اَلشَّيْطٰانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيٰاءَهُ بيان لشيطنته، أي:
يخوّفكم بأوليائه الذين هم أبو سفيان وأصحابه، وقيل: يخوّف أولياءه القاعدين عن الخروج مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.
وَ لاٰ يَحْزُنْكَ اَلَّذِينَ يُسٰارِعُونَ فِي اَلْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اَللّٰهَ شَيْئاً يُرِيدُ اَللّٰهُ أَلاّٰ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي اَلْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ إِنَّ اَلَّذِينَ اِشْتَرَوُا اَلْكُفْرَ بِالْإِيْمٰانِ لَنْ يَضُرُّوا اَللّٰهَ شَيْئاً وَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ
خاطب سبحانه الرسول فقال: وَ لاٰ يَحْزُنْكَ اَلَّذِينَ يقعون فِي اَلْكُفْرِ سريعا، يعني: المنافقين الذين تخلّفوا إِنَّهُمْ لا يضرّون بمسارعتهم في الكفر غير أنفسهم، ولا يعود وبال الكفر إلا عليهم، ثم بيّن كيف يعود وبال الكفر عليهم بقوله: يُرِيدُ اَللّٰهُ أَلاّٰ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي اَلْآخِرَةِ أي: نصيبا من الثواب.
وَ لَهُمْ بدل الثواب عَذٰابٌ عَظِيمٌ .
ص: 332
وفائدة إرادة اللّه هنا إنّها إشعار بأنّ الداعي إلى تعذيبهم خالص حين سارعوا في الكفر، حتى أنّ أرحم الراحمين يريد أن لا يرحمهم.
إِنَّ اَلَّذِينَ اِشْتَرَوُا اَلْكُفْرَ بِالْإِيْمٰانِ هذا إما أن يكون تكريرا لذكرهم، وإما أن يكون عاما للكفار، والأوّل خاصا في من نافق من المتخلفين وارتد عن الإسلام.
و شَيْئاً نصب علي المصدر، لأنّ المعنى: شيئا من الضرر وبعض الضرر.
وَ لاٰ يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمٰا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمٰا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدٰادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذٰابٌ مُهِينٌ
من قرأ: تحسبن - بالتاء - ف - اَلَّذِينَ كَفَرُوا نصب، و أَنَّمٰا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ بدل منه، أي: ولا تحسبن أنّ إملاءنا للذين كفروا خير لهم، و (أنّ ) مع ما في حيّزه ينوب عن المفعولين. ويجوز أن يقدر مضاف محذوف تقديره: ولا تحسبن الذين كفروا أصحاب الإملاء خير لأنفسهم، [أو ولا تحسبن حال الذين كفروا أنّ الإملاء خير لأنفسهم](1).
ومن قرأ بالياء ف - اَلَّذِينَ كَفَرُوا رفع، والإملاء لهم أن يتركهم وشأنهم، وقيل: هو إمهالهم وإطالة عمرهم.
إِنَّمٰا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدٰادُوا إِثْماً (ما) هذه كافة، والأولى مصدرية. وهذه جملة مستأنفة تعليل للجملة قبلها وسبب لها، وإنّما كان ازدياد الإثم علة للإملاء، لما كان في علم اللّه أنّهم يزدادون إثما، فكأنّ الإملاء وقع بسببه ومن أجله علي طريق المجاز.
وَ لَهُمْ عَذٰابٌ مُهِينٌ يهينهم في نار جهنم.
ص: 333
مٰا كٰانَ اَللّٰهُ لِيَذَرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلىٰ مٰا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّٰى يَمِيزَ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى اَلْغَيْبِ وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشٰاءُ فَآمِنُوا بِاللّٰهِ وَ رُسُلِهِ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ
اللام في لِيَذَرَ لتأكيد النفي، والمعنى: لا يدع اللّه اَلْمُؤْمِنِينَ عَلىٰ مٰا أَنْتُمْ عَلَيْهِ من اختلاط المؤمن المخلص بالمنافق حَتّٰى يَمِيزَ المنافق ويعزله عن المخلص، من مزته فانماز. وقرئ: يميّز من ميّزته فتميّز. وإنّما يميّز بين الفريقين بالوحي إلى نبيّه وإخباره بأحوالكم.
وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى اَلْغَيْبِ فلا تظنوا إذا أخبركم النبي بنفاق الرجل أنّه يطلع علي ما في القلوب بنفسه، ولكن اللّه يوحي إليه بأنّ في الغيب كذا، وأنّ هذا منافق وهذا مخلص، فيعلم ذلك من جهة إطلاع اللّه تعالى إيّاه. ويجوز أن يكون المراد بالتمييز أنّه يكلف التكاليف الشاقة كبذل الأرواح في الجهاد وإنفاق الأموال في سبيل اللّه، ونحو ذلك مما يظهر به أحوالهم، فيعلم بعضكم ما في قلب بعض عن طريق الاستدلال، وما كان اللّه ليطلع أحدا منكم علي الغيب ومضمرات القلوب.
وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشٰاءُ فيخبره ببعض المغيبات.
فَآمِنُوا بِاللّٰهِ وَ رُسُلِهِ بأن تقدّروه حقّ قدره، وتعلموا رسله عبادا مصطفين للرسالة لا يعلمون إلا ما علّمهم اللّه، ولا يخبرون من الغيوب إلا بما أخبرهم اللّه به. وقيل: إنّ المشركين قالوا: إن كان محمّد صادقا فليخبرنا من يؤمن منا ومن يكفر، فنزلت(1).
ص: 334
وَ لاٰ يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمٰا آتٰاهُمُ اَللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مٰا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ وَ لِلّٰهِ مِيرٰاثُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَللّٰهُ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
من قرأ بالتاء قدّر مضافا محذوفا، أي: وَ لاٰ تحسبن بخل الذين يبخلون هُوَ خَيْراً لَهُمْ ، وكذلك من قرأ بالياء وجعل فاعل يَحْسَبَنَّ ضمير رسول اللّه أو ضمير أحد، ومن جعل فاعله اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ كان المفعول الأوّل عنده محذوفا تقديره: ولا يحسبن الذين يبخلون بخلهم هُوَ خَيْراً لَهُمْ وإنّما حذف لدلالة يَبْخَلُونَ عليه، و هو فصل.
سَيُطَوَّقُونَ تفسير لقوله: هُوَ شَرٌّ لَهُمْ أي: سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق، وفي أمثالهم: (تقلّدها طوق الحمامة)(1): إذا فعل فعلة يذم بها، وروي: أنّها نزلت في مانعي الزكاة(2).
وَ لِلّٰهِ مِيرٰاثُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ أي: له ما فيهما مما يتوارثه أهلهما من مال وغيره، فمالهم يبخلون عليه بملكه. وقرئ: بِمٰا تَعْمَلُونَ بالتاء علي طريقة الالتفات وهو أبلغ في الوعيد، وبالياء علي الظاهر.
لَقَدْ سَمِعَ اَللّٰهُ قَوْلَ اَلَّذِينَ قٰالُوا إِنَّ اَللّٰهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِيٰاءُ سَنَكْتُبُ مٰا قٰالُوا وَ قَتْلَهُمُ اَلْأَنْبِيٰاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ نَقُولُ ذُوقُوا عَذٰابَ اَلْحَرِيقِ ذٰلِكَ بِمٰا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اَللّٰهَ لَيْسَ بِظَلاّٰمٍ لِلْعَبِيدِ اَلَّذِينَ قٰالُوا إِنَّ اَللّٰهَ عَهِدَ إِلَيْنٰا أَلاّٰ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتّٰى يَأْتِيَنٰا بِقُرْبٰانٍ تَأْكُلُهُ اَلنّٰارُ قُلْ قَدْ
ص: 335
جٰاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنٰاتِ وَ بِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ
قال ذلك اليهود حين سمعوا قول اللّه تعالى: مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّٰهَ قَرْضاً حَسَناً (1)، وإنّ ما قالوه إما اعتقادا وإما استهزاء وعنادا، وأيّهما كان فهذه الكلمة لا تصدر إلا عن كفر صراح.
ومعنى سَمِعَ اَللّٰهُ : إنّه لم يخف عليه، وأعدّ له كفاءه من العقاب.
سَنَكْتُبُ مٰا قٰالُوا في صحف الحفظة، أو نثبته في علمنا لا ننساه ولا يفوتنا إثباته.
وَ قَتْلَهُمُ اَلْأَنْبِيٰاءَ عطف علي مٰا قٰالُوا ، وفيه إعلام أنّهما في العظم أخوان، وأنّ هذا ليس بأوّل ما ركبوه من العظائم، وأنّ من قتل الأنبياء لم يستبعد منه الاجتراء علي مثل هذا القول.
وَ نَقُولُ لهم ذُوقُوا أي: وننتقم منهم بأن نقول لهم يوم القيامة: ذُوقُوا عَذٰابَ اَلْحَرِيقِ .
ذٰلِكَ إشارة إلي ما تقدّم من عقابهم.
بِمٰا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ بما كنتم عملتموه، وذكر الأيدي لأنّ أكثر الأعمال تعمل بها، فجعل كل عمل كالواقع بالأيدي علي سبيل التغليب. وعطف قوله:
وَ أَنَّ اَللّٰهَ لَيْسَ بِظَلاّٰمٍ لِلْعَبِيدِ على بِمٰا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ لأنّ معناه: إنّه عادل عليهم فيعاقبهم علي حسب استحقاقهم.
اَلَّذِينَ قٰالُوا إِنَّ اَللّٰهَ عَهِدَ إِلَيْنٰا أي: أمرنا في التوراة وأوصانا بأن
ص: 336
أَلاّٰ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتّٰى يَأْتِيَنٰا بهذه الآية الخاصة، وهي أن يرينا قربانا فتنزل نار من السماء فتأكله.
قل يا محمّد لهم: قَدْ جٰاءَكُمْ اي: جاء اسلافكم.
رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنٰاتِ أي: بالحجج والدلالات الكثيرة، وجاؤوهم أيضا بهذه التي اقترحتموها.
فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ أراد بذلك زكريا ويحيى وجميع من قتله اليهود من الأنبياء.
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جٰاؤُ بِالْبَيِّنٰاتِ وَ اَلزُّبُرِ وَ اَلْكِتٰابِ اَلْمُنِيرِ كُلُّ نَفْسٍ ذٰائِقَةُ اَلْمَوْتِ وَ إِنَّمٰا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ اَلنّٰارِ وَ أُدْخِلَ اَلْجَنَّةَ فَقَدْ فٰازَ وَ مَا اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا إِلاّٰ مَتٰاعُ اَلْغُرُورِ
هذا تسلية للنبي صلى الله عليه و سلم في تكذيب الكفار إيّاه، أي: لست بأوّل مكذّب، بل كذب قبلك رُسُلٌ أتوا بالمعجزات الباهرة.
وَ اَلزُّبُرِ جمع زبور وهو كل كتاب فيه حكمة.
وَ اَلْكِتٰابِ اَلْمُنِيرِ هو التوراة وا لإنجيل.
كُلُّ نَفْسٍ ذٰائِقَةُ اَلْمَوْتِ ينزل بها الموت لا محالة فكأنّها ذاقته.
وَ إِنَّمٰا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ لا توفون أجوركم عقيب موتكم، وإنّما توفونها يوم قيامكم عن القبور. والمراد: إنّ تكميل الأجور وتوفيتها يكون ذلك اليوم.
فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ اَلنّٰارِ أي: نحّي عنها وأبعد وَ أُدْخِلَ اَلْجَنَّةَ .
ص: 337
فَقَدْ فٰازَ أي: فقد حصل له الفوز المطلق المتناول لكل ما يفاز به، ولا غاية للفوز وراء النجاة من سخط الربّ وعذاب النيران ونيل رضاء اللّه ونعيم الجنان.
وَ مَا اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا ولذاتها وشهواتها إِلاّٰ مَتٰاعُ اَلْغُرُورِ والخداع الذي لا حقيقة له، وهو المتاع الرديء الذي يدلس به علي طالبه حتى يشتريه ثم يتبين له رداءته. والشيطان هو المدلس الغرور.
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوٰالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ وَ لَتَسْمَعُنَّ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتٰابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مِنَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ ذٰلِكَ مِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ
هذا خطاب للمؤمنين خوطبوا بذلك ليوطّنوا نفوسهم علي احتمال ما سيلقونه من الأذي والشدائد والصبر عليها ويستعدوا لها.
والبلاء في الأموال: الإنفاق في سبيل الخير وما يقع فيها من الآفات، والبلاء في الأنفس: القتل والأسر والجراح وما يرد عليها من أنواع البليات، وما يسمعونه من أذي أهل الكتاب: هو المطاعن في دين الإسلام وتخطئة من آمن.
فَإِنَّ ذٰلِكَ الصبر والتقوى من معزومات اَلْأُمُورِ أي: مما يجب العزم عليه من الأمور، أو ذلك البلاء من محكم الأمور الذي عزم اللّه أن يكون، فلابد لكم أن تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا .
وَ إِذْ أَخَذَ اَللّٰهُ مِيثٰاقَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتٰابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّٰاسِ وَ لاٰ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرٰاءَ ظُهُورِهِمْ وَ اِشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مٰا يَشْتَرُونَ
ص: 338
الضمير في قوله: لَتُبَيِّنُنَّهُ للكتاب، أكّد اللّه سبحانه عليهم إيجاب بيان الكتاب واجتناب كتمانه، كما يؤكد علي الرجل إذا أخذ عليه العهد ويقال له: واللّه لتفعلن.
فَنَبَذُوهُ وَرٰاءَ ظُهُورِهِمْ أي: نبذوا الميثاق وتأكيده عليهم ولم يراعوه ولم يلتفتوا إليه، وقوله: وَرٰاءَ ظُهُورِهِمْ مثل في ترك اعتدادهم به، كما يقال في ضدّه:
جعله نصب عينه. وفيه دلالة علي أنّه واجب علي العلماء أن يبيّنوا الحقّ للناس، ولا يكتموا شيئا منه لغرض فاسد من جر منفعة، أو لبخل بالعلم، أو تطييب لنفس ظالم، أو غير ذلك. وفي الحديث: (من كتم علما عن أهله ألجم بلجام من نار)(1)، وعن علي عليه السلام: (ما أخذ الله علي أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ علي أهل العلم أن يعلّموا)(2). وقرئ: (ليبيننه) و (لا يكتمونه) - بالياء - لأنّهم غيّب، وبالتاء علي حكاية مخاطبتهم.
لاٰ تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمٰا أَتَوْا وَ يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمٰا لَمْ يَفْعَلُوا فَلاٰ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفٰازَةٍ مِنَ اَلْعَذٰابِ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ
لا تحسبن خطاب لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، و اَلَّذِينَ يَفْرَحُونَ أوّل المفعولين و بِمَفٰازَةٍ المفعول الثاني، وقوله: فَلاٰ تَحْسَبَنَّهُمْ تأكيد، تقديره: لا تحسبنهم فلا تحسبنهم فائزين. وقرئ: (لا يحسبن) - بالياء وفتح الباء -، (فلا تحسبنهم) - بضم الباء - وبالتاء والياء معا، فالتاء علي خطاب المؤمنين علي أنّ الفعل للذين يفرحون، والمفعول الأوّل محذوف، أي: لا يحسبن هم الذين يفرحون بمفازة فلا تحسبنهم أيّها المؤمنون.
ص: 339
بِمَفٰازَةٍ مِنَ اَلْعَذٰابِ أي: بمنجاة منه، والياء على التوكيد، وقوله: بِمٰا أَتَوْا معناه: بما فعلوا، وقيل: معناه: لا يحسبن اليهود الذين يفرحون بما فعلوا من كتمان نعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.
وَ يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمٰا لَمْ يَفْعَلُوا من اتّباع دين إبراهيم. ويجوز أن يكون ذلك عاما لكل من أتى بحسنة فأعجب بها، وأحبّ أن يحمده الناس عليها ويثنوا عليه بما ليس فيه من الزهد والعبادة وغير ذلك.
وَ لِلّٰهِ مُلْكُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ
أي: للّه ملك السماوات والأرض وهو يملك أمرهم وهو يقدر علي عقابهم.
إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلاٰفِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ لَآيٰاتٍ لِأُولِي اَلْأَلْبٰابِ اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللّٰهَ قِيٰاماً وَ قُعُوداً وَ عَلىٰ جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ رَبَّنٰا مٰا خَلَقْتَ هٰذٰا بٰاطِلاً سُبْحٰانَكَ فَقِنٰا عَذٰابَ اَلنّٰارِ رَبَّنٰا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ اَلنّٰارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَ مٰا لِلظّٰالِمِينَ مِنْ أَنْصٰارٍ رَبَّنٰا إِنَّنٰا سَمِعْنٰا مُنٰادِياً يُنٰادِي لِلْإِيمٰانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنّٰا رَبَّنٰا فَاغْفِرْ لَنٰا ذُنُوبَنٰا وَ كَفِّرْ عَنّٰا سَيِّئٰاتِنٰا وَ تَوَفَّنٰا مَعَ اَلْأَبْرٰارِ رَبَّنٰا وَ آتِنٰا مٰا وَعَدْتَنٰا عَلىٰ رُسُلِكَ وَ لاٰ تُخْزِنٰا يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ إِنَّكَ لاٰ تُخْلِفُ اَلْمِيعٰادَ
قوله: لَآيٰاتٍ معناه: لأدلة واضحة على توحيد اللّه وعظيم قدرته وباهر حكمته.
لِأُولِي اَلْأَلْبٰابِ لذوي العقول.
ص: 340
اَلَّذِينَ ينظرون إليها نظر استدلال، فيجدونها مضمّنة بأعراض حادثة لا تنفك عنها، وما لا ينفك عن الحادث حادث، وإذا كانت حادثة فلابد لها من محدث موجد، لأنّ حدوثها يدلّ علي أنّ لها محدثا قادرا، ودلّ ما فيها من البدائع والأمور الجارية علي غاية الانتظام علي كون محدثها عالما قديما، لأنّه لو كان محدثا لاحتاج إلى محدث آخر فيؤدي إلى التسلسل.
اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللّٰهَ قِيٰاماً وَ قُعُوداً أي: قائمين وقاعدين.
وَ عَلىٰ جُنُوبِهِمْ أي: مضطجعين.
وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ في إبداع صنعتهما وما دبر فيهما مما تكلّ الأفهام عن إدراك بعض بدائعه، وفي الحديث: (الا عبادة كالتفكر)(1).
رَبَّنٰا مٰا خَلَقْتَ هٰذٰا بٰاطِلاً علي إرادة القول، أي: يقولون ذلك، وهو في محلّ الحال، أي: يتفكرون قائلين، والمعنى: ما خلقته خلقا باطلا من غير حكمة، بل خلقته لداعي حكمة عظيمة، وهو أن تجعلها مساكن لخلقك، وأدلة للمكلفين علي معرفتك.
سُبْحٰانَكَ أي: تنزيها لك عما لا يجوز عليك فَقِنٰا عَذٰابَ اَلنّٰارِ بلطفك وتوفيقك.
وقوله: هٰذٰا إشارة إلي الخلق [بمعنى المخلوق](2)، كأنّه قال:
ويتفكرون في مخلوق السماوات والأرض أي: فيما خلق فيهما، ويجوز أن يكون إشارة إلي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ لأنّهما في معنى المخلوق، فكأن المراد: ما خلقت هٰذٰا المخلوق العجيب بٰاطِلاً . ويجوز أن يكون بٰاطِلاً حالا
ص: 341
من هٰذٰا ، و سُبْحٰانَكَ تنزيه من أن يخلق شيئا عبثا وبغير حكمة.
مَنْ تُدْخِلِ اَلنّٰارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ أي: أبلغت في إخزائه، وهو نظير قوله:
فَقَدْ فٰازَ (1) وهو منقول من الخزي الذي هو الهوان، وقيل: هو منقول من الخزاية الذي هو الاستحياء، أي: أحللته محلا يستحيى منه.
وَ مٰا لِلظّٰالِمِينَ اللام إشارة إلى مَنْ تُدْخِلِ اَلنّٰارَ أي: ليس لهم أَنْصٰارٍ يدفعون عنهم عذاب اللّه.
رَبَّنٰا إِنَّنٰا سَمِعْنٰا مُنٰادِياً أوقع الفعل علي مناد لأنّه موصوف بما يسمع وهو قوله: يُنٰادِي لِلْإِيمٰانِ أي: إلي الإيمان، أي: داعيا يدعو إلي الإيمان، يقال:
ناداه لكذا وإلي كذا، ودعاه له وإليه، ونحوه: هداه للطريق وإليه، والمنادي رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.
أَنْ آمِنُوا أي: آمنوا، أو بأن آمنوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنّٰا أي: فصدّقناه فيما دعا إليه وأجبناه.
رَبَّنٰا فَاغْفِرْ لَنٰا ذُنُوبَنٰا جمع بين سؤال المغفرة والتكفير، لأنّ تكفير السيئات يكون بالتوبة، والمغفرة قد تكون ابتداء من غير توبة.
مَعَ اَلْأَبْرٰارِ في موضع الحال، أي: مخصوصين بصحبتهم معدودين في جملتهم، والأبرار جمع بر أو بار.
وَ آتِنٰا مٰا وَعَدْتَنٰا عَلىٰ رُسُلِكَ عَلىٰ هذه صلة للوعد، أي: ما وعدتنا علي تصديق رسلك، وقيل: معناه: علي ألسنة رسلك(2)، ويجوز أنّ يكون متعلّقا
ص: 342
بمحذوف أي: وعدتنا منزلا علي رسلك، والموعود هو الثواب أو النصرة علي الأعداء. وعن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنّه لما نزلت هذه الآيات قال: (ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأمل ما فيها)(1). وروي عن الصادق عليه السلام أنّه قال: (من حزبه(2) أمر فقال خمس مرات: (ربّنا...) أنجاه اللّه مما يخاف وأعطاه ما أراد، وقرأ الآيات)(3).
فَاسْتَجٰابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاٰ أُضِيعُ عَمَلَ عٰامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثىٰ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هٰاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيٰارِهِمْ وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي وَ قٰاتَلُوا وَ قُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئٰاتِهِمْ وَ لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ ثَوٰاباً مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ عِنْدَهُ حُسْنُ اَلثَّوٰابِ
يقال: استجابه واستجاب له.
أَنِّي لاٰ أُضِيعُ أي: بأنّي لا أبطل عَمَلَ عٰامِلٍ مِنْكُمْ ، وقوله: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثىٰ بيان ل - عٰامِلٍ ، بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أي: يجمع ذكوركم وإناثكم أصل واحد، وكل واحد منكم من الاخر أي: من أصله [أو كأنّه منه](4) لفرط اتحادكم واتصالكم، وقيل: هو وصلة الإسلام. وروي: إنّ أم سلمة(5) قالت: يا
ص: 343
رسول اللّه إنّي أسمع اللّه يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء، فنزلت الآية(1).
فَالَّذِينَ هٰاجَرُوا من أوطانهم وفرّوا إلى اللّه بدينهم من دار الفتنة.
وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيٰارِهِمْ التي ولدوا فيها ونشأوا.
وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي يريد سبيل الدين.
وَ قٰاتَلُوا وَ قُتِلُوا وغزوا المشركين واستشهدوا. وقرئ: وقتلوا وقاتلوا، لأنّ المعطوف بالواو يجوز أن يكون أوّلا في المعنى، وإن تأخر في اللفظ، ويجوز أن يكون المراد أنّهم لما قتل منهم قاتلوا ولم يهنوا.
ثَوٰاباً في موضع المصدر المؤكد، بمعنى: إثابة من عند اللّه، لأنّ قوله:
لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئٰاتِهِمْ وَ لَأُدْخِلَنَّهُمْ في معنى لأثيبنهم.
وَ اَللّٰهُ عِنْدَهُ مثل أن يختص به وبقدرته وفضله حُسْنُ اَلثَّوٰابِ لا يثيبه غيره ولا يقدر عليه إلا هو، كما يقول الرجل: عندي ما تريد، يريد اختصاصه به وبملكه وإن لم يكن بحضرته.
لاٰ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي اَلْبِلاٰدِ مَتٰاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوٰاهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمِهٰادُ لٰكِنِ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنّٰاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ وَ مٰا عِنْدَ اَللّٰهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرٰارِ
الخطاب لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم أو لكل أحد، أي: لا تنظر إلى ما هم عليه من سعة الرزق، ودرك المنى، وإصابة حظوظ الدنيا، والتصرّف في البلاد يتجرون. وجعل النهي في اللفظ للتقلّب وهو في المعنى للمخاطب، نزّل السبب منزلة المسبب لأنّ
ص: 344
التقلّب لو غرّه لاغتر به، فمنع السبب ليمتنع المسبب.
مَتٰاعٌ قَلِيلٌ خبر مبتدأ محذوف، أي: تقلّبهم متاع قليل في جنب ما فاتهم من نعيم الآخرة، أو في جنب ما أعدّ اللّه للمؤمنين من الثواب، أو هو قليل في نفسه لزواله وانقضائه.
وَ بِئْسَ اَلْمِهٰادُ ما مهّدوه لأنفسهم.
والنزل: ما يهيأ للضيف من الكرامة والبر، وانتصابه على الحال من جَنّٰاتٌ لتخصصها بالوصف. ويجوز أن يكون بمعنى مصدر مؤكد كأنّه قيل: رزقا أو عطاء من عند اللّه.
وَ مٰا عِنْدَ اَللّٰهِ من الثواب والنعيم خَيْرٌ لِلْأَبْرٰارِ مما يتقلب فيه الفجار.
وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتٰابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خٰاشِعِينَ لِلّٰهِ لاٰ يَشْتَرُونَ بِآيٰاتِ اَللّٰهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولٰئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اَللّٰهَ سَرِيعُ اَلْحِسٰابِ يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِصْبِرُوا وَ صٰابِرُوا وَ رٰابِطُوا وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتٰابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ نزلت في عبد اللّه بن سلام ومن آمن معه، وقيل: نزلت في أربعين من أهل نجران، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى عليه السلام فأسلموا(1)، وقيل: في أصحمة النجاشي نعاه جبرئيل إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم فخرج إلي البقيع وكشف له عن أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي وصلّي عليه، فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلّي علي علج نصراني لم يره
ص: 345
قط وليس علي دينه، فنزلت(1).
وَ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ هو القرآن وَ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ التوراة والإنجيل.
خٰاشِعِينَ لِلّٰهِ حال من فاعل يُؤْمِنُ لأنّ من في معنى الجمع.
لاٰ يَشْتَرُونَ بِآيٰاتِ اَللّٰهِ ثَمَناً قَلِيلاً كما يفعل من لم يسلم من أحبارهم.
أُولٰئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي: ما يختص بهم من الأجر وهو ما وعدوه في قوله: أُولٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ (2).
إِنَّ اَللّٰهَ سَرِيعُ اَلْحِسٰابِ لنفوذ علمه في كل شيء فيعلم ما يستوجبه كل عامل.
اِصْبِرُوا علي طاعة اللّه وعن معاصيه.
وَ صٰابِرُوا أعداء اللّه في الجهاد، أي: غالبوهم في الصبر علي مضض الحرب، لا تكونوا أقل صبرا منهم.
وَ رٰابِطُوا وأقيموا في الثغور رابطين خيلكم فيها مستعدين للغزو.
وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ أي: واتقوا مخالفة اللّه.
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [أي: تفوزون ببقاء الأبد، وأصل الفلاح البقاء، أي تفلحون](3) بنعيم الأبد.
ص: 346
مدنية، وهي مائة وخمس وسبعون آية بصري، وست كوفي، عدّ الكوفي أَنْ تَضِلُّوا اَلسَّبِيلَ آية.
أبيّ عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم: (من قرأها فكأنّما تصدّق علي كل من ورث ميراثا، وأعطي من الأجر كمن اشترى محررا، وبرئ من الشرك، وكان في مشية اللّه من الذين يتجاوز عنهم)(1)، وعن أمير المؤمنين علي عليه السلام: (من قرأها في كل جمعة أو من من ضغطة القبر إذا أدخل في قبره)(2).
بِسْمِ اَللّٰهِ اَلرَّحْمٰنِ اَلرَّحِيمِ يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وٰاحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْهٰا زَوْجَهٰا وَ بَثَّ مِنْهُمٰا رِجٰالاً كَثِيراً وَ نِسٰاءً وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ اَلَّذِي تَسٰاءَلُونَ بِهِ وَ اَلْأَرْحٰامَ إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً
خطاب للمكلفين من بني ادم.
اتقوا مخالفة ربكم اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وٰاحِدَةٍ أي: فرعكم من أصل واحد وهو نفس آدم أبيكم.
ص: 347
وَ خَلَقَ مِنْهٰا زَوْجَهٰا عطف على محذوف تقديره: أنشأها من تراب، وخلق حواء من ضلع من أضلاعها.
وَ بَثَّ مِنْهُمٰا نوعي الإنس، وهما الذكور والإناث، فوصفهما بصفة هي بيان لكيفية خلقهم منها.
ويجوز أن يكون الخطاب في يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ للذين بعث إليهم النبي صلى الله عليه و آله و سلم، فيكون قوله: وَ خَلَقَ مِنْهٰا زَوْجَهٰا عطفا علي خَلَقَكُمْ . والمعنى: خلقكم من نفس آدم وخلق منها أمكم حواء وَ بَثَّ مِنْهُمٰا رِجٰالاً كَثِيراً وَ نِسٰاءً غيركم من الأمم الكثيرة.
تَسٰاءَلُونَ بِهِ تتساءلون به فأدغمت (التاء) في (السين)، وقرئ: تَسٰاءَلُونَ بطرح التاء الثانية، أي: يسأل بعضكم بعضا باللّه وبالرحم، فيقول: (باللّه وبالرحم افعل كذا) علي سبيل الاستعطاف، أو تسألون غيركم باللّه وبالرحم، فوضع (تفاعلون) موضع (تفعلون) للجمع.
وَ اَلْأَرْحٰامَ نصب علي واتقوا اللّه والأرحام، أو أن يعطف علي محلّ الجار والمجرور كما تقول: مررت بزيد وعمرا، وأما جرّه فعلى عطف الظاهر علي المضمر، وقد جاء ذلك في الشعر نحو قوله:
فاذهب فما بك والأيّام من عجب(1)
ولا يستحسنون ذلك في حال الاختيار. والمعنى: إنّهم كانوا يقرّون بأنّ لهم خالقا وكانوا يتساءلون بذكر اللّه والرحم، فقيل لهم: اتقوا اللّه الذي خلقكم، واتقوا اللّه الذي تتناشدون به، واتقوا الأرحام فلا تقطعوها؛ أو واتقوا اللّه الذي
ص: 348
تتعاطفون بإذكاره وإذكار الرحم.
وفي هذا أنّ صلة الرحم من اللّه بمكان، كما جاء في الحديث: (للرحم حجنة عند العرش)(1)، وعن ابن عباس: (الرحم معلّقة فإذا أتاها الواصل بشّت به وكلّمته، وإذا أتاها القاطع احتجبت عنه)(2).
وا لرقيب: الحافظ، وقيل: العالم.
وَ آتُوا اَلْيَتٰامىٰ أَمْوٰالَهُمْ وَ لاٰ تَتَبَدَّلُوا اَلْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَ لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَهُمْ إِلىٰ أَمْوٰالِكُمْ إِنَّهُ كٰانَ حُوباً كَبِيراً
اَلْيَتٰامىٰ الذين مات آباؤهم فانفردوا عنهم. واليتم: الانفراد، ومنه الدرّة اليتيمة.
هذا خطاب لأوصياء اليتامى، أي: أعطوهم أموالهم بالإنفاق عليهم في حالة الصغر، والتسليم إليهم عند البلوغ وإيناس الرشد.
وَ لاٰ تَتَبَدَّلُوا اَلْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ أي: لا تستبدلوا ما حرّم اللّه عليكم من أموال اليتامى بما أحلّه لكم من أموالكم فتأكلوه مكانه، أو لا تستبدلوا الأمر الخبيث وهو اختزال أموال اليتامى با لأمر الطيب وهو حفظها. والتفعل بمعنى الاستفعال كالتعجل والتأخر.
وَ لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَهُمْ إِلىٰ أَمْوٰالِكُمْ ولا تنفقوها معها ولا تضمّوها إليها في الإنفاق حتى لا تفرّقوا بين أموالكم وأموالهم قلة مبالاة بالحرام، وتسوية بينه وبين الحلال.
ص: 349
والحوب: الذنب العظيم.
وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّٰ تُقْسِطُوا فِي اَلْيَتٰامىٰ فَانْكِحُوا مٰا طٰابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّسٰاءِ مَثْنىٰ وَ ثُلاٰثَ وَ رُبٰاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّٰ تَعْدِلُوا فَوٰاحِدَةً أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ ذٰلِكَ أَدْنىٰ أَلاّٰ تَعُولُوا وَ آتُوا اَلنِّسٰاءَ صَدُقٰاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً
لما نزلت الآية في أكل أموال اليتامى، خاف الأولياء أن يلحقهم الحوب بترك الإقساط في حقوق اليتامى وتحرّجوا من ولايتهم، وكان الرجل منهم ربّما كانت تحته العشر من الأزواج أو أقل فلا يقوم بحقوقهن، فقيل لهم: وَ إِنْ خِفْتُمْ ترك العدل فِي أموال اَلْيَتٰامىٰ فتحرّجتم منها، فخافوا أيضا ترك العدل والتسوية بين النساء، لأنّ من تاب من ذنب وهو مرتكب مثله فهو غير تائب، وقيل: معناه إن خفتم الجور في حقّ اليتامى فخافوا الزنا أيضا(1).
فَانْكِحُوا مٰا طٰابَ لَكُمْ أي: حلّ مِنَ اَلنِّسٰاءِ ولا تحوموا حول المحرّمات.
مَثْنىٰ وَ ثُلاٰثَ وَ رُبٰاعَ محلّهن النصب علي الحال، تقديره: فانكحوا الطيبات لكم من النساء معدودات هذا العدد ثنتين ثنتين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا.
وإنّما وجب التكرير لأنّ الخطاب للجميع، ليصيب كل ناكح يريد الجمع بين ثنتين أو ثلاث أو أربع ما أراد من العدد الذي أطلق له، وهذا كما تقول للجماعة:
اقتسموا هذا المال وهو ألف درهم بينكم درهمين درهمين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة، ولو أفردت لم يكن له معنى. ولو جعلت مكان الواو (أو) فقلت: أو ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة، أعلمت أنّه لا يسوغ لهم أن يقتسموه إلا علي أحد أنواع هذه القسمة، وذهب معنى تجويز الجمع بين أنواع القسمة التي دلّت عليها الواو.
ص: 350
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّٰ تَعْدِلُوا بين هذه الأعداد كما خفتم فيما فوقها فَوٰاحِدَةً أي:
فاختاروا واحدة وذروا الجمع. وقرئ: فواحد - بالرفع - أي: فحسبكم واحدة، أو المقنع واحدة.
أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ سوّى بين الحرة الواحدة وبين الإماء من غير حصر ولا توقيت عدد.
ذٰلِكَ إشارة إلي اختيار الواحدة أو التسرّي.
أَدْنىٰ أَلاّٰ تَعُولُوا أقرب من أن لا تميلوا أو لا تجوروا، من عال الميزان: [إذا مال](1)، وعال في حكمه: إذا جار.
وَ آتُوا اَلنِّسٰاءَ صَدُقٰاتِهِنَّ أي: وأعطوهن مهورهن.
نِحْلَةً أي: عن طيبة أنفسكم، من نحله كذا: إذا أعطاه إيّاه عن طيبة من نفسه نحلة ونحلا. وانتصابها علي المصدر، لأنّ النحلة بمعنى الإعطاء، أو يكون حالا من المخاطبين، أي: آتوهن صدقاتهن ناحلين طيبي النفوس بالإعطاء، أو من الصدقات أي: منحولة معطاة عن طيبة الأنفس. وقيل: نحلة من اللّه، أي: عطية من عنده لهن، والخطاب للأزواج، وقيل: للأولياء، لأنّهم كانوا يأخذون مهور بناتهم(2).
فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ خطاب للأزواج مِنْهُ أي: من الصداق.
نَفْساً تمييز، وتوحيدها لأنّ الغرض بيأنّ الجنس والواحد يدلّ عليه، والمعنى: فإن وهبن لكم شيئا من الصداق، وطابت عنه نفوسهن من غير إكراه ولا خديعة.
ص: 351
فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً أي: أكلا هنيئا مريئا، وهما صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ: إذا كان سائغا لا تنغيص فيه، وقيل: الهنيء: ما يلذه الآكل، والمريء: ما يحمد عاقبته وينساغ في مجراه. ويجوز أن يكون كلاهما حالا من الضمير، أي: كلوه وهو هنيء مريء. وقد يوقف على فَكُلُوهُ ، ويبتدأ هَنِيئاً مَرِيئاً علي الدعاء، وهذه عبارة عن التحليل والمبالغة في الإباحة.
وَ لاٰ تُؤْتُوا اَلسُّفَهٰاءَ أَمْوٰالَكُمُ اَلَّتِي جَعَلَ اَللّٰهُ لَكُمْ قِيٰاماً وَ اُرْزُقُوهُمْ فِيهٰا وَ اُكْسُوهُمْ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً وَ اِبْتَلُوا اَلْيَتٰامىٰ حَتّٰى إِذٰا بَلَغُوا اَلنِّكٰاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوٰالَهُمْ وَ لاٰ تَأْكُلُوهٰا إِسْرٰافاً وَ بِدٰاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَ مَنْ كٰانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَ مَنْ كٰانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذٰا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوٰالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَ كَفىٰ بِاللّٰهِ حَسِيباً
ولا تعطوا اَلسُّفَهٰاءَ وهم الذين ينفقون الأموال فيما لا ينبغي من النساء والصبيان والمبذّرين.
أَمْوٰالَكُمُ اَلَّتِي جَعَلَ اَللّٰهُ لَكُمْ قِيٰاماً تقومون بها وتنتعشون فكأنّها قيامكم وانتعاشكم، وقوام الشيء وقيامه وقيّمه: ما يقيمه، وقرئ: قيّما.
وَ اُرْزُقُوهُمْ فِيهٰا واجعلوا أموالكم مكانا لرزقهم وكسوتهم إن كانوا ممن يلزمكم نفقته، وهذا أمر لكل أحد أن لا يخرج ماله إلى سفيه يعلم أنّه يضعه فيما لا ينبغي ويفسده، رجلا كان أو امرأة، قريبا كان أو أجنبيا.
وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً أي: تلطّفوا لهم في القول، وكل ما أحبّته النفوس لحسنه عقلا أو شرعا من قول أو عمل فهو معروف، وما أنكرته لقبحه فهو منكر.
وَ اِبْتَلُوا اَلْيَتٰامىٰ واختبروا عقولهم قبل البلوغ حتى إذا تبيّنتم منهم رشدا
ص: 352
دفعتم إليهم أموالهم من غير تأخير عن حد البلوغ، وبلوغ اَلنِّكٰاحَ هو أن يحتلم، لأنّه يصلح للنكاح عنده، أو يبلغ خمس عشرة سنة، أو ينبت.
فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً أي: أبصرتم منهم تهديا إلي وجوه التصرّف وصلاحا في الدين وإصلاحا للمال فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوٰالَهُمْ .
و حَتّٰى هذه هي التي تقع بعدها الجمل، والجملة بعدها جملة شرطية لأنّ إذا متضمنة معنى الشرط.
وقوله: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوٰالَهُمْ جملة من شرط وجزاء وقعت جوابا للشرط الأوّل، فكأنّه قيل: وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم، فاستحقاقهم دفع أموالهم إليهم بشرط إيناس الرشد منهم.
و إِسْرٰافاً مصدر في موضع الحال أي: مسرفين ومبادرين كبرهم، أو مفعول له أي: لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم تفرطون في إنفاقها.
وَ مَنْ كٰانَ غَنِيًّا من الأولياء فَلْيَسْتَعْفِفْ بماله عن أكل مال اليتيم، ويقتنع بما رزقه اللّه من الغنى إشفاقا علي اليتيم وإبقاء علي ماله.
وَ مَنْ كٰانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ قوتا مقدّرا محتاطا في تقديره على وجه الأجرة، وقيل: يأخذ من ماله قدر الحاجة علي وجه الاستقراض(1).
فَإِذٰا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوٰالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ بأنّهم تسلّموها وقبضوها، لأنّ ذلك أبعد من التهمة.
وَ كَفىٰ بِاللّٰهِ حَسِيباً أي: شاهدا علي الدفع والقبض فعليكم بالتصادق.
ص: 353
لّلرّجال نصيب ممّا ترك الوالدان والأقربون وللنّساء نصيب ممّا ترك الوالدان والأقربون ممّا قلّ منه أو كثر نصيبا مّفروضا مِمّٰا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ بدل مما ترك بتكرير العامل. وكانت العرب في الجاهلية يورّثون الذكور دون الإناث، فقال سبحانه: لِلرِّجٰالِ حظ وسهم من تركة الوالدين والأقربين وَ لِلنِّسٰاءِ حظ وسهم منها، من قليلها وكثيرها.
نَصِيباً مَفْرُوضاً نصب علي الاختصاص، أي: أعني نصيبا مفروضا مقطوعا واجبا لابد أن يحوزوه، أو هو مصدر مؤكد بمعنى قسمة مفروضة.
وفي هذه الآية دلالة علي بطلان القول بالعصبة، لأنّ اللّه سبحانه فرض الميراث للرجال والنساء.
وَ إِذٰا حَضَرَ اَلْقِسْمَةَ أُولُوا اَلْقُرْبىٰ وَ اَلْيَتٰامىٰ وَ اَلْمَسٰاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً وَ لْيَخْشَ اَلَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعٰافاً خٰافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اَللّٰهَ وَ لْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ اَلْيَتٰامىٰ ظُلْماً إِنَّمٰا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نٰاراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً
وَ إِذٰا حَضَرَ اَلْقِسْمَةَ أي: قسمة التركة أُولُوا اَلْقُرْبىٰ ممن لا يرث فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ أي: مما ترك الوالدان والأقربون، وهو أمر على الندب. وقيل:
هو علي الوجوب(1)، والآية منسوخة بآية الميراث(2)، وقال سعيد بن جبير: (إنّ ناسا يقولون: نسخت، واللّه ما نسخت ولكنها مما تهاون به الناس)(3).
ص: 354
والقول المعروف: أن يلطفوا لهم القول ويعتذروا إليهم، ويستقلّوا ما يعطونهم، ولا يمنّوا بذلك عليهم.
و لو مع ما في حيّزه صلة ل - اَلَّذِينَ ، والمراد بهم الأوصياء أمروا أن يخافوا اللّه علي من في حجورهم من اليتامى ويشفقوا عليهم، كما يخافون علي ذريتهم لو تركوهم ضِعٰافاً [ويشفقون عليهم وأن يصوروا ذلك في نفوسهم حتى لا يجسروا.
والمعنى: وَ لْيَخْشَ اَلَّذِينَ حالهم أنّهم لو قاربوا أن يتركوا خلفهم ذُرِّيَّةً ضِعٰافاً وذلك إذا حان يومهم خٰافُوا عَلَيْهِمْ الضياع بعدهم لذهاب كافلهم فَلْيَتَّقُوا اَللّٰهَ في يتامى غيرهم أن يجفوهم ويظلموهم وَ لْيَقُولُوا لهم قَوْلاً سَدِيداً موافقا للشرع، أو يخاطبوهم بخطاب جميل.
ثم أوعد سبحانه آكلي مال اليتيم ظُلْماً أي: ظالمين، أو علي وجه الظلم من أولياء السوء أو القضاة.
فِي بُطُونِهِمْ ملء بطونهم، ومعنى يأكلون نارا: يأكلون ما يجرّ إلى النار فكأنّه نار في الحقيقة. وقرئ: وسيصلون، يقال: صلّي النار يصلاها صليا وأصلاه اللّه النار.
سَعِيراً أي: نارا مستعرة.
يُوصِيكُمُ اَللّٰهُ فِي أَوْلاٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسٰاءً فَوْقَ اِثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثٰا مٰا تَرَكَ وَ إِنْ كٰانَتْ وٰاحِدَةً فَلَهَا اَلنِّصْفُ وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وٰاحِدٍ مِنْهُمَا اَلسُّدُسُ مِمّٰا تَرَكَ إِنْ كٰانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَوٰاهُ فَلِأُمِّهِ اَلثُّلُثُ فَإِنْ كٰانَ لَهُ
ص: 355
إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ اَلسُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهٰا أَوْ دَيْنٍ آبٰاؤُكُمْ وَ أَبْنٰاؤُكُمْ لاٰ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ عَلِيماً حَكِيماً
يُوصِيكُمُ اَللّٰهُ أي: يأمركم به ويفرض عليكم، لأنّ الوصية منه سبحانه أمر وفرض.
فِي أَوْلاٰدِكُمْ أي: في شأن ميراثهم، وهذا إجمال تفصيله لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ . والمعنى: للذكر منهم أي: من أولادكم فحذف العائد لأنّه مفهوم، أي: للابن مثل نصيب البنتين. هذا في حال الاجتماع، فأما في حال الانفراد، فالابن يأخذ المالى كله، والبنتان تأخذان الثلثين، ويدلّ عليه قوله: فَإِنْ كُنَّ نِسٰاءً فَوْقَ اِثْنَتَيْنِ أي: فإن كانت البنات أو المولودات نساء ليس معهن رجل، يعني:
بنات ليس معهن ابن فوق اثنتين أي: زائدات علي اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثٰا مٰا تَرَكَ .
والضمير في ترك للميت وإن لم يجر له ذكر، لأنّ الآية لما كانت في الميراث علم أنّ التارك هو الميت.
وفي قوله: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ دلالة علي أنّ حكم البنتين حكم الابن، وذلك أنّ الابن كما يحوز الثلثين مع البنت الواحدة فكذلك البنتان تحوزان الثلثين، فلما ذكر ما دلّ علي حكم البنتين أتبعه بقوله: فَإِنْ كُنَّ نِسٰاءً فَوْقَ اِثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثٰا مٰا تَرَكَ علي معنى: فإن كن جماعة بالغات ما بلغن من العدد فلهن ما للبنتين لا يتجاوزنه.
وَ إِنْ كٰانَتْ المولودة وٰاحِدَةً فَلَهَا اَلنِّصْفُ أي: نصف ما ترك الميت وَ لِأَبَوَيْهِ أي: ولأبوي الميت لِكُلِّ وٰاحِدٍ مِنْهُمَا بدل من لِأَبَوَيْهِ بتكرير
ص: 356
العامل اَلسُّدُسُ مِمّٰا تَرَكَ إِنْ كٰانَ لَهُ وَلَدٌ الولد يقع علي الذكر والأنثى. يعني:
فللأب السدس مع الولد ذكرا كان أو أنثى واحدا كان أو أكثر، وللأم السدس مع الولد كذلك.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أي للميت ولد : ابن ولا بنت ولا أولادهما، لأنّ اسم الولد يعم الجميع.
وَ وَرِثَهُ أَبَوٰاهُ فَلِأُمِّهِ اَلثُّلُثُ وهذا الظاهر يدلّ علي أنّ الباقي للأب.
فَإِنْ كٰانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ اَلسُّدُسُ وإنّما يكون لها السدس مع وجود أخوين، أو أخ وأختين، أو أربع أخوات إذا كان هناك أب عند أئمّة الهدى عليهم السلام(1)
بدلالة أنّ هذه الجملة معطوفة علي قوله: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَوٰاهُ فَلِأُمِّهِ اَلثُّلُثُ فيكون التقدير: فإن كان له أخوة وورثه أبواه فلأمه السدس. وقرئ:
فلإمه - بكسر الهمزة - أتبعت الهمزة الكسرة التي قبلها.
مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهٰا الميت، وقرئ: يوصى بها علي البناء للمجهول.
أَوْ دَيْنٍ أي: تقسّم التركة علي ما ذكرنا بعد قضاء الديون وإفراز الوصية، ولا خلاف في أنّ الدّين مقدّم علي الوصية والميراث، وإن قدّمت الوصية علي الدين في الآية، فكأنّه قيل: من بعد أحد هذين، فإنّ لفظة أو لا توجب الترتيب وإنّما هي لأحد الشيئين أو الأشياء.
آبٰاؤُكُمْ وَ أَبْنٰاؤُكُمْ لاٰ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً أي: لا تدرون من أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم الذين يموتون: أمن أوصى منهم أم من لم يوص، يعني:
إنّ من أوصى ببعض ماله فعرّضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته، فهو أقرب لكم
ص: 357
نفعا ممن ترك الوصية فوفّر عليكم متاع الدنيا.
فَرِيضَةً مِنَ اَللّٰهِ نصبت نصب المصدر المؤكد، أي: فرض اللّه فريضة.
إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ عَلِيماً بمصالح خلقه حَكِيماً فيما فرض من المواريث وغيرها.
وَ لَكُمْ نِصْفُ مٰا تَرَكَ أَزْوٰاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كٰانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ اَلرُّبُعُ مِمّٰا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهٰا أَوْ دَيْنٍ وَ لَهُنَّ اَلرُّبُعُ مِمّٰا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كٰانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ اَلثُّمُنُ مِمّٰا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهٰا أَوْ دَيْنٍ وَ إِنْ كٰانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاٰلَةً أَوِ اِمْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وٰاحِدٍ مِنْهُمَا اَلسُّدُسُ فَإِنْ كٰانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذٰلِكَ فَهُمْ شُرَكٰاءُ فِي اَلثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصىٰ بِهٰا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضٰارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ
وَ لَكُمْ أيها الأزواج نِصْفُ مٰا تركت زوجاتكم إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ ذكر و الانثى و لا ولد.
فَإِنْ كٰانَ لَهُنَّ وَلَدٌ منكم [أو من غيركم](1)فَلَكُمُ اَلرُّبُعُ جعلت المرأة على النصف من الرجل بحقّ الزواج كما جعلت كذلك في النسب، و الواحدة و الجماعة سواء في الربع و الثمن.
وَ إِنْ كٰانَ رَجُلٌ يعنى: الميت يُورَثُ أي: يورث منه من ورث، أو يورث من أورث، فيكون الرجل وارثا لا موروثا منه. و هو صفة ك رَجُلٌ ،
ص: 358
و كَلاٰلَةً خير كان ، أي: وإن كان رجل موروث منه أو وارث كلالة، ويجوز أن يكون يُورَثُ خبر كان ، و كَلاٰلَةً حالا من الضمير في يُورَثُ .
واختلف في معنى الكلالة، والمروي عن أئمتنا عليهم السلام أنّها تطلق على الأخوة والأخوات(1)، والمذكور في هذه الآية من كان من قبل الأم منهم، والمذكور في آخر السورة(2) من كان منهم من قبل الأب والأم، أو من قبل الأب.
فعلي هذا تكون الكلالة أن يترك الإنسان من أحاط بأصل النسب الذي هو الوالد والولد، وتكلله كالإكليل الذي يحيط بالرأس ويشتمل عليه، لأنّ الكلالة في الأصل مصدر فتطلق على من ليس بولد ولا والد، وعلي من لم يخلّف ولدا ولا والدا وخلف ما عداهما من الأخوة والأخوات، وتكون صفة للموروث أو الوارث بمعنى ذي كلالة، كما تقول: فلان من قرابتي تريد من ذوي قرابتي.
أَوِ اِمْرَأَةٌ تورث كذلك وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ يعني: من الأم فَلِكُلِّ وٰاحِدٍ مِنْهُمَا اَلسُّدُسُ فَإِنْ كٰانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذٰلِكَ فَهُمْ شُرَكٰاءُ فِي اَلثُّلُثِ جعل الذكر والأنثى هاهنا سواء.
غَيْرَ مُضٰارٍّ لورثته، وذلك أن يوصي بزيادة علي الثلث، أو يوصي بدين ليس عليه يريد بذلك ضرر الورثة.
وَصِيَّةً مِنَ اَللّٰهِ مصدر مؤكد كقوله: فَرِيضَةً مِنَ اَللّٰهِ (3).
وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ بمن جار في وصيته حَلِيمٌ عنه لا يعاجله بالعقوبة، وهذا
ص: 359
وعيد.
تِلْكَ حُدُودُ اَللّٰهِ وَ مَنْ يُطِعِ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا وَ ذٰلِكَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ وَ مَنْ يَعْصِ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نٰاراً خٰالِداً فِيهٰا وَ لَهُ عَذٰابٌ مُهِينٌ
تِلْكَ إشارة إلي الأحكام المذكورة في اليتامى والمواريث، وسمّاها حدودا لأنّ الشرائع كالحدود المضروبة للمكلفين لا يجوز لهم أن يتجاوزوها.
قال: يُدْخِلْهُ و خٰالِدِينَ حملا علي لفظ من ومعناه.
وفي قوله: وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ دلالة علي أنّ المراد بقوله: وَ مَنْ يَعْصِ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ الكافر، لأنّ من تعدّي جميع حدود اللّه التي هي فرائضه وأوامره ونواهيه لا يكون إلا كافرا.
وَ اَللاّٰتِي يَأْتِينَ اَلْفٰاحِشَةَ مِنْ نِسٰائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي اَلْبُيُوتِ حَتّٰى يَتَوَفّٰاهُنَّ اَلْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اَللّٰهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (1(5) وَ اَلَّذٰانِ يَأْتِيٰانِهٰا مِنْكُمْ فَآذُوهُمٰا فَإِنْ تٰابٰا وَ أَصْلَحٰا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمٰا إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ تَوّٰاباً رَحِيماً
وَ اَللاّٰتِي يَأْتِينَ اَلْفٰاحِشَةَ أي: يفعلنها، والفاحشة: الزنا لزيادتها في القبح علي كثير من القبائح.
مِنْ نِسٰائِكُمْ الحرائر فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ أي: من المسلمين.
ص: 360
فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي اَلْبُيُوتِ أي: فخلّدوهن محبوسات في بيوتكم، وكان ذلك عقوبتهن في أوّل الإسلام، ثم نسخ بقوله: اَلزّٰانِيَةُ وَ اَلزّٰانِي...
الآية(1).
أَوْ يَجْعَلَ اَللّٰهُ لَهُنَّ سَبِيلاً هو النكاح الذي يستغنين به عن السفاح، وقيل:
السبيل هو الحد(2)، إذ لم يكن مشروعا في ذلك الوقت. فقد روي: أنّه لما نزل قوله:
اَلزّٰانِيَةُ وَ اَلزّٰانِي... الآية قال عليه السلام: (خذوا عني قد جعل اللّه لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيّب بالثيّب جلد مائة والرجم)(3). وعندنا: إنّ هذا الحكم مختص بالشيخ والشيخة إذا زنيا(4).
وَ اَلَّذٰانِ يَأْتِيٰانِهٰا مِنْكُمْ يريد الزاني والزانية فَآذُوهُمٰا فذمّوهما وعيروهما.
فَإِنْ تٰابٰا وَ أَصْلَحٰا وغيرا الحال فَأَعْرِضُوا عَنْهُمٰا واقطعوا الذم والتعيير وكفوا عن أذاهما. وقرئ: (واللذانّ ) بتشديد النون.
إِنَّمَا اَلتَّوْبَةُ عَلَى اَللّٰهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسُّوءَ بِجَهٰالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولٰئِكَ يَتُوبُ اَللّٰهُ عَلَيْهِمْ وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَلِيماً حَكِيماً وَ لَيْسَتِ اَلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئٰاتِ حَتّٰى إِذٰا حَضَرَ أَحَدَهُمُ اَلْمَوْتُ قٰالَ إِنِّي تُبْتُ اَلْآنَ وَ لاَ اَلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفّٰارٌ أُولٰئِكَ أَعْتَدْنٰا لَهُمْ عَذٰاباً أَلِيماً
ص: 361
اَلتَّوْبَةُ من تاب اللّه عليه: إذا قبل توبته، أي: إنّما القبول للتوبة واجب علي اللّه لهؤلاء، أوجبه سبحانه في كرمه وفضله.
بِجَهٰالَةٍ في موضع الحال، أي: لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسُّوءَ جاهلين سفهاء، لأنّ ارتكاب القبيح مما يدعو إليه السفه والشهوة، ولا يدعو إليه العقل والحكمة.
ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ من زمان قريب. والزمان القريب: ما قبل حضور الموت، قال ابن عباس: (قبل أن ينزل به سلطان الموت)(1).
وَ لاَ اَلَّذِينَ يَمُوتُونَ عطف علي لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئٰاتِ ، سوّى سبحانه بين مسوف التوبة إلى وقت حضور الموت وبين من يموت كافرا.
يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا اَلنِّسٰاءَ كَرْهاً وَ لاٰ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مٰا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاّٰ أَنْ يَأْتِينَ بِفٰاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَ عٰاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اَللّٰهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً
كانوا يظلمون نساءهم بأنواع من الظلم فنهوا عن ذلك، كان الرجل إذا مات له قريب عن امرأة ألقى ثوبه عليها وقال: أنا أحقّ بها من غيري، فقيل: لاٰ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا اَلنِّسٰاءَ كَرْهاً أي: تأخذوهن علي سبيل الإرث وهن كارهات لذلك أو مكرهات، وقد قرئ بفتح الكاف وضمها.
وقيل: كانوا يمسكونهن حتى يمتن(2)، فقيل: لا يحلّ لكم أن تمسكوهن حتى ترثوا منهن وهن غير راضيات بذلك. وكان الرجل يمسك زوجته إضرارا بها حتى تفتدي ببعض مالها، فقيل: وَ لاٰ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مٰا آتَيْتُمُوهُنَّ
ص: 362
والعضل: الحبس والتضييق. والأولى أن يكون تَعْضُلُوهُنَّ نصبا عطفا علي أَنْ تَرِثُوا ، و لا لتأكيد النفي، أي: لا يحلّ لكم أن ترثوا النساء ولا أن تعضلوهن.
إِلاّٰ أَنْ يَأْتِينَ بِفٰاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وهي النشوز، والبذاء، والمعصية، وإيذاء الزوج وأهله، يعني: إلا أن يكون سوء العشرة من جهتهن فتصيروا معذورين في طلب الخلع. والتقدير: ولا تعضلوهن إلا أن يأتين بفاحشة، أو وقت أن يأتين بفاحشة. الصادق عليه السلام قال: (إذا قالت للزوج لا أغتسل لك من جنابة ولا أبرّ لك قسما ولأوطئن فراشك، حلّ له أن يخلعها)(1).
وكانوا يسيئون معاشرة النساء فقيل لهم: وَ عٰاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وهو النصفة في النفقة والإجمال في القول والفعل.
فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ أي: إن كرهتم صحبتهن فلا تفارقوهن لكراهة الأنفس وحدها، فربّما كرهت النفس ما هو أصلح في الدين وأحمد، وأحبّت ما هو نقيض ذلك.
وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اِسْتِبْدٰالَ زَوْجٍ مَكٰانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْدٰاهُنَّ قِنْطٰاراً فَلاٰ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتٰاناً وَ إِثْماً مُبِيناً وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَ قَدْ أَفْضىٰ بَعْضُكُمْ إِلىٰ بَعْضٍ وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثٰاقاً غَلِيظاً
كان الرجل إذا أراد استطراف امرأة رمى زوجته بفاحشة حتى يلجئها إلي الافتداء منه بما أعطاها، فقال سبحانه: وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اِسْتِبْدٰالَ زَوْجٍ مَكٰانَ زَوْجٍ أي: إقامة امرأة مقام امرأة، وأعطيتم التي أردتم الاستبدال بها غيرها قِنْطٰاراً أي:
مالا كثيرا فَلاٰ تَأْخُذُوا مِنْهُ أي: من المؤتى والمعطى شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتٰاناً
ص: 363
وَ إِثْماً مُبِيناً أي: باهتين وآثمين.
انتصب بُهْتٰاناً و إِثْماً على الحال، ويجوز أن يكون مفعولا له وإن لم يكن غرضا، كما يقال: قعد عن القتال جبنا.
والميثاق الغليظ: حقّ الصحبة والمضاجعة، كأنّه قيل: وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثٰاقاً غَلِيظاً بإفضاء بعضكم إلى بعض. وقيل: إ نّ الميثاق الغليظ هو العهد المأخوذ علي الزوج حالة العقد من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان(1).
وعن النبي صلى الله عليه و آله و سلم: (استوصوا بالنساء خيرا، فإنّهن عوان في أيديكم، أخذتموهن بأمانة اللّه، واستحللتم فروجهن بكلمة اللّه)(2).
وَ لاٰ تَنْكِحُوا مٰا نَكَحَ آبٰاؤُكُمْ مِنَ اَلنِّسٰاءِ إِلاّٰ مٰا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كٰانَ فٰاحِشَةً وَ مَقْتاً وَ سٰاءَ سَبِيلاً
كانوا ينكحون روابّهم(3)، وكان ناس من ذوي مروءاتهم يمقتونه ويسمونه نكاح المقت، ويقولون لمن ولد عليه: المقتي، ولذلك قال سبحانه: وَ مَقْتاً ، أي:
ولا تتزوّجوا ما تزوّجه آبٰاؤُكُمْ مِنَ اَلنِّسٰاءِ ثم استثنى مٰا قَدْ سَلَفَ كما استثنى (غير أنّ سيوفهم) من قوله:
و لا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم *** بهنّ فلول من قراع الكتائب(4)
يعني: إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه ولا يحلّ لكم غيره، ولكنه غير ممكن، والغرض المبالغة في تحريمه.
ص: 364
إِنَّهُ كٰانَ فٰاحِشَةً في دين اللّه بالغة في القبح.
وَ مَقْتاً أي: قبيحا ممقوتا في المروءة ولا مزيد علي ما يجمع القبحين.
وَ سٰاءَ سَبِيلاً أي: بئس طريقا ذلك النكاح السيئ الفاحش.
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهٰاتُكُمْ وَ بَنٰاتُكُمْ وَ أَخَوٰاتُكُمْ وَ عَمّٰاتُكُمْ وَ خٰالاٰتُكُمْ وَ بَنٰاتُ اَلْأَخِ وَ بَنٰاتُ اَلْأُخْتِ وَ أُمَّهٰاتُكُمُ اَللاّٰتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَوٰاتُكُمْ مِنَ اَلرَّضٰاعَةِ وَ أُمَّهٰاتُ نِسٰائِكُمْ وَ رَبٰائِبُكُمُ اَللاّٰتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسٰائِكُمُ اَللاّٰتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاٰ جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ وَ حَلاٰئِلُ أَبْنٰائِكُمُ اَلَّذِينَ مِنْ أَصْلاٰبِكُمْ وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ اَلْأُخْتَيْنِ إِلاّٰ مٰا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ غَفُوراً رَحِيماً
المعنى: حرّم عليكم نكاحهن، لأنّ ذلك هو المفهوم من تحريمهن، كما يفهم من تحريم الخمر تحريم شربها، ومن تحريم الميتة تحريم أكلها.
ويتضمن قوله: أمهاتكم تحريم نكاح الجدات من قبل الأب ومن قبل الأم وإن علون بدرجات؛ وقوله: وَ بَنٰاتُكُمْ تحريم نكاح بنات الصلب وبنات الابن وبنات البنت و إن نزلن بدرجات؛ وقوله: و أخواتكم يتضمن تحريمهن سواء كن من قبل أب أو من قبل أم أو منهما.
ويتضمن العمّات: كل أخت لذكر رجع النسب إليه بالولادة، من قبل الأب كان أو من قبل الأم.
ويتضمن الخالات: كل أخت لأنثى رجع النسب إليها بالولادة، من جهة
ص: 365
الأم كان أو من جهة الأب.
ويتضمن بنات اَلْأَخِ وَ بَنٰاتُ اَلْأُخْتِ كل بنات الأخوة والأخوات من قبل الأب كن أو من قبل الأم قربن أو بعدن. فهؤلاء السبع هن المحرّمات من جهة النسب.
ثم ذكر المحرّمات من جهة السبب فقال: أُمَّهٰاتُكُمُ اَللاّٰتِي أَرْضَعْنَكُمْ سمّى المرضعات أمهات إذ نزّل الرضاعة منزلة النسب، وسمّى المرضعات أخوات بقوله: وَ أَخَوٰاتُكُمْ مِنَ اَلرَّضٰاعَةِ .
فعلي هذا يكون زوج المرضعة أبا للرضيع، وأبواه جداه، وأخته عمته، وكل ولد ولد له من غير المرضعة قبل الرضاع وبعده فهم أخوته وأخواته لأبيه، وأم المرضعة جدته، وأختها خالته، وكل ولد لها من هذا الزوج فهم أخوته وأخواته لأبيه وأمه، وكل ولد لها من غير هذا الزوج فهم أخوته وأخواته لأمه، ومنه قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)(1). وفيه: أنّ المحرّمات السبع بالنسب محرّمات بالرضاع أيضا.
ثم قال: وَ أُمَّهٰاتُ نِسٰائِكُمْ وهذا يتضمن تحريم نكاح أمهات الزوجات وجداتهن، قربن أو بعدن من جهة النسب والرضاع، ويحرمن بنفس العقد.
وَ رَبٰائِبُكُمُ اَللاّٰتِي فِي حُجُورِكُمْ أي: في ضمانكم وتربيتكم، سمّي ولد المرأة من غير زوجها ربيبا وربيبة لأنّه يربّهما في غالب الأمر كما يربّ ولده، ثم سمّي بذلك وءان لم يربّهما. وهذا يقتضي تحريم بنت المرأة من غير زوجها علي زوجها، وتحريم بنت ابنها وبنت بنتها قربت أم بعدت لوقوع اسم الربيبة عليهن.
ص: 366
وقوله: مِنْ نِسٰائِكُمُ اَللاّٰتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ متعلّق ب - وَ رَبٰائِبُكُمُ والمعنى: أنّ الربيبة من المرأة المدخول بها محرّمة على الرجل، وإذا لم يدخل بها فهي خلال له. ومعنى الدخول بهن كناية عن الجماع كما يقال: بني عليها، وضرب عليها الحجاب. فقوله: دخلتم بهن معناه: أدخلتموهن الستر، والباء للتعدية، وما يجري مجري الجماع من التجريد واللمس بالشهوة، فذلك أيضا دخول بها عند أبي حنيفة(1)، وهو مذهبنا(2).
وَ حَلاٰئِلُ أَبْنٰائِكُمُ أي: وحرّم عليكم نكاح أزواج أبنائكم اَلَّذِينَ مِنْ أَصْلاٰبِكُمْ دون من تبنّيتم، فأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم تزوج زينب بنت جحش(3) حين فارقها زيد بن حارثة(4).
وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ اَلْأُخْتَيْنِ في موضع الرفع، أي: وحرّم عليكم الجمع بين الأختين في النكاح والوطء بملك اليمين، ويجوز الجمع بينهما في الملك.
إِلاّٰ مٰا قَدْ سَلَفَ ولكن ما مضي مغفور بدليل قوله: إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ غَفُوراً رَحِيماً .
والمحرّمات بالنسب أو السبب علي وجه التأبيد يسمّين مبهمات، لأنّهن يحرمن من جميع الجهات، قال ابن عباس: (حرّم اللّه من النساء سبعا بالنسب وسبعا
ص: 367
بالسبب، وتلا هذه الآية ثم قال: والسابعة: وَ لاٰ تَنْكِحُوا مٰا نَكَحَ آبٰاؤُكُمْ )(1).
وَ اَلْمُحْصَنٰاتُ مِنَ اَلنِّسٰاءِ إِلاّٰ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ كِتٰابَ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ وَ أُحِلَّ لَكُمْ مٰا وَرٰاءَ ذٰلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوٰالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسٰافِحِينَ فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَ لاٰ جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ فِيمٰا تَرٰاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ اَلْفَرِيضَةِ إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ عَلِيماً حَكِيماً
القراءة هنا وَ اَلْمُحْصَنٰاتُ بفتح الصاد، أي: وحرّمت عليكم اللاتي أحصنّ مِنَ اَلنِّسٰاءِ وهن ذوات الأزواج إِلاّٰ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ من اللاتي سبين ولهن أزواج في ديار الكفر فهن حلال وإن كن محصنات.
كِتٰابَ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ مصدر مؤكد، أي: كتب اللّه ذلك عليكم كتابا وهو تحريم ما حرم.
وَ أُحِلَّ لَكُمْ مٰا وَرٰاءَ ذٰلِكُمْ هو عطف على الفعل المضمر الذي نصب كِتٰابَ اَللّٰهِ . ومن قرأ: وَ أُحِلَّ لَكُمْ علي البناء للمفعول فهو عطف على حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ .
أَنْ تَبْتَغُوا مفعول له، والمعنى: بين لكم ما يحلّ وما يحرم إرادة أن تبتغوا، أي: تطلبوا بِأَمْوٰالِكُمْ نكاحا بصداق أو شراء بثمن، فيكون مفعول تَبْتَغُوا مقدرا، ويجوز أن يكون أَنْ تَبْتَغُوا بدلا من مٰا وَرٰاءَ ذٰلِكُمْ .
مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسٰافِحِينَ أي: أعفاء غير زناة، والإحصان: العفة
ص: 368
وتحصين النفس من الوقوع في الحرام، وقيل: محصنين: متزوجين(1).
فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ من النساء، و ما في معنى النساء ويرجع الضمير في به إليه على اللفظ، وفي فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ علي المعنى.
والمراد به متعة النساء وهو النكاح المنعقد بمهر معين إلي أجل معلوم، وإليه ذهب ابن عباس وابن مسعود وسعيد بن جبير وجماعة من التابعين(2) وهو مذهب أهل البيت عليهم السلام(3)، وقرأوا: فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى فاتوهن أجورهن.
معناه: فاللاتي عقدتم عليهن هذا العقد من جملة النساء فأعطوعن أجورهن، فأوجب إيتاء الأجر بنفس العقد، وإنّما يجب كمال المهر بنفس العقد في نكاح المتعة خاصة.
وَ لاٰ جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ فِيمٰا تَرٰاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ اَلْفَرِيضَةِ من استئناف عقد آخر بعد انقضاء مدة الأجل إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ عَلِيماً حَكِيماً فيما شرع لعباده من النكاح الذي به يحفظ الأموال والأنساب.
وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ اَلْمُحْصَنٰاتِ اَلْمُؤْمِنٰاتِ فَمِنْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ مِنْ فَتَيٰاتِكُمُ اَلْمُؤْمِنٰاتِ وَ اَللّٰهُ أَعْلَمُ بِإِيمٰانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنٰاتٍ غَيْرَ مُسٰافِحٰاتٍ وَ لاٰ مُتَّخِذٰاتِ أَخْدٰانٍ فَإِذٰا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفٰاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ
ص: 369
نِصْفُ مٰا عَلَى اَلْمُحْصَنٰاتِ مِنَ اَلْعَذٰابِ ذٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ اَلْعَنَتَ مِنْكُمْ وَ أَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَ اَللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
الطّول: الفضل والزيادة، أي: من لم يجد غنى وزيادة في المال وسعة يبلغ بها نكاح المحصنات أي: الحرائر.
فَمِنْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ أي: فلينكح أمة مما ملكت أيمانكم، والخطاب للمسلمين.
مِنْ فَتَيٰاتِكُمُ من إمائكم لا من فتيات غيركم من المخالفين في الدين.
وَ اَللّٰهُ أَعْلَمُ بِإِيمٰانِكُمْ واللّه أعلم بتفاضل ما بينكم وبين أرقائكم في الإيمان، ورجحانه ونقصانه فيهم وفيكم، وربّما كان إيمان الأمة أرجح من إيمان الحرة، والمرأة أفضل في الإيمان من الرجل، فمن حقّكم أن تعتبروا فضل الإيمان لا فضل الأحساب والأنساب.
بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أي: أنتم وأرقاؤكم متناسبون لاشتراككم في الإيمان، فلا تستنكفوا من نكاحهن.
فَانْكِحُوهُنَّ و الضمير للفتيات، أي: تزوّجوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ أي:
بأمر مواليهن.
وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي: مهورهن.
بِالْمَعْرُوفِ من غير مطل وضرار وإحواج إلى الاقتضاء، والمراد: فاتوا مواليهن، لأنّ الموالي هم مالكو مهورهن فحذف المضاف.
محصنات عفائف غير مجاهرات بالسفاح ولا مسرّات له، وهو قوله:
غَيْرَ مُسٰافِحٰاتٍ وَ لاٰ مُتَّخِذٰاتِ أَخْدٰانٍ والأخدان: الأخلاء في السر.
ص: 370
فَإِذٰا أُحْصِنَّ من قرأ بالضم فالمعنى: فإذا زوّجن فأحصنهن أزواجهن أي: تزوّجن، ومن قرأ با لفتح فمعناه: أسلمن، وقيل: أحصن أنفسهن با لتزويج(1).
فَإِنْ أَتَيْنَ بِفٰاحِشَةٍ أي: فإن زنين فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مٰا عَلَى اَلْمُحْصَنٰاتِ أي: الحرائر.
مِنَ اَلْعَذٰابِ من الحد، كما في قوله: وَ لْيَشْهَدْ عَذٰابَهُمٰا (2) وهو خمسون جلدة، ولا رجم عليهنّ لأنّ الرجم لا ينتصف.
ذٰلِكَ إشارة إلى نكاح الإماء.
لِمَنْ خَشِيَ اَلْعَنَتَ مِنْكُمْ لمن خاف الإثم الذي يؤدي إليه غلبة الشهوة.
وأصل العنت انكسار العظم بعد الجبر، فاستعير لكل مشقة وضرر، ولا ضرر أعظم من الوقوع في الزنا.
وَ أَنْ تَصْبِرُوا أي: وصبركم عن نكاح الإماء متعففين خَيْرٌ لَكُمْ .
يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ اَللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَ اَللّٰهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ يُرِيدُ اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلشَّهَوٰاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (2(7) يُرِيدُ اَللّٰهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَ خُلِقَ اَلْإِنْسٰانُ ضَعِيفاً
الأصل يُرِيدُ اَللّٰهُ أن يُبَيِّنَ لَكُمْ فزيدت اللام مؤكدة لإرادة التبيين، كما زيدت في (لا أبا لك) لتأكيد إضافة الأب، والمعنى: يريد اللّه أن يبين لكم ما
ص: 371
خفي عنكم من مصالحكم وأن يهديكم سُنَنَ اَلَّذِينَ كانوا مِنْ قَبْلِكُمْ من الأنبياء وأهل الحقّ لتقتدوا بهم.
وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ أي: وأن يقبل توبتكم.
وَ اَللّٰهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ يوفّقكم لها، ويقوّي دواعيكم إليها.
وَ يُرِيدُ اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلشَّهَوٰاتِ من المبطلين أَنْ تَمِيلُوا أي: تعدلوا عن الاستقامة والقصد بمساعدتهم وموافقتهم مَيْلاً عَظِيماً إذ لا ميل أعظم من الموافقة علي اتباع الشهوات.
يُرِيدُ اَللّٰهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ بإحلال الأمة وغير ذلك من الرخص.
وَ خُلِقَ اَلْإِنْسٰانُ ضَعِيفاً لا يصبر علي مشقة الطاعة وعن الشهوة.
يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلاّٰ أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ مِنْكُمْ وَ لاٰ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ بِكُمْ رَحِيماً وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ عُدْوٰاناً وَ ظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نٰاراً وَ كٰانَ ذٰلِكَ عَلَى اَللّٰهِ يَسِيراً
ذكر الأكل والمراد به سائر التصرّفات.
و الْبٰاطِلِ : ما لم يبحه الشرع من الربا والقمار والخيانة والظلم والسرقة.
إِلاّٰ أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً بالنصب علي: إلا أن تكون التجارة تجارة عَنْ تَرٰاضٍ مِنْكُمْ ، وبالرفع علي: إلا أن تقع تجارة. والاستثناء منقطع معناه: ولكن كون تجارة عن تراض منكم غير منهي عنه.
و عَنْ تَرٰاضٍ صفة ل - تِجٰارَةً أي: تجارة صادرة عن تراض، والتراضي:
رضا المتبايعين بما تعاقدوا عليه في حال البيع وقت الإيجاب والقبول.
ص: 372
وَ لاٰ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ بأن تقاتلوا من لا تطيقونه فتقتلوا، وقيل: لا يقتل بعضكم بعضا لانكم أهل دين واحد فأنّتم كنفس واحدة(1)، وقيل: لا يقتل الرجل نفسه كما يفعل بعض الجهال في حال غضب أو ضجر(2).
إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ بِكُمْ رَحِيماً ينهاكم عما يضرّكم لرحمته عليكم.
وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ إشارة إلي القتل، أي: ومن يقدم علي قتل النفس عُدْوٰاناً وَ ظُلْماً لا خطأ ولا اقتصاصا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نٰاراً مخصوصة شديدة العذاب.
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ مٰا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً وَ لاٰ تَتَمَنَّوْا مٰا فَضَّلَ اَللّٰهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلىٰ بَعْضٍ لِلرِّجٰالِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبُوا وَ لِلنِّسٰاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبْنَ وَ سْئَلُوا اَللّٰهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً
قال أصحابنا رضي اللّه عنهم: المعاصي كلها كبائر من حيث كانت قبائح، لكن بعضها أكبر من بعض، وإنّما يكون الذنب صغيرا بالإضافة إلى ما هو أكبر منه واستحقاق العقاب عليه أكثر(3). ونحوه قول ابن عباس: (كل ما نهى اللّه عنه فهو كبير)(4)، وقول مجاهد وسعيد بن جبير: (كل ما أوعد اللّه عليه عقابا في العقبى،
ص: 373
وأوجب عليه حدا في الدنيا فهو كبيرة)(1).
ومعنى الآية: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبٰائِرَ ما نهيتم عَنْهُ في هذه السورة من المناكح، وأكل الأموال بالباطل، وغير ذلك، وتركتموها في المستقبل نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ التي اكتسبتموها بارتكاب ذلك فيما سلف، ويعضده قوله سبحانه: إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مٰا قَدْ سَلَفَ (2)، وعن ابن مسعود: (كل ما نهى اللّه عنه من أول السورة إلي رأس الثلاثين فهو كبير)(3). وروي: أنّ رجلا قال لابن عباس: (الكبائر سبع ؟ فقال: هي إلى سبعمائة أقرب، إلا أنّه لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار)(4).
وقرئ: مُدْخَلاً بضم الميم وفتحها بمعنى المكان والمصدر فيهما.
وَ لاٰ تَتَمَنَّوْا نهي عن التحاسد وعن تمنّي مٰا فَضَّلَ اَللّٰهُ بِهِ بعض الناس عَلىٰ بَعْضٍ من الجاه والمال، لأنّ ذلك التفضيل قسمة من اللّه العالم بأحوال العباد، فواجب علي الخلق أنّ يرضوا بقسمته الصادرة عن الحكمة والعلم بالمصلحة.
لِلرِّجٰالِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبُوا جعل سبحانه ما قسمه لكل من الرجال والنساء علي حسب ما عرفه من مصالحه كسبا له.
وَ سْئَلُوا اَللّٰهَ مِنْ فَضْلِهِ ولا تحسدوا غيركم بما أوتي من الفضل، ولكن
ص: 374
اسألوا اللّه من فضله الذي لا يغيض(1)، قال سفيان بن عيينة(2): (لم يأمر بالمسألة إلا ليعطي)(3).
وَ لِكُلٍّ جَعَلْنٰا مَوٰالِيَ مِمّٰا تَرَكَ اَلْوٰالِدٰانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ وَ اَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمٰانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً (3(3) اَلرِّجٰالُ قَوّٰامُونَ عَلَى اَلنِّسٰاءِ بِمٰا فَضَّلَ اَللّٰهُ بَعْضَهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ وَ بِمٰا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوٰالِهِمْ فَالصّٰالِحٰاتُ قٰانِتٰاتٌ حٰافِظٰاتٌ لِلْغَيْبِ بِمٰا حَفِظَ اَللّٰهُ وَ اَللاّٰتِي تَخٰافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اُهْجُرُوهُنَّ فِي اَلْمَضٰاجِعِ وَ اِضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاٰ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ عَلِيًّا كَبِيراً
أي: ولكل واحد من الرجال والنساء جَعَلْنٰا مَوٰالِيَ أي: ورثة هم أولى بميراثه، يرثون مِمّٰا تَرَكَ اَلْوٰالِدٰانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ الموروثون.
وَ اَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمٰانُكُمْ أي: ويرثون مما ترك الذين عقدت أيمانكم، لأنّ لهم ورثة هم أولى بميراثهم، فيكون عطفا علي اَلْوٰالِدٰانِ ويكون المضمر في فَآتُوهُمْ للموالي، ويجوز أن يكون في تَرَكَ ضمير لِكُلٍّ و اَلْوٰالِدٰانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ تفسيرا ل - مَوٰالِيَ كأنّه قيل: من هم ؟ فقيل: اَلْوٰالِدٰانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ .
ص: 375
و اَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمٰانُكُمْ مبتدأ ضمّن معنى الشرط فوقع خبره مع الفاء وهو قوله: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ ، والمراد ب - اَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمٰانُكُمْ موالي الموالاة. كان الرجل يعاقد الرجل فيقول: (دمي دمك، وهدمي هدمك، وحربي حربك، وسلمي سلمك، وترثني وأرثك، وتعقل عني وأعقل عنك) فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف، فنسخ بقوله: وَ أُولُوا اَلْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ (1). وقرئ: (عاقدت) و (عقدت)، ومعنى عا قدت أيمانكم:
عاقدتهم أيديكم وماسحتموهم، ومعنى (عقدت): عقدت عهودهم أيمانكم.
اَلرِّجٰالُ قَوّٰامُونَ عَلَى اَلنِّسٰاءِ يقومون عليهن بالأمر والنهي كما تقوم الولاة على رعاياهم، ولذلك سمّوا قوّاما، بسبب تفضيل اللّه.
بَعْضَهُمْ وهم الرجال عَلىٰ بَعْضٍ يعني: النساء. وقد ذكر في تفضيل الرجال أشياء: منها العقل، والحزم، والجهاد، والخطبة، و الأذان، وعدد الأزواج، والطلاق، وغير ذلك.
وَ بِمٰا أَنْفَقُوا أي: وبسبب ما أنفقوا في نكاحهن من الأموال يعني: المهر والنفقة.
فَالصّٰالِحٰاتُ قٰانِتٰاتٌ أي: مطيعات للّه قائمات بما عليهن للأزواج.
حٰافِظٰاتٌ لِلْغَيْبِ الغيب: خلاف الشهادة، أي: راعيات لحقوق أزواجهن وحرمتهم في الفروج والبيوت والأموال في حال غيبتهم.
بِمٰا حَفِظَ اَللّٰهُ بما حفظهنّ اللّه حين أوصى بهن الأزواج في كتابه، أو بما حفظهنّ الله [إذ وفقهنّ ](2) لحفظ الغيب فتكون (ما) مصدرية. وقرئ: (بما
ص: 376
حفظ اللّه) - بالنصب - علي أنّ (ما) موصولة، أي: بالأمر الذي يحفظ حقّ اللّه وأمانة اللّه، وهو التعفف والشفقة علي الرجال. وفي الحديث: (خير النساء امرأة إن نظرت إليها سرّتك، وإن أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها وتلا الآية)(1).
وَ اَللاّٰتِي تَخٰافُونَ نُشُوزَهُنَّ أي: عصيانهن، وأصل النشوز: الانزعاج والترفع علي الزوج.
فَعِظُوهُنَّ أوّلا بالقول والنصيحة وَ اُهْجُرُوهُنَّ ثانيا فِي اَلْمَضٰاجِعِ والمراقد وهي كناية عن الجماع، وقيل: هو أن يوليها ظهره في المضجع(2).
وَ اِضْرِبُوهُنَّ إن لم ينجع فيهن الوعظ والهجران ضربا غير مبرح لا يقطع لحما ولا يكسر عظما، وعن الباقر عليه السلام: (إنّه الضرب بالسواك)(3).
فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاٰ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً أي: أزيلوا عنهن التعرّض بالأذى والتجني، وتوبوا عليهن بعد رجوعهن إلي الطاعة وترك النشوز.
إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ عَلِيًّا كَبِيراً فاحذروه ولا تكلفوهن ما لا يطقن.
وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقٰاقَ بَيْنِهِمٰا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِهٰا إِنْ يُرِيدٰا إِصْلاٰحاً يُوَفِّقِ اَللّٰهُ بَيْنَهُمٰا إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ عَلِيماً خَبِيراً
الأصل شقاقا بينهما ، فأضيف الشقاق إلى الظرف علي سبيل الاتساع، والضمير للزوجين وإن لم يجر ذكرهما لدلالة ذكر الرجال والنساء عليهما.
ص: 377
فَابْعَثُوا حَكَماً أي: رجلا رضي مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِهٰا كذلك، يصلح كلاهما لحكومة العدل والإصلاح بينهما، والألف في إِنْ يُرِيدٰا إِصْلاٰحاً ضمير الحكمين، وفي يُوَفِّقِ اَللّٰهُ بَيْنَهُمٰا للزوجين، أي: إن قصدا إصلاح ذات البين بورك في وساطتهما، وأوقع اللّه بحسن نيتهما الوفاق والألفة بين الزوجين.
وقيل: الضميران للحكمين(1) يوفق الله بينهما حتى يتفقا علي الكلمة الواحدة.
وروي أصحابنا: إنّ للحكمين أن يجمعا بينهما إن رأيا ذلك صلاحا، وليس لهما أن يفرّقا بينهما إلا بعد أن يستأمراهما ويرضيا بذلك(2).
وَ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ وَ لاٰ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوٰالِدَيْنِ إِحْسٰاناً وَ بِذِي اَلْقُرْبىٰ وَ اَلْيَتٰامىٰ وَ اَلْمَسٰاكِينِ وَ اَلْجٰارِ ذِي اَلْقُرْبىٰ وَ اَلْجٰارِ اَلْجُنُبِ وَ اَلصّٰاحِبِ بِالْجَنْبِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ وَ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُكُمْ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُحِبُّ مَنْ كٰانَ مُخْتٰالاً فَخُوراً اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ اَلنّٰاسَ بِالْبُخْلِ وَ يَكْتُمُونَ مٰا آتٰاهُمُ اَللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ أَعْتَدْنٰا لِلْكٰافِرِينَ عَذٰاباً مُهِيناً
وَ بِالْوٰالِدَيْنِ إِحْسٰاناً بمعنى: و أحسنوا بالوالدين إحسانا.
وَ بِذِي اَلْقُرْبىٰ وبكل من بينكم وبينه قرابة.
وَ اَلْجٰارِ ذِي اَلْقُرْبىٰ أي: الذي جواره قريب.
وَ اَلْجٰارِ اَلْجُنُبِ الذي جواره بعيد، وقيل معناهما: الجار القريب النسب والجار الأجنبي(3).
ص: 378
وَ اَلصّٰاحِبِ بِالْجَنْبِ هو الذي يصحب الإنسان بأن يحصل بجنبه، بكونه رفيقه في سفره، أو جارا له ملاصقا، أو شريكا، أو قاعدا إلى جنبه في مجلس، فعليه أن يرعى حقّه.
وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ المسافر المنقطع به، وقيل: هو الضيف(1).
والمختال: التيّاه الجهول الذي يتكبر عن إكرام أقاربه وأصحابه، والفخور:
الذي يفخر بكثرة ماله.
اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بدل من قوله: مَنْ كٰانَ مُخْتٰالاً فَخُوراً ، أو نصب علي الذم، أو رفع علي الذم أيضا، أو يكون مبتدأ خبره محذوف كأنّه قيل: الذين يبخلون ويفعلون كذا ملومون مستحقّون للعقوبة، أي: يبخلون بما عندهم وبما في أيدي غيرهم، فيأمرونهم بأن يبخلوا كما جاء في المثل: (أبخل من الضنين بنائل غيره)(2).
وَ يَكْتُمُونَ مٰا آتٰاهُمُ اَللّٰهُ من فضل الغنى، بالتفاقر إلى الناس، وقيل: هم اليهود كتموا صفة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم(3).
وَ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰالَهُمْ رِئٰاءَ اَلنّٰاسِ وَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ لاٰ بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ مَنْ يَكُنِ اَلشَّيْطٰانُ لَهُ قَرِيناً فَسٰاءَ قَرِيناً وَ مٰا ذٰا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ أَنْفَقُوا مِمّٰا رَزَقَهُمُ اَللّٰهُ وَ كٰانَ اَللّٰهُ بِهِمْ عَلِيماً
رِئٰاءَ اَلنّٰاسِ أي: للمراءاة والفخار وليقال: إنّهم أسخياء، لا لوجه اللّه،
ص: 379
وقيل: هم مشركو قريش أنفقوا أموالهم في عداوة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.
فَسٰاءَ قَرِيناً إذ حملهم علي البخل والرياء وكل شرّ وفساد، ويجوز أن يكون وعيدا لهم بأن يكون الشيطان مقرونا بهم في النار.
وَ مٰا ذٰا عَلَيْهِمْ أي: أيّ شيء عليهم من الوبال والتبعة في الإيمان والإنفاق في سبيل اللّه ؟! وهذا توبيخ لهم وتهجين، وإلا فإنّ المنفعة كل المنفعة في ذلك.
وَ كٰانَ اَللّٰهُ بِهِمْ عَلِيماً وعيد لهم.
إنّ اللّه لا يظلم مثقال ذرّة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لّدنه أجرا عظيما الذرّة: النملة الصغيرة، وقيل: كل جزء من أجزاء الهباء ذرّة. وفي هذا دلالة علي أنّه لو نقص من الأجر أدنى شيء، أو زيد علي المستحقّ من العقاب لكان ظلما.
وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً أي: وإن تك مثقال الذرة حسنة، وإنّما أنّث لكونه مضافا إلى مؤنث. وقرئ: حسنة - با لرفع - على (كان) التامة.
يُضٰاعِفْهٰا أي: يضاعف ثوابها.
وَ يُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً أي: يعط صاحبها من عنده علي سبيل التفضّل عطاء عظيما، وسمّاه أجرا لأنّه تابع للأجر. وقرئ: يضعّفها - بالتشديد -.
فَكَيْفَ إِذٰا جِئْنٰا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنٰا بِكَ عَلىٰ هٰؤُلاٰءِ شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا اَلرَّسُولَ لَوْ تُسَوّٰى بِهِمُ اَلْأَرْضُ وَ لاٰ يَكْتُمُونَ اَللّٰهَ حَدِيثاً
فَكَيْفَ يصنع هؤلاء الكفار إِذٰا جِئْنٰا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ يشهد عليهم بما فعلوا وهو نبيّهم.
ص: 380
وَ جِئْنٰا بِكَ يا محمّد عَلىٰ هٰؤُلاٰءِ يعني: قومه شَهِيداً . والمعنى:
إنّ الله سبحانه يستشهد يوم القيامة كل نبيّ علي أمّته فيشهد لهم وعليهم. وعن ابن مسعود: (إنّه قرأ هذه الآية على النبي صلى الله عليه و آله و سلم ففاضت عيناه)(1). فانظر في هذه الحالة إذا كان الشاهد يبكي لهول هذه المقالة، فماذا ينبغي أن يصنع المشهود عليه من الانتهاء عن كل ما يستحيى منه على رؤوس الأشهاد!.
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا اَلرَّسُولَ لَوْ تُسَوّٰى من التسوية، وقرئ:
(لو تسوّى) بحذف التاء من (تتسوّى)، و (تسوّى) بإدغام التاء في السين، يقال:
سوّيته فتسوّى. والمعنى: يودّون أنّهم لم يبعثوا، وأنّهم كانوا و الأرض سواء، وقيل:
يودّون لو يدفنون فتسوّى بهم الأرض كما تسوّى بالموتى(2).
وَ لاٰ يَكْتُمُونَ اَللّٰهَ حَدِيثاً ولا يقدرون علي كتمانه لأنّ جوارحهم تشهد عليهم.
يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَقْرَبُوا اَلصَّلاٰةَ وَ أَنْتُمْ سُكٰارىٰ حَتّٰى تَعْلَمُوا مٰا تَقُولُونَ وَ لاٰ جُنُباً إِلاّٰ عٰابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضىٰ أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ أَوْ جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغٰائِطِ أَوْ لاٰمَسْتُمُ اَلنِّسٰاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ عَفُوًّا غَفُوراً
أي لا تقوموا إلى الصلاة وأنّتم نشاوى، وقيل: معناه: لا تقربوا مواضع الصلاة وهي المساجد(3)، كقوله عليه السلام: (جنّبوا مساجدكم صبيانكم
ص: 381
ومجانينكم)(1). وقيل: هو سكر النوم وغلبة النعاس خاصة(2)، وروي ذلك عن الباقر عليه السلام(3).
وَ لاٰ جُنُباً عطف علي قوله: وَ أَنْتُمْ سُكٰارىٰ لأنّ محلّ الجملة مع الواو نصب على الحال، كأنّه قيل: لا تقربوا الصلاة سكاري ولا جنبا، لأنّ الجنب اسم جري مجري المصدر الذي هو الإجناب، فاستوى فيه الواحد والجمع والمذكر وا لمؤنث.
إِلاّٰ عٰابِرِي سَبِيلٍ أي: لا تقربوا الصلاة في أحوال الجنابة، إلا إذا كنتم مسافرين فيجوز لكم أن تؤدوها بالتيمم، فإنّ التيمم لا يرفع حكم الجنابة. فيكون قوله: عٰابِرِي سَبِيلٍ منصوبا علي الحال، وعبور السبيل عبارة عن السفر، فكأنّه قيل: لا تقربوا الصلاة غير مغتسلين حتى تغتسلوا إلا في حال كونكم مسافرين.
ومن فسّر الصلاة بالمسجد قال: إنّ معناه لا تقربوا مواضع الصلاة جنبا، إلا مجتازين فيها حتى تغتسلوا من الجنابة.
وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضىٰ أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ أراد سبحانه أن يرخّص للذين تجب عليهم الطهارة في التيمم عند عدم الماء، فخصّ أوّلا من بينهم مرضاهم ومسافريهم، لكثرة المرض والسفر وغلبتهما علي سائر الأسباب الموجبة للرخصة، ثم عمّ كل من وجب عليه الطهارة وأعوزه الماء، لخوف عدو أو سبع أو عدم ما يتوصل به إلى الماء، أو غير ذلك مما لا يكثر كثرة المرض والسفر؛ فلذلك نظم في سلك واحد بين المريض والمسافر، وبين المحدث والجنب، وإن كان المرض والسفر سببين من
ص: 382
أسباب الرخصة، والحدث سببا لوجوب الوضوء، والجنابة سببا لوجوب الغسل.
ومن قرأ: (أو لمستم) فإنّ اللمس والملامسة بمعنى الجماع، قال ابن عباس: (سمّى اللّه الجماع لمسا كما يسمّى المطر سماء)(1).
و اَلْغٰائِطِ أصله المطمئن من الأرض، وكانوا يتبرّزون هناك ثم كثر ذلك حتى كنّوا بالغائط عن الحدث.
والتيمم: أصله القصد، وقد تخصص في الشرع بقصد الصعيد لمسح أعضاء مخصوصة، وقال الزجّاج(2): (الصعيد: وجه الأرض ترابا كان أو صخرا لا تراب عليه)(3). لو ضرب المتيمم يده عليه ومسح لكان ذلك طهوره. وهو مذهب أبي حنيفة(4)، وهو المروي عن أئمّة الهدى عليهم السلام(5).
فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ و هو ضربة واحدة للوجه واليدين إذا كان بدلا من الوضوء، وضربتان: إحداهما للوجه والأخري لليدين إذا كان بدلا من الغسل. ومسح الوجه من قصاص الشعر إلى طرف الأنف، ومسح اليدين من الزندين إلي رؤوس الأصابع.
أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتٰابِ يَشْتَرُونَ اَلضَّلاٰلَةَ وَ يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا اَلسَّبِيلَ وَ اَللّٰهُ أَعْلَمُ بِأَعْدٰائِكُمْ وَ كَفىٰ بِاللّٰهِ وَلِيًّا وَ كَفىٰ بِاللّٰهِ
ص: 383
نَصِيراً مِنَ اَلَّذِينَ هٰادُوا يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَنْ مَوٰاضِعِهِ وَ يَقُولُونَ سَمِعْنٰا وَ عَصَيْنٰا وَ اِسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَ رٰاعِنٰا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي اَلدِّينِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ قٰالُوا سَمِعْنٰا وَ أَطَعْنٰا وَ اِسْمَعْ وَ اُنْظُرْنٰا لَكٰانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَقْوَمَ وَ لٰكِنْ لَعَنَهُمُ اَللّٰهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاٰ يُؤْمِنُونَ إِلاّٰ قَلِيلاً
أَ لَمْ تَرَ من رؤية القلب، وعدّي ب - إِلَى لأنّه بمعنى: ألم تنظر إليهم، أو ألم ينته علمك إليهم.
أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتٰابِ أعطوا حظا من علم التوراة، وهم أحبار اليهود.
يَشْتَرُونَ اَلضَّلاٰلَةَ يستبدلونها بالهدى، وهي البقاء علي اليهودية بعد وضوح المعجزات الدالة علي صدق محمّد صلى الله عليه و آله و سلم والآيات الموضحة عن صحة نبوته، وأنّه النبي العربي المبشر به في التوراة والإنجيل.
وَ يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا [أنتم أيّها المؤمنون سبيل الحقّ كما ضلوه، فكأنّهم إذا ضلوا](1) أحبّوا أن يضل غيرهم معهم.
وَ اَللّٰهُ أَعْلَمُ منكم بِأَعْدٰائِكُمْ وقد أخبركم بعداوة هؤلاء لكم، فاحذروهم ولا تستشيروهم في أموركم.
وَ كَفىٰ بِاللّٰهِ وَلِيًّا فثقوا بولايته ونصرته ولا تبالوا بهم.
مِنَ اَلَّذِينَ هٰادُوا بيان ل - اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتٰابِ لأنّهم يهود ونصارى، وتوسطت بين البيان والمبيّن جمل اعتراضية وهي قوله: وَ اَللّٰهُ أَعْلَمُ بِأَعْدٰائِكُمْ وَ كَفىٰ بِاللّٰهِ وَلِيًّا وَ كَفىٰ بِاللّٰهِ نَصِيراً . ويجوز أن يكون بيانا ل - (أعدائكم) أو
ص: 384
صلة ل - نَصِيراً أي: ينصركم من الذين هادوا كقوله: وَ نَصَرْنٰاهُ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا (1).
ويجوز أن يكون كلاما مبتدأ على تقدير: من الذين هادوا قوم يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَنْ مَوٰاضِعِهِ يعني: يميلونه عنها، لأنّهم إذا بدّلوه ووضعوا مكانه غيره فقد أمالوه عن موضعه الذي وضعه اللّه فيه وأزالوه عنه، كما حرّفوا (أسمر ربعة) عن موضعه في التوراة ووضعوا مكانه (آدم طوال).
وقولهم: وَ اِسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ معناه: اسمع منا مدعوّا عليك ب - (لا سمعت)، أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه، فيكون غَيْرَ مُسْمَعٍ حالا من المخاطب.
وَ رٰاعِنٰا مرّ معناه(2).
لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ فتلا بها وتحريفا، أي: يفتلون بألسنتهم الحقّ إلى الباطل حيث يضعون رٰاعِنٰا موضع اُنْظُرْنٰا ، و غَيْرَ مُسْمَعٍ موضع لا أسمعت مكروها. أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقا.
وَ لَوْ أَنَّهُمْ قٰالُوا سَمِعْنٰا قولك وَ أَطَعْنٰا أمرك و اسمع منا وَ اُنْظُرْنٰا لَكٰانَ خَيْراً لَهُمْ الضمير في كٰانَ يرجع إلى أَنَّهُمْ قٰالُوا ، لأنّ المعنى: ولو ثبت قولهم: سَمِعْنٰا وَ أَطَعْنٰا لكأنّ قولهم ذلك خَيْراً لَهُمْ وَ أَقْوَمَ أي: أعدل وأسدّ.
وَ لٰكِنْ لَعَنَهُمُ اَللّٰهُ أي: أبعدهم عن رحمته.
ص: 385
بِكُفْرِهِمْ أي: بسبب كفرهم.
فَلاٰ يُؤْمِنُونَ إِلاّٰ إيمانا قَلِيلاً ضعيفا لا إخلاص فيه، أو إلا قليلا منهم قد آمنوا.
يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتٰابَ آمِنُوا بِمٰا نَزَّلْنٰا مُصَدِّقاً لِمٰا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهٰا عَلىٰ أَدْبٰارِهٰا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمٰا لَعَنّٰا أَصْحٰابَ اَلسَّبْتِ وَ كٰانَ أَمْرُ اَللّٰهِ مَفْعُولاً
أي: صدّقوا بما نزلناه من القران والأحكام علي محمّد صلى الله عليه و آله و سلم مُصَدِّقاً لِمٰا مَعَكُمْ من التوراة.
مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً أي: نمحو آثارها وتخطيط صورها من عين وحاجب وأنف.
فَنَرُدَّهٰا عَلىٰ أَدْبٰارِهٰا فنجعلها علي هيئة أدبارها وهي الأقفاء مطموسة مثلها، أو يريد ننكس وجوها إلي خلف وأقفاءها إلى قدام، أو يريد بالطمس:
التغيير وبالوجوه الوجهاء والرؤساء، أي: من قبل أن نغيّر أحوال وجهائهم، فنسلبهم وجاهتهم وإقبالهم ونكسوهم صغارهم وإدبارهم.
أَوْ نَلْعَنَهُمْ الضمير يرجع إلى أصحاب الوجوه أو الوجهاء، أي: نخزيهم بالمسخ كَمٰا مسخنا أَصْحٰابَ اَلسَّبْتِ .
وهذا الوعيد لليهود كان مشروطا بالإيمان، فلما آمن جماعة منهم كعبد اللّه بن سلام وثعلبة بن سعفة(1) ومخيريق(2) وغيرهم، رفع العذاب عن غيرهم، وقيل:
ص: 386
هو منتظر ولابد من طمس ومسخ لليهود قبل يوم القيامة(1).
وَ كٰانَ أَمْرُ اَللّٰهِ مَفْعُولاً فلابد أن يقع أحد الأمرين إن لم يؤمنوا.
إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مٰا دُونَ ذٰلِكَ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّٰهِ فَقَدِ اِفْتَرىٰ إِثْماً عَظِيماً
هذه الآية أرجى آية في القرآن، لأنّ فيها إدخال جميع الذنوب التي هي دون الشرك الداخلة تحت عموم قوله: مٰا دُونَ ذٰلِكَ في مشيئة الغفران، ألا تري أنّه سبحانه نفى غفران الشرك أوّلا، وقد حصل الإجماع علي أنّه سبحانه يغفره بالتوبة، ثم أثبت غفران ما دون الشرك من المعاصي، فينبغي أن يكون المراد غفران من لم يتب منها ليخالف المنفي المثبت. ثم علّق المشيئة بالمغفور لهم فقال: لِمَنْ يَشٰاءُ أي: يغفر الذنوب التي هي دون الشرك لمن يشاء أن يغفر له من المذنبين، ليكون العبد واقفا بين الخوف والرجاء خارجا عن الإغراء، إذ الإغراء إنّما يحصل بالقطع علي الغفران دون الرجاء للغفران المعلّق بالمشيئة.
وقال جار اللّه: إنّ المنفي والمثبت في الآية موجهان إلى قوله: لِمَنْ يَشٰاءُ والمراد بالأوّل: من لم يتب، وبالثاني: من تاب(2).
وهذا الذي قاله غاية في الفساد والبطلان، لأنه يكون معنى الآية إذ ذاك: أنّه سبحانه لا يغفر الشرك لمن يشاء وهو غير التائب ويغفر لمن تاب منه، ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء وهو التائب ولا يغفر لمن لم يتب منه، فيصير المنفي والمثبت - كما تري - سواء في الحكم والمعنى ؟!. حاشا كلام اللّه الذي بهر العقول بفصاحته -- أوصى إلي النبي صلى الله عليه و آله و سلم بجميع أمواله. ينظر: الإصابة ج 3:393.
ص: 387
عن مثل هذه النقيصة التي يربأ بكلام كل عاقل عنها.
علي أنّ التوبة إذا حصلت أوجبت عنده إسقاط العقاب فكيف تعلّق بها المشيئة ؟! وهل يستجيز عاقل أنّ يقول: أنا أقضي الدين إن شئت أو لمن شئت ؟.
جلّ ربّنا عن مثله وتقدّس، اللهم لك الحمد علي تأييدك وتسديدك.
وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّٰهِ فَقَدِ اِفْتَرىٰ أي: ارتكب إِثْماً عَظِيماً وهو مفتر في زعمه أنّ العبادة يستحقّها غير اللّه سبحانه.
أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اَللّٰهُ يُزَكِّي مَنْ يَشٰاءُ وَ لاٰ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً اُنْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّٰهِ اَلْكَذِبَ وَ كَفىٰ بِهِ إِثْماً مُبِيناً
اَلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ هم اليهود والنصاري قالوا: نَحْنُ أَبْنٰاءُ اَللّٰهِ وَ أَحِبّٰاؤُهُ (1)، وَ قٰالُوا لَنْ يَدْخُلَ اَلْجَنَّةَ إِلاّٰ مَنْ كٰانَ هُوداً أَوْ نَصٰارىٰ (2). ويدخل في الآية كل من زكّى نفسه ووصفها بزيادة الطاعة والزلفى عند اللّه.
بَلِ اَللّٰهُ يُزَكِّي مَنْ يَشٰاءُ إيذان بأنّ تزكية اللّه هي التي يعتدّ بها دون تزكية المرء نفسه، لأنه سبحانه العالم بمن هو أهل التزكية.
وَ لاٰ يُظْلَمُونَ الضمير يرجع إلى اَلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ أي: لا يظلمون في تعذيبهم علي تزكيتهم أنفسهم مقدار فتيل، وهو ما يكون في شق النواة؛ أو يرجع إلى مَنْ يَشٰاءُ أي: يثابون ولا ينقص من ثوابهم.
اُنْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّٰهِ اَلْكَذِبَ في زعمهم أنّهم أزكياء عند اللّه.
وَ كَفىٰ بزعمهم هذا إِثْماً مُبِيناً أي: بيّنا ظاهرا من بين سائر آثامهم.
ص: 388
أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتٰابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ اَلطّٰاغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هٰؤُلاٰءِ أَهْدىٰ مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ لَعَنَهُمُ اَللّٰهُ وَ مَنْ يَلْعَنِ اَللّٰهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً
الجبت: كل ما عبد من دون الله، والطاغوت: الشيطان.
روي: أنّ حييّ بن أخطب وكعب بن الأشرف خرجا مع جماعة من اليهود إلى مكة يحالفون قريشا علي محاربة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فقالت قريش لهم: أنتم أقرب إلى محمّد منكم إلينا فلا نأمن مكركم، فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم، ففعلوا، فهذا إيمانهم.
بِالْجِبْتِ وَ اَلطّٰاغُوتِ لأنّهم سجدوا للأصنام وأطاعوا الشيطان فيما فعلوا. وقال أبو سفيان: أنحن أهدى سبيلا أم محمّد؟ فقال كعب: ماذا يقول محمّد؟ قالوا: يأمر بعبادة اللّه وحده وينهى عن الشرك، قال: وما دينكم ؟ قالوا:
نحن ولاة البيت، نسقي الحاج، ونقري الضيف، ونفك العاني، وذكروا أفعالهم، فقال: أنتم أهدى سبيلا(1).
أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ لَعَنَهُمُ اَللّٰهُ أبعدهم اللّه من رحمته وخذلهم.
وَ مَنْ يلعنه اَللّٰهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً في الدنيا والآخرة.
أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتٰابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ اَلطّٰاغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هٰؤُلاٰءِ أَهْدىٰ مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (5(1) أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ لَعَنَهُمُ اَللّٰهُ وَ مَنْ يَلْعَنِ اَللّٰهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً
ص: 389
آمَنَ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَ كَفىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيراً
وصف سبحانه اليهود بالبخل والحسد وهما شر الخصال، لأنّ البخيل يمنع ما أوتي من النعمة، والحاسد يتمنى أنّ تكون له نعمة غيره وزوالها عنه.
و أَمْ هذه منقطعة، والهمزة لإنكار أن يكون لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ اَلْمُلْكِ أي:
ولو كان لهم نصيب من الملك فَإِذاً لاٰ يُؤْتُونَ أحدا مقدار نقير، وهو البقرة في ظهر النواة، والملك: إما ملك أهل الدنيا وإما ملك اللّه كما في قوله: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزٰائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ اَلْإِنْفٰاقِ (1).
أَمْ يَحْسُدُونَ بل أيحسدون اَلنّٰاسَ يعني: رسول اللّه والمؤمنين عَلىٰ مٰا آتٰاهُمُ اَللّٰهُ مِنْ النبوة والنصرة وزيادة العزّ كل يوم فَقَدْ آتَيْنٰا آلَ إِبْرٰاهِيمَ [هذا إلزام لهم بما عرفوه من أنّ اللّه تعالي آتى آل إبراهيم](2) الذين هم أسلاف محمّد اَلْكِتٰابَ وهو التوراة و الأنّجيل وَ اَلْحِكْمَةَ وهي ما أعطوا من العلم.
وَ آتَيْنٰاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً وهو ملك يوسف وداود وسليمان عليهم السلام.
فَمِنْهُمْ أي: من اليهود مَنْ آمَنَ بما ذكر من حديث آل إبراهيم وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ أنكره مع علمه بصحته، أو يكون المعنى: فمن اليهود من آمن برسول اللّه، ومنهم من أنكر نبوته، أو فمن آل إبراهيم من آمن بإبراهيم ومنهم من كفر كقوله تعالى: فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فٰاسِقُونَ (3).
ص: 390
إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآيٰاتِنٰا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نٰاراً كُلَّمٰا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنٰاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهٰا لِيَذُوقُوا اَلْعَذٰابَ إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ عَزِيزاً حَكِيماً وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا أَبَداً لَهُمْ فِيهٰا أَزْوٰاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً
سَوْفَ نُصْلِيهِمْ أي: نلزمهم نٰاراً ونلقيهم فيها ونحرقهم بها.
بَدَّلْنٰاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهٰا أبدلناهم إيّاها.
لِيَذُوقُوا اَلْعَذٰابَ أي: ليجدوا ألم العذاب.
إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ عَزِيزاً لا يمتنع عليه إنجاز ما وعده أو توعّد به حَكِيماً لا يعذب إلا من يستحقّه.
لَهُمْ فِيهٰا أَزْوٰاجٌ مُطَهَّرَةٌ من الحيض والنفاس ومن جميع الدنايا والأدناس.
وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً أي: دائما لا تنسخه الشمس. وهو وصف اشتق من لفظ الظل كما يقال: يوم أيوم، وليل أليل، وداهية دهياء.
إِنَّ اَللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَمٰانٰاتِ إِلىٰ أَهْلِهٰا وَ إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ اَلنّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اَللّٰهَ نِعِمّٰا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ سَمِيعاً بَصِيراً يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنٰازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّٰهِ وَ اَلرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً
قيل: إنّ الخطاب عام لكل أحد في كل أمانة من أمانات اللّه التي هي أوامره
ص: 391
ونواهيه، وأمانات عباده فيما يأتمن بعضهم بعضا فيه(1)، وقيل: الخطاب لولاة الأمر(2) أمرهم اللّه بأداء الأمانات والحكم بالعدل. ثم أمر الرعية في الآية الأخرى بأن يسمعوا لهم ويطيعوا، ثم أكّد ذلك بقوله: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ .
وروي عنهم عليهم السلام: (أنّه أمر لكل واحد من الأئمّة أن يسلّم الأمر إلى ولي الأمر بعده)، وقالوا: (إ نّ الآية الأولى لنا والآية الأخري لكم)(3).
وقوله: نِعِمّٰا أي: نعم شيئا يَعِظُكُمْ بِهِ فتكون (ما) نكرة منصوبة موصوفة ب - يَعِظُكُمْ بِهِ ، أو نعم الشيء الذي يعظكم به فتكون (ما) مرفوعة موصولة والمخصوص بالمدح محذوف، أي: نعمّا يعظكم به ذاك وهو المأمور به من أداء الأمانات والحكم بالعدل.
وأولو الأمر: هم أمراء الحقّ وأئمّة الهدي الذين يهدون الخلق ويقضون بالحقّ ، لأنه لا يعطف علي اللّه ورسوله في وجوب الطاعة، ولا يقرن بهما في ذلك إلا من هو معصوم مأمون منه القبيح أفضل ممن أمر بطاعته وأعلم، ولا يأمرنا اللّه عزّ اسمه بالطاعة لمن يعصيه، ولا بالانقياد لوال علة حاجتنا إليه موجودة فيه.
فَإِنْ تَنٰازَعْتُمْ أي: فإن اختلفتم فِي شَيْ ءٍ من أمور دينكم فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّٰهِ وَ اَلرَّسُولِ أي: ارجعوا فيه إلى الرسول صلى الله عليه و آله و سلم في حياته، و إلى من أمر بالرجوع إليه بعد وفاته في قوله: (إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلوا: كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض)(4)، فقد صرّح عليه السلام
ص: 392
أنّ في التمسّك بهما الأمان من الضلال، فالردّ إلى أهل بيته العترة الملازمة كتاب اللّه الغير المخالفة له بعد وفاته مثل الردّ إليه في حياته، لأنّهم الحافظون لشريعته القائمون مقامه في أمّته، فثبت أنّ أُولِي اَلْأَمْرِ هم الأئمّة عليهم السلام من آل محمّد.
ذٰلِكَ إشارة إلى الرد إلي اللّه والرسول خَيْرٌ لكم.
وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً أي: وأحمد عاقبة.
أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مٰا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحٰاكَمُوا إِلَى اَلطّٰاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَ يُرِيدُ اَلشَّيْطٰانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاٰلاً بَعِيداً وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمْ تَعٰالَوْا إِلىٰ مٰا أَنْزَلَ اَللّٰهُ وَ إِلَى اَلرَّسُولِ رَأَيْتَ اَلْمُنٰافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً
كان بين رجل من المنافقين وبين رجل من اليهود خصومة، فقال اليهودي:
أحاكم إلى محمّد لأنّه علم أنّه لا يقبل الرشوة، وقال المنافق: بل بيني وبينك كعب ابن الأشرف فنزلت(1).
سمّى اللّه كعب بن الأشرف طاغوتا، لإفراطه في الطغيان وفي عداوة رسول اللّه، أو علي التشبيه بالشيطان والتسمية باسمه، أو جعل سبحانه اختيار التحاكم إليه علي التحاكم إلى رسول اللّه تحاكما إلى الشيطان بدليل قوله: وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَ يُرِيدُ اَلشَّيْطٰانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاٰلاً بَعِيداً .
فَكَيْفَ إِذٰا أَصٰابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمٰا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جٰاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللّٰهِ إِنْ أَرَدْنٰا إِلاّٰ إِحْسٰاناً وَ تَوْفِيقاً
ص: 393
أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ يَعْلَمُ اَللّٰهُ مٰا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ عِظْهُمْ وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً
فَكَيْفَ يكون حالهم إِذٰا أَصٰابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ أي: نالتهم من اللّه تعالى عقوبة بِمٰا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من التحاكم إلى غيرك وإظهار السخط لحكمك.
ثُمَّ جٰاؤُكَ فيعتذرون إليك و يَحْلِفُونَ ما أَرَدْنٰا بالتحاكم إلى غيرك إِلاّٰ إِحْسٰاناً و هو التخفيف عنك وَ تَوْفِيقاً بين الخصمين با لتوسط، ولم نرد المخالفة لك والتسخط لحكمك.
أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ يَعْلَمُ اَللّٰهُ مٰا فِي قُلُوبِهِمْ من الشرك والنفاق.
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي: لا تعاقبهم لمصلحة في استبقائهم.
وَ عِظْهُمْ بلسانك وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً يبلغ من نفوسهم كل مبلغ، أي: خوّفهم بالقتل والاستئصال إن نجم منهم النفاق،. ويجوز أن يكون المعنى: وقل لهم في أنفسهم خاليا بهم ليس معهم غيرهم قولا بليغا يبلغ منهم ويؤثر فيهم فإنّ النصيحة في السر أنجع [أي أنفع](1).
وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ رَسُولٍ إِلاّٰ لِيُطٰاعَ بِإِذْنِ اَللّٰهِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جٰاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اَللّٰهَ وَ اِسْتَغْفَرَ لَهُمُ اَلرَّسُولُ لَوَجَدُوا اَللّٰهَ تَوّٰاباً رَحِيماً فَلاٰ وَ رَبِّكَ لاٰ يُؤْمِنُونَ حَتّٰى يُحَكِّمُوكَ فِيمٰا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاٰ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّٰا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً
ص: 394
أي: ولم نرسل رسولا من رسلنا قط إِلاّٰ لِيُطٰاعَ بِإِذْنِ اَللّٰهِ أي:
بسبب إذن اللّه في طاعته، وبأنّه أمر المبعوث إليهم بأن يطيعوه ويتبعوه لأنه مؤد عن اللّه، فطاعته طاعة اللّه ومعصيته معصية اللّه.
وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالتحاكم إلى الطاغوت جٰاؤُكَ تائبين مما ارتكبوه فَاسْتَغْفَرُوا اَللّٰهَ من ذلك بالإخلاص وَ اِسْتَغْفَرَ لَهُمُ اَلرَّسُولُ ولم يقل: واستغفرت لهم، لكنه عدل عنه إلى طريقة الالتفات تفخيما لشأن رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وتعظيما لاستغفاره، وتنبيها علي أنّ شفاعة من اسمه الرسول من اللّه بمكان لَوَجَدُوا اَللّٰهَ تَوّٰاباً [لعلموه توّابا](1)، أي: لتاب عليهم.
فَلاٰ وَ رَبِّكَ معناه: فوربّك، و لا مزيدة لتأكيد معنى القسم كما زيدت في لِئَلاّٰ يَعْلَمَ (2) لتأكيد وجوب العلم، و لاٰ يُؤْمِنُونَ جواب القسم.
حَتّٰى يُحَكِّمُوكَ فِيمٰا شَجَرَ بَيْنَهُمْ فيما اختلف بينهم، ومنه الشجر لتداخل أجزائه.
ثُمَّ لاٰ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً أي: ضيقا، أي: لا يضيق صدورهم من حكمك، وقيل: شكا(3)، لأنّ الشاك في ضيق من أمره.
وَ يُسَلِّمُوا أي: وينقادوا أو يذعنوا لقضائك من قولك: سلّم لأمر اللّه وأسلم له.
تَسْلِيماً تأكيد للفعل بمنزلة تكريره.
ص: 395
قيل: نزلت في شأن الزبير وحاطب بن أبي بلتعة(1)، فإنّهما اختصما إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم في شراح من الحرة كانا يسقيان بها النخل، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و سلم: (اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلي جارك)، فغضب حاطب وقال: لئن كان ابن عمتك. فتغيّر وجه رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم ثم قال: (اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر واستوف حقّك ثم أرسله إلى جارك)(2). كان قد أشار علي الزبير برأي فيه السعة له ولخصمه، [فلما أحفظ رسول اللّه صلى الله عليه و سلم استوعب للزبير حقّه في صريح الحكم](3).
وَ لَوْ أَنّٰا كَتَبْنٰا عَلَيْهِمْ أَنِ اُقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اُخْرُجُوا مِنْ دِيٰارِكُمْ مٰا فَعَلُوهُ إِلاّٰ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مٰا يُوعَظُونَ بِهِ لَكٰانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً وَ إِذاً لَآتَيْنٰاهُمْ مِنْ لَدُنّٰا أَجْراً عَظِيماً وَ لَهَدَيْنٰاهُمْ صِرٰاطاً مُسْتَقِيماً
أي: و لو أوجبنا عَلَيْهِمْ مثل ما أوجبنا على بني إسرائيل من قتلهم أنفسهم، أَوِ خروجهم من ديارهم مٰا فَعَلُوهُ إِلاّٰ أناس قَلِيلٌ مِنْهُمْ ، وهذا توبيخ بليغ. والرفع علي البدل من الواو في فَعَلُوا ، وقرئ: إلا قليلا بالنصب علي أصل الاستثناء، أو علي: إلا فعلا قليلا.
وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مٰا يُوعَظُونَ بِهِ من اتباع رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم والانقياد له والرضا بحكمه لَكٰانَ خَيْراً لَهُمْ عاجلا وآجلا وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً لإيمانهم.
وَ إِذاً جواب لسؤال مقدّر، كأنّه قيل: وماذا يكون لهم أيضا بعد التثبيت ؟
ص: 396
فقيل: وإذا لو ثبتوا لَآتَيْنٰاهُمْ مِنْ لَدُنّٰا أَجْراً عَظِيماً ، لأن إِذاً جواب وجزاء.
وَ لَهَدَيْنٰاهُمْ أي: وفّقناهم لازدياد الخيرات.
وَ مَنْ يُطِعِ اَللّٰهَ وَ اَلرَّسُولَ فَأُولٰئِكَ مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللّٰهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ وَ اَلصِّدِّيقِينَ وَ اَلشُّهَدٰاءِ وَ اَلصّٰالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولٰئِكَ رَفِيقاً ذٰلِكَ اَلْفَضْلُ مِنَ اَللّٰهِ وَ كَفىٰ بِاللّٰهِ عَلِيماً
رغّب اللّه المؤمنين في طاعة اللّه ورسوله حيث وعدهم مرافقة اَلنَّبِيِّينَ في أعلى عليين وَ اَلصِّدِّيقِينَ الذين صدقوا في أقوالهم وأفعالهم وَ اَلشُّهَدٰاءِ المقتولين في الجهاد وَ اَلصّٰالِحِينَ الذين صلحت حالهم واستقامت طريقتهم وَ حَسُنَ أُولٰئِكَ رَفِيقاً فيه معنى التعجب، كأنّه قيل: وما أحسن أولئك رفيقا!. والرفيق كالصديق والخليط في استواء الواحد والجمع فيه. ويجوز أن يكون مفردا بيّن به الجنس في باب التمييز.
ذٰلِكَ مبتدأ، و اَلْفَضْلُ صفته، و مِنَ اَللّٰهِ الخبر. ويجوز أن يكون اَلْفَضْلُ مِنَ اَللّٰهِ خبر المبتدأ. والمعنى: إن ما أعطي المطيعون من الأجر العظيم، ومرافقة أقرب عباد اللّه إلي اللّه؛ تفضّل عليهم من اللّه تبعا لثوابهم.
يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبٰاتٍ أَوِ اِنْفِرُوا جَمِيعاً وَ إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصٰابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قٰالَ قَدْ أَنْعَمَ اَللّٰهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً وَ لَئِنْ أَصٰابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اَللّٰهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يٰا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً
الحذر والحذر بمعنى، يقال: أخذ حذره: إذا تيقّظ وتحفّظ من المخوف، كأنّه جعل الحذر آلته التي يحفظ بها نفسه. أي: احذروا واحترزوا من العدو، وعن
ص: 397
الباقر عليه السلام: (خذوا أسلحتكم)(1) فسمّى الأسلحة حذرا لأنّ بها يتقى المحذور.
فَانْفِرُوا إلى قتال عدوكم، أي: اخرجوا إلى الجهاد إما ثُبٰاتٍ أي:
جماعات متفرقة، وإما جَمِيعاً مجتمعين كوكبة واحدة ولا تتخاذلوا.
واللام في لَمَنْ للابتداء، وفي لَيُبَطِّئَنَّ جواب قسم محذوف تقديره:
وإن منكم لمن أقسم باللّه ليبطئن، والقسم وجوابه صلة مِنَ .
والخطاب لعسكر النبي صلى الله عليه و آله و سلم، والمبطئون هم المنافقون، ومعنى لَيُبَطِّئَنَّ :
ليتثاقلنّ وليتخلفنّ عن الجهاد، وبطأ بمعنى أبطأ، ويقال: ما بطأ بك أي: أخّرك عنا، والتبطئة: التأخر عن الأمر فيعدّي بالباء، ويجوز أن يكون منقولا من بطؤ فيكون المعنى: ليبطئنّ غيره وليثبطنّه عن الغزو.
فَإِنْ أَصٰابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ من قتل أو هزيمة قٰالَ قول الشامت: قَدْ أَنْعَمَ اَللّٰهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً أي: حاضرا في القتال فكان يصيبني ما أصابهم.
وإن أَصٰابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اَللّٰهِ من فتح أو غنيمة لَيَقُولَنَّ يا ليتني.
وقوله: كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُ مَوَدَّةٌ اعتراض بين الفعل الذي هو لَيَقُولَنَّ وبين مفعوله الذي هو يٰا لَيْتَنِي يعني: كأن لم يتقدّم له معكم مودة.
فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً أي: أصيب غنيمة وآخذ حظا وافرا منها.
فَلْيُقٰاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ اَلَّذِينَ يَشْرُونَ اَلْحَيٰاةَ اَلدُّنْيٰا بِالْآخِرَةِ وَ مَنْ يُقٰاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً وَ مٰا لَكُمْ لاٰ تُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلرِّجٰالِ وَ اَلنِّسٰاءِ وَ اَلْوِلْدٰانِ اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنٰا
ص: 398
أَخْرِجْنٰا مِنْ هٰذِهِ اَلْقَرْيَةِ اَلظّٰالِمِ أَهْلُهٰا وَ اِجْعَلْ لَنٰا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَ اِجْعَلْ لَنٰا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً
يَشْرُونَ أي: يبيعون الحياة الفانية بالحياة الباقية ويستبدلونها بها، ثم وعد المقاتل فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ ظافرا أو مظفورا به إيتاء الأجر العظيم.
وَ مٰا لَكُمْ لاٰ تُقٰاتِلُونَ أي: أيّ عذر لكم في ترك القتال مع اجتماع الأسباب الموجبة للقتال.
فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ في طاعته وإعزاز دينه وإعلاء كلمته.
وَ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ فيه وجهان: أحدهما: أن يكون مجرورا عطفا علي سَبِيلِ اَللّٰهِ [أي: في سبيل اللّه وفي](1) خلاص المستضعفين، أو منصوبا علي الاختصاص بمعنى: وأختص من سبيل اللّه خلاص المستضعفين، لأنّ سبيل اللّه عام في كل خير، وخلاص المستضعفين من المؤمنين من أيدي الكفار من أعظم الخيرات وأخص القربات.
والمستضعفون هم الذين أسلموا بمكة وصدّهم المشركون عن الهجرة، فبقوا بين أظهرهم يلقون منهم الأذى، فكانوا يدعون اللّه بالخلاص ويستنصرونه، فيسّر الله لبعضهم الخروج إلى المدينة، وبقي بعضهم إلى الفتح حتى جعل اللّه لهم من لدنه خير وليّ وخير ناصر وهو محمّد صلى الله عليه و آله و سلم، فتولاهم أحسن التولي ونصرهم أعزّ النصر، وكانوا قد أشركوا صبيانهم في دعائهم استنزالا لرحمة اللّه بدعاء صغارهم الذين لم يذنبوا، كما وردت السنّة بإخراجهم في الاستسقاء(2)، وعن ابن عباس:
ص: 399
(كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان)(1).
وذكّر الظالم وإن كان وصفا للقرية لأنّه مسند إلى أهلها، فأعطي إعراب القرية لأنّه صفتها، وذكّر لإسناده إلى الأهل.
اَلَّذِينَ آمَنُوا يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَلطّٰاغُوتِ فَقٰاتِلُوا أَوْلِيٰاءَ اَلشَّيْطٰانِ إِنَّ كَيْدَ اَلشَّيْطٰانِ كٰانَ ضَعِيفاً
هذا ترغيب للمؤمنين وإخبار بأنّهم أولياء اللّه واللّه ناصرهم، وأعداؤهم يقاتلون في سبيل الشيطان، فلا ولي لهم إلا الشيطان، و إِنَّ كَيْدَ اَلشَّيْطٰانِ للمؤمنين ضعيف وأوهن في جنب كيد اللّه للكافرين.
ودخل كٰانَ هنا ليدلّ علي أنّ الضعف لازم لكيد الشيطان في جميع الأحوال و الأوقات.
أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ وَ آتُوا اَلزَّكٰاةَ فَلَمّٰا كُتِبَ عَلَيْهِمُ اَلْقِتٰالُ إِذٰا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ اَلنّٰاسَ كَخَشْيَةِ اَللّٰهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَ قٰالُوا رَبَّنٰا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا اَلْقِتٰالَ لَوْ لاٰ أَخَّرْتَنٰا إِلىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتٰاعُ اَلدُّنْيٰا قَلِيلٌ وَ اَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اِتَّقىٰ وَ لاٰ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً
كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ أي: كفّوها عن القتال، وكان المسلمون بمكة مكفوفين عن قتال الكفار، وكانوا يتمنّون أن يؤذن لهم فيه.
فَلَمّٰا كُتِبَ عَلَيْهِمُ اَلْقِتٰالُ بالمدينة كره فريق منهم ذلك خوفا من القتل و الإخطار بالروح.
كَخَشْيَةِ اَللّٰهِ إضافة للمصدر إلى المفعول، ومحلّ الكاف النصب علي
ص: 400
الحال من الضمير في يَخْشَوْنَ أي: يخشون الناس مثل أهل خشية اللّه، بمعنى مشبّهين لأهل خشية اللّه أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً [من أهل خشية اللّه، وليس التقدير:
يخشون خشية مثل خشية اللّه، لأنّ أَشَدَّ خَشْيَةً ](1) معطوف عليه، ولا تقول:
خشي فلان أشدّ خشية، فتنصب (خشية) وأنت تريد المصدر، وإنّما تقول: أشدّ خشية بالجر، وإذا نصبتها كان (أشدّ) حالا من الفاعل.
لَوْ لاٰ أَخَّرْتَنٰا إِلىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ استمهال إلي وقت آخر، فأعلمهم سبحانه أنّ ما يستمتع به من منافع اَلدُّنْيٰا قَلِيلٌ .
وَ لاٰ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً أي: لا تبخسون أدنى شيء من أجوركم علي مشاق المقاتلة فلا ترغبوا عنها.
أَيْنَمٰا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ اَلْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هٰذِهِ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هٰذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ فَمٰا لِهٰؤُلاٰءِ اَلْقَوْمِ لاٰ يَكٰادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً مٰا أَصٰابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اَللّٰهِ وَ مٰا أَصٰابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَ أَرْسَلْنٰاكَ لِلنّٰاسِ رَسُولاً وَ كَفىٰ بِاللّٰهِ شَهِيداً
أَيْنَمٰا تَكُونُوا من الأماكن يلحقكم اَلْمَوْتُ وإن كُنْتُمْ فِي قصور مُشَيَّدَةٍ مجصصة أو مطولة في ارتفاع، وقيل: في بروج السماء(2).
والحسنة تقع علي النعمة والطاعة، والسيئة تقع علي البلية والمعصية، قال اللّه تعالي: وَ بَلَوْنٰاهُمْ بِالْحَسَنٰاتِ وَ اَلسَّيِّئٰاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (3). المعنى: وإن تصبهم
ص: 401
نعمة من خصب ورخاء نسبوها إلى اللّه، وإن تصبهم بلية من جدب وقحط نسبوها إليك، وقالوا: هي مِنْ عِنْدِكَ وبشؤمك كما حكي عن قوم موسى: وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسىٰ وَ مَنْ مَعَهُ (1)، وعن قوم صالح: قٰالُوا اِطَّيَّرْنٰا بِكَ وَ بِمَنْ مَعَكَ (2).
وإنّما قاله اليهود والمنافقون فردّ اللّه عليهم قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ يبسط الأرزاق ويقبضها يبتلي بذلك عباده.
فَمٰا لِهٰؤُلاٰءِ اَلْقَوْمِ لاٰ يَكٰادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً فيعلموا أنّ اللّه هو الباسط والقابض، وأفعاله كلها صادرة عن حكمة وصواب.
ثم قال: ما أصابك يا إنسان خطابا عاما مِنْ حَسَنَةٍ من نعمة و إحسان فَمِنَ اَللّٰهِ تفضّلا منه وامتنانا وامتحانا.
وَ مٰا أَصٰابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ أي: بلية ومصيبة فَمِنْ نَفْسِكَ لأنّك السبب فيها بما اكتسبت من الذنوب، ومثله: وَ مٰا أَصٰابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمٰا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (3).
وَ أَرْسَلْنٰاكَ لِلنّٰاسِ جميعا رَسُولاً لست برسول للعرب وحدهم.
وَ كَفىٰ بِاللّٰهِ شَهِيداً علي ذلك فما ينبغي لأحد أن يخرج عن طاعتك.
مَنْ يُطِعِ اَلرَّسُولَ فَقَدْ أَطٰاعَ اَللّٰهَ وَ مَنْ تَوَلّٰى فَمٰا أَرْسَلْنٰاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَ يَقُولُونَ طٰاعَةٌ فَإِذٰا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طٰائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ اَلَّذِي تَقُولُ وَ اَللّٰهُ يَكْتُبُ مٰا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ
ص: 402
عَنْهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللّٰهِ وَ كَفىٰ بِاللّٰهِ وَكِيلاً
مَنْ يُطِعِ اَلرَّسُولَ فَقَدْ أَطٰاعَ اَللّٰهَ لأنه إنّما يأمر بما أمر اللّه به وينهى عما نهى اللّه عنه، فكانت طاعته في امتثال ما أمر به والانتهاء عما نهى عنه طاعة اللّه.
وَ مَنْ تَوَلّٰى أي: أعرض ولم يطع فَمٰا أَرْسَلْنٰاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً بل نذيرا، إن عليك إلا البلاغ، وما عليك أن تحفظ عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها و تعاقبهم.
وَ يَقُولُونَ إذا أمرتهم بشيء: طٰاعَةٌ أي: أمرنا وشأننا طاعة، كأنّهم قالوا: قابلنا أمرك بالطاعة.
فَإِذٰا بَرَزُوا أي: خرجوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طٰائِفَةٌ [أي: دبّر طائفة مِنْهُمْ ](1) ليلا.
غَيْرَ اَلَّذِي تَقُولُ أي: خلاف ما قلت وأمرت به، أو خلاف ما قالت وما ضمنت من الطاعة، لأنّهم نافقوا بما قالوا وأبطنوا خلاف ما أظهروا. والتبييت:
إما من البيتوتة لأنّها تدبير الأمر بالليل، يقال: هذا أمر بيّت بليل، وإما من أبيات الشعر لأنّ الشاعر يدبّرها ويسويها.
وَ اَللّٰهُ يَكْتُبُ مٰا يُبَيِّتُونَ أي: يثبته في صحائف أعمالهم، وهذا وعيد.
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وأبق عليهم إلى أن يستقر أمر الإسلام.
وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللّٰهِ في شأنهم فإنّ اللّه ينتقم لك منهم.
ص: 403
أَ فَلاٰ يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ وَ لَوْ كٰانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللّٰهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلاٰفاً كَثِيراً وَ إِذٰا جٰاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ اَلْأَمْنِ أَوِ اَلْخَوْفِ أَذٰاعُوا بِهِ وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى اَلرَّسُولِ وَ إِلىٰ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ اَلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَ لَوْ لاٰ فَضْلُ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ اَلشَّيْطٰانَ إِلاّٰ قَلِيلاً
التدبّر: النظر في أدبار الأمور وتأمّلها، ثم استعمل في كل تأمّل، ومعنى تدبّر القرآن: تأمّل معانيه.
لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلاٰفاً كَثِيراً لكان الكثير منه مختلفا متناقضا متفاوتا نظمه ومعانيه، فكان بعضه معجزا، وبعضه غير معجز يمكن معارضته، وبعضه إخبارا لا يوافق المخبر عنه، فلما تناسب كله فصاحة فاقت قوى الفصحاء، وصحة معان، وصدق أخبار، علم أنّه ليس إلا من جهة اللّه تعالى.
وَ إِذٰا جٰاءَهُمْ أَمْرٌ يعني: ناسا من المنافقين أو من ضعفة المسلمين، كانوا إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول اللّه من أمن وسلامة أو خوف وضرر أَذٰاعُوا بِهِ ، وكانت إذاعتهم مفسدة. وقيل: كانوا إذا وقفوا من رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم وأولي الأمر علي أمن، أي: وثوق بالظفر علي الأعداء أو خوف منهم أذاعوه(1).
وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى اَلرَّسُولِ يعني: رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم.
وَ إِلىٰ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْهُمْ قيل: هم أهل العلم والفقه الملازمون للنبي صلى الله عليه و آله و سلم(2)،
ص: 404
وقيل: هم أمراء السرايا والولاة(1)، وقال الباقر عليه السلام: (هم الأئمّة المعصومون)(2).
لَعَلِمَهُ أي: لعلم صحته اَلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ من الرسول وأولي الأمر، ولعرفوا هل هو مما يذاع أو لايذاع.
ومعنى يَسْتَنْبِطُونَهُ : يتلقونه منهم ويستخرجون علمه من جهتهم، وعلي هذا فالذين يستنبطونه هم الذين أذاعوا به، وقيل: معناه لعلم الذين يستنبطون تدبيره كيف يدبّرونه.
وَ لَوْ لاٰ فَضْلُ اَللّٰهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ بإرسال الرسول وإنزال الكتاب.
وعنهم عليهم السلام: (فضل اللّه ورحمته: النبي وعلي عليهما السلام)(3).
لاَتَّبَعْتُمُ اَلشَّيْطٰانَ فيما يلقي إليكم من الوساوس الموجبة لضعف اليقين والبصيرة، إِلاّٰ قَلِيلاً منكم وهم أهل البصائر النافذة وذوو الصدق واليقين.
فَقٰاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ لاٰ تُكَلَّفُ إِلاّٰ نَفْسَكَ وَ حَرِّضِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَسَى اَللّٰهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ اَللّٰهُ أَشَدُّ بَأْساً وَ أَشَدُّ تَنْكِيلاً مَنْ يَشْفَعْ شَفٰاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهٰا وَ مَنْ يَشْفَعْ شَفٰاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهٰا وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ مُقِيتاً
لما تقدّم في الآي قبلها تثبيبطهم عن القتال، قال: فَقٰاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ إن أفردوك وتركوك وحدك لاٰ تُكَلَّفُ غير نَفْسَكَ وحدها أن تقدّمها إلى الجهاد، فإنّ اللّه سبحانه هو ناصرك لا جنودك، فإن شاء نصرك وحدك كما ينصرك
ص: 405
وحولك الجنود. وروي: إنّ أبا سفيان يوم أحد لما رجع واعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم موسم بدر الصغرى فكره الناس وتثاقلوا حين بلغ الميعاد فنزلت، فخرج النبي صلى الله عليه و آله و سلم و ما معه إلا سبعون، ولو لم يتبعه أحد لخرج وحده(1).
وَ حَرِّضِ اَلْمُؤْمِنِينَ وما عليك في شأنهم إلا التحريض.
عَسَى اَللّٰهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وهم قريش، وقد كفّ بأسهم بأن بدا لأبي سفيان وقال: هذا عام مجدب، وانصرف النبي صلى الله عليه و آله و سلم بمن معه سالمين.
وَ اَللّٰهُ أَشَدُّ بَأْساً من قريش وَ أَشَدُّ تَنْكِيلاً تعذيبا.
الشفاعة الحسنة هي التي يدفع بها شر عن مسلم وابتغي بها وجه اللّه، والسيئة ما كان خلاف ذلك، وقيل: الشفاعة الحسنة: الدعوة للمسلم(2)، لأنّها في معنى الشفاعة إلي اللّه. وفي الحديث: (من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب أستجيب له، وقال له الملك: ولك مثلاه)(3) فذلك النصيب، والدعوة علي المسلم بضد ذلك.
وأصل الشفاعة من الشفع الذي هو ضد الوتر، فإنّ الرجل إذا شفع لصاحبه فقد شفعه أي: صار ثانيه. والكفل: النصيب أيضا وكأنّه النصيب من الشر. والمقيت:
الحفيظ الذي يعطي الشيء علي قدر الحاجة، وقيل: هو المقتدر(4).
وَ إِذٰا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهٰا أَوْ رُدُّوهٰا إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ حَسِيباً اَللّٰهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلىٰ يَوْمِ اَلْقِيٰامَةِ لاٰ رَيْبَ فِيهِ وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اَللّٰهِ حَدِيثاً
ص: 406
أمر سبحانه بردّ السلام على المسلم بِأَحْسَنَ مما سلّم وهو أن يقول:
وعليكم السلام ورحمة اللّه إذا قال: السلام عليكم، وأن يزيد (وبركاته) إذا قال:
السلام عليكم ورحمة اللّه.
أَوْ رُدُّوهٰا أو أجيبوها بمثلها، وردّ السلام: رجع جوابه بمثله. وجواب التسليم واجب، والتخيير إنّما وقع بين الزيادة وتركها، وعن النبي عليه السلام: (إذا سلّم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم)(1) أي: وعليكم ما قلتم، لأنّهم كانوا يقولون: السام عليكم، والسام: الموت.
والحسيب: المحاسب الحفيظ.
و اَللّٰهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ إما خبر المبتدأ، وإما اعتراض، والخبر لَيَجْمَعَنَّكُمْ [و معناه: واللّه ليجمعنكم](2) أي: ليحشرنكم.
إِلىٰ يَوْمِ اَلْقِيٰامَةِ وهو يوم قيامهم من القبور أو قيامهم للحساب.
وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اَللّٰهِ حَدِيثاً أي: موعدا لا خلف لوعده.
فَمٰا لَكُمْ فِي اَلْمُنٰافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَ اَللّٰهُ أَرْكَسَهُمْ بِمٰا كَسَبُوا أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اَللّٰهُ وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّٰهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمٰا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوٰاءً فَلاٰ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيٰاءَ حَتّٰى يُهٰاجِرُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَ اُقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ لاٰ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَ لاٰ نَصِيراً
فِئَتَيْنِ نصب علي الحال تقول: مالك قائما، أي: ما لَكُمْ اختلفتم في شأن اَلْمُنٰافِقِينَ أو تفرّقتم فيه فرقتين وَ اَللّٰهُ أَرْكَسَهُمْ بِمٰا كَسَبُوا من
ص: 407
لحوقهم بالمشركين. وهم قوم قدموا من مكة وأظهروا الإسلام، ثم رجعوا إلى مكة فأظهروا الشرك، ثم سافروا إلي اليمامة، فاختلف المسلمون في غزوهم فقال بعضهم: إنّهم مسلمون.
والإركاس: الرد، أي: أركسهم في الكفر، بأن خذلهم حتى ارتكسوا فيه لما علم من مرض قلوبهم.
أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا أي: تجعلوا من جملة المهتدين من جعله اللّه من جملة الضلال وحكم عليه بذلك، أو خذله حتى ضل.
وقوله: فَتَكُونُونَ عطف علي تَكْفُرُونَ ، والمعنى: وَدُّوا كفركم فكونكم معهم شرعا سواء فيما هم عليه من الضلال، فلا تتولوهم وإن امنوا.
حَتّٰى يُهٰاجِرُوا هجرة صحيحة هي للّه لا لغرض من أغراض الدنيا.
فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الإيمان المصاحب للهجرة المستقيمة، فحكمهم حكم سائر المشركين أن يقتلوا حيث وجدوا في أرض اللّه من الحلّ والحرم.
وَ لاٰ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ خليلا ولا ناصرا، وإن بذلوا لكم الولاية والنصرة فلا تقبلوا منهم.
إِلاَّ اَلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثٰاقٌ أَوْ جٰاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقٰاتِلُوكُمْ أَوْ يُقٰاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقٰاتَلُوكُمْ فَإِنِ اِعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقٰاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ اَلسَّلَمَ فَمٰا جَعَلَ اَللّٰهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً
هو استثناء من قوله: فَخُذُوهُمْ وَ اُقْتُلُوهُمْ .
ومعنى يَصِلُونَ إِلىٰ قَوْمٍ : ينتمون إليهم ويتصلون بهم بحلف أو جوار.
ص: 408
بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثٰاقٌ أي: موادعة وعهد. وهؤلاء القوم هم الأسلميون وادعهم رسول اللّه وقت خروجه إلى مكة وواثق عنهم هلال بن عويمر الأسلمي(1)
علي أن لا يعين رسول اللّه ولا يعين عليه، وعلى أن من وصل إلي هلال ولجأ إليه فله من الجوار مثل الذي لهلال.
و جٰاؤُكُمْ يجوز أن يكون معطوفا علي صفة قوم كأنّه قيل: إلا الذين يصلون إلي قوم معاهدين، أو قوم ممسكين عن القتال لا لكم ولا عليكم، أو علي صلة اَلَّذِينَ كأنّه قيل: إلا الذين يصلون إلى المعاهدين أو الذين لا يقاتلونكم.
حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [في موضع الحال بإضمار (قد)، ويدلّ عليه قراءة من قرأ: حصرة صدروهم](2)، وقيل: هو صفة لموصوف محذوف أي: جاؤوكم قوما حصرت صدورهم. وقيل: هو بيان لجاؤوكم، وهم بنو مدلج جاؤوا رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم غير مقاتلين(3). والحصر: الضيق والانقباض.
أَنْ يُقٰاتِلُوكُمْ عن أن يقاتلوكم، أو كراهة أن يقاتلوكم.
وَ لَوْ شٰاءَ اَللّٰهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقٰاتَلُوكُمْ هذا إخبار عن المقدور، وليس فيه أنّه يفعل ذلك أو يأذن لهم فيه، بل قذف سبحانه الرعب في قلوبهم حتى طلبوا الموادعة، ولو لم يقذفه لكانوا مسلّطين أي: مقاتلين غير كافين.
فَإِنِ اِعْتَزَلُوكُمْ فإن لم يتعرضوا لكم.
وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ اَلسَّلَمَ أي: الاستسلام و الانقياد.
فَمٰا جَعَلَ اَللّٰهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً أي: فما أذن لكم في أخذهم وقتلهم.
ص: 409
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَ يَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمٰا رُدُّوا إِلَى اَلْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهٰا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَ يُلْقُوا إِلَيْكُمُ اَلسَّلَمَ وَ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَ اُقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أُولٰئِكُمْ جَعَلْنٰا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطٰاناً مُبِيناً
هم قوم من بني أسد وغطفان كانوا إذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا ليأمنوا المسلمين، فإذا رجعوا إلى قومهم نكثوا عهدهم وكفروا.
كُلَّمٰا رُدُّوا إِلَى اَلْفِتْنَةِ أي: كلما دعاهم قومهم إلى قتال المسلمين قلبوا فِيهٰا أقبح قلب، وكانوا شرا فيها من كل عدو.
فَإِنْ لَمْ يعتزل هؤلاء قتالكم ولم يستسلموا لكم ولم يكفّوا أَيْدِيَهُمْ عن قتالكم فأسروهم وَ اُقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي: حيث تمكّنتم منهم.
سُلْطٰاناً مُبِيناً أي: حجّة واضحة لظهور عداوتهم وكفرهم وإضرارهم بأهل الإسلام، وقيل: تسلطا ظاهرا حيث أذنّا لكم في قتلهم وأسرهم(1).
وَ مٰا كٰانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاّٰ خَطَأً وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلىٰ أَهْلِهِ إِلاّٰ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كٰانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ إِنْ كٰانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثٰاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلىٰ أَهْلِهِ وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيٰامُ شَهْرَيْنِ مُتَتٰابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اَللّٰهِ وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَلِيماً حَكِيماً
ص: 410
وَ مٰا صح لِمُؤْمِنٍ ولا استقام له وما لاق بحاله، كقوله سبحانه:
وَ مٰا كٰانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ (1) ، وَ مٰا يَكُونُ لَنٰا أَنْ نَعُودَ فِيهٰا (2).
أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً ابتداء غير قصاص.
إِلاّٰ خَطَأً إلا علي وجه الخطأ، وانتصب خطأ علي أنّه مفعول له، أي: ما ينبغي له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ وحده، ويجوز أن يكون حالا بمعنى: لا يقتله في حال من الأحوال إلا في حال الخطأ؛ أو صفة للمصدر أي: إلا قتلا خطأ. والمعنى: إنّ من شأن المؤمن أن ينتفي عنه وجود قتل المؤمن ابتداء البتة، إلا إذا وجد منه خطأ من غير قصد بأن يرمي شخصا علي أنّه كافر فيكون مسلما أو نحو ذلك.
فتحرير رقبة أي: فعليه تحرير رقبة، والتحرير: الإعتاق، والحر:
الكريم، والعتيق كذلك لأنّ الكرم في الأحرار، ومنه: عتاق الطير، وعتاق الخيل لكرامهما، وحر الوجه: أكرم موضع منه، والرقبة عبارة عن النسمة.
وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلىٰ أَهْلِهِ أي: مؤداة إلى ورثته يقتسمونها كما يقتسمون الميراث، والدية علي عاقلة القاتل إِلاّٰ أَنْ يَصَّدَّقُوا أي: يتصدّق أولياء المقتول بالدية ومعناه: العفو، وفي الحديث: (كل معروف صدقة)(3).
فَإِنْ كٰانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ أي: قوم كفار محاربين لكم وَ هُوَ مُؤْمِنٌ يعني: أن يكون آمن بالنبي صلى الله عليه و سلم وهو بين ظهراني قومه لم يفارقهم بعد، فعلي قاتله الكفارة إذا قتله خطأ، وليس علي عاقلته لأهله شيء لأنّهم كفار.
ص: 411
وَ إِنْ كٰانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثٰاقٌ أي: عهد وذمة وليسوا أهل حرب فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلىٰ أَهْلِهِ تلزم عاقلة قاتله وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ تلزم قاتله.
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ رقبة أي: لم يملكها فعليه صيام شَهْرَيْنِ مُتَتٰابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اَللّٰهِ قبولا من اللّه، من تاب الله عليه أي: شرع ذلك توبة منه.
وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزٰاؤُهُ جَهَنَّمُ خٰالِداً فِيهٰا وَ غَضِبَ اَللّٰهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذٰاباً عَظِيماً
في هذه الآية من التهديد والوعيد أمر عظيم وخطب جسيم، ولذلك قال بعض أصحابنا: إنّ قاتل المؤمن لا يوفّق للتوبة(1)، علي معنى أنّه لا يختار التوبة.
وعن الصادق عليه السلام: (إنّ معنى التعمّد: أن يقتله علي دينه)(2)، وعن عكرمة وجماعة: (هو أن يقتله مستحلا لقتله)(3).
يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ فَتَبَيَّنُوا وَ لاٰ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقىٰ إِلَيْكُمُ اَلسَّلاٰمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا فَعِنْدَ اَللّٰهِ مَغٰانِمُ كَثِيرَةٌ كَذٰلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اَللّٰهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيراً
وقرئ: فتثبّتوا، وهما جميعا من التفعّل بمعنى الاستفعال، أي: اطلبوا بيان الأمر وثباته، ولا تعجلوا في القتل من غير روية.
ص: 412
وَ لاٰ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقىٰ إِلَيْكُمُ اَلسَّلاٰمَ أي: حياكم بتحية أهل الإسلام، ومن قرأ: السلم، فهو الاستسلام، وقيل: الإسلام، وقرئ: لست مؤمنا - بفتح الميم - من آمنه، أي: لا تقولوا له: لا نؤمنك.
تَبْتَغُونَ عَرَضَ اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا أي: تطلبون الغنيمة التي هي حطام الدنيا، وهو الذي يدعوكم إلى ترك التثبّت وقلة البحث عن حال من تقتلونه.
فَعِنْدَ اَللّٰهِ مَغٰانِمُ كَثِيرَةٌ يغنمكموها تغنيكم عن قتل رجل يظهر الإسلام لتأخذوا ماله.
كَذٰلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ أوّل ما دخلتم في الإسلام، سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة، فحصنت دماؤكم وأموالكم من غير انتظار الاطلاع علي مواطأة قلوبكم لألسنتكم.
فَمَنَّ اَللّٰهُ عَلَيْكُمْ بالاستقامة والاشتهار بالإيمان.
فتبينوا تكرير للأمر بالتبيّن ليؤكد عليهم.
لاٰ يَسْتَوِي اَلْقٰاعِدُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي اَلضَّرَرِ وَ اَلْمُجٰاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اَللّٰهُ اَلْمُجٰاهِدِينَ بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى اَلْقٰاعِدِينَ دَرَجَةً وَ كُلاًّ وَعَدَ اَللّٰهُ اَلْحُسْنىٰ وَ فَضَّلَ اَللّٰهُ اَلْمُجٰاهِدِينَ عَلَى اَلْقٰاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجٰاتٍ مِنْهُ وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً وَ كٰانَ اَللّٰهُ غَفُوراً رَحِيماً
قرئ: غَيْرُ أُولِي اَلضَّرَرِ بالرفع صفة ل - اَلْقٰاعِدُونَ ، وبالنصب استثناء منهم أو حالا عنهم.
والضرر: المرض أو العاهة من عمى أو عرج أو زمانة أو نحوها، عن ابن
ص: 413
عباس: (لا يستوي القاعدون عن بدر والخارجون إليها)(1)، وعن مقاتل(2): (عن تبوك)(3).
فَضَّلَ اَللّٰهُ اَلْمُجٰاهِدِينَ بِأَمْوٰالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ جملة موضحة لما نفي من استواء القاعدين والمجاهدين، كأنّه قيل: مالهم لا يستوون ؟ فأجيب بذلك، والمعنى علي القاعدين غير أولي الضرر، لكون الجملة بيانا للجملة الأولي المتضمّنة لهذا الوصف.
وَ كُلاًّ أي: وكل فريق من المجاهدين والقاعدين.
وَعَدَ اَللّٰهُ اَلْحُسْنىٰ أي: المثوبة الحسنى وهي الجنّة، وإن كان المجاهدون مفضّلين عَلَى اَلْقٰاعِدِينَ دَرَجَةً . وعن النبي صلى الله عليه و آله و سلم: (لقد خلّفتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم)(4)، وهم الذين صحّت نياتهم، ونصحت جيوبهم، وهوت أفئدتهم إلى الجهاد، وقد منعهم من المسير ضرر أو غيره.
ذكر سبحانه المفضّلين دَرَجَةً ثم ذكر المفضّلين دَرَجٰاتٍ ، والأولون هم الذين فضّلوا علي القاعدين الأضراء، والآخرون هم الذين [فضّلوا علي القاعدين الذين](5) أذن لهم في التخلف اكتفاء بغيرهم، لأنّ الجهاد فرض علي الكفاية.
ص: 414
و دَرَجَةً انتصبت لوقوعها موقع المرة، كأنّه قال: فضلهم تفضيلة، نحو ضربه سوطا بمعنى: ضربة.
وانتصب أَجْراً ب - فضل أيضا، لأنّه في معنى آجرهم أجرا. و دَرَجٰاتٍ و مَغْفِرَةً و رَحْمَةً بدل من أَجْراً .
إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَفّٰاهُمُ اَلْمَلاٰئِكَةُ ظٰالِمِي أَنْفُسِهِمْ قٰالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قٰالُوا كُنّٰا مُسْتَضْعَفِينَ فِي اَلْأَرْضِ قٰالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اَللّٰهِ وٰاسِعَةً فَتُهٰاجِرُوا فِيهٰا فَأُولٰئِكَ مَأْوٰاهُمْ جَهَنَّمُ وَ سٰاءَتْ مَصِيراً إِلاَّ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلرِّجٰالِ وَ اَلنِّسٰاءِ وَ اَلْوِلْدٰانِ لاٰ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لاٰ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولٰئِكَ عَسَى اَللّٰهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَفُوًّا غَفُوراً
تَوَفّٰاهُمُ يجوز أن يكون ماضيا كقراءة من قرأ: توفتهم، [ويجوز أن يكون](1) مضارعا بمعنى تتوفاهم، وقرئ في الشواذ: توفّاهم فيكون مضارع وفيت.
والمعنى: إنّ اللّه يوفي الملائكة أنفسهم فيتوفونها، أي: يمكنهم من استيفائها فيستوفونها.
ظٰالِمِي أَنْفُسِهِمْ في حال ظلمهم أنفسهم.
قالوا أي: قال الملائكة للمتوفين: فِيمَ كُنْتُمْ أي: في أي شيء كنتم من أمر دينكم ؟.
قٰالُوا كُنّٰا مُسْتَضْعَفِينَ فِي اَلْأَرْضِ وهم جماعة أسلموا بمكة ولم يهاجروا حين كانت الهجرة فريضة، فلما خرج المشركون إلى بدر لم يخلّفوا أحدا إلا صبيا [أو
ص: 415
مريضا](1) أو شيخا كبيرا، فخرج هؤلاء معهم فلما نظروا إلى قلة المسلمين ارتابوا، فأصيبوا فيمن أصيب من المشركين، فنزلت الآية(2).
وصحّ قولهم: كُنّٰا مُسْتَضْعَفِينَ جوابا عن فِيمَ كُنْتُمْ ، لأنّه كالتوبيخ لهم بأنّهم لم يكونوا في شيء من الدين حيث قدروا علي المهاجرة ولم يهاجروا، فاعتذروا مما وبخوا به بالاستضعاف وأنّهم لم يتمكّنوا من الهجرة، فبكتتهم الملائكة بأن قالوا:
أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اَللّٰهِ وٰاسِعَةً فَتُهٰاجِرُوا فِيهٰا أي: كنتم قادرين علي الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم. وهذا يدلّ علي أنّ الإنسان إذا كان في بلد لا يتمكّن فيه من إقامة أمر الدين لبعض العوائق، وعلم أنّه في غير بلده أقوم بحقّ الله وجبت عليه المهاجرة. وفي الحديث: (من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجب الجنّة، وكان رفيق إبراهيم ومحمّد عليهما السلام)(3).
ثم استثنى من أهل الوعيد اَلْمُسْتَضْعَفِينَ الذين لاٰ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً في الخروج، لفقرهم وعجزهم وقلة معرفتهم بالطرق.
وقوله: لاٰ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً صفة للمستضعفين أو للرجال والنساء والولدان، وجاز ذلك وإن كانت الجمل يجب كونها نكرات، لأنّ الموصوف وإن كان فيه حرف التعريف فليس لشيء بعينه، كقول الشاعر:
ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني(4)
ص: 416
وَ مَنْ يُهٰاجِرْ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ يَجِدْ فِي اَلْأَرْضِ مُرٰاغَماً كَثِيراً وَ سَعَةً وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهٰاجِراً إِلَى اَللّٰهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ اَلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اَللّٰهِ وَ كٰانَ اَللّٰهُ غَفُوراً رَحِيماً
مُرٰاغَماً أي: مهاجرا وطريقا يراغم بسلوكه قومه، أي: يفارقهم علي رغم أنوفهم، والرغم: الذل والهوان، وأصله لصوق الأنف بالرغام، وهو التراب، قال النابغة الجعدي:
كطود يلاذ بأركانه *** عزيز المراغم والمهرب(1)
فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اَللّٰهِ فقد وجب ثوابه على اللّه، وأصل الوجوب السقوط، كقوله تعالي: فَإِذٰا وَجَبَتْ جُنُوبُهٰا (2) يعني فقد علم اللّه كيف يثيبه، وذلك واجب عليه.
وكل هجرة لغرض ديني من طلب علم، أو حج، أو فرار إلى بلد يزداد فيه طاعة، أو زهدا في الدنيا؛ فهي هجرة إلى الله ورسوله.
وَ إِذٰا ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلاٰةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ اَلْكٰافِرِينَ كٰانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً
الضرب في الأرض هو السفر، أي: إذا سافرتم فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ حرج و ءاثم في أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ عدد اَلصَّلاٰةِ فتصلّوا الرباعيات ركعتين ركعتين.
والقصر ثابت بنص الكتاب في حال الخوف خاصة، وهو قوله: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ
ص: 417
يَفْتِنَكُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا ، أما في حال الأمن فبنصّ النبي صلى الله عليه و آله و سلم(1)، وهو عزيمة واجبة غير رخصة عند أبي حنيفة(2)، وهو مذهب أهل البيت عليهم السلام(3)، وعند الشافعي رخصة(4).
وإنّما قال: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنٰاحٌ في الواجب لئلا يخطر ببالهم أنّ عليهم نقصانا في القصر، فهو مثل قوله: فَلاٰ جُنٰاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمٰا (5). والمراد بالفتنة في الآية: القتال والتعرّض بما يكره، فإنّهم كانوا يخافون الكفار في عامة أسفارهم.
وحدّ السفر الذي فيه القصر عند أبي حنيفة مسيرة ثلاثة أيّام بلياليهن سير الإبل(6)، وعند الشافعي مسيرة يومين(7)، وعند أهل البيت عليهم السلام مسيرة يوم واحد، وهي ثمانية فراسخ أربعة وعشرون ميلا(8). وأجمعت الطائفة علي أنّه ليس بقصر، بل فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في السفر وأربعا أربعا في الحضر(9).
وَ إِذٰا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ اَلصَّلاٰةَ فَلْتَقُمْ طٰائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذٰا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ
ص: 418
وَرٰائِكُمْ وَ لْتَأْتِ طٰائِفَةٌ أُخْرىٰ لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَ أَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وٰاحِدَةً وَ لاٰ جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كٰانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضىٰ أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَ خُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اَللّٰهَ أَعَدَّ لِلْكٰافِرِينَ عَذٰاباً مُهِيناً
فِيهِمْ الضمير للخائفين.
فَلْتَقُمْ طٰائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ فاجعلهم طائفتين، فلتقم إحدي الطائفتين معك فصلّ بهم.
وَ لْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ الضمير للمصلين يأخذون من السلاح ما لا يشغلهم عن الصلاة، كالسيف يتقلّدونه والخنجر يشدّونه إلى دروعهم ونحوهما.
فَإِذٰا سَجَدُوا وفرغوا من سجودهم.
فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرٰائِكُمْ أي: فليصيروا بعد فراغهم من السجود مصافين للعدو.
وعندنا: إنّهم يصلّون الركعة الأخرى ويتشهدون ويسلّمون، وينصرفون إلى مواقف أصحابهم، والإمام قائم في الثانية، ويجيء الآخرون فيستفتحون الصلاة ويصلّي بهم الإمام الركعة الثانية، ويطيل التشهد حتى يقوموا فيصلّوا بقية صلاتهم ثم يسلّم بهم(1)، وذلك قوله: وَ لْتَأْتِ طٰائِفَةٌ أُخْرىٰ لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ .
ص: 419
وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ جعل الحذر وهو التحرّز كأنّه آلة يستعملها الغازي، فلذلك جمع بينه وبين الأسلحة في الأخذ، كما جعل الإيمان مستقرا ومتبوّءا لتمكّنهم فيه في قوله: وَ اَلَّذِينَ تَبَوَّؤُا اَلدّٰارَ وَ اَلْإِيمٰانَ (1).
وَدَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أي: تمنّوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ تشتغلون عن أخذها في القتال.
فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ فيشدّون عليكم شدة واحدة.
ثم رخصّ لهم في وضع الأسلحة إن ثقل عليهم حملها إذا نالهم أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ مرض، وأمرهم مع ذلك بأخذ الحذر لئلا يغفلوا فيحمل عليهم العدو.
إِنَّ اَللّٰهَ أَعَدَّ لِلْكٰافِرِينَ عَذٰاباً مُهِيناً هذا إخبار بأنّه سبحانه يهين عدوهم ليقوي قلوبهم.
فَإِذٰا قَضَيْتُمُ اَلصَّلاٰةَ فَاذْكُرُوا اَللّٰهَ قِيٰاماً وَ قُعُوداً وَ عَلىٰ جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اِطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ إِنَّ اَلصَّلاٰةَ كٰانَتْ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ كِتٰاباً مَوْقُوتاً وَ لاٰ تَهِنُوا فِي اِبْتِغٰاءِ اَلْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمٰا تَأْلَمُونَ وَ تَرْجُونَ مِنَ اَللّٰهِ مٰا لاٰ يَرْجُونَ وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَلِيماً حَكِيماً
فإذا صليتم في حال الخوف والقتال فَاذْكُرُوا اَللّٰهَ فصلّوا قِيٰاماً مسايفين وَ قُعُوداً جاثين على الركب مرامين وَ عَلىٰ جُنُوبِكُمْ مثخنين بالجراح.
فَإِذَا اِطْمَأْنَنْتُمْ حين تضع الحرب أوزارها واستقررتم وأمنتم فَأَقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ فأتموا حدود الصلاة.
ص: 420
إِنَّ اَلصَّلاٰةَ كٰانَتْ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ كِتٰاباً مَوْقُوتاً أي: محدودا بأوقات لا يجوز إخراجها عن أوقاتها في حال خوف كنتم أو أمن.
وقيل: معناه: فإذا قضيتم صلاة الخوف فأديموا ذكر اللّه مكبّرين ومهللين داعين بالنصرة والتأييد في كافة أحوالكم من قيام وقعود واضطجاع، فإذا اطمأننتم فإذا أقمتم فأتموا الصلاة.
وَ لاٰ تَهِنُوا ولا تضعفوا في طلب الكفار، ثم ألزمهم الحجّة بأن قال:
إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ فإنّ ذلك أمر مشترك بينكم وبينهم يصيبهم كما يصيبكم، ثم إنّهم يصبرون عليه ويتشجعون، فمالكم لا تصبرون مثل صبرهم مع أنّكم أولى منهم بالصبر!، لانكم تَرْجُونَ مِنَ اَللّٰهِ مٰا لاٰ يَرْجُونَ من الظفر بهم في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة.
وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَلِيماً حَكِيماً لا يأمركم ولا ينهاكم إلا بما يعلم أنّ فيه صلاحكم.
إِنّٰا أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ اَلْكِتٰابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّٰاسِ بِمٰا أَرٰاكَ اَللّٰهُ وَ لاٰ تَكُنْ لِلْخٰائِنِينَ خَصِيماً وَ اِسْتَغْفِرِ اَللّٰهَ إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ غَفُوراً رَحِيماً وَ لاٰ تُجٰادِلْ عَنِ اَلَّذِينَ يَخْتٰانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُحِبُّ مَنْ كٰانَ خَوّٰاناً أَثِيماً يَسْتَخْفُونَ مِنَ اَلنّٰاسِ وَ لاٰ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اَللّٰهِ وَ هُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مٰا لاٰ يَرْضىٰ مِنَ اَلْقَوْلِ وَ كٰانَ اَللّٰهُ بِمٰا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً هٰا أَنْتُمْ هٰؤُلاٰءِ جٰادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا فَمَنْ يُجٰادِلُ اَللّٰهَ عَنْهُمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً
يروى: إ نّ أبا طعمة بن أبيرق سرق درعا من جار له اسمه قتادة بن النعمان(1)
ص: 421
وخبأها عند رجل من اليهود، فأخذ الدرع من منزل اليهودي، فقال: دفعها إليّ أبو طعمة، فجاء بنو أبيرق إلى رسول اللّه فكلّموه أن يجادل عن صاحبهم، وقالوا:
إن لم تفعل هلك وافتضح وبرئ اليهودي. فهمّ رسول اللّه أن يفعل وأن يعاقب اليهودي، فنزلت(1).
بِمٰا أَرٰاكَ اَللّٰهُ أي: بما عرّفك اللّه وأوحى إليك.
وَ لاٰ تَكُنْ لِلْخٰائِنِينَ خَصِيماً أي: لأجل الخائنين مخاصما للبراء.
وَ اِسْتَغْفِرِ اَللّٰهَ مما هممت به من عقاب اليهودي.
يَخْتٰانُونَ أَنْفُسَهُمْ يخونونها بالمعصية، [جعلت معصية](2) العصاة خيانة منهم لأنفسهم، كما جعلت ظلما لها لأنّ الضرر راجع إليهم، ونحوه: عَلِمَ اَللّٰهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتٰانُونَ أَنْفُسَكُمْ (3).
يَسْتَخْفُونَ مِنَ اَلنّٰاسِ أي: يستترون من الناس حياء منهم وخوفا من ضررهم وَ لاٰ يستترون مِنَ اَللّٰهِ ولا يستحيون منه وَ هُوَ مَعَهُمْ عالم بأحوالهم.
إِذْ يُبَيِّتُونَ يدبّرون ويزوّرون بالليل مٰا لاٰ يَرْضىٰ مِنَ اَلْقَوْلِ .
هٰا أَنْتُمْ هٰؤُلاٰءِ : هٰا للتنبيه في أَنْتُمْ و أُولاٰءِ و هما مبتدأ وخبر، و جٰادَلْتُمْ جملة مبيّنة لوقوع أُولاٰءِ خبرا، كما تقول للرجل السخي:
أنت حاتم تجود بمالك. والمعنى: هبوا أنّكم خاصمتم عن بني أبيرق فِي الدنيا -- 24 ه -. ينظر: الاستيعاب ج 3:248.
ص: 422
فَمَنْ يخاصم عنهم في الآخرة إذا عذّبهم اللّه.
وَكِيلاً أي: حافظا من بأس الله ونقمته.
وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اَللّٰهَ يَجِدِ اَللّٰهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَ مَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمٰا يَكْسِبُهُ عَلىٰ نَفْسِهِ وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ اِحْتَمَلَ بُهْتٰاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (11(2) وَ لَوْ لاٰ فَضْلُ اَللّٰهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طٰائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَ مٰا يُضِلُّونَ إِلاّٰ أَنْفُسَهُمْ وَ مٰا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ وَ أَنْزَلَ اَللّٰهُ عَلَيْكَ اَلْكِتٰابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ مٰا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كٰانَ فَضْلُ اَللّٰهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
سُوءاً أي: قبيحا متعدّيا يسوء به غيره، كما فعل أبو طعمة بقتادة واليهودي أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ بما يختص به، وقيل: وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أي: ذنبا دون الشرك أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ بالشرك. وفيه: إنّ كل ذنب وإن عظم فإنّه غير مانع من المغفرة إذا استغفر منه.
فَإِنَّمٰا يَكْسِبُهُ عَلىٰ نَفْسِهِ أي: لا يتعدّي ضرره إلى غيره.
وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أي: ذنبا علي غير عمد.
أَوْ إِثْماً أي: ذنبا تعمّده.
ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً كما رمى به أبو طعمة غيره.
فَقَدِ اِحْتَمَلَ بُهْتٰاناً وَ إِثْماً مُبِيناً لأنه بكسب الإثم آثم، وبرمي البريء به باهت، فهو جامع بين الأمرين.
ص: 423
وَ لَوْ لاٰ فَضْلُ اَللّٰهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ أي: عصمته وألطاف و إطلاعه إيّاك علي سرهم.
لَهَمَّتْ طٰائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ عن القضاء بالحقّ وسلوك طريق العدل وَ مٰا يُضِلُّونَ إِلاّٰ أَنْفُسَهُمْ لأنّ وباله عليهم.
وَ مٰا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ فإنّ اللّه حافظك وناصرك ومؤيدك.
وَ أَنْزَلَ اَللّٰهُ عَلَيْكَ القرآن والسنة.
وَ عَلَّمَكَ مٰا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ من خفيّات الأمور، أو من أمور الدين وأحكام الشرع.
لاٰ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوٰاهُمْ إِلاّٰ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاٰحٍ بَيْنَ اَلنّٰاسِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ اِبْتِغٰاءَ مَرْضٰاتِ اَللّٰهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً وَ مَنْ يُشٰاقِقِ اَلرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مٰا تَبَيَّنَ لَهُ اَلْهُدىٰ وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ اَلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مٰا تَوَلّٰى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ سٰاءَتْ مَصِيراً إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مٰا دُونَ ذٰلِكَ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّٰهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاٰلاً بَعِيداً
لاٰ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ تناجي الناس إِلاّٰ نجوى مَنْ أَمَرَ ، علي أنّه مجرور بدل من كَثِيرٍ ، كما تقول: لا خير في قيامهم إلا قيام فلان، و يجوز أن يكون منصوبا علي الاستثناء المنقطع أي: لكن مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ ففي نجواه الخير. وقيل: المعروف: القرض(1)، وقيل: هو عام في كل جميل(2). والإصلاح بين
ص: 424
الناس: التأليف بينهم بالمودة. وعن أمير المؤمنين عليه السلام: (إ نّ اللّه فرض عليكم زكاة جاهكم كما فرض عليكم زكاة ما ملكت أيديكم)(1).
وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ اَلْمُؤْمِنِينَ و هو السبيل الذي هم عليه من الدين الحنيفي.
نُوَلِّهِ مٰا تَوَلّٰى نجعله واليا لما تولى من الضلال، بأن نخذله ونخلي بينه وبين ما اختاره.
إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ تكرير للتأكيد، وقيل: كرر لقصّة أبي طعمة(2).
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّٰ إِنٰاثاً وَ إِنْ يَدْعُونَ إِلاّٰ شَيْطٰاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اَللّٰهُ وَ قٰالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبٰادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَ لَأُضِلَّنَّهُمْ وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذٰانَ اَلْأَنْعٰامِ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اَللّٰهِ وَ مَنْ يَتَّخِذِ اَلشَّيْطٰانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اَللّٰهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرٰاناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ وَ مٰا يَعِدُهُمُ اَلشَّيْطٰانُ إِلاّٰ غُرُوراً (12(0) أُولٰئِكَ مَأْوٰاهُمْ جَهَنَّمُ وَ لاٰ يَجِدُونَ عَنْهٰا مَحِيصاً
إِلاّٰ إِنٰاثاً هي اللات والعزّي ومناة. وعن الحسن: (لم يكن حيّ من أحياء العرب إلا ولهم صنم يعبدونه يسمّونه أنثى بني فلان)(3)، وقيل: كانوا يقولون في أصنامهم: هن بنات اللّه، وقيل: المراد الملائكة لقولهم: الملائكة بنات اللّه(4).
ص: 425
وَ إِنْ يَدْعُونَ أي: وما يدعون بعبادة الأصنام إِلاّٰ شَيْطٰاناً لأنّه الذي أغراهم بعبادتها فأطاعوه، فجعل طاعتهم له عبادة.
وقوله: لَعَنَهُ اَللّٰهُ ، وَ قٰالَ لَأَتَّخِذَنَّ صفتان، يعني: شَيْطٰاناً مَرِيداً جامعا بين لعنة الله وهذا القول الشنيع.
نَصِيباً مَفْرُوضاً مقطوعا واجبا فرضته لنفسي، وهو من قولهم: فرض له في العطاء.
وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ الأماني الكاذبة من طول العمر وبلوغ الأمل.
وتبتيكهم آذٰانَ اَلْأَنْعٰامِ هو ما فعلوه بالبحائر، كانوا يشقّون أذنها إذا ولدت خمسة أبطن والخامس ذكر.
وتغييرهم خَلْقَ اَللّٰهِ هو فقؤهم عين الحامي(1) و إعفاؤه من الركوب، وقيل: هو الخصاء(2)، وقيل: فطرة اللّه التي هي دين الإسلام وأمره(3)، وقيل للحسن: (إنّ عكرمة يقول: هو الخصاء، فقال: كذب عكرمة، هو دين اللّه)(4)، وعن ابن مسعود: (هو الوشم)(5).
يعدهم الفقر إن أنفقوا مالهم.
وَ يُمَنِّيهِمْ طول البقاء في الدنيا ودوام نعيمها ليؤثروها علي الآخرة.
ص: 426
وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا أَبَداً وَعْدَ اَللّٰهِ حَقًّا وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اَللّٰهِ قِيلاً لَيْسَ بِأَمٰانِيِّكُمْ وَ لاٰ أَمٰانِيِّ أَهْلِ اَلْكِتٰابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَ لاٰ يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ وَلِيًّا وَ لاٰ نَصِيراً وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصّٰالِحٰاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثىٰ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولٰئِكَ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ وَ لاٰ يُظْلَمُونَ نَقِيراً وَ مَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّٰهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ وَ اِتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرٰاهِيمَ حَنِيفاً وَ اِتَّخَذَ اَللّٰهُ إِبْرٰاهِيمَ خَلِيلاً وَ لِلّٰهِ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ وَ كٰانَ اَللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطاً
وَعْدَ اَللّٰهِ حَقًّا مصدران مؤكدان: الأوّل مؤكد لنفسه، التقدير: وعد اللّه ذلك وعدا، والثاني مؤكد لغيره، التقدير: أحقّه حقّا. وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اَللّٰهِ قِيلاً توكيد آخر بليغ، و قِيلاً نصب علي التمييز.
وفي لَيْسَ ضمير وَعْدَ اَللّٰهِ أي: ليس ينال ما وعد اللّه من الثواب بِأَمٰانِيِّكُمْ وَ لاٰ أَمٰانِيِّ أَهْلِ اَلْكِتٰابِ والخطاب للمسلمين، وعن الحسن:
(ليس الإيمان بالتمنّي، ولكن ما وقر في القلب وصدّقه العمل)(1). وقيل: إنّ الخطاب للمشركين(2) قالوا: إن كان الأمر علي ما يزعم هؤلاء لنكوننّ خيرا منهم
ص: 427
وأحسن حالا: لَأُوتَيَنَّ مٰالاً وَ وَلَداً (1)، إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنىٰ (2)، وقال أهل الكتاب: نَحْنُ أَبْنٰاءُ اَللّٰهِ وَ أَحِبّٰاؤُهُ (3).
وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصّٰالِحٰاتِ (من) للتبعيض، أي: ومن يعمل بعض الصالحات، و (من) في قوله: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثىٰ لتبيين الإبهام في مَنْ يَعْمَلْ .
وَ لاٰ يُظْلَمُونَ نَقِيراً أي: ولا يبخسون مقدار نقير مما يستحقّونه من الثواب.
و أَسْلَمَ وَجْهَهُ أي: أخلص نفسه لله وجعلها سالمة له لا يعرف لها ربّا ومعبودا سواه.
وَ هُوَ مُحْسِنٌ أي: فاعل للفعل الحسن، أو هو محسن في جميع أفعاله، وفي الحديث: (الإحسان أن تعبد اللّه كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك)(4).
حَنِيفاً حال من المتبع.
وَ اِتَّخَذَ اَللّٰهُ إِبْرٰاهِيمَ خَلِيلاً(1) عبارة عن اصطفائه واختصاصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله. والخليل: الذي يخالّك، أي: يوافقك في خلالك أو يسايرك في طريقك، من الخل وهو الطريق في الرمل، أو يسدّ خللك كما تسدّ خلله.
وهي جملة اعتراضية لا محلّ لها من الإعراب، وفائدتها تأكيد وجوب اتباع ملته.
وَ لِلّٰهِ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ متصل بذكر الصالحين والطالحين، أي: إنّ من له ملك أهل السماوات والأرض فطاعته واجبة عليهم.
ص: 428
وَ كٰانَ اَللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطاً فيعلم أعمالهم ويجازيهم عليها.
وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي اَلنِّسٰاءِ قُلِ اَللّٰهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَ مٰا يُتْلىٰ عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتٰابِ فِي يَتٰامَى اَلنِّسٰاءِ اَللاّٰتِي لاٰ تُؤْتُونَهُنَّ مٰا كُتِبَ لَهُنَّ وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلْوِلْدٰانِ وَ أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتٰامىٰ بِالْقِسْطِ وَ مٰا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ بِهِ عَلِيماً
وَ مٰا يُتْلىٰ عَلَيْكُمْ في محلّ الرفع علي العطف، أي: اَللّٰهُ يُفْتِيكُمْ ، و المتلو فِي اَلْكِتٰابِ في معنى يَتٰامَى اَلنِّسٰاءِ يعني قوله: وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّٰ تُقْسِطُوا فِي اَلْيَتٰامىٰ (1) وهو نحو قولك: اعجبني زيد وكرمه، فيكون فِي يَتٰامَى اَلنِّسٰاءِ من صلة يُتْلىٰ . ويجوز أن يكون فِي يَتٰامَى اَلنِّسٰاءِ بدلا من فِيهِنَّ ، وهذه الإضافة أعني يَتٰامَى اَلنِّسٰاءِ بمعنى: (من) نحو ثوب خز، وسحق عمامة.
اَللاّٰتِي لاٰ تُؤْتُونَهُنَّ أي: لا تعطونهن.
مٰا كُتِبَ لَهُنَّ أي: ما فرض لهن من الميراث، وكان الرجل منهم يضمّ اليتيمة ومالها إلى نفسه، فإن كانت جميلة تزوّجها وأكل المال، وإن كانت دميمة عضلها عن التزوّج حتى تموت فيرثها.
وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ يحتمل الوجهين، أي: ترغبون في أن تنكحوهن لجمالهن ومالهن، أو ترغبون عن أن تنكحوهن لدمامتهن.
وقوله: وَ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلْوِلْدٰانِ مجرور معطوف علي يَتٰامَى اَلنِّسٰاءِ . وكانوا في الجاهلية إنّما يورثون الرجال الذين يقومون بالأمور دون
ص: 429
الأطفال والنساء.
والمعنى: يفتيكم في يتامى النساء وفي المستضعفين من الصبيان بأن تعطوهم حقوقهم، وفي أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتٰامىٰ بِالْقِسْطِ أي: بالعدل في أنفسهم ومواريثهم، وتعطوا كل ذي حقّ منهم حقّه، صغيرا كان أو كبيرا، ذكرا كان أو أنثى.
وَ مٰا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ من عدل أو برّ يعلمه اللّه ولا يضيع عنده أجره.
وَ إِنِ اِمْرَأَةٌ خٰافَتْ مِنْ بَعْلِهٰا نُشُوزاً أَوْ إِعْرٰاضاً فَلاٰ جُنٰاحَ عَلَيْهِمٰا أَنْ يُصْلِحٰا بَيْنَهُمٰا صُلْحاً وَ اَلصُّلْحُ خَيْرٌ وَ أُحْضِرَتِ اَلْأَنْفُسُ اَلشُّحَّ وَ إِنْ تُحْسِنُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيراً
خٰافَتْ مِنْ بَعْلِهٰا نُشُوزاً أي: توقعت منه ذلك، وهو أن يمنعها نفسه ومودته ونفقته ويؤذيها بسبّ أو ضرب.
أَوْ إِعْرٰاضاً بأن يعرض عنها ويقلّ مجالستها ومؤانستها.
فَلاٰ جُنٰاحَ عَلَيْهِمٰا أَنْ يتصالحا، أي: يصطلحا بَيْنَهُمٰا صُلْحاً بأن تترك المرأة له يومها، أو تضع عنه بعض ما يجب لها من نفقة تستعطفه بذلك، أو تهب له بعض المهر.
وَ اَلصُّلْحُ خَيْرٌ من الفرقة، أو من النشوز والإعراض وسوء العشرة، أو الصلح خير من الخصومة في كل شيء. وهذه الجملة اعتراض.
وكذا قوله: وَ أُحْضِرَتِ اَلْأَنْفُسُ اَلشُّحَّ أي: جعل الشح حاضرا لها لا يغيب عنها أبدا إذ هي مطبوعة عليه. والغرض: إ نّ المرأة لا تسمح بقسمتها، والرجل لا يسمح بأن يمسكها إذا أحبّ غيرها ولم يحبّها.
وَ إِنْ تُحْسِنُوا بالإقامة علي نسائكم وإن كرهتموهن، وتصبروا علي
ص: 430
ذلك وَ تَتَّقُوا النشوز والإعراض وما يؤدي إلى الأذى والخصومة فَإِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيراً و هو يثيبكم عليه.
وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّسٰاءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلاٰ تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ فَتَذَرُوهٰا كَالْمُعَلَّقَةِ وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ غَفُوراً رَحِيماً (12(9) وَ إِنْ يَتَفَرَّقٰا يُغْنِ اَللّٰهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَ كٰانَ اَللّٰهُ وٰاسِعاً حَكِيماً
ومحال أن تَسْتَطِيعُوا العدل بَيْنَ اَلنِّسٰاءِ والتسوية حتى لا يقع ميل البتة في المحبّة والمودة بالقلب وَ لَوْ حَرَصْتُمْ علي ذلك، وعن النبي صلى الله عليه و سلم:
(أنّه كان يقسم بين نسائه فيعدل ويقول: هذه قسمتي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك)(1) يعني المحبّة. وقيل: إنّ العدل بينهن صعب، وهو أن يسوّي بينهن في القسمة والنفقة والتعهد والنظر والمؤانسة وغير ذلك مما لا يحصى، فهو كالخارج عن حد الاستطاعة، هذا إذا كن محبوبات كلهن، فكيف إذا مال القلب مع بعضهن!.
فَلاٰ تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ فلا تجوروا علي المرغوب عنها كل الجور، فتمنعوها قسمتها من غير رضى منها.
فَتَذَرُوهٰا كَالْمُعَلَّقَةِ وهي التي ليست بذات بعل ولا مطلّقة، ويروي:
إنّ عليا عليه السلام كان له امرأتان، فكان إذا كان يوم واحدة لا يتوضأ في بيت الأخري(2).
وَ إِنْ تُصْلِحُوا في القسمة والتسوية بين الأزواج وَ تَتَّقُوا اللّه في أمرهن.
ص: 431
فَإِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ غَفُوراً رَحِيماً يغفر لكم ما مضى منكم من الحيف في ذلك، ويرحمكم بترك المؤاخذة عليه.
وَ إِنْ يَتَفَرَّقٰا وإن يفارق كل واحد منهما صاحبه.
يُغْنِ اَللّٰهُ كُلاًّ أي: يرزقه اللّه زوجا خيرا من زوجه وعيشا أهنأ من عيشه. والسعة: الغنى والمقدرة، وا لواسع: الغني المقتدر.
وَ لِلّٰهِ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ وَ لَقَدْ وَصَّيْنَا اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتٰابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ إِيّٰاكُمْ أَنِ اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلّٰهِ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ وَ كٰانَ اَللّٰهُ غَنِيًّا حَمِيداً وَ لِلّٰهِ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ وَ كَفىٰ بِاللّٰهِ وَكِيلاً
تعلّق قوله: مِنْ قَبْلِكُمْ ب - وَصَّيْنَا أو ب - أُوتُوا ، و إِيّٰاكُمْ عطف علي اَلَّذِينَ أُوتُوا ، و اَلْكِتٰابَ اسم للجنس يتناول الكتب السماوية.
أَنِ اِتَّقُوا اَللّٰهَ أي: بأن اتقوا اللّه. والمعنى: وصّيناهم ووصّيناكم با لتقوى وقلنا لهم ولكم: إِنْ تَكْفُرُوا [فإنّ للّه](1). والمعنى: إنّ للّه الخلق كله وهو خالقهم و المنعم عليهم بصنوف النعم، فاستديموا نعمه باتقاء معاصيه، ولقد وصّينا الذين أوتوا الكتاب من الأمم السالفة ووصّيناكم أن اتقوا الله، يعني: إنّها وصية قديمة ما زال يوصي اللّه بها عباده، لأنّ بالتقوى تنال النجاة والسعادة.
وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلّٰهِ في سماواته وأرضه من يوحّده ويعبده.
وَ كٰانَ اَللّٰهُ مع ذلك غَنِيًّا عن خلقه وعن عبادتهم جميعا.
حَمِيداً مستحقّا لأن يحمد لكثرة نعمه.
ص: 432
وكرر قوله: وَ لِلّٰهِ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ تقريرا لما هو موجب تقواه ليتقوه ويطيعوه ولا يعصوه.
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا اَلنّٰاسُ وَ يَأْتِ بِآخَرِينَ وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَلىٰ ذٰلِكَ قَدِيراً مَنْ كٰانَ يُرِيدُ ثَوٰابَ اَلدُّنْيٰا فَعِنْدَ اَللّٰهِ ثَوٰابُ اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ كٰانَ اَللّٰهُ سَمِيعاً بَصِيراً
إِنْ يَشَأْ اللّه يفنكم ويعدمكم كما أوجدكم.
وَ يَأْتِ بِآخَرِينَ ويوجد خلقا آخرين غيركم أو إنشاء آخرين مكانكم.
وَ كٰانَ اَللّٰهُ علي الإعدام والإيجاد قَدِيراً لا يمتنع عليه شيء أراده، وقيل:
هو خطاب لمن كان يعادي رسول اللّه من العرب(1)، يعني: إن يشأ يمتكم ويأت بناس اخرين يوالون رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، وروي: أنّها لما نزلت ضرب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم بيده علي ظهر سلمان(2) وقال: (إنّهم قوم هذا)(3) يعني: أبناء فارس.
مَنْ كٰانَ يُرِيدُ بجهاده ثواب الدنيا يعني: الغنيمة.
فَعِنْدَ اَللّٰهِ ثَوٰابُ اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ فماله يطلب أحدهما دون الآخر، والذي يطلبه أخسّهما، لأنّ الغنيمة في جنب ثواب الآخرة كلا شيء.
يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّٰامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدٰاءَ لِلّٰهِ وَ لَوْ عَلىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ اَلْوٰالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللّٰهُ
ص: 433
يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّٰامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدٰاءَ لِلّٰهِ وَ لَوْ عَلىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ اَلْوٰالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللّٰهُ أَوْلىٰ بِهِمٰا فَلاٰ تَتَّبِعُوا اَلْهَوىٰ أَنْ تَعْدِلُوا وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيراً
قَوّٰامِينَ بِالْقِسْطِ مجتهدين في إقامة العدل حتى لا تجوروا.
شُهَدٰاءَ لِلّٰهِ تقيمون شهاداتكم لوجه اللّه كما أمركم بإقامتها وَ لَوْ كانت الشهادة عَلىٰ أَنْفُسِكُمْ وهي الإقرار، لأنه في معنى الشهادة عليها أَوِ اَلْوٰالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ أو علي آبائكم و أقاربكم.
إِنْ يَكُنْ المشهود عليه غَنِيًّا فلا تمتنعوا من الشهادة عليه لغناه أَوْ فَقِيراً فلا تمتنعوا منها ترحما عليه فَاللّٰهُ أَوْلىٰ بِهِمٰا بالغني والفقير، أي:
بالنظر إليهما وإرادة مصلحتهما، ولولا أنّ الشهادة عليهما مصلحة لهما لما شرعها.
فَلاٰ تَتَّبِعُوا اَلْهَوىٰ كراهة أَنْ تَعْدِلُوا بين الناس، أو إرادة أن تعدلوا عن الحقّ .
وَ إِنْ تَلْوُوا ألسنتكم عن شهادة الحقّ أو حكومة العدل أَوْ تُعْرِضُوا عن الشهادة بما عندكم و تمنعوها. وقرئ: وإن تلوا بمعنى: وإن وليتم إقامة الشهادة أو أعرضتم عن إقامتها.
فَإِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ بأعمالكم و بمجازاتكم عليها خَبِيراً .
يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ اَلْكِتٰابِ اَلَّذِي نَزَّلَ عَلىٰ رَسُولِهِ وَ اَلْكِتٰابِ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللّٰهِ وَ مَلاٰئِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاٰلاً بَعِيداً إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ اِزْدٰادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اَللّٰهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لاٰ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً
ص: 434
بَشِّرِ اَلْمُنٰافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذٰاباً أَلِيماً اَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ اَلْكٰافِرِينَ أَوْلِيٰاءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ اَلْعِزَّةَ فَإِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلّٰهِ جَمِيعاً
هو خطاب للمسلمين.
آمَنُوا أي: اثبتوا علي الإيمان ودوموا عليه، [وَ اَلْكِتٰابِ اَلَّذِي نَزَّلَ عَلىٰ رَسُولِهِ هو القرآن](1).
وَ اَلْكِتٰابِ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ المراد به جنس الكتب المنزلة علي الأنبياء. وقرئ: (نزّل) و (أنزل) علي البناء للفاعل.
وقيل: الخطاب لأهل الكتاب(2) لأنّهم آمنوا ببعض الكتب والرسل وكفروا ببعض، أي: آمِنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ محمّد والقرآن وبكل كتاب أنزل قبله.
وقيل: هو خطاب للمنافقين(3) يريد: يا أيّها الذين آمنوا نفاقا آمنوا إخلاصا. وإنّما قيل: نزّل - بالتشديد - للقرآن، لأنّه نزل مفرقا منجّما في نيف وعشرين سنة بخلاف الكتب قبله.
وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللّٰهِ ... الآية أي: ومن يكفر بشيء من ذلك فَقَدْ ضَلَّ لأنّ الكفر بالبعض كفر بالكل، ألا تري كيف قدّم الإيمان بالجميع.
إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا هم اليهود آمنوا بالتوراة و بموسى ثم كفروا بهما بكفرهم بمحمّد صلى الله عليه و آله و سلم ثُمَّ آمَنُوا بعيسى والإنجيل يعني: النصاري ثم
ص: 435
كفروا بهما بكفرهم بمحمّد صلى الله عليه و آله و سلم ثُمَّ اِزْدٰادُوا كُفْراً بكفرهم بالقرآن.
وقيل: هم طائفة من أهل الكتاب أرادوا تشكيك المسلمين بإظهار الإيمان به، ثم بإظهار الكفر به كما تقدّم ذكرهم عند قوله: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ اَلنَّهٰارِ وَ اُكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (1)، وقيل: هم المنافقون أظهروا آمنوا وجه النّهار الإيمان بمحمّد صلى الله عليه و آله و سلم ثم الكفر به ثم الإيمان به ثم الكفر به ثم ازدادوا كفرا بإصرارهم علي الكفر حتى ماتوا عليه(2)، وعن ابن عباس: (دخل في هذه الآية كل منافق كان في عهد النبي صلى الله عليه و آله و سلم)(3).
لَمْ يَكُنِ اَللّٰهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لاٰ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً نفي للغفران والهداية التي هي اللطف، واللام للمبالغة في النفي.
بَشِّرِ اَلْمُنٰافِقِينَ وضع بَشِّرِ مكان (أخبر) تهكّما بهم.
اَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ نصب علي الذم، أو رفع بمعنى: أريد الذين، أو هم الذين. و كانوا يوالون الكفرة و يمايلونهم يطلبون عِنْدَهُمُ اَلْعِزَّةَ وا لغلبة باتخاذهم إيّاهم أَوْلِيٰاءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ .
فَإِنَّ اَلْعِزَّةَ والغلبة لِلّٰهِ و لأوليائه يعزّ من يشاء، وللّه العزّة ولرسوله وللمؤمنين.
وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتٰابِ أَنْ إِذٰا سَمِعْتُمْ آيٰاتِ اَللّٰهِ يُكْفَرُ بِهٰا وَ يُسْتَهْزَأُ بِهٰا فَلاٰ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتّٰى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اَللّٰهَ جٰامِعُ اَلْمُنٰافِقِينَ وَ اَلْكٰافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً
ص: 436
أَنْ إِذٰا سَمِعْتُمْ هي أن المخففة من الثقيلة، والمعنى: أنّه إذا سمعتم، و أن مع ما في حيّزها في موضع الرفع ب - نَزَّلَ ، أو في موضع النصب ب - (نزل) فيمن قرأ به. والمراد به ما نزّل عليهم بمكة من قوله: وَ إِذٰا رَأَيْتَ اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيٰاتِنٰا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتّٰى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ (1)، وذلك أنّ المشركين كانوا يخوضون في ذكر القرآن فيستهزئون به، فنهى المسلمون عن القعود مَعَهُمْ ، وكان اليهود في المدينة يفعلون مثل فعلهم فنهوا أن يجلسوا معهم، وكان المنافقون يجالسونهم فقيل لهم: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ .
والضمير في قوله: فَلاٰ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ يرجع إلي من دلّ عليه قوله: يُكْفَرُ بِهٰا وَ يُسْتَهْزَأُ بِهٰا ، كأنّه قال: فلا تقعدوا مع الكافرين بها والمستهزئين بها. وفي هذا دلالة على تحريم مجالسة الفساق وأهل البدع من أي جنس كانوا.
اَلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كٰانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اَللّٰهِ قٰالُوا أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَ إِنْ كٰانَ لِلْكٰافِرِينَ نَصِيبٌ قٰالُوا أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَ نَمْنَعْكُمْ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ فَاللّٰهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً إِنَّ اَلْمُنٰافِقِينَ يُخٰادِعُونَ اَللّٰهَ وَ هُوَ خٰادِعُهُمْ وَ إِذٰا قٰامُوا إِلَى اَلصَّلاٰةِ قٰامُوا كُسٰالىٰ يُرٰاؤُنَ اَلنّٰاسَ وَ لاٰ يَذْكُرُونَ اَللّٰهَ إِلاّٰ قَلِيلاً مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذٰلِكَ لاٰ إِلىٰ هٰؤُلاٰءِ وَ لاٰ إِلىٰ هٰؤُلاٰءِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّٰهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً
اَلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بدل من اَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ، أو صفة ل - اَلْمُنٰافِقِينَ ، أو نصب علي الذم. ومعناه: ينتظرون بكم ما يتجدد لكم من فتح أو إخفاق.
قٰالُوا أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ فأسهموا لنا في الغنيمة.
ص: 437
وَ إِنْ كٰانَ لِلْكٰافِرِينَ نَصِيبٌ قٰالُوا أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ أي: ألم نغلبكم ونتمكّن من قتلكم فأبقينا عليكم وَ نَمْنَعْكُمْ مِنَ المسلمين بأن ثبّطناهم عنكم، وتوانينا في مظاهرتهم عليكم، و أطلعناكم علي أسرارهم، و أفضينا إليكم بأخبارهم، فاعرفوا لنا هذا الحقّ . وسمّى ظفر المسلمين فتحا وظفر الكافرين نصيبا، تعظيما لشأن المسلمين و تحقيرا لحظ الكافرين.
فَاللّٰهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وبين المنافقين أيّها المؤمنون يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ بالحقّ فيدخلكم الجنّة ويدخلهم النار.
إِنَّ اَلْمُنٰافِقِينَ يُخٰادِعُونَ اَللّٰهَ أي: يفعلون فعل المخادع من إظهار الإيمان و إبطان الكفر.
وَ هُوَ خٰادِعُهُمْ من خادعته فخدعته، أي: فاعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع، حيث عصم دماءهم و أموالهم في الدنيا، وأعدّ لهم الدرك الأسفل من النار في الآخرة.
قٰامُوا كُسٰالىٰ أي: متثاقلين لاعن رغبة.
يُرٰاؤُنَ اَلنّٰاسَ يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة.
وَ لاٰ يَذْكُرُونَ اَللّٰهَ أي: لا يصلّون إِلاّٰ قَلِيلاً لأنّهم لا يصلّون قط غائبين عن عيون الناس، وما يجاهرون به قليل. أو لا يذكرون اللّه بالتسبيح والتحميد إلا ذكرا قليلا في الندرة.
والمراءاة: مفاعلة من الرؤية، فكأنّ المرائي يري الناس عمله وهم يرونه استحسانه، ويجوز أن يكون بمعنى التفعيل كما قيل: نعمة وناعمة، وقد قرئ في الشواذ: يراؤّن مثل يرعّون أي: يبصّرونهم أعمالهم.
ص: 438
مُذَبْذَبِينَ إما حال عن واو يُرٰاؤُنَ نحو قوله: وَ لاٰ يَذْكُرُونَ أي:
يراؤون الناس غير ذاكرين مذبذبين، أو منصوب على الذم يعني: ذبذبهم الشيطان بين الكفر والإيمان فهم مترددون بينهما متحيّرون. وحقيقة المذبذب: الذي يذبّ عن كلا الجانبين، أي: يذاد ويدفع فلا يقر في حال واحدة كما قيل: فلان يرمى به الرجوان(1). وقراءة ابن عباس: مذبذبين - بكسر الذال - معناه: يذبذبون قلوبهم أو دينهم أو رأيهم.
و ذٰلِكَ إشارة إلى الكفر والإيمان.
لا منسوبين إلى هؤلاء فيكونوا مؤمنين وَ لاٰ منسوبين إلى هؤلاء فيكونوا كا فرين.
يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَتَّخِذُوا اَلْكٰافِرِينَ أَوْلِيٰاءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلّٰهِ عَلَيْكُمْ سُلْطٰاناً مُبِيناً إِنَّ اَلْمُنٰافِقِينَ فِي اَلدَّرْكِ اَلْأَسْفَلِ مِنَ اَلنّٰارِ وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً إِلاَّ اَلَّذِينَ تٰابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ اِعْتَصَمُوا بِاللّٰهِ وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلّٰهِ فَأُولٰئِكَ مَعَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ سَوْفَ يُؤْتِ اَللّٰهُ اَلْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً
أي: لا تتشبّهوا بالمنافقين في اتخاذهم الكافرين أولياء.
أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلّٰهِ عَلَيْكُمْ حجّة بيّنة، يعني: إ نّ موالاة الكافرين بيّنة على النفاق.
اَلدَّرْكِ اَلْأَسْفَلِ الطبق الذي في قعر جهنم، والنار سبع دركات. وقرئ بسكون الراء.
ص: 439
وَ أَصْلَحُوا نيّاتهم وَ اِعْتَصَمُوا بِاللّٰهِ وثقوا به كما يثق المؤمنون المخلصون.
وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلّٰهِ أي: لا يبتغون بطاعتهم إلا وجه اللّه.
فَأُولٰئِكَ مَعَ اَلْمُؤْمِنِينَ أي: فهم أصحاب المؤمنين و رفقاؤهم في الدارين.
وَ سَوْفَ يُؤْتِ اَللّٰهُ اَلْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً فيشاركونهم فيه. وسوف كلمة ترجية و إطماع، وهي من اللّه سبحانه إيجاب، لأنه سبحانه أكرم الأكرمين ووعد الكريم إنجاز.
مٰا يَفْعَلُ اَللّٰهُ بِعَذٰابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَ آمَنْتُمْ وَ كٰانَ اَللّٰهُ شٰاكِراً عَلِيماً لاٰ يُحِبُّ اَللّٰهُ اَلْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ اَلْقَوْلِ إِلاّٰ مَنْ ظُلِمَ وَ كٰانَ اَللّٰهُ سَمِيعاً عَلِيماً إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ عَفُوًّا قَدِيراً
ما يصنع اَللّٰهُ بِعَذٰابِكُمْ أيتشفى به من الغيظ، أم يستجلب به نفعا، أو يستدفع به ضررا؟! لا بل هو الغني الذي لا يجوز عليه شيء من ذلك، فإن قمتم بشكر نعمته وَ آمَنْتُمْ به فقد ابعدتم عن انفسكم استحقاق العذاب.
وَ كٰانَ اَللّٰهُ شٰاكِراً عَلِيماً يشكر القليل من أعمالكم، ويعلم ما تستحقّونه من الجزاء.
إِلاّٰ مَنْ ظُلِمَ إلا جهر من ظلم، استثنى من الجهر الذي لا يحبّه اللّه جهر المظلوم، وهو أن يدعو علي الظالم ويذكره بما فيه من السوء، وقيل: هو أن يبدأ بالشتيمة فيرد علي الشاتم ينتصر منه(1).
ص: 440
ثم حثّ سبحانه علي العفو، وأن لا يجهر أحد لأحد بسوء وءان كان على وجه الانتصار، حثا علي الأحبّ إليه والأفضل عنده. وذكر إبداء الخير و إخفاءه تسبيبا للعفو، ثم عطف العفو عليهما تنبيها علي لطف منزلته عند اللّه، ويدل علي ما ذكرنا قوله: فَإِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ عَفُوًّا قَدِيراً أي: يعفو مع قدرته علي الانتقام، فعليكم أن تقتدوا بسنة اللّه.
إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّٰهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اَللّٰهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذٰلِكَ سَبِيلاً (150) أُولٰئِكَ هُمُ اَلْكٰافِرُونَ حَقًّا وَ أَعْتَدْنٰا لِلْكٰافِرِينَ عَذٰاباً مُهِيناً (15(1) وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّٰهِ وَ رُسُلِهِ وَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولٰئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ كٰانَ اَللّٰهُ غَفُوراً رَحِيماً
جعل اَلَّذِينَ آمنوا باللّه وكفروا برسله، أو آمنوا باللّه وكفروا ببعض رسله؛ كافرين باللّه وبرسله جميعا.
ومعنى اتخاذهم بَيْنَ ذٰلِكَ سَبِيلاً أي: طريقا وسطا، ولا واسطة بين الكفر والإيمان، ولذلك قال: أُولٰئِكَ هُمُ اَلْكٰافِرُونَ حَقًّا أي: هم الكاملون في الكفر، و حَقًّا تأكيد لمضمون الجملة أو صفة لمصدر الكافرين، أي: كفرا حقّا لاشك فيه.
وجاز دخول بين علي أَحَدٍ ، لأنّه عام في الواحد المذكر والمؤنث و تثنيتهما و جمعهما، تقول: ما رأيت أحدا فتقصد العموم، والمعنى: ولم يفرّقوا بين اثنين منهم أو بين جماعة.
سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ معناه: إنّ ذلك كائن لا محالة وإن تأخر،
ص: 441
والغرض توكيد الوعد لا كونه متأخرا.
يَسْئَلُكَ أَهْلُ اَلْكِتٰابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتٰاباً مِنَ اَلسَّمٰاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسىٰ أَكْبَرَ مِنْ ذٰلِكَ فَقٰالُوا أَرِنَا اَللّٰهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ اَلصّٰاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اِتَّخَذُوا اَلْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَتْهُمُ اَلْبَيِّنٰاتُ فَعَفَوْنٰا عَنْ ذٰلِكَ وَ آتَيْنٰا مُوسىٰ سُلْطٰاناً مُبِيناً وَ رَفَعْنٰا فَوْقَهُمُ اَلطُّورَ بِمِيثٰاقِهِمْ وَ قُلْنٰا لَهُمُ اُدْخُلُوا اَلْبٰابَ سُجَّداً وَ قُلْنٰا لَهُمْ لاٰ تَعْدُوا فِي اَلسَّبْتِ وَ أَخَذْنٰا مِنْهُمْ مِيثٰاقاً غَلِيظاً
روي: أنّ كعب بن الأشرف و جماعة من اليهود قالوا لرسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم: إن كنت نبيا فأتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى موسى بالتوراة جملة فنزلت(1). وقيل:
سألوا كتابا يعاينونه حين ينزل، وإنّما اقترحوا ذلك علي سبيل التعنت(2)، قال الحسن: (لو سألوه لكي يتبيّنوا الحقّ لأعطاهم وفيما آتاهم كفاية)(3).
فَقَدْ سَأَلُوا مُوسىٰ جواب لشرط مقدّر، معناه: إن استكبرت ما سألوه منك فقد سألوا موسى أَكْبَرَ مِنْ ذٰلِكَ ، و إنّما أسند السؤال إليهم وإن وجد من آبائهم لكونهم راضين بسؤالهم.
جَهْرَةً عيانا. والمعنى: أَرِنَا اَللّٰهَ نره جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ اَلصّٰاعِقَةُ بسبب ظُلْمِهِمْ و هو سؤالهم الرؤية.
وَ آتَيْنٰا مُوسىٰ سُلْطٰاناً مُبِيناً أي: تسلطا و استيلاء ظاهرا عليهم حين أمرهم بأن يقتلوا أنفسهم حتى يتاب عليهم فأطاعوه.
ص: 442
بِمِيثٰاقِهِمْ بسبب ميثاقهم ليخافوا فلا ينقضوا.
و قلنا لهم و الطور فوقهم: اُدْخُلُوا اَلْبٰابَ سُجَّداً ، و لاٰ تَعْدُوا فِي اَلسَّبْتِ وأخذنا منهم الميثاق علي ذلك والعهد، ثم نقضوه من بعد. وقرئ: لا تعدّوا - بتشديد الدال وسكون العين - والأصل: لا تعتدوا فأدغم التاء في الدال وجمع بين الساكنين كما جمع في نحو: أصيم و دويبة.
فَبِمٰا نَقْضِهِمْ مِيثٰاقَهُمْ وَ كُفْرِهِمْ بِآيٰاتِ اَللّٰهِ وَ قَتْلِهِمُ اَلْأَنْبِيٰاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنٰا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اَللّٰهُ عَلَيْهٰا بِكُفْرِهِمْ فَلاٰ يُؤْمِنُونَ إِلاّٰ قَلِيلاً (155) وَ بِكُفْرِهِمْ وَ قَوْلِهِمْ عَلىٰ مَرْيَمَ بُهْتٰاناً عَظِيماً (156) وَ قَوْلِهِمْ إِنّٰا قَتَلْنَا اَلْمَسِيحَ عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اَللّٰهِ وَ مٰا قَتَلُوهُ وَ مٰا صَلَبُوهُ وَ لٰكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَ إِنَّ اَلَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مٰا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اِتِّبٰاعَ اَلظَّنِّ وَ مٰا قَتَلُوهُ يَقِيناً (15(7) بَلْ رَفَعَهُ اَللّٰهُ إِلَيْهِ وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَزِيزاً حَكِيماً
أي: فبنقضهم، و ما مزيدة للتوكيد، والباء يتعلّق بمحذوف. والمعنى:
فبما نقضهم وكفرهم وقتلهم وقولهم، فعلنا بهم ما فعلنا. ويجوز أن يتعلّق بقوله:
حَرَّمْنٰا عَلَيْهِمْ فيما بعد، علي أنّ قوله: فَبِظُلْمٍ مِنَ اَلَّذِينَ هٰادُوا بدلّ من قوله: فَبِمٰا نَقْضِهِمْ .
وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنٰا غُلْفٌ أي: في أكنّة لا يصل إليها شيء من الموعظة و الذكر، فردّ اللّه عليهم بقوله: بَلْ طَبَعَ اَللّٰهُ عَلَيْهٰا بِكُفْرِهِمْ أي: خذلها اللّه و منعها الألطاف بسبب كفرهم فصارت كالمطبوع عليها.
وَ بِكُفْرِهِمْ وَ قَوْلِهِمْ عَلىٰ مَرْيَمَ بُهْتٰاناً عَظِيماً يجوز أن يكون عطفا على ما يليه من قوله: بِكُفْرِهِمْ . والوجه أن يعطف علي فَبِمٰا نَقْضِهِمْ ، ويكون
ص: 443
قوله: بَلْ طَبَعَ اَللّٰهُ عَلَيْهٰا بِكُفْرِهِمْ كلاما تابعا لقوله: وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنٰا غُلْفٌ علي وجه الاستطراد. والبهتان العظيم هو التزنية.
وروي: أنّ جماعة من اليهود سبّوا عيسى عليه السلام وسبّوا أمه فقال: (اللهم أنت ربّي وبكلمتك خلقتني، اللهم العن من سبّني وسبّ والدتي) فمسخ الله من سبّهما قردة وخنازير. فاجتمعت اليهود علي قتله، فأخبره الله بأنّه يرفعه إلى السماء ويطهّره من صحبة اليهود، وقال لأصحابه: أيكم يرضى أن يلقى عليه شبهي فيقتل ويصلب فيكون معي في درجتي ؟ فقال له شاب منهم: يا نبي اللّه أنا، فألقى اللّه عليه شبهه فقتل وصلب وهم يظنون أنّه عيسى(1).
وَ لٰكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ أسند شُبِّهَ إلى الجار والمجرور، كقولك: خيّل إليه، كأنّه قال: ولكن وقع لهم التشبيه، أو أسند إلى ضمير المقتول الذي يدلّ عليه قوله:
إِنّٰا قَتَلْنَا كأنّه قيل: ولكن شبّه لهم من قتلوه.
وَ إِنَّ اَلَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِيهِ في عيسى أنّه قتل أو لم يقتل، وقيل: اختلفوا في أنّه إله أو ابن إله.
لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مٰا لَهُمْ بعيسى مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اِتِّبٰاعَ اَلظَّنِّ استثناء منقطع، لأنّ اتباع الظن ليس من جنس العلم، أي: ولكنهم يتبعون الظن.
و ما قتلوه قتلا يَقِيناً ، أو ما قتلوه متيقنين كما ادّعوا ذلك في قولهم:
إِنّٰا قَتَلْنَا اَلْمَسِيحَ ، وقيل: هو من قولهم: قتلت الشيء علما.
وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتٰابِ إِلاّٰ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً فَبِظُلْمٍ مِنَ اَلَّذِينَ هٰادُوا حَرَّمْنٰا عَلَيْهِمْ طَيِّبٰاتٍ
ص: 444
أُحِلَّتْ لَهُمْ وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ كَثِيراً وَ أَخْذِهِمُ اَلرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ وَ أَكْلِهِمْ أَمْوٰالَ اَلنّٰاسِ بِالْبٰاطِلِ وَ أَعْتَدْنٰا لِلْكٰافِرِينَ مِنْهُمْ عَذٰاباً أَلِيماً
لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ جملة قسمية وقعت صفة لمحذوف، والتقدير: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتٰابِ أحد إِلاّٰ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ ، ونحوه: وَ مٰا مِنّٰا إِلاّٰ لَهُ مَقٰامٌ مَعْلُومٌ (1)، وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاّٰ وٰارِدُهٰا (2). والمعنى: وما من اليهود أحد إلا ليؤمنن قَبْلَ مَوْتِهِ بعيسى وبأنّه عبد اللّه ورسوله، حين لا ينفعه إيمانه لانقطاع وقت التكليف، وقيل:
الضميران لعيسى(3)، أي: وإن منهم أحد إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى، وهم أهل الكتاب الذين يكونون في زمان نزوله، فإنّه ينزل من السماء في آخر الزمان، فلا يبقى أهل ملة إلا يؤمنون به، ويصلّي خلف المهدي من آل محمّد وتقع الأمنة حتى ترتع الذئاب مع الغنم والأسود مع البقر. وقيل: الضمير في بِهِ يرجع إلى الله تعالى، وقيل: يرجع إلى محمّد صلى الله عليه و آله و سلم(4).
وروي عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه عليهما السلام قالا: (حرام علي روح امرئ أن تفارق جسدها حتى تري محمّدا وعليّا بحيث تقرّ عينها أو تسخن)(5).
فَبِظُلْمٍ مِنَ اَلَّذِينَ هٰادُوا أي: فبأيّ ظلم عظيم! والمعنى: ما حَرَّمْنٰا
ص: 445
عَلَيْهِمْ الطيّبات إلا لظلم عظيم ارتكبوه، وهو ما عدّد لهم من الكفر والكبائر الموبقة. والطيّبات التي حرّمت عليهم عقوبة علي ظلمهم ما ذكر في قوله: وَ عَلَى اَلَّذِينَ هٰادُوا حَرَّمْنٰا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ... الآية(1)، كلما أذنبوا ذنبا حرّم عليهم بعض الطيبات.
وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ كَثِيراً أي: ناسا كثيرا، أو صدا كثيرا.
بِالْبٰاطِلِ بالرشوة التي كانوا يأخذونها من عوامّهم في تحريف الكتاب.
لٰكِنِ اَلرّٰاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مٰا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ اَلْمُقِيمِينَ اَلصَّلاٰةَ وَ اَلْمُؤْتُونَ اَلزَّكٰاةَ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ أُولٰئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً
اَلرّٰاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ الثابتون فيه المتقنون له، وهم من آمن من اليهود كعبد اللّه بن سلام وأضرابه من علماء اليهود.
و المؤمنون من المهاجرين والأنصار.
وَ اَلْمُقِيمِينَ اَلصَّلاٰةَ نصب علي المدح لبيان فضل الصلاة، وقيل: هو عطف علي بِمٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ أي: يؤمنون بالكتاب وبالمقيمين الصلاة وهم الأنبياء.
إِنّٰا أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ كَمٰا أَوْحَيْنٰا إِلىٰ نُوحٍ وَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَوْحَيْنٰا إِلىٰ إِبْرٰاهِيمَ وَ إِسْمٰاعِيلَ وَ إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْبٰاطِ وَ عِيسىٰ وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَ هٰارُونَ وَ سُلَيْمٰانَ وَ آتَيْنٰا دٰاوُدَ زَبُوراً وَ رُسُلاً قَدْ قَصَصْنٰاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ رُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَ كَلَّمَ اَللّٰهُ مُوسىٰ تَكْلِيماً رُسُلاً
ص: 446
مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلاّٰ يَكُونَ لِلنّٰاسِ عَلَى اَللّٰهِ حُجَّةٌ بَعْدَ اَلرُّسُلِ وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَزِيزاً حَكِيماً
هذا جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول اللّه صلى الله عليه و سلم أن ينزّل عليهم كتابا من السماء، واحتجاج عليهم بأنّ إرساله كإرسال من تقدّمه من الأنبياء، وأنّ المعجزات قد ظهرت علي يده كما كانت تظهر علي أيديهم. وقرئ: زبورا - بضم الزاي - جمع زبر وهو الكتاب.
ونصب رُسُلاً بمضمر في معنى أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ و هو أرسلنا.
قَدْ قَصَصْنٰاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ بمكة في الأنعام وغيرها، وعرّفناك شأنهم و أخبارهم.
وَ رُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ فيه دلّالة علي أنّ له سبحانه رسلا لم يذكرهم في القرآن.
وَ كَلَّمَ اَللّٰهُ مُوسىٰ تَكْلِيماً بلا واسطة إبانة له بذلك.
رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ نصب علي المدح، ويجوز أن يكون منصوبا علي التكرير.
لِئَلاّٰ يَكُونَ لِلنّٰاسِ عَلَى اَللّٰهِ حُجَّةٌ بَعْدَ اَلرُّسُلِ لأنّ في إرسالهم إزاحة للعلة و إتماما لإلزام الحجّة، لئلا يقول الناس: لولا أرسلت إلينا رسولا يوصل إلى المحجّة، وينبّه علي الحجّة، ويوقظ من سنة الغفلة.
لٰكِنِ اَللّٰهُ يَشْهَدُ بِمٰا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ اَلْمَلاٰئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَ كَفىٰ بِاللّٰهِ شَهِيداً إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلاٰلاً بَعِيداً إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا
ص: 447
وَ ظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اَللّٰهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لاٰ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاّٰ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خٰالِدِينَ فِيهٰا أَبَداً وَ كٰانَ ذٰلِكَ عَلَى اَللّٰهِ يَسِيراً
لما سألوا أنّزال الكتاب من السماء، واحتج سبحانه عليهم بقوله: إِنّٰا أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ ، قال: لٰكِنِ اَللّٰهُ يَشْهَدُ على معنى: أنّهم لا يشهدون لكن اللّه يشهد، وقيل: لما نزلت إِنّٰا أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ قالوا: ما نشهد لك بهذا فنزل لٰكِنِ اَللّٰهُ يَشْهَدُ (1).
ومعنى شهادة اللّه بِمٰا أَنْزَلَ إليه: إثباته لصحته بالمعجزات، كما تثبت الدعاوى بالبيّنات؛ وشهادة الملائكة: شهادتهم بأنّه حقّ وصدق.
ومعنى قوله: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ أنزله ملتبسا بعلمه الخاص الذي لا يعلمه غيره، وهو تأليفه علي أسلوب ونظم أعجز كل بليغ، وقيل: أنزله وهو عالم بأنّك أهل لإنزاله إليك ومبلّغ له وَ كَفىٰ بِاللّٰهِ شَهِيداً وإن لم يشهد غيره.
كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا جمعوا بين الكفر والظلم، أو كان بعضهم كافرين وبعضهم ظالمين.
وَ لاٰ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً لا يلطف بهم فيسلكون الطريق الموصل إلى جهنم، أو لا يهديهم يوم القيامة إلا طريقها.
يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ قَدْ جٰاءَكُمُ اَلرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلّٰهِ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ كٰانَ اَللّٰهُ عَلِيماً حَكِيماً (17(0) يٰا أَهْلَ اَلْكِتٰابِ لاٰ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لاٰ تَقُولُوا عَلَى اَللّٰهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ
ص: 448
رَسُولُ اَللّٰهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقٰاهٰا إِلىٰ مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللّٰهِ وَ رُسُلِهِ وَ لاٰ تَقُولُوا ثَلاٰثَةٌ اِنْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اَللّٰهُ إِلٰهٌ وٰاحِدٌ سُبْحٰانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ وَ كَفىٰ بِاللّٰهِ وَكِيلاً
فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ ومثله: اِنْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ ، انتصب بمضمر، وهو أنّه لما دعاهم إلى الإيمان، وإلى الانتهاء عن التثليث، علم أنّه يحملهم علي أمر فقال:
خَيْراً لَكُمْ اقصدوا أو ائتوا أمرا خيرا لكم مما أنتم فيه من الكفر والتثليث وهو الإيمان والتوحيد.
لاٰ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غلت اليهود في المسيح حتى قالت: ولد لغير رشدة، وغلت النصارى فيه حيث جعلوه إلها.
وَ لاٰ تَقُولُوا عَلَى اَللّٰهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ و هو تنزيهه عن الشريك والولد.
وَ كَلِمَتُهُ قيل لعيسى: كلمة اللّه وكلمة منه، لأنّه وجد بكلمته وأمره لا غير من غير واسطة أب ولا نطفة، وقيل له: روح اللّه وروح منه كذلك، لأنه ذو روح وجد من غير جزء من ذي روح، كالنطفة المنفصلة من الحي، وإنّما أنشئ إنشاء من عنداللّه خالصا.
أَلْقٰاهٰا إِلىٰ مَرْيَمَ أوصلها إليها وحصلها فيها.
ثَلاٰثَةٌ خبر مبتدأ محذوف، فإن صح عنهم قولهم: هو جوهر واحد ثلاثة أقانيم فتقديره: اللّه ثلاثة، وإلا فتقديره: الآلهة ثلاثة.
سُبْحٰانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ أي: أسبّحه تسبيحا من أن يكون له ولد.
مٰا فِي اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ مٰا فِي اَلْأَرْضِ بيان لتنزهه مما نسب إليه. المعنى: إ نّ كل
ص: 449
ما فيهما خلقه وملكه، فكيف يكون بعض خلقه وملكه جزء منه!.
وَ كَفىٰ بِاللّٰهِ وَكِيلاً يكل الخلق إليه أمورهم، فهو الغني عنهم وهم الفقراء إليه.
لَنْ يَسْتَنْكِفَ اَلْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلّٰهِ وَ لاَ اَلْمَلاٰئِكَةُ اَلْمُقَرَّبُونَ وَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبٰادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (17(2) فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ أَمَّا اَلَّذِينَ اِسْتَنْكَفُوا وَ اِسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذٰاباً أَلِيماً وَ لاٰ يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ وَلِيًّا وَ لاٰ نَصِيراً
أي: لَنْ يأنف اَلْمَسِيحُ ولن يذهب بنفسه عزّة، من نكفت الدمع:
إذا نحيته عن خدّك بإصبعك، من أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلّٰهِ وَ لاَ اَلْمَلاٰئِكَةُ اَلْمُقَرَّبُونَ يأنفون، وهو عطف علي اَلْمَسِيحُ أي: ولا كل واحد من الملائكة يأنف من أن يكون عبدا للّه، أو ولا الملائكة المقرّبون يأنفون من أن يكونوا عبادا للّه فحذف لدلالة قوله: عَبْداً لِلّٰهِ عليه إيجازا.
وَ مَنْ يأنف عَنْ عِبٰادَتِهِ ويترك الإذعان له.
فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ أي: فسيحشر المستنكف والمستكبر والمقرّ بالعبودية جَمِيعاً إلي موضع الجزاء، فيجازيهم جميعا علي حسب أحوالهم.
والآية الأخرى ظاهرة المعنى.
يٰا أَيُّهَا اَلنّٰاسُ قَدْ جٰاءَكُمْ بُرْهٰانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّٰهِ وَ اِعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي
ص: 450
رَحْمَةٍ مِنْهُ وَ فَضْلٍ وَ يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرٰاطاً مُسْتَقِيماً
البرهان والنور المبين هو القرآن، أو أريد بالبرهان الدين الحقّ أو رسول اللّه، وبالنور المبين ما يبيّنه من الكتاب المعجز.
فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَ فَضْلٍ أي: في ثواب مستحقّ وتفضّل.
وَ يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ يوفّقهم لإصابة فضله الذي يتفضل به علي أوليائه، وسلوك طريق من أنعم عليه من أصفيائه، واتباع دينهم وهو الصراط المستقيم الذي ارتضاه اللّه سبحانه منهجا لعباده.
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اَللّٰهُ يُفْتِيكُمْ فِي اَلْكَلاٰلَةِ إِنِ اِمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَهٰا نِصْفُ مٰا تَرَكَ وَ هُوَ يَرِثُهٰا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهٰا وَلَدٌ فَإِنْ كٰانَتَا اِثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا اَلثُّلُثٰانِ مِمّٰا تَرَكَ وَ إِنْ كٰانُوا إِخْوَةً رِجٰالاً وَ نِسٰاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اَللّٰهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَ اَللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ
قالوا: إنّه آخر ما نزل من أحكام الدين.
كان جابر بن عبد اللّه مريضا فعاده رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم، فقال: (يا رسول الله، إنّ لي كلالة فكيف أصنع في مالي ؟) فنزلت(1).
إِنِ اِمْرُؤٌ هَلَكَ مرفوع بفعل مضمر يفسّره الظاهر، و لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ جملة منصوبة الموضع علي الحال، أي: هلك غير ذي ولد وَ لَهُ أُخْتٌ يعني:
الأخت للأب والأم، أو للأب.
فَلَهٰا نِصْفُ مٰا تَرَكَ وَ هُوَ يَرِثُهٰا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهٰا وَلَدٌ يعني: إنّها إذا كانت
ص: 451
الميتة فالأخ يرثها المال كله إذا كانت غير ذات ولد ولا والد، وشرط انتفاء الوالد بيّنه النبي صلى الله عليه و آله و سلم(1) وفيه إجماع.
فَإِنْ كٰانَتَا اِثْنَتَيْنِ الأصل: فإن كان من يرث بالأخوّة اثنتين فَلَهُمَا اَلثُّلُثٰانِ مِمّٰا تَرَكَ .
وَ إِنْ كٰانُوا إِخْوَةً وإن كان من يرث با لأخوّة أخوة ذكورا و إناثا.
فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ فالمراد بالأخوة: الأخوة والأخوات تغليبا لحكم الذكور.
وإنّما قيل: فَإِنْ كٰانَتَا و وَ إِنْ كٰانُوا كما قيل: (من كانت أمك)، فكما أنّث ضمير (من) لمكان تأنيث الخبر كذلك ثنّي وجمع ضمير من يرث في كٰانَتَا و كٰانُوا لمكان تثنية الخبر وجمعه.
و أَنْ تَضِلُّوا مفعول له، ومعناه: كراهة أن تضلوا، أي: يُبَيِّنُ اَللّٰهُ لَكُمْ جميع أحكام دينكم لئلا تضلوا.
وَ اَللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ من أمور معاشكم ومعادكم فيجزيكم بها علي ما تقتضيه المصلحة وتوجبه الحكمة.
ص: 452