تعليقة على معالم الاصول المجلد 7

هوية الكتاب

المؤلف: السيّد علي الموسوي القزويني

المحقق: السيد علي العلوي القزويني

الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي

المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1427 ه.ق

ISBN (ردمك): 964-470-753-2

المكتبة الإسلامية

تعليقة علی معالم الأصول

تأليف: الفقية المحقق والأصولي المدقق العلّامة السيد علي الموسوي القزويني قدس سره

تحقيق حفيدة: السيد علي العلوي القزويني

الجزء السابع

مؤسسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة

ص: 1

اشارة

تعليقة علی معالم الأصول

(ج7)

تأليف: العلّامة السيّد عليّ الموسويّ القزوينيّ قدس سره

الموضوع: الأصول

تحقيق: السيد علي العلوي القزوينيّ

طبع و نشر: مؤسسة النشر الإسلامي

عدد الصفحات: 716

الطبعة: الأولی

المطبوع: 500 نسخة

التاريخ: 1427 ه.ق

مؤسسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة

ص: 2

تعليقة : في الاجتهاد والتقليد

اشارة

الحمد لله ربّ العالمين وصلّى اللّه على محمّد وآله الطاهرين ، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

وبعد فهذا هو الجزء الأخير ممّا علّقناه في فنّ الاصول على معالم الاصول.

المطلب التاسع : في الاجتهاد والتقليد *.

__________________

* وقد جرت عادة الاصوليّين قديما وحديثا من العامّة والخاصّة بإيراد مباحث الاجتهاد كمسائل التقليد في الكتب الاصوليّة ، وهذا يوهم كونها من مسائل اصول الفقه كما هو ظاهر كثير وصريح غير واحد منهم ، ولعلّ وجهه صدق تعريف الأكثرين إيّاه ب- « العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة » عليها ، فإنّها أيضا قواعد مهّدت لاستنباط الأحكام من حيث إنّ الاستنباط لا يتمّ إلاّ بشرائطه ، ومن حيث قبوله التجزئة وعدمه ، ومن حيث إنّه لا بدّ له من مستنبط يعتبر فيه من حيث استنباطه امور ، إلى غير ذلك ممّا يذكر في تلك المباحث من حيث ارتباطها بمقام الاستنباط الملحوظ في نفسه ، أو وصفا في المستنبط من حيث هو ، أو من حيث رجوع الغير إليه في مقام التقليد.

ويشكل : بأنّ هذا وإن كان يقرّب كونها من مسائله ، ولكن يبعّده خلوّها عمّا هو ضابط مسائل الفنّ من كونها باحثة عن أمر يرجع إلى موضوع الفنّ ، بكون موضوعاتها موضوع العلم أو جزءا منه أو نوعا منه أو عرضا ذاتيّا له أو نوعا من عرضه الذاتي ، ولذا يقال : إنّ موضوع العلم ما كان جهة جامعة بين مسائله ، وموضوع البحث في مباحث الاجتهاد ليس هو الأدلّة بأحد هذه الاعتبارات الخمس كما هو واضح ، وإنّما هو الاجتهاد أو المجتهد.

نعم على القول بكفاية صدق تعريف العلم على مسألة في كونها من مسائل هذا العلم تمّ ما ذكر لا مطلقا.

ويمكن الذبّ عنه : بأنّ الاستنباط يقع على الأدلّة فهو من الأحوال المختصّة بها ،

ص: 3

في تعريف الاجتهاد

أصل

الاجتهاد * في اللغة : تحمّل وهو المشقّة ** في أمر. يقال : اجتهد في حمل الثقيل ، ولا يقال ذلك في الحقير.

__________________

والمباحث المذكورة باحثة عن الاستنباط أو المستنبط من حيث الاستنباط ، وهو بحث عمّا يرجع إلى الأدلّة بالأخرة.

وربّما يشكل الحال في أنّ من مميّزات مسائل العلم اندراجها في غاية العلم ، والغاية المطلوبة من تدوين اصول الفقه - على ما ظهر من تعريفه - كونها مقدّمات قريبة أو بعيدة تؤخذ في الاستدلالات على المسائل الفرعيّة ، ولذا تعدّ من مباني الفقه ، والمسائل المبحوث عنها في باب الاجتهاد ليست من المقدّمات المأخوذة في استدلالات المسائل الفرعيّة.

ويمكن الذبّ عنه أيضا : بأنّ الغاية المطلوبة من تدوين هذا الفنّ ابتناء استنباط المسائل الفرعيّة على مسائله ، سواء كانت مقدّمات تؤخذ في استدلالات المسائل الفرعيّة ، أو امورا يتوقّف الاستنباط على تحقّقها الخارجي.

وما ذكرناه في توجيه عدّ هذه المباحث من مسائل الفنّ أسدّ ممّا صنعه شارح المختصر في بيانه من جعل موضوعه ثلاثة : الأدلّة والاجتهاد والترجيح.

وعن بعضهم إضافة التعادل أيضا إلى الترجيح ، ليكون مباحث الاجتهاد باعتبار كونها باحثة عن حال الاجتهاد مندرجة في مسائل الفنّ كما أنّ مباحث التعادل والترجيح مندرجة فيها باعتبار كونها باحثة عنهما ، فإنّه - مع كونه خلاف ما اشتهر بين أرباب الفنّ وعليه جمهورهم من حصر موضوعه في الأدلّة - يرد عليه : رجوع البحث في مباحث البابين إلى الأدلّة.

أمّا باب الاجتهاد فلما وجّهناه هنا.

وأمّا باب التعادل والترجيح فلما بيّنّاه في أوائل الكتاب فراجع وتأمّل.

نعم ينبغي القطع بخروج مباحث التقليد عن مسائله ، وكون إيرادها في كتبه تبعا ، بل الإنصاف أنّ مباحث الاجتهاد أيضا خارجة عن مسائله كما بيّنّاه ثمّة.

* افتعال من الجهد وهو فتحا وضمّا - على ما في كلام غير واحد من أئمّة اللغة - الوسع والطاقة ، وعن الفرّاء الفرق بين مفتوحه فللمشقّة ومضمومه فللوسع والطاقة ، وربّما ذكر له معنى آخر وهو الغاية والنهاية كما في المجمع.

** كما في شرح المختصر للعضدي ، ومحكيّ الوافية ، وشارح الزبدة ، وتبعهم بعض

ص: 4

وأمّا في الاصطلاح *

__________________

الأعلام وبعده بعض الفضلاء ، وهذا منهم كما ترى يخالف ما في كلام الأكثرين من أخذه لغة بمعنى بذل الوسع والطاقة أو ما يرادفه ، وكأنّه منهم انكار لورود هذه المادّة مطلقا لغير المشقّة ، أو إنكار لبناء هذه الهيئة عمّا هو للوسع والطاقة ، ولو لا أحد هذين الوجهين لتوجّه إليهم عدم الوجه في العدول عن اعتبار كون نقل هذا اللفظ إلى ما يأتي من المعنى المصطلح عليه من باب نقل العامّ إلى الخاصّ - كما هو قضيّة ما صنعه الأكثرون - إلى اعتبار كونه نقلا من اللازم إلى ملزومه - كما هو مقتضى تفسيرهم المذكور - مع كون الأوّل أولى في نظر الاعتبار ، لغلبة هذا النقل بحسب الخارج ، وكون العموم والخصوص من أظهر المناسبات وأقواها.

وتحقيق الحال : أنّ الإقدام على ما فيه مشقّة كحمل الثقيل تحمّل للمشقّة وإعمال للوسع والطاقة ، ولا إشكال في أنّ لفظ « الاجتهاد » باعتبار الوضع اللغوي على ما يشهد به الأمارات القويّة والاستعمالات الواردة في الكتاب والسنّة وغيرهما مختصّ بموارد المشقّة ، كما نصّ عليه غير واحد من الطائفة.

وإنّما الإشكال في أنّ المأخوذ في وضعه هل هو أوّل المفهومين ليكون الثاني من لوازمه ، أو ثانيهما مقيّدا بما فيه مشقّة لا مطلقا؟ غير أنّه لوقيل بالأوّل لسلم الوضع عن اعتبار التقييد في مسمّى اللفظ الّذي ينفيه الأصل ، مع إمكان منع ورود هذه المادّة لغير المشقّة على وجه الحقيقة ، والاستعمالات الواردة في الكتاب والسنّة وغيرهما متّفقة في إرادة المشقّة كما يظهر للمتتبّع ، ولا ينافيها ورود الاستعمال على ندرة في غيرها ، كما في قوله تعالى : ( لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ )(1) أي وسعهم على ما في المجمع (2) ، لتوسعة باب التوسّع الّذي يعضده الندرة ، ولو سلّم الوضع في المادّة مطلقة أو مضمومة فبناء الهيئة عنها بهذا المعنى في حيّز المنع.

* واعلم أنّ له في اصطلاح المتشرّعة أو أرباب العلوم الشرعيّة أو الفقهاء والاصوليّين أو خصوص الفقهاء إطلاقات كثيرة ، فقد يطلق ويراد منه النظر في معرفة الأحكام الشرعيّة - ولو اصوليّة - بطريق الاستدلال ، ومنه قولهم : يجب الاجتهاد في اصول الدين ولا يكفي فيه التقليد.

وقد يطلق ويراد منه صرف النظر في معرفة الأحكام الفرعيّة الواقعيّة عن أدلّتها علميّة

ص: 5


1- التوبة : 79.
2- مجمع البحرين : مادّة « جهد ».

أو ظنّية أو تعبّديّة ، وإليه يرجع ما في قولهم : « الأدلّة الاجتهاديّة ». قبالا للأدلّة الفقاهيّة.

وقد يطلق ويراد منه صرف النظر في معرفة الأحكام الفرعيّة - واقعيّة أو ظاهريّة - عن مداركها ولو كانت من قبيل الاصول العامّة العمليّة ، ومنه اخذ بعض الحدود الآتية ، ونشأ منه جملة من الإيرادات الآتية على ما يأتي من المصنّف.

وقد يطلق ويراد منه صرف النظر في معرفة الأحكام الفرعيّة بغير النصوص ، ومنه ما في قولهم : « هذا اجتهاد في مقابلة النصّ » دفعا لمقالة من يخالف النصّ تمسّكا باعتبارات ظنّيّة ، ولعلّه منه اخذ بعض التعاريف الآتية.

وقد يطلق ويراد منه صرف النظر في معرفة الأحكام الفرعيّة بالطرق الظنّية ، وهو بهذا المعنى وقع محلاّ للنزاع بين الأخباريّة والاصوليّة ، ومنه اخذ أكثر التعاريف الآتية وهو اصطلاح خاصّ للفقهاء.

ويمكن رجوع سابقه إليه ، بناء على كون النصّ مرادا به ما لا يحتمل معه الخلاف لفظا أو غيره ، والشائع فيما بينهم ولا سيّما أصحابنا المتأخّرين ومتأخّريهم إلى زماننا هذا إطلاقه على ما اشتمل على قوّة ردّ الفروع إلى الاصول.

فالمجتهد حينئذ من له تلك القوّة ، وإليه ينظر ما يأتي من تعريف الزبدة.

وممّا شاع أيضا إطلاقه في كلام القدماء وغيرهم وفي الأخبار أيضا - على ما سيأتي ذكره - على القياس والرأي ونحو ذلك من الطرق الفاسدة المتداولة عند المخالفين.

وكيف كان فقد ذكروا له بحسب الاصطلاح تعاريف مختلفة ، فعن الذريعة : « أنّ الاجتهاد عبارة عن إثبات الأحكام الشرعيّة بغير المنصوص ، بل بما هو طريقة الأمارات والظهور ».

وعن المعارج : « أنّه في عرف الفقهاء بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعيّة ».

وعن معراج الوصول : « أنّه بذل القدرة في إدراك الأحكام الشرعيّة الّتي لم يعلم بالنصّ ».

وعن الإحكام : « أنّه في اصطلاح الاصوليّين مخصوص باستفراغ الوسع وطلب الظنّ بشيء من الأحكام الشرعيّة على وجه يحسّ من النفس العجز عن المزيد عليه ».

وعن المبادئ وشرحه : « أنّه في الاصطلاح عبارة عن استفراغ الوسع في النظر فيما هو من المسائل الظنّية الشرعيّة على وجه لا زيادة فيه ».

وعن النهاية المحكيّ في المنية عن آخرين : « الاجتهاد استفراغ الوسع في طلب الظنّ بشيء من الأحكام الشرعيّة بحيث ينتفي اللوم عنه بسبب التقصير ».

ص: 6

فهو استفراغ الفقيه وسعه * وفي التهذيب والمنية : « أنّه في الاصطلاح - كما في الأوّل - وفي عرف الفقهاء - كما في الثاني - استفراغ الوسع من الفقيه لتحصيل ظنّ بحكم شرعي ».

__________________

وفي المختصر وشرحيه : « أنّه في الاصطلاح استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظنّ بحكم شرعي ».

وفي الكتاب وغيره ممّن سبقه ولحقه : « أنّه استفراغ الفقيه وسعه في تحصيل الظنّ بحكم شرعي ».

وفي فوائد العلاّمة : « أنّه بحسب الاصطلاح استفراغ في تحصيل الحكم الشرعي بطريق ظنّي ».

وفي المجمع : « نقل في الاصطلاح إلى استفراغ الوسع فيما فيه مشقّة لتحصيل ظنّ شرعي ».

وعن الوافية : « أنّ الأولى في تعريفه : أنّه صرف العالم بالمدارك وأحكامها نظره في ترجيح الأحكام الشرعيّة الفرعيّة ».

وفي بعض شروح الكتاب المسمّى بأصل الاصول - أنّه بعد ما نقل تعريف الوافية وحكم بكونه أسلم - قال : « وأحسن منه أن يقال : صرف العالم نظره في تحصيل المسائل الشرعيّة الفرعيّة بمداركها ».

وعن الزبدة : « أنّ الاجتهاد ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي من الأصل فعلا أو قوّة قريبة ».

* وفي كلام غير واحد أنّ استفراغ الوسع معناه بذل تمام الطاقة بحيث يحسّ من نفسه العجز عن المزيد عليه ، ولعلّ وجهه أنّ الاستفراغ استفعال بمعنى الطلب ، فإذا اضيف إلى الوسع كان معناه طلب الفقيه فراغ وسعه ، وفراغ الوسع عبارة عن الخلوص والخلوّ عنه ، ويشكل ذلك : بأنّ طلب الشيء لا يستلزم حصوله في الخارج.

نعم قد يقال : بأنّ المأخوذ في وضع الاستفعال هو الطلب المستلزم للحصول كما في « استخرجته فخرج ».

وفيه : أنّ ذلك لزوم غالبي لا دائمي ، ضرورة أنّه لو قيل : « استفسرت منه فما فسّر لي » و « استعلمت منه فما أعلمني » لم يكن مناقضا ولا موجبا للتجوّز ، كما أنّه في المثال المذكور لا يوجب تكرارا.

ص: 7

فالإنصاف : أنّها لمطلق الطلب ، وعليه فلو نظر في دليل المسألة وحصل له الظنّ بالحكم الشرعي في أوّل نظره أو فيما لم يبلغ حدّ العجز عن المزيد عليه لم يكن منافيا لكونه مستفرغا وسعه ، فيكون هذا الفرض مشمولا للتعريف مع كونه من أفراد المعرّف (1).

ويندفع به ما قيل على عكس التعريف من أنّ استفراغ الوسع غير معتبر في تحصيل كلّ من الأحكام.

وتوضيحه : أنّ أقصى ما يجب على المجتهد الاطمئنان بتحصيل ما يستفاد من الأدلّة الموجودة ، وذلك قد يحصل بأوّل نظره في دليل المسألة كما في كثير من المسائل الّتي مداركها ظاهرة ، وقد لا يحصل إلاّ بعد استفراغ منتهى الوسع كما في بعض المسائل المشكلة ، وقد يكون بين الأمرين.

ومن البيّن تحقّق الاجتهاد في جميع ذلك فلا ينعكس الحدّ.

ولا حاجة معه إلى تكلّف أن يقال : إنّ بذل الوسع إنّما يعتبر بالنسبة إلى مجموع المسائل الّتي يحتاج إلى استنباطها لا حصوله في كلّ مسألة ، وحينئذ يكتفى في كلّ منها بما يحصل به الاطمئنان ، ليرد عليه : أنّه لا يلائم ذكر الحكم في الحدّ بصيغة المفرد.

ولا إلى أن يقال : من أنّ المراد باستفراغ الوسع ما هو المعتبر في عرف المجتهدين لا الاستفراغ العقلي ، والقدر المعتبر أمر معروف وهو ما يحصل به الظنّ بعدم الظفر بالمعارض ظنّا يعتدّ به ، ليتوجّه إليه : أنّ الإيراد على ظاهر الحدّ فلا يدفعه حقيقة المراد بعد تسليم ظهور الاستفراغ في العقلي ، وإلاّ ليسلم قاطبة الحدود عن النقوض والإبرامات.

وتوهّم خروج المفروض عن المعرّف فلا يضرّ خروجه عن التعريف - مع أنّه بناء على التحقيق المتقدّم غير خارج - لا يلائم ما عليه جمع من أجلاّء أصحابنا من أصالة حجّية الظنّ الاجتهادي وعدم وجوب تحصيل الظنّ الأقوى ، مع الإجماع المحكيّ عليه عن بعض الأجلاّء ، بل لا يتمّ ذلك على ما عليه الآخرون من أصالة حرمة العمل بالظنّ إلاّ ما خرج بالدليل - كما هو الحقّ - لو قيل بأنّه لا دليل على خروج غير الظنّ الأقوى بعد ملاحظة أنّه لو وجب تحصيل الظنّ الأقوى في كلّ مسألة لزم مضافا إلى العسر والحرج تعطيل الأحكام وسدّ باب الاستنباط القاضي بالخروج عن الدين ، ولو وجب في بعضها

ص: 8


1- قد أبدل المصنّف رحمه اللّه في حاشية من حواشيه على القوانين هذه العبارة بقوله : « ... لم يكن منافيا لكونه مستفرغا وسعه وكان ذلك من أفراد المعرّف ... » راجع حاشية القوانين 2 : 121.

دون بعض لزم الترجيح بغير مرجّح ، بل ربّما قيل بأداء بذل تمام الوسع إلى صرف تمام الوقت في تحصيل مسألة واحدة.

ولا ريب أنّ هذه الامور المعتضدة بمحكي الإجماع تنهض مخرجة عن الأصل مسقطة لاعتبار الظنّ الأقوى.

ومع الغضّ عن ذلك فأقصى ما يقتضيه الأصل المذكور كون الأقوائيّة في الظنّ شرطا للاعتبار ، ولا يلزم من كون شيء شرطا للاعتبار اعتباره في ماهيّة الاجتهاد إلاّ على توهّم كون التعريف للصحيح منه ، وهو ضعيف جدّا لمنع اعتبار الصحّة في مفهوم الاجتهاد اصطلاحا على ما سنقرّره.

وأمّا قيد « الفقيه » فهو احتراز عن غيره كالمنطقي الصرف إذا استفرغ وسعه في طلب شيء من الأحكام بطريق الاستدلال ، والمقلّد إذا استفرغ وسعه في طلب فتوى المفتي الّتي هي في حقّه حكم شرعي.

واعترض عليه : باستغناء خروج من ذكر عن هذا القيد إمّا لأنّ استفراغ الوسع لا يتأتّى من غير الفقيه إذا لم يكن له قوّة ردّ الفروع إلى الاصول كما هو المفروض ، أو لأنّ مثل هذا الاستفراغ لا يسمّى استفراغا للوسع في تحصيل الحكم الشرعي ، فهو مخرج بجنس التعريف ولا حاجة إلى اعتبار قيد آخر.

ويدفعه : منع عدم تأتّي استفراغ الوسع عمّن ذكر خصوصا المقلّد المستفرغ وسعه في طلب الفتوى ، فإنّ إمكان ذلك وتحقّقه في الخارج معلوم بحكم الضرورة ، سواء قلنا بكفاية الظنّ بالفتوى في حقّه ، أو قلنا بلزوم العلم بها ، إذ على التقدير الثاني كونه لا يستفرغ وسعه إلاّ في طلب العلم بالفتوى لا ينافي إمكان تأتّي ذلك منه ، والمعتبر في الحدود أخذ الماهيّة الكلّية صادقة على ما أمكن تحقّقه في الخارج من الأفراد وإن لم يتحقّق بعد فعلا ، بل وعلى تسليم الامتناع ولو بحسب العادة فهو لا يمنع اندراجه تحت الماهيّة الصادقة عليه على فرض وجوده ، حيث إنّ فرض الممتنع ليس من الممتنع ، وكما أنّه لا يشترط في أفراد الكلّي فعليّة الوجود فكذا لا يشترط فيها إمكان الوجود على ما قرّر في محلّه ، وهذا بعينه جار في المنطقي أيضا على فرض الامتناع ، وإلاّ فعدم الامتناع في حقّه أيضا ضروري ، لجواز توصّله بمقتضى قواعده المنطقيّة إلى إثبات حكم شرعي ، خصوصا إذا استند فيه إلى القياس المعبّر عنه عنده بالتمثيل.

ص: 9

وبما عرفت جميعا يظهر لك ضعف دعوى عدم تسمية ذلك استفراغا للوسع في تحصيل الحكم الشرعي ، هذا بالقياس إلى المنطقي إذا حمل الحكم الشرعي في التعريف على الحكم الواقعي الثابت في حقّ المشافهين وغيرهم من المتمكّنين من العلم الواقعي.

وأمّا لو حمل على الحكم الفعلي أو على مصطلح الاصولي - وهو خطاب اللّه المتعلّق بأفعال المكلّفين - اتّجه منع تسمية استفراغه استفراغا للوسع في طلب الحكم الشرعي بهذا المعنى ، لعدم كون مطلوبه حكما فعليّا في حقّه ولا خطابا متعلّقا بفعله ، من حيث إنّه لم يكلّف بطلب هذا الحكم ، ولو طلبه ليس له بناء العمل عليه.

لكن يرد على ما ذكر في الإيراد - من أنّه خارج بجنس التعريف - : منع ذلك ، لاستناد خروجه على هذا البيان إلى قيد « الحكم الشرعي » غير أنّ أصل الإيراد وهو الاستغناء عن قيد « الفقيه » وعدم الحاجة إليه باق على حاله.

إلاّ أن يقال - على تقدير أخذ الحكم بالمعنى الاصولي - : إنّ التعلّق بفعل المكلّفين أو فعل جنس المكلّف لا يقتضي التعلّق بفعل هذا الشخص بالخصوص ، فالقضيّة في حقّه صادقة إذا جعل التعلّق عبارة عنه في الجملة ولو بالقياس إلى غيره كالمشافه ومن بحكمه.

وهاهنا اعتراض آخر ينشأ من قيد « الفقيه » وهو استلزامه الدور المستحيل ، فإنّ قضيّة أخذ « الفقيه » من أجزاء الحدّ توقّف معرفة الاجتهاد على معرفة الفقه ، والمفروض أنّه لا فقه إلاّ بالاجتهاد لتأخّر رتبة الفقاهة عنه.

وقد يقرّر الدور بوجه آخر وهو : أن أخذ « الفقيه » في حدّ الاجتهاد يعطي توقّف حصول الاجتهاد على تحقّق الفقاهة ، ضرورة كونه الاستفراغ الحاصل من الفقيه.

ومن البيّن توقّف حصول الفقاهة على الاجتهاد ، فيلزم الدور في تحقّق الاجتهاد في الخارج لا في التصوّر.

ويدفعه في تقريره الأوّل : أنّ المتوقّف على الاجتهاد إنّما هو الفقه بمعنى العلم الفعلي بالأحكام ، لا العلم بمعنى الملكة المقتدر بها على العلم الفعلي.

ومن الواجب حمل « الفقيه » على من له هذه الملكة إمّا لكون مبدأ اشتقاقه اسما لها على التحقيق في ألفاظ العلوم ، أو لتوقّف حفظ حدّ الفقه عن إشكال انتفاض عكسه بخروج أكثر الفقهاء على تقدير إرادة الجميع من الأحكام عليه.

ص: 10

ويظهر من المحقّق التفتازاني جواز الحمل عليها كما جزم به بعض الفضلاء (1) بناء على أوّل الوجهين ، ولعلّه إلى ذلك يرجع ما عن شيخنا البهائي من « أنّ المراد من الفقيه من مارس فنّ الفقه وإن لم يكن مجتهدا ، احترازا عن الأجنبي كالمنطقي الصرف » وإطلاق « الفقيه » عليه كثير وإن كان إطلاقه على المجتهد أكثر ، نظرا إلى أنّ الملكة بهذا المعنى إنّما تحصل بالممارسة وإن اعتبر معها امور اخر كما تقدّم الإشارة إليه في حدّ الفقه.

وعليه فما اعترض عليه بعض الأعلام من أنّ من قرأ الكتب وزاول رؤوس المسائل أو بعض الكتب الاستدلاليّة أيضا ولكن لم يحصل له بعد قوّة ردّ الفرع إلى الأصل لا يسمّى استفراغ وسعه اجتهادا ، في غير محلّه.

وبما ذكرناه يندفع أيضا ما أورد على عكس الحدّ من أنّ « الفقيه » لا يصدق إلاّ مع العلم بجميع الأحكام أو القدر المعتدّ به الّذي يحصل به الغرض المطلوب من وضع الفنّ ، فخرج استفراغ وسع من لم يبلغ العلم بالجميع أو القدر المعتدّ به ، وعلى فرض صدقه على من علم مسألة أو مسألتين أو أزيد يخرج من استفرغ في طلب ذلك وهو في كلّ من الفروض من أفراد المعرّف ، فإنّ كلّ ذلك مبنيّ على حمل « الفقه » على العلم بالأحكام فعلا.

ويمكن دفع الدور أيضا على هذا التقدير وإن انتقض معه العكس بإبداء اختلاف الجهة ، إذ المتوقّف في جانب الاجتهاد معرفة ماهيّة الاجتهاد ووجودها الذهني لتوقّفه على معرفة الفقه ، والمتوقّف في جانب الفقه وجوده في الخارج دون معرفته ، لتوقّفه على تحقّق الاجتهاد فعلا مع كونه معلوما بنفسه ولو بالنظر الغير المأخوذ فيه الاجتهاد فلا دور ، لجواز توقّف شيء على غيره في الوجود الذهني مع توقّف ذلك الغير عليه في الوجود الخارجي ، كما في العلّة والمعلول في الاستدلالات الإنّيّة.

هذا بناء على الإغماض عمّا يساعد عليه النظر جريا على ما اعتمد عليه غير واحد من الأجلاّء في دفع الدور ، وإلاّ فمقتضى ما بنوا عليه من أخذ « الفقه » هنا بمعنى العلم الفعلي عدم توقّفه في الوجود الخارجي أيضا على الاجتهاد بالمعنى المأخوذ فيه « الفقه » بهذا المعنى ، لأنّه بماهيّته عبارة عندهم إمّا عن العلم بجميع الأحكام ، أو عن العلم بالبعض المعتدّ به ، أو عن العلم بالبعض المطلق الغير المنافي للعلم بالجميع ليشمل التجزّي ولو في مسألة.

ص: 11


1- الفصول : 387.

ولا ريب أنّ الماهيّة في تحقّقها الخارجي بكلّ من تقاديرها الثلاث مسبوقة بالاستنباطات المعرّاة عنها ، لأنّها ما لم تبلغ حدّا تحقّق معه الماهيّة المأخوذة في مفهوم الاجتهاد كانت معرّاة عن تلك الماهيّة ، وعراها يقضي بعدم صدق الاجتهاد بالمعنى المأخوذ فيه تلك الماهيّة عليها ، فتكون الماهيّة في تحقّقها الخارجي موقوفة على ما ليس باجتهاد ، وإذا تحقّق عنوان الاجتهاد في الخارج بتحقّق ماهيّة الفقه فيه كان فارغا عن توقّف تحقّقها عليه.

وهذا بعد انتقاض عكس التعريف على الوجه الّذي بيّنّاه سابقا من أفضح ما يلزمهم ، حيث إنّ المعروف فيما بين الأوائل والأواخر المصرّح به في كلامهم وكلام غيرهم من أهل التحقيق توقّف الفقه بالمعنى المذكور على الاجتهاد في تحقّقه الخارجي ، فلا يبقى لهم مناص عن أخذ « الفقه » هنا بمعنى الملكة المشار إليها ، ليكون الاستنباطات من أوّلها إلى آخرها متضمّنة للفقه فيصدق عليها عنوان الاجتهاد من أوّل الأمر ، ويكون العلم بالأحكام في جميع مراتبه مسبوقا بالاجتهاد موقوفا عليه.

ثمّ إنّ التفتازاني قال في شرحه : « ظاهر كلام القوم أنّه لا يتصوّر فقيه غير مجتهد ، ولا مجتهد غير فقيه على الإطلاق. نعم لو اشترط في الفقه التهيّؤ للكلّ وجوّز الاجتهاد في مسألة دون مسألة تحقّق مجتهد ليس بفقيه » انتهى.

وهذه الملازمة على فرض ثبوتها مبنيّة على أخذ كلّ من الاجتهاد والفقه باعتبار الملكة ، أو الأوّل باعتبار الفعل والثاني باعتبار الملكة ، دون ما لو اخذا معا باعتبار الفعل ، أو أخذ الأوّل باعتبار الملكة والثاني باعتبار الفعل كما يظهر وجهه بتأمّل.

وهذه أيضا من الشواهد على أنّ الاجتهاد باعتبار الفعل مأخوذ فيه الفقه باعتبار الملكة ، وأنّ الفقه بهذا الاعتبار لابدّ من أخذه في تعريف الاجتهاد باعتبار الفعل ليندفع به كلّ من إشكالي الدور وانتقاض العكس.

وأمّا التقرير الثاني من الدور فيندفع أيضا بملاحظة ما ذكرناه ، وملخّصه : أنّ التوقّف في جانب الاجتهاد توقّف الاجتهاد باعتبار الفعل على الفقه باعتبار الملكة ، فلو توقّف الفقه باعتبار الفعل حينئذ على الاجتهاد بهذا الاعتبار لم يلزم دور كما لا يخفى ، مع أنّه لو سلّم الدور بينهما باعتبار وجودهما الخارجي على تقدير أخذهما معا باعتبار الفعل فهو ممّا لا دخل له بما هو مقصود المقام من معرفة ماهيّة الاجتهاد بمعرفة ماهيّة الفقه الغير المتوقّفة

ص: 12

في تحصيل الظنّ *

__________________

على معرفة الاجتهاد ، فلا يفسد به التعريف.

* قد عرفت أنّ أكثر التعاريف كان مشتملا على قيد « الظنّ » وفائدته على ما صرّح به كلّ من تصدّى ببيان فوائد أجزاء التعاريف المتقدّمة من العامّة والخاصّة الاحتراز عن استفراغ الفقيه وسعه لتحصيل العلم ، وعلّله العضدي بقوله : « إذ لا اجتهاد في القطعيّات » غير أنّه غير واحد من أفاضل متأخّرينا أورد عليه بفساده لو اريد به ما يعمّ القطعيّات النظريّة ، إذ معرفة النظريّات أيضا تسمّى فقها وتحصيلها من أدلّتها يسمّى اجتهادا ، فلا يحسن إخراجه ، ولعلّه لأجل ذا عدل في الوافية (1) وغيرها في التعريف إلى ما لم يؤخذ فيه الظنّ.

وقد يضاف إلى هذا الفرض الغير الخارج عن الاجتهاد ما لو انتهى استفراغ الوسع إلى دليل تعبّدي غير منوط اعتباره بالظنّ ، وما لو انتهى إلى التوقّف في خصوص المسألة المستلزم للأخذ بالاصول العامّة العمليّة ، فإنّ كلّ ذلك من المعرّف مع انتفاء الظنّ فيه ، كما في صورة انتهائه إلى القطع بالحكم.

لكن يندفع الكلّ بمنع استلزام القيد خروج هذه الصور ، نظرا إلى أنّ الظرفيّة في قولهم : « في تحصيل الظنّ » يؤدّي هنا مؤدّى « لام » الغاية ، بل هي الواقعة في جملة من التعاريف مكان الظرفيّة.

ولا ريب أنّ فعل شيء لغاية معيّنة لا يستلزم حصول تلك الغاية في الخارج دائما متى ما كان جائز الحصول في نظر الفاعل ، بل قد يصادف حصولها وقد يصادف حصول غيرها ، وقد يصادف عدم حصول شيء ، غير أنّ قضيّة كون الفعل لأجل تلك الغاية صادقة على جميع التقادير.

ومن الواضح أنّ قطعيّات الفقه ليست امورا محدودة مضبوطة بحيث يعرفها المستنبط قبل دخوله في الاستنباط ليكون في دخوله في استنباط حكم المسألة طالبا لتحصيل القطع به من أوّل الأمر ، بل هو لعلمه الضروري بانسداد باب العلم بالأحكام الشرعيّة غالبا وعدم انفتاحه إلاّ في نادر منها لا يدخل في شيء من المسائل إلاّ وهو من أوّل الأمر طالب للظنّ بالحكم الشرعي ، فاستفراغ الوسع لتحصيل الظنّ صادق في حقّه في الجميع.

ص: 13


1- الوافية : 243 حيث قال : « وعندي أنّ الأولى في تعريفه : أنّه صرف العالم بالمدارك وأحكامها نظره في ترجيح الأحكام الشرعيّة الفرعيّة ».

غاية الأمر أنّه بحسب الخارج قد يصادف حصول الظنّ ، وقد يصادف حصول القطع ، وقد يصادف حصول التعبّد ، وقد يصادف عدم حصول شيء من ذلك الّذي هو منشأ التوقّف.

هذا مع أنّ الإشكال بالنسبة إلى صورة القطع بالحكم من أصله فاسد لوجوب الالتزام بالخروج من جهة خروجها عن المعرّف ، فإنّ هذا التعريف ومرادفاته كشف لمسمّى اللفظ الثابت له بحسب اصطلاح الفقهاء ، والمستفاد من كلماتهم بل صريح عباراتهم تواطئهم في هذا الاصطلاح على تخصيصه بالظنّيّات لنكتة كتواطئهم على تخصيصه بغير الضروريّات.

وقد عرفت من العضدي التصريح بذلك وصرّح به أيضا بعض الفضلاء قائلا - في دفع السؤال - : و « فيه أنّ مصطلح القوم منعقد على تخصيص الاجتهاد بالظنّيّات ».

ويستفاد التصريح به من بعض الأفاضل.

وممّا يفصح عن ذلك أيضا عدم تعرّض أحد من قدمائنا ولا غيرهم من أوائل متأخّرينا كالمحقّق والعلاّمة وأحزابهما لهذا الإشكال ، مع كون التعاريف المذكورة بمرآى منهم.

بل قد عرفت أنّهم بأنفسهم قد أخذوا الظنّ فيما اختاروه من التعاريف ، كما في الذريعة والمعارج والنهاية والتهذيب والمنية وغيرها.

وهذا هو الّذي دعا الأخباريّين المنكرين للعمل بالظنّ إلى مخالفة المجتهدين بإنكارهم الاجتهاد وعدّهم إيّاه من المبتدعات ، فإن شئت لاحظ كلام العلاّمة البهبهاني في الفائدة السابعة من فوائده العتيق حيث قال : « الثالث : أنّهم يحكمون بحرمة الاجتهاد ويأبون عن الاسم وعن كونهم مجتهدين ، بسبب أنّ الاجتهاد بحسب الاصطلاح استفراغ الوسع في تحصيل الحكم الشرعي بطريق ظنّي ، فالتقييد بالظنّ هو المنشأ ، مع أنّ القيد هو الظنّ المعتبر شرعا لا غيركما لا يخفى ».

وقال أيضا في صدر الفائدة الثامنة : « قد عرفت أنّ مناط الفرق بين الأخباري والمجتهد هو نفس الاجتهاد أي العمل بالظنّ ، فمن اعترف بالعمل به فهو مجتهد ومن ادّعى عدمه بل كون عمله على العلم واليقين فهو أخباري ».

وقال أيضا في أواخر فوائده الجديد : « الاجتهاد والتقليد إنّما يتمشّيان في الامور التكليفيّة الّتي وقع الحاجة إلى معرفتها ، ومع ذلك يكون باب العلم إلى معرفتها مسدود أو يكون الطريق منحصرا في الظنّ ، ولو لم يكن أحد هذين الشرطين لم يجر فيه الاجتهاد والتقليد » إلى آخر ما قال.

ص: 14

بحكم شرعيّ *.

__________________

ومن الواضح أنّ نفي الاجتهاد عن الامور العلميّة ليس إلاّ من جهة أنّه بحسب الاصطلاح عبارة عمّا اخذ فيه الظنّ.

ويستفاد ذلك أيضا من ملاحظة كلماتهم في مباحث الاجتهاد وشروطه ، بل كونه مشروطا بالشروط الآتية بنفسه من الشواهد بما ذكرنا ، نظرا إلى أنّ المدار في الطرق العلميّة على إفادتها العلم من غير ابتنائها على مراعاة هذه الشروط ، وإنّما يلزم مراعاتها في الطرق الظنّية ، إذ بدونها لا يكاد يحصل منها الظنّ أو يستقرّ أو يعوّل عليه ، وبالتأمّل في ذلك يظهر النكتة الداعية إلى تخصيص الاصطلاح بالظنّيات ، وملخّصه اختصاص المباحث المتعلّقة به بالظنّيات.

فتحصّل بجميع ما ذكر : أنّ استفراغ الوسع لتحصيل القطع بالحكم ليس اجتهادا بالمعنى المصطلح عليه هنا المتنازع فيه بين الأخباريّة والاصوليّة ، وإن كان اجتهادا بالمعنى اللغوي ، أو بالمعنى الآخر ممّا يناسب المعنى اللغوي ممّا تقدّم من إطلاقاته ، وكأنّ شبهة السائل نشأت عن ذلك غفلة عن حقيقة الحال ، وبمثل ذلك يجاب أيضا عن النقض بما ينتهي إلى التعبّد أو التوقّف ، فإنّ هذا النحو من الاستفراغ وإن كان يصدق عليه الاجتهاد غير أنّه اجتهاد بالمعنى اللغوي ، أو غيره ممّا يناسبه من إطلاقاته المتقدّمة غير ما اخذ فيه الظنّ.

ولك أن تقول : بأنّ الاجتهاد بهذا المعنى أصله من العامّة ، وهم - على ما يظهر من إطلاقاته وملاحظة ما ورد في الأخبار وكلام علمائنا الأخيار في ذمّ الاجتهاد - خصّوه بالظنّ الغير المستند إلى كتاب ولا سنّة أصلا ، بأن يستند إلى رأي أو قياس أو استحسان أو غيره من الطرق المعمولة لديهم الخارجة عن الأربعة المعمولة لدى الأصحاب ، فوافقهم في أصل الاصطلاح وإن كان خالفوهم في جعل الظنّ عبارة عمّا يستند إلى الكتاب أو السنّة والإجماع أو غيره ممّا ليس من طرق العامّة ، سواء تعلّق في الأوّلين بالسند أو الدلالة أو الجهة أو الترجيح أو غيره.

* يخرج به استفراغ الوسع لتحصيل الظنّ بحكم عقلي أو حسّي كما ذكروه ، واعترض عليه تارة : بأنّه يندرج في الحدّ استفراغ الفقيه وسعه في تحصيل الظنّ بالأحكام الاصوليّة ممّا يندرج في اصول الدين كخصوصيّات عالم المعاد أو البرزخ ، أو في اصول الفقه كحجّية الحسن والموثّق والضعيف المنجبر بالشهرة ونحوها مع عدم

ص: 15

اندراج شيء من ذلك في الاجتهاد عرفا.

واخرى : بأنّه يندرج فيه استفراغ وسعه في تحصيل الأحكام الظنّية الخاصّة المتعلّقة بالموضوعات كتعيين الهلال لوجوب الصوم أو الإفطار والبيّنة ، وسائر ما يتعلّق به القضاء مع عدم اندراج ذلك أيضا في الاجتهاد.

وهذا بناء على ظهور الحكم الشرعي فيما من شأنه أن يؤخذ من الشارع واضح الدفع ، لعدم كون شيء من الامور المذكورة ونظائرها ممّا من شأنه الأخذ من الشارع كما لا يخفى.

لا يقال : الظنّ بالامور المذكورة وإن لم يكن ظنّا بالحكم الشرعي بهذا المعنى غير أنّه يستلزم الظنّ بالحكم الشرعي ، ضرورة أنّه مع الظنّ بهلال شهر رمضان يحصل الظنّ بوجوب الصوم ، ومع الظنّ بهلال شهر شوّال يحصل الظنّ بحرمة الصوم ووجوب الإفطار ، وهما حكمان شرعيّان بالمعنى المذكور.

لأنّا نقول : بأنّ الحكمين معلومان بحكم ما دلّ على وجوب الصيام أو الإفطار عند ثبوت الهلال ولو ثبوتا ظنّيّا ، فالناظر في الهلال إنّما يطلب تحصيل صغرى محمولها ظنّ الهلاليّة إحرازا لموضوع الحكمين المعلومين بالخارج بمقتضى الأدلّة الشرعيّة كما في سائر الموضوعات عامّة وخاصّة.

وإنّما المعضل في المقام دفع سؤال الظنّ بالأحكام الاصوليّة الاعتقاديّة والعمليّة لكونها في الجملة من الحكم الشرعي بالمعنى المذكور ، ودفعه جماعة - منهم بعض الأعلام وبعض الأفاضل - بظهور الحكم الشرعي في الفرعي.

ويشكل ذلك : بأنّه لو صحّ ذلك لقضى بخروج قيد « الفرعيّة » في حدّ الفقه توضيحيّا وهو خلاف ما صرّحوا به وأذعن به المجيب.

نعم إنّما يندفع ذلك بما في بيان المختصر - من أنّ المراد بالحكم الشرعي خطاب اللّه المتعلّق بأفعال المكلّفين من حيث الاقتضاء والتخيير ، إذ ليس شيء من الأحكام الاصوليّة مطلقا ممّا يتعلّق بفعل المكلّف - لو لا فيه قضاؤه بخروج قيد « الشرعي » مستدركا ، إذ الحكم بالمعنى المذكور لا يكون إلاّ شرعيّا.

إلاّ أن يقال : بأنّ هذا المفهوم تعريف للحكم الشرعي كما هو ظاهر عبائرهم لا للحكم فقط ليكون « الشرعي » قيدا آخر معتبرا مع الحكم بالمعنى المذكور.

وبعبارة اخرى : أنّ مجموع اللفظين اسم للمعنى المذكور ، فلا يراد هذا المعنى من

ص: 16

الأوّل بانفراده ولا من « الشرعي » بانفراده معنى آخر.

وربّما يشكل إرادة هذا المعنى بأنّ الظنّ بالحكم بمعنى خطاب اللّه المتعلّق بفعل المكلّف يقتضي كون المظنون مع قطع النظر عن تعلّق الظنّ به خطابا متعلّقا بفعل المكلّف بجميع أحواله.

وقضيّة ذلك خروج كثير من المسائل الظنّية ، إذ الظنّ ليس بدائم المطابقة للواقع ، ومن المظنونات الّتي يعدّ استفراغ الوسع لتحصيل الظنّ بها اجتهادا ما ليس خطابا متعلّقا بفعل المكلّف لو قطع النظر فيه عن تعلّق الظنّ ، ففسد به عكس الحدّ. إلاّ أن يقال : بأنّ كون الشيء خطابا متعلّقا بفعل المكلّف أعمّ من أن يكون كذلك قبل تعلّق الظنّ به كما في الأحكام الواقعيّة بناء على اتّفاق تعلّقها لا محالة بفعل مكلّف من مشافه أو غيره ، أو يكون كذلك بعد تعلّق الظنّ بها كما في مورد النقض ، دون ما كان كذلك قبله خاصّة أو صار كذلك بعده خاصّة.

لكن يدفعه : خروجه من الظاهر المنساق من اللفظ عرفا.

نعم يمكن أن يقال : إنّ الظنّ حيثما يحصل للمجتهد فهو يعتقد ظنّا أنّ متعلّق ظنّه هو الحكم بهذا المعنى ، فالحكم بهذا المعنى أعمّ من أن يكون كذلك بحسب الواقع أو بحسب الاعتقاد ولو ظنّا.

أو يقال : إنّ الاستفراغ لتحصيل الظنّ بالحكم بهذا المعنى لا يستلزم اتّفاق حصول الظنّ ولا حصول [ القطع به ] بل قد يستتبع اتّفاق حصول القطع به ، وقد يستتبع حصول الظنّ به ، وقد يستتبع حصول الظنّ بغيره بحسب الواقع ، وقد يستتبع عدم حصول شيء كما بيّنّا سابقا ، والمأخوذ في الحدّ كون الاستفراغ حاصلا لأجل حصول غاية الظنّ بالحكم بالمعنى المذكور ، لا استلزام حصوله لحصول تلك الغاية والفرق بين المعنيين واضح.

والإشكال يتوجّه على المعنى الثاني دون الأوّل ، وهو الظاهر المنساق من الحدّ.

ثمّ وجه تقدّم الاجتهاد باعتبار الفعل على الفقاهة بهذا الاعتبار - على ما أشرنا إليه سابقا - أنّ العلم بالأحكام الفعليّة المأخوذ في مفهوم « الفقه » بالاعتبار المذكور علم مأخوذ في نتيجة قياس يحرز صغراه بالاجتهاد ، حيث يقال - بعد الفراغ عن الاجتهاد في حكم المسألة - : « هذا ما أدّى إليه اجتهادي ، وكلّما أدّى إليه اجتهادي فهو حكم اللّه في حقّي وحقّ مقلّدي » فالمجتهد والفقيه الفعليّان يتصادقان على شخص واحد باعتبارين مترتّبين ،

ص: 17

فالثاني باعتبار أنّه عالم بالأحكام الفعليّة والأوّل باعتبار أنّه محصّل لصغرى القياس المنتج لكونه فقيها ويصدق مع هذين العنوانين عناوين ثلاث اخر « المفتي » و « القاضي » و « الحاكم ».

فالأوّل باعتبار أنّه مخبر عن حكم اللّه بحسب رأيه ومؤدّى اجتهاده.

والقاضي باعتبار أنّه ملزم لأحد المتخاصمين في شبهة حكميّة أو موضوعيّة بالحقّ المتنازع فيه.

والثالث باعتبار عموم ولايته على الأيتام والغيّب والمجانين وأموالهم شرعا.

ثمّ إنّه قد عرفت عن الزبدة تعريف الاجتهاد باعتبار الملكة « بأنّه ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي الفرعي من الأصل فعلا أو قوّة قريبة » ويظهر منه حصر إطلاقه بحسب الاصطلاح في هذا المعنى ، مع أنّه قد ظهر ممّا سبق أنّه لم يتعرّض لذكره أحد من المصنّفين ممّن قبله من أهل الخلاف وغيرهم.

نعم إطلاق المجتهد على صاحب هذه الملكة شائع في هذه الأعصار وما قاربها ، وكأنّه أخذ التعريف المذكور من ذلك والظاهر أنّه اصطلاح آخر مخصوص بأصحابنا.

وكيف كان فعن الفاضل الجواد : أنّه يخرج بقيد « الملكة » المستنبط لبعض الأحكام من أدلّتها بالفعل من غير أن يصير ذلك ملكة له بل كان حالا ، فإنّه ليس اجتهادا ، وكذا من حفظ جملة من الأحكام تلقينا وعرف مع ذلك أدلّتها ، لعدم حصول الملكة معه ، و « اللام » في « الحكم » للجنس فيدخل المتجزّي ، والتقييد ب- « الشرعي » لإخراج العقلي ، وب « الفرعي » الأصلي كالاعتقادات وب « من الأصل » الضروري كالصلاة والزكاة.

ثمّ قال : وبالقوّة القريبة يدخل من له تلك الملكة من غير أن يستنبط بالفعل بل يحتاج إلى زمان ، إمّا لتعارض الأدلّة أو لعدم استحضار الدليل أو الاحتياج إلى التفات أو نحو ذلك ، وحيث إنّ الاجتهاد هو الملكة فالمجتهد من له تلك الملكة والمجتهد فيه هو الحكم المستنبط من الأصل.

أقول : لا يخفى ما في قوله : « يخرج بقيد الملكة » من المسامحة الواضحة ، لأنّ الجنس وما هو بمنزلته ليس قيدا والخروج فرع الدخول ، والمراد به دخول شيء في الجنس ، فما لم يذكر الجنس لا دخول فلا خروج ، ولعلّه أراد بالخروج عدم دخول ما ذكر في الجنس لانتفاء الملكة.

ثمّ ظاهر قوله : « بالقوّة القريبة يدخل ... » إلى آخره ، أنّه لو لا هذا القيد لم يدخل ما ذكر ،

ص: 18

ولعلّه لتوهّم ظهور الاستنباط أو الاقتدار فيما هو بالفعل وعدم شمولهما لما هو بالقوّة كما توهّمه غيره ، ويدفع (1) الاطلاق ومنع الظهور ولا سيّما قوله : « يقتدر » ضرورة أنّ الاقتدار على شيء لا يستلزم فعليّة حصوله ، فالقيدان وإن صحّ مؤدّاهما زائدان مستغنى عنهما فيكونان لتوضيح انقسام ذي الملكة إلى قسميه.

نعم لو قيل في التعريف : « ملكة يستنبط بها الحكم الشرعي » كان دعوى الظهور في الفعل غير بعيدة ، وفي كلام بعض الفضلاء : أنّ التقييد بقوله : « أو قوّة قريبة » مفسد للحدّ ، لأنّ الاستنباط بالقوّة القريبة معناه القوّة القريبة للاستنباط ، وهي معنى الملكة فيرجع الحدّ إلى أنّ الاجتهاد ملكة الملكة ، وفساده واضح.

وقد يوجّه القيد بتخيّل دفع هذا الإشكال بكون قوله : « أو قوّة قريبة » عطفا على الملكة ، على أن يكون المعنى : أنّ الاجتهاد إمّا ملكة الاستنباط الفعلي أي الحاصل ، أو قوّة قريبة من الاستنباط الفعلي.

ويرد عليه - مع عدم مساعدة ظاهر عبارة الحدّ عليه - : أنّ القوّة القريبة من الاستنباط الفعلي إن اريد بها ما يعمّ القوّة القريبة من ملكة الاستنباط الفعلي فسد طرد الحدّ بالقياس إلى من له القوّة القريبة من الاجتهاد دون الاستنباط كالعالم بالفتوى مثلا ، وإن اريد بها ما لا يعمّ ذلك فسد أصل الحدّ لاشتماله على التكرار ، نظرا إلى أنّ القوّة القريبة من الاستنباط الفعلي على هذا التقدير عبارة اخرى من ملكة الاستنباط الفعلي.

فالوجه في دفع الإشكال أن يقال : إنّ قيدي الفعل والقوّة القريبة راجعان إلى الاقتدار لا إلى الاستنباط كما فهمه الفاضل ، وحينئذ فلا اعتراض إذ الاقتدار على الاستنباط المسبّب عن الملكة ينقسم إليه بالفعل وإليه بالقوّة القريبة من الفعل ، نظرا إلى عدم كون الملكة بالقياس إليه علّة تامّة بل هي من باب المقتضي ، فقد يصادف وجود جميع شروط الاقتضاء الّتي منها استحضار الدليل والالتفات إليه وفقد جميع الموانع الّتي منها تعارض الأدلّة ، وقضيّة ذلك حصول الاقتدار على الاستنباط فعلا ، فإن صادف فقد بعض الشروط أو وجود بعض الموانع لزم منه عدم الاقتدار على الاستنباط بالفعل ، بل إنّما هو حاصل بالقوّة القريبة من الفعل كما هو واضح.

ص: 19


1- كذا في الأصل ، والصواب : « ويدفعه ... » الخ.

ويمكن على تقدير رجوع القيدين إلى الاستنباط أيضا دفع الاعتراض بمنع كون القوّة القريبة مرادا بها هنا ما يرادف الملكة ليتوجّه المحذور المذكور ، بل المراد بها بقرينة مقابلتها الفعل ما يرادف الشأن ، فإنّ الاستنباط قد يكون فعليّا وقد يكون شأنيّا ، والملكة المقتدر بها عليه أعمّ منهما ، ولذا ترى أنّ الفاقد لها كما أنّه لا يتأتّى منه فعل الاستنباط كذلك ليس من شأنه أن يتأتّى منه ذلك.

ثمّ إنّه قد يشكل الفرق بين الاجتهاد باعتبار الملكة والفقه بهذا الاعتبار من حيث إنّه عبارة عن ملكة يقتدر بها على العلم بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن الأدلّة ، بل ربّما يظهر ممّا في المجمع توهّم المرادفة بينهما ولذا قال في تعريف المجتهد : « أنّه العالم بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة بالقوّة القريبة من الفعل » وهذا كما ترى في غاية البعد عن اصطلاحهم وخلاف ما يظهر من مطاوي كلماتهم.

ويمكن دفع الإشكال بالفرق بينهما من وجوه :

أحدها : أنّ المعتبر في « الفقه » كون الملكة حاصلة بالقياس إلى جميع الأحكام بقرينة الجمع المعرّف باللام ، وفي « الاجتهاد » كونها حاصلة بالقياس إلى ما يعمّ البعض أيضا بقرينة المفرد المعرّف بلام الجنس ، ويظهر الثمرة في صدق المجتهد على من له ملكة البعض فقط كالمتجزّي دون الفقيه ، فالمتجزّي حينئذ مجتهد غير فقيه.

وثانيها : أنّ المعتبر في « الفقه » إضافة الملكة إلى العلم الظاهر في الاعتقاد الجازم المطابق للواقع ، وفي « الاجتهاد » إضافتها إلى مطلق الاعتقاد الشامل للظنّ أيضا ، بقرينة أخذ الاستنباط في مفهومه المتناول للاستنباط الظنّي أيضا ، وقضيّة ذلك كون الاجتهاد أعمّ موردا من الفقه كما في سابقه.

وثالثها : كون المأخوذ في مفهوم « الفقه » الأحكام الفعليّة الّتي هي أعمّ من الواقعيّة والظاهريّة على ما تقدّم تحقيقه في حدّ الفقه ، والمأخوذ في مفهوم « الاجتهاد » الحكم المعرّى عن وصف الفعليّة ، نظرا إلى أنّ مقام الاجتهاد ما يحرز به ما هو موضوع الحكم الفعلي وهو المستنبطات الّتي ما لم تندرج في دليل حجّيّة ما حصل بالاستنباط من الظنّ أو العلم بمؤدّيات الأدلّة المعهودة المتعارفة لا تصير أحكاما فعليّة.

ورابعها : أنّ المأخوذ في « الفقه » ملكة يقتدر بها على العلم بالنتيجة الحاصلة عن مقدّمتين قطعيّنين ، يحرز صغراهما بالاجتهاد ولذا اخذ فيه الاستنباط الّذي معناه الاستخراج الّذي

ص: 20

مرجعه إلى النظر في الأدلّة التفصيليّة.

ومعلوم أنّ الملكة المضافة إلى النظر يغاير الملكة المضافة إلى العلم الحاصل بالنظر.

فإن قلت : إنّ العلم من الامور التوليديّة المترتّب حصولها على حصول المقدّمتين قهرا ، فلا يضاف إليه ملكة إلاّ وهي الملكة المضافة إلى المقدّمتين ، فهي أمر واحد يضاف إليهما أوّلا وبالذات وإليه ثانيا وبالعرض ، فالملكة المأخوذة في « الفقه » هي الملكة المأخوذة في « الاجتهاد » بعينها فلا تغاير بينهما.

قلت : هذا إذا اعتبرنا الملكة المضافة إلى النتيجة في مقابلة الملكة المضافة إلى مجموع المقدّمتين وليس المقام كذلك ، فإنّ الملكة المأخوذة في مفهوم الاجتهاد ليست هي الملكة المضافة إلى مجموع المقدّمتين ، بل هي ملكة مختصّة بالصغري وهي بمجرّدها لا تكفي في حصول الملكة المضافة إلى النتيجة ، بل لا بدّ معها من ملكة اخرى يتحصّل بها الكبرى ، فالهيئة الحاصلة عن مجموع الملكتين هي الملكة المضافة إلى النتيجة لا الملكة المختصّة بالصغرى وحدها ، وقضيّة ذلك كون ملكة الاستنباط جزءا من ملكة الفقاهة ، فحصل بذلك التغاير فيما بين الاجتهاد والفقه شبه تغاير الجزء والكلّ.

تعليقة : في إثبات إمكان المجتهد المطلق

- تعليقة -

قد عرفت أنّ الاجتهاد قد يلاحظ باعتبار الفعل وقد يلاحظ باعتبار الملكة وهذان إذا اضيفا إلى جميع المسائل وإلى بعضها يتصوّر في المقام صور كثيرة ، وهي حصول كلّ من الملكة والفعليّة بالقياس إلى جميع المسائل ، وحصولهما معا بالقياس إلى بعضها ، وحصول الملكة بالقياس إلى الجميع والفعليّة بالقياس إلى البعض ، وحصول الفعليّة بالقياس إلى الجميع والملكة بالقياس إلى البعض ، وحصول الملكة بالقياس إلى الجميع أو البعض معرّاة عن الفعليّة ، وحصول الفعليّة بالقياس إلى الجميع أو البعض معرّاة عن الملكة ، فهذه ثماني صور.

ثمّ إنّ المجتهد عندهم ينقسم إلى مطلق ومتجزّ ، ويدخل في الاجتهاد المطلق من الصور المذكورة ثلاث صور وهي ما لو حصلت الملكة والفعليّة معا بالقياس إلى الجميع ، أو حصلت الملكة بالقياس إلى الجميع مع فعليّة البعض ، أو معرّاة عن الفعليّة بالمرّة ، كما أنّه يدخل في المتجزّي صورتان وهما : حصول الملكة بالقياس إلى البعض خاصّة مع الفعليّة بالقياس إليه ، أو معرّاة عنها ، وهما بكلتيهما على ما صرّح به الفحول ويساعده عليه عناوينهم

ص: 21

في كتب الاصول وغيرها محلّ للنزاع الآتي في بحث التجزّي في الاجتهاد وإن قصر عنه جملة من أدلّتهم كما ستعرف ، بناء على أنّ حصول الفعليّة غير معتبر في نظر من يجوّز التجزّي في الاجتهاد كما يقتضيه إطلاقهم بإمكان تجزّي الملكة.

وسيلحقك زيادة بيان في ذلك عند البحث في مسألة التجزّي.

وأمّا الصور الثلاث الباقية وهي فعليّة الجميع مع ملكة البعض ، أو معرّاة عنها بالمرّة ، وفعليّة البعض معرّاة عنها أيضا فهي خارجة عن موضوع الاجتهاد المطلق ، كما أنّها خارجة عن موضع النزاع في مسألة التجزّي ، لظهور اتّفاقهم على امتناع الجميع كما يقتضيه إطلاقهم بتوقّف الاجتهاد باعتبار الفعل عليه باعتبار الملكة.

وأمّا الاجتهاد المطلق فظاهرهم الاتّفاق على إمكانه في جميع صوره الثلاث ، وإن كان إيرادهم المعروف على حدّ « الفقه » المتقدّم في محلّه بعدم انعكاس الحدّ لو اريد بالأحكام جميعها يومئ إلى وجود القول بعدم إمكان الصورة الاولى منها أو عدم وقوعها أو ندرتها ، ولم نقف من الاصوليّين ولا غيرهم من العامّة والخاصّة على من جزم بتعذّره إلاّ بعض الأخباريّة بالقياس إلى الصورة الاولى كالأمين الاسترآبادي في فوائده المدنيّة ، حيث إنّه بعد ما أبطل طريقة المجتهدين على ما زعمه وأثبت طريقة الأخباريّين بما ستقف على ضعفه وفساده عقد فصلا على حدة في إثبات تعذّر المجتهد المطلق ، وقال : « الفصل الثالث : في إثبات تعذّر المجتهد المطلق.

أقول : بعد ما أحطت خبرا بالآيات والروايات المتقدّمة لم يبق مجال للمجتهد المطلق ، ونزيدك بيانا فنقول : في كثير من الوقائع لا يجري التمسّك بالبراءة الأصليّة ولا بالاستصحاب ، ولا تفي بها عمومات الكتاب ولا عمومات السنّة ولا إجماع هناك ، ومن أمثلة ذلك دية عين الدابّة كما مرّ من أنّ بعد العلم باشتغال الذمّة والحيرة في القدر المبرئ للذمّة لا تجري البراءة الأصليّة وغيرها.

فإن قلت : كيف يزعم عاقل تحقّق المجتهد المطلق مع كون كتب الخاصّة والعامّة مشحونة بقول الفقهاء : « وفيه تردّد » وما أشبهه من العبارات؟

قلت : زعمهم ذلك مبنيّ على مقدّمات تقدّمت وهي : أنّ اللّه تبارك وتعالى نصب دلالات ظنّية على المسائل الاجتهاديّة لا القطعيّة ، وأنّه ليس شيء من الدلالات المنصوبة من قبله تعالى مخفيّا عند أحد بحيث يتعذّر تحصيلها بالتتبّع ، وإنّ سبب تردّد الفقيه في بعض

ص: 22

المسائل تعارض الدلالات المنصوبة من قبله تعالى في نظره ، وأنّ حكم اللّه في حقّه وحقّ مقلّديه ما دام كذلك التخيير.

والعجب كلّ العجب من متأخّري أصحابنا حيث قالوا بهذه المقدّمات مع أنّه تواترت الأخبار عن الأئمّة الأطهار ببطلانها ، فإنّها [ صريحة ] في أنّ له تعالى في كلّ واقعة خطابا صريحا قطعيّا خاليا عن المعارض ، وفي أنّ كثيرا منها مخفيّ عندهم عليهم السلام ، وفي أنّه يجب التوقّف في كلّ واقعة لم نعلم حكمها.

وممّن تفطّن بتعذّر المجتهد المطلق الآمدي من الشافعيّة ، وصدر الشريعة من الحنفيّة مع كثرة طرق الاستنباطات الظنّية عندهم ، فالعجب كلّ العجب من إماميّ يزعم عدم تعذّره مع قلّة طرق الاستنباطات الظنّية عنده » انتهى (1).

وهذا الكلام كما ترى من صدره إلى ذيله مختلّ النظام ، ووجوه الإيراد على فقراته كثيرة تظهر بالتأمّل ، لكنّ الّذي يتعلّق منها بمحلّ الكلام هو أن يقال : إنّ تعذّر الاجتهاد المطلق إن اريد به تعذّر العلم أو الظنّ في كلّ واقعة من أوّل الوقائع الّتي عيّن لها بحسب الواقع أحكام إلى آخرها فهو حقّ لا ينكره أحد ولا يقول أحد من الإماميّين بعدم تعذّر ذلك ، غير أنّ الاجتهاد الّذي عليه بناء عملهم قديما وحديثا ليس مقصورا على هذا الفرض ، لما تقدّم من اعترافهم بأنّه قد يفضي إلى القطع وقد يفضي إلى الظنّ كما هو الغالب ، وقد يفضي إلى الأخذ بمقتضى الاصول العامّة العمليّة التعبّديّة الّتي هي المرجع بعد تعذّر الوصول إلى الواقع علما أو ظنّا.

وإن اريد به تعذّره مطلقا حتّى بالقياس إلى مواضع التعبّد من الاصول وغيرها فهو كذب وفرية ، كيف ولا يخلو واقعة اجتهاديّة إلاّ وأنّ المجتهد على تقدير اجتهاده فيها يصل إلى حكمها الواقعي علما أو ظنّا إن أصابه فيها دليل اجتهادي معتبر واضح الدلالة خال من المعارض الّذي عجز عن علاجه ، أو حكمها الظاهري المستفاد من الأسباب التعبّديّة من الاصول العامّة ، والّذي يقول الإمامي وغيره بعدم تعذّره هو الاجتهاد بهذا المعنى.

والحاصل : أنّ الّذي يتعذّر الوصول إليه في جميع المسائل إنّما هو الحكم الواقعي المثبت في كلّ واقعة ، وهو لا يقضي بتعذّر الوصول إلى الحكم الفعلي الثابت في كلّ واقعة الّذي هو

ص: 23


1- الفوائد المدنيّة : 261.

قد يكون حكما واقعيّا وقد يكون حكما ظاهريّا.

والّذي يتّفق كثيرا للفقهاء من التردّد والتوقّف في المسائل فإنّما هو بالنظر إلى الأحكام الواقعيّة لا الأحكام الفعليّة ، ولعلّ الشبهة نشأت عمّا تقدّم في تعريف الأكثر للاجتهاد من أخذهم فيه الظنّ ، وقد عرفت توجيهه عند دفع الإيراد عليه بخروج قطعيّات الفقه وموارد التعبّد ومجاري الاصول العامّة العمليّة.

ثمّ إنّه في فصل آخر صرّح بعدم اعتبار الملكة فيمن يستنبط الحكم الشرعي إذا كان متمسّكه الخبر الصحيح الصريح فقال : « الفصل الرابع : في إبطال القسمة المذكورة ، وقد تقدّمت الوجوه الدالّة عليه ، ونزيدك بيانا ، فنقول : يجوز لفاقد الملكة المعتبرة في المجتهد أن يتمسّك في مسألة مختلف فيها بنصّ صحيح صريح خال عن المعارض لم يبلغ صاحب الملكة أو بلغ ولم يطّلع على صحّته ، ولا يجوز له أن يتركه ويعمل بظنّ صاحب الملكة المبنيّ على البراءة الأصليّة أو على استصحاب أو عموم أو إطلاق » انتهى (1).

وفيه : أنّه إن أراد بالنصّ الصحيح الصريح ما يفيد القطع بحكم اللّه الواقعي النفس الأمري على وجه يكون بالقياس إليه حكما فعليّا ، فما ذكره حقّ ، غير أنّ الفرض لا يختصّ بكون سبب القطع هو النصّ ، بل هذا كلام يجري في جميع أسباب العلم. وإن أراد به ما عدا ذلك فما ذكره دعوى لا شاهد بها من عقل ولا نقل ، بل الدليل الشرعي وهو الإجماع ناهض بخلافه ، فإنّ تكليف فاقد الملكة في الصورة المفروضة هو الرجوع إلى صاحب الملكة جدّا.

تعليقة : وجوب العمل بمؤدّى الاجتهاد

اشارة

- تعليقة -

إذا بلغ العالم رتبة الاجتهاد باجتماعه للشرائط المعتبرة فيه ولم يكن متجزّيا - بأن كان ذا ملكة عامّة وقوّة كلّية بالقياس إلى جميع المسائل - واجتهد في المسألة على الوجه المعتبر شرعا تعيّن عليه العمل بمؤدّى اجتهاده مطلقا ، ولم يجز له تقليد غيره في تلك المسألة ولو كان ذلك الغير أعلم منه إجماعا ، ولا مخالف في المسألة إلاّ جماعة من الأخباريّة لشبهات عرضت لهم ، ومحلّ خلافهم على ما أشرنا إليه سابقا الاجتهاد بالمعنى المصطلح المأخوذ فيه الظنّ ، فمرجعه إثباتا ونفيا إلى جواز التعويل على الظنّ الحاصل

ص: 24


1- الفوائد المدينة : 263.

بالاجتهاد وعدمه ، فانّهم على ما عزي إليهم أنكروا جواز ذلك في نفس الأحكام وموضوعاتها الّتي هي من قبيل العبادات ، مع مصيرهم إلى الجواز في الموضوعات الّتي ليست من قبيل العبادات.

ويرد عليهم : عدم تعقّل الوجه في هذا الفرق ، إذ لو كان غرضهم في نفي الحجّية أنّ الظنّ بنفسه ومن حيث هو مع قطع النظر عن قطعي قام بحجّيته لا يصلح حجّة في الشريعة بخلاف العلم لكونه بنفسه حجّة ، فهذا كلام يجري في الحكم وموضوعه مطلقا. والفرق تحكّم.

ولو كان غرضهم أنّ الظنّ في الموضوع ممّا قام القطعي باعتباره إذ لولاه لانسدّ باب الاستنباط ، فبطل به إنكارهم على المجتهدين في تجويزهم العمل به في الأحكام ، إذ كلّ من قال به إنّما قال عن قطعي بلغه ، فتعويل المجتهد في الحقيقة إنّما هو على القطع لا الظنّ من حيث هو.

ومن هنا يقال : إنّ الظنّ في طريق الحكم وهو لا ينافي قطعيّة نفس الحكم.

وبالجملة لا إشكال لأحد في أنّ الظنّ بنفسه لا يصلح حجّة ، بل هو من هذه الجهة في حكم الشكّ فيقبح في حكم العقل التعويل عليه في إطاعة اللّه تعالى وامتثال أحكامه بأخذ متعلّقه حكما شرعيّا يجب امتثاله بعنوان القطع ، بل هو عند التحقيق من الامور المستحيلة لأوله إلى تجويز الجمع بين النقيضين كما لا يخفى. بل مجرّد الشكّ في الاعتبار والعدم كاف في الحكم بعدم الاعتبار على ما هو من مقتضى قاعدة التوقّف ، وهو مع ذلك معلوم من الضرورة والإجماع.

قال العلاّمة البهبهاني في التاسعة من فوائده : « وأيضا إجماع المسلمين على أنّه في نفسه ليس بحجّة ، ولذا كلّ من يقول بحجّية ظنّ يقول بدليل ، فإن تمّ وإلاّ فينكر عليه ويقال بعدم الحجّية » - إلى أن قال : - « وأيضا ظنّ الرجل أمر وحكم اللّه أمر آخر ، وكونه هو بعينه أو عوضه محتاج إلى دليل حتّى يجعل هو إيّاه أو عوضه شرعا » انتهى.

بل هو مدلول عليه بالنصوص كتابا وسنّة.

أمّا الكتاب : فالعمومات المانعة عن العمل بالظنّ والناهية عن اتّباع ما وراء العلم.

وأمّا السنّة : فالأخبار البالغة فوق حدّ التواتر معنى ، وقد جمع العلاّمة المتقدّم ذكره كثيرا منها في رسالته المعمولة في الاجتهاد والأخبار ، ويكفي في ذلك ما روي من قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم

ص: 25

« من شكّ أو ظنّ فأقام على أحدهما فقد حبط عمله ، إنّ حجّة اللّه هي الحجّة الواضحة ».

وما عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام : « ومن عمى نسي الذكر واتّبع الظنّ بارز خالقه ».

وعن الصادق عليه السلام : « إيّاك وخصلتين ففيهما هلك من هلك ، إيّاك أن تفتي الناس برأيك وتدين بما لا تعلم ».

وما عن الباقر عليه السلام : « من أفتى الناس برأيه فقد دان اللّه بما لا يعلم ، ومن دان اللّه بما لا يعلم فقد ضادّ اللّه حيث أحلّ وحرّم فيما لا يعلم ».

وما عن الصادق عليه السلام أيضا : « أنهاك عن خصلتين فيهما هلك الرجال عن أن تدين اللّه بالباطل وتفتي الناس بالباطل ».

وما عنه أيضا : « حقّ اللّه على الخلق أن يقولوا ما يعلمون ويكفّوا عمّا لا يعلمون ، فإذا فعلوا ذلك فقد أدّوا إلى اللّه حقّه ».

وما عن أبي جعفر عليه السلام : « حقّ اللّه على العباد أن يقولوا ما يعلمون ويقفوا عند ما لا يعلمون ».

وما عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « لا يسعكم فيما ينزل بكم ممّا لا تعلمون إلاّ الكفّ عنه ، والتثبّت والردّ إلى أئمّة الهدى حتّى يحملوكم فيه على القصد ، ويجلوا عنكم فيه العمى ويعرّفوكم فيه الحقّ ، قال اللّه تعالى ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (1).

وما عنه أيضا : « قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر ممّا يصلح ».

وعن أبي الحسن عليه السلام : « إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا به ، وإذا جاءكم ما لا تعلمون فها ، ووضع يده على فيه ».

وما عن أبي الحسن عليه السلام عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان ، الجزاء بينهما أو على كلّ واحد منهما جزاء؟ فقال : « لا بل عليهما أن يجزي كلّ واحد منهما الصيد. قلت : إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه؟ فقال : إذا أصبتم بمثل ذلك فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتّى تسألوا عنه فتعلموا ».

وما عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « من دان اللّه بغير سماع عن صادق ألزمه اللّه البتّة إلى العناء ،

ص: 26


1- الأنبياء : 7.

ومن ادّعى سماعا بغير الباب الّذي فتحه فهو مشرك ، وذلك الباب المأمون على سرّ اللّه المكنون ».

وما عنه عليه السلام : « ما أحد أحبّ إلىّ منكم ، إنّ الناس سلكوا سبلا شتّى منهم من أخذ بهواه ، ومنهم من أخذ برأيه ، وأنّكم أخذتم بأمر له أصل ».

وما عنه أيضا : « أنّ الناس أخذوا هكذا هكذا ، فطائفة أخذوا بأهوائهم ، وطائفة قالوا بآرائهم ، وطائفة قالوا

بالرواية ، وإنّ اللّه هداكم بحبّه وحبّ من ينفعكم حبّه عنده » إلى غير ذلك من الأخبار الّتي يأتي كثيرا منها أيضا فيما بعد ذلك إن شاء اللّه.

ولا يذهب عليك أنّ ذمّ الطائفة القائلة بالرواية لا ينافي القول بحجّية خبر الواحد ، لأنّ المراد من القول بالرواية الركون إلى كلّ رواية من كلّ راو من دون اعتبار السند ولا مراعاة الصدق والصدور ولا جهة الصدور ولا الدلالة مثلا.

وبالجملة الأخذ بالرواية من دون مراعاة الشروط المحرزة للسند والصدور وجهة الصدور والدلالة ونحوها ممّا يكون محلاّ للشبهة المانعة عن الركون والاعتماد.

وملخّص الكلام : أنّ قضيّة ما ذكر كلّه أنّ الأصل الأصيل الأوّلي في الظنّ عدم الحجّيّة ما لم ينهض دليل علمي على الأخذ به ، وهذا الأصل ممّا لا ينكره أحد من علمائنا الأعلام من المتقدّمين والمتأخّرين إلاّ من شذّ منهم وندر ، كما يستفاد ذلك من بعض الأعلام في غير موضع من كتابه.

ومن جملة ذلك ما ذكره في بحث الاجتهاد عند منع نهوض آيات تحريم العمل بالظنّ دليلا عليه من قوله : « فالحاصل أنّ الآيات إن سلّمنا وجوب العمل على عمومها مع إخراج الظنّ المعلوم الحجّية فيجب العمل على هذا الدليل مع إخراج الظنّ المعلوم عدم حجّيته ، فارتفع بهذا الدليل القطعي العقلي الظهور الّذي ادّعيت من الآية.

فصار المحصّل : أنّ كلّ ظنّ لم يثبت بطلانه فهو حجّة ، وبطل القول بأنّ الأصل حرمة كلّ ظنّ إلاّ ما ثبت حجّيته » انتهى.

وربّما يحكى القول بجواز العمل به في الأحكام وموضوعاتها مطلقا ، فإن أراد القائل به كونه من مقتضيات نفس الظنّ من دون اعتبار قيام حجّة عليه فقد خبط خبطا عظيما ، وخرج ما أقمناه من الأدلّة القطعيّة حجّة عليه ، ولم نقف في أصحابنا على من يقول بتلك المقالة ، وإنّما يقولون بعدم جواز العمل به مطلقا إلاّ ظنّ المجتهد المستجمع لشرائط الفتوى

ص: 27

في المسائل الاجتهاديّة ، لا لأنّه في نفسه حجّة بل لقيام القاطع عليه من العقل والشرع ، بل الظنّ في كلامهم هنا ليس على إطلاقه وإن وصف في كلام غير واحد بالإطلاق قبالا للظنّ الخاصّ ، بل المراد به الظنون المطلقة المجهولة الحال من جهة الأدلّة الخاصّة من الحجّية وعدمها.

وما عرفته عن بعض الأعلام فهو أيضا ليس قولا بأصالة الظنّ لا عن قاطع كما نصّ به في طيّ العبارة المتقدّمة ، ويمكن كون مراده بما ادّعاه من الأصل ما يكون أصلا ثانويّا كما يستفاد من مواضع اخر من كتابه وإن كان هنا بعيدا ، ولعلّ الأخباريّة غفلوا عن مقصود المجتهدين من أصحابنا فساقوا عليهم بما ساقوا ، واعترضوا عليهم بما تقف عليها من التجشّمات الواهية والتكلّفات الفاسدة.

ومن جملة ذلك ما في كلام الأمين الاسترآبادي في فوائده المدنيّة (1) من احتجاجه في إبطال مقالة المجتهدين بالعمومات الناهية الكتابيّة كقوله تعالى : ( أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَ ) (2) وقوله تعالى : ( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) (3) وقوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (4) وقوله تعالى : ( إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ) (5) و ( إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ) (6) وقوله تعالى : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) (7) إلى غير ذلك من الآيات.

ومن جملته أيضا احتجاجه بما ورد عن الأئمّة الهدى عليهم السلام من الخطب والوصايا والأخبار الّتي منها أكثر ما تقدّم ومنها غيرها.

فعن نهج البلاغة (8) في ذمّ القضاة : « ترد على أحدهم القضيّة في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ، ثمّ ترد تلك القضيّة بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله ، ثمّ تجتمع القضاة بذلك عند إمامهم الّذي استقضاهم فيصوّب آراءهم جميعا ، وإلههم واحد ونبيّهم واحد وكتابهم واحد ، أفأمرهم اللّه بالاختلاف فأطاعوه؟ أم نهاهم عنه فعصوه؟ أم أنزل اللّه سبحانه دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه؟ أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟ أم أنزل اللّه سبحانه دينا تامّا فقصّر الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم عن تبليغه وأدائه؟ واللّه سبحانه يقول :

ص: 28


1- الفوائد المدنيّة : 185.
2- الأعراف : 169.
3- النجم : 28.
4- الإسراء : 36.
5- الجاثية : 24.
6- الأنعام : 116.
7- المائدة : 44.
8- نهج البلاغة : 61 ، الكلام 98.

( ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ) (1) وفيه تبيان لكلّ شيء ، إلى آخره » (2).

وعنه عليه السلام أيضا في كلام له : « إنّ من أحبّ عباد اللّه إليه عبدا أعانه اللّه على نفسه ، فاستشعر الحزن وتجلبب الخوف ؛ فزهر مصباح الهدى في قلبه ، وأعدّ القرى ليومه النازل به ، فقرّب على نفسه البعيد وهوّن الشديد ، نظر فأبصر ، وذكر فاستكثر ، وارتوى من عذب فرات ، سهّلت له موارده فشرب نهلا وسلك سبيلا جددا ، قد خلع سرابيل الشهوات ، وتخلّى من الهموم إلاّ همّا واحدا انفرد به ، فخرج من صفة العمى ومشاركة أهل الهوى ، وصار من مفاتيح أبواب الهدى ومغاليق أبواب الردى ، قد أبصر طريقه وسلك سبيله ، وعرف مناره ، وقطع غماره ، واستمسك من العرى بأوثقها ، ومن الحبال بأمتنها ، فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس ، قد نصب نفسه لله سبحانه في أرفع الامور من إصدار كلّ وارد عليه ، وتصيير كلّ فرع إلى أصله ، مصباح ظلمات ، كشّاف عشوات ، مفتاح مبهمات ، دفّاع معضلات ، دليل فلوات ، يقول فيفهم ويسكت فيسلم ، قد أخلص لله فاستخلصه ، فهو من معادن دينه وأوتاد أرضه ، قد ألزم نفسه العدل ، فكان أوّل عدله نفي الهوى عن نفسه ، يصف الحقّ ويعمل به ، لا يدع للخير غاية إلاّ أمّها ولا مظنّة إلاّ قصدها ، قد أمكن الكتاب من زمامه فهو قائده وإمامه ، يحلّ حيث حلّ ثقله ، وينزل حيث كان منزله.

وآخر قد يسمّى عالما وليس به ، فاقتبس جهائل من جهّال وأضاليل من ضلاّل ، ونصب للناس أشراكا من حبائل غرور وقول زور ، قد حمل الكتاب على آرائه وعطف الحقّ على أهوائه ، يؤمن من العظائم ويهوّن كبير الجرائم ، يقول : أقف عند الشبهات وفيها وقع ، ويقول : اعتزل البدع وبينها اضطجع ، فالصورة صورة إنسان والقلب قلب حيوان ، لا يعرف باب الهدى فيتّبعه ، ولا باب العمى فيصدّ عنه ، وذلك ميّت الأحياء ، فأين تذهبون وأنّى تؤفكون ، والأعلام قائمة والآيات واضحة ، والمنار منصوبة ، فأين يتاه بكم! بل كيف تعمهون وبينكم عترة نبيّكم وهم أزمّة الحقّ أعلام الدين وألسنة الصدق ، فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن ، وردوهم ورود الهيم العطاش.

أيّها الناس خذوها عن خاتم النبيّين ( أنّه يموت من مات منّا وليس بميّت ، ويبلى من بلى منّا وليس ببال ) فلا تقولوا بما لا تعرفون ، فإنّ أكثر الحقّ فيما تنكرون ، وأعذروا من

ص: 29


1- الأنعام : 38.
2- الفوائد المدنيّة : 194.

لا حجّة لكم عليه وأنا هو ، ألم أعمل فيكم بالثقل الأكبر وأترك فيكم الثقل الأصغر ، وركزت فيكم راية الإيمان ، ووقّفتكم على حدود الحلال والحرام ، وألبستكم العافية من عدلي ، وفرشت لكم المعروف من قولي وفعلي ، وأرايتكم كرائم الأخلاق من نفسي ، فلا تستعملوا الرأي فيما لا يدرك قعره البصر ولا يتغلغل اللّه الفكر » (1).

وعنه عليه السلام أيضا أنّه قال : « إنّ من أبغض الخلائق إلى اللّه عزّ وجلّ رجلان : رجل وكلّه اللّه إلى نفسه ، فهو جائر عن قصد السبيل مشعوف بكلام بدعة ، قد بهج بالصوم والصلاة (2) فهو فتنة لمن افتتن به ، ضالّ عن هدى من كان قبله ، مضلّ لمن اقتدى به في حياته وبعد موته ، حمّال خطايا غيره رهن بخطيئته.

ورجل قمش جهلا موضع في جهّال الناس ، غاريا غباش الفتنة ، قد سمّاه أشباه الناس عالما ولم يعن فيه يوما سالما ، بكّر فاستكثر من جمع ما قلّ منه خير ممّا كثر ، حتّى إذا ارتوى من آجن واكتنز من غير طائل ، جلس بين الناس قاضيا ، ضامنا لتخليص ما التبس على غيره ، وإن خالف قاضيا سبقه لم يأمن أن ينقض حكمه من يأتي بعده كفعله بمن كان ، وإن نزلت به إحدى المبهمات المعضلات هيّأ لها حشوا [ رثّا ] من رأيه ثمّ قطع به ، فهو من لبس الشبهات مثل غزل العنكبوت لا يدري أصاب أم أخطأ ، لا يحسب العلم في شيء ممّا أنكره ، ولا يرى أنّ [ من ] وراء ما بلغ فيه مذهبا ، إن قاس شيئا بشيء لم يكذب نظره ، وإن أظلم عليه أمر اكتتم به لما يعلم من جهل نفسه ، لكيلا يقال له لا يعلم ، ثمّ جسر فقضى ، فهو مفتاح عشوات ركّاب شبهات ، خبّاط (3) جهالات ، لا يعتذر ممّا لا يعلم فيسلم ، ولا يعضّ في العلم بضرس قاطع فيغتم ، يذري الروايات ذرو الريح الهشيم ، تبكي منه المواريث وتصرخ منه الدماء يستحلّ بقضائه الفرج الحرام ، ويحرم بقضائه الفرج الحلال ، لاملئ بإصدار ما عليه ورود ، ولا هو أهل لما منه ، فرط من ادّعائه علم الحقّ » (4).

وعنه عليه السلام في خطبة له : « وما كلّ ذي قلب بلبيب ، ولا كلّ ذي سمع بسميع ، ولا كلّ ناظر ببصير ، فياعجبا ومالي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها ،

ص: 30


1- نهج البلاغة : 118 ، الخطبة 87. الفوائد المدنيّة : 197.
2- وفي النسخ المتداولة المطبوعة : ودعاء ضلالة بدل : قد بهج بالصوم والصلاة.
3- وفي المصدر : خباتّ والصواب ما أثبتناه.
4- نهج البلاغة : 59 ، الخطبة : 17 مع اختلاف في بعض العبارات.

لا يقتفون إثر نبيّ ولا يقتدون بعمل وصيّ ، ولا يؤمنون بغيب ولا يعفون عن عيب ، يعملون في الشبهات ويسيرون في الشهوات ، المعروف فيهم ما عرفوا والمنكر عندهم ما أنكروا ، مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم ، وتعويلهم في المبهمات على أنفسهم ، كان كلّ امرئ منهم إمام نفسه ، قد أخذ منها فيما يرى بعرى وثيقات وأسباب محكمات » (1).

وعنه عليه السلام في وصيّة لابنه الحسن عليه السلام : « دع القول فيما لا تعرف ، والخطاب فيما لا تكلّف ، وأمسك عن طريق إذا خفت ضلالته ، فإنّ الكفّ عند حيرة الضلالة خير من ركوب الأهوال.

[ واعلم ] يا بنيّ : إنّ أحبّ ما أنت آخذ به إليّ من وصيّتي تقوى اللّه والاقتصار على ما فرضه اللّه عليك ، والأخذ بما مضى عليه الأوّلون من آبائك ، والصالحون من أهل بيتك ، فإنّهم لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم كما أنت ناظر ، وفكّروا كما أنت مفكّر ، ثمّ ردّهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا والإمساك عمّا لا يكلّفوا ، فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما كانوا علموا فليكن طلب ذلك بتفهّم وتعلّم لا بتورّط الشبهات وعلق الخصومات ، وابدأ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإلهك والرغبة إليه في توفيقك وترك كلّ شائبة أولجتك في شبهة ، أو أسلمتك إلى ضلالة ، فإذا أيقنت أن قد صفا قلبك فخشع ، وتمّ رأيك واجتمع ، وكان همّك في ذلك همّا واحدا فانظر فيما فسّرت لك ، وإن أنت لم تجمع لك ما تحبّ من نفسك وفراغ نظرك وفكرك فاعلم إنّما تخبط العشواء ، وتتورّط الظّلماء ، وليس طالب الدين من خبط أو خلط ، والإمساك عن ذلك أمثل ، فتفهّم يا بنيّ وصيّتي » (2).

وعن كتاب مجالس الصدوق وعن عبد العزيز بن مسلم قال : كنّا في أيّام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام بمرو فاجتمعنا في مسجد جامعها في يوم جمعة في بدء مقدمنا ، فأدار الناس أمر الإمامة ، وذكروا أكثر اختلاف الناس فيها ، فدخلت على سيّدي ومولاي الرضا عليه السلام فأعلمته ما خاض الناس فيه ، فتبسّم عليه السلام ثمّ قال : يا عبد العزيز جهل القوم وخدعوا عن دينهم ، إنّ اللّه عزّ وجلّ لم يقبض نبيّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حتّى أكمل له الدين ، وأنزل عليه القرآن فيه تفصيل كلّ شيء ، وبيّن فيه الحلال والحرام ، والحدود والأحكام ، وجميع ما يحتاج إليه كملا ، فقال عزّ وجلّ : ( ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ) (3) وأنزل في حجّة الوداع وهي في آخر عمره ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) (4) وأمر

ص: 31


1- نهج البلاغه : 121 ، الخطبة 88.
2- نهج البلاغة : 392 ، الكتاب 31.
3- الأنعام : 38.
4- المائدة : 3.

الإمامة من تمام الدين ، ولم يمض عليه السلام حتّى بيّن لامّته معالم دينهم ، وأوضح لهم سبيله ، وتركهم على قصد الحقّ ، وأقام لهم عليّا عليه السلام علما وإماما ، وما ترك شيئا يحتاج إليه الامّة إلاّ بيّنه ، فمن زعم أنّ اللّه عزّ وجلّ لم يكمل دينه فقد ردّ كتاب اللّه عزّ وجلّ ، ومن ردّ كتاب اللّه عزّ وجلّ فهو كافر ، فهل يعرفون قدر الإمامة ومحلّها من الامّة فيجوز فيها اختيارهم ، إنّ الإمامة أجلّ قدرا وأعظم شأنا وأعلى مكانا وأمنع جانبا وأبعد غورا من أن تبلغه الناس بأبعد عقولهم أو أن ينالوها برأيهم أو يقيموا إماما باختيارهم ، إنّ الإمامة خصّ اللّه عزّ وجلّ بها إبراهيم الخليل عليه السلام بعد النبوّة والخلّة مرتبة ثالثة وفضيلة شرّفه بها ، وأشاد بها ذكرها ، إنّ الإمام اسّ الإسلام النامي وفرعه السامي ، بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحجّ والجهاد ، وتوفير الفيء والصدقات ، وإمضاء الحدود من الأحكام ، ومنع الثغور والأطراف ، الإمام يحلّ حلال اللّه ويحرّم حرام اللّه ، ويقيم حدود اللّه ، ويذبّ عن دين اللّه ، ويدعو إلى دين ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجّة البالغة ، الإمام واحد دهره لا يدانيه أحد ، ولا يعادله عالم ، ولا يؤخذ منه بدل ، ولا له مثل ونظير ، مخصوص بالفضل كلّه من غير طلب منزلة ولا اكتساب ، بل اختصاص من المفضّل الوهّاب ، راموا إقامة الإمام بعقول حائرة بائرة ناقصة وآراء مضلّة ، فلم يزدادوا منه إلاّ بعدا ، قاتلهم اللّه أنّى يؤفكون ، لقد راموا صعبا وقالوا إفكا ، وضلّوا ضلالا بعيدا ، ووقعوا في الحيرة إذ تركوا الإمام عن بصيرة ، وزيّن لهم الشيطان أعمالهم فصدّهم عن السبيل ، وكانوا مستبصرين رغبوا عن اختيار اللّه واختيار رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى اختيارهم ، والقرآن يناديهم ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (1) إنّ العبد إذا اختاره اللّه عزّ وجلّ لامور عباده شرح صدره لذلك ، وأودع قلبه ينابيع الحكمة ، وألهمه العلم إلهاما ، فلم يعي بعده بجواب ولا يحير فيه عن الصواب ، وهو معصوم مؤيّد موفّق مسدّد ، قد أمن الخطأ والزلل والعثار ، خصّه اللّه بذلك ليكون حجّة على عباده ، وشاهدا على خلقه ، وذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم » (2).

وعن الكافي عن داود بن فرقد قال حدّثني رجل عن سعيد بن أبي الخضيب البجلّي قال : كنت مع ابن أبي ليلى مزاملة حتّى جئنا إلى المدينة ، فبينا نحن في مسجد الرسول إذ

ص: 32


1- القصص : 68.
2- أمالي الصدوق : 536 ، ح 1.

دخل جعفر بن محمّد عليه السلام ، فقلت لابن أبي ليلى : تقوم بنا إليه ، فقال : وما نصنع عنده؟ فقلت : نسأله ونحدّثه ، فقال : قم ، فقمنا إليه ، فسألني عن نفسي وأهلي ، ثمّ قال : من هذا معك؟ فقلت : ابن أبي ليلى قاضي المسلمين ، فقال له : أنت ابن أبي ليلى قاضي المسلمين؟ قال : نعم ، قال : تأخذ مال هذا فتعطيه هذا ، وتقتل هذا ، وتفرق بين المرء وزوجه ، لا تخاف في ذلك أحدا؟ قال : نعم ، قال : فبأيّ شيء تقضي؟ قال : بما بلغني عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وعن عليّ وعن أبي بكر وعمر ، فقال : فبلغك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنّه قال إنّ عليّا أقضاكم؟ قال : نعم ، قال : فكيف تقضي بغير قضاء عليّ وقد بلغك هذا؟ فما تقول إذا جيء بأرض من فضّة وسماء من فضّة ثمّ أخذ رسول اللّه بيدك فأوقفك بين يدي ربّك ، فقال : يا ربّ إنّ هذا قضى بغير ما قضيت؟ قال : فاصفرّ وجه ابن أبي ليلى حتّى عاد مثل الزعفران ، ثمّ قال لي : التمس لنفسك زميلا ، واللّه لا اكلّمك من رأس كلمة أبدا » (1).

وعن الفقيه قال الصادق عليه السلام : « الحكم حكمان : حكم اللّه وحكم الجاهليّة ، فمن أخطأ حكم اللّه عزّ وجلّ حكم بحكم الجاهليّة ، ومن حكم بدرهمين بغير ما أنزل اللّه عزّ وجلّ فقد كفر باللّه ».

وعن الكافي عن أبي جعفر عليه السلام قال : « الحكم حكمان : حكم اللّه وحكم أهل الجاهليّة ، وقد قال اللّه عزّ وجلّ ( وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (2) واشهد على زيد بن ثابت لقد حكم في الفرائض بحكم الجاهليّة » (3).

وعنه عن عبد الرحمن بن الحجّاج قال كان أبو عبد اللّه عليه السلام قاعدا في حلقة ربيعة الرأي ، فجاء أعرابي فسأل ربيعة الرأي عن مسألة فأجابه ، فلمّا سكت قال له الأعرابي : أهو في عنقك؟ فسكت عنه ربيعة ولم يردّ عليه شيئا ، فأعاد عليه المسألة فأجابه بمثل ذلك ، فقال الأعرابي : أهو في عنقك؟ فسكت ربيعة ، فقال أبو عبد اللّه عليه السلام : « هو في عنقه قال أو لم يقل ، وكلّ مفت ضامن » (4).

وعنه عن أبي عبيدة قال : قال أبو جعفر عليه السلام : « من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من اللّه لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، ولحقه وزر من عمل بفتياه » (5).

وعنه أيضا عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : إنّ اللّه عزّ وجلّ خصّ عباده بآيتين من كتابه أن

ص: 33


1- الكافي 7 : 408 ، ح 5.
2- المائدة : 50.
3- الكافي 7 : 407 ، ح (2 و 1).
4- الكافي 7 : 407 ، ح (2 و 1).
5- الكافي 7 : 407 ، ح (2 و 1).

لا يقولوا حتّى يعلموا ولا يردّوا ما لم يعلموا ، وقال عزّ وجلّ ( أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَ ) (1) وقال ( بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ) (2)(3).

وعنه عليه السلام أيضا عن أبي جعفر عليه السلام قال : « الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ، وتركك حديثا لم تروه خير من روايتك حديثا لم تحصه » (4).

وعنه أيضا عن أبي بصير قال : « قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام ترد علينا أشياء ليس نعرفها في كتاب اللّه ولا سنّته فننظر فيها؟ فقال : لا ، أما أنّك إن أصبت لم تؤجر وإن أخطأت كذبت على اللّه عزّ وجلّ » (5).

وعنه أيضا قال : حدّثني جعفر عن أبيه عليهما السلام إنّ عليّا عليه السلام قال : « من نصب نفسه للقياس لم يزل دهره في التباس ، ومن دان اللّه بالرأي لم يزل دهره في ارتماس ، قال : وقال أبو جعفر عليه السلام من أفتى الناس برأيه فقد دان اللّه بما لا يعلم ، ومن دان اللّه بما لا يعلم فقد ضادّ اللّه حيث أحلّ وحرّم فيما لا يعلم » (6).

وعنه أيضا عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث طويل : « ومن عمى نسي الذكر واتّبع الظنّ وبارز خالقه » (7).

وعن كتاب المحاسن عن داود بن فرقد عمّن حدّثه عن عبد اللّه بن شبرمة قال : ما أذكر حديثا سمعته من جعفر بن محمّد إلاّ كاد أن يتصدّع قلبي ، قال : قال أبي عن جدّي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، قال ابن شبرمة : واقسم باللّه ما كذب أبوه على جدّه ، ولا كذب جدّه على رسول اللّه ، فقال : قال رسول اللّه : « من عمل بالمقائيس فقد هلك وأهلك ، ومن أفتى الناس وهو لا يعلم الناسخ من المنسوخ والمحكم من المتشابه فقد هلك وأهلك » (8).

وعنه أيضا عن محمّد بن مسلم قال : « قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : إنّ قوما من أصحابنا تفقّهوا وأصابوا علما ورووا أحاديث ، فيرد عليهم الشيء فيقولون فيه برأيهم؟ فقال : لا ، فهل هلك من مضى إلاّ بهذا وأشباهه » (9).

وعن كتاب بصائر الدرجات عن أبي الحسن عليه السلام قال : « إنّما هلك من كان قبلكم بالقياس ، وإنّ اللّه تبارك وتعالى لم يقبض نبيّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حتّى أكمل له جميع دينه في حلاله

ص: 34


1- الأعراف : 169.
2- يونس : 39.
3- الكافي 1 : 43 ، ح 8.
4- الكافي 1 : 44 ، ح 3.
5- الكافي 1 : 56 ، ح 11.
6- الكافي 1 : 57 ، ح 17.
7- الكافي 2 : 391 ، ح 1.
8- المحاسن 1 : 326 ، ح 61.
9- المحاسن 1 : 336 ، ح 87.

وحرامه ، فجاءكم بما تحتاجون إليه في حياته وتستغنون به وبأهل بيته بعد موته ، وأنّه مخفيّ عند أهل بيته حتّى أنّ فيه لأرش [ الخدش ] الكفّ » (1).

وعن الكافي عن أبي شيبة قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : « ضلّ علم ابن شبرمة عند الجامعة ، إملاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وخطّ عليّ عليه السلام بيده ، إذ الجامعة لم تدع لأحد كلاما فيها علم الحلال والحرام ، إنّ أصحاب القياس طلبوا العلم بالقياس فلم يزدادوا من الحقّ إلاّ بعدا ، أنّ دين اللّه لا يصاب بالقياس » (2).

وعنه عن عمر بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال : سمعته يقول : « إنّ اللّه تبارك وتعالى لم يدع شيئا يحتاج إليه الامّة إلاّ أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وجعل لكلّ شيء حدّا ، وجعل عليه دليلا يدلّ عليه ، وجعل على من تعدّى ذلك الحدّ حدّا » (3).

وعنه أيضا عن سليمان بن هارون قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : « ما خلق اللّه حلالا ولا حراما إلاّ وله حدّ كحدّ الدار ، فما كان من الطريق فهو من الطريق ، وما كان من الدار فهو من الدار حتّى أرش الخدش فما سواه ، والجلدة ونصف الجلدة » (4).

وعنه عن زرارة قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الحلال والحرام ، فقال : « حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام أبدا إلى يوم القيامة ، لا يكون غيره ولا يجيء غيره » (5).

وعنه أيضا عن حمّاد عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : سمعته يقول : « ما من شيء إلاّ وفيه كتاب وسنّة » (6).

وعنه أيضا عن المعلّى بن الخنيس قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام : « ما من أمر يختلف فيه إثنان إلاّ وله أصل في كتاب اللّه ، ولكن لا تبلغه عقول الرجال » (7).

وعنه أيضا عن سماعة عن أبي الحسن موسى عليه السلام قال : قلت له : أكلّ شيء في كتاب اللّه وسنّة نبيّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أو يقولون فيه؟ قال : « بلى كلّ شيء في كتاب اللّه وسنّة نبيّه صلى اللّه عليه وآله وسلم » (8).

وعنه أيضا عن سماعة عن أبي الحسن موسى عليه السلام قال : قلت : أصلحك اللّه أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الناس بما يكتفون به في عهده؟ فقال : « نعم وما يحتاجون إليه إلى يوم القيامة ، فقلت : فضاع من ذلك شيء؟ فقال : لا ، هو عند أهله » (9).

ص: 35


1- بصائر الدرجات : 147 ، ج 3.
2- الكافي 1 : 57 ، ح 14.
3- الكافي 1 : 2. ح (2 و 3).
4- الكافي 1 : 2. ح (2 و 3).
5- الكافي 1 : 58 ، ح 19.
6- الكافي 1 : 59 ، ح 4.
7- الكافي 1 : 60 ، ح 6.
8- الكافي 1 : 62 ، ح 10.
9- الكافي 1 : 57 ، ح 13.

وعن الفقيه قال أمير المؤمنين عليه السلام : « الحمد لله الّذي لم يخرجني من الدنيا حتّى بيّنت للامّة جميع ما تحتاج إليه » (1).

وعن الكافي عن أبي إسحاق السبيعي عمّن حدّثه قال : سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول : « أيّها الناس اعلموا أنّ كمال الدين طلب العلم والعمل به ، ألا وأنّ طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال ، إنّ المال مقسوم مضمون لكم قد قسّمه عادل بينكم وضمنه وسيفي لكم ، والعلم مخزون عند أهله ، وقد امرتم بطلبه من أهله فاطلبوه » (2).

وعنه أيضا عن عبد اللّه بن ميمون القدّاح عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « قال : إنّ هذا العلم عليه قفل ، ومفتاحه المسألة » (3).

وعنه أيضا عن جماعة قالوا : قال أبو عبد اللّه عليه السلام لحمران بن أعين في شيء سأله : « إنّما يهلك الناس لأنّهم لا يسألون » (4).

وعن كتاب المحاسن عن محمّد بن حكيم عن أبي الحسن عليه السلام قال : « أتاهم الرسول بما يستغنون به في عهده وما يكتفون به من بعده ، كتاب اللّه وسنّة نبيّه صلى اللّه عليه وآله وسلم » (5).

وعن الكافي عن أبي جعفر عليه السلام في حديث طويل : « واللّه كذلك لم يمت محمّد إلاّ وله بعيث نذير ، قال : فإن قلت : لا فقد ضيّع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من في أصلاب الرجال من امّته ، قال السائل : وما يكفيهم القرآن؟ قال : بلى إن وجدوا له مفسّرا ، قال : وما فسّره الرسول؟ قال : بلى قد فسّره لرجل واحد ، وفسّر للامّة شأن ذلك الرجل وهو عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، قال السائل : يا أبا جعفر كان هذا أمر خاصّ لا يحتمله العامّة ، قال : أبى اللّه أن يعبد إلاّ سرّا ، حتّى يأتي أبّان أجله الّذي يظهر فيه دينه » (6).

وعن الاحتجاج عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم يوم الغدير : « ألا إنّ الحلال والحرام أكثر من أن احصيهما واعرّفهما في مقام واحد ، فامرت أن آخذ البيعة عليكم والصفقة منكم بقبول ما جئت به عن اللّه عزّ وجلّ في عليّ أمير المؤمنين والأئمّة من بعده ، يا معاشر الناس تدبّروا القرآن ، وافهموا آياته ، وانظروا في محكماته ، ولا تتّبعوا متشابهه ، فو اللّه لن يبيّن لكم زواجره ولا يوضح لكم تفسيره إلاّ الّذي أنا آخذ بيده » (7).

ص: 36


1- الفقيه 3 : 112 ، ح 3432.
2- الكافي 1 : 30 ، ح 4.
3- الكافي 1 : 40 ، ح 3.
4- الكافي 1 : 40 ، ح 2.
5- المحاسن 1 : 368.
6- الكافي 1 : 249 ، ح 6.
7- الاحتجاج 1 : 65 ، 60.

وعن الكافي عن منصور بن حازم قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : « قلت للناس أليس تزعمون أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم هو الحجّة من اللّه على خلقه؟ قالوا : بلى ، قلت : فحين مضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من كان الحجّة على خلقه؟ فقالوا : القرآن ، فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجئ والقدري والزنديق الّذي لا يؤمن حتّى يغلب الرجال بخصومته ، فعرفت أنّ القرآن لا يكون حجّة إلاّ بقيّم ، فما قال فيه من شيء كان حقّا ، فقلت لهم : من قيّم القرآن؟ فقالوا : ابن مسعود قد كان يعلم ، وعمر يعلم وحذيفة يعلم ، قلت : كلّه؟ قالوا : لا ، فلم أجد أحدا يقال إنّه يعرف ذلك كلّه إلاّ عليّا عليه السلام ، وإذا كان الشيء بين القوم فقال هذا : لا أدري ، وقال هذا : لا أدري ، وقال : أنا أدري ، فأشهد أنّ عليّا عليه السلام كان قيّم القرآن ، وكانت طاعته مفترضة ، وكان الحجّة على الناس بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وأنّ ما قال في القرآن فهو حقّ ، فقال رحمك اللّه » (1).

وعنه أيضا عن زيد الشحّام قال : « دخل قتادة بن دعامة على أبي جعفر عليه السلام فقال : يا قتادة إنّك فقيه أهل البصرة؟ فقال : هكذا يزعمون ، فقال أبو جعفر عليه السلام : بلغني أنّك تفسّر القرآن ، قال له قتادة : نعم ، فقال أبو جعفر عليه السلام : فإن كنت تفسّره بعلم فأنت أنت ، وإن كنت إنّما فسّرت من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت ، وإن كنت قد أخذته من الرجال فقد هلكت وأهلكت ، ويحك يا قتادة إنّما يعرف القرآن من خوطب به » (2).

وعن المجالس مسندا إلى عبّاس قال : صعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم المنبر فخطب واجتمع الناس إليه ، فقال : « يا معاشر المؤمنين إنّ اللّه عزّ وجلّ أوحى إليّ أنّي مقبوض ، وأنّ ابن عمّي عليّا مقتول ، وإنّي أيّها الناس اخبركم خبرا إن عملتم به سلمتم وإن تركتموه هلكتم ، إنّ ابن عمّي عليّا هو أخي ووزيري وهو خليفتي ، وهو المبلّغ عنّي وهو إمام المتّقين ، وقائد الغرّ المحجّلين ، إن استرشدتموه أرشدكم وإن اتّبعتموه نجوتم ، وإن خالفتموه ضللتم ، وإن أطعتموه فاللّه أطعتم ، وإن عصيتموه فاللّه عصيتم ، إنّ اللّه عزّ وجلّ أنزل إليّ القرآن وهو الّذي من خالفه ضلّ ، ومن ابتغى علمه عند غير عليّ فقد هلك.

أيّها الناس : اسمعوا قولي واعرفوا حقّ نصيحتي ، ولا تخلفوني في أهل بيتي إلاّ بالّذي امرتم به ، من طلب الهدى من غيرهم فقد كذبني » (3).

وعن الاحتجاج [ في احتجاج ] الحسن بن عليّ بن أبي طالب عليهما السلام على الجماعة

ص: 37


1- الكافي 1 : 168 ، ح 2.
2- روضة الكافي : 311 ، ح 485.
3- أمالى الصدوق : 62 ، ح 11.

المنكرين فضله وفضل أبيه بحضرة معاوية ، قال عليه السلام : « أتعلمون أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال في حجّة الوداع : أيّها الناس إنّي تركت فيكم ما لم تضلّوا بعدي : كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ، ثمّ قال : والمعوّل علينا في تفسيره » (1).

وعن أوّل كتاب الروضة من الكافي عن حفص المؤذّن وعن إسماعيل بن جابر عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه كتب بهذه الرسالة إلى أصحابه ، وأمرهم بمدارستها والنظر فيها وتعاهدها والعمل بها ، وكانوا يضعونها بها في مساجد بيوتهم ، فإذا فرغوا من الصلاة نظروا فيها ، وهي طويلة وموضع الحاجة منها أنّه عليه السلام قال : « أيّتها العصابة المرحومة المفلحة أنّ اللّه [ عزّ وجلّ ] أتمّ لكم ما آتاكم من الخير ، واعلموا أنّه ليس من علم اللّه ولا من أمره أن يأخذ أحد من خلق اللّه في دينه بهوى ولا رأي ولا مقائيس ، قد أنزل اللّه القرآن وجعل فيه تبيان كلّ شيء ، وجعل للقرآن أهلا ولعلم القرآن أهلا ، لا يسع أهل علم القرآن الّذين آتاهم اللّه علمه أن يأخذوا فيه بهوى ولا برأي ولا مقائيس ، أغناهم اللّه عن ذلك بما آتاهم اللّه من علمه وخصّهم به ووضعه عندهم كرامة من اللّه أكرمهم بها ، وهم أهل الذكر الّذين أمر اللّه تعالى هذه الامّة بسؤالهم.

وهم الّذين من سألهم - وقد سبق في علم اللّه أن يصدّقهم ويتّبع أثرهم - أرشدوه وأعطوه من علم القرآن ما يهتدي به إلى اللّه بإذنه وإلى جميع سبل الحقّ ، وهم الّذين لا يرغب عنهم وعن مسألتهم وعن علمهم الّذي أكرمهم اللّه به وجعله عندهم إلاّ من سبق عليه في علم اللّه الشقا في أصل الخلق تحت الأظلّة ، فاولئك الّذين يرغبون عن سؤال أهل الذكر ، والّذين آتاهم اللّه علم القرآن ووضعه عندهم وأمرهم بسؤالهم ، واولئك الّذين يأخذون بأهوائهم وآرائهم ومقائيسهم حتّى دخلهم الشيطان ، لأنّهم جعلوا أهل الإيمان في علم القرآن عند اللّه كافرين وجعلوا أهل الضلالة في علم القرآن عند اللّه مؤمنين ، حتّى جعلوا ما أحلّ اللّه في كثير من الأمر حراما ، وجعلوا ما حرّم اللّه في كثير من الأمر حلالا ، وذلك أصل ثمرة أهوائهم ، وقد عهد إليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قبل موته ، فقالوا : نحن بعد ما قبض اللّه عزّ وجلّ رسوله يسعنا أن نأخذ بما اجتمع عليه رأي الناس بعد قبض اللّه رسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم وبعد عهده الّذي عهده إلينا وأمرنا به مخالفا لله ورسوله ، فما أحد أجرأ على اللّه ولا أبين

ص: 38


1- الاحتجاج 1 : 273 ، والعبارة الاخيرة للحسين 7 ، فراجع الاحتجاج 1 : 299.

ضلالة ممّن أخذ بذلك ، وزعم أنّ ذلك يسعه.

واللّه إنّ لله على خلقه أن يطيعوه ، ويتّبعوا أمره في حياة محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم وبعد موته ، هل يستطيع اولئك أعداء اللّه أن يزعموا أنّ أحدا ممّن أسلم مع محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم أخذ بقوله ورأيه ومقاييسه؟ فإن قال : نعم ، فقد كذب على اللّه وضلّ ضلالا بعيدا ، وإن قال : لا ، لم يكن لأحد أن يأخذ برأيه وهواه ومقاييسه فقد أقرّ بالحجّة على نفسه ، وهو ممّن يزعم أنّ اللّه يطاع ويتّبع أمره بعد قبض رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وقد قال اللّه وقوله الحقّ : ( وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ) (1) وذلك لتعلموا أنّ اللّه يطاع ويتّبع أمره في حياة محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وبعد قبض اللّه محمّدا صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وكما لم يكن لأحد من الناس مع محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يأخذ بهواه ولا رأيه ولا مقائيسه خلافا لأمر محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم فكذلك لم يكن لأحد من بعد محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم أن يأخذ بهواه ولا برأيه ولا مقائيسه » (2).

وعن كتاب المحاسن عن أبي عبد اللّه عليه السلام في رسالة إلى أصحاب الرأي والمقائيس ، « أمّا بعد ، فإنّ من دعا غيره إلى دينه بالارتياء والمقائيس لم ينصف ولم يصب حظّه ، لأنّ المدعوّ إلى ذلك لا يخلو أيضا من الارتياء والمقائيس ، ومتى ما لم يكن بالداعي قوّة في دعائه على المدعوّ لم يؤمن على الداعي أن يحتاج إلى المدعوّ بعد قليل ، لأنّا قد رأينا المتعلّم الطالب ربّما كان فائقا لمعلّم ولو بعد حين ، ورأينا المعلّم الداعي ربّما احتاج في رأيه إلى رأي من يدعو ، وفي ذلك تحيّر الجاهلون وشكّ المرتابون وظنّ الظانّون ، ولو كان ذلك عند اللّه جائزا لم يبعث الرسل بما فيه الفصل ولم ينه عن الهزل ولم يعب الجهل.

ولكنّ الناس لمّا سفهوا الحقّ وغمطوا النعمة واستغنوا بجهلهم وتدابيرهم عن علم اللّه واكتفوا بذلك دون رسله والقوّام بأمره ، وقالوا : لا شيء إلاّ ما أدركته عقولنا وعرّفته ألبابنا فولاّهم اللّه ما تولّوا وأهملهم وخذلهم حتّى صاروا عبدة أنفسهم من حيث لا يعلمون ، ولو كان اللّه رضي منهم اجتهادهم وارتيائهم فيما ادّعوا من ذلك لم يبعث اللّه إليهم فاصلا لما بينهم ، ولا زاجرا عن وصفهم.

وإنّما استدللنا إنّ رضا اللّه غير ذلك ببعثه الرسل بالامور القيّمة الصحيحة ، والتحذير

ص: 39


1- آل عمران : 144.
2- روضة الكافي : (2 - 6) ، ح 1.

عن الامور المشكلة المفسدة ، ثمّ جعلهم أبوابه وصراطه والأدلاّء عليه بامور محجوبة عن الرأي والقياس ، فمن طلب ما عند اللّه بقياس ورأي لم يزدد من اللّه إلاّ بعدا ، ولم يبعث رسولا قطّ ، وإن طال عمره قابلا من الناس خلاف ما جاء به حتّى يكون متبوعا تارة وتابعا اخرى ، ولم ير أيضا فيما جاء به استعمل رأيا ولا مقياسا حتّى يكون ذلك واضحا عندنا كالوحي من اللّه ، وفي ذلك دليل لكلّ ذي لبّ وحجى أنّ أصحاب الرأي والقياس مخطئون مدحضون وإنّما الاختلاف فيما دون الرسل لا في الرسل.

فإيّاك أيّها المستمع أن تجمع عليك خصلتين إحداهما : القذف بما جاش به صدرك واتّباعك لنفسك إلى غير قصد ولا معرفة حدّ ، والاخرى : استغناؤك عمّا فيه حاجتك ، وتكذيبك لمن إليه مردّك وإيّاك وترك الحقّ سأمة وملالة وانتجاعك الباطل جهلا وضلالة ، لأنّا لم نجد تابعا لهواه ، جائزا عمّا ذكرناه قطّ رشيدا » (1).

وفي كتاب المجالس عن عليّ بن موسى الرضا عليه السلام عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام قال : « قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : قال اللّه جلّ جلاله : ما آمن بي من فسّر برأيه كلامي ، وما عرفني من شبّهني بخلقي ، وما على ديني من استعمل القياس في ديني » (2).

وعن المحاسن للبرقي قال : قال أبو جعفر عليه السلام : « إنّ القرآن شاهد الحقّ ومحمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم لذلك مستقرّ فاتّقوا اللّه ، فإنّ اللّه قد أوضح لكم أعلام دينكم ومنار هداكم ، فلا تأخذوا أمركم بالوهن ، ولا أديانكم هزوا فتدحض أعمالكم وتخطئوا سبيلكم ، ولا تكونوا أطعتم اللّه ربّكم ، أثبتوا على القرآن [ الثابت ] وكونوا في حزب اللّه تعالى تهتدوا ، ولا تكونوا في حزب الشيطان فتضلّوا ، يهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنة ، وعلى اللّه البيان ، بيّن لكم فاهتدوا ، وبقول العلماء فانتفعوا ، والسبيل في ذلك كلّه إلى اللّه فمن يهدى اللّه فهو المهتدى ، ومن يضلل اللّه فلن تجد له وليّا مرشدا » (3).

وفي الكافي في باب ثواب الأعمال عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال : « إنّ الّذي يعلّم العلم منكم له أجر مثل أجر المتعلّم وله الفضل [ عليه ] ، فتعلّموا العلم من حملة العلم وعلّموه اخوانكم كما علّمكموه العلماء » (4).

وعنه أيضا عن ابن البختري عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « إنّ العلماء ورثة الأنبياء وذلك

ص: 40


1- المحاسن 1 : 331 ، ح 76.
2- أمالي الصدوق : 15 ، ح 3.
3- المحاسن 1 : 418 ، ح 363.
4- الكافي 1 : 35 ، ح 2.

بأنّ الأنبياء لم يورّثوا درهما ولا دينارا ، وإنّما ورّثوا أحاديث من أحاديثهم ، فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظّا وافرا ، فانظروا علمكم [ هذا ] عمّن تأخذونه ، فإنّ فينا أهل البيت في كلّ خلف عدولا ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين » (1).

وعنه أيضا عن سليم بن قيس الهلالي قال : قلت لأمير المؤمنين عليه السلام : إنّي سمعت من سلمان والمقداد وأبي ذر شيئا من تفسير القرآن وأحاديث عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم غير ما في أيدي الناس ، ثمّ سمعت منك تصديق ما سمعت منهم ، ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة في تفسير القرآن ومن الأحاديث عن نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وأنتم تخالفونهم فيها وتزعمون أنّ ذلك كلّه باطل ، أفترى الناس يكذبون على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم متعمّدين ويفسّرون القرآن بآرائهم؟

قال : فأقبل عليّ عليه السلام فقال : « قد سألت فافهم الجواب ، إنّ في أيدي الناس حقّا وباطلا ، وصدقا وكذبا ، وناسخا ومنسوخا ، وعامّا وخاصّا ، ومحكما ومتشابها ، وحفظا ووهما ، وقد كذب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم على عهده حتّى قام خطيبا فقال : أيّها الناس قد كثرت عليّ الكذّابة ، فمن كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار ، ثمّ كذّب عليه من بعده ، وإنّما أتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس :

رجل منافق يظهر الإيمان متصنّع بالإسلام لا يتأثّم ولا يتحرّج أن يكذب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم متعمّدا ، فلو علم الناس أنّه منافق كذّاب لم يقبلوا منه ولم يصدّقوه ، ولكنّهم قالوا : هذا قد صحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وسمع منه وأخذوا عنه وهم لا يعرفون حاله ، وقد أخبره اللّه عن المنافقين بما أخبره ووصفهم بما وصفهم فقال عزّ وجلّ : ( وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ) (2) ثمّ بقوا بعده فتقرّبوا إلى أئمّة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والكذب والبهتان ، فولّوهم الأعمال وحملوهم على رقاب الناس ، وأكلوا بهم الدنيا ، وإنّما الناس مع الملوك والدنيا إلاّ من عصم اللّه فهذا أحد الأربعة.

ورجل سمع من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم شيئا لم يحمله على وجهه ، ووهم فيه ، فلو علم المسلمون أنّه وهم لم يقبلوه ، ولو علم هو أنّه وهم لرفضه.

ورجل ثالث سمع من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم شيئا أمر به ثمّ نهى عنه وهو لا يعلم ، أو سمعه ينهى [ عن شيء ] ثمّ أمر به وهو لا يعلم ، فحفظ منسوخه ولم يحفظ الناسخ ، فلو علم أنّه

ص: 41


1- الكافي 1 : 32 ، ح 2.
2- المنافقون : 4.

منسوخ لرفضه ، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنّه منسوخ لرفضوه.

وآخر رابع لم يكذب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم مبغض للكذب خوفا من اللّه وتعظيما لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، لم ينس بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به كما سمع ، لم يزد فيه ولم ينقص منه ، وعلم الناسخ والمنسوخ ، فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ ، فإنّ أمر النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم مثل القرآن ناسخ ومنسوخ ، وخاصّ وعامّ ، ومحكم ومتشابه ، قد كان يكون من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الكلام له وجهان : كلام عامّ وكلام خاصّ مثل القرآن ، وقال اللّه عزّ وجلّ في كتابه ( وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (1) فيشتبه على من لم يعرف ولم يدر ما عنى اللّه به ورسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وليس كلّ أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يسأله عن الشيء فيفهم ، وكان منهم من يسأله ولا يستفهمه حتّى أن كانوا ليحبّون أن يجيء الأعرابي والطارئ فيسأل رسول اللّه حتّى يسمعوا.

وقد كنت أدخل على رسول اللّه كلّ يوم دخلة وكلّ ليلة دخلة فيخلّيني فيها ، أدور معه حيث دار ، قد علم أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنّه لم يصنع ذلك بأحد من الناس غيري ، فربّما كان في بيتي [ يأتيني رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أكثر ذلك في بيتى ] وكنت إذا دخلت عليه ببعض منازله أخلاني وأقام عنّي نساءه ، فلا يبقى عنده غيري ، وإذا أتاني للخلوة معي في منزلي لم تقم عنّي فاطمة ولا أحد من بنيّ ، وكنت إذا سألته أجابني ، وإذا سكتّ عنه وفنيت مسائلي ابتدأني ، فما نزلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم آية من القرآن إلاّ أقرأنيها وأملا عليّ فكتبتها بخطّي ، وعلّمني تأويلها وتفسيرها ، ناسخها ومنسوخها ، ومحكمها ومتشابهها ، وخاصّها وعامّها ، ودعا اللّه أن يعطيني فهمها [ وحفظها ] ، فما نسيت آية من كتاب اللّه ولا علما أملاه عليّ وكتبته منذ دعا اللّه لي بما دعا ، ولا ترك شيئا علّمه اللّه من حلال ولا حرام ولا أمر ولا نهي كان أو يكون ولا كتاب منزل على أحد قبله من طاعة أو معصية إلاّ علّمنيه وحفظته ، فلم أنس حرفا واحدا ، ثمّ وضع يده على صدري ودعا اللّه لي أن يملأ قلبي [ علما و ] فهما وحكما ونورا ، فقلت يا نبيّ اللّه : بأبي أنت وامّي منذ دعوت اللّه لي بما دعوت لم أنس شيئا ، ولم يفتني شيء لم أكتبه أفتتخوّف عليّ النسيان والجهل فيما بعد؟ فقال : لا لست أتخوّف عليك النسيان والجهل » (2).

ص: 42


1- الحشر : 7.
2- الكافي 1 : 62 ، ح 1.

وعن رئيس الطائفة بسنده عن خدّاش عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : جعلت فداك أنّ هؤلاء المخالفين علينا يقولون : إذا أطبقت السماء علينا أو أظلمت فلم نعرف السماء كنّا وأنتم سواء في الاجتهاد ، فقال : « ليس كما يقولون ، إذا كان ذلك فليصلّ الأربع وجوه » (1) إلى غير ذلك من الروايات الّتي أوردها في المقام ، وإنّما أطنبنا بإيراد ما أوردناه جميعا هنا مبالغة في إبداء خطأ المخالف وقلّة تدبّره في فهم الأخبار.

ومن أعجب العجاب أنّ الرجل يعدّ نفسه أخباريّا متديّنا بمضامين الآثار وهو لا يفهم الأخبار ، ولا يبلغ نظره بحقيقة المقصود ممّا أورده من الآثار ، حيث إنّه يورد في إبطال الاجتهاد وإفساد طريقة المجتهدين ما لاربط له بغرض المجتهدين ولا ينافي طريقتهم ، وليس ذلك إلاّ من جهة القصور عن قواعد الاجتهاد وضوابط الاصول.

وكيف كان فاستدلاله بالآيات يدفعه : أنّ المجتهد بعد ما أقام الدليل القطعي على التعبّد بظنّه فكلّ ما يقوله من مظنوناته حقّ ثابت من اللّه سبحانه.

غاية الأمر أنّه في موضع مصادفة الظنّ للواقع يكون هو الحقّ الواقعي وفي غيره يكون هو الحقّ التنزيلي من جهة وجوب إجراء آثار الواقع عليه ما لم ينكشف خلافه ، وإن لزم حينئذ في حكم العقل تضمّنه مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع الفائتة ، والظنّ من حيث هو وإن كان لا يغني من الحقّ في حكم العقل والشرع على ما تقدّم ذكره ، لكنّ الشرع قد يأمر بأخذ المظنون حقّا على معنى ترتيب آثار الواقع عليه كما هو مفروض المقام من موجب القطعي المقام عليه ، وعليه فالمجتهد لا تتبّع إلاّ ماله به علم ناش عن هذا القطعي ، وكون من لم يحكم بما أنزل اللّه كافرا أو فاسقا أو ظالما مسلّم ولكنّه لا مدخل له بمحلّ البحث ، إمّا لأنّ المراد منه كتمان الحقّ ممّن يعلمه. أو الحكم بالباطل مكان الحقّ المعلوم لدى الحاكم ، وليس فيما يحكم به المجتهد الجامع للشرائط ما يكون من هذا القبيل بعد قيام القطعي على مظنوناته بعنوان أنّها أحكام فعليّة ، وهي الامور الّتي تجب التديّن بها فعلا وترتيب آثار الواقع عليها ما لم ينكشف فساد الظنّ فيها.

وأمّا استدلاله بالروايات ممّا استدللنا على أصالة عدم الحجّية النفسيّة ومن غيرها.

ص: 43


1- التهذيب 2 : 45 ، ح 12.

فيدفعه : أنّ المجتهد - على ما عرفت - في كلّ من موارد شكّه الّذي يرجع فيه إلى الاصول العامّة القطعيّة ، وظنّه المعلوم بكون متعلّقه هو حكم اللّه الفعلي في حقّه مقيم على العلم وهو الحجّة الواضحة ، فليس ذلك من متابعة الظنّ في شيء ، وإلاّ لم يحتج إلى تجشّم إقامة القطعي وهو منزّه عن الإفتاء بالرأي ، بل هو يفتي بالشرع على التقدير المذكور ، كما أنّه ليس متديّنا بما لا يعلم ، بل هو متديّن بما يعلم أنّه لا دين له من الشرع سواه ، وهو قائل بما يعلم وكافّ عمّا لا يعلم في جميع أحواله ، وليس من أخذ بهواه أو رأيه ، بل هو آخذ بما له أصل وهو المظنون الّذي أصله القاطع ، وليس ممّن يستقلّ بهواه ويستبدّ برأيه ويعتمد على مقائيسه معرضا عن أهل العصمة ومتولّيا عن حجج اللّه الواضحة وأعلامه الظاهرة ، ليندرج في مورد الخطب والوصيّة المتقدّمين مع كثير من الروايات ، كيف وهو ينادي بأعلى صوته بمحظوريّة كلّ واحد من هذه الامور في الشريعة ، وكلماته في الكتب الاستدلاليّة من الفقه واصوله مشحونة بدعوى الإجماع والضرورة من المذهب في ذلك ، وكثيرا مّا تراه في المسائل الخلافيّة يزيّف خلاف ما رجّحه بكونه قياسا أو استحسانا ليس من مذهبنا.

وبالجملة العاقل المنصف بملاحظة سوق المذكورات ومتونها يجزم أنّه لم يقصد منها إلاّ ذمّ المعاندين للأئمّة ، المتابعين لأهل البدع والضلالة ، الآخذين في دين اللّه ورسوله بعقولهم القاصرة وأهوائهم الفاسدة وآرائهم الكاسدة مع قيام الحجّة ووضوح البيّنة ، وردعهم عن الضلالة والباطل إلى الهداية والحقّ الواضح البيّن الّذي هو موضوع لطاعة اللّه وطاعة رسوله دون غيره ، وليس في شيء منها ما ينافي طريقة المجتهدين ، بعد قيام الحجّة القاطعة بانحصار طريق طاعة اللّه وطاعة رسوله وطاعة أوصيائه الأئمّة المعصومين فيها ، من حيث انقطاعهم عن إمام زمانهم وتعذّر الوصول إلى حضرته والمسألة عنه بالنسبة إليهم ، والمفروض أنّ التكليف بما فوق الوسع والطاقة غير معقول ، وورود الحكم في كلّ واقعة وبقائه إلى يوم القيامة مع فرض اشتراط التكليف به ووجوب امتثاله بالعلم المتعذّر حصوله لا ينفي طريقيّة الظنّ إليه ، ولا وجوب الأخذ بالمظنون على أنّه ذلك الحكم من الشارع ، المريد للطاعة والانقياد مطلقا حتّى في تلك الحالة ، وليس في استنادهم إلى القرآن حيثما يستندون إليه ما يكون من باب التفسير بالرأي الّذي هو عبارة عن كشف المشكلات وإيضاح المبهمات والمشابهات بلا مستند معتبر ينتهي إلى من لا يدركها إلاّ هو ، ضرورة أنّ الأخذ بموجب الدلالات الواضحة والمداليل العرفيّة الّتي يساعد عليها القواعد المعمولة في العرف والعادة

ص: 44

لا يسمّى تفسيرا في العرف ، وعلى فرض تسليمه فليس مستندا إلى الرأي ، بل هو تفسير بمقتضى القواعد المحكمة والضوابط المتقنة الّتي لو لا التعويل عليها لانسدّ باب المخاطبة والمحاورة بالمرّة ، والمفروض أنّ اللّه سبحانه ليس له في مكالماته طريقة مخترعة اختارها لنفسه مغايرة لطريقة العرف ليوجب عدم الاعتداد بتلك الطريقة ، كما نطق به قوله عزّ من قائل : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ ) (1) وما ورد : من « أنّه أجلّ من أن يخاطب قوما ويريد منهم خلاف ما يفهمون ».

والاجتهاد الغير المرضي الوارد في رواية المحاسن - بقرينة كون السياق في منع العمل بالقياس والرأي - مرادا به القياس ، أو النظر في استخراج علّة الحكم بالاستنباطات المعهودة لدى أصحاب القياس ، وعليه يحمل ما في مرسلة خدّاش بناء على ورودها في مورد تعذّر الاجتهاد بمراجعة الأمارات الشرعيّة المقرّرة لاستعلام القبلة عند الاشتباه ، وإلاّ فالمنع من مطلق الاجتهاد في هذا المقام حتّى الشرعي منه ضروريّ البطلان.

ومن هنا حكي عن جماعة من متأخّري أصحابنا أنّهم قالوا هذه الرواية متروكة الظاهر من حيث تضمّنها لسقوط الاجتهاد بالكلّية.

وممّا يرشد إلى صحّة ما قلناه من الحمل ما عن ذريعة السيّد قائلا : « وفي الفقهاء من فرّق بين القياس والاجتهاد ، وجعل القياس ما له أصل يقاس عليه ، وجعل الاجتهاد ما لم يتعيّن له أصل كالاجتهاد في طلب القبلة وفي قيمة المتلفات بالجنايات ومنهم من عدّ القياس من الاجتهاد وجعل الاجتهاد أعمّ منه » (2).

ومع الغضّ عن ذلك فالمنع عن الاجتهاد في مورد خاصّ من موارد الاشتباه في الموضوعات لا يقضي بالمنع عنه في سائر الموارد من الموضوعات والأحكام ، ومحلّ النزاع مشروعيّة الاجتهاد في نفس الأحكام ، فالرواية أعمّ منه من وجهين وهي قضيّة في واقعة خاصّة ، فلا عموم فيها ولا إطلاق يشمل المقام ، ومع ذلك الفرق بين هذه الواقعة ومحلّ البحث في غاية الوضوح ، من حيث إمكان إدراك الواقع بالاحتياط فيها من دون محذور من العسر والحرج وغيره ، بخلاف محلّ البحث الّذي لا يمكن الاحتياط في كثير من صوره ، واستلزامه العسر والحرج لو وجب في سائرها كما لا يخفى على المتأمّل المنصف هذا.

ص: 45


1- ابراهيم : 4.
2- الذريعة إلى أصول الشريعة 2 : 672 مع تفاوت يسير في العبارة.

والعجب ممّن يدّعي العلم ويبادر إلى تخطئة قاطبة أهل العلم الّذين هم ورثة الأنبياء وحفظة الشريعة الغرّاء وكفلة أيتام أهل العباء ، بحيث لولاهم لانهدم الدين المبين وانعدم آثار شرع خاتم النبيّين كيف يخبط في نظره ويخطئ في فهمه فيحمل الرواية هنا على ما يقطع الجاهل بسقوطه عن المقام وبعده عنه كما بين الأرض والسماء فضلا عن العالم ، فيقول : هي محمولة على ظاهرها ، ومعناها سقوط الاجتهاد في نفس أحكام اللّه تعالى بالكلّية ، ومع ذلك يدّعي انفتاح باب العلم وأنّه في أخذه بالأخبار المرويّة عن أهل العصمة يعمل به دون الظنّ وغيره من الاصول المقرّرة.

والّذي صنعه في الرواية كما ترى دون الظنّ بل الوهم أيضا فضلا عن كونه علما.

ثمّ إنّ له في منع الاجتهاد وإبطال طريقة أصحابنا المجتهدين رضوان اللّه عليهم شكوك اخر أوردها في المقام مضافة إلى ما عرفته من الوجهين ، ويعجبني التعرّض لنقلها هنا لما في الاطّلاع عليها وعلى ما يفسدها من زيادة وضوح لبطلان هذه الطريقة وحقّيّة طريقة المجتهدين.

منها : أنّ كلّ من قال بجواز التمسّك بالاستنباطات الظنّية في نفس أحكامه تعالى من محقّقي العامّة وجمع من متأخّري الخاصّة اعترف بانحصار دليله في الإجماع بحيث لولاه لم يكن جائزا ، للأدلّة المانعة من الآيات والرواية.

ومن المعلوم أنّ كون ثبوت إجماع الامّة في هذا الموضع مفيدا للقطع محلّ المنع ، وسنده. أوّلا : ما ورد في كلام الصادقين عليهم السلام من أنّ حجّيّة الإجماع من مخترعات العامّة.

وثانيا : أنّه قد تواتر الأخبار عن الأئمّة الأطهار عليهم السلام بانحصار طريق أخذ هذا العلم في السماع عنهم عليهم السلام بواسطة أو بدونها (1).

وثالثا : أنّه قد تواترت الأخبار أيضا بأنّه لا يجوز تحصيل الحكم الشرعي النظري بالكسب والنظر ، لأنّه يؤدّي إلى اختلاف الآراء في الاصول والفروع الفقهيّة كالمناكح والمواريث والديات والقصاص - كما هو المشاهد - فتنتفي فائدة بعث الرسل وإنزال الكتب على ما هو المشهور بين علماء الإسلام من أنّ فائدتهما رفع الاختلاف ليتمّ نظام المعاش.

ورابعا : كلّ ما يؤدّي إلى الاختلاف يؤدّي إلى الخطأ لامتناع اجتماع النقيضين ، والحكيم

ص: 46


1- الوسائل 18 : 41 الباب 7 من أبواب صفات القاضي.

المطلق - عزّ شأنه - يأبى حكمته عن أن يبني شريعته على ما يؤدّي إلى الخطأ » انتهى ملخّصا (1).

وفيه - بعد منع انحصار دليل جواز البناء على الاجتهاد بل وجوبه في الإجماع كما ستعرفه - : أنّ الثابت في المقام بطريق الجزم والإيقان إنّما هو فوق الإجماع وهو الضرورة كما ستعرفه أيضا ، ومع الانحصار في الإجماع فهو أيضا معلوم مفيد للعلم ، وحجّيته على ما يقول به أصحابنا ليست من مخترعات العامّة فإنكارها على هذا التقدير يفضي إلى إنكار حجّية رأي المعصوم ومعتقده.

وانحصار طريق أخذ هذا العلم - إن اريد به العلم بأحكام اللّه تعالى - في السماع عنهم ولو بالواسطة في حقّ المتمكّنين من الوصول إليهم لا يقضي بكونه كذلك في حقّ من لا سبيل له إلى هذا الطريق أصلا ، مع أنّ الأخذ من الطرق الاستنباطيّة الّتي منها الظنّ المعلوم كونه طريقا أخذ منهم بالواسطة ، ولا خصوصيّة للسماع في العلم بالأحكام المقرّرة في الشرع.

ولزوم الاختلاف في الآراء منقوض بما أوجبتموه من استنباط الأحكام عن الأخبار ، لكثرة متعارضاتها وقلّة ما يسلم منها عن المعارض ، مع ما فيها من سائر وجوه الاختلالات من جهة السند والمتن والدلالة ، بل أكثر الاختلافات الحاصلة فيما بين الفقهاء إنّما نشأت من هذه الجهة ، بل المبالغة في إعمال النظر لاستفادة المطلب منها وعن غيرها من الآيات أدخل في رفع الاختلاف أو قلّته ، لأدائه إلى حصول التوفيق بين متعارضاتها أو ترجيح بعضها على بعض كما لا يخفى.

مع أنّ الاختلاف قد يكون من مقتضى المصلحة الإلهيّة كما ورد في الأخبار ، مع أنّ فائدة بعث الرسل وإنزال الكتب إنّما هو إرشادهم إلى مصالح الأشياء ومفاسدها وحملهم على الطاعة والانقياد ، وحصولها لا ينافي الاختلاف الناشئ عن الاستناد إلى طريق مرخّص فيه غير لازم المصادفة للواقع إذا كان ترخيصه مسبوقا بملاحظة مصلحة في نفسه مردّدة بين مصلحة الواقع وما يتدارك به تلك المصلحة على تقدير فواتها بعدم اتّفاق المصادفة ، والشريعة مبنيّة على ما يؤدّي إلى إدراك مصلحة الواقع أو بدله المجعول للعاجز عن إدراك الواقع ، وهو ما يتدارك به ما فات من مصلحة الواقع ، والخطأ إنّما ينافي حكمته تعالى على

ص: 47


1- الفوائد المدنيّة : (181 - 183).

تقدير عدم التدارك لا مطلقا.

ومنها : أنّ خلاصة ما استدل به الإماميّة على وجوب عصمة الإمام من « أنّه لولاها لزم كون اللّه سبحانه آمرا لعباده باتّباع الخطأ وهذا قبيح » جارية في وجوب اتّباع المجتهد ، وهذا هو النقض الّذي أورده الفخر الرازي على الإماميّة (1) ، غير أنّه لا يرد على الأخباريّة منهم لأنّهم لا يجوّزون الاعتماد في أحكامه تعالى على الظنّ (2).

وفيه : مع النقض بالظنّ في الموضوعات والعمل بالأخبار الّذي لا يكاد يسلم عن الخطأ أيضا كما عرفت ، أنّ الخطأ - وهو الوقوع في مخالفة الواقع - قد ينشأ عن فقد حالة في النفس مانعة منه وهي العصمة ، وقد ينشأ عن أسباب خارجة حصلت من باب الطوارئ وهي وجوه الاختلال الطارئة للأدلّة ، والمنفي عن الإمام عليه السلام ما يكون من قبيل القسم الأوّل ، إذ لو كان جائزا لكان وقوعه في الحقيقة مسندا إلى اللّه تعالى ، فيكون أمره تعالى للعباد باتّباع الإمام الغير المعصوم إيقاعا لهم في الخطأ ، لأنّ نصبه إماما يجوز في حقّه الخطأ مؤدّاه وجوب متابعته في جميع ما يقول به حتّى مواضع خطائه ، وهو إيقاع لهم في الخطأ في هذه المواضع وأنّه قبيح ، إمّا لأنّه نقض للغرض من حيث إنّ الغرض من نصب الإمام حفظ شرعه وإرشاد عباده إلى الأحكام المأخوذة في هذا الشرع على ما ينبغي وكما هو حقّه ، أو لمنافاته الحكمة من حيث إنّ حكمة الحكيم اقتضت هداية العباد وإرشادهم إلى مصالح امورهم ومفاسدها ، والإيقاع في الخطأ إضلال لهم فيكون قبيحا ، وأيّا ما كان فيجب عليه إعطاؤه الإمام الّذي ينصبه ما يؤدّي إلى حسم مادّة هذا النحو من الخطأ.

بخلاف ما يتّفق في التعبّد بالظنّ أو الطرق الظنّية الّتي من شأنها التأدية إليه ، فإنّه لا يسند إليه تعالى حيثما وقع ، وإنّما يسند إلى أسبابه الخارجيّة ، ولا قبح في ترخيصه في الأخذ بهما بعد ملاحظة قبح التكليف بما فوق الطاقة وقبح الإلجاء الّذي يؤول إليه منعه من طروّ تلك الأسباب لو وجب عليه ، كما يرشد إليه أخذهم عدم البلوغ حدّ الإلجاء في مفهوم اللطف الّذي يوجبونه عليه تعالى ، ولا يلزم منه تفويت مصلحة الواقع إذا اعتبر فيهما وجود ما يتدارك به المصلحة الفائتة كما عرفت.

ومن هنا تعرف - كما أشرنا إليه - أنّ هذا الخطأ بالإضافة إلى الواقع يعدّ خطأ وأمّا

ص: 48


1- انظر التفسير الكبير 20 : (208 - 209).
2- الفوائد المدنيّة : 186.

بالإضافة إلى موضوعه وهو العاجز عن إدراك الواقع فهو عين الصواب ، مع أنّ الاستدلال منقوض بالطرق العلميّة على تقدير انتصابها في الوقائع وكفايتها في استعلام الأحكام الواقعيّة ، لأنّ العالم أو مطلق المكلّف الّذي يرجع إليها غير مصون عنه بفقده الحالة النفسانيّة المانعة منه وهي العصمة ، ومن هنا يتّجه لمنكري عصمة الإمام أن يأخذوا هذا الفرض موردا للنقض ، بناء على أنّ أصحابنا المثبتين لها في الإمام لا يعتبرونها في سائر علماء الامّة غير الإمام ولا في نوّاب الأئمّة الّذين كانوا وسائط بينهم وبين سائر المكلّفين النائبين عنهم.

وقد يدفع الإشكال بإبداء الفرق بين الإمام وغيره من العلماء والمجتهدين ، بأنّ الإمام عليه السلام أمين اللّه على كافّة الأنام وله الرئاسة العامّة ووجوب الطاعة على الخاصّ والعامّ ، وهو مرجع الجميع في استفادة الأحكام ، ومع ذلك لا يستند في العلم بها إلى الأسباب الظاهريّة ، ومن البيّن أنّ مجرّد العدالة غير كاف في اطمئنان النفس بمثل ذلك ، إذ لا تطمئنّ النفس بقول العدل إذا ادّعى شيئا خارجا عن المعتاد خارقا للعادة الجارية بين الناس ، بل يتسارع الظنون إليه بالتهمة.

نعم لو دلّ دليل على عصمته كان قوله برهانا ناطقا لا مجال لإنكاره ، فالفرق بينه وبين المجتهد ظاهر من وجوه شتّى ، فاعتبار العصمة فيه لا يقضي باعتبارها في المجتهد الّذي هو بمنزلة الراوي عنهم ، ولا يكون السبيل الّذي يستنبطه ذلك المجتهد قطعيّا بعد القطع بوجوب العمل بمؤدّاه.

ولعلّه راجع إلى ما سنبيّنه وإلاّ فعموم الرئاسة كما هو ثابت للإمام كذلك ثابت للمجتهد الجامع للشرائط أيضا.

نعم الغالب على المجتهدين اختصاص الراجعين إليه الآخذين بقوله بطائفة دون اخرى وأهل بلد دون آخر ، ولكنّه لا يقضي باختصاص رئاسته بحسب القابليّة الشرعيّة.

فتحقيق المقام في حسم مادّة الإشكال أن يقال : إنّ الإمام لا يعقل في حقّه انسداد باب العلم ، وهو ما دام حاضرا متمكّنا عن التصرّف لا يعقل في حقّ أهل عصره المتمكّنين من الوصول إليه أيضا انسداد بابه ، فلا مقتضي في حقّهم لجعل الطرق الغير العلميّة لاستفادة الأحكام ، لعدم عجزه عن بيان الواقع ولا عجزهم عن إدراكه ، فلو جاز في حقّه الخطأ لكان الأمر باتّباعه مطلقا مؤدّيا إلى الإضلال ونقض الغرض وتفويت مصلحة الواقع ، بخلاف العاجزين عن إدراكه بطريق علمي لانسداد باب العلم ولو في الغالب ، لكونهم في زمان

ص: 49

الغيبة أو في زمان الحضور مع عدم تمكّنهم من الوصول إليه أو عدم تمكّنه من التصرّف على ما هو حقّه.

فإنّ قضيّة ذلك أن يجعل في حقّهم من الطرق الغير العلميّة ما يكون بدلا عن الطرق العلمي قائما مقامه لينفعهم في مواضع تعذّر العلم ، فلو أخطأوا حينئذ بعدم إصابة الواقع لم يكن مستندا إلى اللّه تعالى بل إلى الأسباب الخارجة مع لزومه استدراك ما يتدارك به مصلحة الواقع.

فأمرهم بمتابعة ما لا يكاد يسلم عن عدم مصادفة الواقع ليس إضلالا لهم ليكون قبيحا منافيا لحكمة الشارع الحكيم ، ولذلك اختصّ اعتبار العصمة بالإمام دون غيره من المجتهدين والرواة الّذين هم وسائط بينه وبين الرعيّة النائين عنه الغير المتمكّنين من الوصول إليه ، والّذي يفصح عن هذا الفرق مجعوليّة الأحكام المعمولة عند التقيّة المتّفق عليها عند أصحابنا المدلول عليها بالأخبار المتواترة ، فإنّ هذه الأحكام كلّها أبدال من الأحكام الواقعيّة جعلت للعاجزين عن الأخذ بالأحكام الواقعيّة لحصول الإطاعة والانقياد بها.

وممّا يؤيّد ذلك أيضا وقوع التعبّد في الشريعة بالقواعد العامّة المقرّرة لاستكشاف الأحكام في الموضوعات المشتبهة كأصالة طهارة الماء ، وأصالة صحّة فعل المسلم ، وقبول أخبار ذي اليد ، والبيّنة ، وسوق المسلمين ونحوها ، مع عدم إفادة شيء من ذلك القطع بالواقع ولا دوام مصادفته له كما لا يخفى.

ولو لا ذلك من باب الاكتفاء به في مقام الانقياد والطاعة كان محذور الإضلال وتفويت مصلحة الواقع المنافي للحكمة قائما.

ومنها : أنّ المسلك الّذي مداركه غير منضبطة - مع كثرة ما يقع فيها من وجوه التعارض واضطراب الأنفس ورجوع كثير من فحول العلماء عمّا أفتوا به أوّلا - لا يصلح لأن يجعله الشارع الحكيم مناطا لأحكامه ، ومن المعلوم أنّ اعتبار ظنّ المجتهد المتعلّق بنفس أحكامه تعالى مستلزم لهذه المحذورات (1).

وفيه - بعض النقض بالأخبار الغير العلميّة لوفور جميع هذه المذكورات فيها ، لما فيها من طروّ الاختلالات من وجوه شتّى - : أنّ الظنّ بمعنى اطمينان النفس وسكونها أمر

ص: 50


1- الفوائد المدنيّة : 180.

منضبط ولا يقع فيه التعارض ، لاستحالة الظنّ بكلا طرفي النقيض كاستحالة العلم بهما أو العلم بأحدهما والظنّ بالآخر ، وعدم الانضباط في المدارك لا يقضي بخروجه عن الانضباط ، كما أنّ وقوع التعارض فيها لا يقدح في انضباطه. غاية الأمر أنّه إمّا يحصل بإعمال طرق الجمع مع إمكانه ، أو بمراجعة المرجّحات مع وجودها فيترتّب عليه الحكم ، أو لا يحصل بتعادل المتعارضين مع عدم إمكان الجمع ، أو معه حيث لا شاهد له من العرف والعادة بحيث أوجب الظنّ بالمؤدّى ، فيتعيّن حينئذ مراجعة الاصول العامّة العمليّة ، وهذا أيضا أمر منضبط.

وبالجملة فهذا المسلك على كلا تقديري حصول الظنّ وعدمه في غاية الانضباط ، واتّفاق الرجوع عن الفتوى السابقة أحيانا غير مناف لكونه منضبطا.

ومنها : أنّ المسلك الّذي يختلف فيه الأذهان بل الأحوال الطارئة لذهن واحد ، غير صالح لأن يكون مناط أحكام مشتركة بين الامّة إلى يوم القيامة (1).

وفيه : أنّ حصول الاختلاف في الأحكام الفعليّة المجعولة للعاجز عن الوصول إلى الأحكام الواقعيّة لا ينافي وقوع اشتراك جميع الامّة إلى يوم القيامة في الأحكام الواقعيّة ، والمنوط بمسلك الظنّ إنّما هو الأحكام الفعليّة لا الأحكام الواقعيّة المشتركة بين الجميع ، فلا مانع من صلاحية الظنّ لأن يجعل مناط تلك الأحكام.

ومنها : أنّ الشريعة السهلة السمحة كيف تكون مبنيّة على استنباطات صعبة مضطربة (2).

وفيه : أنّه إذا لم يجز ابتناء الشريعة السهلة السمحة على استنباطات صعبة مضطربة متمكّن منها ، فكيف يجوز ابتناؤها على استنباطات علميّة متعذّرة لانسداد باب العلم فيها غالبا على الفرض ، وعدم جواز الأمرين معا يقضي بانسداد باب الاستنباط بالمرّة وهو كما ترى.

ومنها : أنّ في ابتناء أحكامه تعالى على الاستنباطات الظنّية مفاسد أكثر من أن تحصى : من إفضائه إلى وقوع الفتن والحروب وسفك الدماء بين المسلمين ، ومن هنا ذكر علماء العامّة وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة في مقام الاعتذار عن الحروب الواقعة بين الصحابة العدول الأخيار أنّ السبب فيها اختلاف اجتهاداتهم في أحكام اللّه تعالى (3) ، ومن عدم جواز أخذ أحد المتخاصمين ما يستحقّه من الآخر قهرا فيما لو وقع بينهما في مال أو

ص: 51


1- الفوائد المدنيّة : 190.
2- الفوائد المدنيّة : 190.
3- شرح نهج البلاغة 20 : 34.

فرج أو دم خصومة دنيويّة مبنيّة على اختلاف اجتهادهما ، وما ذكره علماء العامّة من أنّهما يرجعان حينئذ إلى قاض منصوب من السلطان فيجب عليهما الأخذ بما يحكم به القاضي ممّا لا يرضى به الذهن السليم فكيف يرضى به الشارع الحكيم؟ ومن إفضائه إلى تجهيل المفتي نفسه أو إبطال القاضي حكمه إذا ظهر له ظنّ أو قطع مخالف لظنّه السابق (1).

وفيه : منع الملازمة ، كيف ولم يعهد من لدن حدوث بناء الاجتهاد بين أصحابنا المجتهدين إلى الآن فتنة أو حرب أو سفك دم وقع بين المسلمين مستندا إلى اجتهاد المجتهدين ليس إلاّ ، بل وهذه الامور حيثما وقعت على غير حقّ فإنّما تقع من اتّباع الشيطان والنفس الأمّارة الداعية للإنسان إلى طلب الجاه والرئاسة والمال والثروة ، أو من متابعة أهل البدع والضلال المفسدين في أرض اللّه المعاندين له ولرسوله المبغضين لخلفاء اللّه وحججه ، وإلاّ فما كان من هذه الامور منشاؤه الخصومة الشرعيّة المسموعة في نظر أهل الشرع في مال أو فرج أو نفس أو نحو ذلك لشبهة موضوعيّة أو حكميّة وبني على الأخذ بقواعد الاجتهاد ومراجعة المجتهدين الّذين هم حكّام الشرع بالحقّ لم يكن يقع شيء منها على وجه الأرض أصلا ، لاستحكام تلك القواعد وغاية انتظام هذه الضوابط ، فإنّ حكم الحاكم الشرعي المستند إلى اجتهاده الصحيح المستفاد من الشارع هو الحجّة القاطعة الّتي إذا وقعت نافذة لا تستتبع فتنة ولا حربا ولا سفك دم ولا غير ذلك من المفاسد.

ومن هنا اندفع الشبهة في مسألة الخصومة بين مجتهدين مختلفين في الرأي أو مقلّدي هذين المجتهدين ، فإنّ الخصومة بينهما ترتفع بمراجعة ثالث موافق لأحدهما في الرأي أو مخالف لهما والأخذ بحكمه على سبيل اللزوم تعبّدا من اللّه سبحانه ، وهذا أيضا ممّا لا محذور فيه أصلا.

وأمّا تجهيل النفس وإبطال الحكم بعد انكشاف مخالفة الواقع جزما أو ظنّا على التفصيل الآتي في محلّه فممّا لا يتضمّن محذورا أيضا ، بل هو غير عزيز في الشرع ولو مع البناء على الأدلّة القطعيّة أو الأخبار فقط ، ولو كان محذورا في نظر العقل أو الشرع فهو مشترك اللزوم وطريق الدفع واحد.

ص: 52


1- الفوائد المدنيّة : 191.

ومنها : أنّ الظنّ المعتبر عندهم ظنّ صاحب الملكة المخصوصة المأخوذة في معنى الفقيه والمجتهد ، مع أنّ المعتبر عندهم من بذل الوسع في تحصيل الظنّ المعتبر قدر مخصوص منه ، وغير خفيّ على اللبيب أنّ الملكة المذكورة والقدر المشار إليه من بذل الوسع أمران خفيّان غير منضبطين ، وقد اعترفوا بأنّ مثل ذلك لا يصلح مناطا لأحكامه تعالى (1).

وفيه : أنّ الملكة المخصوصة عند أهل الخبرة بها لا خفاء فيها أصلا ، وخفاؤها في نظر العوامّ وغيرهم ممّن لم يبلغ رتبة الاجتهاد غير قادح ، حيث لا اعتداد في هذا المقام بنظر العوامّ وغيرهم ممّن لا خبرة له في هذا الفنّ ، وأمّا بذل الوسع فليس له حدّ مضبوط عندهم ولا قدر مخصوص لديهم ، بل معياره حصول الظنّ بمعنى الاطمينان أو اليأس من الظنّ ليحرز به موضوع الاصول العمليّة ، فلا مانع من إناطة استنباط أحكامه تعالى بشيء من الأمرين ، مضافا إلى ما يورد عليه أيضا من جريان ذلك على طريقة الأخباريّين أيضا ، إذ لابدّ عند المحقّقين منهم في الرجوع إلى الأدلّة الشرعيّة من الاقتدار على فهم الأخبار والجمع بينها والتمكّن من ردّ الفروع إلى الاصول ونحو ذلك أيضا من الامور النفسيّة الغير الظاهرة ، فلو كان صالحا للمنع لجرى في كلّ من الطريقين.

ومنها : أنّ الظنّ من باب الشبهات وقد ثبت وجوب التوقّف عند الشبهات المتعلّقة بنفس الأحكام.

أمّا الاولى : فلما في نهج البلاغة في خطبة له عليه السلام « وإنّما سمّيت الشبهة شبهة لأنّها تشبه الحقّ » (2).

وأمّا الثانية : فللروايات الصريحة في وجوب التوقّف (3).

وفيه : منع المقدّمتين معا ، أمّا منع الاولى : فلأنّ الظنّ بعد ما أخذ الشارع متعلّقه حكما فعليّا للظانّ الغير المتمكّن من العلم ليس من الباطل الشبيه بالحقّ ، بل هو في محلّ الفرض عين الحقّ كما عرفت مرارا.

وأمّا منع الثانية : فلأنّ التوقّف عند الشبهات في أحكامها الخاصّة لا يقضي بالتوقّف في حكمها العامّ المجعول شرعا للجاهل المتحيّر ، فنحن أيضا نتوقّف عند الظنّ بشيء إذا لاحظناه من حيث هو ، ونأخذ بمتعلّقه إذا لاحظنا القطعيّ القائم بكونه الحكم المجعول

ص: 53


1- الفوائد المدنيّة : 191.
2- نهج البلاغه : 81 ، الخطبة 38.
3- الفوائد المدنيّة : 192.

للظانّ المتحيّر على سبيل العموم.

ومع الغضّ عن ذلك فهو منقوض بالظنّ في الموضوعات كما لا يخفى.

ومنها : أنّ العامّة قد ذهبوا إلى العمل بالظنّ المتعلّق بنفس أحكامه تعالى ، وإلى دوام العمل بظنون أربعة من مجتهديهم دون غيرهم ، والعلاّمة ومن وافقه من أصحابنا وافقوا العامّة في المقام الأوّل وخالفوهم في المقام الثاني ، فقالوا : قول الميّت كالميّت ، ويلزم الفريقين أحد الأمرين من القول بأنّ مظنونات المجتهدين ليست من شريعة نبيّنا صلى اللّه عليه وآله وسلم ، أو القول بأنّ شريعة نبيّنا صلى اللّه عليه وآله وسلم ليست مستمرّة إلى يوم القيامة ، وقد تواترت الأخبار عن الأئمّة الأطهار بأنّ : « حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة » (1) ، بل هذا من أجلى ضروريّات الدين (2).

وفيه - مع أنّ هذا لو تمّ اختصّ بأحد الفريقين لا كليهما ، فإنّ العامّة بعد ما قالوا باستمرار العمل بظنون الأربعة إلى يوم القيامة لم يكن قولهم منافيا لاستمرار حلال محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم وحرامه إلى يوم القيامة ، لبنائهم على أنّ مظنونات المجتهد هي الحلال والحرام الباقيين إلى يوم القيامة - : أنّ منشأ الشبهة قول أصحابنا بكون قول الميّت كالميّت القاضي بانقطاع مظنونات المجتهد بموته عن درجة الاعتبار ، وذلك ينافي كونها مستمرّة إلى يوم القيامة.

وقضيّة ذلك عدم كونها من أحكام هذه الشريعة بموجب الأخبار المتواترة. لكن يدفعه : أنّ ظاهر مساق الروايات الدالّة على استمرار حلال محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم وحرامه إلى يوم القيامة بل صريحها كون الاستمرار مخصوصا بالأحكام الواقعيّة المنزلة إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ، المحفوظة لدى عترته الطاهرة ، الّتي لا يكلّف بها فعلا إلاّ مع العلم بها بانفتاح بابه المخصوص بزمان الحضور بالقياس إلى المتمكّنين عن الوصول إليهم عليهم السلام.

وإن شئت لاحظ ما تقدّم في الروايات من رواية محمّد بن حكيم عن أبي الحسن عليه السلام قال : « إنّما هلك من كان قبلكم بالقياس ، وإنّ اللّه تبارك وتعالى لم يقبض نبيّه صلى اللّه عليه وآله وسلم حتّى أكمل له دينه في حلاله وحرامه ، فجاءكم بما تحتاجون إليه في حياته وتستغنون به وبأهل بيته بعد موته ، وأنّه مخفيّ عند أهل بيته حتّى أنّ فيه لأرش الكفّ » (3).

ص: 54


1- الكافي 1 : 9.
2- الفوائد المدنيّة : 249.
3- بصائر الدرجات : 147 ، ح 3.

وعليه فلا ينافي ذلك عدم استمرار الأحكام الفعليّة المجعولة للمجتهدين وغيره ممّن لا يتمكّن من الوصول إلى الأحكام الواقعيّة الموجودة عند أهل البيت.

ويمكن القول بأنّ المراد بتلك الروايات استمرار شريعة نبيّنا صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى يوم القيامة بعدم طروّ نسخ لها ، ومعناه أنّه لا يأتي بعده نبيّ آخر ولا بعد شريعته شرع آخر ناسخ لها ، كما يظهر إرادة هذا المعنى من بعض الأخبار المتقدّمة كخبر زرارة ، قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الحلال والحرام؟ فقال عليه السلام : « حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة ، لا يكون غيره ولا يجيء غيره » (1).

وحينئذ يندرج فيها الأحكام الفعليّة المستفادة من الطرق الظنّية المعلّقة على حياة المجتهد عند من يقول بأنّها تموت بموت المجتهد لدليل دلّه عليه ، لأنّها أيضا من شريعة محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم في حقّ العاجز الغير المتمكّن من العلم ، ولا يطرأها أيضا نسخ بالمعنى المذكور ، وانقطاعها بموت المجتهد ليس من باب النسخ ، بل هو من جهة ارتفاع موضوعها ، أو لقصور ما دلّ على وجوب اتّباعها عن إطلاق ذلك حتّى بالقياس إلى ما بعد الموت.

ومنها : أنّهم صرّحوا بأنّ محلّ الاجتهاد مسألة لم تكن من ضروريّات الدين ولا المذهب ، ولم يكن لله تعالى دلالة قطعيّة عليها ، ونحن قد أثبتنا أنّ لله تعالى في كلّ واقعة تحتاج إليها الامّة إلى يوم القيامة حكما معيّنا ودليلا قطعيّا عليه ، وأنّ كلّ الأحكام والدلالات القطعيّة عليها - أي النصوص الصريحة فيها - محفوظة عند معادن وحي اللّه وخزّان علمه ، والناس مأمورون بطلبها من عندهم عليهم السلام (2).

وفيه : أنّه بعد الاعتراف بأنّ الدلالات القطعيّة كنفس الأحكام محفوظة عند الأئمّة عليهم السلام والمفروض عدم حضورهم بين الامّة وعدم إمكان الوصول إليهم ، فأيّ منافاة لهذه المقدّمات - على فرض تسليمها - لطريقة المجتهدين العاجزين عن أخذ الأحكام المحفوظة لديهم عنهم؟

وكيف يعقل كونهم مأمورين بطلبها من عندهم؟ فإنّ التكليف بما فوق الطاقة قبيح عقلا وشرعا وعرفا! وهذا هو العمدة في الدلالة على كون مظنوناتهم ما داموا في هذه الحالة أحكاما فعليّة في حقّهم وحقّ مقلّديهم.

هذا مع إمكان أن يقال : من أنّ المراد بالدليل - فيما دلّ على أنّ لكلّ حكم معيّن في

ص: 55


1- الكافي 1 : 58 ، ح 19.
2- الفوائد المدنيّة : 249.

الواقع دليلا - نفس الإمام الحافظ لهذا الحكم ، فإنّه هو حجّة اللّه القاطعة في جميع الأشياء ، وهو البرهان الفاصل فيما بين كلّ حقّ وباطل ، فحينئذ يتّضح عدم كون المسائل بالقياس إلى المجتهدين في زمان الغيبة ما وجد معها له (1) دليل قطعي ، فإنّ وجود الدليل بحسب الواقع مع فرض عدم إمكان الوصول إليه بمنزلة عدمه ، وهذا هو عذر المجتهدين في أخذهم بمؤدّيات الاجتهاد لئلاّ يلزم خروجهم عن الدين بالمرّة ، الّذي قد يعبّر عنه بالمخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي.

وهذه هي الوجوه الّتي تمسّك بها الأمين الأسترآبادي في إبطال طريقة المجتهدين.

وللأخباريّة وجوه اخر في إبطال هذه الطريقة نقلها بعض الأفاضل ، ولا بأس بنقلها هنا ثمّ دفعها.

منها : ما دلّ عليه الأخبار المتواترة بل ضرورة دين الإسلام من أنّ : « حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة » فإنّ ذلك ينافي الأخذ بالأدلّة الظنّية ، ضرورة أنّ الظنّ ممّا يتغيّر ويتبدّل ، وحرام اللّه وحلاله ممّا لا يتغيّر ولا يتبدّل.

وعن بعضهم أنّه قد قرّر ذلك : بأنّ كلّ حكم اجتهادي قابل للتغيير مناف للشريعة الإسلاميّة الأبديّة ، فينتج : أنّ كلّ حكم اجتهادي مخالف للشريعة الإسلاميّة (2).

دفع أدلّة الأخباريّين على عدم مشروعيّة الاجتهاد

وبما بيّنّاه سابقا يظهر الجواب عن ذلك أيضا ، وأجاب عنه الفاضل المشار إليه بوجوه اخر :

الأوّل : أنّه منقوض بما يحكم به الأخباريّون لجواز الرجوع عن الحكم بالنسبة إليهم أيضا ، كما إذا عملوا بالعموم ثمّ عثروا بعد ذلك على خبر يخصّصه ، أو فهموا من الخبر أوّلا حكما ثمّ عدلوا عن فهمهم ، وإنكار إمكان ذلك في شأنهم مكابرة ظاهرة ، وحينئذ نقول : إنّ حكم الأخباري قابل للتغيير إلى آخر ما ذكر.

والثاني : إنّه إن أراد بقوله : « كلّ حكم اجتهادي قابل للتغيير » بالنسبة إلى الموضوع المفروض حينئذ مع جميع خصوصيّاته فممنوع ، ضرورة أنّه ما دام المجتهد باقيا على حاله الأوّل لا يمكن تغيّر الحكم في شأنه أصلا.

وإن أراد أنّه قابل للتغيّر في الجملة ولو بسبب تغيّر حاله ، كأن يصير ظانّا بخلاف ما ظنّه

ص: 56


1- كذا في الأصل.
2- هداية المسترشدين 3 : 692.

أوّلا فمسلّم ولا مانع منه ، ضرورة أنّ أبديّة الأحكام لا تقضي بعدم اختلافها بحسب اختلاف الأحوال ، كيف واختلاف صلاة الحاضر والمسافر والصحيح والمريض والقادر والعاجز من الضروريّات ولا منافاة فيه لأبديّة الأحكام الثابتة بالضرورة أصلا ، فكذا الحال في المقام.

والثالث : أنّه إنّ أراد بكون كلّ حكم اجتهادي قابلا للتغيّر أنّ ما يحكم به المجتهدون من الأحكام قابلا للتغيّر فهو ممنوع بل فاسد ، لأنّ ما يدركه من الأحكام غير قابل للتغيّر عمّا هو عليه ، فإنّه إن كان ما أدركه مطابقا للواقع لم يكن قابلا للتغيير عمّا هو عليه وإن أدرك بعد ذلك خلافه. غاية الأمر أن يكون معذورا في خطائه فيه ثانيا ، وإن كان غير مطابق للواقع فكذلك أيضا ، غاية الأمر أن يكون معذورا في خطائه فيه أوّلا.

وإن أراد به أنّ نفس حكمه وإدراكه قابل للتغيّر ، بأن يدرك ثانيا خلاف ما أدركه أوّلا فيزول إدراكه الأوّل ويخلفه الثاني فممنوع ، ولا يلزم من ذلك أن يكون إدراكه مطلقا منافيا للشريعة الأبديّة كما هو القضيّة الكلّية المدّعاة ، إذ قبول الإدراك للتغيّر إنّما يقضي بعدم الملازمة بينه وبين إصابة الواقع ، لأنّه لا يكون مصيبا للواقع مطلقا ، فأقصى ما يلزم من الدليل المذكور أنّ ظنون المجتهدين قد تصيب الواقع وقد تخطئه ، وهذا ممّا اتّفق عليه أصحابنا.

واتّفقوا مع ذلك على وجوب العمل بظنّه ، إذ لا منافاة بين عدم إصابة الظنّ للواقع ووجوب العمل بمؤدّاه ، كما هو الحال في سائر الطرق المقرّرة في الشريعة (1).

ومنها : أنّ فتح سبيل العلم على المكلّفين في تكليفهم بالعلم بالأحكام من اللطف ، فيجب أن يكون حاصلا لوجوب اللطف على اللّه تعالى.

أمّا الصغرى : فلما فيه من تقريب العبد إلى الطاعة وإبعاده عن المعصية ما ليس في الظنّ ، لوضوح أنّ اليقين أدعى إلى تحصيل الامتثال من الظنّ.

وأمّا الكبرى : فظاهرة (2).

وهذا الدليل كما ترى غير مفهوم المراد ، فإنّ الامور المدركة بالوجدان لابدّ وأن تدرك بالوجدان فلا ينفع في ثبوتها البرهان إذا لم يساعد عليها الوجدان ، فكيف إذا أكذبها الوجدان ،

ص: 57


1- هداية المسترشدين 3 : (692 - 695).
2- هداية المسترشدين 3 : (692 - 695).

وهل هذا إلاّ نظير ما لو اقيم البرهان على أن لزيد علما بقيام عمرو وهو يجد من نفسه أنّه لا علم له ، فإنّ عدم انفتاح باب العلم بالأحكام في الغالب من ضروريّات الوجدان والمدّعي لانفتاحه يكابر وجدانه ، وسنورد زيادة بيان في ذلك.

ومع الغضّ عن ذلك نقول : إنّا لا نعقل إلى العلم بالأحكام قاطبة سبيلا إلاّ الإمام المعصوم وحضوره مع تمكّنه من التصرّف ، والمفروض أنّه غير حاضر ، فالدليل المذكور يكذّبه الفرض ، ولو سلّم أنّ إلى العلم بها سبيلا آخر غير الإمام وحضوره ، لكن الدليل لا يقتضي إلاّ انتصاب أحد الأمرين ، والمفروض أنّ الإمام قبل الغيبة كان منتصبا فقد تمّ به اللطف ، واختفاؤه بعد ذلك لدواع خارجيّة لا ترجع إلى اللّه سبحانه لا يوجب إخلالا باللطف ، والمنع من تحقّق الدواعي الخارجيّة ليس بلازم بمقتضى ما أخذ في اللطف الواجب من عدم انتهائه إلى الإلجاء.

ومع هذا كلّه نقول : إنّ اللطف إنّما يجب مع عدم مصلحة تقتضي خلافه ، فلم يثبت وجوبه مطلقا كما في عدم ظهور الإمام عليه السلام مع أنّه من أظهر الألطاف الواجبة.

ومن الجائز بالقياس إلى الأدلّة العلميّة قيام مصلحة تقتضي عدم فتح بابها ، مع أنّه قد يقال : إنّ عدم إلزام المكلّفين بتحصيل اليقين في خصوصيّات التكاليف هو اللطف ، لما في إناطة التكليف بخصوص العلم بالأحكام من الجرح التامّ المؤدّي في كثير من الطباع إلى التقاعد عن الامتثال ، ولذا اكتفى الشارع في زمانه من المكلّفين بالأخذ بعدّة من الطرق الغير العلميّة مع انفتاح سبيل العلم.

وقد يقال أيضا : بأنّ الظنّ والعلم مشتركان فيما ذكر من كون اليقين أدعى إلى الامتثال ، لأنّ المفروض أنّ الظنّ ما لم يكن منتهيا إلى اليقين لم يعتبر عند أحد ، فالمكلّف في مقام العمل عالم بالتكليف قاطع به.

ومنها : ما عن بعض المحدّثين : من أنّ المتقدّمين من علمائنا لا يقولون بجواز الاجتهاد والتقليد ، ولا يجيزون العمل بغير الكتاب والسنّة من وجوه الاستنباط الظنّية.

ومن المعلوم أنّ طريقة المتقدّمين هي الموافقة للأئمّة ولأحاديثهم المتواترة ، فإن شذّ منهم شاذّ أحيانا أنكر عليه الأئمّة إن كان في حضورهم ، وفي هذه الطريقة مبائنة لطريقة العامّة مبائنة كلّية ، وطريقة المتأخّرين موافقة لهم لا تخالفهم إلاّ نادرا ، ثمّ قال :

وبالجملة فعدم جواز الاجتهاد في نفس الأحكام الشرعيّة وعدم جواز العمل بالاستنباطات

ص: 58

الظنّية كان معلوما من مذهب المتقدّمين من الإماميّة إلى زمان العلاّمة ، بل كان معلوما عند العامّة والخاصّة أنّه من اعتقادات الشيعة ، وقد نقلوه عن أئمّتهم لتواتر النصّ بذلك عنهم ، وهو كما ترى يفيد دعوى إجماع الشيعة الكاشف عن قول الأئمّة على بطلان الاجتهاد في الأحكام الشرعيّة.

وعنه في موضع آخر قال : إنّ القول بحجّية ظنّ المجتهد على نفسه وعلى من يقلّده مذهب العلاّمة والشهيدين ، والشيخ حسن ، والشيخ عليّ ، والشيخ بهاء الدين ، لا غير ، وباقي علمائنا المتقدّمين والمتأخّرين على بطلان ذلك كلّه.

ثمّ عنه أنّه ذكر جملة من عبائر القدماء الموهمة لما ادّعاه ، فمن جملة ذلك ما ذكره الكليني في أوّل الكافي قال : « والشرط من اللّه فيما استعبد به خلقه أن يؤدّوا جميع فرائضه بعلم ويقين وبصيرة - إلى أن قال - : ومن أراد خذلانه وأن يكون إيمانه معايرا مستودعا سبّب له أسباب الاستحسان والتقليد والتأويل بغير علم وبصيرة ».

وما ذكره الصدوق في العلل بعد ذكر حديث موسى والخضر قال : « إنّ موسى مع كمال عقله وفضله ومحلّه من اللّه تعالى لم يدرك باستنباطه واستدلاله معنى أفعال الخضر ، حتّى اشتبه عليه وجه الأمر به ، فإذا لم يجز لأنبياء اللّه تعالى ورسله القياس والاستدلال والاستخراج كان من دونهم من الامم أولى بأن لا يجوز لهم ذلك » - إلى أن قال : - « فإذا لم يصلح موسى للاختيار مع فضله ومحلّه فكيف تصلح الامّة لاختيار الإمام ، وكيف يصلحون لاستنباط الأحكام الشرعيّة واستخراجها بعقولهم الناقصة وآرائهم المتفاوتة ».

وما ذكره السيّد في الذريعة. قال : « عندنا أنّ الاجتهاد باطل ، وأنّ الحقّ مدلول عليه ، [ و ] أنّ من أخطأ غير معذور » (1).

وقد نصّ هناك أيضا : « بأنّ الإماميّة لا يجوز عندهم العمل بالظنّ ولا الرأي ولا القياس ولا الاجتهاد » (2).

وقال في الانتصار في أوّل كتاب القضاء : « إنّما عوّل ابن الجنيد في هذه المسألة على ضرب من الرأي والاجتهاد وخطائه ظاهر » (3).

وقال في المسألة الّتي بيّنها : « أنّ من خالفنا اعتمد على الرأي والاجتهاد دون النصّ والتوقيف ، وذلك لا يجوز » (4).

ص: 59


1- الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 636.
2- الذريعة إلى أصول الشريعة 1 : 636.
3- الانتصار : (2. 495).
4- الانتصار : (2. 495).

وقال في كتاب الطهارة منه في مسألة مسح الرجلين : « أنّا لا نرى الاجتهاد ولا نقول به » ، وقد ذكر أيضا في عدّة من كتبه : « أنّ ما يفيد الظنّ دون العلم لا يجوز العمل به عندنا ».

وما ذكره الشيخ في العدّة قال : « أمّا القياس والاجتهاد فعندنا أنّهما ليسا بدليلين بل محظور في الشريعة استعمالهما » (1).

وقال في موضع آخر منه : « ولسنا نقول بالاجتهاد والقياس » (2).

وقال أيضا : « وأمّا الظنّ فعندنا أنّه ليس بفاصل في الشريعة تنسب الأحكام إليه ، وإن كان تقف أحكام كثيرة عليه نحو تنفيذ الحكم عند شهادة الشاهدين ، ونحو جهات القبلة وما جرى مجراه ».

وقال في مواضع من التهذيب : « وإنّا لا نتعدّى الأخبار ».

وما ذكره ابن إدريس في مسألة تعارض البيّنتين بعد ذكر عدّة من المرجّحات قال : « ولا ترجيح بغير ذلك عند أصحابنا والقياس والاستحسان والاجتهاد باطل عندنا ».

وما ذكره الطبرسي في المجمع قال : « لا يجوز العمل بالظنّ عند الإماميّة إلاّ في شهادة العدلين وقيم المتلفات وأرش الجنايات ».

وما ذكره المحقّق في المعتبر قال : « ثمّ إنّ أئمّتنا مع هذه الأخلاق الطاهرة والعدالة الظاهرة يصوّبون رأي الإماميّة في الأخذ عنهم ويعيبون على غيرهم ممّن أفتى باجتهاده وقال برأيه ، ويمنعون من يأخذ عنه ويستخفّون رأيه وينسبونه إلى الضلال ، ويعلم ذلك علما صادرا عن النقل المتواتر ، فلو كان ذلك يسوغ لغيرهم لما عابوا ».

وقال فيه أيضا : « واعلم أنّك مخبر في حال فتواك عن ربّك فما أسعدك إن أخذت بالجزم وما أخيبك إن بنيت على الوهم ، فاجعل فهمك تلقاء قوله تعالى : ( وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ » ) (3) انتهى (4).

ثمّ عنه أنّه قال بعد العبارات المذكورة : « وفي ملاحظة أحوال الرواة أيضا ما يفيد ذلك ، فقد روى الكشي عن أبي حنيفة قال له : أنت لا تقول شيئا إلاّ برواية؟ قال : أجل » (5).

وروى الكشي وغيره عن أكثر علمائنا المتقدّمين وخواصّ الأئمّة عليهم السلام أيضا مثل ذلك ، بل ما هو أبلغ منه.

ص: 60


1- عدّة الاصول 1 : 9.
2- عدّة الاصول 1 : 146.
3- البقرة : 169.
4- هداية المسترشدين 3 : (681 - 683).
5- رجال الكشي : 384 ، رقم 718.

وقد صنّف جماعة من قدمائنا كتبا في ردّ الاجتهاد وعدم جواز الأخذ به ، منها : كتاب « النقض على عيسى بن أبان في الاجتهاد » وذكره النجاشي (1) والشيخ في مصنّفات الشيخ الجليل إسماعيل بن عليّ بن إسحاق عن أبي سهل بن نوبخت. ومنها : كتاب « النقض في اجتهاد الرأي عليّ ان الراوندي ». ذكره الشيخ (2) في ترجمة إسماعيل المذكور نقلا عن ابن النديم أنّه من مصنّفاته. ومنها : « الاستفادة في الطعون على الأوائل والردّ على أصحاب الاجتهاد والقياس » من مصنّفات عبد اللّه بن عبد الرحمن الزبيريّ ذكره النجاشي (3) ، ومنها : كتاب « الردّ على من ردّ آثار الرسول واعتمد على نتائج العقول » من مؤلّفات الشيخ الجليل هلال بن إبراهيم بن أبي الفتح الدلفيّ (4) ذكره النجاشي (5). ومنها : كتاب « النقض على ابن الجنيد في اجتهاد الرأي » من مؤلّفات الشيخ المفيد (6) ، إلى غير ذلك من الكتب في هذا الشأن » انتهى (7).

والجواب : بمنع منافاة الامور المذكورة لطريقة أصحابنا المجتهدين المعمولة لديهم خلفا عن سلف ، وهي الاجتهاد بمعنى بذل الوسع وتحمّل المشقّة في فهم الكتاب والأخبار النبويّة والإماميّة ، وتمييز ما يعتبر منها عمّا لا يعتبر ، وإجراء القواعد المقرّرة في الشريعة من أصالة البراءة والإباحة والاحتياط وغيرها من الاصول الممهّدة المعتبرة.

فأمّا عبارة الكليني والصدوق فهي صريحة فيما ينطبق على ما تقدّم في الخطب والوصايا وغيرها من الأخبار ، من منع البناء في الشريعة على الأخذ بالرأي والقياس وغيرهما من الاستدلالات العقليّة والاستحسانات الذوقيّة الغير المنتهية إلى القطع بالحكم ولا العلم بالاعتبار على ما هو متداول بين العامّة ، ومعلوم بضرورة من المذهب أنّ أصحابنا لا يقولون بشيء من ذلك إلاّ من شذّ منهم وضعف ، كابن الجنيد على ما اشتهر منه من بنائه على الرأي والقياس.

ص: 61


1- رجال النجاشي : 31 ، رقم 68.
2- الفهرست - للشيخ الطوسي - 31 ، رقم 36.
3- رجال النجاشي : 220 ، رقم 575.
4- وفي المصدر : « المدني » بدل « الدلفيّ » وهو سهو ، والصواب ما أثبتناه في المتن كما ضبطه العلاّمة في إيضاح الاشتباه - راجع إيضاح الاشتباه : 315.
5- رجال النجاشي : 440 ، رقم 1186.
6- رجال النجاشي : 399 ، رقم 1067.
7- هداية المسترشدين 3 : 683.

وأمّا عبارة السيّد فعلى تقدير كون المراد من الظنّ والاجتهاد المأخوذين فيها الظنّ الاجتهادي المتداول عند الأصحاب ، والاجتهاد المأخوذ فيه الظنّ بهذا المعنى فهي محمولة على ما يراه في وجه المنع من حجّيّة أخبار الآحاد من قطعيّة الأحكام بالكتاب والإجماع والأخبار المفيدة للعلم بتواتر أو استفاضة أو غير ذلك ، المعبّر عنها بانفتاح باب العلم على ما هو المعروف منه ومن أحزابه ، فإنّ هذه الدعوى لو صحّت مطلقة أو في خصوص عصره وما قاربه لقضت بالمنع ممّا عدا العلم قضاء ضروريّا لا يكاد يخفى على أحد من الإماميّة ، وطريقة المجتهدين مبنيّة على فرض الانسداد وعدم التمكّن من العلم في الغالب ، وعليه فلا أظنّ السيّد وأحزابه منكرين لتعيّن العمل بالظنّ ، كيف والمسألة على هذا التقدير إجماعيّة بل ضروريّة على ما ستعرف ، كما أنّ خلافها على تقدير الانفتاح كذلك ، بل تكرّر منه التصريح بالجواز بل الإجماع عليه على فرض الانسداد ، وقد وقفنا عنه بذلك في غير موضع أشرنا إليه في الأجزاء الاخر من الكتاب.

وعليه ينطبق ما عرفت عن ابن إدريس أيضا ، لأنّه كالسيّد في دعوى قطعيّة الأحكام القاضية بعدم حجّية أخبار الآحاد وغيرها من الطرق الغير العلميّة فيها ، هذا مع احتمال كون الاجتهاد في كلامهما مرادا به بعض الوجوه التخريجيّة من هوى ورأي أو استخراج علّة بالطرق المعمولة لدى العامّة ، كما عرفت نظيره فيما ورد في بعض الأخبار المتقدّمة ، وستعرف أيضا تعيّن الحمل عليه في بعض العبارات المذكورة ، كما يحتمل كون الظنّ في كلام السيّد مرادا به الظنّ المستفاد من بعض الوجوه التخريجيّة أو الظنّ الملحوظ بنفسه الغير المنتهي إلى القطع بالاعتبار.

وأمّا عبارة الشيخ فما تضمّن منها لفظ « الاجتهاد » فمحمول على ما تقدّم في بعض الأخبار فيراد به الرأي أو الاستحسان أو غير ذلك ممّا يؤخذ عند العامّة مدركا للحكم ، بدليل قوله : « ليسا بدليلين » فإنّ نفي الدليليّة عنه يقتضي كونه في مقابلة من يأخذه دليلا.

والّذي يقول بجوازه الأصحاب ليس عبارة عندهم عن الدليل ، بل هو على ما عرفت سابقا عبارة عن بذل الوسع في فهم الدليل بمقتضى قواعدهم المقرّرة ، فبين المعنيين بون بعيد ، وظاهر أنّ المنع من أحدهما لا يستلزم المنع من الآخر.

وما تضمّن منها لفظ « الظنّ » فظاهره بقرينة استثناء بعض الموضوعات كون المراد بالظنّ فيه ما يستعمل في تشخيص الموضوعات الخارجيّة ليترتّب عليها الأحكام المعلومة في

ص: 62

الشريعة ، فمفاده المنع من التعويل على هذا الظنّ كما هو المشهور بين المجتهدين المتعبّدين في الأحكام بالظنّ المستفاد من الأدلّة المعهودة عندهم والطرق المقرّرة لديهم ، وهذا هو الحقّ في المسألة.

نعم يشكل الحال في استثناء ما ذكره من الشهادة ، من حيث إنّ العمل بالشهادة في مواردها ليس من باب التعويل على الظنّ ، بل هو تعبّد من الشرع غير منوط بحصول الظنّ ، وقد يحمل كلامه هنا على المنع من مطلق الظنّ من حيث إنّه ظنّ ، على معنى نفي كونه لذاته وفي نفسه حجّة ، وذلك لا ينافي حجّية الظنّ المنتهي إلى العلم ، وهو ما يقطع من الأدلّة الشرعيّة القطعيّة بوجوب العمل به.

وفي كلامه في العدّة ما يشير إلى إرادة هذا المعنى ، حيث إنّه دفع استدلال القائلين بالمنع من القياس بالآيات الدالّة على المنع من الحكم بغير علم ، بأنّ : « للمخالف أن يقول : ما قلنا بالقياس إلاّ بالعلم وعن العلم ، فلم نخالف ظاهر الكتاب ، وإنّما ظننتم علينا أنّا نعلّق الأحكام بالظنون وليس نفعل ذلك ، بل الحكم عندنا معلوم وإن كان الطريق إليها الظنّ » (1).

وهذا كما ترى صريح في الرضا بما يقوله المجتهدون من كونهم في أخذهم بالظنون عاملين بالعلم دون الظنّ من حيث هو ، فإنّه من هذه الحيثيّة ليس بفاصل في الشريعة ، وعلى تقدير نهوض ما يفيد القطع بالاعتبار فالفاصل حينئذ هو القطع المستفاد من هذا القاطع لا نفسه.

وأمّا ما ذكره في مواضع من التهذيب من « أنّا لا نتعدّى الأخبار » فلا ينافي أيضا ما ذكرناه ، لأنّ العمل بالأخبار معناه الأخذ بالظنون المتعلّقة بالأخبار سندا ومتنا ودلالة ومعارضة ، وإنّما أراد بذلك نفي العمل بالقياس وغيره ممّا انفرد به العامّة ، وهذا كما ترى غير مقالة أصحابنا المجتهدين.

وأمّا عبارة الطبرسي فيجري فيها ما ذكرناه في توجيه كلام الشيخ من الوجهين أظهرهما ثانيهما ، نظرا إلى أنّه يؤذن بدعوى إجماع الإماميّة ، فلا تتمّ إلاّ في الظنّ المطلق بالنسبة إلى الأحكام إذا لوحظ بنفسه ومن حيث هو.

وأمّا عبارة المعتبر فهو مرادفة لعبارتي الكليني والصدوق ، فلم يرد منها ما يرادف المقام كما لا يخفى.

ص: 63


1- العدّة 2 : 668.

فمراده بالاجتهاد ما يرادف الأخذ بالرأي ، لظهور قوله : « وقال برأيه » بعد قوله : « أفتى باجتهاده » في عطف التفسير ، وعلى تقدير إرادة عطف المباين فيراد من الاجتهاد ما يرادف القياس وغيره من وجوه الاستحسان.

وإن شئت صدق هذه المقالة مع وضوحه لاحظ عبارته المحكيّة عن المعارج قائلا : « بأنّ الاجتهاد في عرف الفقهاء بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعيّة » قال : « وبهذا الاعتبار يكون استخراج الأحكام من أدلّة الشرع اجتهادا ، لأنّها تبتني على الاعتبارات النظريّة الّتي ليست مستفادة من ظواهر النصوص في الأكثر ، سواء كان ذلك الدليل قياسا أو غيره ، فيكون القياس على هذا التقدير أحد أقسام الاجتهاد.

فإن قيل : يلزم على هذا أن يكون الإماميّة من أهل الاجتهاد.

قلنا : الأمر كذلك ، لكن فيه إيهام من حيث إنّ القياس من جملة الاجتهاد ، فإذا استثنى القياس كنّا من أهل الاجتهاد في تحصيل الأحكام بالطرق النظريّة ليس أحدها القياس » انتهى (1).

وبهذا يعلم أنّ إطلاق الاجتهاد عندهم على القياس أو على استخراج الحكم بطريق القياس كان متداولا معهودا في الأزمنة السابقة إلى أعصار قدماء أصحابنا بل أعصار الأئمّة عليهم السلام ، فعليه يحمل المنع الوارد في كلام كلّ من منع منه من القدماء والمتأخّرين ، بل عليه ينزّل ما في الأخبار كما بيّنّاه سابقا ، فحينئذ اتّضح منع منافاة الكتب المصنّفة في ردّ الاجتهاد والردّ على من يقول به.

ومن الشواهد القطعيّة بصحّة ما ذكرناه في حمل الاجتهاد الواقع في الأخبار وفي كلام كلّ من صرّح بالمنع عنه ما عن وافية الاصول قائلا : « واعلم أنّ الاجتهاد كما يطلق على استعلام الأحكام من الأدلّة الشرعيّة كذلك يطلق على العمل بالرأي والقياس ، وهذا الإطلاق كان شايعا في القديم ، قال الشيخ الطوسي رحمه اللّه في بحث شرائط المفتي من كتاب العدّة : « إنّ جمعا من المخالفين عدّوا منها العلم بالقياس والاجتهاد وبأخبار الآحاد وبوجوه العلل ، والمقاييس وبما يوجب غلبة الظنّ » (2) ثمّ قال : « إنّما بيّنا فساد ذلك وذكرنا أنّها ليست من أدلّة الشرع » (3) وظاهر أنّ الاجتهاد الّذي ذكره أنّه ليس من أدلّة الشرع ليس بالمعنى المتعارف ،

ص: 64


1- معارج الاصول : 180.
2- عدّة الاصول 2 : 729.
3- عدّة الاصول 2 : 729.

إذ لا يحتمل كونه من جنس الأدلّة ، والسيّد المرتضى في كتاب الذريعة ذكر : « أنّ الاجتهاد عبارة عن إثبات الأحكام الشرعيّة بغير النصوص ، أو إثبات الأحكام الشرعيّة بما طريقه الأمارات والظنون » (1).

وقال في موضع آخر منه : « وفي الفقهاء من فرّق بين القياس والاجتهاد ، وجعل القياس ماله أصل يقاس عليه ، وجعل الاجتهاد ما لم يتعيّن له أصل كالاجتهاد في طلب القبلة وفي قيم المتلفات بالجنايات ومنهم من عدّ القياس من الاجتهاد وجعل الاجتهاد أعمّ منه » انتهى ما أردنا نقله (2).

وممّا يشهد بذلك أيضا أنّ التعبير في هذه الكتب بالنقض على فلان في اجتهاد الرأي ، بناء على أنّ إضافة « الاجتهاد » إلى « الرأي » بيانيّة كما هو الظاهر ، فيفيد تخصيصا في العنوان وقصرا للحكم على ما خصّ به العنوان ، وعلى فرض كونها لاميّة فتفيد الاختصاص أيضا.

فظهر ممّا ذكرناه جميعا أنّ طريقة المتقدّمين من علمائنا في استعلام الأحكام الشرعيّة عن الطرق النظريّة من الكتاب والسنّة وغيرها وإن كانت موافقة لطريقة الأئمّة وأخبارهم المتواترة مخالفة لطريقة العامّة ، غير أنّها لا تخالف طريقة المتأخّرين ، لأنّها لا توافق طريقة العامّة ، فاتّحدت الطريقتان بحذافير ما عرفته من البيان ، فليتدبّر.

ومنها : أنّ العمل بالظنّ ممّا يستقلّ العقل بقبحه فيستحيل تجويز الشرع له.

وهذا بمكان من الوهن بحيث لا يحتاج إلى البيان ، فإن اريد به أنّ العمل بالظنّ من حيث إنّه ظنّ ممّا يستقلّ العقل بقبحه فهو مسلّم ، لكنّه لا دخل له بمقالة المجتهدين كما بيّنّاه بما لا مزيد عليه ، وإن اريد به أنّه بعد نهوض القاطع على وجوب التعبّد به كذلك فهو ممّا يضحك به الثكلى ، إذ مرجع العمل به حينئذ إلى العمل بالقطع ، وهذا ممّا يستقلّ العقل بحسنه ، بل الّذي يستقلّ بقبحه العقل حينئذ ترك العمل به.

وبالجملة استقلال العقل بقبح العمل بالظنّ إنّما يسلّم إذا لوحظ الظنّ بنفسه ، ومفروض المقام العمل على الظنّ المنتهي إلى العلم ، فالعمل حقيقة على العلم.

ومنها : أنّه لا دليل على جواز العمل بالظنّ ، فلا وجه للرجوع إليه والتعويل في استنباط الأحكام عليه.

ص: 65


1- الذريعة إلى اصول الشريعة 2 : (1. 792).
2- الذريعة إلى اصول الشريعة 2 : (1. 792).

وأجاب عنه بعض الأفاضل : « بأنّه لا كلام في عدم جواز الاستناد إلى الظنّ من غير قيام دليل عليه ، وما ادّعي من انتفاء الدلالة في المقام فهو بيّن الفساد ، كيف ولو لم يكن هناك دليل على حجّيته سوى انسداد سبيل العلم وانحصار الطريق في الظنّ مع القطع ببقاء التكليف لكفى في القطع بحجّيته ، مع أنّ هناك أدلّة خارجيّة على حجّية عدّة من الطرق الظنّية كما قرّر في محلّه. وقد اعترف الأخباريّون بحجّية قول الثقة وجواز الاعتماد عليه في الأحكام الشرعيّة كما دلّت عليه عدّة من النصوص ، مع أنّه لا يفيد غالبا ما يزيد على الظنّ ، ودعوى إفادة قول الثقة القطع بالواقع كما صدر من جماعة منهم ممّا يشهد ضرورة الوجدان بخلافه مع ثبوت وثاقته بطريق اليقين ، فكيف مع ثبوتها بحسن الظاهر » (1).

تقرير إجمالي لدليل الانسداد

أقول : وينبغي التعرّض لإقامة الحجّة على الحجّية لحسم مادّة الشبهة بالمرّة ، والعمدة في ذلك الدليل العقلي المعبّر عنه بدليل الانسداد ، وتنقيح هذا الدليل - بالتعرّض لدفع ما أورد عليه أو لعلّه يرد - خارج عن المقام لسبقه في محلّه ، غير أنّا نشير هنا إلى تقريره إجمالا على وجه يندفع به شبهة الخصم في دعوى عدم الدليل على جواز العمل بالظنّ.

فنقول : إنّ الإنسان إذا لم يكن بالغا أو كان ولكن لم يكن عاقلا فلا كلام لأحد في أنّه في الوقائع المضافة إليه من أفعاله وغيرها كالأنعام والبهائم في إهمال ذلك الوقايع وخلوّها عن الحكم الوجودي بالمرّة حتّى الإباحة بالمعنى الأخصّ ، بناء على أنّها كغيرها من الخمس التكليفيّة في الاشتراط بالبلوغ والعقل ، وإذا كان بالغا عاقلا فإن كان قاطعا بالإهمال وخلوّ الوقائع بالنسبة إليه عن الحكم بالمرّة - بل لو كان ظانّا بهما أو شاكّا فيهما - فهو أيضا كالأوّلين في عدم تنجّز تكليف بالنسبة إليه ، بل وكذلك أيضا لو كان ظانّا بعدم الإهمال ، على معنى ظنّه بأنّ له في كلّ واحد حكما وجوديّا ، فإنّ الظنّ بنفسه لا يصلح منجّزا للتكليف ولا يجب عليه التحرّي والنظر في معرفة تفاصيل هذا المظنون بالإجمال ، بل لو اتّفق له حينئذ ظنّ تفصيلي بوجوب شيء أو تحريمه لا يجب عليه التعرّض للامتثال ، بل يقبح في حكم العقل عقابه على الترك في الأوّل وعلى الفعل في الثاني ، وهذا هو الظنّ الّذي لا يصلح حجّة أصلا ولا دليل من العقل والشرع على وجوب اتّباعه بل الدليل على

ص: 66


1- هداية المسترشدين 3 : 679.

خلافه بل الظاهر أنّه اتّفاقي ، وضابطه كلّ ظنّ تفصيلي بالحكم لم يجامع العلم الإجمالي بذلك الحكم ، ولا ينافي ذلك حسن العمل حينئذ لو حصل لرجاء المصادفة الملزومة لكون المظنون حكما ثابتا في نفس الأمر.

وإن كان قاطعا بعدم الإهمال - على معنى قطعه بأنّ له في كلّ واقعة ممّا يضاف إليه حكما من الخمس مع علمه بأنّ ذلك الحكم في جملة من الوقائع هو الوجوب وفي جملة اخرى هو التحريم ، سواء حصل ذلك القطع بالضرورة أو بالنظر - فإمّا أن يحصل له علم تفصيلي بحكم كلّ واقعة بالخصوص ، أو يتمكّن عن العلم التفصيلي به ، أو يحصل له ظنّ تفصيلي به مع تمكّنه عن العلم به كذلك أو عدمه ، أو يتمكّن عن الظنّ التفصيلي به كذلك مع التمكّن من العلم أيضا أو عدمه ، أو يحصل له في بعض الوقائع علم تفصيلي ضروري أو نظري. وفي بعضها الآخر يتمكّن عن العلم به كذلك ، وفي البعض الثالث لا يتمكّن إلاّ من الظنّ سواء حصل فعلا أو لم يحصل ، وفي البعض الرابع لا يتمكّن عن الظنّ أيضا ، أو لا يحصل شيء من العلم والظنّ الفعليّين في شيء من الوقائع ولا يتمكّن منهما أيضا أصلا.

والمتعيّن في الصورة الاولى تعيّن العمل بالعلم دون غيره ، بل لا يعقل مع حصول العلم التفصيلي فعلا الرجوع إلى غيره ، فهذه الصورة خارجة عن محلّ كلام المجتهدين مع الأخباريّين ، وكذلك الصورة الثانية بل الثالثة أيضا مع فرض التمكّن من العلم التفصيلي في كلّ واقعة ، بل الرابعة أيضا مع التمكّن منه إن لم يكن مرجعه إلى الثانية ، فإنّ المتعيّن في حقّه في جميع تلك الصور على القول بوجوب الاجتهاد عليه ومنعه من التقليد تحصيل العلم التفصيلي وعدم الاكتفاء بالظنّ الحاصل ولا العدول عن تحصيل العلم إلى تحصيل الظنّ.

ولم نقف من المجتهدين على من جوّز الأخذ بالظنّ في هذه الصور ، وهو الّذي يساعد عليه القوّة العاقلة وعليه بناء العقلاء ، كما أنّه كذلك الحال في الصورة الخامسة بالقياس إلى مواضع العلم التفصيلي أو التمكّن منه ، فإنّ المتعيّن في هذه المواضع إنّما هو الأخذ بالعلم وعدم جواز الرجوع إلى الظنّ ، إلاّ على القول بأصالة حجّية الظنّ مع الانسداد الأغلبي على فرض تحقّقه بالقياس إلى سائر المواضع ، القاضية بجواز الأخذ بالظنّ حتّى مع التمكّن من العلم ، كما قد يظهر من بعض الأعلام.

ص: 67

وأمّا بالقياس إلى مواضع عدم التمكّن من العلم مع التمكّن من الظنّ فإن لم يكن ذلك التمكّن مجامعا للعلم الإجمالي بوجود أحكام تكليفيّة إلزاميّة فيما بين هذه المواضع كان المرجع فيها الاصول النافية للتكليف المحتمل ، ولا نظنّ قائلا بتعيّن الأخذ بالظنّ حينئذ.

وإن كان مجامعا للعلم الإجمالي بوجودها مع تعذّر الاحتياط أو تعسّره كان من محلّ النزاع بين الفريقين ، ومع عدمهما فالظاهر تعيّن الأخذ بالاحتياط إن لم يكن إجماع على خلافه. وفي المواضع الّتي لا يتمكّن فيها من الظنّ أيضا يتعيّن الأخذ بالاحتياط بلا إشكال مع العلم الإجمالي بوجود أحكام إلزاميّة ، وإلاّ فالمرجع هو الاصول النافية للتكليف.

ومن ذلك يعلم الحال في الصورة السادسة ، فإنّ المتعيّن فيها الاحتياط امتثالا للعلم الإجمالي ما لم يتعذّر أو يوجب العسر والحرج المنفيّين ، فهذه الصورة أيضا خارجة عن محلّ نزاع الفريقين ، فبقي من الصور المذكورة ممّا يصلح محلاّ للنزاع بينهما الصورة الثالثة والرابعة مع فرض عدم التمكّن من العلم التفصيلي ، وكذلك الصورة الخامسة على بعض فروعها كما عرفت ، وإن كان المحقّق في الخارج في المسائل الفرعيّة هو هذه الصورة مع عدم التمكّن من العلم في أغلبها محقّقا ، وأمّا الصورتان الاخريان فهما لمجرّد الفرض وإن كان الحكم فيهما على تقدير تحقّقهما مع حكم الصورة المحقّقة بالقياس إلى ما هو محلّ النزاع فيها سواء ، فيلزم الأخباريّين بالقياس إليهما أيضا منع العمل بالظنّ وإيجاب العمل بالعلم ، وهو كما ترى تجويز للتكليف بغير المقدور الّذي يستحيله العقل والشرع.

والفرق بينهما وبين الصورة المحقّقة في الخارج مع وحدة الطريق القاضي بلزوم اتّباع الظنّ تحكّم بحت.

إلاّ أن يقال : بأنّ التكليف بغير المقدور إنّما يوجب سقوط اعتبار الامتثال العلمي التفصيلي وهو أعمّ من الاكتفاء بالامتثال الظنّي التفصيلي ، لجواز تعيّن العدول من العلمي التفصيلي إلى العلمي الإجمالي الحاصل بالاحتياط ما لم يوجب محذورا من التعذّر أو التعسّر المخلّ بنظم العالم.

وإذا تقرّر ذلك كلّه فاعلم : أنّه لا شبهة في وجود أحكام في الشريعة متوجّهة إلينا في الوقائع الراجعة إلينا مطلقا ، فإنّ ذلك معلوم بحكم الضرورة وإجماع الامّة والأخبار المتواترة ، كما أنّه لا شبهة في أنّ العلم بوجودها كذلك أوجب تنجّز هذه المعلومات بالإجمال ووجوب التعرّض لامتثالها ، ومعلوم أيضا أنّ الأصل في الامتثال هو الامتثال العلمي التفصيلي ، وهو

ص: 68

موقوف على المعرفة العلميّة لتفاصيل هذه المعلومات بالإجمال ، فيكون تحصيل هذه المعرفة على تقدير إمكانه واجبا من باب المقدّمة ، لكنّها بالقياس إلى أغلب هذه المعلومات متعذّرة لانسداد باب العلم التفصيلي بفقد الطرق العلميّة ، فإنّ تفاصيل الأحكام الشرعيّة بالنسبة إلينا على أقسام :

منها : ما هو معلوم فعلا بالضرورة من الدين أو المذهب.

ومنها : ما هو معلوم كذلك بالنظر.

ومنها : ما هو متمكّن من العلم به كذلك.

ومنها : ما لا يتمكّن فيه من العلم أصلا وهو الغالب ، والعلم أو التمكّن منه إنّما يتّفق نادرا ، وهو فيما يتّفق لا يجدي نفعا في الامتثال غالبا إلاّ مع انضمام امور كثيرة اخر غير علميّة كما لا يخفى على المتأمّل.

وقضيّة ذلك كلّه تعذّر الامتثال العلمي التفصيلي فلا بدّ من إسقاط أحد هذين القيدين ، إمّا بالتزام الاحتياط الموجب للامتثال العلمي الإجمالي ، أو التزام الرجوع إلى الظنّ حيثما أمكن حصوله اكتفاء بالامتثال الظنّي التفصيلي.

والفرق بين الطريقين أنّ الأوّل يؤدّي إلى إدراك الواقع نفسه المستلزم لعدم بدليّة شيء آخر منه ، بخلاف الثاني بملاحظة عدم كون الظنّ بدائم المصادفة للواقع ، فجواز الاكتفاء به شرعا يقضي ببدليّة الغير في مواضع عدم المصادفة على الجعل الموضوعي لا مطلقا كما شرحناه في محلّه.

وهاهنا طريق ثالث لو كان موجودا لقضى بسقوط الظنّ عن الاعتبار وإن شاركه في اقتضاء البدليّة على تقدير عدم المصادفة ، وهو الرجوع إلى الطرق المقرّرة في الشريعة القائمة مقام العلم التفصيلي والأخذ بمؤدّياتها تعبّدا اكتفاء عن الواقع وإن لم تكن مصادفة له.

ومن المعلوم أنّ مؤدّى هذه الطرق على تقدير وجودها يكون علما شرعيّا قائما مقام العلم العقلي ، والتكلّم في اعتبار الظنّ وعدمه مبنيّ على انتفاء هذه الطرق أو عدم كفاية الموجود منها عن امتثال المعلومات بالإجمال كلّها ، فيكون المراد بفرض انسداد باب العلم في الغالب فرض انسداد ما يعمّ العلم العقلي والشرعي معا كما هو مقرّر في محلّه.

وقضيّة ذلك سقوط اعتبار الامتثال العلمي التفصيلي لتعذّره بفرض الانسداد بالمعنى المذكور مع ضميمة قبح التكليف بالمتعذّر.

ص: 69

لكن يشكل حصول النتيجة المطلوبة بمجرّد ذلك مع قيام الاحتياط الموجب للامتثال العلمي الإجمالي ، لأنّ سقوط اعتبار الامتثال العلمي التفصيلي مع قيام الامتثال العلمي الإجمالي أعمّ من اعتبار الامتثال الظنّي التفصيلي.

ومن المستحيل الانتقال من الأعمّ إلى أحد الأخصّين على جهة التعيين ، بل مقتضى القاعدة بمقتضى العقل المستقلّ وبناء العقلاء تعيّن الامتثال العلمي الإجمالي ، لأنّه كالعلمي التفصيلي في اقتضاء عدم سقوط الواقع عن الاعتبار في بعض الصور ، بخلاف الظنّ فإنّ أخذه مرجعا وطريقا للامتثال يقتضي رفع اليد عن الواقع في صورة عدم المصادفة ، وهذا شيء يحتاج إلى الدليل.

وإن شئت فقل : إنّ التعبّد بالظنّ على الاستقلال يقضي ببدليّة غير الواقع عنه في بعض الأحيان إن اعتبرناه على وجه الموضوعيّة ، بخلاف التعبّد بالاحتياط.

ومن المعلوم أنّ البدليّة لا بدّ من ثبوتها بالدلالة الشرعيّة ، ومجرّد مقدّمة الانسداد مع قبح التكليف بالمتعذّر لا يوجبها ، فلا بدّ من إقامة دليل آخر يدلّ بالمطابقة على ثبوت البدليّة ، أو من إبطال الاحتياط بالدلالة القطعيّة المستلزم لمرجعيّة الظنّ المستلزمة للبدليّة.

ومن هنا تعرّض غير واحد من المحقّقين لإبطال الاحتياط ، فمنهم من أبطله بالإجماع ، ومنهم من أبطله بالعسر والحرج المنفيّين في الشريعة ، وبعض مشايخنا أبطله بكلا الوجهين ، فقرّر الأوّل : بالإجماع القطعي على أنّ المرجع في الشريعة على تقدير انسداد باب العلم في معظم الأحكام وعدم ثبوت حجّية أخبار الآحاد رأسا أو باستثناء قليل هو في جنب الباقي كالمعدوم ليس هو الاحتياط في الدين والالتزام بفعل كلّ ما يحتمل الوجوب ولو موهوما وترك كلّ ما يحتمل الحرمة كذلك ، عادلا عن تقريره : بأنّ أحدا من العلماء لم يلتزم بالاحتياط في كلّ الفقه أو جلّه ، حتّى لا يرد عليه ما اورد على هذا التقرير من أنّ عدم التزامهم به إنّما هو لوجود المدارك المعتبرة عندهم للأحكام ، فلا يقاس عليهم من لا يجد مدركا في المسألة.

ثمّ قال : وصدق هذه الدعوى ممّا يجده المنصف من نفسه بعد ملاحظة قلّة المعلومات.

أقول : لا أتعقّل معنى هذا الإجماع ، فإنّه على التقرير المذكور مع جواز اعتقادهم بوجود المدارك المعتبرة الّذي هو معنى انفتاح باب العلم بالمعنى الأعمّ يشبه بكونه فرض إجماع ، ومعلوم أنّ فرض الشيء لا يوجب تحقّقه في نفس الأمر ، والحجّة هو الأمر المتحقّق في

ص: 70

نفس الأمر ، كيف والإجماع عبارة عن اتّفاق الآراء الكاشف عن رأي الحجّة ، وحصوله فيما بين العلماء مع اعتقادهم بالانفتاح يتوقّف على ثبوت مقدّمات :

أحدها : التفاتهم إلى أصل انسداد باب العلم بالمعنى الأعمّ بالقياس إلى معظم الأحكام وموضوعاتها الشرعيّة.

وثانيها : تجويزهم طروّه بزوال ما وجد عندهم من المدارك المعتبرة في بعض أجزاء عصرهم أو في الأعصار المتأخّرة.

وثالثها : اعتقادهم بكون المرجع حينئذ هو الظنّ المطلق دون غيره حتّى الاحتياط ، ولا سبيل إلى إحراز شيء من هذه المقدّمات خصوصا إذا كان اعتقادهم بوجود المدارك المعتبرة ناشئا عن مقدّمة عقليّة كقاعدة اللطف ونحوها.

ثمّ ملاحظة قلّة المعلومات كيف تنفع المنصف في وجدان هذا الإجماع.

إلاّ أن يقال : إنّ قلّة المعلومات لمن لاحظها ممّا يحرز موضوع العسر والحرج المنفيّين المترتّبين على الالتزام بالاحتياط في غير المعلومات ، وهذه قاعدة متّفق عليها ، فهم مجمعون على نفي مرجعيّة الاحتياط على تقدير تحقّق الانسداد في المعظم.

وفيه - مع أنّ الكلام في حصول هذه الملاحظة بالقياس إليهم وقد عرفت منعه - : أنّ هذا الإجماع على هذا التقدير إنّما انعقد عن مدرك معلوم وهو القاعدة ، فيكون كاشفا عن المدرك لا عن رأي الحجّة.

ومآل الاستناد إلى مثل هذا الإجماع إلى التمسّك بالمدرك المعلوم ، فلا يكون دليلا على حدة غير القاعدة ، هذا.

ولكنّ الإنصاف : أنّ المناقشة في تحقّق هذا الإجماع كأنّها خلاف الإنصاف ، كما يظهر بالتتبّع في مطاوي كلماتهم وتضاعيف عباراتهم الصادرة عنهم في الكتب الاصوليّة والفقهيّة حتّى من السيّد ونظرائه القائل بانفتاح باب العلم ، لما فيها من التصريح بمرجعيّة الظنّ على تقدير الانسداد ، بل التصريح بالإجماع عليه على هذا التقدير ، كما يعلم ذلك من مراجعة مسألة الواجب الموسّع عند قولهم بكون الظنّ بدخول الوقت منجّزا للتكليف ، وفي باب القبلة والأوقات ، ومكان المصلّي وغير ذلك ممّا يطّلع عليه المتتبّع.

ومع ذلك فالعمدة في المقام التمسّك بقاعدة العسر والحرج الشديدين البالغين حدّ الإخلال بنظام معاش الناس ومعادهم ، فإنّها أمر مسلّم لا إشكال فيه ، إذ معناه لزوم الإتيان

ص: 71

بكلّ ما احتمل وجوبه في الشريعة على الاستقلال ، وكلّ ما احتمل اعتباره جزءا أم شرطا في العبادة الواجبة ، أو المحتمل وجوبها ظنّا أو شكّا أو وهما ، مضافا إلى الاحتياط بالترك في محتملات الحرمة بالظنّ أو الشكّ أو الوهم ، والمفروض أنّه على تقدير لزومه لا يختصّ بالعالم الواقف على موارد الاحتياط أو المتمكّن من العلم بها ، بل يعمّه والعوامّ المقلّدين له الغير المتمكّنين من الاطّلاع بتلك الموارد إلاّ من جهة التعليم ، فالتعرّض للتعليم والتعلّم لأصل الاحتياط وكيفيّته وموارده الشخصيّة الغير المحصورة ، وموارد تعارضه بمثله ، وعلاج التعارض بترجيح الاحتياط الناشئ عن الاحتمال القويّ أو الأقوى على ما نشأ من الاحتمال الضعيف أو غير الأقوى ، يستغرق جميع وقتهم ليلا ونهارا فضلا عن التعرّض له في مقام العمل ، خصوصا بالنسبة إلى ما يتوقّف منه على التكرار اللازم لمراعاة تطبيقه على جميع الأقوال الموجودة في جميع المسائل الخلافيّة الغير المحصورة والاختلافات المتداخلة البالغة فوق حدّ الكثرة.

فلزوم العسر المخلّ بنظام أمر الناس تارة من جهة التعرّض للتعليم والتعلّم ، واخرى من جهة التعرّض للعمل به وتطبيق الفعل البارز في الخارج عليه ، ولنقدّم مثالا لكلّ من الجهتين.

فمن أمثلة الجهة الاولى : ما فرضه بعض مشايخنا من أنّ الاحتياط في مسألة التطهير بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر ترك التطهّر به ، لكن قد يعارض في الموارد الشخصيّة احتياطات اخر بعضها أقوى منه وبعضها أضعف وبعضها مساو له ، فإنّه قد يوجد ماء آخر للطهارة ، وقد لا يوجد معه إلاّ التراب ، وقد لا يوجد من مطلق الطهور غيره.

فإنّ الاحتياط في الأوّل هو الطهارة من ماء آخر لو لم يزاحمه الاحتياط من جهة اخرى ، كما إذا كان قد أصابه ما لم ينعقد الإجماع على طهارته.

وفي الثاني هو الجمع بين الطهارة المائيّة والترابيّة إن لم يزاحمه ضيق الوقت المجمع عليه.

وفي الثالث الطهارة من ذلك المستعمل والصلاة معها إن لم يزاحمه أمر آخر واجب أو محتمل الوجوب ، فكيف يسوغ للمجتهد أن يلقي إلى مقلّده أنّ الاحتياط في ترك الطهارة بالماء المستعمل مع كون الاحتياط في كثير من الموارد استعماله فقط أو الجمع بينه وبين غيره.

وبالجملة فتعليم موارد الاحتياط الشخصيّة وتعلّمها فضلا عن العمل بها أمر يكاد يلحق بالمتعذّر ، ويظهر ذلك بالتأمّل في الوقائع الاتّفاقيّة.

ص: 72

ومن أمثلة الجهة الثانية : أنّ الاحتياط في مسألة الجهر ببسم اللّه في الصلاة الإخفاتيّة أو الإخفات به على القولين بوجوبهما الإتيان بها مرّتين ، وقد يكون ممّن لا يجد من الساتر الشرعي إلاّ ما لا يقدر على تطهيره ، فيجتمع عليه مع التكرار الأوّل في كلّ وقت مع ملاحظة الاحتياط بالصلاة عريانا والصلاة بهذا الساتر أربع صلوات ، وقد يكون مع ذلك ممّن عليه فائتة وحاضرة فيتضاعف العدد ، وقد يكون ما عليه من الفائتة أزيد من صلاة واحدة ، وقد يكون واحدة مردّدة بين الخمس على احتمال وجوب خمس صلوات أو ثلاث فيزيد على العدد ما يزيد بحسب ما عليه من العدد.

ومع هذا كلّه فكيف يقال : إنّ الشارع جعل الاحتياط - مع عدم انضباطه واستلزامه التعسّر المخلّ بالنظم ، بل التعذّر في كثير من صوره - مرجعا في امتثال أحكامه لعامّة المكلّفين الّذين منهم النسوان ومنهم الشبّاب ومنهم المرضى ومنهم ضعفاء العقول الّذين يضعف عليهم معرفة كيفيّة الاحتياط وموارده الجزئيّة ومتعارضاته وعلاج التعارض الواقع فيها.

لكن قد يستشكل في إفادة ذلك مع الإجماع المتقدّم عموم حجّية الظنّ في جميع الوقائع المشتبهة من المظنونات والمشكوكات والموهومات ، بأنّ نفي الاحتياط بالإجماع والعسر لا يثبت إلاّ أنّه لا يجب مراعاة جميع الاحتمالات مظنونها ومشكوكها وموهومها.

ويندفع العسر بترخيص موافقة الظنون المخالفة للاحتياط كلاّ أو بعضا ، بمعنى عدم وجوب مراعاة الاحتمالات الموهومة لأنّها الأولى بالإهمال ، وإذا ساغ لدفع الحرج ترك الاحتياط في مقدار ما من المحتملات يندفع به العسر ، فيبقى الاحتياط على حاله في الزائد على هذا المقدار ، لما تقرّر في مسألة الاحتياط من أنّه إذا كان مقتضى الاحتياط هو الإتيان بمحتملات الوجوب وقام الدليل الشرعي على عدم وجوب إتيان بعض المحتملات في الظاهر تعيّن مراعاة الاحتياط في باقي المحتملات ولم تسقط وجوب الاحتياط رأسا.

وملخّص ذلك : أنّ مقتضى القاعدة العقليّة والنقليّة لزوم الامتثال العلمي التفصيلي للأحكام والتكاليف المعلومة إجمالا ، ومع تعذّره يتعيّن الامتثال العلمي الإجمالي وهو الاحتياط المطلق ، ومع تعذّره لو دار الأمر بين الامتثال الظنّي في الكلّ وبين الامتثال العلمي الإجمالي في البعض والظنّي في الباقي كان الثاني هو المتعيّن عقلا ونقلا.

ففيما نحن فيه إذا تعذّر الاحتياط الكلّي ودار الأمر بين إلغائه بالمرّة والاكتفاء بالإطاعة الظنّية وبين إعماله في المشكوكات والمظنونات وإلغائه في الموهومات كان الثاني هو المتعيّن.

ص: 73

ودعوى لزوم الحرج أيضا من الاحتياط في المشكوكات خلاف الإنصاف لقلّة المشكوكات ، لأنّ الغالب حصول الظنّ إمّا بالوجوب أو بالعدم ، إلاّ أن يدّعى قيام الإجماع على عدم وجوب الاحتياط في المشكوكات أيضا ، بمعنى أنّ الشارح لا يريد الامتثال العلمي الإجمالي في التكاليف الواقعيّة المشتبهة بين الوقائع.

وحاصله : دعوى انعقاد الإجماع على أنّه لا يجب شرعا الإطاعة العلميّة الإجماليّة في الوقائع المشتبهة مطلقا لا في الكلّ ولا في البعض ، وحينئذ تعيّن الانتقال إلى الإطاعة الظنّيّة ، غير أنّ هذه الدعوى مشكلة جدّا وإن كان تحقّقه مظنونا لكنّه غير نافع ما لم ينته إلى العلم.

ويدفعه : أنّ ما ذكر إنّما يتمّ إذا ثبت وجوب الاحتياط تعبّدا من غير نظر فيه إلى إفادته الموافقة العلميّة الإجماليّة لجميع المعلومات بالإجمال وعدمها ، وأمّا لو وجب لغاية أنّه يفيد الموافقة المذكورة بحيث لو لا إفادته لها لم يكن له مزيّة على ما يقابله من الطريق المحتمل وهو الظنّ المطلق في مفروض المقام ، وكان هو وذلك الطريق على نهج سواء في عدم إفادة الموافقة العلميّة لجميع الأحكام الواقعيّة المعلومة بالإجمال ، ثمّ قام دليل شرعي على عدم وجوبه فيما لو خرج عن تحته لم يكن هو في ضمن الباقي مفيدا لحصول الغاية المطلوبة منه ، فكشف ذلك عن عدم وجوبه رأسا حذرا عن نقض الغرض ، نظير ما لو دلّ دليل على وجوب شيء ذي أفراد لغاية معيّنة لولاها لم يكن واجبا أصلا فقام دليل آخر على نفي الوجوب عمّا لو خرج من أفراده عن تحته لم تكن تلك الغاية مترتّبة عليه في ضمن باقي الأفراد ، فإنّ ذلك يقضي بانتفاء الوجوب عنه رأسا.

وإن شئت فقل : إنّ هذا الدليل النافي لوجوب البعض بالقياس إلى ما دلّ على وجوب الكلّ نظير الوارد على دليل آخر الرافع لموضوع هذا الدليل ، ومعلوم أنّ الاحتياط بعد ما خرج عنه الوقائع الموهومة لم يكن هو في بقيّة الوقائع - وهي مظنونات الوجوب أو هي بضميمة مشكوكاته - موجبا للقطع الإجمالي بموافقة جميع الأحكام المعلومة بالإجمال.

والمفروض أنّ تعيّنه في حكم العقل في مقابلة مطلق الظنّ إنّما كان لأجل امتيازه عن الظنّ في اقتضائه القطع بموافقة جميع الأحكام.

وقضيّة نفي وجوبه عن أكثر مواقعه وهي موهومات الوجوب زوال هذا الامتياز عنه ومشاركته للظنّ في عدم اقتضاء القطع بموافقة الجميع ، وذلك من جهة أنّ القطع بموافقة

ص: 74

جميع الأحكام المعلومة بالإجمال بطريق الاحتياط لا يتأتّى إلاّ بالإتيان بجميع ما يحتمل وجوبه في الشرع مستقلاّ ، وترك جميع ما يحتمل حرمته كذلك ، ومراعاة جميع ما يحتمل مدخليّته في العبادات بعنوان الجزئيّة أو الشرطيّة ، وتكرار الواجبات فيما يتوقّف الاحتياط فيه على التكرار ، والاقتصار على مظنونات الوجوب أو هي مع المشكوكات مع الاعتراف بقلّتها في نفسها لا يقتضي شيئا من ذلك ، بل لا يعقل معه التكرار فيما يتوقّف الاحتياط فيه على التكرار ، إذ هو إنّما يتأتّى لو بنى على مراعاة جميع ما يحتمل مدخليّته في الواجبات ولو مرجوحا والمفروض إلغاء الاحتمالات الموهومة بأسرها ، وهذا في الحقيقة تسمية احتياط لا أنّه احتياط حقيقة ، وإنّما هو تطبيق للعمل بالظنّ في الوقائع المظنونة ، واعتبار الاحتياط فيه لا يعقل له معنى إلاّ مقارنة العمل بنيّة الاحتياط ، على معنى الإتيان بما ظنّ وجوبه أو مدخليّته في العبادة لرجاء كونه كذلك في الواقع ، لا لأنّه مظنون كونه كذلك في الواقع.

ومن المعلوم أنّ القائل بمرجعيّة الظنّ أيضا لا يقصد إلاّ تطبيق العمل عليه بهذا العنوان ، فالعمل بهذا الاحتياط ليس إلاّ عملا بالظنّ وهو لا يوجب القطع بموافقة جميع التكاليف المعلومة بالإجمال ، لجواز فوات جملة كثيرة من واجبات هذا المعلوم بالإجمال بترك الوقائع الموهومة وجوبها.

نعم يحصل العلم بإدراك جملة من واجبات هذا المعلوم بالإجمال في ضمن مراعاة الوقائع المظنونة أو هي مع المشكوكة ، وهذا لازم الحصول بكلّ من تقديري تسمية ذلك عملا بالاحتياط المنوي حين العمل وتسميته عملا بالظنّ ، فلا بدّ في المقام إمّا من الالتزام بالعسر الموجب لاختلال النظم ، بل بالعذر المتحقّق في كثير من الصور تحصيلا للموافقة العلميّة لجميع الواجبات والمحرّمات المعلومة بالإجمال ، أو من القول بأنّ الشارع بعد تعذّر الموافقة العلميّة التفصيليّة لا يريد من المكلّفين الامتثال العلمي الإجمالي في التكاليف الواقعيّة المشتبهة بين الوقائع ، بل يكتفي منهم بالامتثال الظنّي التفصيلي في خصوص كلّ واقعة ظنّية وإن استلزم ذلك العلم الإجمالي بامتثال جملة غير معيّنة من التكاليف الواقعيّة المشتبهة ، ولأجل ذلك ارتفع العلم الإجمالي بوجود التكاليف الواقعيّة فيما بين الوقائع بعد الأخذ بجميع الوقائع المظنونة بالنسبة إلى ما عداها ممّا لم يحصل فيه ظنّ أصلا بفقد أمارة أو كونها مشغولة بالمعارض المساوي ، أو حصل فيه الظنّ بخلاف التكليف المحتمل ، والأوّل

ص: 75

ممّا لا سبيل إليه بالعقل والنقل فتعيّن الثاني ، وليس هذا إلاّ معنى كون المرجع في صورة انسداد باب العلم بمعظم الأحكام الشرعيّة هو الظنّ المطلق.

وممّا يفصح عن صحّة ما قلناه أنّ أصل البراءة أصل قطعيّ قرّره الشارع لنفي التكليف المحتمل عند انتفاء العلم بالمعنى الأعمّ من الشرعي ، مستفاد من العقل القاطع والكتاب والسنّة والإجماع حتّى من الأخباريّين في الجملة كما في الشبهات الوجوبيّة ، فلو كان المرجع في امتثال التكاليف الواقعيّة هو الاحتياط الموجب للامتثال العلمي الإجمالي لقضى بخروج هذا الأصل المحكّم بلا مورد ، لأنّ الاحتياط على هذا التقدير علم شرعي سار في جميع الوقائع ، وهو معلّق على انتفاء العلم بهذا المعنى أيضا وهو كما ترى.

وإلغاء الاحتياط فيما يؤدّي من الوقائع المشتبهة إلى العسر والحرج حذرا عنهما كما في الوقائع الموهومة مثلا ، أو هي مع المشكوكة وإن استلزم الرخصة في البناء على انتفاء التكليف ، إلاّ أنّه ليس من باب الاستناد إلى الأصل القطعي ، بل هو استناد إلى أصل آخر قطعي وهو قاعدة نفي العسر والحرج وهو طريق آخر لنفي التكليف ، ولا مدخل له في أصل البراءة.

ولو قلنا بأنّ الظنّ ممّا ألغاه الشارع رأسا مع أنّ الفرض فرض انسداد باب العلم في المعظم وعدم وجود طرق اخر اعتبرها الشارع لامتثال أحكامه كما هو المفروض في مقام التكلّم عن حجّية الظنّ ، لزم كون معظم الوقائع المشتبهة من مورد الأصل ، لانتفاء العلم بالمعنى الأعمّ فيها على هذا التقدير ، ويلزم من إعماله فيها حينئذ مخالفة العلم الإجمالي المتعلّق بالتكاليف الواقعيّة وهي غير سائغة في حكم العقل والشرع لكونها خروجا عن الدين ، فلا جرم يجب الالتزام بأنّ الشارع قرّر لامتثال هذه التكاليف طريقا لو اخذ به لم يلزم المخالفة المذكورة ولا خروج الأصل بلا مورد ، وليس هذا الطريق على الفرض إلاّ الظنّ المطلق المتعلّق بالواقع أو الطريق الّذي ثبت طريقيّته بالظنّ من الطرق المقرّرة المعهودة كخبر الواحد والإجماع المنقول والشهرة والأولويّة الظنّية ، بناء على عدم قيام قاطع بحجّيتها ، وعلى أنّ في امتثال أحكامه الواقعيّة بطريق الظنّ لا فرق بين الظنّ المتعلّق بنفس الواقع أو بما هو طريق إلى الواقع على قول كما تقدّم في محلّه.

وحينئذ يختصّ الأصل المذكور بموارد انتفاء الظنّ الّذي هو علم شرعي على هذا ، ولا يلزم معه محذور من مخالفة العلم المخرجة عن الدين وغيرها ، لعدم بقاء العلم الإجمالي

ص: 76

المذكور بالقياس إلى غير المظنونات بعد موافقة المظنونات ، كما أنّه على تقدير وجود طرق اخر معتبرة بعنوان القطع كان الأصل مختصّا بالموارد الخالية عنها ، والموارد الّتي وجد فيها شيء منها مع مزاحمة مثله له المانعة من إعماله وإعمال مزاحمه من غير لزوم محذور.

فإن قلت : حصول المورد للأصل المذكور بالقياس إلى أصحاب الأئمّة والموجودين في زمانهم كما هو المفروض - لوجود الطرق المعتبرة بالنسبة إليهم كرواياتهم المعلومة لديهم والمنصوبين في أطراف البلاد من قبلهم لإرشاد الناس - كاف في اندفاع ما ذكر من المحذور.

قلت : مرجع هذا الكلام إلى دعوى اختصاص هذا الأصل بالمذكورين ، وإنّ الشارع لم يقصد بتقريره له ما يعمّهم والموجودين في أزمنة الغيبة المنسدّ لهم باب العلم الغير المتمكّنين عن غيره من الطرق المعتبرة.

وفيه : - مع أنّه تقييد في مطلقات أدلّة هذا الأصل وتخصيص في عموماتها كما لا يخفى على من يلاحظها ، ولا دليل على شيء من الأمرين بل هو باطل بالإجماع على عدم الفرق ، كما يعلم ذلك من ملاحظة الكتب الاستدلاليّة في الفقه - أنّه باطل بالأولويّة القطعيّة ، ضرورة أنّ الانقطاع عن الأئمّة وعن الطرق الّتي اعتبروها بالخصوص آكد في اقتضاء تأسيس هذا الأصل وتقريره كما يظهر للمنصف.

هذا خلاصة دليل الانسداد القاضي بحجّيّة الظنّ وجواز التعويل عليه في إطاعة اللّه تعالى وامتثال أحكامه ، قرّرناه هنا على حسب ما اقتضاه المجال ، وتفصيله مع النقوض والإبرامات المتعلّقة به يطلب من محلّه ، لكن لا بأس بالتعرّض لعمدة ما اورد عليه ممّا هو يناسب المقام ، المقصود منه دفع شبه الأخباريّة في إنكارهم حجّية الظنون الاجتهاديّة.

دفع الإيرادات الواردة على دليل الانسداد

فعمدة ما يناسب المقام ممّا يرد عليه منع الانسداد الّذي هو العمدة من مقدّمات هذا الدليل ، وهذا المنع يقرّر من وجهين :

أحدهما : ما ينسب إلى منكري حجّية أخبار الآحاد كالسيّد والحلّي وأحزابهما من دعوى قطعيّة الأحكام بالكتاب والإجماع والأخبار المفيدة للعلم بتواتر أو استفاضة أو غير ذلك من القرائن القطعيّة الداخلة والخارجة.

وهذه الدعوى بالنسبة إلى الأزمنة المتأخّرة عن زمن هؤلاء إلى زماننا هذا واضح الاندفاع ، لقضاء ضرورة الوجدان بخلافها ، مع انقطاع هذا القول في هذه الأزمنة وعدم وجود قائل به بعدهم ممّن يعتدّ بقوله. وأمّا بالنسبة إلى زمنهم فهم أعرف بحقيقة ما ادّعوه وليس

ص: 77

علينا التجشّم لاستعلام صحّة ذلك أو فساده ، مع عدم جدواه في حالنا ولا سبيل لنا أيضا إلى معرفة حالهم وأوضاع زمنهم.

وثانيهما : ما هو المعروف عن الأخباريّة المعزى إلى أكثرهم من قطعيّة الصدور في كتب الأخبار المتداولة بين أصحابنا أو خصوص الأربعة المعروفة منها ، بزعم استفاد ذلك من امور يأتي إليها وإلى ضعفها الإشارة.

وفي كلام بعض أصحابنا : أنّ أوّل من فتح هذا الباب الأمين الأسترآبادي فتبعه غيره.

وقد يقال : لعلّ هذه الدعوى إنّما صدرت لدفع ما أورده المجتهدون على إيرادهم عليهم في استعمالهم الظنّ - كما نطق به حدّ الاجتهاد - المذموم في بعض الأخبار ، من أنّكم لا تسلمون عن استعمال الظنّ ، لأنّ أخبار الآحاد كلّها ظنّيّة السند والدلالة ، فالتزموا بقطعيّة السند بل الدلالة أيضا تفصّيا عن الإشكال.

وكيف كان فهذه الدعوى صدرت أوّلا من أمينهم الأسترآبادي في منع الحاجة في العمل بالأخبار إلى علم الرجال أوردناها هنا لتعلّقها بالمقام أيضا.

فقال : « إنّ أحاديثنا كلّها قطعيّة الصدور عن الأئمّة عليهم السلام فلا حاجة إلى ملاحظة أسانيدها.

أمّا الكبرى : فظاهرة ، وأمّا الصغرى : فلأنّ أحاديثنا محفوفة بقرائن مفيدة لذلك.

منها : القرائن الحاليّة والمقاليّة في متونها واعتضاد بعضها ببعض ، وكون الراوي ثقة في نفسه أو في الرواية ، غير راض بالافتراء ، ولا متسامح في أمر الدين فيأخذ الرواية من غير ثقة أو مع فقد قرينة الاعتبار.

ومنها : نقل العالم الثقة الورع - في كتابه المؤلّف لهداية الناس وإرشادهم ورجوع الشيعة إليه - أصل رجل أو روايته على ظنّ مع تمكّنه من استعلام حال ذلك الأصل أو تلك الرواية ، وأخذ الأحكام بطريق القطع عنهم عليهم السلام.

ومنها : تمسّكه بأحاديث ذلك الأصل أو بتلك الرواية ، مع تمكّنه من أن يتمسّك بروايات اخر صحيحة.

ومنها : أن يكون راويه أحد من الجماعة الّتي أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم.

ومنها : كونه ممّن نصّ في الروايات على توثيقه وأمر بالأخذ منه ومن كتابه ، أو أنّه المأمون في أمر الدين والدنيا.

ص: 78

ومنها : وجودها في أحد الكتب الأربعة الكافي والفقيه والتهذيب والاستبصار ، لشهادة مؤلّفيها بصحّة ما فيها من الأخبار ، وانّهم أخذوها من الكتب المعتمدة والاصول المعتبرة الّتي إليها المرجع وعليها المعوّل » (1).

قال العلاّمة البهبهاني في رسالته في الاجتهاد والأخبار : وذكر في بيان شهادتهم ما ذكره ابن بابويه في أوّل الفقيه والكليني في أوّل الكافي.

وأمّا الشيخ فنقل عنه أنّه ذكر في العدّة : أنّ ما عملت به من الأخبار فهو صحيح.

ونقل عن الفاضل التوني أنّه قال : تصفّحت العدّة فما رأيت هذا الكلام فيه.

ثمّ قال أيضا : إنّ الشيخ كغيره كان متمكّنا من إيراد الأخبار الصحيحة ، فلا وجه لتلفيقه بين الصحيحة والضعيفة.

وعن الشيخ الفاضل الكامل الحرّ العاملي في آخر الوسائل أنّه ذكر في ضعف الاستدلال على تقسيم الأحاديث إلى صحيح وموثّق وحسن وضعيف الّذي تجدّد في زمان العلاّمة وشيخه أحمد بن طاووس وجوها تعرّض لذكر عمدتها بعضهم ، ولا بأس بإيرادها لتعلّقها بالمقام.

أحدها : أنّ المعلوم بالتواتر والأخبار المحفوفة بقرائن القطع أنّه كان دأب القدماء في مدّة تزيد على ثلاثمائة سنة ضبط الأحاديث وتدوينها في مجالس الأئمّة عليهم السلام وغيرها ، وكانت هممهم على تأليف ما يعمل به الطائفة المحقّة وعرضه على الأئمّة عليهم السلام.

وقد استمرّ ذلك إلى زمن تأليف الكتب الأربعة حتّى بقيت جملة منها بعد ذلك ، وهذه الأربعة منقولة من تلك الاصول المعتمدة بشهادة أربابها الثقات ، ولغاية بعد تأليفهم من غيرها مع تمكّنهم منها ومن تميّز ما هو المعتبر عن غيرها غاية التمكّن ، مع علمهم بعدم اعتبار الظنّ في الأحكام الشرعيّة مع التمكّن من العلم والتبيّن ، والمعلوم من وثاقتهم وجلالتهم عدم التقصير في ذلك ، كيف وأهل التواريخ لا يأخذون القصص من كتاب أو شخص غير معتمد مع التمكّن من الأخذ عن المعتمد فما الظنّ بهؤلاء المشايخ العظام ، وعلى فرض أخذهم من الكتب الغير المعتبرة كيف يدلّسون بل يشهدون بصحّة جميع ما نقلوه وكونه حجّة بينهم وبين ربّهم.

وثانيها : أنّ مقتضى الحكمة الربّانيّة وشفقة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام أن لا يضيّع

ص: 79


1- الفوائد المدنيّة : (178 - 177).

من في أصلاب الرجال من الامّة ويتركوا حيارى يلتجئون إلى التشبّث بظنون واقية ، بل مهّد لهم اصول معتبرة يعملون بها في الغيبة كما هو الواقع والمعلوم بالتتبّع في أحوالهم والتأمّل في الأحاديث الكثيرة الدالّة على أنّهم أمروا أصحابهم بكتابة ما يسمعونه منهم وتأليفه والعمل به في الحضور والغيبة بالنصّ عليها بقولهم : « سيأتي زمان لا يستأنسون فيه إلاّ بكتبهم ».

وفي الأحاديث الكثيرة الدالّة على اعتبار تلك الكتب والأمر بالعمل بها ، وعلى أنّها عرضت على الأئمّة عليهم السلام فمدحوها ومدحوا صاحبها ، وقد نصّ المحقّق بأنّ كتاب يونس ابن عبد الرحمن وكتاب الفضل بن شاذان كانا عنده ، وذكر علماء الرجال أنّهما عرضا عليهم عليهم السلام ، فما الظنّ بأرباب الأربعة؟

وقد صرّح الصدوق في مواضع بأنّ كتاب محمّد بن الحسن الصفّار المشتمل على مسائل وجوابات العسكري عليه السلام كان عنده بخطّه الشريف ، وكذا كتاب عبد اللّه بن عليّ الحلبي المعروض على الصادق عليه السلام ، ثمّ رأيناهم يرجّحون كثيرا مّا حديثا مرويّا في غير الكتاب المعروض على الحديث الّذي فيه ، وهذا لا يتّجه إلاّ بأنّهم جازمون بكونه في الاعتبار وصحّة الصدور كالكتاب المعروض ، إلى آخر ما ذكره.

وثالثها : الوجه الأخير من الوجوه المتقدّمة مصرّحا فيه بحصول القطع العادي من شهاداتهم - كالعلم بأنّ الجبل لم ينقلب ذهبا - وقال : إنّه لاتّفاق الشهادات وغير ذلك أولى من نقل ثقة واحد كالمحقّق والشهيدين لفتوى من فتاوى أبي حنيفة في كتابه ، مع أنّا نرى حصول العلم لنا بذلك فكيف لا يحصل بشهادة الجماعة ... إلخ.

والجواب أمّا عن الأوّل : فبأنّ القرائن الحاليّة تحصل غالبا حال الخطاب ، فاطّلاع من ليس حاضرا مجلس الخطاب عليها بحسب العادة بعيد ، وعلى فرض الاطّلاع عليها أو على القرائن المقاليّة فأيّ قرينة منهما توجد في المتن وترجع إلى إحراز السند ومع ذلك تفيد العلم بالصدور؟ فلا بدّ له من ذكر مثال حتّى يلاحظ فيما هو حقيقة الحال ، وإلاّ فالغالب في القرائن الموجودة في المتن رجوعها إلى إحراز الدلالة وهي ظنّيّة غالبا ، وعلى فرض كونها علميّة بحسب ذواتها فإفادتها العلم بالدلالة على أنّها حكم اللّه النفس الأمري مبنيّ على إحراز السند بطريق العلم بالصدور ، وعلى فرض رجوعها إلى السند تبقى الدلالة موقوفة على إعمال ظنون اجتهاديّة كثيرة ، إذ لا ملازمة بين القطع بالصدور والقطع بل الظنّ

ص: 80

بالدلالة ، وعلى فرض وجود ما يحرز به الدلالة أيضا من القرائن - حاليّة أو مقاليّة - فهو أيضا في الغالب ظنّي خصوصا إذا كانت مقاليّة ، وكون الظنون الراجعة إلى الدلالة في الاعتبار كالعلم على معنى كونها معتبرة من باب الظنّ الخاصّ لعلّه مخصوص بمن له الخطاب أو من حضر مجلس الخطاب.

ومع الغضّ عن ذلك فالقرائن المحرزة للسند المفيدة للعلم بالصدور - على فرض وجودها - إنّما تكون غالبا من الامور الخارجة عن الخبر من غير مدخل لها في المتن ، ووجودها بالنسبة إلى أخبارنا الموجودة اليوم في غاية الندرة لو سلّمنا أصل الوجود.

واعتضاد الأخبار بعضها ببعض ، إن اريد به ما يبلغ حدّ التواتر لفظا أو معنى ، أو الاستفاضة الملزومة للعلم ولو بمعونة بعض القرائن الداخلة أو الخارجة ، فيتّفق ذلك نادرا فيما بين الأخبار الموجودة الآن ؛ ولو اريد به ما دون ذلك فإفادته القطع بالصدور بعيد ، خصوصا إذا حصل بين خبرين عارضهما ثالث كما هو الغالب.

نعم إنّما يوجب الاعتضاد حينئذ قوّة وترجيحا لو لم يزاحمه ما يوجب قوّة في المعارض ، كما يلاحظ ذلك كثيرا في الخبر الضعيف المنجبر بالعمل ، الموجب لطرح معارضاته ولو كانت أخبارا صحيحة.

وكون الراوي ثقة في نفسه أو في الرواية غير مستلزم للعلم بالصدق جزما بل هو أمارة غالبيّة للظنّ به.

بل الراوي الثقة كثيرا مّا لا يكون على قطع بالصدور في روايته ، لجواز أخذه لها ممّن يثق به تعبّدا أو ظنّا خاصّا أو مطلقا أو من غيره ظنّا مطلقا ، وفرض القطع له لا يستلزم حصول القطع لنا كما هو المقصود إذا كانت الشبهة ناشئة عمّا لا ينافي الوثاقة كالسهو والنسيان والذهول عن القرينة ، أو خفائها المحتملة في حقّ كلّ ثقة بلغ في الوثاقة ما بلغ.

واحتمال هذه الامور وإن كان لا يلتفت إليه في الغالب من جهة الأصل المعمول به عند العقلاء ، لكنّه حيثما كان قائما مناف للعلم والأصل لا يجدي في نفيه.

هذا كلّه على تقدير أن يحصل لنا العلم بوثاقته ، وإلاّ فالغالب ثبوتها بطريق الظنّ الاجتهادي ، وثبوتها في بعض الأحيان بامور تعبّدية من قول العدل ونحوه لا يستلزم كونه بطريق القطع ، فكيف يعقل حينئذ حصول القطع لنا بالصدور بمجرّد وثاقة الراوي ، مع كون النتيجة تتبع أخسّ المقدّمات ، والغالب في رواة أخبارنا ثبوت وثاقتها بالظنون المطلقة أو الامور التعبّديّة.

ص: 81

وبالجملة كون وثاقة الراوي على تقدير العلم بها لو اتّفق نادرا بمجرّده من أسباب العلم بالصدور غير مسلّم ، بل لا نظنّ عاقلا يتفوّه به.

نعم لو كان الغرض من الوجه الأوّل أخذ المجموع من القرائن الحاليّة أو المقاليّة واعتضاد البعض ببعض ووثاقة الراوي من الأسباب المفيدة للعلم بالصدور فهو ليس بذلك البعيد ، غير أنّه فرض نادر يتّفق في أخبارنا قليلا ، ولا ينكره أهل القول بانسداد باب العلم في معظم الأحكام.

وأمّا عن الوجه الثاني : فبأكثر ما عرفت في جواب الوجه الأوّل ، وكون العالم الثقة مؤلّفا كتابه لرجوع الشيعة ولهداية الناس لا يستلزم علمه بصدور جميع ما فيه من الروايات ، لجواز اعتقاده فيه بكون ما فيه قطعيّ العمل ، ومعلوم أنّ العمل أعمّ من العلم بالصدور ، ولعلّه أخذ روايات كتابه ممّن يرى الأخذ منه تعبّدا أو ظنّا خاصّا ، أو مطلقا وهو يرى الظنّ المطلق حجّة مطلقا أو إذا تعلّق بالصدور.

وعلى [ فرض ] كونه قاطعا بالصدور فهو لا يستلزم قطع غيره به ممّن يرجع إلى كتابه ويأخذ برواياته ، لجواز تطرّق الدسّ أو الغلط أو السهو أو النسيان أو غيره إلى ما في كتابه ممّن سبقه أو عاصره أو لحقه ، من المعاندين أو الناسخين أو العاملين أو القاصرين من الأطفال وغيرهم ، مع أنّ القدر المعلوم في الغالب من المؤلّفين إذا لم يكونوا هم المشافهون - كما هو الغالب في الكتب الموجودة الآن - هو الاعتقاد بالصحّة ، وهو أعمّ من العلم بالصدور ، ولا سيّما الصحّة باصطلاح القدماء من المحدّثين ، ولا بعد في كونه أصل رجل أو روايته عن ظنّ إذا كان ممّن يرى جواز العمل بالظنّ مطلقا أو في المقام خاصّة ، ومع قيام هذا الاحتمال كيف يحصل العلم لغيره بالصدور بتأليفه؟

وأمّا عن الوجه الثالث : فيظهر أيضا بملاحظة ما ذكر ، فإنّ التمسّك بأحاديث الأصل من مؤلّفه أو غيره ممّن اعتمد عليه كثيرا مّا يكون لاعتقاد الصحّة أو من جهة التعبّد لدليل دلّ عليه وهو أعمّ من العلم بالصدور ، وقد عرفت أنّ علمه بالصدور لا يجدينا في العلم بالصدور ، فكيف مع اعتقاده بالصحّة أو تعيّن العمل به تعبّدا ولو من جهة الاجتزاء بالظنّ المطلق بالصدور ، كما هو احتمال قائم في كلّ مقام.

وأمّا عن الوجه الرابع ، فأوّلا : بأنّ الإجماع المذكور على تقدير العلم به لا يراد منه الإجماع المصطلح الكاشف عن قول الحجّة جزما ، فهو لمن حصّله وعلم به لا يفيد العلم

ص: 82

بالمجمع عليه لعدم وجود المعصوم في المجمعين ، فيجوز على كلّ واحد منهم الخطأ ، أو كون اتّفاقهم عن ظنّ أو أمر تعبّدي.

وثانيا : بأنّه بالنسبة إلى ما عدا قائله - الّذي هو الكشّي - منقول ، فأقصى ما يفيده حينئذ هو الظنّ.

وثالثا : بأنّه منقول على لفظ غير واضح المعنى ، لما فيه من وجوه الاحتمال الّتي صار إلى كلّ واحد منها قائل ، وهي وجوه أربع :

أحدها : أنّ المراد به كون من قيل هذا في حقّه صحيح الحديث لا غير ، بحيث إذا كان في سند فوثّق من عداه أو صحّح السند - ولو بغير التوثيق - بالنسبة إلى غيره ، عدّ السند صحيحا ولا يتوقّف من جهته.

وثانيها : أنّ المراد به توثيق خصوص من قيل هذا في حقّه ، وعن قائل إسناده إلى الأكثر ، وعن صاحب الرسالة المسمّاة بلبّ اللباب اختياره وادّعائه إجماع العصابة عليه.

وثالثها : أنّ المراد توثيق من روى عنه من قيل هذا في حقّه ، وعن الفوائد إسناده إلى توهّم بعض ، وقيل : لا ريب أنّ مراد القائل توثيق المقول في حقّه أيضا ، وعن الفصول قال - مشيرا إلى هذا القول - : « وربّما قيل بأنّها تدلّ على وثاقة الرجال الّذين بعده أيضا ».

ورابعها : أنّ المراد تصحيح روايته بحيث لو صحّت من أوّل السند إليه عدّت صحيحة من غير ملاحظة أحواله واحوال من يروي عنه إلى المعصوم عليه السلام ، وعزى ذلك إلى الشهرة تارة كما عن الفوائد الرجاليّة وإلى الأصحاب اخرى كما عن المحقّق الداماد.

وإذا كان مورد هذا الإجماع في كثرة الاحتمال والاختلاف بهذه المثابة فكيف يحصل به العلم بالمعنى المراد منه ، وعلى تقدير حصوله فالمعلوم إمّا كون من قيل هذا في حقّه صحيح الحديث ، أو كونه ثقة ، أو كونه مع من قبله ومن بعده إلى أوّل السند ثقات ، أو كون الحديث الّذي هو في سنده بشرط وثاقة الرجال الّذين من أوّل السند إليه ممّا يعدّ عندهم من الصحيح أو في حكم الصحيح ، وهو في شيء من التقادير ليس من العلم بصدور هذا الحديث أو غيره ممّا يرويه هو بنفسه عن المعصوم من دون واسطة ، خصوصا مع ملاحظة كون المراد بالصحّة هنا ما عليه اصطلاح القدماء لكون الكشّي منهم ، فلا يريد مصطلح غيره جزما.

والحاصل : أنّ هذا الإجماع لا يصلح مفيدا للعلم بالصدور إمّا لأنّه ليس من الإجماع المصطلح ، أو لأنّه منقول ، أو لأنّ مورده اللفظ المحتمل لوجوه كثيرة ، أو لأنّ العلم على

ص: 83

تقدير حصوله علم بالصحّة أو الوثاقة وهو ليس من العلم بالصدور في شيء ولا هو مستلزم له ، هذا مضافا إلى ما في هذا المقام من الاختلاف في تعيين الأشخاص المجمع عليهم كما قرّر في محلّه ، وهذا أيضا ممّا يخلّ بالعلم.

وأمّا عن الوجه الخامس : فبأنّ التوثيق المذكور إنّما وصل إلينا بطريق الآحاد الغير المفيدة للعلم ، مع ما في أكثر هذه النصوص من المعارض المقتضي للقدح كما يظهر بمراجعة الرجال ، مع احتمال كون مراد المعصوم التوثيق بحسب ما يقتضيه الأمارات الحاصلة لديه من دون مراعاة العلم فيه بناء على عدم لزومه.

ومع الغضّ عن جميع ذلك فالعلم بالوثاقة على تقدير حصوله لنا أعمّ من العلم بصدور ما يرويه هؤلاء عن المعصوم كما يظهر وجهه بمراجعة ما تقدّم.

وأمّا عن الوجه السادس : فبعد منع تسمية ما ذكره المشايخ الثلاث شهادة للزوم العلم في الشهادة مع كونه عن حسّ ، ومن الجائز كون تصريحهم بما صرّحوا به عن اعتقاد التعبّد أو عن الاعتقاد الظنّي الخاصّ أو المطلق ، وعلى فرض كونه عن علم فهو اعتقاد نشأ عن اجتهادهم ، كما يشعر به الاعتراف بأنّهم أخذوها عن الكتب المعتمدة والاصول المعتبرة ، فلا ملازمة بين هذا الاعتقاد ومطابقته للواقع ، لأنّ غاية ما شهدوا به إنّما هو صحّة ما أوردوه في كتبهم من الأخبار وكونها حجّة فيما بينهم وبين ربّهم.

وأيّا مّا كان فهو أعمّ من الصدور ومن كون الصدور على جهة بيان الواقع لا على جهة التقيّة ، ومن الثابت بالعلم الضروري وجود الأخبار الكاذبة والأخبار الصادرة على جهة التقيّة فيما بين الآحاد المرويّة عن الأئمّة عليهم السلام وفي الاصول المشتملة على تلك الأخبار ، كما نطق به أيضا أخبار مستفيضة ففي النبوي المعروف : « ستكثر بعدي القالة عليّ ».

وفي المرويّ عن الصادق عليه السلام : « أنّ لكلّ رجل منّا رجلا يكذب عليه ».

وفي الآخر عنه عليه السلام : « إنّا أهل البيت صادقون لا نخلو من كذّاب يكذب علينا فيسقط صدقنا بكذبه ».

وفي الآخر : « إنّ المغيرة بن سعيد دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدث بها أبي ، فاتّقوا اللّه ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا وسنّة نبيّنا ».

وعن يونس أنّه قال : « وافيت العراق فوجدت قطعة من أصحاب أبي جعفر وأصحاب أبي عبد اللّه عليهما السلام متوافرين ، فسمعت منهم وأخذت كتبهم وعرضتها من بعد على أبي الحسن

ص: 84

الرضا عليه السلام فأنكر منها أحاديث كثيرة أن تكون من أصحاب أبي عبد اللّه عليه السلام ، وقال : إنّ أبا الخطّاب كذب على أبي عبد اللّه عليه السلام ، لعن اللّه أبا الخطّاب ، وكذلك أصحاب أبي الخطّاب يدسّون من هذه الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد اللّه عليه السلام ، فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن ».

وفي جملة من الأخبار العلاجيّة : « أنّ ما خالف القرآن ».

وفي بعضها : « أنّ ما خالفه وخالف السنّة أنّي ما قلته ».

وفي آخر : الأمر بضرب مخالفه وجه الجدار ، إلى غير ذلك.

وغاية ما هنالك أنّ المشايخ بذلوا جهدهم وأتعبوا أنفسهم في نقل هذه الأحاديث وجمعها وضبطها وإخراج ما تبيّن فساده عندهم بحسب اجتهادهم عنها ، ومعلوم أنّ الاجتهاد غير مأمون من الخطاء ، ومع ذلك فكيف يحصل لغيرهم الوثوق بجميع ما في الكتب الأربعة فضلا عن العلم بصدق الجميع ، أو كون صدوره لا على وجه التقيّة ، مع أنّ المعهود من طريقة الشيخ في التهذيبين إعراضه عن كثير من الأخبار الموجودة فيها حملا لها على التقيّة ، وإن لا حظت الكتابين لوجدته كثيرا فيهما يضعّف الخبر أو يقدح في بعض سلسلة سنده ، مع أنّ المنقول عنه في العدّة كما عرفت الشهادة بصحّة ما عمل به من الأخبار ، وهذا ليس من الشهادة بصحّة ما جمعه من الأخبار في الكتابين بأجمعها.

ومن جملة الشواهد بأنّ هذه الأخبار لم تكن عند المشايخ علميّة ما عزى إلى الصدوق من أنّه كان كثيرا اعتمد على تصحيح وتضعيف شيخه ابن الوليد ، حتّى قال : « كلّما صحّحه شيخي فهو عندي صحيح » وعنه أيضا - أنّه بعد استضعافه لرواية محمّد بن موسى الهمداني : « أنّ كلما لم يصحّحه هذا الشيخ ولم يحكم بصحّته فهو عندنا متروك » انتهى.

وهذا كما ترى ممّا لا ربط له بضابطة علميّة الأخبار.

ومع هذا التصريح كيف يسند إليه أنّه أورد في كتابه ما علم بصدوره ، وكيف يقال بكون الأخبار الموجودة فيه بأجمعها علميّة عنده أو عنده أو عند غيره ، وليس ذلك إلاّ افتراء أو إغماضا عن الحقّ.

هذا مضافا إلى ما ستسمع عن الشيخ ممّا ينافي الشهادة بالصحّة أيضا.

وأمّا الجواب عن الوجوه المحكيّة عن الشيخ الكامل الحرّ في الوسائل ، فعن أوّلها : يظهر بملاحظة ما مرّ.

ص: 85

وملخّصه : أنّ إحراز الصحّة في الكتب الأربعة بالاجتهاد كما هو مفاد الوجه المذكور على فرض التسليم بالمعنى المصطلح عليه عند القدماء أو المتأخّرين أعمّ من الصحّة الواقعيّة ، كما أنّ الصحّة الواقعيّة بالمعنى المذكور أعمّ من الصدور ، كما أنّ الأخذ من الاصول المعتبرة أعمّ من الأخذ بالأخبار الصادرة على وجه اليقين ، لعدم العلم بكون جميع الأدلّة معروضة على الأئمّة عليهم السلام بل المعلوم خلافه كما قيل ، وكون جميع ما في الكتب الأربعة وغيرها ممّا هو موجود الآن من الأخبار المعروضة عليهم عليهم السلام أيضا غير معلوم.

وعن ثانيها : أيضا يعلم ممّا ذكر ، فإنّ كلاّ من تمهيد اصول معتبرة والأمر بكتابة الأحاديث المسموعة وجمعها وتأليفها والعمل بها في الحضور والغيبة وكون جملة من تلك الاصول معروضة عليهم أمر معلوم لا إشكال فيه ولا ينكره أحد ، غير أنّه لا يقضي بعلميّة جميع ما في الكتب الأربعة حتّى بالقياس إلى أربابها ، وإذعانهم بالاعتبار والحجّية - لو سلّمناه في جميع ما فيها - ليس من الإذعان بالصدور في شيء ، وانقطاع أهل زمان الغيبة عن الاصول المعلومة صدورا أو اعتبارا بكيد الكائدين وعناد المعاندين أو غير ذلك من الأسباب الخارجيّة والدواعي الطارئة لا ينافي حصول العمل بمقتضى الحكمة والخروج عن عهدة موجبات الشفقة والرأفة ، كيف وهو ليس بأعظم من انقطاعنا عن نفس الحجّة الّذي هو الأصل والعمدة.

وعن ثالثها : أيضا يعلم ممّا تقدّم ، فإنّ الشهادة الناشئة عن الاجتهاد الغير المأمون عن الخطأ لا تفيد العلم بالمشهود به وإن تعدّدت وتكثّرت.

هذا مع ما عرفت عن الصدوق من الاكتفاء بتصحيح شيخه ، وعن الشيخ من استضعاف جملة من أخبار التهذيبين وحمل جملة منها على التقيّة مع عدم كون المحكيّ عنه في العدّة صريحا في الشهادة بصحّة جميع ما أورده فيهما ، بل غايته التصريح بالاقتصار في العمل على الصحاح ، وكون اتّفاق شهاداتهم أولى في إفادة العلم ممّا نقله ثقة واحد من فتوى أبي حنيفة وغيره في محلّ المنع ، لأنّ ذلك نقل عن علم مستند إلى الحسّ بخلاف شهاداتهم الناشئة عن الاجتهاد ، وعلى فرض إفادتها العلم فهو علم بالصحّة أو الاعتبار ، لكون المشهود به بتلك الشهادة هو هذا والعلم بهما أعمّ من العلم بالصدور ، وليس في شهادتهم ما يوجب حصوله جزما.

هذا كلّه بناء على الإغماض عمّا هو بيان الواقع ، وإلاّ ففي أوّل التهذيبين ما ينافي

ص: 86

الشهادة بصحّة جميع ما فيها من الأخبار والأحاديث ، فقال في أوّل التهذيب : « ذاكرني بعض الأصدقاء أيّده اللّه تعالى ممّن أوجب حقّه بأحاديث أصحابنا أيّدهم اللّه ورحم السلف منهم ، وما وقع فيها من الاختلاف والتباين والمنافاة والتضادّ ، حتّى لا يكاد يتّفق خبر إلاّ وبإزائه ما يضادّه ، ولا يسلم حديث إلاّ وفي مقابله ما ينافيه ، حتّى جعل مخالفونا ذلك من أعظم الطعون على مذهبنا ، وتطرّقوا بذلك إلى إبطال معتقدنا » - إلى أن قال - : و « ذكر - يعني بعض الأصدقاء - أنّه إذا كان الأمر على هذه الجملة ، فالاشتغال بشرح كتاب يحتوي على تأويل الأخبار المختلفة والأحاديث المتنافية من أعظم المهمّات في الدين ، ومن أقرب القربات إلى اللّه تعالى ، لما فيه من كثرة النفع للمبتدئ والريض في العلم.

وسألني أن أقصد إلى رسالة شيخنا أبي عبد اللّه أيّده اللّه الموسومة بالمقنعة. - إلى أن قال - : وأن أقصد إلى أوّل باب يتعلّق بالطهارة - إلى أن قال - : وأن اترجم كلّ باب على حسب ما ترجمه ، وأذكر مسألة مسألة فأستدلّ عليها إمّا من ظاهر القرآن أو صريحه أو فحواه أو دليله أو معناه (1) ، وإمّا من السنّة المقطوع بها من الأخبار المتواترة أو الأخبار الّتي تقترن إليها القرائن الّتي تدلّ على صحّتها ، وإمّا من إجماع المسلمين إن كان فيها أو إجماع الفرقة المحقّة.

ثمّ أذكر بعد ذلك ما ورد من أحاديث أصحابنا المشهورة في ذلك ، وأنظر فيما ورد بعد ذلك ما ينافيها ويضادّها ، وابيّن الوجه فيها إمّا بتأويل أجمع بينها وبينها ، أو أذكر وجه الفساد فيها إمّا من ضعف أسنادها أو عمل العصابة بخلاف متضمّنها - إلى أن قال - : ومهما تمكّنت من تأويل بعض الأحاديث من غير أن أطعن في أسانيدها فإنّي لا أتعدّاه ، وأجتهد أن أروي في معنى ما أتأوّل الحديث عليه حديثا آخر متضمّن ذلك المعنى إمّا من صريحه أو فحواه ، حتّى أكون عاملا على الفتيا والتأويل بالأثر ، وإن كان هذا ممّا لا يجب علينا لكنّه ممّا يؤنس بالتمسّك بالأحاديث ... » إلخ.

وقال في أوّل الاستبصار : « واعلم أنّ الأخبار على ضربين متواتر وغير متواتر ، فالمتواتر ما أوجب العلم فما هذا سبيله يجب العمل به - إلى أن قال - : وما ليس بمتواتر على ضربين ، فضرب منه يوجب العلم أيضا وهو كلّ خبر يقترن إليه قرينة توجب العلم ،

ص: 87


1- الفحوى : هو مفهوم الموافقة ، والدليل : هو مفهوم المخالفة ، وقوله : « أو معناه » قيل في توجيهه : الظاهر أنّ المراد به ما يفهم منه الكلام بقرينة ( منه ).

وما يجري هذا المجرى يجب أيضا العمل به ، وهو لا حق بالقسم الأوّل - إلى أن قال - :

الإجماعات المنقولة على حجّيّة ظنّ المجتهد

وأمّا القسم الآخر فهو كلّ خبر لا يكون متواترا ويتعرّى من واحد من هذه القرائن فإنّ ذلك خبر واحد ويجوز العمل به على شروط.

إلى أن قال : وأنت إذا فكّرت في هذه الجملة وجدت الأخبار كلّها لا تخلو من هذه الأقسام ، ووجدت أيضا ما عملنا عليه في هذا الكتاب وفي غيره من كتبنا في الفتاوى في الحلال والحرام لا يخلو من واحد من هذه الأقسام » ، إلخ.

وقضيّة كلامه في الكتابين أنّ الخبر ما لم يبلغ حدّ التواتر ولم يقترنه القرائن المفيدة للعلم بالصدق لا يكون معلوم الصدق والصدور ، ولذا كان العمل به جائزا على شروط ، كما أنّ صريحه فيهما عدم انحصار الأخبار الموجودة فيهما في النوعين المذكورين ، ومعه كيف يسند إليه الشهادة الموجبة للعلم بصدور جميع ما في كتابيه؟

وممّا يدلّ على مشروعيّة الاجتهاد في أعصار الغيبة وحجّيّة ظنون المجتهد الجامع للشرائط المتعلّقة بالأحكام وموضوعاتها الكلّية إجماع علماء الامّة من العامّة والخاصّة ، المعلوم منهم عملا وفتوى ، كما يعلم من كتبهم الاستدلاليّة قديما وحديثا ، مضافا إلى دعوى الضرورة [ من ] الدين كما نصّ عليهما غير واحد من أصحابنا وغيرهم ، فمنهم المصنّف حيث قال : « ولكنّ التعويل في اعتماد ظنّ المجتهد المطلق إنّما هو على دليل قطعي وهو إجماع الامّة عليه وقضاء الضرورة به ».

ومنهم العلاّمة البهبهاني في الفائدة التاسعة من فوائده ، فإنّه بعد ما ادّعى إجماع جميع الامّة على أنّ الظنّ في نفسه ليس بحجّة كما سمعته سابقا قال : « وخرج من جميع ذلك ظنّ المجتهد بالإجماع وقضاء الضرورة ، إذ المسلمون أجمعوا على أنّ من استفرغ وسعه في درك الحكم الشرعي وراعى عند ذلك جميع ماله دخل في استحكام المدرك وتشبيده وتشديده وحصّل ما هو أحرى يكون ذلك حجّة عليه ، والضرورة قاضية بأنّه لو كان ظنّ حجّة فهذا الظنّ حجّة ، وكذا لو كان لا بدّ من العمل بالظنّ جاز التعويل على ذلك ».

وصرّح أيضا بالإجماع والضرورة في غير موضع من رسالته المعمولة في الاجتهاد والأخبار.

ومنهم بعض الفضلاء قائلا : « أمّا المجتهد المطلق فلا ريب في أنّ ظنونه الّتي أدّى نظره إلى حجّيّتها حجّة في حقّه وحقّ مقلّديه مع تحقّق الشرائط وهو إجماعي بل ضروري ».

ص: 88

ومنهم العلاّمة وغيره من الخاصّة والعامّة.

فعن النهاية : « الرجل إن اجتهد وغلب على ظنّه حكم لم يجز له أن يقلّد مخالفه ويعمل بظنّ غيره إجماعا ».

وعن المنية : « أنّ المكلّف إن كان عالما بلغ رتبة الاجتهاد واجتهد تعيّن عليه العمل بما أدّاه إليه اجتهاده ولم يجز له تقليد غيره من المجتهدين في خلاف ما أدّاه إليه اجتهاده إجماعا ».

وعن التمهيد « لا يجوز للمجتهد بعد اجتهاده تقليد غيره اتّفاقا ».

وعن الإحكام : « المكلّف إذا كان قد حصلت له أهليّة الاجتهاد بتمامها في مسألة من المسائل واجتهد فيها وأدّاه اجتهاده إلى حكم فيها فقد اتّفق الكلّ على أنّه لا يجوز له تقليد غيره. من المجتهدين في خلاف ما أوجبه ظنّه وترك ظنّه ».

وعن شرح المختصر : « المجتهد إذا اجتهد فأدّاه اجتهاده إلى حكم فهو ممنوع من تقليد مجتهد آخر اتّفاقا ».

واعترض على الإجماع هنا تارة : بمنع الإجماع بادّعاء ظهور أنّ هذه المسألة ممّا لم يسأل عنها الإمام عليه السلام ، ومنع العلم به بدعوى : أنّ المسألة الّتي لا يوجد فيها نصّ شرعي ممّا لا يمكن العلم بالإجماع فيها.

واخرى : بما حكي عن بعض الأخباريّين قائلا :

« والجواب أوّلا : بمنع حجّية الإجماع ، إذ لم يوردوا عليها دليلا قطعيّا ، والاعتماد على الظنّ في الاصول غير معقول ، بل الدليل الظنّي الّذي أوردوه غير تامّ ولا سالم عن المعارضة بما هو أقوى منه.

وثانيا : بمنع انعقاد الإجماع هنا بمخالفة المتقدّمين والمتأخّرين ، وتصريحاتهم بذلك يطول الكلام بنقلها.

وثالثا : على تقدير انعقاد الإجماع فهو دليل ظنّي لا يجوز العمل به في الاصول.

ورابعا : أنّه ظنّي لا يجوز الاستدلال به على الظنّ إذ يلزم منه الدور.

وخامسا : المعارضة بمثله ، فقد نقل الشيخ في العدّة الإجماع على خلافه ، وهو مقدّم لتقدّمه وتواتر النصوص به.

وسادسا : إنّ الإجماع عند محقّقيهم إنّما يعتبر مع العلم بدخول الإمام عليه السلام ولا سبيل إلى تحقّق ذلك هنا.

ص: 89

وسابعا : أنّه على تقدير ثبوت قول الإمام هنا فالحجّة قول الإمام لا الإجماع ، وهو على ذلك التقدير خبر واحد لا يعارض المتواتر.

وثامنا : أنّه على تقدير ثبوت قول الإمام هنا فهو خلاف الآيات الصريحة ، ومعارضه من قول الأئمّة عليهم السلام موافق لها فتعيّن المصير إليه للأمر بالعرض على الكتاب.

وتاسعا : أنّه على ذلك التقدير موافق للعامّة فتعيّن حمله على التقيّة والعمل بما يعارضه لعدم احتمال التقيّة ، ونظيره الإجماع على بيعة أبي بكر فقد دخل فيها أمير المؤمنين عليه السلام ولم يدلّ دخوله على صحّتها للتقيّة ، وهذا أقوى المرجّحات المنصوصة على تقدير وجود المعارض الصحيح ، فكيف وهو هنا غير موجود » انتهى.

وهذان الاعتراضان في الوهن بمكان من الوضوح لا يحتاج إلى البيان ، فإنّ المعتبر في الإجماع بحسب تحقّقه الواقعي كونه عن مستند قطعي عثر عليه المجمعون ، سواء كان ذلك المستند قولا للإمام في خصوص المسألة مع سبق السؤال وعدمه ، أو تقريرا له أو فعلا له أو آية كتابيّة أو ضابطة كلّية عقليّة أو شرعيّة يقول بموجبهما الإمام ، ولا يعتبر في العلم به سبق العلم بذلك المستند كائنا ما كان ، ولا العلم بسبق السؤال عن المسألة ولا العلم بورود النصّ ، وإلاّ كان ذلك المعلوم رافعا للحاجة إلى التعويل على الإجماع كما لا يخفى.

ومن المعلوم بحكم الضرورة أنّ الإجماع لا يستكشف عنه بالنصّ ، بل النصّ بالمعنى المتناول لفعل المعصوم وتقريره يستكشف عنه بالإجماع ، ولذا يقال : « الإجماع سنّة إجماليّة » لكون العلم به متضمّنا للعلم بقول الإمام أو رأيه ورضاه على سبيل الإجمال ، وحجّية الإجماع حيثما كان كاشفا عن أحد الامور المذكورة - كما عليه مبنى كلام الأصحاب في حجّيته - لا تحتاج إلى دلالة خارجة ، لكونها على تقدير الكشف من القضايا الّتي قياساتها معها ، ولعلّ المعترض كان مسبوقا بما هو طريقة العامّة في الإجماع ، أو تخيّل كون مراد من ذكره واستند إليه هنا منقوله كما يشهد لهما قوله : « بل الدليل الظنّي الّذي أورده غير تامّ » مع قوله : « فهو دليل ظنّي لا يجوز العمل به في الاصول ».

وأنت بعد التأمّل فيما قرّرناه تعرف أنّه ليس كذلك ، وبذلك تبيّن فساد قوله : « فهو دليل ظنّي » فإنّ الإجماع حيثما انعقد على الطريقة المذكورة يكون من الأدلّة القطعيّة المفيدة للقطع بالمطلب.

نعم قد يتطرّق شبهة الظنّيّة فيما لو كان معقده لفظا عامّا أو مطلقا قابلا للتخصيص أو

ص: 90

التقييد ، بأن انعقد على عبارة عامّة أو مطلقة وكشف عن صدورها بعينها عن المعصوم ، وليس المقام من هذا الباب لانعقاده على قضيّة شخصيّة معقولة لا يعقل فيها الظنّية.

ففسد بذلك أيضا ما أورده من شبهة لزوم الدور ، بل ما أورده أيضا من شبهة المعارضة بالمثل ، فإنّ إجماع الشيخ على فرض ثبوته منقول فلا يصلح معارضا لقطعيّ إجماعا أو غيره ، كيف وهو غير ثابت أو غير مناف للمدّعى كما عرفت وجهه فيما سبق.

وبملاحظة ذلك يمنع عليه دعوى مخالفة المتقدّمين والمتأخّرين وتصريحاتهم بذلك ، إذ قد عرفت أنّه ليس في كلام أحد من الفريقين ما ينافي المطلب ، والمعتبر في الإجماع - على التحقيق - انكشاف رأي الإمام ومعتقده ورضاه ، وهو لا يستلزم العلم بدخوله في جملة المجمعين حتّى يناقش في إمكان تحقّقه هنا ، وإطلاق الحجّة عليه من جهة أنّه الوسط الموصل إلى الحجّة على الحكم ، وهو قول الإمام بواسطة قياس موضوع كبراه ومحمول صغراه الإجماع ، لا أنّه بنفسه حجّة يتوصّل إلى الحكم.

نعم الحجّة على الحكم نفسه إنّما هو الإجماع على طريقة العامّة ، وهو بمعزل عن مقصود المستدلّ.

والخبر الواحد إذا علم بصدوره مع كونه بحسب الدلالة نصّا في المطلب من جملة الأدلة القطعيّة الّتي لا يعارضها شيء.

وبذلك يعلم فساد ما توهّمه من مخالفته للآيات الصريحة ، فإنّها ليست إلاّ عمومات أو مطلقات أو مجملات.

وعلى أيّ تقدير فلا يقدح مخالفتها في نهوض الحجّة القطعيّة على المطلب ، بل هي حينئذ تنهض مخصّصة أو مقيّدة أو مبيّنة لها ، وليس في قول الأئمّة ما يعارضها ليطلب العلاج بينهما بالعرض على الكتاب ويؤخذ بما يوافقه ويطرح ما يخالفه حملا له على التقيّة وغيرها إلاّ أخبار كثيرة تقدّم منع الاحتجاج بها على منع الاجتهاد ، ومنع دلالتها صراحة ولا ظهورا على المنع ، لتعارض الحجّة القائمة في المقام.

ولو سلّم منافاتها لها يجب تأويلها أو إطراحها ، لما عرفت من أنّ الحجّة حيثما كانت قطعيّة لا يقابلها شيء ، ومعه خرج المقام عن قاعدة عرض المتعارضين على الكتاب ثمّ الأخذ بما يوافقه ، وموافقة العامّة على فرض الانكشاف القطعي للحكم لا حكم لها في الحكم بخروج الموافق مخرج التقيّة ، لأنّ فرض الانكشاف بنفسه مخرج للمقام عن التقيّة.

ص: 91

هذا مع توجّه المنع إلى أصل الموافقة المتوهّمة المقرّبة إلى التقيّة ، فإنّ مذهب العامّة في الاجتهاد - على ما سبق تحقيقه - إنّما هو الأخذ بالظنون الناشئة من الطرق الممنوعة في ضرورة مذهبنا من قياس واستحسان ونحوهما ، والإجماع المذكور على ما عرفت قائم بالظنون الناشئة من الكتاب والسنّة وغيرهما ممّا يرجع بالأخرة إليهما.

وجعل ما نحن فيه نظير الإجماع على بيعة أبي بكر قياس ، ومع الفارق لو سلّم دخول مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الإجماع ، للعلم بجهة دخوله من حيث كونه مجبورا على البيعة.

نعم ربّما يخدش في هذا الإجماع منع انعقاده على أمر واحد بحيث ينكشف كونه لا غير معتقد الإمام ومرضيّه كما يعلم ذلك بعد ملاحظة اختلاف أصحابنا الإماميّة في الطريقة من حيث كونهم بين مجتهد وأخباري ومتوسّط ، نظير ما لو اجتمعوا على شرب مائع هو في الواقع خمر ، بأن شربه فرقة على أنّه خمر ، واخرى على أنّه ماء ، وثالثة على أنّه خلّ ، أو اجتمعوا على شربه مع اعتقاد الخمريّة غير أنّ فرقة شربته لحظّ النفس ، واخرى لدفع المرض المهلك ، وثالثة لدفع العطش المهلك وهكذا ، فإنّه في الأوّل لا يكشف عن حلّية الخمر ولا في الثاني عن حلّية شرب الخمر من حيث إنّه شرب الخمر ليثبت به الحلّية المطلقة.

وإن شئت فقل في المقام : إنّ فرقة من أصحابنا تعبّدوا بمؤدّيات الاجتهاد على أنّها امور قطعيّة لكونها مستفادة من الكتاب والسنّة القطعيّة من المتواترة والمحفوفة بالقرائن القطعيّة.

واخرى تعبّدوا بها على أنّها مستفادة من الروايات أو الآيات المفسّرة بالروايات.

وثالثة تعبّدوا بها على أنّها ظنون خاصّة قام باعتبار كلّ واحد بالخصوص دليل شرعي.

ورابعة تعبّدوا بها على أنّها ظنون مطلقة اجتهاديّة دعا الضرورة والاضطرار إلى التعبّد بها ، وليس هذا من الإجماع على التعبّد بالظنّ المطلق ليكشف عن كون التعبّد بهذا العنوان مرضيّا للإمام كما هو المطلوب.

ويمكن الذبّ عنه - بعد إخراج الفرقة الأخباريّة ، للقطع بأنّ مخالفتهم في الطريقة لكونها ناشئة من شبه مقطوع بفسادها غير قادحة في انعقاد الإجماع على مرجعيّة مؤدّيات الأدلّة الظنّيّة من الكتاب والسنّة كائنة ما كانت في امتثال أحكام اللّه تعالى - : بأنّ الاختلاف في

ص: 92

جهة التعبّد لا ينافي الإجماع على مرجعيّة ما يتعبّد به عند الكلّ ، وهو أمر واحد ينكشف بالإجماع كونه المرجع الّذي رضي به الإمام ، كما لو اجتمعوا على التعبّد بقول العدل مع اعتقادهم بانتفاء طريق آخر فأخذوا بمؤدّاه لكنّه عند بعضهم لكونه مفيدا للعلم بالواقع ، وعند غيره لكونه معلوم الاعتبار بدليل بلغه ، وعند غيرهما لكونه مفيدا للظنّ بالواقع ، وهذا كما ترى اختلاف في جهة المسألة وعلّة الحكم فيها لا في نفسها ، ولذا لو انكشف لكلّ من هؤلاء فساد الجهة وخطائه في العلّة لم يوجب ذلك عدوله عن المسألة ورفع اليد عنها ، نظيره في الفروع ما لو اجتمعوا على حرمة الخمر ، غير أنّ بعضهم علّله بأصل العنوان ، وآخر بإسكاره ، وثالث بنجاسته مثلا.

ولا ريب أنّ كذب العلّة على بعض هذه الطرق لا يستلزم كذب أصل القضيّة في نظر من علّلها بتلك العلّة ، والظاهر أنّ محلّ البحث من هذا الباب لا من باب المثالين المتقدّمين.

وضابطه الكلّي كلّ اختلاف لم يرجع إلى الاختلاف في موضوع القضيّة أو محمولها بحيث لزم من تعدّد القول فيه تعدّد القضيّة المقول بها ، بأن رجع قول كلّ إلى دعوى قضيّة غير منافية لما ادّعاها الآخر ، لتعدّد في موضوعيهما أو محموليهما.

وإن شئت فقل : كلّ اختلاف في المسألة لم يوجب تعدّد عنوان المسألة موضوعا ومحمولا ، وذلك فيما لو اتّفق الكلّ على دعوى قضيّة واحدة في موضوع واحد ومحمول واحد صالحة لجهات عديدة على البدل ، صار إلى اختيار كلّ جهة بعض من هؤلاء المتّفقين.

وهذا الاختلاف كما ترى لا تعلّق له بأصل القضيّة ولا أطرافها ، فلا يكون منافيا للاتّفاق عليها.

والمفروض من الاختلاف في محلّ البحث من هذا القبيل بعينه ، وذلك لأنّ الأصحاب بعد اتّفاقهم على أن لا طريق في امتثال أحكام اللّه تعالى سوى مؤدّيات الأدلّة الظنّية من الكتاب والسنّة وما يرجع إليهما ، وعلى أنّ المرجع منحصر فيها ، اختلفوا هذا الاختلاف ، كما يعلم ذلك من بنائهم على منع التعبّد بالقياس وغيره من الطرق المعمولة عند العامّة ، وعلى منع التعبّد بالنوم والرمل والجفر وما أشبه ذلك ، وعلى عدم وقوع التعبّد بالاحتياط الكلّي ، ولذا لو تبيّن لمن قال بمقالة السيّد ونظرائه فساد ما اعتقده من علميّة الأحكام لم يكن خارجا من الكتاب والسنّة وما يرجع إليهما ، كما أنّه كذلك لو تبيّن لمن زعمها من باب الظنّ الخاصّ فساد الاعتقاد ، وكذلك أيضا لو تبيّن لمن يأخذ بهما من باب الظنّ

ص: 93

المطلق فساد ما اعتقده من انسداد باب العلم بالمعنى الأعمّ ، بأن بلغه مثلا من الشرع ما قضى بتعيّن العمل بهما بالخصوص أو بما يرجع إليهما كذلك.

والحاصل : أنّ هاهنا قضيّتين مرتّبتين حصل الوفاق في إحداهما وهي : انحصار طريق الامتثال في الآيات والروايات وما يرجع إليهما ، والخلاف في اخراهما وهي : علميّة مفاد هذين الأمرين المغنية عمّا ليس بعلميّ كأخبار الآحاد الغير المحفوفة بالقرائن ، أو علميّة العمل بهما ولو مع عدم علميّة مفاديهما ، أو ظنّية مفاديهما في الغالب مع عدم قيام ما يقضي بعلميّة العمل بهما بالخصوص.

فالخارج عن الوفاق في القضيّة الاولى إذا أراد أخذه حجّة لنفسه يستكشف من جهته عن كون القضيّة المتّفق عليها ممّا رضي بها الإمام وأمضاها ، ثمّ ينظر فيها بلحاظ الواقع ليعرف ما هو جهة التعبّد بالآيات والروايات بحسب الواقع ، فإذا وجد انتفاء جهة العلميّة عنهما مفادا في الغالب وعملا في الكلّ على تقدير انتفاء جهة علميّة المفاد بفقد ما يوجبهما من العقل والنقل ، تبيّن عنده أنّ الجهة الّتي رضي لأجلها الإمام بتلك القضيّة إنّما هي جهة ظنّية المفاد ، ولو لأجل ظنّية الأسناد كما في أخبار الآحاد ، بناء على عدم تماميّة دليل التعبّد بها بالخصوص ، وهذا هو معنى الإجماع على حجّية الظنون الاجتهاديّة المتعلّقة بالكتاب والسنّة بالمعنى الأعمّ ، ممّا يشتمل على الألفاظ الغير الصريحة وأخبار الآحاد مع ظنّية ألفاظها أيضا متنا ودلالة أو صراحتها بعد إحراز الأسناد بالظنّ.

ووجه إخراج الأخباريّة هنا - مع أنّهم كغيرهم في العدول إلى اختيار العمل بالأخبار من باب الظنّ الخاصّ أو الظنّ المطلق على فرض انكشاف فساد عقيدتهم في دعوى علميّة الأخبار الموجودة الآن مطلقا أو خصوص الأخبار المودعة في الكتب الأربعة من حيث الصدور فقط كما هو ظاهرهم ، أو من حيث الصدور والدلالة معا على احتمال بعيد - خروجهم عن القضيّة الاولى المجمع عليها في الجملة ، فإنّهم لا يقولون بمرجعيّة الكتاب على إطلاقه حتّى ما لم يكن من آياته مفسّرة بالروايات ، غير أنّ هذا الخلاف منهم - لكونه ناشئا عن شبه عرضت لهم وقد فرغنا عن القطع بفسادها - لا يقدح في انعقاد الإجماع بالقياس إلى ما انعقد فيه.

ومن هنا يقال - في المقام - : بعدم الاعتداد بخلافهم ووفاقهم معا.

وبما قرّرناه في تحقيق الإجماع هنا يندفع ما عساه يورد عليه : من أنّه نظير

ص: 94

ما لو حصل إجماعهم على طهارة شيء - كماء الغسالة - مع اختلافهم في المستند ، بأن استند بعضهم إلى دليل ظنّي بلغه ، والبعض الآخر إلى أصالة الطهارة في الأشياء الثابتة بالنقل ، والثالث إلى قاعدة عدم الدليل ، والرابع إلى أصالة البراءة من وجوب الاجتناب ، والخامس إلى استصحاب الطهارة السابقة ، والسادس إلى استصحاب البراءة الأصليّة الثابتة قبل زمان تعلّق التكليف وهكذا ، نظرا إلى أنّ فرقة من المجمعين هنا يتمسّكون بقاعدة الانسداد ، وهي نظير أصل البراءة ونحوه في المثال المذكور.

ولا ريب أنّ مثل هذا الإجماع لا يصلح كاشفا عن قول الإمام ، لجواز كون مذهبه بحسب الواقع نجاسة هذا الشيء.

ووجه الاندفاع أمّا أوّلا : فلأنّ الإجماع المفروض في المثال المذكور إمّا أن يكون مفروضا في حقّ العالم بمستند المجمعين أو في حقّ الجاهل بالمستند ، والأوّل خارج عن مورد التمسّك بالإجماع لاشتراطه بعدم العلم بالمستند تفصيلا ، ضرورة أنّه مع العلم به كذلك إن كان ممّن يقول باعتبار ذلك المستند وحجّيته فمستنده في معرفة الحكم هو ذلك المستند لا الإجماع ، ولذا يتبع الحكم في قطعيّته وظنّيته لذلك المستند ، ولا يعقل مع كون المستند المعلوم ظنّيا القطع بالحكم من جهة الإجماع ، وهو آية عدم تأثير للإجماع في هذا الفرض ، نظرا إلى أنّه يعدّ عندهم من الأدلّة القطعيّة.

وإن كان ممّن لا يقول باعتبار ذلك المستند فلا يحصل له شيء من القطع والظنّ بالحكم بهذا الإجماع ، لوضوح أنّ فساد المبنيّ عليه يقضي بفساد المبني.

والثاني غير ضائر في حصول الانكشاف للجاهل المطّلع على أصل الإجماع.

غاية الأمر أنّ المنكشف في حقّه على تقدير عدم المطابقة لمذهب الإمام بحسب الواقع يصير حكما فعليّا ظاهريّا باعتبار الواقع ، وإن كان هو ممّن يتعبّد به باعتقاد الواقع ولا بأس به ، نظرا إلى أنّ الأدلّة القطعيّة يراد بها ما يفيد القطع بالواقع ، ولا يشترط فيها المصادفة للواقع ، وهكذا يقال في محلّ البحث على معنى أنّ الإجماع المذكور إنّما ينهض دليلا لمن لم يطّلع على مستند المجمعين وأنّه بالنسبة إلى بعضهم ليس إلاّ قاعدة الانسداد ، وحينئذ فلا مانع من حصول الانكشاف بالنسبة إليه ، وإن بعد تحقّق هذا الفرض في الخارج بعد ملاحظة اشتهار هذا القول بما لا يكاد يخفى على أحد ، خصوصا بعد مراعاة التتبّع التامّ في الكتب الاصوليّة والفقهيّة.

ص: 95

وأمّا ثانيا : فلما عرفت من أنّ هذا الإجماع إنّما يثمر إذا فرضنا انعقاده في نفي طريقيّة كلّ ما يحتمل كونه طريقا سوى الكتاب والسنّة وما يرجع إليهما ، وانحصار الطريق المجعول في نظر الإمام فيهما ، فإذا علمنا من جهته بأنّ الإمام لا يرضى بطريق غيرهما وعلمنا أيضا من جهة الخارج بأنّهما في الغالب ليسا إلاّ ظنّيين نعلم بأنّ الطريق المجعول في نظره بالنسبة إلينا إنّما هو الظنون المتعلّقة بهما كائنة ما كانت ، ولا يضرّ في ذلك علمنا باختلاف المجمعين في المشرب ، لما عرفت من أنّه في الحقيقة اختلاف في جهة التعبّد لا في تعيين ما يتعبّد به حتّى بالقياس إلى من يتمسّك بدليل الانسداد ، نظرا إلى أنّه بعد إحراز مقدّمة الانسداد وإثبات أنّهما في الغالب ليسا إلاّ ظنّيين إنّما يتمسّك به لنفي جهة العلميّة ، على معنى رجوع كلامه إلى القول بأنّ جهة التعبّد بهما لا ينبغي أن يكون كونهما علميّين مفيدين للعلم ، ليكون المطلوب من الرجوع إليهما تحصيل العلم بالواقع لئلاّ يلزم التكليف بغير المقدور ، فتعيّن أن يكون المطلوب من الرجوع إليهما هو الظنّ بالواقع ، وهذا معنى كون التعبّد بهما عند هذا القائل لجهة الظنّية ، ولذا تراه أنّ دليله لا يتمّ إلاّ بعد إحراز مقدّمات غير مقدّمة الانسداد يبطل بها جميع الاحتمالات المانعة عن الإنتاج الراجعة إلى مرجعيّة غيرهما بالإجماع ونحوه.

نعم المتمسّك بهذا الإجماع لابدّ له من أن يقطع النظر عن هذا الدليل لو كان تامّا في نظره ، أو يكون ممّن يناقش في بعض مقدّماته ، كأن يكون ممّن يجوّز التكليف بغير المقدور ، أو يكون مقصوده من التمسّك به إقامة الحجّة على الخصم الغافل عن دليل الانسداد ، أو المناقش في بعض مقدّماته وإن كان قد يفضي ذلك إلى إخراج المستندين إلى هذا الدليل عن مورد هذا الإجماع كالأخباريّة ، بمعنى فرض كون دخولهم مع المجمعين في القضيّة المجمع عليها كالحجر الموضوع في جنب الإنسان ، لفرض كون دخولهم معهم عن مدرك غير تامّ ، فيختصّ الإجماع الحقيقي الكاشف عن رأي الحجّة بغيرهم وفيه الكفاية ، نظرا إلى أنّ إجماعهم على نفي طريقيّة غير الكتاب والسنّة بالمعنى الأعمّ وانحصار الطريق فيهما اليوم معلوم ، ومستندهم في ذلك غير معلوم ، فينكشف بإجماعهم كون الطريق المرضيّ للحجّة مع ملاحظة ما ذكرنا من عدم كونهما علميّين في الغالب هو الظنون المتعلّقة بهما سندا ومتنا ودلالة ومعارضة.

لكن يبقى الإشكال في أنّ كون المرجع المرضيّ للحجّة هو الكتاب والسنّة مع انتفاء

ص: 96

جهة العلميّة عنهما في الغالب لا يقضي بكون النظر في التعبّد بهما إلى جهة الظنّية باعتبار الغالب ، ليكون المرجع بحسب الحقيقة هو الظنون المتعلّقة بهما سندا ومتنا ودلالة ومعارضة كما هو المطلوب من الاستدلال بالإجماع ، لجواز كون النظر في التعبّد بهما إليهما من حيث هما مع قطع النظر عن الظنّ وجهاته المذكورة.

ومحصّله كونهما مرجعان من باب السببيّة المطلقة على قياس ما هو الحال في الأمارات التعبّديّة الغير المنوطة بالظنّ كالبيّنة ونحوها.

والحاصل لم يعلم من الإجماع المذكور كون مناط التعبّد بهما الظنّ المتعلّق بهما من الجهات المذكورة.

ويمكن دفعه : بأنّ الحكم المجمع عليه معلّق على عنوان واقعي لا بدّ من إحرازه بطريق علمي أو ما يقوم مقامه على تقدير تعذّره وهو الظنّ بمعنى الوثوق والاطمئنان وسكون النفس ، والمراد بهذا العنوان « الكتاب والسنّة » الّتي هي عبارة عن قول المعصوم وفعله وتقريره ، والكتاب من هذا العنوان وإن كان محرزا بطريق علمي للعلم بصدوره المستند إلى التواتر.

وأمّا السنّة منه فالمحرز منها بطريق علمي في غاية الندرة كما هو المفروض ، فلو كان نظر الإمام في التعبّد بهما إلى هذا المقدار لزم إلغاء أكثر الأحكام الشرعيّة الثابتة في الواقع ونفس الأمر بل غالبها ، على معنى كونه لا يريد امتثالها أصلا وهو خلاف الإجماع والضرورة من الدين ، فيستفاد منه الرخصة في الرجوع إلى الظنّ بالمعنى المذكور لإحراز ما تعذّر إحرازه من السنّة بطريق علمي ، على معنى تحصيل الوثوق والاطمئنان وسكون النفس في قول أو فعل أو تقرير محكيّ عن الإمام إلى كونه قوله وفعله وتقريره ، ولو لا ذلك عاد المحذور ، إذ لا سنّة عندنا عدا السنّة المعلومة النادرة حتّى نأخذها مرجعا ونتعبّد بها في امتثال أحكام اللّه تعالى ، وهذا هو معنى تعلّق الظنّ بالكتاب والسنّة سندا ، وإلى اعتبار هذا المعنى يشير اصطلاح القدماء في صحيح الحديث الّذي بنوا على حجّيته والتعبّد به يريدون به ما كان راويه متحرّزا عن الكذب.

وقضيّة ذلك بناؤهم في إحراز السنّة على لزوم مراعاة الوثوق والاطمئنان والسكون إلى الصدق ، إذ بملاحظة التحرّز عن الكذب يحصل ذلك جدّا.

ثمّ بعد الفراغ من إحراز الكتاب والسنّة باعتبار السند بأحد الطريقين لا بدّ من استفادة

ص: 97

الأحكام الشرعيّة اللازم امتثالهما منهما ، ولا يتأتّى ذلك إلاّ بعد إحرازهما متنا ودلالة ومعارضة بطريق علمي أو ظنّي أيضا يقوم مقامه ، والأوّل منتف في الغالب جدّا ، فتعيّن الرجوع إلى الثاني لئلاّ يلزم المحذور المذكور من لزوم إلغاء غالب الأحكام بعدم إرادة امتثالها.

وهذا هو معنى قولنا : إنّ المرجع المرضيّ للحجّة بمقتضى الإجماع المذكور هو الظنون المتعلّقة بالكتاب والسنّة سندا ومتنا ودلالة ومعارضة.

هذا مع أنّ الإجماعات المنقولة المتقدّمة صريحة في الظنّ أو في الاجتهاد المأخوذ فيه الظنّ على ما تقدّم من استقرار الاصطلاح عليه.

وهاهنا إشكال آخر وهو : أنّ إثبات الظنّ المطلق بهذا الطريق ربّما يوهم كونه خلاف المعنى المعهود من الظنّ المطلق عند أهل القول به ، لأنّ مرادهم به على ما هو المصرّح به في كلامهم مرجعيّة الظنّ من أيّ سبب حصل وهو في المقام مقصور على الكتاب والسنّة.

ويمكن دفعه : بأنّ مرادهم بالأسباب الّتي يفرض الإطلاق بالنسبة إليها مضافة إلى ظواهر الكتاب وأخبار الآحاد بعد إخراج القياس ونحوه امور مخصوصة مضبوطة لديهم ، وهي : الإجماع الظنّي ، والإجماع المنقول ، والشهرة محقّقة ومحكيّة والاستقراء ، وهذه الامور وإن خصّ كلّ واحد باسم وصار كلّ واحد لأجله عنوانا على حدة غير أنّ مرجع الجميع عند التحقيق إلى الكتاب والسنّة ، والظنّ المستفاد منها ظنّ بالكتاب والسنّة ، ولذا تكرّر منّا عند ذكر الكتاب والسنّة ذكر ما يرجع إليهما أيضا.

وبيان ذلك أمّا بالنسبة إلى الإجماع الظنّي : فلأنّ الظنّ بالإجماع الكاشف عن قول المعصوم ظنّ بقول المعصوم فيكون ظنّا بالسنّة.

وأمّا بالنسبة إلى الإجماع المنقول : فلأنّ بنقل الثقة للإجماع الكاشف عن قول المعصوم يحصل الظنّ بتحقّق الإجماع بهذا المعنى وهو يستلزم الظنّ بقول المعصوم.

وأمّا بالنسبة إلى الشهرة : فلأنّها تكشف حيثما أفادت الظنّ عن وجود مدرك معتبر للمعظم من قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، فيكون الظنّ المستفاد منها ظنّا بالسنّة.

وأمّا بالنسبة إلى الاستقراء حيثما أفاد الظنّ : فلأنّ ملاحظة ثبوت الحكم في مورد الغالب بدليله من آية كتابيّة أو رواية نبويّة أو إماميّة مع عدم وجود فرد مخالف في الحكم توجب الظنّ بكون هذا الحكم الثابت من لوازم الكلّي الجامع للأفراد الغالبة والفرد المشكوك

ص: 98

فيه صنفا أو نوعا أو جنسا ، ويلزم منه الظنّ بثبوته للفرد المشكوك فيه لكونه ملزوما للكلّي فيكون ملزوما للازمه المذكور ، وهذا الظنّ كما ترى مستند في حصوله إلى دليل الحكم في الأفراد الغالبة وهو لا يخلو من كونه كتابا أو سنّة ولو ظنّية.

نعم يشكل إجراء هذا البيان في الأولويّة الظنّية الّتي هي عندهم أيضا من أسباب الظنّ المطلق ، لعدم استناد الظنّ الناشئ منها إلى كتاب ولا سنّة وعدم تعلّقه بهما كما لا يخفى ، فالمتّجه في هذا الظنّ المنع من التعويل عليه.

ومن هنا ظهر الوجه في منع العمل بالقياس ونحوه وإن أفاد الظنّ لعدم رجوعه إلى الظنون المتعلّقة بالكتاب والسنّة ، ضرورة أنّ الظنّ بالحكم فيه مستند إلى ظنّ العلّة المستند إلى الدوران والترديد وغيره من وجوه استنباط العلّة المعمولة لدى العامّة.

وهذا ممّا لا مدخل فيه للكتاب والسنّة ، فخروجه عن الظنون المطلقة ليس من باب التخصيص في الدليل القطعي وهو الإجماع.

وهذا هو الوجه أيضا في استثنائه عن دليل الانسداد أيضا على تقدير الاستناد إليه في إثبات الظنّ المطلق ، فإنّه ليس من باب التخصيص في حكم العقل ، على معنى أنّ خروجه عن دليل الانسداد خروج موضوعي لا أنّه خروج حكمي.

وتوضيحه : أنّ موضوع دليل الانسداد - عند التحقيق وفي النظر الدقيق - إنّما هو الظنون المتعلّقة بالكتاب والسنّة بإحدى الجهات المذكورة كما يعلم ذلك من ملاحظة تقريرهم الانسداد الّذي هو العمدة من مقدّماته ، حيث يقال : باب العلم بمعظم الأحكام الشرعيّة مسدود لظنّية أدلّتها غالبا.

أمّا الكتاب : فلأنّه وإن كان قطعيّ السند إلاّ أنّه ظنّي الدلالة في الغالب.

وأمّا السنّة : فلأنّ المتواتر منها والواحد المحفوف بالقرائن في غاية الندرة ، بل الغالب منها ظنّي السند والدلالة معا.

وأمّا الإجماع : فمحصّله نادر ومنقوله ظنّي ، فتعيّن العمل بالظنّ حذرا عن التكليف بغير المقدور والخروج عن الدين.

ولا ريب أنّ المراد بالظنّ ما غلب وجوده مكان العلم المسدود بابه ، وليس ذلك إلاّ في الكتاب والسنّة ، وقد عرفت أنّ غيرهما من أسباب الظنّ المتقدّم إليها الإشارة راجع إليهما في الحقيقة.

ص: 99

الاستدلال بالروايات على مرجعيّة الكتاب والسنّة

ولا ريب أنّ الظنّ القياسي على ما بيّنّاه ليس من هذا الموضوع ، ومثله الظنّ الاستحساني والرملي والجفري والنومي وغيرها.

فإن قلت : ظنّ العلّة في القياس يفيد ظنّ الحكم ويستلزم ذلك الظنّ كون هذا الحكم ممّا قال به المعصوم ، وهذا أيضا ظنّ بالسنّة على حدّ ما ذكرته في الإجماع الظنّي وغيره.

قلت : ليس كذلك ، فإنّ المعتبر من ظنّ السنّة ما كان الحكم الشرعي تابعا للسنّة المظنونة مستندا ظنّه إليها ، والمتحقّق في القياس على عكس ذلك ، فإنّ السنّة المظنونة فيه تابعة لظنّ الحكم مستند ظنّها إلى ظنّه وهو خارج عن مورد الدليل.

والحاصل : المستفاد من دليل الإجماع وغيره أنّ اللّه سبحانه يريد الاستناد في امتثال أحكامه إلى كتابه وسنّة نبيّه أو خلفائه ، والاستناد بهذا المعنى منتف في القياس كما لا يخفى.

ومن هنا يظهر الجواب عمّا لو قرّر تطبيق القياس على ما ذكرناه من الضابط بأنّ ظنّ العلّة من أيّ سبب حصل يستلزم الظنّ بالحكم ، فإنّ ذلك أيضا في معنى عزل السنّة عن التأثير ، إذ الحكم في الحقيقة مستند إلى ظنّ العلّة الغير المستند إلى ظنّ السنّة بل الظنّ بالسنّة مستند إليه.

وممّا يدلّ على مرجعيّة الكتاب والسنّة والظنون المتعلّقة بهما سندا ومتنا ودلالة ومعارضة الأخبار المأثورة عن أهل بيت العصمة البالغة في الكثرة فوق حدّ التواتر ، وهي على أنواع :

منها : ما ورد من الروايات والخطب والوصايا في ذمّ أهل البدع والضلال المتديّنين بأهوائهم وآرائهم ومقائيسهم على سبيل الاستقلال ، المعلّلة تارة : بلزوم انتفاء فائدة بعث الرسل وإنزال الكتب لو كان سلوك هذا الطريق ممّا رضي به اللّه سبحانه ، واخرى : بأنّه تعالى لم يدع شيئا ممّا يكتفون به ويحتاجون إليه إلى يوم القيام إلاّ وأنزله إلى نبيّه وبيّنه في كتابه وسنّة نبيّه.

ومنها : ما ورد في الروايات المستفيضة من أنّه تعالى أكمل دينه وجعل لكلّ شيء حكما وأنزل لبيان كلّ شيء كتابا وأرسل لتبليغها رسوله ، وأنّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يدع شيئا منها إلاّ وبيّنها لامّته ، وأنّها محفوظة عند أهل بيته وخلفائه المعصومين عليهم السلام ، وأنّهم عليهم السلام ما قصّروا في حفظها وتعليمها لشيعتهم وأصحابهم.

ومنها : أخبار الثقلين وهي كثيرة جدّا ، ومن جملتها الحديث الشريف المدّعى كونه متواترا بين الفريقين : « إنّي تارك فيكم الثقلين [ ما ] إن تمسّكم بهما لن تضلّوا بعدي : كتاب

ص: 100

اللّه وعترتي لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض » (1).

ومنها : ما ورد في الخبرين المتعارضين من الأمر بالعرض على الكتاب ثمّ الأخذ بما وافقه دون غيره ، وهذا من أقوى الدلالة على أنّ المعروض والمعروض عليه بكليهما الطريق المجعول ، بل المعروض في المرجعيّة بحيث لا يخلّ بها طروّ المعارضة.

ومنها : الأخبار الكثيرة الواردة في ترغيب أصحابهم على ضبط الأحاديث وكتبها وفي مدح كتب جماعة منهم ، وفي إرجاع الناس إلى جماعة مخصوصين منهم ، وفي الأمر بكتابة الأحاديث كقوله عليه السلام للراوي : « اكتب وبثّ علمك في بني عمّك ، فإنّه يأتي زمان هرج لا يأنسون إلاّ بكتبهم » وفي أنّهم عليهم السلام لا يخلو كلّ واحد منهم من كذّاب يكذب عليه فلو لا العمل بأخبارهم متداولا بين أصحابهم ومرخّصا فيه من أئمّتهم عليهم السلام لم يكن لكذب الكذّابين ووضع الواضعين للأحاديث فائدة كما لا يخفى.

ومنها : ما في الأخبار الواردة في وضع الأحاديث من قوله عليه السلام : « فاتّقوا اللّه ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا وسنّة نبيّنا » وفي آخر : « فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن » حيث إنّهم عليهم السلام منعوا من قبول المخالف من الأخبار للقرآن والسنّة النبويّة لا من قبول سنخ الخبر ولو لا القبول مرضيّا له لوجب المنع عنه مطلقا ، إلى غير ذلك من الأخبار وقد تقدّم أكثر هذه الأنواع عند ذكر شبه الأخباريّة في منع الاجتهاد.

وبالجملة فالمستفاد من ملاحظة مجموع هذه الأنواع مضافة إلى أخبار اخر يأتي إليها الإشارة بطريق العلم واليقين إنّ اللّه تعالى لا يرضى في دينه وامتثال أحكامه بشيء إلاّ الاستناد إلى كتابه وسنّة نبيّه وسنّة خلفائه الأئمّة المعصومين وإن كان غيرها ممّا يؤدّي مؤدّاها أيضا وهذا واضح.

ولكن يشكل الحال في أنّ ظاهر أكثر هذه الروايات - وهو القدر المتيقّن في جملة منها - اعتبار العلم في المرجع ، على معنى الرجوع إلى ما علم كونه سنّة ، أي الأخذ بقول أو فعل أو تقرير معلوم بكونه كذلك.

ولكن يدفعه : أنّ هناك أخبارا متفرّقة اخر تكشف عن أنّ العبرة في إحراز السنّة بما يعمّ العلم والوثوق الظنّي وهي أيضا أنواع :

منها : ما تقدّم سابقا في رواية سليم بن قيس الهلالي عن أمير المؤمنين عليه السلام إذ سأله

ص: 101


1- الكافي 1 : 294 ، ح 3 ، الخصال : 65 ، ح 97 ، مسند احمد بن حنبل 3 : 14.

بقوله : إنّي سمعت من سلمان والمقداد وأبي ذرّ شيئا من تفسير القرآن وأحاديث عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم غير ما في أيدي الناس ، ثمّ سمعت منك تصديق ما سمعت منهم ، ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة في تفسير القرآن ومن الأحاديث عن نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنتم تخالفونهم فيها وتزعمون أنّ ذلك كلّه باطلا ، أفترى الناس يكذبون على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم متعمّدين ويفسّرون القرآن بآرائهم؟ قال : فأقبل عليّ عليه السلام فقال : قد سألت فافهم الجواب ، أنّ في أيدي الناس حقّا وباطلا وصدقا وكذبا وناسخا ومنسوخا وعاما وخاصّا ومحكما ومتشابها وحفظا ووهما ، وقد كذب على رسول اللّه على عهده حتّى قام خطيبا فقال : « أيّها الناس قد كثرت عليّ الكذابة ، فمن كذب عليّ متعمّدا فليتبوّء مقعده من النار » ثمّ كذب عليه من بعده ، وإنّما أتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس :

منافق يظهر الإيمان متصنّع بالإسلام لا يتأثّم ولا يتحرّج أن يكذب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم متعمّدا ، فلو علم الناس أنّه منافق كذّاب لم يقبلوا منه ولم يصدّقوه ، ولكنّهم قالوا : هذا قد صحب رسول اللّه ، وسمع منه وأخذوا عنه وهم لا يعرفون حاله ، إلى آخر ما قاله عليه السلام » (1).

وهذا كما ترى - مع دلالته على أنّ قبول الأحاديث المرويّة عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم كان من دأبهم وسيرتهم من غير نكير ولا منع من الإمام عليه السلام - يدلّ على أنّ العلم بالكذب أو كون الراوي كذّابا متّسما بالكذب مانع عن القبول لا أنّ العلم بالصدق شرط للقبول ، لا بمعنى أنّهم كانوا يقبلون الأحاديث إذا لم يعلموا بكذب رواتها كائنا ما كان ولو مع الشكّ في الصدق والكذب أو الظنّ بالكذب ، بل بمعنى ما أشار إليه عليه السلام بقوله عليه السلام : « لكنّهم قالوا : هذا قد صحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وسمع منه » إلخ ، فإنّ مصاحبة الرسول وسماع الحديث منه لا يصلح سببا للعلم بالصدق وإنّما هو أمارة ظنّ ووثوق بالصدق ، فدلّ الرواية على أنّهم كانوا يقبلون الأحاديث اعتمادا على أمارات الظنّ والوثوق ولم ينكر عليهم الإمام عليه السلام.

ومنها : الأخبار العلاجيّة الآمرة باعتبار الأعدليّة والأورعيّة والأصدقيّة والأفقهيّة ، فإنّ هذه الصفات امور يغلب معها الوثوق لا العلم ، ومثله الأمر بأخذ الخبر المشهور المجمع عليه وطرح الشاذّ النادر ، فإنّ ذلك أيضا ممّا له دخل في الوثوق ، بل في المرفوعة من هذه الأخبار أنّه قال : « خذ بأعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك » حيث قيّد الأعدل والأوثق بما قيّد تنبيها على اعتبار وثوق الشخص دون ما يوجب وثوق النوع بأن يكون الوصفان

ص: 102


1- الكافي 1 : 62 ، ح 1.

حاصلين للراوي في نظر النوع دون الشخص فقط.

وفي خبر أبي الجهم عن الرضا عليه السلام قلت : « يجيئان الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين فلا نعلم أيّهما الحقّ؟ قال : إذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت » حيث إنّ السؤال والجواب يدلاّن على أنّه لو انتفت الوثاقة عن أحد الخبرين كان الحقّ متعيّنا في الخبر الآخر.

وقضيّة ذلك كون مدار عملهم في الأخبار وجودا وعدما على وثاقة الراوي الّتي لا تصلح بنفسها سببا للعلم.

وفي خبر الحارث بن المغيرة عن الصادق عليه السلام قال : « إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلّهم ثقة فموسّع عليك حتّى ترى القائم » حيث إنّ فرض كون كلّهم ثقة يدلّ على أنّ الممنوع من العمل في نظر الإمام عليه السلام ما لو انتفى عنه وثاقة الراوي دون ما لا علم بصدوره ، ضرورة أنّ مجرّد الوثاقة لا توجب العلم.

ومنها : ما ورد من الأخبار في إرجاع أصحابهم إلى أشخاص موصوفين بالوثاقة وغيرها ممّا يوجب الوثوق ، كقوله لابن أبي يعفور - بعد ما سأله عمّن يرجع إليه إذا احتاج أو سئل عن مسألة - : « فما يمنعك عن الثقفي - يعني محمّد بن مسلم - فإنّه سمع من أبي أحاديث وكان عنده وجيها ».

وقوله عليه السلام لمسلم بن أبي حيّة : « إئت أبان بن تغلب فإنّه قد سمع منّي حديثا كثيرا ، فما روى لك عنّي فاروه عنّي » (1).

وقوله عليه السلام لعليّ بن المسيّب - بعد السؤال عمّن يأخذ عنه معالم دينه - : « عليك بزكريّا ابن آدم المأمون على الدين والدنيا » (2).

وما ورد في العمري وابنه اللذين هما من النوّاب والسفراء ، فعن الكافي في باب النهي عن التسمية عن الحميري عن أحمد بن إسحاق قال : سألت أبا الحسن وقلت له : من اعامل وعمّن آخذ وقول من أقبل؟ فقال له : « العمري ثقة فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي ، وما قال لك عنّي فعنّي يقول ، فاسمع له وأطع فإنّه الثقة المأمون ».

وأخبرنا أحمد بن إسحاق أنّه سأل أبا محمّد عليه السلام عن مثل ذلك ، فقال له : « العمري وابنه ثقتان ، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان ، وما قالا لك فعنّي يقولان ، فاسمع لهما وأطعهما

ص: 103


1- رجال الكشّي : 331.
2- رجال الكشّي : 595.

فإنّهما الثقتان المأمونان ».

وقوله عليه السلام : « نعم » لعبد العزيز المهدي لمّا قال له : ربّما أحتاج ولست ألقاك في كلّ وقت ، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني قال : « نعم » (1) وقيل : ظاهر هذه الرواية أنّ قبول قول الثقة كان أمرا مفروغا عنه عند الراوي فسئل عن وثاقة يونس ليترتّب عليه أخذ المعالم منه.

وبالجملة هذه الأنواع من الروايات إذا انضمّت إلى الأنواع المتقدّمة كان مفاد المجموع مرجعيّة الأخبار المرويّة عن أهل بيت العصمة في موضع الاطمئنان والوثوق بالصدق من أيّ سبب حصل ولو من غير جهة عدالة الراوي.

وقضيّة ذلك كلّه أن يكون العبرة في السنّة بما يعمّ السنّة المعلومة والسنّة الموثوق بها.

هذا كلّه من حيث السند ، وأمّا من حيث المتن والدلالة ودفع المعارضة فمسيس الحاجة إلى إعمال الظنون الاجتهاديّة لإحراز كلّ واحد من هذه الجهات ليتأتّى بها استفادة المطلب من الواضحات الّتي لا حاجة فيها إلى البيان وإقامة البرهان.

في مشروعيّة الاجتهاد

وقد يتمسّك لمشروعيّة الاجتهاد : بما ورد في الصحاح المستفيضة الّتي رواها زرارة وأبو بصير عن الباقر والصادق عليهما السلام والبزنطي عن الرضا عليه السلام وهو أيضا في جامعه عن هشام ابن سالم عن الصادق عليه السلام من قولهم عليهم السلام : « علينا أن نلقي إليكم الاصول وعليكم أن تفرّعوا ».

قال بعض الأفاضل : « ومن البيّن أنّ تفريع الفروع على الاصول والقواعد لا يكون غالبا إلاّ على سبيل الظنّ ، إذ دلالة العمومات على حكم كلّ من الجزئيّات المندرجة فيها إنّما تكون في الغالب على سبيل الظهور دون التنصيص ، وأيضا كثير من التفريعات ممّا يختلف فيه الأنظار ويتفاوت الأفهام في إدراجها تحت القواعد المقرّرة ، وكثيرا مّا لا يتأتّى الحكم باندراج الفرع تحت أصل معيّن إلاّ على سبيل يندرج فيها المداليل الالتزاميّة المفهومة بتوسّط الخطاب ، كدلالة الأمر بالشيء على الأمر بمقدّمته ودلالة النهي على الفساد » انتهى (2).

لكن نوقش فيه : بالمنع من شمولها للتفريعات الظنّية فلا يفيد.

وعن بعض المحدّثين الإيراد عليه أيضا : بأنّه لا دلالة في الأخبار المذكورة على صحّة الاجتهاد الظنّي في أحكام اللّه تعالى ، فإنّ مفادها الأخذ بالقواعد الكلّية المأخوذة من أهل العصمة كقولهم عليهم السلام : « إذا اختلط الحلال بالحرام غلّب الحرام » وقولهم عليهم السلام : « كلّ

ص: 104


1- رجال الكشّي : 487.
2- هداية المسترشدين 3 : 677.

شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه فتدعه » وقوله عليه السلام : « الشكّ بعد الانصراف لا يلتفت إليه » وقولهم عليهم السلام : « لا ينقض اليقين أبدا بالشكّ وإنّما ينقضه بقين آخر ».

وذلك : أنّ الأنظار العقليّة إذا كانت مادّة الفكر فيها وصورته مأخوذين عن أهل العصمة فلا ريب في جواز العمل بها لأنّه معصوم عن الخطأ ، ولا شكّ أنّ مفاد الأخبار المذكورة هو التفريع على الاصول المأخوذة عن الأئمّة عليهم السلام خاصّة. وهو عين مذهب الأخباريّين وخلاف دعوى المجتهدين.

ووهنه واضح لمن له أدنى تأمّل ، فإنّ الاصول يراد بها هنا الأحكام الكلّية المأخوذة في القضايا المنصوصة لوازم لعناوين كلّية مأخوذة في تلك القضايا موضوعات لتلك الأحكام ، وهذه اللوازم قد تكون بأنفسها ملزومات لأحكام كلّية اخر هي بالقياس إلى هذه العناوين أيضا لوازم بالواسطة ، والتفريع مقول بالاشتراك على إجراء هذه الأحكام في الجزئيّات المندرجة تحت ملزوماتها وعلى ترتيب لوازمها الّتي هي من آثارها على تلك الملزومات.

ومن البيّن أنّ الجزئيّات قد تكون بين ظاهرة وخفيّة ، كما أنّ اللوازم قد تختلف في كونها بيّنة اللزوم وغير بيّنة اللزوم ، والجزئي قد يكون ثابت الجزئيّة ويشكّ مع ذلك في شمول القضيّة المنصوصة له وعدمه ، وقد يكون الشيء مشكوكا في جزئيّته لشبهة في الاندراج أو في الصدق ، واللازم قد يكون مع ثبوت لزومه للحكم مشكوك الثبوت لملزومه ، وقد يتوقّف في لزومه له على وسط عقلي أو نقلي.

ولا ريب أنّ التفريع لو اريد به ما هو على الوجه الكلّي لا يتأتّى إلاّ بعد إعمال ظنون اجتهاديّة كثيرة يحرز بها شمول القضيّة لما شكّ في شمولها له أو الفرديّة لما شكّ في فرديّته من جهة الاندراج أو الصدق ، أو ثبوت لازم الحكم لما هو ملزوم له أو لزوم ما شكّ في لزومه للحكم ليترتّب على ملزومه ، ولو اريد بالتفريع مجرّد إجراء الحكم في الأفراد الظاهرة وترتيب اللوازم البيّنة لا غير فهو من مقتضى ظاهر القضيّة ، إذ كلّ قضيّة منصوصة تنصرف بظاهر العرف إلى أفرادها الظاهرة ولوازمها البيّنة من غير حاجة له إلى إعمال نظر ولا اعتبار فكر ، فيبقى التفريع المأمور به في الروايات بلا مورد ، لظهورها في كون المراد بالتفريع المأمور به ما يتوقّف في حصوله على عمل من الراوي ويحتاج في تحقّقه إلى نظر وفكر منه.

والحاصل نصوص الباب ظاهرة في ترخيص رواتها في الاجتهاد بإعمال الظنون الاجتهاديّة وحملهم على إعمال النظر والفكر اللذين يقصر أصل القضيّة المتلّقاة عن الإمام عن إفادة مؤدّاهما.

ص: 105

ثمّ الأصل المنصوص به قد يعارضه أصل آخر منصوص به بنحو التباين فيتوقّف العمل بهما على اعتبار التخصيص في كليهما بشاهدين خارجيّين ، أو بنحو العموم من وجه فيتوقّف الأخذ بهما على اعتبار التخصيص في أحدهما بشاهد ويعيّن مورده ، أو بنحو العموم مطلقا فيتوقّف العمل على تحكيم الخاصّ على العامّ ، وقد يحكّم العامّ على الخاصّ إذا طرأه ما يوجب وهنه من مخالفة الشهرة وذهاب المعظم إلى خلافه ونحوه ، وفي العامّين من وجه قد يكون أحدهما أظهر من الآخر وهو يقتضي بنفسه الحكومة على الآخر ، وقد يكون أقلّ أفرادا من صاحبه فيقتضي الحكومة أيضا ، وقد يكون التخصيصات الواردة عليه من الخارج أقلّ منها في صاحبه وهو أيضا يقتضي الحكومة ، ومعلوم أنّ التفريع المأمور به في نصوص الباب لا يتأتّى إلاّ بعد مراعاة جميع هذه الجهات وهذه بعينها هي معنى الاجتهاد الظنّي الّذي هو عبارة عن إعمال ظنون اجتهاديّة.

فمذهب الأخباريّين في العمل بتلك النصوص إن كان منوطا بمراعاة جميع هذه الجهات فارتفع النزاع بينهم وبين المجتهدين ورجع الخلاف بين الفريقين إلى كونه لفظيّا ، ولعلّه من هنا قد يقال : إنّ الأخباريّين مجتهدون من حيث لا يعلمون ، وإن لم يكن منوطا بمراعاتها فهم منكرون لتلك النصوص وليسوا بعاملين بها وهو خلاف طريقتهم المعروفة من أنّهم لا يتعدّون عن مقتضيات الأخبار المرويّة عن أهل العصمة كما لا يخفى.

نقل مقالة الاسترآبادي

ثمّ إنّ الفاضل الأمين الأسترآبادي بعد ما أورد في نفي الاجتهاد وردّ المجتهدين بما تقدّم منه من الوجوه الّتي سمعت دفعها عقد في كتابه الموسوم ب- « الفوائد المدنيّة » بابا على حدة في بيان انحصار المرجع في السماع عن الصادقين عليهما السلام وخصّه بغير ضروريّات الدين من المسائل الشرعيّة أصليّة كانت أو فرعيّة وتمسّك له بوجوه سخيفة :

أوّلها : عدم ظهور دلالة قطعيّة وإذن في جواز التمسّك في نظريّات الدين بغير كلام العترة الطاهرة ، ولا ريب في جواز التمسّك بكلامهم فتعيّن ذلك ، والأدلّة المذكورة في كتب العامّة وكتب متأخّري الخاصّة على جواز التمسّك بغير كلامهم مدخولة أجوبتها واضحة.

وثانيها : الحديث المتواتر بين الفريقين « إنّي تارك فيكم الثقلين [ ما ] إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي ، كتاب اللّه وعترتي لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض » (1) ومعنى الحديث كما يستفاد من الأخبار المتواترة أنّه يجب التمسّك بكلامهم إذ حينئذ يتحقّق التمسّك

ص: 106


1- مسند أحمد بن حنبل 3 : 14 ، الكافي 1 : 294 ، ح 3 ، الخصال : 65 ، ح 97.

بمجموع الأمرين ، والسرّ فيه : أنّه لا سبيل إلى فهم مراد اللّه تعالى إلاّ من جهتهم لأنّهم عارفون بناسخه ومنسوخه ، والباقي منه على الإطلاق والمأوّل وغير ذلك دون غيرهم ، خصّهم اللّه تعالى والنبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم بذلك.

وثالثها : أنّ كلّ طريق غير التمسّك بكلامهم يفضي إلى اختلاف الفتاوى والكذب على اللّه تعالى ، وكلّ ما هو كذلك مردود غير مقبول عند اللّه لما تقدّم من الروايات المتواترة معنى.

ورابعها : أنّ كلّ مسلك غير ذلك المسلك إنّما يعتبر من حيث إفادة الظنّ بحكم اللّه تعالى ، وقد أثبتنا سابقا أنّه لا اعتماد على الظنّ المتعلّق بنفس أحكامه تعالى وبنفيها.

وخامسها : أنّه تواترت الأخبار عن الأئمّة الأطهار بأنّ مراده تعالى من قوله : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (1) ومن نظائرها من الآيات أنّه يجب سؤالهم عليهم السلام في كلّ ما لم نعلم.

وسادسها : أنّ العقل والنقل قاضيان بأنّ المصلحة في بعث الرسل وإنزال الكتب رفع الاختلاف والخصومات بين العباد ليتمّ نظام معاشهم ، فإذا كان من القواعد الشرعيّة جواز العمل بالظنّ المتعلّق بنفس أحكامه تعالى أو بنفيها لفاتت المصلحة ، لحصول الاختلاف والخصومات كما هو المشاهد.

وسابعها : التوقيع المنقول بطرق واضحة - كما سيجيء بيانه - المشتمل على قول إمام الزمان ناموس العصر والأوان سلام اللّه عليه : « أمّا الوقائع الحادثة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة اللّه عليهم » (2) ونظائره من الروايات.

وثامنها : قوله عليه السلام : « هذا العلم عليه قفل ومفتاحه المسألة » (3).

وتاسعها : دقيقة شريفة تفطّنت بها بتوفيق اللّه تعالى وهي أنّ العلوم النظريّة قسمان : قسم ينتهي إلى مادّة قريبة من الإحساس ، ومن هذا القسم علم الهندسة والحساب وأكثر أبواب المنطق ، وهذا القسم لا يقع فيه الاختلاف بين العلماء والخطأ في نتائج الأفكار ، والسبب فيه أنّ الخطأ في الفكر إمّا من جهة الصورة أو من جهة المادّة ، والخطأ من جهة الصورة لا يقع من العلماء لأنّ معرفة الصورة من الامور الواضحة عند الأذهان المستقيمة ، ولأنّهم عارفون بالقواعد المنطقيّة وهي عاصمة عن الخطأ من جهة الصورة ، والخطأ من جهة المادّة لا يتصوّر في هذه العلوم لقرب الموادّ فيها إلى الإحساس.

ص: 107


1- النمل : 43.
2- الاحتجاج : 2 : 470.
3- الكافي 1 : 40 ، ح 3.

وقسم ينتهي إلى مادّة هي بعيدة عن الإحساس ، ومن هذا القسم الحكمة الإلهيّة والطبيعيّة وعلم الكلام وعلم اصول الفقه والمسائل النظريّة الفقهيّة وبعض القواعد المذكورة في كتب المنطق ، كقولهم : « الماهيّة لا تتركّب من أمرين متساويين » وقولهم : « نقيضا المتساويين متساويان » ومن ثمّ وقع الاختلاف والمشاجرات بين الفلاسفة في الحكمة الإلهيّة والطبيعيّة وبين علماء الإسلام في اصول الفقه والمسائل الفقهيّة وعلم الكلام وغير ذلك من غير فيصل.

والسبب في ذلك ما ذكرناه من أنّ القواعد المنطقية إنّما هي عاصمة عن الخطأ من جهة الصورة لا من جهة المادّة ، إذ أقصى ما يستفاد من المنطق في باب موادّ الأقيسة تقسيم الموادّ على وجه كلّي إلى أقسام ، وليس في المنطق قاعدة بها يعلم أنّ كلّ مادّة مخصوصة داخلة في أيّ قسم من تلك الأقسام ، بل من المعلوم عند اولي الألباب امتناع وضع قاعدة تكفّل بذلك.

وممّا يوضح ما ذكرناه من جهة النقل الأحاديث المتواترة معنى الناطقة : « بأنّ اللّه تعالى أخذ ضغثا من الحقّ وضغثا من الباطل فمغثهما ثمّ أخرجهما إلى الناس ، ثمّ بعث أنبياءه يفرّقون بينهما ففرّقتهما الأنبياء والأوصياء ، فبعث اللّه الأنبياء ليفرّقوا (1) ذلك ، وجعل الأنبياء قبل الأوصياء ليعلم الناس من يفضّل اللّه ومن يختصّ ، ولو كان الحقّ على حدة والباطل على حدة كلّ واحد منهما قائم بشأنه ما احتاج الناس إلى نبيّ ولا وصيّ ، ولكن خلطهما وجعل تفريقهما إلى الأنبياء والأئمّة من عباده » (2).

وممّا يوضحه من جهة العقل ما في الشرح العضدي للمختصر الحاجبي حيث قال في مقام ذكر الضروريّات القطعيّة :

منها : المشاهدات الباطنيّة وهي ما لا يحتاج إلى عقل كالجوع والألم.

ومنها : الأوّليات وهي ما يحصل بمجرّد العقل كعلمك بوجودك ، وإنّ النقيضين يصدق أحدهما.

ومنها : المحسوسات وهي ما يحصل بالحسّ.

ومنها : التجربيّات وهي ما يحصل بالعادة كإسهال المسهل والإسكار.

ومنها : المتواترات وهي ما يحصل بالأخبار تواترا كبغداد ومكّة.

وحيث قال في مقام ذكر الضروريّات الظنّية : أنّها أنواع : الحدسيّات كما نشاهد نور

ص: 108


1- في المصدر : ليعرفوا ذلك.
2- رجال الكشّي : 275 ، ح 494.

القمر يزداد وينقص بقربه وبعده من الشمس فنظنّ أنّه مستفاد منها ، والمشهورات كحسن الصدق والعدل وقبح الكذب والظلم ، وكالتجربيّات الناقصة وكالمحسوسات الناقصة ، والوهميّات ما يتخيّل بمجرّد الفطرة بدون نظر العقل أنّه من الأوّليات مثل كلّ موجود متحيّز ، والمسلّمات ما يتسلّمه الناظر من غيره (1).

وحيث قال في مقام ذكر أصناف الخطأ في مادّة البرهان : الثالث جعل الاعتقاديّات والحدسيّات والتجربيّات الناقصة والظنّيات والوهميّات ممّا ليس بقطعيّ كالقطعي وإجراؤها مجراه وذلك كثير (2).

وحيث قال في مبحث الإجماع : والجواب أنّ إجماع الفلاسفة على قدم العالم عن نظر عقلي وتعارض الشبه واشتباه الصحيح بالفاسد فيه كثير ، وأمّا في الشرعيّات فالفرق بين القاطع والظنّي بيّن لا يشتبه على أهل المعرفة والتمييز انتهى كلامه (3).

فإن قلت : لا فرق في ذلك بين العقليّات والشرعيّات ، والشاهد على ذلك ما نشاهده من كثرة الاختلافات الواقعة بين أهل الشرع في الاصولين وفي الفروع الفقهيّة.

قلت : إنّما نشأ ذلك من ضمّ مقدّمة عقليّة باطلة إلى المقدّمة النقليّة الظنّية أو القطعيّة.

ومن الموضحات لما ذكرناه من أنّه ليس في المنطق قانون يعصم عن الخطأ في مادّة الفكر : أنّ المشّائين ادّعوا البداهة في أنّ تفريق ماء كوز إلى كوزين إعدام لشخصه وإحداث لشخصين آخرين. وعلى هذه المقدّمة بنوا إثبات الهيولي ، والإشراقيّين ادّعوا البداهة في أنّه ليس إعداما للشخص الأوّل وفي أنّ الشخص الأوّل باق وإنّما انعدمت صفة من صفاته وهو الاتّصال.

ومن الموضحات لما ذكرناه أنّه لو كان المنطق عاصما عن الخطأ من جهة المادّة لم يقع بين فحول العلماء العارفين بالمنطق اختلاف ، فلم يقع غلط في الحكمة الإلهيّة وفي الحكمة الطبيعيّة وفي علم الكلام وعلم اصول الفقه والفقه كما لم يقع في علم الحساب وفي علم الهندسة.

إذا عرفت ما مهّدناه من الدقيقة الشريفة ، فنقول : إن تمسّكنا بكلامهم فقد عصمنا عن الخطأ ، وإن تمسّكنا بغيره لم نعصم عنه ، ومن المعلوم أنّ العصمة عن الخطأ أمر مطلوب مرغوب فيه شرعا وعقلا.

ص: 109


1- شرح القاضي : 19.
2- شرح القاضي : 34 و 126.
3- شرح القاضي : 34 و 126.

ألا ترى أنّ الإماميّة استدلّت على وجوب عصمة الإمام بأنّه لو لا العصمة للزم أمره تعالى عباده باتّباع الخطأ وذلك محال لأنّه قبيح عقلا.

وأنت إذا تأمّلت في هذا الدليل علمت أنّ مقتضاه : أنّه لا يجوز الاعتماد على الدليل الظنّي في أحكامه تعالى أصلا سواء كان ظنّي الدلالة أو ظنّي المتن أو ظنّيهما.

والعجب كلّ العجب أنّ جمعا من الأفاضل القائلين بصحّة هذا الدليل رأيتهم قائلين بجواز العمل بالدليل الظنّي ونبّهتهم على تنافي لازميهما فلم يقبلوا - إلى أن قال - :

فائدة شريفة نافعة فيها توضيح لما اخترناه من أنّه لا عاصم عن الخطأ في النظريّات الّتي مبادئها بعيدة عن الإحساس إلاّ التمسّك بأصحاب العصمة صلوات اللّه عليهم ، وهي أن يقال : الاختلافات الواقعة بين الفلاسفة في علومهم والواقعة بين علماء الإسلام في العلوم الشرعيّة السبب فيها إمّا أنّ أحد الخصمين ادّعى بداهة مقدّمة هي مادّة الموادّ في بابها وبنى عليها فكره والخصم الآخر ادّعى بداهة نقيضها أو استدلّ على صحّة نقيضها وبنى عليها فكره أو منع صحّتها ، وإمّا أنّ أحد الخصمين فهم من كلام خصمه غير مراده ولم يخطر بباله مراده فاعترض عليه ولو خطر بباله مراده لرجع عن ذلك.

وبالجملة سبب الاختلاف إمّا إجراء الظنّ مجرى القطع ، أو الذهول والغفلة عن بعض الاحتمالات أو التردّد والحيرة في بعض المقدّمات ، ولا عاصم عن الكلّ إلاّ التمسّك بأصحاب العصمة صلوات اللّه وسلامه عليهم ، والمنطق بمعزل عن أن ينتفع به في هذه المواضع ، وإنّما الانتفاع به في صورة الأفكار فقط » (1) انتهى.

أقول : قد عرفت الجواب عن أكثر هذه الوجوه بصريح ما تقدّم وتعرف الجواب عن الباقي أيضا بالتأمّل فيما سبق.

دفع مقالة الاسترآبادي

ومع الغضّ عن ذلك فنقول هنا :

أوّلا : أنّ تخصيص الصادقين بالذكر مع أنّ الأئمّة عليهم السلام كلّهم في حكم واحد غير واضح الوجه ، إلاّ أن يكون المراد بالصادق هنا معناه الوصفي مرادا به النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم والوصيّ عليه السلام.

وثانيا : أنّ خصوصيّة السماع منهما ممّا لا مدخل لها أصلا ولم يقل باعتبارها أحد منّا ، ولا سبيل إليها في شيء من أعصارنا بل الأعصار القديمة حتّى أعصار الأئمّة بل عصر النبيّ أيضا بالنسبة إلى غالب المكلّفين النائين الغير المتمكّنين من الوصول إليهم والسماع

ص: 110


1- الفوائد المدنيّة : (254 - 260).

عنهم ، بل المعهود المعلوم من طريقتهم عدم اعتبار السماع حتّى في حقّ المتمكّنين منه كما لا يخفى ، إلاّ أن يراد بالسماع الكلام المسموع من باب إيراد المصدر وإرادة المفعول ، بدعوى : أنّ المرجع لا بدّ وأن يكون كلامهم عليهم السلام.

فيرد عليه أيضا : أنّ خصوصيّة الكلام أيضا ممّا لا مدخل له ، بل المرجع لابدّ وأن يكون ما يرجع إليهم عليهم السلام من قول أو فعل أو تقرير.

إلاّ أن يكون ذكر الكلام من باب المثال أو يراد به ما يعمّ الامور الثلاث.

فيرد عليه حينئذ : أنّه إن اريد بكلامهم ما علم كونه كلاما لهم كما هو مقتضى الوجوه المذكورة فهذا طريق لا سبيل إليه في هذه الأعصار وغيرها إلى ما يقرب من عصر الأئمّة عليهم السلام بالنسبة إلى معظم الأحكام كما عرفته مرارا.

ودعوى علميّة أخبارنا الموجودة أو خصوص المودعة في الكتب الأربعة قد عرفت أنّها دعوى كاذبة غير مسموعة ، والوجوه المتقدّمة في الدلالة على هذه الدعوى قد ظهر لك فسادها وعدم استلزامها المدّعى.

وإن اريد به ما يعمّ الكلام المعلوم والموثوق به فهذا ممّا لا ينكره المجتهدون من أصحابنا وليس في طريقتهم ما ينافي ذلك ، لما بيّنّاه سابقا من أنّ مرجع تمسّكهم بجميع الأسباب الظنّية إلى التمسّك بكلام العترة الطاهرة بهذا المعنى ، فهم أيضا في جميع المسائل الشرعيّة لا يستندون إلاّ إلى كلام العترة غير أنّه عندهم أعمّ ممّا علم أو ظنّ به تفصيلا أو إجمالا.

فحقيقة مرادهم بالظنّ المطلق في نفس أحكامه تعالى لابدّ وأن ترجع إلى الظنّ المطلق الناشئ من الظنّ المطلق المتعلّق بكلامهم عليهم السلام ، كيف ولو لا ذلك لا متنع الظنّ بنفس الحكم أيضا.

وتوضيحه : أنّ الظنّ بالشيء كالقطع به لابدّ وأن يستند إلى سبب بينه وبين ذلك الشيء ملازمة عرفيّة أو عقليّة أو شرعيّة ، وظنّية النتيجة إمّا من جهة ظنّية هذه الملازمة الّتي مرجعها إلى ظنّية الكبرى ، أو من جهة ظنّية الملزوم في تحقّقه الخارجي الّتي مرجعها إلى ظنّية الصغرى ، أو من الجهتين معا اللّتين مرجعهما إلى ظنّية الصغرى والكبرى معا.

ثمّ الملازمة بين شيئين المأخوذة في الكبرى إمّا من جهة كون الملزوم بالقياس إلى لازمه وهو الأكبر واسطة في ثبوته كما لو كان علّة له كما في الأدلّة اللمّية ، أو من جهة كونه

ص: 111

واسطة في إثباته فقط كما لو كان معلولا له ، أو أثرا آخر من آثاره ولو من غير جهة ولمعلوليّة ولو لمجرّد العلاميّة كما في الأدلّة الإنّية.

ومن المعلوم أنّ الملازمة بكلا قسميها بحسب الواقع ثابتة فيما بين الأحكام الشرعيّة وعللها الواقعيّة وكواشفها المنحصرة غالبا في كلام العترة الطاهرة ولا إشكال في ثبوتها ، فأصل ثبوتها يقينيّ ، فظنّية الأحكام لا تعقل أن يكون من جهة ظنّية أصل الملازمة في الغالب ، وإنّما هي من جهة ظنّية الملزوم في تحقّقه الخارجي إمّا للظنّ بالعلّة كما في موارد القياس ، أو للظنّ بكلام العترة الطاهرة كما في موارد الأسباب المعمولة عند أصحابنا كالإجماع بقسميه والشهرة والاستقراء والمنقول بأخبار الآحاد وغيرها ، ضرورة أنّ هذه الامور إذا لو حظت في حدّ أنفسها مع قطع النظر عن جهة كشفها عن الحجّة - المنحصرة بعد كلامه تعالى في قول العترة الطاهرة - كشفا تفصيليّا أو إجماليّا امتنع إفادتها الظنّ بأحكامه تعالى لعدم علقة بينها من هذه الجهة وبين الأحكام أصلا ولا ربط بينهما رأسا ، وحيث إنّ العلم بالملزوم بأحد الوجهين متعذّر غالبا لانسداد باب العلم في معظم الأحكام الشرعيّة فانحصر الطريق المسلوك في الظنّ به كائنا ما كان ، غير أنّا قد منعنا عن اتّباع الظنّ المتعلّق بالحكم من جهة الظنّ بعلّته ، فانحصر طريقنا في أحد قسمي ظنّية الملزوم وهو الظنّ بالحكم من جهة الظنّ بما يرجع إلى العترة الطاهرة وهو الكلام بالمعنى الأعمّ من القول والفعل والتقرير.

فالاعتراف بكون المدرك المعتبر أعمّ من كلامهم المعلوم وكلامهم الموثوق به اعتراف بصحّة طريقة أصحابنا المجتهدين فارتفع النزاع بالمرّة.

نعم انحصرت المخالفة فيما بين طريقة الأخباريّين وطريقة المجتهدين من المخالفين لالتزامهم بغير طريقة المجتهدين من أصحابنا.

وقد عرفت أنّهم أيضا يخالفون مخالفيهم في سلوك غير طريقتهم ، فأدلّة الأخباريّة المقامة في منع الاجتهاد لو صحّت مقامة في إبطال طريقة المخالفين ، وهذا أمر مسلّم لدى عامّة الأصحاب بل يعدّ عندهم من ضروريّات مذهبهم ، ومعه لا حاجة إلى تجشّم الاستدلال ثمّ تجشّم تكثير الدليل كما لا يخفى.

هذا كلّه في الجواب عن الوجوه المذكورة على الجملة.

وأمّا الجواب عنها على التفصيل فعن أوّلها : بأنّه لا يظنّ في أصحابنا بأحد يجوّز

ص: 112

التمسّك في نفس أحكامه تعالى بما لا يرجع إلى كلام العترة الطاهرة أصلا.

ولقد تقدّمت الأدلّة القطعيّة على أنّ كلامهم الّذي يجب التمسّك به أعمّ من المقطوع به ومن المظنون الموثوق به وإن استلزم ذلك كون الحكم في الغالب مظنونا ، إلاّ أنّ العمل بهذا الظنّ عمل في الحقيقة بالقطع المتعلّق به والعمل به على هذا الوجه ممّا لا مناص عنه ، كيف واعتبار كونه بنفسه معلوما من جهة كلامهم ممّا لا يتأتّى إلاّ بعد إحراز مقدّمات عديدة علميّة :

إحداها : العلم بأصل كلامهم.

وثانيتها : العلم بكون صدوره على جهة بيان الواقع لا على جهة التقيّة.

وثالثتها : العلم بمتون الكلام المعلوم صدوره منهم.

ورابعتها : العلم بمراداتهم من تلك المتون المعلومة كونها منهم بكون دلالاتها على جهة النصوصيّة ولو بمعونة القرائن القطعيّة.

وخامستها : العلم بعدم معارض له من كلامهم وما هو بحكم كلامهم أو دفع معارضة المعارض بطريق علمي.

ومن المعلوم بحكم الضرورة تعذّر العلم في الغالب من جميع هذه الجهات لانسداد باب العلم إلى إحراز هذه المقدّمات بأسرها ، ومعه كيف يعتبر كون الحكم الشرعي في جميع المسائل الشرعيّة بنفسه معلوما؟ فبعد سقوط العلم عن درجة الاعتبار تعيّن الأخذ بالظنّ المتعلّق بنفس الحكم غالبا لكون الأخذ به في الحقيقة أخذا بالعلم المتعلّق به.

وعن ثانيها : بما يظهر بالتأمّل فيما ذكر ، فإنّ أصحابنا المجتهدين عاملون بمضمون هذا الحديث الشريف غير خارجين عنه ، بل حقّ العمل به - على ما هو ظاهره من استقلال كلّ من الثقلين في كونه مرجعا يتمسّك به - ما بنوا عليه من التمسّك بالكتاب أيضا مستقلاّ ، ولا مخرج عنه ليوجب سقوط القرآن عن الاستقلال في إفادة بعض الأحكام وتقيّده بمورد وجود التفسير من كلام العترة ، وما ورد في الأخبار المتواترة من أنّ علم القرآن مخصوص بهم منحصر فيهم لا ينافي ذلك ، لكون المعلوم من ملاحظة مجموع هذه الأخبار أنّ العلم بمجموع القرآن أو العلم بظواهره وبواطنه مخصوص بهم ، وهذا لا ينافي كون غيرهم متمكّنا من العلم ببعضه.

والّذي لا يتمكّن منه غيرهم إنّما هو العلم بمتشابهاته وبواطنه الخارجة عن قانون

ص: 113

الظواهر ، ومورد استفادة الأحكام منه إنّما هو محكماته. ودعوى عروض الإجمال لها بأسرها غير مسموعة ، كما أنّ دعوى قيام المنع من الأخذ بظواهره من أهل العصمة بالخصوص غير مسموعة ، ومجرّد وجود الناسخ والمنسوخ وغيرهما فيه لا يقضي بالمنع بعد ما كان كلّ من ذلك مضبوطا في محلّه معلوما لدى أهله ، وإلاّ فهذه الامور كما أنّها موجودة في القرآن كذلك في السنّة النبويّة على ما ورد به النصوص ، بل في السنّة الإماميّة أيضا على بعض الوجوه خصوصا العامّ والخاصّ والمحكم والمتشابه والظاهر والمأوّل على ما نطق به النصوص.

وعن ثالثها : بما يظهر أيضا بالتأمّل فيما ذكر ، إذ لا طريق لنا غير التمسّك بكلامهم بالمعنى الأعمّ من المقطوع به والموثوق به ، مع أنّ أكثر الاختلافات الحاصلة فيما بين الأصحاب في المسائل الشرعيّة إنّما نشأت عن الاختلاف الموجود في الأخبار كما هو المصرّح به في كلام العلماء الأخيار المنصوص به في آثار الأئمّة الأطهار ، فمن الأوّل ما تقدّم نقله عن شيخ الطائفة ورئيس الفرقة في أوّل تهذيبه ، حتّى أنّ هذا الاختلاف في الشدّة والظهور صار بحيث أوجب عدّه عند المخالفين من مطاعن الشيعة ، بل أوجب تزلزل جماعة من الشيعة في حقيقة مذهبهم ، بل عدول بعض قاصريهم عن التشيّع بعد ما كان من الشيعة.

وإن شئت لاحظ عبارة التهذيب حيث يقول : « ذاكرني بعض الأصدقاء ممّن أوجب حقّه بأحاديث أصحابنا وما وقع فيها من الاختلاف والتباين والمنافاة والتضادّ حتّى لا يكاد يتّفق خبر إلاّ وبإزائه ما يضادّه ، ولا يسلم حديث إلاّ وفي مقابلته ما ينافيه ، حتّى جعل مخالفونا ذلك من أعظم الطعون على مذهبنا وتطرّقوا بذلك إلى إبطال معتقدنا ، وذكروا أنّه لم يزل شيوخكم السلف والخلف يطعنون على مخالفيهم بالاختلاف الّذي يدينون اللّه تعالى به ويشنّعون عليهم بافتراق كلمتهم في الفروع ويذكرون أنّ هذا ممّا لا يجوز أن يتعبّد به الحكيم ، ولا أن يبيح العمل به العليم ، وقد وجدناكم أشدّ اختلافا من مخالفيكم وأكثر تباينا من مبائنيكم ، ووجود هذا الاختلاف منكم مع اعتقادكم بطلان ذلك دليل على فساد الأصل ، حتّى دخل على جماعة ممّن ليس لهم قوّة في العلم ولا بصيرة بوجوه النظر ومعاني الألفاظ شبهة ، وكثير منهم رجع عن اعتقاد الحقّ لمّا اشتبه عليه الوجه وعجز عن حلّ الشبهة فيه ، سمعت شيخنا أبا عبد اللّه يذكر أنّ أبا الحسين الهاروني العلوي كان يعتقد الحقّ ويدين بالإمامة فرجع عنها لما التبس عليه الأمر في اختلاف الأحاديث وترك المذهب ودان بغيره لمّا لم يتبيّن له وجوه المعاني فيها » إلى آخر ما قال.

ص: 114

ومن الثاني الأخبار الدالّة على وقوع الخلاف في الأحاديث من المعاندين أو من المعصومين ، فمن جملة ذلك ما تقدّم في أخبار الدسّ ووضع الأحاديث الكاذبة ، ومن جملته ما تقدّم من رواية سليم بن قيس الهلالي المرويّة في الكافي من قوله : « وإنّما أتاكم الحديث من أربعة » ومثله ما نقل في كلامه عليه السلام المنقول عن نهج البلاغة.

ومن جملته ما دلّ على أنّهم بأنفسهم أوقعوا الخلاف بين أصحابه لحقن دمائهم ، كما في المرويّ عن الكافي في الموثّق عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال : سألته عن مسألة فأجابني فيها ، ثمّ جاء رجل آخر فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني ، ثمّ جاء آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي ، فلمّا خرج الرجلان قلت : يابن رسول اللّه رجلان من العراق من شيعتكم قدما ما يسألان فأجبت كلّ واحد بغير ما أجبت به صاحبه؟

فقال : « يا زرارة إنّ هذا خير لنا ولكم ، فلو اجتمعتم على أمر لصدّقكم الناس علينا ولكان أقلّ لبقائنا وبقائكم » قال : ثمّ قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : شيعتكم لو حملتموهم على الأسنة أو على النار لمضوا وهم يخرجون من عندكم مختلفين ، قال : فأجابني بمثل جواب أبيه.

وفي المرويّ عن كتاب العدّة مرسلا عن الصادق عليه السلام أنّه سئل عن اختلاف أصحابنا في المواقيت ، فقال : « أنا خالفت بينهم ».

والمرويّ عن الكافي أيضا بسنده عن موسى بن أثيم قال : كنت عند أبي عبد اللّه عليه السلام فسأله رجل عن آية من كتاب اللّه فأخبره بها ، ثمّ دخل عليه داخل فسأله عن تلك الآية فأخبره بخلاف ما أخبر به الأوّل ، فدخلني من ذلك ما شاء اللّه - إلى أن قال - : فبينما أنا كذلك إذ دخل عليه آخر فسأله عن تلك الآية فأخبره بما أخبرني وأخبر صاحبي فسكنت نفسي وعلمت أنّ ذلك منه تقيّة. ثمّ التفت إليّ وقال : « يا ابن أثيم إنّ اللّه فوّض إلى سليمان بن داود فقال ( هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ ) وفوّض إلى نبيّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال : ( ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) فما فوّض إلى رسول اللّه فقد فوّض إلينا » إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة في هذا المعنى ، فتبيّن من ذلك أنّ الاختلاف قد يكون من مقتضى الحكمة الإلهيّة.

وبالجملة الاختلاف في الفتاوي مشترك اللزوم.

نعم يستحيل وقوعه مع التمسّك بكلام مسموع منهم شفاها مع انتفاء جهة التقيّة وسائر الجهات المخلّة بإدراك الواقع ، مع أنّ الحكم المخالف إذا أقامه الشارع مقام الواقع ورتّب

ص: 115

عليه آثار الواقع بأجمعها فلا مانع عقلا ولا شرعا من الاختلاف معه خصوصا إذا اعتبر فيه مصلحة تنوب عن مصلحة الواقع الفائتة.

وعن رابعها : بما تكرّر ذكره على ما لا مزيد عليه ، فإنّ الاعتماد في نفس أحكامه تعالى إنّما هو على العلم المتعلّق بالظنّ لا على الظنّ المتعلّق بالحكم بنفسه.

وعن خامسها : بأنّ سؤالهم الواجب إن اريد به ما يحصل بطريق المشافهة فهو ضروريّ التعذّر.

وإن اريد به الأخذ بما علم كونه منهم فهو في غاية الندرة بالنسبة إلينا.

وإن اريد به ما يعمّ ذلك وما ظنّ بكونه منهم فنحن أيضا نقول به ولا نخالفه.

فالإنصاف : أنّ الأخبار المتواترة في تفسير تلك الآية ونظائرها على ما ينساق منها ويشهد به مواردها إنّما وردت في ردّ أهل الخلاف الغير المعتنين بالأئمّة عليهم السلام الراجعين في سؤالاتهم إلى علمائهم الضالّين المضلّين ، من غير تعرّض فيها لطريقة أصحابهم المجتهدين لعدم خروجهم عن الاستناد إلى كلامهم بالمعنى الأعمّ من الموثوق به لتعذّرهم عمّا زاد عليه.

وعن سادسها : يظهر بما مرّ سابقا في دفع الوجوه المتقدّمة في نفي الاجتهاد فراجع ، مع أنّك قد عرفت إنّ الاختلاف حاصل في نفس أخبار أهل العصمة من جهات عديدة ، والاختلاف في الفتاوى لازم لا محالة ولو مع الاختصار في المدرك على أخبارهم عليهم السلام ، والطريق السالم عن ذلك اليوم متعذّر ، ويقبح على الحكيم أن يتعبّد عباده بطريق متعذّر وعلى مدرك لا سبيل لهم إليه أصلا.

وعن سابعها : بأنّ الأخذ بالروايات الموثوق بها رجوع إلى رواة حديثهم بل إلى ما هو أخصّ منها كما لا يخفى.

وعن ثامنها : بمثل ما مرّ في الجواب عن خامس الوجوه.

وعن تاسعها : بأنّ هذا الدليل أيضا بعد الإغماض عمّا فيه من فساد الوضع والطول بلا طائل كسوابقه من كونه منتجا لنتيجة متعذّرة إن اريد بكلامهم ما علم به بطريق الشفاه أو غيره ، أو غير منتج بما ينفع المستدلّ إن اريد به ما يعمّ المعلوم وغيره ، ضرورة أنّ كلامهم الغير المعلوم حينئذ كما هو الغالب يندرج فيما نفاه هذا الدليل من جهة مطلوبيّة العصمة عن الخطأ.

وتوضيحه : أنّه قد عرفت أنّ الاختلاف في القطعيّة والظنّية ليس حاصلا في الملازمة

ص: 116

بين الحكم الشرعي وملزومه وهو كلام العترة الطاهرة في مفروض المقام ، لكون هذه الملازمة قطعيّة على جميع التقادير ، وإنّما الاختلاف فيهما إنّما يتأتّى في إحراز ملزوم الحكم والكلام لكونه من أصله من الأسباب الضروريّة الصالحة لأن تندرج في الحسّيات أو في المتواترات.

فالعصمة عن الخطأ عند التمسّك بكلام العترة إنّما تتأتّى إذا أحرز كلامهم بطريق الحسّ كما في صورة المشافهة وهو متعذّر بالنسبة إلينا جدّا ، أو بطريق التواتر وما بمعناه كالاحتفاف بقرائن القطع وهو أيضا متعذّر غالبا ، والاكتفاء في إحرازه بالطرق الظنّية من عدالة المخبر أو وثاقته وتحرّزه عن الكذب أو غير ذلك تعريض للنفس في معرض الخطأ ، ضرورة أنّه بعد الاكتفاء بالظنّ في إحراز ملزوم الحكم لا فرق بين كون الملزوم الّذي اريد إحرازه من معلولات الحكم الّتي منها كلامهم عليهم السلام كما عليه مبنى العمل بأخبار الآحاد الغير المحفوفة بالقرائن ، أو من علله كما عليه مبنى العمل بالقياس ونحوه ، فالخطأ المنفيّ المطلوب خلافه بمقتضى الدليل مشترك اللزوم بين العمل بالقياس وغيره من الطرق الغير الراجعة إلى كلامهم والعمل بالأخبار المرويّة عنهم بطرق الآحاد بعد البناء على قلّة ما روي منها بطريق التواتر وما اختصّ بها بقرائن القطع كما هو المفروض المحقّق المقطوع به.

فحقّ المقام أن يقال : إنّ مقتضى الأدلّة القطعيّة أنّ الشارع تعالى يريد في امتثال أحكامه والتديّن بشرعه الاستناد إلى كلام أهل العصمة ولو أحرز ذلك بغير [ الطرق ] العلميّة ، فإنّ الخطأ حينئذ على تقدير طروّه بحسب الواقع مغتفر بخلاف الاستناد إلى غير كلامهم ممّا لا يرجع إليه أصلا ، فإنّه ممّا لا يريده الشارع فلا يكون الخطأ الطارئ مغتفرا بل يبغضه فلا يكون الصواب الحاصل مقبولا ، وهذا المعنى كما ترى لا ينافي طريقة المجتهدين من أصحابنا ، بل ينافي طريقة المجتهدين من أهل الخلاف ، فكلام الأخباري في الحقيقة كان معهم دون أصحابنا ، فلا كلام لنا معه حينئذ.

فقد تقرّر بجميع ما ذكر أنّ مؤدّيات الاجتهاد المستفادة من الكتاب والسنّة وما يرجع إليهما في حقّ المجتهد إذا كان مطلقا - بأن يكون له ملكة عامّة بالقياس إلى جميع المسائل - أحكام فعليّة قد علم بها بمقتضى الأدلّة القطعيّة المتقدّمة ، هذا هو معنى مشروعيّة الاجتهاد في حقّه.

عدم مشروعيّة التقليد للمجتهد المطلق

وأمّا عدم مشروعيّة التقليد له حينئذ فيدلّ عليه وجوه :

ص: 117

أحدها : نفس فرض كون مجتهداته أحكاما فعليّة في حقّه ، فإنّ معنى كونها أحكاما فعليّة وجوب التديّن بها وبناء العمل عليها وتحصيل امتثال الأحكام الواقعيّة المعلومة بالإجمال بواسطة التعرّض لامتثالها ، على معنى أنّ الشارع تعالى لا يريد منه امتثال أحكامه الواقعيّة إلاّ بتلك الواسطة.

وقضيّة ذلك أن لا يجوز له العدول عنها إلى غيرها ، ومن المعلوم أنّ الامور المأخوذة بالتقليد غيرها فلا يجوز العدول إليها.

وثانيها : الإجماع الضروري المتحقّق فيما بين الطائفة على وجه لا يعتريه شائبة شبهة ، ولقد تقدّم نقل الإجماع عن جماعة من أساطين الفرقة وكلماتهم في الكتب الاصوليّة والفقهيّة مملوّة من التصريح بحرمة التقليد على المجتهد.

وثالثها : نفس الأدلّة القاضية من العقل والنقل كتابا وسنّة بحرمة العمل بما وراء العلم ، إذ قد عرفت أنّ مؤدّيات الاجتهاد في حقّه معلوم كونها أحكاما قطعيّة ، فهو بالقياس إليها عالم بخلاف الامور المأخوذة بالتقليد لعدم علمه بكونها أحكاما فعليّة في حقّه فيحرم العمل بها ، ولعلّه إلى ذلك يشير ما عن المعارج عند الاحتجاج على الحكم المذكور بقوله : « لأنّه عدول عمّا علم إلى ما يظنّ » ويمكن رجوعه إلى أوّل وجوهنا المذكورة ، وكائنا ما كان فما احتجّ به في غاية المتانة وإن أمكن المناقشة فيه من حيث تعبيره عن التقليد بالظنّ كما لا يخفى.

فالأولى أن يعبّر عنه « بما لم يعلم » ، وكيف كان فالتقليد منفيّ في حقّه بنفس الأدلّة المانعة من العمل بما وراء العلم ، بل التحقيق أنّ الرجوع إلى التقليد مع العلم فعلا بالأحكام الفعليّة قبيح عقلا وفاعله مذموم عند العقلاء ويعدّ لأجله من جملة السفهاء كما لا يخفى.

ورابعها : قاعدة الاشتغال واستصحابه ، فإنّ امتثال الأحكام المعلومة بالإجمال قد ثبت اشتغال الذمّة بها بالضرورة والإجماع ، والأخذ بمؤدّيات الاجتهاد مبرئ يقينا بخلاف التقليد ، فتعيّن المصير إليه.

لا يقال : لا كلام في جواز الاكتفاء بمؤدّيات الاجتهاد وإنّما الكلام في تعيينه على وجه لا ينوب عنه غيره ، فلم لا تقول بكونه أحد فردي الواجب التخييري الّذي فرده الآخر هو التقليد لأصالة البراءة عن الضيق الّذي يتضمّنه التعيين ، ولذا يقال بأصالة التخيير في مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير؟

ص: 118

لأنّا نقول : بأنّ دعوى أصالة التخيير على ما حقّقناه في محلّه بمعزل عن التحقيق ، بل الأصل في نظائره يقتضي التعيين عملا بقاعدة الاشتغال الّتي لا يجري في مجاريها أصالة البراءة.

وقد يتمسّك بأصالة عدم صحّة هذا التقليد وترتّب أحكامه ، وضعفه بناء على إرادة الاستصحاب واضح ، إذ الاجتهاد ربّما يكون مسبوقا بالتقليد فالأصل حينئذ يقتضي الصحّة وترتّب الأحكام عليه ، ولو اريد بالأصل أصالة حرمة العمل بما وراء العلم والتقليد في مفروض المسألة منه كان راجعا إلى بعض ما قدّمناه.

وقد يستدلّ أيضا : بأنّ العامّي الغير العالم يجوز له التقليد ، فلو جاز لذلك العالم أيضا لزم المساواة بينهما ، واللازم باطل لعموم قوله تعالى : ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) (1) والمقدّم نحوه.

وضعفه بعد منع الملازمة واضح ، فإنّ التقليد على فرض جوازه جائز على وجه التخيير ، والّذي جاز في حقّ العامّي إنّما هو وجوب التقليد على التعيين فلا مساواة بينهما.

ثمّ لا فرق في هذا الحكم بين مساواة غيره له في العلم والعدالة والورع والتقوى وغيرها من الصفات وعدمها ، فلا يجوز له تقليد غيره ولو كان أعلم أو أورع منه ، وهذا على تقدير مخالفته له في الرأي كلّيا أو جزئيّا لكن في محلّ الخلاف واضح لا سترة عليه.

وأمّا على تقدير الموافقة كلّيا أو بالنسبة إلى موضع الوفاق ففيه نوع خفاء ، ولكن لقائل أن يقول : إنّ التقليد بالمعنى الحقيقي في حقّه وهو الأخذ من الغير ممّا لا يكاد يتحقّق لاستحالة تحصيل الحاصل ، إذ المفروض أنّه عالم بالمأخوذات قبل أن يأخذها ، فالتكلّم في جواز التقليد له حينئذ وعدمه غيره مثمر إلاّ بالقياس إلى مسألة الاستناد ، بأن يقال : هل له أن يستند في امتثال أحكامه تعالى إلى كون معلوماته مؤدّيات اجتهاد غيره الموافق له في الرأي ، أو عليه أن يستند إلى كونها مؤدّيات اجتهاد نفسه؟

وبعبارة اخرى : أن يتديّن بها على أنّها مجتهدات نفسه أو يتخيّر بينه وبين أن يتديّن بها على أنّها مجتهدات غيره ، والظاهر أنّ الاستناد بهذا المعنى بعد اتّحاد معلوماتهما وعينيّة مجتهداتهما ممّا لا مدخل له في امتثال أحكام اللّه ، بل لا معنى لهذا الاستناد على تقدير اعتباره إلاّ قصد الحيثيّة وهو غير معتبر جزما.

ص: 119


1- الزمر : 9.

ولكنّ الإنصاف : أنّ الاستناد إلى كونها مؤدّيات اجتهاد نفسه ممّا لا محيص من اعتباره في صدق الامتثال ، والاستناد إلى كونها مؤدّيات اجتهاد غيره مضرّ لنفس أدلّة منع التقليد على المجتهد ، فإنّ التقليد في حاصل المعنى عبارة عن الالتزام بقول الغير ورأيه من حيث إنّه قوله ، على وجه يتضمّن الاستناد إلى قوله عند المسألة عن وجه هذا الالتزام بقولنا : « لأنّه قول فلان » على الوجه الّذي يصنعه المقلّد العامّي ، كما ينبّه عليه القياس المعروف المعبّر عنه : « بأنّ هذا ما أفتى به المفتي ، وكلّما أفتى به المفتي فهو حكم اللّه في حقّي » والمنع من التقليد بهذا المعنى لا محصّل له إلاّ المنع من الاستناد المذكور.

وأيضا فإنّ كلّ حكم لم يعلمه المكلّف [ كونه ] حكما فعليّا في حقّه يقبح له عقلا أن يتديّن به على أنّه حكم اللّه كما هو واضح ، وهو الوجه في قبح التعبّد بالظنّ ما لم يقم قاطع بحجّيته كما بيّنّاه سابقا.

والّذي علمه هذا المجتهد كونه حكما فعليّا في حقّه إنّما هو مؤدّى اجتهاد نفسه لأنّه علمه كذلك بطريق الاجتهاد ، وأمّا هو من حيث إنّه مؤدّى اجتهاد غيره فلم يعلمه هذا المجتهد [ كونه ] حكما فعليّا في حقّه بل علم خلافه ، فيقبح التديّن به على هذا الوجه ويتعيّن التديّن به على الوجه الأوّل وهذا هو معنى الاستناد ، ولكن لا يعتبر فيه الالتفات التفصيلي بل يكفي فيه الإجمال.

وضابطه أن يكون قضيّة كون معلوماته مؤدّيات اجتهاده الّتي التزمها على أنّها أحكام فعليّة في حقّه حاضرة في نفسه مركوزة في ذهنه بحيث حيثما سئل عن وجه الالتزام يجيب : « بأنّه ما أدّى إليه اجتهادي ، وكلّ ما أدّى إليه اجتهادي فهو حكم اللّه في حقّي وحقّ مقلّدي ».

تعليقة : عدم جواز التقليد لمن تمكّن من الاجتهاد

اشارة

- تعليقة -

إذا بلغ العالم رتبة الاجتهاد ولم يجتهد فعلا في المسائل كلّها أو بعضها فهل له بالقياس إلى ما لم يجتهد فيه فعلا أن يرجع إلى مجتهد غيره ويقلّده ، كما له أن يجتهد ويبني على مجتهداته أو لا؟ بل يتعيّن عليه الاجتهاد وامتثال أحكام اللّه تعالى المعلومة بالإجمال بطريق الاستنباط ولا يقوم مقامه امتثالها بطريق التقليد ، فيه خلاف على قولين :

أحدهما : أنّه لا يجوز له التقليد مطلقا ، وهو على ما في مفاتيح السيّد للعدّة والمعارج

ص: 120

والمبادئ والتهذيب والنهاية والمنية والألفيّة لأوّل الشهيدين ، ورسالة عدم جواز تقليد الميّت لثانيهما ، والتمهيد والمقاصد العليّة له أيضا ، والجعفريّة لثاني المحقّقين ، والإحكام والمختصر وشرحه للعضدي ، وفي نسبة هذا القول إلى المنية نظر لأنّه نسب اختياره إلى المصنّف من غير تعرّض لترجيحه ، إلاّ أن يستظهر اختياره له من عدم تعرّضه لردّ ما نقله من حجّة المصنّف لكونه آية ارتضائه بموجبها ومصيره إلى مؤدّاها.

وكيف كان ففي المفاتيح : « أنّ الأكثر على أنّه يتعيّن عليه الاجتهاد ولا يجوز له التقليد ».

وعن النهاية : « أنّه مذهب أكثر الأشاعرة ».

وعن الإحكام : « مذهب القاضي وأكثر الفقهاء إلى منع تقليد العالم سواء كان أعلم منه أو لم يكن ».

وثانيهما : أنّه يجوز له التقليد وهو لجماعة من العامّة كما في المفاتيح قائلا : « وهو محكيّ عن أحمد والشافعي وأبي حنيفة ومحمّد بن الحسن الشيباني وسفيان الثوري وأبي عليّ الجبّائي وإسحاق بن راهويه وغيرهم من المخالفين ».

ثمّ عن هؤلاء أنّهم اختلفوا على أقوال :

منها : أنّه يجوز مطلقا.

ومنها : أنّه يجوز له تقليد الأعلم مطلقا ولو كان غير صحابي دون المساوي والأدون.

ومنها : أنّه يجوز لمن بعد الصحابة تقليد الصحابي دون غيره.

ومنها : أنّه يجوز له تقليد غيره إن كان صحابيّا ، فإن كان أحد الصحابة أرجح في نظره من غيره قلّده وإن استووا تخيّر في تقليد أيّهم شاء.

ومنها : أنّه يجوز له التقليد فيما يخصّه دون ما يفتى به.

ومنها : أنّه يجوز فيما يخصّه إذا خاف فوات الغرض من حكم تلك الواقعة لو اشتغل بالاجتهاد ، حكاه في المنية عن ابن شريح.

ومنها : أنّه يجوز له التقليد إذا كان يقلّد صحابيّا أو تابعيّا.

فالأقوال في المسألة ثمانية غير أنّه لم ينقل القول بالجواز بشيء من وجوهه عن أصحابنا الإماميّة ومن هنا أمكنك دعوى اتّفاقهم على المنع ، وقبل الخوض في الترجيح والتعرّض لحجج الأقوال ينبغي التعرّض لبيان امور :

الأمر الأوّل : أنّ محلّ الخلاف ما إذا لم يطرأه ضرورة إلى التقليد - وحينئذ لا ينبغي

ص: 121

التأمّل في جوازه بل تعيّنه - ولم يكن هناك مانع شرعي كما نصّ عليه في المفاتيح بل ولا مانع عقلي من الاجتهاد ، ومرجعه إلى اعتبار كونه قادرا بالفعل على الاجتهاد بوجود شرائطه العقليّة والعاديّة وفقد موانعه العقليّة والشرعيّة والعاديّة ، وإذا انتفى بعض الشرائط أو وجد بعض الموانع فهل يتعيّن عليه العمل بالاحتياط أو يجوز له التقليد أيضا؟ وجهان : من قاعدة الشغل ، ومن ظاهر الأكثر كما قيل وستعرف تحقيقه في آخر المسألة إن شاء اللّه.

الأمر الثاني : أنّ التقليد المبحوث عنه في حقّ العالم البالغ رتبة الاجتهاد هو التقليد المشروع للعامّي وهو الأخذ بفتوى الفقيه على وجه يكون فتواه منشأ للحكم ومدركا له ، وضابطه دخول تلك الفتوى في كبرى دليل المقلّد الّذي يعبّر عنه : « بأنّ كلّ ما أفتى به المفتي فهو حكم اللّه في حقّي ».

وبذلك اندفع ما أشكل الأمر على بعض الفضلاء. فأورد على منع التقليد في حقّ المجتهد الّذي يندرج فيه موضوع البحث أيضا بموارد نقض كعملهم بالإجماع المنقول وبالشهرة عند من يراها حجّة ، وبقاعدة التسامح في أدلّة السنن في مورد فتوى الفقية ولو واحدا ، بتقريب : أنّ الأوّل أخذ بفتوى المجمعين الّتي نقلها ناقل الإجماع ، والثاني أخذ بفتوى الأكثر ، والثالث أخذ بفتوى الفقيه الواحد ، حيث قال :

« ويشكل بما ذهب إليه كثير من حجّية الإجماع المنقول من حيث نقل المنكشف ، وما ذهب إليه قوم من حجّية الشهرة ، وما ذهب إليه بعض من الاكتفاء في إثبات السنن بالفتوى وإن اتّحد المفتي من حيث النصّ لا من حيث الاحتياط ، فإنّ ذلك كلّه بحسب الظاهر تقليد ، إذ لا نعني به إلاّ الأخذ بفتوى الغير من غير حجّة ، قطعيّة كانت الفتوى أو ظنّية ، اتّحد المفتي أو تعدّد ، وإن كان الأخذ لحجّة وهي الأدلّة الدالّة على جواز التمسّك بالمذكورات » انتهى.

وظنّي أنّه لو أخذ مورد النقض مكان المذكورات عمل السلف بفتاوى عليّ بن بابويه واعتمادهم عليها لكان أوضح في الإشكال وأنسب بالنقض ، وكيف كان فالإشكال المذكور ليس في محلّه والنقض وارد على خلاف التحقيق ، إذ ليس في شيء من المذكورات تقليد بالمعنى المتقدّم الّذي فسّره بالأخذ بفتوى الغير من غير حجّة.

أمّا الأوّل : فلأنّ الأخذ بالإجماع المنقول إن كان من باب أنّه نبأ عدل لعموم أدلّة حجّية نبأ العدل الشامل له أيضا فالعمل به عمل بقول الإمام ، فهو منشأ الحكم ومدركه لا فتوى المجمعين.

ص: 122

غاية الأمر أنّ قول الإمام قد يدرك بطريق الحسّ كما في الخبر المصطلح وقد يدرك بطريق الحدس كما في نقل الإجماع ، فإنّ ناقل الإجماع إنّما ينقل ما أدركه من قول الإمام حدسا من ملاحظة الإجماع ، وإن كان

من باب كشفه قطعا أو ظنّا عن قول الحجّة. فالعمل به عمل بالمنكشف أيضا وهو قول الحجّة لا بالكاشف ، وهذا هو معنى حجّيّته من حيث المنكشف لا غير.

وأمّا الثاني : فلأنّ الأخذ بالشهرة إن كان على ما نراه في العمل بها في بعض الأحيان من كونها كاشفة على وجه الاطمئنان عن وجود دليل معتبر للأكثر بحيث لو ظفرنا به لم نتعدّه ولم نخرج عن موجبه فالعمل بها في الحقيقة عمل بذلك الدليل لا بها من حيث إنّها فتوى الأكثر ، على أنّه لا يشترط في العمل بالدليل المعتبر كونه معلوما بالتفصيل بل يكفي كونه معلوما بالإجمال كما نقول بنظيره في العمل بالإجماع المحصّل حيثما نعمل به ، فإنّه باعتبار كشفه القطعي عن دليل معتبر لو ظفرنا به لم نتعدّه ولم نخالفه ، وإن كان على أنّها تورث الظنّ بالحكم فالعمل بها من باب حجّية مطلق ظنّ المجتهد - لقيام القاطع بحجّيته - عمل بذلك الظنّ لا بها من حيث إنّها فتوى الأكثر.

غاية الأمر أنّها أحد أسباب الظنّ الّذي هو مناط العمل.

وأمّا الثالث : فلأنّ قاعدة التسامح على رأي من يخصّها بالخبر الضعيف ولا يعمّها بالنسبة إلى فتوى الفقيه لا تصلح موردا للنقض.

وأمّا على رأي من يعمّها بالقياس إلى الفتوى أيضا لعموم البلوغ المصرّح به في الروايات المستفيضة فالعمل بها ليس أخذا بالفتوى على وجه تكون الفتوى منشأ للحكم ومدركه ليكون تقليدا ، بل منشأ الاستحباب أو الكراهة في مورد التسامح إنّما هو عمومات « من بلغه ثواب على عمل ».

غاية الأمر أنّ لهذه العمومات موضوع لا يحرزه إلاّ الخبر الضعيف أو فتوى الفقيه ، فالفتوى إنّما يؤخذ بها إحرازا لموضوع دليل الاستحباب أو الكراهة لا دليلا عليهما ومدركا لهما ليكون تقليدا.

نعم يشكل الحال على رأي من يجعل أخبار من بلغ مؤكّدة للاستحباب المستفاد من الخبر الضعيف ، لكنّ الأمر فيه هيّن إذ لم يظهر من أصحاب هذا الرأي تعميم القاعدة بالقياس إلى فتوى الفقيه.

ص: 123

وبملاحظة ما قرّرناه يتبيّن الوجه في اعتماد السلف على فتاوى عليّ بن بابويه ، فإنّه من جهة ما اشتهر فيما بينهم من أنّ دابه أنّه لا يفتي إلاّ بمتون الأخبار فالاعتماد على فتاويه اعتماد على الأخبار لا غير ، وليس ذلك أيضا من التقليد في شيء.

الأمر الثالث : أنّ مبنى الخلاف في المسألة على أنّ جواز التقليد هل هو مشروط بعدم التمكّن من الاجتهاد فمن تمكّن منه لا يجوز له التقليد ، أو بعدم فعليّة الاجتهاد فمن تمكّن منه يجوز له التقليد ، ومرجعه إلى اشتراط حرمة التقليد بالتمكّن من الاجتهاد أو بفعليّته ، فالاشتراط ثابت بالاتّفاق والخلاف إنّما هو في تعيين الشرط المعلّق عليه.

وحينئذ فما في حجج القول بعدم الجواز من أنّ التقليد بدل للاجتهاد جوّز ضرورة لمن لا يمكنه الاجتهاد ولا يجوز الأخذ بالبدل مع التمكّن من المبدل كالوضوء والتيمّم ليس على ما ينبغي ، لكونه مصادرة فإنّ الدليل الشرعي في التيمّم قائم بأنّه بدل اضطراري للوضوء وجوازه مشروط بعدم التمكّن منه ، والتقليد أيضا بدل ولكن كونه اضطراريّا على وجه يكون شرط جوازه عدم التمكّن من الاجتهاد لا عدم فعليّته عين المتنازع فيه ، فدعوى كونه بدلا له جوّز ضرورة لمن لا يمكنه الاجتهاد أوّل المسألة.

الأمر الرابع : ظاهر كلماتهم عنوانا ودليلا بل صريح بعضها كون النزاع في جواز التقليد - بالمعنى الموجود في ضمن الوجوب - على وجه التخيير بينه وبين الاجتهاد ووجوب الاجتهاد عينا المستلزم لحرمة التقليد عينا ، وأمّا وجوب التقليد عينا المستلزم لحرمة الاجتهاد كذلك فالظاهر أنّه لا قائل به.

فالتحقيق في عنوان المسألة حينئذ أن يقال : إنّهم بعد ما اتّفقوا على أنّ العالم المتمكّن من الاجتهاد يجب عليه امتثال أحكام اللّه المعلومة بالإجمال ، وهو موقوف على تحصيل المعرفة بتفاصيل الأحكام ، فتكون المعرفة واجبة من باب المقدّمة ولها بحسب الشرع طريقان.

أحدهما : أخذها بطريق التقليد.

والآخر : أخذها بطريق الاجتهاد.

اختلفوا في أنّه في تحصيل المعرفة الّتي هي مقدّمة هل يتخيّر بين الطريقين أو يتعيّن عليه أحد الطريقين وهو الاجتهاد لا غير؟ وعليه فما في حجج القول بعدم الجواز من أنّ جواز التقليد حكم شرعيّ فلابدّ له من دليل والأصل عدمه - كما اعتمد عليه جماعة من

ص: 124

العامّة كالحاجبي والعضدي وغيرهما - غير سديد ، إذ قد عرفت أنّ الأمر بالنسبة إلى التقليد دائر بين وجوبه تخييرا وتحريمه تعيينا وكما أنّ الأوّل حكم شرعي فلا بدّ له من دليل.

والأصل عدمه فكذلك الثاني حكم شرعيّ فلابدّ له من دليل والأصل عدمه ، فالأصل على فرض صحّته معارض بمثله وإعمال الأوّل دون الثاني تحكّم.

وأمّا ما في شرح المختصر للعضدي من دفعه المعارضة بقوله : « لا يقال : هذا معارض بعدم الجواز ، لأنّ الانتفاء نفي يكفي فيه عدم دليل الثبوت. وقد يقال : إنّ التحريم الشرعي ينفي الجواز الثابت بالأصل ».

فمع أنّه يعارضه ما يقال : من أنّ الجواز بمعنى الاباحة يكفي في ثبوته عدم دليل المنع. فيه : أنّ هذا إنّما يسلّم فيما لو دار الأمر بين ثبوت حكم وجودي وانتفائه لا فيما إذا دار الأمر بين حكمين وجوديّين كما فيما نحن فيه ، بل قد يمكن أن يقال : إنّ الأصل في مفروض المقام يقتضي الجواز ، لأنّ عدمه يستلزم ترتّب الذمّ والعقوبة على الفعل وهو ممّا لابدّ له من دليل والأصل عدمه.

بل قد يقال : - على ما أشرنا إليه في المسألة السابقة - إنّ الأصل فيما دار الأمر بين الجواز التخييري والجواز التعييني هو الأوّل.

وأمّا ما حكاه من القول بأنّ التحريم الشرعي ينفي الجواز الثابت بالأصل فالمراد به غير واضح ، إلاّ أن يوجّه بأحد الوجهين :

الأوّل : ما أشرنا إليه في المسألة السابقة في أدلّة تحريم التقليد ثمّة من تحكيم قاعدة الاشتغال في اقتضاء التعيين على أصل البراءة المقتضي للتخيير عند دوران الأمر بينهما ، قيقال : إنّ جواز التقليد تخييرا أنّما يثبت بحكم الأصل وقاعدة الشغل المقتضية لتعيين الاجتهاد تقتضي تحريمه وهي واردة على أصل البراءة دافعة لموضوعه ، فتكون بالقياس إليه بمثابة الأدلّة الشرعيّة فمقتضاها وهو التحريم ينفي مقتضى الأصل وهو الجواز التخييري.

لكن يبقى الإشكال في أنّ هذه القاعدة لا تقتضي التحريم الشرعي ، بل غاية ما تقتضيه إنّما هو عدم الاجتزاء بالتقليد ونحوه في مقام الامتثال ، إلاّ أن يراد بالتحريم الشرعي ما يلزم من جهة التشريع ولعلّه مراد كلّ من أطلق التحريم هنا غير أنّه بعيد.

والثاني : أنّ جواز التقليد - لو سلّمناه - إنّما يثبت بمقتضى الأصل الأوّلي وهو أصالة البراءة عن التحريم الجارية في كلّما لم يرد نصّ على تحريمه.

ص: 125

ولكن هذا الأصل بالنسبة إلى العمل بما وراء العلم الّذي منه التقليد قد انقلب إلى أصل ثانوي وهو الحرمة المستفادة من عمومات المنع عن العمل بما وراء العلم كتابا وسنّة ، وظاهر أنّ مقتضى هذا الأصل هو الحرمة في كلّ تقليد عدا ما أخرجه الدليل الناهض مخصّصا لتلك العمومات ، وعليه فالمحتاج إلى الدليل حينئذ إنّما هو الجواز لا الحرمة ، والقدر المسلّم ممّا خرج بالدليل بهذا المعنى إنّما هو تقليد العامّي الصرف والعالم الغير البالغ رتبة الاجتهاد للإجماع والضرورة ، وأمّا ما عداهما كتقليد العالم البالغ رتبة الاجتهاد فلا إجماع ولا ضرورة قضت بخروجه فيبقى تحت الأصل ، ومقتضاه التحريم الشرعي وهو ينفي الجواز الثابت بالأصل الأوّلي لورود الأصل الثانوي عليه ، وعليه فيكون المراد بأصل العدم في الدليل المتقدّم أعني قولهم : « الجواز حكم شرعيّ فلا بدّ له من دليل ، والأصل عدمه » أصالة عدم ما ينهض مخصّصا للعمومات المحرّمة للتقليد المؤسّسة للأصل الثانوي ، فالمراد من الدليل هو الدليل المخرج عن تلك العمومات ، وهذا هو السرّ في افتقار الجواز إلى الدليل.

وأمّا التحريم فيكفي فيه العمومات ولا يحتاج إلى دليل آخر.

وبذلك يندفع المعارضة الّتي قرّرناها في منع الأصل المتمسّك به في نفي التقليد.

وليس لأحد أن يعارضه : بأنّ التعويل على الاجتهاد باتّباع مؤدّياته أيضا عمل بما وراء العلم ، إذ المفروض أنّها في الغالب ظنّية ولم يقم دليل علمي على التعويل عليها ليكون تعويلا على العلم الحاصل من هذا الدليل ، إذ الدليل العلمي هنا إمّا الإجماع ولا إجماع لمكان الخلاف ، أو الضرورة بمعنى الاضطرار وهي مبنيّة على نفي التقليد بالإجماع وفرض الخلاف هنا ينفي الإجماع أيضا فيندرج في الأصل المستفاد من العمومات المانعة عن العمل بما وراء العلم ، وهذا الأصل أعمّ موردا من الأصل المستفاد من عمومات نفي التقليد كما لا يخفى.

ولا مخرج عنه هنا ، فالأصل عدم ما يصلح لتخصيصها.

لما نبّهنا عليه من أنّ جواز الاجتهاد في الجملة إجماعيّ والخلاف إنّما هو في كون هذا الجواز هل هو على جهة التعيين أو على جهة التخيير؟ وتعيين التقليد على وجه يستلزم منع الاجتهاد ممّا لا قائل به.

فالمفروض مخرج عن الأصل المذكور بالإجماع ، بخلاف التقليد المتنازع فيه الّذي لا إجماع على خروجه عن الأصل.

ص: 126

نعم قد يشكل الحال في هذا الأصل من جهة أنّ الاجتهاد والتمكّن منه قد يسبقه التقليد بل هو الغالب ، بل ما لم يسبقه التقليد مجرّد فرض وتجويز عقلي وإلاّ فالواقع باعتبار الخارج هو المسبوق بالتقليد ، فيكون محلّ البحث ممّن خرج عن الأصل قبل ما بلغ رتبة الاجتهاد ، وإجراء حكم الأصل فيه لبلوغه رتبة الاجتهاد يقتضي عوده إلى الأصل الّذي فرض خروجه عنه ، وهذا ممّا لا دليل عليه.

والحاصل : أنّ المفروض ممّا أخرجه الدليل عن الأصل قبل بلوغه تلك الحالة ، فما الّذي يوجب عوده إليه بعد بلوغه إيّاها؟ بل الأصل يقتضي عدم العود.

ومن هنا تمسّك جماعة من المجوّزين للتقليد له باستحباب جوازه الثابت له قبل بلوغه لتلك الحالة.

لكن يدفعه : أنّ الأحكام تتبع موضوعاتها الكلّية الملحوظة في القضيّة عنوانا للحكم لا المصاديق الشخصيّة المندرجة تحت تلك الكلّيّات ، فالشخص المفروض من حيث هو شخص لم يؤخذ عنوانا لحكم التقليد لا من حيث الجواز ولا من حيث خلافه ، بل جريان الجواز في حقّه إنّما هو من جهة اندراجه في عنوان الغير المتمكّن من الاجتهاد ، كما أنّ جريان عدم الجواز في حقّه من جهة اندراجه في عنوان المتمكّن من الاجتهاد ، وهذان عنوانان كلّيان أوّلهما مخرج عن الأصل بدليل أنّ مناط الحكم بجواز التقليد هو قضاء الضرورة به وحصول الاضطرار إليه من جهة تعذّر الاجتهاد فيكون ثانيهما باقيا تحته ، والمكلّف إذا طرأه حالتان يندرج لإحداهما في العنوان الأوّل ولاخراهما في العنوان التالي لزم أن يتوارد عليه الحكمان الجواز وعدمه على سبيل التعاقب لمجرّد اندراجه تارة في العنوان الأوّل واخرى في العنوان الثاني ، فعدم جواز التقليد له بعد بلوغه رتبة الاجتهاد ليس من باب العود إلى الأصل بعد خروجه عنه ليحتاج إلى الدليل ، وبذلك يتبيّن لك وجه دفع الاستصحاب المشار إليه الّذي تمسّك به جماعة للجواز.

وملخّصه : أنّ الاستصحاب مع تبدّل الموضوع ممّا لا معنى له ، وإجراء حكم عنوان في عنوان آخر مغاير له في الحكم غير معقول.

وبهذا البيان يظهر أنّ شرط جواز التقليد عدم التمكّن من الاجتهاد ، فيكون شرط حرمته هو التمكّن منه ، ووجهه - على ما بيّنّاه - : أنّ مقتضى العمومات المحرّمة للتقليد حرمته إلاّ ما خرج عنه بالدليل ، والقدر المتيقّن ممّا خرج منه ما يتأتّى من غير المتمكّن من الاجتهاد.

ص: 127

وأمّا هو من المتمكّن من الاجتهاد فلا دليل على خروجه فيكون باقيا تحت العموم لأصالة عدم التخصيص.

فبجميع ما ذكر يعلم أنّ المعتمد في المسألة هو القول بتعيّن الاجتهاد وعدم جواز التقليد له مطلقا ، ودليله القاعدة المتقدّم ذكرها مع الأصل الّذي مرجعه إلى أصالة العموم وأصالة عدم التخصيص.

مضافا إلى ما علم أيضا من أنّ جواز الاكتفاء بالاجتهاد إجماعيّ والاكتفاء بالتقليد خلافيّ ، فقضيّة الإجماع في الأوّل العلم بكون مؤدّيات الاجتهاد أحكاما فعليّة يجب التديّن بها والأخذ بها في امتثال أحكام اللّه المعلومة بالإجمال.

وقضيّة الخلاف في الثاني الشكّ في كون مؤدّيات التقليد أحكاما فعليّة وعدمه.

ومن القبيح في حكم العقل الإقامة على الشكّ والتديّن بالمشكوك مكان الإقامة على العلم والتديّن بالمعلوم ، وقد ورد في النصوص ما يقضي بذلك أيضا كما تقدّم من قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم : « من شكّ أو ظنّ فأقام على أحدهما فقد حبط عمله ، إنّ حجّة اللّه هي الحجّة الواضحة » وقوله عليه السلام : « ومن عمى نسى الذكر واتّبع الظنّ وبارز خالقه » ولعلّه إلى هذا المعنى يرجع ما عن الشيخ في العدّة من الاحتجاج على القول المختار بقوله : « إنّما قلنا ذلك لأنّ قول المفتي غاية ما يوجبه غلبة الظنّ ، وإذا كان له طريق إلى حصول العلم فلا يجوز له أن يعمل على غلبة الظنّ على حال » وفي معناه ما عن المعارج من الاستدلال : « بأنّ تحصيل العلم في حقّه ممكن ».

وقد تقدّم نظيره في المسألة السابقة ، وعليه فلا وجه لما في مفاتيح السيّد من المناقشة في هذا الدليل بقوله : « وفيه نظر لأنّه إن اريد أنّ العقل يمنع من العمل بغير العلم في صورة التمكّن من العلم فهو ممنوع ، كيف وقد جوّز الشارع العمل بغير العلم مع التمكّن من العلم في مقامات كثيرة :

منها : ما إذا شكّ في ملكيّة ما في يد المسلم ، فإنّه جوّز العمل بظاهر اليد ولم يوجب البحث والاجتهاد مع التمكّن منهما.

ومنها : ما إذا شكّ في نجاسة الثوب والبدن ، فإنّه جوّز البناء على الطهارة ولم يوجب البحث والاجتهاد مع التمكّن منهما.

ومنها : ما إذا شكّ في صدق المدّعي ، فإنّه اكتفي منه بالشاهد ولم يوجب البحث

ص: 128

والاجتهاد مع التمكّن منهما.

ومنها : ما إذا شكّ العامّي القريب من الاجتهاد في الحكم الشرعي فإنّه جوّز له التقليد ولم يوجب له الاجتهاد مع التمكّن منه.

ومنها : غير ذلك.

وبالجملة : تجويز العمل بغير العلم مع التمكّن من تحصيل العلم أمر لا يحكم العقل بامتناعه ، فإنّ الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح ولذا تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والأشخاص ، ولا امتناع في تحقّق مصلحة وإن لم نعلمها تفصيلا.

لا يقال : إنّ العقل إنّما يحكم بذلك حيث لم يرد من الشرع ما يقتضي خلافه كما في محلّ البحث.

لأنّا نقول : لا نسلّم أنّ محلّ البحث من هذا القبيل ، فإنّ القائل بجواز التقليد يدّعي قيام الدليل الشرعي على جواز التقليد هنا ، على أنّ الدليل المذكور على هذا التقرير يرجع إلى الدليل الأوّل ، ويكون حاصله : أنّ الأصل عدم جواز التقليد هنا ، فتأمّل.

وإن اريد أنّ الإجماع واقع على ذلك وإن لم يحكم العقل به ، ففيه : أنّ الإجماع ممنوع في محلّ البحث ، ومع ذلك فدعوى التمكّن من العلم بالحكم الشرعي الواقعي هنا على الإطلاق ممنوعة ، إذ قد يعلم بعدم التمكّن منه.

وإن اريد من ذلك العلم بوجوب العمل وبالحكم الظاهري فالمجوّزون للتقليد هنا يدّعونه فلا فرق.

وبالجملة : إن كان المقصود أنّه إذا لم يقم دليل على جواز التقليد هنا فالأصل وجوب الاجتهاد فهو مسلّم ولا خلاف فيه ، ولكن لا يكون ذلك حجّة على المخالف له عند قيام الدليل ، وإن كان المقصود أنّه لا يجوز ذلك ويكون ممّا يستحيل فرض صدوره من الشرع فهو باطل » انتهى.

وهذا كما ترى ليس في محلّه لابتنائه على الخلط والالتباس في حقيقة المراد ، فإنّ العقل يستقبح من المكلّف أن يكتفي في مقام امتثال الأحكام المعلومة بما يشكّ في كونه حكما فعليّا في حقّه بعد ما كان عالما بحكمه الفعلي أو متمكّنا عن العلم به ، وهذا ليس من تجويز الشرع في بعض المقامات من الاكتفاء بغير المعلوم في شيء ، فإنّ ذلك جائز من الشارع لمصلحة لاحظها لكن ثبوته في كلّ مقام يتبع الدليل الخاصّ بهذا المقام كما في

ص: 129

الأمثلة المذكورة ، وهذا في كلّ مقام ثبت بالدليل يقضي بكون ما لم يعلم به باعتبار الواقع حكما فعليّا اعتبره الشارع.

إثبات عدم جواز التقليد لمن تمكّن من الاجتهاد بدليل الانسداد

والّذي يعلم بالاجتهاد من هذا الباب بخلاف ما يؤخذ بالتقليد ، لأنّ المفروض عدم قيام دليل من الشرع على أنّه أيضا ما اعتبره الشارع حكما فعليّا ، وكون القائل بجواز التقليد يدّعي قيام الدليل عليه لا يجدي نفعا لمن لا يجد دليلا عليه بعد ما تبيّن في نظره فساد ما اعتمد عليه هذا القائل من الوجوه الّتي كلّها بمرئى منه ومسمع ، هذا.

ويمكن أن يستدلّ أيضا على المطلب بدليل الانسداد ؛ على دعوى أنّه بنفسه يقتضي تعيّن الاجتهاد في حقّ محلّ البحث ، بأن يقال : إنّه قد ذكرنا سابقا أنّ الأصل العقلي المعتضد بالنقل في كلّ اشتغال يقيني اعتبار الامتثال العلمي التفصيلي ، ومع تعذّره اعتبار الامتثال العلمي الإجمالي ، ومع تعذّره أو سقوط اعتباره بدليل شرعي يقوم مقامه الامتثال الاجتهادي أو التقليدي على التخيير أو على التعيين. حسبما يساعد عليه الدليل.

فالأمر في حقّ المقلّد بالمعنى الأعمّ من العامّي الصرف والعالم الغير البالغ رتبة الاجتهاد وفي حقّ المجتهد بالمعنى الأعمّ - ممّن اجتهد فعلا ومن بلغ رتبة الاجتهاد ولم يجتهد فعلا - دائر بين الامتثال العلمي التفصيلي والامتثال العلمي الإجمالي والامتثال الاجتهادي الّذي لو قام عليه دليل كان قائما مقام الامتثال العلمي والامتثال التقليدي أيضا ، لكنّ الأوّل ساقط في حقّ الجميع بفرض انسداد باب العلم التفصيلي بالمعلومات بالإجمال في الغالب ، وكذلك الثاني بدليل نفي اعتباره من الإجماع والأدلّة النافية للعسر والحرج المخلّين بنظم المعاش البالغين حدّ التعذّر في الغالب ، وكذلك الثالث في حقّ المقلّد بالمعنى الأعمّ بنفس ما دلّ على نفي اعتبار الأوّل من قبح التكليف بغير المقدور ، وكذلك الرابع في حقّ المجتهد بالمعنى الأخصّ - أعني من اجتهد فعلا - بما تقدّم من الأدلّة على منع التقليد في حقّه ، فبقي أمر المجتهد بالمعنى الآخر وهو المتمكّن من الاجتهاد دائر بين الأمرين من الاجتهاد والتقليد على جهة التخيير كما يدّعيه القائل بجواز التقليد ، أو على جهة تعيين الاجتهاد كما هو المختار ، ولا إجماع على نفي التقليد في حقّه فيبقى حكم المسألة موكولا إلى العقل ، وحكمه بأحد الأمرين من التخيير والتعيين مبنيّ على مساواتهما في نظره بحسب المرتبة وعدم مساواتهما ، بأن يكون لأحدهما مزيّة على الآخر بحيث تصلح لأن تكون في نظره مرجّحة شرعيّة.

ص: 130

لكن نقول : إنّ المزيّة هنا موجودة وهي في جانب الامتثال الاجتهادي فيكون متعيّنا بحكم العقل.

وبيانه : أنّ العقل بعد تعذّر الامتثال العلمي التفصيلي لا يقضي بتعيّن شيء من الاجتهاد وغيره أوّلا وبالذات ، وإنّما يقضي بتعيّن ما هو أقرب إلى الامتثال العلمي التفصيلي ممّا لا يفضي إلى المحذور الّذي كان أفضى إليه الامتثال العلمي التفصيلي ولا غيره على وجه لم يتخلّل بينهما واسطة ، بأن يكون في القرب إليه مع اعتبار عدم إفضائه إلى المحذور بحيث لو تعدّينا إلى مرتبة فوقه وقلنا باعتبار تلك المرتبة كانت مفضية إلى المحذور ، سواء كانت هي نفس العلم التفصيلي أو ما دونه ، وذلك لأنّ المسقط لاعتبار العلم التفصيلي هو هذا المحذور فلابدّ وأن يتعيّن ممّا دونه ، ما ينتفي عنه المحذور ، ولا يجوز في حكم العقل التنزّل إلى ما تحته وهو ليس كما فوقه مفضيا إلى المحذور ، فالحكم نفيا وإثباتا دائر مدار المحذور وجودا وعدما.

ومن هنا كان المتعيّن في حكم العقل بعد تعذّر العلم التفصيلي الأخذ بمقتضى العلم الإجمالي ، وحيث كان اعتبار ذلك أيضا منفيّا بحكمه أو بحكم الشرع يتنزّل العقل إلى مرتبة تحتهما لا يستلزم محذوريهما بلا توسّط مرتبة اخرى بينها وبينهما إلاّ مرتبة استلزمت محذوريهما أو محذورا ثالثا ، ولأجل هذه القاعدة ترجّح عندنا في العمل بالظنون الاجتهاديّة لزوم الأخذ بما هو أقرب إلى العلم المعبّر عنه بالظنّ المتاخم بالعلم.

وإن شئت عبّر عنه بالظنّ الاطمئناني ، وهو الّذي يوجب الوثوق وسكون النفس إن لم يستلزم مراعاة تحصيله محذور العسر والحرج أو تعطيل الأحكام المخرج عن الدين.

وإذا تمهّد ذلك فنقول : إنّ الأقرب إلى الامتثال العلمي بكلا قسميه إنّما هو الامتثال الاجتهادي الّذي يتأتّى بسبب الأخذ بمؤدّيات الاجتهاد من غير استلزامه محذوريهما ولا محذورا ثالثا على ما هو مفروض المقام ، وذلك لما يحتمل في الامتثال التقليدي الّذي يتأتّى بسبب الأخذ بفتاوى مجتهد آخر من المبعّدات عن الواقع ما لا يحتمل فيه ، وذلك لأنّ فتاوى نفسه مع فتاوى هذا المجتهد وإن كانا يتشاركان في احتمال الخطأ في أصل الاجتهاد غير أنّ فتاوى المفتي تفارق فتاوى نفسه في احتمال الخطأ والسهو والنسيان والكذب في مقام الإفتاء الصادر من هذا المفتي كما شاهدنا طروّ أكثر هذه الامور لكثير ممّن عاصرناهم من المفتين كثّر اللّه أمثالهم.

ص: 131

ولا ريب أنّه لا يجري شيء من هذه الاحتمالات في حقّ نفسه.

هذا مضافا إلى ما يحتمل في حقّ غيره في بعض الأحيان من عدم أهليّته للفتوى في نفس الأمر إمّا بفقدانه الملكة أو العدالة أو غير ذلك من شروط الاجتهاد والامور المعتبرة في المفتي بخلاف نفسه بحسب اعتقاده.

ومن الواضح البديهي أنّ ذلك مرجّح عقليّ ، على معنى أنّ العقل بعد التنزّل عن المرتبتين المتعذّرتين لا يحكم إلاّ بتعيّن ما لا يجري فيه هذه الاحتمالات أو ما كان أقلّ احتمالا ، وليس ذلك إلاّ الامتثال الاجتهادي.

وقد ورد في النصوص أيضا ما يقضي باعتبار الترجيح من هذه الجهة كما في مقبولة عمر بن حنظلة من قوله عليه السلام : « خذ بما اشتهر بين أصحابك ، ودع الشاذّ النادر ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه » بناء على أنّ المراد بالريب المنفيّ عن المجمع عليه هو الريب الإضافي لا سنخ الريب ، على معنى أنّه لا يجري في المجمع عليه من الريب ما هو جار في الشاذّ النادر وإن شارك هو معه في جريان ريب آخر غير هذا الريب على ما هو الحقّ الّذي يأتي تقريره إن شاء اللّه في محلّه.

وممّا يؤيّد هذا الوجه القاضي بتعيّن الاجتهاد أيضا أنّ الرجوع إلى فتاوى الغير وأخذها أحكاما فعليّة يتديّن بها مع التمكّن من تحصيلها استقلالا بطريق الاجتهاد يشبه بكونه من باب مسألة الناس ممّا في أيديهم من الأموال مع التمكّن من تحصيل مثله أو ما هو أحسن وأتمّ منه فائدة ، وهذه خصلة ربّما يعدّ من التزم بها في نظر العقلاء من السفهاء من حيث إنّها تنشأ من دنائة الطبع وخسّة الرأي وقصور الهمّة ، ولذا تراهم لا يتحمّلونها من غير ضرورة دعت إليها.

وإلى ما ذكرناه من اعتبار الترجيح ينظر ما احتجّ به العلاّمة في التهذيب على القول المختار بقوله : « والأقرب المنع ، لأنّه متمكّن من تحصيل الظنّ بطريق أقوى فيتعيّن عليه ، ووجه القوّة جواز تطرّق الكذب على المفتي » انتهى.

لكن ينبغي أن يحمل الكذب في كلامه على ما يعمّ الخطأ والسهو والنسيان وغيره.

وقرّر السيّد الشارح هذا الوجه بوجه أوضح فقال : « إنّه متمكّن من تحصيل الحكم بطريق أقوى وهو الاجتهاد ، فتعيّن عليه فعله.

أمّا الأوّل : فلأنّه مقدور ، إذ التقدير أنّه مجتهد قادر على الاجتهاد ، وإنّما قلنا إنّ الظنّ

ص: 132

الحاصل من الاجتهاد أقوى من الظنّ الحاصل من تقليد غيره من المجتهدين فلأنّ الظنّ الحاصل من تقليد المجتهد المغاير له متوقّف على صدق ذلك المجتهد في أنّ ما أخبر به هو الّذي أدّى إليه اجتهاده وهو ظنّي ، بخلاف الظنّ الحاصل من اجتهاد نفسه.

وأمّا الثاني : فلأنّ العمل بأقوى الظنّين المستندين إلى طريقين مشروعين واجب إجماعا » انتهى.

نعم إنّما يغاير لما فصّلناه من حيث اعتبار التقليد من حيث الظنّ وهو خلاف التحقيق ، ومن حيث جعل مستند ترجيح الأقوى هو الإجماع دون العقل ، فالمطلب واحد بنوع من التأويل كما عرفت.

وأمّا ما في مفاتيح السيّد من الاعتراض عليه - تارة : بأنّه قد يحصل الظنّ الأقوى بالحكم الشرعي من فتوى الغير ، بل قد لا يحصل له الظنّ به بمجرّد نظره واجتهاده.

واخرى : بأنّ العمل بأقوى الظنّين إنّما يجب بعد تحقّقهما ، ولذا يجب على المجتهد بعد اجتهاده العمل بظنّه وترك التقليد ، وليس هذا من محلّ البحث لأنّ الظنّ الأقوى لم يكن حاصلا.

نعم يقدر على تحصيله ولا نسلّم وجوب تحصيل الظنّ الأقوى مع وجود الأضعف ، كيف وقد جوّز الشارع في مقامات كثيرة العمل بغير العلم وترك تحصيله مع التمكّن منه - فليس في محلّه ، وهذا من مفاسد قلّة التأمّل في تحقيق المسائل النظريّة.

ثمّ إنّهم ذكروا على القول المختار أدلّة اخر كلّها واضح الضعف.

منها : ما أشرنا إليه وإلى ضعفه من كون التقليد بدل الاجتهاد جوّز ضرورة إلخ.

ومنها : أنّه مأمور بالاجتهاد والاعتبار ولم يأت به فيكون عاصيا مأثوما.

ومنها : أنّه يتمكّن من الوصول بفكره إلى حكم المسألة فيحرم عليه التقليد كما في مسائل الاصول ، والجامع وجوب الاحتراز عن الخطأ المحتمل عند القدرة على الاحتراز.

ومنها : أنّه لو كان قد اجتهد وأدّى اجتهاده إلى حكم من الأحكام لم يجز له تقليد غيره وترك ما أدّى إليه اجتهاده ، فكذا لا يجوز له تقليده قبل الاجتهاد لإمكان أن يؤدّيه اجتهاده إلى خلاف رأي من قلّده.

ومنها : أنّه لو جاز لغير الصحابي تقليد الصحابي مع تمكّنه من الاجتهاد لجاز لبعض من المجتهدين أنّ يقلّد البعض ، ولو جاز لما كان لمناظراتهم فيما وقع بينهم من المسائل الخلافيّة معنى.

ص: 133

ويظهر ضعف هذه الوجوه بالتأمّل بل بعضها واضح الضعف بحيث لا يحتاج إلى التأمّل.

حجّة القول بجواز التقليد لمن تمكّن من الاجتهاد

حجّة القول بجواز التقليد وجوه :

أحدها : قوله عزّ من قائل : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (1) وهو قبل الاجتهاد لا يعلم والآخر يعلم ومن أهل الذكر ، فوجب عليه السؤال للعمل به وهو المطلوب.

والجواب عن ذلك - بعد الإغماض عن أنّ الخطاب في الآية مع أهل الكتاب فالمراد بأهل الذكر علماؤهم كما يظهر من سياقها ومن شأن نزولها ، ثمّ بعد التسليم والإغماض عن أنّ المراد بأهل الذكر خصوص أئمّتنا لا مطلق أهل العلم كما ورد في الأخبار المستفيضة المفسّرة للآية ، وتسليم أنّ المراد بأهل الذكر مطلق أهل العلم المتناول للمجتهدين أيضا - من وجوه :

الأوّل : ظهور الآية منطوقا ومفهوما في العلم وعدم العلم بالأحكام الواقعيّة فتكون مختصّة بالمتمكّنين من العلم بالأحكام الواقعيّة بواسطة سؤال أهل العلم كأهل أزمنة الحضور ، ويؤيّده كونها من قبيل خطاب المشافهة المختصّ بالمشافهين.

الثاني : بعد تسليم ظهورها في العلم بالأحكام الفعليّة - ظاهريّة كانت أو واقعيّة - يمنع كون العالم المتمكّن من الاجتهاد قبله غير عالم ، فإنّه لبلوغه رتبة الاجتهاد يعلم بمقتضى أدلّته القطعيّة أنّ مؤدّيات اجتهاده الّتي هو متمكّن من العلم بتفاصيلها بالاجتهاد أحكام فعليّة في حقّه ، فهو عالم بالأحكام الفعليّة.

غاية الأمر أنّه علم إجمالي لعدم علمه بتفاصيل الأحكام ، ودعوى ظهور العلم في التفصيلي غير مسموعة كما قرّر في محلّه ، فمحلّ البحث مندرج في مفهوم الآية.

ولو سلّم عدم ظهور اندراجه فيه لدعوى عدم انصراف إطلاق العلم إلى الإجمالي ، فلا يسلّم اندراجه في المنطوق أيضا لظهور « لا تعلمون » في الجهل الساذج الّذي لم يجامع العلم الإجمالي كما لا يخفى ، فهو كما لا يندرج في المفهوم كذلك لا يندرج في المنطوق فيبقى خارجا عن مورد الآية بالمرّة.

والثالث : أنّ الحكم في الآية وإن كان بمقتضى مفردات الكلام معلّقا على عدم فعليّة العلم ، لكن الظاهر المنساق منها بمقتضى الهيئة التركيبيّة كونه معلّقا على عدم التمكّن من العلم من غير جهة السؤال.

ص: 134


1- النمل : 43.

وممّا يرشد إليه ما عليه الإجماع في آية التيمّم المعلّقة على عدم وجدان الماء من حملها على عدم التمكّن منه ، كما يستفاد ذلك من الأخبار الواردة في باب التيمّم أيضا ، وليس ذلك كلّه إلاّ من جهة ظهور الهيئة التركيبيّة عند العرف في التعليق على عدم القدرة والتمكّن.

وإن شئت فقل : بظهورها عرفا في انتفاء فعليّة العلم في حقّ من لا يتمكّن منه من غير جهة السؤال ، على معنى انحصار الطريق بالنسبة إليه في هذا السؤال من الغير.

ويؤيّد هذا الظهور أنّه لو كانت الآية مع من يتمكّن من العلم من غير جهة السؤال أيضا أو لما يعمّه لقضى بأنّ له طريقين إلى العلم ، وإرجاعه إلى طريق السؤال ليس بأولى من إرجاعه إلى الطريق الآخر ، بل الأولى إرجاعه إلى هذا الطريق لأنّه أدخل في إفادة الوثوق والاطمئنان وحصول الجزم بالمطلب ، لما في طريق السؤال من الاحتمالات المانعة من هذه الامور أو المحتاجة في رفعها إلى توسيط مقدّمات كثيرة وإحراز مطالب اخر - الّذي لا يكون في الغالب إلاّ بمراجعة اصول غير صالحة لإفادة العلم - ما هو في الكثرة بحيث لا يخفى ، كاحتمال الكذب والتورية والتقيّة والخطأ والسهو والنسيان ونحو ذلك ، فإنّ هذه الاحتمالات المبعّدة عن الواقع قائمة في جواب المسؤول وليس شيء منها قائما في الطريق الآخر.

والمفروض أنّ المطلوب بالآية تحصيل العلم بالمطلب فمقتضى الحكمة إرجاع الجاهل إلى أسرع الطريقين وأعمّهما في إفاده العلم.

إلاّ أن يدفع ذلك : بأنّه إنّما يتمّ إذا كان الغرض من الأمر بالسؤال استحصال العلم وهو في حيّز المنع ، لجواز كون الغرض مجرّد العمل تعبّدا من غير نظر إلى الواقع ، كما هو الحال في موارد التقليد وفي سائر الأمارات الشرعيّة التعبّديّة المجعولة لمجرّد احتمال مطابقتها الواقع.

لكن نقول : مع التمكّن من العلم على نحو الاستقلال فالحمل على مسألة الغير حمل له على أهون الطريقين وأخسّهما وأردأهما ، وهذا ممّا لا يكاد يتحمّله العقلاء كما يظهر وجهه بملاحظة ما سبق في ذيل الوجه الأخير من أدلّة المختار.

والرابع : أنّ الأمر الوارد في الآية ظاهر في التعيين وهو في محلّ البحث منفيّ بالإجماع كما أشرنا إليه في صدر المسألة ، وحمله على وجوب التخيير كما هو المقصود يحتاج إلى شاهد مفقود في المقام ، فوجب حمله على غير المتمكّن الّذي مرجعه إلى ترجيح التقييد في مسألة دوران الأمر بينه وبين حمل الأمر على التخيير.

ص: 135

أمّا على القول بكون الأمر مجازا في التخيير فوجهه واضح.

وأمّا على القول الآخر أو على المختار فلكون التخيير أرجح باعتبار كون الأمر أظهر في التعيين من المطلق في الإطلاق ، وعليه مبنى حمل المطلق على المقيّد في نحو « أعتق رقبة » و « أعتق رقبة مؤمنة » كما حقّق في محلّه مع قيام احتمال التخيير في الأمر بالمقيّد ، وإلى ذلك ينظر ما قيل في دفع الاستدلال بها من أنّ المتبادر من إطلاق الأمر الوجوب العيني ، فيجب حمل الأمر في الآية عليه حملا للّفظ إمّا على الموضوع له أو على الفرد المتبادر ، وهذا الوجوب منفيّ بالنسبة إلى المفروض بالإجماع فيكون متوجّها إلى العامي فيبطل التمسّك بها.

وأمّا ما قيل في دفعه : من أنّا لا نسلّم أنّ الأمر موضوع للوجوب العيني ، بل هو موضوع للأعمّ من العيني.

ففيه - مع أنّ الوضع للأعمّ لا ينافي تبادر العيني من جهة الانصراف إلى أظهر الفردين وأشيعهما وهذا كاف في سقوط الاستدلال بها جزما - : أنّ التحقيق على ما قرّرناه في محلّه أنّ التعيين والتخيير بحسب الحقيقة ليسا فردين ممّا وضع له الأمر مادّة أو صيغة ، ولا أنّ التخيير في موارده تصرّف في مفهوم نفس الأمر ، كيف وليس مفهوم « الأمر » بحسب الوضع إلاّ الطلب الحتمي الّذي لابدّ له من متعلّق غير أنّه قد يتعلّق بشيء واحد بعينه ، وقد يتعلّق بشيئين على جهة البدليّة المسقطة لجهة التعيين عن كليهما ، فالتعيين والتخيير اعتباران في متعلّق الأمر لا نفسه فيكون التخيير في مواضعه تصرّفا في المأمور به.

وحقيقة هذا التصرّف ترجع إلى اعتبار التقييد في كلّ من الشيئين أو الأشياء الواقع بينها التخيير ، على معنى كون كلّ في المطلوبيّة الحتميّة مقيّدا بحالة عدم حصول صاحبه ، وظاهر أنّ التقييد كائنا ما كان لابدّ له من شاهد وهو في المقام مفقود ، ومجرّد تعذّر الحمل على التعيين من جهة الإجماع لا ينهض شاهدا بتعيين هذا التقييد ، لمعارضة ما ذكرناه من التقييد مع كونه أولى وأرجح بملاحظة ما بيّنّاه ، وعليه فالآية ليست مع محلّ البحث أصلا فسقط الاستدلال بها رأسا.

وثانيها : قوله عزّ من قائل : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (1) لنفوذ أمرهم على الامراء والولاة.

ص: 136


1- النساء : 59.

وعن الإحكام : « أنّ المراد باولي الأمر العلماء ، أمر غير العالم بإطاعة العالم ، وأدنى درجاته جواز اتّباعه فيما هو مذهبه ».

والجواب عنه - بعد الإغماض عمّا تقدّم من ظهور الأمر في التعيين وهو منفيّ في المقام بالإجماع ولا شاهد للحمل بخلافه - من وجوه :

الأوّل : أنّ الاستدلال بتلك الآية ونظائرها ممّا ذكر فيه اولوا الأمر لا يلائم مذهبي الفريقين العامّة والخاصّة ، لكون اولي الأمر عند الأوّلين سلاطينهم وعند الآخرين أئمّتهم المعصومين ، وانتقال الأمر بعدهم في كلّ عصر إلى علماء شيعتهم على جهة النيابة العامّة لا يقضي بدخولهم في الخطاب خصوصا مع ملاحظة اختصاصه بالمشافهين ، وما عرفت من الإحكام من كون المراد باولي الأمر العلماء غير واضح الوجه ، مع ما هم عليه في اولي الأمر.

والثاني : أنّ أوامر الإطاعة كنواهي المعصية إرشاديّة يراد بها الهداية المعرّاة عن الطلب ، فهذا لا يترتّب على موافقتها ومخالفتها سوى ما يترتّب على الأوامر الخاصّة ، فلا يستفاد منها الوجوب المطلوب في المقام فضلا عن كونه تخييريّا.

والثالث : أنّ الأمر في الآية وارد بصيغة واحدة متعلّق بإطاعة الرسول واولي الأمر ، ومعلوم أنّ الإطاعة باعتبار إضافتها إلى اللّه أو الرسول تعتبر عينا ولا بدل لها بهذا الاعتبار ليعتبر بينهما التخيير كما لا يخفى.

وقضيّة ذلك كونها باعتبار إضافتها إلى اولي الأمر أيضا كذلك ، فيكون مفاد الآية حينئذ وجوب التعيين وهو خلاف المطلوب.

والرابع : أنّ إطاعة اللّه ورسوله واولي الأمر عبارة عن الانقياد والامتثال لهم في كلّ ما يأمرون به وينهون عنه ، والأمر بها - لو سلّم كونه أمرا حقيقيّا مرادا به الطلب الحقيقي - إنّما يرد مؤكّدا للأوامر والنواهي الخاصّة المتعلّقة بالوقائع المخصوصة حسبما يساعد عليه النظر.

وقضيّة ذلك موضوعيّة الأوامر والنواهي الخاصّة لهذا الأمر ، ومن البيّن أنّ تعلّق الأمر بالمكلّف وتوجّهه إليه يتبع تحقّق موضوعه بالقياس إلى المكلّف على معنى كون الموضوع محرزا في حقّه ، ضرورة استحالة توجّه الأمر التابع لموضوع مع انتفاء هذا الموضوع.

والمفروض أنّه لم يتوجّه من اللّه ورسوله إلى العالم البالغ رتبة الاجتهاد أمر باتّباع مجتهد غيره ليندرج ذلك الأمر في أوامر الإطاعة ويكون من جملة موضوعاتها.

ص: 137

وكذلك لم يصدر من اولي الأمر - لو اريد بهم العلماء - أمر باتّباعهم إليه ، لما عرفت من أنّه لم يوجد فيما بين العلماء من أصحابنا قول محقّق بجواز التقليد له ، ولو كان فيهم قول محقّق به أو عمّم « اولو الأمر » بحيث يشمل العلماء من العامّة لم يكن مجديا لكون المسألة خلافيّة وأكثرهم يحرّمون التقليد بالنسبة إليه ، فإطاعة المجوّزين يعارضها إطاعة المحرّمين وأقصى مراتبه على فرض التكافؤ وفقد المرجّح التساقط ، فيبقى وجوب الاجتهاد سليما عن المعارض ، ويندرج بهذا الاعتبار في أوامر الإطاعة. فالآية حينئذ تنهض دليلا على المختار.

بل لنا أن نقول : إنّ الترجيح في جانب القول بالتحريم ، إذ الأمر - على ما سبق بيانه - دائر بين الحرمة عينا والوجوب تخييرا ، والأخذ بمقتضى الحرمة لا ينافي العمل بمقتضى الوجوب تخييرا ، لأنّ المأخوذ حينئذ أحد فردي الواجب التخييري ، بخلاف الأخذ بمقتضى الوجوب تخييرا فإنّه ينافي العمل بمقتضى الحرمة كما لا يخفى. ومن البيّن تعيّن الأخذ من المتعارضين بما لا ينافي العمل به العمل بالآخر.

ولو قرّر الأمر بإطاعة اولي الأمر بالنسبة إلى فتاوى المجتهد الآخر في كلّ واقعة بأن يقال : إنّها إمّا أمر أو نهي فتندرج من هذه الجهة في موضوع أوامر الإطاعة.

فيتوجّه إليه منع كون الإفتاء من باب الأمر والنهي وإنّما هو إخبار عن مؤدّى الاجتهاد والمذهب ، والأمر والنهي هو المخبر به المأخوذ في قضيّة هذا الإخبار ، وهما بالقياس إلى من يتوجّهان فعلا راجعان إلى أوامر اللّه ورسوله ونواهيهما ولا مدخل للمجتهد المفتي فيهما.

والمفروض أنّه لم يتبيّن بالدليل توجّههما إلى محلّ البحث على وجه يكونان حكمين فعليّين بالنسبة إليه ، كما أنّهما حكمان فعليّان بالنسبة إلى العامي المقلّد لهذا المفتي ، لأنّ أصل الشبهة في تلك القضيّة لا غير ، فمع الشكّ في اندراجها بالنسبة إليه في موضوع أوامر الإطاعة كيف يستدلّ بتلك الأوامر على وجوب اتّباعه المجتهد الآخر.

وبالجملة : فسقوط الاستدلال بتلك الآية ونظائرها في غاية الوضوح.

وثالثها : قوله عزّ من قائل : ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ ) (1) الآية أوجب الحذر عند إنذار الفقيه مطلقا فيتناول العالم كالعامي.

والجواب عن ذلك :

ص: 138


1- التوبة : 122.

أوّلا : بما تقدّم في أجوبة الآيتين الاوليين من أنّه لو تمّ لقضى بوجوب الحذر تعيينا وهو منفيّ بالإجماع ، وثبوت التخيير للمنذر بالإضافة إلى المنذرين لو تعدّدوا لا مدخل له بالتخيير الّذي هو محلّ البحث كما لا يخفى ، فإنّ هذا التخيير بالقياس إلى اجتهاد نفس المنذر وهو العالم المتمكّن تعيين ، لمنافاته قيام ما ليس من جنس الإنذار الحاصل من الغير مقامه.

وثانيا : أنّ الآية عند التحقيق ينهض دليلا على وجوب الاجتهاد في حقّ محلّ البحث لا على جواز التقليد له ، وذلك لأنّ التفقّه المأمور به ليس إلاّ عبارة عن الاجتهاد ، والأمر المتعلّق به إمّا أن يكون متوجّها إلى المتمكّنين من الاجتهاد أو إلى من يعمّهم والغير المتمكّنين ، والثاني باطل لاستحالة التكليف بما لا يتمكّن منه. والراجح في النظر القاصر أنّ هذا هو الوجه في تخصيص الأمر من كلّ فرقة بطائفة منهم ، نظرا إلى أنّ المتمكّن منهم من الاجتهاد طائفة منهم لا جميعهم ، فعلى هذا يكون الآية من الخطابات العينيّة لا الكفائيّة على خلاف ما فهمه القوم حيث يستدلّون بها على وجوب الاجتهاد كفاية بدليل تخصيص الطائفة بالذكر ، مع أنّ مذهبهم في الخطاب الكفائي أنّه يتناول الجميع ويسقط بفعل البعض فيضطرّون في تصحيح الاستدلال بها - مع ظهورها في أمر الطائفة عينا - إلى تأويلها بأنّ تخصيص الطائفة بالذكر من جهة أنّها البعض الّذي يسقط بفعله الفرض عن الآخرين لا من جهة اختصاص الأمر بهم ، وغفلوا عن أنّ هذا التأويل لا ينهض إصلاحا للأمر المتعلّق بالطائفة على طريق العينيّة ، ومن هنا ترى أنّ من خصّ فرض الكفاية بالبعض الغير المعيّن أخذ الآية دليلا على مطلوبه.

وما استظهرناه في معنى الآية لا يستلزم إشكالا ولا افتقارا إلى التكلّف في دفعه بما لا يدفعه أصلا ، فإذا كان المتمكّنون من الاجتهاد يجب عليهم الاجتهاد عينا يدخل فيهم محلّ البحث وهو المطلوب ، بل الوجوب عليهم عينا عين المطلوب.

ولا ينافي ذلك للقضيّة المجمع عليها من أنّ الاجتهاد من فروض الكفاية يتعلّق بجميع المكلّفين ويسقط بفعل البعض ، لأنّ هذا الاجتهاد لابدّ وأن يراد منه غير ما هو المراد منه في محلّ البحث وهو تحمّل المشقّة في النظر في الأدلّة لاستنباط ما يستنبط منها من الأحكام ، ضرورة أنّه لا يتمكّن منه إلاّ بعد حصول مقدّمات وجوده من استحصال العلوم المعهودة المأخوذة من مباديه والملكة وقوّة ردّ الفرع إلى الأصل فلا يكون ذلك ممّا يتمكّن منه

ص: 139

جميع المكلّفين لانتفاء مقدّماته عن الجميع ، فلا يعقل كون الخطاب به متوجّها إلى الجميع على نحو التخيير بل الّذي يصلح لأنّ يتوجّه الخطاب به إلى الجميع إنّما هو الاجتهاد بمعنى تحمّل المشقّة في تحصيل تلك المقدّمات مع ما في كون ذلك مقدورا لكلّ واحد من الآحاد من الإشكال ما لا يخفى ، بل القدرة على هذا المعنى أيضا منتفية عن أكثرهم.

نعم القدرة على تحمّل مؤونة القادر عليه عامّة لكن لا للجميع أيضا.

وبالجملة : الخطاب الكفائي في جميع مراتبه وفروضه كالخطاب العيني لا بدّ وأن يخصّ بالمتمكّنين من متعلّقه ، والّذي يسلّم كون الخطاب به كفائيّا من معنى الاجتهاد هو المعنى الثاني ، فإذا قام من يقدر عليه ويقوم به الكفاية وأقدم عليه إلى أن يفرغ من استحصال المقدّمات بأسرها سقط الفرض عن الآخرين ويصير هو بذلك مجتهدا بالملكة فيتوجّه إليه حينئذ الخطاب بالاجتهاد بالمعنى الأوّل عينا ، فلا تنافي بين القضيّتين أصلا.

نعم قضيّة ما فصّلناه كون الأمر بالاجتهاد بهذا المعنى مشروطا بحسب الواقع ، ولا ينافيه وروده في الآية بعبارة الإطلاق لأنّ المحقّق عندنا - على ما قرّرناه في محلّه - أنّ المشروط في الحقيقة مطلق مخصوص بواجدي الشرط وإن ورد في القضيّة بعبارة التعليق والاشتراط ، فوروده في الآية مطلقا من جهة اختصاصه بموضوعه الّذي هو واجد للشرط ، فليتدبّر جدّا.

ورابعها : أنّه حكم يسوغ فيه الاجتهاد ، فجاز لغير العالم تقليد العالم كالعامي ، لجامع العمل بالظنّ المستند إلى قول الغير.

والظاهر أنّ الاجتهاد في عبارة هذا الدليل مراد به القياس على ما هو من مصطلح العامّة ، فمحصّل الدليل حينئذ : أنّ جواز التقليد في محلّ البحث حكم يجوز فيه القياس ، وقوله : « فجاز لغير العالم » إلخ تقرير لهذا القياس الجائز في هذا الحكم. فجوابه أوّلا : بمنع جواز القياس لبطلانه في جميع الأحكام.

وثانيا : بمنع جامعيّة الجامع المذكور ، فإنّ التقليد تعبّد لا أنّه عمل بالظنّ المستند إلى قول الغير.

وثالثا : بإبداء الفارق من حيث إنّ العامي إنّما جوّز له العمل بهذا الظنّ لعدم تمكّنه من غيره بخلاف المقام.

وخامسها : الإجماع على قبول خبر الواحد عن المجتهد بل عن العامي ، ووجوب عمل المجتهد اعتمادا على عقله ودينه ، وهذا قد أخبر المجتهدين منتهى بذل الجهد فجواز العمل به أولى.

ص: 140

والجواب : منع هذا الإجماع ، كيف وحجّيّة خبر الواحد معركة للآراء.

نعم هاهنا إجماع نقله الشيخ على خصوص الأخبار المرويّة عن أئمّتنا المعصومين بطرق أصحابنا ، وهو لا ينفع المقام لأنّه منقول ، مع عدم اندراج المقام في مورده ، هذا مع منع الأولويّة على فرض صحّة الإجماع لوضوح الفرق بين الخبر عن حسّ والخبر عن حدس واجتهاد ، والإجماع إنّما يسلّم في الأوّل والثاني يفارقه في قوّة احتمال الخطأ فلا يكون أولى منه في الحكم.

وسادسها : أنّه إذا ظنّ المجتهد بفتوى مجتهد آخر فقد ظنّ أنّ حكم اللّه تعالى ذلك ، فيحصل ظنّ العقاب بترك العمل فيجب العمل دفعا للضرر المظنون.

والجواب : أنّ ظنّه بفتوى مجتهد آخر المستلزم لظنّه بأنّه حكم اللّه إن اريد به ظنّه بحكم اللّه بسبب فتوى ذلك المجتهد على أن تكون الفتوى ملحوظة من باب الطريقيّة على حدّ سائر طرق الظنّ وأماراتها فهو داخل حينئذ في ظنونه الاجتهاديّة الّتي لها أسباب منها فتوى الفقيه ، ولزوم اتّباعه - لو دلّ عليه دليل - لا ينافي كونه متعبّدا باجتهاد نفسه من غير أن يكون ذلك تعبّدا بفتوى الغير من حيث إنّه فتوى الغير.

وإن اريد به ظنّه به على وجه تكون عنوان فتوى الغير ملحوظا من باب الموضوعيّة.

ففيه - مع بعد اتّفاق حصول الظنّ بهذا العنوان ، مضافا إلى عدم إناطة الأمر في التقليد بالظنّ فوجوده بمنزلة عدمه - : أنّه إن اريد بالحكم المظنون كونه حكم اللّه الحكم الواقعي المجعول للواقعة بحسب نفس الأمر القابل لأن يكون مع ذلك حكم اللّه الفعلي في مقام العمل الواجب اتّباعه في مقام الامتثال وعدمه ، ففيه : أنّ الظنّ به من هذه الجهة لا ينافي الشكّ في كونه الحكم الفعلي الواجب اتّباعه وعدمه كما هو المفروض ، فحصول ظنّ العقاب حينئذ غير معقول ، ضرورة أنّ العقاب من لوازم مخالفة الحكم الفعلي والظنّ باللازم لا يجامع الشكّ في الملزوم كما لا يخفى.

بل لنا أن نقول : إنّ مجرّد الشكّ في الملزوم يكفي في القطع بانتفاء اللازم هنا ، نظرا إلى ما تقدّم من الأدلّة القطعيّة على أنّ الظنّ بنفسه لا يصلح ميزانا للحكم الشرعي.

ومع الغضّ عن ذلك فأصل البراءة الجاري في نظائر المقام يؤمننا عن العقاب فلا ضرر حينئذ ليجب دفعه ، ولا يلزم من إجراء أصل البراءة في جميع الوقائع - لو فرض حصول الظنّ له في كلّ واقعة واقعة أفتى بها المفتي - الخروج عن الدين والمخالفة القطعيّة كما كان

ص: 141

يلزم من إجرائه كذلك بالقياس إلى ظنون المجتهد نفسه على ما قرّر في تتميم دليل الانسداد ، من جهة أنّ ذلك ثمّة إنّما كان لازما لأجل انحصار العلم الإجمالي في الوقائع المظنونة.

والمفروض أنّ طريق العلم الإجمالي هاهنا ليس منحصرا في فتاوى مجتهد آخر ، لأنّ له طريقا آخر وهو أخذه بمؤدّى اجتهادات نفسه فيحصل التديّن وامتثال العلم الإجمالي باتّباع مؤدّى اجتهاداته البتّة وإلاّ خرج الفرض عن محلّ البحث.

وإن اريد به الحكم الفعلي ، ففيه : أنّ الظنّ بفعليّة فتوى هذا المجتهد المستتبع لترتّب العقاب والضرر على المخالفة لا يجامع العلم بجواز الاجتهاد لنفسه وصحّة هذا الاجتهاد لو حصل ، بل معنى الظنّ المذكور عند التحقيق الظنّ بعدم جواز الاجتهاد وعدم صحّته لو حصل ، ومرجعه إلى الظنّ بعدم أهليّته للاجتهاد فيكون الفرض مخرجا له عن محلّ البحث ، لأنّ تكليفه مع الشكّ في أهليّة الاجتهاد هو التقليد فيكف مع الظنّ بعدم الأهليّة.

وسابعها : أنّه لو وجب على المجتهد المفروض الاجتهاد في المسائل الّتي لم يجتهد فيها ولم يجز له التقليد فيها لوجب عليه في مدّة طويلة كعشرة سنين أو عشرين أو ثلاثين سنة ترك الاشتغال بجميع الامور الّتي تنافي الاجتهاد من الأكل والشرب والنوم والجماع والمصاحبة والعشرة مع العباد والمسافرة والمعاملة ونحو ذلك إلاّ بقدر الضرورة ، ولوجب عليه تأخير الصلاة ونحوها من العبادات الموسّعة إلى وقت الإمكان ، والثاني باطل فكذا المقدّم.

أمّا الملازمة : فلأنّ ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب مع احتياج المكلّف إلى معرفة المسائل الكثيرة الّتي لا تكاد تحصى ، كمسائل الوضوء والغسل والتيمّم وإزالة النجاسة والصلاة والبيع ونحو ذلك ممّا لا يتمكّن من الاجتهاد في جميعها في يوم أو يومين بل شهر أو شهرين بل سنة أو سنتين بل عشرين وثلاثين سنة ، خصوصا بالنسبة إلى صاحب الأذهان الدقيقة والأفهام العميقة.

وأمّا بطلان التالي فلوجوه :

الأوّل : أنّا لم نجد أحدا من المتقدّمين والمتأخّرين من مجتهدي الخاصّة والعامّة من ضيّق على نفسه الأمر بعد بلوغه رتبة الاجتهاد في شطر من الزمان هذا التضييق وترك الاشتغال بجميع المنافيات ، وأخّر العبادات إلى آخر وقتها من هذه الجهة ، بل نراهم يؤخّرون الاجتهاد بالسفر المباح والأفعال الغير الضروريّة ويتسامحون فيه غاية المسامحة ، ولم نجد

ص: 142

أحدا قدح فيهم وحكم بفسقهم من هذه الجهة ، إلى آخره.

والثاني : أنّه لو وجب الاجتهاد وترك التقليد على المجتهد المفروض بالنحو المفروض من ترك الاشتغال بالمنافيات وتأخير العبادات الموسّعة المنافية إلى آخر الأوقات والاشتغال بالاجتهاد في جميع الأزمان للزم العسر العظيم الّذي هو أعظم من الضرر الحاصل من العمل بالاحتياط في جميع المسائل ، والتالي باطل.

الثالث : أنّ ذلك لو كان واجبا لوردت الأخبار بذلك لتوفّر الدواعي عليه ومسيس الحاجة إليه ، وبطلان التالي في غاية الوضوح.

والجواب عن ذلك : منع الملازمة ، أمّا أوّلا : فلما قرّرناه في محلّه من عدم اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن أضداده الخاصّة.

وأمّا ثانيا : فلعدم ابتناء الأمر بالاجتهاد على المضائقة المستلزمة لما ذكر ، بل المأمور به هنا لابدّ وأن يؤخذ على وجه يتحمّل عادة من غير تضمّنه شيئا من العذر والعسر ، أمّا أوّلا : فلما تقدّم من التنبيه عليه من أنّ محلّ البحث الاجتهاد الّذي لم يقم ضرورة دعت إلى عدمه ولا مانع شرعي منه ، وكما أنّ العذر مانع عقلي وكذلك العسر مانع شرعي لأنّه ممّا أخذه الشارع مانعا عن تعلّق التكاليف بما هو ملزوم له.

وأمّا ثالثا (1) : فلما عرفت عند تقرير دليل الانسداد من أنّ العدول عن الاحتياط إلى الاجتهاد - مع أنّ مقتضى الأصل بعد تعذّر العلم التفصيلي بامتثال أحكامه تعالى هو الرجوع إلى العلم الإجمالي الّذي لا يتأتّى إلاّ من الاحتياط - إنّما هو لأجل التفصّي عمّا نفاه الأدلّة الأربعة من العسر والحرج الّذي لا يتحمّلان عادة ، ومعه كيف يصحّ أن يعتبر الاجتهاد على وجه يقتضيهما ، ضرورة أنّه لو لا كونهما منفيّين في نظر الشارع كان المتعيّن في المقام بل في غير المقام - كموضوع المسألة المتقدّمة - الأخذ بالاحتياط.

وقضيّة ذلك بناء الأمر في الاجتهاد على المواسعة الّتي لا يجب معها الاقتصار في امور المعاش على قدر الضرورة ، فلا تأخير الصلاة وغيرها من العبادات الموسّعة إلى آخر وقت الإمكان.

فتحقيق المقام : أنّ الواجب من الاجتهاد عينا بمقتضى الجمع بين دليل وجوبه وقاعدة العذر والعسر النافيين للتكليف صرف الوقت في الاشتغال باستنباط الأحكام من مداركها

ص: 143


1- كذا في الأصل ، والصواب : « وأمّا ثانيا ».

بما لا ينافي الاشتغال بسائر الأفعال العادية بحسب العادة الّتي لو تغيّرت فيها لاختلّ به النظم ولزم منه عسر لا يتحمّل عادة.

وبهذا البيان يضعّف ما قد يتمسّك لعدم وجوب الاجتهاد بالسيرة ، بتقريب : أنّ أرباب الملكات من العلماء نراهم أنّ سيرتهم على عدم استغراق وقتهم للاجتهاد ، بل نراهم يسافرون ويجالسون ويعاشرون ويباشرون النساء وينامون ويحضرون المجالس والمحافل ويتشاغلون غير هذه من الأفعال المضادّة للاجتهاد.

فإنّ هذه السيرة وإن كانت في الجملة ثابتة غير أنّ كونها لأجل عدم وجوب الاجتهاد رأسا غير واضح ، لجواز كونها لأجل عدم ابتنائه على المضائقة المانعة عن الاشتغال بالأفعال المذكورة إلاّ بقدر الضرورة ، مع جواز ابتناء تركه في محلّ هذه الأفعال على العمل بالاحتياط ، فلا تكشف عن تجويزهم لأنفسهم تقليد غيرهم حيث لم يظهر منهم أنّهم حال الاشتغال بالأفعال أنّهم يقلّدون.

فالحقّ أنّ الحكم الواقعي في حقّ اولي الملكات أحد الأمرين من الاجتهاد أو العمل بالاحتياط بعد معرفته ومعرفة موارده.

وثامنها : الاستصحاب الّذي قرّره بعضهم بأنّ المجتهد المفروض قبل بلوغه رتبة الاجتهاد كان مقلّدا لغيره في المسألة الّتي لم يجتهد فيها وفي المسألة الّتي اجتهد فيها ، وبطل حكم الاستصحاب بالنسبة إلى هذه بالدليل الأقوى وأمّا الّتي لم يجتهد فيها فلا دليل على حرمة التقليد فيها ولزوم ترك ما كان عليه سابقا فيها ، فيجب البقاء على ما كان عليه من التقليد والعمل بقول الغير عملا بالاستصحاب.

وأمّا المسألة الّتي لم يقلّد فيها فلا يخلو إمّا أن يكون ممّن وجب عليه التقليد أو لا؟

أمّا الأوّل : فيجري فيه الاستصحاب أيضا.

وأمّا الثاني فعدم جريانه فيه غير قادح في صحّة القول بالتقليد مطلقا ، لأنّه إذا صحّ التمسّك به في بعض الصور وجب إلحاق الباقي به بعدم القول بالفصل بين الصور.

وضعفه واضح بعد ما عرفت من الأدلّة على حرمته مطلقا ، مع ما أشرنا سابقا إلى ما يقدح في صحّة الاستصحاب من تبدّل موضوع المستصحب ، مع أنّ في صحّة التمسّك بالإجماع المركّب فيما يثبت أحد شطريه بالأصل كلاما أوردناه في محلّه.

ص: 144

خاتمة : الاجتهاد بالنسبة إلى البالغ رتبته واجب مطلق وبالنسبة إلى غيره واجب مشروط

خاتمة

يظهر بالتأمّل في كلماتنا السابقة أنّ الاجتهاد بالنسبة إلى من بلغ رتبته واجب مطلق وبالنسبة إلى غيره واجب مشروط ، وشرط وجوبه البلوغ رتبته الّذي معياره حصول الملكة المقتدر بها على استنباط الأحكام من مداركها ، والقوّة المقتدر بها على ردّ الفروع إلى الاصول ، ومن حكم الواجب المشروط - على ما حقّق في محلّه - عدم وجوب تحصيل مقدّماته الوجوبيّة ، فلا يجب على فاقد الملكة والقوّة المذكورتين تحصيلها ، وأمّا ما عداها من الشروط فهي من المقدّمات الوجوديّة ومن جملتها استحضار الكتب الّتي لها مدخل في الاستنباط من كتب الحديث والرجال والتفسير والكتب الفقهيّة الاستدلاليّة.

ومن المقرّر في المقدّمات الوجوديّة بعد حصول شرط الوجوب وجوب تحصيلها على القادر عليه ، فيجب على البالغ رتبة الاجتهاد تحصيل الكتب المذكورة حسبما يحتاج إليه في استنباطه إن قدر عليه كما يجب عليه رفع موانع الاستنباط المقدور على رفعها من باب المقدّمة.

نعم إن لم يقدر على تحصيل المقدّمات الوجوديّة أو على رفع الموانع سقط عنه فرض الاجتهاد لكون الواجب بالقياس إلى القدرة على المقدّمات الوجوديّة أيضا مشروطا.

وحينئذ ففي تعيّن العمل بالاحتياط أو جواز التقليد له وجهان أشرنا إليهما سابقا ، ولكنّ الوجه فيه التفصيل فيتعيّن عليه العمل بالاحتياط للأصل العقلي المتقدّم ذكره إلاّ ما تعذّر الاحتياط أو أدّى إلى عسر لا يتحمّل عادة فيقلّد حينئذ لقبح التكليف بغير المقدور والأدلّة النافية للعسر والحرج.

تعليقة : التجزّي في الاجتهاد

اشارة

- تعليقة -

ما عرفت من البحث في المسألتين السابقتين إنّما هو في حكم المجتهد المطلق - أعني صاحب الملكة العامّة لجميع المسائل - وأمّا المجتهد المتجزّي فقد اختلفوا في حكمه فتارة بالنظر إلى إمكانه المعبّر عنه بجواز تجزّي الملكة وعدمه ، واخرى بالنظر إلى اعتبار مجتهداته المعبّر عنه بمساواته المجتهد المطلق في حجّيّة ظنّه وعدمها.

فالكلام في هذه المسألة يقع في مقامين تعرّض لهما المصنّف.

ص: 145

وقد اختلف الناس في قبوله للتجزئة بمعنى جريانه في بعض المسائل دون بعض * ،

__________________

* المراد بالاجتهاد المختلف في قبوله التجزئة هو الملكة المقتدر بها على الاستنباط ، وبتجزّيه كونها مقصورة على بعض المسائل قبالا للمجتهد المطلق الّذي له ملكة عامّة لجميع المسائل.

وأمّا ما عن بعضهم من توهّم كون النزاع في تجزّي الاجتهاد بحسب الفعل لا بحسب الملكة فهو وإن كان ممّا يوهمه بعض أدلّة أهل القول بإمكان التجزّي حسبما تعرفه ، غير أنّه عند التحقيق ممّا لا محصّل له إلاّ بأن يرجع بنحو من التأويل إلى بعض الصور الآتية ، وهو تعلّق النزاع باعتبار استنباطه الفعلي الحاصل في المسألة بمقتضى ملكته المقصورة على تلك المسألة خاصّة ، إذ المجتهد المتجزّي اصطلاح لهم فيما يقابل المطلق.

ومن البعيد تعلّق النزاع بما لو كانت الملكة تامّة حاصلة في الجميع والفعليّة ناقصة مختصّة بالبعض.

بل ظاهر كلماتهم يعطي إجماعهم على أنّه لا يشترط في المجتهد المطلق حصول الاستنباط الفعلي في جميع المسائل تحقّقا ولا اعتبارا شرعيّا ، ولا إمكان تحقّقه إذ استند امتناعه إلى فقد شرط أو وجود مانع راجع إلى اقتضاء المقتضي وهو عموم الملكة لا إلى فقد المقتضي وإلاّ كان متجزّيا.

ثمّ قبول التجزئة في عنوان المسألة إمّا أن يراد به ما هو بحسب الاصطلاح ، أو ما هو بحسب التحقّق الخارجي ، أو ما هو بحسب الجعل الشرعي.

فعلى الأوّل يراد به دخول ملكة البعض كملكة الكلّ في المعنى المصطلح عليه ، على معنى كون الاجتهاد بحسب الاصطلاح اسما لمفهوم عامّ صادق على ملكة الكلّ وملكة البعض وعدمه فيكون اسما لخصوص ملكة الكلّ ، فيكون النزاع في أمر لفظي.

وعلى الثاني يراد به إمكان تحقّق ملكة البعض في الخارج كما أنّ ملكة الكلّ متحقّقة فيه مع كون الاجتهاد بحسب الاصطلاح للمفهوم العامّ.

ومحصّله إمكان تحقّقه في ضمن كلّ من فرديه وعدمه ، بل هو كواجب الوجود كلّي منحصر في الفرد مع امتناع فرده الآخر وهو ملكة البعض ، فيكون النزاع في أمر عقلي.

وعلى الثالث يراد به اعتبار ملكة البعض شرعا كما يعتبر ملكة الكلّ ، ومعنى اعتبارها

ص: 146

شرعا كونها منشأ لصحّة المستنبطات وصيرورتها أحكاما فعليّة يجب بناء العمل عليها شرعا ، فيكون النزاع في أمر شرعي.

لكن لا خفاء في سقوط أوّل الوجوه عن البين ، إذ لا كلام لأحد في ثبوت التسمية لكلا القسمين ، وهو ظاهر أكثر التعاريف ولا سيّما تعريف الزبدة ، ولذا صرّح الفاضل الجواد في شرح « الحكم » المأخوذ فيه بما صرّح (1).

ويكفيك شاهدا بذلك تقسيمهم المجتهد إلى المطلق والمتجزّي ، فإن أوهم بعض التعاريف اختصاصه بملكة الجميع فلا يلتفت إليه بعد ملاحظة أنّ الامور الاصطلاحيّة إنّما تثبت بما عليه الأكثر ولا اعتداد بما عليه الشاذّ الأندر.

وأمّا الوجهان الآخران فكلماتهم المتعرّضة لتشخيص موضع الخلاف مختلفة ، فالمعروف المصرّح به في كلام غير واحد أنّ النزاع في كلا المقامين وهو الأظهر.

وقد يخصّص الخلاف بمقام الاعتبار ويصرف عن مقام الإمكان ، ومنه ظاهر عبارة التهذيب قائلا : « والأقرب قبوله التجزّي ، لأنّ المقتضي لوجوب العمل مع الاجتهاد في جميع الأحكام موجود مع الاجتهاد في بعضها ، وتجويز تعلّق المجهول بالمعلوم يدفعه الفرض » انتهى.

ولعلّ السرّ فيه توهّم سخافة الخلاف في مقام التحقّق ، إمّا لعدم معقوليّة تجزّي الملكة كما قد يتوهّم ، أو لشذوذ المخالف وندور المنكر على وجه يعدّ إنكاره مدافعة للعيان ومكابرة للوجدان كما قيل.

وقد يعكس الأمر بتخيّل أنّ النزاع في اعتبار ظنّ المتجزّي على فرض حصوله على نحو ما يحصل للمطلق ليس على ما ينبغي ، إذ الظنّ بعد اعتباره لا يتفاوت فيه الحال بين كون الظانّ مطلقا أو متجزّيا ، بل الّذي يليق بأنّ ينازع فيه إنّما هو إمكان التجزّي ، على معنى إمكان حصول الظنّ في بعض المسائل لغير القادر على استنباط الجميع على نحو ما يحصل للمجتهد المطلق ، وهذا هو الّذي يظهر من بعض كلماتهم الآتية.

لا يقال : إنّ هذا يعطي دعوى كون النزاع في تجزّي الاجتهاد بحسب الفعل ولذا عبّر عنه بحصول الظنّ وعدمه ، لمكان قوله : « لغير القادر على استنباط الجميع » فإنّه يعطي كون مفروض الكلام في صاحب الملكة الناقصة الّذي هو المتجزّي في اصطلاحاتهم ، وعليه فلا بدّ

ص: 147


1- راجع ص 18.

وذلك بأن يحصل للعالم ما هو مناط الاجتهاد في بعض المسائل فقط * ، فله حينئذ أن يجتهد فيها أو لا.

__________________

وأن يستند دعوى عدم حصول الظنّ على القول بعدم قبول التجزّي إلى فقد المقتضي له وهو أصل الملكة ، لعدم إمكان تحقّقها مع البعض ولو مع وجود الدليل ودلالة الدليل الموجود وسلامته عن المعارض الّتي هي من شروط اقتضاء المقتضي على تقدير وجوده ، لا إلى فقد شروط الاقتضاء أو وجود موانعه.

وقد يحتمل كون النزاع لفظيّا.

ومنه ما قيل على ما حكاه شارح الوافية من « أنّه لا كلام في تجزّي العلم بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّته التفصيليّة فعلا ، فإنّ الإحاطة بجميع الأحكام الفرعيّة بالفعل غير مقدور لأحد غير المعصوم عليه السلام ، ولو فرض مقدوريّته فهو ليس بشرط إجماعا ، وإنّما الكلام في تجزّي نفس القوّة والملكة الّتي تسمّى اجتهادا والظاهر أنّه غير معقول أيضا ، وإنّما المتجزّي الاجتهاد الفعلي لا نفس القوّة ، ولعلّ من جوّزه إنّما لاحظ ذلك فيرجع النزاع لفظيّا وإن أبته عبارات أكثرهم » انتهى.

وفيه من البعد ما لا يخفى بل ينبغي القطع ببطلانه ، وما أبعد بين ما ذكر هذا القائل من عدم معقوليّة تجزّي الملكة وبين ما ادّعاه قائل آخر من كون إنكار جواز تجزّي نفس الملكة مكابرة للوجدان ، كما حكاه السيّد في شرحه للوافية أيضا قائلا : « قال بعض الفضلاء : الحقّ أنّ التجزّي بمعنى الاقتدار على بعض المسائل دون بعض على وجه تساوي استنباط المجتهد المطلق أمر جايز بل واقع ، والمنازع فيه يكاد يلحق نزاعه بالمكابرة ، فإنّ الاقتدار ربّما كان على نوع خاص من الأحكام بل على صنف من الأنواع للانس بمداركه والاطّلاع على مأخذه واستعداد النفس بسبب ذلك استعدادا قريبا للعلم بذلك الحكم من دليله وليس هذا بمنكر ، وكيف ينكره من يسلّم تجزّي الاقتدار والاستعداد في العلوم الإلهيّة والطبيعيّة والعربيّة والشعر والإنشاء والرسائل وغيرها من الصناعات ، وأنّ الفرق بينها وبين الاستعداد القريب لاستنباط الأحكام الشرعيّة تحكّم بارد واقتراح مردود لا يرتكبه المنصف المحقّق ».

* والتعبير بحصول مناط الاجتهاد كما هنا أو بما يرادفه كما في كلام جماعة أحقّ ممّا في الزبدة من التعبير بالاطّلاع على دلائل الحكم ، وما في المحصول من التعبير بمعرفة ما ورد في المسألة من الآيات والسنن والإجماع والقياس ، لوضوح أنّ التمكّن من استنباط

ص: 148

الحكم الشرعي من المأخذ ليس بمجرّد معرفة ذلك المأخذ ، إلاّ أن يراد منها معرفتها على وجه يتمكّن معه من إعماله المستتبع للتوصّل إلى مؤدّاه من الحكم الشرعي.

وكيف كان فمقصود المقام أن يحصل لمريد الاستنباط جميع ماله دخل في المسألة المجتهد فيها من معرفة دليلها ومبادئها عربيّة واصوليّة ورجاليّة وغيرها من المقدّمات القريبة أو البعيدة المأخوذة في الاستدلال عليها مع التمكّن من إعمالها ووضع كلّ موضعه اللائق به على وجه يختصّ جميع ذلك بمسألة أو مسألتين أو عدّة مسائل بحيث لم يكن عنده ممّا يتعلّق بسائر المسائل شيء ممّا ذكر ، أو كان مع عدم وفائه بحصول ما هو الغرض من معرفة أصل الحكم ، ومرجعه إلى قصور استعداده عن معرفة الحكم في باقي المسائل.

فبما شرحناه تبيّن أن ليس المراد بتجزّي الاجتهاد تبعّض الملكة التامّة الحاصلة بالقياس إلى جميع المسائل حتّى يقال : إنّها بعد حصولها أمر بسيط لا يتبعّض ، أو أنّها إذا كانت من مقولة الكيف فلا يقبل لذاتها قسمة ولا نسبة.

ولا أنّ المراد بقبولها التجزئة اشتمالها باعتبار الشدّة والضعف على مراتب ، فهي في بعض المراتب قويّة وفي بعضها الآخر ضعيفة وفي الثالث متوسّطة وليس ذلك إلاّ من جهة قبولها الزيادة والنقصان.

والمفروض أنّ من يقول بالتجزّي فيها يرجع كلامه إلى دعوى قبولها النقص على معنى كونها حيثما حصلت ناقصة.

حتّى يرد عليه : أنّ الاختلاف من هذه الجهة لا ينافي امتناع التجزّي حسبما يدّعيه أهل القول به من أنّ ملكة استنباط بعض الأحكام لا ينفكّ عن ملكة استنباط جميعها ، على معنى أنّ المتمكّن من استنباط البعض متمكّن من استنباط الجميع ، ومن لا يتمكّن من استنباط الجميع لا يتمكّن من استنباط البعض أيضا ، فلا يتفاوت الحال عنده بين فرض كونها في مرتبة القوّة أو الضعف أو المرتبة المتوسّطة بينهما ، إذ القوّة والضعف فيها بحسب المراتب ليست باعتبار عمومها لجميع المسائل أو اختصاصها بالبعض ، بل باعتبار الاختلاف فيما يترتّب عليها من حصول الاستنباط بسهولة أو صعوبة وعدم حصوله ، ومن التوصّل إلى الإدراكات الجزئيّة من جهتها بسرعة أو بطؤ وعدمه ، فإنّ الملكة المقتدر بها على الاستنباط أو على الإدراك الفعليّين كلّما قويت سهل الاستنباط وحصل الإدراك بسرعة وكلّما ضعفت صعب الاستنباط وحصل الإدراك ببطؤ ، وذلك إمّا من جهة تفاوت انسه بمقام

ص: 149

في إمكان تجزّي الاجتهاد

ذهب العلاّمة رحمه اللّه في التهذيب ، والشهيد في الذكرى والدروس ، ووالدي في جملة من كتبه ، وجمع من العامّة ، إلى الأوّل * ، وصار قوم إلى الثاني **.

حجّة الأوّلين *** : أنّه إذا اطّلع على دليل مسألة بالاستقصاء فقد

__________________

التفريع أو من جهة اختلاف خبرته ووقوفه على طريقة الفقهاء في الدخول في المسائل والخروج عنها ، أو من جهة تفاوت ممارسته في اصول المسائل الفرعيّة وفروعها ، أو من جهة الاختلاف في استحكام ما يبتنى عليها الاستنباط من القواعد الحاضرة عنده والمبادئ الحاصلة لديه ، أو من جهة التفاوت في دائرة القوّة الفكريّة ، أو من جهة غير ذلك من دواعي القوّة والضعف في الملكة.

وبالجملة ليست العبرة في التجزّي بضعف الملكة بحسب الماهيّة ليكون المجتهد المطلق من له الملكة القويّة ، وإن شئت فعبّر عن تجزّي الاجتهاد باعتبار الملكة بتجزّي المسائل بالإضافة إلى الملكة وجودا وعدما ، بأن يكون الملكة الموجودة مقصورة على البعض قاصرة عن الباقي سواء كانت في مرتبة القوّة والضعف أو المرتبة المتوسّطة بينهما.

* وفي الوافية : « الأكثر على أنّه يقبل التجزئة » وفي أصل الاصول : « نسبه جمع من الأصحاب إلى المشهور » ، وفي نسبة ذلك إلى تهذيب العلاّمة إشكال لما عرفت وجهه من انطباق عبارته على دعوى قبول التجزئة في مقام الاعتبار والحجّية ، إلاّ أن يقال : بأنّ تجويز التجزئة في هذا المقام يستلزم تجويزها في مقام الإمكان ، ضرورة أنّ الاعتبار والحجّية فرع الإمكان بل فرع الوقوع أيضا.

ويمكن القول بابتناء كلامه على تنزيل العنوان المعروف إلى النزاع في هذا المقام كما صنعه بعض الفضلاء وغيره لسخافة النزاع في غير هذا المقام.

** قال بعض الأفاضل : « وكأنّهم من العامّة إذ لم نجد في أصحابنا ممّن تقدّم على المصنّف من صرّح بالمنع منه ».

أقول : وقد تقدّم فيما حكاه السيّد صدر الدين عن بعض الفضلاء وجود القول بالمنع هنا في أصحابنا أيضا.

وعن الإيضاح والمنية التوقّف ، حيث ذكرا حجج القولين ولم يرجّحا شيئا.

حجّة القول بقبول الاجتهاد للتجزّي

*** والمنقول من حجّة الأوّلين وجهان :

ص: 150

أحدهما : ما تعرّض له جمع من العامّة وأشار إليه الحاجبي في مختصره وفصّله بعض شارحيه في شرحه الموسوم بالبيان وهو : أنّه لو لم يتجزّ الاجتهاد لعلم المجتهد جميع الأحكام لوجوب تمكّنه من استخراج الجميع ، والتالي باطل. فإنّ مالكا مع علوّ شأنه في الاجتهاد لم يعلم الجميع ، لأنّه سئل عن أربعين مسألة فقال في ستّ وثلاثين منها : لا أدري.

وفيه : منع الملازمة تارة ، ومنع بطلان التالي اخرى ، إذ لو اريد بالعلم وقولهم : « لعلم المجتهد جميع الأحكام » العلم الفعلي بجميع الأحكام فالملازمة ممنوعة ، بناء على أنّ المانع إنّما يمنع تجزّي الملكة لا أنّه يعتبر فعليّة الجميع بل هذا ممّا لا قائل به ، بل بعضهم على ما سبق في بعض الكلمات المتقدّمة أحاله ، فحصول ملكة العلم بالجميع لا يستلزم العلم بالجميع فعلا.

ولو اريد به العلم الملكي بالجميع فبطلان التالي ممنوع ، إذ الحكاية المنقولة عن مالك إنّما تقضي بانتفاء فعليّة الجميع وهو لا يستلزم انتفاء ملكة الجميع ، مع توجّه المنع إلى كون الجواب بلا أدري من جهة انتفاء الفعليّة بالمرّة ، لجواز كونه لعدم تذكّره لمؤدّى اجتهاده الفعلي لبعد عهد ونحوه.

وبالجملة « لا أدري » في جواب المسألة لا يستلزم عدم الاستنباط فعلا في جميع المسائل ، لجواز طروّ نسيان المستنبط.

ولو سلّم فعدم استنباط الجميع لا يستلزم عدم التمكّن من استنباط الجميع لكون الاستنباط تدريجيّ الحصول فيحصل بمرور الدهور لا دفعة واحدة ، ولو سلّم فعدم التمكّن من استنباط الجميع لا يستلزم كونه لعدم ملكة الجميع ، لأنّها بالإضافة إلى الاستنباط الفعلي من باب المقتضي ، ولاقتضائه شروط وموانع فعدمه قد يستند إلى فقد المقتضي وقد يستند إلى فقد شرط اقتضائه وقد يستند إلى وجود مانع له ، وإنّما يكشف من انتفاء الملكة التامّة على الأوّل دون الأخيرين ، فالحكاية المذكورة لا تقضي بكون مالك متجزّيا على معنى كون ملكته ناقصة مقصورة على بعض المسائل ، لكون انتفاء فعليّة الجميع على فرض تسليمه قد يجامع الملكة التامّة وقد يجامع الملكة الناقصة فيكون أعمّ من جهات عديدة ، ولا يعقل دلالة الأعمّ على الأخصّ.

وثانيهما : ما نقله المصنّف وقرّره شارح المختصر في بيانه من : أنّه إذا اطّلع المستفرغ على أمارات مسألة فهو وغيره - أي المجتهد المطلق - سواء في تلك المسألة ، فكما يتمكّن

ص: 151

المجتهد المطلق من استخراج حكم تلك المسألة يتمكّن المستفرغ أيضا.

وأورد عليه : بأنّا لا نسلّم أنّه والمجتهد المطلق سواء في تلك المسألة ، فإنّه قد يكون ما لم يعلمه متعلّقا بتلك المسألة فلا يتمكّن من استخراج حكمها بخلاف المجتهد المطلق فإنّه يتمكّن لعلمه بما يتعلّق بتلك المسألة وما لا يتعلّق.

وملخّصه : أنّه قد يكون فيما لم يعلمه من أمارات بقيّة المسائل وأدلّتها ما يناقض مقتضي ما علمه من أمارات تلك المسألة من مقيّد أو مخصّص أو ناسخ أو قرينة مجاز أو غير ذلك من أنواع المعارض ، وهذا الاحتمال مادام قائما فهو مانع من استخراج حكم المسألة ، وهذا معنى عدم تمكّنه من الاستخراج.

واجيب عنه تارة : بالنقض بالمجتهد المطلق إذ المعتبر فيه وجود الملكة التامّة لا الإحاطة الفعليّة ، فيأتي في حقّه الاحتمال الآتي في حقّ المتجزّي لتساويهما في منشائه ، فإنّ وجود الملكة على هذا التقدير لا يوجب الاطّلاع على المعارض.

إلاّ أن يدفع بالفرق بأنّ المطلق يقدر على رفعه بالفحص في أمارات سائر المسائل لعموم ملكته والمتجزّي لا يقدر عليه لقصور ملكته.

وسيظهر ضعفه بمنع الملازمة بين قصور ملكة استخراج الحكم وبين العجز عن رفع احتمال وجود المعارض ظنّا أو علما عاديّا.

واخرى : بفرض مساواته المطلق ، فإنّ المفروض استكماله جميع ما يتعلّق بالمسألة من الأمارات ومعارضاتها ومبادئها - تصوّريّة وتصديقيّة - على نحو ما يفرض للمطلق بالقياس إلى تلك المسألة ، وكونه لا يعلم أمارات بقيّة المسائل لقصوره عن الإحاطة التامّة غير قادح في معرفة متعلّقات تلك المسألة.

والقول بعدم إمكان العلم بعدم المعارض من مخصّص ونحوه بدون الإحاطة بجميع مدارك الأحكام فبطل التساوي.

يدفعه : أنّ إنكار حصول الظنّ بعدم المعارض في حقّه ولو بتصريح غيره من أهل البصيرة بهذا الشأن مكابرة ، بل قد يحصل له العلم العادي من العادة بالعدم ، فإنّ المسائل الّتي وقع الخلاف فيها أوردها كثير من الفقهاء في كتبهم الاستدلاليّة واستدلّوا عليها إثباتا ونفيا ممّا يحكم العادة بأن ليس لها مدارك غير ما ذكروه ، ولا أقلّ من حصول ظنّ متاخم بالعلم وهذا كاف في معرفة حكم المسألة ظنّا ، مع أنّا نقول : يكفينا عدم إحاطته بجميع

ص: 152

الآيات المتعلّقة بالأحكام ، إذ المعلوم أنّه لا تعلّق للآيات المتعلّقة بالفرائض بالمسألة الصلاتيّة إذا فرضنا المتجزّي مستفرغا في المسألة الصلاتيّة قاصرا نظره عن الفرائض.

ومع الغضّ عن ذلك نقول أيضا : ربّما يحيط علم المتجزّي بجميع الأحاديث المتعلّقة بأبواب الفقه كلّها من حيث إنّه ليس فيها ما يعارض دليله مع عدم قدرته على استنباط ما يتعلّق بها من المسائل منها ، أما تجد من نفسك تقدر أن تعلم أنّ قوله عليه السلام : « تدرأ الحدود بالشبهات » ليس معارضا لقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم : « لا صلاة إلاّ بطهور » مع عدم قدرتك على استنباط ما يمكن استنباطه منه من الأحكام.

واعترض عليه العلاّمة البهبهاني في رسالته في الاجتهاد والأخبار بوجوه مرجع بعضها إلى ما تقدّم ونذكرها ملخّصا :

أحدها : أنّ ما فرضتموه إنّما هو حصول جميع ما هو أمارة في تلك المسألة في ظنّه نفيا وإثباتا وذلك كيف ينفعه في أن يحصل له ضابط الاجتهاد في الواقع ، مع أنّ الكلّ متّفقون على أنّه ما لم يحصل له الظنّ بعدم المانع من مقتضي ما يعلمه من الدليل لا يصحّ له الاجتهاد.

وثانيها : أنّ المجتهد المطلق بعد إحاطته بجميع مدارك الأحكام وعلمه فالظاهر أنّه يحصل له العلم بعدم مدخليّة الغير ، ودعوى مساواة العلم للظنّ كما ترى.

وثالثها : أنّ حصول العلم للمتجزّي ممّا ذكرت فساده ظاهر كما لا يخفى ، كيف واطّلاع المتأخّرين على بعض ما لم يطّلع عليه المتقدّم منهم أكثر من أن يحصى.

ورابعها : أنّه على تقدير ما لو قلنا بحصول الظنّ للمطلق فدعوى التساوي أيضا مكابرة ، لاطّلاعه على ما اطّلع عليه المتجزّي وعلى جميع مدارك الأحكام ، وعدم تأثير الاطّلاع ، عليها وعدم حصول التفاوت بسببه أصلا مباهتة بيّنة ، إلاّ أن يكون غرضهم التساوي في نفس الظنّ لا في مقداره ومرتبته ، على أنّه على تقدير تسليم التساوي في مقداره فتساويهما في الحجّية محلّ تأمّل.

ولا يخفى ما في هذه الوجوه من الضعف والتعسّف.

أمّا في الوجه الأوّل : فلأنّه إن اريد بذلك أنّ ظنّ عدم المانع لا يتأتّى لمن حصل عنده جميع ما هو أمارة في المسألة في ظنّه فهو قريب من مدافعة الضرورة ، لأنّ ظنّ عدم المانع مع الظنّ بحصول جميع ما هو أمارة في تلك المسألة ضروريّ الحصول وإنكاره يلحق

ص: 153

بالمكابرة ودفع الضرورة.

وإن اريد به أنّ ضابط الاجتهاد هو العلم بعدم المانع ولا يتأتّى ذلك إلاّ مع حصول جميع ما هو أمارة في المسألة بحسب الواقع ، فمرجعه إلى اعتبار العلم بجميع ما هو أمارة في المسألة المستلزم للعلم بعدم المانع.

ويظهر بطلانه بملاحظة بطلان الوجه الثاني ، وهو أنّ الإحاطة بجميع مدارك الأحكام الموجبة للعلم بعدم مدخليّة الغير إن اخذت في المطلق على وجه الاعتبار - على معنى أنّه لا يصير مطلقا إلاّ بعد الإحاطة الفعليّة بجميع مدارك الأحكام -.

ففيه : منع واضح ، حيث لم نقف على قائل به من أصحابنا ولا من مخالفينا ، كيف ويلزم من اعتباره في الاجتهاد محذور ما لو اعتبر العلم بالأحكام في جميع المسائل ، أو العسر والحرج المختلّين بنظم المعاد والمعاش ، أو تعطيل أمر الاستنباط.

وإن أخذت على وجه الفرض ولو من باب أحد أفراده - على معنى أنّ المطلق لو فرض في الإحاطة الفعليّة بهذه المثابة لكان عالما بعدم مدخليّة الغير -.

ففيه : أنّه لا ينفي ماهيّة المساواة بينه وبين المتجزّي بجميع أفراده ، فيفرض الكلام فيما بين المتجزّي وصاحب الملكة الكاملة الّذي لم يحط علمه فعلا بجميع المدارك ، فإنّ الكلام إنّما هو في مطلق مساواة المتجزّي للمطلق لا في المساواة المطلقة بينهما حتّى في نحو الإحاطة الفعليّة بجميع الأحكام أو مداركها على فرض حصولها للمطلق ، مع أنّ فرض الإحاطة التامّة في المتجزّي أيضا بالنسبة إلى نفس المدارك من غير نظر إلى مقتضياتها جائز كما سبق الإشارة إليه.

وأمّا في الوجه الثالث : فلأنّ منع حصول العلم بملاحظة العادة حسبما فرضه المجيب مكابرة لا ينبغي الإصغاء إليه ، خصوصا بعد ملاحظة كون المتعرّض للمسألة والمتصدّي لنقل الخلاف فيها وتحرير أقوالها وتقرير أدلّتها الموجودة ممّن عادته جارية على ضبط الأقوال الشاذة حتّى ما كان من العامّة وأدلّتها كالعلاّمة في كثير من كتبه ، وذلك لا ينافي كون المتقدّم لا يطّلع كثيرا مّا على ما يطّلع عليه المتأخّر من الأمارات والأدلّة ، ولا يلزم بذلك قدح في اجتهاد الغير المطّلع ولا في تمكّنه من معرفة حكم المسألة ولو ظنّا بواسطة الظنّ بأماراتها وظنّ عدم المانع ، وإلاّ ينفتح بذلك باب الكلام على اجتهاد قدماء أصحابنا وأحزابهم حسبما ادّعاه المعترض من عدم اطّلاع المتقدّم على ما اطّلع عليه المتأخّر ، وهذا

ص: 154

ساوى المجتهد المطلق في تلك المسألة ، وعدم علمه بأدلّة غيرها لا مدخل له فيها. وحينئذ فكما جاز لذلك الاجتهاد فيها فكذا هذا.

واحتجّ الآخرون : بأنّ كلّ ما يقدّر جهله يجوز تعلّقه بالحكم المفروض.

فلا يحصل له ظنّ عدم المانع من مقتضي ما يعلمه من الدليل *.

وأجاب الأوّلون : بأنّ المفروض حصول جميع ما هو دليل في تلك المسألة بحسب ظنّه ، وحيث يحصل التجويز المذكور يخرج عن الفرض.

__________________

ممّا لا يتفوّه به جاهل فضلا عن العالم الكامل.

حجّة القول بالمنع من التجزّي

وإن أراد بما ذكره اطّلاع المتأخّر من الفروع المتجدّدة على ما لم يطّلع عليه المتقدّم فهو ممّا لا مدخل له بمحلّ البحث ، نظرا إلى أنّه ليس من جهة ضعف ملكة المتقدّم وقوّة ملكة المتأخّر ، ولا من جهة كمال قوّة المتأخّر وقصور قوّة المتقدّم ، بل لأنّ المتأخّر إذا دخل في المسألة ووجد المتقدّم محيطا بجميع جهاتها الظاهرة ومستوفيا لسائر أطرافها المنضبطة رافعا للكلفة عن المتأخّر بالقياس إليهما فلا جرم هو يبالغ في استخراج ما شذّ عن المتقدّم تعصّبا ، أو اختبارا لمقام فكره وسعة نظره ، أو حبّا منه ليشتهر بين الناس بإحداث فكر جديد كما يشاهد كلّ ذلك بين أبناء النوع من أهل الصناعة.

وأمّا في الوجه الرابع : فلأنّ ظاهر كلام القوم واحتجاجاتهم ونقوضهم وإبراماتهم فرض التساوي بينهما في أصل الظنّ لا في مقداره ومرتبته ولا في اعتباره ، بل هذا صريحهم في المقام الثاني مع أنّ إطلاق منع التساوي في المقدار أيضا كما ترى.

* ويظهر جوابه ممّا تقدّم مستوفى في تحرير ثاني دليل المجوّزين ، ومخلّصه أمران :

أحدهما : أنّ المفروض حصول جميع ما هو دليل وجودا وعدما بحسب ظنّه وحيث يحصل التجويز المذكور خرج عن الفرض ، مع أنّه إن اريد بالتجويز مجرّد احتمال وجود المانع فهو لا ينافي تأتّي حصول الظنّ بعدمه ، كيف وأنّ الظنّ ما اخذ في ماهيّته احتمال الخلاف ، وإن اريد به رجحان وجوده فهو خلاف فرض المساواة.

وثانيهما : أنّه بعد تحرير الأئمّة للأمارات وتخصيص كلّ بعض منها بما يليق به من المسائل عرف الفقيه أنّ ما عداها لم يكن له تعلّق بتلك المسألة وإنكاره مكابرة بيّنة.

ص: 155

أدلّة القول المختار

والتحقيق عندي في هذا المقام : أنّ فرض الاقتدار على استنباط بعض المسائل دون بعض ، على وجه يساوي استنباط المجتهد المطلق لها ، غير ممتنع * ولكن التمسّك في جواز الاعتماد على هذا الاستنباط بالمساواة فيه للمجتهد المطلق **

__________________

* لوضوح أنّ هذا الاقتدار هيئة في النفس تنشأ من ممارسة مسائل الفنّ واستحضار مبادئها - تصوّريّة وتصديقيّة - وغيرها ممّا يتعلّق بها من الأدلّة ، والتمكّن من معرفة وجوه دلالات الأدلّة ودفع معارضة معارضاتها وإعمال مبادئها حين النظر ، ومعلوم أنّه ليس كلّ مسألة بحيث يحتاج فيها إلى إجراء جميع الأدلّة وإعمال كلّ المبادئ من مسائل جميع العلوم عربيّة واصوليّة ورجاليّة وغيرها فيها.

فمن الجائز أن يكون الممارسة مقصورة على بعض أبواب الفقه بل على صنف خاصّ من مسائل هذا الباب ، فإذا ابتلى العالم الممارس في هذا المقدار بمسألة أو عدّة مسائل منه وعرف مع ذلك جميع ما يتعلّق به من الأدلّة ومسائل كلّ علم ممّا ذكر وغيره على قدر ما يحتاج إليها فيه ، وتمكّن من إعمال ما عرفه من مسائل كلّ علم في موضع حاجته وصنع ما لزمه للنظر وراعى جميع ما له دخل في حصول المعرفة حسبما يصنعه المطلق يحصل له الظنّ حسبما طلبه على نحو ما يتّفق حصوله للمطلق.

وبالجملة هذا كلّه واضح وإنكاره دفع للضرورة فلا يلتفت إليه.

في حجّيّة ظنّ المتجزّي

** هذا تعرّض لحكم المتجزّي بالقياس إلى مقام اعتبار اجتهاده وحجّية ظنّه ، وينبغي قبل الخوض في الترجيح والاستدلال التنبيه على امور من باب المبادئ.

الأمر الأوّل : في أنّه في وجوب عمل المتجزّي بظنّه تعيينا أو رجوعه إلى التقليد كذلك ، أو أخذه بالاحتياط كذلك ، أو جواز الأوّلين أو الأخيرين أو الأوّل والأخير أو الجميع تخييرا ، أو تعيّن العمل بالظنّ إن كان مسبوقا بالاجتهاد المطلق ، وتعيّن التقليد إن كان مسبوقا بالتقليد ، وتعيّن الاحتياط أو التخيير بينه وبين العمل بالظنّ أو التقليد أو بينه وبينهما إن لم يكن مسبوقا بشيء من الأمرين ، وجوه جارية في حقّه ابتداء وفي بدو النظر.

لكن ما عدا الأوّلين هاهنا ساقط عمّا بين العلماء لعدم قائل من العامّة والخاصّة ، وعدم وجود قول محقّق بشيء من المذكورات عدا ما رجّحه ببعض الفضلاء من التفصيل بين سبق التقليد أو الإطلاق فيأخذ بمقتضى الاستصحاب فيهما ، وعدم سبق شيء منهما فيبنى

ص: 156

التخيير ، وأمّا غيره من أصحابنا المتقدّمين عليه فلم ينقل منهم إلاّ تعيّن العمل بالظنّ أو تعيّن الرجوع إلى التقليد فإنّهم اختلفوا على قولين :

أحدهما : جواز أن يعمل بظنّه ، صار إليه العلاّمة في التهذيب والمبادئ والقواعد والتحرير - على ما حكي عنها - وعزى أيضا إلى الذكرى والسرائر والمقاصد العليّة وشرح الألفيّة لوالد البهائي والزبدة وكشف اللثام والوافية والمحصول وشرح الشرح ، وشرح المعالم لابن التلمساني.

وفي المفاتيح : وبالجملة الظاهر أنّه مذهب المعظم.

وفي أصل الاصول - بعد قوله : وهل هو حجّة له أو لا؟ - قال : والمشهور الأوّل. لكن في كلام الفاضل المتقدّم ذكره القائل بالتفصيل المذكور ما يقضي بإنكاره الشهرة المدّعاة هنا ، حيث إنّه قال : « ولم يثبت القول بحجّية نظر المتجزّي بهذا المعنى إلاّ من بعض المتأخّرين ، ولم يتعرّض الشيخ والسيّد لهذا المبحث في العدّة والذريعة ، ولا المحقّق في اصوله فما ظنّك بغيرهم من المتقدّمين عليهم.

والظاهر أنّ مرادهم بالجواز هنا - على ما يستفاد من أدلّتهم - الجواز في ضمن الوجوب تعيينا لا مطلقا ».

وثانيهما : ما صار إليه المصنّف من منع الجواز وإنكار حجّية ظنّه. ويستفاد من المحقّق البهبهاني أيضا في رسالته في الاجتهاد والأخبار ، وحكاه في المفاتيح عن والده أعلى اللّه مقاماته ، ونسب أيضا إلى السيّد العلاّمة بحر العلوم قدس سرّه ويظهر الميل إليه من بعض الأفاضل ، ولم نقف ممّن تقدّم على المصنّف على من صار إليه ولا على حكاية المصير إليه عن غيره ممّن تقدّم عليه.

نعم عن بعض الأفاضل أنّه نقل عن ظاهر الشيخ في بعض مصنّفاته القول بالمنع عليهم.

إلى أن قال :

« وبالجملة فكلمة المتعرّضين من أصحابنا لهذه المسألة ليست جارية على مورد واحد ، فدعوى قيام الشهرة على حجّية نظر المتجزّئ بالمعنى الأخير غير مسموعة ».

الأمر الثاني : أنّه يمكن أن يكون بناء المسألة على أنّ جواز التقليد هل هو معلّق على عدم التمكّن من الاجتهاد أو عدم حصوله فعلا ، فالمدّعي لجوازه مع حصول الأمرين يطالب بالدليل ومع انتفائه يتعيّن العمل بالاجتهاد.

أو هو معلّق على انتفاء الدليل على الاجتهاد ، فالمدّعي لجواز العمل به يطالب بدليله ومع انتفائه يتعيّن الرجوع إلى التقليد.

ص: 157

وربّما يستفاد ذلك من العلاّمة البهبهاني حيث إنّه في جملة ما ذكره في دفع الاستدلال على منع التقليد بأنّه خلاف الأصل خرج العامي لدليل فبقى الباقي قال : « على أنّ الظاهر أنّ فرض من لا يعلم الرجوع إلى من يعلم والأخذ منه وأنّه مسلّم عند الكلّ ، فإنّهم يستدلّون بجواز الاجتهاد ولا يستدلّون بجواز تقليده ، وظاهرهم أنّ بعد عدم ثبوت جواز الاجتهاد يعيّنون العمل بالتقليد » انتهى.

وهاهنا وجه ثالث وهو توقّف كلّ من العمل بالاجتهاد والعمل بالتقليد على نهوض الدليل عليه بعد انتفاء الدليل على الآخر.

وبعبارة اخرى : تعيّن كلّ منهما على وجود المقتضي وفقد المانع ، فلا يكفي في شيء منهما مجرّد انتفاء الدليل على الآخر.

ولك أن تقول في تقرير الوجوه الثلاث المذكورة : بأنّه بعد تعذّر العلم بأحكام اللّه المعلومة بالإجمال وعدم التمكّن من امتثالها العلمي هل الأصل هو العمل بالاجتهاد إلاّ ما خرج بالدليل؟ أو الأصل هو العمل بالتقليد إلاّ ما خرج بالدليل؟ أو لا أصل في البين أصلا بل لابدّ في تعيّن كلّ من الأمرين من نهوض الدليل عليه بالخصوص فلا يكفي فيه مجرّد عدم الدليل على صاحبه.

ومنشأ هذه الوجوه أنّه يستفاد من عمومات الآيات والأخبار من الاصول الأوّلية ثلاثة اصول :

أحدها : أصالة حرمة العمل بما وراء العلم ، وهذا يعمّ العمل بالظنّ والعمل بالتقليد وغيرهما.

وثانيها : أصالة حرمة العمل بالظنّ.

وثالثها : أصالة حرمة العمل بالتقليد ، إلاّ أنّ الأوّل بعد تعذّر العلم وانسداد سبيله قد خصّص بالقياس إلى المجتهد والمقلّد ومن تردّد بينهما ، كما أنّ الثاني خصّص بالقياس إلى المجتهد المطلق ، والثالث قد خصّص بالقياس إلى العامي والعالم الغير البالغ رتبة الاجتهاد.

وأمّا العالم المتجزّي فبعد خروجه كالمطلق عن الأصل الأوّل بما ذكر يمكن كونه مخرجا أيضا كالمطلق عن أوّل الأصلين الأخيرين ، بدعوى : أنّ الأصل بعد تعذّر العلم العمل بالاجتهاد إلاّ في حقّ من لم يتمكّن منه كالعامي ومن بحكمه.

كما يمكن كونه مخرجا عن ثاني الأصلين الآخرين بدعوى : أنّ الأصل بعد تعذّر العلم العمل بالتقليد إلاّ في حقّ من قام الإجماع على تعيّن الاجتهاد عليه كالمجتهد المطلق.

كما يمكن عدم كونه مخرجا عن شيء من الأصلين على التعيين ، بدعوى : أنّه بعد تعذّر

ص: 158

العلم ليس في البين أصل كلّي قاض بتعيين أحد الأمرين إلاّ ما خرج بالدليل ، بل الحكم بجواز أحد الأمرين تابع لدليله الخاصّ به.

وهاهنا وجه آخر وإن كان ضعيفا من جهة مخالفته الإجماع ظاهرا وهو كونه مخرجا عن الأصلين معا فيلزم منه جواز الأمرين له معا على وجه التخيير.

وعلى الوجه الثالث بطل الاستدلال على منع العمل بالاجتهاد هنا بأنّه خلاف الأصل خرج المطلق لدليل فبقي الباقي ، كما أنّه بطل الاستدلال على منع التقليد بأنّه خلاف الأصل خرج العامي لدليل فبقي الباقي ، لأنّ هذا الأصل في كلّ من الطرفين معارض بمثله في الطرف الآخر ، فالعمل بهما معا مخرج للمتجزّي عن طريقي الاجتهاد والتقليد معا وهو خلاف الإجماع ظاهرا ، وبأحدهما معيّنا تحكّم.

كما أنّه على الوجه الثاني - على فرض صحّته - بطل الاستدلال على منع التقليد هنا بكونه خلاف الأصل ، لانقلاب هذا الأصل بعد انسداد باب العلم بأصالة الجواز إلاّ ما خرج بالدليل على الفرض ، إلاّ أن يكون المستدلّ ممّن ينكر هذا الوجه باختيار الوجه الأوّل.

وعلى الوجه الأوّل - على فرض صحّته - بطل الاستدلال على منع العمل بالاجتهاد بكونه خلاف الأصل ، لانقلاب هذا الأصل بعد انسداد باب العلم بأصالة الجواز إلاّ ما خرج بالدليل على الفرض ، إلاّ أن يكون المستدلّ ممّن ينكر هذا الوجه باختيار الوجه الثاني.

وكيف كان فكلماتهم في هذه المسألة في غاية الاضطراب وطرقهم في الاستدلال على كلّ من القولين في كمال التشويش ، ومبنى الاختلاف فيها إمّا على اختلافهم في الوجهين الأوّلين كما يساعد عليه احتجاج كلّ من الطرفين لإثبات مطلوبه بالأصل أو على الاتّفاق على الوجه الثالث كما يساعد عليه احتجاجهم بأدلّة اخر غير الأصلين وإن كان يأباه الاحتجاج بالأصل كما عرفت.

وتحقيق المقام في تأسيس الأصل أن يقال : أنّ عمدة دليل تعيين المرجع حال انسداد باب العلم إنّما هو حكم العقل بواسطة مقدّمات دليل الانسداد ، وليس موضوع حكم العقل هنا عند التحقيق المجتهد المطلق ولا المقلّد ولا الظنّ بالخصوص ولا التقليد كذلك ، بل موضوعه المكلّف وحكمه إلزام المكلّف بالرجوع إلى ما هو أقرب إلى العلم ، فإنّه بعد إبطاله اعتبار العلم باستلزامه التكليف بغير المقدور واحتمال الاحتياط باستلزامه العسر والحرج المخلّين بنظم المعاد والمعاش المنفيّين بحكمه وحكم الشرع معا يلزم المكلّف من

ص: 159

الطرق المحتملة في حقّه بما هو أقرب إلى العلم بعد الاحتياط ممّا لم يستلزم محذوريهما ، وهو في حقّ المجتهد أخذه بمؤدّى اجتهاد نفسه كائنا ما كان لا أخذه بمؤدّى اجتهاد غيره الحاصل بالتقليد ، لأنّ في فتوى الغير وإخباره عن مجتهداته من الاحتمالات المبعدة عن العلم والواقع ما لا يجري في أخذه بمؤدّى اجتهاد نفسه كما سبق ذكره مفصّلا في المسألة السابقة.

وأمّا في حقّ المقلّد وإن كان الأقرب أيضا هو الأخذ بمؤدّى الاجتهاد ، لكن إلزامه به يفضي إلى محذور العلم أو إلى محذور الاحتياط على سبيل منع الخلوّ بالنظر إلى النوع المختلف أشخاصه في حالاتهم ، فلم يبق له ما يرجع إليه حينئذ إلاّ التقليد والأخذ بمؤدّيات اجتهاد غيره من المجتهدين.

وهذا كلّه بالنسبة إلى المجتهد المطلق والعامي بالمعنى الأعمّ من العالم الفاقد لملكة الاجتهاد واضح.

وأمّا بالنسبة إلى العالم المتجزّي فالرجوع إلى كلّ من الطريقين ممكن في حقّه من دون محذور ، والشبهة إنّما هي في تعيين ما هو أقرب منهما إلى الواقع في حقّه ليندرج في موضوع حكم العقل وتشمله حكمه بلزوم الرجوع إلى الأقرب ، فإن تبيّن كون الأقرب في حقّه الأخذ بمؤدّى اجتهاد نفسه تعيّن له ذلك بحكم العقل ، وإن تبيّن كون الأقرب في حقّه الأخذ بمؤدّى اجتهاد غيره من المجتهد المطلق تعيّن له ذلك ، وإن تبيّن كون الطريقين من جهة القرب والبعد بالنظر إلى الواقع في مرتبة واحدة من غير مزيّة لأحدهما على الآخر كان حكمه التخيير بينهما.

وقد عرفت أنّ مناط القرب والبعد بقلّة الاحتمالات المبعدة عن الواقع وكثرتها ، ومثلهما ضعف الاحتمال المشترك بينهما في أحدهما وقوّته في الآخر ، وحينئذ فملاحظة كون احتمال الخطأ بالنظر إلى مقام الاجتهاد في حقّ المتجزّي أقوى منه في حقّ المطلق لنقصان ملكته وكمال ملكة المطلق تقضي بكون الأقرب في حقّه الأخذ بمؤدّى اجتهاد المطلق.

لكن النظر في أنّ فتوى المطلق يجري فيه من احتمال الخطأ فيها زائدا على ما كان محتملا في اجتهاده واحتمال السهو والنسيان والكذب والتورية والقصور في التأدية وإرادة خلاف ظاهر اللفظ بلا قرينة أو مع قرينة خفيّة أو مع قرينة مغفول عنها ونحو ذلك ما لا يجري في مؤدّى اجتهاد نفسه كما لا يخفى تقضي بكون الأقرب في حقّه الأخذ بمؤدّى اجتهاد

ص: 160

نفسه ، وهذا هو الأقوى في النظر القاصر لأنّ بعد اجتهاد نفسه من جهة نقص ملكته لا يقاوم بعد فتوى المطلق من جهة ما ذكرناه من الاحتمالات.

وبعبارة اخرى : فتوى المطلق مع ملاحظة الاحتمالات المذكورة الجارية فيها أبعد عن الواقع من مؤدّى اجتهاد نفسه مع ملاحظة نقصان ملكته الموجب لقوّة احتمال خطائه في مقام اجتهاده ، هذا مع إمكان المنع عن إطلاق دعوى كون احتمال الخطأ في مقام الاجتهاد بالنسبة إلى المتجزّي أقوى منه بالنسبة إلى المطلق كما ستعرف وجهه.

بل التحقيق أنّ هذا الاحتمال بملاحظة ما سنقرّره بالنسبة إلى كليهما في مرتبة واحدة.

فبما قرّرناه تبيّن الحقّ في المسألة ووجهه ، فإنّ الأصل الثانوي كما أنّه يخرج المكلّف عن أصالة حرمة العمل بما وراء العلم فكذلك يخرجه عن أصالة حرمة العمل بالظنّ في مقابلة التقليد ويقضي بوجوب العمل به إلاّ ما خرج بالدليل كما في العامي الغير المتمكّن من الاجتهاد.

فتبيّن أنّ الأقوى من الوجوه المتقدّمة هو الوجه الأوّل ، وأنّ مدرك هذا الأصل هو العقل القاطع ، فاحفظ ذلك واغتنم.

الأمر الثالث : في كلام غير واحد من الأعيان حكاية نفي الخلاف في جواز تجزّي الاجتهاد في مسائل اصول الفقه على وجه يظهر منهم الاعتراف بالجواز فيها ، وعلّله جماعة منهم المحقّق السلطان بأنّ مناط الاستدلال في أكثر مسائلها الأدلّة العقليّة ولا دخل فيها كثيرا لزيادة التتبّع ، وليس فيها احتمال المعارض لاستقلال العقل في إدراك كلّ مسألة منها بدون ملاحظة مسألة اخرى بحيث يجزم بانتفاء المعارض نظير الاجتهاد في المسائل الحكميّة بخلاف المسائل الفرعيّة.

ولا يخفى أنّ قضيّة التعليل كون المراد بما نفي الخلاف فيه بالقياس إلى مسائل الاصول هو التجزّي في المقام الأوّل المتقدّم ذكره - أعني مقام الإمكان - كما يظهر بالتأمّل في مساقه مع مراجعة ما تقدّم من مستند المانع ثمّة من أنّه كلّما يقدّر جهله يجوز تعلّقه بالحكم المفروض فلا يحصل له ظنّ عدم المانع من مقتضي ما يعلمه من الدليل.

وقد يتراءى من بعض العبارات تنزيل ما ذكر من نفي الخلاف إلى المقام الثاني الّذي نحن بصدد البحث عنه ، حيث يقال في دفع ما سيأتي من إشكال الدور من أنّ القطعي - وهو الإجماع - دلّ على جواز العمل بالظنّ الحاصل في المسائل الاصوليّة ، والتجزّي من المسائل

ص: 161

الاصوليّة ، فإذا ظنّ بصحّته جاز الاعتماد على هذا الظنّ لكونه ظنّا في الاصول فيجوز إجماعا.

ووجه انطباق العبارتين أنّه لو حصل له ظنّ ببعض المسائل الاصوليّة الّتي منها جواز تجزّي الاجتهاد فيجوز العمل بهذا الظنّ بلا خلاف ، على معنى عدم الخلاف في جواز التجزّي في المسائل الاصوليّة لإجماعهم على جواز العمل بالظنّ فيها.

وفيه من الضعف ما لا يخفى ، لوضوح المنع من المقدّمتين معا :

إحداهما : استلزام الإجماع على جواز العمل بالظنّ في المسائل الاصوليّة لعدم الخلاف في جواز عمل المتجزّي فيها بظنّه الحاصل فيها.

واخراهما : جواز العمل بالظنّ في المسائل الاصوليّة على إطلاقه وانعقاد الإجماع عليه.

أمّا سند منع المقدّمة الاولى : فلأنّ الإجماع على جواز العمل بالظنّ في المسائل الاصوليّة على فرض انعقاده ليس بأقوى من الإجماع على جواز العمل به في المسائل الفرعيّة على فرض انعقاده ، فكما أنّ الثاني بمجرّده لا يستلزم الإجماع على جواز عمل المتجزّي بظنّه في المسائل الفرعيّة فكذلك الأوّل ، لجواز كونه كالثاني مخصوصا بذي الملكة التامّة بالقياس إلى المسائل الاصوليّة ، فلا يتناول المتجزّي ليلزم منه عدم الخلاف في جواز تجزّي الاجتهاد في المسائل الاصوليّة بالمعنى المبحوث عنه في المقام الثاني.

وأمّا سند منع المقدّمة الثانية : فلمنع الإجماع على جواز العمل بالظنّ في المسائل الاصوليّة ، كيف وقد تكرّر في كلام غير واحد نقل الشهرة بخلافه.

وإن شئت لاحظ كلام الوحيد البهبهاني قائلا - بعد ما حكى دعوى الإجماع هنا - « وفيه : منع تحقّق الإجماع على ما ذكر ، كيف والمشهور بل كاد يكون إجماعا أنّ الظنّ في الاصول غير معتبر ، فتدبّر.

ولو سلّم فإجماع الاصوليّين - يعني مجرّد اتّفاقهم - حصول القطع منه محلّ نظر بل الظاهر عدمه » انتهى.

ومن هنا قد يلزم القائل بجواز العمل بالظنّ فيها بأنّه ممّا يستلزم عدمها ، إذ المشهور عدم حجّية الظنّ فيها والشهرة ممّا يفيد الظنّ بالمطلوب ، وجواز العمل بالظنّ مسألة اصوليّة والتعويل على الظنّ بعدم الجواز الحاصل من الشهرة يوجب عدم جواز التعويل عليه في المسائل الاصوليّة.

ص: 162

وبالجملة الظنّ في المسائل الاصوليّة أمر خلافيّ ، فمنهم من صرّح بطرد المنع عن الحجّية بالقياس إليها وإلى المسائل الفرعيّة ، ومنهم من عكس الأمر.

ومنهم من منعها في الاصوليّة مع مصيره إليها في الفرعيّة تعليلا بعدم الانسداد الأغلبي في الاصوليّة الّذي هو مناط الحجّية.

ومنهم من فصّل في الاصوليّة بين ما كان منها من قبيل كون : « الخبر حجّة » و « الكتاب حجّة » فعدم الحجّية ، وبين ما كان منها من قبيل كون : « الأمر للوجوب ، والنهي للتحريم » وغير ذلك ممّا يتعلّق بالألفاظ فالحجّية.

مع أنّ حجّية الظنّ في المسائل الاصوليّة ممّا لم نتحقّق معناه ، فإنّ المسائل الاصوليّة - بمعنى المسائل المدوّنة في الكتب الاصوليّة أعمّ ممّا كان من قبيل مسائل أصل الفنّ المقصودة من وضعه أصالة ومبادئها اللغويّة والأحكاميّة وغيرها - ليست إلاّ كمسائل سائر العلوم غير علم الفقه فهي امور واقعيّة ، فإن اريد بحجّية الظنّ فيها كونه طريقا مثبتا لها بحسب الواقع فهو غير معقول ، ضرورة عدم الملازمة بين الظنّ بالشيء وثبوته في الواقع ، كيف وإنّ الظنّ ممّا اخذ في ماهيّته احتمال الخلاف وأنّه كثيرا مّا لا يصادف الواقع. وإن اريد به كونه موجبا لترتيب آثار الواقع على المظنون وإن لم يكن واقعا في نفس الأمر ، على معنى كون الظنّ بجواز اجتماع الأمر والنهي موجبا للحكم بصحّة الصلاة في الدار المغصوبة وإن لم يكن كذلك في الواقع ، والظنّ باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه الخاصّ موجبا للحكم بحرمة الأضداد الوجوديّة للمأمور به وإن لم يكن كذلك في الواقع وهكذا ، فهو ممّا لابدّ له من دليل قطعي ووجوده غير ثابت والإجماع المدّعى غير مسموع ، وجريان دليل الانسداد فيه كجريانه في الظنّ في المسائل الفرعيّة غير مسلّم لعدم جريان جملة من مقدّماته هنا.

ودعوى أنّ هذا الظنّ يتولّد منه الظنّ بالحكم الفرعي ويستلزمه كما في الأمثلة المذكورة فيصير حجّة لعين ما دلّ على حجّية الظنّ في الأحكام الفرعيّة مردودة على مدّعيها ، كيف والغرض المهمّ في المقام إثبات الظنّ في المسألة الاصوليّة من حيث إنّها مسألة اصوليّة.

وما ذكر من الطريق على فرض تماميّته واطّراده في جميع المسائل ليس إلاّ إثباتا للظنّ في المسائل الفرعيّة لدليلها الغير الجاري في المسائل الاصوليّة من هذه الحيثيّة ، كيف وقيام الظنّ في المسألة الاصوليّة بالقياس إليه في المسألة الفرعيّة على التقرير المذكور

ص: 163

ليس إلاّ كقيام أمارة ظنّية في المسألة الفرعيّة كخبر الواحد والإجماع المنقول والشهرة ونحوها ، فكما أنّها لا تؤخذ إلاّ سببا محصّلا للظنّ في المسألة الفرعيّة فكذلك الظنّ في المسألة الاصوليّة ، فإنّ غاية ما فيه من الوصف كونه سببا مفيدا للظنّ في المسألة الفرعيّة ، واندراج هذا الظنّ في عموم دليل حجّية الظنّ في المسائل الفرعيّة من حيث إنّه ظنّ في المسائل الفرعيّة من أيّ سبب حصل ليس من اندراج سببه الّذي هو الظنّ في المسألة الاصوليّة من حيث إنّه كذلك في عموم ذلك الدليل ، ليكون ذلك من حجّية الظنّ في المسائل الاصوليّة لعموم دليل الحجّية في المسائل الفرعيّة وهذا واضح.

فتحقيق المقام : أنّ ما كان من المسائل الاصوليّة من قبيل مباحث الحجّيّة كحجّيّة الظنّ وحجّية خبر الواحد وغيره من الأمارات المأخوذة من الظنون المطلقة الاجتهاديّة فلا يعقل كون الدليل القائم عليه ظنّيا على وجه يكون التعويل في إثباته على الظنّ الحاصل منه لاستحالة الدور والتسلسل ، والتعويل على الظنّ المذكور ممّا يفضي إلى أحد الأمرين البتّة.

ولا يفترق الحال في ذلك بين كون هذا الدليل الظنّي قائما على الظنّ المتعلّق بالواقع أو الظنّ المتعلّق بالطريق حسبما يراه بعض أصحابنا المتأخّرين ، وجعل دليل الانسداد بحيث ينطبق على الظنّ بالطريق فيفيد حجّية الظنّ في المسألة الاصوليّة محلّ إشكال ، لابتنائه على مقدّمة غير ثابتة وتمام الكلام في محلّه.

وما كان منها من باب مسألة اجتماع الأمر والنهي واقتضاء النهي لفساد العبادة أو هي مع المعاملة ، ومقدّمة الواجب واستلزام الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه ومسألة الإجزاء وتبعيّة القضاء للأداء ومسائل الواجب المخيّر والواجب الكفائي والواجب الموسّع وغير ذلك ممّا يتولّد من الظنّ فيه الظنّ في المسألة الفرعيّة ، فإن قرّرنا دليل الانسداد بحيث يشمل الظنّ من أيّ سبب حصل قضى ذلك بحجّية هذا الظنّ ، لكن من حيث رجوعه إلى المسألة الفرعيّة لا من حيث كونه ظنّا في المسألة الاصوليّة. نعم إنّما يعتبر ذلك سببا لما هو في المسألة الفرعيّة على حدّ سائر أسباب الظنّ.

وما كان منها من باب حمل المطلق على المقيّد وبناء العامّ على الخاصّ عند تنافي مدلوليهما وتخصيص الكتاب بخبر الواحد وتخصيص العامّ بمفهوم المخالفة وتحكيم التخصيص على غيره من أنواع المجاز ، وغير ذلك ممّا يذكر في باب تعارض الأحوال وغيره ممّا له دخل في إحراز الدلالة وتشخيص المراد في الموارد الجزئيّة من ألفاظ الكتاب

ص: 164

والسنّة ، فإن أوجب الظنّ في تلك المسائل ظنّا في الدلالات في الموارد الجزئيّة فيندرج ذلك في دليل حجّية الظنّ في الدلالات من حيث كونه ظنّا في الدلالات لا من حيث كونه ظنّا في المسائل الاصوليّة ، فهو أيضا من هذه الحيثيّة على تقدير كونه حجّة ليس من حجّية الظنّ في المسألة الاصوليّة من حيث إنّه ظنّ في المسألة الاصوليّة.

وما كان منها من قبيل كون صيغة الأمر للوجوب دون الندب والإباحة ولطلب الماهيّة دون التكرار والمرّة ولا الفور والتراخي ، وكون الأمر الواقع عقيب الحظر للإباحة لا الوجوب ، وكون صيغة النهي للتحريم دون الكراهة ، وكون ما ادّعي كونه للعموم حقيقة في العموم ومجازا في الخصوص ، إلى غير ذلك ممّا يرجع إثباته إلى إثبات الأوضاع الحقيقيّة أو المجازيّة فلا قاضي من الأدلّة القطعيّة بحجّية الظنّ فيها ما لم يتولّد منه الظنّ بالدلالات في الموارد الجزئيّة ، بل سبق منّا في الجزء الأوّل من الكتاب عند البحث في حجّية قول أهل اللغة ما يكفيك في وجه هذا المنع ، وبيّنّا ثمّة أنّ الظنّ في الأوضاع ما لم يحصل الاضطرار إلى العمل به من جهة الاضطرار إلى العمل بالظنّ في الأحكام ليس بحجّة.

وهاهنا أيضا نقول : إنّ الظنّ في نحو المسائل المذكورة إن رجع إلى الظنّ في الدلالة في الموارد الجزئيّة أمكن كونه حجّة من هذه الجهة ، مع إشكال فيه باعتبار أنّ القدر المتيقّن من قضيّة دليل حجّية الدلالات الظنّية ما استند منها إلى العلم بالوضع لا غير ، وكون الاستناد إلى نحو المسائل المذكورة في استنباط الأحكام الشرعيّة بأخذها في مبادئ المسائل الفرعيّة ومن مقدّمات الاستدلالات عليها إجماعيّا لا يقضي بإجماعهم على الأخذ بالظنّ في إثباتها كما لا يخفى.

مع أنّه لا جدوى في التكلّم في حجّية الظنّ فيها ، بل لا حاجة إلى الأخذ بالظنّ في إثباتها لانفتاح باب العلم فيها غالبا ، بملاحظة أنّ المرجع فيها وفي نظائرها إلى العرف والطرق العرفيّة من التبادرات وغيرها من كواشف الوضع ، وهي في غالب مواردها امور مقطوع بها فيحصل من جهتها القطع في المسألة الاصوليّة ، ولا ينافيه وقوع الخلاف في هذه المسائل لأنّ الخطأ والاشتباه الّذي هو منشأ الاختلاف غير عزيز في القطعيّات ، والقدر المسلّم من مرادهم بالظهور حيثما يتمسّكون به لإثبات هذه المطالب هو الظهور المقطوع به دون ما يعمّه والمظنون ، كما أنّ ظاهرهم في إثبات الأمارات المثبتة للأوضاع من التبادر وغيره إرادة ما كان منها مقطوعا به لا ما يعمّه والمظنون.

ص: 165

وتمسّكهم بأصالة عدم النقل ونحوها من الاصول اللفظيّة في إثبات بعض المطالب ليس من التمسّك بالأمر الظنّي ، لأنّ هذا الأصل ونظراءه من الاصول المقطوع بها الثابتة ببناء العرف وطريقة العقلاء وغيرهما ، ولذا قد يدّعى الإجماع على حجّية الاستصحاب في الامور العدميّة تعويلا على عملهم بهذه الاصول من دون نكير وإن كان كون هذه من باب الاستصحاب محلّ منع.

ومرادنا من أنّ المسائل الاصوليّة لا تثبت بالظنّ إنّها لابدّ وأن تكون قطعيّة أو منتهية إلى القطع وهذا من قبيل الثاني ، إذ الاصول المذكورة امور قطعيّة يتمسّك بها لإثبات المسائل الاصوليّة الّذي مرجعه إلى إثبات الأوضاع اللغويّة.

وما كان منها من باب العمل بالاستصحاب وأصلي الإباحة والبراءة وغيرها من الاصول العامّة العمليّة الّتي يبحث لإثباتها في علم الاصول ، لا يعقل كون الظنّ المثبت لها حجّة لا لدليل خاصّ ولا لدليل الانسداد على فرض انحصار الطريق المثبت لها في الظنّ الغير القطعي العمل ، على معنى مسيس الحاجة في إثباتها إلى التعويل على الظنّ.

أمّا على الأوّل : فلفقد ما يصلح دليلا قطعيّا على هذا الظنّ بالخصوص ، والإجماع على العمل بهذه الاصول كلّ في مورده على فرض تسليمه في الجملة ليس من الإجماع على الظنّ في إثباتها ، بل هذا الإجماع إن سلّمناه فهو بنفسه دليل علمي ناهض لإثباتها فتكون خارجة عن الفرض.

وأمّا على الثاني : فلأنّ هذه الاصول على تقدير ثبوتها - على ما بيّنّاه في غير موضع - أحكام ظاهريّة مجعولة للمكلّف الجاهل من حيث كونه جاهلا ، واندراج الظنّ الناهض لإثباتها في عموم دليل الانسداد مبنيّ على كون الظنّ المأخوذ في موضوعه أعمّ من الظنّ بالأحكام الواقعيّة والظنّ بالأحكام الظاهريّة كما قد يتوهّم ، وهذا غير واضح بل محلّ منع لظهور مقدّماته في الظنّ بالأحكام الواقعيّة ، ولذا يقرّر : بأنّ التكليف بالأحكام المعلومة بالإجمال باق ، وباب العلم بها في الغالب مسدود ، فيتعيّن العمل فيها بالظنّ لئلاّ يلزم التكليف بغير المقدور.

غاية الأمر كون المظنونات بعد نهوض هذا الدليل أحكاما ظاهريّة في حقّ الظانّ ، لأنّ الحكم الظاهري إنّما يلتزم به بعد مساعدة الدليل عليه لا مطلقا.

فتلخّص من جميع ما ذكرناه : إنّ المسائل الاصوليّة لابدّ وأن تكون قطعيّة أو منتهية إلى

ص: 166

القطع ، وأمّا ما كان منها ظنّية فلا تعويل على الظنّ فيها إلاّ إذا رجع الظنّ فيها إلى الظنّ في المسائل الفرعيّة فيجوز العمل به حينئذ من حيث رجوعه إلى المسألة الفرعيّة لا من حيث كونه في المسألة الاصوليّة ، مع أنّ التكلّم في حجّية الظنّ فيها ممّا لا يكاد يرجع إلى طائل لانفتاح باب العلم فيها غالبا من جهة ابتنائها في الغالب على الطرق العلميّة من العرف والعقل والنقل المقطوع به ، فلا يكثر فيها الحاجة إلى إعمال الظنون لينظر في حكمها ، وهذا هو الوجه الباعث على قبولها التجزّي المدّعى فيه عدم الخلاف ، نظرا إلى وضوح مداركها وعدم اتّفاق معارض لها بحيث يتوقّف استعلامه أو إحراز فقده على الفحص والتتبّع والإحاطة بمدارك جميع المسائل حسبما يدّعيه المانع من التجزئة في المقام الأوّل.

وأمّا الاستناد لإثبات الحجّية فيها تارة إلى دليل الانسداد ، واخرى إلى قاعدة الاستلزام ، وثالثة إلى الأولويّة بالقياس إلى حجّية الظنّ في المسائل الفرعيّة الّتي اعتبرت المسائل الاصوليّة مقدّمة لها والأمر في المقدّمة أهون منه في ذيها ، فليس على ما ينبغي.

أمّا الأوّل : فلانتفاء الانسداد الأغلبي.

وأمّا الثاني : فلمنع الملازمة ، لبناء الحجّية وعدمها على دليل جار في الفروع غير جار في الاصول فلا يلزم من حجّية اللازم حجّية الملزوم.

وأمّا الثالث : فلمنع الأولويّة ، فإنّ المقدّمة إذا اخذت على وجه المبنائيّة كان الاهتمام في استحكامها في نظر العقل والعادة أكثر منه في ذيها ، ويتسامح في ذيها ما لا يتسامح فيها ، مع أنّ حجّية الظنّ في ذيها إنّما هي لعلّة غير موجودة فيها فحصل الفارق.

نعم لو فرض غلبة الاحتياج فيها إلى إعمال الظنون أمكن القول بحجّيتها بالنظر إلى قاعدة المقدّمة لو وجب الاجتهاد واستنباط الأحكام الفرعيّة من الأدلّة الشرعيّة عينا أو كفاية.

بتقريب : أنّ هذا الواجب لا يتمّ إلاّ بإعمال المسائل الاصوليّة الظنّية ، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب.

ولا يعني من حجّية الظنّ في المسائل الاصوليّة إلاّ وجوب إعمال المسائل الظنّية منها في استنباط الفرعيّات ، ولا اختصاص لإثبات الحجّية بهذا الطريق بالمسائل الاصوليّة بل يعمّه وكلّ ما يتوقّف عليه الاستنباط من مسائل سائر العلوم نحويّة وغيرها إذا تعذّر العلم فيها ، ولعلّه إلى ذلك ينظر ما في كلام بعض الأفاضل من « أنّ البلوغ إلى درجة الاجتهاد

ص: 167

المطلق قاض بحجّيّة ظنّه في المسائل الفقهيّة وما يرتبط بها من مقدّماتها للاستنباط سواء كانت اصوليّة أو لغويّة أو غيرها » انتهى.

ويمكن الاستدلال على الفرض المذكور بدليل الانسداد أيضا بأن يقال : إنّه قد وجب إعمال المسائل الاصوليّة الظنّية مقدّمة للاستنباط ، والعلم فيها مسدود فوجب الاكتفاء فيها بالظنّ حذرا عن التكليف بغير المقدور.

وأمّا ما في كلام بعض الفضلاء من : « أنّ ظنّيات علم الاصول كظنّيات العلوم العربيّة فكما يصحّ تعويل العارف الخبير بتلك العلوم على الظنون المقرّرة فيها وإن لم يكن له خبرة بعلم الفقه فكذلك الحال في الاصول » فغير واضح إلاّ بأن يرجع إلى بعض ما ذكرناه.

الأمر الرابع : إذا اجتهد المتجزّي في الفروع في مسألة جواز التجزّي وأدّى اجتهاده إلى جواز عمله بظنّه قطعا أو ظنّا منتهيا إلى القطع جاز بناء عمله على اجتهاد نفسه في تلك المسألة فيعمل على ظنّه في المسائل الّتي اجتهد فيها ، خلافا لمن منع بناءه على اجتهاده في تلك المسألة بتخيّل لزوم الدور ، وقد يؤخذ ذلك حجّة على المنع من تجزّي الاجتهاد رأسا ، على معنى المنع من حجّية ظنّ المتجزّي في المسائل المجتهد فيها.

وقضيّة الاحتجاج به على المنع عدم كون هذه المسألة بالقياس إلى المتجزّي اجتهاديّة ، بل قضيّته حيث يؤخذ دليلا على بطلان أصل التجزّي عدم كونها بالقياس إليه تقليديّة أيضا وإن توقّف إنتاجه لذلك إلى ضمّ مقدّمة اخرى ، ضرورة أنّ عمل المتجزّي بظنّ نفسه لابدّ وأن يستند إمّا إلى اجتهاد نفسه في مسألة جواز التجزّي أو إلى تقليد غيره في تلك المسألة ، وبطلانه لا يتأتّى إلاّ بعد بطلان كلا الطريقين.

أمّا بطلان الطريق الأوّل : فلإفضائه إلى الدور.

وأمّا بطلان الطريق الثاني : فللزوم خلاف الفرض مع ثبوت الواسطة بين الأخذ بالاجتهاد والرجوع إلى التقليد أو تركّب الاجتهاد والتقليد كما ذكره المصنّف بقوله : « ورجوعه في ذلك إلى فتوى المجتهد المطلق وإن كان ممكنا لكنّه خلاف المراد ، إذ الغرض إلحاقه ابتداء بالمجتهد وهذا إلحاق له بالمقلّد بحسب الذات وإن كان بالعرض إلحاقا بالاجتهاد.

ومع ذلك فالحكم في نفسه مستبعد ، لاقتضائه ثبوت الواسطة بين أخذ الحكم بالاستنباط والرجوع إلى التقليد.

وإن شئت قلت : تركّب التقليد والاجتهاد وهو غير معروف » انتهى.

ص: 168

ومن هنا ترى بعض الفضلاء - تبعا لبعض الأعلام - ضمّ إلى الاحتجاج بلزوم الدور معنى ما ذكره المصنّف ليبطل به احتمال التقليد أيضا بقوله : « ورجوعه في جواز التجزّي إلى فتوى المجتهد المطلق يوجب خلاف الفرض ، إذ المقصود إلحاقه بالمجتهد أوّلا وبالذات لا ثانيا وبالعرض ».

وبالجملة فلو لا انضمام هذه المقدّمة لم ينهض مجرّد الدور منتجا لبطلان عمل المتجزّي بظنّه رأسا.

وجوه تقرير الدور

وكيف كان فقد قرّر لزوم الدور بوجوه :

منها : ما عزى إلى الفاضل الجواد « من أنّ صحّة اجتهاد المتجزّي في المسائل موقوفة على صحّة اجتهاده في جواز التجزّي ، وصحّة اجتهاده في جواز التجزّي موقوفة على صحّة اجتهاده في المسائل إذ هذه أيضا من المسائل المجتهد فيها ». والظاهر أنّ المراد بصحّة الاجتهاد ترتيب الآثار الشرعيّة الّتي منها جواز عمله بظنّه الحاصل.

فيقرّر الدور حينئذ : بأنّ جواز عمل المتجزّي بظنّه في المسائل موقوف على جواز عمله بظنّه في مسألة جواز التجزّي ، وهو موقوف على جواز عمله في ظنّه في المسائل لأنّ مسألة جواز التجزّي من جملة المسائل.

وجوابه أوّلا : على تقدير كون المراد من المسائل في المقدّمة الاولى ما يعمّ الاصوليّة والفروعيّة - كما عليه مبنى الإشكال - : أنّ جواز العمل بالظنّ فيها لكونه حكما شرعيّا يتوقّف ثبوته بحسب الواقع على جعل الشارع إيّاه لا على شيء آخر ، فبطل توهّم التوقّف في المقدّمة الاولى.

نعم المتوقّف على غير جعل الشارع إنّما هو العلم بذلك الجواز الثابت في الواقع ، غير أنّه لا يتوقّف على الجواز المأخوذ في مسألة جواز التجزّي الّتي هي مسألة اصوليّة ، وإنّما يتوقّف على الدليل العلمي الناهض على جواز عمل المتجزّي بظنّه المطلق.

والمفروض أنّ المتجزّي إنّما يدّعي الجواز لدليل علمي أقامه على حكم المسألة مطلقا ، ولا يفترق الحال في ذلك بين كون هذا الدليل ناهضا على الظنّ في مطلق المسائل اصوليّة وفروعيّة أو عليه في خصوص المسائل الفرعيّة ، ولا بين فرض كونه في المسائل الاصوليّة مجتهدا مطلقا أو متجزّيا أيضا ، مع كون عنوان التجزّي في المسائل الاصوليّة صادقا عليه بالقياس إلى مسألة جواز التجزّي أو بالقياس إلى غيرها من المسائل الاصوليّة ، على معنى

ص: 169

كونه قد اجتهد في تلك المسألة بالخصوص أو عدّة مسائل منها هذه المسألة أو في غيرها ممّا لا يندرج هذه المسألة فيها ، وكلّ ذلك واضح.

وثانيا : أنّ الكلام في إحراز صحّة اجتهاده فيما اجتهد فيها من المسائل الفرعيّة باجتهاده في مسألة جواز التجزّي الّتي هي مسألة اصوليّة ، فحينئذ لو توقّف الصحّة الاولى على الصحّة الثانية على ضابطة توقّف المسألة الفرعيّة على المسألة الاصوليّة لم يلزم منه توقّف الصحّة الثانية على الصحّة الاولى بل هي متوقّفة على دليلها المندرج في أدلّة المسائل الاصوليّة ، فقد يكون المتجزّي في الفروع مجتهدا مطلقا في الاصول على معنى إحاطة علمه الفعلي وقدرته على استعلام الحكم الاصولي بجميع المسائل الاصوليّة.

وقد يكون متجزّيا في الاصول مع اجتهاده فعلا في مسألة جواز التجزّي ، لكن له في كلّ مسألة اجتهد فيها أو في خصوص تلك المسألة دليل علمي أفاد له القطع بحكم المسألة.

وقد يكون متجزّيا مع كون دليله ظنّيا لكنّه يرى الظنّ في الاصول حجّة لدليل علمي حسبما تقدّم حكاية القول به ، والمناقشة معه بمنع حجّيّة الظنّ في الاصول أو بمنع علميّة دليله الناهض عليها نزاع آخر راجع إلى الصغرى غير موجب لإلزامه على لزوم الدور ، ليلزم منه بطلان مذهبه في تجزّي الاجتهاد في الفروع إذا كان هذا النزاع في نظره مكابرة كما لا يخفى.

ومنها : أنّ اعتماد المتجزّي على ظنّه بدليله الظنّي تعلّق بالظنّ في العمل بالظنّ.

وإلى ذلك يرجع ما يأتي في كلام المصنّف ، وجوابه - مضافا إلى ما سنقرّره - يظهر بالتأمّل في بعض ما ذكرناه في دفع التقرير الأوّل.

ومنها : أنّ علم المتجزّي بصحّة عمله على ظنّه والدليل الظنّي الدالّ على مساواته للمجتهد المطلق موقوف على علمه بقبول الاجتهاد التجزئة ، وهذا موقوف على علمه بصحّة عمله على ظنّه.

وإن شئت بدّلت « العلم » ب- « الظنّ » في المقامات ، هكذا نقله في المفاتيح عن جدّه قدس سره.

والظاهر أنّ العطف في قوله : « والدليل الظنّي » تفسير لظنّه كما يفصح عنه ترك هذا العطف في المقدّمة الثانية التفاتا إلى ضابطة أنّ القياس المنتج للدور إنّما ينتجه إذا كان الموقوف عليه المأخوذ في الكبرى عين ما هو الموقوف المأخوذ في الصغرى ، والعينّية على تقدير عدم كون العطف تفسيريّا منتفية كما لا يخفى.

ص: 170

إلاّ أن يوجّه : بأنّ المراد ب- « ظنّه » في المقدّمة الاولى خصوص الظنّ في المسائل الفرعيّة والدليل الظنّي ظنّ في المسألة الاصوليّة بالخصوص ، وب « ظنّه » في المقدّمة الثانية ما يعمّ الظنّ في المسائل الفرعيّة والظنّ في المسألة الاصوليّة ، فيكون المراد منه ما يعمّ المعطوف والمعطوف عليه معا.

وكيف كان فعبارة هذا التقرير تحتمل وجوها ترتقي إلى ثمانية ، إذ العطف في المقدّمة الاولى يحتمل كونه للتفسير ولغيره ، وقبول الاجتهاد للتجزئة المأخوذ في تلك المقدّمة محتمل لمعنيين نظرا إلى أنّ هذا اللفظ في كلامهم قد يطلق ويراد منه قبوله لها بحسب الإمكان ، على معنى إمكان التجزئة في الاجتهاد عقلا ، وقد يطلق ويراد منه قبوله لها بحسب الشرع ، على معنى كون ظنّ المتجزّي جائز العمل شرعا ، فمرتفع وجهي العطف في معنيي القبول أربع ، ثمّ لفظة « ظنّه » في المقدّمة الثانية أيضا تحتمل كون المراد به ما يعمّ الظنّ الاصولي والظنّ الفرعي وما لا يعمّ إلاّ الظنّ الاصولي ، فمرتفع الأربع المذكورة في هذين ثمانية ، غير أنّ احتمال القبول الإمكاني بجميع وجوهه الأربع ساقط جدّا ، لمنع التوقّف تارة في المقدّمة الاولى واخرى في المقدّمة الثانية.

أمّا الأوّل : فلأنّ العلم بصحّة العمل بالظنّ كثيرا مّا يحصل مع الشكّ في إمكان قبول الاجتهاد للتجزئة ، بل ومع الظنّ بعدم إمكانه فضلا عن الظنّ بإمكانه ، بل ومع العلم بعدم الإمكان ، نظرا إلى أنّ قضيّة صحّة العمل بالظنّ في جميع تلك الصور مفروضة من باب الشرطيّة.

ومن البيّن أنّ كذب الشرط لا يستلزم كذب الشرطيّة ، فيقال : إنّ ظنّ المتجزّي على تقدير إمكانه وحصوله ممّا يصحّ العمل به جزما ، وهذا كما ترى لا ينافي عدم إمكان حصول الظنّ له.

وأمّا الثاني : فلأنّ العلم بالقبول الإمكاني كثيرا مّا يحصل مع عدم العلم بصحّة العمل بل ومع العلم بعدم صحّة العمل كما هو قضيّة مقالة من يجوّز التجزّي في المقام الأوّل وهو مقام الإمكان. ويمنعه في المقام الثاني وهو مقام الاعتبار وصحّة العمل ، فإنّه مع كونه في المقام الأوّل قاطعا بالإمكان ففي المقام الثاني إمّا قاطع بعدم الصحّة أو ظانّ به أو شاكّ فيه أو ظانّ بالصحّة مع عدم كون هذا الظنّ في نظره حجّة لكونه في المسألة الاصوليّة ، وهذا كما ترى آية انتفاء التوقّف بين العلم بالقبول والعلم بصحّة العمل ، فالقبول بهذا المعنى ليس

ص: 171

بمراد من العبارة المذكورة جزما.

فالوجه حينئذ أن يكون المراد بالقبول معناه الثاني ، وعلى هذا التقدير فإن أخذ العطف تفسيريّا و « ظنّه » في المقدّمة الثانية بمعنى الظنّ الاصولي ، فيرد عليه : أنّ موضوع القضيّة في المقدّمة الاولى لا يرتبط بمحمولها ، فإنّ المأخوذ في الموضوع الظنّ بالمساواة والمأخوذ في المحمول هو العلم بالمساواة ، نظرا إلى أنّ العلم بقبول الاجتهاد للتجزئة معناه العلم بمساواة المتجزّي للمجتهد المطلق ، فيؤول معنى القضيّة إلى أن يقال : علم المتجزّي بجواز عمله بظنّ المساواة للمجتهد المطلق موقوف على علمه بالمساواة للمجتهد المطلق ، وهذا كما ترى كلام سفهيّ ، ويلزم ذلك أيضا لو أخذ « ظنّه » في المقدّمة الثانية بالمعنى الأعمّ من الاصولي والفروعي.

ومع ذلك نقول : بمنع كون دليله الدالّ على المساواة ظنّيا بل قد يكون علميّا ، وعلى تسليم كونه ظنّيا فالعلم بصحّة العمل به لا يتوقّف على العلم بقبول الاجتهاد للتجزئة ، بل على ما دلّ من الدليل العلمي على حجّية الظنّ في المسائل الاصوليّة.

وإن فسّرنا العلم بقبول الاجتهاد للتجزئة بالعلم (1) بمساواة المتجزّي للمطلق في جواز العمل بالظنّ.

فإن اريد بهذا الظنّ خصوص الظنّ الاصولي فيلزم فوات المغايرة فيما بين الموقوف والموقوف عليه في كلّ من المقدّمتين على تقدير كون المراد بالظنّ في المقدّمة الثانية الظنّ الاصولي أيضا ، وهذا خارج عن ضابطة الدور كما لا يخفى.

وإن اريد به ما يعمّ الاصولي والفروعي وكذلك بالظنّ المأخوذ في المقدّمة الثانية يلزم فوات المغايرة بالنسبة إلى أحد فردي هذا العامّ وهو الظنّ الاصولي ويمنع التوقّف بالنسبة إلى فرده الآخر وهو الظنّ الفرعي ، على معنى منع توقّف العلم بجواز العمل بالظنّ في المسألة الاصوليّة على العلم بجواز العمل به في المسألة الفرعيّة بل كلّ يتوقّف على دليله ، وعلى فرض اتّحاد الدليل فيهما بناء على بعض الوجوه المتقدّمة في الأمر الثالث فالدور فيهما مسلّم لكنّه دور معي ، لكونهما معلولي علّة ثالثة مشتركة بينهما لا دور توقّفي ليكون محالا.

وإن أخذ العطف غير تفسيري فلا بدّ وأن يؤخذ الظنّ في المقدّمة الثانية بالمعنى الأعمّ ، فإن أخذ الظنّ في معنى قبول الاجتهاد للتجزئة حسبما ذكرناه في تفسيره بالمعنى الأعمّ

ص: 172


1- وفي الأصل : « العلم » ، وما أثبتناه أنسب بالسياق.

أيضا ، يرد عليه : انتفاء المغايرة أيضا بين الموقوف والموقوف عليه في كلّ من المقدّمتين ، وإن أخذ هذا الظنّ بالمعنى الأخصّ فإن كان ذلك هو الظنّ الاصولي خاصّة يمنع التوقّف في المقدّمة الاولى بالنسبة إلى المعطوف عليه ولو فرض دليل حجّيتهما ، متّحدا ، إذ غاية ما هنالك حينئذ هو الدور المعي وهو ليس بمستحيل ، وفاتت المغايرة فيما بين الموقوف والموقوف عليه بالنسبة إلى المعطوف كما لا يخفى.

وإن كان ذلك هو الظنّ الفروعي يتوجّه الأمران أيضا لكن بعكس الفرض ، فمنع التوقّف بالنسبة إلى المعطوف وانتفاء المغايرة بالنسبة إلى المعطوف عليه.

ومنها : أنّ صحّة اجتهاد المتجزّي في المسائل الفقهيّة وجواز عمله به متوقّفة على صحّة اجتهاده في أنّ الاجتهاد يتجزّى ، وصحّة اجتهاده في أنّ الاجتهاد يتجزّى متوقّفة على تجزّي الاجتهاد وجواز عمله بظنّه أعني صحّة اجتهاده في المسائل الفقهيّة ، ضرورة أنّ صحّة كلّ حكم يتوقّف على وقوع المحكوم به بحسب الواقع.

ولا يذهب عليك أنّ قضيّة التعليل المذكور أن يراد بالصحّة الموقوفة والصحّة الموقوفة عليها في المقدّمة الثانية الصحّة بمعنى المطابقة للواقع.

وحينئذ فإن اريد بالصحّة الموقوفة والموقوف عليها في المقدّمة الاولى أيضا الصحّة بهذا المعنى. ففيه - مع عدم مساعدة العبارة بقرينة العطف بقوله : « وجواز عمله به » الظاهر في التفسير - : منع توقّف مطابقة اجتهاده في المسائل الفقهيّة للواقع على مطابقة اجتهاده في أنّ الاجتهاد يتجزّى أي يجوز العمل به ، إذ قد يطابق الأوّل للواقع ولا يكون مرخّصا في العمل به بحسب الواقع ، ولازمه أن يكون الثاني مخالفا للواقع وإن كان مقتضاه جواز العمل بالأوّل في مرحلة الظاهر. وممّا يفصح عن عدم التوقّف هنا أنّه قد يجامع المطابقة في الأوّل للقول بمنع تجزّي الاجتهاد سواء طابق الواقع أو خالفه.

وإن اريد بها في المقدّمة الاولى الصحّة بمعنى جواز العمل كما هو ظاهر العطف حتّى يؤول معنى العبارة إلى أن يقال : جواز العمل بالاجتهاد في المسائل الفقهيّة موقوف على جواز العمل به في مسألة تجزّي الاجتهاد. ففيه - بعد منع التوقّف أوّلا ، ومنع استحالة الدور هنا على فرض اتّحاد الدليل ثانيا لكونه معيّا - : عدم ارتباط المقدّمة الثانية حينئذ على المقدّمة الاولى ، لابتنائها كما عرفت على كون الصحّة فيها مرادا بها مطابقة الواقع ، إلاّ

ص: 173

قياس لا نقول به *

__________________

أن يفكّك بين الصحّتين في المقدّمة الاولى بحمل الصحّة الموقوف عليها على إرادة مطابقة الواقع أيضا فحينئذ يمنع توقّف جواز العمل بالاجتهاد في الفروع على مطابقة الاجتهاد في المسألة الاصوليّة للواقع ، بل العلم بالجواز يتوقّف على دليله الّذي يقرّر في المسألة الاصوليّة ، وهذا الدليل وإن كان مفيدا للقطع قد يطابق الواقع فيكون الاجتهاد في تلك المسألة مطابقا للواقع وقد يخالفه فيخالفه الاجتهاد أيضا.

غاية الأمر أنّ الجواز في الأوّل حكم واقعي صار تكليفا فعليّا بسبب العلم به ، وفي الثاني مخالف للحكم الواقعي وإن صار بسبب حجّيّة الدليل القائم به تكليفا فعليّا.

وعلى تسليم التوقّف هنا من باب التنزّل يمنع توقّف مطابقة الاجتهاد في تجزّي الاجتهاد للواقع على الجواز المتوقّف عليها ، بل غايته أنّها تتوقّف على الجواز الواقعي ، والمأخوذ في المقدّمة الاولى التوقّف على المطابقة للواقع هو الجواز الفعلي الّذي هو أعمّ من الواقعي والظاهري ، فلا يلزم حينئذ توقّف الشيء على نفسه ، لأنّ النتيجة الحاصلة من هاتين المقدّمتين على فرض تسليم التوقّف في كلتيهما هو أنّ الجواز الواقعي موقوف على الجواز الفعلي وهذا كما ترى ، ولا ريب أنّ كذب النتيجة يكشف عن كذب إحدى المقدّمتين أو كلتيهما وهو المطلوب وإن لم نعلم أنّ جهة الكذب أيّ شيء ، هذا.

* خبر لما تقدّم من قوله : « ولكن التمسّك في جواز الاعتماد على الظنّ بالمساواة للمجتهد المطلق » ودفع لما احتجّ به أهل القول بجواز التجزّي.

وملخّص هذا الاحتجاج - على ما قرّره بعض الفضلاء - : أنّ المتجزّي إذا استقصى أدلّة مسألة بالفحص والتتبّع فقد ساوى المجتهد المطلق في تلك المسألة ، وقصوره عن الإحاطة بأدلّة بقيّة المسائل لا مدخل له في معرفة تلك المسألة ، وحينئذ فكما جاز للمجتهد المطلق أن يعوّل على نظره واجتهاده فيها فكذلك المتجزّي.

وقد يقرّر هذا الدليل : بأنّ المتجزّي في مسألة مساو للمطلق فيها في الدليل وانحصار المناط ، والمتساويان لا يجوز اختلافهما في الحكم ، فيحرم على المتجزّي تقليد الغير في تلك المسألة كالمطلق.

ودفع هذا الاحتجاج حينئذ يتأتّى تارة بمنع الصغرى الراجع إلى منع المساواة ، واخرى بمنع الكبرى الراجع إلى منع كفاية هذه المساواة - على فرض تسليمها - لكونها ظنّية ،

ص: 174

نعم : لو علم أنّ العلّة في العمل بظنّ المجتهد المطلق هي قدرته على استنباط المسألة ، أمكن الإلحاق من باب منصوص العلة *.

__________________

فالاحتجاج بها على مشاركة المتجزّي للمطلق في الحكم تعويل على الدليل الظنّي وهو ليس بسائغ لإفضائه إلى الدور ، بخلاف المطلق فإنّ دليله على الحكم قطعي فلا مانع من التعويل عليه ، وقد أشار المصنّف إلى كلّ من المنعين على ما ستعرفه مع ما يزيّفه.

* استشعر به فرض صورة لو كانت محقّقة كانت المساواة المدّعاة مسلّمة ، ومحصّل مراده : أنّه لو ثبت بدليل علمي أنّ علّة جواز العمل بالظنّ الحاصل في المسألة هي القدرة على استنباط نفس هذه المسألة لا بشرط شيء من القدرة على استنباط سائر المسائل ولا عدمها كانت مساواة المتجزّي للمطلق ثابتة ، لكون القدرة على استنباط المسألة بهذا المعنى حاصلة لكلّ منهما.

غاية الأمر مفارقة المطلق عن المتجزّي بقدرته على استنباط سائر المسائل أيضا والمفروض أنّها ممّا لا مدخل له في الحكم بالنسبة إلى هذه المسألة.

وليعلم أنّ إطلاق العلّة هنا على القدرة على استنباط المسألة مثلا مسامحة في التعبير ، لوضوح أنّ القدرة على تقدير مدخليّته في الحكم ملحوظة من باب الشرطيّة إمّا بأن يقال : إنّ شرط جواز العمل بالظنّ الاجتهادي في امتثال أحكام اللّه سبحانه هو القدرة على استنباط المسألة.

أو يقال : إنّ شرط جواز التعبّد بالتقليد في امتثال أحكامه تعالى هو العجز عن استنباط المسألة وعدم القدرة على تحصيل الظنّ الاجتهادي ، فمع القدرة على الاستنباط انتفى شرط الجواز في التقليد ، فتعيّن العمل بالظنّ الاجتهادي المسبّب حصوله عن القدرة الحاصلة.

وليعلم أيضا أنّ القدرة على استنباط المسألة أعمّ من أن لا يكون للقدرة على استنباط مسألة اخرى مدخل فيها أصلا ، ومن أن يكون لها مدخل فيها بأن تتعلّق هذه القدرة بالقدرة على استنباط المسألة المبحوث عنها لأنّ لها دخلا في إحراز المقتضي لاستنباط هذه المسألة ، أو لأنّ لها دخلا في إحراز فقد المانع عن استنباطها وهو المعارض الّذي يمنع عن حصول الظنّ ، فيراد بالقدرة على استنباطها حينئذ القدرة على استنباط عدّة مسائل يكون لها بالقياس إلى بعضها مدخل فيها بالقياس إلى البعض الآخر.

ص: 175

ولكنّ الشأن في العلم بالعلّة لفقد النصّ عليها ، ومن الجائز أن يكون هي قدرته على استنباط المسائل كلّها *.

__________________

* وفي كون العلّة في العمل بالظنّ هي القدرة بكلا قسميها منع واضح كما أشرنا إليه ، بل هي على ما يساعد عليه النظر من شروط وجود الموضوع وتحصّله في الخارج ، وإنّما العلّة للحكم هو انحصار المناص في العمل بالظنّ الاجتهادي الحاصل بسقوط اعتباري العلم والاحتياط.

أمّا الأوّل : فبانسداد بابه.

وأمّا الثاني : فبانتفاء لازمه في الشرع.

وهذا بالمعنى الّذي قرّرناه مرارا ونقرّره هنا أيضا لا يختصّ بالمجتهد المطلق ، إذ قد عرفت أنّ مقتضى الأصل المستفاد من حكم القوّة العاقلة وبناء العقلاء بل ضرورة العقول كون المرجع في امتثال أحكام اللّه تعالى هو العلم ثمّ الاحتياط مع تعذّره ، ثمّ بعده - أيضا لتعذّره أو سقوط اعتباره شرعا - يتعيّن الرجوع إلى ما يقرب منهما ولم يتضمّن محذوريهما من التكليف بغير المقدور والعسر والحرج المخلّين بالنظم معاشا ومعادا من غير أن يكون بينه وبينها واسطة غير مؤدّية إلى أحد المحذورين ، وليس ذلك إلاّ الظنّ الاجتهادي في حقّ من يتمكّن منه ، لا مطلقه بل مرتبة منه لو تعدّيناها إلى ما فوقها من المراتب إن كان لأدّى إلى أحد المحذورين ، وهذا هو الّذي يعبّر عنه في كلماتهم بالظنّ الأقوى ، والإجماع على العمل بالظنّ كما ادّعاه المصنّف وغيره ممّن سبقه ولحقه لابدّ وأن يكون معلقا على انسداد باب العلم وعلى سقوط اعتبار الاحتياط ، وهذا التعليق ليس لورود دليل خاصّ عليه من رواية أو آية كتابيّة ، بل لقاعدة التحرّز عن التكليف بغير المقدور وما يوجب اختلال النظم ، وبعد اعتبار هذا التعليق كان معقده الظنّ القريب منهما بلا تخلّل واسطة بينه وبينهما غير مؤدّية إلى أحد المحذورين.

وممّا يرشد إلى ذلك ما في كلام المجمعين من اعتبار الظنّ الأقوى كما لا يخفى.

والعمل بالتقليد أيضا وإن كان مآله بالأخرة إلى العمل بالظنّ الاجتهادي الّذي حصّله غير هذا العامل ، إلاّ أنّه لعروض جهة الفتوى له ممّا طرأه من الاحتمالات المبعدة عن مقتضى العلم والاحتياط - حسبما بيّنّاها سابقا على التفصيل - ما لم يطرأه بالنسبة إلى الظانّ نفسه كما لا يخفى.

ص: 176

بل هذا أقرب إلى الاعتبار من حيث إنّ عموم القدرة إنّما هو لكمال القوّة ، ولا شكّ أنّ القوّة الكاملة أبعد عن احتمال الخطأ من الناقصة *. فكيف يستويان؟

__________________

وإن شئت فقل : إنّ الظنّ الاجتهادي بالنسبة إلى الظانّ ظنّ بلا واسطة وبالنسبة إلى غيره ممّن يأخذ به ظنّ بالواسطة ، والأقرب إلى العلم والاحتياط هو الأوّل لما في الثاني من الاحتمالات المبعدة ما لا يجري في الأوّل.

وقضيّة ما ذكرناه من القاعدة أن لا يعدل عن الأوّل إلى الثاني إلاّ لداعي التأدية إلى أحد المحذورين ، ولذا انحصر المرجع للعامي في التقليد ، ومعه فكيف يجوز لغيره الّذي هو المتجزّي الرجوع إلى التقليد مع أنّ بالنسبة إليه بينه وبين العلم والاحتياط واسطة غير مؤدّية إلى محذوريهما وهو ظنّه الاجتهادي الّذي هو في حقّه ظنّ بلا واسطة.

والحاصل أنّ العلة الباعثة على تعيّن الرجوع إلى الظنّ الاجتهادي بلا واسطة مشتركة بين المجتهد المطلق والمتجزّي ، فهو يساوي المطلق على سبيل الجزم واليقين فيجوز له العمل بظنّه بعين ما دلّ على جوازه في حقّ المطلق.

* وفيه : أنّ كون عموم القدرة من جهة كمال القوّة أمر مسلّم لا إشكال فيه ويلزم منه أن يكون قصور القدرة لنقصان القوّة ، لكن قد عرفت بما بيّنّاه سابقا أن ليس العبرة في كمال القوّة ونقصانها بكون الأوّل في مرتبة قويّة أو في أقوى المراتب وكون الثاني في مرتبة ضعيفة أو في أضعف المراتب ، كيف وقد تكون القوّة في المرتبة الضعيفة أو أضعف المراتب وهي عامّة لجميع المسائل حاصلة بالقياس إليها كلّها ، كما أنّها قد تكون في المرتبة القويّة أو أقوى المراتب وهي غير عامّة لجميع المسائل.

وإن شئت توضيح هذا المطلب فافرض الكلام في مجتهدين مطلقين يكون أحدهما أعلم من الآخر ، وفي متجزّيين كذلك بناء على أنّ العبرة في الأعلم بكونه أقوى ملكة ويعبّر عنه في الفارسيّة بكونه « استادتر » في استنباط الأحكام الشرعيّة عن الأدلّة ، فالعبرة إذن في كمال القوّة ونقصانها بالاختلاف الحاصل بين متعلّق القوّة - وهو المسائل - في كونه جميع المسائل أو بعضها كائنا ما كان ولو مسألة واحدة ، فلو تعلّقت القوّة بجميع المسائل كانت كاملة وإن كانت في حدّ ذاتها في أضعف المراتب ولو تعلّقت ببعضها كانت ناقصة وإن فرضت في أقوى المراتب.

وحينئذ فلا يستقيم ما ذكره بقوله : « ولا شكّ أنّ القوّة الكاملة أبعد عن احتمال الخطأ من الناقصة ».

ص: 177

سلّمنا ، ولكنّ التعويل في اعتماد ظنّ المجتهد المطلق إنّما هو على دليل قطعيّ ، وهو إجماع الامّة عليه وقضاء الضرورة به *

__________________

وبيانه : أنّ هذا الاختلاف إنّما يتأتّى إذا اعتبر الكاملة عبارة عمّا هو في مرتبة القوّة والناقصة عبارة عمّا هو في مرتبة الضعف كما في الأعلم وغيره ، وهذا في المقام ليس بلازم الفرض ، بل نحن نفرض المسألة واقعيّة ونقول : إذا كان القدرة على الاستنباط والقوّة الباعثة على هذه القدرة في كلّ من المتجزّي والمطلق بالقياس إلى المسألة المبحوث عنها في مرتبة واحدة على وجه لم يكن لقوّة المطلق بالقياس إلى غير هذه المسألة مدخليّة في قوّته الحاصلة بالقياس إليها أصلا ، ومع هذا الفرض فكيف يعقل الاختلاف بينهما بكون قوّة المطلق أبعد عن احتمال الخطأ من قوّة المتجزّي بل قضيّة ذلك كون احتمال الخطأ بالنسبة إلى كلتيهما في مرتبة واحدة.

وبهذا البيان سقط احتمال كون العلّة في العمل بظنّ المجتهد المطلق قدرته على استنباط المسائل كلّها ، فإنّ هذا الاحتمال إنّما يقوم في المقام إذا كان لعموم قدرته مدخل في كون قدرته بالقياس إلى مسألة شاركه المتجزّي في الاجتهاد فيها أبعد عن احتمال الخطأ من قدرة المتجزّي. وقد عرفت منعه بما لا مزيد عليه.

وعلى فرض تسليم كون ما للمتجزّي من القدرة على استنباط المسألة أقرب إلى احتمال الخطأ ممّا للمطلق بالقياس إلى هذه المسألة ، نقول : إنّ هذا القرب ينجبر بخلوص ظنّ المتجزّي بالقياس إلى نفسه عن البعد الّذي يطرأ ظنّ المطلق بالقياس إلى مقلّده من جهة عروض جهة الفتوى لهذا الظنّ الباعثة على جريان جملة كثيرة من الاحتمالات المبعدة عن الواقع حسبما أشرنا إليها مستوفاة ، بل ظنّ المتجزّي لنفسه إذا قابله ظنّ المطلق له مع ملاحظة طريان هذه الاحتمالات له أقرب إلى الاعتبار منه لكونه أبعد عن احتمال مخالفة الواقع منه.

* وعن بعض الأفاضل - والظاهر أنّه صاحب الوافية - الاعتراض عليه : بأنّ حصول الإجماع في هذه المسألة غير ظاهر ، إذ ظاهر أنّ هذه المسألة ممّا لم يسأل عنه الإمام عليه السلام فالعلم بالإجماع الّذي يقطع بدخول المعصوم فيه بالنسبة إليها وإلى ما يضاهيها من المسائل الّتي لم يوجد فيها نصّ شرعي ممّا لا يكاد يمكن ، كيف والعمل بالروايات في عصر الأئمّة عليهم السلام للرواة بل وغيرهم لم يكن موقوفا على إحاطتهم بمدارك الأحكام والقوّة القويّة على

ص: 178

الاستنباط ، بل يظهر بطلانه بأدنى الاطّلاع على حقيقة أحوال القدماء ، فلا معنى لدعوى الإجماع في المسألة.

وما ذكره من قضاء الضرورة به إن اريد به كونه بديهيّا من غير ملاحظة أمر خارج فهو بديهيّ البطلان ، وإن أراد بداهته بعد ملاحظة أمر خارج وهو احتياج المكلّف إلى العمل وانحصار الأمر بين الاجتهاد والتقليد فالبداهة تحكم بتقديم الاجتهاد ، فهو صحيح لكنّه مشترك بين المطلق والمتجزّي.

وقد تقدّم الإشارة إلى هذا الاعتراض بالنسبة إلى الإجماع مع ما يدفعه ونزيدك هنا بيانا ونقول : إنّ الإجماع ليس ممّا يستكشف عنه بورود النصّ ، بل النصّ ممّا يستكشف عن وروده بالإجماع ، والمعتبر في الإجماع الكاشف كون انعقاده بحسب الواقع عن مستند يرجع إلى الإمام المعصوم ولو كان فعلا له أو تقريرا منه ، فلا يعتبر فيه كونه عن نصّ لفظي ، وعلى تقدير كونه عن النصّ اللفظي لا يعتبر فيه سبق السؤال.

وعلى جميع التقادير لا يعتبر في العلم به ولا في حصول الكشف من جهته سبق العلم بمستنده الموجود بحسب الواقع ، وعلى هذا فلم لا يجوز أن يكون الإجماع المدّعى في خصوص المسألة مستند إلى ما ورد في الروايات المتكرّرة والأخبار المستفيضة من قولهم عليهم السلام : « علينا أن نلقي إليكم الاصول وعليكم أن تفرّعوا » بناء على ما سبق تحقيقه من أنّ التفريع ممّا لا يتأتّى غالبا إلاّ بإعمال ظنون كثيرة اجتهاديّة تحرز بها الصدور وجهته والدلالة وجهتها والمعارضة ودفعها ، فالإلزام المستفاد من كلمة « عليكم » ترخيص في العمل بتلك الظنون تحرّزا عن الأمر بغير المقدور.

ولك أن تقول : بجواز استناده إلى الأخبار العلاجيّة الآمرة بمراجعة المرجّحات الّتي ليست إلاّ امورا ظنّية.

ويتأكّد بملاحظة ما سنقرّره في محلّه من أنّ المستفاد من هذه الأخبار الترخيص في الترجيح بالظنّ الاجتهادي كائنا ما كان وإن لم يكن من سنخ ما نصّ به فيها ، وهذه الأخبار وإن كانت متضمّنة للمرجّحات المحرزة للسند والصدور والجهة غير أنّه يعلم منها الترخيص في مراجعة المرجّحات المحرزة للدلالة أيضا بطريق الفحوى ، لكون الأمر في الدلالة أهون منه في السند وجهة الصدور ، والدائرة في المرجّحات الراجعة إليها أوسع منها في المرجّحات الراجعة إلى غيرها من الجهات ، ولذا اتّفق الكلّ حتّى الأخباريّين على الأخذ بموجب

ص: 179

المرجّحات المحرزة للدلالة من غير توقّف فيها على التنصيص بخلاف سائر المرجّحات الّتي صار الأخباريّون فيها إلى اعتبار ورود النصّ والاقتصار في الترجيح على المنصوص بالخصوص.

ومع الغضّ عن جميع ذلك نقول : إنّه لا شبهة في أنّهم قديما وحديثا اتّفقوا على حجّية فهم من يستند فهمه إلى الكتاب والسنّة ، والمفروض أنّه في الغالب ظنّي لانسداد باب العلم بالنسبة إلى معظم الأحكام فيكون هذا الاتّفاق إجماعا منهم على حجّية هذا الفهم الظنّي.

ومعنى إجماعهم عليه تواطؤهم على الجزم واليقين كما يفصح عنه تصريحاتهم بعدم كون الظنّ ممّا يثبت بالظنّ.

ومن المعلوم بملاحظة عدلهم وورعهم وتقواهم وشدّة اهتمامهم في المحافظة على فروع أحكام الشرع فضلا عن اصولها أنّ ذلك منهم ليس مجرّد اقتراح ولا محض اقتحام بلا دليل ، بل إنّما نشأ لهم عن قاطع بلغهم عن إمامهم ورئيسهم المعصوم في خصوص المسألة وإن لم نعلمه بالخصوص ، أو عن قاطع كلّي قال بموجبه الإمام وإن لم يكن له اختصاص بالمسألة كقبح التكليف بغير المقدور ، أو غيره من المقدّمات الكلّية القطعيّة عقليّة أو شرعيّة وإن لم نعلمه على التعيين ، لا بمعنى إناطة الاطّلاع على الإجماع بسبق الاطّلاع على مدركه القاطع حتّى يقال : إنّ سبق الاطّلاع عليه ممّا يغني عن التمسّك بالإجماع ويرفع الحاجة إليه ، بل بمعنى أنّ سبق الاطّلاع على الإجماع ابتداء ومن غير التفات إلى شيء آخر ممّا يوجب انكشاف رأي الإمام ومعتقده ولو من جهة كونه من جزئيّات اعتقاده بموجب القاطع العامّ المنضبط الّذي استقلّ بإدراكه العقل على سبيل اليقين وإن لم نلتفت إليها على جهة التعيين.

وبالجملة الإجماع المفروض ممّا يكشف عن رأي المعصوم بأحد الوجهين كشفا ابتدائيّا بحيث لو لا النظر إليه لم يكن الكشف حاصلا ، فلا يعتبر في انعقاده سبق سؤال ولا في الاطّلاع عليه سبق العلم بمستنده كائنا ما كان.

ومن الأعلام من تفصّى عن الشبهة المذكورة بوجوه ثلاث ، أحدها مبنيّ على حمل الإجماع المدّعى هنا على إرادة معناه اللغوي ، والآخران على إرادة معناه المصطلح عليه.

أمّا الأوّل : فقال : « إنّ مرادهم من دعوى الإجماع لعلّه إجماع العقلاء وأهل العدل من

ص: 180

جهة أفهامهم الناشئة عن الفرار عن لزوم التكليف بما لا يطاق لو لم يكن ظنّه حجّة من جهة بقاء التكليف وانسداد باب العلم كما هو المفروض » إلى آخره ... (1).

وفيه : أنّ العقلاء إن اريد به ما يعمّ الإمام المعصوم أيضا - فمع أنّ الحمل على إرادة المعنى المذكور ليس حملا على ما يغاير المعنى المصطلح عليه كما لا يخفى - فيه : أنّ طريق العلم على الإجماع بهذا المعنى منحصر في أمرين :

أحدهما : استقصاء جميع العقلاء الّذين منهم الإمام واستيفاء أقوالهم ، أو استقصاء من كان منهم الإمام من العقلاء ، وهو غير متيسّر عادة في أزمنة الغيبة لعدم إمكان ملاقاة الإمام بحسب العادة ولو بعنوان كونه من العقلاء مع عدم معرفته بعنوان أنّه إمام على وجه نستعلم منه قوله في المسألة.

وثانيهما : أن يكون مناط الحكم المجمع عليه أمرا محرزا معلوما يقول بموجبه كلّ عاقل بحيث استقلّ العقول من جهته بإدراك الحكم المجمع عليه ، فمن جهة الانتقال إلى ذلك المناط ابتداء ، ينتقل إلى أنّ موجبه - وهو الحكم المجمع عليه - ما يقول به كلّ عاقل لكون المناط مسلّما عند الكلّ وهذا هو معنى العلم بإجماع العقلاء الّذين منهم الإمام.

وقضيّة العبارة حيث أخذ فيها قيد « من جهة أفهامهم الناشئة عن الفرار عن لزوم التكليف بما لا يطاق » إرادة هذا المعنى.

لكن يرد عليه : أنّ سبق الاطّلاع على هذا المناط يكفي في الانتقال إلى الحكم المجمع عليه ويرفع الحاجة إلى توسيط الإجماع كما لا يخفى.

وظاهر من يذكر الإجماع هنا أخذه بانفراده طريقا يتوصّل به إلى الحكم المجمع عليه من غير نظر إلى شيء آخر.

وإن اريد به ما لا يعمّ الإمام المعصوم.

ففيه - مع أنّ استقصاء العقلاء كافّة غير متيسّر عادة - : أنّ الاطّلاع على هذا الإجماع لا يوجب الانتقال إلى الحكم المجمع عليه انتقالا جزميّا إلاّ برفع احتمال الخطأ عنهم لكون المسألة نظريّة قابلة للخطأ ، ولا رافع له في أمثال المقام إلاّ أحد الأمرين من دخول معصوم فيهم والمفروض خلافه ، ومن سبق الاطّلاع على مناط الحكم المجمع عليه وكونه ممّا يستقلّ بإدراك موجبه العقول كلّها وهو ممّا يرفع الحاجة إلى توسيط الإجماع

ص: 181


1- القوانين.

عند الاستدلال كما لا يخفى.

وأمّا الآخران ، فأوّلهما : « أنّ من تتّبع سير الصحابة والتابعين في رجوع بعضهم إلى بعض وتقرير أئمّتهم ذلك ، وتجويز الرجوع إلى أصحابهم وتقريرهم على طريقتهم في فهم مطالبهم والجمع بين أخبارهم المختلفة ، وأمرهم بالجمع بالقواعد الملقاة إليهم الّتي لا يمكن التفريع عليها والعمل بها إلاّ مع الاعتماد بظنونهم في فهم موافقة الكتاب ومخالفته وفهم موافقة المشهور ومخالفته ، وكذلك معرفة الأعدل والأفقه الّذي لا ينفكّ عادة عن لزوم معرفة العامّ عن الخاصّ وطريق التخصيص ، ومعرفة الإطلاق والتقييد ، والأمر والنهي والمجمل والمبيّن والمنطوق والمفهوم بأقسامها وغير ذلك من المباحث المحتاج إليها ، فبعد ملاحظة ذلك يحصل له القطع برضا أئمّتهم عليهم السلام بما يتداولونه بينهم من الطريقة » إلى آخره (1).

وهذا مع اشتمال صدره بما لا مدخل له في المقام كما لا يخفى على المتأمّل ، يوهم في ظاهره الاستناد في تصحيح العمل بظنون المجتهد المطلق إلى تقرير الأئمّة أصحابهم على طريقتهم المبنيّة على إعمال الظنون وأمرهم بالتفريع الّذي لا يتأتّى غالبا إلاّ بإعمال ظنون كثيرة ، فيكون الأمر المذكور بالأخرة أمرا بإعمال تلك الظنون ، وهذا كما ترى ليس إصلاحا للإجماع المدّعى في هذا المقام ورفعا لشبهة المعترض في شيء ، مع أنّ هذا هو الغرض الأصلي.

إلاّ أن يوجّه بما يرجع إلى بعض ما قرّرناه ويقال : إنّ ملخّص مرامه بالعبارة إبداء استناد الإجماع المدّعى هنا في انعقاده إلى أمرين بعد تحقّقهما لا يفتقر إلى شيء من سبق السؤال ولا العلم بالمستند.

أحدهما : تقرير الأئمّة أصحابهم على طريقتهم في فهم مطالبهم والجمع بين أخبارهم المتضادّة وترجيح بعضها على بعض بموافقة الكتاب والمشهور والأعدليّة والأفقهيّة وغير ذلك المبنيّة على الأخذ بامور ظنّية كثيرة ومقدّمات غير علميّة متكثّرة.

وثانيهما : أمرهم بالتفريع المبتني غالبا على إعمال ظنون غير محصورة ومعرفة مقدّمات ظنّية غير معدودة.

فالإجماع على حجّية ظنّ المجتهد المطلق مستند إلى ملاحظة هذين الأمرين ، على معنى أنّ المجمعين استندوا في قولهم بالحجّية إليهما فيكون إجماعهم كاشفا عن رأي

ص: 182


1- القوانين.

المعصوم بهذا الاعتبار ، لكن قصور العبارة عن إفادة هذا المعنى غير خفيّ على اللبيب.

وثانيهما : « أنّ الكلام هنا في مقام تجزّي الاجتهاد وإطلاقه لا في طريقة الاصولي والأخباري وغيرهما ، وحينئذ نقول : إتّفاق العلماء في كلّ عصر ومصر من زماننا مترقّيا إلى زمان أئمّتهم بحيث لم يعرف منكر يعتمد بقوله على جواز عمل المستنبط المطلق القادر على تحصيل كلّ الأحكام بقوّته الحاصلة لذلك ومتابعة مقلّده له ، بل لزوم ذلك ووجوبه يكشف عن أنّ ذلك كان من جهة رخصة من جانب أئمّتهم » إلى آخره (1).

وهذا يرجع بنحو من الاعتبار إلى ما قرّرناه أخيرا ، وأمّا الاعتراض بالنسبة إلى دعوى الضرورة فدفعه بعض الأعلام بوجهين :

أحدهما : إمكان إرادة ضرورة الدين ، بتقريب ما ذكره أخيرا في الإجماع بدعوى : أنّ هذه الطريقة المستمرّة أفادت رضى صاحب الشرع بذلك بداهة.

وثانيهما : إمكان إرادة بداهة العقل بعد ملاحظة الوسائط أعني بقاء التكليف وانسداد باب العلم وقبح التكليف بما (2) لا يطاق.

ثمّ أورد على المعترض بقوله : « وما ذكر في الاعتراض من تسليم ذلك وتحسينه لأجل أنّه يعتمد على الدليل فليس بشيء ، لأنّه حينئذ ليس بضروري لاحتياج إبطال التقليد حينئذ إلى الاستدلال.

نعم ما ذكره يصير مرجّحا لاختيار الاجتهاد للمجتهد المطلق على التقليد ولا يفيد الضرورة ، ومقتضى ما ذكره كون جواز التجزّي أيضا بديهيّا مطلقا وهو كما ترى ، إذ ترجيحه على تقليده لمثله إن سلّم فلا نسلّم ترجيحه على تقليده للمجتهد المطلق بل ذلك يحتاج إلى الاستدلال وليس بضروريّ » (3).

ثمّ ذكر وجها ثالثا في توجيه دعوى الضرورة وهو إمكان إرادة الاضطرار والاحتياج من الضرورة.

أقول : وهذا هو أظهر المحامل في دعوى الضرورة ، وذلك من جهة أن تعيّن العمل بالظنّ الاجتهادي لا يتأتّى إلاّ بعد انحصار المناص فيه ، ولا ينحصر المناص إلاّ بعد إبطال التقليد وهو لا يتمّ إلاّ في حقّ المجتهد المطلق ، لأنّ دليل بطلانه على ما زعموه منحصر في الإجماع ولا إجماع في حقّ المتجزّي فلم ينحصر المناص في حقّه ليضطرّ

ص: 183


1- القوانين.
2- وفي الأصل : « وقيح تكليف ما لا يطاق » ، وما صحّحناه أوفق بالعبارة.
3- القوانين.

وأقصى ما يتصوّر في موضع النزاع أن يحصل دليل ظنّي يدلّ على مساواة التجزّي للاجتهاد المطلق *. واعتماد المتجزّي عليه يفضي إلى الدور ، لأنّه تجزّ في مسألة التجزّي ، وتعلّق بالظنّ في العمل بالظنّ **.

__________________

إلى العمل بظنّه ، هذا على مذاقهم.

وأمّا على ما قرّرناه من إبطال احتمال التقليد في مقابلة العمل بالظنّ الاجتهادي بقاعدة كون الظنّ الاجتهادي المأخوذ بلا واسطة أقوى من الظنّ الاجتهادي المأخوذ بالواسطة من جهة طروّ جهة الفتوائيّة ، فلا يتفاوت الحال في انحصار المناص بالنسبة إلى المطلق والمتجزّي معا.

ولعلّ هذا هو مراد المعترض من قوله : « لكنّه مشترك بين المطلق والمتجزّي » وعليه فيكون وجيها.

* تعرّض لمنع الكبرى على فرض تسليم الصغرى.

وملخّصه : أنّه لو سلّمنا مساواة المتجزّي للمطلق بدعوى : أنّ العلّة في العمل بظنّ المجتهد هي قدرته على استنباط المسألة فهي مساواة ظنّية لقيام احتمال كون العلّة هي قدرته على استنباط المسائل كلّها ولو مرجوحا ، لكن لا يلزم منها أن يجوز له العمل بظنّه كما جاز ذلك للمطلق ، لأنّ مستند المطلق في عمله دليل قطعي لا يجري هذا الدليل في حقّه ، فانحصر دليله في المساواة المدّعاة الموجبة لتعدية الحكم من المطلق إليه ، والاستناد إليها هنا غير جايز لكونها ظنّية ، ولا يجوز الاعتماد على الظنّ في العمل بالظنّ لإفضائه إلى الدور المستحيل.

وبهذا البيان ظهر أنّ مراده بالدليل الظنّي هنا هو القياس المبنيّ على المساواة الظنّية كما فهمه غير واحد من الأعيان ، لا ما احتمله بعض من جواز إرادة ما يأتي الاستدلال به من خبر أبي خديجة فإنّ ذلك ممّا لا ربط له بمقام دفع الاستدلال المتقدّم على ما زعموه من كونه قياسا الراجع إلى منع صغراه تارة ومنع كبراه اخرى ، وهذا الخبر ليس من صغرى هذا الدليل ولا كبراه.

** يعني أنّ اعتماد المتجزّي على هذا الدليل الظنّي عمل منه بظنّه في مسألة جواز عمل المتجزّي بظنّه ، وعلى هذا المعنى يكون قوله : « وتعلّق بالظنّ في العمل بالظنّ » تفسيرا

ص: 184

ورجوعه في ذلك إلى فتوى المجتهد المطلق وإن كان ممكنا. لكنّه خلاف المراد ، إذا الفرض إلحاقه ابتداء بالمجتهد. وهذا إلحاق له بالمقلّد بحسب الذات ، وإن كان بالعرض إلحاقا بالاجتهاد *. ومع ذلك فالحكم في نفسه مستبعد ، لاقتضائه ثبوت الواسطة بين أخذ الحكم بالاستنباط والرجوع فيه إلى التقليد.

__________________

لقوله : « تجزّ في مسألة التجزّي » كما هو ظاهر العبارة.

وقد تقدّم تقرير هذا الدور ، ويندفع بتخصيص الظنّ في مسألة جواز عمله بظنّه بالظنّ في الفروع وحينئذ لا يلزم محذور على القول بحجّية الظنّ في الاصول ، لأنّ هذا القول لابدّ وأن يكون عن دليل علمي.

نعم على القول الآخر يلزم في المقام على تقدير الاعتماد على الدليل الظنّي المذكور محذور التسلسل كما لا يخفى.

ومن هنا قد يوجد في بعض الكلمات الاستدلال بلزوم التسلسل في إبطال القول بالتجزّي ، كما حكاه بعض الأعلام في طيّ التعرّض لذكر تقارير الدور المتقدّمة.

والأولى أن يورد عليه : باستلزامه أحد المحذورين من الدور والتسلسل ، أمّا الأوّل : فبناء على التعميم في ظنّه بحيث يشمل الظنّ في هذه المسألة الاصوليّة الناشئ عن الدليل الظنّي المذكور.

وأمّا الثاني : فبناء على تخصيصه بالظنّ في الفروع المتوقّف جواز العمل به على جواز العمل به في المسألة الاصوليّة ، وهو إن استند إلى دليل ظنّي آخر يتوقّف على جواز العمل بهذا الظنّ وهكذا.

* قد ذكرنا أنّ مسألة التجزّي - أي جواز عمل المتجزّي بظنّه الحاصل باجتهاده - ممّا يجوز أن تكون اجتهاديّة ، بأن يستند جواز العمل في حقّه إلى اجتهاد نفسه في تلك المسألة ، ويجوز أن تكون تقليديّة بأن يستند الجواز في حقّه إلى تقليده لمجتهد مطلق بنائه في المسألة بحسب اجتهاده على الجواز ، كما إذا لم يكن بنفسه قادرا على الترجيح في تلك المسألة ولو من جهة عجزه عن إقامة الدليل القطعي على الجواز أو ذهابه في الاصول إلى عدم حجّية الظنّ فيها مع كون دليله الناهض على الجواز ظنّيا.

لكن ما أورده المصنّف من التشكيك في منع التقليد هنا ممّا لا نفهم معناه ، فإنّ أخذ الحكم في مسألة - ولو اصوليّة - بطريق التقليد لا ينافي صدق عنوان المجتهد عليه حقيقة

ص: 185

وإن شئت قلت : تركّب التقليد والاجتهاد ، وهو غير معروف *.

__________________

وبالذات باعتبار استنباطه وقدرته على هذا الاستنباط في مسائل اخر فرعيّة.

وقد تقدّم عند التعرّض لتعاريف الاجتهاد أنّها للأعمّ من الصحيح والفاسد ، فجواز العمل بالاجتهاد ليس بمأخوذ في ماهيّة الاجتهاد ليكون عدمه منافيا لها فضلا عن كون الجواز ثابتا بطريق الاجتهاد ، على معنى أنّ جواز العمل بالاجتهاد ليس داخلا في مفهوم الاجتهاد سواء ثبت هذا الجواز بطريق الاجتهاد في المسألة الاصوليّة أو بطريق التقليد ، فثبوته بطريق التقليد غير مناف لصدق « المجتهد » على المتجزّي أصالة أوّلا وبالذات ، كما أنّ عدم الجواز المبنيّ عليه بالاجتهاد أو التقليد غير مناف له.

مع أنّا نقول : لو بنينا على أنّ الاجتهاد اسم للصحيح منه بالخصوص لا يلزم انتفاء صدقه عن المتجزّي العامل باجتهاده من جهة التقليد ، نظرا إلى أنّ صحّة الاجتهاد ليست إلاّ عبارة عن جواز العمل به ، والصحّة بهذا المعنى ثابتة على الفرض باعتبار التقليد.

وأمّا لزوم كون ثبوتها باعتبار الاجتهاد في المسألة الاصوليّة فغير مسلّم ، هذا.

إلاّ أن يقال في توجيه العبارة : إنّ المراد من إلحاق المتجزّي بالمجتهد إلحاقه بالمجتهد المطلق في الحكم لا في مجرّد اسم المجتهد ، على معنى أن يثبت له جواز العمل بالظنّ الاجتهادي على نحو ما ثبت للمطلق ، والّذي ثبت للمطلق إنّما هو الجواز المستند إلى الاجتهاد والمفروض في حقّ المتجزّي بناء على الرجوع إلى التقليد خلاف ذلك ، فهو بالنسبة إلى هذه المسألة مقلّد وإن كان بالنسبة إلى المسائل المجتهد فيها مجتهدا ، وإثبات الجواز في حقّه بهذا الوجه ليس إلحاقا له بالمجتهد المطلق بل هو إلحاق له بالمقلّد وإن كان من جهة عمله بظنّه الاجتهادي في الفروع ملحقا بالمجتهد المطلق إلاّ أنّه إلحاق به بالعرض ، لكون عمله المذكور متفرّعا على عمله بفتوى غيره في هذه المسألة الّذي هو عنوان التقليد أصالة.

* ويظهر منه أنّ وجه الاستبعاد هو عدم المعروفيّة ، ويشكل ذلك : بأنّ عدم معروفيّة التركيب من التقليد والاجتهاد لو سلّم كان بالنسبة إلى فرض التقليد في الأصل والاجتهاد في الفرع ، وأمّا عكس هذا الفرض بأن يكون الاجتهاد في الأصل والتقليد في الفرع فليس بعزيز ولا نادر لشيوعه ، كما في مسألة جواز تقليد غير الأعلم ، وجواز تقليد الميّت ابتداء ، والبقاء على تقليد الميّت ونحو ذلك إذا علم حكم هذه المسائل باجتهاده ، فإنّه حينئذ يبني على هذا الاجتهاد ويقلّد غيره في الفروع فيكون مجتهدا من جهة ومقلّدا من اخرى ،

ص: 186

ونظيره ما في حقّ المجتهد المتجزّي باعتبار الفعل وإن كان باعتبار الملكة مطلقا إذا بنى في المسائل الّتي لم يجتهد فيها فعلا لمانع أو لعدم الفرصة أو نحو ذلك على تقليد غيره لا على الاحتياط.

حجج القول بحجّيّة ظنّ المتجزّي

ثمّ إنّ القول بجواز التجزّي بالمعنى الملحوظ في المقام الثاني له - مضافا إلى ما أشار إليه المصنّف وعرفت تفصيله ممّا بيّنّاه - حجج اخر بين صحيحة وسقيمة.

الحجّة الاولى

أنّ قضيّة حكم العقل بعد انسداد باب العلم وبقاء التكاليف هو الرجوع إلى الظنّ لكونه الأقرب إلى العلم ، من غير فرق بين كون الظانّ قادرا على استنباط غيره من الأحكام أو لا.

وبالجملة العبرة إنّما هي بحال الظنّ من غير ملاحظة حال الظانّ ، فقضيّة الدليل قيامه مقام العلم مطلقا كان الظانّ أو متجزّيا.

والأولى أن يعبّر عن « الرجوع إلى الظنّ لكونه الأقرب إلى العلم » ب- « الرجوع إلى ما هو الأقرب إلى العلم وهو الظنّ » لما قرّرناه من أنّ العقل عند إنشائه الحكم ابتداء بملاحظة مقدّماته لا يلاحظ ظنّا ولا ظانّا ولا غيرهما ، بل ينشأ الحكم بالجواز فيما هو أقرب إلى العلم ممّا لم يكن مؤدّيا إلى محذور كان يؤدّي إليه اعتبار العلم ولا غيره.

نعم إنّما يلاحظ الظنّ ويعيّنه في النظر الثاني أعني نظره في تعيين ما هو الأقرب ، ليكون المرجع الّذي يجب الرجوع إليه معلوما من جميع جهاته وبجميع عنواناته.

ثمّ إنّ الأقرب في قوله : « لكونه الأقرب » يقتضي بصيغته أن يكون له مقابل حتّى يلاحظ الأقربيّة بينه وبين الظنّ ويحكم على الظنّ بكونه الأقرب بالقياس إليه ، ولا مقابل له هنا بعد القطع بأنّه على فرض مقابلة الاحتياط له كان الاحتياط أقرب منه إلاّ (1) التقليد.

فملخّص الدليل : أنّ الأمر بعد انسداد باب العلم وبقاء التكاليف مردّد بين العمل بالظنّ الاجتهادي والرجوع إلى التقليد ، لكنّ الأوّل أقرب إلى العلم من الثاني فيكون متعيّنا بحكم العقل في حقّ القادر على تحصيله كائنا من كان.

ووجه الأقربيّة : ما قرّرناه بما لا مزيد عليه من أنّ الأخذ بفتوى الغير يجري فيه من الاحتمالات المبعدة عن العلم أو الواقع ما لا يجري في الأخذ بالظنّ الاجتهادي.

وقد عرفت أنّ مناط الأقربيّة قلّة الاحتمال أو ضعفه في مقابلة ما كثر فيه الاحتمال أو قوي.

ص: 187


1- كذا في الأصل والصواب : لا التقليد.

وبما قرّرناه من أنّ العقل يلزم المكلّف بالرجوع إلى ما لا يشارك العلم في المحذور يندفع ما أورد في نقض الدليل من : أنّه لو تمّ لقضى بحجّية الظنّ الّذي يتّفق حصوله متعلّقا بالحكم للمقلّد الغير القادر على الاجتهاد بسبب ملاحظة رواية أو ترجمتها أو فتاوى المجتهدين المودعة في الرسائل المتداولة بين مقلّديهم ، خصوصا بعد ملاحظة أنّه قد يكون أقوى ممّا يحصل للمجتهد.

فإنّ العقل يلزم المكلّف على العمل بما يمكن العمل به ، فما لا يمكن العمل به لتعذّر حصوله أو لتعذّر العمل خارج عن موضوع حكم العقل ، فيخرج به المقلّد سواء اتّفق له حصول الظنّ في بعض الأحيان أو لا.

أمّا الثاني : فواضح.

وأمّا الأوّل : فلقيام المنع الشرعي من العمل بالظنّ الحاصل في حقّه ، فالعمل بهذا الظنّ غير مقدور نظرا إلى أنّ المنع الشرعي كالمنع العقلي ، فخروج هذا الظنّ ليس من باب التخصيص.

ويمكن إجراء هذا الكلام بالقياس إلى الظنّ القياسي وغيره ممّا حرم العمل به شرعا بالخصوص في حقّ المجتهد أيضا كما لا يخفى.

ومن الأفاضل من أورد على الدليل المذكور بوجوه :

أحدها : « أنّ قضيّة العقل بعد انسداد باب العلم هو حجّية أقوى الظنون إذ هو الأقرب إلى العلم.

ولا ريب أنّ الظنّ الحاصل لصاحب الملكة القويّة الموجبة للاقتدار على استنباط جميع المسائل ومعرفة الأحكام أجمع ومعرفة جميع الأدلّة الشرعيّة والوصول إلى وجوه دلالتها وكيفيّة استنباط الأحكام منها أقرب إلى إصابة الحقّ والوصول إلى الواقع من استنباط من هو دونه في الملكة بحيث لا يقدر إلاّ على استنباط بعض المسائل.

والحاصل : كما أنّه يجب تحصيل أقوى الظنون من حيث المدرك مع اختلاف المدارك في القوّة والضعف كذا يجب مراعاة الأقوى من حيث المدرك ، فكما يجب عليه البحث في الأدلّة لتحصيل المدرك الآخر كذا يجب عليه السعي في تحصيل القوّة القويّة حتّى يكون مدركا لتلك الأقوى ، لكون الظنّ الحاصل معها أقرب إلى مطابقة الواقع من الحاصل من

ص: 188

القوّة الناقصة والملكة الضعيفة » انتهى ملخّصا (1).

ويدفعه أوّلا : النقض بمجتهدين مطلقين أحدهما أعلم من صاحبه ، فإنّ قضيّة الوجه المذكور أن لا يجوز لغير الأعلم أن يأخذ باجتهاده حتّى يحصل له القوّة القويّة المساوية لقوّة الأعلم ، وهذا كما ترى ممّا لم يعهد القول به من أحد.

وثانيا : قد عرفت بما قرّرناه مرارا أنّ معيار التجزّي والإطلاق ليس بضعف القوّة وقوّتها بل بخصوص القدرة على الاستنباط وعمومها ، والعموم لا يستلزم كون الخصوص المندرج في ضمنه الموجود للمطلق بالقياس إلى مسألة أو عدّة مسائل أقوى من الخصوص المفارق الموجود للمتجزّي بالقياس إلى هذه المسألة أو المسائل ، وحينئذ فليفرض قوّتهما بالقياس إليها في مرتبة واحدة.

وثالثا : قد ذكرنا أيضا أنّ ظنّ المطلق على تقدير كونه أقوى بضعف احتمال الخطأ بالنسبة إليه في مقام الاجتهاد قد يطرأه باعتبار مقام الفتوى ما يوجب بعده عن الواقع ممّا لا يجري في ظنّ المتجزّي.

ورابعا : أنّ الظنّ الأقوى حيثما أمكن تحصيله من غير أدائه إلى محذور نفاه العقل أو الشرع وجب تحصيله ولو كان الظانّ هو المتجزّي ، نظرا إلى أنّ العبرة في أقوائيّة الظنّ بنفسه بالقياس إلى ظنّ آخر بكون احتمال المخالفة فيه أضعف منه في الآخر ، ضرورة أنّه كلّما ضعف هذا الاحتمال - الّذي يعبّر عنه بالاحتمال المرجوح اللازم في كلّ ظنّ - قوي الاحتمال الآخر المعبّر عنه بالاحتمال الراجح الّذي هو الظنّ إلى أن يبلغ مرتبة يغلب معه الاحتمال المذكور فيزول في جنبه الاحتمال المرجوح بالمرّة وهي مرتبة العلم بمعنى الجزم ، ومعنى أقوائيّة الظنّ كونه في مرتبة قريبة من مرتبة العلم ، وليس ذلك إلاّ بكون الاحتمال المرجوح الّذي هو احتمال المخالفة في أضعف مراتبه وبذلك يصير أحد الظنّين أقرب إلى العلم من صاحبه ، فإذا أمكن تحصيله للظانّ كائنا من كان وجب عليه التحصيل بلا إشكال ما لم يستتبع محذورا ، ومع العجز عنه يتعيّن عليه العمل بما أمكنه وحصل له ، ولا يسلّم كون الظنّ الحاصل لغيره بالنظر إليه أقوى في نظره ممّا حصل له نفسه ولو كان ذلك الحاصل لغيره بالنظر إلى نفس الأمر في مرتبة لو تعدّاها كان علما.

وتوضيح ذلك : أنّ ملاحظة القوّة والضعف في الظنّين اللذين دار الأمر بينهما أو

ص: 189


1- هداية المسترشدين 3 : 632.

المساواة بينهما إنّما تتأتّى لغير الظانّين كالمنازعين في المسألة إذا كان غرضهم معرفة نفس الأمر ، وكالمقلّدين إذا كان غرضهم تعيين ما يكون مرجعا لهم في مقام العمل ، وأمّا كلّ من الظانّين بأنفسهما فلا يتأتّى ملاحظة القوّة والضعف والمساواة في حقّه ، بأن يكون الظنّ الحاصل له في نظره أقوى من ظنّ صاحبه تارة وأضعف منه اخرى ويساويه ثالثة ، بل هذا الاختلاف بالنسبة إلى نظره غير معقول ، كيف وليس الظنّ الحاصل لصاحبه في نظره إلاّ الاحتمال المرجوح المجامع لظنّه ، فكيف يعقل كونه في نظره أقوى من ظنّه تارة ومساويا له اخرى؟ بل هو في نظره ليس ظنّا ، فإطلاق القول بكون ظنّ المجتهد المطلق أقوى من ظنّ المتجزّي فيتعيّن الرجوع إليه ليس على ما ينبغي ، لكونه في نظر المتجزّي إذا لاحظه مقيسا إلى ظنّه وهما.

نعم إنّما يتمّ كونه أقوى منه إذا لاحظهما غير المطلق والمتجزّي ممّن ينازع في المسألة أو من شأنه التقليد فيلاحظهما لتعيين الأقوى منهما وتشخيص الأقرب منهما إلى العلم في نظره بحسب نفس الأمر حتّى يرجع إليه ويأخذ به ، فكون ظنّ المطلق أقوى من ظنّ المتجزّي في نظر المنازعين من المجتهدين أو في نظر المقلّدين لا يستلزم كونه كذلك في نظر المتجزّي أيضا ، والعبرة في تعيّن الرجوع إلى أقوى الظنّين بكون الأقوائيّة ثابتة في نظر المكلّف ولو من جهة شهادة أهل الخبرة لا في نظر غيره ، وهذا هو السرّ في اختلاف الحكم في الأعلم وغير الأعلم ، حيث إنّ غير الأعلم ليس له إلاّ العمل بظنّ نفسه لكون اعتقاد الأعلم في نظره مخالفة للواقع فلا يجوز الأخذ به ، ويتعيّن على من يريد تقليدهما الرجوع إلى الأعلم دون غيره لكون ظنّه أقوى واجتهاده أقرب إلى الواقع.

وبالجملة فقضيّة حكم العقل بملاحظة انسداد باب العلم وجوب الرجوع إلى ما هو أقرب إلى العلم ، ويستحيل منه الحكم بالرجوع إلى ما هو أبعد عنه ، فيتعيّن على الظانّ الغير المتمكّن من العلم الأخذ بالراجح من الاحتمالين في نظره لكونه الأقرب إلى العلم وليس ذلك إلاّ ظنّه ، لكون الاحتمال الآخر المجامع للاحتمال المذكور أبعد عن العلم وليس له الأخذ به بحكم العقل.

ولا ريب أنّ الظنّ الحاصل لغير هذا الظانّ مقيسا إلى ظنّه ليس في نظره إلاّ ما هو الاحتمال المرجوح الأبعد ، فيستحيل من العقل إلزامه بالرجوع إليه.

نعم لو ثبت أنّ الشارع أسقط اعتبار الاحتمال الراجح في نظر المكلّف وعيّن له

ص: 190

الرجوع إلى الاحتمال المرجوح الّذي هو ظنّ غيره كما في المقلّد الفاقد لملكة الاجتهاد بالمرّة إذا اتّفق حصول الظنّ له بسبب من الأسباب - حسبما تقدّم فرضه - فهو خارج عن موضوع حكم العقل لما نبّهنا عليه ، وليس ذلك من باب إلزام المكلّف بالرجوع إلى ما هو أقرب عنده كما لا يخفى.

ومحلّ البحث ليس من هذا الباب ، إذ لم يقم من الشرع ما يقضي بسقوط اعتبار ظنّ المتجزّي بالخصوص ، فيبقى قاعدة الأقربيّة المنوطة بحكم العقل جارية قاضية بتعيّن الرجوع إلى ظنّه دون التقليد الّذي مرجعه إلى الأخذ بظنّ غيره الّذي هو في نظره احتمال مرجوح بعيد عن الواقع.

فما قيل في الفرق بين المطلق والمتجزّي في مقام منع عمل المتجزّي بظنّه : من أنّ الوثوق بالأوّل باعتبار كماله وقوّته وزيادة علمه أشدّ من الوثوق بالثاني باعتبار ضعفه وقصوره ، واضح الضعف بملاحظة ما قرّرناه.

نعم إنّما يصحّ ذلك في حقّ مقلّد تردّد بين تقليد هذا أو ذاك وهذا ممّا لا مدخل له بمقام عمل المتجزّي نفسه.

وثانيها « أنّ ما ذكر من الدليل إنّما يتمّ لو لم يقم إجماع على حجّية ظنّ المطلق ، وأمّا مع قيامه على حجّيته فلا وجه للحكم بحجّية ظنّ غيره ، فإنّ قضيّة انسداد باب العلم وبقاء التكليف هو الرجوع إلى الظنّ في الجملة ، والقدر الثابت هو الظنّ الخاصّ لقيام الإجماع عليه فالباقي يندرج تحت ما دلّ على المنع من الأخذ بالظنّ.

نعم إن لم يثبت هناك مرجّح بين الظنون من حيث المدرك - كما أنّه ليس بينها مرجّح من حيث المدرك على ما ادّعاه القائل بأصالة حجّية الظنّ - لزم الحكم بتساوي الكلّ من الجهة المذكورة أيضا لانتفاء المرجّح أيضا ، وليس كذلك لما عرفت من كون الإجماع على حجّية ظنّ المطلق مرجّحا في المقام » انتهى (1).

وفيه : أنّ مبنى هذا الكلام على دعوى كون نتيجة دليل الانسداد مهملة لا مطلقة ولا محصورة ، مع فرض الإهمال بالقياس إلى جميع جهات الظنّ الّتي منها أشخاص الظانّ من المجتهد المطلق والمتجزّي والمقلّد المتوقّف رفعه باعتبار عموم الحجّية على توسيط المقدّمات المعمّمة الّتي منها لزوم الترجيح بلا مرجّح لو خصّ الحجّية ببعض دون بعض.

ص: 191


1- هداية المسترشدين 3 : 636.

لكن قد تقرّر في محلّه - على ما فصّلناه - أنّ أثر الإهمال إنّما يحصل في القدر الزائد على القدر الكافي في معرفة الأحكام الشرعيّة والمسائل الفقهيّة ، والمراد بالقدر الكافي مقدار من الظنون الّتي لو لا بناء العمل عليها لأدّى إلى المحاذير الّتي كانت تلزم على تقدير البناء على الاصول من أصلي البراءة والاحتياط والتقليد وغيره ممّا احتمل كونه مرجعا على تقدير عدم مرجعيّة الظنّ.

وقد عرفت أنّ من المحاذير ما يستلزمه البناء على التقليد مع وجود الظنّ الاجتهادي المخالف له الحاصل لصاحب الملكة المقتدر بها على الاستنباط من الأخذ بما هو أبعد عن العلم والواقع من الاحتمالين في نظر المكلّف.

وهذا كما عرفت منفيّ بحكم العقل بالرجوع إلى الأقرب الّذي لا يكون في حقّ الظانّ إلاّ ظنّه ولو [ كان ] متجزّيا ، بل أنت بملاحظة ما قرّرناه مرارا - من أنّ العقل بملاحظة الانسداد وبقاء التكليف لا يحكم إلاّ بالرجوع إلى ما هو أقرب إلى العلم من الامور المحتملة ولا أقرب في حقّ الظانّ إلاّ ظنّه الحاصل له دون ظنّ غيره - تعرف أنّه لا يعقل الإهمال بالنسبة إلى آحاد الظانّ فلا حاجة في تعميم الحكم إلى مرجّح.

مع أنّ أخذ الإجماع مرجّحا موجبا لتخصيص الحكم على تقدير الإهمال بالمطلق ممّا لا وجه له ، بل هو عند التحقيق ممّا لا يتعقّل ، لأنّ الإجماع المذكور لو صحّ واستقام لكان رافعا للحاجة إلى إعمال دليل الانسداد وموجبا لعزل العقل عن العمل في تعيين المرجع لأنّ عمدة مقدّماته فرض انسداد باب العلم.

ومن المصرّح به في كلماتهم أنّ العلم المفروض انسداد بابه أعمّ من العلم بالواقع والعلم بالمرجع ، والإجماع على فرض ثبوته - كما هو الحقّ - ممّا يفيد العلم بمرجعيّة الظنّ.

غاية الأمر أنّه لو كان إجمال في مورده لقضى بالاقتصار على القدر المتيقّن منه وهو ظنّ المطلق - على ما زعمه المورد - ومعه لا انسداد لباب العلم ، فلا يعقل من العقل حينئذ عمل وحكم بمرجعيّة الظنّ حتّى يلزم بعده مراجعة المرجّح إحرازا لموضوع حكمه.

وإن شئت فقل : إنّ فرض ثبوت الإجماع على حجّية الظنّ ممّا يرفع موضوع حكم العقل فلا وجه لإعماله ، وحيثما يصحّ إعماله لا يعقل كون رافع موضوعه مرجّحا له ومحرزا لموضوعه ، وهذا نظير أخذ الدليل الاجتهادي الوارد في مسألة على طبق حكم الأصل مويّدا له ومؤكّدا لمقتضاه ، وما يرى من الاستناد إلى دليل الانسداد بعد الاستناد إلى

ص: 192

الإجماع مثلا فهو مبنيّ على فرض المسألة بلا دليل الحجّية وقطع النظر عن الدليل الوارد فيها إجماعا كان أو غيره ، ومعنى قطع النظر عن الإجماع فرضه معدوما ، وهو لا يجامع أخذه مرجّحا لأنّ المعدوم لا يرجّح الموجود ، وملاحظته موجودا تقضي بانعدام هذا الموجود ، بل حقيقة معنى المرجّح هاهنا كون شيء مبيّنا لموضوع الدليل ، ودليل الانسداد على تقدير جواز : الجمع بينه وبين دليل الإجماع أولى باعتباره مبيّنا لموضوع دليل الإجماع رافعا للإجمال عنه ، بناء على ما قرّرناه من أنّه بنفسه يقضي ببطلان التقليد في حقّ المتمكّن من الظنّ الاجتهادي ، وذلك لأنّ الإجماع على حجّية ظنّ المطلق ليس معناه ما يكون مفاده نفي حجّية ظنّ المتجزّي ، بل معناه أنّه إجماع انعقد في مورد مجمل وقضيّة الأخذ بالقدر المتيقّن منه اختصاص الحجّية بظنّ المطلق ، لكن إذا ضمّ إليه دليل الانسداد كان مفاده رفع هذا الإجمال بكشفه عن كون معقد الإجماع أعمّ من ظنّ المطلق وظنّ المتجزّي ، فليتدبّر.

وثالثها : « أنّ انسداد باب العلم والعلم ببقاء التكليف إنّما يقضي بجواز العمل بما يظنّ أنّه مكلّف به في ظاهر الشريعة لا ما ظنّ أنّه كذلك بحسب الواقع ، كما هو المقصود بالاستدلال.

وتوضيحه : أنّه بعد العلم بوقوع التكاليف فيجب في حكم العقل للحكم بالبراءة والامتثال الأخذ بما يعلم كونه موجبا لفراغ الذمّة ، ولا يتأتّى ذلك إلاّ بسلوك ما علم كونه طريقا مجعولا من الشارع إلى الواقع ، أو بأداء ما علم كونه الواقع ، ومع تعذّر العلم على أحد الوجهين بأن انسدّ سبيل العلم بما جعل طريقا إلى الواقع وانسدّ أيضا سبيل العلم بالواقع مع القطع ببقاء التكليف تعيّن تحصيل الظنّ بما جعل طريقا ، ومراعاة ما يظنّ كونه الطريق المجعول لقيام الظنّ بذلك حينئذ مقام العلم به في حكم العقل ، ولا يصحّ الاكتفاء حينئذ بمجرّد ما يظنّ معه بأداء الواقع ، وحينئذ فلا يتمّ الاحتجاج إذ مجرّد ظنّ المتجزّي بالحكم مع الشكّ في كونه مكلّفا شرعا بالعمل بظنّه أو رجوعه إلى ظنّ المجتهد المطلق لا يكفي في الحكم بحجّية ظنّه » انتهى ملخّصا (1).

وفيه من الفساد والشبهة ما لا يخفى على ذي مسكة ، إذ المفروض في دليل الانسداد انسداد باب العلم بالأحكام الواقعيّة المعلومة بالإجمال فيقابله انفتاح باب الظنّ بها ، فيتعيّن العمل به حذرا عن التكليف بما لا يطاق والإرجاع إلى الأبعد عن العلم والواقع مع وجود

ص: 193


1- هداية المسترشدين 3 : 640.

الأقرب إليهما ، وهذا كما ترى ممّا لم يؤخذ فيه الظنّ بالطريق إلاّ إذا نشأ منه الظنّ بالحكم.

وقضيّة ذلك قطع المتجزّي بكونه بحسب الشرع مكلّفا بالعمل بظنّه ، وأمّا ما لم ينشأ منه الظنّ بالحكم فلا يجوز التعويل عليه ما لم يقم دليل علمي على كونه طريقا وإن ظنّ طريقيّته.

ومع التنزّل عن هذا المقام وإدراج الظنّ بالطريق في دليل الانسداد ، نقول : إنّ العقل إنّما يحكم بجواز العمل بالظنّ بالطريق باعتبار أنّه ظنّ بالمبرئ للذمّة عن الأحكام الواقعيّة المعلوم باشتغال الذمّة بامتثالها ، وهذا ممّا لا يتفاوت الحال فيه بين ما لو تعلّق الظنّ بنفس الواقع أو بما جعل طريقا إليه ، لأنّ كلاّ منهما ظنّ بالمبرئ للذمّة فلا وجه لدعوى انحصاره في الظنّ بالطريق.

ولو سلّم صحّة هذه الدعوى فلم لا يجوز أن يحصل للمتجزّي ظنّ بطريقيّة بعض الطرق الاجتهاديّة المعهودة مع تمكّنه من استفادة الحكم الشرعي من بعض جزئيّاته دون بعض؟ فيندرج ظنّه المذكور حينئذ في الدليل المزبور فيكون من الظنّ المقطوع بجواز العمل به.

ورابعها : « أنّ الاحتجاج المذكور إنّما يتمّ إذا قام دليل قطعي على عدم وجوب الاحتياط على مثله ، إذ مع احتمال وجوبه عليه يتعيّن ذلك بالنسبة إليه لأنّه أيضا نحو من العمل بالعلم ، وهو ممنوع بل الظاهر خلافه ، إذ أقصى ما يستفاد ممّا دلّ على عدم وجوبه إنّما هو في أصل الشريعة وعدم وجوبه على المجتهد المطلق ومن يقلّده ، وأمّا عدم وجوبه في الصورة المفروضة فلا ، كما هو الحال بالنسبة إلى غير البالغ درجة الاجتهاد إذا تعذّر عليه الرجوع إلى المجتهد » (1).

وفيه : أنّ العمدة من دليل عدم وجوب الاحتياط هو إجماع الفرقة بالتقرير المتقدّم إليه الإشارة ، وملاحظة كلماتهم واستدلالاتهم على طرفي المسألة وغيرها تقضي بعدم الفرق فيه بين المطلق والمتجزّي ، وعلى فرض الاستناد لنفي وجوبه إلى الأدلّة النافية للعسر والحرج أمكن إدراج المتجزّي فيه أيضا ، بناء على اعتبار العسر والحرج المنفيّين نوعيّا لا شخصيّا ، مع أنّ من الفروض ما لا يمكن فيه الأخذ بالاحتياط فيسقط احتمال وجوبه حينئذ جدّا.

ص: 194


1- هداية المسترشدين 3 : 641.

والقول بأنّ غاية الأمر حينئذ هو جواز الاعتماد على ظنّه في بعض الفروض النادرة ممّا لا يمكن فيه مراعاة الحائط بشيء من وجوهها لمكان الضرورة وأين هذا من المدّعى؟

يدفعه : أنّ هذا عين المدّعى في مقابلة القول بتعيّن التقليد في حقّه مطلقا ، نظرا إلى أنّ حكم العقل بجواز الاعتماد على الظنّ ممّا لا يتأتّى إلاّ إذا قام الضرورة والاضطرار إليه ، ولذا ترى أنّ موضوعه ما يكون أقرب إلى العلم الغير المستتبع للمحاذير الّتي كان يستتبعها الأخذ بالعلم أو الاحتياط أو غيرهما ممّا احتمل كونه مرجعا.

وبالجملة الاحتياط ما لم يمنع وجوبه بالعقل أو الشرع لم يقم ضرورة إلى الأخذ بالظنّ حتّى بالنسبة إلى المطلق ومعه يمتنع من العقل تجويز العمل بالظنّ ، لما تقدّم ذكره مرارا من أنّ الامتثال العلمي ولو إجمالا مع إمكانه وعدم نهوض ما دلّ من الشرع على نفي اعتباره ممّا لا يجوز في حكم العقل العدول عنه ، وفرض الضرورة بالنسبة إلى المتجزّي إنّما يتأتّى إذا اتّفق اجتهاده فيما لا يمكنه الأخذ بالحائط فيه من المسائل ، وثبوت جواز اعتماده على هذا الاجتهاد يكفي في نقض مقالة المانع لرجوع كلامه إلى دعوى السلب الكلّي كما لا يخفى.

الحجّة الثانية

عموم ما دلّ على المنع من التقليد ، خرج عنه العامي الصرف الغير المتمكّن من الاجتهاد بالإجماع وغيره فيبقى الباقي الّذي منه المتجزّي بالنسبة إلى ما اجتهد فيه تحت العموم ، فيتعيّن عليه العمل باجتهاده حينئذ إذ لا قائل بغيره.

وقد تقدّم منّا عند تأسيس الأصل ما يقضي بضعف ذلك ، من حيث إنّ نظير هذا الكلام يجري بالقياس إلى الأخذ بالاجتهاد لاندراجه في عموم ما دلّ على المنع من العمل بالظنّ ، ولذا عورض بما في كلام غير واحد من أنّ التقليد كما أنّه خلاف الأصل وينفيه عموم ما ذكر فكذلك العمل بالظنّ أيضا خلاف الأصل وينفيه عموم آيات الذمّ على العمل به ، والعمل بالاجتهاد عمل بالظنّ.

غاية الأمر خروج المجتهد المطلق بالدليل ويبقى تحته الباقي الّذي منه المتجزّي.

وقرّره بعض الفضلاء : « بأنّه كما يمكن التمسّك بتحريم التقليد على جواز العمل بالظنّ إذ لا قائل معه بغيره ، كذلك يمكن التمسّك بتحريم العمل بالظنّ على جواز التقليد إذ لا قائل أيضا معه بغيره فيسقط الاحتجاج حيث لا ترجيح » (1).

ص: 195


1- الفصول : 397.

وقد يقرّر المعارضة : بأنّ حرمة التقليد ليس لخصوصيّة فيه بل لأجل كونه عملا بما وراء العلم ، ودليل المنع منه عامّ يشمل العمل بالظنّ أيضا ، ومن الممتنع الفرق بين أمرين متساويين بالمنع من أحدهما دون الآخر بدليل عامّ لهما في الدلالة على المنع.

وبعبارة اخرى : تخصيص العامّ بإخراج بعض الأفراد عنه بسبب دخول البعض الآخر فيه مع تساويهما في الاندراج تحته غير معقول ، وهذا ضعيف جدّا.

وأضعف منه ما في كلام بعض الأفاضل في دفع الاحتجاج أيضا من : « أنّه ليس فيما دلّ على المنع من التقليد ما يشمل تقليد المجتهد مع كمال ثقته وأمانته ووفور علمه وكونه بحسب الحقيقة حاكيا لقول الإمام بحسب ظنّه.

غاية الأمر أنّه لا دليل على جواز اعتماد المتجزّي على ذلك ، فلا يمكن الحكم ببراءة ذمّته بمجرّد ذلك ، وحينئذ فالدليل على المنع منه هو الدليل على المنع من الأخذ بالظنّ ، فليس على المنع من التقليد دليل خاصّ يلزم الخروج عن مقتضاه لو قلنا بوجوب الرجوع إليه ، بخلاف ما لو قلنا برجوعه إلى الظنّ فلا يتمّ ما ذكر في الاحتجاج » (1).

وجه الضعف : بطلان دعوى عدم الدليل على حرمة التقليد لخصوصيّة فيه ، كيف وفي الآيات ما هو صريح فيه كقوله تعالى في ذمّ الكفّار على تقليد آبائهم : ( ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ ) وقوله أيضا حكاية عنهم : ( إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ ) كما في آية و ( مُهْتَدُونَ ) كما في اخرى.

والقدح في عمومها بحيث يشمل نظائر المقام - بعد القطع بأنّ الكفر وكون المقلّد بالفتح هو الآباء ممّا لا مدخل له في الحكم لكون الذمّ متوجّها إليهم من حيث اقتدائهم واهتدائهم وتطبيق عملهم في عباداتهم على ما لم يمضه الشارع - ليس في محلّه ، مع أنّ المنع من التقليد ليس لأمر يرجع إلى المقلّد بالفتح من مجتهد وغيره ليجدي في رفع شموله لتقليد المجتهد كمال ثقته وأمانته ووفور علمه ، بل لأمر قائم بأصل التقليد من حيث كون الأخذ به في امتثال أحكامه تعالى أخذا بما لم يحرز بالعقل كونه حكما واقعيّا ولا بالشرع كونه حكما فعليّا ظاهريّا.

ومن هنا يتّضح فساد ما في كلام بعض الأفاضل من دعوى كونه بحسب الحقيقة حاكيا لقول الإمام ، إذ لو اريد بقول الإمام ما هو ملزوم للحكم الواقعي فهو واضح المنع ، لعدم

ص: 196


1- هداية المسترشدين 3 : 644.

الملازمة بين محكيّه والحكم الواقعي عقلا ولا شرعا ، ولو اريد به ما هو ملزوم للحكم الفعلي الواجب اتّباعه فهو فرع دلالة الشرع على جواز الرجوع إليه وهو أوّل المسألة ، وحينئذ فيكفي في المنع منه قضاء العقل بقبح التعبّد في دين اللّه بغير علميّ الراجع بالأخرة إلى التعبّد بالشكّ كما هو واضح ولو فرض كون التقليد بالنسبة إلى المقلّد مفيدا للظنّ ، نظرا إلى أنّ الظنّ بعد بطلان التسلسل لابدّ من انتهائه إلى العلم أو الشكّ والأوّل مفروض العدم والثاني ممّا يقبح في حكم العقل التعبّد به وهذا كاف في دليل المنع منه لو سلّم عدم شمول عمومات الكتاب له في المقام ، كيف وقد عرفت أنّه لا مانع من شمولها.

وحينئذ نقول : إنّه لا إشكال في أنّ المتجزّي مخرج عن عموم الأدلّة الناهية عن العمل بما وراء العلم لا محالة ، سواء تعيّن عليه العمل بظنّه أو الأخذ بالتقليد ، وإنّما الإشكال في أنّه هل يكون معه مخرجا عمّا دلّ بعمومه على المنع من التقليد أو عمّا دلّ كذلك على المنع من العمل بالظنّ فلابدّ من الترجيح؟ والاحتجاج المذكور قاصر عن إفادته.

نعم بناء على ما عرفت منّا عند تأسيس الأصل - مضافا إلى ما تكرّر في تضاعيف كلماتنا المتقدّمة - كان الترجيح حاصلا للثاني ، بل لو قلنا بانحصار دليل المنع في الأدلّة المانعة من العمل بما وراء العلم لقلنا برجحان إخراج الظنّ عنها ، نظرا إلى أنّ الظنّ فرد ممّا وراء العلم كما أنّ التقليد أيضا فرد منه.

والأولى بملاحظة ما تقدّم - بعد الاضطرار إلى الأخذ بأحدهما في حقّ المتجزّي - تعيّن العمل بالظنّ ، لكن هذا ليس من إصلاح الحجّة المذكورة في شيء ، كما أنّه ليس من إصلاحها ما قيل في ترجيح الأخذ بالظنّ من : أنّ الحاصل في تقليد المجتهد جهتان من المنع نظرا إلى الاتّكال فيه إلى الظنّ وإلى الغير ، ففيه استناد إلى التقليد وإلى الظنّ بخلاف العمل بالظنّ.

نعم لو كان من يقلّده عالما بالحكم كان المانع هناك مجرّد التقليد ، فربّما يكافؤ ذلك رجوعه إلى الظنّ إلاّ أنّه لا يكون ذلك إلاّ في نادر من الأحكام ، ومرجعه إلى اختيار التخصيص في أحد العامّين عليه في كليهما ، نظرا إلى أنّ التقليد يوجب التخصيص تارة في أدلّة المنع منه واخرى في أدلّة المنع من العمل بالظنّ ، لأنّ الأخذ به يتضمّن الأخذ بظنّ المجتهد.

ونظير هذا الترجيح ما حكي عن الوافية في دفع المعارضة - وإن ضعف بما سنشير إليه - من أنّ المتجزّي لابدّ له من اتّباع ظنّ لا محالة إمّا الظنّ الحاصل من التقليد أو الظنّ

ص: 197

الحاصل من الاجتهاد ، فكيف يكون هو منهيّا عن اتّباع الظنّ على الإطلاق بخلاف التقليد.

وملخّصه : أنّ المتجزّي مخرج عن دليل المنع من اتّباع الظنّ لا محالة سواء أخذ بظنّه أو أخذ بالتقليد ، ضرورة أنّه لا بدّ من الرجوع إلى أحد أمرين وأيّا ما كان فهو اتّباع للظنّ ، وحينئذ فلو رجع إلى التقليد وأخذ بالظنّ الحاصل منه لزم تخصيص آخر بإخراجه عن دليل المنع من التقليد بالخصوص ، بخلاف ما لو رجع إلى ظنّه الحاصل باجتهاده ، إذ لا يلزم تخصيص آخر بعد إخراجه عن دليل المنع من اتّباع الظنّ ، وحاصله أنّ الأمر في حقّ المتجزّي دائر بين الاكتفاء بتخصيص دليل واحد أو التزم تخصيصين في دليلين.

وإن شئت فقل : بين الاكتفاء بتخصيص واحد أو التزام تخصيصين ، ومن البيّن أنّ الأوّل متعيّن.

وجه الضعف : منع كون مبنى التقليد على العمل بالظنّ الحاصل منه للمقلّد ، فرجوعه إليه لا يوجب التخصيص في أدلّة المنع من العمل بالظنّ.

نعم مرجعه إلى العمل بالظنّ الحاصل للمجتهد فهو بالنسبة إليه عمل بالظنّ بالواسطة بخلاف عمل المتجزّي بظنّه فإنّه عمل به بلا واسطة ، فترجيحه على التقليد حينئذ من جهة كون الظنّ المأخوذ به بلا واسطة أقرب إلى العلم أو الواقع من الظنّ المأخوذ به بواسطة ، وهذا الترجيح ونظيره إنّما يناسب لتأسيس أصل في المسألة لا لتتميم الحجّة المتقدّمة ، لعدم ابتنائه إلاّ على عدم قائل بغير اتّباع الظنّ بعد بطلان التقليد من غير تعرّض بالترجيح بنحو ما ذكر.

وبما بيّنّاه في توضيح عبارة الوافية يندفع ما أورد عليها السيّد في مفاتيحه من أنّه ضعف ذلك في غاية الوضوح ، إذ غاية ما يحصل للمتجزّي العلم بكونه مكلّفا بالعمل بغير العلم ، وأمّا أنّه التقليد أو الاجتهاد فغير معلوم له بعدم الدليل على التعيين ، فعلى هذا يجب عليه العمل بأحد الأمرين دون الآخر من دون علم بالتعيين ، فيكون محلّ الفرض من باب اشتباه الحرام بالحلال كالزوجة المشتبة بالأجنبيّة فيجب عليه حينئذ الاجتناب عن الأمرين معا ، ولو لم يكن له بدّ من الإقدام على أحدهما تخيّر ، فلا يتعيّن عليه العمل بالظنّ.

ووجه الاندفاع واضح ، نظرا إلى أولويّة تخصيص أحد العامّين من تخصيص كليهما.

ومن الأفاضل من أورد على الحجّة المذكورة مضافا إلى ما تقدّم منه : « بأنّ الملحوظ في المقام أنّ المتجزّي بعد تحصيل الظنّ بالحكم هل هو داخل في عنوان الجاهل أو العالم؟

ص: 198

فاندراجه فيما دلّ على المنع من التقليد غير ظاهر بل الظاهر خلافه ، لدلالة الأدلّة الدالّة على المنع من العمل بالظنّ على عدم الاعتداد بظنّه فيندرج في الجاهل ويشمله ما دلّ على وجوب رجوعه إلى العالم » انتهى (1).

وفيه : أنّ الجاهل إن اريد به الجاهل بالحكم الواقعي فكما أنّ المتجزّي داخل في عنوانه فكذلك المطلق ، فعلم أنّه بمجرّده لا يوجب الرجوع إلى التقليد ، وإن اريد به الجاهل بالحكم الفعلي فالمتجزّي عالم بحكمه الفعلي المردّد بين مؤدّى اجتهاد نفسه أو مؤدّى اجتهاد غيره.

غاية الأمر أنّه لا يتعيّن عليه أحدهما إلاّ بمرجّح خارجي ، فكيف يشمله ما دلّ على رجوعه إلى العالم.

الحجّة الثالثة

أنّ جواز التقليد في الأحكام مشروط بعدم كون المكلّف مجتهدا فيها ، ضرورة عدم جواز تقليد المجتهد لغيره ، وحينئذ فإن قام دليل على عدم جواز رجوعه إلى ظنّه وعدم تحقّق الاجتهاد في شأنه فلا كلام.

وأمّا مع عدم قيامه - كما هو الواقع - فلا وجه لرجوعه إلى التقليد ، إذ لو كان هناك أمران مرتّبان بكون التكليف بأحدهما متوقّفا على انتفاء الآخر لم يصحّ الأخذ بالثاني مع عدم قيام الدليل على انتفاء الأوّل.

وفيه : أنّ هذه الدعوى إن كان مبناها على ما قرّرناه عند تأسيس الأصل فهي في كمال المتانة - وإن كان خلوّ العبارة عن الإشارة إلى وجهها خروجا عن ضابط الاستدلال - وإلاّ فهي في غاية الوهن ، ولذا قد تقلب بأنّ صحّة اجتهاده في المسألة وجواز رجوعه إلى ظنّه مشروط بأن لا يكون وظيفته التقليد ، ضرورة أنّه ليس الرجوع إلى الأدلّة من وظيفة المقلّد إلى آخر ما ذكر ، فمجرّد اشتراط جواز تقليده مع انتفاء اجتهاده لا يفيد تقدّم الآخر بحسب التكليف على الوجه المذكور.

كيف ومن البيّن أنّ وجود كلّ من الضدّين يتوقّف على انتفاء الآخر ، ومع ذلك فلا ترتّب بينهما كذلك ، وإلاّ لزم حصوله من الجانبين وهو غير معقول ، بل في كلام العلاّمة البهبهاني : « أنّ فرض من لا يعلم الرجوع إلى من يعلم والأخذ منه لعموم ما دلّ عليه ، وأنّه

ص: 199


1- هداية المسترشدين 3 : 645.

مسلّم عند الكلّ فإنّهم يستدلّون لجواز اجتهاده ولا يستدلّون لجواز تقليده ، وظاهرهم أنّ مع عدم ثبوت الاجتهاد يعيّنون العمل بالتقليد » انتهى.

الحجّة الرابعة

أنّ الأدلّة الدالّة على حجّية الظنون الخاصّة والطرق المقرّرة [ تعمّ المطلق والمتجزّي ] من الكتاب والسنّة الدالّة على الأخذ بالأخبار المأثورة عن الأئمّة عليهم السلام بتوسّط من يعتمد عليه من النقلة وغيرها تعمّ المطلق والمتجزّي ، ولا دليل على اختصاصها بالمطلق بل الظاهر منها كون الأخذ بها وظيفة لكلّ قادر على استنباط الحكم منها ، هكذا قرّره بعض الأفاضل (1).

ومن الفضلاء (2) من فصّل فذكر من الكتاب قوله تعالى : ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ ) فإنّ الإنذار يعمّ الإنذار بطريق الفتوى والرواية ، ورجحان الحذر أو وجوبه في حقّ القوم المنذرين يوجب جواز عملهم بفتواهم وروايتهم ، خرج منهم المجتهد المطلق بالنسبة إلى العمل بالفتوى والعامي الصرف بالنظر إلى العمل بالرواية ولو في الجملة للإجماع فيبقى المتجزّي مندرجا في العموم فيجوز له العمل برواية المنذرين ، وهو إنّما يكون بالاجتهاد.

وقوله تعالى : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) فإنّه يدلّ بمفهومه على عدم وجوب التبيّن عند مجيء العادل به ، ومقتضاه وجوب قبول نباءه والخطاب فيه غير مختصّ بالمجتهد المطلق فيتناول المتجزّي أيضا.

غاية ما في الباب أن يخرج العامي الصرف لقيام الإجماع على تعيين التقليد في حقّه فيبقى الباقي.

ومن السنّة قول الصادق عليه السلام : « أنّ العلماء ورثة الأنبياء - إلى أن قال عليه السلام - : إنّما أورثوا أحاديث من أحاديثهم ، فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظّا وافرا » وقوله عليه السلام : « أحاديثنا يعطف بعضكم على بعض ، فإنّ أخذتم بها رشدتم ونجوتم ، وإن تركتموها ضللتم وهلكتم ، فخذوا بها إنّا بنجاتكم زعيم » وقوله عليه السلام : « الرواية لحديثنا يثبّت بها قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد » (3) وقوله عليه السلام : « اعرفوا منازل الرجال على قدر روايتهم عنّا » وقريب من ذلك ما دلّ على الحثّ على حفظ أربعين حديثا ممّا ينتفع به الناس ، وقال : بهذه الأخبار تمسّك بعض أفاضل المتأخّرين ، ووجّه الاحتجاج بها أنّها تدلّ بالصراحة أو الفحوى على

ص: 200


1- هداية المسترشدين 3 : 645.
2- الفصول : 396.
3- الكافي 1 : 33 ح 9 ، وفيه بدل « يثبّت بها » « يشدّ به ».

الحثّ الأكيد على الأخذ بأخبارهم والعمل بها ، وهي مطلقة ليس فيها اشتراط ذلك بأن يكون للآخذ ملكة فضلا عن كونها كلّيّة » انتهى (1).

والجواب : منع وجود ما يكون من الطرق المعهودة ما يكون حجّة بالخصوص ، ومنع نهوض الدلالة شرعا عليها ، والامور المدّعى دلالتها من الآيات والروايات الّتي منها ما ذكر هنا مدخولة على ما قرّر في محلّه ، والأخبار المذكورة هنا على فرض دلالتها على الحجّية المطلوبة في المقام وفرض شمولها لمحلّ البحث ممّا لا يمكن التعويل عليه في نظائر المقام لعدم الاعتداد بدلالتها لأنّ أقصى مراتبها الظنّ ، ولا بسندها لعدم كونه علميّا ومن المستحيل إثبات الظنّ بالظنّ ، هذا إذا أراد المتجزّي أن يحتجّ بها لعمل نفسه.

نعم لو احتجّ بها غيره ممّن غرضه استعلام حكم المسألة بحسب ظاهر الشرع ممّن يرى حجّية الظنّ المتعلّق بالأخبار وغيرها سندا ودلالة وغيرها كان له وجه ، غير أنّه لا يجدي لعمل المتجزّي إذا أراد البناء على اجتهاده باجتهاده هذا ، مع أنّ آية النفر بعد الغضّ عن المناقشات المتوجّهة إليها ممّا أشرنا إليه وغيره لا تنفي جواز التقليد في حقّه بعد البناء على أنّ الإنذار المأمور به فيها أعمّ ممّا هو بطريق الرواية والفتوى والحذر المأمور به فيها أعمّ من اتّباعه بطريق الاجتهاد أو التقليد.

نعم لو احتجّ على حكم المتجزّي لعمل نفسه بما قدّمناه من الأخبار البالغة حدّ التواتر معنى القاضية بجواز التعويل على الأخبار والآثار المرويّة عن أهل العصمة في موضع الوثوق والاطمئنان بالقياس إلى الصدور لم يكن به بأس ، إلاّ أنّه خارج عن مصبّ الاحتجاج المذكور كما لا يخفى وجهه على المتأمّل.

الحجّة الخامسة

أنّ المعاصرين لزمن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام كانت طريقتهم العمل بالأخبار الّتي ترويها العدول ، والجمع بين ما تعارض منها بالطرق المقرّرة كحمل العامّ على الخاصّ والمطلق على المقيّد ، ومع التعذّر كانوا يأخذون بالأرجح والأقوى على الوجه المقرّر في الأخبار ، وهذه الطريقة لم يختصّ بمن كان منهم مجتهدا مطلقا متمكّنا من معرفة جميع الأحكام أو جملة يعتدّ بها منها بالنظر والاجتهاد ، بل كانت مشتركة بين الجميع من البالغين هذه الدرجة والقاصرين عنها ، فكان حالهم بالنسبة إلى الأخبار الّتي تروى لهم عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم

ص: 201


1- الفصول : 396.

والأئمّة عليهم السلام كحال المقلّدين في هذا الزمان بالنسبة إلى الفتاوى الّتي تروى لهم عن المجتهدين ، فإنّها أيضا قد تشمل على عامّ وخاصّ ومطلق ومقيّد ونحو ذلك فيجمع بينها على الوجه المقرّر ، وقد يتعارض بحيث يتعذّر الجمع فيؤخذ بقول الأعدل والأوثق ويطرح الآخر.

ثمّ منهم من يتمكّن من استعمال ذلك في جميع الأحكام فيستعمله في الجميع ، ومنهم من يتمكّن منه في بعض دون بعض فيقتصر على ما يتمكّن منه.

وبالجملة فاولئك الّذين كانوا في زمن الأئمّة عليهم السلام كانوا إذا اجتهدوا في أخبارهم ورواياتهم كان مؤدّى اجتهادهم حجّة في حقّهم وإن عجزوا عن الاجتهاد في الكلّ أو في جملة يعتدّ بها ، كما أنّ المقلّد في زماننا هذا إذا اجتهد في معرفة فتاوى المجتهد كان مؤدّى اجتهادهم حجّة في حقّهم وإن عجزوا عن الاجتهاد في الكلّ أو في جملة يعتدّ بها.

نعم فرق بينهما من حيث إنّ عنوان « المجتهد » بالمعنى المصطلح عليه لا يصدق على المجتهد في معرفة فتاوى المجتهد بخلاف المجتهد في معرفة أخبار النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام وهذا لا مدخل له في إثبات ما نحن بصدده من إثبات الحجّية ، وإذا ثبت جواز التجزّي في زمنهم بتقريرهم لأهل زمانهم عليه وإرشادهم إليهم ثبت جوازه في حقّ من عداهم ، لأنّ حكم اللّه في الأوّلين حكم اللّه في الآخرين ، إلى غير ذلك ممّا دلّ على الشركة في التكليف.

والجواب : منع تحقّق الفرض بالقياس إلى الموجودين في زمن الأئمّة عليهم السلام إذ القدر المعلوم وجوده ثمّة إنّما هو التجزّي في مقام الفعليّة دون التمكّن والملكة ، لسهولة الاجتهاد ووضوح طرق الاستنباط بالقياس إليهم وعدم ابتنائه على الظنون الّتي لو لا التمكّن منها لم يتأتّ الغرض ، كما أنّه لو لا جواز العمل بها لم يجز التعويل على الاجتهاد المبتني عليها ، بخلاف زماننا هذا لصيرورته من الامور الصعبة الّتي لا يحصل التمكّن منها إلاّ لأوحديّ من الناس بعد تحمّل رياضات كثيرة واقتحام مشاقّ متكثّرة ، فلذا صار فيه من جملة الحرف والصنائع المخصوصة بأهلها.

وبذلك ظهر كمال الفرق بين زماننا وزمنهم ، ومنشأ هذا الفرق عدم ابتلائهم بوجوه من الاختلال توجب صعوبة الاستنباط ، مع عدم كون الاجتهاد في حقّهم إلاّ مجرّد فهم الأخبار الّذي لا يتفاوت فيه الحال بين آحاد أهل اللسان ، وابتلائنا بوجوه الاختلال من جهات شتّى الموجب لصيرورته من أصعب الامور الّتي لا يتمكّن من تحصيلها إلاّ بواسطة ملكة قوّية

ص: 202

وقدرة قدسيّة. فأقصى ما ثبت جوازه بتقرير الأئمّة عليهم السلام إنّما هو التجزّي في مقام الفعليّة ، وهو - مع أنّه ليس بمحلّ كلام - لا يستلزم جواز ما هو من محلّ الكلام ، هذا مع أنّه لو تحقّق الفرض ثمّة توجّه إليه المنع أيضا لمكان الفرق بين الزمانين ، فإنّ الموجودين ثمّة كانوا متمكّنين من استعلام عدالة الراوي وتعيينه بالطرق المعتبرة في الشهادة ، وكانت الأوضاع معلومة لديهم غالبا بطريق القطع لكونهم من أهل الاستعمال ، وكانوا كثيرا مّا يعثرون على القرائن والأمارات الموجبة لكمال الوثوق برواية الضعيف أو عدمه برواية الثقة ، وحيث كانوا لا يعثرون بالأمارات كان لهم وثوق بعدمها لقرب عهدهم بل وحضورهم ، بخلاف الموجودين في زماننا الغير المتمكّنين من استعلام شيء ممّا ذكر بطريق القطع.

وبالجملة فاختلاف المدارك والأمارات بيننا وبينهم قلّة وكثرة ، قوّة وضعفا أوضح من أن يحتاج إلى بيان وأجلى من أن يطالب عليها برهان ، وحينئذ فجواز تعويل المتجزّي في ذلك الزمان على الأمارات المتداولة بينهم لا يوجب جواز تعويله في زماننا على الأمارات المتداولة بيننا ، لأنّ تقريرهم عليهم السلام إنّما ثبت في حقّ ظنون خاصّة فلا يتسرّى إلى غيرها ، هكذا قرّر الجواب الأخير بعض الفضلاء (1).

الحجّة السادسة

رواية أبي خديجة الموصوفة بالشهرة المرويّة في الفقيه وغيره ، وفيها : « انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا ، فاجعلوه بينكم قاضيا ، فإنّي قد جعلته عليكم قاضيا فتحاكموا إليه » (2).

وجه الدلالة : أنّ قوله عليه السلام : « شيئا » نكرة في سياق الإثبات فلا يعمّ.

قال بعض الأفاضل : « وقد ادّعي اشتهارها بين الأصحاب واتّفاقهم على العمل بمضمونها فينجبر بذلك ضعفها. » (3)

فيندفع به المناقشة في سندها برميها على الضعف بأبي خديجة القاضي بعدم صلوحها للاستناد إليها ، كما يندفع المناقشة في دلالتها من جهة اختصاص ورودها بالقضاء بما في كلام بعض الأفاضل (4) أيضا من دعوى الاتّفاق على عدم الفرق.

نعم يرد على الاحتجاج بها من حيث منع شمولها لمحلّ البحث ، نظرا إلى أنّ المأخوذ فيها العلم بشيء من الأحكام وهو ظاهر في الاعتقاد الجازم المطابق ، فإن اريد به العلم

ص: 203


1- الفصول : 396.
2- من لا يحضره الفقيه 3 : 3 ح 3216.
3- هداية المسترشدين 3 : 648.
4- هداية المسترشدين 3 : 648.

بالحكم الواقعي فهو مفروض الانتفاء في المقام ، أو العلم بالحكم الظاهري - بمعنى الحكم الفعلي الواجب اتّباعه شرعا - فهو أيضا منتف في حقّ المتجزّي ، إذ الغرض إثبات كون مؤدّى اجتهاده حكما فعليّا في حقّه وهو غير ثابت مع قطع النظر عن الرواية فهو غير عالم بحكمه الفعلي فلا يشمله الرواية ، ومعه فلو أراد الاستناد إليها تحصيلا للعلم بحكمه الفعلي كان مؤدّيا إلى نحو من الدور كما لا يخفى.

وحمل « العلم » على الأعمّ أو خصوص الظنّ وإن كان ممكنا غير أنّه لابدّ له من دلالة معتبرة توجب الصرف وحيث كانت منتفية - كما في المقام - كان الظاهر حجّة ، هذا مع أنّ السند ما لم يكن علميّا - ولو بحسب الشرع - امتنع التعويل عليه في خصوص المقام كما مرّ مرارا.

أدلّة القول بعدم جواز التجزّي في الاجتهاد

حجّة القول بالمنع من التجزّي وجوه :

منها : ما تقدّم بيانه مع دفعه من لزوم الدور ، ولعلّك تكتفي بما مرّ من غير حاجة إلى إعادة الكلام.

ومنها : أصالة المنع من العمل بالظنّ الثابت من العقل والعمومات الناهية عن الأخذ به كتابا وسنّة ، خرج عنه ظنّ المجتهد المطلق بالإجماع فيبقى غيره تحت الأصل ، إذ لم يقم دليل قطعي على حجّية ظنّ المتجزّي كما قام على حجّية ظنّ المطلق ، واتّضح جوابه ممّا قرّرناه بما لا مزيد عليه فلا حاجة إلى الإعادة.

ومنها : استصحاب وظيفته الثابتة له قبل صيرورته مجتهدا من التقليد وإن لم يكن قلّد فعلا لقلّة مبالاة ونحوها ، واستصحاب الأحكام الثابتة له بالتقليد.

ويرد عليه امور :

أوّلها : ما تفرّد بإيراده بعض الأفاضل من : « أنّ جواز احتجاج المتجزّي بالأصل المذكور أوّل الكلام ، إذ لا فارق بين إجرائه الاستصحاب في المقام أو في المسائل الفقهيّة ممّا يجري فيه ذلك ، فلا يصحّ الاستناد إليه هنا إلاّ بعد إثبات كونه حجّة في حقّه ، ومعه يتمّ المدّعى من جواز تعويل المتجزّي على مؤدّى اجتهاده ولو كان من مؤدّى الاصول ، فلا يبقى له مجال إلى الأصل المذكور حينئذ » (1).

ثانيها : أنّه قاصر عن إفادة تمام المدّعى لعدم شموله لمن بلغ متجزّيا ، إذ لم يجب عليه

ص: 204


1- هداية المسترشدين 3 : 653.

قبل البلوغ شيء ليستصحب.

وأمّا ما ذكره غير واحد في دفعه من تتميمه بعدم القول بالفصل فواضح الضعف ، لو سلّم كونه إجماعا على عدم الفصل كاشفا عن كون الإمام مع إحدى الفريقين أو كون مرضيّه ومعتقده إحدى القضيّتين إمّا الإيجاب الكلّي أو السلب الكلّي ، لا مجرّد عدم اتّفاق القول بالفصل الغير المنافي لكون معتقد الإمام الفرق بين المسألتين المنحلّ إلى الإيجاب الجزئي والسلب الجزئي ، إذ غاية ما علم من الإجماع المذكور اتّحاد المسألتين في الحكم الواقعي فيلزم باختيار الفصل مخالفة الإمام بل مخالفة الحكم الواقعي بعنوان القطع واليقين ، وأمّا اتّحادهما في الحكم الظاهري أيضا المستفاد من الاصول الّتي منها الاستصحاب كما في المقام فغير معلوم لعدم انعقاد الإجماع عليه.

وبعبارة اخرى : أنّ عدم القول بالفصل إن رجع إلى الإجماع المركّب فهو في موارده دليل على الملازمة بين شطريه ، وغاية ما علم منه انعقاده على الملازمة بينهما في الأحكام الواقعيّة بخلاف الأحكام الظاهريّة لعدم ثبوت الإجماع على الملازمة فيها أيضا ، فلو كان دليل أحد الشطرين حينئذ ما كان من قبيل الاصول من استصحاب ونحوه لا قاضي بلحوق الشطر الآخر به في الحكم المستفاد من ذلك الأصل لعدم ثبوت الملازمة الشرعيّة بينهما في هذا الحكم ، فاختيار الفصل فرق بينهما في الحكم الظاهري وهو لا يستلزم الفرق في الحكم الواقعي ، كما أنّه ليس مخالفة للإمام بعنوان القطع ليكون محظورا.

ثالثها : أنّه معارض باستصحاب خلافه في المتجزّي المتسافل عن درجة الاجتهاد المطلق ، على معنى من يعرضه النسيان وزال ملكته العامّة إلى أن بقي منها ما يختصّ ببعض المسائل دون بعض ، وقصوره عن إفادة تمام المدّعى ينجبر بضميمة عدم القول بالفصل.

وما يقال في دفعه : من أنّ الاستصحاب الأوّل أكثر موردا وأغلب موضعا فيرجّح.

يدفعه : أنّ ذلك ممّا لا يعقل له وجه ، فإنّ الترجيح حقيقة معناه تقديم إحدى الأمارتين المتعارضتين على صاحبها المنحصر في كونه بطريق الورود لو كانت الاولى بمضمونها متعرّضة لرفع موضوع الاخرى ، أو بطريق الحكومة لو كانت الاولى بمضمونها متعرّضة لدليل اعتبار الاخرى بإخراجها عن عموم هذا الدليل من باب التخصيص أو عن إطلاقه من باب التقييد ، وغلبة المورد في الاستصحاب المفروض لا تصلح شيئا من ذلك.

أمّا الأوّل : فلأنّ المفروض أنّ الشكّ في هذا الاستصحاب ليس سببيّا ليوجب ارتفاعه

ص: 205

بحسب الشرع ارتفاع ما هو مسبّب عنه وهو الشكّ الموجود في الاستصحاب الآخر كما لا يخفى ، كيف ولو كان الحال كذلك لم يكن حاجة في الترجيح إلى شيء آخر ، والغلبة المدّعاة أيضا لا تصلح لأن تفيد العلم بخلاف الاستصحاب المعارض لا عقلا كما هو واضح ، ولا شرعا لعدم نهوض الدلالة الشرعيّة على اعتبارها.

وأمّا الثاني : فلأنّ المفروض أنّ الاستصحابين بكليهما مندرجان في عموم أدلّة الاستصحاب على جهة سواء ، ولا يعقل كون دخول أحد فردي العامّ فيه موجبا لخروج الآخر عنه ، وغلبة وجود أحدها لا تصلح مخصّصة له ولا قرينة صارفة عن ظاهره ، ولا موجبة لانصراف الخطاب عرفا إلى ما قلّ مورده (1) وإلاّ لخرج أكثر الاستصحابات بلا دليل الحجّية ، وهو كما ترى ممّا لا يتفوّه به جاهل فضلا عن العالم الكامل.

ورابعها : أنّ الاستصحاب مع تبدّل موضوع المستصحب غير معقول ، فإنّ حقيقة معناه - على ما قرّر في محلّه - إبقاء القضيّة المتيقّنة في حال الشكّ على ما كانت عليها في آن اليقين من غير تغيير في شيء من أجزائها موضوعا ومحمولا وغيرهما ، بأن لا يكون بينهما اختلاف إلاّ في الزمان ، على معنى كون ظرف وجود القضيّة المتيقّنة هو الزمان السابق على ما هو ظرف وجودها مشكوكة وفي حال النسبة المأخوذة فيها ، من حيث كونها في الظرف الأوّل هو اليقين وفي الظرف الثاني هو الشكّ.

وملخّصه : اشتراط كون القضيّة المشكوكة هي المتيقّنة بعينها موضوعا ومحمولا ، ومرجعه إلى اشتراط بقاء الموضوع على ما هو عليه في القضيّة المتيقّنة وهو في المقام ليس من هذا الباب ، ضرورة أنّ

موضوع التقليد والأحكام المتفرّعة عليه ليس هو هذا الشخص من حيث هو كذلك ، بل هو من حيث اندراجه في عنوان كلّي وهو المكلّف الغير المتمكّن من الاجتهاد لفقده الملكة الّتي بها يقتدر على الاستنباط أصلا ورأسا ، فموضوع القضيّة المتيقّنة هو هذا العنوان الكلّي.

ولا ريب أنّ محلّ الفرض بعد صيرورته متجزّيا بالمعنى المفروض في المقام خرج عن هذا العنوان ودخل في عنوان آخر مشكوك الحكم من بدو الأمر ، وهو المتمكّن من الاجتهاد في بعض المسائل ، فالمتجزّي ملحوظ من حيث اندراجه في هذا العنوان ، وكونه حال اليقين مندرجا في العنوان الأوّل لا ينفع في اتّحاد موضوع القضيّتين ، لفرض خروجه

ص: 206


1- كذا في الأصل ، والّذي يقتضيه السياق هكذا : « ولا موجبة لانصراف الخطاب عرفا عمّا قلّ مورده الخ ». واللّه العالم.

عنه بتغيّر حالته الاولى ، فالقضيّة المشكوكة حينئذ ليست بعين القضيّة المتيقّنة لتعدّد موضوعيهما ، ومعه لا يعقل إجراء حكم إحدى القضيّتين في القضيّة الاخرى إلاّ بدلالة خارجيّة وهي منتفية في المقام.

وخامسها : أنّ الاستصحاب مع وجود رافع الشكّ ممّا لا معنى له ، وما تقدّم من البيان في الاستدلال على حجّية ظنّ المتجزّي رافع له جدّا.

ومنها : أنّ الظنّ ما لم ينته إلى القطع يكون في حكم الشكّ ، بل معنى عدم انتهائه إلى القطع انتهاؤه إلى الشكّ لبطلان التسلسل فيكون وجوده بمنزلة عدمه ، فيكون الظانّ حينئذ جاهلا بتكليفه فيما ظنّ به من المسائل كما أنّه جاهل في غير ما ظنّ به ، فيندرج بذلك في أدلّة وجوب رجوع الجاهل إلى العالم في استعلام الأحكام الشرعيّة ، وهذا معنى وجوب التقليد على المتجزّي.

وجوابه يظهر بملاحظة ما تقدّم في تضاعيف كلماتنا المتقدّمة ، ومحصّله : المنع من عدم انتهاء ظنّ المتجزّي إلى القطع ، مع أنّ العمدة من أدلّة رجوع الجاهل إلى العالم هو الإجماع.

وقد تبيّن أنّه غير ثابت في مثل هذا الجاهل ، وغيره أيضا غير ظاهر الشمول لمثل هذا الجاهل ، وكيف كان فهذا الوجه في غاية السقوط كسوابقه.

ومنها : ظاهر مقبولة عمر بن حنظلة المرويّة عن الصادق عليه السلام وفيها : « انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا ، فارضوا به حكما ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكما » (1).

بتقريب : أنّ الجمع المضاف حقيقة في العموم ، فإن لم يكن يراد به الاستغراق الحقيقي فلا أقلّ من حمله على العرفي ، بأن يعرف جملة وافية من الأحكام بحيث يعدّ مع علمه بها عارفا بالأحكام.

وفيه أوّلا : أنّ المستفاد من الرواية نصبه عليه السلام العارف بالأحكام الناظر في الحلال والحرام للحكومة والقضاء وأمره أصحابه بالترافع إليه ، وهذا ممّا لا تعلّق له بمقام حجّية الظنّ القاضية بقيامه مقام العلم.

وبالجملة إثبات موضوع حكم بدليل ذلك الحكم ممّا لا يعقل ، والحكم المستفاد منها معلّق على المعرفة الظاهرة في العلم ، فهي غير متعرّضة للظنّ إثباتا ولا نفيا

ص: 207


1- وسائل الشيعة 18 : 220 ، باب 31 من أبواب كيفيّة الحكم ، ح 2.

حتّى بالنسبة إلى المجتهد المطلق.

غاية ما في الباب قضاؤها باختصاص الإذن في الحكومة بالعارف للأحكام ، ومفاده أن لا يجوز للمتجزّي مباشرة الحكومة ، وهذا ليس معنى عدم حجّيّة ظنّه في حقّه ولا حجّيّة ظنّ المطلق له ولمقلّديه ، وعدم جواز الحكومة له لا ينافي جواز عمله بظنّه في الأحكام المتعلّقة به ، لجواز كون الترافع إليه ملحقا بتقليد الغير إيّاه فلا يجوز الأوّل كما لا يجوز الثاني على ما سنقرّره.

وثانيا : أنّ النظر والعرفان بكليهما ظاهران في الفعليّين ، فحمل « الأحكام » على العموم بكلّ من الوجهين المذكورين ينافي ما اتّفقوا عليه من عدم اعتبار العموم في مقام الفعل.

وثالثا : أنّ سبق ذكر الحلال والحرام المنحلّين ظاهرا إلى الخمس المعروفة يقضي بكون الأحكام مرادا بها خصوص أحكام القضاء ، فإرادة العموم لو كانت مسلّمة لعلّها من جهة أنّ جواز القضاء بين الناس مشروط بمعرفة جميع أحكامه كما نصّ عليه الفقهاء ، ولازمه أن لا يجوز للعارف ببعض أحكامه أن يقضي بينهم ، وهذا ممّا لا ينافي جواز عمله بظنّه في الامور الراجعة إليه ، كما أنّ عدم جواز تقليد الغير له لا ينافيه.

ورابعا : أنّ « الأحكام » لو كان المراد بها ما يرادف الحلال والحرام أو ما يعمّهما - كما عليه مبنى الاستدلال - فلابدّ وأن يحمل الإضافة فيها على إرادة الجنس ، بقرينة ظهور الحلال والحرام في إرادة الجنسيّة.

ومن البيّن أنّ التصرّف في لفظ واحد أولى منه في لفظين ، مع أنّهما أظهر في إرادة الجنس من « الأحكام » في إرادة العموم ، فلا بدّ من طرح ظهورها عملا بالأظهر.

فالأقوى تعيّن عمل المتجزّي بظنّ نفسه وعدم جواز الرجوع له إلى ظنّ غيره مع كون الأوّل عملا عن معرفة والثاني عملا لا عن معرفة ، ولا ريب في رجحان الأوّل في نظر العقل ، هذا إذا كان الناظر لمعرفة حكمه غيره من المجتهدين ، وإذا كان نفسه ناظرا في معرفة حكمه فلمّا كان أمره دائرا بين المحذورين : حرمة التقليد وحرمة العمل بالظنّ ، فالمتعيّن في حقّه اتّباع العلم وانتهاء عمله إليه في المسألة الفرعيّة أو الاصوليّة أو العمل بالاحتياط ، فإن تأمّل وحصل له اليقين بجواز بنائه على ظنّه ومؤدّى اعتقاده أو بجواز تقليده الغير يبني عليه ، وإلاّ فلا مناص من الاحتياط ، هذا هو تحقيق المقام في المتجزّي بالقياس إلى عمل نفسه.

ص: 208

شروط الاجتهاد

أصل

وللاجتهاد المطلق شرائط يتوقّف عليها *. وهي بالإجمال : أن يعرف جميع ما يتوقّف عليه إقامة الأدلّة على المسائل الشرعيّة الفرعيّة ، وبالتفصيل

__________________

وأمّا بالقياس إلى عمل الغير على معنى تقليد العامي له في مظنوناته فنورد البحث عنه في مباحث التقليد بعون اللّه وحسن توفيقه.

* ومعنى توقّفه عليها توقّفه في تحقّقه ووجوده الخارجي.

وقضيّة ذلك كون الاجتهاد مرادا به هنا معناه الملكي ، ضرورة أنّ ما يذكره من الامور الآتية إنّما يوجب اجتماعها جمع حصول الملكة المقتدر بها على استنباط الأحكام الفرعيّة من الأدلّة الشرعيّة ، لا حصول الاستنباط الفعلي للأحكام عن أدلّتها.

نعم هي شروط له باعتبار الفعل بالواسطة ، لأنّ الملكة بنفسها من شروطه كما نبّهنا عليه في مطاوي تعريف الفقه.

ولك أن تقول - بعد البناء على اعتبارها شروطا للفعل كما هو ظاهرهم بل صريح بعضهم - : ولا ينافيه عدم حصوله بمجرّد اجتماعها ما لم يفرض جامعها لمقام النظر والاستفراغ ، على معنى كونها شروطا له كونها ممّا يتولّد منها أو ينتزع عنها ما هو شرط له في الحقيقة وهو الملكة والقوّة النفسانيّة المقتدر بها على الاستنباط.

وكأنّه إلى هذا المعنى يشير عبارة التهذيب حيث إنّه أخذ بذكر شرائط المجتهد فقال : « والضابط فيه تمكّن المكلّف من إقامة الأدلّة على المسائل الشرعيّة الفرعيّة ، وإنّما يتمّ ذلك بامور أحدها معرفة اللغة » إلى آخره.

وأصرح منها في إفادة هذا المعنى عبارة المنية قائلا : « الشرائط الّتي يتوقّف عليها كون المكلّف مجتهدا يجمعها شيء واحد وهو كونه بحيث يتمكّن من الاستدلال بالدلائل الشرعيّة على الأحكام الشرعيّة ، لكن حصول هذه الملكة للمكلّف مشروط بامور أحدها ... » إلى آخره.

والمراد بشرطيّة هذه الامور بأجمعها كونها شروطا للاجتهاد الكلّي بالمعنى المفروض بالقياس إلى عامّة المسائل.

وأمّا بالقياس إلى البعض فالشرط ما يحتاج إليه من الامور المذكورة في خصوص المسألة بالخصوص دون غيره ، إذ ليس كلّ مسألة بحيث تتوقّف على كلّ واحد منها كما لا يخفى ، ولذا ترى أنّ العلاّمة في النهاية بعد ما فرغ عن ذكرها قال : « وهذه شرائط المجتهد

ص: 209

المطلق المتصدّي للحكم والإفتاء في جميع مسائل الفقه ، أمّا الاجتهاد في حكم بعض المسائل فيكفي في معرفته ما يتعلّق بتلك المسألة وما لا بدّ منه فيها. »

ووافقه عليه السيّد في المنية قائلا : « واعلم أنّ اجتماع هذه العلوم إنّما هو شرط في المجتهد المطلق ، أمّا المجتهد في مسألة معيّنة خاصّة فلا يشترط إلاّ علمه بما يتعلّق بتلك المسألة من الاصول المذكورة عند من يجوّز تجزّي الاجتهاد » انتهى.

وعليه فما في عبارة المصنّف كغيرها لجماعة (1) من قيد الإطلاق يراد به الاحتراز عن الاجتهاد في البعض كما تكرّر نظيره منه في الأصل السابق ، لا أنّ المراد به تعميم الحكم بالقياس إلى المطلق والمتجزّي.

فما في كلام بعض المحقّقين - وتبعه غيره من الشرّاح - من أنّه يحتمل إرادة التعميم بالنسبة إلى مجتهد الكلّ والمتجزّي ليس على ما ينبغي.

ثمّ إنّ تعليلاتهم في جملة من الشروط تقضي بكونها من شروط الوجود كما هو المقطوع به أيضا بحكم الوجدان.

فما في مفاتيح السيّد - من الاستدلال على الاشتراط تارة : بأصالة عدم جواز العمل بالظنّ حيث لا يكون عالما بالنحو أو الصرف أو اللغة ، وأصالة عدم جواز تقليد من لم يعلم هذه العلوم. واخرى : بالعمومات المانعة عن العمل بغير العلم خرج منها ظنّ العالم بها بالدليل ، ولا دليل على خروج غيره فيبقى مندرجا تحتها - ليس بسديد ، لأنّ ذلك إنّما يستقيم إذا كانت العلوم المذكورة شروطا للصحّة والمفروض خلافه.

ومن هنا صار بعض المحقّقين - على ما في محكيّ المصنّف - إلى منع كون علم الكلام من هذه الجملة ، تعليلا بأنّه من لوازم الاجتهاد وتوابعه لا من مقدّماته وشرائطه ، واستحسنه المصنّف.

ووجه كونه من اللوازم والتوابع : أنّ الاجتهاد المتضمّن للنظر في الأدلّة الشرعيّة المتعارفة إنّما لفائدة التديّن بالمجتهدات ، فلا يتأتّى في الخارج عادة إلاّ ممّن يعتقد حقّية هذه الشريعة ، وهو يستلزم الإذعان بوجود الصانع وتنزّهه عمّا يمتنع عليه ، والإذعان بثبوت الشرائع الّتي منها هذه الشريعة المستلزم للإذعان بحقّيّة الأنبياء الّذين منهم نبيّنا صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فلا يتأتّى بحسب الخارج من منكري الصانع ولا من منكري الشرائع ولا من منكري هذا الشرع بالخصوص ، لا لانتفاء ما هو من مقدّمات وجوده في حقّهم بل لانتفاء ما هو من فوائده وغاياته التابعة له.

ص: 210


1- كذا في الأصل.

نعم إنّما يصحّ عدّه من الشروط بالقياس إلى الفقه بناء على ما اخترناه وقرّرناه في حدّه من : « أنّه العلم بالأحكام الفعليّة » ضرورة أنّ العلم بالأحكام الفعليّة لا يتأتّى إلاّ بمقدّمتين قطعيّتين ، يحرز صغراهما بالأدلّة الاجتهاديّة المتعارفة وكبراهما بالأدلّة الكلاميّة ، ولعلّه لأجل ذا أخذه المصنّف في مفتتح الكتاب كغيره من مبادئه المتقدّمة عليه بحسب المرتبة ، وإن كان لا يلائمه مختاره في جنس حدّه من حمل « العلم » على الاعتقاد الراجح ، فتأمّل.

ويمكن أن يكون ذكره ثمّة لمجرّد كونه من العلوم المتقدّمة عليه بحسب الرتبة ولو كان ذلك لمجرّد كونه من مقولة التوابع واللوازم ، فلا يناقض ما صنعه ثمّة لما صنعه هنا من عدم جعله إيّاه من شروط الاجتهاد.

أمّا أوّلا : فلعدم اتّحاد الفقه والاجتهاد بحسب المفهوم والمصداق على ما مرّ تحقيقه.

وأمّا ثانيا : فلأنّ تقدّم شيء على شيء لا يستلزم الشرطيّة ، وإنّما ذكره ثمّة لأنّ من دأب قدماء المصنّفين أن يتعرّضوا في مفتتح كتبهم لذكر مرتبة العلم بالقياس إلى غيره من العلوم تقدّما وتأخّرا ، وأسقطه هنا لعدم كونه من جملة الشروط.

وبما ذكرنا ظهر السرّ في عدم استقصائه الشروط المذكورة هنا بأجمعها ثمّة مثل العلم بالآيات والأحاديث المتعلّقين بالأحكام والقوّة القدسيّة ، لعدم كونها من مقولة العلوم الّتي يلاحظ المرتبة بينها وبين غيره.

نعم يشكل الحال بالقياس إلى العلم بأحوال الرواة ، لدخول علم الرجال في عداد العلوم ، إلاّ أن يمنع كونه على حدّ سائر العلوم المدوّنة كما لا يخفى ، فتكون حال العلم بأحوال الرواة من باب العلم بآيات الكتاب والأخبار المتعلّقة بكلّ باب ، أو يقال : بمنع كون مقصوده ثمّة حصر العلوم المتقدّمة على الفقه فيما ذكره ليضرّ خروج علم الرجال.

وبما عرفت جميعا يظهر فساد ما اعترض على كلام المصنّف هنا من أنّ ما ذكره من الشرائط هنا يخالف ما ذكره هناك ، لأنّه اعتبر هناك علم الكلام ونفاه هنا ، واعتبر هنا القوّة القدسيّة وعلم الرجال وعلمي التفسير والحديث ولم يعتبرها هناك.

وفي كلام بعض الأعيان : أنّ ما يحتاج إليه المجتهد من العلوم تسعة ، ثلاثة من العلوم الأدبيّة ، وثلاثة من المعقولات ، وثلاثة من المنقولات.

فالأوّل من الأوّل علم اللغة ، والثاني علم الصرف ، والثالث علم النحو.

والأوّل من الثاني علم الاصول ، والثاني علم الكلام ، والثالث علم المنطق.

ص: 211

اشتراط علم اللغة في الاجتهاد

أن يعلم من اللّغة ومعاني الألفاظ العرفيّة ما يتوقّف عليه استنباط الأحكام من الكتاب والسنّة ولو بالرجوع إلى الكتب المعتمدة. ويدخل في ذلك معرفة النحو والتصريف *

__________________

والأوّل من الثالث علم تفسير آيات الأحكام ، والثاني العلم بأحاديثها ، والثالث علم الرجال.

* ومعرفة هذين العلمين إنّما تدخل في معرفة اللغة الّتي يراد بها هنا معاني الألفاظ الموضوعة لها باعتبار موادّها أو هيأتها الإفراديّة أو التركيبيّة وضعا حقيقيّا أو مجازيّا منوطا بالعلائق المرخّص فيها من الواضع.

والاولى هي المعاني الواصلة من الصدر الأوّل من أهل اللغة أو المودعة في كتب اللغة الّتي دوّنها أربابها المعروفون الّتي وضع لها موادّ الألفاظ كمادّة « السماء » و « الأرض » و « الماء » و « الغسل » و « المسح ».

والثانية هي المعاني التصريفيّة الّتي يتعرّض لها علماء الصرف ووضع لها هيآت الاشتقاقيّة كهيآت فعلي الماضي والمضارع ، وهيآت فعلي الأمر والنهي ، وهيآت أسماء الفاعلين والمفعولين وغيرهما.

والثالثة هي المعاني النحويّة الّتي يتعرّض لها علماء النحو ووضع لها تراكيب الألفاظ الإعرابيّة كالفاعليّة والمفعوليّة والإضافة ونحوها ممّا لا يحصى.

ووجه الحاجة إلى هذه العلوم مع وضوحه أنّ الاجتهاد لا يتحقّق إلاّ بإعمال الأدلّة الّتي منها الكتاب والسنّة اللذين هما من مقولة الألفاظ.

ومن البيّن أنّ استفادة المطلب من الألفاظ لا يتأتّى إلاّ بمعرفة أوضاعها الطارئة لها بكلّ من الأنحاء الثلاثة المذكورة ومعانيها الثابتة لها من جهة هذه الأوضاع.

وإن شئت لاحظ عبارة المنية المعلّلة للحاجة إلى النحو « باختلاف معاني اللفظ الواحد العربيّ عند اختلاف حركاته الاعرابيّة كما تقول : « ما أحسن زيد » و « ما أحسن زيد » و « ما أحسن زيد » ، فإنّ الأوّل تعجّب ومعناه : شيء أحسن زيدا ، والثاني خبر ومعناه : ما صار زيد ذا حسن ، والثالث استفهام ومعناه : أيّ خلق من أخلاق زيد أو أيّ عضو من أعضائه أحسن؟

ودلالة هذه الحركات على هذه المعاني إنّما تستفاد من علم النحو » انتهى.

وأمّا من قال في نفي الحاجة إلى هذه العلوم أنّ العربي القحّ بعد ما تتبّع الأحاديث

ص: 212

واطّلع على عرف القرآن والحديث مستغن عنه - على ما حكاه الوحيد في رسالة الاجتهاد والأخبار - فهو متهافت لا يلتفت إلى مقالته أو غافل عن حقيقة مقصود المقام.

وتوضيحه : أنّ المقصود من اشتراط معرفة هذه العلوم الثلاث أن يحصل لمريد الاجتهاد حالة نفسانيّة بها يتمكّن من فهم معاني موادّ ألفاظ العرب وتراكيبها مفردة ومركّبة ، مادّية وهيئيّة ويميّز بين حقائقها ومجازاتها ووجوه دلالاتها ممّا يتعلّق بهذه العلوم ويتعرّض لبيانها أربابها ، على وجه يكفي في استفادة المطالب المقصودة من الكتاب والسنّة بحسب العرف والعادة ، سواء كانت أصليّة كما لو كان من فصحاء أهل لسان العرب ، أو طارويّة كما لو كان أجنبيّا أو غير فصيح فحصّلها بتعلّم العلوم المذكورة ، فالعربي القحّ إن اريد به ما لا يخرج عن هذا الضابط فاعتباره اعتراف بالاشتراط.

ومن أطلق هذا الشرط من العامّة والخاصّة لا أظنّ أنّه يريد به ما زاد على الضابط المذكور ، ضرورة أنّه لا فارق بين العربي المفروض وبين الأجنبيّ المتعلّم للعلوم المذكورة إلاّ في أنّ الثاني يعرف الاصطلاحات المحدثة المتداولة عند أرباب هذه العلوم والأوّل لا يعرفها وهذا لا يصلح فارقا في الحكم ، إذ معرفة الاصطلاحات لا مدخليّة لها في فهم معاني الألفاظ واستفادة المطالب المقصودة من الكتاب والسنّة ليضرّ انتفاؤها في حصول الغرض الأصلي.

وإن اريد به ما لا يبلغ الحدّ المذكور فدعوى استغنائه عن العلوم المذكورة واضح المنع.

وإن اريد به ما يدخل في الضابط مع اقترانه بدعوى كفاية ما له من الحالة النفسانيّة في الاستنباط وعدم افتقاره إلى شيء آخر ، فهو - مع أنّه ممّا لا يتحمّله العبارة المتقدّمة - كلام راجع إلى نفي الحاجة إلى الشروط الاخر الآتية الّتي منها معرفة علمي الاصول والرجال ، وسنورد ما يتعلّق به من إصلاح أو إفساد.

ومن الفضلاء من قال : « إنّ هذا الشرط إنّما يعتبر غالبا بالنسبة إلى أمثال زماننا حيث اندرس فيه اللغة العربيّة وانحصر سبيل معرفتها في المراجعة إلى الكتب المدوّنة.

وأمّا بالنسبة إلى العرب الموجودين في زمن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام فلا حاجة لهم إلى معرفة هذه العلوم المحرّرة » إلى آخره.

وهذا كما ترى بناء منه على كون معرفة العلوم المذكورة مرادا بها ما يحصل بمراجعة كتبها المدوّنة والمدارسة عند أربابها ، ولذا استدرك عقيب العبارة المذكورة بقوله : « ولو اريد

ص: 213

بهذه العلوم غاياتها اشترك وجه الحاجة بين الجميع » وقد عرفت ضعف توهّم الاختصاص.

ثمّ إنّ تخصيصه العرب الموجودين في زمن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام بعدم الحاجة إلى معرفة هذه العلوم المحرّرة غير واضح الوجه ، فإنّ فصحاء العرب العارفين بمزايا اللغة العربيّة المايزين بين حقائقها ومجازاتها وبين القديمة والمحدثة من معانيها لا حاجة لهم إلى مراجعة الكتب المدوّنة في هذه العلوم وإن كانوا من أهل الأزمنة المتأخّرة إلى زماننا هذا.

إلاّ أن يقال : إنّ العرف كثيرا مّا يتبدّل ، والمعاني الموجودة في زمن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام كثيرا مّا تتغيّر بالنقل ونحوه ، والعبرة في خطابات الشرع إنّما هي بتلك المعاني لا غير ، والموجودين في العرف من العرب لا معرفة لهم بتلك المعاني غالبا إلاّ من جهة مراجعة الكتب المدوّنة في هذا الشأن كغيرهم من غير العرب ، فيرجع الكلام حينئذ في اعتبار هذا الشرط بالنسبة إلى اللغة بالمعنى المقابل للنحو والصرف إلى اشتراط معرفة المعاني الّتي يتحمّلها ألفاظ الكتاب والسنّة ولو بضميمة الاصول وغيرها من المطالب الاصوليّة المقرّرة للتوصّل إلى تعيين مرادات الخطابات ، الّتي منها ما يترجّح في النظر في مسألتي تعارض العرف واللغة وتعارض الراوي والمرويّ عنه ، سواء كانت تلك المعاني هي المعاني الأصليّة الواصلة من الصدر الأوّل من أهل اللغة أو المعاني المعلوم وجودها في زمن الخطاب أو المعاني المودعة في الكتب المدوّنة ، أو المعاني العرفيّة الموجودة في العرف الحاضر ، ويدخل في هذا الضابط المعاني الشرعيّة الثابتة لجملة كثيرة من الألفاظ بعنوان الحقيقة بالقياس إلى عرف الشارع على القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة فيها أو بعنوان المجاز بالقياس إلى عرفه أيضا على القول الآخر.

حدّ ما يعتبر في معرفة اللغة

وينبغي التنبيه على امور :

الأوّل : لا يعتبر في معرفة اللغة بالمعنى الأعمّ استحضار مسائلها فعلا وحفظها عن ظهر القلب ، بل يكفي فيها التمكّن من مراجعة الكتب المحرّرة في العلوم الثلاث أو مراجعة أهلها ، كما نصّ عليه غير واحد من الأجلّة ومنهم المصنّف في قوله : « ولو بالرجوع إلى الكتب المعتمدة » والوجه في ذلك - بعد قضاء الوجدان القطعي بعدم مدخليّة الاستحضار الفعلي والحفظ عن ظهر القلب فيما هو مقصود المقام من الاشتراط - أنّه المعلوم من طريقة الأعيان خلفا عن سلف من لدن بناء الاجتهاد إلى يومنا هذا.

الثاني : لا يجب كون هذه المعرفة بالقياس إلى كلّ واحد من العلوم الثلاثة بطريق

ص: 214

الاجتهاد ، على معنى بذل الوسع بمزاولة موارد استعمالات العرب وممارسة كلمات الأقدمين من فصحائهم من الخطب والقصائد ومسافرة مواطنهم ومخالطة قبائلهم على حدّ ما كان يصنعه الأوّلون من أئمّة هذه الصناعات ، بل قد يحرم الاجتهاد بهذا المعنى إذا استلزم تعطيل الأحكام وتعويق أمر الاجتهاد والقضاء والإفتاء ، بل يكفي فيها الاعتماد على ما في الكتب المحرّرة لما تقدّم من أنّه المعهود من طريقة الأساطين قديما وحديثا ، وعليه ففي وجوب كون تلك المعرفة المستندة إلى مراجعة الكتب وغيرها بالغة حدّ الجزم وعدمه بالاكتفاء بالمعرفة الظنّية وجهان ، من أنّ القدر المتيقّن للاستنباط الّذي علم برضا الشارع به هو القصر على المعرفة الجزميّة ، وإنّ أساطين هذا الشأن لم يعهد منهم التزامهم بتحصيل الجزم بالمطالب المتعلّقة بهذه العلوم.

لكنّ الإنصاف : أنّ قول أهل اللغة في الغالب ولو بمعونة بعض القرائن الداخلة والخارجة ولا سيّما الصرفيّون ثمّ النحاة منهم ممّا يفيد الجزم بالمطلب في الغالب ، وما لا يحصل به الجزم من كلامهم - كما لو كان من الموارد الخلافيّة عندهم مع كون الاختلاف فيه عظيما - نادر ، ولم يعلم من سيرة العلماء الآخذين بكلامهم أنّهم يكتفون بالظنّ في مطالبهم خصوصا المطلق منه ، لجواز كون اعتمادهم على كلامهم اعتمادا على ما يغلب اتّفاقه من حصول الجزم.

فالوجه حينئذ أن يقال : إنّه في موضع إمكان حصول المعرفة الجزميّة ولو بمراجعة الكتب المتعدّدة من غير استلزامه لتعطيل الأحكام أو العسر والحرج المقطوع بنفيهما في الشرع يجب مراعاتها اقتصارا على القدر المتيقّن ، وفي غيره لا بدّ من الظنّ الاطمئناني والاعتماد النفساني ، سواء حصل بمراجعة كتاب واحد أو ما زاد عليه ، من غير أن يكون له حدّ معلوم (1) ولا عدد محدود ، ولعلّه إلى اعتبار هذا المعنى يشير وصف الاعتماد وغيره في عبارة المصنّف وغيره بقوله : « ولو بالرجوع إلى الكتب المعتمدة ».

وأمّا ما عن كشف اللثام من قوله : « ولا يضرّ الافتقار في كثير من دقائق ذلك إلى الرجوع إلى الكتب المعتمدة في العلوم المذكورة ، ولكن لابدّ من التتّبع بحيث يحصل العلم العادي أو الظنّ بأحد طرفي ما يتردّد فيه ، ولا يقتصر على كتاب واحد أو كتابين كما ترى كثيرا من الفقهاء يقتصرون في المسألة اللغويّة على نحو الصحاح وحده ، والنحويّة على

ص: 215


1- وفي الأصل : « معدوم » وهو سهو من قلمه الشريف ، والصواب ما أثبتناه في المتن.

المفصّل أو كتاب سيبويه » إلى آخره فإن رجع إلى ما قرّرناه فمرحبا بالوفاق ، وإلاّ فيدخل في قول من لا دليل عليه إلاّ مجرّد دعواه.

وأمّا ما عساه يقال في سند دعوى كفاية الظنّ المطلق هاهنا من : أنّه يستلزم الظنّ بالحكم الشرعي وهو حجّة لدليل الانسداد وغيره وملزوم الحجّة لابدّ وأن يكون حجّة ، كما قيل به في سند دعوى حجّية الظنّ الحاصل من قول اللغوي بالخصوص في غير المقام.

ففيه - بعد منع كلّية هذه القاعدة كما نبّهنا عليه في غير موضع - : أنّ المحقّق من مقتضى دليل حجّية الظنّ انسدادا كان أو غيره إنّما هو الظنّ الاطمئناني بعد تعذّر العلم دون ما زاد عليه ، فعلى مدّعي الزيادة إقامة الدليل عليها.

عدم توقّف الاجتهاد على علمي المعاني والبيان

الثالث : لا يجب في شيء من العلوم المذكورة الإحاطة بجميع مسائلها ، بل يكفي في كلّ واحد معرفة ما يكفي في حصول الغرض الأصلي وهو الاستنباط ، كما نصّ عليه جماعة وتقدّم في عبارة المصنّف إليه الإشارة ، حيث عبّر بعلم ما يتوقّف عليه الاستنباط من اللغة ومعاني الألفاظ العرفيّة ، فلا يشترط أن يكون في اللغة أو النحو أو غيره كسيبويه ونحوه كما صرّح به في التنقيح في عبارة محكيّة له.

الرابع : ربّما يعدّ من العلوم العربيّة المحتاج إليها في استنباط الأحكام علم المعاني كما عن بعض العامّة.

وعن الوافية (1) وغيره أنّه المنقول عن السيّد الأجل المرتضى في الذريعة (2) ، وعن الشهيد الثاني في كتاب آداب العالم والمتعلّم (3) وعن الشيخ أحمد بن المتوّج البحراني في كفاية الطالبين (4).

بل ربّما يحكى القول بشرطيّة علمي المعاني والبيان معا ، لتوقّف معرفة جملة من التكاليف الّتي لها مدخل في معرفة المعاني وتمييز الأفصح عن الفصيح والفصيح عن غير الفصيح في مقام التعارض على العلم المذكور ، واستحسنه بعض الفضلاء.

وعن الوافية أنّه بعد ذكر علم البيان قال : « ولم يفرّق أحد بينه وبين المعاني في الشرطيّة والمكمّلية إلاّ ابن أبي جمهور ، فإنّه عدّ علم المعاني من المكمّلات وسكت عن البيان » (5) بل

ص: 216


1- الوافية في اصول الفقه : 280.
2- الذريعة إلى اصول الشريعة 2 : 800.
3- المسمّى ب- : منية المريد في آداب المفيد والمستفيد : 225.
4- كفاية الطالبين : 38 ( المخطوط ).
5- الوافية : 281.

عنه أيضا أنّه بعد ذكر علم البديع قال : « ولم أجد أحدا أنكره إلاّ ما نقل عن الشهيد الثاني في الكتاب المذكور وصاحب كفاية الطالبين فإنّهما عدّا العلوم الثلاثة أجمع في شرائط الاجتهاد » (1).

وعن العوائد أنّه قال : « واعلم أنّ علم المعاني والبيان والبديع من مكمّلات الاجتهاد ، وجعل جمع علم المعاني والبيان من شروط الاجتهاد - إلى أن قال - : وقد أشرنا إلى أنّه ربّما يحصل العلم من جهة الفصاحة والبلاغة بكون الكلام من الإمام عليه السلام ، فمن هذه الجهة ربّما يكون لهما مدخليّة في الاشتراط بل البديع أيضا ».

وعن الوافية أنّه قال : « والحقّ عدم توقّف الاجتهاد على العلوم الثلاثة.

أمّا على تقدير صحّة التجزّي فظاهر.

وأمّا على تقدير عدم صحّة التجزّي فلأنّ فهم معاني العبارات لا يحتاج فيه إلى هذه العلوم ، لأنّ في هذه العلوم يبحث عن الزائد على أصل المراد ، فإنّ المعاني علم يبحث فيه عن الأحوال الّتي بها يطابق الكلام لمقتضى الحال ، كأحوال الإسناد الخبري ، والمسند إليه والمسند ومتعلّقات الفعل ، والقصر والإنشاء ، والفصل والوصل ، والإيجاز والإطناب والمساواة ، وبعض مباحث القصر والانشاء المحتاج إليه يذكر في كتب الاصول. والبيان علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة ، وما يتعلّق بالفقه من أحكام الحقيقة والمجاز مذكور في كتب الاصول أيضا. والبديع علم يعرف به وجوه محسّنات الكلام وليس شيء من مباحثه ممّا يتوقّف عليه الفقه.

نعم لو ثبت تقديم الفصيح على غيره في باب التراجيح أمكن القول بالاحتياج إلى هذه العلوم الثلاثة لغير المتجزّي وله في بعض الأحيان ، إذ فصاحة الكلام وأفصحيّته ممّا لا يعلم في مثل هذا الزمان إلاّ بهذه العلوم الثلاثة ، وكذا على تقدير تقدّم الكلام الّذي فيه تأكيد أو مبالغة على غيره ، ولكن لا شكّ في مكمّلية هذه العلوم الثلاثة للمجتهد » انتهى (2).

أقول : ويظهر القول بشرطيّة هذه العلوم أو الأوّلين منها ممّن يقول في باب الترجيح بالترجيح بالفصاحة كما عليه المصنّف والنهاية والتهذيب ، وعن المبادئ وشرحه والمنية والزبدة وغاية المأمول ، وبالأفصحيّة كما عليه التهذيب والمنية وحكاه في المنتهى عن بعضهم.

وبالجملة كلّ من يرى الترجيح بالفصاحة أو الأفصحيّة يلزمه القول بكون العلوم المذكورة

ص: 217


1- الوافية : 281.
2- الوافية : 281.

من شروط الاجتهاد وإن لم يصرّحوا به في المقام ، إلاّ أن يمنع الملازمة بما في كلام بعض الفضلاء من أنّه كثيرا مّا يستغني الذكيّ المتدرّب في طرق المحاورات بوجدانه عن الرجوع إلى العلوم المذكورة.

والإنصاف أن يقال : إنّ الفصاحة والأفصحيّة ليستا من المرجّحات الواردة في النصوص ليكون ذلك كبرى كلّية لصغريات لا تحرز إلاّ بعلمي المعاني والبيان كما في العدالة والأعدليّة ونحوهما المحرز صغرياتها بعلم الرجال ، بل الترجيح بهما لو صحّ فإنّما هو لكونهما من المرجّحات الغير المنصوصة المعدودة من الظنون الاجتهاديّة على القول بالترجيح بمطلق الظنّ الاجتهادي كما هو الأظهر وظاهر الأكثر ، فيدور الترجيح بها (1) على إفادتها ، والفصاحة مع الأفصحيّة إنّما تورثان ظنّ الصدور عن الإمام المعصوم عليه السلام إذا ثبت أنّه في غالب مكالماته كان يراعي الفصاحة ، بل إذا ثبت أنّ الغالب عليه في مقام بيان الأحكام الشرعيّة مراعاة مقام الفصاحة.

بل الإنصاف أنّ هذه الغلبة - مع أنّها ممنوعة كما في كلام غير واحد من الأساطين - غير مجدية فيما هو من محلّ الاشتباه ، وهو كون أحد المتعارضين فصيحا والآخر ركيكا ، أو أحدهما أفصح والآخر دونه في الفصاحة ولم يعلم بأنّ الصادر عن المعصوم هو الأوّل أو الثاني.

- وقالوا في وجه تقديم الفصيح : أنّه أشبه بكلام الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم إذ كان صلى اللّه عليه وآله وسلم أفصح العرب ، وقد قال : « أنا أفصح من نطق بالضاد » (2) والركيك بعيد عن كلامه ، وفي وجه تقدّم الأفصح : أنّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان مختصّا من الفصاحة بمرتبة لا يشاركه فيها غيره فيغلب على الظنّ اختصاصه بالأفصح ، وذلك غير متحقّق في الفصيح لمشاركة غيره له فيه -.

إذ غاية ما يقتضيه كونه أفصح العرب واختصاصه في الفصاحة بمرتبة لا يشاركه غيره فيها أنّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في الاقتدار على أداء الكلام الفصيح أو الأفصح بمرتبة لا يبلغه غيره فيها ، وهو لا يقضي بامتناع صدور غير الفصيح أو غير الأفصح منه ، ولا بغلبة صدورهما عنه

ص: 218


1- كذا في الأصل : والصواب : « فيدور الترجيح بهما على إفادتهما » واللّه العالم.
2- نقله الحلبي عن ابن هشام ( راجع سيرة ابن هشام 1 : 178 ) ، ولكن حكى العجلوني في كشف الخفاء عن اللآلي أنّه قال : معناه صحيح ولكن لا أصل له كما قال ابن كثير وغيره من الحفّاظ ، وأورده أصحاب الغريب ولا يعرف له إسناد ( كشف الخفاء 1 : 201 ) - ونحن أيضا لم نعثر على هذا التعبير في مجامعنا الروائية.

من شروط الاجتهاد معرفة الكتاب

ومن الكتاب قدر ما يتعلّق بالأحكام *

__________________

خصوصا في مقام بيان أحكام اللّه سبحانه ، حيث لا تعلّق لمقام إظهار البلاغة ببيان الأحكام أصلا ، بل المعلوم من طريقة الأئمّة عليهم السلام أنّهم ما كانوا يراعون مقام الفصاحة والبلاغة إلاّ في مقام إنشاء الخطبة والدعاء والمناجاة ، ولذا يجد الذكيّ المتدرّب تفاوتا فاحشا بين الخطب والأدعية لاشتمالها على مزايا معنويّة وخواصّ بيانيّة لا تشبه بكلام الآدميّين أصلا المعتاد صدوره منهم في محاوراتهم ومخاطباتهم ، والثانية ليست في الغالب إلاّ نظير كلام الآدميّين بحيث لا يوجد فرق بحسب السبك والنظم والاسلوب بين الأجوبة الصادرة عنهم وبين الأسئلة الصادرة عن أصحابهم وغيرهم من رواة أخبارهم ، كما أنّه لا يقضي بامتناع صدور الفصيح بل الأفصح عن غيرهم خصوصا الكذّابة الواضعين للأحاديث الكاذبة الداسّين لها في أحاديثهم الصادرة عنهم الموجودة عند أصحابهم ، حيث إنّ المعلوم من ديدنهم بمقتضى النصّ والاعتبار غاية اهتمامهم في جعل موضوعاتهم بحيث يشبه الكلمات الصادرة عن الأئمّة عليهم السلام لكونه آكد في التباس الأمر واشتباه الحال ، ولذا كان أصحاب الأئمّة عليهم السلام حتّى الفضلاء منهم لا يعرفونها ولا يميّزونها عن أخبار أئمّتهم ، ولا يتفطّنون بوقوع الوضع والدسّ إلاّ ببيان الأئمّة عليهم السلام لهم وتنبيههم عليهما وتمييزهم للموضوعات عن غيرها كما دلّت عليه نصوص مستفيضة تقدّم الإشارة إلى جملة [ منها ] ، فبملاحظة ذلك كلّه لا يبقى وثوق بكون الفصيح أو الأفصح من المتعارضين صادقا صادرا عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم أو الإمام عليه السلام وغيرهما كاذبا صادرا عن غيره من الوضّاعين ، فلو سلّمت غلبة مراعاتهم الفصاحة في مقام بيان الأحكام كانت معارضة بغلبة مراعاتها أيضا من الكذّابة ووضّاع الرواية ، بل الاعتبار بملاحظة ما ذكر ربّما يقضي بالترجيح على عكس القضيّة من تقديم الفصيح أو الأفصح كما لا يخفى.

* والتقييد بالقدر المذكور تنبيه على عدم وجوب معرفة الكتاب بأجمعه كما هو واضح الوجه وصرّح به في عبائر جمع.

قال في المنية : « ولا يشترط علمه بالكتاب أجمع ، بل بما يتعلّق بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة منه ، وذلك نحو من خمسمائة آية ، أمّا ما عدا ذلك من الآيات الدالّة على البعث والنشور والقصص وأحوال القرون الماضية وكيفية إثابة المطيعين على طاعاتهم ومعاقبة العصاة على عصيانهم فلا » إلى آخره.

ص: 219

وتحديد آيات الأحكام بخمسائة كما صرّح به في التهذيب والنهاية ، وعن القواعد والمبادئ وشرحه والدروس والكشف والوافية ، وعن الأخير نفي الخلاف عنه (1) وفي عبارة محكيّة عن السيّد الطباطبائي في بعض مصنّفاته : « والمشهور أنّها نحو من خمسمائة وقيل إنّها أقلّ وقيل أكثر ، والأصوب ترك التحديد فإنّها تزيد وتنقص بحسب اختلاف العلماء في وجوه الدلالات وتفاوت اجتهادهم في طرق الاستنباط والانتقال إلى الأفراد الخفيّة والتنبّه للوازم النظريّة » إلى آخره.

وقد صنّف لضبط هذه الآيات وجمعها وشرحها كتب ، والمشهور منها « فقه القرآن » و « كنز العرفان » و « زبدة البيان » و « مسالك الإفهام ».

وقد ورد في جملة من الأخبار تقسيم القرآن إلى ما يخالف التحديد المذكور ، فعن الباقر عليه السلام : « نزل القرآن على أربعة أرباع : ربع فينا ، وربع في عدوّنا ، وربع سنن وأمثال ، وربع فرائض وأحكام » (2).

وعن أمير المؤمنين عليه السلام : « أنّه نزل أثلاثا : ثلث فينا وفي عدوّنا ، وثلث سنن وأمثال ، وثلث فرائض وأحكام » (3).

ولا ريب أنّ ثلث القرآن بل ربعه أيضا يزيد على العدد المذكور بكثير ، فإنّ مجموع القرآن على ما ضبطوه ستّة آلاف وستّمائة وستّة وستّون آية ، فيكون ثلثه ألفين ومائتين واثنين وعشرين آية ، وربعه ألفا وستّمائة وستّة وستّين ونصفا ، ويمكن الجمع بحمل ما في كلام الأصحاب على ما في القرآن الموجود الآن بأيدينا وحمل ما في الخبرين على ما في القرآن المستور عنّا الموجود عند إمام العصر عجّل اللّه فرجه.

وهذا أولى ممّا ذكره السيّد المتقدّم ذكره في الجمع ، فإنّه بعد ما ذكر الخبرين قال : « والتحديد بالخمسمائة بعيد منهما وإن اعتبر بحسب الكلمات أو الحروف وضمّ آيات الاصول إلى الفروع واكتفى بمجرّد الإشعار الغير البالغ حدّ الظهور ، والوجه حمل الأثلاث والأرباع على مطلق الأقسام والأنواع وإن اختلفت في المقدار ، وحمل الربع على ما يشمل البطون ، والثلاث على ما يعمّه وبطون البطون ، أو الأوّل على غاية ما يصل إليه أفكار العلماء والثاني على ما يعمّه والمختصّ بالأئمّة ، أو حملها على أحكام الآيات دون آيات

ص: 220


1- الوافية : 256.
2- الكافي 2 : 627 ، كتاب فضل القرآن - باب النوادر ، ح 4.
3- الكافي 2 : 627 ، ح 2 من الباب المذكور.

بأن يكون عالما بمواقعها ويتمكّن عند الحاجة من الرجوع إليها ولو كتب الاستدلال *. ومن السنّة الأحاديث المتعلّقة بالأحكام **

__________________

الأحكام ، مع الاكتفاء في الثلث بالإشعار أو تعميمه بحيث يشمل البطون.

ولا ريب أنّ الأوّل أكثر من الثاني ، فإنّ الآية الواحدة ربّما دلّت على أحكام كثيرة.

وقد ذكر عليّ بن إبراهيم في تفسيره : أنّ سورة البقرة وحدها اشتملت على خمسمائة حكم ، وآية الشهادة منها خمسة عشر حكما ، وقد زاد المتأخّرون على ذلك كثيرا ولا يزال يزداد بتلاحق الأفكار وتعاقب الأنظار » انتهى.

* إشارة إلى ما نصّ عليه جمع من الأساطين ونفي عنه الخلاف - كما في مفاتيح السيّد - من أنّه لا يشترط في معرفة الآيات المتعلّقة بالأحكام حفظها عن ظهر القلب ، بل الواجب هو معرفة دلالتها ومواضعها بحيث يكون قادرا على الرجوع إليها واستنباط الأحكام منها ، لكن يعتبر مع ذلك معرفة ناسخها ومنسوخها ، ومحكمها ومتشابهها ، ومجملها ومبيّنها ، وعامّها وخاصّها ، ومطلقها ومقيّدها ، وحقيقتها ومجازها ، ومنطوقها ومفهومها كما نصّ عليه غير واحد ، والوجه في الجميع واضح ، بل يعتبر مع ذلك - على ما في نهاية العلاّمة وتهذيبه وشرحه للسيّد وغيرها - أن يعرف من حال المخاطب أنّه يعني باللفظ ما يقتضيه ظاهره إن تجرّد أو ما يقتضيه مع القرينة إن وجدت ، لأنّه لو لا ذلك لما حصل الوثوق بخطابه لجواز أن يعني به غير ظاهره أو غير ما يقتضيه مع القرينة ولم ينبّه عليه في وقت الحاجة ، وإنّما يحصل ذلك بحكمة المتكلّم وعصمته ، والحكم بكونه تعالى حكيما على اصول المعتزلة مبنيّ على العلم بأنّه تعالى عالم بقبح القبيح وبأنّه غنيّ عنه ليمتنع صدوره عنه.

وأمّا على قواعد الأشاعرة ففي النهاية : أنّهم اعتذروا بأنّه جائز الوقوع عقلا لكنّه قد علم عدم وقوعه كانقلاب ماء البحر دما ، حيث إنّه جائز عقلا وغير واقع خارجا ، فكذا هنا يجوز من اللّه كلّ شيء لكنّه خلق فينا علما بديهيّا بأنّه لا يعني بهذه الألفاظ إلاّ ظواهرها.

قال في النهاية : وليس بجيّد ، لتعذّر العلم مع حصول تجويز النقيض.

وفيه نظر ، إذ لا منافاة بين القضيّتين ، وهذا كما يقال في المجاز بلا حقيقة من : أنّه جائز عقلا ولكنّه غير واقع في الخارج فعلا.

** كما أنّ معرفة الكتاب على الوجه المتقدّم من شروط الاجتهاد كذلك من شروطه

ص: 221

بأن يكون عنده من الاصول المصحّحة ما يجمعها ، ويعرف موقع كلّ باب بحيث يتمكّن من الرجوع إليها * وأن يعلم أحوال الرواة في الجرح والتعديل ولو بالمراجعة ** وأن يعرف مواقع الإجماع ليحترز عن مخالفته.

__________________

أيضا معرفة السنّة ، لكن لا جميعها حتّى ما كان منها متعلّقا بالاصول والمواعظ والآداب وأحوال المعاد والمعاش وأحوال القرون السابقة والامم السالفة وغيرها ممّا لا تعلّق له بفروع الأحكام ، بل القدر الكافي في استنباط الأحكام الفرعيّة ، لكن يعتبر مع ذلك معرفة ما تقدّم في بيان الحاجة إلى الكتاب من الناسخ والمنسوخ وغيرهما من الأنواع المذكورة.

وفي كلام غير واحد مع ذلك اعتبار معرفة أنواع الحديث من المتواتر والآحاد والصحيح والضعيف والمسند والمرسل وغيرها من الأنواع الّتي يختلف أحكامها من حيث الاعتبار والترجيح ، وكأنّ المراد بمعرفة هذه الأنواع معرفتها باعتبار المفهوم وحينئذ فلا يخلو عن وجه.

وأمّا معرفة مصاديقها فالظاهر أنّها من فروع معرفة الرجال الّتي هي شرط آخر من شروط الاجتهاد.

ولك أن تقول : بأنّ معرفتها باعتبار المفهوم أيضا من توابع معرفة اصول الفقه لجريان العادة بالتعرّض لبيانها في طيّ مسائله.

من شروط الاجتهاد معرفة السنّة

* يعني لا يعتبر في معرفة القدر الكافي من السنّة حفظها عن قلبه ، بل يكفي فيه وجود أصل مصحّح عنده يرجع إليه عند الحاجة.

من شروط الاجتهاد معرفة علم الرجال

** صرّح به في النهاية والتهذيب ، وعن المبادئ وشرحه والقواعد والدروس والكشف والزبدة وشرحها والوافية والفوائد وفي رسالة الاجتهاد والأخبار ، بل التتبّع في كتب الاستدلال والكتب المؤلّفة في الرجال يقضي بأنّ الحاجة إليه ممّا لا خلاف فيه بين قدماء الأصحاب ومتأخّريهم من لدن فتح باب الاجتهاد إلى هذه الأعصار ، إلاّ من الفرقة الشاذّة الأخباريّة لشبهة قطعيّة الأخبار الموجودة بأيدينا أو خصوص المودعة في الكتب الأربعة.

ووجه الحاجة إليه - مع وضوحه - : إنّ العمل بالأخبار الّتي هي العمدة في طرق استنباط الأحكام - بل لا يكاد يتّفق مسألة إلاّ ولها أصل من السنّة عموما أو خصوصا بحيث لو لا التعويل عليه لم يتأتّ الغرض الأصلي من النظر فيها -.

إمّا (1) من جهة الأدلّة الخاصّة المرخّصة في الاستناد إليه من الإجماع والنصوص المستفيضة

ص: 222


1- خبر لقوله : « إنّ العمل بالأخبار » الخ.

القريبة من التواتر ، بل المتواترة معنى في الحقيقة حسبما تقدّم إلى شطر منها الإشارة ، أو من جهة عموم ما دلّ على حجّية ظنّ المجتهد حال انسداد باب العلم المستند إلى الكتاب والسنّة وما يرجع إليها حسبما سبق تفصيله مستوفى ، وأيّا ما كان فلا مناص من معرفة أحوال الرواة.

أمّا على الأوّل : فلما عرفت من أنّ القدر المعلوم من الأدلّة الخاصّة انحصار الحجّة بعد الكتاب في السنّة المعلومة أو الموثوق بها ، والأوّل في غاية الندرة ، والوثوق في الثاني لا يتأتّى إلاّ بعد معرفة أحوال الرواة الّتي لها مدخل في حصول الوثوق والاطمئنان بالصدق والصدور ممّا يتعرّض لها علماء الرجال وغيرها ممّا يستحصل بممارسة كتب الاستدلال.

وأمّا على الثاني : فلما قرّرناه آنفا من أنّ الظنّ بالحكم ولا سيّما الاطمئناني منه لابدّ وأن يكون عن سبب بينه وبين المظنون ملازمة ، وملزوم حكم اللّه - بحكم الاصول الكلاميّة والأدلّة القطعيّة مع ملاحظة ما سبق في دفع شبه الأخباريّة - منحصر في كلامه تعالى وسنّة امنائه من النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم وأوصيائه ، وهذه الملازمة بنفسها وإن كانت قطعيّة لقطعيّة أدلّتها ، غير أنّها لا تكفي في قطعيّة الحكم إلاّ مع القطع بملزومها.

وقد تقرّر سابقا أنّ القطع في الغالب مسدود بابه ، فظنّيّة الحكم على ما هو الغالب إنّما تنشأ من ظنّية الملزوم إذا كان من قبيل السنّة كما هو الغالب ، ولا ريب أنّ الظنّ بالنسبة إليها ممّا لا يتأتّى عادة إلاّ بمعرفة أحوال نقلتها ولو ظنّا ، ولو اعتبرنا في الحكم كونه مظنونا في مرتبة الوثوق والاطمئنان - كما هو الأقوى - كان الوثوق به منوطا بالوثوق بملزوم الحكم ، فمن جهته يتأكّد الحاجة إلى المعرفة المذكورة ، وآكد منها الحاجة إليها أيضا في مقام علاج التعارض الحاصل فيما بين الأخبار على ما هو الغالب ، لكون العمدة من طريقه البناء على التخيير أو الطرح أو الوقف والرجوع إلى الأصل فهو فرع التعادل ، أو على الترجيح فهو فرع وجود المرجّح في أحد الجانبين سليما عن المعارض الموجود في الجانب الآخر ، ولاريب أنّ التعادل ووجود المرجّح لا يظهران إلاّ بمراجعة الرجال ، سواء قلنا بقصر الحكم في الترجيح على ما ورد من المرجّحات في النصوص ، أو بتعميمه بالقياس إلى كلّ ما أوجب الوثوق بأحد المتعارضين كما هو الأظهر.

أمّا على الأوّل : فواضح.

وأمّا على الثاني : فأوضح ، إذ بالمعرفة المذكورة يحصل من الوثوق والاطمئنان

ص: 223

ما لا يحصل بدونه ومع عدمه يبقى متحيّرا في جلّ المسائل.

وقد يستدلّ على ذلك أيضا بوجوه اخر :

أحدها : الأصل ، الّذي يقرّر : بأنّ العمل بأخبار الآحاد لازم - ولو لكونها من أسباب الظنّ بل أقواها - للأدلّة المقامة عليه في محلّه.

والمفروض أنّ جواز العمل بها واستنباط الحكم منها بعد مراجعة الرجال وتعيين المعتبر من الأخبار بذلك في الجملة ممّا لا خلاف فيه ، بل الإجماع من الجميع واقع عليه حتّى من الأخباريّة ، لكون خلافهم في لزوم هذه المراجعة لا جوازها ، وأمّا جواز العمل بها بدون المراجعة فمحلّ إشكال وموضع خلاف ، ومقتضى الأصل عدم الجواز بمعنى عدم الاعتبار لوضوح أنّه على خلاف الأصل.

وثانيها : أنّ الآحاد لا تفيد مطلقا أو غالبا إلاّ الظنّ ، وقد وقع النهي عن العمل به في الكتاب والسنّة بل عليه بناء العقلاء وسيرة العلماء ، والثابت في الخروج عن عموم النهي بالنسبة إلى الآحاد إنّما هو بعد الرجوع إلى الرجال في الجملة وأمّا قبله فلا.

ودعوى قطعيّة الصدور والاعتبار معا أو الأخير فقط يأتي ما فيها من الفساد.

وثالثها : أنّ مصير عامّة المجتهدين إلى الافتقار إلى علم الرجال ولو في الجملة مع ملاحظة ما يزيّف طريقة الأخباريّين ويضعّف مقالة المفصّلين إن لم يفد القطع بذلك فلا أقلّ من إفادته الظنّ ، ومع التنزّل فلا أقلّ من إفادته الشكّ والترديد ، ولا ريب أنّ الإقدام على العمل في هذه الحالة من غير مراجعة الرجال قبيح مذموم عقلا ونقلا.

وهذه الوجوه الثلاث كما ترى إنّما تستقيم في إثبات أصل الافتقار ولو لمقام الاعتبار ، وأمّا بالقياس إلى توقّف الاجتهاد بالمعنى الملحوظ في شروط الوجود كما هو محلّ البحث فلا ، لما سبق الإشارة إليه.

ورابعها : أنّ من المعلوم الوارد على طبقه أخبار مستفيضة وجود أخبار كاذبة وأحاديث موضوعة فيما بين رواياتنا الموجودة بأيدينا ، وإخراجها عمّا بينها حسبما يدّعيه الأخباريّة غير معلوم ، وادّعاؤه من دون قاطع يوجب القطع به غير مسموع ، فالعمل بالجميع من غير تميّز الكاذب عن الصادق والموضوع عن الصادر بالقدر المقدور قبيح ، بل منهيّ عنه بتلك الأخبار المشار إليها بقوله عليه السلام : « فاتّقوا اللّه ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا وسنّة نبيّنا » وقوله عليه السلام في آخر : « فلا تقبلوا علينا ما خالف القرآن » وإلى هذا المعنى يرجع ما في بعض

ص: 224

تلك الأخبار من قوله عليه السلام : « فيسقط صدقنا بكذبه » بناء على أنّ معناه سقوطه عن درجة الاعتبار بسبب ما طرأه من الاشتباه بما وضعه الكذّاب ، بل هذه الرواية بنفسها دالّة على عدم جواز العمل إلاّ بعد التمييز الّذي لا يتأتّى إلاّ بمراجعة الرجال.

ومن هنا أورد المحقّق في المعتبر - على ما حكي - على الحشويّة القائلة بجواز العمل بكلّ خبر ، بقوله : « أفرط الحشويّة في العمل بخبر الواحد حتّى انقادوا لكلّ خبر ، وما فطنوا إلى ما تحته من التناقض ، فإنّ من جملة الأخبار قول النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم : ستكثر بعدي القالة عليّ » (1) يعني أنّ العمل بما مرّ من الأخبار مع غيرها مطلقا موجبا للتناقض ، لوضوح أنّ العمل بغيرها إنّما يتمّ مع الإعراض عن هذه الأخبار وإلاّ فهي ناهية عن العمل.

وخامسها : الأخبار العلاجيّة المشتملة على الرجوع عند التعارض إلى الأعدل والأورع والأفقه ، وهذه الصفات لا يعلم ثبوتها في الرواة إلاّ بملاحظة الرجال لفقد المعاشرة معهم وانتفاء الشهادة اللفظيّة عليها فيهم ، فانحصر في الكتبيّة الموجودة في كتب الرجال وإن لم نقل بكونها من باب الشهادة الشرعيّة.

وكون الترجيح بالشهرة وموافقة القرآن ونحوهما ممّا لا مدخل للرجال فيه لا يغني عن الترجيح بما ذكر من الامور المذكورة ، وإلاّ لما أمر بالجميع كيف وهي أحد أسباب الترجيح.

وسادسها : أنّ سيرة العلماء قديما وحديثا على تدوين كتب الرجال وتنقيحها وتحصيلها بالاشتراء والاستكتاب ، وعلى مطالعتها والرجوع إليها في معرفة أحوال الرواة والعمل بها في الاعتداد برجال والطعن في آخرين والتوقّف في طائفة ثالثة ، حتّى أنّ كثيرا منهم كانت له مهارة في هذا العلم كالصدوق والمفيد والطوسي وغيرهم من مشائخ الحديث ، بل ربّما أمكن أن يقال : اهتمام المتقدّمين فيه كان أزيد من المتأخّرين ، وأيّ عاقل يرضى بكون ذلك كلّه لغوا مكروها أو حراما؟ فليس إلاّ للافتقار إليه.

وسابعها : إنّ سيرة الرواة والمحدّثين إلى زمن تأليف الكتب الأربعة بل إلى تأليف الثلاثة المتأخّرة الوافي والوسائل والبحار على الالتزام بذكر جميع رجال جميع الأسانيد ، حتّى أنّ أحدا لو أسقطهم أو بعضهم في مقام أشار إليهم في مقام آخر - ما في الفقيه والتهذيبين - مع التصريح بأنّه للتحرّز عن لزوم الإرسال والقطع والرفع المنافية للاعتبار.

ص: 225


1- المعتبر 1 : 29.

ومن المعلوم أنّ ذلك كلّه لأن يعرفهم الراجع إلى كتبهم ويجتهد في أحوالهم على حسب مقدوره ، فيميّز الموثوق الجائز أخذ الرواية عنه عن غيره ، وإلاّ لزم اللغويّة فيعلم الافتقار.

لكن ينبغي أن يعلم أنّ العبرة في هذا الشرط حسبما يستفاد من الوجوه المذكورة إنّما هي بمجرّد المعرفة الموجبة للوثوق بأيّ طريق حصلت ولو لغير مراجعة الكتب المؤلّفة في هذه الصناعة ، بل لغير جهة وثاقة الراوي أو الواسطة.

وبالجملة المعتبر تحصيل ما يوجب الوثوق بصدق الرواية وصدورها ، سواء كان ذلك لأجل وثاقة الراوي بل وصحّة السند أو غيرهما ، حصل ذلك الأمر بمراجعة كتب الرجال أو غيرها من الأسباب الّتي تعرف بعضها وإن كان الغالب هو الأوّل.

وما ذكرناه هو المصرّح به في كلام بعض الأعلام ، بل المعهود من سيرة فقهائنا العظام ، لشيوع ما نشاهدهم أنّهم كثيرا مّا يعتمدون على خبر اعتمد عليه الحلّي وأضرابه المانعون للتعبّد بخبر الواحد العاري عن قرائن الصدق وإن جهل رجاله أو ضعف سنده ، ومنه ما في كلام غير واحد من الاعتماد على رواية صحّحها العلاّمة أو غيره وفي طريقها رجل مجهول لم يذكر في الرجال بمدح ولا قدح بناء على أنّه يفيد توثيقا له أو وثوقا بها ، كما اتّفق ذلك في محمّد بن عليّ ماجيلويه المجهول حيث إنّ العلاّمة صرّح بصحّة طريق الصدوق إلى إسماعيل بن رياح وهو فيه (1).

ونحوهما أيضا ما اتّفق للمصنّف - على ما حكي - في محمّد بن إسماعيل النيسابوري من اعتماده على روايته مع أنّ المعروف من مذهبه في العمل بأخبار الآحاد اشتراطه بتزكية عدلين وعدم اكتفائه بتزكية عدل واحد ، ومن هنا جاء الفرق بين مذهبه ومذهب المشهور في صحيح الحديث وجرت عادته بإعلام الصحيح عند المشهور. ب- « صحر » والصحيح عنده ب- « ص » عن الهاء مجرّدا (2).

وعن تلامذته أنّهم لتوهّم المنافاة بين مذهبه وما ذكر في النيسابوري الّذي لم يوثّقه إلاّ عدل واحد والّذي وثّقه عدلان هو ابن بزيع فأخذوا بالاعتراض عليه وسألوه عن ذلك ، فجاوبهم : بأنّي موثّق له.

وهذا منه كما ترى ليس إلاّ من جهة أنّه حصل عنده من الخارج قرائن قضت بوثاقة

ص: 226


1- خلاصة الأقوال : 438 ، الفائدة الثامنة من الخاتمة.
2- وهذا سهو منه 1 لأنّ الرمز إلى الصحيح عنده هو « صحى ». راجع المنتقى 1 : 22.

هذا الرجل لغير جهة ما ثبت في حقّه من توثيق الواحد.

ونحوه أيضا ما عليه المعظم من جبر الخبر الضعيف بالإرسال أو جهالة الراوي أو فسقه أو غيرها من الأسباب المضعّفة بالشهرة وعمل معظم الطائفة ، فإنّ ذلك ينهض قرينة على الصدق مورثة للوثوق بالصدور كما هو الأقوى.

ونحوه أيضا ما عن الحلّي من مصيره في مسألة المواسعة والمضائقة إلى المضائقة القاضية بتقديم الفائتة على الحاضرة استنادا إلى أخبارها الّتي هي أخبار آحاد ، تعويلا على إجماع القمّيين على العمل بها حيث لم يتعرّضوا في كتبهم إلاّ لذكرها من غير تعرّض لمعارضاتها من أخبار المواسعة ، وليس ذلك منه إلاّ من جهة أنّ إجماعهم المذكور ينهض أمارة لاعتبار تلك الأخبار كاشفة عن صدقها ، وإن كان قد يستشكل ذلك - بناء على مذهبه المتقدّم ذكره - نظرا إلى أنّ العمل بالخبر أعمّ من العلم بصدقه ، إذ قد يكون العمل لمجرّد التعبّد الشرعي الثابت عند من يقول به بدليله ، ولذا حكي عن بعض المتأخّرين اعتراضه عليه : « بأنّ هذا منه ينافي مذهبه في أخبار الآحاد ، فإنّ الاعتماد على إجماع القميّين على أخبار المضايقة يوجب الاعتماد على إجماعهم في جواز العمل بأخبار الآحاد لأنّه إجماع نشأ عن هذا الإجماع ».

ثمّ عرفت أنّه لا مخالف في المسألة إلاّ الفرقة الأخباريّة لدعواهم القطع بالصدور في كتب الأخبار المتداولة بين أصحابنا أو خصوص الأربعة المعروفة ونسب ذلك إلى أكثرهم ، وعن بعضهم أنّه راعى الإنصاف وتحرّز عن هذا الجزاف فبنى على اعتبار جميع ما في الكتب الأربعة لشهادة مصنّفيها الثقات بذلك ، فأخبارها وإن لم تكن قطعيّة الصدور إلاّ أنّها قطعيّة الاعتبار.

وقد يحكى قول آخر عن الأخباريّة - كما في حكاية أو مطلقا كما في اخرى - وهو التفصيل بين صورة التعارض وغيرها ، فاقتصروا في نفي الحاجة إلى الرجال على الثاني.

وقد يحتمل قول آخر وهو التفصيل بين صورة وجود الشهرة محقّقة أو محكيّة في خصوص بعض الأخبار المفيد لبعض الأقوال أو اختصاص الراجح منها بجانب وبين غيرها ، فيقتصر في الحاجة إلى الرجال على الأخير.

ولك أن تلحق القول بجواز الاكتفاء بتصحيح الغير مطلقا - كما عزى إلى أكثر العلماء في كتبهم الفقهيّة وغيرها - بمقالة المنكرين للحاجة إلى الرجال.

ص: 227

دفع شبهات الأخباريّة في نفي الحاجة إلى علم الرجال

وللأخباريّة النافية للحاجة مطلقا شبهات كثيرة ممّا ذكروها أو يمكن أن يذكروها.

منها : إنّ علم الرجال علم منكر يجب التحرّز عنه لما فيه من تفضيح الناس وقد نهينا عن التجسّس عن معائبهم وامرنا بالغضّ والستر.

واجيب تارة : بالنقض بجرح الشهود وتعديلهم عند الحاكم والغيبة عند المشاورة المستثناة عن عموم التحريم.

واخرى : بمنع شمول الأدلّة الناهية عن التجسّس الآمرة بغضّ البصر وستر العيوب.

وثالثة : بما قرّر في محلّه من سقوط حرمة المقدّمة المنحصرة إذا توقّف عليها واجب أهمّ كإنقاذ الغريق مثلا عند كونه أجنبيّة ، أو توقّفه على غصب في الطريق أو الآلة أو غيرهما.

ورابعة : بانعقاد الإجماع والسيرة حتّى من الأخباريّة على الجواز في المقام ، إذ الكلام إنّما هو في وجوب معرفة الرجال - للافتقار إليه - وعدمه لا في أصل جوازه ، وهذا هو المعتمد فإنّ الإجماع على الجواز وكون ما ذكر كجرح الشهود وتعديلهم منقوله واقع في كلام بعض أساطين متأخّري الطائفة ، ومحصّله قائم كما يظهر للمتتبّع في سيرة العلماء كافّة قديما وحديثا خلفا عن سلف من الخاصّة والعامّة ، ويشهد به ملاحظة عملهم ووضعهم في ذلك فهارس ورسائل ومصنّفات متداولة بين قاطبتهم تداول سائر الكتب المعمولة في سائر الفنون المعهودة من غير نكير من المؤالف والمخالف ، حتّى أنّه كان متعارفا بين أصحاب الأئمّة وخواصّ الشيعة المعاصرين لهم عليهم السلام مع اطّلاعهم عليه وتقريرهم أصحابهم على ما هم عليه من ذكر الرجال وجرحهم تارة وتعديلهم اخرى وتأمّلهم في ثالث ، بل لو تتبّعت الروايات لوجدت فيها ما يشهد بكون عمل الأئمّة أيضا على ذلك ، ولذا ورد فيها مدح جملة من الرواة أو توثيقه في بعضها وذمّ جملة اخرى أو جرحه في بعضها ، فأصحابنا رضوان اللّه عليهم من لدن أعصار الأئمّة عليهم السلام كانوا لا يزالون يشدّدون الاهتمام في ضبط أحوال الرجال وأوصافهم ومدائحهم وذمومهم ، حتّى أنّهم كانوا يتعرّضون لضبط الأنساب والألقاب مثل كونه عربيّا صحيحا أو مولى ، وكونه كوفيّا أو قميّا أو نحو ذلك ليفيد في مقام تعارض الروايتين إحداهما ممّن لا نجابة له بحسب نسبه والاخرى ممّن له نجابة ليترجّح الثانية على الاولى ، أو إحداهما من العربي الصحيح والاخرى من المولى ليترجّح الثانية على الاولى من حيث إنّ العرب كان فيهم الحسد والحميّة والعصبيّة ، ولذا ترى أنّ أجلاّء الرواة بل أكثر رؤساء الدين بين المسلمين كانوا من الموالين لمكان الوثوق بهم وخلوّهم

ص: 228

عن الريب وتنزّههم عن العيب.

وبالجملة كون بناء قاطبة العلماء بل كافّة الرؤساء على ذلك وعلى ضبط دقائق أحوال الرجال وخفايا عيوبهم وذمومهم ومناقبهم وعقائدهم من السلامة والفساد وأعماله من الشناعة والصحّة ممّا لا يكاد يخفى على جاهل فضلا عن العالم الكامل ، بل هو عند التحقيق يعدّ من ضروريّات أهل الحلّ والعقد من أهل الحقّ والباطل وإن لم يبلغ حدّ الضرورة عند كافّة الناس ، من حيث إنّه لا رجوع إلى مورده إلاّ لأهل العلم بل فقهائهم ، فيكون كاشفا عن رضا النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام الكاشف عن رضا اللّه سبحانه كشفا جزميّا بتّيا بحيث لا سبيل إلى إنكاره ولا مجال للاسترابة فيه ، بل الجواز في هذا المقام آكد منه في مقام الشهادة والحكومة من حيث إنّ جرح الشهود ممّا لا يجوز أن يتبرّع به كنفس الشهادة الّتي لا يصحّ التبرّع بها وإنّما يجوز متى ما طلبه صاحب الحقّ ، بخلاف مقام الرواية فإنّ الجرح والتعديل فيها ممّا يستحبّ التبرّع به في كلّ مقام بل قد يجب كما لا يخفى.

ومنها : أنّ بعض أهل هذا العلم الّذي قد بنوا على أقوالهم في الجرح والتعديل كانوا فاسدي العقيدة وإن لم يكونوا فسّاقا بالجوارح ، مثل ابن عقدة وكان جاروديّا مات عليه بنصّ النجاشي والشيخ (1) وكان زيديّا ، ومثل عليّ بن الحسن بن عليّ بن فضّال وكان فطحيّا بتصريح الشيخ والنجاشي (2) وصرّح في الخلاصة (3) بفساد مذهبه ، ومع ذلك كلّه قال في التعليقة في بيان حاله : « أنّ الطائفة عملت بما رواه بنو فضّال وكثيرا مّا يعتمدون على قوله في الرجال ويستندون إليه في معرفة حالهم من الجرح والتعديل ، بل غير خفيّ أنّه أعرف بهم من غيره بل من جميع علماء الرجال ، فإنّك إذا تتبّعت وجدت المشايخ في الأكثر بل كاد أن يكون الكلّ يستندون إلى قوله ويعتمدون عليه » (4).

وجوابه أوّلا : النقض باتّفاقهم على الرجوع إلى الكتب العربيّة الثلاث المتقدّمة وأخذ المطالب اللغويّة منهم مع أنّهم في الغالب من المخالفين وفاسدي المذهب بل الفاسقين بجوارحهم على ما قيل في حقّ بعضهم.

وثانيا : النقض بعمل الطائفة حتّى الأخباريّة برواية المتحرّزين عن الكذب من المخالفين

ص: 229


1- رجال النجاشي : 94 رقم 233 - الفهرست - للشيخ الطوسي - : 68 ، رقم 86.
2- راجع رجال النجاشي : 257 رقم 676 - الفهرست - للشيخ الطوسي : 272 ، رقم 391.
3- الخلاصة : 93 / 15.
4- تعليقة الوحيد البهبهاني : 229.

وغيرهم من فاسدي العقيدة لمجرّد الوثوق والاعتضاد بقرائن الثبوت ، ويرشدك إلى ذلك ما تكثر عن الشيخ والمحقّق وغيرهما في حقّ جملة من دعوى عمل الطائفة بتلك الرواية.

وثالثا : إنّ الأخذ بجرح علماء الرجال وتعديلاتهم إنّما هو من باب الأخذ بأمارات الظنّ والوثوق ، فالعبرة في كلّ منهما بهما لا لمجرّد التعبّد فلا يضرّ حينئذ فساد عقيدة الجارح أو العدل بل ولا كونه فاسقا بجوارحه ، فالمتّبع هو الظنّ والوثوق لمكان تعذّر العلم بانسداد بابه وإن حصلا من قول من لا يعتمد على قوله شرعا في غير هذا المقام.

ومنها : ثبوت الخلاف في معنى العدالة ومعنى الكبيرة وعددها قلّة وكثرة ، وفي قبول الشهادة على أحدهما من غير ذكر السبب ، فلا يمكن الاعتماد على تعديل المعدّلين ولا جرح الجارحين إلاّ بعد معرفة موافقة مذهبهم في العدالة وأسباب الجرح لمذهب المجتهد العامل على مقتضى جرحهم وتعديلهم ، خصوصا مع ابتناء تعديل بعضهم على تعديل من تقدّم عليهم مع جهالة الحال بالنسبة إلى الموافقة والمخالفة ، بل مختار الشيخ في العدالة أنّها ظهور الإسلام مع عدم ظهور الفسق وكثير من التعديلات منه ، بل على ظاهر دعوى الشيخ أنّه المشهور فيكون مذهب من عداه أيضا كذلك ، والمتأخّرون لا يكتفون بذلك فكيف يعتمدون على تعديله بل تعديل غيره.

وجوابه أوّلا : منع الخلاف في معنى العدالة وإن اشتهر ، بل هي عند الكلّ حتّى الشيخ وتابعيه عبارة عن الملكة وهي الحالة النفسانيّة الرادعة عن ارتكاب الكبائر والإصرار على الصغائر ، وما يذكر في كلام الشيخ وتابعيه من ظهور الإسلام وعدم ظهور الفسق وفي كلام آخرين من حسن الظاهر فإنّما يعتبر عندهم طريقا إلى معرفة الملكة وأمارة على إحراز وجودها في المتّصف بها لا لأنّهما بأنفسهما العدالة.

وتحقيق المسألة يطلب من رسالتنا المعمولة في العدالة (1).

وثانيا : بعد ما كان البناء في الرجوع إلى كلمات علماء الرجال على تحصيل الظنّ والوثوق بالعدالة ومقابلها أو صدق الرواية وكذبها فلا يضرّ الخلاف المذكور ، ولا حاجة في شيء من الجرح والتعديل إلى إحراز الموافقة في المذهب ، كما لا يقدح العلم بالمخالفة أيضا ، على أنّ المعدّل لا يخبر بعدالة الراوي إلاّ لأن يعتمد على قوله غيره ممّن لا يعرفه بهذه الصفة ، ولا يتمّ ذلك إلاّ إذا كان العدالة المخبر بها مرادا بها ما هو ملزوم للصدق ، للقطع

ص: 230


1- رسالة في العدالة ، من منشورات جماعة المدرسين بقم المشرّفة سنة 1414.

الضروري لكلّ أحد بأنّ بغيره لا يحصل ظنّ الصدق ووثوق الصدور ، وهذا الغرض حاصل في تعديلاتهم جدّا سواء سمّي المخبر به ملكة أو حسن الظاهر أو غيره.

ومنها : أنّ الصحّة عند المتأخّرين لابدّ فيها من العدالة والضبط والإماميّة في جميع سلسلة السند ، وقلّما يتعرّض في الرجال لجميع ما ذكر ، بل نراهم يكتفون فيها بقولهم : « فلان ثقة » أو « من وجوه أصحابنا » أو « كبارهم » ونحو ذلك ، ولا دلالة في شيء من ذلك على جميع الامور المذكورة حتّى لفظ « الثقة » ، فإنّ غاية مفادها العدالة وأمّا الضبط ولا سيما الإماميّة فلا ، خصوصا إذا كان ذلك في كلام غير إمامي كابن عقدة وغيره ممّن تقدّم ، وخصوصا إذا وقع في كلام الإمامي جرحه ، وأيضا كثيرا مّا يقال في حقّه - بعد إطلاق « الثقة » عليه - : إنّه فطحيّ أو واقفيّ أو غير ذلك ، وهذا ينافي كون مفاد هذا اللفظ ما ذكر من المفهوم المركّب.

وفيه : أنّه بمكان من السقوط لا حاجة له إلى التنبيه والبيان ، إذ قد يعلم بإرادة ما جامع الصفات الثلاث بنصّ من قائله ، كما لو كان القائل المحقّق المجلسي رحمه اللّه لما حكي عنه في الوجيزة من أنّه صرّح بما مضمونه : « أنّي كلّما اورد بعد ذكر الرجل لفظ « الثقة » فإنّما أردت به العدل الإمامي الضابط ، وكلّما ذكرت حرف « القاف » فقد أردت منه العدل الضابط الغير الإمامي » وقد يظنّ بملاحظة القائل أيضا إرادتها أو إرادة الوصفين الأوّلين كما قيل ذلك في النجاشي.

فعن المحقّق والشيخ محمّد رحمه اللّه أنّهما قالا (1) : « أنّ النجاشي إذا قال : « ثقة » ، ولم يتعرّض إلى فساد المذهب فظاهره أنّه عدل إمامي ، لأنّ ديدنه التعرّض إلى الفساد فعدمه ظاهر في عدم ظفره وهو ظاهر في عدمه ، لبعد وجوده مع عدم ظفره ، لشدّة بذل جهده وزيادة معرفته ، وإنّ عليه جماعة من المحقّقين » انتهى (2).

بل قد يقال : إنّ مطلق هذه اللفظة اصطلاح لهم في جامع الأوصاف أو الوصفين الأوّلين فيحمل عليه ما لم يقارنه ما يوجب الخروج عن أحد الأوصاف أو كلّها ، وقد يدّعى الانصراف إليه ولو من جهة انصراف المطلق إلى فرده الكامل ، نظرا إلى أنّ كمال الوثوق

ص: 231


1- هذا سهو من قلمه الشريف ، والصواب : « فعن المحقّق الشيخ محمّد 1 أنّه قال : » الخ ، وهو المحقّق الشيخ محمّد بن الحسن بن الشهيد الثاني.
2- انظر : منتهى المقال في أحوال الرجال 1 : 43 - فوائد الوحيد البهبهاني - الفائدة الثانية.

إنّما هو باجتماع الأوصاف أجمع.

وقد يحرز الأوصاف مع ذكر هذا اللفظ بملاحظة سائر القرائن وضمّ بعضها إلى بعض ، كوصفه بكونه من أصحابنا أو من أجلاّء أصحابنا إذا كان القائل إماميّا ، أو كونه فاضلا أو فقيها أو ذا أصل أو كونه من مشايخ الإجازة أو شيخا للأجلاّء من أصحابنا الموثوق بهم أو نحو ذلك ممّا يطّلع عليه المتتبّع.

وقال المحقّق البهبهاني في فوائده الرجاليّة : « لا يخفى أنّ الرواية المتعارفة المسلّمة المقبولة أنّه إذا قال عدل إمامي - نجاشيّ كان أو غيره - : « فلان ثقة » أنّهم يحكمون بمجرّد هذا القول بأنّه عدل إمامي كما هو ظاهر إمّا لما ذكر - يشير به إلى ما تقدّم عن المحقّق (1) وغيره - أو لأنّ الظاهر من الرواة التشيّع والظاهر من الشيعة حسن العقيدة ، أو لأنّهم وجدوا منهم أنّهم اصطلحوا على ذلك في الإماميّة - وإن كانوا يطلقونه على غيرهم مع القرينة - بأنّ معنى ثقة : عادل ، أو عادل ثبت ، فكما أنّ عادلا ظاهر فيهم فكذا ثقة ، أو لأنّ المطلق ينصرف إلى الكامل ، أو لغير ذلك على منع الخلوّ » انتهى (2).

ومع الغضّ عمّا ذكر فغاية ما في المناقشة القدح في دلالة هذا اللفظ على الأوصاف الثلاث بأجمعها ، لكن طريق معرفة اجتماعها غير منحصر في ملاحظة هذا اللفظ ، بل كثيرا مّا يحصل بملاحظته مع مجموع سائر القرائن والأوصاف والألقاب الّتي لا تعرف إلاّ بمراجعة علماء الرجال كما عرفت.

ومع الغضّ عن ذلك أيضا فأقصى ما هنا لك انهدام ما أسّسه المتأخّرون من العلاّمة وغيره في تنويع الحديث أربعة أنواع وتخصيصهم كلّ نوع باسم ، حتّى أنّهم اصطلحوا فيها بالصحاح والموثّقات والحسان والضعاف ، لما قيل في وجهه - كما عن شيخنا البهائي في مشرق الشمسين (3) وقبله المصنّف في مقدّمات كتاب المنتقى - ملخّصا من : « أنّ السبب الداعي إلى تقرير المتأخّرين رضوان اللّه عليهم هذا الاصطلاح في تنويع الحديث إلى الأنواع الأربعة هو أنّه لما طالت المدّة بينهم وبين الصدر الأوّل وبعدت عليهم الشقّة وخفيت عليهم ما كان متّسعا على غيرهم ، التجأوا إلى العمل بالظنّ بعد فقد العلم لكونه أقرب مجاز إلى الحقيقة عند تعذّرها ، وبسبب التباس الأخبار غثّها بسمينها وصحيحها بسقيمها التجأوا إلى

ص: 232


1- هو : المحقّق الشيخ محمّد بن الحسن بن الشهيد الثاني.
2- انظر : منتهى المقال 1 : 43 - عدة الرجال - للكاظمي - : 17 ، الفائدة الخامسة.
3- مشرق الشمسين : 270.

هذا الاصطلاح الجديد وقرّبوا لنا البعيد ونوّعوا الحديث إلى الأنواع الأربعة » انتهى (1).

فيقال عليهم : إنّ هذا الاصطلاح مجرّد مفهوم لا يجدي في معرفة مصاديق كلّ نوع عن آخر ، ولا سيّما الصحيح الّذي لا طريق لنا إلى معرفة أشخاصه ، حيث لا سبيل إلى إحراز الأوصاف الثلاثة في جميع سلسلة السند.

وهذا - مع أنّه مكابرة محضة لا يلتفت إليها - لا يخدش فيما هو الغرض الأصلي عن مراجعة الرجال من تحصيل الوثوق والاعتماد على الراوي والاطمئنان بصدق الرواية وصدورها ، فإنّ حصول كلّ من ذلك بمراجعة الرجال واضح بديهي ولو بملاحظة وصف الرجل بالثقة لو سلّمنا عدم دلالته على الأوصاف المذكورة ، خصوصا إذا كان قائله عدلا إماميّا معتمدا وخصوصا إذا لم يقارنه ما يزاحمه ، وخصوصا إذا أكّد مثله فيقال : « ثقة ثقة » أو ما يرادفه أو يقاربه في المعنى ، فيقال : « ثقة نقة » بالنون مكسورة ، كيف ولفظ « الثقة » باعتبار وضعه اللغوي العرفي ظاهر فيما يفيد الوثوق والاعتماد والاطمئنان.

فعن المصباح المنير : وثق الشيء بالضمّ وثاقة قوي وثبت ، فهو وثيق ثابت محكم ، وأوثقته جعلته وثيقا ، ووثقت به أثق بكسرهما ثقة ووثوقا ائتمنته.

وعن القاموس : وثق به كوَرِث ثقة وموثقا ائتمنته.

ومنها : أنّ أكثر أسامي الرجال مشتركة بين عدل أو ممدوح وغيره ، وأكثر أسباب التميّز لا تفيد إلاّ أقلّ مراتب الظنّ المنهيّ عن العمل به عقلا ونقلا كتابا وسنّة وإجماعا ، وكيف يجوز القول باعتبار مثل هذا الظنّ دون ما يحصل من الشواهد الآتية في اعتبار أخبار الكتب المعتبرة من القطع أو الظنّ القويّ القريب إليه؟

وأيضا فإنّ كثيرا من تعويلاتهم وتضعيفاتهم إنّما نشأ عن ترجيحهم واجتهادهم ، ولا يجوز للمجتهد بناء العمل على اجتهاد غيره ، وإن وجد فيها ما ليس من اجتهاديّاتهم فهو شهادة كتبيّة وقد أجمع الأصحاب على أنّه لا عبرة بالكتابة كما ورد في بعض الروايات

ص: 233


1- منتقى الجمان 1 : 14 ، قال في المنتقى : « فإنّ القدماء لا علم لهم بهذا الاصطلاح قطعا لاستغنائهم عنه في الغالب بكثرة القرائن الدالّة على صدق الخبر وإن اشتمل طريقه على ضعف كما أشرنا إليه سالفا ، فلم يكن للصحيح كثير مزيّة توجب له التمييز باصطلاح أو غيره ، فلمّا اندرست تلك الآثار واستقلّت الأسانيد بالأخبار اضطرّ المتأخّرون إلى تمييز الخالي من الريب وتعيين البعيد عن الشكّ ، فاصطلحوا على ما قدّمنا بيانه ، ولا يكاد يعلم وجود هذا الاصطلاح قبل زمن العلاّمة إلاّ من السيّد جمال الدين بن طاووس - رحمه اللّه - ».

أيضا ، مع أنّ الأغلب منها شهادة فرع بل شهادة فرع فرع وهكذا ، ولا خلاف عندهم في عدم اعتبار ما عدا الاولى ، ومورد اعتبار الاولى أيضا عند قائليه إنّما هو أموال الناس وحقوق الآدميّين لا غير ، مع أنّ العدالة ليست من الامور الحسّيّة الّتي يمكن الاطّلاع عليها بالحسّ.

وقد صرّحوا فيها بلزوم كون المشهود به حسّيّا.

وأيضا فغايتها كونها شهادة علميّة وإلاّ فالغالب كونها ظنّية ، وقد اختلفوا في اعتبار الشهادة العلميّة فكيف بالظنّية.

وأيضا فالمعتبر في الشهادة التعدّد والمعروف فيهم هنا كفاية الواحد.

وبالجملة : فملاحظة هذه الامور تعطي عدم العبرة بالرجال ، ويلزم منه انتفاء الحاجة إليه ، لأنّ دعوى الحاجة في الاجتهاد الّذي هو أمر شرعي إلى ما ليس بمعتبر شرعا كما ترى ممّا يضحك به الثكلى.

والجواب عنه بجميع فقراته : بأنّ مسيس الحاجة إلى الرجال ليس لتعبّد شرعي ليقدح فيه ما ذكر من القوادح الّتي تقدح في الأخذ بالشهادة تعبّدا بعد تسليم كون الجرح والتعديل من باب الشهادة ناشئين عن الاجتهاد غير علميّين ، بل المحوّج إليه - على ما بيّنّاه مرارا - إنّما هو توقّف الاجتهاد في وجوده الخارجي على معرفة أحوال رواة أحاديثنا المتوقّف عليها الاجتهاد ولو ظنّية حيثما تعذّر العلم ، ليترتّب عليها الظنّ والوثوق بصدق تلك الأحاديث وصدورها عن أهل العصمة على غير جهة التقيّة ليترتّب عليهما الظنّ بالأحكام الشرعيّة ، أو استقرار هذا الظنّ وبلوغه مرتبة الاطمئنان اللذين لا يحصلان إلاّ بالفحص واستفراغ الوسع اللذين منهما مراجعة كتب الرجال ومزاولة كلمات أهله ، لما دلّنا عليه القاطع من جهات شتّى من وجوب التعبّد في معرفة الأحكام الشرعيّة والتديّن بها بالظنون الاجتهاديّة الاطمئنانيّة المستندة إلى الكتاب والسنّة المقطوع أو الموثوق بها وما يرجع إليهما من الطرق المقرّرة المعهودة ، فليس مراجعة الكتب الرجاليّة لغرض بناء العمل على اجتهاد الغير تقليدا بل لغرض تحصيل الظنّ الاجتهادي الّذي لا يقدح فيه شيء ممّا ذكر ، حتّى دعوى كون تعديلاتهم وترجيحاتهم ناشئة عن اجتهاداتهم ، فإنّ غاية ما يترتّب على ذلك نظرا إلى عدم كون الاجتهاد مأمونا من الخطأ قيام احتمال عدم المطابقة ، وهو لا يمنع عن حصول الظنّ بل الاطمئنان لنا ولو بعد تراكم القرائن الموجودة في كلامهم وضمّ بعضها إلى بعض ، كما هو معلوم بالعيان ومشاهد بالوجدان على حدّ الغنية عن مراعاة البرهان.

ص: 234

وبذلك كلّه يرتفع شبهة وقوع الاشتراك في أكثر أسامي الرجال ، فإنّ أسباب التمييز وافرة مقرّرة لديهم مضبوطة في كتبهم ، وهذا أيضا أحد مقتضيات الرجوع إلى تلك الكتب ، حيث إنّ الاسم المشترك لا يتميّز إلاّ بذلك ، كيف وكتاب المشتركات المعمول في هذا الفنّ موضوع لغرض رفع هذه الشبهة. وغاية حلّ هذا الإشكال لكلّ من لا يعرف الحال.

ولا يضرّ عدم كون ما يحصل فيها إلاّ تمييزا ظنّيا ، لما عرفت من أنّ بناء الأمر هنا ليس إلاّ على الظنّ الكافي بدليله القاطع ولو كان في أقلّ مراتبه إذا فرض تعذّر ما زاد عليه كفرض تعذّر العلم الّذي هو المرجع الأولي ، وإلاّ فالمعاين المحسوس بالوجدان حصول الاطمئنان الّذي هو أعلى مراتب الظنّ ولو في الغالب أو الأغلب أو الكثير ، والظنّ المنهيّ عن العمل به عقلا ونقلا كتابا وسنّة وإجماعا ليس هو هذا الظنّ على ما تقدّم تفصيل القول فيه.

ومنها : إنّ من تأمّل المنتقى وغيره من كتب الماهرين في معرفة الطبقات يعرف أنّ جملة من الروايات لا سيّما ما في كتب الشيخ مرسلة بالمعنى الأعمّ ، لسقوط واسطة أو واسطتين ، وغير العارف بالطبقة يظنّ الاتّصال فيصحّح السند وهو في الواقع ليس كذلك.

وأيضا يعلم أنّ كثيرا من الأسانيد وقع فيه الغلط والاشتباه في أسامي الرجال أو آبائهم أو كناهم أو ألقابهم ما لا يخفى ، وكذا كثيرا مّا يقع كلمة المجاوزة مكان « الواو » فيضعّف السند بضعف أحدهما وهو صحيح في الواقع ، وقد ينعكس الأمر فيصحّح السند بصحّة أحدهما وهو ضعيف في نفس الأمر ، وقد تكون كلمة المجاوزة مصحّفة من كلمة « ابن » فيشتبه الراوي ويضعّف السند بالوالد ولا دخل له فيه ، وقد ينعكس الحال أيضا فينعكس الحكم.

ومن هنا قد يقال : إنّ كثيرا ممّا رواه الشيخ عن موسى بن القاسم العجلي أخذه من كتابه ، وهو أيضا أخذه من كتاب جماعة فينقل عنهم من غير ذكر الوسائط اتكّالا على ذكرها في أوّل الكتاب فينقل الشيخ عن موسى عن أحد الجماعة من غير إشارة إلى الواسطة ، فيظنّ الغافل فيه الاتّصال مع أنّ الواقع الإرسال ، وجميع ذلك محتمل في جميع روايات الشيخ وغيره.

ومنه أيضا ما في روايات الشيخ المنقولة عن الكافي ، فإنّ الكليني كثيرا مّا يترك أوّل السند اعتمادا على سبق ذكره فيأخذ عنه الشيخ بإسقاط أوّل السند غفلة بزعم الاتّصال وعدم الإرسال ، وأيضا كما أنّه لا يمكن العلم بالمعدّل والمجروح غالبا بسبب اشتراك

ص: 235

الاسم مع فقد التمييز ، فكذلك لا يمكن العلم بصحّة السند مطّردا أو غالبا من جهة قيام احتمال السقط في كلّ سند أو غالب الأسانيد ، فلعلّ ما سقط من الرجال كان ضعيفا مجروحا فلا يبقى فائدة في الجرح والتعديل وتصحيح الأسانيد مع إمكان حصول أمثال ما ذكر فيما لم يظهر لنا حصوله فيه ، ومعه تسقط الفائدة في معرفة علم الرجال.

وجوابه بجميع فقراته يعلم بملاحظة ما سبق ، فإنّ احتمال طروّ الحزازات المذكورة بعد التتبّع التامّ واستفراغ الوسع وملاحظة القرائن من جهة الراوي والمرويّ عنه وطبقة الرجال وغير ذلك من أسباب الظنّ والرجحان مع انضمام الاصول النافية لاحتمال السقط والغفلة والسهو والنسيان والزيادة والنقصان ممّا لا يمنع عن حصول الظنّ والاطمئنان ، هذا مضافا إلى ما أفاده بعض الأعلام من أنّ السهو النادر والغفلة القليلة لا يوجبان انتفاء الظنّ الحاصل من ظاهر حال الثقة الضابط ومن جهة الكثرة والغلبة ، إذ لا يستريب أحد في أنّ إصابة هؤلاء الأجلاّء أكثر من زلاّتهم وحفظهم أغلب من سهوهم ، فإنكار حصول الظنّ من ملاحظة الرجال مكابرة لا يلتفت إليها في حال.

ومنها : أنّ مراجعة الكتب الرجاليّة ممّا يستلزم المخالفة القطعيّة وهي حرام ، كما أنّ المستلزم للحرام حرام.

وبيان الملازمة : أنّها توجب ضعف كثير من الروايات والأخبار فلا بدّ من طرحها لمكان ضعفها الموجب لعدم الاعتداد بها ، وطرح ضعاف الأخبار بأجمعها يوجب القطع بالمخالفة ، لمكان القطع الإجمالي بصدور جملة منها عن المعصوم.

وهذا أضعف الوجوه لتوجّه المنع إلى الملازمة تارة وبطلان اللازم اخرى.

أمّا الأوّل : فلأنّ الأخبار الضعاف كثيرا منها يعمل بها لانجبارها تارة بعمل الأصحاب ، واخرى بموافقة الكتاب أو لورودها في السنن الّتي يتسامح في أدلّتها أو لاعتضادها بغير ما ذكر من قرائن الصدق وشواهد الاعتبار حسبما يقف عليه المتتبّع المستنبط ، فلا يبقى منها ما خلى عن جميع الامور المذكورة إلاّ قدر قليل منها ، ووجود العلم الإجمالي بالنسبة إلى هذا المقدار لعلّه ممنوع وادّعاؤه لعلّه غير مسموع.

وأمّا الثاني : فلأنّ الحجّة إذا اشتبهت بغيرها وكانت الشبهة قليلة في قليل سقطت عن الحجّية ، لوجوب الاجتناب عن الجميع المستلزم للاجتناب فيها أيضا عملا بموجب قاعدة الشبهة المحصورة المقرّرة في محلّه.

ص: 236

وفي بعض الأخبار أيضا ما يشير إلى ذلك كالخبر المتقدّم إليه الإشارة في وجود الأخبار الكاذبة المتضمّن لقوله : « فيسقط صدقنا بكذبه » حسبما بيّنّاه سابقا.

ومنها : كون مراجعة الكتب الرجاليّة بدعة ، لأنّ علم الرجال قد حدث تدوينه في الأزمنة المتأخّرة فلم يكن مأخوذا عن أهل العصمة كما عداه من العلوم المتداولة ، وكلّ بدعة ضلالة وكلّ ضلالة سبيلها إلى النار.

وفيه أوّلا : النقض بعلم الفقه ومراجعة الكتب الفقهيّة لعين ما ذكر.

وثانيا : منع كلّية الكبرى ، فإنّ هذا العلم وتدوينه ومراجعة كتبه من البدع المستحسنة الدائرة بين الواجبة منها أو المستحبّة بل الواجبة على التحقيق في موضع وجوب الاجتهاد عينا أو كفاية ، على أنّ البدعة تنقسم عندهم انقسام الأحكام الخمسة ، وقد نقل ثاني الشهيدين في الروضة (1) عن بعضهم تقسيمها إليها.

وعن شرح المشكاة : « البدعة على خمسة أقسام : واجبة كتعلّم النحو وحفظ إعراب القرآن والحديث وكتدوين علم اصول الفقه ، ومحرّمة كمذهب القدريّة والجبريّة والمرجئة ، ومندوبة كإحداث المدارس وكلّ إحسان لم يعهد في العصر الأوّل ، ومكروهة كتزيين المساجد وتذهيب المصاحف ، ومباحة كالمصافحة عقيب الصبح والعصر والتوسّع في لذيذ المآكل والمشارب والملابس والمساكن المباحة » انتهى.

وبالجملة البدعة المحرّمة على سبيل الإذعان واليقين هو : إدخال ما ليس من الدين في الدين على أن يكون من الدين مع الاعتقاد أنّه ليس من الدين ، ولا يوجد ذلك إلاّ في الأحكام أو موضوعاتها الشرعيّة.

ولا ريب أنّ علم الرجال ليس من هذا الباب ولا بشيء من الأمرين ، كيف ولم يدوّن إلاّ لأجل حفظ الدين عن الانهدام وصونه عن الهرج والمرج ومعه كيف يكون محرّما إن لم نقل بوجوبه ، بل تدوينه - مع الغضّ عمّا يقتضي وجوبه ووجوب المراجعة إلى كتبه ومزاولة مطالبه - مندرج في عموم ما ورد في الروايات من أنّه : « من سنّ سنّة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها » كما ورد في ضدّه : « أنّ من سنّ سنّة سيّئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها ».

ومنها : ما عن بعض الفضلاء من : « أنّ الاستقراء وتتبّع سير السلف يكشفان عن أنّ

ص: 237


1- الروضة البهيّة 1 : 581.

علماءنا كانوا يعملون بكلّ ما حصل لهم الظنّ بأنّه مراد المعصوم وإن كان من رواية ضعيفة أو غيرها ، فلا حاجة إلى معرفة حال الرواة بل المتّبع إنّما هو الظنّ ، سلّمنا لكن مراجعة الكتب الرجاليّة مبنيّة على لزوم المداقّة في عدالة الرواة وفسقهم وجرحهم وتعديلهم وهو خلاف ما هو المعهود من سيرة العلماء وأصحاب الأئمّة من عدم بنائهم على هذه المداقّات وبناء على العمل بالروايات بمجرّد ظنّ الصدور أو الظنّ بتحرّز الراوي عن الكذب ، وهذا ممّا يحصل غالبا بدون مراجعة الكتب أيضا ، فليكتف به لئلاّ يراجع الكتب الرجاليّة ».

وجوابه - بعد المنع عن كلّية الاستقراء المدّعاة كما يظهر وجهه بملاحظة ما تقدّم - : أنّ العمدة في أسباب الظنّ والغالب من طرق الأحكام الظنّية إنّما هي الأخبار الغير العلميّة ، وقد مرّ مرارا أنّ الظنّ بالحكم من جهة الخبر ممّا لا يتأتّى إلاّ بعد إحراز سنده علما أو ظنّا ، فإنّ ملزوم الحكم الشرعي هو السنّة المقطوع أو الموثوق بها لا ذات الخبر من حيث هو.

ومن البيّن أنّ إحراز السند بأحد الوجهين اللذين يغلب ثانيهما ممّا لا يتأتّى في الغالب إلاّ بمراجعة الكتب الرجاليّة ومعرفة أحوال الرواة ، ولا ينافي ذلك حصول ظنّ الصدور وتحرّز الراوي عن الكذب في بعض الأحيان بدون المراجعة المذكورة من جهة الامور المتقدّم إليها الإشارة في صدر المسألة ، إلاّ أنّ مجرّد ذلك لا يرفع الحاجة عن أصل المراجعة ، لأنّ مثل ما ذكر لا يتّفق إلاّ في جملة قليلة من المقامات ، كما أنّ استقرار العمل بكلّ ما حصل منه الظنّ - على فرض تسليمه - ممّا لا يرفع الحاجة عن العمل بالروايات الظنّية سندا ومتنا ودلالة.

وقد ذكرنا في صدر المسألة أنّ معرفة أحوال الرجال المعدودة عندهم من شروط الاجتهاد أعمّ ممّا

يحصل بمراجعة الكتب الرجاليّة وما يحصل بدونها من جهة مراعاة الأسباب الخارجة عن تلك الكتب.

ومنها : ما تقدّم عند الكلام على الشكوك الواقعة في انسداد باب العلم بالأحكام عن رئيس الأخباريّة الفاضل الأستر آبادي من أنّ أخبارنا كلّها قطعيّة الصدور عن المعصوم عليه السلام فلا يحتاج إلى ملاحظة سندها ، أمّا الكبرى : فظاهر ، وأمّا الصغرى : فلأنّ أحاديثنا محفوفة بالقرائن الحاليّة المفيدة للقطع بصدورها عن المعصوم.

وقد أشبعنا الكلام سابقا في هدم هذا الدليل وإبطال ما تضمّنه من دعوى وجود القرائن القطعيّة ودفع هذه القرائن بأجمعها من وجوه شتّى ، إلاّ أنّ ذلك ثمّة إنّما هو لإثبات مطلب

ص: 238

آخر غير ما هو محلّ المقال من بيان وجه الحاجة إلى علم الرجال وإثبات توقّف الاجتهاد على ملاحظة أسانيد الروايات ومعرفة أحوال رجالها ، فالأولى التعريض لذكر هذه القرائن أيضا وإن استلزم تكرارا في أصل ذكرها ، ثمّ الكلام عليها على وجه يتعلّق بالمقام ويثبت معه المرام.

فأوّل تلك القرائن - حسبما حكاها الوحيد البهبهاني في رسالة الاجتهاد والأخبار - أنّه كثيرا مّا نقطع بالقرائن الحاليّة والمقاليّة بأنّ الراوي كان ثقة في الرواية لم يرض بالافتراء ولا برواية ما لم يكن بيّنا واضحا وإن كان فاسد المذهب أو فاسقا بجوارحه ، وهذا النوع من القرينة وافرة في أحاديث كتب أصحابنا.

وفيه : أنّه إن اريد بتلك القرائن الموجبة للقطع بوثاقة الراوي نظائر الامور المتقدّم إليها الإشارة في صدر المسألة أو ما يعمّها وما يوجد في بعض المتون من ترديد الراوي بين اللفظين المحتملين في نظره ، أو قوله في موضع الشكّ في لفظ الإمام عليه السلام : « أظنّ أنّه قال كذا » أو « لا أحسبه إلاّ قال كذا » أو ما أشبه ذلك أو ما يعمّها وما يتّفق في بعض الأسانيد من قولهم : « فلان عن فلان الثقة » أو « فلان الجليل » أو « الشيخ الجليل فلان » ونحوه.

فالقول بلزوم مراعاتها اعتراف بالحاجة إلى مراعاة ما يوجب معرفة الرجال ولا يكون إلاّ للحاجة إلى تلك المعرفة ، بناء على ما بيّنّاه من أنّ معرفة الرجال المحتاج إليها ليست عبارة عن خصوص ما يحصل بمراجعة الكتب الرجاليّة ، فرجع شبهة الخصم في نفي الحاجة إلى نفي لزوم مراجعة الكتب الرجاليّة لا نفي الحاجة إلى معرفة أحوال الرجال رأسا ، فيعود الخلاف حينئذ لفظيّا.

ومع هذا نقول إلزاما له : إنّ مراعاة هذه القرائن على مقتضى كلامه إنّما هي للحاجة إلى معرفة حال الراوي في العمل بروايته ، فلو فرض حينئذ انتفاء هذه القرائن بالمرّة بحيث لم يكن إلى معرفة حال الراوي طريق إلاّ مراجعة الكتب أو ندرة وجودها بحيث لم يكن معه بدّ من مراجعتها أيضا ، فهل يوجب تلك المراجعة أو ينكرها؟ فإن قال بالأوّل كان كرّا على ما فرّ منه ، إذ الّذي يوجبها إنّما يوجبها لأحد هذين الفرضين ، وإن قال بالثاني فقد أتى بما يناقض مقتضى كلامه ، مع أنّ أمثال هذه القرائن لا توجد إلاّ في طائفة قليلة من أحاديثنا بحيث لا تشفي العليل ولا تروي الغليل ، فلا مناص عن مراجعة الكتب ومزاولة ما تضمّنتها من كلمات أهل هذه الصناعة ، مع أنّ كون هذه القرائن صالحة لإفادة القطع بوثاقة الراوي

ص: 239

كما ترى ، بل قصارى ما ينشأ منها - على فرض التسليم - إنّما هو الظنّ أو الوثوق بها ، ولو سلّم فالملازمة بين القطع بوثاقة الراوي والقطع بصدور روايته بعينها واضحة المنع ، كيف وهو لا يستقيم إلاّ بإحراز امور لا يفي بثبوتها مجرّد وثاقته المقطوع بها.

منها : القطع بصدق الإسناد من أوّل السند إليه الّذي لا يتأتّى إلاّ بعد القطع بصدق الوسائط ، وأيّ قضاء لوثاقة الراوي بهذا الأمر؟

ومنها : القطع بأنّه إنّما رواها عن مشافهة للإمام المرويّ عنه ، ولعلّه عوّل في ذلك على الأمارات اجتهادا وهو غير مأمون من الخطأ وإن فرضت الأمارات بالقياس إليه مفيدة للقطع ووثاقته غير منافية له ، أو حذف الواسطة الّذي بينه وبين الإمام على حدّ ما يصنعه الرواة من الإرسال تعويلا منه على صدقه أو وثاقته وهو قد لا يكون موثوقا به عندنا لو عثرنا على حاله ، ولا ملازمة بين وثوقه بصدقه أو وثاقته ووثوقنا بهما ، كما أنّه لا منافاة بين وثوقه بهما ووثاقته.

ومنها : القطع بعدم طروّ السهو والنسيان أو سبق اللسان له في نقل الرواية أو إسنادها إلى الإمام عليه السلام.

وأيّ طريق إلى ذلك؟ مع ملاحظة أنّ وثاقته إنّما تمنع التعمّد على الكذب لا سائر الاحتمالات المشاركة لاحتماله في منع حصول القطع بالمطابقة.

والمفروض أنّ أقصى ما يوجبه الاصول المقرّرة لرفعها - على فرض تسليمه - إنّما هو الظنّ أو الوثوق بعدمها وهو دون القطع.

وبالجملة فصغرى الدليل المذكور فاسد الوضع من وجوه شتّى ، مع توجّه المنع إلى كبراه أيضا ، فإنّ القطع بصدور هذه الرواية - بعد تسليمه - ربّما لا يرفع الحاجة إلى الرجال بالمرّة ، لجواز كونها إنّما صدرت على جهة التقيّة ، أو كونها ممّا عارضها ما كان قد صدر على تلك الجهة مع القطع بصدورهما معا ، فهما حينئذ إمّا أن يتراجحا فلا بدّ من الترجيح بإعمال المرجّح من الأعدليّة أو الأصدقيّة أو الأفقهيّة أو غير ذلك ممّا ورد في النصوص ولا تعرف إلاّ بمراجعة الكتب الرجاليّة ، أو يتعادلا إلى أن ينتهي الأمر فيهما على التخيير أو الطرح أو الوقف ثمّ الرجوع فيهما إلى الاصول على الخلاف في المسألة ولا مناص أيضا عن مراجعة الكتب الرجاليّة إحرازا للتعادل وفقد المرجّحات.

وبالجملة لا مناص عن المراجعة المذكورة في مقام المعارضة الّذي لا يتأتّى القطع

ص: 240

بصدور المتعارضين معا ، وإنّما ينافي القطع بكون مؤدّى كلّ منهما حكما واقعيّا ، فكيف يدّعى الاستغناء عنه؟

وقد يوجّه الدليل المذكور بما لا يجدي نفعا في إصلاحه وهو : أنّ الظاهر أنّ مراد الفاضل المذكور بالراوي هو الأصل ، فحينئذ لا احتياج إلى العلم بحال باقي السند إذا علم وجود الحديث في الأصل المنقول عنه ، وقد كانت الاصول كلّها أو جلّها موجودة عند الصدوق ، والعلم بعدم افتراء أرباب الاصول كلّهم أو معظمهم وبعدم افتراء الصدوق ليس بعزيز ، والغلط والسهو وإن كانا كالطبيعة الثانية لكن بملاحظة حال الراوي وجلالة شأنه قد يحصل العلم العادي بعدمهما.

وفيه : منع وجود الاصول كلّها أو جلّها عند الصدوق ليقطع به أخذه الرواية عن أحدها كما ربّما يقويه ما عن فهرست الشيخ من قوله : « ولم أظنّ أنّي أستوفي في ذلك كلّه ، فإنّ تصانيف أصحابنا واصولهم لا تكاد تضبط لانتشار أصحابنا في البلدان وأقصى الأرض » انتهى (1).

ولو عمّم في الدعوى المذكورة بالنسبة إلى جميع المشايخ الثلاث رضوان اللّه عليهم فكيف تصدّق بالنسبة إلى الشيخ فيما يرويه من الروايات في كتابيه التهذيبين بعد ما عرفت منه من التصريح بخلافها ، فلو سلّم وجود جلّ الاصول عند الصدوق فكيف يقطع بكون الرواية الموجودة في كتابه ممّا أخذه من الأصل الموجود عنده ، لجواز كونه أخذه من غير أصله أو معنعنا عن مشايخه.

قال الوحيد المتقدّم ذكره : « والظاهر أنّهم كانوا يروون كذلك أيضا وما كانوا يقتصرون على الرواية من الاصول » انتهى.

هذا لكنّ الإنصاف أنّ ذلك بالقياس إلى فقيه الصدوق مكابرة ، لتصريحه في أوّله : « بأنّ جميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعوّل وإليها المرجع ، مثل كتاب حريز بن عبد اللّه السجستاني ، وكتاب عبيد اللّه بن عليّ الحلبي ، وكتب عليّ بن مهزيار الأهوازي ، وكتب الحسين بن سعيد » إلى آخره (2).

نعم يرد عليه : أنّ القطع بوجودها في الاصول على فرضه كيف ينفع في القطع بصدورها عن الإمام عليه السلام مع عدم القطع بصدق جميع هذه الاصول ولا بصدق كلّ واحد واحد من الأخبار الموجودة في كلّ واحد منها ، ودعوى القطع من هذه الجهة غير مسموعة جدّا ،

ص: 241


1- الفهرست : 4.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 3.

وكونها ممّا عليها المعوّل وإليها المرجع حسبما شهد به الصدوق في عبارته المتقدّمة أعمّ من القطع المذكور من الجهتين كما لا يخفى ، خصوصا مع ملاحظة كون جملة من أصحابها كذّابين أو متّهمين أو معروفين بالكذب ، ووجود الأخبار الكاذبة في اصول غيرهم من المعتمدين بدسّ الوضّاعين وتخليط المعاندين للملّة الحقّة وصادعيها الأئمّة المعصومين ، فإنّ ذلك لو لم يكن مقطوعا به فلا أقلّ من احتماله القائم الكافي في منع حصول القطع بصدور جميع الآحاد ، خلافا لبعض متأخّري المحدّثين كصاحب الحدائق في إنكاره قيام الاحتمال أيضا ، فإنّه في مقدّمات الحدائق تصدّى لدفع طريقة أصحابنا المتأخّرين في تنويع الحديث إلى الأنواع الأربعة بعد ما تخيّل منهم أنّ منشأه حصول الاختلاف وكثرة المبائنة ووفور المعارضة ما بين أخبارنا الموجودة الاخر ، وكان ذلك مظنّة توهّم أنّ هذا الاختلاف الكذائي إنّما نشأ من جهة اختلاط الأخبار الكاذبة بالأخبار الصادقة فاضطرّوا إلى هذا التنويع ليتميّز به الأخبار الصادقة عن الكاذبة ، فأخذ رحمه اللّه بدفع التوهّم ومنع الاختلاط قائلا - ممّا ملخّصه - : « منع كون أخبارنا اليوم مشتملة على الكاذبة بل كلّها مقطوع بصدورها ، لأنّ قدماء أصحابنا المحدّثين وسلفنا الصالحين رضوان اللّه عليهم صحّحوا الأخبار المرويّة عن الأئمّة عليهم السلام ونقّحوها وأخرجوا عنها الأخبار الكاذبة ، فهذه الأخبار الّتي بأيدينا اليوم وصلت إلينا مصفّاة منقاة ، فلا يمكن حينئذ توهّم دخول الأخبار الكاذبة فيها » (1).

وفيه - مع أنّه يعارضه ما عن بعض المحقّقين من أنّه كان الواجب على القدماء إيراد القطعيّات وغيرها مع ما يحصل به التمييز بين المعتمد وغيره من ذكر رجال أسانيد الأخبار وقد فعلوا ذلك - : أنّ إخراجهم الأخبار الكاذبة ليس إلاّ باجتهادهم والضرورة قاضية بأنّ الاجتهاد غير مأمون من الخطأ ، فلو سلّمنا ارتفاع علمنا الإجمالي بوجود الأخبار الكاذبة فيما بين أخبار الأئمّة بذلك على فرض ثبوته فارتفاع احتمال الوجود غير مسلّم ، كيف وقيامه من ضروريّات الوجدان المغني عن تجشّم إقامة البرهان.

وللوحيد المتقدّم ذكره كلام لطيف في هدم هذا البنيان يعجبني نقله بعين عبارته ، فإنّه قال في جملة كلام له : « ومع ذلك كثير من أصحاب الكتب المشهورين ورد فيهم عن المشايخ المعتمدين العارفين الماهرين أنّهم وضعوا الحديث كذّابون مثل وهب بن وهب القرشي ،

ص: 242


1- الحدائق الناضرة 1 : 14 - المقدّمة الثانية.

ومحمّد بن موسى الهمداني ، وعبد اللّه بن محمّد البلوي ، ومحمّد بن محمّد عليّ الصيرفي ، ويونس بن ظبيان ، ومحمّد بن سنان ونظائر هؤلاء ، وكثير منهم نسبوهم إلى الاضطراب والتشويش ورداءة الأصل والضعف وأمثالها ، ومعلوم أنّ تضعيفهم ليس من جهة عدم العدالة بل من جهة عدم الوثوق به كما هو ظاهر للمتتبّع ، وكثير منهم ورد فيهم ذموم دون الذموم المذكورة مثل : « ليس بذلك الثقة » ، و « حديثه ليس بذلك النقي » ، و « حديثه يعرف وينكر » ، و « الغالب في حديثه السلامة » ، و « لا يعمل بما يتفرّد » و « يجوز أن يخرج شاهدا » ، أو « أن يخرج حديثه للشهادة » ، وأمثال ذلك.

وكثير منهم ورد فيهم أخبار كثيرة وآثار غير عديدة في ذمّهم ولعنهم واتّهامهم ونسبتهم إلى الكذب والامور الشنيعة والأفعال الغير المشروعة ، واختلف الأخبار في شأنهم واضطرب الآثار في حالهم ، وسيّما بعد ملاحظة أنّ المشايخ المعتمدين نقلوا هذه الأخبار والآثار في شأنهم ساكتين عليها أو قادحين قدحا يورث التزلزل للإنسان ، وسيّما بعد ملاحظة ومشاهدة أنّ الاصول والكتب حوت تلك الأخبار والآثار ، خصوصا بعد ملاحظة ما يظهر من حال رواة تلك الأخبار أنّهم معتقدون بما رووا معتمدون عليه ، وكثير منهم اختلف في وثاقته وضعفه مع تساوي القولين أو رجحان أحد الطرفين وكثير منهم مجهول الحال.

قال الفاضل المحقّق الشيخ سليمان البحراني في معراجه : « كون الرجل ذا كتاب لا يخرجه عن الجهالة إلاّ عند من لا يعتدّ به » انتهى.

وبعض منهم يصرّحون بأنّ له أصلا ومع ذلك يقولون : « كذّاب متّهم » ، وكثير من الأجلّة لا يحصل سوى الظنّ بوثاقته ومع ذلك فهو من علم الرجال » إلى آخر كلامه رفع مقامه.

وبالجملة مجرّد انتهاء أخبارنا إلى الاصول المعروفة لا يوجب كونها مقطوع الصدور ، بل ولا كونها مقطوع العمل.

وثانيها : تعاضد بعضها ببعض.

وفيه : أنّه يعارضه تعارض بعضها لبعض كما هو الغالب ، بل قلّما يتّفق أخبار متعاضدة إلاّ ولها معارضات متعدّدة ، فكلّ من المتعارضين يتعاضد بعضه ببعض ، ومع ذلك فأيّ أثر للتعاضد لو لا مراجعة سائر المرجّحات الّتي لا يتمكّن من العلم بها إلاّ بمراجعة كتب الرجال.

ثمّ إنّ التعاضد لو اريد به ما يبلغ حدّ التواتر لفظا أو معنى فهو مع ندوره وقلّة وقوعه خارج عن محلّ البحث ، إذ مراجعة الكتب ومعرفة الرجال إنّما تعتبر عند قائليه في غير المتواترات.

ص: 243

ولو اريد به ما دون ذلك فكيف ينهض قرينة على الصدور بعنوان القطع ، والاكتفاء بالوثوق الحاصل من جهته على فرضه اعتراف بلزوم مراعاة الرجال في موضع انتفاء هذا النوع من القرينة.

هذا مع أنّ الغالب في التعاضد حصول مراعاته في مقام الترجيح وهو كثيرا مّا لا يجدي نفعا في الترجيح لو لا انضمام قرائن اخر إليه من صحّة طريق البعض ونحوها ، بل ربّما يترجّح الطرف المقابل بقرائن اخر من صحّة طريقه وأعدليّة رجاله ونحوها ، ولا ريب أنّ هذه القرائن لا تستفاد غالبا إلاّ بمراجعة الرجال.

وثالثها : نقل الثقة العالم الورع في كتابه الّذي ألّفه لهداية الناس ، ولا يكون أصل رجل أو روايته على ظنّ مع تمكّنه من استعلام حال ذلك الأصل أو تلك الرواية وأخذ الأحكام بطريق القطع عنهم.

وفيه أوّلا : منع إطلاق دعوى كون كلّ ثقة إنّما ألّف كتابه لهداية الناس ، لجواز كونه إنّما ألّفه لدواع آخر ، وإن شئت لاحظ ما عن عدّة الشيخ التصريح : « بأنّ إيراد رواية لا يدلّ على اعتقاده بها ، ويجوز أن يكون إنّما رواها ليعلم إنّه لم يشذّ عنه شيء من الروايات » (1).

وممّا يصدّقه على هذه المقالة ما عن عليّ بن حسن بن فضّال في ترجمة حسن بن عليّ بن أبي حمزة : « من أنّه كذّاب ملعون رويت عنه أحاديث كثيرة وكتبت عنه تفسير القرآن من أوّله إلى آخره ، إلاّ أنّي لا استحلّ أن أروي عنه حديثا واحدا » (2).

وما في ترجمة محمّد بن سنان : « أنّ أيّوب بن نوح دفع إلى حمدويه دفترا فيه أحاديث محمّد بن سنان ، فقال : إن شئتم أن تكتبوا ذلك فافعلوا فإنّي كتبت عن محمّد بن سنان ولكن لا أروي لكم عنه شيئا » (3).

وما في خصال الصدوق بعد ما روى عن عائشة وغيرها نصوصا مستفيضة متضمّنة لفعل النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ركعتين بعد العصر وركعتين بعد الفجر - من قوله : « كان مرادي بإيراد هذه الأخبار الردّ على المخالفين ، لأنّهم لا يرون بعد الغداة وبعد العصر صلاة ، فأحببت أن ابيّن لهم أنّهم قد خالفوا النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم في قوله وفعله » (4).

وما في أوّل فقيهه من قوله : « وصنّفت له هذا الكتاب بحذف الأسانيد لئلاّ يكثر طرقه

ص: 244


1- غدّة الاصول 1 : 131.
2- رجال الكشي : 552 رقم 1042.
3- رجال الكشي : 389 / 729.
4- الخصال : 71.

وإن كثرت فوائده ، ولم أقصد فيه قصد المصنّفين في إيراد ما رووه ، بل قصدي إلى إيراد ما افتي به وأحكم بصحّته وأعتقد فيه أنّه حجّة فيما بيني وبين ربّي » (1) ، إلى آخره.

وبالجملة فالمستفاد من كلمات هؤلاء الأساطين وغيرهم أنّه ليس كلّ كتاب يؤلّف في الحديث كان الغرض من تأليفه الهداية بحيث عمل به مؤلّفه أيضا فضلا عن كونه معتقدا بصدقه أو صحّته ، كيف وقد يكون الثقة يؤلّف كتابه محتويا للأحاديث مطلقا ليفرّغ نفسه عند الحاجة إلى الاجتهاد فيراجعه حينئذ ويستند إلى صحاحه بعد ما ميّزها عن ضعافها ، ويعتمد على ما يصلح للاعتماد عليه ويترك ما لا يصلح لذلك ، وقد يؤلّفه لغرض الهداية لكن لا بمعنى أن يعمل به المتأخّر كيفما اتّفق وبجميع ما فيه ، بل بصحاحه بعد مراعاة التمييز بينها وبين ضعافها ، لعلمه بأنّ له طريقا في ذلك وهو مراجعة الكتب الرجاليّة ، بل هو بنفسه ربّما يتصدّى لتأليف ما ينفعه في مقام التمييز كما أشار إليه بعض المحقّقين في كلام محكيّ له وقد تقدّم نقله ، وقد يكون هو ممّن لا يجوّز العمل بأخبار كتابه لعدم افتقاره إليها أو لمنعه العمل بأخبار الآحاد لكن يؤلّف الكتاب لعلمه بأنّ الحوائج تختلف والمذاهب في أخبار الآحاد تتعدّد ، فربّما يحتاج المتأخّر إلى كتابه وهو قد يكون ممّن يرى العمل بأخبار الآحاد جائزا من باب التعبّد لدليله التامّ في نظره أو من باب الظنّ خصوصا أو عموما ، فلا ملازمة بين نقله الأخبار - ولو لغرض الهداية - وكونها في نظره قطعيّة.

ويشهد بذلك كلّه ما سمعته عن فقيه الصدوق من قوله : « بل قصدت إيراد ما افتي به وأحكم بصحّته ، وأعتقد فيه أنّه حجّة فيما بيني وبين ربّي » وعلى فرض قطعه فهو له بحسب اجتهاده الغير المأمون عن الخطأ.

وممّا يرشد إلى جميع ما قلناه جريان عادة أصحاب كتب الحديث على ضبط أسانيد الأخبار المنقولة في كتبهم ، حتّى أنّ الصدوق مع حذفه الأسانيد باعتذار ما سبق منه وضع رسالة منفردة عن الفقيه لضبط طرق رواياته المنقولة فيه وهي موسومة عندهم بالمشيخة ، فلو أنّ الروايات بأجمعها كانت قطعيّة في نظرهم أو كان قطعهم بالصدور أو الاعتبار كافيا في حصول القطع بأحد الأمرين لم يكن لهم غرض يدعوهم إلى تحمّل هذه الكلفة.

وبجميع ما ذكر يتبيّن ما في قوله : « مع تمكّنه من استعلام حال ذلك الأصل » إلى آخره.

مضافا إلى توجّه المنع إلى أصل التمكّن ، وعلى فرضه فقد يتعسّر على وجه يسقط

ص: 245


1- من لا يحضره الفقيه 1 : 2.

معه وجوب الاستعلام على فرض تسليمه ، وإلاّ فكثيرا مّا لا يكون واجبا في نظره ولو مع الإمكان واليسر ، لاعتقاد عدم الوجوب أو عدم تماميّة دليل الوجوب أو عدم التفطّن بالدليل ومع تحقّق الاستعلام منه فعلا فلا يكون إلاّ اجتهادا منه ولا ينفع غيره أصلا ، وقد تقدّم منّا عند إثبات الانسداد ما يتعلّق بهذا المقام فلاحظ.

ورابعها : تمسّكه بأحاديث ذلك الأصل أو تلك الرواية مع تمكّنه من أن يتمسّك بروايات اخر صحيحة.

وجوابه يظهر بملاحظة ما سبق ، مضافا إلى ما قدّمناه في الموضع المشار إليه ، مع توجّه المنع إلى القطع بوجود روايات صحيحة أو تفطّنه بوجودها أو تمكّنه من التمسّك بها ، سواء اريد بوصف الصحّة كونها قطعيّة أو غيره.

وخامسها : أن يكون رواية أحد من الجماعة الّتي أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم.

وفيه - مع ما تقدّم في الموضع المشار إليه - : منع العلم بتحقّق الرواية عن هؤلاء إلاّ إذا كان طبقات السند بأجمعهم منهم وهو بديهيّ الفساد ، مع أنّ معرفة هؤلاء لا تكون إلاّ من الرجال وهي مع ذلك ليست إلاّ ظنّية ، مع أنّ الإجماع على تصحيح الحديث لا يستلزم قطعيّة صدوره.

ولو سلّم حصول القطع من هذا الإجماع فهو قطع بالصحّة وهي أعمّ من الصدور ، وإلاّ فلا قطع أصلا ، بل غايته الظنّ أو الوثوق الّذي هو دون القطع.

وسادسها : أن يكون من الجماعة الّذين ورد في شأنهم عن بعض الأئمّة أنّهم ثقات ، أو مأمون ، أو خذوا عنهم معالم دينكم ، أو هؤلاء امناء دين اللّه في أرضه ونحو ذلك.

وفيه - مع ما تقدّم أيضا - : أنّ ما ورد في شأن هؤلاء ليست إلاّ أخبار آحاد فلا يجدي نفعا في إفادة القطع ، وعلى فرضه فهو قطع بالوثاقة والأمانة وهو أعمّ من القطع بمطابقة ما يخرج منه من الرواية.

ولو سلّم فهو لا ينفع في قطعيّة الرواية الّتي في سندها واحد من هؤلاء إلاّ مع انتهائه من الأوّل إليه وممّن بعده إلى الإمام عليه السلام لو كان بطريق القطع ، وتحقّقه في غاية البعد ، وأبعد منه اتّفاق كون جميع رجال السند من هؤلاء.

ومع ذلك كلّه فهم لا يعرفون غالبا إلاّ بمزاولة الكتب الرجاليّة.

ص: 246

وسابعها : وجودها في أحد كتابي الشيخ والكافي ومن لا يحضره الفقيه ، لاجتماع شهاداتهم على صحّة أحاديث كتبهم ، أو على أنّها مأخوذة من الاصول المجمع على صحّتها.

وفيما تقدّم في الموضع المشار إليه غنية عن التعرّض لما يرد عليه وما يدفعه.

واعلم أنّه ربّما يحكى عن بعض الأخباريّة أنّه وجّه قولهم بقطعيّة الأخبار ودعوى حصول العلم بصحّة الأصل وصدوره عن المعصوم بأنّ : المراد بالعلم هو ما يطمئنّ به النفس وتقضي العادة بالصدق ، وهذا هو العلم العادي قائلا - على ما نقله في رسالة الاجتهاد والأخبار - : « إنّ لفظ « العلم » يطلق لغة على الاعتقاد الجازم الثابت المطابق للواقع وهذا ما يسمّى باليقين ، وعلى ما يسكن إليه النفس ويقضي العادة بصدقه ويسمّى العلم العادي ، وهو يحصل بخبر الثقة وغيره إذا دلّ القرينة على صدقه ، وهذا هو الّذي اعتبره الشارع في ثبوت الأحكام الشرعيّة كما يرشد إليه موضوع الشريعة السمحة ، وقد عمل الصحابة وأصحاب الأئمّة بخبر العدل الواحد وبالمكاتبة على يد شخص ، بل وبخبر غير العدل إذا دلّت القرائن على صدقه ، ولا ينافي هذا الجزم تجويز العقل خلافه نظرا إلى إمكانه كما لا ينافي العلم بحياة زيد الّذي غاب لحظة تجويز موته فجأة.

ومن تتبّع كلام العرب ومواقع لفظ « العلم » في المحاورات جزم بأنّ إطلاقه عليه عندهم حقيقة وأنّ تخصيصه باليقين اصطلاح جديد من أهل المنطق ، وتحقّق أنّ « الظنّ » لغة هو الاعتقاد الراجح الّذي لا جزم معه أصلا ، والعلم بهذا المعنى اعتبره الاصوليّون والمتكلّمون في قواعدهم.

وفي الذريعة عرّف العلم : « بأنّه ما اقتضى سكون النفس » وهو يشمل اليقيني والعادي فهذا هو العلم الشرعي ، فإن شئت سمّه علما وإن شئت سمّه ظنّا ولا مشاحّة بعد العلم بأنّه كاف في ثبوت الأحكام ، فالنزاع لفظيّ لأنّ الكلّ أجمعوا على أنّه يجب العمل باليقين إن أمكن وإلاّ كفى ما يحصل به الاطمئنان والجزم عادة ، ولكن هل يسمّى علما حقيقة بأنّ له أفرادا متفاوتة أعلاها اليقين وأدناها ما قرب من الظنّ المتاخم ، أو حقيقة واحدة لا تتفاوت وهي اليقين وما سواه ظنّ وذلك خارج عمّا نحن فيه؟ » انتهى ملخّصا.

وفي هذا الكلام من اختلال النظام ما لا يخفى على اولي الأفهام ، فإنّ لفظ « العلم » في العرف الكاشف عن اللغة حسبما تساعد عليه الأمارات المميّزة للحقيقة عن المجاز - على ما تقرّر في غير موضع - لا يطلق بعنوان الحقيقة إلاّ على الاعتقاد الجازم المطابق للواقع

ص: 247

وإن لم يكن ثابتا لا يزول بتشكيك المشكّك ، وإطلاقه على اليقين لكونه أحد نوعي هذا المعنى العامّ لا لعنوانه الخاصّ ، واصطلاح أهل المنطق ليس مبنيّا على تخصيصه به ، بل هو حسبما يطّلع عليه المتتبّع في كلماتهم مبنيّ على التعميم بالقياس إلى ما ذكر من المعنى العامّ وغيره حتّى الجهل المركّب بل الظنّ بل مطلق التصوّر أيضا ، وإطلاقه على ما عدا الأوّل في العرف واللغة بعنوان الحقيقة غير معهود.

فمعناه الحقيقي يعتبر فيه أمران : الجزم الّذي لا يحتمل معه الخلاف ، ومطابقة الواقع ، فلا يطلق على الظنّ ولا الجهل المركّب.

نعم قد يطلقه الظانّ لغفلته عن الاحتمال المرجوح الموجود في نفسه على الظنّ ما دام غافلا لا لأنّه إطلاق له في نظره على الظنّ ، بل لأنّه إطلاق له بزعمه الناشئ عمّا طرأه من الغفلة على الجزم المطابق ، كما أنّه يطلقه الجازم عن جهل مركّب على جزمه لاعتقاده بمطابقته ، فلذا لو تفطّن الأوّل بما في نفسه من الاحتمال لسلب العلم عن اعتقاده ، كما أنّ الثاني لو انكشف عنده عدم المطابقة جزم بعدم كونه عالما من أوّل الأمر.

ومن هنا أيضا يصحّ سلب الاسم عنه عند من اطّلع على عدم مطابقة جزمه ، فالعلم بحقيقته اللغويّة متضمّن لعدم احتمال الخلاف ، سواء كان عقليّا وهو الاعتقاد الجازم المطابق بشيء يقضي العقل بامتناع خلافه كالعلم بزوجيّة الأربعة ونحوها ، أو شرعيّا وهو الاعتقاد الجازم المطابق بشيء يقضي الشرع بامتناع خلافه كالعلم بطهارة الماء ونجاسة الكلب ونحوهما ، أو عاديّا وهو الاعتقاد الجازم المطابق بشيء يقضي العادة بامتناع خلافه كعلمنا بعدم انقلاب ماء البحر دما ، وبعدم انقلاب الجبل الّذي غبنا عنه بعد لحظة ذهبا ، وبعدم انقلاب الأواني الموضوعة في البيت الّتي غبنا عنها بعد ساعة علماء عارفين بالعلوم الدقيقة وما أشبه ذلك من العلوم العاديّة ، فإنّ الامتناع عبارة عن ضرورة جانب العدم ، ومن البيّن أنّ الحاكم بضرورة عدم خلاف الزوجيّة في الأربعة هو العقل ، وبضرورة عدم خلاف الطهارة في الماء وخلاف النجاسة في الكلب هو الشرع ، بحيث لو لا حكمه بهما فيهما لم يكن النجاسة في الأوّل والطهارة في الثاني ممّا استحاله العقل ، وبضرورة العدم لانقلاب الماء والجبل والأواني دما وذهبا وعلماء هو العادة ، بحيث لو لا حكمها بالعدم فيها لما استحال العقلاء الانقلاب في شيء منها ، لإمكانه الذاتي بالنظر إلى عموم قدرته تعالى وكون الممكنات بأسرها متساوية النسبة إلى قدرته الكاملة.

ص: 248

فالعلم العادي يشارك العلم العقلي في عدم قبول حقيقته الواقعيّة ما دامت موجودة لاحتمال الخلاف ، ويفارقه في أنّ الحاكم بامتناع الخلاف في الثاني هو العقل وفي الأوّل هو العادة لا غير.

فما اشتهر في الألسنة والأفواه من أنّ العلوم العاديّة ممّا يحتمل النقيض تعليلا بما في عدا الأوّل من الأمثلة الثلاث المذكورة من تجويز العقل لانقلاب الجبل ذهبا والأواني علماء ممّا لا ينبغي الالتفات إليه ، بعد ملاحظة أنّ حكم العقل لا يخالف حكم العادة في القضيّة الّتي ينظر في حكمها العادة ، فإنّ المأخوذ في ماهيّة العلم هو انتفاء الاحتمال الذهني للخلاف ، على معنى عدم معارضة الإدراك المتعلّق بإحدى طرفي النسبة لاحتمال وقوع الطرف الآخر ولو مرجوحا ، وهذا المعنى حاصل في العلوم العاديّة أيضا بل وفي الأمثلة المذكورة أيضا ، والّذي يوجد فيها من التجويز العقلي إنّما هو تجويز إمكاني ، وإن أبيت إلاّ وأن تسمّيه بالاحتمال فهو احتمال بالمعنى المرادف لقابليّة المحلّ بحسب ذاته ، على معنى أنّ كلاّ من البحر والجبل والأواني بملاحظة ما فيها من الإمكان الذاتي بالنظر إلى قدرته تعالى قابل للانقلاب المذكور وإن لم يكن هذا الانقلاب واقعا في الخارج بمقتضى العادة.

ولا ريب أنّ كون الشيء محتملا للوقوع بمعنى القابليّة غير كونه محتملا له بحسب الذهن ، نظرا إلى أنّ قابليّة الوقوع أعمّ من فعليّة الوقوع ، ومتعلّق الجزم العادي هو عدم الفعليّة وهو لا ينافي الجزم العقلي بالقابليّة لتصادق القضيّتين وعدم مناقضتهما حسبما قرّر في محلّه من اشتراط التناقض بوحدة القضيّتين في القوّة والفعل ، ولذا لا يتحقّق بين عدم كتابة زيد فعلا وكتابته قوّة تناقض حتّى أنّه جاز تعلّق الجزم واليقين بكلتيهما ، وهذا ممّا لا سترة عليه.

فالعلم كائنا ما كان ينافي احتمال خلافه ذهنا مادام نقيض معلومه محكوما عليه بالامتناع ولو عادة ، وإن كان قد يشتبه الحال فيطلق لفظه غفلة من الاحتمال ، أو منشأه على ما يزعم كونه من الصور الذهنيّة خالصا عن الاحتمال وهو بحسب الواقع ليس كذلك ، ومنه ما ادّعى من العلم بحياة زيد الغائب لحظة المحتمل لموته فجأة ، فإنّه ما دام الغفلة عن هذا المنشأ صورة علم لا أنّه علم في الحقيقة ، ولذا مع التفطّن ينكشف مقارنته الاحتمال المركوز في النفس حيث لا قاضي بامتناع وقوع الخلاف وهو الموت من العقل ولا الشرع ولا العادة.

ص: 249

ومن هنا مع ملاحظة ما تقدّم يعلم أنّ إطلاق لفظ « العلم » على ما ذكر ونظائره إن اريد به الحقيقة غفلة ، كما أنّ توهّم كونه من العلوم العاديّة غفلة في غفلة ، كيف وإنّ العادة لا تقضي بامتناع وقوع الموت فجأة لوقوعه في الخارج كثيرا.

ولا ريب أنّ التفطّن بذلك المنشأ قد يورث قوّة احتمال الوقوع ، كما أنّه كلّما طالت مدّة الغيبوبة يورث قوّة فوق قوّة حتّى أنّه قد يؤول الأمر إلى تساوي هذا الاحتمال لاحتمال الحياة فينعقد به صورة الشكّ.

وبالجملة فالمدار في احتمال الخلاف بحسب الذهن وجودا وعدما وضعفا وقوّة على المنشأ وجودا وعدما وضعفا وقوّة وهو وقوع خلاف المعلوم في الخارج ، فإن كان ذلك ممّا لم يقع في الخارج قطّ كان منشأ لعدم الاحتمال ، وهو المعنى المراد من قضاء العادة بالامتناع ، وإن كان ممّا وقع بندرة كان منشأ للاحتمال الضعيف ، وإن كان ممّا كثر وقوعه كان منشأ للاحتمال القويّ ، وهكذا بالقياس إلى مراتب الندرة والكثرة بحسب الضعف والقوّة ، فإنّ اختلاف هذه المراتب يوجب اختلاف مراتب الاحتمال.

ولا يذهب عليك أنّه قد ينعكس الأمر فيحدث في نفس الإنسان بالقياس إلى معتقده احتمال وقوع خلافه ، فيكون ما في الذهن - لطروّ هذا الاحتمال - ظنّا أو شكّا غفلة عن منشأ زوال هذا الاحتمال وهو عدم الوقوع في الخارج قطّ الّذي هو مناط الامتناع العادي ، أو عدم قابليّة الوقوع فيه الّذي هو مناط الامتناع العقلي أو الشرعي ، بحيث لو زالت الغفلة وحصل التفطّن بالمنشأ المذكور في أحد وجوهه لارتفع الاحتمال وانقلب ما في الذهن جزما بل ويقينا.

ومن هنا نشأ الظنّية والشكّيّة والوهميّة والاعتقاد الجهلي في المسائل العلميّة من العقليّات والشرعيّات والعاديّات وفي القضايا العرفيّة وغيرها.

وبجميع ما ذكر يظهر ما في دعوى إطلاق « العلم » على ما يسكن إليه النفس بقول مطلق إن اريد به الإطلاق بعنوان الحقيقة ، إلاّ أن يرجع إلى إطلاقه عليه بزعم انتفاء الاحتمال غفلة عن حقيقة الحال.

وأضعف من ذلك دعوى رجوع نزاع الفريقين إلى أمر لفظي.

نعم لا نضائق أن نقول : إنّ أحد الفريقين إنّما أطلق « العلم » في دعوى قطعيّة الأخبار على ما ليس منه في الحقيقة لمجرّد وهم وغفلة ، ولذلك ونحوه قد يقال : إنّ الأخباريّين

ص: 250

مجتهدون من حيث لا يعلمون.

وأضعف من ذلك أيضا دعوى حصول العلم العادي بخبر الثقة وغيره إذا دلّ القرينة على صدقه إن اريد به ما لا يجامعه الاحتمال ظاهرا وواقعا ، ضرورة أنّ الوثاقة بنفسها - على فرض ثبوتها بعنوان القطع - إنّما يصلح أمارة لظنّ الصدق وأقصى مراتبه كونه على وجه الاطمئنان ، ونحوها سائر قرائن الصدق على فرض اتّفاق حصولها ، فليس شيء من الأمرين من موازين العلم العادي بالمعنى المتقدّم.

نعم قد يتّفق العلم العادي بالصدق في مورد التواتر ، غير أنّه مع ندوره ليس للوثاقة وغيرها من أنواع القرينة مزيد دخل فيه ، لإناطتهم العلم فيه ببلوغ المخبرين في الكثرة حدّا يمتنع عادة تواطئهم على الكذب ، فالعبرة فيه بكثرة المخبرين لا غير ، لكنّ الخطب في ذلك سهل حيث إنّ الموجّه بمقتضى ظاهر كلامه إنّما أراد بالعلم العادي هنا مجرّد ما يسكن إليه النفس وإن كان قد أخطأ في تسميته علما.

نعم كونه علما شرعيّا على معنى قضاء الشرع بقيامه مقام العلم الحقيقي من حيث العمل والاعتبار لا مانع منه ، بل هو الّذي يجب الإذعان به حسبما مرّ تفصيله وإقامة الدليل عليه.

ثمّ إنّه قد بقي الكلام في مستند سائر الأقوال المتعلّقة بالمسألة المتقدّم إليها الإشارة.

في مستند القول بقطعيّة الكتب الأربعة

فأمّا القول بكون أخبار الكتب الأربعة قطعيّة الاعتبار وإن لم تكن قطعيّة الصدور ، فلم نقف على تفصيل مستنده سوى ما تقدّم عند حكاية هذا القول من التعليل بشهادة مصنّفيها بذلك ، وللحرّ العاملي فيه كلام محكيّ عنه في الوسائل متضمّن لعدّة امور يمكن أخذها مستندا لهذا القول ، وإن كان سياق هذا الكلام وأكثر فقراته أظهر في دعوى القطع بالصدور والصحّة بمعنى الصدق ، لجواز كونها مرادا بها الاعتبار الّذي هو أعمّ ، فإنّه بعد ما صرّح بحصول القطع العادي من شهاداتهم كالعلم بأنّ الجبل لم ينقلب ذهبا قال : « إنّه لاتّفاق الشهادات وغير ذلك أولى من نقل ثقة واحد كالمحقّق والشهيد من الفتوى من فتاوى أبي حنيفة في كتابه ، مع أنّا نرى حصول العلم لنا بذلك من النقل المذكور فكيف لا يحصل بشهادة الجماعة » وعنه أنّه ذكر : « أنّه لو لم يجز لنا قبول شهاداتهم في صحّة أحاديث كتبهم لما جاز لنا قبولها في مدح الرواة وتوثيقهم ، فلا يبقى حديث صحيح ولا حسن ولا موثّق ، بل يبقى جميع أخبارنا ضعيفة ، واللازم باطل فكذا الملزوم والملازمة ظاهرة ، بل الإخبار بالعدالة أشكل وأعظم وأولى بالاهتمام من الأخبار بنقل الحديث من الكتب المعتمدة ، فإنّ

ص: 251

ذلك أمر محسوس والعدالة أمر خفيّ عقليّ يعسر الاطّلاع عليه ، ولا مفرّ لهم عن هذا الالتزام عند الإنصاف ».

وعنه أنّه ذكر أيضا : « أنّ علماءنا الأجلاّء الثقات إذا جمعوا أحاديث وشهدوا بثبوتها وصحّتها لم يكن أدون من أخبارهم بأنّهم سمعوها عن المعصوم عليه السلام ، لظهور علمهم وصلاحهم وصدقهم وعدالتهم في أنّه مع إمكان العمل بالعلم لم يعملوا بغيره ، ففي الحقيقة هم ينقلوها عن المعصوم عليه السلام وقد وردت روايات كثيرة جدّا في الأمر بالرجوع إلى الرواة الثقات مطلقا إذا قالوا : إنّ الخبر من المعصوم ، وليس هذا من القياس بل عمل بالعموم ».

وعنه أيضا أنّه قال : « إنّهم إن كانوا ثقات حين شهادتهم وجب قبولها لكونها عن محسوس وهو النقل من الكتب المعتمدة ، وإلاّ كانت أحاديث كتبهم ضعيفة باصطلاحهم فكيف يعملون بها ».

والجواب - مضافا إلى ما سبق في دفع كلام الأستر آبادي : - أنّه إن اريد بذلك أخذ شهاداتهم طريقا تعبّديّا إلى العمل بأخبار كتبهم كقطعيّة العمل بالشهادة شرعا - مع أنّه خلاف سيرة العلماء قديما وحديثا في إثبات حجّية أخبار الآحاد - منع كلّ من صغراه وكبراه.

أمّا الأوّل : فلما بيّنّاه سابقا من الوجوه القادحة في تحقّق عنوان الشهادة منهم بالقياس إلى محلّ البحث فراجع وتأمّل.

وإن اريد به أخذها طريقا علميّا إلى اعتبار كتبهم بزعم أنّها تفيد العلم الغير القابل للاحتمال بحجّيّة اعتبار تلك الكتب ووجوب العمل بها.

ففيه : أنّ علمنا الضروري بأنّهم لم ينقلوا لنا إلاّ ما ساعدهم عليه نظرهم واجتهادهم الغير المأمون من الخطأ يمنعنا عن الجزم بصحّة جميع ما في كتبهم من الأخبار واعتبارها أيضا ، وإن بلغوا في الوثاقة والورع والصدق بما بلغوا ، وكونهم قاطعين في إخبارهم لما بلغهم من دليل اجتهادي لا يجدينا في القطع بما أخبروا به ما لم يتبيّن لنا هذا الدليل واستفاضته وقطعيّته ، كما أنّ علمنا بوجود ما يكون صحيحا فيما بين تلك الأخبار وما يكون صدقا مطابقا للواقع لا يجدينا نفعا في التعويل على جميع تلك الأخبار كما هو واضح.

فانحصر طريق العمل بكلّ خبر عند الحاجة إليه في التحرّي لتحصيل الوثوق بصدقه وسكون النفس إلى صدوره.

ولا يتأتّى ذلك بالقياس إلينا إلاّ بمراجعة الكتب الرجاليّة وما يقوم مقامها ممّا تقدّم

ص: 252

الإشارة إليها ، وليس في حكم العادة ولا غيرها من القرائن الخارجة ما يقضي بامتناع خطأهم فيما أخبروا به واعتقدوا بموجبه ، والوقوف في قبول خبرهم المعبّر عنه ب- « الشهادة » تعسّفا لا يستلزم العدول عن قبول قولهم في مدح الرواة وتوثيقهم بعد ملاحظة ابتناء القبول هنا على الوثوق والاطمئنان أو الظنّ الاجتهادي بقول مطلق.

ولا ريب أنّ شيئا من ذلك لا يحصل بمجرّد خبرهم كما يشهد به الوجدان السليم ، خصوصا بعد ما اطّلعنا من المخبرين على ردّ كثير من أخبار كتبهم وإعراضهم عنه واستضعافهم لأسانيد كثير منها كما عرفته سابقا عن الشيخ في تهذيبيه ، وغاية ما يحصل لنا من أخبارهم بنقل الحديث من الكتب المعتمدة هو القطع بأنّهم غير مفترين في هذه الأخبار ، وهو كما ترى بمجرّده لا يلازم اعتمادنا على ما نقلوه ، حيث لا ملازمة بين كون شيء معتمدا في نظرهم وكونه كذلك عندنا.

والمفروض عدم ابتناء المقام ونظائره على التقليد ، والاعتماد النفساني ليس بأمر اختياري ، بل لابدّ فيه من واسطة تبلغ في القوّة حدّا يورث الاعتماد ، ونقلهم واعتمادهم على ما نقلوه أو على ما نقلوا عنه بمجرّدهما غير بالغين لهذا الحدّ.

نعم لا نضائق وقوعهما في بعض المقامات من أجزاء هذه الواسطة ، بأن يكون لهما مدخل ما في حصول الاعتماد في بعض الأحيان.

والفرق بين إخبارهم بما أخبروا وإخبارهم بالسماع من المعصوم بعد الإحاطة بجميع ما تقدّم واضح كوضوح الفرق بين الأرض والسماء ، والروايات الكثيرة الآمرة بالرجوع إلى الرواة الثقات مسلّمة ونقول بموجبها لمكان استفاضتها بل وتواترها معنى ، غير أنّها غير شاملة لمفروض الكلام جدّا ، مع ما عرفت سابقا من أنّ المستفاد منها إناطة القبول بحصول الاطمئنان والوثوق ، كما يرشد إليه ورود الوصف المناسب فيها من الثقة والأمانة والعدالة ونحوهما ، وهما لا يحصلان هنا بمجرّد إخبارهم ما دام استناده إلى اجتهادهم معلوما أو مظنونا أو محتملا ، فكونهم ثقات حين الإخبار المعبّر عنه بالشهادة لا يقضي بوجوب قبولها إلاّ من حيث كونها منقولة عن الكتب المعتمدة عندهم فإنّا نصدّقهم على هذه الدعوى ، غير أنّ الإشكال يسري إلى هذه الكتب حيث لا علم لنا بل ولا وثوق بصحّة جميعها ولا باعتبار كلّ ما فيها ، ولزوم خروجها في نظرنا قبل الفحص والتثبّت ضعيفة بالمعنى المصطلح عليه عندهم لا يقدح في جواز عملهم بها باعتقاد الصحّة لديهم ، لكونهم إنّما حصّلوا الصحّة بهذا

ص: 253

المعنى بفحصهم واستفراغ وسعهم وإعمالهم النظر في القرائن والقواعد ، وقد ذكرنا مرارا أنّه لا يجدي نفعا في إحراز الصحّة بالقياس إلينا بالمعنى الّذي يوجب لنا الوثوق والاطمئنان ، بل لا مناص لنا من الفحص واستفراغ الوسع تحصيلا لما هو مناط العمل من الأمر المذكور.

وأمّا القول بالتفصيل بين متعارضات الأخبار فيمسّ فيها الحاجة إلى الرجال وغير متعارضاتها فلا حاجة فيها إليه.

فمستنده على الأوّل - على ما حكي - دلالة الأخبار على الترجيح بالأعدليّة وغيرها ممّا يعلم بالرجال بل بشهادة الاعتبار القاضي بأخذ الراجح دون المرجوح ودون التسوية بينهما لقبحهما.

وعلى الثاني أنّ أخبار الكتب الأربعة لأخذها من الاصول المعتمدة - بشهادة مؤلّفيها - معتضدة بقرائن الوثوق والصحّة ، وهذا القول في شقّه الأوّل حقّ ومستنده متين ، وأمّا في شقّه الثاني فقد تبيّن ما فيه وما في مستنده بما لا مزيد عليه.

وأمّا القول بالتفصيل بين وجود الشهرة بأحد قسميها على وفق بعض الأخبار وغيره ، فهو خيرة كلّ من يرجّح أحد المتعارضين بالشهرة بقول مطلق - كما يستفاد من غير واحد منهم السيّد في الرياض - أو إذا كانت الشهرة استناديّة ، خلافا لغير واحد منهم ثاني الشهيدين على ما يستفاد منه في جملة من كتبه من عدم اعتداده بالشهرة حتّى في مقام الترجيح.

في تحقيق أنّ مجرّد موافقة الشهرة لا تكفي في حجّيّة الخبر

وأمّا مستنده فيما وافق الشهرة فلا يحتاج معه إلى مراجعة الرجال على ما نقل أنّ الشهرة من أقوى المرجّحات المنصوصة والاعتباريّة ، لوضوح قوّة الظنّ بتراكم الظنون من شخص واحد فكثيرا مّا ينتهي إلى القطع ، بل لعلّ أغلب العلوم من هذا الباب ، وكذا إذا كانت من أشخاص فإنّ موافقة الآراء خصوصا مع شدّة اختلاف الأفهام من أقوى أسباب الاعتضاد والقوّة.

وأيضا فإنّ غالب أحكام هذا المذهب كغيره من المذاهب ممّا لم يذهب بذهاب الموجودين من أهله في كلّ طبقة ، بل وصل من المتقدّم إلى المتأخّر يدا بيد.

قال في بعض مقدّمات كشف الغطاء ما مفاده : « أنّه لا حاجة في كلّ مسألة إلى مراجعة الكتاب والسنّة ، بل هما ممّا ينبغي أخذهما ذخيرة ليوم الفاقة وهو حيث تعارض مقتضى القواعد وفقد الإجماع ولم يعلم ما كان في أيدي الطائفة المحقّة ، وإلاّ فلا افتقار إليهما ، لأنّ مذهبنا ليس أقلّ عن المذاهب الأربعة عن أربابها ، وكلّ أو جلّ ما صدر عنهم في أيدي تبعته ».

ص: 254

ولو سلّم المنع عمّا ذكر فلا ريب أنّ انعقاد الشهرة على خلاف ما هو من المذهب في غاية البعد ، مضافا إلى وجود النصّ على الترجيح بها ، وتعليله : بأنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، والتعليل في نفسه من أسباب القوّة والترجيح ، ولذا يقدّم المعلّل على غيره خصوصا بمثل التعليل المذكور المعتضد بالاعتبار كما عرفت. وأمّا وجه الافتقار في غير ذلك فيظهر ممّا مر في حجّة القول بالافتقار مطلقا.

واعلم أنّ عدّ ذلك قولا برأسه قبالا للقول المختار من إثبات الحاجة إلى الرجال بقول مطلق مبنيّ على كون

معرفة الرجال المحتاج إليها مرادا بها خصوص ما يحصل بمراجعة الكتب الرجاليّة.

وأمّا على ما نبّهنا عليه سابقا من حملها على ما يعمّه وما يحصل من المعرفة بغير المراجعة من الأسباب الموجبة لها ، ومحصّله تحصيل ما يوجب الوثوق بصدق الرواية وصدورها ، فلا مخالفة بينه وبين المختار بل هو هو باعتبار المعنى ، وعليه فلا يمكن دفعه ولا القدح في شيء من شقّيه وإن ضعف الوجه المذكور في مستنده باعتبار بعض فقراته.

أمّا أوّلا : فلأنّ المقصود بالبحث هنا هو الشهرة بالمعنى المصطلح عليه عند الفقهاء المعبّر عنها في مقابلة الإجماع : « بذهاب المعظم » الّذي يلزمه وجود المخالف ، وعليه فلا يمكن جعلها من المرجّحات المنصوصة فضلا عن كونها من أقواها ، لأنّ ما ورد في النصوص الآمرة بالترجيح بالشهرة لا ينزّل على هذا الاصطلاح الحادث المتأخّر عن زمن الصدور جدّا ، وهو في العرف واللغة - حسبما نصّ عليه أئمّة اللغة ويساعد عليه التفاهم العرفي - عبارة عن ظهور الشيء ووضوحه على وجه لا يبقى معه فيه خفاء.

ومن هنا يقال المشهور على المعروف ، وهذا المعنى كما ترى يرادف الإجماع المقابل للشهرة بالمعنى المصطلح عليه.

وممّا يرشد إلى ذلك أيضا ما ورد في هذه النصوص من تعليل الأمر بالترجيح بالشهرة : « بأنّ المجمع عليه لا ريب فيه ».

ويرشد إليه أيضا إضافة الجمع في قوله عليه السلام : « خذ بما اشتهر بين أصحابك » من حيث إفادتها العموم ، ومفاده اعتبار الاشتهار بين جميع الأصحاب وهو بحكم التبادر والانسياق العرفي عبارة عن تلقّيهم الخبر بالقبول وعملهم به وأخذهم بموجبه ، فلا يكفي في اشتهاره بين الأصحاب مجرّد كون وجوده فيما بين الروايات معروفا لديهم وإن لم يتحقّق له عامل

ص: 255

أو عمل به نادر ، ولا مجرّد كونه بحيث اتّفق الرواة على روايته أو المحدّثون على ذكره في كتب الأحاديث.

ولا ريب أنّ الشهرة بالمعنى المذكور لا تتناول الشهرة الفقهائيّة سواء كانت استناديّة أو فتوائيّة صرفة.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الغرض بمراجعة الشهرة في المقام إنّما هو إحراز سند الرواية واستكشاف صدورها ولو بنحو الظنّ البالغ حدّ الاطمئنان.

ولا ريب أنّ كون غالب أحكام هذا المذهب ممّا لم يذهب بذهاب الموجودين ممّا لا مدخل له بحصول هذا الغرض ، ضرورة أنّه لو بني على عدم كفاية الشهرة في حصول هذا الغرض لسرى الشبهة إلى زمن الموجودين أيضا ، وهم المعظم الذاهبين إلى قول إذا لم يكن الناظر في الشهرة فيما بينهم من جملتهم في المصير إلى هذا القول ، بأن يكون في أوّل زمن الاجتهاد بالقياس إلى المسألة هذا ، مع أنّ أحكام هذا المذهب تختلف بالواقعيّة والظاهريّة والّذي لا يذهب من المذهب بذهاب الموجودين الذاهبين إليه هو ما إذا كان حكما واقعيّا وكون ما ذهب إليه الموجودين في الأعصار السالفة هو الحكم الواقعي أوّل المسألة ، والشهرة لا تفيد اعتبارا بالقياس إلى الرواية إلاّ باعتبار كشفه الظنّي عن الواقع الّذي وافقه الرواية بمضمونها.

فتحقيق القول في مسألة إثبات الاعتبار بالشهرة : أنّ الشهرة بالقياس إلى الرواية إن كانت استناديّة على معنى كون الرواية بحيث عمل بها المعظم واستند إليه بخصوصها الأكثر ، فلا إشكال في أنّها تعطيها الاعتبار لكشفها عن قوّة علموا بها وقرينة صدور عثروا عليها وإن ضعف سندها لإرسال أو جهالة أو فسق أو نحو ذلك ، وهذا أظهر أفراد قاعدة جبر الرواية الضعيفة بالشهرة من غير فرق فيه بين ما عارض فيها رواية اخرى - ولو صحيحة - وغيره ، فإنّها في صورة المعارضة كما تكشف عن قوّة ما تواقفها فكذلك تكشف عن خلل فيما تخالفها في سندها أو جهة صدورها أو متنها أو دلالتها أو مضمونها ، ولو كانت من حيث صحّة السند حسبما اصطلحوا عليه في أعلى مراتب الصحّة.

وإن كانت فتوائيّة صرفة كما إذا شكّ في استنادهم إليها أو علم بعدم استنادهم إليها فثمرة إفادتها القوّة أو الترجيح إنّما تظهر على القول بعدم حجّيتها بنفسها ، كما أنّ إفادتها الأمرين مبنيّة على إفادتها الظنّ بالواقع ، بل وهي من لوازم عنوانها المعبّر عنه ب- « الأمارة » ،

ص: 256

إذا الشيء ما لم يفد الظنّ لا يصير أمارة.

وحينئذ فلا إشكال أيضا في إفادتها الترجيح عند التعارض بناء على ما هو الأقوى - كما سيأتي في محلّه - من جواز التعدّي عن المرجّحات المنصوصة إلى الخارجيّة الّتي منها الشهرة ، خصوصا على المختار من إناطة العمل بالأخبار بظنّ صدورها على جهة الاطمئنان به كإناطة الترجيح حسبما يستفاد من الأخبار العلاجيّة بأقربيّة أحد المتعارضين إلى الواقع ، ضرورة أنّ موافقة الظنّ أو المفيد للظنّ بالواقع مرجعها إلى الظنّ بموافقة الواقع الّذي هو المراد بالأقربيّة.

ويشكل الحال في إفادتها الاعتبار بالقياس إلى ما لا معارض له في موضع الشكّ في صدقه وكذبه ، من حيث إنّ الظنّ بالواقع من جهة الشهرة الموافقة له لا يوجب هاهنا إلاّ أقربيّة مضمونة إلى الواقع وهي لا تلازم ظنّ الصدور وصدق السند ، والمفروض أنّ الاعتبار لا يتأتّى إلاّ بظنّ الصدور بل الوثوق به ، ولا يكفي فيه مجرّد مطابقة مضمونة للواقع ، ولا يقاس ذلك على صورة الترجيح ، لأنّ السند فيها محرز والاعتبار المعبّر عنه بالحجّية الذاتيّة ثابت ، والشبهة إنّما هي في تعيين ما يتعيّن العمل به فيرتفع بموافقة الشهرة.

وبعبارة اخرى : مقتضى العمل عند التعارض بكلّ من المتعارضين موجود والمرجّح إنّما يطلب لرفع مانع التعارض.

ويتأتّى ذلك بموافقة الشهرة المورثة للظنّ بالمطابقة ، بخلاف ما لو كانت الشبهة في أصل السند والاعتبار ، فإنّها حينئذ شبهة في المقتضي والشهرة على فرض عدم الحجّية غير صالحة لإحرازه ، ضرورة أنّ فاقد الاعتبار لا يعقل معطيا له.

والسرّفيه : أنّ العمدة في العمل بالأخبار إحراز السند ولو بطريق الظنّ الاطمئناني ، والشهرة ما لم تكن استناديّة لا تتعرّض لسند الخبر الموافق لها ، وتعرّضها للمضمون إنّما يجدي بعد الفراغ عن إحراز السند كما في صورة الترجيح ولذا تعدّ من المرجّحات المضمونيّة.

ومن البيّن أنّ وجوب الأخذ بالمضمون فرع على اعتبار السند وإحراز الصدور ، وكونه مظنون المطابقة لا يفيد شيئا من الأمرين ، كما أنّ مطابقته المظنونة لا تجدي في وجوب الأخذ به ، ضرورة أنّ ظنّ المطابقة إنّما جاء من جهة الظنّ بالواقع الحاصل من جهة الشهرة ، وهو مع عدم كونه حجّة بالفرض لا ينشأ منه أثر بالنسبة إلى المضمون الموافق له الخالي عن مقتضى الحجّية من جهة اخرى ، ولو فرضت المسألة على تقدير حجّية الشهرة - ولو

ص: 257

وأن يكون عالما بالمطالب الاصوليّة من أحكام الأوامر والنواهي والعموم والخصوص إلى غير ذلك من مقاصده الّتي يتوقّف الاستنباط عليها * ، وهو أهمّ العلوم للمجتهد ، كما نبّه عليه بعض المحقّقين ، ولابدّ أن يكون ذلك بطريق الاستدلال على كلّ أصل منها ، لما فيها من الاختلاف ، لا كما توهمّه القاصرون.

__________________

من جهة حجّية الظنّ المطلق - كان المعتمد ومناط العمل هو هذا الظنّ وافقه مضمون رواية أو لم يوافقه ، فلا يترتّب على موافقة المضمون حينئذ فائدة يعتدّ بها.

فإن قلت : إنّ الشهرة على تقدير عدم الحجّية إنّما نشأت عن مستند لا محالة ، وموافقتها لمضمون الخبر ممّا يكشف عن استنادها إليه أو إلى ما يرادفه ، وهذا كاف في إحراز السند وظنّ الصدق والصدور.

قلت : دعوى الكشف في مفروض المسألة بإطلاقها - خصوصا مع العلم باستنادهم إلى ما ليس من مقولة الأخبار ، أو اختلافهم في المستند بحيث لم يكن الفتوى المشهورة مستندة إلى الأخبار إلاّ من بعضهم - غير مسموعة.

وبالجملة فالشهرة في غير صورتي الاستناد والترجيح لا تصلح رافعة للحاجة إلى الرجال ، وليس ممّا يغني عن المراجعة إلى الكتب الرجاليّة.

توقّف الاجتهاد على العلم باصول الفقه

وأمّا الاكتفاء بتصحيح الغير فهو المعلوم من سيرة بعض الفقهاء ، بل يعزى إلى أكثر العلماء كما عرفته ، ومستنده - على ما نقل - أنّ اعتبار قول أهل الرجال سواء كان من جهة كونه شهادة أو رواية أو لإفادته الظنّ أو غيرها مثله تصحيح بعض العلماء خصوصا إذا كان من أهل الرجال ، أو كثير البصيرة بذلك العلم كصاحبي التعليقة والمنتقى وغيرهما ، وفي إطلاق هذه الدعوى ما لا يخفى ، والأقوى إناطة الاكتفاء وعدمه بما هو معيار العمل بالأخبار حسبما استفدناه من أدلّة الباب من ابتنائه على الوثوق بالصدق والصدور ، فحيثما حصل الوثوق من تصحيح الغير ولو مع إعمال بعض القرائن فيجوز الاكتفاء به عن مراجعة الكتب الرجاليّة وإلاّ فلا مناص عن المراجعة أو ما يقوم مقامها.

* وبداهة الحاجة في استنباط الأحكام الشرعيّة عن الأدلّة المعهودة ولا سيّما الكتاب والسنّة إلى مسائل اصول الفقه ممّا يغني عن تجشّم إقامة الحجّة.

وعن الفوائد : « أنّ الحاجة إليه من البديهيّات كما صرّح به المحقّقون ، وأنّه الميزان في الفقه والمعيار لمعرفة مقاصده وأعظم الشرائط وأهمّها كما صرّح المحقّقون الماهرون الفطنون

ص: 258

الّذين ليسوا بجاهلين ولا غافلين ولا مقلّدين من حيث لا يشعرون » انتهى (1).

والعجب من مقلّدة الأخباريّة كيف خفي عليهم هذا الأمر مع ظهوره وكمال وضوحه بحيث يدركه المخدّرات في الحجرات ، فأنكروا الحاجة إليه رأسا وهو كما ترى مع الاعتراف بابتناء معرفة الأحكام على الأدلّة أو السنّة فقط - حسبما يزعمونه - ممّا يشبه التناقض ، لوضوح أنّ شيئا ممّا ذكر لا ينهض دليلا ولا يتمّ حجّة إلاّ بإعمال القواعد الاصوليّة ومراعاة ضوابطها المقرّرة ، إلاّ أن يرجع الإنكار المذكور إلى إنكار ابتنائها على النظر في الأدلّة حتّى السنّة بدعوى الضرورة في كافّة الأحكام الشرعيّة ، وهو كما ترى أوضح فسادا ، مع أنّهم ينادون بأعلى صوتهم بانحصار المرجع في السنّة وهو ممّا لا يجامع نفي الحاجة إلى مراعاة المسائل الاصوليّة بالمرّة.

وأوضح ما يرد على مقالتهم هذه من التدافع ما هم عليه من منع حجّية ظواهر الكتاب إلاّ ما ورد تفسيره في الروايات ، فإنّ التفسير حقيقة معناه ترجع إلى تخصيص عامّ الكتاب أو تقييد مطلقه بالرواية أو أخذها قرينة لمجازاته أو بيانا لمجملاته أو ناسخة لمنسوخاته.

وهذا كما ترى التزام بنبذة من المسائل الاصوليّة ، ومنه ما هم عليه من العمل بالبراءة الأصليّة لنفي الوجوب في فعل وجوديّ إلى أن يثبت دليله ، ومنع العمل بها لنفي التحريم في فعل وجوديّ إلى أن يثبت دليله ، بدعوى : كون الأصل فيه التحريم أو وجوب الاحتياط أو الوقف والعمل باستصحاب حكم العموم إلى أن يقوم المخصّص ، وحكم النصّ إلى أن يرد الناسخ ، واستصحاب إطلاق النصّ إلى أن يثبت المقيّد.

ومنع العمل (2) باستصحاب حكم شرعي في موضع طرئت فيه حالة لم يعلم شمول الحكم لها ، على معنى ثبوته في وقت ثمّ يجيء وقت آخر ولم يقم دليل على انتفائه فيه ، فلا يحكم ببقائه على ما كان استصحابا للحالة السابقة كما عليه المحقّقون من الفقهاء والاصوليّين.

وقد صرّح في الحدائق (3) بنفي الإشكال وعدم الخلاف في حجّيّة البراءة الأصليّة بالمعنى الأوّل ، وحجّية الاستصحاب بالمعنيين الاوليين ، ومصيرهم إلى عدم الحجّية في الثاني من معنى البراءة الأصلّية والأخير من معاني الاستصحاب ، والكلّ كما ترى من المسائل الاصوليّة بل عمدتها.

ص: 259


1- الفوائد الحائريّة : 336.
2- عطف على قوله : « ومنه ما هم عليه ... ».
3- الحدائق الناضرة 1 : 51.

ومنه ما هم عليه من حجّية الأخبار مطلقة أو خصوص ما في الكتب الأربعة وعدم ترجيح متعارضاتها إلاّ بالقواعد الممهّدة من لدن أهل الذكر ، ومع فقدها في بعض الأخبار يتوقّف كما قال عليه السلام : « أرجه حتّى تلقى إمامك » وفي بعضها : « يتخيّر في العمل بأيّهما شاء من باب التسليم » ، وعن بعضهم أنّه جمع بينهما بأنّه حمل الأوّل على حقوق الآدميّين كالميراث ونحوه ممّا لا مجال للتخيير فيه والثاني على ما عداه ، كما نقله الشيخ سليمان بن عبد اللّه البحراني في رسالته المعمولة في الفرق بين الأخباري والمجتهد.

وفيها أيضا : « أنّه يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة عند جملة من الأخباريّين منهم الفاضل الأمين الأسترآبادي في الفوائد المدنيّة والمجتهدون مطبقون على امتناعه ، وإنّما الخلاف عندهم في تأخير البيان عن وقت الخطاب » وفيها أيضا : « من الفروق عدم العمل على الإجماع المدّعى في كلام متأخّري فقهائنا ، إذ لا سبيل إلى العلم بدخول قول المعصوم عليه السلام بغير جهة الرواية عنه ، ووافقهم على هذا بعض المجتهدين.

ومنها : أنّ خلاف معلوم النسب عند المجتهدين أو أكثرهم لا يلتفت إليه ولا يقدح في الإجماع ، وأمّا الأخباريّون فلا يلتفتون إلى هذه القاعدة » انتهى.

وهذه الامور كلّها من المسائل الاصوليّة.

وبالجملة فهم بإنكارهم المضادّ لعملهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ، وظنّي أنّ هذه المقالة ونظائرها من الخرافات الّتي منشائها تعصّبهم وشدّة عنادهم لحفظة الشريعة وخزّان علوم أهل العصمة ، ولو لا ذلك فأيّ عاقل يتفوّه بما يدافع البداهة ويناقض الطريقة؟

ومع ذلك يستند في مقالته الفاسدة ودعواه الرديّة إلى ما لا يلتفت إليه جاهل فضلا عن العاقل من الشبهات الواهية والتشكيكات الوهميّة الّتي منها : أنّ هذا العلم حدث بعد زمان الأئمّة عليهم السلام وأنّا نقطع بأنّ قدماءنا ورواة أحاديثنا ومن يليهم لم يكونوا عالمين به مع أنّهم كانوا عاملين بهذه الأحاديث الموجودة ولم ينقل عن أحد من الأئمّة إنكارهم بل المعلوم تقريرهم لهم ، وكان ذلك الطريق مستمرّا بين الشيعة إلى زمان ابن أبي عقيل وابن الجنيد ثمّ حدث بين الشيعة ، فلا حاجة إلى هذا العلم.

ومنها : أنّ البداهة حاكمة بوجوب العمل بأوامر الشرع ونواهيه ، ومن علّم العلوم اللغويّة فهو ممّن يفهم الأوامر والنواهي ، فالحكم عليه بوجوب التقليد المنهيّ عنه بمجرّد جهله باصول الفقه ممّا لا دليل عليه ولا عذر له في التقليد ، وليس مثله في التقليد إلاّ مثل شخص

ص: 260

حكّمه ملك على ناحية وعهد إليه أنّه متى أخبره ثقة بأنّ الملك أمرك بكذا أو نهاك عن كذا فعليك بالطاعة ، وبيّن له المخلص عند تعارض الأخبار ، فهو يترك العمل بما سمعه من الأوامر والنواهي من الثقات معلّلا بجهله بمسائل الاصول ، فاستحقاقه للذمّ حينئذ لا ريب فيه.

ومنها : أنّ هاهنا قوما لا يعملون بهذه الاصول بل يطرحونها خلف « قاف » (1) وليسوا من المتحيّرين.

ومنها : أنّه إذا لم نعرف تغيّر عرفنا من عرف زمان الشارع فلا بأس عليه ، إذ الحجّة الآن أحاديثهم وما كلّفنا بأزيد ممّا نفهمه منها ، وإن علمنا تغيّر العرف فمن أيّ طريق نثبته أمن الكتاب أو السنّة أو الإجماع الكاشف عن قول المعصوم عليه السلام أم من تلك الاصول الضعيفة؟.

ومنها : أنّه ليس في علم الاصول إلاّ نقل الأقوال المتفرّقة والأدلّة المختلفة فلا أصل له.

ولا يذهب عليك أنّ التأمّل في سياق هذه الكلمات ومساقها يعطي أنّ غرض هؤلاء نفي لزوم المراجعة في أخذ المسائل الاصوليّة المحتاج إليها في معرفة الأحكام إلى الفنّ المعهود المدوّن في كتبه المتداولة على وجه يستلزم التعلّم والاستماع وصرف برهة من العمر حسبما هو متداول بين أربابه على حدّ سائر الفنون قديما وحديثا ، لا نفي الحاجة إلى القدر المحتاج إليه من هذه المسائل بالمرّة ولو حصل استعلامها بغير جهة مراجعة هذا الفنّ ، وإلاّ فكيف يعقل الاستنباط من الكتاب والسنّة - المشتملين على الحقائق والمجازات مع القرائن وبدونها والمشتركات مع القرائن وبدونها ، وألفاظ العبادات والمعاملات وغيرها والأوامر والنواهي والمناطيق والمفاهيم والعمومات والمخصّصات والمطلقات والمقيّدات ، مع كون الخبر الواحد من السنّة قد يخالف ظاهر الكتاب ، ومفهوم الموافقة أو المخالفة قد تعارض العامّ كتابا أو سنّة وعامّان كتابيّان أو خبريّان أو مختلفان قد يتعارضان ، وكون اللفظ الوارد فيهما قد يتعارض فيه الأحوال المخالفة للأصل من المجاز والاشتراك والنقل والتخصيص والإضمار والتقييد والنسخ ، وقد يتعارض فيه العرف واللغة أو عرف الراوي والمرويّ عنه إلى غير ذلك من العناوين المأخوذة عند أرباب الفنّ - من دون معرفة أحكام الحقائق والمجازات من أنّ الأصل في الاستعمال الحقيقة وأنّ المجاز لا يصار إليه إلاّ

ص: 261


1- « قاف » جبل محيط بالدنيا من زبرجد أخضر وإنّما خضرة السماء من خضرة ذلك الجبل. ( تفسير القمي : 595 وعنه في البحار 570 / 121 ح 9 ).

بقرينة واضحة تترجّح على أصالة الحقيقة ، وأنّ اللفظ مع القرينة المذكورة يجب حمله على المجاز ، وأنّه لا يجوز استعماله في معنييه الحقيقي والمجازي أو يجوز مع المرجوحيّة.

ولا معرفة أحكام المشترك من أنّه بدون القرينة هل هو ظاهر في إرادة جميع المعاني أو لا؟ وأنّه يجوز استعماله في أكثر من معنى أو لا؟ وأنّه مع عدم القرينة حكمه ماذا؟

ولا معرفة أحكام المشتقّ من أنّه حقيقة في حال التلبّس مطلقا أو خصوص حال النطق أو غيرهما؟ وإنّ حكمه بالقياس إلى ما انقضى عنه المبدأ ماذا؟

ولا معرفة أحكام ألفاظ العبادات والمعاملات من أنّها هل هي مبقاة على معانيها الأصليّة اللغويّة أو منقولات إلى معان اخر شرعيّة؟ وهل هي في المعاني الشرعيّة بالقياس إلى عرف الشارع كانت حقائق أو مجازات؟ وهل المعنى الشرعي على التقديرين خصوص الصحيح أو الأعمّ منه ومن الفاسد بالنسبة إلى الشرائط فقط أو هي والأجزاء معا؟

ولا معرفة أحكام الأوامر من أنّها هل تفيد الوجوب أو غيره؟ وهل تفيد شيئا من المرّة والتكرار والفور والتراخي أو لا؟ وأنّها إذا وقعت عقيب الحظر بأقسامه الثلاث هل تفيد الإباحة أو غيرها؟ وأنّها إذا كانت موقّتة هل ينتفي بفوات الوقت أو لا؟ وأنّها على فرض إفادتها الوجوب هل تدلّ على وجوب مقدّمات المأمور به أو لا؟ وهل تدلّ على النهي عن أضداد المأمور به أو لا؟

ولا معرفة أحكام النهي من أنّه هل يفيد التحريم أو غيره؟ وهل يفيد التكرار أو لا؟

وهل يدلّ على فساد مورده إذا كان عبادة أو معاملة أو لا يدلّ؟

ولا معرفة أحكام المفاهيم من أنّها هل هي حجّة أو لا؟ وعلى فرض الحجّية فهل هي على وجه الإيجاب الكلّي ، على معنى كون المفهوم بجميع أنواعه حجّة حتّى ما كان لقبا أو على وجه الإيجاب الجزئي؟ وإنّ مفهوم المخالفة على فرض الحجّية هل يجب مطابقته للمنطوق في جميع الخصوصيّات المأخوذة معه كمّا وجهة وزمانا ومكانا وغيرهما من القيود والمتعلّقات عدا كيف القضيّة وما علّق عليه حكمها من شرط أو وصف أو غاية أو عدد أو نحو ذلك؟

ولا معرفة أحكام العامّ والتخصيص من أنّ العامّ أيّ لفظ؟ ولأيّ عموم؟ وفي أيّ مقام يحمل على العموم؟ وأيّ صورة يخصّص وبأيّ شيء يخصّص؟ وبأيّ شيء لا يخصّص؟

وعلى أيّ قدر يجوز تخصيصه؟ وأنّه بعد التخصيص يبقى على حجّيته أو لا؟ وأنّه إذا

ص: 262

خصّ بمجمل فحكمه ماذا؟ وأنّه يخصّص بخبر الواحد أو لا؟

ولا معرفة أحكام المطلق والمقيّد من أنّه في محلّ التنافي يحمل المطلق على المقيّد أو لا؟ وإنّ المطلق في أيّ موضع يؤخذ بإطلاقه وأيّ موضع لا يؤخذ به فيه؟ وإنّ الإطلاق في أيّ موضع يثبت وأيّ موضع لا يثبت؟

ولا معرفة أنّ العامّ هل يخصّص بمفهوم الموافقة والمخالفة معا أو لا يخصّص بشيء منها أو بالأوّل دون الثاني؟ وإنّ العامّين من وجه إذا تنافيا فحكمهما ماذا؟ وكيف يجمع بينهما؟

ولا معرفة أحكام تعارض الأحوال من حيث الترجيح والوقف ، وأحكام تعارض العرف واللغة وعرفي الراوي والمرويّ عنه وهكذا.

ولا ريب أنّه لا بدّ في كلّ من المذكورات وغيرها من بناء الأمر على شيء والإذعان بشيء من أطراف القضيّة ، ولا بدّ وأن يكون هذا البناء والإذعان بطريق الاجتهاد عن دليل يعتمد عليه العقل ويسكن إليه النفس ، ولا نعني من معرفة مسائل الاصول الفقه المحتاج إليها في الاستنباط إلاّ هذا ، سواء حصل هذه المعرفة بمراجعة الفنّ المدوّن حسبما هو متداول بينهم من السلف إلى الخلف ، أو بطريق آخر ممّا يقضي العادة بامتناعه خصوصا في هذه الأعصار ، وخصوصا بالقياس إلى من كان أجنبيّا بلسان العرب ، فإن كان هذا القدر مسلّما عند الخصم يعود الخلاف بينه وبين المجتهدين والاصوليّين من أصحابنا لفظيّا ، وإلاّ ترجع مقالته في نفي الحاجة إلى دعوى حصول معرفة الأحكام الشرعيّة من الكتاب والسنّة أو مطلق الأدلّة بطريق المكاشفة ، على قياس ما هو الحال في الأسباب الضروريّة الغير المحتاجة إلى استفادة المطالب منها إلى إعمال شيء من المقدّمات الخارجة عنها كما لا يخفى.

ومن المعلوم بالبداهة أنّ حدوث تدوين الفنّ لا ينافي وجود مسائله معمولا بها قبل التدوين ، وعمل قدمائنا ورواة أحاديثنا بهذه الأخبار الموجودة وبغيرها ممّا ذهبت عنّا بمرور الدهور لا يعقل من دون استحصال المسائل المشار إليها وغيرها ممّا لم نشر إليها ، كما أنّه لا يعقل من دون استحصال العلوم العربيّة وغيرها ممّا هو ملحوظ من باب المبادئ ، وعدم المنع والتقرير من الأئمّة إنّما هو لأجل وجود شرط العمل لديهم ومراعاتهم له وعلمهم عليهم السلام بهما ، بل وفي بعض الأخبار ما يشير إلى لزوم مراعاة هذا الشرط ، ووجوب إعمال جزئيّاته الّتي هي مسائل علم اصول الفقه ، كما في قصّة ابن الزبعرى المعترض على

ص: 263

قوله تعالى : ( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) (1) بما فهمه خطأ من عموم كلمة « ما » لما يعقل أو ما لا يعقل قائلا : « أما عبد موسى وعيسى والملائكة؟ » من قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم : « ما أجهلك بلسان قومك ، أما علمت أنّ « ما » لما لا يعقل » حيث إنّه توبيخ على المعترض على ما لم يعلمه أو غفل عن مراعاة ما علمه من كون « ما » لغير ذوي العقول.

بل المتتبّع في أخبار الأئمّة وآثار أهل بيت العصمة يجد فيها إشارات غير محصورة إلى كون مسائل هذا العلم متداولة لديهم ومعمولا بها عندهم ، لو لم نقل بكونها تصريحات بذلك.

ويكفيك في ذلك ملاحظة ما تقدّم في الأخبار الّتي احتجّ بها الأخباريّة على إبطال طريقة المجتهدين من رواية سليم بن قيس الهلالي قال : « قلت لأمير المؤمنين عليه السلام : إنّي سمعت من سلمان والمقداد وأبي ذر شيئا من تفسير القرآن وأحاديث عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم غير ما في أيدي الناس ، ثمّ سمعت منك تصديق ما سمعت منهم ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة في تفسير القرآن ومن الأحاديث عن نبيّ اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنتم تخالفونهم فيها وتزعمون أنّ ذلك كلّه باطلا؟ فترى الناس يكذبون على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم متعمّدين ويفسّرون القرآن بآرائهم؟ قال : فاقبل عليّ عليه السلام فقال : قد سألت فافهم الجواب ، إنّ في أيدي الناس حقّا وباطلا ، وصدقا وكذبا وناسخا ومنسوخا ، وعامّا وخاصّا ، ومحكما ومتشابها ، وحفظا ووهما ، وقد كذب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم على عهده حتّى قام خطيبا فقال : « أيّها الناس قد كثرت عليّ الكذابة فمن كذب عليّ متعمّدا فليتبّوأ مقعده من النار » ثمّ كذّب عليه من بعده ، وإنّما آتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس :

رجل منافق يظهر الإيمان متصنّع بالإسلام لا يتأثّم ولا يتحرّج أن يكذب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم متعمّدا ، فلو علم الناس أنّه منافق كذّاب لم يقبلوا منه ولم يصدّقوه ، ولكنّهم قالوا : هذا قد صحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وسمع منه وأخذوا عنه وهم لا يعرفون حاله ، إلى أن قال :

ورجل سمع من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم شيئا لم يحمله على وجهه ووهم فيه ، فلو علم المسلمون أنّه وهم لم يقبلوه ، ولو علم هو أنّه وهم لرفضه.

ورجل ثالث سمع من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم شيئا أمر به ثمّ نهى عنه وهو لا يعلم به أو سمعه ينهى ثمّ أمر به وهو لا يعلم ، فحفظ منسوخه ولم يحفظ الناسخ ، فلو علم أنّه منسوخ لرفضه ، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنّه منسوخ لرفضوه.

ص: 264


1- الأنبياء : 98.

وآخر رابع لم يكذب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم مبغض للكذب خوفا من اللّه وتعظيما لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، لم ينس بل حفظ ما سمع على وجهه ، فجاء به كما سمع لم يزد فيه ولم ينقص منه وعلم الناسخ والمنسوخ فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ ، فإنّ أمر النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم مثل القرآن ناسخ ومنسوخ ، وخاصّ وعامّ ، ومحكم ومتشابه ، قد كان يكون من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الكلام له وجهان : كلام عامّ وكلام خاصّ مثل القرآن ، وقال اللّه عزّ وجلّ في كتابه ( ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (1) فيشتبه على من لم يعرف ولم يدر ما عنى اللّه به ورسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم » إلى آخره.

فانظر إلى مضامين هذا الحديث الشريف وفقراته وما أشار إليه من جملة كثيرة من مسائل اصول الفقه كانت معمولة لديهم متداولة عندهم على وجه علم به الإمام فرضي به ولم يردعهم ، بل أمر ضمنا بمراعاة جملة اخرى منها كما يظهر بالتأمّل.

والعمل بأوامر الشرع ونواهيه كيف يعقل مع عدم فهم المعنى المراد منهما ، ولا يعقل الفهم من غير الإذعان فيهما ولو ظنّا بكونهما للإيجاب والتحريم أو الندب والكراهة أو لهما معا بطريق الاشتراك لفظا ومعنى ، ولا الإذعان بأنّ الأمر يفيد المرّة والتكرار والفور أو التراخي أو طلب الماهيّة ، وأنّه إذا وقع عقيب الحظر فحكمه ماذا؟ وإنّ الأوامر وكذا النواهي الصادرة عن الأئمّة صارتا من المجازات الراجحة المساوي احتمالها لاحتمال الحقيقة كما ذهب إليه بعض الأصحاب أو لا كما عليه المعظم؟

فلو اريد بالعلوم اللغويّة الموجبة لفهم الأوامر والنواهي ما يفيد جميع ذلك وغيره ممّا يرتبط به فهم خطابات الشرع كتابا وسنّة فهو اعتراف بعين المدّعى من قيام الحاجة إلى معرفة المسائل الاصوليّة فيعود النزاع لفظيّا ، ونحن لا نقصد من مسائل علم الاصول إلاّ الامور المذكورة ونظائرها إن شئتم سمّوها بهذا الاسم أو بغيره ، ولو اريد بها ما لا يفيد ذلك كلاّ أم بعضا. فدعوى الفهم غير مسموعة ، فالحكم على من هذه حاله بوجوب التقليد إنّما هو لانصحار طريقه فيه وعدم تمكّنه من غيره ، فكلّ من جهل مسائل علم اصول الفقه كلاّ أو بعضا على وجه لا يغنيه ما علمه في التوصّل إلى الاستنباط على الوجه الشرعي وحسبما هو قانونه عند أهل الشرع ليس وظيفته إلاّ التقليد ، لا لأنّه جاهل بل لأنّ هذا الجهل موجب لعدم تمكّنه من فهم الأدلّة.

ص: 265


1- الحشر : 59.

ولا ريب أنّ عدم التمكّن منه عذر قاطع وبرهان ساطع في التقليد ، وليس للملك أن يحكمّ على ناحية إلاّ من يعلم من حاله أنّه يعرف معنى الأمر والنهي باعتبار المادّة ، وأنّ ما يبلّغه إليه الثقة بصيغة « افعل » أو « لا تفعل » هل يصدق عليهما الأمر والنهي أم لا؟ وعلى تقدير عدم الصدق فمفادهما أيّ شيء؟ وأن يعرف « الثقة » مفهوما ومصداقا ، وأن يعرف سائر الجهات المتعلّقة بالخطاب الّتي لها دخل في فهمه ، فلو حكّم من ليس له هذه المرتبة من المعرفة ولا أنّه متمكّن من تحصيلها وأوجب عليه مع ذلك أن يعمل بأمره ونهيه ومقتضى خطابه الواصل إليه من الثقة فلا ريب أنّه ارتكب فعلا قبيحا ، وكان ممّن يرميه العقلاء بسخافة الرأي ودناءة الطبع ، ثمّ إذا ترك هذا الرجل القيام بمقاصد الأوامر والنواهي الواصلة إليه معتذرا بعدم تمكّنه عن فهم تلك المقاصد كان معذورا وخارجا عن حدّ التقصير في نظر العقلاء ، فلو عاتبه الملك حينئذ أو عاقبه لأطبقوا على تقبيحه ورميه بالسفه.

والقوم الّذين لا يعملون بهذه الاصول لا علم لهم بالأحكام الشرعيّة الفعليّة الّتي يترتّب عليها آثار الإطاعة والانقياد ، وما يزعمونه علما بمعتقدهم الفاسد ليس في نظر الشرع إلاّ جهلا مستقرّا نشأ عن التقصير ، فعدم كونهم متحيّرين حقّ غير أنّ عدم التحيّر قد يكون لأجل العلم بالمسألة ولو شرعيّا ، وقد يكون لأجل الجهل بها ولو مركّبا ، ومجرّد عدم المعرفة بتغيّر العرفين لا يوجب استفادة المطلب من الخطاب ما لم يتصدّ لإعمال الاصول المقرّرة لإحراز المراد الّتي لا تعرف إلاّ بمراعاة علم اصول الفقه ، والأحاديث إنّما يكون حجّة لمن يقوم بشرائط الحجّية المحرزة للسند والدلالة وغيرها ممّا له تعلّق بمقام استفادة الحكم واستنباطه لا مطلقا ، وعدم التكليف بأزيد ممّا يفهم إنّما يسلّم لمن نشأ فهمه عن القواعد المقرّرة والضوابط المحرّرة الباعث مراعاتها على إدراج هذا الفهم في عداد العلوم الشرعيّة وإخراجه عن الجهل والضلالة.

وما علم فيه بتغيّر العرف يعلم حاله بسائر الطرق الاجتهاديّة والاصول القويّة المحكمة الّتي رضي بها اللّه ورسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم واكتفيا بها عن الواقع حيثما اجريت مجاريها ، والحكم عليها بالضعف إنّما ينشأ عن ضعف العقيدة وقصور الهمّة ، ولا مجال للكتاب والسنّة والإجماع الكاشف عن قول أهل العصمة في العرف وما يتعلّق به ، مع أنّ ما علم فيه بتغيّر العرف إن أوجب إشكالا فهو مشترك الورود.

ولا ريب أنّه يهون في نظر من يعتمد على تلك الاصول الضعيفة ويرتفع بطريقته أخذا

ص: 266

وأن يعرف شرائط البرهان لامتناع الاستدلال بدونه *

__________________

بموجبها ، وأمّا على طريقة من يزعمها ضعيفة فهو بحاله ولا مدفع له عنه إلاّ الالتجاء بها أو بما يقرب منها ممّا دونها أو فوقها ، وليس ذلك في مذاقه إلاّ الرجوع إلى الاحتياط ، وأيّ شيء قضى بقوّة هذا الأصل وضعف غيره ممّا يعتمد عليه المجتهدون من الاصول المعهودة لديه الّتي منها الاستصحاب وأصل البراءة ونحوها.

وتفرّق أقوال مسألة واختلاف أدلّتها لو أوجب عدم الاعتداد بها لخرج المسائل الفقهيّة عن الاعتبار ، إذ قلّما يتّفق فيها من مسألة لم يتفرّق فيها الأقوال ولا يختلف فيها الأدلّة.

ومن المعلوم أنّ الاعتداد بالمسألة يتبع الإذعان بها من أيّ فنّ كانت وبأيّ سبب حصل حيثما قامت الحجّة على اعتباره أو اعتبار سببه.

اشتراط علم المنطق في الاجتهاد

* أراد بذلك بمقتضى ظاهر العبارة معرفة القواعد المنطقيّة والقوانين الميزانيّة المتعلّقة بصور الأدلّة من الاستثنائيّات والاقترانيّات المحصورة بالأشكال الأربعة ، لامتناع نهوض الدليل دليلا لمن جهلها ، ولأنّ عدمها يؤدّي إلى امتناع استحصال سائر الشروط المتقدّمة ، فإنّ هذه المعرفة كما أنّها شرط لأصل الاجتهاد فكذلك شرط لغيره من شروطه الّتي هي عبارة عن عدّة علوم ولا سيّما علم اصول الفقه الّذي هو العمدة في الباب لكونه من العلوم النظريّة ، ولأجل ذا ربّما أمكن الاستغناء عن اعتبار هذا الشرط بالخصوص بعد اعتبار غيره من المذكورات ، نظرا إلى أنّ المراد باستحصالها حسبما تقدّم استحصالها بمبادئها اللازمة الّتي منها مراعاة المنطق ، فحصولها يستلزم سبق حصول معرفته ، وهو يوجب الغناء عن التصريح بشرطيّته للاجتهاد ، لأنّ العبرة في شرائط الوجود بحصولاتها الخارجيّة لا وجوداتها الذهنيّة ، وهذا الكلام وإن كان يجري في سائر الشروط أيضا غير أنّها لابدّ فيها من التصريح بالاعتبار بعثا لطالب صناعة الاجتهاد الغافل عن شرطيّتها على تحصيلها.

ولا يذهب عليك أنّ القدر المكتفى به من هذا الشرط أيضا حصول ما يوصل إلى التمكّن من إقامة الدليل بشرائطه المقرّرة عند أهل الصناعة ولو من غير جهة الكسب ، وبغير طريق مراجعة أهل الصناعة ومزاولة كتبها المدوّنة.

وقضيّة ذلك كفاية حصوله على نحو الإجمال من غير حاجة إلى النظر التفصيلي الّذي لا يتأتّى إلاّ بالخوض في مسائلها المدوّنة المستدعي لصرف برهة من العمر المفيد لتعرّف تفاصيل اصطلاحاته واستفصال مجملاته الحاصلة للأوساط من الناس حصول الفطريّات ،

ص: 267

إلاّ من فاز بقوّة قدسيّة تغنيه عن ذلك *

__________________

بل لا يزال نتائجه المجملة حاضرة في ذهن كلّ من له عقل وشعور حتّى العوام بل النسوان والصبيان ، خصوصا جملة من الأقيسة كالقياس الاستثنائي والشكل الأوّل من الاقتراني المدّعى كونه بديهيّ الإنتاج.

ألا ترى أنّه لو قيل : « إذا كان الغراب قد طار من الهوا فقد مات زيد » أو قيل : « كلّ عالم شريف ، فزيد شريف ، وهو ليس من العلماء » أو قيل : « زيد كاتب ، وكلّ كاتب خليفة السلطان ، فزيد خليفة السلطان » كانت الملازمة فاسدة ببداهة نظر كلّ من وصله هذا القول وكان من ذوي العقول والشعور ، كيف وامور معاش العقلاء بجميع وجوهها المختلفة وعناوينها المنضبطة لا تكاد تنتظم إلاّ باستدلالاتهم المحكمة المندرجة في فطريّاتهم وأظهر جبلّياتهم.

فالخوض في الفنّ بمزاولة مسائله وممارسة مطالبه ممّا لا يجدي إلاّ في تبدّل لباس الإجمال بلباس التفصيل ، وتعرّف الاصطلاحات الّتي تعين على أداء المركوز في الذهن بحسب الفطرة الأصليّة على وجه التفصيل ، وهذا كما ترى ممّا ليس له كثير مدخليّة في استنتاج المطلب الّذي هو الغرض الأصلي في مقام الاستدلال ، فإنّ العجز عن تحرير الدليل والتعبير عن أجزائه ومقدّماته الحاضرة في الذهن على جهة الإجمال بالألقاب المحرّرة في الصناعة - وهو أمر بين الخارج عنها والداخل فيها - لا يخلّ بالقوّة الراسخة في النفس المقتدر بها على إعماله.

ولا ريب أنّ كلّ من له هذه القوّة فهو محصّل للشرط المذكور ولا حاجة له معها إلى تكلّف مؤنة التحصيل توصّلا إلى جهة التفصيل.

نعم حيث إنّ الاجتهاد في هذه الأزمنة والأعصار صار من الصناعات المبتنية على الجدال الّذي لا يكاد يتأتّى إلاّ بالتعرّض للأقوال والقدح في أدلّتها تارة بالنقض والمعارضة والإصلاح لها اخرى بالتأويل والمعالجة ، فالحاجة ربّما تكون ماسّة بالخوض المؤدّي إلى معرفة تفاصيل اصطلاحات هذا الشرط.

اشتراط الاجتهاد بالقوّة القدسيّة

* وهذا الاستثناء كما ترى لا يرتبط بسابقه إلاّ إذا كانت المعرفة المتقدّمة مرادا بها ما يحصل بطريق الكسب ، إذ لولاه لكان مفاده : أنّ الفائزين بالقوّة القدسيّة لا حاجة لهم في استدلالاتهم إلى مراعاة قوانين الإنتاج وشروطه ولو إجمالا ، بل يفيد أنّهم بقوّتهم القدسيّة بريئون

ص: 268

وأن يكون له ملكة مستقيمة وقوّة إدراك يقتدر بها على اقتناص الفروع من الاصول وردّ الجزئيّات إلى قواعدها * والترجيح في موضع التعارض.

إذا عرفت هذا ،

__________________

عن إقامة البرهان بمعونة شروطها المقرّرة عارون عن استحضارها حتّى على جهة الإجمال.

وقضيّة ذلك كونه من صفات النقص الّتي يجب تنزيه الفائزين بصفات الكمال الّتي منها القوّة القدسيّة وهذا هو معنى فوزهم بها ، وفي هذه الدعاوي كلّها من الفساد ما لا يكاد يخفى على ذي مسكة ، ومثلها في الفساد المعنى الأوّل لو كان هو المراد - كما هو الأظهر - لما قرّرناه سابقا.

فالحقّ أنّ هذا الاستثناء وارد في غير محلّه ، لكونه في كلّ من محتمليه على خلاف التحقيق.

* المعروف بينهم التعبير عن هذه القوّة بالقوة القدسيّة ، والمراد بها على التفسير المذكور وما يرادفه - على ما يظهر من تضاعيف كلماتهم - قوّة يتمكّن بها من إعمال الاصول الحاضرة والقواعد الكلّية المستحصلة الّتي جملة منها المسائل الاصوليّة وجملة اخرى القواعد المقرّرة في متن الفقه وطيّ مباحثه وثالثة القواعد المتّخذة من علوم اخر ممّا يعدّ عندهم من الشروط.

والمراد بإعمالها إجراء كلّ في مواضعه اللائقة به حسبما ساعد عليه ظاهر النظر بعد استفراغ الوسع وبذل الجهد الّذي يدخل فيه علاج المعارضات وإن لم يطابق الواقع ، وهذا هو السرّ في اختلاف أنظار أساطين الفقهاء رضوان اللّه عليهم في تفريعاتهم الفقهيّة واستنباطاتهم الفرعيّة المبتنية على الاصول الكلّية المختلف في أكثرها مع وجود المعارضات في كثير منها لمكان معارضة بعضها بعضا.

وهذه القوّة كما ترى ليست بعين العلوم المتقدّمة المعدودة من الشروط ، ولا بعين القوّة الناشئة منها أو الباعثة على التمكّن من إدراك مسائلها ، ولا بعين الملكة المأخوذة في مفهوم الاجتهاد باعتبار الملكة ، ليلزم منه بناء على أخذها شرطا له بهذا الاعتبار شبهة اتّحاد الشرط مع مشروطه على ما سبق إلى بعض الأوهام ، بل هي حالة اخرى ممتازة عن الجميع مأخوذة في الطرف المقابل لها جمع مغايرة للأحوال الثلاث الاول بالذات والاعتبار وللحالة الرابعة المأخوذة في مفهوم الاجتهاد كذلك أيضا على بعض الوجوه وبالاعتبار فقط على البعض الآخر.

ص: 269

وتوضيحه : أنّ حقيقة الملكة المأخوذة في مفهوم الاجتهاد المشروطة بالامور المتقدّمة الّتي منها القوّة المذكورة عبارة عن الحالة النفسانيّة المعتدلة الّتي يقتدر معها على إقامة الأدلّة الشرعيّة على الأحكام الجزئيّة الفرعيّة ، وظاهر أنّ إقامة الأدلّة تستدعي كبريات محرزة أو مقدّمات اخر مرتبطة بالكبريات هي قضايا كلّيّة تستحصل جملة منها من علم اصول الفقه واخرى من علوم اخر وثالثة من الأدلّة التفصيليّة كتابا وسنّة وغيرها ، وصغريات أو مقدّمات مرتبطة بالصغريات هي قضايا محقّقة أو فرضيّة تدرك بالوجدان تحرز على وجه ينطبق موضوعاتها على موضوعات الكبريات المذكورة تعدية لما فيها من الأحكام المثبتة بأدلّتها إليها ، وهذا هو معنى التفريع المأمور به في الأخبار بقولهم : « علينا أنّ نلقي إليكم الاصول وعليكم أن تفرّعوا » ويرادفه ما ورد في تفسير القوّة المبحوث عنها من قولهم : « ردّ الفروع إلى اصولها وإرجاع الجزئيّات إلى كلّيّاتها » نظرا إلى أنّ هذه المفاهيم ليس لها معنى محصّل إلاّ تطبيق موضوع المسألة الفرعيّة على موضوع الأصل والقاعدة الكلّيين ، ثمّ إجراء حكم موضوعيهما الكلّيين على موضوعها الّذي هو على فرض الانطباق من جزئيّات هذين الموضوعين.

ولا ريب أنّ إحراز الكبريات لابدّ له من منشأ لا يكون إلاّ حالة نفسانيّة هي إمّا نفس العلوم المشار إليها أو الحالة الناشئة منها ، أو الباعثة على تمكّن إدراكاتها ، كما أنّ إحراز الصغريات على الوجه المذكور لاب دّ له من منشأ لا يكون إلاّ حالة نفسانيّة تغاير الحالة الاولى ، ولا تلازم بينهما أيضا باعتبار الخارج ، لبداهة التخلّف من الطرفين كما يدرك بالوجدان وصرّح به غير واحد من الأعيان ، فقد يبلغ الإنسان في العلوم المشار إليها حظّا وافرا ولا حظّ له في التفريع المذكور لقصور باعه وضعف فطنته كما هو المشاهد ، وقد يتسلّط بفطانته وانسه بمذاق الفقهاء لمخالطته لهم ومزاولته متون كتبهم على التفريع وإدراج كلّ فرع في أصله المقرّر لدى أرباب الصناعة. ولا يتمكّن من تحقيق ذلك الأصل بنفسه ، لعدم خبرته بالعلوم المشار إليها أو عدم استكماله لها ، فإذا جمع الوظيفتين استكمل الحالتين ويحصّل له باجتماعهما حالة ثالثة هي الهيئة الاجتماعيّة أو الهيئة البسيطة المنتزعة عنها أو المتولّدة منها على وجه الحقيقة ، والحالة المعبّر عنها بالقوّة القدسيّة يغايرها على جميع الوجوه ، غير أنّها على الوجه الآخر مغايرة لها ذاتا واعتبارا وعلى الوجهين الأوّلين مغايرة اعتبارا ، والفرق بينهما أنّها على أوّلهما حالة مركبّة من الحالتين ، فإن اخذت بوصف الاجتماع

ص: 270

كانت غيرهما بالاعتبار وإن اخذت لا بهذا الوصف كانت عينهما بالذات ، فهي متّحدة معهما ذاتا مغايرة لهما اعتبارا.

وعلى ثانيهما حالة بسيطة اعتباريّة ، لكون ثبوتها منوطا بالانتزاع الّذي ليس إلاّ اعتبار المعتبر.

ولا ريب أنّ القوّة القدسيّة يصحّ على جميع التقادير عدّها شرطا بالإضافة إليها وإن كان في إطلاق الشرط عليها على أوّل التقادير نوع مسامحة يظهر وجهها للبصير بمصطلح القوم ، وهذا هو الدافع لما أشرنا إليه من شبهة اتّحاد الشرط والمشروط بناء على أخذ القوّة المذكورة شرطا للاجتهاد بمعنى الملكة ، فإنّ الملكة المقتدر بها على إقامة الدليل غير الملكة المقتدر بها على إقامة جزء الدليل كما عرفت ، فلا مانع من جعل الاولى مشروطة بالثانية.

والحاصل : ملكة الاجتهاد عبارة عن الحالة النفسانيّة الّتي يتمكّن بها على استنباط الأحكام الشرعيّة عن الأدلّة بطريق الاستدلال المشتمل على صغرى وكبرى ، وما يرتبط بهما من المقدّمات القريبة أو البعيدة الّتي لها مدخليّة في إنتاجهما ، وهذه الحالة موقوفة في حصولها الخارجي على قوّة يتمكّن بها من التفريع ، وحاصل معنى التفريع جعل الصغرى مرتبطة بالكبرى.

وبعبارة اخرى : قوّة بها يدرك اندراج الأصغر في الأوسط ، مثلا قولنا : « كلّ متغيّر حادث » وقولنا : « كلّ مستغن من المؤثّر قديم » أصلان كلّيان وإثبات الحدوث أو القدم للعالم يتوقّف على قوّة بها يدرك كون العالم من جزئيّات المتغيّر ، أو المستغني عن المؤثّر ، وهذه هي قوّة التفريع المعبّر عنها بالقوّة القدسيّة.

وإليه يرجع ما أفاده بعض الفضلاء في هذا المقام من : « أنّ المذكور في الشرط قوّة ردّ الفروع إلى

الاصول ، ومرجعه إلى التمكّن من معرفة اندراج كلّ فرع تحت أصله ، وظاهر أنّ هذا المقدار من القوّة لا يستلزم التمكّن من معرفة حكم الفرع كما هو معنى الاجتهاد بالقوّة فضلا عن اتّحادها معه ، فإن لم يتحقّق مباحث الاصول ربّما يحصل له بمزاولة الفقه ملكة يتمكّن بها من معرفة اندراج كلّ فرع تحت أصله ، ولكن لا يتمكّن من معرفة حكم الفروع لعدم تمكّنه من تحقيق حكم الأصل ».

وفي معناه ما قرّر أيضا بعض الأعلام من : « أنّ الملكة الّتي هي نفس الاجتهاد هي الملكة الخاصّة المترتّبة على مجموع شرائط الفقه الّتي من جملتها الملكة العامّة ، أعني

ص: 271

تمكّن ردّ مطلق الجزئيّات إلى الكلّيات والفروع إلى الاصول ، لا بردّ جزئيّات الفقه إلى كلّياته ».

ولكنّك خبير بأنّه أظهر في بعض الوجوه المتقدّمة ، كما أنّك بصير بأنّ ذيل كلامه غير خال عن حزازة ، فإنّ التعميم المذكور المتعقّب للتصريح بنفي الخصوصيّة غير واضح الوجه.

إلاّ أن يقال : إنّه لتوهّم التلازم بين صناعة الفقه وسائر الصناعات في قوّة التفريع ، فإنّها حيثما حصلت لا تختصّ بصناعة دون اخرى ، فليتدبّر.

وربّما يفسّر هذا الشرط بسرعة الانتقال كما في بعض شروح التهذيب عند قول العلاّمة : « وثامنها : أن يكون له قوّة استنباط الأحكام الفرعيّة عن المسائل الاصوليّة » فقيل في شرحه : « هذا قريب من التمكّن الّذي مضى ذكره ، ويمكن أن يراد بقوّة الاستنباط سرعة الانتقال ، ويسمّيه بعض الفقهاء بالقوّة القدسيّة كما في الدروس ، ويحمل ذلك على أن لا يكون متناهيا في البلادة وهو أن يكون بحيث إذا راعى أجزاء القياس وشرائطها يغلط في الانتقال ، فهذا لا يكون مجتهدا ، إذ من حصّل الأسباب كلّها فهو متهيّئ باعتبار الأسباب ، لكن بعد ترتيب القياس يغلّط ، فهذه مرتبة اخرى بعد المرتبة الاولى على ما يفهم من كتاب الإشارات » انتهى. وضعفه واضح ممّا مرّ ، فإنّ التمكّن من إقامة الدليل على وجه اشتمل على صغرى وكبرى لا يتأتّى إلاّ بوجود ما يحرز به الصغرى من الهيآت النفسانيّة ، وقوّة الاستنباط هاهنا مرادا بها القوّة الباعثة على التمكّن من إحراز الصغرى لتعدية الأحكام الاصوليّة بالمعنى الأعمّ من القواعد الكلّية المقرّرة في نفس الفقه إليها.

ولا ريب في مغايرته لما مرّ ، مع أنّ سرعة الانتقال بمعنى عدم التناهي في البلادة ممّا لا مدخل له في حقيقة هذه القوّة ، بل هي كجودة الذهن وغيرها كمال آخر من كمالات النفس.

وما بيّنّاه في الفرق بين هذا الشرط ومشروطه - وهو الاجتهاد بالمعنى الملكي - لا ينافي ما قرّرناه في تعريف الفقه من أنّ مقام الاجتهاد ما يحرز فيه صغرى لينضمّ إليها كبرى مستحصلة من أدلّة حجّية اعتقاد المجتهد ومجتهداته وكونها أحكاما فعليّة ، لأنّ ما يقع صغرى لهذا القياس هو النتيجة المستحصلة في مقام الاجتهاد المبتنية على الملكة المشترطة بامور منها : القوّة المفسّرة بالقوّة القدسيّة حسبما تقدّم.

ثمّ يبقى الكلام في امور ينبغي التعرّض لها :

أحدها : مقتضى التأمّل الصادق - كما تنبّه عليه بعض الفضلاء - كون أصل هذه القوّة

ص: 272

من حيث إنّها عرض قائم بالنفس أمرا كسبيّا منوطا عروضها بالأسباب الخارجيّة الّتي عمدتها التدبّر التامّ في جميع أطراف المسألة ووجوهها ليتميّز به ما به اندراجها تحت أصل من الاصول عن الخصوصيّات المكتنفة بها ، ولملاحظة النظائر والأضداد تمييزا لما به مضادّة الأضداد عمّا به اندراج النظائر المندرجة تحت الأصل المشكوك في اندراج المسألة تحته ليعلم اندراجها فيه وعدم اندراجها دخل عظيم في حصولها ، وليس ذلك من باب القياس في شيء ، لوضوح الفرق بين الانتقال إلى حكم شيء لاندراجه تحت أصل كلّي بملاحظة ما به اندراج النظائر المندرجة فيه ، وبين الانتقال إلى حكم شيء أصله مشتركة بينه وبين غيره المعبّر عنه بالأصل.

وممّا له دخل في حصولها أيضا ملاحظة تفريعات أهل الصناعة ومزاولة تنظيراتهم واستنباطاتهم الجزئيّة ، ولمجادلة أربابها ومباحثتهم أيضا دخل فيه وفي ازدياده.

فما يستفاد من بعض الأعلام من كون هذه القوّة أمرا غريزيّا موهبيّا يختصّ ببعض النفوس دون بعض ولا يحصل أصلها بالكسب بل له مدخليّة في زيادتها وتقويتها ، ليس بسديد.

نعم قابليّة المحلّ من حيث استعداده وتهيّوئه لقبولها أمر موهبي لابدّ وأن يكون من المبدأ الفيّاض ولا مدخل للكسب فيه ، ومرجعها إلى الفطانة والذكاوة وجودة الذهن واستقامة الطبع ، ولعلّه قدس سره اختلط عليه الأمر فاشتبه القوّة الحالّة في المحلّ بقابليّة ذلك المحلّ مع وضوح الفرق بينهما ، فإنّ القابليّة بالمعنى المذكور من أسباب هذه القوّة ومقتضياتها. ثمّ إنّه كما أنّ لها أسبابا ومقتضيات فكذلك لها منافيات لابدّ في تحقّقها من انتفائها :

منها : إعوجاج السليقة ، فإنّه من معائب النفس الباعثة على عدم استقامة الطبع الّذي يستكشف عنه بمراجعة الغالب والمعتدلين ومشاهير الفقهاء والمجتهدين.

ومنها : الجربزة الباعثة على عدم وقوف الذهن على شيء المعلوم انتفاؤها ، بأن يكون له ثبات فيما يرجّحه.

ومنها : البلادة الباعثة على عدم التفطّن بالدقائق المعتنى بها في مقام الاستنباط.

وقد يذكر هنا امور اخر منها : أن لا يكون جريّا في الفتوى غاية الجرأة ، ولا مفرطا في الاحتياط ، فإنّ الأوّل ممّا يهدم المذهب والدين ، والثاني ممّا لا يهتدي إلى سواء الطريق من

ص: 273

حيث أدائه إلى عدم قضاء حوائج المسلمين بل ربّما يشوّه الدين ويشوّش الشرع المبين.

ومنها : أن لا يكثر في التوجيه والتأويل ، فإنّه ربّما يفضي إلى الأخذ بأبعد الاحتمالات مكان الظواهر لمكان الانس بذلك ، فإنّ للانس بكلّ طريقة أثرا بيّنا في إذلال الذهن وإضلال الفكر عن الصراط السويّ.

ومنها : أن لا يكون بحّاثا يحبّ البحث ولا جدليّا يحبّ الجدال ، فإنّ ذلك مرض قد يكون طبيعيّا كالعقرب المجبولة على حبّ اللسع ، وقد يكون لغرض فاسد من حبّ الرئاسة والشهرة وطلب إظهار الكمال والفضيلة.

والإنصاف أنّ هذه الامور ليست من شروط القوّة المبحوث عنها ولا من الامور الراجعة إلى قابليّة المحلّ.

نعم كثير منها من شروط الاعتبار والوثوق والاطمئنان.

نعم الإفراط في الاحتياط ربّما يكون لضعف قوّة الترجيح وقصور ملكة الاستنباط ، وبعضها من آداب الورع والتقوى ولوازم الخلوص وحسن النيّة كالأخير.

وثانيها : أنّ من القاصرين من أنكر اعتبار هذه القوّة أو مطلق الملكة في الاجتهاد لشبهات عرضت له.

منها : أنّه ينافي القول بوجوب الاجتهاد عينا أو كفاية على القولين ، لأنّا نعلم بالعيان أنّ كثيرا من الناس ليس له تلك الملكة ، وإن خصّصنا بذوي الملكات فهو أيضا باطل ، لأنّه قبل الاجتهاد ومزاولة الفقه لا يظهر له أنّه ذو ملكة أم لا؟ فمع عدم العلم بالشرط كيف يجب عليه ، مع أنّ كثيرا من المشتغلين يظهر له بعد السعي وبذل الجهد أنّه فاقد لها فكيف حكم الحكيم بوجوبه عليه مع فقدان الشرط ، وقد مرّ أنّه لا يجوز التكليف مع علم الآمر بانتفاء الشرط.

ويزيّفه : أنّه إن أراد به أنّ إطلاقهم في اختيار أحد القولين حيث صار إلى كلّ فريق من دون تعرّض لذكر هذا الشرط ممّا ينفي اعتباره فيفسد معه القول بشرطيّته.

ففيه أوّلا - بعد عدم مساعدة ظاهر العبارة عليه - : أنّ الإطلاق على فرض قيامه متساوي النسبة إلى هذا الشرط وسائر الشروط المتقدّمة الّتي لا كلام لأحد بل لا خلاف يعتدّ به في اعتبار أكثرها ، حيث إنّ الفريقين لم يتعرّضا في هذا المقام لذكر شيء منها ، فيلزم التوصّل به إلى نفي الشرطيّة فيها بأسرها وهو كما ترى ، والمدفع واحد والفرق تحكّم.

ص: 274

وثانيا : بطلان توهّم الإطلاق في هذا المقام ، حيث إنّ الغرض الأصلي عند اختيار القولين ونظائرهما في سائر الموارد إنّما هوبيان أصل الحكم لموضوع محرز بالفرض أو معيّن بحسب الواقع من دون نظر إلى تفاصيل ما يعتبر في ذلك الموضوع وما لا يعتبر ، فالقضيّة حينئذ بالقياس إلى موضوعها مأخوذة على وجه الإهمال والإجمال لا على سبيل الإطلاق والبيان ، فلا ينافيها التعرّض للبيان في غير مقام بيان أصل الحكم كما في سائر القضايا بالقياس إلى موضوعاتها الّتي تبيّن في غير مقام البحث عن أحكامها متقدّما أو متأخّرا.

وثالثا : أنّا في صدد تحقيق المسألة حسبما يقتضيه النظر ويساعد عليه القاعدة ، فلا جرم نختار أحد القولين ولا نطلقه بل نخصّصه بواجدي الشروط الّتي منها هذه الملكة الخاصّة أو مطلق الملكة ، فإن اخترنا القول بفرض الكفاية فلازمه سقوط الفرض بقيام من قام به الكفاية عن الآخرين ظاهرا وواقعا لو كانوا واجدين للشروط واقعا ، أو ظاهرا فقط لو كانوا فاقدين لها واقعا ، فلا محذور.

وإن اخترنا القول بفرض العين فلازمه وجوب الإقدام على كلّ مكلّف احتمل في حقّه حصول الشروط تحصيلا لمقدّمات وجود الواجب المطلق على حدّ سائر الواجبات المطلقة بالقياس إلى مقدّماتها الوجوديّة ، نظرا إلى أنّ شروط الاجتهاد كلّها حسبما تقدّم مقدّمات وجوديّة صرفة.

ولا يقدح فيه قيام احتمال عدم اتّفاق حصولها كلاّ أم بعضا بطروّ العذر ، أو تبيّن مصادفة عدم التمكّن أخذا بظاهر الحال وغلبة السلامة المستتبعة لاتّفاق حصول المقدّمات ، كما هو الحال في طيّ مسافة الحجّ المحكوم بوجوبه ظاهرا على المستطيع شرعا في العام الأوّل من الاستطاعة مع اطّراد قيام احتمال عدم اتّفاق الوصول لعذر طار.

غاية ما هنالك أنّه إذا تبيّن في الأثناء تعذّر الحصول وعدم التمكّن من الوصول انكشف عدم شمول الخطاب من أوّل الأمر قضيّة لعدم جواز الأمر مع علم الآمر بانتفاء الشرط ، فيكون حال هذا المكلّف كغيره من الغير المتمكّنين من بدو الأمر ، فيحكم عليه حينئذ بحكمه المقرّر عند أهل هذا القول.

وإن أراد به أنّ مصيرهم إلى اختيار أحد القولين مع انضمام علمهم العياني بأنّ كثيرا من الناس ليس لهم تلك الملكة يقوم مقام التصريح بعدم اعتبارها في الاجتهاد أصلا.

ص: 275

ففيه : منع صراحة القول ولا ظهوره في النفي فلا منافاة بين المقامين ، ولو سلّم الدلالة على النفي بأحد الوجهين فهي بعد نهوض القاطع بشرطيّة الملكة دلالة فاسدة قصدت على خلاف التحقيق فلا يعبأ بها ، مع عدم ابتناء المسألة على تقليد الغير من أصحاب القولين فلا ضير في المصير إلى مخالفتهم إذا ساعد عليه النظر المؤدّي إلى الشرطيّة والمفروض عدم انعقاد الإجماع على نفي الشرطيّة لمصير أساطين أهل الصناعة إلى الشرطيّة كما يظهر للمتتبّع.

ومنها : أنّ اشتراط الملكة يستلزم عدم العلم بوجود المجتهد ، لأنّها أمر خفيّ مع أنّه غير منضبط لاختلاف الطبائع فيها غاية الاختلاف ، فلا يظهر ما هو المعتبر منها للعوامّ ومعه لا يمكن الامتثال غالبا فيقبح التكليف.

وفيه : أنّ صاحب الملكة من كلّ شأن وصناعة يعرفه أهل الخبرة من هذا الشأن وتلك الصناعة بالطرق المقرّرة عندهم ، بل معرفة وجودها في نظرهم أسهل شيء في مظانّه ، وليس هذه المعرفة من وظيفة العامي بل وظيفته الرجوع إلى العدول من أهل الخبرة ، ولا يعتبر في أهل الخبرة وجود الملكة كما لا يخفى.

ومنها : أنّهم عليهم السلام قرّروا لنا قواعد يستنبط منها بعض المسائل ولا حاجة لنا فيها إلى تلك الملكة.

نعم قد وضع الاصوليّون قواعد مبتنية على أدلّة مدخولة ومباني ضعيفة - مثل : أنّ مقدّمة الواجب واجبة ، والأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ ، وإنّ الأمر والنهي لا يجتمعان ، وإنّ استصحاب الحال حجّة - يحتاج استنباط المسائل منها إلى تلك الملكة ، وهذه قواعد واهية لا يحتاج إليها فلا يجوز التمسّك بها.

وفيه : أنّ بداهة الوجدان وضرورة العيان تقضي بأنّ فهم أصل تلك القواعد المقرّرة من أدلّتها المتعارفة يستدعي ملكة ، وإجراء تلك القواعد كلّ في موضعها اللائق بها ملكة اخرى لا يكفي عنها الملكة الاولى ، ودعوى عدم الحاجة إليها مكابرة للوجدان ومدافعة لمقتضى العيان ، وأمّا ما في آخر العبارة في القدح في المسائل الاصوليّة فقد أشبعنا الكلام في إفساده بما لا مزيد عليه.

ومنها : أنّ هذه الأحاديث والأخبار كان يعمل بها في عصر الأئمّة كلّ من سمعها عالما كان أو عاميّا ، وتقريرهم عليهم السلام إيّاهم يدلّ على أنّ كلّ من فقهاء يجوز أن يعمل بها من دون

ص: 276

توقّف على شرط آخر من المسائل (1) وغيرها.

وفيه : أنّ مآل هذا الكلام إلى إنكار شرائط الاجتهاد كلّها ، فيفسده كلّما تقدّم في إثباتها ، هذا مع بطلان مقايسة حالنا على حال العاملين بالأخبار والأحاديث من أهل عصر الأئمّة عليهم السلام مع ما في التقرير المدّعى من الإجمال المانع من الاتّكال من جهات عديدة باعتبار العامل والمعمول به ووجه العمل وكيفيّته ما لا يخفى على المتأمّل.

فالعموم المدّعى عليه التقرير غير مسموع ، بل ثبوت أصل التقرير غير مسلّم ، وقد تقدّم في الأخبار الدالّة على وجود الأحاديث الكاذبة فيما بين أحاديث أهل العصمة ما هو صريح في المنع من عموم العمل بكلّ حديث ، والردع عن إطلاق الأخذ بالأحاديث المسموعة ، مع أنّ الأمر بالتفريع الوارد في الأخبار المستفيضة لا يتناول كلّ من سمع الحديث ولا كلّ عامل بالخبر ولو عاميّا.

فاختصاص هذا الأمر بغير العامي ينهض دليلا على اعتبار الشرائط كلّها حتّى الملكة المبحوث عنها ، ضرورة أنّ التفريع المأمور به لا يتمّ بدونها.

فالاستدلال على نفي اعتبارها بما ذكر وغيره من الوجوه السخيفة يشبه بكونه اجتهادا في مقابلة النصّ.

وبذلك يبطل ما قيل أيضا : من أنّ عموم تكليف المكلّفين بالعمل بالأخبار يدلّ على أنّ العمل بالأفراد الخفيّة واللوازم الغير البيّنة الّتي لا يهتدي إليها إلاّ الأكثرون ولا يعرف فرديّتها ولزومها إلاّ بالنظر والاستدلال غير لازم ، وإلاّ لزم التكليف بما لا يطاق بالنسبة إلى غير المتمكّنين ، فإنّ ما ادّعي من عموم التكليف بالعمل بالأخبار في محلّ منع لجهات عديدة : فتارة باعتبار العامل ، واخرى باعتبار المعمول به ، وثالثة باعتبار جهة العمل ، مع أنّ التكليف العامّ على فرض وجوده حسبما ادّعي ليس إلاّ من باب الخطابات المعلّقة على شرائط التكليف عقليّة وغيرها فيختصّ كمّا وكيفا وجهة بواجديها.

وبالتأمّل في جميع ما ذكر في دفع جميع الوجوه المذكورة يظهر ضعف ما قيل أيضا : من أنّهم كانوا يعملون بالأخبار بدون الفحص عن المعارض وحصول الملكة المحتاج إليها في علاج التعارض.

ص: 277


1- كذا في الأصل ، والأنسب بسياق العبارة هكذا : « من الملكة » الخ.

فاعلم : أنّ جمعا من الأصحاب وغيرهم عدّوا في الشرائط : معرفة ما يتوقّف عليه العلم بالشارع من حدوث العالم وافتقاره إلى صانع موصوف بما يجب ، منزّه عمّا يمتنع ، باعث الأنبياء ، مصدّق إيّاهم بالمعجزات ، كلّ ذلك بالدليل الإجمالي ، وإن لم يقدر على التحقيق والتفصيل * ما هو دأب المتبحّرين في علم الكلام.

وناقشهم في ذلك بعض المحقّقين : بأنّ هذا من لوازم الاجتهاد وتوابعه ، لا من مقدّماته وشرائطه. وهو حسن ، مع أنّ ذلك لا يختصّ بالمجتهد ، إذ هو من شروط الإيمان **

__________________

اشتراط الاجتهاد بمعرفة علم الكلام

* هذا البيان ملخّص ما أرادوه من قولهم بشرطيّة معرفة الكلام ، كما عن النهاية والتحرير ، والتهذيب ، والذكرى ، والدروس ، والتنقيح ، والروضة ، والفوائد الحائريّة ، ورسالة الاجتهاد والأخبار ، والوافية.

ووجه الاشتراط - على ما يستفاد من كلام جماعة - : أنّ معرفة الأحكام الشرعيّة يتوقّف على الاعتقاد بوجودها ، المتوقّف على معرفة الشارع وصفاته من كونه قادرا عالما مرسلا للرسل ، ومعرفة النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم وصدقه وعصمته ، فإنّ معرفة الوجوب بدون الموجب بل معرفة الحكم الشرعي بدون معرفة الشارع بالمعنى الشامل للنبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم محال.

وأمّا ما في كلام جماعة - منهم بعض الأعلام - من التعليل بأنّ المجتهد يبحث عن كيفيّة التكليف وهو مسبوق بالبحث في معرفة نفس التكليف والمكلّف ، فلعلّه مسامحة في التعبير ووارد على خلاف التحقيق ، فإنّ المطلوب في مقام الاجتهاد ما هو موضوع التكليف ، لا نفس التكليف وإلاّ لزم أن لا يكون العلم من شروط التكليف لئلاّ يلزم الدور ، كما يعلم وجهه بالتأمّل وسبق بيانه في غير موضع من كلماتنا.

** وفي الروضة : « أنّه صرّح جماعة من المحقّقين بأنّ الكلام ليس شرطا في التفقّه ، فإنّ ما يتوقّف عليه منه مشترك بين سائر المكلّفين » إلى آخره.

وقد تحمل هذه العبارة على نفي الشرطيّة رأسا كما هو مفاد ما حكاه المصنّف ، ولكنّه ليس كما حمل كما يشهد به التأمّل في مساقها ، فإنّ النفي عند التحقيق راجع إلى ما زاد على المعارف الخمس من المطالب الكلاميّة الّتي منها مباحث الجواهر والأعراض كما

ص: 278

فهمه الشهيد الثاني رحمه اللّه ، فلم يثبت قول بنفي الشرطيّة إلاّ محكيّ المصنّف الّذي استحسنه.

ومن الأعلام من وافقه على أصل المطلب وإن خالفه في وجهه ، حيث قال : « والتحقيق أنّ العلم بالمعارف الخمسة واليقين بها لا دخل له في حقيقة الفقه.

نعم هو شرط لجواز العمل بفقهه وتقليده ، فإذا فرض أنّ كافرا عالما استفرغ وسعه في الأدلّة على ما هي عليه واستقرّ رأيه على شيء على فرض صحّة هذا الدين ، ثمّ آمن وتاب وقطع بأنّه لم يقصّر في استفراغ وسعه شيئا فيجوز العمل بما فهمه.

ولا ريب أنّ محض التوبة والإعادة لا يجعل ما فهمه فقها ، بل كان ما فهمه فقها وكان استفراغ وسعه على فرض صحّة المباني » إلى آخره.

وفيه من الضعف ما لا يخفى ، فإنّ الفقاهة بعد تحقّق الاجتهاد وأدائه إلى نبذة من الاعتقاد عنوان لا يتأتّى إلاّ بانضمام كبرى كلّية قطعيّة إلى صغرى يحرزها مقام الاجتهاد ، وظاهر أنّ الكافر ما دام كافرا فاقد لتلك الكلّية ومعه يستحيل صدق « الفقيه » عليه و « الفقه » على علمه.

وتحقيق المقام : أنّ هذا الخلاف راجع إلى أمر لفظي ، إذ لو فسّر الاجتهاد باستفراغ الوسع في تحصل الظنّ بمؤدّيات الأدلّة المتعارفة في الجملة على فرض قصر النظر عمّا بين الأدلّة المتعارفة على الكتاب والسنّة من حيث إنّهما من الأدلّة اللفظيّة المبنيّة على الدلالات العرفيّة ، اتّجه القول بعدم الشرطيّة ، فإنّ الاستدلال بالأدلّة اللفظيّة بعد الإحاطة بالشروط المحرزة للدلالة ومعالجة المعارضات منوط بملاحظة مداليلها الثابتة لها بمقتضى أوضاعها اللغويّة أو العرفيّة وظهوراتها الأوّلية أو الثانويّة من غير مدخل لخصوص متكلّم دون آخر فيه.

ولا ريب أنّ الألفاظ - كتابيّة وغيرها - إذا اخذت بهذا الاعتبار ولا بشرط ملاحظة قائلها الخاصّ أفادت للناظر فيها مداليلها - باعتبار أنّها صالحة لأن تكون مرادة لقائليها - إفادة ظنّية بل جزميّة في بعض الأحيان ، وإن كان الناظر كافرا بل منكرا للصانع والشرائع أو خصوص هذا الشرع.

وتوهّم أنّ الدلالة المثبتة للحكم في الألفاظ عبارة عن فهم المطلب على أنّه مراد للافظها ، وهذه في ألفاظ الكتاب والسنّة لا تحرز إلاّ بعد إحراز صدورها من الشارع بالمعنى الأعمّ من اللّه سبحانه والنبيّ والوصيّ ، ولا يحرز ذلك إلاّ بعد إثبات الشارع والشرع.

يدفعه : أنّ حصول الدلالة بهذا المعنى إنّما يقتضي وجود لافظ لتلك الألفاظ ، والكافر يعتقد لا محالة أنّ لها لافظا فيفهم مداليلها على أنّها مرادات لذلك اللافظ ، وأمّا أنّه هو الشارع أو النبيّ أو الوصيّ أو غيرهما فممّا لا مدخليّة له في حصول هذه الدلالة ، بل هو

ص: 279

أمر يرجع إلى مقام الحجّية والاعتبار.

نعم لا يبعد القول بأنّه يستحيل للكافر استفادة المطلب من الأدلّة اللبّية كالإجماع والعقل وغيرهما ، لابتناء دلالة الأوّل على الكشف وهو مع إنكار المنكشف محال والعقل لا يدرك ما ينكر ثبوته ، بخلاف الأدلّة اللفظيّة بالقياس إلى مداليلها الّتي لا مدخل لآحاد اللافظين وخصوصيّاتهم في إفاداتها ، ولا لكون الشارع ومن بحكمه لافظها.

هذا مع إمكان منع استحالة الاستفادة في الإجماع والعقل أيضا بتقريب : أنّ الإجماع يكشف عن رأي الرئيس ولو مع إنكار شارعيّته أو عدم الإذعان بكونه معصوما بسبب إنكار النبيّ والوصيّ ، والعقل يدرك حسن الأشياء وقبحها الملزومين للمحبوبيّة والمبغوضيّة لكلّ عاقل حتّى رئيس الأئمّة (1) وهذا يجامع مع إنكار كونه شارعا.

هذا ولكنّ الإنصاف : أنّ القول بكون المعارف الحقّة من شروط تحقّق الاجتهاد لا حكمه فقط قويّ ، وذلك لأنّ اصطلاحهم في الاجتهاد لمّا انعقد بجعل استفراغ الوسع - المأخوذ في مفهومه - مقيّدا بالظنّ بالحكم الشرعي ، فهو يتوقّف لا محالة على الشرط المذكور باعتبار قيده ولو في الأدلّة اللفظيّة ، فإنّ مفاد القيد بعد اعتبار التقييد إنّما هو الظنّ بالشيء على أنّه حكم شرعي.

ولا ريب أنّ الظنّ بمؤدّيات الأدلّة - ولو لفظيّة - على أنّها أحكام شرعيّة لا يتأتّى ممّن لا يعتقد وجود الصانع أو ينكر ثبوت الشرائع أو ينفي خصوص هذا الشرع.

فالقول بالشرطيّة حينئذ متّجه وقائله مستظهر ومنكرها مكابر ، وكونه من شروط الإيمان المتساوي فيه العالم والجاهل لا ينافي كونه من شروط الاجتهاد أيضا إذا كان المنظور من أخذه شرطا نفي تحقّقه عمّن فقده ، فالفاقد له كما أنّه ليس بمؤمن كذلك ليس بمجتهد اصطلاحا ، على معنى تعذّر صدقه عليه وإن جامع الشروط الاخر ، فالتشريك فيه بين العالم والعامي بجعله من شروط الإيمان ممّا لا تعلّق له بهذا المطلب.

لكن لا يذهب عليك أنّ اللازم من البيان المذكور كونه شرطا للاجتهاد الفعلي لا الملكي كما هو واضح.

وإن أخذناه مع ذلك من شروط التفقّه كان الأمر فيه أوضح على ما أشرنا إليه في صدر الباب ، وكما أنّه بهذا الاعتبار من مبادئ الفقه والاجتهاد فكذلك يكون من مبادئ علم اصول الفقه أيضا كما صرّح به جماعة ، معلّلين بأنّ هذا العلم باحث عن طرق الأحكام

ص: 280


1- كذا في الأصل والصواب : « رئيس الامّة » كما يقتضيه السياق.

الشرعيّة وأدلّتها وكونها مفيدة لها شرعا وذلك يتوقّف على معرفة اللّه تعالى ، فإنّ معرفة الحكم الشرعي بدون معرفة الشارع محال.

ولا يذهب عليك أنّ تحصيل هذا الشرط على وجه يترتّب عليه الغرض المطلوب منه بالقياس إلى الامور المذكورة لا يستدعي لزوم مراجعة الكتب الكلاميّة ، ولا الخوض في علم الكلام والتبحّر فيه ، واستقصاء مسائله بالقراءة والمذاكرة والمناظرة لأهلها على وجه يصير متكلّما كما نصّ عليه غير واحد ، فإنّ الّذي يتقوّم به الشرطيّة من مسائله على قسمين :

أحدهما : المعارف الخمس وما يتعلّق بها ، بل بعض المعارف لا كلّها كما لا يخفى ، وهذا القسم ما يكفي فيه الإجمال الّذي يتيسّر حصوله لعامّة المكلّفين من غير حاجة إلى الخوض في الفنّ ومزاولة كتبه بالقراءة وغيرها ، ولذا كان هذا ما يشترك فيه العالم والعامي ، وهذا هو معنى ما في كلام غير واحد من أنّ كلّ ذلك بالدليل الإجمالي وإن لم يقدر على التحقيق والتفصيل.

وثانيهما : المسائل المتفرّقة المعبّر عنها عند الاصوليّين بالمبادئ الأحكاميّة ، كوجوب شكر المنعم ، والتحسين والتقبيح العقليّين ، وقبح التكليف بما لا يطاق ، وامتناع اجتماع الأمر والنهي ، وعدم جواز الأمر مع علم الآمر بانتفاء الشرط ، وجواز التعليق من العالم بالعواقب وعدمه ، وكون الامتناع بالاختيار منافيا للاختيار ، وقبح الخطاب بما له ظاهر وإرادة خلافه بلا بيان عند الحاجة إليه ، إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على الخبير البصير.

وهذا القسم ما يكفي فيه تعرّض الاصوليّين له والبحث عنه بجميع خصوصيّاته في الكتب الاصوليّة على وجه أبسط ونمط أوفى ومعه يرتفع الحاجة إلى مراجعة فنّ آخر ، مع عدم ورود عنوان أكثر المذكورات في غير الكتب الاصوليّة.

وعلى ما ذكرنا يمكن حمل كلام المنكر لشرطيّة علم الكلام ، وعليه فلا مشاحّة ويعود النزاع لفظيّا.

ولا يذهب عليك أيضا أنّ في إطلاق القول بشرطيّة المعارف الخمس نوع مسامحة إذ الموقوف عليه منها للاجتهاد بعضها كما أشرنا إليه أيضا ، وهذا البعض هو الّذي فصّلته العبارة المحكيّة عن العدّة قائلة : « وذلك نحو العلم باللّه تعالى وصفاته وتوحيده وعدله.

وإنّما قلنا ذلك لأنّه متى لم يكن عالما باللّه لم يمكن أن يعرف النبوّة ، لأنّه لا يأمن أن يكون الّذي يدّعي النبوّة كاذبا ، ومتّى عرفه ولم يعرف صفاته وما يجوز عليه وما لا يجوز

ص: 281

وأمّا معرفة فروع الفقه ، فلا يتوقّف عليها أصل الاجتهاد *. ولكنها قد صارت في هذا الزمان طريقا يحصل به الدربة فيه وتعين على التوصّل إليه.

__________________

لم يأمن أن يكون قد صدّق الكاذب ، فلا يصحّ أن يعلم ما جاء به الرسول ، فإذا لابدّ من أن يكون عالما بجميع ذلك ، ولابدّ أن يكون عالما بالنبيّ الّذي جاء بتلك الشريعة ، لأنّه متى لم يعرف لم يصحّ أن يعرف ما جاء به من الشرع.

ولابدّ أن يعرف أيضا صفات النبيّ وما يجوز عليه وما لا يجوز عليه ، لأنّه متى لم يعرف جميع ذلك لم يؤمن أن يكون غير صادق فيما يؤدّيه ، أو يكون ما (1) أدّى جميع ما بعث به ، أو يكون أدّاه على وجه لا يصحّ له معرفته ، فإذا لابدّ من أن يعرف جميع ذلك » انتهى (2).

والظاهر أنّ معرفة الوصيّ أيضا لها مدخليّة ، لأنّه متى لم يعرفه أو لم [ يعرف ] صفاته لم يعرف كون مضامين الأخبار الصادرة منه أو المنسوبة إليه أحكاما شرعيّة أو ممّا جاء به النبيّ ، والمفروض أنّ الاجتهاد لا يتمّ إلاّ مع انضمام الأخبار الإماميّة إلى سائر طرقها ومداركها عند الفرقة المحقّة.

وكأنّ الشيخ إنّما أهمل ذكر ذلك على الانفراد لأنّ المراد بالاجتهاد المتوقّف على هذا الشرط ما يعمّ الاجتهاد بطريقة أهل الخلاف ، أو لأنّ المراد ممّا جاء به النبيّ الّذي يجب معرفته بمعرفة النبيّ ما يعمّ التنصيص بالخلافة.

اشتراط الاجتهاد بمعرفة فروع الفقه

* قال في الفوائد : « ومن الشرائط معرفة فقه الفقهاء وكتب استدلالهم ، وكونه شرطا غير خفيّ على من له أدنى فطانة ، إذ لو لم يطّلع عليها رأسا لا يمكنه الاجتهاد والفتوى ».

والأظهر ما عليه المصنّف وفاقا للقواعد والتحرير والمنية والدروس - على ما حكي عنهم - فإنّ المعرفة بفروع الفقه بل المسائل الفقهيّة المبحوث عنها في الفقه ليس لها بنفسها كثير دخل في الاجتهاد سواء اخذ باعتبار الملكة أو الفعل.

وعلّله في المنية : « بأنّ هذه الفروع استخرجها المجتهدون بعد تحقّق كونهم مجتهدين فكيف يكون شرطا في الاجتهاد مع تأخّرها عنه » انتهى.

نعم هو لازم عادي لما له مدخليّة تامّة فيه ، وهو الانس بطريقة الفقهاء في الدخول والخروج والخبرة بمذاقهم في كيفيّة الاستدلال وتقريبه وجرح الأقوال وتعديلها كما يرشد إليه بداهة الوجدان المغني عن مؤنة البرهان ، وبه صرّح في الزبدة قائلا : « ولابدّ من الانس

ص: 282


1- « ما » نافية.
2- العدّة 2 : 727.

بلسان الفقهاء » وكأنّه مراد من عبّر بما تقدّم من المعرفة بفقه الفقهاء.

فالقول بتوقّفه على معرفة فروع الفقه إن اريد بها ما عدا الانس المذكور ضعيف جدّا.

وأضعف منه ما عن بعض أفاضل متأخّري المتأخّرين من توهّم اشتراطه بكونه عالما بجملة يعتدّ بها من الأحكام علما فعليّا بحيث يسمّى في العرف فقيها ، كما في « النحوي » و « الصرفي » فإنّهما لا يصدقان عرفا بمجرّد حصول الملكة الكلّية ، بل لابدّ بها من الفعليّة المعتدّ بها عند أهل الصناعة.

فإنّ إضافة العلم إلى الأحكام - على ما تقرّر في غير موضع - لا يستقيم إلاّ إذا اريد بها الأحكام الفعليّة ، ولم ينهض دليل من الشرع والعقل على أنّ مجتهدات فاقد الملكة أحكام فعليّة في حقّه ولا في حقّ غيره ، بل الدليل ناهض بخلافه.

والمفروض أنّ مقصود المقام بيان شروط الاجتهاد بمعنى الملكة ، ومن المستحيل أخذ العلم بجملة من الأحكام الفعليّة يعتدّ بها المتوقّف على الملكة شرطا له بهذا المعنى للزومه الدور ، وأخذه شرطا له بمعنى الفعل خروج عن فرض المسألة ، مع أنّ قضيّة العبارة المذكورة ابتناء المطلب على كون الاجتهاد مرادفا للفقه.

وقد عرفت سابقا منعه مع توجّه المنع إلى توقّف صدق اسم « الفقيه » على العلم المذكور ، على معنى كونه مأخوذا في مسمّاه العرفي إن اريد به الإذعان بالمسائل الحاصل بطريق الاستدلال ، بل قصارى ما يسلّم اعتباره إنّما هو الإحاطة بجملة يعتدّ بها من مسائل الفنّ ، بل هذا هو القدر المسلّم في « النحوي » و « الصرفي » وغيرهما على أربابها ، والمراد بالإحاطة هنا التصديق بهذه الجملة على أنّها من مباحث الفنّ الباحث عنها عند أهلها ، لا على أنّها امور ثابتة لموضوعاتها باعتبار الواقع.

ومن الفضلاء من جعل العلم المذكور شرطا غالبيّا لتحقّق الاجتهاد خارجا وذهنا على معنى تحقّقه الخارجي والعلم به معا ، حيث قال : « والتحقيق أنّ الملكة المعتبرة في الاجتهاد المطلق - أعني الملكة الكلّيّة - لا يحصل غالبا إلاّ بالممارسة المستلزمة للفعليّة المذكورة ، وكذلك العلم بحصولها لا يحصل غالبا بدونها ، فهي طريق إلى حصول الملكة ومعرفتها غالبا ، لا شرط في الاعتداد بها » (1) وهذا ليس بسديد ، إلاّ إذا رجع إلى إرادة أخذ الشرط هو الممارسة الملزومة للفعليّة المذكورة لا نفس الفعليّة.

ص: 283


1- الفصول : 404.

وما يلهج به جهلا أو تجاهلا بعض أهل العصر ، من توقّف الاجتهاد المطلق على أمور وراء ما ذكرناه ، فمن الخيالات الّتي تشهد البداهة بفسادها * والدعاوي الّتي تقتضي الضرورة من الدين بكذبها.

__________________

وحينئذ يكون قريبا ممّا قدّمناه من شرطيّة الانس بطريقة الفقهاء ومذاقهم ، نظرا إلى أنّه لا يتأتّى إلاّ بالممارسة ، وقد وافق في هذا التعبير على التوجيه المذكور عبارة الوافية القائلة : « بأنّ الحقّ أنّه لا يكاد يحصل العلم بحلّ الأحاديث ومحاملها بدون ممارسة فروع الفقه » (1).

* الحقّ وفاقا لغير واحد من أساطين الطائفة من كون شروط الاجتهاد مقصورة على الامور المتقدّمة ولا مزيد عليها.

نعم هاهنا امور اخر نصّ غير واحد بكونها من مكمّلات الاجتهاد كمعرفة الحساب والهيئة والهندسة والطبّ.

أمّا الأوّل : فبأن يعرف منه الأربعة المتناسبة والخطأين والجبر والمقابلة (2) والأعداد المتماثلة والمتداخلة والمتوافقة والمتبائنة.

وأمّا الثاني : فبأن يعرف منه ما يتعلّق بالقبلة ، وبكون الشهر ثمانية وعشرين يوما بالنسبة إلى بعض الأشخاص.

وأمّا الثالث : فبان يعرف منه ما يتعلّق بالسطوح وغيرها ليظهر فائدته فيما لو باع بشكل العروس (3) وغيره.

وأمّا الرابع : فبأن يعرف منه ما يحتاج إليه في القرن ونحوه من العيوب المفسخة للنكاح ، وغير ذلك من الأمراض المبيحة للإفطار.

وعدم كونها من شروط الاجتهاد واضح ، لأنّ وظيفة الفقيه بيان الحكم لا معرفة الموضوع ، وهذا هو معنى ما قيل في وجه عدم الحاجة من : « أنّ الفقيه ليس عليه إلاّ الحكم باتّصال الشرطيّات وأمّا تحقيق أطراف الشرطيّة فليس وظيفته ».

ص: 284


1- الوافية : 283.
2- تجد توضيح هذه المصطلحات في : مفتاح السعادة 1 : 370 وأبجد العلوم : 2 : 263.
3- شكل العروس - عند القدماء من علماء الهندسة - عبارة عن : كلّ مثلّث قائم الزاوية ، فإنّ مربّع وتر زاويته القائمة يساوي مربّعي ضلعيها ، وإنّما سمّي به لحسنه وجماله - راجع كشّاف اصطلاحات الفنون 1 : 785.

أصل

اتّفق الجمهور من المسلمين على أنّ المصيب من المجتهدين في العقليّات الّتي وقع التكليف بها واحد وأنّ الآخر مخطئ آثم * لأنّ اللّه تعالى كلّف فيها بالعلم ونصب عليه دليلا. فالمخطئ له مقصّر فيبقى في العهدة ، وخالف في ذلك شذوذ من أهل الخلاف. وهو بمكان من الضعف.

__________________

تعليقة : التخطئة والتصويب

اشارة

- تعليقة -

ومن لواحق الاجتهاد المعدودة من مسائله بحث التخطئة والتصويب اللاحقين للمجتهد باعتبار أنّه مجتهد ، وطريق الكلام فيه يختلف على حسب اختلاف موارد الاجتهاد باعتبار كونها من العقليّات - كلاميّة واصوليّة وفروعيّة - والشرعيّات - ضروريّة ونظريّة قطعيّة وظنّية - فالكلام في جميع ذلك يقع في طيّ مسائل :

التخطئة والتصويب في المسائل العقليّة الكلاميّة

المسألة الاولى

في التخطئة والتصويب في المسائل العقليّة الكلاميّة الّتي وقع التكليف بها ، كحدوث العالم وإثبات المحدث وصفاته وبعثة الرسل وغير ذلك ممّا يرجع إلى الإيمان باللّه ورسوله ومعاد يوم الجزاء ، أو ما لا يرجع إليه كالرؤية وخلق الأعمال وقدم الكلام وعصمة الرسول ونحوها على اختلاف الوجهين حسبما تعرفه.

* والمخالف في المسألة هو الجاحظ والعنبري على ما نقل ، قال العلاّمة في النهاية : « خالف الجاحظ وأبو عبد اللّه بن الحسين العنبري سائر المسلمين في ذلك ، فذهبا إلى أنّ كلّ مجتهد في الاصول مصيب سواء أخطأ أو لا ، ولم يريدا بذلك مطابقة الاعتقاد للمعتقد للعلم الضروري بفساده ، بل نفي الإثم والخروج عن عهدة التكليف ».

وقال في التهذيب : « أجمعت العلماء على أنّ المصيب في العقليّات واحد إلاّ الجاحظ والعنبري فإنّهما قالا كلّ مجتهد مصيب ، لا على معنى المطابقة بل بمعنى زوال الإثم ».

ولقد وافقه والمصنّف في دعوى الإجماع على القول الأوّل جماعة من العامّة والخاصّة ، فمن العامّة الحاجبي في المختصر وشارح المختصر في بيان المختصر.

قال الأوّل : « الإجماع على أنّ المصيب في العقليّات واحد ، وإنّ النافي ملّة الإسلام مخطئ آثم كافر ، اجتهد أو لم يجتهد ».

ص: 285

وقال الثاني : « الإجماع منعقد على أنّ المصيب من المجتهدين في المسائل العقليّة واحد ، إذ المطابق لما في نفس الأمر لا يكون إلاّ واحدا ، وأيضا الإجماع منعقد على أنّ النافي ملّة الإسلام مخطئ آثم كافر اجتهد أو لم يجتهد ».

ومن الخاصّة ثاني الشهيدين في تمهيد القواعد قائلا : « ليس كلّ مجتهد في العقليّات مصيبا بل الحقّ فيها واحد ، فمن أصابه أصاب ومن أخطأ أثم إجماعا ».

ونفى الخلاف عنه في العدّة قائلا :

« اعلم أنّ كلّ أمر لا يجوز تغيّره عمّا هو عليه من وجوب إلى حظر ومن حسن إلى قبح فلا خلاف بين أهل العلم المحصّلين أنّ الاجتهاد في ذلك لا يختلف ، وإنّ الحقّ في واحد ، وإنّ من خالفه ضالّ فاسق ، وربّما كان كافرا ، وذلك نحو القول بأنّ العالم قديم أو محدث؟ وإذا كان محدثا هل له صانع أم لا؟ والكلام في صفات الصانع وتوحيده وعدله ، والكلام في النبوّة والإمامة وغير ذلك ، وكذلك الكلام في أنّ الظلم والعبث والكذب قبيح على كلّ حال ، وإنّ شكر المنعم وردّ الوديعة والإنصاف حسن على كلّ حال ، وما يجري مجرى ذلك » (1).

وذكر في المحصول ما يقرب من عبارة العلاّمة في النهاية وفي كلامهما أيضا إشعار بالإجماع كما يظهر بالتأمّل.

والسرّ في هذه الإجماعات مع مخالفة الجاحظ وصاحبه أنّ الإجماع سابق على خلافهما ولا حق به.

والعضدي لم يتعرّض لنقله بل جعل المسألة خلافيّة بقوله : « قد اختلف أكلّ مجتهد مصيب أم لا؟ وحكم العقليّات والشرعيّات في ذلك مختلف - إلى أن قال - : بل المصيب من المتخالفين واحد ليس إلاّ والآخر مخطئ ، وإنّ من كان منهم نافيا لملّة الإسلام كلّها أو بعضها فهو مخطئ آثم كافر سواء اجتهد أو لم يجتهد ، خلافا للجاحظ فإنّه قال : لا إثم على المجتهد مع أنّه مخطئ ويجري عليه في الدنيا أحكام الكفّار بخلاف المعاند فإنّه آثم ، وإليه ذهب العنبري وزاد عليه : أنّ كلّ مجتهد في العقليّات مصيب ، فإن أراد وقوع معتقده حتّى يلزم من اعتقاد قدم العالم وحدوثه اجتماع القدم والحدوث فخروج عن المعقول ، وإن أراد عدم الاثم فمحتمل عقلا » انتهى (2).

وليعلم أنّ قول الجمهور المدّعى عليه الإجماع يتضمّن دعوى قضايا ثلاث : خطأ الغير

ص: 286


1- العدّة 2 : 723.
2- العدّة 2 : 723.

الواحد من المجتهدين المختلفين في المسائل العقليّة الكلاميّة ، على معنى كون الواحد منهم باعتبار إدراكه الواقع مصيبا بمعنى مطابقة اعتقاده لنفس الأمر.

وغيره باعتبار عدم إدراكه الواقع مخطئا بمعنى عدم مطابقة اعتقاده لنفس الأمر ، وكفره بحسب أحكام الدنيا من النجاسة والقتل ونهب الأموال وأسر الأولاد والعيال ، وإثمه بحسب دار الآخرة.

وينبغي القطع بعدم كون خلاف الجاحظ والعنبري في القضيّة الاولى بإرادتهما تصويب الكلّ على معنى مطابقة آرائهم في محلّ الخلاف لنفس الأمر ، فإنّه فيما لا يقبل التعدّد غير معقول ، والواقع في اصول العقائد بل مطلق العقليّات واحد لا يقبل التعدّد ولا يتغيّر ولا يختلف بحسب اختلاف الآراء والاعتقادات ، سواء كان الأمر فيه دائرا بين الوجود والعدم أو بين الوجوديين.

وضابطه الامور الواقعيّة الّتي واقعيّتها ليست منوطة بجعل جاعل ولا اعتبار معتبر ، ففي مثل هذه الامور مطابقة النسبة للواقع في النقيضين أو الضدّين محال عقلا.

وقد عرفت عن العلاّمة في التهذيبين - كما في محصول الرازي - إرجاع القول بالإصابة إلى إرادة غير هذا المعنى ، وهو الّذي يساعد عليه صريح أدلّة الطرفين ، بل لم نقف على من احتمل إرادة هذا المعنى عدا العضدي في كلامه المتقدّم عند نقل مذهب العنبري ، وهذا منه عجيب فإنّ استحالة اجتماع النقيضين كاستحالة اجتماع الضدّين من القضايا الضروريّة والمقدّمات الأوّلية الّتي لم يتفوّه به جاهل فضلا عن العالم الفاضل ، ولذا ترى أنّ أدلّة الطرفين خلو عن التعرّض لها إثباتا ونفيا ، فإنّ ما لا يعقل ثبوته لا يصحّ الاستدلال على نفيه كما لا يصحّ الاستدلال على ثبوته.

لكن قد يقال : لو قيل بعدم [ استلزام ] العلم بالعلّة للعلم بالمعلول وجواز انفكاكه عنها واقعا - كما عليه الأشاعرة القائلين بعدم الملازمة بين المقدّمات ونتائجها عقلا ، بل هي باعتبار جري عادة اللّه تعالى على إيجاد العلم بالثانية عقيب العلم بالاولى - لصحّ تعقّل التصويب في العقليّات ، نظرا إلى منع امتناع اجتماع النقيضين حينئذ بحسب العقل وإن امتنع بحسب جري عادة اللّه على عدمه.

وفيه : أنّه غير لازم على مذهب الأشاعرة المبنيّ على مقالتهم الفاسدة ، وهو أنّه لا ترتّب ولا علّية في الوجود إلاّ بإجراء اللّه تعالى عادته على خلق شيء كالعلم والمعلول عقيب شيء آخر كالنظر والعلّة ، وإن كان لا يبعد عنهم التفوّه - لسخافة رأيهم - بنظائر ذلك.

أمّا أوّلا : فلعدم تمشّي منعهم الترتّب العقلي بين العلّة والمعلول هنا ، لأنّ عدم اجتماع النقيضين معلول لذات النقيضين ، فإنّهما لذاتهما يقتضيان ضرورة عدم اجتماعهما ، فلا يجوّز

ص: 287

العقل اجتماعهما لاستحالة تخلّف ما بالذات عقلا عن الذات.

ولا ينتقض ذلك بامتناع اجتماع الضدّين الّذي قيل فيه بأنّه ليس لذاتهما بل لعارض ، وهو إمّا لعدم قابليّة المحلّ لوجود أحد الضدّين حال اشتغاله بوجود الضدّ الشاغل له ، أو لأنّ اجتماعهما يؤول إلى اجتماع النقيضين باعتبار أنّ وجود كلّ من المتضادّين في المحلّ يستلزم عدم الضدّ الآخر ، لكفاية كلّ من الأمرين في الحكم بالاستحالة العقليّة كما يظهر وجهه بالتأمّل.

وأمّا ثانيا : فلأنّ قاعدة جريان العادة لا تجري إلاّ فيما كان من آثار القدرة ، وعدم اجتماع النقيضين لا يصلح أثرا للقدرة وإلاّ كان اجتماعهما أيضا صالحا لأن يكون أثرا للقدرة ، لأنّ ما لا يكون وجوده من آثار القدرة لا يكون عدمه من آثار القدرة ، وهو كما ترى.

ولا ينافيه عموم قدرته تعالى لأنّها عامّة للممكنات ولا تتعلّق بما امتنع ذاتا كما لا تتعلّق بما يجب ذاتا ، لا لقصور في قدرة القادر بل لقصور المحلّ من حيث عدم قابليّته لتعلّق القدرة به.

وكيف كان فنحن ندّعي عدم المعقوليّة في العقول السليمة الكاملة ولا نتكلّم مع العقول المشوبة الناقصة.

وبما ذكرناه من الضابط يعلم أنّ النزاع الآتي في التخطئة والتصويب بالقياس إلى الأحكام الشرعيّة الفرعيّة غير جار في موضوعاتها - كلّية أو جزئيّة ، عرفيّة أو لغويّة - والتصويب فيها غير معقول.

نعم إذا كانت شرعيّة فربّما يتصوّر جريان النزاع المذكور فيها لكونها مطلقة أو إذا كانت من قبيل العبادات - على مذهب غير القاضي - منوطة بجعل الشارع ، نظرا إلى إمكان القول بأنّ الواقع في الامور الجعليّة كما أنّه يتبع الجعل في أصله كذلك يتبعه في وصفه باعتبار الوحدة والكثرة ، كما وقع ذلك في صلاة المسافر وصلاة الحاضر ، والصلاة عن قيام لمن يقدر عليه ، وهي عن قعود لمن يعجز عنه ، فمن الجائز تعدّد المجعول بل تكثّره على حسب كثرة الآراء والاعتقادات بخلاف الموضوعات الغير الشرعيّة.

وأمّا ما يتراءى من بعض العبائر من الحكم بتصويب المجتهدين في القبلة وما أشبهه فليس المراد به ما يوجب تعدّد أصل القبلة من عين الكعبة أو جهتها ، كيف وهي عينا وجهة أمر شخصي بحسب الواقع لا يتحمّل التعدّد الخارجي ، بل هو مبنيّ على أخذ الاعتقاد في

ص: 288

مسألة القبلة موضوعا للحكم وإن خالف الواقع ، فالقبلة الّتي يجب الصلاة إليها في حقّ كلّ مكلّف ما اعتقده قبلة وإن لم يكن كذلك في الواقع.

وبالجملة التصويب بمعنى مطابقة اعتقاد كلّ من المجتهدين المختلفين في العقليّات لنفس الأمر ممّا لم يصحّ النزاع في عدم جوازه ، لتأديته إلى اجتماع النقيضين أو الضدّين وهو غير معقول.

فإن قلت : لو كان مجرّد تأدية القول بالتصويب في العقليّات وما بحكمها - في عدم تحمّل الواقع للتعدّد - إلى اجتماع النقيضين أو الضدّين موجبا لعدم صحّة النزاع فيه لسرى ذلك إلى الفرعيّات أيضا ، والتالي باطل.

أمّا الملازمة : فلمكان محذور الاجتماع على القول بالتصويب فيها أيضا كما هو أحد حجج القائلين بالتخطئة.

قلت : ما يلزم من محذور الاجتماع في غير الفرعيّات - على القول بالتصويب فيها - إنّما هو بالنظر إلى أصل الواقع ولذا كانت الملازمة فيه بيّنة ، بخلاف ما أورد على التصويب في الفرعيّات ، فإنّه إن سلم من المنع الواقع في كلام غير واحد - على ما ستعرفه مع سنده - مفروض في الاعتقاد المتعلّق بالحكم من حيث تعدّده بالظنّية والقطعيّة ، ولذا قرّرت الملازمة : بأنّ المجتهد إذا ظنّ بشيء جزم وقطع بأنّ حكم اللّه في حقّه ذلك ، ضرورة علمه بأنّ كل مجتهد مصيب ، وإذا قطع استمرّ قطعه إذا الأصل بقاء كلّ شيء على ما هو عليه ، واستمرار القطع مشروط ببقاء ظنّه ، للإجماع على أنّه لو ظنّ غيره وجب الرجوع ، فيكون ظانّا عالما بشيء واحد في زمان واحد فيلزم اجتماع النقيضين ، ضرورة اقتضاء القطع عدم احتمال النقيض واقتضاء الظنّ احتماله.

وهذا المحذور على تقدير لزومه وعدم اندفاعه هنا إنّما يلزم بملازمة نظريّة غير بيّنة فلا يبعد في مثله وقوع النزاع في ملزومه ، لإمكان الغفلة من قائله عن الملازمة بينه وبين لازمه ، بخلاف ما هو في محلّ الكلام فإنّه إنّما يلزم بملازمة واضحة بيّنة لا تكاد تخفى على ذي مسكة ، فإذا كان اللازم أمرا غير معقول بحكم البداهة كان القول بالملزوم أيضا ببداهة الملازمة أمرا غير معقول.

وينبغي القطع أيضا بعدم كون خلاف الجاحظ وصاحبه في القضيّة الثانية ، وهو الحكم بكفر الذاهب إلى خلاف الحقّ إذا كان نفيا لملّة الإسلام وما هو بمثابته بإجراء أحكام

ص: 289

الكفّار عليه الثابتة بحسب الدنيا الّتي أقلّها النجاسة وإن لم يستحقّ القتل ونهب الأموال وأسر الأولاد والعيال حيث لم يكن من أهل الحرب ، والظاهر أنّه ممّا لا نزاع في ثبوته بل هو صريح كلمات الطرفين.

وقد سمعت في حكاية القول بالتصويب اعتراف الجاحظ بل العنبري أيضا بإجراء أحكام الكفر على المخالف للحقّ.

فتعيّن كون خلافهما في القضيّة الثالثة ، ورجوع قولهما إلى دعوى رفع الإثم وعدم استحقاق العقوبة في المخالف للحقّ لخروجه عن عهدة التكليف ، فهو المتنازع فيه بمقتضى صريح كلماتهم.

ولقد سمعت من العلاّمة والرازي تفسير التصويب بعدم الإثم ، فالجمهور إلى تأثيم المجتهد المؤدّي اجتهاده إلى خلاف الواقع وعدم معذوريّته في خطائه بحسب الآخرة ، وغيرهم إلى عدمه المعبّر عنه بالمعذوريّة والخروج عن العهدة.

ومرجع النزاع أنّ خطأ المجتهد في العقليّات عذرا مسقطا للتكليف فيها رافعا للإثم والعقوبة على مخالفة الواقع وعدمه.

ثمّ إنّ المكلّف في اصول العقائد إمّا مجتهد وهو الّذي يجتهد في المعارف ويحصّلها بطريق النظر والاستدلال ، أو معاند وهو الجاحد للحقّ بعد وضوحه وتبيّنه ، أو مقلّد وهو الآخذ في اصول العقائد بقول الغير مع تفطّنه بوجوب النظر متقاعدا عنه تقصيرا أو عدم تفطّنه به رأسا.

ولا ريب أنّ موضوع المسألة ليس إلاّ المجتهد ، أخذا بصريح عناوينها المشتملة على ذكر المجتهد مفردا ومجموعا ، مع ورودها في الكتب الاصوليّة - ولا سيّما التهذيب والنهاية - في مبحث أحكام الاجتهاد ، وورودها أيضا مع مسألة التخطئة والتصويب في الفروع في باب واحد ، فلا نزاع في حكم المعاند من حيث الكفر والتأثيم ، ولا في حكم المقلّد أيضا من حيث الكفر بل التأثيم أيضا مع التقصير وعدمه مع عدم التقصير ، بناء على ما تسمعه من رجوع النزاع إلى الصغرى من حيث إثبات التقصير ونفيه.

ويؤيّد خروج المقلّد عن هذا النزاع كونه موضوع مسألة اخرى - يأتي التعرّض لها - معبّر عنها بجواز التقليد في اصول الدين وعدمه ، ولا ينافيه ما تقدّم في عبارة الحاجبي وغيره من أنّ النافي لملّة الإسلام مخطئ آثم كافر اجتهد أو لم يجتهد ، لعدم قصده بذلك

ص: 290

إلى تعميم محلّ النزاع ، بل إلى إجراء حكم موضع الوفاق وهو المخالف المعاند في محلّ الخلاف بدليل الإجماع ، الّذي جمع العضدي بينه وبين خلاف المخالف بكونه إجماعا قبل ظهور المخالف.

ثمّ إنّ المجتهد بالمعنى المذكور أعمّ من العامي الّذي اجتهد في معارفه ، والأظهر دخوله في محلّ النزاع موضوعا وحكما كما هو مقتضى قرينة المقابلة بينه وبين المعاند والمقلّد ، ويعضده عموم أدلّة القولين ، ما مع عرفته من رجوع النزاع في المسألة إلى كون خطأ المجتهد في العقليّات عذرا مسقطا للتكليف رافعا للإثم على مخالفة الواقع وعدمه ، وهذا ممّا لا يتفاوت فيه الحال بين العالم والعامي.

ومن الأعلام من احتمل الاختصاص بالعالم حيث إنّه بعد المناقشة في أدلّة الجمهور استشكل من جهة الإجماع المدّعى في كلام جماعة من العامّة والخاصّة على هذا القول ، فقال : « ويمكن دفع هذا الإشكال بأن يقال : مراد من ادّعى الإجماع إنّما هو في حال العلماء العقلاء المجتهدين المطّلعين على أدلّة المسائل نفيا وإثباتا على التفصيل ، لا مطلق من يجتهد في دينه وإن كان عاميّا.

ودعوى أنّ المجتهد الكامل لا يخفى عليه الحقّ لو خلّى نفسه ولم يقصّر ليس بعيدا عن الصواب ، بل هي دعوى صحيحة في أغلب المسائل.

ويشهد بذلك أنّهم يذكرون هذه المسألة مع مسألة التخطئة والتصويب في الفروع في مبحث واحد » انتهى.

إلاّ أن يقال : إنّ غرضه تخصيص معقد الإجماع بذلك لا تخصيص محلّ النزاع ، وأمّا ورود المسألة في أحكام الاجتهاد وورودها مع المسألة الآتية في مبحث واحد فلا شهادة له بالاختصاص ، لأنّ المجتهد إنّما يؤخذ موضوعا في المسائل على حسبما اضيف إليه الاجتهاد ، فإن كان ممّا يتأتّى الاجتهاد فيه من العالم والعامي كان المجتهد في موضوعه أغمّ منهما ، وإن كان لا يتأتّى إلاّ من العالم اختصّ به الموضوع ، وعليه فإنّما خصّت المسألة الآتية بالعالم لأنّ الاجتهاد في الفروع لا يتأتّى من العامي بخلافه الاجتهاد في العقليّات فإنّه يتأتّى من العالم والعامي معا.

ثمّ ينبغي القطع بكون المراد من « المجتهد » أعمّ ممّن أدّى اجتهاده إلى القطع بخلاف الواقع أو إلى الظنّ به ، لوضوح أنّ النزاع إذا كان راجعا إلى كون خطأ المجتهد عذرا وعدمه

ص: 291

فلا يتفاوت فيه الحال بين كون الخطأ على وجه القطع أو الظنّ ، مع إطلاق المجتهد في كلامهم ، مع أنّ احتجاج القول بالمعذوريّة بأنّ تكليفهم بنقيض اجتهادهم ممتنع عقلا وسمعا لأنّه ممّا لا يطاق أوفق بصورة القطع.

ولا ينافيه ما نقله العلاّمة في النهاية عن بعض المعتزلة من تأويله مقالة القاضي والعنبري بالحمل على المعذوريّة في المسائل المختلف فيها بين المسلمين الّتي لا يكفر مخالفها ، كمسألة الرؤية وخلق الأعمال وقدم الكلام وغير ذلك لأنّ الأدلّة فيها ظنّية متعارضة ، لعدم ابتناء التعليل بالظنّية على كون موضوع المسألة هو المجتهد الظانّ ، بل على ما ستعرفه من رجوع النزاع إلى الصغرى وهو استناد خطأ المجتهد إلى تقصيره فلا يكون معذورا أو إلى قصوره فيكون معذورا ، فغرض بعض المعتزلة تنزيل قول الجاحظ وصاحبه - المبنيّ على دعوى القصور - على المسائل الّتي يجوز فيها القصور لظنّية أدلّتها وتعارضها الباعثة على الخطأ غالبا من غير تقصير.

ثمّ إنّ ظاهر هذا المؤوّل كون محلّ النزاع من المسائل العقليّة الكلاميّة ، المسائل المختلف فيها بين المسلمين الّتي لا يكفر مخالف الحقّ فيها من حيث إنّه مخالف له ، وإن كان قد يكفر باعتبار خصوصيّة اخرى منضمّة إليه ككونه ممّا ثبت بضرورة من الدين أو المذهب كالمسائل المشار إليها ونظائرها ، ومنها مسألة الإمامة المختلف فيها بين العامّة والشيعة ، دون المسائل المختلف فيها بين المسلمين وغيرهم من سائر فرق الكفر ، بل هذا ممّا جزم به التفتازاني في شرح عبارة العضدي عند المناقشة في الإجماع الّذي تمسّك به العضدي على إثم المخطئ قال :

« وفي ورود الدليل على محلّ النزاع مناقشة ، لأنّ الإجماع إنّما هو في الكافر المخالف للملّة صريحا ، والنزاع إنّما هو فيمن ينتمي إلى الإسلام ويكون من أهل القبلة ، وإلاّ فكيف يتصوّر من المسلم الخلاف في مسألة خطأ مثل اليهود والنصارى » انتهى.

وهذا كما ترى خلاف ظاهر الأكثر وخلاف مقتضى أدلّة الجمهور المصرّحة بكفر المخطئ ، وخلاف ما صرّح به غير واحد كالعلاّمة في النهاية وغيره كالعضدي في عبارته المتقدّمة : « بل المصيب من المتخالفين واحد ليس إلاّ والآخر مخطئ ، وإنّ من كان منهم نافيا لملّة الإسلام كلّها أو بعضها فهو مخطئ آثم كافر سواء اجتهد أو لم يجتهد ، خلافا للجاحظ فإنّه قال : لا إثم على المجتهد مع أنّه مخطئ ويجري عليه في الدنيا أحكام

ص: 292

الكفّار » إلى آخر ما ذكره.

وهذا كما ترى صريح في عدم اختصاص النزاع بما ذكر إن لم نقل بظهوره في الاختصاص بغيره ممّا يكفر فيه المخطئ ومخالف الحقّ.

وكيف كان فتحقيق هذا المقام يستدعي النظر في جهة اخرى من جهات تحرير محلّ النزاع ، وهي كون النزاع كبرويّا أو صغرويّا؟

فلو قرّر النزاع بأنّ المكلّف بالعلم في اصول العقائد المجتهد فيها المقصّر في اجتهاده حتّى أدّى اجتهاده إلى اعتقاد خلاف الواقع معذور غير آثم على قول الجاحظ والعنبري ، بناء منهما على أنّ الامتناع بالاختيار ينافي الاختيار خطابا أو عقابا ، وآثم غير معذور على قول الجمهور بناء منهم على أنّه لا ينافي الاختيار خطابا أو عقابا كان كبرويّا.

وكذلك لو قرّر بأنّ المكلّف بالعلم المجتهد القاصر عن تحصيله معذور غير آثم دفعا للتكليف بغير المقدور القبيح على الحكيم على قول الجاحظ والعنبري ، أو آثم غير معذور منعا لقبح التكليف بغير المقدور بحسب الفعل إذا كان مقدورا بحسب العادة ، على معنى كونه ممّا يتأتّى عادة وإن خرج عن المقدوريّة لعارض على القول الآخر.

وهذا وإن كان ممّا يومئ إليه بعض كلماتهم كما ستعرفه ، غير أنّ الأولى إسقاط هذا التقرير وسابقه ، لبعد كون موضوع المسألة خصوص المقصّر أو القاصر ، كبعد كون مبنى الخلاف على ما ذكر في التقريرين ، لوجوب تحقّق موافق للجاحظ وصاحبه في القول بالمعذوريّة وعدم الإثم من أصحابنا ، لأنّ منهم من يقول بمنافاة الامتناع بالاختيار للاختيار بل عليه محقّقوهم وهو الأصحّ ، بل قاطبة العدليّة مطبقون على اشتراط صحّة التكليف بالمقدوريّة ذاتا وفعلا وعدم الفرق في قبح التكليف بغير المقدور بين الامتناع الذاتي والامتناع العرضي.

والأولى في تقرير كبرويّة النزاع أن يقال : إنّ المكلّف المجتهد في العقائد إذا أخطأ هل هو معذور غير آثم وإن كان مقصّرا ، أو أنّه غير معذور وآثم وإن فرضناه قاصرا؟

ولو قرّر النزاع بأنّ المجتهد المؤدّي اجتهاده إلى مخالفة الواقع في اصول الدين آثم لكونه مقصّرا أو غير آثم لكونه قاصرا كان صغرويّا ، لرجوعه إلى أنّ المجتهد المخطئ فيها هل هو مقصّر ليكون آثما أو قاصر لئلاّ يكون آثما؟

وقد يقرّر ذلك بإمكان وجود القاصر عقلا أو عادة وعدمه ، وهذا كما ترى بعيد عن

ص: 293

تضاعيف كلماتهم في تلك المسألة.

كيف وهذا البيان إنّما يلائم ما لو قرّر الكلام في نوع المكلّف مع كون المتنازع فيه إمكان التأثيم وعدمه وقد ظهر سابقا خلافه.

نعم لو قرّر الكلام في إمكان القصور وعدمه في نوع المكلّف ولو عاميّا نزاعا آخر غير النزاع في المسألة لم يكن بذلك البعيد.

ويمكن استخراج نزاع آخر في وجود الأدلّة القاطعة على المطالب الاصوليّة وعدمه من بعض كلماتهم الآتية ، ولكنّ الظاهر أنّه متفرّع على النزاع في التعبّد بالظنّ وعدمه في اصول الدين ، ضرورة أنّ التعبّد بالعلم على جهة التعيين يستدعي وجود الأدلّة العلميّة حذرا عن التكليف بغير المقدور.

وما ستعرف من أهل القول بالتعبّد بالظنّ من منع وجودها فإنّما وقع منه قصدا إلى منع لزوم التعبّد بالعلم نظرا إلى أنّ انتفاء اللازم ممّا يكشف عن انتفاء الملزوم ، أو قبالا لمدّعي وجودها.

وكيف كان فلا بدّ في تحقيق كون النزاع كبرويّا أو صغرويّا على الوجه الّذي بيّنّاه من ذكر أدلّة القولين وتحريرها ونقل سائر ما يتعلّق بها من النقوض والإبرامات.

فنقول : احتجّ الجمهور بوجوه :

منها : ما قرّره المصنّف تبعا للعلاّمة في التهذيب والسيّدين في شرحيهما له من : « أنّ اللّه تعالى كلّف عباده في العقليّات الكلاميّة بالعلم ، ونصب عليه دليلا فالمخطئ له مقصّر فيبقى في العهدة ».

واستدلّ في المنية على كلّ من مقدّمتي الدليل ، أمّا على المقدّمة الاولى : فبقوله تعالى : ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللّهُ ) وقوله أيضا : واعلم أنّه لا إله إلاّ هو (1) فإنّه بظهور الهيئة والمادّة يفيد إيجاب العلم بالالوهيّة والوحدانيّة.

وأمّا على المقدّمة الثانية : فبأنّه لو لا نصب الدليل عليه لزم تكليف ما لا يطاق وهو قبيح.

فهذا الدليل بصراحته يقضي بابتناء الحكم في نظر الجمهور على التقصير في النظر والاجتهاد ويرجع مفاده إلى دعوى ملازمتين :

أحدهما : ملازمة الخطأ هنا للتقصير ، والاخرى ملازمة التقصير للتأثيم ، فينتظم بملاحظة الملازمتين قياس بتلك الصورة : المجتهد المخطئ في العقليّات مقصّر في اجتهاده ،

ص: 294


1- محمّد : 19.

وكلّ مقصّر في اجتهاده آثم.

أمّا الكبرى : فبحكم المقدّمة الاولى من الدليل.

وأمّا الصغرى : فبحكم المقدّمة الثانية ، إذ المراد بالدليل المنصوب هو الدليل الواضح القاطع الّذي يجده من طلبه لئلاّ يلزم تكليف ما لا يطاق ، فمن لم يجده لم يطلبه بحكم عكس النقيض ، ومن لم يطلبه فقد فرّط في تحصيل الواجب الّذي هو العلم والمفرّط مقصّر جدّا.

وقد يقرّر الدليل - على ما في نهاية العلاّمة كما عن المحصول - : « بأنّ اللّه تعالى نصب الأدلّة القاطعة على هذه المطالب ومكّن العقلاء من معرفتها ، فوجب أن لا يخرجوا عن العهدة إلاّ بالعلم ».

واجيب عن التقرير الأوّل : بالمنع من وضعه تعالى أدلّة قاطعة على تلك المطالب يتمكّن العقلاء من معرفتها ، والخطاب بالعلم الوارد في الآية متوجّه إلى الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم وله من وفور العقل ودقّة النظر وكمال الحدس ما ليس لأحد من أمّته ، فلا جرم كلّفه بالعلم به لتمكّنه منه ، ولمّا كانت عقول الامّة قاصرة عن ذلك وفطنتهم ضعيفة لم يكلّفهم بالعلم حذرا عن تكليف الغافل وتكليف ما لا يطاق. وغرض المجيب منع كون المجتهد المخطئ في المعارف مقصّرا باعتبار منع تكليفه بالعلم فيها من جهة منع نصبه تعالى أدلّة يتمكّن من معرفتها العقلاء ، فلا يكون آثما.

وهل هو في مراد المجيب لعدم تكليفه فيها رأسا من باب السالبة بانتفاء الموضوع كفاقد الطهورين بالنسبة إلى الصلاة ، أو لخروجه عن عهدة تكليفه وهو التكليف بمؤدّى اجتهاده وهو اعتقاده جزما أو ظنّا وإن تعلّق بالباطل؟ احتمالان ، منشأهما رجوع النفي في قوله : « لم يكلّفهم بالعلم » إلى جنس العلم الّذي هو عبارة عن الاعتقاد الجازم المطابق للواقع ، بناء على أنّ قصوره وعجزه عن الوصول إلى الواقع وإدراك نفس الأمر ينهض عذرا عقليّا كاشفا عن عدم توجّه تكليف إليه بالاعتقاد في الواقع كالحائض إذا طرأها الحيض في أثناء نهار رمضان ، سواء كان قصوره من جهة تأدية اجتهاده إلى الجزم بالباطل وإن كانت زيادة النظر بعده مقدورة له بحسب الواقع ، أو من جهة عدم تمكّنه من زيادة النظر وإن كان اجتهاده قد أدّى إلى الظنّ بالباطل أو إلى أحد فصليه : الجزم أو المطابقة بناء على وقوع التعبّد بالظنّ في اصول الدين وإن تعلّق بالباطل ، أو كفاية الاعتقاد الجازم فيها (1) وإن

ص: 295


1- عطف على قوله : « منشأهما رجوع النفي في قوله : لم يكلّفهم بالعلم إلى جنس العلم » الخ.

لم يطابق الواقع ، فالمخطئ على كلّ من الوجهين امتثل تكليفه بتحصيل ما كلّف به من الاعتقاد مطلقا أو بشرط الجزم مطلقا.

ولكنّ الظاهر سقوط احتمال رجوع النفي إلى الجنس عن مراد المجيب بملاحظة ما اجيب به عن التقرير الثاني للدليل ، القاضي ببناء قوله بالعذر وعدم الإثم على الاكتفاء بالظنّ الاجتهادي في اصول الدين وإن لم يطابق الواقع ، حيث اجيب عنه : « بمنع نصب الأدلّة القاطعة وتمكّن العقلاء من معرفتها ، خصوصا ونحن نرى الخلق مختلفين في الأديان والعقائد من زمن وفاة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم ويبعد أن يكون أحد منهم مكابرا.

سلّمنا لكن لا نسلّم اقتضاء ذلك أمرهم بالعلم ، فجاز أنّهم كانوا مأمورين بالظنّ الغالب سواء كان مطابقا أو لا ، وحينئذ يعذر الآتي به.

ويدلّ على أنّ التكليف إنّما وقع بالظنّ أنّ اليقين التامّ المتولّد من البديهيّتين المرتّبتين ترتيبا صحيحا متعسّر لا يصل إليه إلاّ الآحاد ، فلا يقع التكليف به لجميع الخلق ، لقوله عليه السلام : « بعثت بالشريعة السهلة السمحة » ولا حرج أعظم من تكليف الإنسان في لحظة واحدة بمعرفة ما عجز الخلق عن معرفته في خمسمائة سنة ، ولأنّا نعلم أنّ الصحابة لم يكونوا عالمين بهذه الأدلّة والدقائق والجواب عن شبهات الفلاسفة ، كما لم يكونوا عالمين بدقائق الهندسة وعلم الهيئة والحساب ، مع أنّه عليه السلام حكم بإيمانهم ، سلّمنا أنّهم كلّفوا بالعلم لكن نمنع عقاب المخطئ والإجماع في محلّ الخلاف ممنوع » انتهى.

ولك أنّ تقول : بأنّ المنع الأخير مبنيّ على إرجاع النفي إلى جنس العلم ، فيراد بمنع العقاب دعوى انكشاف عدم توجّه التكليف إليه رأسا ، لعدم تمكّنه من تحصيل العلم بسبب طروّ العذر المانع عن صحّة التكليف ، بناء على عدم جواز أمر الآمر مع العلم بانتفاء شرطه ، المبنيّ على قبح تكليف الغافل وقبح تكليف ما لا يطاق كما يشير إليه الحجّة الآتية لقول الجاحظ.

ومنها : أنّا نعلم بالضرورة أنّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أمر اليهود والنصارى بالإيمان وذمّهم على إصرارهم على عقائدهم وقاتل بعضهم ، وكان يكشف عن مؤثّر المبالغ ويقتله ، ومعلوم أنّ المعاند المعارض ممّا يقلّ وإنّما الأكثر مقلّدة عرفوا دين آبائهم تقليدا ولم يعرفوا المعجزة.

واعترض عليه : بأنّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قتلهم لجهلهم بالحقّ مع إصرارهم على ترك التعلّم لا الجهل مطلقا ، فلعلّ صلى اللّه عليه وآله وسلم بالغ في إرشادهم ولم يلتفتوا إلى بيانه واشتغلوا باللّهو والطرب ، وأمّا

ص: 296

من بالغ في الطلب والبحث فنمنع أنّه قتله ، سلّمنا قتله لكن نمنع عقابه.

ومنها : إجماع المسلمين على قتال الكفّار وعلى أنّهم من أهل النار ، ولو كانوا غير آثمين لما شاع ذلك ، هذا على ما في النهاية وغيرها.

وفي شرح العضدي : « إجماع المسلمين قبل ظهور المخالف على قتل الكفّار وقتالهم وعلى أنّهم من أهل النار يدعونهم بذلك إلى النجاة ، ولا يفرّقون بين معاند ومجتهد ، بل يقطعون بأنّهم لا يعاندون الحقّ بعد ظهوره لهم ، بل يعتقدون دينهم الباطل عن نظر واجتهاد.

واعترض عليه : بأنّ الجهاد مع الكفّار من الأحكام الثابتة لهم في الدنيا وهو لا يستلزم تعذيب الغير المقصّر منهم في الآخرة.

وأمّا الإجماع على أنّهم من أهل النار فنمنع في غير المقصّرين منهم للزوم الظلم عليه تعالى.

ومنها : قوله سبحانه ( ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ) (1) ( وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ ) (2) ( خَتَمَ اللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) (3) وذمّ المكذّبين للرسول ممّا لا ينحصر في الكتاب والسنّة.

واعترض عليه تارة : بأنّه غير مفيد للقطع ، لجواز التخصيص بغير المجتهد منهم ، واخرى : بأنّ الآيات وردت في ذمّ الكافر ، والكفر لغة : الستر ، وهو لا يتحقّق إلاّ في المعاند الّذي عرف الدليل ثمّ أنكره ، أو المقلّد الّذي يعرف أنّه لا يعرف الدليل على صحّة الشيء ثمّ يقول به ، أمّا العاجز المتوقّف الّذي بالغ في الطلب ولم يصل فلا يكون ساترا لما ظهر عنده فلا يكون كافرا.

ومنها : قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) (4) والمراد ب- « فينا » : في سبيلنا ، بشهادة « سبلنا » وعمومها يعمّ الاصول وغيرها ، فإذا جاهد الجاهل ونحوه في اللّه يهتدي إلى الإسلام فإذا لم يهتد يتبيّن كونه مقصّرا.

واعترض عليه : بأنّ المجاهدة مفاعلة مستلزم لاثنين وحملها على الجدّ والاجتهاد مجاز لا يصار إليه إلاّ بدليل ، فالمعنى : الّذين يدافعون الخصماء من شياطين الجنّ والإنس ونحوهما لنرشدنّهم إلى سبلنا ولنعينّنهم على دفاع الأعداء ، وأكثر هذه الأدلّة عدا الدليل الأوّل وإن احتمل كبرويّة النزاع إلاّ أنّه أمكن إرجاعها بقرينة اعتراضاتها إلى الصغرى.

ص: 297


1- ص : 27.
2- فصلت : 23.
3- البقرة : 7.
4- العنكبوت : 69.

حجّة القول الآخر أمران :

أحدهما : ما أشار إليه الحاجبي من : « أنّ تكليفهم بنقيض اجتهادهم ممتنع عقلا وسمعا لأنّه ممّا لا يطاق ».

والظاهر أنّ مراده هو العلم بالواقع ؛ ولا ريب أنّه مع تأدية الاجتهاد إلى الجزم بخلاف الواقع أو إلى الظنّ - مع عدم التمكّن من زيادة النظر - ممتنع ، فيكون التكليف به تكليفا بما لا يطاق وهو قبيح عقلا وسمعا فيكون ممتنعا.

وهذا أوجه ممّا ذكره العضدي في توجيهه من : « أنّ تكليفهم بنقيض اجتهادهم تكليف بما لا يطاق ، فيمتنع.

أمّا الاولى : فلأنّ المقدور بالذات هو الاجتهاد والنظر لكونهما من قبيل الأفعال ، دون الاعتقاد فإنّه من قبيل الصفات ، وما يؤدّى إليه الاجتهاد حصوله بعد الاجتهاد ضروري واعتقاد خلافه ممتنع.

وأمّا الثانية : فلما تقدّم من دليل العقل والسمع على امتناع تكليف ما لا يطاق وعلى عدم وقوعه » انتهى.

وهذه الحجّة مع الأوّل من أدلّة الجمهور ، وجوابه المتقدّم شاهد قطعي برجوع النزاع إلى إثبات التقصير على المجتهد المخطئ ونفيه عنه ، واللازم من التقصير كونه معاقبا باعتبار عدم خروجه عن عهدة التكليف بالعلم وتركه امتثاله وعدم إتيانه بالمكلّف به عن تقصير لا عن عذر ، كما أنّ اللازم من عدم التقصير عدم العقاب على مخالفة الواقع إمّا لخروجه عن عهدة تكليفه وامتثاله بإتيان المكلّف به إن قلنا بتوجّه التكليف في المعارف إلى مطلق الاعتقاد ولو ظنّا أو إلى الاعتقاد الجازم وإن لم يطابق الواقع ، أو لسقوط التكليف عنه رأسا بطروّ العذر وهو خروج المكلّف به عن المقدوريّة إن قلنا بأنّ التكليف في الاصول يقع على خصوص العلم وهو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع الّذي هو مع تأدية الاجتهاد إلى الاعتقاد الغير المطابق متعذّر.

وكيف كان فأجاب عنه العضدي - تبعا للحاجبي - : « بأنّا لا نسلّم أنّ نقيض اعتقادهم غير مقدور ، فإنّ ذلك امتناع بشرط المحمول أي ما داموا معتقدين لذلك يمتنع أن يعتقدوا خلافه ، وذلك لا يوجب كون الفعل ممتنعا عنهم غير مقدور لهم ، فإنّ الممتنع الّذي لا يجوز التكليف به ما لا يتأتّى عادة كالطيران وحمل الجبل ، وأمّا ما كلّفوا به فهو الإسلام وهو

ص: 298

متأتّ منهم ومعتاد حصوله من غيرهم ومثله لا يكون مستحيلا ».

وثانيهما : ما حكاه العلاّمة والرازي في النهاية والمحصول من : « أنّه تعالى ملك رحيم كريم ، واستقراء أحكام الشرع يدلّ على أنّ الغالب على الشرع التخفيف والمسامحة ، حتّى لو احتاج إلى تعب في طلب الماء أسقط عنه فرض الوضوء ، فكيف بكرمه ورحمته معاقبة من أفنى طول عمره في الفكر والبحث ».

ودفع : بمنع عدم الوصول إلى الحقّ مع المبالغة في البحث والنظر ، بل الواجب مع استيفاء النظر والبحث الوصول إلى الحقّ.

وهذه عمدة كلماتهم تعرّضنا لذكرها من دون تعرّض لجرحها وتعديلها قصدا إلى استعلام الجهات الملحوظة لمحلّ النزاع وبيان رجوع النزاع إلى الصغرى.

وأمّا تحقيق المسألة فهو مبنيّ على التكلّم في مراحل :

المرحلة الاولى : في إثبات وجود القاصر فيما بين المكلّفين بالمعارف واصول العقائد ، فتارة في نوع المكلّفين ، واخرى في المجتهدين منهم.

فنقول : أمّا وجود القاصر وهو من عجز عن الوصول إلى الواقع ولم يقدر على إدراك الحقّ - إمّا بعدم وجود دليل عليه ، أو بعدم العثور على الدليل الموجود مع عدم التقصير في طلبه أو لعدم تفطنّ بأصل القضيّة والاختلاف فيها كحدوث العالم مثلا ، أو لعدم التمكّن من الفحص والاجتهاد وطلب الحقّ فيها ، أو سبق إذعان جزمي بالباطل إلى الذهن بسبب غير اختياري من دون سبق احتمال حقّية خلافه كما يشهد به قولهم عليهم السلام : « كلّ مولود يولد على الفطرة وإنّما أبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه » أو لرسوخ الشبهة بمعنى صورة الشكّ في الذهن بحيث لم يقدر على إزالتها ، أو اضطراب فكر وتشويش ذهن وإعوجاج مدركة واختلال فطنة ، أو فقد ما هو من شروط النظر أو وجود ما هو من موانعه ، أو غير ذلك ممّا شاع فيما بين آحاد النوع ولو بالقياس إلى الرساتيق وأهل البوادي وأقصى بلاد الروم والروس والإفرنج وغيرها - فممّا لا ينبغي أن ينازع فيه ، لكون وجوده باعتبار الأسباب المذكورة ممّا يشهد به ضرورة الوجدان وبداهة العيان ، فمنكر وجوده - على ما يظهر من بعض العبائر - مدافع للضرورة ومكابر للوجدان فلا يلتفت إليه.

كيف ولا يساعده على إنكاره الّذي هو نفي وجوده شيء من السمع والعقل ، سوى ما عسى أن يتوهّم من جهة السمع من عموم التكليف بالمعارف الحقّة المستفاد من إطلاق

ص: 299

الخطاب بالعلم ، والأوامر الواردة به في الكتاب والسنّة ومعاقد الإجماع من نحو قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ) وقوله : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً ) ونحو ذلك من الآيات ، فإنّه يقضي باقتدار عامّة المكلّفين في الاصول على إدراك الواقع والوصول إليه دفعا لقبح التكليف بغير المقدور.

ويدفعه : أنّ هذه الخطابات وإن كانت مطلقات إلاّ أنّها من قبيل القضايا التكليفيّة المعلّقة على الشروط الأربع المقرّرة بحكم العقل والسمع للتكليف الّتي منها القدرة على الامتثال ، فتكون كأشباهها ونظائرها من الخطابات الواردة في الفروع ك- ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ) مخصوصة بواجدي الشرائط ، فهي مطلقات لفظا ومقيّدات معنى ، فلا يظهر من مجرّد إطلاقها شمولها لعامّة المكلّفين لينهض شاهدا بانتفاء القصور رأسا ، وأصالة الإطلاق في الأمر - حسبما تقرّر في محلّه - الّتي يرجع إليها في مواضع احتمال التقييد إنّما تسلّم بالقياس إلى الشروط الاخر الزائدة على الشروط الأربع ، فالخطاب التكليفي حينئذ لا يعلم إطلاقه إلاّ حيث صادف الجامع للشروط بأجمعها ، ومن المستحيل حينئذ إحراز وجود الشروط بإطلاقه.

وما عساه يتوهّم من خروج خطابات العلم والمعرفة من سياق الأشباه والنظائر وضابطة الخطابات المشروطة ممّا لا محصّل له ، إلاّ بأن يرجع إلى دعوى أحد الأمرين : من منع الاشتراط بالقياس إلى هذه الخطابات بالخصوص فهي مطلقة بحسب اللفظ والمعنى معا حتّى بالقياس إلى فاقدي الشروط كلّها أو بعضها ، وهي - مع أنّها لا تنفي وجود القاصر وأنّها خلاف الفرض كما يشهد به خروج الصبيّ والمجنون منها - تخصيص في حكم العقل وغيره من القاطع المثبت للاشتراط فيكون محالا.

أو دعوى مصادفة هذه الخطابات اجتماع الشروط بأسرها بالنسبة إلى عامّة المكلّفين على معنى كون كلّ مكلّف في الاصول حاويا لشروط الامتثال ، وهي مجازفة لا يلتفت إليها في نظائر المقام مع قضاء ضرورة الوجدان بفسادها.

فإن قلت : يمكن الاستدلال على نفي القصور بقاعدة اللطف الّتي هي من دليل العقل ، بتقريب : أنّه كما يشتمل الفروع على مصالح ومفاسد يجب على اللّه تعالى من باب اللطف إرشاد العباد إليها فكذلك الاصول مشتملة عليها ، بل مصالح الفروع فرع من مصالح الاصول ، وكما أنّ اللطف الواجب في الفروع يقتضي جعل التكاليف وإرسال الرسل وإنزال الكتب

ص: 300

ونصب الأوصياء وغير ذلك ممّا لا يتمّ اللطف إلاّ به ، فكذلك في الاصول يقتضي جعل التكليف بتحصيلها ونصب الأدلّة الموصلة إليها وتمكين المكلّفين من معرفتها ، وهذا يقتضي عدم وجود قاصر وإلاّ لم يتمّ اللطف.

قلت : هذا كلّه صحيح ولكن وجود الدليل المنصوب الصالح للإيصال لا يلزم وجوب إيصاله إلى المطلوب ، سيّما إذا استند عدمه إلى فقد شرط أو وجود مانع كما في أسباب القصور المتقدّمة الّتي مرجعها إلى أحد الأمرين.

لا يقال : إنّ التمكين من معرفة الدليل المنصوب والتوصّل به إلى المطلوب تتميما للّطف الواجب عليه تعالى يقتضي إيجاد الشروط المفقودة ودفع الموانع الموجودة.

لأنّه إنّما يقتضي الإيجاد والرفع فيما يستند فقده من الشروط ووجوده من الموانع إليه تعالى ، بحيث لو لا إيجاده ما فقد من الشرط ورفعه ما وجد من المانع كان إخلالا منه باللطف الواجب عليه ، وميزانه كون خلاف اللطف مسندا إليه ، وأمّا ما لا يستند إليه من فقد الشروط أو وجود الموانع بل إلى غيره كما في أسباب القصور المتقدّمة - كما يكشف عنه حديث : « كلّ مولود يولد على الفطرة » - فليس الإيجاد والرفع فيهما ولو بنحو الغلبة والإكراه من اللطف الواجب عليه ، لما أخذ فيه من عدم انتهائه إلى حدّ الإلجاء ، بل ربّما أمكن المناقشة في جوازه فضلا عن وجوبه لرجوعه إلى الجبر المستحيل عليه تعالى.

ولو قيل : إنّ الإجماع انعقد على تكليف العباد بالوصول إلى الواقع وهو غير قابل للتخصيص ، ويلزم منه إطلاق التكليف بحسب الواقع مطلقا.

لقلنا : إنّ القدر المسلّم من الإجماع إنّما هو تكليف الجامعين للشروط من العباد بالوصول إلى الواقع وإطلاق التكليف بالنسبة إليهم مسلّم ، ولا يلزم منه كون كلّ أحد من آحاد العباد جامعا للشروط ، وهذا ليس من باب التخصيص بل تخصّص.

وبالتأمّل في جميع ما ذكر يعلم أنّه لا يمكن نفي القصور رأسا فيما بين نوع المكلّفين في الاصول بشيء من الوجوه المتقدّمة في أدلّة قول الجمهور.

أمّا الوجه الأوّل بكلا تقريريه : فبما اتّضح عند منع التمسّك بقاعدة اللطف.

وأمّا الوجه الثاني : فبأنّ ثبوت التكليف بالإيمان لنوع اليهود والنصارى وغيرهم من فرق الكفر معلوم ، بل هو من أوّل البعثة إلى يومنا هذا ضروريّ الثبوت ، وهذا لا ينافي خروج بعض آحاد النوع لقصور وغيره ، إذ ليس المراد إثبات القصور لجميع آحاده ليكون ذلك حجّة عليه.

ص: 301

ولا ريب أنّ تكليف النوع لا ينافي قصور بعض الآحاد ، وذمّهم على إصرارهم على عقائدهم أيضا كان متوجّها إلى النوع.

ولا ريب في تقصير أكثر آحاده ولا سيّما الموجودين في عصره صلى اللّه عليه وآله وسلم المشاهدين لآياته وبيّناته ، ومن البعيد عادة بل المستحيل عقلا بقاء اعتقادهم الأصلي التقليدي مع هذه الحالة وعدم تزلزل النفس في معتقدها ، فلا يكون الإصرار حينئذ إلاّ عنادا أو تساهلا في ملازمة النظر ومواظبة الجدّ ، فالأكثر كانوا مقلّدة بهذا المعنى الغير المنافي لقصور الأقلّ ، مع أنّ في قضيّة كونهم عرفوا دين آبائهم تقليدا ولم يعرفوا المعجزة - لو سلمت عن المنع - اعترافا بالقصور في الأكثر ، ومعه فأيّ شيء يصحّح توجّه التكليف والذمّ إليهم إلاّ على رأي مجوّزي التكليف بغير المقدور إذا كان ممّا يتأتّى عادة.

وأمّا الوجه الثالث بكلا تقريريه : فبأنّ الإجماع على أهليّة النار في قاطبة الكفّار موضع منع ، فانتفى دلالته على نفي القصور فيهم رأسا ، وعموم القتل أو القتال للقاصرين منهم في موضع الاشتباه أو مطلقا لحسم مادّة الكفر وسودة الضلال لا يعدّ ظلما إذا أدّى عدمه إلى استيلاء أهله على المسلمين ، أو اقتضاه مصلحة أقوى من مصلحة بقائهم ، أو كان طريقا إلى اختيار أقلّ المحذورين.

وأمّا الوجه الرابع : فبأنّ الآيات المشار إليها مخصوصة بحكم العقل القاطع بالمقصّرين من الكفّار الّذين يصحّ توجّه الخطاب إليهم.

وهذه القضيّة ممّا لا كلام فيها ولا ملازمة بينها وبين كون كلّ واحد من آحاد الكفّار مقصّرا ، والآيات ليست مسوقة لبيانه ، وعموم الحكم المستفاد منها فرع على ثبوت موضوعه على جهة العموم ، ولا تعرّض فيها لإثبات العموم من هذه الجهة فلم يعلم إرادة العموم منها باعتبار الحكم أيضا ، غاية ما هناك قيام ظهور في ذلك ولا ريب أنّ الظاهر يخرج عنه بالقاطع.

وأمّا الوجه الخامس : فبأنّ غاية ما يستفاد منها - بعد تسليم كون المجاهدة مرادا بها الاجتهاد - أنّ غير المهتدي لم يجتهد وأمّا أنّه مقصّر فلا ، ضرورة أنّ نفي الاجتهاد ليس إثباتا للتقصير بل ربّما يجامعه القصور ، مع توجّه المنع إلى كون المراد من « السبل » نفس الواقع في المعارف ، وإلى كون المراد من « المجاهدة » هو الاجتهاد ، ومن الآية إعطاء حكم في الدنيا ، وتفصيل هذه الجملة : أنّ من المحتمل كون الآية وعدا بمجازاة الخير في دار

ص: 302

الآخرة لمن صدر عنه الخير وهو المجاهدة في دار الدنيا ، سواء اريد بها مخاصمة أعداء الانس وجنود الكفر والضلال ، أو مدافعة خصماء النفس وجنود الشيطان ، أو استفراغ الوسع في طلب المعارف الحقّة ، أو بذل الجهد في تحصيل العلم بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة ، فيراد بالسبل إمّا مراتب القرب وشوؤنه وطرقه المختلفة بحسب اختلاف مراتب المجاهدة ، أو طرق الجنّة وبالهداية الإيصال إلى السبل بأيّ معنى اخذت ، هذا مع إمكان كون المراد بها الّذين يتحمّلون المشقّة بأبدانهم ونفوسهم بمواظبة الطاعات والعبادات أو بأموالهم ونفائسهم لمزاولة الخيرات والمبرّات طلبا لمرضاتنا لنوصلنّهم مراتب القرب أو طرق الجنّة ، مع احتمال ما عن عليّ بن إبراهيم في تفسيره من : « أنّ معنى « جاهدوا فينا » صبروا وجاهدوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لنهدينّهم سبلنا أي لنثبتهم ».

وما قيل من أنّ معناه : والّذين جاهدوا في إقامة السنّة لنهدينّهم سبل الجنّة.

وما قيل أيضا أنّ معناه : والّذين يعملون بما يعلمون لنهدينّهم إلى ما لا يعلمون.

وما قيل أيضا أنّ معناه : بيان أنّ المجاهدة للنفس بزجرها عمّا تشتهيه وعدم الجري على مقتضى هواها الفاسدة وتعريضها معرض طلب الحقّ والصواب يفضي إلى الفوز بالاهتداء إلى طريق اللّه المستوي وصراطه المستقيم.

وهذه المعاني كما ترى ممّا لا تعلّق لها بإصابة كلّ مجتهد للواقع ، ولا يكون كلّ مكلّف لم يصل إلى الواقع مقصّرا اجتهد أو لم يجتهد ، كما لا ينافي وجود القاصر فيما بين المكلّفين في موارد تكليفهم اصولا كانت أو فروعا من المسلمين كانوا أو غيرهم من فرق الكفّار والمخالفين.

بل قصارى ما يقتضيه على المعنى الأخير أنّ طلب الحقّ بطرق المكاشفة المبنيّة على تحمّل الرياضات الحقّة المشروعة أدخل بالوصول إلى الواقع ، أو أنّه دائم المصادفة له ممّن يقدر عليه ، ومن الظاهر أنّ هذا طريق لم يقع التكليف شرعا بسلوكه في اصول ولا فروع خصوصا في حقّ عامّة المكلّفين ، غاية ما هنالك أنّ المجتهد بالطريق إذا راعى مع اجتهاده مجاهدة نفسه وزجرها عمّا ليس فيه رضى اللّه سبحانه يلزمه الوصول إلى الواقع بمقتضى الآية على تقدير هذا المعنى ، وهذا ممّا لا مدخل له بنفي القصور عمّا بين قاطبة المكلّفين ، خصوصا بعد ملاحظة أنّ سلوك هذا المسلك ليس شرطا لصحّة الاجتهاد ولا تحصيل المعارف الحقّة والمعالم الدينيّة اصوليّة كانت أو فروعيّة ، فمن الجائز حينئذ أن لا يكون

ص: 303

المجتهد أو مطلق المكلّف مجاهدا لنفسه بالمعنى المعبّر عنه في الأخبار بالجهاد الأكبر ، فلا يلزمه الوصول إلى الواقع لا محالة لمكان فقدان الشرط المذكور ، وأن يكون مجاهدا فيلزمه الوصول إليه لتحقّق الشرط الّذي لا يجب تحصيله لا محالة ، فلا دلالة فيها على أنّ كلّ مكلّف إذا اجتهد لا بدّ أن يصل إليه وأنّه لا يتصوّر في حقّه القصور.

ومع الغضّ عن ذلك فغاية ما يستفاد منها - بعد أخذ المجاهدة بمعنى الاجتهاد المعهود - أنّ الاجتهاد في اللّه سبحانه مقتضي للوصول إلى سبله ، وظاهر أنّ المقتضي قد يصادفه وجود المانع أو فقد الشرط كارتكاز الشبهة في الذهن وعدم استقامة الفطنة أو الفطرة أو السليقة فلا يقتضي.

ودعوى أنّ التعليق في الشرطيّة يفيد العلّية التامّة ولو بملاحظة إطلاق الشرط ، فيكون الاجتهاد سببا تامّا للاهتداء ، ومعناه : أن لا يكون لغيره من الامور الوجوديّة والامور العدميّة مدخليّة في ترتّب الاهتداء عليه.

يدفعها أوّلا : منع كون قضيّة الآية شرطيّة لخلوّها عن أدوات الشرط ، وعدم تبيّن تضمّن المبتدأ الموصول معنى الشرط لخلوّ الخبر عن « فاء » الجزائيّة ، فيجوز كون ذكر الصلة لمجرّد اعتبار المعرّف لمن يجري عليه الخبر من دون تأثير لها في جريانه ، على حدّ ما في قولك : « الّذي جاءك لأقتلنّه » أو ورودها مورد العلقة الناقصة الّتي مفادها السببيّة المساوقة للمقتضي.

وأقصى ما هنالك نفي احتمال التعريف بكونه أبعد ، ولا يلزم منه تعيّن إفادة تماميّة العلقة الّتي فيما بين الصلة والخبر ، كيف وهو منقوض بالاجتهاد في الفروع فإنّه في الآية ورد مطلقا ولا مخصّص له بغير الفروع.

ومن الواضح البيّن أنّ المجتهد في الفروع ليس بمأمون من الخطأ ولا من القصور الّذي يوجب عدم إمكان الوصول إلى الواقع ، فلو صحّ ما ذكر لقضى بامتناع الأمرين في الفروع ولا أظنّ الخصم يرضى بذلك.

نعم ربّما يتّجه ذلك على القول بالتصويب فيها ، غير أنّه على ما ستعرفه ضروريّ الفساد.

وثانيا : منع كون تماميّة العلّة على تقديرها مجدية في نفي القصور عن قاطبة المكلّفين ، فإنّ غاية ما تقتضيه العلّيّة التامّة ثبوت مفهوم لهذه القضيّة الشرطيّة ، فيكون مفاد الآية باعتبار المفهوم حينئذ : « إن لم يجتهد لم يهتد » وهذا ليس بعين قولنا : « إنّ من لم يجتهد

ص: 304

قصّر » ولا مستلزما له ، لما بيّنّا من أنّ عدم الاجتهاد يجامع كلاّ من التقصير والقصور.

هذا كلّه مع توجّه المنع - بعد تسليم كون الاجتهاد علّة تامّة للاهتداء - إلى كون « السبل » مرادا بها الأمر الحاصل في دار الدنيا ، لجواز كون المراد منها مراتب القرب أو طرق الجنّة ، فيكون الآية حينئذ من أدلّة رجحان الاجتهاد وكونه بنفسه أمرا مطلوبا لله عزّ وجلّ ، وهذا لا ينفي الخطأ عن المجتهد فضلا عن القصور خصوصا عن غيره ممّن لا يقدر على الاجتهاد أو لا يصيب اجتهاده الواقع ولو عاميّا.

والحاصل : أنّه لا تعرّض في الآية بشيء من محتملاتها للتقصير ولا للقصور بإثبات ولا بنفي بمنطوقها ولا مفهومها ، بالقياس إلى المجتهد وإلى غيره ، فلا سبيل إلى إنكار القصور أو نفي وجود القاصر عمّا بين نوع المكلّفين ، فالنزاع فيه - إن كان - في غاية الضعف والسقوط بل لا أظنّه محقّقا وإن كان محتملا.

وأمّا النزاع في كون كلّ مجتهد في اصول العقائد إذا أخطأ اجتهاده مقصّرا أو قاصرا فهو النزاع الواقع في المسألة كما أشرنا إليه.

والقول بالتقصير هاهنا غير بعيد بل قويّ بل متعيّن ، لأنّ أسباب القصور - على ما أشرنا إليها - مقصورة على امور مخصوصة يضبطها : فقد المقتضي للوصول إلى الواقع وهو الدليل ، أو انتفاء ما هو من شروط اقتضائه ، أو وجود ما هو من موانعه الّتي منها رسوخ الشبهة في الذهن ، وسبق الإذعان بالباطل عن سبب قهري بالمعنى المرادف لسبق الشبهة إن فسّرت بالاعتقاد الجهلي ، كما ورد به ظاهر بعض الأخبار المصرّح بأنّه : « إنّما سمّيت الشبهة شبهة لأنّها تشبه الحقّ » ، بتقريب : أنّ العلم الّذي يتعلّق بالحقّ عبارة عن انكشاف الواقع والاعتقاد الجهلي أيضا في نظر معتقده انكشاف للواقع ، فمتعلّق ذلك الاعتقاد وإن كان باطلا في نفس الأمر إلاّ أنّه في صورة الحقّ فيشبهه ، أو بالمعنى المغاير له إن فسّرت بصورة الشكّ إذا صارت مستقرّة في الذهن ، كما هو الظاهر المتداول منها في العرف والعادة.

والكلمات المتقدّمة عن أهل القول بالتصويب هنا بين ما يستند في دعوى القصور إلى فقد المقتضي - كما تقدّم في الاعتراض على أوّل أدلّة الجمهور من منع وجود الأدلّة القاطعة على هذه المطالب - وما يستند إلى وجود المانع بالمعنى الأخير ، كما تقدّم في الاحتجاج لهذا القول من أنّ تكليفهم بنقيض اجتهادهم تكليف بما لا يطاق بالبيان الّذي قدّمنا.

ولا ريب أنّ الاستناد إلى كلّ من الوجهين فاسد الوضع وواضح المنع ، فهاهنا مقامان :

ص: 305

المقام الأوّل : في إثبات وجود المقتضي.

فنقول : إنّ القاطع المحكوم بفقدانه إن اريد به ذات الدليل فمنع وجوده من الخرافات الّتي لا ينبغي الإصغاء إليها ، كيف ووقوع التكليف بتحصيل المعارف من ضروريّات الدين بل الأديان كلّها ، وهو من دون طريق يؤدّي إليها تكليف بما لا يطاق.

واحتمال مرجعيّة التقليد فيها ، يدفعه أوّلا : أنّه خروج عن مفروض المسألة وهو المخطئ في نظر واجتهاد.

وثانيا : بطلان القول بالتقليد فيها رأسا على ما سنقرّره في بابه.

وثالثا : عدم تعقّل التقليد فيها إن اريد به المعنى المتداول في الفروع ، فإنّ المقصود بالأصالة من التقليد في الفروع إمّا الالتزام بقول الغير أو تطبيق العمل على مقتضاه وإن لم يستتبع اعتقادا للمقلّد بمقوله ، بخلافه في الاصول الّتي لا يقصد فيها بالذات إلاّ الاعتقاد بل العلم خاصّة على ما سنقرّره ، وهو ليس بأمر اختياري ، وإنّما يترتّب قهرا على سببه الاختياري عند إعماله ، والمفروض انتفاؤه.

وفرض قول الغير بمثابة يكون في نفسه أو بمعونة بعض الامور الداخلة والخارجة كافيا في إفادة الاعتقاد مع عدم اطّراده خروج عن الفرض ، لكون ذلك أيضا نحوا من الدليل الّذي نحن بصدد إثباته ، كما أنّ فرض كون المراد بالتقليد هنا ما هو مصطلح أهل المعقول خروج عن الفرض واعتراف بضدّ المطلوب ، إذ الاعتقاد كائنا ما كان لابدّ له من مستند منحصر فيما هو دليل اصطلاحا.

ورابعا : وجوب انتهاء التقليد إلى النظر والاستدلال اللذين لا يتمّان إلاّ بالدليل حذرا عن التسلسل ، فإنّ الغير الّذي يرجع إلى قوله لا بدّ له من مستند ، فإن كان النظر والاستدلال ثبت المطلوب وإن كان التقليد ننقل الكلام إليه فإمّا أن يتسلسل أو ينتهي إلى الدليل ، مع أنّ نزاعهم الآتي في وجوب النظر أو كفاية التقليد في اصول الدين ينبئ باتّفاقهم على وجود أدلّة فيها يقع النظر عليها ، مع أنّه لو لا وضع الأدلّة على هذه المطالب المقصودة بالأصالة من إيجاد العالم وخلق بني آدم لما تمّت الحجّة على الخلق ، فيؤدّي بعد قبح العقاب بلا إقامة البرهان إلى نقض الغرض.

غاية الأمر أنّ عادته تعالى غير جارية بالجبر والإلجاء ورفع الموانع الغير المستندة إليه بالقهر والغلبة ، وهذا ليس منه إخلالا بوضع الأدلّة ونصب الطرق على قياس ما هو

ص: 306

الحال في سائر موارد اللطف الواجب عليه تعالى ، ومقتضى ذلك كون الأدلّة الموضوعة والطرق المنصوبة لإدراك هذه المطالب من باب المقتضيات الّتي يجوز التخلّف عنها باعتبار الامور الخارجة ولو من سوء اختيار المكلّف ، وليس منع هذه الامور عن التأثير من وظيفته ولا خلافه منافيا لغرضه ، مع أنّه يكفي لإثبات وجود الأدلّة وانتصابها آثار الصنع في المصنوعات المرشدة من باب الإنّ إلى وجوب وجود صانع لها جامع للكمالات منزّه عن النقائض - كما نطق بدليليّتها قوله عزّ من قائل : ( سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (1) وقوله تعالى : ( اللّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ) (2) - واستقلال العقل بقبح الظلم عليه تعالى ، وما تواتر من الأنبياء وأوصيائهم من إظهاره المعجزات الباهرة والآيات الظاهرة بأيديهم تصديقا لهم ، مع ما علم ضرورة من أخبار الأنبياء والأولياء والعلماء بمعاد يوم الجزاء وإجماعهم عليه ، مع قضاء العقل المستقلّ ، بأنّه لولاه لضاع عمل العاملين وضاعت حقوق المظلومين ولساوى أشقى الأشقياء وأفضل الأنبياء لعدم حصول ما يصلح للجزاء في الدنيا مع إقبال الدنيا إلى الفجّار بقدر إدبارها عن الأخيار ، مع أنّ المانع لم يذكر سندا لمنعه حتّى ينظر فيه إلاّ أنّه قال : « خصوصا ونحن نرى الخلق مختلفين في الأديان والعقائد من زمن وفاة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم ويبعد أن يكون واحد منهم مكابرا » وهذا في الحقيقة لنا لا علينا ، لأنّ اختلاف المختلفين في الأديان والعقائد إنّما ينشأ عن اختلاف الأدلّة الّتي هي في طرف الباطل من كلّ مسألة شبهات ومغالطات ، والمحقّ من كلّ فرقة في كلّ مسألة واحد وله أدلّة من العقل والسمع ، مع أنّ موضوع المسألة على ما عرفت هو المجتهد في العقليّات وهو المستفرغ وسعه في تحصيل المعارف ولا يكون إلاّ عن نظر واستدلال.

وإن اريد به وصف قاطعيّته (3) فيكفي في إثبات ذلك الوصف أنّ التكليف بالعلم في المعارف - على ما سنقرّره - لا يتمّ إلاّ بكون الأدلّة الموجودة والطرق المنصوبة فيها كافية في العلم صالحة لإفادته فيها لمن يراعي حقّ النظر فيها ، وفي الآيات الواردة في ذمّ مقلّدة الكفّار ومتّبعي الظنّ منهم على اختلاف فرقهم غنية في إثبات وقوع التكليف فيها بالعلم

ص: 307


1- الشورى : 54.
2- الطلاق : 12.
3- عطف على قوله : « أنّ القاطع المحكوم بفقدانه إن اريد به ذات الدليل الخ ».

ووجود الأدلّة المفيدة له وتمكّن المكلّفين من النظر فيها ، مع ما ندرك بالوجدان من انتهاء النظر في أكثر هذه المطالب ولا سيّما إثبات الصانع وصفاته الثبوتيّة الّتي مرجعها إلى العلم والقدرة وصفاته السلبيّة الّتي مرجعها إلى نفي الحدوث والحاجة إلى القطع ، لابتنائه على قواعد منضبطة ومقدّمات قطعيّة وأسباب حسّيّة ، وأيّ دليل لإثبات الصانع وصفاته يكون أتقن وأوضح من لطائف صنع المصنوعات من الأرضين والسماوات وما بينهما من الأنفس والآفاق؟ كما أرشد إلى النظر فيها في الآيات المتكاثرة الّتي منها ما تقدّم ، وفي الروايات المتظافرة الّتي منها ما رواه الصدوق في جامع الأخبار مرسلا قال : وسئل أمير المؤمنين عليه السلام عن إثبات الصانع ، فقال : « البعرة تدلّ على البعير ، والروثة تدلّ على الحمير ، وآثار القدم تدلّ على المسير ، فهيكل علوي بهذه اللطافة ومركز سفلي بهذه الكثافة فكيف لا يدلاّن على اللطيف الخبير ».

وقال عليه السلام : « بصنع اللّه يستدلّ عليه ، وبالعقول يعقد معرفته ، وبالتفكّر يثبت حجّته ، معروف بالدلالات مشهود بالبيّنات ».

سئل جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام ما الدليل على صانع العالم؟ قال : « لقيت حصنا مزلقا أملس لا فرج فيها ولا خلل ، ظاهره من فضّة مائعة وباطنه من ذهب مائع ، انفلق منه طاووس وغراب ونسر وعصفور ».

وفي إثبات الرسالة والوصاية المطلقتين أيّ برهان أتقن من افتقار الناس إلى رسول ثمّ إلى وصيّ بعده لئلاّ يكون لهم عليه تعالى حجّة؟ كما أشار إليه ما رواه في الكافي بسند فيه إرسال عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام : « اعرفوا اللّه باللّه ، والرسول بالرسالة ، واولي الأمر بالأمر بالمعروف والعدل والإحسان » بناء على أنّ معناه : اعرفوا اللّه بصفات كماله بواسطة آثار صنعه وكمال قدرته ، وإنما اضيف إليه تعالى لأنّ ما يسند إلى المعلول يصحّ إسناده إلى العلّة ، وإنّ ربوبيّته تعالى تستلزم أن يرسل رسولا إلى من لم يوح إليه ، وينصب بعد الرسول أوصياء له ، وذلك لأنّ من عرف لنفسه ربّا يعرف أنّ لذلك الربّ رضا وسخطا يجب عليه موافقة رضاه وعدم التعرّض لسخطه ، وأنّه لا يعرف رضاه وسخطه إلاّ بوحي أو رسول ، فمن لم يأته الوحي لابدّ له من طلب الرسول ، فإذا طلبه وجدّ في طلبه عرف أنّه الحجّة وأنّ له الطاعة المفترضة ، وأنّه لابدّ من نصب وصيّ بعد الرسول وقبل مجيء رسول آخر لحفظ شرعه والأمر بالمعروف والعدل والإحسان لئلاّ يكون للناس

ص: 308

على اللّه حجّة بعد الرسل ، فيجب على الناس طلب ذلك الحجّة ، فإذا طلبوه وجدّوا في طلبه عرفوه.

وللحديث معنيان آخران لا تعلّق لهما بالمقام ، وأمّا النبوّة الخاصّة ونبوّة نبينّا صلى اللّه عليه وآله وسلم فطريق العلم فيها المعجزات الّتي منها القرآن ، وما تواتر من صفاته الحسنة وأخلاقه المستحسنة وغير ذلك ممّا قرّر في مظانّه.

وقد يدرك صدقه بالبلوغ إلى الصفات الكامنة الّتي يتبعها أحكام شرعيّة ويختصّ بالعقول السليمة.

ومن هنا قيل : إنّ من أعلام نبوّته صلى اللّه عليه وآله وسلم أنّه كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، أي يأمر بما تشهد العقول السليمة بكونه معروفا وينهى عمّا تشهد بكونه منكرا ويحلّ ما تشهد بكونه طيّبا.

ومنه ما حكي عن الأعرابي حيث أسلم من غير إعجاز فقيل له : عن أيّ شيء أسلمت؟

وماذا رأيت منه؟ فقال : « ما أمر بشيء فقال العقل ليته نهى ، ولا نهى عن شيء فقال العقل ليته أباحه ».

وكذا الكلام في إمامة الأئمّة الاثني عشر عليهم السلام وأدلّتها العقليّة والنقليّة من الآيات والنصوص والكرامات وخوارق العادات الصادرة منهم ، ولا سيّما فضائلهم وفواضلهم وأحوالهم وأخلاقهم وأفعالهم وعلومهم وعباداتهم وعطاياهم وشجاعاتهم وصبرهم على البلايا وتحمّلهم لها وغير ذلك ، فإنّ جميع ذلك فيهم عليهم السلام من خوارق العادات الّتي لا يسمح الزمان بمثلها في غيرهم المفيدة لمن راعى الإنصاف وجانب الاعتساف وخلع عن نفسه الأضداد والأنداد العلم بإمامتهم.

وأمّا أدلّة المعاد وكونه جسمانيّا من العقل والنقل المتواتر كتابا وسنّة وغيرهما فكونها قطعيّة مفيدة لليقين واضح للمنصف الغير المتعسّف ، وإذا ظهر وجود المقتضي للوصول إلى الواقع في المعارف واصول العقائد - على معنى وجود الأدلّة القاطعة على هذه - انقدح كون المجتهد المخطئ فيها مقصّرا.

وتوضيح ذلك : أنّ الدليل مأخوذ من الدلالة بمعنى كون الشيء بحيث يلزم من العلم به العلم بشيء آخر ، والمراد بالشيء الآخر هو النتيجة وبالشيء الأوّل مجموع مقدّمتي القياس ، فإنّه باعتبار اشتماله على الأوسط محمولا في الصغرى وموضوعا في الكبرى مثلا - كما

ص: 309

في الشكل الأوّل - بحيث يلزم من العلم به العلم بالنتيجة بملازمة عقليّة مستندة إلى ذاتي المقدّمتين والنتيجة ، وهي الّتي عبّر عنها بالاستلزام لذاته في تعريف الدليل على مصطلح المنطقيّين ، فإنّه قولان فصاعدا يستلزم لذاته قولا آخر ، فالاستلزام لبداهة حكم العقل بالملازمة بعد تحقّق الملزوم بيّن لا يمكن الاسترابة فيه.

نعم إنّما يتطرّق الاسترابة عند القدح في الدليل إلى الملزوم بالقدح في الصغرى أو الكبرى ، فالخطأ في البرهانيّات الّتي تتألّف من اليقينيّات - المستندة تارة إلى العقل المستقلّ ، واخرى إلى الوجدان ، وثالثة إلى الحسّ ، ورابعة إلى الحدس ، وخامسة إلى التجربة ، وسادسة إلى التواتر - إنّما ينشأ من عدم تحقيق الملزوم لا من قصور الملازمة مع تحقّق الملزوم ، كيف لا واستلزام القياس الصحيح الصورة للنتيجة على ما بيّنّاه ضروريّ الثبوت ، فالطالب للعلم بالنتيجة النظريّة لابدّ له من الاجتهاد وبذل الجهد واستفراغ الوسع في تحقيق الملزوم الّذي يرجع إلى إحراز الصغرى وإحراز الكبرى.

فدليل نبوّة نبيّنا صلى اللّه عليه وآله وسلم مثلا هو قولنا : « إنّ محمّدا صلى اللّه عليه وآله وسلم آت بالمعجزة ، وكلّ آت بالمعجزة نبيّ » فمن لم يبلغ اجتهاده إلى الإذعان به صلى اللّه عليه وآله وسلم فلا جرم يكون عدم بلوغه لضرب من المسامحة والمساهلة في الطلب الّذي مرجعه إلى التقصير في تحصيل الصغرى المذكورة ، فمن تردّد النبوّة الخاصّة في نظره ابتداء بعد التفطّن والالتفات واحتمالها في محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم أيضا يجب عليه بذل الجهد واستفراغ الوسع بالرجوع إلى المسلمين ومزاولة كتبهم الموضوعة في الكلام وفي الأخبار وغيرها ، وممارسة القرآن ومجالسة علمائهم ومسألتهم وعرض الشبهات الّتي قرعت سمعه عليهم لرجاء تحصيل الصغرى فيهم بالاطّلاع على معجزاته وخوارق عاداته صلى اللّه عليه وآله وسلم ومن لم يفعل ذلك مع الاحتمال المذكور حتّى استقرّ الشكّ في نفسه أو ترجّح في نظره نبوّة موسى أو عيسى عليهما السلام كان متسامحا في طلبه متساهلا في نظره واجتهاده ، وظاهر أنّ المتسامح والمتساهل في الشيء الفائت منه مقصّر في طلب ذلك الشيء.

وهذا معنى ما في احتجاج الجمهور وجماعة من أساطين أصحابنا من « أنّ اللّه تعالى كلّف بالعلم ونصب عليه دليلا قاطعا فالمخطئ له مقصّر فيبقى في العهدة » فما عليه الجمهور من إثبات التقصير على المجتهد المخطئ ». للدليل المنصوب على الحقّ هو الأوفق بالصواب ، فيكون بتقصيره تاركا للمأمور به وهو العلم من غير عذر ، فيكون آثما ومستحقّا للعذاب الدائم.

ص: 310

فإن قلت : إنّ التقصير في امتثال التكليف إنّما يستتبع الإثم إذا كان المكلّف المقصّر متفطّنا بتقصيره دون غيره لقبح تكليف الغافل ، فإنّه قد يقصّر في مقدّمات النظر واقعا ولا يتفطّن بتقصيره.

قلت : إنّ الغفلة عن التقصير ممّا لم نتحقّق معناه ، فإنّ مفروض المسألة أنّ اللّه تعالى كلّف بالعلم وتمكّن المكلّف من تحصيله بالتمكّن من الاطّلاع على الأدلّة الموجودة الموصولة إليه ، ولم يؤدّ من استقصاء النظر في طلبه واستفراغ الوسع للاطّلاع على الأدلّة الموصلة إليه اختيارا - مع إمكانه واحتمال وجودها - حقّه ، وهو الّذي يعبّر عنه بالتقصير ويلزم منه أنّه ترك الامتثال اختيارا ولو باعتبار كونه متولّدا من الترك الاختياري على حدّ الأفعال التوليديّة ، فيكون آثما ويعاقب عليه.

وبالجملة استفراغ الوسع في طلب العلم بالمعارف الحقّة لا يتأدّى حقّه إلاّ بالرجوع إلى أدلّة ما احتمل كونه حقّا من الأديان الّتي منها دين الإسلام ، فمن ترجّح في نظره بعد الاجتهاد دين اليهود والنصارى أو غيرهما بعد ما احتمل حقّيّة دين الإسلام فرّط في نظره وقصّر في اجتهاده لا محالة ، حيث لم يرجع إلى المسلمين ولم يستوف النظر في أدلّتهم ولم يسأل علماءهم ليرفعوا شبهاته أو لم يعمّق التأمّل في أدلّتهم أو لم يخل نفسه عن الأضداد والأنداد ، نظرا إلى أنّ خلوّ الذهن عن الضدّ المنافر قبل النظر في الدليل شرط في حصول العلم أو معين فيه على رأي ، بخلاف الضدّ الغير المنافر كظنّ المطلوب قبل النظر فإنّه معين في حصول العلم به بالاستدلال ، وإلاّ لوجب وصوله إلى الواقع وحصول العلم له بالحقّ وهو دين الإسلام كما كان يتّفق كثيرا في المائلين من الملل الباطلة إليه من زمن الأئمّة عليهم السلام إلى زماننا هذا.

ومن ذلك ما رواه الكليني في اصول الكافي بإسناده عن هشام بن الحكم ، قال : كان بمصر زنديق يبلغه عن أبي عبد اللّه عليه السلام أشياء فخرج إلى المدينة يناظره ، فلم يصادفه بها ، وقيل له : إنّه خارج بمكّة فخرج إلى مكّة ، ونحن مع أبي عبد اللّه عليه السلام فصادفنا ونحن مع أبي عبد اللّه عليه السلام في الطواف ، فكان اسمه عبد الملك وكنيته أبو عبد اللّه ، فضرب كتفه كتف أبي عبد اللّه عليه السلام فقال أبو عبد اللّه عليه السلام : ما اسمك؟ فقال : اسمي عبد الملك ، قال : وما كنيتك؟ قال : كنيتي أبو عبد اللّه ، فقال له أبو عبد اللّه عليه السلام : فمن هذا الملك الّذي أنت عبده أمن ملوك الأرض أم من ملوك السماء؟ وأخبرني عن ابنك عبد إله السماء أم عبد إله الأرض؟ قل ما شئت

ص: 311

تخصم قال هشام بن الحكم فقلت للزنديق : أما ترد عليه؟ قال : فقبّح قولي ، فقال أبو عبد اللّه عليه السلام : إذا فرغت من الطواف فأتنا ، فلمّا فرغ أبو عبد اللّه عليه السلام أتاه الزنديق فقعد بين يدي أبي عبد اللّه عليه السلام ونحن مجتمعون عنده ، فقال أبو عبد اللّه عليه السلام للزنديق : أتعلم أنّ للأرض تحتا وفوقا؟ قال : نعم ، قال : فدخلت تحتها؟ قال : لا ، قال : فما يدريك ما تحتها؟ قال : لا أدري إلاّ أنّي أظنّ أن ليس تحتها شيء ، فقال أبو عبد اللّه عليه السلام : فالظنّ عجز لما لا تستيقن.

ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السلام : أفصعدت السماء؟ قال : لا ، قال : فتدري ما فيها؟

قال : لا ، قال : عجبا لك لم تبلغ المشرق ولم تبلغ المغرب ولم تنزل الأرض ولم تصعد السماء ولم تجز (1) هناك فتعرف ما خلقهنّ وأنت جاحد بما فيهنّ ، وهل يجحد العاقل ما لا يعرف؟

قال الزنديق : ما كلّمني بهذا أحد غيرك ، فقال أبو عبد اللّه عليه السلام : فأنت من ذلك في شكّ فلعلّه هو ولعلّه ليس هو؟

فقال الزنديق : ولعلّ ذلك.

فقال أبو عبد اللّه عليه السلام : أيّها الرجل ليس لمن لا يعلم حجّة على من يعلم ولا حجّة للجاهل ، قال : يا أخا أهل مصر تفهم عنّي فأنّا لا نشكّ في اللّه أبدا ، أما ترى الشمس والقمر والليل والنهار يلجان فلا يشتبهان ويرجعان ، قد اضطرّا ليس لهما مكان إلاّ مكانهما ، فإن كانا يقدران على أن يذهبا فلم يرجعان ، وإن كان غير مضطرّين فلم لا يصير الليل نهارا والنهار ليلا؟ اضطرّا واللّه يا أخا أهل مصر إلى دوامهما ، والّذي اضطرّهما أحكم منهما.

فقال الزنديق : صدقت.

ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السلام : يا أخا أهل مصر إنّ الّذي يذهبون إليه ويظنّون أنّه الدهر إن كان الدهر يذهب بهم لم لا يردّهم؟ وإن كان يردّهم لم لا يذهب بهم القوم مضطرّون يا أخا مصر أم السماء مرفوعة والأرض موضوعة ، لم لا تسقط السماء على الأرض؟ لم لا تنحدر الأرض فوق طباقها؟ فلما يتماسكان ولا يتماسك من عليهما؟

قال الزنديق : أمسكهما اللّه ربّهما وسيّدهما.

قال : فآمن الزنديق على يدي أبي عبد اللّه عليه السلام ، فقال له حمران : جعلت فداك إن آمنت الزنادقة على يديك فقد آمن الكفّار على يدي أبيك.

ص: 312


1- من الجواز بمعنى العبور ( منه ).

فقال المؤمن الّذي آمن على يدي أبي عبد اللّه عليه السلام : اجعلني من تلامذتك.

فقال أبو عبد اللّه عليه السلام : يا هشام بن الحكم خذه إليك فعلّمه - وكان هشام معلّم أهل الشام وأهل مصر - الإيمان وحسّنت طهارته حتّى رضي بها أبو عبد اللّه عليه السلام.

أقول : الظاهر أنّ الزنديق بعد ما بلغه عن أبي عبد اللّه عليه السلام من علمه وفضله ومناقبه أشياء خرج إليه متخاصما أو مستبصرا وتكلّمه عليه السلام معه في الطواف بما يتعلّق باسمه وكنيته تنبيها له على أنّ في الأسماء والأعلام والكنى شهادة بما كان ينكره الزنادقة من وجود الصانع للعالم المالك للسموات والأرضين المعبود بالحقّ فيها ، قصدا إلى كسر سورته ولأن يعتريه وهن في اعتقاده الفاسد ، ولمّا كان الخلوّ عن الضدّ المنافر شرطا في حصول العلم بالاستدلال وإنّ الشاكّ جاهل والجاهل لا حجّة له على العالم وبذلك يبطل خصومته فقصد عليه السلام قبل الاستدلال على وجود الصانع إلى إخلاء ذهن الزنديق عن اعتقاده المذكور بعد توهينه بما تقدّم تنبيها له على جهله وعلى عدم حجّة له عليه وتوصّلا إلى الاستدلال عليه بما أفاده العلم بوجود الصانع ، فأعطاه للإخلاء قاعدة كلّية يرشد إليها العقل والاعتبار وعبّر عنها عليه السلام بقوله عليه السلام : « عجبا لك لم تبلغ المشرق » إلى قوله : « وهل يجحد العاقل ما لا يعرف ».

وملخّص هذه القاعدة : أنّ ما لا دليل على عدمه لا سبيل إلى إنكار وجوده قطعا أو ظنّا ، وغايته الشكّ في الوجود والعدم ، كما أنّ ما لا دليل على امتناعه لا سبيل إلى إنكار إمكانه ، وأصل العدم لا يفيد شيئا وعلى تقدير إفادته الظنّ الضعيف فهو لا ينهض حجّة على العالم.

وإنّما فرض مورد هذه القاعدة فيما تحت الأرض وما في السماء وما خلف المشرق والمغرب ، تنظيرا لصانع العالم الّذي هو عند مثبتيه ليس في جهة ولا مكان وليس بمرئيّ بما هو على تقدير وجوده في مكان وفي جهة ومرئيّ لمن دخل تحت الأرض أو صعد السماء أو بلغ المشرق أو المغرب ، في أنّه لا يسوغ إنكار وجوده لمجرّد عدم معرفته وعدم قيام دليل على عدم وجوده ، بل هو أولى بعدم جواز إنكار وجوده من غير دليل.

وقوله : « إلاّ أنّي أظنّ أن ليس تحتها شيء » جري على ما هو متعارف في العادات من الجواب بالظنّ عند العجز عن الحكم بعنوان الجزم بأحد الطرفين لانسداد باب العلم أو عدم استفراغ الوسع في طلبه قال عليه السلام : « فالظنّ عجز لما لا تستيقن » ومعناه : أنّ جوابك

ص: 313

بالظنّ دون الحكم عجز من تركك طلب اليقين بالوجود بناء على كون « اللام » للتعليل ، وهذا تعريض على الزنديق بتقصيره في طلب اليقين بوجود الصانع ، إذ لو طلبه لوجده سريعا بالضرورة.

وأمّا دعوى الظنّ فإمّا لأنّه من أصله كان ظانّا أو لانقلاب جزمه ظنّا بتوهين الإمام عليه السلام أو إشعاره بالقاعدة المشار إليها ، أو لأنّ الظنّ قد يشتبه حاله فيظنّه صاحبه جزما لعدم التفاته إلى منشأ الاحتمال ، فسؤاله عليه السلام هنا أوجب التفاته إلى منشأ الاحتمال ، وقوله : « ما كلّمني بهذا أحد غيرك » اعتراف منه وإقرار بأنّه لا ينبغي للعاقل جحد ما لا يعرف ، ولو كلّمه بهذا لما جحد.

وقوله عليه السلام : « وأنت من ذلك في شكّ » طلب إقرار منه بشكّه وعدم كون جحده عن اعتقاد جزمي ولا ظنّي لزواله - لو كان - بما استشعر وتنبّه عليه من القاعدة في ضمن النظر.

قوله عليه السلام « فلعلّه هو » تفسير لصورة الشكّ العارضة للزنديق ، والضمير المتّصل فيه وفيما بعده راجع إلى « ما بينهنّ » مثلا والمنفصل من أسماء الصانع تعالى ، وقول الزنديق : « ولعلّ ذلك » أي لعلّني في شكّ من ذلك ، ولم يصرّح بكونه شاكّا وإنّما ذكره بصورة الاحتمال لكونه شاكّا في شكّه وإن بعد تحقّقه.

ثمّ إنّ الإمام عليه السلام بعد ما أحسّ خلوّ ذهن الزنديق عن الضدّ المنافر ألزمه بعدم حجّة له لكونه جاهلا عليه عليه السلام لكونه عالما ، فأمر بالتفهّم وتطلّب العلم بوجود الصانع ، واستدلّ له عليه بخمسة أوجه دعته إلى الإيمان والإقرار به.

ومن المعلوم أنّ جميع الزنادقة لو صنعوا مثل ما صنع هذا الزنديق وخرجوا في طلب العلم واستفراغ الوسع لاطّلعوا على الدليل الموصل إلى العلم وحصل لهم العلم.

فإن قلت : إنّ تكليف المخطىء بنقيض اجتهاده تكليف بما لا يطاق كما تقدّم في احتجاج الجاحظ.

قلت : المحال إنّما هو التكليف بالعلم بشرط مؤدّى الاجتهاد وهو الاعتقاد المخالف جزما أو ظنّا ، لا التكليف بالعلم حال الخلوّ عن هذا الاعتقاد ، فهذا المجتهد قبل اجتهاده المؤدّي إلى الاعتقاد المخالف كان مكلّفا بتحصيل المعارف لا محالة لبطلان عدم تكليفه بشيء بالضرورة.

وحينئذ فإمّا أنّه كان مكلّفا بنقيض اجتهاده وهو العلم ، أو بمؤدّاه وهو الاعتقاد

ص: 314

المخالف ولو ظنّا ، أو بأحد الأمرين على وجه التخيير ، أو أحدهما على وجه الترتيب ، على معنى كون تكليفه بالاعتقاد المخالف معلّقا على فوات العلم وعدم اتّفاق حصوله.

فإن اريد الأوّل فهو وإن كان صحيحا غير أنّ نفي التكليف بنقيض الاجتهاد لا يوافقه إلاّ إذا اريد به نفي بقاء التكليف بالعلم ، لئلاّ يلزم من بقائه التكليف بما لا يطاق ، ومرجعه إلى دعوى سقوط التكليف بالعلم.

ولا ريب أنّ السقوط لا بدّ له من مسقط ، وهو إمّا حصول الامتثال ، أو حصول العصيان بناء على سقوط الخطاب في زمان المعصية بنفس المعصية ، أو طروّ العذر.

والأوّل خلاف الفرض ، فإنّ الامتثال إنّما يحصل بأداء المكلّف به ولم يحصل هنا.

والثاني يثبت المطلوب ، وهو الإثم الناشىء عن التقصير المفضي إلى العذاب الدائم ، فإنّ عدم اتّفاق حصول العلم مع وفور الأدلّة الموصلة إليه ووضوحها يكشف عن تسامحه في طلبه واستفراغ الوسع لتحصيله فيكون مقصّرا ، وهذا في معنى تركه الامتثال اختيارا كتارك الخروج مع الرفقة بعد الاستطاعة الّذي هو في معنى ترك الحجّ في موسمه ، فهذا هو الإثم الموجب للعذاب الدائم المستلزم لسقوط الخطاب ، إذ لا معنى لبقائه في زمان المعصية.

غاية الأمر أنّ سقوطه قارن تأدية الاجتهاد المقصّر فيه إلى طروّ الاعتقاد المخالف ، وهو لا يرفع الإثم المتحقّق بل ولا حكمه وهو استحقاق العذاب الدائم.

والثالث يدفعه : أنّ العذر الطارىء إن كان فقد المقتضي للوصول إلى الواقع فقد عرفت وجود الأدلّة القاطعة المفيدة للعلم ووفورها ووضوح دلالاتها ، وإن كان انتفاء شرط اقتضائه فإن كان الشرط أمرا اختياريا كالنظر وطلب الدليل واستفراغ الوسع في طلبه فانتفاؤه مستند إلى اختيار المكلّف ، والقول به التزام بالتقصير المفوّت للامتثال الملازم للإثم وهو المطلوب ، وإن كان أمرا خارجا من الاختيار كالقدرة على النظر والتمكّن من استفراغ الوسع ففرض انتفائه خروج من مفروض المسألة ، إذ الكلام في المجتهد الجامع لشروط الاختيار المتمكّن من النظر كما هو حقّه.

وإن كان وجود المانع من الاقتضاء كسبق الشبهة وهو الاعتقاد المخالف المفروض حصوله.

ففيه : أنّ طروّ هذا المانع مسبوق بالتقصير المتحقّق من جهة التسامح في الاستنباط فيكون تحقّق الإثم سابقا على طروّ الشبهة ، ومن الظاهر أنّ العذر اللاحق لا يرفع الإثم

ص: 315

السابق ولا أثره ولو فرضت الشبهة سابقة على الاجتهاد ، فعدم زوالها بالاجتهاد أيضا يكشف عن عدم استفراغ الوسع كما هو حقّه ولو بالرجوع إلى أهل العلم وغيرهم ممّن لم يسبقه هذه الشبهة كما رجع الزنديق إلى الإمام عليه السلام فزالت شبهته.

وإن اريد الثاني ففيه : أنّه لم نقف من العلماء على من التزم بوقوع التكليف في المعارف على الاعتقاد المخالف خاصّة ولو ظنّا ، فهو باطل لعدم قائل به مع مخالفة الأدلّة القاطعة القاضية بإناطة التكليف في اصول الدين بالعلم.

نعم ربّما يظهر من الكلمات المتقدّمة في الاعتراض على ثاني تقريري حجّة الجمهور وجود القول بوقوع التكليف على الظنّ وإن لم يطابق ، حيث قيل فيه : « بمنع نصب الأدلّة القاطعة وتمكّن العقلاء من معرفتها ، ولو سلّم فهو لا يقتضي أمرهم بالعلم ، فجاز كونهم مأمورين بالظنّ الغالب سواء كان مطابقا أو لا فيعذر الآتي به ، ويدلّ على أنّ التكليف إنّما وقع بالظنّ إنّ اليقين التامّ المتولّد من البديهيّتين متعسّرا لا يصل إليه إلاّ الآحاد فلا يقع التكليف به لجميع الخلق لقوله عليه السلام : « بعثت بالشريعة السهلة السمحة » ولا حرج أعظم من تكليف الإنسان في لحظة واحدة بمعرفة ما عجز الخلق عن معرفته في خمسمائة سنة ، ولأنّا نعلم أنّ الصحابة لم يكونوا عالمين بهذه الأدلّة والدقائق والجواب عن شبهات الفلاسفة » انتهى ملخّصا.

والجواب : أنّ تجويز وقوع التكليف في الاصول بالظنّ - وإن لم يطابق - طرح للآيات المتكاثرة الواردة في ذمّ متّبعي الظنّ في الاصول ، مع كون موردها الكفّار واشتمال بعضها على التعليل بأنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئا ، فيفيد مطلوبيّة العلم فيها وعدم مطلوبيّة الظنّ أصلا ، إمّا لأنّ معناه : أنّ الظنّ ليس بدائم المصادفة للواقع بناء على كون المراد من الحقّ هو الواقع ، أو لأنّ معناه أنّ الظنّ لا يقوم مقام العلم بناء على كون المراد من الحقّ هو العلم.

وأمّا الاستدلال على الجواز بتعسّر اليقين التامّ المتولّد من البديهيّتين ، ففيه : أنّا لا نعتبر اليقين بل نكتفي بالعلم وهو متيسّر الحصول لجميع الخلق مع انتفاء القصور ، ولو اعتبرنا اليقين فلا نعتبر فيه كونه متولّدا من البديهيّتين بالخصوص بل نعمّمه بالقياس إليه وممّا تولّد من النظريّتين وبديهيّة ونظريّة فلا تعسّر فيه أيضا ، ولم يقل أحد بوجود تحصيل المعارف كلّها في لحظة واحدة بل في زمان يسعه ، ويختلف على حسب اختلاف الأشخاص والأفهام ومراتب الإدراك ، وما ليس فيها ما يقتضي عجز الخلق عن معرفتها في شهر أو

ص: 316

سنة فضلا عن خمسمائة سنة.

وأمّا الاستدلال بعدم علم الصحابة بتلك الأدلّة والدقائق والجواب عن شبهات الفلاسفة.

ففيه : أنّه إن اريد من الصحابة الجبت والطاغوت وأتباعهما فهم لم يكونوا عالمين بها بل بما دونها ، وإن اريد بهم الوصيّ وأبا ذر وسلمان ومقداد وأضرابهم فهم كانوا عالمين بها بل بما فوقها فلا اعتداد بعدم علم الطائفة الاولى ، على أنّ في أصل إيمان هؤلاء بل وإسلامهم ألف كلام.

وبالجملة نحو الكلمات المذكورة في الضعف والسقوط بمثابة لا ينبغي الإصغاء إليها.

وإذا ظهر بطلان الوجه الثاني يظهر منه بطلان الوجهين الآخرين أيضا إذا التخيير بين العلم وخلافه غير معقول ، لأن غير الواقع في اصول الدين ممّا لم يتعلّق بالاعتقاد به غرض الشارع أيضا فيقبح أخذه طرفا للتخيير ، غاية ما هنالك أنّ من لم يتمكّن من العلم لقصوره ونحوه لا تكليف عليه في اصول الدين ، لا أنّ تكليفه في الاعتقاد المخالف جزما أو ظنّا.

ومن هنا ظهر سقوط احتمال الوجه الأخير ، إذ غاية ما يلزم من عدم التمكّن من العلم في الواقع إنّما هو سقوط التكليف رأسا لا تعلّقه بما ليس بمطلوب للشارع أصلا ، فالقاصرون من الكفّار لعدم تماميّة الحجّة عليهم لا تكليف عليهم في موارد قصورهم بالواقع لا أنّهم مكلّفون بخلاف الواقع.

فظهر أنّ ما عليه الجمهور من إثبات الإثم على المخطىء في العقائد عن نظر واجتهاد لتقصيره وعدم استيفائه النظر وعدم استفراغه الوسع في طلب الأدلّة القاطعة الموصلة إلى الواقع أوفق بالصواب.

لكن هذا كلّه في كلّيات المعارف واصولها الكلّية من نحو وجود الباري عزّ وجلّ وتوحيده وصفات كماله الراجعة إلى العلم والقدرة ونفي الحدوث ، والحاجة بنبوّة نبيّنا وما جاء به من اللّه ، وإمامة الأئمّة الاثني عشر عليهم السلام ومعاد الآخرة في الجملة وغير ذلك ممّا يمتاز به فرق الكفر عن أهل الإسلام ، وأمّا جزئيّاتها وتفاصيلها الّتي يختصّ الخلاف بها بالمسلمين على فرقهم المختلفة كتجرّده تعالى وعينيّة صفاته وعدم إمكان رؤيته وعدم جسميّته وعدم كونه خالقا لأفعال العباد ، وصفات النبيّ والوصيّ وغير ذلك ممّا لا يحكم بكفر مخالف الواقع ومنكر الحقّ فيها بالذات - وإن كان قد يكفر لعارض مثل صيرورته

ص: 317

ضروريّا من الدين أو المذهب - فالمخطئ فيها عن نظر واجتهاد قد يتكلّم في حكمه من حيث الكفر وعدمه ، وقد يتكلّم فيه من حيث [ الإصابة ] وعدمه.

وأمّا الكلام في الإصابة والخطأ فهو مستغنى عنه ، لأنّ الواقع في غير الامور الجعليّة ممّا لا يقبل التعدّد ولا الاختلاف ، فلئلاّ يلزم اجتماع النقيضين ولا الضدّين لابدّ وأن يكون المصيب من المختلفين في المسائل المذكورة واحدا وغيره مخطئا. وأمّا كفر المخطئ فينبغي القطع بعدمه ، لما أشرنا إليه من أنّ إنكار الحقّ في أمثال هذه المسائل لا يوجب بالذات كفر منكره ، ولا يخرج بإنكاره من حيث هو عن ربقة المسلمين ، وأمّا الإثم وعدمه فيدوران على التقصير في النظر والاجتهاد وعدمه ، فالحكم الكبروي بعد تحقّق موضوعه من التقصير والقصور واضح لا ينبغي التأمّل فيه ، فالمقصّر آثم لا محالة كما أنّ القاصر لا إثم عليه بالضرورة ، وإنّما يتحقّق القصور هنا كثيرا من تعارض أدلّة أكثر هذه المسائل وظنّيتها ، ومن شأن الأدلّة المتعارضة والأدلّة الظنّية بعثها على خطاء الناظر فيها كثيرا.

وأمّا التكلّم في تقصير المخطئ فيها كلّيا أو قصوره كذلك ، أو التقصير في الجملة والقصور كذلك الّذي هو كلام في الصغرى فممّا لم يحم حوله أحد.

والّذي يظهر من طريقة الأصحاب إمساكهم عن الحكم بالإثم لمجرّد ذلك مع قطع النظر عن موجباته الاخر ، كيف ولزم منه إثبات التقصير على فحول علمائنا الصالحين وأعيان فضلاء مجتهدينا الماضين المختلفين في كثير من تفاصيل المعارف ، وهو في معنى تفسيقهم بل تكفيرهم في بعض الأحيان ، وهو كما ترى ممّا لم يعهد الجرءة عليه من أحد.

ألا ترى أنّه قد وقع بين الشيخ المفيد وعلم الهدى قدس سرهما من الاختلاف في العقائد ما يقرب من مائتين على ما ضبطوه ، وظاهر أنّ المحقّ منهما في الجميع أحدهما ولم يحكم أحد بفسق واحد منهما.

التخطئة والتصويب في المسائل الاصوليّة

المسألة الثانية

في التخطئة والتصويب في العقليّات الاصوليّة أعني مسائل اصول الفقه ، وحيث إنّها أيضا من الامور الواقعيّة الغير المنوطة بالجعل فالواقع فيها أيضا ممّا لا يتحمّل التعدّد ولا الاختلاف ، ولا يتكثّر على حسب كثرة الآراء والاعتقادات ، فمن أدركه في المسائل الخلافيّة فهو مصيب وغيره مخطئ ، لا أنّ الجميع مصيب دفعا لاجتماع المتناقضين أو المتضادّين.

ص: 318

وينبغي القطع بعدم كون المخطئ فيها كافرا ، إذ ليس فيها ما يوجب إنكاره أو القول به الكفر إذا كان خلاف الواقع لا بالذات ولا لعارض ، لعدم كون شيء منها ممّا أخذ الاعتقاد به في الإيمان ، ولا ممّا يستلزم إنكاره إنكار أصل من اصول الدين.

وتوهّم أنّ بعض مسائل الحجّية كحجّية ظواهر الكتاب أو خبر الواحد أو نحوه إذا علم كونه ممّا أتى به الرسول فإنكاره يوجب الكفر لاستلزامه تكذيب الرسول.

يدفعه : أنّ شرط لزوم الكفر من هذه الجهة أن يعلم المنكر كونه ممّا جاء به الرسول فأنكره كما في إنكار الضروريّات ، وهذا الفرض في المسائل الخلافيّة غير متحقّق من منكر الحجّية لو كان هو المخطئ ، لأنّ مرجع إنكاره إلى إنكار كونه ممّا جاء به النبيّ لا إنكار كونه حكم اللّه مع الإذعان والإقرار بكونه ما أخبر به النبيّ ، وهذا واضح.

نعم لو اتّفق من أنكره على الوجه الثاني أو رجع إنكاره إلى الامتناع من التديّن به وبالأحكام المستفادة منه فلا إشكال في الكفر إلاّ أنّه خارج من مفروض المسألة لأنّه معاند.

وهل يأثم المخطئ فيها إذا كان مقصّرا في اجتهاده واستقصائه النظر؟ فالوجه العدم ، لأنّ الإثم المستتبع للعقاب فرع على الخطاب ، لأنّه عبارة عن مخالفة الخطاب في الواجبات النفسيّة والمحرّمات الذاتيّة.

ولا ريب أنّ مسائل اصول الفقه ليست موردا لخطاب الشرع على وجه يكون معرفتها وتحصيلها من الواجبات النفسيّة الّتي يعاقب على تركها لا إلى بدل ومن غير عذر ، ليكون التقصير في الاجتهاد المؤدّي إلى الوقوع في مخالفة الواقع فيها في معنى ترك المعرفة الواجبة اختيارا.

لا يقال : إنّ معرفة اصول الفقه - على ما تقدّم في بيان شروط الاجتهاد - من مبادئ الاجتهاد ومقدّمات الاستنباط ، فمن وجب عليه الاستنباط عينا أو كفاية وجب استحصال مقدّماته الّتي منها معرفة هذا العلم ، فيلزم الإثم بالتقصير في تحصيلها.

لمنع كونها من مقدّمات أصل الاستنباط الّذي يقال له الاجتهاد ، بل هو كسائر الشروط - على ما بيّنّاه سابقا - من شروط الاجتهاد الملكي ، فالملكة الّتي يقتدر بها على الاستنباط موقوفة على هذه المعرفة ، وأمّا نفس الاستنباط فهو موقوف على إعمال مسائل هذا العلم

ص: 319

بعد معرفتها كلّ في الموضع اللائق به.

ولو سلّم كونها أيضا ممّا يتوقّف عليه الاستنباط ، غاية الأمر كونها شرطا بالواسطة ، بضابطة : أنّ شرط الشرط شرط ، والقائل بوجوب المقدّمة لا يخصّ الوجوب بمقدّمات نفس الواجب بل يعمّه بالقياس إلى مقدّمات المقدّمات ومقدّمات مقدّماتها وهكذا.

لكن نقول : إنّ هذا الوجوب - على تقدير تسليمه المبنيّ على تسليم وجوب الاستنباط على فاقد الملكة أيضا - غيريّ مقدّمي ، وقد تقرّر في محله أنّ الواجبات الغيريّة الصرفة الّتي منها مقدّمات الواجبات لا يستحقّ الثواب بفعلها ولا العقاب بتركها من حيث هو ، فلا إثم على ترك المعرفة من حيث هو.

نعم هذا المقصّر إذا استنبط أحكاما فلا تكون مستنبطاته أحكاما فعليّة له ولا لغيره ممّن أراد تقليده ، لأنّ الّذي ظهر من أدلّة حجّية مستنبطات المجتهد إنّما هو كون مستنبطات المجتهد الغير المقصّر في مقدّمات اجتهاده أحكاما فعليّة في حقّه وحقّ مقلّديه لا غير.

وحينئذ فلو أفتى بتلك المستنبطات كان من الإفتاء بما لا يعلم ، ومن الحكم بغير ما أنزل اللّه ، وهذا حرام بنصّ الآيات والروايات بل بالأدلّة الأربعة ، ولو عمل بها لنفسه كان من التديّن بما لا يعلم كونه من قبل المولى وهو قبيح عقلا وفاعله مستحقّ للذمّ والعقاب.

وهذا كلّه وإن كان من الإثم المستتبع للعقاب غير أنّه ليس من الإثم على المخطئ في مسائل اصول الفقه من تقصير في النظر من حيث إنّه مقصّر فيها كما هو واضح.

ويجري هذا الكلام بعينه في سائر مبادئ الاستنباط ومقدّماته لو فرض المخطئ فيها مقصّرا.

وربّما يشكل الحال في نفي الإثم من جهة إطلاق بعض الإجماعات المنقولة على إثم المخطئ في العقليّات كما تقدّم عن الشهيد في تمهيد القواعد بعين عبارته.

إلاّ أن يدفع : بدعوى انصرافه إلى ما يكون من العقليّات موردا للوجوب النفسي كالمعارف.

ويقوى الإشكال - مع عدم جريان هذا الوجه - بالنظر إلى كلام الشيخ في العدّة المصرّح بكون المخطئ ضالاّ فاسقا حتّى في نحو قولنا : « الظلم والعبث والكذب قبيح » و « إنّ شكر المنعم وردّ الوديعة والإنصاف حسن » كما تقدّم أيضا بعين عبارته ، بل الإشكال في كلامه من وجهين فتارة : باعتبار إثبات التقصير على المخطئ هنا إذ القاصر لا إثم عليه ، واخرى : من جهة إثبات الاثم على المقصّر كما هو لازم الفسق ، لكون مسألة التحسين

ص: 320

والتقبيح العقليّين من اصول الفقه بالمعنى الأعمّ الّذي قد ذكرنا أنّه لا مقتضي للإثم فيه.

ويمكن الذبّ عن الأوّل : بأنّ الحسن والقبح في الأشياء المذكورة وغيرها ممّا يندرج في مسألة التحسين والتقبيح ممّا يدركهما العقل بالاستقلال بشهادة العيان وبداهة الوجدان ، فهما من اليقينيّات المستندة إلى الوجدان وإنكارهما تكذيب للعيان ومكابرة للوجدان فيكون المنكر مقصّرا.

كما يمكن الذبّ عن الثاني : بأنّ الحكم العقلي من الحسن والقبح يلازم الحكم الشرعي من إيجاب أو تحريم أو غيرهما بملازمة بيّنة إجماعيّة ، على ما تقدّم في محلّه من أنّها ما يسلّمها الأشاعرة المنكرون للتحسين والتقبيح العقليّين على تقدير ثبوت الملزوم ، فالتقصير في نفي الملزوم يرجع إلى التقصير في نفي اللازم ، وهو في معنى تغيير حكم اللّه وتحليل حرامه فيكون قبيحا عقلا ونقلا ولو باعتبار اندراجه في الحكم بغير ما أنزل اللّه.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه كلام الشيخ.

ويمكن الالتزام من قبله بالإثم في منكر الملازمة بين العقل والشرع مع القول بثبوت الملزوم كما تقدّم عن الفاضل التوني ومن تبعه ، وفي منكر حجّيّة إدراكات العقل كما عليه جماعة من الأخباريّة ، بناء على أنّ الحقّ في المسألتين لا يكاد يخفى على المتأمّل المراعي للإنصاف المجانب عن الاعتساف لكون الملازمة

بيّنة ، كحجّية إدراكات العقل إذا كانت بعنوان القطع واليقين فيكون عبارة عن انكشاف الواقع عند العقل فنفي حجّيته يؤول إلى التناقض وتجويز اجتماع المتناقضين.

وبالجملة فهاهنا مسائل ثلاث كلّها من قبيل المقدّمات الأوّليّة والقضايا الّتي قياساتها معها ، فالقول بكون مخالف الحقّ فيها مقصّرا غير معذور ليس ببعيد عن الصواب.

التخطئة والتصويب في العقليّات الفروعيّة

المسألة الثالثة

في التخطئة والتصويب في العقليّات الفروعيّة ، وهذا العنوان ممّا ليس له معنى محصّل إلاّ الفرعيّات المستندة إلى العقل ، وهي الأحكام الفرعيّة الّتي مدركها العقل ، فإن كان خطائه في المسألة الفرعيّة باعتبار الخطأ في المسألة الاصوليّة العقليّة فمع التقصير في الاصوليّة كان مقصّرا غير معذور في الفرعيّة ومع عدمه معذور.

وإن كان خطائه باعتبار الإهمال في إعمال الأصل العقلي الحاضر عنده فالظاهر كونه غير معذور أيضا.

ص: 321

وأمّا الأحكام الشرعيّة فإن كان عليها دليل قاطع *

__________________

وإن كان باعتبار خطائه في التفريع بأن فرّع ما هو من جزئيّات أصل مخصوص على أصل آخر ، كما لو تمسّك فيما هو من جزئيّات الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار - على القول به - بقبح التكليف بما لا يطاق ، وفيما هو من جزئيّات الصدق الضارّ بحسن أصل الصدق ، أو ما هو من جزئيّات الكذب النافع بقبح أصل الكذب للغفلة عن جهتي الضرر والنفع ، فإثبات التقصير عليه بقول مطلق مشكل ، والقول بالمعذوريّة فيه مطلقا غير بعيد.

وإن كان باعتبار تعويله على أصل غير معوّل عليه كالمقدّمات العقليّة - بناء على عدم اعتبار الظنّ العقلي - فالقول بالتقصير وعدم المعذوريّة مطلقا غير بعيد.

التخطئة والتصويب في الشرعيّات الضروريّة

المسألة الرابعة

في التخطئة والتصويب في الشرعيّات الضروريّة كضروريّات الدين أو المذهب ، وسنذكر حكمها مع المسألتين الباقيتين في تلو شرح عبارة المصنّف.

* قرينة المقابلة بينه وبين القسم الآخر الّذي عبّر عنه بقوله : « وإن كان ممّا يفتقر إلى النظر والاجتهاد » تعطي إرادة ما لا يفتقر إلى النظر والاجتهاد من الدليل القاطع ، وهذا بظاهره لا ينطبق إلاّ على الضرورة ، فيختصّ هذا القسم بالأحكام الضروريّة دينا أو مذهبا.

فيرد عليه حينئذ - مع ما في إطلاق الدليل على الضرورة من المسامحة - : قصور العبارة ، حيث أهملت ذكر قسم القطعيّات النظريّة وهي عنوان المسألة الخامسة على ما أشرنا إليها ، واحتمال اندراجها في القسم الآخر - بتقريب : أنّ النظر والاجتهاد فيما يفتقر إليهما قد يؤدّي إلى القطع بالحكم وقد يؤدّي إلى الظنّ به - يأباه اختصاص النزاع الآتي الّذي موضوعه القسم الآخر على ما هو ظاهر العبارة بالظنّيات على ما سنبيّنه.

نعم يمكن أن يقال - في توجيه العبارة - : أنّ المعتبر فيما يفتقر إلى النظر والاجتهاد مجموع الأمرين من النظر والاجتهاد وهو استفراغ الوسع في تحصيل الظنّ بالحكم ، فيعتبر في مقابلة أحد الأمرين إمّا النظر كما في الضروريّات ، أو الاجتهاد بالمعنى المذكور كما في القطعيّات النظريّة ، وعليه فيحمل الدليل القاطع على ما لا يفتقر إلى النظر أو الاجتهاد بطريقة الانفصال الحقيقي.

وكيف كان فالعبارة لا تخلو عن شيء.

ص: 322

فالمصيب فيها أيضا واحد والمخطئ غير معذور *

__________________

* تضمّنت العبارة بالنسبة إلى القطعيّات - ضروريّة أو نظرّية - حكمين :

أحدهما : كون المصيب فيها واحدا وغيره مخطئا ، وظاهره كظاهر غيره كون التخطئة هنا وفاقيّا حتّى من المصوّبة في الظنّيات ، ومرجعه إلى اتّفاق الفريقين على أنّ لله تعالى في القطعيّات حكما معيّنا فمن أدركه فهو مصيب ومن لم يدركه مخطئ.

ولعلّ السرّ في ذلك بالقياس إلى الضروريّات أنّ الضرورة العارضة للحكم متأخّرة عن تعيينه ، فهي حيثما تحقّقت كاشفة عن تعيين الحكم ، وبالقياس إلى النظريّات أنّ انتصاب القاطع متأخّر عن تعيين الحكم فيكشف عنه ومعه يستحيل تصويب الكلّ.

وثانيهما : كون المخطئ في المسألتين آثما وعدم كونه معذورا ، حيث إنّ الإثم مبنيّ على التقصير ، فإثباته في الضروريّات غير بعيد ، بتقريب : أنّ الضرورة في الضروري يقتضي اطّلاع من عاش بين المسلمين وعاشرهم ولا سيّما العلماء المجتهدين عليها إذا طلبها ، فمن اجتهد وأخطأ في اجتهاده ولم يطّلع على الضرورة الموصلة إلى الواقع فقد قصّر في طلبه ، وأمّا غيرها فكون المقصّر آثما واضح.

وأمّا إنّ كلّ من أخطأ فقد قصّر في طلب الدليل القاطع أو في نظره كما هو قضيّة إطلاق الحكم بعدم المعذوريّة ، ففيه خفاء ، إلاّ أن يراد بالقاطع ما لا يخفى على أحد لو طلبه ، ومن لم يجده وأخطأ في نظره فقد قصّر في طلبه.

نعم يبقى الكلام في الحكم بعدم المعذوريّة مع التقصير في طلب القاطع أيضا ، لأنّ ذلك إنّما يستقيم لو وجب تحصيل القطع بالحكم الّذي قام عليه القاطع ، وهو مع فرض انسداد باب العلم في غالب الأحكام غير واضح ، لبنائه على كفاية الظنّ مطلقا المسقطة لوجوب تحصيل القطع فيما أمكن تحصيله فيه ، كما هو المصرّح به في كلام القائلين بالظنّ المطلق ، إلاّ أن يفرّق بين العلم بوجود قاطع في المسألة إجمالا وبين احتمال وجوده ، فعلى الظنّ المطلق لا يجب طلب العلم في موضع الاحتمال لا في موضع العلم بوجود القاطع على الإجمال.

وأمّا كفر المخطئ والمخالف للحقّ في الضروريّات لضابطة أنّ منكرها كافر فينبغي القطع بانتفائه هنا ، لخروج موضوع البحث - باعتبار ما اخذ فيه من الخطأ الغير المجامع للعلم بكون ما أخطأه ممّا أتى به النبيّ - عن عنوان منكر الضروريّات المأخوذ فيه العلم بكون ما أنكره ما أتى به النبيّ ، سواء كان الكفر اللازم منه باعتبار رجوعه إلى تكذيب

ص: 323

وإن كانت ممّا يفتقر إلى النظر والاجتهاد فالواجب على المجتهد استفراغ الوسع فيها ولا إثم عليه حينئذ قطعا بغير خلاف يعبأ به *. نعم اختلف الناس في التصويب.

__________________

النبيّ أو باعتبار كونه سببا مستقلاّ للكفر ، فلا ينبغي التكلّم عن حكمه من هذه الجهة.

* وظاهر بعض كلماتهم أنّ المعذوريّة وعدم الاثم في المخطئ هنا اتّفاق من المخطئة وإن كان على الحكم المعيّن دليل قاطع في بعض الأحيان إذا لم يصادفه ، أو لم يكن قاطعا عنده ولو لشبهة سبقت إليه ، إلاّ من بشر المريسي (1) الذاهب إلى أنّه يستحقّ الإثم لزعمه قيام دليل قاطع على الحكم المعيّن المجعول للواقعة كما ستعرفه ، ولكنّه لشذوذه لا يعبأ بقوله كما أشار إليه المصنّف.

ولكنّ العلاّمة في النهاية نسب القول بعدم الإثم إلى الأكثر ، والقول الآخر إلى بعض الإماميّة والظاهريّة وبشر المريسيّ وابن عليّة وأبي بكر الأصمّ.

ثمّ نقل احتجاج هذا القول بإنكار الصحابة بعضهم بعضا في العمل بالرأي والاجتهاد في المسائل الفقهيّة ، وبأنّ الحكم واحد معيّن وعليه دليل يتمكّن كلّ مكلّف من الوصول إليه لئلاّ يلزم تكليف ما لا يطاق ، وكلّ مكلّف بالحكم مكلّف بإقامة الدليل المنصوب عليه فخطاء المخطئ إمّا أن يكون لتقصيره في الاجتهاد فيكون مأثوما بترك ما كلّف به ، أو لعدم تمكّنه من الوصول إلى الحكم وهو محال لاستلزامه التكليف بما لا يطاق.

وفي الوجهين ما لا يخفى ، إذ الإنكار لا يستلزم التأثيم ، والمسلّم من التكليف في الحكم المنصوب عليه الدليل بعد تصحيحه إنّما هو التكليف بسلوك ذلك الطريق المنصوب وهو لا يستلزم دوام التوصّل ، كما أنّ عدم التوصّل لا يلازم التقصير لجواز خفاء الدلالة والاشتغال بالتعارض ونحو ذلك ، فينكشف عند تبيّن الخطأ مع عدم التقصير عدم التكليف بأصل الحكم المعيّن ليلزم التكليف بما لا يطاق.

ص: 324


1- المريسيّ - بفتح الميم وكسر الراء وسكون الياء المثنّاة من تحتها وبعدها سين مهملة - هذه النسبة إلى مريس وهي قرية بمصر. وبشر المريسيّ هو : أبو عبد الرحمن بشر بن غياث بن أبي كريمة المريسيّ ، الفقيه الحنفي ، أخذ الفقه عن القاضي أبي يوسف الحنفي ، إلاّ أنّه اشتغل بالكلام وكان مرجئا وإليه تنسب الطائفة المريسيّة من المرجئة ، وتوفّي في ذي الحجّة لسنة ثماني عشرة وقيل : تسع عشرة ومائتين ببغداد. راجع [ وفيات الاعيان 1 : 277 ]

فقيل : كلّ مجتهد مصيب * بمعنى أنّه لا حكم معيّنا لله تعالى فيها ، بل حكم اللّه تعالى فيها تابع لظنّ المجتهد. فما ظنّه فيها كلّ مجتهد فهو حكم اللّه فيها في حقّه وحقّ مقلّده.

وقيل : إنّ المصيب فيها واحد ، لأنّ لله تعالى فيها حكما معيّنا ، فمن أصابه فهو المصيب ، وغيره مخطئ معذور.

وهذا القول هو الأقرب إلى الصواب. وقد جعله العلاّمة في النهاية رأي الاماميّة. وهو مؤذن بعدم الخلاف بينهم فيه. وكيف كان

__________________

* وهو على ما حكاه في النهاية والمنية وغيرهما لأكثر المتكلّمين من العامّة كأبي الحسن الأشعري والقاضي وأبي بكر من الأشاعرة وأبي الهذيل العلاّف وأبي علي وأبي هاشم وأتباعهم من المعتزلة ، وبنوا الخلاف على أنّ لله تعالى في كلّ مسألة اجتهاديّة قبل اجتهاد المجتهد حكما معيّنا في الواقع فمن أدركه مصيب ومن لم يدركه مخطئ ، أو أنّه ليس له تعالى حكم معيّن بل الحكم تابع لظنّ المجتهد ومؤدّى اجتهاده فالمخطئة على الأوّل والمصوبّة على الثاني.

واتّفق أصحابنا على التخطئة فقالوا - كما في النهاية والمنية وغيرهما - : أنّ لله تعالى في كلّ واقعة حكما معيّنا وأنّ عليه دليلا ظاهرا ، وأنّ المخطئ فيه معذور وإنّ قضاء القاضي لا ينقض به.

وفي النهاية أكّد قوله : « ظاهرا » بقوله : « لا قطعيّا » والأولى تركه وترك قيد الظاهر ، لأنّ الدليل القائم على الحكم في المسائل الظنّية قد يكون قطعيّا كما هو واضح ، كما أنّ الأولى ترك الالتزام بقيام الدليل عليه ، إذ لا دليل على لزومه على الوجه الكلّي كما يشهد به وفور ما لا نصّ فيه أو ما فيه نصّ مجمل وغير ذلك من موارد الاصول العمليّة في الفرعيّات ، ولعلّه لذا كلّه عبّر بعض الفضلاء عمّا اختاره من مذهب الأصحاب : « بأنّ لله تعالى في كلّ واقعة حكما معيّنا مخزونا عند أهله وهم أهل العصمة عليهم السلام ، فالمجتهد إن أدركه فقد أصاب وإلاّ فقد أخطأ ، وأنّه غير آثم في خطائه بعد بذل وسعه وإن كان عليه دليل قاطع إذا لم يصادفه أو لم يكن عنده قاطعا ولو لشبهة سبقت إليه ، وأنّه لا يلزم أن يكون عليه دليل ظنّي في الظاهر فضلا عن القطعي » انتهى.

وأمّا المخطّئة من العامّة فقد صاروا فرقا مختلفة.

ص: 325

فمنهم من قال : بأنّ ذلك الحكم المعيّن ليس عليه أمارة ولا دلالة كما عن جماعة من الفقهاء والمتكلّمين ، قالوا : وهذا الحكم مثل دفين يعثر عليه الطالب اتّفاقا ، فلمن عثر عليه أجران ولمن اجتهد ولم يصبه أجر واحد على ما تحمّله من الكدّ والمشقّة في الطلب.

ومنهم من قال : إنّ عليه أمارة كما عن جماعة ، ولكنّهم اختلفوا فقال بعضهم : إنّ المجتهد لم يكلّف بإصابة ذلك الدليل الظنّي لخفائه وغموضه ، ولهذا عذّر المخطئ واجر عليه ، عزى إلى الفقهاء كافّة والشافعي وأبي حنيفة.

وقال آخرون : بأنّه مأمور بطلبه أوّلا فإن أخطأ وغلب على ظنّه شيء آخر انقلب التكليف وصار مأمورا بالعمل بمقتضى ظنّه وسقط عنه الإثم تخفيفا.

ومنهم من قال : بأنّ عليه دلالة أعني دليلا قطعيّا ، فهؤلاء اتّفقوا على أنّ المجتهد مأمور بطلبه لكنّهم اختلفوا في موضعين :

أحدهما : أنّ المخطئ هل يستحقّ الإثم أو لا؟ فذهب بشر المريسي (1) إلى أنّه يستحقّ الإثم ونفاه الباقون.

وثانيهما : هل ينقض قضاء القاضي فيه أو لا؟ قال أبو بكر الأصمّ : ينتقض ، وخالف فيه الباقون.

وأمّا المصوّبة فهم أيضا اختلفوا فمنهم من قال بالأشبه وهو : أنّه وإن لم يوجد في الواقعة حكم إلاّ أنّه يوجد فيها ما لو حكم اللّه تعالى بحكم لما حكم إلاّ به ، وهو منسوب إلى كثير من المصوّبين.

ومنهم من لم يقل بذلك أيضا كما عن باقي المصوّبين هكذا نقل المذاهب في النهاية والمنية ، وربّما خفي المراد بالأشبه بالمعنى المذكور في كلام قائليه ، والظاهر أنّ المراد به الأشبه بالقواعد والاصول المتلقّاة من الشارع ، كما يرشد إليه تعبير العضدي : « بما هو أليق بالاصول وأنسب بما عهد من الشارع اعتباره ».

وبما شرحناه من معنى القول بالأشبه انقدح أنّ ما ذكره بعض الفضلاء بعد حكاية هذا القول من : « أنّ هذا قريب من القول بالتخطئة بل ربّما كان راجعا إليه » ليس على ما ينبغي كما يظهر بأدنى تأمّل.

كما أنّ بما بيّنّاه - من أنّ المصوّبة بعد اتّفاقهم على نفي وجود الحكم في كلّ واقعة اختلفوا في القول بالأشبه وعدم القول به - يظهر أنّ النفي في قولهم : « بأنّه ليس لله تعالى في الواقعة قبل اجتهاد المجتهد حكم معيّن » راجع إلى أصل الحكم الّذي لو كان موجودا

ص: 326


1- المريسي من المريسه - كسكينة - قرية ( منه ).

لوجد بوصف التعيّن ، لأنّ المراد به مصداق الحكم كالوجوب بالمعنى الإنشائي والطلب الفعلي المنقدح في نفس الحاكم مثلا ، فإنّه بهذا المعنى لا يكون إلاّ متعيّنا فيراد به الحكم المخصوص ، لا إلى قيده (1) وهو التعيين فقط مع وجود أصل الحكم من غير تعيين بالقياس إلى المجتهدين قبل اجتهادهم ولازمه التعدّد على حسب تعدّد آرائهم ، بل هذا المعنى ممّا لا يتحمّله كلامهم الدائر بين القول بالأشبه وعدم القول به ، فلا حاجة لتصوير القول بالتصويب إلى تكلّف ما ذكره في الضوابط من أنّه يتصوّر على وجوه :

الأوّل : أنّ الحكم تابع للحسن والقبح وإنّهما يختلفان بالوجوه والاعتبارات الّتي منها العلم والجهل ، فعروض العلم والجهل يوجب حدوث صفة يتبعها الحكم ، فيكون رأي المجتهد علّة محدثة للحكم.

الثاني : أنّه تعالى أوجد في الواقعة أحكاما مقصودة بالأصالة ثمّ صادفها آراء المجتهدين بإجباره تعالى كلاّ منهم بأداء اجتهاده إلى أحدها قهرا عليه.

الثالث : أنّه تعالى أوجد أحكاما واقعيّة فصادفها آراء المجتهدين من باب الاتّفاق.

الرابع : أنّه تعالى لمّا علم بعلمه الأزلي بالمجتهدين وعدد آرائهم فجعل أحكاما واقعيّة على حسب تعدّد آراء المجتهدين من غير أن يعيّن كلاّ لكلّ ، فتأدّى اجتهاد كلّ إلى أحدها.

لابتناء (2) ما عدا الأوّل منها إلى توهّم رجوع النفي إلى القيد لا إلى أصل المقيّد ، وقد عرفت أنّه ممّا لا يتحمّله كلام المصوّبة.

لا يقال : لو لا اعتبار وجود حكم مجعول غير معيّن بالنسبة إلى آحاد المجتهدين في الواقعة قبل اجتهاد المجتهد استحال صدق الاجتهاد بالمعنى المأخوذ فيه طلب الظنّ بالحكم الشرعي على فعل المجتهد ، لأنّ طلب الشيء يقتضي سبق وجود المطلوب على الطلب وإلاّ استحال طلبه.

لأنّ هذا إنّما يتّجه لو كان المطلوب بالاجتهاد هو نفس الحكم وليس كذلك ، لأنّ المأخوذ في مفهوم الاجتهاد هو طلب الظنّ بالحكم لا طلب الحكم ، ويكفي في صحّة طلب الظنّ إمكان حصوله ، ولا يعتبر سبق حصوله ، بل يعتبر عدم سبق حصوله لاستحالة طلب الحاصل ، وإنّما يستحيل طلب الظنّ الغير الحاصل مع امتناع حصوله بعنوان القطع.

فإن قلت : إنّ طلب الظنّ المتعلّق بالحكم يقتضي سبق وجود الحكم على الظنّ وعلى

ص: 327


1- عطف على قوله : « يظهر انّ النفي في قولهم ... راجع إلى أصل الحكم » الخ.
2- تعليل لقوله : « فلا حاجة لتصوير القول بالتصويب إلى تكلّف ما ذكره في الضوابط ».

طلبه ، لتأخّر المتعلّق بالكسر عن متعلّقه.

قلت : فرق واضح بين ظنّ المجتهد بما هو حكم له ولمقلّده بالفعل وظنّه بما يصير حكما له ولمقلدّه وهو الأشبه أو ما هو حكم السلف من النبيّ والصحابة وغيرهم من العالمين به.

وبهذا البيان أيضا يندفع الدور المتوهّم في المقام من جهة أنّ الظنّ لكونه علّة محدثة للحكم يتوقّف عليه الحكم ، والحكم لكونه متعلّقا للظنّ يتوقّف عليه الظنّ ، نظير الدور الّذي توهّمه العلاّمة في جعلهم العلم شرطا للتكليف ، فأنكر الشرطيّة دفعا لمحذور الدور.

ووجه الاندفاع : تغائر طرفي التوقّف ، وحاصله : أنّ المظنون هو حكم العالمين به والمجعول بعد الظنّ هو حكم الجاهل ، فإنّ ظنّه يتعلّق أوّلا بحكم العالمين ثمّ يحدث بسببه مثل ذلك الحكم الحاصل ، وهذا قريب ممّا أشرنا إليه بل راجع إليه كما يظهر بأدنى تأمّل.

وبهذا البيان يندفع توهّم التناقض على مذهب المصوّبة باعتبار أنّ الظنّ والقطع مفهومان متناقضان فلا يجتمعان في محلّ واحد ، واللازم من مذهبهم اجتماعهما في محلّ واحد وهو الحكم ، لأنّ ما ظنّه المجتهد حكما يقطع بكونه حكما ، فالحكم أمر واحد توارد عليه الظنّ والمقطوع.

ووجه الاندفاع : اختلاف القضيّنين بكون المظنون هو الأشبه أو حكم السلف من النبيّ وغيره من العالمين به والمقطوع هو الحكم الفعلي في حقّ المجتهد.

ثمّ إنّ من الظاهر أنّ اختلاف الأحكام الكلّية الواقعيّة باعتبار اختلاف موضوعاتها وتعدّدها على حسب تعدّدها - كالصحيح والمريض والحاضر والمسافر والقادر والعاجز والمختار والمضطرّ وما أشبه ذلك ، بالقياس إلى وجوب صيام رمضان وحرمته أو جواز إفطاره ووجوب التقصير في الصلاة وإتمامها ووجوب القيام فيها وجواز العدول عن القيام إلى القعود وحرمة أكل الميتة وإباحتها - ليس من باب التصويب ، لكون محلّ النزاع هو الواقعة الواحدة الّتي يتعدّد فيها الأحكام الواقعيّة على حسب تعدّد آراء المجتهدين على هذا القول.

كما أنّ الظاهر أنّه ليس من التصويب تعدّد الأحكام الظاهريّة في المسائل الاجتهاديّة الظنّية ، على معنى الأحكام الفعليّة وهي مظنونات المجتهدين الّتي يجب عليهم وعلى مقلّديهم بناء العمل عليها والتديّن بها ما لم ينكشف الخلاف ، بل هو من لوازم القول بالتخطئة ، ولذا يجب التديّن بما انكشف كونه الحكم الواقعي فيما انكشف مخالفته الواقع ، لا بالمظنون الّذي كان حكما ظاهريّا سقط بارتفاع موضوعه.

فآل الكلام إلى أن يقال : إنّ النزاع إنّما هو في تعدّد الحكم الواقعي التابع للآراء واتّحاده ، لا في تعدّد الأحكام الظاهريّة التابعة للآراء فإنّه ممّا لا ينكره المصوّبة.

ص: 328

التخطئة والتصويب في الأحكام الظاهريّة

وهل نزاع التخطئة والتصويب جار في الأحكام الظاهريّة المختلف فيها الّتي اخذ في موضوعها جهالة الحكم الواقعي - كعنوان مجهول الحكم لفقد نصّ أو إجماله أو تعارضه الّذي اختلف المجتهدون والأخباريّون في حكمه المجعول من حيث جهالة حكمه الواقعي هل هو البراءة والإباحة أو وجوب الاحتياط في الشبهة التحريميّة أو الشكّ في المكلّف به مع ثبوت التكليف يقينا - أو لا؟ وجهان : من اختصاص النزاع على ما بيّنّاه بالأحكام الواقعيّة وهذا حكم ظاهري ، ومن أنّ هذه أيضا مسألة اختلف العلماء في حكمها ، أو أنّ مجهول الحكم من حيث هو كذلك موضوع من الموضوعات الكلّية قابل لأن يجعل له حكم كلّي من البراءة أو الاحتياط ، فيجوز أن ينازع في أنّه هل لله تعالى في هذا الموضوع قبل اجتهاد المجتهدين لمعرفة حكمه حكم معيّن فمن أدركه فهو مصيب وغيره مخطئ ، أو ليس له تعالى فيه حكم معيّن بل حكمه المجعول تابع لرأي المجتهدين ومؤدّى اجتهادهم ، ولازمه أن يتعدّد على حسب تعدّد آرائهم؟

فعلى الأوّل يكون المصيب أحد الفريقين من المجتهدين والأخباريّين.

وعلى الثاني كلّ منهما مصيب.

ويزيّف وجه عدم جريان النزاع : بأنّ الحكم الواقعي الّذي يختصّ به النزاع هو الحكم الثابت لموضوعه في الواقع ونفس الأمر ، لا بمعنى الحكم المجعول للواقعة من حيث هي قبالا للحكم الظاهري ، وهو الحكم المجعول لها من حيث جهالة حكمها الواقعي.

ولا ريب أنّ كلّ حكم ظاهري مجعول فهو في موضوعه حكم واقعي بالمعنى المذكور ، وكونه حكما ظاهريّا إنّما هو باصطلاح آخر.

ولك أن تقول - بناء على كون الأحكام الظاهريّة أحكاما واقعيّة ثانويّة - : أنّ الحكم الواقعي الّذي هو موضوع المسألة أمكن كونه أعمّ من الواقعي الأوّلي والواقعي الثانوي ، فيعمّ النزاع للأحكام الظاهريّة أيضا بهذا الاعتبار.

هذا ، ولكنّ الإنصاف عدم صحّة إجراء النزاع فيها ، أمّا أوّلا : فلا بتناء الاختلاف في مسألة الاحتياط والبراءة والحظر والإباحة على التخطئة المبنيّة على أنّ لله تعالى في كلّ واقعة حكما معيّنا ليصحّ فرض جهالة الحكم الواقعي المأخوذ في موضوع الأحكام الظاهريّة ، فجهالة الحكم الواقعي المقتضية لوجود حكم واقعي في كلّ واقعة مع قطع النظر عن اجتهاد المجتهد ممّا لا يجامع القول بالتصويب.

وأمّا ثانيا : فلأنّ مسألة البراءة والاحتياط إن سلّمنا كونها من المسائل الفرعيّة

ص: 329

لا الاصوليّة ولا الكلاميّة لابدّ وأن يكون الدليل القائم عليها قاطعا ، فتخرج عن محلّ النزاع بهذا الاعتبار ، لاتّفاق الفريقين على التخطئة فيما قام عليه قاطع.

التخطئة والتصويب في الأحكام الظاهريّة

وهل النزاع يجري في الأحكام الجزئيّة المترتّبة على الموضوعات الخارجيّة كالقبلة والوقت وغيرهما لمن اجتهد فيهما فانكشف خلاف مؤدّاه أو لا؟

يظهر أثر التخطئة والتصويب فيها في حصول الإجزاء المسقط للإعادة والقضاء ، وقد يعبّر بالتخطئة والتصويب في الموضوعات الخارجيّة ، وضابطها الامور الّتي يجتهد فيها ويرجع لإحرازها إلى الأمارات الغير العلميّة بترخيص من الشارع.

فظاهر بعضهم كالشهيد في التمهيد - حيث جعل من فروع مسألة التخطئة والتصويب ظهور خطأ المجتهد في القبلة ، فهل عليه الإعادة والقضاء وجهان مبنيّان على القولين في المسألة - دخولها في محلّ النزاع.

ويظهر من بعضهم دعوى الاتّفاق فيها على التصويب ، وهذا غير سديد ، إذ لو اريد بالتصويب هنا إدراك نفس الأمر بالنسبة إلى نفس الموضوع فهو - مع أنّه خلاف فرض ظهور الخطأ - محال ، إذ الجهة الشخصيّة الّتي يقال لها « القبلة » وغيرها من الجزئيّات الحقيقيّة ممّا لا يتحمّل التعدّد.

ولو اريد به إدراك الحكم التكليفي المترتّب على مؤدّى الاجتهاد وإن خالف الواقع - كجواز الدخول في الصلاة لمن اجتهد في القبلة أو الوقت - فهو حكم ظاهري يتعبّد به من جهة التعبّد بالأمارة أو الظنّ الحاصل منها ، نظير الحكم الظاهري في العمل بالظنون الاجتهاديّة في الأحكام.

وقد عرفت أنّ اختلافه وتعدّده ليس من التصويب بالمعنى المتنازع فيه وإلاّ لم يقل به المخطّئة.

ولو اريد به الإجزاء المسقط للإعادة والقضاء في العمل الواقع على طبق الاجتهاد.

ففيه أوّلا : منع إطلاق الإجزاء.

ولو سلّم فهو متفرّع على كون ما ثبت كونه شرطا في العبادة شرطا علميّا وهو ممّا لا مدخليّة في ثبوته للقول بالتصويب بل يتبع دليل الشرط ، ومع عدم الدلالة يبنى على كونه شرطا واقعيّا للأصل فيه.

وأمّا توهّم شمول النزاع للموضوعات فهو أيضا غير سديد ، إذ الموضوعات لكونها

ص: 330

جزئيّات حقيقيّة ليس لأحكامها الجزئيّة جعل على حدة ، حتّى ينازع في أنّه هل لله تعالى فيها قبل اجتهاد المجتهد حكم معيّن أو لا؟ بل يكفي في ثبوت أحكامها جعل الأحكام الكلّية لكلّياتها ، فالمجتهد في القبلة إنّما يجتهد فيها بعد الفراغ عن إثبات الحكم الكلّي وهو وجوب الصلاة إلى القبلة ، وجواز الصلاة إلى هذه الجهة الشخصيّة مثلا أو إلى ما عيّنته الأمارة وأدّى إليه الاجتهاد من مقتضى هذا الحكم الكلّي لا لجعل مستقلّ.

ثمّ يترتّب الإجزاء وعدم الإجزاء في صورة ظهور الخطأ على ما أفاده دليل ذلك الحكم الكلّي من كون القبلة شرطا واقعيّا أو اعتقاديّا.

وعلى هذا فالمجتهد في عنوان المسألة عبارة عن المجتهد في الأحكام ولا يدخل فيه المجتهد في الموضوعات ، فالنزاع في التخطئة والتصويب بالمعنى المأخوذ في المسألة بالبناء المتقدّم غير جار في الموضوعات والأحكام الجزئيّة.

نعم ربّما يمكن التكلّم في التخطئة والتصويب فيها من جهة اخرى غير مرتبطة بالبناء المذكور راجعة إلى التكلّم في وجه اعتبار الأمارة القائمة بها ، هل هو وجه الطريقيّة أو الموضوعيّة بالمعنى الّذي شرحناه في مسألة الإجزاء وغيرها ، ولعلّنا نشير إليه أيضا فيما بعد.

والأقوى في التكلّم من هذه الجهة هو الطريقيّة ، ويظهر من جماعة - منهم بعض الأعلام - القول بالموضوعيّة ، ومن ذلك ظهر زيادة على ما مرّ من أنّ التصويب في الموضوعات ليس من فروع القول بالتصويب المبحوث عنه في المسألة ليختصّ بالمصوّبة لكون قائله من أصحابنا المخطّئة ، مع أنّه من باب تعدّد الموضوع الباعث على تعدّد الحكم لا من باب تعدّد الحكم مع اتّحاد الموضوع كما هو التصويب بالمعنى المعروف في الأحكام.

ثمّ إنّ طرق الأحكام على أنحاء :

منها : الأدلّة العلميّة المفيدة للقطع بالحكم على تقدير وجودها وتيسّر الوصول إليها ولو في بعض الأزمنة ، كزمن الحضور أو في حقّ بعض الناس كالصحابة مثلا ومن يحذو حذوهم في تحقّق الشرطين.

ومنها : الأمارات الظنّية المنوط اعتبارها بإفادتها الظنّ بالحكم ولو لعموم ما دلّ على حجّية ظنّ المجتهد.

ومنها : الأمارات الغير العلميّة التعبّديّة الواجب اتّباعها تعبّدا من غير نظر إلى إفادتها الظنّ ، كأخبار الآحاد عند من يراها حجّة بالأدلّة الخاصّة.

ص: 331

أمّا النوع الأوّل : فهي خارجة عن موضوع مسألة التخطئة والتصويب ، لاتّفاق الفريقين على أنّ لله تعالى في كلّ واقعة من مواردها حكما معيّنا من أصابه أصاب ومن لم يصبه أخطأ ، والمخطئ آثم غير معذور ، ووجه الإثم : أنّه مع تحقّق الشرطين مقصّر في خطائه ، والخطأ إذ كان عن تقصير ليس عذرا فيكون بمنزلة ترك امتثال أحكام اللّه الفعليّة بلا عذر بعد تنجّزها ، بناء على ما ذكرناه في غير موضع من كفاية العلم الإجمالي مع التمكّن من العلم التفصيلي في تنجّز التكليف.

وأمّا النوع الثاني : فهو القدر المتيقّن ممّا اندرج في موضوع المسألة ولكن على بعض وجوهه لا مطلقا.

وتوضيح ذلك : أنّ اعتبار الأمارات الغير العلميّة وجواز التعويل عليها والعمل بها يحتاج إلى جعل الشارع ، وهو يتصوّر من وجوه ثلاث : الجعل الطريقي ، والجعل الموضوعي ، والمتوسّط بينهما.

والمراد بالأوّل أن يعتبر الأمارة بتجويز العمل بها أو إيجابه لمجرّد كونها كاشفة عن الواقع كشفا ظنّيا من غير أن يلاحظ فيها مصلحة سوى كشفها الظنّي عن الواقع ، وهذا على فرض تحقّقه من لوازم القول بالتخطئة.

وأمّا جواز نحو هذا الجعل وعدمه ففيه تفصيل بين صوره المتصوّرة من كون الأمارة في علم اللّه تعالى دائم المصادفة للواقع ، أو غالب المصادفة له ، أو أغلب مصادفة بالنظر إلى الطرق العلميّة المفروض وجودها ، بناء على كون المراد بها ما يفيد القطع بالواقع وإن خالفه لا خصوص العلم فيوجد فيها أيضا ما خالف الواقع مع فرض كونها أقلّ مصادفة له ، فالجعل الطريقي إن فرض مع وجود الطرق العلميّة ووفورها كما في صورة انفتاح باب العلم صحّ على الوجه الأوّل والأخير دون الوجه الثاني مع دوام المصادفة في الطرق العلميّة ، لأنّ جعل الأمارة طريقا مع ما يتحقّق فيها من مخالفة الواقع - ولو في الفروض النادرة - تفويت لمصلحة الواقع على المكلّف ، وهو مناف للحكمة من جهة أوله إلى نقض الغرض من جعل الحكم الواقعي وهو إيصال المكلّف إلى المصالح الواقعيّة.

وإن فرض مع فقدها أو قلّة وجودها صحّ على الوجهين الأوّلين دون الوجه الأخير لكونه خلاف الفرض.

والمراد بالجعل الموضوعي أن يعتبر الأمارة الظنّية القائمة بالفعل - لأنّ قيامها به -

ص: 332

وتأدّي نظر المجتهد إلى مؤدّاها [ يؤثّر ] في حدوث [ حكم ] واقعي مطابق لمؤدّاها للجاهل بحكم العالمين به ، سواء وافق ذلك الحكم أو خالفه مع فرض خلوّه عن الحكم الواقعي بالنسبة إليه مع قطع النظر عن قيام الأمارة ، بل ما لم ينظر فيها المجتهد أو لم يتأدّ نظره إلى شيء ، بأن يكون الحكم للواقعة من غير جهة الأمارة مختصّا بالعالمين أو المتمكّنين من العلم به ، وهذا هو المعنى المعهود من التصويب المعروف من المصوّبة كما تقدّم بيانه.

فمبنى القول بالتصويب على الالتزام بالجعل الموضوعي في الأمارات ، وعليه ينطبق القول بأنّ العلم والجهل من الوجوه والاعتبارات المغيّرة للأحكام الواقعيّة عند بعض من يرى الحسن والقبح بالوجوه والاعتبارات ، إذ المراد به أنّ الجهل بالحكم الواقعي المجعول للعالمين به المقرون بقيام الأمارة بالواقعة للجاهل الناظر فيها يوجب جعل مؤدّاها حكما واقعيّا له مغايرا لحكم العالمين به في محلّ المخالفة.

والمراد بالجعل المتوسّط بين القسمين الأوّلين هو أن يعتبر الأمارة بإيجاب العمل على طبقها - على معنى تطبيق الحركات والسكنات الخارجيّة عليها - والالتزام بمؤدّاها وترتيب الآثار عليه على أنّه هو الحكم الواقعي ، مع اشتماله على مصلحة يتدارك بها ما يفوت عن المكلّف على تقدير المخالفة من مصلحة الواقع من دون أن يؤثّر قيامها على هذا التقدير في حدوث مصلحة ولا حكم في نفس الفعل.

وهذا يفارق الجعل الطريقي في ملاحظة مصلحة في العمل على طبق الأمارة يتدارك بها مصلحة الواقع على تقدير فواتها ، والجعل الموضوعي في عدم تأثير قيامها بالفعل في حدوث مصلحة ولا حكم فيه ، وهو الصحيح من أقسام الجعل الموافق للشرع والاعتبار العقلي من حيث عدم استلزامه محذور نقض الغرض ولا التصويب.

وملخّص هذا الاعتبار : أنّ الفعل له بنفسه ومع قطع النظر عن الأمارة القائمة به حكم ناش عن صفة كامنة فيه غير مرتبطة بالأمارة وجودا وعدما ، غير أنّ الشارع أمرنا بالبناء عليها والأخذ بمؤدّاها على أنّه هو الواقع بعينه ، مع تضمّن ذلك البناء في صورة المخالفة مصلحة يتدارك بها المصلحة الواقعيّة الفائتة من غير أن يحدث بسببها مصلحة ولا حكم في نفس الفعل.

قيل : إنّ هذا هو الّذي يقول به المخطّئة والفرق بينه وبين الجعل الموضوعي يظهر في الإجزاء وعدمه عند تبيّن مخالفة الأمارة للواقع.

ص: 333

ثمّ إنّ الجعل الموضوعي كما يمكن فرضه مع خلوّ الواقعة عن الحكم بالنسبة إلى الجاهل رأسا ، كذلك يمكن فرضه مع اشتمال الواقعة على حكم مجعول مشترك بين العالم والجاهل متوقّف فعليّته بالنسبة إلى الجاهل على العلم أو تمكّنه من العلم منه ، فمن لم يعلم ولم يتمكّن من العلم به إذا عثر على الأمارة القائمة بها أثّر ذلك في حدوث حكم له في الواقع مغائر للحكم الأوّل المشترك بينه وبين العالم به.

والفرق بين الاعتبارين - مع اشتراكهما في كون الحكم الواقعي بالنسبة إلى الجاهل بحكم العالمين تابعا لقيام الأمارة - أنّ المنتفي عن الجاهل على الأوّل مع قطع النظر عن الأمارة أصل جعل حكم آخر ، وعلى الثاني فعليّة الحكم المجعول.

والّذي ينطبق منهما على القول بالتصويب بالمعنى المتقدّم المبنيّ على إنكار وجود حكم معيّن في الواقعة قبل اجتهاد المجتهد إنّما هو الوجه الأوّل دون الثاني ، وهل هو قسم آخر من التصويب أو هو نحو من التخطئة لم نقف في كلامهم على نصّ في ذلك ، غير أنّ الّذي ينبغي أن يقطع به عدم اندراجه في القول بالتخطئة ، لابتنائه على وحدة حكم اللّه الواقعي في كلّ واقعة وعدم كونه تابعا للأمارات والآراء الناشئة منها ، فهو بالتصويب أشبه.

وهل هو من التصويب الباطل فيه خلاف على ما يظهر من بعض كلمات أصحابنا.

فإنّ منها ما يظهر منه اختيار الصحّة كالمحكيّ عن العلاّمة في النهاية تبعا للشيخ في العدّة من قوله : « إنّ الفعل الشرعي إنّما يجب لكونه مصلحة ، ولا يمتنع أن يكون مصلحة إذا فعلناه ونحن على صفة مخصوصة ، وكوننا ظانّين بصدق الراوي صفة من صفاتنا ، فدخلت في جملة أحوالنا الّتي يجوز كون الفعل عندها مصلحة » انتهى.

وهذا بإطلاقه وإن كان يعمّ الوجهين ، إلاّ أنّ إجماع أصحابنا على بطلان التصويب بالمعنى المتقدّم يوجب صرفه عن الوجه الأوّل إلى الثاني ، وإليه أيضا يمكن إرجاع ما ذكره العلاّمة في التهذيب وغيره في غيره في دفع الإشكال المعروف الوارد على تعريف الفقه - من أنّ الظنّ في طريق الحكم ، وظنّية الطريق لا ينافي قطعيّة الحكم - على أحد وجوهه من كون المراد بالحكم المتكرّر هو الحكم الواقعي ، ومن ظنّية الطريق كون دليله مفيدا للظنّ به ، وقضيّة الفرض اعتبار الظنّ في الأمارات المفيدة له على وجه الموضوعيّة.

ومنه ما يظهر منه اختيار البطلان كعبارة المصنّف في تعريف الفقه حيث ضعّف ما عرفته عن العلاّمة بعد ما نقله بقوله : « ضعفه ظاهر عندنا ، وأمّا عند المصوّبة القائلين بأنّ كلّ مجتهد

ص: 334

مصيب فله وجه » بناء على أنّ إطلاقه يعمّ الوجهين معا ، فتأمّل.

وأمّا التحقيق في صحّة هذا الوجه وبطلانه فيأتي عند الاستدلال على بطلان التصويب وإثبات التخطئة.

وأمّا النوع الثالث : فالظاهر دخوله في موضوع المسألة لجريان اعتباري الجعل الموضوعي وغيره من الجعل المتوسّط بينه وبين الجعل الطريقي في الأمارات التعبّدية المعمولة في الأحكام ، كما يمكن جريانهما في الأمارات التعبّديّة المستعملة في الموضوعات ، فإمّا أن يراد بوجوب التعبّد بالأمارة مطلقا وإن لم تفد الظنّ بالحكم وجوب تطبيق العمل عليها والالتزام بمؤدّاها على أنّه الواقع بعينه مع وجوب اشتماله على مصلحة يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع عند المخالفة ، أو يراد به العمل بها والأخذ بمؤدّاها على أنّ قيامها بالفعل أثّر في حدوث مصلحة فيه مقتضية لجعل ذلك المؤدّى حكما واقعيّا في حقّ المجتهد الجاهل بحكم العالمين.

وإنّما لم نذكر الجعل الطريقي هنا لمنافاة التعبّد للكشف عن الواقع المنحصر في الكشف العلمي والكشف الظنّي ، فلا يتأتّى إلاّ فيما انيط اعتباره بإفادته العلم أو الظنّ بالواقع.

ولا ينافيه ما احتجّ به ابن قبة على استحالة التعبّد بخبر الواحد باستلزامه تحليل الحرام وتحريم الحلال ، لابتنائه على كون التعبّد بخبر الواحد من حيث إفادته الظنّ ، لابتناء الملازمة وبطلان اللازم كليهما على فرض الجعل الطريقي ، إذ على الجعل الموضوعي يتطرّق المنع إلى دعوى الملازمة باعتبار أنّه يستلزم تعدّد الحكم الواقعي بواسطة تعدّد موضوعه وهو الواقعة الملحوظة من حيث ذاتها والملحوظة من حيث قيام خبر الواحد الظنّي بها ، فهي على الحيثيّة الاولى تتضمّن مصلحة ذاتيّة مقتضية لحكم ومن الحيثيّة الثانية تتضمّن مصلحة اخرى عرضيّة مقتضية لحكم آخر.

غاية الأمر كون المصلحة العرضيّة بالنسبة إلى المجتهد راجحة على المصلحة الذاتيّة مانعة له من التأثير والحكم ، فهما موضوعان جعل لكلّ منهما حكم واقعي ، وعلى الجعل المتوسّط يتوجّه المنع إلى بطلان اللازم ، إذ على تقدير اشتمال سلوك الأمارة في موضع المخالفة على مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع الفائتة عن المكلّف لا ضير في إفادة الأمارة لتحليل ما هو حرام في الواقع ، لأنّ ما يفوت من مصلحة ترك الحرام الواقعي يتدارك بما حصل له من مصلحة سلوك الأمارة وتطبيق العمل عليها وهكذا في صورة العكس ، فليتدبّر.

ص: 335

وإذا تمهّد هذا كلّه فاعلم : أنّ الأقوى بل الحقّ الّذي لا محيص عنه هو القول بالتخطئة بالمعنى الّذي عليه أصحابنا ، وهو أنّ لله تعالى في كلّ واقعة حكما مخصوصا ، وأنّ أحكام جميع الوقائع مخزونة عند أهل بيت العصمة عليهم السلام ، وأنّ كلّ حكم اقتضت المصلحة إظهاره للامّة أظهروه وإن اقتضت إخفاءه لم يظهروه ، وأنّ كثيرا ممّا أظهروه ذهبت عنّا بالحوادث والأسباب الخارجيّة وأنّ من المجتهدين من صادف شيئا ممّا أظهروه فهو مصيب ، ومن صادف غيره مخطئ ولكنّه معذور غير آثم إذا استفرغ وسعه وبذل جهده وإن كان عليه دليل قاطع إذا لم يظفر به لو لم يكن في نظره قاطعا ولو لشبهة سبقت إليه ، وأنّه لا يجب أن يكون عليه دليل ظنّي في الظاهر فضلا عن القطعي.

أدلّة القول بالتخطئة

والعمدة من دليله وجوه :

منها : الضرورة الكاشفة عن صدق الدعوى ومطابقة المدّعى للواقع ، المستكشفة بكون وجود حكم لله تعالى في كلّ شيء من القضايا المركوزة في الأذهان ، حتّى العوام والنسوان والصبيان تراهم يقولون عن اعتقاد يقيني في موارد كثيرة : أنّ حكم اللّه واحد ، ويتناكرون تعدّده بحسب الواقع ، فتكون القضيّة من الضروريّات الّتي قد تختفي على النظر لشدّة الضرورة فيها.

ومنها : الآيات الكتابيّة يكفي منها قوله عزّ من قائل : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) فإنّ إكمال الدين لا يتمّ إلاّ ببيان جميع ماله مدخليّة في الدين ومنه حكم كلّ واقعة ، وظاهر أنّ بيان الحكم مسبوق بجعله فيدلّ بالالتزام على أنّه تعالى جعل لكلّ واقعة حكما ، وقوله تعالى : ( ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ) وفيه تبيان كلّ شيء يدلّ ولو بمعونة الأخبار المفسّرة على ورود حكم كلّ شيء في الكتاب وإن لم يبلغ إلى أكثرها الأفهام القاصرة.

ومنها : الأخبار المتكاثرة على اختلاف طوائفها مع استفاضة كلّ طائفة منها بل تواترها ، كالنبويّ المرويّ بطرق الفريقين من قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم : « إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي ، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبدا » فإنّ المراد من التمسّك بهما هو التمسّك في استعلام الأحكام - اصوليّة وفروعيّة - فلولا أنّه لكلّ شيء حكم وارد في الكتاب مستودع عند العترة الطاهرة لم يكن التمسّك بهما كافيا في الحفظ عن الضلال.

والأخبار المدّعى تواترها الواردة على اختلاف ألفاظها : « بأنّ لكلّ شيء حكما حتّى أرش الخدش فما دونه ».

ص: 336

والأخبار القريبة من التواتر بل المتواترة معنى الواردة في الطعن على القائسين وأصحاب الرأي وأهل الاجتهاد من المخالفين ، المعلّلة باستكمال الدين المنزل من اللّه على نبيّه لجميع أحكامه ، وقد تقدّم أكثرها في احتجاج الأخباريّين على نفي الظنّ والاجتهاد.

ومن ذلك المرويّ عن نهج البلاغة من قول مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في ذمّ اختلاف علمائهم في الفتيا مع صراحته في نفي التصويب قال عليه السلام : « يرد على أحدكم القضيّة في حكم من الأحكام فيحكم بها برأيه ، ثمّ ترد تلك القضيّة بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله ، ثمّ يجتمع القضاة عند الإمام الّذي استقضاهم فيصوّب آراءهم جميعا ، وإلههم واحد ونبيّهم واحد وكتابهم واحد فأمرهم اللّه بالاختلاف فأطاعوه أو نهاهم عنه فعصوه؟ أم أنزل اللّه دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه؟ أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟ أم أنزل لله دينا تامّا فقصّر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن تبليغه وأدائه ، واللّه سبحانه يقول : ( ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ) وفيه تبيان كلّ شيء ».

ومنها : الأدلّة السمعيّة الدالّة على أصل البراءة فيما لا نصّ فيه ، وغيره من عمومات الكتاب والسنّة كقوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) و ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) وقوله عليه السلام : « ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » و « الناس في سعة ما لم يعلموا » و « رفع عن امّتي ما لا يعلمون » و « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي » إذ يستفاد من مجموعها أنّ في الوقائع المجهولة الحكم لله تعالى حكما لولا كونه مجهولا لترتّب عليه التكليف الفعلي من المؤاخذة واستحقاق العقوبة على المخالفة ، ولو انضمّ إليها أخبار التوقّف وأخبار الاحتياط لاستفيد من المجموع أنّ الجهالة في الوقائع المجعولة توجب التوقّف عن حكمها الخاصّ ثمّ البناء في العمل على البراءة أو الاحتياط ولا يتمّ ذلك إلاّ على تقدير وجود حكم خاصّ لله تعالى في كلّ واحد.

لا يقال : إنّ غاية ما ثبت من هذه الأدلّة وجود الأحكام الواقعيّة في الوقائع لذواتها للعالمين بها ، وهذا ليس بمحلّ كلام بل الكلام في كون الحكم المجعول للعالمين مشتركا بينهم وبين الجاهلين به الّذين منهم المجتهدون ، والأدلّة المذكورة ساكتة عن إفادة هذا المعنى.

لأنّا نقول : مع أنّ بعض ما سبق يدلّ على ثبوت الحكم الواقعي في كلّ واقعة على وجه العموم ، أنّ العموم يثبت بأدلّة الاشتراك في التكليف من الإجماع والضرورة والأخبار المتواترة الناطقة بأنّ : « حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة » و « أنّ حكم اللّه

ص: 337

على الأوّلين والآخرين سواء » وغير ذلك ممّا يقف عليه الخبير البصير.

واستدلّ عليه أيضا بوجوه اخر :

منها : ما اعتمد عليه بعض الفضلاء من : « أنّه قد تقرّر عند العدليّة أنّ أحكامه تعالى تابعة لمصالح واقعيّة في

موارد لاحقة لذواتها أو لوجوه واعتبارات طارئة عليها ، وإن كان لحوق تلك الأحكام لها مشروطا بعلم المكلّف أو ما في حكمه ، وحينئذ فما من واقعة إلاّ ولها حكم معيّن يتوقّف تعلّقه بالمكلّف على زوال جهله به ، ولا نعني بالحكم الواقعي إلاّ ذلك ».

أقول : هذا لا ينهض ردّا على من كان من المصوّبة من الأشاعرة المنكرين لتبعيّة الأحكام بالصفات الكامنة القائلين بكون حسن الأشياء وقبحها بالشرع.

نعم إنّما ينهض ردّا على العدليّة منهم ، فإنّ الصفة الكامنة في كلّ شيء توثّر في جعل حكم للواقعة من حيث هي ، متوقّف تعلّقه بالمكلّف وصيرورته حكما فعليّا عليه على علمه به.

لا يقال : إنّ هذا لا يتمّ على مذهب العدليّة أيضا القائلين بكون الصفة الكامنة في الشيء قد يكون بالوجوه والاعتبارات بناء على كون العلم والجهل منها.

لأنّ كون العلم والجهل من الصفات الموجبة لتبدّل الأحكام الواقعيّة وإن سبق إلى بعض الأوهام احتمالا أو اختيارا غير أنّه عند التحقيق وفي النظر الدقيق ممّا لا يرجع إلى محصّل ، إذ لو اريد بمدخليّة الجهل في الحكم الواقعي أنّ الجهل بالحكم الواقعي المجعول في الواقعة للعالمين به علّة تامّة لحدوث حكم واقعي آخر للجاهل بجعل إلهي فهو غير معقول ، لأنّ غاية ما يسلّم من تأثير الجهل عند العقل إنّما هو منع شمول الحكم الواقعي المتعلّق بالعالمين به للجاهل ، ولا يعقل تأثيره في حدوث حكم معيّن آخر من الأحكام الباقية بعد فرض عدم شمول الحكم الأوّل له كائنا ما كان كما هو واضح ، ولو اريد بها كونه جزء للعلّة التامّة المفروض كونها المجموع من أمر عدمي - وهو عدم العلم بالحكم المفروض عدم شموله للجاهل من باب رفع المانع - وأمر وجودي وهو قيام أمارة ظنّية أو تعبّديّة بالواقعة ، فيؤثّر المجموع في حدوث مؤدّى تلك الأمارة حكما واقعيّا للجاهل بجعل إلهي.

ففيه : أنّ الجهل وإن كان يؤثّر في منع شمول الحكم الواقعي المجعول للعالمين به ، إلاّ أنّه ليس معناه أنّه يمنع من مجعوليّة ذلك الحكم بالقياس إلى الجاهل ، ليكون مفاده اختصاص ذلك الحكم بالعالمين به المبنيّ على أخذ قيد في موضوعه يوجب ذلك الاختصاص من

ص: 338

حيث الجعل ، فإنّه ممّا لا قاضي به من العقل والنقل ، بل غاية ما يساعد عليه العقل باعتبار قبح تكليف الغافل وإلزام الجاهل إنّما هو منع فعليّة المجعول وتعلّقه بالجاهل بحيث يصير تكليفا فعليّا عليه ، وهو لا يقتضي منع شمول أصل الجعل وتساوي نسبة (1) المجعول إلى كلّ مكلّف.

بل نقول : إنّ من الجائز عقلا أنّ الشارع جعل لكلّ واقعة بمقتضى الصفة الكامنة فيها حكما مشتركا يتساوى نسبته إلى كلّ مكلّف ، مشروط تعلّقه - الّذي عليه مدار فعليّة الحكم الفعلي بكلّ مكلّف - بعلمه به ، فمن علم به تعلّق به ومن جهله لم يتعلّق به مع وجوده في الواقع باعتبار كونه مجعولا ، وهذا هو معنى اختصاص الحكم الواقعي بالعالمين به لا أنّ جعله يختصّ بهم.

كيف وأنّه لا يتأتّى باعتبار الجعل إلاّ بتقييد وأخذ قيد في موضوعه والأصل ينفيه ، مع أنّه خلاف مقتضى أدلّة الاشتراك في التكليف.

نعم يبقى الكلام - بعد نفي تعلّق الحكم الواقعي المتعلّق بالعالمين به بالجاهل - في أنّ قيام الأمارة بالواقعة للجاهل الناظر فيها المتؤدّي اجتهاده إلى مؤدّاها هل أثّر في حدوث ذلك المؤدّى حكما واقعيّا في حقّه؟ وهل الشارع جعله بعد تأدّي اعتقاده إليه حكما واقعيّا له خاصّة أو لا؟

وهذا أيضا لم ينهض به برهان ولم يشهد له شاهد من عقل ولا نقل ، فالأصل ينفيه.

منها : ما ذكره الفاضل المتقدّم من : « أنّه لو أصاب كلّ مجتهد لزم الجمع بين المتنافيين وهو قطعه بالحكم ما دام ظانّا ، والظنّ والقطع متنافيان لا يتواردان على محلّ واحد ، ولا يلزم ذلك على المخطّئة لتغاير المحلّ عندهم ، إذ مورد الظنّ نفس الحكم ومورد القطع وجوب البناء عليه ، أو مورد الظنّ الحكم الواقعي ومورد القطع الحكم الظاهري ».

وفيه : منع الملازمة على التصويب أيضا بتغاير محلّيهما على ما قدّمناه من أنّ المقطوع به إنّما هو الحكم الواقعي المتعلّق بالمكلّف وهو مصداق الوجوب مثلا بالمعنى الإنشائي المتعلّق بالمكلّف ، والمظنون أحد الامور الثلاث من مفهوم الوجوب ، وما يصير حكما بجعل لاحق ، وحكم العالمين به.

ومنها : ما في تهذيب العلاّمة من « أنّ إحدى الأمارتين إن ترجّحت على الاخرى تعيّنت للعمل والمخالف لها مخطئ ، وإن لم تترجّح كان اعتقاد كلّ واحد من المجتهدين

ص: 339


1- وفي الأصل : « نسبته » والصواب ما أثبتناه في المتن.

لرجحان أمارته خطأ. » (1)

وتوضيحه : أنّ اختلاف المجتهدين في المسألة إنّما ينشأ من اختلاف الأمارتين وتعارضهما فإمّا أن تكونا من التراجيح أو من التعادل ، فعلى الأوّل كان الآخذ بالأمارة المرجوحة مخطئا ، لاستلزامه اعتقاد رجحان الأمارة المرجوحة وهو خلاف الواقع.

وعلى الثاني كان الآخذ بكلّ منهما مخطئا ، لاستلزامه اعتقاد رجحان الأمارة الغير الراجحة وهو أيضا خلاف الواقع.

وفيه : - مع ابتنائه على كون المدار في الترجيح على رجحان الأمارة في نظر المجتهد بحسب نفس الأمر لا مطلقا ولعلّه موضع منع عند الخصم ، فيمنع معه كون اعتقاد الرجحان في الصورتين خطأ - منع الملازمة بين خطأ ذلك الاعتقاد المتعلّق برجحان الأمارة وخطأ الاجتهاد المتعلّق بالمسألة الفرعيّة والكلام إنّما هو فيه ، فإنّ اعتقاد الرجحان في الأمارة وإن كان خلاف الواقع أوجب الظنّ بمؤدّاها وهو على مفروضهم يؤثّر في حدوث ذلك المؤدّى حكما واقعيّا للمجتهد الناظر فيها.

فدعوى كونه مخطئا إن اريد به كونه كذلك في المسألة الفرعيّة لا يخلو عن مصادرة ، إلاّ أن يقال : إنّ مؤثّر حدوث الحكم إنّما هو الظنّ المطابق لا مطلقا.

ويدفعه : مع أنّه غير معهود من المصوّبة ، أنّ اعتبار المطابقة في الظنّ مع خلوّ الواقعة قبل اجتهاد المجتهد عن الحكم - كما عليه مبنى القول بالتصويب - غير معقول ، فلا ينقسم الظنّ المستند إلى الأمارة عندهم إلى المطابق وغير المطابق ، إلاّ أن يلاحظ المطابقة والعدم بالقياس إلى حكم العالمين به ، أو إلى ما يسمّى عند فريق منهم بالأشبه.

ويرد عليه حينئذ : أنّ اعتبار المطابقة على رأيهم يوجب استحالة التصويب فيما هو موضوع مسألة التخطئة والتصويب وهو المسائل الخلافيّة ، لاستحالة مطابقة كلّ من الأمارات المتعارضة الموجودة في مسألة واحدة - الّتي يستند إليها الآراء المختلفة - لأحد الأمرين حكم العالمين أو الأمر المسمّى بالأشبه ، فلا بدّ وأن يكون كلّ من الظنّ المطابق وغير المطابق مؤثّرا عندهم في حدوث حكم للظانّ فبطل اعتبار المطابقة.

ومنها : ما في التهذيب أيضا من : « أنّ المكلّف إن كلّف لا على طريق كان حكما في الدين إمّا تشهّيا أو بما لا يطاق ، وإن كان عن طريق فإن خلا عن المعارض تعيّن وإلاّ

ص: 340


1- تهذيب الوصول إلى علم الاصول : 102.

فالراجح ، فإن عدم الرجحان فالحكم إمّا التساقط أو التخيير أو الرجوع إلى غيرهما. وعلى كلّ تقدير فالحكم معيّن فالمخالف له مخطئ فالمصيب واحد » (1).

والمنساق من هذا الدليل أنّه فرض التخطئة في الحكم الاصولي الّذي هو واحد على كلّ تقدير ، إذ مع خلوّ الأمارة الموجودة في المسألة عن المعارض وجب العمل بها بعينها ، ومع رجحانها على معارضها على تقدير وجوده وجب العمل بها أيضا كذلك ، ومع التساوي فالحكم إمّا التخيير أو التساقط والرجوع إلى الأصل ، أو التوقّف والرجوع إليه أيضا على الخلاف في مسألة تعادل الأمارتين.

وقضيّة ذلك أن يكون المخالف في جميع التقادير مخطئا.

ويشكل ذلك : بأنّ ظاهر كلماتهم اختصاص النزاع بالمسائل الفرعيّة الاجتهاديّة وخروج المسائل الاصوليّة عنه ، لاتّفاق الكلّ فيها على التخطئة كما أو مأنا إليه سابقا ، وإن أراد من الاستدلال بيان أنّ الخطأ في الحكم الاصولي على جميع تقاديره يستلزم [ الخطاء ] في الحكم الفرعي المتفرّع في المسألة الفرعيّة على ذلك الحكم الاصولي.

فيدفعه : منع الملازمة بالتقريب المتقدّم ، إذ المخالف إنّما يخالف الحكم الاصولي المفروض في جميع تقاديره لحكم اصولي آخر هو الراجح في نظره ، فإذا صلح الأوّل منشأ لحكم فرعي صلح ذلك أيضا منشأ لحكم فرعي ، فيكون كلّ منهما حكما واقعيّا لصاحبه فيكون كلّ من المجتهدين مصيبا ، على أنّ المخالف إنّما يخالفه لأمارة أو أصل ترجّح في نظره العمل بها فيحدث مؤدّاهما حكما واقعيّا في حقّه ، وإن كان جعل مؤدّى الأصل حكما واقعيّا لا يخلو عن إشكال بل لا وجه له.

هذا مع ما يرد على ما ذكره في الترديد الأوّل من : « أنّ المكلّف إن كلّف لا عن طريق » من أنّه لا يدري إنّ المكلّف به المفروض هل هو معرفة الحكم أو الاجتهاد؟

والأوّل خلاف مفروض المصوّبة من خلوّ الواقعة قبل الاجتهاد عن حكم مخصوص.

والثاني لا يلائمه تفريع الأمرين عليه من لزوم التكليف بما لا يطاق إذا كان الحكم معيّنا عند اللّه غير معيّن عند المكلّف ، أو القول بالحكم في الدين لمجرّد التشهّي إذا لم يكن معيّنا عند اللّه أيضا ، فإنّ الّذي يلزم على تقدير التكليف بالاجتهاد من غير طريق إنّما هو التكليف بما لا يطاق لا غير ، فليتدبّر.

ص: 341


1- تهذيب الوصول إلى علم الاصول : 102.

حجّة المصوّبة - على ما في نهاية العلاّمة - كثيرة ونحن نقتصر منها على جملة يظهر بملاحظتها حال البواقي.

منها : ما ملخّصه : أنّه لو كان لله تعالى في الواقعة المبحوث عنها حكم معيّن لكان ما أنزل اللّه هو ذلك الحكم ، فيكون الحاكم بغيره عند الخطأ في الاجتهاد حاكما بغير ما أنزل اللّه فيكون فاسقا بل كافرا ، لقوله تعالى : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) وقوله أيضا : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) والتالي باطل للإجماع على عدم كفره ولا فسقه ، والمقدّم مثله.

والجواب : أنّه لو لم يكن لله تعالى في الواقعة المبحوث عنها حكم معيّن لكان الخطاب في الآيتين ونحوهما لغوا ، إذ المفروض انتفاء حكم منزّل من اللّه فيها ليجب الحكم به ويلزم كون الحكم بغيره حكما بغير ما أنزل اللّه فلا مصداق لموضوع الآيتين ، وهذا معنى ما ذكرناه من لزوم كون الخطاب لغوا ، والتالي باطل والمقدّم مثله.

فإن قيل : يكفي في تحقّق مصداق للآيتين وجود الحكم المجعول للعالمين به أو حدوث الحكم للمجتهدين بعد اجتهادهم واستقرار ظنّهم من مقتضى الأمارة القائمة بالواقعة ، فكلّ من الفريقين إذا أفتى بغير ما علمه من الحكم المجعول في حقّه كان حاكما بغير ما أنزل اللّه فيكون فاسقا وكافرا.

قلنا : الاعتراف بذلك نقض لأصل الاستدلال وجواب عنه ، لأنّ مرجعه إلى أنّ الخطاب في الآيتين ليس مع المجتهدين قبل اجتهادهم ، لعدم علمهم بالحكم المنزّل من اللّه في الواقعة ليلزم من حكمهم بغيره الفسق والكفر ، ومحصّله : أنّ الظاهر المنساق منهما الحكم بالفسق والكفر على من حكم بغير ما أنزل اللّه مع علمه بما أنزل اللّه.

هذا مع أنّ لنا أن نقول : إنّ من الحكم من اللّه (1) إنّما هو وجوب البناء على الظنّ والأخذ بالمظنون على أنّه الواقع ، وإذا حكم به المجتهد أو أفتى به لمقلّده كان حكما بما أنزل اللّه لا بغيره ، وعدم الحكم بغيره على تقدير مخالفة الظنّ للواقع إنّما هو من جهة العذر وهو الجهل به فلا يكون آثما ليوجب الفسق والكفر.

ومنها : أنّه لو أخطأ المجتهد لزمه العمل بمقتضى ظنّه ، وحينئذ فإمّا أن يلزمه ذلك مع بقاء الحكم الواقعي في حقّه فيلزم التكليف بالمحال أو اجتماع الضدّين وكلاهما محالان ،

ص: 342


1- كذا في الأصل ، والصواب : « إنّ من الحكم بما أنزل اللّه » الخ.

أو بدونه فيلزم أن يكون العمل بالحكم الخطأ واجبا وبالصواب حراما وهو أيضا محال.

والجواب : أنّ معنى لزوم العمل بمقتضى الظنّ عند المخطّئة وجوب تطبيق العمل - بمعنى الحركات والسكنات الخارجيّة - على الظنّ ، والالتزام بالمظنون وترتيب الآثار عليه على أنّه الواقع ، وحينئذ فإن صادف الواقع كان المجتهد مصيبا وكشف إصابته عن تعلّق الحكم الواقعي به فلا يلزم شيء من التكليف بالمحال ولا اجتماع الضدّين ولا غيرهما ، وإن لم يصادفه كان مخطئا وكشف خطائه - باعتبار الجهل الّذي هو عذر عقلي - عن عدم تعلّق الحكم الواقعي به ، فلا يلزم وجوب العمل بالحكم الخطأ وحرمة العمل بالحكم الصواب ، لأنّ القبيح إنّما هو إيجاب العمل بالخطأ من حيث هو خطأ وتحريم العمل بالصواب من حيث هو صواب وهاهنا لا تحريم بالنسبة إلى الصواب.

والمفروض إيجاب العمل بالمظنون الّذي هو خطأ في الواقع على أنّه هو الواقع والصواب ، لا على أنّه خلاف الواقع ومن حيث إنّه خطأ وهذا ممّا لا قبح فيه ليكون محالا.

على أنّا نقول : إنّ إيجاب الشارع لم يتعلّق بالمظنون الّذي هو خطأ في الواقع بالخصوص ، بل إنّما تعلّق بالمظنون الّذي قد يكون في الواقع صوابا وهو الأغلب ، وقد يكون خطأ على أنّه هو الصواب وهو في نظر المجتهد الظانّ ما دام ظانّا صواب دائما ، لأنّه يعتقده ظنّا حكما واقعيّا فأوجب الشارع العمل به على أنّه حكم واقعي.

ولا ريب أنّ هذا الإيجاب إذا لوحظ معه الوصول إلى مصلحة الواقع أو إلى مصلحة اخرى يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع في نفس العمل - لا الفعل المظنون حكمه في صورتي المصادفة وعدمها - حسن لا أنّه قبيح.

وبالتأمّل فيما ذكرناه يظهر ما هو الحقّ من شقّي الترديد المأخوذ في الدليل بالنسبة إلى بقاء الحكم الواقعي وعدم بقائه في حقّ المجتهد إذا أخطأ.

وتوضيحه : أنّه إن اريد من بقاء الحكم الواقعي في حقّه تعلّق الحكم المجعول للواقعة به حال كونه جاهلا به نختار عدم البقاء ، لأنّ جهله به عذر مانع عن تعلّقه به لئلاّ يلزم التكليف بالمحال ، وهذا ليس من تحريم العمل بالصواب كما هو واضح.

وإن اريد وجوده معلّقا تعلّقه به على زوال جهله به نختار البقاء من غير أن يلزم مع فرض وجوب العمل بالظنّ بالمعنى المتقدّم تكليف بالمحال ولا اجتماع الضدّين كما لا يخفى.

فإن قلت : فأيّ فائدة لجعله مع فرض عدم تعلّقه بل لا يكون إلاّ لغوا.

قلت : يكفي في خروجه عن اللغويّة تعلّقه بالعالمين به ، وإنّما يلزم لو فرض اختصاص

ص: 343

فلا أرى للبحث في ذلك بعد الحكم بعدم التأثيم كثير طائل*. فلا جرم كان ترك الاشتغال بتقرير حججهم على ما فيها من الإشكال أوفق بمقتضى الحال.

__________________

جعله بالجاهلين لا إذا فرض بحيث يشترك فيه العالم والجاهل ويتساوى نسبته إلى الجميع مع اشتراط فعليّته وتعلّقه بالعلم بذلك المجعول.

ومنها : أنّ الإجماع منعقد على أنّ المجتهد مأمور بالعمل على وفق ظنّه ، ولا نعني بحكم اللّه تعالى إلاّ ما أمر بالعمل به ، فإذا كان مأمورا بالعمل بمقتضى ظنّه وعمل به كان مصيبا للقطع على أنّه عمل بما أمره اللّه تعالى به ، فكلّ مجتهد مصيب. ويظهر الجواب عنه بالتأمّل في الجواب عن سابقه.

وتوضيحه : أنّ المسلّم إنّما هو الإجماع على أنّ المجتهد مأمور بالعمل بمقتضى ظنّه على أنّه الحكم الواقعي المجعول في الواقعة مع قطع النظر عن الاجتهاد ، وهذا بمجرّده لا يستلزم كونه مصيبا وإنّما يصير مصيبا إذا صادف ظنّه الواقع لا مطلقا.

والحاصل : أنّ مجرّد الأمر بالعمل على مقتضى الظنّ أعمّ من الإصابة وعدمها.

وإن شئت قلت : إنّ هذا الأمر أمر ظاهري والعمل به في صورة عدم مصادفة الظنّ للواقع ليس من الإصابة بالمعنى المتنازع فيه وإلاّ عاد النزاع لفظيّا كما لا يخفى.

ومنها : قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم : « أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم » (1) فإنّه لو كان بعضهم مخطئا لما حصل الهدى في متابعته إذ العمل بغير حكمه تعالى ضلال.

والجواب أوّلا : منع سند الحديث ، بل هو يشبه بكونه من موضوعات المخالفين المعاندين للحجّة المنصوبة في تصرّفاته فتوى وحكومة.

وثانيا : منع كون أصحابه مجتهدين بل هم كانوا يتلقّون الأحكام عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم فكانوا عالمين بها ، فكون الاقتداء بهم اهتداء إنّما هو باعتبار ما لزمه من الوصول إلى الأحكام الواقعيّة.

وثالثا : أنّ متابعة المجتهد في الحكم الظاهري أيضا نوع من الهدى ، وكونه عملا بغير حكم اللّه واضح الدفع بأنّ الأحكام الظاهريّة في موضوعاتها أيضا أحكام اللّه تعالى.

* ظاهره أنّه لو لا حكمهم بعدم التأثيم على التخطئة أيضا الّذي هو في معنى الإجماع

ص: 344


1- لا يوجد هذا الحديث في مجامعنا الروائيّة ، وانما أوردوها العامّة في كتبهم عن النبيّ صلی الله عليه وآله وسلم وهو يشبه بكونه من موضوعات المخالفين كما نبّه عليه الماتن 1.

عليه كانت الفائدة المترتّبة على القولين في المسألة هو الإثم وعدمه وليس للنزاع فيها ما عدا ذلك ثمرة معتدّ بها في الفروع ولا في غيرها ، وهذه الفائدة أيضا منتفية بالإجماع على العدم.

وقضيّة هذا كلّه أن لا يكون للبحث فيها كثير طائل ، لكنّ الشهيد الثاني في تمهيد القواعد - على ما حكي عنه - ذكر للمسألة فروعا :

منها : أنّ المجتهد في القبلة إذا ظهر خطائه هل يجب عليه الإعادة أو القضاء أو لا؟

وجهان مبنيّان على القولين ، فعلى التخطئة يجب الإعادة في الوقت والقضاء في خارجه ، وعلى التصويب لا يجب لحصول أداء المأمور به الواقعي.

ومنها : ما لو صلّى من يرى وجوب السورة أو التسليم في الصلاة - باجتهاد أو تقليد - خلف من لا يرى وجوبهما ولم يفعله ، ففي صحّة الائتمام وعدمه وجهان مترتّبان على القولين ، نظرا إلى أنّ من شروط صحّة صلاة المأموم صحّة صلاة الإمام وهي على التصويب صحيحة بخلافه على التخطئة.

ومنها : إنفاذ مجتهد حكم مجتهد آخر يخالفه في مأخذ الحكم ، كما إذا رأى كفاية الشهادة العمليّة أو شاهد ويمين في تماميّة البيّنة أو استماع شاهد الفرع مع عدم تعذّر شاهد الأصل والمجتهد الأوّل لا يرى شيئا من ذلك ، ففي جوازه أيضا وجهان مترتّبان على القولين.

وفي الكلّ نظر.

أمّا الأوّل : فلخروج الاجتهاد في الموضوعات والأحكام الجزئيّة عن موضوع المسألة واختصاص النزاع بالمجتهد في الأحكام على ما بيّنّاه سابقا ، مع أنّ أئمّتنا المعصومين سلام اللّه عليهم أجمعين قد بيّنوا لنا المخلص في خصوص الاشتباه في القبلة على ما استفيد من أخبارهم من التفصيل بين ما لو كان الاشتباه فيما بين المشرق أو المغرب فلا إعادة ولا قضاء ، أو في نفس المشرق أو المغرب فعليه الإعادة مع بقاء الوقت ومع خروجه لا قضاء ، أو في دبر القبلة فعليه الإعادة في الوقت والقضاء في خارجه كما هو الأقوى من أقوال المسألة ، فلا حاجة معه إلى النظر في مسألة التخطئة والتصويب ، مع أنّ جعل ما ذكر من فروع مسألة الإجزاء أولى من جعله من فروع هذه المسألة.

وأمّا الثاني : فلعدم الفرق بين القولين في عدم صحّة الائتمام ، أمّا على التخطئة فواضح ، وأمّا على التصويب فلأنّ الشرط في صحّة الائتمام إنّما هو صحّة صلاة الإمام عند المأموم في

ص: 345

مذهبه ولا يكفي صحّتها في مذهب الإمام فقط ، وضابط الصحّة عند المأموم أن يكون صحّة صلاة الإمام منوطة بكيفيّة لو صلاّها المأموم بانفراده بهذه الكيفيّة كانت مجزئة عنه ، ومفروض المقام ليس كذلك.

وأمّا الثالث : فلعدم الفرق أيضا بين القولين في جواز إنفاذ الحكم المذكور ، فإنّه إجماعيّ حتّى على التخطئة ما لم يعلم بطلان الحكم أو مخالفته الدليل القطعي.

فالإنصاف : أنّ المسألة لا تثمر في المسائل الفرعيّة شيئا يعتدّ به.

نعم ربّما يذهب إلى الوهم ظهور فائدتها في جعل الأمارت الّذي يندرج في مسائل الاصول ، إذ على القول بالتصويب يتّجه القول بالجعل الموضوعي بخلافه على القول بالتخطئة.

وفيه أيضا : أنّ الظاهر ابتناء هذه المسألة على مسألة الجعل لا العكس كما يعلم بالتأمّل.

تعليقة : في وجوب تجديد النظر وعدمه

اشارة

- تعليقة -

المشهور بين الاصوليّين من أصحابنا والعامّة - كما أومأ إليه بعض الأفاضل ناقلا لحكايته - أنّه يجوز للمجتهد في عمل نفسه بالحكم الثابت بالاجتهاد وإفتائه لغيره ممّن استفتاه بذلك الحكم البناء على اجتهاده السابق عند تجدّد الواقعة الّتي اجتهد في حكمها ، فلا يجب عليه تجديد النظر وتكرير الاجتهاد مطلقا ما لم يتغيّر اجتهاده الأوّل أو لم ينس الحكم الحاصل بذلك الاجتهاد.

وقيل : بوجوب تجديد النظر عليه مطلقا.

وقيل : بالتفصيل بين نسيان دليل المسألة فيجب عليه تجديد النظر وتكرير الاجتهاد ، وعدمه فلا يجب ، ذهب إليه المحقّق.

وعن النهاية نسبته إلى قوم ، وحكى القول به عن الإمام والآمدي.

وفي كلام بعض الأفاضل نسبته إلى السيّد العميدي وإلى العلاّمة في قواعده أنّه تفصيل حسن يقرب من قواعدهم الفقهيّة.

وفي الأوّل نظر ، لأنّه على ما وجدناه من عبارته نسب القول بعدم جواز الفتوى مع نسيان الدليل إلى قوم وعقّبه بنقل القول بالجواز ولم يرجّح شيئا.

وهاهنا تفصيل آخر بين ما إذا قويت قوّته في الاستنباط لكثرة الممارسة والاطّلاع

ص: 346

على وجوه الأدلّة ودلالالتها فيجب وعدمها فلا يجب ، وعزى نفي البعد عنه إلى الزبدة والميل إليه إلى الفاضل الجواد في شرحها.

وهذه المسألة ممّا عنونه المصنّف في عداد شرائط المفتي من حيث إفتائه حيث عبّر عنها فيما يأتي بقوله : « ذهب العلاّمة في التهذيب إلى جواز بناء المجتهد في الفتوى بالحكم على الاجتهاد السابق ، ومنع من ذلك المحقّق فعدّ في شرائط تسويغ الفتوى أن يكون المفتي بحيث إذا سئل عن لمّية الحكم في كلّ واقعة يفتى بها أتى به وبجميع اصوله الّتي يبنى عليها » إلى آخره.

ولكنّ الأنسب كما صنعه جماعة إيرادها في أحكام الاجتهاد بل المجتهد من حيث عمل نفسه وإفتائه لغيره ، لوضوح اشتراك الجهة النافية لوجوب تجديد النظر والمقتضية لوجوبه بينهما وعدم تعقّل اختصاصها بمقام الإفتاء.

وأوضح ما يكشف عن اشتراك الجهة ما استند إليه القائل بوجوب تجديد النظر مطلقا ممّا يرجع إلى فقد المقتضي لجواز الإفتاء من دون تجديد [ النظر ] وهو ارتفاع ظنّه وعدم بقائه ، نظرا إلى احتمال تغيّر اجتهاده بعد تجديد نظره كما يكثر وقوعه في المسائل الظنّية.

وقد يتمسّك له بما يرجع إلى وجود المانع وهو عموم الأدلّة الدالّة بإطلاقها على المنع من العمل بالظنّ ، خرج منه ظنّ من جدّد نظره وكرّر اجتهاده بالإجماع وبقي الباقي تحته ومنه ظنّ من لم يجدّد النظر.

وهذان الوجهان على تقدير تماميّتهما يوجبان المنع من البناء على الاجتهاد السابق بالقياس إلى العمل والإفتاء معا وتساوي نسبتهما في اقتضاء المنع وعدمه إليهما.

ومن هنا ربّما أمكن أن يقال : إنّ مرجع النزاع في المسألة إلى اشتراط حجّية الاجتهاد بتكرّره وتجديد النظر فيه وعدمه ، كما أنّ بذلك يعلم أن ليس المراد من الوجوب المأخوذ في عنوان المسألة نفيا وإثباتا هو الوجوب الشرعي التكليفي بل الوجوب الشرطي ، على معنى كون تجديد النظر وتكرّر الاجتهاد شرطا في جواز العمل والإفتاء بالحكم المستنبط من الأدلّة بالاجتهاد.

ولكن يبقى الإشكال في وجه تخصيص هذا الحكم عند القائلين به مطلقا أو في الجملة بالوقائع المتجدّدة وعدم الالتزام به في الواقعة الاولى على ما يستفاد من كلام جماعة ، وعليه مبنى جوابهم بطريق النقض عن استدلال القائل بوجوب التجديد مطلقا

ص: 347

باحتمال تغيّر الاجتهاد بعد تجديد النظر فنقض بقيام هذا الاحتمال قبل إفتائه في الواقعة الاولى أيضا ، فلو صحّ ما ذكر لزم تكرار النظر بالنسبة إليها أيضا وهو باطل كما في كلام بعض الأفاضل (1) وعن العضدي أيضا حكاه السيّد في مفاتيحه.

ثمّ قال : « وقد أشار إلى هذا الجواب في النهاية وشرح الجواد على الزبدة » بل الفاضل المتقدّم استظهر من ملاحظة كلماتهم الاتّفاق على بطلان اللازم بعد ما نسب التنصيص عليه إلى العضدي ، وعبارته - على ما حكاها السيّد في المفاتيح عند نقله الجواب عن الاستدلال المذكور عنه - : « أنّه لو كان السبب في وجوب تكراره احتمال تغيّر الاجتهاد لوجب أبدا ، لأنّ التغيّر يحتمل أبدا ولم يتقيّد بوقت تكرار الواقعة وذلك باطل بالاتّفاق » انتهى.

وكيف كان فالأقوى بل الحقّ الّذي لا محيص عنه هو عدم وجوب تجديد النظر مطلقا.

أدلّة القول بعدم وجوب تجديد النظر

لنا : أنّ وجوب التجديد إن اريد به الوجوب التكليفي النفسي الّذي يعاقب على مخالفته من حيث هو مخالفته فالأصل براءة الذمّة عنه وعن العقاب المحتمل ترتّبه على تركه ، لعدم قيام دليل عليه من عقل أو نقل ، وما اعتمد عليه الخصم - إن صحّحناه - لا يفيد ذلك كما عرفت.

وإن اريد به الوجوب التكليفي الغيري على معنى مطلوبيّة تجديد النظر حتما على أنّه مقدّمة لتحصيل ما يوجب العمل به وتطبيق الحركات والسكنات الخارجيّة عليه للخروج عن عهدة الأحكام الواقعيّة المعلومة بالإجمال إمّا لاتّفاق امتثالها أو لحصول المسقط لها ، بناء على أنّ موافقة الحكم الظاهري إمّا امتثال للحكم الواقعي في صورة المطابقة أو مسقطة له عن الذمّة على تقدير عدم المطابقة لمن لم ينكشف عنده ذلك.

ففيه : منع مقدميّة تجديد النظر وتكرير الاجتهاد لتحصيل الحكم الظاهري ، بل المسلّم ممّا ثبت كونه مقدّمة بالعقل بل الإجماع إنّما هو الاجتهاد الأوّل وإلاّ لم يكن الحكم الثابت به حكما ظاهريّا والتالي باطل ، ولذا كان العمل عليه والإفتاء به جائزا.

ودعوى اختصاصه بالواقعة الاولى وعدم تناوله للوقائع المتجدّدة.

يدفعها : أنّ مدرك المسألة من الدليل أو الأصل إنّما أفاد أصل الحكم لكلّي موضوعها ، الّذي يتساوى نسبته إلى جزئيّاته الّتي هي الوقائع من دون اختصاص له بواقعة دون اخرى ، لا بطريق التخصيص ولا بطريق التخصّص.

والمفروض أنّ دليل حجّية ذلك الدليل أو اعتبار هذا الأصل من العقل والنقل بل

ص: 348


1- هداية المسترشدين 3 : 701.

الإجماع أيضا إنّما أفاد كون مؤدّاهما حكما ظاهريّا يجب بناء العمل عليه والإفتاء به على الوجه الكلّي من دون نظر فيه إلى واقعة دون اخرى.

والمفروض أيضا أنّه لم يطرأه من الامور الوجوديّة ولا العدميّة ما يوجب زوال وصف الظاهريّة عنه ، حتّى أنّه لو فرض طروّ نسيان الدليل أو زيادة قوّة الاستنباط لم يكن له تأثير في زوال الوصف ، لأنّ المعتبر في الحكم الظاهري وجود الدليل وعلمه باستناد ثبوته إليه باجتهاده لا تذكّره والعلم به بعينه عند كلّ واقعة ، وزيادة القوّة محتملة للتأكيد والتأسيس فلا تنهض رافعة للوصف ولو بحكم الاستصحاب ، كيف وهي في حقّ المشتغل الغير التارك تتزايد يوما فيوما وتتكامل حينا بعد حين ، فلو كانت له مدخليّة في الوصف وجودا وعدما لوجب التجديد وتكرير الاجتهاد مدّة العمر.

وهذا مع أنّه ممّا لم يقل به أحد يستلزم من العسر والحرج ما لا يتحمّل عادة.

وإن اريد به الوجوب الوضعي الّذي يعبّر عنه بالوجوب الشرطي بالمعنى المتقدّم.

ففيه : أنّ الشرطيّة ممّا لا دليل عليه والأصل عدمها ، مع أنّ شرطيّة تكرير الاجتهاد ليس له معنى محصّل إلاّ كون المجموع من الاجتهاد الأوّل والاجتهاد الثاني علّة مركّبة للحكم الظاهري الّذي يجوز العمل والإفتاء به ، وهذا خلاف مقتضى مدرك المسألة من دليل أو أصل ، وخلاف مقتضى دليل حجّية ذلك المدرك أو اعتباره ، فليتدبّر.

حجّة القول المختار عدا ما بيّنّاه على ما عثرنا عليه محصّلا ومحكيّا امور :

أحدها : استصحاب الحكم السابق الثابت بالاجتهاد الأوّل ، فإنّه يقتضي جواز العمل والإفتاء به عند كلّ واقعة.

وهذا بظاهره حسن إلاّ أنّه قد يناقش فيه : بأنّ الاستصحاب إنّما يكون حجّة عند عدم قيام دليل شرعي على خلافه ولو ظاهر عموم أو إطلاق.

ولا ريب أنّ قضيّة العمومات والإطلاقات المانعة من العمل بالظنّ هو عدم جواز الأخذ به في شيء من الأحوال والأزمان ، خرج من ذلك ظنّ المجتهد المطلق حال الابتلاء بالواقعة الاولى عقيب الاجتهاد بالإجماع ، وأمّا ظنّه حال الابتلاء بالوقائع المتجدّدة فممّا لا إجماع على خروجه ، فقضيّة أصالة العموم أو الإطلاق بالقياس إليه هو المنع من الأخذ به ، وهذا كما ترى أصل لفظي لا مجرى معه للاستصحاب.

وإن شئت قلت : إنّ مرجع ذلك إلى التمسّك بالعموم الأحوالي المنساق من الأدلّة

ص: 349

المانعة بالقياس إلى كلّ ظنّ ، والقدر المتيقّن ممّا خرج منه بالتخصيص إنّما هو ظنّ المجتهد في حالة مخصوصة وهي حالة الابتلاء بالواقعة الاولى ، وأمّا هو في غير تلك الحالة فهو باق تحت العموم المذكور ولو بحكم الأصل.

ويمكن الذبّ عنها : بأنّ هذا إنّما يستقيم إذا لم يطرأ العامّ ما يقتضي إجماله.

ولا ريب أنّ المخرج بالدليل - من إجماع ونحوه - من أدلّة المنع إنّما هو ظنّ المجتهد حال الابتلاء بالواقعة الاولى عقيب الاجتهاد الأوّل ، وظنّه أيضا حال الابتلاء بالوقائع المتجدّدة عقيب الاجتهاد الآخر ، وأمّا ظنّه حال الابتلاء بالوقائع المتجدّدة من دون اجتهاد فلا يعلم دخوله في حكم المخصّص أو في حكم العامّ لإجمال المخصّص الّذي هو على ما حقّق في محلّه يسري إلى العامّ ، إلاّ أنّه يحكم فيه أيضا بالجواز استصحابا للحالة السابقة.

وفيه أوّلا : أنّه لا إجمال في المخصّص هنا إذ لا إجماع بالقياس إلى الحالة المذكورة ، لا أنّه انعقد الإجماع على خروج ظنّ المجتهد مع إجمال في معقده بالقياس إلى الأحوال المذكورة.

وثانيا : أنّه ليس من الإجمال الّذي يسري إلى العامّ على تقدير تسليمه في معقد الإجماع ، كما في قوله : « أكرم العلماء إلاّ بعض اليهود » أو « لا تكرم الاشتقاقيّين » مع كون الإجمال في أنّ المخرج من العلماء هل هو علماء الصرف أو أصحاب التكسير ، بل هو نظير الإجمال في قوله : « لا يتيمّم بشيء إلاّ بالصعيد » حيث يؤخذ فيه بالقدر المتيقّن ممّا اريد من « الصعيد » وهو التراب ويرجع في غيره من أجزاء وجه الأرض إلى حكم العامّ لأصالة العموم وأصالة عدم التخصيص ، ففيما نحن فيه أيضا يؤخذ بالقدر المتيقّن من معقد الإجماع ويرجع في الباقي إلى عمومات المنع وإطلاقاته.

وثانيها : أنّ الواجب على المجتهد تحصيل الحكم بالاجتهاد وقد حصل ، فوجوب الاستيناف عليه بعد ذلك يحتاج إلى دليل وليس بظاهر ، بناء على أنّ الأمر لا يقتضي التكرار والأصل عدم الاطّلاع في الاجتهاد الثاني على ما لم يطّلع عليه في الاجتهاد الأوّل.

ويمكن المناقشة فيه أيضا : بأنّ تجويز العمل بالحكم أو الإفتاء به عند تجدّد الواقعة من غير تجديد النظر بعد تحكيم عمومات المنع من العمل بالظنّ يحتاج إلى دليل ، لا أنّ وجوب تجديد النظر يحتاج إلى دليل.

وثالثها : أنّ وجوب تجديد النظر يؤدّي إلى العسر العظيم والحرج الشديد فيكون منفيّا

ص: 350

في الشريعة ، ولعلّه نظرا إلى أنّ أصل الاجتهاد صعب شاقّ ومستوعب لمعظم العمر والمسائل غير محصورة فتكريره خصوصا مرارا عند تجدّد كلّ واقعة خصوصا فيما يعمّ به البلوى يوجب من العسر ما لا يتحمّل عادة إن لم نقل بكونه من التكليف بما فوق الطاقة.

وربّما نوقش فيه أيضا : بأنّه إنّما ينفي القول بوجوب تجديد النظر مطلقا ولا ينفي القول بالتفصيل.

ورابعها : قيام السيرة المستمرّة بعدم تكرير الاجتهاد وتجديد النظر ، ولذا لو سئل مجتهد عن المسألة الّتي اجتهد فيها مرارا لم يتوقّف عن الإفتاء في غير المرّة الاولى بل يفتي أخيرا بما ذهب إليه أوّلا من غير تأمّل ولا نكير.

ونوقش فيه : بأنّ السيرة مطلقا حتّى مع نسيان دليل المسألة أو ازدياد القوّة غير ظاهرة.

أدلّة القول بوجوب تجديد النظر مطلقا

حجّة القول بوجوب تجديد النظر مطلقا

أمران على ما أشرنا إليه.

أحدهما : أنّه يحتمل أن يتغيّر اجتهاده بعد تجديد نظره كما يتّفق كثيرا في المسائل الظنّية ، ومع هذا الاحتمال لا بقاء للظنّ فلا بدّ من الاجتهاد ثانيا لدفع هذا الاحتمال.

وثانيهما : عمومات المنع من العمل بالظنّ خرج منها الظنّ عقيب الاجتهاد الثاني وبقي غيره تحت العموم.

واجيب عن الأوّل : بما مرّ من النقض بالعمل والإفتاء في الواقعة الاولى لقيام الاحتمال المذكور قبله.

والأولى في الجواب منع كون احتمال تغيّر الاجتهاد مصادما للظنّ بحيث يزيله ويقلبه شكّا وتردّدا ، كيف وهو من فروع احتمال الخلاف في الاجتهاد الأوّل ولوازمه ، ولو فرض في بعض الأحيان أنّه صادمه بحيث صار المجتهد معه متردّدا فلا كلام ولكنّه خارج عن المسألة ، كما أنّ نسيان أصل حكم المسألة خارج عنها ويكون المجتهد معهما كمن لم يجتهد بعد فيجب عليه الاجتهاد ثانيا.

والجواب عن الثاني : أنّ ظنّ المجتهد بعد ما خرج من عمومات المنع - بشهادة جواز العمل والإفتاء عقيبه في الواقعة الاولى اتّفاقا - فما الّذي أوجب عوده إلى المنع ثانيا ودخوله مرّة اخرى حتّى يحتاج إلى مخرج آخر؟ إلاّ أن يقال : إنّه إنّما يتّجه إذا أفاد المخرج لظنّ المجتهد من عمومات المنع خروجه منها بجميع أحواله وهذا موضع منع ، بل القدر المعلوم من الإجماع إنّما هو خروجه في حالة مخصوصة دون الأحوال الاخر ، كما تقدّم الإشارة

ص: 351

إليه عند المناقشة في الاستصحاب.

ولكن يمكن الذبّ عنه : بأنّ هذا إنّما يتوجّه أن لو كان المخرج لظنّ المجتهد المخصّص للعمومات منحصرا في الإجماع وليس كذلك ، بل العمدة من مخرجه إنّما هو العقل بملاحظة مقدّمات دليل الانسداد ، فإنّه بملاحظة تعذّر العلم تفصيلا وسقوط اعتبار العلم إجمالا يلزم المكلّف - مجتهدا ومقلّدا - بالأخذ بما هو أقرب إلى العلم وإلى إصابة الواقع ، وليس إلاّ الظنّ الناشئ من الأدلّة الاجتهاديّة المتعارفة.

ولا ريب أنّ العقل في إلزامه بذلك وحكمه بكون ما ظنّه المجتهد حكما فعليّا لا نظر له إلى خصوصيّات الوقائع بل يحكم به على الوجه الكلّي ، والمفروض أنّ مدرك المسألة من دليل أو أصل إنّما أفاد مؤدّاه لموضوع المسألة على الوجه الكلّي المتساوي نسبته إلى جزئيّاته ، ودليل حجّية ذلك المدرك أو اعتباره أفاد الحجّية والاعتبار على الوجه الكلّي.

واللازم من ذلك كلّه خروج ظنّ المجتهد من أدلّة المنع بجميع أحواله.

ولو سلّم كون حكم العقل على وجه القضيّة المهملة بالقياس إلى أحوال ظنّ أو أزمان العمل عليه والإفتاء به ، فيكفي في جعله من باب المحصورة الكلّيّة قاعدة نفي العسر والحرج.

أدلّة القول بوجوب التجديد عند نسيان دليل المسألة

حجّة القول بوجوب التجديد عند نسيان دليل المسألة أمران :

أحدهما : العمومات المانعة من الأخذ بالظنّ ، خرج منها صورة تذكّر الدليل لما دلّ على حجّية ذلك الدليل ووجوب الأخذ بمقتضاه ويبقى الباقي تحتها.

وثانيهما : أنّ من لم يذكر دليل المسألة لم يكن حكمه فيها مستندا إلى الدليل فيكون محظورا لوضوح حرمة الحكم من غير دليل.

وفيهما معا : أنّ قضيّة دليل حجّية الأدلّة الاجتهاديّة اعتبار وجود دليل في كلّ مسألة واستناد ظنّ المجتهد وحكمه إلى ذلك الدليل الموجود باجتهاده في الواقع تذكّره أو لا ، من غير فرق بين ما لو قلنا بحجّية ذلك الدليل على وجه الطريقيّة أو الموضوعيّة.

ولا ريب في خروج الحكم المفروض على التقدير المذكور من عنوان الحكم من غير دليل ، لعدم مدخليّة تذكّر الدليل في نظر العقل والعرف في صدق قضيّة استناد الحكم في المسألة إلى الدليل كما هو واضح.

أدلّة القول بوجوب التجديد مع ازدياد قوّة الاستنباط

حجّة القول بوجوب التجديد مع ازدياد قوّة الاستنباط أمران :

أحدهما : أنّ ازدياد القوّة بسبب كثرة الممارسة يوجب قوّة احتمال اطّلاعه على ما لم

ص: 352

يطّلع عليه في الاجتهاد الأوّل فلا يبقى له ظنّ بصحّة ما حكم به أوّلا.

وثانيهما : أنّ ظنّ صاحب القوّة القويّة أقرب إلى إصابة الواقع من غيره ، ولذا يقدّم الأفضل على المفضول في التقليد ، فيكون المتّبع ظنّه الحاصل من الاجتهاد الثاني فلا بدّ لتحصيله من ذلك الاجتهاد.

وقد يجاب عن الأوّل : بدفع احتمال الاطّلاع بأصالة عدمه.

والأولى أن يجاب : بمنع مصادمة الاحتمال المذكور بالظنّ السابق ، مع أنّه عبارة اخرى لاحتمال وجود المعارض الّذي لا مدخل في قيامه لازدياد القوّة ، مع عدم مصادمته للظنّ الحاصل بالاجتهاد ، وإن صحّ الفرض في بعض الأحيان فلا كلام.

والجواب عن الثاني : بأنّ وجوب الأخذ بالظنّ الأقرب إنّما يسلّم في الظنّ الفعلي المخالف لغيره ، وحصول ظنّ مخالف للظنّ الأوّل بالاجتهاد الثاني غير معلوم ، ومجرّد احتماله لا يؤثّر في وجوب اجتهاد آخر بعد سقوط التكليف به بالاجتهاد الأوّل ، وبالتأمّل في ذلك يظهر بطلان المقايسة على تقديم الأفضل في التقليد ، فإنّه إنّما يسلّم في موضع العلم بمخالفة المفضول للأفضل في الرأي لا مطلقا.

تنبيهات وجوب تجديد النظر وعدمه

وينبغي التنبيه على امور :

أحدها : أنّ الاجتهاد في الموضوعات حيثما كان مشروعا كالاجتهاد في الأحكام في عدم وجوب التكرير فيه عند تجدّد الواقعة ، كما إذا اجتهد في طلب القبلة لصلاة فحضرت اخرى ، أو في طلب الماء للتيمّم مرّة لصلاة أيضا فحضرت اخرى أو غير ذلك ، للأصل واستصحاب الآثار المترتّب على الموضوع المحرز بالاجتهاد الأوّل إلاّ أن يقوم عليه دليل في خصوص مورد ، والنظر في وجوده والعدم في خصوص الموارد من وظيفة الفقيه ، والظاهر عدم ابتناء وجوبه فيها على القول بوجوب تجديد النظر في الأحكام - وإن كان قد يحكى القول بوجوبه هنا على القول بوجوبه ثمّة ، وعدم وجوبه هنا على القول بعدم وجوبه ثمّة - لوضوح منع الملازمة كما نصّ عليه بعض الأفاضل (1).

ثانيها : لا ينبغي التأمّل في جواز تجديد النظر وتكرير الاجتهاد في المسائل المجتهد فيها ولو مرارا على القول المختار - من عدم وجوبه - للأصل وعدم دليل على المنع بل الظاهر أنّه موضع وفاق ، بل عن النهاية وشرح الزبدة للفاضل الجواد دعوى الإجماع عليه.

ص: 353


1- هداية المسترشدين 3 : 705.

نعم لو وجب الاجتهاد في باقي المسائل الغير المجتهد فيها لم يجز التكرار في المسائل المجتهد فيها إلاّ بعد الفراغ من الاجتهاد في باقي المسائل ، ولو كان هناك مسائل لم يجتهد فيها مع عدم قيام المقتضي لوجوبه

فيها فعلا من جهة عدم تحقّق الابتلاء بها بالفعل فالظاهر جواز الأمرين من تكرير الاجتهاد فيما اجتهد فيه وابتداء الاجتهاد فيما لم يجتهد فيه.

ولا يبعد القول بكون الثاني أرجح توطئة وتمهيدا لرفع الحاجة المحتمل طروّها فيما بعد ، لاحتمال حصول الابتلاء بها لأحد من المكلّفين.

وفي المفاتيح أيضا احتمال ترجيحه ، نظرا إلى إطلاق كلامهم في الحكم بوجوب الاجتهاد في باقي المسائل.

ثالثها : إذا جدّد النظر واجتهد ثانيا فإن وافق اجتهاده الأوّل فلا كلام ، وإن أدّى اجتهاده هذا إلى خلاف ما أفتى به أوّلا وجب عليه الرجوع إلى مقتضى اجتهاده الثاني والأخذ به بلا خلاف ، ويجب على مقلّده أيضا إذا عرف منه الرجوع العدول عن تقليده في فتواه الاولى بلا خلاف أيضا ، بل عن شرح المبادئ الإجماع على الحكم في المقامين.

ثمّ إنّ المقلّد على الخيار بين العدول إلى مجتهد آخر موافق لذلك المجتهد في فتواه الاولى - ومرجعه إلى البقاء على الالتزام بتلك الفتوى لكن بتقليد آخر - والعدول إلى مجتهد آخر أيضا موافق لهذا المجتهد في فتواه الثانية المرجوع إليها ، والعدول إلى الفتوى الثاني لذلك المجتهد.

وبالجملة المقلّد مخيّر بين ثلاث خصال ، ولم يتعيّن عليه العدول إلى الفتوى الثانية الّذي مرجعه إلى البقاء على تقليد ذلك المجتهد في فتواه الثانية ، ولعلّه على ما بيّنّاه من التخيير بين الصور الثلاث ينطبق ما عن شرح المبادئ المدّعى عليه الإجماع المتقدّم إليه الإشارة ، قائلا : « إذا اجتهد في مسألة فأدّاه اجتهاده إلى حكم ثمّ اجتهد ثانيا في تلك المسألة فأدّاه اجتهاده إلى غير ذلك الحكم فإنّه يجب عليه الرجوع إلى ما أدّاه اجتهاده ثانيا إليه إجماعا ، ويجب على المستفتي العمل بما أدّاه إليه اجتهاده ثانيا أو الرجوع عن الأوّل إجماعا ».

وفي بعض النسخ : « والرجوع عن الأوّل » وعليه فظاهر عبارته لا يخلو عن مناقشة ، حيث أفاد تعيّن الأخذ عليه بفتواه الثانية كما فهمه بعض الأفاضل ، ولكنّ الخطب فيه سهل بعد وضوح الحكم وظهور حقيقة المراد من العبارة وإن قصر ظاهرها عن إفادته.

ص: 354

ثمّ الظاهر بالنظر إلى إطلاق ما تقدّم من الإجماع المنقول عدم الفرق في وجوب عدول المقلّد إلى الفتوى الثانية بين ما لو كان رجوع المجتهد إليها على سبيل القطع أو على سبيل الظنّ ، بل ينبغي القطع بذلك لبطلان الفتوى الاولى وخروجها عن كونها حكما فعليّا بالرجوع فلا يجوز البقاء عليها مطلقا ، خلافا لكاشف الغطاء فجعل العدول في الثاني أقوى مؤذنا بأنّ فيه وجها لعدم العدول ، قائلا - على ما حكي - : « وإن علم عدوله عن حكم مخصوص بطريق علمي عدل عمّا كان عليه أوّلا إلى ما صار إليه أخيرا ، وإن كان ظنّيا كان الأقوى ذلك أيضا » انتهى.

وفي كلام بعض الأفاضل - بعد المناقشة فيه بنحو ما ذكرناه - : « فالوجه المقابل للأقوى ضعيف جدّا ».

وهل يجب على المفتي بعد رجوعه إعلام من قلّده برجوعه إذا كان غافلا أو غير عالم به؟ وجهان بل قولان عزى أوّلهما إلى ظاهر العلاّمة في غير واحد من كتبه.

وثانيهما إلى ظاهر المحقّق والعميدي ، حيث إنّ الأوّل جعل التعريف أولى والثاني جعله أليق.

والمنقول من حجّة القول الأوّل وجهان :

أحدهما : أنّ المقلّد إنّما عمل في المسألة بقول المفتي والمفروض رجوعه عنه فلو استمرّ لبقي عاملا من غير دليل ولا فتوى مفت.

وفيه - بعد ملاحظة استناد عمل المقلّد في ابتدائه إلى فتوى المفتي ، وفي الاستمرار عليه إلى الاستصحاب وأصالة عدم الرجوع كما هو الحال فيما لو شكّ المقلّد في رجوع المفتي - منع واضح مع فرض كون نحو هذا الاستصحاب حجّة في حقّه.

وثانيهما : ما روي عن ابن مسعود أنّه كان يقول باشتراط الدخول في تحريم امّ الزوجة فلقى أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وذاكرهم فكرهوا ، فرجع ابن مسعود إلى من أفتاه بذلك ، قال : سألت أصحابي فكرهوا.

وفيه أوّلا : منع أصل الحكاية لبلوغها بواسطة نقل الآحاد.

وثانيا : منع حجّية فعل ابن مسعود.

وثالثا : منع دلالته على الوجوب ، لجواز ابتنائه على ضرب من الاستحباب أو مطلق الرجحان.

ص: 355

تعليقة : في التقليد

اشارة

أصل

والتقليد *

__________________

ورابعا : جواز كون فتواه أوّلا من باب الإفتاء من غير علم ، كما يشعر به قوله : « سألت أصحابي فكرهوا ».

ولا ريب في وجود الردع في مثل ذلك لقبح الإضلال والإغراء بالجهل.

وقد يستدلّ أيضا بقوله تعالى : ( وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ ) وقوله : و ( الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى ) وقوله : ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ).

وبأنّ في ترك إعلام المقلّد إغراء بالجهل.

وفي الكلّ منع واضح بعد ملاحظة اعتماد المقلّد على طريقة الاستصحاب ، أمّا الأخير فواضح ، وأمّا الآيات فلاختصاصها بمن ليس له طريق شرعي أصلا أو انصرافها إليه ، وعليه فالأصل السليم عن معارضة الدليل عدم وجوب الإعلام.

ويؤيّده لزوم الضيق والحرج في بعض الأحيان من وجوب الإعلام سيّما مع تشتّت المقلّدين وانتشارهم في البلدان ، وما ادّعي من ظاهر السيرة المستمرّة الجارية بين العلماء لشيوع تجدّد الآراء وعدم معهوديّة تعرّضهم الإعلام على وجه الالتزام ، مع أنّه قد يوجب ارتفاع وثوق العامّة عن الخاصّة ويبعث على فتح باب الكلام من أهل الجهالة والعناد على الشريعة المبتنية على طريقة الاجتهاد.

فالأقوى حينئذ عدم الوجوب ، وإن كان الإعلام حيث يمكن أحوط وأقرب إلى طريق النجاة.

ومن الفضلاء من قال : « ولو قيل بالفرق بين ما لو قطع بالبطلان فيجب الإعلام بقدر الإمكان وبين ما إذا لم يقطع به فلا يجب كان قريبا » انتهى.

وسنورد بعض الكلام في ذلك أيضا في مباحث شرائط التقليد المعتبرة فيه من حيث المسألة المقلّد فيها.

* كون التقليد في الأصل تفعيلا من القلادة يعطي كونه لغة لخصوص جعل القلادة في العنق ، يقال : قلّدته قلادة أي جعلتها في عنقه ، لكنّ الاستعمالات الدائرة في العرف والواردة في كتب اللغة ترشد إلى كونه لجعل مطلق الشيء في العنق والرقبة ، ومنه : تقليد الهدي ، وقلّدته السيف ، وقلّدته الدعاء أو الزيارة ، وقلّده القضاء - كما في كلام الفقهاء - لو قلّد المفضول القضاء.

ص: 356

وما في حديث الخلافة : « فقلّدها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عليّا عليه السلام » أي جعلها في رقبته ، وكأنّه بحسب الاستعمال استعارة فيه باعتبار المادّة ، لكون ما يجعل في العنق والرقبة لازما له ، كلزوم القلادة له ، كما ربّما يومئ إليه كلام الفيّومي في المصباح المنير قال : « وتقليد العامل توليته كأنّه جعل قلادة في عنقه » ولعلّه إنّما يسمّى المعنى العرفي الّذي ستعرفه تقليدا لأنّ المقلّد بالتزامه لفتوى المجتهد في كلّ مسألة يجعلها كالقلادة في عنقه ، أو لأنّه لتعويله في امتثال أحكام اللّه تعالى على قول المجتهد بجعلها كالقلادة في عنق ذلك المجتهد ، فلو قلت : قلّدت المجتهد مريدا به المعنى اللغوي أمكن كون تقديره : جعلت فتاويه قلادة على عنقي ، أو جعلت أحكامي قلادة على عنقه.

ثمّ الظاهر أنّ تعديته إلى مفعولين - كما ظهر في الأمثلة المذكورة - ليست لمجرّد التضعيف ونقل مجرّده إلى باب التفعيل كما قد يتوهّم ، لعدم كون مجرّده من المعاني الحدثيّة فضلا عن تعدّيه بنفسه إلى مفعول واحد ، بل لضرب من التضمين على حدّ الأفعال الغير المتعدّية بأنفسها إلى مفعولين الّتي يضمّن في مفاهيمها معنى ما يتعدّى من الأفعال إليهما كالجعل والإعطاء وما يقرب منهما ، وقد يجعل من هذا الباب البيع والإجارة والهبة والرهن وغيره حيث تقع متعدّية إلى مفعولين مع عدم اقتضاء شيء منها بحسب وضعه ومفهومه اللغوي التعدّي إليهما ، وليس هذا إلاّ من جهة تضمين معنى الإعطاء في مفاهيمها.

فحاصل معنى « بعتك داري أو آجرتك إيّاها أو وهبتها أو رهنتك إيّاها » : أعطيتك داري على وجه البيعيّة أو الإجارة أو على جهة الهبة أو الرهن ، فمفاهيم هذه الأفعال بأنفسها وجوه وجهات للإعطاء ، فإنّ إعطاء شيء شيئا له وجوه وجهات فقد يتحقّق على وجه البيعيّة ، وقد يحصل على جهة الإجارة ، وقد يتأتّى بعنوان الهبة وهكذا.

ولو قلت : « أعطيته جبّة » كان مدلوله الإعطاء المطلق من دون تنبيه على وجهه وعنوانه.

ولعلّ من جملة وجوهه كون المعطى الّذي هو المفعول الثاني قلادة على عنق المعطى له الّذي هو المفعول الأوّل ، ويعبّر عنه بهذا الوجه والعنوان بالتقليد. فمعنى « قلّده القضاء » أعطاه القضاء على وجه يكون قلادة في عنقه لازما على رقبته ، وكذا معنى قوله عليه السلام : « قلّد الخلافة عليّا » ، وحيث إنّ الإعطاء يرد في الاستعمالات تارة بحذف مفعوله الأوّل واخرى بحذف مفعوله الثاني وثالثة بذكر مفعوليه فكذا ما تضمّنه ، « فقلّده القضاء » من باب ذكر المفعولين « وقلّدت البعير » من باب حذف المفعول الثاني ، و « قلّدت السيف » من باب حذف

ص: 357

هو العمل بقول الغير من غير حجّة *

__________________

المفعول الأوّل ، و « قلّدت المجتهد » من محتمل الوجهين ، لكنّ الأظهر كون التقليد ما ضمن في مفهومه معنى الجعل ، فليتدبّر.

معنى التقليد لغة وعرفا

* هذا هو معناه العرفي الفقهائي بل المتشرّعي ، وأخذ العمل في تعريفه كما صنعه جماعة.

وفي تعريف غير واحد التعبير ب- « الأخذ » مكان العمل.

وفي كلام آخرين التعبير بالقبول ، وهو الأمر النفساني والعقد القلبي الّذي يعبّر عنه بالالتزام بالشيء.

والظاهر أنّ هذا مجرّد تغيير في العبارة واختلاف في التعبير فالمعنى العرفي واحد عنه الجميع لا أنّه اختلاف في المعنى لتكون المسألة خلافيّة ، بدليل أنّهم في شرح هذه التعريفات يعبّرون بكلّ من هذه الألفاظ مكان الآخر ، بل في شرح ما أخذ فيه « العمل » يعبّر عنه تارة بالأخذ كما في كلام المصنّف وغيره ، واخرى بالقبول كما في محكيّ الإحكام والنهاية ، فيراد من الأخذ والعمل ما يرجع إلى القبول وهو الالتزام بفتوى الفقيه لحقه العمل - بمعنى الحركات والسكنات اللتين هما من الأكوان الأربع - أو لا.

فحمل « العمل » في تعريف من عبّر به على هذا المعنى ثمّ إرجاع القبول إليه ليكون المعنى المراد منه الالتزام المستتبع للعمل بعيد.

وأبعد منه جعل المسألة خلافيّة حيث لم ينبّه أحد على الخلاف فيها.

ويظهر ثمرة الوفاق والخلاف هنا فيما لو أخذ التقليد في معاقد الإجماعات المنقولة في أبواب التقليد ، كما لو نقل العلاّمة مثلا الإجماع على عدم جواز العدول عن تقليد المجتهد ، أو على عدم جواز تقليد الميّت ، أو على عدم جواز تقليد المفضول أو نحو ذلك.

فعلى تقدير الخلاف فلا بدّ في معرفة معقد الإجماع من استعلام مذهب ناقله ليجري الأحكام المستفادة منه عليه بحسب مذهبه ، وعلى تقدير عدمه كان الإجماع منقولا على المعنى الواحد المتّفق عليه فيجري الأحكام المستفادة منه على المعنى الواحد.

وتحقيق المقام : أنّ المكلّف الّذي وظيفته التقليد له في لحاظ التقليد حالات أربع مترتّبة ، وهي السؤال المعبّر عنه بالاستفتاء ، وغلمه بفتوى المفتي ، والتزامه بما علمه ، وتطبيق الحركات والسكنات الخارجيّة على ما التزم به.

ولا ينبغي التأمّل في عدم انعقاد التقليد بالأوّل ولا بالثاني ، وهل ينعقد بالثالث أو لابدّ

ص: 358

من الرابع؟ وجهان بل قولان أظهرهما الأوّل ، لا بمعنى أنّ العمل بالمعنى المذكور غير واجب على المكلّف حيث وجب عليه التقليد ، كيف وهو المقصود بالأصالة من إيجاب التقليد ، بل بمعنى عدم كونه مأخوذا في مفهومه ومعناه العرفي ، لأنّه المعنى المنساق منه في الاستعمالات المبحوث عنه في أكثر المباحث الآتية المأخوذ في معاقد الإجماعات المنقولة على مشروعيّة التقليد وحسنه ، الّتي منها محكيّ السيّد في الذريعة قائلا : « والّذي يدلّ على حسن تقليد العامي أنّه لا خلاف بين الامّة قديما وحديثا في وجوب رجوع العامي إلى المفتي ، وأنّه يلزمه قبول قوله لأنّه غير متمكّن من العلم بأحكام الحوادث ، ومن خالف في ذلك كان خارقا للإجماع ، وليس يمكن للمخالف في ذلك رفع الإجماع على الرجوع إلى الفتوى ، ويأوّل هذا الرجوع بما هو بعيد فيقول : هو رجوع للتنبيه على النظر والاستدلال.

وهذا التأويل غير معلوم بل المعلوم ضرورة خلافه ، وأنّ العامي لا يستفتي على وجه طلب التنبيه على النظر بل ليلتزم » إلى آخر كلامه رفع مقامه (1).

مع أنّ المناسب للمعنى اللغوي المتقدّم والاستعمالات العرفيّة المتقدّمة هو الالتزام لا العمل بالمعنى المذكور ، مع مقابلة التقليد للاجتهاد وكونهما طريقين إلى العمل وامتثال أحكام اللّه تعالى فالاجتهاد للمتمكّنين منه والتقليد لغيرهم يعطي كونهما في غير جهة المقابلة على نمط واحد ، وكما أنّ الاجتهاد لم يؤخذ في مفهومه العمل بل هو مقدّمة له ووجوبه مقدّمي فكذلك التقليد ، فالعمل واجب أصلي يتوصّل إليه بأحد الأمرين من الاجتهاد والتقليد.

هذا مع أنّه ليس للقول باعتبار العمل فيه إلاّ أنّهم ذكروا للتقليد شروطا ترجع إليه بمعنى العمل كاجتهاد المقلّد بالفتح وإسلامه وعدالته ، أو إجماعهم قائم على أنّه لو أخذ من الكافر أو الفاسق ثمّ أسلم أو عدل جاز العمل ، فلو أنّها كانت شروطا له بمعنى مجرّد الأخذ والقبول لم يكن جائزا إلاّ بعد الإسلام والعدالة ، وأيضا لو أخذ من مجتهد ثمّ عدل المجتهد عن الفتوى أو حصل له التردّد في المسألة أو زالت ملكته لكان ذلك الأخذ كافيا في انعقاد التقليد مع أنّه يمكن دعوى إجماعهم على بطلانه.

وفيه : أنّ جواز الأخذ والقبول من فاقد الشروط والالتزام بما قاله ما دام فاقدا أوّل المسألة.

ودعوى إجماعهم على ذلك غير مسموعة ، وجواز العمل بعد وجدانها إنّما هو لحصول مقدّمته ولو على وجه غير مشروع ، فإنّ بناء ما ذكرناه على كون التقليد مقدّمة للعمل لا أنّه نفس العمل.

ص: 359


1- الذريعة إلى اصول الشريعة 2 : 796.

كأخذ العاميّ والمجتهد بقول مثله *.

__________________

ودعوى كفاية الأخذ عن المجتهد قبل عدوله أو تردّده أو زوال ملكته في انعقاد التقليد ممّا لا ينبغي الإصغاء إليها.

غاية الأمر أنّه بعد طروّ هذه الحالات يصير تقليدا فاسدا لا يترتّب عليه أثر جواز العمل كالأخذ من غير المجتهد ، وأخذ المجتهد ممّن هو مثله فيجب العدول عنه ويحرم البقاء على الالتزام بما أخذه.

ولبعض الفضلاء في الاستدلال على نفي اعتبار العمل في انعقاد التقليد كلام يعجبني نقله حيث قال : « واعلم أنّه لا يعتبر في ثبوت التقليد وقوع العمل بمقتضاه ، لأنّ العمل مسبوق بالعلم فلا يكون سابقا عليه ، ولئلاّ يلزم الدور في العبادات من حيث إنّ وقوعها يتوقّف على قصد القربة وهو يتوقّف على العلم بكونها عبادة ، فلو توقّف العلم بكونها عبادة على وقوعها كان دورا ».

وفيه : أنّ مبنى القول باعتبار العمل في ثبوت التقليد على جعله مقوّما لماهيّته لا شرطا خارجا عن الماهيّة ، وفي كلامه قدس سره حزازة اخرى حيث يفهم منه كون التقليد بحسب الاصطلاح عبارة عن العلم لا الالتزام بالفتوى وهو غير صحيح ، وكما لا يعتبر العمل في تحقّق التقليد فكذا لا مدخليّة له في لزوم حكمه حتّى على القول بجواز العدول عن التقليد ، إذ دليل هذا القول إن تمّ قاض بالجواز مع العمل وبدونه خلافا للفاضل المتقدّم ذكره فاعتبره في لزوم حكمه على القول المذكور ووجهه غير واضح.

* ذكر ذلك تبعا لجماعة كالعضدي والآمدي والعلاّمة ، ومبناه على توهّم عود الضمير المجرور في الظرف المقدّر - أعني عليه - إلى جنس التعريف وهو العمل أو مرادفاه لا إلى « القول » كما هو الأظهر ، مع كون الظرف المذكور باعتبار العامل المقدّر حالا من الجنس على التقديرين ، فتقدير التعريف على ما فهموه : أنّ التقليد هو الأخذ بقول الغير حال كونه حاصلا من غير دليل على ذلك الأخذ أي على جوازه ، وعلى ما ذكرناه : أنّه الأخذ بقول الغير حال كونه حاصلا من غير دليل على ذلك القول أي على خصوصه ، ومعناه : أنّه لم يعتبر معه في لحاظ الأخذ به دليل يستدلّ به عليه ولا حجّة يحتجّ بها عليه وإن ذكر معه دليل - كما قد يتّفق أنّ المفتي يورد فتواه عند الاستفتاء مع دليلها ، وكذا ما لو أخذ المستفتي فتوى مجتهده من كتبه الاستدلاليّة - لكنّه ليس بحيث يعتبر ذلك الدليل في لحاظ الأخذ

ص: 360

بأن يستند إليه الأخذ ويعتمد عليه في أخذه به ، بل كان مستنده والوسط الّذي يحتجّ به في أخذه هو نفس ذلك القول ، حتّى أنّه لو سئل من وجه أخذه وعمله به علّله بقوله : قول فلان ، أو أنّه قال به فلان.

فالفرق بين التقديرين أنّ التعريف على الأوّل لا ينطبق إلاّ على أخذ العامي من مثله وأخذ المجتهد من مثله أو من العامي في الفروع أو الاصول ، ويخرج عنه أخذ العامي من المجتهد في الفروع بل الاصول أيضا على القول بجواز التقليد في اصول الدين لقيام الدليل فيهما على جواز الأخذ ، وعلى الثاني يتناول جميع الأقسام الثمانية ولا يخرج عنه القسمان الأخيران ، فكلّ واحد منها على هذا التقدير تقليد على وجه الحقيقة.

غاية الأمر أنّه في بعضها مشروع وفي الباقي غير مشروع لعدم دليل على جوازه بل قيام الدليل على المنع ، وخرج عنه الأخذ بقول الغير من دليل عليه بالخصوص على وجه يكون مستند الأخذ في أخذه ذلك الدليل لا مجرّد كونه قول الغير ، كما يتّفق للفقهاء في المسائل الخلافيّة حيث يختار المتأخّر منهم قول من تقدّمه لمساعدة دليل عليه ، حيث يصدق على اختياره ذلك القول أنّه أخذ بقول الغير لكنّه لا لكونه قول الغير بل لمساعدة الدليل عليه ، والظاهر أنّ هذا هو الّذي قصد إخراجه من التعريف بالقيد الأخير لعدم كونه من المعرّف بحسب العرف.

ولا ينتقض بأخذ العامي من المجتهد بدعوى أنّ له دليلا عليه وهو الّذي ينتظم عنده من القياس المعبّر عنه : « بأنّ هذا ما أفتى به المفتي ، وكلّما أفتى به المفتي فهو حكم اللّه في حقّي » لأنّ هذا ليس دليلا على حكم المسألة بالخصوص ممّا يستعمله المجتهد عند استنباطه الحكم الخاصّ منه ، بل هو دليل على اعتبار قول المفتي وحجّيّة فتواه المقتضية لجواز الأخذ به ، ووجه دلالته : أنّه بحكم الكلّية الكبرى يقتضي كون الحكم المفتى به حكما فعليّا على المقلّد يجب الأخذ والالتزام به على أنّه حكم اللّه الّذي يجب التديّن به ، على أنّ المراد من القول المأخوذ هو الحكم الخاصّ الّذي أفتى به المفتي ، وإطلاق القول عليه في لسان الفقهاء والاصوليّين شائع ، فهذا الدليل العامّ دليل على جواز الأخذ والعمل لا على خصوص الحكم المفتى به.

وممّا يؤيّد جميع ما بيّنّاه أنّ المقلّد يقال على ما قابل الفقيه الّذي هو عبارة عن الآخذ بالأحكام من الأدلّة التفصيليّة ، فالمقلّد هو الّذي يأخذ في المسائل بالأحكام من غير دليل تفصيلي في كلّ مسألة مسألة يدلّ على حكم المسألة بالخصوص ، وما يتراءى في كلماتهم

ص: 361

وعلى هذا فالرجوع إلى الرسول مثلا ليس تقليدا له * ، وكذا رجوع العاميّ إلى المفتي لقيام الحجّة في الأوّل بالمعجزة ، وفي الثاني بما سنذكره.

هذا بالنظر إلى أصل الاستعمال ، وإلاّ فلا ريب في تسمية أخذ المقلّد العاميّ بقول المفتي تقليدا في العرف ، وهو ظاهر.

__________________

من إطلاق المقلّد في مقابل المجتهد فهو مبنيّ على إرادة الفقيه من المجتهد ، أو على أنّ المراد من المقلّد من وظيفته التقليد ومن المجتهد من وظيفته الاجتهاد.

وممّن تنبّه على ما استظهرناه من التعريف وعلى جملة ممّا بيّنّاه فخر الإسلام قدس سره فيما حكي عنه من تعريفه التقليد - في شرح المبادئ - : « بأنّه قبول قول الغير في الأحكام الشرعيّة من غير دليل على خصوصيّة ذلك الحكم ، والقيد الأخير لأنّ المقلّد يستند إلى حجّة وهو : أنّ هذا الحكم قد أفتى به المجتهد وكلّ ما أفتى به المجتهد فهو حقّ ، فإنّ هذه حجّة لكن ترد في جميع الأحكام الّتي يقلّد فيها » انتهى.

وبالجملة هو معنى التقليد عرفا الجاري في جميع المباحث الآتية الّتي منها مسألة التقليد في اصول الدين ، ولا يلزم على هذا المعنى اشتراك ولا تعدّد نقل في اللفظ ، كما يظهر الالتزام به من المصنّف وغيره ممّن تبعه حيث أشكل عليهم الأمر في شيوع إطلاق التقليد على أخذ العامي من المجتهد وكونه على وجه الحقيقة ، فتفصّوا عنه بجعل ما فهموه من التعريف بحسب أصل الاستعمال وهذا بحسب العرف المتأخّر ، ولا خفاء في كونه تكلّفا لا داعي إلى ارتكابه بعد ما ذكره.

ونحوه ما ارتكبه بعض الأعلام حيث إنّه بعد البناء على نحو ما ذكره الجماعة استشكل - في قولهم : يجوز التقليد في الفروع ولا يجوز في الاصول - : « بأنّه إن اريد به الأخذ بقول الغير من غير حجّة لم يجز فيهما ، وإن اريد الأخذ به مع الحجّة جاز فيهما » ثمّ تفصّى عنه بحمل التقليد هناك على معنى آخر وهو الأخذ بقول الغير مجرّدا عن اعتبار القيدين ، وقد اتّضح أنّ المراد به في المقامين هو الأخذ من غير حجّة بالمعنى الّذي بيّنّاه ولا إشكال معه أصلا.

* تفريع على ما صنعه من إرجاع القيد الأخير إلى العمل وقد اتّضح بطلانه ، وأمّا على ما وجّهناه فوجه خروج الأخذ من الرسول والأئمّة عليه وعليهم السلام أنّ المأخوذ فيه إنّما هو حكم اللّه الواقعي المستفاد من قولهم المعبّر عنه بالسنّة وهو بهذا الاعتبار لا يسمّى قول الرسول ولا قول الإمام فيخرج بقيد : « قول الغير » ، ولو سلّم صدق « قول الغير » عليه

ص: 362

إذا تقرّر هذا ، فأكثر العلماء على جواز التقليد لمن لم يبلغ درجة الاجتهاد * سواء كان عامّيا ، أم عالما بطرف من العلوم.

__________________

أيضا فيكفي في إخراجه القيد الأخير ، لأنّ قول الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام في كلّ مسألة باعتبار كونه سنّة دليل تفصيلي على الحكم المستفاد منه بالخصوص ، وإن سمّي ذلك الحكم أيضا قولا بناء على ما عرفت من أنّ القول المأخوذ في التعريف ليس هو القول بمعنى القضيّة الملفوظة بل مضمون تلك القضيّة.

ولا ريب أنّ القضايا الملفوظة المتلقّاة عن أهل العصمة أدلّة تفصيليّة على مضامينها وهي الأحكام المستفادة منها.

ومن الفضلاء من زعم استناد خروج الأخذ منهم عليهم السلام إلى « قول الغير » باعتبار كون المراد به فتواه في الحكم الشرعي.

وما ذكرناه أوجه ، وقد زعم الفاضل المذكور خروج الأخذ من الراوي والشاهد والحاكم أيضا بهذا القيد بناء على الحمل المذكور لعدم كون أقوالهم من باب الفتوى.

وأمّا على ما اخترناه فوجه الخروج أنّ مضمون كلام هؤلاء لا يسمّى قولا في الاصطلاح ، فإنّ « قول فلان » يقال في العرف على مختاره في المسألة العلميّة ، يقال : قول العلاّمة مثلا في المسألة الفلانيّة الوجوب ، وقول الشيخ الاستحباب وغيره.

ثمّ بعد الفراغ عن شرح التقليد لغة وعرفا ينبغي التكلّم في حكمه وأركانه المقلّد والمقلّد والمقلّد فيه فالكلام يقع في مقامات :

مشروعيّة التقليد

المقام الأوّل في حكم التقليد وفيه جهتان :

الاولى : في مشروعيّة التقليد قبالا لمن أنكرها كابن زهرة من الأصحاب وفقهاء حلب.

والثانية : في أنّه بعد المشروعيّة هل هو واجب على التعيين أو على التخيير بينه وبين الأخذ بالاحتياط؟ ونتعرّض في ذلك لحكم تارك الطريقين المعبّر عنه بالجاهل في العبادات ، كما نتعرّض فيه أو في سابقه لتفصيل المقلّد بالكسر وتشخيص من يشرع له التقليد ومن لا يشرع.

* هذا هو عنوان الكلام في الجهة الاولى ، ونسبة الجواز إلى الأكثر كما في كلام غير واحد.

وعن النهاية والمنية : اتّفق المحقّقون على ذلك.

ص: 363

وعن شرح المبادي نسبته إلى الإماميّة كافّة وأكثر الناس.

وعن جماعة من الأساطين كالسيّد في الذريعة والشيخ في العدّة والمحقّق في المعارج والعلاّمة في الذكرى والنهاية وفخر الإسلام في الإيضاح وشرح المبادي والشهيد في الذكرى دعوى الإجماع وما بمعناه عليه.

وقد عرفت عبارة الذريعة سابقا ، وقال في محكيّ العدّة : « والّذي نذهب إليه أنّه يجوز للعامي الّذي لا يقدر على البحث والتفتيش تقليد العالم ، يدلّ على ذلك : إنّي وجدت عامّة الطائفة من عهد أمير المؤمنين عليه السلام إلى زماننا هذا يرجعون إلى علمائنا ويستفتونهم في الأحكام وفي العبادات ، ويفتونهم العلماء ويسوّغون لهم العمل بما يفتونهم به ، وما سمعنا أحدا منهم قال لمستفت : لا يجوز ذلك الاستفتاء والعمل به ، بل ينبغي أن تنظر كما نظرت وتعلم كما علمت ، ولا أنكر عليهم العمل بما يفتونهم ، وقد كان منهم الخلق العظيم عاصروا الأئمّة عليهم السلام ولم يحك عن واحد من الأئمّة النكير على أحد من هؤلاء ولا إيجاب القول بخلافه ، بل كانوا يصوّبونهم في ذلك ، فمن خالف في ذلك كان مخالفا لما هو المعلوم (1) خلافه » انتهى (2).

وفي محكيّ المعارج : « يجوز للعامي العمل بفتوى العالم في الأحكام الشرعيّة ، لنا : اتّفاق علماء الأعصار على الإذن للعوام في العمل بفتوى العلماء من غير تناكر ، وقد ثبت أنّ إجماع أهل كلّ عصر حجّة » (3) وفي محكيّ المبادي : « يجوز التقليد في الفروع ، لنا : عدم إنكار العلماء في جميع الأوقات ».

وفي محكيّ النهاية عند الاستدلال : « الثاني الإجماع ، فإنّه لم تزل العامّة من زمن الصحابة والتابعين قبل حدوث المخالفين يرجعون في الأحكام إلى قول المجتهدين ويستفتونهم ، والعلماء يسارعون إلى الأجوبة من غير إشارة إلى ذكر دليل ولا ينهوهم عن ذلك فكان إجماعا ».

وفي محكيّ الإيضاح : « يجوز التقليد في أصل الحكم الشرعي إجماعاً ».

وفي محكيّ شرح المبادي : « لنا وجوه : الأوّل الإجماع قبل حدوث المخالف » ثمّ ذكر نحو ما عرفت عن محكيّ النهاية.

وفي محكيّ الذكرى - بعد الإشارة إلى قول فقهاء حلب - ويدفعه : « إجماع السلف والخلف على الاستفتاء من غير نكير ولا تعرّض لدليل بوجه من الوجوه ».

وفي مفاتيح الاصول عن بعض فضلاء معاصريه : « الحقّ جواز التقليد مطلقا سواء كان عاميّا بحتا أو عالما بطرق من العلوم ، للإجماع المعلوم بتتبّع حال السلف من الإفتاء

ص: 364


1- الظاهر أنّ في موضع من هذه العبارة غلطا ( منه ).
2- العدّة 2 : 730.
3- معارج الاصول : 197.

وعزى في الذكرى إلى بعض قدماء الأصحاب وفقهاء حلب منهم القول بوجوب الاستدلال على العوامّ * وأنّهم اكنفوا فيه بمعرفة الإجماع الحاصل من مناقشة العلماء عند الحاجة إلى الوقائع ، أو النصوص الظاهرة ، أو أنّ الأصل في المنافع الإباحة ، وفي المضارّ الحرمة مع فقد نصّ قاطع في متنه ودلالته ، والنصوص محصورة. وضعف هذا القول ظاهر.

وقد حكى غير واحد من الأصحاب : اتّفاق العلماء على الإذن للعوامّ في الاستفتاء من غير تناكر ، واحتجّوا مع ذلك : بأنّه لو وجب على العاميّ النظر في أدلة المسائل الفقهيّة لكان ذلك إمّا قبل وقوع الحادثة ، أو عندها. والقسمان باطلان. أمّا قبلها فبالإجماع ، ولأنّه يؤدّي إلى استيعاب وقته بالنظر في ذلك فيؤدّي إلى الضرر بأمر المعاش المضطرّ إليه.

وأمّا عند نزول الواقعة ، فلأنّ ذلك متعذّر ، لاستحالة اتّصاف كلّ عاميّ عند نزول الحادثة بصفة المجتهدين. وبالجملة فهذا الحكم لا مجال للتوقّف فيه.

__________________

والاستفتاء وتقريرهم وعدم إنكارهم والمدّعى في كلماتهم » (1) وحكي نقل الإجماع عن جماعة من العامّة أيضا.

* كأنّه أراد ببعض قدماء الأصحاب ابن زهرة في الغنية المصرّح بمنع التقليد قائلا فيها : « لا يجوز للمستفتي تقليد المفتي لأنّ التقليد قبيح ، ولأنّ الطائفة مجمعة على أنّه لا يجوز العمل إلاّ بعلم. وليس لأحد أن يقول : قيام الدليل وهو إجماع الطائفة على وجوب رجوع العامي إلى المفتي والعمل بقوله مع جواز الخطأ عليه يؤمنه من الإقدام على القبيح ويقتضي استناد عمله إلى العلم.

لأنّا لا نسلّم إجماعهم على العمل بقوله مع جواز الخطأ عليه ، كيف وهو موضع الخلاف ، بل إنّما أمروا برجوع العامي إلى المفتي فقط فأمّا ليعمل بقوله فلا.

فإن قيل : فما الفائدة في رجوعه إليه إذا لم يجز العمل بقوله؟

ص: 365


1- مفاتيح الاصول : 590.

قلنا : الفائدة في ذلك أن يصير له بفتياه وفتيا غيره من علماء الإماميّة سبيل إلى العلم بإجماعهم فيعمل بالحكم على يقين ، يبيّن صحّة ذلك أنّهم أجمعوا على أنّه لا يجوز الاستفتاء إلاّ من إمامي المذهب وإنّما حظّروا استفتاء مخالفه خوفا أن يفتيه بخلاف الحقّ ، فلو كان إيجابهم للاستفتاء من الإمامي لتقليده لم يكن فرق بينه وبين مخالفه الّذي لا يؤمن أن يكون فتياه بغير الحقّ لارتفاع عصمته ، ولأنّ مخالفه يجوز أن يفتيه بمطابقة الحقّ وموافقته ، فيثبت أنّهم إنّما أمروا برجوع المستفتي إلى فقهاء الإماميّة ليحصل لهم العلم بإجماعهم على الحكم فيقطع على صحّته » انتهى.

ونسبه في محكيّ المقاصد العليّة إلى كثير من القدماء وفقهاء حلب كأبي الصلاح وابن حمزة ، وقرّر في محكيّ الذكرى مذهب فقهاء حلب : « بأنّهم أوجبوا على العوامّ الاستدلال واكتفوا فيه بمعرفة الإجماع الحاصل من مناقشة العلماء عند الحاجة إلى الوقائع والنصوص الظاهرة ، وإنّ الأصل في المنافع الإباحة وفي المضارّ الحرمة عند فقد نصّ قاطع في متنه ودلالته والنصوص محصورة ».

ومن الفضلاء من قرّر مذهبهم : « بأنّهم أوجبوا على العامي الرجوع إلى عارف عدل يذكر له مدرك الحكم من الكتاب والسنّة ، فإن ساعد لغته على معرفة مدلولهما وإلاّ ترجم له معانيهما بالمرادف من لغته ، وإذا كانت الأدلّة متعارضة ذكر له المتعارضين ونبّهه على طريق الجمع بحمل المنسوخ على الناسخ والعامّ على الخاصّ والمطلق على المقيّد ، ومع تعذّر الجمع يذكر له أخبار العلاج على حذو ما مرّ ، ولو احتاج إلى معرفة حال الراوي ذكر له حاله » (1).

وكيف كان فلا ينبغي التأمّل في سخافة هذا القول وشذوذ قائله مع عدم وضوح حجّته سوى ما أشار إليه ابن زهرة في عبارته المتقدّمة من قبح التقليد وإجماع الطائفة على عدم جواز العمل بغير العلم.

ويزيّفه : أنّ قبح التقليد إن اريد به القبح العقلي على معنى استقلال العقل بإدراك قبحه.

ففيه : أنّ التقليد في حكم العقل من الامور الّتي تقبح تارة وتحسن اخرى وإنّما يختلف بحسب اختلاف الوجوه والاعتبارات ، فإنّما يقبح ممّن أقام عليه في إطاعة اللّه وامتثال أحكامه مع الشكّ في مشروعيّته ، لرجوعه بالأخرة إلى الإقامة على الشكّ وهو قبيح عقلا على ما قرّرناه في غير موضع ، والقائل بمشروعيّته إنّما يقول بها عن علم لا عن شكّ فيكون حسنا في حكم العقل.

ص: 366


1- الفصول الغرويّة : 411.

وإن اريد به القبح الشرعي باعتبار المنع المستفاد من الآيات الدالّة على حرمته ، ففيه : أنّ الآيات ليست إلاّ عمومات قابلة للتخصيص وأدلّة القول بالمشروعيّة ناهضة له.

ومن الفضلاء من أجاب عنها : « بكونها معارضة بالآيات الدالّة على حرمة العمل بالظنّ » (1).

وكأنّه أراد بالمعارضة هنا معارضة الاستدلال بالمثل قبالا لمن يمنع العامي من التقليد ويوجب عليه الاجتهاد المبنيّ في غالب موارده على الظنّ ، وإلاّ فلا تعارض بينهما بالمعنى المصطلح في تعارض الدليلين ، لجواز حرمة كلّ من التقليد والعمل بالظنّ عليه ، مع إمكان كون كلّ منهما حراما باعتبار كونه عملا بما وراء العلم وهو حرام كما أشار إليه ابن زهرة في استدلاله الثاني.

ثمّ التقليد وإن كان من جملة غير العلم لكنّ الإجماع على حرمة العمل به بجميع أفراده وفروضه غير مسلّم ، بل لو لم يكن الإجماع على جواز التقليد بالخصوص كما ادّعاه جماعة من أساطين الطائفة وفي الجملة غير نافع (2).

والاجتهاد المدّعى وجوبه هنا إن اريد ما هو بالطريق المتعارف بين أهل الصناعة فتعذّره بالقياس إلى غير المحصّلين في الوضوح بحيث لا يحتاج إلى البيان ، بل قد يتعذّر بالقياس إلى كثير من المحصّلين المستحصلين لكثير من مقدّماته ومبادئه ، ووجوبه مع استحصال مقدّماته على تقدير إمكانه لكلّ أحد - لكونه مستوعبا لجميع أوقات العمر أو معظمها مع ما فيه من العسر والحرج ما لا يتحمّله الطباع - يخلّ بنظام العالم ، ولا يكفي فيه مجرّد معرفة الإجماع على فرض إمكان حصولها للعوامّ من مناقشة العلماء ، وهو فيما أمكن حصول معرفته لا يجدي نفعا في معرفة تفاصيل معقده ، والنصّ القاطع في متنه ودلالته على فرض وجوده وإمكان الاطّلاع عليه للعوامّ في غاية القلّة ، فلا يحصل به عشر من أعشار الفقه والاقتصار عليه والرجوع في غير مورده إلى أصل الإباحة في المنافع يوجب الخروج عن الدين ، مع أنّ تأسيس هذا الأصل وأصالة الحرمة في المضارّ لا يتأتّى إلاّ من ذوي الملكات ، مع عدم مساعدة أفهام كثير من العوامّ على فهم قليل من الأحكام بطريق الاجتهاد ولو اكتفى فيه بتعليم عارف عدل يذكر مدرك الحكم من الكتاب والسنّة ، مع عدم مساعدة أكثر أوقات العالم على تعليم قليل ممّا يحتاج إليه بعض العوامّ.

ومع الغضّ عن جميع ذلك فالمعرفة الحاصلة لهم بهذا الوجه - على تقدير تسليمه -

ص: 367


1- الفصول : 411.
2- كذا في الأصل.

غير خارج عن حدّ التقليد ، بل هو على طريقتهم أشنع وبشاعته على مذاقهم أوضح لكونه تقليدا في مدارك الاجتهاد ومبادئه.

فالحقّ الّذي لا محيص عنه : هو مشروعيّة التقليد للعوامّ للأدلّة الأربعة ، فمن الكتاب : آيات النفر ، والكتمان ، والسؤال.

دلّت الاولى على أنّه تعالى أوجب الاجتهاد على بعض الفرقة فلو وجب على الأعيان لأوجب على الجميع ، أو لأنّه جعل فائدة التعلّم إنذار القوم إذا رجعوا إليهم وهو عين التقليد.

والثانية على حرمة الكتمان ، وهي تستلزم وجوب القبول عند الإظهار وإلاّ لغى الإظهار.

والثالثة على وجوب السؤال وهو يستلزم وجوب قبول الجواب وإلاّ لغى وجوب السؤال ، وإذا وجب القبول مع سبق السؤال وجب مع عدمه إذ لا مدخل لسبق السؤال فيه قطعا ولعدم القول بالفصل.

ومن السنّة : الأخبار المتكاثرة البالغة فوق حدّ الاستفاضة ، ولا يبعد كونها باعتبار المعنى متواترة الدالّة صراحة وظهورا على جواز الإفتاء والاستفتاء ، وإن ورد بعضها في خصوص طائفة مخصوصة من الرواة وأصحاب الأئمّة عليهم السلام ، كالمرويّ من قول أبي جعفر عليه السلام لأبان بن تغلب : « اجلس في مسجد المدينة وأفت الناس ، فإنّي احبّ أن يرى في شيعتي مثلك ».

والمرويّ عن عليّ بن المسيّب الهمداني قال : قلت للرضا عليه السلام : شقّتي بعيدة ولست أصل إليك في كلّ وقت ، فممّن آخذ معالم ديني؟ قال : « من زكريّا بن آدم المأمون على الدين والدنيا » بناء على ظهور معالم الدين في نفس المسائل.

ونحوه المرويّ عن عبد العزيز المهتدي وكيل الرضا عليه السلام وخاصّته فقال : إنّي سألته فقلت : إنّي لا أقدر على لقائك في كلّ وقت ، فممّن آخذ معالم ديني؟ فقال : « خذ عن يونس ابن عبد الرحمن ».

وفي رواية : ربّما أحتاج ولست ألقاك في كلّ وقت ، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ منه معالم ديني؟ قال : نعم.

والمرويّ عن عليّ بن سويد قال : كتب إليّ أبو الحسن الأوّل - وهو في السجن - : « أمّا ما ذكرت يا عليّ ممّن تأخذ معالم دينك ، لا تأخذنّ معالم دينك من غير شيعتنا ، فإنّك إن تعدّيتهم أخذت دينك من الخائنين الّذين خانوا اللّه ورسوله وخانوا أماناتهم ، إنّهم ائتمنوا على كتاب اللّه فحرّفوه وبدّلوه ».

وقول الحجّة عجّل اللّه فرجه في التوقيع لإسحاق بن يعقوب ، المرويّ عن كتاب الغيبة

ص: 368

وكمال الدين والاحتجاج : « أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة اللّه عليهم ».

والمرسل المرويّ عن التذكرة قال : « لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من نظر إلى فرج امرأة.

لا يحلّ له ، ورجلا خان أخاه في امرأته ، ورجلا احتاج إليه الناس لفقهه فسألهم الرشوة » يدلّ على أنّ احتياج الناس إلى الفقيه لفقهه أمر مفروغ عنه ، وإنّما يحرم أخذ الرشوة على الإفتاء لهم أو ما يعمّه والحكم.

والمرويّ عن الاحتجاج عن تفسير العسكري عليه السلام في قوله تعالى : ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ ) الآية قال : قال الرجل للصادق عليه السلام : فإذا كان هؤلاء القوم من اليهود والنصارى لا يعرفون الكتاب إلاّ بما يسمعونه من علمائهم لا سبيل لهم إلى غيره فكيف ذمّهم بتقليدهم والقبول من علمائهم؟ وهل عوامّ اليهود إلاّ كعوامّنا يقلّدون علماءهم؟ فإن لم يجز لاولئك القبول من علمائهم لم يجز لهؤلاء القبول من علمائهم.

فقال : « بين عوامّنا وعلمائنا وبين عوامّ اليهود وعلمائهم فرق من جهة وتسوية من جهة ، أمّا من حيث استووا : فإنّ اللّه تعالى ذمّ عوامّنا بتقليدهم علماءهم كما ذمّ عوامّهم بتقليدهم علماءهم ، وأمّا من حيث افترقوا : فلا ».

قال : بيّن لي يا بن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم!

قال : « إنّ عوامّ اليهود [ كانوا ] قد عرفوا علماءهم بالكذب الصريح ، وبأكل الحرام والرشاء ، وبتغيير الأحكام عن وجهها بالشفاعات والعنايات والمصانعات ، وعرفوهم بالتعصّب الشديد الّذي يفارقون اللّه أديانهم ، وأنّهم إذا تعصّبوا أزالوا حقوق من تعصّبوا عليه ، وأعطوا ما لا يستحقّه من تعصّبوا له من أموال غيرهم وظلموهم من أجلهم ، وعرفوهم يتعارفون المحرّمات واضطرّوا بمعارف قلوبهم إلى [ أنّ ] من فعل ما يفعلونه فهو فاسق لا يجوز أن يصدّق على اللّه تعالى ولا على الوسائط بين الخلق وبين اللّه تعالى ، فلذلك ذمّهم لما قلّدوا من عرفوا ومن علموا أنّه لا يجوز قبول خبره ولا تصديقه [ في حكايته ] ولا العمل بما يؤدّيه إليهم عمّن لا يشاهدوه ، ووجب عليهم النظر بأنفسهم في أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، إذ كانت دلائله أوضح من أن تخفى وأشهر من أن لا تظهر لهم ، وكذلك عوامّ امّتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر والعصبيّة الشديدة والتكالب على حطام الدنيا وحرامها ، وإهلاك من تعصّبوا عليه وإن كان لإصلاح أمره مستحقّا ، وبالترفرف بالبرّ والإحسان على من تعصّبوا له وإن كان للإذلال والإهانة مستحقّا ، فمن قلّد من عوامّنا مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الّذين

ص: 369

ذمّهم اللّه تعالى بالتقليد لفسقة فقهائهم ، فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا على هواه مطيعا لأمر مولاه فللعوامّ أن يقلّدوه ، وذلك لا يكون إلاّ بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم ، فأمّا من ركب من القبائح والفواحش مراكب فسقة فقهاء العامّة فلا تقبلوا منهم عنّا شيئا ولا كرامة ، وإنّما كثر التخليط فيما يتحمّل عنّا أهل البيت لتلك ، لأنّ الفسقة يتحمّلون عنّا فيحرّفونه بأسره لجهلهم ، ويضعون الأشياء على غير وجوهها لقلّة معرفتهم ، وآخرون يتعمّدون الكذب علينا ليتجروا من عرض الدنيا ما هو زادهم إلى نار جهنّم ، ومنهم قوم نصّاب لا يقدرون على القدح فينا فيتعلّمون بعض علومنا الصحيحة فيتوجّهون عند شيعتنا وبه فينقصون بنا عند أعدائنا ، ثمّ يضعون إليه أضعافه وأضعاف أضعافه من الأكاذيب علينا الّتي نحن براء منها ، فيقبله المستسلمون من شيعتنا على أنّه من علومنا ، فضلّوا وأضلّوا ، اولئك أضرّ على ضعفاء شيعتنا من جيش يزيد لعنه اللّه على الحسين بن عليّ عليهما السلام » (1).

والروايات الناهية عن الإفتاء بغير علم ، مثل المرويّ عن البحار بسنده عن عبد اللّه بن بشر عن جعفر بن محمّد عليهما السلام في حديث قال : « قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : من عمل بالقياس فقد هلك وأهلك ، ومن أفتى الناس وهو لا يعلم الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه فقد هلك ».

والمرويّ عنه أيضا عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم : « من أفتى الناس بغير علم كان ما يفسده من الدين أكثر ممّا يصلحه ، ومن أفتى الناس وهو لا يعلم الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه فقد هلك وأهلك ».

والمرويّ عنه أيضا بسنده عن أبي عبيدة عن أبي جعفر عليه السلام قال : « من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من اللّه لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، ولحقه وزر من عمل بفتياه ».

والمرويّ عن الكافي بسنده عن مفصّل بن يزيد قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام : « إيّاك عن خصلتين فيهما هلك الرجال : أنهاك أن تدين اللّه بالباطل وتفتي الناس بما لا تعلم ».

ويؤيّد الجميع أو تدلّ على المطلب بالفحوى أو عدم القول بالفصل مع تأمّل فيهما قوله عليه السلام - في مقبولة عمر بن حنظلة : « انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فارضوا به حكما ، فإنّي قد جعلته حاكما ، فإذا حكم حكما فلم يقبل عنه فإنّما بحكم اللّه تعالى استخفّ وعلينا ردّ ، والرادّ علينا رادّ على اللّه وهو على حدّ الشرك باللّه عزّ وجلّ » إلى آخره.

ص: 370


1- الاحتجاج 2 : 457.

ومن الإجماع : - فبعد ما سمعت من الإجماعات المنقولة المستفيضة من أساطين الطائفة الّتي هي بانفرادها حجّة مستقلّة المعتضدة بظهور الإجماع القولي - بناء المسلمين وعملهم خلفا عن سلف في جميع الأمصار والأعصار من لدن بناء نشر الأحكام إلى يومنا هذا على رجوع العوامّ إلى الفقهاء ومسألتهم ، والأخذ بتفاويهم من دون نكير ولا استنكار على وجه يكشف عن تقرير المعصومين عليهم السلام ورضاهم ، مع القطع بعدم كون ذلك في جميع فروض المسألة بطريق الرواية ولا التنبيه على مدرك الحكم ، ولا لأجل إحراز دليله ، لعدم استقلال كلّ واحد من آحاد العوام حتّى أهل البوادي والقرى والرساتيق بفهم أصل الحكم ولا استخراجه من المدرك من كتاب أو سنّة أو نحوهما ، ولا تمكّنه من إحراز دليله من إجماع ونحوه.

وبذلك كلّه يندفع ما عرفت عن ابن زهرة في عبارته المتقدّمة من منع كون فائدة الإجماع على وجوب رجوع العامي إلى المفتي العمل بقوله ، للقطع بانتفاء غير هذه الفائدة في معقد الإجماع العملي ، مع قصور أكثر العوامّ عن فهم الإجماع وإحراز مناط حجّيته وعدم إمكان اطّلاعهم عليه بمجرّد الاطّلاع على فتيا المفتين ، مع كون أكثر المسائل خلافيّة ، مع أنّ الإجماعات المنقولة في كلام أساطين الطائفة إنّما نقلت على مجرّد العمل والقبول.

ومن العقل : دليل الانسداد ، فإنّ الأحكام الواقعيّة الثابتة على المجتهدين المعلومة بالإجمال مشتركة بينهم وبين العوامّ ، وباب العلم بها مسدود ، بل انسداده للعوامّ أوضح وموارد فقد طرقه لهم أكثر ، والبناء على أصالة البراءة النافية للتكليف - مع استلزامه المخالفة القطعيّة - مبنيّ على معرفتها وتأسيسها وفهم أدلّتها ولا سبيل للعوامّ إلى شيء من ذلك ، والعمل بالاحتياط في غالب موارده متعسّر ، وتشخيص موارده لأكثر العوامّ متعذّر إن لم نقل بتعذّره للجميع ، فتعيّن عليهم في امتثال أحكام اللّه المعلومة بالإجمال الأخذ بقول أهل الخبرة وهم الفقهاء ، مع أنّه نوعا أقرب إلى الواقع من فهم نفسه بحسب نوعه ، للقطع الضروري بأنّ ما يفسده في بناء عمله على فهم نفسه أكثر ممّا يصلحه فيجب في حكم العقل الأخذ به ، ويشهد له رجوع الجاهل في كلّ فنّ وصناعة إلى أهل الخبرة بهما ، بل لزوم رجوع الجاهل إلى العالم والأخذ بقوله من فطريّات الناس كما يدركه المنصف بالوجدان.

ولا فرق في ذلك بين العامي الصرف والعامي العارف بجملة من العلوم وإن تمكّن من استفادة بعض الأحكام من الأخبار الواضحة الدلالة ، لقضيّة الأقربيّة إلى الواقع وإطلاق الإجماعات المنقولة ، مع إمكان دعوى عدم القول بالفصل والإجماع المركّب بل انعقاد السيرة القطعيّة في كلا الفريقين.

ص: 371

فنتيجة الكلام : أنّ الحكم الواقعي في حقّ العامي بالمعنى الأعمّ المكتوب في اللوح المحفوظ هو الرجوع إلى أكمل أهل زمانه والأخذ بقوله ، ولا يجزئه عنه غيره.

والعمدة من دليله بعد الإجماع بقسميه هو العقل بتقريريه ثمّ الأخبار ثمّ الآيات.

لكنّ الإنصاف عدم نهوض الآيات دليلا على هذا الحكم لقصور دلالتها عليه حتّى آية النفر بكلّ من تقريري وجه الاستدلال بها.

أمّا على التقرير الأوّل : فلعدم كون التفقّه فيها من الفقه بالمعنى المعهود المصطلح ليرجع مفاد إيجابه إلى إيجاب الاجتهاد بالمعنى المتضمّن لاستفراغ الوسع في طلب الأحكام من الأدلّة الظنّية ، بل هو جريا على معناه العرفي اللغوي عبارة عن تعلّم الأحكام الحاصل من المشافهين بالأخذ عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم بطريق المشافهة ، وهذا وإن كان ليس من باب التقليد لكونه أخذا بالحكم الواقعي من بابه وطريقه القطعي ، إلاّ أنّه ليس من باب الاجتهاد بالمعنى المعهود المبنيّ على استحصال عدّة مقدّمات لا يكاد يحصل لكلّ واحد من آحاد المكلّفين ، بل هو نظير أخذ المقلّد من مجتهده بطريق المشافهة المفيد للعلم بفتواه ، وإن غايره في كون الأخذ من المجتهد يستلزم العلم بما أفتى به على أنّه حكم فعلي لا على أنّه حكم واقعي ، والأخذ عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم يستلزم العلم به على أنّه حكم واقعي صار فعليّا.

ومن هنا يشكل الحال في الاستدلال بالآية لإثبات مشروعيّة الاجتهاد وأخذها دليلا على وجوبه كفاية كما صنعه جماعة من العامّة والخاصّة ، إلاّ أن يكون مبناه على توهّم تنقيح المناط ، بدعوى : أنّ تعلّم الأحكام إذا وجب على المشافهين بحكم نصّ الآية لزم منه وجوب الاجتهاد على غيرهم ، لأنّه إنّما يجب لوجوب تعلّم الأحكام لا لذاته ، مضافا إلى مقدّمة الاشتراك في التكليف.

غير أنّه يتوجّه إليه : أنّ هذا لو تمّ لقضى بوجوب الأمر المردّد بين الاجتهاد والتقليد ، لأنّ كلاّ منهما في موارد وجوبه إنّما يجب لوجوب تعلّم الأحكام ، فيتطرّق الإجمال إلى الأمر بالتفقّه بالقياس إلى حكم الاجتهاد بالخصوص ، وظهورها في الوجوب كفاية - على تقدير تسليمه - لا ينهض قرينة على تعيين الاجتهاد ، لأنّ النفور لتعلّم الأحكام تقليدا قد يجب على المقلّدين النائين عن المجتهد فيجوز اختصاصه من كلّ فرقة بطائفة لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم بعد تعلّمهم المسائل بطريق التقليد.

وأمّا على التقرير الثاني : فلتطرّق المنع إلى كون الإنذار المأمور به من باب الإفتاء ليكون قبوله من باب التقليد ، إذ كما أنّ الآخذ من النبيّ كالآخذ من المجتهد وإن لم يصدق

ص: 372

على أخذه عنوان التقليد كما عرفت ، فكذلك إرشاده الغير إلى مأخوذاته كإرشاد الآخذ من المجتهد غيره وإن صدق عليه عنوان الإنذار مطلقا أو في بعض الفروض ، وكما أنّ قبول الغير من الثاني ليس تقليدا له في العرف فكذلك قبول الغير من الأوّل فإنّه قد لا يكون تقليدا له ، فالإنذار حينئذ أشبه شيء بالرواية بل قد يكون عينها وإن لم يصرّح المنذر بالنقل عن النبيّ.

ألا ترى أنّ الواسطة في نقل فتوى المجتهد لو قال لمقلّده : « افعل كذا ولا تفعل كذا » أو « أنّ الشيء الفلاني واجب والشيء الفلاني حرام » ينساق منه في العرف كونه ناقلا عن المجتهد ، وكما أنّ الأخذ بقول الواسطة هنا أخذ بقول الأصل بواسطة هذا النقل فكذلك الأخذ بقول الواسطة ثمّة.

وهذا هو السرّ في استدلال كثير من العلماء بالآية لإثبات حجّية خبر الواحد ، فالاعتراض عليهم بأنّها لا تتناول الرواية لظهورها في الفتوى غير صحيح.

وأمّا قصور آية الكتمان : فلأنّ وجوب إظهار الحقّ وإن استلزم وجوب القبول صونا لكلام الحكيم عن منافاة الحكمة ، نظرا إلى أنّه لو لا القبول فائدة مقصودة من إظهار الحقّ لكان إيجابه أمرا بالفعل اللغو الخالي عن الفائدة وهو قبيح مناف لحكمة الحكيم ، غير أنّه لكونه قضيّة معنويّة استفيدت من القضيّة الملفوظة بواسطة الملازمة المذكورة لا عموم فيها وضعا ولا إطلاقا بحيث يشمل صورتي حصول العلم وعدمه ، فوجوب القبول إنّما يثبت على طريقة القضيّة المهملة ، فيجوز اختصاصه بصورة العلم الحاصل عقيب إظهار الحقّ ممّن انكشف عنده الحقّ ولو بمعونة القرائن أو تعاضد بعض ببعض كما في التواتر ، ويكفي ذلك في رفع محذور اللغويّة ومنافاة الحكمة.

مع إمكان أن يقال : إنّ الفائدة في الإظهار إنّما هي المدخليّة في حصول العلم ليترتّب عليه القبول.

ولا ريب أنّ الإظهار من كلّ واحد له مدخليّة في ذلك ولو فرضنا العلم حاصلا مع المجموع كما في التواتر ، فإنّ كلّ واحد على هذا التقدير جزء للسبب المفيد للعلم فيجب الإظهار على كلّ ، لأنّ له مدخليّة إمّا لكونه سببا تامّا أو جزء للسبب ، فلا ينتفي الفائدة لا من المجموع ولا من كلّ واحد ، وعلى هذا فيجوز اختصاص مورد الآية باصول الدين ، ويكون المراد من البيّنات علامات النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم وشواهد نبوّته الّتي بيّنها اللّه تعالى لليهود والنصارى في التوراة والإنجيل.

وأمّا آية السؤال : فلأنّها - بعد الإغماض عن منع كون المراد من أهل الذكر مطلق أهل

ص: 373

العلم لاستفاضة الأخبار المفسّرة له بالأئمّة عليهم السلام - بموجب تعليق إيجاب السؤال على عدم العلم المتناول الصورة الظنّ والشكّ والوهم تدلّ على وجوب السؤال طلبا للعلم بالقضيّة المجهولة ليعمل فيها بالعلم ، لا التعبّد بها تعويلا على قول الغير.

وقضيّة ذلك بحسب متفاهم العرف بقاء وجوب السؤال إلى أن يحصل العلم ولو لضابطة تكرّر الأمر المعلّق على علّة بتكرّر العلّة ، فيكون الخطاب حينئذ متوجّها إلى المتمكّنين من طلب العلم ولو في الفروع ، فلا يندرج فيه نحو موضوع المسألة.

ثمّ ينبغي أن يعلم أنّ الاستدلال بالوجوه المذكورة حتّى الآيات - على تقدير تماميّة دلالتها - إنّما يستقيم أن لو كان الناظر فيها من العلماء والمجتهدين ، فإنّهم إذا حاولوا استعلام حكم العامي صحّ لهم النظر في هذه الوجوه المنتجة للحكم المذكور المانعة من رجوع المقلّد إلى غير المجتهد ، وأمّا المقلّد نفسه إذا حاول معرفة حكمه فلا سبيل له إلى الاستدلال بها ، فإنّه لمكان كونه عاميّا لا يعرف كتابا ولا سنّة ولا إجماعا ، بل لا سبيل له إلى الاستدلال بالدليل العقلي لإثبات عموم هذا المطلب ، لكون أكثر مقدّماته نظريّة لا يتأتّى إحرازها إلاّ من المجتهد ، بل قد يقال : إنّه - بناء على تقريره بالوجه الثاني - ليس بحيث يوصله دائما إلى أنّه لابدّ وأن يرجع إلى المجتهد لأنّه من أهل الخبرة ، بل ربّما يوصله إلى العمل بظنّ نفسه إذا اتّفق حصوله له في واقعة مخصوصة ، أو إلى العمل بقول امّه أو أبيه أو معلّمه لاعتقاده بكون هذا القول أقرب إلى الواقع وأنّ هؤلاء أكمل بالقياس إليه ، بل ربّما يأخذ بقول غير الأكمل مع وجود الأكمل ومعرفته له لمجرّد اعتقاده بأنّ حكم اللّه واحد لا يختلف باختلاف القائل.

وبالجملة فالمكلّف الّذي وظيفته التقليد إمّا أن يلتفت إلى أكمل أهل زمانه من المجتهدين أو لا.

وعلى الأوّل إمّا أن يكون مقصّرا في تحصيل معرفة الأكمل أو قاصرا ، والدليل العقلي إنّما يفضيه إلى الأكمل على الأوّل.

وأمّا على الأخيرين فربّما يفضيه إلى ظنّه أو غيره ممّن يعتقد كونه أكمل ولو امّه ، فهو على ذلك لا ينتج له الأخذ بقول المجتهد الّذي هو حكمه الواقعي.

لكنّ الإنصاف : أنّ قصور نظر العامي عن الاستدلال بالآيات والروايات والإجماع بقسميه ممّا لا خفاء فيه ولا شبهة تعتريه ، وكذلك إمكان الاستدلال بالدليل العقلي وإنتاجه لأصل المطلب للعامي الملتفت إلى موضوع المسألة وهو رجوع العامي الغير البالغ حدّ

ص: 374

الاجتهاد إلى العالم الفقيه المجتهد ، وكذلك إمكانه وإنتاجه لغير الملتفت إليه بالخصوص مع التفاته إلى عنوان رجوع الجاهل إلى العالم وأخذ الناقص من الكامل ، فإنّ حسن رجوع الجاهل الناقص إلى العالم الكامل من ضروريّات قاطبة العوامّ والقضايا المركوزة في أذهانهم حتّى النسوان والصبيان ، لكون بقاء التكليف وقبح التكليف بما لا يطاق اللازم من إيجاب تحصيل العلم أو إيجاب الاجتهاد بالنظر في الأدلّة النظريّة في تحصيل الأحكام علما أو ظنّا وانحصار طريق الامتثال في الرجوع إلى العالم الكامل من ضروريّاتهم ، بناء على أنّ دفع احتمالي الرجوع إلى أصل البراءة والاحتياط وإن كان من النظريّات الّتي لا تتأتّى إلاّ من العلماء والمجتهدين ، إلاّ أنّ الالتفات إلى هذين الاحتمالين عند النظر في الدليل العقلي أيضا ممّا يختصّ بالعلماء والمجتهدين لأنّهم يلتفتون إليها وربّما يذكرونهما في المناقشة في الدليل العقلي دون العوامّ والأذهان الصافية والخالية عن الاحتمالات الغير الواردة والشبهات المندفعة بحسب الواقع.

ولا ريب أنّ اختلاف الأنظار في الالتفات إلى بعض الاحتمالات المندفعة لا يوجب قدحا في الدليل وإنتاجه ، ولو تطرّق إلى بعضهم احتمال الاحتياط أيضا فهو ليس بحيث يحتاج في دفعه إلى النظر في القضايا النظريّة كقاعدة نفي العسر والحرج المستفادة من الكتاب والسنّة ، لأنّ عدم كون الاحتياط طريقا يجب الرجوع إليه على التعيين في الشريعة لامتثال أحكام اللّه تعالى من ضروريّات الدين.

ولا ريب أنّ الاستدلال بالدليل العقلي الّذي يحرز مقدّماته بطريق الضرورة والبداهة ممّا يتأتّى ويتيسّر للعوامّ بعد التفاتهم إلى التكليف وعنوان رجوع الجاهل إلى العالم ، كيف ولو لا ذلك لانسدّ باب إثبات مشروعيّة التقليد لهم ، لتعذّر إثباته بطريق النظر والاستدلال والتقليد فيه أيضا غير ممكن لإفضائه إلى الدور.

غاية الأمر أنّه ينتج لبعضهم الرجوع إلى عالم فقيه ، ولبعضهم إلى عالم غير فقيه ، ولثالث إلى غير عالم من امّه أو أبيه أو معلّمه أو غيرهم ممّن لا أهليّة له لأن يقلّد لمجرّد اعتقاده بكونه العالم الكامل.

ولا ريب أنّه في الأوّل منتج لأصل المطلب بخلاف البواقي ، فيكون الرجوع فيها إلى الغير من التقليد الفاسد الغير المشروع بحسب الواقع ، وهذا لا يوجب قصورا في أصل الدليل العقلي ولا وهنا فيه ، لأنّه دليل مفاده حكم كبروي ولا قصور فيه من هذه الجهة ،

ص: 375

واختلاف النتيجة إنّما ينشأ من التباس موضوعي واشتباه صغروي ومثله غير عزيز في استدلالات العلماء فضلا عن العوامّ.

نعم ربّما يتكلّم في حكم التقليد اللازم في غير الصورة الاولى من حيث إنّه يجزي لصاحبه أو لا يجزي؟ وهذا كلام آخر يأتي تحقيقه في مسألة الجاهل في العبادات.

وبما قرّرناه ظهر أنّ المسألة في جواز تقليد العامي الغير البالغ حدّ الاجتهاد في المسائل اجتهاديّة ومدركها العقل القاطع ، ولا سبيل للتقليد فيها ولا يكفي فيها الدليل الظنّي لئلاّ يلزم الدور ، ولو فرض عاميّ عجز عن النظر والاجتهاد في تلك المسألة بحيث لم يتمكّن عن تتميم الدليل العقلي على الوجه الّذي قرّرناه أيضا فلا بدّ وأن يجتهد في جواز التقليد في تلك المسألة وحدها الّتي هي مسألة اصوليّة أو كلاميّة كما هو الأظهر ، وطريقه أن يقال : إنّ جواز التقليد في الفروع للعامي أو وجوب الاجتهاد عليه فيها أيضا مسألة ، ولابدّ للعامي إمّا من الاجتهاد فيها بإقامة دليل واقعي على أحد الطرفين أو من تقليد الغير ، ولا سبيل له إلى الأوّل لتعذّره عليه فيقبح التكليف به بحكم العقل المستقلّ ، فتعيّن الثاني وحينئذ يرجع إلى مجتهد يجوّز التقليد في الفروع ويقلّده فيه لا إلى من يوجب الاجتهاد فيه ، وإلاّ رجع تقليده له إلى الالتزام بوجوب أمر غير مقدور وهو قبيح.

وبالجملة مسألة جواز التقليد في الفروع للعامي لابدّ وأن تكون اجتهاديّة - بأن يستند في تقليده فيها إلى اجتهاد نفسه في جواز ذلك التقليد - أو منتهية إلى الاجتهاد بأن يستند في تقليده في الفروع إلى تقليده في مسألة جواز التقليد في الفروع وفيه إلى اجتهاد نفسه القاضي بحكم العقل المستقلّ بتعيّن هذا التقليد.

ولو فرض أنّ عاميّا لقصور نظره وضعف فطنته عجز عن الاجتهاد في المقامين ، فإن لم يكن ملتفتا إلى مسألة جواز التقليد أصلا ومع ذلك قلّد من له أهليّة التقليد في الفروع صحّ تقليده لمصادفته الواقع ، وإن كان ملتفتا شاكّا في جواز التقليد وقلّد مع ذلك من له أهليّة التقليد فإن لم يكن شكّه هنا مخلاّ بقصد التقرّب في عباداته صحّ تقليده أيضا لمصادفته الواقع ، وإن أخلّ به كان في تقليده كمن لم يقلّد أصلا لشكّه في جوازه ، فهو إن تيسّر له الاحتياط والتفت إليه أيضا كان حكمه الواقعي هو الاحتياط ، وإن لم يتيسّر له ذلك أو كان غافلا عنه بالمرّة فمقتضى قواعد العدليّة كونه كمن لا تكليف عليه أصلا ، لقبح خطابه بكلّ من الطرق الثلاث المعمولة في الفروع من الاجتهاد والتقليد والاحتياط

ص: 376

فيقبح خطابه في الفروع أيضا.

تنبيهات التقليد :

اشارة

وينبغي التنبيه على امور :

التنبيه الأوّل : في موضوع التقليد

أحدها : أنّه لا فرق في جواز التقليد لمن لم يبلغ رتبة الاجتهاد في المسائل الفرعيّة بين أن يكون المسألة اجتهاديّة مبتنية على الأمارات الظنّية أو لا ، بأن يكون عليها دلالة قاطعة كما عن المعارج والمبادئ والتهذيب وشرح المبادي لفخر الإسلام ، وهو ظاهر الأصحاب في إطلاق تجويزهم التقليد له.

وفي المفاتيح دعوى الشهرة العظيمة وظهور عدم الخلاف بين أصحابنا القائلين بجواز التقليد.

وعن أبي عليّ الجبائي القول بالفرق ، فجوّز التقليد في المسائل الاجتهاديّة دون ما عليه دلالة قاطعة ، محتجّا بأنّ الحقّ فيما ليس من مسائل الاجتهاد واحد فتجويز التقليد فيه يستلزم عدم الأمن من التقليد في خلاف الحقّ ، بخلاف مسائل الاجتهاد لتصويب كلّ مجتهد فيها.

ويدفعه : إطلاق الأدلّة ولا سيّما الإجماعات المنقولة ، بل تحقّق الإجماع العملي على التقليد فيهما معا ، ويكفي في ضعفه أنّ تشخيص موارد وجود الدلالة القاطعة عن غيرها لا يتأتّى إلاّ من المجتهد ، لابتنائه على اجتهاد تامّ يستغرق برهة من وقت العمر ، وهو متعذّر لكثير من العوامّ ومتعسّر للباقين ، مع قصور أكثر العوامّ عن إعمال النظر في الأدلّة القطعيّة وإحراز ما له دخل في قطعيّتها من المقدّمات بعد تشخيص موارد وجودها ، إلاّ أن يراد من الدلالة القاطعة ما ليس من القطعيّات النظريّة كالضرورة ونحوها.

ويرد عليه حينئذ : أنّ مثل هذه الدلالة القاطعة خارجة عن مورد التقليد خروجا موضوعيّا ، ولا يعقل فيه الإخراج الحكمي ليكون قولا بالفرق في المسألة ، هذا مع وضوح فساد مستنده.

أمّا أوّلا : فلبطلان التصويب في مسائل الاجتهاد ، وعلى التخطئة - كما هو الصواب - فعدم الأمن من التقليد في خلاف الحقّ مشترك اللزوم.

وأمّا ثانيا : فلقيام احتمال الإفتاء بخلاف الحقّ في مسائل الاجتهاد أيضا ، لجواز ترك الاجتهاد فيها رأسا أو التقصير فيه أو الإفتاء بغير ما أدّى إليه اجتهاده لكذب أو سهو أو نسيان أو نحو ذلك ممّا يوجب عدم الأمن من التقليد في خلاف الحقّ في مسائل الاجتهاد أيضا حتّى على التصويب ، إلاّ أن يدفع ذلك بعدالة المفتي وغيرها من الاصول النافية لنحو الاحتمالات المذكورة.

ص: 377

وأمّا ثالثا : فلأنّ الدلالة إن اريد بها ما يلازم الواقع لذاته بدوام مصادفته له فالإفتاء من جهته إفتاء بالحقّ لا محالة فيكون الأخذ به تقليدا في الحقّ لا غير ، وإن اريد بها ما لا يلازم الواقع لقبوله الخطأ واختلاف النظر بحيث احتمل في حقّ العامي الناظر فيه أيضا عدم إصابة الحقّ ، فالأخذ بمؤدّاه حينئذ يستلزم عدم الأمن من الوقوع في خلاف الحقّ بالاجتهاد ، وهذا ليس بأولى من التقليد في خلاف الحقّ.

ولو قيل : بأنّه إذا كان مجتهدا فهو معذور في خطائه ، قلنا : كلّما كان المجتهد معذورا في خطائه كان مقلّده في هذا الخطأ معذورا بالإجماع ، بل ربّما لا يكون المجتهد معذورا كما لو كان مقصّرا في اجتهاده وكان مقلّده معذورا.

وقضيّة ذلك أن يكون التقليد في خلاف الحقّ أهون من الوقوع في خلاف الحقّ بالاجتهاد.

ولو قيل : بأنّه إذا حصل له القطع بما فرض في المسألة من وجود الدلالة القاطعة فهو لا يجوّز في حقّ نفسه الوقوع في خلاف الحقّ حتّى لا يأمن في عمله من الوقوع في خلاف الحقّ بخلاف ما لو قلّد في ذلك.

قلنا : نفرض مورد النقض قبل الدخول في المسألة وإعمال النظر في الدلالة القاطعة الموجودة فيها بالفرض ، فهو حينئذ كما يجوّز في تقليده على تقدير البناء عليه كونه تقليدا في خلاف الحقّ إلتفاتا منه إلى احتمال خطأ المفتي ، فكذلك يجوّز في حقّه الوقوع في خلاف الحقّ التفاتا منه قبل العثور على الدلالة القاطعة احتمال عدم إصابة الواقع ، فهو حينئذ في اختيار كلّ من الأمرين لا يأمن من الوقوع في خلاف الحقّ ، فإن كان ذلك مانعا من اختيار التقليد وجب كونه مانعا من اختيار النظر أيضا وإلاّ فلا ، والفرق بين المقامين تحكّم واضح.

وأمّا رابعا : فلأنّ خوف الوقوع في خلاف الحقّ إنّما يصلح وجها للمنع من التقليد لو اعتبرنا فتوى المفتي في حقّ المقلّد من باب الطريقيّة الكاشفة عن الواقع بعنوان القطع لا من باب الموضوعيّة بالمعنى الّذي نقرّره - كما هو الحقّ - أو الطريقيّة الظنّية كما قيل.

التنبيه الثاني : في اشتراط حجّيّة قول المجتهد للمقلّد بإفادته الظنّ وعدمه

وثانيها : أنّ قول المفتي وفتوى المجتهد بالنسبة إلى عمل المقلّد هل هو من الأمارات التعبّديّة الغير المنوط اعتبارها بحصول الظنّ بالواقع كالبيّنة واليد حتّى أنّه لو ظنّ المقلّد بخطأ المجتهد في الحكم أو دليله جاز له تقليده ، أو هي من قبيل الأمارات الاجتهاديّة

ص: 378

المنوطة بإفادتها الظنّ بالواقع؟ قولان ، أقواهما الأوّل وفاقا لجمع ، وهو ظاهر إطلاق الأكثر بجواز التقليد للعامي أو وجوب رجوع من لم يبلغ رتبة الاجتهاد إلى المجتهد ، بل ظاهر إطلاق معاقد الإجماعات المنقولة.

لنا على ذلك : أنّ معنى التقليد - على ما بيّنّاه في توجيه تعريفه - أن لا يعتبر فيه حصول الظنّ للمقلّد من فتوى المجتهد ، ولو اتّفق حصوله في بعض الأحيان كان في خلوّه عن الفائدة كالحجر الموضوع في جنب الإنسان ، وذلك أنّ الأخذ بقول الغير من دون دليل على خصوص ذلك القول معناه أن يكون مستند الآخذ في أخذه نفس ذلك القول.

وهذا يقتضي أن لا يكون لظنّ الآخذ مدخليّة فيه ، وإلاّ كان مستنده هو ظنّه الحاصل بالقول لانفس القول الّذي يعبّر عنه في المقام بالفتوى ، وهو بهذا المعنى مورد للأدلّة المتقدّمة المقامة على مشروعيّته ووجوب رجوع العامي إلى المجتهد ، ومنها قوله عليه السلام : « فللعوام أن يقلّدوه » وقوله عليه السلام أيضا : « فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا » وهو معقد الإجماعات المنقولة.

وقضيّة ذلك أن لا يحتاج المقلّد لعمله في المسائل إلى أزيد من إحراز فتوى مجتهده بطريق العلم أو ما يقوم مقامه ، كما يشهد به القياس المعروف المنتظم من القطعيّتين المقام على جواز عمله في كلّ مسألة ترد عليه ويقلّد فيها ، المقرّر : « بأنّ هذا ما أفتى به المفتي ، وكلّما أفتى به المفتي فهو حكم اللّه في حقّي » حيث اكتفى في حدّ الوسط بفتوى المفتي ولم يؤخذ معها ظنّ المستفتي.

ولو سلّم عدم مساعدة معنى التقليد على نفي اعتبار ما عدا الفتوى كفانا لإثبات نفي اعتبار الظنّ إطلاق الأدلّة ومعاقد الإجماعات المنقولة حسبما أشرنا إليه ، مضافا إلى صريح معقد الإجماع العملي وهو سيرة المسلمين ، فإنّ الفتوى في غالب مواردها وإن كانت تصادف حصول الظنّ والاطمئنان للمستفتي بالمفتي لكثرة وثوقه به واعتماده عليه ، غير أنّه ليس من الظنّ بالواقع في كلّ مسألة ، ولو سلّم فحصوله ليس على وجه الالتزام والتقييد بحيث يكون مدار عمل المستفتين بفتاوى المفتين على مراعاة الظنّ الفعلي بالحكم.

نعم ربّما يسبق إلى الوهم أنّ التمسّك بالدليل العقلي الّذي مرجعه إلى دليل الانسداد المنتج للظنّ المطلق يقضي بابتناء التقليد أيضا على الظنّ المطلق.

ولكن يزيّفه : ما بيّنّاه في مباحث الاجتهاد من أنّ العقل بعد ملاحظة تعذّر الامتثال العلمي التفصيلي لفرض انسداد باب العلم وسقوط اعتبار الامتثال العلمي الإجمالي - المبنيّ على

ص: 379

العمل بالاحتياط عقلا لتعذّره ، أو شرعا لأدائه إلى العسر والحرج العظيم الّذي لا يتحمّل مثله عادة ، أو للإجماع بل الضرورة على أنّه ليس مبنى امتثال أحكام اللّه المعلومة بالإجمال في الشريعة على طريقة الاحتياط على التعيين - لا يحكم بتعيّن الظنّ أو غيره أوّلا وبالذات ، بل إنّما يحكم بتعيّن العمل بما هو أقرب إلى الامتثال العلمي تفصيلا أو إجمالا ممّا لا يستتبع محذوريهما ولا محذور آخر ، وإنّما صار نتيجته للمجتهد العمل بالظنّ لأنّ الأقرب إلى الامتثال العلمي في حقّ المجتهد هو الامتثال الاجتهادي المبنيّ على الأخذ بالظنون الاجتهاديّة ، ومرجعه إلى الأخذ بالمظنونات على أنّها أحكام فعليّة يجب بناء العمل وترتيب آثار الواقع عليها.

ولا ريب أنّ الأقرب إلى الامتثال العلمي بكلا قسميه بعد تعذّره وتعذّر الامتثال الاجتهادي في حقّ المقلّد هو الامتثال التقليدي المبنيّ على العمل بفتاوى المجتهد ، ومرجعه إلى الأخذ بالأحكام المفتى بها في امتثال أحكام اللّه المعلومة بالإجمال على أنّها أحكام فعليّة يجب بناء العمل وترتيب آثار الواقع عليها.

وهذا كما ترى ممّا لا مدخل لظنّ المقلّد فيه أصلا ولا نظر للعقل في حكمه بتعيّنه إلى اعتبار حصول ظنّ له.

بل نقول : إنّ الأحكام المفتى بها بالنسبة إلى المقلّد هي بعينها المظنونات بالظنون الاجتهاديّة بالنسبة إلى المجتهد ، وكما أنّ المجتهد لا يعتبر في عمله أزيد من علمه بمظنوناته الحاصل له باجتهاده ، فكذلك المقلّد لا يعتبر في عمله أزيد من علمه بمظنونات مجتهده الحاصل له بالإفتاء.

وقضيّة ذلك أن يكون وجه اعتبار الأحكام المفتى بها لعمل المقلّد هو وجه اعتبار تلك الأحكام في عمل المجتهد بعينه ، وهو كونها مظنوناته ومؤدّيات اجتهاده الّتي دلّ القاطع من العقل والشرع على كونها أحكاما فعليّة يجب عليهما بناء العمل عليها وترتيب آثار الواقع عليها ، كما يشير إليه القياس المنتظم لعمل المجتهد بظنّه في كلّ مسألة ، المقرّر في كلامهم من غير خلاف : « بأنّ هذا ما أدّى إليه اجتهادي ، وكلّ ما أدّى إليه اجتهادي فهو حكم اللّه في حقّي وحقّ مقلّدي » حيث أخذ المجتهد والمقلّد معا في جانب الأكبر ، ومرجعه إلى كونهما معا موضوعين لحكم اللّه الفعلي.

وبالجملة كون مظنونات المجتهد ومؤدّيات اجتهاده أحكام اللّه الفعليّة نسبته واحدة

ص: 380

فيما بينه وبين مقلّديه ، ومعه لا يعقل في عمل المقلّد اعتبار أزيد من فتوى المجتهد ، والأصل في وحدة النسبة - حسبما بيّنّاه - كون الاجتهاد وتحصيل مقدّماته واجبا كفائيّا ، فإذا حصل ممّن قام به الكفاية وهو المجتهد كان مسقطا عن سائر المكلّفين الغير البالغين رتبة الاجتهاد ، وإنّما لم يسقط من البالغين رتبة الاجتهاد لقيام القاطع من العقل والشرع على عدم كون مؤدّيات اجتهاد مجتهد أحكاما فعليّة في حقّهم.

فإن قلت : إذا كان مبنى الدليل العقلي المقام على حجّية ظنّ المجتهد له وفتواه لمقلّده على تعيّن الأخذ بالأقرب كما ذكرت.

فنحن نقول : إنّ الفتوى المفيدة للظنّ للمقلّد أقرب إلى الواقع من الفتوى الغير المفيدة له ، فتعيّن الأخذ بالاولى ولا يسوغ العدول عنها إلى الثانية أخذا بموجب الدليل العقلي.

قلت : هذه الأقربيّة على فرض اطّراد إمكان حصول الظنّ للمقلّد من فتوى المجتهد ملغاة في نظر العقل ، وغير مؤثّرة في تعيين الأخذ بما أفاد الظنّ ومنع الأخذ بما لم يفده ، سواء فرضت الاختلاف في إفادتها إيّاه وعدم إفادتها له بين مقلّدين لمجتهد واحد بأن أفاد فتواه في المسألة لأحدهما الظنّ ولم تفده للآخر ، أو بين مجتهدين لمقلّد واحد بأن حصل له الظنّ في المسألة من فتوى أحدهما دون فتوى الآخر ، وليست هذه الأقربيّة إلاّ كالأقربيّة المتوهّمة في البيّنة المفيدة للظنّ للحاكم في واقعة حكمه قبالا لبيّنة اخرى موافقة لها ومساوية لها في اجتماع شرائط الحجّية والاعتبار غير مفيدة للظنّ ، مع أنّه لا ريب في كونها ملغاة في نظر العقل والشرع ، لبناء البيّنات على التعبّد الصرف فيكون الظنّ المفروض مع بيّنته في لحاظ الحاكم وقضيّة الحكم كالحجر الموضوع في جنب الإنسان.

والضابط في مؤثّرية الأقربيّة كونها موجبة لصيرورة مورد الأقرب حكما فعليّا بالخصوص مقرونا بالشكّ في فعليّة مورد الغير الأقرب ، أو القطع بعدم فعليّته أي عدم كونه الحكم الفعلي الّذي يجب التديّن به ، وذلك كفتوى المجتهد الجامع لشرائط الإفتاء قبالا لفهم المقلّد نفسه وظنّه الحاصل له من غير جهة الفتوى أو قول غيره ممّن ليس بمجتهد جامع الشرائط كأبيه أو أمّه أو معلّمه أو عالم آخر غير فقيه ، وإن اتّفق حصول الظنّ له بأحد هذه المذكورات ولم يحصل من فتوى المجتهد الجامع للشرائط.

ولا ريب أنّ الأوّل نوعا أقرب إلى الواقع باعتبار غلبة مصادفته الواقع ، وكلّ من مقابلاته أبعد عن الواقع نوعا باعتبار غلبة عدم مصادفة الواقع ، ولذا كان ما يفسد المقلّد

ص: 381

منها أكثر ممّا يصلحه ، فيحكم العقل المستقلّ بملاحظة هذه الأقربيّة بتعيّن الأخذ بالأوّل ويمنعه من الأخذ بمقابلاته.

وقضيّة ذلك كون أحكامه الفعليّة الّتي يجب عليه التديّن بها فتاوى المجتهد دون غيرها.

ولا ريب أنّ هذه الأقربيّة غير موجودة في فتوى المجتهد المفيدة للظنّ قبالا لغير المفيدة له في شيء من الصورتين المتقدّمتين.

أمّا في الصورة الاولى : فلأنّ المفروض كون مؤدّيات اجتهاد المجتهد الواحد أحكاما فعليّة يجب بناء العمل عليها ، وهذه نسبته واحدة بينه وبين كلّ مقلّد له وهو من شأنه التقليد باعتبار عدم بلوغه رتبة الاجتهاد ، ولا تختلف هذه النسبة باتّفاق حصول الظنّ من فتواه لمقلّد دون آخر ، ضرورة أنّ من لم يحصل له الظنّ لا محيص له أيضا من تقليد هذا المجتهد.

وأمّا في الصورة الثانية : فلأنّ المفروض كون مؤدّيات اجتهاد كلّ من المجتهدين أحكاما فعليّة في حقّه وحقّ مقلّديه ، وهذه أيضا نسبة واحدة بينه وبين كلّ من شأنه ووظيفته التقليد ، سواء رجع إلى أحدهما المعيّن أو اختلفوا في الرجوع بأن اختار طائفة أحدهما واخرى الآخر ، لا يتفاوت الحال في ذلك بين اتّفاق حصول الظنّ من فتوى أحدهما في مسألة دون فتوى الآخر وعدمه.

وقضيّة ذلك كون الأحكام الفعليّة لكلّ مقلّد قبل اختياره أحدهما مخيّرا فيها بين فتاوى هذا المجتهد أو فتاوى ذاك المجتهد ، فأيّهما اختار تعيّن عليه مختاره ، والأصل في ذلك تساوي المجتهدين في غلبة مصادفة فتاوى كلّ منهما نوعا للواقع وإن اختلفوا في خصوصيّات المسائل المختلف فيها.

ومرجع هذا التساوي إلى كون فتاوى أحد المجتهدين مع فتاوى صاحبه متشاركتين في المصلحة ، فتعيّن إحداهما أحكاما فعليّة للمقلّد في ابتداء أمره دون الاخرى ترجيح بلا مرجّح وهو محال ، وما قد يتّفق حصوله له في شخص مسألة من الظنّ من فتوى أحدهما في هذه المسألة لا يصلح مرجّحا للنوع ، وإناطة الأمر بالظنّ الفعلي في خصوصيّات المسائل الموجب لتعيّن تقليد كلّ منهما في مسألة حصل الظنّ فيها من فتواه توجب عدم انتظام أمر التقليد وفي ذلك عسر عظيم وحرج شديد لا يتحمّل عادة.

نعم لو كان المجتهدان مع اختلافهما في الرأي متفاضلين - بكون أحدهما فاضلا والآخر مفضولا ومرجعه إلى اختلافهما في الأعلميّة وغيرها - أمكن القول بكون فتوى الأعلم

ص: 382

أقرب إلى الواقع من فتوى غير الأعلم بالأقربيّة المؤثّرة في كون مؤدّيات اجتهاده أحكاما فعليّة للمقلّد المتمكّن من الرجوع إليهما باعتبار كونها أغلب مصادفة للواقع من فتاوى غير الأعلم وإن كانت هي في حدّ أنفسها أيضا غالب المصادفة له ، فيحكم العقل بتعيّن الأخذ بها ولو باعتبار كونها القدر المتيقّن من الحكم الفعلي ، لمكان الشكّ في كون فتوى غير الأعلم أيضا حكما فعليّا في حقّه وعدمه ، إلاّ أن يكون هناك صارف لهذه الأقربيّة عن التأثير ، نظير صارف أقربيّة الاحتياط عن التأثير في تعيّن العمل به من تعذّره لكثير وتعسّره للباقين فسقط اعتباره مع دوام إصابته الواقع ، فأمكن إجراء نحوه في المقام بأن يقال : إنّ الأخذ بهذا الأقرب يتوقّف على تشخيص الأعلم ومعرفته وتمكّن الوصول إليه وهو متعذّر لأكثر العوامّ ومتعسّر للباقين ، فتأمّل وتمام البحث يأتي في محلّه.

ثمّ لو فرض عدم كون نتيجة الدليل العقلي الأخذ بالأقرب ، نقول : كونه منتجا للظنّ المطلق إنّما يسلّم مع تعدّد الأمارات وأسباب الظنّ نوعا كما هو الحال في أمارات المجتهد ، وأمّا مع اتّحاد الأمارة وانحصارها في واحد - كما فيما نحن فيه لكون فتوى المجتهد بالقياس إلى عمل المقلّد بحسب النوع أمراة واحدة - فنتيجته الظنّ الخاصّ على معنى كون اعتبارها من هذا الباب ، ومرجعه إلى اعتبار ذات سبب الظنّ وإن يفده لا الظنّ الحاصل منه بالخصوص كما تنبّه عليه بعض مشايخنا قدس سره ، واعتبار الوحدة في النوع ممّا يدفع توهّم كون المجتهدين المختلفين في الرأي بالنسبة إلى المقلّد أمارتين متعارضتين فوجب الترجيح بينهما بالظنّ ، فيلزم كون الدليل منتجا للظنّ المطلق ، فإنّ فتوى المجتهد بالمعنى الجنسي في كلّ من المضاف والمضاف إليه نوع واحد تتعدّد تارة جزئيّاته الإضافيّة واخرى جزئيّاته الحقيقيّة ، ولا ينافي شيء منهما لوحدته النوعيّة كما في خبر الواحد.

غاية الأمر أنّه لو وقع التعارض بين الإضافيّين أو فردين منهما بنى على التخيير في المتساويين لاستحالة الترجيح من غير مرجّح ، وعلى الترجيح في المتفاضلين بالأعلميّة أو الأورعيّة إن قلنا به ، وإلاّ فعلى التخيير مطلقا.

ثمّ بقي في المقام شيء وهو أنّه قد يتوهّم أنّ أخذ الأقربيّة والأكمليّة في محلّ التقليد على ما هو نتيجة الدليل العقلي كما ذكرناه أوّلا ينافي ما تقدّم سابقا في معنى التقليد من أنّه الأخذ بقول الغير من حيث إنّه قوله ، على أن يكون الوسط كونه قوله لا غير ، فإنّ قضيّة هذا البيان كون قول الغير مأخوذا فيه على وجه الموضوعيّة ، وقضيّة الدليل العقلي كونه

ص: 383

يؤخذ به على وجه الطريقيّة كما هو مفاد إناطة الأمر بالأقربيّة.

ويدفعه : أنّ أخذ قول الغير من حيث هو في معنى التقليد للتنبيه على أنّ المقلّد في أخذه بذلك القول لا يتحرّى في طلب الدليل التفصيلي الّذي نشأ منه ذلك القول ، واللازم منه كون وسطه كونه قولا للغير ، وأخذ الأقربيّة في محلّ التقليد إنّما هو لنفي اعتبار الأبعد كقول غير الفقيه الجامع للشرائط ، مع التنبيه على عدم كون مصلحة الواقع في جعل قول الفقيه مرجعا للمقلّد ملغاة في نظر الشرع والعقل وهذا لا ينافي الموضوعيّة ، لا بمعنى أن يحدث بسبب قيام أمارة الفتوى بالواقعة مصلحة فيها مقابلة لمصلحة الواقع مغيّرة للحكم ليلزم منه التصويب الباطل ، بل بمعنى أنّه قصد من الأمر بسلوكها إدراك مصلحة الواقع والوصول إليه مع اشتماله على مصلحة يتدارك بها ما فات من مصلحة الواقع على تقدير عدم إصابتها الواقع ، كما هو الحال في الأمارات المجعولة للمجتهد لئلاّ يلزم الظلم على الشارع بتفويته مصلحة الواقع على المكلّف بلا مصلحة متدارك بها ، كما يلزم ذلك على تقدير جعلها من باب الطريقيّة ، وهذا هو المراد من اعتبارها من باب الموضوعيّة.

وإن شئت سمّه بشبه الموضوعيّة من حيث كونه برزخا بين الموضوعيّة والطريقيّة كما أو مأنا إليه في المباحث المتقدّمة.

وبالجملة فرق واضح بين معقد اصطلاحهم في التقليد ومورد الأدلّة المقامة على مشروعيّته ، ويختلف الحال في ذلك باعتبار الحيثيّة ، فقول المجتهد إن اخذ من حيث ذاته ومع قطع النظر عن الدليل الّذي هو مدرك القول ومنشائه كان داخلا في مفهوم التقليد بحسب العرف والاصطلاح ، وإن اخذ من حيث وصفه وهو الأقربيّة كان موردا للأدلّة المقامة على مشروعيّة التقليد من العقل والشرع ، ومرجعه إلى أنّ أدلّة مشروعيّة التقليد إنّما قضت بجواز الأخذ بقول الغير من غير دليله التفصيلي إذا كان أقرب إلى الواقع لا مطلقا ، ولا يكون ذلك إلاّ قول المجتهد الجامع لشرائط الإفتاء ، فلا تدافع بين الاعتبارين.

التنبيه الثالث : في من يشرع له التقليد

وثالثها : أنّ التقليد المشروع - على ما ظهر من تضاعيف المسألة - مخصوص بالمكلّف الغير البالغ رتبة الاجتهاد ، عاميّا كان أو فاضلا عارفا بطرف من العلوم ، وأمّا غيره البالغ رتبته المعبّر عنه بصاحب ملكة الاستنباط فإن كان بحيث اجتهد في المسائل فعلا وكان مطلقا فلا إشكال في أنّه لا يجوز له التقليد قولا واحدا وعليه الإجماع بقسميه من المحصّل والمنقول مستفيضا ، ومدركه الكبرى المتحصّلة للمجتهد بموجب الأدلّة القاطعة الناطقة

ص: 384

بحجّية ظنّه ومؤدّى اجتهاده المعبّر عنها : « بأنّ كلّما أدّى إليه اجتهادي فهو حكم اللّه في حقّي » فإنّها في اقتضاء المنع من التقليد من القضايا الّتي قياساتها معها ، ضرورة أنّ كون مؤدّى اجتهاده حكم اللّه في حقّه معناه وجوب بناء العمل عليه وحرمة مخالفته ، والرجوع إلى الغير في محلّ الخلاف مخالفة وطرح له فيكون حراما.

وإن كان متجزّيا فلا إجماع على منع التقليد فيه كما لا إجماع على جواز عمله بظنّ نفسه لمكان الخلاف ، غير أنّ الأقوى جواز العمل له بظنّه لكونه أقرب إلى الواقع بالقياس إلى ظنّ غيره ، وقد يعلّل بأنّه عمل عن معرفة والتقليد عمل لا عن معرفة.

ولا ريب في رجحان الأوّل وحسنه في نظر العقل ، كحسن تحصيل ملكة الاستنباط فيمن يقدر عليه وهو مردّد بينه وبين التقليد.

ولا خفاء في ضعفه ، لأنّ حسن العمل عن معرفة إنّما يسلّم في العمل المشروع ، وما شكّ في مشروعيّته لا حسن فيه بل العقل مستقلّ بقبحه كما يظهر بأدنى تأمّل.

هذا إذا كان الناظر في حكم المتجزّي غيره من العلماء الأزكياء وأمّا إذا كان الناظر هو المتجزّي نفسه لاستعلام حكمه فلمّا كان أمره دائرا بين المحذورين حرمة التقليد وحرمة العمل بالظنّ - لاندراجه في كلّ من عمومات المنع من التقليد وعمومات المنع من العمل بالظنّ بل منع العمل بما وراء العلم - فالمتعيّن في حقّه اتّباع العلم وانتهاء عمله إليه في المسألة الفرعيّة أو الاصوليّة أو العمل بالاحتياط ولا محيص له عن أحد هذه الامور ، فإن أدّى اجتهاده في المسألة الفرعيّة إلى العلم بالحكم الواقعي فلا إشكال ، وإلاّ تأمّل في المسألة الاصوليّة فإن وصل إلى قاطع يقضي بجواز بنائه على ظنّه وأخذه بمؤدّى اجتهاده أو بجواز رجوعه إلى غيره فلا إشكال أيضا ، وإلاّ فلا مناص له من العمل بالاحتياط ، وإن كان لم يجتهد فعلا أصلا ففي جواز التقليد له أو وجوب العمل بالاحتياط خلاف.

والتحقيق هنا أيضا أنّ الحكم الواقعي في حقّه أحد الأمرين من الاجتهاد والعمل بمؤدّاه أو الأخذ بالاحتياط بعد معرفته ومعرفة موارده ، ولا يسوغ له العدول إلى التقليد لعموم أدلّة منعه وحرمته واستقلال العقل برجحان الاجتهاد وحسنه.

هذا إذا أمكنه الاجتهاد ، وأمّا إذا لم يمكنه لضيق وقت أو فقد كتب أو مانع آخر فمقتضى الأصل والقاعدة تعيّن العمل بالاحتياط وعدم جواز التقليد له ، لكن ظاهر العلماء هنا جواز التقليد وعدم وجوب الاحتياط لعدم كونه ممّا أوجب الشارع سلوكه بعينه في امتثال أحكامه.

ص: 385

وقد سبق البحث مشروحا في جميع هذه المسائل في مباحث الاجتهاد ولا حاجة هنا إلى الإعادة والتكرار.

التنبيه الرابع : في مشروعيّة الاحتياط لتارك طريقي الاجتهاد والتقليد

ورابعها : أنّ التقليد المشروع للعامي ومن بحكمه هل هو على التخيير بينه وبين العمل بالاحتياط مع إمكانه كما هو الأصحّ ، أو على التعيين؟ فلا يجزيه الاحتياط ولا يجوز البناء عليه كما عن ظاهر الأكثر ، ويوهمه إطلاق إجماعاتهم المنقولة على بطلان عبادات الجاهل وعمل تارك طريقي الاجتهاد والتقليد ، وعلى وجوب معرفة واجبات الصلاة ومستحبّاتها ليقع كلّ على وجهه ، وما عن المتكلّمين من إطباقهم على وجوب معرفة واجب كلّ عبادة ومستحبّه ليقع كلّ على وجهه.

وهذا هو الكلام في الجهة الثانية من الجهتين المتقدّم إليهما الإشارة ، غير أنّه لا يختصّ بالمقلّد بل يجري في المجتهد أعني صاحب ملكة الاستنباط الّذي طريقه المشروع هو الاجتهاد ، فيقال : هل هو على التخيير بينه وبين العمل بالاحتياط أو على التعيين؟ فالعنوان العامّ الجامع لهما هو أنّ المكلّف بسلوك أحد الطريقين هل يجوز له ترك هذا الطريق وسلوك مسلك الاحتياط أو لا؟

وإنّما قيّدنا العنوان بتارك الطريقين إذ لا إشكال بل لا خلاف لأحد في غير صورة الترك في حسن الاحتياط ورجحانه بل وجوبه أيضا في بعض الأحيان ، كالمجتهد في المسائل المتردّد فيها لفقد نصّ أو إجماله أو تعارضه ، وكالمتجزّئ إذا لم يؤدّ اجتهاده في المسألة الفرعيّة إلى القطع بالحكم وعجزه عن إقامة الدلالة القاطعة في المسألة الاصوليّة على عمله بظنّه ولا ظنّ غيره ، وكالمطلق بعد فراغه من الاستنباط أو المقلّد له بعد استكماله التقليد فيحسن لهما الأخذ بطريقة الاحتياط في مظانّ مخالفة الفتوى له.

وعلى هذه الصورتين ينزّل القضيّة المشهورة المتسالم فيها المعبّر عنها : « بأنّ الاحتياط حسن على كلّ حال » دفعا لمنافاتها الإشكال والخلاف الّذي عنون لأجله المسألة إن كان.

ثمّ من الظاهر اختصاص الإشكال أو الخلاف - على فرض ثبوته - بالاحتياط المعمول به في العبادات بالمعنى الأخصّ وهو ما اعتبر في صحّته النيّة وقصد القربة ، وأمّا المعاملات بالمعنى المقابل لها سواء كان ممّا بنى مشروعيّته على ورود الأمر به إيجابا أو ندبا كالواجبات والمندوبات التوصّلية أو لا كالعقود والإيقاعات فينبغي القطع بجواز ترك الطريقين وسلوك طريقة الاحتياط فيها ، فالمريد لغسل المتنجّس مثلا يحتاط فيغسله مرّتين ، والقاصد لإجراء

ص: 386

عقد النكاح يحتاط فيجمع بين صيغتي العقد وهكذا ، لأنّها أسباب لمسبّبات معيّنة لم يعتبر في ترتّبها عليها نيّة القربة حتّى يستشكل من جهة تعذّر إحراز النيّة من الجاهل ، ولم يقل أحد فيها باشتراط قصد الوجه ولا العلم به حتّى يستشكل تمسّكا بانتفاء الشرط ، كما أنّ من الظاهر أيضا اختصاص جريان الاحتياط في العبادات بكلّ واقعة لم يحتمل فيها الحرمة الذاتيّة لعدم إمكانه مع احتمالها.

وأمّا الحرمة التشريعيّة فلا تنافي الاحتياط بل هو رافع لموضوعها ، لأنّه عبارة عن الإتيان بما لم يعلم كونه من الشرع لرجاء كونه من الشرع ، ويتأتّى معه نيّة القربة لو كانت عبادة أو احتمل كونها كذلك ويرتفع به موضوع التشريع ، سواء أخذناه بمعناه الأعمّ وهو إدخال ما لم يعلم دخوله في الدين فيه ، أو بمعناه الأخصّ وهو إدخال ما علم خروجه من الدين فيه كما هو واضح.

ولا ينافيه أيضا قوله تعالى : ( أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ * وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) لأنّه ليس قولا على اللّه بل هو أخذ بما لعلّه من اللّه.

ثمّ إنّ صور الاحتياط بأجمعها ومواردها مقصورة على أربع يختلف باختلافها كيفيّته ، ففي محتمل الوجوب أو الحرمة يتأتّى باختيار الفعل في الأوّل والترك في الثاني ، وفيما يشكّ كون وجوبه على التعيين أو التخيير بينه وبين غيره يتأتّى بإتيان ما احتمل التعيين ، وفيما يشكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته للعبادة يتأتّى بالإتيان بها مع المشكوك فيه جزءا أم شرطا ، وفيما يتردّد المكلّف به بين المتبائنين كالظهر والجمعة والقصر والإتمام يتأتّى بالجمع والتكرار ، فهل يشرع في الجميع ، أو لا في الجميع ، أو شرع في الصورة الاولى خاصّة ، أو في الصورتين الاوليين كذلك ، أو في الصور الثلاث الاولى دون الأخيرة؟ ومنشاؤه الاستشكال في صحّة العمل اكتفاء بالامتثال الإجمالي - وهو ما لا يعلم أنّ موافقة الأمر بأيّ شيء حصل - مع إمكان الامتثال التفصيلي بمعرفة الحكم الفعلي بطريق الاجتهاد ولو ظنّا أو التقليد ولو تعبّدا ، والمراد من مشروعيّة الاحتياط - على ما نبّهنا عليه في عنوان المسألة - كونه طريقا مجعولا ليكون في مقابلة كلّ من الطريقين أحد فردي الواجب التخييري ، بناء على أنّه يشاركهما في المصلحة الباعثة على جعلهما طريقين وهو إدراك مصلحة الواقع أو مثل مصلحة الواقع.

ومن الاصول العقليّة أنّ الشيئين المتشاركين في المصلحة يقبح إيجاب أحدهما على

ص: 387

التعيين ، كما أنّ الشيء ما لم يشارك الواجب في المصلحة الباعثة على إيجابه يقبح أخذه طرفا للتخيير وجعله بدلا عن الواجب.

وهاهنا احتمال آخر على تقدير عدم كونه طريقا مجعولا ليكون أحد فردي الواجب التخييري ، بناء على أنّ الأدلّة النافية للعسر والحرج كما تنفي وجوبه تعيينا كذلك تنفي وجوبه تخييرا ، وهو أنّه هل يكون مسقطا عن الطريق المجعول لكونه محصّلا لأصل المقصود أو لا؟ فالمشروعيّة المبحوث عنها في المقام قد يراد بها كون الاحتياط أحد فردي الواجب التخييري ، وقد يراد بها كونه مسقطا عمّا هو واجب بعينه ، وليس بين الاعتبارين فائدة يعتدّ بها على الظاهر إلاّ في ترتّب الثواب على الفعل الاحتياطي لتحقّق الاحتياط به وعدمه إن قلنا به في الواجبات الغيريّة ، وفي جواز قصد الوجوب التخييري به من حيث تأدّي الاحتياط الواجب به وعدمه كما نبّه عليه بعض الفضلاء.

وكيف كان فالأصحّ الأقوى جوازه لتارك الطريقين مطلقا حتّى في نحو الصورة الأخيرة.

لنا : أنّه براءة يقينيّة وامتثال علمي فليكن مبرئ للذمّة ومخرجا عن العهدة.

وتوضيحه : أنّه طريق يتضمّن إدراك الواقع في العمل وإن لم يوجب إدراكه في العلم قبل العمل فكان أولى بالإجزاء بالقياس إلى الطريقين ، لوضوح أنّ مؤدّى الاجتهاد في عمل المجتهد ومؤدّى التقليد في عمل المقلّد إنّما يؤخذ به على أنّه هو الواقع مع عدم مصادفته في بعض الأحيان على وجه يشتمل سلوك هذا الطريق في صورة عدم المصادفة على مثل مصلحة الواقع ليتدارك به ما يفوت من مصلحة الواقع ، والعمل بالاحتياط أخذ بنفس الواقع دائما.

هذا مضافا إلى أنّه قد تقدّم عند تقرير دليل الانسداد في غير موضع أنّ قضيّة الأصل العقلي في محلّ الاشتغال اليقيني بأحكام اللّه المعلومة بالإجمال اعتبار الامتثال العلمي التفصيلي ، ومع تعذّره اعتبار الامتثال العلمي الإجمالي ، ومع تعذّر أو سقوط اعتباره شرعا - ولو للتوسعة في الشريعة السمحة السهلة - اعتبار الامتثال الاجتهادي أو التقليدي ، فالعدول إلى أحد الطريقين إنّما هو في مرتبة متأخّرة عن مرتبة الاحتياط ، ومعه كيف يعقل عدم كونه مجزيا.

وأقصى مفاد دليل عدم اعتباره إنّما هو عدم وجوب سلوكه على التعيين في نظر الشارع ، وهو لا ينافي جواز سلوكه على أنّه أحد فردي الواجب التخييري.

ولو سلّم قضاء أدلّة نفي العسر والحرج أو غيرها بعدم وجوبه مطلقا حتّى تخييرا فهو

ص: 388

لا ينافي أيضا جوازه وحصول الإجزاء به بل حسنه ورجحانه ، إذ ليس مفاد هذه الأدلّة حرمته والمنع من سلوكه ، ومرجعه على تقدير صحّة الفرض إلى كونه مسقطا عن الطريق المجعول وإن لم يكن بنفسه طريقا مجعولا يجب سلوكه تعيينا أو تخييرا ، بناء على أنّ وجوب سلوك أحد الطريقين غيريّ قصد به إدراك مصلحة الواقع ، أو إدراك مثل مصلحة الواقع المتدارك به مصلحة الواقع وإذا كان هناك طريق آخر غير مجعول أفاد إدراك نفس الواقع دائما لم يعقل عدم كونه مجزيا ومسقطا عن الطريق المجعول.

مع أنّه لا نجد في الوجوه العقليّة ولا الشرعيّة عدا أمور ربّما يتخيّل كونها وجها للمنع ، من الأصل المعبّر عنه بأصالة التعيين في واجب دار الأمر فيه بين التعيين والتخيير ، أو التشكيك في كفاية الموافقة الإجماليّة في الامتثال الواجب في موضع الاشتغال اليقيني مع إمكان الموافقة التفصيليّة حسبما أشرنا إليه ، أو لزوم قصد الوجه بمعنى الوجوب والندب في صحّة العبادة ، أو اعتبار معرفة الوجه على أنّها بنفسها من شروط الصحّة لا على أنّها مقدّمة لقصد الوجه على تقدير وجوبه ، أو إطلاق الإجماعات المنقولة على عدم معذوريّة الجاهل وبطلان عباداته الّتي منها ما ادّعاه السيّد الرضيّ وقرّره عليه أخوه السيّد المرتضى قدس سرهما في مسألة جاهل المقصّر إذا صلّى تماما المحكوم عليه في المشهور بصحّة صلاته ، حيث سئل عن هذه المسألة فقال : « الإجماع منعقد على أنّ من صلّى صلاة لا يعلم أحكامها فهي غير مجزية ، والجهل بأعداد الركعات جهل بأحكامها فلا تكون مجزية ».

وأجاب المرتضى رحمه اللّه عنه : بجواز تغيّر الحكم الشرعي بسبب الجهل وإن كان الجاهل غير معذور.

ولا خفاء في وهن الجميع :

أمّا الأوّل : فلأنّ الأصل النافي للاجتزاء بغير ما احتمل كونه واجبا على التعيين وإن صحّ في مظانّه غير أنّ المقام ليس من مظانّه ، إذ لا مدرك له سوى قاعدة الاشتغال فيدور في جريانه مدار هذه القاعدة ، وظاهر أنّها لا تجري إلاّ في موضع الشكّ في البراءة لو لا العمل بما يوجب اليقين ، وقد ظهر ببياناتنا المتقدّمة أنّ العقل مستقلّ بإدراك الامتثال والخروج عن العهدة فلا شكّ في البراءة على تقدير العمل بالاحتياط فيخرج المقام عن مجرى القاعدة ، كيف ولا موجب للشكّ إلاّ أحد الوجوه الباقية وستعرف عدم صلاحية شيء منها منشأ له.

وأمّا الثاني : - فمع توجّه المنع إلى إطلاق دعوى الموافقة الإجماليّة بالقياس إلى جميع

ص: 389

الصور الأربع المتقدّمة وإنّما تسلّم في خصوص الصورة الأخيرة ، لوضوح أنّ الاحتياط في الثلاث الاولى موافقة تفصيليّة ، لأنّه فيما يحتمل الوجوب إنّما يأتي به بداعي امتثال الأمر به بعينه على تقدير وجوبه في الواقع ، وفي الإتيان بما جامع المحتملات في مسألة الجهل بحكم الأجزاء من حيث الوجوب والاستحباب إنّما يأتي بالمأمور به بداعي الأمر به بعينه.

غاية الأمر أنّه على تقدير عدم وجوب جميع الأجزاء إنّما أتى بعين المأمور به مع زيادة ، وفي الإتيان بما احتمل كون وجوبه على التعيين إنّما يأتي بنفس المأمور به بداعي الأمر به المردّد بين التعيين والتخيير - : أنّ شبهة كفاية الموافقة الإجماليّة في الامتثال إمّا ترجع إلى الشكّ في صدق الإطاعة والامتثال على الموافقة الإجماليّة ، أو إلى الشكّ في الكيفيّة المطلوبة من الامتثال بحسب جعل الآمر ، على معنى أنّ الإطاعة والامتثال المطلق وإن كان يصدق على الموافقة الإجماليّة كما يصدق على الموافقة التفصيليّة غير أنّ الشكّ في خصوص المقام في أنّ الامتثال في لحاظ الآمر هل قصد مطلقا أو مقيّدا بجهة التفصيل؟

وبعبارة اخرى : أنّ الشكّ في أنّ الامتثال المقصود من الأمر هل يتأتّى بالموافقة الإجماليّة أو لا يتأتّى إلاّ بالموافقة التفصيليّة وعدم الاجتزاء بالموافقة الإجماليّة؟

وأيّامّا كان فهي ليست في محلّها ، إذ الإطاعة والامتثال ممّا لا يعقل له معنى إلاّ أداء المأمور به على حسبما امر به بداعي الأمر به ، وهذا المعنى صادق في جميع صور الاحتياط حتّى صورة التكرار ، لأنّه عند الإتيان بالفعلين المتعاقبين إنّما يقصد بإتيانهما أداء المأمور به منهما على حسب ما امر به بداعي الأمر به لا غير ، وهذا المعنى بعد فرض صدقه مع الموافقة الإجماليّة ممّا لا يقبل التقييد في لحاظ الأمر بجهة التفصيل ، لما نجد بالعيان وشهادة الوجدان المغني عن مؤنة إقامة البرهان أنّ الآمر في لحاظ الأمر غير متعرّض لتقييد ما قصده من الامتثال بجهة التفصيل ، وليس هذا إلاّ من جهة أنّ غرضه حصول أداء المأمور به على حسبما امر به في الخارج من غير نظر إلى جهتي الإجمال والتفصيل اللاحقين بالامتثال ، ومن غير خصوصيّة لجهة التفصيل تعلّق غرضه بها ، بل يقبح عليه في نظر العقل مؤاخذة المقتصر على الموافقة الإجماليّة بعد إحراز حصول أداء المأمور به على حسب ما امر به في الخارج لمجرّد إخلاله بجهة التفصيل في الامتثال.

وهذا كلّه آية أنّ تلك الخصوصيّة ملغاة في نظر العقل والعرف والشرع.

وإن شئت فاستوضح ذلك بالصلاة إلى القبلة فيمن صلاّها إلى جهتين يقطع بكون

ص: 390

إحداهما قبلة وهو متمكّن من تحصيل العلم بها ويتركه اكتفاء منه في أداء الصلاة إلى القبلة بالاحتياط المقتضي للجمع والتكرار ، حيث إنّ الامتثال في نحو المثال صادق مع الموافقة الإجماليّة ولا يصحّ المؤاخذة على تفويت الموافقة التفصيليّة مع إمكانها.

وبالتأمّل فيما ذكرناه يظهر بطلان ما قد يفصّل في المقام من أنّه إن قلنا بكون الامتثال من قيود المأمور به في نحو قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) فالأقرب الاكتفاء بالامتثال الإجمالي تمسّكا بإطلاق الأمر بالقياس إلى قسمي الامتثال ، وإن قلنا بكونه من أغراض الآمر فلا سبيل إلى التمسّك بالإطلاق.

وحينئذ فالأحوط بل المتعيّن مراعاة الامتثال التفصيلي ولو ظنّا عملا بقاعدة الاشتغال ، فإنّ كون الامتثال من قيود المأمور به غير معقول ، إلاّ أن يفسّر بغير ما فسّرناه وهو غير واضح ، ومع فرض كونه من قبيل الأغراض فقد عرفت أنّه حاصل وصادق مع الموافقة الإجماليّة ولا يقبل التخصيص بالجهة.

وأمّا الثالث والرابع : فلأنّه قد تقرّر في محلّه من مباحث الواجب من باب الأوامر من الكتاب عدم اعتبار شيء من قصد الوجه ومعرفته في صحّة العبادة على أن يكونا من قيود المأمور به - ويكفي في نفي اعتبارهما الأصل والإطلاق مع عدم دليل مخرج عنهما - ولا على أن يكونا من شروط صدق الامتثال ، بل الدليل ناهض بخلافه وهو السيرة القطعيّة المتّصلة بأعصار أهل العصمة من النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام الكاشفة عن رضاهم.

وتمام الكلام في تقرير السيرة عند تحقيق المسألة في الفقه أوردناه في مباحث نيّة الوضوء من كتاب الطهارة (1) مع أنّ قصد الوجه على ما يظهر من دليل معتبريه إنّما اعتبر لكونه من شروط الامتثال لا من قيود العمل ، والقدر المسلّم من مدخليّته في الامتثال إنّما هو حيث يتوقّف عليه التعيين الّذي هو في الحقيقة من شروط الامتثال ، فقصد الوجوب أو الندب المتوقّف عليه التعيين المتوقّف عليه الامتثال إنّما يجب بشرطين أحدهما : اشتراك العبادة ، وثانيهما : انحصار مميّز العبادة المشتركة في ذلك القصد.

وأمّا إذا كان هناك مميّز آخر - ولو نحو العنوان الّذي وجبت أو استحبّت لأجله أو بسببه العبادة - فقصد هذا المميّز كاف في التعيين وصدق الامتثال ولا حاجة معه إلى قصد الوجوب والندب ، مثلا لو وجب على الإنسان ركعتان من الصلاة احتياطا أو بسبب النذر

ص: 391


1- ينابيع الأحكام في معرفة الحلال والحرام ( مخطوط ).

واستحبّت اخريان نافلة أو لأجل الحاجة فيشترط في صحّة عمله قصد ما يميّزه في الخارج ، ويكفي فيه قصد الاحتياط أو النذر في الأوّل وقصد النفل أو الحاجة في الثاني.

نعم لو وجبت عليه ركعتان واستحبّت اخريان من دون معلوميّة مميّز غير وجوب الأوّل وندب الثاني اتّجه لزوم قصد الوجوب والندب ، وهذا لا يمنع من الاجتزاء بسلوك طريقة الاحتياط حيث لا اشتراك أو لا انحصار لمميّز المشتركة على تقدير الاشتراك في قصد الوجه ، لعدم ابتناء الاحتياط في شيء من صوره الأربع على فرض الاشتراك فضلا عن ابتنائه على انحصار مميّز العمل في قصد الوجه.

وأمّا الخامس : فلمنع الإطلاق المتوهّم في الإجماعات المنقولة بحيث تشمل المحتاط ، بل هي عند التحقيق منصرفة إلى تارك الطريقين الغير المراعي في عباداته طريقة الاحتياط ، مع احتمال كون معقدها الجاهل الّذي لم يطابق عمله الواقع أو لم يحرز في عمله بسبب جهله القربة.

فتلخّص ممّا ذكرناه : أنّه لا دليل من عقل ولا شرع على بطلان أعمال المحتاط ، ولا على انحصار طريق الإطاعة وصحّة الأعمال في الاجتهاد والتقليد ، بل الدليل على ما بيّنّاه ناهض بخلافه.

وأمّا ما يوهم الانحصار ممّا في كلامهم من تقسيم المكلّف إلى مجتهد ومقلّد فقابل للحمل على أن يكون المراد منهما من شأنه ووظيفته الاجتهاد باعتبار بلوغه رتبته ، أو التقليد باعتبار عدم بلوغه رتبة الاجتهاد ، والمحتاط على ما شرحناه في عنوان المسألة وجعلنا عنوانه تارك الطريقين غير خارج عنهما.

أو يقال : إنّ نظرهم في التقسيم المفيد للحصر إلى مورد الوجوب على التعيين ، بناء على أنّ الاحتياط طريق لا يجب سلوكه لا عينا ولا على أنّه أحد فردي الواجب التخييري.

فالحصر المستفاد من التقسيم على التقديرين لا ينفي طريقة الاحتياط ، فإذا حصل كان مسقطا لما هو واجب بعينه من سلوك أحد الطريقين.

وإذا ثبت جواز العمل بطريقة الاحتياط في تحصيل الإطاعة وامتثال أحكام اللّه المعلومة بالإجمال فلا يتفاوت الحال فيه بين العمل بها في جميع المسائل المحتاج إليها بترك الطريقين رأسا والعمل بها في الجملة على وجه التلفيق بينه وبين أحد الطريقين ، بسلوكها في جملة من المسائل وسلوك أحدهما في اخرى.

ص: 392

بعض الفروعات المرتبطة بالتنبيه الرابع

وينبغي التنبيه على امور من باب التفريع :

أحدهما : أنّ المسألة الّتي عرفت البحث فيها لكونها نظريّة - مبنيّة على دليل نظري لا يتمّ إلاّ بدفع الاحتمالات القادحة فيه - إنّما يتيسّر التكلّم فيها للعلماء المجتهدين المتمكّنين من النظر وإقامة الدليل النظري ، وتتميمه بدفع معارضاته والاحتمالات القادحة فيه ، وعليه ففائدة جواز العمل بالاحتياط على وجه يقطع به العامل إنّما يظهر للمحتاط العالم البالغ رتبة الاجتهاد ، وأمّا العامي الغير البالغ رتبته الّذي وظيفته التقليد فلا يتيسّر له إثباته بطريق النظر ، لعجزه عن إقامة دليله أو تتميمه وعدم تمكّنه من دفع الاحتمالات القادحة فيه المانعة من إنتاجه الّتي منها احتمال مدخليّة قصد الوجه ومعرفته في صحّة العبادة إذا التفت إليه بملاحظة القول به ، بل واحتمال اعتبارهما أيضا في أجزاء العبادة الّتي كثيرا مّا تختلف بالوجوب والندب حيثما التفت إليه وإن لم نقف على قائل به ، ضرورة عدم تيسّر دفع جميع ذلك إلاّ لصاحب ملكة الاستنباط العارف بالاصول والقواعد الّتي عليها يبتنى تتميم هذا الأصل ، وعليه فلا يسوغ له العمل بالاحتياط ولا محيص له من اختيار التقليد والاقتصار عليه في الفروع ، لأنّه المبرئ اليقيني للذمّة في نظره مع شكّه في جواز الاحتياط الّذي مرجعه إلى الشكّ في كونه مبرئ للذمّة ، أو لابدّ وأن يبنى في جواز العمل به على تقليد من يجوّزه ممّن له أهليّة الفتوى ويصلح للتقليد ثمّ بعد تقليده في هذه المسألة يحتاط في الفروع.

وربّما يستغني عن التقليد إذا كان متجزّيا بناء على صحّته وكان اجتهاده في النيّة وفروعها فظهر عليه أنّه لا يعتبر قصد الوجه ولا معرفته مطلقا في العبادة وأجزائها ، فبعد إثباته جواز العمل بالاحتياط بطريق القطع يعمل به في المسائل الغير المجتهد فيها الّتي وظيفته فيها التقليد.

فدفع إشكال العمل بالاحتياط بالنسبة إلى العامي من الجهة الّتي أشرنا إليها هيّن ، إذ أقصى مراتبه البناء في سلوك اختياره على تقليد من يجوّزه حسبما عرفت.

نعم هاهنا إشكال آخر بالنسبة إليه ربّما يكون دفعه من المعضلات وهو : أنّ العمل بالاحتياط لا يتأتّى إلاّ بعد تشخيص موارده وإحراز شروطه الّتي منها عدم احتمال الحرمة الذاتيّة في الواقعة ، ومرجعه إلى عدم دوران الأمر فيها بين المحذورين مع معرفة كيفيّته الدائرة بين الصور الأربع المتقدّمة الّتي يختلف فيها الموارد.

وهذا كلّه كما ترى ممّا لا يتيسّر إلاّ لصاحب ملكة الاستنباط المتمكّن من استفراغ

ص: 393

الوسع في تتبّع اصول المسائل وفروعها الجزئيّة لضبط موارده ومعرفة كيفيّته وإحراز انتفاء احتمال الحرمة الذاتيّة في كلّ مسألة حاول فيها العمل بالاحتياط ، ومعرفة عدم كون الاحتياط في كلّ مورد في ترك الاحتياط ، ولو سلّم عدم الحاجة في إحراز جميع ذلك إلى وجود ملكة الاستنباط فلا أقلّ من أن يكون ممّن له حظّ وافر من العلم.

فتلخّص من ذلك أنّ العامي البحت لا حظّ له في العمل بالاحتياط على الوجه الكلّي ، ورجوعه إلى مجتهد أو عالم آخر لإحراز الامور بتلقين ذلك المجتهد وتعليمه إيّاه يوجب العدول من الطريق الأسهل إلى الأشقّ ، ضرورة أنّ التقليد الكلّي أسهل بمراتب من هذا الأخذ والتعلّم الّذي هو مقدّمة للعمل بالاحتياط كما لا يخفى.

وثانيها : أنّه قد عرفت على ما برهنّاه على جواز العمل بالاحتياط أنّ الجهة المجوّزة له في نظر العقل كونه براءة يقينيّة وامتثالا علميّا ، فليكن هذا هو معيار العمل لمن حاوله ، وعليه فيعتبر فيه كونه بحيث يطمئنّ على نفسه بعدم الخطأ في تشخيص مورده وكيفيّته لئلاّ يعمل به في غير مورده أو على غير كيفيّته ، بأن يقطع في كلّ واقعة عمد إلى العمل به فيها بكونها مورده ، ويقطع أيضا بالكيفيّة الخاصّة الّتي هي كيفيّته الواقعيّة في خصوص المورد ، ولم يحتمل في حقّه الخطأ في المقامين ، وإلاّ لم يكن ما يستعمله براءة يقينيّة فلا يجوز الاجتزاء به عن طريقه المجعول الّذي هو مبرئ يقيني أعني الاجتهاد أو التقليد ، ولا يجوز أن يقاس في محلّ عدم الأمن من الخطأ على طريق الاجتهاد الّذي هو أيضا غير مأمون من الخطأ بتوهّم أنّ الخطأ كما أنّه معفوّ ومغتفر في الاجتهاد فكذلك في طريق الاحتياط ، لوضوح الفرق بين المقامين بقيام الدلالة القاطعة على العفو والاغتفار في المقيس عليه دون المقيس ، لكون الدليل على مشروعيّته هو العقل وحكمه بها منوط بكونه براءة يقينيّة ، فمع احتمال الخطأ لا حكم للعقل بسلوكه فضلا عن حكمه بالعفو واغتفار الخطأ على تقدير وقوعه.

وثالثها : أنّ ما عرفته من عنوان المسألة وتحقيق الحال فيها إنّما هو في الشبهات الحكميّة الّتي يرجع فيها إلى الاجتهاد أو التقليد ، والظاهر أنّه لا فرق في مشروعيّة الاحتياط وجواز سلوكه بينها وبين الشبهات الموضوعيّة ، فمن اشتبه عليه القبلة وكانت مردّدة بين جهتين معيّنتين بحيث يقطع بعدم خروجها عنهما وتمكّن من الاجتهاد المورث للظنّ بها يجوز له العدول من الاجتهاد إلى العمل بالاحتياط بتكرار الصلاة إلى الجهتين لأنّه براءة يقينيّة ومؤدّ إلى المأمور به الواقعي ، وكذلك الكلام في مسألة اشتباه الثوب الطاهر بالثوب

ص: 394

النجس مع إمكان التمييز بينهما أو إمكان تطهيرهما فيعدل عنهما إلى الأخذ بالاحتياط بتكرار الصلاة فيهما معا ، وكذا في سائر الموارد من الشبهات الموضوعيّة الّتي يمكن رفع الشبهة بطريق علمي أو ظنّي حيث يعتبر الظنّ ، والظاهر أنّه ممّا لا خلاف فيه.

ولكن يشكل الحال في مسألة اشتباه القبلة الّذي يصلّى فيه إلى الجوانب الأربع بالنظر إلى أنّ ظاهر كلام الأصحاب كون مشروعيّة الصلاة إلى الجوانب مرتّبة على العجز عن الاجتهاد وتحصيل المظنّة ، فيلزم كونها مع عدم العجز بدعة محرّمة ، كما حكي التصريح به عن بعض الأجلّة في الرياض مستظهرا للإجماع عليه ، ويظهر الارتضاء به أيضا من السيّد حيث نقل عن بعض الأجلّة قوله : « وهل له الاجتهاد إذا أمكنه الصلاة إلى أربع جهات ، الظاهر إجماع المسلمين على تقديمه وجوبا على الأربع قولا وفعلا وإنّ فعل الأربع حينئذ بدعة » إلى ما نقله ، ثمّ عقّبه بقوله : « ونعم ما قال ».

فالخروج عن ظاهر كلام الأصحاب مع عدم خلوصه عن وصمة مخالفة الإجماع بالعدول إلى الأربع مطلقا مشكل ، وطرح القاعدة العقليّة المقتضية لجواز العدول على ما بيّنّاه أشكل.

ويمكن الذبّ بمنع كون تقديم الاجتهاد على الأربع مخالفا للقاعدة العقليّة لكون الصلاة إلى الأربع حكما تعبّديا ثبت بالنصّ وليس مبناه على أنّها براءة يقينّيّة لعدم اتّفاق حصول العلم بكون إحدى الأربع هي الصلاة إلى القبلة الواقعيّة ، إلاّ في بعض الفروض النادرة وهو ما لو علم المكلّف بعدم خروج القبلة عن الجوانب الأربع ، وهو غير معتبر في موضوع ذلك الحكم بل المعتبر عدم العلم بخروجها عنها وهو لا يلازم العلم المذكور ، بل الغالب فيه عدم العلم بكون إحدى الأربع هي الصلاة إلى القبلة الواقعيّة.

وإن شئت فاستوضح ذلك برسم دائرة بعد محيطها عن مركزها كما بين محلّ سجود المصلّي وموقفه ، ثمّ اقسمها بخطّين متقاطعين عند المركز على زوايا قوائم ، فإنّ مبدأ كلّ من الخطّين ومنتهاه ممّا يلي محيط الدائرة هي الجوانب الأربع ، ولا يعتبر محاذاة أحدها نقطة القبلة ولا العلم بها بل لا يتّفق ذلك إلاّ في بعض الفروض النادرة ، وعليه فالمصلّي في غالب حالاته بفعله الأربع ليس على يقين من الصلاة إلى القبلة الواقعيّة ، فكان عدوله عن الاجتهاد مع إمكانه إليها بدعة محرّمة كما نقله السيّد عن بعض الأجلّة ، وعليه فالوجه هو وجوب تقديم الاجتهاد ولا يلزم به خرم القاعدة العقليّة.

ورابعها : أنّ الاحتياط الّذي فتحنا بابه إنّما يحسن سلوكه ويثمر في إدراك الواقع إذا

ص: 395

لم يصادف ما يقتضي بطلان العبادة ولو ظاهرا ، أو لم يكن هو بنفسه مخلاّ بشرط من شروط صحّتها ومفوّتا له وإلاّ فلا جهة لسلوكه ولا يبعد اندراجه حينئذ في عنوان التشريع ، ومن أمثلته المكلّف بالطهارة للصلاة المبتلى بالإنائين المشتبهين أحدهما نجس ولم يتمكّن من ماء آخر يتطهّر به عن الحدث ولكن أمكنه الصلاة المتيقّنة باستعمال الانائين معا ، بأن يتطهّر أوّلا بأحدهما وصلّى ثمّ يتطهّر بالآخر بعد ما غسل مالاقاه الأوّل من أعضائه وصلّى ثانيا ، فقد يسبق إلى الوهم أنّ ذلك من مقتضى الاحتياط اللازم أو الراجح ، لأنّ المكلّف قبل إقدامه على إيجاد الوضوئين على الوجه المذكور يعلم أنّ أحدهما يقع بماء طاهر على محلّ طاهر ، فيعلم أنّ إحدى الصلاتين تقع جامعة لشرطي الطهارة الحدثيّة والخبثيّة معا وإن لم يعلم أنّها أيّ الصلاتين.

وفيه - بعد الإغماض عن أنّ استعمال النجس الواقعي المعلوم بالإجمال في الشبهة المحصورة حرام وهو مقتض لوجوب اجتناب الانائين معا ومانع من الاحتياط المذكور - :

أنّ هذا الاحتياط غير مثمر في حصول البراءة الواقعيّة ، لمقارنة الصلاة الاولى لاستصحاب الحدث باعتبار الشكّ في كون الوضوء الأوّل رافعا للحدث المتيقّن فيستصحب بقاؤه ، ومقارنة الصلاة الثانية لاستصحاب النجاسة باعتبار أنّ الغسل المتخلّل بين الوضوئين أوجب اليقين بطروّ النجاسة لأعضاء الوضوء ، وهو مع ذلك مردّد بين كونه مقتضيا لطروّ تلك النجاسة على تقدير كون النجس الواقعي هو الإناء الثاني أو رافعا للنجاسة الطارئة على تقدير كونه الإناء الأوّل ، وإن لم نقل بأنّ أصالة التأخّر بالنسبة إلى طروّ النجاسة المتيقّن حدوثه المشكوك في بدو زمان حدوثه ممّا يعيّن الأوّل فلا أقلّ من إنكار أصل آخر يعيّن الثاني ، وهذا يوجب الشكّ في ارتفاع النجاسة بعد الغسل المفروض والاستصحاب يقتضي بقاءها.

ومن المعلوم أنّ الحدث والنجاسة المستصحبين كالحدث والنجاسة المتيقّنين في اقتضاء بطلان الصلاة فتقع كلّ من الصلاتين باطلة ، أمّا الاولى فبالحدث المستصحب ، وأمّا الثانية فبالنجاسة المستصحبة ، ومعه فكيف ينفع الاحتياط المتوهّم في حصول يقين البراءة؟

ولئن سلّمنا أنّ المكلّف يقطع أنّ أحد الاستصحابين مخالف لمصادفته انتقاض حالته السابقة وإن لم يعلمها بالخصوص ، فيكون أحد الوضوءين مؤثّرا في حصول الطهارة الحدثيّة واردا على محلّ طاهر ، ويلزم منه العلم بكون الصلاة المتعقّب لهذا الوضوء صحيحة باعتبار

ص: 396

اجتماعها الطهارتين حدثيّة وخبثيّة ، نقول : إنّ كلّ استصحاب بالقياس إلى الصلاة المقارنة له ممّا يقتضي بطلان تلك الصلاة ظاهرا وإن لم يطابق الواقع في إحدى الصلاتين.

ولا ريب أنّ هذا البطلان الظاهري في كلّ صلاة مانع من النيّة وقصد القربة ، فهو في كلّ منهما يؤدّي إلى البطلان واقعا باعتبار انتفاء النيّة في كلّ من الصلاتين وهي من شروط الصحّة ، ولعلّه لهذا كلّه أو بعضه صرّح جماعة من أساطين الطائفة في مفروض المسألة بمنع استعمال الانائين وتعيّن العدول إلى التيمّم أيضا.

وفي الحدائق : « الظاهر أنّه لا خلاف في الحكم المذكور ».

وأمّا ما قيل في المقام من أنّ الأقوى وجوب الجمع بين الوضوئين مع التيمّم على تقدير إمكان غسل العضو الملاقي لأوّل المائين ثمّ الصلاة عقيب كلّ وضوء لا وجه له إلاّ الاحتياط المتوهّم.

ويدفعه : أنّ المصحّح للصلاة حينئذ هو التيمّم من غير تأثير للوضوئين في الصحّة ، لاقتران كلّ منهما بما يقتضي بطلان الصلاة معه ظاهرا بل واقعا أيضا باعتبار فوات النيّة لولا التيمّم ، فيكون وجودهما بمنزلة عدمهما ، فهما مع التيمّم المفروض ليسا إلاّ كالحجر الموضوع في جنب الإنسان.

فإن قلت : إنّ بطلان الصلاتين باعتبار انتفاء النيّة إنّما هو إذا اعتبرنا أفراد كلّ صلاة بنيّة على حدة وهذا ليس بلازم ، بل يكفي نيّة واحدة مقارنة لهما معا ، والمفروض من حين قصده الإتيان بالصلاتين المتعقّبتين للوضوئين المتخلّل بينهما غسل الأعضاء إنّما ينوي أداء المأمور به الواقعي من الصلاتين وهو الصلاة الجامعة للطهارتين بداعي الأمر بها ، وهذه نيّة واحدة مستمرّة من حين الشروع في الأعمال المذكورة إلى الفراغ عن الصلاة الأخيرة ، وهي كافية في صحّة ما جامع من الصلاتين للطهارتين في الواقع وإن لم يعلمها بالخصوص ، وانضمام التيمّم حينئذ إلى الوضوئين إنّما هو للخروج عن شبهة الحرمة الذاتيّة في التطهّر بالماء النجس الموجبة لسقوط الأمر بالمائيّة ، لعدم إمكانها بعد فرض وجوب الاجتناب عن الجميع من باب المقدّمة العلميّة للاجتناب الواجب الثابت وجوبه بالقياس إلى النجس الواقعي ، فيكون الوجه في وجوب الجمع حينئذ هو الاحتياط الواجب في نظائر المقام.

قلت : إنّ الالتزام بذلك الاحتياط رعاية لتحصيل الطهارة الحدثيّة على وجه اليقين ترك للاحتياط بالقياس إلى رعاية الطهارة الخبثيّة ، لما عرفت من أنّ الغسل المتخلّل بين

ص: 397

الوضوئين مورث لليقين بطروّ النجاسة مع الشكّ في ارتفاعها ، ومحرز لموضوع استصحاب النجاسة المتيقّنة إلى أن يقارن الوضوء والصلاة الثانيين للنجاسة المستصحبة في العضو ، ومعه لا يعقل كونهما بعضا من العدد المندرج فيه المأمور به الواقعي ، فالأقوى حينئذ الاكتفاء بصلاة واحدة مع التيمّم ، وهل يحتاط بانضمام الوضوء إليه بأحد الإنائين؟ قيل : نعم ترجيحا للصلاة مع الطهارة الاحتماليّة عليها مع الحدث المتيقّن.

وفيه : أنّ استصحاب الحدث قائم مقام يقينه ومعه لا ينفع احتمال زواله ، فهذا المكلّف مع الوضوء المذكور محدث شرعا كما أنّه بدونه كان محدثا عقلا ، فإلزامه على الوضوء إيقاع له في مشقّة خالية عن الفائدة.

تعليقة : في عبادات الجاهل الغير المراعي للاحتياط

اشارة

- تعليقة -

في عبادات الجاهل الغير المراعي للاحتياط

واعلم أنّه قد ذكرنا أنّ الاجتهاد والتقليد لا مدخليّة لهما في صدق الامتثال ، وأنّ قصد الوجه ومعرفته لا مدخليّة لهما في صحّة الأعمال ، وهذا لا يختصّ بالمحتاط بل يجري في العمل إذا وقع لا عن احتياط بشرط مطابقته الواقع وصدوره على وجه القربة عن تارك الطريقين كما هو عنوان مسألة عبادات الجاهل ، فإنّه إذا أتى بما طابق الواقع وأحرز فيه قصد القربة. - وبعبارة اخرى : إذا أتى بالمأمور به الواقعي بداعي الأمر به لا غير اعتمادا على ظنّه الغير المعتبر أو على ما لا يجوز الأخذ به من قول أبيه أو امّه أو معلّمه أو غيرهم ممّن لا أهليّة له في الإفتاء شرعا - كان عمله صحيحا مجزيا مخرجا عن العهدة ، ولا يجب عليه بعد ذلك إعادة ولا قضاء سواء فرضته قاصرا في جهله وعدم تحصيله المعرفة أو مقصّرا فيه.

وبالجملة لا فرق بين العبادات بعد إحراز قصد القربة فيها وبين المعاملات في كون الصحّة فيهما مراعى بمطابقة الواقع ، ولا مدخليّة لخصوص أحد الطريقين في الصحّة ، بل وجه اعتبارهما إنّما هو وجه الطريقيّة ، فإنّما يعتبران لتشخيص مورد الصحّة عن غيره وتمييز العمل الصحيح عن غيره ، فمتى تبيّن فيها مطابقة الواقع صحّت بعد ما أحرز فيها قصد القربة الّذي هو المائز بينها وبين المعاملات وفاقا لجماعة من محقّقي المتأخّرين.

ومنهم المحقّق الأردبيلي على ما هو المعروف منه من فرقه في عبادات الجاهل بين

ص: 398

المطابقة وعدمها بالمعذوريّة في الأوّل دون الثاني.

ومن الأعاظم من نسب إليه المعذوريّة في القاصر مع المطابقة وغيره.

ومن الأعلام من فصّل بين كونه مقصّرا أو قاصرا فخصّ المعذوريّة بالثاني دون الأوّل ، ونسب هذا القول إلى شارح الوافية السيّد صدر الدين خلافا لمن أطلق القول بعدم المعذوريّة كما عن الأكثر.

وفي كلام غير واحد أنّه المشهور ، فقالوا : إنّ الناس في غير زمان حضور الإمام صنفان إمّا مجتهد أو مقلّد له ، ومن لم يكن من أحد الصنفين فعباداته باطلة.

وقد يحكى في المسألة قول بالمعذوريّة مطلقا ونسبه بعض الأعاظم إلى الجزائري ، وهذا على فرض ثبوته مع سابقه على تقدير كونه على الإطلاق واقعان في طرفي الإفراط والتفريط ، ولكن يمكن منع ثبوت الثاني من أصله ولذا تركه غير واحد من المتعرّضين لنقل الخلاف في المسألة.

والجزائري ربّما يستشمّ عن عبارته المحكيّة عنه الميل إلى التفصيل بين القاصر والمقصّر ، كما يفوح رائحة ذلك من كلام المجلسي حيث إنّه حكم بكون المستضعفين من الكفّار ممّن لم يقم عليه الحجّة من العوامّ ومن بعد من بلاد الإسلام ممّن ترجى لهم النجاة.

ونفى الجزائري عنه الاستبعاد بعد اعترافه بكونه مخالفا لكلام الأكثر ، ومنع إطلاق الأوّل بدعوى خروجه مخرج الغالب ، نظرا إلى أنّ الغالب في تارك الطريقين الغير المراعي للاحتياط وقوع خلل في أعماله وعباداته ، باعتبار الإخلال في بعض الامور المعتبرة في المأمور به من أجزائه أو شرائطه الّتي هي قيود للعمل أو في امتثال الأمر به وإن لم تكن من قيود العمل كقصد القربة ونحوه ، ولا ينافيه ما في بعض العبائر من التصريح بالبطلان وإن طابق الواقع ، لأنّ المراد به موافقة المأتيّ به للمأمور به الواقعي باحتوائه لأجزائه وشروطه الّتي هي من قيوده ، ويجوز فيه مع ذلك البطلان بالإخلال في بعض شروط الامتثال ، ويجوز شمول هذا العنوان مع التوجيه المذكور للقاصر أيضا حتّى على القول بكون الأمر الظاهري العقلي أمرا في الحقيقة ، بناء على أنّ المراد من الصحّة الّتي تراعى بمطابقة الواقع إنّما هو الصحّة بمعنى ترتّب الأثر الّذي هو في العبادات عبارة عن الإجزاء بمعنى إسقاط الإعادة والقضاء ، ويقابلها البطلان وهو لا ينافي الصحّة بمعنى موافقة الأمر كما لا يخفى.

وأمّا على القول بعدم كونه أمرا في الحقيقة كما هو الحقّ المحقّق في محلّه فاندراجه فيه واضح.

ص: 399

وربّما عزى إلى الأكثر كلام آخر وهو : أنّ الجاهل في الحكم الشرعي غير معذور إلاّ في مسألة الجهر والإخفات ومسألة الإتمام في محلّ القصر.

ويظهر من بعض الأعلام وغيره رجوع ما تقدّم إلى هذا العنوان ، وكأنّه أراد به كونه أحد أفراده كما يرشد إليه استثناء المسألتين وإلاّ فلا ينبغي الاسترابة في الفرق بينهما بالعموم والخصوص ، فإنّ هذا العنوان كما قيل يشمل الواجبات والمحرّمات وماهيّات العبادات وكيفيّاتها ، فإنّ الجاهل قد يترك ما هو بحسب الواقع من الواجبات التعبّدية أو توصّلية ، وقد يرتكب ما هو بحسب الواقع من المحرّمات لجهله بالحكم الشرعي ، وقضيّة عموم هذا العنوان أن لا يكون معذورا على معنى عدم رفع مؤاخذة ترك الواجب وفعل الحرام عنه ، نظرا إلى أنّ العذر عبارة عن رفع المؤاخذة فنفيه يفيد ثبوتها ، بخلاف ما تقدّم فإنّه مقصور على ما لو وقع العبادة بمعناه الأخصّ من الجاهل مع نوع خلل فيها لجهله بتفاصيل ما اعتبر فيها شرعا.

ومن هنا ربّما أمكن فرق آخر بين العنوانين باعتبار حكم القضيّتين ، فإنّ ما تقدّم مسوق لإثبات الإعادة والقضاء في العبادة الباطلة الّذي هو من قبيل الوضع المترتّب على انتفاء الصحّة من غير نظر فيه إلى المؤاخذة بإثبات أو نفي ولذا يعمّ القاصر أيضا ، وهذا مسوق لإثبات المؤاخذة على مخالفة الواقع الّذي هو من لوازم الحكم التكليفي.

وعلى هذا فينبغي اختصاصه بالجاهل المقصّر ، لقبح مؤاخذة القاصر على مخالفة الواقع باعتبار قبح خطاب الغافل ، بل قولهم : « الجاهل في الحكم الشرعي غير معذور » بظاهر هذا العنوان أيضا لا يشمل القاصر ، فلا يقدح فيه كونه معذورا في مخالفته الواقع على معنى كونه مرفوعا عنه المؤاخذة ، فإنّ معنى هذا العنوان أنّ الجاهل بجهله لا يعذر ، ومعناه : أنّ الجهل ليس من الأعذار الرافعة للتكليف المانعة من المؤاخذة على مخالفة [ الواقع ] ، والقاصر حيثما يعذر إنّما يعذر لعجزه عن الامتثال وعدم قدرته على الإطاعة بسبب غفلته.

ولا ريب أنّ العجز وعدم القدرة على الامتثال عذر عقلي رافع للمؤاخذة على مخالفة الواقع ، ولا ينافيه عدم كون الجهل المصادف له بوصف كونه جهلا عذرا ، فلا مانع من تعميم العنوان بحيث يندرج فيه القاصر من حيث جهله المحكوم عليه بعدم كونه عذرا ، فهو من حيث جهله غير معذور وإن كان من حيث قصوره معذورا.

هذا ولكنّ الإنصاف أنّ هذا العنوان أعمّ من العنوان الأوّل موضوعا وحكما ، على معنى

ص: 400

كون المراد بالمعذوريّة المنفيّة ما يعمّ لازم الحكم التكليفي ولازم الحكم الوضعي.

وتوضيحه : أنّ هذا العنوان يحتمل وجوها :

الأوّل : أنّ الجاهل لا يعذر في جهله بالحكم الشرعي وإن طابق عمله الواقع.

الثاني : أنّه لا يعذر في مخالفة عمله الواقع بحيث يسقط عنه الإعادة والقضاء وإن كان قاصرا في جهله.

الثالث : أنّه لا يعذر في مخالفته ومخالفة عمله الواقع بحيث يرتفع عنه المؤاخذة على الأوّل إذا كان مقصّرا أو يسقط عنه الإعادة والقضاء على الثاني مقصّرا كان أو قاصرا.

والأوّل - مع أنّه يأباه استثناء مسألتي الجهر والإخفات والقصر والإتمام - في غاية البعد ، لابتنائه على كون تحصيل المعرفة والعلم بالأحكام واجبا لنفسه وهو خلاف التحقيق ، ويتلوه الثاني في البعد لما نبّهنا عليه من عموم العنوان لغير موارد التعبّد الّذي لم يعتبر فيه إعادة ولا قضاء.

فالأظهر هو الثالث فيراد بعدم المعذوريّة عدم رفع المؤاخذة على مخالفة الخطاب بالمعنى الدائر بين ما ورد على واجب واقعي تعبّدي أو توصّلي ترك أو حرام واقعي ارتكب ، وما ورد على الإعادة والقضاء في عبادة فعلت على خلاف الواقع.

وعليه فالنظر في المعذوريّة وعدمها في محلّ البحث إن كان إلى رفع المؤاخذة على مخالفة الواقع وعدمه فالأقوى فيه الفرق بين المقصّر فليس بمعذور والقاصر فيكون معذورا.

وإن كان إلى سقوط الإعادة والقضاء فالأقوى فيه الفرق بين المطابقة فالمعذوريّة وعدمها فعدم المعذوريّة ، ومرجعه إلى عدم الفرق بين العبادات بعد إحراز النيّة وقصد القربة فيها وبين المعاملات في عدم مدخليّة أحد الطريقين في الصحّة وعدم اعتبار قصد الوجه ومعرفته فيها ، بل الصحّة فيهما منوطة بمطابقة المشروع وعدمها ، فالعبادة الصادرة من الجاهل بقصد القربة حيثما طابقت الواقع كانت صحيحة ولازمها سقوط الإعادة والقضاء ، وحيثما لم تطابق الواقع كانت باطلة ولازمها لزوم الإعادة والقضاء من غير فرق في الحكمين بين المقصّر والقاصر ، فهاهنا مقامان :

أمّا المقام الأوّل : فلنا على عدم معذوريّة الجاهل المقصّر في مخالفة الأحكام الواقعيّة ما ذكرناه في غير موضع من كفاية العلم الإجمالي مع التمكّن من العلم التفصيلي في تنجّز

ص: 401

التكليف ، على معنى صيرورة الخطابات المعلومة بالإجمال تكاليف فعليّة على المكلّف شاغلة لذمّته على وجه يترتّب على موافقتها ومخالفتها الثواب والعقاب.

وبالجملة شرط تنجّز التكليف وترتّب الآثار عليه في نظر العقل والعرف إنّما هو العلم الإجمالي بصدور الخطاب من المولى مع التمكّن من العلم التفصيلي بخصوص الحكم المسوق لإفادته هذا الخطاب كما تنبّه عليه بعض الفضلاء ، ولذا يحسّن العقل المستقلّ مؤاخذة العالم بالإجمال المتمكّن من التفصيل على مخالفته الحكم الواقعي المندرج في معلوماته بالإجمال ويصحّهها ، ويرشد إليه من جهة العرف مثال الطومار الصادر من السلطان إلى رعيّته مع اطّلاع البعض على صدوره وعدم رجوعه إليه لمعرفة تفاصيله وعدم اطّلاع بعض آخر عليه أصلا فصادف مخالفتهما لبعض الأحكام المندرجة فيه حيث يصحّ مؤاخذة الأوّل دون الثاني ، وليس هذا إلاّ لإقامة الحجّة على الأوّل باعتبار تحقّق شرط تنجّز التكليف في حقّه دون الثاني.

ويدلّ عليه أيضا من جهة الشرع ما عليه العدليّة ونطق به الكتاب والسنّة من كون الكفّار مكلّفين بفروع الشريعة كما أنّهم مكلّفون باصولها ، فيعاقبون عليها كما يعاقبون على الاصول مع جهلهم بتفاصيل أكثر الفروع بل كلّها ، ولو لا الاكتفاء بالعلم الإجمالي مع التمكّن من العلم التفصيلي لما صحّ ذلك.

ويستفاد ذلك أيضا من الروايات الواردة في موارد خاصّة :

منها : ما رواه المشايخ الثلاثة بأسانيدهم عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّ رجلا جاء إليه فقال له : إنّ لي جيرانا لهم جواز تغنّين ويضربن بالعود ، فربّما دخلت المخرج فاطيل الجلوس استماعا لهنّ ، فقال عليه السلام : لا تفعل ، فقال : واللّه ما هو شيء أتيته برجلي إنّما هو سماع منّي أسمعه باذني ، فقال عليه السلام : أنت أما سمعت اللّه يقول : ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً ) وقال الرجل : كأنّي لا أسمع بهذه الآية من كتاب اللّه عزّ وجلّ من عربي ولا عجمي ، لا جرم فإنّي قد تركتها وإنّي أستغفر اللّه ، فقال عليه السلام : « قم فاغتسل وصلّ ما بدا لك ، فلقد كنت مقيما على أمر عظيم ما كان أسوء حالك لو متّ على ذلك ، استغفر اللّه واسأله التوبة من كلّ ما يكره ، فإنّه لا يكره إلاّ القبيح فالقبيح دعه لأهله ، فإنّ لكلّ أهلا ».

فانظر في صراحة دلالة هذا في مواضع متكرّرة على كون الرجل مقيما على معصية عظيمة مع جهله بخصوص الحكم ، وليس هذا إلاّ لتمكّنه من المعرفة والسؤال

ص: 402

وتركه له تقصيرا بعد علمه إجمالا.

وبالجملة فالجاهل المقصّر لعلمه الإجمالي بأنّ في الشريعة خطابات إلزاميّة إيجابيّة وتحريميّة يترتّب المؤاخذة والعقوبة على مخالفتها لا يأمن في تروكه من الوقوع في ترك واجب ولا في أفعاله من الوقوع في فعل محرّم ، فكأنّه لتركه تحصيل المعرفة والعلم التفصيلي مع إمكانه أقدم اختيارا على مخالفة تلك الخطابات المعلومة بالإجمال ، فأصل المعصية بالنسبة إلى كلّ واقعة واقعة وإن حصل في زماني الترك والفعل ، إلاّ أنّ اختيار تلك المعصية بحسب الواقع حصل في زمان ترك تحصيل المعرفة والعلم.

وإن شئت قلت : إنّه ترك حكمي للواجب وفعل حكمي للحرام ، نظير ما قيل في مقدّمات الواجب إذا ترك قبل مجيء وقته من أنّه ترك حكمي له فيستحقّ العقاب عليه من حين تركها لعلمه بأنّه يفضي إلى تركه في وقته.

وبالجملة فالأصل في تنجّز التكليف كائنا ما كان كفاية العلم الإجمالي مع التمكّن من العلم التفصيلي ، إلاّ ما دلّ الدليل على اعتبار العلم التفصيلي في تنجّزه بالخصوص ، وقد جعل بعض الفضلاء من هذا الباب معذوريّة الجاهل ولو مقصّرا في مسألتي الجهر والإخفات والإتمام في موضع القصر ، وفيها وجوه اخر تقدّم ذكرها في بحث الضدّ ولعلّ أظهرها ما رجّحه كاشف الغطاء فراجع وتأمّل.

ولنا على معذوريّة القاصر فيما يتحقّق منه من مخالفة الأحكام الواقعيّة أنّه غافل ، وتكليف الغافل قبيح ، ومؤاخذته على مخالفته أقبح ، وهذا أوضح.

وأمّا المقام الثاني : فلنا على ما اخترناه من الفرق بين مطابقة الواقع فالصحّة ومخالفته فالبطلان - مضافا إلى ما قرّرناه في مسألة الإجزاء من اقتضاء الأمر الواقعي الاختياري والأمر الواقعي الاضطراري والأمر الظاهري الشرعي في كثير من صوره الإجزاء دون الأمر الظاهري العقلي مطلقا - تتبّع الأخبار الغير المحصورة المأثورة عن أهل بيت العصمة الواردة في جميع أبواب العبادات من الطهارات الثلاث والصلوات المفروضات والمسنونات وغيرها في وقائع وقعت بمقتضى الأسئلة الموجودة فيها الآمرة تارة بالإعادة والقضاء والنافية اخرى لهما أو للبأس بألفاظ مترادفة وعبارات متقاربة ، فإنّها في القسم الأوّل ردّ على من أطلق القول بالمعذوريّة ، وفي القسم الثاني على من أطلق القول بعدم المعذوريّة ، فهي بأجمعها حجّة على الفريقين في إطلاقهما ، إذ لا يعقل جهة للأوّل إلاّ مراعاة عدم وقوع

ص: 403

العمل على طبق الواقع ، ولا للثاني إلاّ مراعاة وقوعه على طبق الواقع ، فلو كان لخصوص أحد الطريقين أو خصوص الأخذ من الحجّة مدخليّة في الصحّة لوجب الأمر بالإعادة أو القضاء في الجميع ، كما أنّه لو لم يعتبر المطابقة للواقع في الحكم بالصحّة لوجب نفي الإعادة والقضاء والبأس في الجميع ، والتفصيل على التقديرين غير معقول.

وأمّا تعميم الحكمين بالقياس إلى القاصر والمقصّر فإمّا بواسطة ترك الاستفصال المفيد للعموم في الجواب لو اندرج المقام في ضابطه ، أو بالفحوى بناء على ظهورها في الجاهل المقصّر إمّا باعتبار ظهور أسئلتها في صورة التمكّن من السؤال ، أو لأنّ الغالب في الناس هو التقصير فينصرف إليه الإطلاق سؤالا وجوابا ثمّ يثبت الحكم بالصحّة مع المطابقة في القاصر بطريق الأولويّة ، فاحتمال اختصاصها بالقاصر مدفوع بأحد الأمرين من العموم باعتبار ترك الاستفصال أو الظهور باعتبار السياق أو الغلبة.

ويدلّ على المختار أيضا ما روي من أنّ عمّارا أصابته جنابة فتمعّك في التراب ، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : « كذلك يتمرّغ الحمار ، أفلا صنعت كذا؟ فعلّمه التيمّم » (1) فإنّ قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم : « أفلا صنعت كذا؟ » تنديم على عدم إتيانه بالتيمّم بتلك الكيفيّة ، فدلّ على أنّه لو تيمّم كذلك ولو من غير سؤال لأجزأه ولم يتوجّه إليه تنديم.

وما يقال في منع الدلالة من أنّ التنديم يرجع إلى تقصيره في عدم السؤال حتّى يفعل صحيحا كما في كلام بعض الأعلام.

ففيه : أنّه خروج عن الظاهر لمكان قوله : « أفلا صنعت كذا » دون « أفلا سألت » فليتدبّر.

وبما قرّرناه هنا مضافا إلى ما حقّقناه في المسألة السابقة تعرف أنّ السالك لطريقة الاحتياط وإن كان جاهلا بمعنى تارك الطريقين غير أنّه معذور تكليفا ووضعا فلا مؤاخذة عليه ولا إعادة ولا قضاء ، لأنّه باعتبار سلوكه لطريقة الاحتياط في كلّ ما يحتمل الوجوب أو الحرمة مأمون في تروكه وأفعاله عن مخالفة تكليف فعلي إيجابا أو تحريما ، ولكون هذه الطريقة موصلة إلى الواقع دائما فلا جرم تقع أعماله وعباداته مطابقة للواقع.

فيبقى تحت موضوع المسألة المتسامح في دينه المقيم في المسائل على طريق غير مشروع لتسامحه لا لجهله باعتبار التفاته إلى عدم مشروعيّته اعتقادا أو احتمالا مع معرفته للطريق المشروع المبرئ للذمّة أو تمكّنه من معرفته والرجوع إليه كقول المجتهد

ص: 404


1- الوسائل : الباب 9 من أبواب التيمّم الحديث 8.

الجامع لشرائط الإفتاء ونحوه ، والغافل المقيم على طريق غير مشروع لغفلته وعدم التفاته أصلا إلى احتمال المشروعيّة وعدمها ولا إلى احتمال وجود طريق آخر هو المشروع لا الّذي أقام عليه ، والسالك لطريق غير مشروع بحسب الواقع باعتقاد المشروعيّة على خلاف الواقع من باب الجهل المركّب سواء كان جهلا بالحكم كما لو عوّل على ظنّه أو أخذ عن غير مجتهد أو مجتهد غير جامع للشرائط باعتقاد الجواز مع العلم بالموضوع ، أو جهلا بالموضوع كما لو عوّل على رأيه وظنّه باعتقاد الاجتهاد لنفسه أو أخذ عن غير مجتهد باعتقاد الاجتهاد ، أو عن مجتهد غير جامع باعتقاد الاجتماع ، والأوّل هو المقصّر والثاني قاصر ، وكذلك الثالث لأنّه ما دام معتقدا بخلاف الواقع غافل عن احتمال الخلاف وإلاّ لم يكن قاطعا ، فيكون تكليفه بخلاف معتقده تكليف بالمحال من باب تكليف الغافل بما غفل عنه فيكون قبيحا ، واللازم من ذلك أن لا يصحّ مؤاخذته على ما يتحقّق منه من مخالفة الواقع بترك واجب أو ارتكاب محرّم إذا أدّاه طريقه إلى عدم الوجوب أو التحريم.

وقد يتوهّم اندراجه في المقصّر لتمكّنه في جميع الصور المذكورة من إزالة الجهل عن نفسه بفحص وسؤال ونحوهما وقد تركه عن تقصير ، وهذا غير واضح إذ الجاهل بالجهل المركّب لا يرى اعتقاده جهلا بل يراه مطابقا للواقع فكيف يتصوّر في حقّه التمكّن من إزالة الجهل بالفحص والسؤال.

نعم هي مقدورة خارجا لا ذهنا ، بمعنى أنّه بحيث لو فحص وسأل لزال جهله إلاّ أنّه لا يفحص ولا يسأل لعدم احتماله الخلاف في اعتقاده ، واعتقاده المخالف الّذي يراه مطابقا فهو الصارف له عن الفحص والسؤال ، فلا يندرج تركه في حدّ التقصير ، وإنّما يندرج في حدّ التقصير لو كان اعتقاده المفروض في الصور المذكورة على وجه الظنّ المجامع لاحتمال الخلاف مع التفاته إلى الاحتمال ، إلاّ أنّه على هذا التقدير يرجع إلى القسم الأوّل وهو الجاهل المتسامح.

نعم قد يكون مقصّرا في ترك الفحص والسؤال الموصلين إلى الطريق المشروع أو عدم مشروعيّة الطريق المسلوك قبل حصول الاجتهاد المفروض تسامحا ، ولا يبعد استحقاقه العقوبة على ما يتحقّق منه من مخالفة الواقع جهلا باعتبار كون تركه الفحص والسؤال مع احتمال إفضائه إلى المخالفة في معنى الإقدام على تلك المخالفة اختيارا ، فهو نحو من الترك الحكمي للواجب أو الفعل الحكمي للحرام.

ص: 405

وممّا يندرج في القاصر ما لو عوّل المقلّد على نقل ثقة فانكشف له الخلاف بكذب الناقل أو خطأه في النقل ، وما لو عوّل على ظاهر كلام المفتي أو الناقل ثمّ انكشف له عدم إرادته ، فيحكم على التقديرين بفساد العمل لمخالفته الواقع.

حجّة القائلين بعدم معذوريّة الجاهل

حجّة القائلين بعدم معذوريّة الجاهل وجوه :

أحدها : أنّ التكاليف معلومة الثبوت بالضرورة ، والأصل حرمة العمل فيها بغير العلم ، خرج العمل بقول المجتهد بالإجماع فيبقى غيره تحت عموم المنع.

وفيه : أنّه لا يتناول القاصر غافلا كان أو جاهلا بالجهل المركّب إذا كان قاطعا بمشروعيّة طريقه الغير المشروع ، إذ لا حرمة في حقّهما لقبح خطاب الغافل في محلّ غفلته وقبح خطاب القاطع بخلاف ما قطعه ، والحرمة المستتبعة لاستحقاق العقوبة في المقصّر المتسامح الّذي أدّى طريقه الغير المشروع إلى مخالفة الواقع بترك واجب أو فعل محرّم ولكن على نفس المخالفة مسلّمة ، وكذلك حرمة سلوك الطريق الغير المشروع إذا لم يؤدّ إلى مخالفة الواقع لمجرّد كونه عملا بغير العلم مسلّمة ، ولكن استحقاقه العقوبة والمؤاخذة بذلك مع عدم مخالفته ولا مخالفة عمله الواقع محلّ إشكال من أنّه عمل بما نهاه الشارع من العمل به وعوّل بما منعه من التعويل عليه ، ومن احتمال كون النهي لمجرّد الإرشاد فتأمّل ، مع أنّه لا تعرّض في الدليل للإعادة والقضاء بإثبات ولا بنفي.

وبالجملة هذا الدليل غير مناف للفرق ، والتفصيل الّذي اخترناه في المقامين - المتقدّمين ، مع أنّه على تقدير الإثم واستحقاق العقوبة من الحيثيّة المذكورة - لا ينتج عدم معذوريّة الجاهل بالنسبة إلى الواقع مطلقا أو على تقدير مخالفته له وعدم مصادفة الطريق إيّاه ، ولا يثبت به عليه إعادة مع بقاء محلّها ولا قضاء فيما ثبت له قضاء مطلقا أو على تقدير مخالفة عمله الواقع ، مع أنّ ظاهر كلامهم عدم معذوريّة الجاهل فيما جهله من الحكم الشرعي مطلقا أو على تقدير المخالفة ليترتّب عليه ثبوت الإعادة والقضاء كما ينبّه عليه استثناء مسألتي الجهر والإخفات والقصر والإتمام من إطلاق عدم المعذوريّة.

ويرشد إليه أيضا تعبيرهم عن العنوان بالجاهل وتقييدهم له بالحكم الشرعي ، فإنّه يعطي بظاهره عدم المعذوريّة من حيث جهله في الحكم الشرعي لا من حيث تعويله على الطريق الغير الشرعي.

وثانيها : أنّ القول بمعذوريّة الجاهل يستلزم أحد المحذورين : إمّا سقوط جلّ التكاليف ،

ص: 406

أو تأثير الأمر الغير الاختياري في ترتّب العقاب وعدمه ، والتالي بقسميه فاسد.

أمّا الملازمة : فلأنّا إذا فرضنا جاهلين بشرط واجب أصابه أحدهما عند الإتيان بذلك الواجب دون الآخر ، كما إذا كانا جاهلين باشتراط الفريضة بالوقت أو بوجوب مراعاته فصلّى أحدهما في الوقت والآخر في خارجه ، فإمّا أن يستحقّا العقاب أو لا يستحقّان أو يستحقّه أحدهما دون الآخر.

فعلى الأوّل يثبت المطلوب وهو عدم كفاية إصابة الواقع من غير طريق معتبر.

وعلى الثاني يلزم المحذور الأوّل ، لأنّ سقوط العقاب يستلزم سقوط الوجوب فيلزم سقوط جلّ التكاليف ، لإمكان تطرّق الجهل إلى كلّ فعل من أفعال الصلاة وشرائطها وكذا غيرها من العبادات.

وعلى الثالث يلزم المحذور الثاني ، لاستواء الجاهلين في الحركات الاختياريّة وإنّما حصل مصادفة الواقع كالوقت في المثال لضرب من الاتّفاق الخارج عن المقدور.

وأمّا بطلان الشقّ الأوّل من اللازم : فلأنّ الالتزام بسقوط جلّ التكاليف في حقّ الجاهل مفسدة واضحة لا يشرع لأحد الاجتراء عليها.

وأمّا بطلان الشقّ الثاني : فلأنّ تجويز مدخليّة الاتّفاق في استحقاق الثواب والعقاب ممّا اتّفقت كلمة العدليّة على فساده وبراهينهم قاضية ببطلانه.

والجواب : أنّ قضيّة ما حقّقناه من إناطة إجزاء عمل الجاهل وعدم إجزائه بمطابقة الواقع وعدمها عدم كون صلاة المصلّي خارج الوقت مجزية ، سواء أحرز فيها سائر ما اعتبر في الصلاة وفي امتثال الأمر بها حتّى القربة ممّا عدا الوقت أو لا ، فلا يستحقّ بها ثوابا ، وأمّا العقاب فإن كان مقصّرا في جهله بالوقت أو وجوب مراعاته فيستحقّه لكن لا لمجرّد جهله وعدم تعويله في عمله على طريق [ مشروع ] ، بل لإخلاله بالمأمور به إخلالا ناشئا عن تقصيره ، ومرجعه بالأخرة إلى تركه المأمور به اختيارا ، وإن كان قاصرا - إن صحّ فرض القصور في حقّه - فلا يستحقّه كما لا يستحقّ الثواب.

أمّا الأوّل : فلعدم إخلاله بواجب عليه لعدم تكليفه بالصلاة الواقعيّة بسبب قصوره وغفلته ، والواجب ما يستحقّ العقاب بتركه لا عن عذر ، والقصور المفروض في حقّه عذر.

وأمّا الثاني : فلعدم إتيانه بالمأمور به على وجهه ، إذ ليس في حقّه إلاّ الأمر الظاهري العقلي وهو لا يفيد الإجزاء.

ص: 407

وأمّا استحقاقه الثواب على الانقياد وقصده الإطاعة فهو أمر آخر لا يرتبط بالمقام.

وأمّا المصلّي في الوقت فإن كان بحيث أحرز في صلاته جميع ما يعتبر في صحّتها حتّى القربة فهو يستحقّ الثواب ، حيث أتى بالمأمور به على وجهه مع قصده امتثال الأمر به ، ولا عقاب عليه من حيث عدم تعويله على الطريق المعتبر ، وإلاّ بأن أخلّ لعدم رجوعه إلى الطريق المعتبر مع الالتفات إلى طريقيّته ولتقصيره في جهله ببعض الامور المعتبرة في الصحّة وأقلّة القربة فيستحقّ العقاب على إخلاله بالمأمور به عن تقصير الّذي هو في الحقيقة ترك للواجب عليه اختيارا لا على جهله وعدم تعويله على الطريق المعتبر.

فصار محصّل الجواب : اختيار الشقّ الأوّل وهو استحقاقهما العقاب على تقدير تقصيريهما بحيث أوجب الإخلال في قصد الامتثال لإخلالهما بالمأمور به عن تقصير الّذي هو في معنى ترك الواجب لا عن عذر ، وهذا لا يجدي نفعا فيما هو مقصود المستدلّ وهو استناد الاستحقاق إلى الجهل وعدم كفاية إصابة الواقع من غير طريق معتبر.

واختيار الشقّ الثاني مع استحقاق المصلّي في الوقت الثواب على تقدير عدم تقصير لهما بحيث أوجب الإخلال بقصد القربة ، ولا يلزم بذلك إناطة استحقاق الثواب والعقاب بأمر خارج عن المقدور ، فإنّ الصلاة المفروضة من حيث صدورها عن كلّ منهما بإرادته واختياره فعل اختياري له ، وهذا الفعل الاختياري من حيث موافقته في أحدهما للأمر وانطباقه على المأمور به وصدوره منه بداعي امتثال الأمر دون الآخر فلا محالة يوجب له استحقاق الثواب دون صاحبه ، لعدم تحقّق امتثال في حقّه.

واختيار الشقّ الأخير مع استحقاق المصلّي في الوقت للثواب على تقدير إحرازه القربة في صلاته مع تقصير صاحبه في جهله ، ولا يلزم إناطة الاستحقاقين بأمر خارج عن المقدور أيضا كما عرفت.

وثالثها : صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال : « بني الإسلام على خمسة أشياء - إلى أن قال - : أمّا لو أنّ رجلا قام ليله وصام نهاره ، وتصدّق بجميع ماله ، وحجّ جميع دهره ، ولم يعرف ولاية وليّ اللّه فيواليه ، ويكون جميع أعماله بدلالته إليه ، ما كان له على اللّه حقّ في ثوابه ولا كان من أهل الإيمان » فإنّ العامل الّذي أخذ أحكامه من غير الطرق الشرعيّة ليس عمله بدلالة وليّ اللّه إليه ، لأنّه إنّما يدلّ إلى الأخذ بالطرق المعتبرة ، فلا يستحقّ الثواب به وهو يستلزم الفساد.

ص: 408

وفيه : أنّ الرواية بمقتضى ظاهر السياق واردة في مقام ردع المخالفين الموالين للجبت والطاغوت المتبعين لهما في أعمالهم باعتبار كون جميع أعمالهم بدلالتهما إليه ، فالمقصود أنّ موالاة وليّ اللّه فيمن يواليه يلزمه أن يكون جميع أعماله بدلالته إليه لا بدلالة الجبت والطاغوت ، كما أنّ موالاة الجبت والطاغوت لازمه أن يكون جميع الأعمال بدلالتهما إليه.

فالرواية تدلّ على أنّ كون جميع الأعمال بدلالة وليّ اللّه لا بدلالة الجبت والطاغوت من لوازم موالاته ، من غير دلالة لها على كونه من لوازم الأعمال على وجه يكون له مدخليّة في صحّتها ، فقصارى ما يلزم من ذلك بطلان الأعمال باعتبار انتفاء الولاية لا باعتبار انتفاء دلالة وليّ اللّه إليها.

ولو سلّم فتدلّ على بطلانها باعتبار كونها بدلالة الجبت والطاغوت كما هو من لوازم موالاتهما لا باعتبار عدم كونها بدلالة وليّ اللّه مع موالاته ، فليس في الرواية دلالة على بطلان أعمال الجاهل الموالي لجهله ، فليتدبّر.

والتحقيق في الجواب أن يقال : إنّ الرواية لا تشمل الجاهل الموالي لوليّ اللّه ، لأنّ غاية ما تدلّ عليه هو بطلان الأعمال عند انتفاء المجموع من موالاة وليّ اللّه وأخذ الأعمال منه ، وأمّا استناده إلى انتفاء الأوّل بناء على أنّ الولاية بنفسها من شروط صحّتها ، أو إلى انتفاء الثاني بناء على أنّ الأخذ من وليّ اللّه من شروطها ، أو إليهما معا بناء على أنّهما شرطان فكلّ محتمل ، والمطلوب إنّما يثبت على ثاني الاحتمالات والرواية غير دالّة عليه.

ورابعها : أنّ كثيرا من جزئيّات الصلاة مثلا ممّا وقع الخلاف في وجوبها واستحبابها ، والإتيان بها على أحد الوجهين واجب وذلك لا يكون إلاّ بتقليد الفقيه حتّى يقصد المقلّد الوجه الراجح عنده ، وهذا مثل الخلاف الواقع بين العلماء في وجوب السورة واستحبابها ، ووجوب التسليم واستحبابه إلى غير ذلك ، احتجّ به بعض الأعاظم.

وجوابه واضح لابتنائه على القول باشتراط قصد الوجه في صحّة العبادة حتّى في الأجزاء وقد عرفت ضعفه.

حجّة القائلين بمعذوريّة الجاهل مطلقا

حجّة القائلين بمعذوريّة الجاهل مطلقا :

الأصل ، وتعسّر معرفة المجتهد واستجماعه الشرائط المعتبرة فيه في كثير من العوامّ ولا سيّما النسوان والأطفال في أوائل بلوغهم ، وأنّ المأمور به هو نفس العبادة وكونها مأخوذة من الإمام أو من المجتهد غير داخل في حقيقته فمتى وجد في الخارج يحصل الامتثال ، والأصل عدم مدخليّة كونها مأخوذة منهم في

ص: 409

ماهيّة العبادات ، والأخبار الدالّة على نفي التكليف فيما لا علم به عموما أو خصوصا.

فمن الأوّل قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم : « وضع عن امّتي - وعدّ منها - ما لا يعلمون » وقوله عليه السلام : « ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » وقوله عليه السلام : « من عمل بما علم كفى ممّا لم يعلم » ونحو ذلك.

ومن الثاني صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبي إبراهيم عليه السلام قال : سألته عن الرجل يتزوّج المرأة في عدّتها بجهالة ، أهي ممّن لا تحلّ له أبدا؟ فقال : أمّا إذا كان بجهالة فليتزوّجها بعد ما تنقضي عدّتها ، وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك.

وقلت : أيّ الجهالتين أعذر بجهالته ، إنّ ذلك محرّم عليه؟ أم بجهالة أنّها في العدّة؟

فقال : إحدى الجهالتين أهون من الاخرى ، الجهالة بأنّ اللّه حرّم عليه ذلك ، وذلك لأنّه لا يقدر على الاحتياط معها.

فقلت : هو في الاخرى معذور؟ فقال : نعم إذا انقضت عدّتها فهو معذور في أن يتزوّجها (1).

وأصحّ هذه الوجوه هو الوجه الثالث وهو مع هذا أخصّ من المدّعى لوجهين :

الأوّل : لا يقضي بنفي الإثم على مخالفة الواقع فيما أدّى الجهل إلى ترك واجب أو فعل محرّم ، فإنّما يدلّ على المعذوريّة بمعنى سقوط الإعادة والقضاء في العبادات.

الثاني : أنّ أقصى مفاده المعذوريّة في العبادات على تقدير المطابقة للواقع لا مطلقا.

وأمّا الأصل ، فالظاهر أنّ المراد به أصالة البراءة النافية لوجوب الرجوع إلى المجتهد أو وجوب تحصيل المعرفة بالحكم الشرعي عن طريق معتبر ، والعقاب المترتّب على ترك تحصيل المعرفة والرجوع إلى الطريق.

ويزيّفه : أنّ وجوب تحصيل المعرفة بالحكم الشرعي بطريق الاجتهاد أو التقليد ممّا لا إشكال فيه ولا شبهة تعتريه ، فلا معنى لنفيه بأصالة البراءة.

نعم لمّا كان أصل المعرفة مقدّمة علميّة للإطاعة وامتثال الأحكام فوجوب تحصيلها الثابت بالعقل والنقل غيريّ لا يترتّب العقاب على مخالفته ، فلا حاجة في نفيه إلى التمسّك بالأصل.

فلو اريد به أصالة البراءة عن وجوب الإعادة فيما بقي للإعادة فيه محلّ ووجوب

ص: 410


1- الوسائل كتاب النكاح - الباب 17 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ح 4.

القضاء فيما ثبت في نوعه القضاء ، ففيه : أنّه إنّما يصحّ على تقدير المطابقة ، وأمّا مع المخالفة فقد تقدّم الدليل على وجوبهما.

ولو اريد به أصالة عدم اشتراط صحّة العبادة بالأخذ من الطريق فهو راجع إلى الوجه الثالث الّذي سمعت الكلام فيه.

وأمّا دعوى تعسّر معرفة المجتهد ، ففيها : العلم الضروري بأنّ الناس في كلّ زمان يعرفون مجتهديهم واستجماعهم الشرائط بطرقه المقرّرة من التسامع والاشتهار وتصديق أهل الخبرة وغير ذلك بلا عسر أو مع عسر يسير لا ينافي سماحة الشريعة.

وأمّا الأخبار ، فالقسم الأوّل منها ظاهرة في صورة العجز عن العلم الّذي يقبح معه الخطاب ، لكونه من الخطاب الّذي لا طريق للمكلّف إلى امتثاله ، مع أنّ مفاد هذه الرواية إثبات شرطيّة العلم لتنجّز الأحكام الواقعيّة وصيرورتها تكليفا فعليّا ، والمقصود بالبحث نفي مدخليّة الطرق الشرعيّة في صحّة الأعمال وامتثال الأحكام الفعليّة ولا تلازم بين القضيّتين ، مع أنّ معذوريّة الجاهل إن اريد بها أنّه لا تكليف له في قضاياه المجهولة فهو في معنى رفع جلّ التكاليف عنه ، وهذا مفسدة عظيمة لا يسوغ تنزيل الأخبار عليها ، وإن اريد بها جواز اختلاف الأحكام الواقعيّة بالعلم والجهل على وجه يكون الجهل في موارده من الوجوه المغيّرة فهو مفسدة اخرى أعظم من المفسدة الاولى ، ومع ذلك فالأخبار المذكورة ليست في مقام إفادة هذا المطلب.

والقسم الثاني - مع أنّه لا يشمل موارد التعبّد فلا تعرّض فيه لإعادة ولا قضاء بنفي ولا إثبات - معارض بمثله ، كرواية بريد الكناسي في الصحيح - على الصحيح - قال : سألت أبا جعفر عليه السلام عن امرأة تزوّجت في عدّتها؟ قال : إن كانت تزوّجت في عدّة طلاق لزوجها عليها الرجعة فإنّ عليها الرجم ، وإن كانت تزوّجت في عدّة ليس لزوجها عليها الرجعة فإنّ عليها حدّ الزاني غير المحصن ، وإن كانت تزوّجت في عدّة من بعد موت زوجها من قبل انقضاء الأربعة أشهر والعشرة أيّام فلا رجم عليها وعليها ضرب مائة جلدة.

قلت : أرأيت إن كان ذلك منها بجهالة؟ قال : فقال : ما من امرأة اليوم من نساء المسلمين إلاّ وهي تعلم أنّ عليها عدّة طلاق أو موت ، ولقد كنّ نساء الجاهليّة يعرفن ذلك.

قلت : فإن كانت تعلم أنّ عليها عدّة ولا تدري كم هي؟

ص: 411

قال : فقال : إذا علمت أنّ عليها عدّة لزمتها الحجّة ، فتسأل حتّى تعلم (1).

وحمل ذلك على الجاهل بالتفصيل العالم بالإجمال المتمكّن من العلم التفصيلي بشهادة قوله عليه السلام : « فتسأل حتّى تعلم » وحمل ما مرّ على الجاهل بالتفصيل والإجمال وهو الجاهل الصرف الغير المتفطّن بقرينة قوله عليه السلام : « لأنّه لا يقدر على الاحتياط » فإنّ الجاهل المتفطّن يتمكّن من الاحتياط ، طريق جمع بينهما.

وبهذا ظهر أنّ هذه الأخبار من أدلّة ما حقّقناه في عنوان الجاهل بالحكم وفاقا لبعض الفضلاء من كفاية العلم الإجمالي مع التمكّن من العلم التفصيلي في تنجّز التكليف وترتّب جميع آثار الواقع.

وممّا يدلّ عليه أيضا ما رواه المشايخ الثلاث بأسانيدهم عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّ رجلا جاء إليه فقال له : إنّ لي جيرانا لهم جوار تغنّين ويضربن بالعود فربّما دخلت المخرج فأطلت الجلوس إسماعا منّي لهنّ؟

فقال عليه السلام : لا تفعل ، فقال : واللّه ما هو شيء أتيته برجلي إنّما هو سماع منّي أسمعه باذني فقال عليه السلام : أنت أما سمعت اللّه يقول : ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً ) (2) وقال الرجل : كأنّي لم أسمع بهذه الآية من كتاب اللّه عزّ وجلّ من عربي ولا عجمي لا جرم فإنّي قد تركتها ، وإنّي أستغفر اللّه.

فقال عليه السلام : قم فاغتسل وصلّي ما بدا لك ، فلقد كنت مقيما على أمر عظيم ما كان أسوأ حالك لو متّ على ذلك ، استغفر اللّه واسأله التوبة من كلّ ما يكره ، فإنّه لا يكره إلاّ القبيح ، فالقبيح دعه لأهله فإنّ لكلّ أهلا (3).

وعن الجزائري الاستدلال أيضا بوجوه كثيرة حكاها بعض الأعاظم ولوضوح ضعفها لا جدوى في التعرّض لذكرها هنا ، ومن أراد العثور عليها فليطلبها من الإشارات.

حجّة بعض الأعلام على معذوريّة الجاهل في العبادات

حجّة بعض الأعلام على ما اختاره من معذوريّة الجاهل في العبادات

على معنى سقوط الإعادة والقضاء عنه وإن خالف عمله الواقع إذا كان قاصرا وجوه ، تعرّض لجمعها وضبطها بعض الفضلاء ، وهي : أنّ الأمر يقتضي الإجزاء ، وأنّ التكاليف إنّما تثبت على حسب أفهام المكلّفين ولذا لا يشترط في صحّة صلاة المجتهد موافقتها للواقع ، وإنّ تكليف الغافل

ص: 412


1- الوسائل 28 : 126 كتاب الحدود والتعزيرات ، الباب 27 من أبواب حدّ الزناح 3.
2- الاسراء : 38.
3- الكافي 6 : 432 باب الغناء ح 10.

بالإتيان بما يوافق الواقع تكليف بالمحال ، وأنّه لا معنى محصّل لموافقة الواقع فهل المراد به حكم اللّه الّذي لا يطّلع عليه إلاّ اللّه تعالى ، أو ما وافق رأي المجتهد الّذي في ذلك البلد أو أحد المجتهدين ، وما الدليل على تعيين شيء من ذلك؟ وحكم المجتهد بعد اطّلاعه بالموافقة وعدم الموافقة أيّ فائدة فيه لما فعله قبل ذلك إلاّ بالنسبة إلى الحكم بالقضاء فيما دلّ على ثبوته دليل مع الفوات كالصلاة.

والتحقيق : أنّ صدق الفوات في حقّ الجاهل الغافل ممنوع ، إذ لا تكليف له بغير معتقده حتّى يصدق في حقّه الفوات ، وثبوت القضاء في حقّ النائم والناسي إنّما ثبت بالنصّ وعموم الأخبار الدالّة على أصل البراءة وأصل العدم فيما لا يعلمه المكلّف.

والجواب عن الأوّل : منع الإجزاء في الأمر الظاهري العقلي كما حقّقناه في محلّه وأشرنا إليه مرارا ، وسنده عدم معقوليّة تأثير الاعتقاد بخلاف الواقع في حدوث حكم على طبق المعتقد ليكون الحكم الواقعي في حقّ صاحبه ما يوافق المعتقد لا غير.

وعن الثاني : أنّ تبعيّة التكاليف لأفهام المكلّفين إن اريد بها تبعيّة الأحكام الواقعيّة للأفهام على وجه تختلف باختلافها فبطلانه من جهة بطلان التصويب واضح لا حاجة له إلى البيان ، وإن اريد بها تبعيّة الأحكام الفعليّة الظاهريّة لها فهو مسلّم إذا كانت الأفهام مستندة إلى الطرق الشرعيّة الّتي قرّرها الشارع ، لقضاء أدلّة مشروعيّة تلك الطرق بكون مؤدّياتها أحكاما فعليّة ، وفهم الجاهل ليس مستندا إليها كما هو المفروض ، ولا دليل من عقل ولا نقل على كون مقتضى فهمه أيضا حكما فعليّا.

وأمّا الاستشهاد بالمجتهد بتوهّم عدم اشتراط صحّة صلاته بموافقة الواقع كما تقدّم ، ففيه : منع الحكم في الشاهد في تقدير ووجود الفارق بينه وبين ما نحن فيه في آخر.

ومبنى التقديرين على منع عدم اشتراط صحّة صلاته بموافقة الواقع ، لأنّ دعوى عدم الاشتراط يدفعها : أنّه لو لا الاشتراط المذكور لما وجب عليه التدارك إعادة مع بقاء الوقت أو قضاء مع خروجه في صورة القطع بالمخالفة إذا عثر في النظر الثاني لدليل قطعي أفاده القطع ببطلان أعماله الماضية الواقعة على طبق الأمارة الاولى الّتي هي مأخذ الحكم في الاجتهاد الأوّل ، وهذا هو التقدير الأوّل.

ومبنى القول بالعدم في صورة الظنّ بالمخالفة - فيما لو قام أمارة ظنّية على بطلان مؤدّى الأمارة الاولى على معنى مخالفته الواقع على وجه عدل المجتهد إلى العمل بها مع

ص: 413

وقوع الأعمال الماضية على طبق الأمارة الاولى - على دعوى عدم انكشاف الواقع ومخالفته بالنسبة إلى الأعمال الماضية ، إذ ليس هناك إلاّ الظنّ وهو لا يكفي في انكشاف مخالفة الواقع وتبيّن بقاء المأمور به الواقعي في العهدة ، إذ الظنّ المستند إلى الأمارة الثانية لا يمنع احتمال كون الواقع على طبق الأمارة الاولى ، وهذا الاحتمال ما دام قائما يمنع صدق قضيّة الفوات المعلّق عليها الأمر بالقضاء ، ويمنع أيضا من تبيّن بقاء المأمور به الواقعي في العهدة ليتوجّه الأمر بالإعادة ، لا (1) على إجزاء ما فعله من الأعمال الماضية مع انكشاف مخالفتها الواقع. وتمام الكلام في هذا المقام تقدّم في مسألة الإجزاء.

وعن الثالث : أنّ عدم تكليف الجاهل الغير المقصّر بما يوافق الواقع لقبح تكليف الغافل مسلّم ولكنّه لا يلازم تكليفه في الواقع بمعتقده.

غاية الأمر أنّه اعتقد كون معتقده هو المأمور به الواقعي ، وقد عرفت أنّ اعتقاد الأمر لا يحدث أمرا.

وبالجملة هذا الوجه لابتناء إنتاجه على ثبوت الملازمة المشار إليها راجع بالأخرة إلى الوجه الأوّل ، وقد عرفت جوابه.

وعن الرابع : ما نذكره من تفسير الواقع وموافقته وأنّ المراد به مؤدّى الطريق المشروع الّذي يجب الرجوع إليه حال التفطّن والالتفات ، والدليل على تعيينه كلّما دلّ على طريقيّته للمكلّف المتفطّن ، ودعوى عدم صدق الفوات في حقّه عند مخالفة الأعمال الماضية لذلك الطريقة مجازفة لمنع كونه مكلّفا بمعتقده.

والمفروض على ما حقّقناه في محلّه أنّ صدق الفوات لا ينوط بثبوت التكليف في الوقت بالمأمور به الواقعي ، بل بعدم دخوله في ظرف الخارج ممّن من شأنه الدخول منه فيه.

وبهذا الوجه مع قطع النظر عن النصّ أمكن إثبات القضاء على النائم والناسي.

وعن الخامس : ما مرّ في دفع الأصل من أدلّة القول بالمعذوريّة المطلقة ولا حاجة إلى الإعادة.

تنبيه : في المراد ب- « الواقع » في مسألة سقوط الإعادة والقضاء

تنبيه

المراد ب- « الواقع » في موضوع مسألة سقوط الإعادة والقضاء وعدمه حسبما رجّحناه

ص: 414


1- راجع إلى قوله : « على دعوى عدم انكشاف الواقع ومخالفته بالنسبة إلى الأعمال الماضية ».

المأمور به الواقعي بالمعنى الدائر بين الأوّلي - وهو الّذي أمر به المكلّف المختار الّذي لم يطرئه جهة اضطرار - والثانوي وهو الّذي أمر به المضطرّ الّذي طرئه جهة اضطرار بالقياس إلى بعض الأفعال أو الشروط ، فإذا التفت الجاهل إلى عمله وتردّد بين صحّته وبطلانه وجب عليه تطبيقه على المأمور به الواقعي بأحد قسميه حسبما ساعد عليه حالته من الاختيار والاضطرار ليظهر عليه مطابقته أو مخالفته له ، وحينئذ فإن كان له طريق إلى الواقع بالمعنى المذكور فلا كلام ، وإلاّ وجب عليه الرجوع إلى ما يقوم مقام العلم بالواقع شرعا وهو الطريق المشروع للمكلّف المتفطّن الّذي يجب عليه حال التفطّن والالتفات الأخذ بمؤدّاه من اجتهاد أو تقليد مجتهد يصحّ تقليده.

فالمراد بالواقع حينئذ مؤدّى ذلك الطريق ، بتقريب : أنّ مقتضى أدلّة طريقيّته حسبما بيّنّاه مرارا وجوب الأخذ بمؤدّاه وترتيب الآثار والأحكام عليه على أنّه الواقع ، فالجاهل بعد العمل ولو بمدّة متطالية إذا حصل له التردّد في صحّته وبطلانه راعى الطريق المشروع في حقّه من اجتهاد أو تقليد بالمراجعة إليه ، فإن ساعد على صحّة نوع هذا العمل المأتيّ به انكشف مطابقته للواقع بالمعنى المذكور ، وإن ساعد على فساد نوعه انكشف مخالفته الواقع ، مثلا لو صلّى صلاة بلا سورة باعتقاد عدم [ وجوب ] غير ما أتى به لقصور أو تقصير ، ثمّ التفت إليه بعد مدّة وتردّد في صحّة هذه الصلاة رجع إلى الطريق الّذي يجب عليه في هذه الحالة أن يرجع إليه والأخذ بمؤدّاه ، فإن أدّاه إلى وجوب السورة في الصلاة تبيّن فساد صلاته المأتيّ بها لعدم مطابقتها الواقع فوجب عليه إعادتها أو قضاؤها ، وإن أدّاه إلى عدم الوجوب تبيّن صحّتها لمطابقتها الواقع فلا عليه إعادة ولا قضاء ، ولا يكفي في إحراز مطابقة الواقع مطابقة العمل لفتوى من فتاوى الفقهاء وإن لم يكن حال الالتفات وطروّ الشكّ طريقا مشروعا في حقّه كما حكي القول به ، إذ مطلق [ الفتوى ] قد يكون فتوى الميّت مع وجود الحيّ ، وقد يكون فتوى المفضول مع وجود الأفضل ، أو غيرهما ممّن فقد بعض شرائط الإفتاء وليس بطريق مشروع في حقّ المقلّد في حال الالتفات على القول باعتبار الأعلميّة.

ولو تعدّد من له أهليّة الإفتاء وجاز تقليد كلّ على وجه التخيير واختلفا في الرأي اعتبر في إحراز المطابقة والعدم موافقة العمل لمن اختاره ومخالفته ، ولا يكفي الموافقة لأحدهما ومخالفته قبل الاختيار لاستحالة الترجيح من غير مرجّح.

ص: 415

ثمّ إنّ هذا كلّه مع وحدة مجتهد زماني العمل والالتفات واضح ، وكذلك مع تعدّده وموافقتهما في الرأي.

وأمّا لو تعدّد واختلفا في الرأي كما لو صلّى صلاة خالية عن السورة إلى مدّة من غير تقليد صحيح ، وقارن عمله لوجود مجتهد صالح التقليد ثمّ التفت في زمان مجتهد آخر وقد مات الأوّل أو زال عنه بعض الشرائط وكان من رأي الأوّل صحّة الصلاة من غير سورة ومن رأي الثاني بطلانها أو بالعكس ، ففي كون المعتبر في المطابقة وعدمها رأي الأوّل أو الثاني وجهان : من أنّه لا يعتبر في صيرورة مؤدّى الطريق حكما فعليّا لمن وظيفته الرجوع إليه الأخذ به والالتزام بمؤدّاه فعلا ، وكما أنّ فتوى المجتهد الأوّل كان في زمان حياته أو استكماله الشرائط حكما فعليّا في حقّه فكذلك كان حكما فعليّا لغيره ممّن وظيفته تقليده ، وكان من مقتضى هذا الحكم الفعلي صحّة الصلاة المذكورة الملزومة لسقوط الإعادة والقضاء أو بطلانها المقتضي لثبوتهما ، فيستصحب هذه الآثار إلى زمان المجتهد الثاني الّذي هو زمان الالتفات والتردّد في صحّة العمل وفساده.

ومن أنّ البناء في ذلك الزمان على صحّة الأعمال السابقة ليترتّب عليها عدم وجوب الإعادة والقضاء أو على فسادها ليترتّب عليه وجوبهما لابدّ له في ذلك من مستند شرعي على معنى استناده إلى طريق مشروع ، فلو استند فيه إلى فتوى المجتهد الأوّل رجع ذلك إلى تقليد الميّت ابتداءا أو فاقد الشرائط وهو غير سائغ ، والاستصحاب المشار إليه مخدوش بعدم بقاء موضوع المستصحب أو الشكّ في بقائه ، لاحتمال كون موضوع الحكم الفعلي هو المجتهد الحيّ بوصف الحياة المستكمل للشرائط.

ومن هنا ظهر أنّ الأوجه بل الأظهر هو الوجه الثاني ، ومبناه على منع تقليد الميّت ابتداء وعدم جواز تقليد الغير المستكمل للشرائط.

نعم لو كان المجتهد الأوّل باقيا في زمان الالتفات على استكماله الشرائط وتجدّد فيه مجتهد آخر مستكمل لها أيضا فالمتعيّن حينئذ هو الرجوع إلى فتوى المجتهد الأوّل ، لأصالة عدم صيرورة مؤدّى اجتهاد المجتهد الثاني حكما فعليّا لهذا الجاهل ، وأصالة عدم حدوث التخيير بينهما في حقّه ، إذ مؤدّى الأوّل قبل تجدّد الثاني كان حكما في حقّه على التعيين بخلاف الصورة الاولى الّتي كان المتعيّن فيها الرجوع إلى المجتهد [ الحيّ ] حذرا عن تقليد الغير الجامع للشرائط الّتي منها الحياة ، ولا ينتقض ذلك بصورة التقليد في الأعمال السابقة

ص: 416

حيث يجب الرجوع بموت المجتهد أو طروّ النقص له إلى مجتهد آخر من دون انتقاض فتوى الأوّل في الأعمال السابقة المقلّد فيها ، لأنّ مستند الحكم بصحّتها الملزومة للإجزاء إنّما هو فتوى الأوّل في زمان كماله فلا ينتقض ذلك الحكم في زمان طروّ النقص ، وقد سبق منّا في فروع مسألة الإجزاء ما ينفعك في هذا المقام.

ومحصّله : أنّه يعتبر في اعتبار الاجتهاد والتقليد المتأخّرين عن العمل بالنسبة إليه عدم مصادفته حين وقوعه لاجتهاد أو تقليد ، على معنى عدم استناده إلى أحدهما ، فإنّهما على تقدير الاستناد إليه في زمان وقوعه لا يعتبران بالنسبة إليه بحيث يترتّب عليه آثارهما إلاّ مع انتهائهما إلى حدّ القطع ببطلان الاجتهاد والتقليد المقارن له أو بطلان العمل الواقع بموجبهما باعتبار القطع بالخطأ في الاجتهاد في شخص المسألة.

في بعض الفروع المرتبطة بالمقام

فروع

الأوّل : لو شكّ في مطابقة عمله السابق للطريق المشروع له المرجوع إليه ومخالفته له بواسطة نسيان بعض خصوصيّاته ففي الاحتياط بالبناء على بطلانه المقتضي لمراعاة التدارك إعادة وقضاء تحصيلا ليقين البراءة فيما ثبت فيه الشغل اليقيني ، أو البناء على الصحّة الملزومة لسقوطهما عملا بعموم أدلّة عدم اعتبار الشكّ بعد الفراغ أو بعد خروج الوقت مضافا إلى أصالة البراءة النافية للتكليف بالإعادة والقضاء وجهان ، أجودهما الأوّل للاسترابة في اندراج المقام في عموم الأدلّة المذكورة ، لاختصاصها - ولو بحكم الانصراف - بالشكّ في وقوع خلل في العمل المطابق للطريق المشروع أو الشكّ في وقوعه في الوقت ، والشكّ هاهنا إنّما هو في مطابقة العمل الواقع في الوقت للطريق المشروع ومخالفته له ولم يظهر من الأدلّة عدم الاعتبار بهذا الشكّ أيضا.

ويندفع أصالة البراءة بعدم جريانها في مجرى قاعدة الاشتغال.

ويمكن التفصيل بالفرق بين الإعادة لو حصل الالتفات إلى الصحّة والبطلان في الوقت فيجب ، والقضاء لو حصل الالتفات إليها بعد خروج الوقت فلا يجب.

أمّا الأوّل : فلأنّ الاعادة حيثما تجب ليس وجوبها من مقتضى أمر آخر لينفي احتماله في موضع الشكّ بأصل البراءة ، بل إنّما هو من مقتضى الأمر الأوّل بالأداء باعتبار عدم الخروج عن عهدته بالإتيان الأوّل.

غاية الأمر حصول الشكّ فيما نحن فيه في الخروج وعدمه فيستصحب بقاؤه المقتضي

ص: 417

لوجوب الإتيان ثانيا على طبق الطريق المرجوع إليه ، مضافا إلى قاعدة الشغل المستدعية ليقين البراءة الّذي لا يحصل إلاّ بذلك.

وأمّا الثاني : فلأنّ القضاء إنّما يثبت بالأمر الجديد ، وهو معلّق على صدق قضيّة الفوات ، وهي مع وقوع العمل المذكور في الوقت مشكوك الصدق لاحتمال الصحّة ، فلم يظهر شمول الأمر المعلّق عليها.

غاية الأمر بقاء الشكّ في توجّه ذلك الأمر من باب الشكّ الابتدائي في التكليف والأصل براءة الذمّة عنه ، ولا يجري معه أصل الشغل لانتفاء موضوعه وهو الشكّ في المكلّف به.

هذا ويمكن ترجيح الوجه الأوّل وهو البناء على البطلان رأسا والالتزام بالإعادة والقضاء معا ، لأنّ قضيّة الجمع بين أدلّة الأداء وأدلّة القضاء في الموقّتات - على ما قرّرناه في مسألة الإجزاء - هو وجوب أحد الأمرين من الفعل في الوقت والفعل في خارجه على وجه الترتّب ، على معنى ترتّب الثاني على فوات الأوّل ، والمفروض عدم حصول الثاني بعد وحصول الأوّل أيضا مشكوك ، لأنّ المراد بالفعل في الوقت هو أداء المأمور به الجامع للشرائط وسائر ما اعتبر فيه وحصوله على هذا الوجه مشكوك والأصل عدمه ، وعليه فيجب الإتيان به على طبق الطريق المرجوع إليه إعادة مع بقاء الوقت أو قضاء مع خروجه.

ولكنّ الإنصاف أنّ إثبات وجوب القضاء في غاية الإشكال ، خصوصا بعد إرجاع الشكّ في صحّة الفعل الحاصل في الوقت إلى الشكّ في وقوع المأمور به الجامع للشرائط وحصول أدائه فيه ، إذ لا مانع حينئذ من اندراجه في عموم الشكّ بعد خروج الوقت وهذا أصل اجتهادي وارد على أصل العدم ، فهذا مع انضمام أصل البراءة إليه ممّا يقرّب التفصيل المذكور إلى الذهن ، هذا ولكنّ المسألة لم تصف بعد وطريق الاحتياط الّذي هو سبيل النجاة واضح.

الثاني : لو شكّ في استناد أعماله السابقة إلى الطريق المشروع له حين وقوعها ، على معنى الشكّ في أنّه هل قلّد فيها مجتهد ذلك الزمان المستكمل للشرائط لئلاّ يجب عرضها على الطريق المشروع المرجوع إليه في زمان الالتفات أو لا ليجب عرضها عليه استعلاما للمطابقة والعدم؟ ففي وجوب البناء فيها على الصحّة أو البطلان أو الرجوع إلى الطريق المشروع إليه وجوه ، أوجهها الأخير لأصالة عدم التقليد المعتضدة بالاحتياط واستدعاء الشغل اليقيني ليقين البراءة.

الثالث : لو وقعت منه في الأزمنة الماضية أعمال مستندة إلى الطريق المشروع له في

ص: 418

منع التقليد في اصول الدين

أصل

والحقّ منع التقليد في اصول العقائد ، وهو قول جمهور علماء الإسلام ، إلاّ من شذّ من أهل الخلاف *.

__________________

تلك الأزمنة وأعمال اخر غير مستندة إليه واختلطتا على وجه لا يتمكّن من التميز ليرجع في الأعمال الغير المستندة إليه إلى الطريق المرجوع إليه استعلاما لحالها من حيث المطابقة والعدم ، ففي البناء في الجميع على الصحّة أو البطلان أو الرجوع إلى الطريق المرجوع إليه وجوه أيضا ، لا يبعد ترجيح الأخير.

* الأنسب بما قدّمناه في مفتتح باب التقليد من ترتيب مقاصده بحسب البحث عن حكمه وأركانه - المقلّد والمقلّد والمقلّد فيه - إيراد هذه المسألة في مباحث المقام الثالث الّذي يجب فيه عن أحكام المقلّد فيه ، غير أنّ بناء المصنّف كغيره لمّا لم يكن على مراعاة هذا الترتيب فأوردها هنا ونحن اقتفينا أثره ، فنقول :

اختلفوا في أنّه هل يحرم التقليد في اصول العقائد ويتعيّن النظر والاستدلال - على معنى تحصيل المعارف بطريق النظر والاستدلال - أو الأمران معا جائزان أو يجب التقليد ويحرم النظر على أقوال ، غير أنّ المعروف المنسوب إلى الأكثر [ هو الأوّل ] وادّعى عليه العلاّمة في الباب الحادي عشر من مختصر المصباح إجماع العلماء كافّة حيث قال :

« أجمع العلماء كافّة على وجوب معرفة اللّه سبحانه وصفاته الثبوتيّة والسلبيّة وما يصحّ عليه و [ ما ] يمتنع [ عنه ] والنبوّة والإمامة والمعاد بالدليل لا بالتقليد ، فلابدّ من ذكر ما لا يمكن جهله على أحد من المسلمين ومن جهل شيئا من ذلك خرج عن المسلمين واستحقّ العقاب الدائم » ونحوه عن شرحه للسيوري.

وعن المبادئ : الإجماع على عدم جواز التقليد كما عن ظاهر غاية المبادئ أيضا.

وعن نهاية العلاّمة - زيادة على ما مرّ - : الإجماع على وجوب المعرفة وما يجب عليه ويمتنع.

ونحوه ما عن غاية المأمول والآمدي والحاجبي والقوشجي إلاّ أنّه ادّعى إجماع المسلمين.

وعن العضدي ادّعاء إجماع الامّة على وجوب معرفة اللّه ، وقالوا : « إنّها لا تحصل بالتقليد لجواز كذب المخبر ، ولأنّه لو حصل منه العلم لزم اجتماع النقيضين في المسائل

ص: 419

الخلافيّة ، ولأنّه لو حصل منه العلم فالعلم بصدقه إمّا أن يكون ضروريّا أو نظريّا ، والأوّل باطل جزما ، والثاني يحتاج إلى دليل والمفروض عدمه وإلاّ لم يكن تقليدا » انتهى.

وكأنّ مبنى هذه الإجماعات مع ما عرفت وستعرف أيضا من وجود الخلاف على عدم الالتفات إليه لشذوذ المخالف أو وضوح غفلته عن الحقّ أو اتّضاح فساد دليله أو لحوقه بالإجماع ، وهي لكشفها باستفاضتها عن حقّيّة المورد في الجملة تنهض دليلا على حكم المسألة.

وليعلم أنّ المراد بالتقليد هنا معناه المعروف وهو الأخذ بقول الغير من غير حجّة يحتجّ بها على هذا القول ، بأن يأخذ المكلّف في اصول عقائده كوجود الصانع تعالى ووحدانيّته وصفاته الثبوتيّة والسلبيّة وعدله ونبوّة نبيّنا صلى اللّه عليه وآله وسلم وإمامة الأئمّة عليهم السلام والمعاد بقول الغير ويعوّل عليه لا على حجّة يحتجّ بها ودليل يستدلّ به عليه ، وإلاّ لم يكن تقليدا بل كان أخذا فيها بالنظر وتحصيلا لها بالاستدلال كما أشار إليه العضدي في العبارة المتقدّمة في الوجه الأخير من الوجوه الثلاث الّتي أقامها على منع حصول العلم من التقليد ، وعليه فالتقليد في الاصول من هذه الجهة لا يغائر التقليد في الفروع ، فإنّ التقليد في الفروع يتضمّن جهتين :

إحداهما : أنّه لا يعتبر فيه في لحاظ الأخذ بقول الغير دليل يستدلّ به ولا حجّة يحتجّ بها على هذا القول بل يعتبر العدم كما لا يخفى.

واخراهما : أنّه لا يعتبر أيضا في القول المأخوذ به كونه مستتبعا لاعتقاد المقلّد بالحكم المقلّد فيه لا قطعا ولا ظنّا ، لبنائه على التعبّد المحض ومن علامته كون مستند الآخذ في أخذه نفس ذلك القول المأخوذ به كما تقدّم مشروحا.

والتقليد في الاصول المأخوذ في محلّ البحث لا يغائره من الجهة الاولى كما أشار إليه العضدي وأشار إليه أيضا شيخ الطائفة في صريح عبارته في العدّة عند الاستدلال على العفو عن خطأ المقلّد في تقليده بقوله : « إنّي لم أجد أحدا من الطائفة ولا من الأئمّة قطع موالاة من يسمع قولهم واعتقد مثل اعتقادهم وإن لم يستند في ذلك إلى حجّة عقليّة أو سمع شرعي » (1).

وهل يغايره من الجهة الثانية فيعتبر حصول الاعتقاد من قول الغير للمقلّد بالحكم

ص: 420


1- عدّة الاصول 2 : 731.

الاصولي المقلّد فيه أو لا؟ فيؤخذ بقول الغير هنا أيضا تعبّدا ، ظاهر عبارة العدّة المتقدّمة هو الأوّل ، وهو المصرّح به في كلام جماعة منهم بعض مشايخنا قائلا في الفرق بين التقليد في المقامين : « لا يعتبر في التقليد في الفروع حصول الظنّ فيعمل المقلّد مع كونه شاكّا ، وهذا غير معقول في اصول الدين الّتي يطلب فيها الاعتقاد » (1) بل في كلام بعض الفضلاء دعوى الإجماع على أنّ الإيمان لا يتحقّق بدون الإذعان. وقضيّة ذلك خروج الأخذ بقول الغير مع الشكّ في حقّيته وبطلانه عن المتنازع فيه ، على معنى إطباقهم على عدم كفاية التقليد بهذا المعنى.

ثمّ إنّ ظاهر كلام الفاضل المذكور بل صريحه تعميم الاعتقاد هنا بالقياس إلى الظنّ والجزم تعليلا : « بأنّ التقليد قد يفيد القطع ، وأنّه لم يعتبر خصوص القطع ليتمّ على القول بكفاية الظنّ ».

لكن ظاهر عبارة الشيخ في العدّة عند الاستدلال على منع التقليد - « بأنّه لا خلاف في أنّه يجب على العامي معرفة الصلاة وأعدادها ، وإذا كان لا يتمّ ذلك إلاّ بعد معرفة اللّه ومعرفة عدله ومعرفة النبوّة وجب أن لا يصحّ التقليد في ذلك » إلى آخره - (2) أنّ الكلام إنّما هو في المقلّد الغير الجازم ، وهو أيضا ظاهر العضدي في استدلاله على منع التقليد فيما حكى بالإجماع على وجوب معرفة اللّه أنّها لا تحصل بالتقليد ، وعليه مبنيّ ما عن شيخنا البهائي في حاشية زبدته من أنّ هذا النزاع يرجع إلى النزاع في اشتراط القطع في الاصول ، فإن اعتبرناه تعيّن القول بعدم جواز التقليد وإلاّ فيجوز.

وإن أمكن المناقشة فيه بمنع الملازمة على القول بكفاية الظنّ وعدم اشتراط القطع بجواز كون المراد به الظنّ النظري وهو الحاصل بالنظر والاستدلال.

ومنهم من منع الملازمة على القول باشتراط القطع أيضا بدعوى : أنّ النسبة بين التقليد في اصول الدين والعمل بالظنّ فيها عموم من وجه ، لافتراق الأوّل في التقليد المفيد للقطع والتقليد الغير المفيد له وللظنّ ، وافتراق الثاني في الظنّ الحاصل بالنظر.

ويمكن دفع المنعين بأنّ الكلام في افتراق العنوانين واجتماعهما بحسب القائل لا باعتبار المفهوم ، والمراد أنّ من جوّز للعلماء والمجتهدين العمل في اصول الدين بالاجتهاد الظنّي والأخذ بمؤدّى الأمارات الظنّية فقد جوّز للعوامّ أيضا التقليد فيها ، ومن لم يجوّز ذلك ثمّة

ص: 421


1- عدّة الاصول 2 : 731.
2- عدّة الاصول 2 : 730.

لم يجوّز هذا هنا ، ولم يظهر من العلماء من جوّز الأوّل ومنع الثاني ، خصوصا مع أنّ أكثر الأدلّة المقامة على منع التقليد إنّما تدلّ عليه للدلالة على أنّ المعتبر في اصول الدين هو العلم والتقليد لا يفيده.

ولذا قد يقال في بيان الضابط الكلّي : إنّ المسألة المقلّد فيها هي المسألة المجتهد فيها ، على معنى أنّ كلّ مسألة يجوز فيها الاجتهاد وإعمال الأمارات الاجتهاديّة التعبّديّة أو الظنّية يجوز فيها التقليد وما لا فلا.

نعم ربّما يشكل الحال في الملازمة المذكورة بأنّ جهة النزاع في مسألة التقليد غير ما هو جهة النزاع في مسألة الظنّ ، ولذا قيل في الاولى بتعيّن التقليد وحرمة النظر ، ولم يعهد نحوه في الثانية قبالا للقطع.

وعلى تقدير الملازمة فقد يقال : بأنّ الحيثيّة معتبرة في كلّ من العنوانين ، فالمراد عدم كفاية الأمارة الظنّية ولا فتوى الظنّية في المسألة الاصوليّة ، على معنى عدم ثبوت الحكم الاصولي من حيث هو بهما ، وهذا لا ينافي ثبوت الأحكام الفرعيّة بهما المتفرّعة على مورديهما.

وقضيّة ذلك إلغاؤهما من حيث المسألة الاصوليّة والأخذ بهما من حيث المسألة الفرعيّة ، وذلك كما لو ورد في أخبار الآحاد ما يدلّ على كفر المفوّضة في أمر الخلق والرزق الملزوم لنجاستهم ، وأنّه على القول بعدم كفاية الظنّ في الاصول وإن كان لا يصلح مستندا في المسألة الاعتقاديّة إلاّ أنّه يؤخذ به في المسألة الفرعيّة وهي النجاسة المقتضية لوجوب التجنّب عنهم ، وكذا لو أفتى المفتي بكون الاعتقاد الفلاني كفرا خروجا عن حدّ الإسلام فإنّه لا يجوز الأخذ به تقليدا في المسألة الاصوليّة مع جواز الأخذ به فيما يتفرّع عليه من نجاسة صاحب هذا الاعتقاد ووجوب التجنّب عنه ، وكذا لو أفتى بأنّ الاعتقاد الفلاني لا يوجب كفرا فليس للمقلّد الأخذ به تقليدا.

نعم يجوز له الأخذ بالأحكام الفرعيّة المتفرّعة عليه من طهارة وعدم وجوب اجتناب ونحو ذلك.

والسرّ في ذلك : أنّ الظنّ في المسألة الاصوليّة يستلزم الظنّ في المسألة الفرعيّة ، فيندرج بذلك في عموم حجّيّة الظنّ في الأحكام الفرعيّة مطلقا أو إذا حصل الاضطرار إلى العمل به من جهة بقاء التكليف وانسداد باب العلم ، نظير الظنّ الحاصل من قول اللغوي في

ص: 422

المسألة اللغويّة المستلزم للظنّ في مسألة فرعيّة على القول بعدم كفاية الظنّ في اللغات.

وإن استند إلى قول لغوي الّذي يلغى في الالتزام بالحكم اللغوي ويعتبر في الالتزام بالحكم الشرعي.

ويرد عليه : أنّ الأحكام الفرعيّة المترتّبة على الحكم الاصولي أو اللغوي محمولات مثبتة بأدلّة اخر تثبت لعنوان « الكافر » أو « المؤمن » و « الصعيد » مثلا.

ومن المعلوم استحالة ثبوت محمول القضيّة بدون ثبوت موضوعها ، ومرجع عدم اعتبار الأمارة الظنّية وفتوى الفقيه في الحكم الاصولي أو اللغوي إلى عدم ثبوت موضوعات هذه المحمولات بهما ، ومعه كيف يؤخذ بالمحمولات مع فرض عدم ثبوت موضوعاتها ، فالوجه منافاة عدم ثبوت الحكم الاصولي لثبوت الأحكام الفرعيّة المترتّبة عليه.

والتمسّك بعموم حجّية الظنّ في الأحكام. يدفعه : أنّ مفاد أدلّة حجّية الظنّ كفاية الظنّ في ثبوت الأحكام الفرعيّة من حيث إنّها محمولات واقعيّة لموضوعاتها المقرّرة في نفس الأمر ، لاثبوت تلك المحمولات ولو مع عدم ثبوت موضوعاتها ، فلا بدّ في التمسّك بعموم الحجّية من إحراز الموضوعات بطرقها المعتبرة عند الشارع أوّلا ثمّ إثبات المحمولات لها بواسطة الظنّ تمسّكا بأدلّة حجّيته ، هذا.

ثمّ المراد من التقليد المتنازع فيه في الاصول هل هو الأخذ بقول المجتهد الكامل فيها نظير التقليد في الفروع ، أو الأخذ بقول الغير مطلقا وإن لم يكن مجتهدا؟ ظاهر إطلاق الأكثر هو الثاني ويساعد عليه أكثر أدلّتهم.

ومن الأعلام من جزم بالأوّل ، وليس له إلاّ القرينة المقابلة بين التقليد في الاصول والتقليد في الفروع ، ويعضدها ما تقدّم من الضابط الكلّي المقرّر بأنّ المسألة المقلّد فيها هي المسألة المجتهد فيها بالبيان المتقدّم ، ولكنّهما لا تقاومان الإطلاق والأدلّة.

وعلى التقديرين لا بدّ من تخصيصه بالتقليد في الحقّ الّذي لا يتأتّى إلاّ بالرجوع إلى أهل الحقّ.

أمّا أوّلا : فلضرورة أنّ المسلمين المتنازعين في المسألة لا يجيزون تقليد أهل الباطل.

وأمّا ثانيا : فلوضوح أنّ المراد بالتقليد هنا ما يقابل النظر لا ما يقابل الواقع وإن خالفه ، فكما أنّ المراد بالنظر عند قائليه هو تحصيل العقائد الحقّة بطريق النظر والاستدلال فكذلك المراد بالتقليد تحصيلها بطريق التقليد.

ص: 423

وأمّا ثالثا : فلأنّ معنى كفايته أنّه يكفي في ثبوت الإسلام والإيمان وترتيب آثارهما وأحكامهما ، وهذا في تقليد أهل الباطل غير معقول.

وأمّا رابعا : فلأنّ تعميم المبحث بالقياس إلى التقليد في الباطل لا يلائمه ما ستعرف عن الشيخ في العدّة من مصيره إلى العفو عن المقلّد مع قوله بوجوب النظر ، لعدم صحّة إطلاق العفو حتّى بالنسبة إلى مقلّدة الباطل حتّى بالنسبة إلى قاصريهم.

غاية الأمر كونهم لأجل القصور أو العجز عن النظر من المرجين لأمر اللّه وهذا ليس من العفو في شيء.

ومن هنا ربّما يشكل الحال في تحقيق موضوع المسألة بحيث يظهر فيه ثمرة النزاع ، وهي كون المكلّف في العقائد من حين الشروع في تحصيلها على بصيرة في حكمه من حيث جواز التقليد له وعدمه ، إذ النظر في محلّ البحث إن كان في القاصر الغير المتمكّن من النظر إمّا لعدم التفطّن به أو بوجوبه أو عجزه عنه فهو خارج عن المتنازع ، لقبح خطابه واقعا بالمنع من التقليد أو التخيير بينه وبين النظر ، فلا بدّ فيه من الالتزام بعدم تكليف له في العقائد أصلا ، كما ذكرنا نظيره في مسألة الجاهل في الحكم الشرعي بالنسبة إلى القاصرين في الفروع ، وهو قضيّة كونهم من المرجين لأمر اللّه أو يكون تكليفه فيما اعتقده بطريق التقليد حقّا كان أو باطلا.

وإن كان في المتفطّن المتمكّن من التقليد والنظر معا ، فكونه من حين الشروع في تحصيل العقائد على بصيرة في حكمه على القول بجواز التقليد له موقوف على امتياز أهل الحقّ في نظره ليقلّدهم عن أهل الباطل ليتجنّب عن تقليدهم ، وهذا ممّا لا سبيل له إليه ، لأنّ كلاّ من أرباب الديانات والمذاهب المختلفة في العقائد يزعم نفسه محقّا ومخالفته مبطلا ، وعليه فوجب أن لا يجوز له التقليد إلاّ بأن يعرف بالاستدلال أنّ ما يقوله المقلّد - بالفتح - حقّ وخرج بذلك عن كونه مقلّدا ، كما أشار إليه العلاّمة فيما حكي عنه في النهاية ، فإنّه بعد ما ادّعى الإجماع على عدم جواز تقليد غير المحقّ قال : « وإنّما نعلم المحقّ وغيره بالنظر والاستدلال على أنّ ما يقوله حقّ ، فإذن لا يجوز له التقليد إلاّ بعد الاستدلال ، وإذا صار مستدلاّ امتنع كونه مقلّدا » انتهى.

فإذا فرضنا انتفاء الاستدلال وامتناع التمييز بدونه يتعيّن عليه حينئذ لقاعدة الشغل والاحتياط الواجب في نحو المقام اختيار طريق النظر في تحصيل العقائد الحقّة لئلاّ يقع

ص: 424

في مخالفة الواقع الموجبة للخلود في النار والعذاب الدائم ، وعليه فالقائل بوجوب النظر ومنع التقليد مستظهر لمساعدة الأصل والقاعدة عليه.

ثمّ الفرق بين الاصول والفروع أنّ المطلوب بالذات والمقصود بالأصالة في الفروع إنّما هو العمل ، والعلم مع ما يقوم مقامه إنّما يطلب لمجرّد الطريقيّة ومن باب المقدّمة فلا محيص فيها من العمل مع العلم.

غاية الأمر أنّه مع تعذّره بفقد الطرق العلميّة لابدّ من إيقاع العمل على طبق ظنّ أو أصل فلا معنى فيها للوقف عن العمل على كلّ تقدير ، بخلاف اصول الدين الّتي لا يطلب فيها عمل أصلا بل المطلوب بالذات فيها الاعتقاد مع التديّن بالمعتقد ، وهو ليس بعين الاعتقاد ولا من لوازمه ولا من ملزوماته ، بل هما قد يجتمعان وقد يتفارقان ، إذ الاعتقاد إذعان للواقع والتديّن بالمعتقد إطاعة نفسانيّة شبه إطاعة الجوارح في العمليّات ، فإنّ الإطاعة في كلّ شيء بحسبه ففي العمليّات عبارة عن عمل الجوارح وفي العمليّات عبارة عن عمل القلب وهو الانقياد والقبول الّذي يكشف عنه الإقرار باللسان تارة والعمل بالأركان اخرى.

ولا ريب أنّه أيضا معتبر في الإسلام والإيمان ولا يكفي فيهما مجرّد الاعتقاد والإذعان ، ولذا حكم بكفر إبليس وفرعون وكثير من الكفّار والمشركين ، وهو الّذي يعبّر عنه في الأخبار وكلمات العلماء الاختيار بكفر الجحود ، ويلائمه الكفر باعتبار معناه اللغوي ، فإذا كان كلّ من الاعتقاد والتديّن بالمعتقد معتبرا في مسائل اصول الدين فالنزاع في كفاية التقليد بل مطلق الظنّ فيها يمكن تصويره بوجهين :

أحدهما : أنّهم بعد ما اتّفقوا على كون كلّ من الاعتقاد والتديّن معتبرا على وجه الموضوعيّة ، على معنى محبوبيّة كلّ من الأمرين ومطلوبيّته لذاته لمصلحة فيه نفسه ، اختلفوا في أنّ هذا الموضوع المطلوب لذاته هل هو خصوص العلم بمعنى الاعتقاد الجازم الثابت المطابق للواقع المستحصل من النظر والدليل ، أو هو العلم بمعنى الاعتقاد الجازم المطابق مطلقا وإن كان من التقليد ، أو الاعتقاد مطلقا ولو ظنّا مستحصلا من النظر والاستدلال ، أو مطلقا وإن استند في حصوله إلى التقليد؟ فذهب إلى كلّ فريق ، وعليه ينطبق الأقوال الستّ المنقولة في العقائد :

الأوّل : اعتبار العلم فيها من النظر والاستدلال ، وهو المعروف المنسوب إلى الأكثر المدّعى عليه الإجماعات المنقولة في كلام جماعة من أساطين العامّة والخاصّة كما سبق.

ص: 425

الثاني : اعتبار العلم ولو من التقليد ، كما اختاره جماعة وهو خيرة بعض مشايخنا وهو الأقوى.

الثالث : كفاية الظنّ مطلقا ، نسب حكايته إلى جماعة منهم المحقّق الطوسي في بعض الرسائل المنسوبة إليه ، وعزى أيضا إلى المحقّق الأردبيلي وتلميذه صاحب المدارك وظاهر شيخنا البهائي والعلاّمة المجلسي والمحدّث الكاشاني وغيرهم.

الرابع : كفاية الظنّ المستفاد من النظر والاستدلال دون التقليد ، حكي عن شيخنا البهائي في بعض تعليقاته على شرح المختصر أنّه نسب إلى بعض.

الخامس : كفاية الظنّ المستفاد من أخبار الآحاد ، وهو الظاهر ممّا حكاه العلاّمة في النهاية عن الأخباريّين من أنّهم لم يعوّلوا في اصول الدين وفروعه إلاّ على أخبار الآحاد.

السادس : كفاية الجزم بل الظنّ من التقليد مع كون النظر واجبا مستقلاّ لكنّه معفوّ عنه ، كما يظهر من الشيخ في العدّة في مسألة حجّية أخبار الآحاد.

وثانيهما : أنّهم بعد ما اتّفقوا على كون التديّن بالواقع معتبرا في المعارف على وجه الموضوعيّة ، اختلفوا في أنّ العلم بمعنى الاعتقاد الجازم المطابق أيضا معتبر على وجه الموضوعيّة أو أنّه معتبر على وجه الطريقيّة ومن باب المقدّمة؟

فإن قلنا بالأوّل - ولعلّه المشهور - فلا يصحّ بدليّة الغير عنه ، ويقبل من الشروط والخصوصيّات ككونه في مرتبة اليقين وكونه حاصلا من الدليل والبرهان لا من التقليد ونحوه كلّما يساعد عليه الدليل ، وعليه مبنى القول بوجوب نصب الطرق العلميّة والأدلّة القطعيّة على المعارف الخمس عملا باللطف الواجب عليه تعالى وحذرا من التكليف بما لا يطاق ونقض الغرض القبيحين على العدل الحكيم.

ومن هنا ربّما سبق إلى بعض الأوهام إنكار وجود القاصر ، وربّما يستشهد له بعموم آيات خلود الكفّار في النار.

وعلى التحقيق المتقدّم في مسألة التصويب في العقائد من وجود القاصر في العقائد لابدّ من التزام سقوط التكليف في المعارف عن القاصرين على تقدير وجودهم - كما حكي الالتزام به عن الشيخ في العدّة - لئلاّ يلزم التصويب الباطل من مطلوبيّة عقائد القاصرين من الكفّار الناشئة عن اتّباع أسلافهم من آبائهم وامّهاتهم.

وبهذا كلّه ظهر عدم جريان مقدّمات دليل الانسداد على القولين في وجود القاصر

ص: 426

والبرهان الواضح قائم على خلافه فلا التفات إليه *.

__________________

وعدمه في اصول العقائد ، إمّا لعدم وجود القاصر الّذي مرجعه إلى عدم انسداد باب العلم فيها ، أو لعدم تكليفهم بالواقع على تقدير وجودهم.

وهذا بخلاف ما لو قلنا باعتبار العلم على وجه الطريقيّة ، فإنّ المطلوب المكلّف به في المعارف حينئذ إنّما هو التديّن بالواقع فيها ، والطريق الموصل إليه هو العلم ، ومن حكم العلم الطريقي جواز بدليّة الغير عنه وقيامه مقامه مطلقا أو حيثما تعذّر ، فإذا تعذّر وانسدّ بابه بفقد الطرق العلميّة مع فرض ثبوت التكليف بالواقع يقوم مقامه ما هو أقرب إليه من الظنّ أو التقليد.

وقضيّة ذلك جريان دليل الانسداد في الاصول أيضا كالفروع هذا ، ولكنّ الأظهر في كلماتهم والأنسب بأدلّتهم هو الوجه الأوّل ، وقد عرفت أنّ الأقوال الستّ المتقدّمة أيضا منطبقة عليه لا على الوجه الثاني.

* وكأنّه أراد بالبرهان الواضح أحد الأمرين من قاعدة دفع الضرر المخوف أو قاعدة وجوب شكر المنعم ، وحيث إنّ جهات البحث في المسألة كثيرة فتحقيق الحال فيها يستدعي التكلّم في جهات :

في إثبات جواز النظر في اصول العقائد

الجهة الاولى

في إثبات جواز النظر في اصول العقائد

كما هو الأقوى بل الحقّ الّذي لا محيص عنه ، قبالا لمن أنكره وقال بالمنع منه وتعيّن التقليد فيها ، ونعني بجواز النظر كونه ممّا لا حرج في فعله ولو باعتبار كونه في ضمن الوجوب.

لنا على ذلك : انتفاء المنع عنه عقلا وشرعا ، وكون أدلّة ثبوته حسبما اعتمد عليه القائلون به - على ما نبيّنه - مدخولة ، مضافا إلى ما ستعرفه في الجهة الثانية من وجوبه ودليل وجوبه ، فإنّ الوجوب أخصّ من الجواز فيستلزمه وإن كان الجواز المطلق لا يستلزم الوجوب.

احتجّ منكروه تارة بما لو تمّ لقضى بالمنع التشريعي ، وهو : أنّ النظر في اصول الدين بدعة ، وكلّ بدعة مردودة.

أمّا الأوّل : فلعدم اشتغال النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم وأصحابه بالنظر فيها ، ولو اشتغلوا لنقل إلينا لتوفّر الدواعي وقضاء العادة به ، كما نقل اشتغالهم بالمسائل الفقهيّة على اختلاف أصنافها.

واخرى بما لو تمّ لقضى بالمنع الشرعي المستفاد من خطاب العقل ، وهو : أنّ الشبهات

ص: 427

في الاصول كثيرة ، والنظر فيها مظنّة وقوع في الشبهة ، فيحرم النظر ويتعيّن التقليد.

وثالثة بما لو تمّ لقضى بالمنع الشرعي المستفاد من خطاب الشرع ، وهو : أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى عن الجدل كما في مسألة القدر ، فروي أنّه خرج إلى أصحابه فرآهم يتكلّمون في القدر غضب عليهم حتّى احمرّت وجنتاه ، وقال : « إنّما هلك من كان قبلكم لخوضهم في هذا ، عزمت عليكم أن لا تخوضوا فيه » وقال : « إذا ذكر القدر فأمسكوا ».

والسرّ في اختلاف مفاد أدلّة هذا القول إمّا أنّهم أرادوا بالمنع المقابل للجواز ما يعمّ الوجوه الثلاثة أعني الأمر الدائر بين المنع التشريعي والمنع الشرعي من خطاب العقل أو خطاب الشرع ، أو أنّهم افترقوا بين قائل بالأوّل وقائل بالثاني وقائل بالثالث فاعتمد كلّ على ما وافق مختاره.

وأيّا مّا كان فلا خفاء في ضعف الوجوه المذكورة ووضوح فسادها.

أمّا الأوّل : فأوّلا : لمنع عدم نقل اشتغالهم بالنظر في الاصول إلينا ، فإنّ الكتاب العزيز وكتب التفاسير وكتب الأحاديث النبويّة والإماميّة وغيرها من كتب التواريخ مشحونة من مناظرات الأنبياء ورسلهم مع اممهم ، ومناظرات النبيّ والصحابة والتابعين والأئمّة عليهم السلام وأصحابهم في المطالب الكلاميّة مع الزنادقة والملاحدة ومنكري الشرائع والنبوّات وعبدة الأصنام وغيرها من الآلهة الباطلة وأهل الكتاب والمخالفين وغيرهم من أرباب الديانات والمذاهب الباطلة ، وتعليم الأئمّة أيضا أصحابهم طريق المناظرة وآدابها.

وثانيا : لمنع الملازمة بين عدم نقل اشتغالهم به على تقدير تسليمه وبين عدم اشتغالهم به في الواقع.

والتمسّك له بتوفّر الدواعي وقضاء العادة. يدفعه : أنّهما إنّما يقضيان بالنقل في الامور التوقيفيّة الّتي لا طريق إلى إدراكها إلاّ النقل وما نحن فيه ليس منها ، إذ النظر إنّما يجوز بل يجب لا لنفسه بل لكونه طريقا محصّلا للمعرفة الواجبة والحاكم بطريقيّته العقل وهو يغني عن نقل اشتغالهم به ، ولعلّ المتصدّين لنقل أمثاله إنّما أهملوا في نقله لعدم الحاجة إليه من جهة كفاية حكم العقل بطريقيّته ومشروعيّته لذلك.

وثالثا : لمنع تحقّق البدعة على تقدير عدم اشتغالهم ، سواء فرضناها محمولة للنظر نفسه أو للقول بجوازه.

أمّا على الأوّل : فلأنّ « الدين » في تفسير البدعة عبارة عن مجموع المعارف الخمس

ص: 428

وما يلحق بها وغيرها من الفروع ، والنظر طريق إلى تحصيلها فيكون خارجا من الدين ، ولا يلزم من اعماله إدخال ما علم خروجه من الدين في الدين ليكون من الدين.

وأمّا على الثاني : فلأنّ الأحكام العقليّة بحكم الملازمة بين العقل والشرع كلّها داخلة في الدين ، وجواز النظر حكم عقلي فالقول به إدخال لما هو من الدين في الدين.

وأمّا الثاني : فلأنّ كلّ تقليد لابدّ وأن ينتهي إلى النظر لئلاّ يلزم التسلسل ، وهذا النظر المنتهى إليه التقليد مظنّة وقوع في الشبهة فيكون التقليد المنتهي إليه مثله.

ومع الغضّ عن ذلك فإن اريد بكثرة الشبهات في اصول الدين كثرة الشكوك فيها فنمنع كون النظر مظنّة وقوع في الشكّ ، فإنّه مزيل للشكوك لا أنّه موجب للوقوع فيها.

وإن اريد بها كثرة الاعتقاد الجهلي فيها نظرا إلى الأديان الباطلة والمذاهب الفاسدة الّتي لا تكاد تحصى كثرة فيها ، فنمنع أيضا كون النظر الصحيح الّذي لم يقصّر فيه الناظر مظنّة وقوع في الاعتقاد الجهلي ، وما يرى من كثرة وقوعه بملاحظة الأديان والمذاهب الباطلة على تقدير كونها عن نظر واجتهاد فهو مستند إلى نوع من التقصير ، على ما حقّقناه في مسألة التصويب في العقائد من كون كلّ مجتهد مخطئ فيها مقصّرا.

وإن اريد بها كثرة الإشكالات الغير المندفعة أو الّتي يصعب دفعها ، فالنظر فيها مزلقة ومظنّة وقوع في الخطأ ، فنمنع وجود إشكال في كلّيات اصول الدين وهي المعارف الخمس ، ووجوده مع الكثرة في جملة من توابعها الّتي منها مسائل القدر غير مضرّ ، لعدم وقوع التكليف بتحصيل المعرفة فيها ، فالمنع من النظر فيها مع فرض مظنّة الضلالة غير بعيد ، بل هو في خصوص مسائل القدر منصوص عليه في الأخبار.

وبالجملة النظر فيما هو من محلّ البحث ليس مظنّة الوقوع في الشبهة وما هو مظنّة الوقوع فيها خارج عن محلّ البحث.

وأمّا الثالث : فمع أنّه معارض بقوله تعالى : ( وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) أنّ النهي عن الخوض في مسائل القدر لغموضها وقصور العقول الناقصة عن البلوغ إلى كنهها وحقيقتها - ولأجل ذلك صارت من مزالّ الأقدام ومظانّ الضلالة والانحراف - لا يلازم النهي عن مطلق الجدل في اصول الدين.

ولو سلّم فالحكمة في النهي عن الجدل لكونه في غالب موارده ناشئا عن المراء أو مفضيا إلى المراء وهو مبغوض للشارع ومنهيّ عنه ، وهو لا يلازم كون مطلق النظر وطلب

ص: 429

الدليل في اصول الدين لتصحيح العقائد من غير جدال أو معه من غير اشتماله على المراء منهيّا عنه كما هو واضح.

أدلّة القول بوجوب النظر في اصول العقائد

الجهة الثانية

أنّ جواز النظر حسبما بيّنّاه إنّما هو على وجه الوجوب ، على معنى تحتّم فعله المتضمّن للمنع من تركه لا إلى بدل ولا عن عذر ، قبالا لتساوي فعله وتركه.

لنا على ذلك : قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل وإزالة خوف العقوبة عن النفس الّذي لا يتأتّى إلاّ به ، بالبيان المتقدّم في تضاعيف بحث التحسين والتقبيح العقليّين ، مضافة إلى قاعدة وجوب شكر المنعم المتوقّف على المعرفة الّتي لا تتمّ إلاّ بالنظر ، وإن رجع بالأخرة أيضا إلى دفع الضرر المحتمل وإزالة خوف العقوبة حسبما قرّرناه أيضا في البحث المذكور.

وهذه القاعدة وإن كانت أعمّ موردا من القاعدة الاولى لشمولها من لم يبلغه صيت الإسلام إذا التفت وتفطّن إلى ما عليه من النعم وأنّه لا بدّ لها من منعم ، إلاّ أنّ الاولى أوضح في تصوير حصول الخوف للنفس كما نبّهنا عليه في المبحث المذكور.

ولذا اورد على الثانية المناقشة تارة : بمنع استلزام مجرّد التجويز حصول الخوف.

واخرى : بأنّه ربّما يحصل لبعض الناس دون بعض فلا وجه للإطلاق ، كمن قلّد محقّا وجزم به واطمأنّ نفسه وإن فرض احتمال التضرّر بالتقليد فهو لا يوجب الخوف ، ولو فرض حصوله فقد يزول بما ظنّ به ، إذا شكره على حسب ما ظنّ به. وإن كان الجميع واضح الدفع بأنّ : المقصود إثبات وجوب النظر عقلا في الجملة وإن أغنى عنه التقليد في بعض الأحيان قبالا لمن أطلق القول بالتقليد في اصول الدين ، وستعرف أنّ الأقوى كفاية التقليد المحصّل للمعرفة والعلم الّذي معياره انكشاف الواقع على ما هو عليه من دون احتماله الخلاف في نظر المكلّف بتحصيل المعارف.

ثمّ إنّ زوال الخوف بالتقليد الظنّي أو الاعتقاد الظنّي الناشئ عن أمارة ظنّية اخرى إذا شكره حسبما ظنّ إنّما يتمّ إذا صحّ له الاستناد إلى أصل البراءة من حيث كونه حكما عقليّا ، ولا يتمّ ذلك إلاّ بالفحص والنظر المستتبع للعجز عن الوصول إلى الواقع بطريق علمي لا مطلقا ، إذ العقل إنّما يحكم بالبراءة على وجه يزول معه الخوف على هذا التقدير لا مطلقا.

وهذا الفرض على تحقّقه مقام آخر خارج عن موضوع المسألة ، وسنشير إلى حكمه تكليفا ووضعا بحسب أحكام الدنيا والآخرة.

ص: 430

وكيف كان فعن الأشاعرة الاعتراض على الدليل تارة : بمنع حكم العقل بالحسن والقبح.

واخرى : بدلالة العقل والنقل على خلافه. أمّا النقل فقوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) . وأمّا العقل : فلأنّه إن كان وجوبه لا لفائدة فهو عبث غير جائز عقلا ، وإن كان لفائدة فإمّا تعود إلى المشكور فهو متعال عن ذلك ، وإمّا إلى الشاكر فهو منتف أمّا في الدنيا فلأنّه مشقّة بلا حظّ ، وأمّا في الآخرة فلا استقلال للعقل فيها ، وأيضا هو تصرّف في مال الغير بدون إذنه فلا يجوز.

وثالثة : بمنع توقّف الشكر وزوال الخوف على المعرفة المستفادة من النظر ، بل يكفي فيهما المعرفة السابقة على النظر الّتي هي شرط النظر ، سلّمنا عدم كفايتها ولكن لا نسلّم توقّفها على النظر ، لجواز حصولها بالتعليم كما هو رأي الملاحدة أو بالإلهام على ما يراه البراهمة أو بتصفية الباطن بالمجاهدات كما يراه الصوفيّة.

ورابعة : بمنع وجوب ما يتوقّف عليه الواجب.

والجواب عن الأوّل : مضافا إلى ما مرّ في محلّه مستوفى أنّه إنكار لبداهة الوجدان.

وعن الثاني : أنّه مغالطة في مقابلة البرهان ، لمنع دلالة النقل والعقل على النفي.

أمّا النقل : فلما بيّنّاه في محلّه عند الكلام على حجج الأشاعرة في إنكار العقل.

وأمّا العقل : فلأنّ المحافظة على النعم عن الزوال في الدنيا وعلى النفس عن العقوبة في الآخرة كافية في حصول الفائدة وعودها إلى الشاكر.

ودعوى عدم استقلال العقل في الآخرة.

يدفعها : أنّه يكفي في حصول الخوف وتجويز العقوبة احتمالها وهو قائم بلا ريب ، مع إمكان إثبات استقلال العقل بالمعاد باعتبار أنّه لولاه لضاع عمل العاملين وضاعت حقوق المظلومين مع أنّه أمر بإغاثتهم على الظالمين ، ولساوى أشقى الأشقياء أفضل الأنبياء ، إذ ليس في الدنيا ما يصلح للجزاء مع أنّ إقبالها على الفجّار بمقدار إعراضها عن الأخيار ، وكونه جسمانيّا باعتبار كون الجسم مباشرا للطاعات والآثام ، وكون الشكر تصرّفا في مال الغير بدون إذنه ممنوع في كلّ من صغراه وكلّية كبراه.

وعن الثالث : منع كفاية المعرفة السابقة في حصول الشكر الرافع للخوف إن اريد بها معرفة أنّ له منعما ، لأنّها معرفة إجماليّة والشكر المزيل للخوف لابدّ وأن يقع على حسب

ص: 431

ما هو اللائق بحال المنعم وهذا يستدعي معرفة تفصيليّة ، وكون التعليم أو الإلهام أو تصفية الباطن ممّا يحصل به المعرفة على فرض تسليمه لا ينفي مقدّميّة النظر غاية الأمر كونه أحد أفراد المقدّمة ، مع أنّ التعليم إن اريد به تلقين الغير للعقائد فهو غير خارج عن حدّ التقليد فيما لا يوجب العلم على ما هو الغالب ، والإلهام على تقدير جوازه ووقوعه في حقّ [ غير ] الأنبياء باعتبار كونه فعل اللّه عزّ وجلّ من المقدّمات الخارجة عن مقدور المكلّف فلا تأثير له في نفي المقدّميّة ولا منع حكمها عن المقدّمة المقدورة ، وتصفية الباطن بالمجاهدات وإن كانت لذاتها من مقدورات نوع الإنسان إلاّ أنّها لغاية صعوبة مبادئها على وجه لا يتحمّلها غالب آحاد النوع بل لا يتأتّى عن الأكثر مندرجة في عداد الغير المقدورات فلا يلتفت إليها في نظر العقل ، فانحصرت المقدّمة المقدورة العادية بالقياس إلى جميع آحاد النوع في النظر.

وعن الرابع : بما حقّق في محلّه من وجوب ما لا يتمّ الواجب إلاّ به.

أدلّة المنكرين لوجوب النظر في اصول العقائد

احتجّ المنكرون لوجوب النظر الموجبون للتقليد بوجوه :

منها : لزوم الدور لو وجب النظر ، وتقريره - على مذهب الأشعري النافي لحكومة العقل - : أنّ وجوب النظر في معرفة اللّه المفروض استفادته من إيجابه تعالى موقوف على معرفة اللّه تعالى ، وأنّه هل يجب اتّباعه أم لا؟ ومعرفته كذلك موقوفة على وجوب النظر في معرفة اللّه المفروضة.

وعلى مذهب العدليّة : أنّ وجوب النظر في معرفة اللّه نظريّ موقوف على النظر في دليل ذلك ، وهو نظر آخر فيجب ذلك النظر ، ووجوبه موقوف على وجوب النظر في معرفة اللّه ، إذ لو لم يجب النظر في معرفة اللّه لم يجب النظر في دليل وجوب النظر في معرفة اللّه.

ويندفع الأوّل : بأنّ وجوب النظر عندنا عقليّ فلا يتوقّف على استفادته من إيجابه تعالى ، مع إمكان دفعه على طريقة الأشعري أيضا : بمنع توقّف معرفة اللّه على وجوب النظر ، بل إنّما يتوقّف على وجوده أعني النظر نفسه ، ويكفي في حصوله والتحريك إلى الإقدام عليه عروض خوف العقوبة للنفس الحامل له على النظر وإن لم نقل بحكومة العقل.

ويندفع الثاني : بمنع توقّف وجوب النظر في معرفة اللّه على النظر في دليل وجوب النظر ، بل إنّما يتوقّف على وجوب إزالة الخوف عن النفس ، أو على وجوب معرفة اللّه المتوقّف على وجوب شكر المنعم ، فإنّ وجوب المقدّمة يتوقّف على وجوب ذيها لا غير.

نعم إنّما يتوقّف عليه العلم بوجوب النظر في معرفة اللّه ، وهو ليس من جملة النظر في

ص: 432

معرفة اللّه ليكون وجوبه من وجوبه ، ولا أنّه من مقدّماته ليجب بوجوبه.

ومنها : أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يحكم بإسلام من أقرّ بالشهادتين وكان يكتفي بذلك منهم ولم يكلّفهم بالاستدلال والنظر ، وذلك آية عدم وجوبه وإلاّ لكلّفهم به.

وفيه : عدم قضاء ذلك برضاء النبيّ منهم بالتقليد الظنّي ، وذلك لما بيّنّاه سابقا من اشتمال الإسلام على جزئين : الإذعان والإقرار باللسان ، واكتفاؤه منهم بالإقرار بالشهادتين لعلّه لبقاء هذا الجزء منه بعد حصول الجزء الأوّل وقد علمه صلى اللّه عليه وآله وسلم بموجب علم النبوّة أو ظهر له من مقتضى ظاهر الإقرار بناء على أنّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان مكلّفا بالظاهر لا بما خفي في السرائر.

ولعلّه السرّ في اكتفائه صلى اللّه عليه وآله وسلم من المنافقين بكلمتي الشهادة ، مع أنّ الغالب كون إقرارهم بهما مسبوقا بمشاهدة معجزاته وبيّناته ولو كانت من قبيل حالاته الحسنة وأخلاقه المستحسنة وهي من أسباب العلم.

ولو سلّم انتفاء العلم والإذعان حين الإقرار باللسان فهو أيضا لا يدلّ على أنّه صلى اللّه عليه وآله وسلم كان لا يكلّفهم فيما بعد بالنظر لتصحيح العقائد وتحصيلها ، خصوصا مع ملاحظة ما هو المعلوم من سيرته صلى اللّه عليه وآله وسلم أنّه كان بعد إقرارهم بالشهادتين يكمّلهم ببيان الأحكام وأمرهم باصول الدين وفروعه على التدريج. والقول بأنّه لو كان كلّفهم لنقل إلينا لتوفّر الدواعي وقضاء العادة ، يدفعه : ما بيّنّاه سابقا في دفع نظيره.

ومنها : قوله : « عليكم بدين العجائز » ولا ريب أنّ دينهنّ على طريق التقليد لعدم اقتدارهنّ على النظر ، ولفظة « على » يدلّ على الوجوب فيحرم النظر.

وفيه - مضافا إلى منع الملازمة بين وجوب التقليد وحرمة النظر ، لإمكان الواسطة وهو كون النظر مباحا مسقطا عن الواجب وهو التقليد - : منع نهوض ذلك دليلا على نفي وجوب النظر ولا على وجوب التقليد ، لعدم ثبوت كونه رواية عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم أو معصوم آخر ، لما قيل - كما عن القوشجي والفاضل الجواد - من كونه كلام سفيان لما روي أنّ عمرو بن عبيدة لما أثبت منزلة بين الكفر والإيمان ، فقالت عجوزة : قال اللّه تعالى : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ) فلن يجعل اللّه من عباده إلاّ الكافر والمؤمن ، فقال سفيان : عليكم بدين الأعجاز.

ولو سلّم كونه عن المعصوم فهو خبر واحد غير واضح السند ، وعلى تقدير صحّته غير ثابت الحجّية في مثل ما نحن فيه ، ولو سلّم فدلالته غير واضحة ، بل هو - على ما حكي

ص: 433

من كونه واردا في قضيّة « دولاب » حيث استدلّت على وجود الصانع للأشياء المحرّك للأفلاك المدبّر في العالم بآثارها الّتي منها حركة الأفلاك تنظيرا له بدولابه الّذي لا يتحرّك إلاّ به بتحريكها - على خلاف مطلوب المستدلّ أدلّ ، بل هو دليل لنا لا علينا ، وعليه فالإلزام بدين العجائز المستفاد من كلمة « عليكم » إرشاد إلى تحصيل المعرفة على الوجه الّذي حصلته العجوز إمّا من حيث كونها على يقين ، أو من حيث طريق تحصيله وهو استدلال الإنّ تنبيها على أنّه الطريق السهل السالم لا طريق اللمّ ، أو من حيث الاكتفاء في الاستدلال بالإجمال تنبيها على عدم لزوم التفصيل.

ومنها : أنّ مسائل الاصول أغمض من مسائل الفروع ، فإذا جاز التقليد في الثاني جاز في الأوّل بطريق الأولويّة.

وفيه : منع الأغمضيّة ، بل الاجتهاد في مسائل الفروع لعدم محصوريّتها وافتقاره إلى صرف معظم العمر في تحصيل مبادئه وتحمل مشاقّ كثيرة لا يتحمّلها عادة إلاّ أقلّ قليل من الناس أغمض بمراتب شتّى ، بخلاف مسائل الاصول ولا سيّما أوائلها الّتي يتمّ النظر فيها في زمان يسير من دون مشقّة إلاّ يسيرا في حقّ بعض الأشياء (1).

ومنها : قوله تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (2).

وفيه : أنّ الآية على ما يرشد إليه صدرها نزلت في بشريّة الأنبياء ، مع كون المراد من أهل الذكر علماء أهل الكتاب فليس لها كثير تعلّق بما نحن فيه ، إلاّ أن يقال : بأن لا عبرة بخصوص المورد ، لكن يرد عليها : منع الدلالة على خصوص التقليد المتنازع فيه ، بل تعليق الأمر بالسؤال على عدم العلم يقتضي مطلوبيّة تحصيل العلم.

ومنها : أنّا نعلم أنّ قول النبيّ والإمام بل العدل العارف أوقع في النفس ممّا يفيده هذه الأدلّة المدوّنة في علم الكلام ، إذ هي موقوفة على مقدّمات نظريّة يتوقّف إثباتها على دفع شكوك وشبهات لا يتخلّص عنها إلاّ من أيّده اللّه.

وفيه : أنّ قول النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم والإمام عند من ثبت نبوّته وإمامته دليل وكذا قول العدل العارف ، ومع هذا فالاستدلال بطريق الإنّ أتمّ في إفادة الاطمئنان والعلم بل اليقين من دون حاجة إلى سائر الأدلّة المدوّنة في علم الكلام ، مع أنّ جعل قول الغير مطلقا أوقع في النفس من النظر والاستدلال ممّا يشهد الضرورة ببطلانه.

ص: 434


1- كذا في الأصل ، والأنسب « الأشخاص » بدل « الاشياء ».
2- النحل : 43.

اشتراط القطع في اصول الدين وعدم كفاية الظنّ

الجهة الثالثة

أنّ النظر بعد ما ثبت وجوبه يعتبر بلوغه حدّ الاطمئنان بل العلم بمعنى الاعتقاد الجازم المطابق ، ولا يكفي النظر المؤدّي إلى الظنّ مع إمكان العلم كما هو المعروف المشهور المدّعى عليه الإجماع مستفيضا ، ومرجعه إلى اشتراط القطع في اصول الدين وعدم كفاية الظنّ.

لنا في إثباته طريقان :

أحدهما : طريق العقل ، وهو : أنّ إزالة خوف العقوبة الّتي هي مناط حكم العقل بوجوب النظر أو بوجوب معرفة اللّه المقتضي لوجوب النظر لا تتأتّى إلاّ بالنظر المحصّل للعلم ، فإنّ الأمارات الظنّية الّتي منها أخبار الآحاد لعدم دوام إصابتها الواقع ليست مأمونة من الخطأ ومخالفة الواقع ، فلا يزول خوف العقوبة مع التعويل عليها إلاّ إذا انضمّ إليها أصل البراءة النافي للعقاب واستحقاقه على مخالفة الواقع من حيث كونه حكما عقليّا.

وقد عرفت أنّه لا يصحّ إلاّ بعد الفحص عن الدليل والعجز عن العلم.

وثانيهما : طريق الشرع من الإجماع والكتاب والسنّة.

فمن الأوّل : الإجماعات المنقولة المستفيضة القريبة من التواتر.

ومن الثاني : الآيات المانعة من اتّباع الظنّ المفيدة كون المرجع والمعوّل عليه في الشرعيّات هو العلم خرج منها الظنّ في الفروع بدليل ، كقوله تعالى : ( لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (1) و ( إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) (2) و ( لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (3) و ( وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ) (4) ( ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) (5) ( وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) (6) وكونها عمومات مخصّصة - مع أنّ الأقوى حجّية العامّ المخصّص - لا يمنع من الاستدلال بها ، لأنّ العامّ المخصّص نصّ في المورد ومورد نزول الآيات اصول الدين ، مضافا إلى الآيات الآمرة بالعلم مثل قوله تعالى : ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللّهُ ) (7) وقوله تعالى : ( اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ) (8).

والمناقشة في الاولى بأنّ المراد التثبّت على العلم ، لأنّه عليه السلام كان عالما قبل نزول الآية

ص: 435


1- الأسراى : 36.
2- البقرة : 169.
3- الزخرف : 86.
4- الجاثية : 24.
5- الأحقاف : 4.
6- النجم : 28.
7- محمّد : 19.
8- الحديد : 17.

إذ لم يقل أحد إنّها أوّل ما نزلت عليه.

وفيهما (1) أنّه ليس طلبا لتحصيل للعلم بل إثبات للعلم وإيجاد له من قبيل قول المعلّم : « اعلم كذا ».

مدفوعة بأنّ الخطاب في الآية الاولى وإن كان في ظاهره متوجّها إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم إلاّ أنّ الظاهر كونه من باب « إيّاك أعني واسمعي يا جاره » فهو أمر لغيره بتحصيل العلم ولا يكون إلاّ بالنظر.

ولو سلّم اختصاص الخطاب بنفسه الشريفة فيستفاد منه وجوب تحصيل العلم أيضا على من لم يسبقه حصوله ، إمّا لأنّ وجوب التثبّت على العلم على من سبقه يستلزم - ولو باللزوم العرفي - وجوب تحصيله على من لم يسبقه ، أو لأنّ التثبّت على العلم عبارة عن إبقاء العلم والاستمرار عليه ولا يتأتّى ذلك إلاّ باستحضار الدليل الموجب له ، ومرجع الأمر بالتثبّت إلى إيجاب إعمال النظر في ذلك الدليل في كلّ آن يحتاج العلم في بقائه إليه ، وهذا يرجع إلى ابتداء النظر لتحصيل العلم في ذلك الآن لأنّه لولاه لكان الشكّ والتزلزل ، فلولا النظر المؤدّي إلى العلم واجبا لم يكن التثبّت عليه واجبا.

وقول المعلّم ونظائره : « اعلم » إيجاد للعلم التصوّري ، والمقصود إثبات العلم التصديقي الّذي لا يتأتّى غالبا بمجرّد قول المعلّم بل يحتاج إلى ذكر دليل ولذا صحّ للمتعلّم مطالبة الدليل ، وكان الغالب في المعلّمين التنبيه على دليل ، ولو صدر قول : « اعلم » من اللّه سبحانه أو أحد من المعصومين أو العلماء الموثوق بهم في المعارف وكفى بمجرّده في حصول العلم كان ذلك علما حاصلا من الدليل الحاضر في الذهن المؤلّف من المقدّمتين الملتفت إليهما إجمالا.

ويدلّ على اعتبار العلم أيضا من الكتاب قوله تعالى : ( إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) وقوله : ( كَذلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) وقوله : ( وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) وقوله تعالى : ( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) أي ليعرفون ، كما نصّ عليه المفسّرون ونطقت به الروايات الّتي منها المرويّ عن العلل عن الصادق عليه السلام قال : خرج الحسين بن عليّ عليهما السلام على أصحابه ، فقال : « أيّها الناس إنّ اللّه ما خلق العباد إلاّ ليعرفوه ، فإذا عرفوه عبدوه ، وإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه » فقال له رجل : يا بن رسول اللّه بأبي أنت

ص: 436


1- عطف على قوله : « والمناقشة في الاولى » أي : والمناقشة فيهما.

وامّي فما معرفة اللّه؟ قال : « معرفة أهل كلّ زمان إمامهم الّذي يجب عليه طاعته » إلى آخره.

وإنّما فسّر معرفة اللّه بمعرفة إمام الزمان لأنّ من عرف الإمام بوصف الإمامة ومن حيث إنّه مفترض الطاعة - لا بوصف الالوهيّة ولا من حيث الخالقيّة والرازقيّة والإحياء والإماتة كما عليه الغلاة والمفوّضة - فقد عرف اللّه بوصف الالوهيّة وبالوحدانيّة في ذاته وصفاته وأفعاله واستحقاقه العبادة.

ويمكن أن يكون وجهه أنّ من عرف إمام زمانه المنصوب من النبيّ عن اللّه سبحانه فقد عرف اللّه بصفاته الكماليّة الّتي منها عدله وحكمته المقتضية لئلاّ يهمل أمر الإمامة لكونه إخلالا باللطف الواجب عليه تعالى وهو قبيح ، ولئلاّ ينصب إماما مفضولا غير معصوم لكونه تفضيلا للمفضول على الفاضل وهو أيضا قبيح.

ومن الثالث : الأخبار الدالّة عليه عموما ، كقول العالم عليه السلام : « من شكّ أو ظنّ فأقام على أحدهما فقد حبط عمله ، إنّ حجّة اللّه هي الحجّة الواضحة » وخصوصا كقوله : « ما أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلوات الخمس » بناء على أنّ الأفضليّة من الواجب خصوصا مثل الصلاة تستلزم الوجوب ، وقوله عليه السلام : « من دخل في الإيمان بعلم ثبت فيه ونفعه إيمانه ، ومن دخل فيه بغير علم خرج عنه كما دخل فيه » وقوله عليه السلام : « من أخذ دينه من كتاب اللّه وسنّة نبيّه زالت الجبال قبل أن يزول ، ومن أخذ دينه من أفواه الرجال ردّته الرجال » وقوله عليه السلام : « إيّاك أن تنصب رجلا دون الحجّة فتصدقه في كلّ ما قال » وقوله عليه السلام : « إيّاك وخصلتين ففيهما هلك من هلك ، إيّاك أن تفتي الناس بغير علم ، وأن تدين اللّه بما لا تعلم » إلى غير ذلك من الأخبار المتكاثرة الآمرة بمعرفة اللّه وغيرها من المعارف.

كفاية الجزم المطابق للواقع الحاصل بالتقليد في المعارف مطلقا

الجهة الرابعة

المشهور بين العلماء المدّعى عليه الإجماع في كلام جماعة من الخاصّة والعامّة عدم جواز التقليد في اصول الدين على ما تقدّم بيانه ، ومرجعه إلى وجوب النظر المفيد للعلم على التعيين وعدم بدليّة غيره عنه وهو الأصل ، وقد شاع بينهم الاستدلال عليه بما دلّ من الآيات المتكاثرة على ذمّ الكفّار في تقليدهم لآبائهم وأسلافهم كقوله تعالى : ( ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ ) وقوله : ( وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ ) وقوله : و ( قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا ) وقوله في غير موضع : ( إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ ) .

ص: 437

ويشكل التعلّق بهذه الآيات لإثبات المنع من التقليد بالمعنى المتنازع وهو تقليد أهل الحقّ المستتبع للاعتقاد الظنّي ، وتقليد الكفّار ليس لأهل الحقّ ولم يعلم كونه مفيدا للظنّ لهم مع ذلك ، مع أنّ الظاهر في توجّه الذمّ إليهم في الآيات كونهم كفّارا أخذوا أديانهم بطريق التقليد لأسلافهم ، فالذمّ ليس على الطريق بل على ذيه وهو الكفر ، ومع التنزّل فهو على المجموع منه ومن مؤدّاه وهو الكفر على اختلاف أصنافه ، فالعلّة مركّبة ومن حكم العلّة المركّبة انتفاء المعلول بانتفاء أحد أجزائها ، فلم يدلّ الآيات على كون التقليد لأهل الحقّ المفيد للظنّ أيضا مذموما.

إلاّ أن يقال : إنّه ينساق من مجموعها في متفاهم العرف عدم كون التقليد بعنوان أنّه تقليد في نظر الشارع طريقا يعوّل عليه في المعارف وإن أفاد الظنّ وكان مؤدّاه حقّا ، وإذا انضمّ إلى ذلك آيات الذمّ على اتّباع الظنّ في اصول الدين كما هو ظاهر سياقاتها ثبت أنّ المعارف لا يطلب فيها إلاّ العلم ، ويتأكّد ذلك بما عرفت من الآيات المصرّحة بالعلم وبالأخبار الدالّة عليه عموما وخصوصا.

فتحقيق المقام : أنّ الكلام في مسألة التقليد إن رجع إلى الأخذ بقول الغير المستتبع للعلم بمعنى الاعتقاد الجازم المطابق للواقع أو إلى التقليد بالمعنى المصطلح المنطقي فالحقّ كفايته ، لما عرفت من أنّ المستفاد من مجموع الأدلّة هو اعتبار العلم بمعنى الجزم المطابق وكفايته في المعارف مطلقا.

وأمّا اعتبار بلوغه مرتبة اليقين المصطلح أو حصوله بطريق النظر والاستدلال فلم يدلّ عليه دليل ولم يقم عليه برهان ، إلاّ حيث توقّف العلم أو المعرفة في حصولهما عليه فيجب مقدّمة وقد عرفت أنّه المستفاد من العقل المستقلّ.

فما عرفت من العلاّمة وغيره ممّن وافقه من اعتبار النظر والاستدلال أو كون المعتبر العلم الحاصل بطريق خاصّ فليس على ما ينبغي ، بل الأقوى كفاية الجزم المطابق الحاصل بطريق التقليد وفاقا لجماعة منهم بعض مشايخنا قائلا - بعد التصريح بما سمعت - : « مع أنّ الإنصاف أنّ النظر والاستدلال بالبراهين العقليّة للشخص المتفطّن لوجوب النظر في الاصول لا يفيد بنفسه الجزم ، لكثرة الشبه الحادثة في النفس والمدوّنة في الكتب ، حتّى أنّهم ذكروا شبها يصعب الجواب عنها للمحقّقين الصارفين لأعمارهم في فنّ الكلام فكيف حال المشتغل به مقدارا من الزمان لأجل تصحيح عقائده ليشتغل بعده بامور معاشه

ص: 438

إذا عرفت هذا فاعلم : أنّ المحقّق رحمه اللّه ، بعد مصيره إلى المنع في هذا الأصل وذكره الاحتجاج عليه ، قال : « وإذا ثبت أنّه غير جائز ، فهل هذا الخطأ موضوع عنه؟. قال شيخنا أبو جعفر رضى اللّه عنه : نعم ، وخالفه الأكثرون *.

__________________

ومعاده ، خصوصا والشيطان يغتنم الفرصة لإلقاء الشبهات والشكوك في البديهيّات » انتهى.

وإن رجع إلى النزاع في كون التقليد مفيدا للعلم ليكون كافيا وعدمه ليتعيّن النظر مع اتّفاق الكلّ على اشتراط العلم وعدم كفاية غيره - كما ربّما يظهر من العضدي وغيره في استدلالهم المتقدّم على عدم جواز التقليد بأنّه لا يفيد العلم بعد دعوى الإجماع على وجوب معرفة اللّه - فالوجه أنّ هذا النزاع ممّا لا جدوى فيه بعد بناء كلام المجوّزين على أخذ القضيّة فرضيّة ، مع أنّه لا يبعد دعوى كونه في بعض الأحيان باعتبار خصوصيّات المقام مفيدا للعلم ، كما لو قلّد عدلا عالما عارفا يثق به ويعتمد عليه.

وإن رجع إلى النزاع في جواز التقليد وكفايته مع فرض إفادته الظنّ مع إمكان بلوغه مرتبة الجزم أو تحصيل الجزم بالنظر - كما استظهرناه سابقا ونصّ عليه شيخنا البهائي حيث أرجع الخلاف إلى النزاع في اشتراط القطع وعدمه - فالحقّ الّذي لا محيص عنه هو عدم جواز التقليد ، لما ذكرناه مرارا من أنّ المستفاد من مجموع الأدلّة اشتراط القطع ومطلوبيّة العلم من غير فرق بين أسبابه وعدم كفاية غيره كائنا ما كان ، سواء قرّرنا الملازمة : بأنّ كلّ من جوّز التعويل على الأمارات الظنّية للمجتهد في الاصول جوّز التقليد للعامي المقلّد له ، أو بأنّ من جوّز التعويل على الأمارة الظنّية في الاصول للمكلّف مجتهدا كان أو عاميا جوّز التقليد له أيضا ومن منع من التقليد منع من التعويل على الأمارة مطلقا من غير فرق بين المجتهد والعامي المقلّد له.

القول بالعفو عمّن أخذ المعارف بطريق التقليد وعدمه

* والظاهر أنّ مراده بالخطاء المعصية اللازمة من اختيار التقليد ، بناء على كونه محظورا بالحظر النفسي ومحرّما بالحرمة الذاتيّة لمفسدة في ذاته وإن صادف الواقع.

والمراد بوضعه سقوط المؤاخذة والعقوبة المترتّبة عليه من باب العفو مع فرض كونه صغيرة لئلاّ يقدح في العدالة ، على ما يظهر من بعض كلمات الشيخ في العدّة ، كقوله - عند الاحتجاج على حجّية أخبار الآحاد : « وأمّا ما يرويه قوم من المقلدّة فالصحيح الّذي أعتقده

ص: 439

أنّ المقلّد للحقّ وإن كان مخطئا معفوّ عنه ، ولا أحكم فيه بحكم الفسّاق ، فلا يلزم على هذا ترك ما نقلوه » انتهى.

وربّما يسبق إلى الوهم احتمال إرادة سقوط المؤاخذة المترتّبة على ترك النظر بناء على كونه واجبا مستقلاّ ، أو على أنّه وجب لجهتين جهة التوصّل على معنى كونه موصلا إلى الواقع ومحصّلا للعلم به وجهة النفسيّة على معنى مطلوبيّته لنفسه لمصلحة في ذاته زائدة على مصلحة التوصّل ، ولكنّه بعيد من عبارته المتقدّمة والآتية أيضا.

وأبعد منه كون مراده سقوط أصل الخطاب بالمنع من التقليد مع الجهالة به فيكون معذورا لكونه جاهلا بالحكم ، كما احتمله المحقّق السلطان عقيب احتماله الوجه الأوّل.

وأبعد من الجميع احتمال إرادة سقوط أصل الخطاب أيضا عنه مطلقا من باب العفو مع فرض كونه قبيحا بحسب حكم العقل ، نظير العفو عن قصد المعصية القبيح عقلا على ما نطق به الروايات بناء على أحد احتماليه والاحتمال الآخر سقوط المؤاخذة وعدم ترتّبها على مجرّد القصد وإن قبح عقلا ونهي عنه شرعا.

وبالجملة هذه الاحتمالات ما عدا الوجه الأوّل بعيدة عن عبارة الشيخ المنقولة عن العدّة ، حيث إنّه بعد ما استدلّ على عدم جواز التقليد بأنّه : « لا خلاف في أنّه يجب على العامي معرفة الصلاة وأعدادها ، وإذا كان لا يتمّ ذلك إلاّ بعد معرفة اللّه ومعرفة عدله ومعرفة النبوّة وجب أن لا يصحّ التقليد في ذلك ».

ثمّ اعترض على نفسه : « بأنّ السيرة كما جرت على تقرير المقلّدين في الفروع كذلك جرت على تقرير المقلّدين في الاصول وعدم الإنكار عليهم ».

فأجاب : « بأنّ على بطلان التقليد في الاصول أدلّة عقليّة وشرعيّة من كتاب وسنّة وغير ذلك وهذا كاف في النكير » ، قال : « على أنّ المقلّد للحقّ في اصول الديانات وإن كان مخطئا في تقليده غير مؤاخذ به وأنّه معفوّ عنه ، وإنّما قلنا ذلك لمثل هذه الطريقة الّتي قدّمناها لأنّي لم أجد أحدا من الطائفة » إلى آخر ما ذكره وستعرفه.

ص: 440

احتجّ رضى اللّه عنه * باتّفاق فقهاء الأمصار على الحكم بشهادة العاميّ مع العلم بكونه لا يعلم تحرير العقائد بالأدلّة القاطعة.

لا يقال : قبول الشهادة إنّما كان لأنّهم يعرفون أوائل الأدلّة ، وهو سهل المأخذ.

لأنّا نقول : إن كان ذلك حاصلا لكلّ مكلّف لم يبق من يوصف بالمؤاخذة فيحصل الغرض وهو سقوط الإثم ، وإن لم يكن معلوما لكلّ مكلّف لزم أن يكون الحكم بالشهادة موقوفا على العلم بحصول تلك الأدلّة للشاهد منهم ، لكن ذلك محال. ولأنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يحكم بإسلام الأعرابي من غير أن يعرض عليه أدلّة الكلام ولا يلزمه بها ، بل يأمره بتعلّم الامور الشرعيّة اللازمة به كالصلاة وما أشبهها.

وفي هذا الكلام إشعار بميل المحقّق إلى موافقة الشيخ على ما حكاه عنه ، أو تردّده فيه. مع أنّه ليس بشيء ، لأنّ تحرير الأدلّة بالعبارات المصطلح عليها ودفع الشبهة الواردة فيها ليس بلازم. بل الواجب معرفة الدليل الإجمالي بحيث يوجب الطمأنينة. وهذا يحصل بأيسر نظر. فلذلك لم يوقفوا قبول الشهادة على استعلام المعرفة ، ولم يكن النبيّ 6 ، يعرض الدليل على الأعرابي المسلم ، إذ كانوا يعلمون منهم العلم بهذا القدر ، كما قال الأعرابي : « البعرة تدلّ على البعير وأثر الأقدام على المسير؟ ، أفسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج لا تدلاّن على اللطيف الخبير؟ ».

__________________

* حجّة الشيخ على ما ادّعاه من العفو وجوه :

الأوّل : ما أشرنا إليه من قوله : « لأنّي لم أجد أحدا من الطائفة ولا من الأئمّة قطع موالاة من سمع قولهم واعتقد مثل اعتقادهم ، وإن لم يستند في ذلك إلى حجّة عقليّة أو سمع شرعي ».

الثاني : ما حكاه المحقّق - على ما نقله المصنّف - من اتّفاق فقهاء الأمصار على الحكم

ص: 441

بشهادة العامي مع العلم بكونه لا يعلم تحرير العقائد بالأدلّة القاطعة.

الثالث : أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يحكم بإسلام الأعرابي من غير أن يعرض عليه أدلّة الكلام ، ولا يلزمه بها بل يأمر بتعلّم الامور الشرعيّة اللازمة له كالصلاة وما أشبهها.

أقول : يرد عليه فساد أصل المدّعى مضافا إلى فساد دليله.

أمّا الأوّل : فلأنّه لو أراد من العفو سقوط المؤاخذة على فعل التقليد كما هو ظاهر كلامه ، ففيه : منع محظوريّة التقليد على الوجه المتقدّم ، إذ ليس في الأدلّة العقليّة ولا الشرعيّة ما يقضي بذلك ، خصوصا على ما احتجّ به من كون التقليد ممّا لا يتمّ به المعرفة الواجبة ، وغاية ما استفيد منها بالنسبة إلى التقليد الظنّي إنّما هو المنع الوضعي وهو عدم كونه مبرئ للذمّة ومسقطا للتكليف.

وأمّا ذمّ آيات التحريم فهو ذمّ على مؤدّى الطريق لا على نفسه ، ولو سلّم كونه ذمّا على الطريق أو على المجموع منه ومن الطريق فهو مخصوص بمقلّدة الكفّار ولا يتناول مقلّدة المسلمين.

ولو أراد منه سقوط المؤاخذة على ترك النظر ، ففيه : منع وجوب النظر على الوجه المتقدّم ، بل غاية ما استفيد من أدلّته عقلا ونقلا إنّما هو الوجوب التوصّلي لحصول العلم والمعرفة ، وإذا فرض حصوله من طريق آخر سقط الوجوب عن النظر من دون أن يستحقّ المؤاخذة على تركه ، على أنّ التقليد المفروض إن لم يفد المعرفة فسقوط المؤاخذة معه غير صحيح لبقاء المعرفة الواجبة في الذمّة ، والانصراف عن تحصيلها بالنظر مخالفة للخطاب بها فيعاقب عليها قطعا.

وأمّا الثاني : فلعدم دلالة الوجوه المذكورة على كون من يسمع قول الطائفة والأئمّة ومن يحكم الفقهاء بشهادته والأعرابي الّذي حكم النبيّ بإسلامه مقلّدين في عقائدهم ، لجواز كونهم علموا من حالهم أو إقرارهم ونحوه أنّهم جازمون فيها عن نظر واستدلال ولو بالدليل الإجمالي بناء على كفايته كما هو الأقوى ، كما في قصّة « دولاب » العجوز وحكاية الأعرابي حيث قال : « البعرة تدلّ على البعير ، وأثر الأقدام على المسير ، فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج لا تدلاّن على العليم البصير؟ » والأعرابي الآخر حيث أسلم لمجرّد أنّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ما أمره بشيء يقول العقل : ليته نهاه وما نهاه عن شيء يقول العقل : ليته أباحه.

ولو سلّم انتفاء الاستدلال فهو لا ينافي علمهم بوجود الجزم التقليدي المفروض كفايته

ص: 442

من دون إثم مقتض لاستحقاق المؤاخذة على ما تقدّم ، ولو سلّم انتفاء الجزم أيضا فدلالة الوجوه المذكورة على العفو عن المؤاخذة ليست بأولى من دلالتها على جواز التقليد ولو ظنّا.

وأمّا ما ذكره من كفاية وجود الأدلّة العقليّة والنقليّة في النكير على المقلّدين في الاصول في منع دلالة التقرير على الجواز.

يدفعه : أنّه على تقدير وجود الأدلّة إنّما يكفي في سقوط الردع والمنع من باب الهداية والإرشاد دون الردع والمنع في مقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فعدم النكير من هذه الجهة أيضا ربّما يكشف عن الجواز فليتدبّر.

ختم المسألة بذكر امور

ولنختم المسألة بذكر امور :

الأمر الأوّل : إنّ مسائل الاصول على قسمين :

أحدهما : ما يجب فيه الاعتقاد والتديّن بالمعتقد من غير اشتراطه بشيء ، وعليه فيجب تحصيله بالرجوع إلى طرقه وتحصيل كلّ ما له مدخليّة في حصوله مقدّمة ، وقد عرفت أنّ الأقوى عدم كفاية غير العلم.

وثانيهما : ما يجب فيه التديّن والقبول بشرط حصول الاعتقاد والعلم ، فالواجب مشروط ، وما لم يحصل العلم لم يجب شيء فلا يجب تحصيله ولا الرجوع إلى الأسباب المحصّلة له نعم إذا حصل وجب التديّن.

ومن حكم القسم الأوّل لزوم الكفر تارة بانتفاء الاعتقاد ، واخرى بانتفاء التديّن والقبول.

ومن حكم القسم الثاني لزوم الكفر بعدم التديّن بعد حصول الاعتقاد.

هذا ولكنّ التمييز بين آحادي القسمين لا يخلو عن غموض وإشكال إلاّ أنّ الّذي ينبغي الإذعان به هو كون معرفة اللّه وصفاته الثبوتيّة الراجعة إلى إثبات العلم والقدرة ، والسلبيّة الراجعة إلى نفي الحدوث والحاجة ، ونبوّة نبيّنا صلى اللّه عليه وآله وسلم وإمامة الأئمّة الاثني عشر ، والمعاد الجسماني ووجود الجنّة والنار والحساب والكتاب والصراط والميزان من قبيل القسم الأوّل ، وكون كلامه تعالى حادثا أو لفظيّا وعينيّة صفاته ونبوّة سائر الأنبياء وعصمة نبيّنا وكونه أفضل أمّته أو أفضل من سائر الأنبياء أو من الملائكة وعصمة الأئمّة عليهم السلام وكونهم أفضل من الأنبياء أو الملائكة وكونهم عالمين بما كان وما يكون ، وكون علمهم حضوريّا أو إراديّا من قبيل القسم الثاني.

ومن مشايخنا من بسط هذا المقام بإيراد طائفة من الأخبار وكلام جماعة من العلماء الأخيار.

ص: 443

الأمر الثاني : فيمن عجز عن العلم في مسائل الاصول كلّها أو بعضها مع التمكّن من الظنّ ، فالكلام فيه تارة في الموضوع من حيث إمكان تحقّقه ، فهو على حسبما بيّنّاه في مسألة التخطئة والتصويب في العقليّات من إمكان وجود القاصر فيما بين نوع المكلّفين فلا حاجة إلى إعادة البحث هنا.

واخرى في حكمه التكليفي من حيث إنّه بعد اليأس من العلم هل يجب عليه تحصيل الظنّ بالواقع ثمّ التديّن به ، أو لا بل يجب عليه الوقف؟ فالظاهر هنا عدم وجوب تحصيله ، إذ التكليف بالإيمان سقط بفرض تعذّر العلم حذرا عن التكليف بما لا يطاق والتكليف بالظنّ ممّا لا دليل عليه ، ولا مجرى لدليل الانسداد هنا لفرض عدم ثبوت التكليف بالواقع مع العجز عن الوصول إليه ، فلا مناص من الوقف عملا بعموم قوله عليه السلام : « إذا جاءكم ما لا تعلمون » وغير ذلك ممّا تقدّم في أوائل باب الاجتهاد عند البحث مع الأخباريّين في مسألة حجّية الظنّ.

ومن مشايخنا من قال : « لو رجع الجاهل بحكم هذه المسألة إلى العالم ووجد العالم منه التمكّن من تحصيل الظنّ بالحقّ ولم يخف عليه إفضاء نظره الظنّي إلى الباطل فلا يبعد وجوب إلزامه بتحصيله ، لأنّ انكشاف الحقّ ولو ظنّا أولى من البقاء على الشكّ فيه ».

وثالثة في حكمه الوضعي من حيث الكفر وعدمه ، فظاهر طائفة من الأخبار أنّه مع الجحود والإنكار لما هو ضابط الإسلام كافر ، ومع الإقرار بما هو مناط الإسلام ليس بكافر وإن لم يكن مؤمنا أيضا ، فيكون من المرجين لأمر اللّه إمّا يعذّبهم وإمّا يتوب عليهم.

ففي رواية : « لو أنّ الناس إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا » ورواية محمّد بن مسلم : « قال سأل أبو بصير أبا عبد اللّه عليه السلام قال : ما تقول فيمن شكّ في اللّه؟ قال : كافر يا أبا محمّد ، قال : فشكّ في رسول اللّه؟ قال : كافر ، ثمّ التفت إلى زرارة فقال : إنّما يكفر إذا جحد ».

ورواية زرارة الواردة في تفسير قوله تعالى : ( وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ ) عن أبي جعفر عليه السلام قال : قوم كانوا مشركين فقتلوا مثل حمزة وجعفر وأشباههما من المؤمنين ، ثمّ أنّهم دخلوا الإسلام فوحّدوا اللّه وتركوا الشرك ولم يعرفوا الإيمان بقلوبهم فيكونوا مؤمنين فيجب لهم الجنّة ، ولم يكونوا على جحودهم فيكفروا فيجب لهم النار ، فهم على تلك الحالة إمّا يعذبهم وإمّا يتوب عليهم ».

وظاهر الرواية الاولى أنّ المتوقّف الّذي لا يقرّ ولا يجحد أيضا لا يحكم بكفره ، وعليه

ص: 444

أصل ويعتبر في المفتي الّذي يرجع إليه المقلّد مع الاجتهاد أن يكون مؤمنا عدلا *

__________________

فالجحود بالنسبة إلى الشاكّ الوارد في تلك الأخبار وغيرها إمّا أن يراد به إظهار عدم الثبوت وإنكار التديّن لأجل عدم الثبوت ، أو يراد به الإنكار الصوري أعني ما هو بصورة الجزم.

وأيّا مّا كان فهو خلاف ظاهر إطلاق الجحود وهو إنكار ما جزم بثبوته واقعا ، كما في رواية عمرو الزبيري عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « الكفر في كتاب اللّه عزّ وجلّ على خمسة أوجه ، فمنها كفر الجحود - إلى أن قال - : فأمّا كفر الجحود فهو الجحود بالربوبيّة ، والجحود على معرفة وهو أن يجحد الجاحد وهو يعلم أنّه حقّ قد استقرّ عنده ، وقد قال اللّه تعالى ( وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ).

الأمر الثالث : أنّ مسألة جواز التقليد في اصول الدين وعدمه أو كفاية الظنّ وعدمه لكونها نظريّة مبتنية على الأدلّة النظريّة الشرعيّة من الآيات والروايات وغيرها ، فالنظر فيها لإثبات الحكم لا يتمّ إلاّ إذا كان الناظر فيها من أهل النظر والاجتهاد ، بل لا يتأتّى إلاّ من المجتهد الّذي له قوّة استنباط المطالب من الأدلّة الشرعية النظريّة لقصور نظر العوامّ عن ذلك ، فلا بدّ وأن يكون الناظر فيها خصوصا من غير جهة العقل المستقلّ بوجوب دفع الضرر أو شكر المنعم المجتهدين في الفروع لا غير ، وفائدته حينئذ إمّا معرفة نفس الأمر أو تنبيه الغافل وإرشاد الجاهل من العوامّ الّذين يغلب عليهم سلوك طريق التقليد أو بناء عقائدهم على الظنون ، فإذا التفتوا وتردّدوا في المسألة ولم يتمكّنوا من الاستقلال بإثبات المطلب بطريق النظر ولو من جهة العقل فلا مناص لهم من الرجوع إلى المجتهد الجامع لشرائط الإفتاء والأخذ بقوله ولو تقليدا.

شرائط المفتي / الشروط الوفاقيّة

* اعلم أنّ المجتهد يتضمّن حيثيّتين : حيث كونه مستنبطا للأحكام الشرعيّة عن الأدلّة التفصيليّة وحيث كونه مفتيا ، ويعتبر فيه من حيث استنباطه امور يعبّر عنها بشرائط الاجتهاد وقد تقدّم ذكرها في مباحث الاجتهاد ، ومن حيث إفتائه شروط اخر وهي شروط لنفوذ فتواه وصحّة رجوع المقلّد إليه ، ومن حيث الوفاق على شرطيّتها والخلاف فيها على قسمين ، فالكلام في بيانها يقع في مقامين :

ص: 445

المقام الأوّل :

في بيان الشروط الوفاقيّة

وهي الاجتهاد والبلوغ والعقل والإيمان والعدالة ، والمراد باشتراط الاجتهاد كون فتواه عن اجتهاد ، ومرجعه إلى الإخبار عن حكم اللّه على حسب فتواه ورأيه الناشئ عن اجتهاده ، والمراد بالإيمان ما يقابل الكفر والمخالفة ومرجعه إلى كونه مؤمنا إثني عشري. والدليل على اشتراط هذه الامور وجوه :

الأوّل : الأصل ، المقرّر من وجوه :

منها : أصالة عدم نفوذ فتوى أحد على أحد ، وعدم ترتّب الآثار الشرعيّة على الفتوى إلاّ ما أثبته الدليل من الإجماع وغيره ، وليس إلاّ فتوى الجامع للصفات المذكورة.

ومنها : أصالة الاشتغال بالقياس إلى المرجع الّذي يجب الرجوع إليه على المقلّد بعد اشتغال ذمّته بامتثال أحكام اللّه المعلومة بالإجمال والرجوع إلى الجامع للصفات مبرئ يقيني بخلاف غيره ، فتأمّل.

ومنها : أصالة حرمة التقليد المستفادة من العمومات خرج منها تقليد الجامع للصفات وبقي غيره.

الثاني : ظهور الإجماع وعدم الخلاف في الجميع كما استظهره بعض مشايخنا وقبله السيّد الجليل في المفاتيح ، فإنّه في كلّ واحد منها ادّعى ظهور الإجماع ، بل الإجماعات المنقولة عن جماعة من أساطين الطائفة في بعضها كالاجتهاد كما عن المقاصد العليّة قائلا : « الإجماع واقع على أنّه لا يجوز الفتوى والحكم للعاجز عن درجة الاجتهاد » ومجمع الفائدة قائلا : « عدم جواز الإفتاء لغير المجتهد متّفق عليه مدلول الأخبار والكفاية قائلا لا يكفي تقليد غير المجتهد بغير خلاف » وكذلك العدالة كما عن المبادئ والتهذيب والنهاية وشرح المبادئ والمنية وغيرها لتضمّنها الإجماع على اعتبار الورع والتديّن.

الثالث : أنّ الحكم المفتى به ما لم يحرز كونه حكما فعليّا لم يجز الأخذ به كما ظهر في مسألة مشروعيّة التقليد ، ولم يعلم ذلك إلاّ في فتوى الجامع للصفات.

الرابع : أنّ الصبيّ والمجنون لا ينفذ قولهما في حقّ أنفسهما ففي حقّ غيرهما بطريق أولى ، وأنّه لا يعتبر قولهما كالفاسق في الرواية والشهادة ففي الفتوى بطريق أولى ، و « أنّ الإسلام يعلو ولا يعلى عليه » ، وقول الصادق عليه السلام في حديث الاحتجاج : « وكذلك عوام امّتنا

ص: 446

عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر والعصبيّة الشديدة والتكالب على حطام الدنيا وحرامها وإهلاك من يتعصّبون عليه وإن كان لإصلاح أمره مستحقّا وبالترفرف بالبرّ والإحسان على من تعصّبوا له وإن كان للإذلال والإهانة مستحقّا ، فمن قلّد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الّذين ذمّهم اللّه تعالى بالتقليد لفسقة فقهائهم ، فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه ، حافظا لدينه ، مخالفا على هواه ، مطيعا لأمر مولاه ، فللعوام أن يقلّدوه ، وذلك لا يكون إلاّ بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم ، فأمّا من ركب من القبائح والفواحش مراكب فسقة فقهاء العامّة فلا تقبلوا منهم عنّا شيئا ولا كرامة » الحديث.

والروايات الناهية عن الإفتاء بغير علم وقد تقدّم نبذة منها ، وإنّ غير المؤمن ظالم فيحرم الركون إليه لقوله تعالى : ( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) ، وأنّ المفتي لا بدّ وأن يكون عالما بالحكم الواقعي أو الظاهري لقوله تعالى : ( وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) ومن ليس بفقيه غير عالم.

ولا فرق في المجنون بين المطبق والأدواري ، ولا في الكافر والمخالف بين مخالفة فتواه أو استنباطه لاصولنا وغيرها.

فما استشكله بعض الأعلام بقوله : « فلو فرض أنّ مخالفا ثقة صدوقا أفتى على وفق اصولنا وطريقتنا بحيث يحصل الاطمئنان بمساواته مع المفتي من أصحابنا في الاستنباط على اصولنا - كما كان جماعة من أصحابنا مفتي الفرق والعامّة كانوا يعتمدون عليهم - فيشكل الحكم بعدم جواز الرجوع إليه ، وعدم اعتقاده بالحكم لا ينافي عدم التقصير في الاستنباط وعدم الكذب في الإخبار عنه » واضح الضعف ، إذ الحكم بمقتضى الاصول والأدلّة المتقدّمة تعبّدي ، فالموافقة لاصولنا غير مجدية.

وأضعف منه ما ناقشه في اشتراط العدالة بقوله : « وأمّا العدالة فظاهرهم الوفاق في اعتباره ، وإن كان يمكن القول بكفاية الوثوق في الاستنباط والصدق نظير ما كان يقوله الشيخ رحمه اللّه في إخبار المتحرّزة عن الكذب مع كونهم فاسقين بسائر الجوارح » لوضوح الفرق بين العمل بالفتوى والعمل بالرواية ، لابتناء الأوّل على كون الحكم المفتى به فعليّا ولم يثبت في فتوى الفاسق ، مع قضاء الأدلّة بكون العدالة كالإيمان وسائر الشروط شرطا تعبّديّا ، وكون الثاني عند الشيخ وموافقيه منوطا بظنّ صدور الرواية عن المعصوم والوثوق بصدقها - وهو الأقوى - ويكفي في ذلك كون الراوي متحرّزا عن الكذب.

ص: 447

نعم لو كان النظر في اعتبار العدالة إلى إحراز الصدق ورفع اتّهام الكذب عن المفتي من حيث تضمّن فتواه الإخبار برأيه واستنباطه - فإنّ قوله : « العصير العنبي حرام » مثلا حيثما سئل عن حكمه يتضمّن إخبارين : كون رأيه في هذا الموضوع الناشئ عن الاستنباط الحرمة ، وكون الحرمة حكم اللّه الفعلي في الواقعة ، فلا بدّ من اعتبار العدالة فيه دفعا لاحتمال الكذب عن إخباره برأيه واستنباطه ، كما يشير إليه ما عن الذكرى من الاستدلال بآية التثبّت وببعض الأخبار مثل قوله : « أعدلهما » في مقبولة عمر بن حنظلة ومرفوعة زرارة - اتّجه القول بكفاية الوثوق والاطمئنان بالصدق في الإخبار بالرأي وعدم التقصير في الاستنباط وإن حصل من ملاحظة كونه متحرّزا عن الكذب مع كونه فاسقا من جهة اخرى ، ولكنّه لا يلائم كلماتهم الظاهرة في تعبّدية الشرط ويعضده ظهور الإجماع عليه.

وهل المعتبر في الشروط المذكورة وجودها في زمان الاجتهاد أعني استنباط الأحكام عن مداركها ، أو في زمان الإفتاء الّذي هو زمان الأخذ بالنسبة إلى المقلّد ، أو في زمان العمل بالمأخوذ الّذي هو متأخّر عن الأوّلين ، أو يعتبر وجودها في حالي الإفتاء والعمل معا؟

والظاهر أنّه لا يشترط في زمان الاجتهاد ما عدا وجود الملكة المقتدر بها على استنباط الأحكام عن مداركها بل الظاهر أنّه إجماعيّ ، ولذا ذكرنا أنّها من شرائط المفتي من حيث إفتائه لا من حيث استنباطه ، فلو اجتهد في حال النقص بصبائة أو جنون أو كفر أو فسق مع كونه في جميع الصور ذا ملكة ثمّ استكمل في زماني الإفتاء والعمل جاز الأخذبه والعمل عليه.

وأمّا في الأخيرين فقد يدخل في الوهم اشتراط وجودها في حال الإفتاء فقط وكفايته قياسا للفتوى على الرواية الّتي يشترط فيها وجود الشروط المذكورة مع الضبط ما عدا الاجتهاد في الراوي ، فإنّ المعتبر وجودها حال الرواية والإخبار لا بشرط وجودها حال تحمّل الرواية ولا حال العمل بها ، ولذا أجمعت الطائفة على العمل بروايات جماعة تحمّلوها حال نقصهم وتخليطهم وعدم استقامتهم مع استكمالهم واستقامتهم حال الرواية ، وكذلك على العمل بروايات جماعة رووها حال استقامتهم ثمّ طرأهم النقص والتخليط فيما بعد ذلك.

وبالجملة النقص وعدم استقامة السابقان كالنقص وعدم استقامة اللاحقين لا يقدحان في صحّة الرواية وجواز العمل بها فكذا الفتوى ، كما يستشمّ هذه المقايسة ممّن نقض الثانية بالاولى في ردّ من لا يجوّز تقليد الميّت ابتداءا ولا البقاء على تقليده بناء منه على اشتراط حياة المفتي ابتداء واستدامة ، حيث إنّ الطائفة يعملون بروايات الأموات ابتداء واستدامة من غير توقّف ونكير.

ص: 448

ولكنّه يندفع بوضوح الفرق بين المقامين الموجب لبطلان المقايسة ، والفارق أنّ الحجّة في الرواية هو قول الراوي من حيث إنّه كلام يحكي السنّة ، وحجّيته من باب الطريقيّة فلا بدّ في إحراز صدقه ورفع احتمال الكذب والسهو عنه من اعتبار الشروط المذكورة مع الضبط حال الرواية ليحرز به السنّة الّتي هي قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، وإذا حصل الوثوق والاطمئنان بصدق الراوي وعدم سهوه بملاحظة الشروط المذكورة احرز به السنّة.

ولا يقدح فيها بعد إحرازها النقص السابق ولا عدم استقامة اللاحق ، فالعمل بالرواية حينئذ مرجعه إلى العمل بالسنّة المحرزة بها حال الإخبار ، لا إلى العمل بها من حيث إنّها قول الراوي ، ومن ثمّ لا يعتبر بقاء الشروط ولا حياة الراوي حال العمل مطلقا ، بخلاف الفتوى فإنّ الحجّة فيها إنّما هو رأي المفتي ، واللفظ الصادر منه إنّما يؤخذ به لكشفه عن الرأي ، وحجّيته بالنسبة إلى عمل المقلّد من باب الموضوعيّة ، لكونه موضوعا للحكم الفعلي الّذي يترتّب عليه آثار الواقع ، ومن الظاهر أنّ هذا الموضوع إنّما يحتاج إليه في مقام العمل فلابدّ وأن يكون جامعا للشروط حال العمل ، لأنّه في موضوعيّته للمحمول المذكور بمقتضى أدلّة الشروط مقيّد بها على وجه يكون كلّ منها جزءا للموضوع ، واللازم من ذلك انتفاء الموضوع بانتفائها كلاّ أم بعضا ويستحيل معه بقاء المحمول ، فلا يجوز العمل بعد طروّ النقص للمفتي وإن كان كاملا قبل ذلك.

ومن هنا اندفع نقض الفتوى بالرواية في ردّ من لا يجوّز تقليد الميّت ولا البقاء على تقليده ، فإنّهما على ما بيّنّاه ليسا من واد واحد ليجري حكم أحدهما في الآخر فكيف حكم الفتوى بما هو من أحكام الرواية.

وبالجملة فلا ينبغي التأمّل في اعتبار الشروط المذكورة في حال العمل بالفتوى لأنّه ممّا لا كلام فيه بل الظاهر أنّه أيضا إجماعي ، وإنّما الكلام في أنّه هل يعتبر مع ذلك وجودها في حال الإفتاء أيضا أو لا؟

والظاهر بل الّذي ينبغي أن يقطع به هو الأوّل لوجوه :

الأوّل : ما اخترناه عند تعريف التقليد من أنّه الالتزام والتديّن بقول الغير ، على معنى الأخذ به على أنّه من الدين ، فلا بدّ وأن يحتوي المفتي للشروط المذكورة من حال الإفتاء إلى جميع حالات العمل.

نعم على القول بأنّه العمل فقط اتّجه القول بكفاية وجودها حال العمل وإن كانت منتفية حال الإفتاء ، غير أنّه خلاف التحقيق.

ص: 449

الثاني : ما أشرنا إليه سابقا من أنّ الإفتاء يتضمّن إخبارين : الإخبار برأيه ، والإخبار بكون رأيه حكم اللّه الفعلي ، ومن ذلك ينتظم القياس المؤلّف من قطعيّتين يعبّر عنهما : « بأنّ هذا ما أفتى به المفتي ، وكلّما أفتى به المفتي فهو حكم اللّه في حقّي ».

ولا ريب أنّ الصغرى المذكورة تتولّد من الإخبار الأوّل في حال الإفتاء والكبرى تتولّد من الإخبار الثاني ، والأوسط المتكرّر فيهما وهو الحكم المفتى به وإن كان رأي المفتي إلاّ أنّه بمقتضى أدلّة الشروط المذكورة مقيّد بها ، والحاجة إليه إنّما تحصل في حال العمل والإفتاء معا فلابدّ من وجودها في كلتي الحالتين.

الثالث : أنّ الشروط المذكورة قد ينظر إليها لأمر يرجع إلى المقلّد المستفتي وهو جواز العمل بالحكم المفتى به ، وقد ينظر إليها لأمر يرجع إلى المقلّد المفتي وهو الولاية على الإفتاء والقابليّة والتأهّل له ، بناء على أنّ الإفتاء كالقضاء منصب من المناصب الشرعيّة كما هو ظاهر كلام الأصحاب ، ومرجع إثبات الشروط إلى بيان أنّ الفاقد ليس له هذا المنصب ، والأمر الراجع إلى المقلّد بالكسر حكم تكليفي وإلى المقلّد بالفتح حكم وضعي ، وأثر الأوّل يظهر في حال العمل وأثر الثاني يظهر في حال الإفتاء فلابدّ من وجود الشرائط في الحالتين معا.

نعم هاهنا شروط اخر بعضها ما هو على تقدير شرطيّته معتبر في حال الإفتاء فقط كالضبط على ما ذكره بعض الفضلاء تبعا للشهيدين في الذكرى والروضة ولا يخلو عن وجه ، التفاتا إلى أنّ الإفتاء لتضمّنه الإخبار بالرأي لابدّ في مطابقته الواقع من اعتبار ما يدفع عنه احتمال الكذب وهو العدالة مثلا ، وما يدفع عنه احتمال الخطأ بالسهو والنسيان وهو الضبط الّذي هو عبارة عن غلبة الذكر على السهو ، وهذا بناء على هذا التوجيه يختصّ اعتباره بحال الإفتاء كما هو واضح.

لكن عن الذكرى تعليله بتعذّر درك الأحكام بدونه ، وهذا يقتضي باختصاصه بحال الاستنباط ، لكنّه عليل جدّا.

ومنها ما لو ثبت شرطيّته كان معتبرا في جميع الحالات الثلاث ، أعني حال الاستنباط والإفتاء والعمل كالأعلميّة والأورعيّة على القول باشتراطهما في التقليد ، وحياة المقلّد بالفتح فإنّها شرط عقلي للاستنباط وشرعي للأخذ - بناء على القول بمنع تقليد الميّت ابتداء - والعمل أيضا بناء على القول بعدم جواز البقاء على تقليد الميّت.

ومن جملة ذلك اجتهاد المفتي على معنى كونه ذا ملكة راسخة ، ولذا لو زال ملكته لعارض وجب العدول عن تقليده إلى صاحب الملكة ، فيشترط وجود الاجتهاد بهذا المعنى

ص: 450

وفي صحّة رجوع المقلّد إليه علمه بحصول الشرائط فيه * ، إمّا بالمخالطة المطلقة ، أو بالأخبار المتواترة ، أو بالقرائن الكثيرة المتعاضدة ، أو بشهادة العدلين العارفين. لأنّها حجّة شرعيّة إلاّ أنّ اجتماع شرائط قبولها في هذا الموضع عزيز الوجود كما لا يخفى على المتأمّل.

ويظهر من الأصحاب هنا نوع اختلاف ، فإنّ العلاّمة رحمه اللّه قال في التهذيب : لا يشترط في المستفتي علمه بصحّة اجتهاد المفتي ،

__________________

في حال الاستنباط وبقائه إلى حالي الأخذ والعمل ، ويجب على المقلّد حين إنشاء التقليد إحراز فتوى مجتهده وكونها ناشئة عن الاستنباط وكون الاستنباط ناشئا عن الملكة ، وهذا هو الّذي يعبّر عنه في كلام القوم باشتراط كون المفتي من أهل الاجتهاد ، وهل يجب في صحّة رجوع المقلّد إليه وجوازه علمه باجتهاده أو يكفيه غلبة الظنّ؟ فيه خلاف أشار إليه المصنّف.

* الظاهر أنّه أراد من العلم هنا ما يعمّ العلم العقلي والعلم الشرعي ، بقرينة عطف شهادة العدلين الّتي هي علم شرعي على الامور السابقة عليه الّتي هي أسباب للعلم العقلي ، وظاهر العبارة كون العلم المذكور شرطا لجواز التقليد ، فيكون كالشروط المذكورة من قيود المقلّد ومحصّله : المجتهد المعلوم الاجتهاد ، وهذا خلاف التحقيق لعدم توقّف أصل الجواز على أزيد من الشروط المتقدّمة ، والعلم المذكور إنّما يتوقّف عليه العلم بالجواز لا أصل الجواز.

والسرّ فيه : أنّ الجواز بحسب أدلّة الشروط معلّق على موضوع واقعي اخذ فيه قيود فما لم يعلم تحقّقه بقيوده وصدقه على ما شكّ أو ظنّ حصول الشرائط فيه لم يعلم جواز الرجوع إليه ، ومن الظاهر أنّ عدم العلم بالجواز في الامور المخالفة للأصل كاف في الحكم بعدم الجواز حتّى مع الظنّ بحصول الشرائط ما لم يقم دليل بالخصوص على حجّيته ، لكونه ظنّا في الموضوع الصرف والأصل فيه عدم الحجّية.

ومن هنا ظهر أنّ القائل باعتبار العلم وعدم كفاية الظنّ مستظهر لموافقة قوله الأصل ، وعليه فالدليل يطالب من القائل بكفاية الظنّ لا من القائل باعتبار العلم. لكن ينبغي أن يعلم أنّ أثر هذا البحث إنّما يظهر في خصوص اجتهاد المفتي ، لوضوح حكم سائر الشرائط من

ص: 451

غير حاجة له إلى عقد هذه المسألة ، إذ العدالة منها - على ما قرّرناه في رسالة منفردة (1) - يكفي في ثبوتها حسن الظاهر المفيد للوثوق بوجود الصفة النفسانيّة ، والوثوق بوجودها الحاصل من غير جهة حسن الظاهر كائنا ما كان من غير تفاوت فيه بين مواردها الّتي منها المفتي والإسلام ، بل الإيمان منها يكفي في ثبوته الظهور النوعي المعوّل عليه في الإنسان المكلّف المنتحل إلى المسلمين وأهل الإيمان بالسيرة القطعيّة المتّصلة بأعصار المعصومين حتّى الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم ، إذ الظاهر فيه سلامة العقائد وصحّتها فيحكم بها ما لم يظهر منه ما ينافي الإسلام بالمعنى الأخصّ ، ولا يسأل بل لا يجب الفحص عن باطنه كما لا يسأل عن باطن الشهود وأئمّة الجماعة والحكّام والفقهاء والمجتهدين وغير ذلك من موارد هذا الشرط.

والعقل أيضا يكفي في ثبوته الظهور النوعي في الإنسان البالغ ، لأنّ ظاهره كمال العقل وعدم قصوره الملحق له بالمجنون ما لم يظهر منه ما يوجب الجنون ، وهذا الظاهر أيضا ممّا يعوّل عليه بالإجماع والسيرة القطعيّة.

وأمّا البلوغ فوقوع أصل الاشتباه في حصوله في المتصدّين للإفتاء والمدّعين لأهليّة الفتوى لأنفسهم قليل لا يتّفق إلاّ في فرض نادر لا يصلح لعقد مسألة علميّة له ، ولو فرض وقوعه أحيانا فيبنى فيه على الأصل وهو أصالة عدم البلوغ ، ولا وارد عليه من الظواهر ، والأصل في مطلق الظنّ فيه لكونه ظنّا في الموضوع عدم الحجّية.

فتمحّض البحث وعقد المسألة لمن شكّ في أهليّته للفتوى باعتبار الشكّ في اجتهاده ، ومرجع البحث إلى أنّه هل يكفي في إحرازه والالتزام بثبوته غلبة الظنّ المستندة إلى ظاهر ككونه متصدّرا ومتصدّيا للإفتاء بمشهد من الناس ومرجعا للعامّة في الاستفتاء ، فإنّ ذلك بنوعه يفيد الظنّ والاطمئنان بكونه من أهل الاجتهاد ، ولا يجب تحصيل العلم به بالسؤال والفحص وإحراز سائر أسباب العلم ، أو لا بل يجب الاقتصار على العلم وما يقوم مقامه كشهادة العدلين؟

فالمحقّق في المعارج وقبله السيّد في الذريعة وبعده المصنّف هنا على اعتبار العلم وعدم كفاية غلبة الظنّ ، والعلاّمة في المبادئ والتهذيب والنهاية وولده فخر الإسلام في شرح المبادئ والسيّد عميد الدين في المنية والشهيدان في الذكرى والمقاصد العليّة والمحقّق الثاني في الجعفريّة - كما حكي - على عدم اشتراط العلم وكفاية غلبة الظنّ.

ص: 452


1- رسالة في العدالة : 28 ( المطبوعة بقم المشرّفة ، سنة 1419 ه ).

لقوله تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ) من غير تقييد * ، بل يجب عليه أن يقلّد من يغلب على ظنّه أنّه من أهل الاجتهاد والورع. وإنّما يحصل له هذا الظنّ برؤيته له منتصبا للفتوى بمشهد من الخلق ، واجتماع المسلمين على استفتائه وتعظيمه.

وقال المحقّق رحمه اللّه : ولا يكتفي العاميّ بمشاهدة المفتي متصدّرا ، ولا داعيا إلى نفسه ، ولا مدّعيا ، ولا بإقبال العامّة عليه ، ولا اتّصافه بالزهد والتورّع. فإنّه قد يكون غالطا في نفسه ، أو مغالطا. بل لا بدّ أن يعلم منه الاتّصاف بالشرائط المعتبرة من ممارسته وممارسة العلماء وشهادتهم له باستحقاق منصب الفتوى وبلوغه إيّاه.

والاختلاف بين هذين الكلامين ظاهر ، كما ترى. وكلام المحقّق رحمه اللّه هو الأقوى ، ووجهه واضح لا يحتاج إلى البيان.

واحتجاج العلاّمة رحمه اللّه : بالآية على ما صار إليه مردود. أمّا أوّلا : فلمنع العموم فيها. وقد نبّه عليه في النهاية. وأمّا ثانيا : فلأنّه على تقدير العموم لا بدّ من تخصيص أهل الذكر بمن جمع شرائط الفتوى بالنظر إلى سؤال الاستفتاء ، للاتّفاق على عدم وجوب استفتاء غيره ، بل عدم جوازه ، وحينئذ فلا بدّ من العلم بحصول الشرائط ، أو ما يقوم مقام العلم ، وهو شهادة العدلين.

ويظهر من كلام المرتضى : الموافقة لما ذكره المحقّق رحمه اللّه حيث قال : وللعاميّ طريق إلى معرفة صفة من يجب عليه أن يستفتيه ، لأنّه يعلم بالمخالطة والأخبار المتواترة حال العلماء في البلد الّذي يسكنه ورتبتهم في العلم والصيانة أيضا والديانة. قال : وليس يطعن في هذه الجملة قول من يبطل الفتيا ، بأن يقول :

__________________

* هذا ما استدلّ به العلاّمة في كتبه ، ومبناه على إطلاق الذكر ، كما أشار إليه بقوله : « من

ص: 453

غير تقييد » أي من غير تقييد بكون أهل الذكر معلوم الاجتهاد فيشمل المظنون اجتهاده كما فهمه بعض المحقّقين.

ويمكن ابتناؤه على إطلاق السؤال باعتبار المخاطبين المتناول للعالم باجتهاد أهل الذكر والظانّ به.

وكيف كان فلا خفاء في ضعفه - بعد الإغماض عن منع تعميم أهل الذكر بالقياس إلى غير أهل الكتاب ، بناء على نزول الآية في بشريّة الأنبياء كما يشهد به صدرها ، أو بالقياس إلى غير الأئمّة بناء على أخبارنا المستفيضة المفسّرة له بالأئمّة ، أو بالقياس إلى غير العلماء الموجودين في زمن النزول بناء على كون الآية من قبيل خطاب المشافهة ، فلم يظهر شمولها لمن ليس من صنفهم من المجتهدين - لأنّ التمسّك بالإطلاق على الوجه المذكور إنّما يتّجه لو كان مبنى قول مشترطي العلم على أخذه مع شروط المفتي على وجه الموضوعيّة ليكون قيدا في أهل الذكر كما أنّ سائر الشروط قيود فيه ، وهذا ليس بلازم وغير مراد لهم بل مرادهم على ما ينساق من ظاهر كلماتهم اعتباره طريقا إلى إحراز الواقع ، فإنّ أهل الذكر الجامع للشرائط موضوع واقعي علّق عليه الأمر بالسؤال ، فلا يجري الإذن المستفاد منه في المورد إلاّ إذا علم اندراجه في الموضوع الواقعي المعلّق عليه ذلك الإذن كما هو الحال في سائر الموضوعات الواقعيّة.

وقد يستدلّ عليه : بأنّ في لزوم الاقتصار على العلم حرجا عظيما وعسرا شديدا فيكون منفيّا كما في

المفاتيح ، وهذا أيضا ضعيف بمنع الملازمة ، لوضوح تيسّر العلم ووفور أسبابه من اختبار وشياع ونقل متواتر وتسامع وتظافر بين طلبة العلم وأهل الخبرة بصناعة الاجتهاد وغير ذلك ، ولو اتّفق لبعض الأشخاص في بعض الأحيان عسر شديد في تحصيله اقتصر في نفي وجوبه عليه ، لكون العسر والحرج في اقتضاء نفي التكليف شخصيّا لا نوعيّا.

ويمكن الاستدلال على كفاية الظهور المفيد لغلبة الظنّ بأهليّة الفتوى برواية يونس عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : سألته عن البيّنة إذا اقيمت على الحقّ ، أيحلّ للقاضي أن يحكم بقول البيّنة من غير مسألة إذا لم يعرفهم؟ قال : « فقال : خمسة أشياء يجب على الناس الأخذ فيها بظاهر الحكم : الولايات ، والمناكح ، والذبائح ، والشهادات ، والمواريث ، فإذا كان ظاهره مأمونا جازت شهادته ولا يسأل عن باطنه » وفي الفقيه « الأنساب » مكان « المواريث ».

والمراد بظاهر الحكم هو ظاهر الحال ، بل عن الوافي والوسائل التعبير بها مكان الحكم ،

ص: 454

وإنّما عبّر بالحكم لصحّة إطلاق الحكم على المحمول المنتسب إلى الموضوع كتصرّف زيد فيما بيده ، وكون المرأة في حبالته ، وذبح المسلم ، وكون الشاهد حسن الظاهر ، وكون زيد منتسبا إلى عمرو بالبنوّة أو الاخوة أو العمومة أو نحو ذلك.

وتقريب الاستدلال : أنّ الرواية تدلّ على حجّية الظاهر وتقدّمه على الأصل في الأشياء الخمس.

ومن جملة ذلك ظهور الولايات وهي كون الرجل يلي أمر شيء ، على معنى القيام به بالأخذ والإعطاء والتقلّب والتولّي في الاستحقاق ولو بعنوان المالكيّة كما في تصرّف ذي اليد فيما بيده.

ومن المعلوم أنّ الولايات عامّ يتناول تولّي المفتي للإفتاء بمشهد من الناس الراجعين إليه في الاستفتاء على وجه الإذعان والقبول ، وهو على الوجه المذكور ظاهر في أهليّته للفتوى فيجب الأخذ بهذا الظاهر بمقتضى الرواية.

هذا ولكن يشكل الحال في جواز التعويل على هذه الدلالة ، حيث لم نقف من الأصحاب على آخذ بها وعامل عليها ، وإن كان السيّد في المفاتيح أيّد ما اختاره من جواز الاعتماد على الظنّ هنا بالرواية المذكورة.

وكيف كان فالمسألة لعدم وضوح دليل واضح على حجّية الظنّ هنا مع مصير الأكثر إلى الحجّية في غاية الإشكال ، وسلوك طريق الاحتياط بعدم التخطّي عن العلم بالاجتهاد وأهليّة الفتوى طريق النجاة ، وفي ثبوت الاجتهاد بشهادة العدلين وعدمه قولان أشهرهما الأوّل وهو أقوى للسيرة القطعيّة.

وعن بعض المحقّقين دلالة رواية صحيحة على حجّية شهادة العدلين مطلقا.

وقد يستدلّ عليه بفحوى ما دلّ على ثبوت ولاية القاضي المنصوب من الإمام بها كما صرّح به جمع من غير نقل خلاف ، وليس ببعيد وإن كان لا يخلو عن تأمّل.

وفي ثبوته بشهادة عدل واحد إشكال أقربه العدم ، وفي اشتراط كون الشاهدين من أهل الاجتهاد أو من أهل الخبرة به [ وجهان ] والأقرب هنا أيضا العدم.

وليعلم أنّ الاجتهاد الّذي هو من شروط المفتي من حيث إفتائه عبارة عن مجموع الملكة الراسخة والإدراكات الناشئة ولا يكفي وجود إحداهما ، وهو معتبر في الأخذ والعمل معا ، ولا يكفي وجوده في ابتداء العمل بل يعتبر بقاؤه في جميع آنات العمل.

ص: 455

والظاهر أنّه وفاقيّ بل قيل إنّهم نقلوا الإجماع على اشتراط بقاء الاجتهاد ، وعليه فلو عرضه مرض يختلّ به ملكته أو إدراكاته أو ملكته وإدراكاته معا لم يجز البقاء على تقليده بل يجب العدول إلى غيره ، وقضيّة اشتراط بقاء الاجتهاد أن يشترط بقاء حياته إذ لا يعقل بقاء الاجتهاد مع عدم بقاء الحياة.

ومن هنا يتوجّه الإشكال إلى القائلين بعدم اشتراط حياة المفتي أو عدم اشتراط بقاء حياته من حيث إنّ بقاء الاجتهاد منوط ببقاء الحياة وزوال الحياة يستلزم زوال الاجتهاد والواسطة بينهما غير معقولة ، فإنّ الموت أشدّ وأصعب من جميع ما يمكن فرض عروضه من الأمراض ، وإذا أمكن اختلال الإدراكات بعروض المرض فاختلالها بعروض الموت بطريق أولى.

وممّا يرشد إلى ذلك أنّ الإدراكات الحاصلة حال الحياة إنّما حصلت بواسطة آلات هي القوى الحيوانيّة والإنسانيّة المنوطة ببقاء تعلّق الروح بالبدن ، فإذا انقطع التعلّق بمفارقة البدن انعدمت هذه القوى جزما ومعه كيف يصحّ بقاء الإدراكات؟

ويؤيّد ذلك أيضا ما قيل : من أنّ الموت ليس إلاّ فناء الأخلاط الأربعة.

ومن المعلوم بالوجدان والتجارب وتصريح أهل الخبرة أنّ لبعضها مدخليّة في الإدراك حدوثا وقوّة وضعفا ، فإنّ خلط الصفراء يوجب جودة الذهن وسرعة الانتقال ، والسوداء توجب الحفظ ، والبلغم يوجب البلادة وبطؤ الانتقال فغناؤها يوجب زوال الإدراكات ، وممّا يشهد أيضا بأنّ القوّة الحيوانيّة والإنسانيّة لها مدخليّة في الإدراك أنّه كلّما قويت هذه القوى قوي الإدراكات وكلّما ضعفت ضعفت الإدراكات كما في حالة الهرم ، فإنّه إذا تكامل قد يبلغ بالإنسان إلى أن يعود إلى حالة الطفوليّة فينتقص عقله ويختلّ فهمه ، وتضعف قواه وملكاته ، وتزول علومه وإدراكاته ، وتعود معلوماته إلى مجهولات ، كما يشير إليه قوله عزّ من قائل : ( وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً ) .

فقضيّة هذا كلّه اختلال إدراكات المجتهد بالموت وعدم بقائها لا محالة ، لا على معنى أنّ الروح بعد مفارقة البدن لا إدراك له ، بل بمعنى أنّ إدراكاته الحاصلة حال الحياة غير باقية بعد الممات.

فالقول بعدم اشتراط بقاء الحياة يؤول إلى القول بعدم اشتراط بقاء الاجتهاد ، وانتظر لتتمّة الكلام في ذلك في مسألة تقليد الميّت.

ص: 456

كيف يعلمه عالما ، وهو لا يعلم شيئا من علومه؟ لأنّا نعلم أعلم الناس بالتجارة والصناعة في البلد ، وإن نعلم شيئا من التجارة والصناعة وكذلك العلم بالنحو واللّغة وفنون الآداب.

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنّ حكم التقليد مع اتّحاد المفتي ظاهر ، وكذا مع التعدّد والاتّفاق في الفتوى ؛ وأمّا مع الاختلاف ، فأن علم استواءهم في المعرفة والعدالة ، تخيّر المستفتى في تقليد أيّهم شاء. وإن كان بعضهم أرجح في العلم والعدالة من بعض ، تعيّن عليه تقليده ، وهو قول الأصحاب الّذين وصل إلينا كلامهم *. وحجّتهم عليه أنّ الثقة بقول الأعلم أقرب وأوكد.

ويحكى عن بعض الناس : القول بالتخيير هنا أيضا. والاعتماد على ما عليه الأصحاب.

ولو ترجّح بعضهم بالعلم بالورع ، قال المحقّق رحمه اللّه : يقدّم الأعلم ، لأنّ الفتوى تستفاد من العلم لا من الورع ، والقدر الّذي عنده من الورع يحجزه عن الفتوى بما لا يعلم ، فلا اعتبار برجحان ورع الآخر. وهو حسن.

شرائط المفتي / الشروط الخلافيّة ، الأعلميّة

أصل

ذهب العلاّمة في التهذيب : إلى جواز بناء المجتهد في الفتوى بالحكم على الاجتهاد السابق. ومنع من ذلك المحقّق فعدّ في شرائط تسويغ الفتوى أن يكون المفتي بحيث إذا سئل عن لمّيّة الحكم في كلّ واقعة يفتي بها أتى به وبجميع اصوله الّتي يبتني عليها.

وقال في موضع آخر : إذا أفتى المجتهد عن نظر في واقعة ثمّ وقعت بعينها

_____________________

* هذا هو عنوان المقام الثاني الذي يتکلم فيه عن الشروط الخلافية، فمن جملة ذلک: الأعلمية.

ص: 457

وتحرير هذه المسألة : أنّ مجتهد عصر المقلّد إن اتّحد فلا إشكال في تعيّن تقليده ، وإن تعدّد فإن اتّفقا في الرأي والفتوى فلا إشكال في كون حكمه على التخيير بين تقليد أيّهما شاء ، وإن اختلفا في الرأي فإن تساويا في العلم والمعرفة فلا إشكال أيضا في التخيير ، وإن اختلفا في ذلك أيضا ففي تعيّن الرجوع إلى الأعلم أو التخيير بينه وبين الرجوع إلى غير الأعلم خلاف ، مرجعه إلى الخلاف في اشتراط صحّة التقليد وجوازه بالأعلميّة مع وجود الأعلم وعدمه ، فذهب جماعة كالمحقّق في المعارج والعلاّمة في الإرشاد ونهاية الاصول والتهذيب والسيّد في المنية والشهيد في الدروس والقواعد والمحقّق الثاني في الجعفريّة وجامع المقاصد والشهيد الثاني في التمهيد وولده في المعالم والبهائي في الزبدة والصالح المازندراني في حاشية المعالم والسيّد صاحب الرياض - كما حكي عنهم - إلى الأوّل ، واختاره المصنّف بل ما عرفت من عبارته يؤذن بدعوى الإجماع عليه ، ويوهمه ما عن التمهيد من قوله : « والحقّ عندنا ذلك ».

وعن المسالك كونه المشهور بين أصحابنا ، وقيل : بالثاني كما عن الحاجبي والعضدي والقاضي أبي بكر وجماعة من الاصوليّين والفقهاء ، واختاره بعض الفضلاء وجماعة ممّن عاصرناهم.

حجّة القول الأوّل بما استدلّ أو يمكن أن يستدلّ به وجوه :

الأوّل : أنّ مناط عمل المقلّد في تقليده كون فتوى المجتهد حكما فعليّا في حقّه يجب عليه بناء العمل عليه والتديّن به ، والقدر المتيقّن المقطوع بكونه حكما فعليّا في حقّه إنّما هو فتوى الأعلم ، لمكان الشكّ في كون فتوى غير الأعلم أيضا حكما فعليّا وعدمه ، والشكّ فيه كاف في الحكم بعدم جواز الأخذ به والتعبّد به.

فإن قلت : إنّ مؤدّيات اجتهاد غير الأعلم ومظنوناته أحكاما فعليّة ولو في حقّ نفسه ممّا لا كلام فيه ، ولذا لا يجوز له تقليد غيره وإن كان أعلم منه ، وقد ذكرت في مسألة كون وجوب التقليد على وجه التعبّد لا من باب الظنّ أنّ كون مؤدّيات اجتهاد المجتهد أحكاما فعليّة نسبة واحدة بينه وبين المقلّد أعني كلّ من وظيفته التقليد ، ولذا يعبّر في كبرى القياس

ص: 458

المنتظم عنده : « بأنّ كلّما أدّى إليه اجتهادي فهو حكم اللّه في حقّي وحقّ مقلّدي » وقضيّة ذلك أن لا يتفاوت الحال في كون مؤدّيات اجتهاد المجتهد أحكاما فعليّة في حقّ المقلّد بين الأعلم وغير الأعلم.

قلت : إنّ كون مؤدّيات اجتهاد المجتهد أحكاما فعليّة إنّما يسلّم كون نسبته واحدة بينه وبين المقلّد إذا لم يطرأها ما يخرجها من كونها كذلك في حقّ المقلّد كاشتراطه عدالة المفتي من حيث إفتائه ، ولا ما يوجب الشكّ في كونها كذلك في حقّه كالشكّ في شرطيّة الأعلميّة مع وجود الأعلم كما فيما نحن فيه ، فوحدة النسبة حسبما قرّرناها في المسألة المذكورة ليست على إطلاقها.

والمفروض أنّ مصير المعظم إلى اشتراط الأعلميّة يوجب الشكّ في الشرطيّة ، ومعه لا يلزم من كون مؤدّيات اجتهاد غير الأعلم أحكاما فعليّة في حقّه كونها كذلك في حقّ غيره ممّن وظيفته التقليد.

الثاني : قاعدة الاشتغال ، وبيانها : أنّه اشتغلت ذمّة المقلّد بامتثال أحكام اللّه المعلومة بالإجمال ، ولا بدّ له من طريق ولا يكون إلاّ تقليد المجتهد.

ولا ريب أنّ تقليد الأعلم مبرئ للذمّة قطعا بخلاف تقليد غيره ، فيجب الأوّل لاستدعاء الشغل اليقيني يقين البراءة ولا يحصل إلاّ به.

لا يقال : قد حقّق في محلّه أنّ الشكّ في الشرطيّة والجزئيّة يرجع فيه إلى أصل البراءة ، فكما يقال في مسألة الشكّ في جزئيّة السورة للصلاة أنّ الأصل براءة الذمّة عن العقاب المحتمل ترتّبه على ترك الصلاة مع السورة ، فكذلك الأصل براءة الذمّة عن العقاب المحتمل ترتّبه على ترك تقليد الأعلم ، ومعه لا مجرى لأصالة الاشتغال ، واللازم من ذلك كون تقليد غير الأعلم أيضا مبرئا للذمّة.

لأنّ الشكّ في المكلّف به ما لم يكن آئلا إلى الشكّ في التكليف لم يجر فيه أصل البراءة ، وإنّما يؤول إليه إذا كان الشكّ في شرطيّة أو جزئيّة شيء للعبادة وغيرها من واجب نفسي انيط الثواب والعقاب بموافقته ومخالفته ، والواجب النفسي الّذي اشتغلت الذمّة به ويترتّب العقاب على مخالفته إنّما هو امتثال أحكام اللّه المعلومة بالإجمال ، والتقليد طريق إليه فوجوبه غيريّ مقدّميّ ، ولا تأثير له في ترتّب العقاب على تركه ، بل إنّما يترتّب على

ص: 459

ترك الامتثال الّذي هو الواجب النفسي ، فلا بدّ للفرار عن حدّ العقاب على ترك هذا الواجب من إحراز أدائه وحصوله في الخارج ، أو من إحراز ما يكون مبرئ للذمّة عنه ، والأعلميّة المشكوك في كونها شرطا على تقدير شرطيّته في الواقع شرط في الطريق لا في الامتثال ، ولا ريب أنّ التقليد مع إحراز الأعلميّة طريق ومبرئ للذمّة يقينا بخلاف التقليد مع انتفائها ، ولا يعقل في مثل ذلك إلاّ أصل الاشتغال.

وبالجملة فرق في الشكّ في الشرطيّة بين ما لو رجع الشرط المشكوك فيه إلى نفس الواجب النفسي وما لو رجع إلى ما هو طريق إليه ، في أنّ الأوّل يؤول إلى الشكّ في التكليف فيجري فيه أصل البراءة والثاني لا يؤول إليه بالنسبة إلى الواجب النفسي فلا يجري فيه إلاّ أصل الاشتغال.

الثالث : العمومات المانعة من العمل بما وراء العلم ، ولا ريب أنّ قول المجتهد بالنسبة إلى عمل المقلد ممّا وراء العلم ، والقدر المخرج منه من العمومات إنّما هو فتوى الأعلم ويبقى غيره تحتها ومنه فتوى غير الأعلم.

ولا خفاء في ضعفه ، إذ التمسّك بعمومات المنع من العمل بما وراء العلم إنّما يتّجه إذا كان الشكّ في جواز تقليد المفضول مع وجود الأفضل باعتبار الشكّ في وجود المقتضي وليس كذلك ، لخروج قول المجتهد بنوعه من تلك العمومات بعموم ما دلّ على حجّية ذلك القول للمقلّد مطلقا ، ولذا جاز تقليد المفضول على تقدير عدم وجود الأفضل ، فالشكّ في جواز تقليده حال وجود الأفضل إنّما هو باعتبار المانع ، للشكّ في مانعيّة الموجود ، فإنّ وجود الأفضل على تقدير وجوب تقليده مانع من تقليد المفضول ، نظير الخبرين المتعارضين إذا كان أحدهما أقوى من الآخر قوّة توجب ترجيحه عليه ، حيث إنّ تقديمه على المعارض ليس لعدم حجّيته الذاتيّة لثبوت الحجّية الذاتيّة فيهما معا لعموم دليل الحجّية وإلاّ لم يعقل التعارض ، بل لأنّ المعارض الأقوى مانع من العمل عليه ، ولذا لا يلزم بترك العمل عليه تخصيص في دليل الحجّية ، فالفاضل من المجتهدين المتفاضلين أيضا مانع من تقليد المفضول على القول باشتراط الأعلميّة.

ومن الظاهر أنّ عدم المانع ليس جزءا من المقتضي ، فالمقتضي لجواز تقليد المفضول مع وجود المانع موجود ، ومعه لا معنى للتمسّك بعمومات المنع على تقدير الشكّ في مانعيّة وجود الأفضل.

ص: 460

الرابع : قضاء القوّة العاقلة بتقديم الفاضل على المفضول عند الاختلاف كما يكشف عنه السيرة المستمرّة ، وبناء الناس في جميع الأعصار والأمصار في كلّ صنعة وحرفة وكلّ فنّ وعلم على الرجوع إلى الفاضل عند الاختلاف بينه وبين المفضول من دون رجوع إلى المفضول ما دام الرجوع إلى الفاضل ممكنا ، كما يرشد إليه تقديم قول أكمل الأطبّاء عند الاختلاف بينهم في العلاج ، وتقديم قول أكمل الصيارفة عند الاختلاف بينهم في الجوهر.

ويمكن المناقشة فيه : بأنّ بناء الناس إنّما يكشف عن حكم القوّة العاقلة المثمر في ثبوت لو ثبت (1) على وجه الالتزام لا من باب الاحتياط الّذي هو حسن على كلّ حال ، وفي خصوص التقليد وكلّ من المقدّمتين محلّ منع ، بل الثابت من بنائهم قد يكون خلافه ، بملاحظة أنّهم لاعتقادهم بأنّ حكم اللّه واحد لا يراعون الأعلم ولا يبالون تقليد غير الأعلم كما لا يخفى على المتأمّل.

الخامس : أنّ الظنّ الحاصل من قول الأعلم أقوى من الظنّ الحاصل من قول غيره فيجب العمل به.

أمّا المقدّمة الاولى : فلأنّ زيادة بصيرته على مدارك الأحكام ومعارضاتها وسائر مباينها

ص: 461


1- والعبارة لا تخلو عن غموض ولعلّه ناش من وقوع سقط فيها ويوضحه ما أورده 1 في رسالته المفردة في ولاية الأولياء ( مخطوط ) ما هذا لفظه : « ويزيّفه : أنّه لا يتمّ إلاّ على تقدير ثبوت مقدّمتين : إحداهما : كون بناء الناس الكاشف عن حكم العاقلة في الرجوع إلى الفاضل على وجه الالتزام ، ولقائل أن يقول : بأنّ بناءهم في ذلك إنّما هو على وجه الرجحان ولا كلام فيه. واخراهما : ثبوت بنائهم على الرجوع إلى الفاضل على وجه الالتزام في خصوص التقليد ، ولمانع أن يمنع ذلك إمّا بدعوى أنّ العقلاء من المقلّدين لاعتقادهم بأنّ حكم اللّه واحد لا يراعون الأعلم ولا يبالون الرجوع إلى غير الاعلم. أو بدعوى إنّهم متحيّرون في مسألة تقليد الأعلم ويلتزمون فيها اتّباع العلماء المجتهدين فصاروا فريقين ، فريق يراعون الأعلميّة تقليدا لمن يوجب تقليد الأعلم وفريق لا يراعونها تقليدا لمن يجوّز تقليد غير الأعلم وكثير ممّن لا يتّبع رأي مجتهد في ذلك يرجعون إلى الأعلم أيضا احتياطا لا اعتقادا وهذا كلّه يكشف عن عدم حكم للقوّة العاقلة في هذا المقام. والسرّ فيه : أنّ اعتبار الأعلميّة في المقلّد - بالفتح - سواء كان على وجه الشرطيّة أو على وجه المانعيّة أمر تعبّدي توقيفي منوط ثبوته بالتوظيف ولا مدخليّة للعقل فيه ، فاتّضح بذلك كلّه أنّه لا قضاء للقوّة العاقلة بتقديم الفاضل على وجه اللزوم بحيث يكون الرجوع إلى المفضول قبيحا عند العقل. [ رسالة في ولاية الأولياء - ص 35 - مخطوط ].

مع كونه أقوى ملكة في الاستنباط أشدّ منعا له من الخطأ فيكون أقوى ظنّا.

وأمّا المقدّمة الثانية : فلوجوب متابعة أقوى الظنّين عقلا وقد تمسّك به جماعة.

ومن الأعلام من اعترض عليه في طول كلامه بما محصّله : أنّ التقليد إن كان من باب الظنّ بحكم اللّه الواقعي الّذي يحصّله قول مجتهده فالأمر يدور مدار الظنّ من قول أيّ مجتهد حصل ، فقد لا يحصل من قول أعلم بلده بملاحظة احتمال موافقة الأدون لقول مجتهد بلد آخر يكون أعلم من أعلم بلده أو لأحد المجتهدين الأموات يكون أعلم من ذلك بمراتب شتّى ، بل قد يحصل الظنّ من قول الأدون بملاحظة موافقته لما ذكر على أحد الوجهين ، ودعوى حصوله من قول المجتهد الحيّ الّذي هو أدون بمراتب شتّى من المجتهد الميّت دون ذلك الميّت مجازفة من القول ، وإن كان من باب التعبّد فلا معنى لملاحظة الظنّ والأقوائيّة والأقربيّة معه ، ومرجع الترديد إلى منع الصغرى على تقدير اعتبار التقليد من باب الظنّ ومنع الكبرى على التقدير الاخرى.

ويمكن دفعه باختيار الشقّ الثاني ، ومنع منافاة مراعاة الظنّ وأقوائيّته وأقربيّته للترجيح في صورة الاختلاف لجهة التعبّد ، كما لا ينافيها للترجيح في الأخبار على القول بالعمل بها تعبّدا ، فإنّ المجتهدين المتفاضلين في صورة الاختلاف بمنزلة الأمارتين المتراجحتين في صورة التعارض اللّتين دلّ الدليل من النصّ والإجماع على وجوب تقديم الأقوى والأقرب منهما إلى الواقع على الآخر من غير منافاة له لجهة التعبّد ، باعتبار أنّ الأقوائيّة والأقربيّة لا تلاحظ إحرازا للمقتضي لجواز العمل بل رفعا لمانع التعارض ، ففيما نحن فيه أيضا يلاحظ الظنّ والأقوائيّة رفعا لمانع الاختلاف لا إحرازا لمقتضى العمل ، لقضاء العقل المستقلّ بعد تعذّر العلم بالأحكام الواقعيّة تفصيلا وإجمالا أو سقوط اعتبار العلم بها إجمالا بوجوب الأخذ بما هو أقرب إلى الواقع ، وهو بالنسبة إلى المكلّف البالغ رتبة الاجتهاد ظنّه الاجتهادي لغلبة مصادفته الواقع ، وبالنسبة إلى من لم يبلغ رتبته فتوى المجتهد لغلبة مصادفتها الواقع ، فالأقربيّة إلى الواقع علّة للجعل لا أنّه مناط للعمل ، فلذا لا يعتبر الظنّ في العمل بأصل الفتوى ، وإذا كان علّة الجعل الأقربيّة إلى الواقع فالعقل الحاكم بلزوم الأخذ بالأقرب كما يلزم المقلّد بمتابعة المجتهد - لكون فتواه نوعا أقرب إلى الواقع - فكذلك يلزمه بمتابعة شخص مجتهد يكون فتواه أقرب إلى الواقع من فتوى مجتهد آخر عند الاختلاف بينهما ، فإنّ الأعلم وغيره وإن كانا متشاركين في أصل غلبة مصادفة فتوى

ص: 462

كلّ منهما الواقع ، إلاّ أنّ فتوى الأعلم لزيادة بصيرته بمدارك الأحكام ومعارضاتها وأقوائيّة ملكة استنباطه أغلب مصادفة له فيكون أقرب إليه من فتوى غير الأعلم ، وجعل هذه الأقربيّة مرجّحة حينئذ لا ينافي كون العمل بالفتوى من باب التعبّد ، لأنّ معناه أنّ المقلّد يجب عليه الأخذ بها وإن لم تفد له الظنّ بالواقع ، بل وإن حصل له الظنّ بواسطة أمارة بخلافها ، غاية ما هنالك لزوم حمل كون الظنّ الحاصل من قول الأعلم أقوى ، على إرادة كون قوله أقوى سببا لإفادة الظنّ ، وإن كان لا يخلو عن تكلّف.

السادس : قوله تعالى : ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) فإنّه تنفي المساواة بين من يعلم وبين من لا يعلم ، والمفضول لنقصان علمه يصدق عليه أنّه لا يعلم ، والأعلم باعتبار زيادة علمه يصدق عليه أنّه يعلم ، فلو جاز تقليد غير الأعلم كما يجوز تقليد الأعلم لزم المساواة بينهما ، واللازم باطل بنصّ الآية.

وفيه أيضا ضعف ، أمّا أوّلا : فلأنّه ليس في نفي المساواة عموم لفظي أو عقلي يوجب تناول الآية لمثل مقام الإفتاء والقضاء وغيرهما من المناصب الشرعيّة ، خصوصا مع ملاحظة ما في كلام بعض أهل التفسير من تفسيرها بأنّه هل يستوي الّذين يعلمون نبوّة محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم والّذين لا يعلمون نبوّة محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم.

وأمّا ثانيا : فلمنع كون مناط الأعلميّة وعدمها العلم بمعنى الإدراك الفعلي وعدمه ، بل مناطها على ما سنحقّقه أقوائيّة ملكة الاستنباط وعدمها.

ولا ريب أنّ الاختلاف بين المجتهدين في زيادة الإدراك الفعلي ونقصانه لا ينافي التساوي بينهما في الملكة ، فلو أخذ بظاهر الآية لزم الترجيح بمجرّد زيادة العلم مع التساوي في الملكة وهو غير جيّد على ما سنذكره ، إلاّ أن يخصّص بصورة زيادة العلم إذا صادفت أقوائيّة الملكة ثمّ يتمّم في صورة التساوي في العلم والاختلاف في الملكة بالإجماع المركّب وعدم القول بالفصل ، هذا مع تطرّق المنع إلى صدق « من لا يعلم » على غير الأعلم ، لظهور « لا يعلمون » في السلب الكلّي المناقض للإيجاب الجزئي ، ولصدق « يعلمون » مع الإيجاب الجزئي.

والمفروض أنّ غير الأعلم يعلم في الجملة ، فهو مندرج في إطلاق « يعلمون » لا في قوله : « لا يعلمون » ، ولذا قد يستدلّ بالآية على مساواته للأعلم المقتضية لجواز الرجوع إليه مع وجود الأعلم كما ستعرفه.

ص: 463

السابع : طائفة من الأخبار الآمرة بتقديم الأفقه عند الاختلاف في الحكم ، مثل مقبولة عمر بن حنظلة المرويّة في كتب المشائخ الثلاث ، قال : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث ، فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة - إلى أن قال - : فإن كان كلّ رجل اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما ، واختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما حكم به الآخر » حكي الاستدلال بها عن الشهيد الثاني في المسالك ، وكاشف اللثام ، والفاضل المازندراني الشارح للزبدة ، بل عن الأوّل أنّه ذكر في موضعين أنّها نصّ في المدّعى.

وخبر داود بن الحصين عن أبي عبد اللّه عليه السلام في رجلين اتّفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف ، فرضيا بالعدلين ، فاختلف العدلان بينهما ، من قول أيّهما يمضي الحكم؟ قال : « ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما فينفذ حكمه ولا يلتفت إلى الآخر ».

وخبر موسى بن اكيل عن أبي عبد اللّه عليه السلام عن رجل يكون بينه وبين أخ له منازعة في حقّ فيتّفقان على رجلين يكونان بينهما ، فحكما فاختلفا فيما حكما؟ قال : وكيف يختلفان؟

قلت : حكم كلّ واحد منهما للّذي اختاره الخصمان ، فقال : « ينظر إلى أعدلهما وأفقههما في دين اللّه فيمضي حكمه ».

والمرويّ عن نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السلام في كتابه إلى مالك الأشتر : « اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك ممّن لا تضيق به الامور ، ولا تمحّكه الخصوم ، ولا يتمادى في الزلّة ، ولا يحصر من الفيء إلى الحقّ إذا عرفه ، ولا تشرف نفسه على طمع ، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه ، وأوقفهم في الشبهات ، وآخذهم بالحجج ، وأقلّهم تبرّما بمراجعة الخصم ، وأصبرهم على تكشّف الامور ، وأصرمهم عند اتّضاح الحقّ ممّن لا يزدهيه إطراء ، ولا يستميله إغراء » إلى آخر ما ذكره عليه السلام (1).

وقد اورد على التمسّك بهذه الأخبار ولا سيّما المقبولة بأنّها وردت في ترجيح الحكم بمعنى فصل الخصومة بالأفقهيّة ، بقرينة قوله : « بينهما منازعة في دين أو ميراث » وقوله : « يكون بينه وبين أخ له منازعة في حقّ » فلا تتناول الفتوى ، ويمكن الجواب بوجوه :

ص: 464


1- نهج البلاغة ، كتاب : 53.

أحدها : تتميم المدّعى في الفتوى - بعد تسليم اختصاصها بالحكم - بالإجماع المركّب وعدم القول بالفصل ، بتقريب : أنّ الأصحاب في اعتبار الأعلميّة في الفتوى والحكم وعدم اشتراطها بين قائل بالاشتراط فيهما معا ، وقائل بعدم الاشتراط فيهما ، وقائل بالاشتراط في الفتوى دون الحكم ، وأمّا احتمال اشتراطها في الحكم دون الفتوى فممّا لا قائل به ، فهو منفيّ بإجماع أصحاب هذه الأقوال ، إلاّ أن يدفع بأنّ عدم قائل بهذا التفصيل أعمّ من الإجماع على نفي التفصيل.

وثانيها : بأنّها إنّما اشترطت في الحكم تبعا لاشتراطها في الفتوى ، لظهور المقبولة بقرينة ذكر الميراث في كون المنازعة فيما هو من قبيل الشبهات الحكميّة - لجهالة حكم المسألة الّتي ميزان حكم الحاكم فيها فتواه في المسألة - لا من قبيل الشبهات الموضوعيّة الّتي ميزان الحكم فيها الإقرار أو البيّنة أو اليمين أو غيرها ، فالواجب في مثل مورد الرواية الحكم بما يقتضيه الفتوى ، ومرجع الأفقهيّة المعتبرة في الحكم إلى الأفقهيّة في الفتوى والحكم تابع لها.

وثالثها : منع كون الحكم في الروايات مرادا به الحكم بالمعنى المصطلح المقابل للفتوى أعني فصل الخصومة ، بل لابدّ وأن يحمل على إرادة المعنى اللغوي المنطبق على الفتوى ، ولا ينافيه « المنازعة » لاحتمال إرادة الاختلاف في حكم المسألة لا الخصومة في الواقعة.

وسند المنع المذكور أوّلا : كون المتبادر من إطلاق الحكم معناه اللغوي وعدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة فيه بالقياس إلى المعنى المصطلح.

وثانيا : وجود القرينة عليه في متن المقبولة من قوله : « وكلاهما اختلفا في حديثكم » ، لأنّ المتبادر منه الاختلاف في الفتوى المستندة إلى الحديث أو هي بمنزلة الحديث ، وقوله عليه السلام : « أصدقهما في الحديث » ، بتقريب : أنّ الأصدقيّة في الحديث إنّما يناسب ترجيح الفتوى الّتي هي بمنزلة الحديث.

وثالثا : قوله : « فرضيا أن يكون الناظرين في حقّهما » لظهوره في اتّفاق المتنازعين على إناطة رفع النزاع بنظر الحكمين ورأيهما في حكم المسألة من حيث الفتوى.

وتوضيح ذلك : أنّ الغرض من جمع رجلين أو رجال لهم أهليّة الفتوى والحكم يتصوّر على وجوه :

الأوّل : أن يقصد به صدور الحكم بمعنى فصل الخصومة من الجميع.

ص: 465

الثاني : أن يقصد به صدور الحكم من واحد ، ويكون المقصود من حضور الباقين إعانة الحاكم في مقدّمات الحكم لئلاّ يخطئ.

الثالث : أن يقصد من بعضهم صدور الحكم ومن الباقين إمضاءه.

والرابع : أن يقصد استعلام حكم المسألة بما يصدرونه من الفتوى لرضا المتنازعين وتواطئهما على الأخذ به من باب الأخذ بالفتوى.

والرواية بظاهرها لا تقبل إلاّ الحمل على الصورة الأخيرة.

أمّا الصورة الاولى : فلأنّها في نفسها في غاية البعد والغرابة ، إذ الحكم بمعنى فصل الخصومة يحصل بحكم واحد ، واعتبار انضمام الأحكام بعضها إلى بعض مع أنّه غير معهود غير مفيد.

وأمّا الثانية والثالثة : فلأنّه يأباهما ظاهر قوله : « فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما ».

لا يقال : إنّ الفتوى أيضا يكفي فيها واحد ، فاعتبار الانضمام فيها أيضا ممّا لا معنى له ، لأنّ لاتّفاق آراء الحكمين مدخليّة تامّة في رفع الاشتباه عن الجانبين ليست هذه المدخليّة في فتوى واحد.

هذا ولكنّ الإنصاف أنّ إنهاض دلالة الرواية موضع نظر ، لأنّ صرفها عن الحكم بالمعنى الأخصّ إلى ما يعمّ الفتوى محلّ إشكال بملاحظة صدر الرواية ، وهو قوله : « سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث ، فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة ، أيحلّ ذلك؟

فقال : من تحاكم إلى الطاغوت فحكم له فإنّما يأخذ سحتا وإن كان حقّه ثابت ، لأنّه أخذ بحكم الطاغوت وقد أمر اللّه أن يكفر به.

قلت : كيف يصنعان؟ قال : انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا ، وعرف أحكامنا ، فارضوا به حاكما ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكما ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنّما بحكم اللّه استخفّ وعلينا ردّ ، والرادّ علينا الرادّ على اللّه ، وهو على حدّ الشرك باللّه.

قال : فإن كان كلّ واحد اختار رجلا » إلى آخر ما نقلناه.

وهذا كما ترى كالصريح بل صريح في الحكم بالمعنى الأخصّ ، فلا قاضي بتعميمه بالقياس إلى الفتوى.

ص: 466

ولو سلّم العموم فدلالة الرواية على اشتراط أعلميّة فيما هو من موضوع المسألة محلّ منع ، إذ الترجيح بالأفقهيّة على ما أمر به الإمام عليه السلام ليس باعتبار لزوم تقديم فتوى الأفقه من حيث كونه أفقه على فتوى غير الأفقه من حيث إنّه غير أفقه ، بل باعتبار لزوم تقديم رواية الأفقه من حيث إنّه أفقه على رواية غير الأفقه من حيث إنّه غير أفقه ، وذلك لأنّ قول الراوي : « كلاهما اختلفا في حديثكم » يدلّ على أنّه أشكل الأمر عليه ، وإنّ تحيّره إنّما كان من جهة اختلاف الحديثين وتعارض الخبرين ، ولذا كانت المرجّحات المذكورة في الرواية كلّها من مرجّحات الأخبار المتعارضة المعمولة في علاج تعارض الأخبار ، وأمره عليه السلام للراوي بالترجيح والرجوع إلى تلك المرجّحات يدلّ على أنّه من أهل النظر والاجتهاد وإنّ له أهليّة الترجيح واستفادة المطالب من الأخبار المتعارضة بعد إعمال النظر في علاج تعارضها ، وعليه فلا يتناول لموضوع المسألة وهو رجوع المقلّد إلى المجتهد وأخذه بفتواه أصلا.

أمّا أوّلا : فلأنّ المراد بالمقلّد من ليس له أهليّة الاجتهاد أصلا ، فلو صادف مجتهدين متفاضلين ليس عليه مطالبة دليلهما ، ولو عثر على دليلهما ليس عليه النظر في مفاديهما ، ولو فهم منهما شيئا ليس له التعويل على فهمه ، ولو ترجّح أحدهما على الآخر لمرجّح معه في نظره ليس له الاعتماد على ترجيحه.

وأمّا ثانيا : فلأنّه لا يلزم أن يكون اختلاف نظري المجتهدين المتفاضلين عن خبرين متعارضين ، بل قد يكون عن مدرك آخر ، وفيما لو كان مدرك اجتهاديهما من الأخبار قد يكون من اختلاف نظرهما في طريق الجمع أو من تعادل الخبرين واختيار كلّ واحدا منهما.

وعلى تقدير كونه من الترجيح بينهما فمدار الترجيح على تحصيل الظنّ الاجتهادي والوثوق بصدور ما يعمل به من المتعارضين ، فقد يحصل لأحدهما الوثوق بصدور أحدهما لمرجّح معه في نظره وللآخر الوثوق بصدور الآخر لمرجّح آخر معه في نظره ، وكلّ مكلّف بظنّه الاجتهادي والبناء على ترجيحه الظنّي ، وعلى جميع التقادير فالمقلّد العامي لا يكلّف بملاحظة مدركيهما ولا إعمال النظر في الجمع والترجيح ، ولا أنّه من وظيفته ذلك أصلا.

الثامن : أنّه لو جاز تقليد المفضول مع وجود الأفضل لزم ترجيح المرجوح على الراجح ، والتالي باطل فالمقدّم مثله ، والملازمة ظاهرة.

ويمكن دفع الملازمة ، إذ المعتبر في الرجحان والمرجوحيّة رجحان فتوى المجتهد ومرجوحيّتها - لأنّها مناط عمل المقلّد - لا رجحان شخص المجتهد ومرجوحيّته من حيث

ص: 467

الأفضليّة والمفضوليّة.

وحينئذ فلو اريد من الرجحان والمرجوحيّة كون فتوى الأفضل راجحة وفتوى المفضول مرجوحة في نظر الشارع فهو أوّل المسألة ، فالاستدلال يعود إلى نوع مصادرة.

ولو اريد كونها راجحة ومرجوحة في نظر العقل فهو أيضا ممنوع بمنع استقلال العقل بالحكم بالرجحان والمرجوحيّة إلاّ بإرجاعهما إلى الأقربيّة إلى الواقع والأبعديّة عن الواقع.

وحينئذ فيرجع الدليل إلى بعض الوجوه المتقدّمة وليس دليلا على حدة ، مع أنّ تجويز تقليد المفضول ليس ترجيحا له على الأفضل بل تسوية بينهما ، وهي ليست من التسوية بين الراجح والمرجوح ، لجواز تساويهما من حيث وصف الإفتاء في نظر الشارع وإن لم يتساويا من حيث المعرفة والفضل.

وبذلك يظهر الفرق بين المقام ومسألة الخلافة الّتي استدلّ لنفيها عن غير مولانا أمير المؤمنين عليه صلوات اللّه والملائكة والناس أجمعين بلزوم تفضيل المفضول على الفاضل ، لأنّ إعطاء المفضول منصب الإمامة الّتي هي رئاسة عامّة بنفسه تفضيل المفضول وترجيح المرجوح فيكون قبيحا.

حجّة القول بجواز تقليد المفضول

حجّة القول بجواز تقليد المفضول اللازم من التخيير بينه وبين الأفضل وجوه :

أحدها : أصالة التخيير ، ويقرّر على وجهين :

الأوّل : استصحاب التخيير الثابت فيما إذا كانا متساويين أوّلا ثمّ فضل أحدهما على الآخر ، فإنّ ارتفاع هذا التخيير بحدوث الفضل غير معلوم فيستصحب ، ويتمّ فيما لم يسبقهما التساوي بالإجماع المركّب وعدم القول بالفصل.

وتوهّم قلبه بأصالة الاشتغال المقتضية لتعيين الأفضل في صورة عدم سبق التساوي مع تتميمه في صورة السبق بالإجماع المركّب وعدم القول بالفصل.

يندفع بورود الاستصحاب في نحو المقام على أصالة الاشتغال.

ولا يخفى ضعفه لتبدّل موضوع المستصحب ، فإنّ التخيير إنّما يثبت في حال التساوي والكلام إنّما هو في حال التفاضل وهذا موضوع آخر ، ضرورة أنّ المجتهدين المتساويين والمجتهدين المتفاضلين موضوعان متغايران ، والتخيير من أحكام الموضوع الأوّل وقد انقلب بحدوث الفضل إلى الموضوع الثاني ، ومن المستحيل إجراء حكم موضوع على موضوع آخر مغاير له بالاستصحاب.

ص: 468

الثاني : أصالة التخيير فيما دار الأمر بينه وبين التعيين ، تمسّكا بأصالة البراءة النافي للضيق الّذي يتضمّنه التعيين.

وفيه : منع كون التخيير في مثل ما نحن فيه أصلا ، بل الأصل هو التعيين.

وتوضيحه : أنّ أصالة التخيير إنّما تسلّم في فردي الكلّي المأمور به إذا احتمل تقييد الماهيّة في مدلوله بما يوجب تعيين أحدهما ، كما لو ثبت وجوب عتق رقبة واحتمل تقييدها بالمؤمنة فيتمسّك بأصالة عدم التقييد وأصالة البراءة النافية لاحتمال الشرطيّة ، وينفرد ذلك عن الأوّل (1) فيما ثبت وجوبه بخطاب غير لفظي أو خطاب لفظي مجمل.

ويسلّم أيضا في الواجبين المضيّقين المتزاحمين ، فإنّ العقل في موضع المزاحمة يحكم فيهما بالتخيير حذرا عن التكليف بغير المقدور ، مع كون كلّ بانفراده مع قطع النظر عن الآخر مقدورا مع انتفاء الأهمّيّة ، بشرط عدم احتمال اشتمال أحدهما على مصلحة متأكّدة موجبة لكونه أهمّ في نظر الشارع ، إذ مع احتماله لا يحكم العقل بالتخيير فيرجع إلى أصل آخر ، ولا يجري إلاّ أصالة الاشتغال المقتضية للتعيين ، إذ مع احتمال وجود نحو المصلحة المذكورة لا محصّل ليقين البراءة إلاّ الإتيان بمحلّ هذا الاحتمال ، ولا مجرى لأصالة البراءة في نحوه كما هو واضح.

وتوهّم كون أصالة عدم سقوط التكليف بالنسبة إليهما معا ممّا ينفي احتمال التعيين المستلزم لسقوط التكليف عن أحدهما.

يندفع : بأنّ التكليف المحكوم بعدم سقوطه بالأصل إن اريد به الوجوب على وجه التعيين فلا شكّ في سقوطه بسبب المزاحمة ، وإن اريد به الوجوب على وجه التخيير فلا شكّ في عدم ثبوته قبل المزاحمة.

وبالجملة الحالة السابقة المعتبرة في الأصل غير باقية في تقدير وغير ثابتة في آخر.

ويسلّم أيضا في طريقين متعارضين شملهما دليل الحجّية تعبّدا عند فقد ما ثبت كونه مرجّحا ، فإنّ العقل فيه باعتبار عدم إمكان الجمع والطرح ربّما يحكم بالتخيير ، إذ مع اشتماله عليه لا يحكم العقل بالتخيير ، فيؤخذ به حينئذ عملا بأصل الاشتغال ، ولا معنى لأصل البراءة فيه أيضا.

وأمّا الشكّ في التعيين والتخيير فيما هو من قبيل التخييرات الشرعيّة كخصال الكفّارة

ص: 469


1- أي وينفرد أصالة البراءة عن أصالة عدم التقييد فيما يثبت وجوبه بخطاب غير لفظى الخ.

فهو وإن قيل فيه بأنّ الأصل هو التخيير ولكنه خلاف التحقيق ، بل الأصل فيه التعيين لأصل الشغل ، المستدعي ليقين البراءة الّذي لا يحصل إلاّ بأداء ما احتمل كونه واجبا بعينه بعد اليقين بوجوبه في الجملة.

والسرّ فيه : أنّه مشتمل على مصلحة ملزمة مقتضية للوجوب قطعا ، ولم يعلم اشتمال ما شكّ في بدليّته له على مثل تلك المصلحة ، فالأصل يوجب اليقين بالبراءة والثاني (1) لا يوجبه ، ويعضده أصالة عدم تعلّق خطاب الشرع به ، مضافا إلى أصالة عدم تعرّض الشارع لتقييد الترك في جانب المنع الّذي يتضمّنه الوجوب المفروض ثبوته فيما احتمل التعيين بكونه لا إلى بدل كما هو لازم التخيير بخلاف التعيين الّذي يستلزم المنع من الترك مطلقا.

وأمّا أصالة البراءة عن الضيق الّذي يتضمّنه التعيين - على ما اعتمد عليه القائل بأصالة التخيير ، فمع ورود الاصول المذكورة عليه - يندفع : بأنّ الضيق ممّا ليس له معنى محصّل إلاّ المنع من الترك الّذي يتضمّنه الوجوب وترتّب العقاب عليه ، وهذا في محلّ البحث ممّا لا يمكن نفيه بأصل البراءة ، لأنّه حكم عقليّ يحكم به العقل من جهة قبح التكليف والعقاب بلا بيان ، والمفروض في محلّ البحث ثبوت المنع من الترك والعقاب عليه في الجملة.

ومرجع الشكّ في التعيين والتخيير إلى دوران الترك في جانب المنع بين الترك المطلق سواء كان إلى بدل أو لا إلى بدل وبين الترك لا إلى بدل ، وهذا القدر من بيان المنع والعقاب على الترك كاف في منع العقل من الحكم بالقبح.

وبالجملة بعد تحقّق المنع من الترك في الجملة وترتّب العقاب عليه كذلك لا يحكم العقل بقبح المنع من الترك إلى بدل وقبح العقاب عليه كذلك ، وعمومات البراءة المعلّقة لها بالجهل وعدم العلم بالتكليف رأسا لا تتناول ما نحن فيه ، فلا وارد من الاصول على أصالة الاشتغال ، ولا مانع من جريانه هنا مع اعتضاده باصول اخر.

هذا كلّه ، ولكنّ الكلام في أنّ الشكّ في التعيين والتخيير في مسألة التقليد المردّد بين الأفضل والمفضول من أيّ الأقسام المذكورة؟ وينبغي القطع بعدم كونه من قبيل القسم الأخير ، إذ القائل بالتخيير بينهما لا يدّعي التخيير الشرعي ، وبعدم كونه أيضا من قبيل التعيين والتخيير في الواجبين المتزاحمين ، لوجوب الإتيان بهما معا في موضع عدم المزاحمة ، وعدم وجوب تقليد المجتهدين معا في موضع التساوي بل عدم إمكانه.

ص: 470


1- أي : ما شكّ في بدليّته.

نعم يجوز كونه من قبيل التعيين والتخيير في فردي الكلّي المأمور به ، بتقريب : أنّ الواجب على المقلّد تقليد المجتهد ، وهو أمر كلّي ذو أفراد ، ولذا يحكم العقل بالتخيير عند تعدّد المجتهدين وتساويهما في الفضل والمعرفة ، كما يجوز كونه من قبيل التعيين والتخيير في الطريقين والأمارتين المتعارضتين.

ويشكل الأمر حينئذ من حيث إنّ قضيّة اندراجه في كلّ من القسمين لحوق حكمه به ، فيتردّد بين كون الأصل فيه التخيير لأصالة البراءة النافية لاشتراط الأعلميّة ، أو التعيين لاشتمال قول الأفضل على ما يحتمل كونه مرجّحا في نظر الشارع فيرجع فيه إلى أصل الشغل اليقيني.

ويمكن الذبّ عنه : بأنّه على تقدير اندراجه في فردي الكلّي المأمور به لا يلحق به حكمه ، لما عرفت عند بيان حجج القول باشتراط الأعلميّة من الفرق بين الشكّ في شرطيّة شيء لواجب نفسي يترتّب العقاب على تركه ، والشكّ في شرطيّة شيء لما هو طريق إليه فلا يترتّب العقاب على تركه من حيث هو ، وأصل البراءة النافي لاحتمال الشرطيّة إنّما يجري في الأوّل ، والأعلميّة على تقدير الشرطيّة معتبرة في الطريق إلى امتثال أحكام اللّه الّذي لا يترتّب على تركه من حيث هو عقاب ولو مع ثبوت الشرطيّة فكيف مع عدم ثبوتها ، بل العقاب إنّما يترتّب على ترك امتثال أحكام اللّه المعلومة بالإجمال ، فلابدّ من إحراز البراءة فيه تخلّصا عن العقاب المترتّب على تركه ، كما أنّه لا بدّ من تحصيل اليقين بالبراءة عنه دفعا لخوف العقاب عن النفس ، ولا يحصل اليقين إلاّ بمراعاة الأعلميّة في الطريق ، لكون الرجوع إلى الأعلم مبرئا يقينا بخلاف غيره ، وهذا ممّا لا وارد عليه من طرف أصل البراءة ، فالأصل فيما نحن فيه على كلّ تقدير هو التعيين لا غير.

وثانيها : إطلاق الأدلّة اللفظيّة الناهضة بوجوب رجوع العامي الجاهل في الفروع إلى العالم الفقيه من الآيات ، كآيات السؤال ، والنفر ، والكتمان والروايات مثل قوله عليه السلام في خبر الاحتجاج : « ومن كان من الفقهاء صائنا لدينه ، حافظا لنفسه ، مخالفا على هواه ، مطيعا لأمر مولاه ، فللعوام أن يقلّدوه ».

وقوله عليه السلام في التوقيع : « وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم ، وأنا حجّة اللّه عليهم ».

وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم : « علماء امّتي كأنبياء بني إسرائيل ».

ص: 471

وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم : أيضا في الخبر العامي : « أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم » بتقريب : أنّ أهل الذكر في آية السؤال مطلق في الفاضل والأفضل والمفضول وهو يقتضي التخيير ، خصوصا مع ملاحظة أنّ الغالب في أهل العلم تفاوت مراتبهم واختلاف مدارجهم في الفضل والمعرفة ، وإنّ مساواة اثنين منهم من جميع الجهات في غاية القلّة ، بل لك أن تقول : إنّ الأمر بالرجوع إلى الطائفة المختلفة الآحاد في المراتب والآراء بنفسه دليل على اشتراك الجميع في مصلحة الرجوع ، وكذلك الأمر بإنذار المتفقّهين وإيجاب الحذر عقيب إنذار المنذرين مع جريان العادة بتفاوت مراتبهم ، فإنّه بإطلاقه يدلّ على وجوب قبول إنذار المنذر سواء كان فاضلا أو مفضولا ، وهكذا يقرّر الإطلاق في باقي المذكورات ، بل بعضها عامّ اصولي يتناول الفاضل والمفضول على حدّ سواء.

والجواب عن ذلك - بعد تسليم نهوض دلالاتها واعتبار أسانيد الروايات منها - : أنّ إطلاقاتها ليست متعرّضة لمقام الأعلميّة بإثبات ولا بنفي ، بل إنّما هي مسوقة لبيان المرجعيّة وإعطاء الحجّية الذاتيّة ، ولا ينافيها اشتراط الأعلميّة على القول به في صورة الاختلاف ، إذ ليس مرجعه إلى نفي المرجعيّة عن غير الأعلم ونفي حجّية قوله ، بل إلى بيان المانع كما نبّهنا عليه سابقا ، فعدم جواز الرجوع إلى غير الأعلم مع الأعلم ليس لفقده مقتضي الجواز وهو الحجّية الذاتيّة بل لوجود المانع.

ومن المعلوم أنّ كون الأعلم مانعا من الرجوع إليه لا ينافي حجّية قوله المقتضية لوجوب الرجوع إليه على تقدير فقد الأعلم ، لوضوح أنّ عدم المانع ليس جزءا للمقتضي ، فمعنى كون الأعلميّة شرطا إنّ عدمها ممّا يتوقّف عليه جواز الرجوع إلى غير الأعلم ، لا أنّ وجودها ممّا يتوقّف عليه جواز الرجوع إلى الأعلم.

وبالجملة لوجودها مدخليّة في العدم كما هو ضابط المانعيّة ، لا أنّ له مدخليّة في الوجود على ما هو ضابط الشرطيّة.

غاية الأمر أنّ في إطلاق الشرط عليها مسامحة ، ولذا لا يلزم بدليل اشتراطها لها تخصيص في الإطلاقات المذكورة ، ألا ترى لو قيل لمريض يحتاج إلى العلاج : « ارجع إلى الأطبّاء » ورجع إليهم فحصل الاختلاف بينهم في المعالجة إلى أن حصل له التحيّر لاختلافهم ، ثمّ قيل له : « اعمل بقول أفضلهم وأكملهم » لم يناقض ذلك القول للقول الأوّل عرفا ، وليس إلاّ من جهة أنّ القول الأوّل ساكت عن مقام التعارض ، وأنّه ليس إلاّ لمجرّد بيان مرجعيّة

ص: 472

الأطبّاء ، ومرجعيّة المفضول منهم لوجود المقتضي فيه لا ينافيها عدم الرجوع إليه لمانع وهو وجود الأفضل.

هذا مضافا إلى منع اندراج موضوع المسألة في تلك الإطلاقات المفروض تناولها للأعلم وغير الأعلم - على تقدير تسليمه - من جهة اخرى ، وذلك لأنّ موضوع المسألة المتنازع فيه إنّما هو المجتهدان المتفاضلان المختلفان في الرأي ، فيعتبر فيه مع التفاوت في الفضل اختلافهما في الرأي ، والآيات المذكورة مع الأخبار من الخطابات الشفاهيّة فيكون بحسب المورد مخصوصة بالموجودين في زمن الخطاب في أصحاب الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم والأئمّة ، وتفاوت مراتبهم في الفضل والأعلميّة وإن كان بمقتضى العادة معلوما ، إلاّ أنّ اختلافهم في الآراء والمسائل غير معلوم إن لم نقل بمعلوميّة خلافه ، ولا أقلّ من دعوى غلبة الموافقة فيكون المطلقات واردة مورد الغالب فلا تنصرف إلى النادر ، فعلى المستدلّ بإطلاقها أو عمومها إثبات المخالفة أوّلا ، ومنع غلبة الموافقة ثانيا ، وأنّى له بذلك؟

وثالثها : لو لم يكن المفضول قابلا للتقليد لزم مساواة العالم للجاهل ، واللازم باطل لآية نفي المساواة (1) فكذا الملزوم ، وبيان الملازمة : أنّ العامي غير قابل للتقليد إجماعا ، والمفروض مشاركة العالم المفضول معه في ذلك ، فيلزم ما ذكر.

وفيه مع إمكان قلبه بما يكون نتيجته لزوم تقليد الأعلم كما تقدّم بيانه في حجج القول به ما عرفت من وجوه الفساد ثمّة.

ورابعها : ما أشار إليه بعض الفضلاء من أنّه : « لو لا جواز تقليد المفضول لم يجز لمعاصري الأئمّة عليهم السلام أخذ المسائل من فضلاء أصحابهم مع حضورهم ، لكونهم أفضل من أصحابهم بمراتب شتّى ، واللازم باطل فكذا الملزوم ».

والجواب : منع الملازمة ، لعدم العلم بمخالفة أصحاب الأئمّة لهم في الفتاوى ، بل المعلوم خلافه ، مع أنّ العلم بمخالفة الإمام يوجب القطع ببطلان الفتوى رأسا ، ولم يعهد من أحد تجويز التقليد مع العلم ببطلان الفتوى ، بل هذا غير جائز إجماعا ولو مع أفضليّة المفتي.

وخامسها : السيرة المستمرّة بين أهل التقليد من السلف إلى زماننا هذا ، لوضوح أنّ عوام كلّ عصر في كلّ مصر من يومنا إلى زمن الأئمّة عليهم السلام لم يكونوا ملتزمين بطالب الأعلم ، ولا مسافرين إلى أطراف البلاد وجوانبها في تحصيل الأفضل ، بل كانوا آخذين

ص: 473


1- وهي قوله تعالى : « هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ».

بقول كلّ فقيه جامع لشرائط الإفتاء من دون مراعاة الأعلميّة مع غلبة تفاوت مراتب الفهم والفضل في طائفة الفقهاء والمجتهدين والرواة والمحدّثين ، ولم ينقل من الأئمّة عليهم السلام ولا الصحابة ولا التابعين الإنكار عليهم.

والجواب : منع تحقّق السيرة على وجه تكشف عن رأي المعصوم ورضاه بالرجوع إلى المفضول مع وجود الأفضل في صورة العلم بالمخالفة لا في زمن الأئمّة ، ولا في الأزمنة المتأخّرة إلى زماننا.

هذا ، أمّا في الأوّل : فلأنّ مخالفة أصحاب النبيّ والأئمّة بعضهم بعضا في المسائل على تقدير تسليم وجودها كانت نادرة ، والعلم بها مع ذلك كان أندر ، فلم يثبت ثمّة رجوع المقلّدين منهم إلى المفضولين في صورة المخالفة مع العلم بها.

وأمّا في الثاني : فلأنّ المقلّدين في الأزمنة المتأخّرة على أنحاء ، منهم من يتحرّى في طلب الأعلم تقليدا لمجتهد أوجب تقليد الأعلم ، ومنهم من يتحرّى في طلبه احتياطا لغاية تقواه وورعه في الدين ، ومنهم من يأخذ من غير الأعلم تقليدا لمجتهد لم يوجب تقليد الأعلم ، ومنهم من يأخذ من كلّ مجتهد من دون مراعاة الأعلم لتسامحه وقلّة مبالاته في الدين ، فأيّ سيرة مع ذلك يتمسّك بها لنفي اعتبار الأعلميّة؟

وسادسها : لزوم العسر والحرج في الاقتصار على تقليد الأفضل ، سيّما إذا اريد به من كان أفضل أهل عصر المقلّد لا خصوص أفضل بلده كما لعلّه الظاهر من كلام المانعين من تقليد المفضول مع وجوب الأفضل.

ويمكن المناقشة فيه تارة : بمنع الصغرى ، واخرى : بمنع الكبرى.

أمّا الأوّل : فلأنّ العسر المتوهّم لزومه من وجوب الاقتصار على تقليد الأعلم إن اريد به ما يتضمّنه إحراز الأعلميّة بتقريب : أنّها من الامور الباطنيّة والصفات النفسيّة فيعسر الاطّلاع عليها على تقدير الشكّ في وجود الأعلم من باب الشكّ في حدوث الأعلميّة لبعض المجتهدين.

ففيه أوّلا : أنّ أعلميّة المجتهد ليست إلاّ كاجتهاده ، وكما أنّ اجتهاده ممّا يمكن إحرازه من دون عسر وحرج فكذلك أعلميّته بعد الفراغ عن إحراز اجتهاده ، وحلّه : أنّ الأعلميّة كالاجتهاد موضوع من الموضوعات الخارجيّة المعروفة يمكن إحرازها بالرجوع إلى أهل الخبرة وغيره.

ص: 474

وثانيا : أنّ مرجع القول باعتبار الأعلميّة إلى ترجيح أعلم المجتهدين على غيره ، على أنّ الأعلميّة من قبيل المانع فيؤثّر في منع تقليد غير الأعلم في صورة العلم بوجود الأعلم ، وأمّا صورة الشكّ فيكفي في الحكم بجواز تقليد كلّ مجتهد مجرّد عدم العلم بوجوده.

غاية الأمر مسيس الحاجة إلى التمسّك بأصالة عدم حدوث الأعلميّة ، لا على أنّها من قبيل الشرط الّذي لو لا إحرازه في موضوع الشكّ لم يجز تقليد أحد كأصل الاجتهاد ليؤدّي وجوب إحرازها إلى العسر والحرج.

وثالثا : أنّها على تقدير كونها من قبيل الشرط فالعسر اللازم من إحرازها على فرض تسليمه إنّما يلزم لو وجب إحرازها بطريق العلم لا مطلقا حتّى على تقدير الاكتفاء فيه بالظنّ المطلق ، فنفيه إنّما ينتج نفي اعتبار العلم في إحرازها لا نفي اعتبارها رأسا ، فيجوز الاكتفاء في إحرازها بالظنّ مطلقا كما لعلّه الأظهر ، بناء على الفرق بينها وبين أصل الاجتهاد بلزوم العلم أو ما يقوم مقامه في الثاني وكفاية الظنّ في الأوّل كما سنقرّره.

وإن اريد به ما يتضمّنه تشخيص الأعلم عن غيره ، أعني معرفة شخصه بعد العلم بوجوده إجمالا والجهل بشخصه من باب العلم بحدوث الأعلميّة والشكّ في الحادث ، بتقريب : أنّ الغالب في العلماء والمجتهدين تفاوت مراتبهم قوّة وضعفا فيعسر تشخيص الأعلم عن غيره مع كون المعتبر منه الأعلم المطلق لا مطلق الأعلم حتّى الإضافي منه ، لأنّه كلّما علم في مجتهد كونه أعلم من غيره فيحتمل وجود مجتهد ثالث أعلم من هذا الأعلم وهكذا ، ومرجعه إلى عسر العلم بالأعلم المطلق الّذي هو أعلم الكلّ.

ففيه : أنّ الأعلم يعرف حينئذ بالرجوع إلى أهل الخبرة أيضا من دون عسر خصوصا مع البناء على كفاية مطلق الظنّ فيه ، ومع اختلاف أهل [ الخبرة ] يتبع أقوى الظنّين.

وإن اريد به ما يتضمّنه الرجوع إلى الأعلم بعد معرفته والأخذ بفتاويه ، بتقريب : أنّه لا يتيسّر لكلّ أحد حتّى البلدان النائية.

ففيه : أنّ الرجوع إلى الأعلم وكذلك تشخيصه عند القائلين بوجوبه يتقدّر بقدر الإمكان الغير البالغ حدّ العسر والحرج ، فإن اقتدر المكلّف على الأخذ بفتاوى الأعلم المطلق بلا واسطة أو بواسطة رواية العدول عنه أو بواسطة رسائله من غير عسر - كما هو الغالب بعد فتح باب قبول الرواية وعدم اعتبار المشافهة ، أو فتح باب تأليف الرسائل وحملها إلى البلدان النائية - تعيّن ذلك ، وإلاّ وجب الرجوع إليه مع مراعاة الأعلم فالأعلم ، بناء على أنّ المراد

ص: 475

بالأعلم وإن كان هو الأعلم المطلق إلاّ أنّ مناط وجوب الرجوع إليه عند تعذّره أو تعسّره مطّرد في الأعلم الإضافي أيضا ، فلا حرج في شيء من الصور.

وأمّا الثاني : أنّ النفي المستفاد من العمومات النافية له مثل قوله عزّ من قائل : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) وقوله تعالى : ( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) وقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم : « بعثت بالملّة الحنيفيّة السهلة السمحة » إنّما يجدي في نفي اعتبار الأعلميّة مطلقا بعد تسليم تأديته إلى العسر والحرج على معنى لزوم العسر الغالبي في حقّ غالب الناس إذا كان العسر المنفيّ بتلك الأدلّة نوعيّا ، بأن يكون تشريع الحكم مؤدّيا إلى العسر في غالب الوقائع على غالب الأشخاص كما هو خيرة بعض الفضلاء صريحا ، حيث قال - في مسألة عقد لتحقيق تلك القاعدة بعد ذكر جملة من أدلّتها - : « فكلّ حكم يؤدّي إلى العسر والحرج بالنسبة إلى أكثر موارده وأغلب أفراده فهو مرتفع عنّا من أصله حتّى بالنسبة إلى الموارد الّتي لا يترتّب عليه فيها عسر وحرج ، إذ إناطة الحكم حينئذ بصورة تحقّق العسر والحرج مؤدّية أيضا إلى العسر والحرج » انتهى ما أردنا ذكره.

ولعلّه موضع [ منع ] لجواز كونه شخصيّا بأن يلزم من تشريع الحكم عسر في شخص الواقعة على شخص المكلّف ، ولا يكفي لزومه في الغالب على الغالب في ارتفاعه عن الشخص في الشخص وإن لم يتحقّق بالنسبة إليه بالخصوص عسر كما اختاره بعض مشايخنا قدّس اللّه أرواحهم ، تعليلا بأنّ المستفاد من ظاهر ما هو عمدة أدلّة رفع الحرج إنّما هو إناطة الرفع بالعسر وجودا وعدما على وجه يكون العسر بالنسبة إلى رفع الحكم من باب العلّة الّتي يجب اطّرادها لا الحكمة الّتي لا يضرّ عدم اطّرادها.

أقول : ولعلّ الوجه في دعوى الظهور أنّ العمدة من أدلّة نفي العسر والحرج إنّما هو عموم الآيات الّتي منها ما عرفت ، ومنها قوله تعالى : ( ما يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ ) في الدين ( مِنْ حَرَجٍ ) والحكم السلبي في هذه الآيات معلّق على ضمير الجمع وهو على ما حقّق في محلّه من صيغ العموم ، وهي بحسب الوضع اللغوي أو الانفهام العرفي يفيد العموم الأفرادي لا المجموعي ، فمفاد قوله : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) نفي الحكم الحرجي عن كلّ واحد على طريقة السلب الكلّي على حدّ قوله : ( لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ ) وقوله : ( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) إرادة اليسر بكلّ واحد وعدم إرادة العسر بكلّ واحد أيضا من باب السلب الكلّي أيضا.

ص: 476

وقضيّة ذلك كون كلّ فرد بانفراده مستقلاّ في موضوعيّته للحكم السلبي المتعلّق بالعسر والحرج ، أعني الضيق والشدّة والمشقّة حيثما تحقّق ، سواء كان تحقّقه لغالب الأفراد أو أغلبها أو نادرها أو أندرها ، وهذا هو معنى إناطة رفع التكليف بالعسر وجودا وعدما ، على أن يكون العسر من باب العلّة الواجب اطّرادها ، ولا ينافيه النبوي المتقدّم « بعثت بالملّة الحنيفيّة السهلة السمحة » - بتقريب : أنّ المراد بالملّة هنا الشريعة ، وسهولة أحكام الشرع وسماحتها تقتضي عدم مجعوليّة الحكم الحرجي من أصله ، واللازم من ذلك انتفاء الجعل بالقياس إلى جميع الموارد حتّى الموارد النادرة الّتي لم يلزم من ثبوت الحكم فيها عسر وحرج - لتطرّق المنع إلى دلالة السهولة والسماحة على نفي المجعوليّة رأسا ، لجواز أن يراد بهما إفادة انتفاء الحكم عن مورد يلزم من ثبوته فيه العسر والحرج ، سواء كان ذلك هو المورد الغالب أو النادر أو ما بينهما ، وهذا لا ينافي ثبوت مجعوليّته بالذات ولو بالقياس إلى الموارد النادرة الّتي لا يتحقّق فيها عسر ولا حرج.

وعلى تقدير اقتضاء السهولة والسماحة لنفي الجعل فغايته نفي جعله عن خصوص مورد العسر لا مطلقا.

نعم ربّما يستشمّ من كلمات العلماء في كثير من المقامات الّتي يتمسّكون فيها لنفي الحكم الحرجي بتلك القاعدة اعتبار العسر النوعي المنوط بالعسر الغالبي ، ومن جملة ذلك تمسّكهم بلزوم العسر والحرج في نفي وجوب العمل بالاحتياط عند تتميم دليل الانسداد المنتج لحجّية الظنّ ، وتمسّكهم به أيضا لنفي وجوب الاجتناب عن الشبهة الغير المحصورة مع أنّه في كلّ من المقامين إنّما يلزم في غالب الموارد في حقّ غالب الأشخاص ، ولا يلزم في بعض الوقائع بالنسبة إلى غالب الأشخاص ولا في غالب الوقائع بالقياس إلى بعض الأشخاص ، ولا في البعض بالقياس إلى البعض ، وكذلك ما قد يوجد في كلامهم من استنادهم إلى القاعدة في مسألة حلّية جوائز الظلمة ومسألة طهارة الحديد وطهارة المخالفين ومشروعيّة القصر في صلاة المسافر ، إلى غير ذلك ممّا يقف عليه الخبير البصير ، فيدخل في الوهم بملاحظة هذه الموارد إجماعهم على كون المعتبر في نفي العسر والحرج هو العسر النوعي لا الشخصي فينهض ذلك مزاحما لظاهر الآيات.

ولكن يزيّفه : منع كون المنساق من كلماتهم في الموارد المذكورة ونظائرها إجماعهم على ما ذكر ، لجواز كون نفي الحكم في الموارد المذكورة على وجه الاطّراد والسلب الكلّي

ص: 477

ثابتا بالإجماع أو النصّ أو دليل آخر وكون استنادهم إلى القاعدة من باب تأييد الدليل لمجرد اتّفاق موافقة ذلك الدليل لها ولو في الجملة من دون [ أن يكون ] النفي مستفادا من نفس القاعدة على وجه التأسيس ، كما يتّفق نظيره كثيرا بل على وجه الشيوع في الموارد الاخر حيث يثبتون أصل الحكم بالنصّ أو الإجماع. ثمّ يؤيّدونه بأصل أو قاعدة.

ويحتمل أيضا كون استنادهم إلى القاعدة المذكورة بعد الفراغ عن إثبات نفي الحكم على الوجه الكلّي من باب بيان النكتة بعد الوقوع وإبداء الحكمة ولو احتمالا بعد الثبوت ، فالأقوى حينئذ في تحقيق القاعدة هو العسر الشخصي لا غير.

وعليه فأحكام الشرع بالقياس إلى العسر الغالبي والعسر النادري على قسمين :

أحدهما : ما يؤدّي إلى العسر والحرج في بعض الموارد ولو بندرة.

وثانيهما : ما يؤدّي إليهما في أكثر الموارد وهما متشاركان في وجوب الاقتصار في رفع الحكم على صورة تحقّق العسر ولا يجوز التخطّي عنها إلى غيرها ممّا لا يتحقّق فيه عسر أصلا.

فاتّجه أنّ الأقوى في مسألة الأعلميّة هو الاعتبار ووجوب تقليد الأعلم ما لم يؤدّي إلى العسر والحرج في مسألة تشخيص الأعلم ولا في مسألة الرجوع إليه بعد معرفة شخصه.

وأمّا التكلّم في صغرى ذلك فالّذي ينبغي الإذعان به على وجه القطع هو لزوم العسر في الجملة وإنكاره مكابرة لا ينبغي الإصغاء إليها.

وأمّا كونه عسرا نادريّا أو أكثريّا أو غالبيّا فلا يهمّنا النظر في تحقيقه ، بل ولا يجدينا نفعا بعد نفي اعتبار العسر الأغلبي والتزام العسر الشخصي.

ختم المسألة برسم امور مهمّة :

اشارة

وينبغي ختم المسألة برسم امور مهمّة :

الأمر الأوّل : الشكّ في اختلاف المجتهدين مع إحراز التفاضل بينهما

اشارة

الأمر الأوّل

قد ظهر من تضاعيف المسألة أنّ تقليد الأعلم إنّما يجب عند اختلاف المجتهدين في الرأي وتفاوتهما في الفضل ، فإن علم بالاختلاف والتفاضل في محلّ الابتلاء تفصيلا فلا إشكال في تعيّن الرجوع إلى الأفضل حينئذ ، وإن شكّ في أحد الوصفين فإمّا أن يكون هو الاختلاف مع إحراز التفاضل أو التفاضل مع إحراز الاختلاف فالكلام في مقامين :

المقام الأوّل : فيما لو شكّ في الاختلاف فإمّا أن يكون مع العلم الإجمالي به أو لا؟

وعلى الأوّل فإمّا أن يكون ذلك العلم الإجمالي في محصور أو في غير محصور.

ص: 478

وعلى الأوّل فإمّا أن يكون في محلّ الابتلاء أو في غير محلّ الابتلاء كما لو كان في مسائل الحيض أو الحجّ أو الجهاد أو غير ذلك ممّا لا تعلّق له بالمكلّف.

وعلى الأوّل فإمّا أن يكون فتاوى المفضول على طبق الاحتياط - كأن أفتى بالوجوب أو الحرمة أو النجاسة والأفضل أفتى بما يضادّها - أو يكون بالعكس فالصور خمس :

الصورة الاولى : وهو الشكّ الغير المجامع للعلم الإجمالي ، فقد يقال فيها وفي الثانية والثالثة وهما المجامع له في غير محصور أو في محصور لم يكن محلاّ للابتلاء بأنّه لا يتعيّن عليه الرجوع إلى الأعلم ولا يجب عليه الفحص عن الاختلاف ، بل يجوز له الأخذ من غير الأعلم بلا فحص للأصل وعدم الدليل على وجوب الفحص ، وأصالة عدم المانع نظرا إلى أنّ الاختلاف حيثما تحقّق فهو مانع من الأخذ من غير الأعلم والأصل في محلّ الشكّ عدمه ، والسيرة القطعيّة بين المقلّدين بل سيرة الموجودين في أعصار الأئمّة عليهم السلام المأمورين بالأخذ من رجال معلومين من فضلاء أصحابهم كزكريّا بن آدم ، ويونس بن عبد الرحمن ، ومحمّد بن مسلم ، وابن أبي يعفور وأضرابهم ، لما علم من سيرتهم كونهم إنّما يرجعون إليهم من دون فحص مع العلم العادي باختلافهم في الفضل.

وفيه : بالنسبة إلى الصورتين الاوليين نظر بل منع ، بل الوجه فيهما تعيّن الرجوع إلى الأعلم لعين ما دلّ على اعتبار الأعلميّة ووجوب الرجوع إلى الأعلم وهو قاعدة الاشتغال ، لوضوح أنّ الأخذ منه على كلّ تقديري الخلاف والوفاق في المسائل يوجب اليقين بالخروج عن عهدة الحكم الظاهري ، لأنّه بحسب الواقع إمّا معيّن أو أحد فردي الواجب المخيّر فيه ، بخلاف الأخذ من غيره لاحتمال الخلاف المانع من الأخذ منه ، والتمسّك بأصالة عدم المانع كالتمسّك بالسيرة مخدوش.

أمّا الثاني : فيظهر وجهه بملاحظة ما مرّ في دفع السيرة المتمسّك بها لنفي اعتبار الأعلميّة رأسا.

وأمّا الأوّل : فلامتناع الأصل في مورد الشكّ في الحادث ، لعدم رجوع الشكّ في الاختلاف في مفروض المسألة إلى حدوث الخلاف بين المجتهدين ، بل إلى الحادث المردّد بين كونه الخلاف أو الوفاق في المسائل ، فإنّ الاجتهاد واستنباط الأحكام الناشئ عن الملكة النفسانيّة قد حدث من المجتهدين معا إلاّ أنّه بحسب الخارج قد يحصل على وجه الخلاف وقد يحصل على وجه الوفاق فواحد من الوصفين قد حدث يقينا والشكّ إنّما هو في الحادث

ص: 479

وهو ممّا لا يمكن تعيينه بالأصل ، إمّا لعدم جريانه رأسا كما هو المحقّق ، أو لكونه معارضا بمثله إن صحّحنا جريانه.

نعم ربّما يدخل في الوهم كون الشكّ المجامع للعلم الإجمالي في غير محصور - كما هو عنوان الصورة الثانية - من باب الشبهة الغير المحصورة المجمع على عدم حجّية العلم الإجمالي فيها ، الباعث على عدم وجوب الاجتناب مطلقا لعدم تنجّز الخطاب بالواقع فيجري فيه أيضا ذلك الحكم الّذي هو أصل في كلّ شبهة غير محصورة ، واللازم من ذلك سقوط احتمال وجوب التعيين بالقياس إلى الأخذ من الأعلم.

ولكن يزيّفه : أنّ الوجه في عدم تأثير العلم الإجمالي في الشبهة الغير المحصورة في تنجّز التكليف بالواقع في الشبهة الغير المحصورة - على ما بيّنّاه في محلّه - هو انتفاء شرط تأثيره الّذي هو شرط حجّيته ، وهو أحد الأمرين من التمكّن من الامتثال بطريقة الاحتياط ، أو التمكّن من العلم التفصيلي الّذي هو أيضا يرجع إلى التمكّن من الامتثال في الشبهة الغير المحصورة ، بخلاف ما نحن فيه لتحقّق شرط التأثير فيه وهو التمكّن من الامتثال بواسطة الاحتياط الّذي يحصل في مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير بالأخذ بمحتمل التعيين ، لكونه مبرئا للذمّة ومخرجا عن العهدة يقينا على كلّ التقديرين حسبما بيّنّاه ، فالوجه في الصورتين أحد الأمرين من الفحص إحرازا للموافقة الّذي هو مناط التخيير أو الرجوع إلى الأعلم لا غير ، وكذلك الحكم في الصورة الخامسة وهو الشكّ المجامع للعلم الإجمالي في محصور هو من محلّ الابتلاء مع مطابقة فتاويه الاحتياط فلا وجه للتأمّل في حكمه.

نعم ينبغي القطع بالتخيير وجواز الأخذ من غير الأعلم بلا فصل في الصورة الثالثة والرابعة.

أمّا الاولى : فلفرض انتفاء الخلاف في محلّ الابتلاء الّذي هو محلّ التقليد لا غير ، فلا مانع من الرجوع إلى غير الأعلم.

وأمّا الثانية فلأنّ الاختلاف المعلوم بالإجمال في محلّ الابتلاء هنا مع مطابقة فتاوى غير الأعلم للاحتياط لا يصلح مانعا من الرجوع إلى غير الأعلم مطلقا إلاّ باعتبار لزومه المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي.

ويدفعه : أنّ مخالفة العلم الإجمالي - على ما قرّر في محلّه - إنّما يقبح عقلا إذا كانت عمليّة وهي هنا التزاميّة ولا قبح فيها ، وذلك لأنّ الالتزام بالوجوب أو الحرمة أو النجاسة

ص: 480

حسبما أفتى به غير الأعلم على تقدير الرجوع إليه يستلزم دوام اختيار الفعل ودوام اختيار الترك أو الاجتناب وهو لا ينافي الاستحباب وعدم الوجوب والإباحة والكراهة والطهارة حسبما أفتى به الأعلم عملا ، لأنّ دوام اختيار الفعل أو الترك أو الاجتناب لا ينافي عدم وجوب غير الواجب وإباحة المباح وكراهة المكروه وطهارة الطاهر كما هو واضح.

ثمّ بعد البناء على التخيير في هاتين الصورتين فله أن يأخذ بفتاوى الأعلم على وجه الاستناد إليه ، وأن يأخذ بفتاوى غير الأعلم على وجه الاستناد إليه ، وأن يأخذ بالحكم المفتى به من دون استناد إلى الأعلم ولا إلى غير الأعلم ، لأنّ الاستناد إلى المفتي بعد الأخذ بفتواه لا مدخليّة له في صحّة التقليد وجودا وعدما إجماعا ، ويدلّ عليه أيضا فحوى ما دلّ على صحّة أعمال الجاهل عند مطابقتها فتوى المجتهد الّذي يجب عليه الرجوع إليه حين الالتفات والتفطّن ، هذا.

الشكّ في تفاضل أحد المجتهدين على الآخر بالأعلميّة

المقام الثاني : فيما لو شكّ في التفاضل إمّا باعتبار الشكّ في الحادث بعد العلم الإجمالي بحدوث الأعلميّة الّتي هي مزيّة في أحد المجتهدين مع الجهل بمحلّها ، أو باعتبار الشكّ في الحدوث ، فهاهنا أيضا مرحلتان :

المرحلة الاولى : فيما علم كون أحد المجتهدين أعلم ولم يعلم أيّهما هو؟ ولا إشكال بل الظاهر أنّه لا خلاف عند القائلين بالمختار في وجوب الفحص لتشخيص الأعلم مقدّمة للرجوع إليه ، وإذا فحص ففحصه إمّا أن لا يؤدّيه إلى العلم ولا الظنّ به ، أو يؤدّيه إلى العلم به ، أو الظنّ به بالعثور على أمارة ظنّية لم يقم دليل على اعتبارها بالخصوص.

ففي الصورة الاولى تخيّر في الرجوع إليهما ، لاستقلال العقل بالحكم بالتخيير هنا كما في صورة التساوي ، حذرا عن التكليف بما لا يطاق والترجيح من غير مرجّح ، ولا يمنعه من الحكم به احتمال مرجعيّة الاحتياط ، لسقوط احتمال وجوب العمل به ابتداء بتعذّره أو تعسّره أو قيام الإجماع عليه ، كيف ولو لا سدّ باب الاحتياط - على ما علم من تقرير دليل الانسداد - لم ينفتح باب مشروعيّة التقليد للعامي ، كما أنّه لو لا سدّ بابه لم ينفتح باب العمل بالظنّ الاجتهادي للمجتهد ، فبعد سقوط اعتبار الاحتياط لا يبقى عند العقل في محلّ البحث إلاّ احتمالا التعيين أو التخيير ، والأوّل باطل بما عرفت فتعيّن الثاني.

وفي الصورة الثانية يتعيّن الرجوع إلى معلوم الأعلميّة ، ووجهه واضح.

وأمّا الصورة الثالثة فالوجه فيها تعيّن الرجوع إلى مظنون الأعلميّة لعين ما دلّ على

ص: 481

وجوب تقليد الأعلم أعني أصالة الاشتغال ، ضرورة أنّ الأخذ بفتواه يوجب يقين الخروج من عهدة الحكم الظاهري وهو وجوب الرجوع إلى المجتهد في امتثال أحكام اللّه المعلومة بالإجمال ، ومرجعه إلى كونه مبرئ يقينا للذمّة بخلاف الأخذ بفتوى موهوم الأعلميّة.

لا يقال : إنّ هذا إنّما يتمّ فيما لو دار الأمر بين التعيين والتخيير وهو هنا محلّ منع ، بل الواجب على التعيين - وهو تقليد الأعلم الواقعي - مشتبه ومردّد بين مظنون الأعلميّة وموهومها ولا مجرى معه لقاعدة الاشتغال.

لأنّا نقول أوّلا : قد ذكرنا سابقا أنّ الأمارتين المتعارضتين إذا اشتمل إحداهما على ما يحتمل كونه مرجّحا في نظر الشارع فلا يحكم العقل فيه بالتخيير بل بالتعيين من جهة قاعدة الاشتغال.

وثانيا : أنّ الأمر هاهنا أيضا دائر بين التعيين والتخيير ، بتقريب : أنّه لا يدرى أنّ المظنون هل هو كالمشكوك؟ بناء على أنّ الظنّ المفروض فيه كالشكّ في عدم الاعتبار عند الشارع فيلحقه حكمه من التخيير ، أو أنّه كالمعلوم بناء على أنّ الظنّ هنا كالعلم فيلحقه حكمه من التعيين؟ وهذا هو معنى دوران الأمر فيه بين التعيين والتخيير.

المرحلة الثانية : فيما شكّ في أصل الأعلميّة من دون علم إجمالي ، وحيث إنّها أمر وجودي يشكّ في حدوثه والأصل ينفيه فالمتّجه هاهنا جواز تقليد كلّ من المجتهدين بعد إعمال أصالة عدم الأعلميّة ، لأنّه إذا نفى احتمال الأعلميّة عن كلّ من المجتهدين يترتّب عليه حكم التساوي وهو التخيير ، ولا يزاحمه أصالة الاشتغال هاهنا لورود الأصل الموضوعي عليها ، ولا يعارض بأصالة عدم التساوي إذ ليس الشكّ في أنّ أحدهما بعد ما علم نقصه بالقياس إلى الآخر هل بلغ صاحبه في الكمال أو لا؟ ليحكم بعدمه بأصالة عدم التساوي ، بل الكلام في حصول مزيّة لأحد المجتهدين بعد حصول أصل الاجتهاد الّذي هو جهة مشتركة بينهما.

ولا ريب أنّ الأصل في نحوه يقتضي العدم ، لا بمعنى أنّه يثبت به التساوي ليخدشه بطلان الاصول المثبتة ، بل بمعنى أنّه يترتّب عليه آثار عدم الأعلميّة وأحكامه الّتي منها التخيير ، هذا.

ولكن قد يستشكل الأمر بملاحظة أنّ قضيّة ما دلّ على وجوب تقليد الأعلم وجوب الأخذ بما هو أقرب إلى الواقع والأصل لا يفيد الأقربيّة الواقعيّة ، ونظيره أنّهم لا يجيزون

ص: 482

العمل بخبر مجهول الحال تمسّكا بأصالة عدم الفسق ، لمكان التعليل الوارد في آية النبأ المقتضي لاشتراط العمل بخبر الواحد بانتفاء الفسق في نفس الأمر والأصل لا يفيده فلابدّ من العلم بالعدالة ، وهاهنا أيضا لابدّ من العلم بالأقربيّة الواقعيّة إلى الواقع الّذي لا يكفي فيه الأصل ، فلابدّ من الفحص إحرازا للأعلميّة.

ويمكن الذبّ عنه : بأنّ الدليل إنّما دلّ على وجوب تقليد الأعلم لأنّ فتوى الأعلم أقرب إلى الواقع ، كما أنّ دليل مشروعيّة التقليد للعامي دلّ على وجوبه لأنّ فتوى المجتهد أقرب إلى الواقع في حقّ العامي ، وهذه أقربيّة نوعيّة يتساوى فيها جميع أفراد النوع ، والاولى أقربيّة في أحد أفراد النوع زائدة على الأقربيّة المشتركة بينه وبين سائر الأفراد وهي منوطة بالأعلميّة ، فإذا نفى احتمال الأعلميّة بالأصل انتفت الأقربيّة الشخصيّة وبقيت الأقربيّة النوعيّة على اقتضائها لجواز الأخذ بفتوى كلّ على وجه التخيير.

وأمّا توهّم المناقشة في الاعتماد على الأصل المذكور بأنّه إنّما يقصد به إثبات التخيير ابتداء من غير فحص ، وهذا كيف يجامع ما هم عليه من عدم جواز العمل بالأصل قبل الفحص؟

فيدفعه : اختصاص ذلك بالأحكام والأعلميّة من الموضوعات وعدم وجوب الفحص بالأصل فيها إجماعي.

ولا يشكل الحال أيضا في العمل به من جهة أنّ التخيير حكم عقلي والمستصحب إذا كان من الموضوعات لا يترتّب عليه الأحكام العقليّة والعاديّة بل يترتّب عليه الأحكام الشرعيّة الّتي ليس منها التخيير المذكور ، لأنّ الأعلميّة - على ما بيّنّاه مرارا - مانعة من حكم العقل بالتخيير ، ويكفي في حكمه به عدم المانع وإن احرز بالأصل ، والمقصود من التمسّك بالأصل إحراز عدم المانع ليحكم فيه العقل بالتخيير لا لانسحاب حكمه السابق.

والسرّ فيه أنّ عدم المانع في موضوع حكم العقل قد يكون شرعيّا كما فيما نحن فيه.

الأمر الثاني : في بيان مفهوم « الأعلم »

الأمر الثاني

أنّ المراد بالأعلم في كلمات الأصحاب وموضوع المسألة هل هو الأقوى ملكة لاستنباط المسائل من المبادئ ، أو الأكثر استنباطا لها ، أو الأكثر علما وحفظا لها على معنى كون معلوماته ومحفوظاته أكثر؟ احتمالات ، منشأها كون الأعلم وصفا يلحق تارة بالمجتهد باعتبار الفعل وهو المستنبط للأحكام ، أو باعتبار الملكة وهو صاحب ملكة الاستنباط ،

ص: 483

واخرى بالفقيه حالا وهو العالم بالأحكام عن أدلّتها أو ملكة وهو صاحب ملكة العلم بها.

قال السيّد قدس سره في المفاتيح : « هل المراد بالأعلم الأكثر حفظا في المسائل ، أو الأشدّ قوّة لاستخراجها ، أو الأكثر ترجيحا لها ، فيه إشكال ولم أجد مصرّحا بشيء ممّا ذكر.

والتحقيق يقتضي الرجوع هنا إلى العرف فكلّ من يطلق عليه عرفا أنّه أعلم يجب الرجوع إليه إن قلنا بوجوب تقليد الأعلم » انتهى ، وفيه ما فيه.

وتحقيق المقام : أنّ المعنيين الأخيرين ممّا لا ينبغي بل لا يصحّ تنزيل موضوع المسألة على أحدهما ، لأنّ مناط وجوب تقليده - على ما بيّنّاه - إنّما هو الأقربيّة إلى الواقع ، على معنى كون فتوى الأعلم نوعا أقرب إلى الواقع ، فلابدّ وأن يحمل الأعلم على ما يلازم الأقربيّة وليس إلاّ المعنى الأوّل ، إذ لا مدخليّة لكثرة الاستنباطات وقلّتها ولا لكثرة المحفوظات وقلّتها في الأقربيّة وعدمها ، بأن يكون فتوى كلّ من كثر استنباطه أو محفوظاته أقرب إلى الواقع وفتوى كلّ من قلّ استنباطه أو محفوظاته أبعد عن الواقع ، بل قد ينعكس الأمر.

نعم كثرة الاستنباط قد تصير سببا لازدياد الملكة شيئا فشيئا ، غير أنّها قد تصير أيضا سببا لانتقاصه من حيث إنّها لا تفارق غالبا مسارعة النظر وقلّة التأمّل وهما ممّا يفضي إلى أن يتناقص الملكة شيئا فشيئا إلى حيث ترتفع بالكلّية.

وإنّما الملازم للأقربيّة هو أقوائيّة الملكة الّتي من الكيفيّات النفسانيّة القابلة للتفاضل بالشدّة والضعف ، وعلامتها صحّة وصف صاحبها في الفارسية ب- « استادتر » في صنعة الاستنباط واستخراج الأحكام من مداركها وفهم الأدلّة بأنواع الدلالات ، كما يقال في وصف البنّاء أو النجّار أو الصائغ أو غيره من أرباب الصناعات بالأعلميّة إنّ « فلان كس استادتر است » يريدون به كونه أقوى ملكة في صنعة البناء والنجارة والصناعة ، هذا مضافا إلى أنّه الّذي يساعد عليه أو يناسبه بناء صيغة التفضيل باعتبار وضعها المادّي والهيئي ، فإنّها بالوضع تفيد التفضيل وهو زيادة اتّصاف الذات بالمبدأ حسبما يراد منه عند الإطلاق فيما كان قابلا للتفاضل ، وهو تفاوت مّا بين فردي المبدأ الحاصل في المفضّل والمفضّل عليه بالشدّة والضعف أو الكثرة والقلّة ، بأن يكون حصوله في أحدهما أشدّ أو أكثر منه في الآخر.

ولا ريب أنّ هذا الضابط يأبى كون المراد به أكثر استنباطا ، لعدم كون الاستنباط ممّا يراد من العلم الّذي هو مبدأ الأعلم عند الإطلاق ، بخلاف ملكة الاستنباط أو ملكة العلم بالأحكام عن أدلّتها ، فإنّ إطلاق « العلم » عليها و « العالم » على صاحبها في العرف عموما

ص: 484

وخصوصا شائع غاية الشيوع حتّى قيل ببلوغه حدّ الحقيقة.

وأمّا « العلم » بمعنى الإدراك الفعلي وإن كان بناء « أفعل » منه بإرادة أكثريّة حصول المبدأ في المفضّل لا يأباه الضابط المذكور ، غير أنّ الأنسب بملاحظة العرف والانفهام العرفي في الوصف بالأعلم أو الأفضل في سائر الصناعات بالقياس إلى ما يعبّر عنه ب- « استادتر » هو اعتبار بنائه من العلم بمعنى الملكة لا غير ، فيراد من الأعلم في موضوع المسألة الأقوى ملكة للاستنباط أو العلم بالأحكام لا غير.

ويشهد له أيضا ظاهر الإطلاق فيه أو في مرادفه الوارد في الأخبار ، ومنه إطلاق « الأفقه » في مقبولة عمر بن حنظة ، وفي قوله عليه السلام : « أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا » وقوله عليه السلام : « ربّ حامل فقه إلى آخر هو أفقه منه » لظهوره في إرادة من أجاد في فهم الأخبار والانتقال إلى مقاصدهم من كلامهم واستخراج الأحكام من مداركها بواسطة كمال المعرفة بوجوه الدلالات من الواضحة والخفيّة والمطابقة والالتزام ، والتفرقة بين جميع أنواع الالتزامات واللوازم عرفيّة وعقليّة وشرعيّة وغيرها ، مع أنّ المراد بالأعلميّة ما هو كذلك في خصوص الفقه وهو عبارة عن ملكة العلم للأحكام على ما قرّرناه في تعريفه ، فالأفقه والأعلم في الفقه بمعنى.

وأمّا احتمال كونه تفضيلا - بمعنى زيادة الاتّصاف من الشدّة في مقابلة الضعف بالنظر إلى الإدراك الفعلي الملحوظ تارة مع الحكم واخرى بدونه ، مع بلوغه في الأوّل حدّ الجزم وبدونه ، مع بلوغه في الأوّل أيضا مرتبة اليقين وبدونه ، ليكون صاحب الإدراك مع الحكم أو هو مع بلوغه إلى حدّ الجزم أو هو مع بلوغه إلى مرتبة اليقين أعلم ، وصاحب الادراك بدون الحكم أو مع عدم بلوغه إلى حدّ الجزم أو عدم بلوغه إلى مرتبة اليقين غير أعلم - فممّا ينبغي القطع بفساده ، لأنّ ذلك ليس من التفاضل بمعنى التفاوت في الشدّة والضعف ، بل هو من الاختلاف الحاصل بتلاحق الفصول المنوّعة على جنس الإدراك ، مع أنّه لا مدخليّة لتأكّد الاعتقاد بالجزم أو الثبات في أقربيّته إلى الواقع في نظر غير المعتقد كالمقلّد ونحوه.

الأمر الثالث : في ما يتوقّف عليه « الأعلميّة »

الأمر الثالث

بعدما عرفت أنّ الأعلميّة في عنوان وجوب تقليد الأعلم عبارة عن أقوائيّة ملكة الاستنباط ، فاعلم أنّ لتحقّق قوّة ملكة الاستنباط وازديادها إلى أن تبلغ حدّ الأقوائيّة

ص: 485

أسبابا عمدتها المهارة والأعلميّة في العلوم الّتي هي من مبادئ الفقه ومباني الاجتهاد ، كعلم اصول الفقه والعلوم العربيّة من اللغة والنحو والصرف وعلمي الرجال والميزان ، فكلّما يتكامل الإنسان في هذه العلوم ولا سيّما اصول الفقه الّذي عليه مدار استنباط كلّيات الأحكام وجزئيّاتها يتزايد غالبا قوّة الاستنباط.

فالأعلميّة في هذه العلوم لها مدخليّة غالبا في الأعلميّة في الفقه بخلاف العلوم الّتي ليست من مبادئ الفقه وشرائط الاجتهاد كالطبّ والنجوم والهيئة والهندسة ، فإنّ الأعلميّة فيها لا مدخليّة لها في ازدياد قوّة الاستنباط والأعلميّة.

نعم هاهنا امور اخر قد يكون لها دخل في الأعلميّة في الفقه - كما نبّه عليه بعض الفضلاء - كقوّة الحفظ وكثرة الضبط وجودة الذهن وشدّة الذكاوة والفطانة وكثرة التأمّل والتدبّر وكثرة الاطّلاع والممارسة وسعة الباع في الفكر والتصرّف واعتدال السليقة واستقامة الذوق والمبالغة في التدقيق والتحقيق والتعميق وأقدميّة الاشتغال ومزيد الاستيناس.

ثمّ إنّ أحد المجتهدين إن كان أعلم في الفقه وفي جميع مبادئه أو في بعضها مع التساوي في الباقي فلا إشكال ، بل هذا أخصّ أفراد الأعلم الّذي يجب تقليده بعينه وأكملها ، كما أنّه لو كان أعلم في الفقه خاصّة مع التساوي في المبادئ كلّها لا إشكال أيضا في وجوب تقليده ، وإن كان أعلم في العلوم الاخر غير المبادئ مع التساوي في الفقه ومبادئه فلا إشكال في التخيير وعدم تأثير لهذه الأعلميّة في منع الرجوع إلى غير الأعلم.

والسرّ فيه عدم تأثير لهذه الأعلميّة في أقربيّة فتواه إلى الواقع الّتي هي مناط وجوب تقليد الأعلم.

وأمّا إذا كان أعلم في المبادئ جميعها أو بعضها مع التساوي في الفقه فهذا وإن بعد تحقّقه إلاّ أنّا نتكلّم في حكمه على فرض التحقّق ، فهل يجب تقليد الأعلم هنا كما لو كان أعلم في الفقه ، أو يتخيّر بينهما كما في الأعلم في غير المبادئ مع التساوي في الفقه؟

احتمالان بل قولان ، أو أقوال ، أقواها الثاني لانتفاء ما هو مناط وجوب تقليد الأعلم بالفرض وهو أقربيّة الفتوى إلى الواقع ، فيحكم العقل فيه بالتخيير لفرض انتفاء ما يمنعه من ذلك الحكم ، خلافا لكاشف اللثام وصاحب الإشارات لمصيرهما - على ما حكي - إلى وجوب الأخذ بقول الأعلم ، ووجهه غير واضح ، بل هو مع فرض المساواة في ملكة الاستنباط ممّا لا وجه له.

ص: 486

وقد يفصّل كما في المفاتيح بما ملخّصه : « أنّ مستند وجوب تقليد الأعلم إن كان لزوم الأخذ بأقوى الظنّين فالقول بلزوم الأخذ بقول الأعلم هنا لا يخلو عن قوّة ، لإمكان أن يقال : إنّ الظنّ الحاصل من قول الأعلم هنا أقوى من الظنّ الحاصل من غيره ، وإن كان قاعدة الاحتياط ولزوم تحصيل البراءة اليقينيّة فالقول المذكور أيضا لا يخلو عن قوّة ، وإن كان الإجماع المنقول والشهرة العظيمة فالمصير إلى القول المذكور مشكل بل المصير إلى التخيير لا يخلو عن قوّة ، لعموم أدلّة مشروعيّة التقليد المقتضي للتخيير في صورة تعدّد المجتهدين.

غاية الأمر أنّه خرج من هذا العموم صورة وجود الأعلم بالإجماع المنقول والشهرة العظيمة وهما لا يتناولان الأعلم في غير الفقه لانصراف معقدهما إلى الأعلم في الفقه خاصّة ».

وفيه ما لا يخفى ، لمنع إناطة التقليد بحصول الظنّ للمقلّد من قول المجتهد ليلاحظ فيه الأقوى وغير الأقوى ، ولو سلّم فنمنع كون الظنّ من الأعلم في غير الفقه أقوى مع ملاحظة المساواة في الفقه وملكة الاستنباط ، وقاعدة الاحتياط مع فرض المساواة الباعثة للعقل على الحكم بالتخيير غير جارية ، لعدم دوران الأمر حينئذ بين التعيين والتخيير.

ثمّ إذا وقع المعارضة بين الأعلميّة في بعض مبادئ الفقه مع فرض تأثيرها في قوّة الاستنباط وازديادها والأعلميّة في الآخر فالأعلميّة في الاصول (1) مقدّمة على الأعلميّة فيما عداه ، كما أنّ الأعلميّة في الرجال مقدّمة على الأعلميّة في العربيّة والميزان ، والأعلميّة في العربيّة مقدّمة على الأعلميّة في الميزان ، والضابط تقديم ما هو أكثر دخلا في قوّة الاستنباط على أقلّة ، فليتدبّر.

الأمر الرابع : في صور الأورعيّة وحكمها

الأمر الرابع

إذا كان أحد المجتهدين أورع فله صور :

الاولى : أن يكون مع كونه أورع أعلم ، وهذا ممّا لا كلام فيه من حيث وجوب الرجوع إليه بل بطريق أولى ، لأنّ زيادة العلم المقتضية لتعيّن تقليده تتأكّد بزيادة الورع.

الثانية : أن يكون الأورع مساويا للآخر في العلم والفضل ، فعن المحقّق في المعارج والعلاّمة في النهاية والتهذيب والشهيدين في الذكرى والدروس والمقاصد العليّة والمسالك والتمهيد والمحقّق الثاني في الجعفريّة والشارح العميدي والمازندراني في المنية وشرح الزبدة تعيّن الرجوع إلى الأورع.

ص: 487


1- أي : علم اصول الفقه.

وربّما احتمل التخيير كما عن النهاية وشرح الزبدة ، لأنّ مناط التقليد وهو العلم والورع موجود فيهما ولا ترجيح لأحدهما فيما يتعلّق بالاجتهاد الّذي هو العلم.

احتجّوا بوجوه منها : أنّ البراءة اليقينيّة من التكليف بالتقليد الثابت يقينا إنّما تحصل بالرجوع إلى الأورع دون غيره.

ومنها : أنّ قوّة الظنّ في جانب الأورع دون غيره ، والعمل بأقوى الظنّين واجب.

ومنها : حصول الرجحان المقتضي لقبح ترجيح المرجوح عليه ، لوضوح أنّ زيادة الورع مزيّة فيه موجبة لرجحانه.

ومنها : ما في مقبولة عمر بن حنظلة ورواية داود بن حصين من الأمر بالرجوع إلى أورعهما ، وما في خبر موسى بن اكيل من الأمر بتقديم أعدلهما ، بناء على أنّ الأعدل والأورع هنا بمعنى.

ولا خفاء في ضعف ما عدا الأوّل من الوجوه المذكورة.

وتحقيق المقام بحسب بادئ النظر : أنّ زيادة الورع إذا لم يكن لها تأثير في الملكة وقوّة الاستنباط الّتي عليها مدار التقليد بعد حصول أصل العدالة ولم توجب الأعلميّة بمعنى أقوائيّة ملكة الاستنباط فلم يعقل

تأثيره في الحكم المتعلّق بالتقليد ، وكونها مزيّة في الأورع لا يقضي برجحانه من حيث مقام الإفتاء وإن كان راجحا في حدّ ذاته ، وذلك كما لو كان المجتهد هاشميّا.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ زيادة الورع تدعو صاحبها إلى مزيد الاهتمام في استفراغ الوسع والنظر والتأمّل أزيد من القدر المتعارف المكتفى به عند أهل الاجتهاد ، ويلزم منه كون فتواه أقرب إلى الواقع بالنظر إلى فتوى غيره وإن لم توجب أقوائيّة الملكة وازدياد القوّة.

غاية الأمر أنّ التقريب إلى الواقع له أسباب منها زيادة الورع الباعثة على مزيد الاهتمام في استفراغ الوسع ، هذا مضافا إلى أنّها في الأورع مزيّة يحتمل كونها مرجّحة في نظر الشارع ، وقد أشرنا سابقا إلى أنّ الأمارتين المتعارضتين إذا اشتمل إحداهما على ما يحتمل كونه مرجّحا في نظر الشارع لا يحكم العقل فيهما بالتخيير ، فيدور الأمر حينئذ بين التعيين والتخيير فيرجع إلى أصالة الاشتغال المقتضية للتعيين ، فالقول بوجوب الرجوع إلى الأورع لا يخلو عن قوّة بل متعيّن.

الثالثة : أن يتعارض الأورعيّة والأعلميّة ففي تعيّن الرجوع إلى الأعلم - كما عن

ص: 488

المعارج والنهاية والتهذيب والذكرى والدروس وشرح الزبدة للمازندراني وربّما عزى إلى جمهور المحقّقين - أو تعيّن الرجوع إلى الأورع لقوّة الظنّ بصدقه في اجتهاده كما عن قوم ، أو التخيير بينهما كما عن طائفة ، أو التوقّف كما عن ظاهر المنية أقوال.

احتجّ أصحاب القول الأوّل : بأنّ القدر الّذي في الأعلم من العدالة والورع يحجزه عن الاقتحام والتهجّم على القبيح ، أعني الإفتاء من غير علم أو التقصير في الاجتهاد ، فيبقى زيادة العلم سالمة عن المعارض.

ونوقش فيه : بأنّ زيادة الورع إن لم يكن لها مدخليّة في تأكّد الظنّ وتقريب الفتوى إلى الواقع وجب الحكم بالتخيير فيما لو تساويا في العلم ، فلم أوجبوا فيه تقليد الأورع ، وإن كان لها مدخليّة في التأكّد والتقريب فلا تكون زيادة العلم سالمة عن المعارض.

أقول : ولا يبعد ترجيح الأعلميّة لأنّها أدخل في التقريب.

وربّما استدلّ أيضا بما في مقبولة عمر بن حنظلة ورواية داود بن الحصين من تأخّر الأورع من الأفقه في الذكر ، بتقريب : ظهور الترتيب الذكري في التقدّم الشرعي وتأخّره ، وفيه نظر من وجوه ، والأوجه ما ذكرناه.

هذا في الأعلم المقطوع أو المظنون بالظنّ الخاصّ ، وأمّا المظنون بالظنّ المطلق ففي تعيّن الرجوع إليه أيضا أو الرجوع إلى الأوّل المقطوع وجهان ، أقربهما الثاني ترجيحا للأقرب الأقوى المقطوع به على الأقرب الأقوى المظنون ، ويقتضيه إطلاقهم بوجوب الرجوع إلى الأورع في صورة عدم معارضة الأعلميّة.

الأمر الخامس : في جواز الترافع إلى المفضول مع وجود الأفضل

الأمر الخامس

هل الترافع كالاستفتاء فلا يجوز الترافع إلى المفضول مع وجود الأفضل ويتعيّن الرجوع إلى الأفضل مطلقا أو يتخيّر في الترافع إليهما فيجوز الرجوع إلى المفضول أيضا مطلقا ، أو يفصّل بين ما لو كانت الواقعة من الشبهات الحكميّة فيجب الترافع إلى الأفضل أو من الشبهات الموضوعيّة فيجوز إلى المفضول أيضا ، أو بين أزمنة الغيبة فالأوّل وزمان الحضور فالثاني؟

وجوه ربّما يسبق إلى الوهم كون مقتضى الأصل الأوّلي هو تعيّن الترافع إلى الأفضل مطلقا ، لأنّ الأصل عدم نفوذ حكم إنسان على غيره إلاّ ما علم خروجه بالدليل ، والقدر المعلوم خروجه مع تعدّد المجتهدين وتفاوتهم في الفضل والمعرفة هو حكم الأفضل وبقي الباقي ومنه حكم المفضول ، مضافا إلى اصول اخر كأصالة عدم سقوط الدعوى بحكم المفضول ،

ص: 489

وأصالة عدم جواز التصرّف في ظاهر الشرع فيما يؤخذ بحكم المفضول ، وأصالة البراءة عن وجوب متابعة حكمه ، وأصالة البراءة عن حرمة نقضه وغير ذلك ممّا يتصوّر في المقام.

ويزيّفه : أنّ هذا إنّما يصحّ لو كان الشبهة في جواز الترافع إلى المفضول من جهة الشكّ في المقتضي وليس كذلك ، بل الشبهة إنّما هي من جهة المانع ، لرجوع الشكّ إلى كون الأفضليّة مانعة من الرجوع إلى المفضول وعدمه ، لوجود مقتضي الرجوع وهو الحجّية الذاتيّة لقول الفقيه الجامع للشرائط في الفتوى والحكم معا لعموم الأدلّة الدالّة عليه من جهة الإطلاق ، ولذا لو فقد الأفضل جاز الرجوع إلى المفضول قولا واحدا لنفس هذا العموم من غير حاجة إلى دليل آخر لارتفاع المانع بالفرض.

وإن كان الأصل ولابدّ من التمسّك به في المسألة فهو ممّا يقتضي التخيير ، لأصالة عدم مانعيّة الأفضليّة على معنى عدم تعرّض الشارع لجعلها مانعة من الرجوع إلى المفضول ، فالمنكر لتعيّن الرجوع إلى الأفضل مستظهر وعلى المدّعي الإثبات ، وأنّى له بذلك؟

وتوهّم الاستدلال هنا بدليل وجوب الاستفتاء من الأفضل حسبما اعتمدنا عليه من قاعدتي الاشتغال والأقربيّة.

يدفعه : منع جريان القاعدتين في مقام الترافع ، أمّا قاعدة الاشتغال فلأنّ جريانها فرع على الاشتغال اليقيني ولا يعقل هنا تكليف إلزامي موجب لاشتغال الذمّة إلاّ وجوب متابعة الحكم وحرمة نقضه ، وهما مشروطان بصدور الحكم فما لم يصدر الحكم لا وجوب ولا حرمة ، والكلام إنّما هو في ابتداء الأمر من الخصومة المفضية إلى الترافع لاستعلام جواز الرجوع إلى المفضول وعدمه لا في نفوذ حكمه بعد صدوره ، وعلى تقدير صدوره منه بعد الترافع إليه يشكّ في وجوب متابعته وحرمة نقضه والأصل براءة الذمّة عنهما ، ولا دافع لهذا الأصل إلاّ أصالة عدم مانعيّة الأفضليّة من العلم به ، فلا مجرى لقاعدة الاشتغال على كلّ تقدير.

وأمّا قاعدة الأقربيّة فلأنّ حكم الحاكم إنّما يؤخذ به تعبّدا ومن باب الموضوعيّة من دون نظر فيه إلى الواقع ليلاحظ معه الأقرب إليه والأبعد عنه.

وكيف كان فالّذي يترجّح في النظر القاصر هو جواز الترافع إلى المفضول مع وجود الأفضل وإمكان الرجوع إليه من غير مشقّة بقول مطلق ، وفاقا لجماعة منهم بعض مشايخنا في الجواهر والفاضل النراقي في المستند ، وقبلهم المحقّق الأردبيلي وقبله المحقّق على ما عزى إليه ، ويظهر اختياره من العلاّمة في التحرير حيث قال : « إذا اتّفق في بلد فقيهان في

ص: 490

حال غيبة الإمام عليه السلام وكلّ منهما له أهليّة الفتوى والحكم كان الخيار للمدّعي في رفعه إلى من شاء منهما ، وكذا لو تعدّدوا ».

ثمّ قال : « ولو رضيا بالفقيهين واختلف الفقيهان نفذ حكم الأعلم الأزهد ، لما رواه داود ابن الحصين عن الصادق عليه السلام في رجلين اتّفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما خلاف فرضيا بالعدلين ، واختلف العدلان بينهما عن قول أيّهما يمضي الحكم؟ قال : « ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما فينفذ حكمه ولا يلتفت إلى الآخر. »

وعن داود بن حنظلة عن الصادق عليه السلام قال : قلت في رجلين اختار كلّ واحد منهما رجلا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما ، فاختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال : « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر » إلى آخر الحديث انتهى.

لنا على ما اخترناه - مضافا إلى الأصل المتقدّم إليه الإشارة - عموم أدلّة نفوذ حكم الفقيه الجامع لشرائط الإفتاء ، ولا سيّما الأخبار المتناولة بإطلاقها للمفضول والأفضل معا ، كقول أبي عبد اللّه عليه السلام في خبر أبي خديجة : « إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى حكّام الجور ، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا ، فاجعلوه بينكم قاضيا ، فإنّي قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه » فإنّ قوله عليه السلام : « رجل منكم » مع غلبة تفاوت الفقهاء والمحدّثين في مرتبة الفضل والمعرفة مطلق في الأفضل والمفضول متناول بإطلاقه - مع ورود الخطاب في مقام بيان المرجع - لهما معا ، وإلاّ لوجب أن يعبّر ب- « أفقه رجل منكم » وقوله عليه السلام أيضا في مقبولة عمر بن حنظلة : « انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فارضوا به حكما ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكما » إلى آخره فإنّ الموصول أيضا مطلق في الأفضل والمفضول ، وإلاّ لوجب أن يقول : « انظروا إلى أفقه من كان منكم ».

ولا ريب أنّ الإطلاق المنساق من الخبرين يفيد التخيير ، ولا ينافيه تعيّن الأخذ بحكم الأفقه المستفاد من قوله عليه السلام : « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما » وكذلك ما في خبر داود بن الحصين من قوله : « ينظر إلى أفقههما وأعلمهما » وكذا قوله في خبر موسى بن اكيل النميري : « ينظر إلى أعدلهما وأفقههما » لتعدّد موضوعي الحكمين الرافع للتنافي بينهما ، لوضوح أنّ التخيير حين إرادة الترافع بين الرجوع إلى الأفضل أو المفضول لا ينافي تعيّن

ص: 491

الأخذ بالحكم الصادر من أفقه الحاكمين بعد الترافع إليهما وصدور الحكم منهما.

والسرّ في هذا التعيين بالقياس إلى ذلك الموضوع المغاير لموضوع التخيير تعارض الحكمين وعدم إمكان التخيير بينهما ، باعتبار أنّ الحكمة المقتضية لشرع الحكم ونصب الحكّام إنّما هو قطع الخصومة ودفع مفسدة التجاذب عمّا بين المتخاصمين ، والتخيير في الصورة المفروضة لا يفيده بل يؤكّد الخصومة ، لمبادرة كلّ واحد من المتخاصمين إلى اختيار ما يوافق مدّعاه من الحكمين ، فلا بدّ من الترجيح بمزيّة مع أحدهما وهي في صورة اختلاف الحاكمين في الفضل أفضليّة الأفضل ، فتعيّن الأخذ بحكمه ليس لأجل مانعيّة الأفضليّة لذاتها من الترافع إلى المفضول ، بل لترجيح حكم الأفضل على حكم المفضول بمزيّة الأفضليّة دفعا للتعارض ، فليتدبّر.

ويمكن استفادة الدلالة على المطلب من المقبولة من جهة اخرى ، وهي : أنّ الراوي فرض أوّلا تحاكم المتخاصمين إلى رجلين من أصحابهما متفاضلين بعد اختيار أحدهما الأفضل ، وثانيا تحاكمهما إلى رجلين متساويين في الفضل والعدالة فأمر الإمام عليه بالرجوع إلى المرجّحات الاخر.

وهذا يدلّ على كونه معتقدا بجواز الترافع إلى المفضول مع وجود الأفضل وعدم تعيّن الترافع إليه ابتداء ، وأمر الإمام عليه السلام بالأخذ بحكم الأفقه تقرير له على معتقده ، وإلاّ لناسب ردعه بالنهي عن اختيار المفضول مع وجود الأفضل.

ثمّ لا فرق في التخيير المقتضي لجواز الترافع إلى المفضول بين كون الواقعة المتخاصم فيها من الشبهات الحكميّة الّتي مدرك الحكم فيها فتوى الحاكم في كلّي المسألة - كما لو كانت من منجّزات المريض المختلف في إخراجها من الأصل أو من الثلث مثلا مع اتّفاقهما في الرأي ، أو اختلافهما فيه كما لو كان رأي الأفضل كون المنجّزات من الأصل ورأي المفضول كونها من الثلث أو بالعكس - أو من الشبهات الموضوعيّة الّتي ميزان الحكم فيها الإقرار أو البيّنة أو اليمين مع عدم الخلاف في شيء من جهات الميزان ، أو معه كالخلاف في ثبوت النكاح مثلا بشاهد ويمين وعدمه ، أو في لزوم اليمين الاستظهاري في الدعوى على الميّت مطلقا أو في العين خاصّة سواء اتّفقا في الرأي أيضا أو اختلفا ، ولا ينافيه ظهور المورد فيما هو من قبيل الشبهات الحكميّة مع الاختلاف في الرأي إمّا للفحوى أو لأنّ العبرة بعموم اللفظ لا خصوص المورد خصوصا مع التعليل المفيد للعموم.

ص: 492

لكن هذا كلّه على تقدير عدم كون القول بوجوب الترافع إلى الأفضل إجماعا كما يوهمه ما في المفاتيح من دعوى ظهور عدم الخلاف فيه ونفي الخلاف المحكيّ عن بعضهم في المستند ، بل عن السيّد في ظاهر الذريعة والمحقّق الثاني في حاشية الشرائع في الجهاد الإجماع عليه ، غير أنّه يوهنه ما عرفت من مصير جماعة إلى الخلاف.

وما عن الأردبيلي من منع الإجماع بعد ما حكى نقله ثمّ قال : « ويشعر بعدم الإجماع كلام الفاضل في نهاية الاصول ».

وما عن المسالك والمفاتيح في عنوان المسألة من أنّ فيه قولين مبنيّين على وجوب تقليد الأعلم وعدمه ، وعن ظاهر المسالك التردّد.

نعم لا نضائق كونه أشهر كما حكى التصريح به عن المسالك أيضا ، ولكنّ الأشهريّة ولا سيّما المحكيّة لا تزاحم إطلاق النصّ بل عمومه.

هذا كلّه بالنسبة إلى أزمنة الغيبة ، وأمّا زمان الحضور ففي المفاتيح : « أنّ ظاهر المعظم أنّه كذلك » أي لا يجوز الترافع إلى المفضول مع وجود الأفضل.

ويظهر من العلاّمة تبعا للشرائع أنّه يجوز الترافع إلى المفضول في زمن الحضور لأنّ خلله ينجبر بنظر الإمام عليه السلام.

وفيه : أنّ التعليل عليل ، لأنّ الانجبار بنظر الإمام إن تمّ فإنّما يتمّ في القريب لا النائي والبعيد عن الإمام ، مع أنّ أصل التكلّم في هذا الفرع ممّا لا يكاد يجدي نفعا بالنسبة إلينا ، إذ ليس علينا استعلام حال زمان الحضور والأمر موكول إلى نظر الإمام عليه السلام.

الأمر السادس : عدم اشتراط الأعلميّة في سائر الولايات العامّة

الأمر السادس

في أنّه هل يثبت للمفضول سائر الولايات العامّة الثابتة للفقيه الجامع لشرائط الإفتاء والقضاء ، كالولاية على أموال الصغار والمجانين والسفهاء والغيّب ، وعلى الممتنع من أداء حقّ واجب ، وعلى المال المجهول المالك ، وعلى مال الإمام من الخمس بل مطلق الأخماس والزكوات على رأي ، وعلى الأوقاف العامّة مع فقد المتولّي الخاصّ ، وعلى الوصايا والأثلاث مع فقد الوصيّ الخاصّ ، وغير ذلك ممّا ذكره الأصحاب في تضاعيف أبواب الفقه ، أو لا؟ بل هي مختصّة بالأفضل على معنى كون أفضليّة الأفضل مانعة من ثبوت هذه الولايات للمفضول.

قال السيّد في المفاتيح : « لم أجد نصّا في هذا الباب لأحد من الأصحاب ، لكن ظاهر

ص: 493

إطلاق كلامهم في بعض المقامات عدم اشتراط ذلك. »

أقول : إطلاق كلامهم في بعض المقامات بل كثير منها كما ذكره إن لم يخدشه كون إطلاق كلامهم في المقامات المذكورة واردا لبيان مرجعيّة الحاكم وهو من له ولاية الحكومة في الامور الّتي لا ولاية لغير الحاكم فيها ، وأمّا كون المراد من الحاكم بالمعنى المذكور مطلق الفقيه فالإطلاق ساكت عنه ، ويمكن التعدّي من ثبوت ولاية القضاء إلى سائر الولايات على المختار بطريق الفحوى.

وربّما علّل الثبوت بأنّ الحكمة الباعثة على جعل هذه الولايات إنّما هي صيانة الأموال والأنفس عن الضياع والتلف والهلاك ، وإيصال الحقوق إلى أربابها ودفع الخلل والفساد عن النظام ، ويكفي في مباشرتها الديانة والأمانة ، وأمّا زيادة العلم أو أقوائيّة ملكة الاستنباط فممّا لا عبرة بها ولا مدخليّة لها في حصول هذا الغرض ، بل لولا الإجماع على عدم جواز مباشرة ذلك مع وجود الفقيه مع إمكان الوصول إليه لأمكن المناقشة في اعتبار أصل العلم ، فيجوز لكلّ مؤمن عدل مباشرة هذه الامور تحصيلا للحكمة المذكورة ، كما يوهمه إطلاق بعض النصوص كصحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع الآتية في قصّة عبد الحميد.

وكيف كان فتحقيق المقام : أنّه لا ينبغي التأمّل في أنّ الأصل الأوّلي عدم ولاية أحد على أحد في نفس ولا مال ، لكون الولاية بمعنى السلطنة على مال الغير ونفسه حكما مخالفا للأصل ، إلاّ أنّه خرج من ذلك الأصل النبيّ والوصيّ بعده بالإجماع بل الضرورة وغيرها من الأدلّة الدالّة على عموم ولايتهما على الأموال والأنفس كتابا وسنّة ، قال اللّه تعالى : ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) و ( ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) و ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) وقال النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم في يوم الغدير : « ألست بأولى بكم من أنفسكم؟ قالوا : بلى ، قال : من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه » وفي رواية أيّوب بن عطيّة عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم : « أنا أولى بكلّ مؤمن من نفسه » إلى غير ذلك ممّا لا حاجة إلى الإطناب بذكره.

ثمّ الأصل بعد خروج النبيّ والوصيّ أيضا عدم ولاية أحد غيرهما على غيره مالا ونفسا ، إلاّ أنّه خرج منه الفقيه الجامع للشرائط بالقياس إلى موارد مخصوصة لثبوت ولايته

ص: 494

العامّة فيها بالإجماع والضرورة والنصّ من الأخبار المأثورة عن أهل العصمة ، ففي النبوي : « العلماء ورثة الأنبياء » وفيه أيضا : « اللّهمّ ارحم خلفائي قيل : يا رسول اللّه ومن خلفاؤك؟ قال : الّذين يأتون بعدي ويرون حديثي وسنّتي » وقوله عليه السلام : « العلماء امناء الرسل » وقوله عليه السلام : « مجاري الامور بيد العلماء باللّه الامناء على حلاله وحرامه » وقوله عليه السلام : « علماء امّتي كأنبياء بني إسرائيل » وقوله عليه السلام في خبر أبي خديجة : « إنّي قد جعلته عليكم قاضيا » وفي مقبولة عمر بن حنظلة : « إنّي قد جعلته عليكم حاكما » وقول الحجّة عجّل اللّه فرجه : « أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة اللّه عليهم » إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

وهذه الأخبار على تقدير إفادتها الولاية العامّة للفقيه عامّة للأفضل والمفضول ولا مخصّص لها ، فتفيد أنّ كلّ ولاية ثابتة للأفضل فهي ثابتة للمفضول نحو ثبوتها للأفضل ، لكنّ الكلام في دلالتها على الولاية.

ويمكن توجيه الدليل : بأنّ توريث الأنبياء لا يراد به توريث المال من درهم أو دينار أو غير هما قطعا ، فليحمل على إرادة توريث ما كان لهم من الولايات العامّة ، والظاهر المتبادر من إطلاق « خليفة الرجل » في متفاهم العرف كونه قائما مقامه نائبا منابه في الامور الّتي يرجع إليه ، ومن إطلاق « أمين الرجل » كونه مؤتمنا من قبله فيما له ولاية التصرّف فيه ، ومن (1) كون مجاري الامور بيد العلماء كون جريان الامور الّتي لا بدّ فيها من وليّ عامّ من قبل الشارع ومضيّها بيد العلماء ، وهذا نصّ في عموم الولاية ، ومن نصب القاضي أو الحاكم وجوب الرجوع إلى المنصوب في جميع الامور الّتي يجب الرجوع فيها إلى الإمام ، فإنّ قول السلطان : « إنّي جعلت فلانا حاكما عليكم ، ينساق منه أنّه يجب عليكم الرجوع إليه في الامور الّتي من شأنها أن ترجعوا إليّ ، ومن « الحوادث الواقعة » (2) جميع الوقائع الّتي يجب الرجوع فيها إلى الإمام لكونه حجّة منصوبة من اللّه تعالى ، وتعليله بكون رواة الحديث حجّة منصوبة من الإمام يفيد كون الحجّية حاصلة لهم من قبل الإمام ، وهو نصّ في كون الولاية في عموم الوقائع مجعولة منه عليه السلام.

فدلالة الروايات المذكورة على عموم الولاية واضحة لا ينبغي المناقشة فيها ، إلاّ دلالة الرواية الاولى لإمكان رميها بالإجمال بعد صرفها عن توريث المال ، لقوّة احتمال أن يراد

ص: 495


1- عطف على قوله : « والظاهر المتبادر » الخ.
2- عطف على قوله : « والظاهر المتبادر » الخ.

توريث العلم لا توريث الولاية ، كما ربّما يرشد إليه رواية أبي البختري عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « إنّ العلماء ورثة الأنبياء ، وذلك أنّ الأنبياء لم يورّثوا درهما ولا دينارا ، وإنّما أورثوا أحاديث من أحاديثهم ، فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظّا وافرا ، فانظر علمكم هذا عمّن تأخذونه ، فإنّ فينا أهل البيت في كلّ خلف عدولا ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين. »

ولو سلّم إرادة توريث الولاية فليس فيه ما يوجب عموم الولاية ، والقدر المتيقّن فيها الولاية على الإفتاء أو ما يعمّه والقضاء ، وعلى كلّ تقدير ففي الأخبار الاخر كفاية في ثبوت عموم الولاية.

ويؤيّده أو يدلّ عليه في الجملة صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع في رجل مات من أصحابنا بغير وصيّة فرفع أمره إلى قاضي الكوفة ، فصيّر عبد الحميد القيّم بماله ، وكان الرجل خلّف ورثة صغارا ومتاعا وجواري ، فباع عبد الحميد المتاع ، فلمّا أراد بيع الجواري ضعف قلبه عن بيعهنّ ، - إذ لم يكن الميّت صيّر إليه وصيّة وكان قيامه فيها بأمر القاضي - لأنّهنّ فروج ، فما ترى في ذلك؟ قال : « إذا كان القيّم مثلك ومثل عبد الحميد فلا بأس » الخبر بناء على كون المراد بالمماثلة المماثلة في الفقاهة الّتي هي أردأ الاحتمالات ، أو في العدالة الّتي هي أخصّ الاحتمالات ، لا في مجرّد التشيّع الّذي هو أعمّ الاحتمالات ، ولا في الوثاقة وملاحظة مصلحة الصغير الّذي هو متوسّط بين سابقيه ، وجه أردئيّة الأوّل قضاؤه بالمفهوم بانتفاء الولاية على مال الصغير عند انتفاء الفقاهة ، وهذا خلاف مقتضى أدلّة ولاية عدول المؤمنين مع فقد الفقيه على ما حقّق في محلّه.

وكيف كان فليس الغرض الأصلي إثبات عموم الولاية بالقياس إلى مواردها ، فإنّ لتحقيق ذلك محلاّ آخر بل إثبات عمومها بالقياس إلى الأفضل والمفضول من الفقهاء.

ولا ريب في ثبوته بالأخبار المذكورة ، لاشتمالها على جملة من صيغ العموم وما بمعناها ، فليتدبّر.

الأمر السابع : في مشروعيّة تقليد غير الأعلم بتقليد الأعلم

الأمر السابع

في أنّه على القول المختار من وجوب تقليد الأعلم يجوز تقليد غير الأعلم بتقليد الأعلم إذا رجع المقلّد إلى الأعلم فأفتاه بجواز تقليد غير الأعلم بلا إشكال ، خلافا لبعض من توهّم أنّه لا له يجوز الإفتاء بذلك ولا للمقلّد الأخذ بذلك ، لكونه مناقضا لما دعاه من

ص: 496

الأدلّة إلى الرجوع إلى الأعلم ، فإنّه إنّما دعاه إليه لكون قول الأعلم أقرب إلى الواقع والإفتاء المذكور تجويز للأخذ بالأبعد وهذا ينافي وجوب الأخذ بالأقرب.

وفيه : أنّ غرض العامي في رجوعه إلى الأعلم ابتداءا إن كان لأن يقلّده في المسألة الاصوليّة فداعيه إلى الرجوع إليه ليس هو ما دلّ على وجوب الأخذ بالأقرب ، لقصور نظره عن البلوغ إليه بالاجتهاد وإلاّ لم يحتج إلى التقليد في المسألة الاصوليّة ، لأنّ الواقعة المجتهد فيها بطريق القطع لا تقبل التقليد ، بل إنّما دعاه إليه الاستحالة العقليّة من جهة لزوم الدور أو التسلسل لو رجع إلى غير الأعلم ، أو لكونه القدر المقطوع من الطريق المبرئ للذمّة المخرج عن العهدة. وأيّا ما كان فتجويز الأعلم للرجوع إلى غير الأعلم لا ينافيه.

وإن كان لأن يقلّده في الفروع فداعيه وإن كان يمكن أن يكون هو قاعدة الأقربيّة ، غير أنّه لا يستفتي الأعلم إلاّ في الفروع ولا حاجة له إلى تقليده في المسألة الاصوليّة ليفتيه بجواز تقليد غير الأعلم ، فلا وقع للتوهّم المذكور على التقديرين.

ثمّ إذا رجع المقلّد في الصورة الاولى بتقليد الأعلم إلى غير الأعلم فإن كانا متوافقين في جواز تقليد غير الأعلم فلا إشكال في جواز تقليده حينئذ ، بل هو عند التحقيق تقليد للأعلم ، لأنّ حقيقة التقليد هو الالتزام بالحكم الظاهري الفعلي استنادا إلى قول المجتهد ، ومستنده في ذلك الالتزام هو المجتهد الأعلم حيث قلّده في مسألة جواز تقليد غير الأعلم.

وإن كانا مختلفين بأن يكون رأي غير الأعلم عدم جواز تقليد غير الأعلم مع التمكّن من تقليد الأعلم فقد يستشكل في جواز تقليده ، وإن استند فيه إلى قول الأعلم لأدائه إلى عدم جواز تقليده ، على معنى أنّه يلزم من تقليد غير الأعلم عدم صحّة تقليده ، لأنّ من فتاويه عدم جواز تقليد غير الأعلم ، فتقليده في فتاويه يتضمّن تقليده في عدم جواز تقليد غير الأعلم ، ويلزم منه عدم جواز تقليده رأسا ، وما يلزم من وجوده عدمه محال.

وفيه من المغالطة ما لا يخفى ، لأنّ تجويز الأعلم لتقليد غير الأعلم لا يتناول محلّ التنافي وهو المسألة الاصوليّة المختلف فيها بين الأعلم وغير الأعلم ، بل ينصرف إلى غيره من مسائل الفروع ، فالمقلّد الراجع إلى غير الأعلم بتقليد الأعلم لا يقلّده إلاّ في الفروع لا في جميع المسائل حتّى في المسألة الاصوليّة.

والسرّ في ذلك : أنّ الواقعة الواحدة لا تقبل تقليدين ، والمفروض أنّ المقلّد فرغ من التقليد في المسألة الاصوليّة حيث قلّد الأعلم في جواز تقليد غير الأعلم ، فلم يبق محلّ

ص: 497

في تلك المسألة لتقليد آخر يناقض التقليد الأوّل فلا محذور.

ثمّ إنّ ذلك المفضول إذا رجع إليه المقلّد فإن سأله عن حكم تقليد غير الأعلم مع التمكّن من الأعلم ، فإن كان رأيه وجوب تقليد الأعلم يأمره به لكن لا بعنوان الإفتاء ، بل بعنوان الأمر بالمعروف والهداية والإرشاد المعبّر عنه بالدعاء إلى الخير في قوله تعالى : ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) .

وإن كان رأيه جواز تقليد غير الأعلم فقد يفصّل في حكمه بأنّه إن كان ممّن يرى صحّة عبادات الجاهل جاز له الإفتاء بمؤدّى نظره في هذه المسألة من جواز تقليد غير الأعلم ، وإن كان ممّن لا يرى ذلك حرم عليه الإفتاء بما ذكر ، وذلك لأنّه في رجوعه إلى غير الأعلم لم يستند إلى طريق مشروع من اجتهاد أو تقليد. أمّا الأوّل : فواضح.

وأمّا الثاني : فلأنّ مشروعيّة طريق التقليد منوطة بجوازه ، وهو مقصور في المسألة الاصوليّة على تقليد الأعلم وقد فرضنا رجوعه إلى غير الأعلم. وإذا كان رأيه بطلان عبادات الجاهل فإفتاؤه بجواز تقليد غير الأعلم إضلال له وهو قبيح عقلا ومحرّم شرعا.

وعندي هذا التفصيل غير جيّد بل غير صحيح ، لمنع اندراج المقلّد المعتمد في تقليده لغير الأعلم على فتوى غير الأعلم في موضوع الجاهل في العبادات في نظر ذلك المجتهد ، لأنّه عبارة عمّن لا يستند في أعماله إلى طريق مشروع ولذا يعبّر عنه بتارك الطريقين.

وفتوى غير الأعلم طريق مشروع في نظر ذلك المجتهد ، وعدم اعتقاد المقلّد بمشروعيّته لا ينافي مشروعيّته في اعتقاد المجتهد ، فلا يكون إفتاؤه بجواز تقليد غير الأعلم إضلالا له ، فلا جهة هنالك تقتضي منعه من ذلك الإفتاء وتوجب حرمته عليه.

وإن سأله عن حكم مسألة اخرى من الفروع ، فإن احتمل في حقّه استناده إلى أعلم جوّز له تقليد غير الأعلم ، أو عدم تمكّنه من تقليد الأعلم أو تعسّر الرجوع إليه جاز له الإفتاء بحكم المسألة ، وإلاّ فإن قطع بعدم كون غرضه من السؤال تقليده في المسألة بل إنّما يسأله لغرض آخر جاز له ذلك أيضا ، وإلاّ فإن علم أنّ غرضه التقليد لا غير حرم الإفتاء لكونه إضلالا ، وإن احتمل ذلك فالجواز لا يخلو عن وجه إلاّ أنّ الأحوط ترك الإفتاء.

الأمر الثامن : تعيّن العدول إلى من ظهر كونه أفضل وعدمهالأمر الثامن : تعيّن العدول إلى من ظهر كونه أفضل وعدمه

الأمر الثامن

في أنّ العامي لو قلّد المفضول باعتقاد التساوي أو باعتقاد الأفضليّة فظهر فساد اعتقاده بظهور كون المجتهد الّذي لم يقلّده أفضل ، فهل يجب العدول إلى ذلك الأفضل أو لا؟

ص: 498

ولو قلّد المفضول لعدم تمكّنه من تقليد الأفضل أو تعسّره ثمّ زال العذر أو العسر فهل يجب العدول إلى الأفضل أو لا؟

ولو قلّد أحد المجتهدين المتساويين ثمّ صار المجتهد الآخر أفضل إمّا لأنّه ترقّى لكثرة جدّه في الاشتغال بالشواغل العلميّة أو لتنزّل المجتهد الأوّل بخوضه في الشواغل الدنيويّة وتركه المشاغل العلميّة ، ونحوه ما لو قلّد أفضل المجتهدين فانعكس الأمر بصيرورة المفضول أفضل والأفضل مفضولا إمّا لترقّي الأوّل أو لتنزّل الثاني ، فهل يجب العدول إلى الأفضل أو لا؟ فهاهنا مسائل :

الأمر الثامن : تعيّن العدول إلى من ظهر كونه أفضل وعدمه

أمّا المسألة الاولى : فلا ينبغي التأمّل في تعيّن العدول إلى من ظهر كونه أفضل بالنسبة إلى الوقائع والأعمال الآتية ، بل هذا ابتداء تقليد في حقّه ، وتقليده الأوّل لخطائه في اعتقاد التساوي أو الأعلميّة لم يصادف محلّه ، لأنّ حقيقة التقليد - على ما بيّنّاه مرارا - هو الالتزام بالحكم الفعلي الّذي يجب بناء العمل عليه ، وظهور فساد الاعتقاد معناه انكشاف كون حكمه الفعلي من بدو الأمر ما هو بحسب فتوى المجتهد الثاني ، وعدم كون ما هو بحسب فتوى المجتهد الأوّل حكما فعليّا له في الواقع وإن اعتقد كونه كذلك ، لأنّ الاعتقاد لا تأثير له في الحكم الشرعي وجودا وعدما ، فهو في تقليده للأوّل إلى زمان كشف الخلاف كمن لم يقلّد رأسا.

ومن هذا البيان ظهر حكم الأعمال الماضية الواقعة على طبق فتوى المجتهد الأوّل من حيث إنّها محكومة بالبطلان المقتضي لوجوب الإعادة والقضاء ، إذ لا مقتضي لصحّتها المسقطة لهما إلاّ كون الأمر الظاهري مفيدا للإجزاء. ويدفعه أنّ الأمر الظاهري العقلي - على ما حقّقناه في محلّه - لا يفيد الإجزاء.

فإن قلت : غاية ما هنالك اندراج هذه الأعمال في عبادات الجاهل لعدم استنادها إلى طريق مشروع في حقّه ، وقضيّة ذلك إجراء التفصيل المتقدّم في عبادات الجاهل بين مطابقة الواقع وعدم مطابقته فيها لا الحكم ببطلانها بقول مطلق.

قلت : قد ذكرنا في بحث عبادات الجاهل أنّ المراد بالواقع الّذي يعتبر مطابقته وعدم مطابقته مؤدّى الطريق المشروع في حقّ المكلّف حال التفطّن والالتفات لا غير ، والطريق المشروع في حقّ ذلك المقلّد حين ظهور فساد اعتقاده إنّما هو فتوى المجتهد الثاني

ص: 499

والمفروض أنّها مخالفة لفتوى المجتهد الأوّل لأنّ الكلام إنّما هو على تقدير اختلافهما في الرأي.

فالأعمال الماضية غير مطابقة للواقع بالمعنى المذكور ، فوجب بطلانها على قاعدة عبادات الجاهل.

عدم تعيّن العدول إلى الأفضل حينما زال العسير أو العذر

وأمّا المسألة الثانية : فينبغي القطع فيها بصحّة الأعمال الماضية الواقعة على طبق فتوى المفضول لاستنادها إلى الطريق المشروع له حال العذر أو العسر ، وأمّا الأعمال الآتية والوقائع المستقبلة ففي وجوب العدول فيها بعد زوال العذر والعسر إلى الأفضل وعدمه بل عدم جوازه وجهان : من أنّ فتوى المفضول ما دام العذر أو العسر بدل اضطراري من فتوى الأفضل كالطهارة الترابيّة بدلا عن الطهارة المائيّة. ومن حكم البدل الاضطراري أنّه إذا زال العذر والعسر سقط اعتبار البدل وتعيّن الأخذ بالمبدل.

ومن أنّ الأفضليّة - حيثما وجب الرجوع إلى الأفضل - إنّما تعتبر لكونها مرجّحة لمدرك الحكم عند التحيّر لا لأنّها مؤسّسة لأصل الحكم ، وهي إنّما تؤثّر في الترجيح في ابتداء التقليد حيث لم يكن هناك مانع من الرجوع إلى الأفضل ، وأمّا في مثل ما نحن فيه فلا ، لكونها معارضة بمزيّة اخرى في جانب المفضول وهو سبق تقليده على الوجه المشروع ، فإنّه أيضا مزيّة فيه يحتمل كونها مرجّحة للبقاء على تقليده في نظر الشارع ، فكانا كالأمارتين المتعادلتين مع عدم جريان شيء من قاعدتي الاشتغال والأقربيّة اللّتين هما دليل وجوب الرجوع إلى الأفضل هنا.

أمّا الاولى : فلأنّها إنّما تجري مع وجود القدر المتيقّن ، ولا يكون إلاّ فيما دار الأمر بين التعيين والتخيير كما في ابتداء التقليد ، والأمر فيما نحن فيه دائر بين التعيينين ، بل بين المحذورين : وجوب العدول وحرمته.

وأمّا الثانية : فلأنّ وجوب الأخذ بالأقرب ليس حكما شرعيّا ثابتا بالنصّ ليتمسّك هنا بإطلاق النصّ أو عمومه ، بل هو حكم عقليّ والعقل إنّما يحكم به في ابتداء التقليد.

وأمّا ما نحن فيه فبعد ملاحظة سبق تقليد المفضول واحتمال كونه مزيّة مرجّحة في نظر الشارع فلا يحكم بشيء بل لا يزال متردّدا.

ويمكن ترجيح ثاني الوجهين بالأصل المنحلّ إلى استصحابين وجودي وعدمي ، لفرض

ص: 500

كون الحكم الفعلي المتعلّق بالمقلّد حال العذر ما هو بحسب فتوى المفضول وعدم كون ما هو بحسب فتوى الأفضل حكما فعليّا متعلّقا به ، فيشكّ بعد زوال العذر في زوال تعلّق الأوّل وحدوث تعلّق الثاني فالأصل بقاء الأوّل وعدم حدوث الثاني.

وهذا حسن إن لم يخدشه تبدّل موضوع المستصحب ، بملاحظة أنّ العاجز عن تقليد الأفضل والقادر عليه موضوعان متغايران وقد تبدّل الأوّل بالثاني ومعه لا يمكن الاستصحاب.

ولكن يمكن دفعها بمنع دخول العجز والقدرة في الموضوع ، بل الموضوع هو ذات المقلّد والقدرة على الرجوع إلى الأفضل شرط لتأثير الأفضليّة في منع الرجوع إلى المفضول ، فإذا انتفت القدرة سقطت الأفضليّة عن التأثير في المنع وترتّب عليه جواز الرجوع إلى المفضول ، لصيرورة فتواه حينئذ حكما فعليّا في حقّه من دون أن يؤخذ فيه وصف العجز وعدم القدرة ولا القدرة.

غاية ما هنالك أنّه ينتزع عنه باعتبار العجز تارة والقدرة اخرى مفهوم يعبّر عنه ب- « العاجز » و « القادر » انتزاعا عقليّا ، فتوهّم كون ذلك المفهوم المأخوذ فيه وصف العجز والقدرة باعتبار ذلك الوصف موضوعا.

وأنت خبير بأنّه لا ملازمة كما في « المتغيّر » المنتزع من الماء باعتبار وصف التغيّر الّذي هو علّة النجاسة من دون دخل له في الموضوع ، ولذا لو زال التغيّر بنفسه لم يؤثّر في منع الاستصحاب بتوهّم تبدّل موضوع المستصحب.

عدم جواز العدول إلى من صار أفضل من الآخر

وأمّا المسألة الثالثة : فكون الوقائع الماضية محكومة بالصحّة المسقطة للإعادة والقضاء واضح لا حاجة له إلى البيان لوقوعها على طبق الطريق المشروع.

وأمّا الوقائع الآتية فقضيّة الأصل المتقدّم المنحلّ إلى استصحابين وجوب البقاء على تقليده السابق وعدم جواز العدول عنه إلى الأفضل ، مع عدم جريان قاعدة الاشتغال لدوران الأمر بين المحذورين ، وقاعدة الأقربيّة لأنّ الأفضليّة إنّما تؤثّر في أقربيّة الفتوى إلى الواقع إذا تأخّر عنها استنباط الحكم ، ومفروض المسألة تأخّر حصولها عن الاستنباط لكون تقليد المفضول في ابتدائه إنّما حصل حال التساوي.

نعم لو فرض أنّ الأفضل بعد حدوث الأفضليّة فيه جدّد النظر واستنبط ثانيا تمّ كون فتاويه المتجدّدة أقرب إلى الواقع ، غير أنّه مجرّد فرض ولو وقع كان نادرا وبناء المسألة ليس على الفروض النادرة ، مع أنّه قد يؤول أيضا إلى التساوي من حيث القرب والبعد فيما

ص: 501

لو قلّد أفضل المجتهدين ثمّ انعكس الأمر فصار المفضول أفضل ثمّ جدّد النظر.

وقد يستدلّ على وجوب العدول بإطلاق الأخبار الدالّة على وجوب تقليد الأعلم وإطلاق الإجماعات المنقولة عليه.

ويزيّفه : أنّ إطلاق الأخبار مع عدم نهوض دلالاتها على المطلوب حسبما بيّنّاه غير مجد ، وأمّا إطلاق الإجماعات المنقولة ، ففيه أوّلا : عدم العثور على نقل إجماع صريحا في كلامهم.

نعم ربّما يظهر دعواه من بعض العبارات كعبائر المصنّف وغيره ، فأصل هذا الإجماع لا ينهض دليلا على الحكم المخالف للأصل في نحو المسألة فضلا عن إطلاقه.

وثانيا : كونه معارضا بإطلاق الإجماعات المنقولة على عدم جواز العدول عن التقليد.

وتوهّم انصراف إطلاق هذه الإجماعات إلى العدول عن تقليد المساوي إلى مثله ، يدفعه : إمكان مثله في إطلاق الإجماعات على تقليد الأعلم ، لانصرافه إلى ابتداء التقليد وعدم تناوله مثل ما نحن فيه.

تعليقة : في العدول عن التقليد

اشارة

- تعليقة -

إذا قلّد العامي أحد المجتهدين في مسألة أو مسائل فلا يجوز له العدول في المسائل المقلّد فيها إلى تقليد مجتهد آخر ما دام المجتهد الأوّل باقيا على شرائط الإفتاء ، وفاقا لجماعة من أصحابنا. ولعلّهم الأكثر ، بل عن جماعة من أهل الخلاف دعوى الاتّفاق ، فعن المختصر : « لا يرجع عنه بعد تقليده اتفاقا » ، وعن شرحه للعضدي : « إذا عمل بقول المجتهد في حكم مسألة فليس له الرجوع إلى غيره اتّفاقا ».

وعن الإحكام : « إذا تبع بعض المجتهدين في حكم حادثة من الحوادث وعمل بقوله فيها اتّفقوا على أنّه ليس له الرجوع في ذلك الحكم إلى غيره ».

والعلاّمة في النهاية استجود الجواز.

وفي التهذيب استقربه ، وجعله ثاني الشهيدين في محكيّ المقاصد العليّة أصحّ الأقوال.

ويظهر اختياره من المحقّق الثاني في الجعفريّة ، واختاره في المنية إذا تجدّد ظنّه رجحان غير ذلك المجتهد عليه في العلم والورع.

ويظهر منه كون موضوع البحث ومحلّ الخلاف أعمّ من العدول عن المساوي إلى مثله

ص: 502

ومن المفضول إلى الفاضل ، ومحلّ النزاع إنّما هو الرجوع في الوقائع اللاحقة من المسألة المقلّد فيها لا الوقائع السابقة ولا المتلبّس بها ، فمن توضّأ بالمضاف وصلّى به أو صلّى بغسل غير الجنابة بلا وضوء أو لم يجتنب في صلاته عن الغسالة أو عن الماء القليل الملاقي للنجاسة أو عقد امرأته بالعقد الفارسي تقليدا لمجتهد جوّز جميع ذلك فلا يجوز له العدول في هذه الأعمال بنقض آثار التقليد فيها بلا خلاف ، وقد يعدّ عدم الجواز من شرائط التقليد بالقياس إلى المسألة المقلّد فيها ، فيقال : يشترط فيه أن لا يكون المسألة مسبوقة بتقليد مجتهد آخر.

وكيف كان ، فلنا على عدم الجواز : الأصل المقتضي لوجوب الأخذ بالقدر المتيقّن ممّا يفيد البراءة ويوجب الخروج عن العهدة وهو البقاء على تقليد المعدول عنه ، لأنّه لا كلام في صحّة هذا التقليد بخلاف تقليد المعدول إليه فإنّه ليس بتلك المثابة.

مضافا إلى استصحاب الأحكام الفرعيّة المترتّبة على التقليد الأوّل من وجوب اجتناب وحرمة ارتكاب ووجوب إتيان أو استحبابه أو إباحته أو نحو ذلك ، ومرجعه إلى استصحاب بقاء تعلّق الأحكام الفعليّة اللازمة من فتوى المعدول عنه القاضي بعدم جواز العدول ولا صحّته ، مع أصالة عدم تعلّق أضداد هذه الأحكام من مقتضى فتوى المعدول إليه بعد العدول به.

وإن شئت قلت : إنّ قضيّة الأصل والاستصحاب عدم ارتفاع آثار التقليد الأوّل التابعة لفتوى المجتهد المعدول عنه المتعلّقة بالمقلّد ، وعدم حدوث تعلّق آثار تقليد المعدول إليه بالمقلّد بالعدول ، وهذا معنى عدم مشروعيّة العدول وعدم تأثيره في تجدّد تعلّق الآثار التابعة لفتوى المعدول إليه ، ولا يعنى من عدم جواز العدول عن التقليد بالقياس إلى الوقائع الآتية إلاّ هذا.

ولكن قد يناقش في الاستصحاب بتبدّل موضوع المستصحب ، إذ الثابت في حقّ المقلّد إنّما هو حكم الواقعة من حيث كونها من جزئيّات ما ظنّه المجتهد الّذي اختار تقليده أوّلا وإذا اختار تقليد مجتهد آخر مخالف للأوّل في الرأي تغيّر الموضوع الأوّل ، لاتّصاف الواقعة حينئذ بحيثيّة اخرى وهي كونها من جزئيّات ما ظنّه ذلك المجتهد ، وهذان موضوعان متغايران يوجب تعدّد الحكم الظاهري المعلّق عليهما الثابت في الواقعة الواحدة على حسب تعدّد الآراء ، ومن المستحيل انسحاب حكم أحد الموضوعين إلى آخر بالاستصحاب.

ص: 503

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّ الموضوعين المتغايرين إنّما هو الواقعة من حيث انطباقها على فتوى المجتهد الأوّل والواقعة من حيث انطباقها على فتوى المجتهد الثاني ، وما ظنّه المجتهد ليس إلاّ الحكم الظاهري وهو المستصحب مع آثاره الشرعيّة المترتّبة عليه ، وليس الغرض من استصحابه انسحاب حكم الواقعة من حيث انطباقها على فتوى المجتهد الأوّل إليها من حيث انطباقها على فتوى المجتهد الثاني ، بل انسحاب حكمها إلى ما بعد العدول ليكون نتيجته عدم خروج الواقعة عن مقتضى فتوى المجتهد الأوّل ودخولها في مقتضى فتوى المجتهد الثاني.

واستدلّ على المختار أيضا : بالإجماعات المنقولة ، وبلزوم المخالفة القطعيّة العمليّة فيما إذا دار الأمر بين المحذورين ، كما لو قال أحدهما بوجوب شيء والآخر بحرمته ويتمّ في الباقي بعدم القول بالفصل ، وبلزوم الهرج والمرج في الدين لأدّائه إلى إناطة أمر التقليد بالدواعي النفسانيّة فيخرج أمر الشريعة عن الانتظام.

وفي الجميع ما لا يخفى ، إذ لم نقف من الإجماعات المنقولة إلاّ على ما تقدّم من الاتّفاقات المحكيّة على لسان جماعة من العامّة ، ويزيّفها : أنّ اتّفاق العامّة ما لم يعتضد بموافقة أصحابنا ممّا لا عبرة به فكيف باتّفاقهم المنقولة. مع مخالفة جماعة من أساطين أصحابنا ، فهي موهونة بمصير الجماعة إلى الخلاف جدّا.

والقبيح من المخالفة القطعيّة العمليّة ما لو كان أصل عمل بعينه مخالفة بعنوان القطع ، فالقبح صفة العمل المخالف في صورة القطع بكونه مخالفا لا الإتيان بعمل أوجب القطع بتحقّق مخالفة مردّدة بينه وبين غيره ممّا وقع ، مع أنّ كلّ مخالفة قطعيّة بالنظر إلى الحكم الواقعي معها موافقة قطعيّة أيضا ، فلو اقتصر على التقليد الأوّل لم يقطع بالامتثال بالنظر إلى الحكم الواقعي وإن قطع به بالنظر إلى الحكم الظاهري بخلاف ما لو عدل إلى تقليد آخر مخالف للأوّل ، مع أنّ المخالفة القطعيّة بالمعنى المذكور ليست بعادم النظير بل كم من مثلها في نظائر المقام ، كما في صورة تجدّد رأي المجتهد أو موته أو فسقه أو جنونه وفقده لسائر الشروط الموجب للعدول.

وأمّا لزوم الهرج والمرج فمع إمكان منع الملازمة فيه فليس بشيء يعوّل عليه في تأسيس حكم شرعي وإن كان يصلح تأييدا للدليل.

وبالجملة فالمعتمد من الوجوه المستدلّ بها على منع العدول من التقليد إنّما هو الأصل

ص: 504

وبعده الاستصحاب ، ولا بأس بأخذ لزوم الهرج والمرج مؤيّدا له.

ثمّ إنّ ظاهر بعض العبارات كعبارتي النهاية والمنية اعتبار العمل في محلّ النزاع ، وقضيّة ذلك أنّه لو أخذ المسألة من المجتهد الأوّل ولم يعمل بها بعد حتّى عدل عنه إلى مجتهد آخر كان ذلك العدول جائزا على القول بالمنع أيضا على تقدير العمل ، ومبنى ذلك إمّا على أخذ العمل في مفهوم التقليد فما لم يلحقه عمل ليس تقليدا حتّى يحكم عليه بمنع العدول ، أو على كون العمل ملزما للتقليد ، فهو مع عدم لحوق العمل ليس بلازم حتّى يمنع من العدول عنه ، ولعلّ وجهه عدم لزوم المخالفة القطعيّة العمليّة مع عدم لحوق العمل ، وإن كان يلزم المخالفة الالتزاميّة.

جواز التبعيض في التقليد

والتحقيق : أنّ التقليد ينعقد بدون العمل كما تقدّم في محلّه ، وإنّ العمل كما لا مدخليّة له في مفهوم التقليد فكذا لا مدخليّة له في لزومه أيضا كما أشرنا إليه أيضا ثمّة ، وعليه فلو أخذ المسألة من مجتهد والتزم بها كان تقليدا لذلك المجتهد ولم يجز العدول عنه إلى غيره مطلقا وإن لم يعمل بها بعد لعموم الأصل والاستصحاب.

ثمّ إنّه قد أشرنا إلى أنّ مسألة العدول عن التقليد إنّما بالنسبة إلى المسألة المقلّد فيها ، وأمّا المسائل الغير المقلّد فيها ففي جواز الرجوع فيها إلى مجتهد آخر بعد تقليد غيره في غيرها وهو المسمّى بالتبعيض في التقليد خلاف آخر ، أشار إلى وجوده في محكيّ المقاصد العليّة والنهاية والمنية ، حيث جعل الأوّل الجواز أصحّ الأقوال ، والثاني حكى المنع منه عن بعضهم ، والثالث عزاه إلى قوم ، إلاّ أنّ الأكثر هنا على الجواز كما نسب إليهم صريحا في المنية.

وحاصل عنوان المسألة أنّه إذا قلّد العامي مجتهدا في حكم مسألة أو أزيد فهل يجوز له تقليد غيره ممّن يساويه في الفضل في بقيّة المسائل الّتي يبتلى بها ويحتاج إلى التقليد فيها أو لا؟ بل يجب تقليد ذلك المجتهد في جميع المسائل فالأكثر إلى الأوّل وهو المعتمد.

لنا : وجود المقتضي وانتفاء المانع.

أمّا الأوّل : فهو الحجّية الذاتيّة لقول كلّ من المجتهدين الثابتة من إطلاق أدلّة مشروعيّة التقليد وعمومها ، ولذا يحكم العقل فيه مع تعدّد المجتهدين وتساويهم بالتخيير من غير اختصاص له بفتوى كلّ [ من المجتهدين ] في جميع المسائل ، بل عمومه له ولفتوى البعض في بعض المسائل وفتوى البعض في البعض الباقي ، وإلى ذلك ينظر استدلال المجوّزين بأنّ كلّ مسألة لها حكم مختصّ بها ، فكما لم يتعيّن في المسألة الاولى اتّباع شخص معيّن بل

ص: 505

كان مخيّرا في اتّباع من شاء فكذا في كلّ المسائل لعدم الفرق بينهما.

وعليه مبنى ما استدلّ به أيضا من أنّ علماء الأمصار في كلّ عصر لم يوجبوا على من استفتاهم في حكم الرجوع إليهم في جميع الأحكام.

وأمّا الثاني : فلأنّ المانع إن كان هو الجمع بين تقليدي المجتهدين على وجه التوزيع باعتبار ذاته فهو غير صحيح ، إذ لا يعقل مانعيّة لذلك.

وإن كان هو الجمع المذكور باعتبار لازمه وهو بطلان الأعمال الواقعة على طبق التقليدين عند المجتهدين ، لأنّ صحّتها في كلّ من العبادات والمعاملات عند كلّ مجتهد منوطة بموافقة ما ظنّه ورأيه في جميع مسائل كلّ عمل ، فلا بدّ في إحراز صحّة كلّ عمل عند كلّ مجتهد من مراعاة تلك الموافقة ، والجمع بين تقليديهما الّذي هو التبعيض يوجب مخالفة كلّ عمل لرأي كلّ مجتهد في بعض مسائله ، وهو يوجب بطلان الكلّ عند كلّ ، فهما متّفقان على بطلان الأعمال كلّها ، وقضيّة ذلك هو المنع من التبعيض.

ففيه : النقض بما لو رجع المقلّد في جميع المسائل إلى مجتهد ثالث يوافق أحد المجتهدين في بعض المسائل وللآخر في البعض الباقي ، فإنّ قضيّة ما ذكر بطلان أعماله عند كلّ منهما ولم يقل به أحد.

والحلّ : أنّ البطلان الّذي يظنّ كلّ مجتهد في العمل المخالف لرأيه في جميع المسائل أو بعضها ليس هو البطلان الواقعي ، بل هو عبارة عن البطلان الظاهري بالقياس إلى نفسه وإلى من يقلّده ، بمعنى أنّه لو أتى بالعمل المخالف لرأيه كان باطلا وكذلك مقلّده ، وهو لا تنافي الصحّة الظاهريّة بالنسبة إلى مجتهد آخر ومقلّده.

والسرّ فيه : أنّ ما ظنّه كلّ مجتهد حكم ظاهري في حقّه وحقّ مقلّديه ، والموافقة للحكم الظاهري لا يقتضي إلاّ الصحّة الظاهريّة ، فالعمل الموافق لرأي كلّ مجتهد صحيح عنده في الظاهر بحسب ظنّه ولذا جاز لكلّ مجتهد تجويز تقليد غيره.

وقضيّة ذلك اتّفاق المجتهدين على الصحّة الظاهريّة في العمل الموافق لرأي أحدهما في بعض المسائل ولرأي صاحبه في البعض الآخر لموافقته الحكم الظاهري في كلّ مسألة ، إذا المفروض عدم ارتباط الأحكام الظاهريّة بعضها ببعض حتّى يعتبر في إحراز الصحّة الظاهريّة في نظر كلّ مجتهد موافقة رأيه في الجميع.

ثمّ إنّه يشترط في جواز التبعيض امور :

ص: 506

أحدها : ما ظهر من تضاعيف البحث وهو تعدّد المسألة ولا يكفي فيه تعدّد الواقعة مع وحدة المسألة ، وضابط وحدة المسألة أن يكون مدركها حسبما رآه المجتهد واحدا ، وتشخيصه في نظر المقلّد يحصل بالعنوان الّذي علّق عليه الحكم في فتوى المجتهد وإن كان ذلك العنوان أمرا كلّيّا تحته فردان أو أكثر ، وعليه فلا يجوز التبعيض في نحوه بأن يقلّد مجتهدا في فرد من هذا الكلّي وفي الفرد الآخر غيره ، وذلك كما لو أفتى مجتهد بنجاسة الكافر فعمل بها المقلّد في اليهود في محلّ الابتلاء ولم يعمل في المجوس لعدم ابتلائه به إلى زمان فحصل الابتلاء به وحينئذ فلا يجوز له الرجوع إلى مجتهد يفتي بطهارة المجوس ، لكونه مخالفة للتقليد لأنّه قلّد المجتهد الأوّل في نجاسة اليهود باعتبار كونه كافرا فهو قلّده في نجاسة الكافر وهو يعمّ المجوس أيضا.

وبالجملة يجب عليه الأخذ في المجوس بمقتضى فتوى الأوّل ، لأنّ نجاسة المجوس مع نجاسة اليهود من مسألة واحدة تعدّد أفرادها ، فلا يجوز العدول فيها عن التقليد في بعض الأفراد.

نعم لو فرض أنّ مجتهدا أفتى بنجاسة اليهود لخصوصيّة فيه ونجاسة المجوس أيضا لخصوصيّة اخرى فيه لا لكونهما كافرين وأفتى مجتهد آخر بطهارة المجوس لخصوص أنّه مجوس فالظاهر جواز تقليد الأوّل في نجاسة اليهود وتقليد الثاني في طهارة المجوس ، لوضوح كون مثل ذلك من تعدّد المسألة لعدم كون الحكم عندهما معلّقا على الجامع بينهما وهو الكفر ، فلو أفتى المجتهد الأوّل بعبارة مجملة مردّدة بين كونها من باب الأوّل أو من قبيل الثاني فمقتضى الاحتياط الاقتصار على تقليده في جميع الفروض وعدم الرجوع إلى غيره في بعضها.

وثانيها : أن لا يكون المسألتان ممّا اتّفق المجتهدان على بطلان العمل المخالف لهما في الواقع ، كما لو أفتى أحد المجتهدين بوجوب السورة في الصلاة دون التسليمة والمجتهد الآخر بوجوب التسليمة دون السورة مع اتّفاق الفريقين على وجوب شيء فيها في الواقع اختلفا في تعيينه ، فلا يجوز للمصلّي أن يرجع في عدم وجوب التسليمة إلى الأوّل وفي عدم وجوب السورة إلى الثاني فيصلّي بلا سورة وتسليمة ، لاتّفاق الفريقين على بطلان نحو هذه الصلاة في الواقع.

نعم لو أفتى أحدهما بوجوب السورة دون التسليمة مع احتماله عدم وجوب السورة

ص: 507

أيضا ، والآخر بوجوب التسليمة دون السورة مع احتماله لعدم وجوب التسليمة أيضا ، كان التبعيض بموافقة الأوّل في عدم وجوب التسليمة والثاني في عدم وجوب السورة جائزا.

وتوهّم عدم الجواز مطلقا استنادا إلى لزوم المخالفة القطعيّة كما ترى ، لعدم مخالفة للحكم الواقعي بعنوان القطع فيما لم يتّفقا باشتراط الصحّة الواقعيّة بأحد الأمرين ، والمخالفة للحكم الظاهري - على ما بيّنّاه سابقا - غير ضائر في الصحّة الظاهريّة اللازمة من موافقة كلّ مجتهد في مسألة.

وثالثها : أن لا يكون بين المسألتين ملازمة شرعيّة أثبتها الأدلّة الشرعيّة ، فلو أفتى أحدهما في المسير إلى أربعة فراسخ بوجوب القصر في الصلاة ووجوب الإفطار في الصوم ، والآخر بعدم جواز القصر والإفطار معا لملازمة شرعيّة بين القصر والإفطار في الحكم من حيث الوجوب وعدم الجواز ، لا يجوز للمقلّد أن يرجع إلى أحدهما في وجوب القصر وإلى الآخر في عدم جواز الإفطار أو بالعكس ، لكونه مخالفة للملازمة الشرعيّة وطرحا للأدلّة المثبتة لها وعليه ، فلو أفتى أحدهما بوجوب قصر الصلاة على المسافر بمسير المسافة الشرعيّة من حدّ الترخّص ثمّ أفتى في باب الصوم بوجوب الإفطار بمسير ثمانية فراسخ من حدّ الترخّص ، فإن علم كون ذلك منه تحديدا للمسافة الشرعيّة فالمتّجه عدم جواز التبعيض فيه بتقليد المجتهد الأوّل في المسألة الاولى وتقليد المجتهد الآخر المخالف له في الرأي في المسألة الثانية ، وإن لم يعلم ذلك بل احتمل كون الثاني حكما خاصّا بصوم المسافر لا أنّ ما ذكر تحديدا للمسافة الشرعيّة المعلّق عليها الحكم في قصر الصلاة وإفطار الصوم جاز التبعيض.

تذنيب : فيما إذا اشتبه الحال في المسائل المقلّد فيها

تذنيب

في مسألة تتفرّع على مختارنا في المسألتين المتقدّميتن والمسألة الآتية من جواز التبعيض في التقليد وعدم جواز العدول من تقليد الحيّ ووجوب العدول عن تقليد الميّت وهي : أنّه ربّما يشتبه الحال في المسائل المقلّد فيها على وجه التبعيض بعد موت أحد المجتهدين اللذين قلّدهما على الوجه المذكور إذا تردّدت بين كون التقليد الحاصل فيها تقليدا لمن مات منهما ليجب عليه العدول إلى الحيّ أو تقليدا لمن هو حيّ ليحرم عليه العدول ، فالأمر يدور بين المحذورين.

ص: 508

فالوجه فيه البناء في تلك المسائل على تقليد ذلك المجتهد الحيّ الّذي هو أحد المجتهدين إن تمكّن من استعلام رأيه فيها ، فإن كان هو الّذي قلّده أوّلا كان ذلك بقاء على تقليده وإلاّ كان عدولا عن تقليد الميّت إلى الحيّ ولا محذور في شيء من ذلك.

نعم لو كان ناسيا لحكم المسائل المقلّد فيها ولم يتمكّن من استعلام رأي الحيّ أو كان ذاكرا له ولكن لا يعلم أنّه على حسب رأي الميّت أو على حسب رأي الحيّ ولم يتمكّن من استعلام رأيهما الآن فلم يكن له مندوحة من الرجوع إلى مجتهد ثالث ، وحينئذ فمقتضى القاعدة هو وجوب العدول ترجيحا لدليله - وهو الإجماع المنقول على عدم جواز تقليد الميّت المتناول الاستدامة - على دليل البقاء وهو الأصل المانع من العدول عن التقليد ، ضرورة أنّ المحذورين عند دوران الأمر بينهما إذا كان مستند أحدهما الدليل الاجتهادي ومستند الآخر الأصل تعيّن الأخذ بالأوّل قضيّة لورود الدليل على الأصل أو ترجيحا له عليه ، ولا حكم للعقل معه بالتخيير ، ولا يلزم بتعيين الأخذ به ترجيح بلا مرجّح ، وكذا الحكم فيما لو كان المحذوران من باب الواجب والحرام لا الوجوب والحرمة ، كما لو علم أنّه قلّد في عدّة مسائل المجتهد الميّت وفي اخرى المجتهد الحيّ الموجود غير أنّهما اشتبهتا فلا يدري أنّ في أيّتهما يجب العدول وفي أيّتهما يجب البقاء؟ فقضيّة ترجيح ما ثبت وجوبه بالإجماع هو العدول في الجميع إلى حيّ ثالث يتمكّن من الرجوع إليه مع فرض عدم تمكّنه من الرجوع إلى الحيّ الّذي هو أحد الأوّلين ونسيانه فتاواه في تلك المسائل ، وإلاّ وجب تقليده فيها لعدم خلوّه عن كونه بقاء في جملة وعدولا في اخرى.

فرع : لو قلّد مجتهدا في مسألة فنسي أصل التقليد

فرع

لو قلّد مجتهدا في مسألة فنسي أصل التقليد في تلك المسألة لا الحكم المقلّد فيه فرجع فيها إلى مجتهد آخر باعتقاد أنّه ابتداء تقليد ثمّ تذكّر بعد الأخذ والعمل تقليده السابق ، فهل يجب عليه البقاء على هذا التقليد الثاني أو يجب عليه العدول إلى التقليد الأوّل؟ وجهان : من أنّ النسيان عذر أوجب امتناع التقليد الأوّل فسقط حكمه وتوجّه إليه حكم التقليد الثاني كأنّه ابتداء تقليد [ ه ] فيجب البقاء عليه ، ومن أنّ النسيان عذر طار على التقليد فيكون التقليد الثاني مجزئا ما دام العذر وإذا ظهر سبق التقليد الأوّل زال العذر وارتفع موضوع التقليد الثاني فيجب العدول ، وهذا أوجه.

ص: 509

في وقت آخر ، فإن كان ذاكرا لدليلها جاز له الفتوى ، وإن نسيه افتقر إلى استيناف النظر. فإن أدّى نظره إلى الأوّل فلا كلام ، وإن خالفه وجب الفتوى بالأخير. ولا ريب أنّ ما ذكره المحقّق أولى. غير أنّ ما ذهب إليه العلاّمة متوجّه ، لأنّ الواجب على المجتهد تحصيل الحكم بالاجتهاد ، وقد حصل فوجوب الاستيناف عليه بعد ذلك يحتاج إلى الدليل ، وليس بظاهر.

عدم جواز تقليد الميّت

أصل

لا نعرف خلافا في عدم اشتراط مشافهة المفتي في العمل بقوله ، بل يجوز بالرواية عنه ما دام حيّا. واحتجّوا لذلك بالإجماع على جواز رجوع الحائض إلى الزوج العاميّ ، إذا روى عن المفتي ، وبلزوم العسر بالتزام السماع منه.

وهل يجوز العمل بالرواية عن الميّت؟ * ظاهر الأصحاب الإطباق على عدمه. ومن أهل الخلاف من أجازه. والحجّة المذكورة للمنع في كلام الأصحاب على ما وصل إلينا رديّة جدّا لا يستحقّ أن تذكر. ويمكن الاحتجاج له بأنّ التقليد إنّما ساغ للإجماع المنقول سابقا ، وللزوم الحرج الشديد والعسر بتكليف الخلق بالاجتهاد.

وكلا الوجهين لا يصلح دليلا في موضع النزاع ، لأنّ صورة حكاية الإجماع صريحة في الاختصاص بتقليد الأحياء. والحرج والعسر يندفعان بتسويغ التقليد في الجملة. على أنّ القول بالجواز قليل الجدوى على اصولنا ، لأنّ المسألة اجتهاديّة ، وفرض العاميّ فيها الرجوع إلى فتوى المجتهد. وحينئذ فالقائل بالجواز إن كان ميّتا فالرجوع إلى فتواه فيها دور ظاهر ، وإن كان حيّا

__________________

* الظاهر أنّ المراد بالرواية عن الميّت ما يعمّ ما اخذ منه ميّتا أو حيّا بطريق المشافهة أو من كتاب معلوم النسبة إليه أو بواسطة عدل ونحوه ، والمقصود بالبحث هنا بيان كون حياة المقلّد شرطا في جواز تقليده وعدمه ، وهو الّذي يعبّر عنه بجواز تقليد الميّت وعدمه.

ص: 510

فاتّباعه فيها والعمل بفتاوى الموتى في غيرها بعيد عن الاعتبار غالبا ، مخالف لما يظهر من اتّفاق علمائنا على المنع من الرجوع إلى فتوى الميّت مع وجود المجتهد الحيّ ، بل قد حكي الإجماع فيه صريحا بعض الأصحاب.

__________________

والمعروف المشهور بين أصحابنا شهرة عظيمة كادت تبلغ الإجماع عدم جواز تقليد الميّت ، وعن الجعفريّة ومجمع الفائدة نسبته إلى الأكثر ، بل ظاهر كلامهم عدم الخلاف فيه بين أصحابنا ، بل صرّح بعدم الخلاف جماعة من أساطينهم منهم المحقّق الثاني في شرح الألفيّة على ما حكي من قوله : « لا يجوز الأخذ عن الميّت مع وجود المجتهد الحيّ بلا خلاف بين علماء الإماميّة ».

وثاني الشهيدين في جملة من كتبه كالمسالك قائلا : « قد صرّح الأصحاب في كتبهم المختصرة والمطوّلة وغيرهما باشتراط حياة المجتهد في جواز العمل بقوله ، ولم يتحقّق إلى الآن في ذلك خلاف ممّن يعتدّ بقوله من أصحابنا ، وإن كان للعامّة في ذلك خلاف مشهور » وكتاب آداب العالم والمتعلّم قائلا : « هذا هو المشهور بين أصحابنا خصوصا المتأخّرين ، بل لا نعلم قائلا بخلافه ممّن يعتدّ بقوله » ، ورسالة منسوبة إليه قائلا : « نحن بعد تتبّع التصانيف ما وصل إلينا من كلامهم ممّا علمناه من أصحابنا ممّن يعتبر قوله ويعوّل على فتواه مخالف في ذلك ، فعلى مدّعي الجواز بيان القائل به على وجه لا يلزم منه خرق الإجماع.

ثمّ قال : ولا قائل بجواز تقليد الميّت من أصحابنا السابقين وعلمائنا الصالحين ، فإنّهم قد ذكروا في كتبهم الاصوليّة والفقهيّة قاطعين فيه بما ذكرنا من أنّه لا يجوز تقليد الميّت وإنّ قوله يبطل بموته من غير نقل خلاف أحد فيه » انتهى.

بل ظاهر غير واحد دعوى الإجماع عليه ، ومن ذلك ما عن الذكرى من قوله : « هو ظاهر العلماء وجوّزه بعضهم » ، وما في كلام المصنّف من قوله : « ظاهر الأصحاب الإطباق على عدمه » ، وقوله أخيرا : « والعمل بفتاوى الموتى مخالف لما تظهر من اتّفاق علمائنا على المنع من الرجوع إلى فتوى الميّت مع وجود المجتهد الحيّ » ، بل قد حكى الإجماع فيها صريحا بعض الأصحاب ، بل في محكيّ ابن جمهور الاحسائي التصريح بالإجماع قائلا : « لابدّ في جواز العمل بقول المجتهد من بقائه ، فلو مات بطل العمل بقوله فوجب الرجوع إلى غيره إذ الميّت لا قول له ، وعلى هذا انعقد إجماع الإماميّة وبه نطقت مصنّفاتهم

ص: 511

الاصوليّة والفروعيّة » انتهى.

وحكي دعوى الإجماع عليه عن الوحيد البهبهاني والفاضل النراقي في المناهج.

وبالجملة فكلماتهم الواصلة إلينا بين ما هو ظاهر في نفي الخلاف بين قدماء أصحابنا ومتأخّريهم وغيرهم ممّن يعتنى بشأنه من أساطين الطائفة وما هو صريح فيه ، وما هو ظاهر في دعوى الإجماع عليه وما هو صريح فيه.

ولقد أنكر وجود المخالف في ذلك من أصحابنا أشدّ الإنكار ثاني الشهيدين في محكيّ الرسالة المنسوبة إليه وقد سمعت بعض كلامه ، وممّا ذكره فيها في مقام استظهار عدم مخالف في أصحابنا قوله : « وممّا يوضح من أنّ المخالف قد لا يكون من علمائنا أنّ هذه مسألة اصوليّة ، والمعلوم بين أصحابنا وغيرهم في كتب الاصول أن يذكروا الخلاف في المسألة مع مخالفيهم في المذهب ، بل يحكون أقوالا واهية وآراء فاسدة ليبيّنوا الحقّ في ذلك والجواب عن شبهة المخالف وإن ضعف ، وهذا أمر لا يخفى على من نظر في كتب الاصول واطّلع على مصطلحهم فيها.

وهذا العلاّمة لمّا ذكر المسألة في كتاب النهاية مع عظمه وكثرة ما يذكر فيه من الأقوال ونسبه إلى قائله من الجمهور ثمّ اختار المنع من تقليد الميّت ولم يذكر لأصحابنا في ذلك قولا ، وكذلك ذكر المسألة في التهذيب وغيره وقال : « الأقرب أنّه لا يجوز تقليد الموتى » ومع ذلك لم يذكر أحد من شرّاح الكتاب في ذلك قولا لأصحابنا مقابل ما أفتى به ، وإلاّ فعلى تقدير عدم كون الأدلّة ناهضة بإثباتها كما سنذكره فهم معنا متسالمين في جعل قول الحيّ القدر المتيقّن من موجب البراءة وما خرج من الأصل.

وثانيهما (1) : الإجماعات المنقولة المعتضدة بالشهرة العظيمة المحقّقة والشهرات المحكيّة وعدم ظهور الخلاف بل ظهور عدمه وظهور الإجماع ، فإنّه يوجب الظنّ القويّ الإطمئناني بل المتاخم بالعلم بعدم جواز تقليد الميّت.

والقدح في هذا الوجه تارة بمنع الصغرى ، بدعوى وجود المخالف المانع لكون عدم الجواز إجماعيّا كما صرّح به الشهيد في الذكرى ، حيث إنّه بعد ما نسب القول بعدم الجواز إلى العلماء عقّبه بنسبة القول بالجواز إلى بعضهم ، وهو ظاهر الجعفريّة ومجمع الفائدة في نسبتهما إلى الأكثر الظاهرة في مصير غير الأكثر إلى الخلاف.

ص: 512


1- وقد مرّ أوّلها بقوله : « المعروف المشهور بين أصحابنا شهرة عظيمة كادت تبلغ الإجماع عدم جواز تقليد الميّت » الخ.

واخرى بمنع الكبرى ، بتقريب : أنّ المسألة اصوليّة والظنّ فيها غير حجّة.

ولكن يندفع الأوّل : بمنع دلالة هذه الكلمات صراحة بل ولا ظهورا على وجود المخالف من أصحابنا ، أمّا عبارة الذكرى فلما ذكره الشهيد الثاني - على ما حكي عن الرسالة المسنوبة إليه - من أنّ العلماء عامّ وبعضهم أعمّ من كونه من أصحابنا ولعلّه من المخالفين ، لأنّ بعض الأعمّ أعمّ من بعض الأخصّ ، وأمّا نسبة عدم الجواز إلى الأكثر فلعلّ الاقتصار عليها لعدم تبيّن الخلاف والوفاق في المسألة عندهما لا لتبيّن الخلاف وعدم الوفاق.

نعم ربّما نسب القول بالجواز إلى الصدوق في الفقيه كما عن الأسترآبادي استظهارا له ممّا في الكتاب من تجويزه العمل بما يورده فيه وكثيرا مّا ينقل فيه من فتاوى أبيه وهو صريح في تجويزه العمل بفتاوى أبيه بعد موته.

ولكن يزيّفه : منع صراحة ذلك ولا ظهوره فيما ذكر.

أمّا أوّلا : فلجواز كون فتاوي أبيه في الرسالة عنده بمثابة الروايات المرسلة ، لما ظهر من ديدن أبيه أنّه يفتي في الرسالة بمتون الأخبار بلا تفاوت أو مع تفاوت يسير لا يخلّ بالمقصود ، كما اشتهر نحوه من طريقة الشيخ في النهاية.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الظاهر من تجويزه العمل بكلّ ما يورده في الكتاب تجويزه العمل برواياته ، لأنّه كتاب ألّفه لضبط الروايات لا مطلق ما ينقله فيه ولو فتوى فقيه.

كما يندفع الثاني : بما ذكرناه في غير موضع من عدم كون مسائل الاجتهاد والتقليد من المسائل الاصوليّة بل الأكثر من الاولى من توابع الكلام والأكثر من الثانية من الفروع أو من توابعها.

ولو سلّم كونها اصوليّة فيمنع عدم حجّيّة الظنّ في نحو هذه المسائل لكونها اجتهاديّة مبتنية على الوجوه الظنّية ولذا تقبل التقليد.

واستدلّ على المختار أيضا بوجوه اخر :

منها : ما اعتمد عليه المحقّق الشيخ علي قدس سره في حاشية الشرائع من أنّ المجتهد إذا مات سقط بموته اعتبار قوله شرعا بحيث لا يعتدّ به ، وما هذا شأنه لا يجوز الاستناد إليه شرعا.

أمّا الملازمة الاولى : فعلّلها بجواز انعقاد الإجماع على خلاف قول الميّت إجماعا.

وتوضيحه : أنّ مخالفة الفقيه الواحد الحيّ لسائر أهل عصره يمنع من انعقاد الإجماع اعتدادا بقوله واعتبارا لخلافه ، فإذا مات وانحصر أهل العصر في المخالفين له انعقد

ص: 513

الإجماع على معنى أنّ مخالفته غير قادحة في انعقاده ، فلو كان قوله كقول الحيّ في الاعتبار لكان مخالفته قادحة والتالي باطل ، فصار قوله غير منظور إليه ولا معتدّا به شرعا.

ثمّ قال - معترضا على نفسه بما يرجع إلى منع الملازمة الثانية - : « لا يقال : إنّما انعقد الإجماع في الفرض المذكور بموت الفقيه المخالف لأنّ حجّية الإجماع عندنا إنّما هي بدخول المعصوم في أهل العصر من أهل الحلّ والعقد ، وبموت الفقيه المخالف تبيّن أنّه غير الإمام فتعيّن حينئذ دخول الإمام في الباقين ، فمن ثمّ انعقد الإجماع بموته ولا يلزم من ذلك أن لا يبقى للميّت قول شرعا » انتهى.

ومحصّله : أنّه لا يلزم من سقوط اعتبار قوله في انعقاد الإجماع سقوط اعتباره في مقام التقليد.

ثمّ دفعه بقوله : « بأنّه على هذا يلزم من موت الفقيه المخالف انكشاف خطأ قوله ، لمخالفته قول الإمام فلا يجوز العمل به حينئذ من هذا الوجه ، فتحصّل أنّ موت هذا الفقيه يقتضي عدم اعتبار قوله » انتهى ملخّصا.

والتحقيق في الجواب عن الدليل : أنّ الإجماع طريق علمي للفقيه إلى الحكم الواقعي ، وقول الفقيه طريق تعبّدي للعامي إلى الحكم الظاهري.

وغاية ما يلزم من موت الفقيه سقوط اعتبار قوله في انعقاد طريق الحكم الواقعي ، ولا يلزم من ذلك خروجه عن كونه طريقا إلى الحكم الظاهري.

وتوهّم أنّ الموجب لخروجه عن كونه طريقا كونه خطأ باعتبار مخالفته لقول الإمام.

يدفعه : أنّ المقتضي لخروج قول الميّت خطأ إنّما هو وقوع انعقاد الإجماع على خلافه ، والمأخوذ في الدليل جوازه وهو لا يفيد الوقوع ، إذ ليس بلازم لقول كلّ فقيه مات في كلّ مسألة أن ينعقد الإجماع على خلافه ، إذ قد تكون المسألة إجماعيّة مع موافقة قوله الإجماع ، وقد تكون إجماعيّة مع مخالفة قوله الإجماع ، وكثيرا مّا تكون خلافيّة مع موافقة قوله لأحد قوليها أو أحد أقوالها ، على أنّ الموجب لسقوط قوله عن الاعتبار مطلقا حتّى في مقام التقليد إنّما هو علم المقلّد بوقوع الإجماع بعد موته على خلافه ، وهو ليس بدائم الحصول له بل لا يكاد يتّفق حصوله.

فغاية ما هنالك قيام احتمال مخالفة قوله الإجماع باحتمال انعقاده بعد موته على خلاف قوله في كلّ مسألة ، وهذا ليس إلاّ كاحتمال مخالفة قوله في حال حياته الإجماع

ص: 514

في نظره ، بل هذا الاحتمال قائم في نظر كلّ مقلّد بالنسبة إلى قول مجتهده في كلّ مسألة ، ولا يعقل تأثيره في سقوط القول عن الاعتبار وإلاّ انسدّ باب التقليد في أغلب المسائل.

نعم لو اتّفق في بعض الفروض النادرة حصول علم له بانعقاد الإجماع على خلاف قول فقيه بعد موته لا يجوز له الرجوع إليه والعمل به ولا البقاء على تقليده ، لانكشاف كونه خطأ ، غير أنّه ليس حكما مخصوصا بقول الميّت ، بل كلّ فقيه علم المقلّد بكون قوله خطأ لم يجز له العمل بقوله حيّا كان أو ميّتا ، بل احتمال مخالفة الإجماع قائم في كلّ قول كلّ فقيه حيّا كان أو ميّتا ، فلا يثبت بذلك أصل كلّي مخصوص بقول الميّت مانع من العمل به مطّردا.

ولأجل بعض ما ذكرناه قيل في هدم الاستدلال من اختصاص الدليل بما إذا كان قول الميّت مخالفا لإجماع أهل عصره ، ولا يقتضي عدم جواز تقليده فيما إذا لم يكن كذلك ، كما لو كانوا مختلفين وكان قول بعضهم موافقا لقول الميّت.

وأمّا ما قيل في دفع ذلك من : أنّه ليس كذلك وإن كان بناء الاستدلال على فرض الكلام فيما إذا كان رأي الفقيه مخالفا لآراء سائر أهل عصره فمات ، فإنّ ممانعة قوله حال الحياة في هذا الفرض عن انعقاد الإجماع وعدم ممانعته بعد الموت دليل واضح على كون الموت سببا لسقوط اعتبار قوله بعد أن كان معتبرا.

ففيه : ما عرفت من عدم الملازمة بين سقوطه عن الاعتبار في تحقّق طريق الحكم الواقعي في نظر المجتهد وخروجه عن كونه طريقا إلى الحكم الظاهري في نظر المقلّد أيضا.

وعن الفاضل التوني في الوافية تضعيف الدليل بأنّه : « بعد عدم صحّته على اصولنا ينتقض بمعروف النسب ، مع أنّهم اعتبروا شهادة الميّت في الجرح والتعديل وهو يستلزم الاعتداد بقوله في عدد الكبائر ».

وفي الجميع ما ترى ، أمّا عدم صحّته على اصولنا من عدم اشتراط اتّفاق الكلّ في انعقاد الإجماع فلأنّه لا ينافي مخالفة قوله للإجماع - الّذي لا يشترط فيه اتّفاق الكلّ - مخالفته لقول الإمام المسقطة له عن الاعتبار مطلقا حتّى في مقام التقليد.

وأمّا النقض بمعلوم النسب عند القائلين بعدم كون خروجه قادحا في الإجماع.

ففيه : أنّ مخالفته وإن لم تقدح في انعقاده كمخالفة قول الميّت إلاّ أنّها تمنع عن اعتبار قوله أيضا في مقام التقليد.

وأمّا قبول شهادة الميّت في الجرح والتعديل فهو لا يستلزم تقليد ذلك الميّت في رأيه

ص: 515

في عدد الكبائر بعد فرض بنائه على كونهما من الظنون الاجتهاديّة لا على التعبّد ، فلا يجوز قبول الشهادة فيهما إلاّ في موضع حصول الظنّ بالعدالة أو الفسق ، ومعه فالتعويل في القبول على الظنّ والاستناد إليه لا إلى قول المعدّل والجارح من حيث إنّه قوله.

ومنها : ما ذكره المحقّق المذكور أيضا في الحاشية ممّا ملخّصه : « أنّ دلائل الفقه لمّا كانت ظنّية ليست مستلزمة لنتائجها وهي الأحكام بالذات ، بل إنّما تستلزمها باعتبار الظنّ فتكون حجّيتها منوطة بالظنّ ، ومعنى إناطة حجّيتها بالظنّ استناد الحكم الشرعي إليه بحيث يثبت بوجوده وينتفي بانتفائه ، وهذا الظنّ يمتنع بقاؤه بعد الموت بل يزول بالموت ، فيبقى الحكم خاليا عن السند ويخرج بذلك عن كونه معتبرا شرعا ».

وعن التوني في الوافية الاعتراض عليه أوّلا : بمنع زوال الظنّ بعد الموت.

وثانيا : بمنع خلوّ الحكم عن السند على تقدير الزوال ، فاقتران الحكم بالظنّ السابق يكفي سندا.

ومن الفضلاء من ظنّ أنّ معنى زوال الظنّ انكشاف واقع الأحكام وحقائق الأشياء فاستشكله : « بأنّه ممّا لا قاطع عليه من عقل ولا نقل قبل يوم القيامة ، نعم ينكشف ذلك له في القيامة ، والبحث في تقليده قبل قيامها.

قال : سلّمنا ذلك ، لكنّ الاعتقاد الراجح المتحقّق في ضمن الظنّ ممّا يمكن بقاؤه بموافقة العلم الطارئ له فيستصحب بقاؤه لعدم القطع بزواله ، إذ التقدير تجويز موافقة علمه لظنّه وزوال تجويز النقيض لا يقدح في حجّيته ، لأنّ حجّية الظنّ باعتبار ما فيه من الاعتقاد الراجح دون تجويز النقيض » إلى آخر ما ذكره.

ويرد عليه : منع كون زوال الظنّ في إرادة المستدلّ تبدّله بانكشاف الواقع المردّد بين العلم الموافق والعلم المخالف ، بل انعدامه إمّا باعتبار خروج محلّه عن قابليّة بقائه فيه أو باعتبار فناء محلّه ، فإنّ الظنّ أمر قائم بالذهن الّذي ربّما اختلف في كونه جزءا من البدن أو قوّة من قوى الإنسانيّة.

فقيل بالأوّل كما يظهر من العلاّمة البهبهاني من استدلاله على زوال الظنّ - فيما حكي عنه - أوّلا بالبداهة ؛ وثانيا : بأنّ الظنّ هو الصورة الحاصلة في الذهن ، فحين الشدّة والاضطراب حالة النزع لا يبقى تلك الصورة قطّ ، وكذلك حين الغفلة والنسيان أيضا ، فما ظنّك بما بعد الموت بحيث صار الذهن جمادا لا حسّ فيه؟

ص: 516

وقيل : بالثاني.

فعلى الأوّل يخرج الذهن عن قابليّة بقاء الظنّ فيه.

وعلى الثاني يفنى الذهن بالموت الّذي يفنى بسببه جميع القوى الحيوانيّة والقوى الإنسانيّة الّتي منها القوّة المدركة.

ألا ترى أنّ الهرم والشيب وارتفاع السنّ يوجب ضعف القوى والحواسّ الظاهرة والباطنة حتّى أنّه يبلغ حدّا يذهب معه بالسامعة والباصرة والمدركة وغيرها ، فيصير بحيث لا يبصر ولا يسمع ولا يدرك ولا يفهم شيئا كالطفل الغير المميّز ، كما نطق به قوله عزّ من قائل : ( وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً ) .

ولا ريب أنّ ألم حالة النزع الّذي أشدّ من جميع الآلام يوجب اختلال العلوم والإدراكات ويزول الجميع بالموت بسبب فناء القوى الحيوانيّة والإنسانيّة الّتي منها الذهن.

ولعلّ هذا القول أقوى وأقرب بالاعتبار ، ونصّ عليه بعض أهل المعقول ونسب إلى المحقّقين أيضا ، فالظنّ ومحلّه - وهو الذهن بمعنى القوّة الدرّاكة - من الأعراض المشروطة بالحياة ، فدعوى بقائه مع فناء محلّه أو منشائه بعد الموت واهية لا ينبغي الإصغاء إليها.

وممّا يؤيّد ذلك أيضا أنّ الظنّ متقوّم بالقوّة المدركة وهي كسائر القوى متقوّمة بالحياة وهي متقوّمة بالأخلاط الأربعة ، ولذا قيل : ليس الموت إلاّ فناء الأخلاط الأربعة ولكلّ منها أثر في البدن ، مثل أنّ أثر الصفراء جودة الفهم وحسن الإدراك وسرعة الانتقال ، وأثر البلغم رداءة الفهم وسوء الإدراك وبطؤ الانتقال ، وأثر الدم الشهوة والغضب وغير ذلك ، فإذا كان للأخلاط مدخليّة في الإدراكات يلزم من فنائها الّذي هو الموت زوال آثارها الّتي هي الإدراكات الّتي منها الظنون.

وبالجملة العلوم والإدراكات وإن كانت من فعل الروح والنفس الناطقة إلاّ أنّ فاعليّته مشروطة بتعلّقه بالبدن وتوسّط القوى الإنسانيّة ، وإذا انقطع التعلّق وفنت القوى بالموت زالت العلوم والإدراكات كلّها ، وهل يتجدّد له بعد الموت علوم اخر وهو معنى انكشاف الواقع أو لا؟ الحقّ أنّه لا دليل من عقل ولا نقل على وقوع الأوّل ولا على امتناعه والأصل عدمه ، ولا يتفاوت الحال في ذلك بين ما لو قلنا بالبدن المثالي في عالم البرزخ مطلقا - على معنى أنّ الروح بعد مفارقته هذا البدن يتعلّق في جميع حالاته إلى قيام الساعة ببدن آخر مثل هذا البدن - أو في الجملة ، كما يستفاد من الأخبار منها ما عن الكافي في الصحيح

ص: 517

عن ابن أبي عمير عن حمّاد عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن أرواح المؤمنين ، قال : « في الجنّة على صور أبدانهم ، لو رأيته لقلت : فلان » وغير ذلك ممّا ورد في أرواح المؤمنين والكفّار.

وتوهّم إثبات العلم له بعد الموت باستصحاب الاعتقاد الراجح المتيقّن ثبوته حال الحياة نظير استصحاب الولاية السارية للأب أو الجدّ على الصغير الّذي بلغ سفيها لإثباتها بعد البلوغ.

غاية الأمر تقوّمه حال اليقين بتجويز النقيض وفي زمان الشكّ بعدم تجويزه وهذا لا يوجب إلاّ تأكّد ترتّب الأحكام على المستصحب الّتي منها جواز العمل به للمقلّد.

يدفعه : أنّ مرجع هذا الاستصحاب إلى استصحاب القدر المشترك في أخسّ أنواعه ، وهو ما تيقّن ارتفاع الفرد المتيقّن ثبوته في الزمان السابق وشكّ في تجدّد الفرد الآخر في الآن الثاني ، وقد تقدّم في محلّه الإشكال في صحّته بل منع اعتباره ، لعدم اندراجه في ضابط الاستصحاب خصوصا في نحو المقام لو بنى على المداقّة ، لرجوعه إلى ما يدور بين إبقاء ما تيقّن ارتفاعه وإبقاء ما لم يتيقّن تجدّده وحدوثه ، وذلك لأنّ الكلّي المشترك الموجود في ضمن الأفراد معنى وجوده تحقّق حصّة منه مع كلّ فرد ، ولا ريب أنّ الحصّة الاولى قد زالت وتجدّد الحصّة الاخرى غير معلوم ، فإن اريد بالاستصحاب إبقاء الحصّة الاولى كان من إبقاء ما تيقّن ارتفاعه ، أو إبقاء الحصّة الاخرى كان من إبقاء ما شكّ في حدوثه ، والكلّ باطل.

نعم لو بنى على المسامحات العرفيّة فربّما صحّ استصحابه إلقاء للخصوصيّة واعتبارا له لا بشرط ، ولكن المقام لا يندرج فيها ، لعدم ثبوت بناء أهل العرف في نحوه على المسامحة ، بل الثابت خلافه اعتبارا لأصالة عدم الحدوث المتقدّمة على الاستصحاب المذكور إن صحّحناه ، كيف وليس بصحيح من أصله.

وبعد اللتيّا والّتي والبناء على الانكشافات وتجدّد العلوم له أو على تصحيح الاستصحاب المذكور لا يترتّب عليه أثر في التقليد وجواز العمل به للمقلّد لوجوه :

الأوّل : أنّ القدر المعلوم خروجه من الأصل المقتضي لمنع التقليد إنّما هو الاعتقادات الحاصلة للفقيه بواسطة آلاتها الّتي هي القوى الإنسانيّة ، والّذي تجدّد بعد الموت اعتقادات حاصلة من غير توسّط تلك الآلات وليس في أدلّة مشروعيّة التقليد المخرجة له من الأصل إطلاق يتناول هذه الاعتقادات ، وهو كاف في الحكم بالمنع عملا بالأصل.

ص: 518

الثاني : أنّ القدر المسلّم المعلوم خروجه من الأصل أيضا إنّما هو الاعتقادات المستندة إلى الأدلّة المعهودة والطرق المتعارفة بواسطة الملكة النفسانيّة المعتبرة في الفقيه ، وأمّا غيرهما ومنه العلوم الحاصلة بطريق المكاشفة المستندة إلى الرياضات الغير الشرعيّة فلم يظهر من مطلقات التقليد إطلاق بالقياس إليه ، وهو كاف في الرجوع إلى الأصل.

ولا ريب أنّ الانكشافات الّتي تحصل للميّت تستند إلى غير هذه الطرق ، ولا دليل على جواز الأخذ بها والعمل عليها مع فرض موافقتها للإدراكات الحاصلة حال الحياة المستندة إلى الطرق المعهودة الاجتهاديّة ، كيف والموافقة أيضا غير محرزة لاحتمال المخالفة ، حتّى أنّ المجتهد الظانّ لو حصلت له حال الحياة بعد الاجتهاد والاستنباط انكشافات من طريق الرياضة لم يجز لغيره الأخذ بها والعمل عليها ، ويكفي فيه مجرّد عدم الدليل على الجواز عملا بالأصل.

الثالث : أنّ اعتقادات المجتهد إنّما يجب اتّباعها والأخذ بها لكون معتقداته أحكاما فعليّة ، وكونها أحكاما فعليّة في حقّ المجتهد وإن لم يكن تابعا لكونها كذلك في حقّ المقلّد كما في المتجزّي على القول بحجّية ظنّه وعدم جواز تقليده ، ولكن كونها أحكاما فعليّة في حقّ المقلّد تابع لكونها كذلك في حقّ المجتهد ، ولذا لا يجوز تقليد من طرأه النقص من زوال ملكة أو زوال عقل ابتداء ولا استدامة.

ولا ريب أنّ بموت المجتهد يخرج معتقداته عن كونها أحكاما فعليّة في حقّه فكذلك في حقّ المقلّد ابتداء واستدامة.

لا يقال : خروجها عن كونها أحكاما فعليّة في حقّ المجتهد إنّما هو لخروجه بالموت عن حدّ التكليف وقابليّته ، لأنّه منقوض بمن طرأه الجنون المخرج له عن حدّ التكليف وقابليّته.

والحلّ : أنّ الحكم الفعلي نسبته واحدة حصلت بين المجتهد ومقلّده من جهة واحدة وإذا ارتفعت بالقياس إلى المجتهد نفسه استحال بقاؤها في حقّ المقلّد ، ولا ينتقض ذلك بالمتجزّي لأنّ هذه النسبة فيه من حين حدوثها لم تتعلّق بغيره ممّن وظيفته التقليد.

وبالتأمّل في تضاعيف كلماتنا ينقدح أمران :

أحدهما : منع الأولويّة المتوهّمة في هذا المقام بناء على تجدّد انكشافات الميّت بعد الموت بالنظر إلى ظنّه حال الحياة ، لأنّه إذا جاز العمل بظنّه فلأن يجوز العمل بالانكشافات العلميّة بعد الموت طريق الأولويّة.

ص: 519

أمّا أوّلا : فلأنّ الأولويّة بعد تسليمها إنّما تثمر في جواز العمل بالانكشافات العلميّة على تقدير موافقتها الظنّ وهي غير محرزة ، لقيام احتمال المخالفة في كلّ مسألة.

وأمّا ثانيا : فلانتفاء الأولويّة من أصلها بعد ملاحظة ما قرّرناه من الوجوه الثلاث سيّما الوجه الأخير.

وثانيهما : بطلان الاستصحاب لو اريد إجراؤه في الحكم المعتقد على تقدير عدم جريانه بالنسبة إلى الاعتقاد حسبما بيّنّاه ، لكونه من قبيل الاستصحاب العرضي الّذي ظهر بطلانه في محلّه ، وذلك لأنّ الحكم الّذي اريد استصحابه إن قدّر كونه الحكم الفعلي الظاهري فلا شكّ في ارتفاعه ، وإن قدّر كونه الحكم الواقعي فهو من أوّل الأمر غير معلوم.

ومن جميع ما قرّرناه يظهر ما فيما تقدّم عن بعض الفضلاء من منع زوال ظنون المجتهد بمجرّد الموت وانكشاف واقع الأحكام له ، استنادا إلى عدم دليل عليه من عقل ولا نقل تارة ، والتمسّك باستصحاب بقاء الاعتقاد الراجح بمجرّد احتمال الموافقة بعد تسليم الانكشاف اخرى ، فإنّ منع الزوال والانكشاف إن أراد به منع زوال الظنون رأسا فليس في محلّه لما عرفت من أنّ أصل الزوال ممّا لا محيص من الإذعان به ، وإن أراد به منع تجدّد الانكشاف فهو في محلّه حسبما بيّنّاه.

وأمّا استصحاب الاعتقاد الراجح بعد تسليم تجدّد العلوم والانكشافات فهو من أغرب الغرائب ، لعدم اندراجه في ضابط استصحاب القدر المشترك ، لبناء الفرض على تيقّن زوال الفرد الأوّل وتيقّن حدوث الفرد الثاني.

وتوهّم أنّ الغرض من إعماله إثبات موافقة العلم المتجدّد نظرا إلى احتمالها.

يدفعه : أنّ الاعتقاد الراجح جنس مشترك بين الظنّ والعلم الموافق والعلم المخالف فيكون أعمّ ، ولا يعقل من الأعمّ كونه مثبتا للأخصّ.

ألا ترى أنّ استصحاب الجواز في مسألة نسخ الوجوب لا يفيد بنفسه ثبوت الندب أو الإباحة بالمعنى الأخصّ إذا دار الأمر بينها ، بل هو في المقام أولى بعدم إفادة ثبوت الخاصّ ، إذ لا تغائر بين العلم الموافق والعلم المخالف إلاّ باعتبار المتعلّق كما لا يخفى.

وعلى تقدير صحّته وإفادته ثبوت العلم الموافق لا يترتّب عليه فائدة ، لما عرفت من عدم كون نحو هذا العلم مناطا للاعتبار في التقليد ، وسيلحقك زيادة كلام في هذا المقام عند التعرّض لأدلّة المجوّزين لتقليد الميّت مطلقا أو استدامة فقط.

ص: 520

ومنها : ما اعتمد عليه المحقّق المذكور أيضا في الحاشية المذكورة من : أنّه لو جاز العمل بقول الفقيه بعد موته امتنع في زماننا هذا ، للإجماع على وجوب تقليد الأعلم والأورع من المجتهدين ، والوقوف لأهل هذا العصر على الأعلم والأورع بالنسبة إلى الأعصار السابقة كاد أن يكون ممتنعا.

وفيه : - مع أنّ الوقوف على الأعلم والأورع من الأموات قد يتأتّى بمراجعة كتبهم وتصانيفهم واشتهاره فيما بين الطائفة ، وكونه بحيث يعتنى بشأنه ويستشهد بقوله وفتواه في المسائل الخلافيّة - منع الملازمة ، إذ غاية ما يلزم من امتناع الوقوف على الأعلم والأورع منهم بعد العلم الضروري بوجوده فيما بينهم إجمالا إنّما هو سقوط اعتبار الأعلميّة والأورعيّة لا امتناع تقليد الميّت ، وذلك لما تقدّم في بحث تقليد الأعلم أنّ الأعلميّة والأورعيّة من باب المانع من تقليد غير الأعلم والأورع بل من باب المرجّح لتقليد الأعلم والأورع عند الاختلاف بينه وبين غيره في المسائل الخلافيّة ، فإذا تعذّر تشخيص محلّهما بعد العلم بوجودهما إجمالا سقط اعتبارهما ويثبت التخيير لعدم غيره حتّى العمل بالاحتياط ، لأنّ التقليد في حقّ العامي الغير المتمكّن من الاجتهاد إنّما يثبت مشروعيّته بعد الفراغ عن إثبات سقوط اعتبار الاحتياط لتعذّره أو تعسّره.

وللمانعين من تقليد الميّت حجج اخر واهية لا جدوى في التعرّض لها ولما فيها من وجوه الضعف ، وقد تعرّض لإيراد أكثرها السيّد الطباطبائي قدس سره في مفاتيحه.

أدلّة القول بجواز تقليد الميّت

وللقول بجوازه أيضا وجوه :

أوّلها : إطلاق أدلّة مشروعيّة التقليد كتابا وسنّة ، أمّا الكتاب فكآيات النفر والكتمان والسؤال فإنّه بإطلاقها تتناول الموتى وتدلّ على جواز الأخذ بفتاويهم والعمل بها.

وهذا كما ترى أضعف شيء ذكر في المقام ، ويرد عليه - بعد الإغماض عمّا قدّمناه في محلّه من منع دلالة هذه الآيات على أصل مشروعيّة التقليد فضلا عن تناولها لتقليد الميّت والبناء على نهوض دلالاتها على المشروعيّة - منع الأطلاق تارة ووجوب الخروج عنه اخرى.

أمّا آية النفر : فيرد على الاستدلال بها ظهورها في الأحياء ، فإنّ إسناد الإنذار إلى المتفقّهين وتوقيته برجوعهم إلى قومهم ظاهر كالصريح في وجوب قبول فتاويهم والعمل بها حال حياتهم.

ص: 521

لا يقال : يتمّ في الأموات بالإجماع المركّب كما هو كذلك في العمل برواياتهم ، فإنّ المستدلّين بالآية لاثبات حجّية خبر الواحد لا يفرّقون في العمل بالرواية بين حياة الراوي ومماته ولا جهة له إلاّ الإجماع المركّب.

لأنّ الإجماع المركّب إنّما يسلّم في الرواية وأمّا الفتوى فإن لم ندّع الإجماع على الفرق - كما يرشد إليه الإجماعات المنقولة على منع تقليد الميّت - فلا أقلّ من كون القول به مشهورا ، وإن لم ندّع الشهرة أيضا فلا أقلّ من دعوى وجود قائل به بل مصير جماعة إليه.

ومع هذا كلّه فكيف يعقل الإجماع على عدم الفرق بين العمل بفتوى الحيّ والعمل بفتوى الميّت.

ولو سلّم عدم ظهورها في العمل بفتاوى المنذرين في حال حياتهم فلا نسلّم أيضا ظهورها في الإطلاق ، فيكون مفادها وجوب العمل بفتاوى المنذرين على وجه الاهمال ، ومن حكم القضيّة المهملة وجوب الأخذ فيها بالقدر المتيقّن وهو هنا فتاوى الأحياء والرجوع في غيره وهو فتاوى الميّت إلى الأصل المنحلّ إلى اصول متعدّدة حسبما قرّرناها في بيان مستند القول المختار.

ولو سلّم الإطلاق فوجب الخروج عنه بتخصيص الآية بالأحياء بالإجماعات المنقولة المتقدّمة المعتضدة بالشهرة العظيمة القريبة من الإجماع ، بل ظهور إجماع السلف على المنع مع اعتضادها بالاعتبار المتقدّم القاضي بزوال الظنّ بالموت.

وأمّا آية الكتمان ، فيرد عليها :

أوّلا : أنّ دلالتها على وجوب القبول والعمل ليست بطريق المطابقة بل بطريق الالتزام ، للملازمة بين وجوب إظهار الهدى ووجوب قبوله الّذي هو التقليد عرفا أو عقلا ، بتقريب : أنّه لو لا جواز القبول لزم خروج الاظهار لغوا خاليا عن الفائدة وهو قبيح ، فيكون الأمر به أمرا بالقبيح وهو قبيح مناف للحكمة ، وهذا المدلول الالتزامي أمر معنويّ لا لفظ فيه ليكون عنوانا للعموم أو الإطلاق.

فأقصى ما يسلّم فيه ثبوته على طريقة القضيّة المهملة ، فيجري فيها ما تقدّم من وجوب الأخذ بالقدر المتيقّن والرجوع في غيره إلى الأصل.

وثانيا : أنّه على تقدير ثبوت الإطلاق يجب الخروج عنه في الأموات بما مرّ من الإجماعات واعتضاداتها.

ص: 522

وأمّا آية السؤال ففيها :

أوّلا : أنّ حقيقة السؤال المأمور به تأبى تناول الآية للرجوع إلى الأموات ، لعدم صدق السؤال عليه عرفا ولا لغة.

وثانيا : أنّه لا إطلاق في الأمر بالسؤال بحيث يقضي بوجوب تقليد الميّت ابتداء أو استدامة.

أمّا في الأوّل : فلأنّ السؤال عند الجهل إنّما وجب لوجوب القبول والعمل ، لا أنّ القبول والعمل يجب لوجوب السؤال ، فيكون وجوب السؤال مقدّميّا غيريّا فيكون في إطلاقه وعمومه أو بيانه وإجماله تابعا للقبول والعمل الّذي هو الواجب الأصلي النفسي.

ومن الظاهر أنّه في الآية أمر لبّي لا لفظ فيه ليكون عنوانا في الحكم ويعتبر فيه عموم أو إطلاق فلا يكون إلاّ قضيّة مهملة ، ويكفي في خروج الأمر بالسؤال عن اللغويّة وجوبه في الجملة ، والقدر المتيقّن منه وجوب السؤال من الأحياء والعمل بفتواهم في المسألة ، فيبقى غيره غير مندرج في الآية.

وأمّا في الثاني : فلأنّ مقتضى الأمر بالسؤال المعلّق على عدم العلم وجوبه عند طروّ حالة الموت.

فإن قلت : إنّ العلم في هذه الحالة حاصل ولا حاجة معه إلى السؤال.

قلنا : إن أردت بالعلم العلم الحقيقي فالأمر على تقدير كونه حاصلا كما ذكرت ، إلاّ أنّه خلاف المفروض لكون مبنى التقليد على التعبّد لا العلم ولا الظنّ ، وإن أردت به العلم الشرعي وهو فتوى المجتهد الّتي يجب العمل عليها نطالبك بدليل ذلك ، فإنّا في شكّ في وجوب [ العمل ] بقول المجتهد الميّت.

وقضيّة ذلك وجوب الرجوع إلى الحيّ وسؤاله بمقتضى الأمر بالسؤال المعلّق على عدم العلم.

وثالثا : أنّه على تقدير تسليم الإطلاق فلا بدّ من الخروج منه بما عرفت.

وأمّا السنّة فطائفتان من الأخبار :

إحداهما : ما دلّ بالعموم على الأمر بتقليد الفقهاء كالمرويّ عن احتجاج الطبرسي عن تفسير العسكري في حديث طويل من قوله عليه السلام : « من كان من الفقهاء صائنا لنفسه ، حافظا لدينه ، مخالفا على هواه ، مطيعا لأمر مولاه ، فللعوام أن يقلّدوه » أو بالرجوع إلى رواة

ص: 523

الحديث كما في التوقيع المرويّ عن الفقيه وإكمال الدين واحتجاج الطبرسي من قوله عليه السلام : « أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة اللّه عليهم ».

واخراهما : الأخبار الجزئيّة الواردة في أشخاص مخصوصين من أصحاب الأئمّة عليهم السلام الآمرة لبعضهم بالإفتاء ، كما في أبان بن تغلب من قول الباقر عليه السلام : « اجلس في هذا المجلس وأفت بين الناس ، فإنّي احبّ أن يرى في شيعتي مثلك » وفي جماعة بأخذ معالم الدين عنهم كما في أبي بصير الأسدي وزكريّا بن آدم ويونس بن عبد الرحمن.

فإن كان النظر في الاستدلال إلى الطائفة الاولى ففيه أوّلا : الطعن في أسانيدها.

وثانيا : منع الإطلاق بدعوى ظهورها في الأحياء ، فإنّ الموصوف بالصفات المذكورة في الرواية الاولى لا يكون إلاّ الحيّ ، والضمير في قوله : « أن يقلّدوه » راجع إلى هذا الموصوف ، فالأمر بالتقليد هنا لا يشمل غير الأحياء ، ولو سلّم العموم ولو بالقياس إلى الأحوال الّتي منها حالة الموت فلا بدّ من تخصيصها بحالات الحياة أو بالأحياء بما تقدّم من الإجماعات.

والرواية الثانية أيضا لا تتناول غير الأحياء بضابطة ما هو الأصل في المشتقّ من كونه لحال التلبّس بالمبدأ ، وهو في الراوي من قبيل الملكات فيكون عبارة عمّن شأنه الرواية.

ولا ريب أنّ رواة الحديث بهذا المعنى لا يكونون إلاّ الأحياء.

وممّا يؤكّد ذلك أنّه لو لا المراد الإرجاع إلى الأحياء لناسب أن يقال : « فارجعوا إلى رواياتنا ، أو إلى أحاديثنا ، أو إلى كتب رواة حديثنا » ولو سلّم العموم أو الإطلاق لوجب الخروج عنه أيضا بما عرفت.

وأضعف من الاستدلال بنحو هاتين الروايتين ما قد يوجد من الاستدلال بما دلّ من الأخبار على تأبيد الأحكام مثل قوله عليه السلام : « حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة ، وحرامه حرام إلى يوم القيامة ».

وفيه : أنّ الحلال والحرام الواقعيّين كما في الرواية وكلامنا في الأحكام التقليديّة الّتي هي الأحكام الظاهريّة المعلّقة على موضوع أخذ فيه قيود من الاجتهاد والإيمان والعدالة ويحتمل كون الحياة منها ، واللازم فيه ارتفاع الأحكام بزوال الحياة ، فلا مستند للحكم ببقائها إلاّ الاستصحاب. وسيأتي الكلام فيه.

وإن كان النظر إلى الطائفة الثانية. ففيه : منع كون أخذ معالم الدين عن آحاد الأشخاص

ص: 524

المخصوصين تقليدا لهم حتّى يكون الأمر بذلك الأخذ أمرا بتقليد هؤلاء ، فإنّهم فيما يروونه أو يفتون به كانوا يقصدون النقل عن أئمّتهم عليهم السلام وإن لم يذكروه بصورة النقل.

ومن المعلوم أنّ الأخذ بما ينقله الواسطة لا يسمّى في العرف تقليدا للواسطة ، كأخذ المقلّد بما ينقله العدل عن مجتهده حيث لا يسمّى تقليدا لذلك العدل ، فالغرض الأصلي من الأوامر الواردة في الأخبار الخاصّة إخراج أصحابهم السائلين عمّن يؤخذ عنه معالم الدين عن الجهالة في الدين وبلوغ الحقّ إليهم ووصولهم إلى الواقع النفس الأمري المتلقّى منهم عليهم السلام ، لا تحصيل موضوع الحكم الظاهري الّذي هو قول المفتي من حيث نفسه ، كما يرشد إليه قضيّة انفتاح باب العلم لهم ، فالمطلوب منهم تحصيل الواقع لا الأخذ بقول الغير تعبّدا.

وممّا يؤيّد ذلك ويؤكّده أو يدلّ عليه وصف جماعة من هؤلاء بالوثاقة والأمانة ، ومنه ما ورد في شأن زكريّا بن آدم عن عليّ بن المسيّب الهمداني قال : قلت للرضا عليه السلام : شقّتي بعيدة ولست أصل إليك في كلّ وقت ، فممّن آخذ معالم ديني؟ قال : « من زكريّا بن آدم المأمون على الدين والدنيا ».

وما ورد في العمري - الّذي هو وابنه من السفراء - عن أحمد بن إسحاق قال : سألت أبا الحسن عليه السلام قلت له : من اعامل؟ وعمّن آخذ؟ وقول من أقبل؟ فقال له : « العمري ثقة فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي ، وما قال لك عنّي فعنّي يقول ، فاسمع له وأطع فإنّه الثقة المأمون ».

وفيه وابنه عن أحمد بن إسحاق أنّه سأل أبا محمّد عليه السلام عن مثل ذلك ، فقال له : « العمري وابنه ثقتان فما أديّا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان ، وما قالا لك فعنّي يقولان ، فاسمع لهما وأطعهما ، فإنّهما الثقتان المأمونان ».

وما ورد في يونس من قوله عليه السلام : « نعم » لمّا قال له عبد العزيز المهتدي : ربّما أحتاج ولست ألقاك في كلّ وقت ، أيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني؟ قال : « نعم » (1).

وبالجملة إناطة أخذ معالم الدين بالوثاقة والأمانة في هذه الأخبار تدلّ على أنّ المقصود من [ الرجوع إلى ] أصحاب الأئمّة والرواة إنّما هو التوصّل إلى الحكم الواقعي المتلقّى من الأئمّة والرواة من غير فرق في ذلك بين ما لو صدر بيانه من الجماعة

ص: 525


1- رجال الكشي : 483 رقم 910.

المذكورين بصورة الرواية أو الفتوى.

وبالجملة الأخذ من هؤلاء الأجلاّء والموثّقين كالأخذ من الإمام والنبيّ ليس تقليدا وإن كان المأخوذ صادرا منهم بصورة الفتوى.

ولو سلّم كونه تقليدا نقول : إنّ الأخبار الآمرة به مختصّة بهؤلاء الأجلاّء في حال حياتهم ، وليس فيها ما يتناول غيرهم من الأحياء ولا الأموات ، ولا ما بعد ممات هؤلاء من عامّ أفرادي ولا أزماني ولا أحوالي.

وتوهّم الدلالة على ما بعد الموت ممّا ورد في كتاب يونس عن داود بن القاسم أنّ أبا جعفر الجعفري قال : أدخلت كتاب يوم وليلة الّذي ألّفه يونس بن عبد الرحمن على أبي الحسن العسكري عليه السلام فنظر فتصفّحه كلّه ، ثمّ قال : « هذا ديني ودين آبائي وهو الحقّ كلّه » (1).

وعن أحمد بن أبي خلف قال : كنت مريضا فدخل عليّ أبو جعفر عليه السلام يعودني في مرضي ، فإذا عند رأسي كتاب يوم وليلة ، فجعل يتصفّحه ورقة ورقة حتّى اطّلع عليه من أوّله إلى آخره ، وجعل يقول : « رحم اللّه يونس رحم اللّه يونس » (2).

وعن صاحب الوافية أنّه قال : « والظاهر أنّ الكتاب كان كتاب الفتوى ، فحصل تقرير الإمام عليه السلام على تقليد يونس بعد موته ».

يدفعه - بعد تسليم سلامة سند الخبرين - : منع كون الكتاب كتاب الفتوى ، بل يكفي في منع الدلالة احتمال كونه كتاب الرواية ، ولئن سلّمنا ظهور كونه كتاب الفتوى لا دلالة في الترحيم ولا التقرير ولا التصريح بأنّه « ديني ودين آبائي » على التقليد المبحوث عنه ، لكون جميع ما في الكتاب أحكاما واقعيّة متلقّاة من أهل بيت العصمة سلام اللّه عليهم كما هو مقتضى كونه دينه ودين آبائه.

وقد يتوهّم الدلالة من جهة الأخبار المذكورة بواسطة المناط القطعي المستنبط منها ، وهو كون حجّية قول الحيّ في حقّ المقلّد لأجل كونه حكاية وكاشفا عن الواقع ، وهذا لا يتفاوت فيه الحال بين الحياة والممات.

وفيه : أنّ هذا على تقدير كون المخبر به هو الحكم الواقعي مسلّم ، لكنّ الحكم المفتى به فيما نحن فيه حكم ظاهري تعبّدي تابع للظنّ الاجتهادي فربّما يكون لحياة المجتهد مدخليّة في موضوعه فيرتفع بالموت ، وجعله كما لو أخبر بالحكم الواقعي قياس لا نقول به.

ص: 526


1- رجال الكشّي : 484 رقم 915.
2- رجال الكشّي : 484 رقم 913.

وثانيها : أنّه لو لم يجز تقليد الميّت لما أجمعوا على النقل من السلف وعلى وضع الكتب ، بيان الملازمة : أنّه لا فائدة في هذين إلاّ العمل بأقوال السلف والاعتماد عليها في العبادات والمعاملات ، وليس هذا إلاّ تقليدا.

وفيه من الضعف ما لا يخفى ، ويكفي في بطلانه أنّه يستلزم كون جواز تقليد الميّت إجماعيّا وهو كما ترى ، ويقتضي كون الفقهاء والمجتهدين مقلّدين إذ لا يرجع إلى أقوال السلف وكتبهم إلاّ الفقهاء والمجتهدين وهو أيضا كما ترى.

والحلّ : أنّ الرجوع إلى أقوال السلف وكتبهم ليس لتقليدهم والعمل بأقوالهم تعبّدا ، بل للاستعانة على فهم مدرك المسألة ولمّها ، والاحاطة بأطرافها ، ومعرفة الإجماع والخلاف أو الشهرة والندرة ، أو غير ذلك من الفوائد كمعرفة طريقة الاجتهاد وترجيحات الفقهاء وكيفيّة بناء الأدلّة بعضها على بعض ، ومعرفة الجرح والتعديل والتقيّة وعدمها ، والشاذّ النادر والاصطلاحات.

بل عن العلاّمة البهبهاني : « أنّه لا يمكن الاجتهاد إلاّ بملاحظة كتب السلف ، ولا يكون واقعا في الأزمنة الواقعة بعد الغيبة إلاّ بذلك » بل عنه : « أنّ كتبهم ينتفع المتعلّمين أيضا إذ لولاها لما أمكنهم الدرس والتعلّم » انتهى.

ثالثها : أنّه لو لم يجز تقليد الميّت لزم العسر والحرج ، لخلوّ كثير من الأمكنة والأزمنة عن المجتهد الحيّ أو عن إمكان التوصّل إليه.

وفيه أوّلا : منع الملازمة ، فإنّا لم نسمع من لدن بناء التقليد أنّه لزم من منع تقليد الموتى وسدّ بابه العسر والحرج.

وثانيا : أنّ جواز تقليد الميّت على تقدير تسليم العسر يتقدّر بقدر لزومه ، ولا يلزم بذلك فتح باب تقليد الميّت بقول مطلق ، والأصل فيه ما مرّ تحقيقه من كون نفيه حسبما ينساق من أدلّته شخصيّا.

ورابعها : أنّ قول المجتهد الميّت يفيد الظنّ ، فيجب العمل به لعموم ما دلّ على حجّية الظنّ.

وهذا أضعف من سابقيه ، لمنع كون قول الميّت في جميع أحواله وفي جميع الموارد مفيدا للظنّ ، إلاّ أن يراد كونه قد يفيد الظنّ فيعارضه أنّ قول الحيّ أيضا قد يفيد الظنّ ، فوجب إناطة أمر التقليد بما يفيد الظنّ حيّا كان أو ميّتا لا فتح باب تقليد الميّت مطلقا ، مع

ص: 527

بناء الدليل على كون التقليد من باب الظنّ وقد عرفت بطلانه ، مع تطرّق المنع إلى عموم حجّية الظنّ حتّى ظنّ المقلّد ، لفقد ما دلّ عليه من عقل ونقل.

وكأنّه أراد من عموم ما دلّ عليه دليل الانسداد.

ويدفعه : ما ذكرناه مرارا من أنّه لا نظر في دليل الانسداد إلى الظنّ بل إلى ما هو أقرب إلى العلم والواقع ، ولا يكون بعد تعذّر العلم وسقوط اعتبار الاحتياط إلاّ الظنّ الاجتهادي ومظنون المجتهد ، وكما أنّه أقرب إليه في حقّ المجتهد فكذلك في حقّ المقلّد ، وموافقة ظنّ المقلّد له ومخالفته لا يؤثّر في قربه وبعده ، خصوصا إذا كان مستند الظنّ هو قول المجتهد.

ولو اريد بعموم دليل الحجّية إطلاق إجماعات المنقولة على حجّية الظنّ حال انسداد باب العلم.

ففيه - مع أنّ معقد هذه الإجماعات ظنّ المجتهد لا غير - : أنّه يعارضه إطلاق الإجماعات المنقولة على عدم جواز تقليد الميّت فإنّه يعمّ ما لو أفاد قول الميّت الظنّ وعدمه.

ومن هنا قد يورد على الدليل المذكور : بأنّ مقتضاه على تقدير تماميّته كون تكليف العامي هو العمل بالظنّ.

ولا ريب أنّ الظنّ الحاصل من فتوى المعظم بعدم جواز تقليد الميّت والإجماعات المنقولة والشهرة المحقّقة والمحكيّة وغيرها من الآيات والأخبار على تقدير نهوضها بمنع تقليد الميّت مانع من العمل بالظنّ الشخصي الحاصل له في خصوص المسألة من قول الميّت.

ومن المقرّر كما اشتهر بينهم أنّه إذا تعارض الظنّ المانع والظنّ الممنوع قدّم الظنّ المانع مطلقا ، خصوصا إذا كان أقوى من الممنوع كما فيما نحن فيه ، لكون سببه أقوى من سبب الممنوع بمراتب شتّى.

وخامسها : الاستصحاب ولعلّه عمدة أدلّة المجوّزين.

ويقرّر تارة : بالقياس إلى حال الفتوى بلحاظ أنّها في حياة المجتهد كانت معتبرة وحجّة.

واخرى : بالقياس إلى حال المفتي بلحاظ أنّه كان ممّن يجوّز تقليده.

وثالثة : بالقياس إلى حال المستفتي بلحاظ أنّه حال حياة ذلك المجتهد جاز له تقليده ، ويشكّ في ارتفاع هذه الأحكام بالموت من باب الشكّ في قدح العارض كالمذي في المتطهّر.

ص: 528

ومن المقرّر في محلّه حجّية الاستصحاب في نحوه ، وهذه الاستصحابات وإن كان بعضها يرجع إلى بعض وكان مفاد الجميع واحدا إلاّ أنّ الأخير منها لا يفيد جواز تقليد الميّت إلاّ في حقّ من عاصره لامتناع الجواز في حقّ المعدوم ، والأوّل منها يعمّه وغير المعاصر ، وأمّا الثاني منها فقد يتوهّم كونه كالأخير فيختصّ بمن عاصر المجتهد الميّت في زمان حياته لامتناع تحقّق الجواز في حقّ غيره مع كونه معدوما.

وفيه : أنّه إنّما يتمّ على تقدير إرادة الجواز التكليفي ولعلّه ليس بمراد ، بل المراد الجواز الوضعي الّذي مرجعه إلى أهليّة الميّت حال حياته لأن يقلّد.

وهذه صفة ثابتة فيه يتساوى نسبته إلى من عاصره وغيره.

وكيف كان فيرد عليه بجميع تقاديره : أنّه - مع ما تقدّم من الإجماعات المنقولة المعتضدة بما مرّ الّتي هي دليل اجتهادي تامّ على المنع - غير جار.

ومع الغضّ عن ذلك فهو من أصله غير صحيح ، لاشتراط صحّته ببقاء موضوع المستصحب وهو غير محرز.

وتوهّم كونه من باب ما يشكّ في قدح العارض ، يدفعه : أنّ الموت عبارة عن زوال الحياة الّتي يحتمل كونها كالاجتهاد والإيمان والعدالة جزءا للموضوع ، على معنى كون موضوع الأحكام المذكورة المجتهد الحيّ بوصف كونه حيّا ، لا كالصحّة والمرض والصغر والكبر وغيرها ممّا لا مدخليّة له في الموضوع أصلا.

وقد تقدّم في محلّه أنّ معنى بقاء الموضوع كون القضيّة المشكوكة بعينها هي القضيّة المتيقّنة بلا تفاوت وفرق بينهما إلاّ في اليقين والشكّ وزماني اليقين والشكّ ، ولا تكون كذلك إلاّ مع وحدة موضوع القضيّتين.

ولا ريب أنّ المجتهد حيّا وهو ميّتا موضوعان متغايران بحسب المفهوم ، وعدم كون هذا التغاير موجبا لتعدّد موضوع القضيّتين مبنيّ على كون موضوع الأحكام المتقدّمة هو ذات المجتهد لا المجتهد الحيّ بوصف الحياة وهو ليس بمعلوم ، بل القدر المتيقّن ممّا ثبت له الأحكام إنّما هو المجتهد الحيّ ، ومن المستحيل انسحاب حكم موضوع إلى ما يغايره بالاستصحاب.

وبما بيّنّاه ظهر بطلان مقايسة ما نحن فيه على الماء المتغيّر بالنجاسة إذا زال تغيّره بنفسه باعتبار أنّه لا يمنع من استصحاب النجاسة ، والأصل فيه أنّ الاستصحاب لابدّ فيه

ص: 529

من تغيير حالة في الموضوع أو تبدّل زمان ، وذلك لأنّ التغيّر ممّا لا مدخليّة له في موضوع الحكم لوضوح أنّ معروض النجاسة هو ذات النجاسة (1) والتغيّر علّة لعروض النجاسة.

ومنشأ الشكّ في بقائها وارتفاعها بعد زوال التغيّر هو الشكّ في كونه علّة مبقية أيضا ، فالحالة الّتي لا يمنع تبدّلها من جريان الاستصحاب هو ما علم عدم مدخليّته في الموضوع سواء علم عدم مدخليّته في الحكم أيضا أو لا ، لا ما يحتمل مدخليّته فيه.

وأمّا ما قيل : من أنّ المانع من جريان الاستصحاب إنّما هو القطع بعدم بقاء الموضوع ، فلا مانع من جريانه عند الشكّ في البقاء لكفاية الاستصحاب في الحكم ببقائه كما عن صاحب الوافية.

ففيه : أنّ العلم ببقائه شرط لجريانه ، والأصل فيه أنّ شرط جريان الاستصحاب هو بقاء الموضوع في الواقع ، ولا يحرز إلاّ بالعلم أو ما يقوم مقامه كالاستصحاب فيما لو شكّ في جواز تقليد مجتهد غائب للشكّ في حياته ، ولا علم فيما نحن فيه ولا يمكن جريان بقائه بالاستصحاب أيضا كما لا يخفى ، واستصحاب الحكم أيضا لا يكفي في الحكم ببقائه ، كيف وأصل جريانه موقوف على إحراز بقائه فلا يعقل إحراز بقائه باستصحاب الحكم.

نعم لو كان المقام ممّا يصدق عرفا بقاؤه مسامحة كان لجريانه وجه ، ولكنّه ليس بثابت.

فتلخّص من جميع ما ذكرناه هنا - علاوة على ما حقّقناه في باب الاستصحاب - أنّه كلّما استفدنا موضوع المستصحب من دليله وعلمنا عدم بقائه أو اشتبه علينا الموضوع لعدم استفادته من دليله - لعدم تعرّضه لبيانه كما لو كان لبّيا كالإجماع ونحوه - ولا من خارج امتنع جريان الاستصحاب فيه ، وليس المقام ممّا يحرز بقاء الموضوع بالاستصحاب كما هو واضح.

وإن شئت قلت : إنّ الشكّ هاهنا بعد موت المجتهد ليس في بقاء الموضوع فقط بل راجع إلى موضوعيّة الباقي ، فلا يعقل إحراز موضوعيّته باستصحاب بقاء الموضوع ، ولا باستصحاب الحكم خصوصا على مختارنا من بطلان الاصول المثبتة.

عدم الفرق في المنع من تقليد الميّت بين الابتداء والاستدامة

وينبغي ختم المسألة برسم أمرين :

أحدهما : أنّه لا فرق على المختار من عدم جواز تقليد الميّت بين ابتداء التقليد والاستمرار عليه ، فيجب العدول إلى الحيّ لو قلّده في حياته ويحرم البقاء على تقليده بعد الممات

ص: 530


1- كذا في الأصل ، ولعلّ الصواب : « أنّ معروض النجاسة هو ذات النجس الخ ».

وفاقا للأكثر ، ولا سيّما السلف ، لإطلاق فتاويهم بالمنع وعدم الجواز ، ولا سيّما المعبّرة بعدم جواز العمل بقول الميّت ، ولا سيّما المعلّلة بأنّ الميّت لا قول له ، وأنّه إذا مات المجتهد مات قوله ، وإنّ قول الميّت كالميّت ، وغير ذلك ممّا يؤدّي هذا المعنى ، لظهور الجميع في عدم الفرق مع كون بعضها أظهر من بعض.

نعم من عبّر في الفتوى بعدم جواز الأخذ بقول الميّت فلا ظهور لكلامه هذا في عموم المنع ، بل الأخذ بقول الميّت ظاهر في الابتداء ، غير أنّه لا ينافي إطلاق الآخرين بحيث ينفي المنع من الاستمرار ، ضرورة أنّ الأخذ بقول المجتهد مقدّمة للعمل فالمقصود بالأصالة هو العمل ، وإن جعلنا حقيقة الأخذ للعمل لا العمل فيكون الأخذ بقوله في الحكم وجوبا وجوازا وتحريما تابعا للعمل فلا يحرم إلاّ لحرمة العمل بقول الميّت المدلول عليها لحرمة (1) الأخذ بقوله بالالتزام إن لم تعمّ الابتداء والاستمرار معا فلا أقلّ من عدم كونها نافية لحرمة الاستمرار المستفادة من إطلاق الأكثر.

فغاية ما فيه سكوته بالنسبة إلى صورة الاستمرار نفيا وإثباتا ، فيبقى إطلاق الأكثر سليما عمّا ينافيه من الفتاوى.

وأمّا ما عبّر فيه من الفتاوى بعدم جواز تقليد الميّت فيحتمل كونه كعبارة الأكثر المعبّرة بعدم جواز العمل بقوله ، وكونه كعبارة البعض المعبّرة بعدم جواز الأخذ بقوله.

ومبنى الاحتمالين على كون مذهب هذا القائل في التقليد جعله عبارة عن العمل أو عن الأخذ للعمل.

وكيف كان فلا ينبغي [ التأمّل ] في إطلاق فتوى الأكثر وتناولها صورتي الابتداء والاستمرار ، وكذلك معاقد الإجماعات المنقولة فإنّ أكثرها مطلقة حيث اخذ فيها العمل بقول الميّت كما تقدّم عن مسالك الشهيد وكتابه آداب المعلّم والمتعلّم وموضعين من كلام المصنّف.

وما عن ابن أبي جمهور الإحسائي - بل في معقد إجماعه - نوع ظهور في منع الاستمرار على التقليد حيث قال : « لابدّ في جواز العمل بقول المجتهد من بقائه ، فلو مات بطل العمل بقوله فوجب الرجوع إلى غيره » فإنّ بطلان العمل بقوله ظاهر في سبق تقليده كما لا يخفى.

وبعضها محتمل للإطلاق والسكوت عن الاستمرار لما اخذ فيه التقليد كما تقدّم عن

ص: 531


1- كذا في الأصل.

ثاني الشهيدين في الرسالة المنسوبة إليه ، فلا بدّ من استعلام مذهبه في معنى التقليد ليحمل عليه معقد إجماعه.

وبعضها ساكت عن الاستمرار لما اخذ فيه الأخذ عن الميّت كما تقدّم عن المحقّق الثاني في شرح الألفيّة.

وكيف كان فالمعتمد والمختار هو عدم جواز البقاء على تقليد الميّت ووجوب العدول إلى الحيّ في المسائل المقلّد فيها وغيرها.

لنا أمران :

الأوّل : الأصل المتقدّم بجميع وجوهها الثلاث من أصالة حرمة التقليد إلاّ ما خرج منه بالدليل ، والقدر المتيقّن منه تقليد الحيّ ابتداء واستدامة.

وأصالة عدم جعل قول الميّت طريقا للمقلّد إلى امتثال أحكامه المعلومة بالإجمال ، ولا يعارضه استصحاب حجّية قوله الثابتة في حال الحياة ، لما عرفت من المناقشة فيه باعتبار بقاء موضوع المستصحب.

وأصالة الاشتغال المقتضية ليقين البراءة الّذي لا يتأتّى إلاّ بتقليد الحيّ والعدول عن الميّت إليه.

لا يقال : إنّ الأمر هاهنا يدور بين المحذورين : وجوب البقاء على تقليد الميّت وحرمته ، أو وجوب العدول إلى الحيّ وحرمته ، فلا يجري أصالة الاشتغال.

لأنّا نقول : إنّ ذلك وهم ينشأ من القول بوجوب البقاء وهو ممّا يقطع بفساده ، للقطع بفساد مدركه ، إذ عمدة أدلّة أهل القول بالبقاء على تقليد الميّت إنّما هو الاستصحاب ، وإطلاق أدلة مشروعيّة التقليد ، والعسر والحرج ولا قضاء لشيء منها - بعد تسليم نهوضها بجواز البقاء - بوجوبه ، أمّا قاعدة العسر والحرج فلأنّها إنّما تنفي التكليف الإلزامي بالعدول ولا تفيد إيجاب البقاء. وبعبارة اخرى : أنّها تنفي تعيين العدول لا أنّها تثبت تعيين البقاء.

وأمّا إطلاق أدلّة التقليد فلأنّه يفيد التخيير بين العدول والبقاء لا غير.

وأمّا الاستصحاب فلأنّ غاية ما ينساق من قوله عليه السلام : « لا ينقض اليقين بالشكّ » وغيره من أخبار الاستصحاب إنّما هو حرمة رفع اليد عن الحالة السابقة لمجرّد الشكّ في ارتفاعها على وجه يكون التعويل في الرفع على مجرّد الشكّ ، وهذا لا ينافي جواز الرفع عنها تعويلا على الاحتياط الّذي هو حسن على كلّ حال ، كما في مستصحب الطهارة الّذي يجوز له

ص: 532

العدول عن استصحاب الطهارة إلى العمل بالاحتياط المقتضي لتجديد الطهارة ، والمفروض في المقام الاستناد في العدول إلى الحيّ إلى قاعدة الاشتغال.

نعم هاهنا شيء آخر ربّما أمكن كونه مستند القول بوجوب البقاء وعدم جواز العدول وهو عموم حرمة العدول عن تقليد مجتهد إلى مجتهد آخر حيّا كان المعدول عنه أو ميّتا.

ولكن يدفعه : أنّ دليل هذا الأصل على ما تقدّم في محلّه مقصور على أمرين : قاعدة الاشتغال ، والإجماعات المنقولة ، والكلّ مخصوص بالعدول عن تقليد الحيّ.

أمّا الاولى : فلأنّ قاعدة الاشتغال على تقدير [ جريانه ] فيما نحن فيه تقضي بوجوب العدول.

وأمّا الثانية : فلأنّ الإجماعات المنقولة كفتاوى الأصحاب منصرفة إلى الحيّ ولا تتناول الميّت ، هذا.

ولكنّ الإنصاف : أنّ إجراء أصالة الاشتغال لإثبات المنع من الاستمرار على تقليد الميّت لا يخلو عن كلفة ، فالأولى في التمسّك بالأصل هنا الاقتصار على الأصل بالمعنيين الأوّلين.

الثاني : إطلاق الإجماعات المنقولة - حسبما بيّنّاه - مع اعتضاده بظهور بعضها في صورة الاستمرار كما عرفت ، وبالشهرة العظيمة المستفادة من إطلاق فتوى المعظم ولا سيّما السلف ، وحداثة القول بالفرق بينه وبين الابتداء من بعض متأخّري المتأخّرين ، وشذوذه من بدو حدوثه إلى أن شاع بين جماعة من معاصرينا لقصور تحصيلهم في الاصول.

وممّا يكشف عن كون المنع في فتوى المانعين ومعاقد الإجماعات مطلقا ما حكي عن السيّد الجزائري في منبع الحياة (1) من إلزام المانعين بأنّه يلزمهم أنّه لو قلّد مجتهدا فصلّى المغرب بتقليده فمات ذلك المجتهد بعد المغرب وقبل العشاء أن يتغيّر حكم اللّه تعالى وهو باطل ، فإنّه لو كان ثمّة قول بالتفصيل لم يتجّه إطلاق هذا الاستدلال.

ولا ريب أنّه مع الاعتضادات المذكورة ينهض - مضافا إلى الأصل - دليلا تامّا على المنع من البقاء على تقليد الميّت ووجوب العدول إلى الحيّ ، لإفادة الظنّ الاطمئناني الّذي عليه مدار حجّية الأدلّة الظنّية ، وعلى فرض عدم نهوضه دليلا أو قصوره دلالة يكفينا الأصل المتقدّم بعد ملاحظة انتفاء الدليل على البقاء وجوبا أو جوازا كما هو المفروض ، إذ ليس للمجوّزين ممّا استدلّ أو يمكن أن يستدلّ به إلاّ وجوه ضعيفة غير ناهضة لإثبات

ص: 533


1- لم نعثر عليه.

الجواز فضلا عن الجواب.

منها : الاستصحاب الّذي يقرّر تارة في المسألة الاصوليّة ، بتقريب : أنّ المقلّد حال حياة مجتهده جاز له العمل بقوله ، أو إنّ ذلك المجتهد حال حياته جاز العمل بقوله لمن قلّده ، فيستصحب بقاؤه إلى ما بعد الموت.

واخرى : بالقياس إلى الحكم الفرعي في المسائل المقلّد فيها كحرمة العصير ونجاسة الغسالة ووجوب السورة في الصلاة مثلا ، فإنّ هذه الأحكام الثابتة على المقلّد حال حياة المجتهد الّذي قلّد فيها يستصحب بقاؤها فيما بعد الموت.

والأوّل يندفع بما مرّ مشروحا من القدح فيه باعتبار عدم معلوميّة بقاء موضوع المستصحب.

كما أنّ الثاني أيضا يندفع مشروحا من أنّ هذا الحكم المستصحب إمّا أن يؤخذ بلحاظ أنّه حكم واقعي ، أو بلحاظ أنّه حكم ظاهري تابع لظنّ المجتهد ، وأيّا ما كان فهو باطل ، إمّا لانتفاء اليقين السابق أو لانتفاء الشكّ اللاحق للقطع بارتفاعه بسبب زوال الظنّ بالموت ، ولا يعقل بقاء التابع مع زوال [ المتبوع ](1) فيما كان تابعا في حدوثه وبقائه كما فيما نحن فيه ، ولذا لو زال ظنّ المجتهد الحيّ ارتفع الحكم الظاهري التابع ولا يجوز له ولا لمقلّده البقاء على العمل به بعد زوال الظنّ وحصول التردّد.

وإن شئت قلت : إنّ الحكم الظاهري التابع لظنّ المجتهد إنّما جعل لما ظنّ حرمته أو وجوبه أو نجاسته من الوقائع ، فالظنّ جزء لموضوع ذلك وإن لم يكن له مدخليّة في الحكم الواقعي وهو الحكم المجعول للواقعة من حيث هي لئلاّ يلزم التصويب ، فزوال الظنّ بالموت يوجب ارتفاع الموضوع ومعه لا يعقل بقاء الحكم. هذا مضافا إلى ما عرفت سابقا من أنّ الحكم الفعلي نسبته واحدة من جهة واحدة بين المجتهد ومقلّده ، فلا يعقل بقاؤها في حقّ المقلّد مع فرض ارتفاعها في حقّ المجتهد ، فتأمّل.

ومنها : إطلاق أدلّة التقليد من الآيات والروايات ، ولقد عرفت ضعف ذلك سابقا وعدم نهوضه دليلا على جواز تقليد الميّت ابتداء واستدامة بما لا مزيد عليه ، ولا حاجة إلى الإعادة والتكرار.

ومنها : تنقيح المناط ، فإنّ مناط جواز العمل بقول الحيّ المعدول إليه إنّما هو الاجتهاد

ص: 534


1- وفي الأصل « التابع » بدل « المتبوع » ، والصواب ما أثبتناه في المتن.

وهو بعينه موجود في الميّت المعدول عنه ، فليكن العمل بقوله أيضا جائزا.

وفيه أوّلا : منع بقاء الاجتهاد بعد الممات لما عرفت من زوال ظنونه الاجتهاديّة بالموت بسبب فناء القوى الحيوانيّة والإنسانيّة بأجمعها ، واللازم منه فناء جميع ملكاته الّتي منها ملكة الاجتهاد ، ولذا يقال : إنّ اجتهاد المجتهد وحياته متلازمان وجودا وعدما فلا يمكن بقاء الاجتهاد مع زوال الحياة.

ولو سلّم بقاؤه بعد الممات يتطرّق المنع إلى دعوى كون الاجتهاد هو المناط بل هو الاجتهاد مع الحياة ولو احتمالا ، والمعتبر في تنقيح المناط القطع بإلغاء الفارق ، فمع قيام احتمال مدخليّة الحياة لا معنى لتنقيح المناط ، فيؤول التعدّي حينئذ من الأصل إلى الفرع إلى القياس الّذي لا نقول به.

ومنها : السيرة ، لجريان عادة السلف إلى الخلف على بقاء المقلّدين على تقليد المجتهدين بعد موتهم من دون نكير ، ولا عدول إلى تقليد المجتهد الحيّ وإلاّ لنقل إلينا ، لتوفّر الدواعي من كثرة ابتلاء الناس بموت المجتهدين.

وفيه : منع واضح ، لعدم تحقّق السيرة على البقاء سواء اريد بها طريقة أهل أعصار الأئمّة عليهم السلام أو طريقة السلف أو طريقة أهل أعصارنا هذه.

أمّا الأوّل : فلأنّا نعلم ضرورة أنّ أهل أعصار الأئمّة على فرق ، ففرقة كانوا يأخذون أحكامهم ومعالم دينهم من الأئمّة عليهم السلام من غير واسطة ، واخرى كانوا يأخذون بروايات الموثّقين من أصحابهم والأخبار المعلوم صدورها عنهم ، وثالثة كانوا يأخذون بفتاوى الصلحاء والموثّقين من الرواة والمحدّثين تعبّدا.

ولا ريب أنّ العدول والبقاء لا يعقل في حقّ الفرقة الاولى ولا الفرقة الثانية لعدم كون عملهم من باب التقليد كما هو واضح.

وأمّا الفرقة الأخيرة فحالهم من حيث العدول والبقاء بعد موت مفتيهم غير معلومة ، ومن أين علم أنّهم استمرّوا على تقليدهم بعد الموت وعلم به الإمام ولم يردعهم؟ مع أنّ تقليد هؤلاء أيضا ربّما يفارق تقليد عوامنا لعلمائهم ، فإنّهم كانوا يأخذون من الواسطة بمسموعات الواسطة من إمامه فلا يقاس عليه الأخذ ممّن يفتي بظنونه الاجتهاديّة من دون استناد إلى السماع من الإمام.

ولا ريب أنّ الأخذ ممّن سمع من الإمام كالأخذ ممّن سمع من المجتهدين من عدول

ص: 535

زماننا ليس تقليدا له كما بيّنّاه مرارا.

وأمّا الثاني : فلأنّ حال المقلّدين من الأعصار السابقة أيضا غير معلومة ، بل قضيّة فتوى السلف بالمنع من تقليد الموتى على الإطلاق كون طريقة عوامهم ومقلّديهم هو العدول عن تقليد من مات منهم إلى الحيّ كما هو واضح.

وأمّا الثالث : فلأنّا نجد المقلّدين من عوام أهل أعصارنا مختلفين في البقاء والعدول عن موت مجتهديهم على حسب اختلاف المجتهدين في إيجاب العدول وتجويز البقاء أو إيجابه ، بل كلّ من يبقى على تقليده بعد موت مجتهده فإنّما يبقى بتقليد مجتهد حيّ يجوز البقاء أو يوجبه ، فمن أين حصلت السيرة على وجه يصلح للاعتماد عليها؟ كيف ولا بدّ أن تكون كاشفة عن الرضاء أو التقرير ولا تكون كاشفة إلاّ إذا كان بناء الناس في كافّة الأعصار والأمصار على الالتزام بالبقاء أو على نفس البقاء. ومن أين علم ذلك؟ بل ولم يعلم به في طائفة ، ولو علم به في طائفة أيضا لا يجدي نفعا في الكشف ، لاحتمال استناد عدم العدول في هذه الطائفة إلى قلّة مبالاتهم في الدين ، أو إلى جهلهم بحكم المسألة ، أو إلى فتوى مجتهد جوّز البقاء ، أو إلى اعتقاد الموافقة بين الحيّ والميّت في الرأي والفتوى ، أو إلى عدم العلم بالمخالفة ، أو غير ذلك من الاحتمالات المانعة من الكشف ، فتوهّم السيرة هنا والاستناد إليها خطأ واضح وغلط ظاهر.

ومنها : أنّه لو وجب العدول من التقليد بعد موت المجتهد للزم العسر الشديد والحرج العظيم غالبا ، وهو منفيّ في الشريعة ، تمسّك به السيّد في المفاتيح.

وفيه من الضعف ما لا يخفى ، لوضوح منع الملازمة ، فإنّا لا نعقل في العدول عسرا ولا كلفة أصلا فضلا عن كونه شديدا أو عظيما ، بل الّذي ندركه بالوجدان أنّ العدول عن تقليد مجتهد إلى مجتهد آخر بعد درك المسائل وفهمها واستيناسها أسهل وأيسر بمراتب شتّى من ابتداء التقليد ، ويحصل في زمان قليل كيوم ويومين أو أقلّ أو أكثر من دون كلفة ، بخلاف ابتداء التقليد الّذي لا يزال متضمّنا للكلفة والمشقّة ولا يحصل غالبا في زمان قليل ، ولم يقل أحد بتأديته إلى العسر والحرج المنفيّين في الشريعة ، وكما أنّه لا يؤدّي إليهما فكذلك العدول عن الميّت إلى الحيّ لا يؤدّي إليهما ، بل هو أولى بعدم التأدية إليهما لما نبّهنا عليه.

ولأنّ العدول لا يجب إلاّ في موضع المخالفة ولا تتّفق المخالفة إلاّ في أقلّ قليل من

ص: 536

المسائل ، والعدول في هذا القليل من المسائل لا يستتبع عسرا ولا محذورا آخر.

وتوضيح المقام : أنّ المقلّد بعد موت مجتهده له مأخوذات وغير مأخوذات يجب الرجوع فيها إلى الحيّ باتّفاق منّا ومن الخصم ، ومحلّ العدول المتنازع [ فيه ] هو المأخوذات الّتي أخذها من المجتهد في حال حياته ، وكيفيّة العدول بالقياس إليها أن يلاحظ فتاوى المجتهد الحيّ ويراجعها بالرجوع إلى كتابه ورسالته مثلا ، فما كان من مأخوذاته موافقا لفتوى الحيّ يبقى فيه على حسب ما أخذه ، وما كان منها مخالفا له يعدل عنه إليه.

ولا ريب أنّ كلّ ذلك يتمّ في زمان قليل ، والمفروض أنّ المخالفة لا تتّفق إلاّ في أقلّ قليل من المسائل ، وأيّ عسر في ذلك ليكون مناطا في نفي وجوب العدول؟

وقد يقال : إنّ العسر والحرج إنّما يلزم على تقدير تكرّر العدول كرّات كثيرة على حسب توالي موت المجتهدين على سبيل التعاقب ، إذ من الممكن أن يموت مجتهد ثمّ يموت مجتهد آخر بعده باسبوع أو شهر أو سنة أو نحو ذلك ، ثمّ يموت مجتهد ثالث كذلك وهكذا إلى ما شاء اللّه ، فلو وجب العدول في كلّ هذه المراتب عن تقليد الميّت إلى الحيّ لزم ما ذكر.

وهذا هو الفارق بينه وبين الشروع في التقليد وابتدائه ، وأنت خبير بما فيه من التمحّل المبنيّ على عدم التعمّق في القواعد ومظانّها ومقتضياتها ، فإنّ نفي التكليف الإلزامي العسري يدور مدار العسر المحقّق ولا يكفي فيه فرض العسر واحتماله ، لأنّ الفرض لا يحقّق المفروض ، والاحتمال لا يلازم تحقّق المحتمل في الواقع ، فيؤول القول المذكور إلى دعوى أنّ المقلّد عند موت أوّل مجتهد مات لا يجب عليه العدول إلى حيّ آخر لأنّه بملاحظة الإمكان العقلي يحتمل أن يموت ذلك المجتهد الحيّ أيضا بعد يوم أو اسبوع أو شهر وإذا عدل عنه أيضا إلى مجتهد ثالث يحتمل في حقّه الموت أيضا وهكذا إلى ما شاء اللّه ، فيلزم بتكرّر العدولات المتوالية العسر والحرج ، مع أنّه لا عسر في العدول الأوّل ولا في غيره بحسب نفسه وفي حدّ ذاته ، وهذا ممّا يضحك به الثكلى.

ولو سلّم تأديته إليه في بعض الفروض النادرة يجب الاقتصار في نفي وجوبه على مورده ، وهذا لا يوجب نفي وجوب العدول اللازم لجواز البقاء على الوجه الكلّي المطّرد في جميع الموارد حتّى ما لا عسر فيه أصلا كما هو الغالب.

وبالجملة لا فرق في المنع من تقليد الميّت بين الابتداء والاستدامة ، بل المنع المدّعى

ص: 537

عليه الإجماع كان بين قدماء أصحابنا المتعرّضين للمسألة مطلقا ، والتفصيل بينهما لم يكن موجودا ثمّة فيكون مصادما للإجماع.

وقد يدفع أيضا على وجه يبطل معه الاستصحاب بأنّ : الابتداء والاستدامة في التقليد مجرّد اصطلاح لا يوجب فرقا في الحكم ولا اختلافا في الموضوع ، إذ التقليد في صورة الاستدامة مرجعه إلى التقليد الابتدائي ، وذلك لأنّ المسألة كوجوب غسل الجمعة مثلا في كلّ آن من آنات الابتلاء بها واقعة مستقلّة يجب فيها التقليد ، وحصول التقليد فيها في الآن السابق لا يسقط التقليد اللازم فيها في الآن الثاني ، فيكون العمل فيها في كلّ آن من آنات الابتلاء بها فعلا ابتداء تقليد ، ومعه لا معنى للاستصحاب المتمسّك به لجواز تقليد الميّت في صورة الاستدامة.

وبهذا التوجيه يظهر أنّ سائر شروط المفتي من حيث إفتائه المعتبرة في جواز تقليده والأخذ والعمل بفتواه معتبرة في كلّ من الابتداء والاستدامة ، فإنّ المسألة إذا كانت في كلّ آن من آنات الابتلاء واقعة مستقلّة يجب تقليد المجتهد الجامع للشرائط فيها من الاجتهاد والإسلام والإيمان والعقل والعدالة والحياة ، فلابدّ وأن تكون الشروط محرزة عند كلّ واقعة لكون العمل عندها ابتداء تقليد.

بل ومع الغضّ عن هذا التوجيه أيضا لابدّ من اعتبار وجود الشروط في الابتداء والاستدامة معا لكونها معتبرة في الأخذ والعمل معا ، كما صرّح به المحقّق الثاني في حاشية الشرائع قائلا : « ومتى عرض الفقيه العدل فسق العياذ باللّه أو جنون أو طعن في السنّ كثيرا بحيث اختلّ فهمه امتنع تقليده لوجود المانع ، ولو كان قد قلّده مقلّد قبل ذلك بطل حكم تقليده ، لأنّ العمل بقوله في مستقبل الزمان يقتضي الاستناد إليه حينئذ. وقد خرج عن الأهليّة لذلك ، فكان تقليده باطلا بالنسبة إلى مستقبل الزمان » انتهى.

فما استظهره بعض الفضلاء - من جواز التقليد بقاء في الجنون الإطباقي ومطلقا في الأدواري مع استشكاله البقاء في صورة اختلال الفهم - غير سديد ، وإن كان البقاء في الأدواري غير بعيد.

بعض الفروع المرتبطة بمسألة تقليد الميّت

وثانيهما : في بيان عدّة فروع ينبغي معرفتها.

الأوّل : أنّ البحث في مسألة العدول عن تقليد الميّت والبقاء عليه جوازا أو وجوبا إنّما هو من وظيفة المجتهد الناظر في المسألة لاستعلام ما هو واقع الأمر فيها ، وأمّا العامي

ص: 538

المقلّد فلا مناص له من الرجوع فيها وكذلك في أصل تقليد الميّت ابتداء إلى المجتهد الحيّ ويأخذ حكم المسألة منه تقليدا ، وليس له البناء على شيء من العدول أو البقاء من غير تقليد ، لأنّ المسألة ليست من الواضحات لئلاّ يجب فيها النظر ولا التقليد اعتمادا على وضوحها ، ولا أنّها من النظريّات الّتي يتيسّر النظر فيها ممّن ليس [ له ] قوّة النظر فيستعلم حكمها بنظره ويبني على ما رجّحه.

وحينئذ فلو قلّد مجتهدا قائلا بالبقاء وجوبا أو جوازا ثمّ مات ذلك المجتهد فليس له أن يبقى على تقليده اعتمادا على أنّ مجتهده كان بانيا عليه وقد قلّده فيه ، لكون ذلك أيضا تقليدا للميّت في تلك المسألة ، فلابدّ وأن يكون فيها مجتهدا أو مقلّدا لحيّ قائل بالبقاء ، والمفروض عدم اجتهاده فتعيّن رجوعه إلى الحيّ.

لا يقال : إنّ هذا المقلّد - بناء على كون التقليد هو مجرّد الأخذ - قد قلّد المجتهد الحيّ في حياته في مسألة البقاء ، وحيث إنّ أخذ المسألة إنّما يجب لوجوب العمل وإنّما يجب العمل في موضع الابتلاء به وزمان الابتلاء في تلك المسألة إنّما هو بعد موت المجتهد ، وحينئذ فلو بقي على تقليده لذلك المجتهد في الفروع اعتمادا على تقليده له في تلك المسألة لم يكن تقليدا للميّت في تلك المسألة.

لأنّ حياة المجتهد - بناء على المختار من كونها شرطا في التقليد ابتداء واستدامة - معتبرة فيه أخذا وعملا ، سواء جعلناه عبارة عن العمل أو عن الأخذ للعمل ، فليتدبّر.

الثاني : أنّه لو قلّد مجتهدا ثمّ مات ذلك المجتهد فرجع إلى مجتهد آخر قائل بوجوب العدول فعدل إليه لتقليده في الفروع تقليدا له في المسألة الاصوليّة ثمّ مات ذلك المجتهد أيضا فرجع إلى ثالث ، فإن كان موافقا للثاني في القول بوجوب العدول فلا إشكال ، وإن كان مخالفا له بحكمه بوجوب البقاء أو جوازه فهل ينصرف حكمه بالبقاء إلى بقائه على تقليد المجتهد الأوّل أو إلى بقائه على تقليد المجتهد الثاني الّذي عدل من الأوّل إليه ، وجهان أقربهما الثاني ، لأنّ تقليده للمجتهد الأوّل قد بطل بفرض العدول عنه بتقليد الثاني فلا حكم له بعد ذلك.

والمراد من البقاء على تقليد الميّت هو البقاء على التقليد الّذي كان متلبّسا به عند موت مجتهده في ذلك التقليد وليس إلاّ تقليده للمجتهد الثاني.

ومن مشايخنا من استقرب الأوّل تعليلا : « بتأدية بقائه على تقليد الثاني إلى التناقض ،

ص: 539

نظرا إلى أنّ من جملة فتاويه الّتي يجب البقاء على التقليد فيها بحكم فتوى الحيّ فتواه بوجوب العدول في المسألة الاصوليّة ، وهذا يقتضي وجوب العدول في المسائل الفرعيّة إلى الحيّ ، وحكم الحيّ بالبقاء يقتضي وجوب البقاء فيها ، بل لو كان بناء هذا الحيّ على جواز البقاء يلزم من البقاء على تقليد الثاني عدم جواز البقاء ، فيلزم من جواز البقاء عدم جوازه وهو أيضا باطل.

مضافا إلى أنّ قضيّة أدلّة وجوب البقاء فساد العدول الّذي حكم به المجتهد الثاني ، وقضيّة فساده وجوب رجوعه إلى المجتهد الأوّل.

غاية الأمر أنّ أعماله الواقعة بتقليد الثاني حال حياته محكومة بالصحّة ، وأمّا بعد موته فلا مقتضي لصحّتها بل المقتضي لفسادها حينئذ موجود ».

وفيه من المغالطة ما لا يخفى ، فإنّ حكم الحيّ بوجوب البقاء على تقليد الميّت لا يتناول محلّ التنافي ، بل لا ينصرف إلاّ إلى البقاء في المسائل الفرعيّة ، والمفروض أنّ البقاء فيها أو العدول عنها محلّ حاجة المقلّد بعد موت مجتهده الّذي قلّده لا غير.

وأمّا فساد العدول الّذي يقتضيه أدلّة وجوب البقاء في نظر القائل بالوجوب فهو فساد ظاهري ، وهو لا ينافي الصحّة الواقعيّة ، واحتمال كون العدول حقّا في الواقع مع احتمال كون البقاء حقّا كذلك سيّان في نظر المقلّد.

غاية الأمر أنّ حكمه الظاهري بعد رجوعه إلى الحيّ القائل بالبقاء هو البقاء وهو لا يلازم فساد عدوله السابق عن تقليد المجتهد الأوّل في الواقع ، كيف والحكم بصحّة الأعمال الواقعة بتقليد المجتهد الثاني بعد عدوله عن المجتهد الأوّل يستلزم الحكم بصحّة العدول المذكور ظاهرا.

الثالث : لو قلّد مجتهدا حال حياته وأخذ منه مسائل وعمل بها أيضا ومسائل اخر لم يعمل بها حتّى مات ذلك المجتهد فرجع إلى حيّ قائل بوجوب البقاء ، فهل يبقى في معمولاته خاصّة ، أو في مأخوذاته مطلقا وإن لم يعمل بها؟ وجهان مبنيّان على مذهب المجتهد في معنى التقليد أهو العمل أو الأخذ للعمل؟

فعلى الأوّل يبقى في المعمولات فقط ويعدل إلى الحيّ في المأخوذات.

وعلى الثاني يبقى في المأخوذات أيضا.

هذا كلّه على تقدير عدم تقليده الميّت حال حياته في معنى التقليد أو تقليده له مع

ص: 540

كونه موافقا لذلك الحيّ فيه واضح لا إشكال فيه.

وأمّا لو قلّده فيه وكان مخالفا للحيّ بأن يكون بناؤه فيه على أنّه الأخذ مطلقا وبناء الحيّ على أنّه العمل خاصّة ، فإن أخذ ذلك المعنى من الميّت ولم يعمل به فلا إشكال أيضا ، من حيث إنّه يجب عليه البقاء في معمولاته والعدول في مأخوذاته الغير المعمولة الّتي منها مسألة كون معنى التقليد هو الأخذ مطلقا.

غاية الأمر لزوم العدول من تقليد الميّت في هذه المسألة خاصّة إلى الحيّ باختيار كون معناه العمل فقط وعدم كفاية الأخذ مطلقا ، وإن أخذه من الميّت وعمل به أيضا في موضع حاجته فربّما يشكل الحال من حيث لزوم التناقض بين قول الحيّ بوجوب العدول في المأخوذات وقول الميّت بكون التقليد هو الأخذ مطلقا مع فرض عمل المقلّد به في حياته ، فإنّ قول الحيّ يجب البقاء في المعمولات يعمّ مسألة كون التقليد هو الأخذ المطلق لأنّها أيضا من جملة معمولاته ، ووجوب البقاء فيها يستلزم وجوب البقاء في المأخوذات المجرّدة من المسائل الفرعيّة ، وهذا يناقض وجوب العدول فيها إلى الحيّ على ما هو من مقتضي قول الحيّ بأنّ التقليد هو العمل فقط.

ويرد نظير هذا الإشكال في عكس هذه الصورة أيضا ، وهو أن يكون بناء الميّت على أنّ التقليد هو العمل لا غير وبناء الميّت على أنّه الأخذ مطلقا مع فرض عمل المقلّد بفتوى الميّت في موضع حاجته ، فحكم الميّت بوجوب البقاء على تقليد الميّت شامل لكلّ من المعمولات والمأخوذات معا.

ومقتضى البقاء على تقليد الميّت في مسألة كون التقليد هو العمل لا غير وجوب العدول في المأخوذات المجرّدة.

ويمكن الذبّ عن الإشكال الأوّل بأحد الأمرين : إمّا التزام خروج المأخوذات المجرّدة من مقتضى قول الحيّ بوجوب العدول فيها خروجا موضوعيّا من باب التخصّص بمقتضى العمل بفتوى الميّت بكون التقليد هو الأخذ مطلقا المشمول لحكم الحيّ بوجوب البقاء في المعمولات ، فإنّ معناه وجوب البقاء على التقليد المحقّق في الخارج ، وليس في نظره وبحسب اجتهاده إلاّ في المعمولات ، فوجه وجوب العدول في المأخوذات في نظره عدم تحقّق تقليد فيها ومقتضى فتوى الميّت تحقّقه فيها أيضا.

فقول الحيّ يجب البقاء على تقليد الميّت يشمل المأخوذات أيضا ، لفرض تحقّق

ص: 541

التقليد فيها أيضا باعتبار فتوى الميّت في معنى التقليد الّتي أخذ بها المقلّد وعمل بها أيضا في موضع حاجته.

أو التزام (1) خروج عمله بقول الميّت في مسألة كون التقليد هو العمل لا غير من عموم فتوى الحيّ بأنّه يجب البقاء على تقليد الميّت في المعمولات خروجا حكميّا من باب التخصيص ، بدعوى : كون ذلك الحكم مقصورا على المعمولات من المسائل الفرعيّة ، والأصل فيه فهم العرف وبناء العقلاء وحكم القوّة العاقلة بعدم خروج فرد من العامّ في مدلوله يلزم من دخوله فيه بطلانه رأسا حذرا من لزوم التناقض أو تخصيص الأكثر الّذي لا ينبغي التأمّل في استنكاره واستقباحه عرفا.

ألا ترى أنّه لو قال السيّد لعبده : « أطع كلّ عالم » واتّفق من أفراد العالم من نهاه عن إطاعة العلماء بقوله : « لا تطع العلماء » كان المنساق منه في متفاهم العرف وجوب إطاعة كلّ عالم إلاّ هذا الفرد ، وإلاّ لزم من دخوله في عموم العامّ بطلان مدلول العامّ رأسا ، أو لزم التناقض وهو وجوب إطاعة كلّ عالم وحرمة إطاعة كلّ عالم ، أو تخصيص الأكثر بكون وجوب إطاعة كلّ عالم مقصورا على هذا الفرد الناهي عن إطاعة العلماء ، والكلّ كما ترى.

ومن أمثلة هذه القاعدة في الشرعيّات عموم ما دلّ من الأدلّة على حجّية خبر العدل مع أخبار عدل بعدم جواز العمل بخبر الواحد ، فإنّ هذا الخبر لا يدخل في عموم حجّية خبر العدل من باب التخصيص لمخصّص عقلي.

ومنه أيضا عموم ما دلّ على حجّيّة الشهرة عند قائليها مع كون المشهور بين الاصوليّين عدم حجّيّة الشهرة ، فإنّ الشهرة في المسألة الاصوليّة لا تدخل في العامّ الأوّل.

وبالجملة العامّ لا يتناول محلّ التنافي من أفراده.

وبهذا الوجه خاصّة يذبّ عن الإشكال الثاني أيضا ، واللازم من ذلك وجوب البقاء في المعمولات والمأخوذات معا.

وأظهر الوجهين في الذبّ عن الإشكال الأوّل هو الوجه الأوّل ، واللازم منه أيضا وجوب البقاء في المأخوذات مطلقا ، كما أنّ اللازم من الوجه الثاني وجوب العدول في المأخوذات المجرّد فليتدبّر.

الرابع : إذا بقي المقلّد على تقليد الميّت بتقليد حيّ قائل بالبقاء إلى مدّة فأراد بعدها أن

ص: 542


1- هذا ثاني الأمرين في الذبّ عن الإشكال.

يعدل عن الميّت إلى الحيّ فهل يجوز له ذلك أو لا؟

وتحقيق هذا المقام : أنّ المقلّد لابدّ له من استعلام مذهب الحيّ الّذي بقى بتقليده على تقليد الميّت ، من حيث إنّ قوله بالبقاء هل هو على وجه الوجوب فلا يجوز له العدول حينئذ بعد اختيار تقليده في وجوب البقاء ، أو على وجه الجواز الراجع إلى التخيير بين البقاء والعدول ، فيستعلم منه حينئذ أنّ رأيه في هذا التخيير هل هو التخيير البدوي أو الاستمراري؟

فعلى الأوّل لا يجوز له العدول بعد اختياره البقاء.

وعلى الثاني يجوز.

والأظهر من هذين الوجهين إن جوّزنا البقاء على تقليد الميّت أوّلهما ، لأنّ التخيير الاستمراري عند من توهّمه لا مستند له إلاّ استصحاب الحالة السابقة وهو التخيير الثابت قبل اختيار البقاء المشكوك في زواله بالاختيار.

ويدفعه : أنّ هذا التخيير حكم عقلي ولا يصحّ فيه الاستصحاب على ما تقرّر في محلّه ، كيف وإنّا نقطع بأنّ العقل لا حكم له بالتخيير بعد الاختيار لمجرّد احتمال كونه في نظر الشارع ملزما ، وحينئذ لابدّ من الرجوع إلى أصالة الاشتغال الّتي لا مانع من جريانها حينئذ ، لعود الشكّ إلى التعيين والتخيير ، بخلافه قبل الاختيار لدوران الأمر ثمّة بين المحذورين ، فلا مجال معه للأصل المذكور.

الخامس : قد عرفت عند التعرّض لنقل الأقوال في تقليد الميّت أنّ منها القول بالفرق بين الاضطرار فيجوز تقليد الميّت والاختيار فلا يجوز.

ومنه ما حكي عن الأردبيلي من مصيره إلى الجواز مع فقدان الحيّ مطلقا أو في تلك الفتوى.

وفي المحكيّ عن حاشية الشرائع نقل نسبة هذا القول إلى العلاّمة عن ولده فخر الدين ، خلافا لجماعة - على ما حكي - كالمحقّق الثاني في الحاشية المذكورة وبعض شرّاح الجعفريّة والعلاّمة البهبهاني والسيّد الطباطبائي فلم يجوّزوه مطلقا حتّى مع الضرورة ، وقوّاه السيّد في المفاتيح للأصل وإطلاق ما دلّ على عدم جواز تقليد الميّت من الإجماعات المعتضدة بفتوى المعظم.

أقول : التمسّك بالأصل حسن وبالإطلاق مشكل لشبهة الانصراف إلى غير محلّ البحث كما قيل ، ويؤيّد المنع أو يدلّ عليه ما تقدّم من زوال الظنّ بالموت ، كما أومأ المحقّق المتقدّم

ص: 543

ذكره في المحكيّ عن الحاشية المذكورة قائلا : « فإنّ قيل فما تقول فيما ينقل عن الشيخ السعيد فخر الدين أنّه نقل عن والده جواز تقليد الموتى في هذه الحالة؟

قلت : هذا بعيد جدّا ، لأنّه قد صرّح في كتبه الاصوليّة والفقهيّة بأنّ الميّت لا قول له ، وإذا كان بحسب الواقع لا قول له لم يتفاوت عدم جواز الرجوع حال الضرورة والاختيار ، ولعلّه أراد الاستعانة بقول المتقدّمين في معرفة صور المسائل والأحكام مع انتفاء المرجع لا أنّه أراد جواز تقليدهم حينئذ ، فحصل من ذلك توهّم غير المراد ».

وعن المحقّق الأردبيلي الاحتجاج لما اختاره : « بأنّه لو لا العمل بقول الميّت عند عدم الحيّ أصلا لزم الحرج والضيق المنفيّان عقلا ونقلا ، والاستصحاب وتحقّق الحكم وحصوله من الدليل ولم يتغيّر ».

وضعف الكلّ واضح ، لمنع الملازمة في الضيق والحرج مع وجود طريق آخر ، وبطلان الاستصحاب مع دعوى عدم تغيّر الحكم كذلك بما بيّنّاه بما لا مزيد عليه ، وتحقّق الحكم وحصوله في أصله من الدليل غير مجد وإلاّ لجاز تقليد الميّت مطلقا.

وبالجملة فكما لا فرق في عدم جواز تقليد الميّت بين الابتداء والاستمرار فكذلك لا فرق فيه بين الضرورة والاختيار ، خصوصا مع ملاحظة كون الحياة كأصل الاجتهاد شرطا ، ومن ذلك لا يجوز تقليد غير المجتهد مطلقا حتّى في حال الضرورة.

فالإنصاف أنّ في هذه الحالة يتعيّن عليه العمل بالاحتياط حيثما أمكن من غير عسر ، ولا ينافيه الإجماع على نفي اعتبار الاحتياط في امتثال أحكام اللّه تعالى ، إمّا لعدم تناول معقد الإجماع لمثل ما نحن فيه ، أو لأنّ الإجماع إنّما انعقد على نفي تعيّن العمل بالاحتياط ووجوبه لا على نفي جوازه ، فلا ينافي وجوبه إذا ثبت في مورد خاصّ أو صورة خاصّة بطريق آخر كاستقلال العقل من جهة وجوب امتثال أحكام اللّه المعلومة بالإجمال وانحصار طريقه في العمل بالاحتياط ، مضافا إلى قاعدة الاشتغال بعد ملاحظة الإجماع على عدم سقوط التكليف بتعذّر تقليد الحيّ مع فرض دوران الأمر بين تقليد الميّت والعمل بالاحتياط ، ولو احتاج إلى معرفة موارد الاحتياط أو كيفيّته ولم يتمكّن من الاستقلال به استعان بعدل عارف يعرّفهما له ، ولو تعذّر الاحتياط في مورد لدوران الأمر بين المتبائنين أو تعسّر لكثرة المسائل والوقائع تحرّى لتحصيل الظنّ النوعي مع مراعاة الأقوى فالأقوى بمراجعة أقرب الأمارات إلى الواقع كالشهرة المحقّقة ثمّ الإجماع المنقول ثمّ الشهرة المحكيّة بهذا الترتيب

ص: 544

لدليل الانسداد المنتج لوجوب الأخذ بالأقرب إلى الواقع ، حتّى أنّه لو اضطرّ إلى قول الميّت أخذ بفتوى أعلم الأموات لا على أنّه تقليد للميّت ، بل على أنّه بالقياس إليه وبالنظر إلى حالته أقرب الأمارات إلى الواقع وأقوى الظنون النوعيّة ، ولو فرض حصول الظنّ الشخصي له في بعض هذه المراتب بخلاف الظنّ النوعي المتيسّر له في تلك المرتبة لم يعوّل عليه.

وبالجملة ما دام متمكّنا من الظنّ النوعي لا يجوز له التخطّي منه إلى غيره من ظنونه الشخصيّة الّتي يتّفق حصولها له في خصوص الواقعة ، ولو لم يتمكّن من معرفة الظنّ النوعي بالاستقلال رجع إلى عدل عارف يثق به ليعرّفه بما يجب عليه الأخذ به من الظنون النوعيّة مع مراعاة الأقوى. بالنظر إلى حالته ولو لم يتمكّن من الظنّ النوعي أصلا تحرّى لتحصيل الظنّ الشخصي من أيّ شيء حصل له.

تعليقة : في بقايا أحكام المقلّد فيه والامور المعتبرة فيه

اشارة

- تعليقة -

في بقايا أحكام المقلّد فيه والامور المعتبرة فيه

فنقول : إنّ المقلّد فيه عبارة عن المسألة الّتي يرجع لاستعلام حكمها إلى المجتهد للأخذ بما يفتيه فيها ، وقد عرفت في بعض المباحث السابقة أنّ المسألة المقلّد فيها هي المسألة المجتهد فيها ، على معنى أنّ كلّ مسألة اجتهاديّة يجوز فيها إعمال الأمارات التعبّديّة أو الظنّية للمجتهد يجوز التقليد فيها للمقلّد ، ومع ذلك يعتبر فيها امور ترجع إلى جواز التقليد :

منها : كون المسألة فرعيّة ، بأن لا تكون من الاصوليّة الاعتقاديّة ، ولا من الاصوليّة العمليّة ، ولا من الموضوعات الخارجيّة ، ولا من الموضوعات الاستنباطيّة.

أمّا عدم كونها من الاصوليّة الاعتقاديّة فلما تقدّم مشروحا من عدم جواز التقليد في اصول الدين.

وأمّا عدم كونها من الاصوليّة العمليّة فلما حقّقناه في غير موضع من عدم حجّية الظنّ فيها إلاّ في مسألة لا يمكن فيها إلاّ الظنّ وحصل الاضطرار إلى العمل به من جهة الاضطرار إلى العمل بالظنّ في الحكم الشرعي الفرعي ، وحينئذ يجوز العمل به من حيث إنّه عمل بالظنّ في الحكم الفرعي لا من حيث إنّه عمل بالظنّ في المسألة الاصوليّة ، وإذا لم يجز العمل بالظنّ فيها فلئلاّ يجوز التقليد فيها طريق الأولويّة. وأيضا فإنّ المسائل الاصوليّة من مبادئ الاجتهاد والتقليد فيها انقلاب الاجتهاد في المسائل الفرعيّة المبنيّة عليها تقليدا ،

ص: 545

فيندرج في عموم أدلّة حرمة التقليد على المجتهد.

وأمّا عدم كونها من الموضوعات الخارجيّة الّتي هي الجزئيّات المندرجة تحت المفاهيم الكلّية المعلّق عليها الأحكام الشرعيّة فلعدم جواز التقليد فيها بلا خلاف للأصل ، فيجوز للعامي ومن بحكمه الأخذ بمعتقده وإن خالف معتقد مجتهده الّذي قلّده في كلّي المسألة من دون أن يكون مخالفة لتقليده في أصل الحكم ، لأنّ ما اعتقده المجتهد من جزئيّات موضوع حكم خارج من هذا الحكم في معتقد المقلّد خروجا موضوعيّا ، فعدم إجرائه الحكم الّذي رتّبه عليه المجتهد عليه إنّما هو لاعتقاده بخروجه الموضوعي لا لمخالفته الحكم الّذي أفتى به المجتهد في كلّي المسألة المقلّد فيها كما هو واضح.

وأمّا عدم كونها من الموضوعات الاستنباطيّة - وهي مفاهيم الألفاظ الكلّية المعلّق عليها الأحكام الشرعيّة - فلعدم جواز التقليد فيها أيضا في الجملة.

وتوضيحه : أنّها إمّا أن تكون ضروريّة « كالكلب » و « الغنم » و « الخمر » و « الماء » فلا إشكال في أنّه لا تقليد في مفهوم اللفظ ولا يجب الفحص والنظر أيضا لمعرفة ذلك المفهوم في نحو هذا القسم ، أو تكون نظريّة محتاجة في معرفة مفهوم اللفظ إلى الفحص مع كون المقلّد من أهل النظر وكون اللفظ بحيث أخذه المجتهد في فتواه ، على أنّه بمفهومه اللغوي أو معناه العرفي مورد للحكم الوارد في خطاب الشرع ، كما لو قال : « يجوز التيمّم على الصعيد » فلا إشكال في أنّه لا تقليد أيضا في نحوه ، بل يجب عليه معرفة المفهوم المعلّق عليه الحكم بمراجعة العرف واللغة ، ولا يرجع إلى المجتهد بل يأخذ بما أدّاه إليه فحصه.

نعم لو لم يكن المقلّد من أهل النظر أو كان ولكن اللفظ ممّا أخذه المجتهد في فتواه تعبيرا عن معنى خاصّ استفاد من الأدلّة كونه موردا للحكم وعبّر عنه بذلك اللفظ باعتقاد أنّه مسمّى اللفظ - كما لو قال : « يجوز التيمّم على الصعيد » مريدا منه التراب المستفاد من الأدلّة كونه موضوع الحكم وأراده من « الصعيد » باعتقاد أنّه اسم لهذا المعنى وإن لم يكن كذلك في الواقع - ففي هاتين الصورتين يجب على المقلّد أن يرجع إلى المجتهد ويسأله عن مفهوم اللفظ الثابت له بحسب العرف أو اللغة أو أراده منه بحسب اجتهاده فيأخذ به ويتابعه ، وإن خالف معتقده في مفهومه بحسب العرف لما أراده المجتهد كما لو اعتقد في « الصعيد » كونه لمطلق وجه الأرض.

ومنها : أن لا يكون المسألة مسبوقة بتقليد مجتهد آخر جامع للشرائط ، فإنّها حينئذ

ص: 546

لا تقبل تقليدا آخر ولا يجوز فيها تقليد مجتهد آخر ، ومرجعه إلى عدم جواز العدول عن التقليد في المسألة المقلّد فيها ، وقد تقدّم تحقيق ذلك وتفصيل القول فيه مشروحا.

ومنها : أنّ لا يقطع المقلّد بخطأ مجتهده في خصوص المسألة ، فلو قطع لا يسوغ له تقليده في تلك المسألة لمكان قطعه بمخالفة فتواه الواقع ، وهذا واضح فإنّ فتوى المجتهد ما لم يصر حكما فعليّا للمقلّد لم يجز له الأخذ بها ، وإنّما يصير حكما فعليّا يجب بناء العمل وترتيب آثار الواقع عليه إذا لم ينكشف مخالفته الواقع ، وقطعه بخطأ المجتهد في خصوص المسألة عبارة عن انكشاف مخالفة فتواه الواقع ، وأمّا لو قطع بفساد مدرك المسألة ودليلها والطريق الّذي اعتمد عليه - كما إذا عوّل على النوم أو على القياس أو على خبر بظنّ الصدور وقطع المقلّد بفساد الأوّلين وعدم صدور الأخير - فهل يجوز له تقليده في هذه المسائل والأخذ بالأحكام المستفادة من هذه الطرق أو لا؟ وجهان : من أنّ مؤدّى الطريق الّذي يقطع المقلّد بفساده حكم ثابت بالاجتهاد الصحيح المحكوم بإجزائه للمجتهد في مرحلة الظاهر فيجوز له الأخذ به ، ومن أنّ قضيّة فساد الطريق عدم كون الحكم المستفاد منه حكما فعليّا للمقلّد فلا يجوز له الأخذ به.

ولكن أوجه الوجهين وأقواهما الوجه الأوّل ، لأنّ العبرة في كون مؤدّيات الطرق أحكاما فعليّة إنّما هو بنظر المجتهد الجامع للشرائط لا بنظر المقلّد ، إذ ليس وظيفة المقلّد النظر في الطريق ليثمره صحّته وفساده ، بل وظيفته الأخذ بما أفتى به المفتي من موجب طرقه الصحيحة في نظره ما لم ينكشف عنده مخالفته الواقع ، والمفروض أنّه لم ينكشف عنده مخالفته الواقع ، إذ القطع بفساد الطريق لا يستلزم القطع بمخالفة مؤدّاه الواقع ، كما لم ينكشف مخالفته الواقع عند المجتهد ، فهو حكم فعليّ في حقّ المجتهد ، وكلّما هو حكم فعليّ في حقّه [ فهو ] حكم فعليّ في حقّ مقلّديه ما لم ينكشف عندهم مخالفته الواقع ، بضابطة أنّ كلّما أفتى به المفتي فهو حكم اللّه في حقّ المقلّد.

هذا ولكنّ الأحوط ترك تقليده في المسائل المبتنية على الطريق الّذي يقطع بفساده.

نعم إذا أدّاه القطع بفساد الطريق إلى القطع بمخالفة مؤدّاه الواقع تعيّن عدم تقليده حينئذ لرجوعه إلى المسألة الاولى.

وهاهنا مسألة اخرى ، وهي : ما لو قطع المقلّد في مسألة بفساد اجتهاده مع صحّة طريقه في موضع يكون معذورا في ذلك الاجتهاد بعدم تقصيره في مقدّماته ، كما لو عوّل على

ص: 547

طريق صحيح بلا فحص عن المعارض إمّا لنسيانه أو لاعتقاد عدم وجوده من باب الجهل المركّب ، فالوجه جواز تقليده فيه لعين ما تقدّم من كون مؤدّى ذلك الاجتهاد حكما فعليّا في حقّ المجتهد ولم ينكشف للمقلّد مخالفته الواقع ، لأنّ القطع بفساد الاجتهاد لا يستلزم القطع بمخالفة مؤدّاه الواقع.

ومن هنا يعلم أنّ هذا ليس من مسألة القطع بالخطأ في خصوص المسألة ، لأنّ الخطأ لا يلازم فساد الاجتهاد ولا ينافي صحّته كما لا ينافي صحّة الطريق ، بل هو صفة تعرض المجتهد باعتبار انصراف فهمه عن الواقع إلى غيره ، وكما أنّ الخطأ بهذا المعنى لا يلازم فساد الاجتهاد بل يجامع صحّته أيضا فكذلك فساد الاجتهاد لا يلازم الخطأ بهذا المعنى بل يجامع الصواب أيضا ، فلا ملازمة بين المسألتين.

ومنها : كون المسألة المقلّد فيها ممّا أفتى به المجتهد فعلا فلا يكفي شأنيّة الإفتاء ، كما لو علم المقلّد من مذاق المجتهد وطريقته ومذهبه في الاصول أنّه لو أراد الإفتاء في المسألة لأفتى بالحكم الفلاني ، فإنّه لا يكفي حينئذ صحّة التقليد والأخذ بذلك الحكم التقديري ، بل لا بدّ من إحراز كونه قد أفتى فيها فعلا بالحكم الفلاني.

ومنها : إحراز عدم رجوع المجتهد فيها عمّا أفتى به أوّلا إلى غيره بطريق علمي أو شرعي ظاهري ويكفي فيه الاستصحاب ، فلو شكّ في مسألة من المسائل في رجوع المجتهد عن فتواه وعدمه فالظاهر أنّه يجوز له البناء على عدم الرجوع ، تعويلا على أصالة العدم واستصحاب الحالة السابقة الّذي هو من الاستصحاب في الموضوع الخارجي الّذي يكون المجتهد والمقلّد في جواز العمل به على شرع سواء ، ولا يجب عليه الفحص والسؤال في العمل به على ما هو المحقّق في الاصول الجارية في الموضوعات الخارجيّة من عدم اشتراط العمل بها بالفحص إجماعا ، كما هو الحال في استصحاب حياة المجتهد وعدالته واجتهاده ونحوه الّذي هو من وظيفة المجتهد.

وعلى هذا فلو اعتمد المقلّد في بقائه على التقليد على استصحاب عدم رجوع المجتهد واتّفق الرجوع للمجتهد في الواقع ففي وجوب الإعلام عليه للمقلّد برجوعه ، وكذلك لو حصل له التردّد وجهان بل قولان :

من وجوب الإرشاد وتعليم الأحكام الثابت بعمومات الكتاب والسنّة ، فمن الكتاب قوله عزّ من قائل : ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ) وقوله أيضا : ( وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا

ص: 548

رَجَعُوا إِلَيْهِمْ ) ، ومن السنّة قوله عليه السلام : « ما أخذ اللّه على العوام أن يتعلّموا إلاّ وقد أخذ على العلماء أن يعلّموا ».

ومن أنّ الأصل والاستصحاب الّذي اعتمد عليه المقلّد طريق شرعي مفاده حكم ظاهري للمقلّد وقد أخذ به ، فهو ليس بجاهل ولا غافل من حيث اعتماده في عمله على طريق شرعي ، والعمومات المشار إليها إنّما تنصرف إلى الجاهل الصرف والغافل المحض الّذي لم يعتمد في عمله على طريق شرعي.

وكيف كان فلو قطع المقلّد برجوع المجتهد عن فتواه فلا إشكال ولا خلاف في أنّه لا يجوز له البقاء على تقليده في هذه الفتوى ، بل يجب عليه العدول عن هذا المجتهد إلى مجتهد آخر ، أو عن هذه الفتوى إلى فتواه الثانية المتجدّدة بالنسبة إلى الوقائع اللاحقة والأعمال المستقبلة ، من غير فرق بين العبادات والإنشاءات من العقود والإيقاعات أو الأحكام ، وهي عبارة عن موضوعات مخصوصة من الأعيان أو أفعال المكلّفين غير العبادات والإنشاءات أثبت لها الشارع محمولات ، كقولنا : « العصير العنبي بعد الغليان حرام أو نجس » و « العصير الزبيبي أو التمري حلال أو طاهر » و « الميتة حرام أو نجس » و « السمك حلال أو طاهر » و « الغناء أو استماعه حرام » إلى غير ذلك ممّا يذكر في مباحث الأطعمة والأشربة والصيد والذباحة وإحياء الموات والمواريث والقضاء والشهادات والحدود والديات.

وبالجملة وجوب العدول في جميع ذلك بالنسبة إلى الوقائع اللاحقة والأعمال المستقبلة ممّا لا ينبغي التأمّل فيه بل لا خلاف فيه ، لخروج الفتوى الاولى برجوع المجتهد عنها عن كونها حكما فعليّا فلا يجوز الأخذ بها على ما قدّمناه.

وجوب نقض الآثار المترتّبة على الفتوى المعدول عنه وعدمه

وأمّا الوقائع السابقة فلكونها من الامور الغير القارّة بالذات وانعدمت بمجرّد وجودها وانقضاء زمان وقوعها فلا ينبغي التكلّم في وجوب العدول بالنسبة إليها الّذي يعبّر عنه بالنقض وعدمه ، بل الّذي ينبغي أن يتكلّم في وجوب نقضه وعدمه إنّما هو الآثار المترتّبة عليها ، وحيث إنّها قد تكون من العبادات وقد تكون من الإنشاءات وغيرها ، فالكلام في نقض آثارها وعدمه يقع في مقامين :

المقام الأوّل : في الآثار المترتّبة على العبادات.

فنقول : لا إشكال ولا ينبغي التأمّل في مضيّ الآثار السابقة المرتّبة على الوقائع السابقة من العبادات إن كان لها آثار سابقة ، كفضيلة أوّل الوقت وفضيلة المسارعة والتعجيل إلى

ص: 549

فعل المأمور به وفضيلة الوقت ونحو ذلك فيمن صلّى بلا سورة تقليدا عمّن لا يوجبها في الصلاة في أوّل الوقت ، أو سارع إلى فعلها أو في الوقت طلبا لإدراك فضائل هذه الكيفيّات ومصالحها ثمّ عدل المجتهد إلى القول بوجوب السورة فوجب الالتزام بترتّب هذه الآثار وحصول هذه المنافع والمصالح وعدم انتقاضها بالعدول ، وإن قلنا بعدم كون الصلوات المأتيّ بها على طبق الفتوى الاولى من الصلاة المأمور بها في الواقع لئلاّ يلزم فوات هذه المنافع عن المكلّف بلا تدارك حذرا عن نقض الغرض ومنافاة العدل والحكمة ، كما يظهر وجهه بالتأمّل فيما قرّرناه في بحث الإجزاء وغيره.

وأمّا الآثار المستقبلة المترتّبة على الوقائع السابقة من العبادات فإن كانت بحيث تترتّب على الصحّة الشرعيّة ولو ظاهريّة - أي العمل الصحيح المحكوم بصحّته في ظاهر الشرع - فينبغي القطع بترتّبها أيضا وعدم انتقاضها بالعدول ، وذلك كاستحقاق الاجرة المقتضي لجواز تناول الأجير للأموال الموجودة بعد العمل والتصرّف فيها في استيجار العبادات من الصلاة والصوم والحجّ وغيرها الواقعة على طبق التقليد في الفتوى السابقة ، فإنّ عقد الإجارة فيها يقتضي وجوب العمل على حسب التكليف المحكوم بصحّته شرعا باعتبار موافقته التكليف ، ولذا لا يقدح فيه النسيان والسهو فيما لا يبطله السهو ، كما يقتضي استحقاق الاجرة على العمل المفروض على هذا الوجه من دون نظر إلى الواقع ، وجواز التصرّف في الأموال الموجودة منها بعد العمل الواقع على هذا الوجه بل وحصول الامتثال المسقط المتدارك حتّى بعد رجوع المجتهد عن الفتوى والعدول عن تقليده في تلك الفتوى.

وبالجملة هذه الآثار مترتّبة على الصحّة الشرعيّة المنوطة بالتكليف الظاهري وقد حصلت حين وقوع العمل.

وإن كانت بحيث تترتّب على الصحّة الواقعيّة كسقوط الإعادة والقضاء ، ففي انتقاضها المقتضي لوجوب الإعادة بعد الرجوع لو كان في الوقت ولو في الجزء الأخير منه والقضاء لو كان في خارج الوقت وعدمه قولان ، أقواهما وأوفقهما بالقواعد أوّلهما وفاقا لبعض مشايخنا قدس سره.

ويظهر من فحوى المحكيّ عن العلاّمة والعميدي والحاجبي والعضدي والآمدي في التهذيب والمنية والمختصر وشرحه والإحكام من القول ببطلان المعاملة من عقد أو إيقاع رأسا وانتقاض آثارها مطلقا عند تغيّر الاجتهاد وتجدّد الرأي.

ص: 550

ودليلنا عليه بالبيان الإجمالي : أنّ سقوط الإعادة والقضاء يتبع الامتثال الواقعي كما هو مقتضى أدلّة الواقع ، ولا يتأتّى ذلك إلاّ بإتيان المأمور به الواقعي أو بإتيان بدله الّذي جعله الشارع بدلا له ، والمفروض بعد الرجوع والعدول انتفاء الأمرين بالقياس إلى الوقائع السابقة.

أمّا الأوّل : فلأنّ المفروض أنّ الصلاة بلا سورة مثلا المأتيّ بها على طبق الفتوى الاولى انكشف بالرجوع إلى وجوب السورة عدم كونها المأمور به الواقعي.

وأمّا الثاني : فلأنّ بدليّة الصلاة بلا سورة مبنيّة على موضوعيّة جعل الأمارات وهو باطل ، فالمأمور به الواقعي باق على ذمّة المكلّف فيجب الإتيان به إعادة أو قضاء.

أمّا الأوّل : فلأنّ بقاء الوقت ولو جزء أخيرا منه بمقتضى ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) يقتضي وجوب الخروج عن عهدة الأداء.

وأمّا الثاني : فلأنّ قضيّة الجمع بين أدلّة الأداء وأدلّة القضاء وجوب أحد الأمرين من الفعل في الوقت والفعل في خارجه مع ترتّب الثاني على فوات الأوّل.

وتوهّم أنّ سقوط الإعادة والقضاء من الآثار السابقة المترتّبة على الوقائع السابقة الّتي تقدّم عدم الإشكال في وجوب المضيّ فيها.

يدفعه : وضوح الفرق بين الحكم بالسقوط ونفس السقوط في الواقع ، والأوّل لا يلازم الثاني ، والمترتّب على الوقائع السابقة قبل الرجوع إنّما هو الأوّل والرجوع إلى خلافها بموجب الأمارة المعمول بها في الاجتهاد الثاني كشف عن عدم السقوط بحسب الواقع.

لا يقال : الّذي يستلزمه الرجوع عن الفتوى إنّما هو حجّية الاجتهاد الثاني بالنسبة إلى الوقائع اللاحقة لا الوقائع السابقة ، والإعادة لتعلّقها بها بل القضاء أيضا منها فلا يحكم بوجوبهما بمقتضى الاجتهاد الثاني المفروض عدم حجّيته بالنسبة إليهما.

لأنّ الإعادة والقضاء على تقدير وجوبهما إنّما يجبان على أنّهما من الوقائع اللاحقة ، ضرورة أنّ الإتيان بالمأمور به الواقعي في الوقت على تقدير بقائه أو في خارجه على تقدير فواته في الوقت واقعة حصل الابتلاء بها بعد الرجوع عن الفتوى.

ولو قيل : إنّ العمل قد وقع قبل الرجوع.

قلنا : انكشف عدم كون ما وقع هو المأمور به الواقعي ، والمفروض عدم كونه بدلا له

ص: 551

لبطلان الجعل الموضوعي في الأمارات.

والسرّ فيه - مع وضوحه واتّضاحه في غير موضع - أنّ المستفاد من أدلّة الطرق سواء كانت معمولة في الأحكام أو في الموضوعات وجوب الأخذ بمؤدّاها وتطبيق الحركات والسكنات الخارجيّة عليه على أنّه هو الواقع ، ولا يستفاد منها كون مؤدّاها شيئا آخر غير الواقع في عرض الواقع ، ومعنى تغيّر الاجتهاد والرجوع عن الفتوى الاولى انكشاف عدم كون مؤدّى الأمارة الاولى المعمول بها في الاجتهاد الأوّل هو الواقع.

ثمّ من المعلوم أنّ الواقع إذا كان مجهولا فالمكلّف الجاهل به مادام جاهلا ولو من باب الجهل المركّب ليس له سوى المعذوريّة من حيث العقوبة والمؤاخذة ، وكما أنّ المعذوريّة إنّما كانت ما دام الجهل فكذلك وجوب العمل بمؤدّى الطريق - على معنى ترتيب آثار الواقع عليه - إنّما هو ما دام الجهل ، فإذا زال الجهل بانكشاف خلاف مؤدّى الطريق تعيّن الأخذ بالواقع وترتيب الآثار عليه وهو مؤدّى الطريق المرجوع إليه.

ومن جملة الآثار وجوب الإعادة أو القضاء ، لعدم سقوط الأمر أو فواته في الوقت من جهة عدم حصول الإتيان بالمأمور به الواقعي ولا ببدله ، لعدم كون المأتيّ به أوّلا بدلا له لأنّ الإتيان به إنّما حصل على أنّه المأمور به الواقعي وقد انكشف خلافه.

هذا كلّه مضافا إلى ما قرّرناه بما لا مزيد عليه في بحث الإجزاء فإنّا قد أشبعنا الكلام في هذا المقام ثمّة.

المقام الثاني : في الآثار المترتّبة على المعاملات من العقود والإيقاعات ، كما لو اشترى دارا أو عقارا أو كسوة أو نحوها بالمعاطاة لبنائه على صحّتها ، وعقد على امرأة بالفارسي لبنائه على عدم اشتراط العربيّة في العقد ، أو على الباكرة البالغة من دون إذن أبيها لبنائه على عدم ولاية له عليها ، أو على المرضعة أو المرتضعة بعشر رضعات لبنائه على عدم نشر الحرمة بها ، ثمّ تغيّر رأيه ورجع عمّا بنى عليه أوّلا لما دلّه على فساد المعاطاة واشتراط العربيّة في صحّة العقد وولاية الأب على الباكرة الرشيدة ونشر الحرمة بعشر رضعات ، فله بالقياس إلى لزوم الحكم بفساد ما وقع على طبق الفتوى الاولى ووجوب نقض الآثار المترتّبة على الوقائع المذكورة من العقود المنطبقة على الاجتهاد الأوّل وعدمه صور :

الاولى : ما لو كان رجوعه على سبيل القطع ، بأن صادف اجتهاده الثاني قاطعا أفاده القطع بخطائه في الفتوى الاولى المستلزم للقطع بفساد العقود المذكورة وغيرها ، ففي مفاتيح

ص: 552

السيّد : « الظاهر أنّه يلزمه الحكم بفساد ما فعل بالاجتهاد الأوّل ، والظاهر أنّه ممّا لا خلاف فيه بين الأصحاب ».

أقول : وهو كذلك ، بل الحكم بالفساد الّذي هو عبارة عن نقض الآثار الشرعيّة ممّا لا ينبغي الاسترابة فيه ، ضرورة أنّ الآثار إنّما تترتّب على العقد أو الإيقاع الصحيحين لا على ما انكشف فساده ومخالفته الواقع.

والسرّ فيه : أنّ الصحّة بمعنى ترتّب الأثر في عقد أو إيقاع إنّما هو من مقتضى ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) و ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) وغير ذلك من عمومات أدلّة العقود والإيقاعات ، وهو إنّما يعقل في عقد أو إيقاع علم اندراجه في عموم تلك الأدلّة ، والرجوع عن الفتوى معناه انكشاف عدم اندراج الموارد المنطبقة عليها تحت الأدلّة ، خصوصا لو كان ذلك لخروجه الموضوعي كما في المعاطاة مثلا لو رجع عن القول بصحّتها بيعا إلى الفساد وعدم البيعيّة ، ومعه كيف يعقل ترتيب الآثار الشرعيّة بعد الرجوع؟

الثانية : ما لم يكن الرجوع على سبيل القطع ، لوصوله في الاجتهاد الثاني إلى أمارة ظنّية ولكن اتّصل بالوقائع السابقة المنطبقة عليها حكم من حاكم شرعي ، كما لو ترافع المتعاقدان أو غيرهما لوقوع الاختلاف في الصحّة وعدمها في الأمثلة المتقدّمة إليه فحكم بالصحّة لموافقته في الرأي لذلك المجتهد الّذي اتّفق له الرجوع.

وحينئذ فعن النهاية والتهذيب والمنية والمختصر وشرحه للعضدي وشرح المبادئ التصريح بالاستمرار على ما فعل وترتيب الآثار عليه وعدم جواز نقضه.

وعن النهاية التصريح بعدم الفرق فيما لو كان صاحب الواقعة هو المقلّد بين ما لو كان الحاكم هو المجتهد المتغيّر رأيه أو غيره.

وعن النهاية والتهذيب والمنية وغيرها التعليل بأنّ حكم الحاكم لمّا اتّصل بالنكاح فيما لو نكح امرأة خالعها ثلاثا لبنائه أوّلا على أنّ الخلع فسخ لاطلاق ، ثمّ تغيّر اجتهاده فبنى على أنّه طلاق بعد لحوق حكم الحاكم بصحّة النكاح تأكّد ذلك النكاح فلا يفسد بتغيّر الاجتهاد.

وعن النهاية أنّه زاد عليه محافظة على حكم الحاكم مصلحته ، وتنظّر في المنية في الأوّل بقوله : « وفي هذا نظر ، لأنّ حكم الحاكم لا يغيّر الشيء عمّا هو عليه ، فإن كان الحلّ ثابتا في نفسه لم يؤثّر فيه حكم القاضي ، وإن كان منتفيا لم يثبت بحكم الحاكم ».

ص: 553

هذا فيما لو كان صاحب الواقعة هو المجتهد المتغيّر رأيه ، وأمّا لو كان غيره ممّن قلّده فجزم فيه بعدم النقض قائلا : « بخلاف قضاء القاضي فإنّه متى اتّصل بحكم المجتهد فيه استقرّ ولا يجوز نقضه ما لم يكن منافيا لمقتضى دليل قطعي كالنصّ أو إجماع أو قياس جليّ - وهو ما نصّ الشارع فيه على الحكم وعلى علّته نصّا قاطعا وتثبت تلك العلّة في الفرع قطعا - فإنّه حينئذ ينقض لظهور خطائه قطعا ، أمّا لو تغيّر الاجتهاد المتأيّد بالحكم والقضاء بالاجتهاد الطارئ عليه فإنّه لا يؤثّر ولا ينقض به الحكم ، إذ لو جاز للحاكم نقض حكم نفسه أو حكم غيره بمجرّد تغيّر اجتهاده المفيد للظنّ لجاز نقض النقض عند تغيّر الاجتهاد مرّة اخرى وهكذا إلى غير النهاية ، وهذا يفضي إلى عدم الوثوق بحكم الحاكم وعدم استقراره ، وهو خلاف المصلحة الّتي ينصب الحاكم لأجلها » انتهى.

وحيث إنّ نقض الفتوى في الصورة المفروضة يندرج في صور نقض الحكم كما يظهر من التعليلات المذكورة فالمنع منه لو كان إنّما هو لجهة راجعة إلى نقض الحكم ، فتحقيق الحال فيه يعلم من ملاحظة حكم نقض الحكم وصوره ، ولعلّنا نتكلّم فيه فيما بعد.

الثالثة : ما لو لم يتّصل بالواقعة حكم حاكم ، فالمصرّح به في كلام جماعة وجوب النقض وعدم جواز الاستمرار على ما فعل ، ولعلّه المشهور بل لم يظهر خلاف فيه بالنسبة إلى المجتهد نفسه ، بل في المنية كما عن النهاية دعوى الاتّفاق عليه.

نعم في محكيّ النهاية نقل الاختلاف في المقلّد وإن اختار هو فيه وفي التهذيب - كما في المنية وعن المختصر وشرحه والإحكام - وجوب النقض وعدم جواز الاستمرار ، وتنظر فيه السيّد في المفاتيح (1) لمخالفته استصحاب الصحّة واستلزامه الحرج العظيم والمشقّة الشديدة غالبا.

ثمّ قال - بعد ما أمر بالتأمّل - : « فالقول بصحّة الاستمرار على ما فعل بتقليد الاجتهاد الأوّل في المعاملات في غاية القوّة » (2).

أقول : الأقوى بل الحقّ الّذي لا محيص عنه في حقّ كلّ من المجتهد والمقلّد هو وجوب النقض وعدم جواز الاستمرار لوجوه :

منها : الأصل ، إذ بعد تغيّر الاجتهاد والرجوع عن الفتوى الاولى يشكّ في ترتّب الآثار الشرعيّة على ما وقع من عقد أو إيقاع من حين وقوعه وعدمه ، والأصل - بمعنى استصحاب

ص: 554


1- مفاتيح الاصول : 582.
2- مفاتيح الاصول : 582.

الحالة السابقة العدميّة الأزليّة - يقتضي عدمه.

وبالتأمّل في تقرير الأصل المذكور يندفع الاستصحاب المتوهّم هاهنا المتمسّك به للقول بعدم جواز النقض كما تقدّم الإشارة إليه في عبارة المفاتيح لسريان شكّه المانع من جريانه رأسا ، فالأصل المذكور سليم عمّا يرد عليه من الاصول.

ومنها : الإجماع المنقول المتقدّم عن المنية والنهاية المعتضد بالشهرة ولو في حقّ المجتهد نفسه ، فإنّه ممّا يورث الظنّ الاطمئناني بالفساد وعدم ترتّب الآثار ، بل عدم جواز ترتيبها أيضا بعد الرجوع.

ومنها : ما تقدّم في المقام الأوّل من أنّ المستفاد من أدلّة الطرق وجوب الأخذ بمؤدّاها وترتيب الآثار عليه على أنّه الواقع ، ومعنى الرجوع عن الفتوى انكشاف عدم كون مؤدّى الأمارة الاولى المعمول بها في الاجتهاد الأوّل هو الواقع ، ومعه كيف يعقل ترتيب آثار الواقع عليه؟

وتوهّم أنّ الآثار قد ترتّبت قبل الرجوع ، يندفع : بوضوح الفرق بين الحكم بترتّبها وبين ترتّبها في الواقع ، والمسلّم قبل الرجوع هو الأوّل والّذي يجدي في منع ما تقدّم هو الثاني وهو غير مسلّم.

ومنها : ما تقدّم الإشارة إليه من أنّ ترتّب الآثار على ما وقع في الخارج من عقد أو إيقاع إنّما هو من مقتضى أدلّة مشروعيّة العقود والإيقاعات من مثل ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ونحوه فيما علم اندراجه في عمومها ، حتّى أنّ ترتيبها على العقود الشخصيّة المنطبقة على الفتوى السابقة قبل الرجوع عنها إنّما هو لاعتقاد اندراجها في عموم تلك الأدلّة ، وقضيّة تغيّر الاجتهاد أخذا بمؤدّى أمارة قائمة بخلاف الفتوى السابقة انكشاف عدم اندراجها فيه ، ومعه كيف يصحّ الالتزام بترتّب الآثار من الملكيّة والنقل والانتقال والزوجيّة ووجوب الوفاء عليها مع ملاحظة أنّ الأصل الأوّلي في كلّ عقد أو إيقاع هو الفساد وعدم الصحّة ، ولا نعني منهما إلاّ كون المورد بحيث لا يترتّب عليه الآثار الشرعيّة.

وبالجملة الأصل الأوّلي في المعاملات على ما حقّق في محلّه هو الفساد ، وقد انقلب ذلك الأصل في الأسباب الشرعيّة من العقود والإيقاعات إلى أصل ثانوي مستنبط من عمومات أدلّة الصحّة وإطلاقاتها كتابا وسنّة وغيرهما.

ولا ريب أنّ الأصل الثانوي لا يتناول إلاّ ما ظهر للمجتهد اندراجه في عموم تلك

ص: 555

الأدلّة وإطلاقها ، وأمّا ما ظهر له عدم اندراجه أو شكّ في اندراجه فيهما فهو باق تحت الأصل الأوّلي ، ومرجعه إلى عدم انقلاب الأصل الأوّلي بالنسبة إليه ، والأمارة المعمول بها في الاجتهاد الثاني الباعثة على

الرجوع الدالّة على اشتراط الصيغة في البيع والعربيّة في العقد والولاية للأب على الباكرة الرشيدة ونشر الحرمة بعشر رضعات قاضية بخروج العقود الخالية عن تلك الشروط من الأصل الثانوي ، وموجبة للعلم الشرعي بعدم اندراجها في أدلّة ذلك الأصل.

وإن شئت فقس المقام على ما لو اطّلع المجتهد على نحو الأمارة المذكورة في ابتداء اجتهاده ، فكما أنّه لانكشاف عدم اندراج العقود الخالية عن الشروط المستفادة من الأمارة المذكورة في أدلّة الصحّة وخروجها منها من باب التخصيص أو التخصّص يبني على فسادها ولا يرتّب عليها شيئا من الآثار الشرعيّة بل ولا يجوز له ترتيبها ، فكذلك فيما لو اطّلع عليها في الاجتهاد الثاني على وجه أوجبت رجوعه عن مؤدّى الاجتهاد الأوّل ، وما سبقه من اعتقاد الاندراج لا يغيّر الموضوع الواقعي عمّا هو عليه من عدم اندراجه في نفس الأمر في أدلّة الصحّة بحيث يجعله مندرجا فيها في نفس الأمر.

ومع ذلك كلّه كيف يقال في الوقائع السابقة بأنّه يجب الوفاء بها؟ ومقتضاه بقاء الآثار المترتّبة عليها على حالها.

هذا كلّه في المجتهد واضح ، وأمّا المقلّد على تقدير اختياره العدول من تقليد ذلك المجتهد في فتواه إلى تقليده في فتواه الثانية ففي حقّه وإن كان يمكن القول بعدم النقض ، نظرا إلى أنّ دليله على ترتيب الآثار ليس نحو ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) وغيره من أدلّة الصحّة الّتي ينظر فيها المجتهد ، بل دليله إنّما هو فتوى مجتهده والمفروض أنّه أخذ بموجبها في الوقائع السابقة ، ولا يقدح فيه طروّ الرجوع للمجتهد ، لأنّه إنّما يثمر بالنسبة إلى الوقائع اللاحقة وأمّا الوقائع السابقة فلا دليل على حجّية الفتوى اللاحقة فيها.

ولكن يدفعه : أنّ الفتوى ليست بنفسها دليلا للمقلّد بأن يكون اعتبارها في حقّه على وجه الموضوعيّة ، بل باعتبار كونها إخبارا عن حكم اللّه الفعلي على حسب تأدية الاجتهاد إليه ، فدليل المقلّد في الحقيقة على الحكم الفعلي إنّما هو دليل المجتهد بعينه ، فالمجتهد ومقلّده في وجوب الأخذ بمؤدّى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (2) وغيره من أدلّة الصحّة في تصحيح

ص: 556


1- المائدة : 1.
2- المائدة : 1.

العقود والإيقاعات على شرع سواء من غير فرق بينهما ، غير أنّ المقلّد لعجزه عن فهم الدليل وإدراك حقيقة المراد منه واستنباط الحكم الّذي من شأنه أن يستنبط منه ينوب عنه المجتهد ، فهو مخاطب بالأخذ بمؤدّى الأدلّة على حسب فهمه وبقدر طاقته أصالة عن نفسه ونيابة عن مقلّديه ، ثمّ يبلّغه إليهم بصورة الإفتاء فيجب عليهم الأخذ بهذا الفهم الّذي هو اعتقاد المجتهد وتطبيق العمل عليه ، وحينئذ فيجري في حقّهم بالنسبة إلى نقض الآثار ما يجري في حقّ المجتهد.

ومحصّله : أنّ المجتهد إذا رجع عن مؤدّى اجتهاده السابق لا يبقى للمقلّد أيضا ما يقتضي وجوب الوفاء بما صدر منه من العقود والإيقاعات.

وأمّا القول بعدم النقض مطلقا أو في حقّ المقلّد وحده فليس له إلاّ الاستصحاب ولزوم الحرج العظيم والمشقّة الشديدة ، وجريان السيرة وارتفاع الوثوق ولزوم الهرج والمرج ، ولقد عرفت الجواب عن الاستصحاب هنا وذكرنا الجواب عن الكلّ في مسألة الإجزاء بما لا مزيد عليه ، وملخّصه : أنّ الاستصحاب لسريان شكّه غير صحيح ، ونفي الحرج لكونه شخصيّا يقتصر فيه على مورده مع ندوره ، والسيرة لندرة اتّفاق تغيّر الاجتهاد في محلّ المسألة غير معلومة ، والأخيران لكونهما من الوجوه الاعتباريّة لا ينهضان دليلين على تأسيس الحكم الشرعي المخالف للأصل والقاعدة المستفادة من الأدلّة المتقدّمة ، فليتدبّر.

ومن الفضلاء من يظهر منه بالنسبة إلى المقامين معا تفصيل ، مرجعه إلى الفرق بين العبادات والمعاملات من العقود والإيقاعات فلا ينقض الفتوى في الوقائع السابقة على الرجوع وبين الأحكام فتنقض ، حيث قال : « إذا رجع المجتهد عن الفتوى انتقضت في حقّه بالنسبة إلى مواردها المتأخّرة عن زمن الرجوع قطعا وهو موضع وفاق » - إلى أن قال - :

وأمّا بالنسبة إلى مواردها الخاصّة الّتي بنى فيها قبل رجوعه عليها فإن قطع ببطلانها واقعا فالظاهر وجوب التعويل على مقتضى قطعه فيها بعد الرجوع عملا بإطلاق ما دلّ على ثبوت الحكم المقطوع به ، فإنّ الأحكام لاحقه لمواردها الواقعيّة لا الاعتقاديّة فيترتّب عليه آثاره الوضعيّة ما لم تكن مشروطة بالعلم » إلى أن قال :

« وكذا لو قطع ببطلان دليله واقعا وإن لم يقطع ببطلان نفس الحكم ، كما لو زعم حجّية القياس فأفتى بمقتضاه ثمّ قطع ببطلانه ، لقطعه بأنّ حكمه الواقعي حال الإفتاء لم يكن ذلك » إلى أن قال :

ص: 557

« وإن لم يقطع ببطلانها ولا ببطلانه فإن كانت الواقعة ممّا يتعيّن في وقوعها شرعا أخذها بمقتضى الفتوى فالظاهر بقاؤها على مقتضاها السابق فيترتّب عليها لوازمها بعد الرجوع ، إذ الواقعة الواحدة لا يحتمل اجتهادين ولو بحسب زمانين لعدم دليل عليه ، ولئلاّ يؤدّي إلى العسر والحرج المنفيّين في الشريعة السمحة ، لعدم وقوف المجتهد على رأي واحد غالبا » إلى أن قال :

« ولئلاّ يرتفع الوثوق في العمل ، من حيث إنّ الرجوع في حقّه محتمل وهو مناف للحكمة الداعية إلى تشريع حكم الاجتهاد » إلى أن قال :

« ولأصالة بقاء آثار الواقعة ، إذ لا ريب في ثبوتها قبل الرجوع بالاجتهاد ، ولا قطع بارتفاعها بعده إذ لا دليل على تأثير الاجتهاد المتأخّر فيها ، فإنّ القدر الثابت من أدلّته جواز الاعتماد عليه بالنسبة إلى غير ذلك فيستصحب » إلى أن قال :

« وبالجملة فحكم رجوع المجتهد في الفتوى فيما مرّ حكم النسخ في ارتفاع الحكم المنسوخ عن موارده المتأخّرة عنه وبقاء آثار موارده المتقدّمة إن كان لها آثار.

وعلى ما قرّرنا فلو بنى على عدم جزئيّة شيء للعبادة أو عدم شرطيّته فأتى بها على الوجه الّذي بنى عليه ثمّ رجع بنى على صحّة ما أتى به ، حتّى أنّها لو كانت صلاة وبنى فيها على عدم وجوب السورة ثمّ رجع بعد تجاوز المحلّ بنى على صحّتها من جهة ذلك ، أو بنى على صحّتها في شعر الأرانب والثعالب ثمّ رجع ولو في الأثناء إذا نزعها قبل الرجوع ، وكذا لو بنى على طهارة شيء ثمّ صلّى في ملاقيها ورجع ولو في الأثناء ، وكذا لو تطهّر بما يراه طاهرا أو طهورا ثمّ رجع ولو في الأثناء ، فلا يلزمه الاستئناف ، وكذلك القول في بقيّة مباحث العبادات وسائر مسائل العقود والإيقاعات ، فلو عقد أو أوقع بصيغة يرى صحّتها ثمّ رجع بنى على صحّتها واستصحب أحكامها من بقاء الملكيّة والزوجيّة والبينونة والحرّيّة وغير ذلك » إلى أن قال :

« ولو كانت الواقعة ممّا لا يتعيّن أخذها بمقتضى الفتوى فالظاهر تغيّر الحكم بتغيّر الاجتهاد ، كما لو بنى على حلّية حيوان فذكّاه ثمّ رجع بنى على تحريم المذكّى منه وغيره ، أو على طهارة شيء كعرق الجنب من الحرام فلاقاه ثمّ رجع بنى على نجاسته ونجاسة ملاقيه قبل الرجوع وبعده ، أو على عدم تحريم الرضعات العشرة فتزوّج من أرضعته ذلك ثمّ رجع بنى على تحريمها ، لأنّ ذلك كلّه رجوع عن حكم الموضوع وهو لا يثبت بالاجتهاد

ص: 558

على الإطلاق ، بل ما دام باقيا على اجتهاده فإذا رجع ارتفع كما يظهر من تنظير ذلك بالنسخ.

وأمّا الأفعال المتعلّقة بالموضوع المتفرّعة على الاجتهاد السابق فهي في الحقيقة إمّا من مشخّصات عنوان الموضوع كالملاقاة أو من المتفرّعات على حكم الموضوع كالتذكية والعقد فلا أثر لها في بقاء حكم الموضوع » إلى أن قال : « وممّا قرّرنا يظهر حكم التقليد بالمقايسة ، فإنّ المقلّد إذا رجع مجتهده عن الفتوى أو عدل إلى من يخالفه حيث يسوغ له العدول أو بلغ درجة الاجتهاد وأدّى نظره إلى الخلاف ، فإنّه يتصوّر في حقّه الصور المذكورة ويجري فيه الكلام المذكور » انتهى ملخّصا (1).

ومحصّله : الفرق في موضوع الحكم الشرعي بين الامور المخترعة الشرعيّة الّتي أخذ الشارع فيها أجزاء وشرائط ولا تعرف إلاّ ببيانه الّذي لا بدّ لاستعلامه من مراجعة الأدلّة الظنّية والأمارات الشرعيّة المتداولة بين المجتهدين ، فلا بدّ لإحراز المشروع منها في الخارج وفي مقام العمل من تطبيق الواقعة المأتيّ بها على فتوى المجتهد المتكفّلة لبيان أجزائها وشرائطه المستنبطة من الأدلّة الاجتهاديّة - وهذا هو المراد من كون الواقعة ممّا يتعيّن في وقوعها شرعا أخذها بمقتضى الفتوى - وبين الامور الواقعيّة الّتي لا مدخل للشارع ولا لاجتهاد المجتهد فيها باعتبار كونها من الموضوعات العرفيّة أو اللغويّة الّتي يرجع لمعرفتها إلى العرف واللغة ، وقضيّة ذلك أن لا يرجع لإحراز الواقعة منها في الخارج إلى فتوى المجتهد لعدم كونها متكفلّة لبيان الموضوع ، وهذا هو المراد من كون الواقعة ممّا لا يتعيّن في وقوعها أخذها بمقتضى الفتوى.

وبهذا البيان ظهر أنّ تغيّر الاجتهاد في مثل ذلك لا يوجب تغيّر الموضوع ، بل إنّما يوجب تغيّر حكم الموضوع من الحلّ أو الحرمة أو الطهارة أو النجاسة أو غيرها ، والمفروض أنّه المثبت بالاجتهاد الأوّل على الإطلاق بل ما دام الاجتهاد باقيا ، ولذا ينتقض مؤدّى الاجتهاد الأوّل من غير فرق فيه بين الوقائع السابقة والوقائع اللاحقة ، بخلاف ما كان من قبيل الامور المخترعة الّتي يرجع لإحرازها بأجزائها وشروطها من العبادات وسائر العقود والإيقاعات إلى الفتوى المتكفّلة لبيان الأجزاء والشرائط ، فإنّ تغيّر الاجتهاد في مثل ذلك يوجب تغيّر الموضوع ، وهو لا يوجب انتقاض الأحكام والآثار المترتّبة على الموضوع الأوّل المنطبق في وقوعه الخارجي على الفتوى الاولى بدلالة الوجوه الأربعة المتقدّمة.

ص: 559


1- الفصول الغرويّة : 409.

وفيه : بطلان أصل الدعوى مع فساد أدلّته.

أمّا الأوّل : فلأنّ الواقعة إذا كانت من قبيل الامور المخترعة من العبادات وسائر العقود والإيقاعات وإن كان يجب لإحراز وقوعها في الخارج تطبيقها على الفتوى ، لكن لا على أنّ مؤدّاها أمر مستقلّ واقع في طرف العرض من الواقع هو المأمور به في العبادات ، والسبب المشروع في العقود والإيقاعات وإن غاير الواقع لبطلان الجعل الموضوعي في الأمارات على ما بيّنّاه مرارا ، بل على أنّه الواقع بمعنى المأمور به الواقعي والسبب الواقعي ، فمعنى وجوب الأخذ به وجوب ترتيب آثار الواقع عليه على أنّه الواقع لا ما يغايره ، ولا يعقل ذلك إلاّ ما لم يتحقّق الرجوع ، إذ الرجوع معناه انكشاف أنّ المأتيّ به غير المأمور به الواقعي والمأمور به الواقعي غير مأتيّ به ، وإنّ ما وقع من الصيغة الّتي يرى المجتهد صحّتها أوّلا غير السبب الواقعي المشروع الّذي يترتّب عليه الملكيّة أو الزوجيّة أو البينونة أو الحرّيّة أو غيرها ، والسبب الواقعي المشروع غير واقع ، ومع ذلك فكيف يعقل ترتيب آثار الواقع على الوقائع السابقة على الرجوع؟

وبالجملة فإن أراد الفاضل المتقدّم ذكره من كون الواقعة ممّا تعيّن أخذه بمقتضى الفتوى أنّ ما أخذه المجتهد أو مقلّده من الواقعة بمقتضى الفتوى كان حكمه الواقعيّ الأوّلي فلا ينتقض بعد الرجوع الآثار اللاحقة بها قبله ، فلا يجب في العبادة كالصلاة بلا سورة أو مستصحبة لشعر الأرانب والثعالب ونحو ذلك إعادة لو كان الرجوع في الوقت ولا قضاء لو كان في خارج الوقت.

ففيه : أنّه تصويب باطل.

وإن أراد أنّ مؤدّى الاجتهاد السابق الّذي وقعت الواقعة على طبقه وإن لم يكن هو المأمور به الواقعي الأوّلي إلاّ أنّه كان بدلا عن الواقعي الأوّلي ما دام الاجتهاد المذكور باقيا تنزيلا له منزلة الأعذار الموجبة للبدليّة.

ففيه - مع أنّه نوع من التصويب أيضا - : أنّ هذا المعنى ممّا لا يستفاد من أدلّة الطرق الّتي وقع فيها الاجتهاد ونشأ منها الفتوى ، بل قصارى ما استفيد منها وجوب الأخذ بمؤدّى الطرق على أنّه الواقع ، لا على أنّه شيء في عرضه أو أنّه بدل منه.

وإن أراد غير هذين المعنيين فمقتضى الدليل والقاعدة وجوب الإعادة مع بقاء الوقت والقضاء مع خروجه إن لم يكن إجماع على خلافه ، كما هو قضيّة عدم سقوط الأمر في

ص: 560

الوقت ، فإنّ سقوطه مبنيّ على إدراك الواقع أو إدراك بدله ، والمفروض بعد انكشاف فساد الاجتهاد عدم حصول شيء من الأمرين.

وبالجملة لو صحّ الالتزام بالتصويب على أحد المعنيين اتّجه القول بالإجزاء وسقوط الإعادة والقضاء ، وإلاّ فلا محيص من القول بعدم الإجزاء فلا مناص من الإعادة والقضاء ، ولذا ترى أنّ ثاني الشهيدين في تمهيد القواعد فرّع الإجزاء وعدمه على التخطئة والتصويب ، وحيث إنّ التصويب باطل فمقتضى القاعدة هو وجوب نقض الفتوى بعد رجوع المجتهد بالنسبة إلى الوقائع السابقة أيضا ، كما أنّها تنتقض بالنسبة إلى الوقائع اللاحقة ، سواء تعلّقت بالعبادات أو المعاملات من العقود والإيقاعات والأحكام.

وأمّا الثاني : فأمّا فساد الوجه الأوّل فلعدم كون مبنى القول بانتقاض الفتوى بالقياس إلى الوقائع السابقة أيضا على إجراء حكمي الاجتهادين وترتيب آثار مؤدّاهما على الواقعة الواحدة بحسب زماني ما قبل الرجوع وما بعده ، بل على إجراء أحكام الاجتهاد الثاني عليها لا غير ، بناء على أنّ معنى انكشاف فساد الاجتهاد تبيّن عدم حكم له حدث بسببه في الواقعة واقع في طرف العرض من الواقع أو في طرف طوله بناء على البدليّة.

وأمّا فساد الوجه الثاني والثالث فقد أشرنا إليه سابقا ، وأمّا فساد الوجه الرابع فلما بيّنّاه أيضا من استحالة الاستصحاب مع سريان شكّه إن قرّر بالقياس إلى نفس الآثار المترتّبة كما هو ظاهر عبارته ، وإن قرّر بالقياس إلى وجوب ترتيبها الثابت قبل الرجوع.

ففيه : أنّه بهذا المعنى أشدّ استحالة ، لوضوح استحالة ترتيب آثار الواقع على ما انكشف انتفاء الواقع فيه وتبيّن مغايرته له ، مع عدم ثبوت بدليّته منه.

والحاصل : أنّ المأتيّ به مع المأمور به الواقعي موضوعان متغايران ولا يمكن إجراء أحكام أحدهما على الآخر مع فرض عدم ثبوت البدليّة فيما بينهما.

وقد يجاب أيضا : بأنّ الآثار لمّا كانت آثار مؤدّى الاجتهاد المتقدّم فكان ذلك الاجتهاد علّة لثبوتها والمفروض زواله.

ولا ريب أنّ زوال العلّة - كما هو المفروض - يستلزم زوال المعلول ، فتأمّل.

وأيضا فإنّ الاستصحاب المفروض من باب الشكّ في المقتضي لا من باب الشكّ في المانع ، على معنى الشكّ في رافعيّة الطارئ وهو الاجتهاد اللاحق كما تخيّله ، إذ لا يدري مقدار اقتضاء الاجتهاد السابق المقتضي لترتّب الآثار المترتّبة عليه وأنّه هل يقتضي ترتّبها

ص: 561

على الإطلاق أو يقتضيه ما دام باقيا؟ وهو قدس سره ممّن لا يرى الاستصحاب حجّة في صورة الشكّ في المقتضي.

وأمّا ما ذكره في أثناء كلامه - على ما تقدّم - من تنظير رجوع المجتهد عن الفتوى بالنسخ ، وكون حكمه حكمه في ارتفاع الحكم المنسوخ عن موارده المتأخّرة عنه وبقاء آثار موارده المتقدّمة ، فلا خفاء في فساده أيضا ، لأنّ النسخ ارتفاع للحكم الواقعي ، واللازم من ذلك كون آثاره المتقدّمة أيضا امور واقعيّة فلا يعقل ارتفاعها بعد وقوعها ، فكيف يقاس عليه مؤدّى الاجتهاد المتعقّب للرجوع الّذي هو حكم ظاهري فيكون الآثار المترتّبة عليه مترتّبة بحسب الظاهر ، فإذا تحقّق الرجوع انكشف عدم وقوعها موقعها ، فلا مانع من ارتفاعها ، بل إطلاق الارتفاع هنا مسامحة ، لأنّ الرجوع من باب انكشاف عدم وقوع الآثار من أصلها لا من باب ارتفاع ما وقع بعد وقوعه.

نعم يشكل الحال في الوقائع والأعمال الصادرة من المجتهد ومقلّده على طبق الفتوى قبل الرجوع بالنسبة إلى مجتهد آخر مخالف له في الرأي ومقلّد ذلك المجتهد في الآثار الراجعة إليهما المترتّبة على الأعمال المذكورة ، فهل يجوز لهما ترتيب تلك الآثار عليها كما جاز لنفس المجتهد ومقلّده ما لم يحصل له الرجوع ترتيب الآثار المتعلّقة بهما عليها أو لا يجوز لهما ذلك؟ بناء على تأدية اجتهاد ذلك المجتهد إلى مخالفة الأعمال المذكورة للواقع ، فكان كانكشاف مخالفتها لها لنفس المجتهد ومقلّده برجوع المجتهد عن فتواه ، فكما لا يجوز لهما ترتيب الآثار الراجعة إليهما بعد الرجوع لانكشاف مخالفتها الواقع بمقتضى الأمارة الّتي نشأ منها الاجتهاد الثاني فكذلك لا يجوز لغيرهما المخالف لهما في المذهب ترتيب الآثار الراجعة إليه عليهما لانكشاف مخالفتها الواقع له بمقتضى الأمارة الموجودة له الّتي نشأ منها اجتهاده ، ومرجع الكلام إلى أنّه هل يجوز لمجتهد ومقلّده نقض فتوى مجتهد آخر مخالف لهما في الرأي والمذهب أو لا؟

وتحقيق المقام : أنّ مقتضى القاعدة هو وجوب النقض وعدم جواز ترتيب الآثار المتعلّقة بغير المجتهد ومقلّده على فتوى ذلك المجتهد ، كما لا يجوز ذلك لنفس المجتهد ومقلّده بعد الرجوع لتنقيح المناط ووحدة الطريق حسبما أشرنا إليه.

ولكنّ الظاهر أنّ ذلك في كثير من صور المسألة وفروضها خلاف الإجماع ، فلا بدّ في تحقيق المسألة من الرجوع إلى الأدلّة الخاصّة غير أدلّة حجّية الأمارات ، وعليه فالحقّ أنّ

ص: 562

الحكم يختلف بحسب اختلاف المقامات.

جواز نقض الفتوى وعدمه في العبادات

المقام الأوّل :

في جواز النقض وعدمه في العبادات ويظهر أثر هذا البحث في موارد :

منها : عمل الأجير عن الميّت في الصلاة والصوم والحجّ والزيارات وغيرها حسبما يستأجره الوصيّ وغيره ، والأظهر هنا عدم جواز النقض ووجوب ترتيب الآثار على أعمال الأجير وعباداته ولو مع مخالفته بحسب اجتهاده أو تقليد المجتهد في الرأي والمذهب ، بل ومع العلم بالمخالفة الشخصيّة ، وذلك لأنّ الظاهر من أدلّة الوصيّة وجوب الاستنابة على الوصيّ عن الميّت ممّن ظاهره صحّة عمله بحسب نظره ، أي الاستنابة للعمل الصحيح بالصحّة الظاهريّة في نظر النائب على ما هو مقتضى اجتهاده لو كان مجتهدا أو اجتهاد مجتهده لو كان مقلّدا ، والمفروض أنّ عقد الإجارة الواقع فيما بينهما أيضا ينصرف إلى العمل الصحيح صحّة ظاهريّة ، وإذا استناب الوصيّ من ظاهره صحّة أعماله على الوجه المذكور وقد أتى النائب أيضا بالأعمال الصحيحة على الوجه المذكور خرج الوصيّ عن عهدة تكليفه وبرئت ذمّة النائب أيضا واستحقّ الاجرة وهذا واضح ، بل الظاهر أنّه إجماعي على ما يظهر من عمل العلماء وسيرة المسلمين في الأعصار والأمصار.

ومنها : استئجار الوليّ لقضاء فوائت الميّت ففي كون المعتبر في عمل ذلك الأجير هو الصحّة الظاهريّة بالقياس إلى حال الأجير من جهة اجتهاده أو تقليده - ولازمه وجوب ترتيب الآثار وعدم جواز نقض الفتوى - أو الصحّة الواقعيّة بحسب نظر الوليّ ولازمه عدم جواز ترتيب الآثار ووجوب النقض وجهان :

من أنّ الأجير هاهنا نائب عن الميّت فيكفي منه الصحّة الظاهريّة لعين ما ذكرناه في مسألة استنابة الوصيّ ، أو نائب عن الوليّ (1) بناء على أنّه بموت الميّت يشتغل ذمّة الوليّ بفوائته فوجب عليه إحراز الصحّة الواقعيّة في عمل نائبه ، ولا يكفيه الصحّة الظاهريّة في عمل النائب وإن لم تكن من الصحّة الواقعيّة في نظر الوليّ ، لأنّ النائب موضوع للصحّة الظاهريّة في حقّ نفسه لا في حقّ غيره من مكلّف آخر وهو الوليّ ولا يبعد ترجيح الأوّل ، لأنّ الواجب على الوليّ أحد الأمرين : من الاستنابة عن الميّت أو نيابته عنه ، بناء على أنّ المستفاد من أدلّة الولاية في هذا المقام - ولو بضميمة الإجماع - أنّه يجب على الوليّ إبراء

ص: 563


1- هذا هو الوجه الثاني من الوجهين.

ذمّة الميّت وتفريغه عمّا اشتغلت به من فوائته ، وهذا يتأتّى بالاستنابة عنه كما يتأتّى بالنيابة عنه ، كما أنّه يتأتّى بتبرّع متبرّع ، فأيّ منهم أقدم على النيابة فيكفيه الصحّة الظاهريّة بالنسبة إلى حاله ، وعليه فيجوز للوليّ استنابة من يخالفه في الرأي والمذهب ولو علم المخالفة الشخصيّة.

ومنها : مسألة الاقتداء ، نظرا إلى اشتراط صحّة صلاة المأموم بصحّة صلاة الإمام ، فهل يجوز له الاقتداء بمن خالفه في المذهب ولو مع العلم بالمخالفة الشخصيّة - كما لو كان من رأي الإمام اجتهادا أو تقليدا عدم وجوب السورة في الصلاة ، أو صحّتها في وبر الأرانب والثعالب ، أو بالطهارة الحاصلة بما يراه طاهرا كالقليل الملاقي للنجاسة أو طهورا كالمضاف مثلا ، والمأموم يخالفه في جميع ذلك - أو لا يجوز؟ وجهان من أنّ شرط صلاة المأموم هل هو الصحّة الظاهريّة لصلاة الإمام أو الصحّة الواقعيّة؟ والأظهر الثاني.

ولا ينتقض ذلك بصلاة الصفوف المتقدّمة من المأمومين على ذلك ، نظرا إلى اشتراط صحّة صلاة الصفّ المتأخّر بصحّة صلاة الصفوف المتقدّمة أيضا ، مع أنّه يكفي هنا الصحّة الظاهريّة بحسب حال المأمومين ، ولذا لا إشكال عندهم في صحّة اقتداء المتأخّر ولو كان فيمن تقدّم عليه من يخالفه في المذهب أو من لا يحسن القراءة ولو في الأذكار الواجبة إلاّ بقدر طاقته ، لوضوح الفارق بين المقامين فلا يقاس أحدهما على الآخر ، وذلك : أنّ المأموم المتقدّم لا يضمن للمتأخّر شيئا من أفعال صلاته ، بل الغرض من اعتبار وجوده في الصفّ المتقدّم إنّما هو إحراز اتّصال المأموم المتأخّر بواسطته بالإمام ، ويكفي فيه إحراز الصحّة الظاهريّة في الصفوف المتقدّمة ، بخلاف الإمام فإنّه يضمن قراءة المأموم فلا بدّ وأن يعتبر في صحّة صلاته الصحّة الواقعيّة.

والسرّ فيه : أنّ المأموم مخاطب بالقراءة الصحيحة ولا تكون إلاّ الصحيحة الواقعيّة في نظره ، فيجب عليه إحراز القراءة الصحيحة الواقعيّة في صلاته بحسب نظره إمّا بمباشرة نفسه كما لو كان منفردا أو بمباشرة غيره كما لو كان مقتديا ، ولا يتأتّى ذلك إلاّ بإحراز الصحّة الواقعيّة في صلاة الإمام ؛ وقضيّة هذا كلّه أن يكون العلم بالمخالفة الشخصيّة مانعا عن الاقتداء.

وهل العلم بالموافقة شرط أو لا ، بل يكفي فيه مجرّد عدم العلم بالمخالفة؟ احتمالان بل قولان ، أصحّهما الثاني عملا بأصالة الصحّة في فعل المسلم في موضع الشكّ والاحتمال

ص: 564

ولو مرجوحا ، فإنّ المأموم بعد ما ثبت اشتراط صحّة صلاته بالصحّة الواقعيّة لصلاة الإمام فلا بدّ له وأن يحرز تلك الصحّة في صلاة الإمام ليصحّ له الائتمام إمّا بطريق علمي كما في صورة العلم بالموافقة أو بطريق شرعي أقامه الشارع مقام الطريق العلمي ، ومنه الأصل المذكور الّذي يحرز موضوعه بقيام احتمال الموافقة مطلقا ، فإنّه في نحو هذا الموضوع أصل قرّره الشارع ليترتّب عليه المكلّف أحكامه المعلّقة على الفعل الصحيح الصادر من المسلم في موضع احتمال الصحّة.

وما يقال : - من أنّ غاية ما يثبت بذلك الأصل في المسائل الخلافيّة إنّما هو الصحّة عند الفاعل والمطلوب إثباته إنّما هو الصحّة عند الحامل - كلام قشري ظاهري لا يلتفت إليه ، إذ ليس الغرض إجراء ذلك الأصل في المسائل الخلافيّة في صورة العلم بالمخالفة الشخصيّة حتّى يكون نتيجته مجرّد الصحّة الفاعليّة ، بل في صورة احتمال الموافقة فمتى ما احتمل في صلاة الإمام وقوعها على وفق مذهب المأموم ولو مرجوحا إمّا لاحتمال رعايته الاحتياط أو لاختياره أفضل الفردين أو توجّه نفسه إلى امتثال الأمر الاستحبابي الوارد بما بنى على عدم وجوبه أو غير ذلك ممّا أمكن كونه منشأ لاحتمال الموافقة لمذهب المأموم ولو كان نحو السهو والنسيان جرى فيه أصالة الصحّة منتجة للصحّة الحامليّة أيضا لا الفاعليّة فقط ، وهذا واضح فيما لو كان الاختلاف بين نظر الفاعل ونظر الحامل بالعموم والخصوص مع كون معتقد الحامل هو الخصوص كما في الأمثلة المتقدّمة.

وأمّا لو كان الاختلاف بينهما بالتباين كالجهر والإخفات ببسم اللّه في الإخفاتيّة ففرض احتمال الموافقة لمذهب الحامل لا يخلو عن خفاء ، إلاّ أن يكون لضرب من الاتّفاق بسبب غير اختياري كالسهو والنسيان وسبق اللسان.

وكيف كان فهو فرض بعيد بل في غاية البعد ، ولكنّ الخطب فيه سهل بعد ملاحظة قلّة وقوع نحو هذا الاختلاف على وجه دعا إلى تحقّق المخالفة الشخصيّة ، مع ما ذكرنا من أنّ المناط في جواز الائتمام وعدمه هو قيام احتمال الموافقة وعدمه فحيثما لم يقم ذلك الاحتمال بحيث علم المخالفة الشخصيّة لم يجز الائتمام ، فالإشكال صغرويّ لا كبرويّ.

جواز نقض الفتوى وعدمه في المعاملات

المقام الثاني : في جواز النقض وعدمه في المعاملات من العقود والإيقاعات ، فلو ملك شيئا بالعقد الفارسي أو عقد على امرأة بالفارسي أو تزوّج من أرضعته عشرة رضعات لبنائه على أنّه

ص: 565

مملّك أو مورث للزوجيّة ، أو تزوّج امرأته الّتي خالعها ثلاثا في المرّة الرابعة من دون محلّل لبنائه على أنّ الخلع فسخ لا طلاق ، أو غير ذلك من الأمثلة ، فهل يجب على مجتهد آخر مخالف أو مقلّده ترتيب آثار الملكيّة أو الزوجيّة من جواز التصرّف فيما ملكه أو التناول منه بإذنه وعدم جوازهما من دون إذنه وإن أذن له المالك الأوّل ، ومن حرمة العقد على المتزوّجة لكونها ذات بعل فيحرم عليه إن عقد عليها أبدا ، ومن جواز النظر إليها وحرمة نكاحها بعد الطلاق أو الوفاة وغيرها من أحكام المصاهرة لو كان المجتهد المخالف أو مقلّده أبا للعاقد أو ابنا له أو لا يجب بل لا يجوز؟

مقتضى القاعدة حسبما بيّنّاه جواز النقض بل وجوبه وعدم جواز ترتيب أحكام الملكيّة أو الزوجيّة أو غيرها ، إلاّ أنّه لا يظنّ أحدا من الأصحاب جوّز ذلك ورضي به ، بل قد يقال : إنّه خلاف ما علم من ضرورة دين الإسلام ، وعليه فالصورة مخرجة من القاعدة بالدليل ، ولعلّه الإجماع والضرورة.

ولعلّ السرّ فيه بالبيان الإجمالي : أنّ الوقائع الشخصيّة من المعاملات الصادرة من المجتهد أو مقلّده في الموارد الخاصّة يجري عند الشارع مجرى حكم المجتهد ، فكما لا يجوز نقضه فكذلك لا يجوز نقض الآثار في الوقائع الشخصيّة الصادرة منهما.

وبالبيان التفصيلي : أنّ مؤدّى طريق صاحب الواقعة من الملكيّة أو الزوجيّة أو غيرهما حكم فعلي في حقّه ، وقد أخذه الشارع ما دام ثابتا لصاحب الواقعة موضوعا لأحكام ظاهريّة مجعولة لغيره ممّن له تعلّق بتلك الواقعة لجهة من الجهات من مجتهد آخر مخالف في الرأي أو مقلّد ذلك المجتهد وخاطبه بالتعبّد بتلك الأحكام الظاهريّة ولو كانت مخالفة للواقع في نظره ، ومرجعه إلى أنّ الشارع قد ألغى ذلك الواقع وأسقط اعتباره في حقّ ذلك الغير ما دام موضوع الأحكام الظاهريّة باقيا وإن اعتبره في حقّه في خصوص الوقائع الصادرة منه من العقود والإيقاعات ، واعتبار حكم ظاهري متضمّن لإلغاء الواقع ولو في حقّ من اعتقد مخالفته له ليس بعزيز الوجود في الشريعة بل له نظائر كثيرة ، ومن ذلك حكم الحاكم بالتنصيف في دار تداعى فيها المتداعيان مع ثبوت يدهما معا أو خروج يدهما معا مع تعارض بيّنتهما أو عجزهما عن إقامة البيّنة ، حيث يجوز للحاكم أو غيره التصرّف في كلّ من النصفين بإذن من حكم له به من المتداعيين ، بل اشتراؤه للنصفين معا مع علمه بأنّ العين بأجمعها في الواقع لأحدهما.

ص: 566

وبالجملة ما أخذه صاحب الواقعة بحسب اجتهاده أو تقليد مجتهده بالعقد الفارسي مثلا ملك فعليّ له ، والمرأة المعقود عليها بالعقد الفارسي أو من دون إذن الوليّ زوجة فعليّة ، والأحكام المعلّقة على ملك الغير أو زوجته الراجعة إلى غير صاحب الواقعة ممّن يخالفه في الرأي والمذهب أو يوافقه مترتّبة على الملكيّة الفعليّة أو الزوجيّة الفعليّة وإن لم تصادف الواقع ، لأنّ مفاد أدلّة الطرق الاجتهاديّة كون مؤدّياتها أحكاما فعليّة في حقّ المجتهد الآخذ بها ومقلّده ووجوب إمضائها على مجتهد آخر ومقلّديه ، ومن هنا جاز لمجتهد تجويز تقليد من يخالفه في الرأي ، وحينئذ فليس لمجتهد في الوقائع الواقعة المنطبقة على مؤدّى اجتهاد مجتهد آخر إلاّ ترتيب الآثار حسبما يقتضيه اجتهاد ذلك المجتهد الّذي هو صاحب الواقعة لا بمقتضى اجتهاد نفسه ، فإنّ اجتهاد نفسه بالقياس إلى خصوص هذه الوقائع ملغى ، ولكن هذا كلّه إذا كان الاختلاف بينهما في الحكم.

وأمّا لو حصل الاختلاف بينهما في المصاديق والامور الخارجيّة باعتبار خارجها لا باعتبار حكمها كما لو قامت بيّنة لمجتهد في امرأة مزوّجة على موت زوجها فعقد عليها المجتهد لنفسه أو لغيره على أنّها قد مات زوجها ، وهذه البيّنة ليست بعادلة في نظر مجتهد آخر أو قامت عنده بيّنة اخرى على حياة زوجها ، فليس لذلك المجتهد أن يرتّب الآثار على مقتضى البيّنة المذكورة ، بل يرتّب الآثار على معتقد نفسه أو على مقتضى بيّنة نفسه.

ومثله ما لو قامت البيّنة على حياة زوج المرأة وهي ليست بعادلة في نظر مجتهد آخر بل قامت عنده بيّنة على موته ، فكلّ متعبّد بمقتضى أمارته ، لأنّ كلاّ منهما في الامور الخارجيّة في عرض صاحبه لا في طوله ، والمراد بالامور الخارجيّة ما لا تصرّف للشارع فيها ، ومن هنا لو قامت للمكلّفين بصلاة الميّت بيّنة على أنّ فلانا قد صلاّها وهي عادلة عند أحدهما دون الآخر فيبنى الأوّل على سقوط الصلاة عنه عملا ببيّنته المقتضية لحصولها ممّن قام به الكفاية ولا تسقط عن صاحبه لأنّ مقتضى عدم اعتبار البيّنة في نظره عدم حصولها في الخارج فيجب عليه القيام بها.

وبالجملة متى ما حصل الاختلاف بين صاحب الواقعة وغيره - مجتهدين كانا أو مقلّدين أو مختلفين - في الأحكام الشرعيّة فالاعتبار بمؤدّى طريق صاحب الواقعة ، فعلى غيره أيضا ترتيب الآثار عليه من باب الحكم الظاهري ، ومتى ما حصل الاختلاف بينهما في الموضوعات الخارجيّة فالمتّبع لكلّ معتقده ومؤدّى أمارة نفسه.

ص: 567

ووجه الفرق : أنّ الشارع تصرّف في الأحكام بجعل مؤدّيات الطرق الاجتهاديّة أحكاما فعليّة يترتّب عليها الآثار ولم يتصرّف في الموضوعات الخارجيّة ، فليتدبّر.

نقض الفتوى وعدمه في الوقائع المرتبطة بالمجتهد أو المقلّد في الطهارة والحلّيّة وغيرهما

المقام الثالث : في نقض الفتوى وعدمه في الوقائع المرتبطة بالمجتهد أو مقلّده في الطهارة والحلّية وغيرهما من الأحكام ، كما لو باشر المغسول مرّة واحدة أو ملاقى الغسالة أو عرق الجنب من الحرام أو الماء القليل للنجاسة أو العصير العنبي بعد الغليان في المأكول أو المشروب أو الملبوس أو الأواني لبنائه على كفاية المرّة في غسل المتنجّسات وعلى الطهارة في البواقي ، أو هيّأ في أدائه للضيافة وغيرها المطبوخ من لحم حيوان يرى حلّيّته أو المشروب من العصير الزبيبي أو التمري بعد الغليان لبنائه فيهما على الحلّيّة ، فهل يجوز لمجتهد آخر مخالف في الرأي في المذكورات أو مقلّده عند الابتلاء بنحو هذه الوقائع ترتيب آثار الطهارة أو الحلّيّة ، فلا يجب عليهما التجنّب بل يجوز لهما المباشرة والملاقاة برطوبة والتناول أكلا وشربا أو لا نقضا للفتوى في جميع ذلك؟ الظاهر الثاني لما مرّ من القاعدة المقتضية لذلك مع عدم وجود صارف عنها ، بل الظاهر أنّه محلّ وفاق حيث لم نقف على قول بخلافه.

تذنيب : إذا علم ببطلان حكم الحاكم أو بطلان طريقه

تذنيب

حكم الحاكم إذا قطع ببطلانه أو بطلان طريقه وجب نقضه قولا واحدا وإلاّ لم يجز نقضه للحاكم ولا لغيره من حاكم آخر أو مقلّده قولا واحدا ، وفي كلام بعض الفضلاء : « أنّه موضع وفاق » (1) والإجماعات المنقولة في كلام العامّة والخاصّة كثيرة ، من غير فرق فيما ذكر بين كون الحكم واردا في الموضوعات الصرفة الّتي طريق الحكم فيها الإقرار أو البيّنة أو اليمين ، أو في وقائع من العقود أو الإيقاعات أو المواريث أو غيرها ممّا يتفرّع الحكم فيها على الفتوى ، ولا بين رجوع الحاكم بعد حكمه عن فتواه وعدمه ، ولا بين بقاء حكم الفتوى بعد الرجوع في الواقعة الشخصيّة - كما لو تراجع إليه المتعاقدان بالفارسيّة في النكاح فحكم بالزوجيّة أو في البيع فحكم بالنقل والملكيّة ، فإنّ حكم فتواه الّتي فرّع عليها الحكم وهي صحّة ذلك العقد يبقى بعد الرجوع - وعدمه كما لو اشترى أحد المتعاقدين لحم حيوان لبناء الحاكم على حلّيته فترافعا إليه فحكم بصحّة العقد وانتقال الثمن إلى البايع

ص: 568


1- الفصول الغرويّة : 410.

إلى المشتري ثمّ رجع إلى القول بالتحريم ، فإنّ الحكم بصحّة العقد وانتقال الثمن والمثمن يبقى بحاله ولا يبقى الحكم بحلّيته في حقّ المشتري بحاله.

والعمدة من دليله الإجماع ، وقد يستدلّ بأنّه لو جاز للحاكم نقض حكمه أو لغيره نقض الحكم عند تغيّر الاجتهاد الظنّي وعدمه لجاز نقض النقض وهكذا إلى غير النهاية ، وذلك يفضي إلى عدم الوثوق بحكم الحاكم وعدم استقراره ، وهذا خلاف المصلحة الباعثة على نصب الحكّام ، وهذا لا يصلح مدركا لتأسيس الحكم الشرعي وإنّما يصلح لتأييد دليله.

والأولى أن يستدلّ عليه بقوله في مقبولة ابن حنظلة : « فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله فبحكم اللّه استخفّ وعلينا ردّ ، والرادّ علينا كالرادّ على اللّه وهو على حدّ الشرك ».

تعليقة : في التعادل والترجيح التعادل والترجيح

اشارة

في التعادل والترجيح

وقد يعبّر ب- « التراجيح » جمعا نظرا إلى كثرة وجوه الترجيح ، أو لرعاية التناسب اللفظي بينه وبين « التعادل ».

وقد يتوهّم كون « التعادل » و « الترجيح » قسمين للتعارض وهو سهو ، بل هما حالان في الدليلين المتعارضين باعتبار كونهما متعارضين ، فالتعارض وصف اخذ في معروض التعادل والترجيح ، ولذا لا يصحّ الحمل بينهما مع صحّته بين المقسم وكلّ من أقسامه ، هذا بناء على تفسير « الترجيح » باقتران الأمارة بما تتقوّى به على معارضها كما في كلام جماعة ، قبالا للتعادل الّذي هو عبارة عن تساوي الأمارتين باعتبار خلوّهما عن المزيّة أو اشتمال كلّ منهما على مزيّة.

وأمّا على تفسيره بتقديم إحدى الأمارتين على الاخرى للعمل بها لما معها من المزيّة فهو من فعل المجتهد الناظر في الأمارتين المتعارضتين فلا يعقل كونه قسما من التعارض ، مع أنّه بهذا المعنى ما يؤخذ في محمول القضيّة في المسألة الاصوليّة قبالا للتعارض كالتعادل

ص: 569

المأخوذين في موضوع تلك القضيّة.

في بيان معنى التعارض لغة وعرفا

وكيف كان فهما اعتباران يلحقان الدليلين المتعارضين بعد فرض التعارض بينهما ، وعليه فينبغي بيان معنى التعارض لغة وعرفا.

فنقول : إنّه لغة تفاعل من « العرض » وهو بحسب الاستعمال ورد باللام فيقال : « عرض له » وبدونها فيقال : « عرضه » ، لا لأنّه من باب « شكرته وشكرت له » و « حمدته وحمدت له » فإنّ المعنى فيهما واحد ، وهو على التقديرين متعدّ واللام إنّما يلحق للتقوّي لا للتعدية ، بخلاف « العرض » فإنّه ورد مشتركا بين معنيين لازم وهو الظهور ومتعدّ وهو الإظهار ، فعلى الأوّل يلحقه اللام للتعدية ولا يلحقه على الثاني ، ومنه قوله عزّ من قائل : و ( عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) ثمّ « العرض » على كلّ من التقديرين قد يضمّن فيه معنى المقابلة على معنى عدم اجتماع الشيء مع مقابله في جانب واحد ، فالتعارض أخذ منه بعد رعاية التضمين المذكور ، ولذا لا يلحق إلاّ الأمرين المتقابلين ، يقال : « تعارض الرجلان » أي أظهر كلّ منهما نفسه لصاحبه على وجه لا يجتمع معه في جانب ، وهو بهذا الاعتبار غلّب في عرف الاصوليّين على تعارض الدليلين ، ولذا عرّف : « بتنافي الدليلين » وظاهر أنّ تنافي الدليلين إنّما هو باعتبار دلالتهما ، كما لو دلّ أحدهما على وجوب شيء والآخر على تحريمه مثلا ، فإنّ الأوّل كأنّه بدلالته على الوجوب ينفي التحريم والثاني بدلالته على التحريم ينفي الوجوب.

ويجوز أن يكون باعتبار مدلوليهما وعليه يكون لحوقه بالدليلين من باب الوصف بحال متعلّق الموصوف ، وإليه ينظر تعريفه : « بتنافي مدلولي الدليلين » والأوفق بالذوق هو الاعتبار الأوّل ، وظاهر أنّ التنافي بين الدليلين لا يتأتّى بكلّ من الاعتبارين إلاّ مع وحدة الموضوع اتّحد معه المحمول أيضا لو اختلفا في الكيف - كقولنا : « واجب وليس بواجب » أو « حرام وليس بحرام » - أو تعدّد المحمول لو اتّحدا في الكيف كقولنا : « واجب وحرام » أو « طاهر ونجس » فالتعارض على قسمين.

وإن شئت عبّر عن الأوّل بالقضيّتين المتناقضتين ، وعن الثاني بالقضيّتين المتضادّتين ، ويشتركان في اعتبار وحدة الموضوع ، فهي معتبرة في التعارض لا محالة.

عدم التعارض بين الوارد والمورود

ومن ذلك علم أنّه لا يعقل التعارض بين الوارد والمورود ، فإنّ الوارد عبارة عمّا كان من الأدلّة الاجتهاديّة رافعا لموضوع دليل آخر يكون من الاصول العمليّة كأصل الإباحة وغيرها ومثلها أصالة الطهارة في الأشياء ، فإنّ مؤدّيات هذه الاصول أحكام ظاهريّة مجعولة

ص: 570

لما لا يعلم حكمه من حيث الحرمة والنجاسة وغيرهما بالخصوص ، أي الواقعة من حيث جهالة حكمها الواقعي ، فيقال في الغناء أو العصير العنبي بعد الغليان مثلا عند جهالة حكمهما الواقعي من حيث الحرمة والنجاسة وغيرهما : « إنّ هذا ما لا يعلم حكمه بالخصوص ، وكلّما لا يعلم حكمه بالخصوص فهو مباح أو طاهر ، فهذا مباح أو طاهر » فإذا عثر على نصّ دالّ على حرمة الأوّل أو نجاسة الثاني صار الأوّل ما علم حرمته والثاني ما علم نجاسته وارتفع به عنهما عدم العلم بحكم الواقعة بالخصوص المأخوذ في موضوع الأصلين ، فالنصّ المفروض وارد عليهما لرفعه بدلالته عن المورد موضوعهما ، فالإباحة والطهارة اللّتين هما مفاد الأصلين لا تجريان في هذا المورد. لاستحالة جريان الحكم مع ارتفاع الموضوع ، فيبقى الحرمة والنجاسة المستفادة من النصّ سليمة عن المعارض.

هذا فيما لو كان النصّ المفروض قطعيّا واضح ، وأمّا ما كان ظنّيا في دلالته أو سنده أو فيهما معا - كالشهرة والإجماع المنقول وخبر الواحد - مع فرض حجّية كلّ من باب الظنّ الخاصّ أو المطلق فقد يتوهّم وقوع التعارض بينها وبين الأصل ، لأنّ قصارى ما يحصل منها الظنّ بالحرمة أو النجاسة وهو أيضا من أفراد عدم العلم المأخوذ في موضوع الأصل ، فيقال في الغناء أو العصير : أنّه من حيث إنّه ما ظنّ حرمته أو نجاسته حرام أو نجس ، ومن حيث إنّه ما لم يعلم حرمته أو نجاسته بالخصوص مباح أو ظاهر ، ولا نعني من التعارض إلاّ هذا.

ولكن يزيّفه : أنّ هذا إنّما يتوجّه على تقدير كون المأخوذ في موضوع الأصل عدم العلم الحقيقي بحكم الواقعة بالخصوص وهذا خلف ، بل المراد به ما يعمّ العلم الحقيقي والعلم الشرعي ، والظنّ الثابت حجّيته بدليل علمي من عقلي أو سمعي علم شرعي ، فبورود الأمارة الظنّية في الواقعة يحصل العلم الشرعي بحكم الواقعة بالخصوص ويرتفع به موضوع الأصل وهو عدم العلم بالمعنى الأعمّ.

والسرّ في عموم موضوع الأصل أنّ أدلّة حجّية الأمارة الظنّية القاضية بعدم الاعتناء باحتمال مخالفتها الواقع متعرّضة بهذا المضمون لحال أدلّة اعتبار الاصول ، ببيان : أنّ عدم العلم المأخوذ في موضوعها أعمّ من عدم القطع وعدم الظنّ الحاصل من تلك الأمارة.

ولا ريب أنّ بورود الأمارة ودلالتها الظنّية على الحكم من نجاسة أو حرمة أو وجوب أو على خلاف مقتضى الحالة السابقة في الاستصحاب ونحو ذلك يرتفع ذلك الموضوع ، فالأمارة الظنّية كائنة ما كانت إن اعتبرت مقيسة إلى الأصل كانت واردة ورافعة لموضوعه ،

ص: 571

كما أنّ أدلّة حجّيّتها إن اخذت مقيسة إلى أدلّة الأصل كانت حاكمة عليها بالمعنى الآتي ، فورود الأمارات الظنّية على الاصول العمليّة ليس بنفسها بل بانضمام أدلّة حجّيّتها واعتبار حكومتها على أدلّة الاصول.

لكن هذا في الاصول الّتي مؤدّياتها أحكام شرعيّة مجعولة من الشارع ، كأصلي البراءة والإباحة والاستصحاب بناء على استفادتها من عمومات الكتاب والسنّة ، وأمّا لو كانت أحكاما عقليّة صرفة من دون جعل شرعي فيها - كالبراءة الأصليّة ، ووجوب الاحتياط على القول به ، والتخيير في مسألة دوران الأمر بين المحذورين الّتي يحكم بها العقل لعدم البيان في الأوّل واحتمال العقاب في الثاني وعدم الترجيح في الثالث - فلا حاجة في اعتبار ورود الأمارة عليها إلى ملاحظة أدلّة حجّيّتها واعتبار حكومتها ، وإن احتاجت الأمارة في حجّيّتها إلى وجود تلك الأدلّة ، بل الأمارة بعد الحجّية بنفسها رافعة لموضوعات هذه الاصول وهي عدم البيان واحتمال العقاب وعدم الترجيح ، لأنّها في الأوّل بيان وفي الثاني تؤمننا عن العقاب وفي الثالث مرجّحة ، فمع ورودها لا يحكم العقل بالبراءة ولا الاحتياط ولا التخيير ، فيبقى الحكم المستفاد منها سليما عن المعارض.

وإنّما جعل المذكورات من الموضوع لحكم العقل مع أنّها مناط له وحيثيّات تعليليّة لا تقييديّة ، إذ ليس المراد بالموضوع في نظائر المقام هو الموضوع المنطقي الّذي يعدّ عندهم من أجزاء القضيّة ، وهو ما وضع وعيّن لأن يحكم عليه بالمحمول ، بل المراد به ما له مدخليّة في الحكم ولو كان بالقياس إليه من قبيل العلّة أو السبب والشرط الاصوليّين ، وإطلاق الموضوع على هذا المعنى في كلامهم شائع ، ومنه ما في مباحث المنطوق والمفهوم من جعل معيار الفرق بينهما كون الموضوع في الأوّل مذكورا في الكلام وفي الثاني غير مذكور فيه ، وعدّهم منه المجيء وعدم المجيء مثلا في مدلولي « إن جاءك زيد فأكرمه » مع كون المجيء سببا اصوليّا لوجوب إكرامه ، بل عدم العلم المأخوذ في موضوع الاصول على تقدير كونها من المجعولات الشرعيّة أيضا عند التحقيق مناط للحكم وحيثيّة تعليليّة في الواقع لا حيثيّة تقييديّة وإن كان يؤخذ وصفا للواقعة ويعبّر عنها بما لم يعلم حكمه بالخصوص ، لوضوح أنّ الإباحة المجعولة وغيرها لا تعرض الواقعة الغير المعلومة الحكم بوصف أنّها كذلك على وجه يكون عدم معلوميّة الحكم جزءا لمعروض الإباحة ، بل إنّما تعرض الواقعة لجهالة حكمها الواقعي ومن حيث عدم العلم بحكمها بالخصوص ، ولا نعني من الحيثيّة التعليليّة إلاّ هذا المعنى.

ص: 572

عدم التعارض بين الأدلّة الاجتهاديّة والاصول العمليّة

فظهر من جميع ما ذكرنا أنّ ورود الأدلّة الاجتهاديّة على الاصول العمليّة وعدم وقوع التعارض بينها ليس لتعدّد موضوعيهما - بمعنى الموضوع المنطقي - ليكون ذلك من متفرّعات اعتبار وحدة الموضوع في التعارض المنطقي ، ليكون ذلك من متفرّعات اعتبار وحدة الموضوع في التعارض كما يظهر من بعض مشايخنا قدس سره وفرّعناه عليه أيضا في صدر الكلام تبعا له قدس سره ، بل إنّما هو لعدم جريان حكم الأصل في مورد الدليل الاجتهادي.

وقد عرفت أنّ تعارض الدليلين إنّما هو باعتبار تنافي مدلوليهما ولا يتأتّى ذلك إلاّ بتوارد المدلولين على محلّ واحد ، ومدلول الدليل الاجتهادي مع مدلول الأصل لا يتواردان أبدا على مورد واحد ، فيبقى مدلول الدليل الاجتهادي حيثما وجد سليما عمّا يعارضه من طرف الأصل لعدم جريانه مع وجوده.

ثمّ إنّ ما بيّنّاه سابقا في الأمارة الظنّية مقيسة إلى الأصل العملي على تقدير كون مؤدّاه من المجعولات الشرعيّة من أنّ عدم وقوع التعارض بينهما لورودها عليه وكونها رافعة لموضوعه ولكن بعد ملاحظة حكومة أدلّة حجّيتها على أدلّة اعتباره مبنيّ على تفسير الحكومة بكون أدلّة حجّية الأمارة بإفادتها عدم الاعتناء باحتمال مخالفة الأمارة للواقع متعرّضة لبيان كون موضوع الأصل أعمّ من العلم الحقيقي والعلم الشرعي الّذي منه الظنّ المستفاد من الأمارة.

وأمّا على تقدير تفسيرها بكونها بإفادتها عدم الاعتناء باحتمال الخلاف متعرّضة لحال أدلّة الاصول بنفي الحكم الكلّي المستفاد منها من الإباحة أو الطهارة أو غيرها عن مورد الأمارة - أعني ما ظنّ وجوبه أو حرمته أو نجاسته من جهة الأمارة - فلا يكون الوجه في عدم وقوع التعارض بينهما ورود الأمارة عليها ، بل مجرّد حكومة أدلّة حجّيتها على أدلّة اعتبارها الّتي مرجعها إلى نفي حكم الأصل عن مورد الأمارة ، لكون موضوع الأصل حينئذ ما لم يعلم حكمه بالخصوص بالعلم الحقيقي خاصّة لا أعمّ منه ومن العلم الشرعي.

ولا ريب أنّ الواقعة المظنونة الحكم مندرجة بحسب المفهوم في هذا الموضوع.

غاية الأمر أنّ أدلّة حجّية الأمارة المفيدة لذلك الظنّ بمضمونها تعرّضت لنفي حكم ذلك الموضوع عن الواقعة المظنونة الحكم.

فقد ظهر من جميع ما قرّرناه أنّ الأدلّة الاجتهاديّة من حيث إنّها لا تعارضها الاصول العمليّة على أنحاء :

ص: 573

منها : ما كان بنفسه رافعا لموضوع الأصل باعتبار إفادته العلم بحكم الواقعة بالخصوص كالإجماع والنصّ القطعي بتواتر ونحوه ، سواء كان مؤدّى الأصل حكما عقليّا صرفا أو مجعولا شرعيّا.

ومنها : ما كان بنفسه أيضا رافعا لموضوع الأصل مع كونه ظنّيا إذا كان مؤدّى الأصل حكما عقليّا كالشهرة والإجماع المنقول ونحوهما بعد ثبوت حجّيّتها بدليل علمي.

ومنها : ما كان رافعا لموضوع الأصل مع كونه ظنّيا لكن لا بنفسه بل بمعونة حكومة دليل حجّيته على دليل اعتبار الأصل إذا كان مؤدّاه من المجعولات الشرعيّة ، مع تفسير الحكومة بما يكون مفادها تعميم موضوع الأصل بالقياس إلى عدم العلم الشرعي.

عدم التعارض بين الحاكم والمحكوم عليه

ومنها : ما كان باعتبار مجرّد حكومة دليل حجّيته على دليل الأصل على تقدير تفسير الحكومة بما يرجع حاصله إلى التعرّض لنفي حكم الأصل عن المورد.

والكلّ في جهة جامعة واحدة ، وهي أنّ عدم وقوع التعارض بينها وبين الاصول العمليّة إنّما هو لعدم توارد مدلوليهما على محلّ واحد ، لوضوح أنّ كلّ مورد يجري فيه الأصل لا يوجد فيه دليل اجتهادي ، وكلّ مورد يوجد فيه دليل اجتهادي لا يجري فيه الأصل ، فافهم ولا تغفل.

وكما أنّه لا يقع التعارض بين الوارد والمورود كذلك لا يقع بين الحاكم والمحكوم عليه ، والمراد من حكومة أحد الدليلين على الآخر أن يكون أحد الدليلين بمضمونه ومدلوله اللفظي متعرّضا لحال دليل آخر ببيان مقدار موضوعه بإدخال شيء فيه لولاه لم يكن داخلا ، أو بإخراج شيء منه لولاه لم يكن خارجا ، أو ببيان مقدار مدلوله وهو الحكم المستفاد منه بإثباته لشيء لولاه لما شمله ، أو نفيه عن شيء لولاه لشمله ، والأوّل هو الحاكم والثاني هو المحكوم عليه.

وبيان مقدار الموضوع مع بيان مقدار المدلول متلازمان ، لاستلزام بيان كلّ منهما بيان صاحبه ، بتقريب : أنّ الحكم وموضوعه بحسب الخارج متلازمان فيكونان في مقداريهما عموما وخصوصا متطابقان ، لوضوح أنّ حكم القضيّة في لحاظ الحاكم لا يزيد على موضوعها ولا ينقص منه ، كما أنّ موضوعها في لحاظه لا يزيد على حكمها ولا ينقص منه.

وبالجملة فالدليل الحاكم كأنّه بنفس مضمونه يفسّر الدليل المحكوم عليه ، ويبيّن حقيقة المراد منه ومقداره موضوعا وحكما.

وقضيّة ذلك أن يكون الحاكم مرتبطا بالمحكوم عليه ، ودليليّته منوطة بوجوده ، ولذا

ص: 574

قد يقال في ميزان الحكومة : أن يكون الدليل الحاكم بحيث لولا الدليل المحكوم عليه لكان لغوا خاليا عن المورد.

فالحاكم باعتبار أنّ تعرّضه لحال المحكوم عليه قد يكون بإدخال شيء في موضوعه وإثبات حكمه لذلك الشيء ، وقد يكون بإخراج شيء عن موضوعه ونفي حكمه عن ذلك الشيء قسمان ، إلاّ أنّ أكثر الأمثلة المذكورة في هذا الباب منطبقة على القسم الثاني ، فمن أمثلته ما دلّ على أنّه لا حكم للشكّ مع الكثرة ولا بعد الفراغ ولا في النافلة ولا لشكّ الإمام أو المأموم مع حفظ الآخر ، فإنّه حاكم على الأدلّة المتكفّلة لبيان أحكام الشكوك من تأثيره في بطلان العبادة أو البناء [ على الأكثر ] أو تدارك المشكوك فيه أو غير ذلك ، وناطق بنفس مضمون « لا حكم للشكّ في هذه الصور » بأنّ المراد من الشكّ في تلك الأدلّة ما عدا هذه الشكوك ، أو أنّه بنفس هذا المضمون ينفي أحكام الشكّ عن هذه الشكوك.

ومنها (1) : الأدلّة النافية للعسر والحرج بالقياس إلى سائر الأدلّة الخاصّة المثبتة التكاليف الإلزاميّة في أبواب العبادات وغيرها ، فإنّ قوله تعالى : إنّما ( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) ينفي التكاليف الإلزاميّة المستفادة من تلك الأدلّة عن موارد العسر ، ويدلّ بنفس هذا المضمون على خروج تلك الموارد عن موضوعات هذه الأدلّة.

ومنها : الأدلّة النافية للضرر بالقياس إلى الأدلّة الخاصّة المتكفّلة لبيان الأحكام الشرعيّة تكليفيّة ووضعيّة ، فإنّ قوله : « لا ضرر ولا ضرار في الإسلام » بنفس هذا المضمون ينفي الأحكام المستلزمة للضرر ويدلّ على خروج موارد الضرر عن موضوعات تلك الأدلّة ، إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على الخبير البصير. بل لم نقف للقسم الأوّل على مثال واضح خال عن التكلّف ، حتّى أنّ ما قد يذكر في مثال هذا القسم - من حكومة الأدلّة الدالّة على أنّ من تيقّن الطهارة وشكّ في الحدث يبني على الطهارة على مثل قوله تعالى : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) وقوله عليه السلام : « إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة » وقوله : « لا صلاة إلاّ بطهور » إلى غير ذلك من أدلّة وجوب الوضوء واشتراط الطهارة للصلاة الظاهرة في اعتبار الوضوء الميتقّن واعتبار اليقين في إحراز الطهارة ، لقضائها بأنّ شرط الصلاة أعمّ من الطهارة المتيقّنة والطهارة المستصحبة ، أو بأنّ اليقين المعتبر في إحراز الطهارة أعمّ من

ص: 575


1- هذا وما بعده من أمثلة القسم الثاني من أقسام الحكومة الّتي أشار إليها آنفا بقوله : « ومن أمثلته ما دلّ على أنّه لا حكم للشكّ مع الكثرة الخ ».

اليقين العقلي واليقين الشرعي ، أو بأنّه يكفي فيه اليقين بحصول الوضوء وحدوث الطهارة ولا يعتبر فيه اليقين والبقاء إلى أن يحصل اليقين بعدم البقاء - فهو أيضا أوفق بكون الحكومة فيه بالنفي والإخراج ، لأنّ قوله تعالى : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ) إلى آخره يقتضي وجوب الوضوء عند كلّ قيام إلى الصلاة ، وقوله : « إذا دخل الوقت » إلى آخره ، « ولا صلاة » إلى آخره بظاهره يقتضي اعتبار الطهارة الواقعيّة الّتي لا تحرز إلاّ بطريق العلم ، وقوله عليه السلام : « إذا استيقنت أنّك قد أحدثت » إلى آخره ، يحكم عليها بنفس مضمونه بأنّ الوضوء إنّما يجب عند قيام إلى الصلاة مصادف ليقين الحدث ، ولا يجب عند القيام المصادف لعدم يقين الحدث ، ولا يجب اليقين بالطهارة في احرازها مع كون الحالة السابقة على الشكّ في الحدث هي الطهارة.

وكيف كان فلأجل أنّ مرجع الحكومة بالتعبير الثاني إلى إخراج ما هو من أفراد موضوع الدليل عن تحت ذلك الدليل ونفي حكمه عمّا هو من أفراد موضوعه ، فقد يشتبه الحكومة والحاكم بالتخصيص والمخصّص المنفصل في نحو « أكرم العلماء » و « لا تكرم زيدا » بتقريب : أنّ التخصيص إخراج ما لولاه لدخل ، والمخصّص ما يوجب خروج الفرد عن العامّ ويقتضي نفي حكمه عن الفرد ، ولأجل ذا جاز الحكم على المخصّص أيضا بكونه مفسّرا للعامّ ومبيّنا لحقيقة المراد منه.

وفيه : أنّ الحاكم والمخصّص وإن كانا متشاركين في المفسّريّة والبيانيّة إلاّ أنّهما يتفارقان في أنّ الحاكم بنفس مضمونه متعرّض لحال المحكوم عليه بالتفسير والبيان ، ولذا كان دليليّته باعتبار دلالته منوطة بوجوده بحيث لولاه لكان لغوا وخاليا عن المورد ، بخلاف المخصّص الّذي يلحقه وصف المفسّريّة والبيانيّة لعارض بواسطة حكم العقل لئلاّ يلزم التناقض واجتماع المتنافيين ، أو بمعونة فهم العرف كونه قرينة منفصلة ، بل مبنى فهم العرف أيضا على حكم العقل بالتقريب المذكور ، فإنّ أهل العرف عقلاء وفهمهم للقرينيّة إنّما هو لحكم عقولهم بامتناع التناقض واجتماع المتنافيين ، ولذا لولا أحد الأمرين لم يرتبط المخصّص بالعامّ ولم يكن دليليّته باعتبار دلالته منوطة بوجود العامّ ، ولا يلزم من فرض عدم وروده خروج المخصّص لغوا وخاليا عن المورد.

ومن البيان المذكور يظهر السرّ في عدم وقوع التعارض بين الحاكم والمحكوم عليه ، إذ لا يعقل منافاة بين المفسّر والمفسَّر ، بل ليس للحاكم مدلول سوى بيان مقدار موضوع المحكوم عليه وحكمه فكأنّهما معا دليل واحد.

ص: 576

وقد يجري قاعدة الورود والحكومة فيما بين الاصول اللفظيّة المعمولة في الأدلّة الشرعيّة كأصالة الحقيقة وأصالة العموم وأصالة الإطلاق مع ما يوجب الخروج عنها من النصوص القطعيّة والظنّية.

وتفصيل القول في ذلك : أنّ الأصل اللفظي - كأصالة العموم مثلا - إمّا أن يكون معتبرا من باب الظنّ النوعي على معنى كونه بنوعه وكونه بحيث لو خلّي وطبعه يفيد الظنّ بإرادة الحقيقة والعموم وإن كان في بعض الأحيان لا يفيده لمنع مانع وسنوح بعض السوانح ، أو من جهة أصالة عدم القرينة أو أصالة عدم التخصيص أو غيرها من الاصول العدميّة المعمولة في الألفاظ ، وعلى التقديرين فالنصّ المخالف المخرج عنه إمّا أن يكون مع نصوصيّة دلالته قطعيّ السند بحيث يفيد القطع بخلاف الحقيقة ، أو ظنّي السند على وجه يوجب الظنّ بخلاف الحقيقة ، فالصور أربعة :

جريان قاعدة الورود والحكومة فيما بين الاصول اللفظيّة والنصوص القطعيّة أو الظنّيّة

فإن اعتبرنا الأصل من باب الظنّ النوعي كان النصّ المخرج منه واردا عليه قطعيّا كان أو ظنّيا ، لأنّ هذا الظنّ النوعي كالظنّ الاستصحابي - على القول بكون الاستصحاب من باب الظنّ - تعليقي ، على معنى كون اعتباره في اقتضاء ترتيب أحكام الحقيقة عند العرف والشرع معلّقا على عدم العلم ولا الظنّ المعتبر ولو ضعيفا بخلاف الحقيقة فهذا موضوعه ، ولا ريب أنّ النصّ قطعيّا أو ظنّيا يرفع هذا الموضوع.

وإن اعتبرناه من جهة الأصل العدمي فإن كان النصّ قطعيّا كان واردا عليه ، لأنّه بإفادته العلم بخلاف الحقيقة يرفع موضوع الأصل المذكور وهو عدم العلم بإرادة المجاز الملازم لاحتمال إرادة الحقيقة ، وهذا معنى ما يقال : من أنّ العمل بالنصّ القطعي في مقابل الظاهر كالعمل بالدليل العلمي في مقابل الأصل العملي.

وإن كان ظنّيا كان حاكما عليه ، لأنّ دليل حجّية الظنّ الحاصل منه يدلّ على المنع من الاعتناء باحتمال إرادة الحقيقة من العامّ مثلا ، فهو بهذا المدلول متعرّض لحال دليل اعتبار الأصل الدالّ على جواز الاعتناء بالاحتمال المذكور بإجراء أحكام الحقيقة لمجرّده بإخراج الاحتمال القائم في مورد النصّ الظنّي عن موضوع الأصل ونفي حكمه عن هذا الفرد الخاصّ ، فالنصّ حاكم على الأصل حينئذ باعتبار كون دليل اعتباره حاكما على دليل اعتبار الأصل.

وبعبارة اخرى : دليل اعتبار الأصل يفيد وجوب العمل بحكم العامّ وحمله على العموم

ص: 577

ما لم يعلم بالتخصيص ، ودليل حجّية النصّ الظنّي السند يفيد المنع من ذلك فيما ورد نصّ ظنّي بخلاف العامّ مع كونه ممّا لا يعلم معه بالتخصيص.

عدم التعارض بين دليلين قطعيّين ولا بين ظنّيّين ولا بين قطعي وظنّي

ثمّ ليعلم أنّه لا يقع التعارض بين دليلين قطعيّين ، ولا بين قطعيّ وظنّي ، ولا بين ظنّيين.

أمّا الأوّل : فتارة بالوجدان ، فإنّا ندرك بضرورة الوجدان [ لو ] أنّ دليلا قطعيّا أفاد القطع بالواقع وكشف عنه فلا يحصل من غيره القطع بخلافه.

واخرى : بالبرهان ، فإنّ تعارض القطعيّين يقتضي حصول العلم بالمدلولين ، وهو يقتضي وقوع المعلومين وهو محال ، لاستحالة اجتماع النقيضين والضدّين ، فإمّا أن لا يحصل العلم من شيء منهما فيخرجان عن الدليليّة ويسقطان عن الحجّية أو يحصل من أحدهما دون الآخر فهو الحجّة دون صاحبه ، ومن البيّن أنّ غير الحجّة لا يعارض الحجّة.

وأمّا الثاني : فلاستحالة حصول الظنّ بخلاف المقطوع به ، وإلاّ لزم اجتماع النقيضين في الذهن ، لأنّ القطع عبارة عن الترجيح المانع من النقيض ، والمنع وعدم المنع متناقضان.

وأمّا الثالث : فللزوم اجتماع النقيضين في الذهن أيضا ، لأنّ الظنّ عبارة عن الاحتمال الراجح ، ورجحان احتمال أحد طرفي النقيض يستلزم مرجوحيّة احتمال الطرف الآخر ، ففرض حصول الظنّ منهما يوجب اجتماع الرجحان والمرجوحيّة في كلّ من الاحتمالين.

فإمّا أن لا يحصل الظنّ منهما فيخرجان عن الحجّية ، أو عن أحدهما فيخرج ذلك عن الحجّية.

فانحصر مورد التعارض في الأدلّة الظنّية المعتبرة من باب الظنّ النوعي كخبر الواحد والإجماع المنقول وغيرهما ، وهذا هو مراد من أطلق انحصار التعارض في الظنّيين - وهو ما كان دليليّته منوطة بجعل الشارع لإفادة نوعه الظنّ وإن كان قد لا يفيده فعلا لسنوح بعض السوانح وعروض بعض الموانع ، لا لإفادته الظنّ الفعلي بحيث لولا حصوله خرج عن الدليليّة والاعتبار - ولا سيّما قدماء أصحابنا ومن يحذو حذوهم من المتأخّرين ، حيث لم يعهد عندهم دليل ظنّي إلاّ على هذا الوجه ، ولم يكن باب الظنّ الفعلي الّذي يعبّر عنه بالظنّ المطلق مفتوحا لديهم ، ثمّ جرى مجراهم في التعبير بهذه العبارة المطلقة من فتح باب الظنّ المطلق مريدا بها المقيّد أعني ما كان ظنّيا بالنوع.

وقد يورد على ما ذكروه من منع التعارض في القطعيّين وتجويزه في الظنّيين بما لا وقع له ، ومحصّله : عدم صحّة التفكيك بين النوعين ، إذ لو اريد بالظنّي ما يفيد الظنّ الشخصي

ص: 578

فهو كالقطعي في عدم وقوع التعارض فيه لاستحالة حصول الظنّ الشخصي بكلا طرفي النقيض ، ولو اريد به النوعي فمثله القطعي في جواز التعارض لو كان نوعيّا ، لأنّ مبنى الظنّ النوعي على تقدير حصول الظنّ وإن لم يحصل فعلا وهذا ممكن في القطعي أيضا.

وفيه : أنّ مبنى الظنّ النوعي على جعل الشارع وهذا غير موجود في الأدلّة القطعيّة كالإجماع والخبر المتواتر ونحوهما ، فإنّ الأوّل دليل بنفسه لكشفه عن قول المعصوم والثاني بنفسه دليل لأنّه بنفسه يفيد العلم بصدقه فدليليّته منوطة بصفة دائرة مدارها وجودا وعدما ، وحينئذ فلا معنى لملاحظة النوع وتقدير القطع فيه ، فإنّ ما لا يتّفق فيه صفة القطع خرج عن الدليليّة ، إذ الدليل هو الصفة لا سببها إلاّ أن يكون السبب مع قطع النظر عن صفة القطع من مجعولات الشارع كالخبر المتواتر ، فإنّه إذا لم يفد القطع قد يندرج في الخبر الظنّي الّذي جعله الشارع بشرائطه دليلا بهذا الاعتبار ، ولكنّه يدخل على هذا التقدير في الأدلّة الغير القطعيّة وكلامنا في الأدلّة القطعيّة من حيث إنّها قطعيّة.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ الدليل القطعي والظنّي الّذي حجّيته من جهة اندراجه في الظنّ المطلق لا يعقل فيهما التعارض ، لا بينهما ولا بين كلّ لمثله ، فما حصل من صفة القطع في القطعي والظنّ في الظنّي فهو الحجّة ، بل الحجّة نفس الصفة لا سببها فما لم يحصل منه القطع ولا الظنّ فليس بدليل.

ثمّ إنّ التعارض بين الدليلين كالخبرين مثلا إمّا أن يكون للشبهة في دلالتيهما ، أو للشبهة في سنديهما بالمعنى الأعمّ ممّا يرجع إلى الصدور وما يرجع إلى جهة الصدور.

وعلى الثاني فإمّا أن يكون التعارض على وجه التعادل وهو تكافؤ المتعارضين من جهة المرجّحات - والمرجّح عبارة عن المزيّة المعتبرة في أحد المتعارضين ، فلا عبرة بالمزيّة الغير المعتبرة كموافقة أحدهما القياس أو الاستحسان أو النوم والرمل والجفر وغير ذلك فلا تكون مناطا للترجيح ولا تنافي التعادل - أو يكون على وجه الترجيح على معنى كون علاج التعارض بالترجيح ، وهو عبارة - على أحد الاصطلاحين المتقدّمين - عن تقديم أحد الدليلين على صاحبه لمزيّة معتبرة فيه غير بالغة حدّ الحجّية بالقياس إليه ، بأن تكون مناطا لحجّيته وموجبة لكونه حجّة مستقلّة ، ولا حدّ التوهين (1) بالقياس إلى معارضه بأن توهن من جهتها ويسقط عن الحجّية ، ولذا لا يسمّى الصحّة في الخبر الصحيح في مقابلة الخبر

ص: 579


1- عطف على قوله : « غير بالغة حدّ الحجّية » أي : ولا بالغة حدّ التوهين الخ.

الضعيف مرجّحة لكونها مناطا لحجّيته ، ولا الشهرة في الخبر المشهور في مقابلة الشاذّ النادر مرجّحه ، لأنّها أو جبت في الطرف المقابل سقوطه عن الحجّية وخروجه عن الدليليّة ، فتأمّل.

والسرّ في هذا الاعتبار أنّ العمل بمقتضى المزيّة الّتي بلغت إلى حدّ الحجّية أو التوهين ليس من باب الترجيح ، لأنّه فرع على التعارض وهو على التقديرين منتف.

فالكلام في جميع باب التعارض يقع في مقامات :

المقام الأول: قاعدة أولويّة الجمع بين الدليلين

اشارة

المقام الأوّل

فيما لو كان التعارض من جهة الشبهة في دلالة المتعارضين مع قطع النظر عن سنديهما الّتي طريق رفعها وعلاج التعارض الناشئ منهما الجمع بينهما ، وهو العمل بهما معا إن أمكن ولو بنحو من التأويل ، ونتكلّم هنا في القضيّة المشهورة المتداولة على ألسنة الاصوليّين المعبّر عنها : « بأنّ الجمع بين الدليلين مهما أمكن أولى من الطرح » وهذه القضيّة مع اشتهارها ربّما ادّعي الإجماع عليها كما عن الشيخ ابن أبي جمهور الإحسائي في عوالي اللآلئ فيما حكي عنه من قوله : « أنّ كلّ حديثين ظاهرهما التعارض يجب عليك أوّلا البحث عن معناهما وكيفيّة دلالة ألفاظهما ، فإن أمكنك التوفيق بينهما بالحمل على جهات التأويل والدلالات فاحرص عليه واجتهد في تحصيله ، فإنّ العمل بالدليلين مهما أمكن خير من ترك أحدهما وتعطيله بإجماع العلماء ، فإذا لم تتمكّن منه ولم يظهر لك وجه فارجع إلى العمل بهذا الحديث ، وأشار بهذا إلى مقبولة عمر بن حنظلة » انتهى.

وإطلاقها يعطي أولويّة ما أمكن من الجمع من الطرح في كلّ من مسألتي التعادل والترجيح.

وبعبارة اخرى : كون الجمع مع التعادل أولى من التخيير ومع وجود المرجّح أولى من الترجيح ، ومرجعه إلى أنّه مع إمكان الجمع يتعيّن مراعاته ولا يبنى على التخيير مع تكافؤ الدليلين ، ولا يلاحظ المرجّحات وإن وجدت مع أحدهما.

وكيف كان فهل لها أصل مطلقا ، أو لا مطلقا ، أو يختلف حالها على حسب اختلاف الصور؟

وبيانها : أنّ الجمع بين الدليلين قد يتأتّى بإرجاع التأويل إلى أحدهما بعينه فلا يحتاج إلى شاهد كالعامّ والخاصّ المطلقين كقوله : « أكرم العلماء » و « لا تكرم زيدا » و « أعتق رقبة » و « لا تعتق كافرة » ومثلها نحو « اغتسل للجمعة » و « لا بأس بترك غسل الجمعة » وضابطه الكلّي وقوع التعارض بين النصّ والظاهر ، ونعني بالنصّ ما يعمّ الأظهر.

وقد يتأتّى بإرجاع التأويل إلى أحدهما لا بعينه فيحتاج إلى شاهد خارجي ، كما في

ص: 580

العامّين من وجه وما بحكمها من الظاهرين ، كقوله : « أكرم العلماء » و « لا تكرم الفسّاق » و « ينبغي غسل الجمعة » و « اغتسل للجمعة » لظهور الأوّل بمادّته في الاستحباب والثاني بهيئته في الوجوب ، فلا بدّ إمّا من إرجاع الأوّل إلى الثاني بحمله على الوجوب أو إرجاع الثاني إلى الأوّل بحمله على الاستحباب.

وقد يتأتّى بإرجاع التأويل إليهما معا فيحتاج إلى شاهدين ، وقد يكتفى بشاهد واحد إذا صار أحدهما بانضمام شاهد التصرّف فيه قرينة على التصرّف في الآخر كما في المتبائنين ، كقوله : « أكرم العلماء » و « لا تكرم العلماء » إذ لا يندفع التعارض عمّا بينهما إلاّ بتطرّق التصرّف إليهما معا بحمل الأوّل على بعض الأفراد كالفقهاء مثلا والثاني على البعض الباقي كالحكماء مثلا.

ونحوه قوله : « ثمن العذرة سحت » وقوله : « لا بأس ببيع العذرة » ومن طرق الجمع بينهما حمل الأوّل على عذرة غير مأكول اللحم والثاني على عذرة مأكول اللحم. ولكن لا بدّ لكلّ من شاهد.

ومن أمثلته أيضا « اغتسل للجمعة » و « لا تغتسل للجمعة » لظهور الأوّل في الوجوب والثاني في التحريم ، ومن طرق الجمع بينهما حمل الأوّل على مجرّد الرخصة في الفعل - أعني الإباحة - والثاني على مرجوحيّة الفعل فيثبت بهما الكراهة ، والظاهر أنّ هذا ممّا يكتفى فيه بشاهد واحد ويستغنى به عن الشاهد الآخر ، فلا بدّ في هذا المقام من التكلّم في مسائل ثلاث :

المسألة الاولى : فيما كان الجمع بينهما بإرجاع التأويل إلى أحدهما بعينه ، وهو الظاهر الّذي يتعيّن الخروج عن ظهوره بحمله على خلافه تخصيصا أو تقييدا أو تجوّزا ، ففي نحوه ينبغي القطع بتعيّن الجمع وكونه أولى من الطرح.

والسرّ فيه ورود النصّ أو حكومته على ما يقابله وهو أصالة الحقيقة في جانب الظاهر بالمعنى الأعمّ من أصالة العموم وأصالة الإطلاق ، حسبما تقدّم بيانه فيما ذكرناه أخيرا من جريان قاعدة الورود والحكومة في الاصول اللفظيّة.

ومن هنا ظهر أنّه لا تعارض حقيقة في هذه الصورة ، ولو كان فهو صوريّ أو بدويّ لما بيّنّاه من عدم وقوع التعارض بين الوارد والمورود ولا بين الحاكم والمحكوم عليه ، ومرجع هذا الجمع إلى وجوب تقديم النصّ على الظاهر بالخروج عن ظهوره ووجه تقدّمه كونه

ص: 581

واردا أو حاكما على أصالة الحقيقة فيه.

وأمّا الكلام في سائر ما يتعلّق بهذه المسألة ومن جملته التكلّم في بعض صغريّات النصّ والظاهر والأظهر ، والتكلّم في بعض مسائل تعارض الأحوال الّذي مرجعه إلى تعارض الظاهرين ، أو النصّ والظاهر ، أو الأظهر والظاهر فسنورده إن شاء اللّه تعالى في خاتمة الباب.

المسألة الثانية : فيما كان الجمع بينهما بإرجاع التأويل إلى أحدهما لا بعينه المحتاج إلى شاهد خارجي ، واحتياجه هنا إلى شاهد مفقود بالفرض شاهد واضح بعدم جريان قاعدة أولويّة الجمع في تلك الصورة لعدم إمكانه.

وتوضيحه : أنّ إرادة ظاهري المتعارضين غير ممكنة لاستحالة التناقض في كلام الشارع ، وما اريد منهما خلاف ظاهره - كما هو المتيقّن - لفقد القرينة عليه غير متعيّن ، فاحتمال ذلك في كلّ منهما معارض بمثله في الآخر ، ومرجعه إلى معارضة أصالة الحقيقة في أحدهما لمثلها في الآخر ، فالأخذ بأحدهما دون اخرى ترجيح بلا مرجّح ، فهذه الصورة داخلة فيما لا يمكن فيه الجمع بين المتعارضين ، فلا يجري فيها قاعدة أولويّة الجمع الّتي موضوعها إمكان الجمع ، مع أنّ الأدلّة المستدلّ بها على تلك القاعدة على تقدير تماميّتها ونهوضها لإثبات أصل القاعدة غير جارية هنا ، لأنّ من تلك الأدلّة الإجماع المنقول الّذي تقدّم في كلام ابن أبي جمهور وهو موهون بعمل العلماء في المسائل الفرعيّة في موارد تعارض العاميّن من وجه وما بحكمها ، على ما يظهر للمتتبّع من الأخذ بالمرجّحات الدلاليّة على تقدير وجودها والتوقّف ثمّ الرجوع إلى الأصل على تقدير فقدها.

ومنها (1) : أنّ الأصل في الدليلين الإعمال فيجب الجمع بينهما مهما أمكن ، لاستحالة الترجيح من غير مرجّح.

وفيه : أنّ المراد بالأصل المذكور القاعدة المستنبطة من أدلّة حجّية سندي الدليلين المقتضية لوجوب تقديم السند على الدلالة عند التعارض الناشئ عن الشبهة في الدلالة ، ومعناه الأخذ بالسند وطرح الدلالة ، وهذا على ما تقدّم لا يخلو إمّا أن يكون من باب الورود أو من باب الحكومة ، إذ قد عرفت أنّ مقابل السند أصالة الحقيقة المحرزة للدلالة ، كما قد عرفت أنّ السند حيثما صحّ تقديمه على الدلالة إمّا وارد على الأصل المحرز لها أو حاكم عليه ، وإنّما يصحّ اعتبار الورود أو الحكومة على الأصل فيما سلم عن معارضة مثله

ص: 582


1- هذه من جملة ما استدلّ بها على قاعدة اولويّة الجمع مهما أمكن.

كما في النصّ والظاهر ، وهو فيما نحن فيه في أحد الدليلين معارض بمثله في الآخر ، فإمّا أن يعتبر الورود والحكومة في سند كلّ منهما بالقياس إلى أصل صاحبه فيلزم طرح الدليلين بالقياس إلى مادّة الاجتماع في العامّين من وجه وطرحهما مطلقا في غيرهما والمقصود هو الجمع والعمل لا الطرح ، أو يعتبرا في سند أحدهما بالنسبة إلى الأصل في صاحبه وهو لمعارضة الأصلين ترجيح بلا مرجّح.

ومنها : أنّ دلالة اللفظ على تمام معناه أصليّة وعلى جزئه تبعيّة ، والجمع يستلزم طرح الدلالة التبعيّة ، وهو أولى من طرح الدلالة الأصليّة الّذي يلزم من التخيير أو الترجيح الراجعين إلى السند.

وفيه : أنّ هذا الدليل على تقدير تماميّته مخصوص بالمتبائنين ولا يجري في العامّين من وجه ، لعدم دوران الأمر فيهما بين طرح الدلالة التبعيّة وطرح الدلالة الأصليّة ، بل الأمر فيهما بين طرح الدلالة التبعيّة في أحدهما وطرحها في الآخر ، والترجيح هنا من جهة فقد القرينة غير ممكن.

وملخّص ما ذكرناه : أنّ القضيّة المشهورة غير جارية فيما نحن فيه لعدم إمكان الجمع فيه حتّى يتكلّم في أولويّته ، إذ عدم إمكان الجمع المخرج للمورد عن تلك القضيّة أعمّ من كونه لنصوصيّة دلالة كلّ من المتعارضين ومن كونه لمعارضة أصالة الحقيقة في أحدهما لمثلها في الآخر ، مع عدم جريان أدلّته فيه أمّا الإجماع المنقول فمع أنّه في نفسه ممّا لا يعبأ به موهون باستقرار عمل العلماء بخلافه ، وأمّا أولويّة إعمال الدليلين فلاختصاصها بمسألة النصّ والظاهر ومسألة المتبائنين.

وأمّا أولويّة طرح الدلالة التبعيّة فلاختصاصها بالمتبائنين ، وحينئذ ففي المسألة المبحوث عنها - أعني تعارض العامّين من وجه مع فقد القرينة وانتفاء الشاهد الخارجي - لا مناص من الرجوع إلى المرجّحات الدلاليّة ، فإن وجد منها ما يرجّح دلالة أحدهما يؤخذ به ويطرح دلالة الآخر ، وإلاّ وجب التوقّف والرجوع إلى الأصل حسبما يناسب المورد من الاصول العمليّة.

والمراد بمرجّح الدلالة كلّ مزيّة لو اعتمد عليها المتكلّم الحكيم في إفادة المراد ارتفع عنه القبح اللازم من الإغراء بالجهل في الخطاب بما له ظاهر وإرادة خلافه ، وميزانه أظهريّة إحدى الدلالتين بضابطة أنّها في متفاهم العرف توجب انفهام إرادة خلاف ظاهر الظاهر.

ص: 583

وبالجملة فعلى تقدير وجود مرجّح الدلالة تكون المسألة من تعارض الأظهر والظاهر ، ومن الظاهر تقديم الأظهر على الظاهر.

لا يقال : إنّ الجمع في تعارض العامّين من وجه وما بمعناهما ممكن ، بل لم يزل واقعا حتّى على ما ذكرت من وجوب التوقّف ، بتقريب : أنّ المراد بالجمع المبحوث عنه ما يقابل الطرح على وجه التخيير أو على وجه الترجيح الّذي هو من عوارض السند ، فيراد بالجمع حينئذ الأخذ بسندي العامّين على معنى البناء على صدورهما ، فيكونان كالسندين القطعيّين وهو يستلزم بعد إرجاع التأويل إلى أحدهما للأخذ بدلالتيهما أيضا أن تعيّن محلّ الدلالة المجازيّة بقرينة أو شاهد خارجي أو مرجّح دلالتي أو تساقط الدلالتين من جهة التعارض ثمّ الرجوع إلى الأصل أو التوقّف فيهما من جهة طروّ الإجمال لهما ثمّ الرجوع إلى الأصل ، أو الأخذ بما وافق منهما الأصل على مذهب من يرى موافقة الأصل من المرجّحات ، وهذه الأحكام كلّها كما ترى من خواصّ الجمع بالمعنى المذكور وآثاره المترتّبة عليه ، إذ على تقدير الطرح السندي لأحدهما لم يتّجه شيء منها كما هو واضح. فالتوقّف المتقدّم ثمّ الرجوع إلى الأصل متفرّع على الجمع ، ومعه كيف يقال بعدم اندراج عنوان المسألة الثانية في القضيّة المشهورة إمّا لعدم إمكان الجمع فيه أو لعدم جريان أدلّة هذه القضيّة فيه؟

لأنّا نقول : إنّ المراد بالجمع وإن كان ما ذكر ولكن لا على إطلاقه ، بل بحيث يؤدّي إلى العمل بدلالتي الدليلين الحقيقيّتين أو المجازيّتين أو المختلفتين بالحقيقة والمجاز ، وإذا لم يتعيّن محلّ الدلالة المجازيّة بسبب الإجمال الناشئ من معارضة أصالة الحقيقة في أحدهما لمثلها في الآخر دخل الجمع في غير الممكن ولو باعتبار عدم إمكان قيده.

المسألة الثالثة : فيما كان الجمع بينهما بإرجاع التأويل إليهما معا بتخصيص أو غيره من سائر أنواع التجوّز ، وهذه الصورة هي القدر المتيقّن من مورد القضيّة المشهورة ، بل الظاهر اختصاصها بها بل هو المقطوع به ، لخروج الصورتين المتقدّمتين عنها خروجا موضوعيّا حيث لا تعارض بين النصّ والظاهر حقيقة لضابطة الورود أو الحكومة حسبما بيّنّاه ، ولو فرض فيهما تعارض فهو بدويّ صوري لا يعبأ به في باب تعارض الدليلين ، ولا يمكن الجمع بين العامّين من وجه وما بمعناهما حسبما قرّرناه بما لا مزيد عليه ، مع ما سمعت من بياناتنا الاخر لمنع جريان القضيّة المشهورة في الصورة الثانية ، مضافا إلى عدم انطباق الاستدلال الآتي عليها مع ما اعترض عليه وما ردّ به الاعتراض إلاّ على

ص: 584

الصورة الثالثة ، وأيضا فإنّ ظاهر كلامهم يعطي كون المورد على تقدير العجز عن الجمع من مسألتي التعادل والترجيح المستلزم لطرح سندي تخييرا أو ترجيحا ، ولا يصحّ شيء من ذلك في العامّ والخاصّ المطلقين وما بمعناهما ، ولا العامّين من وجه وما بمعناهما ، إذ ليس فيهما طرح سندي حتّى في العامّين من وجه ، إذ السند لا يتبعّض بأن يكون العامّ صادرا بالنسبة إلى بعض أفراده وغير صادر بالنسبة إلى البعض الآخر ، والمفروض وقوع العمل بكلّ من العامّين في مادّة افتراقه ، ومن هنا جاء الاضطرار بعد فقد المرجّحات الدلاليّة إلى التوقّف والرجوع إلى الأصل من جهة الإجمال في الدلالة.

نعم في العامّ والخاصّ المطلقين قد يطرح الخاصّ فيما إذا اعتضد عموم العامّ بموافقة الكتاب أو الإجماع أو دليل العقل أو غير ذلك ممّا يتوهّن به سند الخاصّ إلى أن يخرج عن الحجّية رأسا ، غير أنّه كما ترى ليس من الطرح السندي المترتّب على التخيير أو الترجيح في مسألتي التعادل والترجيح في شيء.

أمّا الأوّل : فواضح.

وأمّا الثاني : فلما عرفت من أنّ الترجيح هو التقديم بالمزيّة المعتبرة الّتي لم تبلغ حدّ الحجّية ولا التوهين.

وكيف كان فاختلف في أولويّة الجمع بالقياس إلى الطرح.

فالمعروف بين أوائل الاصوليّين حيث وقع هذه القضيّة أو مرادفها في كلامهم كون الجمع مع إمكانه أولى من الطرح ، وقد سمعت كلام ابن أبي جمهور مدّعيا عليه إجماع العلماء ، وأنكره جماعة من محقّقي متأخّري الاصوليّين ومنهم بعض الأعلام وعليه بعض مشايخنا قدّس اللّه أرواحهم ، وقد فرضوا الكلام في الظنّين من حيث السند كالخبرين ، والظاهر أنّه لا يتفاوت الحال بينهما وبين القطعيّين سندا مع ظنّية الدلالة كالكتابين والخبرين المتواترين لفظا ، أو الكتاب مع الخبر المتواتر إن فرض فيهما تعارض التبائن ، ونحن نفرض الخبرين الظنّيين قطعيّين ونتكلّم على تقدير قطعيّة سنديهما أيضا.

ونقول : إنّ وقوع التعارض فيهما مع ملاحظة استحالة التناقض في كلام الشارع وامتناع اجتماع النقيضين والضدّين قرينة عقليّة توجب تعذّر حقيقة كلا المتعارضين وتصرف كلاّ منهما إلى مجازه ، وحينئذ فإن انحصر المجاز المحتمل في كلّ واحد في واحد فلا إشكال في تعيّن الحمل عليه ، وإن تعدّد المجاز المحتمل فيهما فإن كان بعضها أقرب عرفا إلى

ص: 585

الحقيقة من الباقي فلا إشكال أيضا في تعيّن حمل كلّ منهما على أقرب مجازاته - بضابطة أنّه إذا تعذّرت الحقيقة فأقرب المجازات أولى - وإلاّ فإن أقام قرينة في كلّ منهما على تعيين بعضها فلا إشكال في تعيّن الحمل عليه أيضا ، وإلاّ فلا سبيل في شيء منهما إلى حمله على أحد مجازاته المحتملة لمكان الإجمال ، باعتبار تردّده بعد تعذّر حقيقته بين مجازاته ، فمثل هذا ممّا لا يمكن فيه الجمع ، فلا مناص من الوقف ثمّ الرجوع إلى الأصل ، وكذا نفرض هذه الصور الأربع في الظنّيين ، والصورة الرابعة ما تعذّر حقيقة كلّ من المتعارضين وتعدّد مجازاته ولم يكن بعضها أقرب من بعض ولم يقم قرينة خارجيّة أيضا على تعيين بعضها ، ففي مثل ذلك كيف يقال : بأنّ الجمع بينهما أولى من طرح أحدهما؟

وبالتأمّل فيما ذكرنا ينقدح فساد ما قد يقال : من أنّ مقتضى إطلاق ما دلّ على حجّية الدليلين المتعارضين - كالخبرين ونحوهما - أو عمومه لزوم الجمع بينهما والعمل بهما مهما أمكن ، فإنّهما في حدّ ذاتهما وإن كانا ظنّيين إلاّ أنّ دليل حجّيتهما يصيّرهما كالقطعيّين ، وكما أنّ القطعيّين كالكتابين والخبرين المتواترين إذا تعارضا يجمع بينهما ويعمل بهما فكذا ما هو بمنزلتهما ، إذ لو اريد بالجمع الأخذ بسندي المتعارضين على وجه يؤخذ معه بمدلوليهما المجازيين ويجعل دلالتهما المجازيّة مدركا للحكم الشرعي ومناطا لاستنباطه كما هو معنى العمل بهما فهو غير ممكن في القطعيّين والظنّيين معا.

وإن اريد به مجرّد حفظ سنديهما عن الطرح ولو بإبداء احتمال بعيد في دلالتيهما المجازيّتين وإن لم يترتّب عليه فائدة العمل واستنباط الحكم الشرعي ، نظرا إلى أنّه كما أنّ قطعيّة سندي القطعيّين تأبى عن طرح أحدهما والحكم عليه بعدم الصدور ، فكذلك حجّية سندي الظنّيين تأبى عن طرح أحدهما والحكم عليه بعدم الصدور كما هو طريقة الشيخ في الجمع بين الأخبار المتعارضة الّذي تداوله في التهذيبين.

ففيه : أنّه جمع لا يجدي نفعا في علاج التعارض ، وليس من الجمع المبحوث عنه المقابل للطرح في مسألتي التعادل والترجيح.

هذا مع إشكال آخر يرد على الاستدلال بإطلاق أدلّة حجّية السند لإثبات أولويّة الجمع والمنع من الطرح ، فإنّ الطرح لا ينافي مقتضى أدلّة الحجّية ولا يوجب تقييدا في مطلقاتها ولا تخصيصا في عموماتها حتّى يتمسّك لمنعه بإطلاقها وعمومها.

وتوضيحه : أنّ منع العمل بالدليل الظنّي قد يكون لفقد المقتضي لجواز العمل به ، وقد

ص: 586

يكون لوجود المانع من العمل به ، والحجّية الذاتيّة مقتضية للجواز والتعارض أو الإجمال الناشئ منه مانع ، وأدلّة الحجّية إنّما تنهض لإحراز المقتضي وهو الحجّية الذاتيّة في كلّ من المتعارضين ، وطرح أحدهما بعنوان التخيير أو الترجيح عند قائليه لا يرجع إلى إنكار الحجّية الذاتيّة فيه لينافي مقتضى أدلّة الحجّية ، بل يستند إلى وجود المانع من العمل بهما معا ، فالتمسّك بإطلاق أدلّة الحجّية أو عمومها لنفي جواز الطرح ليس بسديد.

وكيف كان فلو كان مراد القائلين بأولويّة الجمع مهما أمكن هو الجمع على هذا الوجه - وضابطه إرجاع التأويل إلى الدليلين معا مطلقا ولو بتنزيلهما على احتمال بعيد لا يقبله الطبع ولم يساعد عليه فهم العرف ولم يشهد به قرينة خارجيّة - فالأقوى بل الحقّ الّذي لا محيص عنه أنّه غير جائز فضلا عن تعيّنه ووجوبه.

أمّا أوّلا : فلعدم صحّة هذا النحو من التأويل في الدليل عرفا ، فالجمع المذكور بهذا الاعتبار داخل فيما لا يمكن عرفا.

وأمّا ثانيا : فلعدم ترتّب فائدة العمل عليه ، إذ العمل بالدليل عبارة عمّا اشتمل على التعبّد بالدليل سندا ودلالة ، والدلالة عبارة عن كشف الدليل ولو بنوعه عن الواقع بعنوان ظهور أوّلي وهو ظهور الحقيقة بملاحظة أصالة الحقيقة ، أو ظهور ثانوي وهو ظهور المجاز مع قرينة المجاز وما يقوم مقامها.

ولا ريب في انتفاء الظهورين في مفروض المقام ، أمّا الأوّل : فلزواله بفرض التعارض.

وأمّا الثاني : فلعدم بلوغ احتمال ما احتمل فيه من المجاز حدّ الظهور ، والجمع الّذي لا يترتّب عليه فائدة العمل ممّا ينبغي القطع ببطلانه.

وأمّا ثالثا : فلأخبار العلاجيّة المتكفّلة لبيان المرجّحات الآمرة بالترجيحات أو بالتخيير مطلقا أو مع فقد المرجّح ، فإنّها بإطلاقها بل عمومها الناشئ من ترك الاستفصال تشمل ما يجري فيه وجه من وجوه الجمع ولو بعيدا من الخبرين المتعارضين بل الغالب فيهما ذلك ، فالأمر بالترجيح مطلقا ومن غير استفصال عمّا يمكن فيه الجمع وما لا يمكن ينفي أولويّة مطلق الجمع بل جوازه أيضا.

والمناقشة فيه بأنّه لو صحّ التمسّك بترك الاستفصال هنا لزم القول بعدم جواز الجمع مطلقا حتّى في نحو الصورة المتقدّمة ممّا انحصر المعنى المجازي المحتمل في كلّ من المتعارضين في واحد ، وما كان بعض مجازاته المحتملة أقرب ، وما شهد بتعيينه منها قرينة

ص: 587

خارجيّة وغير ذلك ممّا لا إشكال في أولويّة الجمع فيه بالقياس إلى الطرح ولو بعنوان الترجيح.

يدفعها : خروج نحو هذه الصور من موارد هذه الأخبار بمقتضى سياقاتها وأسئلتها ، لظهورها في كون السائلين فيها عن حكم الخبرين المتعارضين في مقام الحيرة في كيفيّة العمل وطريقه ، ولا حيرة في نحو الصور المذكورة.

وأمّا رابعا : فلأنّه لو صحّ الجمع على الوجه المذكور لزم خروج الأخبار المذكورة على كثرتها بلا مورد ، أو انحصارها في بعض الفروض النادرة الّذي لا يليق بذلك الاعتناء والاهتمام الموجود في تلك الأخبار بتقريب : أنّه قلّما يتّفق في الأخبار المتعارضة ما لا يمكن فيه إجراء وجه من وجوه الجمع البعيدة.

وأمّا خامسا : فلاستقرار عمل العلماء قديما وحديثا على عدم الالتفات إلى كلّ جمع ، والتزام الترجيح والرجوع إلى المرجّحات مع غلبة إمكان الجمع بوجه من الوجوه البعيدة ، حتّى أنّ الشيخ الّذي تداول هذا النحو من الجمع في التهذيبين لم يعمل به ولم يتّخذه مناطا للاستنباط ولا مدركا للحكم الشرعي ، بل ابن جمهور الّذي تقدّم منه إطلاق القول بأولويّة الجمع مدّعيا عليه الإجماع لا يظنّ به ولا بمن دونه اعتباره الجمع بهذا المعنى - وهو تنزيل كلّ من المتعارضين على احتمال بعيد لا يقبله الطبع ، ولا يساعد عليه فهم العرف ولا يشهد به قرينة - فيجوز أن يكون مراده ومراد موافقيه في إطلاق القول بأولويّة الجمع ما هو من قبيل الصور المذكورة لا مطلق ما احتمل ولو بعيدا وإن قيّدوه بالإمكان ، بناء على إرادة الإمكان العرفي منه لا مجرّد التجويز والاحتمال العقلي.

ويمكن دعوى ظهور ذيل عبارته المتقدّمة حيث قال : « وإن لم تتمكّن من ذلك ولم يظهر لك وجه فارجع إلى العمل بهذا الحديث » في ذلك ، لأنّ قوله : « لم يظهر لك وجه » يفيد اعتبار بلوغ احتمال وجه الجمع مرتبة الظهور ، ويلزم من ذلك انصراف قوله : « إن لم تتمكّن » إلى الإمكان العرفي ، وعليه فيكون معقد الإجماع الّذي نقله هو ذلك لا مطلق ما أمكن عقلا وإن امتنع عرفا ، ولو لا ذلك لبطل دعوى الإجماع من رأسه لما عرفت من استقرار عمل العلماء أو أكثرهم على خلافه.

هذا كلّه مع أنّ أولويّة الجمع بالمعنى المذكور ممّا لا دليل عليه ولا شاهد له من عقل ولا نقل.

وأمّا ما استدلّ عليه من : أنّ الأصل في الدليلين الإعمال فيجب الجمع بينهما مهما

ص: 588

أمكن لاستحالة الترجيح من غير مرجّح ، فهو أضعف شيء ذكر في المقام وأوهن من بيت العنكبوت ، وذلك لأنّ القاعدة المستفادة من أدلّة حجّية الأدلّة الغير العلميّة وإن كانت وجوب إعمال الدليلين إلاّ أنّه مقيّد بالإمكان ، ولا يمكن إلاّ حيث لا تعارض بينهما ، فكلّ دليلين بينهما تعارض التباين لا يمكن إعمالهما معا.

وتوضيحه : أنّ إعمال الدليلين إنّما يجب من حيث دليليّتهما ، ولا ريب أنّ دليليّة الدليل كالخبر الظنّي منوطة بأمرين : أحدهما السند وهو صدوره ، والآخر دلالته ، والأوّل يحرز بجعل الشارع حيث أوجب علينا بمقتضى أدلّة الحجّية تنزيله منزلة الدليل القطعي في وجوب التعبّد بدلالته والالتزام بمدلوله على أنّه الحكم الواقعي ، كما أنّ الثاني يحرز بأصالة الحقيقة وما بمعناها من الاصول اللفظيّة. وإن شئت قلت : إنّه يحرز بالظهور أوّليا كان أو ثانويّا.

فمعنى إعمال الدليل حينئذ التعبّد بدلالته المحرزة بالظهور تنزيلا لسنده الظنّي منزلة السند القطعي ، وعليه ففي الدليلين المتعارضين كقوله عليه السلام : « ثمن العذرة سحت » وقوله عليه السلام : « لا بأس ببيع العذرة » يتصوّر وجوه أربع :

الأوّل : أن يؤخذ بسنديهما مع الأخذ بظهوريهما.

الثاني : أن يؤخذ بسنديهما مع الأخذ بظهور أحدهما وطرح ظهور الآخر.

الثالث : أن يؤخذ بسنديهما مع طرح ظهوريهما معا.

الرابع : أن يؤخذ بأحدهما سندا وظهورا ويطرح الآخر.

والأوّلان باطلان لعدم إمكانهما عقلا ، أمّا الأوّل منهما : فلفرض التعارض ، وأمّا الثاني منهما : فلأنّ التعارض لا يرتفع بمجرّد رفع اليد عن ظهور أحدهما ، لبقائه بين خلاف ظاهر أحدهما وظهور الآخر.

والصحيح من الوجهين الأخيرين أيضا ثانيهما ، لأنّ طرح ظهوريهما الأوّليين مع عدم انعقاد ظهور ثانوي فيهما في معنى ترك العمل بهما رأسا وهو خروج عن مقتضى أدلّة الحجّية ، بخلاف الوجه الأخير الّذي يؤخذ فيه بأحدهما بتمامه ، فإنّه إعمال للدليل بالمعنى المتقدّم ، ولا يلزم من طرح الآخر خروج عن مقتضى أدلّة الحجّية بتقييد أو تخصيص ، إمّا لما بيّنّاه سابقا من أنّ ترك العمل بأحد المتعارضين إنّما هو لمانع التعارض ولا يؤول إلى إنكار حجّيته الذاتّية فلا ينافيها ، أو لأن أدلّة الحجّية مقّيدة بإمكان العمل وظاهر أنّ العمل

ص: 589

بكلا المتعارضين غير ممكن ، فترك العمل بأحدهما حال العمل بالآخر لعدم إمكانه ، فهو خروج موضوعي لا حكمي.

وما يقال : من أنّ الأمر هنا دائر بين طرح ظهورين وطرح سند وظهور كما هو اللازم من طرح أحدهما رأسا ، والأوّل أولى لأنّ فيه عملا بكلّ من الدليلين في الجملة بخلاف الثاني فإنّه طرح لأحدهما بالكلّية.

ففيه أوّلا : منع تحقّق العمل بكلّ منهما في الجملة على تقدير طرح ظهوريهما ، لما عرفت من أنّه في معنى ترك العمل بهما رأسا ، إذ لا يبقى لهما دلالة يتعبّد بها بعد طرح ظهوريهما معا ، فالأمر في الحقيقة دائر بين ترك العمل بهما معا وترك العمل بأحدهما ، وظاهر أنّ الثاني أولى بالنظر إلى أدلّة حجّية السند.

وثانيا : منع لزوم طرح سند وظهور على تقدير طرح أحدهما رأسا ، إذ الظاهر تابع للسند فما لم يسلم السند لم يعقل معه ظهور ، وطرح السند في قوّة الحكم على أحدهما بعدم الصدور ، ومعه لا يبقى لطرح الظهور محلّ ، فإنّ الدلالة المحرزة بالظهور اللفظي عبارة عن فهم المعنى من اللفظ على أنّه مراد للمعصوم وإلاّ لم يكن المدلول حكما شرعيّا ، وبعد طرح السند الّذي هو في قوّة الحكم عليه بعدم صدوره من المعصوم لا يتأتّى الدلالة بالمعنى المذكور ، فلا ظهور حتّى يطرح بعد طرح السند ، فالسالبة باعتبار انتفاء الموضوع.

وبما بيّنّاه ظهر فساد ما ذكر في الدليل تفريعا على أصالة إعمال الدليلين من أنّه يجب الجمع بينهما مهما أمكن ، فإنّ الجمع بالمعنى المبحوث عنه في معنى ترك العمل بهما رأسا فلا يكون جائزا فضلا عن وجوبه.

كما ظهر بما بيّنّاه أيضا منع ما استدلّ به على الوجوب من استحالة الترجيح بلا مرجّح إن اريد به لزوم التخصيص في أدلّة الحجّية من غير مخصّص ، وإن اريد به التعيين بلا معيّن ، ففيه : أنّ الطرح اللازم من التخيير إنّما بحكم العقل أو العرف بالتخيير إن قلنا به ، فلا يكون من باب تعيين أحدهما بالخصوص للعمل حتّى يستحيل من غير معيّن ، مع أنّ الطرح قد يكون لمرجّح مع أحدهما المعيّن إن دخل المورد بعد عدم إمكان الجمع في عنوان « الترجيح » فلا يكون بلا مرجّح.

وقد يستدلّ على أولويّة الجمع - كما في النهاية والتهذيب والمنية وغيرها - : بأنّ دلالة اللفظ على تمام مفهومه أصليّة وعلى جزئه تبعيّة ، والجمع بين الدليلين بمعنى العمل بكلّ

ص: 590

منهما من وجه دون وجه آخر ترك للدلالة التابعة ، والعمل بأحدهما دون آخر ترك للدلالة الأصليّة ، والأوّل أولى.

واعترضه في النهاية : بأنّ العمل بكلّ منهما من وجه عمل بالدلالة التابعة في كلّ منهما ، والعمل بأحدهما دون آخر عمل بالدلالة الأصليّة والتابعة في أحدهما وإبطال لهما في الآخر.

ولا ريب أنّ العمل بأصل وتابع أولى من العمل بالتابعين وإبطال الأصلين. وردّه في المنية : بأنّ العمل بأصل وتابع إنّما يكون أولى إذا كانا لدليلين كما في النصّ والظاهر ، حيث يطرح ظهور الظاهر بنصوصيّة النصّ ، وأمّا إذا كانا لدليل واحد فلا نسلّم كون العمل بهما أولى من العمل بالتابعين لدليلين.

وأنت خبير بما في الاعتراض وردّه ، لمنع تعدّد الدلالة على تقدير العمل بأحد الدليلين وترك العمل بالآخر بالكلّية.

والتحقيق في الجواب : أنّ العمل بكلّ من الدليلين في وجه دون آخر ترك للعمل بدلالة كلّ منهما وعمل بالاحتمال الغير البالغ حدّ الدلالة المعتبرة ، فهو في الحقيقة ترك للعمل بالدليلين معا ، بخلاف العمل بأحدهما بتمامه وطرح الآخر ، ويظهر وجهه بملاحظة ما مرّ في جواب الوجه السابق.

وقد يقال : إنّه قد يمكن الجمع بين المتبائنين فيما لو اشتمل كلّ منهما على جهة نصوصيّة وجهة ظهور ، بأن يكون نصّا من جهة وظاهر من اخرى ، فيطرح ظاهر كلّ بنصّ الآخر ، وذلك كما في قوله عليه السلام : « ثمن العذرة سحت » مع قوله عليه السلام : « لا بأس ببيع العذرة » فإنّ الأوّل نصّ في عذرة غير مأكول اللحم ، وظاهر في عذرة مأكول اللحم والثاني بالعكس ، للقطع في الأوّل بدخول عذرة غير المأكول في المراد على كلا تقديري إرادة عذرة المأكول منه وعدم إرادته ، ومرجعه إلى القطع بعدم إرادة عذرة المأكول منه بدون إرادة عذرة غير المأكول.

وفي الثاني بدخول عذرة المأكول في المراد على كلا تقديري إرادة عذرة غير المأكول منه وعدم إرادته ، ومرجعه إلى القطع بعدم إرادة عذرة غير المأكول بدون إرادة عذرة المأكول.

وقضيّة طرح ظاهر كلّ بنصّ الآخر تخصيص الأوّل بعذرة غير المأكول وتخصيص الثاني بعذرة المأكول.

أقول : وهذا أيضا عند التحقيق وفي النظر الدقيق غير سديد ، لأنّ القطع بدلالة العامّ في

ص: 591

الجملة الّذي هو مناط النصوصيّة مع ظنّية سنده غير معقول.

ومع الغضّ عن ذلك أنّ النصوصيّة المفروضة هنا ليست من جوهر اللفظ كما في قوله : « لا تكرم زيدا العالم » بالقياس إلى « أكرم العلماء » وكما في « أكرم العلماء » بالإضافة إلى « إكرام عالم مّا » ، بل إنّما هي باعتبار الخارج من أولويّة أو إجماع أو نحو ذلك ، فالقطع الّذي هو مناطها معلّق على تقدير لم يقطع معه بوقوع المقدّر فيكون القطع المفروض تقديريّا لا فعليّا ، لتكثّر الاحتمالات في التأويل الّتي منها : كون مورد الروايتين مطلق العذرة من مأكول اللحم وغيره مع كون الاختلاف بينهما بالسحتّية وجواز البيع باعتبار اشتمالها على غرض عقلائي ومنفعة محلّلة مقصودة للعقلاء وعدمه.

ومنها : كون موردهما عذرة الإنسان بالخصوص كما هو مقتضى ظاهر « العذرة » أيضا ، وكان الاختلاف بينها باعتبار ما قصد ببيعه فائدة تسميد الزرع مثلا وما لم يقصد به هذه الفائدة.

ومنها : كون موردهما عذرة غير المأكول خاصّة مع اختصاص الاولى بعذرة غير الإنسان والثانية بعذرته لما فيها من فائدة التسميد المجوّزة لبيعها دون غيرها ، إلى غير ذلك من الاحتمالات.

ولا ريب أنّ القطع التقديري ممّا لا تأثير له في نصوصيّة الخطاب.

هذا كلّه في أولويّة الجمع مع إمكانه وعدمها في الدليلين المتعارضين.

عدم أولويّة الجمع في تعارض البيّنات

وأمّا لو وقع التعارض بين البيّنتين وغيرهما من الأمارات المعمولة في الموضوعات الخارجيّة ، فهل يجمع بينهما ، ويكون الجمع بينهما أولى من الطرح كما قيل في الدليلين أو لا؟ ففيه إشكال بل منع ، وإن قلنا بالأولويّة في الدليلين.

ولكن ينبغي أن يعلم أنّ ليس المراد بالجمع هنا ما تقدّم في الدليلين - من تأويلهما معا وصرفهما عن ظاهريهما إلى احتمال خلاف الظاهر ولو بعيدا ، إذ التأويل هنا على معنى حمل كلّ من البيّنتين على إرادة خلاف ظاهرها غير معقول - ولا الجمع المتداول عند جماعة في مسألة تعارض الجرح والتعديل وهو تصديق ما لا يستلزم منهما تكذيب الآخر ، ولذا قدّموا قول الجارح تعليلا بأنّه لا يلزم منه تكذيب العدل ، ففي الحقيقة لا تعارض بينهما لأنّ مرجع الاختلاف بينهما إلى دعوى « أدري » و « لا أدري ».

وبعبارة اخرى : أنّ الجارح إنّما يجرح بدعوى العلم بصدور موجب الفسق ، والمعدّل

ص: 592

يعدّل بدعوى عدم العلم بصدور موجب الفسق ، ومن الظاهر عدم التعارض بينهما ، وإطلاق هذا التعليل كإطلاق تقديم قول الجارح وإن كان عندنا عليلا - كما حقّقناه وفصّلناه في محلّه - غير أنّ المقصود هنا بيان عدم جريان الجمع بهذا المعنى في مسألة تعارض البيّنتين لكون تصديق كلّ منهما تكذيبا للاخرى.

والسرّ فيه : أنّ كلاّ منهما إخبار بالحقّ عن علم.

بل المراد به الأخذ بكلّ منهما في نصف المدّعى به ، فلو قامت بيّنتان عند التداعي في عين شخصيّة يجمع بينهما بإعطاء نصف تلك العين أحد المتداعيين عملا ببيّنته في الجملة والنصف الآخر المتداعي الآخر عملا ببيّنته أيضا في الجملة ، ومثله ما لو اختلف مقوّمان في تقويم عين معيّنة ، فقال أحدهما : بأنّ قيمتها عشرة ، والآخر : أنّها إثنا عشر ، فيجمع بينهما بأخذ نصف كلّ منهما فيحكم بأنّ قيمة العين أحد عشر ، لأنّه مجموع النصفين من المجموعين ، فهل الجمع بهذا المعنى أولى هنا من طرح إحداهما بالكلّية والأخذ بالاخرى كذلك تخييرا أو لا؟

والّذي يظهر من ثاني الشهيدين في تمهيد القواعد هو الأولويّة ، بل جعل التنصيف الّذي يحكم به الحاكم في تعارض البيّنتين من فروع أولويّة الجمع بين الدليلين وثمراته ، وهذا بظاهره مشكل بل لا وجه له ، لعدم إمكان الجمع بحيث يجدي في ارتفاع التعارض ، إذ المانع من الأخذ بنصف مقتضى كلّ منهما بعينه مانع من الأخذ بالنصف الآخر من كلّ منهما ، ضرورة أنّه لا مانع في المقام من العمل بهما معا في النصف الساقط إلاّ المعارضة ، وهي كما أنّها موجودة بالنسبة إلى أحد النصفين فكذلك موجودة بالنسبة إلى النصف الآخر ، لوضوح أنّ كلاّ منهما تقتضي ثبوت تمام الحقّ لصاحبها ، والمقتضي لثبوت تمام الحقّ يقتضي ثبوت بعض الحقّ أيضا ، فيقع التعارض بينهما في كلّ من النصفين ، وطرح النصف عن مقتضى كلّ منهما لا يقضي بعدم المعارضة بينهما بل هي بعد باقية على حالها ، وجعلها مانعة في البعض دون غيره كما ترى.

وبالجملة مآل الجمع بهذا المعنى إلى الأخذ بكلّ منهما في الجملة وطرح كلّ منهما في الجملة ، ونحن نقول : إنّه ليس بأولى من طرح إحداهما بالكلّية والأخذ بالاخرى بالكلّية ، وليس لأحد أن يجعل الأوّل أرجح بالنظر إلى دلالة ما دلّ على وجوب العمل بالأمارات والبيّنات ، لأنّه كما أنّ الأوّل موافقة لتلك الأدلّة بالعمل بالبعض في الكلّ فكذلك الثاني أيضا

ص: 593

موافقة لها بالعمل بالكلّ في البعض ، ولا يعقل للأوّل رجحان على الثاني لاشتمال كلّ على عمل في الجملة ومخالفة في الجملة.

غاية الفرق بينهما حصول العمل والمخالفة في بعض الكلّ وكلّ البعض ، وكون ذلك موجبا لرجحان أحدهما على الآخر غير معقول ، وليس مبنى بناء الأصحاب في عنوان هذه المسألة على التنصيف من غير خلاف يعرف بينهم على كون ذلك جمعا بل الحكم إجماعي ظاهرا ، ولعلّ النكتة فيه أنّ المخالفة القطعيّة في الجملة مع الموافقة القطعيّة كذلك أولى من المخالفة والموافقة الاحتماليّتين في نظائر المقام.

وتوضيح ذلك : إنّ إعمال البيّنة ونحوها من الأمارات إنّما هو لأجل إثبات حقّ من حقوق الآدميّين ، والعمل بالبيّنات لإثبات الحقوق والأموال ليس كالعمل بالأدلّة لإثبات الأحكام والتكاليف ، فإنّ المخالفة القطعيّة في الأحكام والتكاليف - على ما حقّق في محلّه - غير جائزة ، فلو اجتمع الواجب والحرام واشتبها كالإنائين المشتبهين مثلا إذا وجب استعمال أحدهما وحرم استعمال الآخر فلا يجوز القول باستعمال كليهما ولا بترك استعمال كليهما لاستلزام كلّ منهما مخالفة قطعيّة ، أمّا الأوّل فلاستلزامه ارتكاب المحرّم بعنوان القطع ، وأمّا الثاني فلاستلزامه ترك الواجب بعنوان القطع ، وإن استلزم كلّ منهما القطع بالموافقة من جهة فعل الواجب في الأوّل وترك الحرام في الثاني ، بل في نحو ذلك لابدّ من استعمال أحدهما وترك الآخر بحكم القوّة العاقلة بأولويّة المخالفة والموافقة الاحتماليّتين بالقياس إلى المخالفة والموافقة القطعيّتين ، بخلاف المقام الّذي هو من الحقوق فإنّ القطع بإثبات نصف الحقّ لصاحبه مع إبطال نصفه الآخر أولى من احتمال إثبات تمام الحقّ مع احتمال إبطال تمام حقّه ، وذلك لبناء العرف واستقرار طريقة الشارع عليه ، ولذا ترى الناس في الخصومات والمنازعات لا يزالون يبادر أذهانهم إلى الإصلاح بين المتنازعين ويحملونها مهما أمكن على الصلح ، بل صار أولويّة ذلك ورجحانه عندهم من سجاياهم ، وقد ورد في الروايات أيضا ما يقضي بذلك ونطق به الكتاب العزيز أيضا.

فصار محصّل الكلام : أنّ بناء الناس في تعارض البيّنات ونحوها على عكس بنائهم في الأدلّة المتعارضة ، لبنائهم ثمّة على الجمع بين الحقوق.

ويؤيّده الاعتبار أيضا من حيث إنّ التنصيف والأخذ بكلّ منهما في البعض تسوية وهي لا تقتضي داعيا إلاّ رفع الخصومة وقطع المنازعة ، بخلاف الأخذ بإحداهما وطرح

ص: 594

الاخرى فإنّه ربّما يتبع الدواعي النفسانيّة من الميل والبغض وغيرهما ممّا لا تنضبط ، والدواعي من الارتشاء ولذا يسأل الحاكم ويؤاخذ وربّما يتّهم ، فالتسوية ممّا ينقطع به الخصومة وينسدّ به باب المنازعة ويتحفّظ به الحاكم عن التهمة ، فالحكمة الإلهيّة تقتضي جعله التنصيف والعمل بكلّ في البعض ميزانا للعمل بالبيّنات في موضوع التعارض.

ثمّ إنّ هذا كلّه في منع أولويّة الجمع ، ولمّا كان ذلك بمجرّده لا يلازم أولويّة الطرح اللازم من التخيير فينبغي التكلّم في ذلك.

وليعلم أوّلا : أنّ الدليلين الظنّيين - كما هو موضوع المسألة - ليسا كالقطعيّين ، فإنّ قطعيّة سند الدليل تأبى عن طرحه ، فإن كان دلالتاهما ظنّية وانحصر طريق الجمع بينهما في تأويل بعيد فيهما وتنزيل كلّ منهما على احتمال لا يساعد عليه فهم العرف ولم يشهد له شاهد خارجي فالحكم ما أشرنا إليه سابقا من أنّه لا مناص فيهما من التوقّف والرجوع إلى الأصل ، وأمّا مع نصوصيّة دلالتيهما فإمّا أن يكون المورد ممّا يجوز فيه النسخ ولا يجري فيه التقيّة كما لو كانا من الكتاب أو من الأخبار النبويّة فلا مناص فيهما من التزام النسخ بجعل أحدهما ناسخا والآخر منسوخا ، ولابدّ في تميز الناسخ من المنسوخ معرفة التاريخ ، أو يكون ممّا يجوز فيه التقيّة ولا يجري فيه النسخ كما لو كانا من الأخبار الإماميّة فلا مناص من التزام جهة التقيّة في صدورهما ، وإن لم يقصد بها العمل ولا إظهار الموافقة في المذهب بل مجرّد إلقاء الخلاف بين الشيعة على ما ورد في الروايات مع إشكال فيه يأتي وجهه في بحث المرجّحات.

بخلاف ما لو كانا ظنّيين سندا فإنّ احتمال النسخ لا يجري فيهما وإن كانا من الأخبار النبويّة ، لعدم جواز النسخ بخبر الواحد ، واحتمال التقيّة يندفع بالأصل ، وحينئذ فإذا لم يكن الجمع بالمعنى المتقدّم أولى فقد يقال بأولويّة الطرح تمسّكا ببناء العرف ، فإنّ أوّل ما يلاحظه العرف عند سماع الخبر إنّما هو الدلالة والمضمون ، فإذا عارضه مثله كما في « أكرم زيدا » و « لا تكرم زيدا » يبقى متردّدا ومتحيّرا ويشاهد نفسه عاجزا من العمل بهما معا لانتقاله إلى عدم إمكانه فيختار أحدهما للعمل ويطرح الآخر من جهة تفطّنه بكون أدلّة الحجّية والاعتبار مقيّدة بالإمكان ولا ممكن إلاّ هذا ، وذلك عندنا ليس بسديد ، لأنّه لو لم ندّع كون بناء العرف في نحو ذلك من جهة التحيّر الناشئ من التعارض على التوقّف والعمل بالأصل إلى أن يتبيّن المخرج منه فلا أقلّ من منع كون بنائهم على التخيير.

ص: 595

فتحقيق المقام : أنّ ما لا يصحّ الجمع بينهما من المتعارضين مع ما لا يمكن الجمع بينهما مندرجان في عنواني المقامين الآتيين وهما التعادل والترجيح ، فيعلم حكمهما من البحث في المقامين.

المقام الثاني في التعادل

اشارة

المقام الثاني

فيما لو تعارض الدليلان أو الأمارتان وتكافئا من جهة المرجّحات المعتبرة ويعبّر عنه بالتعادل.

والكلام فيه تارة في الصغرى واخرى في الكبرى.

أمّا الأوّل : فاختلفوا في جواز تعادل الأمارتين على معنى خلوّهما عن المرجّح كما عليه الأكثر وهو المعتمد ، ونفاه بعضهم كما عن الكرخي وأحمد بن حنبل ، وعزاه في التهذيب إلى قوم ، وعن غاية المبادئ أنّهم التزموا بأنّه لابدّ من ثبوت مرجّح لأحد المتعارضين وإن خفي على المجتهد مسلكه.

لنا : أنّه لا مانع منه عقلا ولا شرعا ، أمّا الأوّل : فلأنّ العقل لا يأبى ذلك ، وقرّره في المنية : « بأنّه لا يمتنع أن يخبرنا رجلان متساويان في العدالة والثقة ، واحتمال الصدق بحكمين متنافيين والعلم بذلك ضروريّ » انتهى.

وما اعتمد عليه المانع من المنع العقلي غير صالح للمانعيّة.

وأمّا الثاني : فلأنّه ليس في الأدلّة الشرعيّة وقواعد الشرع ما يقضي بالمنع ، بل فيها ما يدلّ على خلاف ذلك كالأخبار الآمرة - من الأخبار العلاجيّة - بالتخيير في الخبرين المتعارضين ، لوضوح أنّه لا يصحّ إلاّ إذا تكافئا وتساويا من جهة المرجّحات.

احتجّ المانعون : بأنّه لو وقع التعادل بين الأمارتين المتعارضتين فالعمل بهما محال لأدائه إلى اجتماع حكمين متنافيين في موضوع واحد ، وتركهما معا يقتضي العبث بوضعهما ، إذ وضع أمارة لا يمكن العمل بها عبث وهو أيضا محال ، والعمل بإحداهما دون الاخرى ترجيح بلا مرّجح وهو أيضا محال.

وربّما عزى إليهم القول بجوازه عقلا وعدم وقوعه شرعا ، وقرّر ذلك دليلا على عدم الوقوع.

وأيّا ما كان فهو باطل لإمكان اختيار الشقّ الثاني ومنع الملازمة ، لعدم اختصاص وضع الشارع بالأمارتين المتعارضتين ، فبترك العمل بهما معا لمانع التعارض لا يلزم خروج

ص: 596

الوضع المتعلّق بنوع الأمارة من دون نظر إلى خصوصيّاتها عبثا ، كما في جعل الحكم التكليفي المعلّق على العامّ كقوله : « أكرم العلماء » إذا اتّفق التنافي بين فردين منه.

مقتضى الأصل في المتعادلين

هذا مع جواز اختيار الشقّ الأخير ومنع الملازمة أيضا ، ويعلم وجهه بمراجعة ما حقّقناه في مسألة التحسين والتقبيح العقليّين عند الكلام في قاعدة استحالة الترجيح من غير مرجّح ، وقد بيّنّا ثمّة أنّ الترجيح في عنوان هذه القاعدة عبارة عن اختيار أحد طرفي الممكن ، والمرجّح عبارة عمّا يوجب رجحانه في نظر الفاعل المختار عقلائيّا كان أو فاعليّا ، وعدم المرجّح فيه عبارة عن انتفاء المرجّح بقسميه ، وإنّما يكون الترجيح حينئذ مستحيلا لمدخليّة المرجّح في تحقّق المقدّمة الأخيرة من مقدّمات وقوع أحد طرفي الممكن من فعل شيء وتركه أو من فعل أحد أشياء على البدل وترك الجميع وهي الإرادة بمعنى الجزم بالإيقاع ، لاستحالة وجود الشيء مع انتفاء مقدّمة وجوده كاستحالة أن يختار الفاعل المختار أحدهما ما دام متردّدا بينهما ، فلابدّ في الترجيح من زوال التردّد بمراعاة مرجّح عقلائي أو فاعلي أوجب رجحان أحد الطرفين المستتبع للجزم بإيقاعه ، فالتردّد إن كان في أشياء بين فعل أحدها على البدل وترك الجميع لابدّ فيه من مرجّح أوجب رجحان أحدها على وجه يستتبع الجزم بإيقاعه ، ولو فرض تحقّقه في جانب فعل أحدها كفى في اختيار بعض معيّن منها ، لأنّه حينئذ ليس من الترجيح حال التردّد ويكفي فيه الرجحان المشترك على البدل ، لوضوح أنّه في مقابلة ترك الجميع ترجيح مع المرجّح ، وهو في مقابلة اختيار المعادل لا تردّد بينهما ليستدعي اعتبار مرجّح آخر.

ولا ريب أنّ أدلّة حجّية الأمارة بنوعها مع انضمام استحالة العمل بالمتعارضين من أفرادها تصلح مرجّحة لأحدهما على البدل في مقابلة تركهما معا ، فتعيين إحداهما للعمل به واختياره دون الاخرى ليس من الترجيح بلا مرجّح ليكون مستحيلا ، فليتدبّر.

وأمّا الثاني : فاختلفوا في أنّ الدليلين المتعارضين إذا تعادلا بعد عدم إمكان الجمع بينهما فهل الأصل فيهما التساقط - على معنى خروجهما عن الحجّية فيتساقطان فيرجع في الواقعة إلى الأصل الجاري فيها - أو لا؟ وعلى الثاني فهل الأصل فيهما التخيير على معنى وجوب العمل بأحدهما على البدل وطرح الآخر أو لا؟ فلابدّ من التوقّف والرجوع إلى الأصل ، وجوه بل أقوال.

فقد يقال : بأنّ الأصل فيهما التساقط ، لأنّ الأصل الأوّلي في كلّ دليل غير علمي عدم

ص: 597

الحجّية ، إذ الحجّية الّتي يتولّد منها وجوب العمل أو وجوب العمل الّذي ينتزع منها الحجّية أمر حادث منوط حدوثه بوضع الشارع وجعله والأصل عدمه ، وليس هنا من جهة الحجّية أصل ثانوي يكون بالقياس إلى المتعارضين واردا على الأصل الأوّلي رافعا لموضوعه ، لعدم تناول مادلّ على حجّية الأدلّة الغير العلميّة للمتعارضين ، لأنّه إن كان لبّيّا كالإجماع على تقدير ثبوته فهو أمر معنوي وقضيّة معقولة ليس فيه عموم ولا إطلاق لفظي ، وشموله للمتعارضين غير معلوم ، فيجب الاقتصار فيه على القدر المتيقّن وليس إلاّ ما لا معارض له ، وإن كان لفظيّا من إجماع منقول أو آية أو رواية فدلالتها إنّما هي بالإطلاق وينصرف إلى ما لا معارض له من الأفراد لأنّه الظاهر الحاضر في الأذهان.

وأيضا فإنّه لو كان متناولا للمتعارضين فإمّا أن يدلّ على وجوب العمل بكلّ منهما على التعيين ، أو على وجوب العمل بكلّ منهما على التخيير ، أو على وجوب العمل بهما معا فيما إذا كان بينهما قدر مشترك كان الأخذ به عملا بهما معا ، كرجحان الفعل أو عدم الإباحة بالمعنى الأخصّ في خبرين كان تعارضهما في الوجوب والاستحباب ، والكلّ باطل.

أمّا الأوّل : فلامتناع العمل على الوجه المذكور.

وأمّا الثاني : فللزومه استعمال اللفظ في الوجوب العيني بالنسبة إلى ما لا معارض له والوجوب التخييري بالنسبة إلى المتعارضين وهو غير جائز.

وأمّا الثالث : فلكون كلّ نافيا لما أثبته الآخر وعدم وجود قدر مشترك بين مدلوليهما ليكون الأخذ به عملا بهما.

وتوهّم كون رجحان الفعل أو نفي الإباحة قدرا مشتركا بينهما.

يدفعه : أنّ القدر المشترك الّذي يكون الأخذ به عملا بهما معا هو ما اتّفقا عليه لا القدر المشترك الانتزاعي الّذي يعتبره العقل بإلقاء الخصوصيّتين ، وما ذكر ليس من القدر المشترك المتّفق عليه بأن يكون ممّا اتّفقا في الدلالة عليه ، لكونه في كلّ بمنزلة الجنس من مدلوله ، فيكون في كلّ متفصّلا بما فيه من الفصل.

ولا ريب أنّ الجنس المتفصّل في أحدهما بفصله مع الجنس المتفصّل في الآخر بفصله باعتبار الخارج متغايران ، لوضوح أنّ اختلافهما في الفصل يوجب تغايرهما في الجنس من حيث الخارج ، وما يتراءى من كونه متّحدا فيهما إنّما هو باعتبار الذهن بعد إلقاء الخصوصيّتين ، وهذا ليس بعين الجنس الموجود فيهما باعتبار الخارج ، وذلك نظير ما لو

ص: 598

أخبرنا مخبر بمجيء الإنسان وأخبرنا آخر بمجيء الحمار من حيث إنّهما لم يتّفقا في الدلالة على أمر مشترك بينهما ، والحيوان المتفصّل بالناطقيّة مغائر بحسب الخارج للحيوان المتفصّل بالناهقيّة ولهما وجودان متغايران.

نعم إذا ألقى عن كلّ منهما الخصوصيّة الحاصلة من الفصل يبقى الحيوان المطلق ويعبّر عنه بالقدر المشترك ، غير أنّه قدر مشترك انتزاعي لا أنّه من الأمر المشترك المتّفق عليه بينهما ، فلا يكون الأخذ به عملا بهما معا ، بل هو عند التحقيق ترك للعمل بهما معا ، ولذا يعتبر في الخبر المتواتر المعنوي الّذي يفيد العلم بالقدر المشترك أن يكون ذلك القدر المشترك ممّا اتّفقت الأخبار في الدلالة عليه بحيث لم يكن اختلافها في الخصوصيّات المستفادة منها آئلا إلى الاختلاف في ذلك القدر المشترك ، كما لو اتّفقت الأخبار في تعيين الميّت الّذي اتّفقت على موته أو في تعيين الواقعة الّتي اتّفقت على وقوعها ، بأن يخبرنا أحد بأنّ الّذي مات زيد وآخر بأنّه عمرو وثالث بأنّه بكر ورابع بأنّه خالد وهكذا ، أو أخبرنا الأوّل بأنّ الواقعة الّتي وقعت في الخارج موت زيد والثاني بأنّها قدوم عمرو من السفر والثالث بأنّها خروج بكر إلى السفر والرابع بأنّها قيام خالد وهكذا ، فإنّه في نحو ذلك يحصل العلم بملاحظة كثرة المخبرين بحدوث موت في الخارج ووقوع واقعة في العالم ، بخلاف ما لو اختلفت الأخبار في الخصوصيّات على وجه يؤول إلى اختلافها في القدر المشترك ، كما لو أخبرنا أحد بأنّه مات زيد وآخر بأنّه مات عمرو وثالث بأنّه مات بكر ورابع بأنّه مات خالد وهكذا ، أو أخبرنا الأوّل بموت زيد والثاني بقدوم عمرو من السفر والثالث بخروج بكر إلى السفر والرابع بقيام عمرو وهكذا ، فإنّه لا يحصل في الأوّل بملاحظة كثرة المخبرين العلم بتحقّق موت في الخارج ، ولا في الثاني العلم بوقوع واقعة في العالم وإن بلغت في الكثرة إلى ما بلغت.

ولا ريب أنّ الخبرين المتعارضين أو غيرهما من الدليلين المتعارضين من هذا الباب لا من قبيل الأوّل ، لوضوح كون اختلافهما في الفصل اختلافا في الجنس المتفصّل بذلك الفصل ، فالدالّ منهما على الوجوب ناف لرجحان الفعل أو عدم الإباحة الّذي هو في ضمن الاستحباب ، كما أنّ الدالّ منهما على الاستحباب ينفي الرجحان أو عدم الإباحة الّذي هو في ضمن الوجوب ، فليسا واردين بالرجحان المطلق ولا عدم الإباحة المطلق ليكون من القدر المشترك المتّفق عليه.

ص: 599

وبالجملة اتّفاق المتعارضين على الجنس مع فرض اختلافهما في الفصل غير معقول ، لكون كلّ نافيا للجنس المتفصّل بما ينفيه من مدلول الآخر من الفصل.

والجواب عن ذلك أوّلا على سبيل الإجمال وهو : أنّ إنكار تناول أدلّة الحجّية للمتعارضين سدّ لباب التكلّم والبحث في باب تعارض الدليلين بجميع أنحائه ، لوضوح أنّ دليليّة الدليل الغير العلمي منوطة بالحجّيّة ، فما ليس بحجّة ليس بدليل ، ومعه لا يعقل التعارض ، وعليه فتعارض الدليلين عنوان لا خارج له أصلا وموضوع لا مصداق له أبدا وهو كما ترى ، على أنّ الكلام في مقام التعادل ليس للإشكال في مقتضي الحجّيّة حتّى يمنع وجوده إلاّ في القدر المتيقّن ، بل للإشكال في علاج منع المانع من العمل بكلا المتعارضين وهو التعارض ، وهذا لا يستقيم إلاّ بعد الفراغ عن إحراز الحجّية الذاتيّة فيهما معا ، ولا يتمّ إلاّ بعد نهوض الأدلّة بها فيهما وتناولها لهما سواء كانت لبّيّة أو لفظيّة ، ومعه فجعل الأصل فيهما مع التعادل التساقط استنادا إلى منع تناول دليل الحجّية لهما كما ترى.

وثانيا : بمنع عدم تناول أدلّة الحجّية للمتعارضين ، بدعوى تناولها لمحلّ التعارض وإن كان على وجه التعادل ، سواء فرضناه لبّيّا - كالإجماع على فرض تحقّقه في الأدلّة الغير العلميّة ، بناء على عدم قدح ما عليه السيّد المرتضى وأضرابه من القدماء من القول بعدم حجّية أخبار الآحاد الغير المحفوف بقرائن العلم في انعقاده - أو لفظيّا.

أمّا الأوّل : فلأنّ الاسترابة في تناول الإجماع إن كان لوجود القول بالخلاف وهو القول بالتساقط في عنوان التعادل.

ففيه : أوّلا منع وجود هذا القول بين أصحابنا بل هو لبعض العامّة على ما حكي كما في المفاتيح ، وأشار إليه المصنّف رحمه اللّه حيث قال : « لا نعرف في ذلك من الأصحاب مخالفا وعليه أكثر أهل الخلاف ».

وثانيا : منع كون مبنى التساقط على عدم الحجّية الذاتيّة ، وعدم استلزام القول به إنكار الحجّية من أصلها ليستند في ذلك إلى عدم تناول الإجماع لمحلّ التعارض ، بل القول به إنّما هو بعد الفراغ عن الحجّية الذاتيّة ، كما يرشد إليه اختلافهم في عنوان « التعادل » الّذي هو من لواحق التعارض وافتراقهم فرقا ثلاث أحدها : أهل القول بالتساقط ، ولذا استدلّ أهل القول بالتخيير الّذي عليه الأكثر بأنّهما دليلان تعارضا ولا يمكن العمل بهما معا ، ولا بأحدهما بالخصوص دون الآخر ولا إسقاطهما فوجب التخيير ، وعلّل بطلان الأخير

ص: 600

بأنّ إسقاطهما موجب لإسقاط ما ثبت من الشرع اعتباره ، بل التساقط بنفس مفهومه يقتضي الحجّية الذاتيّة لظهوره في استناد سقوط كلا المتعارضين عن درجة الاعتبار في مقام العمل وعدم العمل بهما معا إلى وجود المانع - وهو التعارض - لا إلى فقد المقتضي وهو الحجّية الذاتيّة.

وإن كان لتوهّم طروّ الإجمال لمعقد الإجماع (1) ، كما هو ظاهر البيان المتقدّم لمنع تناول الإجماع.

ففيه : منع الإجمال من حيث الكمّيّة وهو عموم الحجّية الذاتيّة لكلّ دليل غير علمي من غير نظر إلى حالة [ التعارض ] وعدمها ، لأنّ المحرز للمقتضي إنّما يحرزه لا بشرط وجود المانع وفقده.

ولقد عرفت أنّ نفس الاختلاف في عنوان « التعادل » دليل على عموم الحجّية للمتعارضين.

نعم فيه إجمال من حيث كيفيّة العمل في المتعارضين حيث لا تعرّض في الإجماع لبيانها ، بل لابدّ من استفادته من الأدلّة الخارجيّة من العقل فقط أو الشرع كذلك أو العقل والشرع معا ، وهذا لا يستلزم الإجمال من حيث الكمّيّة كما في الإجماع المنعقد على وجوب الصلاة المتناول لجميع آحاد المكلّفين مع إجمال معقده من حيث الكيفيّة المختلفة على حسب اختلاف حالات المكلّف من حيث الحضر والسفر والصحّة والمرض والقدرة والعجز وغيرها.

وأمّا الثاني : فلأنّ ما لا معارض له في الأدلّة الغير العلميّة في غاية الندرة ، إذ قلّما يوجد فيها ما لا معارض له أصلا.

فدعوى انصراف الإطلاق في أدلّة الحجّية إليه من غرائب الكلام ، بل لو كان هناك انصراف لوجب الإذعان بكونه في جانب ما له معارض لغلبته ، بضابطة أنّ المطلق ينصرف إلى مورد الغالب ، ودعوى أنّ الحاضر في الأذهان هو ما لا معارض له ممنوعة على مدّعيها ، بل الإنصاف ومجانبة الاعتساف يقتضي منع الانصراف رأسا بالنسبة إلى كلا الجانبين ، بتقريب : أنّ الحاضر في الأذهان في لحاظ مطلقات الأدلّة اللفظيّة ليس إلاّ ذات الدليل الغير العلمي أعني خبر الواحد مثلا بعنوان أنّه خبر لا بوصف المعارضة ولا بوصف عدم المعارضة ، والتعارض إنّما يلتفت إليه في لحاظ العمل بعد الفراغ عن إحراز المقتضي لجوازه بل

ص: 601


1- عطف على قوله : « فلأنّ الاسترابة في تناول الإجماع إن كان لوجود القول بالخلاف الخ ».

وجوبه لا في لحاظ إحراز المقتضي.

وأمّا الوجه الثاني في منع تناول الأدلّة اللفظيّة المشتمل على الترديد.

ففيه : إنّا نختار الشقّ الأوّل وهو الدلالة على وجوب العمل بكلّ منهما بعينه.

وإبطاله بدعوى امتناع العمل على الوجه المذكور.

يدفعه : وضوح إمكان العمل بكلّ واحد بانفراده مع قطع النظر من الآخر ولا بشرط انضمام العمل بالآخر إليه ولا عدم انضمامه إليه ، والامتناع إنّما ينشأ من فرض انضمام أحدهما إلى الآخر والجمع بينهما في العمل ، وهذا لا ينافي إمكان العمل بكلّ منهما بعينه بانفراده إذا لاحظ لا بشرط من الانضمام والجمع بينهما وعدمه.

غاية الأمر أنّ العقل المستقلّ إذا لاحظ امتناع الجمع بينهما في العمل يحكم بالتخيير بينهما ووجوب العمل بأحدهما على التخيير البدوي ، لأنّه ممكن وهو في الحقيقة عمل به بعينه ولازمه بعد الاختيار طرح غير المختار ، ولا ضير فيه بالنظر إلى الأدلّة الحجّية ولا يستتبع محذورا ، لأنّه لا يوجب تصرّفا فيها بتخصيص ولا تقييد ولا استعمالا لها في المعنيين ، لأنّ المنساق منها بحسب دلالة اللفظ وفي إرادة اللافظ ليس إلاّ الوجوب العيني بالقياس إلى كلّ من المتعارضين ، والتخيير المذكور إن صحّحناه مطلقا ليس من التخيير الشرعي المقصود من اللفظ أصالة ، بل هو تخيير عقلي يثبت بحكم العقل من باب دلالة الإشارة.

والأصل فيما ذكرناه - من إمكان العمل بكلّ منهما بعينه إذا أخذ لا بشرط شيء - إنّ أفراد العامّ متساوي الأقدام بالنظر إلى دلالته ، فالحكم المعلّق عليه يثبت لكلّ واحد بالاستقلال لا بشرط انضمام كلّ واحد إلى الآخر في العمل ولا بشرط عدم انضمامه إليه ، فإذا اتّفق من جهة السوانح الخارجيّة تناف بين فرديه بحيث أوجب امتناع الجمع بينهما في الامتثال لم يناف ذلك إمكان الامتثال في كلّ بعينه إذا اخذ لا بشرط شيء ، فإذا حكم العقل حينئذ بالتخيير في الامتثال الموجب بعد اختيار أحدهما لترك الامتثال في الآخر حال الامتثال في الأوّل لتعذّره في هذه الحالة لم يكن ذلك خروجا عن مقتضى العامّ ، ولا طرحا لدلالته بالقياس إلى الفرد المذكور ، لعدم رجوعه إلى نفي المقتضي لوجوب الامتثال فيه ، بل لاستناده إلى وجود المانع من امتثاله.

وإن شئت فاستوضح ذلك بملاحظة قول الشارع : « أطع والديك » المفيد لوجوب إطاعة كلّ من الوالد والوالدة بعينه ، مع كون إطاعة كلّ منهما بانفراده ومع قطع النظر عن إطاعة

ص: 602

الآخر ممكنة ، فإذا اتّفق التنافي في مورد بين أمريهما أوجب ذلك امتناع الجمع بين إطاعتيهما لا امتناع إطاعة كلّ منهما بانفراده.

نعم ربّما يقع الكلام في محلّ البحث في أنّ المانع الّذي يستند إليه المنع وترك العمل بأحد المتعارضين هل هو وجود المتعارض الآخر - نظير الدليل الاجتهادي في مقابلة الظنّ الاستصحابي عند من يرى العمل به من باب الظنّ النوعي أو الشخصي - أو وجوب العمل به ، أو نفس العمل به ، أو التعارض الواقع بينهما؟ احتمالات.

ولكن الأوفق بالاعتبار الأقرب إلى الذوق هو الإذعان بثاني الاحتمالات ، لأنّ المانع في اصطلاح القوم عبارة عمّا يكون مؤثّرا في العدم علّة فيه ، ولا ينطبق ذلك حسبما يدرك بالوجدان إلاّ على العمل لا وجوبه ، وأردأ الاحتمالات هو الاحتمال الأوّل ، لوضوح عدم كون المتعارضين كالظنّ الاستصحابي والدليل الاجتهادي المقابل له ، ليكون الأوّل في اعتباره معلّقا على عدم الثاني فيكون وجوب الثاني مانعا من العمل به.

نعم ربّما أمكن القول باستناد ترك العمل بأحدهما حال العمل بالآخر إلى فقد الشرط وهو القدرة والإمكان لا إلى وجود المانع ، بل جعل ترك العمل بأحدهما من آثار العمل بالآخر ، ونسبة المنع إليه لا يخلو عن مسامحة ، لأنّ العمل بالآخر إنّما يلازم ترك العمل بأحدهما بواسطة امتناع العمل بأحدهما حال العمل بالآخر الّذي مرجعه إلى امتناع الجمع بينهما في العمل.

وقضيّة ذلك استناد الترك إلى فقد الشرط لا إلى وجود المانع ، ومن ذلك ربّما يسبق إلى الوهم لزوم الخروج عن مقتضى أدلّة الحجّية في أحد المتعارضين.

غاية الأمر كونه على وجه التخصّص لا التخصيص ، فيتّجه قول القائل بعدم تناول أدلّة الحجّية للمتعارضين في الجملة ، لأنّ الوجوب المستفاد منها من حيث كونه تكليفا مقيّد بالقدرة والإمكان ، فمفادها في محصّل المعنى هو : أنّه يجب أن يعمل بكلّ ما أمكن العمل به من الأدلّة الغير العلميّة.

ولا ريب أنّه يخرج عن هذا الموضوع ما لا يمكن العمل به ، ومنه أحد المتعارضين حال العمل بصاحبه فلا يشمله حكم العامّ.

ولكنّه يندفع : بمنع انتفاء الشرط عن كلّ واحد بعينه إذا أخذ بانفراده ومع قطع النظر عن الآخر ، لإمكان العمل بكلّ واحد بعينه إذا أخذ على هذا الوجه حسبما بيّنّاه سابقا ،

ص: 603

وأدلّة الحجّية أيضا إنّما دلّت على وجوب العمل بكلّ واحد لا بشرط انضمام العمل بالآخر ولا بشرط عدمه ، والامتناع إنّما ينشأ من فرض الانضمام لا مطلقا.

وقضيّة ذلك سقوط الوجوب عن العمل بأحدهما لطروّ الامتناع له بعد ثبوته ، لا عدم ثبوت الوجوب له رأسا ، فلا يلزم خروج من مقتضى أدلّة الحجّية بالنسبة إلى شيء من المتعارضين لا بعنوان التخصيص ولا بعنوان التخصّص.

وبالجملة خروج الفرد عن العامّ بالتخصيص أو التخصّص دفع لحكم العامّ عن الفرد ومنع لثبوته له ابتداء ، وسقوطه عن الفرد بعد ثبوته لطروّ الامتناع رفع له وهو فرع اندراجه تحته وشموله له ، نظير من وجب عليه الصلاة أوّل الوقت لاجتماعه شرائط الاختيار ثمّ طرأه في أثناء الوقت عذرا أوجب سقوط الوجوب عنه.

فظهر من جميع ما قرّرناه أنّ القول بأنّ الأصل في المتعارضين خروجهما عن الحجّية من جهة عدم تناول أدلّة الحجّية ليتفرّع عليه القول بأنّ الأصل في عنوان « التعادل » التساقط بإطلاقه ليس بسديد.

نعم ربّما يتّجه ذلك فيما كان من الأدلّة الغير العلميّة حجّيته منوطة بالظنّ الشخصي كالشهرة والأولويّة الظنّية بل خبر الواحد والإجماع المنقول إن قلنا بالحجّية فيهما من باب الظنّ المطلق استنادا إلى دليل الانسداد ، أو غيره ممّا يفيد إناطة الحجّية بالظنّ الاطمئناني الّذي لا يكون إلاّ فعليّا ، فإنّ التعارض الواقع بينهما على هذا التقدير أوجب عدم حصول الظنّ الشخصي منهما فيخرجان عن الحجّية رأسا لفقدهما ما هو مناط الحجّية فيتساقطان ، كما أومأنا إليه أيضا في مفتتح الباب عند بيان عدم وقوع التعارض بين ظنّيين شخصيّين كالقطعيّين ، بل ما ذكرناه من التساقط لخروجهما عن الحجّية على التقدير المذكور من متفرّعات هذه القاعدة.

ثمّ بعد ما ثبت أنّ الأصل في المتعارضين على وجه التعادل ليس هو التساقط بقول مطلق ، وهل الأصل فيهما حينئذ مع قطع النظر عن الأدلّة الخاصّة هو التخيير مطلقا أو التوقّف كذلك؟

فقد يقال : بأنّ الأصل هو التخيير تنظيرا للمتعارضين بالواجبين المتزاحمين كإنقاذ الغريق وإطفاء الحريق في موضع مزاحمة أحدهما للآخر أو لمثله بحيث لم يمكن الجمع بينهما في الامتثال لاتّفاقهما في زمان واحد ، فكما أنّ العقل المستقلّ لا يجوّز تركهما معا

ص: 604

لمجرّد عدم إمكان فعلهما معا بل يحكم بالتخيير ويلزم المكلّف بأداء أحدهما لإمكانه وبقاء القدرة عليه ، فكذلك في المتعارضين ، فإنّ الدليلين في موضع عدم التعارض يجب العمل بكلّ منهما بانفراده وإذا حصل التعارض بينهما لا يجوز ترك العمل بهما معا لمجرّد عدم إمكان الجمع بينهما في العمل ، فإنّ العقل لا يجوّزه بل يحكم بالتخيير لإمكان العمل بأحدهما على هذا الوجه.

وهذا عندنا موضع نظر بل عند التحقيق ليس بسديد أيضا ، لبطلان التنظير والمقايسة ، لوضوح الفرق بين ما نحن فيه والواجبين المضيّقين في موضع المزاحمة.

ووجه الفرق : أنّ كلاّ من الواجبين المضيّقين مشتمل على مصلحة كامنة فيه باعثة على إيجابه ، ففي موضع عدم المزاحمة يجب تحصيل المصلحتين معا بأداء الواجبين معا ، وإذا حصل المزاحمة بينهما تعذّر تحصيل المصلحتين معا ، ولكن لا يلزم من تعذّر تحصيلهما معا جواز تفويتهما معا لإمكان تحصيل إحداهما ، فيلزم العقل بذلك ولا يجوّز التفويت رأسا ، وأمّا فيما نحن فيه فكون المتعارضين كالواجبين المتزاحمين إنّما يستقيم أن لو قلنا بالحجّية في الأدلّة الغير العلميّة على وجه الموضوعيّة ، وهي أنّ الأمارة الغير العلميّة بقيامها في الواقعة أوجبت حدوث مصلحة فيها مؤثّرة في حدوث حكم على طبقها في مقابلة مصلحة الواقع ، بحيث إنّ الشارع قطع النظر عن مصلحة الواقع واكتفى بالمصلحة الحادثة من قيام الأمارة فأوجب العمل بها مراعاة لتحصيل هذه المصلحة ، فعلى هذا التقدير كان المتعارضان كالواجبين المتزاحمين في أنّ عدم إمكان تحصيل المصلحتين معا لمكان التعارض لا يقضي بجواز تفويت إحدى المصلحتين ، بل يجب في حكم العقل تحصيلها على وجه التخيير.

ولكن هذا تقدير فاسد لبطلان الجعل الموضوعي في الأمارات من جهة بطلان التصويب بل الصحيح فيها إنّما هو الجعل الطريقي ، وهو أنّ الشارع جعل الأمارة طريقا وأمر باتّباعها لكونها غالب المطابقة للواقع ، فالمصلحة الداعية إلى جعلها والتعبّد بها إنّما هي غلبة مطابقتها الواقع كما هو الحال في الأمارات المعمولة في الموضوعات الخارجيّة الّتي بأيدينا اليوم ، حيث نعلم بأنّ الأمر الشرعي باتّباعها إنّما نشأ من غلبة مطابقتها الواقع ، والأمر باتّباع الأمارة لأجل هذه المصلحة ممّا يجوّزه العقل على الحكيم ولا قبح فيه أصلا ، وإن كانت الأمارة قد يتّفق أنّها تخالف الواقع لأنّها في جنب المطابقة نادرة ، فالأمر باتّباعها لأجل

ص: 605

المطابقة الغالبيّة مع فقد الطرق العلميّة وفقد أمارة تكون دائمة المطابقة للواقع أولى وأوفق بقواعد الحكمة من منع اتّباعها لأجل المخالفة النادرة ، بل هو ممّا يجب عليه عملا بمقتضى الحكمة وأداء لحقّها بتمامها.

وحينئذ فلو تعارضت الأمارة المجعولة على هذا الوجه لمثلها كالخبرين إذا كان أحدهما آمرا والآخر ناهيا لم يرجع ذلك إلى تعارض المصلحتين ، للجزم بعدم اشتمال شيء منهما على المصلحة الباعثة على الأمر باتّباعها وهي غلبة المطابقة ، فإنّ كلاّ منهما خبر شخصي وجزئي حقيقي لنوع خبر الواحد ولا يصدق عليه أنّه غالب المطابقة للواقع بل لا يعقل ذلك فيه ، وإنّما لوحظت الغلبة في النوع بما هو نوع ، فإذا كان كلّ منهما خاليا عن تلك المصلحة فلا يبقى فيه إلاّ نفس المطابقة ، وهي على تقدير ثبوتها مصلحة واحدة غير متعيّنة متردّدة بين هذا وبين ذلك ، للقطع الضروري بعدم إمكان مطابقتهما معا ، لاستحالة اجتماع المتناقضين واجتماع المتضادّين ، مع احتمال مخالفتهما معا في بعض الأحيان ، فلا محالة يحصل العلم بمخالفة أحدهما ، ومن المعلوم أنّ ما علم تفصيلا أو إجمالا مخالفته للواقع ليس بحجّة ، وقد اشتبه ذلك بما علم أو احتمل مطابقته الواقع فيؤول التعارض بينهما إلى اشتباه الحجّة بغير الحجّة والعقل المستقلّ في مثله يحكم بوجوب التوقّف فيهما عن العمل والرجوع إلى الأصل ، لا بالتخيير مطلقا إن لم نقل بالترجيح بموافقة الأصل فيما وافقه أحدهما ، وإلاّ اختصّ التوقّف بما لو خالف كلاهما الأصل.

مقتضى الأدلّة الخاصّة في المتعادلين

فتلخّص من جميع ما قرّرناه : أنّ الأدلّة المتعارضة فيما لا يمكن الجمع بين المتعارضين على أنواع ، أو أنّ أحكامها من حيث أصالة التساقط أو التخيير أو التوقّف تختلف باختلاف التقادير وفروض جعلها من حيث كونه على وجه الموضوعيّة أو الطريقيّة من باب الظنّ الشخصي أو النوعي ، فعلى الجعل الطريقي مع إناطة الحجّية بالظنّ الشخصي استنادا إلى دليل الانسداد أو غيره ممّا أفاد حجّية الأخبار وغيرها من باب الظنّ الاطمئناني يتّجه القول بالتساقط ، وعلى الجعل الموضوعي يتّجه القول بالتخيير ، وعلى الجعل الطريقي مع الاكتفاء بالظنّ النوعي يتّجه القول بالتوقّف.

هذا كلّه بالنظر إلى الأصل والقاعدة مع قطع النظر عن الأدلّة الخاصّة ، وأمّا مع ملاحظة الأدلّة الخاصّة فالحكم تابع لما يساعد عليه الدليل ، ولذا ترى أنّ أصحابنا - على ما حكاه السيّد في المفاتيح - بين قائل بالتخيير ذهب إليه الشيخ والمحقّق والعلاّمة والمصنّف في

ص: 606

العدّة والاستبصار والمعارج والتهذيب والمعالم.

وعن بعض شروح التهذيب هو مذهب الجمهور ، وعن بعض الأفاضل نسبته إلى المجتهدين ، وفي كلام المصنّف : « لا نعرف في ذلك خلافا بين الأصحاب وعليه أكثر أهل الخلاف ».

وبين قائل بالتوقّف حكي عن الأخباريّين.

فإنّ هذا الخلاف إنّما نشأ عن اختلاف الأخبار الدالّة طائفة منها على التخيير وطائفة اخرى على التوقّف ، والأقوى المعتمد هو الأوّل عملا بأخبار التخيير الدالّة عليه بعبارات مختلفة متقاربة كقوله عليه السلام : « بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك اللّه » كما في بعضها ، وقوله عليه السلام : « بأيّهما أخذت من باب التسليم كان صوابا » كما في بعضها ، وقوله : « فموسّع عليك بأيّهما أخذت » كما في ثالث ، « وبأيّهما شئت موسّع ذلك من باب التسليم لرسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم والردّ إليه وإلينا » كما في رابع ، وقوله : « فإذن تخيّر أحدهما ودع الآخر » كما في خامس ولو كان فيها ضعف أو قصور سندا أو دلالة ينجبر بالشهرة العظيمة وعمل الأصحاب وفهمهم ، مع اشتمالها على ما هو صحيح وهو صحيح عليّ بن مهزيار - على ما وصفه به في المفاتيح - وبذلك مع الانجبار المذكور تترجّح هذه الأخبار على أخبار التوقّف القاضية بوجوبه بعبارات مختلفة متقاربة ، كقوله عليه السلام : « ما علمتم أنّه قولنا فالزموه وما لم تعلموا فردّوه إلينا » وقوله : « وإن اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده وردّوه إلينا حتّى نشرح لكم » وقوله : « يرجيه حتّى يلقى من يخبره فهو في سعة » وقوله : « إذا كان ذلك فارجه حتّى تلقى إمامك ، فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات ».

وهذه أيضا وإن اشتملت على ما هو موثّق كموثّقة سماعة غير أنّه لا يكافؤ الصحيح فيقدّم الصحيح لصحّته مع اعتضاده بالشهرة وعمل الطائفة.

هذا مع تطرّق المنع إلى أصل منافاة هذه الأخبار لأخبار التخيير من حيث عدم دلالتها صراحة ولا ظهورا على التوقّف بالمعنى المبحوث عنه وهو الوقوف عن العمل رأسا والرجوع إلى الأصل أو الاحتياط ، بل غايتها الدلالة على إرجاء العمل وتأخيره إلى لقاء الإمام عليه السلام والوصول إلى حضرته والسؤال عن حقيقة الحال ، فتختصّ بالمتمكّنين من ذلك كلّه ، وأمّا أخبار التخيير فهي إمّا ظاهرة في صورة عدم التمكّن أو عامّة لها أيضا فتخصّص بها جمعا.

لا يقال : إنّ أخبار التخيير وإن اشتملت على جملة من المرجّحات السنديّة غير أنّها

ص: 607

تتوهّن بمخالفة مضمونها الأصل القطعي المجمع عليه وهو بطلان التصويب ، لما تقدّم من أنّ التخيير بين المتعارضين مبنيّ على الجعل الموضوعي في الأمارات المؤدّي إلى التصويب بخلاف أخبار التوقّف الغير المستتبع لهذا المحذور ، فهي مشتملة على مرجّح مضموني يجب ترجيحها على أخبار التخيير.

لأنّا نقول : إنّ التخيير المنساق من الأخبار الآمرة به ليس من التخيير العقلي المبنيّ على الجعل الموضوعي ، وهو التخيير في امتثال الحكم الواقعي التابع للمصلحة الواقعيّة الكامنة في الواقعة كما في الواجبين المتزاحمين ، بل هو تخيير عملي وحكم ظاهري جعله الشارع للمتحيّر في متعارضات الأمارات مع فقد المرجّحات ، هذا.

التنبيه على امور :

اشارة

وينبغي التنبيه على امور :

التنبيه الأوّل : حكم التعادل في الأمارتين القائمتين بغير الأحكام

أحدها : أنّ حكم التعادل في الأمارتين القائمتين بغير الأحكام كاللغات وأحوال الرواة عند اختلاف أقوال أهل اللغة أو علماء الرجال مع التكافؤ أو عدم إمكان الجمع ليس هو التخيير ، سواء اريد به التخيير الظاهري المستفاد من الأخبار المجعول للمتحيّر أو التخيير العقلي التابع للحكم الواقعي.

أمّا الأوّل : فلأنّه لا يتمشّى في أمارات غير الأحكام ، لاختصاص أدلّته والأخبار الآمرة به موردا ومساقا سؤالا وجوابا بالأحكام والأخبار المأثورة عن أئمّة الأنام عليه السلام.

وأمّا الثاني : فلابتنائه على الجعل الموضوعي الغير المعقول في غير الأحكام ، بل الظاهر كون وجه اعتبار أماراته وجه الطريقيّة من باب الظنّ الشخصي فلا مناص من التوقّف.

التنبيه الثاني : هل يجوز للمجتهد العدول عن الاختيار الأوّل إلى الاختيار الثاني؟

وثانيها : أنّه إذا اختار المجتهد بعد البناء على التخيير أحد المتعارضين وعمل به ، فهل يجوز له العدول عنه إلى اختيار الآخر والعمل به أيضا وهو التخيير الاستمراري ، أو لا يجوز ذلك وهو التخيير البدوي؟ وجهان أقواهما الثاني اقتصارا في الحكم المخالف للأصل على موضع اليقين ، مع أنّ جواز دوام العمل بما اختاره معلوم وجواز العمل به تارة وبغيره اخرى مشكوك ، فقاعدة الاشتغال بالعمل بالطريق تقتضي عدم الاستمرار ، مع أنّ الالتزام بالاستمرار قد يؤدّي إلى المخالفة القطعيّة العمليّة للحكم الواقعي فيما لم يحتمل مخالفة الأمارتين معا الواقع ، مع أنّ القائل بالاستمرار ليس له إلاّ إطلاق الأخبار الآمرة به.

ويزيّفه : ما قيل من أنّ الظاهر أنّها مسوقة لبيان وظيفة المتحيّر في ابتداء الأمر ، فلا إطلاق فيها بالنظر إلى حال المجتهد بعد زوال تحيّره بالتزام العمل بأحدهما.

ص: 608

واستصحاب الحالة السابقة وهو التخيير الثابت قبل الاختيار إذا شكّ في بقائه وارتفاعه بعد الاختيار للشكّ في كون الاختيار ملزما يستصحب بقاؤه.

يزيّفه أوّلا : ورود الأصل العقلي وهو قبح المخالفة القطعيّة إذا كانت عمليّة عليه.

وثانيا : تبدّل موضوع المستصحب الموجب لعدم جريان الاستصحاب ، بتقريب : أنّ المجتهد بعد ما اختار أحد المتعارضين والتزم به خرج عن كونه متحيّرا وقد تقدّم أنّ التخيير حكم مجعول للمتحيّر بوصف كونه متحيّرا ، فتأمّل.

وقد يقرّر تبدّل الموضوع بأنّ الثابت سابقا ثبوت الاختيار لمن لم يختر فإثباته لمن اختار والتزم إثبات للحكم في غير موضوعه الأوّل.

ثمّ الظاهر عدم الفرق فيما اخترناه من عدم استمرار التخيير بين ما لو تعلّقت الأمارتان المتعارضتان بالفتوى أو بالحكم والقضاء ، فإذا حكم في واقعة على طبق أمارة فليس له أن يحكم في اخرى على طبق اخرى ، خلافا للعلاّمة في النهاية وغيره - على ما حكي - من مصيره إلى الجواز استنادا إلى أنّ العقل لا يستحيله ولا يستبعد وقوعه كما لو تغيّر اجتهاده ، وفيه ما فيه.

التنبيه الثالث : حكم التعادل للمجتهد في عمل نفسه وعمل غيره

وثالثها : حكي عن جماعة أنّ التعادل إن وقع للمجتهد في عمل نفسه كان مخيّرا ، وإن وقع للمفتي باعتبار إفتائه فحكمه أن يخيّر المستفتي فيتخيّر في العمل كالمفتي.

أقول : وجه الأوّل واضح ، وأمّا الثاني فوجّهه بعض مشايخنا : « بأنّ نصب الشارع للأمارات وطريقيّتها يشمل المجتهد والمقلّد ، إلاّ أنّ المقلّد عاجز عن القيام بشروط العمل بالأدلّة من حيث تشخيص مقتضاها ودفع موانعها ، فإذا فرض أنّ المجتهد تصدّى لإثبات ذلك وثبت جواز العمل بكلّ من الخبرين المتكافئين المشترك بين المقلّد والمجتهد تخيّر المقلّد كالمجتهد ، ولأنّ إيجاب مضمون أحد الخبرين على المقلّد لم يقم دليل عليه فهو تشريع ».

أقول : وفيه نظر ، إذ التخيير حكم ظاهري جعله الشارع للمتحيّر في العمل بالطريق بسبب وقوع التعادل بين فرديه ، وهذا التحيّر ليس حاصلا للمقلّد إذ لا طريق له سوى فتوى المجتهد وليس وظيفته في استعلام حكمه الشرعي الرجوع إلى الطرق الّتي يرجع إليها المجتهد ، فهو غير مندرج في موضوع التخيير في العمل بين الطريقين ليفتي له به المجتهد.

وقضيّة ذلك أن لا يفتيه إلاّ بمقتضى ما اختاره من المتعادلين.

ويؤيّده أنّ الإفتاء بالتخيير في العمل بينهما للمقلّد لم يعهد إلى الآن من أحد من

ص: 609

المجتهدين المفتين من السلف إلى الخلف.

ويؤيّده أيضا ما بيّنّاه في مباحث التقليد من أنّ كلّما هو حكم فعليّ للمجتهد فهو حكم فعليّ للمقلّد ، وظاهر أنّ الحكم الفعلي للمجتهد بعد اختياره لأحد المتعارضين إنّما هو مؤدّى مختاره ، وأمّا مؤدّى المتعادل الآخر الّذي طرحه قد خرج عن كونه حكما فعليّا في حقّه.

وقضيّة ذلك أن لا يكون للمقلّد أيضا حكم فعليّ إلاّ مؤدّى مختاره ، ولا ينافيه كون نصب الطرق وطريقيّتها مشتركا بين المجتهد والمقلّد ، لأنّ الطرق المنصوبة طرق للمقلّد بواسطة فتوى المجتهد بمؤدّياتها لا أوّلا وبالذات ، ولذا لا يكلّف المقلّد بالرجوع إلى طريق المجتهد في غير محلّ التعارض وإن تصدّى لإثبات مقتضاه المجتهد ، فالأجود هو الإفتاء بمؤدّى المختار لا غير.

والعجب أنّ بعض المشايخ جعل ذلك احتمالا ولم يجزم به بل جعل المشهور أقوى ، حيث قال : « ويحتمل أن يكون التخيير للمفتي فيفتي بما اختاره لأنّه حكم للمتحيّر ، ولا يقاس هذا بالشكّ الحاصل للمجتهد في بقاء الحكم الشرعي من أنّ حكمه وهو البناء على الحالة السابقة مشترك بينه وبين المقلّد ، لأنّ الشكّ هناك في نفس الحكم الفرعي المشترك وله حكم مشترك ، والتحيّر هنا في الطريق إلى الحكم فعلاجه بالتخيير مختصّ بمن يتصدّى لتعيين الطريق ، كما أنّ العلاج بالترجيح مختصّ به ، فلو فرضنا أنّ راوي أحد الخبرين عند المقلّد أعدل وأوثق من الآخر لأنّه أخبر وأعرف به مع تساويهما عند المجتهد أو انعكاس الأمر عنده فلا عبرة بنظر المقلّد ، وكذا لو فرضنا تكافؤ قول اللغويّين في معنى لفظ الرواية فالعبرة بتحيّر المجتهد لا بتحيّر المقلّد بين حكم يتفرّع على أحد القولين وآخر يتفرّع على الآخر ، والمسألة محتاجة إلى التأمّل وإن كان وجه المشهور أقوى » انتهى.

فما احتمله قدس سره جيّد ولا باعث على التأمّل وتقوية وجه المشهور.

نعم لو كان النظر في الأحكام المختصّة بالمقلّد كأحكام الحائض وغيرها ممّا لا يجري في حقّ المجتهد لم يبعد الإفتاء له بالتخيير ، لأنّ المجتهد لا داعي له إلى اختيار أحدهما والالتزام بمؤدّاه ليفتي بمؤدّى مختاره ، فيفتي له حينئذ بالتخيير ، ولكنّه ينبغي أن يخبره حينئذ بين مدلولي المتعادلين ليلتزم بأحدهما ، ووجب عليه حينئذ أن ينبّهه على عدم كون التخيير على الاستمرار ، ولعلّ كلام الجماعة أيضا في هذه الصورة لا مطلقا ، كما يشعر به ظاهر العنوان المتقدّم من وقوع التحيّر للمفتي من حيث إفتائه وعليه فلا كلام ، ومن هنا

ص: 610

يعلم أنّ التعادل لو وقع للحاكم والقاضي في حكومته وقضائه يتخيّر أحدهما فيحكم به كما عن جماعة ، لأنّ الحكم والقضاء عمل له لا للغير فلا معنى هنا لإفتاء المتخاصمين بالتخيير ، وعن بعض تعليل المنع بأنّ تخيير المتخاصمين لا يرتفع معه الخصومة.

المقام الثالث في التراجيح

المقام الثالث

في التراجيح

والترجيح عبارة عن تقديم إحدى الأمارتين لمزيّة لها على الاخرى ، وفي اعتبار عدم بلوغها حدّ الحجّية - على معنى كونها بنفسها حجّة مستقلّة كموافقة الكتاب الّذي بنفسه حجّة مستقلّة - وعدمه وجهان ، من عدم مساعدة الترجيح المصطلح عليه كما قيل ، ومن عدّهم موافقة الكتاب ونحوها من المرجّحات حتّى أنّه ورد ذكره في النصوص.

وليعلم أنّ كون الشيء مرجّحا الّذي مرجعه إلى تعيّن العمل بذي المزيّة من المتعارضين - ككون الشيء دليلا - حكم مخالف للأصل فيحتاج إلى دليل ، لكون الأصل الأوّلي مع قطع النظر عن عموم أدلّة حجّية الأمارات الغير العلميّة هو التساقط ثمّ بعده الأصل الثانوي - بناء على الجعل الطريقي في الأمارات مع إناطة الحجّية بالظنّ النوعي - هو التوقّف ، ثمّ بعده الأصل الثالث من جهة الأخبار الآمرة بالتخيير هو التخيير ، وظاهر أنّ المرجّحية بالمعنى المذكور تخالف الجميع ، ولعلّه لذا اختلف في وجوب الترجيح ولزوم العمل بذي المزيّة وعدمه ، فالمشهور المحكيّ في النهاية عن المحقّقين هو الأوّل ، وعن جماعة من العامّة الثاني فقالوا : إنّ حكمه التخيير كما عن القاضي والجبائيّين ، أو التساقط كما عن بعض الفقهاء.

وعن شارح الوافية السيّد صدر الدين أيضا إنكار وجوب الترجيح مع كونه أفضل ، حيث إنّه بعد ما ذكر أنّ الجمع بين الأخبار العلاجيّة المعارض بعضها لبعض غير ممكن ، جعل الأصل التخيير والترجيح بما ذكر في الأخبار راجحا بل مستحبّا.

وربّما يظهر احتمالا اختيار عدم الوجوب من الكليني في ديباجة الكافي - على ما حكي - حيث إنّه بعد ما ذكر أنّ المرجّحات الّتي ذكرها العالم عليه السلام للعمل بالروايات لا تفي إلاّ بأقلّ قليل من الأخبار ، قال : « ولا نجد أحوط وأوسع ممّا رخّص لنا العالم من الأخذ بأيّهما شئنا من المتعارضين ».

ووجه الاحتمال رجوع التخيير الّذي جعله من الأوسع إلى ما يعمّ الأخبار الخالية عن

ص: 611

المرجّحات وما هو أقلّ قليل منها ، ولكنّ الأظهر رجوعه إلى الموارد الخالية عن المرجّحات المنصوصة.

ثمّ الظاهر أنّ محلّ هذا الخلاف وموضع هذا النزاع إنّما هو المرجّحات السنديّة وغيرها ممّا يرجع إلى الصدور وجهته ، وأمّا المرجّحات الراجعة إلى الدلالة كالنصوصيّة والأظهريّة وحقيقيّة الدلالة ونحوها فخارجة عنها ، إذ لا خلاف في لزوم الترجيح بها.

وجوب الترجيح وتعيّن العمل بالراجح

وإذا عرفت هذا فاعلم أنّ الحقّ في المسألة ما هو المشهور من وجوب الترجيح وتعيّن العمل بالراجح.

لنا على ذلك أوّلا : قاعدة الاشتغال بالقياس إلى التكليف بالعمل بالطرق ، ولا ريب أنّ الأخذ بالراجح يوجب اليقين ببراءة الذمّة عن هذا التكليف بخلاف الأخذ بغيره.

وثانيا : أولويّة التعيين فيما إذا دار الأمر بينه وبين التخيير.

وثالثا : عدم المناص من الترجيح والأخذ بالراجح ، لبطلان غيره من التساقط والتوقّف والتخيير.

أمّا الأوّل : فلأنّه - مع أنّه لا قائل به إلاّ بعض العامّة - خروج عن أدلّة الحجّية.

وأمّا الثاني : فلأنّه - مع أنّه لا قائل به إلاّ الأخباريّون منّا - ممّا لا دليل عليه إلاّ الأخبار الآمرة به ، وهي مقيّدة بفقد المرجّحات.

وأمّا الثالث : فلأنّه إن اريد به التخيير الشرعي المستفاد من الأخبار فهو أيضا مقيّد بصورة فقد المرجّحات ، ولو وجد فيها ما يكون مطلقا وجب تقييده به حملا للمطلق على المقيّد ، وإن اريد به التخيير العقلي فالعقل غير حاكم به ، لما تقدّم مرارا من ابتناء حكم العقل به على الجعل الموضوعي في الطرق وهو باطل ، مع أنّه قد ذكرنا في مباحث التقليد أنّ كلّ طريقين متعارضين إذا اشتمل أحدهما على ما احتمل كونه مرجّحا في نظر الشارع فالعقل لا يحكم فيه بالتخيير بينهما.

ورابعا : إجماع العلماء فتوى وعملا.

أمّا الأوّل : فواضح كما ربّما يكشف عنه الإجماعات المنقولة الّتي تصدّى لحكاية نقلها السيّد في المفاتيح عن جماعة من الخاصّة والعامّة.

وأمّا الثاني : فلأنّ المعلوم من سيرة العلماء قديما وحديثا من لدن بناء العمل بأخبار الآحاد ممّا بعد زمن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى يومنا هذا التزامهم بالأخذ بالمرجّحات وتقديم الراجح

ص: 612

من المتعارضات من غير نكير ، ولا يقدح فيه ما تقدّم عن الكليني ، لأنّه بناء على أظهر احتماليه ليس نفيا لوجوب الترجيح مع وجود المرجّح بل هو انكار لوجود المرجّح ، بناء منه على أنّ المرجّحات المنصوصة لا توجد إلاّ في أقلّ قليل من الروايات.

وخامسا : الأخبار العلاجيّة الآمرة بالترجيح والأخذ بذي المزيّة وطرح صاحبه ، فإنّه يستفاد من المجموع وجوب الترجيح وتعيّن العمل بالأرجح في الجملة ، سيّما ما اشتمل منها على قول الراوي : « بأيّهما آخذ » فإنّه يدلّ على كون تعيّن العمل بالراجح أمرا ثابتا مفروغا عنه والسؤال إنّما وقع لمعرفة المرجّح ، ولذا تعرّض الإمام عليه السلام لبيان المرجّحات بقوله : « خذ بما اشتهر بين أصحابك » وغيره.

وبالجملة الأوامر الموجودة في هذه الأخبار ظاهرة في الوجوب ولا صارف لها إلى غيره ، مضافا إلى شواهد اخر كثيرة ترشد إلى إرادة الوجوب وتصرف مواردها عن إرادة الاستحباب.

وأمّا ما عرفته عن السيّد الصدر من استحباب الترجيح فهو من غرائب القول ، ولا يوافق مذهب الاصولي ولا مذاق الأخباري ، ولا يناسب قانون فهم الأخبار ولا يلائم التوقّف في الأخبار الآمرة به ، لأنّ حكم المتعارضين مع تكافؤهما من جميع الجهات إذا كان هو الوقف دون التخيير فلأن يكون مع اختلافهما في الرجحان والمرجوحيّة هو الوقف دون التخيير طريق الأولويّة.

وإن لم يسلّم الأولويّة فلا أقلّ من التساوي ، وإلاّ فمعنى التخيير مع الاختلاف هو جواز الأخذ بالمرجوح مع وجوب الوقف عند التساوي الملازم لعدم المرجوحيّة في شيء من الطرفين.

ولعلّ ذلك ممّا يضحك به الثكلى ، إلاّ على تقدير حمل الأمر بالوقف أيضا على الاستحباب ولا نظنّه أنّه يرضى بذلك ، مع أنّه لا يلائم النهي عن الالتفات والاعتناء بما حكم به غير الأعدل وغير الأفقه ، ولا تعليل الأمر بالأخذ بما وافق الكتاب بأنّ ما خالفه زخرف وأنّه يضرب على وجه الجدار ، ولا تعليل الأمر بالأخذ بما خالف العامّة وطرح ما وافقهم بأنّ الرشد في خلافهم ، ولا ما ورد فيها من أنّ بناءهم في المسائل كان على مخالفة أمير المؤمنين عليه السلام حيث كانوا يسألونه ثمّ يلتزمون بخلاف ما يسمعونه منه ، ولا تعليل الأمر بالأخذ بالمشهور وطرح الشاذّ النادر بأنّ المجمع عليه لا ريب فيه.

ص: 613

وبالجملة ما بنى عليه من الاستحباب بعيد عن مدلول الأخبار وسياقاتها ، فلا ينبغي الالتفات إليه.

وقد يستدلّ أيضا على وجوب الترجيح بما ظهر ضعفه ممّا نبّهنا عليه سابقا من خروج المرجّحات الدلاليّة عن محلّ الخلاف ، وهو أنّه لو لا الترجيح لاختلّ أمر الاستنباط ، لاستلزامه التخيير بين العامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد وغيرهما من أنواع النصّ والظاهر ، واللازم باطل بالضرورة لتطرّق المنع إلى الملازمة ، فإنّ النصوصيّة أو الأظهريّة وغيرهما من أنواع أقوائيّة الدلالة من المرجّحات الراجعة إلى الدلالة ولا كلام بل لا خلاف في وجوب الأخذ بها ، مع أنّه قد عرفت في مفتتح الباب من أنّه لا تعارض حقيقة بين النصّ والظاهر بجميع أنواعه ، بل تعارض صوريّ يرتفع بانفهام التخصيص والتقييد عرفا.

أدلّة القول بعدم وجوب الترجيح بالمرجّحات

وأمّا القول بعدم وجوب الترجيح فليس له ممّا استدلّ به أو يمكن أن يستدلّ به إلاّ وجوه ضعيفة :

منها : أصالة البراءة عن الضيق الّذي يستلزمه التعيين في مسألة دوران الأمر بينه وبين التخيير.

ومنها : أصالة عدم المرجّح ، لا بمعنى أصالة عدم وجود المزيّة بل بمعنى عدم كون المزيّة الموجودة ممّا اعتبرها الشارع وجعلها مناطا للحكم.

ومنها : إطلاق الأمر بالتخيير في عدّة من الأخبار الآمرة به من غير تقييد له بصورة التكافؤ أو فقد المرجّحات.

ومنها : أنّه لو وجب الترجيح بين الأمارات في الأحكام لوجب عند تعارض البيّنات ، والتالي باطل لعدم وجوب تقديم شهادة الأربعة على الإثنين.

والجواب عن الأوّل : بكون المسألة من مجاري أصل الاشتغال لا أصل البراءة ، لعدم كون الشكّ الموجود فيها شكّا في التكليف ، ولا آئلا إليه ، بل هو شكّ في المكلّف به مع عدم أوله إليه في التكليف ، إذ لا يدرى أنّ الواجب بعد تيقّن أصل الوجوب هل هو أحد الأمرين على التعيين أو كلّ منهما على البدل؟ ومرجعه إلى الشكّ في أنّ البراءة الّتي كان يقتضيها الاشتغال اليقيني هل هي بحيث لا تحصل إلاّ بالواحد المعيّن أو تحصل به وبما يحتمل كونه معادلا له مع تيقّن حصولها بالواحد المعيّن ، وقضيّة استدعاء الاشتغال اليقيني ليقين البراءة تعيّن اختيار الواحد المعيّن.

ص: 614

لا يقال : ما ذكرت من ضابط الفرق بين مجرى أصل الاشتغال ومجرى أصل البراءة ليس بمطّرد أو ليس بتامّ ، بل لا بدّ من تقييد الشكّ في المكلّف [ به ] الّذي لا يؤول إلى الشكّ في التكليف في ضابط جريان أصل الاشتغال لا غير بعدم دوران المقام بين تقديرين يترتّب العقاب على الترك في أحدهما ولا يترتّب عليه في الآخر وإلاّ كان من مجرى أصل البراءة الّذي ضابطه الكلّي نفي العقاب المحتمل ، وقضيّة ذلك جريان أصل البراءة فيما نحن فيه لرجوع الشكّ في التعيين والتخيير إلى احتمال ترتّب العقاب على ترك الواحد المعيّن.

ولا ريب أنّ الأصل براءة الذمّة عن ذلك العقاب المحتمل ، بل البراءة عن الضيق الّذي يستلزمه التعيين ممّا لا معنى له إلاّ هذا ، ويلزمه ثبوت كون الواجب كلّ واحد على البدل.

لأنّا نقول : إنّ إعمال أصل البراءة بنحو هذا التكلّف يندفع بأنّ أصل البراءة إنّما يجري ويصحّ الاستناد إليه حيث لم يكن هناك أصل موضوعي وارد عليه رافع لموضوعه وهو الشكّ ، والمفروض وجود الأصل الموضوعي فيما نحن وهو أصالة عدم تعلّق وصف الوجوب بما احتمل كونه أحد فردي الواجب التخييري بعد تيقّن تعلّقه بما احتمل كونه معيّنا ، ومرجعه إلى نفي تعلّق جنس الوجوب لا نفي الوجوب بقيد التعيين ولا هو بقيد التخيير.

فإن قلت : إجراء أصل العدم لنفي تعلّق الوجوب بما احتمل كونه أحد فردي الواجب التخييري إنّما يتمّ في مسألة الظهر والجمعة ونظائرها دون ما نحن فيه وهو دوران الأمر بين تعيين ذي المزيّة من الأمارتين المتعارضتين والتخيير بينها وبين الأمارة الخالية عن المزيّة ، لأنّ وجوب العمل المتولّد عن الحجّية الذاتيّة ثابت في كلا المتعارضين على ما تقدّم من شمول أدلّة الحجّية لهما معا ، فلا يمكن نفيه بأصل العدم.

قلت : لا كلام لنا في الوجوب المتولّد عن الحجّية الذاتيّة لكونها مشترك الثبوت بين المتعارضين ، بل الكلام في الوجوب الثانوي المجعول من باب الحكم الظاهري للمتحيّر عند الابتلاء بالمتعارضين ، وكما أنّ الشارع جعل له حكما ظاهريّا عند تكافؤ المتعارضين وتساويهما من جهة المرجّحات وهو وجوب العمل بكلّ منهما على البدل ، فكذلك جعل له عند الابتلاء بذي المزيّة والخالي عن المزيّة حكما يعبّر عنه بالحجّية الفعليّة ، ولا يدرى أنّه وجوب تعيين أو وجوب تخيير ، وهذا الوجوب المعلوم كونه مجعولا بالإجمال ممّا تيقّن تعلّقه بذي المزيّة ويشكّ في تعلّقه بالخالي عنها والأصل عدمه ، وهذا لا ينافي الحجّية الذاتيّة الّتي يتولّد منها الوجوب الشأني.

ص: 615

وعن الثاني : بأنّه إن اريد بأصالة عدم اعتبار الشارع للمزيّة عدم جعله المزيّة حجّة مستقلّة.

ففيه : أنّه لا كلام لأحد في ذلك ولا حاجة لنفيه إلى الأصل ، ولذا قيّدنا المزيّة في تعريف المرجّح بعدم بلوغها حدّ الحجّية ، فالمراد بالمزيّة هنا ما لم يبلغ حدّ الحجّية.

وإن اريد به عدم جعله ما له المزيّة حجّة ، ففيه : أنّه ممّا لا مجال لنفيه بالأصل لمكان القطع بالحجّية ، سواء اريد به الحجّية الذاتيّة أو الفعليّة بالتقريب المتقدّم ، ولا يعارض ذلك بالحجّية الثابتة في الخالي عن المزيّة ، فلا يمكن نفيها أيضا بالأصل لمنع ثبوت الحجّية الفعليّة فيه والحجّية الذاتيّة مشتركة بينهما.

وعن الثالث : بأنّ الأخبار المقيّدة للتخيير بفقد المرجّحات أيضا كثيرة فتحمل مطلقاته على مقيّداته ومرجعه إلى التقييد ، وهو بحسب متفاهم العرف - على ما تقرّر في محلّه - أولى وأرجح من حمل الأمر بالمقيّد على الاستحباب.

وعن الرابع : فعن العلاّمة في النهاية بمنع بطلان التالي - أعني منع الحكم في المقيس عليه - لأنّه يقدّم شهادة الأربعة على الإثنين.

سلّمنا لكن عدم الترجيح في الشهادة ربّما كان مذهب أكثر الصحابة والترجيح هنا مذهب الجميع ، انتهى.

والتحقيق في الجواب : أنّ الفرق بين المقامين إنّما هو لفارق وهو النصّ والإجماع على الترجيح في أمارات الأحكام وعدم نصّ ولا إجماع في البيّنات عليه على الوجه الكلّي ، وإن كان قد يرجّح إحدى البيّنتين في بعض الموارد بالأعدليّة أو بالأكثريّة كما في التداعي على عين هي بيد ثالث غير المتداعيين عند الأكثر ، وفيما هو بيد أحدهما عند المفيد وتبعه الإسكافي في الأكثريّة ، وعليه فقضيّة الأصل فيها التوقّف مع قطع النظر عن خصوصيّات الموارد ، وذلك لأنّ البناء في تعارض البيّنتين مع التكافؤ باتّفاق من الأصحاب إنّما هو على التوقّف والرجوع في العمل إلى الاصول والقواعد والأخذ بمقتضاها في كلّ مقام على حسب ما يناسبه ، ففي الطهارة والنجاسة يرجع إلى أصالة الطهارة ، وفي الأملاك إلى قاعدة التنصيف ، وفي الأزواج والأموال الغير القابلة للتقسيم كالفرس والشاة ونحوهما إلى القرعة مثلا ، وإذا كان البناء في صورة التساوي على التوقّف كان البناء عليه أيضا في صورة عدم التساوي واشتمال إحداهما على مزيّة لاتّحاد الطريق وهو شمول أدلّة الحجّية لذي المزيّة

ص: 616

والخالي عنها مع كون الحجّية على وجه الطريقيّة.

نعم لو وجد مورد في البيّنات بنينا في صورة التكافؤ على التخيير فلا مناص من البناء على الترجيح في صورة عدم التكافؤ أيضا ، نظرا إلى أنّ التخيير في الصورة الاولى إنّما يثبت بحكم العقل ، وقد ذكرنا مرارا أنّه مع وجود مزيّة يحتمل كونها مرجّحة في نظر الشارع لا يحكم بالتخيير فوجب الأخذ بذيها ، لأنّه القدر المتيقّن ممّا يحصل به البراءة عن الاشتغال اليقيني ، ولكن هذا الفرض ممّا لا تحقّق له في الخارج ، وحينئذ فلا مناص من الوقف بقول مطلق.

وتوهّم كون المزيّة الموجودة مع إحداهما موجبة لكون ذيها أقرب إلى الواقع ، فهذه الأقربيّة توجب التقديم والترجيح.

يندفع : بأنّ الأقربيّة ملغاة هنا ، لأنّها إنّما تعتبر إذا كانت مناطا لجعل الأقرب حجّة بحيث أوجبت خروج غير الأقرب عن الحجّية وهي ليست بهذه المثابة ، لأنّ الحجّية المنوطة بها إن كانت الحجّية الذاتيّة فيبطل كونها مناطا بغرض شمول أدلّة الحجّيّة لغير الأقرب أيضا ، وإن كانت الحجّيّة الفعليّة فكونها مناطا مبنيّ على ثبوت إنّ الشارع جعل للمكلّف المتحيّر في البيّنتين المتعارضتين حكما وهو موضع منع ، لأنّ جعل الحكم المذكور خلاف الأصل فلا يلتزم به إلاّ بدليل ولا دليل.

هذا كلّه على تقدير كون حجّية البيّنات من باب الطريقيّة.

وأمّا على تقدير كونها من باب السببيّة على معنى كونها بقيامها في الواقعة موجبة لحدوث حكم على طبق مؤدّاها في عرض الحكم الواقعي فالأصل هو التخيير ، لكون الراجح والمرجوح في مشموليّتهما لما دلّ على كون البيّنة سببا للحكم على طبق مؤدّاها على حدّ سواء ، وسببيّة كلّ من المتعارضين مانعة عن العمل بالآخر ، والتمانع الحاصل بينهما يوجب تعذّر إدراك المصلحتين ، وهو لا يجوّز تفويت المصلحتين معا بعد إمكان إدراك إحداهما ، فالعقل يلزمنا بالعمل بكلّ واحد على البدل إدراكا للمصلحة الممكنة ، وعدم تأثير الأقربيّة إلى الواقع هنا في التقديم والترجيح أوضح من عدم تأثيرها على تقدير الطريقيّة ، لأنّه إنّما يصحّ على تقدير إناطة الحجّية بها ، والتقدير باطل بالنسبة إلى كلّ من الحجّية الذاتيّة والحجّية الفعليّة لعين ما عرفت.

إلاّ أنّه يمكن القول بتعيّن الأخذ بالراجح بتقريب ما مرّ من أنّ العقل فيما يشتمل على

ص: 617

ما احتمل كونه مرجّحا في نظر الشارع لا يحكم بالتخيير فتأتي قاعدة الاشتغال.

نعم إنّما يتّجه التخيير في صورة التكافؤ ، لكن ظاهر كلام الأصحاب يعطي إجماعهم على أنّه لا تخيير في البيّنات هذا يكشف عن عدم بناء حجّيتها على السببيّة ، أو أنّه حكم خاصّ بالموضوعات.

هذا كلّه بحسب الأصل ، وأمّا بحسب الدليل فيختلف الحكم على حسب اختلاف الموارد ، وتحقيقه موكول إلى محلّه وليس من وظيفة الفنّ.

تذنيب : وجوب الفحص عن المرجّح أو عن فقده عند البناء على الترجيح أو التخيير

تذنيب

لا يذهب عليك أنّ وجوب الترجيح والأخذ بالمرجّح ، حسبما قرّرناه مشروط بوجود المزيّة لا بالعلم بوجودها عملا بظواهر النصوص مع انضمام أصالة عدم التقييد ، فالترجيح بالقياس إلى وجود المرجّحات واجب مشروط وبالقياس إلى العلم بها واجب مطلق ، كسائر الواجبات المشروطة بوجود شيء الّتي هي مطلقة بالقياس إلى العلم بذلك الشيء ، وكذلك الوجوب التخييري في عنوان « التعادل » المعلّق على فقد المرجّحات ، فإنّه بالنسبة إلى العلم بالفقد مطلق بعد ما كان بالقياس إلى نفس الفقد مشروطا.

وقضيّة ذلك أن يجب الفحص عند البناء على التخيير أو الترجيح لإحراز فقد المرجّحات أو وجود المرجّح ، أو فقد المرجّح الأقوى أو وجوده [ أو ] عن المرجّح أو عن المرجّح الأقوى ، والظاهر أنّه ممّا لا خلاف فيه.

والدليل عليه أوّلا : أنّه لولاه لاختلّ أمر الاستنباط ولزم الهرج والمرج في الاجتهاد ، ولأدّى إلى تخريب الفقه وهدم أساس الشرع ، إذ ربّما يوجب تركه الأخذ بالمرجوح وترك العمل بالراجح ، أو التسوية بين المرجوح والراجح الّذي تعيّن الأخذ به عند اللّه دون غيره.

وثانيا : أنّ التكليف قبل الفحص مع احتمال وجود المرجّح أو المرجّح الأقوى مردّد بين الوجوب التخييري ووجوب التعيين ، ولا ريب أنّ هذا التكليف المردّد المعلوم بالإجمال يقتضي الامتثال ، وهو موقوف على معرفة موضوعه المردّد بين كلّ واحد على البدل أو أحدهما بعينه ، وهي موقوفة على الفحص فوجب الفحص مقدّمة للامتثال الواجب.

وثالثا : نفس ما دلّ على وجوب الفحص عند العمل بالدليل ، بتقريب : أنّ الفحص الواجب عند العمل عبارة عن الفحص عن المعارض الأقوى ، وينحلّ ذلك إلى الفحص عن

ص: 618

أصل المعارض والفحص عن اشتماله على مزيّة والفحص عن الأقوى عند احتمال وجوده في جانب المتعارض الآخر.

ورابعا : ما دلّ على وجوب الفحص عند العمل بالأصل ، نظرا إلى أنّ البناء على التخيير في موضع احتمال وجود المرجّح ، وعلى الترجيح بالمرجّح الموجود مع أحد المتعارضين في موضع احتمال وجود المرجّح ، وعلى الترجيح بالمرجّح الموجود مع أحد المتعارضين في موضع احتمال وجود ما هو أقوى منه في جانب المعارض الآخر لا يتمّ إلاّ بعد نفي الاحتمال المذكور ، ولا نافي له إلاّ أصل العدم ، ومن المحقّق اشتراط العمل به بالفحص.

وخامسا : الأمر بالنظر الوارد في جملة من الأخبار الآمرة بالتخيير أو الترجيح ولا سيّما مقبولة عمر بن حنظلة ، باعتبار تكرّر ذلك الأمر في مواضع منها ، إذ لا معنى للنظر المأمور به إلاّ طلب المزيّة ، ولا نعني من الفحص إلاّ هذا ، والأمر يفيد الوجوب ولا صارف له إلى غيره.

وبعد ما ثبت وجوب أصل الترجيح ووجوب الفحص عن المرجّح ، ينبغي التعرّض لبيان المرجّحات المنصوصة ببيان الأخبار المتكّفلة لبيانها ، ثمّ النظر في وجوب الاقتصار عليها وعدم التعدّي إلى غيرها من المزايا الغير المنصوصة - كما عليه الأخباريّون حتّى أنّهم طعنوا على المجتهدين في التعدّي بأنّهم تبعوا في ذلك العامّة حيث اعتمدوا على مرجّحات لم ينصّ بها الشارع ممّا ذكره الحاجبي والعضدي والتفتازاني - أو لا يجب الاقتصار عليها بل يجوز التعدّي إلى غيرها كما عليه المجتهدون؟

وعلى تقدير التعدّي فهل يقتصر في المرجّحات الغير المنصوصة على الداخليّة منها الراجعة إلى السند باعتبار الراوي كالأعرفيّة باللغة وغيرها أو إلى المتن كالأفصحيّة وأقلّيّة الركاكة ونحوها ، أو يتعدّى إلى الخارجيّة منها كموافقة الأمارات الغير المعتبرة من الشارع بالخصوص كشهرة الفتوى والاستقراء والأولويّة الظنّية ونحوها إذا كانت إحداها مع أحد المتعارضين ، فهاهنا مطالب :

المطلب الأوّل : بيان المرجّحات المنصوصة

اشارة

المطلب الأوّل

في ذكر المرجّحات المنصوصة بإيراد الأخبار المتكّفلة لبيانها ، وعمدة هذه الأخبار وأجمعها للمرجّحات مقبولة عمر بن حنظلة ، رواها المشايخ الثلاث بإسنادهم ، وبعدها مرفوعة زرارة رواها ابن أبي جمهور الإحسائي في عوالي اللئالي عن العلاّمة رفعها إلى زرارة.

وبالجملة فمن الأخبار مقبولة ابن حنظلة قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجلين من

ص: 619

أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة أيحلّ ذلك؟

فقال : من تحاكم إلى الطاغوت فحكم له فإنّما يأخذ سحتا وإن كان حقّه ثابتا ، لأنّه أخذ بحكم الطاغوت ، وقد أمر اللّه عزّ وجلّ أن يكفر به.

قلت : فكيف يصنعان؟ قال : ينظران إلى من كان منكم قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكما ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما بحكم اللّه استخفّ وعلينا ردّ ، والرادّ علينا الرادّ على اللّه ، وهو على حدّ الشرك باللّه عزّ وجلّ.

قلت : فإن كان كلّ رجل اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما فاختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال : الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث ، وأورعهما ولا يلتفت إلى ما حكم به الآخر.

قال : قلت : فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه.

قال : فقال : ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الّذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به من حكمهما ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، وإنّما الامور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ حكمه إلى اللّه ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجا من المحرّمات ، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم.

قلت : فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقاة عنكم؟ قال : ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة.

قلت : جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامّة والآخر مخالفا لهم بأيّ الخبرين يؤخذ؟

قال : ما خالف العامّة ففيه الرشاد ، قلت : جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعا؟ قال : ينظر إلى ما هم [ إليه ] أميل حكّامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر.

قلت : فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعا؟ قال : إذا كان ذلك فارجه حتّى تلقى إمامك ،

ص: 620

فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات (1).

ومنها : مرفوعة زرارة بن أعين قال : سألت الباقر عليه السلام فقلت : جعلت فداك يأتي عنكم الخبران أو الحديثان (2) المتعارضان فبأيّهما آخذ؟ فقال عليه السلام : يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر.

قال : فقلت : يا سيّدي إنّهما مشهوران مرويّان عنكم ، فقال : خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك.

فقلت : إنّهما معا عدلان مرضيّان موثّقان ، فقال : انظر إلى ما وافق منهما مذهب العامّة فاتركه ، وخذ بما خالفهم فإنّ الحقّ فيما خالفهم.

فقلت : ربّما كان معا موافقين لهم أو مخالفين فكيف أصنع؟ فقال : إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك ما خالف الاحتياط.

فقلت : إنّهما معا موافقان للاحتياط أو مخالفان له فكيف أصنع؟ فقال : إذن فتخيّر أحدهما وتأخذ بما فيه وتدع الآخر (3).

ومنها : ما عن الصدوق في عيون الأخبار باسناده عن الرضا عليه السلام أنّه قال - في حديث طويل - : فما ورد عليكم من حديثين مختلفين فأعرضوهما على كتاب اللّه ، فما كان في كتاب اللّه موجودا حلالا أو حراما فاتّبعوا ما وافق الكتاب ، وما لم يكن في الكتاب فاعرضوه على سنن رسول اللّه ، فما كان في السنّة موجودا منهيّا عنه نهي حرام أو مأمورا به عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أمر إلزام فاتّبعوا ما وافق نهي النبيّ وأمره ، وما كان في السنّة نهي إعافة أو كراهة ثمّ كان الخبر الآخر خلافه فذاك رخصة فيما عافه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وكرهه ولم يحرّمه فذلك الّذي يسع الأخذ بهما جميعا أو بأيّهما شئت وسّعك اللّه الاختيار من باب التسليم والاتّباع والردّ إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردّوه إلينا علمه فنحن أولى بذلك ، ولا تقولوا فيه بآرائكم ، وعليكم بالكفّ والتثبّت والوقوف ، وأنتم طالبون باحثون حتّى يأتيكم البيان من عندنا.

ومنها : ما عن القطب الراوندي في رسالته في الصحيح بسنده عن عبد الرحمن ابن أبي عبد اللّه قال : قال الصادق عليه السلام : إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب

ص: 621


1- الكافي 1 : 68 باب اختلاف الحديث ح 10 ، الوسائل 18 : 175 الباب 9 من أبواب صفات القاضي الحديث 1.
2- والظاهر أنّ الترديد وقع من الراوي لا من السائل ( منه ).
3- عوالي اللآلي 4 : 133 الحديث 229.

اللّه ، فما وافق كتاب اللّه فخذوه ، وما خالف كتاب اللّه فذروه ، فإن لم تجدوه في كتاب اللّه فاعرضوهما على أخبار العامّة فما وافق أخبارهم فذروه ، وما خالف أخبارهم فخذوه.

ومنها : ما عنه أيضا بسنده عن الحسين بن السري قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام : « إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما خالف القوم ».

ومنها : ما عنه بسنده أيضا عن الحسن بن الجهم في حديث ، قلت : لم - يعني العبد الصالح عليه السلام - يروى عن أبي عبد اللّه عليه السلام شيء ويروى عنه أيضا خلاف ذلك فبأيّهما نأخذ؟

قال : « خذ بما خالف القوم وما وافق للقوم فاجتنبه » (1).

ومنها : ما عنه بسنده أيضا عن محمّد بن عبد اللّه قال : قلت للرضا عليه السلام : كيف نصنع بالخبرين المختلفين؟ قال : « إذا ورد عليكم خبران مختلفان فانظروا ما خالف منهما العامّة فخذوه ، وانظروا ما يوافق أخبارهم فذروه ».

ومنها : ما عن الاحتجاج بسنده عن سماعة بن مهران قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : يرد علينا حديثان واحد يأمرنا بالأخذ به والآخر ينهانا ، قال : لا يعمل بواحد منهما حتّى تلقي صاحبك فتسأل ، قلت : لابدّ أن يعمل بواحد منهما ، « قال : خذ بما فيه خلاف العامّة ».

ومنها : ما عن الكافي بسنده عن المعلّى بن خنيس قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : إذا جاء حديث عن أوّلكم وحديث عن آخركم بأيّهما نأخذ؟ قال : خذوا به حتّى يبلغكم عن الحيّ ، فإن بلغكم عن الحيّ فخذوا بقوله ، قال : ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السلام : أما واللّه لا يدخلكم إلاّ فيما يسعكم.

ومنها : ما عن الكافي بسنده إلى الحسين بن المختار عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : أريتك لو حدّثتك بحديث العام ثمّ جئتني من قابل فحدّثتك بخلافه بأيّهما كنت تأخذ؟ قال : كنت آخذ بالأخير ، قال لي : رحمك اللّه تعالى.

ومنها : ما عن الكافي أيضا بسنده عن أبي عمرو الكناني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : يا أبا عمرو أرأيت لو حدّثتك بحديث أو افتيك بفتيا ، ثمّ جئت بعد ذلك تسألني عنه فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك وأفتيتك بخلاف ذلك ، بأيّهما تأخذ؟ قلت : بأحدثهما وأدع الآخر ، قال : قد أصبت يا أبا عمرو ، أبى اللّه إلاّ أن يعبد سرّا ، أما واللّه لئن فعلتم ذلك أنّه لخير لي ولكم ، أبي اللّه لنا في دينه إلاّ التقيّة.

ص: 622


1- الوسائل 27 : 118 باب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 28.

ومنها : ما عن الكافي بسنده عن محمّد بن مسلم قال : قلت : لأبي عبد اللّه عليه السلام ما بال أقوام يروون عن فلان عن فلان عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لا يتّهمون بالكذب فيجىء منكم خلافه؟ قال : إنّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن.

ومنها : ما عن الكافي أيضا بسنده عن أبي حيّون مولى الرضا عليه السلام أنّ في أخبارنا محكما كمحكم القرآن ومتشابها كمتشابه القرآن ، فردّوا متشابهها إلى محكمها ، ولا تتّبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا.

ومنها : ما عن معاني الأخبار بسنده عن داود بن فرقد قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا ، أنّ الكلمة لتصرف على وجوه ، فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب.

شرح فقرات مقبولة عمر بن حنظلة

وينبغي التعرّض لشرح فقرات المقبولة تحقيقا للحال وتبيينا للمرام في محلّ المقال.

فنقول : قوله : « بينهما منازعة في دين أو ميراث » مع انضمام قوله - فيما يأتي - : « وكلاهما اختلفا في حديثكم » في كون المنازعة إنّما وقعت بينهما لشبهة حكميّة من جهة جهالة حكم من أحكام الدين أو الميراث ، مثل أنّ الدين هل يعتبر من صلب المال أو من الثلث؟

وإنّ أولاد الأولاد هل يقومون في الإرث مقام آبائهم أو أنهم كأولاد الصلب يقتسمون على التفاوت للذكر مثل حظّ الانثيين من دون ملاحظة من يتقرّبون إليه؟

وقضيّة ذلك كون اختلاف الحاكمين في الحكم اختلافا في الفتوى ناشئا عن اختلاف الحديثين.

قوله : « فإنّما يأخذ سحتا وإن كان حقّه ثابتا » قيل : ينبغي أن يخصّص ذلك بما لو كان حقّه كلّيّا في الذمّة كعشرة دراهم ، لاستناد تعيينه للأداء إلى الحكم الّذي هو نحو إجبار وهو من وظيفة السلطان العادل لا سلطان الجور ، فلا يتعيّن بذلك التعيين فيكون باقيا في ملك المديون فيكون بالنسبة إلى الداين سحتا ، بخلاف ما لو كان عينا شخصيّة وهو يعلم كونها حقّه فإنّه لا يعقل كونها سحتا.

وعن صاحب الكفاية الاستشكال في العين حيث ذكر : « أنّ الحكم بعدم جواز أخذ شيء بحكمهم وإن كان له حقّا في الدين ظاهر ، وفي العين لا يخلو عن إشكال. وقيل في وجه الإشكال في العين دون الدين أنّ الثاني يحتاج إلى تشخيص لا يتأتّى إلاّ من المالك والمفروض أنّه مجبور بحكمهم لا أنّه راض بخلاف الأوّل ».

ص: 623

وفيه - مع أنّ ذلك ينافي وقوع السؤال عن الدين والميراث الّذي لا يكون في الغالب إلاّ عينا - : أنّ ما ذكر اجتهاد في مقابلة النصّ ، وعدم احتياج العين الشخصيّة إلى تعيين وتشخيص من هي في يده وكونها حقّه في نفس الأمر وهو يعلم به لا ينافي حرمة أخذها والتصرّف فيها لعارض ، لأنّه بسبب استناده إلى حكم الطاغوت ممّا لم يمضه الشارع بل نهى عنه وإن كان الآخذ والمتصرّف مالكا ، وعليه فيكون المراد بالسحت ما يكون سحتا بالعرض لا بالذات ، نظير العين المرهونة والمال المحجور عليه ، بل السحتيّة في الدين أيضا لا يستقيم إلاّ بإرادة العرضيّة نظرا إلى أنّ المشخّص له لا يكون إلاّ المالك ، فتأمّل.

قوله : « وقد أمر اللّه عزّ وجلّ أن يكفر به ... الخ » إشارة إلى قوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ) الآية نزلت في شأن الزبير بن العوام نازع رجلا من اليهود في حديقة فقال الزبير : ترضى بابن شبهة اليهودي : وقال اليهودي؟ ترضى بمحمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم؟

وبالجملة اختار اليهودي محمّدا صلى اللّه عليه وآله وسلم لأن يتحاكما عنده ، وأنكره الزبير فاختار عالما يهوديّا للتحاكم عنده ، فأنزل اللّه تعالى ( أَلَمْ تَرَ ) الآية.

قوله عليه السلام : « الحكم ما حكم به أعدلهما ، وأفقههما ، وأصدقهما في الحديث ، وأورعهما » قد جمع في ذلك أربعة من المرجّحات ، وحيث إنّ العدالة بمعنى الحالة النفسانيّة الباعثة على ملازمة التقوى من الكيفيّات القابلة للتفاضل والشدّة والضعف ، فالمراد بالأعدليّة كون راوي أحد الخبرين أقوى ملكة للبعث على ملازمة التقوى ، وأمّا الأصدقيّة فالمراد به إمّا كون أحد الراويين أقوى ملكة للبعث على ملازمة الصدق ، أو كون موارد صدق أحدهما أكثر من موارد صدق الآخر ، أو كون اعتماد الناس على قول أحدهما أزيد من الآخر ، أو كون الظنّ بصدق أحدهما أقوى من الظنّ بصدق الآخر.

ثمّ إنّ الصفات الأربع كلّها ترجع إلى السند لكونها من صفات الراوي ، والأفقهيّة تزيد على غيرها في أنّها تصلح مع ذلك للرجوع إلى المضمون ، وذلك لأنّ الراوي إذا كان فقيها فهو يعرف قواعد الاستنباط ويتفطّن لنكاته ودقائقه ، فلا يغفل ولا يذهل عند استماع الرواية فلا يختلط عليه الأمر في فهم حقيقة المراد ، فيكون ما فهمه من كلام المعصوم أقرب إلى الواقع ممّا فهمه غيره ممّن ليس بفقيه.

ويظهر أثر ذلك فيما لو قال الإمام عليه السلام : « إذا بقي إلى انتصاف الليل مقدار صلاة العشاء

ص: 624

فهو مختصّ به » فالفقيه لالتفاته إلى أنّ مقدار صلاة العشاء أعمّ من أربع ركعات العشاء يفهم من كلام الإمام عليه السلام عموم الاختصاص لأربع ركعات الحاضر وركعتي المسافر والخائف ، وإذا أراد نقل الحديث بالمعنى فلا يبدّل مقدار صلاة العشاء بأربع ركعات العشاء ، بخلاف غير الفقيه الّذي ليس عالما بمواقع المعاني فربّما يختلط عليه فيفهم من مقدار صلاة العشاء أربع ركعات العشاء ، حتّى أنّه عند النقل بالمعنى يعبّر عنه بذلك فيتغيّر به الحكم الشرعي لعدم استفادته حكم الاختصاص لركعتي المسافر والخائف.

وبالجملة للفقاهة والأفقهيّة مدخليّة تامّة في قرب المضمون وأقربيّته إلى الواقع.

ثمّ إنّ الأعدليّة وإن كانت تستلزم الأصدقيّة على تقدير رجوعها إلى السند كما أنّ العدالة تستلزم الصدق ، إلاّ أنّه ربّما يمكن الفرق بينهما بأنّ اعتبار العدالة يمكن أن لا يكون لأجل مطابقة الواقع بل لخصوصيّة اخرى موجبة لمصلحة ثانويّة ، بخلاف الصدق الّذي هو عبارة عن مطابقة الخبر للواقع فإنّ اعتباره لا يكون إلاّ لأجل المطابقة ، فاعتبار الأصدقيّة لا تكون إلاّ من جهة أنّ خبر الأصدق أقرب إلى الواقع من خبر غيره ، فيحصل منه كلّيّة مطّردة في سائر المقامات أيضا ، وهو أنّ مناط الترجيح هو الأقربيّة إلى الواقع ، فكلّما كان أحد المتعارضين أقرب إلى الواقع فهو المتعيّن ، فإذا فرضنا مع أحد المتعارضين أمارة خارجيّة غير منصوصة أوجبت كونه أقرب إلى الواقع من شهرة أو أولويّة أو نحوها تعيّن الأخذ به لهذه الضابطة.

ثمّ إنّ « واو » الجمع في عطف هذه الصفات بعضها إلى بعض تفيد بظاهرها كون المجموع بوصف الاجتماع مرجّحا ، وأمّا كون كلّ واحد أو كلّ إثنين أو كلّ ثلاثة منها أيضا مرجّحا فلا يستفاد من ظاهر قوله : « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما » إلى آخره.

وحينئذ فلا بدّ في إثبات مرجّحية ما عدا الجميع من إجماع على نفي مدخليّة الهيئة الاجتماعيّة في الترجيح بتلك الصفات ، أو رواية اخرى قاضية بذلك ، أو قرينة في نفس المقبولة كاشفة عن عدم كون « الواو » على ظاهره ، بإرادة صلاحية هذه الصفات للترجيح مع الاجتماع ومع الانفراد وحدانيّا وثنائيّا وثلاثيّا ، ولكنّ القرينة على ذلك موجودة في نفس هذه الرواية ، وهي قول السائل : « فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه » مرادا به فرض التساوي بين الراويين في العدالة والفقاهة والصدق والورع بحيث لا يفضل أحدهما على صاحبه ، ومرجعه إلى انتفاء الأفضليّة فيهما بالنسبة

ص: 625

إلى جميع الصفات الأربع ، وضابطه عدم وقوع أفعل تفضيل بينهما ، أي لا يقال على واحد منهما : أنّه أعدل ولا أفقه ولا أصدق ولا أورع ، فإنّه بعدم تقدّم ذكر المرجّحات الأربع يقضي بأنّ اجتماعها ممّا لا مدخليّة في الترجيح والمرجّحيّة ، بل المجموع وكلّ واحد وكلّ إثنين وكلّ ثلاثة متشاركة في أصل المرجّحيّة.

ووجه الدلالة عليه : أنّ الجواب السابق بظاهره يفيد وجود المرجّحات الأربع بأجمعها في أحد الخبرين ، والسؤال اللاحق فرض لانتفاء الجميع عنهما معا ، وبينهما باعتبار وجود واحدة منها تارة ووجود إثنتين منهما اخرى ووجود ثلاثة منها ثالثة وسائط كثيرة ترتقي إلى أربعة عشر صورة ، وهذه الوسائط إمّا مندرجة في عنوان الجواب السابق المسوق لإعطاء المرجّحيّة ، أو في عنوان السؤال اللاحق المسوق لفرض التساوي ، والثاني باطل لعدم صدق قوله : « لا يفضل أحدهما على صاحبه » بمعنى عدم وقوع أفعل تفضيل بينهما على شيء من تلك الوسائط كما هو واضح ، فتعيّن الأوّل ولا يستقيم ذلك إلاّ على تقدير عدم كون « الواو » على ظاهره المفيد لاعتبار الاجتماع.

وتوهّم جواز الإهمال بالقياس إلى الوسائط المذكورة - على معنى عدم تعرّض الرواية جوابا وسؤالا لحال تلك الوسائط - فلا يفيد قوله عليه السلام : « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما » حكما لها ، ولا قوله : « فإنّهما عدلان مرضيّان » - إلى آخره - سؤالا عن حكمها.

يدفعه : أنّ احتمال الإهمال من الإمام عليه السلام والسائل في هذه الوسائط على كثرتها مع كون كلّ منها أو أكثرها أكثر وقوعا في الخارج من صورة اجتماع المرجّحات الأربع في راو واحد ، وصورة انتفاء الجميع عن الراويين معا ، بل مع كثرة وقوع كلّ من الوسائط وندرة وقوع كلّ من اجتماع الجميع وانتفاء الجميع بعيد بل في غاية البعد ، فلا بدّ إمّا من القول بأنّ الإمام عليه السلام تعرّض لبيان حكمها في الجواب السابق ، أو من القول بأنّ السائل تعرّض للسؤال عن حكمها في السؤال اللاحق ، فلا محالة هو إمّا استفاد حكمها من حيث وجوب الترجيح وعدم الفرق فيه بين وجود الجميع ووجود البعض وحدانيّا وثنائيّا وثلاثيّا من قول الإمام عليه السلام : « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما » إلى آخره ، أو تعرّض للسؤال عن حكمها وحكم انتفاء الجميع بقوله : « أنّهما عدلان مرضيّان لا يفضل على صاحبه » ، والثاني باطل لما عرفت من عدم صدق عنوان هذا السؤال على شيء من الوسائط ، والأوّل هو المطلوب.

وبالجملة فظاهر أنّ السائل فهم من كلام الإمام عليه السلام كون الصفات المذكورة مع الاجتماع

ص: 626

ومع الانفراد مرجّحة ، وبذلك يصرف « الواو » عمّا هو ظاهر فيه من مدخليّة اجتماع الأربع في المرجّحيّة.

لا يقال : إنّ ما ذكرته على تقدير استفادته من السؤال لا يجدي نفعا في إثبات عموم المرجّحية لما عدا صورة اجتماع الأربع ، لأنّه فهم من السائل وهو ليس بمعصوم حتّى يكون فهمه مناطا للحكم.

لأنّا نقول أوّلا : أنّ الرواية من الخطابات الشفاهيّة ، والراوي مخاطب وفهم المخاطب في الخطابات الشفاهيّة إذا كان من أهل اللسان حجّة.

وثانيا : أنّ المعصوم قرّره على فهمه وهو حجّة اخرى.

وبما بيّنّاه يندفع ما أورده بعض المجتهدين على الأخباريّة - في قولهم بمرجّحية كلّ واحد من الصفات الأربع بانفراده ، مع مصيرهم إلى الاقتصار على المرجّحات المنصوصة وعدم التعدّي والتسرّي إلى غيرها - من النقض بأنّ : ما بنيتم عليه ينقضه عملكم ، لأنّ ما يدلّ عليه النصّ في هذه الصفات إنّما هو مرجّحية المجموع من حيث هو لمكان « واو » الجمع ، وقد تعدّيتم عن المنصوص إلى غيره وهو جعل كلّ واحد مرجّحا ولو مع الانفراد.

إذ يمكن لهم التفصّي عن ذلك بأنّ قضيّة « واو » الجمع وإن كان كذلك إلاّ أنّا فهمنا من القرينة الموجودة في النصّ خلافه ، فخرجنا من مقتضى الظاهر من جهة هذه القرينة.

ثمّ على ما بيّنّاه واستظهرناه أمكن دعوى جواز التسرّي إلى غير هذه الصفات ممّا ليس بمنصوص من صفات الراوي ، لأنّ ما فرضه السائل سؤال عن التساوي وعدم التفاضل في جميع الجهات الراجعة إلى الراوي كما هو المنساق من قوله : « لا يفضل أحدهما على صاحبه » عرفا كما لا يخفى على من تأمّل قليلا ، فيكون مفاده مع انضمام التقرير : « أنّ كلّ فضيلة في أحد الراويين يوجب رجحان روايته وإن لم تكن من الامور المنصوص بها بالخصوص » مضافا إلى ما تقدّم وما سيأتي في كلام الإمام عليه السلام ممّا كان دلالته على هذا المعنى أظهر وأوضح من ذلك.

ثمّ إنّ الإمام عليه السلام بعد السؤال المذكور المفروض لصورة اليأس عن الترجيح بالصفات الراجعة إلى الراوي المعبّر عنها بالمرجّحات السنديّة انتقل عنها إلى مرجّحات المتن ، فقال : « ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الّذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك ، فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذّ الّذي ليس بمشهور » والمراد بالمجمع عليه ما اتّفق

ص: 627

أصحاب الحديث على روايته على وجه القبول ، بعبارة اخرى : اتّفاقهم على روايته وتلقّيه بالقبول ، وبالشاذّ ما اختصّ روايته وقبوله ببعض هؤلاء ، على معنى أنّ ذلك البعض مع روايته لما رواه الآخرون وقبوله إيّاه روى غيره ممّا لم يروه الآخرون وقبله ، فالأوّل هو المجمع عليه والثاني هو الشاذّ.

ومحصّل الفرق بينهما : أنّ المجمع [ عليه ] ما اتّفق أصحاب الحديث ونقلته على نقله من الراوي عن الإمام ، والشاذّ ما نقله بعض هؤلاء من الراوي عن الإمام ، وكون المجمع عليه عبارة عن هذا المعنى لا ينافيه إطلاق « المشهور » عليه في قوله : « يترك الشاذّ الّذي ليس بمشهور » ، إذ الشهرة لا تلازم وجود الخلاف لغة ولا عرفا عامّا ولا خاصّا ، بأن يكون المشهور ملازما لأن يكون في مقابله خلاف ، فإنّ الشهرة لغة عبارة عن ظهور الشيء ، والمشهور : المعروف ، ومنه : « شهر سيفه » ، أي سلّه ، لأنّه بإخراجه من الغمد أظهره ، وهذا يشمل صورة الاتّفاق وما يوجد معه الخلاف فيكون أعمّ من المجمع عليه مطلقا ، فإطلاقه عليه في الرواية إنّما هو باعتبار أحد فرديه ، فحمله عليه ليس تصرّفا فيه حتّى يستبعد لعدم تحقّق نقل فيه لغة ولا عرفا عامّا ولا خاصّا ، وإطلاق الشهرة في لسان الاصوليّين على ما في مقابله خلاف حيثما يطلق عليه - قبالا للإجماع بناء على إطلاقه على ما لا يقابله الخلاف - غير مناف لذلك أيضا ، بل هو أيضا باعتبار المعنى العامّ لعدم ابتنائه على النقل ، ولو تصرّف فهو تصرّف محدث مبتن على الاصطلاح ، وظاهر أنّ الخطابات الشرعيّة لا تنزّل على الامور المحدثة الاصطلاحيّة ، بل العبرة فيها إنّما هي بالمعاني اللغويّة أو العرفيّة.

قوله : « فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ... الخ » تعليل لما أمر به من الأخذ بالمجمع عليه ، فيفيد بعمومه جواز التعدّي إلى كلّ مزيّة موجبة لانتفاء الريب في جانبها كائنة ما كانت ، وذلك لأنّ الريب المنفيّ في قضيّة التعليل عن المجمع عليه ليس عبارة عن سنخ الريب وطبيعته حتّى يكون معناه : أنّه لا ريب فيه أصلا لا سندا ولا متنا ولا دلالة ولا مضمونا ، ويشهد ذلك امور :

منها : تأخّر ذكره عن الأعدليّة وغيرها من صفات الراوي ومرجّحات السند ، فإنّه قاض بأنّ رتبته متأخّرة عن مرتبة أعدليّة الراوي وغيرها من الثلاث المتقدّمة ، وذلك لا يجامع انتفاء طبيعة الريب عنه المستلزم لانتفائه بجميع أفراده وإلاّ لوجب ذكره قبل ذكرها.

ومنها : ما يفرضه الراوي فيما بعد ذلك من كونهما معا مشهورين رواهما الثقات عنكم ،

ص: 628

لوضوح امتناع انتفاء طبيعة الريب عن كلّ من المتعارضين وإلاّ لزم التناقض.

ومنها : المرجّحات الّتي ذكرها الإمام عليه السلام فيما بعد ذلك ، فإنّ كلّ مرجوح في مقابلة راجحه فيه ريب.

فلا بدّ وأن يكون الريب المنفيّ هنا إضافيّا ، على معنى أنّ الريب المنفيّ فيه هو شخص الريب الّذي هو موجود في الشاذّ ، ومعناه : أنّه بالإضافة إلى الشاذّ لا ريب فيه وإن كان فيه ريب آخر مشترك بينه وبين الشاذّ ، ومرجعه إلى اختصاص الشاذّ لشذوذه بريب لا يجري في المجمع عليه.

وبعبارة اخرى : أنّ المجمع عليه لكونه مجمعا عليه لا يحتمل فيه ما احتمل في الشاذّ لكونه شاذّا ، وإن كانا متشاركين في الاحتمالات الاخر الجارية فيهما من حيث إنّهما خبر العدل الفقيه الصادق الورع ، فيستفاد من التعليل المذكور - بعد توجيه الريب المنفيّ بما عرفت - كبرى كلّية وهو : أنّه كلّما دار الأمر بين شيئين لا يجري في أحدهما ما يجري في صاحبه من الريب والاحتمال وجب فيهما الأخذ بما لا يجري فيه الريب والاحتمال ، وحينئذ يتعدّى إلى المرجّحات الغير المنصوصة أيضا ممّا أمكن اندراجه تحت الكلّية المذكورة ، بل يتعدّى إلى ما لو كان فيهما معا ريب ولكن كان الريب الموجود في أحدهما أقلّ أو أضعف منه في الآخر فيتعيّن الأخذ به ، لأنّه لا يجري فيه ما يجري في صاحبه من الريب ، بل يمكن إجراء هذا العموم في الظنّ بل مطلق الأدلّة الظنّية ، نظرا إلى أنّ الموهوم يجري فيه من الريب والاحتمال ما لا يجري في المظنون - ولو باعتبار ضعف الاحتمال فيه - فيجب اتّباعه ، وبذلك يثبت أصل حجّية الظنّ بل الأدلّة الظنّية أيضا.

وممّا يشهد بالعموم والكلّية المذكورين استشهاد الإمام عليه السلام لما أعطاه من وجوب الأخذ بالمجمع عليه لأنّه لا ريب فيه ، ووجوب طرح الشاذّ الّذي فيه الريب بقوله عليه السلام : « إنّما الامور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، أمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ إلى اللّه ».

وظاهر أنّ المجمع عليه مندرج في الأمر البيّن رشده ، فينتظم بذلك قياس آخر صورته : « أنّ المجمع عليه أمر بيّن رشده ، وكلّ أمر بيّن رشده يجب اتّباعه ».

ولا ريب أنّ كون المجمع عليه من الأمر البيّن رشده لا جهة له إلاّ ما تقدّم من أنّه لا يجري فيه من الريب ما يجري في الشاذّ ، وقضيّة ذلك أن يكون مناط بيّنيّة الأمر أن لا يجري فيه ما يجري في غيره من الريب والاحتمال ، وقرينة المقابلة بينه وبين الأمر البيّن

ص: 629

غيّة قاضية بأن يكون مناط بيّنيّة غيّة جريان ما لا يجري في المجمع عليه من الريب والاحتمال فيه.

وقد ظهر من طريق البيان المذكور كون الخبر الشاذّ مندرجا في البيّن غيّة وفاقا لبعض الأعلام ، وخلافا للأخباريّين فزعموا دخوله في الأمر المشكل الّذي هو من قسم الشبهات المذكورة في كلام رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، ولذا تمسّكوا لقولهم بوجوب الاحتياط والتوقّف بذلك الحديث المعبّر عنه بحديث التثليث.

ويظهر الإذعان به من بعض مشايخنا أيضا ، والأقوى هو الأوّل لامور :

منها : ما عرفت من قضاء القرينة المقابلة بذلك بعد توجيه تبيّن الغيّ بوجود ريب فيه غير موجود في مقابله.

ومنها : قوله عليه السلام : « ويترك الشاذّ » إلى آخره ، وقوله الآخر : « فيجتنب » ، المفيد بظاهره لوجوب طرح الخبر الشاذّ ، كما هو حكم الترجيح أيضا في جميع مراتبه ، وهذا لا يلائم قوله عليه السلام : « يردّ إلى اللّه » في حكم الأمر المشكل المفيد لوجوب الوقف المغاير للطرح ، فتأمّل.

ومنها : أنّه لو لا دخوله في القسم الثاني لزم من دخوله في القسم الثالث كون الترجيح والأخذ بالمرجّحات مستحبّا ، لأنّه حكم الشبهات الّتي يندرج فيها الأمر المشكل على ما حقّقناه في محلّه من العمل بأصل البراءة في الشبهات وجوبيّة وتحريميّة وعدم وجوب الاحتياط فيها ، بل هو مستحبّ حملا للأمر بالاجتناب عليه ، واللازم باطل كما تقدّم تحقيقه في ردّ السيّد الصدر القائل باستحباب الترجيح.

ومن الأعلام من استدلّ في إلزام الأخباريّين على بطلان زعمهم بمثل ذلك ، إلاّ أنّه قرّر الملازمة على نهج آخر وهو - على ما استفدناه من عبارته مع ما فيها من الغلق والإجمال - : أنّ كون الخبر الشاذّ من الأمر المشكل المندرج في الشبهات يقضي بكون المجمع عليه أيضا كالخبر الشاذّ من المشتبه ، لأنّ الاشتباه أمر نسبي يقتضي في نحو المقام طرفين ، فإذا كان أحد طرفيه الخبر الشاذّ كان طرفه الآخر الخبر المجمع عليه.

ولا ريب أنّ مرجع الاشتباه في المجمع عليه - على تقدير تسليمه - إلى الشبهة الوجوبيّة ، لدوران الأمر فيهما بين وجوب العمل بالمجمع عليه بعينه وجواز العمل به وبالخبر الشاذّ ، وبناؤهم في الشبهات الوجوبيّة على البراءة واستحباب الاحتياط ، ويلزم منه استحباب الترجيح بالشهرة بل وبغيرها من المرجّحات ، لكون المقبولة المتكفّلة لبيان المرجّحات في

ص: 630

سياق واحد وهم لا يقولون به.

أقول : يمكن لهم الذبّ عن ذلك بمنع الملازمة المذكورة ، لأنّ الشبهة الوجوبيّة الّتي نحن نقول فيها بالبراءة ما لو كان من باب الشكّ في التكليف الابتدائي ، والشبهة في مسألة دوران الوجوب - بعد ثبوته يقينا - بين التعيين والتخيير راجعة إلى الشكّ في المكلّف به ، إذ لا يدرى أنّ الواجب هو العمل بأحد الأمرين على التعيين أو العمل بكلّ واحد على البدل؟

على أنّ التعيين والتخيير من منوّعات الواجب لا الوجوب ، ولذا يقال : « الواجب التعييني » و « الواجب التخييري » ولو فرض لحوقهما في بعض الأحيان الوجوب فهو من باب وصف الشيء بحال متعلّقه ، ونحن في الشبهات الوجوبيّة الراجعة إلى المكلّف به قائلون بوجوب الاحتياط عاملون بقاعدة الاشتغال لا أصالة البراءة.

فالحاصل : أنّ الأخباريّين يمكن لهم التفصّي عن الإلزام المذكور بالملازمة (1) المذكورة فالوجه في الملازمة هو ما ذكرناه ، غير أنّها دليل إقناعيّ لا يفي بإلزامهم ، إلاّ أنّ الأمر في ذلك سهل ، حيث لم نقف لهم على وجه يعتمد عليه ، ولعلّهم حملوا تبيّن الغيّ على صورة العلم.

ويزيّفه : أنّه ليس على حقيقته كما أنّ البيّن رشده أيضا كذلك.

أو أنّ إطلاقهما على المجمع عليه والخبر الشاذّ مبنيّ على ضرب من الاستعارة والتشبيه باعتبار المشابهة في الحكم من حيث وجوب الاتّباع ووجوب الاجتناب وإلاّ يلغو الاستشهاد ، لعدم العلم برشد الأوّل أعني صوابه ، ولا بغيّ الثاني وهو خلاف الصواب.

وربّما يستشكل في الرواية بأنّ قضيّة الترتيب الذكري بين الشهرة وبين ما تقدّم من صفات الراوي اعتبار الترتيب بينهما في الحكم ، فيقدّم رواية الأعدل أو الأفقه أو الأورع أو الأصدق ولو كان شاذّا على المجمع عليه ، لتقدّم مرتبة الأعدليّة وأخواتها في الترجيح على الشهرة ، فلو كان خبران أحدهما مجمع عليه والآخر شاذّ ولكن روايه عن الإمام أعدل أو أفقه مثلا من راوي الأوّل المجمع عليه عنه (2) وجب الأخذ به دون المجمع عليه ، عملا بظاهر الرواية المفيدة لاعتبار الترتيب ، وهذا يشبه بكونه خلاف الإجماع من جهة جريان سيرة العلماء بالعمل بالخبر المشهور دون غيره وإن كان راويه أعدل من راوي المشهور.

ص: 631


1- والأوفق بسياق العبارة أن يقال : « إنّ الأخباريّين يمكن لهم التفصّي عن الإلزام المذكور بمنع الملازمة المذكورة ، فالوجه في منع الملازمة هو ما ذكرناه ... » واللّه العالم.
2- عطف على قوله : « ولعلّهم حملوا تبيّن الغيّ على صورة العلم » ، فافهم وتأمّل.

وأمّا ما قد يسبق إلى الوهم من أنّ هذا الفرض ممّا لا يكاد يتحقّق ، بناء على ما تقدّم من تفسير المجمع عليه باتّفاق أصحاب الحديث على نقله وروايته وتفسير الخبر الشاذّ باختصاص نقله وروايته ببعض هؤلاء ، فإنّ راوي الشاذّ على هذا التقدير قد روى المجمع عليه أيضا لأنّه من جملة نقلته ، فلا يصحّ وقوع أفعل التفضيل عليه باعتبار روايته للخبر الشاذّ لا باعتبار روايته للخبر المجمع عليه.

فيدفعه : ما نبّهنا عليه عند تفسير النوعين من أنّ المجمع عليه ما اتّفق جميع الأصحاب على نقله من الراوي من الإمام والخبر الشاذّ ما اختصّ نقله من الراوي بواحد ، فالراوي في كلّ منهما من الإمام واحد لا أنّه في أحدهما جميع الأصحاب ، ولذا قال السائل عند فرض التساوي بينهما من جهة الصفات الأربع : « فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا » مع أنّه لو لا ذلك لكان الخبر المجمع عليه في كثير من أفراده من المتواتر بل ممّا فوق التواتر في كثرة المخبرين وفي جملة اخرى من المستفيض وما يقرب من التواتر.

وعلى التقديرين بل التقادير يخرج عن التعارض ولو لمزيّة كثرة الرواة واستفاضته.

وبالجملة فضابط الخبر المجمع عليه ليس هو كثرة الرواة من الإمام ولا الاتّفاق على روايته من الإمام ، بل الراوي فيه من الإمام واحد كما أنّه في الخبر الشاذّ واحد ، فهذان الراويان قد ينظر فيهما من حيث العدالة ، وقد ينظر فيهما من حيث الفقاهة ، وقد ينظر فيهما من حيث الصدق ، وقد ينظر فيهما من حيث الورع ، فإن كان أحدهما أعدل من الآخر أو أفقه أو أصدق أو أورع على سبيل منع الخلوّ يقدّم روايته على رواية صاحبه مطلقا ، وإن كان الأوّل من الشاذّ والثاني من المجمع عليه ، وهذا هو محلّ الإشكال بالنظر إلى مقتضى المقبولة من تأخّر رتبة الترجيح بالشهرة من الترجيح بالأعدليّة وأخواتها الّتي هي من صفات الراوي المعبّر عنها بالمرجّحات السنديّة.

وأمّا ما قد يقال في التفصّي عن الإشكال - من عدم كون غرض الإمام عليه السلام حصر المرجّحات فيما ذكره ، ولا استيفاء جميعها واستقصائها ، ولا بيان كيفيّة الترجيح بها ، وإنّما ذكر الامور المذكورة في المقبولة من باب المثال ، قصدا إلى بيان أنّ الأعدليّة ممّا يصلح للمرجّحية وكذلك الأفقهيّة والأصدقيّة والأورعيّة ، وأنّ الشهرة أيضا تصلح للمرجّحية ، فلم يتعلّق غرضه بأزيد من ذلك كمّا ولا كيفا ، فلا يستفاد منها اعتبار الترتيب حتّى ينافي الإجماع المذكور على تقديم الشهرة على المرجّحات الأربع المتقدّمة عليها في الذكر -

ص: 632

فممّا لا وقع له ، إذ مبنى الإشكال المذكور على ظهور الترتيب الذكري في اعتبار الترتيب ، بل هو ظاهر سياق السؤال والجواب مع انضمام إطلاق الأمر بالأخذ بما رواه الأعدل والأفقه والأصدق والأورع بالقياس إلى كون أحدهما مشهورا والآخر شاذّا ، وإلى كونهما مشهورين ، فما ذكر في التفصّي إبداء احتمال مخالف للظاهر ، فلابدّ في تنزيل الرواية عليه من شاهد ولا يكفي فيه مجرّد الاحتمال.

والتحقيق في رفع الإشكال إمّا منع الإجمال المدّعى على العمل بالخبر المشهور دون غيره وإن كان راويه أعدل من راوي المشهور ، أو تقييد معقده بعدم ظهور أعدليّة راوي غير المشهور لهم ، على معنى إجماعهم على العمل بالخبر المشهور دون غيره وإن كان راويه أعدل في الواقع لا في نظرهم لعدم معرفتهم للأعدل من العادل ولا الأفقه من الفقيه.

وتوضيح ذلك : أنّ العمل بالمرجّحات إن كان من باب الظنّ الخاصّ المقتضي للاقتصار على المنصوص وعدم التعدّي منه إلى غير المنصوص فنمنع إجماع العلماء على العمل بالخبر المشهور مطلقا ولو مع وجود رواية الأعدل أو الأفقه ونحوه ، كيف والأخباريّة منهم القائلة بالظنّ الخاصّ وعدم جواز التعدّي عن المرجّحات المنصوصة لا يقولون بهذه المقالة ، بل اللازم من مذهبهم عدم الأخذ بالخبر المشهور ما دامت رواية الأعدل أو الأفقه موجودة.

ومع ذلك كيف يتحقّق الإجماع على تقديم المشهور مطلقا ، إلاّ أن يراد به إجماع من عدا الأخباريّة من أصحابنا المجتهدين.

وإن كان من باب الظنّ المطلق على معنى أنّ المرجّحات إنّما يؤخذ بها لأنّها تفيد الوثوق والاطمئنان بصدق الخبر لا مطلقا كما عليه الأكثر وأصحابنا المجتهدين ، فلابدّ من تقييد معقد الإجماع المدّعى على تقديم الخبر المشهور على غيره مطلقا ، بأن يقال : إنّ الترجيح بالشهرة ليس إلاّ من جهة أنّ الشهرة تفيد الوثوق والاطمئنان بصدق الخبر ، وهذا كما ترى موجود في خبر الأعدل أو الأفقه أو الأصدق أو الأورع أيضا ، فإنّ الأعدليّة وغيرها ربّما تفيد ظنّ الصدق والوثوق به ، بل نشاهد في فتاوى مجتهد أنّ إخبار عادل وفقيه بفتوى من فتاوى المجتهد عن سماع من المجتهد يفيد من الوثوق والاطمئنان ما لا يفيده شهرة خلافه بين مقلّديه ، فلم لا يجوز أن يكون نظر الإمام عليه السلام في تقديم الأعلميّة والأفقهيّة وغيرها إلى هذه الجهة؟

ومن البيّن أنّ الحال إذا كان هذه فيجب تقديم رواية الأعدل أو الأفقه على رواية

ص: 633

غيره وإن كانت مشهورة بين الأصحاب ، لكون الوثوق والاطمئنان بالصدق في جانب الأعدل والأفقه ، ولكنّه فرع على التميّز ومعرفة الموضوع وإحراز الأعلميّة والأفقهيّة والأصدقيّة والأورعيّة ، وهذا أمر صار في غير زمان الأئمّة عليهم السلام ولا سيّما أزماننا هذه من المشكلات من جهة بعد العهد وعدم ملاقاة الرواة وعدم الاطّلاع على مراتبهم في العدالة والعلم والفقاهة ونحوها ، فصار معرفة أنّ هذا الراوي في العدالة أو الفقاهة كان بتلك المنزلة وإنّ غيره لم يكن بتلك المنزلة في غاية العسر والصعوبة ، بل ربّما كان متعذّرا ، فلأجل ذلك جرى ديدن العلماء بالعمل بالخبر المشهور وترك الشاذّ الغير المشهور ، فإنّه ليس من جهة بنائهم على أنّ الخبر الشاذّ لا يعمل به وإن كان راويه أعدل والوثوق به أكثر ، بل من جهة أنّه لم يظهر لهم الأعدليّة الموجبة لزيادة الوثوق ، بخلاف عصر الأئمّة عليهم السلام فإنّ الأصحاب ثمّة كانوا يعرفون العادل من الفاسق والأعدل من العادل والأفقه من الفقيه ، ولذا كان الإمام عليه السلام يأمرهم بالأخذ بخبر الأعدل والأفقه ونحوه ثمّ بالأخذ بالمشهور مع التساوي في العدالة والفقاهة وغيرها.

ثمّ قال : « قلت : فإن كان الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم » وهذا شاهد قويّ بل دليل قطعي على أنّ المراد بالشهرة في الخبر المشهور المجمع عليه هو الشهرة في الرواية ، على معنى اتّفاق أصحاب الحديث على نقله من الراوي لا الشهرة في الرواية والعمل معا ، ولا الشهرة في العمل فقط ، ولا الشهرة في الفتوى وهي اتّفاقهم على الفتوى بما وافق مدلول الخبر من دون أن يستندوا فيها إليه ولا روايتهم إيّاه.

أمّا الأخير فواضح ، وأمّا الثاني والثالث فلأنّ الاتّفاق على العمل بالمتنافيين غير معقول ، بخلاف اتّفاقهم على نقل المتعارضين وذكرهما في كتب الحديث أو الفقه ، فإنّه ممّا لا استحالة فيه بل ولا بعد فيه بل هو واقع كثيرا.

قوله عليه السلام : « ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة » وفي هذا أيضا شهادة بعدم كون نظر الإمام عليه السلام في الترجيح مقصورا على ما يذكر من المرجّحات ، وأنّ ما ذكره إنّما هو من باب المثال لا من جهة الحصر ، وإلاّ فقضيّة ظاهر « واو » الجمع مدخليّة الانضمام بين الثلاثة في المرجّحية والترجيح بها ، وهو خلاف الإجماع على كون كلّ من موافقة الكتاب وموافقة السنّة بانفراده مرجّحا من دون حاجة إلى انضمام الآخر إليه ، نظرا إلى أنّ المراد بالسنّة هي

ص: 634

السنّة النبويّة القطعيّة قولا أو فعلا أو تقريرا ، مع أنّ كون كلّ منهما دليلا مستقلاّ وحجّة برأسها ممّا يقتضي كون موافقة كلّ بانفراده مرجّحا بل بطريق أولى ، فلاجهة لجعل المجموع مرجّحا إلاّ إرادة المثال.

ثمّ الموافقة للكتاب والسنّة قد تكون حقيقيّة ، وقد تكون حكميّة ، والحقيقيّة قد تكون كلّية ويعبّر عنها بالتبائن الكلّي ، وقد تكون جزئيّة ويعبّر عنها بالتبائن الجزئي.

أمّا الاولى : فهي أن يكون الخبر الموافق متّحد الحكم مع الكتاب والسنّة مع كونه متّحد الموضوع معهما ، بأن يكون موضوعه عين موضوعهما.

وأمّا الثانية : فهي أن يكون متّحد الحكم معهما مع كونه متّحد الموضوع معهما باعتبار اندراج موضوعه في موضوعهما.

وأمّا الثالثة : فهي أن لا يتّحد الخبر الموافق معهما موضوعا ولا حكما ، بل كان بينه وبينهما مناسبة مّا من حيث عدم الحرج على الترك أو الفعل.

ويعلم جريان هذه الأقسام في المخالفة للكتاب والسنّة بالمقايسة ، فقد تكون حقيقيّة كلّيّة ، وقد تكون حقيقيّة جزئيّة ، وقد تكون حكميّة.

أمّا القسم : الأوّل فلم نجد له مثالا ، إذ لم يوجد في الأخبار ما خالف الكتاب والسنّة بالتباين الكلّي وكان مع ذلك مشهورا مجمعا عليه.

وأمّا القسم الثاني : فهو ما اختلف حكمه مع حكم الكتاب والسنّة مع اتّحاد موضوعه لموضوعهما باعتبار اندراجه فيه ، ومثاله : الخبر الدالّ على نجاسة الحديد مثلا مع الخبر الدالّ على طهارته قبالا لقوله تعالى : و ( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) ، فإنّ مخالفة الأوّل وموافقة الثاني له حقيقيّة مع كونها جزئيّة باعتبار كون الحديد مندرجا فيما خلق في الأرض.

ومثال الثالث : الخبر الدالّ على وجوب غسل الجمعة أو على حرمة شرب التتن مع الخبر الدالّ على الاستحباب أو على الإباحة قبالا لما دلّ من عموم الكتاب كقوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) أو السنّة كقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم : « رفع عن امّتي تسعة - منها : ما لا يعلمون » على أنّ كلّما لم يعلم حكمه بالخصوص يبنى فيه على البراءة وعدم التكليف ، فإنّ موضوعه ما لم يعلم حكمه بالخصوص وحكمه الإباحة من حيث إنّها حكم ظاهري مجعول للمكلّف الجاهل ، وموضوع الخبرين الواقعة من حيث هي ، والحكم المستفاد من كلّ منهما حكم واقعي مجعول للمكلّف العالم.

ص: 635

ولا ريب أنّ إطلاق الموافقة والمخالفة على مثل ذلك مسامحة في التعبير وإطلاق مجازي ، إذ مع تعدّد الموضوع بكونه ما لم يعلم حكمه بالخصوص في الكتاب والسنّة والواقعة الخاصّة من حيث هي في الخبرين وتغاير الحكم من حيث الظاهريّة والواقعيّة لا موافقة ولا مخالفة حقيقيّة ، فهذا القسم لا يندرج في إطلاق قوله : « فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة » مع أنّ هذا يرجع إلى موافقة الأصل ومخالفته ويدخل في عنوان المقرّر والناقل ، وللكلام في كون موافقة الأصل مرجّحة وعدمها وفي تقديم المقرّر أو الناقل محلّ آخر يأتي.

وينبغي القطع أيضا بخروج القسم الأوّل عن عنوان الترجيح بموافقة الكتاب والسنّة ، وعن إطلاق قوله : « فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة » إلى آخره ، وإن كانت المخالفة في الخبر المخالف حقيقيّة ، لأنّه - مع عدم وجود مثال له - بمخالفته الكلّيّة خرج عن الحجّية وسقط عن الاعتبار ، إذ على تقدير بناء العمل عليه لا جهة لصحّته إلاّ النسخ وهو على ما حقّق في محلّه غير سائغ ، لكونه من نسخ الكتاب والسنّة القطعيّة بخبر الواحد ، مع أنّه من الأخبار الإماميّة - كما هو مورد المقبولة - وهو جهة اخرى لمنع كونه ناسخا لحكم الكتاب والسنّة النبويّة.

وبهذا كلّه يخرج المقام عن عنوان تعارض الدليلين ، فانحصر مورد الترجيح بالموافقة والمخالفة للكتاب والسنّة في القسم الثاني ، وهو الظاهر أيضا من إطلاق قوله : « فما وافق وما خالف ».

ثمّ إنّ الخبرين المشهورين قد يتساويان ويتشاركان في الموافقة أو المخالفة للكتاب والسنّة ، بأن يكونا معا موافقين لهما أو مخالفين لهما ومع ذلك كان أحدهما مخالفا للعامّة والآخر موافقا لهم ، فتعرّض الراوي للسؤال عن حكمه إلاّ أنّه خصّ صورة موافقتهما الكتاب والسنّة بالذكر ، حيث قال : « قلت : جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة ، ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامّة والآخر مخالفا لهم ، بأيّ الخبرين يؤخذ؟ » ومثاله : ما لو ورد خبران في بيع المكره أو البيع الفضولي أحدهما دالّ على الصحّة وهو موافق لقوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) و ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) والآخر على البطلان وهو موافق لقوله تعالى : ( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) وكان بناء العامّة على الصحّة أو البطلان.

ص: 636

قوله : « ما خالف العامّة ففيه الرشاد » أمر بالأخذ بما خالف العامّة تعليلا بأنّ فيه الرشاد ، وفيه أيضا شاهد بأنّ المناط في مقام الترجيح الأخذ بما هو أصوب وأقرب إلى الواقع ، لأنّ الرشاد هو الصواب فدلّ على أنّ الواجب هو الأخذ بكلّ ما أوجب في الخبر كونه رشادا وصوابا.

وعن المحدّث الكاشاني أنّه أورد في المقام في تقديمهم ما خالف العامّة بأنّ ذلك أخذ بمرجّح وطرح لمرجّح آخر وهو موافقة الكتاب ، لأنّ أحد الخبرين المخالف للعامّة مخالف للعامّ الكتابي فالأخذ به وطرح الآخر أخذ بما خالف الكتاب وطرح لما وافقه.

ولكن يدفعه أوّلا : أنّ الخبر المخالف للعامّة كما أنّه مخالف لعامّ كتابي كذلك موافق لعامّ كتابي آخر ، فالأخذ به أخذ بما وافق الكتاب أيضا ، فهو جمع بين مرجّحين ، لا أنّه أخذ بمرجّح وطرح بمرجّح آخر كما لا يخفى.

وثانيا : أنّ تخصيص العامّ الكتابي بخبر الواحد جائز فلابدّ من تخصيص أحد العامّين ، والمانع من أخذ أحد الخبرين مخصّصا له دون آخر في محلّ التعارض إنّما هو الاشتغال بالتعارض ، وإذا ارتفع هذا المانع بتقديم ما خالف العامّة بقي [ الآخر ] سليما عن المعارض فيخصّص به العامّ المخالف له ، وهو الّذي دلّ بعمومه على الصحّة في بيع المكره مثلا أو الفساد في الفضولي في المثال المفروض ، فلا مخالفة فيه بعد إعمال التخصيص للكتاب ، فلا يبقى للكتاب مقتضى يوافقه ما يوافق العامّة حتّى يلزم من تقديم مخالفة العامّة طرح موافقة الكتاب.

وبالجملة الأمر دائر بين طرح مرجّح رأسا وهو مخالفة العامّة والأخذ بذلك المرجّح الموجب لانتفاء موضوع مرجّح آخر ، ولا ريب أنّه لا يلزم من ذلك طرح ذلك المرجّح الآخر لكون السالبة بانتفاء الموضوع ، نظير تقديم الخاصّ على العامّ والدليل الاجتهادي على الأصل ، فإنّه لو قدّمنا العامّ أو الأصل لزم طرح الخاصّ والدليل الاجتهادي المفروض وجود مقتضى الحجّية فيهما ، بخلاف ما لو قدّمنا الخاصّ والدليل الاجتهادي فلا يلزم طرح ، إذ بتقديمهما ينتفي المقتضي لحجّية العامّ وموضوع الأصل.

أمّا الأوّل : فلأنّ حجّية العامّ إنّما هو من جهة أصالة الحقيقة المبنيّة على فقد القرينة ، والخاصّ يصلح قرينة ، فيبقى العمل بالعامّ بلا مقتضى له.

وأمّا الثاني : فلأنّ موضوع الأصل إنّما هو الشكّ أو أنّ العمل به منوط بفقد الدليل

ص: 637

الاجتهادي ، فإذا وجد الدليل ارتفع الشكّ وانتفى الشرط فيبقى بلا موضوع ، فترك العمل به وبالعامّ ليس طرحا لهما ، بل من جهة أنّه لا موضوع لهما ولا محلّ للعمل بهما.

وبالجملة مقتضى مرجّحية مخالفة العامّة وقابليّة العامّ الكتابي للتخصيص وصلاحية الخبر المخالف لأن يكون مخصّصا له نهوض ذلك الخبر لتخصيص العامّ الكتابي ، فيصير من العامّ المخصّص وخرج بذلك عن ظاهره ، فلم يبق للخبر الآخر موافقة له لأنّها أمر إضافيّ نسبي تنتفي بانتفاء أحد منتسبيه وهو هنا ظاهر الكتاب ، فلا يلزم منه طرح مرجّح اصلا ، بخلاف ما لو بنينا على تقديم الخبر الموافق فإنّه يستلزم طرح مرجّح ثابت المرجحيّة وطرح دليل محرز معه مقتضى الحجّية.

وربّما يتوهّم استلزامه الدور أيضا ، بتقريب : أنّ وجوب العمل به موقوف على موافقته الكتاب ، وهي موقوفة على عدم جواز العمل بالخبر المخالف ، وهو موقوف على وجوب العمل به ، فوجوب العمل به موقوف على وجوب العمل به وهو محال ، فتأمّل.

ثمّ قال : « قلت : جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعا » أي وافقا الكتاب والعامّة فيما لو كانت المسألة من خلافيّات العامّة كما في البيع الفضولي مثلا بأن تقول فرقة بصحّته واخرى ببطلانه.

وبالجملة هذا سؤال عن موافقة الخبرين للعامّة والكتاب جميعا ، « قال : تنظر إلى ما هم إليه أميل حكّامهم وقضاتهم ، فيترك ، ويؤخذ الآخر » وقد جعل المرجّح أقلّيّة ميل الحكّام والقضاة.

ثمّ قال : « قلت : فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعا؟ قال : إذا كان ذلك فارجه حتّى تلقى إمامك » وقد سئل عمّا لو كان الخبران بكليهما ممّا يميل إليه الحكّام ، وقوله عليه السلام : « أرجه » إلى آخره ، أمر بالوقف بعد العجز عن الترجيح وفقد المرجّحات ثمّ السؤال عن حقيقة الحال عند الوصول إلى الإمام عليه السلام ، ومن الظاهر أنّه فرع التمكّن من الوصول إلى حضرته ، فيدلّ ذلك على كونهم متمكّنين من العلم والسؤال ، ولأجل ذا قد يقال : إنّ هذا الخبر يدلّ على أنّ حجّية المرجّحات المذكورة فيه بل مطلق المرجّحات بناء على جواز التعدّي إلى غير المنصوصة - كما نبّهنا على استفادته من الخبر وسنوضحه أيضا - إنّما هو من باب الظنّ الخاصّ ، من حيث جواز الأخذ بها في حال إمكان العلم وانفتاح بابه من دون انحصاره بصورة تعذّر العلم وانسداد بابه ، باعتبار كون المجوّز للأخذ بها دليل الانسداد ، نظرا إلى أنّ الأمر بالوقف والسؤال الّذي هو فرع التمكّن من السؤال إنّما وقع عقيب الأمر

ص: 638

بإعمال المرجّحات ، فيكون الأمر بإعمالها أيضا واردا حال التمكّن ، ولا نعني من الانفتاح إلاّ هذا.

بل قد يقال : إنّ هذا الخبر وغيره من الأخبار العلاجيّة بأسرها تدلّ على حجّية أخبار الآحاد من باب الظنّ الخاصّ ، على معنى عدم كون مناط حجّيتها انسداد باب العلم ، لأنّها تقضي بأنّ الرواة السائلين عن علاج المتعارضين كان بناؤهم على العمل بأخبار الآحاد ، والمفروض انفتاح باب العلم لهم لتمكّنهم من السؤال مع تقرير الأئمّة عليهم السلام إيّاهم على هذه الطريقة.

ومن البعيد كون التعارض المسؤول عن حكمه في تلك الروايات واقعا فيما بين الأخبار المتواترة ، وإلاّ ما كان الإمام يأمرهم بالرجوع إلى المرجّحات السنديّة وصفات الراوي من الأعدليّة وغيرهما ممّا يوجب ظنّ الصدور والوثوق به ، بل لا يعقل التعارض بين الأخبار المتواترة بناء على ما تقدّم الإشارة إليه من استحالة تعارض الدليلين القطعيّين ، فلابدّ وأن يكون التعارض المذكور مفروضا في أخبار الآحاد الغير العلميّة.

ومن البيّن أنّ السؤال عن علاج التعارض لم يكن إلاّ لأن يظهر فائدته في مقام العمل ، فلو لا العمل بها جائزا لهم لم يكن للسؤال عن علاج التعارض في متعارضاتها وجه ، ولأجل ذلك قد يعدّ الأخبار العلاجيّة من أدلّة حجّية خبر الواحد بالخصوص لا من جهة انسداد باب العلم.

ولكن التحقيق لا يساعد على استفادة عموم هذا المطلب من هذه الأخبار بالقياس إلى ما هو محلّ النزاع في مسألة حجّية خبر الواحد من الأخبار الموجودة بأيدينا اليوم المودعة في الكتب الأربعة وغيرها الّتي اعتراها من الاختلالات والعوارض والحوادث والسوانح في أسانيدها ومتونها ودلالاتها ما لم يعتر شيء منها أو أكثرها لأخبار الآحاد الموجودة لدى أصحاب الأئمّة المتداولة عندهم ، لجواز كونها نوعا خاصّا في وصف خاصّ وحالة مخصوصة بشرط خاصّ لم يكن شيء من هذه الخصوصيّات موجودة في أخبار اليوم ، ودلالة الروايات على ما ذكر ليست بلفظ عامّ ولا مطلق يتناول بعمومه أو إطلاقه أخبارنا اليوم ، بل بدلالة التزاميّة مع انضمام التقرير إليه ، فلا تكون إلاّ من باب القضيّة المعنويّة على وجه الإهمال الّتي يجب الاقتصار فيها على القدر المعلوم.

وقد يستشكل في أمره عليه السلام بالوقف لصورة فقد المرجّحات دون الرجوع إلى الاصول

ص: 639

والقواعد مثل قاعدة : « القرعة لكلّ أمر مشكل » وقاعدة : « البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر » مع أنّ الواقعة الّتي هي مورد الرواية لا محالة يجري فيها شيء من الاصول أو القواعد ، فالأمر بالوقف دون ما يجري فيها من الأصل أو القاعدة ينافي حجّيتها والتعبّد بها ، فلابدّ إمّا من فرض الواقعة بحيث لا يجري فيها الاصول والقواعد أصلا وهو في غاية الإشكال ، إذ لا يكاد يتّفق من المواريث ولا غيرها من وقائع الخصومة ما لا يجري فيها شيء من الاصول أو القواعد ، أو من القول باختصاص حجّية تلك الاصول والقواعد بحال انسداد باب العلم والواقعة في مورد سؤال الرواية إنّما وقعت في حال الانفتاح ، وهذا أشكل إشكالا من سابقه لأنّ حجّية الاصول والقواعد إنّما تثبت بأدلّة خاصّة لا فرق في إطلاقها بين الانفتاح والانسداد ، ولم يطرأها ما يوجب تخصيصها ولا تقييدها بحالة الانسداد ، لا أنّه ثبت اعتبارها بدليل الانسداد ليختصّ بحالة الانسداد ، فالإشكال المذكور قويّ.

أقول : ويمكن الذبّ عنه بأنّ الواقعة في مورد الرواية - على ما نبّهنا عليه سابقا واستظهرناه من صدر الرواية - من قبيل الشبهات الحكميّة الّتي لا يجري فيها الاصول الّتي اخذ في موضوعها في الشبهات الحكميّة تعذّر العلم ، ولذا يشترط في العلم بها الفحص ، ولا يجري فيها القواعد المشار إليها المختصّة بالموضوعات ، فانحصر المناص في الوقف الّذي أمر به الإمام عليه السلام.

جهات المعارضة بين المقبولة ومرفوعة زرارة

ثمّ إنّ في الأخبار العلاجيّة من جهة معارضته بعضها لبعض مواضع من الإشكال ينبغي الإشارة إليها وإلى ما يدفعها :

الموضع الأوّل : جهات الاختلاف والمعارضة بين المقبولة ومرفوعة زرارة المتقدّمة.

فمنها : المعارضة بينها من حيث تقديم صفات الراوي على الشهرة في المقبولة وتقديم الشهرة على صفات الراوي في المرفوعة.

فإنّ الأوّل يقتضي تقدّم الصفات على الشهرة في المرتبة ، والثاني بالعكس ، مع مخالفة المرفوعة في عدم الاشتمال على الأفقهيّة والأصدقيّة والأورعيّة ، إلاّ أن يدفع ذلك بدعوى كون الأوثقيّة المذكورة فيها جهة جامعة بين الجميع ، لوضوح أنّه يحصل بخبر الأفقه أو الأصدق أو الأورع من الوثوق ما لا يحصل بغيره.

ويشكل : بأنّ الأوثقيّة تختلف معناها باعتبار الحيثيّة ، نظرا إلى أنّ الوثاقة يراد منها ما هو بحسب ما يضاف إليه فيختلف معناها بهذا الاعتبار ، فالأوثقيّة إذا اعتبرت بين

ص: 640

المجتهدين كانت ظاهرة في الأفقهيّة ، وإذا اعتبرت بين الشاهدين كانت ظاهرة في الأعدليّة ، وإذا اعتبرت بين المخبرين كانت ظاهرة في الأصدقيّة ، إذ الوثوق في مقام الإخبار يرجع إلى مطابقة الخبر والمفروض أنّهما في المرفوعة اعتبرت بين المخبرين فتصرف إلى الصدق لا غير ، إلاّ أنّ الأمر في ذلك سهل ، والحمل على إرادة القدر الجامع في مقام الجمع وعلاج التعارض ممكن وإن كان في تعيينه نظر لخلوّه عن شاهد الجمع.

ومنها : اشتمال المرفوعة في صورة تساوي الخبرين في الأعدليّة والأوثقيّة على الأمر بأخذ ما يخالف العامّة مطلقا من غير اعتبار لموافقة الكتاب والسنّة ومخالفتهما ، فتدلّ على تقديم المخالف على الموافق وإن وافق الكتاب والسنّة أيضا ، والمقبولة قد دلّت على تقديم ما يوافقهما على المخالف لها ، ثمّ تقديم ما يخالف العامّة على الموافق لهم على تقدير موافقتهما الكتاب والسنّة.

ومنها : اشتمال المرفوعة بعد تساويهما في مخالفة العامّة أو موافقتهم على الأمر بأخذ ما وافق الاحتياط والمقبولة دلّت في هذا الفرض على وجوب التوقّف من دون اعتبار الاحتياط.

ومنها : اشتمال المرفوعة بعد فقد جميع المرجّحات على الأمر بالتخيير والمقبولة قد دلّت على وجوب التوقّف وعلى هذا فيشكل العمل بهذين الخبرين. ويمكن دفع الإشكال من الجهة الاولى تارة : بالجمع بينهما بالأخذ بظاهر المقبولة وإرجاع المرفوعة إليها بحملها على مجرّد بيان ما يصلح للترجيح من دون نظر وقصد إلى كيفيّة الترجيح وترتيب المرجّحات من حيث التقديم والتأخير كما تقدّم الإشارة إليه.

واخرى : بطرح المرفوعة رأسا لعدم صلاحيتها لمعارضة المقبولة لضعفها بسبب عدم وجودها في جوامع الأخبار ، مع كون المعتبرة موجودة في الجوامع المعتبرة الّتي عليها المعوّل وإليها المرجع كجوامع المشايخ الثلاث عطّر اللّه مراقدهم وشكر اللّه مساعيهم ، مع كونها متلقّاه بالقبول عند الأصحاب ولذا سمّيت مقبولة وهذا يقتضي كون المرفوعة مردودة عندهم.

وثالثة : بترجيح المقبولة بما معها من المرجّحات السنديّة من حيث الأعدليّة والأفقهيّة والأورعيّة ، فإنّ كون المشايخ الثلاث قدّس أرواحهم في أعلى مراتب العدالة والفقاهة والصداقة والورع من الواضحات الّتي لا حاجة لها إلى البيان ، بخلاف المرفوعة فإنّ راويها عن العلاّمة وهو ابن أبي الجمهور ليس بتلك المثابة ، بل هو على ما وصف مقدوح ومطعون عليه ، وربّما يرمى إلى الغلوّ وغيره من الآراء الفاسدة والمذاهب الباطلة ، ولذا ترى أنّ

ص: 641

صاحب الحدائق مع كونه من الأخباريّين الّذين ليس ديدنهم في العمل بالأخبار على الطعن بالسند ولا الراوي ولا اعتبار الأنواع الّتي أحدثها المتأخّرون طعن على هذه الرواية في سندها وراويها ، وقال : لا اعتداد بهذا الخبر ولا بالكتاب الّذي هو فيه ولا بكاتبه ».

لا يقال : إنّ مع المرفوعة أيضا مرجّحا وهو الشهرة ، على ما سبق إليه الإشارة من أنّ المشهور بين العلماء تقديم الخبر المشهور على غيره وإن كان راويه أعدل أو أفقه أو أصدق أو أورع ، والمرفوعة موافقة من حيث الدلالة لتلك الشهرة لقضائها بتقديم المشهور على خبر الأعدل والأفقه وغيره على حسب ما هو المشهور.

لأنّا نمنع تحقّق الشهرة بالمعنى الّذي يعدّ من المرجّحات - وهو شهرة الرواية - في المرفوعة ، بل المتحقّق فيها - على تقدير تسليمه - إنّما هو الشهرة الفتوائيّة لا بمعنى عمل الأكثر بمضمونها لينجبر ضعفها أو قصورها بالعمل ، بل بمعنى موافقة مضمونها لفتوى الأكثر ، وهذه ليست من الشهرة المرجّحة للمتن في شيء ، مع تطرّق المنع إلى تحقّق الشهرة بهذا المعنى لو اريد به أنّ الأصحاب يقدّمون الخبر المشهور على غيره ممّا رواه الأعدل في الواقع مع علمهم بأعدليّة راويه ، ولو اريد به أنّهم يقدّمون المشهور على ما كان راويه أعدل في الواقع من حيث عدم علمهم بأعدليّة الراوي فهو وإن كان مسلّما غير أنّه لا ينافي اتّفاقهم على تقديم رواية الأعدل في موضع العلم بالأعدليّة على رواية غير الأعدل وإن كانت مشهورة من حيث الرواية كما نبّهنا عليه سابقا.

كما يمكن دفع الإشكال من الجهة الثانية : بإعمال قاعدة حمل المطلق على المقيّد ، بتقريب : أنّ النسبة بين المرفوعة والمقبولة عموم وخصوص مطلق ، إذ المقبولة في الأمر بالأخذ بما خالف العامّة مقيّدة بصورة تساوي الخبرين في الموافقة للكتاب والمرفوعة مطلقة بالقياس إلى هذه الصورة وإلى صورة مخالفة أحدهما للكتاب وموافقة الآخر له أو مخالفتهما معا له أو ما لم يكن في الكتاب شيء يوافقهما أو يخالفهما.

ومن البيّن أنّ المطلق قابل للتقييد ، فليحمل على ما عدا صورة موافقة أحدهما ومخالفة الآخر للكتاب.

ومن الجهة الثالثة : بحمل المقبولة على صورة لم يمكن الاحتياط في الواقعة باعتبار دوران الأمر فيها بين المحذورين ، أو على صورة موافقة الخبرين أو مخالفتهما الاحتياط ، نظرا إلى أنّ الأمر بالأخذ بما وافق الاحتياط الوارد في المرفوعة مشروط بأمرين ، أحدهما :

ص: 642

كون الواقعة الّتي تعارض فيها الخبران ممّا يمكن فيه الاحتياط ، وثانيهما : عدم موافقة المتعارضين ولا مخالفتهما الاحتياط ، فالمقبولة منزلة على إحدى صورتي انتفاء الأمرين.

ومن الجهة الرابعة : بالجمع بينهما بحمل المرفوعة على حال انسداد باب العلم وصورة عدم التمكّن من السؤال بخلاف المقبولة الآمرة بالوقف والسؤال المخصوصة بحال التمكّن من العلم والسؤال ، ومرجع هذا الجمع أيضا إلى حمل المطلق على المقيّد كما هو واضح.

تعارض الأخبار العلاجيّة

الموضع الثاني : الّذي هو أيضا من جهات الإشكال بين الأخبار العلاجيّة الاختلاف الموجود فيها من حيث الإطلاق والتقييد في الأمر بالترجيح أو بالتوقّف ، فإنّك إذا لاحظت مجموعها لوجدت بعضها ما هو في الأمر بالترجيح مقيّد بحالة التمكّن من العلم والسؤال كالمقبولة ، وبعضها ما هو مطلق في الأمر بالترجيح كالمرفوعة وغيرها.

وبعضها ما هو مقيّد فيه أيضا بحالة انسداد باب العلم وعدم التمكّن من السؤال كرواية سماعة بن مهران قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : يرد علينا حديثان واحد يأمرنا بالأخذ به والآخر ينهانا ، قال : « لا تعمل بواحد منهما حتّى تلقى صاحبك فتسأل ، قلت : لابدّ أن يعمل بواحد منهما ، قال : خذ بما فيه خلاف العامّة » فإنّ ترخيص العمل بما يخالف العامّة مقيّد بعدم المناص عن العمل بأحدهما ، وهذا لا يتحقّق إلاّ مع عدم تمكّن السؤال حال الابتلاء بالواقعة.

وبعضها ما هو مقيّد في الأمر بالتوقّف بفقد المرجّحات كالمقبولة ، وبعضها ما هو مطلق فيه.

ولكنّ الأمر في الذبّ عن هذا الإشكال أيضا هيّن ، لأنّه يقيّد مطلق الأمر بالتوقّف بما إذا لم يمكن هناك مرجّح أصلا أخذا بموجب الأخبار الآمرة بالترجيح ، ويطرح المقيّد منها بحالة عدم التمكّن أخذا بموجب المقيّد منها بحالة التمكّن الّذي لا ينافي مطلقاتها.

فإن قلت : العكس أيضا ممكن.

قلت : الأوّل راجح بل متعيّن ، لعدم صلاحية المقيّد بعدم التمكّن لمعارضة غيره ، لمكان كثرة الأخبار الآمرة بالترجيح مطلقة ومقيّدة وقوّتها في حدّ ذاتها واعتضادها بالعمل والاعتبار ومرجّحات اخر بخلاف العكس.

القصر على الترجيح الدلالي

الموضع الثالث : ما ينشأ ممّا دلّ على قصر حكم الترجيح على المرجّحات المحرزة للدلالة من دون تعرّض لبيان الترجيح بمرجّحات اخر ممّا يرجع إلى السند أو المتن أو المضمون ، كخبر أبي حيّون عن الرضا عليه السلام : « أنّ في أخبارنا محكما كمحكم القرآن ، ومتشابها كمتشابه القرآن ، فردّوا متشابهها إلى محكمها ، ولا تتّبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا ».

ص: 643

وخبر داود بن فرقد قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام : « يقول أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا ، أنّ الكلمة لتصرف على وجوه ، فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب » فإنّ « المحكم » عند الاصوليّين وإن كان هو القدر المشترك بين النصّ والظاهر ، و « المتشابه » هو القدر المشترك بين المجمل والمؤوّل ، إلاّ أنّ المراد بهما هنا ما يعمّ الأظهر في مقابلة الظاهر والظاهر في مقابلة النصّ ، فالأوّل محكم والثاني متشابه باعتبار تطرّق التأويل إليه بصرفه إلى خلاف الظاهر ، ومعنى الردّ هو الحمل كحمل العامّ على الخاصّ والمطلق على المقيّد والمجمل على المبين.

وقوله : « أنتم أفقه الناس » يريد به الحثّ على المبالغة والاجتهاد في التوصّل إلى المقاصد والمرادات بمراجعة القرائن وإعمال الاصول والقواعد المحرزة للدلالات المشخّصة للمرادات ، ومرجعه إلى الترجيح بمرجّحات الدلالة من دون التفات إلى مرجّحات السند وغيرها ، وهو يقضي بوجوب ردّ العامّ أو المطلق إلى الخاصّ أو المقيّد وإن كان راوي العامّ والمطلق أعدل أو أفقه أو أصدق أو أورع وهكذا ، ويلزم من ذلك طرح الأخبار المتكفّلة لبيان المرجّحات السنديّة وغيرها.

ويندفع هذا الإشكال أيضا : بأن نقول بموجب هذين الخبرين وما بمعناهما ، لأنّه الحقّ الّذي لا محيص عنه لقيام الإجماع الضروري على تقديم المرجّحات الدلاليّة - ما دامت موجودة صالحة لإحراز الدلالة وترجيحها في أحد المتعارضين عليها في المتعارض الآخر - على المرجّحات السنديّة ، وغيرها فحيثما أمكن الجمع بين المتعارضين بترجيح الدلالة لا يلتفت إلى مرجّحات السند أو المتن أو المضمون الّتي مرجع الترجيح بها إلى طرح الخالي عنها ، وعليه مضافا إلى طريقة العلماء بناء العرف أيضا ، ولا يلزم بذلك ما ذكر من طرح الأخبار المتكفّلة لبيان المرجّحات السنديّة وغيرها لأنّها مخصّصة بواسطة الإجماع وغيره بما إذا لم يكن هناك مرجّح دلالتي.

الترجيح بالأحدثيّة

الموضع الرابع : ما ينشأ ممّا ورد في بعض الأخبار من الترجيح بالأحدثيّة ، كما في خبر أبي عمرو الكناني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « يا أبا عمرو أرأيت لو حدّثتك بحديث أو أفتيتك بفتيا ، ثمّ جئت بعد ذلك تسألني عنه فأخبرتك بخلاف ما كنت أخبرتك أو أفتيتك بخلاف ذلك ، بأيّهما كنت تأخذ؟ قلت : بأحدثهما وأدع الآخر ، قال : قد أصبت يا أبا عمرو ، أبى اللّه إلاّ أن يعبد سرّا ، أما واللّه لئن فعلتم ذلك أنّه لخير لي ولكم ، أبى اللّه لنا في دينه إلاّ التقيّة ».

ص: 644

وفي معناه مرسلة الحسين بن المختار عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « أرأيتك لو حدّثتك بحديث العام ثمّ جئتني من قابل فحدّثتك بخلافه بأيّهما كنت تأخذ؟ قال كنت آخذ بالأخير ، فقال لي : رحمك اللّه تعالى ».

ووجه الإشكال : أنّ أحدثيّة أحد الخبرين وتأخّر صدوره عن الآخر لا مدخليّة لها في الترجيح ، وليست مزيّة في الخبر المتأخّر لتوجب تعيّن الأخذ به ، فما معنى الترجيح بها؟ ويمكن الذبّ عن هذا الإشكال : إمّا بأن يقال : إنّ هذا تعبّد من الشارع فيجب علينا اتّباعه وإن لم نعلم حكمته كسائر موارد التعبّد.

أو يقال : بكون ذلك من باب النسخ حيثما اجتمع شرائطه ، فيكون الخبر المتأخّر ناسخا ، ومن حكم الناسخ تعيّن الأخذ به ، بناء على جوازه بعد انقطاع الوحي ، مع كون معنى ناسخيّة المتأخّر كشفه عن انتهاء مدّة الحكم في وقت صدوره ، وقد أخبر به النبيّ وصيّه في زمان الوحي وأعلمه إيّاه وأمره بإظهاره في وقته ، كما يشهد له موثّقة محمّد بن مسلم قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : ما بال أقوام يروون عن فلان عن فلان عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لا يتّهمون بالكذب ، فيجيء منكم خلافه؟ قال : « إنّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن » ولكن يأباه قوله - : « أبي اللّه إلاّ أن يعبد سرّا - إلى قوله - : أبي اللّه لنا في دينه إلاّ التقيّة ».

أو يقال : بخروج الخبرين مخرج التقيّة العمليّة الراجعة إلى الراوي المخاطب لا التقيّة القوليّة المخصوصة بالإمام عليه السلام في البيان مع تردّدها بين الخبر المتقدّم أو الخبر المتأخّر وتعيّن التعبّد بالمتأخّر على التقديرين.

والسرّ في ذلك : أنّ موجب التقيّة في حقّه إن كان متحقّقا حال صدور الأوّل كان الثاني صادرا على جهة بيان الواقع ، وإن كان متحقّقا حال صدور الثاني كان ذلك الثاني صادرا على جهة التقيّة ، وعلى التقديرين يجب التعبّد به.

وبعبارة اخرى : إنّ في زمان صدور الأخير إن لم يكن موجب التقيّة متحقّقا في حقّه وجب عليه اتّباعه على أنّه الحكم الواقعي ، وإن كان متحقّقا وجب عليه اتّباعه على أنّه الحكم الظاهري التابع للتقيّة.

وأمّا احتمال تعيّن التعبّد بالأوّل فممّا يقطع بانتفائه ، لاستلزامه كون الأخير صادرا على جهة التقيّة القوليّة المخصوصة بالإمام عليه السلام ، أو كونه صادرا على جهة اللغويّة ، والأوّل خلاف الفرض والثاني محال على المعصوم الحكيم.

ص: 645

ويشكل هذا البيان بعدم جريانه في حقّ من تأخّر عن الراوي إلى زماننا هذا ، فلم يثبت كون الأحدثيّة مرجّحة مطلقا ، بل غاية ما ثبت كونها مرجّحة في خصوص المخاطب الواحد الّذي اختلف في حقّه الخبران على الوجه الوارد في روايتي الكناني وابن المختار.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : بتعيّن الأخذ بالأحدث لغير المخاطب أيضا ممّن تأخّر عنه ، بتقريب : أنّ صدور هذا الخبر لمخاطبه بحسب الواقع إن كان على جهة بيان الحكم الواقعي فلابدّ لنا من الأخذ به أيضا لمشاركتنا لهم في التكاليف ، وإن كان على جهة التقيّة وكان موجب التقيّة موجودا في حقّنا أيضا فلا مناص لنا من الأخذ به أيضا لوجوب التقيّة علينا أيضا ، وإلاّ فيقع الشكّ في جهة صدور هذا الخبر هل هي التقيّة أو بيان الواقع؟ فينفى احتمال التقيّة فيه بأصالة عدمها الّتي هي من الاصول المحكّمة المجمع عليها ، وبعد انضمام ذلك الأصل إليه يتعيّن الأخذ به أيضا.

ولا يعارض ذلك الأصل بأصالة عدم التقيّة في الخبر المتقدّم ، لأنّا لم نقصد به إلى إثبات كون صدور الخبر المتقدّم على جهة التقيّة ليقابل بنحو هذه المعارضة.

ولكن في هذا البيان من المغالطة ما لا يخفى ، إذ على تقدير كون صدور الخبر الأحدث لمخاطبه على جهة التقيّة - كما عليه مبنى الشقّ الثاني من الترديد - فلا يعقل الشكّ في جهة صدوره وأنّها التقيّة على تقدير عدم تحقّق موجب التقيّة بالنسبة إلينا ، بل قضيّة ذلك أن لا يجوز لنا الأخذ به ويتعيّن الأخذ بالخبر المتقدّم ، فالبيان المذكور واضح الفساد جدّا.

وهاهنا بيان آخر وهو : أنّا نفرض الخبر الأحدث ابتداء مشكوك الحال من حيث جهة صدوره - أهو التقيّة أو لا؟ - في نظرنا كما هو كذلك بالفرض ، وبانضمام أصالة عدم التقيّة إليه نثبت تعيّن العمل به.

ولكن يزيّفه أيضا : أنّ الخبر المتقدّم أيضا مشكوك الحال في نظرنا من هذه الجهة ، وجريان الأصل المذكور لنفي احتمال التقيّة به متساوي النسبة إليه وإلى الخبر الأحدث ، فإعماله في أحدهما دون الآخر تحكّم بحت وترجيح بلا مرجّح. ويمكن إثبات تعيّن الأخذ به ببيان ثالث وهو : أنّ الأحدثيّة في الخبر الأحدث ما يحتمل كونه مرجّحا في نظر الشارع ، فبانضمام قاعدة الاشتغال يتعيّن الأخذ به لا بالخبر المتقدّم.

وهذا أيضا ضعيف ، باعتبار أنّه عدول عمّا نصّ بكونه مرجّحا في الروايتين إلى إثبات تعيّن العمل بقاعدة الاشتغال ، والمقصود بالبحث مرجّحية الأحدثيّة ليكون تعيّن العمل

ص: 646

بالأحدث لترجيحه على معارضه بمرجّح منصوص لا غير.

نعم يمكن إثبات تعيّن الأخذ به من جهة الترجيح بالأحدثيّة بطريق آخر ، وهو التزام كون الصادر على جهة بيان الواقع من المعصوم إنّما هو الخبر الأحدث حتّى بالنسبة إلى مخاطبه ، وأنّ الخبر المتقدّم إنّما صدر على جهة التقيّة لا غير ، وذلك لأنّ المصلحة في زمان الصدور في حقّ بعض الأشخاص قد تقتضي أن يأمره المعصوم أوّلا بالعمل بما وافق العامّة في السرّ والعلانيّة ليعرف عندهم بذلك كونه منهم ، ويطمئنّوا منه بذلك حتّى لا يفتّشوا فيما بعد عن أحواله ، ولم يتعرّضوا له باختباره في عمله في خلواته ، ثمّ يبيّن له فيما بعد ذلك الحكم الواقعي ويأمره بالتعبّد به سرّا وفي خلواته وبكتمانه عن المعاندين ، كما يشهد بذلك قصّة داود بن زربي (1) مع أبي جعفر منصور الدوانيقي المرويّة في باب كون الوضوء مثنى مثنى لا ثلاثا ثلاثا إلاّ في مقام التقيّة ، حيث أمره أبو عبد اللّه عليه السلام أوّلا بما وافق طريقة العامّة حقنا لدمه وصونا له عمّا أضمره منصور من قتله لما بلغه من كونه من الرفضة ثمّ بيّن له الواقع وأمره به.

فلم لا يجوز أن يكون مورد الروايتين ونظائرهما من هذا الباب ، بل لا بدّ من الإذعان به لشهادة قوله في خبر الكناني : « أبى اللّه إلاّ أن يعبد سرّا » فإنّه إرشاد للراوي إلى طريقة العمل بالواقع المخالف لمذهب العامّة في زمان التقيّة ، وأمر بالتعبّد به سرّا لا علانية ، وهذا أيضا ضرب من التقيّة لأنّها قد تتأتّى بإظهار الموافقة لهم وقد تتأتّى بكتمان المخالفة لهم ، وعليه ينطبق قوله عليه السلام : « أبى اللّه لنا في دينه إلاّ التقيّة » بعد ما أمره بالتعبّد بالخبر الأحدث سرّا ، ومرجعه إلى الأمر بكتمان العمل به ، فليتدبّر.

فإنّا لم نجد تحرير المقام في كلام الأعلام ، وكأنّه للغفلة عمّا ذكرناه لم يتعرّض معظم الاصوليّين من أصحابنا لذكر هذا المرجّح أصلا كما نبّه عليه بعض الفضلاء.

المطلب الثاني : جواز التعدّي من المرجّحات المنصوصة إلى غيرها

المطلب الثاني

في أنّه إذا ثبت وجوب الترجيح وعلم المرجّحات المنصوصة الّتي هي صفات الراوي ثمّ الشهرة ثمّ موافقة الكتاب والسنّة ثمّ مخالفة العامّة ثمّ مخالفة أميل حكّامهم ، فهل يجوز التعدّي منها إلى غيرها من المزايا الغير المنصوصة - وهي الّتي لم يصرّح بها في النصوص بالخصوص ، كما عليه جمهور المجتهدين لإجماعهم خلفا عن سلف على عدم الاقتصار ،

ص: 647


1- الوسائل 1 : 443 الباب 31 من أبواب الوضوء ح 2.

بل قيل ادّعى بعضهم ظهور الإجماع على وجوب العمل بالراجح من الدليلين وعدم ظهور الخلاف فيه - أو لا؟ بل يجب الاقتصار على المنصوص بالخصوص كما عليه الأخباريّون ، حتّى أنّه طعن غير واحد منهم على المجتهدين بأنّهم يعتمدون في الترجيحات على امور اعتمد عليها العامّة في كتبهم ممّا ليس منه في النصوص عين ولا أثر ، ومن ذلك ما عن صاحب الحدائق في مقدّمات الكتاب من « أنّه قد ذكر علماء الاصول من الترجيحات في هذا المقام ما لا يرجع أكثرها إلى محصّل ، والمعتمد عندنا ما ورد من أهل بيت الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم من الأخبار المشتملة على وجوه الترجيحات » انتهى.

وظاهر أنّه كما أنّ فائدة البحث عن أصل وجوب الترجيح وعدمه إنّما تظهر على القول بحجّية أخبار الآحاد من باب الظنّ الخاصّ لا من باب الظنّ المطلق المنوط بالظنّ الشخصي الّذي لم ينفتح بابه إلاّ بدليل الانسداد - بل قد عرفت أنّ على هذا المذهب لا يعقل التعارض بين الخبرين ولا يقع قطّ حتّى يرجع لعلاجه إلى المرجّحات ثمّ ينظر في جواز التعدّي وعدمه ، بل المناط هو الظنّ الشخصي وهو دائما يكون مع أحد المتعارضين فيخرج الآخر عن الحجّية - فكذلك فائدة البحث عن التعدّي والاقتصار أيضا تظهر على هذا القول ، إذ على الظنّ المطلق ينوط الأمر بالعمل بكلّ مزيّة أوجبت الظنّ الشخصي بصدور الخبر أو مطابقته الواقع منصوصة كانت أو لا.

وحينئذ نقول : إنّ مقتضى الأصل من جهة الاشتغال بعد ثبوت التكليف في المتعارضين بالعمل إمّا بأحدهما على التعيين أو بكلّ منهما على التخيير هو تعيّن العمل بما اشتمل منهما على ما احتمل كونه مرجّحا عند الشارع ، لكونه مبرئ للذمّة على اليقين بخلاف غيره ، لكون جواز العمل به بل كونه مبرئ للذمّة مشكوكا.

هذا مضافا إلى أنّ المستفاد من أخبار الترجيح المتكفّلة لبيان المرجّحات - ولو بمعونة فهم جمهور الأصحاب وفتاويهم - وجوب العمل بكلّ مزيّة أوجبت أقربيّة ذيها إلى الواقع كائنة ما كانت ، وبذلك يخرج عن إطلاقات أخبار التخيير المتناولة لصورتي وجود المرجّحات الغير المنصوصة مع أحد المتعارضين وانتفائها الحاكمة أو الواردة على الأصل المذكور بحملها على صورة التكافؤ من جميع الجهات من باب حمل المطلق على المقيّد.

وقد يمنع إطلاقها أيضا بدعوى اختصاصها بصورة التكافؤ من جميع الوجوه استنادا إلى شهادة التأمّل الصادق فيها بذلك ، ودون استفادة الاختصاص المذكور من نفس

ص: 648

أخبار التخيير خرط القتاد.

نعم قوله عليه السلام : « إذن تخيّر أحدهما ودع الآخر » في ذيل المقبولة مقيّدا بالتساوي من جهة المرجّحات المذكورة فيها ، غير أنّه لا يلازم كونه مقيّدا بالتساوي من جهة سائر المرجّحات الغير المذكورة فيها ، إلاّ أن يستفاد منها عدم وجوب الاقتصار على ما ذكر فيها بل وجوب التعدّي إلى كلّ مزيّة أوجبت أقربيّة ذيها إلى الواقع ، وبعد استفادة ذلك صار التخيير المستفاد منها مقيّدا بالتكافؤ من جهة جميع المزايا المنصوصة والغير المنصوصة ، ثمّ يحمل عليه سائر مطلقات أخبار التخيير من باب حمل المطلق على المقيّد.

فالعمدة في المقام إنّما هو النظر في استفادة وجوب الترجيح بكلّ مزيّة موجبة لأقربيّة ذيها إلى الواقع ، ويكفي في ذلك ما نبّهنا عليه عند شرح المقبولة ، فإنّ فيها على ما نبّهنا عليه مواضع من الدلالة على هذا المطلب ، ولا بأس بالإشارة إلى بعض تلك المواضع هنا.

فمن جملة ذلك الترجيح بالأصدقيّة في المقبولة ، وفي معناه الترجيح بالأوثقيّة في مرفوعة زرارة ، فإنّ الصدق عبارة عن مطابقة الواقع والأصدق بصيغة التفضيل عبارة عن الأقرب إلى مطابقة الواقع ، فالترجيح بالأصدقيّة مرجعه إلى الترجيح بالأقربيّة إلى الواقع ، فيدلّ ذلك على أنّ المناط في باب الترجيح إنّما هو الأقربيّة من دون مدخليّة لخصوص سبب دون آخر ، فلو كان راوي أحدهما أضبط وأثبت أو أعرف باللغة في مقام النقل بالمعنى كان خبره أقرب إلى مطابقة الواقع ، ومن ذلك يجوز التعدّي إلى غير صفات الراوي من الكيفيّات اللاحقة بالرواية كالنقل باللفظ والنقل بالمعنى ، فالمنقول باللفظ أقرب إلى الواقع إذ لا يحتمل فيه ما يحتمل في المنقول بالمعنى من الاشتباه في فهم المعنى والغفلة عن حقيقة المراد.

ومن جملة ذلك أيضا تعليل الإمام عليه السلام للترجيح بالشهرة في الخبر المشهور بأنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، بتقريب : ما مرّ من عدم كون المراد من الريب المنفيّ فيه سنخ الريب وطبيعته ليلزم من نفيه كون الخبر قطعيّا في سنده ومتنه ودلالته ، وإلاّ لم يمكن كونهما معا مشهورين على ما فرضهما الراوي بعد ذلك ، بل الريب الإضافي ، على معنى أنّه ليس فيه الريب المحتمل في الخبر الشاذّ.

فحاصل التعليل : أنّ المجمع عليه لا يحتمل فيه ما يحتمل في الشاذّ ، ولا ريب أنّ ما كان من الخبرين أقلّ احتمالا كان أقرب إلى الواقع ، وما كثر الاحتمال فيه كان أبعد عن

ص: 649

الواقع ، فرجع الترجيح بما ذكر إلى ترجيح الأقرب إلى الواقع ، والتعليل بعد إلقاء الخصوصيّة يفيد عموم العلّة وتأثيرها في الحكم حيث توجد.

ومن جملة ذلك أيضا تعليله عليه السلام للترجيح بمخالفة العامّة بكون الرشد في خلافهم ، وفي بعض الروايات كون الحقّ في خلافهم.

وقضيّة ذلك كون مناط الترجيح هو الأقربيّة إلى الحقّ والأبعديّة عن الباطل ، ومن تهافت الأخباريّة في زعمهم للاقتصار على المنصوص - مع أنّ ظاهر النصّ في الترجيح بصفات الراوي اعتبار اجتماع الصفات الأربع - عدم اقتصارهم على ظاهر النصّ بجعلهم كلّ واحد مرجّحا بانفراده ، غاية ما هنا لك قيام صارف وهو الإجماع على أنّ الرواية ليست على ظاهرها ، فجعل كلّ واحد من الصفات الأربع مرجّحا مستقلاّ تعبّديّا ليس بأولى من جعل ورودها من باب المثال ، بدعوى : أنّ الترجيح بكلّ واحد من هذه الصفات لإفادة أنّ العبرة في الترجيح بقوّة ظنّ الصدور واطمئنان الصدق والوثوق بمطابقة الواقع.

هذا ومن تهافتهم أيضا أنّ ظاهر النصّ في الترجيح بصفات الراوي اعتبار العلم بالأعدل والأفقه والأصدق والأورع ، وهو في الأزمنة المتأخّرة عن أعصار الرواة إلى زماننا هذا غير ممكن الحصول ، إذ لا طريق إلى إحراز هذه الصفات في الغالب إلاّ بيانات علماء الرجال وهي أخبار آحاد لا تفيد العلم ، بل غايتها الظنّ ، فالترجيح بما ظنّ من هذه الصفات خروج عن المنصوص ، والمفروض عدم بلوغ الأخبار المذكورة حدّ البيّنة لتكون حجّة تعبّديّة.

فإن قالوا : بأنّ ذلك ظنّ اجتهادي قام الدليل على اعتباره ، يقع الكلام في دليله وليس إلاّ دليل الانسداد ، وهو يقضي بجواز العمل بكلّ ما يورث ظنّ الصدور بل الصدق ، وربّما يحصل من غير المنصوص من الظنّ ما لا يحصل من المنصوص ، مع أنّ الاقتصار على المنصوص ربّما يؤدّي إلى سدّ باب الترجيح ، إذ إحراز صفات الراوي ولو ظنّا غير متيسّر غالبا لغير المعاصرين للرواة والملاقين لهم ، وكتب الرجال غير متكفّلة لبيان هذه المزايا ، والشهرة لترجيح الخبر المشهور أيضا ممّا لا يتيسّر إحرازه ، سواء اريد به ما أجمع الكلّ على نقله أو ما رواه الأكثر ، لأنّ الروايات الّتي بأيدينا اليوم لم يبلغنا إلاّ بواسطة كتاب أو كتابين أو ثلاثة أو أربعة فهذا المرجّح أيضا إنّما يتيسّر حصوله لأهل زمان الصدور.

وبالجملة فإحراز كون أحد الخبرين مشهورا قلّما يتّفق لنا في هذه الأزمنة.

ثمّ ننقل الكلام إلى موافقة الكتاب والسنّة ، أمّا موافقة السنّة فممّا لا مصداق لنا ، إذ ليس

ص: 650

من السنّة النبويّة القطعيّة شيء بأيدينا ، وكونها حاصلة لأصحاب النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام لعلمهم بالسنّة لا يجدي لنا نفعا ، والأخبار النبويّة العاميّة لا توجب ظنّا فضلا عن القطع.

وأمّا موافقة الكتاب فلا ينبغي عدّها من المرجّحات ، لكون الكتاب بنفسه حجّة مستقلّة ، ولعلّ ترجيح ما يوافق عامّ الكتاب لا يحتاج إلى بيان ، فتأمّل.

ثمّ ننقل الكلام إلى مخالفة العامّة ، والترجيح بها أيضا فرع الاطّلاع على مذاهب العامّة وهو أيضا ممّا لا يتيسّر غالبا إلاّ بواسطة النقل في كتب أصحابنا الفقهاء ، وهو من نقل الآحاد الّذي يقصر عن إفادة العلم ، مع أنّ المعلوم من سيرة العلماء انعقاد إجماعهم قديما وحديثا من لدن بناء العمل على أخبار الآحاد على عدم الاقتصار وعلى التعدّي إلى المرجّحات الغير المنصوصة ، حتّى أنّ الأخباريّين أيضا لا يقتصرون على خصوص المنصوص فقولهم بالاقتصار قول بلا عمل.

فالحقّ أنّ الاقتصار على المرجّحات المنصوصة باب لا يكاد يمكن الأخذ بفتحها ، ولا وجه للمنع عن التعدّي إلى غيرها ، إمّا لقلّة حصولها لنا اليوم وفي أخبارنا الموجودة بأيدينا ، أو لاستفادة جوازه عن نفس الروايات المتكفّلة لبيانها ، أو لإجماعهم قديما وحديثا خلفا عن سلف على عدم الاقتصار حتّى المطّلعين على تلك الروايات والمتعرّضين لبيان هذه المرجّحات.

المطلب الثالث : بقايا أحكام المرجّحات

اشارة

المطلب الثالث

في بقايا أحكام المرجّحات واعلم ، أنّها تنقسم إلى الداخليّة والخارجيّة ، والمرجّح الداخلي كلّ مزيّة غير مستقلّة في نفسها بأن تكون متقوّمة بما في الخبر من سند أو متن أو مضمون أو دلالة.

والمرجّح الخارجي كلّ أمارة خارجيّة مستقلّة في نفسها ، وهي إمّا أن تكون بحيث اعتبرها الشارع بالخصوص ، كالأصل إذا وافقه أحد المتعارضين بناء على إفادته الظنّ ، والكتاب بناء على أنّه المرجّح لا موافقته ، والفرق بين الاعتبارين أنّ الكتاب على تقدير الترجيح به يرجّح الأمر المردّد بين الصدور ووجه الصدور والمضمون ولم يتعيّن كونه مرجّحا لأحدها - وكذا الحال في سائر المرجّحات الخارجيّة على تقدير الترجيح بها - وموافقته ترجّح المضمون لأنّه عبارة عن موافقة مضمون الخبر للكتاب.

أو تكون بحيث منع منها الشارع كالقياس ونحوه ، أو تكون بحيث أهملها الشارع أي

ص: 651

لم يعتبرها ولم يمنع منها بالخصوص كالشهرة والاستقراء والأولويّة الظنّية ، وإطلاق المرجّح على القسم الأوّل مسامحة إذ يعتبر فيه عدم بلوغه حدّ الحجّية.

وعلى القسم الثاني مبنيّ على جواز الترجيح به كما نقله المحقّق في المعارج عن بعضهم على ما حكي ، والأقوى خلافه لعموم النهي عن العمل به وكونه ممّا محق به الدين.

وبالجملة مقتضى منع الشارع كون الاستناد إليه مبغوضا سواء قصد به أخذه مدركا للحكم أو مرجّحا لمدرك الحكم.

وأمّا القسم الأخير فهو المقصود بالبحث هنا من حيث جواز الترجيح بالمرجّحات الخارجيّة وعدمه.

والمراد بالشهرة هنا هي الشهرة في الفتوى ، بأن أفتى المعظم بما وافق أحد المتعارضين من دون أن يعلم استنادهم فيها إليه ، سواء علم عدم استنادهم أو لم يعلم عدم استنادهم أيضا ، وهذه غير الشهرة في الرواية الّتي هي من المرجّحات الداخليّة ، وغير الشهرة الجابرة على ما هو المشهور من جبر ضعف الرواية بها ، فإنّها إنّما تتحقّق فيما كان استناد معظم الأصحاب في الفتوى إلى رواية ضعيفة فتكشف عن قوّة في نفس تلك الرواية وأمارة اعتبار ظفروا بها وأخذوا بموجبها.

بقايا أحكام المرجّحات / المرجّحات الداخليّة

ثمّ المرجّحات الداخليّة على أنواع :

منها : ما يرجّح به صدور الخبر على معنى أنّه يوجب كون احتمال الصدور فيه أقوى منه في معارضه ، وبعبارة اخرى كونه أقرب إلى الصدق وأبعد عن الكذب كالأعدليّة والأصدقيّة وغيرها من صفات الراوي ، وكذلك المرجّحات المتنيّة كالأفصحيّة والأصدقيّة وغيرها من صفات الراوي ومنه الشهرة في الراوية ، فإنّ الخبر المشهور بسببها أقرب إلى الصدق وأبعد عن الكذب ، كما ينّبه عليه التعليل بكون المجمع عليه لا ريب ، فإنّ الريب المحتمل في الخبر الشاذّ الّذي لا يحتمل في المشهور ليس إلاّ احتمال الكذب ، وجعلها من مرجّحات المضمون كما في كلام بعض مشايخنا ممّا لا نعرف وجهه.

ومنها : ما يرجّح وجه صدور الخبر ، ويوجب في أحد الخبرين احتمال الصدور على جهة بيان الواقع أقوى منه في الآخر ، ككون أحد الخبرين مخالفا لمذهب العامّة أو لعمل سلطان الجور أو قاضي الجور ، بناء على كون الخبر الموافق لأحد هذه صادرا على وجه التقيّة.

ومنها : ما يرجّح به دلالة الخبر ، ويوجب كونه أقرب دلالة من الآخر كالنصوصيّة

ص: 652

والأظهريّة وغيرهما ممّا سيأتي من صغريات قوّة الدلالة وضعفها.

ومنها : ما يرجّح به مضمون الخبر ويوجب كونه أقرب إلى الواقع بالقياس إلى معارضه ، وملخّصه : أنّه يورث الظنّ بصدور مضمون أحد المتعارضين من الإمام ولو بلفظ آخر أو سند آخر كموافقة الكتاب ، ونحوه مخالفة العامّة بناء على أنّ الترجيح بها إنّما هو لما في أكثر الروايات من أنّ الرشد أو الحقّ في خلافهم ، والظاهر أنّ المرجّحات الخارجيّة على تقدير الترجيح به كلّها راجعة إلى المضمون ، فالشهرة الفتوائيّة مثلا توجب الظنّ بموافقة مضمون الخبر الموافق لها للواقع.

واعلم أنّ تربيع أنواع المرجّحات الداخليّة إنّما هو باعتبار ظاهر العنوان ، وإلاّ فأنواعها عند التحقيق لا تزيد على ثلاث ، لرجوع الأخير بحسب الواقع إلى أحد الثلاث الأول أعني الصدور أو الدلالة أو جهة الصدور على حدّ منع الخلوّ ، فإنّ أحد الخبرين المتعارضين إذا حصل الظنّ بموافقة مضمونه الواقع أو كون مضمونه أقرب إلى الواقع لزمه كون مضمون الآخر أبعد عن الواقع ، إمّا لحال في صدوره أو عيب في دلالته أو نقص في وجه صدوره.

وبعبارة اخرى : أنّه بواسطة وجود المرجّح للمضمون مع أحد الخبرين يظنّ إجمالا وقوع خلل في إحدى جهات الآخر وإن لم نعلمه بعينه ، فإمّا أنّه غير صادر من المعصوم ، أو أنّ ظاهره غير مراد وإن كان صادرا ، أو أنّه صدر على وجه التقيّة وإن كان مرادا به ظاهره ، فالمرجّح فيما له المرجّح يرفع في الواقع ذلك الخلل الموجود في إحدى جهات معارضه بحسب الواقع ، فإن كان الخلل في المعارض بحسب الواقع في صدوره فالمرجّح المذكور رافع لنحو ذلك الخلل عن صدور ما له المرجّح ، وإن كان في دلالته فالمرجّح رافع لنحوه عن دلالة ماله المرجّح ، وإن كان في جهة صدوره فالمرجّح رافع لنحوه عن جهة صدور ماله المرجّح.

ثمّ اعلم أنّ الافتقار إلى الترجيح الصدوري وغيره وإعمال مرجّحات الصدور وجهة الصدور وغيرها إنّما هو في الأدلّة اللفظيّة الظنّية ، إذ الدليل إذا كان قطعيّا من جميع الجهات الثلاث المذكورة - كالمتواترات المعنويّة أو المحفوفة بقرائن العلم - ملزوم للقطع بالحكم الواقعي فيه ، فلا معارض له بل لا يعقل فيه تعارض على ما سبق.

وإذا [ كان ] لبّيّا فلا يتصوّر له صدور ولا جهة صدور ، فإنّه عبارة عن أمر معنوي ومعنى نفسي أوجب العلم أو الظنّ به العلم أو الظنّ بالحكم الواقعي كالإجماع المحقّق

ص: 653

والشهرة بناء على حجّيتها بالخصوص لا من حيث الظنّ المطلق.

نعم الإجماع إذا كان منقولا يصير من الأدلة اللفظيّة الظنّية فيطرأه الجهات الثلاث من الصدور وجهة الصدور والدلالة ، فقد تحصل الشبهة في صدوره ، وقد تحصل في جهة صدوره ، وقد تحصل في دلالته ، فظنّية الدليل إمّا من جهة ظنّية صدوره أو من جهة ظنّية جهة صدوره ، أو من جهة ظنّية دلالته على سبيل منع الخلوّ ، فقد يكون ظنّيا باعتبار دلالته مع قطعيّة صدوره وجهة صدوره كالكتاب ، وقد يكون ظنّيا باعتبار صدوره ودلالته مع قطعيّة جهة صدوره كالأخبار النبويّة ، وقد يكون ظنّيا باعتبار دلالته وجهة صدوره مع قطعيّة صدوره كالخبر المتواتر اللفظي الإمامي ، وقد يكون ظنّيا باعتبار الجهات الثلاث كالخبر الواحد الإمامي ، فجهات شبهة الخلل في الرواية لا يخلو عن هذه الثلاث ، وإن كانت الشبهة بالنسبة إلى الصدور قد ترتفع بعدالة الراوي وحجّية خبره ، وبالنسبة إلى جهة الصدور قد ترتفع بأصالة عدم التقيّة ، فالمرجّحات المعمولة لعلاج التعارض في الخبر الظنّي من الجهات الثلاث.

منها : ما يوجب الظنّ بالصدور خاصّة من غير دخل له في الدلالة وجهة الصدور.

ومنها : ما يوجب الظنّ بالدلالة خاصّة من غير دخل له في الصدور وجهته.

ومنها : ما يوجب الظنّ بجهة الصدور من غير دخل له بالصدور والدلالة.

ومنها : ما يتردّد بين الجميع ويصلح على البدل لكلّ منها ، كالمرجّح المضموني ومنه المرجّحات الخارجيّة على ما بيّنّاه.

ثمّ اعلم أنّ المرجّحات الداخليّة بعضها يعارض بعضا ، فالكلام في أحكام صور تعارضها وسائر ما يتعلّق بها وفي المرجّحات الخارجيّة يقع في مقامات :

ما يتعلّق بمرجّحات الصدور ومرجّحات جهة الصدور

المقام الأوّل

فيما يتعلّق بمرجّحات الصدور ومرجّحات جهة الصدور وضابط الفرق بينهما بحسب المفهوم كما أشرنا إليه أنّ مرجّح الصدور بحسب المفهوم عبارة عن كلّ مزيّة توجب قوّة في احتمال انتساب أحد الخبرين إلى الإمام من حيث الصدور على وجه ينقطع أو يضعف به احتمال عدم الصدور فيه بالقياس إليه في صاحبه.

ومرجّح جهة الصدور من حيث المفهوم عبارة عن كلّ مزيّة توجب قوّة في احتمال كون صدور أحد الخبرين لأجل بيان الحكم الواقعي على وجه ينقطع أو يضعف به احتمال الصدور لأجل بيان خلاف الواقع فيه بالقياس إليه في صاحبه.

ص: 654

والأوّل مصاديقه بحسب الخارج غير محصورة ، إلاّ أنّها باعتبار المحلّ على نوعين يعبّر عنهما بمرجّحات السند ومرجّحات المتن ، ونحن نذكر نبذة من مصاديق كلّ من النوعين من باب المثال.

فمن مصاديق ما يرجع إلى السند : كون راوي أحدهما عدلا والآخر غير عدل مع كونه مقبول الرواية باعتبار كونه متحرّزا عن الكذب.

ومنها : كونه أعدل مع عدالة الآخر ، وقد يعرف الأعدليّة بالنصّ عليها أو يذكر فضائل ومناقب فيه لم تذكر في الآخر.

ومنها : كونه أصدق مع عدالتهما معا.

ومنها : كونه أضبط ، وقد يرجع الترجيح بهذه الامور إلى كون طريق ثبوت مناط اعتبار أحدهما وقبوله وهو العدالة أوضح من طريق الآخر وأقرب إلى الواقع ، كتعدّد المزكّي لأحدهما ، أو رجحان أحد المزكّيين على الآخر ، وقد يلحق بهذا الباب عدم التباس اسم المزكّى في أحدهما بغيره من المجروحين واشتباه الآخر باعتبار الاشتراك مع ضعف ما يميّز المشترك.

ومنها : علوّ الأسناد وهو قلّة الوسائط ، وقد يحدّد بأن لا يزيد الوسائط بين من يروي إلينا وبين الإمام على ثلاثة ، لوضوح أنّ الواسطة كلّما قلّت قلّ احتمال الكذب فيكون أقرب بمطابقة الواقع ، وعورض بندرة ذلك واستبعاد الإسناد فيما تباعد فيه أزمنة الرواة فيكون مظنّة الإرسال فالإحالة إلى نظر المجتهد أولى.

ومنها : أن يسند أحدهما ويرسل الآخر بحذف الواسطة مع كونه ممّن تقبل مراسيله ، وعلى تقدير كون إرساله توثيقا للواسطة فيحتمل كونه معارضا بجرح جارح.

ومنها : أن يكون راوي أحدهما متعدّدا وللآخر واحدا ، أو أن يكون رواة أحدهما أكثر من رواة الآخر ، فإنّ التعدّد أقوى من الواحد والأكثر أقوى من الأقلّ.

ومن مصاديق ما يرجع إلى المتن : الفصاحة ، فالفصيح أقوى من الركيك لكونه أبعد عن كلام الإمام عليه السلام.

ومنها : الأفصحيّة على ما ذكره جماعة ، خلافا لآخرين فلم يلتفتوا إليها ولا يخلو عن وجه ، لعدم كون الفصيح في مقام بيان الأحكام الشرعيّة بعيدا عن كلام الإمام ولا الأفصح أقرب إليه.

ص: 655

ومنها : الخلوص عن اضطراب المتن بالقياس إلى ما فيه اضطراب كما في أكثر روايات عمّار (1).

ومنها : كون أحدهما منقولا باللفظ والآخر بالمعنى فيحتمل فيه ما لا يحتمل في اللفظ المسموع بعينه.

والثاني أيضا ممّا لا حصر لمصاديقه بحسب الخارج ، فإنّ المصالح الباعثة للإمام على بيان خلاف الواقع أو إيراد الكلام بصورة خلاف الواقع وإن قصد به التورية كثيرة بل غير محصورة ، غير أنّ الغالب تحقّقه في أخبارنا الموجودة بأيدينا اليوم إنّما شيء واحد يعبّر عنه بأمارة التقيّة ، وهي موافقة ظاهر الخبر لمذهب أهل الخلاف قبالا لما خالف ظاهره مذهبهم ، فيحكم على الأوّل بالصدور على وجه التقيّة ، وهو من وجوه الصدور لأجل بيان خلاف الواقع على بعض التقادير ، ويلزم منه الظنّ بكون صدور الثاني لأجل بيان الحكم الواقعي.

واعلم أنّ صدور الخبر على وجه التقيّة يتصوّر على وجهين :

أحدهما : أن يريد به الإمام عليه السلام ظاهره المخالف للواقع لمصلحة التقيّة فيكون من الكذب الّذي سوّغته الضرورة.

وثانيهما : أن يريد به خلاف ظاهره المطابق للواقع من دون نصب قرينة عليه لمصلحة التقيّة ، وإذا فرضنا في كلام صادر منه تقيّة أنّ مصلحة التقيّة تتأدّى بكلّ منهما - كما لو قال : « غسل الرجلين في الوضوء واجب » مثلا حيث إنّ مصلحة التقيّة تحصل بإرادة ظاهر الغسل وبإرادة المسح منه من غير قرينة عليه ، فعلى الأوّل يصير كذبا وعلى الثاني مؤوّلا وتورية - ودار حمل كلامه على الكذب أو على التورية ، فقد يقال : إنّ الاولى من جهة الاعتبار بالنظر إلى العصمة ورتبة الإمامة وقضاء القوّة العاقلة الحكم عليه باختيار التأويل والحمل على التورية ، صونا لكلامه عن الكذب الّذي هو قبيح عقلا ومحرّم شرعا ولا يسوّغه إلاّ الضرورة ، ولا يكون مصلحة التقيّة من الضرورة المسوّغة له إلاّ حيث لا مندوحة عنه ، والتقيّة بطريق التورية مندوحة.

وفي كلام بعض مشايخنا قدس سره : « أنّ هذا أليق بالإمام بل هو اللائق إذا قلنا بحرمة الكذب مع التمكّن من التورية ».

ويشكل إطلاق ذلك بأنّ هذا إنّما يتّجه إذا كان هذا الدوران حاصلا في نظر الإمام كما

ص: 656


1- أي عمّار الساباطي.

هو حاصل عندنا ، على معنى كون مصلحة التقيّة الموجودة ثمّة الباعثة على إخراج الكلام مخرج التقيّة بحيث تتأدّى في نظره عليه السلام باختيار كلّ من الوجهين ، فله بل عليه اختيار الوجه الثاني حذرا عن الكذب الّذي لا ضرورة دعت إليه ، وهذا ممّا لا يتحقّق في حقّه مطّردا ، فإنّ التقيّة قد يكون قوليّة على معنى كونها حاصلة للإمام فأتي بكلام موافق ظاهره لمذهب العامّة لحفظ نفسه الشريف ودفع الضرر عن نفسه ، وقد تكون عمليّة بكونها حاصلة لمخاطبه المخالط لهم في عمله الموافق لمذهبهم فيأتي بقول موافق ظاهره لمذهبهم ، حملا له على العمل بما يوافق مذهبهم حفظا له عن القتل وغيره من أنواع الضرر كغسل الرجلين في الوضوء مثلا.

ولا ريب أنّ مصلحة التقيّة بكلا الوجهين إنّما تتأدّى في القسم الأوّل دون القسم الثاني ، ضرورة أنّه لولا إرادة الظاهر المطابق لمذهبهم الباعثة على تطبيق العمل في الظاهر على هذا المذهب لم يحصل الغرض من إيراد الكلام تقيّة.

ومن هنا يقال : إنّ التقيّة في موردها حكم ظاهري بل واقعي ثانوي ويحرم متابعة الواقع على من يعلمه ما دام موجبها قائما ، كمسح الرجلين مكان غسلهما لمن وقع في زمان التقيّة ، وعليه فالأخبار الخارجة مخرج التقيّة بالنسبة إلينا على أنواع :

منها : ما يعلم كون التقيّة المرعيّة فيه قوليّة ، فالأولى فيه الحمل على التورية.

ومنها : ما يعلم كون التقيّة المرعيّة فيه عمليّة ، ويتعيّن فيه الحمل على اختيار الكذب.

ومنها : ما يتردّد بين القسمين ، وهذا ممّا لا سبيل لنا إلى تعيين أحدهما ، ولا أصل في المقام يساعد على شيء منهما ، ولعلّه الغالب في الأخبار المحمولة على التقيّة.

التعارض بين مرجّح الصدور ومرجّح جهة الصدور

فصل

إذا وقع التعارض بين مرجّح جهة الصدور كالمخالفة والموافقة [ للعامّة ] ومرجّح الصدور كالأعدليّة فيما ورد خبران أحدهما مرويّ عن عادل والآخر عن الأعدل مع موافقة رواية الأعدل لمذهب العامّة ، فهل الترجيح لمرجّح الصدور فيؤخذ برواية الأعدل ويحكم على رواية العادل بعدم الصدور ، أو لمرجّح جهة الصدور فيؤخذ بالخبر المخالف حملا له على بيان الواقع ويطرح الموافق حملا له على التقيّة أو غيرها من مصالح بيان خلاف الواقع؟

وينبغي التكلّم لتحقيق هذا المطلب أوّلا في أنّه هل يقع التعارض بين مرجّح جهة

ص: 657

الصدور ومرجّحات الصدور أو لا؟ ثمّ النظر في ترجيح أحدهما على الآخر على تقدير وقوع التعارض ، والظاهر أنّ الحكم في المسألتين يختلف باختلاف الوجوه المحتملة في الترجيح بمخالفة العامّة ومرجّحيته ، فإنّ ذلك يحتمل وجوها :

أحدها : كونه لمجرّد التعبّد ، على معنى أنّ الشارع أوجب علينا الأخذ بما يخالف العامّة وطرح ما يوافقهم تعبّدا محضا من دون نظر إلى الواقع ، ولا إلى أنّ الأوّل مطابق للواقع أو أقرب إليه والثاني مخالف له أو أبعد عنه.

وملخّصه : كون الواقع بالمرّة ملغى في نظره ، كما هو المنساق من إطلاق كثير من الأخبار المتقدّمة الآمرة بالأخذ بما يخالفهم من دون تعليل له بما يأتي.

وثانيها : حسن مجرّد المخالفة ، على معنى أنّ المخالفة في نفسها مصلحة أوجبت كون الأخذ بالمخالف محبوبا ومطلوبا للشارع ، والموافقة لهم في نفسها مفسدة أوجبت كون الأخذ بالموافق مبغوضا للشارع وإن كان مؤدّاه حقّا ، نظير منع الاستناد إلى القياس وكونه مبغوضا وإن كان مؤدّاه حقّا ، كما ربّما يومئ إليه بعض الأخبار مثل مرسلة داود بن الحصين : « أنّ من وافقنا خالف عدوّنا ، ومن وافق عدوّنا في قول أو فعل فليس منّا ولا نحن منه » ورواية الحسين بن خالد : « شيعتنا المسلّمون لأمرنا الآخذون بقولنا المخالفون لأعدائنا ، فمن لم يكن كذلك فليس منّا ، فيكون حالهم حال اليهود الوارد فيهم قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم : خالفوهم ما استطعتم ».

وثالثها : مطابقة المخالف لهم الواقع أو كونه أقرب إليه والموافق بخلافه ، كما يشهد له التعليل : « بأنّ فيه الرشاد » ، أو « أنّ الرشد في خلافهم » ، أو « أنّ الحقّ في خلافهم » في غير واحد من الأخبار المتقدّمة.

وفي معناها رواية عليّ بن أسباط قال : قلت للرضا عليه السلام : يحدث الأمر لا أجد بدّا من معرفته ، وليس في البلد الّذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك؟ فقال : « ائت فقيه البلد واستفته في أمرك ، فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه فإنّ الحقّ فيه ».

وخبر أبي إسحاق الأرجائي قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام : « أتدري لم امرتم بالأخذ بخلاف ما يقوله العامّة؟ فقلت : لا أدري ، فقال : إنّ عليّا صلوات اللّه عليه لم يكن يدين اللّه بشيء إلاّ خالف عليه العامّة إرادة لإبطال أمره ، وكانوا يسألونه صلوات اللّه عليه عن الشيء الّذي لا يعلمونه ، فإذا أفتاهم بشيء جعلوا له ضدّا من عندهم ليلبسوا الحقّ ».

ص: 658

ورابعها : كون الخبر الموافق يجري فيه من احتمال التقيّة ما لا يجري في الخبر المخالف إمّا للعلم بأنّه على تقدير الصدور إنّما صدر لبيان الواقع ، أو لكون احتمال التقيّة فيه أضعف منه في الآخر ، كما يدلّ عليه قوله عليه السلام في رواية « ما سمعته منّي يشبه قول الناس ففيه التقيّة ، وما سمعته منّي لا يشبه قول الناس فلا تقيّة فيه ».

ومن الظاهر أنّ مرجّح الصدور لا يعارض مرجّح جهة الصدور على الوجه الأوّل ، لأنّ قضيّة إطلاق التعبّد الشرعي حسبما بيّنّاه طرح الخبر الموافق ولو كان رواية أعدل ، وكذلك على الوجه الثاني لأنّ موافقة مذهب العامّة إذا كانت في نفسها مفسدة قبالا لمصلحة المخالفة فلا تأثير لأعدليّة الراوي في رفعهما ، وكذلك على الوجه الثالث لأنّ مخالفة [ العامّة ] إذا أوجبت أقربيّة الخبر إلى الواقع وأبعديّة معارضه عن الواقع فلا يزاحمها أعدليّة راوي المعارض الموجبة لكونه أقرب إلى الصدور ، لأنّ غاية ما يقتضيه الترجيح به الحكم عليه بكونه صادرا عن المعصوم ، وهذا لا يلازم كونه أقرب إلى الواقع ، لأنّ الخبر قد يصدر تقيّة أو لا لبيان الواقع لمصلحة غير التقيّة.

وأمّا على الوجه الأخير فربّما يتراأى في بادئ النظر وقوع التعارض بينهما ، إذ المفروض عدم معلوميّة صدور الخبرين كما في المتواترين اللفظيّين وقضيّة مرجّح الصدور طرح الخبر المخالف على أنّه غير صادر ، ومقتضى مرجّح جهة الصدور طرح خبر الأعدل على أنّه على تقدير الصدور إنّما صدر على وجه التقيّة ، وهما مدلولان متنافيان ولا نعني من التعارض إلاّ هذا.

وبعبارة اخرى : أنّ كلاّ من المخالف والموافق أقوى احتمالا من الآخر في جهة وأضعف احتمالا منه في جهة اخرى ، ضرورة أنّ الخبر المخالف يحتمل فيه من عدم الصدور ما لا يحتمل في الخبر الموافق بملاحظة أعدليّة راويه فإنّه أبعد من الكذب والافتراء ، كما أنّ الخبر الموافق يحتمل فيه من الصدور تقيّة ما لا يحتمل في الخبر المخالف بملاحظة كونه مخالفا ، فللكلّ رجحان ومرجوحيّة.

وحينئذ فينبغي القطع بأنّ الترجيح إنّما هو لمرجّح الصدور ، لأنّ له نحو موضوعيّة لمرجّح جهة الصدور ، لأنّ الخبر إنّما يحكم عليه بكونه صدر لبيان الواقع بعد إحراز صدوره ، والصدور في المتعارضين يحرز بمرجّحه ، وأعدليّة الراوي في الخبر الموافق إذا أوجبت الحكم على الخبر المخالف بعدم الصدور فلا يبقى لمرجّح جهة الصدور محلّ يترجّح به

ص: 659

على معارضه ، إذ المفروض عدم صدوره.

ولك أن تأخذ هذا البيان وجها لعدم وقوع التعارض بينهما على الوجه الأخير أيضا ، لأنّ مثلهما على هذا البيان مثل الأصل الموضوعي والأصل الحكمي ، فكما أنّ الأصل الموضوعي وارد على الأصل الحكمي برفعه موضوع الأصل الحكمي فلا يجري بعد انتفاء موضوعه حتّى يعارض الأصل الموضوعي ، ففيما نحن فيه أيضا لا موضوع لمرجّح جهة الصدور فلا يجري حتّى يعارض مرجّح الصدور.

ولعلّ هذا هو الوجه فيما هو في مقبولة ابن حنظلة من تقديم صفات الراوي الّتي هي مرجّحات الصدور على مخالفة العامّة ، وفرض الترجيح في صورة تساوي الخبرين من جهة صفات الراوي وغيرها ليحرز بها الصدور فيهما معا ، وعليه فمرجّحات الصدور كمرجّحات الدلالة ، فكما أنّ مرجّح جهة الصدور لا يعارض الدلالة على ما سنبيّنه ، فلو كان الخبر الموافق لمذهب العامّة أظهر وجب تقديمه وإرجاع الظاهر - وهو الخبر المخالف - إليه بتخصيص أو تقييد أو تأويل آخر ، فكذلك لا يعارض مرجّحات الصدور في شيء من الوجوه الأربع المتقدّمة ، وانتظر لتتمّة الكلام في ذلك في آخر المبحث.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ الوجوه الأربع المذكورة لمرجّحيّة المخالفة والموافقة لا يتحصّل منها لنا اليوم إلاّ الوجه الأخير ، لأنّ غيره مبنيّ على كون الخبر الموافق موافقا لمذهب كلّهم أو أكثرهم أو ما اشتهر من مذهبهم ولو كان لبعضهم ، ولا سبيل لنا إلى العلم بشيء من هذه العناوين ، بل العلم بهما إنّما يتيسّر لأصحاب الأئمّة الموجودين في أعصارهم ومن قاربهم في العصر ممّن تأخّر عنهم ، وإنّما المتحصّل لنا اليوم الموافقة والمخالفة لمذهب بعضهم مع احتمال موافقة المخالف له لمذهب بعض آخر.

وقضيّة ذلك كون احتمال التقيّة في الموافق أقوى منه في المخالف ، وهذا هو عنوان الوجه الأخير الّذي عبّرنا عنه بأنّ الخبر الموافق يحتمل فيه من التقيّة ما لا يحتمل في الخبر المخالف ، فيكون أبعد عن التقيّة وأقرب إلى الواقع ، ومن المعلوم أنّه لا يمكن في نحوه الحكم بالتعبّد في المخالف على هذا الوجه ، ولا الحكم بكون المخالفة في نفسها مصلحة ، ولا الحكم بمطابقته الواقع لقيام احتمال التقيّة والموافقة فيه أيضا.

غاية الأمر كونه أضعف منه في الخبر الموافق ، غير أنّ مجرّد ذلك الّذي مرجعه إلى أقلّيّة الاحتمال أيضا يصلح مرجّحا بناء على ما استفدناه من العلّة المنصوصة في المقبولة.

ص: 660

وحاصله : أنّ الخبر الموافق فيه من احتمال الريب ما ليس في الخبر المخالف ، فلو علمنا بموافقة أحد الخبرين لمذهب بعض العامّة واحتملنا موافقة الخبر الآخر لمذهب بعض آخر منهم كان الرجحان في جانب ما احتملنا موافقته ، لأنّه أقلّ احتمالا بالنسبة إلى التقيّة من الخبر المعلوم موافقته ، وعليه فيخرج ذلك من المرجّحات المنصوصة ويدخل في المرجّحات الغير المنصوصة ، لاختصاص المرجّح المنصوص بالمخالف والموافق لمذهب كلّهم أو أكثرهم أو ما اشتهر من مذاهبهم.

وبالجملة هناك صور :

منها : المخالفة والموافقة لمذهب كلّهم.

ومنها : المخالفة والموافقة لمذهب أكثرهم.

ومنها : المخالفة والموافقة لما اشتهر من مذاهبهم.

ولا ريب في كون الأوّلين من المرجّحات المنصوصة وكذلك الثالث ظاهرا.

ومنها : الموافقة والمخالفة لمذهب بعضهم مع احتمال الموافقة في المخالف أيضا.

والأصل في عدم تحصّل الوجوه الثلاث الاول لنا : تعذّر الاطّلاع لنا على جميع مذاهب العامّة ، وعلى كون مذهب كلّهم أو مذهب أكثرهم في زمان الصدور شيئا واحدا ، وعلى أنّ الحكم الفلاني هو ما اشتهر من مذاهبهم ولو كان لبعضهم كأبي حنيفة هذا.

واعلم أيضا أنّ الصحيح من الوجوه الأربعة المحتملة في مرجّحية المخالفة لمذهب العامّة - مع قطع النظر عمّا بيّنّاه من أنّه لا يتحصّل لنا اليوم إلاّ بعضها - إنّما هو الوجه الأخير أيضا لضعف ما سواه.

وأضعف الوجوه أوّلها ، أمّا أوّلا : فلأنّه خلاف ما ينساق من مجموع أخبار التراجيح المتكفّلة لبيان المرجّحات من كون مبنى الترجيح على الكشف النوعي وهو قسيم للتعبّد.

وأمّا ثانيا : فلأنّه خلاف ما استقرّ عليه عمل العلماء قديما وحديثا من حمل الغير الموافق عند الترجيح بالمخالفة على التقيّة.

وأمّا ثالثا : فلأنّه خلاف ما ينساق من الأخبار المعلّلة بالحقّ والرشد والرشاد ، فيلزم من الالتزام به طرح جميع هذه الأخبار ، مع أنّه لا مدرك له إلاّ الإطلاق المتوهّم في الأخبار المطلقة.

ويدفعه : وجوب تنزيلها على الأخبار المعلّلة حملا للمطلق على المقيّد ، ويقرب منه في الضعف الوجه الثاني لعين الوجوه المذكورة مع خلوّه عمّا يشهد به. والاستشهاد له

ص: 661

بمرسلة داود بن الحصين ورواية الحسين بن خالد ، يزيّفه : ظهور ورود الخبرين في مقام آخر غير مقام التعارض ، لكون المراد بالموافقة للعامّة الموجبة لعدم كونه منهم عليهم السلام والمخالفة لهم الموجبة لكونه منهم عليهم السلام أي من شيعتهم إنّما هو الموافقة والمخالفة لهم في أصل المذهب.

ولا ريب أنّ الموافقة لهم في المذهب الّتي مرجعه إلى إنكار أمر الإمامة غير الأخذ بالخبر الموافق لمذهبهم ، فيبقى الأخيران ولا يبعد القول بصحّة كليهما لوجود شاهد في الأخبار على كليهما وإن كان شاهد أوّلهما أكثر.

ويمكن القول بانحصار الصحيح في الوجه الأخير كما أشرنا إليه ، لأنّ سابقه خلاف المشهور بين العلماء والمعهود من طريقتهم من الحمل على التقيّة ، مع أنّ تنزيل الترجيح بالمخالفة على هذا المعنى يؤول إلى إرجاع مرجّح جهة الصدور إلى مرجّح المضمون الكاشف ظنّا إجماليّا عن وقوع خلل في الخبر الخالي عن ذلك المرجّح الّذي مضمونه أبعد عن الواقع إمّا في صدوره أو دلالته أو جهة صدوره ، إذ مخالفة الخبر إذا كشفت عن كونه أقرب إلى الواقع الملازم لكون الخبر الموافق أبعد عن الواقع يظنّ معه إجمالا بوقوع خلل فيه إمّا في صدوره أو دلالته أو جهة صدوره كالشهرة بالقياس إلى الخبر الشاذّ حسبما بيّنّاه سابقا ، إذ الأقربيّة إلى الواقع والأبعديّة عنه صفتان للمضمون ، وهذا خلاف المعهود من طريقة الأصحاب والمنساق من أخبار الباب ، فلا بدّ من إرجاع هذا الوجه إلى الوجه الأخير ، على معنى كون أقربيّة الخبر المخالف بسبب المخالفة إلى الواقع إنّما هي باعتبار أضعفيّة احتمال التقيّة فيه بالقياس إلى احتمالها في الخبر الموافق ، ولا ينافيه التعليلات الموجودة في الأخبار المعلّلة ، لأنّها أيضا منزّلة على صورة الورود تقيّة ، إذ مصلحة التقيّة مع غيرها من سائر المصالح الباعثة على بيان خلاف الواقع متشاركتان في أصل الخبر لغير جهة بيان الواقع ، فمعنى كون الرشد أو الحقّ في خلافهم في تعليل الترجيح بمخالفة العامّة أنّ الخبر الموافق لصدوره على جهة التقيّة أو لاحتمال صدوره كذلك غير مطابق للرشد والحقّ أو أبعد عنهما ، فليتدبّر.

وبتذكّر بعض ما بيّنّاه في تضاعيف البحث يندفع ما ذكره المحقّق إعتراضا على الشيخ حيث إنّه قال في العدّة : « إذا كان رواة الخبرين متساويين في العدد عمل بأبعدهما من قول العامّة وترك العمل بما يوافقه ».

قال المحقّق في المعارج - على ما حكي بعد حكاية هذه العبارة - : « والظاهر أنّ احتجاجه

ص: 662

في ذلك برواية رويت عن الصادق عليه السلام ، وهو إثبات مسألة علميّة بخبر الواحد.

ولا يخفى عليك ما فيه ، مع أنّه قد طعن فيه فضلاء من الشيعة كالمفيد وغيره ، فإن احتجّ بأنّ الأبعد لا يحتمل إلاّ الفتوى والموافق للعامّة يحتمل التقيّة فوجب الرجوع إلى ما لا يحتمل.

قلنا : لا نسلّم أنّه لا يحتمل إلاّ الفتوى ، لأنّه كما جاز الفتوى لمصلحة يراها الإمام عليه السلام كذلك يجوز الفتوى بما يحتمل التأويل لمصلحة يعلمها الإمام عليه السلام وإن كنّا لا نعلم ذلك.

فإن قال : أنّ ذلك يسدّ باب العمل بالحديث.

قلنا : إنّما نصير إلى ذلك على تقدير التعارض وحصول مانع يمنع من العمل لا مطلقا ، فلا يلزم سدّ باب العمل » انتهى.

ملخّص ما ذكره في الاعتراض على تنزيل الخبر الموافق للعامّة على التقيّة معارضة احتمال التقيّة فيه باحتمال التأويل في الخبر الأبعد من قول العامّة بأن ينزّل على خلاف ظاهر يرى الإمام عليه السلام إرادته لمصلحة علمها ، فهو كما يحتمل الإفتاء بظاهره المخالف للعامّة يحتمل الإفتاء بخلاف ظاهره الموافق للعامّة.

ويدفعه : أنّ احتمال التقيّة في أحد المتعارضين لا يلتفت إليه إلاّ إذا تساويا من جميع الجهات الراجعة إلى الصدور والمتن والدلالة ، فإمّا أن لا يجري احتمال التأويل في الأبعد أو يجري نحوه في الموافق أيضا فيتعارضان ، فيبقى احتمال التقيّة في الموافق سليما.

هذا مضافا إلى ما يقال : من أنّه لو فرض اختصاص الخبر المخالف باحتمال التأويل وعدم تطرّقه في الخبر الموافق كان اللازم ارتكاب التأويل في الخبر المخالف ، لأنّ النصّ والظاهر لا يرجع فيهما إلى المرجّحات الاخر ، فما ذكره من المعارضة خارج عن معقد كلام الشيخ.

ثمّ اعلم أنّ المشهور بين العلماء قولا وعملا أنّ حمل الخبر على التقيّة لا يكون إلاّ مع الموافقة لمذهب العامّة ولو لبعضهم ، فالموافقة لهم شرط لحمله عليها ، خلافا لصاحب الحدائق في المقدّمة الثانية من مقدّمات الحدائق فأنكر اشتراط الموافقة في الحمل على التقيّة ، فزعم أنّ التقيّة كما تحصل ببيان ما يوافق العامّة كذلك تحصل بمجرّد إلقاء الخلاف بين الشيعة كيلا يعرفوا فيؤخذ برقابهم ، واستند في ذلك إلى روايات وردت في وجه اختلاف أخبارهم عليهم السلام المشتملة على قولهم : « نحن نلقي الخلاف بينكم » وفي بعضها

ص: 663

التعليل : « بأنّه أبقى لنا ولكم ».

وبالجملة فالموافقة لهم غير لازمة في التقيّة ، فلا وجه للاقتصار في الحمل عليها على صورة الموافقة.

وفيه - مع أنّه ينافي ما تقدّم سابقا من قوله عليه السلام : « ما سمعته منّي يشبه قول الناس ففيه التقيّة ، وما سمعته منّي لا يشبه قول الناس فلا تقيّة فيه » - : أنّ التقيّة مع عدم موافقته العامّة ممّا لا يكاد يتعقّل ، إذ الخبر الّذي يحمل على التقيّة إمّا سليم عن المعارض أو له معارض ، وعلى الثاني إمّا أن لا يكون بينهما ترجيح ، بأن يكونا متساويين من جميع الوجوه ، أو يكون بينهما ترجيح ، وعلى الثاني إمّا أن يكون الترجيح من غير جهة التقيّة أو من جهة التقيّة.

وأيّا ما فالحمل على التقيّة بدون موافقة العامّة غير صحيح ، أمّا في الأوّل : فلأنّ حمل الخبر السليم عن المعارض على التقيّة لابدّ له من أمارة ولا تكون إلاّ الموافقة ، ولم نقف على من حمله على التقيّة بدونها ، حتّى أنّ المعترض أيضا لا يحمل عليها كيف وهو غير ممكن.

وأمّا في الثاني : فلأنّ حمل أحدهما على التقيّة مع فرض التساوي غير ممكن لقيام احتمالها في كليهما على نهج سواء ، فلابدّ لتخصيص أحدهما بذلك الحمل من مخصّص ولا مخصّص إلاّ الموافقة.

وأمّا في الثالث : وهو أن يكون بينهما ترجيح من غير جهة التقيّة كأن يكون أحد الخبرين مشهورا مثلا ، فهم في مثل ذلك لا يحملونه ولا صاحبه - وهو الخبر الشاذّ - على التقيّة ، بل يأخذون بموجب الشهرة ، وإن كان ولابدّ من الحمل عليها حينئذ فهو من دون أمارة تعيّن محلّها غير ممكن ، والشهرة لا تصلح أمارة عليه فلابدّ من اعتبار الموافقة.

وأمّا في الرابع : وهو أن يكون ترجيح بينهما من جهة التقيّة ، وهو أن يرجّح أحدهما بحمل صاحبه على التقيّة ، وهذا أيضا ممّا لا يمكن إلاّ إذا كان المحمول عليها موافقا للعامّة ، وإلاّ فلو كانا مخالفين لهم فهو أمارة عدم التقيّة ، ومعه كيف يحمل أحدهما عليها ، ولو كانا موافقين لهم فهو أمارة التقيّة فيهما ومعه كيف يحمل أحدهما عليها دون صاحبه؟

وبالجملة الخلاف الّذي زعمه بينه وبين المشهور لابدّ له من محلّ ، ولا يصلح شيء من الأقسام الأربعة محلاّ له ولا نعقل ممّا سواها ما يصلح محلاّ له ، هذا مع أنّ التقيّة قوليّة كانت أو فعليّة حكم اخذ في موضوعه الموافقة ، أمّا على الأوّل : فلأنّها عبارة عن إظهار الموافقة للعامّة.

ص: 664

وأمّا على الثانية : فلأنّها عبارة عن العمل بما يوافقهم أو تطبيق العمل على مذهبهم.

ومن البيّن استحالة تحقّق الحكم منفكّا عن موضوعه.

فتحقيق المقام : أنّ مصالح صدور الخبر على خلاف الواقع كما أشرنا إليه سابقا كثيرة ، منها : إلقاء الخلاف بين الشيعة ، ومنها : التقيّة قوليّة أو فعليّة.

فالتقيّة مصلحة مقابلة لمصلحة إلقاء الخلاف بين الشيعة ، وعدم (1) الموافقة للعامّة لا تعتبر في الاولى مع اعتبارها في الثانية ، فالإيراد على المشهور بمنع اعتبارها في الثانية تعليلا بأنّها غير معتبرة في الاولى مع كونها في الطرف المقابل من الثانية كما ترى ، إلاّ أن يعتذر بجعله التقيّة للأعمّ وعليه مبنى عدم اعتبار الموافقة فيها وحينئذ فلا مشاحّة ، إلاّ أنّ النزاع معه حينئذ لفظيّ ببعض معانيه لرجوعه إلى تسمية إلقاء الخلاف بين الشيعة تقيّة.

وبالجملة الخلاف الّذي أحدثه إن كان معنويّا فممّا لا محصّل له ، وإن كان لفظيّا فممّا لا جدوى فيه.

ولعلّ منشاءه أنّه لمّا وجد أصحابنا المتأخّرين من العلاّمة ومن بعده أنّهم أحدثوا في تنويعهم الأخبار على أربعة أنواع وضعوا فيها اصطلاحا الصحيح والموثّق والحسن والضعيف ، وتخيّل من ذلك أنّ الباعث عليه اختلاف الأخبار المرويّة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام غاية الاختلاف وكثرة تبائنها وتعارضها بمظنّة أنّ هذا الاختلاف إنّما نشأ من اختلاط الأخبار الكاذبة بالأخبار الصادقة ، ودسّ الأحاديث الموضوعة في الأحاديث المأثورة الصادرة منهم عليهم السلام ، فأخذوا بذلك التنويع ووضعوا ذلك الاصطلاح ، ليتميّز به الأخبار الصادقة عن الكاذبة والأحاديث المدسوسة عن الأحاديث المأثورة ، فأخذ رحمه اللّه بدفع هذا التوهّم ومنع وجود الأخبار الكاذبة في الأخبار الموجودة بأيدينا المودعة في الكتب الأربعة بدعوى أنّها قطعيّة الصدور ، لأنّ قدماء أصحابنا المحدّثين كالكليني والصدوق والشيخ وغيرهم من أرباب التصانيف رضوان اللّه عليهم وقدّس اللّه أرواحهم تعبوا خواطرهم في تصحيح تلك الأحاديث فنقّحوها ونقّبوها وأخرجوا منها الأخبار الكاذبة بقدر جهدهم وعلى حسب وسعهم ، فهذه الأخبار الّتي بأيدينا اليوم وصلت منهم إلينا مصفّاة منقّاة خالية عن الكاذبة والموضوعة بالمرّة ، فلا يمكن حينئذ توهّم اختلاطها بها لتمسّ الحاجة إلى التميّز والتشخيص.

ثمّ إن قلت : فما وجه هذا الاختلاف الموجود فيها ، ومن أيّ شيء حصل ذلك مع

ص: 665


1- كذا في الأصل ، والصواب ، و « الموافقة للعامّة » إلخ.

فرض صدور الكلّ عن الأئمّة عليهم السلام؟

قلنا : منشأ الاختلاف في الأخبار غير منحصر في اختلاط الأخبار الكاذبة ودسّ الأحاديث الموضوعة ، بل قد يحصل تقيّة كما يدلّ عليه قولهم : « نحن نلقي الخلاف بينكم ».

فإن قلت : إنّ التقيّة يشترط فيها الموافقة للعامّة ، فلو فرض كون المتعارضين مخالفين لهم فلا يتطرّق إليهما احتمال التقيّة ، فكيف ينزّل الاختلاف في الأخبار على التقيّة مع عدم احتمالها.

قلت : نمنع اشتراط التقيّة بالموافقة ، لأنّها كما قد تحصل ببيان ما يوافق العامّة فقد تحصل بإلقاء الخلاف من دون أن يكون هناك موافقة ، واستشهد لذلك بجملة من الروايات الّتي ذكرها في المقدّمة الثانية (1) من مقدّمات الحدائق (2) ، فمبنى مخالفته المشهور كما يظهر من كلامه على ذلك ظاهر.

ويرد عليه : أنّ ما ذكره في وجه اختلاف الأخبار وإن كان في الجملة حسنا متينا قابلا لأن يذكر في الكتب العلميّة يصدر من أهل العلم ، غير أنّه إنّما يسلّم في الجملة لا مطلقا ، بمعنى أنّ كلّ اختلاف في الأحاديث ليس ناشئا عن الأئمّة واقعا منهم عليهم السلام لمراعاة مصلحة إلقاء الخلاف بينهم وإن كان قد يكون لذلك ، بل الغالب من أسباب حصول الاختلاف بعد تسليم قطعيّة صدور الجميع أو الظنّ بها إنّما هو كثرة إرادة خلاف ظواهر تلك الأخبار لقرائن حاليّة ومقاميّة زالت بانقضاء زمان التخاطب ، أو بقرائن لفظيّة متّصلة اختفت علينا لكثرة ما تطرّق إلى الأحاديث من التقطيع أو النقل بالمعنى أو غير ذلك ، أو بقرائن لفظيّة منفصلة ذهبت عنّا بانطماس كتب الأحاديث واندراسها ، أو بغير قرائن لمصلحة التقيّة بناء على ما تقدّم من أنّ التقيّة قد تكون بالتأويل ، أو لمصلحة اخرى غير التقيّة علمها الإمام عليه السلام ، ومن ذلك ما روي : « أنّه لمّا سأله عليه السلام بعض أهل العراق وقال : كم آية تقرأ في صلاة الزوال؟ فقال عليه السلام : ثمانون ، ولمّا بعد السائل فقال عليه السلام : هذا يظنّ أنّه من أهل الإدراك ، فقيل له : ما أردت بذلك ، وما هذه الآيات؟ فقال : أردت منها ما يقرأ في نافلة الزوال ، فإنّ الحمد والتوحيد لا يزيد على عشرة آيات ، ونافلة الزوال ثمان ركعات » ونحوه غيره ممّا يظفر عليه المتتبّع.

ويؤيّد ما ذكرنا - من كون الغالب من أسباب اختلاف الأحاديث إنّما هو إرادة خلاف

ص: 666


1- والصواب : المقدّمة الاولى.
2- الحدائق 1 : 8.

ظواهرها الغير الظاهرة لنا - ما روي مستفيضا من « عدم جواز ردّ الخبر وإن كان ممّا ينكر ظاهره ، حتّى إذا قال للنهار أنّه ليل ولليل أنّه نهار ، معلّلا بأنّه يمكن أن يكون له محمل لم يتفطّن له السامع فينكره فيكفر من حيث لا يشعر » ، والظاهر أنّ عليه مبنى طريقة الشيخ في التهذيبين من إخراجه الأخبار المتبائنة إلى محامل بعيدة لمجرّد المحافظة عليها عن الردّ والطرح.

ثمّ إنّ التقيّة في الخبر قد يكون لموافقته فتوى العامّة وهو الغالب المصرّح به في كثير من الأخبار ، وقد يكون لموافقته أخبارهم الّتي رووها ، وقد يكون لموافقة عمل عوامهم ، وقد يكون لموافقة عمل سلاطينهم ، وقد يكون لموافقة عمل قضاتهم كما نبّه عليه في المقبولة حيث أمر بالأخذ بما وافق ما هو أميل حكّامهم ، وقد يكون لموافقة قواعد [ هم ] وطرقهم في الاصول والفروع كالقياس والاستحسان وغيره.

تذنيب : مقتضى الأصل في التعارض بين مرجّح الصدور ومرجّح جهة الصدور

تذنيب

قد عرفت سابقا أنّه إذا وقع التعارض بين مرجّح الصدور ومرجّح جهة الصدور فيما إذا ورد خبران أحدهما موافق للعامّة مع كون راويه أعدل والآخر مخالف للعامّة يرجّح مرجّح الصدور فيؤخذ بخبر الأعدل وإن كان موافقا ويطرح خبر العادل وإن كان مخالفا ، وليعلم أنّ الخبر الموافق لاحتماله التقيّة ممّا لم يجز الأخذ به على أنّ مؤدّاه الحكم الواقعي إلاّ بعد نفي الاحتمال المذكور بأصالة عدم التقيّة ، فلابدّ عند الترجيح بمرجّح الصدور من إعمال ذلك الأصل أيضا.

وقد يتوهّم أنّ تقديم خبر الأعدل هنا يحصل بملاحظة الأعدليّة مع انضمام أصالة عدم التقيّة ، فيستشكل بأنّه ينافي عموم ما دلّ على حجّية خبر العدل فإنّه يشمل الخبر المخالف كما يشمل الموافق أيضا.

وقضيّة صدورهما معا مع كون صدور المخالف قرينة على صدور خبر الأعدل على جهة التقيّة ، ومعه لا مجرى لأصالة عدم التقيّة ، لأنّ الأصل لا يعارض الدليل وهو العموم المذكور ، ويلزم منه تقديم مرجّح جهة الصدور على مرجّح الصدور عند التعارض عملا بعموم دليل الحجّية الّذي لا يعارض أصالة عدم التقيّة في جانب مرجّح الصدور ، نظير ما هو الحال في تعارض مرجّح الصدور ومرجّح الدلالة فيما ورد خبران أحدهما أظهر

ص: 667

والآخر ظاهر مع كون راويه أعدل ، حيث لا يؤخذ فيه بمقتضى مرجّح الصدور مع انضمام أصالة الحقيقة في جانب الظاهر ، لأنّه يستلزم طرح خبر العادل الّذي هو الأظهر ، وهو ينافي عموم أدلّة حجّية خبر العدل ، فإنّه يقتضي صدورهما معا ، وينهض صدور الأظهر قرينة على كون المراد بالظاهر خلاف ظاهره طرحا لأصالة الحقيقة ، وهي لا تعارض عموم أدلّة الحجّية ، ولأجل ذا يقدّم مرجّح الدلالة على مرجّح الصدور.

وفيه من المغالطة ما لا يخفى ، أمّا أوّلا : فلأنّ الطرح اللازم من الترجيح لا ينافي أدلّة الحجّية إمّا لعدم كونه من جهة فقد المقتضي وهو الحجّية الذاتيّة ، بل لوجود المانع ، أو لأنّ أدلّة الحجّية إنّما اقتضت وجوب العمل بخبر العدل ما لم يمنعه المانع ، والتعارض مانع.

وأمّا ثانيا : فلأنّ مستند ترجيح الخبر الموافق المستلزم لطرح الخبر المخالف ليس هو الأصل المذكور حتّى يقال : إنّه لا يصلح معارضا لعموم أدلّة الحجّية ، بل النصّ الدالّ بإطلاقه على وجوب الترجيح بالأعدليّة وغيرها من مرجّحات الصدور وهو مقبولة عمر بن حنظلة ، ولا ريب أنّه يصلح مخرجا من عموم الحجّية ، والأصل المذكور إنّما يتمسّك به لرفع المانع من العمل بالخبر الموافق بعد تقديمه على المخالف وهو احتمال التقيّة لا لأجل طرح المخالف.

وأمّا ثالثا : فلأنّ حمل الخبر على التقيّة في معنى الطرح فيشكل التعلّق في الحكم بصدورهما معا بأدلّة الحجّية ، لأنّ معنى حجّيّة خبر الواحد وجوب تصديق راويه ، ومعنى تصديقه ترتيب آثار الصدق على خبره ، ومعنى ذلك الأخذ بمضمونه والتعبّد بمدلوله على حسب الدلالات المعتبرة على أنّه حكم اللّه الواقعي ، وهذا كما ترى ممّا لا يتأتّى في الخبر المحمول على التقيّة ، لوضوح أنّ معناه عدم الأخذ بمضمونه والتعبّد بما هو مقتضاه وهذا في معنى الطرح ، فلم يترتّب على الأخذ بموجب أدلّة الحجّية ما هو الغرض المطلوب منها وهو التصديق بالمعنى المذكور.

لا يقال : إنّ معنى تصديق الراوي عدم تكذيبه ، أي عدم الحكم بكونه كاذبا في إخباره عن المعصوم ، وهذا كما ترى يتأتّى في الخبر المحمول على التقيّة أيضا ، لأنّا نصدّقه ولا نكذّبه ، ولكن يحمل خبره على التقيّة لأجل القرينة.

لعدم كون معنى التصديق المدلول عليه بأدلّة الحجّية ما يرجع إلى المخبر ، بل المراد به ما يرجع إلى الخبر ، أعني ترتيب آثار الصدق عليه بالأخذ بمضمونه والتعبّد بمقتضاه ، فالخبر المحمول على التقيّة لا يتناوله أدلّة الحجّية ، كما أنّ الخبر الضعيف الصادر من الفاسق

ص: 668

لا يتناوله أدلّة الحجّية ، فإنّ معنى طرح الخبر الضعيف حسبما تداوله العلماء ليس هو تكذيب الراوي والحكم عليه بكونه كاذبا ، لأنّ ما أوجب الضعف فيه إنّما هو فسق الراوي وهو لا يصلح أمارة على الكذب لأنّه أعمّ.

غاية الأمر أنّه خال عن أمارة الصدق وهو العدالة ، فمعنى عدم حجّيته عدم جواز تصديقه بترتيب آثار الصدق عليه والأخذ بمضمونه ، وعليه فالخبر الموافق الّذي راويه أعدل إذا اريد حمله على التقيّة لا يترتّب عليه فائدة الحجّية فلا يتناوله أدلّتها ، وعلى تقدير تناولها له كان حمله على التقيّة طرحا له وأخذا بما يقابله من الخبر المخالف.

فدار الأمر بين طرح الخبر الموافق بحمله على التقيّة تقديما لمرجّح جهة الصدور وطرح الخبر المخالف بالحكم عليه بعدم الصدور رأسا تقديما لمرجّح الصدور وهو الأعدليّة ، ولا مزيّة للأوّل على الثاني ، بل المزيّة إنّما هي في جانب الثاني من جهة أصالة عدم التقيّة المعتضدة بظاهر الروايات القاضية بتقديم مرجّحات الصدور على مرجّحات جهة الصدور.

ولا يقاس هذا الأصل بأصالة الحقيقة الغير الصالحة لترجيح مرجّح الصدور على مرجّح الدلالة من النصوصيّة والأظهريّة ليلزم منه طرح النصّ أو الأظهر المنافي لأدلّة الحجّية ، فإنّ غاية ما يلزم من طرح أصالة الحقيقة في جانب الظاهر بعد الحكم بصدوره مع النصّ والأظهر إنّما هو التأويل فيه بحمله على معنى مجازي له يساعد عليه القرينة وهو نصوصيّة النصّ وأظهريّة الأظهر ، ولا ريب أنّ المعنى المجازي مع مساعدة القرينة عليه مدلول الدليل ومقتضاه ، والعمل بالدليل بالمعنى المتقدّم أعمّ من الأخذ بمدلوله الحقيقي والأخذ بمدلوله المجازي ، فلا طرح هنا أصلا بخلاف طرح أصالة عدم التقيّة ، فالفرق بينهما واضح.

ما يتعلّق بتعارض مرجّح جهة الصدور لمرجّح الدلالة

المقام الثاني

فيما يتعلّق بتعارض مرجّح جهة الصدور لمرجّح الدلالة وتعارض مرجّح الصدور لمرجّح الدلالة ، وحيث إنّ جهة البحث فيهما واحدة جمعناهما في باب واحد.

واعلم أنّ مرجّح الدلالة عبارة عن كلّ مزيّة أوجبت كون دلالة أحد الخبرين أقوى - من جهة النصوصيّة أو الأظهريّة - من دلالة الخبر الآخر.

وقد أشرنا مرارا إلى أنّ مرجّحات الدلالة مقدّمة على سائر المرجّحات ، سواء كانت راجعة إلى الصدور أو جهة الصدور ، فالخبر الأقوى دلالة مقدّم على الأضعف دلالة ولو

ص: 669

كان أصحّ سندا أو موافقا للكتاب أو مشهورا أو مخالفا للعامّة ما لم يعلم بصدور الأقوى على وجه التقيّة ، كما نبّه عليه قوله عليه السلام - في خبر أبي حيّون - : « أنّ في أخبارنا محكما كمحكم القرآن ، ومتشابها كمتشابه القرآن ، فردّوا متشابهها إلى محكمها ، ولا تتّبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا » وقوله عليه السلام - في خبر داود بن فرقد - : « أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معاني كلامنا ، أنّ الكلمة لتصرف على وجوه ، فلو شاء إنسان لصرف كلامه كيف شاء ولا يكذب ».

وممّا يقرّب ذلك أنّ صفات الراوي لا تزيد على التواتر وموافقة الكتاب لا يجعل الخبر أعلى من الكتاب ، وقد حقّق في محلّه جواز تخصيص الكتاب والسنّة المتواترة بأخبار الآحاد ، فحيثما رجع التعارض إلى تعارض الأظهر والظاهر يقدّم فيه الأظهر ولا يلتفت إلى سائر المرجّحات.

والسرّ فيه : أنّ الترجيح بقوّة الدلالة من الجمع المقبول العرفي الّذي هو أولى من الطرح ، وبذلك يخرج عن مورد أخبار التراجيح المسوقة لبيان حكم ما لا يمكن الجمع بين المتعارضين بوجه قريب يقبله العرف ، وهذا هو معقد إجماع الغوالي اللئالي أو القدر المتيقّن من معقده.

ومن مشايخنا من قال - بعد ما صرّح بذلك - : « وما ذكرناه كأنّه ممّا لا خلاف فيه » حاكيا لاستظهاره عن بعض مشايخه المعاصرين له.

ولكن ربّما يظهر من المحكيّ من عبارة الشيخ عن الاستبصار والعدّة خلاف ذلك ، حيث إنّه في الأوّل بعد ما ذكر حكم الخبر الخالي عن المعارض قال : « وإن كان هناك ما يعارضه فينبغي أن ننظر في المتعارضين فيعمل على أعدل الرواة في الطريق ، وإن كانا سواء في العدالة عمل على أكثر الرواة عددا ، وإن كانا متساويين في العدالة والعدد وكانا عاريين عن القرائن الّتي ذكرناها ينظر فإن كان متى عمل بأحد الخبرين أمكن العمل بالآخر على بعض الوجوه وضرب من التأويل كان العمل به أولى من العمل بالآخر الّذي يحتاج مع العمل به إلى طرح الخبر الآخر ، لأنّه يكون العامل به عاملا بالخبرين معا ، وإن كان الخبران يمكن العمل بكلّ منهما وحمل الآخر على بعض الوجوه من التأويل وكان لأحد التأويلين خبر يعضده أو يشهد به على بعض الوجوه صريحا أو تلويحا لفظا أو منطوقا أو دليلا للخطاب وكان الآخر عاريا عن ذلك كان العمل به أولى من العمل بما لا يشهد له شيء من الأخبار ، وإذا لم يشهد لأحد التأويلين شاهد آخر وكانا متحاذيين كان مخيّرا

ص: 670

في العمل بأيّهما » انتهى (1).

وفي الثاني قال : « وأمّا الأخبار إذا تعارضت وتقابلت فإنّه يحتاج في العمل ببعضها إلى ترجيح ، والترجيح يكون بأشياء :

منها : أن يكون أحد الخبرين موافقا للكتاب أو السنّة المقطوع بها والآخر مخالفا ، فإنّه يجب العمل بما وافقهما وترك ما يخالفهما ، وكذلك إن وافق أحدهما إجماع الفرقة المحقّة والآخر يخالفه وجب العمل بما يوافقه وترك ما يخالفه ، فإن لم يكن مع أحد الخبرين شيء من ذلك وكانت فتيا الطائفة مختلفة نظر في حال رواتهما ، فإن كان رواته عدلا وجب العمل به وترك غير العدل ، وسنبيّن القول في العدالة المرعيّة في هذا الباب ، فإن كان رواتهما جميعا عدلين نظر في أكثرهما رواتا وعمل به وترك العمل بقليل الرواة ، فإن كان رواتهما متساويين في العدد والعدالة عمل بأبعدهما من قول العامّة وترك العمل بما يوافقهم ، وإن كان الخبران موافقين للعامّة أو مخالفين لهم نظر في حالهما ، فإن كان متى عمل بأحد الخبرين أمكن العمل بالآخر على وجه من الوجوه وضرب من التأويل وإذا عمل بالخبر الآخر لا يمكن العمل بهذا الخبر وجب العمل بالخبر الّذي يمكن مع العمل به العمل بالخبر الآخر ، لأنّ الخبرين جميعا منقولان مجمع على نقلهما وليس هنا قرينة يدلّ على صحّة أحدهما ولا ما يرجّح أحدهما على الآخر ، فينبغي أن يعمل بهما إذا أمكن ، ولا يعمل بالخبر الّذي إذا عمل به وجب إطراح العمل بالآخر ، وإن لم يمكن العمل بهما جميعا لتضادّهما وتنافيهما أو أمكن حمل كلّ واحد منهما على ما يوافق الآخر على وجه كان الإنسان مخيّرا في العمل بأيّهما شاء » انتهى (2).

وظاهره رحمه اللّه في العبارتين أنّ الترجيح يلاحظ بين النصّ والظاهر فضلا عن الأظهر والظاهر ، فظاهر كلامه يشمل العامّ والخاصّ مع أنّ وجوب الأخذ بالخاصّ وإرجاع العامّ إليه إجماعيّ ، حتّى أنّه نقل عنه في موضع من العدّة ما يناقض ما ذكره هنا ، حيث صرّح في باب بناء العامّ على الخاصّ بأنّ الرجوع إلى الترجيح والتخيير إنّما هو في تعارضين العاميّن دون العامّ والخاصّ ، بل لم يجعلهما من المتعارضين أصلا.

واستدلّ على العمل بالخاصّ بما حاصله : أنّ العمل بالخاصّ ليس طرحا للعامّ بل

ص: 671


1- الاستبصار 1 : 4.
2- عدّة الاصول 1 : 147.

حمل له على ما يمكن أن يريده الحكيم ، وإنّ العمل بالترجيح والتخيير فرع التعارض الّذي لا يجري فيه الجمع.

وعزى ما في العدّة أيضا إلى ظاهر كلام بعض المحدّثين حيث أنكر حمل الخبر الظاهر في الوجوب أو التحريم على الاستحباب والكراهة لمعارضة خبر الرخصة ، بزعم أنّه طريق جمع لا إشارة إليه في أخبار الباب.

وربّما نسب نحوه إلى بعض الأعلام حيث إنّه في باب بناء العامّ على الخاصّ بعد ما حكم بوجوب البناء قال : « وقد يستشكل بأنّ الأخبار قد وردت في تقديم ما هو مخالف للعامّة أو موافق للكتاب ، وفيه : أنّ البحث منعقد لملاحظة العامّ والخاصّ من حيث العموم والخصوص لا بالنظر إلى المرجّحات الخارجيّة ، إذ قد يصير التجوّز في الخاصّ أولى من التخصيص في العامّ من جهة مرجّح خارجي وهو خارج عن المتنازع » انتهى.

وفي النسبة نظر ، لجواز أن يكون مراده من المرجّحات الخارجيّة الموجبة للتجوّز في الخاصّ ما يرجع إلى الدلالة لا ما يرجع إلى الصدور أو جهة الصدور أو المضمون ، ومرجعه إلى القرينة الموجبة للتجوّز في الخاصّ ، وإن كان يأباه ما ذكره في تقرير الإشكال ، لأنّ المخالفة والموافقة يوجب الطرح لا التجوّز كما هو واضح.

وكيف كان فما يظهر من الشيخ ومن وافقه ضعيف. لأنّه خلاف المشهور وما عليه الجمهور ، وخلاف الإجماع المنقول على نحو هذا الجمع ، وخلاف مقتضى الروايتين المتقدّمتين ، وخلاف مقتضى أخبار التراجيح ، وخلاف طريقة العرف وأهل اللسان حيث إنّهم يجعلون نصوصيّة النصّ وأظهريّة الأظهر قرينة على إرادة خلاف الظاهر من الظاهر من تخصيص أو تقييد أو تجوّز آخر.

فإن قلت : إنّ هذا إنّما يسلّم في النصّ أو الأظهر والظاهر المقطوعي الصدور إذا ورد في كلام متكلّم واحد ، ومحلّ البحث في المتعارضين ما لم يقطع بصدورها.

قلت : أدلّة حجّية خبر العدل صيرّتهما كمقطوعي الصدور ، لأنّ مقتضاها وجوب الحكم بصدورهما معا ، ووجوب تصديق مخبريهما تصديقا خبريّا ، على معنى الحكم بصدق خبريهما والأخذ بمدلول كلّ منهما على أنّه حكم اللّه الواقعي ، وحينئذ فصدور النصّ أو الأظهر قرينة على التجوّز في الظاهر وإرادة خلاف ظاهره كما في مقطوعي الصدور.

لا يقال : هذا طرح لأصالة الحقيقة في جانب الظاهر وهو خروج عن مقتضى أدلّة

ص: 672

حجّية أصالة الحقيقة ، كما أنّ طرح النصّ خروج عن مقتضى أدلّة حجّية السند ، فالأمر دائر بين طرح سند وطرح دلالة ومرجعه إلى طرح أصالة الحقيقة ، والثاني ليس بأولى من الأوّل ، فلا بدّ لترجيح الثاني على الأوّل من مرجّح وليس إلاّ مرجّح الصدور أو مرجّح جهة الصدور مثلا.

لمنع التعارض الّذي اشير إليه بدعوى الدوران ، فإنّ أصالة الحقيقة أصل تعليقي معلّق جريانه على فقد القرينة على خلاف الحقيقة.

وقد عرفت أنّ صدور النصّ أو الأظهر قرينة على التجوّز في الظاهر ، فأدلّة حجّية السند حاكمة على أدلّة حجّية أصالة الحقيقة.

وقضيّة ذلك تعيّن طرح دلالة الظاهر ، لعدم جريان أصالة الحقيقة بل لا دلالة مع عدم جريانها فلا طرح ، بخلاف ما لو قدّم شيء من المرجّحات الاخر على مرجّح الدلالة فيلزم بذلك من الطرح ما ينافي أدلّة حجّية السند ، فليتدبّر.

فمرجع الكلام في هذا المقام إلى أنّ قاعدة وجوب الترجيح والرجوع إلى المرجّحات على تقدير وجودها لا يجري فيما أمكن الجمع بين المتعارضين بالتأويل والتصرّف في أحدهما المعيّن وإخراجه إلى ما لا ينافيه صاحبه الّذي هو بنفس وجوده شاهد به وقرينة عليه كالنصّ والظاهر الّذي منه الخاصّ والعامّ والأظهر والظاهر مطلقا ، بل يجب فيه الجمع على الوجه المذكور ، لأنّ حفظ السند فيه مقدّم على حفظ الدلالة ، لقيام قرينة داخليّة على إخراج أحدهما المعيّن وهو الظاهر إلى خلاف ظاهره ، فيجري فيه أدلّة الصدور في جانب النصّ أو الأظهر ولا معارض لها في جانب أدلّة أصالة الحقيقة في جانب الظاهر ، لأنّها في حدّ أنفسها مقيّدة بعدم القرينة على خلاف الحقيقة ، والنصّ أو الأظهر بنفس صدوره قرينة.

وكما لا يجري في هذا القسم قاعدة الترجيح على تقدير وجود المرجّحات الراجعة إلى الصدور أو جهة الصدور أو المضمون ، فكذلك لا تجري فيه قاعدة التخيير المعلّقة على فقد المرجّحات والتساوي من جهتها ، لاختصاصها كقاعدة الترجيح بما لا يمكن الجمع بين المتعارضين بوجه يقبله العرف ، فإنّه أولى من الطرح جزما.

وبالجملة فلا إشكال ولا ينبغي التأمّل في عدم جريان القاعدتين في هذا القسم ، كما أنّه لا إشكال ولا ينبغي التأمّل في جريانهما فيما لو كان طريق الجمع بين المتعارضين بالتأويل والتصرّف فيهما معا وصرف كلّ منهما عن ظاهره إلى خلافه بتخصيص ونحوه

ص: 673

بحيث يحتاج إلى شاهدين وقرينتين مستقلّتين مفقودتين ، كالمتبائنين اللذين منه ما ورد في خبر من قوله عليه السلام : « ثمن العذرة سحت » وما ورد في آخر من قوله عليه السلام : « لا بأس ببيع العذرة » ، لصدق التعارض عرفا وشمول أخبار الترجيح والتخيير ، لوضوح أنّه يشملهما قول الراوي : « يرد عنكم خبران مختلفان » مع عدم إمكان الجمع بينهما بوجه عرفي وإن احتمل عقلا ، ولا معارض لها من جانب أدلّة الصدور لفرض كونها مقيّدة بالإمكان المنتفي هاهنا.

نعم ربّما يشكل الحال فيما لو كان طريق الجمع بالتأويل والتصرّف في أحدهما لا بعينه وإخراجه إلى ما يوافق صاحبه المحتاج تعيينه إلى شاهد خارجي يصلح قرينة عليه مع فرض انتفائه كما في العامّين من وجه ، كقوله : « اغسل ثوبك عن أبوال ما لا يؤكل لحمه » مع قوله عليه السلام : « لا بأس بخرء الطير » بل مطلق الظاهرين كقوله : « اغتسل للجمعة » مع قوله : « ينبغي غسل الجمعة » بناء على تساوي ظهور الأوّل باعتبار الصيغة في الوجوب لظهور الثاني باعتبار المادّة في الاستحباب من دون مزيّة لأحدهما على الآخر كما يظهر من بعض الأصحاب ، فإنّ إجراء قاعدة الترجيح أو التخيير فيه المستلزم لطرح أحدهما لا يخلو عن إشكال : من عموم الأخبار الآمرة بالترجيح مع وجود المرجّحات والتخيير مع فقدها ، لوضوح أنّه يصدق التعارض بينهما عرفا ويندرجان في خبرين مختلفين بالقياس إلى مادّة الاجتماع فيشملهما قول الراوي « يرد عنكم خبران مختلفان ».

ومن عموم أدلّة السند لهما معا القاضي بوجوب الحكم بصدورهما والتعبّد والأخذ بهما فلا داعي إلى العدول والخروج عنها.

غاية الأمر وجوب التوقّف في مدلوليهما بالقياس إلى محلّ التعارض لمكان الإجمال الناشئ من معارضة أصالة الحقيقة في أحدهما لمثلها في الآخر للعلم الإجمالي بعد الأخذ بالسندين بإرادة خلاف ظاهر أحدهما من غير تعيين ، فلا محيص من طرح ظاهر أحدهما لا بعينه وأصالة الحقيقة فيه.

ولا يبعد منع جريان الترجيح والتخيير هنا والقول بوجوب الأخذ بالسندين نظرا إلى وجود المقتضي وفقد المانع ، فإنّ المقتضي على ما عرفت عموم ما دلّ على حجّية خبر الواحد المتناول لكلّ من الظاهرين المتعارضين ، فإنّه يقتضي وجوب تصديق المخبرين والحكم بصدور الخبرين ، ولا مانع منه في جانب الأخبار الآمرة بالترجيح والتخيير ولا في جانب أدلّة حجّيّة الظواهر وأصالة الحقيقة.

ص: 674

أمّا الأوّل : فلأنّ إشكال التعارض ينشأ من شبهة الدلالة فلا يرجع فيها إلى المرجّحات الواردة في أخبار الترجيح الراجعة تارة إلى الصدور واخرى إلى جهته وثالثة إلى المضمون.

وتوضيحه : أنّ التعارض ممّا يوجب التحيّر في العمل بالمتعارضين ، وهو قد يحصل بالنسبة إلى الصدور أو جهته مثلا ، فلا يدرى أنّ أيّا من الخبرين صدر أو أيّا منهما لم يصدر ، أو أنّ أيّا منهما صدر على وجه بيان الواقع وأيّا منهما صدر على وجه التقيّة ، وقد يحصل بالنسبة إلى الدلالة بعد إحراز السند بعنوان القطع أو الظنّ أو التعبّد فلا يدرى أنّ أيّا منهما اريد ظاهره وأيّا منهما اريد خلاف ظاهره ، فإن كان الخبر من قبيل القسم الأوّل لا بدّ فيه من الرجوع إلى قواعد الترجيح وإعمال المرجّحات الواردة في الأخبار المستلزم لطرح أحد السندين ، ومع فقدها فالتخيير المستلزم للطرح أيضا ، ولذا ورد في سؤالات هذه الأخبار قوله : « بأيّهما آخذ؟ » - أو « بأيّهما نأخذ؟ » نظرا إلى أنّ كلمة « أيّ » سؤال عن التعيين ، فتكون قاضية بأنّ تعيّن طرح أحد السندين كان مفروغا عنه عند السائل وسؤاله إنّما كان عن تعيينه ، وصدر الجواب عن الأئمّة عليهم [ السلام ] على حسب ما زعموه بذكر المرجّحات الّتي وجودها وفقدها معيار الأخذ والطرح بقولهم : « خذ بكذا ، واترك كذا ، وتخيّر إذن ».

وإن كان من قبيل القسم الثاني فلا بدّ من الرجوع إلى القرائن الخارجيّة المعتبرة في إحراز الدلالة وتشخيص المراد ، وعلى تقدير عدم وجودها لا مناص من الوقف اجتهادا والأخذ بالاصول على حسب ما يناسب المقام عملا.

والظاهر أنّه في تعارض العامّين من وجه بل ومطلق الظاهرين من قبيل القسم الثاني كما في مقطوعي الصدور ، إذ الكلام بعد تنزيلهما منزلة مقطوعي الصدور وفرض صدورهما - أخذا بموجب أدلّة حجّية السند - فالتحيّر حينئذ من جهة الدلالة ، للعلم الإجمالي بإرادة خلاف ظاهر أحدهما وهو غير معيّن ، فلا منافاة في أدلّة الترجيح والتخيير للأخذ بالسندين هنا حتّى تكون مانعة عن الأخذ ، مع أنّ السند الّذي يطرح على ما هو اللازم من الترجيح أو التخيير إن اعتبر بالقياس إلى تمام مدلول أحد العامّين فهو ممّا لا داعي إليه ، لإمكان العمل بهما معا في مادّتي افتراقهما ، وإن اعتبره بالقياس إلى بعض مدلوله وهو مورد الاجتماع فهو غير معقول لأنّ السند لا يتبعّض ، والأصل فيه أنّ العامّ الصادر عن المتكلّم إنّما يصدر صدورا واحدا يتساوى نسبته إلى جميع الأفراد ، فلا يعقل الأخذ به بالنسبة إلى بعض الأفراد وطرحه بالنسبة إلى البعض الآخر.

ص: 675

نعم إنّما يتبعّض الدلالة بحسب إرادة المتكلّم بإرادة بعض الأفراد دون بعض ، وهذا هو الّذي يوجب الإجمال عند فقد القرينة على التعيين ، غير أنّه من لوازم الأخذ بالسندين لا من آثار طرح أحدهما بالقياس إلى بعض مدلول العامّ.

وبالجملة التفكيك بين أفراد العامّ في الصدور وبالنسبة إلى السند بأن يؤخذ به بالنسبة إلى مورد الافتراق ويطرح بالنسبة إلى مورد الاجتماع غير معقول ، هذا على القول بكون العمل بالأخبار من باب الطريقيّة وظنّ الصدق ورجحان الصدور.

وأمّا على القول به من باب التعبّد الصرف فقد يظنّ جواز التفكيك وإمكان التبعيض ، لجواز أن يتعبّدنا اللّه سبحانه بأخذ السند في بعض المدلول دونه في البعض الآخر ، غير أنّه سهو لأنّ التعبّد بالخبر عبارة عن التعبّد بمدلوله من دون نظر فيه إلى الواقع ولا إلى أنّه صدر أو لا؟ فالتفكيك هنا في الحقيقة راجع إلى المدلول ولا كلام فيه لا إلى السند والصدور.

وأمّا الثاني : فلأنّ الأخذ بالسندين لا يستتبع خروجا عن مقتضى أدلّة حجّية الظاهر ، بأن يلزم معه طرح ظاهر لا يلزم طرحه على تقدير طرح أحد السندين ، إذ على التقديرين لا بدّ من الأخذ بظاهر واحد ، وهو ظاهر أحد المتعارضين معيّنا على تقدير طرح أحد السندين ، أو مردّدا فيه بين هذا وذاك على تقدير الأخذ بالسندين ، فلم يتفاوت الحال بينهما بالقياس إلى أدلّة حجّية الظاهر لتكون تلك الأدلّة مانعة عن الأخذ بالسندين.

فإن قلت : إنّ المقتضي للأخذ بهما معا غير موجود لما تقدّم الإشارة إليه في مسألة تعارض الصدور مع جهة الصدور من الإيراد على من قدّم مرجّح جهة الصدور على مرجّح الصدور استنادا إلى أدلّة التعبّد بالسند والحكم بالصدور ، من أنّ هذا تعبّد بالسند لأجل إبطال العمل بالرواية بسبب حملها على التقيّة وهذا غير مفيد ولم يظهر من أدلّة السند شمولها لنحو هذا التعبّد به بل هو في معنى الطرح له ، لأنّ أدلّة التعبّد به إنّما أوجبته ليظهر فائدته في العمل بالدلالة والأخذ بالمدلول ، بل لا معنى لوجوب تصديق الراوي العدل في روايته إلاّ وجوب الأخذ بمضمون خبره ومدلول روايته ، وهذا بعينه يرد عليك هنا لأنّك تعبّدت بالسندين لأجل إبطال العمل بالدلالة وإهمال المدلول فيهما معا ، فلم يظهر من أدلّة السند شمولها لمثل ذلك ، لوضوح أنّ الأخذ بالسندين إن كان للعمل بهما في غير محلّ التعارض - كمادّتي افتراقهما إن كانا عامّين من وجه ، والقدر المشترك بين مضمونيهما وهو مطلق الرجحان إن كانا نظير « اغتسل » و « ينبغي » - فهو ليس من المتنازع فيه ، لأنّ القائل

ص: 676

بطرح أحد السندين لا يقول به حتّى بالنسبة إلى غير محلّ التعارض ، وإن كان للعمل بهما في مورد التعارض فهو غير مفيد من جهة مانعيّة الإجمال.

قلت : ليس الأمر كما ذكرت ، إذ كما أنّ البيان بالنسبة إلى الدلالة والأخذ بالمضمون من فوائد الأخذ بالسند فكذلك الإجمال أيضا من فوائده بل من أعظم الفوائد ، ضرورة أنّه لولاه لكان التعبّد بالتكليفي المستفاد من أحدهما من إيجاب أو تحريم متعيّنا ولم يكن عنه مندوحة شرعا ، بخلاف ما لو حصل الإجمال من جهة التعارض فإنّه أوجب الرجوع إلى الاصول والقواعد ، وكأنّ الشارع رخّصنا في نحو هذا المقام بأن نأخذ بسندي المتعارضين معا ليترتّب عليه فائدة الإجمال وهو الرجوع إلى الاصول والعدول عن التكليفي الّذي أوجبه أحد الخبرين في محلّ التعارض على تقدير طرح صاحبه.

هذا كلّه بخلاف المتبائنين اللذين طريق الجمع بينهما يحتاج إلى التأويل فيهما معا وحكمنا فيهما بوجوب الترجيح والرجوع إلى المرجّحات ، فإنّ المقتضي للأخذ بالسندين هنا أيضا وإن كان موجودا وهو عموم ما دلّ على حجّية السند إلاّ أنّه مشغول بالمانع من الاقتضاء وهو عموم دليل حجّية الظاهر وأصالة الحقيقة ، إذ لو بنينا على الجمع بين سنديهما لزم طرح أصالة الحقيقة الّتي كانت باقية على حالها على تقدير طرح سند إحداهما ، فالأمر دائر بين طرح سند واحد وطرح ظاهر واحد ، وأمّا الظاهر الآخر فهو تابع لسنده فعلى تقدير سلامة السند كان مطروحا لا محالة وعلى تقدير عدم سلامة السند لا يبقى ظاهر حتّى يكون طرحه منافيا لأدلّة حجّية الظواهر ، والّذي يقابل السند المردّد بين طرحه وعدم طرحه إنّما هو ظاهر واحد وهو ظاهر سند نقطع إجمالا بسلامته بسبب القطع الإجمالي بصدور أحدهما لا بعينه ، فالأمر دائر بين طرح هذا الظاهر وبين إبقائه ، فالقول بدوران الأمر حينئذ بين طرح ظاهرين وطرح سند وظاهر ليس على ما ينبغي ، بل فاسد الوضع كما أشرنا إليه في مسألة أولويّة الجمع من الطرح ، فإذا دار الأمر بين طرح سند وإبقاء ظاهر وبين طرح ظاهر وإبقاء السند يقع التعارض بين أدلّة الحجّية من الطرفين ، فإنّ أدلّة السند تقضي بطرح الظاهر وأدلّة أصالة الحقيقة تقضي بطرح السند ، فطرح الظاهر ليس بأولى من طرح السند ، إلاّ أنّ أدلّة حجّية الظاهر يعضدها أخبار الترجيح والتخيير لكونها أخصّ موردا من أدلّة السند ، ضرورة صدق التعارض عرفا وصدق الخبرين المختلفين وشمول السؤال عن التعيين بكلمة « أيّ » الكاشف عن اعتقاد السائل بوجوب الأخذ

ص: 677

بأحدهما وطرح الآخر مع ورود الجواب على طبق معتقده من دون إنكار عليه متكفّلا لبيان ما يميّز المأخوذ من المطروح ، فينهض ذلك دليلا على أنّ الظاهر مقدّم على السند.

ولكن يرد على البيان وجوه :

الأوّل : منع كون اللازم على تقدير الأخذ بالسندين طرح ظاهر واحد ، لأنّ المفروض على هذا التقدير تطرّق التأويل إلى كلا المتعارضين ، فالأمر يدور بين طرح سند وطرح ظاهرين.

الثاني : منع صلاحية أدلّة أصالة حجّية الحقيقة لمعارضة أدلّة السند ، فإنّ الخبرين يصيران بمقتضى أدلّة حجّيّة السند بمنزلة مقطوعي الصدور ، وكما أنّ المتبائنين إذا كانا مقطوعي الصدور ينهض صدورهما قرينة على التأويل في كلّ منهما فكذلك فيما هو بمنزلتهما ، فقضيّة أدلّة حجّية السند وجوب الحكم بصدور الخبرين على وجه حمل كلّ منهما على معناه الحقيقي أو أحدهما على معناه الحقيقي والآخر على معناه المجازي أو كلّ منهما على معناه المجازي ، لأنّ الكلام إنّما هو بعد فرض صدورهما معا وهو لا يخلو عن أحد الوجوه الثلاث.

وقضيّة ذلك حكومة أدلّة السند على أدلّة حجّية أصالة الحقيقة.

الثالث : منع جريان أخبار وجوب الترجيح أو التخيير فيما لو كان التحيّر الناشئ من التعارض من جهة اشتباه الدلالة وعدم تبيّن المراد من المتعارضين ، ضرورة أنّه بعد فرض صدور الخبرين عملا بموجب أدلّة السند كان التحيّر واقعا في تشخيص المراد ، إذ لا يدرى أنّ المعنى المجازي الّذي اريد من كلّ من المتعارضين ما هو؟

وقضيّة ذلك وجوب التوقّف لأجل الإجمال العرضي الحاصل من التعارض كما في العامّين من وجه وما بمعناهما.

غاية الأمر أنّ الإجمال في الثاني لجهالة ما اريد منه معناه المجازي وهنا لجهالة المعنى المجازي الّذي اريد من كلّ منهما.

وبالتأمّل في ذلك ينقدح أنّ ما ذكرناه من أنّ الأمر في المتبائنين دائر بين طرح ظاهرين وطرح سند بمعزل عن التحقيق ، إذ لا معنى للظهور مع طروّ الإجمال اللازم من الجمع السندي ، فلا ينبغي مقابلة أدلّة حجّية السند لأدلّة حجّية الظواهر وإن اريد بها الظواهر الأوليّة ، إمّا لحكومة أدلّة السند على أدلّة الظاهر فينهض صدور كلّ قرينة على التجوّز في

ص: 678

آخر أو لانتفاء موضوع أدلّة حجّية الظواهر.

ومن هذا كلّه سقط ما قد يقال - لتقريب التعارض إلى الذهن - : من أنّ طرح السند لابدّ له من داع إليه ، كما أنّ طرح الظاهر لابدّ له من قرينة عليه ، وكما أنّ طرح الظاهر بلا قرينة غير جائز فكذلك طرح السند بلا داع إليه غير جائز ، فكلّ من هذين محذور لا ينبغي ارتكابه ، والأمر في المتبائنين دائر بين المحذورين وهما طرح السند بلا داع والتجوّز بلا قرينة ، ومن يرتكب التجوّز فإنّما يرتكبه فرارا عن محذور طرح السند بلا داع ، فيجعل الفرار عن ذلك داعيا إلى ارتكاب التجوّز وقرينة عليه ، كما أنّ من يلتزم بطرح السند فإنّما يلتزم به للفرار عن التجوّز بلا قرينة فيجعل ذلك قرينة عليه ، ويدفع كلاّ منهما أنّ هذين محذوران في درجة واحدة ولا يصلح الفرار عن شيء منهما داعيا إلى الالتزام بصاحبه ولا قرينة عليه.

وفيه : أنّ المحذور إنّما هو طرح السند ، ومع حفظه فليس فيه طرح ظاهر لا بالظهور الأوّلي لوجود القرينة ولا بالظهور الثانوي لمكان الإجمال ، وكذلك لا ينبغي مقابلة أدلّة السند بأخبار الترجيح والتخيير لعدم كون التعارض فيه موجبا لاشتباه حال السند أو المضمون ، بل موجب لاشتباه حال الدلالة لعدم القرينة على خصوص المعنى المجازي المحتمل في كلّ من المتعارضين.

هذا ولكنّ الإنصاف أنّ إخراج المتبائنين عن أخبار الترجيح والتخيير بنحو هذا البيان في غاية الإشكال ، لكونه خلاف طريقة أهل العرف وخلاف عمل العلماء.

والأولى إناطة اندراجهما والعدم في هذه الأخبار بكون المراد من عدم إمكان الجمع المأخوذ في مصبّها عدم إمكانه عقلا - بأن لم يقبل شيء منهما التأويل بوجه ، فلا يندرجان فيها لقبولهما التأويل على هذا الوجه - أو عدم إمكانه عرفا بأن لم يكن التأويل المحتمل مقبولا عند أهل العرف باعتبار عدم القرينة المعتبرة عليه من نفس المتعارضين ولا من الخارج ، فيندرجان فيها لعدم مساعدة قرينة معتبرة على ما يحتمل فيهما من التأويل ، احتمالان أظهرهما الثاني كما رجّحناه في مسألة أولويّة الجمع من الطرح لوجوه عديدة تقدّم ذكرها ثمّة ، وعمدتها إطلاق أخبار الترجيح سؤالا وجوابا مع انضمام ترك الاستفصال ، فإنّ قوله : « يرد عنكم خبران مختلفان » معناه في متفاهم العرف خبران مختلفان اختلافا لا يمكن معه الأخذ بهما معا بل لا بدّ من طرح أحدهما والأخذ بالآخر فبأيّهما نأخذ أو آخذ؟ وقوله عليه السلام

ص: 679

في الجواب : « خذ بكذا ، أو اترك كذا » مطلق في عدم إمكان الأخذ بالنسبة إلى ما هو بحسب العقل وما هو بحسب العرف ، ومفيدا للعموم بانضمام ترك الاستفصال ، مع أنّ عليه بناء العرف وعمل العلماء قديما وحديثا ، بخلاف العامّين من وجه اللذين بنينا فيهما على الجمع لإمكان الأخذ بهما معا في الجملة بالقياس إلى مادّتي افتراقهما ، فلا داعي إلى الترك الكلّي وطرح أحدهما رأسا على ما هو لازم الترجيح والتخيير ، وعدم إمكان العمل بهما في مادّة الاجتماع لا يوجب طرحا لعدم إمكان التبعيض في السند ، بل غايته التوقّف من جهة الإجمال العرضي ولا ضير فيه.

ويشكل الحال في ظاهرين لم يكن لشيء منهما مورد عمل في الجملة كما في العامّين من وجه مع مشاركتهما لهما في العنوان من حيث كون طريق الجمع بينهما بالتأويل في أحدهما لا بعينه ، كقوله : « اغتسل للجمعة » و « ينبغي الغسل للجمعة » على تقدير تساويهما في الظهور ، فهل يلحقان بالعامّين من وجه في وجوب الجمع السندي بينهما ثمّ التوقّف اجتهادا أو الرجوع إلى الأصل عملا لمكان الإجمال العرضي ، غير أنّه في العامّين من وجه في الجملة وهنا مطلقا ، أو يلحقان بالمتبائنين في وجوب الترجيح أو التخيير المستلزمين لطرح سندي؟ احتمالان أظهرهما الثاني لعين ما ذكرناه في المتبائنين من إطلاق أخبار التراجيح باعتبار عدم إمكان العمل بهما ولو في الجملة على وجه مقبول عرفي ، فيجب فيهما الأخذ بالراجح وطرح المرجوح.

نعم على تقدير عدم التساوي بأن يكون لأحدهما مزيّة على صاحبه في الظهور بحيث دخل في عنوان الأظهر يخرجان عن عنوان الظاهرين ويدخلان في عنوان الأظهر والظاهر ، فيجري عليهما حكمها من وجوب الجمع بالأخذ بالأظهر وإرجاع التأويل إلى الظاهر كما في المثال المذكور ، بناء على كون « ينبغي » باعتبار ندرة استعماله في الوجوب أظهر في الاستحباب من صيغة الأمر في الوجوب باعتبار شيوع استعمالها في الاستحباب ، وكذا الحال في العامّين من وجه إذا كان لأحدهما مزيّة في الظهور بمثابة يدخل معها في الأظهر ، فيدخلان حينئذ في عنوان الأظهر والظاهر فيؤخذ بعموم : « أظهرهما » ويرجع التخصيص إلى صاحبه ، ولعلّه الغالب في تعارض العامّين من وجه.

بل قد يقال : إنّه قلّما يتّفق فيهما ما لم يكن أحدهما أظهر من صاحبه ، ومن مصاديقه ما كان عموم أحدهما بالوضع والآخر بالعقل من جهة السكوت في معرض البيان ، وما كان

ص: 680

أحدهما أقلّ أفرادا والآخر أكثر أفرادا ، أو ما لم يكن أحدهما مخصّصا والآخر مخصّصا ، وما كان التخصيص الوارد على أحدهما أقلّ من التخصيص الوارد على الآخر ، وما كان تخصيصه على تقدير رجوعه إليه من تخصيص الأقلّ وفي الأخر من تخصيص الأكثر إلى غير ذلك ممّا يصير أظهر في العموم لأمر داخلي أو خارجي ، ففي الجميع يجب الأخذ بعموم الأوّل وإرجاع التخصيص إلى الآخر ، وقد يترجّح ظهور أحدهما باعتضاده بالمرجّحات الخارجيّة كالشهرة والاستقراء والأولويّة ونحوها إذا أوجبت موافقة أحدها وهنا في العامّ المخالف له بحيث صار الموافق أظهر.

ومن أمثلته ما في تعارض حسنة عبد اللّه بن سنان قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام : « اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه » وحسنة أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « كلّ شيء يطير لا بأس بخرئه وبوله » والأوّل موافق للشهرة ، لأنّ المشهور نجاسة أبوال وأرواث ما لا يؤكل لحمه طيرا كان أو غيره ، ولعلّه لذا رجّحه السيّد في الرياض استنادا إلى الشهرة ، لوضوح أنّه لولا كونها موهنة للعامّ الآخر لم يكن لترجيحه عليه وجه ، لأنّ أصالة الحقيقة جارية فيهما معا ، وكما أنّها في الأوّل مانعة من العمل بها في الآخر فكذلك هي في الآخر مانعة عن العمل بها في الأوّل ، واللازم من ذلك طروّ الإجمال لهما معا المانع من العمل بكلّ منهما ، ولعلّه لذا استوجه صاحب المدارك في ذرق الغير المأكول بل بوله القول بالطهارة عملا بالأصل السالم عن المعارض مريدا به أصالة الطهارة في الأشياء.

وربّما يحتمل كونه ترجيحا للخبر الثاني بموافقة الأصل بناء منه على القول بالترجيح به ، ولكنّه خلاف ما يظهر من كلامه ، فما اختاره بناء على ظاهر كلامه على تقدير عدم كون شهرة الفتوى موهنة في دلالة الخبر الثاني أوفق بالقواعد ، لأنّ مجرّد وجود نحو هذه الشهرة الغير الموهنة لا يوجب زوال التعبّد بأصالة الحقيقة المفروض جريانها في الخبر المخالف للشهرة.

هذا إذا كان العمل بأصالة الحقيقة من باب التعبّد استنادا إلى أصالة عدم القرينة وأصالة عدم التخصيص.

وأمّا إذا كان من باب الظنّ النوعي فربّما يسبق إلى الوهم جواز الترجيح بها وبغيرها من المرجّحات الخارجيّة إذا أفادت الظنّ الشخصي بمضمون ما يوافقها.

ويزيّفه : أنّ الظنّ في باب الدلالات إنّما يعتبر حيث كان بناء العرف على اعتباره ،

ص: 681

والتعويل عليه كالظنّ المستند إلى القرائن العرفيّة المعتبرة لدى أهل العرف ، والظنّ الحاصل من الشهرة وغيرها من الأمارات الغير المعتبرة بالخصوص ليس بهذه المثابة ، لعدم كون هذه الأمارات من القرائن المعتبرة في العرف ، فإنّ الكلام إنّما هو على تقدير عدم ثبوت حجّيتها بالخصوص كما هو الأقوى حيث لم يقم دليل خاصّ عليها ، كما أنّه لم يقم دليل خاصّ على عدم حجّيتها ، والمقام لا يخلو عن إشكال.

المرجّحات الخارجيّة

المقام الثالث

في المرجّحات الخارجيّة وقد ذكرنا سابقا أنّ المرجّحات الخارجيّة على تقدير الترجيح بها راجعة إلى مضمون الخبر ومدلوله ، لأنّها عبارة عن كلّ مزيّة خارجة عن نفس الخبر سندا ومتنا ودلالة توجب الظنّ والوثوق بصدور مضمون الخبر المشتمل عليها من الإمام عليه السلام ولو بلفظ آخر غير لفظ هذا الخبر ، ومن صفته الّتي يمتاز بها عن سائر المرجّحات أن لا يكون متعرّضا لصدور الرواية ودلالتها وجهة صدورها ، فيكشف ظنّا عن وجود خلل في الخبر الآخر في صدوره أو دلالته أو جهة صدوره ، ومن ثمّ سمّي المرجّح « الخارجي » لخروجه عن جميع جهات الخبر.

وهو على قسمين لأنّه إمّا أن يكون في نفسه حجّة بحيث لو لا الخبر الّذي يرجّحه كفى وجوده في دليل الحكم الشرعي ومدركه كموافقة الكتاب أو الأصل ونحوه ، أو لا يكون في نفسه حجّة بحيث لو لا ورود الخبر الّذي يرجّحه في المسألة لم يكن كافيا في دليل الحكم ، فالكلام يقع في موضعين :

المرجّحات الخارجيّة / موافقة الكتاب البالغ حدّ الحجّيّة

الموضع الأوّل

في المرجّح الخارجي البالغ حدّ الحجّيّة

وهو إمّا الكتاب وإمّا الأصل ، ففيه مرحلتان :

المرحلة الاولى : في الترجيح بموافقة الكتاب وفي معناه السنّة القطعيّة ، والترجيح بموافقتهما منصوص عليه في الأخبار المتكاثرة وربّما ادّعي تواتر الأخبار به.

وعن المحقّق في المعارج الاستدلال عليه بوجهين :

أحدهما : أنّ الكتاب دليل مستقلّ فيكون دليلا على صدق مضمون الخبر.

وثانيهما : أنّ الخبر المنافي لا يعمل به لو انفرد عن المعارض فما ظنّك به معه.

وقضيّة هذين الوجهين بظاهرهما كون المراد بالموافقة والمخالفة للكتاب في معقد

ص: 682

كلام الأصحاب ومصبّ أخبار الباب هو الموافقة والمخالفة بطريق التباين الّذي لا يمكن معه الجمع بين المتعارضين على وجه يكون مقبولا عند العرف سواء لم يمكن أصلا أو أمكن ولم يكن مقبولا ، لا الموافقة والمخالفة بالعموم والخصوص وغيرهما من أنواع الظهور والنصوصيّة.

وتوضيح ذلك : إنّ الموافقة والمخالفة للكتاب في الخبرين المتعارضين على قسمين :

أحدهما : أن يكون الخبران بحيث لولا الخبر الموافق لكان الخبر المخالف مقدّما على الكتاب لكونه أقوى دلالة بالنصوصيّة ، كما فيما لو كان خاصّا والكتاب عامّا وغيرهما من أنواع النصّ والظاهر ، كقوله : « لا بأس ببيع العذرة » مع قوله : « ثمن العذرة سحت » قبالا لقوله تعالى : ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) الوارد في الكتاب ، وقوله : « أكرم زيدا العالم » مع قوله : « لا تكرم زيدا العالم » قبالا لقوله : « أكرم العلماء » المفروض وروده في الكتاب.

وثانيهما : أن يكون الخبران بحيث لولا الخبر الموافق لكان الخبر المخالف مطروحا لمخالفته الكلّية وعلى وجه التبائن لا يمكن الجمع بينه وبين الكتاب أصلا أو أمكن ولم يصحّ عرفا ، ولم نقف لذلك على مثال إلاّ على سبيل الفرض مثل قوله : « الخمر نجس » في خبر ، وقوله : « الخمر طاهر » في آخر ، مع ورود « الخمر نجس » في الكتاب ، وقوله : « أكرم العلماء » وقوله : « لا تكرم العلماء » مع ورود « أكرم العلماء » في الكتاب ، وقوله : « أكرم زيدا » وقوله : « لا تكرم زيدا » مع ورود « أكرم زيدا » في الكتاب.

ولذا يقال : إنّ الصورة الاولى من هذا القسم عديمة المورد والصورة الثانية منه قليلة المورد فيما بأيدينا اليوم من الأخبار المتعارضة ، والوجهان المذكوران عن المحقّق بظاهرهما لا ينطبقان إلاّ على هذا القسم ، لأنّ موافقة الكتاب فيه تقضي بصدق مضمون الخبر الموافق وصدوره عن المعصوم ولو بلفظ آخر فتكشف عن كذب مضمون الخبر المخالف لوقوع خلل فيه إمّا في صدوره أو دلالته أو جهة صدوره ، وأنّ الخبر المخالف في نحوه ممّا لا يعمل به لو انفرد وسلم عن معارضة الخبر الموافق لعدم إمكان الجمع بينه وبين الكتاب على وجه يقبل عرفا وعدم مقاومته سندا لمعارضة الكتاب ، إذ كلّ ما يفرض معه من المزايا الموجبة للترجيح من أعدليّة الراوي ونحوها لا يقاوم قطعيّة سند الكتاب مع عدم جريان احتمال التقيّة في صدوره ولا احتمال الكذب في مضمونه ، فلم يبق فيه جهة مجوّزة للعمل به دون الكتاب إلاّ احتمال النسخ الّذي مرجع الحمل عليه إلى الترجيح باعتبار الدلالة ،

ص: 683

وهو أيضا غير صحيح لعدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد ، بخلاف القسم الأوّل فإنّ مجرّد الموافقة للكتاب بعد ملاحظة جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد لا يقضي بصدق مضمون الخبر الموافق وكذب مضمون الخبر المخالف ، لجواز كون الصادر من المعصوم هو ذلك المضمون تخصيصا للكتاب الّذي هو جائز بالفرض ، ولو انفرد عن المعارض يعمل به بعنوان التخصيص لا أنّه يطرح.

فقضيّة احتجاج المحقّق كون القسم الثاني معقد كلام الأصحاب ومصبّ أخبار الباب في الترجيح بموافقة الكتاب.

وربّما يساعد عليه ما نبّهنا عليه من ضابط ترجيح المضمون بما يرجع إليه من المرجّحات الّتي منها موافقة الكتاب من كشف المرجّح عن صدق مضمون الخبر الموافق فيكشف عن وقوع خلل في إحدى جهات الخبر المخالف.

ولكن يبعّد احتمال كون هذا هو مورد الترجيح بموافقة الكتاب ما أشرنا إليه من عدم وجود خبر مخالف للكتاب على الوجه المذكور أو ندرة وجوده ، فيلزم من تنزيل الأخبار الآمرة بالترجيح بهذا المرجّح على كثرتها على هذا القسم إخراجها بلا مورد أو إلى مورد قليل لا يعبأ به لقلّته.

هذا مضافا إلى ما دلّ من الأخبار المدّعى تواترها على بطلان الخبر المخالف للكتاب المقتضي لسقوطه عن الحجّية المخرج له عن صلاحية المعارضة ، بناء على أنّ الظاهر منها أو القدر المتيقّن منها المخالفة على وجه التبائن ، فيخرج المفروض عن تعارض الخبرين ، ويلزم منه خروجهما عن أخبار الترجيح رأسا ، لأنّ المراد به تقديم أحد الخبرين لمزيّة فيه غير مخرجة للآخر عن الحجّية لا تقديم أحدهما لما يسقط الآخر عن الحجّية.

مع أنّ التأمّل الصادق في غير موضع من مقبولة ابن حنظلة يعطي خروج هذا النحو من المخالفة عن موردها ، ومن ذلك إطلاق الأمر بالترجيح بصفات الراوي من الأعدليّة فإنّه يقضي بوجوب الأخذ بخبر الأعدل وإن كان هو المخالف للكتاب.

وممّا يشهد بهذا الإطلاق فرض التساوي بينهما من حيث صفات الراوي في كلام السائل ثمّ ورود الجواب على طبقه بالأخذ بما وافق الكتاب والسنّة وطرح ما خالفهما.

ولا ريب أنّه يلزم من تقديم الخبر المخالف لمزيّة الأعدليّة ونحوها طرح الخبر الموافق وهو على تقدير إرادة المخالفة الكلّية أو ما يعمّها يستلزم طرح الكتاب أيضا وهو غير

ص: 684

معقول ، سواء رجع الطرح إلى سند الكتاب أو إلى دلالته.

أمّا الأوّل : فلأنّ قطعيّته مع عدم احتمال التقيّة فيه تمنع من طرحه الّذي هو في معنى الحكم بعدم صدوره.

وأمّا الثاني : فلأنّه لا جهة لطرحه دلالة الكتاب إلاّ طرح مدلوله من حيث النسخ وهو غير صحيح ، لعدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد.

ومن ذلك أيضا ما فرضه السائل من التساوي بينهما من حيث الموافقة للكتاب بقوله : « أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة فوجدنا أحد الخبرين موافقا للعامّة والآخر مخالفا » إلى آخره.

وهذا لا يستقيم إلاّ إذا كان كلّ من الخبرين المفروض موافقتهما للكتاب أخصّ من الكتاب ، كالخبرين المختلفين في صحّة بيع المكره وبطلانه مثلا الموافق أوّلهما لآية ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) وثانيهما لآية ( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) وعليه فما سمعت من المحقّق من الاحتجاج بالوجهين ليس على ما ينبغي ، بل وارد على خلاف التحقيق.

ولا يلزم ممّا ذكرناه عدم جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد ، لأنّ مرجع الترجيح بموافقة الكتاب المستلزم لطرح الخبر المخالف إلى اشتراط تخصيص الكتاب بخبر الواحد بخلوّه عن معارضة مثله على وجه لم يشتمل على مزيّة مرجّحة له على معارضه ولا ضير فيه.

لا يقال : إنّ مرجع الترجيح بالموافقة حينئذ إلى حفظ ظاهر الكتاب والعمل بعمومه فيلزم كون الكتاب مرجعا لا مرجّحا ، وهذا خلاف المعنى المعهود من الترجيح وهو تقديم ذي المزيّة من الخبرين على وجه يكون الخبر هو المستند والمرجع ومدرك الحكم في المسألة.

لأنّا نقول : إنّ مدلول الخبر الموافق بحسب الواقع وإن كان من مقتضى الكتاب إلاّ أنّ ثبوته في المورد دون مدلول الخبر المخالف بعد وقوع التعارض بينهما - بحيث أوجب للناظر فيهما تحيّرا في أنّ الصادر من الإمام هل هو الخبر الموافق أو الخبر المخالف - يستند في ظاهر نظر العرف إلى الخبر ، بحيث يصحّ إسناده إليه والحكم عليه بكونه مرجعا في المسألة ومدركا للحكم فيها.

غاية الأمر اعتضاد مضمونه بموافقة الكتاب ، فالمرجّح له في الحقيقة هو الموافقة للكتاب ، فإنّها المزيّة في أحد المتعارضين أوجبت تقديم مضمونه على مضمون معارضه

ص: 685

لا نفس الكتاب ، وإطلاقه على نفس الكتاب مسامحة باعتبار أنّ الموافقة له نسبة بينه وبين الخبر فيصحّ إطلاق المرجّح عليه توسّعا من باب المجاز ، فلا يشكل الحال في هذا الإطلاق حينئذ من جهة أنّ المرجّح يعتبر فيه عدم بلوغه حدّ الحجّية والكتاب حجّة مستقلّة.

وأمّا الإشكال من جهة عدم جريان ضابط الترجيح المضموني هنا لأنّ كون مضمون الخبر الموافق صدقا ليس بأولى من كون مضمون الخبر المخالف صدقا ، ومجرّد موافقة الأوّل ومخالفة الثاني للكتاب لا يقضي بصدق الأوّل وكذب الثاني بعد ملاحظة جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد ، ومرجعه إلى منع دلالة الموافقة عليه بحيث أوجب ظنّ الصدور والوثوق به لعدم الملازمة ، إلاّ أن يجعل مبنى الترجيح به على التعبّد الصرف وهو بعيد.

فيمكن الذبّ عنه : بأنّ معنى موافقة الكتاب عند التحقيق موافقة ظاهره الّذي يحرز بأصالة الحقيقة ، وهي لكونها معتبرة من باب الظنّ النوعي توجب رجحان صدق مضمون الخبر الموافق ، فيكشف ظنّا عن خلل في الخبر المخالف إمّا في صدوره أو دلالته أو جهة صدوره ، ولا حاكم عليها في جانب أدلّة حجّية سند الخبر المخالف لاشتغاله بمعارضة مثله الّذي لا يمكن الجمع بينه وبينه في العمل فلا بدّ من أخذ وطرح ، وتعيينه موكول إلى موافقة الكتاب الّذي مرجعها إلى أصالة الحقيقة السليمة عمّا يوجب الخروج عنها.

المرجّحات الخارجيّة / موافقة الأصل البالغ حدّ الحجّيّة

المرحلة الثانية : في الترجيح بموافقة الأصل ، والمراد به البراءة الأصليّة لا مطلق الاصول العمليّة حتّى الاستصحاب والاشتغال ، ولا القواعد الشرعيّة كأصالة الطهارة وأصالة الصحّة ، ولا ما يعمّ الجميع بدليل التعبير عنه في الكتب الاصوليّة بحكم العقل وعن الخبرين بالمقرّر والناقل.

واختلفوا هنا في تقديم الناقل وهو الخبر المخالف للأصل على المقرّر وهو الخبر الموافق للأصل أو العكس على قولين ، فعن أكثر الاصوليّين ومنهم العلاّمة تقديم الناقل ، وعن بعضهم والشيخ تقديم المقرّر.

والمنقول من حجّة الأوّلين : أولويّة التأسيس من التأكيد ، فإنّ الناقل يستفاد منه ما لا يستفاد إلاّ منه فيكون تأسيسا ، والمقرّر لا يفيد إلاّ ما أفاده الأصل فيكون تأكيدا.

وأيضا العمل بالناقل يقتضي تقليل النسخ لأنّه يزيل حكم العقل فقط ، بخلاف المقرّر فإنّه يوجب تكثير النسخ لأنّه يزيل حكم الناقل بعد ما أزال الناقل حكم العقل فيتعدّد النسخ ، والأوّل أولى.

ص: 686

ومستند الآخرين : أنّ فائدة التأسيس أقوى من فائدة التأكيد ، وحمل كلام الشارع على ما هو أكثر فائدة أولى ، وهذا يحصل بترجيح المقرّر ، لأنّ ترجيح الناقل يستدعي تقديم المقرّر في الصدور فيكون تأكيدا وهو إخراج لكلامه عن الفائدة أو حمل له على أقلّ فائدة ، وترجيح المقرّر يقتضي تقديم الناقل عليه في الصدور فيكون فائدته رفع حكم العقل وإذا تأخّر عنه المقرّر يكون فائدته رفع حكمه ، فأفاد كلّ منهما فائدة فتكثّرت الفائدة فكان أولى.

وفي الجميع ما لا يخفى من الضعف ، فإنّ المفروض أنّ الخبرين من جهة الحجّية وشمول أدلّتها لهما متساويان ولا مزيّة لأحدهما على الآخر أصلا ، فجعل الناقل ناسخا ليس بأولى من العكس ، مع أنّ جعل رفع حكم العقل من النسخ المأخوذ فيه رفع الحكم الشرعي كما ترى ، كما أنّ أولويّة التأسيس من التأكيد - بعد تسليمها - لا تصلح دليلا على تعيين المرجع سندا ، فإنّها قاعدة لو سلّمناها كانت جارية في كلام متكلّم اشتبه مقصوده ودار بين كونه تأسيسا أو تأكيدا ، فيقال حينئذ : إنّ التأسيس أولى ، إذ الظاهر في كلّ كلام بملاحظة الغلبة نوعا أو صنفا الإفادة دون الإعادة ، فهذا من مرجّحات الدلالة ولا مجرى له فيما نحن فيه.

وبالجملة الاستناد إلى أمثال هذه الاعتبارات في نظائر المقام في غاية الإشكال بل لا وجه له ، فالأولى الرجوع إلى سائر القواعد الكلّية العامّة ، وينبغي أوّلا النظر في أنّ حمل أحد الخبرين على كونه ناسخا والآخر منسوخا هل هو جائز أو لا؟ وعلى الأوّل فهل يصلح طريقا للجمع بينهما أو لا؟

فنقول : إن كان الخبران عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم جاز كون أحدهما ناسخا والآخر منسوخا ، فإن علم تاريخهما من حيث التقدّم والتأخّر كان المتأخّر ناسخا والمتقدّم منسوخا ، فيؤخذ بالمتأخّر سواء كان موافقا للأصل أو مخالفا له.

وبعبارة اخرى : يقدّم المتأخّر ناقلا كان أو مقرّرا.

وإن جهل التاريخ جرى احتمال الناسخيّة والمنسوخيّة في كلّ منهما على نهج سواء ، فيكونان كالعامّين من وجه إذا احتمل في كلّ منهما كونه مخصّصا للآخر ، فلا بدّ من التوقّف والرجوع إلى الأصل ، ومجرّد موافقة الأصل ومخالفته لا تصلح معيّنة ، فيكون الأصل حينئذ مرجعا.

وإن كان عن الأئمّة عليهم السلام فإن جوّزنا النسخ في أخبارهم جرى فيه التفصيل المتقدّم ،

ص: 687

وإلاّ فإن اعتبرنا الأصل من باب الظنّ النوعي ومن حيث كشفه الظنّي عن الحكم الواقعي تعيّن العمل به وبالخبر الموافق معا ، لكونهما معا بمنزلة دليل واحد يترجّح على معارضه لاعتضاد بعضه ببعض ، فيكون الأصل حينئذ معاضدا وليس بمرجّح لكونه حجّة مستقلّة ، وليس كالكتاب ليكون موافقته مرجّحة لما عرفت من رجوع موافقة الكتاب إلى موافقة أصالة الحقيقة الجارية فيه فهي الموجبة لظنّ صدق مضمون الخبر الموافق ، والمقام ليس من هذا الباب كما هو واضح.

وإن اعتبرناه من باب الحكم الظاهري القطعي المجعول لما لم يعلم حكمه الواقعي بالخصوص كان مرجعا ، لأنّ الخبرين باعتبار ورودهما لبيان الواقع مع تكافؤهما يتساقطان فلا يبقى لمقام العمل إلاّ الرجوع إلى الأصل.

والسرّ فيه : أنّ وضع الأصل بحسب الشرع للرجوع إليه عند عدم العلم بحكم الواقعة بالخصوص من وجوب أو حرمة ، وتعارض الخبرين مع التكافؤ يوجب اشتباه الحكم ، ضرورة أنّ الخبر المخالف للأصل باشتغاله بمعارضة مثله لا يفيد العلم بالوجوب أو الحرمة ، كما أنّ الخبر الموافق له لا يوجب العلم بالإباحة باشتغاله بمعارضة مثله ، فصارت الواقعة ممّا لم يعلم وجوبها أو حرمتها بالخصوص ، وهذا موضوع الأصل المقرّر في الشريعة.

وبالجملة الخبران المتعارضان لا يجديان إلاّ تحقّق موضوع الأصل فوجب الرجوع إليه ، ولا نعني من مرجعيّة الأصل إلاّ هذا ، ومؤدّاه الحكم الظاهري وهو يغاير مؤدّى الخبر الموافق الّذي هو حكم واقعي ، فإنّ الفرق بين الحكم الظاهري والواقعي مع اتّحادهما في المحمول بالنظر إلى ما هو مكتوب في اللوح المحفوظ من حيث كونه الإباحة فيها معا إنّما يظهر في الموضوع لتغاير موضوعيهما ، باعتبار أنّ موضوع الحكم الظاهري إنّما هو الواقعة من حيث إنّها لم يعلم حكمها بالخصوص وموضوع الحكم الواقعي هي الواقعة بعنوانها الخاصّ الملحوظ بما هو هو.

ومن هنا ظهر عدم إمكان كون الأصل حينئذ معاضدا ، لأنّ المعاضدة إنّما تحصل بين شيئين إذا اتّحد موضوعاهما ، وقد عرفت أنّ الأصل والخبر الموافق متغايران في الموضوع ، كيف ولو صلح الأصل معاضدا لموافقة تصلح معارضا لمخالفه. ولقد تبيّن فساده في صدر الباب ، حيث ذكرنا أنّ الأصل لا يعارض الدليل من جهة تعدّد موضوعيهما ، وكما أنّه بالنسبة إلى المخالف مغائر بحسب الموضوع فكذلك بالنسبة إلى الموافق مغائر ومعه لا يعقل

ص: 688

كونه معاضدا كما لا يعقل كونه معارضا ، وقضيّة ذلك كونه مرجعا لأنّ هذا وضعه عند الجهل المتحقّق في المقام بملاحظة تعارض الخبرين.

فإن قلت : كيف يرجع إلى الأصل مع أنّه يوجب طرح العلم الإجمالي ، فإنّا نعلم إجمالا بورود حكم للواقعة بالخصوص وهو دائر بين مضموني الخبرين.

قلت : قد تقرّر في محلّه أنّ العلم الإجمالي فيما بين ما يوافق الأصل وما يخالفه من الحكمين بل فيما بين الحكمين المخالفين له لا يمنع العمل به لتحقّق موضوعه وهو الجهل وعدم العلم بحكم الواقعة بالخصوص وإن نشأ من تعارض الخبرين ، ولذا جعل مجرى الأصل - حسبما تحقّق في محلّه - أعمّ ممّا نشأ الاشتباه من فقد النصّ أو إجمال النصّ أو تعارض النصّين.

وبالجملة العلم الإجمالي بورود حكم للواقعة بالخصوص مردّد [ ا ] بين الإباحة والوجوب أو الحرمة لا ينافي الرجوع إلى الأصل بل يحقّق موضوعه هذا.

ولكن لمّا كان الرجوع إلى الأصل فرعا على تساقط المتعارضين فهو ممّا ينافيه إطلاق الأخبار الدالّة على التخيير في عنوان « التعادل » الّذي هو تكافؤ الخبرين من جميع الجهات ، فإذا دار الأمر بين طرحهما بناء على التساقط أو الأخذ بأحدهما تخييرا تعيّن الثاني عملا بإطلاق هذه الأخبار ، فتكون هذه الأخبار واردة على أدلّة الأصل ، وبعد البناء على التخيير لا يتفاوت الحال فيه بين الأخذ بما وافق الأصل والأخذ بما خالفه.

فتقرّر من جميع ما بيّنّاه أنّ الأصل في عنوان هذه المسألة لا يصلح مرجّحا ولا معاضدا ولا مرجعا.

وقد يجعل من هذا الباب قاعدة أولويّة دفع المفسدة من جلب المنفعة فيما تعارض خبران دلّ أحدهما على الحرمة والآخر على الوجوب ، فيقال بتقديم دليل الحرمة على دليل الوجوب ، لأنّ في العمل به دفعا للمفسدة وهو أولى من جلب المنفعة.

والكلام هنا تارة : في ثبوت هذه القاعدة بنفسها وكونها بحيث يصلح للاعتماد عليها ولو في غير مقام ترجيح أحد المتعارضين ، كما في مسألة دوران شيء بين كونه واجبا أو حراما ، على معنى كونها من أدلّة الشرع الموصلة إلى الحكم الظاهري أو لا؟

واخرى : في أنّها هل تصلح مرجّحة لأحد المتعارضين أو لا؟

ص: 689

أمّا الجهة الاولى فالكلام فيها على حسبما تقدّم في بحث أصل البراءة حيث زيّفنا أصل هذه القاعدة.

وأمّا الجهة الثانية فتحقيق القول فيها كما تقدّم في موافقة الأصل ، فهذه القاعدة بعد تسليمها لا تصلح مرجّحة ولا معاضدة ولا مرجعا.

أمّا الأوّل : فلاستقلالها بالحجّية مع كون مؤدّاها الحكم الظاهري.

وأمّا الثاني : فلتغاير موضوعي الحكم الظاهري والحكم الواقعي.

وأمّا الثالث : فلإطلاق أخبار التخيير فيما تكافأ المتعارضان من جميع الوجوه.

المرجّحات الخارجيّة الّتي لم تكن بنفسها حجّة

الموضع الثاني

في المرجّحات الخارجيّة التي لم تكن بنفسها حجّة وهي امور عمدتها الأمارات ، وهي كلّ أمارة مستقلّة غير معتبرة وافقت مضمون أحد الخبرين ، ومعنى عدم اعتبارها عدم قيام دليل على اعتبارها بالخصوص لا لوجود الدليل على عدم اعتبارها كالشهرة والاستقراء ونحوهما ، ولا إشكال بل قيل لا خلاف بين العلماء قديما وحديثا في الترجيح بها وتقديم ما يوافقها.

والدليل عليه : أنّها توجب كون ما يوافقها أقوى من معارضه وأقرب إلى الواقع ، لوضوح أنّ الأمارة لا تصير أمارة إلاّ إذا أفادت الظنّ الفعلي بالحكم الواقعي ، فتوجب الظنّ بصدق مضمون الخبر الموافق لها إمّا بصدور ذلك الخبر أو بصدور مرادفه على جهة بيان الواقع ، فلازمه الظنّ بوجود خلل في إحدى جهات الخبر المخالف ، فيكون الخبر الموافق راجحا والمخالف مرجوحا ، فيدخلان في الكلّية المستفادة من الأخبار الواردة والإشارات والإشعارات الموجودة فيها ولا سيّما المقبولة من الترجيح بكلّ ما يوجب أقربيّة أحد المتعارضين إلى الواقع ، بل يندرج في عموم التعليل المصرّح فيه بنفي الريب لعدم جريان الاحتمال الموجود في المرجوح في الراجح أو لبعد ذلك الاحتمال فيه.

ويمكن الاستدلال أيضا بالإجماع الّذي ادّعاه جماعة على وجوب العمل بأقوى الدليلين ، بناء على كون المراد بالأقوى هنا أعمّ من كونه أقوى في نفسه أو باعتبار موافقة مضمونه لأمارة خارجيّة ، بتقريب : أنّ الأمارة توجب ظنّ خلل موجود في المرجوح مفقود في الراجح فتكون أقوى الدليلين.

وإنّما قيّدنا الأمارة الغير المعتبر بما لا يقم دليل على اعتباره احترازا عن القياس ونحوه

ص: 690

ممّا قام الدليل على منع العمل به ، لأنّ المعروف من مذهب الأصحاب المنسوب إلى ظاهر المعظم عدم جواز الترجيح به ، ولكن عن المحقّق في المعارج حكاية قول بالترجيح به أيضا حيث قال : « ذهب ذاهب إلى أنّ الخبرين إذا تعارضا وكان القياس موافقا لما تضمّنه أحدهما كان ذلك وجها يقتضي ترجيح ذلك الخبر.

ويمكن أن يحتجّ لذلك : بأنّ الحقّ في أحد الخبرين فلا يمكن العمل بهما ولا طرحهما فتعيّن العمل بأحدهما ، وإذا كان التقدير تقدير التعارض فلابدّ في العمل بأحدهما من مرجّح والقياس يصلح أن يكون مرجّحا لحصول الظنّ به ، فتعيّن العمل بما طابقه.

لا يقال : أجمعنا على أنّ القياس مطروح في الشريعة.

لأنّا نقول : بمعنى أنّه ليس بدليل لا بمعنى أنّه لا يكون مرجّحا لأحد الخبرين ، وهذا لأنّ فائدة كونه مرجّحا كونه رافعا للعمل بالخبر المرجوح فيعود الراجح كالخبر السليم عن المعارض فيكون العمل به لا بذلك القياس ، وفيه نظر » انتهى.

وفي كلام شيخنا الاستاذ قدس سره : « ومال إلى ذلك بعض سادة مشايخنا المعاصرين ».

أقول : ويرد عليه : أنّ رفع العمل بالخبر المرجوح معناه طرحه ، ومعنى كون القياس رافعا له أنّه يوجب الظنّ الإجمالي بوجود خلل في إحدى جهاته الّذي عليه يعوّل في طرحه.

ولا ريب أنّ التعويل على هذا الظنّ عمل بالقياس فيندرج في عموم المنع من العمل بالقياس ، مع أنّ المنساق من الأخبار الواردة في منع العمل بالقياس كون إعماله والاعتناء به في الشريعة مبغوضا للشارع سواء قصد به تأسيس حكم شرعي أو ترجيح دليله ، ولذا استقرّت طريقة الأصحاب واستمرّت سيرتهم في هجره وتركه وعدم استعماله مطلقا حتّى في مقام ترجيح الدليل.

قيل : ولو لا ذلك لوجب تدوين شروط القياس في الاصول ليرجّح به في الفروع.

فإن قلت : يرد عليك مثله في الترجيح بالشهرة وغيرها من الأمارات الغير المعتبرة ، لأنّ مرجع الترجيح بها إلى التعويل على الظنّ الحاصل منها في طرح الخبر المرجوح وهذا عمل بالظنّ الّذي لم يعتبره الشارع بالخصوص.

قلت : يكفي في جواز التعويل على هذا الظنّ أخبار التراجيح ، بناء على ما استفيد منها من عموم الترجيح بكلّ ما أوجب رجحان أحد المتعارضين على صاحبه وكونه أقوى منه وأقرب إلى الواقع ، وهذا العموم وإن كان يجري في القياس ونحوه ممّا منع عنه الشرع

ص: 691

بالخصوص إلاّ أنّه خرجنا عنه بعموم أدلّة المنع من العمل به ترجيحا له على العموم المذكور لجهات عديدة وإن كان بينهما عموم من وجه.

التعارض بين المرجّحات الخارجيّة والداخليّة

ثمّ إنّه إذا وقع التعارض بين شيء من المرجّحات الخارجيّة كالشهرة وبعض من مرجّحات الدلالة كالنصوصيّة أو الأظهريّة فيما ورد خبران أحدهما نصّ أو أظهر والآخر ظاهر موافق للشهرة كالعامّ والخاصّ مثلا إذا كان العامّ موافقا للشهرة فلا ينبغي التأمّل في تقدّم مرجّح الدلالة على المرجّح الخارجي مطلقا ، بل قد ذكرنا مرارا أنّ مرجّحات الدلالة لا يعارضها سائر المرجّحات حتّى لو كانت داخليّة راجعة إلى السند أو المضمون فكيف بالمرجّحات الخارجيّة ، فيقدّم الخاصّ في المثال المذكور على العامّ وإن كانت الشهرة في جانبه ولا يلتفت إليها ولا تصلح مرجّحة للعامّ ، لأنّ معنى كونها مرجّحة له حينئذ أنّها تكشف كشفا ظنّيا عن وجود خلل في إحدى جهات الخاصّ فتوجب قدحا في صدوره فيستحقّ به طرح سنده أو قدحا في دلالته فيستحقّ به للتأويل أو قدحا في جهة صدوره فيستحقّ به الحمل على التقيّة ، والكلّ باطل لأنّ أقصى ما يفيده الشهرة إنّما هو الظنّ بالخلل في إحدى تلك الجهات وهو لكونه من الظنون الغير المعتبرة لعدم قيام دليل على اعتبارها بالخصوص لا يقاوم أدلّة حجّية سند الخاصّ ولا أصالة الحقيقة ولا أصالة عدم التقيّة فيه.

أمّا الأوّل : فلأنّ مقتضى أدلّة حجّية السند وجوب الأخذ بسندي المتعارضين مهما أمكن الجمع بينهما بحسب الدلالة جمعا مقبولا لدى العرف وهو هنا ممكن بإرجاع التأويل إلى العامّ.

وأمّا الثاني والثالث : فلأنّ كلاّ من الأصلين إنّما يعتبر في مجاريه من باب الظنّ النوعي فلا يعدل عنه إلاّ بالظنّ الخاصّ المعتبر والمفروض ليس منه ، ولا ينتقض ذلك بأصالة الحقيقة في العامّ الّذي يجب طرحها على تقدير تقديم الخاصّ عليه ، لأنّ الخاصّ بعد حفظ سنده وفرض صدوره بنصوصيّته قرينة على إرادة خلاف ظاهر العامّ.

وبالجملة كما أنّ الشهرة لا يوجب قدحا في شيء من جهات الخاصّ إذا لم يقابله عامّ فكذلك لا يوجب قدحا في شيء من جهاته إذا قابله العامّ ، فلا يوجب قوّة في العامّ ولا ضعفا في الخاصّ حتّى يصير العامّ بسببه أقوى الدليلين ويتعيّن معه طرح الخاصّ ، لأنّ ذلك حيث لم يمكن الجمع السندي بين المتعارضين لا فيما أمكن الجمع وكان إشكال التعارض من جهة شبهة الدلالة مع وجود مرجّح الدلالة في جانب أحد المتعارضين من النصوصيّة أو الأظهريّة.

ص: 692

وأمّا إذا وقع التعارض بين المرجّحات الخارجيّة وغيرها ممّا يرجع إلى الصدور أو جهة الصدور أو المضمون فيما لو تعارض خبران أحدهما موافق للشهرة مع كون الآخر بحيث يكون راويه أعدل أو موافقا للكتاب أو مخالفا للعامّة فالظاهر ترجيح المرجّح الخارجي على غيره وإن كان داخليّا ، ويكفي في دليله مرجّحيته في غير صورة التعارض ، فإنّه إنّما صار مرجّحا لكون بناء الترجيح والرجوع إلى المرجّحات في علاج التعارض على الظنون الاجتهاديّة ومن باب الأخذ بما هو أقرب إلى الواقع وما هو راجح في النظر بالقياس إلى نفس الأمر حسبما استفدناه من إجماع العلماء وإشارت الأخبار وإشعاراتها والتعليلات الواقعة فيها ، كتعليل الأخذ بالمجمع عليه بكونه ممّا لا ريب فيه ، وتعليل الأخذ بما خالف العامّة بكون الرشد أو الحقّ في خلافهم.

والمفروض أنّ الأمارة الّتي هي المرجّح الخارجي لا يعتبر أمارة إلاّ حيث أفادت الظنّ الفعلي ، وهذا يوجب كون مضمون ما وافقه أقرب إلى الواقع إمّا بصدور ذلك الخبر عن المعصوم ، أو بصدور مرادفه فيكشف عن خلل في إحدى جهات الخبر المخالف له ولو كان راويه أعدل ، فكان مضمونه أبعد عن الواقع لأنّه يجري فيه من الاحتمال ما لا يجري في مضمون الخبر الموافق.

نعم إن قلنا بالترتيب بين المرجّحات الخارجيّة والمرجّحات الداخليّة - بمعنى أنّه لا يرجع إلى المرجّحات الخارجيّة إلاّ مع انسداد باب المرجّحات الداخليّة لكونها من قبيل الظنّ المطلق الّذي لا يرجع إليه إلاّ مع انسداد باب الظنّ الخاصّ - فالمتّجه تقديم المرجّحات الداخليّة حينئذ ، لأنّها ما دامت موجودة كائنة ما كانت لا يعارضها المرجّحات الخارجيّة ، لكون حجّيتها معلّقة على انسداد باب المرجّحات الداخليّة إلاّ أنّ المفروض خلافه.

الخاتمة / التعارض بين أكثر من دليلين

خاتمة

في بيان مطلبين

المطلب الأوّل

فيما إذا وقع التعارض بين أكثر من دليلين ، فإنّ موضوع الكلام في المباحث المتقدّمة إنّما هو التعارض الواقع بين دليلين لا أزيد ، وليس المراد بالأكثريّة في عنوان هذا المطلب الأكثريّة بحسب الطريق - كما لو وقع التعارض بين خبر وخبرين أو ثلاثة أخبار مثلا على

ص: 693

مضمون واحد ، فإنّ ذلك لا يخرج عن حدّ التعارض بين دليلين ، بتقريب : أنّ العبرة في التعارض تنافي المدلولين ، والمدلول في المفروض لا يزيد على إثنين وإن كان الدالّ على أحدهما في أحد الجانبين أكثر منه في الجانب الآخر - بل المراد بالأكثريّة ما هو بحسب المدلول والمضمون بحيث رجع التعارض إلى تنافي مداليل ثلاث أو أزيد كوجوب شيء وحرمته وكراهته واستحبابه.

وبالجملة محلّ البحث هنا ما لو وقع التعارض بين ثلاثة أو أربعة أخبار مختلفة المضامين ، وهذا على قسمين :

أحدهما : أن يكون النسبة بين المتعارضات واحدة من تبائن أو عموم من وجه أو عموم مطلق.

ومن أمثلة الأوّل : ما لو قال في خبر : « يجب إكرام العلماء » وفي آخر : « يحرم إكرام العلماء » وفي ثالث : « يكره إكرام العلماء » وفي رابع : « يستحبّ إكرام العلماء ».

ومن أمثلة الثاني : ما لو ورد في خبر : « يجب إكرام العلماء » وفي آخر : « يحرم إكرام الفسّاق » وفي ثالث : « يكره إكرام الشعراء » فإنّ بين كلّ مع الآخر عموما من وجه فيجتمع الكلّ في العالم الفاسق الشاعر.

ومن أمثلة الثالث : ما لو ورد في خبر : « يجب إكرام العلماء » وفي آخر : « يكره إكرام الحكماء » وفي ثالث : « يحرم إكرام فسّاقهم » فإنّ الثاني أخصّ من الأوّل والثالث أخصّ منهما إن جعل الضمير للاصوليّين (1) وإن جعل للعلماء يكون أخصّ من العلماء والثاني أخصّ منهما.

وهذا القسم ممّا لا كلام فيه ولا إشكال في حكمه بعد ما علم حكم التعارض وعلاجه في الخبرين من الترجيح أو التخيير في المتبائنين ، والعمل بكلّ منهما في مادّة افتراقهما والتوقّف في مادّة اجتماعهما للإجمال في العامّين من وجه ، وإرجاع العامّ إلى الخاصّ بالتخصيص في العامّ والخاصّ فيخصّص كلّ عامّ بالخاصّ المقابل له ولو كان العامّ واحدا وقابله خاصّان خصّص بهما معا إن لم يستلزم محذورا ، كما لو ورد « أكرم العلماء » وورد « يستحبّ إكرام الاصوليّين » و « يكره إكرام النحويّين » فيحمل العامّ على إرادة إكرام غير الاصوليّين والنحويّين من العلماء ، بخلاف ما لو استلزم محذورا كما لو قال : « أكرم العلماء »

ص: 694


1- كذا في الأصل ، والصواب : « للحكماء » بدل « للاصوليّين ».

وورد أيضا : « يستحبّ إكرام عدول العلماء » و « يكره إكرام فسّاق العلماء » فإنّه يلزم من تخصيص العامّ بهما معا بقاؤه بلا مورد ، وبأحدهما دون آخر الترجيح بلا مرجّح لتساوي نسبتهما إليه في ورودهما عليه ، فحكم ذلك كالمتبائنين لأنّ مجموع الخاصّين مبائن للعامّ فيندرجان فيما لا يمكن الجمع بينهما ، ولا يبعد ترجيح العمل بالخاصّين تقليلا لطرح السند ، والأولى التوقّف في مثل ذلك لعدم معلوميّة شمول أخبار التخيير له.

الخاتمة / انقلاب النسبة

وإذا وجد عامّ وخصّص بالإجماع أو دليل العقل ببعض الأفراد ثمّ ورد خاصّ آخر في دليل لفظي بينه وبين العامّ مع قطع النظر عن التخصيص المذكور عموم وخصوص مطلق ، كقوله : « أكرم العلماء » وقام الإجماع على عدم وجوب إكرام النحويّين أو فسّاق العلماء مع ورود « لا تكرم الاصوليّين » مثلا فقد يتوهّم أنّه إذا لوحظ العامّ مخصّصا بالإجماع انقلبت نسبة العموم والخصوص المطلق بينه وبين الخاصّ الآخر بنسبة العموم من وجه ، لرجوع الفرض إلى مقابلة قوله : « لا تكرم الاصوليّين » لقوله : « أكرم العلماء الغير النحويّين أو العلماء العدول » لوضوح أنّ العالم الغير النحوي أعمّ من الاصولي وغير الاصولي ، والاصولي أعمّ من النحوي وغير النحوي ، كما أنّ العالم العادل أعمّ من الاصولي وغيره ، والاصولي أعمّ من العادل وغيره ، فكلّ أعمّ من الآخر من وجه وأخصّ منه من وجه آخر ، فيتعارضان في العالم الاصولي الغير النحوي ، أو الاصولي العادل الّذي هو مادّة اجتماعهما ، فقوله : « أكرم العلماء » يقتضي وجوب إكرامه لكونه غير نحوي أو عادلا ، وقوله : « لا تكرم الاصوليّين » يقتضي حرمة إكرامه لكونه اصوليّا.

ومن أمثلته في الشرعيّات العمومات المانعة من العمل بما وراء العلم المخصّصة بالبيّنة واليد بالإجماع على جواز العمل بهما مع قوله : « اعمل بخبر الواحد » المستنبط من الآيات وغيرها كآية النبأ ونحوها ، فإنّ غير البيّنة ممّا وراء العلم يعمّ خبر الواحد وغيره ، كما أنّ خبر الواحد يعمّ البيّنة وغيرها ، فيتعارضان في غير البيّنة من خبر الواحد لقضاء العمومات بمنع العمل به ، والآيات بجواز العمل به فلابدّ من التوقّف من جهة الإجمال المسقط للاعتبار.

وفيه من المغالطة الواضحة ما لا يخفى ، فإنّ الخاصّين من حيث ورودهما على العامّ ونهوضهما لتخصيصه - كما هو قضيّة العموم والخصوص - متساوي النسبة إليه ، وبناء التخصيص - كما حقّق في محلّه - على الكشف عن حقيقة مراد المتكلّم من العامّ من حين صدوره ، ولا يعقل ترتّب بينهما من حيث التقديم والتأخير في إرادة المتكلّم ، فهما معا في

ص: 695

نحو المثالين الأوّلين كاشفان عن أنّ المراد من « العلماء » من حين صدوره ما عدا النحوي والاصولي أو ما عدا الفسّاق والاصوليّين ، وفي نحو المثال الأخير كاشفا عن أنّ المراد من قوله : ( لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) وغيره من عمومات المنع من حين صدوره ما عدا البيّنة واليد وخبر الواحد من غير ترتّب في إرادة المتكلّم وإن كان بينهما ترتّب من حيث صدورهما أو من حيث الاطّلاع والعثور عليهما.

وبالجملة فهما معا لكونهما مخصّصين منفصلين يقومان مقام قرينة واحدة دالّة على أنّ المراد من « العلماء » من حين صدوره إنّما هو معنى مجازي له وهو ما عدا النحويّين والاصوليّين وما عدا العدول والاصوليّين من الأفراد من غير ترتّب في الإرادة.

والحاصل : الإجماع الّذي خصّص به « العلماء » مثلا إنّما أفاد خروج النحويّين عن حقيقة مراد المتكلّم فيه ، لا أنّه أعطاه بتخصيصه عنوانا آخر غير ما هو ملحوظ أوّلا وهو « العلماء الغير النحويّين » أو « العلماء العدول » ، ضرورة أنّ الغير النحويّين أو العدول مفهوم ينتزع من العلماء بعد تخصيصه بالإجماع باعتبار خروج النحويّين أو الفسّاق عن مراد المتكلّم منه من حين صدوره ، لا أنّه قيد مع « العلماء » وجزء مع العامّ ، فنسبة العموم من وجه إنّما هي بين هذا المفهوم المنتزع و « الاصوليّين » ، لا بين « العلماء » و « الاصوليّين » ولا بين ما هو المراد من العلماء والاصوليّين ، فإنّ المراد من « العلماء » بعد تخصيصه بالإجماع إنّما هو مصاديق غير النحويّين وغير الفسّاق لا مفهوم غير النحويّين وغير الفسّاق ، وإذا لوحظ مع قوله : « لا تكرم الاصوليّين » [ يكشف ] عن كون المراد به أيضا مصاديق غير الاصوليّين لا مفهومه.

ولا ريب أنّ المصاديق الّتي يصدق عليها غير النحويّين وغير الفسّاق وغير الاصوليّين في عرض واحد ، ونسبتها إلى العلماء نسبة واحدة وهي كونها بعض الأفراد أو ما عدا العموم واريد منه مجازا ، فما ورد عليه مخصّصان منفصلان اريد منه من حين صدوره مصاديق ما عدا الأفراد المندرجة في المخصّصين المخالفة في الحكم إرادة واحدة في مرتبة واحدة ، سواء كانا لبّيين أو لفظيّين أو مختلفين من غير أن يعقل تعارض في المختلفين بين المخصّص اللفظي والعامّ المخصّص باللبّي ومن غير انقلاب العموم والخصوص المطلق بينهما إلى العموم من وجه.

فإن قلت : كيف تنكر التعارض بين العامّ المخصّص بالإجماع والخاصّ في المخصّص

ص: 696

اللفظي وكون النسبة بينهما عموم من وجه ، كما في « أكرم العلماء » مع الإجماع على خروج النحويّين و « لا تكرم الاصوليّين » ، مع أنّ الأوّل ظاهر في وجوب إكرام الاصولي الغير النحوي والثاني ظاهر في حرمة إكرامه مع كونه نصّا في تحريم إكرام الاصولي النحوي ، وهذا تعارض بين ظاهرين فيجب الوقف من جهة الإجمال.

قلت : هذا اشتباه واضح ، لمنع ظهور « أكرم العلماء » في وجوب إكرام الاصولي الغير النحوي مع ملاحظة ورود « لا تكرم الاصوليّين » في مقابله ، سواء اعتبرناه من باب الظنّ النوعي أو من جهة أصالة عدم التخصيص.

أمّا على الأوّل : فلأنّ الظنّ النوعي المذكور تعليقي مراعى اعتباره بعدم ورود ما يصلح قرينة على إرادة الخلاف.

وأمّا على الثاني : فلأنّ أصالة عدم التخصيص أصل مبناه على الشكّ في التخصيص جار لإحراز عدم المانع بعد إحراز المقتضي للعموم وهو الوضع الحقيقي أو النوعي المجازي كما في العامّ المخصّص عند ظهوره في تمام الباقي ، فلا يجري مع وجود ما يصلح للتخصيص لارتفاع الشكّ المأخوذ في موضوعه بسببه ، فلا وجه لدعوى ظهور العامّ في خلاف ما يقتضيه ظاهر الخاصّ.

ومن هنا يقال : إنّ التعارض بين العامّ والخاصّ صوريّ بل لا تعارض بينهما في الحقيقة ، إذ التعارض تنافي مدلولي الدليلين وهذا فرع على حصول الدلالة فيهما معا ولا دلالة في العامّ مع ورود الخاصّ على خلاف مقتضاه.

وقد يفصّل في وقوع التعارض بين الخاصّ والعامّ المخصّص بين ما لو خصّص بمنفصل فلا تعارض أو بمتّصل كالاستثناء فيتعارضان ، كما في « أكرم العلماء إلاّ النحويّين » و « لا تكرم الاصوليّين » لكون العامّ مع الاستثناء لاتّصاله به في معنى « أكرم العلماء الغير النحويّين ».

وقد عرفت أنّه أعمّ من الاصوليّين من وجه فيتعارضان في الاصولي الغير النحوي.

والسرّ في ذلك : أنّ العامّ بقرينة تخصيصه بالاستثناء المتّصل به ظاهر في تمام الباقي ، فالنسبة بينه وبين « لا تكرم الاصوليّين » عموم من وجه ، لأنّ إخراج الاصولي الغير النحوي مخالف لظاهر « أكرم العلماء إلاّ النحويّين » ، بخلاف ما لو خصّص العامّ بمخصّص منفصل.

ولمّ المسألة : أنّ العامّ إذا تعقّبه مخصّصان ثمّ خصّص بأحدهما كائنا ما كان ويبقى مع الآخر لابدّ وأن يلاحظ هل هو بالنسبة إليه معنون باعتبار كونه عامّا أو معنون باعتبار كونه مخصّصا؟

ص: 697

وبعبارة اخرى : أنّ الّذي يلاحظ عنوانا للحكم المستفاد من الكلام في نظر العرف عند مقابلته لمخصّص آخر منفصل هل هو العامّ باعتبار معناه الحقيقي المستند إلى وضعه ، أو العامّ باعتبار معناه المجازي وهو ما يستفاد من المجموع منه ومن المخصّص المفروض تخصيصه به أوّلا أعني ما عدا المخرج من أفراده بذلك التخصيص؟

فعلى الأوّل لا يحصل بينه وبين الخاصّ الآخر تعارض العامّين من وجه.

وعلى الثاني يحصل ذلك التعارض.

ولا ريب أنّ ما ورد عليه مخصّصان منفصلان من قبيل الأوّل ، سواء كان المخصّصان لبّيين أو لفظيّين أو مختلفين ، وما ورد عليه مخصّصان أحدهما متّصل والآخر منفصل من قبيل الثاني.

ومن أمثلة ذلك في الشرعيّات ما وقع في أخبار العارية من طائفتين من الأخبار غير ما دلّ منها على نفي الضمان في العارية عموما من دون استثناء شيء.

إحداهما : ما دلّ على نفي الضمان فيها مع استثناء الدراهم أو الدنانير.

واخراهما : ما دلّ على نفي الضمان فيها مع استثناء الذهب والفضّة ، حيث يقع التعارض على ما توهّم بين المستثنى الثاني والمستثنى منه الأوّل مع انضمام الاستثناء إليه ، لرجوعهما إلى أن يقال : لا ضمان في العارية إلاّ الدراهم والدنانير والذهب والفضّة مضمونان.

ولا ريب أنّ غير الدراهم والدنانير أعمّ من الذهب والفضّة ومن غيرهما ، كما أنّ الذهب والفضّة أعمّ من الدراهم والدنانير وغيرهما كحليّ النسوان ونحوها ، ومحلّ التعارض هو غير الدنانير والدراهم من الذهب والفضّة ، حيث إنّ الأوّل يقتضي نفي ضمانه والثاني يقتضي ضمانه ، وقد سبق توهّم هذا التعارض هنا إلى جماعة من الأصحاب منهم صاحب الكفاية وتبعه السيّد في الرياض ، قال في الكفاية - بعد الإشارة إلى اختلاف أخبار المسألة - : « وقع التعارض بين المستثنى منه في خبر الدراهم والدنانير - وحاصله لا ضمان في غير الدراهم والدنانير - وبين المستثنى في خبر الذهب والفضّة ، والنسبة بين الموضوعين عموم من وجه ، ويمكن تخصيص كلّ منهما بالآخر.

فإن خصّص الأوّل بالثاني كان الحاصل : لا ضمان في غير الدراهم والدنانير إلاّ أن يكون ذهبا أو فضّة ، وإن خصّص الثاني بالأوّل كان الحاصل : كلّ من الذهب والفضّة مضمونان إلاّ أن يكون غير الدراهم والدنانير فالأمر المشترك بين الحكمين ثابت وهو حصول الضمان

ص: 698

في الدراهم والدنانير ، فلابدّ من استثناء هذا الحكم من عموم الأخبار الدالّة على عدم الضمان ويبقى تلك الأخبار في غير ذلك سالما عن المعارض.

فإذن المتّجه الحكم بعدم الضمان في غير الدراهم والدنانير من الذهب والفضّة » انتهى.

وهكذا ذكر في الرياض بعين هذه العبارة ، خلافا لمن أطلق الحكم بالضمان في الذهب والفضّة من الأصحاب منهم المحقّق في الشرائع وثاني الشهيدين في المسالك قائلا فيه : و « التحقيق في ذلك أن نقول : إنّ هنا نصوصا على ثلاثة أضرب أحدها عامّ في عدم الضمان - إلى أن قال - : وثانيها بحكمها إلاّ أنّه استثنى مطلق الذهب والفضّة ، وثالثها بحكمها إلاّ أنّه استثنى الدنانير أو الدراهم ، وحينئذ فلا بدّ من الجمع فإخراج الدراهم والدنانير لازم لخروجهما على الوجهين الأخيرين ، فإذا خرجا من العموم بقي العموم فيما عداهما بحاله وقد عارضه التخصيص بمطلق الجنسين فلابدّ من الجمع بينهما بحمل العامّ على الخاصّ.

فإن قيل : لمّا كان الدراهم والدنانير أخصّ من الذهب والفضّة وجب تخصيصهما بهما عملا بالقاعدة ، فلا يبقى المعارضة إلاّ بين العامّ الأوّل والخاصّ الأخير.

قلنا : لا شكّ أنّ كلاّ منهما تخصيص لذلك العامّ ، لأنّ كلاّ منهما مستثنى وليس هنا إلاّ أنّ أحد المخصّصين أعمّ من الآخر مطلقا وذلك غير مانع ، فيخصّص العامّ الأوّل بكلّ منهما أو يقيّد مطلقه ، لا أنّ أحدهما يخصّص بالآخر لعدم المنافاة بين إخراج الذهب والفضّة في لفظ والدراهم والدنانير في لفظ حتّى يوجب الجمع بينهما بالتخصيص أو التقييد » انتهى.

أقول : الأقوى هو ما عليه الجماعة وأوضحه في المسالك ، فإنّ المستثنيات الثلاث لا تعارض بينها وإن ورد كلّ في الخطاب بغير صورة الاستثناء ، فلو قيل في خطاب : « في الدراهم ضمان » ، وفي آخر : « في الدنانير ضمان » وفي ثالث : « في الذهب والفضّة ضمان » لم يكن بين الأخير وأحد الأوّلين تعارض ، وإن كان كلّ من الدراهم والدنانير بحسب المفهوم أخصّ مطلقا من الذهب والفضّة لموافقتهما في الحكم ، فلا يحمل في مثل ذلك العامّ على الخاصّ ، لأنّ حمل العامّ على الخاصّ - على ما حقّق في محلّه - من أحكام العامّ والخاصّ المتنافي الظاهر ، لا العامّ والخاصّ المتوافقي الظاهر ، فمن الجائز ثبوت الضمان في الدراهم والدنانير باعتبار أنّه ثابت في مطلق الذهب والفضّة ، وإنّما خصّ كلّ منهما بالذكر في الخطاب المختصّ به لجواز كونه محلّ حاجة السائل وموضع ابتلاء المخاطب في ذلك الخطاب ، وهذا هو الوجه في اختلاف النصوص في كون المستثنى في بعضها خصوص الدراهم وفي بعضها

ص: 699

خصوص الدنانير وفي بعضها مطلق الذهب والفضّة ، فلا تعارض في الأنواع الثلاث من الأخبار بين مستثنياتها ولا بين مستثنى خبر الذهب والفضّة والعامّ المستثنى منه من خبري الدراهم والدنانير وإن لوحظ بوصف كونه مخصّصا بالمتّصل ، لكون كلّ من الاستثناء والمخصّص المنفصل متساوي النسبة إلى العامّ في كون بناء التخصيص بهما على الكشف عن خروج الفرد المخرج بكلّ منهما عن مراد المتكلّم من العامّ من حين صدوره لاشتراكهما في وصف القرينيّة.

غاية الأمر أنّ أحدهما قرينة متّصلة والآخر قرينة منفصلة ، فهما معا بمنزلة قرينة واحدة على المراد أنّ من العامّ من حين صدوره ما عدا هذا الفرد وذاك الفرد وإن كان أحد الفردين أخصّ من الآخر مطلقا.

غاية الأمر إفادة التخصيص خروج الفرد الأخصّ عن حكم العامّ باعتبارين.

ولا ريب أنّ نسبة العموم من وجه الّتي هي منشأ التعارض في العامّين من وجه هاهنا إنّما هي بين مفهوم « غير الدراهم والدنانير » ومفهوم « الذهب والفضّة » ولكن مفهوم « غير الدراهم والدنانير » ليس جزءا من العامّ المخرج منه الدراهم والدنانير ولا قيدا فيه ، بل المراد من العامّ بعد تخصيصه بالاستثناء مصداق غير الدراهم والدنانير ، وهذا لا يوجب كون مفهومه جزءا من اللفظ ولا قيدا فيه.

وكأنّ توهّم التعارض وتحقّق نسبة العموم من وجه بين المستثنى والمستثنى منه في الأخبار المذكورة إنّما نشأ عن ملاحظة أنّ نقيض الأخصّ لمّا كان أعمّ من وجه من عين الأعمّ واستثناء الأخصّ يفيد كون المراد من العامّ نقيض الأخصّ ، فيقع التعارض حينئذ بين العامّ الوارد عليه ذلك الاستثناء والمستثنى الآخر الّذي هو أعمّ من وجه أيضا من نقيض الأخصّ المراد من العامّ الأوّل.

ويدفعه : أنّ المراد من العامّ بعد استثناء الأخصّ مصداق نقيض الأخصّ لا مفهومه ، وهو نفس الأفراد الباقية بعدم استثناء الأخصّ.

وبالجملة : نقيض الأخصّ الّذي هو مفهوم « غير الدراهم والدنانير » في الأخبار المذكورة و « غير النحويّين » و « غير فسّاق العلماء » في المثالين المتقدّمين ليس مناطا للحكم ، لا على أنّه مراد من العامّ ولا على أنّه جزء من اللفظ ولا على أنّه قيد فيه ، فبطل توهّم التعارض بين العامّ المخصّص بالمتّصل والمخصّص المنفصل.

ص: 700

ولا يشكل الحال في المخصّصات المتّصلة الاخر كالصفة والشرط والغاية وبدل البعض فيما لو ورد : « أكرم العلماء العدول » أو « أكرم العلماء إن كانوا عدولا » أو « أكرم العلماء إلى أن يفسقوا » أو « أكرم العلماء عدولهم » ثمّ ورد قوله : « لا تكرم الاصوليّين » بتقريب : أنّ « العدول » أو « إلى أن يفسقوا » في هذه الأقسام قيد مأخوذ مع العامّ وهو بمفهومه أعمّ من وجه من « الاصوليّين » كما قد يسبق إلى الوهم أيضا ، لأنّ التقييد بأحد الوجوه المذكورة يفيد كون المراد من « العلماء » في الجميع مصاديق العدل وقوله : « لا تكرم الاصوليّين » أيضا يفيد كون المراد به من حين صدوره مصاديق غير الاصوليّين.

غاية الأمر لزوم خروج الاصولي الغير العادل من العلماء بعد ورود التخصيصين عليه بالاعتبارين وهذا ممّا لا ضير فيه.

فتلخّص من جميع ما ذكرناه : أنّ العامّ إذا تعقّبه مخصّصان منفصلان لفظيّان أو لبّيان أو مختلفان وكان بينه وبين كلّ مخصّص عموما وخصوصا مطلقا ، فإذا خصّص بمخصّص لبّي كالإجماع أو غيره أو لفظي لم يوجب ذلك إنقلاب النسبة المذكورة إلى العموم من وجه ، ولا أنّه مستلزم لتعارض ظاهرين كما في العامّين من وجه ، لأنّ هذا الخاصّ إمّا أن يلاحظ في مقابلة مدلول المخصّص اللبّي أو في مقابلة مدلول العامّ أو في مقابلة المجموع من مدلولي العامّ والمخصّص اللبّي ، ولا يصحّ التعارض في شيء من هذه الصور بينه وبين ما يفرض مقابلا له.

أمّا الصورة الاولى : فلموافقة الخاصّ والمخصّص اللبّي في الحكم والمحمول من حيث الإيجاب والسلب مع تعدّد موضوعيهما والتعارض في مثله غير معقول بل هما بالقياس إلى مادّة الاجتماع وهو العالم النحوي الاصولي في المثال المتقدّم يوجبان تأكّد الحكم وثبوته له من جهتين ، لقضائهما بحرمة إكرامه من جهة انتسابه إلى النحويّة ومن جهة انتسابه إلى الاصوليّة.

وأمّا الصورة الثانية : فلأنّ حصول التعارض بين مدلول العامّ ومدلول الخاصّ إنّما يستقيم إذا صلح كلّ منهما قرينة على صرف الآخر عن ظاهره على وجه البدليّة كما في العامّين من وجه ، وهذا واضح البطلان لما ستعرف من أنّ أصالة الحقيقة في العامّ لا تقاوم أصالة الحقيقة في الخاصّ ، بل سند الخاصّ مع ما فيه من أصالة الحقيقة ينهض قرينة كاشفة عن أنّ المراد من العامّ ما عدا هذا الفرد ، فيتعدّد بذلك موضوعا الحكمين ولا يعقل معه التعارض.

وأمّا الصورة الثالثة : فلأنّ انقلاب النسبة الموجبة للتعارض مبنيّة على كون المجموع

ص: 701

من مدلول العامّ والمخصّص اللبّي عنوانا برأسه ملحوظا لتعليق الحكم به من حيث هو ، وهذا هو مبنيّ على كون مرجع التخصيص بذلك المخصّص إلى تخصيص المادّة في العامّ الّتي ورد عليها الهيئة المفيدة للعموم باعتبار وضعها لغة أو عرفا ، وهذا غلط لأنّ التخصيص المذكور لا يفيد إلاّ خروج الفرد عن مدلول الهيئة ولا يوجب تقييد المادّة ، بل قد عرفت أنّ المخصّصين في الكشف عن إرادة المتكلّم في مرتبة واحدة ولا ترتّب بينهما ، ضرورة أنّ « أكرم العلماء » قبل الاطّلاع عليهما كان شاملا للاصوليّين بجميع أفراده شموله للنحويّين بجميع أفراده.

بتقريب : أنّ المادّة في « العلماء » اخذت مطلقة والهيئة اعتبرت في المادّة المطلقة فأفادت العموم في أفراد كلّ من الصنفين فإذا حصل الإجماع على حرمة إكرام النحويين كشف عن خروج أفراد هذا الصنف عن مدلول الهيئة ، لا أنّه يوجب تقييدا في المادّة مستلزما لورود الهيئة من أوّل الأمر على المقيّد ، وإذا ورد الخاصّ الآخر في قوله : « لا تكرم الاصوليّين » كشف أيضا عن خروج أفراد هذا الصنف أيضا من مدلول الهيئة ، فهما معا كاشفان عمّا هو المراد من « العلماء » من حين صدوره من معناه المجازي ، لا أنّ الأوّل يوجب تقييدا فورد الثاني على المقيّد ، كيف ولو صحّ احتمال التقييد هنا فهو متساوي النسبة إلى كلّ منهما حيث لا ترتّب بينهما ، فيوجب كلّ منهما تقييدا بحسبه ، وقضيّة الجمع بين التقييدين كون المراد من العامّ « العلماء الغير النحويّين والاصوليّين » فلم يحصل هناك مفهومان متنافيان ، وهكذا يقال أيضا فيما لو خصّ بمتّصل كالاستثناء ثمّ ورد عليه مخصّص منفصل آخر بالبيان المتقدّم وإن كان طريق توهّم التقييد هنا أوضح.

وثانيهما : أن تكون النسبة بين المتعارضات مختلفة ، بأن يكون بين أحدها وآخر عموم مطلق ثمّ بينه وبين الثالث عموم من وجه وهكذا ، ويسهّل العلاج هنا بأن تلاحظ المتعارضات فإن كان فيها ما يقدّم على بعض منها إمّا لمزيّة في الدلالة كالنصّ والظاهر أو الأظهر والظاهر أو لمرجّح آخر قدّم ما حقّه التقديم ، ثمّ يلاحظ مع ثالث فإن كانت النسبة الاولى باقية عمل بحسبها من الجمع أو الترجيح أو الوقف ، وإن كانت منقلبة عمل بحسبها أيضا من أحد الوجوه المذكورة ، فقد لا تكون منقلبة ك- « أكرم العلماء » و « يستحبّ إكرام الاصوليّين » و « لا تكرم الفسّاق » فإذا خصّص الأوّل بالثاني كان النسبة بين العلماء بعد إخراج الاصوليّين منه وبين الفسّاق أيضا عموما من وجه ، إذ كما أنّ العالم المطلق أعمّ من وجه من الفاسق

ص: 702

فكذلك العالم الغير الاصولي أيضا ، فيتعارضان في العالم الفاسق الّذي لم يكن اصوليّا فإمّا أن يرجع التخصيص إلى الفسّاق لكونه أكثر أفرادا من العلماء خصوصا بعد إخراج الاصوليّين منه أو إلى العلماء لكونه عامّا مخصّصا.

وقد تكون منقلبة كما لو ورد « أكرم العلماء » و « لا تكرم فسّاقهم » و « يستحبّ إكرام العدول » فإنّه إذا خصّ العلماء بعدولهم يصير أخصّ مطلقا من العدول فيخصّص العدول بغير علمائهم ، إذ لو لا الترتيب في العلاج لزم إلغاء النصّ أو الأظهر المنافي للعامّ.

ومن أمثلته ما لو ورد : « أكرم العلماء » و « لا تكرم الفسّاق » و « يستحبّ إكرام الشعراء » فإذا فرضنا أنّ الفسّاق أكثر أفرادا من العلماء ، خصّ بغير العلماء فيخرج العالم الفاسق عن الحرمة ويبقى الفرد الشاعر من العلماء الفاسق منه مردّدا بين الوجوب والاستحباب.

ثمّ إذا فرضنا أنّ الفسّاق بعد إخراج العلماء أقلّ فردا من العلماء خصّ الشعراء به فالفاسق الشاعر غير مستحبّ الإكرام ، فإذا فرضنا صيرورة الشعراء بعد التخصيص بالفسّاق أقلّ موردا من العلماء خصّ دليل العلماء بدليله فيحكم بأنّ مادّة الاجتماع بين الكلّ أعني العالم الشاعر الفاسق مستحبّ الإكرام.

وعلى قياس ما ذكرناه صور وجود المرجّح من غير جهة الدلالة لبعضها على بعض ، فليتأمّل في المقام فإنّه من مزالّ الأقدام.

تقدّم مرجّحات الدلالة على سائر المرجّحات

المطلب الثاني

قد ذكرنا مرارا أنّ مرجّح الدلالة مقدّم على سائر المرجّحات كائنة ما كانت ولا يوجد فيها ما يساويه ويكافؤه.

وليعلم أنّ الترجيح بما يرجع إلى الدلالة يتأتّى في تعارض الظاهرين إذا كان أحدهما أظهر ، ولا يتأتّى في النصّ والظاهر لعدم تعارض بينهما بحسب الواقع بالمعنى المتقدّم مرارا في شرح التعارض وهو تنافي مدلولي الدليلين ، إذ لا دلالة للظاهر مع وجود النصّ في مقابله.

والسرّ فيه : أنّ أصالة الحقيقة في الظاهر مع سنده لا يعقل كونها قرينة على التأويل في النصّ الّذي لا يحتمل غير معناه ، لعدم تطرّق التأويل إليه بحيث يكون المعنى المؤوّل إليه صحيحا مقبولا عند العرف ، فيلزم من إرجاع نحو هذا التأويل إليه طرحه وترك العمل به رأسا ، لأنّه ليس من الأخذ بحقيقة الدليل ولا بمجازه.

ص: 703

أمّا الأوّل : فواضح.

وأمّا الثاني : فلأنّه ليس من المجاز الّذي ساعد عليه القرينة أو فهم العرف بملاحظة الأقربيّة ، فالأمر في الحقيقة دائر بين طرح سند النصّ ودلالة الظاهر ، والأوّل خروج من أدلّة حجّيّة السند بلا جهة وداع فليس بسائغ ، فيكون سند النصّ مع أصالة الحقيقة فيه قرينة على أنّ المراد من الظاهر خلاف ظاهره ، فلا يبقى في طرفه أصالة حقيقة تصلح لمعارضة مثلها في طرف النصّ.

نعم يصحّ التعارض بين الظاهرين وبين الأظهر والظاهر ، فإنّ أصالة الحقيقة في الأظهر لا تنهض قرينة على خلاف ظاهر الظاهر لكونها معارضة بمثلها في جانب الظاهر ، فلا بدّ في تقديم إحداهما على الاخرى من مرجّح وليس إلاّ أظهريّة الأظهر وكونه أقرب بمراد المتكلّم ، فلو قال : « رأيت أسدا يرمي » ودار الأمر بين كون المراد بالأسد خلاف ظاهره وهو الرجل الشجاع أو من « يرمي » خلاف ظاهره وهو رمي التراب إلى الهواء ونحوه كان أصالة الحقيقة في الأوّل مشغولة بمعارضتها في الثاني ، ولا تصلح الاولى قرينة على طرح الثانية ولا الثانية قرينة على طرح الاولى ، غير أنّها في الثاني تقدّم عليها في الأوّل ، لكون « الأسد » أقرب بكونه مرادا به معناه المجازي عند العرف ، ولأجل ذا صار « يرمي » أظهر منه في الدلالة.

ولعلّ ذلك من جزئيّات قولهم المعروف من : « أنّه إذا تعذّرت الحقيقة فأقرب المجازات أولى » فإنّ أظهر مجاري هذه القاعدة وإن كان هو اللفظ إذا تعذّر حمله على حقيقته وتردّد بين مجازاته غير أنّها تجري في اللفظ المركّب أيضا ، كما لو كان كلام تعذّر حمله على حقيقة معناه بحسب أوضاع مفرداته ك- « أسد يرمي » حيث يتعذّر فيه الأخذ بحقيقة كلّ من « الأسد » و « يرمي » فلا بدّ حينئذ من تجوز إمّا في « الأسد » أو في « يرمي » فلا بدّ من الأخذ بما هو الأقرب منهما وهو التجوّز في الأسد ، وهذا هو معنى ما يقال من : « أنّه إذا تعارض الأظهر والظاهر يقدّم الأظهر على الظاهر » والدليل عليه بناء العرف وطريقة أهل اللسان وهو الحجّة في المقام بدلالة قوله عزّ من قائل : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ ) والمقام من أظهر أفراد مورد الآية.

هذا كلّه كلام في كبرى القياس ولا إشكال فيها بعد إحراز الصغرى وتشخيص الأظهر من الظاهر ، وإنّما الإشكال في الصغرى وتشخيص أحد العنوانين من الآخر.

ص: 704

فنقول : إنّ الترجيح بالأظهريّة قد يكون منوطا بالأشخاص والخصوصيّات الّتي تختلف باختلاف الموارد والمقامات والأحوال والأزمنة والأمكنة وغيرها من طوارئ الاستعمال ، وقد يكون منوطا بالأنواع والكلّيات كنوع التخصيص والمجاز وغيرهما إذا دار الأمر بينهما ونحو ذلك ممّا يذكر مفصّلا ، ولا كلام لنا في القسم الأوّل لأنّ الأشخاص والخصوصيّات الموجبة للرجحان والمرجوحيّة والظهور والأظهريّة غير منضبطة ولا محصورة ، فليست قابلة لأن يتكلّم عنها في المسألة العلميّة ، فانحصر موضوع البحث هنا في القسم الثاني ، وهذا يتضمّن مقامين لأنّ المتعارضين بحسب النوع إمّا أن يكونا من سنخ واحد كمجازين أو تخصيصين أو إضمارين ، أو يكونا من سنخين كمجاز وتخصيص ، ومجاز وإضمار ، وتخصيص وإضمار ، وقد جرت العادة بتسمية الثاني بتعارض الأحوال ، وكون المتعارضين من نوع واحد خارج عن هذا العنوان بحسب الاصطلاح وإن دخل فيه بحسب المفهوم.

ثمّ إنّ الأحوال الّتي ذكروها في باب تعارض الأحوال ترد على قسمين :

أحدهما : ما يرجع إلى وضع اللفظ وتشخيص حاله من حيث نوعه لا من حيث وروده في كلام متكلّم خاصّ كالنقل والاشتراك إذا دار الأمر بينهما.

وثانيهما : ما يرجع إلى استعمال اللفظ وتشخيص المراد منه من حيث وروده في كلام متكلّم خاصّ كالمجاز والإضمار مثلا.

والبحث في المقام إنّما هو في الثاني لأنّه الّذي يناسب ذكره في باب التعارض بمعنى تنافي مدلولي الدليلين ، والأحوال الراجعة إلى اللفظ من حيث تشخيص المرادات منحصرة في الخمس المعروفة : المجاز والإضمار والتخصيص والتقييد والنسخ ، والإضمار ليس قسما من المجاز كما توهّم وإطلاق المجاز عليه مجاز إذ لا يستعمل معه لفظ في غير معناه ، ضرورة أنّ « القرية » في « اسئل القرية » بناء على احتمال الإضمار لم يرد منها إلاّ معناها الحقيقي.

نعم يعرب معه لفظ بإعراب لفظ آخر محذوف في الكلام ، ولذا قد يعبّر عنه بالمجاز في الأعراب ، هذا إذا قلنا إنّ ما في القرية من الإعراب ليس إعرابه الأصلي حتّى يكون من باب الإضمار ، وأمّا إن قلنا بأنّه إعرابه الأصلي فحينئذ إن اريد بها غير معناها كمعنى « الأهل » كان مجازا في اللفظ وهو المجاز المصطلح ، وإلاّ لا مناص من التزام المجاز في الإسناد.

ثمّ إنّ كلاّ من الحالات الخمس المذكورة يرد في الكلام على خلاف الظاهر حسبما يقتضيه قرينة المقابلة ، فإنّ هاهنا بحسب النوع ظهورات خمس ، أي أنواع خمس من

ص: 705

الظهور يرد كلّ واحد من هذه الأحوال في مقابل واحد من تلك الظهورات : ظهور اللفظ في إرادة معناه الحقيقي فيكون التجوّز على خلاف هذا الظهور ، وظهور الكلام باعتبار هيئته التركيبيّة في عدم الحذف فيكون الإضمار على خلافه ، وظهور العامّ في تمام الأفراد فيكون التخصيص المخرج لبعض الأفراد على خلافه ، وظهور المطلق في الإطلاق فيكون التقييد على خلافه ، وظهور الخطاب بنفسه أو باعتبار قرينة المقام أو اقترانه بما يفيد العموم الأزماني في دوام الحكم واستمراره فيكون النسخ الرافع له على خلافه.

ولا يخفى أنّ هذه الظهورات مختلفة في القوّة والضعف ، ولذلك يرجّح بعض الأحوال المتعارضة على بعض باعتبار رجحان الظهور المقابل لمعارضه على الظهور المقابل له.

وأقوى هذه الأنواع في مرتبة الظهور ظهور العامّ في العموم الأزماني ، ولذا صار النسخ في أعلى مراتب المرجوحيّة ، وأضعفها ظهور العامّ في العموم الأفرادي فلذا صار التخصيص في أعلى مراتب الرجحان.

ومن هنا يرجّح التخصيص على النسخ عند وقوع التعارض بينهما ، بأن يرد في الكلام عامّ أفرادي وعامّ أزماني وتعذّر الأخذ بعموم كليهما وانحصر المناص في طرح أحد الظهورين إمّا بالتخصيص أو بالنسخ فيقدّم التخصيص لكونه أقوى وأرجح ، ومرجعه إلى تقديم العموم الأزماني على العموم الأفرادي ، ومدركه الغلبة فإنّ التخصيص أغلب بمراتب شتّى من النسخ وإنّ النسخ في غاية الندرة ، حتّى أنّه في الندرة بمكانة أنكر بعض وقوعه في الشريعة ، والتخصيص في الكثرة والشيوع بمثابة قيل : « ما من عامّ إلاّ وقد خصّ منه » وربّما يقع الإشكال في أنّ العموم الأزماني الراجح على العموم الأفرادي هل هو من مقتضيات اللفظ أو خارج اللفظ من قرينة مقام ونحوه؟

والحقّ أنّ الموارد مختلفة في ذلك ، فقد يكون من مقتضيات اللفظ كما لو قال : « افعل كذا في كلّ وقت وكلّ حين ، أو كلّ زمان ، أو ما دمت حيّا ، أو كلّما كان كذا افعل كذا » أو نحو ذلك ممّا يؤدّي هذا المؤدّى من ألفاظ العموم الأزماني ، وقد يكون من مقتضيات المقام كما لو ورد الخطاب في مقام تشريع الحكم واتّخاذه عند الجعل والإنشاء شريعة لنفسه ودينا لرعيّته ، فإنّ كون الشيء من الشريعة والدين ممّا يقتضي استمراره ، كما يرشد إليه الوجدان ويساعد عليه طريقة العرف وأهل اللسان.

ص: 706

وبالجملة مرجع تعارض الأحوال إلى تعارض الظهورات وصور تعارض بعضها لبعض كثيرة بالغة إلى عشرة أوردناها في الجزء الأوّل من الكتاب من المبادئ اللغويّة وترجيح بعضها على بعض على حسبما بيّنّاه ثمّة ولا حاجة إلى الإعادة هنا *.

[ وهذا آخر ما ظفرنا عليها من هذه التعليقة المباركة وهنا جفّ قلمه الشريف وياليت امتدّت مدى الليالي والأيّام. ]

__________________

(*) لقد بذلنا غاية الجهد في تحقيق هذه الموسوعة الاصوليّة القيّمة وتصحيحها طبقا للنسخة الفريدة بخطّ المؤلّف قدّس اللّه نفسه الزكيّة ، وكان الفراغ من تصحيحهها وتنميقها في ليلة ميلاد الإمام أمير المؤمنين وإمام المتّقين ويعسوب الدين وقائد الغرّ المحجّلين عليّ بن أبي طالب عليه أفضل صلوات المصلّين ، في الثالثة عشر من شهر رجب الأصبّ من شهور سنة الخامس والعشرين وأربعمائة بعد الألف (1425) من الهجرة النبويّة على هاجرها الألف ألف سلام وتحيّة.

نسأل اللّه تعالى أن يجعل هذا ممّا ينتفع به الباحثون فيصير ذخرا ليوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى اللّه بقلب سليم ، وأنا العبد الضعيف.

حفيد المؤلّف

السيّد على العلوي القزويني

ص: 707

ص: 708

فهرس المحتوى

تعليقة : في الاجتهاد والتقليد... 3

في تعريف الاجتهاد... 4

تعليقة : في إثبات إمكان المجتهد المطلق... 21

تعليقة : وجوب العمل بمؤدّى الاجتهاد... 24

دفع أدلّة الأخباريّين على عدم مشروعيّة الاجتهاد... 56

تقرير إجمالي لدليل الانسداد... 66

دفع الإيرادات الواردة على دليل الانسداد... 77

الإجماعات المنقولة على حجّيّة ظنّ المجتهد... 88

الاستدلال بالروايات على مرجعيّة الكتاب والسنّة... 100

في مشروعيّة الاجتهاد... 104

نقل مقالة الاسترآبادي... 106

دفع مقالة الاسترآبادي... 110

عدم مشروعيّة التقليد للمجتهد المطلق... 117

تعليقة : عدم جواز التقليد لمن تمكّن من الاجتهاد... 120

إثبات عدم جواز التقليد لمن تمكّن من الاجتهاد بدليل الانسداد... 130

حجّة القول بجواز التقليد لمن تمكّن من الاجتهاد... 134

خاتمة : الاجتهاد بالنسبة إلى البالغ رتبته واجب مطلق وبالنسبة إلى غيره واجب مشروط... 145

ص: 709

تعليقة : التجزّي في الاجتهاد... 145

في إمكان تجزّي الاجتهاد... 150

حجّة القول بقبول الاجتهاد للتجزّي... 150

حجّة القول بالمنع من التجزّي... 155

أدلّة القول المختار... 156

في حجّيّة ظنّ المتجزّي... 156

وجوه تقرير الدور... 169

حجج القول بحجّيّة ظنّ المتجزّي... 187

أدلّة القول بعدم جواز التجزّي في الاجتهاد... 204

شروط الاجتهاد... 209

اشتراط علم اللغة في الاجتهاد... 212

حدّ ما يعتبر في معرفة اللغة... 214

عدم توقّف الاجتهاد على علمي المعاني والبيان... 216

من شروط الاجتهاد معرفة الكتاب... 219

من شروط الاجتهاد معرفة السنّة... 222

من شروط الاجتهاد معرفة علم الرجال... 222

دفع شبهات الأخباريّة في نفي الحاجة إلى علم الرجال... 228

في مستند القول بقطعيّة الكتب الأربعة... 251

في تحقيق أنّ مجرّد موافقة الشهرة لا تكفي في حجّيّة الخبر... 254

توقّف الاجتهاد على العلم باصول الفقه... 258

اشتراط علم المنطق في الاجتهاد... 267

اشتراط الاجتهاد بالقوّة القدسيّة... 268

اشتراط الاجتهاد بمعرفة علم الكلام... 278

اشتراط الاجتهاد بمعرفة فروع الفقه... 282

تعليقة : التخطئة والتصويب... 285

ص: 710

التخطئة والتصويب في المسائل العقليّة الكلاميّة... 285

التخطئة والتصويب في المسائل الاصوليّة... 318

التخطئة والتصويب في العقليّات الفروعيّة... 321

التخطئة والتصويب في الشرعيّات الضروريّة... 322

التخطئة والتصويب في الأحكام الظاهريّة... 329

التخطئة والتصويب في الموضوعات الخارجيّة... 330

أدلّة القول بالتخطئة... 336

أدلّة القول بالتصويب... 342

ثمرات البحث عن التخطئة والتصويب... 344

تعليقة : في وجوب تجديد النظر وعدمه... 346

أدلّة القول بعدم وجوب تجديد النظر... 348

أدلّة القول بوجوب تجديد النظر مطلقا... 351

أدلّة القول بوجوب التجديد عند نسيان دليل المسألة... 352

أدلّة القول بوجوب التجديد مع ازدياد قوّة الاستنباط... 352

تنبيهات وجوب تجديد النظر وعدمه... 353

تعليقة : في التقليد... 356

معنى التقليد لغة وعرفا... 358

مشروعيّة التقليد... 363

تنبيهات التقليد :

التنبيه الأوّل : في موضوع التقليد... 377

التنبيه الثاني : في اشتراط حجّيّة قول المجتهد للمقلّد بإفادته الظنّ وعدمه... 378

التنبيه الثالث : في من يشرع له التقليد... 384

التنبيه الرابع : في مشروعيّة الاحتياط لتارك طريقي الاجتهاد والتقليد... 386

بعض الفروعات المرتبطة بالتنبيه الرابع... 393

تعليقة : في عبادات الجاهل الغير المراعي للاحتياط... 398

ص: 711

حجّة القائلين بعدم معذوريّة الجاهل... 406

حجّة القائلين بمعذوريّة الجاهل مطلقا... 409

حجّة بعض الأعلام على معذوريّة الجاهل في العبادات... 412

تنبيه : في المراد ب- « الواقع » في مسألة سقوط الإعادة والقضاء... 414

في بعض الفروع المرتبطة بالمقام... 417

منع التقليد في اصول الدين... 419

في إثبات جواز النظر في اصول العقائد... 427

أدلّة القول بوجوب النظر في اصول العقائد... 430

أدلّة المنكرين لوجوب النظر في اصول العقائد... 432

اشتراط القطع في اصول الدين وعدم كفاية الظنّ... 435

كفاية الجزم المطابق للواقع الحاصل بالتقليد في المعارف مطلقا... 437

القول بالعفو عمّن أخذ المعارف بطريق التقليد وعدمه... 439

ختم المسألة بذكر امور... 443

شرائط المفتي / الشروط الوفاقيّة... 445

شرائط المفتي / الشروط الخلافيّة ، الأعلميّة... 457

حجّة القول بجواز تقليد المفضول... 468

ختم المسألة برسم امور مهمّة :

الأمر الأوّل : الشكّ في اختلاف المجتهدين مع إحراز التفاضل بينهما... 478

الشكّ في تفاضل أحد المجتهدين على الآخر بالأعلميّة... 481

الأمر الثاني : في بيان مفهوم « الأعلم »... 483

الأمر الثالث : في ما يتوقّف عليه « الأعلميّة »... 485

الأمر الرابع : في صور الأورعيّة وحكمها... 487

الأمر الخامس : في جواز الترافع إلى المفضول مع وجود الأفضل... 489

الأمر السادس : عدم اشتراط الأعلميّة في سائر الولايات العامّة... 493

الأمر السابع : في مشروعيّة تقليد غير الأعلم بتقليد الأعلم... 496

ص: 712

الأمر الثامن : تعيّن العدول إلى من ظهر كونه أفضل وعدمه... 498

تعيّن العدول إلى من ظهر كونه أفضل... 499

عدم تعيّن العدول إلى الأفضل حينما زال العسير أو العذر... 500

عدم جواز العدول إلى من صار أفضل من الآخر... 501

تعليقة : في العدول عن التقليد... 502

جواز التبعيض في التقليد... 505

تذنيب : فيما إذا اشتبه الحال في المسائل المقلّد فيها... 508

فرع : لو قلّد مجتهدا في مسألة فنسي أصل التقليد... 509

عدم جواز تقليد الميّت... 510

أدلّة القول بجواز تقليد الميّت... 521

عدم الفرق في المنع من تقليد الميّت بين الابتداء والاستدامة... 530

بعض الفروع المرتبطة بمسألة تقليد الميّت... 538

تعليقة : في بقايا أحكام المقلّد فيه والامور المعتبرة فيه... 545

وجوب نقض الآثار المترتّبة على الفتوى المعدول عنه وعدمه... 549

جواز نقض الفتوى وعدمه في العبادات... 563

جواز نقض الفتوى وعدمه في المعاملات... 565

نقض الفتوى وعدمه في الوقائع المرتبطة بالمجتهد أو المقلّد في الطهارة والحلّيّة وغيرهما... 568

تذنيب : إذا علم ببطلان حكم الحاكم أو بطلان طريقه... 568

تعليقة : في التعادل والترجيح التعادل والترجيح

في بيان معنى التعارض لغة وعرفا... 570

عدم التعارض بين الوارد والمورود... 570

عدم التعارض بين الأدلّة الاجتهاديّة والاصول العمليّة... 573

ص: 713

عدم التعارض بين الحاكم والمحكوم عليه... 574

الفرق بين الحكومة والتخصيص والحاكم والمخصّص... 576

جريان قاعدة الورود والحكومة فيما بين الاصول اللفظيّة والنصوص القطعيّة أو الظنّيّة... 577

عدم التعارض بين دليلين قطعيّين ولا بين ظنّيّين ولا بين قطعي وظنّي... 578

قاعدة أولويّة الجمع بين الدليلين... 580

عدم أولويّة الجمع في تعارض البيّنات... 592

المقام الثاني في التعادل... 596

مقتضى الأصل في المتعادلين... 597

مقتضى الأدلّة الخاصّة في المتعادلين... 606

التنبيه على امور :

التنبيه الأوّل : حكم التعادل في الأمارتين القائمتين بغير الأحكام... 608

التنبيه الثاني : هل يجوز للمجتهد العدول عن الاختيار الأوّل إلى الاختيار الثاني؟... 608

التنبيه الثالث : حكم التعادل للمجتهد في عمل نفسه وعمل غيره... 609

المقام الثالث في التراجيح... 611

وجوب الترجيح وتعيّن العمل بالراجح... 612

أدلّة القول بعدم وجوب الترجيح بالمرجّحات... 614

تذنيب : وجوب الفحص عن المرجّح أو عن فقده عند البناء على الترجيح أو التخيير... 618

المطلب الأوّل : بيان المرجّحات المنصوصة... 619

شرح فقرات مقبولة عمر بن حنظلة... 623

جهات المعارضة بين المقبولة ومرفوعة زرارة... 640

تعارض الأخبار العلاجيّة... 643

القصر على الترجيح الدلالي... 643

الترجيح بالأحدثيّة... 644

المطلب الثاني : جواز التعدّي من المرجّحات المنصوصة إلى غيرها... 647

ص: 714

المطلب الثالث : بقايا أحكام المرجّحات... 651

بقايا أحكام المرجّحات / المرجّحات الداخليّة... 652

ما يتعلّق بمرجّحات الصدور ومرجّحات جهة الصدور... 654

التعارض بين مرجّح الصدور ومرجّح جهة الصدور... 657

تذنيب : مقتضى الأصل في التعارض بين مرجّح الصدور ومرجّح جهة الصدور... 667

ما يتعلّق بتعارض مرجّح جهة الصدور لمرجّح الدلالة... 669

المرجّحات الخارجيّة... 682

المرجّحات الخارجيّة / موافقة الكتاب البالغ حدّ الحجّيّة... 682

المرجّحات الخارجيّة / موافقة الأصل البالغ حدّ الحجّيّة... 686

المرجّحات الخارجيّة الّتي لم تكن بنفسها حجّة... 690

التعارض بين المرجّحات الخارجيّة والداخليّة... 692

الخاتمة / التعارض بين أكثر من دليلين... 693

الخاتمة / انقلاب النسبة... 695

تقدّم مرجّحات الدلالة على سائر المرجّحات... 703

ص: 715

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.