تعليقة على معالم الاصول المجلد 6

هوية الكتاب

المؤلف: السيّد علي الموسوي القزويني

المحقق: السيد علي العلوي القزويني

الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي

المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1426 ه.ق

ISBN (ردمك): 964-470-559-9

المكتبة الإسلامية

تعليقة علی معالم الأصول

تأليف: الفقية المحقق والأصولي المدقق العلّامة السيد علي الموسوي القزويني قدس سره

تحقيق حفيدة: السيد علي العلوي القزويني

الجزء السادس

مؤسسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة

ص: 1

اشارة

تعليقة علی معالم الأصول

(ج6)

تأليف: العلّامة السيّد عليّ الموسويّ القزوينيّ قدس سره

الموضوع: الأصول

تحقيق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزوينيّ

طبع و نشر: مؤسسة النشر الإسلامي

عدد الصفحات: 488

الطبعة: الأولی

المطبوع: 500 نسخة

التاريخ: 1426 ه.ق

مؤسسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة

ص: 2

تعليقة : في أصل البراءة

اشارة

بسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

- تعليقة -

في أصل البراءة

الفرق بين الدليل والأصل

واعلم أنّ المرجع الّذي يرجع إليه المجتهد في جميع المسائل الفرعيّة عند الاستنباط منحصر في الدليل والأصل ، وقد تقدّم الإشارة إلى الفرق بينهما ، وهو أنّ الدليل ما كان متعرّضا للواقع ناطقا به بإفادته القطع أو الظنّ به كما اشير إليه بوصف التوصّل المأخوذ في تعريفه الاصطلاحي ، والأصل ما لا تعرّض فيه للواقع أصلا باعتبار دخول الشكّ في موضوعه ، وهو بهذا المعنى المقابل للدليل منحصر في الاصول الأربع المعروفة : الاستصحاب ، وأصالة البراءة ، وأصالة الاشتغال ، وأصالة التخيير ، والحصر هنا مع مساعدة الاستقراء التامّ عليه عقليّ دائر بين الإثبات والنفي ، وذلك لأنّ المكلّف بالقياس إلى واقعة معيّنة إمّا أن يكون غافلا صرفا أو يكون ملتفتا إليها طالبا لمعرفة حكمها.

والأوّل خارج عن موضوع البحث ، فإنّه بالقياس إلى الواقعة المغفول عنها بضابطة قبح تكليف الغافل لا تكليف عليه في تلك الواقعة.

والثاني بعد استفراغ الوسع إمّا أن يحصل له القطع بحكم الواقعة ، أو يحصل له الظنّ به ، أو لا يحصل شيء منهما بل يبقى على شكّه ويستقرّ له ذلك الشكّ.

والأوّل خارج عن معقد البحث ، لأنّ وظيفته حينئذ اتّباع قطعه.

والثاني هو موضوع حجّيّة الظنّ الّذي عقد له باب على حدة.

في بيان مجاري الاصول العمليّة

والثالث مجرى الأصل ، وحينئذ فإمّا أن يكون الشكّ المفروض له بحيث يلاحظ معه حالة سابقة أو لا.

ص: 3

والأوّل مجرى الاستصحاب.

وعلى الثاني فإمّا أن يكون الواقعة بحيث يمكن فيها الاحتياط أو لا يمكن ، لدوران الأمر بين المحذورين لشبهة موضوعيّة أو حكميّة.

والثاني مجرى أصالة التخيير.

وعلى الأوّل فإمّا أن يكون الشكّ في التكليف ، أو في المكلّف به الّذي لا يؤول إلى الشكّ في التكليف.

والأوّل مجرى أصل البراءة.

والثاني مجرى أصالة الاشتغال.

وقد عقد الاصوليّون للنوع الأوّل وهو الاستصحاب بابا برأسه ، لكثرة مباحثه وتكثّر أقسامه وتشتّت الأقوال في حجّيّته ، وكذلك عقدوا لأصل البراءة أيضا بابا على حدة لأجل ما ذكر.

عدم كون أصل البراءة من الأدلّة العقليّة

وأمّا الأصلان الآخران فلقلّة مباحثهما وعدم وقوع خلاف معتدّ به فيهما لم يعقد لهما باب على حدة ، بل يذكر كلّ منهما في تضاعيف باب أصل البراءة. وبهذا البيان ظهر الوجه في دخول الشكّ في موضوع هذه الاصول الأربع ، فإنّ مؤدّيات هذه الاصول أحكام كلّيّة مجعولة جعلها الشارع للشاكّ بوصف كونه شاكّا ، ولأجل ذا جرت عادتهم بتسمية هذه الأحكام بالأحكام الظاهريّة.

لكن ينبغي أن يعلم أنّ الشكّ هاهنا لا يراد منه خصوص مصطلح المنطقي وهو الاحتمال المساوي ، بل ما يعمّه والظنّ الغير المعتبر ، فإنّ حكم الظنّ الغير المعتبر في مجاري الاصول الأربع بل مطلقا حكم الشكّ.

وبالتأمّل فيما ذكر يظهر أنّ أصل البراءة ليس من الأدلّة العقليّة كما أشرنا إليه أيضا في تعريف الدليل العقلي ، فإنّه ليس من جنس الدليل فضلا عن كونه عقليّا ، مع أنّ الدليل العقلي حكم عقليّ يتوصّل به إلى حكم شرعي ، وهذا نفي للتكليف الشرعي الإلزامي أو نفي للعقوبة أو المؤاخذة على الفعل أو الترك.

نعم قد يكون مدركه الدليل العقلي كقبح التكليف بما لا يطاق ، وقبح التكليف بلا بيان ، وقبح العقاب بلا إقامة البرهان ، فهو حينئذ من قبيل المدلول ، وهو مفاد قوله عليه السلام : « ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » (1) وقوله عليه السلام : « رفع عن امّتي

ص: 4


1- الوسائل 18 : 119 ، الباب 12 من صفات القاضي الحديث 28.

تسعة » (1) وعدّ منها ما لا يعلمون وقوله عليه السلام : « الناس في سعة ما لم يعلموا » (2) ونحو ذلك ممّا يتلى عليك ، فهو مدلول يستنبط تارة من الأدلّة العقليّة واخرى من الأدلّة الشرعيّة. فما صنعه بعض الأعلام (3) من عدّه من الأدلّة العقليّة ليس على ما ينبغي.

كما يظهر أيضا أنّ الأصل هنا لا محمل له من المعاني الأربع الاصطلاحيّة إلاّ القاعدة ، فلا يصحّ أن يراد منه الراجح ، إذ ليس مبنى اعتباره في مجاريه على الرجحان والظهور ، بل هو على ما عرفت من كون موضوعه الشكّ بالمعنى الأعمّ من الظنّ الغير المعتبر يجري ويعتبر مع الظنّ بالخلاف أيضا.

في بيان معنى المراد من « الأصل » في المقام

فما قد يستشمّ من بعض كلمات بعض الأعلام من كون ذلك الأصل دليلا ظنّيا ليس على ما ينبغي.

ولا الدليل لما عرفت من البينونة التامّة بينه وبين الدليل ، نعم قد يطلق عليه الدليل فيقال له : الدليل الفقاهي ، وأنّه دليل تعليقي ، وأنّه دليل حيث لا دليل ، غير أنّه مجاز كما يفصح عنه أيضا التزام التقييد في هذه الموارد.

ولا الاستصحاب وإن احتمله بعض الأعلام ، وتبعه بعض من تأخّر عنه بإرادة استصحاب البراءة الأصليّة السابقة على زمن البلوغ ، أو على زمان تحقّق سبب الشكّ في التكليف ، لما عرفت من ضابط الفرق بينهما ، فإنّ الاستصحاب يعتبر فيه ملاحظة الحالة السابقة ، فإنّه عبارة عن الحكم ببقاء شيء وجودا أو عدما في الآن اللاحق تعويلا على ثبوته في الآن السابق ، ولا يعتبر ذلك في أصل البراءة سواء كان هناك حالة سابقة أو لا ، كما في خلق الساعة إذا شكّ في تكليفه بشيء ، مع أنّه يأباه تعدّد عنواني البحث عنهما ، بل يأباه أيضا تغايرهما بحسب الأدلّة ، لعدم جريان أدلّة هذا الباب في باب الاستصحاب ولا جريان أدلّة الاستصحاب هنا.

نعم لا نضائق أخذ الاستصحاب في بعض صور هذا الأصل مدركا له كما لا يخفى ، ولكنّه لا يوجب كونه بنفسه من الاستصحاب.

فتعيّن كونه عبارة عن القاعدة ، وهي القضيّة الكلّية المستنبطة من مجموع الأدلّة العقليّة والأدلّة الشرعيّة ، الّتي مضمونها الحكم على المكلّف بخلوّ ذمّته عن التكليف المشكوك فيه أو عن العقوبة والمؤاخذة المشكوك فيهما.

ص: 5


1- الوسائل 11 : 295 ، باب جملة ممّا عفي عنه ، الحديث الأوّل.
2- المستدرك 18 : 20 ، الباب 12 من أبواب مقدّمات الحدود الحديث 4 ، عوالي اللآلئ 1 : 424.
3- القوانين 2 : 13.

وجه تقديم الدليل على أصل البراءة

اشارة

ويظهر بالتأمّل فيما ذكر أيضا أنّه ليس قسما من الأصل الّذي يعبّر عنه بأنّ عدم الدليل دليل على العدم كما توهّمه بعض الأعلام ، لأنّ هذا الأصل - إن قلنا به - متعرّض للواقع بنفي الحكم المشكوك فيه بحسب الواقع ، جار في موارد التكليف وموارد الوضع معا ، ولذا قد يخصّ بالوقائع الّتي يعمّ بها البلوى ، لعدم دلالة عدم الدليل فيما لا يعمّ به البلوى على العدم.

كما يظهر أيضا وجه تقديم الدليل على أصل البراءة ، كما ينبّه عليه قولهم : « إنّه دليل عند عدم الدليل » ، وذلك من جهة عدم معارضته للدليل ، فإنّه بموضوعه ناطق بأنّي لا أدري أنّ الحكم الواقعي أيّ شيء؟ والدليل بكشفه عن الواقع ناطق بأنّ هذا هو الحكم الواقعي ، فيكون تواردهما على الواقعة نظير توارد أدري ولا أدري على موضوع واحد ، وعدم التعارض بينهما باعتبار عدم كون النفي في السالبة نفيا لما أثبته الموجب في الموجبة ضروريّ ، بل موضوع الأصل على ما عرفت من دخول الشكّ فيه يرتفع بورود الدليل على الحكم الواقعي ، على معنى خروج المورد عن المجهول الحكم أو عن المشكوك في حكمه الواقعي أو عمّا لم يعلم حكمه الواقعي بواسطة العلم بحكمه الواقعي الحاصل من ذلك الدليل ، فيتعدّد الموضوع.

ومن المستحيل وقوع التعارض بين القضيّتين مع تعدّد موضوعيهما ، ولك أن تقول : بعد ورود الدليل لا مجرى للأصل بواسطة انتفاء موضوعه ، ليتكلّم في أنّه هل يعارض الدليل أو لا؟

وعليه ففي إطلاق التقديم أو الترجيح في هذا المقام نوع تسامح ، فما قد يوجد في كلمات غير واحد - ولا سيّما السيّد في الرياض - من إطلاق الخاصّ على الدليل والعامّ على الأصل ، ومن قولهم : يخصّص الأصل بالدليل ، أو يخرج عن الأصل بالدليل ، وما أشبه ذلك ليس على ما ينبغي ، لأنّ هذا كلّه فرع المعارضة وهو فرع اتّحاد الموضوع.

لكن هذا في الدليل العلمي واضح. وأمّا الدليل الغير العلمي فربّما أمكن فرض كون إطلاق الخاصّ عليه وإطلاق العامّ على الأصل على الحقيقة ، لكن لا في أنفسهما بل بملاحظة دليليهما ، فإنّ مؤدّى الأصل : أنّ ما لم يعلم حرمته مثلا بالخصوص فهو غير محرّم ، ومؤدّى دليل اعتبار الدليل الغير العلمي كخبر الواحد أو الشهرة : أنّ ما ظنّ حرمته بخبر الواحد أو الشهرة فهو محرّم ، وهذا أخصّ من دليل الأصل ، لأنّ ما ظنّ حرمته ، من أفراد ما لم يعلم حرمته فإذا حكم على الأوّل بالحرمة وعلى الثاني بعدم الحرمة كانا في

ص: 6

مثل شرب التتن متعارضين ، فإذا قلنا فيه بالحرمة عملا بالخبر أو الشهرة فقد خرجنا عن عموم دليل الأصل بخصوص دليل الخبر والشهرة فيكون تخصيصا.

وفيه : أنّ رافع موضوع الأصل أعمّ من أن يكون في نفسه رافعا أو بجعل الشارع ، والدليل الغير العلمي وإن لم يكن في نفسه رافعا إلاّ أنّه رافع بجعل الشارع ، لأنّ مرجع أدلّة حجّيّة الأمارة الظنّية إلى بيان أنّ موضوع الأصل هو ما لم يعلم حرمته بالخصوص ولا يظنّ بأمارة ظنّية مطلقا أو من جهة خبر الواحد أو الشهرة خاصّة ، فمؤدّى دليل الأصل حينئذ عدم الحرمة فيما لا يعلم ولا يظنّ حرمته بالخصوص.

وإذا قامت الأمارة الظنّية بحرمة شرب التتن مثلا أوجبت خروجه عن موضوع الأصل ، وليس هذا من باب التخصيص لا في الأصل بالدليل الغير العلمي ولا في دليله بدليل حجّيّة ذلك الدليل الغير العلمي.

أمّا الأوّل : فظاهر.

وأمّا الثاني : فلأنّ قضيّة الفرض أن يكون دليل حجّيّة ذلك الدليل حاكما على أدلّة الأصل لا مخصّصا له.

وتوضيح المقام : أنّ الدليل إذا اخذ مقيسا إلى دليل آخر فإمّا أن يكون واردا عليه ، أو حاكما عليه ، أو معاضدا له ، أو معارضا له.

والوارد : ما كان بمؤدّاه رافعا لموضوع الدليل الآخر ، كالدليل العلمي مقيسا إلى الأصل.

والحاكم : ما كان بمؤدّاه متعرّضا لحال الدليل الآخر ببيان مقدار موضوع الحكم في ذلك الدليل ، فيكون كالمفسّر له ، كأدلّة نفي العسر والحرج في الدين مقيسة إلى الأدلّة المثبتة للتكاليف في العبادات وغيرها ، فإنّ قوله تعالى : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (1) و ( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (2) متعرّض لحال قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (3) و ( أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) (4) و ( لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) (5) وغير ذلك ، ببيان أنّ موضوعات هذه الأحكام ما لا حرج فيه ولا يكون عسرا وكذلك أدلّة نفي الضرر مقيسة إلى أدلّة العبادات والمعاملات.

ومن هذا الباب ما دلّ على أنّه لا حكم للشكّ في النافلة أو مع الكثرة أو بعد الفراغ أو

ص: 7


1- الحجّ : 78.
2- البقرة : 185.
3- البقرة : 43.
4- البقرة : 187.
5- آل عمران : 97.

نحو ذلك ، بالقياس إلى أدلّة الشكوك في الأفعال والركعات. ومن علامات الحكومة أنّه لو لا الدليل المحكوم عليه لكان الدليل الحاكم في مؤدّاه لغوا.

والمعاضد : ما كان بمؤدّاه مؤكّدا لمؤدّى الدليل الآخر ، ومن شرط التأكيد وحدة موضوع المؤكّد والموكّد.

وبهذا علم أنّ الأصل بسبب ارتفاع موضوعه بورود الدليل كما لا يمكن كونه معارضا له فكذا لا يمكن كونه معاضدا له ، فما قد يوجد في كلام الفقهاء من قولهم - بعد ذكر دليل المسألة - : ويعاضده أو يؤيّده الأصل ، وارد على خلاف التحقيق.

والمعارض : ما كان مؤدّاه منافيا لمؤدّى دليل آخر ، ولذا عرّف تعارض الدليلين بتنافي مدلوليهما. وهذه المنافاة تنهض قرينة في نظر العقل بل العرف أيضا تارة على التصرّف في أحدهما بعينه كما في الخاصّ والعامّ المتنافي الظاهر وهذا هو التخصيص المصطلح.

واخرى على التصرّف في أحدهما لا بعينه فيحتاج التعيين إلى شاهد كما في العامّين من وجه. وثالثة على التصرّف فيهما معا فيحتاج إلى شاهدين كما في المتبائنين ، والتصرّف في الدليل بأحد هذه الوجوه الثلاث يسمّى جمعا. ورابعة على الأخذ بأحدهما بعينه وطرح الآخر لمرجّح منصوص أو غير منصوص وهو الترجيح ، أو الأخذ بأحدهما وطرح الآخر على التخيير كما في صورة التعادل إن قلنا بذلك فيها.

فبالتأمّل في ذلك وفيما عرفت من ضابط الحكومة يعلم السرّ في عدم كون دليل اعتبار الأصل معارضا لدليل حجّيّة الأمارة مطلقا أو الشهرة خاصّة ، وكون دليل الحجّيّة حاكما على دليل اعتبار الأصل ، فإنّ كلاّ من الدليلين وإن كان في نفسه علميّا إلاّ أنّه لا يفيد إلاّ حكما ظاهريّا ، وهو ما ثبت لفعل المكلّف بملاحظة الجهل بحكمه الواقعي ، فكما أنّ قوله عليه السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي » (1) يفيد أنّ الحكم الظاهري فيما لا يعلم حرمته بالخصوص هو الرخصة في الفعل ، فكذلك دليل حجّيّة الشهرة القائمة بحرمة شيء مثلا - بملاحظة أنّ من مقدّماته انسداد باب العلم إذا كان ذلك الدليل هو دليل الانسداد كما هو العمدة في باب حجّيّة الظنّ المطلق - يفيد أنّ الحكم الظاهري فيما ظنّ حرمته مطلقا ، أو بتلك الأمارة هو الحرمة ، ولذا اشتهر أنّ المجتهد في جميع الأحكام الظاهريّة الّتي منها مظنوناته عالم مستفاد علمه من صغرى وجدانيّة وكبرى برهانيّة ، يعبّر عنهما : بأنّ هذا

ص: 8


1- الوسائل 4 : 917 ، الباب 19 من أبواب القنوت ، ح 3 ، الفقيه 1 : 317.

مظنوني ، وكلّ مظنوني فهو حكم اللّه في حقّي.

ولا ريب أنّ دليل الأمارة بالمفاد المذكور - بملاحظة أنّ من مقدّماته المتمّمة لإنتاجه الحجّيّة إبطال مرجعيّة أصل البراءة في موارد الأمارة بالإجماع ، أو استلزامه مخالفة العلم الإجمالي ، أو الخروج عن الدين أو نحو ذلك - متعرّض لحال دليل الأصل ، ببيان أنّ موضوعه ما لم يعلم ولا يظنّ حكمه الواقعي ، وهذا ليس تخصيصا بالمعنى المصطلح ، بل هو شبه تفسير لدليل الأصل من حيث تكفّله لبيان ما يرجع إلى موضوعه.

وممّا يفصح عن ذلك أنّ من أدلّة الأصل العقل المستقلّ بقبح العقاب بلا بيان ، فلو كان دليل حجّيّة الأمارة ممّا أفاد تخصيصا في دليل الأصل لزم منه التخصيص في حكم العقل وأنّه محال ، بخلاف ما لو كان مفادّه ما يرجع إلى موضوع الأصل ، لكون خروج ما قامت الأمارة الغير العلميّة بحكمه الواقعي عن حكم العقل حينئذ خروجا موضوعيّا ، فحكم العقل بقبح العقاب على ما لم يعلم حكمه الواقعي غير شامل لما ظنّ بالأمارة وجوبه أو حرمته ، لدخول عدم الظنّ بالحكم الواقعي أيضا في موضوع ذلك الحكم ، ولذا لو عرض ما ظنّ وجوبه أو حرمته من جهة الأمارة على العقل لم يحكم بملاحظة دليل حجّيّة تلك الأمارة بقبح العقاب عليه.

فانقدح بما ذكرنا : أنّ الأمارة الغير العلميّة واردة على الأصل ، ودليل اعتبارها حاكم على دليل اعتبار الأصل ، فلا تعارض في شيء من المقامين ليتفرّع عليه التزام التخصيص ، المصحّح لإطلاق الخاصّ على الأمارة والعامّ على الدليل.

ثمّ الإضافة في « أصل البراءة » لابدّ وأن تكون لاميّة ، مفيدة للاختصاص من جهة كونه أصلا مفاده البراءة ، لعدم صحّة كونها بيانيّة وإلاّ جاز تقدير لفظة « من » البيانيّة ، وعدم كونها ظرفيّة واضح لعدم كون البراءة ظرفا للأصل ، إلاّ أن يراد بالظرفيّة اشتمال الأصل على البراءة لا اشتمال البراءة على الأصل ، لكن الأوجه هو اللاميّة المفيدة للاختصاص.

في أقسام الشكّ

ثمّ إنّ الشكّ الّذي عليه مدار الاصول الثلاث المبحوث عنها في هذا الباب إمّا في التكليف أو في المكلّف به ، والمراد بالتكليف هنا خصوص الوجوب والحرمة ، على معنى الإلزام بفعل أو ترك ، ولا حاجة إلى تعميمه بالنسبة إلى الاستحباب والكراهة لا لعدم كونهما من التكليف المأخوذ من الكلفة ليرد : أنّه بحسب الاصطلاح أعمّ من الخمس المعروفة ، ولا لعدم جريان الأصل فيهما أو عدم انصراف أدلّته إليهما ، بل على فرض الجريان

ص: 9

والانصراف أيضا يخصّص العنوان بالوجوب والحرمة لأنّهما المقصود الأصلي من عقد الباب.

وإذا ظهر حالهما من حيث إعمال الأصل فيهما وعدمه يعلم حال غيرهما بالمقايسة بل بطريق أولى.

والمراد من الشكّ فيهما ما يعمّ كونه شكّا في حدوث الوجوب أو الحرمة - على معنى أنّ الشارع ألزمنا بفعل ذلك الشيء أو لا؟ أو ألزمنا بتركه أو لا؟ - أو في الحادث ، على معنى أنّ إلزامه المفروض كونه معلوما هل هو الإيجاب أو التحريم؟

والمراد من الشكّ في المكلّف به الشكّ في متعلّق التكليف بعد العلم بأصل التكليف تفصيلا - ولزمه كون متعلّق التكليف أيضا معلوما في الجملة إذا رجع الشكّ إلى ما يحتمل كونه جزءا أو شرطا - أو إجمالا إذا رجع الشكّ إلى التعيين.

وعلى تقديري الشكّ في التكليف والشكّ في المكلّف به ، فإمّا أن يكون الشبهة حكميّة إذا استند الشكّ إلى أمر يرجع إلى الشارع ، أو لشبهة موضوعيّة إذا استند إلى أمر خارج لا مدخل للشارع فيه ، من اشتباه كما في اشتباه القبلة والمائع المردّد بين الخلّ والخمر ، أو عدم تمييز كما في الانائين المشتبهين ، وغيرهما من فروض الشبهة المحصورة.

وضابط الفرق بينهما : أنّ كلّ شبهة يكون رفعها من وظيفة الشارع ويرجع في رفعها إلى الأدلّة الشرعيّة المسوقة للأحكام الشرعيّة الكلّية فهي شبهة حكميّة ، وكلّ شبهة رفعها ليس من وظيفة الشارع بل يرجع فيها إلى الأمارات المشخّصة للموضوعات الخارجيّة الّتي منها قول أهل الخبرة فهي شبهة موضوعيّة.

وبعبارة اخرى أنّ الشبهة الحكميّة ما يكون بيان المشكوك فيه من شأن الشارع ، ويكون الشكّ في موارده بحيث لا يزول إلاّ ببيانه ، بخلاف الشبهة الموضوعيّة لكون الشكّ فيها ناشئا عن أمر لا مدخل للشارع فيه.

ومرتفع الاثنين في الاثنين أربع ، وعلى التقادير الأربع فالشبهة إمّا وجوبيّة أو تحريميّة فالصور ثمانية ، وهي الشبهة الوجوبيّة الحكميّة في التكليف أو المكلّف به ، والشبهة الوجوبيّة الموضوعيّة في التكليف أو المكلّف به ، والشبهة التحريميّة الحكميّة في التكليف أو المكلّف به ، والشبهة التحريميّة الموضوعيّة في التكليف أو المكلّف به.

ثمّ الشبهة الحكميّة بأقسامها الأربع إمّا أن تكون ناشئة من فقد النصّ أو إجماله أو تعارض النصّين.

ص: 10

وبعبارة اخرى : إمّا أن تستند إلى فقد المقتضي أو قصوره في الاقتضاء ، أو وجود المانع ، ومرتفع الأربع في الثلاث اثنى عشر صورة.

ثمّ الأمر في الشبهة الوجوبيّة الحكميّة في المكلّف به بصورها الثلاث إمّا أن يكون دائرا بين المتباينين كالظهر والجمعة ، أو بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين ، أو الاستقلاليّين.

وضابط الفرق بين المتباينين والأقلّ والأكثر عدم وجود قدر متيقّن من متعلّق التكليف في الأوّل ووجوده في الثاني.

والمراد بالارتباطيّين أن يكون امتثال الأمر على تقدير ثبوت التكليف بالأكثر مرتبطا بالإتيان بالأكثر ، وعدم كون الأقلّ كافيا في الامتثال حتّى بقدره وعلى حسبه ، كما في التكليف بالصلاة المردّدة بين كونها مع السورة أو بدونها. وبالاستقلاليّين أن لا يكون الامتثال مطلقا مرتبطا بحصول الأكثر بل يكون الإتيان بالأقلّ كافيا في حصول الامتثال بقدره وعلى حسبه.

ثمّ إنّ الشكّ في العبادة إن كان في جزئيّة شيء لها كالسورة للصلاة فلا إشكال في كونه حينئذ من باب الدوران بين الأقلّ والأكثر. وإن كان في شرطيّة شيء لها فإن كان الشرط من الشروط الذهنيّة - وهي الّتي تكون متّحدة مع المشروط في الخارج كالقصر والإتمام والجهر والاخفات - فلا إشكال حينئذ في كونه من الدوران بين المتباينين ، وإن كان من الشروط الخارجيّة - وهي الّتي لا تتّحد مع المشروط في الخارج كالطهارة والاستقبال وغيرهما بالقياس إلى الصلاة - ففي كونه من الدوران بين المتباينين. أو الأقلّ والأكثر خلاف ، ولعلّنا نتعرّض لتحقيقه ، فالصورة الحاصلة من ضرب الثلاث في مثلها تسعة ، وإذا انضمّت إلى التسعة الباقية من إثني عشر صورة ترتقي إلى ثمانية عشر ، وإذا انضمّت إليها الأربع الباقية من الثمانية المتقدّمة ترتقي إلى إثنتين وعشرين صورة.

ثمّ الشبهة الحكميّة في التكليف لفقد النصّ أو إجماله أو تعارضه إمّا أن تكون من الشكّ في الوجوب وغير الحرمة ثنائيّا أو ثلاثيّا أو رباعيّا ، أو في التحريم وغير الوجوب ثنائيّا أو ثلاثيّا أو رباعيّا ، أو في الوجوب والتحريم ثنائيّا أو ثلاثيّا أو رباعيّا أو خماسيّا ، وهذه أيضا تسعة صور إذا اضيفت إلى الصور الباقية كثرت صور المسألة جدّا ، لكنّا نتعرّض لبيان أحكام هذه الأقسام بالتكلّم في مقامين بملاحظة الشكّ في التكليف ، والشكّ في المكلّف به.

ص: 11

المقام الأوّل : الشكّ في التكليف لشبهة حكميّة

اشارة

المقام الأوّل

في حكم الشك في التكليف لشبهة حكمية او موضوعية.

وفيه مطالب :

المطلب الأوّل : الشبهة الحكميّة الوجوبيّة

اشارة

المطلب الاول

فيما اشتبه حكمه الشرعي الدائر بين الوجوب وغير الحرمة ، وفيه مسائل أربع :

المسألة الاولى : في الشبهة الوجوبيّة الناشئة من جهة فقدان النصّ

اشارة

المسألة الاولى : فيما لو كان الاشتباه من جهة فقد النصّ المعتبر ، كقراءة الدعاء عند رؤية الهلال ، وغسل الجمعة ، والكفّارة بوطئ الحائض ، وصوم نهار نسيان العشاء ، وتوجيه المحتضر نحو القبلة ، وغير ذلك ممّا لا يحصى كثرة.

والمعروف من الأصحاب هو نفي الوجوب عملا بأصل البراءة ، وعن الأخباريّين موافقة المجتهدين هنا في الجملة.

لنا على ذلك : الأدلّة الأربعة ، من الكتاب والسنّة والإجماع والعقل.

منها : الآية الاولى : قوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً )

أمّا الكتاب فآيات ، منها : قوله عزّ من قائل : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (1).

ووجه الاستدلال : أنّ بعث الرسول بملاحظة أنّ الفائدة المقصودة منه تبليغ الأحكام كناية عن تبليغ الأحكام وبيانها ، فتدلّ الآية على نفي التعذيب قبل البيان ، وملخّصه نفي العقاب على مخالفة الأحكام الواقعيّة المستورة عن المكلّف لجهله بها لأجل عدم بلوغها إليه ، ويلزم من ذلك كون الجهل عذرا مانعا عن تأثير الحكم الواقعي في العقاب على مخالفته واستحقاقه ، لا انتفاء الحكم عن الواقعة المشكوك في حكمها بحسب الواقع ، لينافي ما تقدّم من عدم تعرّض أصل البراءة بدليله للواقع أصلا لا بإثبات ولا بنفي.

وبهذا سقط ما عساه يقال على الاستدلال بالآية من أنّ نفي التعذيب إن اريد به نفي فعليّة العذاب فهو لا ينافي استحقاقه ، فلا ينافي كون الفعل واجبا أو حراما ولا يعاقب عليه فعلا لعفوه تعالى عن تلك المعصية.

وإن اريد به نفي استحقاقه فلازمه انتفاء الحكم الشرعي بحسب الواقع ، فالآية على التقديرين لا تعلّق لها بأصل البراءة.

أمّا على الأوّل : فلعدم تعرّضها لنفي الحكم الشرعي في الظاهر.

ص: 12


1- الإسراء : 15.

وأمّا على الثاني : فلتعرّضه لنفيه في الواقع.

فإنّا نقول : إنّ مفاد الآية نفي استحقاق العذاب باعتبار كون الجهل عذرا مانعا عن تعلّق الحكم الواقعي على تقدير ثبوته بالمكلّف الجاهل ما دام جاهلا ، لا باعتبار انتفاء أصل الحكم الشرعي بحسب الواقع.

وبعبارة اخرى : أنّ الآية بظاهرها تدلّ على نفي اللازم باعتبار انتفاء شرط تعلّق الملزوم ، لا نفيه باعتبار انتفاء الملزوم رأسا.

وبعبارة ثالثة : أنّها ظاهرة في نفي استحقاق العذاب لوجود المانع وهو الجهل ، لا لفقد المقتضي وهو الحكم الشرعي الواقعي الموجود في الواقعة من وجوب أو تحريم ، بدليل اختصاص النفي بما قبل البعث والتبليغ والبيان.

ولا ريب أنّ الأحكام الواقعيّة لا تتغيّر بالبيان وعدمه ، ولا بعلم المكلّف وجهله لبطلان التصويب.

وأمّا ما عساه يقال من أنّ الآية بقرينة « كنّا » إخبار بمجرى عادته تعالى في الامم السالفة ، من أنّه تعالى ما كان يعذّبهم إلاّ بعد بعث الرسل إليهم وإتمام الحجج عليهم ، فظاهر التعذيب المنفيّ عنهم تعذيبهم بالعذاب الدنيوي من المسخ والخسف ونحو ذلك ، وهذا لا ينافي استحقاق العذاب الاخروي في هذه الامّة على مخالفة الأحكام الواقعيّة لأجل الجهالة بعد بعث الرسل.

وبالجملة فالآية على هذا المعنى ممّا لا تعلّق له بما نحن فيه.

فيدفعه أوّلا : منع ظهورها في الإخبار عمّا كان عليه تعالى في الامم السالفة بل هو إخبار عمّا هو عليه في دار الآخرة بقرينة الآيات السابقة عليها ، حيث قال تعالى : ( وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً ) (1) ( اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ) (2) ( مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (3).

وثانيا : منع ظهور « كنّا » في المضيّ ، بل هو يجري مجرى الماضي المأخوذ في التعريفات فيكون منسلخا عن الزمان ، على حدّ قوله تعالى : ( وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ) (4) و ( ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ ) (5) وغير ذلك ممّا لا يحصى في الكتاب كثرة. وفائدة

ص: 13


1- الإسراء : 13.
2- الإسراء : 14.
3- الإسراء : 15.
4- فصّلت : 46.
5- الأحزاب : 40.

« كان » في هذه المقامات لتقرير النفي ، والتنبيه على كون انتفاء الخبر عن الاسم من الصفات اللازمة له الغير المنفكّة عنه ، وعليه فلا يتفاوت الحال بين المضيّ والحال والاستقبال ، فالآية شاملة لهذه الامّة أيضا ، ولا عذاب بالقياس إليهم إلاّ ما في قوّة الوقوع من العذاب الاخروي.

وثالثا : أنّ حاصل مفاد الآية على ما بيّنّاه كون الجهل عذرا مانعا من استحقاق العذاب فهو المناط لنفي العذاب ، وعلى تقدير اختصاصه بالعذاب الدنيوي الواقع في الامم السابقة جرى حكمه في العذاب الاخروي المحتمل وقوعه عليهم وعلى هذه الامّة ، ضرورة أنّ الجهل إذا صلح عذرا مانعا من استحقاق العذاب الدنيوي على مخالفة الأحكام الواقعيّة قبل البعث ، لصلح عذرا مانعا عن استحقاق العذاب الاخروي أيضا على مخالفة هذه الأحكام ، بل بطريق أولى كما لا يخفى.

وبالجملة مناط النفي منقّح بنفس الآية ، فيجري حكمها وهو نفي العذاب في العذاب الاخروي أيضا.

فاندفع بأحد هذه الوجوه الثلاث ما قيل في المناقشة من ظهور الآية في الإخبار بوقوع التعذيب سابقا بعد البعث ، فيختصّ بالعذاب الدنيوي الواقع في الامم السابقة.

ومنها : قوله تعالى : ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ) (1) قصّر تعالى فيه الهلاك والحياة على صورة وجود البيّنة ، فيدلّ على إنتفاء الهلاك عند انتفاء البيّنة وهو المطلوب ، فإنّ الهلاك والحياة كنايتان إمّا عن الإطاعة والمعصية المستلزمتين لترتّب المثوبة والعقوبة في دار الآخرة ، أو عن الوقوع في المثوبة والعقوبة في دار الآخرة من دخول الجنّة والورود على النار.

وعلى التقديرين فحاصل مفادّ الآية : أنّ مناط الثواب والعقاب في دار الآخرة إنّما هو ورود البيان وبلوغه وعدمه.

منها : الآية الثانية : قوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها )

ومنها : قوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) (2) فإنّ الموصول كناية عن الحكم الواقعي المجعول الّذي لا يبلغ حدّ التكليف إلاّ ببيانه وعلم المكلّف به ، فقوله : ( آتاها ) أي أعطى ذلك الحكم وبيّنه لها وأعلمها به.

لكنّ الإنصاف أنّ هذا المعنى خلاف ظاهر الآية ، فإنّ الموصول بقرينة ما قبل الآية

ص: 14


1- الأنفال : 42.
2- الطلاق : 7.

وهو قوله تعالى : ( لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللّهُ ) (1) كناية عمّا أعطاه اللّه تعالى من المال الّذي يجب الإنفاق منه على الموسر على حسب إيساره وعلى المعسر على حسب إعساره ، لكون كلّ مقدورا لصاحبه ، مع عدم كون إنفاق ما لم يعطه اللّه سبحانه مقدورا. فالمقصود من الآية نفي التكليف بغير المقدور فلا تشمل ما نحن فيه ، لعدم خروج فعل ما احتمل وجوبه ولا ترك ما احتمل حرمته بسبب الجهل بحكمه الواقعي بالخصوص مع الالتفات إليه عن مقدور المكلّف.

وبذلك ظهر أيضا منع الاستدلال بآية اخرى وهي قوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ) (2) فإنّه لنفي التكليف بما هو خارج عن وسع المكلّف ومقدوره ، ومحلّ البحث ليس خارجا عن وسعه.

نعم معرفة ما لم يبيّنه اللّه تعالى من الحكم الشرعي المجعول غير مقدورة للمكلّف فيكون التكليف بها منفيّا بنصّ الآيتين ، ولذا استدلّ بهما الإمام عليه السلام لنظير ذلك في المرويّ عن الكافي عن الصادق عليه السلام أنّه سئل هل جعل في الناس أداة ينالون بها المعرفة؟ قال : « لا ، قيل : فهل كلّفوا المعرفة؟ قال : على اللّه البيان ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ) و ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) (3) غير أنّ ذلك خارج عن معقد البحث ، إذ ليس الكلام في معرفة ما لا يمكن معرفته لعدم بلوغ بيانه إلى المكلّف ممّا بيانه من شأنه تعالى لا غير ، بل في فعل ما لم يعلم وجوبه من حيث إنّ حكمه بملاحظة الجهل بحكمه الواقعي هل هو عدم الوجوب فلا يعاقب على تركه أو الوجوب أخذا بالاحتياط؟

منها : الآية الثالثة : قوله تعالى : ( وَما كانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ )

ومنها : قوله تعالى : ( وَما كانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ ) (4) أي ما يجتنبون به عن الأفعال والتروك ، وظاهرها أنّه تعالى لا يخذلهم ولا يعذّبهم بعد هدايتهم إلى الإسلام إلاّ بعد ما يبيّن لهم ما يطيعونه وما يعصونه به ، ولذا ورد في المروي عن الكافي (5) وتفسير العيّاشي (6) وكتاب التوحيد (7) يعني : « يعرّفهم ما يرضيه و [ ما ] يسخطه ».

وبالجملة فالآية تدلّ على نفي خذلان المكلّفين على ترك التقوى ، وهو الاجتناب عن

ص: 15


1- الطلاق : 7.
2- البقرة : 286.
3- الكافي 1 : 163 ، ح 5 ، كتاب التوحيد : 414 - والآيتان من سورة البقرة : 286 ، والطلاق : 7.
4- التوبة : 115.
5- الكافي 1 : 163 ، ح 3.
6- تفسير العيّاشي : 2 : 115 ، ح 150.
7- كتاب التوحيد - للصدوق : 414 ، ح 11.

المعاصي بترك المحرّمات الواقعيّة وفعل الواجبات الواقعيّة ما لم يبيّن لهم ما به يحصل التقوى من الأحكام والشرائع ، وحمله على بيان الموضوع إذا كان من قبيل العبادات تخصيص في الموصول من غير مخصّص.

ولو سلّم كونه كناية عن نفس الواجبات والمحرّمات فإنّما يراد به بيانها من حيث الوصف العنواني المعبّر عنه بالوجوب والتحريم ، لا لذواتها ليرجع إلى بيان موضوع الحكم لا نفسه إلاّ في العبادات الّتي بيانها من وظيفة الشارع ، فهذه الآية واضحة الدلالة على المطلب ، وظنّي أنّها أوضح دلالة من سائر الآيات.

وربّما اورد على مجموع الآيات المستدلّ بها في هذا الباب بأنّ غاية مفادها عدم المؤاخذة على مخالفة الأحكام الواقعيّة على تقدير ثبوتها في الوقائع المجهولة ، وهذا لا ينافي المؤاخذة على مخالفة الاحتياط المحتمل وجوبه في المقام ونظائره ، والمفروض أنّ القائل بوجوب الاحتياط إنّما يدّعيه لدليل علمي ، والآيات على تقدير تماميّتها لا تعارضه ، كما أنّ أصل البراءة عند قائليه لا يعارض الدليل ، فلم يثبت بها أصل البراءة على وجه ينتفي بها احتمال وجوب الاحتياط كما هو المقصود.

ويدفعه : أنّ الآيات وغيرها من أدلّة هذا الأصل إنّما دلّت على نفي المؤاخذة في الوقائع المجهولة مطلقا عن المكلّف الجاهل بأحكامها الواقعيّة ، وعدم معارضتها لأدلّة وجوب الاحتياط على تقدير تماميّتها إنّما هو لحكومة تلك الأدلّة عليها بالتعرّض لبيان كمّيّة موضوعها ، وهو المؤاخذة على مخالفة الواقع من حيث هو لا أزيد ، وإذا منعت دلالاتها على وجوبه بما سنقرّره بقيت الآيات وغيرها على إطلاقها في نفي المؤاخذة وليس هنا موضع هذا المنع.

منها : حديث الرفع

وأمّا السنّة فروايات ، منها : حديث التسعة المعروف الّذي رواه الصدوق في الخصال بسند صحيح عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : رفع عن امّتي تسعة ؛ الخطأ ، والنسيان ، وما اكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطرّوا إليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة (1) ».

ورواه الكليني أيضا مع نوع اختلاف في السند بالرفع والمتن في آخر أبواب الكفر والإيمان من اصول الكافي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : وضع عن امّتي

ص: 16


1- الخصال : 417.

تسعة أشياء : الخطأ ، والنسيان ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطرّوا إليه ، وما استكرهوا عليه ، والطيرة ، والوسوسة في التفكّر في الخلق ، والحسد ما لم يظهره بلسان أو يد (1) ».

والطيرة بكسر المهملة وفتح المثنّاة مع جواز سكونها التطيّر ، وهو في الأصل التشؤّم وهو التحدّث بالشرّ والسوء والمكروه ، وإنّما سمّي تطيّرا من الطير لأنّ العرب كانوا يتشأّمون بالطيور ولا سيّما الغراب والجغد ، وكان ذلك يصدّهم عن مقاصدهم. وعلاجه إنّما هو بعدم الاعتناء به وترك العمل بموجبه وتسليم الأمر إليه تعالى ، ولذا ورد في الخبر : « أنّه يذهبه اللّه تعالى بالتوكّل (2) » ومعناه أنّه إذا خطر له عارض الطيرة فليتوكّل على اللّه ، ويسلّم أمره إليه ، ولا يعمل بموجبه وهو المعنيّ من المضيّ المأمور به في الحديث من قوله عليه السلام : « ثلاث لا يسلم منها أحد ، الطيرة والحسد والظنّ ، قيل : فما يصنع؟ قال : إذا تطيّرت فامض ، وإذا حسدت فلا تبغ ، وإذا ظننت فلا تحقّق (3) ».

وفي النبوي : « ثلاث لا ينجو منها أحد : الظنّ ، والطيرة ، والحسد ، وساحدّثكم بالمخرج عن ذلك ، إذا ظننت فلا تحقّق ، وإذا تطيّرت فامض ، وإذا حسدت فلا تبتغ (4) »

وإنّما نفاه الشرع لما ذكر ، أو لمنافاته التوكّل المأمور به ، أو لكونه نحوا من الشرك المنهيّ عنه كما في الخبر : « الطيرة شرك ولكنّ اللّه يذهبه بالتوكّل (5) ».

قيل : إنّما جعلت الطيرة من الشرك لأنّهم كانوا يعتقدون أنّ التطيّر يجلب لهم نفعا ويدفع عنهم ضررا إذا عملوا بموجبه ، فكأنّهم أشركوه مع اللّه ، ولكنّ اللّه يذهبه بالتوكّل.

والحسد هو كراهة نعمة الغير مع حبّ زوالها عنه ومع عدمه.

والوسوسة في التفكّر في الخلق يحتمل معنيين :

أحدهما : وسوسة الشيطان للإنسان عند التفكّر في أمر الخلقة ، نظير ما ورد في الخبر من أنّه قد جاء رجل إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال : يا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إنّي هلكت فقال صلى اللّه عليه وآله وسلم : « أتاك الخبيث ، فقال لك : من خلقك؟ فقلت : اللّه ، فقال : اللّه من خلقه؟ فقال : أي والّذي بعثك بالحقّ ، قال : ذاك واللّه محض الإيمان (6) ».

وثانيهما : الوسوسة في الناس عند التفكّر في امورهم ، على معنى سوء الظنّ بهم الّذي

ص: 17


1- الكافي 2 : 463 ، ح 2.
2- البحار 58 : 322 ، ذيل الحديث 10 ، مع تفاوت.
3- البحار 58 : 320 ذيل الحديث 9.
4- كشف القناع 6 : 546.
5- البحار 58 : 322 ، ذيل الحديث 10 - مع تفاوت.
6- الكافي 2 : 425 ، ح 3.

أصله من الشيطان ، والأوفق بكلّ من المعنيين هو لفظ المرفوعة.

وقوله عليه السلام : « ما لم ينطقوا بشفة » (1) و « ما لم يظهر بلسان أو يد » (2) إمّا قيد للحسد كما هو ظاهر المرفوعة ، فيفيد اختصاص الرفع في الحسد بصورة عدم ترتيب الآثار الخارجيّة على تلك الصفة الخبيثة الموجودة في النفس ، ممّا يرجع إلى المحسود من إهانة أو تحقير أو نحوهما بلسان أو يد أو غيرهما ، أو ممّا يكشف عن وجود تلك الصفة في النفس. أو قيد الوسوسة في التفكّر في الخلق بالمعنى الثاني كما هو ظاهر رواية الخصال ، فيفيد اختصاص الرفع في سوء الظنّ بالخلق بصورة عدم تحقيق المظنون في الخارج ، على معنى ترتيب الآثار عليه.

ثمّ إنّه للمحافظة على كلام المعصوم عن الكذب بملاحظة عدم كون أعيان التسعة مرفوعة عن الامّة لابدّ من تقدير ما يصحّ إسناد الرفع والوضع إليه ممّا يضاف إليها ، ليدلّ الخبر على كونه مرفوعا من باب دلالة الاقتضاء ، وهو إمّا جميع الآثار الشرعيّة المجعولة تكليفا ووضعا المترتّبة على هذه الأشياء لو لا كونها مرفوعة ، أو الآثار الظاهرة الشرعيّة الّتي منها المؤاخذة ، أو أثر خاصّ معيّن عند اللّه غير معيّن عند الامّة ، أو خصوص المؤاخذة عليها.

والأوّل ممّا لا سبيل إليه ، للعلم الضروري من جهة الإجماع وغيره من الأدلّة بعدم ارتفاع كثير من الآثار الشرعيّة التكليفيّة والوضعيّة عنها ، كدية القتل في الخطأ ، ووجوب القضاء والإعادة فيما تركه أو أخلّ به في الوقت نسيانا ، ووجوب الكفّارة بنسيان العشاء الموجب لصيام نهاره ، والضمان على من أتلف مال الغير خطأ أو نسيانا أو جهلا ، وعلى من اضطرّ إلى أكله أو شربه ونحو ذلك.

وكذلك الثاني لكون أكثر هذه المذكورات - إن لم نقل كلّها - من الآثار الظاهرة.

وكذلك الثالث لقضائه بخلوّ كلام المعصوم في الخبرين عن الفائدة ، خصوصا إن قلنا بوروده في معرض الامتنان ، لأنّه لا يتمّ برفع ما لا يعلمه الامّة ، فتعيّن الأخير.

ويؤيّده مضافا إلى فهم العلماء حيث لم يحملوه إلاّ على رفع المؤاخذة خاصّة ، استقراء موارد إطلاق هذا اللفظ في خطابات الشرع القاضي بعدم معهوديّة إرادة ما عدا رفع المؤاخذة ووضعها.

ص: 18


1- الوسائل 11 : 295 الباب 56 من أبواب جهاد النفر. ح 1 و 3.
2- الوسائل 11 : 295 الباب 56 من أبواب جهاد النفر. ح 1 و 3.
منها : حديث رفع القلم عن الصبيّ والمجنون

ومنها : ما ورد من رفع القلم عن الصبيّ والمجنون (1) ، على معنى رفع قلم المؤاخذة والعقوبة عنهما.

ومنها : ما في الخبر من قوله عليه السلام : « كلّ كذب مسؤول عنه صاحبه إلاّ في ثلاثة : رجل كائد في حربه فهو موضوع عنه (2) » إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

لا يقال : تخصيص الرفع بهذه الامّة ربّما تعطي كون المرفوع عنها في هذه التسعة أثرا خاصّا غير المؤاخذة وإن لم يكن معيّنا عندهم ، لاستقلال العقل بقبح المؤاخذة على الامور الخارجة عن اختيار المكلّف وما اضطرّ إليه أو اكره عليه ، فلا اختصاص لرفعها بهذه الامّة ، فلابدّ وأن يقدّر أثر شرعي آخر لم يستقلّ العقل بالحكم برفعه كان ثابتا في الامم السابقة فتفضّل تعالى على هذه الامّة برفعه عنهم ، كما وقع نظيره في بعض الأحكام المختصّة بقوم موسى على نبيّنا وعليه السلام ، ككون توبتهم قتالهم فيما بينهم ، وكون تطهيرهم عن البول حيث أصابهم أخذ الموضع بالمقاريض ، وقد رفعهما سبحانه عن هذه الامّة ببركات نبيّهم صلى اللّه عليه وآله.

لأنّا نمنع انفهام التخصيص المتوهّم في المقام بدلالة معتبرة ، ألا ترى أنّه لو قيل : « رفع الفقر عن زيد » لم يدلّ في متفاهم العرف على نفي رفع الفقر عن عمرو.

وبالجملة هذا التخصيص المتوهّم المتضمّن لنفي رفع المؤاخذة عن سائر الامم ممّا لا موجب له إلاّ مفهوم اللقب ، وهو غير حجّة عند الجمهور.

وتوهّم كونه ممّا يقتضيه الامتنان ، يدفعه : منع ورود الخبر في معرض الامتنان ، بل المقصود منه الإخبار برفع المؤاخذة على التسعة من باب بيان الواقع.

ولو سلّم فالقصد إلى إيقاع المنّة على هذه الامّة بذلك الخطاب لا ينافي وقوع مثلها على الامم السابقة بخطاب متقدّم من أنبيائهم ، إذ من الجائز كونه تعالى قد منّ اللّه على جميع الامم برفع المؤاخذة على التسعة عنهم.

وبالجملة الامتنان المقصود في الرواية على [ تقدير ] تسليمه لا يصلح مقتضيا لكون رفع التسعة من خصائص هذه الامّة ، وذلك إمّا من جهة كون عدم رفعها عن الامم السابقة محقّقا ومقتضيا لحصول الامتنان برفعها عن هذه الامّة ، أو باعتبار كون رفعها عن الامم السابقة مانعا عن حصوله برفعها عن هذه الامّة ، ولا سبيل إلى شيء من ذلك ، لأنّ حصول

ص: 19


1- الوسائل 1 : 32 الباب 4 من أبواب مقدّمة العبادات ، ح 11.
2- قرب الأسناد ( الجعفريّات ) : 170 ( باختلاف يسير ) ، وانظر المستدرك 9 : 94 ب 122 من أبواب أحكام العشرة ، ح 4.

الامتنان برفعها في هذه الامّة لا ينافي حصول مثله برفعه في الامم السابقة أيضا ، لجواز كونه تعالى قد منّ اللّه على جميع عباده برفع المؤاخذة عنهم في هذه التسعة ، فلا صارف للرواية عن ظهوره في رفع المؤاخذة.

وبما قرّرناه في دفع السؤال ظهر أنّه لا حاجة في دفعه إلى تكلّف منع استقلال العقل بقبح المؤاخذة على أكثر هذه التسع ، لعدم قبح المؤاخذة على الخطأ والنسيان الصادرين عن ترك التحفّظ عقلا ، ولا على مخالفة ما لا يعلمون مع احتمال وجوب الاحتياط ، ولا قبح عقلا في التكليف الشاقّ الناشئ عن اختيار المكلّف ، مع وضوح فساد هذا الكلام في نفسه ، لابتنائه على القول بعدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار ، لما حقّقناه في محلّه من منافاة الامتناع للاختيار مطلقا خطابا وعقابا ، فيقبح مؤاخذة الخاطئ والناسي في خطائه ونسيانه مطلقا وعلى الممتنع كذلك. نعم إنّما يجوز المؤاخذة على ترك التحفّظ وعلى سبب الامتناع الصادر عن المكلّف.

ولا دلالة في قوله تعالى حكاية عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم في ليلة المعراج : ( رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ) (1) على وجود المؤاخذة على هذه الثلاث في الامم السابقة ، لأنّ قوله : ( كَما حَمَلْتَهُ ) مخصوص بالأخير.

و « الإصر » هو الثقل ، وحمله عبارة عن التكليف الشاقّ كما في موارد العسر والحرج. ومنه ما تقدّم في قوم موسى. ولا ريب أنّه ليس من التسعة المنفيّة في الرواية وإن كان هو أيضا منفيّا في الشريعة.

ثمّ إنّ رفع المؤاخذة عن الامّة في هذه التسعة كناية في متفاهم العرف عن رفع التكليف الإلزامي المستتبع للمؤاخذة على مخالفته ، فلا يرد : أنّ رفع المؤاخذة قد يكون باعتبار انتفاء أصل التكليف الإلزامي ، وقد يكون للعفو عن المؤاخذة على مخالفته ، فيكون أعمّ من عدم الإلزام في موارد التسعة ، ومن البيّن عدم دلالة العامّ على الخاصّ.

فإن قلت : جعل رفع المؤاخذة كناية عن رفع الإلزام ربّما يؤدّي إلى فساد المعنى ، لأنّ الرفع في مقابلة الدفع لا يطلق إلاّ على منع بقاء الشيء بعد وجوده ، وبعبارة اخرى : المنع عن ثبوت الشيء الثابت. غاية الأمر : أن يتوسّع في الاستعمال فيطلق على المنع عن ثبوت ما من شأنه أن يثبت لوجود المقتضي لثبوته. ومنه النسخ الّذي عرّفوه : برفع حكم شرعي

ص: 20


1- البقرة : 286.

لدليل شرعي ، فصدق الرفع بحسب العرف منوط بثبوت الشيء المرفوع فعلا أو شأنا ، وبدون أحدهما لا معنى للرفع ، ورفع المؤاخذة إذا كان بواسطة انتفاء الإلزام فلا مقتضي لثبوتها فهي ليست بثابتة فعلا ولا أنّ من شأنها الثبوت ، فلا معنى لرفعها حينئذ.

قلت : شأنيّة الثبوت قد تتأتّى بوجود المقتضي لوجود الشيء ، فيكون المؤاخذة المرفوعة ممّا من شأنه الثبوت باعتبار كون الإلزام المرفوع ممّا من شأنه الثبوت ، لوجود المقتضي لوجوده وهو العمومات المثبتة للتكاليف الإلزاميّة في الأفعال والتروك ، فإنّها بعمومها تشمل موارد الخطأ والنسيان وغيرهما ، فيصدق الرفع بوجود هذا المقتضي ولا حاجة إلى مقتضي آخر ، وهذا هو الوجه في صدق الرفع في محلّ النسخ ، لأنّ شأنيّة ثبوت الحكم المنسوخ في زمان ورود الناسخ إنّما هو باعتبار عموم الخطاب الأوّل بحسب الأزمان.

ثمّ إنّ رفع الإلزام قد يكون باعتبار خلوّ الواقعة عن الحكم رأسا ، وقد يكون باعتبار خلوّ ذمّة المكلّف عن الحكم الإلزامي وإن اشتملت الواقعة عليه في الواقع. والرواية إنّما تنهض مدركا لأصل البراءة لو كان مفادها رفع الإلزام على الوجه الثاني لا مطلقا.

وبيان ذلك : أنّ الواقعة إذا اخذت مقيسة إلى ذمّة المكلّف المختلف حالاته لا تخلو عن صور أربع :

الاولى : أن تكون خالية عن الحكم الإلزامي بأن لم يجعل لها في الواقع حكم إلزامي ، على معنى عدم كون حكمها المجعول إلزاميّا كالمباحات ، بل المندوبات والمكروهات أيضا.

الثانية : أن تكون ذمّته خالية عن الحكم الإلزامي المجعول للواقعة ، على معنى عدم توجّهه إليه وعدم تعلّقه به لعذر من الأعذار ، كما في المجنون والناسي والنائم والغافل في موارد التكاليف الإلزاميّة ، فإنّ سقوط التكليف عن المجنون مثلا ليس معناه خلوّ الواقعة بالنسبة إليه عن الحكم الإلزامي بالمرّة ، بل خلوّ ذمّته عن هذا الحكم الإلزامي لكون الجنون عذرا مانعا عن توجّهه إليه وتعلّقه به.

الثالثة : اشتمال الواقعة على الحكم الإلزامي واشتغال ذمّة المكلّف به أيضا مع عدم العقاب على مخالفته ، لثبوت العفو الحتمي عنه.

الرابعة : الصورة بحالها مع ترتّب العقاب على المخالفة ، ومؤدّى أصل البراءة بملاحظة أنّه لا يتعرّض الواقع بإثبات ولا نفي إنّما هو نفي الحكم الإلزامي على الوجه المذكور في الصورة الثانية ، وصراحة الرواية أو ظهورها في رفع المؤاخذة يوجب خروج الصورة

ص: 21

الأخيرة عن موردها ، كما أنّ كون رفع المؤاخذة كناية عن رفع الإلزام يوجب خروج الصورة الثالثة عن موردها.

والأظهر أنّ مؤدّاها ما ينطبق على الصورة الثانية لا الاولى ، لأنّ قصر الحكم على الامور التسع يدلّ على أنّ المراد رفع الإلزام بالمعنى الراجع إلى ذمّة المكلّف ، فيكون مفاده خلوّ ذمّة المكلّف عن الحكم الإلزامي ، لوضوح أنّ رفعه باعتبار خلوّ أصل الواقعة عن الحكم الإلزامي بأن يكون حكمها المجعول غير الحكم الإلزامي لا يتفاوت فيه الحال بين صورتي الخطأ والعمد ، ولا بين صورتي النسيان والتذكّر ، ولا بين صورتي الجهل والعلم ، ولا بين صورتي الاضطرار والاختيار ، ولا بين صورتي الإكراه وعدمه.

فرفع المؤاخذة عمّا لا يعلمون كناية عن رفع الحكم الإلزامي عن ذمّة المكلّف لجهله به موضوعا أو حكما.

ولكن يشكل ذلك بالنسبة إلى الثلاثة الأخيرة وهي الطيرة والحسد والوسوسة ، فإنّ الظاهر أنّ الواقعة بالنسبة إلى هذه الثلاث ما لم يرتّب عليها الآثار الخارجيّة خالية عن الحكم الإلزامي وهو الحرمة بالمرّة ، إلاّ أن يدفع بجعل رفع الإلزام أعمّ منه باعتبار خلوّ الواقعة عن الحكم الإلزامي ومنه باعتبار خلوّ ذمّة المكلّف عن الحكم الإلزامي.

أمّا الأوّل ففي هذه الثلاث ؛ وأمّا الثاني ففي ما عداها.

أو يلتزم باشتمال الواقعة فيها على الحرمة لكن الذمّة لا تشتغل بها إلاّ عند ترتيب الآثار عليها ، فتأمّل.

والأوّل أظهر ، فلا إشكال حينئذ في كون الرواية من أدلّة أصل البراءة بالنسبة إلى ما لا يعلم.

لكنّ المعضل أنّها هل تفيده في الشبهات الحكميّة فقط ، أو في الشبهات الموضوعيّة ، كذلك أو فيهما معا؟

فعلى الأوّل والثالث يتّجه التمسّك بها فيما نحن فيه الّذي هو من قبيل الشبهات الحكميّة بخلافه على الثاني.

وتحقيق ذلك مبنيّ على النظر في كون الموصول في « ما لا يعلمون » كناية عن الحكم المجهول ، أو عن الموضوع المجهول ، أو عن الموضوع المجهول حكمه ، أو عمّا يعمّ الحكم والموضوع المجهولين ، والأظهر بقرينة السابق واللاحق كونه كناية عن الموضوع لا عن الحكم ، مع كون الجهالة في نفس ذلك الموضوع كما لو شرب الخمر لجهالة كونه خمرا.

ص: 22

أمّا الأوّل : فلكون الموصول المتكرّر في سابق هذه الفقرة ولا حقها - كقوله : « ما استكرهوا عليه ، وما لا يطيقون ، وما اضطرّوا إليه » بل الخطأ والنسيان - أيضا كناية عن الموضوع لا غير.

وأمّا الثاني : فلا ستلزامه الاستخدام الّذي هو مجاز في الضمير أو خلاف ظاهر فيه فلا يعدل إليه بدون قرينة ، وعليه فالاستدلال بها على الشبهة الحكميّة غير متّجه.

منها : حديث الحجب

ومنها : قوله عليه السلام : « ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم (1) ».

ووجه الدلالة : أنّه عليه السلام أسند حجب العلم إلى اللّه تعالى ، وهذا يقضي بكون الموصول كناية عمّا من شأنه أن يبيّنه اللّه تعالى ، وليس ذلك إلاّ الحكم الكلّي المجعول للواقعة ، وكونه موضوعا عنهم كونه مرفوعا عن ذممهم على معنى خلوّ ذمّتهم عن ذلك الحكم المجعول ، فيكون هذه الرواية مخصوصة بالشبهات الحكميّة ، فيقال في الحكم المشتبه - كما في قراءة الدعاء عند رؤية الهلال : - إنّه ما حجب اللّه علمه عنّا ، وكلّما حجب اللّه علمه عنّا فهو موضوع عنّا ، فهذا موضوع عنّا.

فإن قلت : إنّ الواقعة ليست خالية عن حكم مجعول ، وإسناد حجب العلم إليه تعالى إن اريد به ما يكون حقيقيّا - بأن يكون الحجب حاصلا بمباشرته تعالى - فهو لا يلائم عدله وحكمته ، إمّا لأدائه إلى العبث في جعل الأحكام ، أو لإخلاله باللطف الواجب عليه تعالى. وإن اريد به ما يكون مجازيّا - بأن يحصل الحجب بمباشرة غيره تعالى واسند إليه لضرب من المجاز - فهو خلاف ظاهر لا يصار إليه بغير دليل. فلابدّ وأن يحمل ما حجب علمه عن العباد على غير الأحكام المجعولة للوقائع ، من الامور المستورة عن العباد الّتي لا تكليف عليهم في معرفتها ، ككنه ذاته تعالى ، وأسرار القضاء والقدر ، وحقيقة الروح ، وما في الأرحام ، ووقت حلول الساعة ، ووقت ظهور إمام العصر عجّل اللّه فرجه وما أشبه ذلك ممّا لا سبيل للعباد إلى العلم به. وكونه موضوعا عنهم معناه عدم كونهم مكلّفين بمعرفة هذه المطالب ، وعليه فالرواية ممّا لا تعلّق له بباب أصل البراءة.

قلت : هذا يوجب ارتكاب خلاف ظاهر لا داعي إليه ، وهو التفكيك بين الموصول والموضوع عن العباد ، إذ الأوّل كناية عن الامور المذكورة والثاني عبارة عن التكليف

ص: 23


1- الوسائل 18 : 119 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 28.

بمعرفتها ، والرواية ظاهرة في الاتّحاد. وما ذكر في الترديد لا ينهض قرينة على ارتكابه ، إذ الحجب المسند إلى اللّه سبحانه على أنحاء ثلاث :

الأوّل : حجبه العلم بالحكم الواقعي المجعول بعدم جعله سببا له ونصبه طريقا إليه.

الثاني : حجبه إيّاه برفعه السبب المجعول والطريق المنصوب بتقصير من العاد ، كإخفائه الحجّة عليه السلام في أزمنة الغيبة الّذي هو طريق منصوب إلى العلم بالأحكام الواقعيّة.

الثالث : حجبه بعدم منعه رافع الطريق المنصوب - إذا كان غيّره - عن الرفع ، كالقول الصادر عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم أو الإمام عليه السلام في مقام بيان الحكم الواقعي الّذي أسقط عنه الراوي موضع الدلالة عليه ، أو غيّره سهوا أو نسيانا أو خطأ أو عمدا وعنادا ، ونحو ذلك ممّا نشأ من الأعداء والمخالفين في إخفائهم بل إعدامهم آثار الشريعة الحقّة.

وإسناد الحجب إليه تعالى في الأوّلين حقيقيّ وفي الأخير مجازيّ ، لكونه تعالى في عدم منعه الغير عن الرفع كالسبب للحجب الّذي باشره ذلك الغير ، والّذي يقبح منه تعالى هو الأوّل بخلاف الثاني ، لكون السبب في مباشرته تعالى للحجب فيه العباد ، فيصحّ صدوره منه وإسناده إليه مع كونه حقيقيّا ، لعدم منافاته عدله وحكمته ، ولا إخلاله باللطف الواجب عليه ، فليحمل الرواية عليه من دون داع إلى الخروج عن الظاهر ، وهي على هذا الحمل وإن كانت لا تتناول القسم الأخير - مع أنّ أصالة البراءة فيما لا نصّ فيه يعمّه والقسم الثاني لكون كلّ ممّا لا نصّ فيه - إلاّ أنّه في إثباته مطلقا لا حاجة إلى التعميم في مفاد الرواية ، لأنّ الحكم في غير موردها يتمّ بالإجماع المركّب وعدم القول بالفصل.

منها : قوله عليه السلام : « الناس في سعة ما لم يعلموا »

ومنها : قوله عليه السلام : « الناس في سعة ما لم يعلموا » (1) مع نكارة « سعة » فتكون كلمة « ما » مصدريّة ظرفيّة ، أو إضافتها إلى كلمة « ما » فتكون موصولة ، وعلى التقديرين يتمّ المطلوب.

ووجه الدلالة : أنّ السعة عبارة عمّا يقابل الضيق تقابل التضادّ أو العدم والملكة ، والتكليف الإلزامي إيجابا أو تحريما لتضمّنه المنع من الترك أو الفعل تضييق للأمر على المكلّف. وقوله عليه السلام : « سعة » كناية إمّا عن عدم هذا الضيق ، أو عن الرخصة في الفعل والترك معا ما لم يعلموا الضيق في شبهة حكميّة أو موضوعيّة على قراءة المصدريّة ، أو فيما معا ما لم يعلموا الضيق في شبهة حكميّة أو موضوعيّة على قراءة الموصولة ، بناء على كون الإضافة حينئذ ظرفيّة بتقدير « في » على حدّ ما في « ضرب اليوم ».

ص: 24


1- المحاسن : 452 ، المستدرك 18 : 20 ، الباب 12 من أبواب مقدمّات الحدود ، ح 4.

واورد عليه تارة : بأنّ قوله عليه السلام : « ما لم يعلموا » ظاهر فيما لم يعلم حكمه مطلقا ، حتّى حكمه العامّ المستفاد من أدّلة الاحتياط ، والحكم المذكور على صحّة هذا الفرض مسلّم ، لبداهة الإباحة فيما لم يعلم وجوبه أو حرمته خصوصا ولا عموما ، فلا ينهض الرواية على محلّ الاستدلال ، لأنّ قصارى ما لم يعلم في الواقعة إنّما هو الحكم الخاصّ ، وأمّا الحكم العامّ فليس ممّا لم يعلم لمكان أخبار الاحتياط القاضية بوجوبه.

وفيه : أنّ الحكم العامّ أيضا بعد منع نهوض أدلّة الاحتياط لإثبات الوجوب غير معلوم ، هذا مع أنّ ظاهر الرواية في متفاهم العرف تعليق الحكم بالسعة على عدم العلم بالحكم الخاصّ ، وهذا في نفسه ينفي وجوب الاحتياط.

وبذلك اندفع ما قيل : من أنّ الاخبارييّن لا ينكرون عدم وجوب الاحتياط على من لم يعلم وجوبه من العقل والنقل بعد التأمّل والتتبّع ، فإنّ هذه الرواية تدلّ على عدم وجوب الاحتياط في الشبهات ، وعلى الاخباريّين إثبات وجوبه فيها ، وحينئذ تطرح هذه الرواية لا أنّه يناقش في دلالتها.

واخرى : بمنع نهوض الرواية على المطلوب ، إذ غاية ما تدلّ عليه إنّما هو كون الناس في سعة ما داموا جاهلين ، فلا يندرج فيه العالم بالحكم ولو إجمالا ، والعلم الإجمالي بالحكم حاصل في المقام ، لبداهة العلم بأنّ في الشريعة واجبات ومحرّمات.

وفيه : أنّها بإطلاقها بل عمومها تفيد الرخصة مطلقا ولو مع العلم الإجمالي المذكور ، فإنّ « الناس » من اسم الجمع المحلّى فيعمّ العالم بالإجمال وغيره إن فرض وجوده ، مع ظهور قوله عليه السلام : « ما لم يعلموا » في عدم العلم التفصيلي بالخصوص.

نعم يمكن المناقشة في الاستدلال بها بمنع ورودها لتأسيس أصل البراءة ، بل لتأسيس أصل آخر مجمع عليه وهو أصالة ، الطهارة ، الّتي ورد بها الخبر المستفيض المتلقّى بالقبول « كلّ شيء نظيف حتّى يعلم أنّه قذر (1) » نظرا إلى أنّ النجاسة أيضا ضيق ، فمعنى كونهم في سعة عدم كونهم في ضيق النجاسة ما لم يعلموا بها.

وممّا يشعر به ما في ذيل خبر السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « أنّ أمير المؤمنين عليه السلام سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها ، وفيها سكّين ، فقال أمير المؤمنين عليه السلام : يقوّم ما فيها ثمّ يؤكل ، لأنّه يفسد وليس له بقاء ، فإذا جاء طالبها

ص: 25


1- الوسائل 2 : 1054 الباب 37 من أبواب النجاسات ، ح 4.

غرموا له الثمن ، قيل له : يا أمير المؤمنين لا يدرى سفرة مسلم أم سفرة مجوسي؟ فقال : هم في سعة حتّى يعلموا (1) ».

ويمكن دفعها : بمنع ورود الرواية المستدلّ بها في شبهة الطهارة والنجاسة ، ولو سلّم فالعبرة بعموم اللفظ لا خصوص المورد ، فالرواية بلفظها تدلّ على عدم كون الناس عند الشبهة في ضيق ، سواء كان الضيق من جهة الوجوب أو الحرمة أو النجاسة ، بل ضيق النجاسة أيضا يرجع إلى ضيق الإيجاب والتحريم ، لأنّه لو لا وجوب الاجتناب عن النجس وحرمة تناوله لم يكن في نجاسته من حيث هي ضيق ، فالسعة في ضيق النجاسة أيضا سعة في ضيق الإيجاب والتحريم لا غير.

الاستدلال بالإجماع على البراءة

وأمّا الإجماع فيمكن تقريره بوجهين :

أحدهما : الإجماع على عدم وجوب الفعل وعدم العقاب على تركه ممّا لم يرد دليل عقلي ولا نقلي على وجوبه من حيث هو ، ولا من حيث إنّه مجهول الحكم ، وهو بهذا المعنى ممّا لا يمكن الاسترابة فيه ، كما لا يمكن لأحد إنكار الحكم المجمع عليه ، إلاّ أنّه لكونه معلّقا على موضوع لا يحرز إلاّ بعد إبطال أدلّة القول بوجوب الاحتياط ومنع نهوضها على وجوبه لا ينفع إلاّ بعد الفراغ عن إبطالها.

وثانيهما : الإجماع على عدم وجوبه وعدم العقاب على تركه مطلقا ، إذا كان ممّا لم يرد بوجوبه من حيث هو دليل عقلي ولا نقلي.

والفرق بينه وبين الأوّل أنّه لو تمّ دليل وجوب الاحتياط كان رافعا لموضوع الإجماع بالتقرير الأوّل ولم يكن الإجماع معارضا له ، وهو بالتقرير الثاني لكونه في نفسه نافيا لوجوب الاحتياط كان معارضا لدليله ، وحينئذ فلابدّ من تأويله أو إطراحه على تقدير حصول الإجماع بهذا المعنى.

ويمكن تحصيله بأحد الطرق الأربع :

الأوّل : تتبّع كلمات الأصحاب من المحدّثين والفقهاء والاصوليّين ، فإنّه يشرف المتتبّع على القطع بإطباقهم على الأخذ بمقتضى البراءة الأصليّة في نحو مفروض المسألة ، وعدم الا لتزام بالاحتياط بالبناء على وجوب الفعل من حيث كونه مجهول الحكم تعويلا على

ص: 26


1- الوسائل 2 : 1073 الباب 5 من أبواب النجاسات ، ح 11 و 16 : 307 الباب 38 في حكم ما يوجد من الجلد واللحم في بلاد المسلمين ، ح 2 و 17 : 372 - 373 الباب 23 من أبواب اللقطة ، ح 1.

الاحتياط ، ولا ينافيه ما يتّفق أحيانا من عملهم بموجبه مراعاة لرجحانه ، فإنّه غير الالتزام بالعمل به ، والمراد من الإجماع ما ينفي الثاني لا الأوّل.

نعم ربّما يذكر الاحتياط في تضاعيف أبواب الفقه للإشارة إلى وجه احتمال الوجوب فيما ذكر له وجهان الوجوب وعدمه من غير ترجيح ، أو للتنبيه على الأصل الموجود في المسألة عند الشروع في الاستدلال على ما هو ديدنهم من الإشارة إلى أصل المسألة من البراءة أو الاحتياط كلّ في مورده ، أو لتأييد دليل المسألة به أو غير ذلك. بل المعروف موافقة الاخباريّين للمجتهدين في الرجوع إلى البراءة الأصليّة في الشبهة الوجوبيّة كما نصّ عليه جماعة.

بل ربّما يظهر من الصدوق في اعتقاداته كونه من دين الإماميّة حيث قال : « اعتقادنا أنّ الأشياء على الإباحة حتّى يرد النهي (1) فإنّ المعهود من ديدنه أنّه حيث عبّر بهذا اللفظ يريد به اعتقاد معاشر الإماميّة. ومعقد ذلك وإن كانت الشبهة التحريميّة إلاّ أنّ حكمه يجري في الشبهة الوجوبيّة أيضا بطريق الأولويّة ، لعدم الخلاف فيها أو ضعفه.

الثاني : الإجماعات المنقولة في كلام جماعة ، ونفي الخلاف عن العمل بالبراءة الأصليّة في الشبهة الوجوبيّة في كلام آخرين ، فإنّها بكثرتها ربّما تعطي القطع بكون المسألة إجماعيّة.

ومن جملة ذلك عبارة بعض الأعلام (2) الظاهرة بل الصريحة في ذلك.

ومنه ما في المحكيّ عن المحدّث الحرّ العاملي في باب القضاء من الوسائل (3) من نفي الخلاف عن نفي الوجوب عند الشكّ فيه ، إلاّ مع العلم باشتغال الذمّة بعبادة معيّنة مشكوكة بين فردين كالقصر والإتمام ، والظهر والجمعة ، وجزاء صيد واحد أو إثنين ونحو ذلك ، فإنّه يجب الجمع بينهما لتحريم تركهما معا.

ومنه أيضا ما في محكيّ المحدّث البحراني في مقدّمات حدائقه (4) من نفي الخلاف عن صحّة الاستدلال بأصل البراءة في نفي وجوب فعل وجودي حتّى يقوم دليل على الوجوب ، ونحوه في محكيّه عن كتابه الموسوم بالدرر النجفيّة قائلا : « إن كان الحكم

ص: 27


1- الاعتقادات - للشيخ الصدوق - المطبوع ضمن مصنّفات الشيخ المفيد 5 : 114.
2- القوانين. 2 : 16.
3- الوسائل 18 : 119 - 120 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، ذيل الحديث 28.
4- الحدائق : 1 : 43.

المشكوك دليله هو الوجوب فلا خلاف ولا إشكال في انتفائه حتّى يظهر دليله (1) » إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

الثالث : الإجماع العملي المعبّر عنه بالسيرة الكاشفة عن رضا المعصوم عليه السلام ، فإنّ سيرة المسلمين في جميع الأعصار والأمصار على البناء على البراءة فيما يحتمل وجوبه ممّا لم يرد بوجوبه دليل ، وعدم الالتزام بالاحتياط لمجرّد الاحتمال.

الرابع : الإجماع الّذي يحصل بواسطة اندراج المسألة المجمع عليها في أصل كلّي مأخوذ من العقل والنقل مع عدم خفائه ، كما في تكليف المؤمن الغير المتمكّن من القيام في الصلاة ، فيقال : إنّ تكليفه بالقيام تكليف بما لا يطاق وهو قبيح عقلا ، واستقلال العقل بقبحه غير خفيّ على أحد من العلماء ، فهم مجمعون على عدم وجوبه ، فيقال هاهنا أيضا : إنّهم مجمعون على الرجوع إلى البراءة الأصليّة في الشبهات الحكميّة ممّا لا نصّ فيه ، لاستقلال العقل بقبح الخطاب بلا بيان ، وقبح العقاب بلا إقامة البرهان وهذا طريق حسن في تحصيل الإجماع لو لا مناقشة أنّ هذا الأصل الكلّي على تقدير وجوده ممّا يغني عن التمسّك بالإجماع فلا حاجة إلى تكلّف تحصيله بالنظر فيه.

وربّما يشكل الحال في التمسّك بجميع وجوهه من جهة وجود الخلاف في المسألة ، كما يظهر من محكيّ المحقّق في المعارج « العمل بالاحتياط غير لازم ، وصار آخرون إلى وجوبه ، وقال آخرون : مع اشتغال الذمّة يكون العمل بالاحتياط واجبا ومع عدمه لا يجب (2) » بل يظهر منه المخالفة في الجملة في محكيّه عن المعتبر فإنّه مع اختياره في المعارج حجّيّة أصل البراءة مطلقا خصّها في المعتبر بما يعمّ به البلوى.

وممّن يظهر منه المخالفة في الجملة بل مطلقا بالنسبة إلى أزمنة الغيبة بل غيرها ممّا بعد انقطاع الوحي المحدّث الاستر آبادي في فوائده المدنيّة (3) ، حيث خصّ جواز التمسّك بأصل البراءة بما قبل إكمال الدين دون ما بعده ، فأوجب التوقّف مطلقا والاحتياط في الجملة ، استنادا إلى الأخبار الآمرة بهما ، واستشهد لإكمال الدين بالأخبار المتواترة القاضية بورود خطاب قطعي في كلّ واقعة يحتاج إليها ، وأنّ كلّ ما جاء به نبيّنا فهو مخزون عند العترة الطاهرة عليهم السلام. وحينئذ فما تقدّم من نقل الإجماع تارة ونفي الخلاف اخرى عن

ص: 28


1- الدرر النجفيّة : 25.
2- المعارج : 216.
3- الفوائد المدنيّة : 138 - 139.

جماعة فإمّا مبنيّ على عدم العثور بالخلاف ، أو على عدم الاعتداد به ، وعدم الاعتناء بشأنه إمّا لشذوذه فلا يقدح في الإجماع ، أو لسبق الإجماع عليه فيقطع بفساده.

الاستدلال بالعقل

وأمّا العقل : فلأنّه ببداهته يحكم بقبح العقاب والمؤاخذة على الفعل أو الترك من غير بيان للحكم الإلزامي الّذي يترتّب ذلك على مخالفته مع انحصار طريق معرفته في بيان الشارع ، فيحكم بخلوّ ذمّة المكلّف عن ذلك الحكم المشكوك فيه ما لم يبلغ بيانه إليه وإن كان مجعولا في الواقع.

ألا ترى أنّ العقلاء لا يرتابون في ذمّ المولى الّذي يؤاخذ عبده على مخالفة ما يعترف بعدم بيانه له ، ولو اعتذر العبد بعدم بلوغ بيان المولى إليه كان عذره مقبولا وليس للمولى دفعه بالاحتمال.

وقد يقرّر الدليل العقلي : بأنّ التكليف بما لا طريق للمكلّف إلى العلم به تكليف بما لا يطاق فيقبح وقوعه ، كما عن السيّد أبي المكارم في الغنية (1) ، وتبعه بعض من تأخّر عنه ، وكأنّ المراد به أنّ امتثال ما لا طريق إلى معرفته على وجه يجزم حين الفعل بكونه امتثالا غير مقدور ، ومرجعه إلى كون الإتيان بالفعل بعنوان أنّه مأمور به - على معنى القصد إلى هذا الوصف العنواني - مع الجزم به غير مقدور ، وإلاّ فالإتيان بالفعل من حيث هو أو لرجاء كونه مأمورا به بالنظر إلى احتمال الوجوب مقدور.

ولكن يتوجّه إليه أنّه إنّما يتمّ على تقدير اشتراط قصد الوجه والعلم به في الامتثال ، بأن يكونا من قيود المأمور به أو من شروط الامتثال ، أو اشتراط العلم بالوجه لكونه مقدّمة لقصد الوجه الّذي هو مقدّمة لقصد الإطاعة والامتثال الّذي هو من شروط صدق الامتثال ، والكلّ محلّ منع ، لأنّ الامتثال ربّما يتأتّى مع الاحتمال ، بأن يأتي بالفعل لرجاء كونه مأمورا به امتثالا لذلك الأمر المحتمل.

وقد عرفت أنّ الإتيان به على هذا الوجه مقدور ، كما أنّ امتثال التكليف به مع عدم العلم به عند احتماله والشكّ فيه مقدور.

نعم لا يصحّ أن يكون غرض الآمر من الأمر بالفعل مع عدم بيانه للمأمور امتثال أمره على هذا الوجه ، إلاّ أن يدلّه على وجوب الاحتياط عموما وهو الإتيان بكلّ ما احتمل فيه الوجوب لرجاء كونه مأمورا به في الواقع ، ومع عدمه كان أمره للغرض المذكور سفها

ص: 29


1- الغنية 2 : 105.

وعبثا فالوجه في الدليل العقلي هو ما قرّرناه.

ولكن قد يورد عليه أيضا : بأنّ قبح المؤاخذة - على ما ظهر من تقرير الدليل - مبنيّ على انحصار البيان في بيان الشارع ، ولا ريب أنّ حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل بيان عقلي ، وهو كاف في صحّة المؤاخذة على ترك الفعل المحتمل الوجوب ، بل حكم العقل بقبح المؤاخذة كان معلّقا على عدم البيان ، وهذا بيان عقلي رافع لموضوع حكم العقل ، ومعه لا حكم للعقل بقبح المؤاخذة.

ويدفعه : أنّ ذلك على تقدير تسليمه ليس بيانا للحكم المجهول ، وحكم العقل بقبح المؤاخذة على مخالفته باق بحاله. ثمّ يتطرّق المنع إلى حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل فيما نحن فيه ، إمّا لعدم بقاء احتمال الضرر بعد حكم العقل بقبح العقاب والمؤاخذة ، أو لعدم كفاية مطلق الاحتمال في حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ، بل يعتبر فيه كونه بحيث أوجب حصول الخوف في النفس ، وحكم العقل بقبح المؤاخذة يؤمننا من الضرر المحتمل ولا يحصل معه خوفه في النفس.

وبالجملة : فالضرر المحتمل إمّا العقاب على مخالفة الحكم الواقعي المجهول ، أو على مخالفة الاحتياط المحتمل وجوبه في الواقعة المجهول حكمها الواقعي. ولا سبيل إلى شيء منهما ، أمّا الأوّل : فلأنّه ممّا ينفيه العقل المستقلّ ، لحكمه بقبح المؤاخذة على ما لا طريق للمكلّف إلى معرفته.

وأمّا الثاني : فلأنّ احتمال وجوب الاحتياط إمّا لكونه طريقا إلى التخلّص عن مخالفة الواقع المؤثّرة في العقوبة والمؤاخذة ، أو لأنّ الحكم المجعول للواقعة بملاحظة الجهل بحكمها الواقعي من حيث إنّها مجهول الحكم هو وجوب الاحتياط.

وبعبارة اخرى : أنّ وجوب الاحتياط المحتمل في المقام إمّا إرشاديّ من العقل تخلّصا عن الوقوع في مهلكة العقوبة ، أو شرعي مجعول من الشارع للواقعة المجهولة الحكم.

والأوّل متفرّع على ما نفاه العقل فينتفي بارتفاع موضوعه.

والثاني يحتاج إلى بيان الشرع ، ولا يستقلّ بإدراكه العقل ، فالعقاب على مخالفته من دون بيان أيضا قبيح ، فالعقل الحاكم بقبح المؤاخذة على مخالفة الحكم الواقعي المجهول حاكم بقبح المؤاخذة على مخالفة الحكم الظاهري المجهول ، لأنّ الكلّ من واد واحد.

هذا كلّه إذا اريد بالضرر المحتمل الضرر الاخروي ، وأمّا إذا اريد به الضرر الدنيوي

ص: 30

كالهلاك وزوال العقل ، واستيلاء القساوة ، والمنع من استجابة الدعاء وما أشبه ذلك ، ممّا يترتّب على الشيء من باب الخاصيّة ولا يتغيّر بالعلم والجهل ، من المضارّ والمفاسد الّتي لا يندفع احتمالها بدفع احتمال الضرر الاخروي ، لعدم كون بيانها على الشارع.

فلابدّ في التخلّص عن حكم العقل بوجوب دفعه المانع من العمل بأصل البراءة في مورده من أحد المنعين :

إمّا منع احتماله نظرا إلى أنّ الغالب في الواجبات اشتمال فعلها على المصلحة الملزمة لا اشتمال تركها على المفسدة ، فغاية ما يترتّب على ترك الواجب الواقعي بسبب الجهالة إنّما هو فوات المصلحة وهو ليس من الوقوع في المفسدة ، خصوصا إذا كانت المصلحة مجرّد تكميل النفس الموجب لا ستحقاق المثوبات الاخرويّة من رفع الدرجة. ولا ريب أنّ احتمال فوات المصلحة ليس من احتمال المضرّة ليجب دفعه ، وهذا نظير ما يقال من أن عدم الربح في التجارة فوات منفعة وهو لا يعدّ في العرف ضررا على وجه الحقيقة ، لأنّ الضرر عبارة عن نقص في رأس المال والمنفعة زيادة فيه ، وعدمها ليس نقصا فيه. ومن فروعه أنّه لو منعه مانع عن الاسترباح في ماله بحبس أو نحوه فهل يضمن المنافع الفائتة؟ قيل : نعم لعموم أدلّة نفي الضرر ، لأنّه بتفويته المنافع عليه ادخل عليه الضرر. والحقّ لا ، لعدم صدق الضرر على فوات المنفعة فلا يندرج في العموم.

أو منع حكم العقل بوجوب دفعه لعدم كون احتماله عقلائيّا باعتبار عدم إيجابه.

وقد يدفع : بأنّه من حيث احتمال الضرر الدنيوي راجع إلى الشبهة الموضوعيّة لرجوعه إلى الشكّ في كونه من مصاديق الضرر ، فلابدّ حينئذ إمّا من منع وجوب الدفع ، وإمّا من دعوى ترخيص الشارع وإذنه فيما شكّ في كونه من مصاديق الضرر.

المسألة الثانية : في الشبهة الوجوبيّة الناشئة من إجمال النصّ

المسألة الثانية

في الشبهة الحكميّة

الوجوبيّة الناشئة من إجمال النصّ ، كالفعل الّذي دار فيه الأمر بين الوجوب والاستحباب أو الإباحة أو الكراهة لإجمال اللفظ الوارد في بيان حكمه ، كالصيغة على القول باشتراكها لغة بين الوجوب والندب ، أو إذا وقعت عقيب الحظر على القول بالوقف ، أو إذا قلنا بكونها في الندب من المجازات الراجحة المساوي احتمالها لاحتمال الحقيقة.

ص: 31

والمعروف من مذهب الأصحاب هاهنا أيضا هو العمل بالبراءة وعدم وجوب الاحتياط ، خلافا لصاحب الحدائق (1) تبعا للمحدّث الاستر آبادي (2) لمصيره إلى وجوب التوقّف والاحتياط ، ولعلّه مذهب غيرهما من الأخباريّة. ومقتضي ما تقدّم عن المحقّق في المعارج (3) من نقل الخلاف وقوعه هاهنا أيضا.

والحقّ الأوّل ، فلا فرق في العمل بأصل البراءة بين ما لا نصّ فيه وما فيه نصّ مجمل ، لأنّه من جهة إجماله وعدم اتّضاح دلالته لا يفيد شيئا ، والبيان المعتبر في صحّة التكليف المسقط للعذر المصحّح للعقاب والمؤاخذة على المخالفة غير حاصل به ، فيكون وجوده بمثابة عدمه ، فيجري فيه جميع ما تقدّم من الأدلّة ممّا عدا الإجماع ، حتّى حكم العقل بقبح التكليف بلا بيان ، والمؤاخذة على مخالفة ما لا طريق للمكلّف إلى معرفته.

ولقد أغرب صاحب الحدائق (4) هاهنا - على ما حكي - حيث إنّه بعد ما ذكر التوقّف قال : إنّ من يعتمد على أصالة البراءة يجعلها هنا مرجّحة للاستحباب ، ثمّ أورد عليه :

أوّلا : بمنع جواز الاعتماد على البراءة الأصليّة في الأحكام الشرعيّة.

وثانيا : بأنّ مرجع ذلك إلى أنّ اللّه تعالى حكم بالاستحباب لموافقة البراءة.

ومن المعلوم أنّ أحكام اللّه تعالى تابعة للمصالح والحكم الخفيّة ، ولا يمكن أن يقال : إنّ مقتضى المصلحة موافقة البراءة الأصليّة ، فإنّه رجم بالغيب وجرأة بلا ريب.

وفيه ما لا يخفى من الغفلة الواضحة عن حقيقة معنى أصالة البراءة والاعتماد عليها ، فإنّه على ما مرّ مرارا عبارة عن البناء على خلوّ ذمّة المكلّف عن التكليف المشكوك فيه ، والحكم عليه بعدم العقاب على مخالفة الحكم الواقعي المجهول على تقدير كونه الحكم الإلزامي من وجوب أو حرمة ، من غير تعرّض له بإثبات ولا بنفي ، فلا يعقل كونها مرجّحة للاستحباب إن اريد به أحد الحكمين المردّد بينهما الواقعة من حيث هي ، كيف وخلوّ ذمّة المكلّف عن الحكم الإلزامي المشكوك فيه لا ينافي كون الحكم المجعول للواقعة من حيث هي هو ذلك الحكم المشكوك فيه ، حتّى أنّا لو قلنا بعد نفي احتمال الوجوب بالاستحباب فهو ليس من مقتضى أصل البراءة ولا من مقتضى أدلّته ، ولا أنّه هو الاستحباب المحتمل المقابل للوجوب المحتمل ، بل هو استحباب آخر أثبته دليل خارج للواقعة المحتملة

ص: 32


1- الحدائق 1 :1. 70.
2- الفوائد المدنيّة : 163.
3- المعارج : 216.
4- الحدائق 1 :1. 70.

للوجوب ، بل الرجحان مطلقا على ما ستعرفه.

وأمّا ما ذكره من منع جواز الاعتماد على البراءة الأصليّة في الأحكام الشرعيّة.

ففيه أنّه إنّما لا يجوز الاعتماد عليها في إثبات الحكم الشرعي كإثبات الاستحباب استنادا إليها. وأمّا نفي الحكم الشرعي الإلزامي عن ذمّة المكلّف من غير تعرّض للواقعة من حيث هي اعتمادا عليها ، فلا ينبغي التأمّل في جوازه لدليله المعتبر الخالي عن المعارض.

وبهذا كلّه ظهر أنّ الاعتماد على أصل البراءة لا يرجع إلى القول بأنّ الشارع حكم بالاستحباب لموافقة البراءة ، وليس في العمل بها ما ينافي تبعيّة الأحكام للحكم الخفيّة والمصالح النفس الأمريّة كما لا يخفى ، ولا يرجع ذلك إلى القول بأنّ مقتضى المصلحة موافقة البراءة الأصليّة كما زعمه ، إذ لا ينافي كون مقتضى المصلحة هو الحكم الإلزامي ولكنّه لعدم وصول بيانه إلى المكلّف لم يتوجّه إليه ولم يتعلّق بذمّته ، وهذا هو معنى البراءة لا غير.

المسألة الثالثة : في الشبهة الوجوبيّة الناشئة عن تعارض النصّين

المسألة الثالثة

في الشبهة الحكميّة الوجوبيّة الناشئة عن تعارض النصّين

واعلم أنّ المراد من النصّين المتعارضين في عنوان هذه المسألة إنّما هو ما لو جامع الخبران بل الدليلان جميع شرائط الحجّية والاعتبار ، بحيث لم يكن لترك العمل بهما أو بأحدهما جهة إلاّ وجود المانع وهو التعارض ، إذ النصّ الغير الجامع لشرائط الاعتبار وجوده بمنزلة عدمه ، فيكون المسألة حينئذ ممّا لا نصّ فيه إن كان كلاهما غير جامعين ، أو ممّا تعيّن العمل بالنصّ الموجود فيه إن كان أحدهما غير جامع ، إذ الحجّة لا يعارضها غير الحجّة ، وإنّما يتأتّى التعارض على تقدير الحجّية الذاتيّة فيهما. ومع اعتبار ما ذكر في عنوان المسألة لابدّ من اعتبار كونهما بحيث لا يمكن الجمع بينهما ، ولا ترجيح أحدهما على الآخر إمّا لفقد المرجّح في الجانبين ، أو لوجوده فيهما ، وهذا هو الّذي يعبّر عنه في باب التعادل والتراجيح بتعادل الأمارتين على معنى تكافئهما. وفي ترجيح ما وافق الأصل منهما أو التخيير بينهما أو التساقط والرجوع إلى الأصل أو الوقف والرجوع إلى الأصل وجوه ، والأخباريّون على الوقف والعمل بالاحتياط ، والكلام في تحقيق هذا المقام موكول إلى محلّه ، ولا غرض لنا هاهنا إلاّ منع ما عليه الأخباريّون من وجوب الوقف في الخبرين والاحتياط في العمل ، ولا مستند لهم في ذلك إلاّ أخبار التوقّف وستعرفها مع قصور دلالتها على الوجوب.

ص: 33

فالأقوى في مسألة التعادل هو التخيير على ما سنحقّقه في محلّه ، ولئن قلنا بالتساقط أو الوقف ، فالمرجع هو أصل البراءة لعموم أدلّته.

وممّا يدلّ على التخيير في المتعارضين التوقيع المرويّ عن الاحتجاج عن الحميري ، حيث كتب إلى الحجّة عجّل اللّه فرجه « يسألني بعض الفقهاء عن المصلّي إذا قام من التشهّد الأوّل إلى الركعة الثالثة ، هل يجب عليه أن يكبّر؟ فإنّ بعض أصحابنا قال : لا يجب عليه تكبيرة ويجوز أن يقول بحول اللّه وقوّته أقوم وأقعد. الجواب في ذلك حديثان : أمّا أحدهما : فإذا انتقل عن حالة إلى اخرى فعليه التكبير وأمّا الحديث الآخر : فإنّه روي أنّه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبّر ثمّ جلس ثمّ قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير ، والتشهّد الأوّل يجري هذا المجرى ، وبأيّهما أخذت من باب التسليم كان صوابا » الخبر (1).

فإنّ الجواب بما ذكر تعليم لطريق العمل بالخبرين عند التعارض ، والنكتة في العدول عن بيان الحكم الواقعي مع إمكانه إليه في تلك الواقعة لا بدّ وأن تكون اقتضاء المصلحة ثمّة بقاء هذا الاختلاف الناشئ عن اختلاف الخبرين ، وعليه فلا حاجة إلى التزام عدم وجوب التكبير عنده في الواقع ، لتمسّ الحاجة إلى التزام كفاية قصد القربة في العمل ، دفعا لتوهّم لزوم الإغراء بالجهل من حيث تضمّنه قصد الوجوب فيما ليس بواجب على تقدير اختيار ما يدلّ من المتعارضين على الوجوب ، إذ لا مانع من كون الحكم الظاهري الناشئ من التخيير في الخبرين المتعارضين هو الوجوب. وبعد اختياره والالتزام بالوجوب يترتّب عليه جميع أحكام الوجوب ، ومورد الرواية وإن كان ما يشكّ في وجوبه على وجه الجزئيّة للعبادة ، إلاّ أنّ حكمها يجري في غيره ممّا يشكّ في وجوبه بالاستقلال بالإجماع المركّب والأولويّة القطعيّة.

المسألة الرابعة : في الشبهة الموضوعيّة الوجوبيّة

اشارة

المسألة الرابعة

في الشبهة الموضوعيّة من الشكّ في التكليف لدوران الأمر بين الوجوب وغير الحرمة ، وليعلم أنّ المراد من الشبهة الموضوعيّة في جميع مسائل هذا الباب هو الشبهة في الحكم الشرعي ، كما أنّ المراد من الشبهة الحكميّة المقابلة لها هو ذلك من غير فرق بينهما إلاّ في جهتين ، الاولى : كون الشبهة في الاولى ناشئة عن اشتباه الموضوع الخارجي كالمائع

ص: 34


1- الاحتجاج 2 : 304 ، الوسائل 4 : 967 ، الباب 13 من أبواب السجود ، ح 8.

المردّد بين كونه من أفراد الخلّ أو الخمر ولذا تسمّى موضوعيّة ، وفي الثانية من أحد الامور الثلاث المتقدّمة.

والاخرى : كون المشتبه في الثانية هو الحكم الكلّي لموضوع كلّي معلوم ، وفي الاولى هو الحكم الجزئي لموضوع جزئي بعد معلوميّة الحكم الكلّي للموضوع الكلّي.

وبالجملة : الشبهة الموضوعيّة ما لم تكن آئلة إلى الحكم الشرعي لم يكن البحث عنها من وظيفة الفقيه ، كالبحث عن خمريّة المائع الموجود في الخارج وخلّيته ، بل وظيفته البحث عن حرمة ذلك المائع وحلّيته ، وحيث كانت الشبهة هاهنا مسبّبة عن اشتباه الموضوع تسمّى موضوعيّة ، ولذا لو زال الاشتباه عن الموضوع لزالت الشبهة عن الحكم الشرعي أيضا.

ثمّ الحكم الشرعي المشتبه في الشبهة الموضوعيّة إذا كان هو الوجوب فالشبهة فيه إمّا أن يكون لدوران الأمر بينه وبين الاستحباب ، أو بينه وبين الإباحة ، أو بينه وبين الكراهة ، والحكم في الجميع واحد وهو البناء على البراءة وعدم وجوب الاحتياط ، وذلك كصوم يوم الشكّ ، وردّ سلام من تردّد بين البالغ وغيره ، أو بين المؤمن والكافر ، ومن عبّر بلفظ « سلام » واحتمل كونه غالطا أو حاذفا للخبر ، وقضاء الوالدين على الولد الأكبر إذا شكّ في أنّ عليهما فائتة أو لا؟ أو أنّ ما عليهما من الفائتة فاتت لعذر أو عن عصيان؟ وتغسيل الميّت اللقيط وتكفينه ودفنه والصلاة عليه إذا تردّد بين المسلم والكافر ، إلى غير ذلك ممّا لا يحصى كثرة.

والعمدة من دليل العمل بأصل البراءة وعدم وجوب الاحتياط هاهنا الإجماع محصّلا ومنقولا على الاستفاضة من المجتهدين والأخباريّين ، بل هو من ضروريّات الدين في الجملة ، مضافا إلى قوله عليه السلام : « وما لا يعلمون » في حديث رفع التسعة ، فإنّه إن لم يختصّ بالشبهات الموضوعيّة فلا أقلّ من عدم اختصاصه بالشبهات الحكميّة على ما بيّنّاه ، وقوله عليه السلام : « الناس في سعة ما لم يعلموا (1) » وحكم العقل بقبح التكليف بلا بيان ، وقبح العقاب على مخالفة الحكم المجهول ، فإنّ كون الحكم الكلّي ممّا بيّنه الشارع وبلغ بيانه إلى المكلّف ممّا لا يجدي نفعا في صحّة التكليف في القضيّة الشخصيّة والعقاب على مخالفته مع جهالته ، كما أنّ مجرّد الاحتمال لا يصحّح شيئا من ذلك في نظر العقل.

وبالجملة بيان الحكم المشتبه في هذه القضيّة الشخصيّة وإن لم يكن على الشارع

ص: 35


1- عوالي اللآلئ 1 : 424 ، ح 109.

إلاّ أنّه يقبح عليه العقاب على مخالفته.

وقضيّة ذلك خلوّ ذمّة المكلّف عن التكليف المشكوك فيه.

والحاصل : أنّ العقاب المتصوّر في هذا المقام إمّا أن يكون مترتّبا على مخالفة الحكم المشتبه أو على مخالفة الاحتياط ، والأوّل باطل لمكان الجهالة والاشتباه ، وكذلك الثاني لأنّه فرع على وجوب الاحتياط ووصول بيانه من الشارع إلى المكلّف ولا دليل عليه ، بل الدليل على خلافه ، لكن هذا إذا تعذّر الاستعلام ورفع الاشتباه ، وإذا أمكن وتساهل المكلّف فيه فلا يقبح العقاب على مخالفته عقلا ، لأنّ الجاهل المقصّر في موضوع الحكم الشرعي حكمه حكم الجاهل المقصّر في نفس الحكم الشرعي ، وكما أنّ الأوّل غير معذور عقلا فكذا الثاني.

التنبه على أمرين :
اشارة

وينبغي التنبيه على أمرين :

التنبيه الأوّل : بيان المراد من الوجوب المبحوث عنه في هذا المقام

أحدهما : أنّ المراد بالوجوب المبحوث عنه في مسائل هذا المقام الّتي قد عرفت جريان أصل البراءة في الجميع هو الوجوب النفسي ، لأنّ الشكّ في وجوب الشيء لغيره باعتبار كونه جزءا أو شرطا لذلك الغير راجع إلى الشكّ في المكلّف به وهو خارج عن محلّ الكلام في هذا المقام ، وإن كان المختار فيه أيضا جريان أصل البراءة على ما ستعرفه. ثمّ الوجوب النفسي أعمّ من العيني والكفائي ، ومن التعييني والتخييري ، فلو شكّ في وجوب الشيء على الكفاية أو في وجوب شيئين أو أشياء على التخيير مع القطع بعدم وجوب الأوّل عينا ولا الثاني تعيينا يعمل فيه بأصل البراءة لا غير.

وأمّا ما يقال : من أنّ الظاهر اختصاص أدلّة البراءة بصورة اختصاص الشكّ في الوجوب العيني سواء كان أصليّا أو عرضيّا كالواجب المخيّر المتعيّن لأجل الانحصار ، أمّا لو شكّ في الوجوب التخييري والإباحة فلا يجري فيه أدلّة البراءة ، لظهورها في عدم تعيين الشيء المجهول على المكلّف بحيث يلتزم به ويعاقب عليه.

ففيه : منع ظهور أدلّة البراءة في الوجوب العيني ، لأنّ الواجب المخيّر - بناء على مذهب العدليّة من أنّه كلّ واحد على البدل - وإن كان يتضمّن عدم وجوب الجميع إلاّ أنّه يتضمّن أيضا عدم جواز ترك الجميع.

فالشكّ في الوجوب التخييري والإباحة معناه الشكّ في اشتغال ذمّة المكلّف بالوجوب المتعلّق بكلّ واحد على البدل على وجه لو ترك الجميع كان معاقبا وعدمه ،

ص: 36

ولا ريب أنّه ممّا يجري فيه جميع أدلّة البراءة.

والظاهر عدم كون مراد القائل من الشكّ في الوجوب التخييري والإباحة هذا المعنى ، بل غيره وهو الشكّ في وصف الوجوب بعد الفراغ عن إثباته في شيء مردّد بين كونه واجبا بعينه أو أحد أفراد الواجب المخيّر ، بقرينة قوله - عقيب ما تقدّم - : « وفي جريان أصالة عدم الوجوب تفصيل » لأنّه إن كان الشكّ في وجوبه في ضمن كلّي مشترك بينه وبين غيره أو وجوب ذلك الغير بالخصوص فيشكل جريان أصالة عدم الوجوب ، إذ ليس هنا إلاّ وجوب واحد مردّد بين الكلّي والفرد.

فتعيّن هنا إجراء أصالة عدم سقوط ذلك الفرد المتيقّن الوجوب بفعل هذا المشكوك ، وأمّا إذا كان الشكّ في استحبابه بالخصوص جرى أصالة عدم الوجوب ، وأصالة عدم لازمه الوضعي ، وهو سقوط الواجب المعلوم إذا شكّ في إسقاطه له.

وتحقيق المقام : إنّ الشكّ قد يكون في أصل وجوب فعل على الكفاية وعدمه ، ووجوب فعلين على التخيير وعدمه ، بأن يدور الفعل في الأوّل بين كونه واجبا على الكفاية أو مباحا على معنى عدم وجوبه أصلا بعد الفراغ عن عدم وجوبه عينا ، وفي الثاني بين كونهما واجبين على التخيير أو مباحين بعد الفراغ عن عدم وجوبهما على التعيين ، وحينئذ فلا ينبغي التأمّل في جريان أصل البراءة ويكون مفاده خلوّ ذمّة المكلّف عن التكليف المشكوك فيه ، وعدم ترتّب العقاب على ترك الفعل والفعلين.

وقد يكون في وصف الوجوب المردّد بين العين والكفاية أو بين التعيين والتخيير ، وحينئذ ففي جريان أصالة البراءة وعدمه مطلقا أو في الجملة تفصيل.

أمّا في المقام الأوّل فلأنّ الوجوب الكفائي يمتاز عن العيني بسقوط الفعل بمباشرة بعض المكلّفين عن الباقين في الأوّل دون الثاني ، مع اشتراكهما في تعلّق الخطاب بالجميع.

وحينئذ فإن سبق اطّلاع المكلّف بالخطاب أو سببه على مباشرة الغير ثمّ شكّ بعد حصول مباشرة الغير في وجوب الفعل عليه أيضا وعدمه ، فلا مجرى لأصالة البراءة ، لأصالة بقاء التكليف في ذمّتة استصحابا للحالة السابقة على مباشرة الغير ، لما عرفت من أنّ مباشرة البعض إنّما توجب سقوط التكليف عن الباقين إذا كان كفائيّا دون ما إذا كان عينيّا.

وإن لم يسبق اطّلاعه بهما إلاّ بعد حصول مباشرة البعض ، فيحكم بعدم وجوبه عليه عملا بأصل البراءة ، لرجوع الشكّ حينئذ إلى كونه في التكليف ، فلا وارد على أصل البراءة بخلاف ما في صورة سبق الاطّلاع ، فإنّ الاستصحاب المذكور وارد عليه.

ص: 37

وأمّا في المقام الثاني : فقد يقال : إنّ التعيين يتضمّن ضيقا على المكلّف وأصل البراءة ينفيه لعموم أدلّته ، خصوصا قوله عليه السلام : « الناس في سعة ما لم يعلموا (1) » ولا يتفاوت الحال فيه بين ما لو فرضت مسألة الدوران في أمرين متبائنين كالظهر والجمعة ، أو في فرد وكلّي مشترك بينه وبين غيره إذا قطع تعلّق الوجوب بالأوّل وشكّ في تعلّقه به بالخصوص ، أو على أنّه أحد فردي الواجب المخيّر بينه وبين الثاني أو بين الفرد الآخر من الكلّي ، بناء على كون متعلّقه بحسب الواقع هو الكلّي لا الفرد بالخصوص.

ولكن هذا كلّه حسن لو لا أصالة الاشتغال المقتضية ليقين البراءة ، بناء على أنّ أصل البراءة إنّما يجري فيما لو كان الشكّ في التكليف ، أو آئلا إلى الشكّ في التكليف ، ومرجع دوران الأمر بين التعيين والتخيير إلى الشكّ في المكلّف به الّذي لا يؤول إلى الشكّ في التكليف ، لأنّه لو قيل بأنّ الأصل عدم تعلّق الوجوب بالظهر بالخصوص كان معارضا بأصالة عدم تعلّقه بالكلّي أو بالثاني على التخيير بينه وبين الأوّل ، فيشكّ في أنّ البراءة لا تحصل إلاّ بالظهر أو تحصل به وبالجمعة ، والقدر المتيقّن ممّا يحصل به البراءة هو الأوّل ، فهو المتعيّن عملا بالأصل المشار إليه. ويعضده استصحاب الاشتغال إن قلنا باستصحاب القدر المشترك وهو نفس الاشتغال المتيقّن ، لا بقيد كونه اشتغالا بأحدهما على التعيين ولا بقيد كونه اشتغالا بأحدهما على التخيير.

وحينئذ فلا يرد : أنّه إن اريد بالاشتغال المستصحب اشتغال الذمّة بأحدهما تخييرا أو بالكلّي ، فهو مرتفع يقينا بفعل المعادل المشكوك في تعلّق الوجوب به أو بأداء الفرد الآخر من الكلّي ، وإن اريد اشتغال الذمّة بأحدهما تعيينا فهو من أوّل الأمر غير ثابت.

وربّما يذكر من صور دوران الأمر بين التخيير والتعيين ما إذا قطع بكونه مسقطا للواجب المعلوم وشكّ في كونه واجبا مسقطا للواجب الآخر أو مباحا مسقطا لوجوبه ، نظير السفر المباح المسقط لوجوب الصوم ، وهذا الفرض إن صحّ واستقام لا يجري فيه شيء من أصلي البراءة والاشتغال ، وإن قلنا بجريان الأوّل في غير هذا الفرض لنفى احتمال التعيين ، إذ لا ضيق بوجود المسقط حتّى ينفى بأصل البراءة ، ويكفي حصوله في رفع الاشتغال وحصول البراءة وإن لم يصدق معه الامتثال ، فلا مجرى لأصالة الاشتغال.

نعم يجري بالنسبة إلى المسقط أصالة العدم ، ومفادها نفي تعلّق الطلب به ولو تخييرا.

ص: 38


1- عوالي اللآلئ 1 : 424 ، ح 109.

لكن صحّة هذا الفرض لا تخلو عن تأمّل ، بل هي عند التحقيق محلّ منع ، إذ الوجه في إسقاط المسقط المفروض إمّا كونه محصّلا للمصلحة المقصودة من الأمر بالواجب المعلوم ، فلا مناص من التزام وجوبه ليكون أحد فردي الواجب المخيّر ، عملا بالاعتبار القاضي في فعلين متشاركين في المصلحة بوجوب طلب كلّ منهما على البدل لئلاّ يلزم الترجيح من غير مرجّح ، أو كونه رافعا لموضوع ذلك الواجب المعلوم أو شرط وجوبه ، فلا يصحّ كونه أحد فردي الواجب المخيّر ، بل إطلاق المسقط عليه حينئذ مسامحة ، وإلاّ فلا سقوط ولا إسقاط في الحقيقة.

وبذلك ظهر أنّ التمثيل لهذا الفرض بالسفر المباح المسقط لوجوب الصوم وارد على خلاف التحقيق ، لأنّ وجوب الصوم مشروط بالحضر ، فموضوعه المكلّف الحاضر بوصف كونه حاضرا ، والسفر المباح رافع لهذا الموضوع ، فليس هذا من باب سقوط الواجب مع بقاء موضوعه ، بل من باب تبدّل موضوع حكم بموضوع حكم آخر ، فعدم وجوب الصوم بعد السفر إنّما هو من جهة عدم كون المسافر من موضوعه.

وربّما جعل من هذا الباب ما لو شكّ في وجوب الائتمام على من عجز عن القراءة وتعلّمها ، بناء على رجوع المسألة إلى الشكّ في كون الائتمام مستحبّا مسقطا أو واجبا مخيّرا بينه وبين الصلاة مع القراءة ، فيندفع وجوبه التخييري بالأصل يعني أصل العدم.

وفيه : أنّ الإسقاط هاهنا ممّا لا معنى له ، لسقوط القراءة في الصلاة بالعجز ، مع امتناع وقوع الصلاة مع القراءة مع العجز عنها أحد فردي الواجب المخيّر ، لانتفاء القدرة عليها ، إذ القدرة على المكلّف به وعلى أجزائه كما أنّها شرط في الوجوب التعييني فكذلك في الوجوب التخييري ، فكما لا يصحّ وقوع الوجوب التعييني على هذه الصلاة فكذا لا يصحّ وقوع الوجوب التخييري عليها ، ففرض هذا المكلّف هو الصلاة الخالية عن القراءة ، كما أنّ فرض العاجز عن القيام في الصلاة هو الصلاة بلا قيام ، والشكّ في وجوب الائتمام إنّما هو للشكّ في بدليّة قراءة الإمام عن قراءة المأموم وقيامها مقامها ، وعليه فهو من دوران الأمر بين الوجوب التعييني والاستحباب لا من التخييري والاستحباب.

وربّما أمكن القول بعدم تعذّر الصلاة مع القراءة على من يتمكّن من الائتمام ، بناء على أنّ الإمام يتحمّل قراءة المأموم فيقوم قراءته مقام قراءته ، ومن الواجب على المكلّف تحصيل القراءة لصلاته إمّا بالتعلّم أو بالائتمام ، فالائتمام أحد فردي مقدّمة الواجب ، ومن

ص: 39

المقرّر في فروع مقدّمة الواجب أنّه إذا تعذّر أحد فردي المقدّمة تعيّن الفرد الآخر ، ويصير واجبا معيّنا لا مخيّرا بينه وبين الفرد المتعذّر ، ولعلّه على ذلك مبنى القول بوجوب الائتمام في نحو المقام ، كما عن العلاّمة في الإرشاد قائلا : « والأقرب وجوب الائتمام على الامّي العاجز (1) » ولذا ذكر ولده في الإيضاح في وجهه - على ما حكي - : « أنّ وجه القرب تمكّنه من صلاة صحيحة القراءة » وقال : « ويحتمل عدمه لعموم نصّين أحدهما : الاكتفاء بما يحسن مع عدم التمكّن من التعلّم ، الثاني : ندبيّة الجماعة ، والأوّل أقوى لأنّه يقوم مقام القراءة اختيارا ، فتعيّن عند الضرورة ، لأنّ كلّ بدل اختياري يجب عينا عند تعذّر مبدله ، وقد بيّن ذلك في الاصول. ويحتمل العدم لأنّ قراءة الإمام مسقطة لوجوب القراءة عن المأموم والتعذّر أيضا مسقط ، فإذا وجد أحد المسقطين للوجوب لم يجب الآخر ، إذ التقدير أنّ كلاّ منهما سبب تامّ والمنشأ أنّ قراءة الإمام بدل أو مسقط (2) » انتهى.

ومن مشايخنا (3) من ذكر في المقام أنّ صلاة الجماعة فرد من الصلاة الواجبة فتتّصف بالوجوب لا محالة ، واتّصافها بالاستحباب من باب أفضل فردي الواجب ، فيختصّ بما إذا تمكّن المكلّف من غيره ، فإذا عجز تعيّن وخرج عن الاستحباب ، كما إذا منعه مانع آخر عن الصلاة منفردا.

لكن يمكن منع تحقّق العجز فيما نحن فيه ، فإنّه يتمكّن من الصلاة منفردا بلا قراءة ، لسقوطها عنه بالعذر كسقوطها بالائتمام ، فتعيين أحد المسقطين يحتاج إلى دليل.

التنبيه الثاني : التسامح في أدلّة السنن

أقول : الاولى أن يقال : إنّ أحد المسقطين إذا كان اضطراريّا سقط به اعتبار المسقط الاختياري ، على أنّ إطلاق المسقط عليه حينئذ مسامحة ، لاستناد السقوط في الحقيقة إلى العذر لتقدّمه على الائتمام ، فهو على تقدير حصوله لم يكن مسقطا جزما لتعذّر تحصيل الحاصل.

وثانيهما : أنّه قد عرفت بما لا مزيد عليه أنّ أصل البراءة بموضوعه ناطق بأن لا تعرّض فيه للواقع بنفي ولا إثبات ، فهو بهذا الاعتبار قاصر عن نفي كون الحكم المجعول للواقعة من حيث هي هو الوجوب ، وكما أنّه قاصر عن نفي ذلك فكذلك قاصر عن إثبات كون حكمها المجعول من هذه الحيثيّة هو الاستحباب فيما دار الأمر بينه وبين الوجوب ، أو الإباحة فيما دار الأمر بينها وبين الوجوب ، أو الكراهة فيما دار الأمر بينها وبين الوجوب ،

ص: 40


1- لم نجده في الإرشاد ولعلّه سهو من قلمه الشريف ، ولكن العبارة موجودة في القواعد 1 : 318 ، وفيه ( بالعارف ) بدل ( العاجز )
2- إيضاح الفوائد 1 : 154. 2.
3- إيضاح الفوائد 1 : 154.

وهذا واضح لا كلام فيه.

وإنّما الكلام في أنّ الواقعة إذا اخذت من حيث إنّها محتملة الوجوب ، واحتمال كونها محبوبة للشارع بعد نفي وجوبها من هذه الحيثيّة بأصل البراءة ، ونفي وجوب الاحتياط فيها بمنع نهوض أدلّته لإثبات الوجوب ، هل يثبت لها الاستحباب الشرعي ويحكم على الفعل المحتمل الوجوب بكونه - بملاحظة احتمال المحبوبيّة ومبغوضيّة الترك - مستحبّا شرعيّا؟ يمكن التزامه لوجوه :

الأوّل : حسن الاحتياط الغير البالغ حدّ اللزوم على ما يحكم به العقل ، فإنّه وإن لم يحكم بوجوبه ولم يستقلّ بإدراك الحسن الملزم فيه إلاّ أنّه يستقلّ بإدراك حسنه في الجملة ، وهو الّذي يعبّر عنه بالرجحان ، وهذا معنى ما يقال من أنّ الاحتياط حسن على كلّ حال ، بل هو إجماعيّ ، ولا ريب أنّ الإتيان بما احتمل وجوبه لاحتمال كونه مطلوبا ومحبوبا لله تعالى وكونه أو قى نفسه عن مخالفة أمره تعالى والخروج عن طاعته احتياط فينتظم قياس صغراه ، وكبراه كون الاحتياط حسنا ، فينتج أنّ الإتيان بما احتمل كونه محبوبا له تعالى حسنا ، ثمّ بحكم الملازمة بين الحسن العقلي والحكم الشرعي يثبت الاستحباب الشرعي.

الثاني : حسن الانقياد الّذي هو أيضا حكم عقلي ، فإنّ الانقياد للمولى على معنى تعريض النفس لإطاعته وموافقة أوامره ونواهيه حسن لذاته ، على معنى استحقاق فاعله المدح ، فإذا عرض ذلك للفعل المحتمل الوجوب إذا أتى به لرجاء كونه محبوبا للشارع ، كان من الوجه والاعتبار القاضي بحسن ذلك الفعل ، باعتبار كون الإتيان به على الوجه المذكور تعريضا للنفس لإطاعته تعالى فيحسن ، كما يحسن الكذب بعروض جهة النفع له ، وضرب اليتيم بعروض جهة التأديب ، ثمّ يثبت له الاستحباب الشرعي بحكم الملازمة على ما أشرنا إليه.

الثالث : ما ورد من الأخبار المستفيضة الّتي فيها الصحيح وغيره فيمن بلغه ثواب على عمل القاضية باستحبابه إذا أتى به التماس ذلك الثواب (1) ، وظاهر أنّ الإتيان بما احتمل كونه مطلوبا برجاء المطلوبيّة عمل يعمل به التماس الثواب ، اللازم للوجوب المحتمل البالغ إلينا فيتناوله الأخبار المشار إليها ، بناء على شمولها لمطلق احتمال المطلوبيّة والرجحان ،

ص: 41


1- راجع الوسائل 1 : 59 ، الباب 18 من أبواب مقدّمة العبادات.

خصوصا إذا استند إلى رواية ضعيفة كما هو القدر المتيقّن من موردها ، أو إلى فتوى الفقيه أيضا كما يندرج ذلك أيضا في موردها على الأقوى وكون دلالتها على الاستحباب من باب التأسيس على معنى مفادها حكم كبرويّ لموضوع أحرزه بلوغ المطلوبيّة والرجحان ولو لمجرّد الاحتمال الغير المستند إلى رواية ولا إلى فتوى فقيه ، لا من باب تأكيد الاستحباب البالغ إلينا الّذي يقتضيه الامور الضعيفة المذكورة ، على معنى دلالتها على اعتباره وكشفها عن أنّ الشارع قرّره وأخذه حكما للفعل المذكور الّذي يؤتى به على الوجه المذكور ، أو على تخصيص الاستدلال بها بصورة واحدة من صور المسألة ، وهو ما دار الأمر فيه بين الوجوب والاستحباب فيؤخذ بذلك الاستحباب المحتمل ونحكم بكونه حكما شرعيّا تمسّكا بها ، وإن قلنا بكون دلالتها على وجه التأكيد هذا.

ولكن الإنصاف : أنّ إثبات الاستحباب الشرعي بالطريق الأوّل في غاية الإشكال بل محلّ منع على التحقيق ، لأنّ الاحتياط في جميع موارده طريق إلى إدراك الواقع بعنوان القطع ، ففي محتمل الوجوب مثلا طريق إلى القطع بعدم مخالفة الحكم المجعول الواقعي على تقدير كونه الوجوب ، فحسنه الّذي يحكم به العقل غيريّ لا يؤثّر في حسن الفعل المحتاط به لنفسه إن لم يكن بحسب الواقع في نفسه حسنا ، فلا يؤثّر في حدوث حكم بحسب الشرع في ذلك الفعل لو لم يكن حكمه الواقعي المجعول هو الوجوب أو الاستحباب ، وإن أخذ الفعل مقيّدا بكون الإتيان به على وجه الاحتياط لمجرّد احتمال المطلوبيّة والمحبوبيّة ، حتّى أنّه لو فرضنا في موضع حكم العقل بحسنه أمره به صريحا كان كأوامر الطبيب إرشاديّا محضا ، قصد به مصلحة عدم الوقوع في مخالفة محبوب الشارع ومطلوبه ، بل لو فرضنا تأثير حسنه الغيري حسبما أدركه العقل في أمر الشارع به كان ذلك الأمر أيضا إرشاديّا لا غير ، ومن حكم الأمر الإرشادي أنّه لا يترتّب على موافقته ومخالفته أزيد ممّا يترتّب على موافقة الواقع ومخالفته.

فعلى تقدير عدم كون الفعل المحتاط به محبوبا له تعالى بحسب الواقع فالاحتياط اللاحق به لا يعطيه المحبوبيّة ، كما أنّه على تقدير كونه بحسب الواقع محبوبا له تعالى على وجه مبغوضيّة الترك فالاحتياط اللاحق به لا يوجب فيه المحبوبيّة على وجه عدم مبغوضيّة الترك ليتمّ به الاستحباب الشرعي ، الّذي هو مناط ترتّب الثواب على وجه الاستحقاق باعتبار الفعل من حيث هو.

ص: 42

ودعوى كون رجحان الاحتياط بالفعل إذا اتي به لداعي احتمال المحبوبيّة ممّا يؤثر في ترتّب الثواب عليه حتّى فيما احتمل إباحته بل كراهته أيضا ، ولا ريب أن ترتّب الثواب على الفعل من آيات محبوبيّته ، ولا نعني من الاستحباب الشرعي إلاّ هذا.

يدفعها : إنّ هذا الثواب - على تقدير تسليمه - لا يترتّب على الفعل المحتاط به ، بل إنّما يترتّب على عنوان الاحتياط بحسب النيّة ، باعتبار ما تضمّنه من نيّة الخير وقصد الحسنة ، وقد ورد في عدّة من الأخبار - بل المستفيضة منها - أنّ نيّة الحسنة تكتب حسنة (1) هذا مع إمكان منع ترتّب الثواب على تقدير عدم مصادفة الاحتياط للمحبوبيّة الواقعيّة ، لأنّ العقل لا يستقلّ بإدراكه.

لا يقال : إنّ غاية ما لزم ممّا ذكرت هو أنّ الاحتياط لا يؤثّر في الاستحباب الشرعي على أن يكون حكم الواقعة من حيث هي ، وهذا ممّا لا كلام فيه ، بل الكلام في حكمها بملاحظة الجهل بحكمها الواقعي مع احتمالها المحبوبيّة ، فلم لا يجوز تأثير الاحتياط في كون حكمها بهذا الاعتبار هو الاستحباب ، ومرجعه إلى أنّ الحكم المجعول للجاهل بحكم الواقعة من حيث إنّه جاهل المحتمل لكونه محبوبا لله تعالى هو الاستحباب.

لأنّا نقول أوّلا : إنّ التزام الاستحباب على هذا الوجه لا يحتاج إلى توسيط الاحتياط ، لا على أن يكون علّة مؤثّرة ولا على أن يكون علّة كاشفة.

وثانيا : إنّ الاحتياط قاصر عن إفادة هذا المعنى أيضا حتّى على وجه الكشف ، فكون الحكم المجعول للجاهل بحكم الواقعة المحتمل للمحبوبيّة هو الاستحباب يحتاج إلى دليل ، والاحتياط لا يصلح لذلك كما عرفت.

لا يقال : لو لا حدوث الاستحباب بطروّ الاحتياط لم يصحّ الفعل المحتاط به إذا كان من قبيل العبادات ، لاشتراط صحّة العبادة بنيّة التقرّب وقصد الامتثال ، وهو فرع الأمر الغير المحرز في المقام مطلقا.

أمّا الأمر الواقعي فلفرض عدم العلم به ، وأمّا الأمر الظاهري فلفرض عدم حدوثه بمجرّد الاحتياط ، ولعلّ الالتزام بعدم الصحّة خلاف ما استقرّت به سيرة العلماء الصالحين فتوى وعملا في جميع الأعصار والأمصار على إعادة العبادات وتكرارها لمجرّد الخروج

ص: 43


1- الوسائل : 1 : 35 - 41 الباب 6 من أبواب مقدّمة العبادات.

عن مخالفة النصوص الغير المعتبرة والأقوال الشاذّة النادرة.

لأنّا نقول : إنّ فعل العبادة بعنوان الاحتياط معناه الإتيان بها لرجاء كونها مأمورا بها امتثالا لذلك الأمر المرجوّ ، وهذا كاف في تحقّق النيّة المعتبرة في العبادة ، فإن صادفت هذه النيّة للأمر الواقعي صحّت العبادة المأتيّ بها - على معنى موافقة الأمر - وإلاّ لم يصحّ بهذا المعنى ، ولا يلزم بذلك التشريع المحرّم ، لأنّ النيّة المذكورة وإن لم تؤثّر في هذه الصورة في صحّة العبادة إلاّ أنّها تؤثّر في خروجها عن عنوان التشريع كما هو واضح ، وعلى هذا التفصيل مبنى سيرة العلماء الصلحاء في إعادة العبادات.

وبالجملة الإتيان بالفعل لداعي الأمر الاحتمالي إيجابا أو ندبا ممّا يخرجه عن عنوان التشريع ، ولذا يقال : إنّ قاعدة الاحتياط واردة على قاعدة التشريع ، وذلك حينئذ إن صادف الأمر الواقعي إيجابا أو ندبا أثّر في الصحّة بمعنى موافقة الأمر وإلاّ فلا صحّة.

بل الإنصاف أنّ إثبات الاستحباب الشرعي بالطريق الثاني أيضا مشكل ، لأنّ أقصى ما يستتبعه الانقياد إنّما هو حسن الفاعل لأنّ الانقياد وصف فيه ، والمقصود إثبات الحسن في الفعل المنقاد به لأنّه مناط الاستحباب.

وتوهّم إنّ حسن الفاعل معناه استحقاقه من حيث إنّه فاعل للمدح ، ولا يكون كذلك إلاّ لفعله فيكون الفعل حسنا ، على معنى كونه بحيث يوجب في فاعله استحقاق المدح.

يدفعه : إنّ الفعل في معنى الحسن والقبح أعمّ ممّا يكون من صفات النفس أو من أفعال الجوارح ، ولذا يقال : إنّ العلم أو الشجاعة أو السخاوة أو التوكّل حسن ، على معنى كونه بحيث يوجب في فاعله استحقاق المدح ، والانقياد أيضا من الفعل بهذا المعنى ، لأنّه عبارة عن كون العبد مع مولاه في مقام الإطاعة ، وهو منشأ للفعل المنقاد به.

وغاية ما يسلّم هنا استحقاق فاعل الانقياد من حيث إنّه فاعله المدح ، فيكون الانقياد حسنا على معنى كونه بحيث أوجب في فاعله استحقاق المدح ، ولا يلزم بذلك استحقاقه المدح أيضا من حيث إنّه فاعل للفعل المنقاد به.

ومن الفرق الواضح بين ما لو قيل : « فلان نعم الرجل لأنّه منقاد لمولاه » وما لو قيل : « فلان نعم الرجل لأنّه فعل كذا » والّذي يصدق لمجرّد الانقياد هو القضيّة الاولى ، والّذي يثمر في استحباب الفعل المنقاد به إنّما هو صدق القضيّة الثانية ، ولا ملازمة بين القضيّتين في الصدق ، فمن اعتقد كون شيء مطلوبا لمولاه على خلاف الواقع فأتى به انقيادا صدق

ص: 44

في حقّه القضيّة الاولى دون الثانية.

إلاّ أن يقال : ليس المراد بالانقياد هنا مجرّد عقد القلب لإطاعة المولى ، فإنّه عنوان آخر متضمّن للحسن الذاتي المدلول عليه بالعقل والنقل ، ومرجعه في حاصل المعنى إلى نيّة الخير وقصد الحسنة ، بل المراد به تعريض النفس في ظرف الخارج لإطاعة المولى ، وهذا أيضا حسن لذاته باستقلال من العقل ، غير أنّه لا يدخل في ظرف الخارج إلاّ في ضمن فعل خاصّ ، فإن صادف ذلك واجبا أو مندوبا واقعيّا اجتمع فيه حسنان أحدهما ما يستند إلى ذات الفعل ، والآخر ما يستند إلى هذا العنوان العامّ المجامع له. وإن صادف ما احتمل كونه واجبا أو مندوبا مع عدم كونه كذلك في الواقع حصل فيه الحسن العرضي باعتبار العنوان العامّ المجامع له.

ويدفعه : أنّ الإطاعة مفهوم منتزع عن متعلّق الأمر والنهي باعتبار ما يلحقه من الموافقة ، كما أنّ المعصية عبارة عن مفهوم منتزع عن متعلّقهما باعتبار ما يلحقه من المخالفة ، وتعريض النفس للإطاعة ليس له معنى محصّل إلاّ حمل الجوارح على فعل خاصّ لداعي الإطاعة ، وحسنه إنّما يكون باعتبار صدق عنوان الإطاعة عليه ، وهي تابعة للأمر أو النهي ، وإلاّ فلا موافقة للأمر والنهي ولا مخالفة لهما ، فلا إطاعة ولا معصية ، فتعريض النفس للإطاعة ما لم يكن أمر هنالك لا يتّصف بحسن إلاّ باعتبار المعنى النفساني وهو حسن في الفاعل ، ولا يؤثّر في حسن الفعل الّذي يحصل في ضمنه لداعي الأمر الاحتمالي إيجابا أو ندبا.

نعم يمكن أن يقال : إنّا نقطع بملاحظة بناء العرف وطريقة العقلاء وشهادة الوجدان أنّ الآتي بما احتمل كونه مطلوبا للمولى بداعي احتمال المطلوبيّة مستحقّ للمدح بل الصلة أيضا لمجرّد إتيانه به على الوجه المذكور ، وذلك يكشف عن حسن الاتيان على الوجه المذكور ، فيكشف عن محبوبيّته للمولى ، وإن لم يكن الاتيان به من حيث هو ولا على الوجه المذكور محبوبا له ، فحسن ذلك الفعل الكاشف عن المحبوبيّة ممّا لا ينبغي التأمّل ، سواء سمّي الوجه فيه احتياطا أو انقيادا أو غيرهما.

وبالجملة فالإتيان بما احتمل المطلوبيّة بداعي احتمال المطلوبيّة ممّا استقلّ العقل بإدراك حسنه ورجحانه الغير البالغ حدّ المنع من النقيض ، فيكشف عن المحبوبيّة في نظر المولى ، ولا سيّما الشارع الّذي يكثر في أوامره ما يقصد به مجرّد تكميل النفس والتقرّب

ص: 45

ليحصل بهما رفع الدرجات واستحقاق المثوبات الاخرويّة ، وإن كان الفعل معه خلوا عن سائر المصالح والخواصّ ، ولا نعني من الاستحباب الشرعي إلاّ هذا المعنى.

وإن شئت إثبات الكراهة الشرعيّة أيضا بهذه الطريقة فعمّم المقال بالقياس إلى ترك كلّ ما احتمل كون تركه مطلوبا للمولى ، فإنّ هذا الترك أيضا حيثما حصل بداعي احتمال المطلوبيّة فالعقل مستقلّ بإدراك حسنه واستحقاق فاعله المدح والصلة ، ويكشف ذلك عن محبوبيّة ذلك الترك للمولى ، وإن لم يكن تركه من حيث هو ولا على هذا الوجه محبوبا له ، ولا نعني من الكراهة إلاّ هذا المعنى.

ولا فرق في احتمال المطلوبيّة المأخوذ في عنوان هذين القسمين بين احتمال الطلب الحتمي أو غيره ، فالاستحباب يثبت بحكم العقل في كلّ ما احتمل كونه واجبا أو مندوبا من قبل المولى ولم يقم على وجوبه أو ندبه دليل معتبر. والكراهة أيضا تثبت بحكم العقل في كلّ ما احتمل كونه حراما أو مكروها من قبله ولم يقم على حرمته أو كراهته دليل معتبر ، فمناط حكم العقل إنّما هو قيام احتمال المطلوبيّة من غير فرق بين كونه مستندا إلى خبر ضعيف أو فتوى فقيه أو غيرهما من الأسباب الغير المعتبرة ، ومرجع ما بيّنّاه إلى إثبات الحسن المستتبع للاستحباب الشرعي للفعل المأتيّ به بداعي احتمال المطلوبيّة ، ويتأكّد ذلك من جهة الأولويّة فيما دار الأمر فيه بين الوجوب والاستحباب ، فإنّ المطلوبيّة فيه محقّقة لا محالة والفعل راجح البتّة ، فالإتيان به بداعي المطلوبيّة المحقّقة أولى بالحسن والمحبوبيّة الغير البالغ حدّ مبغوضيّة الترك.

وحيث ظهر أنّ موضوع الاستحباب الثابت بهذه الطريقة هو الفعل المحتمل للمطلوبيّة المأتيّ به لداعي احتمال المطلوبيّة ، علم أنّ الاستحباب لا يثبت لهذا الفعل من حيث هو ، ولا المأتي به لا لداعي احتمال المطلوبيّة.

وربّما يشكل الحال من جهة كون موضوع الاستحباب هو الفعل المأخوذ على الوجه المذكور في مقام الإفتاء ، لعدم جواز الحكم باستحباب الفعل بقول مطلق ، بأن يقال مثلا : « يستحبّ غسل الجمعة » واريد به الاستحباب الثابت بالطريقة ، المذكورة لأنّه إفتاء بالحكم الشرعي في غير موضوعه ، فلابدّ في صحّة هذا الإفتاء من التنبيه على موضوع الحكم أيضا بأن يقال : « غسل الجمعة - مثلا - ما احتمل كونه مطلوبا للشارع ، ويستحبّ فعل ما احتمل كونه مطلوبا له لداعي احتمال المطلوبيّة ، فيستحب غسل الجمعة لداعي احتمال المطلوبيّة ».

ص: 46

ولعلّ نحو هذا البيان غير معهود من المفتين في فتاويهم ، فإمّا أن يقال : بأن نحو هذا الاستحباب ممّا لا أصل له عندهم ، أو يقال : إنّ بيان موضوعه على الوجه المذكور غير لازم ، بل يجوز الاقتصار فيه على ذكر الفعل من دون التعرّض بما أخذ فيه من احتمال المطلوبيّة وكون الداعي إلى فعله احتمال المطلوبيّة.

والأوّل أظهر ، لتطرّق المنع إلى إثبات حسن الفعل بالبيان المذكور ، فإنّ استحقاق الآتي بما احتمل المطلوبيّة بداعي هذا الاحتمال عند العقل للمدح بل الثواب أيضا وإن كان مسلّما ، إلاّ أنّه لا يكشف عن حسن الفعل المأتيّ به على هذا الوجه إلاّ إذا كان استحقاقه لهما لإتيانه وهو غير واضح ، بل الظاهر أنّه يستحقّهما لكيفيّة إتيانه وهو كونه بداعي احتمال المطلوبيّة ، فإنّه ممّا يكشف عن وصف نفساني ممدوح من حسن نيّة وطيب سريرة ، ومرجعه فيما بين العبد والمولى إلى الانقياد بالمعنى المتقدّم ، وهو كون العبد مع مولاه في مقام الإطاعة ، فمرجع الحسن المذكور أيضا إلى الفاعل لا من حيث فعله بل من حيث وصفه الحسن ، وقد عرفت أنّه لا يكفي في ثبوت الاستحباب للفعل.

بل الإنصاف : أيضا أنّ إثبات الاستحباب بالطريق الثالث وهو التمسّك بروايات بلوغ الثواب مشكل لقصورها عن إفادة ذلك ، فإنّ غاية ما يستفاد منها أنّ من عمل عملا بلغ فيه ثواب طلبا لذلك الثواب حصل له ذلك الثواب ، وهذا ممّا لا قضاء له بكون ذلك على وجه الاستحقاق ، ولا بترتّبه على العمل ليكشف عن رجحانه عند اللّه سبحانه ومطلوبيّته له ، ولو لمجرّد كون الإتيان به مقرونا بطلب الثواب ، لجواز كونه من جهة أنّه نوى الخير ، أو أمل الثواب ممّن لا يخيّب أمله ، أو أنّه لا يضيّع عمل عامل ، أو نحو ذلك.

وتوهّم أنّ التعبير عن الاستحباب بالثواب كثير شائع في أخبار أهل البيت عليهم السلام ، كما أنّ التعبير عن الوجوب بالعقاب على الترك وعن الحرمة بالعقاب على الفعل كثير شائع في أخبارهم ، بل أكثر المستحبّات ثبت استحبابها بوعد الثواب من دون تصريح بالاستحباب ، نظرا إلى أنّ الثواب من آثار الاستحباب ومعلولات الفعل المستحبّ ، فيستدلّ به عليه استدلالا إنّيّا فكذا فيما نحن فيه. وإن شئت قلت : إنّ الاخبار بحصول الثواب كناية عن الاستحباب.

يدفعه : أنّه إنّما يتمّ فيما لو دلّ النصّ على ترتّب الثواب على الفعل ، كما لو قيل - مثلا - : « من عمل كذا فله من الأجر والثواب كذا وكذا » وليس كذلك الأمر فيما نحن فيه ، لظهور الأخبار المذكورة في ترتّب الثواب على رجائه والتماسه المقرون بالفعل ، لا على

ص: 47

الفعل المقرون به الرجاء والالتماس ، ولعلّه تفضّل منه تعالى لجريان عادته بأنّه لا يخيّب أمله ، أو لأنّه يستحقّه بحسن نيّته الكاشفة عن مقام الانقياد ، بلا دلالة فيها صراحة ولا ظهورا على رجحان أصل العمل ومطلوبيّته له تعالى.

نعم إنّما تدلّ على الاذن والرخصة فيه فيخرج بها عن عنوان التشريع المحرّم إذا كان عبادة ، وهذا بمجرّده لا يكفي في ثبوت الاستحباب الشرعي.

ويحتمل قويّا أن يراد من الثواب الحاصل للعامل بمجرّد رجائه والتماسه ثواب خاصّ ، أو قدر معيّن منه بالغ في عمل مستحبّ ثابت استحبابه من غير جهة تلك الأخبار ، لم يعدّ له ذلك في الواقع بل ما دونه بقرينة التعبير ب « الخير » في غير واحد من تلك الأخبار ، الظاهر فيما ثبت خيريّته مع قطع النظر عنها. واحتمال إرادة ما ثبت خيريّته بها كما احتمله بعض الفضلاء (1) بعيد عن الفهم ، فلا ينبغي الإصغاء إليه بلا شاهد. وعليه فاتّضح ظهورها فيما ذكرناه ، لا فيما زعموه من كونها لإفادة تشريع العمل البالغ فيه وجعل الاستحباب له.

ولك أن تجعل العمل في مورد هذه الأخبار ما يعمّ العمل المستحبّ المحرز استحبابه لخارج منها ، والعمل الغير المستحبّ الّذي لم يثبت له استحباب مع قطع النظر عنها بقرينة كلمة الوصل الواردة فيها المفيدة للفرد الخفيّ ، لوضوح أنّه إذا كان ما لم يقله رسول اللّه فردا خفيّا فالفرد المقابل له هو ما قاله رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، ولا يكون إلاّ في مستحبّ ثابت استحبابه من غير جهة هذه الأخبار ، وهذا ينهض قرينة قويّة على عدم كونها مسوقة لتشريع العمل البالغ فيه الثواب بطرق غير معتبرة وجعل الاستحباب له ، ولا جعل الكراهة أيضا بناء على تعميم العمل بالنسبة إلى الترك أيضا ، إمّا لأنّ الترك المقترن بالقصد والإرادة عمل حقيقة ، أو بقرينة التعبير بالشيء في بعض هذه الأخبار الشامل بعموم مفهومه للفعل والترك معا ، بل هي مسوقة للترغيب والتحريض على تحصيل المثوبات البالغة في أفعال وتروك برجائها والتماسها في الإتيان.

وتوهّم أنّ اعتبار مقارنة الرجاء والالتماس للعمل كما هو ظاهر الأخبار ممّا يأبى عدم كونها مسوقة للترغيب على أصل العمل ، وكون الثواب المرجوّ مترتّبا على مجرّد الرجاء والالتماس من دون مدخليّة للعمل فيه ، لأنّه لو صحّ ذلك فلا حاجة إلى اعتبار العمل ، بل

ص: 48


1- الفصول : 305.

وجب ترتّب الثواب على الرجاء النفساني والالتماس الغير المقارن للعمل أيضا.

يدفعه : أنّ النكتة في ذلك إمّا اعتبار اندراج المقام في عموم ( لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ ) (1) إن كان حصول الثواب على وجه التفضّل لا على وجه الاستحقاق ، أو ليشبه من جهته بالمطيعين المقرّبين حيث أتى بعمل غير مطابق على وجه الانقياد طلبا لما بلغه فيه من الثواب فيحصل له مقام القرب ، أو زيادة قرب إليه تعالى ويستحقّ به الثواب المرجوّ ، إن قلنا بكون حصوله على وجه الاستحقاق.

وأمّا الاستدلال لتتميم دلالة هذه الأخبار بأنّه إذا ثبت بهذه الأخبار ترتّب الثواب على العمل تناوله عموم الخطابات الدالّة على الأمر بالاستباق إلى الخيرات والمسارعة إلى المغفرة والجنّة ، إذ لا ريب في أنّ ما يترتّب عليه الثواب مندرج في الخيرات ، والثواب الّذي يتضمّن الخبر ترتّبه على العمل قد يكون مغفرته تعالى ، أو دخول الجنّة أو ما يستلزم دخولها من نيل ما فيها من حور أو قصور ، فيتناوله الأمر بالمسارعة.

ففيه أوّلا : ما عرفت من منع ترتّب الثواب على العمل ، بل على مقارنه بشرط العمل.

وثانيا : منع اندراجه بمجرّد ذلك في الخير ما لم يثبت رجحانه ومطلوبيّته له تعالى ، فلا يتناول عموم الأمر بالاستباق إلى الخيرات ، ولو اريد إثبات خيريّته بنفس هذا العموم يلزم المحال ، لأنّ موضوع الخطاب لا يحرز بنفس هذا الخطاب المسوق لبيان حكمه لا غير.

وبما ذكر يتوجّه المنع إلى كون هذا العمل سبب المغفرة والجنّة ، ولو سلّم فهو لا يلازم الرجحان والمطلوبيّة.

ثمّ ولو سلّم دلالة هذه الأخبار على تشريع العمل البالغ فيه الثواب وجعل الاستحباب له ، فهي غير متناولة لمحتمل الوجوب المنفيّ وجوبه التكليفي بأصل البراءة لشبهة موضوعيّة أو حكميّة عن فقد النصّ أو إجماله أو تعارض النصّين ، لاختصاصها بمحتمل الاستحباب فقط ، أو هو ومحتمل الكراهة لما تضمّنها من بلوغ الثواب ، فإنّ أقصاه التناول للاستحباب إذا بلغ بهذا اللفظ ، نظرا إلى أنّ المنساق منه في أذهان المتشرّعة إنّما هو الثواب على الفعل. فلو قيل : « يستحبّ كذا » ينساق منه عرفا كونه ما يثاب على فعله ، فالإخبار بالثواب على عمل لا يتناول الإخبار بوجوب عمل ولا الإخبار بحرمة عمل ، فإنّ

ص: 49


1- آل عمران : 195.

الوجوب والحرمة وإن كانا يتضمّنان الثواب على الفعل أو على الترك ، لكن المنساق من لفظيهما في أذهان المتشرّعة إنّما هو العقاب على الترك أو على الفعل. فلو قيل : « يجب كذا أو يحرم كذا » ينساق من الأوّل عرفا كونه ما يعاقب على تركه ومن الثاني كونه ما يعاقب على فعله ، فقوله عليه السلام : « من بلغه ثواب [ من اللّه ] على عمل (1) » مثلا المتناول لبلوغ الاستحباب أيضا ، لا يتناول ما بلغ فيه الوجوب ولا الحرمة برواية ضعيفة أو فتوى فقيه ، أو لمطلق الاحتمال إن قلنا بشمولها له ، ولذا ترى أنّ القائلين بقاعدة التسامح في أدلّة السنن من أصحابنا استنادا إلى هذه الأخبار لا يجرونها في غير الاستحباب والكراهة.

فتلخّص من جميع ما قرّرناه أنّ القول بالاستحباب الشرعي بالمعنى المصطلح في الشبهات الوجوبيّة بعد نفي الوجوب عنها بأصل البراءة غير متّجه ، لعدم مساعدة دليل عليه ، ولعلّه لذا ما هو المعهود من طريقة الفقهاء في كتب الفتوى والاستدلال من - قولهم بعد نفي الوجوب في الوقائع المشكوكة بالأصل - : أنّ الاحتياط أن لا يترك ، والأحوط كذا ، وما يؤدّى مؤدّاهما ، دون قولهم : يستحبّ ونحوه.

كما ظهر بما قرّرناه من منع دلالة أخبار البلوغ على الاستحباب ولا الكراهة أنّ قاعدة التسامح في أدلّة السنن ممّا لا أصل له ، إلاّ أن يرادوا بهما غير معنييهما المصطلح عليهما ، فقولنا : « يستحبّ كذا أو يكره كذا » إذا كان مستندهما هذه القاعدة معناه : أنّه ما يثاب على فعله أو تركه ، وإن لم يكن راجحا ولا مطلوبا له تعالى في الواقع.

وحينئذ فلا مضائقة في القول بالقاعدة لتطابق العقل والنقل عليها بهذا المعنى.

نعم ربّما يشكل الحال في بعض الفروع المتفرّعة على القول بهذه القاعدة ، مثل ارتفاع الحدث بالوضوء المستحبّ الثابت استحبابه بها ، فإنّه إذا لم يكن مأمورا به أو لم يثبت كونه مأمورا به فتأثيره في رفع الحدث مشكل وإن استحقّ فاعله الثواب ، وكذا الكلام في منع المسح ببلل المسترسل من اللحية في الوضوء إن ثبت استحباب غسله بهذه القاعدة أو بطريقة الاحتياط ، أو من جهة الانقياد اللذين قد عرفت عدم نهوضهما لإثبات الاستحباب المصطلح ، وإن قلنا بإفادتهما استحقاق الفاعل المدح بل الأجر والثواب كما تقرّر ذلك في قاعدة الانقياد على ما عرفت ، واللّه العالم بحقائق أحكامه.

ص: 50


1- الوسائل 1 : 60 الباب 18 من أبواب مقدّمة العبادات ، ح 7.

المطلب الثاني : في الشبهة الحكميّة التحريميّة

اشارة

المطلب الثاني

في الشبهة الحكميّة التحريميّة

لفقد النصّ أو إجماله ، وإنّما قيّدناها بالحكميّة لعدم دخول الموضوعيّة في الخلاف الآتي مطلقا ، ووجه التقييد بفقد النصّ أو إجماله لما أشرنا إليه من أنّ في تعارض النصّين خلافا آخر تحقيقه موكول إلى محلّه ، ولهم في الخبرين المتعارضين بالحظر والإباحة كلام آخر ، والمشهور تقديم الحاظر على المبيح ، وتحقيق ذلك أيضا موكول إلى محلّه ، والكلام في هذا المقام مقصور على ما نشأت الشبهة عن أحد الأمرين مع دوران الأمر بين التحريم وغير الوجوب ، من كراهة أو إباحة أو ندب كشرب التتن ونحوه.

وقد اختلف فيه أصحابنا ، فالمجتهدون منهم على عدم وجوب الاجتناب الّذي يعبّر عنه تارة بالبراءة واخرى بالإباحة ، ولعلّهما عبارتان عن معنى واحد ، بأن يكون الاختلاف بينهما في مجرّد اللفظ دون المعنى مفهوما ومصداقا ، بناء على أنّ البراءة عبارة عن خلوّ ذمّة المكلّف عن التكليف التحريمي المشكوك فيه ، والإباحة من المباح بمعنى ما لا حرج في فعله ، وعدم الحرج في فعل الشيء عبارة اخرى عن خلوّ الذمّة عن التكليف المشكوك فيه.

ويحتمل تغايرهما معنى أيضا بحسب المفهوم ، بأن يراد من الإباحة ما هو اللازم العقلي للبراءة بمعنى خلوّ الذمّة ، فإنّه يلزمه التسوية بين الفعل والترك عقلا ، فهما مفهومان متلازمان ، وقد عبّر بعضهم بأحد المتلازمين والآخر بالمتلازم الآخر.

ويحتمل أن يراد بالإباحة التسوية بين الفعل والترك بالمعنى الإنشائي الّذي جعله الشارع للواقعة بملاحظة الاشتباه واحتمالها التحريم ، كما ربّما يوهمه التمسّك بقوله عليه السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي (1) » بناء على أن يكون معنى « مطلق » أنّه ما لم يعلم ورود النهي فيه مخيّر فيه بين الفعل والترك ، على معنى أنّ حكمه المجعول هو التخيير بينهما.

والأخباريّون منهم على وجوب الاجتناب الّذي قد يعبّر عنه بوجوب التوقّف على معنى الوقوف عن الفعل.

واخرى بوجوب الاحتياط من الاتّقاء المرادف للاجتناب ، كما يقول الطبيب للمريض : إحتط.

وثالثة بالتحريم الظاهري ، على معنى أنّ الحكم الشرعي الّذي ظهر من الشارع لمشتبه الحكم المحتمل للحرمة بمقتضى الأدلّة الشرعيّة من أخبار الاحتياط وغيرها هو التحريم ،

ص: 51


1- الوسائل 4 : 917 ، الباب 19 من أبواب القنوت ، ح 3. الفقيه 1 : 317.

بمعنى حتميّة الترك ، فكونه ظاهريّا باعتبار ظهوره من الشارع بالأدلّة.

ورابعة التحريم الواقعي ، لا بمعنى كونه حكم الواقعة من حيث هي ، بل بمعنى كونه الحكم المجعول للمشتبه بحسب نفس الأمر ، والمفروض أنّه عبارة عن حتميّة الترك ، وكلّ حكم مجعول لموضوع حكم واقعي في موضوعه بهذا المعنى ، فهذه أيضا عبارات مختلفة لبيان معنى واحد فلا تغاير بينها بحسب المعنى.

ومنهم من زعم تغايرها معنى أيضا كالعلاّمة البهبهاني (1) ، ولذا اسند إلى الأخباريّة مذاهب أربع بحسب العبارات الأربع.

والأظهر من وجوه الفرق على تقدير تسليم التغاير المعنوي بينها أيضا هو أن يكون التوقّف عبارة عن الوقف في الوقائع المجهولة المحتملة للتحريم عن الإفتاء بالحكم الخاصّ والحكم العامّ معا - أعني الوقف عن حكم الواقعة من حيث هي - وعن حكمها من حيث الاشتباه مع التزام الاحتياط في مقام العمل ، ويكون مراد من عبّر بوجوب الاحتياط أنّ الحكم العامّ للواقعة المجعول لها بملاحظة اشتباه حكمها الواقعي وجوب الاحتياط ، ويكون مراد من عبّر بالحرمة الظاهريّة هو أنّ الحكم العامّ المجعول للواقعة بملاحظة الاشتباه وإن كان هو الإباحة إلاّ أنّه يجب الترك في الظاهر لحماية الحمى.

ومراد من عبّر بالحرمة الواقعيّة هو أنّ في ارتكاب المشبهة احتمال الوقوع في المهلكة كما هو قضيّة حديث التثليث الآتي ، ولا ريب أنّ الوقوع في المهلكة حرام فيجب ترك المشتبه مقدّمة ، فوجوب الترك على هذا البيان وإن كان مقدّميا ، إلاّ أنّه بملاحظة المقدّميّة حكم الواقعة من حيث هي فيكون تحريما واقعيّا ، فتأمّل.

وربّما يحتمل كون الاختلاف بين وجوب التوقّف ووجوب الاحتياط لاختلاف مدرك الحكم ، فمن اعتمد على الروايات الآمرة بالوقف عبّر بالأوّل ومن اعتمد على الأخبار الآمرة بالاحتياط عبّر بالثاني ، ولا يترتّب على تحقيق هذا المقام فائدة مهمّة ، فالحريّ بالمقصد هو الرجوع إلى أدلّة القولين.

أدلّة البراءة :

اشارة

فنقول :

احتجّ الأوّلون بالأدلّة الأربعة : فمن الكتاب الآيات المتقدّمة مضافة إلى قوله تعالى :

ص: 52


1- الفوائد الحائريّة : 240 ، والرسائل الاصوليّة : 349 - 350.
فمن الآيات : قوله تعالى : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ )

( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ) (1) وقوله عزّ وجلّ أيضا : ( وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ) (2) ردّا في الآية الاولى على اليهود فيما حرّموه ممّا رزقهم اللّه افتراء عليه ، بالاستدلال على إبطال الحكم بحرمة ما حرّموه بعدم وجدانه فيما اوحى إليه من المحرّمات ، فيدلّ على كفاية عدم الوجدان بعد الفحص وملاحظة الأدلّة في الحكم بعدم الحرمة.

والمناقشة فيه : بأنّ عدم وجدانه صلى اللّه عليه وآله نفس عدم الوجود ، فهو المستدلّ به لا مجرّد عدم الوجدان.

يدفعها : أنّ الأمر في نفس الأمر وإن كان كما ذكر ، إلاّ أنّ ظاهر الآية كون مناط الاستدلال هو عدم الوجدان لا غير وهو الحجّة.

ودلّت الثانية على المنع من التزام ترك شيء بمجرّد عدم وجوده فيما فصّل من المحرّمات ، ويندرج فيه التزام ترك مشتبه الحكم فيما لا نصّ فيه لمجرّد الاحتياط.

ويرد على الأوّل : أنّ إبطال الحكم بالحرمة فيما لم يوجد فيه نصّ لا يلازم تصحيح الحكم بعدم الحرمة ، لإمكان الواسطة وهو الوقف عن الحكم خصوصا وعموما في الفتوى والتزام الاحتياط في العمل. فما قيل : من أنّ في الآية إشارة إلى المطلب - مثل ما في الوافية (3) - من أنّ فيها إشعارا بأنّ إباحة الأشياء قبل الشرع مركوزة في العقل ، ليس على ما ينبغي للمنع من ذلك أيضا.

وقد يقرّر وجه الدلالة : بأنّه صلى اللّه عليه وآله ردّ على المشركين في تحريمهم بعض المباحات ، بأنّ الذّي أوحى تحريمه إليه هو أشياء مخصوصة ، فلا بدّ أن يكون باقي الأشياء ممّا لم يوح إليه تحريمه مباحا ، فيظهر منه أنّ التحريم هو المحتاج إلى الدليل الّذي هو الوحي ، وأمّا الإباحة فيكفيها عدم وحي التحريم ، وليس المراد بأصالة الإباحة إلاّ هذا.

وفيه : أنّ حصر المحرّم الّذي يوحى إليه تحريمه في الأشياء المخصوصة يدلّ على نفي التحريم عمّا عداها ، ولا يدلّ على كون مستند النفي هو مجرّد عدم وحي التحريم ، فيجوز كونه وحي عدم التحريم - أعني وحي الإباحة - فإنّ الموصول فيما اوحي عامّ يتناول المحرّم والمباح ، ومن الجائز اشتمال ما اوحي إليه صلى اللّه عليه وآله على محرّمات ومباحات ، وإذا لم يكن ممّا حرّموه من القسم الأوّل فلا جرم كان من القسم الثاني ، وهذا يفيد الإباحة الواقعيّة وهذا إنّما يتمّ فيما تردّد بين ما علم حرمته بالوحي وما علم اباحته بالوحي أيضا

ص: 53


1- الأنعام : 145.
2- الأنعام : 119.
3- الوافية : 186.

مع انحصار الأشياء فيهما ، فلا يندرج فيهما محلّ البحث.

أمّا أوّلا : فلأنّ مفاد الأصل بعد ثبوته ليس إلاّ الإباحة الظاهريّة ، وهي المجعولة للجاهل بحكم الواقعة من حيث كونه جاهلا ، مع إمكان منعها أيضا ، بل القدر المسلّم من مفاده إنّما هو خلوّ ذمّة المكلّف عن التكليف المشكوك فيه مع بقاء احتمال كون الحكم المجعول للواقعة من حيث هي هو الحرمة.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الأشياء عندنا خمسة أقسام : ما علمنا حرمته ، وما علمنا إباحته ، والمحرّم الواقعي ، والمباح الواقعي ، وما يتردّد بينهما. وظاهر أنّ ما نحن فيه من قبيل القسم الأخير ، وهو كما لا يدخل فيما علم حرمته كذلك لا يدخل فيما علم إباحته أيضا.

ويرد على الثاني : أنّ عدم وجود شيء في المحرّمات المفصّلة لمن علمها بالتفصيل دليل علمي على عدم الحرمة واقعا ، والمفروض في محلّ البحث عدم العلم بتفاصيل المحرّمات الواقعيّة ، ولا ريب أنّه لا يلزم بمجرّد عدم وجوده فيما علمناه من المحرّمات عدم الحرمة واقعا ولا ظاهرا.

أمّا الأوّل : فلجواز كونه من المحرّمات الواقعيّة الغير المعلومة لنا.

وأمّا الثاني : فلعدم كون الآية في معرضه.

ومن السنّة : ما تقدّم من الروايات في المطلب الأوّل مضافة إلى روايات اخر :

ومن السنّة : قوله عليه السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي »

منها : ما رواه الصدوق في الفقيه مرسلا واستدلّ به على جواز القنوت بالفارسيّة من قوله عليه السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي (1) » وهذا أوضح روايات وأدلّها على المطلب بل نصّ فيه عند التحقيق ، فإنّ الإطلاق في قوله عليه السلام : « مطلق » عبارة عمّا يقابل النهي ، وإنّما اطلق عليه الإطلاق لأنّه بحسب العرف عبارة عن حالة منتزعة عن الشيء باعتبار عدم ورود قيد به ، والتكليف الإلزامي بالشيء كائنا ما كان قيد فيه ، فالإطلاق المقابل للنهي عبارة عن خلوّ الشيء عن قيد التكليف الإلزامي بالترك ، أو عن الرخصة في فعله وتركه لتضمّنها الخلوّ عن القيد المذكور.

فقوله عليه السلام : « مطلق » يراد به أنّه خال عن هذا القيد ، أو أنّه مرخّص في فعله وتركه. ومبنى الاحتمالين على كون قضيّة الرواية إخبارا فيحمل على إرادة الأوّل ، أو إنشاء وهو الأظهر فيحمل على إرادة الثاني.

ص: 54


1- الفقيه 1 : 317.

وورود النهي إمّا عبارة عن جعل المنع في الواقع وإن لم يصدر من الشارع بيانه ، أو عن صدوره منه بعد الجعل وإن لم يبلغ إلى المكلّف ، أو عن بلوغه إليه بعد صدوره من الشارع وهو الظاهر ، لظهور الورود في متفاهم العرف في صدور الحكم على وجه اطّلع عليه المكلف وعلم به ، فمعنى الرواية حينئذ كون كلّ شيء خاليا عن التكليف الإلزامي بالترك ، أو مرخّصا في فعله وتركه ما لم يبلغ المنع الشرعي منه إلى المكلّف ، وإن كان حكمه المجعول هو المنع ، ولا يستقيم ذلك مع فرض مجعوليّة المنع إلاّ على تقدير كون المراد من الخلوّ أو الرخصة المتضمّنة له ما هو بحسب ذمّة المكلّف ، وهذا بعينه مؤدّى الأصل. فالرواية منطبقة عليه في مشتبه الحكم بالشبهة الحكميّة التحريميّة ، بل ظاهر الإطلاق عدم وجوب الاحتياط ولا التوقّف أيضا ، إذ لا إطلاق مع وجوبهما.

وبما قرّرناه ظهر أنّ النهي يراد به النهي العلمي ، وبذلك مضافا إلى ما عرفت من ظهور الإطلاق في نفي مطلق التكليف حتّى وجوب الاحتياط سقط ما لعلّه يقال : من أنّ ظاهر النهي هو النهي الواقعي ، ولا ريب أن وروده في الواقعة بحسب الواقع محتمل فلا يتّجه الحكم بالإطلاق إلاّ بعد نفي ذلك الاحتمال بالأصل ، فلا يتمّ الاستدلال بالرواية على أصل البراءة إلاّ بانضمام هذا الأصل إليها.

وهذا ممّا يشبه بكونه أكلا بالقفاء ، لكفاية هذا الأصل بانفراده عن إثبات أصل البراءة بالنظر في الرواية ، فإنّ النهي الواقعي إن اريد بوروده توجّهه إلى المكلّف في الواقع فاحتماله يندفع بما يتبادر من حاقّ الإطلاق الظاهر فيه بحسب ما في ذمّة المكلّف ، القاضي بخلوّها عن مطلق التكليف الإلزامي بالترك خصوصا وعموما ، فلا حاجة في دفعه إلى انضمام الأصل إلى الرواية ، مع أنّ النهي الواقعي إن اريد به ما يقابل النهي الظاهري فاحتمال وروده في الواقعة غير مانع من التمسّك بالأصل فضلا عن الاستدلال عليه بالرواية ، لما عرفت من عدم تعرّضه للواقع إثباتا ولا نفيا ، ولو اريد به ما يقابل النهي العلمي فدعوى ظهوره ممنوعة ، بل الحمل عليه توجب فساد معنى الرواية إذا اريد من الإطلاق إطلاقه قبل الجعل ، لرجوع المعنى حينئذ إلى أنّ كلّ شيء لا يمنع منه إلى أن يمنع منه في الواقع ، وهذا من باب توضيح الواضحات ، لأنّ الأشياء قبل جعل الأحكام لها غير ممنوع منها بالبداهة ، فلا حاجة إلى التنبيه عليه أصلا. فلا بدّ وأن يكون المراد من ورود النهي صدور الحكم وبلوغه إلى المكلّف ، ومن عدم المنع عدمه بحسب ما في ذمّة المكلّف ،

ص: 55

لئلاّ ينافي ثبوت المنع بحسب ما في الواقعة من حيث هي.

منها : قوله عليه السلام : « أيّما امرئ ركب شيئا بجهالة فلا شيء عليه »

ومنها : قوله عليه السلام : « أيّما امرئ ركب شيئا بجهالة فلا شيء عليه (1) » فإنّ من ارتكب شيئا من المشتبه لجهله بحكمه الواقعي فقد ركب شيئا بجهالة ، فلا شيء عليه لعموم الرواية.

ولكنّ الإنصاف : أنّ نهوض هذه الرواية على ما نحن فيه مشكل ، لظهور الجهالة في الجهل الساذج الّذي لا يشوبه التفات وهو الغفلة ، كما لو شرب الخمر غفلة عن خمريّته أو حرمته مثلا ، فالرواية مسوقة لإعطاء حكم للغافل ، فلا يندرج فيه الجهل مع الالتفات كصورة الشكّ والتردّد ، هذا مع إشكال آخر في شمولها لمشتبه الحكم لظهورها في الجهل بالموضوع الخارجي.

وربّما ادّعي ظهور « الجهالة » في الرواية ونظائرها كما في قولك : « فلان عمل كذا بجهالة » في الجهل المركّب وهو اعتقاد الصواب فيما ليس بصواب في الواقع ، فلا يعمّ صورة التردّد في كونه صوابا أو خطأ ، والأوّل أظهر.

وهكذا يجاب عن كلّ رواية علّق فيها الحكم بالجهالة ، مثل صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج عن أبي إبراهيم عليه السلام : « قال : سألته عن الرجل يتزوّج المرأة في عدّتها بجهالة ، أهي ممّن لا تحلّ له أبدا؟ فقال عليه السلام : لا ، أمّا إذا كان بجهالة فليتزوّجها بعد ما تنقضي عدّتها ، وقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك ، فقلت : بأيّ الجهالتين أعذر ، بجهالة أن يعلم أنّ ذلك محرّم عليه أم بجهالة أنّها في عدّة؟ فقال : إحدى الجهالتين أهون من الاخرى ، الجهالة بأنّ اللّه قد حرّم عليه ذلك ، وذلك لأنّه لا يقدر على الاحتياط معها ، فقلت : هو في الاخرى معذور؟ قال : نعم إذا انقضت عدّتها فهو معذور في أن يتزوّجها (2) وفيها قرينة اخرى على إرادة صورة الجهل الساذج والغفلة ، وهو التعليل بعدم القدرة على الاحتياط ، وإن كان ربّما يشكل الحال في تفكيكه عليه السلام في ذلك بين جاهل الحرمة وجاهل العدّة ، لقضاء تخصيصه بالأوّل بقدرة الثاني على الاحتياط وهذا لا يجامع الغفلة.

منها : قوله عليه السلام « كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا ... »

ومنها : صحيحة عبد اللّه بن سنان المرويّة عن نوادر المعيشة من الكافي عن الصادق عليه السلام قال : « كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام فهو لك أبدا حتّى تعرف الحرام بعينه فتدعه (3) ».

ص: 56


1- الوسائل 5 : 344 الباب 30 من أبواب الخلل في الصلاة ، الحديث الأوّل و 9 : 125 الباب 45 من أبواب تروك الإحرام ، ح 3 و 9 : 289 الباب 8 من أبواب بقية كفّارات الإحرام ، ح 3 ، مع تفاوت يسير.
2- الوسائل 14 : 345 ، الباب 17 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، ح 4.
3- الوسائل 12 : 59 الباب 4 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأوّل.

وعن الشهيد في الذكرى (1) الاستدلال بها على المطلب ، واختلفت الأنظار في اختصاصها بشبهة الموضوع كما جزم به بعض الأعلام (2) وعمومها لشبهة الحكم أيضا كما زعمه السيّد صدر الدين في شرحه للوافية ، بناء على أحد محتملات الرواية قائلا : قوله عليه السلام : « كلّ شيء فيه حلال وحرام » يحتمل أحد معان :

الأوّل : إنّ كلّ فعل من جملة الأفعال الّتي تتّصف بالحلّ والحرمة ، وكذا كلّ عين ممّا يتعلّق به فعل المكلّف ويتّصف بالحلّ والحرمة إذا لم يعلم الحكم الخاصّ به من الحلّ أو الحرمة فهو لك حلال ، فخرج ما لا يتّصف بهما جميعا من الأفعال الاضطراريّة ، والأعيان الّتي لا يتعلّق بها فعل المكلّف ، وما علم أنّه حلال لا حرام فيه ، أو حرام لا حلال فيه ، وليس الغرض من ذكر هذا الوصف مجرّد الاحتراز ، بل هو مع بيان ما فيه الاشتباه.

فصار الحاصل : أنّ ما اشتبه حكمه وكان محتملا لأن يكون حلالا ولأن يكون حراما فهو حلال ، سواء علم حكم لكلّي فوقه أو تحته ، بحيث لو فرض العلم باندراجه تحته أو تحقّقه في ضمنه لعلم حكمه أيضا أم لا ... إلى آخر ما ذكره (3).

ومراده من الكلّي المعلوم حكمه الّذي فوق المشتبه كالمذكّى بالقياس إلى اللحم المشترى من يد مجهول الحال المشكوك في حلّه وحرمته ، وهو بحيث لو علم اندراجه في المذكّى لعلم حكمه.

ومن الكلّي الّذي تحته ، الفقّاع بالقياس إلى المسكر المشكوك في تحقّقه في ضمن الفقّاع المعلوم حرمته وعدمه ، المشكوك من جهته في حلّه وحرمته ، مع العلم بحرمة الفقّاع الّذي هو كلّي تحته على تقدير كونه كالخمر مسكرا ، فإنّه بحيث لو علم تحقّق المسكر في ضمنه لعلم حكم المسكر أيضا وإلاّ فلا.

وممّا لا يعلم حكم كلّي فوقه ولا تحته ما هو مثل شرب التتن ولحم الحمير وغيرهما من المشتبه بالشبهة الحكميّة.

وقضيّة الفرض شمول حكم الرواية لمشتبه الموضوع ومشتبه الحكم ، والكلام في صحّة حمل الرواية عليه وسقمه مبنيّ على النظر في ألفاظ الرواية ، لتشخيص ما يظهر منها عن غيره.

فنقول : إنّ « الشيء » مفهوم عامّ يشمل بعموم مفهومه للموضوع الخارجي والعنوان الكلّي ، والظرفيّة في قوله عليه السلام : « فيه » تفيد الاشتمال ، وهو حسبما يتصوّر في مورد الرواية

ص: 57


1- الذكرى 1 : 52.
2- القوانين 2 : 17.
3- شرح الوافية ( مخطوط ) : 247 - 248 ، نقلا بالمضمون.

يحتمل معاني ثلاث :

الأوّل : الاشتمال الفعلي الحسّي الخارجي كاشتمال الكلّ على أجزائه ، فيكون التقدير حينئذ كلّ مركّب مشتمل على جزئين حلال وحرام بواسطة اختلاط الحرام بالحلال ، فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه.

الثاني : الاشتمال الفعلي المعنوي العقلي كاشتمال الكلّي على أفراده ، فيكون التقدير حينئذ : كلّ كلّي مشتمل على فرد حلال وفرد حرام فهو لك حلال إلى أن تعرف الحرام منه بعينه.

الثالث : كون المراد به الاشتمال الشأني الاحتمالي ، وذلك كما في المحتمل للحلّ والحرمة ، فإنّه بحسب الاحتمالين صالح للاتّصاف بكلّ منهما ، فيكون مشتملا على الحلال والحرام اشتمالا شأنيّا ، وبناء المعنى المذكور على تنزيل الظرفيّة على الاشتمال الشأني بدليل قوله : « فصار الحاصل أنّ ما اشتبه حكمه وكان محتملا لأن يكون حلالا ولأن يكون حراما » فإنّه يعطي جعل الشيء عبارة عمّا اشتبه حكمه ، وهذا أردأ الوجوه وأضعفها.

فأوّل ما يرد على الحمل المذكور : أنّه خلاف ظاهر الظرفيّة ، لظهورها في الاشتمال الفعلي على الحلال والحرام وهذا مشتمل على احتمالي الحلّ والحرمة مع كونه في الواقع إمّا حلالا أو حراما على وجه الانفصال الحقيقي ، هذا مع قضائه بارتكاب خلاف ظاهر آخر في لفظي « الحلال » و « الحرام » لأنّهما عبارتان عن الذات الموصوفة بالحلّ والحرمة ، والحمل المذكور يستلزم إرادة نفس الحلّ والحرمة على حدّ إطلاق المشتقّ على المصدر.

وثاني ما يرد عليه : أنّه لا يلائم الحرام بعينه في قوله : « حتّى تعرف الحرام بعينه » ، بل لا يلائمه وكلمة « منه » على ما في بعض النسخ لا لفظا ولا معنى.

أمّا الأوّل : فلأنّ المناسب له إنّما هو التعبير بحرمته لا الحرام منه.

وأمّا الثاني : فلأنّه يدلّ على أنّ الحرام أمر محقّق في الشيء ، موجود فيه بحسب الواقع ، مغاير له بحسب المفهوم والعنوان مغايرة الجزء للكلّ أو الجزئي للكلّي ، كما يساعد عليه أيضا ظاهر قوله عليه السلام : « بعينه » وقضيّة الفرض وجود الحرمة فيه على سبيل الاحتمال والترديد ، لا وجود الحرام فيه على سبيل التحقيق.

وثالث ما يرد عليه : أنّه يوجب عراء الوصف عن الفائدة ، لأنّ محصّل ما ذكره في بيان فائدته من أنّه لبيان ما فيه الاشتباه مع الاحتراز عمّا لا يتّصف بشيء من الحلّيّة والحرمة ، وعمّا لا يتّصف إلاّ بأحدهما ، هو أنّه لبيان موضوع الحلّيّة المستفادة من قوله عليه السلام :

ص: 58

« فهو حلال » وهو المشتبه مع إخراج المذكورات عن هذا الحكم ، ليكون مفاد الرواية إثبات الحلّيّة للمشتبه ونفيه عمّا لا اشتباه فيه كالمذكورات.

وهذه الفائدة حاصلة بدونه ، بملاحظة الغاية في قوله عليه السلام : « حتّى يعرف » ، لوجوب مغايرة الغاية للمغيّا ، وإذا كانت الغاية هو صورة معرفة الحرمة فلا جرم يكون المغيّا هو صورة عدم معرفة الحرمة ، ولا تكون إلاّ صورة الاشتباه ، فالغاية بنفسها تفيد أنّ قضيّة الرواية مسوقة لبيان حكم للمشتبه مع خروج المذكورات بذلك أيضا عن هذا الحكم ، ولا حاجة معه إلى اعتبار قيد آخر لمراعاة هذه الفائدة ، كما يعلم ذلك بمراجعة رواية اخرى عن الصادق عليه السلام : « كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، أو المملوك عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه ، أو خدع فبيع أو قهر ، أو إمرأة تحتك وهي اختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك أو يقوم به البيّنة (1) ».

فلا بدّ وأن يتضمّن ذكر الوصف فائدة اخرى وهو التعرّض لبيان منشأ الاشتباه كما تنبّه عليه بعض مشايخنا (2) ، وأنّه اندراج المورد تحت كلّي ذي أفراد بعضها حلال وبعضها حرام ، ولا يدرى أنّ المورد من أيّ القسمين.

وقضيّة هذا كلّه تعيّن حمل الرواية على الوجه الثاني من الوجوه المحتملة في الظرفيّة ، فيكون « الشيء » بقرينة الوصف عبارة عمّا ينقسم إلى الحلال والحرام وغيرهما من الأفراد المشتبهة ، فيكون حاصل مفاد الرواية : أنّ الأصل في الأشياء المنقسمة إلى الحلال والحرام المشتملة عليهما عندنا أو في الواقع هو الحلّيّة بعنوانها الكلّي المتحقّق في جميع أفراده إلى أن يعرف ما هو بعينه حرام من هذه الأفراد ، ويندرج فيه المشتبه ويعلم أنّ حكمه ما دام الاشتباه هو الحلّيّة لا غير.

وأمّا الوجه الأوّل من الوجوه المذكورة وإن كان الحمل عليه لا يتضمّن محذورا ولا تكلّفا ، إلاّ أنّ الظاهر المتبادر من قوله : « كلّ شيء فيه حلال وحرام » هو الكلّي المنقسم إليهما لا الكلّ المتضمّن لهما ، هذا مع ما قيل من ظهوره في كون الشيء واحدا بالأصالة ، والمركّب وإن صحّ إطلاق الواحد عليه إلاّ أنّه واحد بالاعتبار ، فحمل ما ظاهره الواحد بالأصالة على الواحد بالاعتبار غير جائز إلاّ لقرينة.

ص: 59


1- الكافي 5 : 313 ، ح 40 ، التهذيب 7 : 226 ، ح 989.
2- فرائد الاصول 2 : 48.

ومن الأعلام من أورد على كلام الفاضل المتقدّم في تنزيله الرواية على المعنى الأخير بوجوه :

الأوّل : أنّه يوجب استعمال اللفظ في قوله : « فيه حلال وحرام » في معنيين : قابليّة الاتّصاف بأحدهما ليخرج به ما لا يقبل الاتّصاف بشيء منهما ، وفعليّة الاتّصاف بهما على معنى انقسام الشيء إليهما ، ليخرج به ما لا يتّصف فعلا بهما أو بأحدهما.

الثاني : أنّه يستلزم استعمال آخر للفظ في قوله : « تعرف الحرام » في معنيين : المعرفة الحاصلة بالدليل بالقياس إلى الشبهة في الحكم ، والمعرفة الحاصلة من البيّنة وقول العدل وقول أهل الخبرة وغيرها من الأمارات الشرعيّة المشخّصة للموضوعات.

الثالث : أنّه لا معنى لإخراج المذكورات ، لأنّ قوله عليه السلام : « فهو لك حلال » أنّ مجهوله لك حلال ولا جهالة فيها.

الرابع : أنّه لا معنى لاعتبار المفهوم المخالف في إخراج المذكورات إلاّ من باب السالبة المنتفية الموضوع ، لكون موضوع الحكم هو المجهول المنتفي في المذكورات وهي غير مفيدة (1).

وفي الجميع ما لا يخفى ، أمّا الأوّل : فلمنع ابتناء إخراج المذكورات على إرادة قابليّة الاتّصاف وفعليّة الاتّصاف معا من القيد الّذي هو وصف للشيء ، بل يكفي في إخراج الجميع اعتبار قابليّة الاتّصاف الّتي هي مفاد الاشتمال الشأني المراد من الظرفيّة القاضي بإرادة ما اشتبه حكمه من الشيء ، فإنّه لاحتمال كونه حلالا واحتمال كونه حراما من شأنه الاتّصاف بهما ، وهو عبارة اخرى لكونه قابلا للاتّصاف بكلّ منهما ، والحكم المستفاد من قوله : « هو لك حلال » معلّق على وصف الاشتباه ، فيدلّ التعليق بضابطة مفهوم الوصف على انتفاء ذلك الحكم عمّا انتفى فيه الاشتباه ، إمّا لعدم إمكان اتّصافه بشيء منهما أو لعدم اتّصافه بهما جميعا وإن أمكن ، أو لعدم اتّصافه إلاّ بأحدهما ، سواء كان الاشتباه في موضوع المنطوق لشبهة نفس الحكم الشرعي أو لشبهة موضوعه ، فالمفهوم عامّ لجميع المذكورات ، كما أنّ المنطوق عامّ للشبهة في الحكم والشبهة في الموضوع معا.

وأمّا الثاني : فلمنع استلزام الحمل المذكور لاستعمال قوله : « تعرف » في معرفتين ، لجواز إرادة القدر الجامع بينهما ، وهو المعرفة المطلقة لا بقيد حصولها بالدليل ولا بالبيّنة ونحوها.

غاية الأمر أنّها باعتبار الخارج تحصل تارة بالدليل واخرى بالبيّنة ، وهذا لا يقضي

ص: 60


1- القوانين 2 : 19.

بوجوب أخذها كذلك في لحاظ الاستعمال أيضا ، وهذا واضح.

وأمّا الثالث : فلعود الضمير في قوله : « هو لك حلال » إلى الشيء المراد به ما اشتبه حكمه ، لا إلى المجهول بطريق الاستخدام ، وخروج المذكورات إنّما هو لأخذ وصف الاشتباه في الشيء بحيث لو لاه لم تكن خارجة ، لكون الجميع من الشيء كما هو الضابط في كلّ قيد احترازي ، مع أنّه لو سلّم عود الضمير إلى المجهول من باب الاستخدام لكان خروج المذكورات مستندا إلى ذلك الوصف بحيث لولاه لم تكن خارجة ، فلا معنى لمنع إخراجها تعليلا بأن لا جهالة فيها ، فإنّ القيد الاحترازي من شأنه إخراج ما انتفى عنه ذلك القيد.

وأمّا الرابع : فلأنّ خروج المذكورات وإن استند إلى اعتبار مفهوم المخالفة ، إلاّ أنّ السالبة اللازمة له ليست منتفية الموضوع بالمصطلح المنطقي ، وهو كون السلب باعتبار انتفاء ذات الموضوع ، لتحقّق الذات في جميع المذكورات وهي الّتي عبّر عنها في الرواية بالشيء ، ولذا لو لا تقييده باشتباه الحكم أو جهالته لدخلت فيه وشملها الحكم المستفاد من الرواية ، فالسلب حينئذ بعد التقييد المذكور إنّما هو باعتبار انتفاء وصف موضوع المنطوق ، فالقضيّة المفهوميّة من السالبة المتحقّقة الموضوع؟ فالسلب باعتبار انتفاء المحمول عن ذات الموضوع المتحقّقة في القضيّة ، وتوهّم كونها غير مفيدة فاسد ، لأنّها بنفسها فائدة القيد الوارد في الكلام ولا يعقل لها مع ذلك فائدة اخرى.

نعم إنّما يلزم السالبة المنتفية الموضوع على تقدير اعتبار مفهوم المخالفة في نحو « إن رزقت ولدا فاختنه ، وإن رزقت مالا فأنفقه » وغيرهما ، ممّا يرجع القيد الوارد في الكلام إلى كونه لبيان الموضوع لا لبيان انتفاء الحكم عند انتفاء القيد ، فليتدبّر.

ومن الفضلاء من انتصر القول بتعميم الرواية بإمكان أن يقال : إنّا إذا ضممنا عنوان مشتبه إلى عنوان معلوم الحرمة وعنوان معلوم الحلّية صدق على المجموع أنّه شيء فيه حلال وحرام ، فيثبت الحلّية للمشتبه الحكم لعدم العلم بحرمته ، وكذا لو جمعنا بين مصاديق الثلاثة فينسحب الحكم حينئذ من المصداق إلى العنوان ، ثمّ زيّفه بقوله : « وفي كلا الوجهين تعسّف ، فإنّ المتبادر من الرواية حلّية المشتبه من معلوم أحد النوعين بالآخر في الشيء المشتمل عليها » إنتهى (1).

وهذا في محلّه ، فإنّ الفرض إنّما يجدي في اندراج المفروض في الرواية إذا اريد من كلّ

ص: 61


1- الفصول : 353.

شيء الكلّ الاعتباري ، لا الكلّي الحقيقي المنقسم إلى النوعين ، وقد عرفت أنّه خلاف الظاهر المتبادر من اللفظ بحسب متفاهم العرف ، كما لا يخفى على العارف بمتفاهمات العرف.

وأمّا الإجماع : فعلى ما تقدّم من إمكان تقريره تارة : بإجماع العلماء كافّة حتّى الأخبارييّن على أنّ الحكم فيما لم يرد دليل على تحريمه من حيث هو ولا من حيث إنّه مجهول الحكم هو البراءة ، وعدم العقاب والمؤاخذة على الفعل.

واخرى : بالإجماع على أنّ الحكم فيما لم يرد دليل على تحريمه من حيث هو هو البراءة ، وجواز الارتكاب وعدم وجوب الاحتياط ولا غيره.

وهذا أيضا يمكن تقريره تارة : بالإجماع المحصّل من ملاحظة فتاوى الفقهاء في المسائل الفرعيّة.

واخرى : بالإجماعات المنقولة في كلام الأصحاب الّتي منها ما تقدّم عن الصدوق من قوله : « اعتقادنا أنّ الأشياء على الإباحة حتّى يرد النهي (1) » وربّما يظهر منه في تعبيره بمثل هذه العبارة كونه من دين الإماميّة.

وثالثة : بالإجماع العملي - المعبّر عنه بالسيرة المعلومة - من تناول أهل الشرع كافّة قديما وحديثا للمأكولات والمشروبات وغيرها ممّا يندرج في العناوين المحتملة للتحريم الغير المنصوص على تحريمها بالخصوص من بعد الفحص من غير نكير ولا تشنيع من أحد ، فإنّه ممّا يكشف عن أنّ المركوز في أذهان أهل الشرع بل وسائر الشرائع كون الإباحة وجواز الارتكاب وعدم وجوب شيء من الاحتياط ولا الوقف هو الأصل في الأشياء ، بحيث لا يحتاج ذلك إلى دليل ، وإنّما المحتاج إليه هو التحريم خصوصا أو عموما ، وهذه هي الطريقة المستقيمة المستمرّة من زمان صاحب الشريعة إلى يومنا هذا الكاشفة عن كونها من الاصول المتلقّاة منه صلوات اللّه عليه ، وهذا هو معنى كلام المحقّق - على ما حكي - « من أنّ أهل الشرائع كافّة لا يخطئون من بادر إلى تناول شيء من المشتبهات ، سواء علم الإذن فيها من الشرع أم لم يعلم ، ولا يوجبون عليه عند تناول شيء من المأكول أن يعلم التنصيص على إباحته ، ويعذّرونه في كثير من المحرّمات إذا تناولها من غير علم ولو كانت محظورة لأسرعوا إلى تخطئته حتّى يعلم الإذن » (2) انتهى.

لكن يشكل هذا التقرير : بمنع كون العمل المذكور من أهل الشرع كاشفا عن كونه

ص: 62


1- الاعتقادات ، للصدوق - المطبوع ضمن مصنّفات الشيخ المفيد 5 : 114.
2- المعارج : 205 - 206.

طريقة مأخوذة من صاحب الشريعة ، لجواز كون مبناها على استقلال العقل بقبح المؤاخذة والعقاب على ارتكاب ما لم يرد لبيان تحريمه دليل بالخصوص.

تقرير الإجماع على البراءة في الشبهات الحكميّة التحريميّة

وأمّا من العقل : فهو أيضا على ما تقدّم من تقريره ، وجميع ما يتعلّق به بما لا مزيد عليه على وجه لا حاجة إلى إعادته هنا.

وقد يستدلّ أيضا بوجوه اخر ، كلزوم العسر والحرج لو وجب الاحتياط في الوقائع المشكوكة الحكم ، وتعذّر الاحتياط ، وعدم التمكّن من الاجتناب واستصحاب البراءة المتيقّنة حال الصغر أو الجنون.

دليل العقل على البراءة في الشبهات الحكميّة التحريميّة

وفي الكلّ من الضعف ما لا يخفى ، فإنّ العسر بالاحتياط والحرج في الاجتناب إنّما يلزم على تقدير كثرة الوقائع المشتبهة المحتملة للتحريم لجهالة أصل الحكم الشرعي ، وهي في الكثرة ليست بهذه المثابة ، بل هي بعد البناء على انفتاح باب الظنون المطلقة مضافة إلى الظنون الخاصّة في غاية القلّة ، فلا يلزم بالتزام الاحتياط وإلزام الاجتناب فيها عسر ولا حرج ، وتعدّد الاحتياط إنّما يسلّم في صورة الدوران بين التحريم والوجوب ، والكلام في المقام إنّما هو في دوران الأمر بين التحريم وغير الوجوب. واستصحاب البراءة الأصليّة الثابتة في حال الصغر أو الجنون غير نافع في إثبات أصل البراءة مطلقا ، إمّا لأنّ البراءة في حقّ الصبيّ والمجنون معناها خلوّ الواقعة من حيث هي عن الحكم الإلزامي رأسا ، بناء على أنّ أفعال الصبيان والمجانين كأفعال البهائم خالية عن حكم شرعي مجعول حتّى الإباحة ، وقد انتقض ذلك فيما نحن فيه باليقين بأنّ للواقعة حكما مجعولا مردّد بين الحرمة والإباحة ، أو الكراهة أو غيرها كما هو مفروض المسألة ، ولا سيّما مع ملاحظة ما ثبت بالأخبار المتواترة من أنّ لله تعالى في كلّ شيء حكما مجعولا ، وأنّه مخزون عند أهل البيت عليهم السلام ، أو لأنّ حالة الصغر وحالة الجنون مأخوذة في الصبيّ والمجنون على وجه الموضوعيّة لنفي التكاليف والأحكام الإلزاميّة.

الوجوه الاخر المستدلّ بها على البراءة في الشبهات الحكميّة التحريميّة

وقد تبدّل ذلك الموضوع فيما نحن فيه ، ومعه لا معنى لاستصحاب البراءة الثابتة في حالة الصغر والجنون.

ولو قلنا بمجعوليّة الأحكام في الوقائع المضافة إلى الصبيّ والمجنون أخذا بمقتضى عموم الخطابات ، بناء على كون الصغر والجنون وغيرهما مانعة عن تنجّز التكليف وتوجّه الخطاب على وجه أثّر في اشتغال الذمّة ، سقط الوجه الأوّل وبقي الباقي.

ص: 63

أدلّة الأخباريّون على الاحتياط في الشبهات الحكميّة التحريميّة

اشارة

احتجّ الأخباريّون بالكتاب والسنّة والعقل ، فمن الكتاب طوائف ثلاث :

الآيات :

منها : الآيات الناهية عن القول على اللّه بما لا يعلم كقوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (1) و ( أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) (2) وفي معناها الأخبار الناهية عن ذلك أيضا ، مثل قوله عليه السلام : « إذا جاءكم ما تعلمون فقولوا به وإن جاءكم ما لا تعلمون فها ، وأهوى بيده إلى فيه (3) » وقوله عليه السلام بعد قول الراوي : ما حقّ اللّه على خلقه؟ فقال : « أن يقولوا ما يعلمون ، ويكفّوا عمّا لا يعلمون ، فإذا فعلوا ذلك فقد ردّوا إلى اللّه حقّه (4) » فإنّ القول بالبراءة عند الجهل بالحكم اتّباع لما ليس لنا به علم وقول على اللّه بما لا يعلم.

ومنها : الآيات الآمرة بملازمة التقوى ، كقوله تعالى : ( اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ ) (5) وقوله : ( فَاتَّقُوا اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) (6) فإنّ الاتّقاء في محتمل الحرمة لا يتمّ إلاّ بالاحتياط والاجتناب ، فيجب.

ومنها : قوله تعالى : ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) (7) فإنّ ارتكاب الشبهة إلقاء للنفس في التهلكة فيحرم.

والجواب عن الجميع : بالنقض بالشبهة في محتمل الوجوب ، لبنائهم فيها على البراءة.

1 - الطائفة الاولى من الروايات المستدلّ بها على الاحتياط : الروايات الآمرة بالاحتياط

وعن الطائفة الاولى : بأنّ اتّباع ما ليس لنا به علم ، والقول على اللّه بما لا يعلم في محتمل الحرمة ، إنّما يلزم بالحكم بالبراءة وجواز الارتكاب على أنّه حكم الواقعة من حيث هي ، وليس مبنى القول بالبراءة على ذلك ، فإنّا لا نفتي فيه بشيء على أنّه الحكم الواقعي ، بل نتوقّف من هذه الجهة ، وأمّا الحكم بالبراءة وجواز الارتكاب على أنّه حكمها من حيث الجهل بحكمها الواقعي فليس اتّباعا لما لا علم لنا به ، ولا قولا على اللّه بما لا يعلم ، لمكان العلم به من الأدلّة القطعيّة الناهضة بالبراءة في الشبهة ، ولا سيّما العقل المستقلّ بقبح العقاب على الفعل أو الترك بلا بيان.

وعن الثانية : بعدم منافاة العمل بالبراءة في محتمل الحرمة بعد ثبوت ترخيص الشارع فيه للاتّقاء المأمور به ، من الوقاية بمعنى التحفّظ عن معاصي اللّه تعالى بترك الواجبات وفعل المحرّمات ، ولذا قيل في تفسير قوله : ( اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ ) (8) حقّ تقواه ، وما يجب منها وهو استفراغ الوسع في القيام بالواجبات والاجتناب عن المحارم.

ص: 64


1- الإسراء : 36.
2- البقرة : 169.
3- الكافي 1 : 57 ، ح 13.
4- الوسائل 18 : 119 الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 27.
5- آل عمران : 102.
6- التغابن : 16.
7- البقرة : 195.
8- آل عمران : 102.

وعن المعاني (1) وتفسير العيّاشيّ سئل الصادق عليه السلام عن هذه ، قال : « يطاع ولا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر (2) ».

وعن العيّاشيّ عنه أنّه سئل عنها ، فقال : منسوخة ، قيل وما نسخها؟ قال : قول اللّه : ( فَاتَّقُوا اللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) (3). (4)

وبالجملة فالعمل بالبراءة فيما نحن فيه ليس تعرّضا لمعصية اللّه تعالى ، ولا ارتكابا لما هو من محارمه ليجب الاتّقاء منه.

وقد يقال : إنّ أوامر التقوى كأوامر الإطاعة إرشاديّات لا يترتّب على مخالفتها أزيد ممّا يترتّب على الارتكاب المنافي لها ، فلا بدّ في حصول المعصية بذلك من ثبوت حرمته أو وجوب الاجتناب من غير جهة هذه الأوامر ، وهذا أوّل المسألة.

ولو سلّم كونها أوامر شرعيّة فلابدّ من حملها على الاستحباب حذرا عن تخصيص الأكثر ، إذ التقوى لها مراتب كثيرة لا تحصى ليست بأجمعها واجبة ، بل الواجب منها على تقدير تسليمه أقلّ قليل منها ، كما نبّه عليه حديث النسخ فحملها على الوجوب يوجب خروج أكثرها بخلاف حملها على الاستحباب ، فإنّه وإن أوجب خروج الواجب وهو لكونه تخصيص الأقلّ لا ضير فيه.

وعن الثالثة : بمنع الوقوع في المهلكة في العمل بالبراءة إن اريد بها الهلاك الاخروي وهو العقاب ، لأنّ العقل المستقلّ بقبح العقوبة يؤمننا الوقوع في المهلكة. وإن اريد بها المفسدة الدنيويّة فاحتمالها يوجب رجوع الشبهة إلى كونها موضوعيّة وبناؤهم فيها على البراءة وعدم وجوب الاجتناب.

ومن السنّة - مضافا إلى ما أشرنا إليها من الأخبار الناهية عن القول على اللّه تعالى بما لا يعلم ، وقد عرفت الجواب عنها - طوائف من الأخبار :

الطائفة الاولى

الروايات الآمرة بالاحتياط وهي كثيرة جدّا كصحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج قال : سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان ، الجزاء بينهما أو على كلّ

ص: 65


1- معاني الأخبار : 240.
2- تفسير العيّاشي : 194 ، ح 120.
3- التغابن : 16.
4- تفسير العيّاشي 1 : 194 ، ح 121.

واحد منهما جزاء؟ قال : « بل عليهما أن يجزي كلّ واحد منهما الصيد ، قلت : إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه ، قال : إذا أصبتم بمثل هذا ولم تدروا فعليكم الاحتياط حتّى تسألوا عنه وتعلموا (1) ».

وموثّقة عبد اللّه بن وضّاح قال : كتبت إلى العبد الصالح عليه السلام يتوارى القرص ويقبل الليل ويزيد الليل ارتفاعا ، ويستر عنّا الشمس ويرتفع فوق الجبل حمرة ، ويؤذّن عندنا المؤذّنون ، فاصلّي حينئذ وافطر إن كنت صائما ، أو أنتظر حتّى تذهب الحمرة الّتي فوق الجبل؟ فكتب عليه السلام : « أرى لك أن تنتظر حتّى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك (2) ».

والمرويّ عن أمالي المفيد الثاني - ولد الشيخ - بسند كالصحيح عن مولانا أبي الحسن الرضا عليه السلام قال : « قال أمير المؤمنين عليه السلام لكميل بن زياد : أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت (3) ».

وما عن خطّ الشهيد في حديث طويل عن عنوان البصري عن أبي عبد اللّه عليه السلام يقول فيه : سل العلماء ما جهلت ، وإيّاك أن تسألهم تعنّتا وتجربة ، وإيّاك أن تعمل برأيك شيئا ، وخذ الاحتياط في جميع امورك ما تجد إليه سبيلا ، واهرب من الفتيا هربك من الأسد ، ولا تجعل رقبتك عتبة للناس (4).

وما أرسله الشهيد أيضا حاكيا عن الفريقين من قوله عليه السلام : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (5) ».

وما أرسله أيضا من قوله عليه السلام : « لك أن تنظر الحرام وتأخذ بالحائطة لدينك (6) ».

وما أرسل أيضا عنهم عليهم السلام « ليس بناكب عن الصراط من سلك سبيل الاحتياط (7) ».

والجواب من وجوه :

الأوّل : أنّ أوامر الاحتياط على ما تقدّم الإشارة إليه كلّها إرشاديّات ، فلا يترتّب عليها من المعصية سوى ما يترتّب على ارتكاب الشبهة مع قطع النظر فيها ، فلا بدّ من إحرازها من غير جهتها ، ولا يعقل إحرازها بها كما هو واضح.

ص: 66


1- الوسائل 18 : 111 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.
2- الوسائل 3 : 129 ، الباب 16 من أبواب المواقيت ، ح 14.
3- الأمالى : 110 ، ح 168 ، الوسائل 18 : 123 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 41.
4- الوسائل 18 : 127 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 54.
5- الذكرى 2 : 444 ، الوسائل 18 : 124 و 127 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 47 و 56.
6- الذكرى 2 : 445 ، والوسائل 18 : 127 الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 58.
7- رواه المحدّث البحراني في الحدائق 1 : 76.

الثاني : على فرض كونها شرعيّة لا يمكن حملها على الوجوب ، لاستلزامه تخصيص الأكثر في مرتبة هي من أظهر مراتب قبحه ، لأنّ موارد الاحتياط في الشرعيّات كثيرة بل غير محصورة ، ولا يجب الاحتياط إلاّ في أقلّ قليل منها هو بالقياس إلى الباقي ليس إلاّ كشعرة بيضاء في بقرة سوداء ، فلا بدّ من حملها على الاستحباب وإن تضمّن ذلك التخصيص بالنسبة إلى الاحتياط الواجب ، أو مطلق الرجحان ، والأوّل أقرب فتعيّن الحمل عليه.

وتوهّم أنّ الاستحباب وإن كان أقرب غير أنّه يبعّده ما لزمه من التخصيص ، والرجحان المطلق وإن كان في نفسه أبعد غير أنّه يقرّبه عدم استلزامه تخصيصا.

يدفعه أوّلا : أنّ التخصيص في الجملة مشترك اللزوم بين المعاني الثلاث بالقياس إلى صورة دوران الأمر بين الوجوب والتحريم ، فإنّ الاحتياط فيها إنّما هو بالجمع بين الفعل والترك ، وهو غير ممكن فيخرج عن الجميع بالعقل ، فإنّه لعدم إمكانه كما لا يجب فكذلك لا يستحبّ ، وإذا انتفى عنه الأمران انتفى الرجحان أيضا ، لأنّه غير خال عنهما.

وثانيا : أنّ الوجه في كون التخصيص اللازم على تقدير الحمل على الاستحباب مبعّدا إنّما هو كونه خلاف الأصل ، فأصالة عدم التخصيص ينافي الأقربيّة ويعارضها.

وفيه : منع المعارضة لورود قاعدة الأقربيّة عليها ، فإنّ مراعاة هذه القاعدة توجب الالتزام بجميع لوازمها ، وإن كانت مع قطع النظر عنها مخالفة للأصل ، لا لأنّ الأصل مع ملاحظتها جار ولا يعتنى به ، بل لعدم جريانه حينئذ بارتفاع موضوعه بسبب إعمال القاعدة ، كما هو شأن كلّ دليل أو قاعدة اجتهاديّة واردين على الأصل.

الثالث : أنّ هذه الأوامر ليست إلاّ عمومات قابلة للتخصيص ، فعند وجود ما يصلح مخصّصا لها وجب تخصيصها ، وقد عرفت في أخبار البراءة أنّ قوله عليه السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي (1) » كالنصّ في الشبهة الحكميّة التحريميّة ، فيكون أخصّ من قوله عليه السلام : « أخوك دينك فاحتط لدينك (2) » ونظائره ، ومن الواجب تقديم الخاصّ على العامّ.

ولو سلّم عدم التخصيص - ولو لوجود ما يكون خاصّا بشبهة التحريم في أخبار الاحتياط كالثالث من مراسيل الشهيد - لكن أخبار الطرفين بمنزلة الخبرين المتعارضين ، لأنّ في أخبار البراءة على ما تقدّم ما هو ناف للاحتياط كالخبر المتقدّم ، وقوله عليه السلام : « الناس

ص: 67


1- الفقيه 1 : 317.
2- الأمالي : 110 ، ح 168.

في سعة ما لم يعلموا (1) » فلا بدّ من الترجيح السندي بالرجوع إلى المرجّحات السنديّة الّتي منها موافقة الكتاب وموافقة العقل المستقلّ ، وهما في جانب أخبار البراءة. فلا بدّ في أخبار الاحتياط من الطرح أو التأويل بالحمل على الاستحباب ، وهذا أولى.

سلّمنا عدم الترجيح من هذه الجهة أيضا لكنّهما خبران تعارضا وتساقطا ، ويبقى بعده الأدلّة الاخر المقامة على البراءة من الكتاب والإجماع - ولو في الجملة - والعقل سليمة عن المعارض ، فتأمّل.

الرابع : منع نهوض الاستدلال بها في كلّ واحد على التفصيل ، أمّا صحيحة ابن الحجّاج فأوّلا : بأنّ موردها من الشكّ في المكلّف به في الشبهة الحكميّة الوجوبيّة فلا يندرج فيه محلّ البحث لوجهين.

وثانيا : على فرض تسليم كون المنساق من الرواية في متفاهم العرف أنّ من اشتبه عليه الأمر في التكليف أو المكلّف به وجوبيّا أو تحريميّا فعليه الاحتياط حتّى يسأل ، بأنّ الرواية إنّما تفيد وجوب الاحتياط والاحتراز عن الإفتاء في مقام الجهل بحكم الواقعة إلى أن يسأل عنه ويعلم به ثمّ يفتي ، بقرينة قول الراوي : « بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه (2) » وقول الإمام عليه السلام : « حتّى يسألوا منه وتعلموا (3) » حيث جعل غاية الاحتياط السؤال عن حكم الواقعة والعلم به ، فقوله : « إذا أصبتم بمثل هذا - أي إذا سألتم عمّا لا تعلمونه - فعليكم الاحتياط والإمساك عن الإفتاء حتّى تسألوا وتعلموا (4) » لحرمة الإفتاء من غير علم ، وهذا أمر مسلّم لا يمكن الاسترابة فيه ، ولكن لا يلزم من وجوب الاحتياط في الإفتاء وجوب الاحتياط في العمل ، ولا دلالة في الرواية على الثاني أصلا.

وثالثا : بأنّها بقرينة قوله عليه السلام : « حتّى تسألوا » ظاهرة في صورة إمكان السؤال وتحصيل العلم بحكم الواقعة ووجوب الاحتياط في هذه الصورة لا ينافي العمل بالبراءة فيما لا سبيل إلى العلم بحكم الواقعي ، لبنائه على تعذّر العلم واليأس عن الدليل ، ولذا يشترط فيه الفحص على ما ستعرفه في ذيل المسألة.

وأمّا موثّقة ابن وضّاح (5) فلخروج موردها أيضا عن محلّ البحث ، إذ قضيّة وجوب مراعاة الوقت في الصوم والصلاة - كما هو مقرّر في الفقه - هو وجوب الاحتياط بالإمساك

ص: 68


1- عوالي اللآلئ 1 : 424 ، ح 109.
2- الوسائل 18 : 111 الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 1.
3- نفس الحديث السابق.
4- نفس الحديث السابق.
5- الوسائل 18 : 122 الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 37.

عن الإفطار والدخول في الصلاة على من يشكّ في دخول الوقت إلى أن يحصل له العلم بدخوله ، فإنّ وجوب الاحتياط في نحو هذه الصورة ممّا لا إشكال فيه ، ويساعد عليه الاستصحاب وقاعدة الشغل.

وربّما يحتمل خروج الرواية مخرج الردّ على أهل الخلاف ، لبنائهم في المغرب على كفاية استتار القرص ولم يعتبروا ذهاب الحمرة ، وكأنّ الراوي ممّن يعاشرهم وقوله عليه السلام : « أرى لك أن تنتظر » (1) تعليم لطريق الاحتياط لحفظ الدين في أمر الصلاة والصوم بالانتظار لذهاب الحمرة الّذي مناط دخول الوقت ، إن اريد به ذهاب الحمرة المشرقيّة أو ما يلازمه وهو ذهاب الحمرة فوق الجبل ، فقوله عليه السلام : « تأخذ بالحائطة لدينك » (2) يراد به الأخذ بما يحفظ الدين ، وهو مراعاة ذهاب الحمرة لا متابعة العامّة في الاكتفاء باستتار القرص ، والحائطة للدين معناها الحافظ له ، فليست الرواية من الأمر بالاحتياط في العمل مع الشكّ في الحكم ، بل من الأمر بالاحتياط للدين وحفظه بمراعاة آدابه وأحكامه الّتي منها ذهاب الحمرة لدخول وقت الإفطار في الصوم والدخول في الصلاة.

وأمّا رواية الأمالي فلأنّها أيضا في غير محلّ البحث ، فإنّ قوله عليه السلام : « أخوك دينك (3) » تشبيه للدين بالأخ ، إغراء للراوي إلى الاهتمام في حفظه عن المنافيات والمضادّ من الحكم بغير ما أنزل اللّه ، والإفتاء بغير علم ، وشهادة الزور ، وتضييع حقّ وترويج باطل ، وقلّة مبالات في الأعمال والأموال والحقوق والفروج ، كما يهتمّ الإنسان بالاحتياط في أخيه ، لحفظه عن الموبقات والمهلكات والشرور والمضارّ في حاله وماله ، فهو ليس من الاحتياط في العمل عند الجهل بالحكم ، بل من الاحتياط بمعنى الاحتراز عن منافيات الدين لحفظه ، كما يقول الطبيب للمريض : « احتط » وهذا يجامع العلم بالحكم والتمكّن من تحصيله ، ولا ريب في وجوبه. وقوله : « بما شئت » ليس من باب التعليق على المشيّة ليلازم الاستحباب ، بل معناه : أنّ الاحتياط في هذا المقام بما شئت من قليل أو كثير فقد وقع في محلّه.

وأمّا المرويّ عن خطّ الشهيد فمع ضعفه كالبواقي ، فلظهور قوله عليه السلام : « في جميع امورك » (4) خصوصا بملاحظة إضافة الامور إلى المخاطب في الموضوعات الخارجيّة الّتي

ص: 69


1- نفس الحديث السابق.
2- نفس الحديث السابق.
3- امالي الشيخ 1 : 109.
4- الوسائل 18 : 127 الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 54 وفيه : ( ووجدت بخطّ الشهيد محمّد بن مكي قده ... ).

يتّفق الابتلاء بها للمخاطب على حسب عادته ، وحيث إنّ الاحتياط فيها ليس بواجب باتّفاق من الأخباريّين أيضا وجب صرف الأمر عن الوجوب. ولو سلّم عدم الظهور فيها فنقول : قوله : « خذ بالاحتياط » عقيب قوله : « سل العلماء ما جهلت » (1) ظاهر في الاحتياط مع إمكان السؤال وتحصيل العلم ، ولا كلام في وجوبه كما تقدّم.

ولو سلّم عدم الظهور أيضا نقول : إنّ قوله عليه السلام : « في جميع امورك » عامّ يشمل جميع موارد الاحتياط ، وقد عرفت أنّها غير محصورة لا يجب الاحتياط إلاّ في أقلّ قليل منها ، فوجب حمل الأمر على الاستحباب ، أو الرجحان المطلق ، أو الإرشادي المعرّى عن الطلب ، أو غير ذلك حذرا عن تخصيص الأكثر.

وتوهّم أنّ التخصيص أرجح من المجاز حيثما دار الأمر بينهما على ما قرّر في محلّه.

يدفعه : أنّه إنّما يسلّم إذا لم يطرئه ما يوهنه ، وكونه تخصيص الأكثر من موهناته لأنّه إمّا غير جائز أو في غاية المرجوحيّة على القول بالجواز ، والمجاز أرجح منه بمراتب ، مع قوّة احتمال كون المراد من الاحتياط نظير ما يأمر به الطبيب من الاحتراز عن كلّ غير مشروع فعلا أو تركا مجامع للعلم بالحكم ، فلا يلزم تخصيص ولا مجاز.

وأمّا قوله عليه السلام : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ». (2)

ففيه : أنّ ارتكاب الشبهة إنّما يكون مريبا إذا لم يأذن فيه الشارع ، وقد ثبت الرخصة بما تقدّم من أدلّة البراءة من الآيات والروايات ، ولا سيّما العقل النافي للعقاب والمؤاخذة عنه ، فلا ريبة فيه لندعه إلى الاجتناب عنه ، فوجب حمل الرواية على غير ما نحن فيه ، ولعلّه الاحتياط في صورة الشكّ في المكلّف به بعد القطع بالتكليف فيما دار الأمر فيه بين المتبائنين.

وعن المحقّق أنّه أجاب عنه بأنّه خبر واحد لا يعمل بمثله في الاصول (3) ، سلّمنا لكن إلزام المكلّف بالأثقل مظنّة ريبة ، لأنّه مشقّة لم يدلّ الشرع عليها ، فيجب اطراحها بموجب الخبر ، وضعف الوجهين واضح.

أمّا الأوّل : فلمنع كون المسألة اصوليّة بل هي فرعيّة ، أو من مبادئ المسائل الفرعيّة تذكر في الاصول لما فيه من الكلّية ، ولو سلّم فإنّما لا يعمل بخبر الواحد في اصول

ص: 70


1- نفس الحديث السابق.
2- الوسائل 18 : 127 من أبواب صفات القاضي ، ح 56 ، الذكرى : 138.
3- معارج الاصول : 157.

الاعتقاد وفي اصول الفقه إذا كانت من المسائل اللغويّة أو المسائل العقليّة ، وأمّا إذا كانت شرعيّة بكون الحكم فيها بحيث من شأنه أن يؤخذ من الشارع كمسائل الحجّية فلا حجر عن العمل بخبر الواحد فيها ، لاتّحاد المناط فيها وفي الفروع ، بل عموم دليل الحجّية.

وأمّا الثاني : فلأنّ الإلزام بالأثقل إنّما هو بموجب الأمر الوارد في الخبر لا مطلقا ، فليس من الإلزام بمشقّة لم يدلّ عليه الشرع ، فليس فيه مظنّة ريبة.

وأمّا قوله عليه السلام : « لك أن تنظر الحزم وتأخذ بالحائطة لدينك » (1) ففيه :

أوّلا : منع دلالته على الوجوب لا بطريق النصوصيّة ولا الظهور ، فإنّ غاية ما يفيده « اللام » إنّما هو الرخصة في الفعل ، ولا إشكال في جواز الاحتياط بل رجحانه على تقدير استفادته من اللام فإنّ الاحتياط حسن على كلّ حال عقلا ونقلا.

وثانيا : منع كون الحائطة للدين يراد منها الاحتياط بالمعنى المبحوث عنه ، بل هو بقرينة « أن تنظر الحزم » ظاهر فيما يحفظ به من الاحتراز عن منافياته الّتي منها فعل الحرام ، فيجامع العلم بالحكم ولا إشكال في وجوبه ، ولا يندرج فيه الاحتياط في الشبهة.

وأمّا قوله عليه السلام : « ليس بناكب ... » (2) إلى آخره.

ففيه : أيضا منع ظهوره في الوجوب ، بل نظير هذا التركيب شيء يذكر في مقام الوعظ والإرشاد ، ولعلّ النظر فيه بقرينة السلوك والسبيل إلى تارك الطريقين من الاجتهاد والتقليد الّذي يعمل بالاحتياط في جميع أعماله من العبادات ، والمعاملات ، فإنّه أسلم الطرق في امتثال أحكام اللّه تعالى ، ولا سيّما في مقابلة الجاهل في العبادات والمعاملات التارك لطريقة الاحتياط أيضا.

ولا ريب أنّ السالك بطريقة الاحتياط لإدراكه الواقع في جميع الوقائع لا ينكب عن الصراط ، بخلاف الجاهل التارك لها فإنّه حيث لم يطابق عمله الواقع ربّما ينكب ، وكذلك السالك لطريقة الاجتهاد والسالك لطريقة التقليد أيضا ربّما أمكن في حقّهما النكوب فيمالو قصّرا في مراعاة شروط الاجتهاد أو التقليد ، هذا مضافا إلى قوّة احتمال إرادة ما يأمر به الطبيب من الاحتراز عن الامور الغير المشروعة في الدين ، فإنّ صاحبه لا ينكب عن الصراط

ص: 71


1- الوسائل 18 : الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 58 ( عن الشهيد ) ، لم نجد في الذكرى هذا النصّ ، وإنّما الموجود في ( ص 138 ) عن العبد الصالح : أرى لك أن تنتظر حتّى تذهب الحمرة وتأخذ الحائط لدينك.
2- الحدائق 1 : 76.

بخلاف غيره الّذي لا يبالي عن ترك الواجبات وفعل المحرّمات فإنّه لا يأمن من أن ينكب.

الطائفة الثانية : أخبار التوقّف

الطائفة الثانية

أخبار التوقّف الّتي قيل إنّها لا تحصى كثرة :

منها : ما في ذيل مقبولة عمر بن حنظلة بعد ذكر المرجّحات من قوله عليه السلام : « إذا كان كذلك فأرجه حتّى تلقى إمامك ، فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات (1).

ومنها : صحيحة جميل بن درّاج عن أبي عبد اللّه عليه السلام : أنّه قال : « الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ، انّ على كلّ شيء حقيقة وعلى كلّ صواب نورا فما وافق كتاب اللّه فخذوه وما خالف كتاب اللّه فدعوه (2) ».

ومنها : رواية الزهري (3) والسكوني (4) وعبد الأعلى (5) « الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ، وتركك حديثا لم تروه خير من روايتك حديثا لم تحصه ».

ومنها : رواية أبي شيبة عن أحدهما (6) ، وموثّقة سعد بن زياد عن جعفر عليه السلام عن أبيه عليه السلام عن آبائه عليهم السلام عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله أنّه قال : « لا تجامعوا في النكاح على الشبهة وقفوا عند الشبهة - إلى أن قال - فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة (7).

ومنها : موثّقة حمزة بن طيّار أنّه عرض على أبي عبد اللّه عليه السلام بعض خطب أبيه حتّى بلغ موضعا منها قال له : كفّ واسكت ، ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السلام : أنّه لا يسعكم فيما ينزل بكم ممّا لا تعلمون إلاّ الكفّ عنه ، والتثبّت والردّ إلى أئمّة الهدى عليهم السلام حتّى يحملوكم فيه إلى القصد ، ويجلوا عنكم فيه العمى ، ويعرّفوكم فيه الحقّ قال اللّه تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (8) و (9).

ومنها : رواية جميل عن الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام أنّه « قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : الامور ثلاثة : أمر

ص: 72


1- الوسائل 18 : 76 الباب 9 من أبواب صفات القاضى ، الحديث الأوّل.
2- الوسائل 18 : 86 الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 35.
3- الوسائل 18 : 112 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 2.
4- الوسائل 18 : 126 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 50.
5- الوسائل 18 : 126 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، ذيل الحديث 50.
6- الوسائل 18 : 115 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 13.
7- الوسائل 18 : 116 ، الباب 4 من أبواب صفات القاضي ، ح 15 وفيه : مسعدة بن زياد.
8- النحل : 43.
9- الوسائل 18 : 12 ، من أبواب القاضي ، ح 14.

بيّن لك رشده فاتّبعه ، وأمر بيّن لك غيّه فاجتنبه ، وأمر اختلف فيه فردّه إلى اللّه عزّ وجلّ (1) ».

ومنها : رواية جابر عن أبي جعفر عليه السلام في وصيّته لأصحابه إذا اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده ، ردّوه إلينا حتّى نشرح لكم من ذلك ما شرح اللّه لنا (2) ».

ومنها : رواية زرارة عن جعفر عليه السلام « حقّ اللّه على العباد أن يقولوا ما يعلمون ويقفوا عندما لا يعلمون (3) ».

ومنها : رواية المسمعي الواردة في اختلاف الحديث ، وفيها : « وما لم يجدوا في شيء من هذه الوجوه فردّوا إلينا علمه فنحن أولى بذلك ، ولا تقولوا فيه بآرائكم ، وعليكم الكفّ والتثبّت والوقوف ، وأنتم طالبون باحثون حتّى يأتيكم البيان من عندنا (4) » إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

والجواب أمّا عن المقبولة - فبعد الإغماض عن قوّة احتمال « الشبهات » فيها لنحو الشبهة المحصورة ، بملاحظة كون موردها الخبرين المتعارضين المأمور بارجائهما الّذي هو في معنى ترك العمل بهما معا ، إمّا لاشتباه الحجّة منهما بغير الحجّة ، أو لاشتباه الكذب منهما لعدم صدوره عن الإمام بما هو صدق لصدوره عنه.

وعن (5) ظهروها في التوقّف عند الشبهة المقدور على رفعها بالرجوع إلى الإمام أو غيره من الطريق المنصوبة ، فلا يندرج فيها ما نحن فيه.

وعن أنّه لا بدّ فيها من تخصيص ، لعدم وجوب التوقّف عند جميع الشبهات حتّى عند الأخباريّين تخصيصها بالشبهات الحكميّة التحريميّة ليس بأولى من تخصيصها بالشبهات المحصورة ، بل هو المتعيّن لئلاّ يلزم تخصيص العامّ بالمورد ، أو أنّه على تقدير التخصيص يلزم تخصيص الأكثر ، فلا بدّ من حمل ألامر المستفاد منها على غير الوجوب من استحباب أو مطلق رجحان أو إرشاد ، كما ربّما يومئ إليه التعبير بالخيريّة - من وجهين (6) :

الأوّل : أنّ الإرجاء المأمور به عبارة عن تأخير العمل بالخبرين ، فالأمر به يفيد

ص: 73


1- الوسائل 18 : 118 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 23.
2- الوسائل 18 : 123 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 43.
3- الوسائل 18 : 119 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 27.
4- الوسائل 18 : 82 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 21.
5- عطف على قوله : « فبعد الإغماض عن قوّة احتمال الشبهات » الخ.
6- خبر لقوله : والجواب.

وجوب التوقّف عن العمل بهما ، والعمل بالخبر إمّا عبارة عن الإفتاء بموجبه ، أو عن القضاء بموجبه ، أو عن الالتزام والتديّن بمؤدّاه ، أو عن العمل الخارجي على طبقه على معنى تطبيق الحركات والسكنات الخارجيّة عليه ، وهو على قسمين :

أحدهما : ارتكاب الواقعة أو اجتنابها استنادا إلى الخبر وتعويلا عليه.

وثانيها : الفعل أو الترك تعويلا على أنّ حكمه الواقعي المجعول هو الّذي يستفاد من الخبر من إباحة أو وجوب أو تحريم ، وأيّامّا اريد من الأمر بإرجاء الخبرين من هذه الوجوه فنحن نقول بوجوب التوقّف فيه ، ولا يندرج فيه ما نحن فيه ، لأنّ ارتكاب الشبهة في محتمل التحريم لا يلازم الإفتاء ولا القضاء ولا التزام ولا الاستناد إلى الخبرين ، ولا على أنّ حكمها المجعول من حيث هي هو الإذن والإباحة المستفادة من أحدهما ، بل بناؤه إنّما هو على كون حكمها المجعول من حيث الاشتباه ومن حيث جهالة الحكم الواقعي إنّما هو الجواز والرخصة في الفعل. وهذا كما ترى ليس من العمل بالخبرين ولا بأحدهما ليندرج في الأمر بالإرجاء المفيد لوجوب التوقّف.

فإن قلت : إنّ محلّ الاستدلال على حكم مطلق الشبهة حتّى ما نحن فيه إنّما هو قوله عليه السلام : « إنّ الوقوف عند الشبهات » إمّا لعموم « الشبهات » أو لحجّية العلّة المنصوصة ، فإنّه يفيد عموم الحكم في كلّ شبهة تحريميّة وإن كانت لغير تعارض النصّين من فقد نصّ أو إجماله.

قلت : العموم من هذه الجهة وإن كان مسلّما غير أنّه لا يجدي في عموم الحكم المطلوب في المقام ، لأنّ أقصى ما يفيده الرواية إنّما هو الوقف عن الفعل والترك معا على وجه الاعتماد ، على أنّ حكمه المجعول له من حيث هو إنّما هو الجواز والإباحة ، ووجوب الوقف بهذا المعنى مسلّم حتّى في غير ما تعارض فيه نصّان ، ولكنّه لا ينافي جواز الارتكاب على أنّه الحكم المجعول للجاهل بحكم الواقعة من حيث هي.

لا يقال : عموم الحكم بهذا الاعتبار يتمّ بملاحظة ظاهر الوقوف ، لظهوره عرفا فيما يقابل الحركة بمعنى الفعل والارتكاب ، وهو السكون بالترك والاجتناب ، وإطلاقه يقضي بوجوب الوقوف عن الارتكاب بجميع وجوهه وجهاته حتّى الجهة الّتي عليها مبنى العمل بالبراءة.

لأنّ الظهور المذكور على تقدير تسليمه إنّما يسلّم في غير نحو هذا التركيب ، فإنّ إضافة « الوقوف » فيه إلى « الشبهة » تصرفه عن ذلك إلى ظهور التوقّف عن جميع أطراف الشبهة ، فإن كانت من قبيل الشبهة المحصورة فبالاجتناب عن الجميع ، وإن كانت من قبيل

ص: 74

الشبهة الحكميّة التحريمية ، فبالإمساك عن كلّ من الفعل والترك ، واستحالة الجمع بينهما إنّما هي في الفعل والترك. المطلقين ، وأمّا الفعل والترك اعتمادا في كلّ منهما على الجواز الواقعي فالإمساك والوقوف عنهما معا ممكن ، فهو الواجب دائما لا الوقوف عن الارتكاب مطلقا ولو اعتمادا على الجواز المجعول للواقعة من حيث الجهالة.

الثاني : أنّ الاقتحام في الهلكات هو الدخول فيها ، فإمّا أن يراد به الدخول الحقيقي وهو الأظهر ، أو الدخول الحكمي على معنى كون ارتكاب الشبهات ممّن عوّد نفسه به في عرصة الدخول في الهلكات ، باعتبار أنّ الخائض فيها لا يأمن من الوقوع في المحرّمات ، بل ربّما ينجرّ ركوبه الشبهات إلى ارتكاب المحرّمات أيضا ولو لقلّة مبالاته ، فإنّ من رتع حول الحمى لا يبالي أن يرتع في الحمى ، وقد روي (1) أنّ من ارتكب الشبهات نازعته ودعته نفسه إلى المحرّمات.

وفي معناه قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في حديث : « ألا وإنّ لكلّ ملك حمى ، وإنّ حمى اللّه محارمه ، فمن يرتع حول الحمى أو شك أن يقع فيه (2) ».

وفي آخر : « أنّ لكلّ ملك حمى ، وإنّ حمى اللّه حلاله وحرامه ، والشبهات بين ذلك كما لو أنّ راعيا رعى إلى جانب حمى لم يلبث غنمه أن تقع في وسطه فدعوا الشبهات (3) ».

وفي ذلك عن أمير المؤمنين عليه السلام : « والمعاصي حمى اللّه ، فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها (4) ». والهلكة ظاهرة في الهلاك الاخروي وهو العقاب ، فإمّا أن يراد به ما يترتّب على مخالفة الحكم الواقعي المجهول ، أو على مخالفة الحكم الظاهري المجعول للجاهل بذلك الحكم وهو وجوب التوقّف والاحتياط ، والأوّل باطل لقبح العقاب على مخالفة حكم لا يعلمه المكلّف عقلا ولا ينكره الأخباريّون أيضا ، ولذا يتكلّفون في إلزام المكلّف على العقاب بالتزام وجوب الاحتياط وما بمعناه ، والثاني - مع أنّه محلّ منع لأدلّة البراءة - مبنيّ على ثبوت ذلك الحكم العامّ من دليل آخر ، ليكون الارتكاب حينئذ من الاقتحام في الهلكات ، ويندرج به في عموم قوله عليه السلام : « الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات (5)

ص: 75


1- الوسائل 18 : 124 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 47.
2- الوسائل 18 : 122 الباب من أوبواب صفات القاضي ، ح 39 ، عوالي اللآلئ 2 : 83 ، ح 223.
3- الوسائل 18 : 122 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ح 40.
4- الفقيه 4 : 75 باب نوادر الحدود ، الوسائل 18 : 118 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 22.
5- الوسائل 18 : 76 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث الأوّل.

ولا يمكن إثباته بنفس هذا الخطاب.

وحينئذ فلا بدّ من تنزيل الرواية على الشبهات المشتملة على الحرام الواقعي الواجب اجتنابه كالشبهة المحصورة ونحوها ، كما يؤيّده مورد الرواية.

أو حمل الاقتحام على الدخول الحكمي ، من جهة أنّ ارتكاب الشبهات ينجرّ بالأخرة إلى الوقوع في المحرّمات الواقعيّة المعلومة بالتفصيل ، وعليه فالأمر بالوقوف المستفاد من الرواية يكون لمجرّد الإرشاد ، وقد ذكرنا مرارا أنّ الأمر الإرشادي لا يترتّب على مخالفته من حيث هو عقاب ولا مؤاخذة ، بل العقاب إنّما يترتّب على الارتكاب حيث أدّى إلى ارتكاب الحرام الواقعي باعتبار ما أدّى إليه لا نفسه ، فلم يثبت بهذه الرواية وجوب الاجتناب عن الشبهة من حيث هو ، ومع قطع النظر عمّا أدّى إليه من ارتكاب الحرام الواقعي المعلوم.

إلاّ أن يقال : إنّ كون ارتكاب الشبهات اقتحاما في الهلكات يقتضي وجود موجب للهلاك الاخروي فيها ، وهذا وإن كان لا يمكن كونه الحرمة الواقعيّة المجهولة لقبح العقاب عليها عقلا ، ولكن لا مانع من أن يكون نحو وجوب الاجتناب وغيره من الحكم العامّ المجعول للجاهل ، فالحكم على ارتكاب الشبهة بكونه اقتحاما في الهلكة يكشف عن وجوب التوقّف بذلك التقريب ، وهذا هو وجه دلالة المقبولة على المطلوب ولا حاجة معه إلى إثباته بدليل آخر.

ولكن يدفعه : أنّ الإمكان لا يستلزم الوقوع ، وكما يمكن أن يكون موجب الهلاك بعد نفي تأثير الحرمة المجهولة فيه ذلك الحكم العامّ المجعول للجاهل ، فكذلك يمكن كونه المحرّمات المعلومة بالإجمال الموجودة في الشبهات كما في الشبهة المحصورة ، وكونه المحرّمات المعلومة بالتفصيل الّتي ينجرّ إلى ارتكابها ارتكاب الشبهات ، وتعيين الأوّل دون الأخيرين يحتاج إلى دليل ، ولا دلالة في الرواية بنفسها على التعيين ، بل الظاهر من صوغ الرواية هو الأخير ، لظهور نحو هذا الكلام في متفاهم العرف في الإرشاد ، مع عدم استلزام الحمل عليه تخصيصا ، مع أنّه قضيّة الجمع بينها وبين أدلّة البراءة ، فإنّ فيها ما هو خاصّ بالشبهة الحكميّة التحريميّة ، وما ينفي العقاب مطلقا حتّى على الحكم العامّ المحتمل ، ويكشف عنه أيضا ما تقدّم من روايات الحمى.

ص: 76

وممّا يؤيّده بل يدلّ عليه ما روي من « أنّ أورع الناس من وقف عند الشبهة (1) » وما ورد أيضا من « أنّه لا ورع كالوقوف على الشبهة (2) ».

وبهذا كلّه يظهر الجواب عن صحيحة ابن درّاج ورواية الزهري والسكوني وموثّقة ابن زياد ، مع ما فيها من وجود قرينة التنزيه من النهي عن المجامعة ، لورودها في شبهة الموضوع الّتي لا يجب فيها الوقف والاحتياط باتّفاق من الأخباريّين ، كما يرشد إليه التمثيل للنكاح على الشبهة بما في كلام الصادق عليه السلام : « إذا بلغك أنّك قد رضعت من لبنها ، أو أنّها لك محرم وما أشبه ذلك ، فإنّ الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة (3) » وحيث إنّ تخصيص العامّ بالمورد غير سائغ فيقضي ذلك بأنّ المراد من « الشبهات » في الرواية ما يعمّ شبهة الموضوع إن لم نقل باختصاصها به ، فينهض هذا قرينة على أنّ الأمر بالوقوف لمجرّد الإرشاد لا الوجوب.

وعن موثّقة ابن طيّار (4) بظهورها في الكفّ في مشتبه الدلالة بالتشابه والإجمال إلى أن يصل بيانه من أهل الذكر عليهم السلام.

وعن رواية جميل بظهور قوله عليه السلام : « فردّه إلى اللّه عزّ وجلّ » (5) في وجوب ردّ علمه إليه ، وهو لا يلازم وجوب الوقوف عن الارتكاب ، وكذا الجواب عن رواية جابر مع ظهورها في مشتبه الدلالة كما يشهد به قوله عليه السلام : « حتّى نشرح لكم » (6).

وعن رواية زرارة لظهورها في الوقوف عن القول على اللّه بما لا يعلم ، بقرينة قوله عليه السلام : « أن يقولوا ما يعلمون » (7) وكذا رواية المسمعي بقرينة قوله عليه السلام : « ولا تقولوا فيه بآرائكم » (8) وقد يجاب عن مجموع أخبار التوقّف بوجوه اخر بعضها غير تامّ.

ص: 77


1- الوسائل 18 : 118 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 24.
2- الوسائل 18 : 117 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 20.
3- الوسائل 14 : 193 ، الباب 157 من أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ، ح 2.
4- الوسائل 18 : 112 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 3.
5- الوسائل 18 : 118 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 23.
6- الوسائل 18 : 123 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 43.
7- الوسائل 18 : 119 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 27.
8- الوسائل 18 : 82 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 21.
الطائفة الثالثة : أخبار التثليث

الطائفة الثالثة

أخبار التثليث الّتي منها ما تقدّم في أخبار التوقّف من رواية جميل عن الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام : عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وعمدتها ما في مقبولة عمر بن حنظلة عند بيان الترجيح بالشهرة من قوله عليه السلام : « ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الّذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك ، فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذّ الّذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، وإنّما الامور ثلاثة أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب وأمر مشكل يردّ علمه ( حكمه - خ ل ) إلى اللّه ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجى من المحرّمات ، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم (1).

وقد اختلف في بيان وجه الدلالة ، فمن مشايخنا (2) من قرّره بما محصّله : أنّ الخبر الشاذّ الّذي أمر الإمام عليه السلام بتركه - بعد ما أمر بتقديم المجمع عليه تعليلا بأنّه لا ريب فيه - هو الّذي فيه ريب ، فيكون من الأمر المشكل الّذي أوجب الإمام ردّه إلى اللّه. وإلى ذلك أشار بعض الأعلام في بيان سؤال أورده على نفسه بقوله : « فإنّ تعليل الإمام عليه السلام تقديم المجمع عليه بأنّه لا ريب فيه وبأنّ الشاذّ النادر من الأمر المشكل الّذي لا يجوز القول به ويجب ردّه إلى اللّه ورسوله ، يدلّ على وجوب ترك الشبهات (3) ».

أقول : وكأنّ وجه دلالته على وجوب تركها أنّ الإمام عليه السلام في إيجابه ردّ الأمر المشكل إلى اللّه ورسوله استشهد بكلام رسول اللّه في تثليثه الامور ، وجعله الثالث شبهات بين ذلك يلزم من الأخذ بها ارتكاب المحرّمات ، وهذه هي القسم الثالث الّذي عبّر عنه الإمام عليه السلام بالأمر المشكل ، وأوجب ردّه إلى اللّه ، ومن الواضح وجوب مطابقة الشاهد للمشهود له ، فلو لا ترك الشبهات واجبا لم يطابق الشاهد المشهود له.

ومن الأعلام من قرّر الاستدلال - قبل ما نقلناه عنه - بأنّ من الأشياء ما يجوز فعله لقيام دليل معتبر عليه ، ومنها ما لا يجوز فعله كذلك ، ومنها ما يحتمل الأمرين إمّا لعدم بلوغ دليله إلينا ، أو للإجمال والاشتباه في الدليل ، فمن ترك الشبهات - يعني جميعها - نجى من المحرّمات ، أي ما هو حرام في الواقع ، ومن أخذ بها - أي بجميعها - ارتكب المحرّمات لوجودها فيها جزما ، لأخبار المعصومين عليهم السلام أو للعلم العادي بذلك ، أو المراد مجاز

ص: 78


1- الكافي 1 : 68 ، ح 10.
2- فرائد الاصول 2 : 83.
3- القوانين 2 : 23.

المشارفة إن لم نحمل « الشبهات » على العموم (1).

فظهر أنّ موضع الاستدلال من هذا الخبر مشتبه أو متعدّد ، وأيّامّا كان فنجيب عن التقرير الأوّل بوجهين :

الأوّل : منع كون الخبر الشاذّ من قسم الأمر المشكل المأمور بردّه إلى اللّه ، بل الّذي يكون من الأمر المشكل إنّما هو الخبران المتعارضان معا إذا تساويا في جميع الجهات المرجّحة ، كما فرضه الراوي في آخر المقبولة فأجاب الإمام عليه السلام بالإرجاء حتّى يلقى إمامه. وأمّا الخبر الشاذّ فهو من القسم الثاني وهو أمر بيّن غيّه ، كما أنّ الخبر المجمع عليه من القسم الأوّل وهو أمر بيّن رشده.

أمّا أوّلا : فلأنّ الإمام عليه السلام أمر بتقديم المجمع عليه ، وعلّله : بأنّ المجمع عليه لا ريب فيه وهو يقتضي كون الشاذّ ممّا فيه ريب ، لأنّ تعليل حكم بعد تخصيصه بشيء بالعلّة المشتركة بينه وبين شيء آخر يوجب قبح التخصيص أو قبح التعليل ، فالخبر المجمع عليه لكونه ممّا لا ريب فيه يدخل في أمر بيّن رشده المأمور باتّباعه ، والخبر الشاذّ لكونه ممّا فيه ريب يدخل في أمر بيّن غيّه المأمور باجتنابه ، وغرضه عليه السلام من التقسيم وبيان هذين القسمين مع حكمهما بعد أمره عليه السلام بأخذ المجمع عليه وترك الشاذّ الاستدلال بما ينحلّ إلى صغرى وكبرى كلّية بعد ذكر النتيجة ، كما لو قيل : « العالم حادث لأنّه متغيّر ، وكلّ متغيّر حادث » فقوله عليه السلام : « يؤخذ المجمع عليه ويترك الشاذّ » نتيجتان استدلّ على اولاهما بقوله : أمر بيّن رشده فيتّبع ، فكأنّه قال : لأنّه أمر بيّن رشده ، وكلّ أمر بيّن رشده يجب اتّباعه.

وعلى اخراهما بقوله : أمر بيّن غيّه فيجتنب ، فكأنّه قال : لأنّه أمر بيّن غيّه وكلّ أمر بيّن عينه يجب اجتنابه.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الخبر الشاذّ إذا كان من المشتبه لزم كون المجمع عليه أيضا من المشتبه ، لأنّ الاشتباه أمر نسبي يقتضي منتسبين ، وهما في التعارض ك- « لا المتعارضين ». فيلزم كون الترجيح والأخذ بالمرجّحات الواردة في المقبولة مستحبّا واجبا كما تنبّه عليه بعض الأعلام (2) ، ولا يرضى به المستدلّ وبيان الملازمة : أنّ الشبهة حينئذ وجوبيّة لدوران الأمر بين التعيين والتخيير ، والاحتياط يقتضي تعيين المجمع عليه ، وبناء الأخبارييّن في الشبهات الوجوبيّة كما تقدّم على استحباب الاحتياط لا وجوبه ، فوجوب الترجيح المتّفق

ص: 79


1- القوانين 2 : 21.
2- القوانين 2 : 23.

عليه المتسالم فيه بينهم وبين المجتهدين يقضي بأن لا شبهة مع وجود المرجّح في أحد المتعارضين وعدمه في المتعارض الآخر ، فيكون الأوّل من الأمر البيّن رشده الّذي يجب اتّباعه والثاني من الأمر البيّن غيّه الّذي يجب اجتنابه.

الثاني : منع دلالة قوله عليه السلام : « يردّ علمه إلى اللّه » على وجوب الاحتياط في الأمر المشكل حسبما يدّعيه المستدلّ.

أمّا أوّلا : فلأنّ تفكيك الإمام عليه السلام بين الأمر البيّن غيّه والأمر المشكل بالأمر بالاجتناب في الأوّل والردّ إلى اللّه في الثاني ، يدلّ على أن ليس مبنى الأمر المشكل على وجوب الاجتناب في العمل وإلاّ لم يتغيّر الاسلوب ، بل على وجوب الوقف في الحكم إفتاء وقضاء.

وأمّا ثانيا : فلأنّ قوله : « يردّ علمه إلى اللّه » معناه : إحالة العلم بحكم الواقعة عند الجهل به إلى اللّه تعالى ، على حدّ ما هو متعارف بين المتورّعين عند مسألتهم عمّا لا يعلمونه من قولهم في الجواب : اللّه يعلم ، فأقصى ما يفيده حينئذ إنّما هو وجوب الاجتناب عن الإفتاء لا غير.

ونجيب عن التقرير الثاني أوّلا : بالنقض بالشبهة الموضوعيّة الّتي يبنى فيها الخصم على البراءة ، مع ما ورد فيها من عموم « القرعة لكلّ أمر مشكل (1) ». فكما أنّه يدفع الإشكال عنها بالأصل وبقوله عليه السلام : « كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه (2) » فكذلك نحن ندفع الاشتباه عن الشبهة الحكميّة التحريميّة بالأصل ، وبنحو قوله عليه السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي (3) ».

وإن قال : إنّ الشبهة ظاهرة في اشتباه حكم الواقعة بالخصوص وهو لا يرتفع بالأصل.

قلنا : بمثله في الشبهة الموضوعيّة ، فإنّ الإشكال ظاهر في الإشكال في حكم الواقعة بالخصوص وهو لا يندفع بالأصل.

وإن قال : إنّ الشبهات الموضوعيّة خرجت عن عمومات القرعة بالدليل وهو الرواية المشار إليها ونحوها.

قلنا : بمثله فيما نحن فيه ، فإنّ الشبهات الحكميّة خرجت عن عموم من « أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات » بالدليل وهو الخبر المشار إليه ونحوه.

ص: 80


1- لم نعثر على رواية بهذا اللفظ ، بل وردت بألفاظ مختلفة فانظر الوسائل 17 : 592 الباب 4 من أبواب ميراث الغرقى ، والوسائل 18 : 187 الباب 12 من أبواب كيفيّة الحكم ، وغيرها.
2- الوسائل 12 : 59 الباب 4 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأوّل.
3- الفقيه 1 : 317 ، ح 937.

وإن قال : بأنّه يبقى هذا العامّ بلا مورد.

قلنا : يكفي في مورده الشبهات المحصورة والشبهات الحكميّة قبل الفحص ، وبالنسبة إلى من تمكّن من العلم ، وغير ذلك من الشبهات الحكميّة الوجوبيّة حيث يعمل فيها بالاحتياط وأصل الاشتغال.

وثانيا : بأنّ نحو قوله عليه السلام : « من أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم » (1) وارد في سياق التزهيد والتوريع وحمل المكلّف الجاهل على تحصيل مرتبة الزهد والورع ، فغاية ما يستفاد منها كون ارتكاب الشبهات خلاف الاولى فيكره ويستحبّ اجتنابها ، كما يرشد إليه المرويّ عن كفاية النصوص عن الكليني بسنده عن عليّ بن محمّد الخزّاز عن أبي الحسن عليه السلام في حديث في ذمّ الدنيا « إنّ في حلالها حسابا وفي حرامها عقابا ، وفي الشبهات عتابا ، فأنزل الدنيا منزلة الميتة ، وخذ منها ما يكفيك إن كان حلالا كنت قد زهدت فيها ، وإن كان حراما لم تكن أخذت من الميتة ، وإن كان العتاب فالعتاب سهل يسير (2) ».

وفيها موضع آخر من الدلالة على عدم وجوب الاجتناب ، حيث خصّ الشبهات بالعتاب ، وهو دون العقاب ويترتّب على فعل المكروهات وترك المستحبّات ، وقد يعبّر عنه باللوم ويفرّق بينه وبين الذمّ ويقال : إنّ الذمّ ما يترتّب على ترك الواجب واللوم على ترك المستحبّ ، فأقصى ما يقتضيه العتاب هو كراهة ارتكاب الشبهات واستحباب اجتنابها.

وثالثا : أنّ قوله عليه السلام : « من أخذ بالشبهات ... » إلى آخره ، عامّ من جهات عديدة فيخصّص بقوله عليه السلام : « كلّ شيء مطلق ... » إلى آخره ، لكونه خاصّا بالشبهة الحكميّة ، وتخصيص الأكثر المتوهّم مشترك اللزوم ، لأنّه إنّما يلزم بإخراج الشبهات الموضوعيّة ولا يندفع بدخول الشبهات الحكميّة لقلّتها ، والحاسم لمادّة هذا الإشكال إبقاء الرواية على عمومها وحملها على كراهة الارتكاب ونحوها.

ورابعا : بمنع دلالتها على وجوب الاجتناب ومنع الارتكاب ، فإنّ قوله عليه السلام : « من ترك الشبهات نجى عن المحرّمات » يقضي بالملازمة الواقعيّة الدائميّة بين الترك والنجاة ، كما أنّ قوله عليه السلام : « من أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات » أيضا يقضي بالملازمة الواقعيّة بين الأخذ والارتكاب ، والملازمة الاولى وإن كانت مسلّمة إلاّ أنّ الملازمة الثانية في بعض

ص: 81


1- الكافي 1 : 68 ، ح 10.
2- كفاية الأثر : 227.

تقاديرها محلّ منع وفي البعض الآخر غير مجدية.

وتوضيحه : أنّ الأخذ بالشبهات إمّا أن يحمل على الأخذ بجميعها على حدّ العموم المجموعي ، أو على الأخذ بكلّ واحد منها على حدّ العموم الأفرادي ، وعلى الثاني فالملازمة الواقعيّة بينه وبين ارتكاب المحرّمات إمّا أن تكون دائميّة أو تكون غالبيّة أو تكون أحيانيّه.

والملازمة في الأوّل وإن كانت مسلّمة ، لوضوح أنّ الأخذ بجميع الشبهات يلازم ارتكاب محرّم واقعي لا محالة ، إلاّ أنّه لا يصلح جهة للمنع عن الارتكاب ، كما لا يصلح لها على مذاق الخصم في الشبهات الموضوعيّة ، فإنّ ارتكابها كذلك يلازم ارتكاب محرّمات واقعيّة لا محالة بالبداهة ، وهو ملغى في نظر الخصم ولا يؤثّر في منع الارتكاب.

وهي في الوجه الثاني ممنوعة ، ولا يسوغ تنزيل الرواية عليها صونا لها عن وصمة الكذب ، كما أنّها في الوجه [ الثالث ](1) أيضا ممنوعة ، وإنّما يلزم غلبة ارتكاب المحرّمات الواقعيّة لو دخلت الشبهات الموضوعيّة أيضا في الرواية ، ومفروض كلام الخصم خروجها ، والشبهات الحكميّة التحريميّة بأنفسها في غاية القلّة ، ولا يلازم الأخذ بها بمجرّدها غلبة ارتكاب المحرمات.

وهي في الوجه الرابع مسلّمة إلاّ أنّ الهلاك في قوله : « وهلك من حيث لا يعلم » إمّا أن يراد به الهلاك الاخروي أعني العقاب ، أو الهلاك الدنيوي الّذي يترتّب على فعل المحرّم الواقعي من باب الخاصيّة كسميّة السمّ ونحوها ، والأوّل ممّا لا يجوز تنزيل الرواية عليه لقبح العقاب عقلا على مخالفة الحرمة الواقعيّة المجهولة ، والثانية مسلّم إلاّ أنّه أيضا لا يصلح جهة للمنع عن الارتكاب ، كما لا يصلح لها في الموضوعات الخارجيّة على رأي الخصم ، فلا دلالة للرواية في شيء من وجوهها على وجوب اجتناب الشبهات وحرمة ارتكابها ، بل غاية ما يسلّم إنّما هو الدلالة على أولويّة الاجتناب ولا كلام فيها.

تقرير دليل العقل على الاحتياط في الشبهات الحكميّة التحريميّة

وأمّا العقل : فيقرّر بوجهين :

أحدهما : أصل الاشتغال الّذي هو أصل عقلي يجري فيما علم اشتغال الذمّة وشكّ في البراءة ، لاستقلال العقل بأنّ الاشتغال اليقيني يستدعي يقين البراءة باتّفاق من المجتهدين والأخباريّين ، وأمّا صغرى هذا الأصل فلأنّا قبل مراجعة الأدلّة الشرعيّة علمنا إجمالا

ص: 82


1- وفي الأصل : « الثاني » وهو سهو منه قدس سرّه والصواب ما أثبتناه في المتن.

بالبديهة بأنّ في الشريعة محرّمات كثيرة اشتغلت ذمّتنا بوجوب تركها أجمع على وجه اليقين ، وبعد مراجعة الأدلّة وإن ظهر جملة من تلك المحرّمات المعلومة بالإجمال إلاّ أنّه لم يحصل بذلك القطع بالخروج عن عهدة الترك الواجب علينا ، بل القطع به موقوف على ترك كلّ ما احتمل كونه منها إذا لم يكن دليل شرعي على حلّيته وإباحته ، إذ مع وجود هذا الدليل يقطع بعدم العقاب على الفعل وإن لم يقطع بإباحته في الواقع.

فصار المحصّل : أنّه يجب تحصيل اليقين بالبراءة إمّا بيقين الخروج عن العهدة ، أو بيقين عدم العقاب على الفعل ولو مع الحرمة واقعا.

والجواب عن ذلك :

أوّلا : النقض بالشبهات الحكميّة الوجوبيّة ، لحصول العلم الإجمالي من جهة الضرورة قبل النظر في الأدلّة الشرعيّة بأنّ في الشريعة واجبات كثيرة اشتغلت ذمّتنا بالتكليف بإتيانها أجمع على وجه اليقين إلى آخر ما ذكره.

وثانيّا منع اشتغال الذمّة بأزيد ممّا أمكن تحصيل العلم التفصيلي أو الظنّ التفصيلي من جهة الأدلّة الشرعيّة به ، فإنّ شرط تنجّز التكليف بالنسبة إلى الأحكام الواقعيّة المجعولة في الوقائع المصحّح للعقاب على مخالفتها إنّما هو العلم الإجمالي مع التمكّن من العلم التفصيلي بها أو ما يقوم مقام العلم التفصيلي ، ومنه فتوى الفقيه بالنسبة إلى المقلّد ، ولذا لا يكون الجاهل المقصّر في الأحكام المتمكّن من العلم التفصيلي بها أو ما يقوم مقامه معذورا في جهله ، ويصحّ عقابه على مخالفة تلك الأحكام وأمّا غير العالم بالإجمال كالغافل أو العاجز عن العلم التفصيلي وما يقوم مقامه فذمّته ليست مشغولة بتكليف إلزامي في الوقائع المجهولة وإن كانت الأحكام المجعولة لها في الواقع هي الأحكام الإلزاميّة من وجوب أو حرمة ، ويقبح عقلا مؤاخذته وعقابه على مخالفة تلك الأحكام ، وعليه مبنى ما تقدّم في تقرير الدليل العقلي على أصل البراءة من قبح التكليف بلا بيان ، وقبح المؤاخذة على مخالفة ما لا سبيل للمكلّف إلى العلم به من الوجوب أو الحرمة الواقعيّين.

وكلامنا في باب أصل البراءة مفروض في صورة العجز عن تحصيل العلم بالحكم الواقعي وما يقوم مقامه ، ولذا يشترط في إعماله الفحص أو اليأس عن الدليل المعتبر ، فالعقل الحاكم بقبح المؤاخذة والعقاب على مخالفة الحكم الواقعي المجهول لا يحكم مع ذلك بوجوب ترك كلّ ما احتمل كونه من المحرّمات الواقعيّة ، ولا بوجوب إتيان كلّ ما احتمل كونه من الواجبات الواقعيّة من جهة أصل الاشتغال ، ويرجع ذلك إلى اليقين بعدم

ص: 83

العقاب على الفعل مع الحرمة واقعا ولا على الترك مع الوجوب واقعا ، فهذا أحد الأمرين ممّا وجب تحصيله على المكلّف لتحصيل اليقين بالبراءة على معنى خلوّ ذمّته عن التكليف الإلزامي ، حسبما اعتبره المستدلّ في تقرير الدليل.

وثالثا : أنّ الضابط في إعمال أصل الاشتغال بعد العلم بأصل الاشتغال إنّما هو الشكّ في المكلّف به الّذي لا يؤول إلى الشكّ في أصل التكليف ، وبعد إخراج المحرّمات المعلومة أو المظنونة كان الشكّ في الباقي شكّا في أصل التكليف فيرجع فيه إلى أصل البراءة ، ولا مجرى معه لأصل الاشتغال ، لعدم بقاء احتمال الاشتغال بعد الحكم بالبراءة ، على معنى خلوّ ذمّة المكلّف عن التكليف المشكوك فيه ، وإن احتملت الواقعة من حيث هي للحكم الإلزامي المجعول لها في الواقع.

وثانيهما : كون الأصل في الأفعال الغير الضروريّة الحظر ، كما عليه طائفة من الإماميّة ، فيعمل به حتّى يثبت من الشرع الإباحة ، والمفروض فيما لا نصّ فيه عدم ورود الإباحة فيه بالخصوص ، وأمّا الإباحة بالعموم على تقدير تسليم دلالة ما ورد فيه فهو معارض بما ورد من الأمر بالوقف أو الاحتياط ، فلا بدّ من الرجوع إلى الأصل.

وعن الشيخ الاحتجاج عليه في العدّة « بأنّ الإقدام على ما لا يؤمن المفسدة فيه كالاءقدام على ما يعلم فيه المفسدة (1) ».

ومحصّله : كون الإقدام على ما احتمل فيه الضرر حراما باعتبار كون دفع الضرر المحتمل واجبا ، وقد تقدّم في تضاعيف الدليل العقلي على أصل البراءة في الشبهة الوجوبيّة نسبة الجزم بذلك عن السيّد أبي المكارم في الغنية (2).

وجوابه : فساد تفريع ما نحن فيه على مسألة الحظر والإباحة ، ثمّ منع الأصل ، ثمّ منع مدركه المشار إليه.

أمّا الأوّل : فبناء على ما استظهرناه في مقدّمات المسألة المشار إليها من كلمات القولين بالإباحة والحظر من إرادة الإباحة والحظر الواقعيّين ، والكلام فيما نحن فيه إنّما هو في استعلام الحكم الظاهري بعد الوقف في الحكم الواقعي المردّد بين الحرمة وغير الوجوب.

وأمّا الثاني : فلما حقّقناه ثمّة من أنّ الحقّ مع المبيحين إن أرادوا بالإباحة مجرّد عدم الحرج في الفعل ، لتطرّق المنع إلى حكم العقل بالحظر خصوصا الحظر الواقعي.

ص: 84


1- العدة 2 : 742.
2- الغنية 2 : 363.

وأمّا الثالث (1) : فلما قرّرناه في تضاعيف المسألة المشار إليها عند الكلام على أدلّة الحاظرين وفي تضاعيف بيان الدليل العقلي على أصل البراءة في الشبهة الحكميّة الوجوبيّة من منع إعمال قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل فيما نحن فيه بما لا مزيد عليه ، ولا نطيل الكلام بإعادته هنا.

وملخّص ما قدّمناه في الموضعين إمّا منع احتمال الضرر أو منع وجوب دفعه. ولو بقى هاهنا تتمّة فلعلّنا نتعرّض لها عند الكلام في الشبهة التحريميّة في الموضوع.

فتقرّر بجميع ما سمعت أنّ الأصل فيما لا نصّ فيه من الشبهة الحكميّة التحريميّة هو البراءة ، على معنى عدم وجوب الاجتناب عن المشتبه من جهة الاحتياط وغيره ، ولو عبّر في مكانها بالإباحة فلا بدّ أن يراد بها مجرّد عدم الحرج في فعل المشتبه.

وأمّا الإباحة بمعنى التسوية بين الفعل والترك حسبما أنشأها المنشئ فلا بدّ في الالتزام بها من دليل آخر غير ما تقدّم من أدلّة الأصل ، لأنّها لا تفيد أزيد من البراءة بمعنى خلوّ ذمّة الجاهل عن الإلزام بالترك. وعدم ترتّب العقاب على الفعل ، حتّى قوله عليه السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي » (2) فإنّ أقصاه الإطلاق بمعنى خلوّه عن قيد التكليف.

ثمّ الظاهر أنّه لا فرق فيه في الواقعة المشكوكة بين ما يعمّ به البلوى وغيره ، كما هو المشهور بين المجتهدين وعليه المحقّق أيضا في المعارج ، على ما هو ظاهر إطلاق عبارته المحكيّة : من « أنّ الأصل خلوّ الذمّة عن الشواغل الشرعيّة ، وإذا ادّعى مدّع حكما شرعيّا جاز لخصمه أن يتمسّك بالبراءة الأصليّة ، فيقول : لو كان ذلك الحكم ثابتا لكان عليه دلالة شرعيّة لكن ليس كذلك فيجب نفيه ، وهذا الدليل لا يتمّ إلاّ ببيان مقدّمتين :

إحداهما : أنّه لا دلالة عليه شرعا ، بأن ينضبط طرق الاستدلالات الشرعيّة ويبيّن عدم دلالتها عليه.

والثانية : أن يبيّن أنّه لو كان هذا الحكم ثابتا لدلّت عليه إحدى تلك الدلائل ، لأنّه لو لم يكن عليه دلالة لزم التكليف بما لا طريق للمكلّف إلى العلم به ، وهو تكليف بما لا يطاق ، ولو كانت عليه دلالة غير تلك الأدلّة لما كانت أدلّة منحصرة فيها ، لكنّا بيّنا انحصار الأحكام في تلك الطرق ، وعند ذلك يتمّ كون ذلك دليلا [ على ] نفي الحكم » انتهى (3).

خلافا له في المعتبر فخصّ العمل بالأصل بما يعمّ به البلوى على ما اشتهر نسبته إليه ،

ص: 85


1- وفي الأصل : « الثاني » بدل « الثالث » وهو سهو منه رحمه اللّه والصواب ما أثبتناه في المتن.
2- الفقيه 1 : 317 ، ح 937.
3- المعارج 212 - 213.

لكن لنا في النسبة نظرا ، لأنّ الّذي يظهر من كلامه المنقول اختياره التفصيل المذكور في أصل آخر يعبّر عنه بأنّ عدم الدليل على حكم دليل على عدم ذلك الحكم ، الّذي جعله أحد أقسام الاستصحاب حيث قال :

« الثالث : - يعني من أدلّة العقل - الاستصحاب وأقسامه ثلاثة :

الأوّل : استصحاب حال العقل وهو التمسّك بالبراءة الأصليّة ، كما يقال : الوتر ليس واجبا لأنّ الأصل براءة الذمّة ، ومنه أن يختلف العلماء في حكم الدية بين الأقلّ والأكثر كما في دية عين الدابّة المتردّدة بين النصف والربع - إلى أن قال - :

الثاني : أن يقال : عدم الدليل على كذا فيجب انتفاؤه ، وهذا يصحّ فيما يعلم أنّه لو كان على هذا دليل لظفر به ، أمّا لا مع ذلك فيجب التوقّف ، ولا يكون ذلك الاستدلال حجّة ، ومنه القول بالإباحة لعدم دليل الوجوب والحظر.

الثالث : استصحاب حال الشرع ، فاختار أنّه ليس بحجّة (1) بل إطلاقه القول باستصحاب حال العقل بمعنى التمسّك بالبراءة الأصليّة مع تقييد القسم الثاني بما عرفت يعطي إطلاق قوله بالبراءة الأصليّة.

وكيف كان فنحن نتكلّم على هذا التفصيل ونقول : إنّه إنّما يستقيم إذا كان النظر في أصل البراءة إلى الواقع ، ليصحّ نفيه فيما يعمّ به البلوى بعدم وجود الدليل عليه ، لقضاء العادة بأنّه لو كان لظفرنا به ، فعدمه يدلّ على انتفاء الحكم الواقعي من وجوب أو حرمة.

ويدفعه : ما بيّنّاه مرارا من أنّ أصل البراءة بموضوعه ناطق بأن لا تعرّض فيه للواقع بإثبات ولا نفي ، بل هو متكفّل لبيان حال ذمّة المكلّف من حيث خلوّه عن التكليف الإلزامي ، وعدم العقاب على ارتكابه المشتبه مع إمكان خلوّ الواقعة من حيث هي عن الحكم الإلزامي ، على معنى عدم كون حكمها المجعول هو الوجوب أو الحرمة ، أو كون حكمها أحدهما مع عدم ورود دليل لبيانه لمصلحة ، أو مع وروده ولكن لم يبلغ إلينا ، أو بلغ مع اشتباه دلالته ، أو اتّضح دلالته مع اشتغاله بمعارضة مثله ، وهذا لا يتفاوت فيه الحال بين عموم البلوى بالواقعة وعدمه لعموم أدلّته.

وقضيّة ذلك العموم عدم الفرق أيضا في العمل به بين الأعيان من مشروب أو مأكول أو مطعوم حتّى اللحوم ، فلو شكّ في حرمة لحم حيوان وحلّيّته بعد إحراز طهارته - ولو بحكم الأصل - وقابليّته للتذكية كلحم الحمير مثلا ، يعمل فيه بالأصل المقتضي للحلّيّة ولو

ص: 86


1- المعتبر 1 : 32.

بمعنى عدم الحرج في فعله. وما يقال : من أنّ الأصل في اللحوم الحرمة ، فإنّما يسلّم في اللحوم الجزئيّة المشتبهة بشبهة الموضوع باعتبار الشكّ في وقوع التذكية عليه وعدمه ، كاللحم المطروح أو المأخوذ من يد كافر ونحوه ، ممّا انتفى فيه يد المسلم وسوقه ، ولم يوجد فيه أثر يد المسلم أيضا. ومنه الجلد المطروح ونحوه ، ممّا يعتبر في حلّيّته التذكية من أجزاء الحيوان المأكول لحمه ، لعدم جريان أصل البراءة فيه ، لوجود أصل موضوعي وارد عليه وهو أصالة عدم التذكية. وأمّا اللحوم الكلّية المشتبهة بشبهة الحكم فهذا الأصل ممّا لا أصل له فيها ، إلاّ باعتبار وجوب الاحتياط الّذي منعناه رأسا.

كلام الشهيد في الحيوان المتولّد من طاهر ونجس

وإذا انجرّ الكلام إلى هذا المقام فاعلم : أنّ لثاني الشهيدين في الروضة كلاما في مسألة الحيوان المتولّد من طاهر ونجس الّذي لم يلحق بأحدهما في الاسم ، ولم يكن له مماثل في الخارج ، المختلف في طهارته ونجاسته حيث قال : « وإن انتفى المماثل فالأقوى طهارته ، وإن حرم لحمه للأصل فيهما (1) ومراده بالأصل في الأوّل أصالة الطهارة الثابتة بالنصّ والإجماع ، ولا إشكال فيه ، وإن كان قد يناقش فيه باستصحاب النجاسة له في بطن الامّ قبل ولوج الروح ، بناء على أنّ ولوج الروح فيه ليس كاستحالة النطفة حيوانا من تبدّل الموضوع.

وفيه أوّلا : منع نجاسة هذا الحيوان في الحالة المذكورة ، إذ لا جهة له إلاّ كونه ميتة أو جزءا مبانا من الحيّ لا تحلّه الحياة ، والكلّ موضع منع ، لأنّه إنّما يسلّم أحد الأمرين إذا سقط قبل ولوج الروح ، وأمّا هو ما دام في بطن امّه وإن لم يصدق عليه الحيّ قبل ولوج الروح إلاّ أنّه لا يصدق عليه الميتة أيضا ولا أنّه جزء مبان من الحيّ ، لأنّ لحياة الامّ علاقة ومدخليّة ولذا ينموا يوما فيوما ، وأمّا إذا خرج بعد ولوج الروح ، فهو حيّ لم يسبقه حالة نجاسة إلاّ حال كونه نطفة وقد خرج عنها بالاستحالة.

وثانيا : بطلانه لتبدّل موضوع المستصحب على تقدير تسليم نجاسته في الحالة المذكورة ، لأنّه كان ميتة وقد صار حيّا ، وإجراء حكم الميتة في الحيّ كما ترى ، فالاستصحاب المتوهّم غير معقول إمّا لمنع الحالة السابقة ، أو لمنع بقاء موضوع المستصحب.

وأمّا الأصل في الثاني فقد يعترض عليه : بأنّ كلامه هاهنا لاستناده بذلك الأصل ينافي كلامه في باب الأطعمة والأشربة ، لبنائه ثمّة على حلّية الأشياء استنادا إلى أصالة الحلّ في الأشياء. (2)

ويمكن الذبّ عنه : بالتزام خروج اللحوم عن هذا الأصل بانقلابه إلى أصل ثانوي

ص: 87


1- الروضة البهيّة 1 : 285 - 286 ، وتمهيد القواعد : 270.
2- الروضة البهية 7 : 321.

مخصوص بها ، وإنّما الكلام في معنى ذلك الأصل ومدركه ، ولا يخلو عن إشكال بل الإشكال فيه قويّ ، وإن كان قد يوجّه احتمالا بإرادة أصالة حرمة اللحم الثابتة في حال الحياة على معنى استصحابها.

ويزيّفه - بعد فرض قبول هذا الحيوان للتذكية ووقوعها عليه - : أنّ الحرمة العرضيّة الثابتة حال الحياة مرتفعة بالتذكية ، والحرمة الذاتيّة من أوّل الأمر غير ثابتة ، فعلى الأوّل لا شكّ وعلى الثاني لا يقين.

وقد يوجّه أيضا - كما عن شارح الروضة (1) بأنّ كلاّ من النجاسات والمحلّلات محصورة ، فإذا لم يدخل في المحصور منها كان الأصل طهارته وحرمة لحمه.

وكأنّه مأخوذ عمّا ذكره في تمهيد القواعد (2) - على ما حكي - من أنّ المحرّم غير منحصر لكثرته على وجه لا ينضبط ، ولعلّ مرجعه إلى دعوى غلبة الطاهر والحرام على وجه ليس شيء منهما محصورا في عدد ولا محدودا بحدّ ، وقاعدة إلحاق مورد الشكّ بمورد الغالب تقضي بطهارته وحرمة لحمه.

وكيف كان فقد يجاب عنه : بمنع حصر المحلّلات ، بل المحرّمات محصورة ، والعقل والنقل دلّ على إباحة ما لم يعلم حرمته ، ولذا يتمسّكون كثيرا بأصالة الحلّ في باب الأطعمة والأشربة.

والتحقيق أن يقال : إنّ حصر المحلّلات ، إن اريد به المعنى المصطلح الاصولي المتضمّن للإثبات والنفي مع كونه مستفادا من الأدلّة الشرعية ، ففيه : منع واضح ، بل ظاهر بعض الأدلّة حصر المحرّمات ، ومن ذلك قوله تعالى : ( وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ) (3) وقوله أيضا : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ ) (4).

وإن اريد به قلّة المحلّلات وغلبة المحرّمات على وجه الخروج عن حدّ الإحصاء ، ففيه أوّلا : منع الصغرى ، بل الإنصاف عدم محصوريّة المحلّلات ولا سيّما في غير اللحوم.

وثانيا : منع الكبرى لأنّ الغلبة ليست من الامور التعبّديّة الصرفة ، بل إنّما يجوز التعويل عليها بناء على الظنون المطلقة حيث أفاد الظنّ باللحوق وهو مع عدم الملازمة محال ، كما

ص: 88


1- المناهج السويّة ( مخطوط ) : الورقة 84.
2- تمهيد القواعد : 270.
3- الأنعام : 119.
4- الأنعام : 145.

أنّ الملازمة مع العلم بوجود الفرد المخالف للأفراد الغالبة في الحكم بل وكثرته محال.

وقد يوجّه أيضا : بأنّ الحلّ في قوله تعالى : ( قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ) (1) المفيد للحصر على الطيّب ، فكلّ ما شكّ في كونه طيّبا فالأصل عدم إحلال الشارع له.

وعورض بأنّ التحريم في القرآن معلّق على الخبائث والفواحش ، فإذا شكّ فيه فالأصل عدم التحريم ، ومع تعارض الأصلين يرجع إلى أصالة الإباحة وعموم قوله تعالى : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَ ) (2) وقوله عليه السلام : « ليس الحرام إلاّ ما حرّم اللّه (3) ».

أقول : « الطيّب » و « الخبيث » ليس فيهما حقيقة شرعيّة ، فيحملان على ما ينساق منهما عرفا ، والخبيث ما يستقذره الطبع والطيّب مقابله ، وقد يكون هذا الحيوان ممّا يستقذره الطبع ، مع أنّ مبنى الأشكال في الحلّيّة والحرمة هاهنا ليس على كونه ممّا يستقذره الطبع أو لا ، وإلاّ عاد الشبهة إلى شبهة الموضوع والأصل فيها الإباحة اتّفاقا.

وقد يوجّه أيضا : بأصالة عدم التذكية من جهة الشكّ في قبوله لها.

ودفع : بأنّ الأصل في الحيوان - على ما قرّر في محلّه - قبول التذكية.

ويرد عليه أيضا : أنّ قبول التذكية ووقوعها لا يلازم الحلّية ، ضرورة عدم استلزام الأعمّ للأخصّ ، فليس مبنى الأصل المذكور على ما ذكر.

وبالجملة ليس مبنى الشبهة على أنّه يقبل التذكية أو لا ، بل على حرمة لحمه لذاته وعدمها ، ولذا لو فرضنا قبوله التذكية كانت الشبهة من الجهة المذكورة باقية ، مع أنّ الجمع بين الحكم بطهارته وحرمة لحمه يأبى عن الحمل المذكور ، لأنّ أصالة عدم التذكية إن تمّت لقضت بنجاسته أيضا ، لكون النجاسة كالحرمة من أحكام الغير المذكّى الّذي يقال له الميتة.

وتحقيق المقام : أنّ الشبهة التحريم في هذا الحيوان إن كانت ناشئة عن الشكّ في قبوله التذكية فأصالة عدم التذكية - على معنى عدم تحقّقها في الخارج - في محلّه ، لكونها حاكمة على أصالة الحلّ ، إلاّ أن يثبت أصالة قبول التذكية في الحيوان بدليل اجتهادي معتبر وارد عليها.

وإن كانت حاصلة ولو مع فرض قبوله التذكية فأصالة الحلّ والإباحة محكّمة ولا وارد

ص: 89


1- المائدة : 4.
2- الأنعام : 145.
3- الوسائل 17 : 3 ، الباب 1 من أبواب الأطعمة والأشربة ، ح 4.

ثمّ إنّ الاحتياط في الوقائع المحتملة للتحريم بالترك والاجتناب بعد نفي وجوبه لمنع أدلّة وجوبه ممّا لا إشكال في حسنه ورجحانه ، لكونه طريق التخلّص عن الحرام الواقعي المحتمل ، بل ولا مانع من المدح والثواب عليه من جهة الانقياد حسبما بيّنّاه في الاحتياط بالفعل والإتيان في الوقائع المحتملة للوجوب. وأمّا بلوغ الرجحان المذكور إلى مرتبة الاستحباب الشرعي أو الكراهة الشرعيّة للارتكاب فمحلّ إشكال ، بل القدر المسلّم منه من جهة العقل إنّما هو رجحانه الغيري ، كما يظهر وجهه من التعليل المتقدّم بكونه طريقا إلى التخلّص عن الحرام الواقعي ، والأوامر الواردة به بعد صرفها عن الوجوب وإبقاء الاحتياط فيها على المعنى المبحوث عنه باعتبار سياقاتها مطابقة لحكم العقل ، فتكون ظاهرة في الإرشاد لمجرّد الحكمة المذكورة ، فلا يترتّب على موافقتها ومخالفتها سوى الخاصيّة المترتّبة على الفعل والترك ، من التخلّص عن الحرام الواقعي والوقوع فيه على تقدير كون الحكم الواقعي المجعول للواقعة هي الحرمة.

تذنيب : في الشبهة التحريميّة الموضوعيّة

تذنيب : في الشبهة التحريميّة الموضوعيّة إذا كان الاشتباه في موضوع خارجي وجزئي حقيقي مردّد بين كونه فردا للعنوان المحرّم المعلوم حرمته أو العنوان المحلّل المعلوم حلّيته ، كالمائع المردّد بين الخمر والخلّ ، والمرأة المردّدة بين الزوجة والأجنبيّة ، واللحم أو الجلد المردّد بين المذكّى والميتة ، إلى غير ذلك ممّا لا يحصى كثرة.

وقد عرفت في مباحث الشبهة الوجوبيّة أنّ الشبهة الموضوعيّة ما لم تكن آئلة إلى الشبهة الحكميّة ليس من شأنها أن يبحث عنها الفقيه ، لكن لمّا كان اشتباه الحكم الشرعي ناشئا عن اشتباه الموضوع بحيث لو زال هذا الاشتباه زال اشتباه الحكم أيضا ، ولو كان السبب في زوال اشتباه الموضوع أصل (1) من الاصول ، كما في مسألة الزوجة المردّدة واللحم المردّد ، فإنّ أصالة عدم الزوجيّة في الاولى وأصالة عدم التذكية في الثاني تقتضي الحرمة ، الّتي هي حكم الأجنبيّة والميتة.

ومن هنا ظهر أنّ الموضوعات المشتبهة المردّدة بين النوع المحلّل والنوع المحرّم على قسمين :

أحدهما : ما وجد فيه أصل من الاصول يعيّن المشبته ويرفع عنه الاشتباه ، وهو المسمّى بالأصل الموضوعي كما في المثالين المتقدّمين ، والحكم في هذا القسم تابع لما يقتضيه الأصل ويعيّنه من الموضوع ، فإن أفاد دخوله في المحلّل فحكمه الحلّية ، وإن أفاد دخوله في المحرّم فحكمه التحريم ، وعلى التقديرين لا يجري فيه أصل البراءة لا على وجه

ص: 90


1- كذا في الأصل ، ولعلّ الصواب : أصلا.

يعارض الأصل المذكور ولا على وجه يعاضده ، ووجهه يعلم ممّا تقدّم في مفتتح الباب من أنّ الأصل كما لا يصلح معارضا للدليل كذا لا يصلح معاضدا له.

وثانيهما : ما لا يوجد فيه شيء من الاصول الرافعة لاشتباه الموضوع كما في مسألة المائع المردّد بين الخلّ والخمر ، وهذا هو محلّ الكلام في هذا المقام.

فنقول : إنّ الحكم فيه هو البراءة ، على معنى جواز الارتكاب وعدم الاجتناب وعدم العقاب على الفعل لو صادف الحرام الواقعي ، للأصل العامّ المستفاد من الأدلّة المتقدّمة ، ولا سيّما الإجماع لكون العمل بالأصل هنا وفاقيّا عند الفريقين ، والإجماعات المنقولة فيه بالغة فوق حدّ الاستفاضة ، بل ربّما ادّعي تواترها.

وأظهر ما يدلّ عليه هنا من السنّة قوله عليه السلام : « كلّ شيء فيه حلال وحرام » إلى آخره (1) فإنّه لو لم يكن ظاهرا في شبهة الموضوع فلا أقلّ من عدم ظهوره في شبهة الحكم أيضا فيعمّ النوعين ، وإلاّ فقد عرفت أنّه لا ينحلّ إلاّ الموضوع.

ويقرب منه بل يوافقه في الدلالة على المطلب رواية مسعدة بن صدقة « كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك ولعلّه سرقة ، أو العبد يكون عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه أو قهر فبيع أو خدع فبيع ، أو امرأة تحتك وهي اختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير هذا أو يقوم به البيّنة » (2) كما استدلّ به العلاّمة في التذكرة (3) وتبعه جماعة ممّن تأخّر عنه.

وإن كان قد يتأمّل في صحّة الاستدلال بها باعتبار أنّ الحلّية في الأمثلة المذكورة فيها إنّما هي من مقتضى اصول اخر غير أصل البراءة كقاعدة اليد في الأوّلين ، وأصالة عدم تحقّق النسب والرضاع في الأخير ، بحيث لو قطع النظر عن تلك الاصول كان مقتضى الاصول الموضوعيّة الموجودة فيها - وهو استصحاب بقاء ملك الغير في الأوّل ، وأصالة الحرّيّة في الإنسان المشكوك في رقّيته في الثاني ، وأصالة عدم تأثير العقد في الثالث ، المانعة عن جريان أصل البراءة فيها - هو الحرمة ومنع التصرّف ، فلا مجرى لأصل البراءة في شيء منها ، ومع ذلك كيف يستدلّ عليه بهذه الرواية.

فإنّه يندفع بعموم « كلّ شيء » في الصدر ، وعموم « الأشياء كلّها على هذا » لوضوح أنّ

ص: 91


1- الوسائل 12 : 59 ، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به ، ح 1.
2- الوسائل 12 : 60 الباب 4 من أبواب ما يكتسب به ، ح 4.
3- التذكرة 1 : 588 ( الطبعة الحجريّة ).

فإنّه يندفع بعموم « كلّ شيء » في الصدر ، وعموم « الأشياء كلّها على هذا » لوضوح أنّ التمثيل لا يفيد التخصيص ، والاعتبار إنّما هو بعموم المقال لا بخصوص المثال ، والعامّ صدرا وذيلا يتناول جميع الموضوعات الخارجيّة وجد فيها أصل آخر مقتض للحلّية غير أصل البراءة أو لا ، وجد أصل موضوعي مقتض للحرمة أو لا ، فيندرج فيه ما لا يوجد فيه الأصلان كما فيما نحن فيه.

غاية ما هنالك لزوم تخصيص في العموم بالقياس إلى ما يوجد فيه أصل موضوعي لم يحكم عليه أصل آخر غير أصل البراءة ، كاللحم المطروح ونظائره بما سنشير إليه من طريق هذا التخصيص ، بل في ذيل الرواية باعتبار الغاية الموجودة فيه دلالة واضحة على أنّ الأصل في الأشياء هو الحلّية من غير حاجة لها إلى دليل ولا بيّنة ، وإنّما المحتاج إليهما هو الحرمة.

ويمكن الاستدلال هنا بطريق العقل الحاكم بقبح التكليف بلا بيان أيضا ، بتقريب : أنّ الموضوع المشتبه المردّد بين حلال وحرام لو وجب اجتنابه وترتّب العقاب على ارتكابه لزم التكليف بلا بيان ، واللازم باطل لقبح التكليف بلا بيان عقلا.

أمّا الملازمة : فلأنّ وجوب الاجتناب عن هذا الموضوع إمّا من جهة الحرمة الواقعيّة المجعولة للعنوان المحرّم المشكوك في اندراج هذا الموضوع فيه ، أو أنّه حكم ظاهري مجعول للواقعة الشخصيّة المشكوك في حكمها الواقعي الملحوظة بهذا الوصف العنواني.

ولا سبيل إلى الأوّل ، لأنّ هذه الحرمة بالقياس إلى الواقعة مجهولة ، ولا يصحّ خطاب المكلّف بالحرمة المجهولة على وجه ينعقد تكليفا عليه يعاقب عليه ، ويقبح المؤاخذة والعقاب على مخالفته.

ولا إلى الثاني لأنّ الحكم الظاهري أيضا يحتاج إلى بيان والمفروض عدم حصوله لانتفاء الدليل عليه ، وأخبار الاحتياط قد ظهر حالها مع أنّ العاملين بها في الشبهات الحكميّة لم يعملوا بها هنا.

وتوهّم أنّ الشارع بيّن حكم الخمر بقوله : « الخمر حرام » ومع حصول بيان التحريم للخمر لا يلزم من وجوب الاجتناب عن موضوعه الخارجي الواقعي التكليف بلا بيان.

يندفع بالنقض بأنّه أيضا قد بيّن حكم الخلّ بقوله : « الخلّ حلال » ووجهه : أنّ التحريم الّذي بيّنه الشارع للخمر الواقعي لو كان كافيا في وجوب الاجتناب عمّا احتمل كونه خمرا لكان الحلّ الّذي بيّنه الشارع للخلّ الواقعي كافيا في الحكم بحلّية ما احتمل كونه خلاّ.

ص: 92

غاية الأمر تعارض الخطابين في الموضوع الخارجي المردّد بين الخمر والخلّ فيتساقطان ، ويرجع معه إلى الأصل المستفاد من العمومات.

هذا مع أنّ البيان المذكور غير كاف في تحقّق البيان وإزاحة العلّة بالقياس إلى الموضوع المشتبه ، لعدم توجّه التحريم المذكور إلى المكلّف في الواقعة الشخصيّة المجهولة.

ألا ترى أنّه لو قال السيّد لعبده : « أكرم العالم ولا تكرم الفاسق » لا يذمّ العبد على إكرام ما احتمل كونه فاسقا ، وترك إكرام ما احتمل كونه عالما ، بل على إكرام ما علم تفصيلا أو إجمالا كونه فاسقا ، وعلى ترك إكرام ما علم كذلك كونه عالما.

والسرّ في ذلك ، أنّ الخطاب الوارد في عنوان كلّي لا يوجب بالقياس إلى الموضوعات الخارجيّة تكليفا إلاّ فيما علم كونه من مصاديق ذلك العنوان تفصيلا أو إجمالا ، كما لو كان أحد الامور المحصورة مع الاشتباه ، فالتكليف الفعلي الّذي عليه مدار الثواب والعقاب في موضوع الحكم الواقعي ومصاديقه الخارجيّة مشروط بالعلم بأحد قسميه ، والمفروض انتفاؤه في المقام ، والمشروط عدم عند عدم شرطه بالضرورة ، فلا تكليف في المورد من جهة التحريم المذكور وإن كان بحسب الواقع من مصاديق متعلّقه.

وبالتأمّل فيما ذكرناه يظهر أنّه لا مجال لأن يقال : إنّ الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعيّة ومنها الخمر ، وإذا حرّمه الشارع وجب الاجتناب عن كلّ ما احتمل كونه خمرا في الواقع من باب المقدّمة العلميّة ، فالعقل لا يقبح العقاب على ارتكاب الموضوع المشتبه خصوصا على تقدير مصادفته الحرام الواقعي ، ومرجعه إلى إعمال قاعدة الشغل اليقيني المستدعي ليقين البراءة ، وهو لا يحصل إلاّ باجتناب ما ذكر.

وملخّص الاندفاع : منع الاشتغال اليقيني في الأفراد المحتملة الّتي لا يشوبها علم أصلا ، وإنّما يسلّم ذلك في الأفراد المعلومة تفصيلا فلا حاجة في البراءة عنه إلى مقدّمة ، والأفراد المعلومة بالإجمال في شبهة محصورة وهو المحتاج إلى المقدّمة العلميّة وهو الاجتناب عن جميع أطراف الشبهة ، فلا يقين بالاشتغال فيما نحن فيه ليجب مقدّمة اليقين بالبراءة عنه.

وبالجملة قاعدة الاشتغال مقصورة على موارد الشكّ في المكلّف به الّذي لا يؤول إلى الشكّ في التكليف ، ولا يكون إلاّ إذا دار المكلّف به بين متبائنين ، كما لو دار الخمر الواقعي مثلا بين المتّخذ من العنب والمتّخذ من الشعير ، أو دار مصداقه الخارجي بين هذا وذاك كما

ص: 93

في الإنائين المشتبهين ، فيجب الاجتناب عن الجميع في الصورتين مقدّمة ليقين البراءة ، ومرجع الاشتباه في الفرد المردّد إلى الشكّ في التكليف الصرف وإن كانت قضيّة قوله عليه السلام : « الخمر حرام (1) » متيقّنة ، لوضوح أنّ محمول القضيّة في لحاظ الصدق على شيء يتبع موضوعها في الصفات النفسانيّة من العلم والجهل والظنّ والشكّ ، وإذا كان صدق موضوع هذه القضيّة المتيقّنة على الفرد المردّد مشكوكا كان صدق محمولها عليه أيضا مشكوكا ، ومع هذا الشكّ فالعقاب على ارتكابه قبيح عقلا.

نعم الاحتياط باجتنابه خروجا عن مخالفة النهي الواقعي المحتمل ممّا لا إشكال في حسنه ولا يمكن الاسترابة فيه ، إلاّ أنّه لا يبلغ حدّ اللزوم الشرعي.

وأمّا ما يتوهّم من منع جريان حكم العقل هاهنا بملاحظة ما في الفرد المشتبه من احتمال الضرر الواجب دفعه عقلا ، فيقال : « هذا ما يحتمل فيه الضرر ، وكلّ ما يحتمل فيه الضرر يجب اجتنابه دفعا للضرر المحتمل ».

ففيه : ما مرّ مرارا من منع احتمال الضرر إن اريد به الاخروي - أعني المؤاخذة والعقاب - لأنّ العقل المستقلّ بقبح التكليف بلا بيان وقبح المؤاخذة على مخالفة الحرمة المجهولة خصوصا على تقدير عدم مصادفة الحرام الواقعي يؤمننا من الضرر ، ومنع وجوب دفعه مع مطلق الاحتمال إن اريد به الدنيوي من قساوة ونحوها ، وإنّما يجب دفعه إذا كان مظنونا أو محتملا بالاحتمال العقلائي الّذي معياره حصول الخوف في النفس ومنه حكم العقل بوجوب دفعه عند وجود مايع محتمل السمّية وإن فرض تساوى الاحتمالين من جميع الوجوه ، بل ومع رجحان عدمها في بعض الأحيان ، بل ربّما أمكن منع وجوب دفعه مع الظنّ أيضا إذا كان ممّا يتسامح فيه عند العقلاء كالقساوة وعدم استجابة الدعاء ونحوهما ممّا لا يرجع إلى زوال عقل أو هلاك نفس أو ظهور نقص في البدن أو حدوث مرض أو شدّته أو بطئه.

وبهذا يندفع ما قيل : من أنّه قد يقوم أمارة غير معتبرة شرعا على الحرمة فيظنّ الضرر فيجب دفعه ، مع انعقاد الإجماع في العمل بالأصل على عدم الفرق بين الشكّ والظنّ الغير المعتبر ، فإنّ ما يحصل به الظنّ الغير المعتبر إذا لم يكن ضررا لا يتسامح فيه عند العقلاء

ص: 94


1- التهذيب 1 : 279 ، ح 821 ، الاستبصار 1 : 189 ، ح 663 ، الوسائل 2 : 1056 الباب 38 من أبواب النجاسات ، ح 9.

لا يجب دفعه عند العقل ، بل نقول : إنّ قوله عليه السلام : « كلّ شيء لك حلال ... » (1) إلى آخره كما يدلّ على الترخيص في ارتكاب المشتبه ولازمه نفي الضرر الاخروي ، كذلك يدلّ على عدم وجوب دفع الضرر الدنيوي المحتمل فيه ، ولا يلزم به على ما بيّنّاه تخصيص في حكم العقل إمّا لعدم قضاء العقل بوجوب دفع كلّ ضرر ولا مع كلّ احتمال ، أو لأنّ حكم العقل بوجوب دفعه فيما يحكم به إرشاديّ صرف لا يقصد به إلاّ مجرّد التخلّص عن الضرر المحتمل ، فلا يترتّب على موافقته ومخالفته سوى ما يترتّب على الفعل والترك ، فلا ينافيه عدم الوجوب الشرعي الّذي يترتّب على مخالفته العقاب ، ولا يلزم من ترخيص الشارع في الوقوع على الضرر الدنيوي قبح عليه إمّا لكون الضرر ممّا يتسامح فيه عند العقلاء ، أو لكفاية العقل الموجود فيه في الإرشاد إلى دفعه وإن لم يترتّب على تركه عقاب من الشارع ووظيفة الشارع بيان ما يرجع إليه من المؤاخذة وعدمها ، أو لأنّ التعويل على ترخيص الشارع في الارتكاب ربّما يصير ترياقا يندفع به الضرر الّذي في قوّة الحصول على تقدير مصادفة الحرام الواقعي ، فليتدبّر.

ولكن لا يخفى عليك أنّ إثبات أصل البراءة في الموضوعات بطريق العقل على الوجه المذكور إنّما يتمّ حيث لم يمكن تحصيل العلم والمعرفة ، ولم يكن طريق إلى رفع الاشتباه ولو بواسطة أصل من الاصول المشخّصة للموضوعات ، إذ لا يأبى العقل عن المؤاخذة على مخالفة الحرمة الواقعيّة عند مصادفة الحرام الواقعي فيما أمكن معرفته ، وحينئذ فطريق إثبات الأصل في هذه الصورة منحصر في الأدلّة الاخر ، ويكفي فيه إطلاق قوله : « كلّ شيء لك حلال ... الخ ». مضافا إلى ما دلّ على عدم وجوب الفحص للعمل به في الموضوعات كما سنبيّنه.

المطلب الثالث : في دوران الأمر بين الوجوب والتحريم لشبهة حكميّة أو موضوعيّة

المطلب الثالث

من الشكّ في التكليف في دوران الأمر بين الوجوب والتحريم لشبهة حكميّة أو موضوعيّة ، والمراد به ما انتفى فيه احتمال غيرهما من إباحة أو استحباب أو كراهة ، إذ مع احتماله كانت المسألة ممّا يتركّب من دوران الأمر بين الوجوب وغير التحريم ، أو بين التحريم وغير الوجوب ، فيعلم حكمها ممّا عرفت فيهما من البناء على البراءة في نفي

ص: 95


1- الكافي 5 : 313 ، ح 40 ، التهذيب 4 : 226 ، ح 989 ، الوسائل 12 : 59 الباب 4 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأول.

التكليف الإلزامي وجوبا أو تحريما.

والمراد من دوران الأمر بينهما لشبهة حكميّة أن يكون اشتباه الحكم الشرعي المجعول للواقعة من حيث هي ناشئا من قيام الدليل على أحدهما من دون تعيين لفقد الدليل على التعيين ، أو إجمال الدليل الوارد فيه ، أو تعارض الدليلين ، ومنه ما اختلفت الامّة فيه على قولين مع اتّفاق الفريقين على نفي الثالث ، فهل يجوز طرحهما معا عملا بأصل البراءة فيهما - على معنى خلوّ ذمّة المكلّف عن التكليف الإلزامي بفعل ولا بترك وعدم العقاب على شيء منهما ، وإن كان الحكم المجعول للواقعة من حيث هي لا يخلو عن أحدهما - أو يجب الأخذ بواحد منهما على معنى الالتزام به ثمّ العمل على طبقه على التعيين أو التخيير بينه وبين الآخر بدويا أو استمراريّا ، أو الوقف من حيث الطرح والأخذ ثمّ التخيير في العمل بدوا أو استمرارا؟

وقد يقال : إنّ محلّ هذه الوجوه ما لو كان كلّ من الوجوب والتحريم توصّليّا بحيث يسقط بمجرّد الموافقة ، إذ لو كانا تعبّديين محتاجين إلى قصد امتثال التكليف أو كان أحدهما المعيّن كذلك لم يكن إشكال في عدم جواز طرحهما والرجوع إلى الإباحة ، لأنّه مخالفة قطعيّة عمليّة.

وفيه نظر ، لأنّ محصّل معنى طرحهما معا عملا بالأصل إلغاء الشارع لهما وعدم ترتيب آثار التكليف عليهما من المؤاخذة والعقاب لا على الفعل ولا على الترك ، لكون الجهل بنوع التكليف بعد العلم بجنسه في نظره كالجهل بجنس التكليف رأسا في كونه عذرا مانعا عن اشتغال الذمّة بالمجهول ولو كان مجعولا في الواقع ، بل ربّما كان الجهل بالنوع أولى بالمنع من الجهل بالجنس مع احتماله ، لإمكان امتثاله بالاحتياط بالفعل في محتمل الوجوب والترك في محتمل الحرمة في الثاني دون الأوّل ، لا بالفعل لاحتمال الحرمة ولا بالترك لاحتمال الوجوب.

وقضيّة ذلك كلّه كون المخالفة مغتفرة عند الشارع التزاميّة كانت أو عمليّة ، احتماليّة كانت أو قطعيّة ، ولا يفترق الحال في ذلك بين كون كلّ منهما أو أحدهما المعين تعبّديّا أو توصّليّا ، بل قضيّة الفرض عدم لزوم المخالفة العمليّة ، لأنّ الّذي يقبح في الشرع والعقل إنّما هو المخالفة العمليّة ، للتكليف الإلزامي الشاغل للذمّة فعلا لا مخالفة مطلق الحكم الإلزامي

ص: 96

المجعول للواقعة من حيث هي وإن لم يتوجّه إلى المكلّف بالفعل ولم يشتغل ذمّته به فعلا لمانع.

نعم لو ثبت بالدليل أنّ الّذي ألغاه الشارع من آثار التكليف المعلوم المردّد بين نوعي الوجوب والتحريم إنّما هو وجوب الموافقة القطيّة لتعذّرها لا حرمة المخالفة القطعيّة في العمل اتّجه الفرق المذكور ، لكن مرجعه إلى منع جريان أصل البراءة بالتزام اشتغال الذمّة في محلّ البحث بالتكليف المردّد وهذا قبل إبطال احتمال الالغاء بالمعنى المذكور أوّل المسألة.

وكيف كان فلا يبعد القول بالطرح والإلغاء بالتزام جريان أصل البراءة النافي لاشتغال الذمّة بالتكليف المردّد ، ونتيجته جواز الفعل والترك وعدم الحرج فيهما ، على معنى كونه الحكم المجعول للواقعة الملحوظة بوصف الجهالة ، إلاّ إذا كان هناك مانع آخر من الفعل كما لو كان عبادة وقلنا بحرمته من حيث التشريع فيختصّ المنع حينئذ بصورة الإتيان به بداعي المشروعيّة لا مطلقا ، وذلك لعموم أدلّة الأصل المذكور كتابا وسنّة ، فإنّ قوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (1) - بعد تسليم نهوض دلالته على أصل البراءة ، بناء على كون بعث الرسول كناية عن تبليغ الأحكام الواقعيّة - ظاهر في البلوغ الكافي في إزاحة العلّة ، ولا ريب في عدم بلوغ كلّ من الوجوب والتحريم في تلك الواقعة إذا اخذ بانفراده ، وبلوغ الأمر المردّد غير كاف في إزاحة العلّة ، وإنّ كلاّ منهما ممّا حجب اللّه علمه عن العباد بالخصوص فيكون موضوعا عنهم ، وإنّ كلاّ منهما بالخصوص ممّا لا يعلمه الامّة فيكون مرفوعا عنهم ، ومعنى الرفع والوضع على ما تقدّم رفع جميع آثارهما أو خصوص المؤاخذة ، والأمر المردّد غير خال عن أحدهما ، فتكون المؤاخذة مرفوعة عنه أيضا. والورود في قوله عليه السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي (2) » أو أمر على رواية الشيخ ظاهر في بلوغ أحدهما على وجه يعلمه المكلّف بعينه ، فصدق فيما نحن فيه أنّه لم يرد فيه نهي ولا أمر.

هذا كلّه مضافا إلى حكم العقل المستقلّ بقبح المؤاخذة والعقاب على مخالفة ما لا سبيل للمكلّف إلى معرفته من الحكم الواقعي المعيّن عند اللّه ، وعلى مخالفة ما لا سبيل له إلى امتثاله وموافقته من الأمر المردّد بين الوجوب والتحريم.

وممّا يكشف عن صحّة حكم العقل هنا بناء العقلاء في نظائر المسألة ، كما في العبد المطيع إذا بلغه من سيّده تارة وجوب قتل زيد واخرى تحريمه ، فإنّه لا يذمّ بعدم التزامه

ص: 97


1- الاسراء : 15.
2- الفقيه 1 : 317 ، ح 937.

بأحدهما ما دام متحيّرا ، ولا على ترك العمل على مقتضاهما بل كان تركه العمل عليه إلى أن يزول الاشتباه مستحسنا.

وتوهّم أنّ طرح الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال أيضا قبيح عقلا.

يدفعه : منع اللزوم إن اريد به نفيه عن الواقعة بحسب الواقع ، ومنع بطلان اللازم إن اريد به نفي اشتغال الذمّة به فعلا تعويلا على الأصل المدلول عليه بالعقل والنقل. هذا ولكنّ الإنصاف أنّ إعمال أصل البراءة في نحو ما نحن فيه في غاية الإشكال ، لتطرّق المنع إلى دعوى عموم أدلّته لما نحن فيه ، لانصراف اللفظيّة منها إلى ما لا علم فيه للمكلّف بأصل التكليف لا نوعا ولا جنسا ، وأمّا العقل وإن كان يحكم بقبح العقاب على ما لا سبيل للمكلّف إلى معرفته ولا إلى امتثاله ولو بطريق الاحتياط ولكنّه لا يأبى وجوب الأخذ بأحدهما المعيّن أو المخيّر فيه والعقاب على مخالفته إذا ساعد عليه دليل ، وما تقدّم في مثال بناء العقلاء لا يقضي بكون عدم الالتزام بشيء من الوجوب والحرمة لأجل التعويل على الأصل النافي لاشتغال الذمّة بالتكليف المردّد بينهما ، ولا ينافي كونه لأجل التوقّف عن الطرد والأخذ والتخيير في العمل ما دام التحيّر.

وتحقيق المقام : أنّ إشكال المسألة إن كان في صحّة توجّه الحكم الإلزامي المعيّن في الواقع المردّد بين نوعي الوجوب والتحريم في الظاهر إلى المكلّف عقلا وتعلّقه به وكونه شاغلا لذمّته ، فالحقّ هو المنع القبح العقلي ، لوجود ما هو مناط حكم العقل بقبح التكليف بلا بيان وهو عدم تمكّن الامتثال وتعذّره هاهنا أيضا ، إذ لا فرق في عدم تمكّن الامتثال بين الجهل بأصل الإلزام وبين الجهل بنوعه ، بل هو في الثاني أوضح كما لا يخفى. فعدم البيان المأخوذ في موضوع حكم العقل أعمّ من عدم بيان أصل الإلزام ومن عدم بيان نوعه المردّد بين الايجاب والتحريم ، وقضيّة ذلك جواز كلّ من الفعل والترك بالمعنى اللازم للتخيير الاستمراري.

وبهذا اندفع ما عساه يتوهّم من أنّ المسألة من الشكّ في المكلّف به بعد اليقين بالتكليف ، لمكان العلم بالطلب الإلزامي مع الشكّ في أنّ متعلّقه الفعل أو الترك ، ومن حكم هذا الفرض وجوب القطع بالموافقة المستلزم لمنع المخالفة القطعيّة حيث أمكن ولو بطريق الاحتياط ، وأمّا مع عدم إمكانه كما فيما نحن فيه سقط وجوب القطع بالموافقة وبقي لازمه وهو المنع من المخالفة القطعيّة.

ص: 98

وقضيّة ذلك دوام اختيار الفعل أو الترك بالمعنى اللازم للتخيير البدوي ، إذ باختيار الفعل تارة والترك اخرى يلزم القطع بالمخالفة.

ووجه الاندفاع : منع اليقين بالتكليف إن اريد به اليقين باشتغال الذمّة بالحكم الإلزامي المعيّن في الواقع المردّد في نظر المكلّف ، بعد ملاحظة قبح التكليف بلا بيان عقلا من غير فرق فيه بين عدم بيان أصل الإلزام وعدم بيان نوعه.

وإن كان الإشكال - بعد البناء على عدم توجّه الحكم المذكور إلى المكلّف - في الحكم الظاهري المجعول للواقعة بملاحظة جهالة نوع حكمها الواقعي ، وأنّه هل هو الإباحة ، أو وجوب الأخذ باحتمال التحريم ثمّ العمل بمقتضاه ، أو التخيير بين الأخذ به أو الأخذ باحتمال الوجوب ثمّ العمل بمقتضاه ، ومرجعه إلى أنّ الأصل في نحو الواقعة المردّد حكمها الواقعي بين الوجوب والتحريم من حيث الحكم الظاهري هل هو الإباحة أو الحظر أو التخيير؟ فالحقّ فيه المنع عن الجميع.

أمّا الإباحة فلعدم نهوض دليل من العقل والنقل عليها إن اريد بها المعنى الإنشائي ، ليكون حكم الواقعة الملحوظة على الوجه المذكور الإباحة الشرعيّة ، بل القدر المسلّم إنّما هو جواز كلّ من الفعل والترك بمعنى عدم الحرج فيهما الّذي هو لازم عقلي لخلوّ الذمّة عن الإلزام.

وأمّا ما قد يتخيّل من أنّ الجهة في عدم جواز كون الحكم الظاهري هو الإباحة كونها مخالفة للحكم الواقعي في محلّ العلم به ، لمكان العلم بأصل الإلزام الّذي هو حكم واقعي ، وجعل حكم ظاهري مخالف للحكم الواقعي المعلوم غير سائغ.

ففيه : منع واضح ، إذ الحكم الظاهري المخالف للحكم الواقعي إنّما لا يصحّ جعله حيث علم الحكم الواقعي بجنسه ونوعه ولم يكن هناك مانع عقلي ولا شرعي عن العمل به ، فلا حجر في جعله مخالفا له ولو في موضع العلم به مع منع المانع ، ومن هذا القبيل الأحكام المعلّقة على التقيّة المعدودة عندهم من الأحكام الظاهريّة ، وبذلك علم أنّه لا يلزم من الرجوع إلى الأصل في نحو المسألة طرح الحكم الواقعي ، ولا خرق الإجماع المركّب فيما لو اختلفت الامّة على قولين مع اتّفاق الفريقين على نفي الثالث.

أمّا الأوّل : فلأنّه إبقاء للحكم على حاله واتّباع للحكم الظاهري الّذي هو مؤدّى الأصل ، لتعذّر الوصول إلى الحكم الواقعي أو تعذّر العمل بمقتضاه ، غاية ما هنالك مخالفة الحكم الظاهري له ، ولا مانع منها بعد مساعدة الدليل على الأصل المذكور.

ص: 99

وأمّا الثاني : فلأنّ خرق الإجماع المركّب عبارة عن إحداث قول ثالث منفيّ بالإجماع على أنّه حكم واقعي في المسألة ، ووجه عدم جوازه كونه في معنى تكذيب الإمام الّذي هو في أحد القولين بالفرض على طريقة أصحابنا في الإجماع ، واتّباع الحكم الموجود في المسألة بمقتضى الأصل المأذون فيه شرعا ليس إحداثا للقول الثالث المنفيّ بالإجماع بالمعنى المذكور.

وبما بيّنّاه ظهر أنّ ما عليه بعض أصحابنا في المسألة المشار إليها إذا لم يدلّ على أحد القولين دليل قطعي أو ظنّي من التمسّك بمقتضى العقل من حظر أو إباحة - على معنى الرجوع إلى الأصل العقلي المقتضي للحظر أو الإباحة بعد تسليمه والبناء على صحّته - ممّا لا بأس به ولا ينبغي الاسترابة فيه ، وأنّ ردّ الشيخ له في العدّة (1) بعد اختياره القول الآخر منها وهو التخيير بأنّه يوجب طرح قول الإمام عليه السلام ليس بسديد ، لعدم كون اتّباع الأصل المفيد للحكم الظاهري تكذيبا للإمام في قوله الّذي هو حكم واقعي تعذّر الوصول إليه لجهالته ، إلاّ على تقدير حمل الحظر والإباحة في كلام الحاظرين والمبيحين على الواقعيّين منهما كما استظهرناه في محلّه ، وحينئذ إنّما يلزم المحذور إذا كان مؤدّى الأصل المرجوع إليه مخالفا للقولين لا مطلقا ، مع أنّ ما اختاره من التخيير أيضا يوجب ذلك المحذور إن أراد به التخيير الواقعي كما فهمه المحقّق قدس سره ، ولذا اعترضه : « بأنّ في التخيير أيضا إبطالا لقول الإمام ، لأنّ كلاّ من الطائفتين يوجب العمل بقوله ويمنع من العمل بالقول الآخر ، فلو خيّرنا لاستبحنا ما حظّره المعصوم » انتهى (2).

نعم إنّما يسلم مختاره عن هذا الاعتراض لو أراد به التخيير الظاهري ، ولعلّه خلاف ما يظهر من كلماته ، وليس المقام محلّ التعرّض لها.

وأمّا وجوب الأخذ بالتحريم ليكون الأصل هو الحظر وإن قيل به في المقام إلاّ أنّه أيضا ممّا لا يساعد عليه دليل يعوّل عليه ، وإن كان يمكن أن يستدلّ بل استدلّ عليه بوجوه :

منها : قاعدة الاحتياط ، نظرا إلى كون المسألة من دوران الأمر بين التعيين والتخيير.

ويزيّفه : منع وجوب الاحتياط على ما مرّ مشروحا ، فلا يجب من جهته الأخذ بالتحريم إلاّ أن يراد بها قاعدة الاشتغال ، كما يومئ إليه حديث الدوران بين التعيين والتخيير ، فيزيّفها حينئذ منع جريانها في المقام لمنع كونه من المسألة المشار إليها ، فإنّ

ص: 100


1- العدّة 2 : 636 - 637.
2- المعارج : 133.

الدوران فيما بينهما إنّما هو حيث ثبت بالدليل وجوب شيء في الجملة وشكّ في وجوبه على التعيين أو على التخيير بينه وبين غيره كما في الظهر والجمعة ، وحيث إنّ مرجعه إلى الشكّ في المكلّف به بعد العلم بالتكليف فيجري فيه القاعدة المذكورة مقتضية لترجيح التعيين ، ولم يثبت في المقام وجوب أخذ بعد ليدور بين التعيين والتخيير لقيام احتمالي الإباحة والتوقّف ، فالشكّ في أصل التكليف لا في المكلّف به بعد العلم بالتكليف.

ومنها : أنّ وجوب الأخذ بالتحريم إنّما هو لئلاّ يلزم المخالفة القطعيّة ، بناء على حجّيّة العلم الإجمالي كما قرّر في محلّه.

ويزيّفه : أنّ معنى حجّيّة العلم الإجمالي كونه منجّزا للتكليف ، وإنّما يصير كذلك حيث أمكن امتثال المعلوم بالإجمال وقد عرفت تعذّره في المقام ، ولذا حكم العقل بعدم جواز توجّه المعلوم بالإجمال هنا إلى المكلّف على وجه يكون تكليفا عليه بالفعل ، ومرجعه إلى عدم إمكان تنجّز التكليف بهذا العلم الإجمالي ، ومعه لا معنى لحجّيته حتّى يحرم مخالفته ، من غير فرق في ذلك بين المخالفة العمليّة والمخالفة الالتزاميّة ، مع تطرّق المنع إلى حرمة المخالفة الالتزاميّة ولو مع حجّية العلم الإجمالي ، لعدم وجوب الالتزام بالحكم الشرعي مطلقا ، فإنّ الأحكام الفرعيّة ليست كالأحكام الاصوليّة الاعتقاديّة الّتي يطلب فيها الاعتقاد ثمّ الالتزام والتديّن بالمعتقد ولا يكفي أحدهما بدون الآخر ، فلا يطلب فيها الالتزام بل ولا الاعتقاد أصالة ، وهذا هو معنى عدم وجوب معرفة الوجه في العبادات ، وعليه مبنى صحّة عبادات الجاهل حيث طابقت الواقع.

نعم ربّما يجبان مقدّمة في العبادات إذا توقّف عليهما أو على أحدهما نيّة القربة المعتبرة فيها.

هذا ومع الغضّ عن جميع ذلك فالمخالفة القطعيّة عمليّة كانت أو التزاميّة كما تندفع بأخذ التحريم على التعيين ، كذلك تندفع بأخذ الوجوب كذلك ، أو على التخيير بينهما بدوا ، وتخصيصه بالأوّل غير معقول.

ومنها : أخبار التوقّف الدالّة على وجوب الوقوف عند الشبهات ، بناء على أنّ المراد به السكون عن حركة الفعل وهو الترك.

وفيه : منع دلالتها على الوجوب وعلى وجوب الوقوف بهذا المعنى على ما تقدّم

ص: 101

مشروحا ، مع أنّها ظاهرة فيما يحتمل الهلاكة في فعله فقط ، وهي هاهنا محتملة في كلّ من الفعل والترك.

ومنها : الاستقراء في الشرعيّات المتضمّن لغلبة تغليب الشارع جانب الحرمة ، كترك غير ذات العادة العبادة بمجرّد رؤية الدم ، وترك العبادة في أيّام الاستظهار ، وترك الإنائين المشتبهين وما أشبه ذلك.

وقد يجاب عنه : بمعارضة أصل البراءة ، وفيه ما لا يخفى ، لأنّ ظنّ الغلبة إمّا أن يكون حجّة فلا يعارضه الأصل ، أو لا فلا يعارض الأصل.

والتحقيق : منع الغلبة ، بل منع تحقّق مورد من الشبهة الحكميّة الدائرة بين الوجوب والتحريم رجّح فيها الشارع جانب الحرمة على أن يكون ذلك هو الأصل فيها ، وبناء ترجيح الترك في الأمثلة المذكورة مع عدم غلبة فيها ليس على ذلك ، مع منع الحكم في بعضها فإنّ الأقرب في المبتدئة وفي حكمها ذات العادة العدديّة فقط أنّها في تحيّضها بمجرّد رؤية الدم تراعي صفات الحيض ومع عدم وجودها لا تتحيّض إلاّ بعد مضيّ ثلاثة أيّام.

ولو سلّم فبناء ترجيح الترك - كما في ذات العادة أيضا - لعلّه على أصل موضوعي يرتفع معه الشبهة ، وهو أصالة الحيض في دماء النساء وقاعدة الإمكان ، مع أنّ الشبهة هنا وفي أيّام الاستظهار موضوعيّة لا حكميّة ، ولعلّ قاعدة ترجيح جانب الحرمة فيها مسلّمة ، فتأمّل مع إمكان كونه في أيّام الاستظهار لأصالة بقاء الحيض واستصحاب حرمة العبادة.

وبناء الحكم في الإنائين المشتبهين على قاعدة حجّيّة العلم الإجمالي مع كون الشبهة فيها أيضا موضوعيّة دون ما نحن فيه ، مع العلم بوجود الحرام فيه ، دون ما نحن فيه مع إمكان الاحتياط فيه دون ما نحن فيه ، مع عدم دوران الأمر هنا بين الوجوب والتحريم لأنّ الوضوء مشروط بطهارة الماء واشتباه الطاهر بالنجس توجب تعذّر إحراز الشرط وهو يوجب تعذّر إحراز المشروط فيسقط فرض المائيّة ، فلا يحتمل في استعمال الماء وهنا وجوب ليكون الأمر بالإهراق من باب تغليب الحرمة على الوجوب كما هو واضح.

ومنها : كون دفع المفسدة في بناء العقلاء أولى وأهمّ من جلب المنفعة ، مضافا إلى قضاء القوّة العاقلة بوجوب دفع المضرّة ، وإلى أنّ إفضاء الحرمة إلى مقصودها أتمّ من إفضاء الوجوب إلى مقصوده ، لأنّ المقصود من الحرمة يتأتّى بالترك سواء كان مع قصد أم غفلة

ص: 102

بخلاف فعل الواجب.

ويندفع الأوّل - مع ابتنائه على عدم اشتمال الوجوب على مفسدة الترك وإلاّ فيدور الأمر بين دفع مفسدة الفعل ودفع مفسدة الترك ولا مرجّح للأوّل - : بأنّ المفسدة الاخرويّة مدفوعة بحكم العقل المستقلّ على ما تقدّم ، والمفسدة الدنيويّة لا جهة لتقديم دفعها في بناء العقلاء على جلب المنفعة إلاّ وجوب دفع الضرر الّذي يستقلّ به العقل ، فيختصّ بما إذا كان الضرر مقطوعا أو مظنونا أو محتملا بالاحتمال الموجب للخوف ، وهو في المقام ليس بشيء من ذلك ، لأنّ القطع بأحد الحكمين الغير المشتمل أحدهما على ضرر لا يوجب القطع بضرر الآخر ولا الظنّ به ، ولا كون احتماله موجبا لخوف النفس ، لوضوح أنّ فرض الوجوب بعد البناء على خلوّه عن مفسدة الترك مع التحريم بعد القطع بأحدهما ليس إلاّ كفرض الإباحة أو الاستحباب معه بعد القطع بأحدهما في مسألة الدوران بين الحرمة وغير الوجوب في عدم استلزامه شيئا من القطع والظنّ والخوف فليتدبّر. وبهذا كلّه يظهر اندفاع الثاني.

ويندفع الثالث أوّلا : بالوجوب التوصّلي لحصول المقصود منه بالفعل مع القصد ومع الغفلة.

وثانيا : بأنّه لا يتمّ إلاّ على تقدير عدم جواز المخالفة القطعيّة العمليّة ، لكون الفعل مع الغفلة مخالفا لكلّ من الوجوب والحرمة وقد عرفت منعه.

وثالثا : بأنّه على فرض تماميّته إنّما ينهض لنفي تعيين الأخذ بالوجوب لا لنفي التخيير بينه وبين الأخذ بالتحريم.

ومن جميع ما بيّنّاه علم أنّه لا دليل من عقل ولا نقل على وجوب الأخذ بأحدهما على وجه التخيير إلاّ توهّم أنّه انقياد للشارع وهو واجب عقلا.

ويدفعه : أنّ الانقياد إن أريد به الوصف النفساني أعني كون العبد مع مولاه في مقام الإطاعة ، فهو حاصل في المقام بالقياس إلى الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال ، لأنّه عبارة عن كون العبد ملتزما بموافقة جميع ما صدر من المولى وبلغ إليه من الأوامر والنواهي ، وهو لا يقضي بوجوب كلّ واحد من الأخذ باحتمال التحريم والأخذ باحتمال الوجوب على البدل على أنّه الحكم الظاهري المجعول لنحو هذه الواقعة وإن اريد به نفس الإطاعة بمعنى موافقة الأمر والنهي فهي غير ممكنة وغير حاصلة بالتخيير المذكور ، أو بمعنى عدم المخالفة فهو فرع توجّه الخطاب الواقعي وقد عرفت منعه بما لا مزيد عليه.

ص: 103

لا يقال : إنّ الواقعة من حيث اشتباه حكمها الواقعي لا بدّ وأن تشتمل على حكم مجعول يتديّن به في مقام العمل ، ويلزم ممّا ذكرت من نفي الإباحة وتعيين الأخذ بالتحريم [ أ ] والتخيير بينه وبين الأخذ بالوجوب إخلاؤها عن هذا الحكم.

لأنّا نقول : غاية ما يسلّم بمقتضى الضرورة والإجماع والأخبار المتواترة إنّما هو عدم جواز خلوّ الواقعة عن الحكم الواقعي المجعول ، وأمّا خلوّها عن الحكم الظاهري المجعول فلا دليل على امتناعه ، مع أنّ مرجع ما بيّنّاه إلى نفي الدليل على أحد الأحكام الثلاث المذكورة على التعيين لا نفي جميعها بحسب الواقع ، واللازم من ذلك التوقّف عن الحكم الظاهري أيضا بعد التوقّف عن الحكم الواقعي.

نعم لو كانت الشبهة ناشئة عن تعارض خبرين أحدهما دالّ على الأمر والآخر على النهي مع استجماعهما لشرائط الحجّية اتّجه فيها القول بالتخيير ، لكن لا بين الأخذ بالتحريم والأخذ بالوجوب من حيث احتمال الحكم الواقعي لأحدهما ودورانه بينهما ، بل من حيث إنّ وجوب العمل بخبر الواحد الجامع للشرائط بمقتضى أدلّة حجّيّتة حكم اصولي يتساوى نسبته إلى كلا المتعارضين ، باعتبار كونهما فردان من العنوان العامّ الّذي دلّ الدليل على هذا الحكم في جميع أفراده ، واتّفق من جهة تنافي مدلوليهما عدم إمكان العمل بكلّ منهما بعينه مع فقد المرجّح لأحدهما على صاحبه ، فالعقل المستقلّ يحكم بالتخيير بينهما على معنى وجوب العمل بكلّ منهما في تلك الواقعة على البدل حذرا عن طرح أدلّة الحجّية والترجيح من غير مرجّح ، كحكمه بالتخيير في إكرام زيد وعمرو إذا وجب بمقتضى عموم « أكرم العلماء » واتّفق لعارض تعذّر الجمع بينهما في الإكرام ، وكحكمه أيضا بالتخيير في مسألة تزاحم الواجبين المضيّقين إذا لم يكن أحدهما أهمّ في نظر الشارع ، ويدلّ عليه أيضا ما ورد في بعض الأخبار العلاجيّة من قوله عليه السلام : « بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك اللّه (1) » وإطلاقه يتناول ما لو تعارض الخبران في الوجوب والتحريم ، وهذا التخيير يستتبع التخيير في المسألة الفرعيّة بين الأخذ بالوجوب الّذي هو مؤدّى أحد الخبرين والأخذ بالتحريم الّذي هو مؤدّى الخبر الآخر ، ثمّ بناء العمل على ما أخذ.

ولا يمكن إجراء هذا الحكم في مطلق صور دوران الحكم بين الوجوب والتحريم

ص: 104


1- الوسائل 18 : 80 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 19.

بتوهّم توسيط تنقيح المناط ، بدعوى كون مناط الحكم في الخبرين هو القطع بصدور شيء من الإمام مع الشكّ في الصادر ، وهو موجود فيما نحن فيه لمكان القطع بصدور الحكم الإلزامي مع الشكّ في الصادر ، لمنع كون الحكم المذكور منوطا بما ذكر بل الحكم الاصولي المنتفى نحوه فيما نحن فيه ، مع تطرّق المنع إلى القطع بالصدور في الخبرين بل غايته كونه قطعي العمل ، وهذا حكم يتساوى نسبته إليهما فيؤول أمره إلى التخيير نظير أمرين بمتضادّين ممتنع الجمع بينهما في الامتثال ، بل لا يمكن إلحاق ما نحن فيه بمسألة رجوع المقلّد إلى مجتهدين عند اختلافهما في الرأي ولو بالوجوب والتحريم المحكوم عليه بالتخيير ، فإنّ وجوب رجوع العامي إلى الفقيه الجامع للشرائط حكم ثبت بالنصّ والإجماع ، ومع تعدّد الفقهاء وتساويهم واختلافهم كان الحكم المذكور على التخيير بحكم العقل ، على حدّ ما لو أمر السيّد عبده بالرجوع إلى الطبيب مع تعدّد الأطبّاء وتساويهم.

ثمّ على تقدير القول بالتخيير بمساعدة دليل عليه فهل هو في ابتداء الأمر فلا يجوز له العدول عن المختار الأوّل إلى غيره أو مستمرّ ما دام العمر فيجوز العدول مطلقا؟ وجهان من مدرك حكم العقل بالتخيير فإن كان مدركه الانقياد بمعنى الوصف النفساني الّذي يتمّ بمجرّد الالتزام أيضا فهو لا يأبى الاستمرار ، وإن كان الانقياد بمعنى نفس الإطاعة وعدم المخالفة ومرجعه إلى المنع عن المخالفة القطعيّة فهو لا يتمّ إلاّ بالتخيير البدوي.

وقد يستدلّ عليه أيضا بقاعدة الاحتياط بمعنى اقتضاء الشغل اليقيني ليقين البراءة ولا يتأتّى إلاّ بالاستمرار وعدم العدول عن المختار ، واستصحاب الحكم الفرعي وسائر الآثار المترتّبة عليه بعد الاختيار.

ويضعّف الأوّل بل الثاني بابتنائهما على الشكّ المخصوص بالأحكام التوقيفيّة ، والتخيير المذكور عقلي ولا يعقل للعقل شكّ في قضيّة حكمه ولا إهمال في حكمه ، كما يضعّف الثاني أيضا بمعارضة استصحاب التخيير الثابت قبل الاختيار الوارد على الاستصحاب المذكور.

هذا كلّه بالقياس إلى المجتهد ، وأمّا المقلّد الّذي وظيفته الرجوع إلى المجتهد إذا رجع إليه للاستفتاء عن حكم نحو هذه الواقعة فهل يفتيه بالتخيير مطلقا أو بما أخذه واختاره أو يفصّل فيفتيه بما أخذه إن كان بناؤه على التخيير البدوي وإلاّ فبالتخيير ، وجوه.

والتحقيق أنّه لا يفتيه إلاّ بما اختاره من وجوب أو تحريم ، وذلك لأنّ التخيير المذكور

ص: 105

من الأحكام الاصوليّة الّتي لا يشاركه المقلّد فيها ، والأظهر من دليله أنّه بدوي ، واختيار المجتهد هاهنا ينزّل منزلة ظنّه الاجتهادي بوجوب شيء أو تحريمه في كونه ملزما للفعل أو الترك عليه وعلى مقلّده ، بصيرورة مظنونه أو مختاره حكم اللّه الفعلي في حقّهما ، فكما ينتظم عنده في صورة استقرار ظنّه بالوجوب أو التحريم مقدّمتان قطعيّتان بهذه الصورة « هذا مظنوني ، وكلّ مظنوني حكم اللّه في حقّي وحقّ مقلّدي » فكذا فيما نحن فيه بعد اختياره أحد الحكمين ينتظم عنده نحو هاتين المقدّمتين بهذه الصورة « هذا مختاري ، وكلّ مختاري حكم اللّه في حقّي وحقّ مقلّدي » أمّا كونه حكم اللّه في حقّه فلدليل التخيير وكونه بدويّا ، وأمّا أنّه حكم اللّه في حقّ المقلّد فلأدلّة اشتراك التكاليف والأحكام بينه وبين المجتهد من الضرورة والإجماع وغيرهما من غير فرق فيه بين الأحكام الواقعيّة النفس الأمريّة والأحكام الظاهريّة.

ثمّ ينبغي أن يعلم أنّ موضوع المسألة في شبهة الوجوب والتحريم ما لم يكن الشكّ في أحدهما مسبّبا عن الشكّ في الآخر لعدم دليل على التعيين ، أو إجماله كالأمر المجرّد عن قرينة التعيين إن قلنا باشتراكه بين الإيجاب والتحريم ، أو تعارض الدليلين ، وأمّا لو كان الشكّ في أحدهما مسبّبا عنه في الآخر فهو خارج عن مسألة الدوران لارتفاع الشبهة بالأصل الرافع للشكّ السببي ، وذلك كالصلاة عند ضيق الوقت في المسجد مكان إزالة النجاسة الموجودة في جدار المسجد من خارج المشكوك في وجوبها ، بناء على اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ فيشكّ في وجوب هذه الصلاة للشكّ في حرمتها من جهة النهي الضمني المشكوك فيه من جهة الشكّ في وجوب إزالة نحو هذه النجاسة ، فإذا دفع احتمال التحريم بأصالة البراءة عن وجوب الإزالة تعيّن الوجوب بلا إشكال.

وكالشكّ في وجوب غسل الجنابة وحرمته في نهار رمضان إذا انحصر طريقه في الارتماس - على القول بعدم إبطاله الصوم - عند دخول وقت الصلاة ، فإنّ الشكّ في حرمته باعتبار حرمة الارتماس مسبّب عن الشكّ في وجوبه ، لوضوح أنّه لو كان واجبا لم يكن الارتماس في هذه الصورة حراما لعدم جواز اجتماع الأمر والنهي ، فلو دفع وجوب الاغتسال في هذه الحالة بأصل البراءة تعيّن التحريم بلا إشكال.

ولو فرض أصل لفظي في مورد رافع للشكّ عن التحريم مثلا تعيّن الالتزام بالوجوب أيضا ، كالشكّ في وجوب الصلاة في مكان مغصوب في آخر الوقت وحرمتها بناء على

ص: 106

عدم جواز اجتماع الأمر والنهي ، فإنّ استصحاب الأمر بالصلاة وإن كان يقتضي بقاء الوجوب ، إلاّ أنّ أصالة عدم التخصيص بالقياس إلى دليل حرمة الغصب أيضا يقتضي التحريم ، فيدور الأمر بين الأصل العملي والأصل اللفظي ، وحيث إنّ الثاني في جميع موارده وارد على الأوّل فتعيّن التحريم وارتفع معه شبهة الوجوب.

وبالجملة فكلّ شبهة من دوران الأمر بين الوجوب والتحريم إذا ارتفع أحد طرفيها بأصل عملي أو لفظي موجود في المسألة فهي خارجة عن مسألة دوران الأمر بين الوجوب والتحريم ، لعدم شبهة في الحقيقة بعد ملاحظة الأصل المذكور. هذا كلّه في الشبهة الحكميّة.

وأمّا إذا كانت الشبهة في دوران الأمر بين الوجوب والتحريم موضوعيّة ، بأن يتردّد الموضوع الخارجي بين عنوانين أحدهما واجب بحسب الشرع والآخر محرّم فأمثلته كثيرة :

منها : الكافر المردّد بين كونه حربيّا ليجب قتله أو ذمّيّا ليحرم قتله.

ومنها : الميّت اللقيط في مفازة المردّد بين المسلم ليجب الصلاة عليه والكافر ليحرم الصلاة عليه.

ومنها : الغريق المردّد بين المسلم ليجب إنقاذه لوجوب حفظ النفس المحترمة والكافر الحربي ليحرم إنقاذه لوجوب إعدام النفس الكافرة.

ومنها : المخبر المردّد بين العادل ليجب قبول خبره والفاسق ليحرم قبول خبره ، بناء على انتفاء الواسطة بين العادل والفاسق ، وإلاّ فبأصالة عدم حصول الملكة وأصالة عدم صدور موجب الفسق عن هذا المخبر يحكم بعدم وجوب قبول خبره وعدم حرمة قبوله.

وربّما يذكر من أمثلته الحليلة الواجب وطؤها - بالأصالة أو لعارض بالنذر ونحوه - المشتبهة بالأجنبيّة ، والخلّ المخلوف على شربه المشتبه بالخمر.

وفيه نظر :

أمّا أوّلا : فلأنّ الشبهة في نحو هذين المثالين من قبيل الشكّ في المكلّف به من باب اشتباه الواجب بالحرام ، وستعرف أنّ من صور الشكّ في المكلّف به دوران الأمر بين الواجب والحرام على معنى اشتباه الواجب بالحرام.

وأمّا ثانيا : فلخروجهما عن حدّ الشبهة بالأصل الموضوعي الموجود فيهما كأصالة عدم الزوجيّة بينهما في الأوّل ، وأصالة عدم وقوع الحلف على هذا الموضوع الخارجي في الثاني ، فتلحق المرأة بالأجنبيّة فيحرم وطؤها ، ويؤول الواقعة في المائع المردّد بعد ارتفاع

ص: 107

احتمال الوجوب بالأصل المذكور إلى مسألة الدوران بين الإباحة والتحريم ، وقد تقدّم أنّ الأصل فيها الإباحة.

نعم إنّما يصلح كون الخلّ المشتبه بالخمر من أمثلة ما نحن فيه لو فرض وقوع الحلف على شرب نوع الخلّ المستلزم لوجوب شرب جميع أفراده في محلّ الابتلاء ، ولكنّه فرض بعيد.

وكيف كان فأمّا الحكم في ذلك فهو البراءة وخلوّ ذمّة المكلّف عن حكم إلزامي إيجابا أو تحريما ، فيجوز كلّ من الارتكاب والاجتناب ، على معنى عدم الحرج في شيء منهما ، للعقل المستقلّ الحاكم بقبح العقاب والمؤاخذة على مخالفة ما لا سبيل إلى معرفته ولا إلى امتثاله ، فلا يصحّ للشارع أن يؤاخذ على الفعل ، بأن يقول : لم ارتكبت وقد كان حراما؟ ولا على الترك بأن يقول : لم تركته وقد كان واجبا؟ لصحّة الاعتذار بعدم معرفة الحرمة ولا الوجوب ، ولا أن يؤاخذه على عدم مراعاة الاحتياط في امتثال الحكم الإلزامي لتعذّره ، ولا أن يحتجّ عليه بحجّية العلم الإجمالي ، لتمكنّه من ردّه بأنّ الحجّية إن اريد بها الموافقة القطعيّة فهي متعذّرة ، وإن اريد بها عدم المخالفة القطعيّة فالالتزاميّة منها على تقدير وجوب الالتزام بحكم اللّه الفرعي غير حاصلة في الواقعة الشخصيّة ، لحصول الالتزام بحكم كلّ من الواقعتين الكليّنين ، والعمليّة منها غير قادحة لعدم توجّه الخطاب في تلك الواقعة بالفرض ، مع أنّها غير لازمة أيضا لعدم القطع عند التلبّس بكلّ من الفعل والترك بكون ما يتلبّس به مخالفة.

نعم إذا تلبّس بأحدهما بعد التلبّس بالآخر يحصل القطع بتحقّق مخالفة فيما بينهما ، ولا قبح في نحو هذه المخالفة عقلا ولا شرعا.

ولا يذهب عليك أنّ إثبات أصل البراءة هنا بهذا الحكم العقلي مقصور على صورة تعذّر رفع الاشتباه بالفحص أو السؤال والرجوع إلى أهل الخبرة ، لأنّ مناطه عدم السبيل إلى معرفة الحكم وإلى امتثاله ، وعليه فيصحّ المؤاخذة على ترك السؤال ، ويشكل الأمر بالقياس إلى ما سيأتي من عدم وجوب الفحص في العمل بأصل البراءة في الموضوعات وما نحن فيه منها ، فلا بدّ للعمل به فيه مع إمكان الفحص والسؤال من مدرك آخر غير العقل ، ولا يبعد التمسّك بعموم قوله عليه السلام : « كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو حلال لك حتّى تعرف الحرام منه بعينه (1) » وقوله عليه السلام أيضا : « كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه » (2) وأمّا

ص: 108


1- الوسائل 12 : 59 ، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأوّل.
2- الوسائل 12 : 60 ، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به ، ح 4 مع تفاوت.

كون الحكم الظاهري المجعول لتلك الواقعة هو الإباحة أو الأخذ بالتحريم أو التخيير بينه وبين الأخذ بالوجوب فالكلام فيه نظير ما مرّ في الشبهة الحكميّة من الوقف هذا.

المقام الثاني : الشكّ في المكلّف به لشبهة حكميّة أو موضوعيّة

اشارة

المقام الثاني

في حكم الشكّ في المكلّف به لشبهة حكميّة أيضا أو شبهة موضوعيّة ،فإنّ الشكّ في المكلّف به أيضا قد يكون باعتبار الشبهة الحكميّة وقد يكون باعتبار الشبهة الموضوعيّة. وضابط الفرق بينهما وبين الشكّ في المكلّف به مع الشكّ في التكليف أنّ الواقعة في موارد التكليف يلاحظ فيها امور ثلاث : الحكم الصادر من الشارع كالوجوب ، ومتعلّق ذلك الحكم وهو العنوان الكلّي الّذي علّق عليه الوجوب ، والمصداق الخارجي لذلك المتعلّق وهو الجزئي المطابق للعنوان المعلّق عليه الوجوب ، والواقعة المشكوكة قد تكون بحيث يشكّ في أصل حكمها الصادر من الشارع فهو الشكّ في التكليف ، وقد يكون حكمها الصادر من الشارع معلوما بالتفصيل ويشكّ في متعلّقه لعدم وضوح العنوان المعلّق عليه ذلك الحكم فهو الشكّ في المكلّف به لشبهة حكميّة ، وقد يكون متعلّقه أيضا معلوما بالتفصيل ولكن يشكّ في مصداقه الخارجي لأمر خارجي لا يرجع إلى الشارع فهو الشكّ في المكلّف به لشبهة موضوعيّة.

ثمّ إنّ الشكّ في المكلّف به إمّا أن يكون لدوران الأمر بين الحرام وغير الواجب ، أو لدوران الأمر بين الواجب وغير الحرام ، أو لدورانه بين الحرام والواجب ، فتحقيق هذا المقام أيضا يستدعي التكلّم في مطالب :

المطلب الأوّل : في دوران الأمر بين الحرام وغير الواجب

اشارة

المطلب الأوّل

في دوران الأمر بين الحرام وغير الواجب

وهو باعتبار كون الشكّ تارة لشبهة موضوعيّة واخرى لشبهة حكميّة لفقد النصّ أو إجماله أو تعارض النصّين يتضمّن صور أربع :

الصورة الاولى : في الشبهة الموضوعيّة من اشتباه الحرام بغيره

اشارة

الصورة الاولى

في الشبهة الموضوعيّة من اشتباه الحرام بغيره ،وهذا الاشتباه قد يكون في محصور وهو الشبهة المحصورة ، كما في الانائين المشتبهين أحدهما الخمر أو النجس أو حرام آخر ، وقد يكون في غير محصور وهو الشبهة الغير المحصورة فهاهنا مرحلتان :

ص: 109

المرحلة الأولى : في الشبهة المحصورة
اشارة

المرحلة الاولى :

في الشبهة المحصورة ، والخلاف فيها من حيث وجوب الاجتناب عن جميع أطراف الشبهة ، وجواز ارتكاب الجميع مطلقا ، أو تدريجا لا دفعة ، أو إلى أن ينفى مقدار الحرام ، أو إلاّ ما عيّنته القرعة معروف ، والأقوال الخمس المذكورة فيها معلومة ، ومبنى الخلاف في الجملة على حجّيّة العلم الإجمالي وعدمها ، ومقتضى حجّيّتة من أنّه وجوب الموافقة القطعيّة المستلزم لحرمة المخالفة القطعيّة ، أو حرمة المخالفة القطعيّة فقط مطلقا ، أو إذا كانت حاصلة في الارتكاب دفعة لا إذا كانت لازمة من التدريج. فمن يجوّز الارتكاب مطلقا يطرح العلم الإجمالي بزعم عدم حجّيته ، ومن يمنعه مطلقا يراه حجّة بالمعنى المتضمّن لوجوب القطع بالموافقة الّذي لا يتأتّى إلاّ باجتناب الجميع فيجب مقدّمة ، ومن يجوّز الارتكاب إلاّ في مقدار الحرام يجعل معنى حجّيّته حرمة المخالفة القطعيّة مطلقا ، ومن يجوّزه مع التدريج لا مع الدفعة يجعل مقتضى حجّيّته حرمة المخالفة القطعيّة الحاصلة مع الدفعة لا اللازمة من التدريج.

ومرجع هذا الخلاف إلى الإشكال في كون ما هو حرام في الواقع في مورد العلم الإجمالي حراما في الظاهر أيضا ، على معنى الحرمة الفعليّة الّتي يعصي المكلّف بارتكابه ويعاقب على مخالفتها وعدمه ، والأقوى هو الأوّل ، ومرجعه إلى كفاية العلم الإجمالي في تنجّز التكليف وفعليّة الحرمة ولازمه وجوب اجتناب الجميع مقدّمة ، لأنّ القطع بالموافقة لا يحصل إلاّ بذلك.

لنا : نفس الخطابات الواردة في تحريم العناوين المحرّمة ، فإنّ [ قول الشارع ](1) « حرّمت عليكم الخمر » مثلا يفيد كبرى كلّيّة وهو قولنا : « كلّ خمر حرام » وكما أنّه إذا علم تفصيلا خمريّة شيء يحرز به صغرى تنضمّ إلى هذه الكبرى الكلّيّة فليحصل بهما النتيجة قهرا وهي حرمة ذلك الشيء حرمة فعليّة ، فكذلك إذا علم خمريّة شيء إجمالا يحرز به الصغرى المذكورة ، وإذا انضمّت إلى الكبرى الكلّيّة كانت النتيجة الحاصلة منهما الحرمة الفعليّة لذلك الشيء المعلوم بالإجمال لا محالة.

والفرق بين صورتي العلم التفصيلي والعلم الإجمالي في كفاية الأوّل في تنجّز التكليف وعدم كفاية الثاني - الّذي مرجعه إمّا إلى القدح في الصغرى المذكورة أو إلى منع

ص: 110


1- وفي المصدر « قوله تعالى » بدل « قول الشارع » وهو سهو منه قده ، لأنّ ما ذكر عقيبه ليست بآية من القرآن الكريم ولذا صحّحناه بما في المتن.

كلّيّة الكبرى المذكورة - لا بدّ له من فارق ، وهو إمّا اللغة بدعوى أنّ الخمر مثلا قد اخذ في وضعه لغة ما لا يوجد في المعلوم بالإجمال وهو العلم التفصيلي.

أو العرف بدعوى أنّه في حيّز الخطاب ينصرف عرفا إلى المعلوم بالتفصيل.

أو العقل بدعوى أنّه يقبح التكليف بالمعلوم بالإجمال كما أنّه يقبح التكليف بالمجهول الصرف ، ومرجعه إلى القول بكون شرط تنجّز التكليف عند العقل العلم التفصيلي بموضوعه.

أو الشرع بدعوى أنّ الشارع دلّنا على أنّ المعلوم بالإجمال في حكم المجهول في عدم توجّه الخطاب فيه إلى المكلّف ، استنادا في ذلك إلى ما تقدّم من قوله عليه السلام : « كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو حلال ذلك حتّى تعرف الحرام بعينه (1) » وقوله عليه السلام أيضا : « كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه (2) » فإنّه ظاهر كالصريح في الشبهات الموضوعيّة ، وبعمومه يشمل ما نحن فيه لعدم حصول معرفة الحرام بعينه.

والسرّ في انحصار الفارق في هذه الوجوه الأربع هو أنّ قوله تعالى : « حرّمت عليكم الخمر » مثلا عامّ في جميع أفراد الخمر ومصاديقه ، وعدم اندراج شيء فيه لا يخلو من أن يكون لخروج موضوعي أو لخروج حكمي من باب التخصيص ، وعلى الأوّل إمّا أن يكون خروجه عن الموضوع لأمر لغوي أو لأمر عرفي ، وعلى الثاني إمّا أن يكون التخصيص لمخصّص عقلي أو شرعي ، ولا سبيل إلى شيء من هذه الوجوه.

أمّا على الجملة : فلأنّها متشاركة في نتيجة واحدة هي مع بطلانها في نفسها خارجة عن المتنازع وعن مفروض الكلام ، لما بيّنّا أنّ مرجع البحث في حجّيّة العلم الإجمالي إلى أنّ المعلوم بالإجمال مع كونه حراما في الواقع هل هو حرام في الظاهر أيضا ليجب الاجتناب عنه أو لا؟

وبعبارة اخرى : أنّ ما فرض فيه من الحرمة الواقعيّة هل لزمها بسبب العلم الإجمالي حرمة فعليّة شاغلة لذمّة المكلّف ، عليها مدار الإطاعة والمعصية واستحقاق الثواب والعقاب على الموافقة والمخالفة أو لا؟ فيجوز له الارتكاب كائنا ما كان ، ولا يعصى به ولا يعاقب عليه ، فالحرمة الواقعيّة ثابتة فيه بالفرض ومفروغ عنها. والكلام إنّما هو في

ص: 111


1- الوسائل 12 : 59 ، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به الحديث الأوّل.
2- الوسائل : 12 : 60 ، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به ، ح 4 ، مع تفاوت.

لزومها الحرمة الفعليّة أيضا وعدمه ، وقضيّة خروجه عن خطاب التحريم موضوعا أو حكما انتفاء الحرمة الواقعيّة عنه الّتي هي مؤدّى الخطاب ، فإنّ مفاد قوله : « حرّمت عليكم الخمر » ونحوه ليس إلاّ حرمة واقعيّة وإنّما تصير تكليفا وحكما فعليّا بتحقّق شرائطه الّتي منها العلم بها تفصيلا أو إجمالا. والالتزام بانتفائها عن المعلوم بالإجمال خلاف مفروض الكلام ، فيبطله دليل الخلف ، هذا مع بطلانه في نفسه لوجهين :

أحدهما : الأولويّة القطعيّة بالقياس إلى الشبهة الموضوعيّة من الشكّ في التكليف الّتي يعمل فيها بأصل البراءة ، القاضية بجواز ارتكاب الموضوع المشتبه والإباحة الظاهريّة فيه ، إذ قد عرفت أنّ أصل البراءة في مجاريه لا يتعرّض الحكم الواقعي الثابت للواقعة بنفي ولا إثبات ، بل مفاده خلوّ ذمّة المكلّف في الظاهر عن الحكم الواقعي الثابت للواقعة بنفي ولا إثبات ، بل مفاده خلوّ ذمّة المكلّف في الظاهر عن الحكم الإلزامي والتكليف الفعلي الّذي عليه يترتّب الآثار من الإطاعة والمعصية والثواب والعقاب ، وإن كان الحكم المجعول للواقعة في الواقع هو الحكم الإلزامي من ايجاب أو تحريم ، فإذا لم يكن الاشتباه في الموضوع الخارجي مع الجهل الصرف به مصادما للحرمة الواقعيّة ورافعا لها فلئلاّ يكون مصادما لها مع العلم الإجمالي به طريق الأوليّة القطعيّة.

وثانيهما : استلزامه التصويب الباطل حتّى عند المصوّبة لأنّهم يدّعون التصويب في الأحكام الواقعيّة لا في الموضوعات ، وإنّ التصويب في الأحكام عندهم عبارة عن تبدّل الحكم الواقعي بتبدّل العلم والجهل ، على معنى اختلاف الأحكام الواقعيّة باختلاف المكلّفين في العلم الإجمالي به. فاختلاف الموضوع الواقعي باختلافهم في العلم والجهل أو بالموضوع والعلم الإجمالي به. فاختلاف الموضوع الواقعي بالختلافهم في العلم والجهل أو اختلافهم في العلم التفصيلي والعلم الإجمالي لم يقل به أحد حتّى المصوّبة.

وقضيّة خروج المعلوم بالإجمال عن الخطاب موضوعا أو حكما هو التصويب بأحد هذين المعنيين ، إذ على الأوّل يلزم اختلاف الموضوع الواقعي بالعلم التفصيلي والعلم الإجمالي ، وعلى الثاني يلزم اختلاف الحكم الواقعي باختلاف الموضوع في العلم التفصيلي والعلم الإجمالي.

وأمّا على التفصيل : فلبطلان كلّ من الوجوه الأربع في نفسه.

أمّا الوجه الأوّل : فلما تقرّر في محلّه وصار إليه المحقّقون وجمهور الاصوليّين من أنّ الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعيّة النفس الأمريّة لا بشرط العلم بها ولا بعدمها ، وإنّ العلم

ص: 112

بالمعنى الواقعي عبارة عن انكشاف الواقع عند العالم ، ووجه اعتباره معه إنّما هو وجه الطريقيّة فلا يدخل في وضعه قطعا.

وأمّا الوجه الثاني : فلانتفاء موجب عدم الانصراف بالنسبة إلى الموضوع المعلوم بالإجمال ، وعدم الملازمة بينه وبين ما عرض الفرد من العلم الإجمالي ، فإنّه على ما تقرّر في محلّه إمّا ندرة وجود الفرد أو ندرة إطلاق اللفظ عليه ، وليس في المعلوم بالإجمال إلاّ العلم الإجمالي وهو عارض ، ولئن سلّمنا ندرة العلم الإجمالي في التحقّق بالقياس إلى العلم التفصيلي فهي ندرة في العارض ولا تستلزم ندرة في المعروض لا وجودا ولا إطلاقا كما هو واضح ، فلا يلزم بها عدم انصراف الخمر مثلا في نحو قوله : « حرّمت عليكم الخمر » إلى المعلوم بالإجمال ، لأنّه قد يكون في نفسه أغلب الأفراد وجودا وإطلاقا ، وقد عرضه العلم الإجمالي في قضيّة بسبب الاشتباه.

لا يقال : هذا إنّما يتوجّه لو جعل الانصراف وعدمه في المفرد أعني الخمر المأخوذ في نحو قوله : « حرّمت عليكم الخمر » وليس مبنى دعوى الانصراف إلى المعلومات بالتفصيل على ذلك بل على نفس الخطاب ، فهو من مقتضيات التركيب الكلامي ومن حالات الهيئة التركيبيّة المأخوذة في الخطاب باعتبار كونه خطاب تكليف ، فيختصّ باعتبار اشتراط التكليف بالعلم بموارد العلم ، وينصرف في متفاهم العرف بهذا الاعتبار إلى المعلومات بالتفصيل لا غير.

لأنّا نقول : لا فرق في متفاهم العرف في عموم مؤدّى الخطاب بين المعلومات بالتفصيل والمعلومات بالإجمال وغيرها.

والسرّ في ذلك : أنّ مؤدّى قوله : « حرّمت عليكم الخمر » على ما عرفت هو الحرمة الواقعيّة ، وهو في ذلك المؤدّى عامّ في الأفراد الواقعيّة للخمر ، أعني كلّ ما يصدق عليه في الواقع إنّه خمر ، سواء علمت فرديّتها له تفصيلا أو إجمالا أو جهلت ، حتّى أنّ الأفراد الواقعيّة المجهول فرديّتها له مع الأفراد الواقعيّة المعلوم فرديّتها له تفصيلا في الاتّصاف بالحرمة الواقعيّة على حدّ سواء ، فكيف بالأفراد الواقعيّة المعلوم فرديّتها له إجمالا.

نعم صيرورة تلك الحرمة الواقعيّة تكليفا فعليّا شاغلا لذمّة المكلّف مشروطة بالعلم بها وبفرديّة ما يحكم بحرمته فعلا للخمر.

وأمّا الكلام في أنّ الشرط مطلق العلم ولو إجمالا أو خصوص العلم التفصيلي فهو

ص: 113

مطلب آخر خارج عن مؤدّى هذا الخطاب ، وتحقيقه موكول إلى نظر العقل وستعرفه ، فلا موجب للانصراف ولا التشكيك في عموم مؤدّى الخطاب لجميع الأفراد الواقعيّة حتّى المجهولة منها فضلا عن المعلومة بالإجمال.

ولئن سلّمنا كون مؤدّى الخطاب هو الحرمة الفعليّة وفرضنا في فهم العرف تشكيكا في شمولها للأفراد المعلومة بالإجمال باعتبار الشبهة في كفاية العلم الإجمالي بالموضوع في تنجّز التكليف به ، فهو تشكيك بدوي لا يبلغ حدّ الانصراف إلى غير المعلوم بالإجمال ، ويزول بمراجعة العقل والنظر في حكمه بعدم الفرق في شرط تنجّز التكليف بين العلم التفصيلي والعلم الإجمالي ، كما سنبيّنه في وجه بطلان الوجه الثالث.

فإن قلت : إنّ الجهة الباعثة على الانصراف هو أنّ حال النواهي ليست إلاّ كحال الأوامر ، فكما أنّ المتبادر من الأمر في العرف طلب فعل عن قصد وإن لم يدخل القصد في وضع اللفظ ولا في متعلّق الأمر بل كان تبادر إطلاقيّا محضا من ملاحظة المجموع من مفهوم الصيغة ومدلول المادّة ، فكذلك المتبادر من النهي طلب ترك فعل عن قصد تبادرا إطلاقيّا أيضا على نحو ما عرفت ، وحينئذ فمن شرب الخمر المعلوم بالتفصيل عن قصد فلا إشكال في اندراجه في دليل المنع والتحريم فيكون اثما ، وكذلك إذا كان معلوما بالإجمال فارتكب جميع أطراف العلم الإجمالي دفعة بقصد أن يشرب الخمر أو تدريجا بقصد أن يتوصّل إلى شرب الخمر ، وأمّا من ارتكب الجميع لا بقصد أن يشرب الخمر أو يتوصّل إلى شرب الخمر فلم يظهر اندراجه في دليل المنع.

قلت : مع ما في هذا السؤال من التمحّل والتكلّف ما لا يخفى ، أنّ هذا ليس من منع انصراف الخطاب إلى المعلوم بالإجمال في شيء بل هو اعتراف بشموله للعالم بالإجمال.

غاية الأمر أنّ المطلوب منه هو ترك المعلوم بالإجمال المقرون بالقصد ، بناء على أنّ القصد في كلّ من الأمر والنهي معتبر في متعلّق الطلب ، وهو الفعل في الأمر والترك في النهي ، فيعتبر في الأمر أن يكون الإتيان بالفعل مقرونا بقصد ذلك الفعل وبالترك أيضا مقرونا بقصد ذلك الترك ، وحينئذ فالمكلّف بالنسبة إلى مدلول النهي لا يخلو عن إحدى حالات أربع ، لأنّه إمّا أن يترك المنهيّ عنه عن قصد ، أو يتركه لا عن قصد ، أو يفعله عن قصد ، أو يفعله لا عن قصد.

فعلى الأوّل يكون ممتثلا ومثابا.

وعلى الثاني وإن لم يكن مثابا إلاّ أنّ تركه الصادر لا عن قصد مسقط للطلب ، لكون

ص: 114

النهي كالأمر التوصّلي توصّليا.

وعلى الثالث يكون معاقبا وإن كان عالما بالإجمال ، كما هو قضيّة اعتراف السؤال.

وعلى الرابع أيضا ينبغي أن يكون معاقبا لعدم امتثاله طلب الترك عن قصد ، فإنّ الفعل لا عن قصد ليس تركا عن قصد ليثاب عليه ، ولا تركا لا عن قصد ليكون مسقطا للطلب من دون ثواب ولا عقاب ، فتأمّل.

مع أنّ الارتكاب لا عن قصد إن اريد به الارتكاب عن غفلة أو لنسيان أو لإكراه الغير عليه أو لضرورة مسوّغة للحرام أو غير ذلك من جهات الاضطرار السالبة للاختيار فهو خارج عن المتنازع ، إذ لم يقل أحد بوجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة مع الاضطرار.

وإن اريد به الارتكاب لداعي احتمال أن لا يكون خمرا ، ففيه : مع أنّه لا يتمشّى في ارتكاب الجميع دفعة ولا يمنع شمول الخطاب المعلوم بالإجمال بل يؤكّده ، أنّه لا يجدي نفعا في جواز الارتكاب إلاّ على تقدير عدم ثبوت الحرمة الفعليّة للمعلوم بالإجمال ، وهو موضع منع على ما ستعرفه.

وعلى تقدير ثبوتها فالمتجّه هو المنع عن كلّ ارتكاب إمّا لأنّ اليقين باشتغال الذمّة بترك الحرام الواقعي يقتضي اليقين بالخروج عن العهدة ولا يحصل إلاّ بالاجتناب عن الجميع فيجب مقدّمة ، أو لأنّ احتمال عدم كونه [ خمرا ] في كلّ ارتكاب معارض باحتمال كونه خمرا ، وهو احتمال للضرر الاخروي مع كونه عقلائيّا باعتبار مقارنته العلم الإجمالي فيجب دفعه ولا يتأتّى إلاّ بالترك.

وأمّا الوجه الثالث : فلمنع تسوية العقل بين الجاهل الصرف والعالم بالإجمال في نحو ما نحن فيه في قبح تنجّز التكليف وتوجّه الخطاب والطلب الفعلي الشاغل للذمّة ، فإنّه يقبح ذلك في الجاهل لقبح العقاب على مخالفة ما لا طريق للمكلّف إلى معرفته أصلا لا تفصيلا ولا إجمالا ، ولا يلزم بذلك أن يقبح العقاب على مخالفة الحكم الواقعي الّذي علمه المكلّف تفصيلا في موضوع خارجي علمه إجمالا مع تمكّنه من موافقته وامتثاله كما هو مفروض المسألة ، بل يحسن العقاب عليه في حكم العقل كما يحسن العقاب في حكمه على مخالفة من علم الموضوع تفصيلا.

وتوهّم كون شرط تنجّز التكليف الّذي عليه مدار الاطاعة والمعصية واستحقاق المثوبة والعقوبة هو العلم التفصيلي لا العلم الإجمالي لعدم كفايته.

يدفعه : منع الانحصار في نظر الحاكم بالاشتراط وهو العقل ، فإنّ العلم في شروط

ص: 115

التكليف الفعلي كالقدرة شرط عقلي ، وقولنا : « التكليف مشروط بالعلم » قضيّة عقليّة ، والقضايا العقليّة المتلقّاه من العقل ليست كالقضايا الملفوظة المتلقّاة من الشارع ليطرئها إجمال واهمال ، بل هي قضيّة معقولة لا بدّ وأن تكون مبيّنة في نظر العقل بحيث لم يكن فيها إجمال وإهمال أصلا في شيء من أطرافها موضوعا ومحمولا وكمّا وكيفا وجهة ، ومناط حكمه في تلك القضيّة أحد الأمرين من لزوم تكليف الغافل وتكليف ما لا يطاق لو لا اشتراطه بالعلم ، فالأوّل في المكلّف الغير الملتفت إلى حكم الواقعة أصلا ، والثاني في الملتفت الشاكّ في حكمها الواقعي الّذي لا طريق له إلى معرفته أصلا ، لعدم تمكّنه من الامتثال على تقدير كونه في الواقع مخاطبا بالفعل بالارتكاب أو الاجتناب ، وكما لا يلزم شيء من ذلك في العالم بالفتصيل لو كان بالفعل مخاطبا بالارتكاب أو الاجتناب ، فكذا لا يلزم شيء منهما في العالم بالإجمال المتمكّن من الامتثال ، خصوصا إذا كان علمه الإجمالي في الموضوع بعد علمه التفصيلي كما فيما نحن فيه.

وقضيّة ذلك كلّه أن يكون شرط توجّه الخطاب فعلا وتنجّز التكليف على المكلّف هو العلم بكلّ من الحكم الواقعي وموضوعه عنوانا ومصداقا ولو إجمالا ، لكن بالنسبة إلى الحكم مع التمكّن من العلم التفصيلي ، وبالنسبة إلى موضوعه مع التمكّن من الامتثال وإن لم يتمكّن من العلم التفصيلي ، فالعلم الإجمالي بالحكم الواقعي مع التمكّن من العلم التفصيلي به والعلم الإجمالي بموضوعه - ولو مصداقا - ولو مع عدم التمكّن من العلم التفصيلي به كاف عند العقل في صحّة الخطاب وحسن التكليف.

وهذا هو السرّ في الفرق بين الجاهل المقصّر والجاهل القاصر في الأحكام ، بكون الثاني في مخالفته لها معذورا دون الأوّل ، لتنجّز التكليف على الأوّل بتحقّق شرطه وهو علمه الإجمالي بالأحكام الشرعيّة مع تمكّنه من معرفة تفاصيلها ، وعدم تنجّزه على الثاني لعدم تحقّق شرطه ، فلو توجّه إليه الخطاب لزم تكليف الغافل وتكليف ما لا يطاق.

وقضيّة ذلك أن يكون المعلوم بالإجمال في الشبهة المحصورة مشمولا لخطاب التحريم في نظر العقل أيضا ، ولا ينتقض بالعلم الإجمالي في الشبهة الغير المحصورة لعدم الابتلاء بجميع أطراف الشبهة في غير المحصور.

ومن شروط تأثير العلم الإجمالي في تنجّز الخطاب بالاجتناب عن المعلوم بالإجمال ابتلاء المكلّف به بواسطة ابتلائه بجميع أطراف العلم الإجمالي ، حتّى أنّ هذا الشرط معتبر في الشبهة المحصورة أيضا كما ستعرفه في فروعها ، فلو لم يكن بعض أطراف العلم

ص: 116

الإجمالي فيها محلاّ لابتلاء المكلّف لم يجب الاجتناب عليه عن الباقي ، لعدم العلم بتنجّز التكليف عليه في واقعة هذا العلم الإجمالي بسبب احتمال كون المعلوم بالإجمال هو غير محلّ الابتلاء ، والمكلّف في غير محلّ الابتلاء لا يخاطب فعلا بالاجتناب عنه وإن كان معلوما بالتفصيل فضلا عمّا لو كان معلوما بالإجمال فإذا كان المعلوم بالإجمال ، في الشبهة المحصورة الّتي بعض أطرافها ليس محلاّ للابتلاء مردّدا بين محلّ الابتلاء وغير محلّ الابتلاء رجع الشكّ بالنسبة إلى محلّ الابتلاء إلى كونه في التكليف ، فيجري فيه الأصل بلا معارضة علم إجمالي.

ولعلّ السرّ في اعتبار كون المعلوم بالإجمال محلاّ [ للابتلاء ] في تنجّز التكليف بالاجتناب عنه وتوجّه الخطاب إليه اشتراط التكليف بالقدرة على كلّ من الارتكاب والاجتناب ، بأن لا يكون هناك مانع عقلي ولا شرعي ولا عادي من الارتكاب ، وغير محلّ الابتلاء ليس مقدورا على ارتكابه عادة فلا يكون اجتنابه أيضا مقدورا باعتبار العادة ، لوجوب تساوي القدرة بالقياس إلى طرفي الفعل والترك.

وأمّا الوجه الرابع : فلأنّ الخروج الحكمي في المعلوم بالإجمال عن نحو قوله : « حرمت عليكم الخمر » بالشرع بمقتضى قوله عليه السلام : « كلّ شيء فيه حلال وحرام ... إلى آخره » (1) وغيره فرع على التنافي ، بأن يكون مفاد الرواية سالبة جزئيّة تناقض الموجبة الكليّة المستفادة من دليل التحريم وهي حرمة كلّ خمر في الواقع ، وهو فرع الوحدات الثمانية الّتي منها وحدة المحمول ووحدة الموضوع وهي منتفية ، لتعدّد محمول مؤدّى الرواية ومحمول مؤدّى دليل الحرمة ، مع تعدّد موضوعيهما أيضا.

أمّا الأوّل : فلأنّ الحرمة في مؤدّى دليل الحرمة هي الحرمة الواقعيّة والحليّة في قوله : « فهو حلال لك » هي الحليّة الظاهريّة ، بدليل كونها مغيّاة بغاية المعرفة ، ولا يسوغ أن يكون شيء قبل معرفة حرمته حلالا في الواقع ثمّ يصير بعد المعرفة حراما في الواقع لبطلان التصويب ، فقوله : « حلال » يقتضي عدم الحرمة الظاهريّة لا عدم الحرمة الواقعيّة ، فلا يناقض مؤدّى الرواية لمؤدّى دليل الحرمة.

وأمّا الثاني : فلوضوح أنّ قوله : « حرّمت عليكم الخمر » يقتضي بعمومه حرمة الأشخاص الّتي منها المعلوم بالإجمال و « الشيء » في قوله : « كلّ شيء » ظاهر في شيء

ص: 117


1- الوسائل 12 : 59 الباب 4 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأوّل.

واحد حقيقي لا ما يعمّه الواحد الاعتباري ، وهو المجموع من امور اعتبر انضمام بعضها إلى بعض. واندراج المعلوم بالإجمال من الشبهة المحصورة فيه إمّا بفرض المجموع من أطراف الشبهة شيئا واحدا فيشمله « كلّ شيء » ويلحقه قوله : « حلال ». ويدفعه : ابتناؤه على جعل شيء أعمّ من الواحد الاعتباري وهو خلاف ظاهر لا شاهد عليه.

أو بجعل الواحد الحقيقي في معنى « كلّ شيء » عبارة عن الواحد الشخصي أو ما يعمّه والواحد النوعي ، نظرا إلى أنّ المعلوم بالإجمال واحد شخصي ، فهذا وإن كان محتملا بالنسبة إلى لفظ « كلّ شيء » ولكن يصرفه عن الواحد الشخصي قرينة وصفه بالاشتمال على الحلال والحرام ، لاستحالة ذلك في الواحد الشخصي فوجب حمله على الواحد النوعي ، فيكون عبارة عن الكلّي المشتمل على فرد حلال وفرد حرام ، فيختصّ الرواية بذلك بالشبهات الموضوعيّة من الشكّ في التكليف ، ولا يندرج فيها نحو المعلوم بالإجمال.

نعم لا يبعد القول باندراجه في قوله : « كلّ شيء لك حلال » في رواية اخرى بجعل « الشيء » عبارة عن الواحد الشخصي.

ولكن يزيّفه : الأمثلة المذكورة في ذيلها ، فقوله : « وذلك يكون مثل الثوب عليك قد اشتريته وهو سرقة ، والمملوك عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه ، أو خدع فبيع أو قهر ، أو امرأة تحتك وهي اختك أو رضيعتك ... إلى آخره (1) لظهورها في مشتبه الموضوع من الشكّ في التكليف ، خصوصا مع ملاحظة قوله عليه السلام : « ولعلّه » لقضائه بأن ليس في المقام إلاّ مجرّد الاحتمال.

هذا مع إمكان القول بدخول المعلوم بالإجمال فيما بعد الغاية ، بناء على حمل « بعينه » على معناه الاسمي المرادف لمعنى النفس ، ولا على المعنى الوصفي المراد منه التعيين. فإنّا عرفنا وعلمنا أنّ المعلوم بالإجمال حرام عينه فتأمّل.

سلّمنا لكنّه داخل فيما بعد الغاية الّتي في قوله عليه السلام : « والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك » غير ذلك (2) لوضوح أنّ بالعلم الإجمالي استبان لنا في المعلوم بالإجمال غير الحلّيّة ، ولا ريب أنّه أظهر في العموم من قوله : « حتّى تعلم أنّه حرام بعينه » (3) في خصوص العلم التفصيلي.

فتلخّص من جميع ما قررّناه أنّه لا مانع في اللغة من شمول أدلّة تحريم المحرّمات الواقعيّة للمعلوم بالإجمال من مصاديقها ، والعرف أيضا لا يأباه بل يساعد عليه كما عرفت ،

ص: 118


1- الوسائل 12 : 60 الباب 4 من أبواب ما يكتسب به ، ح 4.
2- الوسائل 12 : 60 الباب 4 من أبواب ما يكتسب به ، ح 4.
3- الوسائل 12 : 60 الباب 4 من أبواب ما يكتسب به ، ح 4.

وليس في حكم العقل أيضا ما يخالف ذلك ، بل قد عرفت أنّه مستقلّ في الحكم بكفاية العلم الإجمالي في تنجّز التكليف وتوجّه الخطاب بالاجتناب عن المعلوم بالإجمال بالفعل ، فيعصى بارتكابه ويعاقب عليه وليس في الشرع أيضا ما يدلّ على خلاف ذلك ، إذا أقوى ما تمسّك به في المقام على جواز الارتكاب قوله عليه السلام : « كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو حلال لك ... » (1) إلى آخره ، وقوله أيضا : « كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم ... » (2) إلى آخره ، وقد عرفت الحال فيهما.

وهذا كلّه هو معنى قولنا - عند الاستدلال على كون المعلوم بالإجمال مع كونه حراما في الواقع حراما في الظاهر وبالفعل - : « لنا : نفس الخطابات الواردة في تحريم العناوين المحرّمة » ومرجعه إلى التمسّك بوجود المقتضي لحرمته فعلا وفقد المانع من اقتضائه.

وقضيّة ذلك حرمة مخالفته بعنوان القطع ، على معنى أنّه يقبح على المكلّف بعد كونه مخاطبا بالاجتناب أن يخالفه من غير عذر وهو قاطع بالمخالفة ، بل يقبح على الشارع أيضا أن يرخّص له في المخالفة بتجويزه الارتكاب ، لأنّه تفويت لمصلحة الواقع وإلقاء للمكلّف في المفسدة المقتضية للحرمة من غير عذر ، ونقض للغرض من جعل الحرمة الواقعيّة عملا بمقتضى المفسدة الواقعية صونا للمكلّف من الوقوع فيها.

وإلى ذلك ينظر ما قد يقال في الاستدلال على منع ارتكاب الشبهة المحصورة دفعة وتدريجا من أنّ الشارع لو جوّز الارتكاب دفعة أو تدريجا لزم عليه مخالفة الحكمة المقتضية للحرمة المودعة في الحرام الواقعي ، وهو قبيح عقلا لا يجوز صدوره منه تعالى شأنه.

فإن قلت : إنّ القبح إنّما هو في ترخيص الشارع في مخالفة الواقع من حيث إنّه مخالفة الواقع ، وأمّا لو جعل للعالم بالإجمال من حيث كونه عالما بالإجمال حكما ظاهريّا يلزم من العمل به مخالفة الحكم الواقعي فلا قبح فيه ، كما لا قبح في جعله الحكم الظاهري للجاهل بوصف أنّه جاهل ، وهو جواز ارتكاب المشتبهات في الوقائع المشتبهة وإن لزم من العمل به مخالفة الواقع في بعض الأحيان.

قلت : إنّما يحسن جعل الحكم الظاهري وإن خالف الحكم الواقعي في موضوع العذر للمكلّف المعذور لا مطلقا ، كالجاهل بالحكم الواقعي ، وكما في محلّ التقيّة وغيرها من

ص: 119


1- الوسائل 12 : 59 الباب 4 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأوّل.
2- الوسائل 12 : 60 الباب 4 من أبواب ما يكتسب به ، ح 4.

أنواع الضرورة ، وأمّا في غير موضع العذر فجعل الحكم الظاهري المخالف للحكم الواقعي دائما بل أحيانا قبيح البتّة ، والعلم الإجمالي أو كون العلم إجماليّا مع تمكّن المكلّف من الامتثال لا يعدّ عذرا في نظر العقل ، ولذا يستقلّ في الحكم بكفايته في توجّه الخطاب ، فلا يصحّ عقلا أن يجعل له نظير ما جعل للجاهل خصوصا مع أدائه إلى دوام مخالفة الواقع.

هذا مع أنّ جعل الحكم الظاهري خلاف الأصل ، ولا يكفي في التزامه الاحتمال ولا في وقوعه الإمكان على فرض تسليمه ، وإنّما خرجنا عن الأصل والتزمناه في الجاهل لدليله ، ولا دليل عليه هنا عدا ما عرفت من الخبرين.

وقد عرفت الحال فيهما فيبقى أدلّة الواقع المعتضدة بحكم العقل المستقلّ سليمة عمّا يوجب الخروج عنها.

هذا ولكن العمدة هو المنع العقلي ، فإنّ ترخيص الشارع في فعل المحرّم الواقعي مع علم المكلّف بتحريمه في الواقع ينافي حكمة الشارع ، لكونه تفويتا لمصلحة الترك على المكلّف أو إيقاعا له في مفسدة الفعل وكلاهما قبيحان ، مع كونه نقضا للغرض من جعل الحرمة الواقعيّة ، مع أنّ المعصية ومخالفة التكليف الفعلي الناشئ عن العلم بالحكم الواقعي وموضوعه ولو إجمالا في موضع العلم من غير عذر وضرورة قبيح عقلا.

ومن المستحيل على الشارع أن يأذن المكلّف في القبيح العقلي الّذي لم يطرءه جهة محسّنة له أو رافعة لقبحه ، ولا يتفاوت الحال في قبحه عند العقل بين صدور هذه الإذن بعنوان كونها إذنا في المخالفة ، أو بعنوان جعل حكم ظاهري مخالف للحكم الواقعي المعلوم متضمّن للإذن في المخالفة.

نعم إنّما لا يقبح هذه الإذن أو الجعل المتضمّن لها حيث لم يكن المأذون فيه مخالفة في نظر المكلّف وإن كانت مخالفة في علم الشارع ، كما في الجاهل في الوقايع المجهولة فإنّ ارتكابها باعتبار جهالة الحكم الواقعي لم يتبيّن في نظره كونه مخالفة ، لذا لا يقبّحه العقل بل يجوّزه ، فلا يكون ترخيص الشارع فيه إذنا في ارتكاب القبيح ، وليس فيه منافاة لحكمة الشارع من جهة اخرى ، بل منع الجاهل من الفعل وإلزامه على الترك في الواقع بحيث يتضمّن ترتّب المؤاخذة والعقوبة ينافي حكمته باعتبار كونه لغوا وتكليفا بلا بيان ومؤاخذة ما لا سبيل للمكلّف إلى معرفته ولا إلى امتثاله ، وليس فيه تفويت لمصلحة الترك على المكلّف ولا إيقاع له في مفسدة الفعل ، ولا نقض للغرض من جعل الحكم الواقعي في

ص: 120

موضع مخالفة الحكم الظاهري المجعول له على وجه يستند هذه الامور إلى الشارع ، بل هو فوات لمصلحة الترك ووقوع في مفسدة الفعل ، وعدم حصول لغرض الشارع مستند إلى جهل المكلّف مع عدم كونه مقصّرا في جهله ، ولذا كان الجهل عذرا في نظر العقل سواء رجع مفاد الجعل المذكور بالنسبة إلى الجاهل إلى بدليّة الحكم الظاهري عن الحكم الواقعي ، أو إلى طريقيّة الطرق الظاهريّة إلى الحكم الواقعي ، مع تطرّق المنع إلى لزوم هذه الامور بلا بدل بعد الالتزام بلزوم مراعاة الجاعل في البدل مصلحة يتدارك بها ما فات من مصلحة المبدل ، أو ما وقع فيه المكلّف من مفسدة مخالفة الواقع ، أو مراعاته في سلوك الطريق المجعول مصلحة يتدارك بها ما فات من مصلحة الواقع كما قرّر في محلّه.

وبذلك يندفع السؤال عن أنّه إذا بنى على جعل الحكم الظاهري كان وجوب الاحتياط أولى بأن يجعل حكما ظاهريّا للجاهل بالحكم الواقعي ، لما في سلوك الاحتياط من عدم فوات مصلحة الواقع أصلا وعدم الوقوع في مفسدة مخالفته رأسا.

لأنّ استدراك مثل المصلحة قائم مقام استدراك نفس المصلحة ، وبه يرتفع حزازة فوات نفس المصلحة. مع ما في الإلزام على سلوك الاحتياط من إيقاع المكلّف في المشقّة ، وكونه طريقا لا يرغب فيه أكثر النفوس لما فيه من المشقّة ، فيلزم من جعله طريقا أو الإلزام به كون ما يفسده أكثر ممّا يصلحه ، بخلاف جعل طريق يتضمّن سلوكه مصلحة يتدارك بها المصلحة الفائتة مع كونه ممّا يرغب إلى سلوكه جميع النفوس ، ولا يصحّ جعل نحوه للعالم بالإجمال ، لأنّ البدل الاضطراري إنّما يصحّ بدليّته عند تعذّر المبدل ، وهو غير متعذّر في حقّ العالم بالإجمال ، لمكان علمه وانكشاف الواقع له على وجه يتمكّن من الخروج عن عهدته ، وبعد اتّفاق طريق العلم له لا حاجة له إلى جعل طريق ظاهري يقوم مقامه ، ولذا كان ترخيصه في الارتكاب إذنا له في المخالفة القبيحة فيقبح صدوره من الشارع الحكيم.

فإن قلت : قد ذكرت أنّ الإذن في المخالفة إنّما يقبح على الحكيم إذا كان المأذون فيه مخالفة في نظر المكلّف لا مطلقا ، وإنّما يكون كذلك حيث علم المكلّف بتحقّق المخالفة حين الارتكاب ، سواء كان الارتكاب بنفسه مخالفة أو متضمّنا لها لا محالة ، وهذا إنّما يلزم في الشبهة المحصورة في صورة ارتكاب جميع أفراد المشتبه دفعة واحدة ، وأمّا في صورة ارتكابها على التدريج فلا ، لأنّ المكلّف عند كلّ ارتكاب لا يعلم كونه بالخصوص مخالفة.

ص: 121

نعم بعد جميع الارتكابات يحصل له العلم بتحقّق المخالفة في بعضها ، فلا قبح في إذن الشارع في هذه الارتكابات.

وبالجملة : القبيح إنّما هو الإذن في المخالفة الحاصلة حين الارتكاب مع علم المكلّف بها حينه ، لا المخالفة اللازمة من التدريج مع علم المكلّف بحصولها في ارتكاب لا يعلمه بالخصوص وأنّه الارتكاب الأوّل أو الأخير أو المتوسّط بينهما.

قلت : إنّ المكلّف لعلمه الإجمالي بوجود الحرام المنجّز - لتوجّه الخطاب إليه باجتنابه - يعلم من حين الارتكاب الأوّل بكون أحد هذه الارتكابات مخالفة ، وهذه المخالفة المعلومة المردّدة أيضا قبيحة عقلا ، فيقبح على الشارع تجويزها ، فهو لبنائه من حين الشروع في الارتكاب الأوّل على جميع الارتكابات المتدرّجة مقدم على المخالفة القبيحة ، فإذن الشارع في كلّ ارتكاب يوجب الإذن في القبيح العقلي أيضا.

سلّمنا أنّه ربّما لا يعزم ابتداء إلاّ على الارتكاب الأوّل ثمّ يبدو له بعده الارتكاب الآخر وهكذا إلى آخر الارتكابات.

لكنّا نقول : إنّه كما يقبح إذن الشارع في ارتكاب القبيح العقلي ، فكذلك يقبح إذنه في فعل ما حكم العقل بتعيّن تركه وفي ترك ما حكم العقل بتعيّن فعله ، وستعرف أنّ العقل لمقدّمة الخروج عن عهدة الخطاب الفعلي بالاجتناب على وجه اليقين يحكم بتعيّن الاجتناب عن كلّ فرد من أفراد المشتبه.

فإن قلت : لو قبح مخالفة العلم الإجمالي وقبح من الشارع الإذن فيها لم يقع في الشرع كثيرا ، وقد وقع في مواضع عديدة.

منها : في مسألة ما لو أقرّ بمال معيّن لزيد ثمّ أقرّ به أيضا لعمرو ، فإنّ الحاكم يأخذ المال لزيد وقيمته لعمرو ، وأذن فيه الشارع أيضا مع علمه بأنّ أحدهما أخذ للمال بالباطل.

ومنها : أنّه لثالث أن يأخذ المال من يد زيد وقيمته من يد عمرو ويتصرّف فيهما معا ، وأذن فيه الشارع مع علمه بأنّ أحد الأخذين تصرّف في مال الغير بغير إذنه.

ومنها : مسألة ما لو قال : « هذا لزيد ، بل لعمرو بل لخالد » فإنّ الحاكم يلزمه لكلّ من عمرو وخالد بتمام القيمة ، مع علمه بعدم اشتغال ذمّته في الواقع بكلّ من العين والقيمتين.

ومنها : ما لو تداعيا في عين فحكم الحاكم بالتنصيف بينهما مع علمه بعدم كونها إلاّ لأحدهما.

ومنها : ما لو كان لأحد الودعيين درهم ولآخر درهمان فتلف أحد الدراهم عند

ص: 122

الودعي ، فإنّه يقسّم أحد الدرهمين الباقيين بين المالكين ، مع العلم بأنّ دفع أحد النصفين إلى أحدهما دفع للمال إلى غير صاحبه.

ومنها : ما لو اختلف المتبايعان في الثمن أو المثمن على وجه انجرّ أمرهما إلى التحالف الموجب لا نفساخ العقد ، فإنّه يلزم بذلك مخالفة العلم الإجمالي بل العلم التفصيلي في بعض الفروض ، كما لو جمع العالم بالإجمال بين التصرّف في كلا فردي المتنازع فيه مع شهادة القرائن بعدم رضاء كليهما بذلك التصرّف ، إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على المتتبّع.

قلت : مرجع هذا السؤال إلى نقض قاعدة حرمة مخالفة العلم الإجمالي بالموارد المذكورة ونظائرها ، ويدفعه : منبع صغرى مخالفة العلم الإجمالي في جملة منها ، ومنع كبراها في اخرى.

أمّا الأوّل : ففي أمثلة الإقرار والمثال الأخير ، فإنّ عموم إقرار العقلاء على أنفسهم جائز يقتضي لزوم العمل بكلّ ما يصدق عليه أنّه إقرار ، والإقرار ممّا يقتضي ملكيّة المقرّ به للمقرّ له فوجب العمل به مهما أمكن ، وقد صدر من العاقل في المثال الأوّل إقراران في مال شخصي لزيد وعمرو وهذا المال بمقتضى إقراره الأوّل صار مستحقّا لزيد ويستحيل أن يكون مع ذلك مستحقّا لعمرو أيضا ، فينهض ذلك قرينة على إرادته الإقرار بقيمة المال وإن ذكر في العبارة عينه.

أو يقال : إنّ أفراد العامّ متساوي النسبة إلى العامّ فيجب العمل بالجميع بإجراء حكم العامّ عليه بقدر الإمكان ولو في بعض الوجوه ، وهذان الإقراران فردان من عموم إقرار العقلاء ، والعمل بهما معا في عين المال وإن كان لا يمكن إلاّ أنّه في العين والقيمة ممكن فيجب إنفاذ الأوّل في العين وإنفاذ الثاني في القيمة عملا بالعموم ، وتخصيص العين بزيد لسبق الإقرار له على الإقرار لعمرو ، فلا يبقى له محلّ إلاّ القيمة ، فالأخذ بكلّ منهما أخذ للمال بالحقّ ، وتصرّف كلّ من زيد وعمرو فيما يصل إليه تصرّف في ملكه عملا بمقتضى الإقرار ، فلا مخالفة في شيء من ذلك لعلم تفصيلي ولا إجمالي.

ومن هنا يظهر وجه عدم المخالفة في الثالث الآخذ لما في يد زيد وما في يد عمرو بابتياع أو استعارة أو نحو ذلك وتصرّفه فيهما معا ، فإنّه على الأوّل تصرّف في ملكه ، وعلى الثاني تصرّف في مال الغير بإذن صاحبه. كما يظهر الوجه في المثال الثالث ، فإنّ لفظة « بل » فيه إمّا عاطفة مفيدة للتشريك في الإقرار فينحلّ الكلام إلى أقارير ثلاث ، ينفذ أوّلها في العين والآخران في قيمتين لأحد الوجهين المتقدّمين ، أو للإضراب فتفيد نفي الحكم عن

ص: 123

السابق وإثباته للاّحق فيلغى نفيه لكونه إنكارا بعد الإقرار ، ويؤخذ بإثباته فيكون إقرارا آخر ولا محلّ له إلاّ القيمة فيحمل عليها لأحد الوجهين أيضا.

وفي المثال الأخير لمّا انجرّ الأمر إلى التحالف وحلف كلّ من المتبايعين يقتضي وقوع العقد على ما وقع عليه الحلف ، ولا يمكن العمل بهما معا والترجيح بلا مرجّح غير جائز ، ولا بدّ من رفع التنازع ولا مناص له إلاّ الحكم بانفساخ العقد ، فهو انفساخ من الشارع ، ولازمه عود كلّ من المبيع والثمن إلى مالكه الأوّل ، فتصرّف البايع فيما عاد إليه وتصرّف المشتري أيضا فيما عاد إليه أيضا تصرّف في ملكه ، وليس فيه مخالفة لعلم تفصيلي ولا إجمالي.

وأمّا الثاني : ففي مسألة تنصيف الدرهم وتنصيف العين المتنازع فيها ، فإنّ العلم الإجمالي إنّما لا يجوز مخالفته ويقبح إذن الشارع في مخالفته حيث أوجب تنجّز التكليف وتوجّه الخطاب بالاجتناب بالفعل ، وإنّما يكون كذلك - على ما أشرنا إليه سابقا - حيث أمكن العمل به بإمكان الامتثال إذا كان في الموضوع ، وهو في المسألتين ونظائرهما ممّا لا يمكن العمل به ، فلا ضير في مخالفته ولا قبح في الإذن فيها أيضا.

وتوهّم أنّ التصرّف في أحد النصفين تصرّف في مال الغير ، يدفعه : أنّ حكم الحاكم لمّا كان رفعا لذات البين فحكمه بالتنصيف يجري مجرى الصلح ، فهو صلح إلزامي من الشارع.

وإن شئت قلت : إنّه صلح قهري والصلح من النواقل والمملّكات ، فالنصف الصائر إلى أحد المترافعين الّذي ليس له ذلك في الواقع صار ملكا له في الظاهر بمقتضى هذا الصلح.

غاية الأمر كونه ملكا ظاهريّا ، فتصرّفه فيه تصرّف في ملكه ويجوز له سائر التصرّفات الناقلة وغيرها.

وعلى هذا القياس جميع ما يرد عليك من الأمثلة ممّا توهّم كونه نقضا للقاعدة ، فإنّ الضابط في منع الجميع أحد الأمرين من منع صغرى المخالفة للعلم الإجمالي أو منع كبراها ، فليتدبّر.

ولا فرق في قبح المخالفة القطعيّة وحرمتها عقلا وشرعا بين ما لو كان المعلوم بالإجمال فردا من عنوان محرّم واحد كالخمر ، أو فردا مردّدا بين عنوانين محرّمين كالخمر والعصير العنبي بعد الغليان ، خلافا لما عن صاحب الحدائق (1) من الفرق بينهما في الشبهة فأوجب الاجتناب في الفرد من الخمر دون الفرد المردّد بين الخمر والمغصوب أو العصير.

ص: 124


1- الحدائق 1 : 517.

وهذا مع عدم وضوح وجه له واضح البطلان ، لعدم تعقّل الفرق في حكم العقل بين الصورتين ، فإنّ قبح مخالفة العلم الإجمالي إنّما هو لقبح مخالفة الخطاب المتوجّه إلى المكلّف فعلا ، ولا يتفاوت الحال فيه بين كون الخطاب معلوما بالتفصيل أو بالإجمال.

ألا ترى أنّه لو فرض إناء واحد مردّد بين كونه من الخمر أو من العصير المغصوب وجب الاجتناب عنه ، لكونه مخالفة لأحد الخطابين من قوله : « اجتنب عن الخمر » و « اجتنب عن المغصوب » وإذا فرض أنّه اشتبه بإناء خلّ مباح فهو على وجوب اجتنابه السابق.

وبجميع ما قرّرناه تبيّن بطلان القول بجواز ارتكاب الجميع في الشبهة المحصورة مطلقا ، وبطلان دليله وهو على ما وقفنا عليه وجهان :

أحدهما : أنّ المعلوم بالإجمال غير مشمول لأدلّة تحريم المحرّمات ، إمّا لكون الألفاظ وضعا للمعلومات بالتفصيل أو لانصرافها في حيّز الخطاب إليها.

وثانيهما : عمومات أصل البراءة الّتي عمدتها قوله عليه السلام : « كلّ شيء فيه حلال وحرام ... » (1) إلى آخره ، وقد عرفت ما فيهما بما لا مزيد عليه.

وتبيّن أيضا بطلان القول بجواز الارتكاب تدريجا فقط ، مع عدم وضوح وجه له يعتمد عليه ، إلاّ توهّم أنّ المسلّم من حرمة المخالفة القطعيّة هو ما يتحقّق حين الارتكاب لا ما يحصل العلم به بعد الارتكاب ، فيرجع في كلّ ارتكاب إلى الأصل المستفاد من العمومات ، وقد عرفت بطلان الفرق بينهما في نظر العقل ومنع شمول أدلّة الأصل لما نحن فيه ، هذا كلّه في منع المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي مطلقا المقتضي لعدم ارتكاب الجميع مطلقا.

وبقي الكلام في وجوب الاجتناب عن الجميع المتضمّن لوجوب الموافقة القطعيّة للعلم الإجمالي كما هو المشهور ، على ما حكاه بعض مشايخنا (2) ناسبا إلى المدارك (3) كونه مقطوعا به في كلام الأصحاب ، وإلى المحقّق البهبهاني في الفوائد (4) نسبته إلى الأصحاب ، وإلى المحقّق الكاظمي في شرح الوافية (5) دعوى الإجماع عليه صريحا.

لنا على ذلك : وجهان تقدّم الإشارة إليهما :

أحدهما : أنّ العقل الحاكم بكفاية العلم الإجمالي في توجّه الخطاب يجوّز العقاب على

ص: 125


1- الوسائل 12 : 59 الباب 4 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأوّل.
2- فرائد الاصول 2 : 210.
3- المدارك 1 : 107.
4- الفوائد الحائريّة : 248.
5- الوافي في شرح الوافية ( مخطوط ) ، الورقة : 210.

مخالفة المعلوم بالإجمال ، ففي كلّ ارتكاب لاحتمال كونه المعلوم بالإجمال يحتمل ترتّب العقاب المقطوع به عليه ، وهو احتمال للضرر الاخروي فيجب دفعه باستقلال من العقل ، ولا يتأتّى إلاّ بالاجتناب.

وتوهّم أنّه يلزم على ذلك أن لا يكون لأصل البراءة مورد حتّى الجاهل بالحكم أو الموضوع في الشبهة الحكميّة أو الموضوعيّة لقيام احتمال العقاب في الجميع.

يدفعه : وضوح الفرق بين الجاهل والعالم بالإجمال ، فإنّ الأوّل يؤمنّه العقل المستقلّ بقبح التكليف بلا بيان ، والمؤاخذة على مخالفة ما لا سبيل للمكلّف إلى معرفته وامتثاله عن الضرر ، بخلاف الثاني.

وبالجملة وجوب دفع الضرر المحتمل حكم عقلي موضوعه احتمال الضرر ، وقبح عقاب الجاهل على مخالفة الواقع لجهله أيضا حكم عقلي وارد على الأوّل رافع لموضوعه ، وهذا في العالم بالإجمال ممّا لا وارد عليه في حكم العقل ، لما عرفت من تجويزه العقاب على المخالفة ، فيبقى حكمه بوجوب دفع الضرر المحتمل على حاله لتحقّق موضوعه.

وثانيهما : أنّ الخطاب بالاجتناب عن الحرام الواقعي المعلوم بالإجمال يقتضي الخروج عن العهدة على وجه اليقين ، وهو لا يتأتّى إلاّ بالاجتناب عن الجميع ، فيجب مقدّمة.

والمناقشة فيه إمّا بإنكار وجوب ذي المقدّمة أو بإنكار وجوب المقدّمة. ويندفع الأوّل بأنّا قد فرغنا عن إثبات وجوب الاجتناب عن المعلوم بالإجمال ، والثاني بما تقرّر في محلّه من وجوب مقدّمة الواجب ولو علميّه بل قيل لا خلاف في وجوب المقدّمة العلميّة.

ويؤيّد المختار امور :

منها : الشهرة المحقّقة المعتضدة بما عرفت من الشهرة المحكيّة والإجماعات المنقولة ، وهذا عند التحقيق دليل مستقلّ على المطلب لكفاية نحوه في المسألة ، لكونها في أصل وضعها فرعيّة تذكر في الاصول تأسيسا للقاعدة الكلّيّة.

ومنها : عدّة روايات غير نقيّة الأسانيد بمضمونها إمّا خاصّة بالشبهة المحصورة أو عامّة لها أيضا ، كالمرسل المرويّ الّذي يمكن دعوى كونها متلقّاة بالقبول عند الأصحاب : « ما اجتمع الحلال والحرام إلاّ غلب الحرام الحلال (1) » فإنّ الشبهة المحصورة بجميع أطرافها ما اجتمع فيه الحلال والحرام فوجب أن يغلب فيها الحرام الحلال ، ولا معنى له

ص: 126


1- عوالي اللآلئ 2 : 132 ، ح 358.

إلاّ وجوب الاجتناب عن الحلال أيضا.

وقوله عليه السلام في المرسل الآخر : « واتركوا ما لا بأس به حذرا عمّا به البأس (1) » فإنّ الحلال المشتبه بالحرام لا بأس به والحرام به بأس فيجب الاجتناب عن الأوّل أيضا حذرا عن ارتكاب الحرام.

ومنها : قوله صلى اللّه عليه وآله في خبر التثليث : « من ركب الشبهات وقع في المحرّمات ، وهلك من حيث لا يعلم (2) » بناء على أحد وجوهه المتقدّمة من كون المراد من الوقوع في المحرّم الوقوع الحقيقي الدائمي ، فلا ينطبق إلاّ على الشبهة المحصورة ، ضرورة أنّ من ارتكب جميع أطراف الشبهة - كما هو قضيّة عموم « الشبهات » - وقع في الحرام الواقعي المعلوم وجوده فيها ، وقوله : « هلك من حيث لا يعلم » يدلّ على توجّه الخطاب بالاجتناب عنه ، لكون الهلاك كناية عن العقاب الاخروي.

ومنها : الاستقراء الّذي أخذه بعضهم دليلا مستقلاّ على المطلب ، وحيث إنّه بمكان من الضعف عندنا لعدم غلبة يعتدّ بها فيما نصّ الشارع بوجوب الاجتناب عنه بالخصوص من أفراد الشبهات المحصورة أخذناه مؤيّدا ، لعدم ثبوت هذا النصّ إلاّ في عدّة موارد لا تبلغ حدّ الغلبة ، كالانائين المشتبهين أحدهما نجس حيث أمر الشارع باهراقهما ، والصلاة في الثوبين المشتبهين ، ووجوب غسل الثوب من الناحية الّتي علم إصابة النجاسة لبعضها.

ووجه التأييد : أنّه يستشمّ من هذه الموارد أنّ بناء الشارع في الشبهة المحصورة على ايجاب الاجتناب عن الجميع.

فظهر بجميع ما ذكر فساد القول بجواز الارتكاب إلى أن يبقى مقدار الحرام كما هو خيرة بعض الأعلام ، مع عدم مستند له يصلح للاعتماد عليه ، عدا ما يستفاد من تضاعيف عباراته من الاستدلال على جواز ارتكاب ما عدا مقدار الحرام من أنّه ارتكاب بما لم يعرف حرمته بعينه فيكون جائزا للأصل ، وعلى عدمه في الباقي بأنّه كما أنّ ارتكاب الحرام المتيقّن حرام فتحصيل اليقين بارتكاب الحرام أيضا حرام ، قال : « وتحريمه من هذه الجهة ، فارتكاب الفرد الآخر الّذي يوجب العلم بارتكاب الحرام الواقعي مقدّمة لتحصيل اليقين بارتكابه ، ومقدّمة الحرام حرام (3) » ولا خفاء في ضعفهما.

أمّا الأوّل : فلأنّ هذا القائل إمّا أن يقول بتنجّز التكليف في واقعة العلم الإجمالي أو لا ،

ص: 127


1- ورد ما يقرب منه في البحار 77 : 166 ، الحديث 192 ، وتحف العقول : 60 ، سنن ابن ماجة 2 : 1409 ، ح 4215.
2- الوسائل 18 : 114 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 9.
3- القوانين 2 : 25.

وعلى الثاني لا وجه لاستثناء مقدار الحرام ، وعلى الأوّل لزمه الالتزام بوجوب اجتناب الجميع لما ذكرناه.

وأمّا الثاني : فلمنع تحريم تحصيل العلم بارتكاب الحرام الواقعي حيث لا دليل عليه من عقل ولا نقل ، وإنّما المحرّم هو نفس الارتكاب في موضع العلم بالمحرّم الواقعي ، ولا ينافيه ما قدّمناه من حرمة المخالفة القطعيّة ، إذ ليس معناه حرمة القطع بالمخالفة على أن يكون معروض الحرمة هو القطع ، بل معناه حرمة المخالفة لمن يقطع بها.

وقد عرفت أنّه لا يتفاوت الحال في قبحها عند العقل بين قطعه بتحقّقها حال الارتكاب وقطعه بتحقّقها في أحد الارتكابات.

وبقي من أقوال المسألة خامسها ، وهو القول بوجوب التخلّص عن الحرام المشتبه بالحلال بالقرعة ، استنادا إلى ما ورد من عموم « القرعة لكلّ أمر مشكل (1) » وخصوص ما ورد في قطيع الغنم عن أبي الحسن الثالث حين سئل عن مسائل ، منها عن رجل أتى إلى قطيع غنم فرأى الراعي ينزو على شاة منها ، فلمّا أبصر صاحبها خلّى سبيلها فدخلت بين الغنم ، كيف تذبح؟ وهل يجوز أكلها أم لا؟ فأجاب عليه السلام : إن عرفها ذبحها وأحرقها ، وإن لم يعرفها قسّم الغنم نصفين وساهم بينهما ، فإذا وقع على أحد النصفين فقد نجى النصف الآخر ، ثمّ يفرّق النصف الآخر ، فلا يزال كذلك حتّى يبقى شاتان فيقرع بينهما ، فأيّهما وقع السهم لها ذبحت واحرقت ونجى سائر الغنم (2) »

وفيه : أنّ مفاد هذا الخبر حكم مخالف للقاعدة فيقتصر فيه على مورده ، وليس فيه عموم ولا إطلاق يوجب التعدّي إلى غيره.

وأمّا عمومات القرعة فهي روايات ضعاف فلا يسوغ العمل بها إلاّ مع جابر لأسانيدها ، ولا يكون إلاّ عمل الأصحاب ، وهو وإن كان ثابتا في الجملة إلاّ أنّهم لم يعملوا بعمومها بالقياس إلى جميع الموارد ، فكما أنّ عملهم في الجملة جابر لضعف السند فكذلك تركهم العمل بعمومها موجب لضعف الدلالة على العموم ، فهي موهونة بذلك.

والحاصل : أنّ الخبر الضعيف المنجبر بعمل الأصحاب يجب الاقتصار فيه على القدر المتيقّن من مورد الجابر وليس إلاّ بعض الموارد ، فالقاعدة في الشبهة المحصورة تقتضي وجوب الاجتناب عن الجميع إلاّ ما خرج عنها بالدليل.

ص: 128


1- الوسائل 18 : 187 الباب 12 من أبواب كيفيّة الحكم ...
2- تحف العقول : 480.
التنبيهات :
اشارة

ثمّ إنّ هاهنا امورا مهمّة ينبغي التعرّض لها :

الأمر الأوّل : في أنّ وجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة هل هو على حدّ الوجوب الشرعي أو لا؟

الأمر الأوّل : في أنّ وجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة على المختار هل هو على حدّ الوجوب الشرعي الّذي يعاقب على مخالفته ولو بارتكاب البعض وإن لم يصادف المحرّم الواقعي أو لا؟ فلا يعاقب إلاّ على مخالفة الواقع كما في صورة ارتكاب الجميع دفعة ، وفي صورة ارتكاب البعض المصادف للمحرّم الواقعي ، فإنّه يعاقب فيهما باعتبار ارتكابه المحرّم الواقعي لا غير ، وجهان بل قيل : قولان ، أجودهما بل أقواهما الثاني.

وربّما يشير إليه ما في حديث التثليث بناء على انطباقه على الشبهة المحصورة من قوله عليه السلام : « وقع في المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم (1) » لقضائه بكون الهلاك الّذي هو العقاب الاخروي مترتّبا على الوقوع في المحرّم الواقعي المتحقّق في صورة ارتكاب جميع الشبهات ، والشأن إنّما هو بيان سرّ ما قوّيناه.

ويستظهر ذلك من الدليل المقام على وجوب الاجتناب عن الشبهة بجميع أطرافها من قاعدتي المقدّمة ووجوب دفع الضرر المحتمل ، فإنّ الوجوب المستفاد منهما وجوب عقلي ، وهو على الاولى مقدّمي فيكون غيريّا وقد تقرّر في محلّه أنّ الواجب الغيري لا يعاقب تاركه من حيث هو تاركه ، ومع ذلك فهو إرشاديّ لكون وجوب ذي المقدّمة وهو تحصيل العلم بالخروج عن عهدة التكليف إرشاديّا من العقل ، فإنّه إنّما يلزم المكلّف به إرشادا له إلى طريق الاطمئنان بالتخلّص عن العقاب على مخالفة الواقع ، ولذا لا يترتّب على موافقته ومخالفته أزيد ممّا يترتّب على تحصيل العلم وتركه ، فإنّه على الأوّل يحصل الاطمئنان بالتخلّص عن العقاب ، وعلى الثاني ربّما يتوجّه العقاب على تقدير اتّفاق مخالفة التكليف بارتكاب الحرام الواقعي ، وعلى قياسه وجوب مقدّمته وهو الاجتناب عن الجميع فلا يترتّب على مخالفته أزيد ممّا يترتّب على ترك اجتناب الجميع من العقاب على ارتكاب الجميع دفعة أو على ارتكاب البعض على تقدير مصادفته الحرام الواقعي.

وعلى الثانية أيضا لا يكون إلاّ إرشاديّا ، لأنّ العقل يلزم المكلّف بترك كلّ [ ارتكاب ] إرشادا له إلى التخلّص عن الضرر المحتمل وهو العقاب ، فلا يؤثّر مخالفته من حيث هو في العقاب على كلّ ارتكاب.

وتوهّم أنّ العقاب ربّما يثبت باعتبار التجرّي الحاصل عند كلّ ارتكاب لكونه قبيحا.

ص: 129


1- الكافي 1 : 67 ، ح 9 ، الفقيه 3 : 8 - 11 ، ح 3233 ، التهذيب 6 : 301 ، ح 52. وفيها : « ارتكب » بدل « وقع في ».

يدفعه : أنّ قبح التجرّي ما لم يؤثّر في حدوث تحريم شرعي في الفعل المتجرّى به لم يؤثّر في العقاب عليه.

ومن المقرّر في محلّه أنّه لا يبلغ حدّا يؤثّر في ذلك ، لأنّه قبح في الفاعل لكشفه عن صفة قبيحة فيه ، وهو خبث الباطن وسوء السريرة ، لا أنّه قبح في الفعل المتجرّي به بحيث به يكشف عن صفة قبيحة فيه ، فلا يؤثّر في حدوث حكم فيه ولا عقاب عليه ، ثمّ على تقدير العقاب ولو باعتبار التجرّي إذا ارتكب المكلّف ما صادف الحرام الواقعي ففي تعدّد العقاب وعدمه احتمالان وربّما قيل بتداخل العقابين ، وعليه ففائدة الخلاف تظهر في غير صورة المصادفة.

وربّما يتمسّك لإثبات العقاب بالأدلّة الشرعيّة الدالّة على الاحتياط.

ويزيّفه : بعد الغضّ عن منع دلالتها على وجوبه كما أوضحناه بما لا مزيد عليه عند الكلام على أدلّة الاخباريّين في القول بوجوب الاحتياط في محتمل التحريم ، أنّه أيضا كأوامر الإطاعة من باب الأمر الإرشادي يقصد به حمل المكلّف على التخلّص عن الوقوع في المحرّم الواقعي الموجب للعقاب ، كما يشير إليه قوله عليه السلام : « إنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات (1)

الأمر الثاني : في مناط وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة

الأمر الثاني : في أنّه قد ظهر من تضاعيف كلماتنا السابقة أنّ مناط وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة إنّما هو تنجّز التكليف بالاجتناب عن الحرام أو النجس المعلوم بالإجمال ، نظرا إلى كفاية العلم الإجمالي فيه ، وذلك إنّما يكون حيث لم يكن في واقعة العلم الإجمالي جهة اخرى موجبة للشكّ في تنجّز التكليف بالاجتناب عن المعلوم بالإجمال ، إذ مع وجود نحو هذه الجهة يرجع الشكّ بالنسبة إلى الطرف من الشبهة الّذي عزم المكلّف على استعماله إلى الشكّ في التكليف لا المكلّف به ، فيرجع إلى الأصل المقتضي لجواز الاستعمال.

والضابط في هذه الجهة كون المعلوم بالإجمال مردّدا بين تقديرين :

أحدهما مؤثّر في حدوث التكليف قطعا ، والآخر ليس مؤثّرا في حدوثه قطعا ، وضابط هذا الضابط كون حدوث التكليف معلّقا على شرط عقلي أو شرعي أو عرفي فهم عرفا من الخطاب الوارد في تحريم المحرّم الواقعي يكون ذلك الشرط متحقّقا في أحد

ص: 130


1- الوسائل 18 : 114 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 9.

طرفي الشبهة ومنتفيا في الطرف الآخر ، فهاهنا صور ثلاث لا يجب الاجتناب عمّا أراد المكلّف ارتكابه من أطراف الشبهة المحصورة :

الصورة الاولى : كون الشرط المعلّق عليه التكليف بالاجتناب عن المعلوم بالإجمال شرطا عقليّا متحقّقا في أحد الطرفين ومنتفيا في الطرف الآخر ، كالقدرة فيما كان الاشتباه بين المقدور والغير المقدور. ومن أمثلته ما لو طار قطرة بول إلى إنائين يقدر المكلّف على استعمال أحدهما ولا يقدر على استعمال الآخر ووقعت على أحدهما واشتبه في نظر المكلّف ، فإنّه لا يوجب الاجتناب عمّا يقدر على استعماله لرجوع الشكّ بالنسبة إليه إلى التكليف لا المكلّف به.

الصورة الثانية : كون الشرط المذكور شرعيّا مع تحقّقه في أحد الطرفين دون الطرف الآخر ، وذلك كما في ملاقاة النجاسة فإنّها وإن كانت سببا لحدوث التكليف بالاجتناب عن الملاقي لكن بشروط ثلاث :

الأول : تحقّق الملاقاة في الظاهر.

الثاني : ظهور أثرها وهو الانفعال فيه.

الثالث : كون الاستعمال مشروطا بطهارته.

فإذا انتفى أحد هذه الشروط انتفى التكليف بالاجتناب.

ومن أمثلة تحقّق الشرط الأوّل في أحد الطرفين وانتفائه في الطرف الآخر ما لو طار قطرة بول إلى إنائين أحدهما بول والآخر ماء واشتبهت بين وقوعها في إناء البول أو في إناء الماء ، فإنّه لا يوجب المنع عن استعمال الماء.

ومن أمثلة تحقّق الثاني وانتفائه ما لو طارت القطرة إلى كرّ وإناء من قليل واشتبهت بين وقوعها في الأوّل أو الثاني ، فإنّه لا يوجب المنع من استعمال القليل.

ومن أمثلة تحقّق الثالث وانتفائه ما لو طارت القطرة إلى إناء من ماء واشتبهت بين وقوعها فيه أو في خارجه ، فإنّه لا يوجب المنع من استعمال مائه في طهارة أو غيرها من مشروط بطهارة الماء. وعليه يحمل ما في صحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه عليه السلام في رجل رعف فامتخط فصار الدم قطعا صغارا فأصاب إناه هل يصلح الوضوء منه؟ فقال عليه السلام : « إن لم يكن شيء يستبين في الماء فلا بأس به ، فإن كان شيئا بيّنا فلا (1) » وبذلك يسقط

ص: 131


1- الوسائل 1 : 112 ، الباب 8 من أبواب الماء المطلق ، الحديث الاوّل.

استدلال الشيخ قدس سره بها على عدم انفعال القليل بملاقاة ما لا يدركه الطرف من الدم.

الصورة الثالثة : كون الشرط المعلّق عليه التكليف بالاجتناب عرفيّا يفهم العرف من الخطاب ، ككون الحرام أو النجس الواقعي محلاّ لابتلاء المكلّف به ، فقول الشارع : « حرّمت عليكم الخمر أو الميتة » أو نحو ذلك يفهم منه وجوب الاجتناب عن هذه الأشياء في محلّ الابتلاء ، فكأنّه قال : إذا ابتليتم بالخمر أو الميتة يجب عليكم اجتنابه ».

وأمثلة تحقّق هذا الشرط في أحد طرفي العلم الإجمالي وانتفائه في الطرف الآخر كثيرة ، منها : النجاسة الواقعة فيما يتردّد بين الإناء أو الثوب أو موضع آخر ونحوه من محلّ الابتلاء وغيره ممّا ليس بمحلّ الابتلاء ، فإنّه لا يوجب المنع من استعمال ما هو من محلّ الابتلاء لمكان الشكّ في تنجّز التكليف بالاجتناب عن المعلوم بالإجمال.

وبجميع ما بيّنّاه اندفع كلام صاحب المدارك حيث إنّه في مسألة الإنائين المشتبهين نقل احتجاج العلاّمة في المختلف على وجوب اجتنابهما معا بأنّ اجتناب النجس واجب قطعا ، وهو لا يتمّ إلاّ باجتنابهما معا ، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب.

وأورد عليه بما يقتضي باختياره عدم وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة عن جميع ما وقع فيه الاشتباه من أنّ اجتناب النجس لا يقطع بوجوبه إلاّ مع تحقّقه بعينه لا مع الشكّ فيه ، [ ثمّ ] أيّده بقوله : « ويستفاد من قواعد الأصحاب أنّه لو تعلّق الشكّ بوقوع النجاسة في الماء وخارجه لم ينجّس الماء بذلك ولم يمنع من استعماله وهو مؤيّد لما ذكرناه ، فتأمّل » انتهى (1).

ووجه الاندفاع : أنّ السرّ في عدم اجتناب الأصحاب عن الإناء في نحو هذا الفرع إنّما هو لرجوع الشكّ المفروض بالنسبة إلى الإناء إلى كونه في التكليف ، باعتبار ما اجتمع فيه مع العلم الإجمالي من الجهة الموجبة للشكّ في تنجّز التكليف ، وهو لا يوجب نقضا لقاعدة وجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة المنوط بعدم اجتماع نحو هذه الجهة مع العلم الإجمالي ، ليكون الشكّ المعتبر فيها في المكلّف به لا التكليف الصرف ، ولعلّ قوله قدس سره : « فتأمّل » إشارة إلى ذلك.

ودفعه في الحدائق (2) بخروج الفرع المذكور عن ضابط الشبهة المحصورة ، وهو ما كان للمشتبهين عنوان جامع بينهما ليصحّ تعلّق الخطاب به كما هو المعهود فيها ، ولا يتأتّى ذلك

ص: 132


1- المدارك 1 : 108.
2- الحدائق 1 : 517.

إلاّ في المتجانسين ، ولا مجانسة فيما بين الماء والأرض وغيرها من الامور الخارجة من الاناء ، فليس بينهما جهة جامعة.

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّ المجانسة إن اريد بها المشاركة في الجنس القريب فلم يعتبرها أحد ، وإن اريد بها المشاركة في الجنس مطلقا ولو بعيدا فهي حاصلة بين الماء والأرض وغيرها ولو بنحو من الانتزاع وهو النجس أو المتنجّس ، فيشمله قوله : « اجتنب عن النجس أو المتنجّس ».

وأضعف من ذلك دفع التأييد بإرجاع الفرع المذكور إلى الشبهة الغير المحصورة وهو السرّ في عدم اجتناب الأصحاب عن الإناء كما عن بعضهم ، وكأنّه وهم من بناء المسألة على كون المراد من خارج الإناء الّذي يحتمل وقوع النجاسة فيه صحراء وسيعة ، وهو بعيد غاية البعد ، بل الخارج قد يكون ظاهر الاناء من خارج ، وقد يكون الأرض القريبة من الإناء ، وغير ذلك ممّا يكون الشبهة معه محصورة.

ومن مشايخنا (1) من دفعه بجعل خارج الإناء هاهنا من غير محلّ الابتلاء ، ومن شرط وجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة كون جميع ما وقع فيه الاشتباه محلاّ لابتلاء المكلف ، إذ لو لاه لعاد الشكّ بالنسبة إلى محلّ الابتلاء إلى أصل التكليف.

فيشكل : بأنّ الابتلاء بالنسبة إلى كلّ شيء بحسبه ، فيكون كلّ من ماء الإناء ونفس الإناء والأرض القريبة منه من محلّ الابتلاء ، أمّا الماء لاستعماله في الطهارة والإناء للاغتراف منه والأرض للوقوف فيها ، بل المخرج للفرع المذكور عن ضابط الشبهة المحصورة ليس إلاّ أمرا شرعيّا كما أشرنا إليه.

وتوضيحه يعلم بملاحظة اشتراط الطهارة وضوء وغسلا بطهارة الماء ، وعدم اشتراطها بطهارة ظاهر الإناء وطهارة مكان الطهارة ، حتّى أنّه لو علم نجاستهما تفصيلا لم يقدح في صحّة الطهارة وجواز استعمال الماء فيها ، فالنجاسة المشكوكة في الفرع المذكور مردّدة بين إصابتها لما يجب الاجتناب عنه في الطهارة وإصابتها لما لا يجب الاجتناب عنه في الطهارة ، وهذا هو الباعث على عود الشكّ فيه إلى أصل التكليف.

نعم لو فرض الإناء والأرض معا بحيث يكون طهارة كلّ منهما شرطا في استعماله اتّجه وجوب اجتنابهما ، لعود الشكّ حينئذ إلى المكلّف به المبنيّ على تنجّز التكليف وتوجّه

ص: 133


1- فرائد الاصول 2 : 236.

الخطاب بعنوان القطع ، كما لو أراد استعمال الماء في طهارته والسجود على الأرض في صلاته ، فهو مخاطب بالاجتناب عن المتنجّس المعلوم بالإجمال المردّد بين كونه الماء الّذي يشترط طهارته في الطهارة والأرض الّتي يشترط طهارتها في السجود ، فالتكليف بالاجتناب معلوم والشكّ في المكلّف به ، ولا يتمّ العلم بالخروج عن عهدته إلاّ باجتنابهما معا ، والفارق بينه وبين الفرع السابق أنّ المعلوم بالإجمال فيه دائر بين تقديرين كلّ منهما مؤثّر في حدوث التكليف بالاجتناب قطعا ، وثمّة بين تقديرين أحدهما مؤثّر فيه دون الاخر.

وقد عرفت أنّه جهة موجبة للشكّ في تنجّز التكليف بالاجتناب عن المعلوم بالإجمال ، فليتدبّر.

الأمر الثالث : في وجوب الاجتناب عن ملاقي المشتبه في الشبهة المحصورة
اشارة

الأمر الثالث : فيما لو كان المعلوم بالإجمال في واقعة الشبهة المحصورة نجسا واقعيّا اشتبه بطاهر فلاقى طاهرا آخر أحد المشتبهين ، فهل يلحق بالمشتبه الملاقى في وجوب اجتنابه بناء على تنجّسه أو لا؟ قولان ، أقواهما وأشهرهما الثاني ، لأنّ الاجتناب عن الشيء باعتبار النجاسة إنّما يجب لكونه نجسا لذاته ، أو متنجّسا بواسطة ملاقاة النجس ، أو مشتبها بالنجس أو المتنجّس في الشبهة المحصورة ، وهذا ليس بشيء من ذلك.

أمّا الأوّل : فلفرض كونه طاهرا بالأصل.

وأمّا الثاني : فلعدم كون ملاقاة النجس محرزة فيه.

وأمّا الثالث : فلعدم كونه طرفا للعلم الإجمالي ، بضابطة عدم كون المعلوم بالإجمال دائرا بينه وبين غيره من المشتبهين ، ولذا لا يتناوله الحكم المقدّمي بوجوب الاجتناب ، فالشبهة بالنسبة إليه يعود إلى التكليف الصرف فيرجع إلى الأصل.

وتوهّم إحراز ملاقاة النجس فيه بالبناء على القول بكون النجاسة عبارة عن الأحكام التكليفيّة المنتزعة عن الشيء النجس الّتي منها وجوب الاجتناب عنه ، لا عن صفة ثابتة فيه موجبة لتلك الأحكام ، فيقال حينئذ : إنّ وجوب الاجتناب عن المشتبه الملاقي نجاسة فيه ، فيكون نجسا لاقاه طاهر.

أو بالبناء على أنّ الشيء قد يكون نجسا بتنزيل الشارع له منزلة النجس الواقعي وإجراء جميع أحكام النجس عليه ، كما في البلل المشتبهة الخارجة قبل الاستبراء عن البول أو المنيّ ، فإنّها بول أو منيّ تنزيلي من الشارع وإن كان في الواقع غيرهما ، ولذا كان ناقضا للطهارة ومنجّسا لملاقيه ، فيقال حينئذ : إنّ المشتبه الملاقي نجس ولو بواسطة تنزيل

ص: 134

الشارع ، ولذا يجب اجتنابه فينجس ملاقيه أيضا كما ينجس ملاقي البلل المشتبهة.

يدفعه : منع البناء المذكور بكلا وجهيه :

أمّا وجهه الأوّل فأوّلا : بأنّ كون النجاسة عبارة عن الأحكام التكليفيّة المنتزعة خلاف التحقيق ، بل الأقوى - على ما قرّرناه في محلّه - كونها صفة متأصّلة ثابتة في الشيء ينشأ منها تلك الأحكام.

وأمّا ثانيا : فلأنّ وجوب الاجتناب عن الشيء إنّما يكون نجاسة على القول المذكور إذا ثبت فيه على أنّه نجاسة فيه ، لا لوجوب الاجتناب عن شيء آخر على أنّه نجاسة فيه ، وهذا المعنى غير محرز في المشتبه الملاقي ، مع أنّ وجوب الاجتناب عن كلّ من المشتبهين ليس من الشارع أصالة بل من العقل إرشادا ، ونحوه لا يعدّ نجاسة على القولين.

وأمّا وجهه الثاني : فلأنّ التنزيل الشرعي خلاف الأصل فيقتصر على مورد دليله ، ولم يثبت نحوه في المشتبه الملاقي ، مع أنّه في البلل المشتبهة لعلّه لنوع من تقديم الظاهر على الأصل ، وهذا غير متحقّق فيما نحن فيه.

وبالجملة فتنجيس الملاقي بالبناء على كونه ملاقيا للنجس أصعب شيء في المقام لا يقبله الطبع السليم.

ودعوى أنّ ما دلّ على وجوب الاجتناب عن النجس الواقعي يدلّ على وجوب الاجتناب عن ملاقيه الملزوم لنجاسته ، ولذا استدلّ السيّد أبو المكارم في الغنية (1) على انفعال القليل بملاقاة النجاسة بما دلّ على وجوب هجر النجس كقوله تعالى : ( وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) (2).

مدفوعة - بعد منع أصل هذه الدلالة بالقياس إلى الملاقي خصوصا إذا كان نحو الماء - بأنّه فرع تحقّق الملاقاة للنجس.

وقد عرفت أنّه غير متحقّقة فيما نحن فيه ، لاحتمال كون المشتبه الملاقي هو الطاهر الواقعي.

وتوهّم كونه النجس تعبّدا لحكم الشارع بوجوب اجتنابه فينجّس ملاقيه ، ولذا تمسّك العلاّمة في المنتهى (3) على ذلك بأنّ الشارع أعطاهما حكم النجس. يندفع بأنّ حكم الشارع بذلك لو فرض صدوره منه بالخصوص كما في الإنائين المشتبهين حيث أمر بإهراقهما إنّما هو على طبق حكم العقل باجتنابهما ، وقد عرفت أنّه إرشاديّ مقدّمي ، وهو لا يفيد كون

ص: 135


1- الغنية : 46.
2- المدثر : 5.
3- المنتهى 1 : 178.

مورده مطلقا ممّا أعطاه الشارع حكم النجس مطلقا حتّى في تأثيره في تنجيس ملاقيه.

وممّا يرشد إلى ذلك أيضا ما ورد في الثوبين المشتبهين من الأمر بتكرار الصلاة فيهما المعلوم كونه لأجل اليقين بحصول الصلاة في الثوب الطاهر ، فلو صحّ كونهما بحيث أعطاهما الشارع حكم النجس لم يصحّ الصلاة بشيء منهما ووجب الحكم باجتنابهما معا.

هذا كلّه مع أنّه يكفي في الحكم بطهارة الملاقي استصحاب الطهارة السابقة ، وأصالة الطهارة المستفادة من قوله عليه السلام : « كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر (1) » ولا يجري نحو الأوّل في شيء من المشتبهين ، لانتفاء ما هو من أركانه من الشكّ اللاحق ، فإنّ اشتباه الطاهر بالنجس كما لا يوجب الشكّ في زوال النجاسة عن النجس الواقعي كذلك لا يوجب الشكّ في طروّ النجاسة للطاهر الواقعي.

نعم لو كان المشتبهان قبل عروض الاشتباه طاهرين فأصاب أحدهما نجاسة على وجه الاشتباه تحقّق في كلّ منهما الشكّ المذكور بعد سبق اليقين بالطهارة ، لكن استصحاب الطهارة في أحدها معارض بمثله في الآخر ، ولا يمكن العمل بهما معا لمكان العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما ، والأخذبه في أحدهما ترجيح بلا مرجّح فيتساقطان.

ولا ينقض الثاني بمثله في المشتبهين لعدم شمول دليله لهما ، لوضوح الفرق بين الشبهة في طهارة الشيء ونجاسته من جهة الشكّ في محمول القضيّة وهو الشكّ في أنّ هذا طاهر أو نجس ، وبين الشبهة فيهما للشكّ في موضوع القضيّة وهو الشكّ في أنّ هذا طاهر أم ذاك ، وقوله عليه السلام : « كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » ظاهر في الأوّل فلا يتناول بظاهره الثاني وما نحن فيه من هذا القبيل.

ولو سلّم عدم الفرق في عموم الرواية فأقصاه تعارض الأصل المذكور في أحدهما بمثله في الآخر فيتساقطان.

فروع في ملاقي المشتبه

فروع :

أوّلها : إذا اشتبه الملاقي بالمشتبه الملاقى أو بالمشتبه الآخر غير الملاقى انقلب حكمه فيجب اجتنابه أيضا معهما ، لوقوعه بالاشتباه المذكور طرفا للعلم الإجمالي ، لدوران المعلوم بالاجمال حينئذ بينه وبينهما ، فيشمله الشكّ في المكلّف به ، غايته أنّه قبل الاشتباه

ص: 136


1- المستدرك 2 : 583 الباب 30 من أبواب النجاسات والأواني ، ح 4 ، الوسائل 2 : 1054 الباب 37 من أبواب النجاسات ، ح 4. وفيه : « نظيف » بدل « طاهر ».

كان دائرا بين اثنين وبعده صار دائرا بين ثلاث ، نظير ما لو دخلهما طاهر آخر من غير ملاقاة لأحدهما فاشتبه بهما ، وظاهر أنّ يقين الخروج عن عهدة الخطاب بالاجتناب عن المعلوم بالإجمال لا يتمّ إلاّ باجتناب الجميع.

ثانيها : إذا لاقى طاهر أحد المشتبهين وآخر المشتبه الآخر وجب اجتنابهما أيضا كأصلهما ، لتحقّق علم إجمالي آخر فيهما.

غاية الأمر كون متعلّقه هنا المتنجّس وثمّة النجس ، وكما يتوجّه الخطاب بالاجتناب عن النجس المعلوم بالإجمال ولا يتمّ إلاّ باجتناب الأصلين معا. فكذلك يتوجّه الخطاب بالاجتناب عن المتنجّس المعلوم بالإجمال ، ولا يتمّ إلاّ باجتناب الملاقيين معا.

ثالثها : إذا لاقى طاهر أحد المشتبهين ثمّ انصبّ المشتبه الملاقى أو فقد أو تعذّر ارتكابه فهل يقوم الملاقي مقام المشتبه الملاقى المفقود في وجوب اجتنابه مع المشتبه الباقي ، أو هو على حكمه الأوّل من جواز ارتكابه؟ وجهان : من أنّ المفقود إن كان هو الطاهر الواقعي فالمشتبه الباقي نجس ، وإن كان هو النجس الواقعي فالملاقي متنجّس ، فهو مع المشتبه الباقي دائران بين كونه متنجّسا والمشتبه الباقي طاهرا ، أو كونه طاهرا والمشتبه الباقي نجسا ، فالعلم الإجمالي حاصل ، والمعلوم مردّد بين كونه نجسا أو متنجّسا ، فيتوجّه الخطاب بالاجتناب واشتبه متعلّقه بكونه اجتناب النجس أو اجتناب المتنجّس. وهذا نظير إنائين دائرين بين كون هذا خمر أو ذاك خلاّ أو كون ذاك بولا وهذا ماء ، حيث إنّ الخطاب بالاجتناب متوجّه وهو مردّد بين كونه « اجتنب عن الخمر » أو كونه « اجتنب عن البول » ففيما نحن فيه أيضا كان الخطاب المعلوم توجّهه مردّدا بين قوله : « اجتنب عن النجس » وقوله : « اجتنب عن المتنجّس » ولا يتمّ يقين الخروج عن عهدته إلاّ باجتناب الجميع.

ومن أنّ الأصل الجاري فيه قبل الفقدان على حاله ، وهو يقتضي الجواز. ودعوى معارضته بأصالة الطهارة في المشتبه الباقي ، مدفوعة : بأنّ تعارض الأصلين ليس معناه فيما نحن فيه تنافي مدلوليهما ، إذ لا تنافي بين طهارة كلّ من الإنائين ، وإنّما لا يمكن العمل بهما فيما تقدّم لمنع العلم الإجمالي ، وإنّما يمنع حيث توجّه معه الخطاب بالاجتناب. وإنّما يكون كذلك إذا علم بكون أحد الإنائين فردا من محرّم واقعي منهيّ عنه وإن جهل عنوانه ، كما لو اشتبه الإناءان بين كون أحدهما خلاّ والآخر إمّا خمرا أو مغصوبا ، فكون ذلك فردا من محرّم واقعي معلوم وعنوانه مجهول ، وجهالة العنوان بعد العلم بفرديّة أحدهما لأحد

ص: 137

العنوانين لا تقدح في توجّه الخطاب ، فيقطع بتوجّه أحد الخطابين من قوله : « اجتنب عن الخمر » وقوله : « اجتنب عن المغصوب » وهذا الاعتبار منتف فيما نحن فيه ، إذ لا يعلم كون هذا نجسا ولا كون ذاك متنجّسا. فالخطاب المفروض توجّهه إن اريد به قوله : « اجتنب عن النجس » فالنجس غير معلوم تفصيلا ولا إجمالا ، وإن اريد به قوله : « اجتنب عن المتنجّس » فالمتنجّس غير معلوم تفصيلا ولا إجمالا ، فيجري في كلّ بحسبه الأصل الشرعي ، وهو في كلّ منهما سليم عن معارضة العلم الإجمالي ، كما في مسألة واجدي المنيّ في الثوب المشترك حيث إنّ كلاّ منهما يرجع إلى الأصل المعوّل عليه في حقّه ، لسلامته عن معارضة العلم الإجمالي.

ومقايسة ما نحن فيه على ما ذكر من دوران إنائين بين كون هذا خمرا وذاك خلاّ أو ذاك بولا وهذا ماء باطلة ، لمنع الحكم في المقيس عليه ، إذ لا يعلم كون هذا فردا من الخمر ولا ذاك فردا من البول ، فيعود الشكّ في كلّ منهما إلى كونه في التكليف ، فيرجع إلى الأصل الجاري فيه ، لسلامته عن مزاحمة العلم الإجمالي بتوجّه الخطاب وتنجّز التكليف بالاجتناب.

وهذا غير بعيد ، لكنّ الأوجه هو الأوّل ، لأنّ فرض عود الشكّ إليه في التكليف إنّما هو إذا أخذ كلّ منهما بانفراده ، وأمّا مع انضمام أحدهما إلى الآخر فيقطع بتوجّه خطاب مردّد بين كونه أمرا بالاجتناب عن النجس أو أمرا بالاجتناب عن المتنجّس ، وفي المقيس عليه بين كونه أمرا بالاجتناب عن الخمر أو أمرا بالاجتناب عن البول.

وأيّا ما كان فهو من الشكّ في المكلّف به بعد اليقين بالتكليف.

رابعها : إذا لاقى أحد المشتبهين طاهرا والمشتبه الآخر طاهرا آخر ، فانصبّ أو فقد أحد الأصلين ، فهل يجب الاجتناب عن الملاقيين مطلقا ، أو لا مطلقا ، أو يفرّق بين سبق العلم بنجاسة أحد الأصلين على تعذّر المتعذّر منهما وعدمه ، فعلى الأوّل يجب اجتناب الملاقيين وعلى الثاني لا يجب ، أو يعكس الأمر بوجوب اجتنابهما على الثاني دون الأوّل؟ وجوه :

من أنّ الطاهرين بملاقاتهما المشتبهين على الوجه المذكور صارا واقعة اخرى من الشبهة المحصورة ، تحقّق فيها العلم الإجمالي الكافي في تنجّز التكليف وتوجّه الخطاب بالاجتناب ، كما أنّ الأصلين قبل تعذّر أحدهما كانا واقعة منها مع كون المعلوم بالإجمال فيها النجس الواقعي وفي الاخرى المتنجّس الواقعي ، وكما أنّ الاجتناب عن النجس الواقعي كان واجبا ولا يتمّ إلاّ باجتناب الأصلين ، فكذلك الاجتناب عن المتنجّس الواقعي

ص: 138

واجب ولا يتمّ إلاّ باجتناب الملاقيين.

غاية الأمر أنّ الواقعة الاولى خرجت عن عنوان الشبهة المحصورة بتعذّر أحد الأصلين وارتفاع العلم الإجمالي عن الأصل الباقي ، ولا يلزم منه خروج الواقعة الثانية عن عنوانها ، بل هي باقية على ما كانت عليه من وجوب الاجتناب عن طرفيها ببقاء العلم الإجمالي فيها على حاله.

ومن أنّ الملاقيين تابعان للأصلين في وجوب اجتنابهما ، فيكون وجوب اجتنابهما فرعا على وجوب اجتناب الأصلين ، والفرع يتبع الأصل في حدوثه وبقائه ، فإذا ارتفع الأصل بتعذّر أحد الأصلين ارتفع الفرع أيضا.

ومن استصحاب الحالة السابقة من وجوب الاجتناب عن الملاقيين في صورة سبق العلم بالنجاسة ، بناء على أنّ تعذّر أحد الأصلين يوجب الشكّ في زوال وجوب الاجتناب عنهما الثابت بسبق العلم - على ما هو المفروض - فيستصحب ، وعدم وجوب الاجتناب عنهما في صورة عدم سبق العلم الملازم لعدم وجوب الاجتناب عن الأصلين والملاقيين معا ، فإذا حصل العلم بنجاسة أحد الأصلين بعد تعذّر أحدهما أوجب الشكّ في طروّ وجوب الاجتناب عن الملاقيين فيستصحب عدم الوجوب السابق.

ومن أنّه إذا تعذّر أحد الأصلين بعد العلم الاجمالي بالنجس الواقعي انقلب الشكّ بالنسبة إلى الأصل الباقي بدويّا ، فيجري فيه ما يجرى من الاصول كأصالة الطهارة المعتضدة بأصل البراءة ، فيجوز ارتكابه ويتبعه ملاقيه في جواز ارتكابه ، ومن قواعد الشبهة المحصورة أنّه إذا علم حكم أحد طرفيها بأصل من الاصول الموضوعيّة خرج عن كونه مشتبها عاد الشكّ بالنسبة إلى الطرف الآخر بدويّا ، فتبقى أصالة الطهارة واستصحابها سليمة عن المعارض فيجوز ارتكابه أيضا ، بخلاف صورة عدم سبق العلم فإنّ الملاقيين بعد اتّفاق العلم بتنجيس أحدهما بملاقاة النجس الواقعي كانا واقعة مستقلّة من الشبهة المحصورة فوجب اجتنابهما ، كما لو علم بوقوع النجاسة في أحد الانائين الطاهرين واشتبه بالآخر ، هذا لكنّ الأوجه الأقوى هو أوّل الوجوه لما عرفت.

ودعوى التبعيّة يزيّفها : أنّ التبعيّة في الملاقيين ليس معناها أنّ وجوب اجتنابهما كان متفرّعا على وجوب اجتناب الأصلين ، بل كونهما تابعين لهما في استناد تحقّق السبب المقتضي لوجوب اجتنابهما إلى ملاقاة الأصلين ، وهو تنجّس أحدهما بملاقاة النجس

ص: 139

الواقعي مع العلم به إجمالا ، وظاهر أنّ ارتفاع وجوب الاجتناب عن الأصلين بتعذّر أحدهما لا يوجب ارتفاع السبب المقتضي لوجوب اجتناب الفرعين.

واستصحاب عدم وجوب الاجتناب عنهما السابق على العلم بملاقاة أحدهما النجس الواقعي كما توهّم في أحد شقّي الوجه الثالث.

يزيّفه : أنّ الاستصحاب المذكور مع العلم إجمالا بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما ممّا لا حكم له ، وتبعيّة الملاقي للأصل الباقي له في وجوب الاجتناب حدوثا وارتفاعا قد عرفت منعها بكونه تابعا لواقعته الّتي هي من الشبهة المحصورة بالاستقلال.

وخامسها : إذا لاقى المشتبهين طاهران ثمّ فقد من الملاقيين أحدهما ومن الأصلين أيضا أحدهما لكن على وجه التعاكس ، حتّى بقي من الملاقيين ما لاقى الأصل المفقود ومن الأصلين ما لاقاه الملاقي المفقود ، ففي انعقاد واقعة الشبهة المحصورة حينئذ بهما فيجب اجتنابهما احتمال خال عن الوجه ، بل الوجه هو العدم لارتفاع العلم الإجمالي في كلّ منهما بتعذّر أحدهما ، فيعود الشكّ بالنسبة إلى الباقي من كلّ منهما إلى التكليف ، فيجري في كلّ ما هو بحسبه من الاصول ، لبقائه سليما عن معارضة مثله ومزاحمة العلم الإجمالي ، ولا أثر بعد ذ لك للعلم إجمالي الثالث المنتزع عن الباقيين باعتبار قضاء التعاكس بكون الباقي من الأصلين نجسا أو الباقي من الملاقيين متنجّسا ، إذ لا يعلم بكون الأوّل في واقعته فردا من النجس ولا بكون الثاني في واقعته فردا من المتنجّس.

وفيه : أنّ هذا في الحقيقة من قبيل الفرع الثالث ، والعلم الإجمالي المتولّد من الانضمام كاف في توجّه الخطاب بالاجتناب وإن كان متعلّقه مردّدا بين النجس والمتنجّس ، وهذا أيضا مانع من العمل بالأصلين معا ، لكون الشكّ معه من الشكّ في المكلّف به بعد اليقين بالتكليف ، فيجب الاجتناب عنهما معا مقدّمة ليقين الخروج عن عهدته.

وسادسها : إذا فقد أحد المشتبهين اللذين تنجّس أحدهما بالملاقاة ، فقد ظهر من تضاعيف كلماتنا المتقدّمة أنّ الوجه بالنسبة إلى الباقي جواز الارتكاب ، لعود الشكّ بالنسبة إليه ابتدائيّا ، لارتفاع العلم الإجمالي الموجب لكون الشكّ في المكلّف به ، من غير فرق فيه بين كون الفقدان بعد ملاقاة النجاسة وقبل العلم بالملاقاة أو بعدهما معا على الأقرب.

وقد يتخيّل الفرق بينهما بوجوب الاجتناب عن الباقي في الثاني ، لكون المتعذّر في حكم المتروك ، وكما أنّ ترك أحد المشتبهين بعد العلم الإجمالي وتوجّه الخطاب لا يجوّز

ص: 140

ارتكاب الباقي ، فكذلك تعذّر أحدهما بعدهما لا يجوّز ارتكاب الباقي.

وفيه من الفساد ما لا يخفى ، لوضوح الفرق بين الصورتين في كون التعذّر رافعا للعلم الإجمالي دون الترك ، فالشكّ مع التعذّر يعود إلى التكليف ، ومع الترك باق على كونه في المكلّف به.

وتوهّم استصحاب وجوب الاجتناب الّذي هو الحالة السابقة قبل الفقدان ، يندفع : بأنّ وجوب الاجتناب إن اريد به الأصلي منه كما هو بالنسبة إلى المتنجّس الواقعي فبقاء موضوع المستصحب غير محرز ، وإن اريد به المقدّمي منه كما هو بالنسبة إلى الطاهر الواقعي - فمع أنّ بقاء وجوب المقدّمة فرع على بقاء وجوب ذي المقدّمة فيه - أنّ بقاء موضوع هذا المستصحب أيضا غير محرز ، إلاّ أن يراد به استصحاب القدر المشترك - أعني وجوب الاجتناب المعرّى عن قيدي الأصليّة والمقدّميّة - فيتوجّه حينئذ ورود استصحاب الطهارة السابقة وأصالة الطهارة عليه ، لكون كلّ منهما بالقياس إليه أصلا موضوعيّا ، فليتدبّر.

لكنّ الإنصاف : أنّ القول بوجوب الاجتناب عن الباقي في صورة سبق العلم بالملاقاة متّجه ، لبقاء الموافقة القطعيّة اللازمة على المكلّف عقلا وشرعا ، كما هو من مقتضى حجّيّة العلم الإجمالي وتنجّز التكليف بالاجتناب بسببه في العهدة ، فإنّ المكلّف قبل تعذّر ما تعذّر ارتكابه كان في حكم العقل والشرع مخاطبا بتحصيل الموافقة القطعيّة. وهي كما تحصل تارة بتركهما معا بالاختيار مع بقائهما ، واخرى بصبّهما معا ، وثالثة بصبّ أحدهما وترك الآخر مع بقائه ، فكذلك تحصل بانصباب أحدهما قهرا الموجب لتعذّر ارتكابه وترك الآخر اختيارا. وهذا معنى كون المتعذّر كالمتروك ، فإنّ طروّ تعذّر ارتكاب أحدهما لا يوجب سقوط الخطاب بالموافقة القطعيّة ، لبقاء إمكانها بعد بترك الباقي. والعقل المستقلّ بالحكم بلزوم تحصيل الموافقة القطعيّة ، في مسألة اليقين بالتكليف والشكّ في المكلّف به مستقلّ بالحكم ببقاء الموافقة القطعيّة في الصورة المفروضة في العهدة ، ولا تحصل إلاّ بترك الباقي.

غاية الأمر استناد حصولها بعد الترك إلى مقدّمتين حصلت إحداهما قهرا واخراهما اختيارا ، والأصل في ذلك أنّ المقدّمات العلميّة عند تنجّز التكليف بالعلم الإجمالي إذا حصل بعضها قهرا لا يوجب سقوط اعتبار المقدّمات الاخر الباقية تحت اختيار المكلّف

ص: 141

لأنّه لا يوجب سقوط الخطاب بالموافقة القطعيّة ، للقدرة على امتثاله بفعل المقدّمات الباقية.

وممّا يشير إلى ما بيّنّاه من لزوم مراعاة الموافقة القطعيّة مطلقا ما ورد في الإنائين المشتبهين من الأمر بإهراقهما معا ، فإنّ تعذّر ارتكاب أحد الطرفين لو كان طريقا إلى جواز ارتكاب الطرف الآخر لكان عليه الأمر بإهراق أحدهما فقط ، ليتعذّر ارتكابه فيترتّب عليه جواز ارتكاب الآخر.

وتوهّم الفرق بينه وبين ما نحن فيه في استناد التعذّر إلى الاختيار وعدمه ، كما ترى.

الأمر الرابع : في الاضطرار إلى بعض أطراف الشبهة

الأمر الرابع : في أنّه إذا اضطرّ المكلّف إلى بعض أطراف الشبهة فإمّا أن يضطرّ إلى بعض معيّن أو إلى بعض لا بعينه أعني أحدها على البدل ، وعلى الأوّل فإمّا أن يحصل الاضطرار قبل العلم بنجاسة أحدهما أو ملاقاة النجاسة له ، أو بعده.

أمّا الصورة الاولى : فلا ينبغي التأمّل في جواز ارتكاب الباقي بعد ارتكاب المضطرّ إليه ، لعدم تنجّز التكليف بالاجتناب قبل العلم ، وبعده أيضا يشكّ في تنجّزه بالقياس إلى الباقي ، لاحتمال كون المضطرّ إليه هو الحرام الواقعي الجائز ارتكابه بمقتضى الاضطرار ، فيجري فيه الأصل السليم عن المعارض.

وبالجملة حصل الاضطرار إلى أحد الإنائين لو علم المحرّم منهما وكان هو المضطرّ إليه جاز ارتكابه ، لأنّ الاضطرار إلى الحرام ممّا يجوّز ارتكابه ، فهذا اضطرار إلى ما جاز ارتكابه ولو كان هو الحرام الواقعي ، فتردّد البعض المعيّن المضطرّ إليه بين كونه المحرّم الواقعي أو غيره جهة اجتمعت مع العلم الإجمالي اللاحق موجبة للشكّ في تنجّز التكليف معه ، وقد ذكرنا سابقا أنّ من شرط تأثير العلم الإجمالي في تنجّز التكليف أن لا يجامعه جهة اخرى موجبة للشكّ فيه ، فيبقى البعض الغير المضطرّ إليه موردا للشكّ في التكليف باجتنابه.

وأمّا الصورة الثانية : ففي وجوب الاجتناب عن البعض الغير المضطرّ إليه وعدمه وجهان ، من أنّ الاضطرار اللاحق بالعلم الإجمالي المنجّز للتكليف هل أوجب سقوط أحد المقدّمات العلميّة عن الاعتبار ، أو خروج الحرام الواقعي عن وجوب الاجتناب؟

والأوّل أحوط فيكون وجوب الاجتناب أقوى ، وذلك لأنّ الترخيص في ترك بعض المقدّمات العلميّة بعد ثبوت التكليف والشكّ في المكلّف به - كما هو قضيّة سبق العلم الإجمالي على الاضطرار - لا يوجب الترخيص في ترك البعض الآخر منها ، بل يجب إتيانه مراعاة لتقديم الموافقة الاحتماليّة على المخالفة القطعيّة عند تعذّر الموافقة القطعيّة.

ص: 142

ومن الموافقة الاحتماليّة تقديم ما كان احتمال الموافقة فيه أقوى ، وهذا أصل عقلي ورد على طبقه الشرع كما في مسألة اشتباه القبلة بين الجهات الأربع ، ولذا لو تعذّر الصلاة إلى بعضها لم يلزم منه سقوط الباقي.

وإن شئت قلت : إنّ قضيّة حجّيّة العلم الإجمالي وتنجّز التكليف به حرمة المخالفة القطعيّة ووجوب الموافقة القطعيّة ، فإذا سقط الثاني بطروّ الاضطرار إلى ترك بعض المقدّمات المتوقّف عليها الموافقة القطعيّة لم يلزم منه سقوط الأوّل.

ويشكل : بأنّ الاضطرار على الحرام كما أنّه يمنع من التكليف باجتنابه فكذلك يرفعه ، ولذا لو طرأ الاضطرار إلى الحرام المعلوم بالتفصيل جاز ارتكابه ، وقضيّة ذلك انقلاب الشكّ في المكلّف به بعد طروّ الاضطرار إلى بعض معيّن إلى الشكّ في التكليف.

فالعلم الإجمالي في هذه الصورة أيضا جامعة جهة اخرى موجبة للشكّ في التكليف كما في الصورة السابقة غاية الأمر أنّها في السابقة أوجبت الشكّ في حدوث التكليف وهاهنا في بقائه ، فوجب أن لا يفرّق بين الصورتين في جواز ارتكاب البعض الغير المضطرّ إليه وعدم وجوب اجتنابه ، إلاّ أن يتشبّث في الصورة الثانية باستصحاب وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي السابق على طروّ الاضطرار ، فإنّ الشكّ في كون المضطرّ إليه هو الحرام الواقعي في هذه الواقعة يوجب الشكّ في سقوط وجوب اجتنابه وارتفاعه وهو مستصحب ، فبالنسبة إلى هذا الوجوب المستصحب يجب مراعاة تقديم الموافقة الاحتماليّة على المخالفة القطعيّة بعد تعذّر الموافقة القطعيّة.

وأمّا الصورة الثالثة : فالظاهر وجوب الاجتناب فيها عن الباقي مطلقا ولو مع سبق الاضطرار على العلم بحرمة أحدهما أو نجاسته ، لأنّه إنّما يوجب في هذه الصورة سقوط بعض المقدّمات العلميّة عن الاعتبار ولا يوجب خروج الحرام والنجس الواقعيّين عن وجوب الاجتناب ، ولذا لم يجز ارتكابه لو علم به تفصيلا بعد طروّ الاضطرار إلى أحدهما على البدل ، لأنّه ليس اضطرارا إلى الحرام أو النجس.

فالفرق بين هذه الصورة والصورة الاولى أنّه في الصورة الاولى حصل الاضطرار إلى أحد أمرين لو علم المحرّم منهما تفصيلا وكان المحرّم الواقعي هو المضطرّ إليه جاز ارتكابه.

وفي هذه الصورة حصل الاضطرار إلى أحد أمرين لو علم المحرّم منهما تفصيلا لم يجز ارتكابه ، لعدم اضطرار إلى ارتكابه ، فالاضطرار المجامع للعلم الإجمالي السابق

ص: 143

عليه أو اللاحق به ليس جهة موجبة للشكّ في التكليف حدوثا ولا بقاء ، فلا مانع من تأثيره في تنجّز التكليف بالاجتناب.

غاية الأمر أنّه يكتفى فيه بالموافقة الاحتماليّة ، لتعذّر الموافقة القطعيّة بسبب الاضطرار إلى ترك إحدى مقدّمتيها.

وقد عرفت أنّ ترخيص الشارع في ترك بعض المقدّمات العلميّة بعد ثبوت التكليف والشكّ في المكلّف به لا يوجب سقوط اعتبار البعض الباقي منها ، بل يجب إتيانه مراعاة لتقديم الموافقة الاحتماليّة على المخالفة القطعيّة بعد سقوط اعتبار الموافقة القطعيّة ، فليتدبّر.

وبذلك يندفع ما قد يتوهّم في هذا المقام من أنّ ترخيص الشارع في ترك بعض المقدّمات دليل على عدم توجّه طلب منه إلى ترك الحرام الواقعي ، كما أنّ ترخيصه في ترك الخروج مع الرفقة في سفر الحجّ دليل على عدم توجّه الطلب إلى الحجّ ، والمفروض أنّه لا تكليف بالاجتناب عمّا عدا الحرام الواقعي فلا مقتضى لوجوب الاجتناب عن الباقي ، فإنّ المقدّمة إذا كانت علميّة - كما هو مفروض المقام - فالترخيص في تركها يدلّ على عدم وجوب تحصيل العلم بالاجتناب عن الحرام الواقعي ، ولا يلزم منه الترخيص في فعل الحرام الواقعي.

غاية الأمر أنّه إن صادف المقدّمة المرخّص في تركها للحرام الواقعي لا يترتّب العقاب على المخالفة اللازمة من تركها ، وهذا لا يقتضي بعدم العقاب على مطلق المخالفة حتّى ما يلزم من عدم الاجتناب عن الباقي على تقدير كونه الحرام الواقعي ، فالعقل المستقلّ بوجوب دفع الضرر المحتمل حاكم بوجوب الاجتناب عن الباقي دفعا للعقاب المحتمل.

نعم يمكن أن يقال : كما أنّ ترخيص الشارع في ترك بعض مقدّمات وجود الواجب ينافي وجوب ذلك الواجب ، فثبوته يدلّ على عدم وجوبه. فكذلك ترخيصه في ترك بعض مقدّمات العلم بوجوده المحتمل في نظر المكلّف كونه نفس الواجب ينافي وجوب الواجب.

فثبوته يدلّ على عدم وجوبه ، ومعه لا يحتمل العقاب في ترك باقي مقدّمات العلم وإن صادف ترك الواجب الواقعي ، فلا مقتضى لوجوب الاجتناب عن الباقي فيما نحن فيه.

ويزيّفه : بطلان المقايسة ، فإنّ ترخيص الشارع في ترك بعض مقدّمات وجود الواجب ينافي وجوبه مطلقا ، فثبوته يدلّ على عدم وجوبه مطلقا ، بخلاف ترخيصه في ترك بعض مقدّمات العلم بوجود الواجب لأجل الاضطرار إليه ، فإنّه إنّما ينافي وجوبه على تقدير

ص: 144

اتّفاق كون البعض المضطرّ إلى تركه هنا نفس الواجب لا على كلّ تقدير ، فثبوته يدلّ على عدم وجوبه على هذا التقدير لا مطلقا ، فيبقى البعض الباقي محتملا للضرر الاخروي وهو العقاب ، لاحتمال كونه الحرام الواقعي الواجب اجتنابه ، فيجب تركه عقلا دفعا للضرر المحتمل ، فهو المقتضي لوجوب الاجتناب عنه.

الأمر الخامس : حكم الشبهة المحصورة في التدريجيّات

الأمر الخامس : في أنّ أطراف الشبهة المحصورة قد تكون بطبعها في تحقّقها الخارجي ممّا يوجد تدريجا ، كما لو اشتبهت أيّام الحيض في المستحاضة في تمام الشهر إذا كانت مضطربة بنسيان وقت الحيض مع تذكّر عدد أيّامه بكونه ثلاثة مثلا ، إن لم نقل بوجوب وضعه في أوّل الشهر كما هو الأقوى ، ولا تخييرها في الوضع بين الأوّل والوسط والآخر ، فقد يقال بجريان قاعدة الشبهة المحصورة في نحوه المقتضية لوجوب الاجتناب عن مقاربتها على الزوج في تمام الشهر ، ووجوب الامساك عن دخول المساجد ، وقراءة سور العزائم عليها كذلك ، لوجود مناط وجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة في مثله ، وهو العلم الإجمالي المنجّز للتكليف الموجب لتوجّه الخطاب في قوله تعالى : ( فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ) (1) ولعلّه لذا صار الشيخ إلى وجوب الاحتياط عليها ، فتأمّل.

ويمكن المناقشة فيه بمنع تنجّز التكليف بالعلم الإجمالي هاهنا ، لأنّ من شرطه على ما عرفت ابتلاء المكلّف بجميع أطراف الشبهة ، والابتلاء في الامور التدريجيّة إنّما يحصل جزءا فجزءا فمحلّ الابتلاء من أوّل الشهر في المثال المذكور إنّما هو اليوم الأوّل لا ما بعده إلى آخر الشهر ، ثمّ يصير اليوم الثاني محلاّ للابتلاء عند دخوله وهكذا اليوم الثالث والرابع إلى آخر الشهر ، فالمعلوم بالاجمال في كلّ يوم دائر بين محلّ الابتلاء وغير محلّ الابتلاء ومعه لا يقطع بتوجه الخطاب بالاجتناب لرجوع الشكّ في كلّ يوم إلى التكليف.

ويمكن الذبّ عنها : بأنّ محلّ الابتلاء في كلّ شيء بحسبه ، ويتطرّق المنع إلى عدم الابتلاء في أوّل الشهر بجميع أيّام الشهر ، فإنّ ضابط الابتلاء في الامور التدريجيّة إنّما هو قطع السلامة أو ظنّها ، على معنى البقاء إلى تمام الشهر في نحو المثال مع القطع أو الظنّ بالتمكّن من الارتكاب في كلّ يوم يوجد تدريجا ، فيصير جميع أيّام الشهر حينئذ محلاّ للابتلاء بالقياس إلى هذا المكلّف.

ص: 145


1- البقرة : 222.

وإن شئت قلت : إنّ المقام من فروع مسألة ظنّ السلامة الكافي في تنجّز التكليف على ما تقرّر في محلّه ، ولذا يخاطب المكلّف من حين رؤية هلال شهر رمضان بصيام تمام الشهر ، ويصحّ نيّة الجميع في أوّل ليلة منه.

هذا ، ولكنّ الّذي يسهّل الخطب ويهوّن الأمر هو إمكان التخلّص عن الشبهة في المثال بالأصل الموضوعي ، وهو إمّا قاعدة وضع العدد في أوّل الشهر أو على التخيير - كما أو مأنا إليه - فلا يجب الاجتناب في غير ما عيّن كونه حيضا ، أو استصحاب الحالة السابقة وهو الطهر المتيقّن قبل رؤية الدم وأصالة عدم طروّ الحيض ، فإنّه يجري من أوّل الشهر في كلّ يوم إلى أن يبقى منه مقدار العدد المعلوم لحصول القطع عنده بانتقاض الحالة السابقة ، باعتبار دوران الحيض حينئذ في النظر بين كونه متحقّقا في هذه الأيّام أو في الأيّام الماضية.

نعم يجوز التمسّك في هذه الأيّام بأصالة الإباحة ، لعود الشكّ بالنسبة إليها إلى كونه في التكليف الصرف.

ومن طريق البحث يظهر الحال في كلّ مثال يرد عليك من الموجودات تدريجا ، وظهر الوجه في جريان قاعدة الشبهة المحصورة فيها وعدم جريانها إمّا لفقد ما هو من شروط الاجتناب عن الشبهة مطلقا أو لوجود المانع عن وجوبه وهو الأصل الرافع للاشتباه فلاحظ وتأمّل.

الأمر السادس : عدم الفرق في وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة بين ما لو كان الاشتباه بدويّا أو حصل بعد ما كانا ممتازين

الأمر السادس : لا فرق في وجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة بين ما لو كان الاشتباه بدويّا أو حصل بعد ما كانا ممتازين مع عدم سبق حالة سابقة فيهما عليه أو مع سبقها عليه مع كونها الطهارة - كما لو كانا مائين طاهرين فأصاب أحدهما نجاسة ولم يعلم أيّهما هو؟ أو كانا عصيرين فانقلب أحدهما خمرا ولم يعلم أيّهما هو؟ - أو النجاسة فيهما ، كما لو كانا نجسين ثمّ زالت النجاسة عن أحدهما بمطهّر شرعي ، أو كانا خمرين فانقلب أحدهما خلاّ ولم يعلم أيّهما هو؟ أو الطهارة في أحدهما والنجاسة في الآخر كما لو كان أحدهما عصيرا والآخر خمرا مع الاشتباه فانقلب العصير خمرا والخمر خلاّ.

ثمّ الاشتباه الموجب لإجماليّة العلم قد تكون في المكلّف به لتردّد عنوان واحد محرّم بين شخصين كما في الإنائين المشتبهين إذا كان أحدهما خمرا ، أو لتردّد أحد العنوانين المحرّمين المردّد فيهما بين شخصين كما في الإنائين المشتبهين إذا كان أحدهما الخمر أو العصير بعد الغليان ، أو لتردّد أحد العنوانين بين شخصين ممتازين كما في إناء وثوب علم

ص: 146

كون الأوّل خمرا والثاني مملوكا أو الثاني مغصوبا والأوّل خلاّ ، والكلّ من الشبهة المحصورة الواجب اجتنابها.

وأمّا ما لو كان لتردّد شخص واحد بين عنوانين فينبغي القطع بعدم كونه من الشبهة المحصورة ، مع وجوب الاجتناب عنه لو كانا محرّمين وعدمه - لرجوع الشكّ إلى التكليف - لو كان أحدهما محرّما والآخر محلّلا.

وقد يكون في المكلّف لتردّد عنوان واحد بين شخصين كعنوان الجنب المردّد بين واجدي المنيّ في الثوب المشترك ، ولا إشكال في أنّه لا يوجب تكليفا بالنسبة إلى واحد منهما ، لشكّ كلّ في صدق العنوان المعلّق عليه الحكم عليه ، وهو شكّ في التكليف فيجري الأصل لكلّ في نفسه.

أو لتردّد شخص واحد بين عنوانين كالخنثى المردّدة بين الرجل والانثى العالم إجمالا بحرمة كشف أحد قبليه للقطع بكونه عورة ، وبحرمة أحد لباسي الرجال والنسوان عليه ، وبحرمة أحد الأمرين من استماع صوت الأجنبيّة أو إسماع صوته للأجنبيّ إلاّ لضرورة ، وبحرمة أحد الأمرين من النظر إلى الرجال أو النسوان عليه ، وبحرمة أحد الأمرين من التزويج والتزوّج لوجوب إحراز الرجوليّة في الزوج والانوثيّة في الزوجة ، والأصل مع عدم إحراز شيء منهما عدم تأثير العقد فيجب حفظ الفرج المردّد بين قبليه.

فقد يقال - نظرا إلى قاعدة الشبهة المحصورة الكافي فيها العلم الإجمالي في تنجّز التكليف توجّه الخطاب - بوجوب الاجتناب عليها في الأمثلة ونظائرها عن الأمرين معا ، لمكان القطع بتوجّه الخطاب والشكّ في متعلّقه ، فيجب عليها ستر قبليه ، ويحرم عليها كلّ من لباسي الرجل والمرأة ، وكلّ من استماع صوت الأجنبيّة وإسماع صوتها الأجنبي ، وكلّ من التزويج والتزوّج ، وكلّ من النظر إلى الرجال والنسوان.

وقد يعترض عليه : بمنع توجّه الخطابات المختصّة بالفريقين إليها ، إمّا لانصرافها إلى غيرها ، أو لاشتراط التكليف بعلم المكلّف بتوجّه الخطاب إليه تفصيلا.

ولا خفاء في ضعفه ، فإنّ حديث الانصراف إن صحّحناه لا يضرّ بشمول الأحكام المستفادة من الخطابات المختصّة لها بملاحظة مقدّمة الاشتراك في التكليف ، فإنّها إن كانت رجلا تشارك في تكاليفهم بتلك المقدّمة وإن انصرف خطاباتهم إلى غيرها ، وإن كانت امرأة تشارك النسوان في تكاليفهنّ بالمقدّمة المذكورة ، كما هو الحال في الأحكام المشتركة بين

ص: 147

الفريقين لجريان ما ذكر من حديث الانصراف فيها أيضا.

وأمّا حديث اشتراط التكليف بالعلم بتوجّه الخطاب تفصيلا فهو رجوع إلى نظير هذه الدعوى في أصل مسألة الشبهة المحصورة وقد زيّفناها ومحصّله : عدم الفرق في شرط التكليف بين العلم بالحكم الواقعي تفصيلا أو إجمالا بعد التمكّن من العلم التفصيلي ، ولا بين العلم بموضوعه تفصيلا أو إجمالا بعد التمكّن من الامتثال ، وهو متحقّق فيما نحن فيه بالنسبة إلى جميع الأمثلة ونظائرها.

غاية الأمر أنّ المعلوم بالاجمال في جميعها أو بعضها أحد الخطابين ، فيكون نظير الخطاب المردّد بين قوله : « اجتنب عن الخمر ، واجتنب عن المغضوب » في واقعة إناء وثوب مثلا يعلم المكلّف كون الأوّل خمرا أو الثاني مغصوبا ، وهو كاف في تنجّز مدلول هذا الخطاب المعلوم بالإجمال أو انعقاده تكليفا فعليّا.

ولا ريب أنّه يقتضي الامتثال والخروج عن العهدة ، ولا يتمّ اليقين به إلاّ باجتناب الجميع.

ولكن ينبغي أن يعلم أنّها إذا اضطرّت ولو عادة إلى ارتكاب أحد الأمرين كما يتّفق كثيرا في مسألة اللباس من عدم المندوحة لها عن لباس أحد الفريقين ، وحينئذ جاز لها لبس أحدهما على وجه التخيير بدوا ، فإذا اختارت أحدهما وجب الاجتناب عن الآخر على وجه الاستمرار.

وينبغي أن يعلم أيضا أنّ المحرّم في مسألة التزويج والتزوّج أحد الأمرين من وطئها الغير أو تمكينها من وطء الغير إيّاها لا مجرّد إجراء العقد عليها.

المرحلة الثانية : في الشبهة الغير المحصورة

المرحلة الثانية : في الشبهة الغير المحصورة ، وربّما يشتبه الفرق بينها وبين المحصورة فيصعب على النظر تشخيص مصاديق إحداهما عن الاخرى ، ولذا أحاله جمع من الأصحاب إلى نظر الفقيه ، فما ترجّح عنده كون الشبهة فيه محصورة يلحق به حكمها ، وما ترجّح عنده كونها فيه غير محصورة يلحقه حكمها ، وما لم يترجّح في نظره شيء يرجع في حكمه إلى القواعد والاصول.

وهذا أحسن من إحالة التشخيص فيهما إلى العرف ، كما قد يسبق إلى الوهم ويستشمّ من بعض العبائر ، بضابطة : أنّه المرجع في معرفة موضوعات الأحكام ، فكلّما سمّاه أهل العرف بالشبهة المحصورة يجري عليه أحكامها ، وكلّما سمّوه بالشبهة الغير المحصورة يلحقه أحكامها ، لأنّه يضعّف : بعدم كون هذين العنوانين من الألفاظ الواردة في الكتاب

ص: 148

والسنّة ، ولا المأخوذة في معاقد الإجماعات المنقولة ليرجع في استعلامها إلى العرف ، مع أنّ شبهة الفرق بينهما مصداقيّة لا مفهوميّة ناشئة عن خفاء الحيثيّة المأخوذة الفارقة بينهما في الحكم الّتي لا سبيل لأهل العرف إلى معرفتها ، بل لا بدّ من استعلامها من الأدلّة الفارقة بينهما في الحكم ، فيكون بيانها من وظيفة الفقيه لا غير.

ولا يبعد كونها في غير المحصورة عدم ابتلاء المكلّف العالم بالاجمال ، بجميع محتملات المعلوم بالاجمال لكن لا مطلقا لينتقض بما قد يتّفق في الشبهة المحصورة من عدم الابتلاء ببعض أطراف الشبهة ، بل لعدم استحضار المكلّف جميع المحتملات ذهنا أو خارجا ، ولو لتعذّر أو تعسّر استحضارها عادة بواسطة كثرتها عند تقسيمه للمعلوم بالاجمال إليها وترديده إيّاه بينها ، على وجه يجوز في نظره كونه في جمله ما يستحضره أو في جملة ما لا يستحضره.

وعليه فأمكن تعريف الشبهة المحصورة : بما كان الترديد حاصرا لجميع محتملات المعلوم بالاجمال ، والغير المحصورة : بما لم يكن الترديد حاصرا لجميع محتملاته لعدم استحضاره الجميع ذهنا أو خارجا ، كما يقال في التقسيمات - عند بيان قصور التقسيم - : أنّه غير حاصر لجميع أقسام المقسم ، من الحصر بمعنى الحفظ أو العدّ ، والمحصور في المحصورة وغير المحصورة مفعول من الحصر بأحد هذين المعنيين ، ولا بدّ له من حاصر وهو الترديد ، فهو الّذي ينقسم إلى كونه حاصرا وغير حاصر ، أي حافظا أو عادّا لجميع المحتملات وغير حافظ أو عادّ لجميعها.

وأمّا الحصر - أعني المنع - وإن احتمل إرادته في المقام ، بأن يوجّه الشبهة المحصورة بما كان ممنوع الارتكاب والغير المحصورة بما كان غير ممنوع الارتكاب ، سواء قدّر المانع هو العلم الإجمالي المنجّز للتكليف في الأوّل دون الثاني ، أو الخطاب الشرعي المتوجّه إلى المكلّف بسبب العلم الإجمالي في الأوّل دون الثاني ، إلاّ أنّه لا يجدي نفعا في تميّز الموارد المشتبهة.

فالصحيح أحد المعنيين الأوّلين بالتوجيه المتقدّم ، وهو أسدّ ممّا احتمله بعض مشايخنا العظام من تعريف غير المحصور بما بلغ كثرة الوقائع المحتملة للتحريم إلى حيث لا يعتني العقلاء بالعلم الإجمالي الحاصل فيها.

قال : « ألا ترى أنّه لو نهى المولى عبده عن المعاملة مع زيد فعامل العبد مع واحد من

ص: 149

أهل قرية كثيرة يعلم بوجود زيد فيها لم يكن ملوما وإن صادف زيدا ، وقد ذكرنا أنّ المعلوم بالاجمال قد يؤثّر مع قلّة الاحتمال ما لا يؤثّره مع الانتشار وكثرة الاحتمال ، كما قلناه في سبّ واحد مردّد بين اثنين أو ثلاثة ومردّد بين أهل بلدة ، ونحوه ما إذا علم إجمالا بوجود بعض القرائن الصارفة المختفية لبعض ظواهر الكتاب والسنّة ، أو حصول النقل في بعض الألفاظ إلى غير ذلك من الموارد التي لا يعتنى فيها بالمعلوم الاجماليّة المترتّب عليها الآثار المتعلّقة بالمعاش والمعاد في كلّ مقام » إنتهى كلامه رفع مقامه (1).

فإنّه في النظر الدقيق إحالة إلى المجهول لجهالة ضابط العلم الإجمالي الّذي لا يعتني به العقلاء على وجه لا يشذّ منه شيء من الموارد ، والعمدة في المقام بيانه لا غير ، وإلاّ فلا خفاء على أحد أنّ امتياز غير المحصور عن المحصور إنّما هو في كون العلم الإجمالي في الأوّل ممّا لا يعتني به العقلاء بخلاف الثاني.

وأضعف منه ما في الضوابط وعزي إلى المحقّق أيضا من أنّ غير المحصور ما كان الاجتناب عنه موجبا للعسر والحرج وهو كما ترى ، فإنّ العسر والحرج على ما ستعرفه مناط لحكم غير المحصور إن صحّحناه فكيف يصلح تعريفا له ، مع أنّهما يعرضان الأفعال وقلّما يعرضانه من التروك ، مع أنّ من موارد غير المحصور ما لا شائبة لهما في اجتنابه مع أنّه يعدّ منه ويجري عليه أحكامه ، كالصحراء الوسيع الّتي أصاب موضعا منها نجاسة فاشتبه الموضع.

ولبعض ما ذكرناه قد يوجّهان هنا بالضيق النفساني والمشّقة الحاصلة للنفس عن الاجتناب ، كالاجتناب عن كرّ من البرّ لوجود حبّة مغصوبة وما يقرب منها في القلّة فيه ، والتجنّب عن جميع ما في السوق أو المباحات الكثيرة لوجود نجس أو مغصوب فيها ، فإنّه شاقّ على النفوس ولا يتحمّله النفس.

وهذا أيضا مع عدم انضباطه غير مطّرد لاختلاف الأشخاص في ذلك ، فإنّ من النفوس ما لا يتحمّل التحرّز عن درهمين أو ثلاثة دراهم أو أربعة أو عشرة أو ما يقرب منها ، وكذلك دينارين أو أزيد لوجود مغصوب فيها ، مع أنّه لا ينبغي الاسترابة في كونه من المحصور.

وأضعف ممّا ذكر ما في الضوابط (2) أيضا من أنّ غير المحصور ما كان الحرام أو النجس المشتبه مضمحلاّ في جنب الباقي ، فإنّه أيضا غير منضبط ولا مطّرد ، ويكفي في

ص: 150


1- فرائد الاصول 2 : 272 - 271.
2- الضوابط.

عدم اطّراده ما لو أصاب قطرة نجاسة موضعا من الثوب مشتبها ، مع كونه من المحصور.

وأضعف منه ما عن كاشف اللثام (1) في مسألة المكان المشتبه بالنجس من احتمال كون الضابط هو أنّ ما يؤدّي اجتنابه إلى ترك الصلاة غالبا فهو غير محصور ، لعدم انضباطه ولا اطّراده ولا انعكاسه.

نعم يستفاد من بعض الأعلام (2) تعريف المحصور بما أمكن إحاطة أفراده من غير تعذّر أو تعسّر عادة ، وغير المحصور خلافه ، وفي معناه ما عن الشهيد والمحقّق الثانيين (3) والميسي (4) وصاحب المدارك (5) من تعريف غير المحصور بما يعسر عدّه عادة. وهذا وإن كان قريبا ممّا ذكرناه إلاّ أنّه لا يخلو عن عدم الانضباط ، لأنّ عسر العدّ وعدمه يختلف باختلاف الأشخاص والفروض والوقائع ، وقد يعسر عدّ الشيء بآحاده ولا يعسر بعشراته كما في الدراهم والدنانير.

وعن المحقّق الثاني تقييد عسر العدّ بزمان قصير (6). وفيه أيضا من الإجمال وعدم الانضباط ما لا يخفى.

وليعلم أنّ المراد بالعدّ في هذا التفسير عدّ أطراف الشبهة بالطرق المتعارف فيه ، فإنّ لكلّ شيء عدّا على حسبه عند العرف ، فمن الأشياء ما يعدّ بالواحد العددي كالغنم والإبل وما أشبه ذلك ، ومنها ما يعدّ بالوزن ، ومنها بالكيل ، ومنها بالمساحة ، ومنها بالكفّ والغرفة ، ومنها ما يعسر عدّه بأجزائه مع كونه من الشبهة [ المحصورة ] ، ومنها ما يسهل عدّه بطريق الضرب كما في الأراضي مع كونه من الشبهة الغير المحصورة ، فليتدبّر في المقام لئلاّ يختلط الأمر.

ثمّ بالتأمّل فيما ذكرناه من ضابط الفرق تعرف أنّ حكم الشبهة الغير المحصورة هو عدم وجوب الاجتناب كما هو المعروف ، كما تعرف وجهه أيضا وهو رجوع الشكّ مع العلم الإجمالي الحاصل فيه إلى التكليف ، لدوران المعلوم بالإجمال بين ما يستحضره المكلّف ممّا ابتلي به وما لا يستحضره ممّا لا يبتلى به ، ففي نحوه يشكّ في تنجّز التكليف وتوجّه الخطاب بذلك العلم الإجمالي بالاجتناب عن المعلوم بالإجمال.

وقضيّة الشكّ في التكليف جريان الأصل ، وقضيّة جريانه جواز الارتكاب وإن صادف

ص: 151


1- كشف اللثام 3 : 349.
2- القوانين 2 : 24.
3- انظر روض الجنان : 224 ، وحاشية الإرشاد للمحقّق الثاني ( المخطوط ) : 40 وفوائد الشرايع ( مخطوط ) : الورقة 24 ، وجامع المقاصد 2 : 166.
4- حكاه عنه في مفتاح الكرامة 2 : 253.
5- المدارك 3 : 253.
6- حاشية الإرشاد ( مخطوط ) : 40 - 41 ، فوائد الشرائع ( مخطوط ) : الورقة 24.

الحرام والنجس الواقعي في الواقع ، ومرجعه إلى عدم وجوب الموافقة القطعيّة للعلم الإجمالي في الشبهة الغير المحصورة ، وعليه مدار الإجماع المنقول على الحكم المذكور في حدّ الاستفاضة ، كما عن الروض (1) وجامع المقاصد (2) وفوائد المحقّق البهبهاني (3) وغيرهم (4) ، بل ربّما ادّعى الضرورة فيه مع كون هذه الإجماعات بأنفسها حجّة مستقلّة لكون الحكم فرعيّا ، وقد يستدلّ بوجوه اخر غير تامّة :

منها : لزوم المشقّة والعسر والحرج في الاجتناب عن الشبهة الغير المحصورة ، فينفيه عموم قوله تعالى : ( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (5) وقوله تعالى : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (6).

وفيه : منع الصغرى إن اريد لزوم العسر والحرج لكلّ واحد من آحاد المكلّفين ، ومنع الكبرى إن اريد لزومهما للنوع ولو في ضمن الأغلب ، على معنى كون العسر اللازم للأغلب في الاجتناب عن الشبهات الغير المحصورة موجبا لارتفاع التكليف بالاجتناب عن عامّتهم حتّى من كان الاجتناب عنها بالنسبة إليه في غاية السهولة ، لظهور الأدلّة النافية للعسر والحرج في إناطة التكليف وجودا وعدما بالعسر والحرج وجودا وعدما بالنسبة إلى الأشخاص لا النوع ، ويكفي فيه ظهور ضمائر الجمع في الآيتين في العموم الأفرادي كما قرّر في محلّه ، مع ما ورود الأدلّة النافية لهما في سياق الامتنان ولا امتنان بالنسبة إلى من لا عسر في حقّه ، مع ما يستلزمه رفع التكليف عنه من تفويت مصلحته عليه بلا تدارك.

مع إمكان منع تناول عمومها لمثل ما نحن فيه ، لأنّ مفادها نفي الحكم الواقعي الّذي هو مفاد الخطابات الواردة في العناوين الخاصّة عن الموارد العسرة من هذه العناوين ، ولا إشكال في أنّ المعلوم بالاجمال في جميع موارد الشبهة الغير المحصورة على حرمته أو نجاسته الواقعيّة على ما هو مؤدّى الخطابات الواردة في العناوين الصادقة عليه ، والكلام إنّما هو في وجوب الاجتناب عنه فعلا وعدمه ، ويظهر ثمرة كونه على حرمته أو نجاسته الواقعيّتين [ في ] ترتّب سائر الآثار المترتّبة على الحرام والنجس ، من الضمان ووجوب غسل موضع الملاقاة فيما إذا تبيّن بعد الارتكاب مصادفة الحرام والنجس الواقعيّين.

ومنها : الروايات العامّة النافية للتكليف عمّا لم يعلم حرمته بعينه ، وعمومها يتناول كلاّ

ص: 152


1- روض الجنان : 224.
2- جامع المقاصد 2 : 166.
3- الفوائد الحائريّة : 247.
4- انظر مفتاح الكرامة 2 : 253 والرياض ( الطبعة الحجرية ).
5- البقرة : 185.
6- الحجّ : 78.

من المحصور وغيره ، إلاّ أنّ الأوّل خرج منه بدليله القاضي بوجوب الاجتناب وبقي غيره.

وفيه : منع عموم تلك الروايات لما نحن فيه ، وسنده ما تقدّم عند ردّ الاستدلال بها على عدم وجوب الاجتناب عن الشبهة الغير المحصورة (1) من اختصاصها بالشبهات الابتدائيّة بواسطة ظهور قوله عليه السلام : « كلّ شيء فيه حلال وحرام » (2) فيها ولو سلّم العموم إمّا لأنّ من هذه الروايات ما لا مقتضي لاختصاصه بالشبهات الابتدائيّة كقوله عليه السلام : « كلّ شيء لك حلال ... » (3) إلى آخره ، أو لما قيل - وليس ببعيد - من أنّ الشبهة الابتدائيّة تؤول غالبا إلى الشبهة الغير المحصورة ، لأنّ كلّ ما يشكّ في حرمته أو نجاسته ابتداء فهو بعض من الأشياء الغير المحصورة الّتي يعلم إجمالا بأنّ فيها ما هو حرام أو نجس واقعي.

فنقول : إنّ المخرج للشبهة المحصورة عن العموم إنّما هو نفس الخطابات الواردة في تحريم المحرّمات الواقعيّة ، مع انضمام حكم العقل بكفاية العلم الإجمالي في تنجّز التكليف وتوجّه الخطاب فعلا إلى المكلّف العالم بالإجمال.

وأمّا الشبهة الغير المحصورة فإمّا أن يقال فيها أيضا بشمول الخطاب للمعلوم بالإجمال وحكم العقل بتنجّز التكليف بسبب العلم الإجمالي المفروض فيه ، أو يقال بمنع ذلك.

وعلى الأوّل : وجب الالتزام بخروجها أيضا كالمحصورة عن عموم الروايات.

وعلى الثاني : كفى عدم تأثير العلم الإجمالي المفروض في تنجّز التكليف في الالتزام بعدم وجوب الاجتناب ، ولا حاجة معه إلى تجشّم الاستدلال بالروايات وتكلّف تتميم دلالاتها بنحو ما ذكر.

فإن قلت : نعم لكن جواز الارتكاب لا بدّ له من مستند يعوّل عليه ، وليس إلاّ الأصل ، ولا بدّ له من مدرك وليس إلاّ الروايات ، فالاستدلال بهما إنّما هو لأجل أنّه لولاه لم يجز التعويل على الأصل.

قلت : فعلى هذا يرجع هذا الاستدلال إلى التمسّك بالأصل ، وهو الّذي سبق التمسّك به فلا يكون الروايات دليلا آخر غير الأصل.

ومنها : بعض الأخبار الدالّة على أنّ مجرّد العلم بوجود الحرام بين المشتبهات

ص: 153


1- كذا في الأصل ، والصواب « الشبهة المحصورة » كما يعطيه التأمّل ، فراجع وتأمّل.
2- الوسائل 12 : 59 الباب 4 من أبواب ما يكتسب به الحديث الأوّل.
3- الوسائل 12 : 60 الباب 4 من أبواب ما يكتسب به ، ح 4.

لا يوجب الاجتناب عن جميع ما يحتمل كونه حراما ، كالمرويّ عن محاسن البرقي عن أبي الجارود « قال : سألت أبا جعفر عليه السلام عن الجبن ، فقلت : أخبرني عمّن رأى أنّه يجعل فيه الميتة؟ فقال : أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم جميع ما في الأرض ، فما علمت فيه ميتة فلا تأكله ، وما لم تعلم فاشتر وبع وكل ، واللّه إنّي لأعترض السوق فأشتري اللحم والسمن والجبن ، واللّه ما أظنّ كلّهم يسمّون هذه البريّة وهذه السودان ... » إلى آخره (1).

فإنّ قوله عليه السلام : « أمن أجل مكان واحد » الخ ظاهر في أنّ مجرّد العلم بوجود الحرام لا يوجب الاجتناب عن محتملاته ، كما أنّ قوله : « واللّه ما أظنّ كلّهم يسمّون » ظاهر في إرادة العلم بعدم تسمية جماعة من البريّة والسودان في ذبائحهم.

وفيه أيضا ضعف واضح ، لمنع الدلالة والظهور المدّعى ، بل الظاهر من قوله : « مكان واحد يجعل فيه الميتة » ناحية يعلم تفصيلا بأنّ أهلها يجعلون الميتة في الجبن ، وهذا لا يوجب الاجتناب عن جبن الأمكنة الاخر الّتي لا يعلم ذلك من أهلها ، فمورد الخبر خارج عمّا نحن فيه.

ولو سلّم كون المكان عبارة عن نفس الجبن الّذي جعل فيه الميتة ، فالمراد به ما يعلم كونه كذلك تفصيلا ، فلا تعلّق له بما نحن فيه أيضا.

وظهور قوله : « واللّه ما أظنّ » فيما ذكر أيضا واضح المنع ، لعدم كونه من منطوق هذا الكلام ولا مفهومه ، بل الظاهر منه نفي اعتبار العلم بالتذكية في إباحة اللحم ، بل يكفي فيها مجرّد وجوده في سوق المسلمين ما لم يعلم عدم التذكية.

فالعمدة في دليل المطلب هو الأصل والإجماع ، وقد ظهر منهما عدم وجوب الموافقة القطعيّة للعلم الإجمالي الموجود في الشبهة الغير المحصورة.

وإذا ثبت جواز الارتكاب فيها فهل يجب إبقاء مقدار الحرام المشتبه أو لا ، بل يجوز ارتكاب الجميع مطلقا حتّى مقدار الحرام وإن استلزم ارتكاب الحرام الواقعي ، أو يفصّل بين ما لو عزم على ارتكاب الجميع من أوّل الأمر فيجب إبقاء مقدار الحرام وعدمه فيجوز ارتكاب الجميع ، أو أنّه في صورة العزم على ارتكاب الجميع يفصّل أيضا بين ما لو قصد من ارتكاب الجميع التوصّل به إلى ارتكاب الحرام الواقعي ، بأن يكون ارتكاب الكلّ مقدّمة للحرام فلا يجوز أصل الارتكاب ، وعدمه فيجوز ويجب إبقاء مقدار الحرام ، وجوه.

ص: 154


1- الوسائل 17 : 91 ، الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة ، ح 5 ، المحاسن 2 : 296.

والتحقيق على ما يقتضيه ظاهر النظر : أنّه لا ينبغي التأمّل في جواز ارتكاب الكلّ من غير إبقاء لمقدار الحرام فيما لم يعزم من أوّل الأمر على ارتكاب الكلّ ، إذ لا مانع منه إلاّ توهّم لزوم المخالفة القطعيّة وهي قبيحة عقلا وشرعا.

ويدفعه : أنّ القبيح إنّما هو مخالفة الخطاب المتوجّه إلى المكلّف ، والتكليف الفعلي الشاغل لذمّته ، وضابطه كونها بحيث يترتّب عليها العقاب ، فإمّا أن يدّعى القطع في الشبهة الغير المحصورة بتوجّه الخطاب واشتغال الذمّة فيجب التزام وجوب الموافقة القطعيّة باجتناب الكلّ فضلا عن حرمة المخالفة القطعيّة ، أو يدّعى القطع بعدمه فيجب التزام جواز ارتكاب الكلّ من دون إبقاء لمقدار الحرام وإن تضمّن مخالفة الحكم الواقعي بعنوان القطع من دون عقاب عليه ، أو يدّعى الشكّ في توجّه الخطاب وعدمه فهو يوجب الشكّ في التكليف في كلّ ارتكاب حتّى الارتكاب الأخير الّذي هو ارتكاب لمقدار الحرام.

وقضيّة الشكّ في التكليف جريان الأصل ، فيجب الالتزام أيضا بجواز ارتكاب الكلّ من دون عقاب على المخالفة اللازمة منه بعنوان القطع الحاصل بها بعد جميع الارتكابات.

وبالجملة لا قبح في مخالفة حكم واقعي لم ينعقد تكليفا فعليّا ، أو لم يظهر للمكلّف انعقاده تكليفا فعليّا بطريق شرعي ، فلا مقتضي لوجوب إبقاء مقدار الحرام. إلاّ أن يقال : إنّ مدرك جواز الارتكاب في الشبهة الغير المحصورة إن كان هو الإجماع فهو قائم على عدم وجوب اجتناب الكلّ ، وهو لا يستلزم جواز ارتكاب الكلّ ، والقدر المتيقّن من معقده هو ارتكاب ما عدا مقدار الحرام ، فيجب الاقتصار عليه.

وإن كان لزوم العسر والحرج فهو إنّما يلزم في اجتناب الكلّ فينفى عنه التكليف الإلزامي ، وهو أيضا لا يستلزم نفيه عمّا لا عسر فيه أصلا وهو الاجتناب عن مقدار الحرام ، وإن كان هو الأصل فهو أيضا لا يجري في مقدار الحرام ، وذلك لأنّ العقل يجوّز توجّه الخطاب مع العلم الإجمالي المفروض ، مع تجويزه كون الشارع إنّما أسقط اعتبار الموافقة القطعيّة لما لزمها من العسر والحرج ونحوه ، وكثيرا مّا يكتفى عنها بالموافقة الاحتماليّة ولا يلزم من إسقاط اعتبارها فيما نحن فيه إسقاط اعتبار الموافقة الاحتماليّة ، وهي تحصل بإبقاء مقدار الحرام ، فارتكاب الكلّ ممّا يجوّز العقل فيه العقاب ، وهو احتمال الضرر الاخروي فيجب دفعه عقلا ، ولا يتأتّى ذلك إلاّ بعدم ارتكاب البعض تحصيلا للموافقة الاحتماليّة.

ومنه يظهر الحكم فيما لو عزم من ابتداء الأمر على ارتكاب الكلّ بقصد التوصّل إلى

ص: 155

الحرام أو لا بهذا القصد ، فإنّ إبقاء مقدار الحرام فيهما أولى بالوجوب ، بل ربّما أمكن فيهما القول بوجوب اجتناب الكلّ ، نظرا إلى أنّ فرض العزم على ارتكاب الكلّ يستدعي استحضار جميع المحتملات والابتلاء بالجميع فيوجب خروج المفروض على تقدير تحقّق الفرض عن ضابط الشبهة الغير المحصورة ، ويرتفع معه مانع تنجّز التكليف وتوجّه الخطاب المقتضي للموافقة القطعيّة المتوقّفة على اجتناب الجميع ، إلاّ أن يدفع وجوبه بلزوم العسر والحرج وهو لا ينفي وجوب اجتناب البعض حتّى مقدار الحرام فيجب إبقاؤه.

وكيف كان فالمسألة بجميع صورها الثلاث محلّ إشكال ، لكنّ الأقوى في صورة عدم العزم من ابتداء الأمر جواز الارتكاب مطلقا ، للأصل السليم عن مزاحمة حجّيّة العلم الإجمالي. وما ذكر في منع جريانه إنّما يتّجه على تقدير انحصار مدركه في حكم العقل بقبح التكليف بلا بيان وليس كذلك ، بل العمدة فيه الروايات العامّة المتقدّم إليها الإشارة في الوجه الثاني من الاستدلال على حكم الشبهة الغير المحصورة بالتقريب المتقدّم في تتميم هذا الاستدلال ، ومرجعه إلى دعوى سلامة عموم الروايات عن مزاحمة حجّيّة العلم الإجمالي وتنجّز التكليف معه.

والسرّ فيه كونه في محلّ اجتمع معه جهة اخرى موجبة للشكّ في حدوث التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي ، فلاحظ وتأمّل.

الصورة الثانية وغيرها من صور دوران الأمر بين الحرام وغير الواجب

الصورة الثانية : وغيرها من صور دوران الأمر بين الحرام وغير الواجب من الشكّ في المكلّف به في الشبهة الحكميّة لفقد النصّ أو إجماله أو تعارضه لمثله ، ولم نقف لهذه الصور على أمثلة محقّقة في الشرعيّات ، إلاّ ما قد يفرض لصورة إجمال النصّ من الخطاب الوارد في تحريم الغناء ، وهو مجمل لاختلاف أهل اللغة في مفهومه ، موجب إجماله لاشتباه مصداقه المحرّم الواقعي بغيره ممّا ليس بمحرّم ، لدوران مفهومه بسبب الاختلاف المذكور بين الطرب والترجيع ، وبينهما عموم وخصوص من وجه ، ولا شبهة في مادّة اجتماعهما ، وإنّما الاشتباه في مادّتي الافتراق ، فإنّ إحداهما غناء في الواقع مشتبه بغيره.

وكيف كان فينبغي التكلّم في حكم هذه الصور على تقدير تحقّقها في الشرعيّات.

فنقول : إنّ حكم هذا المشتبه نظير ما تقدّم في الشبهة المحصورة من وجوب الاجتناب عن جميع محتملاته نعلا بنعل وقذّا بقذّ ، لاتّحاد الطريق من ورود الخطاب بتحريم العنوان الصادق على المشتبه المعلوم بالاجمال مع استقلال العقل بكون العلم الإجمالي كالعلم

ص: 156

التفصيلي في توجّه الخطاب وتنجّز التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي على وجه يعاقب على مخالفته ، فيحتمل العقاب في ارتكاب كلّ ، وهو احتمال للضرر الاخروي الّذي يجب دفعه عقلا ، ولا يتمّ إلاّ باجتناب الجميع ، مضافا إلى استدعاء الاشتغال اليقيني للامتثال والخروج عن العهدة على وجه اليقين ، ولا يتمّ إلاّ باجتناب الجميع فيجب مقدّمة.

المطلب الثاني : في دوران الأمر بين الواجب وغير الحرام

اشارة

المطلب الثاني : من الشكّ في المكلّف به في دوران الأمر بين الواجب وغير الحرام من مستحبّ أو مباح أو مكروه لشبهة موضوعيّة أو حكميّة لفقد نصّ أو إجماله أو تعارضه ، فالصور أربع أيضا :

الصورة الاولى : ما لو كان الاشتباه عن شبهة موضوعيّة

اشارة

الصورة الاولى : ما لو كان الاشتباه عن شبهة موضوعيّة كالصلاة إلى القبلة المشتبهة بين الجوانب الأربع لمن اشتبه عليه القبلة ، والفائتة من الفريضة المشتبهة بين الثنائيّة والثلاثيّة والرباعيّة إلى غير ذلك من الأمثلة.

وقد يتوهّم أنّ هذين المثالين ونظائرهما من دوران الأمر بين الواجب والحرام لا من دورانه بين الواجب وغير الحرام كما هو مفروض المقام ، لأنّه كما أنّ الصلاة إلى القبلة واجبة فكذلك الصلاة إلى غير القبلة محرّمة.

وفيه : أنّ المراد من الحرام في مقابلة الواجب هاهنا ما كان حرمته شرعيّة وهي فيما ذكر تشريعيّة ، على معنى أنّ تشريع الصلاة إلى غير القبلة حرام ، ويتأتّى ذلك بالاتيان بها على أنّها مأمور به مع العلم بعدم كونه مأمورا به أو مع عدم العلم بكونه مأمورا به ، والاتيان بها إلى ما يحتمل كونه قبلة عند الاشتباه لرجاء كونها مأمورا بها احتياط وليس بتشريع ، بل هو رافع لموضوع التشريع فلا يكون محرّما.

وكيف كان ففي وجوب الاحتياط بالجمع بين المحتملات المستلزم للتكرار هاهنا أو التخيير بينها المقتضي للاجتزاء بواحدة خلاف على قولين ، ومن الأعلام (1) من صار إلى الثاني والأقوى الأوّل.

لنا على ذلك : ورود الأمر بالصلاة إلى القبلة الواقعيّة ، وبقضاء الفائتة الواقعيّة ونحو ذلك ، فيعاقب على مخالفته بالترك ، وإذا اشتبهت لجهل أو نسيان أو نحو ذلك احتمل العقاب في ترك كلّ من محتملاتها فيجب دفعه عقلا بالفعل ، مع أنّ يقين البراءة بعد يقين الاشتغال لا يحصل إلاّ بالاحتياط والجمع بين المحتملات فيجب ، لوجوب اليقين.

ص: 157


1- القوانين 2 : 25.

والقدح في ذلك تارة بمنع الصغرى ، واخرى بمنع الكبرى.

أمّا الأوّل : فمنع توجّه الأمر إلى الصلاة إلى القبلة الواقعيّة وتوجّه الأمر بالقضاء إلى الفائتة الواقعيّة بل إنّما يتوجّه إلى القبلة المعلومة أو الفائتة المعلومة بالتفصيل ، وإذا انتفى العلم التفصيلي كما في المقام كفى في امتثاله صلاة واحدة على وجه التخيير بين الجهات ، أو الثنائيّة والثلاثيّة والرباعيّة.

ويدفعه : أنّ مبنى المنع إن كان على أخذ العلم التفصيلي في مسمّى القبلة والفائتة وغيرها ممّا هو من أفراد موضوع المسألة ، ففيه : منع واضح تقدّم بيانه في الشبهة المحصورة ، وإن كان على توهّم انصرافها في حيّز الخطاب إلى المعلومات بالتفصيل وإن كانت بحسب الوضع للمعاني النفس الأمريّة ، ففيه : أيضا ما تقدّم ثمّة من المنع ، وإن كان على دعوى عدم اشتراط الاستقبال مثلا حال الاشتباه.

ومرجعه إلى كون الاستقبال ونحوه شرطا علميّا ، ففيه : أنّه خلاف الأصل في باب الشروط وإلاّ فقوله عليه السلام : « لا صلاة إلاّ إلى القبلة (1) » و « لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة ، الوقت والطهور ، والقبلة » (2) وقوله : « صلّ إلى القبلة » (3) وما أشبه ذلك ظاهر في كونه شرطا واقعيّا ، والأصل عدم تقييده بالعلم.

ولا ينافيه الحكم بصحّة صلاة من اجتهد فيها وأخطأ فصلّى إلى ما بين المشرق أو المغرب والقبلة ثمّ انكشف خطأه في الاجتهاد ، لأنّه بدليّة جعلها الشارع بين الصلاة إلى القبلة الواقعيّة والصلاة إلى ما بين القبلة والمشرق أو المغرب ، والثاني بدل اضطراري عن الأوّل مختصّ بدليّته بمن اجتهد فيها فأخطأ فصلّى إلى ما بينهما ولا يتعدّاها إلى غيره ، ولذا لا تصحّ صلاة الجاهل بها إذا صلّى إلى ما بينهما من دون اجتهاد وصلاة من اجتهد فيها فأخطأ وصلّى مستدبرا ، وكذا من صلّى بعد الاجتهاد إلى المشرق أو المغرب إذا انكشف خطأه في الوقت لا مطلقا.

وأمّا الثاني : فبأن يقال : إنّ توجّه الأمر إلى الصلاة إلى القبلة الواقعيّة وإلى قضاء الفائتة الواقعيّة المعلومتين بالاجمال وإن كان مسلّما ، ولكن قصارى ما يقتضيه إنّما هو حرمة المخالفة القطعيّة لا وجوب الموافقة القطعيّة ، فلا يجوز ترك الجميع لا أنّه يجب الاتيان بالجميع.

ص: 158


1- الوسائل 3 : 227 الباب 9 من أبواب القبلة ح 2.
2- الوسائل 3 : 227 الباب 9 من أبواب القبلة ح 1.
3- الوسائل 3 : 438 الباب 13 من أبواب مكان المصلي ح 3.

ويدفعه : أنّك إمّا أن تقول بحجّية العلم الإجمالي أو لا ، فعلى الثاني كما لا يجب الموافقة فلا يحرم المخالفة أيضا.

وعلى الأوّل لا مناص من التزام وجوب الموافقة أيضا ، ولا يتأتّى إلاّ بإتيان الجميع ، فالإتيان بالجميع إنّما لا يجب بالخطاب الأصلي لا أنّه لا يجب مطلقا.

إلاّ أن يقال : إنّ مقتضى تنجّز التكليف بالعلم الإجمالي وإن كان وجوب مراعاة الموافقة القطعيّة ، إلاّ أنّ الشارع اكتفى عنها بالموافقة الاحتمالية الّتي تحصل بأحد المحتملات.

أو يقال : إنّ الشارع جعل الصلاة إلى القبلة الاحتماليّة بدلا عن الصلاة إلى القبلة الواقعيّة ، والإتيان بما احتمل كونه الفائتة بدلا عن قضاء الفائتة الواقعيّة.

وقضيّة ذلك هو الاكتفاء بإحدى المحتملات أيضا.

لكن يزيّفه : أنّ كلاّ من الأمرين حكم مخالف للأصل والقاعدة ، فلا بدّ عليه من دليل عقلي أو شرعي وليس ، بل العقل على ما عرفت بالنظر إلى قاعدتي المقدّمة ودفع الضرر قاض بخلافه ، فإنّ ما قرّرناه من الدليل على وجوب الاحتياط بالجمع بين المحتملات دليل عقلي.

وإن شئت سمّه بقاعدة الاشتغال أو قاعدة المقدّمة العلميّة أو قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ، لأنّ في ترك كلّ من المحتملات احتمال الضرر فيجب دفعه ، والضرر هنا اخرويّ وهو العقاب ، لعدم الدليل على قبحه من عقل ولا نقل بعد العلم الإجمالي.

ويؤيّد ما ذكرناه ورود النصّ بالجمع المذكور في كلّ من مسألتي اشتباه القبلة واشتباه الفائتة.

وأمّا ما يقال في دفعه على تقدير رجوعه إلى قاعدة الاشتغال من أنّ اليقين بالاشتغال إنّما يقتضي يقين البراءة في مقدار ما تيقّن اشتغال الذمّة به ، وليس إلاّ صلاة واحدة ، والأصل براءة الذمّة عن الزائد.

ففيه : أنّه كلام يذكر فيما دار الأمر من الشكّ في المكلّف به بين الأقلّ والأكثر لنفي التكليف بالزائد على الأقلّ ، وهو في هذه الصورة في غاية المتانة ، لأنّ القدر اليقيني هو الأقلّ والزائد مشكوك ينفي بالأصل ، ومحلّ الكلام من دوران الأمر بين المتبائنين ، والمراد به ما كان المكلّف به أمرا معيّنا في الواقع مردّدا في نظر المكلّف بين أمرين أو امور متبائنة ، ولا يجري فيه الكلام المذكور ، لأنّ يقين الاشتغال بذلك المعيّن الواقعي يستدعي يقين البراءة عنه ، ولا يحصل إلاّ بأداء جميع الامور المردّد فيها ، فالّذي يوجب الجمع بين المحتملات فإنّما يوجبه بخطاب تبعي لا أصلي ، حتّى يقال : بأنّ القدر الثابت هو اشتغال

ص: 159

الذمّة بأحد المحتملات والأصل براءة الذمّة عن الباقي.

نعم إن كان ولا بدّ من منع جريان قاعدة الاشتغال فطريقه منع التعيين في المكلّف به وتوجّه التكليف إلى المعيّن بلزوم التكليف بالمجمل وتأخير البيان عن وقت الحاجة وهما قبيحان ، كما يظهر من بعض الأعلام (1) حيث استند إليه لجميع صور الشكّ في المكلّف به.

ويزيّفه أيضا : أنّ الاستناد إليه إنّما يحسن لنفي التكليف عن المجمل المفهومي أو المرادي حيث لم يتمكّن من امتثاله ، والمكلّف به هنا هو الصلاة إلى القبلة ولا إجمال في مفهومه ولا المراد به ، بل الإجمال إنّما هو في مصداق هذا المفهوم ، وقد نشأ هذا الإجمال عن أمر خارجي لا يرجع إلى الشارع من جهل أو نسيان أو نحو ذلك ، فلا يطالب رفعه منه ليلزم من عدمه على تقدير تعلّق التكليف به التكليف بالمجمل وتأخير البيان عن وقت الحاجة القبيحين على الحكيم.

التنبيهات :

ثمّ إنّ هاهنا امورا ينبغي التنبيه عليها :

أحدها : أنّه قد ظهر من تضاعيف كلماتنا السابقة أنّ وجوب الاحتياط بالجمع بين المحتملات حكم عقلي ، وهو إمّا غيريّ إن كان مناط العقل في حكمه قاعدة المقدّميّة ، أو إرشاديّ صرف إن كان مناطه احتمال الضرر الاخروي وهو العقاب ، وأيّا ما كان فمقتضاه ترتّب عقاب واحد على مخالفة الواقع لا غير ، ومن فروعه أنّه لو ترك جميع المحتملات لا يعاقب إلاّ عقابا واحدا على ترك المأمور به الواقعي لا على ترك غيره من محتملاته ، ولو أتى بالبعض وترك الباقي فإن صادف تركه ترك المأمور به الواقعي يعاقب عليه لا غير ، وإن صادف إتيانه المأمور به لا عقاب عليه أصلا لعدم مخالفته الواقع.

وقد يتوهّم ترتّب العقاب على الترك المفروض - وإن لم يصادف ترك المأمور به - من جهة التجرّي.

وفيه : أنّ التجرّي ما لم يصادف مخالفة الواقع لا يؤثّر في عقاب ، كما لا يؤثّر في حدوث حكم في الفعل أو الترك المتجرّي به.

وأضعف من التوهّم المذكور توهّم ترتّب العقاب على الترك المذكور من جهة كونه مخالفة للأمر بالاحتياط في قوله : « أخوك دينك فاحتط لدينك (2) » ، على تقدير الاستناد لوجوب الاحتياط فيما نحن فيه إلى ذلك الأمر.

ص: 160


1- القوانين 2 : 37.
2- الوسائل 18 : 123 الباب 12 من أبواب صفات القاضي ح 41.

وفيه - بعد تسليم صحّة الفرض - : أنّ الأمر بالاحتياط أيضا إرشاديّ سواء كان من العقل أو الشرع ، ومن حكم الأمر الإرشادي - على ما ذكرناه مرارا - عدم تأثيره في أزيد ممّا يترتّب على الفعل والترك مع قطع النظر عنه من ثواب أو عقاب ، فالترك ما لم يصادف مخالفة الواقع لا عقاب عليه وإن كان مخالفة للأمر بالاحتياط.

نعم لو التزمنا بالعقاب عليه من حيث تضمّنه مخالفة قوله : « لا تنقض اليقين بالشكّ » (1) المفيد لتحريم نقض اليقين بالشكّ لو استندنا في وجوب الإتيان بالمحتملات إلى استصحاب شغل الذمّة فليس بذلك البعيد. ولكنّه أيضا لا يتمّ لإمكان دعوى كون النهي المذكور أيضا إرشاديّا لا حقيقيّا مفيدا للتحريم الشرعي الّذي يعاقب على مخالفته. ومع فرض التسليم يتطرّق المنع إلى صحّة استصحاب شغل الذمّة ووفائه بإثبات وجوب الإتيان بالمحتملات ، لأنّ الاستصحاب إنّما يؤثّر في ثبوت آثار المستصحب وأحكامه الّتي هي من لوازمه الشرعيّة الدائمة اللزوم له ، لا في ثبوت ما هو من مقارناته الاتفاقيّة الّتي تترتّب عليها أحيانا ، ووجوب الإتيان بما زاد على المأمور به الواقعي ليس من الآثار اللازمة لاشتغال الذمّة ، بل من مقارناته الاتفاقيّة الّتي يتحقّق معه في صورة الاشتباه خاصّة.

وثانيها : أنّه قد يتوهّم أنّ الاشتباه إن كان ناشئا عن الجهل بشرط من شروط العبادة كالقبلة فلا بدّ من القول بسقوط اعتبار هذا الشرط والتزام إهماله ، لأنّ مراعاته المقتضية للجمع بين المحتملات يوجب العجز عن إحراز شرط آخر وهو مقارنة العمل لقصد وجهه من وجوب أو ندب على وجه يعلم بذلك الوجه ، فإنّه مع الاشتباه واعتبار الشرط المجهول غير ممكن ، فدار الأمر بين إهمال أحدهما وإسقاط اعتباره ، والشرط المجهول أولى بذلك ، ويلزم منه كون المأمور به في صورة اشتباه القبلة هو الصلاة لا الصلاة إلى القبلة فيكفي صلاة واحدة. وربّما نسب الاستناد إلى هذا الوجه إلى ظاهر الحلّي وفيه مغالطة واضحة.

فأوّل ما يرد عليه : منع اعتبار قصد الوجه والعلم به في صحّة العبادة رأسا.

وثانيه : أنّ مقارنة المأمور به الواقعي لقصد الوجه يحرز على نحو ما يحرز به مقارنته لقصد القربة بلا فرق بينهما ، فالعجز عن إحرازه مع مراعاة الشرط المجهول محلّ منع. وطريق إحرازهما هو أن ينوي حين الأخذ بالجمع بين المحتملات الإتيان بها للتوصّل إلى

ص: 161


1- الوسائل 5 : 321 الباب 10 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ح 3.

أداء المأمور به بداعي الإطاعة والقربة لوجوبه. وهذا كاف في إحراز صحّة العبادة ، ولا حاجة إلى إحراز الوجه في كلّ إتيان كما لا حاجة إلى إحراز القربة في كلّ إتيان.

وثالثه : منع سلامة الوجه في صورة جهالة الشرط عن جهالة لاشتباه محلّه ، فهما معا مجهولان ، فالشرط المجهول ليس أولى بالإهمال.

ورابعه : أنّ المتعيّن في الصورة المذكورة إنّما هو إهمال قصد الوجه ، لأنّه - على ما ظهر من دليله إن تمّ - شرط عند التمكّن من إحرازه. ومع انتفاء التمكّن - كما فيما نحن فيه بعد التسليم - يسقط اعتباره ، حتّى أنّ القائلين بشرطيّته لا يأبونه.

ولعلّ السرّ فيه أنّ الشرط المجهول من قيود العمل ، وقصد الوجه كقصد القربة من شروط الامتثال لا من قيود المأمور به ، فيكون الثاني أولى بالإهمال في مقام الدوران.

وقد يوجّه أيضا : بأنّ قصد وجه العمل على وجه الجزم إنّما لوحظ اعتباره في الفعل المستجمع للشرائط ، وليس اشتراطه في مرتبة سائر الشرائط بل متأخّر عنه ، فإذا قيّد اعتباره بحال التمكّن سقط حال العجز ، أعني العجز عن إتيان الفعل الجامع للشرائط مجزوما به وبوجوبه ، ولعلّه راجع إلى ما بيّنّاه.

وثالثها : أنّه قد ظهر من تضاعيف المسألة أنّ جميع المحتملات في شبهة المكلّف به إنّما يؤتى به مقدّمة لإحراز الواقع ،على معنى العلم بأداء المأمور به الواقعي المردّد بينها ، وإذا كان المأمور به من قبيل العبادات الّتي يعتبر في صحّتها النيّة فطريق إحرازها أن يقصد الإتيان بها لإحراز الإتيان بالمأمور به امتثالا للأمر به ، بأن يكون داعيه إلى الإتيان بالمحتملات إحراز الإتيان بالمأمور به وإلى إتيانه امتثال الأمر به الّذي يعبّر عنه بالقربة ، ويلزم منه أنّه يجب عليه عند الإتيان بكلّ منها أن يعزم على الإتيان بالباقي ليتحقّق به العزم على الإتيان بالمأمور به. فلو أتى بكلّ واحد من دون العزم المذكور لم يقع صحيحا وإن صادف المأمور به ، لأنّه أتى بالمأمور به من دون العزم على الإتيان به.

فمن فروع المسألة أنّه إن أتى بجميع المحتملات ولكنّه لم يعزم في شيء منها على الإتيان بما بعده لم يصحّ شيء منها ، وإن أتى بواحد منها مع العزم على الإتيان بما بعده ثمّ بدا له أن لا يأتي به ثمّ انكشف مصادفة ذلك الواحد المأتيّ به للواقع أجزأه ، وإن أتى به مع العزم المذكور ثمّ انكشف المصادفة أجزأه ولم يجب حينئذ الإتيان بالباقي ، وإن أتى بواحد لا مع العزم على الإتيان بالباقي لم يكن مجزئا وإن صادف الواقع ، لأنّه أتى به من دون

ص: 162

مقارنة الإتيان به للعزم عليه ، لوضوح أنّ القصد إلى فعل ما يحتمل عدم كونه هو المأمور به لا يحقّق العزم على الإتيان بالمأمور به. والنيّة المعتبرة في العبادة يعتبر فيها مقارنة العمل للعزم عليه ، ومعناه الجزم بإيقاع الفعل بالعنوان الّذي اخذ في الأمر ، ومرجع انتفاء العزم بهذا المعنى إلى انتفاء داعي القربة وامتثال الأمر ، ضرورة امتناع تحقّق قصد امتثال الأمر فيما يشكّ كونه مأمورا به مع القطع بالأمر.

فإن قلت : لو أتى بواحد بداعي امتثال الأمر على تقدير كونه مأمورا به وجب القطع بصحّته إذا انكشف المصادفة وإن لم يقارنه العزم على الإتيان بالباقي ، كما في العبادة المأتيّ بها بعنوان الاحتياط والإتيان بما يحتمل ورود الأمر به إيجابا أو ندبا ، حيث إنّه يؤتى به بداعي امتثال الأمر على تقدير ثبوته في الواقع ، ولا إشكال لأحد في صحّته إذا انكشف ثبوت الأمر في الواقع.

قلت : تقدير كون الفعل المأتيّ به مأمورا به فيما قطع أصل الأمر مع احتمال كون المأمور به غيره ممّا يقابله لا يحقّق كونه مأمورا به ، فلا يتحقّق به الجزم المعتبر في نيّة العبادة مع الاحتمال المذكور. ولا يقاس ذلك على موارد الاحتياط ولا موارد احتمال الأمر ، إذ ليس للمأمور به بالأمر الاحتمالي تقديرين ، بأن يتردّد بين شيئين ، فالتقدير ثمّة في الأمر لا في الفعل ، وهو لا ينافي الجزم بالفعل بالعنوان الّذي اخذ في الأمر على تقدير ثبوته ، وفي ما نحن فيه في الفعل لا في الأمر لمكان القطع بثبوته ، وهو ينافي الجزم فينافي داعي القربة.

رابعها : لو كان الواجب المشتبه أمرين مترتّبين شرعا ، بأن اعتبر الشارع الإتيان بلاحقهما بعد الإتيان بسابقهما بحيث لو عكس لم يكن ممتثلا ، كالظهر والعصر المردّدين بين القصر والإتمام ، أو بين الجهات الأربع ، أو بين الثوبين المشتبيهين ، فهل يعتبر في جواز الشروع في محتملات اللاحق الفراغ اليقيني عن الأوّل بإتيان جميع محتملاته أو لا ، بل يكفي الترتيب بين كلّ واحد من محتملات اللاحق ومثله من محتملات الأوّل ، فيجوز الإتيان بالعصر قصرا بعد الإتيان بالظهر قصرا ، ثمّ الإتيان بالعصر تماما بعد الإتيان بالظهر تماما ، والإتيان بالعصر إلى جهة بعد الإتيان بالظهر إلى تلك الجهة وهكذا إلى آخر الجهات ، أو يفصّل في ذلك بين الوقت المختصّ بالظهر فلا يجوز الشروع في محتملات العصر إلاّ بعد الفراغ عن جميع محتملات الظهر ، والوقت المشترك فيكفي فيه ترتّب كلّ واحد من محتملات العصر على مثله من محتملات الظهر؟ احتمالات ، اختلف فيه الفقهاء على قولين

ص: 163

على حسب الاحتمالين الأوّلين.

أوّلهما : لجماعة كالموجز (1) وشرحه (2) والمسالك (3) والروض (4) والمقاصد العليّة (5).

وثانيهما : لآخرين كنهاية الإحكام (6) والمدارك (7) وحاشية الروضة للمحقّق الخوانساري (8).

والأقوى في بادئ النظر هو الأوّل ، لنفس أدلّة الترتيب بينهما ، فإنّ معناه أنّه لا يسوغ الشروع في اللاحق إلاّ بعد الفراغ عن إحراز السابق المأمور به الواقعي ، وهو بمجرّد الإتيان بأحد محتملاته غير محرز ، مضافا إلى أنّه ما لم يقطع بفراغ الذمّة عن السابق لا يمكن الجزم ولا إحراز القربة عند الشروع في في اللاحق ، لعدم العلم بمشروعيّة هذا الشروع.

وفي الوجهين نظر.

أمّا الأوّل : فلأنّ الترتيب المستفاد من أدلّته هو أن يتعقّب العصر الواقعي المأمور به للظهر الواقعي المأمور به ، وهو بهذا المعنى حاصل لا محالة على تقدير تعقّب كلّ واحد من محتملات العصر لمثله من محتملات الظهر ، لأنّه لو كان المحتمل الأوّل المأتيّ به من محتملات الظهر هو الظهر الواقعي المأمور به فقد يعقّبه العصر الواقعي ، وهكذا يقال في الثاني والثالث من محتملاتهما. وحينئذ فالعصر المأتّي بها قصرا عقيب الإتيان بالظهر قصرا إن كانت هي العصر الواقعيّة المأمور بها فقد وقعت مترتّبة على الظهر الواقعي ، وإلاّ فلا يقدح تقدّمها على الظهر الواقعي. ولا ينافي الترتيب المعتبر بينهما شرعا ، لأنّه معتبر بين واجبين واقعيّين لا بين واجب واقعي وما ليس بواجب في الواقع.

ولو اريد من إحراز السابق المأمور به في عبارة الدليل العلم بفراغ الذمّة عن الظهر الواقعي ، فهو وإن كان لا يحصل بمجرّد الإتيان بأحد محتملاته ، إلاّ أنّه ليس من الترتيب المعتبر بينهما في شيء ، ولم يدلّ على اعتباره دليل آخر.

وأمّا الثاني : فلأنّ الجزم والقربة المعتبرين فيما نحن فيه - على ما تقدّم بيانه - هو أن يكون المكلّف عند الشروع في الإتيان بالمحتملات جازما للإتيان بالمأمور به الواقعي المشتبه بينها بداعي امتثال الأمر به ، وهذا متحقّق فيما لو أتى بكلّ واحد من محتملات العصر عقيب مثله من محتملات الظهر ، لأنّه في الإتيان بمجموع محتملات العصر جازم

ص: 164


1- الموجز الحاوي ( الرسائل العشر ) : 66.
2- كشف الالتباس ( مخطوط ) : 134.
3- المسالك 1 : 158.
4- روض الجنان : 194.
5- المقاصد العليّة : 117.
6- حاشية الروضة البهيّة : 180.
7- نهاية الإحكام 1 : 282.
8- المدارك 2 : 359.

للإتيان بالعصر الواقعي ، وداعيه إلى هذا الإتيان ليس إلاّ امتثال الأمر به.

وتحقيق المقام : أنّ حكم هذه المسألة لا بدّ وأن يستكشف عن دليل وجوب الإتيان بجميع محتملات الواجب عند الاشتباه بغيره ، وهو أحد الأمرين من قاعدة دفع الضرر المحتمل وقاعدة الاشتغال.

وضابطه : أنّ الإتيان بمحتملات العصر على الوجه الثاني لو كان موجبا لاحتمال الضرر زائدا على الضرر المحتمل على تقدير عدم الإتيان ببعض محتملاتها ، أو موجبا للشكّ في البراءة زائدا على الشكّ فيها على تقدير عدم الإتيان بجميع محتملاتها ، فالمتّجه هو القول الأوّل بنفس دليل وجوب الإتيان بجميع المحتملات ، وإلاّ اتّجه القول الثاني للأصل وعدم الدليل على وجوب الشروع في محتملات العصر بعد الفراغ عن جميع محتملات الظهر؟ والأظهر هو الثاني إذ لا موجب لاحتمال الضرر الزائد ولا الشكّ الزائد في البراءة إلاّ احتمال الإخلال في الترتيب المعتبر بينهما ، والمفروض على ما عرفت أنّ الإتيان بمحتملات العصر على الوجه المذكور لا ينافي الترتيب الواقعي بل يحقّقه ، فالأقوى في ثاني النظر حينئذ هو القول الثاني.

وأمّا احتمال الفرق بين وقت الاختصاص وغيره ففيه : أنّ اختصاص الوقت بالظهر لا يقتضي المنع عن الشروع ببعض محتملات العصر ما لم يحصل الفراغ عن جميع محتملات الظهر ، لأنّ معنى الاختصاص أنّه يختصّ من أوّل الوقت مقدار أداء الظهر الواقعي بشرائطها المختلف بحسب حال المكلّف بها سواء وقعت فيه أو لا ، وإذا انقضى هذا المقدار دخل الوقت المشترك. وحينئذ فإذا أتى فيما نحن فيه بأحد محتملات الظهر في أوّل الوقت فقد خرج وقت الاختصاص ودخل الوقت المشترك ، سواء كان ما وقع فيه هو الظهر الواقعي أو لا ، فلا مانع من الشروع في العصر بعده ، لوقوعه على كلّ تقدير في الوقت المشترك.

وبذلك يندفع ما يظهر من بعض مشايخنا من الميل إلى المنع من الشروع في بعض محتملات العصر بعد الإتيان بأحد محتملات الظهر في الوقت المختصّ ، حيث إنّه بعد ترجيح القول الثاني قال : « هذا كلّه مع تنجّز الأمر بالظهر والعصر دفعة واحدة في الوقت المشترك ، أمّا إذا تحقّق الأمر بالظهر فقط في الوقت المختصّ ففعل بعض محتملاته ، فيمكن أن يقال : بعدم الجواز ، نظرا إلى الشكّ في تحقّق الأمر بالعصر فكيف يقدّم على محتملاتها الّتي

ص: 165

لا تجب إلاّ مقدّمة لها ، بل الأصل عدم الأمر فلا يشرع الدخول في مقدّمات الفعل » انتهى (1).

فإنّ تنجّز الأمر بالعصر بعد دخول الوقت المشترك ممّا لا ينبغي الاسترابة فيه. واللّه الهادي إلى سبيل الرشاد.

وخامسها : أنّه إذا سقط من محتملات الواجب ما هو بمقدار الواجب على معنى سقوط وجوب الإتيان به ، فهل يجب الإتيان بالباقي أو لا؟

فنقول : إنّ سقوط البعض قد يكون عقليّا كما لو تعذّر أحد المحتملات لضيق وقت أو مانع خارجي فحكم العقل بسقوط وجوبه ، وقد يكون شرعيّا بمعنى أنّ الشارع أسقط وجوبه ، وعلى التقديرين فالساقط قد يكون واحدا معيّنا ، وقد يكون واحدا لا بعينه على وجه رجع مفاده إلى التخيير في ترك أحد المحتملات ، فالصور أربع :

أمّا الصورة الاولى : وهي ما لو سقط واحد معيّن بسقوط عقلي لتعذّره ، كما لو أمر المولى بإطعام زيد فاشتبه زيد بين أربعة لم يتمكّن من إطعام واحد معيّن منهم ، فما يتراءى في بادئ النظر بحكم الأصل الأوّلي هو الحكم بعدم وجوب الباقي ، لارتفاع العلم الإجمالي المتعلّق بالواقع بالنسبة إلى الباقي بسبب سقوط مقدار الواجب الواقعي ، فيدور الواجب الواقعي بين المقدور وغير المقدور ، فلا يدرى أنّ الواجب الواقعي هو الباقي المقدور ليجب الإتيان به ، أو غيره فلا يجب الإتيان بالمقدور ، فيؤول الشكّ إلى أنّ المقدور واجب أو لا؟فيكون في أصل التكليف ، وقد مرّ أنّ الشكّ إذا كان في التكليف فالأصل البراءة.

وأمّا الصورة الثانية : وهي ما لو سقط واحد غير معيّن عقلا لتعذّره ، فما يتراءى أيضا في بادئ النظر هو عدم الوجوب ، لعين ما ذكرناه من أول الشكّ بالنسبة إلى الباقي إلى التكليف ، إذ لا يعلم أنّ الساقط بعد الاختيار هل الواجب الواقعي أو غيره ، فارتفع العلم الإجمالي بالنسبة إلى الباقي.

لكن يشكل الحال بالنظر إلى ظاهر كلام الفقهاء في مسألة اشتباه القبلة لمن فرضه الصلاة إلى الجهات الأربع إذا لم يتّسع الوقت لضيقه الأربع ، فحكموا بوجوب الإتيان بما يحتمله الوقت ، ولو لم يتّسع إلاّ من جهة واحدة تخيّر في الإتيان بها إلى أيّ جهة شاء.

والمحقّق في المعتبر عمّم الحكم بالنسبة إلى سائر الأعذار العقليّة بقوله : « وكذا لو منعت ضرورة من عدوّ أو سبع أو مرض » (2) ويظهر من غيره الموافقة له في هذا التعميم

ص: 166


1- فرائد الاصول 2 : 314.
2- المعتبر : 145.

على وجه ظاهرهم كونه محلّ وفاق ، فلا بدّ أن يكون هناك قاعدة أو أصل آخر وارد على الأصل المذكور دعاهم إلى الحكم المذكور ، الّذي مرجعه إلى وجوب الإتيان بالباقي بعد سقوط أحد المحتملات لعذر عقلي.

ولعلّ مستندهم في ذلك استصحاب الأمر ، فإنّه بسقوط البعض يشكّ في سقوط الأمر والأصل بقاؤه. ويشكل : بأنّ الاستصحاب المذكور لو تمّ لاختصّ بما لو كان العذر والسقوط طارئا على التكليف والاشتغال بعد تنجّزه واستدعائه وجوب المحتملات مقدّمة ، وأمّا لو كان ابتدائيّا حصل من بدو الأمر وحين الابتلاء بالواقعة المشتبهة المردّدة بين المعذور والمقدور فلا استصحاب لانتفاء الحالة السابقة المتيقّنة.

مع أنّ هذا الاستصحاب من أصله فاسد فيما كان له حالة سابقة ، إذ لو اريد بالأمر المستصحب الأمر المقدّمي بالنسبة إلى الباقي فهو فرع على الأمر الأصلي المتعلّق بالواجب الواقعي بقاء وارتفاعا ، فما لم يحرز بقاؤه لم يعقل بقاء الأمر المقدّمي ، ومع إحرازه لم يحتج في إبقاء الأمر المقدّمي إلى الاستصحاب.

ولو اريد به الأمر الأصلي لم يصحّ استصحابه ، لعدم كون بقاء موضوعه وهو الواجب الواقعي محرزا ، لتردّد الساقط بالعذر بين كونه الواجب الواقعي أو غيره من محتملاته ، ولا يمكن ابقاء الموضوع هنا بالاستصحاب لبطلان الأصل المثبت ، لأنّ أصالة عدم كون الساقط هو الواجب الواقعي لا يقتضي كون الواجب الواقعي هو الباقي أو في جملته ، إلاّ أن يؤول استصحاب الأمر بأصالة عدم سقوط الواجب الواقعي عن الذمّة ، وهذا كاف في التزام وجوب الإتيان بالباقي من دون الحاجة إلى الحكم بكون الواجب الواقعي هو الباقي أو في جملته.

ويحتمل أن يكون مستندهم في الحكم المذكور هو أنّ الإتيان بمحتملات الواجب حيثما وجب إنّما يجب لوجوب الموافقة القطعيّة ، وهو يتضمّن أمرين : الأمر الأصلي بالواجب الواقعي ، والأمر المقدّمي بكلّ واحد من محتملاته ، فإذا سقط اعتبار الموافقة القطعيّة بطروّ العذر المقتضي لسقوط بعض المحتملات ، فالأمر يدور بين كون الساقط هو الأمر المقدّمي بذلك البعض فقط أو الأمر الأصلي بالواجب الواقعي الموجب سقوطه لسقوط الأمر المقدّمي عن جميع المحتملات ، والأوّل أهون في بناء العقلاء.

ومضافا إلى أنّ الأمر فيما كان اشتباهه لاشتباه شرط من شروطه كالقبلة والثوب

ص: 167

الطاهر يدور بين سقوط اعتبار الشرط أو سقوط التكليف بالمشروط ، والأوّل أهون في بناء العقلاء أيضا ، فيبقى المشروط واجبا بلا اشتراطه بالاستقبال والثوب الطاهر.

ويشكل هذا الطريق أيضا : بأنّ بقاء الأمر الأصلي في الواجب الواقعي على تقدير كونه البعض المعيّن الّذي طرأ عليه العذر غير معقول لأنّه ينافي سقوطه ، وكذلك تجويز ترك أحد المحتملات على تقدير تعذّره لا على التعيين غير معقول ، لرجوعه بالنسبة إلى الواجب المعيّن الواقعي إلى التخيير بين فعل الواجب وتركه ، والتزام سقوط الشرط لكونه أهون لا يلائم إيجابهم في مسألة اشتباه القبلة الإتيان بما يحتمله الوقت ، لأنّ مقتضاه الاقتصار على واحدة لا وجوب الإتيان بأزيد ، ولا إيجابهم الإعادة مطلقا أو في الوقت مطلقا أو في الجملة ، على الخلاف والأقوال المحرّرة في محلّه فيما لو انكشف بعد الفراغ وقوعها إلى غير القبلة.

وبالجملة دليل وجوب الإتيان بالمحتملات إذا كان قاعدة الاشتغال المتضمّنة لإعمال قاعدة المقدّميّة لا يجري إلاّ مع اليقين بالتكليف والشكّ في المكلّف به ، واليقين بالتكليف مع احتمال كون البعض الساقط بالعذر العقلي هو الواجب منتف ، ومعه لا مقتضي لوجوب الإتيان بالباقي.

نعم يمكن إثبات ذلك بالنظر إلى قاعدة دفع الضرر المحتمل ، بتقريب : أنّ العقل بالنظر إلى احتمال كون الواقع في جملة الباقي ، أو احتمال أنّ الشارع جعل غير الواقع بدلا عن الواقع على تقدير مصادفة البعض الساقط للواجب الواقعي ، يجوّز العقاب على ترك الباقي لتضمّنه مخالفة الواقع أو بدله ، فيجب دفعه بالإتيان بالباقي.

ويشكل : بأنّ الأصل رافع لاحتمال العقاب ما لم يعلم وجود الواقع في جملة الباقي ولم يقم دليل على البدل كما فيما نحن فيه.

ويمكن أن يقال : إنّ بناء العقلاء في نظائر المسألة من العرفيّات على الالتزام بالباقي بعد تعذّر بعض المحتملات ، ويكشف ذلك عن طريقة الشارع في الشرعيّات ، فإن تمّ ذلك وإلاّ وجب التمسّك بالإجماع حيثما كان قائما على وجوب الإتيان بالباقي تماما.

وأمّا الصورة الثالثة والرابعة : وهو ما لو قال الشارع : « أسقطت عنك هذا ، أو أحد هذه » فالوجه فيه وجوب الإتيان بالباقي ، فإنّ تخصيص البعض بالإسقاط دون الجميع يدلّ بالالتزام العرفي على مطلوبيّة الباقي ولو من باب جعل البدل ، وهذا ممّا لم نقف له على

ص: 168

مثال في الشرعيّات.

وربّما استدلّ على وجوب الاتيان بالباقي مطلقا على حسب ما ساعد عليه الوقت أو المكنة بعموم « الميسور لا يسقط بالمعسور (1) » و « ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه (2) » و « إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم (3) ».

وفيه نظر خصوصا بالقياس إلى الأخيرة ، ودونه بالقياس إلى الثانية ، لظهورهما في غير ما نحن فيه.

هذا كلّه فيما لو دار الواجب المشتبه بغير الحرام بين المتبائنين ، وقد يكون دائرا بين الأقلّ والأكثر مع كون الشبهة موضوعيّة ، وهذا على قسمين باعتبار كون الأقلّ والأكثر استقلاليّين أو ارتباطيّين ، والأوّل مثل الفائتة المردّدة بين الأربع والخمس ، والدين المشتبه بين أربعة دنانير أو خمسة ، وصوم شهر رجب المأمور به المشتبه بين تسعة وعشرين يوما أو ثلاثين يوما ، مع كون كلّ يوم مأمورا به بالاستقلال لاشتباه هلال هذا الشهر.

والثاني مثل هذا المثال مع فرض كون مجموع الشهر من حيث المجموع مأمورا به ، ومنه نذر صوم شهر رجب والتزامه بعقد الإجارة ، فهل المرجع فيهما أصل البراءة ، أو أصل الاشتغال؟

والحقّ التفصيل ، ففي الاستقلاليّين لا مرجع إلاّ أصل البراءة ، لرجوع العلم الإجمالي المفروض فيه بالنسبة إلى المكلّف به بعد العلم بأصل التكليف إلى العلم التفصيلي بالتكليف في الأقلّ والشكّ في الزائد ، والأصل يقتضي عدم الوجوب ، ولا يعقل فيه جريان أصل الاشتغال ، لحصول يقين البراءة بالنسبة إلى الأقلّ وعدم العلم بالتكليف في الزائد.

وفي الارتباطييّن لا مرجع إلاّ أصل الاشتغال ، للشكّ في البراءة على تقدير الاقتصار على الأقلّ ، لأنّه على تقدير وجوب الأكثر لا يفيد براءة لا بالنسبة إلى الأكثر ولا بالنسبة إلى نفسه ، وهذا واضح.

الصورة الثانية : ما لو كان اشتباه الواجب بغير الحرام لشبهة حكميّة من جهة فقد النصّ

الصورة الثانية : ما لو كان اشتباه الواجب بغير الحرام لشبهة حكميّة من جهة فقد النصّ كاشتباه الواجب في يوم الجمعة ، بين الظهر والجمعة وفي بعض المواضع بين القصر والاتمام ، والكلام فيه تارة في جواز المخالفة القطعيّة وعدمه واخرى في وجوب الموافقة القطعيّة وعدمه ، والباعث على البحث في هاتين الجهتين ملاحظة العلم التفصيلي ، فإنّه إذا حصل بالحكم الواقعي وبموضوعه لزمه أمران حرمة مخالفته القطعيّة ووجوب الموافقة

ص: 169


1- عوالي اللئالي 4 : 58 مع اختلاف يسير.
2- نفس المصدر.
3- نفس المصدر.

القطعيّة ، وهل العلم الإجمالي بمتعلّق الحكم الواقعي بعد العلم التفصيلي به - كما فيما نحن فيه - يشارك العلم التفصيلي في الحكم الأوّل أو لا؟ وعلى الأوّل فهل يشاركه في الحكم الثاني أو لا؟ فنقول :

أمّا الجهة الاولى : فالأقوى فيه هو حرمة المخالفة القطعيّة بل هو المعروف بين الأصحاب ، ويظهر من المحقّق الخوانساري (1) وبعض الأعلام (2) جوازها ، لمصيرهما في نحو ما نحن فيه بوجوب أحد الأمرين على التخيير ، مستندين إلى أنّ الّذي ثبت بالإجماع والضرورة هو عدم جواز تركهما معا لا وجوب فعلهما معا ، وهذا يقتضي بأنّه لو لا الاجماع والضرورة على عدم جواز تركهما معا لكان جائزا بمقتضى الأصل.

وكيف كان فلنا على ما قوّيناه هو ما دلّ على عدم جواز المخالفة القطعيّة للعلم التفصيلي بعينه ، وهو أنّه يوجب تنجّز التكليف على معنى صيرورة الحكم الواقعي المعلوم تكليفا إلزاميّا فعليّا شاغلا لذمّة المكلّف على وجه يعاقب على مخالفته ، ومخالفته في الحقيقة مخالفة للتكليف الفعلي المعلوم ، وهو معصية والمعصية قبيحة عقلا وشرعا ، وهذا بعينه جار في العلم الإجمالي ، لأنّه في حكم العقل وبناء العقلاء يجري مجرى العلم التفصيلي في تأثيره في تنجّز التكليف وتوجّه الخطاب إلى المكلّف ، فمخالفته معصية فتكون قبيحة عقلا وشرعا ، ولا نعني من حرمة المخالفة إلاّ هذا.

ومن جوّزها - لو لا الإجماع والضرورة على عدم الجواز - لا بدّ وأن يرجع دعواه في منع كفاية العلم الإجمالي في تنجّز التكليف ، ولعلّ وجهه أنّ المكلّف به فيما نحن فيه الّذي يلتزم تعلّق التكليف به إمّا أن يكون الواحد المعيّن في الواقع المجهول في نظر المكلّف الّذي هو متعلّق الحكم الواقعي ، أو أحد الأمرين على التخيير ، ولا سبيل إلى شيء منهما. أمّا الأوّل : لعدم ورود الخطاب من الشارع.

وأمّا الثاني : فلعدم كون الحكم الواقعي المفروض للواقعة هو الوجوب التخييري ، لعدم توجّهه إلى الواحد التخييري الغير المعيّن المنتزع عن الطرفين ، بل إنّما توجّه إلى الواحد المعيّن لا غير.

ويزيّفه : اختيار الشقّ الأوّل وعدم العبرة فيه بالخطاب التفصيلي ، بل يكفي فيه العلم بالحكم الواقعي تفصيلا أو إجمالا مع التمكّن من العلم به تفصيلا ، والعلم بموضوعه تفصيلا

ص: 170


1- مشارق الشموس : 267.
2- القوانين 2 : 37.

أو إجمالا مع التمكّن من امتثاله ، والمفروض حصول العلم الاجمالي بالموضوع بعد العلم التفصيلي بالحكم الواقعي ، وعدم كفايته في توجّه الطلب الفعلي لا بدّ وأن يكون لمانع عقلي أو نقلي ، ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلأنّ الّذي يمكن تخيّله مانعا إمّا توهّم أنّ الجهل بالتفصيل في نظر العقل يجري مجرى الجهل التفصيلي كما في الجاهل ، وكما أنّه عذر يمنع من توجّه الطلب إلى الجاهل فكذلك الجهل بالتفصيل أيضا عذر يمنع من ذلك ، أو توهّم أنّ الجهل بالتفصيل يستلزم العجز من الامتثال وعدم تمكّن العالم بالاجمال منه.

وأيّا ما كان فهو واضح الدفع ، أمّا الأوّل : فلوضوح الفرق بين الجهل التفصيلي والجهل بالتفصيل ، فإنّ الأوّل إنّما ينهض عذرا لقبح المؤاخذة على مخالفة ما لا سبيل اللمكلّف إلى معرفته ولا إلى امتثاله ، والعالم بالاجمال فيما نحن فيه عرف الحكم الواقعي تفصيلا وموضوعه إجمالا ، وهو متمكّن من الامتثال أيضا بالاحتياط ، فالعقل لا يقبح عقابه على المخالفة بل يحسّنه.

وأمّا الثاني : فدفعه أوضح.

وأمّا انتفاء المانع النقلي فلأنّه ليس في الشرع ما يصلح مانعا إلاّ أصل البراءة وهو غير جار فيما نحن فيه ، لعدم جريان مداركه فيه من العقل والنقل من نحو « ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم (1) » و « الناس في سعة ما لم يعلموا (2) » و « رفع عن امّتي ما لا يعلمون (3) » وما أشبه ذلك.

أمّا العقل : فلما عرفت من أنّه لا يقبح عقاب العالم بالاجمال على مخالفته العلم الإجمالي.

وأمّا الأخبار : فلدخول المقام في مفاهيم هذه الأخبار ، ولذا قيل : انّ العمل بها في كلّ من الموردين بخصوصه يوجب طرحها بالنسبة إلى أحدها المعيّن عند اللّه المعلوم وجوبه ، فإنّ وجوب واحدة من الظهر والجمعة أو القصر والاتمام ممّا لم يحجب اللّه علمه عنّا فليس موضوعا عنّا ، ولسنا في سعة منه ، ولا أنّه مرفوع عنّا.

ويستفاد من بعض الأعلام كون المانع عن توجّه الخطاب بالواقع لزوم التكليف بالمجمل المحتمل لأفراد متعدّدة بإرادة فرد معيّن عند الشارع مجهول عند المكلّف ، المستلزم لتأخير البيان عن وقت الحاجة الّذي اتّفق أهل العدل على استحالته.

ص: 171


1- الكافي 1 : 164 ، ح 3.
2- عوالي اللآلئ 1 : 424 ، ح 109.
3- التوحيد : 353 ، ح 24.

وهذا في غاية الضعف لمنع الملازمة ، فإنّ طروّ الاشتباه لعارض اختفاء الأحكام الواقعيّة بواسطة الأسباب الخارجيّة لا ينافي تحقّق البيان في زمان الوحي ، وليس على الشارع مزاحمة الأسباب الخارجيّة بمنعها عن التأثير في الاختفاء ، أو إزالة الاشتباه الحاصل منها ، بل الواجب عليه أن يجعل حكما عامّا يتعبّد به المكلّف حال الاشتباه ، ويجوز الاكتفاء فيه بحكم العقل.

ولو سلّم كون الاشتباه بدويّا حاصلا في زمن الخطاب يتطرّق المنع إلى بطلان اللازم ، فإنّ التكليف بإطلاقه لا قبح فيه بل قد يكون مستحسنا إذا ساعد عليها مصلحة ، وممّا يصلح مصلحة في نظر العقل حمل المخاطب على الامتثال بطريق الاحتياط ليتكامل به استحقاقه الثواب ، والاغراء بالجهل وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا قبح فيهما إلاّ في مواضع الجهل العذري ، وهو ما لا يتمكّن المكلّف معه من الاطاعة ، والمفروض في المقام خلافه.

وأمّا الجهة الثانية : فالأقوى فيها وجوب الموافقة القطعيّة المقتضي لوجوب الاحتياط بمراعاة الاتيان بالفعلين ، ويظهر وجهه بالتأمّل في وجه حرمة المخالفة القطعيّة ، إذ قد عرفت أنّ مبناها على تنجّز التكليف وقضيّة التكليف الفعلي الشاغل للذمّة وجوب الاطاعة والموافقة لأنّ التكليف ، إنّما يتوجّه إلى المكلّف لغرض الامتثال والاطاعة والموافقة ، فيجب عليه تحصيل البراءة وتفريغ الذمّة عمّا اشتغلت به من التكليف الإلزامي الشامل لها ، وهذا وإن كان بحسب الامكان قد يتأتّى بأداء الواجب الواقعي وقد يتأتّى بأداء بدله فيما جعل الشارع له بدلا ، بأن يقال : انّه جعل من الفعلين المردّد بينهما الواجب الواقعي ما ليس بواجب في الواقع بدلا عمّا هو واجب في الواقع ، سواء نصّ عليه بدلالة مطابقيّة ، كأن يقول : « إذا ثبت وجوب شيء واشتبه الواجب بين فعلين ، فقد جعلت ما ليس بواجب منهما بدلا عمّا هو الواجب » أو بدلالة التزاميّة كأن يقول : « إذا ثبت الوجوب واشتبه الواجب فالمكلّف مخيّر بين الفعلين » وعلى التقديرين يكفيه الاتيان بأحدهما ، لأنّه إمّا واجب أو مسقط عن الواجب.

وأيّا ما كان فالالتزام به يفتقر إلى دليل ، ومع فقده كما فيما نحن فيه فطريق تفريغ الذمّة ينحصر في أداء نفس الواجب ، وهذا وإن كان بحسب الخارج لا يتوقّف عقلا على الاتيان بالفعلين ، إلاّ أنّ العلم به يتوقّف عليه فيجب تحصيله بالاتيان بهما فيجب مقدّمة ، مضافا إلى أنّه لو اكتفى بأحدهما يحتمل العقاب في ترك الآخر لاحتمال كونه الواجب الواقعي ، وهو

ص: 172

احتمال للضرر فيجب دفعه بالاتيان به أيضا ، ولا يعنى من وجوب الموافقة القطعيّة إلاّ هذا.

وأمّا القول بالتخيير فإن اريد به التخيير الواقعي ، ففيه : أنّه خلاف مفروض الواقعة من كون الحكم الواقعي فيها وجوب أحد الفعلين على التعيين لا على التخيير.

وإن اريد به التخيير الظاهري على معنى أنّ الشارع جعل للعالم بالاجمال الجاهل بالتفصيل لجهله حكما ظاهريّا وهو التخيير بين الفعلين بعد إلغاء الحكم الواقعي ورفع اليد عنه ، كما جعل للجاهل في موارد أصل البراءة لجهله حكما ظاهريّا وهو الإباحة مثلا.

ففيه مع أنّ إلغاء الوجوب الواقعي هنا خلاف بديهة العقل ، أنّ الالتزام بهذا الحكم الظاهري لا بدّ له من دلالة معتبرة وهي منتفية ، فيبقى حكم العقل بوجوب الاحتياط سليما عمّا يوجب الخروج عنه.

وإن اريد به الأمر المنتزع عن الوجوب الواقعي المتعلّق بما هو معيّن عند اللّه من الفعلين والجعل البدلي بالنسبة إلى غيره.

ففيه : أنّه أيضا يحتاج إلى دلالة معتبرة على البدليّة والمفروض انتفاؤها ، فيرجع إلى حكم العقل بوجوب الاحتياط.

وقد يستدّل على المختار : بقاعدة الاشتراك في التكليف وبيانه : أنّ الحاضرين الموجودين في زمن النبيّ صلى اللّه عليه وآله والأئمّة عليهم السلام كانوا مكلّفين في تلك الواقعة المشتبهة قطعا فكذلك الغائبون والمعدومون لأدلّة الاشتراك في التكليف ، فوجب عليهم الاحتياط.

وهذا في غاية الضعف ، لأنّه لو اريد بالتكليف المشترك فيه التكليف الأوّلي الواقعي بما هو معيّن في الواقع فالاشتراك فيه مسلّم ، غير أنّه لا يجدي نفعا في المقام ، لجواز كون الجهل المفروض فيه علّة مانعة عن تنجّزه كما في موارد أصل البراءة بالقياس إلى الأحكام الواقعيّة الثابتة على الحاضرين مع شركة الغائبين والمعدومين فيها من دون تنجّزها عليهم لعلّة الجهل ، ومجرّة الاشتراك في الوجوب الواقعي لا ينفي مانعيّة الجهل المذكور.

ولو اريد به الحكم الظاهري وهو وجوب الاحتياط ، على معنى أنّ الحاضرين على تقدير طروّ الاشتباه في المكلّف به لهم كان حكمهم الظاهري المجعول لهم في هذا الفرض هو الاحتياط ، فكذلك الغائبون والمعدومون لأدلّة الاشتراك ، ففيه أوّلا : منع قاعدة الاشتراك في الأحكام الظاهريّة ، إذ القدر المسلّم الثابت من أدلّته هو الاشتراك في الأحكام الواقعيّة.

وثانيا : منع كون الحكم الظاهري في حقّ الحاضرين على تقدير اشتباه المكلّف به في

ص: 173

حقّهم وجوب الاحتياط ، لاحتمال كونه البراءة أو التخيير ، وعلى المستدلّ نفيه وأنّى له بذلك.

فإن قلت : إنّ العقل مستقلّ بوجوب الاحتياط لقاعدتي المقدّمة ودفع الضرر ، فيستكشف به عن كون الحكم الظاهري المجعول للحاضرين هو الاحتياط لا غير.

قلت : إذا سلّمت حكومة العقل في ذلك فهو كاف في ثبوت المطلب ، ولا حاجة معه إلى توسيط مقدّمة الاشتراك في التكليف كما هو واضح.

وقد يستدلّ أيضا باستصحاب الاشتغال ، فإنّه إذا أتى بأحد الفعلين يشكّ في ارتفاع الاشتغال الثابت قبله وبقائه فيستصحب ، ومقتضاه وجوب الإتيان بالآخر. ويخدشه : انتفاء اليقين السابق لو اريد به الاشتغال بالواحد المعيّن في الواقع ، وانتفاء الشكّ اللاحق لو اريد به الاشتغال بأحدهما لا بعينه.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ التمسّك بالاستصحاب المذكور إنّما هو بعد الفراغ عن إثبات تنجّز التكليف بسبب العلم الإجمالي ، والمقصود به إثبات وجوب الفعلين مع قبالا لمن يكتفي بأحدهما ، وحينئذ فلا ريب في تحقّق الحالة السابقة المتيقّنة ، وهو الاشتغال بالواحد المعيّن في الواقع.

ويخدشه : حينئذ عدم إنتاجه لوجوب الفعل الآخر ، لأنّ الاستصحاب إنّما يفيد ثبوت الآثار الّتي هي من أحكام المستصحب في حال اليقين ، ولا ريب أنّ مقتضى الاشتغال بالواحد المعيّن حال اليقين به هو وجوب الإتيان بذلك الواحد لا غيره ، ووجوب الإتيان بغيره ليس من أحكامه ، فاستصحابه في زمان الشكّ أيضا يقتضي وجوب الإتيان به ، ولم يظهر مع الاشتباه كون الفعل الآخر الغير المأتيّ به هو ذلك المعيّن لجواز كونه غيره ، وقد عرفت أنّ الاستصحاب لا يقتضي جريان ما ليس من أحكام المستصحب في زمان اليقين ، فالاستصحاب المذكور لا يجدي نفع في وجوب ذلك الفعل ، إلاّ بعد الحكم بكونه الواحد المعيّن الّذي تعلّق به الاشتغال ، ولا بدّ له من وسط آخر ، والاستصحاب غير صالح له لبطلان الأصل المثبت ، هذا.

وليعلم أنّ العلم الإجمالي الّذي هو مناط وجوب الاحتياط قد يكون بين شيئين بينهما قدر مشترك اخذ عنوانا في الخطاب ، على وجه تعلّق به التكليف وكان الاشتباه في الخصوصيّتين كاشتباه الصلاة المكلّف بها بين الظهر والجمعة ، أو القصر والإتمام ، أو الجهر والإخفات ، واشتباه الكفّارة المأمور بها بين الصوم والعتق. وقد يكون بين شيئين بينهما قدر

ص: 174

مشترك ولكنّه لم يؤخذ عنوانا في الخطاب ، كما لو علم الوجوب واشتبه الواجب بين الصلاة على النبيّ وقراءة الدعاء عند رؤية الهلال ، أو بين صوم يوم الخميس وغسل يوم الجمعة ، فإنّ الجامع بينهما جنس الفعل ولكنّه لم يؤخذ عنوانا في الحكم ، والفارق بينهما أنّ الاشتباه في الأوّل كما عرفت بين الخصوصيّتين وفي الثاني بين النوعين.

وقد يكون بين شيئين ليس بينهما قدر مشترك أصلا ، كما لو علم صدور خطاب إلزامي من الشارع واشتبه متعلّقه بين فعل هذا الشيء أو ترك ذاك الشيء ، كغسل يوم الجمعة وصلاة يوم الأضحى ، وكصوم يوم عرفة وصوم يوم العيد ، ومرجعه إلى اشتباه الخطاب الإلزامي المعلوم بالإجمال بين قوله : « افعل هذا » أو قوله : « لا تفعل ذاك ». وطريق الاحتياط في الأوّلين الجمع بين الخصوصيّتين أو النوعين ، ولا إشكال فيهما موضوعا من حيث كونهما معا من جزئيّات المسألة وهو دوران الأمر بعد ثبوت الوجوب بين الواجب وغير الحرام ، وحكما من حيث وجوب الاحتياط بمقتضى العلم الإجمالي.

وطريق الاحتياط في الأخير هو الالتزام بفعل ما يحتمل كونه واجبا وترك ما يحتمل كونه حراما ، وهذا موضع إشكال موضوعا ، لوضوح عدم اندراجه في جزئيّات المسألة ، وعدم ظهور اندراجه في جزئيّات الأبواب الاخر. وإن كان ربّما أمكن إرجاعه إلى الشكّ في التكليف الإلزامي بناء على جعله أعمّ من الشكّ في جنس التكليف كما في موارد أصل البراءة والشكّ في نوعه بعد العلم بجنسه وهو الإلزام المردّد بين كونه إيجابا أو تحريما. ولكنّه لا يخلو عن بعد.

وهل يلحق بجزئيّات المسألة حكما وهو وجوب الاحتياط أو لا؟ وجهان :

من وجود العلم الإجمالي المنجّز للتكليف. وقضيّة ذلك اشتغال الذمّة بالإلزام المعلوم بالإجمال ، وهو يقتضي وجوب الموافقة والخروج عن العهدة ، ولا يتمّ العلم به إلاّ بالاحتياط على الوجه المذكور.

ومن جريان أصل البراءة في كلّ من الفعلين بانفراده ، ففي محتمل الوجوب ينفي وجوبه ، وفي محتمل الحرمة ينفي حرمته ، فيجوز ترك الأوّل وفعل الثاني ، ويبقى الإلزام المعلوم بالإجمال بلا مورد فلا تؤثّر في منع المخالفة.

وربّما أمكن هنا وجه ثالث وهو الجمع بين العلم الإجمالي وأصل البراءة المقتضي لمراعاة المخالفة القطعيّة وطرح الموافقة القطعيّة بالتخيير بين فعل ما احتمل الوجوب أو

ص: 175

ترك ما احتمل الحرمة.

ولكنّ الحاسم لمادّة الإشكال هو استعلام حال العقل ، فإن جوّز العقاب على ترك الاحتياط على الوجه المذكور فلا محيض من التزام وجوبه دفعا للضرر المحتمل ، وإلاّ فالمتّجه جواز الأمرين.

ولا يبعد القول بأنّ بناء العقلاء في نحو الصورة المفروضة على عدم الالتزام بشيء من الفعل والترك حتّى يعلم نوع الخطاب بالتفصيل ، والمسألة بعد في ورطة الإشكال وإن كان الوجه الأخير لا يخلو عن قوّة.

الصورة الثالثة : ما لو اشتبه الواجب بغيره لشبهة حكميّة من جهة إجمال النصّ

الصورة الثالثة : ما لو اشتبه الواجب بغيره لشبهة حكميّة من جهة إجمال النصّ ، بأن يرد التكليف الوجوبي بأمر مجمل كما في قوله تعالى : ( فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ ) (1) لإجمال ذكر اللّه بين الظهر والجمعة ، وقوله تعالى : ( حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى ) (2) لإجمال الوسطى بين الظهر والعصر وغيرهما ، وما لو قيل : « إذا وطئت الحائض فكفّر بمثقال من العين » لإجمال « العين » بين الذهب والفضّة. والظاهر أنّ الخلاف المتقدّم آت هنا أيضا ، والمختار المختار من وجوب الاحتياط بالجمع بين الفعلين ، والدليل الدليل ، والظاهر عدم الفرق فيه بين كون الإجمال أصليّا أو طارئا من اختفاء البيان.

وتوهّم لزوم الإغراء بالجهل وتأخير البيان عن وقت الحاجة.

يدفعه : منع قبحه كما عرفت ، سيّما إذا كانت المصلحة الداعية إليه بعث المكلّف على الامتثال بطريق الاحتياط ليتكامل أجره ويتضاعف قربه ، والمخالف في المسألة بعض الأعلام (3) وقبله المحقّق الخوانساري (4) في ظاهر كلماته.

الصورة الرابعة : ما لو كان الاشتباه لتعارض النصّين وتكافؤهما

الصورة الرابعة : ما لو كان الاشتباه لتعارض النصّين وتكافؤهما ، كما في بعض مسائل القصر والإتمام ، قيل : المشهور هنا التخيير استنادا إلى أخبار التخيير (5) في العمل بالخبرين المتعارضين المترجّحة على أخبار الاحتياط ، لكونها أقوى منها سندا ودلالة.

وقيل : بالاحتياط استنادا إلى عدم تناول أخبار التخيير لنحو المقام ، بملاحظة قرائن في تلك الأخبار قاضية بأنّ الإمام عليه السلام إنّما حكم بالتخيير من باب الضرورة والإلجاء ، وتحقيق القول في ذلك موكول إلى محلّه فانتظره ، هذا كلّه في دوران الأمر بين المتبائنين.

ص: 176


1- الجمعة : 9.
2- البقرة : 238.
3- القوانين 2 : 37.
4- مشارق الشموس : 77.
5- انظر الوسائل 18 : 87 - 88 الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 39 و 40 و 41 و 44.

دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر

وأمّا إذا كان دائرا بين الأقلّ والأكثر فهو باعتبار كونهما استقلاليّين أو ارتباطيّين على قسمين : والمراد بالأوّل ما كان التكليف الأصلي والوجوب النفسي بالنسبة إلى الأقلّ معلوما بالتفصيل مع الشكّ فيه بالنسبة إلى الزائد. والمراد بالثاني ما كان التكليف الأصلي والوجوب النفسي مردّدا بين تعلّقه بالأقلّ أو بمجموع الأكثر ، سواء كان الإتيان بالأقلّ مجزئا عن نفسه كمنزوحات البئر أو لا كالصلاة ، ومرجع دوران الأمر بين الارتباطيّين إلى الشكّ في جزئيّة شيء للمكلّف به ، سواء كان جزءا خارجيّا كالاستعاذة قبل البسملة في الصلاة ، أو ذهنيّا كالخصوصيّة المأخوذة في المكلّف به المتولّدة عن شرط له أو قيد له كما في عتق الرقبة المؤمنة ، وقد جرت عادتهم بتسمية ذلك بالشكّ في الشرطيّة وتسمية الشكّ في الجزء الخارجي بالشكّ في الجزئيّة.

وينبغي إسقاط الاستقلاليّين عن البين ، لاتّضاح حكمه ممّا سبق في ذيل مباحث الشبهة الموضوعيّة من الشكّ في المكلّف به من اشتباه الواجب بغير الحرام ، إذ قد عرفت أنّ اشتباه المكلّف بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين ينحلّ إلى علم تفصيلي بالتكليف بالأقلّ وشكّ في التكليف بالزائد ، والحكم في كلّ منهما معلوم من حيث اقتضاء الأوّل لوجوب تحصيل البراءة بالنسبة إلى الأقلّ ، واقتضاء الثاني للرجوع إلى أصل البراءة بالقياس إلى الزائد.

دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين

اشارة

وأمّا الارتباطيّان فصور البحث فيه باعتبار كون الشبهة فيه قد تكون حكميّة لفقد النصّ أو إجماله أو تعارض النصّين ، وقد تكون موضوعيّة أربع :

الصورة الاولى : ما إذا كانت الشبهة حكمية لفقد النص المعتبر
اشارة

الصورة الاولى : ما إذا كانت الشبهة حكميّة لفقد النصّ المعتبر في المسألة ، والكلام فيها باعتبار كون الشبهة قد تكون للشكّ في الجزئيّة ، وقد تكون للشكّ في الشرطيّة يقع في مقامين :

المقام الأوّل : في الشبهة الناشئة عن الشكّ في الجزئيّة

المقام الأوّل : في الشبهة الناشئة عن الشكّ في الجزئيّة ، بأن تكون ناشئة عن الاختلاف بين العلماء في الجزئيّة كما في الاستغاذة قب ل- التسمية في الركعة الاولى ، لذهاب جماعة إلى الجزئيّة واخرى إلى نفيها.

وقد اختلف في وجوب الاحتياط هنا وعدمه على قولين ، إلاّ أنّ المعروف بين الأصحاب عدم وجوبه ، وقيل : إنّه المشهور بين العامّة والخاصّة المتقدّمين منهم والمتأخّرين ، والقول بوجوبه للوحيد البهبهاني في فوائده (1) وقبله المحقّق السبزواري (2) - على ما حكي - ولم يعرف عن غيرهما.

ص: 177


1- الفوائد الحائريّة : 441 - 442.
2- ذخيرة المعاد : 273.

نعم ربّما شاع في كلمات جمع التمسّك بطريقة الاحتياط ، إلاّ أنّه لم يظهر منهم كونه مذهبا لهم في المسألة الاصوليّة.

وكيف كان فمرجع البحث هنا إلى أنّ المرجع في نحو هذه الصورة هل هو الاحتياط أو البراءة؟ ويتكلّم في ذلك تارة من جهة العقل ، واخرى من جهة النقل.

أمّا الجهة الاولى : فقد يتخيّل أنّ الأصل العقلي من جهة قاعدة الاشتغال يقضي بوجوب الاحتياط ، فإنّ اشتغال الذمّة بالمكلّف به الواقعي المردّد بين الأقلّ والأكثر ثابت والعلم به حاصل يقينا ، وهو يقتضي العلم بالبراءة ، ولا يحصل إلاّ بمراعاة الأكثر والإتيان به الّذي لا يتمّ إلاّ بالإتيان بالجزء المشكوك فيه ، لأنّه القدر المتيقّن ممّا يحصل به الامتثال ، فيجب.

ويزيّفه : أنّ القدر المتيقّن ممّا يحصل به الامتثال إنّما يؤثّر في وجوب الاحتياط حيث لم يكن هناك قدر متيقّن ممّا ثبت فيه الاشتغال كما في المتبائنين ، ووجود القدر المتيقّن ممّا ثبت فيه الاشتغال فيما نحن فيه واضح وهو الأقلّ ، ضرورة اشتغال الذمّة به في الجملة ولو باعتبار كونه بعضا من المأمور به ، وهو ما دام موجودا مانع عن تأثير القدر المتيقّن ممّا يحصل به الامتثال في وجوب الاحتياط ، لرجوع الشكّ معه إلى اشتغال الذمّة بالجزء المشكوك فيه أيضا ، وأصل البراءة ينفيه ، ومرجعه إلى نفي العقاب المحتمل ترتّبه على مخالفة الواقع على تقدير كونه جزءا للمأمور به في الواقع ، ومعه لا مجرى لقاعدة الاشتغال ، لأنّ مقتضاه وجوب تحصيل العلم بالبراءة وهو أعمّ من العلم الشرعي ، وأصل البراءة النافي للعقاب علم شرعي ، لقضائه بجواز الاقتصار في امتثال الأمر على الأقلّ.

فإن قلت : إنّ الأصل العقلي المقتضي لوجوب الاحتياط ربّما أمكن إثباته من جهة قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل بالنظر إلى احتمال العقاب ، فإنّ العقاب على مخالفة الواقع على تقدير الجزئيّة في الواقع من فعله سبحانه ، وهو بالنظر إليه تعالى ممكن بالذات ، ومن حكم الممكن بالذات أن يصحّ صدوره من الفاعل القادر المختار ، وهذا احتمال للعقاب في الاقتصار على الأقلّ ، لجواز مصادفته مخالفة الواقع باعتبار اتّفاق ترك المأمور به الواقعي ، وهو احتمال للضرر الاخروي فيجب دفعه ، ولا يتأتّى إلاّ بمراعاة الأكثر.

قلت : كون الممكن بالذات من حقّه أن يصحّ صدوره من الفاعل المختار على إطلاقه ممنوع ، بل إنّما يكون كذلك ما لم يعرضه سبب الامتناع ، فإنّ الظلم مثلا بالنظر إلى ذاته تعالى ممكن بالذات ولا يصحّ وقوعه منه لما عرضه من سبب الامتناع وهو القبح العقلي ،

ص: 178

ففيما نحن فيه إنّما يصحّ وقوع العقاب على المخالفة منه تعالى إذا لم يكن فيه قبح عقلي ، فلابدّ لمدّعي الأصل العقلي من نفيه ، وأنّى له بذلك ، كيف والعقل مستقلّ بقبح مؤاخذة من امر بمركّب علم عدّة من أجزائه وشكّ في جزئيّة الشيء الفلاني أيضا ، واستفرغ وسعه وبذل جهده في طلب الدليل على جزئيّته فلم يقف عليه ، على وجه أحسّ من نفسه العجز واليأس عن الوقوف عليه ، ثمّ اقتصر في امتثال الأمر بالمركّب المذكور على الإتيان بأجزائه المعلومة وترك المشكوك فيه. ومرجعه إلى أنّ الجهل بجزئيّته مع العجز عن العلم بها عذر عقلي رافع للعقاب على المخالفة على تقديرها ، لقبحه في حكم العقل. ولا يتفاوت الحال في ذلك بين ما لو لم ينصب الآمر دلالة على الجزئيّة أصلا وبين ما لو نصبها ثمّ اختفت على المكلّف.

وبالجملة الجاهل بجزء المكلّف به الملتفت إليه العاجز عن العلم به يجري عند العقل مجرى الجاهل الغافل الغير الملتفت إليه أصلا ، وهما عنده يجريان مجرى الجاهل الغير الملتفت والجاهل الملتفت العاجز عن العلم بأصل التكليف في قبح العقاب على المخالفة.

لا يقال : هذا منقوض ببناء العقلاء على لزوم مراعاة الاحتياط في مسألة الشكّ في جزئيّة شيء للمأمور به في الأوامر العرفيّة والامور المتعلّقة بهم.

ألا ترى أنّه إذا أمر الطبيب المريض بشرب دواء مركّب عن أجزاء ، فشكّ المريض في جزئيّة شيء له ولم يترتّب على وجوده في الدواء ضرر فهو لا يزال مراعيا للاحتياط والإتيان بذلك الجزء المشكوك فيه أيضا ، بحيث لو تركه مع القدرة على إتيانه فصادف المخالفة كان ملوما عند نفسه وعند غيره.

لأنّا نمنع استقرار بناء العقلاء على الالتزام بالاحتياط فيما هو من قبيل محلّ البحث ، وما ذكر من مثال أمر الطبيب ليس منه ، لأنّ أوامر الطبيب إرشاديّة صرفة ولا يترتّب على موافقتها ثواب ولا على مخالفتها عقاب ، وليس الغرض إلاّ إحراز خاصيّة تترتّب على ذات الفعل المأمور به وهو البرء من المرض ، ففي صورة عدم الإتيان بالجزء المشكوك فيه يحتمل عدم ترتّب الخاصيّة وهو احتمال للضرر الدنيوي ولو باعتبار البقاء في المرض ، لأنّ الكون في المرض ضرر واحتماله احتمال عقلائي ، ولا شبهة في أنّ بناءهم في نحو ذلك على مراعاة الاحتياط بما يدفع هذا الضرر المحتمل ، وكلامنا في الأوامر الشرعيّة الّتي يقصد بها الإطاعة والموافقة فيترتّب على موافقتها الثواب وعلى مخالفتها العقاب. واحتمال

ص: 179

العقاب في صورة احتمال المخالفة احتمال للضرر الاخروي ، وإذا استقلّ العقل بنفي العقاب لقبحه عنده فيما نحن فيه فلا يحتمل معه ضرر اخروي ليجب دفعه ، فلا مجرى لقاعدة دفع الضرر حينئذ ، وليس في بناء العقلاء في نحو هذا الفرض ما ينافي ذلك.

وإن شئت لاحظ أمر المولى عبده بمركّب ذي أجزاء ، حيث إنّ العبد إذا شكّ في جزئيّة شيء ليس ملتزما بمراعاة الجزء المشكوك فيه إذا عجز عن العلم بها ، وإذا اقتصر على القدر المعلوم من أجزاء المركّب وصادف مخالفة الواقع لم يكن مذموما ولا مستحقّا للمؤاخذة ولم يصحّ للمولى أيضا مؤاخذته.

فإن قلت : إنّ الأوامر الشرعيّة مع اشتمالها على جهة المولويّة المقتضية للثواب والعقاب على الموافقة والمخالفة مشتملة على جهة الإرشاد أيضا ، بناء على ما عليه العدليّة من كونها تابعة للمصالح النفس الأمريّة الكامنة في الفعل المأمور به ، ولذا يقال : إنّها ذو وجهتين ، فمن حيث اشتمالها على جهة المولويّة وإن لم يكن قاعدة وجوب دفع الضرر في صورة الشكّ في الجزء جارية لدفع احتمال العقاب على المخالفة ، لانتفاء احتماله بواسطة حكم العقل بقبحه ، إلاّ أنّه لا يلزم من ذلك عدم جريانها لدفع احتمال الضرر الدنيوي المترتّب على ترك المأمور به باعتبار اشتماله على مصلحة في الفعل ومفسدة في الترك ، والاقتصار على الأقلّ مع الشكّ في الجزئيّة يوجب احتمال هذا الضرر فيجب دفعه ، على ما ذكرت من جريان القاعدة حيث احتمل الضرر الدنيوي.

قلت أوّلا : إنّ ما يترتّب على ترك المأمور به إنّما هو فوت المصلحة لا وجود المفسدة ، واحتمال فوت المصلحة كاحتمال فوت المنفعة ليس في بناء العقلاء على حدّ احتمال الضرر ليجب دفعه كما هو واضح.

وثانيا : على فرض تسليم احتمال المفسدة في الترك الراجع إلى احتمال الضرر الدنيوي فهو احتمال ضرر لا يعتني بشأنه العقلاء ، ولا يوجبون دفعه ليفرّع عليه وجوب الاحتياط بمراعاة الجزء المشكوك فيه كما لا يخفى.

وثالثا : إنّ الإتيان بالأقلّ بداعي الإطاعة وامتثال الأمر مع التعويل على الأصل الشرعي المعوّل عليه في نفي الزائد ، يتضمّن من المصلحة ما يتدارك به ما فات من مصلحة الفعل أو ما لزم من مفسدة الترك.

فإن قلت : إنّ الجهة الباعثة على إيجاب الواجبات هي اللطف ، ولذا اشتهر بين العدليّة أنّ

ص: 180

الواجبات الشرعيّة ألطاف في الواجبات العقليّة ، فاللطف إمّا مأمور به حقيقة أو غرض للآمر.

وأيّا ما كان فلابدّ من إحرازه ولا يكون إلاّ بإتيان كلّ ما شكّ في مدخليّته.

قلت : الإيجاب في جميع الواجبات الشرعيّة الّذي هو عبارة عن طلب الفعل المقرون بمبغوضيّة الترك الّذي هو مدلول الخطاب اللفظي المأخوذ في وضع صيغة الأمر مسبوق بوجوبها العقلي ، وهو كونها بحيث يستحقّ تاركها الذمّ كما عليه مذهب العدليّة ، وأشار إليه الشيخ في العدّة في مسألة إثبات النسخ بقوله : « الشيء لا يجب بإيجاب موجب ، وإنّما يجب بصفة هو عليها تقتضي وجوب ذلك الشيء ، وإنّما يدلّ إيجاب الحكم على أنّ له صفة الوجوب لا بأن يصير واجبا بإيجابه ، لأنّ ايجاب ما ليس له صفة الوجوب يجري في القبح مجرى إيجاب الظلم والقبيح ». انتهى (1).

وحيث إنّ الغرض من الإيجاب المسبوق بالوجوب العقلي دلالة المكلّف على الوجوب العقلي الّذي لا يستقلّ بإدراكه العقل كما في أكثر الواجبات العقليّة ، فاللطف صفة فيه لا في الفعل الواجب ، ولذا صار أصحابنا الإماميّة وأكثر المعتزلة من العامّة في مسألة وجه العبادة - بعد ما اتّفق الفريقان الأشاعرة والمعتزلة على أنّه بحسب المفهوم عبارة عن السبب الباعث على إيجاب الواجب وندب المندوب - إلى أنّه بحسب المصداق عبارة عن اللطف الواجب على اللّه تعالى في الواجبات العقليّة الّتي لا يستقلّ بإدراك وجوبها العقل والمندوب في غيرها ، على معنى أنّ الإيجاب بنفسه لطف ، لأنّه يقرّب العبد إلى موافقة الوجوب العقلي في الواجبات العقليّة ويبعّده عن مخالفته ، وهذا هو معنى قولهم : « التكليفات السمعيّة ألطاف في الواجبات العقليّة » وقد يعبّر عنه : « بأنّ الواجبات الشرعيّة ألطاف في الواجبات العقليّة » ، ومعناه كون الواجب الشرعي لو صفه العنواني لطفا لا لذاته.

وبالجملة اللطف مصلحة في الإيجاب الّذي هو من فعل الشارع لا في الواجب الّذي هو فعل المكلّف ، فلم يتعلّق بالمكلّف لطف لا بعنوان كونه مأمورا به ولا بعنوان كونه غرضا من الأمر ليجب عليه إحرازه ، فلا مقتضي في اللطف لوجوب الإتيان بكلّ ما يشكّ في مدخليّته في المأمور به أصلا.

وقد يتمسّك لإثبات وجوب الإتيان بالأكثر وكلّما يشكّ في مدخليّته باستصحاب الأمر والاشتغال ، إذ على تقدير الاقتصار على الأقلّ يشكّ في ارتفاعهما والأصل يقتضي البقاء ،

ص: 181


1- العدّة 2 : 508.

وهو يقتضي وجوب مراعاة الأكثر.

ويزيّفه : انتفاء الشكّ اللاحق إن اريد به الأمر بالأقلّ ، وانتفاء اليقين السابق إن اريد به الأمر بالأكثر. وإن اريد به استصحاب الأمر والاشتغال المعرّى عن الخصوصيّتين وقيدي كونه بالأقلّ أو بالأكثر ففيه - مع ابتنائه على القول باستصحاب القدر المشترك وفيه كلام : أنّه يندفع بارتفاع موضوعه بسبب ورود أصل آخر عليه وهو أصالة عدم تعلّق الأمر بالأكثر.

وتوهّم كونه معارضا بأصالة عدم تعلّق الأمر بالأقلّ ، يندفع : بأنّ تعلّقه بالأقلّ متيقّن فلا يمكن نفيه بالأصل ، والشكّ في تعلّقه بالزائد ، لما عرفت من أنّ دوران المكلّف به بين الأقلّ والأكثر ينحلّ إلى علم تفصيلي بتعلّق التكليف بالأقلّ وشكّ في تعلّقه بالزائد ، والأصل النافي لتعلّقه به ممّا لا معارض له أصلا.

ويعلم السرّ في ذلك بمراجعة ما بيّنّاه في بحث مقدّمة الواجب عند منع مقدميّة جزء الواجب له ، من أنّ وجود الكلّ لا يغاير بالذات وجودات أجزائه ، بل وجوده عين مجموع وجودات أجزائه ، وحينئذ فإذا أمر بالكلّ كان المقصود منه إيجاده الّذي هو إيجادات أجزائه ، وهذا الأمر إنّما تعلّق في الحقيقة بإيجادات الأجزاء ، وإذا شكّ في جزئيّة شيء آخر له كان مرجعه إلى الشكّ في كون إيجاد هذا الشيء أيضا من جملة الإيجادات الّتي مجموعها عين إيجاد الكلّ ، وهو يوجب الشكّ في تعلّق الأمر المفروض بإيجاد ذلك الشيء وعدمه والأصل ينفيه ، فانحصر الأمر النفسي المفروض فيما تعلّق بالأقلّ - أعني إيجادات الأجزاء المعلومة -.

وبما صوّرناه اندفع أيضا شبهة عدم إمكان قصد القربة المعتبر في صحّة العبادة إذا كان المكلّف به من العبادات ، فإنّ الأمر الموجود في الأقلّ أمر نفسي فيقصد بإتيانه امتثاله والتقرّب به.

ودعوى أنّ الأمر بالنسبة إليه مردّد بين النفسي والغيري ، فإن قصد القربة بامتثال الأوّل فهو غير معلوم وإن قصدت بامتثال الثاني فهو غير كاف في النيّة المعتبرة في العبادة ، لأنّ الإتيان بالواجب الغيري غير مقرّب.

يدفعها : أنّه لا مقدميّة للأقلّ على تقدير كون المكلّف به الواقعي هو الأكثر ، فلم يتحقّق بالنسبة إليه أمر غيري مقدّمي ، بل ليس فيه إلاّ أمر نفسي سواء كان بحسب الواقع متعلّقا بالزائد أيضا أو لا ، فيمكن قصد امتثاله وهو بعد نفي تعلّقه بالزائد بالأصل مقرّب لا محالة ،

ص: 182

ولا حاجة مع ذلك في دفع الإشكال إلى تكلّف القول بأنّه يكفي في إحراز النيّة المعتبرة في العبادة قصد التخلّص من النار ، وهو على ما قرّر في محلّه إحدى الغايات المقصودة في العبادات الكافية في صحّتها كما صنعه بعض مشايخنا ، مع أنّه عند التحقيق مخدوش بأنّ قصد التخلّص من النار عند الإتيان بشيء ممّا لا يتأتّى إلاّ بعد إحراز الأمر النفسي في المأتيّ به ، فإن كان محرزا في الأقلّ وكما يتأتّى قصد التخلّص فكذلك يتأتّى قصد القربة وقصد الامتثال الموجب لها ، وإن لم يكن محرزا فكما لا يتأتّى قصد القربة فكذلك لا يتأتّى قصد التخلّص ، فالإشكال على حاله إلاّ بأن يلتزم وجود الأمر النفسي في الأقلّ ومعه لا فرق ولا حاجة إلى تكلّف أصلا.

وأمّا الجهة الثانية : فالظاهر بل المقطوع أنّ أخبار البراءة المتقدّمة في الشبهة الحكميّة من الشكّ في التكليف كلّها آتية هنا ، ضرورة أنّ وجوب الأكثر الّذي مرجعه إلى وجوب الزائد على الأقلّ بعد العلم التفصيلي بوجوبه على وجه يترتّب العقاب على المخالفة على تقدير جزئيّة الزائد في الواقع ممّا حجب علمه عن المكلّف ، وأنّه ما لا يعلمه ، فيندرج في عموم قوله عليه السلام : « ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم (1) » و « رفع عن امّتي تسعة » - ومنها - « ما لا يعلمون (2) » و « الناس في سعة ما لم يعلموا (3) » فيكون موضوعا ومرفوعا عنهم ، سواء فسّر الرفع برفع المؤاخذة خاصّة أو رفع الآثار الشرعيّة الّتي منها المؤاخذة ، ويكونون في سعة عن العقاب والمؤاخذة. والمراد بالمؤاخذة والعقاب المنفيّين بهذه الأخبار العقاب على ترك المأمور به الواقعي اللازم من الإخلال بالجزء المستندة إلى جهل المكلّف بجزئيّته فلا يرد أنّ الجزء لا يترتّب على الإخلال به من حيث هو عقاب ولو كانت جزئيّته ثابتة معلومة بالتفصيل فكيف يضاف إليه نفي العقاب والمؤاخذة.

ولو فرضنا عدم حكم العقل بمرجعيّة البراءة في مسألة الشكّ في الجزئيّة كان النقل من جهة الأخبار المذكورة كافيا في إثباتها ، لأنّ غاية ما يسلّم من العقل حينئذ إنّما هو تجويز العقاب على المخالفة ، على معنى أنّه ممّا لا ضير فيه ولا قبح على الشارع من جهته ، لا لزومه ووقوعه لا محالة ، ومؤدّى الأخبار المذكورة أنّ الشارع لا يعاقب عليها. ومن الظاهر أنّ نفي العقاب شرعا لا ينافي جوازه عقلا ، لأنّ مرجعه إلى عدم قبحه عقلا الموجب لامتناعه ، ومرجع نفيه إلى نفي وقوعه فعلا فلا تعارض ، كيف وقد عرفت حكم

ص: 183


1- الكافي 1 : 164 ، ح 3.
2- التوحيد : 353 ، ح 24.
3- عوالي اللآلئ 1 : 424 ، ح 109.

العقل بقبحه فهو مع الشرع متطابقان.

ومن الفضلاء من توهّم عدم تناول عموم أخبار البراءة لما نحن فيه بقوله : « لا نسلّم حجب العلم في المقام ، لوجود الدليل على وجوب الأكثر وهو أصالة الاشتغال في الأجزاء والشرائط المشكوكة ».

ثمّ قال : « لأنّ ما كان لنا إليه طريق في الظاهر لا يصدق في حقّه الحجب قطعا ، وإلاّ لدلّت هذه الرواية على عدم حجّيّة الأدلّة الظنّية كخبر الواحد وشهادة العدلين وغيرهما » قال : « ولو التزم تخصيصها بما دلّ على حجّيّة تلك الطرق تعيّن تخصيصها أيضا بما دلّ على حجّيّة أصالة الاشتغال من عمومات أدلّة الاستصحاب ووجوب المقدّمة العلميّة.

ثمّ قال : والتحقيق التمسّك بهذه الأخبار على الحكم الوضعي وهي الجزئيّة والشرطيّة » انتهى (1).

وهذا كما ترى كلام ظاهريّ لا محصّل له ، إذ لا كلام في أنّ أصالة الاشتغال على تقدير جريانها طريق ظاهري لا يرجع معه إلى أصالة البراءة ولا العمومات الدالّة عليها ، وضابط جريانها العلم الإجمالي بالتكليف مع اشتباه المكلّف به وتساوي نسبته المعلوم بالإجمال إلى الطرفين ، بأن لا يكون أحدهما القدر المتيقّن من مورد التكليف كما في المتبائنين. وحينئذ لا معنى لأصالة البراءة لأنّه إمّا أن يقصد باعماله نفي الواقع أو نفي طرفيه أو نفي أحدهما على التعيين أو على التخيير ، والأوّل محال بالفرض ، وكذلك الثاني حذرا عن المخالفة القطعيّة ، بل الثالث أيضا لاستحالة الترجيح بلا مرجّح ، والرابع ليس من محتملات المقام لعدم دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، فلا محيص من الرجوع إلى أصالة الاشتغال. وليست الحال في مسألة دوران المكلّف به بين الأقلّ والأكثر كذلك ، لعدم تساوي نسبته إلى طرفيه ، لوجود القدر المتيقّن الموجب لانحلال الأمر إلى علم تفصيلي وشكّ تفصيلي ، فلا مجرى لأصالة الاشتغال بالنسبة إلى القدر الزائد المشكوك فيه. فلا يلزم من الرجوع إلى أصل البراءة والعمل على الرواية الواردة فيه طرح شيء من الطرق الظاهريّة إلى وجوب الأكثر ، ولا يلزم بذلك دلالة الرواية على عدم حجّيّة الأدلّة الظنّية لأنّها حيثما وجدت كان دليل حجّيتها حاكما على الرواية وغيرها من أدلّة أصل البراءة ، فلا يجري فيه الأصل ولا يتناوله عموم دليله ، كما هو كذلك حيث كانت أصالة الاشتغال جارية ، فلا يتفاوت الحال حينئذ بين التمسّك بهذه الأخبار على نفي الحكم الوضعي وهو

ص: 184


1- الفصول : 51.

الجزئيّة والشرطيّة والتمسّك بها على نفي الحكم التكليفي ، وهو تعلّق الوجوب النفسي بالزائد على وجه أوجب الإخلال به ترتّب العقاب على مخالفة الواقع ، كما يوجب الإخلال بالأقلّ ترتّبه عليها. بل نفي الحكم الوضعي ممّا ليس له معنى محصّل ما لم يكن آئلا إلى نفي الحكم التكليفي ، بناء على ما هو المحقّق ، من عدم مجعوليّة الأحكام الوضعيّة ، وإنّما هي امور اعتباريّة انتزاعيّة تنتزع من الأحكام التكليفيّة.

وقد يمنع التمسّك بعموم هذه الأخبار بدعوى ظهورها في نفي الوجوب النفسي المشكوك فيه ، وعدم جريانها في الشكّ في الوجوب الغيري كما فيما نحن فيه.

وهذا أيضا في الضعف كسابقه ، إذ قد عرفت سابقا أنّ الوجوب الغيري ممّا لا معنى له في جزء الواجب ، بل لا يضاف إليه باعتبار جزئيّته من الوجوب إلاّ الوجوب النفسي المتعلّق بإيجاد الكلّ الّذي هو عين إيجادات أجزائه ، فهو بحيث يلزم من الإخلال بكلّ جزء مخالفته الّتي يترتّب عليها العقاب ، فالشكّ في وجوب الجزء المشكوك في جزئيّته معناه الشكّ في الوجوب النفسي المتعلّق بالكلّ بالفرض باعتبار تعلّقه بذلك المشكوك في جزئيّته وعدمه ، وهو الوجوب الّذي نفته الأخبار باعتبار ذلك ، ومعنى نفيه نفي العقاب المترتّب على مخالفته اللازمة من الإخلال بالمشكوك فيه على تقدير جزئيّته في الواقع.

وربّما اورد أيضا : بأنّ أصل البرائة وإن كان يجري في جانب الأكثر وينفي اعتبار الزائد في المأمور به ، إلاّ أنّه لا ينتج كون الأقلّ مأمورا به إلاّ على القول بالاصول المثبتة وهو باطل. فوجب الإتيان بالأكثر تحصيلا لفراغ الذمّة ، فإنّ العلم الإجمالي بالمكلّف به بعد العلم التفصيلي بالتكليف يقتضي تحصيل فراغ الذمّة الشرعي أو اليقيني ، والأوّل متعذّر لعدم وفاء الأصل بإثبات كون الأقلّ هو المأمور به واقعا ، فتعيّن الثاني ولا يتأتّى إلاّ بالإتيان بالأكثر ، نظير ما مرّ في الشبهة المصداقيّة من دوران المكلّف به بين الأقلّ والأكثر ، كما في الأمر بصوم شهر رجب إذا اشتبه يوم الثلاثين بين كونه آخر رجب أو أوّل شعبان لعدم رؤية الهلال لغيم أو غيره من الموانع ، فيدور المأمور به بين تسعة وعشرين أو ثلاثين يوما ، حيث إنّ الحكم في ذلك على ما عرفت هو الإتيان بصوم اليوم المشكوك فيه تحصيلا للواقع ، فكذا الحال فيما نحن فيه لاتّحاد الطريق.

والجواب عن ذلك بوجهين :

أحدهما : النقض بأصل الاشتغال الّذي هو المرجع في التزام الأكثر ، فإنّه أيضا لا ينتج

ص: 185

كون الأكثر مأمورا به إلاّ على القول بالاصول المثبتة ، فإن صلح ذلك لإثبات كون الأكثر مأمورا به فلابدّ وأن يصلح أصل البراءة أيضا لإثبات كون الأقلّ مأمورا ، به وإن لم يصلح أصل البراءة لإثبات ذلك بناء على بطلان القول بالاصول المثبتة فلابدّ وأن لا يصلح أصل الاشتغال أيضا لذلك.

فلو قيل : إنّ أصل الاشتغال وإن كان لا ينتج كون الأكثر بالخصوص مأمورا به إلاّ أنّه طريق بسلوكه يحصل الفراغ اليقيني ، لأنّ الأكثر المأتيّ به إمّا أن يكون هو المأمور به في الواقع أو أنّ المأمور به الواقعي مندرج فيه.

وأيّا ما كان فيحصل به فراغ الذمّة ، بخلاف أصل البراءة فإنّه طريق لا يحصل بسلوكه الفراغ اليقيني عن الواقع.

لقلنا : إنّ كلاّ من الأصلين في مجراه طريق سلوكه يؤثّر في فراغ الذمّة ، إلاّ أنّ أصل البراءة يوجب الفراغ الشرعي وأصل الاشتغال يوجب الفراغ اليقيني.

ودعوى أنّ أصل البراءة لا يوجب الفراغ الشرعي أيضا حيث لا ينتج كون الأقلّ هو المأمور به.

يدفعها : أنّه إنّما لا ينتج كونه المأمور به الواقعي ، ولا حاجة إلى إحرازه في تحصيل الفراغ الشرعي وإلاّ لم يكن شرعيّا ، بل يكفي كونه المأمور به الظاهري الشرعي ، لأنّه ينفي وجوب الزائد في الظاهر ، فينحصر المأمور به في الظاهر في الأقلّ ، والإتيان به حينئذ تعويلا على أصل البراءة تحصيل للفراغ الشرعي ، ولا يجب معه مراعاة الفراغ اليقيني لأنّ الشرعي قائم مقام الواقعي. ومقايسة ما نحن فيه على الشبهة المصداقيّة والمثال المذكور فيها باطلة ، لوجود الفارق بين المقامين ، وهو أنّ المأمور به ثمّة عنوان منضبط واقعي مردّد بين حصوله بالأقلّ أو عدم حصوله إلاّ بالأكثر وهو صوم شهر رجب.

ولا ريب أنّ الاشتغال اليقيني بالعنوان المذكور يقتضي إحرازه تحصيلا للفراغ ، ولا يتأتّى ذلك إلاّ بمراعاة صوم اليوم المشكوك فيه أيضا بخلاف ما نحن فيه ، فإنّ الأمر وارد هنا بمركّب مردّد بين كون أجزائه تسعة مثلا أو عشرة بحيث لو كانت تسعة لصدق عليها اسم ذلك المركّب من غير أن يكون الشكّ في الزائد موجبا للشكّ في صدق ذلك الاسم ولا في صدق عنوان آخر هو المأمور به ، كما في منزوحات البئر ، وكالصلاة إذا شكّ في جزئيّة السورة بعد ثبوت جزئيّة النيّة والتكبيرة وقراءة الفاتحة والركوع والسجود

ص: 186

والتشهّد والتسليمة ، ضرورة صدق اسم الصلاة عليها بدون السورة ومعها ، ولذا ذكرنا سابقا أنّ اللازم من الفرض انحلال الأمر إلى علم تفصيلي وشكّ تفصيلي ، فيرفع الشكّ بالأصل ويقتصر على الأجزاء المعلومة بالتفصيل تعويلا على الفراغ الشرعي المأذون في الاكتفاء به شرعا عن الفراغ اليقيني.

وثانيهما : الحلّ ، بأنّ المقتضي لكون الأقلّ مأمورا به إنّما هو الأدلّة المثبتة للأجزاء المعلومة ، والأصل إنّما يتمسّك به لنفي اعتبار الزائد ، وهو قيد عدمي ولا كلام لأحد في أنّ الأصل يثبته ، فيثبت بمجموع الأدلّة المذكورة مع انضمام الأصل أنّ المأمور به هو الأقلّ لا غير ، وهذا ينحلّ إلى أمر وجودي يثبته الأدلّة وأمر عدمي يثبته الأصل ، فيحصل الفراغ عن الاشتغال بسبب الإتيان بالأقلّ فراغا شرعيّا قائما مقام الفراغ الواقعي.

المقام الثاني : في الشبهة الناشئة عن الشكّ في الشرطيّة

المقام الثاني : في الشبهة الناشئة عن الشكّ في الشرطيّة للاختلاف الواقع بين العلماء في شرطيّة شيء للمأمور به.

وليعلم أوّلا : أنّ أجود تفاسير الشرط هو أنّ شرط الشيء ما كان مقارنا بذلك الشيء ، تفسيرا للشيء بلازمه ، لما استظهر من أدلّة الشروط من اعتبار مقارنة الشرط لتمام المشروط من أوّله إلى آخره. وبذلك ربّما يستظهر كون النيّة المعتبرة في العبادة شرطا لا جزءا ، لما استفيد من أدلّة النيّة من اعتبار مقارنتها لتمام العبادة ، وعليه مبنى اشتراط الاستدامة الحكميّة فيها على القول بالإخطار. ومنه علم أنّ إطلاق الشرط على الوضوء للصلاة مسامحة من تسمية السبب باسم المسبّب ، لكونه من قبيل الفعل الغير القارّ بالذات فيستحيل مقارنته الصلاة ، بل الشرط هو الأثر الحاصل منه وهو الحالة القائمة بالمكلّف المعبّر عنها بالطهارة. وكذا الكلام في الاستقبال وستر العورة وغير ذلك من الشروط الّتي تنشأ من أفعال خاصّة هي أسباب لها ، فالوضوء حينئذ سبب لشرط الصلاة لا أنّه بنفسه شرط.

فإذا شكّ في شرطيّة شيء للمأمور به كالطهارة عن الحدث لصلاة الميّت أو عن الخبث لها أو للصوم مثلا ، فالمرجع فيه أيضا كالشكّ في الجزئيّة هو أصل البراءة من جهة العقل والنقل.

أمّا الأوّل : فلأنّ الجهل بشرطيّة شيء للمأمور به يجري عند العقل مجرى الجهل بجزئيّة شيء له ، فالجاهل بها معذور على تقدير اتّفاق مخالفة الواقع اللازمة من الإخلال بالشرط المجهول ، لقبح العقاب والمؤاخذة عليها عقلا.

وأمّا الثاني : فلأنّ اشتراط المأمور به بالشرط المجهول في موضع تعذّر العلم به على وجه

ص: 187

يؤثر الإخلال - على تقدير الشرطيّة في الواقع - في العقاب والمؤاخذة على مخالفة الواقع ممّا حجب علمه عن المكلّف فيكون موضوعا أو مرفوعا عنه ، على معنى رفع المؤاخذة.

ولك أن تقرّر الأصل في الفعل الّذي هو منشأ لحصول الشرط كالوضوء مثلا فتقول : إنّ التكليف بالوضوء على وجه يترتّب بسبب الإخلال به المؤاخذة والعقوبة على المخالفة اللازمة من انتفاء الشرط على تقدير شرطيّته في الواقع ممّا حجب علمه عن المكلّف فيكون موضوعا ومرفوعا - أي رفع المؤاخذة المذكورة - وهذا ممّا لا إشكال فيه.

نعم ربّما يشكل الحال في أنّ الشرط قد يكون قيدا في المأمور به كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة ، وقد يكون في متعلّق المأمور به كالإيمان في الرقبة عند الأمر بعتقها مع الشكّ في شرطيّة الإيمان ، ولا كلام في كون المرجع في الأوّل هو البراءة. وربّما يتأمّل في الثاني لدوران المكلّف به بين المطلق ونفس المقيّد وليس بينهما مشترك يكون القدر المتيقّن من متعلّق التكليف لكون المطلق أحد طرفي الترديد والجنس الموجود في ضمن المقيّد لا ينفكّ عن الفصل فيكونان من قبيل المتبائنين ، بخلاف الأوّل للعلم بثبوت التكليف بالصلاة وكون الشكّ في التكليف بالطهارة وينفيه أصل البراءة.

وفيه : أنّ الشرط إذا كان قيدا فمرجع الشكّ فيه في القسم الأوّل أيضا إلى دوران المكلّف به بين المطلق ونفس المقيّد ، فوجب أن لا يجري فيه الأصل أيضا.

والتحقيق : أنّ هذا الدوران لا يمنع عن جريانه في شيء من القسمين ، لأنّ التكليف بصلاة مّا وعتق رقبة مّا متيقّن ، والشكّ إنّما هو في اشتراط المكلّف به بالطهارة وإيمان الرقبة فالأصل البراءة عنه على معنى البراءة عن المؤاخذة والعقاب المترتّبين على المخالفة اللازمة من الإخلال بالشرط على تقدير شرطيّته ، للجهل بها.

نعم يمكن الفرق بين القسمين بأنّ امتثال التكليف بالمكلّف به المشروط في نحو القسم الأوّل يقتضي الالتزام بإيجاد شيئين :

أحدهما : إيجاد الشرط بالإتيان بمنشائه وسببه.

والآخر : الإتيان بالفعل مقرونا بالشرط الموجود.

فالتكليف المذكور ينحلّ إلى تكليفين ، والقدر المتيقّن منهما في محلّ الشكّ في الشرطيّة هو التكليف بأصل الفعل والتكليف بإيجاد الشرط مشكوك فيه وينفيه الأصل ، بخلاف القسم الثاني فإنّ امتثال التكليف في نحوه لا يقتضي إلاّ إيجاد شيء واحد ، وهو

ص: 188

الاتيان بالفعل مقرونا بالشرط الموجود في الفرد من متعلّق المأمور به ، فالتكليف المذكور لا ينحلّ إلى تكليفين ليكون أحدهما في موضع الشكّ في الشرطيّة متيقّنا والزائد مشكوكا حتّى ينفي بالأصل ، فمرجع الشكّ فيه في الحقيقة إلى الشكّ في التعيين والتخيير ، لأنّ ثمرة مقابلة المطلق للمقيّد في مثال عتق الرقبة وعتق الرقبة المؤمنة إنّما يظهر فيما لو أتى بالماهيّة في ضمن فردها الآخر غير المقيّد ، كما لو أعتق الكافرة فهل يبرأ ذمّته أو لا يبرأ إلاّ بعتق المؤمنة؟ فالتكليف اليقيني ثابت والمكلّف به مشتبه مع انتفاء القدر المتيقّن ممّا تعلّق به التكليف لينفى الزائد بالأصل ، ووجود القدر المتيقّن ممّا حصل به البراءة وهو المقيّد فيجب العمل به تحصيلا ليقين البراءة ، وهذا هو الفارق بين القسمين في كون المرجع في الأوّل هو البراءة وفي الثاني هو الاشتغال.

ويؤيّده : أنّ البراءة أصل وضعه الشارع لرفع كلفة عن المكلّف لم يعلم كونها عليه ، ولا ريب أنّ الاشتراط في القسم الأوّل يتضمّن كلفة زائدة على الكلفة الحاصلة من جهة التكليف بأصل الفعل بخلاف القسم الثاني ، فإنّ عتق المؤمنة لا يزيد كلفة على عتق الكافرة.

هذا ولكنّ الّذي يهوّن الخطب ويسهّل الأمر في عدم الفرق هو القطع بجريان أصل البراءة في اشتراط المكلّف به بالطهارة والإيمان بعد العلم بالتكليف بصلاة مّا وعتق رقبة مّا ، على معنى البراءة عن العقاب المحتمل ترتّبه على تقدير اتّفاق مخالفة الواقع بسبب الاخلال بالشرط المجهول ، والقسمان من هذه الجهة سيّان.

وما ذكر من وضع أصل البراءة لرفع الكلفة مسلّم ، لكنّ الكلفة أعمّ من الكلفة الجسمانيّة والكلفة النفسانيّة ، والتعيين تضييق لدائرة الامتثال على المكلّف ، وفيه من الكلفة النفسانيّة ما لا يخفى ، بخلاف التخيير الّذي هو في معنى التوسعة وفي قوله عليه السلام « الناس في سعة ما لم يعلموا (1) » إشارة إلى هذا المعنى ، وما قرع سمعك من أنّ المرجع في مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير هو أصل الاشتغال على الأقوى فإنّما هو في التخييرات الشرعيّة ، كما لو ثبت وجوب شيء معيّن في الجملة وشكّ في كونه على التعيين أو على التخيير بينه وبين شيء آخر.

وحينئذ فلا مناص من الاتيان بذلك المعيّن لأنّه القدر المتيقّن ممّا تعلّق به التكليف ويحصل به الامتثال ، فالعقل يجوّز العقاب على مخالفة الواقع المحتمل لزومها على تقدير

ص: 189


1- عوالي اللئالي 1 : 424 ، ح 109.

الإتيان بغيره ، فلا يجوز الاقتصار عليه بحكم قاعدتي الاشتغال ووجوب دفع الضرر المحتمل ، المعتضدتين بأصالة عدم تعلّق الوجوب به أصلا بعد اليقين بتعلّقه بالأوّل ، وكون التعيين ممّا يتضمّن ضيقا - يشكّ فيه والأصل براءة الذمّة عنه ، كما عليه مبنى القول بأصالة التخيير - إنّما يسلّم حيث لا مقتضي لوجوب الالتزام بالضيق المشكوك فيه ، وقد عرفت مقتضى الأصل والقاعدتين.

هذا كلّه في الشرط وعلى قياسه المانع ، فإذا شكّ في مانعيّة شيء لصحّة العبادة للاختلاف الواقع بين العلماء من غير نصّ ، فالكلام في جريان أصل البراءة لنفيها كالكلام في الشكّ في الشرطيّة نعلا بنعل وقذّا بقذّ ، فإنّ المانع أيضا كالشرط من قيود المكلّف به.

غاية الأمر أنّ المعتبر في الشرط هو وجوده وفي المانع عدمه ، وكما يعتبر المقارنة لتمام العمل في القيد الوجودي فكذلك يعتبر في القيد العدمي ، فمرجع المانعيّة إلى ترتّب العقاب على المخالفة اللازمة من الإخلال بالقيد العدمي ، والأصل في موضع الشكّ براءة الذمّة عنه.

وكذا الكلام في القاطع وهو ما كان وجوده مخلاّ بالهيئة الاتّصاليّة المعتبرة في المأمور به من دون أن يكون عدمه من قيوده ، كالضحك والبكاء للدنيا وقول آمين عقيب الفاتحة ، وفعل يسير لا يمحو صورة الصلاة ، والتكفير ، فلو شكّ في قاطعيّة شيء فأصل البراءة ينفي العقاب المحتمل ترتّبه على ترك المأمور به اللازم من الإخلال بالهيئة الاتّصاليّة المعتبرة فيه بوجود ذلك الشيء ، ومرجعه إلى ترتيب آثار عدم القاطعيّة ، وقد يتمسّك لذلك باستصحاب الصحّة وهو عندنا ممّا لا يرجع إلى محصّل ، إذ الصحّة المستصحبة وصف عرضي لابدّ له من موضوع يقوم به ، فإمّا أن يراد بها صحّة الأجزاء السابقة ، أو صحّة الأجزاء اللاحقة ، أو صحّة مجموع الأجزاء السابقة والأجزاء اللاحقة وهو الكلّ.

والأخير باطل إذ الكلّ حين وقوع ما يشكّ في قاطعيّته غير متحقّق ليحكم بصحّته للاستصحاب ، ولو فرض إعماله بعد الإتيان بالأجزاء اللاحقة ، ففيه : عدم كون بقاء موضوع المستصحب محرزا ، لأنّ الهيئة الاتّصاليّة جزء من المأمور به ولا يعلم حصولها مع وجود ما يشكّ في قاطعيّته.

وكذلك الثاني لانتفاء الحالة السابقة المعبّر عنها باليقين السابق ، لأنّ الأجزاء اللاحقة إنّما يصحّ على تقدير ارتباطها بالأجزاء السابقة ، وهو بتخلّل ما ذكر بينهما محلّ الشكّ ،

ص: 190

فالصحّة في الأجزاء اللاحقة غير متيقّنة حتّى يمكن استصحابها.

وكذلك الأوّل لأنّ الصحّة عبارة عن ترتّب الأثر من موافقة أمر على رأي المتكلّمين ، وسقوط قضاء على رأي الفقهاء ، وهي في الأجزاء السابقة لا يمكن أن تكون فعليّة بل شأنيّة ، ويعبّر عنها بالصحّة التأهلّيّة ، ولا يمكن استصحابها لانتفاء الشكّ اللاحق ، فإنّها عبارة عن كون الأجزاء السابقة بحيث لو انضمّ إليها الأجزاء اللاحقة وارتبطت بها كان المجموع منهما صحيحا فعليّا ، وثبوت هذا المعنى لها يقيني والشكّ إنّما هو في صحّة التقدير ، ولا يمكن إحرازها بيقين الصحّة التأهّليّة فضلا عن استصحابها مع عدم الحاجة إليه ، فلا مقتضي لترتيب آثار عدم القاطعيّة الّذي هو معنى ترتيب آثار الصحّة الفعليّة.

ثمّ إنّ القول بمرجعيّة أصل البراءة في مسألة الشكّ في الجزئيّة أو الشرطيّة أو المانعيّة أو القاطعيّة لا ينافي القول بأصالة الفساد في العبادات والمعاملات كما توهّمه بعض الفضلاء ، واعترض به على بعض الأعلام القائل بالأصلين ، بناء على أنّ قضيّة الفساد الّذي جعله أصلا في العبادات هو البناء على أصل الاشتغال أخذا بالقدر المتيقّن ممّا يحصل به الامتثال ، لوضوح أنّ معنى الشكّ في كون شيء جزءا أو شرطا للعبادة إنّما هو الشكّ في صحّة الخالي عن المشكوك فيه وفساده ، وإذا كان الأصل في جانب الفساد تعيّن القول بالاشتغال أخذا بالقدر المتيقّن.

ووجه عدم المنافاة : أنّ الفساد بمعنى عدم كون الشيء بحيث يترتّب عليه الأثر أصل أوّلي يثمر في الرجوع إليه حيث لم يكن أصل ثانوي وارد أو حاكم عليه ، وكما أنّ عموم الدليل أو إطلاقه أصل ثانوي فكذلك أصل البراءة عند الشكّ في الأجزاء أو الشروط أصل ثانوي.

غاية الأمر أنّ الأوّل لكونه أصلا لفظيّا اجتهاديّا وارد على الأصل الأوّلى ، والثاني حاكم عليه بحكومة دليله على دليل الأصل الأوّلي فلا تدافع.

الصورة الثانية : في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر لو كانت الشبهة الحكميّة من جهة الشكّ في الجزئيّة أو الشرطيّة لإجمال النصّ

الصورة الثانية : فيما لو كانت الشبهة الحكميّة من مسألة دوران المكلّف به بين الأقلّ والأكثر من جهة الشكّ في الجزئيّة أو الشرطيّة أو المانعيّة لإجمال النصّ ، ومن فروضه ما لو عبّر عن العبادة في الخطاب الوارد في التكليف بها بلفظ مجمل مفهوما أو مرادا ، وذلك كلفظ « الصلاة » وغيرها من العبادات المختلف في كونها للصحيحة أو الأعمّ منها ومن الفاسدة ، بناء على ما حقّقناه في ثمرة الخلاف فيها من أنّها بالقياس إلى الأجزاء عند الإشكال فيها باعتبار الشكّ في الجزئيّة مجملة على القولين ، غير أنّ الإجمال على القول

ص: 191

بالصحيحة مفهومي وعلى القول بالأعمّ مرادي ، ومن حكم الاجمال المفهومي هو البناء على الاشتغال ومن حكم الاجمال المرادي هو البناء على البراءة ، وقد سبق بيان جميع هذه المراتب مشروحا في مسألة الصحيح والأعمّ (1) ولا حاجة هنا إلى الاعادة.

وحيث إنّ المختار ثمّة هو القول بالأعمّ فلا محيص من الرجوع إلى أصل البراءة في تلك الصورة أيضا لعموم أدلّته ، من غير فرق فيه بين الشكّ في الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة ، مضافا إلى الأصل اللفظي في الأخيرين وهو الإطلاق وأصالة عدم التقييد النافيين لاحتمال التقييد ، بناء على أنّ مرجع شرطيّة الشرط ومانعيّة المانع إلى تقييد المسمّى بقيد وجودي في الشرط وعدمي في المانع ، والشكّ فيهما شكّ في التقييد والأصل اللفظي ينفيه. ويشكل : بأنّ فرض المورد بحيث يجري فيه الأصل اللفظي يخرجه عن عنوان المسألة المأخوذ فيه اشتباه المكلّف به بشبهة حكميّة في الجزئيّة أو الشرطيّة أو المانعيّة لاجمال الدليل.

أمّا أوّلا : فلأنّه مع وجود الأصل اللفظي لا اشتباه في المكلّف به.

وأمّا ثانيا : فلأنّه مع وجوده لا إجمال في الدليل.

ويمكن الذبّ عنه في الجملة : بفرض الاجمال في دليل الشرط والمانع ، بأن يكون مؤدّاهما الشرطيّة والمانعيّة على طريقة القضيّة المهملة لا المطلقة المتناولة لجميع مواردهما ، وذلك في الشرط كاشتراط الاستقبال إذا استفيد من صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام : « لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة : الوقت ، والطهور ، والقبلة ، والركوع ، والسجود (2) » لعدم عموم فيها بحيث يتناول كلّ أحد وكلّ حالة حتّى المتحيّر ، فيكون بالقياس إليه مجملا ، وهو يوجب شبهة شرطيّة الاستقبال للمتحيّر إذا صلّى إلى جهة فبان وقوعها إلى غير القبلة ، فيرجع لنفي الشرطيّة هنا إلى أصل البراءة ، وفي المانع كمانعيّة الحرير إذا استفيدت من نحو قوله عليه السلام : « لا تحلّ الصلاة في حرير محض (3) » في صحيحة محمّد بن عبد الجبّار عن أبي محمّد عليه السلام ، حيث إنّ المنساق منه الحرير الّذي يكون من جنس اللباس ، فلا يتناول صورة الالتحاف أو التدثّر أو الاتزار بالحرير ، فهو من جهة الانصراف إن لم يكن ظاهرا في غير هذه الفروض لم يكن شاملا لها أيضا فيكون مجملا ،

ص: 192


1- التعليقة على معالم الاصول 2 : 386 - 297.
2- الوسائل 4 : 683 الباب الأوّل من أبواب أفعال الصلاة ، ح 14.
3- الكافي 3 : 399 ، ح 10 ، التهذيب 2 : 207 ، ح 812 ، الاستبصار 1 : 385 ، ح 1462 ، الوسائل : 267 الباب 11 من أبواب لباس المصلي ، ح 2.

وهو يوجب شبهة مانعيّة الحرير فيها ، فيرجع لنفيها إلى أصل البراءة.

ويرد عليه : أنّه يدفع الأوّل من وجهي الإشكال لا ثانيهما ، لوجود الأصل اللفظي وهو الإطلاق في لفظ العبادة المفروض عدم الإجمال فيه بالقياس إلى الشرائط والموانع ، ومعه لا اشتباه وهو رافع لموضوع أصل البراءة.

إلاّ أن يذبّ عن ذلك أيضا : بمنع الإطلاق وجواز التمسّك به حينئذ بعد فرض ثبوت الشرطيّة والمانعيّة في الجملة ، وإلاّ لزم إرادة الماهيّة المطلقة بالنسبة إلى مورد الشكّ مع إرادة الماهيّة المقيّدة بالنسبة إلى مورد اليقين في نحو لفظ « الصلاة » ، وهو من استعمال اللفظ في معنيين وليس بسائغ.

مع إمكان أن يقال : إنّ إجمال المقيّد ربّما يسري إلى المطلق ، كما أنّ إجمال المخصّص يسري إلى العامّ ، فيبقى المطلق بالقياس إلى مورد الشكّ مردّدا بين إرادة الماهيّة المقيّدة أو الماهيّة المطلقة فلا إطلاق فيه حينئذ [ حتّى ] يتمسّك به.

ويمنع لزوم الاستعمال في معنيين على التقدير الثاني بأنّ غاية ما ثبت بالأدلّة إنّما هو تقييد الماهيّة في لحاظ الجعل والاختراع ، وهو لا يلازم إرادة المقيّد في لحاظ الاستعمال ، كما هو الحال في موارد إطلاق الكلّي على الفرد.

فالإنصاف أنّ جعل الصلاة وغيرها من العبادات من موضوع المسألة على وجه يطّرد بالقياس إلى الشكّ في الجزء والشرط والمانع مبنيّ على القول بالصحيحة فيها.

وملخّص ما بيّنّاه من حكم المسألة : هو أنّ إجمال الدليل إن كان بحيث أوجب دوران المكلّف به بين تحقّقه بالأقلّ أو عدم تحقّقه إلاّ بالأكثر ، فلا محيص من الرجوع إلى أصل الاشتغال إحرازا لعنوان المكلّف به ، وإن كان بحيث أوجب دوران المكلّف به بين نفس الأقلّ أو هو مع الزيادة المشكوكة ، فلا حجر من الرجوع إلى أصل البراءة الحاكم دليله على أصل الاشتغال ، ومن أمثلته الصلاة وغيرها من العبادات إذا شكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته أو مانعيّته لها على الخلاف الواقع فيها من حيث الصحيحة (1) والأعمّ ، لكونها على الصحيحة من قبيل القسم الأوّل وعلى الأعمّ من قبيل القسم الثاني ، وذلك لأنّ التكليف المستفاد من قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (2) متعلّق بمسمّى اللفظ على القولين معا ، فلا بدّ في الحكم بالبراءة من إحراز المسمّى على القولين ، غير أنّه على القول بالأعمّ يكفي فيه

ص: 193


1- وفي الأصل : « الصحّة » بدل « الصحيحة » والصواب ما أثبتناه في المتن.
2- البقرة : 43 ، 83 وغيرها.

الإتيان بالأقلّ بعد نفي الزيادة بأصل البراءة ، إذ الشكّ فيها جزءا أم شرطا أم مانعا لا يرجع إلى الشكّ في تحقّق المسمّى بدون الزيادة ، لصدق الاسم على الأقلّ معها وبدونها ، فكان قدرا متيقّنا ممّا تعلّق به التكليف ، ويبقى الشكّ في اعتبار الزائد وينفيه أصل البراءة ، بخلافه على القول بالصحيحة لرجوع الشكّ في الزيادة حينئذ إلى تحقّق المسمّى بدون الزائد ، فلا بدّ في إحرازه من الإتيان بالأكثر.

ومن مشايخنا من جزم بجريان أصل البراءة على هذا القول أيضا فقال : « إنّ وجوب الاحتياط في المجمل المردّد بين الأقلّ والأكثر ممنوع ، لأنّ المتيقّن من مدلول هذا الخطاب وجوب الأقلّ بالوجوب المردّد بين النفسي والمقدّمي ، فلا محيص عن الإتيان به لأنّ تركه مستلزم للعقاب ، وأمّا وجوب الأكثر فلم يعلم من هذا الخطاب فيبقى مشكوكا فيجيء فيه ما مرّ من الدليل العقلي والنقلي.

والحاصل أنّ مناط وجوب الاحتياط عدم جريان أدلّة البراءة في واحد معيّن من المحتملين ، لمعارضته بجريانها في المحتمل الآخر حتّى يخرج المسألة بذلك عن مورد البراءة ويجب الاحتياط فيها لأجل تردّد الواجب المستحقّ على تركه العقاب بين أمرين لا تعيّن لأحدهما انتهى (1) ».

ولعلّه قدس سره لحظ أنّ الخطاب في قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (2) وإن كان متعلّقا بمسمّى الصلاة المردّد بين تحقّقه بالأقلّ أو عدم تحقّقه إلاّ بالأكثر ، ولكن لمّا كان بيان مدخليّة المشكوك فيه في المسمّى واعتباره معه في لحاظ الاختراع والتسمية من وظيفة الشارع والمفروض عدمه ، فيقبح العقاب على المخالفة اللازمة من الإخلال به عند العقل مع الأدلّة النافية لمؤاخذة الجاهل لجهله.

ويشكل : بأنّ التكليف إنّما تعلّق بالصلاة وهي عنوان معيّن في الواقع مردّد في نظر المكلّف بين تحقّقه بالأقلّ أو عدم تحقّقه إلاّ بالأكثر ، وإحراز عنوان المأمور به والإتيان بما يصدق عليه اسمه ممّا استقلّ العقل بالحكم بوجوبه في الحكم بالبراءة وفراغ الذمّة ، فيجوز المؤاخذة على المخالفة على تقدير مدخليّة المشكوك فيه في الواقع في تحقّق أصل العنوان وصدق اسمه ، وردّ عذره بعدم العلم بجزئيّة المشكوك فيه أو شرطيّته أو مانعيّته بأنّك وإن لم تعلم بذلك إلاّ أنّك علمت بتعلّق التكليف بالصلاة ، وأنّه لا بدّ في الحكم بالبراءة من

ص: 194


1- فرائد الاصول 2 : 340.
2- البقرة : 43 ، 83.

إحرازها والإتيان بما يصدق عليها اسمها على وجه يقطع به. مع إمكانه بمراعاة الإتيان بالمشكوك فيه ، فلا تكون أدلّة البراءة من العقل والشرع جارية في الواحد المعيّن وهو الأكثر رأسا ، ولا يلزم فيه كونه لأجل المعارضة بجريانها في المحتمل الآخر.

وأضعف ممّا ذكره قدسّ سرّه ما أفاده في دفع ما أورده على نفسه بأنّه إذا كان متعلّق الخطاب مجملا فقد تنجّز التكليف بمراد الشارع من اللفظ ، فيجب القطع بالإتيان بمراده ، واستحقّ العقاب على تركه مع وصف كونه مجملا وعدم القناعة باحتمال تحصيل المراد واحتمال الخروج عن استحقاق العذاب ، فقال : « قلت : التكليف ليس متعلّقا بمفهوم المراد من اللفظ ومدلوله حتّى يكون من قبيل التكليف بالمفهوم المبيّن المشتبه مصداقه بين أمرين حتّى يجب الاحتياط فيه - إلى أن قال - : وإنّما هو متعلّق بمصداق المراد والمدلول ، لأنّه الموضوع له اللفظ والمستعمل فيه ، واتّصافه بمفهوم المراد والمدلول بعد الوضع والاستعمال ، فنفس متعلّق التكليف مردّد بين الأقلّ والأكثر لا مصداقه. ونظير هذا التوهّم أنّه إذا كان اللفظ في العبادات موضوعا للصحيح والصحيح مردّد بين الأقلّ والأكثر فيجب فيه الاحتياط ، ويندفع بأنّه خلط بين الوضع للمفهوم والمصداق فافهم (1) ».

وفيه : أنّ اللفظ في العبادات كالصلاة وإن كان لمصداق الصحيح لا مفهومه ، ولكنّ المصداق إنّما تعلّق به التكليف بعنوان أنّه مسمّى اللفظ ، فلا بدّ من إحرازه ليتّجه الحكم بالبراءة الرافعة للعقاب والمؤاخذة.

وبالجملة المكلّف به هو الصلاة ، ولا يقطع بالبراءة إلاّ بإحراز ما يصدق عليه الصلاة ، ولا يكون إلاّ بالاحتياط والإتيان بالأكثر.

الصورة الثالثة : الشبهة الحكميّة في دوران المكلّف به بين الأقلّ والأكثر لتعارض النصّين

الصورة الثالثة : ما لو كانت الشبهة الحكميّة في دوران المكلّف بين الأقلّ والأكثر ، فاشتبه عن تعارض نصّين متكافئين في جزئيّة شيء لشيء ، كأن يدلّ أحدهما على جزئيّة السورة للصلاة ونفاها الآخر ، وتحقيق حكمه موكول إلى باب التعادل ، فعلى القول بالتخيير يتبع المختار وإن خالف الأصل براءة أو اشتغالا ، وعلى القول بالتساقط أو التوقّف والرجوع إلى الأصل يبنى الرجوع إلى أحد الأصلين في العبادات على الخلاف فيها من حيث الصحّة والأعمّ حسبما بيّنّاه ، وفي غيرها تعيّن الرجوع إلى أصل البراءة النافية لاحتمال الجزئيّة أو الشرطيّة أو المانعيّة. (2)

ص: 195


1- فرائد الاصول 2 : 341.
2- لم نجده في التهذيب ولكن يوجد في النهاية، راجع نهاية الوصول (مخطوط): 174.

ومن الأعلام من يظهر منه في بحث المطلق والمقيّد تبعا للعلاّمة في التهذيب مرجعيّة أصل الاشتغال ، حيث إنّه بعد الكلام في وجوب حمل المطلق في قوله : « أعتق رقبة » على المقيّد في قوله : « أعتق رقبة مؤمنة » وترجيح المجاز في المطلق بإرادة المقيّد على المجاز في المقيّد بإرادة الاستحباب ، قال : « ولئن سلّمنا تساوي الاحتمالين ، فنقول : إنّ البراءة اليقينيّة لا تحصل إلاّ بالعمل بالمقيّد كما ذكره العلاّمة في النهاية (1) ».

ثمّ دفع اعتراض سلطان العلماء بأنّه لم يحصل العلم بشغل الذمّة مع احتمال إرادة المجاز من المقيّد حتّى يجب تحصيل اليقين بالبراءة عنه ، فلا وجه لوجوب العمل به ، بقوله : « إنّ المكلّف به حينئذ هو القدر المشترك بين كونه نفس المقيّد أو المطلق ، ونعلم أنّا مكلّفون بأحدهما ، فاشتغال الذمّة إنّما هو بالمجمل ولا يحصل البراءة منه إلاّ بالإتيان بالمقيّد ، وإنّما يتمّ كلام المعترض لو سلّمنا أنّا مكلّفون بعتق رقبة مّا ، ولكن لا نعلم هل يشترط الإيمان أم لا؟ فحينئذ يمكن نفيه بأصل البراءة وليس كذلك ، بل نقول بعد تعارض المجازين وتصادم الاحتمالين يبقى الشكّ في أنّ المكلّف به هل هو المطلق أو المقيّد؟ وليس هنا قدر مشترك يقيني يحكم بنفي الزائد عنه بالأصل ، لأنّ الجنس الموجود في ضمن المقيّد لا ينفكّ عن الفصل فلا تفارق بينهما » (2) انتهى.

وفيه : أنّ مقابلة المقيّد للمطلق بعد البناء على تساوي الاحتمالين لم تؤثّر إلاّ في إجمال المطلق ، لدورانه حينئذ بين إرادة الماهيّة لا بشرط أو الماهيّة بشرط شيء ، وهذا يوجب الانقطاع عن الأصل اللفظي وهو الإطلاق ، لا الانقطاع عن الأصل العملي وهو أصل البراءة ، لتيقّن التكليف بعتق رقبة مّا ورجوع الشكّ إلى اشتراطها بالإيمان ، ودوران المكلّف به بين المطلق والمقيّد لا ينفي تعلّق التكليف بعتق رقبة مّا ، وهو القدر المشترك اليقيني الّذي لا يمكن نفيه بالأصل ، بخلاف اشتراطها بالإيمان الّذي يمكن نفيه بالأصل السليم عن المعارض.

الصورة الرابعة : دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر باعتبار الشكّ في الجزئيّة أو الشرطيّة موضوعيّة

الصورة الرابعة : فيما لو كانت الشبهة في دوران المكلّف به بين الأقلّ والأكثر باعتبار الشكّ في الجزئيّة أو الشرطيّة موضوعيّة ، وقد تقدّم بيان حكمها بكلا قسميها من الاستقلاليّين والارتباطيّين في ذيل الصورة الاولى من دوران المكلّف به بين المتبائنين ، ولا حاجة إلى الإعادة.

تنبيهات الأقلّ والأكثر

اشارة

ثمّ إنّ في المقام امورا مهمّة متعلّقة بالجزء والشرط والمانع وينبغي التعرّض لها.

ص: 196


1- القوانين 1 : 325.
2- القوانين 1 : 325 - 326.
الأمر الأوّل : مقتضى الأصل فيما إذا ثبت جزئيّة شيء للعبادة وشكّ في ركنيّته
اشارة

الأمر الأوّل : إذا ثبت جزئيّة شيء للعبادة وشكّ في ركنيّته فهل الأصل كونه ركنا أو كونه غير ركن ،أو الأصل هو التفكيك بين أحكام الركن بإثبات بعضها ونفي الآخر؟ احتمالات.

وليعلم أنّ الركن ليس من الموضوعات اللغويّة ولا العرفيّة ليرجع في استعلام حاله في محلّ الشكّ إلى العرف واللغة ، ولا أنّه من الموضوعات الشرعيّة الثابت فيها الوضع ليرجع في معرفة حاله عند الشكّ إلى الشارع ، ولم يوجد له أثر في الأخبار المأثورة عن أهل العصمة ليرجع لمعرفته إلى عرف زمان صدور هذه الأخبار ، بل هو اصطلاح محدث للفقهاء منشؤه ثبوت الفرق من الأدلّة بين أجزاء بعض العبادات في الأحكام من بطلان العبادة بنقصه سهوا وعدم بطلانها كذلك ، وبطلانها بزيادته عمدا وعدم بطلانها بزيادته كذلك ، وبطلانها بزيادته سهوا وعدم بطلانها كذلك ، ولذا عرّف الركن : « بأنّه ما تبطل العبادة بنقصه عمدا أو سهوا » تعريفا للشيء بأحكامه ، وقد يضاف إليه الزيادة فيقال : « ما تبطل العبادة بنقصه أو زيادته عمدا أو سهوا » ويقابله غير الركن وهي ما لا تبطل العبادة بنقصه سهوا أو نقصه وزيادته عمدا أو سهوا.

فلا بدّ في تأسيس الأصل من التكلّم في أصالة هذه الأحكام ما عدا بطلانها بنقص الجزء عمدا ، فإنّ ثبوت هذا الحكم للجزء من القضايا الّتي قياساتها معها ، لأنّه لو لم يكن نقصه عمدا مبطلا لم يكن في صورة السهو أيضا مبطلا بطريق أولى ، فخرج عن كونه جزءا ويبطله دليل الخلف ، ولذا كان ذلك الحكم ما به الاشتراك بين الركن وغيره فلا حاجة إلى التكلّم في إثباته ، وإنّما المحتاج إليه الأحكام الثلاث الباقية ، وهو يتمّ في طيّ مسائل ثلاث :

المسألة الاولى : في بطلان العبادة المركّبة بنقص جزئها سهوا إلاّ أن يقوم على صحّته دليل

المسألة الاولى : إنّ قضيّة الأصل العقلي الّذي لا محيص عنه بطلان العبادة المركّبة بنقص جزئها سهوا إلاّ أن يقوم على صحّته دليل خصوصا أو عموما ، وذلك إذ قد بيّنّا في غير موضع أنّ المركّب ليس له وجود مغاير لوجودات أجزائه ، بل وجوده عين مجموع وجودات أجزائه ، فإذا أمر به كان الغرض منه إيجاده الّذي هو عين مجموع إيجادات أجزائه الّتي منها إيجاد هذا الجزء المبحوث عنه ، فيكون مطلوبا بمطلوبيّة إيجاد المركّب ، فإذا انتفى عمدا أو سهوا عمّا بين إيجادات سائر الأجزاء لم يكن المأمور به ، حاصلا ولا الحاصل مأمورا به ولا نعني من البطلان بنقص الجزء سهوا إلاّ هذا.

وربّما يتوهّم ابتناء المسألة على مسألة الإجزاء ، فعلى القول باقتضاء الأمر للإجزاء ولو ظاهريّا شرعيّا أو عقليّا اتّجه القول بأصالة عدم البطلان.

ص: 197

ويندفع : بفساد المبنى ومنع الابتناء ، أمّا الأوّل : فلما حقّقناه من عدم اقتضاء الأمر الظاهري العقلي الإجزاء مطلقا وكذلك الظاهري الشرعي إلاّ في بعض الصور ، وليس المقام من قبيله.

وأمّا الثاني فلعدم اندراج محلّ البحث في عنوان مسألة الإجزاء لأنّ الإجزاء فرع على الامتثال ، وهو موقوف على وجود الأمر ، والأمر المفروض في المقام إمّا واقعي ، أو ظاهري شرعي ، أو ظاهري عقلي ، والكلّ منتف.

أمّا الأوّل : فلأنّ الأمر العقلي إنّما ورد بالمركّب التامّ الأجزاء ، ومفروض المقام نقصان بعض الأجزاء.

وأمّا الثاني فلأنّ الأمر الظاهري الشرعي لا بدّ وأن يستفاد من خطاب الشرع وهو غير معقول مع فرض السهو والنسيان ، فإنّ الأعذار الطارئة للإنسان على قسمين :

أحدهما : ما يمنع من الطلب التخييري ولا يمنع من أصل الخطاب ولو بنحو التعليق كالعجز والمرض ، إذ لا يقبح مخاطبة العاجز والمريض بأنّه : « إن قدرت على فعل كذا فافعله وإلاّ فلا شيء عليك » ، وإنّما يقبح توجيه الطلب إليهما منجّزا.

وثانيهما : ما يمنع أصل الخطاب فضلا عن الطلب كالغفلة والنوم والصبا والجنون ، فإنّ فهم الخطاب موقوف على الشعور ، ومخاطبة هؤلاء قبيحة عقلا لعدم الشعور لهم ، ولا ريب أنّ السهو والنسيان من هذا القبيل ، فإنّ الساهي حال السهو والناسي حال النسيان لا يلتفت إلى كونه ساهيا أو ناسيا ، فيقبح أن يخاطبه الشارع بايجاب ما عدا الجزء المنسيّ من أجزاء المركّب لينعقد به الأمر الظاهري الّذي موضوعه الساهي والناسي ، ضرورة قبح أن يقول الشارع : « أيّها الساهي والناسي أنت مأمور بغير ما سهوت أو بما عدا ما نسيت ».

فإن قلت : انعقاد الأمر الظاهري بالقياس إليه لا يقتضي خطابا ، لجواز أن يلاحظه الشارع بوصف السهو والنسيان ويجعل له بهذا الاعتبار حكما ظاهريّا أدركه العقل وهو وجوب الاتيان بالمركّب الناقص ، كما أنّه لاحظ الشاكّ في الجزئيّة أو الشرطيّة مثلا وجعل له حكما ظاهريّا أدركه العقل ، وهو وجوب الاتيان بالأكثر على القول بالاحتياط ، أو جواز الاقتصار على الأقلّ على القول بالبراءة.

قلت : جعل نحو هذا الحكم أيضا قبيح ، إذ الحكم التكليفي المجعول لموضوع لا يتوجّه إلى المكلّف إلاّ إذا اندرج في ذلك الموضوع والتفت إلى اندراجه فيه لئلاّ يلزم تكليف الغافل ، والتفات الساهي والناسي إلى سهوه ونسيانه حال الفعل محال وإلاّ لم يكن ساهياً

ص: 198

وناسيا ، والتنبّه بعد الفعل لا يجدي في توجّه الحكم المذكور إليه ، لانقضاء زمان العمل به فيكون جعله لغوا.

ومقايسة المقام على الشاكّ باطلة ، إذ الشاكّ حال الشكّ وفي زمان الفعل وقبله ملتفت إلى كونه شاكّا ، فيتوجّه إليه الحكم المجعول له ويعمل بمقتضاه.

وأمّا الثالث : فلاستحالة مخاطبة العقل المكلّف الناسي حال النسيان بإنشاء حكم مختصّ به ، وهو وجوب ما عدا الجزء المنسيّ عليه ، فإنّه حال النسيان غير ملتفت إلى نسيانه ليخاطبه عقله بذلك الحكم وإلاّ لم يكن ناسيا ، وإن اريد بالعقل نوعه لا خصوص عقل الناسي حال النسيان ، فغاية ما يسلّم منه إنّما هو حكمه بنفي تكليف الناسي بالجزء المنسيّ ونفي العقاب على مخالفة الواقع الحاصلة له بسبب نسيانه ، لا إثبات تكليفه بما يأتي به من المركّب الناقص ، والفرق بينهما واضح.

لا يقال : إنّ الناسي حال النسيان يأتي بما عدا الجزء المنسيّ باعتقاد أنّه المأمور به في حقّه ، والعقل أيضا يخاطبه بالعمل بموجب اعتقاده بقوله : « اعمل بمعتقدك » وهذا هو الأمر العقلي المقتضي امتثاله للإجزاء.

لأنّا نقول : إنّ الناسي لذهوله عن نسيانه إنّما يأتي بالمأتيّ به باعتقاد أنّه المركّب التامّ وهو المأمور به في حقّه ، لا أنّه يعتقد نقصانه وهو بوصف النقصان مأمور به في حقّه ، وحكم العقل بالعمل بالمعتقد الزام له بالعمل به على أنّه المركّب التامّ وهو المأمور به الواقعي في حقّه ، لا على أنّه مركّب ناقص وهو مأمور به في حقّه في تلك الحال ، فإذا انكشف النقصان بعد التنبّه والتذكّر تبيّن أنّ المأمور به بذلك الأمر العقلي الّذي هو إرشاديّ محض غير حاصل ، والحاصل غير مأمور به بذلك الأمر العقلي ، كما أنّه غير مأمور به بالأمر الشرعي الواقعي.

نعم لو قيل بابتناء المسألة على كون حالة السهو والنسيان من الوجوه المغيّرة للواقع الموجب تبدّلها لتبدّل الأحكام الواقعيّة واختلافها كان له وجه ، إلاّ أنّه أيضا فاسد بفساد المبنى ، لعدم تبدّل الأحكام بتبدّل الذكر والنسيان ، كما أنّه لا تتبدّل بتبدّل العلم والجهل ، كيف فلو كان النسيان من الوجوه المغيّرة فالجهل أولى بكونه منها كما هو واضح ، ولقد منعناه في محلّه في الجهل وبرهنّا على امتناعه ، فكذلك في النسيان بل هو أولى بالمنع كما لا يخفى ، وقضيّة ذلك كون الجزء جزءا في كلّ من حالتي التذكّر والنسيان ، فلا محيص من

ص: 199

التزام أصالة البطلان بالنقصان ولو سهوا أو نسيانا.

فإن قلت : إن لم ندّع الدليل على عدم جزئيّة الجزء في حالة السهو والنسيان فلا أقلّ من عدم الدليل على جزئيّته فيها ، إذ القدر المتيقّن منها إنّما هي في حال التذكّر ، خصوصا إذا استفيدت من إجماع أو خطاب تكليف مختصّ بالمتذكّر الشاعر ، كقوله : « أقرأ الفاتحة في الصلاة » أو « أقرأ السورة فيها » مثلا ، فغاية ما هنالك كونها في حالة النسيان مشكوكة ، فيرجع إلى أصالة البراءة على ما اخترته في مسألة الشكّ في الجزئيّة والشرطيّة.

قلت : أصل البراءة بالنسبة إلى الناسي ممّا لا محصّل له ، لأنّه بموجب دليله من العقل والنقل أصل موضوعه الشكّ ومؤدّاه نفي التكليف الإلزامي أو نفي الآثار المترتّبة عليه من المؤاخذة واستحقاق العقوبة ، والناسي إذا لم يلتفت إلى نسيانه فكيف يفرض له الشكّ في الجزئيّة حتّى يستعمل أصل البراءة.

وأيضا فإنّ العقل مستقلّ بقبح العقاب على المخالفة المستندة إلى النسيان لخروجه عن الاختيار ، ومعه لا يحتاج إلى إعمال البراءة ، وهو مع ذلك لا ينافي البطلان في نفس الأمر ، ويظهر فائدته بعد التنبّه في الوقت أو في خارجه في وجوب التدارك إعادة وقضاءا.

فإن قلت : نعم ولكن أصل البراءة يجري بعد التنبّه لنفي الإعادة والقضاء ، لأنّ الشكّ في الجزئيّة الموجبة للبطلان يرجع إلى الشكّ في التكليف بهما ، والأصل براءة الذمّة عنه وعن العقاب المحتمل ترتّبه على تركهما.

قلت : أصل البراءة بالقياس إلى ما بعد التنبّه أيضا ممّا لا مجرى له لنفي الإعادة والقضاء ، إمّا لما قيل : من أنّه أصل من شأنه نفي الحكم التكليفي أو الآثار المترتّبة على الحكم التكليفي من المؤاخذة واستحقاق العقوبة ونحوها ، وليس من شأنه نفي الحكم الوضعي ولا الآثار المترتّبة عليه.

ولا ريب أنّ وجوب الإعادة والقضاء من آثار الحكم الوضعي ، وهو جزئيّة الجزء المبحوث عنه في حالة النسيان ، وكما أنّه لا يصلح لنفي الجزئيّة فكذلك لا يصلح لنفي الآثار المترتّبة عليها ، فإعماله لنفي وجوب الإعادة والقضاء غير صحيح.

أو لأنّ من شروط جريانه أن لا يكون في المورد أصل موضوعي رافع للشكّ وارد عليه لرفعه الشكّ المأخوذ في موضوعه ، وفي المقام بالنسبة إلى كلّ من الإعادة والقضاء أصل موضوعي وارد على أصل البراءة.

ص: 200

أمّا في الإعادة فلأنّ التكليف بها ليس تكليفا زائدا على أصل التكليف الوارد بالفعل قبل الإتيان به ناقصا بل هو عين التكليف الأوّل ، وحيث إنّه لمّا كان مقتضيا للامتثال والإتيان بالمأمور به وتبيّن خلل في المأتيّ به أوّلا انكشف بقاؤه على العهدة فيقتضي الإتيان بالفعل ثانيا ، وحينئذ نقول : إنّ الشكّ في جزئيّة المبحوث عنه بعد تذكّر النسيان في المأتيّ به أوّلا يوجب الشكّ في حصول المأمور به وتحقّقه في الخارج ودخوله في ظرف الوجود ، والأصل عدمه.

ومقتضاه وجوب الإتيان ثانيا وهو الإعادة ، ويعضده أصالة الاشتغال الثابت على وجه اليقين قبل الإتيان الأوّل ، ومعه لا مجرى لأصل البراءة.

وأمّا في القضاء فلأنّ التكليف بالقضاء - بناء على ما هو المحقّق من كونه بفرض جديد لا بالأمر الأوّل - وإن كان تكليفا زائدا على التكليف بالأداء ، إلاّ أنّ قضيّة الجمع بين أدلّة الأداء وأدلّة القضاء كون المأمور به في الموقّتات هو الأمر الدائر بين الفعل في الوقت والفعل في خارجه على وجه الترتّب ، بأن يكون تنجّز الأمر بالفعل في خارج الوقت معلّقا إلى عدم حصول الفعل في الوقت.

وحينئذ نقول : إنّ الشكّ في جزئيّة المبحوث عنه بعد تنبّه النسيان خارج الوقت يوجب الشكّ في حصول القسم الأوّل من المأمور به. وهو الأداء وتحقّقه في الخارج ، والأصل يقتضي عدمه ، ومقتضاه تعيّن الإتيان بالقسم الثاني وهو القضاء هذا.

ولكنّ الإنصاف : أنّ هذا الأصل الموضوعي بالقياس إلى القضاء غير منتج لتعيّن الإتيان به ، لأنّ تنجّز الأمر به بمقتضى الترتيب بينه وبين الأداء معلّق على فوات الأداء ، فلا بدّ في التزام الأمر به من إحراز صدق قضيّة الأداء وهو ممّا لا محرز له ، وبدونه يرجع الشكّ بالنسبة إليه إلى كونه في التكليف ، وأصل البراءة ينفيه من دون أن يرد عليه الأصل المذكور.

ولو اريد إحراز صدق الفوات بذلك الأصل ، رجع إلى كونه مثبتا وهو باطل ، ويؤيّده ما ورد به النصّ وأفتى به الأصحاب في مسألة الشكّ في فعل الصلاة من التفصيل بين كونه في الوقت فيأتي بها أو في خارجه فليس عليه شيء.

وحينئذ فلا بدّ في إثبات أصالة البطلان على وجه ينتج وجوب كلّ من الإعادة والقضاء من إثبات عموم جزئيّة الجزء لحالتي العمد والسهو والذكر والنسيان بمراجعة دليل ذلك الجزء ، وحينئذ فنقول : إنّ هذا الدليل لا يخلو عن أقسام ثلاثة ، لأنّه إمّا أن يكون لفظيّا أو

ص: 201

لبّيا كالإجماع ونحوه.

وعلى الأوّل : فإمّا أن يكون بصورة خطاب الوضع كقوله عليه السلام : « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب (1) » و « لا صلاة لمن لم يقم صلبه (2) » أو يكون بصورة خطاب التكليف كقوله : « اقرأ الفاتحة في الصلاة واقرأ السورة فيها » ونحو ذلك.

أمّا القسم الأوّل : فلا ينبغي التأمّل في كون مؤدّاه الجزء الواقعي ، سواء حمل كلمة « لا » على نفي الماهيّة أو على نفي الصحّة ، فلا يتفاوت الحال فيه حينئذ بين حالتي العمد والسهو والذكر والنسيان.

وأمّا القسم الثاني : فهو وإن كان ربّما يوهم في بادئ النظر اختصاص الجزء بحالة التذكّر ، لاختصاص التكليف بالتذكّر وعدم تناوله حالتي السهو والنسيان لقبح تكليف الغافل ، ولكنّ الّذي يساعد عليه ثاني النظر هو ثبوت الجزء الواقعي بنحو هذا الخطاب أيضا.

أمّا أوّلا : فلظهور الأوامر الواردة لبيان الأجزاء والشروط في الإرشاد ، الّذي هو بيان للواقع بصورة الطلب من دون طلب.

وأمّا ثانيا : فلأنّ اختصاص الخطاب بحالة التذكّر لا يوجب اختصاص الحكم الوضعي المستفاد منه بتلك الحالة ، بل الظاهر المنساق منه كون الجزء جزءا في الواقع ، وإنّما يؤثّر اختصاص الخطاب بحالة التذكّر في رفع المؤاخذة والعقوبة على المخالفة الناشئة عن نسيان الجزء ، لا في كون المأتيّ به من العمل الناقص مأمورا به في تلك الحالة.

ألا ترى أنّ السيّد إذا أمر عبده بتركيب معجون ذي أجزاء وبيّن أجزاءه بخطابات منفصلة تكليفيّة فنسي العبد بعض هذه الأجزاء ، كان معذورا عند العقلاء لنسيانه ، لا آتيا في نظر السيّد بالمأمور به.

وأمّا القسم الثالث : فهو العمدة ممّا يتوهّم فيه الاختصاص بحالة التذكّر بتوهّم الإجمال في معقد الإجماع الموجب للأخذ بالقدر المتيقّن منه.

ويدفعه : أنّ إجمال معقد الإجماع يستكشف غالبا من كلمات المجمعين أو الناقلين للإجماع ، ونرى كلماتهم في باب الفرق بين الأجزاء الركنيّة والأجزاء الغير الركنيّة من أحكام الخلل متطابقة على تسليم أصالة البطلان بنسيان الجزء مطلقا ، لظهورها عند

ص: 202


1- عوالي اللآلئ 1 : 196 ح 2 و 2 : 218 ح 13 و 3 : 82 ح 65.
2- الوسائل 4 : 939 الباب 16 من أبواب الركوع ح 2.

الاستدلال على عدم البطلان في الأجزاء الغير الركنيّة في أنّه لو لا الأدلّة القاضية به من الروايات وغيرها لا محيص من التزام البطلان ، ولذا لا يتمسّكون في هذا المقام بأنّ القدر الثابت بالإجماع مثلا من جزئيّة الجزء هو كونه جزءا في حالة العمد والذكر ، ويلزم منه عدم البطلان بفواته في حالة السهو والنسيان.

وبالجملة نراهم لا يستدلّون على عدم البطلان بنسيان الأجزاء الغير الركنيّة بفقد المقتضي للبطلان ، بل بوجود المانع من البطلان وهو الأدلّة القاضية بعدمه ، فيستفاد من طريق استدلالهم ثمّة حكومة أدلّة عدم البطلان على الأدلّة المثبتة للأجزاء ، ولو كانت مجرّد إجماع محصّلا أو منقولا.

وقضيّة الحكومة أنّه لو لا الدليل الحاكم كان المتّبع هو الدليل المحكوم عليه ، ولا نعني من أصالة البطلان بنسيان الجزء على وجه يثمر في الموارد المشتبهة الخالية عن دليل عدم البطلان إلاّ هذا.

وقد يتوهّم كون الأصل الأوّلي في نسيان الجزء عدم البطلان من جهة الاستصحاب وهو استصحاب الصحّة أعني الصحّة الثابتة للعمل قبل طروّ السهو والنسيان.

ولا خفاء في ضعفه كما أشرنا إليه غير مرّة ، إذ لا يمكن أن يراد بالصحّة المستصحبة بالقياس إلى الأجزاء السابقة على السهو إلاّ الصحّة الشأنيّة ، وهي كونها بحيث لو انضمّ إليها الأجزاء اللاحقة وارتبط بها لأثّرت في الصحّة الفعليّة ، وهذا ممّا لا حاجة له إلى الاستصحاب ، لصدق الشرطيّة وكذب الشرط أو الشكّ في صدقه وكذبه ، إذ على عموم جزئيّة الجزء لحالتي العمد والسهو كذب الشرط ، وعلى الشكّ في عمومها كان الشرط مشكوكا في صدقة وكذبه ، ومعه استحال إنتاج الاستصحاب المذكور مع عدم الحاجة إليه للصحّة الفعليّة.

هذا مع أنّ الصحّة الفعليّة إن اريد بها موافقة الأمر فلا شكّ في انتفائها ، إمّا لأنّه لا موافقة بالفرض إن اريد بالأمر الأمر بالمركّب التامّ ، أو لأنّه لا أمر على معنى عدم كونه محرزا إن اريد به الأمر بالعمل الناقص المأتيّ به ، وإن اريد بها ترتّب الأثر الّذي منه سقوط الإعادة والقضاء ، ففيه : أنّه يترتّب على الصحّة بمعنى موافقة الأمر ، وقد عرفت حالها من انتفاء الموافقة في تقدير وانتفاء الأمر في آخر.

وقد يقال : إنّ الأصل الأوّلي في مسألة نسيان الجزء ونقصانه سهوا وإن كان ما ذكر ، إلاّ أنّ هنا أصلا ثانويّا حاكما عليه مستفاد من قوله عليه السلام : « رفع عن امّتي الخطأ والنسيان إلى

ص: 203

آخره » (1) بناء على أنّ رفع التسعة لا يمكن صرفها إلى أعيانها حذرا عن الكذب ، فوجب حمله على رفع آثارها ، ومن آثار النسيان تدارك المأمور به بنسيان جزئه إعادة وقضاء ، ورفعهما عبارة عن إسقاط وجوبهما.

وقضيّة ذلك وجوب ترتيب آثار الصحّة على العمل الناقص مطلقا إلاّ ما خرج بالدليل ، وإن اقتضى الأصل الأوّلي بطلانه.

ويدفعه : ابتناء ذلك على حمل الرفع على رفع جميع الآثار لا خصوص المؤاخذة ، ولقد منعناه عند شرح الحديث في مسألة الشبهة الموضوعيّة من الشكّ ، وعيّنّا الحمل على خصوص رفع المؤاخذة فلاحظ وتأمّل. ومعه لا دلالة للرواية على ما توهّم من الأصل الثانوي ، فالأصل الأوّلي ممّا لا وارد عليه من الاصول.

المسألة الثانية : في بطلان العبادة بزيادة جزئها عمدا وعدم بطلانها

المسألة الثانية : في بطلان العبادة بزيادة جزئها عمدا وعدم بطلانها.

وليعلم أوّلا : أنّ محلّ البحث تعمّد زيادة جزء العبادة من حيث الجزئيّة من دون أن يطرأه خصوصيّة اخرى رافعة للإشكال ، فإنّه ربّما يطرأ خصوصيّة لا ينبغي التأمّل في بطلانها بتعمّد زيادته لأجل هذه الخصوصيّة ، وقد ينعكس الأمر بطروّ حيثيّة لا ينبغي التأمّل في عدم البطلان بالنظر إلى هذه الحيثيّة.

فمن الأوّل ما لو ثبت بدليل الجزء كونه جزءا بشرط لا ، على معنى شرط الوحدة ، وإذا كرّر ذلك حينئذ بتعمّد الزيادة مثلا كان مبطلا لها لا محالة ، لا لمجرّد الزيادة بل لأدائها إلى انتفاء شرط الجزء وهو الوحدة الموجب لانتفاء المشروط ، فبطلانها في الحقيقة لفوات جزئها.

ومن الثاني الزيادة على القدر الواجب من التسبيحات الأربع أو من تسبيحة الركوع والسجود ، فإنّها بملاحظة كونها ذكرا جائزة بل راجحة ولا تبطل بها العبادة. ومنه أيضا تكرّر الجزء لأجل الاحتياط عند احتمال خلل في المأتيّ به أوّلا ، فإنّه أيضا أمر راجح ولا تبطل به العبادة قطعا ، ومحلّ البحث هو تعمّد زيادة الجزء من حيث الجزئيّة من دون ملاحظة نحو هذه الخصوصيّات والحيثيّات ، وهو يتصوّر من وجوه :

الأوّل : أن يتعمّد زيادة الجزء على أن يكون الزائد جزءا مستقلاّ.

الثاني : أن يتعمّد الزيادة على أن يكون الزائد بانضمام المزيد عليه إليه جزء واحد.

ص: 204


1- الوسائل 11 : 295 ، الباب 56 من أبواب جهاد النفس ، الحديث الأوّل.

الثالث : أن يتعمّد الزيادة على أن يكون الزائد بدلا عن المزيد عليه بعد رفع اليد عنه في الأثناء أو بعد الفراغ ، كما لو قرأ سورة ثمّ بدا له أن يقرأ سورة اخرى اقتراحا أو للاستعجال أو نحو ذلك ، فهل تبطل العبادة بالزيادة في جميع هذه الصور ، أو لا تبطل في شيء منها ، أو تبطل في بعض دون آخر؟

فالّذي يتراءى في بادئ النظر هو عدم البطلان مطلقا ، لأنّ البطلان لا بدّ له من موجب وهو إمّا من جهة استلزام الزيادة لوقوع خلل في المأمور به بحسب جزئه المادّي باعتبار رفعها قيدا وجوديّا أو عدميّا معتبرا مع الجزء وهو الوحدة أو عدم الزيادة ، أو جزئه الصوري باعتبار قطعها الهيئة الاتصاليّة المعتبرة فيما بين الأجزاء.

ويندفع توهّم الاخلال في القيد الوجودي أو العدمي بأنّه مبنيّ على ثبوت كون كلّ جزء من أجزاء المأمور به مقيّدا في لحاظ الشارع بقيد الوحدة وبقيد عدم الزيادة وهو أوّل المسألة ، كما يندفع توهّم الاخلال في الجزء الصوري بأنّ القاطعيّة ليست أمرا منضبطا ثابتا على وجه كلّي في كلّ ما تخلّل بين أجزاء الصلاة إلاّ ما خرج بالدليل ، ليندرج فيه زيادة الجزء بكلّ من صورها الثلاث المتقدّمة ، بل هو حكم تعبّدي ثابت في بعض الأشياء ، ولذا يقطعها البكاء للدنيا ولا يقطعها البكاء للآخرة ، ويقطعها كلام الآدميّين ولا يقطعها الذكر المطلق ، ويقطعها الفعل الكثير الغير الماحي ولا يقطعها قتل العقرب ، وهكذا.

فدعوى كون زيادة الجزء أيضا من القواطع تحتاج إلى ثبوت وهو أوّل المسألة.

ولكنّ الّذي يتراءى في ثاني النظر هو البطلان مطلقا ، وذلك لأنّ الصحّة الّتي هي في العبادات مقتضى الأمر لا بدّ لها من موجب لا البطلان ، وهو مع زيادة الجزء بأحد الاعتبارات الثلاث غير متحقّق ، فإنّ العبادات مركّبات متلقّاة من الشارع ، فوجب الاقتصار فيها على الهيئات المشروعة ، والقدر المقطوع به من الهيئة المشروعة هي الهيئة الحاصلة في أجزاء المركّب باعتبار عدم اشتمالها على زيادة شيء منها بأحد الاعتبارات الثلاث.

وأمّا الهيئة الحاصلة منها باعتبار اشتمالها على الزيادة المغايرة للهيئة الاولى فليست من الهيئة المشروعة ، إمّا لتبيّن عدم مشروعيّتها أو للشكّ في مشروعيّتها باعتبار الشكّ في شمول الأمر الوارد بالمركّب في قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (1) لها وعدمه ، فوجب الرجوع إلى أصل الاشتغال ، وهذا يقتضي عدم الزيادة أصلا ، أو عدم الاقتصار على

ص: 205


1- البقرة : 43 ، 83.

ما حصل فيه الزيادة بمراعاة الإعادة والقضاء ، مضافا إلى أصالة عدم تعلّق الأمر بتلك الهيئة المشكوكة ، ولا يعنى من البطلان بسبب زيادة الجزء إلاّ هذا.

ويؤيّد ما ذكرناه من عدم مشروعيّة هذه الهيئة ما ورد من النصّ في خصوص غسالات الوضوء من أنّ الفرض منها غسلة واحدة والثانية إسباغ والثالثة بدعة ، ومعنى كون الثالثة بدعة أنّ الهيئة الحاصلة بزيادة الغسلة الثالثة غير مشروعة فلا تكون مجزئة. والظاهر عدم الفرق في ذلك بين ما لونوى زيادة الجزء من حين الشروع في العبادة أو بداله زيادته في الأثناء ، إذ على الأوّل قصد الهيئة الغير المشروعة في علم اللّه أو المشكوك في كونها مشروعة ، وعلى الثاني انكشف كون الهيئة الحاصلة فيه في علم اللّه غير مشروعة أو يشكّ في كونها مشروعة وعدمه.

وعلى ما بيّنّاه ينزّل ما احتجّ به المحقّق في المعتبر (1) على بطلان الصلاة بالزيادة من أنّ الزيادة تغيير لهيئة العبادة الموظّفة فتكون مبطلة.

فما اعترضه بعض مشايخنا بأنّه : « إن اريد تغيير الهيئة المعتبرة فالصغرى ممنوعة ، لأنّ اعتبار الهيئة الحاصلة من عدم الزيادة أوّل الدعوى ، فإذا شكّ فيه فالأصل البراءة عنه ، وإن اريد أنّه تغيير للهيئة المتعارفة المعهودة للصلاة فالكبرى ممنوعة ، لمنع كون تغيير الهيئة المتعارفة مبطلا (2) » ليس في محلّه.

فإنّ مراده قدس سره من هيئة العبادة الموظّفة هيئة العبادة المشروعة على معنى مشروعيّة الهيئة ، ومحصّله : أنّه لا إشكال في كون الهيئة الحاصلة من عدم زيادة الجزء مشروعة لأنّها القدر المعلوم ممّا شمله الأمر ، كما لا إشكال في كون زيادة الجزء موجبة لحدوث هيئة اخرى مغايرة الاولى وهي الهيئة الحاصلة بالزيادة ، وهذا هو المراد من تغيير الهيئة الموظّفة وهو المراد من الصغرى. ولا ريب أنّها لا تقبل شيئا من طرفي الترديد.

وأمّا الكبرى وهي كون الزيادة مبطلة ، فمعناها كون الهيئة الحاصلة بالزيادة باطلة إمّا لتبيّن عدم مشروعيّتها ، بنآءا على أنّ المتبادر من الأمر بالعبادة المركّبة مطلوبيّة الهيئة الحاصلة من عدم الزيادة ولو كان التبادر إطلاقيّا ، أو للشكّ في كونها مشروعة ، فيرجع إلى أصلي العدم والاشتغال ، وهما يقتضيان الحكم عليها بالبطلان.

ص: 206


1- المعتبر 2 : 379.
2- فرائد الاصول 2 : 371.

وبالتأمّل فيما قرّرناه يظهر أنّ مرجع الشكّ في كون الزيادة مبطلة إلى الشكّ في مشروعيّة الهيئة الحاصلة بها لا إلى الشكّ في مانعيّة الزيادة أو شرطيّة عدمها ، كما قد يتوهّم ليرجع فيه إلى أصل البراءة المقتضي لعدم المانعيّة وعدم الشرطيّة.

فإن قلت : نعم ، ولكن مع رجوع الشكّ إلى مشروعيّة الهيئة المذكورة يرجع إلى أصل البراءة أيضا لنفي اعتبار الهيئة الحاصلة من عدم الزيادة في المأمور به ، ومقتضاه التخيير بين الهيئتين.

قلت : الأصل في مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير هو التعيين ، عملا بأصالة عدم تعلّق الأمر بالفرد المشكوك في شمول الأمر له ، وبأصل الاشتغال المقتضي للاقتصار على القدر المقطوع بمشروعيّته وهو الهيئة الحاصلة بعدم الزيادة ، ولذا قيل : بأنّ الأصل عدم تعلّق الأمر بالهيئة الحاصلة بالزيادة لم يكن معارضا بأصالة عدم تعلّق بالهيئة الحاصلة بعدم الزيادة.

فإن قلت : البناء على أصل الاشتغال إنّما يلائم القول بالصحّة دون القول بالأعمّ لما تقرّر في مسألة الصحيح والأعمّ ، وأشرت إليه سابقا في ثمرة الفرق بين القولين من أنّ الأوّل يلزمه البناء على أصل الاشتغال والثاني على أصل البراءة.

قلت : هذا إنّما هو ثمرة الفرق بينهما في مسألة الشكّ في جزئيّة شيء في العبادة أو شرطيّته ، لا أنّ الأعمّي يلزمه البناء على أصل البراءة في مطلق الشكّ المتعلّق بالعبادة حتى في مسألة دوران الأمر بين المتبائنين كالظهر والجمعة ، والقصر والاتمام ، أو مسألة دوران الواجب بين التعيين والتخيير ، فإنّ أصل البراءة في الأوّل غير معقول وفي الثاني غير صحيح لورود أصلي العدم والاشتغال عليه.

فإن قلت : لا خفاء في صدق الصلاة على الهيئة الحاصلة بالزيادة خصوصا على القول بالأعمّ ، فمرجع الشكّ في اعتبار الهيئة اللازمة من عدم الزيادة بالخصوص في المأمور به إلى الشكّ في الإطلاق والتقييد ، والأصل اللفظي في نحوه يقتضي الاجتزاء بالهيئة الحاصلة بالزيادة.

قلت : إنّ من شرط حجّيّة الإطلاق عدم وروده مورد الغالب ، ولا ريب أنّ الغالب من الهيئتين إطلاقا ووجودا إنّما هو الهيئة اللازمة لعدم الزيادة ، فينصرف إليها الإطلاق لا إلى الهيئة الصغرى.

وقد يتمسّك لاثبات الصحّة على تقدير طروّ زيادة الجزء في الأثناء باستصحاب

ص: 207

صحّة الأجزاء السابقة.

ويزيّفه : ما مرّ مرارا من أنّ استصحاب الصحّة من أصله فاسد الوضع ، وعلى فرض صحّته لا ينتج الصحّة الفعليّة المسقطة للتدارك.

وقد يتمسّك أيضا بقوله تعالى : ( لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ ) (1) بتقريب : أنّ حرمة الإبطال إيجاب للمضيّ فيها وهو مستلزم لصحّتها ولو بالإجماع المركّب وعدم القول بالفصل في غير الصوم والحجّ الفاسدين المأمور بوجوب المضيّ فيهما مع عدم صحّتهما ، مضافا إلى استصحاب حرمة القطع المتيقّن ثبوته قبل تخلّل زيادة الجزء ، واستصحاب وجوب إتمام العمل كذلك. ولا خفاء في ضعف الجميع.

أمّا الأوّل فلأنّ الإبطال المسند إلى المكلّف المنهيّ عنه في الآية يتحقّق في صور :

الاولى : أن يبطل العمل بإعدام شرط موجود في الأثناء كالاستقبال في الصلاة إذا استدبر في الأثناء.

الثانية : أن يبطله بإيجاد مانع كما لو أحدث في أثناء الصلاة.

الثالثة : أن يبطله بالقطع الّذي هو رفع اليد عنه ، ولا إشكال في حرمة الجميع لعموم الآية.

وقد يتحقّق البطلان بأمر خارج عن اختيار المكلّف ، كنسيان الجزء على ما تقدّم في المسألة السابقة ، وهذا ممّا لا يصدق معه الإبطال الظاهر في الفعل الاختياري فلا يتناوله النهي.

وقد يتحقّق فيه ما يشكّ في كونه مبطلا وعدمه ، كما نحن فيه من تعمّد زيادة الجزء ، وهذا ممّا يشكّ معه في صدق الإبطال على [ معنى ] رفع اليد عن الصلاة الواقع فيها هذه الزيادة وعدمه ، لاحتمال البطلان بنفس الزيادة العمديّة وهو يوجب الشكّ في تناول النهي وعدمه ، فلا مقتضي في الآية لصحّة هذه الصلاة.

وأمّا الثاني : فلأنّ القطع إنّما يصدق مع ارتباط الأجزاء اللاحقة بالسابقة وهو موضع شكّ ، ويشكّ معه في صدق القطع ، والاستصحاب مع الشكّ في صدق موضوع المستصحب غير معقول.

وأمّا الثالث : فلأنّ العمل في عنوان وجوب الإتمام عبارة عن المأمور به وكون ما وقع فيه الزيادة مأمورا به غير محرز ، ومعه لا معنى لاستصحاب وجوب الإتمام ، مع أنّ الإتمام ليس له معنى محصّل إلاّ ربط الأجزاء اللاحقة بالسابقة وهو مع الشكّ في الارتباط غير

ص: 208


1- محمّد : 33.

مقدور ، فلا يثمر استصحاب وجوبه بل لا يصحّ ، لاشتراط التكليف ابتداء واستدامة بالقدرة.

ويدلّ على المختار من بطلان الفريضة بالزيادة عموم التعليل فيما نقل عن تفسير العيّاشي فيمن أتمّ في السفر : أنّه يعيده ، لأنّه زاد في فرض اللّه عزّ وجلّ فتدبّر.

المسألة الثالثة : في زيادة الجزء سهوا

المسألة الثالثة : في زيادة الجزء سهوا ، ويظهر حكمها بالتأمّل في المسألة السابقة من حيث رجوع الشكّ إلى مشروعيّة الهيئة الحاصلة من زيادة الجزء فيجري فيه الأصلان المتقدّمان.

فتقرّر بجميع ما عرفت في المسائل الثلاث أنّ الأصل في الجزء المشكوك فيه كونه ركنا بالنسبة إلى الأحكام الثلاث إلى أن يعلم خلافه بالدليل.

الأمر الثاني : هل الأصل في الشرط والجزء كونهما مطلقتين أو مقيّدين؟

الأمر الثاني : إذا ثبت كون شيء جزءا أو شرطا للعبادة فهل الأصل كونهما مطلقين حتى يسقط التكليف بالكلّ أو المشروط عند تعذّر الجزء أو الشرط ، أو كونهما مقيّدين بحالة التمكّن فلا يسقط التكليف بتعذّرها ، أو الأصل في الشرط كونه مطلقا وفي الجزء كونه مقيّدا؟ وجوه بل أقوال.

ويظهر فائدة الفرق بينهما في الوضوء مثلا إذا قطع بعض أعضائه ، وأغسال الميّت إذا تعذّر السدر والكافور ، فهل يجب غسل باقي الأعضاء؟ وتغسيل الميّت بالقراح ثلاثا ، أو لا يجب شيء منهما؟ أو يجب الأوّل دون الثاني؟ وجوه مبنيّة على الأقوال الثلاث.

ومبنى القول الأوّل على أصالة البراءة ، لأنّ المتيقّن من التكليف بالكلّ أو المشروط هو ما قبل طروّ العذر.

وأمّا التكليف بما بقي من الكلّ بعد تعذّر الجزء أو المشروط بعد تعذّر الشرط فمشكوك فيه ، والأصل براءة الذمّة عنه.

ومبنى القول الثاني على استصحاب الأمر والوجوب في صورة سبق التكليف على تعذّر الجزء والشرط ، كما لو قطع يده أو فقد السدر والكافور بعد استقرار التكليف بالوضوء والأمر بغسلي السدر والكافور ، ويتمّ فيما عدا هذه الصورة بالإجماع المركّب وعدم القول بالفصل.

وتوهّم قلبه بنفي التكليف عمّا لم يسبق التكليف على طروّ العذر بأصل البراءة ، ويتمّ فيما عداه بالإجماع المركّب.

واضح الدفع بكون الأوّل أقوى من الثاني ، لتقدّم الاستصحاب على أصل البراءة بواسطة حكومة أدلّته على أدلّة أصل البراءة.

ومبنى القول بالفرق على أصل اعتباري ، وهو أنّ الشرط قيد والقيد وإن غاير المقيّد

ص: 209

مفهوما إلاّ أنّه لا يغايره وجودا بل هو متّحد معه في الوجود الخارجي ، على معنى كون وجودهما واحدا ، فتعذّره يوجب انتفاء ذلك الوجود الواحد ، ولزمه سقوط التكليف لكون متعلّقه ذلك الوجود المنتفي بالفرض ، بخلاف الجزء بالنسبة إلى الكلّ ، فإنّ كلاّ من أجزائه إنّما وقع في طرف العرض من الآخر ، ووجود كلّ يغاير وجود الآخر ، فلا يوجب انتفاؤه انتفاء الكلّ المتحصّل في ضمن باقي الأجزاء.

وهذا كما ترى أردأ الوجوه ، فإنّ انتفاء الجزء المتعذّر وإن كان لا يوجب انتفاء الكلّ المتحصّل في ضمن باقي الأجزاء ، إلاّ أنّه يوجب سقوط التكليف المتعلّق بالكلّ بما هو كلّ ، لأنّه إنّما تعلّق بوجود الكلّ الّذي هو عين وجودات أجزائه الّتي منها وجود هذا الجزء المنتفي ، فانتفاؤه يوجب انتفاء وجود الكلّ بالمعنى المذكور ، وما بقي منه ليس بذلك الوجود.

ودونه في الضعف وجه القول الثاني.

أمّا أوّلا : فلبطلان أصل الاستصحاب ، لانتفاء أحد الأمرين من الشكّ اللاحق إن اريد به استصحاب الأمر بالكلّ بما هو كلّ ، والأمر بالمقيّد بوصف كونه مقيّدا ، واليقين السابق إن اريد به استصحاب الأمر بالمطلق والأمر بما بقي من أجزاء الكلّ.

أو لتبدّل موضوع المستصحب إن اريد به استصحاب الأمر بالمقيّد والكلّ في المطلق وما بقي من الكلّ ، إلاّ أن يدّعى كون المقام ممّا يتسامح فيه أهل العرف بالنسبة إلى بقاء موضوع المستصحب بإجرائهم ما بقي من المأمور به بعد تعذّر الشرط والجزء مجرى الموضوع الأولى ، كما في استصحاب الكرّية في الماء المشكوك بقاء كرّيته بعد القطع بها بسبب أخذ شيء منها تدريجا.

ويندفع به مناقشة بعضهم كالمحقّق الخوانساري فيه بأنّه إن اريد به الكرّية بالنظر إلى ما قبل أخذ شيء منه فلا شكّ للقطع بانتفائه ، وإن اريد به الكرّية بالنظر إلى ما بقي بعد الأخذ فلا قطع ، ولكنّه محلّ منع.

وأمّا ثانيا : فلمنع التمسّك بالإجماع المركّب في تتميم الحكم لما عدا صورة سبق التكليف على طروّ العذر ، لأنّ مرجع التمسّك به إلى التمسّك بالملازمة الشرعيّة بين شطريه الّتي أثبتها الإجماع ، والقدر المسلّم منها هو الملازمة بينهما في الحكم الواقعي ، كما لو ثبت أحد شطريه بدليل اجتهادي من رواية معتبرة ونحوها ، لا الحكم الظاهري كما لو ثبت أحدهما بأصل كالاستصحاب ونحوه كما فيما نحن فيه ، فيجوز اختلافهما في الحكم

ص: 210

الظاهري تمسّكا في كلّ منهما بالأصل الجاري فيه من الاستصحاب في صورة سبق التكليف وأصل البراءة فيما عداها.

فظهر أنّ أوجه الوجوه هو الوجه الأوّل ، لكون أسلم الاصول هنا أصل البراءة ، ومقتضاه كونهما مطلقين ، لا بمعنى أنّ مؤدّاهما إطلاق الجزء والشرط بحسب الواقع ، بل بمعنى ترتيب آثار الإطلاق عليهما الّتي منها سقوط التكليف رأسا بعد تعذّرهما من غير فرق في ذلك بين كون كلّ من حكم المأمور به وحكم الجزء والشرط مستفادا من اللفظ أو من اللبّ ، أو الأوّل مستفادا من اللفظ والثاني من اللبّ أو بالعكس.

وقد يتوهّم أنّه لو ثبت حكم الكلّ والمشروط باللفظ وحكم الجزء والشرط باللبّ كالإجماع فمقتضى الأصل اللفظي - وهو إطلاق دليل الكلّ والمشروط - هو الحكم بعدم الجزئيّة والشرطيّة في غير حال التمكّن والاختيار ، لأنّ القدر الثابت بالإجماع إنّما هو الجزئيّة والشرطيّة في حال الاختيار لا في غيرها.

وقد يتوهّم أيضا أنّ الجزئيّة أو الشرطيّة إذا كانت ثابتة بالخطابات اللفظيّة والقضايا التكليفيّة كانت مختصّة بحال القدرة والاختيار ، لكون الخطابات متوجّهة إلى القادر المختار ، وضعف هذين التوهّمين غير خفيّ.

أمّا الأوّل منهما : فلخروج إطلاق المأمور به بواسطة دليل الجزء والشرط عن حاله ، والشكّ إنّما هو في حال القيد إطلاقا وتقييدا ، ولا يرجع لاستعلامه إلى دليل المقيّد ، بل لا بدّ من الرجوع إلى دليل القيد - أعني دليلي الجزء والشرط - فلو لم يرجع فيهما إلى أصالة عدم التقييد باعتبار كون دليلهما اللبّ ، فلا أقلّ من الرجوع إلى أصالة البراءة ، وقد عرفت أنّ مقتضاها الإطلاق.

وأمّا الثاني : فلأنّ مؤدّى الخطابات المذكورة جاز أن يعمّ القادر المختار ، والعاجز المضطرّ ، والعالم والجاهل ، والملتفت والغافل ، والمتذكّر والناسي بحسب سياقاتها ، لأنّ الأوامر المسوّقة لبيان الجزء والشرط كلّها إرشاديّات عندنا ، فتكون نسبتها إلى الأصناف المذكورة نسبة واحدة ، إذ المراد بالارشاد الدلالة على ما فيه الصواب والرشاد ، فلا يتفاوت بالنسبة إلى المقتدر والمتعذّر والمختار والمضطرّ ، كما في أمر الطبيب بشرب السكنجبين إرشادا إلى ما فيه من المنفعة المتساوي نسبتها إلى الأصناف المذكورة.

ص: 211

وليعلم أنّ ما أسّسناه من الأصل إنّما هو الأصل الأوّلي ، إلاّ أنّه انقلب إلى أصل ثانوي مستفاد من عموم قوله عليه السلام : « الميسور لا يسقط بالمعسور (1) » و « ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه (2) » فإنّ ما تعذّر من أجزاء المأمور به معسور وتعذّره أوجب سقوطه وعدم إمكان إدراك كلّه ، وقد دلّت الرواية الاولى على عدم سقوط الميسور منه بسقوط معسوره ، والثانية على أنّه لا يترك جميعه بعدم إدراك جميعه. وضعف سنديهما مجبور بتلقّي الأصحاب لها بالقبول. كما يظهر بتتبّع أبواب المعاملات ودلالتهما على ما نحن فيه من كون الجزء مقيّدا بحال الإمكان واضحة لا ينبغي المناقشة فيها.

وقد يستدلّ عليه أيضا بالنبويّ المعروف : « إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم (3) » وهو عندي غير صحيح ، لما أوضحناه في مباحث الأوامر من كونه بشهادة مورده مسوقا لنفي وجوب التكرار ، فلا تعلّق له بما نحن فيه ، والعمدة فيه ما ذكرناه من الروايتين.

وهل القاعدة المستفادة منهما حاكمة على دليل الأمر بالمأمور به المركّب ومتعرّضة بمضمونها لحاله ، بكشفها عن كون المأمور به بهذا الأمر في لحاظ الآمر وعلى حسب ما في ضميره هو الأمر المشترك بين المركّب التامّ والمركّب الناقص على وجه الترتّب ، بأن يكون مطلوبيّته الناقص معلّقة على تعذّر التامّ بواسطة تعذّر جزئه ، أو أنّها بنفسها مفيدة لحكم جديد غير الأمر الوارد بالمركّب؟ وجهان. ذكرناهما مع مبناهما.

وثمرة الفرق بين الاعتبارين وترجيح ما ترجّح منهما على الآخر في ذيل مسألة تبعيّة القضاء للأداء وعدمها من مباحث الأوامر ، وقد ذكرنا ثمّة أنّ الأقوى هو الحكومة. وممّا يترتّب عليها جريان القاعدة في المندوبات المركّبة إذا تعذّر أحد أجزائها.

وهي بالقياس إلى الأجزاء الخارجيّة من الواجبات والمستحبّات المركّبة واضحة لا إشكال فيها.

وهل هي جارية بالقياس إلى الأجزاء العقليّة في المركّبات العقليّة كالشرط والمشروط والقيد والمقيّد ، الّذي مرجعهما إلى الماهيّة والقيد الوارد عليها إذا تعذّر القيد؟فيه إشكال بل منع ذكرنا وجهه في المسألة المشار إليها.

ص: 212


1- عوالي اللآلئ 4 : 58 ح 205.
2- نفس المصدر ، ح 207.
3- نفس المصدر ، ح 206.

وعليه فالأصل الثانوي المستفاد من الروايتين مقصور على جزء العبادة ، والمرجع بالقياس إلى الشرط هو الأصل الأوّلي لعدم انقلابه.

الأمر الثالث : إذا ثبت شرطيّة شيء للعبادة وشكّ في كونه شرطا واقعيّا أو علميّا

الأمر الثالث : فيما لو ثبت شرطيّة شيء للعبادة وشكّ في كونه شرطا واقعيّا أو شرطا علميّا فالأصل فيه كونه شرطا واقعيّا على ما هو المعروف المتّفق عليه عندهم.

والمراد بالشرط الواقعي ما كان وجوده من العالم والجاهل بالموضوع موقوفا عليه لصحّة العبادة ، ويلزم من انتفائه عن علم وعن جهل انتفاء المشروط كالطهارة الحدثيّة للصلاة. وبالشرط العلمي ما كان وجوده من العالم بالموضوع موقوفا عليه ، ويلزم من انتفائه عن علم انتفاء المشروط ، كالطهارة الخبثيّة بالقياس إلى الصلاة في حقّ العالم بالخبث ، فلا يلزم من انتفائها من الجاهل بنجاسة ثوبه أو بدنه انتفاء صحّة الصلاة لعدم كونها شرطا في حقّ الجاهل.

والمراد بالأصل المذكور أصالة العدم ، وبيانه : أنّ من صفة الشرط الواقعي إطلاق شرطيّته بالقياس إلى حالات العلم والجهل ، والشرط العلمي يقتضي تخصيص شرطيّة الشرط بصورة العلم ، والأصل عدمه ، فإنّ جعل الشرط ثابت وتخصيصه بصورة العلم مشكوك والأصل ينفيه.

ويمكن تفسيره بقاعدة أنّ المدّعي للزيادة من المتخاصمين يطالب بالدليل دون المنكر لها ، نظرا إلى أنّ جعل أصل الشرط في محلّ الخلاف متّفق عليه بينهما والاختلاف في تخصيصه بالعالم ، فالمدّعي للشرط العلمي يطالب بالدليل دون المدّعي للشرط الواقعي ، وهذا يكشف عن مطابقة دعواه الأصل.

ونظيره ما في أصالة الإمكان فيما يتردّد بينه وبين الامتناع على الصحيح من محامل الأصل هنا من قاعدة مطالبة الدليل من مدّعي الامتناع ، لرجوع قوله إلى دعوى الزيادة الّتي ينفيها القائل بالإمكان ، فإنّ الامتناع عبارة عن ضرورة جانب العدم ، وهذا ينحلّ إلى عدم الشيء وكونه ضروريّا له بالنظر إلى ذاته ، والعدم متّفق عليه بينهما واختلافهما إنّما هو في الزيادة وعلى مدّعيها إقامة الدليل ، فالإمكان يوافق قاعدة أنّ مدّعيه لا يطالب بالدليل لأنّه ينكر ضرورة جانب العدم.

ثمّ الشرط العلمي قد يطلق على ما كان وجود الشيء في الاعتقاد شرطا كوجوده في الواقع وإن لم يكن موجودا في الواقع ، ومرجعه إلى بدليّة الوجود الاعتقادي للوجود الواقعي ، فالشرط حينئذ أعمّ من وجوده في الواقع والاعتقاد بوجوده وإن لم يكن موجودا ،

ص: 213

فالأصل فيه أيضا هو الشرط الواقعي لأصالة عدم جعل البدل.

وقد يطلق أيضا على ما كان وجود الشيء في الاعتقاد معتبرا في موضوع الشرطيّة على وجه الشطريّة أو الشرطيّة ، بأن يكون الشرط هو المجموع من وجود الشيء والاعتقاد بوجوده ، أو وجود الشيء بشرط الاعتقاد بوجوده على حدّ الزنا وأحكامه المعلّقة على وطئ الأجنبيّة مع العلم بكونها أجنبيّة ، فلا يحكم به ولا يجري أحكامه على الوطئ بالأجنبيّة باعتقاد أنّها زوجة ، ولا على الوطئ بالزوجة باعتقاد أنّها أجنبيّة ، والأصل فيه أيضا يقتضي واقعيّة الشرط على معنى كون نفس وجود الشيء شرطا ، لأصالة عدم تعرّض الشارع عند الجعل لاعتبار ما عدا وجوده شطرا أو شرطا ، وعدم أخذه الاعتقاد جزء في موضوع الشرطيّة وعدم ملاحظته الاعتقاد بوجوده عند ملاحظة وجوده.

وقد يطلق أيضا على ما كان وجود الشيء في الاعتقاد شرطا ، على معنى كون الشرط هو اعتقاد المكلّف بوجود الشيء وإن لم يكن موجودا في الواقع ، ولعلّ عدالة الإمام في شرط صحّة صلاة المأموم من هذا القبيل ، فالواقعي حينئذ هو ما كان نفس وجود الشيء في الواقع شرطا ، فإذا دار الأمر بينه وبين العلمي بهذا المعنى فلا يجري فيه أصل العدم ، لرجوع إجرائه لتعيين أحد الطرفين حينئذ إلى تعيين الحادث بالأصل ، لكون الجعل متيقّنا والشكّ إنّما هو في المجعول ، لتردّده بين كونه وجود الشيء أو الاعتقاد بوجوده ، ولا يمكن نفي أحدهما دون الآخر بالأصل.

ولا بدّ حينئذ من الرجوع إلى أصلي البراءة والاشتغال في نفي الاعادة والقضاء ، ويختلف ذلك باختلاف الفروض ، فإن أتى بالمشروط غافلا عن وجود الشيء فبان بعد الفراغ وجوده ، فهل يحكم بصحّته المسقطة للاعادة والقضاء أو بطلانه المقتضي لهما؟وجهان ، مبنيّان على كون الشرط وجوده فيصحّ ، أو الاعتقاد بوجوده فلا يصحّ ، والشكّ في ذلك يوجب الشكّ في وجوب الاعادة والقضاء ، وقضيّة أصل الاشتغال في الوقت وجوب الاعادة ، وقضيّة أصل البراءة في خارج الوقت عدم وجوب القضاء ، لمكان الشكّ في صدق قضيّة الفوات الموجب للشكّ في أصل التكليف بالقضاء.

ولو أتى بالمشروط معتقدا وجود ذلك الشيء فانكشف بعد الفراغ عدم وجوده فأصل الاشتغال يقتضي وجوب الاعادة وأصل البراءة يقتضي عدم وجوب القضاء ، فاختلف مقتضى الأصلين باختلاف الفرض في الفرعين ، لكون مقتضى أصل الاشتغال في الفرع

ص: 214

الأوّل علميّة الشرط وفي الفرع الثاني واقعيّته وأصل البراءة بالعكس فليتدبّر ، وليس في المقام أصل منضبط آخر يقتضي أحد طرفي الشكّ مطّردا.

الأمر الرابع : في تعارض الجزء والشرط عن الإتيان بالعبادة

الأمر الرابع : في أنّه إذا تعارض الجزء والشرط عند الاتيان بالعبادة ،بأن لا يتمكّن المكلّف لعذر من الأعذار من ادراكهما معا بل لا بدّ له من ادراك أحدهما وطرح الآخر وتفويته ، فهل الأصل تفويت الجزء أو تفويت الشرط؟ وذلك كما في زيارة عاشوراء بناء على اشتراطها بوحدة المجلس استظهارا له من الروايات الواردة في بيان كيفيّتها إذا لم يمكنه لعذر الاتيان بالزيارة الكاملة التامّة الأجزاء في مجلس واحد ، فيدور الأمر حينئذ بين حفظ الشرط وطرح الجزء ، بأن يكتفي بلعن واحد وسلام واحد مع سائر الأفعال في مجلس واحد ، أو حفظ الجزء وطرح الشرط بأن يأتي بتمام الأجزاء في مجالس متعدّدة ، وقاعدة الاحتياط هنا تقتضي الجمع بين الصورتين بل هو أقرب بالصواب ، غير أنّه قد يرجّح طرح الشرط والأخذ بالجزء ، لكون الشرط وصفا وطرح الوصف أهون من طرح الموصوف.

ولقد تمسّك بنظير ذلك جماعة من المتأخّرين كالشهيد وأحزابه في مسألة لباس المصلّي إذا انحصر الساتر لعورته في ثوب متنجّس ، فيدور الأمر حينئذ بين الصلاة فيه طرحا لشرط الساتر وهو الطهارة ، والصلاة عريانا طرحا للساتر الّذي هو الموصوف ، فرجّحوا الأوّل استنادا إلى كون الوصف أولى بالطرح من الموصوف ، ولعلّ وجه الأولويّة تأخّر رتبة الشرط في الملاحظة والجعل عن رتبة الجزء ، فإنّ الآمر يلاحظ المأمور به أوّلا بأجزائه ثمّ يعتبر له شرائط ، حتّى أنّه يقدّم الجزء في الذكر فيقول : « إيتني بالشيء الفلاني مع الشرط الفلاني » وبذلك ربّما أمكن دفع ما أورد على الوجه المذكور من أنّه اعتبار صرف لا تعويل عليه.

الأمر الخامس : إذا ثبت اعتبار شيء في العبادة ودار بين كونه جزءا أو شرطا

الأمر الخامس : إذا ثبت اعتبار شيء في العبادة ودار بين كونه جزءا أو شرطا ، فالظاهر أنّه لا يمكن الخروج عن الشبهة بأصل العدم لرجوعه إلى تعيين الحادث بالأصل ، إذ الجزء ما يعتبر وجوده من مجموع الوجودات الّذي هو عين وجود الكلّ ، والشرط ما يعتبر وجوده قيدا لوجود الكلّ الذي هو عين وجودات أجزائه ، والمفروض أنّ الشارع قد اعتبر وجود هذا الشيء ، فالجعل معلوم ووجهه غير معلوم وتعيين أحدهما بالأصل غير معقول.

نعم لو ظهر كونه من مقولة الجنس المقول على الكلّ تبيّن كونه جزءا ، كما أنّه لو ظهر كونه ممّا اعتبر مقارنته لتمام العمل انكشف كونه شرطا ، ولو لم يظهر شيء من ذلك وجب

ص: 215

ترتيب آثار الشرط عليه من نفي اشتراطه بشرائط الكلّ من النيّة والطهارة والاستقبال والستر وغيرها من شرائط الصلاة مثلا استنادا إلى الأصل ، لأنّ من حكم جزء الشيء اشتراطه بشرائط ذلك الشيء بخلاف الشرط ، فليتدبّر.

الأمر السادس : في دوران الأمر بين الشرطيّة والمانعيّة

الأمر السادس : في دوران الأمر بين الشرطيّة والمانعيّة فيما ثبت اعتباره في العبادة ولم يعلم أنّ المعتبر وجوده أو عدمه.

وبعبارة اخرى : تقييد المأمور به بقيد مردّد بين أمر وجودي أو أمر عدمي كالتكفير بالنظر إلى الصلاة.

وفيما دار الشرط بعد ثبوت الشرطيّة بين شيئين كالتسمية في الاوليين من الصلوات الاخفاتيّة المشروطة بما اشتبه كونه الجهر أو الاخفات ، ونحوه شرطيّة أحد الأمرين في قراءة ظهر الجمعة ، وفيما دار الأمر بين كون الشيء جزءا أو زيادة مبطلة كتدارك الفاتحة عند الشكّ فيه بعد الدخول في السورة.

وهذه ثلاث مسائل لا مجرى لأصل العدم في شيء منها لرجوعه إلى تعيين الحادث بالأصل ، بل الجميع مندرج في عنوان دوران المكلّف به بين المتبائنين.

وقد ظهر في محلّه أنّ حكمه وجوب الاحتياط بالجمع والتكرار ، لأصل الاشتغال وقاعدة وجوب دفع الضرر الاخروي المحتمل وهو العقاب الّذي يجوّزه العقل على المخالفة الّتي قد تلزم بترك الاحتياط والتكرار.

وتوهّم التخيير بينهما بناء على أصالة البراءة عن العقاب المحتمل ترتّبه على المخالفة الاتفاقيّة.

يدفعه : أنّ أصل البراءة فيما لم يكن الشكّ في التكليف ولا آئلا إليه كما في الشكّ في الجزئيّة والشرطيّة ممّا لا معنى له.

وتوهّم دوران الأمر بين المحذورين وهما الوجوب والحرمة فلا يمكن فيهما الاحتياط فيرجع فيه إلى أصالة التخيير.

يدفعه : منع الحرمة الذاتيّة ، والحرمة التشريعيّة غير قادحة لورود الاحتياط عليها.

نعم التزام التخيير في نحو المسألة الثالثة لعدم إمكان الاحتياط الّذي طريقه هنا التكرار ، لا لدوران الأمر بين المحذورين بل لخروج الصلاة الثانية على تقدير التكرار عن موضوع الشكّ المتحقّق في الصلاة الاولى الّتي تردّد فيها قراءة الفاتحة بين كونها جزءا أو زيادة مبطلة.

ص: 216

المطلب الثالث : من الشكّ في المكلّف به فيما لو اشتبه الواجب بالحرام ، بأن يعلم كون أحد الفعلين واجبا والآخر حراما واشتبه أحدهما بالآخر لشبهة موضوعيّة أو حكميّة ، ومن أمثلة الأوّل ما لو اشتبهت الزوجة المنذور وطؤها بالمطلّقة المحرّم وطؤها ، وهذا مما لا يمكن فيه الاحتياط لدوران الأمر بين المحذورين ، ففعل الجميع يوجب المخالفة القطعيّة بارتكاب الحرام ، كما أنّ ترك الجميع يوجب المخالفة القطعيّة بترك الواجب ، فتعيّن الرجوع فيه إلى أصالة التخيير القاضية بإتيان أحدهما وترك الآخر ، لاستقلال العقل بكون الموافقة الاحتماليّة مع احتمال المخالفة أولى من الموافقة القطعيّة مع القطع بالمخالفة عند دوران الأمر بينهما.

خاتمة : في شروط إعمال أصل البراءة

خاتمة : في شروط إعمال أصل البراءة وما بمعناه من الاصول ، كاستصحاب البراءة الأصليّة واستصحاب عدم التكليف الإلزامي من وجوب أو تحريم فيما كان حالته السابقة عدم ذلك الحكم ، والتحقيق أنّه ليس له إلاّ شرطان :

أحدهما : الفحص الّذي هو عبارة عن طلب ما يرفع الشبهة من أمارة أو دليل علمي أو ظنّي معتبر ، بل هو شرط في الجملة.

وتفصيل القول فيه : أنّ أصل البراءة على ما ظهر من تضاعيف مباحثه قد يكون معمولا في الموضوعات وهو الّذي يعبّر عن الشبهة المعتبرة في مجراه بالشبهة الموضوعيّة ، وقد يكون معمولا في غيرها ممّا يرجع إلى الحكم الشرعي الكلّي أو متعلّقه المعبّر عنه بالمكلّف به ، وهو الّذي يعبّر عن الشبهة المعتبرة في مجراه بالشبهة الحكميّة.

فالكلام في اشتراط العمل به بالفحص وعدمه يقع في مقامين :

المقام الأوّل : فينبغي القطع بعدم وجوب الفحص في إعمال أصل البراءة في الموضوعات ، وعدم اشتراطه بالبحث والسؤال في شبهة تحريميّة أو وجوبيّة ، دليله بعد الإجماعات المنقولة الإجماع العملي وهو السيرة القطعيّة من المسلمين الكاشفة عن الرضاء ، فإنّها في جميع الأعصار وكلّ الأمصار مستقرّة في البناء في الموضوعات على الاصول من دون فحص وسؤال ، من دون فرق فيه بين العوامّ والخواصّ من العلماء والفقهاء ، حتّى أنّ الفقهاء في كلّ عصر كانوا يرخّصون أتباعهم من العوامّ بالبناء على الاصول فيها من دون أن يكلّفوهم الفحص ، مضافا إلى أخبار ذلك الأصل ممّا يختصّ بالشبهات التحريميّة كصحيحة عبد اللّه بن سنان ، ورواية مسعدة بن صدقة ولا سيّما في

ص: 217

ذيلها من قوله عليه السلام : « الأشياء كلّها على ذلك حتّى يستبين لك غير هذا أو تقوم به البيّنة (1) » الظاهر في صورة إمكان تحصيل العلم أو تحصيل البيّنة ، وما يعمّها والشبهات الوجوبيّة كالنبويّ المصرّح برفع مؤاخذة التسعة الّتي منها ما لا يعلمون (2).

ويمكن الاستدلال عليه ببناء العقلاء في الامور المتعلّقة بهم ، ألا ترى أنّ السيّد إذا قال لعبده : « أكرم العلماء أو أعط الفقراء » فالعبد لا يبالي عدم اجراء حكم العامّ فيمن يشكّ كونه عالما أو فقيرا تعويلا على الأصل من دون فحص ، ولا يذمّه العقلاء ولا يؤاخذه السيّد على تركه الفحص ، ولا ينافي ذلك التزامهم الفحص فيما لو قال السيّد لعبده : « احضر علماء البلد أو أضف أطبّاء البلد » حيث إنّ العبد لا يزال يسأل عن العلماء والأطبّاء في مورد الشكّ ولا يقتصر على المعلومين عنده ، ولا ما لو قال : « أعط كلّ بالغ رشيد من هذه الجماعة » حيث إنّه لا يزال يسأل عمّن جمع الوصفين من الجماعة ولا يقتصر على من علم اجتماعهما فيه ، فإنّ التكليف في الأوّل وارد على المجموع لظهور الخطاب في العموم المجموعي ، فلا بدّ من احرازه تحصيلا ليقين الامتثال ولا يكون إلاّ بالاحتياط أو بالسؤال ، بخلاف ما ذكرناه في الدليل.

وفي الثاني وإن كان واردا على كلّ فرد ولكنّ الباعث على السؤال فيه إنّما هو العلم الإجمالي بأنّ في الجماعة أيضا من جامع الوصفين غير من علم اجتماعهما فيه تفصيلا ، فهذا التكليف المقطوع به بالنسبة إلى محلّ العلم الإجمالي أيضا يقتضي الامتثال اليقيني ولا يتأتّى إلاّ بالاحتياط أو السؤال ، ولذا لو لم يعلم العبد إجمالا بوجود من جامع الوصفين في الجماعة زائدا على ما علمه تفصيلا وشكّ بالنسبة إلى واحد في اجتماعهما فيه ، فهو لا يبالي حينئذ في عدم اجراء حكم العامّ فيه من دون سؤال ولا يذمّ ولا يؤاخذ.

فحاصل الفرق بين ما ذكرناه في الاستدلال وبين المثالين أنّ ما في الاستدلال من الشكّ في التكليف وما في المثالين من الشكّ في المكلّف به بعد اليقين بالتكليف المقتضي للامتثال اليقيني.

وبعبارة اخرى : أنّ مورد الشكّ في الأوّل من مورد أصل البراءة وفي المثالين من مورد أصل الاشتغال ، فالتزام الفحص في الثاني تحصيلا ليقين البراءة لا ينافي ترك الفحص في

ص: 218


1- الوسائل 12 : 60 الباب 4 من أبواب ما يكتسب به ، ذيل الحديث 4.
2- الوسائل 11 : 295 الباب 56 من أبواب جهاد النفس ، ح 1.

الأوّل تعويلا على أصل البراءة.

نعم ربّما يشكل الحال بالنسبة إلى ما ذكرناه من عدم وجوب الفحص في إعمال أصل البراءة في الموضوعات مطلقا في شيئين :

أحدهما : أنّ نفي وجوب الفحص في الموضوعات - على ما ذكرت - كيف يجامع ما ذكروه في ثمرة مسألة دخول العلم في مداليل الألفاظ وضعا أو خطابا وعدمه ، من أنّها تظهر في وجوب الفحص وعدمه في مثل قوله : « صلّ إلى القبلة ، واعمل بخبر العادل ، ولا تعمل بخبر الفاسق » فعلى القول بعدم دخوله فيها مطلقا يجب الفحص في معرفة القبلة الواقعيّة وبثبوت وصفي العدالة أو الفسق للمخبر ، وهو يناقض نفي وجوبه في العمل بالأصل.

ويندفع : بأنّ الثمرة المذكورة مفروضة فيما ورد الخطاب واشتبه مدلوله - باعتبار الخلاف في دخول العلم - بين التكليف المشروط كما هو لازم القول بدخوله والتكليف المطلق.

فعلى الأوّل لا فحص لانتفاء التكليف بانتفاء موضوعه ، لأنّ كلّ تكليف مشروط بتحقّق موضوعه.

وعلى الثاني لا بدّ من الفحص أو الاحتياط باتيان المحتملات امتثالا للتكليف المقطوع به.

ومحلّ البحث ما لو شكّ في التكليف بسبب اشتباه الموضوع ، على معنى الشكّ في صدق العنوان المعلّق عليه الحكم على الموضوع الخارجي ، فنفي وجوب الفحص هنا لا ينافي إيجابه ثمّة ، والفارق أنّ مورد الثمرة ما كان على فرض الاشتباه من مجاري أصل الاشتغال ومحلّ البحث ما كان من مجاري أصل البراءة.

وثانيهما : ما صار إليه جماعة في مسألة استطاعة الحجّ ونصاب الزكاة عند الشكّ في بلوغ المال حدّ الاستطاعة والنصاب من ايجاب الفحص بمحاسبة المال ، ومنع العمل بأصل البراءة عن وجوب الحجّ ووجوب الزكاة قبل المحاسبة ، حتّى أنّه يظهر من بعض هؤلاء كبعض الأعلام كونه أصلا كلّيا في مطلق الواجبات المشروطة إذا شكّ في حصول شرط وجوبها ، حيث قال : « إنّ الواجبات المشروطة بوجود شيء إنّما يتوقّف وجوبها على وجود الشرط لا على العلم بوجوده ، فبالنسبة إلى العلم مطلق لا مشروط ، مثل أنّ من شكّ في كون ماله مقدار استطاعة الحجّ لعدم علمه بمقدار المال لا يمكنه أن يقول : إنّي لا أعلم أنّي مستطيع فلا يجب عليّ شيء ، بل يجب عليه محاسبة ماله ليعلم أنّه واجد للاستطاعة أو فاقد لها.

ص: 219

نعم لو شكّ بعد المحاسبة في أنّ هذا المال هل يكفيه في الاستطاعة أم لا؟ فالأصل عدم الوجوب حينئذ » انتهى (1).

فإنّ مقتضى الفرض كون المسألة من الشكّ في التكليف باعتبار الشكّ في الموضوع الخارجي وهو كون المال في حدّ الاستطاعة أو كون المكلّف مستطيعا ، وقضيّة القاعدة المتقدّمة المجمع عليها جواز البناء على الأصل من دون فحص كما عليه جماعة ، فما وجه التزام محاسبة المال بحيث ينهض لتخصيص القاعدة؟

ولا ريب أنّ المسألة ليست إجماعيّة ليعتذر بالإجماع ، ولو كان هناك وجه صالح لأن يعوّل عليه فهو في غاية الخفاء.

نعم يظهر من بعض الأعلام في عبارته المتقدّمة حيث ذكر حديث توقّف الوجوب في الواجبات المشروطة بوجود شيء على وجود الشرط لا العلم بوجوده ، بناء الحكم المذكور على القول بعدم دخول العلم في مداليل الألفاظ ، وكونه من فروع ما يترتّب على هذا القول من وجوب الفحص في معرفة الموضوع المعلّق عليه الحكم.

وأنت بالتأمّل فيما بيّناه تعرف ضعف ذلك ، فإنّ مقتضى القولين في المسألة المشار إليها كون التكليف المستفاد من نحو « صلّ إلى القبلة » مشروطا على أحدهما ومطلقا على الآخر ، ولذا يترتّب على الثاني وجوب الفحص لكونه مقدّميا ، وهو في الواجب المشروط حال انتفاء شرط وجوبه غير معقول ، والتكليف فيما نحن فيه مشروط على القولين ، وأثر الخلاف يظهر في الشرط هل هو الاستطاعة الواقعيّة أو العلم بها؟

غاية الأمر أنّه على الثاني مقطوع الانتفاء فيقطع انتفاء المشروط ولا حاجة معه إلى الأصل ، وعلى الأوّل مشكوك الحصول فيشكّ معه [ في وجوب ](2) المشروط فتمسّ الحاجة إلى الأصل في نفيه ، ومعه لا مقتضي لوجوب الفحص لأنّه من آثار إطلاق التكليف ، فلا يعقل ترتّبه على ما يشكّ في إطلاقه.

ومن الأعاظم من نفى وجوب الفحص في مسألتي الاستطاعة والنصاب استنادا إلى الأصل ، واحتمل كون وجه القول بالوجوب فهم العرف قائلا : « بأنّه لمّا كان الناس صنفين فالمفهوم عرفا وجوب الفحص ، فإنّ المولى إذا أمر عبيده بأنّ من كان عنده ألف دينار فليأت بمثلها بمائة ، ومن كان عنده مائة فليأت منها بعشرة ، فيفهم عرفا وجوب

ص: 220


1- القوانين 1 : 460.
2- أضفناها لاستقامة العبارة.

المحاسبة على كلّ حتّى تبيّن المكلّف من غيره ، وهنا لمّا كان للشارع حكمان متعلّقان بعبادة أحدهما أنّ المستطيع منهم يجب عليهم الحجّ ، والآخران غير المستطيعين لا يجب عليهم ، فيجب على المكلّفين أن يتفحّصوا عن أحوالهم حتى يظهر خطابهم.

وهذا أضعف من سابقه لمنع فهم العرف من الخطاب ، والاشتهاد له بما ذكر من المثال غير صحيح ، لوضوح الفرق بين فهم العرف وحكم العقل من جهة مقدّمة الامتثال ، والتزام العبيد المحاسبة إنّما هو للقطع بتنجّز التكليف بإتيان شيء مع اشتباه المكلّف به هل هو إتيان المائة أو العشرة؟ لعلم كلّ إجمالا ببلوغ ما عنده من المال حدّا وجب معه أحد الأمرين.

ومن مشايخنا من وجّه المقام بقوله : « الّذي يمكن أن يقال في وجوب الفحص أنّه إذا كان العلم بالموضوع المنوط به التكليف يتوقّف كثيرا على الفحص بحيث لو أهمل الفحص لزم الوقوع في مخالفة التكليف كثيرا ، تعيّن هنا بحكم العقلاء اعتبار الفحص ، ثمّ العمل بالبراءة - إلى أن قال - : ومن هنا يمكن أن يقال في مثال الحجّ المتقدّم : أنّ العلم بالاستطاعة في أوّل أزمنة حصولها يتوقّف غالبا على المحاسبة فلو بنى الأمر على تركها ونفي وجوب الحجّ بأصالة البراءة لزم تأخير الحجّ عن أوّل سنة الاستطاعة بالنسبة إلى كثير من الأشخاص (1) » وفيه : أنّ مخالفة التكليف اللازمة من إهمال الفحص إن اريد بها مخالفة التكليف الواقعي فكثرة لزومها غير قادحة في العمل بالأصل ، لأنّ مبناه بمقتضى إطلاق أدلّته على نفي التكليف الفعلي وإن لزم منه مخالفة الحكم الواقعي كثيرا ، وإن اريد بها مخالفة التكليف الفعلي فالملازمة غير مسلّمة ، لأنّ مفاد أصل البراءة إذا كان نفي التكليف الفعلي فلا يلزم من العمل به مخالفة التكليف الفعلي أصلا فضلا عن كثرته.

وتحقيق المقام : أنّ وجوب الفحص الّذي منه محاسبة المال إن اريد به الوجوب الشرعي على معنى كونه خطابا من الشارع بالخصوص ، فهو ممّا لا دليل عليه من إجماع ولا عقل ولا نقل ، إذ لا معنى للإجماع في محلّ الخلاف ، والعقل غير مستقلّ بإدراك الوجوب على هذا الوجه خصوصا إذا اريد منه ما يعاقب على تركه ، وليس في الأدلّة النقليّة أيضا ما يشهد بذلك ، فالأصل عدم الوجوب.

وإن اريد به الوجوب الشرطي على معنى كون الفحص والمحاسبة شرطا للعمل بأصل البراءة في نفي وجوب الحجّ والزكاة.

ص: 221


1- فرائد الاصول 2 : 445.

ففيه : أنّ كون الفحص شرطا للعمل بأصل البراءة إنّما هو باعتبار كونه ما يحرز به موضوع أصل البراءة ، وله في الموضوعات الخارجيّة موضوع لا يحتاج إحرازه إلى الفحص وإنّما يحتاج إليه في الأحكام ، وذلك لأنّ موضوعه في الشبهات الحكميّة إنّما هو العجز عن العلم وما يقوم مقامه ولا يحرز ذلك إلاّ بالفحص بخلاف الشبهات الموضوعيّة لكون موضوعها عدم العلم وما يقوم مقامه ، وهذا حاصل بدون الفحص.

وممّا يفصح بما ذكرنا تصريحهم في مواضع غير محصورة من المسائل الفرعيّة بمعذوريّة الجاهل بالموضوع دون الجاهل بالحكم ، وليس هذا إلاّ من جهة كون بناء أصل البراءة في الموضوعات على عدم العلم وما يقوم مقامه وفي الأحكام على العجز عن العلم أو عمّا يقوم مقامه.

فإن قلت : إطلاق القول بكون موضوع الأصل في الموضوعات عدم العلم محلّ منع ، بل إنّما يسلّم ذلك فيما لو كان الشكّ في التكليف والوجوب باعتبار الشكّ في اندراج المورد في العنوان المعلّق عليه الحكم في الخطاب.

وأمّا ما كان الشكّ في الوجوب المشروط باعتبار الشكّ في حصول شرطه فلا ، بل هو من حيث موضوع الأصل كالشبهات الحكميّة ، فلا بدّ من الفحص فيه احرازا لموضوع الأصل وهو العجز عن العلم وما بمعناه.

قلت : ثبوت الفرق في الموضوعات بكون موضوع الأصل في بعضها كما نحن فيه هو العجز عن العلم أوّل المسألة حيث لا شاهد عليه ، غاية الأمر قيام احتمال وينفيه إطلاق أدّلة الأصل وعمومها.

إلاّ أن يمنع العموم بدعوى ظهور « ما لا يعلمون » في النبويّ باعتبار وقوعه في قرن الامور الاضطراريّة في الجهل الّذي لا يكون عن تقصير المكلّف ، والعقل الّذي هو العمدة من أدلّة أصل البراءة إنّما يحكم بقبح المؤاخذة على المخالفة فيما لا سبيل للمكلّف إلى معرفته ، فيكون موضوع الأدلّة من العقل والنقل أيضا صورة العجز عن العلم لا مطلق عدم العلم.

وتوهّم أنّ هذا يعطي اعتبار العجز في موضوع الأصل في مطلق الموضوعات لا خصوص ما نحن فيه ، فوجب الفحص في الجميع وبطل الفرق والتفصيل.

يدفعه : أنّ قضيّة هذا البيان وإن كان ذلك إلاّ أنّ الشارع أسقط اعتبار الفحص في غير ما نحن فيه لأدلّة لا تجري فيما نحن فيه من الإجماع وبناء العقلاء ، فإنّ الإجماع ممّا

ص: 222

لا معنى له في محلّ الخلاف ، وبناء العقلاء على عدم الفحص فيما نحن فيه غير معلوم كما كان كونه على الفحص أيضا غير معلوم ، هذا مع أنّ الظاهر أنّ الشارع إنّما أسقط وجوب الفحص في العمل بالأصل في غير ما نحن فيه لحكم غير موجودة فيما نحن فيه ، من تعذّر الفحص في كثير من الموضوعات ، واستلزامه العسر والحرج بل اختلال نظم العالم في أكثرها ، لأنّ كلّ واحد من آحاد المكلّفين في يومه وليلته يحتاج إلى إعمال أصل البراءة في موارد متكثّرة من الامور المتعلّقة به ، فلو بنى على لزوم الفحص في الجميع لقضى ذلك باستيعاب الفحص لتمام الوقت فيختلّ بذلك سائر امور معاشه.

مضافا إلى أنّه في كثير من الموارد أيضا ممّا يثير مفاسد اخر من فتنة أو عداوة أو كسر قلب أو نحو ذلك كما يظهر للمتأمّل ، ومن الظاهر انتفاء جميع هذه الامور في محاسبة المال مثلا لاستعلام بلوغه حدّ الاستطاعة أو النصاب.

فالأقوى حينئذ هو القول بوجوب الفحص والمحاسبة في الواجبات المشروطة المشكوك في وجوبها للشكّ في حصول شرط وجوبها.

وإن كان القول بعدم الوجوب أيضا لا يخلو عن قوّة.

المقام الثاني : لا إشكال في وجوب الفحص في إعمال أصل البراءة في الشبهات الحكميّة للإجماع محصّلا ومنقولا على عدم جواز العمل به قبل استفراغ الوسع في الأدلّة ، وقضاء العقل المستقلّ بعدم كون الجهل المتوسّط بين العلم الإجمالي والتمكّن من العلم التفصيلي عذرا ، فيصحّ عقلا المؤاخذة والعقوبة على المخالفة الناشئة عن هذا الجهل.

وقضيّة ذلك كون موضوع أصل البراءة هو العجز عن العلم بالحكم الواقعي ، ولا يحرز إلاّ بالفحص فيجب ، ولبناء العقلاء على الفحص والسؤال عند العلم الإجمالي والتمكّن من العلم التفصيلي ، وعدم البناء على أصل البراءة من غير فحص ، كما يرشد إليه التأمّل في طريقتهم في النظر في الطومار الصادر من السلطان إلى ولاته المنصوبين في البلاد ، مع قضاء ضرورة الوجدان بأنّ أصل البراءة إنّما يعمل به عند الاضطرار وانقطاع اليد عن الدليل واليأس عن وجوده ، ولا نعلم ذلك إلاّ بالفحص ، مع أنّه لو لاه لزم الهرج والمرج في الدين وعدم التديّن بشريعة سيّد المرسلين ، بل ويلزم المخالفة القطعيّة في الوقائع المعلومة بالاجمال ، مضافا إلى الأوامر الواردة بتعلّم الأحكام والتفقّه في الدين والسؤال فيما لا يعلم

ص: 223

كتابا وسنّة ، كقوله عزّ من قائل : ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ) (1) الآية وقوله أيضا : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (2) وقوله عليه السلام : « طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة » (3) وغيره من الروايات المتواترة الّتي يقف عليها المتتبّع.

وأنت بالتأمّل في اختلاف مساق هذه الأدلّة تعرف أنّ الفحص هاهنا يترتّب عليه فائدتان متبادلتان ، احداهما : تحصيل العلم بالحكم الواقعي ، واخراهما : احراز موضوع أصل البراءة ، فمن حيث يقصد به الفائدة الاولى يراد من الوجوب الّذي يضاف إليه الوجوب الشرعي ، المتضمّن للطلب الحتمي باعتبار كونه مقدّمة لتحصيل العلم الواجب عليه.

ومن حيث يقصد به الفائدة الثانية يراد من الوجوب المضاف إليه الوجوب الشرطي المعرّى عن الطلب ، لعدم واجب على هذا التقدير يكون الفحص مقدّمة له ، إذ العمل بأصل البراءة غير واجب ، فالوجوب المبحوث عنه هاهنا يراد به المعنى الأعمّ الدائر بين النوعين.

وأيّا ما ثبت كفى في ثبوت المطلب ، والأدلّة المقامة عليه مختلفة المفاد ، لانطباق بعضها على المعنى الأعمّ وبعضها الآخر على الوجوب الشرعي ، وبعضها الثالث على الوجوب الشرطي.

وكيف كان فأصل الوجوب ممّا لا شبهة فيه ولا كلام ، وإنّما الكلام في أنّه إذا ترك الفحص وبنى على أصل البراءة من دون فحص ، ويتكلّم فيه تارة من حيث استحقاقه العقاب وعدمه ، واخرى من حيث صحّة عمله الواقع منه في بنائه على الأصل.

أمّا الجهة الاولى : فالعقاب قد يتصوّر بالقياس إلى ترك الفحص ، وقد يتصوّر بالقياس إلى الأخذ بالأصل طابق الواقع أو خالفه ، وقد يتصوّر بالقياس إلى الواقع على تقدير مخالفة الأصل المعمول به للواقع ، فقد اختلفوا فيه على أقوال ثلاث :

الأوّل : أنّه يعاقب على ترك التعلّم الّذي هو بعينه ترك الفحص ولو مع مطابقة الأصل الواقع ، لا على الواقع ولو مع مخالفة الأصل إيّاه ، لقبح تكليف الغافل كما عن المحقّق الأردبيلي (4) وتلميذه صاحب المدارك (5) ، وعن بعض المدقّقين (6) أنّه قول بالعقاب على ترك المقدّمة دون ذي المقدّمة ، وهذا بناء منهما على وجوب المقدّمة لذاتها.

ص: 224


1- التوبة : 122.
2- النحل : 43 ، الانبياء : 7.
3- عوالي اللآلي 4 : 70 ح 36.
4- مجمع الفائدة 2 : 110.
5- المدارك 2 : 344 - 345 و 3 : 219.
6- هو المحقّق جمال الدين الخوانساري في حاشيته على الروضة : 345.

الثاني : أنّ الفحص لا عقاب على تركه ، بل إنّما يترتّب العقاب على العمل بالأصل من غير فحص خالف الواقع أو طابقه ، أمّا على الأوّل : فواضح ، وأمّا على الثاني : فللتجرّي ، لأنّ الجاهل التارك للفحص مع إمكانه مقصّر ، فبناؤه على الأصل الغير المرخّص فيه مع علمه الإجمالي بأنّ في الوقائع المشكوكة واجبات ومحرّمات واقعيّة تعريض للنفس على ترك ما لا يؤمن كونه تركا للواجب وارتكاب ما لا يؤمن كونه ارتكابا للحرام ، وهو تجرّ ، والتجرّي قبيح.

الثالث : أنّه لا عقاب على الفحص ولا على الواقع على تقدير مطابقة العمل له ، نعم يترتّب العقاب على الواقع على تقدير المخالفة ، وهذا أجود الوجوه فهو المختار في المسألة.

أمّا أنّ الفحص لا عقاب على تركه فلأنّه إمّا مقدّمة إحراز موضوع الأصل ، أو مقدّمة تحصيل العلم بالحكم الواقعي.

فعلى الأوّل لا يعقل العقاب على تركه ، لعدم وجوبه شرعا بحيث يكون مطلوبا للشارع حتما ، لعدم وجوب العمل بالأصل حتّى يجب بسببه مقدّمة إحراز موضوعه.

وعلى الثاني فالفحص وإن كان واجبا بالوجوب الشرعي إلاّ أنّه وجوب غيري ، والواجبات الغيريّة - على ما حقّقناه في بحث المقدمّة (1) - لا يعاقب على تركها من حيث هو تركها.

وأمّا أنّ الواقع لا عقاب عليه على تقدير المطابقة ، فلأنّه ممّا لا يعقل له موجب سوى التجرّي.

ويدفعه : بعد تسليم الصغرى منع الكبرى ، إذ التجرّي ما لم يؤثّر في حدوث الحكم في الفعل المتجرّى به وهو صيرورته محرّما لم يؤثّر في العقاب عليه. والأوّل ممنوع على ما قرّر في محلّه فكذا الثاني.

وأمّا أنّه على تقدير المخالفة يترتّب عليها العقاب فلوجود المقتضي وفقد المانع.

أمّا الأوّل : فلأنّ مخالفة الخطاب بنفسها مقتضية للعقاب لو لا المانع من عذر عقلي أو شرعي.

وأمّا الثاني : فلأنّ الجهل المفروض لا يعدّ عذرا في نظر العقل ، لأنّه لا يقبح مؤاخذة الجاهل القادر على الفحص على مخالفة الواقع ، ولا في نظر الشرع إذ ليس في الوجوه الشرعيّة ما يقتضي كون مطلق الجهل عذرا ، بل فيها ما يدلّ على الخلاف ، كالروايات الدالّة على ذمّ الجاهل في مخالفته الناشئة عن تقصيره في تعلّم الأحكام مثل قوله عليه السلام - في مجدور أصابته جنابة فغسّلوه فمات - : « قتلوه قتلهم اللّه ، ألا سألوا؟ ألا يمّموه (2) » وقوله عليه السلام

ص: 225


1- تعليقة على معالم الاصول 3 : 378.
2- الوسائل 2 : 967 ، الباب 5 من أبواب اليتمّم ، ح 1 ، مع اختلاف يسير.

- فيمن أطال الجلوس في بيت التخلية استماعا للغناء - : « ما كان أسوأ حالك لو متّ على هذه الحالة (1) » ، ثمّ أمره بالتوبة وغسلها بعد ما تلى عليه قوله تعالى : ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً ) (2) مع اعترافه بجهله بقوله : « كأنّي لم أسمع من كتاب اللّه هذه الآية » وما ورد في تفسير قوله تعالى : ( فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ) (3) من أنّه يقال للعبد : هلاّ علمت؟ فإن قال : نعم ، قيل : فهلاّ عملت؟ وإن قال : لا فقيل له هلاّ تعلّمت حتّى تعمل (4)؟

وما عن القمّي في تفسير قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ ) نزلت فيمن اعتزل عن أمير المؤمنين ولم يقاتلوا معه ( قالُوا : فِيمَ كُنْتُمْ؟ قالُوا : كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ) - أي لم نعلم [ مع ] من الحقّ - فقال اللّه تعالى : ( أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها ) - أي دين اللّه وكتابه واضحا متّسعا فتنظروا فيه (5) فترشدوا وتهتدوا به سبيل الحقّ إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع فائدتان :

الاولى : إنّ الجاهل التارك للفحص إنّما يعاقب على مخالفته الواقع في واقعة لو فحص فيها لوصل إلى الواقع وأدركه ، لاندراجه حينئذ في الجاهل المتمكّن من العلم المنجّز عليه التكليف ، على معنى صيرورة الحكم الواقعي في حقّه تكليفا فعليّا بتحقّق شرطه ، وهو العلم الإجمالي مع التمكّن من العلم التفصيلي ، فمخالفته الواقع مخالفة لهذا التكليف الفعلي ، وهو المؤثّر في استحقاق العقاب لا غير. بخلاف ما لو لم يكن كذلك ، بأن ترك الفحص في واقعة لو فحص فيها لم يصل إلى الواقع ، فإنّه ممّا لا يصحّ مؤاخذته ولا عقابه ، لعدم تمكّنه في الواقع من العلم بالحكم الواقعي ، فلم يتنجّز عليه التكليف لانتفاء شرطه ، فليس مخالفته مخالفة للتكليف الفعلي. ومخالفة الواقع ما لم يؤدّ إلى مخالفة التكليف الفعلي لم يؤثّر في مؤاخذة ولا عقاب.

الثانية : أنّ الواقع الّذي يستحقّ العقاب على مخالفته أعمّ من الواقعي الأوّلي والواقعي الثانوي النائب عن الواقعي الأوّلي ، مثلا لو ارتكب شرب التتن تعويلا على أصل البراءة من غير فحص وكان حكمه المجعول في الواقع من حيث هو هو الحرمة بحيث لو فحص لظفر عليها مع ورود رواية فيه مقتضية لإباحته ، فكان حكمه المجعول له من حيث قيام الأمارة الظنّية به الإباحة المعبّر عنها تارة بالحكم الظاهري واخرى بالواقعي الثانوي ، أو كان

ص: 226


1- الوسائل 2 : 957 ، الباب 18 من أبواب الأغسال المسنونة ، ح 1.
2- الإسراء : 36.
3- الأنعام : 149.
4- أمالي الطوسي : 9 ، المجلس الأوّل ، وتفسير الصافي 2 : 169.
5- تفسير القمّي 1 : 149.

حكمه المجعول له من حيث هو هو الإباحة مع ورود أمارة فيه مقتضية لحرمته ، فكانت الحرمة حكمها الواقعي الثانوي بحيث لو فحص فيه لظفر على الأمارة الدالّة عليه ، فيعاقب في الأوّل على مخالفته الواقعي الأوّلي وفي الثاني على مخالفته الواقعي الثانوي ، ولا عبرة بمطابقة الواقعي الثانوي في الأوّل ولا بمطابقة الواقعي الأوّلي في الثاني.

وبالجملة مطابقة العمل الواقعي الثانوي على تقدير مخالفة الواقعي الأوّلي لا تؤثّر في رفع العقاب على المخالفة. كما أنّ المطالبة للواقعي الأوّلي على تقدير مخالفة الواقعي الثانوي لا تؤثّر في رفع العقاب على المخالفة.

وأمّا الجهة الثانية : في حكم العمل الواقع من الجاهل التارك للفحص من حيث الصحّة والفساد ، ومن حيث إنّ العمل قد يكون من قبيل المعاملات من عقد أو إيقاع أو غيرهما من الأسباب الشرعيّة كالتذكية ، وقد يكون من قبيل العبادات ، فلا بدّ أن نبحث تارة عن صحّته وفساده إذا كان معاملة ، واخرى عنهما إذا كان عبادة.

أمّا المعاملات : فالمراد بالأصل المعمول به فيها من غير فحص هو أصل العدم لنفي جزئيّة شيء كالقبول في الوقف ، أو شرطيّة شيء كالعربيّة أو بلوغ المتعاقدين في العقد وفري ما عدا الحلقوم من الأوداج في التذكية ، أو مانعيّة شيء كرهانة المبيع في البيع. لا البراءة بمعنى فراغ الذمّة عن التكليف حتّى يقال : إنّه لا يجري في المعاملات. كما أنّ المراد بالاحتياط حيثما استعمل في المعاملات هو تحصيل الواقع لا ما يرادف قاعدة الاشتغال حتّى لا يجري فيها.

فنقول : الأصحّ أنّ المدار في صحّة معاملات الجاهل التارك للفحص وجودا وعدما على مطابقة الواقع وجودا وعدما بلا مدخليّة للفحص وعدمه فيهما ، فما طابق الواقع صحيح وإن لم يفحص فيه ، وما خالف الواقع فاسد وإن فحص فيه. فالصحّة والفساد من الأحكام الوضعيّة في المعاملات ليسا بحيث يتبدّل أحدهما بالآخر بسبب حصول الفحص وعدمه ، بأن ينقلب الفاسد الواقعي صحيحا بالفحص والصحيح الواقعي فاسدا بعدم الفحص.

وإن شئت فافرض العلم والجهل مكان الفحص وعدمه ، فإنّ العلم والجهل لا مدخليّة لهما في الأحكام الوضعيّة حتى الصحّة والفساد. فلو أوقع عقدا باعتقاد الصحّة وهو في الواقع مخالف للواقع كان فاسدا ، ولو أوقعه باعتقاد الفساد وهو في الواقع مطابق للواقع كان صحيحا في الواقع ، ولو أوقعه مع الشكّ في الصحّة والفساد فانكشف المطابقة كان صحيحا ، أو انكشف المخالفة كان فاسدا. وذلك لأنّ المعاملات من العقود والإيقاعات وغيرها

ص: 227

أسباب واقعيّة لمسبّبات هي الآثار المترتّبة عليها لما بينهما من الملازمة الواقعيّة ، كتملّك الأعيان في البيع وتملّك المنافع في الإجارة ، وحلّية البضع في النكاح ، وزوال قيد النكاح في الطلاق ، وحلّية اللحم وطهارته في التذكية ، وهكذا إلى آخر الآثار الشرعيّة بالقياس إلى أسبابها. وصحّة المعاملة عبارة عن كونها بحيث تترتّب عليها تلك الآثار ، والحيثيّة إشارة إلى مطابقتها الواقع. ومعنى مطابقتها احتواؤها لجميع الشرائط الواقعيّة المعتبرة في الصحّة ، وليس العلم باحتوائها لها من شرائط الصحّة ولا الجهل بها من موانعها ، بل معاملات الجاهل التارك لطريق الاجتهاد والتقليد من حيث إناطة صحّتها الواقعيّة وفسادها الواقعي بالمطابقة والمخالفة للواقع ليست إلاّ كمعاملات المجتهد المطابق لاجتهاده ومعاملات المقلّد المطابق لفتوى مجتهده ، فإنّها منهما أيضا لا تصحّ ولا تفسد في الواقع إلاّ بالمطابقة وخلافها ، ويظهر الثمرة في صورة كشف الخلاف.

لا يقال : فعلى هذا يلزم كون الاجتهاد والتقليد في المعاملات لغوا ، إذ لا فائدة فيهما بعد إناطة الصحّة والفساد بمطابقة الواقع وخلافها ، فيلزم أن لا يجب شيء منهما.

لأنّها نقول : إنّ الاجتهاد والتقليد طريقان إلى الحكم الظاهري وهو الصحّة الظاهريّة على معنى ترتيب آثار الصحّة في الظاهر ، والفساد الظاهري وهو عدم ترتيب آثار الصحّة في الظاهر ، ففائدتهما معرفة الحكم الظاهري. وهذه الفائدة ليست حاصلة للجاهل التارك للفحص الّذي هو تارك الطريقين ، فإنّ الفحص فيمن له رتبة الاجتهاد عبارة عن الاجتهاد وهو استفراغ الوسع في الأدلّة ، وفيمن ليس له رتبة الاجتهاد وهو العامي عبارة عن التقليد وهو السؤال عمّن له أهليّة الفتوى.

فظهر أنّ في المقام مسألتين :

إحداهما : أنّ الفحص بسلوك أحد الطريقين لا يوجب صحّة المعاملة في الواقع لو كانتا فاسدة في الواقع.

واخراهما : أنّ عدم الفحص بترك سلوك الطريقين لا يوجب فساد المعاملة في الواقع لو كانت صحيحة في الواقع ، وهذا هو المعروف بين الأصحاب والمشهور عندهم شهرة عظيمة تبلغ الإجماع ، وربّما نفي عنه الخلاف إلاّ ما حكاه بعض مشايخنا (1) عن بعض مشايخه المعاصرين له وهو الفاضل النراقي في مناهجه (2) فإنّه - بعد ما ذكر عدم تعرّض الأكثر

ص: 228


1- فرائد الاصول 2 : 423.
2- مناهج الأحكام : 310.

لمعاملات تارك الطريقين إلاّ السيّد الشارح للوافية المصرّح بعدم احتياجها إلى الأخذ من المجتهد وكفاية فعلها مطابقا للواقع في صحّتها - عمد إلى تحقيق المقام وبناه على مقدّمتين :

إحداهما : أنّه لا تكليف فوق العلم والاعتقاد ، ويلزم أنّه لو اعتقد أحد ترتّب أثر على شيء ولم يحتمل خلافه يترتّب عليه ذلك الأثر في حقّه. ومن فروعه أنّ من اعتقد حلّية المعقود عليها بعقد باطل واقعا تحلّ عليه مادام معتقدا بها ، كما تحلّ الأجنبيّة باعتقاد أنّها زوجته ، ومن اعتقد حرمة المعقود عليها بعقد صحيح واقعا تحرم عليه ما دام معتقدا بالحرمة ، كما تحرم الزوجة باعتقاد أنّها أجنبيّة.

ثانيتهما : أنّ جميع العقود والإيقاعات بل كلّما جعله الشارع سببا أو شرطا أو مانعا لها حقائق واقعيّة وهي ما قرّره الشارع أوّلا ، وحقائق ظاهريّة وهي ما يظنّه المجتهد أنّه ما وضعه الشارع ، وهي قد تطابق الواقعيّة وقد تخالفها. ولمّا لم يكن لنا سبيل إلى الحقائق الواقعيّة وكان التكليف بما فوق الوسع قبيحا فالسبب والشرط والمانع في حقّنا هي الحقائق الظاهريّة.

ومن المعلوم بالضرورة والإجماع أنّ ترتّب الآثار على الحقائق الظاهريّة يختلف بالنسبة إلى الأشخاص ، فقد يترتّب الأثر بالنسبة إلى شخص ولا يترتّب بالنسبة إلى آخر. فالماء القليل الملاقي للنجاسة نجس في حقّ القائل بكون ملاقاة النجاسة سببا لتنجّس القليل ، وطاهر في حقّ القائل بعدم كونها سببا له. والذبيحة المقطوع حلقومها فقط حلال بالنسبة إلى مجتهد يرى كون قطع الحلقوم سببا للحلّية ، وحرام بالنسبة إلى مجتهد لا يراه كافيا في الحلّية. وإيقاع العقد بالفارسيّة سبب للتملّك والزوجيّة عند مجتهد دون آخر ، ولم يقل أحد بأنّ ما هو سبب عند مجتهد يجب أن يكون سببا عند كلّ الناس ، فلم يقل أحد بأنّ المجتهد الّذي لا يكتفي بالفارسيّة في العقد إذا أتى بالعقد الفارسي يترتّب عليه الأثر بالنسبة إليه.

نعم إنّما يترتّب عليه الأثر عند من يكتفي بها ومقلّديه.

ثمّ بعد تمهيد هاتين المقدّمتين أخذ بتحقيق المقام ، وجعل تارك الطريقين فيما أوقعه من المعاملة عقدا أو إيقاعا أو غيرهما ثلاثة أقسام :

الأوّل : أن يكون معتقدا لترتّب الأثر غافلا عن احتمال عدم ترتّبه.

الثاني : أن لا يكون غافلا بل كان لتركه التقليد مسامحة ملتفتا إلى احتمال عدم ترتّب

ص: 229

الأثر ، مع كون ما صدر منه موافقا للحكم القطعي الصادر من الشارع فيما كان الحكم الصادر من الشارع مقطوعا به ، ومحصّله موافقة المعاملة أو مخالفتها لما هو من الحقائق الواقعيّة في موضع العلم به.

الثالث : الصورة بحالها مع عدم كون ما صدر منه موافقا أو مخالفا للحكم القطعي من الشارع ، باعتبار عدم القطع بالحكم الصادر من الشارع للمجتهد في تلك المعاملة ، بل حصل له الظنّ الاجتهادي بحكمه ، ومرجعه إلى موافقته أو مخالفته لما هو من الحقائق الظاهريّة المنوط سببيّتها بالظنون الاجتهاديّة.

ثمّ أخذ ببيان أحكام الأقسام الثلاثة بما محصّله : أنّ القسم الأوّل حكمه حكم المجتهد ومقلّده في ترتّب الأثر على ما صدر منه ما دام غافلا ، لكونه معتقدا بترتّبه متعبّدا باعتقاده كتعبّد المجتهد بظنّه وتعبّد المقلّد بفتوى مجتهده ، وإذا تنبّه فإن وافق اعتقاده قول من يقلّده فهو ، وإن خالفه كان كالمجتهد المتبدّل رأيه والمقلّد له ، وقد مرّ حكمه مستوفى في مسألة رجوع المجتهد ، والدليل الدليل.

والقسم الثاني يترتّب على معاملته الأثر مع الموافقة ولا يترتّب مع المخالفة ، إذ المفروض أنّه ثبت من الشارع بعنوان القطع أنّ المعاملة الفلانيّة سبب للأثر الفلاني ، ولم يكن معتقدا بخلافه حتى يتعبّد باعتقاده ، ولا دليل في نحوه على التقييد بعلم واعتقاد ، ولا يقدح كونه محتملا للخلاف أو ظانّا به لكونه مأمورا بالفحص والسؤال ، كما أنّ من يعتقد حلّية الخمر مع احتمال خلافه يحرم عليه الخمر وإن لم يسأل لأنّه مأمور بالسؤال.

وأمّا القسم الثالث فالحقّ عدم ترتّب الأثر في حقّه ما دام باقيا على عدم التقليد بل وجود نحو هذه المعاملة كعدمها ، إذ المفروض عدم القطع بالوضع الواقعي ، وإنّما هو مظنون للمجتهد ، فالأثر إنّما يترتّب في حقّه وحقّ مقلّده وهو ليس بمجتهد ولا مقلّد له ، فلا دليل على ترتّب الأثر في حقّه ، ثمّ انّه إذا أراد التقليد فإمّا أن يقلّد من يقول بفساد هذه المعاملة فلا إشكال في عدم ترتّب الأثر عليها مطلقا ، أو يقلّد من يقول بصحّته وترتّب الأثر ، فالتحقيق فيه التفصيل المتقدّم في مسألة نقض الفتوى ، من أنّ ما لم يختصّ أثره بمعيّن أو معيّنين كالطهارة والنجاسة والحلّية والحرمة وأمثالها فيترتّب عليه الأثر ، فإذا غسل ثوبه من البول مرّة بدون تقليد أو اكتفى في الذبيحة بقطع الحلقوم مثلا كذلك ، ثمّ قلّد من يقول بكفاية الأوّل في الطهارة والثاني في التذكية ترتّب الأثر على فعله السابق ، إذ المغسول يصير

ص: 230

طاهرا بالنسبة إلى كلّ من يرى ذلك ، والمذبوح يصير حلالا بالنسبة إلى كلّ من يرى ذلك ، ولا يشترط كونه مقلّدا حين الغسل والذبح ، وأمّا ما يختصّ أثره بمعيّن أو معيّنين كالعقود والايقاعات وأسباب اشتغال الذمّة فلا يترتّب عليه الأثر ، إذ آثار هذه الامور لا بدّ أن تتعلّق بالمعيّن ، إذ لا معنى لسببيّة عقد صادر عن رجل خاصّ على امرأة خاصّة لحلّيتها على كلّ من يرى جواز هذا العقد ومقلّديه ، وهذا الشخص حال العقد لم يكن مقلّدا فلم يترتّب عليه الأثر في حقّه ، وأمّا بعد التقليد فهو وإن دخل في مقلّديه لكن لا يفيد لترتّب الأثر في حقّه ، لأنّ المظنون للمجتهد سببيّة هذا العقد متّصلا بصدوره للأثر ولم يصر هذا سببا كذلك.

وأمّا السببيّة المنفصلة فلا دليل عليها ، إذ ليس هو مظنون المجتهد ولا دليل على كون الدخول في التقليد كإجازة المالك والأصل في المعاملات الفساد ، مع أنّ عدم ترتّب الأثر كان ثابتا قبل التقليد فيستصحب » انتهى ملخّصا (1).

ومحصّل التفصيل المستفاد من كلامه قدسّ سرّه عدم إناطة الصحّة والفساد في القسم الأوّل والثالث بمجرّد مطابقة الواقع ومخالفته.

أمّا في الأوّل فبحكم المقدّمة الاولى.

وأمّا الثاني فبحكم المقدّمة الثانية ، فدفعه إنّما هو بمنع المقدّمتين لفساد وضعيهما.

أمّا فساد وضع المقدّمة الاولى : فلأنّ قوله : « لا تكليف بما فوق العلم والاعتقاد » مسلّم ، لرجوعه إلى تكليف الغافل وهو قبيح عقلا لكونه من التكليف الغير المقدور على امتثاله ، ولكنّ اللازم منه أن لا يخاطب المكلّف ما دام معتقدا بما يخالف الواقع بخلاف معتقده ، لا أن يخاطب على طبق معتقده ، فمن اعتقد خلّية الخمر الواقعي بحيث لم يحتمل الخلاف فقضيّة أن لا تكليف بما فوق الاعتقاد أن لا يخاطب بالاجتناب ، لا أنّه يخاطب بالارتكاب ويرخّص فيه.

وبعبارة اخرى : أنّه لا حرمة في حقّه لا أنّه يحدث باعتقاده الحلّية بالمعنى الانشائي بأن يكون حكمه الشرعي المجعول من حيث كونه معتقدا بالخلّية هو الحلّية ، بل غاية ارتفاع الحرمة في حقّه أن لا يكون حرج عليه في ارتكابه ، فلا يؤاخذ ولا يعاقب عليه بسبب ارتكابه الخمر الواقعي ، وكذا الحكم فيمن اعتقد زوجيّة أجنبيّة على وجه لم يحتمل الخلاف فوطئها ، فإنّ غاية ما يقتضيه قاعدة أن لا تكليف بما فوق الاعتقاد أن لا يكون هذا

ص: 231


1- مناهج الأحكام : 310.

الوطء حراما ، لا أن يكون حلالا ، ومرجعه إلى أنّه لا حرج في فعله فلا يعاقب عليه.

والسرّ في ذلك : أنّ الأحكام الشرعيّة - على ما حقّق في محلّه - وإن اختلفت بالوجوه والاعتبارات ، إلاّ أنّ علم المكلّف وجهله واعتقاده ليس من الوجوه والاعتبارات ، بأن يكون الاعتقاد مناطا لجعل الحكم على طبق المعتقد ليتبدّل الأحكام بتبدّل الاعتقادات ، فلا مدخليّة لاعتقاد المكلّف في الأحكام الشرعيّة جعلا وحدوثا ، ولا سيّما الأحكام الوضعيّة ككون شيء سببا أو شرطا أو مانعا ، بأن يكون ما اعتقد المكلّف سببيّته من باب الاعتقاد بخلاف الواقع سببا ، ولا يكون ما اعتقد عدم سببيّته كذلك سببا. بل سببيّة كلّ سبب لمسبّبه سواء كان من العقود أو الإيقاعات أو غيرهما من الأسباب الشرعيّة إنّما يثبت بحكم الشارع بالسببيّة ، سواء كان حكمه بها من باب الكشف عن الواقع فيما كانت الملازمة بين السبب ومسبّبه واقعيّة فكشف عنها الشارع في حكمه بالسببيّة ، أو من باب الإمضاء لطريقة العرف فيما كانت الملازمة عرفيّة فأمضاها الشارع ببيانه السببيّة ، أو من باب الجعل فيما لم يكن بينهما ملازمة ولا علقة سببيّة لا في الواقع ولا في نظر العرف ، بل الشارع جعل أحدهما سببا للآخر وعلّق وجود الآخر على وجود الأوّل ، فإنّ الأسباب الشرعيّة من العقود والإيقاعات وغيرها لا تخلو عن هذه الأقسام ، وإن كان إثبات وجود الجميع فيما بينها أو وجود بعضها دون بعض واستعلام أنّ أيّها من أيّ الأقسام على تقدير وجود الجميع في غاية الإشكال ، بل لم يحم حوله إلى الآن أحد ، إلاّ أنّا نتكلّم على فرض وجود الجميع.

فنقول : إنّ السبب بالقياس إلى الأثر المترتّب عليه إن كان من قبيل القسم الأوّل فترتّب الأثر عليه وعدمه يدور مدار تحقّق السبب على حسب ما هو في الواقع بشرائطه الواقعيّة وعدم تحقّقه كذلك ، وإن كان من قبيل القسم الثاني فترتّب الأثر عليه وجودا وعدما يدور مدار تحقّق السبب على حسب ما هو عند العرف بشرائطه وعدم تحقّقه ، وإن كان من قبيل المقام الثالث فترتّب الأثر عليه وجودا وعدما يدور مدار تحقّق السبب على حسب ما جعله الشارع بشرائطه الشرعيّة وعدم تحقّقه ، فإن تحقّق [ السبب ](1) في جميع هذه الأقسام على الوجه المذكور ترتّب عليه الأثر لا محالة في متن الواقع ، سواء اعتقد المكلّف العامل له سببيّته أو لم يعتقد ، وسواء كان مجتهدا أو مقلّدا له أو غيرهما ، وإن لم يتحقّق كذلك لم يترتّب عليه الأثر في الواقع سواء اعتقد المكلّف ترتّبه أو لم يعتقد ، مجتهدا كان أو مقلّدا أو غيرهما.

ص: 232


1- أضفناها لاستقامة العبارة.

وبذلك ظهر بطلان قوله : « ويلزمه أنّه لو اعتقد أحد ترتّب أثر على شيء ولم يحتمل خلافه يترتّب عليه ذلك الأثر » فإنّ اعتقاد ترتّب الأثر على الوجه المذكور لا مدخليّة له في ترتّبه ، بل إن وافق الواقع يترتّب عليه الأثر وكان الاعتقاد المذكور معه من باب المقارنة الاتّفاقيّة ، وإن خالفه لا يترتّب عليه الأثر ولا يجدي الاعتقاد المذكور في ترتّبه لأنّه لا يؤثّر في حدوث السببيّة ولا الحلّيّة ولا جواز التصرّف ولا غيرهما من الآثار تكليفيّة ووضعيّة.

وتوهّم أنّ عدم مدخليّة اعتقاد المكلّف في حدوث الحكم الشرعي إنّما يسلّم بالقياس إلى الأحكام الواقعيّة لبطلان التصويب لا بالقياس إلى الأحكام الظاهريّة ، فلم لا يجوز القول بأنّ الشارع لا حظ المكلّف المعتقد لسببيّة عقد لحلّية المعقود عليه أو جواز التصرّف فيه على خلاف الواقع من حيث كونه جاهلا بالحكم الواقعي بالجهل المركّب ، وجعل له من هذه الحيثيّة حكما وهو الحلّيّة أو جواز التصرّف أو غيرها ، كما أنّه لا حظ الجاهل في الوقائع المشكوكة من حيث جهله فجعل له حكما وهو الإباحة ونحوها فيما يحتمل الحرمة أو الوجوب ، فكان الحلّية المحكوم بها بالعقد الفاسد من الحكم الظاهري المجعول للجاهل بالجهل المركّب ، وهو ليس من تبعيّة الأحكام للاعتقادات بالمعنى المجمع على بطلانه.

يدفعه : استقلال العقل بعدم جواز جعل الحكم الظاهري أيضا للجاهل بالجهل المركّب ، لما قرّرناه في غير موضع من أنّ كلّ حكم مجعول لموضوع كلّي - واقعيّا كان أو ظاهريّا - فهو بحيث لا يتوجّه إلى مكلّف إلاّ بشرطين ، أحدهما : اندراجه في موضوع ذلك الحكم بحسب الواقع ، وثانيهما : التفاته إلى اندراجه في ذلك الموضوع لقبح توجيه الخطاب إلى الغافل ، وهذا الشرط الثاني منتف فيما نحن فيه ، لأنّ هذا الجاهل لاعتقاده الجازم لا يحتمل في معتقده خلاف الواقع فلا يلتفت إلى كونه جاهلا ، فلا يمكن أن يتوجّه إليه الحكم المفروض كونه مجعولا لموضوع الجاهل ، ومعه يستحيل جعل نحو هذا الحكم لكونه لغوا يقبح صدوره عن الحكيم.

ويتفرّع على جميع ما ذكرناه بطلان ما فرّعه على المقدّمة الاولى من حكم القسم الأوّل وهو الغافل فيما يصدر منه من عقد أو إيقاع عن احتمال الخلاف من ترتّب الأثر عليه ما دام غافلا ، وكونه بعد التنبّه كالمجتهد والمقلّد له على تقدير الموافقة ، وكالمجتهد المتبدّل رأيه على تقدير المخالفة ، لأنّ ترتّب الأثر حال الغفلة إن كان بموجب الحكم الواقعي فهو على تقدير المخالفة خلاف الفرض ، وإن كان من موجب الحكم الظاهري فلم

ص: 233

يجعل في حقّه حكم ظاهري ليوجب ذلك ، فلم يبق إلاّ كون الترتّب وعدمه منوطا بالموافقة والمخالفة ، ومعه لا يتفاوت الحال بين حال الغفلة وما بعد التنبّه.

وأمّا فساد وضع المقدّمة الثانية : فلأنّ الظاهر من بياناته كون اعتبار ظنّ المجتهد في المسائل الاجتهاديّة على وجه الموضوعيّة وهو خلاف التحقيق ، بل العلم والظنّ كلاهما طريقان ، إلاّ أنّ الظنّ طريق قد يصادف الواقع وقد لا يصادفه ، وهو حيث لا يصادف لا يؤثّر في صيرورة المظنون حكما واقعيّا لبطلان التصويب ، وهذا هو معنى اعتباره على وجه الموضوعيّة ، بل إنّما يوجب صيرورته حكما ظاهريّا ، على معنى أنّ الشارع يلاحظ الظانّ بالظنّ الاجتهادي من حيث عجزه عن الوصول إلى الواقع فيجعل مظنونه الّذي يتمكّن من الوصول إليه بطريق الظنّ حكما ظاهريّا له ولكلّ من يقلّده ، وكلّ حكم ظاهري في موضوعه - وهو الظانّ ومن بحكمه - حكم فعلي وهو الّذي يجب عليه بالفعل بناء العمل عليه والتديّن به ، والحكم الفعلي بهذا المعنى قدر جامع بين الحكم الواقعي لمن وصل إليه والحكم الظاهري لمن عجز عن الوصول إلى الحكم الواقعي.

وحيث إنّ الحكم الفعلي في المسائل الاجتهاديّة مشترك بين المجتهد وكلّ من وظيفته التقليد ، فكما أنّ المجتهد في المسائل الاجتهاديّة يستفرغ الوسع في طلب الحكم الفعلي فكذلك المقلّد يجب عليه السؤال في طلب ذلك الحكم الفعلي ، وإذا فرض أنّه ترك السؤال لتقصير لم يخرج الحكم الفعلي الموجود عند المجتهد عن كونه حكما فعليّا في حقّه ، فله في واقعة المعاملة الّتي أوقعها من حين وقوعها حكم فعلي فيها وهو جاهل به لتركه السؤال ، وهذا الحكم الفعلي لا يخلو عن كونه حرمة أو حلّية.

وحينئذ إذا بنى على التقليد فإن قلّد من يفسد هذه المعاملة تبيّن أنّ حكمه الفعلي من حين وقوع المعاملة هو الحرمة وعدم جواز التصرّف ، فإن كان قبل ذلك تصرّف بموجب تلك المعاملة مثل أنّه وطئ المرأة المعقود عليها بالعقد الفارسي ، أو تصرّف في العين الّتي عقد عليها عوقب على مخالفته الحكم الفعلي ، بناء على ما تقدّم من أنّ الواقع الّذي يعاقب الجاهل المقصّر على مخالفته أعمّ من الواقع الأوّلي والواقع الثانوي ، وإن قلّد من يصحّحها ظهر أنّ حكمه الفعلي من حين وقوعها الحلّية وجواز التصرّف وغيرهما من الآثار ، فيتعبّد به ما لم يتبدّل بتبدّل ظنّ المجتهد ، من غير فرق بين ما لو اختصّ بمعيّن أو لا إن سلّمنا عدم وجود أثر للعقد تعلّق بغير المعيّن ، وإلاّ فقد يناقش في ذلك ويقال : أنّ أحكام زوجيّة هند

ص: 234

لزيد ليست مختصّة بهما ، فقد يتعلّق بثالث حكم مترتّب على هذه الزوجيّة كأحكام المصاهرة وتوريثها منه ، والإنفاق عليها من ماله ، وحرمة العقد عليها حال حياته.

والظاهر عدم الفرق أيضا بين اتّحاد المجتهد وتعدّده ، لكون آرائهم في صورة التعدّد أحكاما فعليّة على البدل في حقّ من وظيفته التقليد وهو مخيّر بينها تخييرا بدويّا ، فإذا اختار واحدا منهم تعيّن رأيه حكما فعليّا في حقّه إلى أن يتبدّل رأي المجتهد ، بل الظاهر أنّه لا فرق في انكشاف الصحّة على تقدير المطابقة بين شكّه في الصحّة حين إيقاعها وبين قطعه بفسادها إلاّ على توهّم أنّه لا يتأتّى منه قصد الإنشاء المعتبر في صحّة العقود والإيقاعات مع القطع بالفساد بل ومع الشكّ في الصحّة ، وكأنّ مبناه على مقايسة المقام على العبادات الّتي لا يتأتىّ فيها قصد القربة مع الشكّ في الصحّة.

وفيه : أنّه مقايسة باطلة ، إذ العبادات إنّما لا يتأتّى فيها قصد القربة مع الشكّ في الصحّة لكون الصحّة فيها باعتبار الأمر ، ومرجع قصد القربة أيضا إلى قصد امتثال الأمر ، والشكّ في الصحّة معناه الشكّ في موافقة الأمر ومعه يستحيل قصد امتثال الأمر ، مع المنع من اطّراده كما ستعرف ، بخلاف المعاملات الّتي يتحقّق فيها قصد الإنشاء مع الشكّ في الصحّة بل القطع بالفساد ، كما يشاهد ذلك في بيع الغاصب وعقد الفضولي مع احتمال ردّ المالك وعدم إجازته.

وبالجملة فرق بين التردّد في الإيقاع والشكّ في الوقوع ، والثاني لا يستلزم الأوّل والشكّ في الصحّة مرجعه إلى الثاني ، وهو يجامع الجزم بالإيقاع الّذي هو عبارة عن قصد الإنشاء ، فليتدبّر.

وأمّا العبادات : فالخلاف فيها معروف وهو الّذي يعبّر عنه بمعذوريّة الجاهل في العبادات ، على معنى سقوط الإعادة والقضاء عنه وعدمها ، كما لو أتى بما كان خاليا عمّا شكّ في جزئيّته أو شرطيّته ، أو مشتملا على ما شكّ في مانعيّته تسامحا ، أو بناء منه على العدم في المقامات الثلاث من غير فحص وسؤال ، وحيث إنّا أوردنا المسألة مشروحة وأقوالها وحجج الأقوال في باب الاجتهاد والتقليد فلا حاجة إلى التعرّض لها هنا مستوفاة ، والمختار من أقوالها ثمّة ما صار إليه جماعة من محقّقي المتأخّرين من الفرق في الصحّة المسقطة للإعادة والقضاء والبطلان الموجب لهما بين مطابقة المأتيّ به للواقع فالصحّة بشرط تحقّق قصد القربة ، وبين مخالفته له فالبطلان كالمعاملات.

ص: 235

وبالجملة لا فرق بين عبادات الجاهل بعد إحراز قصد القربة فيها ومعاملاته ، في كون الصحّة فيها مراعى بمطابقة الواقع من دون مدخليّة لخصوص أحد طريقي الاجتهاد والتقليد في الصحّة ، لكون وجه اعتبارهما وجه الطريقيّة ، فإنّما يعتبران لتشخيص مورد الصحّة عن غيره. وظاهر أنّ انتفاء الطريق لا يلازم دوام بطلان ذي الطريق حتّى فيما لو طابق الواقع ، والمفروض عدم توقّف المطابقة على الأخذ من الطريق.

وتوهّم أنّ ترك سلوك الطريق يلازم الشكّ في الصحّة والبطلان حين الإتيان وهو مانع من إحراز قصد القربة ، إذ لا يعقل قصد القربة مع الشكّ في الصحّة وإنّما يأتي ذلك مع الجزم بصحّة المأتيّ به وموافقته المأمور به الكلّي ولو من باب الجهل المركّب.

يدفعه : أنّ المانع من إحراز قصد القربة ليس مجرّد وجود صورة الشكّ في الذهن بل هي مع الالتفات إليها ، ووجودها لا يلازم دوام الالتفات إليه ، كما أنّ وجود صورة العلم في النفس لا يلازم الالتفات إليه لكثرة ما يغفل العالم عن علمه ، ومع عدم الالتفات إلى الشكّ الموجود يتحقّق قصد القربة البّتة كما يرشد إليه ضرورة الوجدان ، وهو الوجه فيما يشاهد في أكثر العوامّ التاركين للتقليد في عباداتهم الغير العارفين بأكثر مسائل أعمالهم من أنّهم يحرزون قصد القربة فيها مع جهلهم بتفاصيل مسائلها.

وبالجملة : أنّ الجهل الموجب للشكّ في الصحّة ما لم يوجب تزلزلا في ذهن العامل في الامتثال لم يكن مخلاّ بقصد القربة ، وإنّما يوجبه مع الالتفات إلى الشكّ لا مع الغفلة عنه. فإذا تحقّق قصد القربة في العمل المأتيّ به ثمّ تبيّن بعد ذلك مطابقته الواقع انكشفت الصحّة ، إذ لا معنى لصحّة العبادة إلاّ موافقة المأتيّ به المأمور به ، فإذا حاول استعلام حال عباداته السابقة الواقعة جهلا وجب عليه الرجوع إلى الطريق المشروع له ، فإن كان من أهل الاجتهاد فطريقه الاجتهاد والنظر إلى الأدلّة الاجتهاديّة ، فإن ساعدت على مطابقتها الواقع بنى على صحّتها وإلاّ بنى على فسادها ، وإن كان من أهل التقليد فالطريق المشروع في حقّه الرجوع إلى المجتهد ، فإن ساعد فتواه على المطابقة بنى فيها على الصحّة وإلاّ فعلى الفساد. وإذا دار الأمر بين الطريق الموجود حال العمل والطريق الموجود حال الاستعلام مع اختلافهما في اقتضاء الصحّة والفساد كما لو صلّى بلا سورة مثلا وكان السورة في رأي المجتهد الأوّل جزءا ولم تكن في رأي المجتهد الثاني جزءا أو بالعكس ، تعيّن الرجوع إلى الطريق الموجود حال الاستعلام ، لأنّ ثمرة صحّة عباداته السابقة وفسادها إنّما تظهر

ص: 236

في وجوب الإعادة والقضاء وعدم وجوبهما ، ولا بدّ أن يكون في الالتزام بأحد هذين الحكمين مجتهدا أو مقلّدا والأوّل خلاف الفرض.

ودوران الأمر بين الطريقين إنّما يتأتّى فيما لو انتفى عن الطريق الأوّل بعض شروطه الطريقيّة كما لو كان مجتهد حال العمل حيّا فمات أو أعلم فصار غير أعلم أو نحو ذلك ، فلو رجع إلى الطريق الأوّل لرجع إلى تقليد المجتهد الغير الجامع للشرائط.

وبالجملة لا بدّ أن يرجع في استعلام المطابقة المقتضية لعدم وجوب الإعادة أو القضاء للأعمال السابقة والمخالفة المستدعية لوجوبهما إلى الطريق المشروع في حقّه في تلك الحال - أعني حال الاستعلام - لأنّها ابتداء تقليد [ ه ] في مسألتي الإعادة والقضاء ، والطريق المشروع في حقّه حينئذ هو الطريق الموجود في تلك الحال ، فلا عبرة بما كان موجودا حال العمل لخروجه عن الطريقيّة. ومرجعه إلى أنّ المراد بالواقع الّذي يعتبر مطابقته ومخالفته إنّما هو الحكم الفعلي الّذي يجب عليه التديّن به حال الاستعلام ، سواء كان ذلك الحكم الفعلي هو الواقع الأوّلي في الواقع أو الواقع الثانوي ، والحكم الفعلي في حقّه الآن إنّما هو مقتضى فتوى المجتهد الموجود حال الاستعلام ، لخروج مقتضى فتوى الأوّل عن كونه حكما فعليّا في حقّه ، ولذا لا يجوز له الرجوع إليه في الوقائع والمسائل اللاحقة ، وإنّما كان حكما فعليّا في حقّه حال العمل.

نعم لو كان باقيا على شرائط التقليد الراجعة إلى المقلّد من الحياة والأعلميّة وغيرهما إلى حال الاستعلام كان فتواه حكما فعليّا في حقّه في حال الاستعلام أيضا ، والمفروض خلافه.

ثمّ إنّه ظهر بجميع ما قرّرناه في حكم الجاهل التارك للطريقين من حيث استحقاقه العقاب وعدمه وصحّة عباداته وعدمها أنّ التكليف والوضع في حقّه من حيث المعذوريّة وعدمها متطابقان. فكلّ مورد كان معذورا تكليفا - على معنى عدم استحقاقه المؤاخذة والعقاب - كان معذورا وضعا أيضا على معنى صحّة عباداته المقتضية لسقوط الإعادة والقضاء ، وكلّ مورد لم يكن معذورا تكليفا لم يكن معذورا وضعا أيضا ، إذ قد عرفت أنّ مدار المعذوريّة وعدمها في المقامين معا إنّما هو على مطابقة الواقع ومخالفته ، والعقاب إنّما يترتّب على مخالفة الواقع لا غير ، فكما أنّ مطابقة العمل للواقع تؤثّر في سقوط الإعادة والقضاء فكذا تؤثّر في رفع العقاب ، وكما أنّ مخالفته الواقع تؤثّر في ترتّب العقاب على المخالفة فكذا تؤثّر في توجّه الخطاب بالإعادة أو القضاء ، فهذا هو الأصل والقاعدة

ص: 237

في عبادات الجاهل التارك للطريقين ، وقد استثنى منهما مسألتا القصر والإتمام والجهر والإخفات فحكموا بمعذوريّة الجاهل فيهما.

قال بعض مشايخنا : « ظاهر كلامهم إرادة المعذوريّة من حيث الحكم الوضعي وهو الصحّة بمعنى سقوط الفعل ثانيا دون المؤاخذة والعقاب ، وهو الّذي يقتضيه دليل المعذوريّة في الموضعين (1) »

أقول : وعليه فيشكل الحال بالنسبة إلى التفكيك المذكور بين الحكم الوضعي والحكم التكليفي بالمعذوريّة في الأوّل دون الثاني ، فإنّه بظاهره لا يخلو عن تدافع ، لأنّ المأمور به الواقعي في حقّ هذا الجاهل إن كان غير ما أتى به كالإتمام موضع القصر فيعاقب على تركه فهذا يقتضي عدم المعذوريّة من حيث الوضع أيضا ، لعدم حصول أداء المأمور به ، وإن كان ما أتى به لا غير فهذا يقتضي المعذوريّة من حيث التكليف أيضا لعدم مخالفته الواقع.

وقد تفصّى كاشف الغطاء (2) عن هذا الإشكال بما نقلنا عنه في مسألة الضدّ من التزام أمرين والترتّب بينهما ، بكون الأمر بالقصر مطلقا والأمر بالإتمام مشروطا بالمعصية ومخالفة الأمر بالقصر ، وهذا بعد ثبوت مقدّمتين : استحقاق الجاهل في المسألتين وإجزاء عمله غير بعيد ، إذ العقل لا يأبى اشتراط الأمر بشيء ابتداءا بالعصيان في شيء آخر بمخالفة أمر أو نهي ، ونظيره غير عزيز في الشرعيّات ومنه الكفّارات في جميع مواردها الّتي منها كفّارة إفطار نهار رمضان الّتي تجب مشروطا بمخالفة الأمر بالصيام ، وكفّارة وطء الحائض الّتي تجب مشروطا بمخالفة النهي عن وطء الحائض.

ويحتمل بعيدا أن يلتزم في وجه الجمع بين قضيّتي المعذوريّة وضعا وعدم المعذوريّة تكليفا في المسألتين بتعدّد المطلوب من جاهل الجهر الآتي بالإخفات مكانه وجاهل القصر الآتي بالإتمام مكانه بأن يقال : أنّه في الواقع مكلّف بشيئين أصل الصلاة والجهر والتقصير فيها أو بالتقصير فيها في السفر ، فإذا أتى بالإخفات أو الإتمام لجهله بحكم الجهر والتقصير فقد امتثل الأمر الأوّل وعصى الأمر الثاني ، والأوّل مفيد للإجزاء والثاني موجب للعقاب.

ويحتمل ثالثا الفرق في الجمع بين المسألتين بالتزام الترتّب في مسألة جاهل القصر والتزام تعدّد المطلوب في مسألة جاهل الجهر.

لكن هذا كلّه على تقدير تسليم عدم المعذوريّة من حيث التكليف مع المعذوريّة

ص: 238


1- فرائد الاصول 2 : 437.
2- كشف الغطاء : 26.

من حيث الوضع ، ولك منع المقدّمة الاولى بمنع كون الجاهل في المسألتين معاقبا على مخالفة القصر والجهر إذ لا دليل عليه ، ودعوى ظهوره من كلامهم موضع منع ، حيث لم نجد في كلماتهم شاهدا عليه إلاّ ما في عبارة السيّد كما ستعرف ، أو لمنع كون العقاب على تقدير ثبوته على مخالفة القصر والجهر المبنيّ على كونهما في الواقع مأمورا بهما ، بل العقاب إنّما هو على ترك التعلّم والسؤال كما يظهر من كلام بعضهم.

والأوجه هو الأوّل لعدم العقاب على ترك الواجبات الغيريّة ، وعليه مبنى وجوه اخر ذكرت في توجيه معذوريّة الجاهل في المسألتين ، مثل ما يظهر من صاحب الفصول (1) من أنّ شرط تنجّز التكاليف وإن كان العلم الإجمالي مع التمكّن من العلم التفصيلي إلاّ أنّ شرط تنجّزه في خصوص المسألتين على ما ظهر من دليل معذوريّة الجاهل في المسألتين هو العلم التفصيلي ، وقضية انتفاء الشرط انتفاء التكليف بالواقع ، والمفروض إتيانه بما اعتقد كونه مأمورا فلا بدّ من الإجزاء.

ومثل ما قيل : من أنّ الجاهل بالحكم في المسألتين موضوع من الموضوعات ، ومن الجائز كونه بحيث لاحظه الشارع فجعل له حكما وهو وجوب الإتيان بما أتى به. وربّما نزّل عليه كلام السيّد المرتضى رحمه اللّه ، ولكنّه ليس كما نزّل لظهوره في التزام العقاب ، فإنّه بعد ما سأله أخوه رضيّ الدين عن مسألة معذوريّة جاهل القصر موردا عليها انعقاد الإجماع على أنّ من صلّى صلاة لا يعلم أحكامها فهي غير مجزئة ، والجهل بأعداد الركعات جهل بأحكامها فلا تكون مجزئة.

أجاب عنه : بجواز تغيّر الحكم الشرعي بسبب الجهل وإن كان الجاهل غير معذور (2).

قال في المدارك : « وكأنّ المراد أنّه يجوز اختلاف الحكم الشرعي بسبب الجهل فيكون الجاهل مكلّفا بالتمام والعالم مكلّفا بالقصر ، واختلاف الحكم هنا على هذا الوجه لا يقتضي عذر الجاهل » انتهى (3).

وهذا كالصريح في عدم المعذوريّة بمعنى استحقاق العقاب ، فيتوجّه إليه الإشكال المتقدّم ، إذ الجهل إذا صلح مغيّرا للحكم الشرعي فلازمه عدم تكليف الجاهل بالقصر ، ومعه لا يعقل العقاب على تركه ، إلاّ أن يرجع إلى ترك التعلّم ، وهو الأظهر جمعا بين الحكمين.

ومثل ما قيل - أو احتمل أيضا - : من أنّه لا فرق بين العالم والجاهل في كون التكليف

ص: 239


1- الفصول : 427 - 428.
2- نقله صاحب الذكرى 4 : 325 - 326.
3- المدارك 4 : 473.

الواقعي الفعلي هو القصر مثلا إلاّ أنّه حصل الفرق بينهما في السقوط وعدمه بفعل التمام وإن لم يكن التمام مأمورا به من باب سقوط الواجب بفعل غير الواجب ، ولا خفاء في بعده.

هذا كلّه ولكن الأوفق بالقواعد هو التزام العقاب على مخالفة الواقع والتزام أمرين مع الترتّب بينهما كما عرفت عن كاشف الغطاء ، واللّه أعلم بالصواب.

تذنيب : هل الاحتياط أيضا كأصل البراءة فلا يجوز العمل به قبل الفحص أو لا؟

ومرجعه إلى جواز ترك طريقي الاجتهاد والتقليد وسلوك طريق الاحتياط أو لا؟ إذ لا فحص لمن في رتبة الاجتهاد إلاّ استفراغ الوسع في الأدلّة ، ولا لمن في رتبة التقليد إلاّ الرجوع إلى المجتهد والسؤال منه أو الرجوع إلى رسالته ، فترك الفحص في العمل بالاحتياط عبارة عن ترك سلوك الطريقين واختيار سلوك طريق الاحتياط.

فعلى الجواز يكون الطرق ثلاثة ، والناس أصنافا ثلاث المجتهد والمقلّد والمحتاط ، وعلى غيره اثنين وإنّما قيّدنا العنوان بترك الطريقين ، إذ لا إشكال في جواز العمل به مع عدمه كالمجتهد في المسائل المتردّد فيها بعد استفراغ الوسع فيها لفقد الدليل أو إجماله أو تعارض الدليلين ، وهو أيضا بعد الترجيح وتأدية الاجتهاد إلى ما يخالف الاحتياط إذا أراد سلوك طريقة الاحتياط ، والمتجزّي إذا أدّى اجتهاده إلى شيء ولم يرجّح جواز عمله بمؤدّى اجتهاده أو وجوب التقليد عليه ، فإنّ رجحان الاحتياط في هذه الصور ونظائرها وحسنه عقلا ونقلا بل وجوبه في بعض الفروض ممّا لا كلام فيه ، وهذه من موارد قضيّة أنّ الاحتياط حسن على كلّ حال المدلول عليها بالعقل والنقل ، ومحلّ الكلام إنّما هو الاحتياط الّذي يسلكه تارك الطريقين القادر على سلوكهما.

وقد يقال : إنّ ظاهر كلامهم في حصر المكلّف في أزمنة الغيبة في مجتهد ومقلّد ، وطريق امتثال أحكام اللّه تعالى في الاجتهاد والتقليد ، وظاهر إطلاق الأكثر بعدم معذوريّة الجاهل في الأحكام بل ظاهر إطلاق معاقد الإجماعات على بطلان عبادات الجاهل الّتي منها ما تقدّم الإشارة إليه في مسألة جاهل القصر هو عدم مشروعيّة الاحتياط مكان أحد الطريقين لأنّ للجاهل أنواعا :

منها : من يسلك طريقا غير مشروع باعتقاد المشروعيّة جهلا وهو مقصّر في جهله بالحكم ، كما لو عوّل على غير مجتهد أو مجتهد غير جامع باعتقاد الجواز ، أو بالموضوع كما لو عوّل عليهما باعتقاد الاجتهاد أو الاجماع أو عوّل على رأيه باعتقاد البلوغ رتبة

ص: 240

الاجتهاد وليس ببالغ.

ومنها : المتسامح في الدين التارك للطريقين تسامحا.

ومنها : الغافل المعبّر عنه بالقاصر الراكن إلى طريق غير مشروع في الواقع.

ومنها : المحتاط ، فإنّه أيضا بتركه الطريقين من أفراد الجاهل بمعنى تارك الطريقين وإن كان خفيّا.

فتحقيق المقام : أنّ مجرى الاحتياط إن كان من قبيل المعاملات فيجوز العمل عليه فيها من غير فحص بلا إشكال ، لكون المدار في صحّتها على مطابقة الواقع من دون اشتراط بالفحص ، والاحتياط طريق موصل إلى الواقع من غير فرق بين العقود أو الايقاعات أو غيرهما ممّا لا يعتبر فيه القربة ، فالغاسل للمتنجّس يحتاط بغسله مرّتين والقاصد لعقد النكاح مثلا يحتاط بالجمع بين عبارتي صيغة العقد إذا لم يعلم أيّتهما المؤثّر وهكذا ، وإن كان من قبيل العبادات فهو محلّ البحث والنظر اللائق للتكلّم فيه.

فنقول : انّ الاحتياط في العبادات على وجوه أربع هي كيفيّة الاحتياط :

الأول : الاحتياط في المسائل المشكوكة من حيث التكليف باختيار الفعل في محتمل الوجوب والترك في محتمل الحرمة.

الثاني : الاحتياط في المسائل المشكوكة من حيث دوران الوجوب المقطوع به بين التعيين والتخيير بمراعاة محتمل التعيين.

الثالث : الاحتياط في المسائل المشكوكة من حيث المكلّف به للشكّ في جزئيّة أو شرطيّة شيء للعبادة بالاتيان بها مع المشكوك فيه جزءا أو شرطا.

الرابع : الاحتياط في المسائل المشكوكة من حيث المكلّف به الدائر بين المتبائنين بالجمع والتكرار.

فهل يشرع الاحتياط في جميع هذه الصور ، أو لا يشرع في الجميع ، أو يشرع في الاولى دون البواقي ، أو يشرع في الاوليين دون الأخيرتين ، أو يشرع في الثلاث الاولى دون الأخيرة؟ ومرجعه إلى جواز الاحتياط ما لم يؤدّ إلى تكرار العبادة احتمالات.

ويمكن القول بالجواز مطلقا لوجود المقتضي وفقد المانع ، أمّا الأوّل : فيكفي في وجود المقتضي كون الاحتياط موصلا إلى الواقع محصّلا للمصلحة المطلوبة منه فكان مجزيا عمّا كان الغرض من جعله طريقا وهو تحصيل مصلحة الواقع ، أو مثل مصلحة الواقع وهو المصلحة

ص: 241

الملحوظة في سلوك الطريق المتدارك بها ما فات من مصلحة الواقع على تقدير عدم مصادفة الطريق للواقع ، مع أنّ دليل صحّة عبادات الجاهل في صورة المطابقة يقضي بكفاية العمل بالاحتياط بطريق أولى ، لوجود مناط الحكم المذكور وهو مطابقة الواقع هنا على وجه آكد ، لأنّ المحتاط حال سلوكه طريق الاحتياط قاطع بكونه موصلا إلى الواقع بخلاف الجاهل الشاكّ في طريقه المسلوك وإن غفل عن شكّه.

وأمّا الثاني : فلأنّ المانع إن كان هو الأصل - أعني أصالة التعيين - عند دوران الأمر بينه وبين التخيير.

ففيه أوّلا : منع كون المقام من دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، بناء على أنّ مرجع كفاية الاحتياط إلى كونه مسقطا عن الطريق المجعول لا إلى كونه طريقا مجعولا ، ليكون بالإضافة إلى كلّ من طريقي الاجتهاد والتقليد أحد فردي الواجب التخييري.

وثانيا : منع جريان الأصل المذكور هنا لعدم جريان مدركه الّذي هو أصالة الاشتغال ، إذ بعد ملاحظة كون هذا الطريق محصّلا لمصلحة الواقع المقصودة من جعل الطريقين لا يبقى في سلوكه شكّ في البراءة.

وإن كان لزوم معرفة الوجه وقصد الوجه معا أو قصد الوجه فقط ، بناء على أنّ معرفة الوجه إنّما يعتبر مقدّمة لقصد الوجه لا لنفسه.

ففيه - مع أنّهما حاصلان في بعض الصور المذكورة ، وإنّ قصد الوجه عند معتبريه من شروط الامتثال لا من قيود المأمور به ونحن نقطع بعدم توقّف صدق الامتثال عليه إلاّ حيث يتوقّف عليه قصد التعيين في العبادة المشتركة - : منع اعتبار معرفة الوجه ولا قصده في صحّة العبادات كما حقّق في محلّه.

وإن كان هو إطلاق الإجماعات المنقولة المعتضد بإطلاق فتوى الأكثر ، والحصر المستفاد من قولهم : « الناس صنفان مجتهد ومقلّد » حسبما تقدّم إليه الإشارة.

ففيه : منع الإطلاق لظهور الجاهل في معاقد الإجماع وفتوى الأكثر في المتسامح في الدين التارك للطريقين تسامحا ، أو جاهل لم يطابق عمله الواقع ، أو لم يحرز في عمله القربة من جهة التردّد الحاصل له في كون ما يأتي به مكلّفا به وعدمه فلا يشمل المحتاط ، بل لا يبعد دعوى ظهور « الجاهل » في لسان الفقهاء فيمن خالف عمله الواقع لجهله ، كما يرشد إليه تصريحهم بالفرق بين جاهل الموضوع وجاهل الحكم في الصلاة في النجاسة أو

ص: 242

المغصوب لباسا أو مكانا أو غيرهما ممّا يذكرونه من باب التفريع في جميع أبواب العبادات من الحكم بصحّة عمل الأوّل وكونه معذورا دون الثاني.

ويؤيّد ذلك أيضا ورود نقل الإجماع من السيّد رضيّ الدين (1) في مسألة جاهل القصر المحكوم بكونه معذورا في اتمام الصلاة لجهله بحكم القصر ، ولا منافاة في الحصر المذكور للعمل بالاحتياط ، لظهور كون المراد حصر المكلّفين بحسب كونهم باعتبار القابليّة من أهل الاجتهاد أو من أهل التقليد.

ولا ريب أنّ المحتاط حينئذ ليس بخارج عن الصنفين ، فليس مرادهم حصر المكلّفين في المجتهد والمقلّد الفعليّين وإلاّ انتقض بالجاهل المتسامح ونحوه.

وبالجملة ليس المراد من المجتهد والمقلّد في هذا العصر ما يقابل المحتاط ، بل المراد ما يعمّه باعتبار أنّ المحتاط أيضا بحسب القابليّة إمّا من أهل الاجتهاد فيتركه بسلوك طريق الاحتياط ، أو من أهل التقليد فيتركه بسلوك طريق الاحتياط ، كما أنّ المتسامح في الدين أيضا كذلك.

ومع الغضّ عن جميع ما ذكرنا وتسليم إطلاق معقد الإجماع وكلام الأكثر وظهور الحصر نقول : إنّه يجب الخروج عنه بملاحظة مقدّمتين قطعيّتين :

إحداهما : ما تقدّم الإشارة إليه في بحث عبادات الجاهل من أنّه لا مدخليّة لخصوص طريقي الاجتهاد والتقليد في صحّة العبادة ، بل المعتبر هو المطابقة وأنّ الغرض من جعلهما طريقين التوصّل بسلوكهما إلى مصلحة الواقع أو مثل مصلحة الواقع.

واخراهما : ما ذكرناه هاهنا من أنّ الاحتياط طريق موصل إلى نفس مصلحة الواقع لا محالة من غير تخلّف.

وقد يفصّل في المقام بين الاحتياط المستلزم للتكرار والغير المستلزم له ، فمقتضى الأصل في الأوّل وجوب الفحص بالرجوع إلى الأدلّة العلميّة أو الظنون الخاصّة أو المطلقة ، وذلك لأنّ الاحتياط ممّا لا مجوّز له إلاّ توهّم أنّ الغرض المطلوب في العبادات حصول الامتثال ، وهذا ممّا يحصل بالتكرار أيضا ومعه لا داعي إلى وجوب الفحص.

ويدفعه : أنّ المتيقّن ممّا يبرأ من الامتثال إنّما هو الامتثال التفصيلي وهو أن يعلم حين العمل حصول الامتثال به بعينه ، والامتثال الإجمالي - وهو أن يعلم حين العمل حصول الامتثال

ص: 243


1- نقله صاحب الذكرى 4 : 325.

بأحد الأمرين ولا يدري بأيّهما يحصل؟ - مشكوك في كونه مبرئ للذمّة وعدمه ، وقضيّة قاعدة الاشتغال تعيّن مراعاة الأوّل ، ولا ريب أنّ ما يوجبه التكرار إنّما هو الامتثال الإجمالي.

وتوهّم التمسّك بإطلاق الأمر لنفي اعتبار خصوص التفصيل في الامتثال في لحاظ الآمر.

يدفعه : أنّ التمسّك بالإطلاق إنّما يتّجه إذا كان الامتثال من قيود المأمور به لا من أغراض الآمر ، وهو خلاف التحقيق بل غير متعقّل ، لأنّ الامتثال في لحاظ الآمر إنّما يلاحظ من باب العلّة الغائيّة ، فلا يعقل كونه من قبيل القيود لينفى احتمال تقييده بخصوص التفصيل بإطلاق المأمور به ، فإذا كان من قبيل الأغراض لا يمكن التمسّك فيه بالإطلاق. وعليه فمع رجاء حصول العلم يتعيّن الفحص تحصيلا للامتثال العلمي التفصيلي ، ومع رجاء الظنّ الخاصّ يتعيّن الفحص أيضا لقيام هذا الظنّ مقام العلم ، ومع رجاء الظنّ المطلق يشكل الحال من حيث رجوعه إلى دوران الأمر بين الامتثال العلمي الإجمالي والامتثال الظنّي التفصيلي. ولكلّ منهما وجه من الرجحان من حيث العلميّة والتفصيليّة ، ولكنّ الاحوط فيه الفحص أيضا بل هو المتعيّن ، لكون الظنّي التفصيلي مبرئ يقينيّا بخلاف العلمي الإجمالي.

وأمّا ما لا يستلزم التكرار كالصلاة مع السورة لمن شكّ في جزئيّة السورة إذا أتى بها احتياطا ، فالكلام من حيث الإجمال والتفصيل في الامتثال لا يجري فيه ، لإفادته الامتثال التفصيلي بنفس هذا العمل ، فالمتّجه فيه القول بعدم لزوم الفحص وجواز العمل بالاحتياط ، إذ لا موجب للشكّ في البراءة إلاّ الإخلال بمعرفة الوجه وقصد الوجه ، وقد فرغنا عن عدم اعتبار شيء منهما في المأمور به.

والجواب : منع دوران الأمر في الاحتياط المستلزم للتكرار بين الامتثال الإجمالي والامتثال التفصيلي على وجه التحيّر الّذي يرجع للخروج عنه إلى الاصول والقواعد ، لأنّا لا نتعقّل للامتثال معنى إلاّ الإتيان بالمأمور به على حسب ما أمر به. وهذا لا يقبل التخصيص بالجهة كما يظهر بأدنى تأمّل ، مع إمكان أن يقال - على تقدير تسليم الدوران بالمعنى المذكور - : جاز الاحتياط - بل بطريق أولى فكان أرجح - لأنّه إدراك للواقع بطريق العلم وإن حصل العلم بعد الاتيانات.

الثاني : من شرطي أصل البراءة أن يكون إعماله في واقعة لم يكن هناك أصل موضوعي يحرز به الموضوع المعلّق عليه الحكم الإلزامي المشكوك فيه ، وبهذا البيان ظهر وجه اعتبار هذا الشرط ، إذ مع وجود نحو الأصل المذكور لا مجرى لأصل البراءة حتّى

ص: 244

يعمل به ، وذلك كما في اللحم اللقيط المشكوك حاله من حيث التذكية والعدم ، والماء الملاقي للنجاسة المشكوك حاله من حيث الكرّيّة والعدم مع سبق عدم الكرّيّة ، والمال الّذي في يد زيد أمانة لغائب إذا وكّل عمرا في اشترائه عن مالكه له المشكوك حاله من حيث انتقاله إليه والعدم ، والمرأة المشكوك حالها من حيث صيرورتها زوجة له وعدمه فيما إذا وكّل أحدا يزوّجها له ، فإنّ أصالة البراءة في هذه الأمثلة ونظائرها وإن كانت تقتضي عدم وجوب الاجتناب ، إلاّ أنّ الأصل الموضوعي في الجميع - وهو أصالة عدم التذكية ، وأصالة عدم الكرّيّة ، وأصالة عدم تحقّق السبب الناقل ، وأصالة عدم الزوجيّة - مانع من إعماله ، لاقتضائه وجوب الاجتناب في الجميع ، ومعه لا يمكن إعمال أصل البراءة.

وهل هذا لورود الأصل الموضوعي عليه أو لحكومة دليله على دليله؟ الأظهر الثاني لعدم اندراجه في ضابط الوارد ، لعدم رفعه الشكّ المأخوذ في موضوع أصل البراءة.

نعم دليله وهو عموم قوله عليه السلام : « لا ينقض اليقين أبدا بالشكّ (1) » متعرّض بمضمونه لقوله عليه السلام : « كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال ... » إلى آخره (2) في اقتضاء البناء على الحلّيّة وعدم الاجتناب فيما شكّ في حلّه وحرمته لشبهة الموضوع ، مع كون هذا البناء نقضا للقضيّة المتيقّنة سابقا من الحرمة ووجوب الاجتناب بالشكّ ببيان مقدار موضوعه ، ومحصّله : أنّ الشكّ الّذي يبنى معه على عدم وجوب الاجتناب هو ما لم يكن مسبوقا بالحالة السابقة المتيقّنة.

وبجميع ما قرّرناه ظهر أيضا أنّ مورد هذا الشرط إنّما هو الشبهات الموضوعيّة ، كما أنّ مورد الشرط الأوّل إنّما هو الشبهات الحكميّة ، فليتدبّر.

وقد ذكر الفاضل التوني (3) للعمل بأصل البراءة وغيره من الاصول العدميّة شروطا اخرى غير ما ذكرناه :

أحدها : أن لا يكون إعمال الأصل موجبا لثبوت حكم شرعي من جهة اخرى ، مثل أن يقال - في أحد الانائين المشتبهين - : الأصل عدم وجوب الاجتناب عنه ، وعدم بلوغ الملاقي للنجاسة كرّا ، وعدم تقدّم الكرّيّة - حيث يعلم بحدوثها - على ملاقاة النجاسة ، فإنّ

ص: 245


1- الوسائل 1 : 174 - 175 ، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، ح 1 ، و 2 : 594 ، الباب 44 من أبواب الحيض ، ح 2 ، و 3 : 226 ، الباب 8 من أبواب القبلة ، ح 6.
2- الوسائل 12 : 59 ، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأوّل.
3- الوافية : 186 - 187 و 193 - 194.

إعمال الاصول في هذه الموارد يوجب الاجتناب عن الإناء الآخر أو الملاقي أو الماء.

أقول : وهذا الشرط عند التحقيق وفي النظر الدقيق ممّا لا يرجع إلى محصّل ، وكأنّه وهم ممّا في كلام العلماء من عدم اعتبار الاصول المثبتة تنزيلا على غير وجهه غفلة عن حقيقة المراد ، فإنّ مرادهم من عدم اعتبار الأصل المثبت عدم وفائه بإثبات ما هو من الآثار العقليّة أو العاديّة للمورد ، بل إنّما يفي بترتّب الآثار الشرعيّة فقط ، مثلا استصحاب طهارة الثوب الّذي أصابه مايع يتردّد بين الماء والبول إنّما يوجب ترتيب الآثار الشرعيّة المترتّبة على المستصحب في زمان اليقين ، من عدم وجوب غسل الثوب ، وجواز الدخول معه في الصلاة ونحوه ، لا ترتيب ما هو من اللوازم العقليّة ككون هذا المايع ماء. وأصالة البراءة عن وجوب الاجتناب عن الإناء المتردّد بين كونه ماءا أو خمرا مثلا إنّما يوجب ترتيب آثار عدم وجوب الاجتناب الثابتة له شرعا على تقدير العلم به ، من جواز شربه وعدم وجوب غسل موضع ملاقاة الملاقي وجواز الدخول في الصلاة بما أصابه من ثوب أو بدن ، ولا يوجب الحكم بكونه ماء الّذي هو من اللوازم العقليّة لعدم وجوب الاجتناب.

ويظهر الفائدة في الأحكام المعلّقة على الماء من جواز التطهّر به عن الحدث وضوءا أو غسلا ، والوفاء بالنذر إذا نذر الإفطار بماء مسخّن. فعلى تقدير عدم الحكم بالمائيّة في المثالين لا يجوز استعماله في الطهارة ، ولا يكون الافطار به مجزئا ، وكذلك استصحاب الطهارة فيمن خرج منه المذي المشكوك في كونه ناقضا إنّما يوجب ترتيب الآثار الشرعيّة الّتي كانت مترتّبة على الطهارة حال اليقين ، وهي عدم وجوب طهارة اخرى ، وجواز الدخول في الصلاة ، ومسّ كتابة القرآن وغيرها ممّا هو مشروط بالطهارة ، وعدم كون المذي ناقضا ليس منها فلا يسوغ الحكم به لمجرّد استصحاب الطهارة.

والسرّ في عدم ترتّب ما عدا الآثار الشرعيّة على المورد بمقتضى الأصل الجاري فيه أنّ الاصول الشرعيّة كلّها من قبيل القواعد التعبّديّة المستنبطة عن الأدلّة الشرعيّة.

ومن الواضح البديهي وجوب الاقتصار في إعمال قاعدة من تلك القواعد في مواردها على مقدار ما دلّ عليه دليلها.

ولا ريب أنّ مقتضى قوله عليه السلام : « لا ينقض اليقين أبدا بالشكّ (1) » وجوب ترتيب الأحكام

ص: 246


1- الوسائل 1 : 174 - 175 ، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، ح 1 ، و 2 : 594 ، الباب 44 من أبواب الحيض ، ح 2 ، و 3 : 226 ، الباب 8 من أبواب القبلة ، ح 6.

الشرعيّة على الطهارة المستصحبة الثابتة لها حال اليقين ، وكون المايع ماء وعدم كون المذي ناقضا ليس منها ، وهو ساكت عن وجوب ترتيب نحو هذه الآثار. وقوله عليه السلام : « كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال ... » إلى آخره (1) ، إنّما يدلّ على جواز البناء على حلّية ما يشكّ في حلّه وحرمته ، على معنى ترتيب الأحكام الشرعيّة المترتّبة على الحلّية على الموضوع المشتبه ، وكونه ماء أو خلاّ أو نحوه ليس متيقّنا وهو ساكت عن الدلالة على التعبّد بترتيب هذه الآثار أيضا. فمعنى عدم اعتبار الاصول المثبتة أنّه لم يثبت بالقياس إلى الآثار الغير الشرعيّة قاعدة مؤدّاها التعبّد بترتيب تلك الآثار ، وهذا كما ترى ممّا لا يرجع محصّله إلى بيان اشتراط العمل بالاصول بعدم كونها مثبتة ، إذ لا توقّف للعمل به في الآثار الشرعيّة على عدم ترتيب الآثار العقليّة أو العاديّة عليها.

والمفروض عدم ثبوت عموم للقاعدة على حسب دليلها بالقياس إليها حتّى يقال : بأنّها لكونها مثبتة لها لا يجوز العمل لانتفاء شرط جواز العمل بها.

وبالتأمّل فيما ذكرناه من ضابط الأصل المثبت تعرف أنّ ما ذكره من الاصول في الأمثلة المذكورة ليست من الاصول المثبتة بالقياس إلى وجوب الاجتناب ، أمّا في المثالين الأخيرين فلأنّه من الآثار الشرعيّة المترتّبة على عدم كرّية الماء إذا لاقاه نجاسة ، فلذا جرى عليه ذلك الحكم حال اليقين بعدم الكرّيّة.

وأمّا في المثال الأوّل فلأنّ أصالة عدم وجوب الاجتناب عن أحد الانائين على تقدير عدم مانع آخر من العمل به لا يوجب وجوب الاجتناب عن الاناء الآخر ، لأنّه ليس بلازم عقلي لعدم وجوب الاجتناب عن الاناء الأوّل ، بل اللازم له عقلا كون الاناء الآخر هو الّذي لاقته النجاسة مثلا ، والعمل بالأصل المذكور إنّما يكون مثبتا على تقدير الحكم لذلك الّذي هو عبارة عن ترتيب اللازم العقلي ، فعدم اعتباره من حيث إثباته معناه عدم جواز الحكم بذلك ، وهذا لا يمنع من جواز العمل به بدون هذا الحكم ومن غير ترتيب اللازم العقلي ، كما في استصحاب طهارة الثوب الّذي لا إشكال في جواز العمل به من دون الحكم على المايع المردّد بكونه ماء ، فعدم جواز العمل بالأصل المذكور ليس لأجل أنّه مثبت بل لمانع آخر ، وهو أنّ جريان أصالة عدم وجوب الاجتناب كما أنّه يتصوّر في أحد الانائين بعينه كذلك يتصوّر في الاناء الآخر بعينه ، فإعمالهما معا يوجب طرح العلم الإجمالي

ص: 247


1- الوسائل 12 : 59 ، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأوّل.

والمخالفة القطعيّة العمليّة للتكليف الفعلي وهو وجوب الاجتناب عمّا لاقته النجاسة من الإنائين ، وإعماله في أحدهما المعيّن ترجيح بلا مرجّح ، وكلاهما باطلان.

وقضيّة ذلك سقوط اعتبار الأصل هنا رأسا ، مضافا إلى أنّ المورد هنا من مجاري قاعدة الاشتغال وقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ، ومعهما لا مجرى لأصل البراءة.

وثانيها : أن لا يتضرّر بإعمالها مسلم ، كما لو فتح إنسان قفص طائر فطار ، أو حبس شاة أحد فمات ولدها ، أو أمسك رجلا فهرب دابّته ، فإنّ إعمال البراءة فيها يوجب تضرّر المالك ، فيحتمل اندراجه في قاعدة الإتلاف ، وعموم قوله : « لا ضرر ولا ضرار (1) فإنّ المراد نفي الضرر من غير جبران بحسب الشرع وإلاّ فالضرر غير منفيّ ، فلا علم حينئذ ولا ظنّ بأنّ الواقعة غير منصوصة. فلا يتحقّق شرط التمسّك بالأصل من فقدان النصّ ، بل يحصل القطع بتعلّق حكم شرعي بالضارّ ، ولكن لا يعلم أنّه مجرّد التغرير أو الضمان أو هما معا ، فينبغي له تحصيل العلم بالبراءة ولو بالصلح.

أقول : وهذا الشرط أيضا لا يرجع إلى محصّل ، لأنّه إمّا أن يسلّم قاعدتي الإتلاف ونفي الضرر ويقول بكونهما من القواعد المعتبرة المحكّمة على الأصل في اقتضاء ضمان الضارّ للمستضرّ أو لا ، فعلى الثاني لا أثر لتضرّر المسلم في منع العمل بالأصل ، لأنّه على التقدير المذكور لا حكم له في نظر الشارع حتّى يكون إعمال الأصل مشروطا بعدمه.

وعلى الأوّل فهما كسائر القواعد المحكّمة على الاصول ، فكما يقال : لا يجري أصل البراءة حيث يجري قاعدة الاشتغال أو قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ، فكذلك يقال : لا يجري حيث يجري قاعدة الإتلاف أو قاعدة نفي الضرر.

والسرّ في عدم جريانه مع جريانها ورودها عليه ، لما اخذ في موضوعه فقدان النصّ. وليس المراد بالنصّ المأخوذ في موضوعه النصّ المصطلح بل مطلق الدليل ، والمراد بالدليل ما يعمّ القواعد العامّة الّتي يستند إليها في الفروع ، وعليه ففقدان نحو قاعدتي الإتلاف ونفي الضرر مأخوذ في موضوع الأصل ، فلا يجري حيث تجريان. وهذا يغني عن جعل العمل به مشروطا بعدم الضرر ، إذ مع حصول الضرر كانت القاعدتان دليلا على الضمان ومع وجوده لا أصل ليعمل به لانتفاء موضوعه ، هذا ولكنّ العبارة المتقدّمة لا تتحمّل شيئا من شقّي الترديد ، بل هي ظاهرة أو صريحة في أنّ وجه الاشتراط عدم كون فقدان

ص: 248


1- الوسائل 17 : 341 ، الباب 12 من أبواب إحياء الموات ، ح 3 ، 4 ، 5.

النصّ - بمعنى عدم الدليل على الحكم المأخوذ في موضوع الأصل - محرزا مع تضرّر المالك ، لأنّ معنى إحرازه حصول القطع أو الظنّ بعدم وجوده وليس شيئا منهما حاصلا في المقام ، لاحتمال اندراجه في القاعدتين المفروض كون كلّ منهما دليلا على الضمان. وأورد عليه حينئذ : بأنّ مجرّد احتمال اندراج الواقعة في قاعدة الاتلاف أو الضرر لا يوجب رفع اليد عن الأصل ، والمعلوم تعلّقه بالضارّ فيما نحن فيه هو الإثم والتعزير إن كان متعمّدا ، وإلاّ فلا يعلم وجوب شيء عليه ، فلا وجه لتحصيل العلم بالبراءة ولو بالصلح. والأولى أن يورد عليه : باندراج الواقعة في قاعدة الإتلاف وهي مقتضية للضمان ، ومعه لا يجرى الأصل كما عرفت.

ثالثها : أن لا يكون مجرى الأصل جزء عبادة مركّبة ، واستوجهه صاحب الفصول (1) بناء منه على مختاره في مسألة الشكّ في المكلّف به الدائر بين الأقلّ والأكثر باعتبار الشكّ في مدخليّة شيء فيه من البناء على الاشتغال.

لكن اعترض عليه : بأن لا وجه لتخصيص الاشتراط بالجزء بل يجري في الشرط والمانع.

وقد عرفت ما عندنا من أنّ المرجع فيه البراءة فلا وجه للاشتراط ، مع أنّه على تقدير مرجعيّة الاشتغال - كما اختاره - فالاشتراط المذكور لا يزيد على ما اخذ في موضوع أصل البراءة من انتفاء الدليل على المشكوك بناء على ما عرفت من كون الدليل أعمّ من القاعدة ، وقاعدة الاشتغال دليل بالقياس إلى أصل البراءة ، فمع جريانها لا مجرى له لانتفاء موضوعه.

نعم يبقى الكلام مع الفاضل التوني فإنّه علّل الاشتراط المذكور : بأنّ كلّ نصّ بيّن فيه أجزاء المركّب كان دالاّ على عدم جزئيّة ما عداها ، فيكون عدم جزئيّة المختلف فيه حينئذ منصوصا لا معلوما بالأصل (2). ومرجعه إلى دعوى عدم جريان أصل البراءة مع وجود الدليل على نفي الجزئيّة.

ويرد عليه أوّلا : أنّه لا اختصاص لهذا الاشتراط بما كان المشكوك فيه جزئيّة شيء للعبادة ، بل كلّ حكم إلزامي دلّ الدليل على نفيه لا يجري فيه أصل البراءة ، فيجري هذا الاشتراط في جميع موارد وجود الدليل.

وثانيا : أنّه لا يزيد على ما اخذ في موضوع الأصل من فقد النصّ ، لأنّ المراد من

ص: 249


1- الفصول الغروية : 364.
2- الوافية : 195.

في الاستصحاب

اشارة

أصل

اختلف الناس في استصحاب الحال *.

________________________________

النصّ المعتبر فقده أعمّ ممّا دل على ثبوت الحكم وما دلّ على نفيه ، فهذا يغني عن قوله : الاشتراط المذكور.

وثالثا : منع دلالة النصّ المتعرّض لبيان أجزاء المركّب على عدم جزئيّة ما عداها ، لاختلاف النصوص المتعرّضة لبيان أجزاء العبادات في تعرّضها الأجزاء قلّة وكثرة ، وإنّما يستفاد مجموع الأجزاء من مجموع النصوص ، فليس بناء كلّ واحد منها على استيفاء تمام الأجزاء.

والسرّ فيه : أنّها وردت بحسب حاجات المخاطبين ، فيحتمل في الجزء المختلف فيه ورود نصّ لبيانه غير بالغ إلينا ، مع أنّه قد يتعارض نصّان في جزئيّة شيء على وجه لا محيص معه من الرجوع إلى الأصل سيّما على القول بالتساقط أو الوقف في مسألة التعادل.

هذا آخر ما أوردناه في مسألة أصل البراءة ، ونسأل اللّه التوفيق على أن نردفه بقيّة مسائل الفنّ بحوله وقوّته ، فإنّه لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه العليّ العظيم ، والحمد لله أوّلا وآخرا وظاهرا وباطنا.

الاستصحاب لغة واصطلاحا

* وليعلم أنّ الاستصحاب أصل عامّ النفع سار في المسائل الفرعيّة من الطهارة إلى الديات سريان الماء في عروق الشجر وأغصانه وأوراقه وأثماره ، إذ قلّما يتّفق مسألة فرعيّة لم تستعمل فيها أصل استصحابي لانسحاب حالة عدميّة أو وجوديّة. وهو باعتبار اللغة استفعال من الصحبة ، وهي حالة بين الشيئين باعتبار لزوم أحدهما للآخر ، ولذا فسّرها في المجمع بالملازمة (1). فالاستفعال فيها عبارة عن طلب الصحبة من الشيء ، ويقال له في الفارسية : « طلب همراهى كردن از چيزى »

وحاصله : أخذ الشيء مصاحبا ، ومنه استصحاب أجزاء ما لا يؤكل لحمه في الصلاة. ولمناسبة هذا المعنى غلّب في لسان الفقهاء والاصوليّين على معنى خاصّ لما يتضمّنه من طلب المكلّف من الحالة السابقة أن تصحبه وتلازمه ، سواء اعتبرناه على طريقة القدماء - ولا سيّما العامّة المستندين في حجّيته إلى ما زعموه من الحكم العقلي الظنّي بأنّ ما ثبت دام المفيد في الواقعة الشخصيّة ظنّ البقاء - أو على طريقة المتأخّرين المستندين فيها إلى

ص: 250


1- مجمع البحرين 2 : 97 مادة « صحب ».

روايات مستفيضة (1) ناهية عن نقض اليقين بغير اليقين ، إذ المكلّف على الاولى كأنّه بتحصيله ظنّ البقاء في الواقعة الشخصيّة بالنظر في الحكم العقلي يطلب من الحالة السابقة المصاحبة له في الزمان السابق أن تصحبه له في الآن اللاحق أيضا ، وعلى الثانية كأنّه بتنزيله الحالة السابقة منزلة الثابتة الباقية في الآن اللاحق بملاحظة منع الشارع من نقض اليقين بغيره يطلب منها المصاحبة.

وبالتأمّل في البيان المذكور يظهر سرّ ما ذكروه في الفرق بين هذا الأصل وسائر الاصول العمليّة من أنّ الأوّل ما يلاحظ فيه الحالة السابقة ، بأن يكون الجهة المقتضية لطلب المصاحبة من الحالة السابقة بانضمام حكم العقل أو الشرع ثبوتها في الزمن السابق دون غيرها.

وعلى هذا فأجود تعاريفه بحسب الاصطلاح وأخصرها أن يقال : « إنّه إبقاء ما كان باعتبار أنّه كان » أي الحكم ظنّا أو تعبّدا ببقائه في آن باعتبار كونه في آن سابق عليه ، فخرج إبقاء حكم لوجود علّته كالحكم ببقاء نجاسة الماء المتغيّر حال وجود تغيّره ، أو لوجود دليله كالحكم ببقاء طهارة الكرّ الملاقي للنجاسة بالنظر إلى قوله عليه السلام : « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء (2) ».

فأمّا الاقتصار في تعريفه على « إبقاء ما كان » بدون ذكر القيد الأخير كما في كلام بعض مشايخنا (3) تعليلا بأنّ دخل الوصف في الموضوع مشعر بعلّيته للحكم فعلّة الإبقاء هو أنّه كان ، فهو وإن كان كما ذكره قدسّ سرّه من الإشعار غير أنّه يشكل الاكتفاء به في مقام التعريف الّذي مبناه على وضوح حال المعرّف الّذي لا بدّ فيه من دلالة واضحة ، فلا يكفي فيه الإشعار الّذي هو دون الدلالة.

وعلى ما بيّنّاه ينطبق تعريفه بأنّه : « إثبات الحكم في الزمان الثاني تعويلا على ثبوته في الزمن الأوّل » كما في زبدة البهائي (4). وفي معناه تعريفه بأنّه إثبات حكم في زمان لوجوده في زمان سابق عليه كما عن المحقّق الخوانساري في شرح الدروس (5) ناسبا له إلى القوم ، وبه فسّره المصنّف في عبارته الآتية المشتملة على قوله : « فهل يحكم

ص: 251


1- الوسائل 1 : 175 و 176 ، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، ح 1 و 6 ، و 2 : 594 و 1065 الباب 44 من أبواب الحيض ، ح 2 وو 3 : 226 ، الباب 8 من أبواب القبلة ، ح 6 ، و 5 : 321 ، الباب 10 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح 3.
2- الوسائل 1 : 117 الباب 9 من أبواب الماء المطلق ، ح 1.
3- فرائد الاصول 3 : 9.
4- الزبدة : 72 - 73.
5- مشارق الشموس : 76.

ومحلّه أن يثبت حكم في وقت ثمّ يجيء وقت آخر ولا يقوم دليل على انتفاء ذلك الحكم ، فهل يحكم ببقائه على ما كان وهو الاستصحاب ، أم يفتقر الحكم به في الوقت الثاني إلى دليل*؟

______________________________

ببقائه على ما كان وهو الاستصحاب » بناء على عود الضمير إلى مصدر الفعل المتقدّم وهو الحكم ببقائه على ما كان على حدّ قوله تعالى : ( اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ) (1).

* ولقد أجاد رحمه اللّه في جعله البيان المذكور تعريفا لمحلّ الاستصحاب ومورده ، فإنّه أصل يجري في نحو هذا المورد لا أنّه هو نفس ذلك الأصل.

والعجب عن بعض الأعلام (2) أنّه كيف غفل عن هذا المعنى مع وضوحه فعرّف الاستصحاب : « بأنّه كون حكم أو وصف يقينيّ الحصول في الآن السابق مشكوك البقاء في الآن اللاحق » بناء على ظهور الكون في الناقصة ، فيكون الحكم والوصف المجرور بالإضافة رفعا في محلّ الاسم ، ويقينيّ الحصول نصبا على الخبريّة ، وكذا مشكوك البقاء على أنّه خبر بعد خبر بإسقاط العاطف على حدّ « هذا حلو حامض » ، مع احتمال كون الخبر هو مشكوك البقاء وكون يقينيّ الحصول جرّا على أنّه نعت للاسم.

وكيف كان فيرد عليه : أنّه تعريف لمحلّ الاستصحاب ومورده لا أنّه نفسه ، ولعلّه كما قيل وهم نشأ من كلام العضدي حيث إنّه قال : « معنى استصحاب الحال أنّ الحكم الفلاني قد كان ولم يظنّ عدمه ، وكلّما هو كذلك فهو مظنون البقاء (3) وقد اختلف في صحّة الاستدلال به لإفادته ظنّ البقاء وعدمها لعدم إفادته إيّاه ، فأخذ التعريف المذكور عن صغرى هذا القياس أخذا بحاصل مضمون القضيّة بزعم أنّه الاستصحاب في مصطلحهم ، لا مضمون الكبرى كما فهمه المصنّف حيث فسّره بما ينطبق على الكبرى ، لمكان الاختلاف الواقع في الكبرى على ما قرّره العضدي ، وهو خلاف في الحكم الّذي موضوعه الاستصحاب ولا يكون إلاّ الصغرى.

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّ ظاهر العضدي أنّه عرّف الاستصحاب بنفس القياس المؤلّف من المقدّمتين ، وإنّما دعاه إلى ذلك ما آنسه في عرفهم من إطلاق الدليل على الاستصحاب وعدّه من الأدلّة العقليّة. ولمّا كان الدليل عندهم عبارة عمّا يتألّف من مقدّمتين فعرّفه بما ذكره.

ص: 252


1- المائدة : 8.
2- القوانين 2 : 53.
3- شرح مختصر الاصول 2 : 453.

ولا يقدح فيه الخلاف الّذي نقله الراجع إلى كبرى هذا القياس ، لأنّه خلاف في تماميّة هذا الدليل باعتبار الشبهة في صدق كبراه أو كذبها. فمن يدّعي صحّة الاستدلال به يدّعيه بزعم كون كبراه صادقة ، ومن ينفيها يدّعي كذبها على معنى عدم إفادة كون الشيء الفلاني كان ولم يظنّ عدمه الظنّ بالبقاء ، ولذا علّل قول الفريقين بإفادته ظنّ البقاء وعدم إفادته إيّاه. فحمل هذا التعريف بقرينة نقل الخلاف على كونه تعريفا للاستصحاب بمضمون الصغرى ليس على ما ينبغي ، كما أنّ حمل كلام بعض الأعلام على كونه وهما من هذا التعريف أيضا لعلّه ليس على ما ينبغي ، فليتدبّر.

وعلى تعريفه بمجموع المقدّمتين ينطبق ما عرّفه الفاضل التوني في الوافية من « أنّه التمسّك بثبوت ما ثبت في وقت أو حال على بقائه فيما بعد ذلك الوقت وفي غير تلك الحال ، فيقال : إنّ الأمر الفلاني قد كان ولم يعلم عدمه ، وكلّما كان كذلك فهو باق (1) ».

وربّما وجّه تعريف بعض الأعلام بجعل الكون من « كان » التامّة بمعنى الثبوت مضافا إلى فاعله مع كون « في الآن اللاحق » متعلّقا به - ليكون المعنى ثبوت الحكم الموصوف بالوصفين في الآن اللاحق - لا بمشكوك البقاء ، لأنّ الشكّ في البقاء يلزمه كونه في الآن اللاحق ، فيدلّ عليه بالالتزام ولا حاجة معه إلى التصريح به في التعريف.

وفيه : مع ما فيه من التكلّف الواضح ، أوّلا : أنّه لا يوافق ما أفاده قدسّ سرّه في أوّل كتابه (2) عند بيان موضوع اصول الفقه من أنّ الاستصحاب إن اخذ من العقل كان داخلا في دليل العقل ، وإن اخذ من الأخبار كان داخلا في السنّة. وهذا على كلا التقديرين يأبى ما ذكر في التوجيه.

أمّا التقدير الأوّل فلأنّ دليل العقل حكم عقلي يتوصّل به إلى حكم شرعي ، وهو هنا حكم العقل ببقاء ما كان على ما كان لا ثبوت ما كان في الآن اللاحق.

وأمّا التقدير الثاني فلأنّ المأخوذ من الأخبار وجوب الحكم ببقاء ما كان على ما كان لا ثبوته في الآن اللاحق.

وثانيا : أنّ التوجيه المذكور يوجب البينونة فيما بين المعرّف والمعرّف ، لأنّ الثبوت في الآن اللاحق حال من أحوال الحكم الّذي هو المستصحب ووصف فيه ، والاستصحاب بحسب الاصطلاح على ما يستفاد من كلمات القوم واستعمالاتهم من مقولة الفعل ، ولذا يعرّف تارة بالإبقاء ، واخرى بالحكم بالبقاء ، وثالثة بالإتيان ، ورابعة بالتمسّك بثبوت ما ثبت ... إلى آخره.

ص: 253


1- الوافية : 200.
2- القوانين 1 : 9.

ويرشد إليه أيضا ما شاع في كلامهم عند إعمال الاستصحاب من قولهم : يجب استصحابه ، إلى غير ذلك من الشواهد الّتي يقف عليها المتتبّع في كلامهم ، فالثبوت يبائن الجميع.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ تعريف الاستصحاب بالثبوت مأخوذ عمّا تقدّم من تعريفي البهائي والخوانساري بالإثبات أخذا بلازم الشيء ، فاريد من الثبوت الإثبات من باب التعبير عن الشيء بلازمه ، وفيه تعسّف.

وبالجملة التعريف المذكور لا يخلو عن حزازة وكلفة والخروج عن استقامة.

لا يقال : إنّ تعريفه بالإبقاء والإثبات أيضا لا يلائمه قولهم : « الاستصحاب حجّة أو ليس بحجّة » على حدّ قولهم : « القياس حجّة والاستحسان ليس بحجّة » لمكان المنافرة في قولنا : « الإبقاء حجّة أو الإثبات ليس بحجّة » وأيضا فإنّ الاستصحاب يطلق عليه الدليل. ولا يصحّ أن يقال : الإبقاء دليل ولا الإثبات دليل.

لأنّا نقول : الإبقاء والإثبات والحكم بالبقاء أو الثبوت كلها ألفاظ مترادفة فاريد من بعضها ما يراد بالآخر ، فالمراد بالإبقاء والإثبات هو الحكم بالبقاء والحكم بالثبوت وهو حكم العقل به ظنّا ، ويعني بحجّية الاستصحاب حجّيّة هذا الحكم العقلي وإطلاق الدليل عليه أيضا إنّما هو بهذا الاعتبار ، فيصحّ إضافة الحجّية إلى الإبقاء والإثبات وإطلاق الدليل عليهما بتأويلهما إلى هذا الحكم العقلي.

التنبيه على امور :

اشارة

وينبغي التنبيه على امور :

الأمر الأوّل : تقوّم الاستصحاب باليقين السابق والشكّ اللاحق

الأمر الأوّل : أنّ الاستصحاب على ما يظهر بالتأمّل في التعاريف المذكورة وغيرها يعتبر فيه عدّة امور هي من مقوّماته الّتي يلزم باختلال واحد منها انتفاء ماهيّة الاستصحاب ، وهي الحكم وموضوعه واليقين السابق والشكّ اللاحق ، وكون الحكم المتيقّن ثبوته في الآن السابق قابلا للشكّ في بقائه في الآن اللاحق. والمراد بموضوع الحكم أن يكون موضوعه في الآن اللاحق عين ما هو موضوعه في الآن السابق ، والمراد باليقين السابق أن يكون متعلّق اليقين هو الزمان السابق وإن لم يكن ظرفا لوجوده أيضا ، كعدالة زيد إذا حصل اليقين في الآن المتأخّر بثبوتها في آن سابق عليه مع الشكّ في بقائها في ذلك الآن المتأخّر من دون سبق اليقين بها في الآن السابق إمّا لغفلة أو شكّ.

وبالجملة لا يعتبر في اليقين المعتبر في الاستصحاب سبق حدوثها في الزمان السابق ، بل يكفي تعلّقها به وإن تأخّر حدوثه إلى زمان الشكّ ، بحيث يكون زمان واحد ظرفا

ص: 254

لحدوث اليقين والشكّ معا ، بأن يكون متعلّق اليقين هو الزمان السابق ومتعلّق الشكّ هو ذلك الزمان اللاحق الّذي هو ظرف لحدوثيهما.

وما يقال : من أنّ اليقين والشكّ متناقضان فلا يجتمعان معا ، معناه أنّهما لا يجتمعان في متعلّق واحد في زمان واحد ، لا أنّهما لا يجتمعان في زمان واحد مع تعدّد متعلّقيهما.

والمراد بالشكّ اللاحق أن يكون متعلّق الشكّ هو الزمان اللاحق وإن كان ظرف حدوثه زمان سابق عليه لا خصوص ما يكون الزمان اللاحق ظرفا لحدوثه أيضا ، فلو حصل اليقين بعدالة زيد في وقت وشكّ معه في بقائها في الأزمنة المتأخّرة عنه ليجري عليه أحكام العدالة من هذا الوقت في الأزمنة المتأخّرة استصحابا.

وعليه مبنى النيابات والوكالات والوصايا فيما إذا لوحظ وصف العدالة حين العقد في النائب والوكيل والوصي مع تأخّر زمان العمل عن زمان العقد ولو بكثير. وإذا عرفت أركان الاستصحاب فاعلم : أنّ هاهنا عدّة أشياء ربّما تعدّ من الاستصحاب صورة وليست منه حقيقة لخروجها عن مسمّاه الاصطلاحي ، بل معناه اللغوي أيضا ، كالاستصحاب القهقري ، والاستصحاب في الشكّ الساري ، والاستصحاب العرضي ، واستصحاب الشيء مع تبدّل موضوعه ، والاستصحاب في الأحكام العقليّة ، فإنّ الأوّل عكس قانون الاستصحاب ، لأنّه عبارة عن تعدية الحكم اليقيني في الآن اللاحق إلى الآن السابق المشكوك في تحقّقه فيه ، فلا يكون ذلك استصحابا حتّى لغة ، لانتفاء طلب الصحبة فيه ، بل هو عند التحقيق غير معقول لامتناع اعادة المعدوم.

والثاني ليس معه يقين سابق لتعلّق الشكّ بالحدوث والبقاء ، وإن سبقه الاعتقاد بالحدوث لزواله بسراية الشكّ.

و [ الثالث ](1) فيما كان له جهتان ذاتيّة وعرضيّة مع كون الجهة الاولى مشكوكة من بدو الأمر والثانية منتفية وقد لحقها ما يرفعها ، كالحيوان المتولّد من كلب وغنم مع كون امّه الكلب من دون أن يشبه أحد أبويه ولا مماثل له يتبعه في الحكم طهارة ، فإنّه إذا غسل بالماء ثمّ استصحب نجاسته السابقة على الغسل كان ممّا انتفى معه أحد ركنيه اليقين السابق إن اريد استصحاب نجاسته الذاتيّة ، أو الشكّ اللاحق إن اريد استصحاب نجاسته العرضيّة.

ص: 255


1- وفي الأصل : « الثاني » بدل « الثالث » والصواب ما أثبتناه في المتن نظرا إلى السياق ولعلّه سهو منه قدّس سره.

والرابع والثالث (1) كاستصحاب نجاسة الكلب الواقع في المملحة المستحيل ملحا ، ويفسده : أنّ النجاسة إنّما ثبتت للكلب وهذا ملح وليس بكلب ، وحكم الملح ولو بحكم الأصل الطهارة ، ومن المستحيل انسحاب حكم موضوع إلى موضوع آخر.

والخامس مدفوع بأنّ حكم العقل مع بقاء موضوعه على الوجه الّذي لاحظه العقل ممّا لا يقبل الشكّ ، ومع عدم بقاء الموضوع خرج المورد عن محلّ الاستصحاب كما عرفت.

الأمر الثاني : في كون الاستصحاب من الأدلّة العقليّة

اشارة

الأمر الثاني : أنّ الاستصحاب على تقدير كونه عقليّا - كما عليه العامّة وقدماء أصحابنا وتبعهم المصنّف وقبله الفاضلان - وهو حكمه الظنّي بأنّ ما ثبت دام ، مندرج في الأدلّة العقليّة كما أشرنا إليه سابقا وشرحناه في الجملة في أوائل مسألة التحسين والتقبيح العقليّين ، ونزيد هنا بيانا : أنّه حكم عقليّ يتوصّل به إلى حكم شرعي بواسطة أخذه كبرى في قياس صغراه فرضيّة ، وينتظم بهذه الصورة : « أنّ الحكم الفلاني قد ثبت ولم يعلم ارتفاعه ، وكلّما كان كذلك فهو باق » وحيث إنّ الكبرى ظنّية فالنتيجة الحاصلة منه ظنّية ، وعليه مبنى القول باعتبار الاستصحاب من باب الظنّ ، بخلاف ما لو أخذ من الأخبار كما عليه متأخّر والمتأخّرين من أصحابنا ، وهو الموافق للتحقيق على ما سنقرّره ، فلا يمكن كونه حينئذ من قبيل الدليل ، ضرورة أنّ المستفاد من قوله عليه السلام : « لا ينقض اليقين إلاّ بيقين مثله (2) » إنّما هو وجوب الحكم ببقاء ما كان على ما كان وهذا من قبيل المدلول ، وكذا لو قرّرناه بوجوب ترتيب آثار البقاء على ما كان ، فحينئذ يكون مؤدّاه من الأحكام الظاهريّة المجعولة للجاهل بوصف كونه جاهلا ، وعليه مبنى القول بكونه معتبرا من باب التعبّد وعدّه في عداد الاصول العمليّة المقرّرة للجاهل ، ولا إشكال في كون الحكم المذكور من حيث كونه مستفادا من الأخبار من قبيل القواعد الكلّيّة المأخوذة في المسائل الفرعيّة الاستنباطيّة من باب المبادئ التصديقيّة والمباني الشرعيّة ، نظير قاعدتي نفي الضرر ولزوم البيع ، وقد يجعل الاستصحاب على هذا التقدير من قبيل القاعدة ولعلّه مسامحة من تسمية المتعلّق باسم المتعلّق ، وإلاّ فالقاعدة المستنبطة من الأخبار هو وجوب الحكم بالبقاء ، والاستصحاب موضوع لذلك الحكم لا أنّه نفس القاعدة.

ص: 256


1- والظاهر أنّ هذا مثال للقسم الرابع ، وهو استصحاب الشيء مع تبدّل موضوعه ولذا لا وجه لذكر كلمة « الثالث » هنا فافهم.
2- الوسائل 1 : 174 - 175 ، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، ح 1 ، و 333 ، الباب 44 من أبواب الوضوء ، ح 1 ، و 2 : 594 ، الباب 44 من أبواب الحيض ، ح 2 ، و 3 : 226 ، الباب 8 من أبواب القبلة ، ح 6.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّ المدلول المستفاد من قوله عليه السلام : « لا ينقض اليقين أبدا بالشكّ (1) » هو حكم الشارع ببقاء ما كان على ما كان ، والاستصحاب أيضا حكم بالبقاء فيصحّ إطلاق القاعدة عليه وإطلاقه عليها حينئذ.

هل الاستصحاب أصل عملي أو أمارة ظنّية؟

وفيه - مع ما فيه من التكلّف والخروج عن ظاهر النهي بلا صارف - : أنّه خروج عن الاصطلاح ، لأنّ الاستصحاب على ما بيّنّاه من قبيل فعل المكلّف ، وما ذكر من التكلّف يقتضي كونه من فعل الشارع.

وعلى أيّ تقدير كان فهل المسألة في بحث الاستصحاب اصوليّة أو لا؟ بل هي من توابع المسائل الكلاميّة الّتي تذكر في هذا الفنّ من باب المبادئ التصديقيّة ، أو أنّها مسألة فرعيّة تؤخذ من مباني الفروع ، نظير سائر القواعد المقرّرة في الفقه لما فيها من المبنائيّة؟ احتمالات لكلّ منها وجه في تقدير.

وتوضيحه : أنّ الاستصحاب على القول به من باب حكم العقل قد عرفت أنّه دليل عقليّ فالبحث عن حجّيّته وعدم حجّيّته يحتمل وجهين :

أحدهما : كونه صغرويّا راجعا إلى حكم العقل ظنّا ببقاء ما كان وعدم حكمه فيه ، نظير الخلاف في حجّيّة العامّ المخصّص وفي حجّيّة المفاهيم كما هو ظاهر بعض أدلّة الفريقين على ما ستعرفه ، وعليه فينبغي القطع بعدم كونه بحثا في مسألة اصوليّة ، لأنّه بحث يقصد به إثبات ذات الدليل العقلي نظير البحث في التحسين والتقبيح العقليّين على ما هو محلّ النزاع بين الأشاعرة والعدليّة ، لا أنّه بحث عن حال الدليل ، فتكون المسألة من توابع المسائل الكلاميّة.

وثانيهما : كونه كبرويّا راجعا إلى الملازمة بين هذا الحكم العقلي الظنّي - بعد الفراغ عن إثباته - وبين الحكم الشرعي ، وعليه فيقصد بالبحث عن الحجّيّة إحراز وصف الدليليّة لهذا الحكم العقلي الظنّي ، ففي كونه حينئذ مسألة اصوليّة وعدمه وجهان ، مبنيّان على اعتبار وصف الدليليّة في موضوع هذا العلم - كما عليه بعض الأعلام على ما سبق في أوائل الجزء الأوّل من الكتاب (2) عند الكلام في تحقيق موضوع العلم - وعدمه بدعوى كونه ذات الدليل كما زعمه بعض الفضلاء.

ص: 257


1- الوسائل 1 : 174 - 175 ، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، ح 1 ، و 2 : 594 ، الباب 44 من أبواب الحيض ، ح 2 ، و 3 : 226 ، الباب 8 من أبواب القبلة ، ح 6.
2- تعليقة على معالم الأصول 1 : 202.
هل الاستصحاب مسألة اصوليّة أو الكلاميّة أو الفقهيّة؟

ويظهر أثر هذا الخلاف في مباحث حجّيّة الأدلّة كالكتاب وخبر الواحد والإجماع المنقول وما أشبه ذلك ومنها ما نحن فيه ، وحيث إنّ الأرجح عندنا دخول الوصف في الموضوع فنرجّح عدم كونه أيضا مسألة اصوليّة.

إلاّ أن يتكلّف بإرجاع البحث في الحجّية وعدمها إلى انحصار أدلّة الأحكام في الأربع المعهودة وعدم انحصارها فيها ، وظاهر أنّ انحصارها وعدم انحصارها في الأربع من أحوال الأدلّة اللاحقة لها بوصف الدليليّة.

ولكنّه ضعيف جدّا ، إذ مسائل كلّ علم هي الأحوال المختصّة بموضوعه المطلوبة من تدوينها ، فلا بدّ وأن تكون الحالة مطلوبة بالذات من عقد المسألة ، والمقصود بالذات من عقد مسألة الاستصحاب إنّما هو وصف الدليليّة فيه ، وإن لزم [ من ] اثباته عدم انحصار أدلّة الأحكام فيما عداه ، كلزوم نفيه انحصارها فيما عداه ، فالانحصار وعدمه حالة غير مطلوبة من عقد المسألة ، فتأمّل.

وأمّا على القول بالاستصحاب من جهة الأخبار فالمتّجه كون المسألة الباحثة من مسائل الفروع ، لأنّ الحكم المستفاد من قوله : « لا تنقض ... » إلى آخره هو الوجوب ، ومعروضه الحكم بالبقاء وهو من مقولة فعل المكلّف ، فتكون المسألة باحثة عن حال من أحوال فعل المكلّف.

لكن قد يقال - لادراجه على هذا التقدير في المسائل الاصوليّة - : بأنّ تشخيص مسائل كلّ علم عمّا عداها بأحد الأمرين : إمّا اندراج موضوع المسألة في موضوع العلم ، أو اندراجها في تعريف العلم.

ولا ريب أنّ وجوب الحكم ببقاء ما كان على ما كان قاعدة ممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة ، فيشملها تعريف اصول الفقه بالعلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة.

ويزيّفه : أنّ موضوع العلم على ما صرّحوا به لا بدّ وأن يكون جهة جامعة لمسائله ، فلا بدّ من اندراج موضوع المسألة فيه ، مضافا إلى ما ذكره المحقّقون في ضابط مسائل كلّ علم من أنّه لا بدّ لها من موضوعات هي إمّا نفس موضوع العلم ، أو جزء من أجزائه ، أو نوع من أنواعه ، أو عرض ذاتيّ له ، أو نوع من عرضه الذاتي وإلى (1) ما حقّق في محلّه

ص: 258


1- عطف على قوله : مضافا إلى ما ذكره المحقّقون الخ ».

أيضا من أنّ تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ، ومعناه أنّ تمايز مسائل كلّ علم عن مسائل علم آخر بتمايز موضوعيهما ، وهذا لا يتمّ إلاّ بأن تكون مسائل العلم باحثة عمّا يرجع إلى الموضوع بأحد من الاعتبارات المذكورة.

وقضيّة هذا كلّه عدم كفاية مجرّد صدق تعريف العلم على مسألة في كونها مسألة هذا العلم.

ومع الغضّ عن جميع ذلك يتطرّق المنع إلى شمول التعريف لها أيضا ، لأنّ المأخوذ فيه إنّما هي القواعد الّتي مهّدت لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن الأدلّة التفصيليّة على معنى استنباط الأحكام عن الأدلّة بمعونة هذه القواعد ، وهذه المسألة ليست من هذا القبيل ، لأنّها مهّدت لمعرفة أحكام جزئيّات موضوعها على وجه يكون الواسطة هي نفس هذه القاعدة لا غيرها ممّا هو دليل كما أشرنا إليه في بحث المقدّمة ، كيف ولو لا ذلك لأمكن التوصّل بما ذكر لإدراج جميع القواعد المقرّرة في الفقه الّتي يستنبط منها الفروع - كقاعدة نفي الضرر وقاعدة السلطنة وقاعدة اللزوم وقاعدة الصحّة في المعاملة أو في فعل المسلم ونحو ذلك ممّا لا يحصى كثرة - في المسائل الاصوليّة وإنّه باطل.

ومن مشايخنا من فصّل في المقام بين ما يكون من الاستصحاب في الشبهات الحكميّة لاشتباه الحكم الشرعي ، كاستصحاب نجاسة الماء المتغيّر بالنجاسة إذا زال تغيّره ، بنفسه وما يجري منه في الشبهات الموضوعيّة لاشتباه موضوع الحكم الشرعي ، كعدالة زيد وطهارة ثوبه وفسق عمر ونجاسة بدنه ، بما ملخّصه : « أنّ المسألة على الأوّل اصوليّة ، لاختصاص إجراء هذا النحو من الاستصحاب بالمجتهد وكونه من وظيفته ولا حظّ فيه للمقلّد ، وهذا من خواصّ المسألة الاصوليّة ، وعلى الثاني لا إشكال في كونها فرعيّة (1) » وقرينة المقابلة يقتضي كون الوجه في فرعيّتها على هذا التقدير اشتراك إجرائه حينئذ بين المجتهد والمقلّد وعدم اختصاصه بالمجتهد.

وفيه : ما لا يخفى ، فإنّ من خواصّ المسألة الاصوليّة أن يختصّ إجراؤها في مواردها بالمجتهد ، وهذا لا يقضي بأن يكون كلّ ما يختصّ إجراؤه في موارده بالمجتهد مسألة اصوليّة ، فإنّ إجراء نحو قاعدة الناس مسلّطون على أموالهم ، وقاعدة نفي الحرج ، وقاعدة نفي الضرر ، وقاعدة البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر ، وغير ذلك ممّا لا يحصى في مواردها من وظائف المجتهد وخصائصه وليست من المسائل الاصوليّة ، مع أنّ ما يختصّ

ص: 259


1- فرائد الاصول 3 : 18.

بالمجتهد من الاستصحاب عند اشتباه الحكم الشرعي إنّما الحكم ببقائه على ما كان ، ووجه اختصاصه به أنّه نوع من استنباط الحكم الشرعي الفرعي من مدركه وهو الاستصحاب وهو من وظائف المجتهد ، وهذا لا ينافي أن يكون الوجوب العارض لذلك الحكم بالبقاء حكما فرعيّا ، ويكون المسألة الباحثة لا ثبات هذا الحكم الفرعي لموضوعه من جهة قوله : « لا ينقض اليقين بالشكّ » (1) مسألة فرعيّة ، لأنّ المسألة الفرعيّة ما كانت باحثة عن الأحوال العارضة لفعل المكلّف.

ولا ريب أنّ الحكم بالبقاء من مقولة فعل المكلّف وإن اختصّ في بعض موارده بالمجتهد ، والوجوب المستنبط من قوله : « لا ينقض » عارض له.

ولا حاجة مع ما ذكرناه في دفع الكلام المذكور إلى أن يقال في دفعه : أنّ اختصاص هذه المسألة بالمجتهد لأجل أنّ موضوعها وهو الشكّ في الحكم الشرعي وعدم قيام الدليل الاجتهادي عليه لا يتشخّص إلاّ للمجتهد ، وإلاّ فمضمونه وهو العمل على طبق الحالة السابقة وترتيب آثارها مشترك بين المجتهد والمقلّد ، ليندفع ويجاب عنه بأنّ جميع المسائل الاصوليّة كذلك ، فإنّ وجوب العمل بخبر الواحد وترتيب آثار الصدق عليه ليس مختصّا بالمجتهد.

نعم تشخيص مجرى خبر الواحد وتعيين مدلوله وتحصيل شروط العمل به مختصّ بالمجتهد ، لتمكّنه من ذلك وعجز المقلّد عنه ، فكأنّ المجتهد نائب عن المقلّد في تحصيل مقدّمات العمل بالأدلّة الاجتهاديّة وتشخيص مجاري الاصول العمليّة ، وإلاّ فحكم اللّه الشرعي في الاصول والفروع مشترك بين المجتهد والمقلّد.

ثمّ بقي الكلام فيما عزى في المقام إلى بعض السادة الفحول (2) من أنّه جعل الاستصحاب دليلا على الحكم في مورده وجعل قولهم عليهم السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ » دليلا على الدليل ، نظير آية النبأ بالنسبة إلى خبر الواحد حيث قال : « إنّ استصحاب الحكم المخالف للأصل في شيء دليل شرعي رافع لحكم الأصل ومخصّص لعمومات الحلّ - إلى أن قال - : وليس عموم قولهم عليهم السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ بالقياس إلى أفراد الاستصحاب وجزئياته إلاّ كعموم آية النبأ بالقياس إلى أخبار الآحاد المعتبرة » انتهى (3).

ص: 260


1- الوسائل 5 : 321 ، الباب 10 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح 3.
2- هو السيّد بحر العلوم في فوائده.
3- فوائد السيد بحر العلوم : 116 - 117.

والظاهر أنّ مراده بقرينة التنظير بآية النبأ وخبر الواحد جعل الاستصحاب عبارة عن حكم عقلي ظنّي بالبقاء. وقولهم عليهم السلام : « لا تنقض اليقين » دليل على الملازمة بينه وبين الحكم الشرعي ، فالاستصحاب دليل عقلي ملازم للحكم الشرعي بملازمة شرعيّة أثبتها قولهم : « لا تنقض ». وعليه فيكون المسألة الباحثة لإثبات هذه الملازمة من جهة الرواية اصوليّة ، وهذا متين بعد التوجيه المذكور ، حسن على تقدير ثبوت مقدّمات ثلاث :

أحدها : حكم العقل بالبقاء ظنّا.

والاخرى : كون موضوع علم الاصول ذات الدليل لا بشرط وصف الدليليّة.

والثالثة : كون قولهم : « لا تنقض اليقين بالشكّ » مسوقا لبيان الملازمة المذكورة بين الحكم المذكور والحكم الشرعي ، والكلّ محلّ منع.

أمّا منع الاولى : فلما سنحقّقه.

وأمّا منع الثانية : فقد مرّ الإشارة إليه.

وأمّا منع الثالثة : فلظهور الرواية في كونها مسوقة لإعطاء حكم ظاهري تعبّدي للجاهل من حيث هو شاكّ في البقاء بعد اليقين بالثبوت ، وهو وجوب الحكم بالبقاء وترتيب آثار الباقي على ما احتمل بقاؤه مطلقا ، من دون تعرّض فيها لحكم العقل والملازمة بينه وبين حكم الشرع.

ولو أراد ممّا عرفت كون المستفاد من الرواية قاعدة من القواعد ، وهي دليل على الحكم في موردها والرواية دليل على هذا الدليل.

ففيه : ضعف واضح ، إذ إعمال القاعدة في كلّ مورد لمعرفة حكم ذلك المورد ليس على أنّها دليل الحكم في ذلك المورد ، بل على أنّ دليله هو عموم دليل هذه القاعدة ، فليست القاعدة واسطة بين حكم المورد ودليلها لتكون دليلا عليه ، ودليلها دليلا على الدليل ، فبطل التنظير بخبر الواحد وآية النبأ.

وبالجملة القاعدة إذا كانت من قبيل مدلول الدليل فإجراؤها على جميع جزئيّات موضوعها عمل بعموم ذلك الدليل ، ولا فرق في عدم كون البحث عنه على هذا التقدير بين كون المستصحب حكما اصوليّا كاستصحاب الظهور في العامّ المخصّص المبحوث عن حجّيّته ، واستصحاب حجّيّة أخبار الآحاد الثابتة في أزمنة الحضور لإثباتها في أزمنة الغيبة وغيره. فما يتراءا في كلام بعض من كون الأوّل مسألة اصوليّة غير جيّد.

ص: 261

نعم البحث في جريان الاستصحاب في ظهورات الألفاظ وعدمه بحث في المسألة الاصوليّة ، غير أنّه ممّا لا تعلّق له بالبحث عن الاستصحاب فيما هو جار فيه.

ولقد عثرنا في كلام السيّد الطباطبائي في رسالته الاستصحابيّة على دعوى الإجماع على كون المسألة في بحث الاستصحاب اصوليّة ، ولم نتحقّق معنى هذا الإجماع مع تطرّق المنع إلى أصل انعقاده ، إلاّ أن يراد منه الإجماع على تدوينها في علم الاصول ، وهذا كما ترى لا يلازم مطلوبه. وكيف كان فلا ينبغي الاصغاء إلى هذه الدعوى مضافا إلى بطلان أصل المدّعى.

الأمر الثالث : في تحرير محلّ النزاع

الأمر الثالث : في تحرير محلّ النزاع واعلم أنّه يحرّر من جهات :

منها : ما ظهر في الجملة من تضاعيف كلماتنا السابقة من أنّ الاستصحاب قد يتكلّم فيه من حيث العقل وقد يتكلّم فيه من حيث النقل ، ونتيجته على الأوّل عند قائليه حكم واقعي ظنّي ومدار اعتباره على الظنّ. وعلى هذه الطريقة بعد العامّة شيخ الطائفة (1) والسيّدان (2) والفاضلان (3) والشهيدان (4) والمصنّف (5) وغيرهم ، ولم نقف منهم على من اعتمد في هذا الباب على ما ورد فيه من الروايات المعتبرة المستفيضة عدا ما عن الشيخ في العدّة من انتصار القائل بحجّيّته تمسّكا بما روي عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله من : « أنّ الشيطان ينفخ بين إليتي المصلّي ، فلا ينصرفنّ أحدكم إلاّ بعد أن تسمع صوتا أو تجد ريحا (6) ».

وفي كلام بعض مشايخنا : « إنّ أوّل من تمسّك بهذه الأخبار فيما وجدته والد الشيخ البهائي فيما حكي عنه من العقد الطهماسبي (7) وتبعه صاحب الذخيرة (8) وشارح الدروس (9) وشاع بين من تأخّر عنهم (10) غاية الشيوع.

نعم ربّما يظهر من الحلّي في السرائر (11) الاعتماد على هذه الأخبار ، حيث عبّر عن استصحاب نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره من قبل نفسه بنقض اليقين باليقين ، وهذا يشعر بكونه مأخوذا من الأخبار (12).

ص: 262


1- العدّة 2 : 758.
2- السيد المرتضى في الذريعة 2 : 829 - 832 ، والسيد ابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : 486.
3- المحقق في المعارج : 206 - 208 ، والمعتبر 1 : 32 والعلاّمة في مبادئ الوصول : 250 و 251 ، وتهذيب الوصول : 105.
4- الشهيد الأوّل في الذكرى 1 : 53 والقواعد والفوائد 1 : 132 والشهيد الثاني في تمهيد القواعد : 271.
5- المعالم : 233 - 234.
6- عوالي اللئالي 1 : 380 ، الحديث الأوّل ، مع اختلاف في العبارة.
7- العقد الطهماسبي ( مخطوط ) : الورقة 28.
8- الذخيرة : 44 و 115 - 116.
9- مشارق الشموس : 76 - 141 - 142.
10- كما في الفصول : 370 ، والقوانين 2 : 55.
11- السرائر 1 : 62.
12- انظر فرائد الاصول 3 : 14.

وهو على الثاني عند قائليه حكم تعبّدي ظاهري موضوعه الجاهل بالبقاء الّذي سبقه يقين الحدوث ، ومناطه عدم العلم بالارتفاع ، سواء شكّ في البقاء والارتفاع على وجه التساوي أو ظنّ البقاء أو ظنّ الارتفاع. ومبناه على الاعتماد على الأخبار كما عرفت. ومنهم من جمع بين الطريقين كبعض الأعلام (1) فاعتبره تارة من حيث الظنّ وتارة من حيث التعبّد. ومرجع الاختلاف في حجّيّته على الطريقة الاولى إلى النزاع في أمر صغروي ، وهو حصول الظنّ بالبقاء بملاحظة الحالة السابقة على ما ظهر من عبارة العضدي المتقدّمة.

وهاهنا نزاع آخر على القول بكون اعتباره من باب الظنّ ربّما يستشمّ من كلماتهم ، وهو أنّ المعتبر من الظنّ الاستصحابي هل هو الظنّ الشخصي - وهو كون مناط حجّيّة الظنّ الفعلي في جميع مجاريه وكلّ من أشخاصه - أو الظنّ النوعي ، وهو كونه بحيث لو خلّي وطبعه يفيد ظنّ البقاء وهو كاف في جواز العمل به وإن لم يفد بعض أشخاصه الظنّ لعارض؟ فالمعهود من طريقة الفقهاء في مجاري الاستصحاب من أبواب العبادات والمعاملات والأحكام على ما يعلم بأدنى تتبّع عدم توقيفهم الاستصحاب على إفادة الظنّ الفعلي في خصوص المقام ، وأخذهم بمقتضيات الاصول العدميّة والوجوديّة من دون مراعاة أن يكون الآخذ بها ظانّا ببقاء الحالة السابقة.

وبالجملة المعهود من طريقة العاملين بالاستصحاب من الأصحاب الاكتفاء بنوعه على أنّه لو خلّي وطبعه من أسباب الظنّ ، ولا يلتزمون شخص الظنّ في كلّ مورد. وعلى هذا فلا يتفاوت حال الاستصحاب في الأحكام الكلّية بالنظر إلى الأشخاص ولا بتفاوت الأزمان ولا باختلاف الأوضاع.

نعم ربّما يظهر الوقوف على الظنّ الشخصي من شيخنا البهائي في كلام له محكيّ عن الحبل المتين في باب الشكّ في الحدث بعد يقين الطهارة ، قائلا : « لا يخفى أنّ الظنّ الحاصل بالاستصحاب فيمن تيقّن الطهارة وشكّ في الحدث لا يبقى على نهج واحد ، بل يضعّف بطول المدّة شيئا فشيئا ، بل قد يزول الرجحان ويتساوى الطرفان ، بل ربّما يصير الراجح مرجوحا كما إذا توضّأ عند الصبح وذهل عن التحفّظ ثمّ شكّ عند المغرب في صدور الحدث منه ولم يكن من عادته البقاء على الطهارة إلى ذلك الوقت ، والحاصل أنّ المدار على الظنّ فما دام باقيا فالعمل عليه وإن ضعف » انتهى (2).

ص: 263


1- القوانين 2 : 57 - 59.
2- الحبل المتين : 37.

وقد يستظهر ارتضاؤه من شارح الدروس حيث إنّه بعد حكاية كلامه قال : « ولا يخفى أنّ هذا إنّما يصحّ لو بنى المسألة على أنّ ما تيقّن بحصوله في وقت ولم يعلم أو يظنّ طروّ ما يزيله يحصل الظنّ ببقائه والشكّ في نقيضه لا يعارضه ، إذ الضعيف لا يعارض القويّ ، لكن هذا البناء ضعيف ، بل بناؤها على الروايات مؤيّدة بأصالة البراءة في بعض الموارد وهي تشمل الشكّ والظنّ معا ، فإخراج الظنّ منه ممّا لا وجه له أصلا » انتهى (1).

قيل : ويمكن استظهاره من الشهيد أيضا في الذكرى حيث ذكر. « أنّ قولنا : « اليقين لا ينقضه الشكّ ) لا يعنى به اجتماع اليقين والشكّ ، بل المراد أنّ اليقين الّذي كان في الزمن الأوّل لا يخرج عن حكمه بالشكّ في الزمان الثاني ، لأصالة بقاء ما كان فيؤول إلى اجتماع الظنّ والشكّ في الزمان الواحد فيرجّح الظنّ عليه كما هو مطّرد في العبادات » انتهى (2).

وحيث إنّ بناء الاستصحاب على الظنّ عندنا فاسد على ما ستعرفه ، فلا يهمّنا التكلّم في تحقيق أنّ الظنّ الاستصحابي هل يعتبر نوعا أو شخصا.

في تقسيمات الاستصحاب

ومنها : ما يتلى عليك في تضاعيف الكلام في بيان أقسام الاستصحاب والتعرّض لبيان جهات انقسامه ، فليعلم : أنّه ينقسم تارة باعتبار دليل المستصحب ، واخرى باعتبار نفس المستصحب ، وثالثة باعتبار الشكّ المأخوذ فيه ، وهذه هي الجهات الأوليّة الّتي باعتبارها ينقسم الاستصحاب.

أمّا الجهة الاولى : فمن وجوه ثلاث :

أوّلها : انقسامه إلى استصحاب حال العقل واستصحاب حال الشرع ، وإنّما جعلناه من انقسامه باعتبار الدليل لأنّ العقل والشرع كلاهما دليلان ، وهذا أوفق بالاعتبار من جعله من الانقسام باعتبار المستصحب كما سبق إلى بعض الأوهام. والحالان المأخوذان في هذين القسمين قسمان من الحال الّتي يضاف إليها الاستصحاب في قولهم : « استصحاب الحال » وهي عبارة عن الحالة العارضة للشيء المتيقّن ثبوتها في آن ، المشكوك بقاؤها في آن آخر لا حق بالآن الأوّل ، وهي بالاعتبار الأوّل تسمّى بالحالة السابقة المعتبر ملاحظتها في الاستصحاب ، على معنى أنّ تلك الحالة العارضة باعتبار كون ثبوتها في الآن الأوّل متيقّنا يقال لها الحالة السابقة لا مطلقا ، فحال العقل وحال الشرع يراد بهما الحالتان العارضتان للشيء باعتبار استناد ثبوتهما إلى الدليل العقلي أو الدليل الشرعي كائنا ما كان. وعليه فقرينة مقابلة حال العقل بحال الشرع تقتضي كونها عبارة عن الحالة المستندة إلى العقل ،

ص: 264


1- مشارق الشموس : 142.
2- الذكرى 1 : 207 مع اختلاف يسير.

لأنّ حال الشرع عبارة عن الحالة المستندة إلى الشرع ، لا الحالة الّتي يحكم العقل على طبقها.

فما يقال في شرح استصحاب حال العقل المتداول في لسانهم مريدين به استصحاب البراءة وعدم التكليف المتّفق على جوازه وجريانه بل حجّيته في الجملة - من أنّ المراد استصحاب الحال الّتي يحكم العقل على طبقها وهو عدم التكليف ، لا الحال المستندة إلى العقل حتّى يقال : إنّ مقتضى ما تقدّم هو عدم جواز استصحاب عدم التكليف عند ارتفاع القضيّة العقليّة ، وهي قبح تكليف غير المميّز أو المعدوم كما في كلام بعض مشايخنا (1) - ليس بجيّد.

أمّا أوّلا : فلشناعة التفكيك بين حالي العقل والشرع في قسمي التقسيم المذكور. وحمل حال الشرع ، أيضا على إرادة الحال الّتي يحكم الشرع على طبقها دون الحال المستندة إلى الشرع ممّا ينبغي القطع بفساده ، لأنّ الأحكام الشرعيّة الّتي لا مدخل للعقل فيها بأسرها مستندة إلى شارع ومستفاد من الأدلّة الشرعيّة ، بناء على كون الوجه في استنادها إليها كونها وسائط في إثباتها لا ثبوتها.

وأمّا ثانيا : فلأنّه قدس سره على ما ظهر من التعليل إنّما ارتكب هذا التكلّف قصدا إلى دفع السؤال الّذي أشار إليه ، الوارد على تقدير كون المراد من استصحاب حال العقل استصحاب الحال المستندة إلى العقل من جهة ما تقدّم ممّا حقّقه في سابق كلامه من أنّ الاستصحاب لا يجري في الأحكام العقليّة ولا في الأحكام الشرعيّة المستندة إليها ، سواء كانت وجوديّة أم عدميّة إذا كان العدم مستندا إلى القضيّة العقليّة ، كعدم وجوب الصلاة مع السورة على ناسيها. وأمّا ما لم يكن مستندا إلى القضيّة العقليّة بل كان لعدم وجود المقتضي للوجود وإن كانت القضيّة العقليّة موجودة أيضا فلا بأس باستصحابه بعد ارتفاع القضيّة العقليّة ، ومنه استصحاب حال العقل المراد به استصحاب البراءة والنفي.

والسرّ في عدم جريانه فيما استند إلى القضيّة العقليّة بعد ارتفاعها على ما أفاده سابقا هو أنّ ارتفاع تلك القضيّة في الأحكام المستندة إليها لا يكون إلاّ لتبدّل موضوع القضيّة ومعه يستحيل الاستصحاب ، ويرد عليه أمران :

أحدهما : أنّ جعل العدم في عدم التكليف بالقياس إلى المعدوم وغير المميّز ممّا استند إلى عدم المقتضي لا إلى القضيّة العقليّة وهي قبح تكليف المعدوم وغير المميّز ، تصحيحا لاستصحابه الّذي لا كلام لأحد في صحّته غير صحيح ، لأنّ الّذي يستند إلى عدم المقتضي

ص: 265


1- فرائد الاصول 3 : 40.

إنّما هو نفس عدم التكليف ، بناء على أنّ انتفاء علّة الوجود علّة للعدم والّذي يطلب من الدليل عقليّا كان أو شرعيّا إنّما هو العلم بعدم التكليف ، وهو المراد من استناد الأحكام العقليّة بأسرها إلى العقل ، بناء على أنّه واسطة في إثباتها - أي العلم بثبوتها - لا في ثبوتها ، بأن يكون العلّة لثبوت الحكم وجوديّا أو عدميّا هو العقل ، وإلاّ لم يتحقّق للحكم العقلي - بمعنى ما يستند إلى العقل - مصداق أصلا.

ولا ريب أنّ عدم التكليف فيما ذكر يستند إلى القضيّة العقليّة على معنى استناد العلم به إليهما.

وثانيهما : أنّ المناص عن الإشكال المذكور غير منحصر في التكليف الّذي يكذّبه الاعتبار ، بل لنا مناص آخر موافق للاعتبار غير مفتقر إلى نحو هذا التكلّف وسنشير إليه فيما بعد ذلك.

وإذا ظهر أنّ حال العقل لا بدّ وأن يراد منها الحال المستندة إلى العقل ، علم أنّه عبارة عن الحكم العقلي الّذي يتفرّع عليه الحكم الشرعي بحكم الملازمة بين العقل والشرع ، أو عبارة عن نفس الحكم الشرعي المترتّب على الحكم العقلي المعبّر عنه بالقضيّة العقليّة ، وهل هو مخصوص بالحكم العقلي العدمي أو الوجودي كما في موارد التحسين والتقبيح العقليّين ، أو لما يعمّهما؟ احتمالات أظهرها بالنظر إلى اصطلاحهم في استصحاب حال العقل حيث يعبّرون عنه تارة باستصحاب البراءة الأصلية واخرى باستصحاب عدم التكليف وغير ذلك من الشواهد الموجودة في كلماتهم هو الأوّل.

ولعلّ السرّ في تخصيصهم الاصطلاح بذلك ما يتبيّن عندهم من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلّيّة العقليّة الوجوديّة على ما سنذكره ، فسقط بذلك احتمال إرادة ما يعمّ الحكم العقلي الوجوديّ ، سواء كان حكمه ضروريّا وبلا وسط كحكمه بقبح الظلم ، أو مع الوسط كحكمه بوجوب ردّ الوديعة لكون الامتناع عنه ظلما ، وقبح الكذب الضارّ لكونه ظلما.

وربّما يحتمل في حال العقل كونه عبارة عن مطلق الامور العدميّة سواء كان من قبيل الأحكام الشرعيّة كاستصحاب عدم الوجوب مثلا ، أو من الامور الخارجيّة كاستصحاب عدم الرطوبة ، أو من الموضوعات المستنبطة كاستصحاب عدم النقل ، وعلّل : بأنّ الحاكم بالعدم في العدميّات هو العقل ، فإنّ كلّ حادث مسبوق بالعدم الأزلي لافتقاره في الوجود إلى علّة الوجود ، وإنّما يحكم العقل بالعدم لاطّلاعه على عدم علّة الوجود ، ويعضده أصالة النفي لو كانت مرادفة لاستصحاب حال العقل كما يوهمه بعض العبارات ، ولكنّه محلّ تأمّل.

فالقدر المتيقّن من استصحاب حال العقل هو استصحاب عدم التكليف المعبّر عنه

ص: 266

باستصحاب البراءة فيما إذا حكم العقل به قبل الوجود أو قبل التميّز لقبح خطاب المعدوم وغير المميّز ، ثمّ شكّ في بقائه بعد الوجود والتميّز ، ولا كلام بل لا إشكال في جواز استصحابه حال الشكّ ، ولا يقدح فيه ارتفاع القضيّة كما يقدح في استصحاب الأحكام العقليّة الوجوديّة ، لعدم كون مستند الحكم في الحقيقة هذه القضيّة العقليّة ، بل مستنده إنّما هو انتفاء المقتضي للتكليف وهو خطاب الشرع ورودا وتوجّها ، لما عرفت من أنّ العقل إنّما يحكم بالعدم في العدميّات لعدم وجود علّة الوجود الّذي منه انتفاء المقتضي ، والقضيّة العقليّة المذكورة وهو قبح خطاب المعدوم والغير المميّز إنّما تلاحظ لاحراز انتفاء المقتضي لا لأصل الحكم بعدم التكليف ، وارتفاع القضيّة العقليّة بعد الوجود والتميّز الّذي هو عبارة عن عدم حكم العقل حينئذ بقبح الخطاب بل حكمه بعدم قبحه يحصل له الشكّ في وجود المقتضي ، وهو توجّه خطاب الشرع وعدمه ، فيستصحب عدم التكليف السابق ويكون ذلك من الاستصحاب للشكّ في المقتضي.

ولا يرد عليه : أنّ اللازم حينئذ صحّة استصحاب عدم وجوب الصلاة مع السورة أو غيرها من الأجزاء أو الشرائط لناسي شيء منها الثابت حال النسيان فيما بعد التذكّر في الوقت ، كما عن بعضهم من الميل إلى اجزاء عمل الناسي في موارد نسيانه تمسّكا بهذا الاستصحاب ، بتقريب : أنّ الصلاة مع السورة مثلا لم يكن واجبا على هذا الشخص قبل التذكّر فيستصحب بعده ، مع أنّ رأي المحقّقين قد استقرّ على بطلانه.

لأنّ استصحاب عدم التكليف الثابت حال النسيان بعد التذكّر ليس في مجراه ، لا لما قد يقال من انتفاء موضوع المستصحب - لعدم كون موضوع عدم التكليف المذكور هو هذا الشخص من حيث هو ، بل الناسي أو هذا الشخص من حيث إنّه ناس ، وهذا بعد التذكر غير باق - وإلاّ لزم أن لا يصحّ استصحاب عدم التكليف الأزلي ولا الثابت حال عدم التميّز أيضا لعدم بقاء موضوعه وهو المعدوم وغير المميّز ، بل لعدم جريان الاستصحاب مع وجود الدليل على خلاف المستصحب وهو عموم خطابات التكليف لما بعد النسيان ، فإنّ ناسي السورة مثلا إذا زال نسيانه فيتوجّه إليه عموم قوله : « صلّ مع السورة » لعدم كون ما أتى به هو الصلاة مع السورة ولا بدلا عنها ، ومعه لا معنى لاستصحاب عدم وجوب الصلاة مع السورة.

والفارق بينه وبين ما نحن فيه أنّ عدم التكليف في المقامين وإن كان حكما عقليّا ومستندة فيهما إنّما هو انتفاء المقتضي للتكليف وهو توجّه الخطاب ، المحرز فيهما معا بقبح

ص: 267

الخطاب ، إلاّ أنّه في مسألة الناسي لوجود المانع عن صحّته وهو النسيان ، وإذا ارتفع المانع توجّه الخطاب لتحقّق جميع شرائط صحّته العقليّة والشرعيّة ، وفيما نحن فيه لفقد شرط صحّته عقلا وهو الوجود وادراك الخطاب وفهم معناه ، وإذا صار المعدوم موجودا وغير المميّز مميّزا حصل الشرط العقلي وبقي الشكّ في كون البلوغ شرطا شرعيّا مثلا وعدمه ، أو في صدور أصل الخطاب فيما بعد البلوغ أيضا في موارد فقد النصّ ، وقضيّة ذلك جريان استصحاب عدم التكليف السابق فيما نحن فيه دون مسائل النسيان.

نعم يبقى في المقام سؤال آخر من جهة تبدّل موضوع المستصحب لفرض صيرورة المعدوم موجودا وغير المميّز مميّزا ، وعدم التكليف السابق إنّما ثبت للمعدوم وغير المميّز لا غير.

ولكن يدفعه : منع مدخليّة وصف المعدوميّة وغير المميّزية في موضوعيّة الموضوع ، بكونهما قيدين فيه ليكون زوالهما تبدّلا له ، بل نظير الإسكار في الخمر الّذي يقال : انّه حرام لأنّه مسكر ، والتغيّر في الماء المتغيّر بالنجاسة المحكوم عليه بالنجاسة ، والعالميّة في زيد العالم المأمور باكرامه لخصوصيّة فيه غير العالميّة حيث يعتبر الوصف لمجرّد التعريف ، فكما أنّ الموضوع في هذه الأمثلة هو الذات والوصف المأخوذ فيه علّة للحكم كما في الأوّلين ، أو معرّف للموضوع كما في الأخير فكذلك في المعدوم وغير المميّز ، فإنّ موضوع عدم التكليف فيهما هو الذات لا بشرط وصف العدم وعدم التميّز ، والوصف المأخوذ معها علّة لكن لا لنفس هذا الحكم العدمي بل لقبح الخطاب الّذي يحرز به انتفاء علّة التكليف فيحكم العقل بملاحظته بعدمه.

لا يقال : ما معنى الذات بالقياس إلى المعدوم مع أنّه ليس بشيء خارجا ولا ذهنا ، إذ ليس المراد بها ما يرادف العين بل ما يقابل الوصف ، ومحصّل المراد منها في المعدوم الشيء الّذي يفرضه العقل ويلاحظه باعتبار انتفاء علّة وجوده ويطلق عليه المعدوم بهذا الاعتبار ، ثمّ بعد وجوده الّذي هو عبارة عن طرد العدم يطلق عليه الموجود.

فإن قلت : إنّ ذلك مجرّد فرض واعتبار والفرض لا يحقّق المفروض ، فليس في المعدوم شيء يصلح موضوعا ، فعدم التكليف من حيث حالته السابقة عدم لا في الموضوع ، وعلى تقدير انسحابه إلى الآن اللاحق يصير عدما في الموضوع ، وكيف يجامع استصحابه؟ لما سيأتي تحقيقه من أنّ الاستصحاب يعتبر فيه للمستصحب موضوع محرز من الزمان السابق إلى الآن اللاحق.

ص: 268

قلت : هذا على ما سنقرّره إنّما هو فيما لو كان المستصحب أمرا وجوديّا ، فإنّه يقتضي موضوعا محرزا من الزمان السابق إلى الآن اللاحق ، لأنّه من مقولة العرض وهو ما لو وجد في الخارج وجد في الموضوع ، بخلاف ما لو كان عدميّا فإنّه ليس أمرا واقعيّا يقتضي في جميع آناته موضوعا محقّقا يتقوّم به ، بل هو مفهوم اعتباري صرف يعتبره العقل عند انتفاء [ علّة ] الوجود.

غاية الأمر أنّه من باب المقارنة الاتفاقيّة قد يتحقّق في أمر موجود محقّق كعدم التكليف بالقياس إلى غير المميّز ، وقد يتحقّق في أمر معدوم صرف كعدم التكليف بالقياس إلى المعدوم ، فالمقصود من المستصحب هو العدم لا بشرط كونه في الموضوع ولا بشرط كونه لا في الموضوع الثابت في آن لم يكن ثمّة تكليف ولا من يتقوّم به التكليف ، فإذا انقطع بالنسبة إلى الثاني بقي بالنسبة إلى الأوّل على حاله إلى أن يحصل الشكّ في انقطاعه أيضا وعدمه ، فيصحّ استصحابه من دون مانع.

لا يقال : إذا كان المحرز لانتفاء علّة وجود التكليف هو القضيّة العقليّة على ما ذكرت وهو قبح خطاب المعدوم أو غير المميّز ، لزم من ارتفاعها تحققّ علّة الوجود ومعه ينبغي القطع بالتكليف ، فما معنى الشكّ؟

لأنّ العلّة إذا كانت مركّبة من أجزاء فانتفاء كلّ جزء علّة تامّة لعدم المعلول ، ولا يلزم من وجود أحدها وجوده ، ولا ريب أنّ لكلّ من وجود المكلّف وتميّزه مدخليّة في وجود الخطاب المقتضي للتكليف ، والشكّ فيه مع تحقّقهما إنّما هو بواسطة الشكّ في مدخليّة البلوغ أيضا مثلا وعدمها ، فوجود العلّة التامّة لوجود المقتضي للتكليف غير محرز ، فيستصحب عدم التكليف المشكوك بقاؤه باعتبار الشكّ في المقتضي.

نعم ينبغي القطع بعدم جريان الاستصحاب في الأحكام العقليّة الوجوديّة كقبح الظلم ، وقبح تكليف ما لا يطاق ، وقبح الكذب الضارّ ، ووجوب ردّ الوديعة لكون الامتناع عنه ظلما ، وقبح لطم اليتيم لكونه ظلما.

وبالجملة كلّ حكم عقلي ضروري أو نظري منته إلى الضروري ، لاستحالة وقوع الشكّ في القضايا العقليّة.

وتوهّم جريانه بالقياس إلى الحكم الشرعي التابع للحكم العقلي كحرمة الظلم ، ووجوب ردّ الوديعة ، وحرمة الكذب وما أشبه ذلك.

ص: 269

يدفعه : أنّ اللازم لا ينفكّ عن الملزوم ، فما لم يرتفع القبح عن الظلم لم يرفع عنه الحرمة ، والأوّل محال فكذا الثاني ، بخلاف القضايا الشرعيّة المتلقّاة من الشارع ولو بواسطة الإجماع ، ومنها نجاسة الماء المتغيّر بالنجاسة. والفارق أنّ منشأ الشكّ في بقاء الحكم الشرعي إنّما هو ما طرأ دليل ذلك الحكم من الإهمال والإجمال ، وهو في القضايا العقليّة محال ، فإنّها منحصرة في المحصورة الكلّيّة أو الطبيعيّة الآئلة إلى المحصورة ، ولا يتحقّق فيها قضيّة مهملة ، لأنّ العقل ما لم يلاحظ موضوع القضيّة بجميع جهاته وخصوصيّاته ولم يأخذ معه من الخصوصيّات ما هو قيد له لم يحكم عليه بشيء من الحسن والقبح.

وأمّا الشرعيّات فوقوع المهملة فيها باعتبار نظر المكلّفين في غاية الكثرة والشيوع ، مثلا قوله : « الماء المتغيّر بالنجاسة نجس » سواء اخذ من الإجماع أو من الأخبار لا يدرى أنّه حكم فيه بثبوت المحمول مادام ذات الموضوع ، أو مادام الوصف العنواني موجودا؟وقوله : « المتيمّم إذا دخل في الصلاة يجب عليه المضيّ فيها » لا يدرى أنّه قضيّة مطلقة أو مقيّدة بعدم رؤية الماء في الأثناء.

ومن ذلك بطل توهّم عدم الفرق بين حال الإجماع وحال العقل لجامع كونهما لبيّين ، وكما أنّ الأوّل يصحّ استصحابه فكذا الثاني ، لعدم كون اللبيّة هي الجهة المانعة من الاستصحاب ولا المقتضية له ، بل الجهة الفارقة بينهما وقوع الإهمال في الأوّل دون الثاني فإنّ القدر المتيقّن من معقد الإجماع على نجاسة الماء المتغيّر بالنجاسة هو النجاسة حال التلبّس بوصف التغيّر لا ما بعده ، فيكون السنّة المكشوف عنها بذلك الإجماع مجملة بين الإطلاق والتقييد.

وقد يفرض استصحاب حال العقل فيما يثبت بقاعدة الاشتغال الّتي هي أيضا من القضايا العقليّة ، كوجوب الصلاة مع السورة عند الشكّ في جزئيّة السورة مثلا بعد تيقّن الاشتغال بالصلاة. وحينئذ فإذا طرأ نسيان السورة في صلاته يحكم بعدم الإجزاء استصحابا لوجوب الصلاة مع السورة الثابت قبل الإتيان بهذا العمل ، بالعقل الحاكم باستدعاء الشغل اليقيني للبرء اليقيني.

ويزيّفه : أنّ مناط قاعدة الشغل هو اليقين بالتكليف والشكّ في المكلّف به مع وجود القدر المتيقّن ممّا يحصل به البراءة ، وهذا المناط كما كان متحقّقا قبل الإتيان بهذا العمل فكذلك يكون متحقّقا بعده. فالقاعدة بنفسها جارية بعده أيضا قاضية بوجوب الإعادة ، ومعه

ص: 270

لا معنى للاستصحاب ، ومرجعه إلى اليقين ببقاء الحكم الظاهري المستند إلى العقل ، ومعه لا يعقل الاستصحاب.

نعم ربّما يتوهّم وقوع الشكّ في الأحكام العقليّة باعتبار اشتباه الموضوع وإن لم يقع فيها شكّ باعتبار اشتباه الحكم ، كالشكّ في قبح الكذب باعتبار اشتباه حال المكلّف بين الاضطرار إليه لدفع ضرر لا يتسامح فيه عند العقلاء بناء على أنّ الكذب إنّما يقبح عقلا في غير حال الاضطرار ، وكما لو شكّ في قبح الكذب باعتبار اشتباه كونه ضارّا وفي قبح لطم اليتيم للشكّ في كونه ظلما.

وفيه : - مع أنّه ليس شكّا في القضيّة العقليّة ، لأنّ القضيّة في جميع موارد اشتباه الموضوع لا تكون إلاّ شخصيّة وموضوعها هذا الكذب وهذا اللطم مثلا ، وظاهر أنّ موضوع حكم العقل ليس هذا الكذب وهذا اللطم - أنّه لا يجدي نفعا في صحّة استصحاب الحكم العقلي حتّى في القضيّة الشخصيّة لانتفاء الشكّ الحالة السابقة. وعليه فعدم جريان الاستصحاب في الأحكام العقليّة إمّا لانتفاء الشكّ اللاحق لو كان النظر إلى أصل الحكم الكلّي العقلي أو الحكم الشرعي التابع له ، أو لانتفاء اليقين السابق لو كان النظر إلى الحكم الجزئي العقلي أو الشرعي التابع له.

فظهر بجميع ما قرّرناه عدم جريان بحث الاستصحاب والنزاع في حجّيته في استصحاب حال العقل إذا اريد بها الحالة الوجوديّة المستندة إلى العقل ، لعدم جريان الاستصحاب فيها ليجري التكلّم في حجّيته ، فالسالبة باعتبار انتفاء الموضوع ، وأمّا حال العقل بمعنى حكمه العدمي فقد عرفت صحّة استصحابه. وقد يدّعى خروجه عن محلّ النزاع لوقوع الإجماع على حجّيته.

وعن المحقّق (1) والعلاّمة (2) والفاضل الجواد (3) الإطباق على العمل به ، وهذا لا يخلو عن تأمّل ، إذ القدر المعلوم الّذي يسلّم الإجماع عليه هو البناء على البراءة والحكم بعدم التكليف في مظانّ الشكّ فيه. وأمّا أنّه باعتبار الاستصحاب والأخذ بمقتضى الحالة السابقة فغير واضح ، لجواز كون مستندهم فيه أصل البراءة الّذي هو أيضا أصل عقلي من جهة قبح التكليف بلا بيان.

وبالجملة لم يظهر من المجمعين على الحكم بالبراءة أنّ مستندهم فيه هو الاستصحاب

ص: 271


1- المعارج : 209 - 210.
2- تهذيب الوصول : 293 - 294.
3- غاية المأمول : الورقة 130 ( مخطوط ).

ليكون حجّيّته هنا إجماعيّة. ومن ذلك ظهر ما في كلام جماعة من تقسيم الاستصحاب إلى أربعة أقسام مع التصريح بعدم الخلاف في حجّيّة أكثرها.

أحدها : استصحاب نفي الحكم الشرعي وبراءة الذمّة منه إلى أن يظهر دليله ، وهو المعبّر عنه بالبراءة الأصليّة ، وقد وقع الخلاف فيه بين الأخباريّين ففرّقوا في الحجّيّة بين الشبهات الوجوبيّة فالحجّيّة والشبهات التحريميّة فعدمها ، لبنائهم فيها على وجوب الأخذ بالاحتياط ، والمجتهدين فعمّموا الحجّيّة.

وثانيها : استصحاب حكم العموم إلى أن يقوم المخصّص ، وحكم النصّ إلى أن يرد الناسخ.

وثالثها : استصحاب إطلاق النصّ إلى أن يثبت المقيّد ، وهذان القسمان ممّا لا خلاف في حجّيّته عند الفريقين.

ورابعها : استصحاب الحكم الشرعي في موضع طرأت له حالة لم يعلم شمول الحكم لها ، وهو الاستصحاب المعروف المتنازع في حجّيّته الّتي أنكرها الأخباريّة ، لمنع كون اختلاف المجتهدين والأخباريّين في القسم الأوّل من حيث التعميم والتفصيل اختلافا في حجّيّة الاستصحاب عموما أو خصوصا ، بل هو اختلاف في عموم العمل بأصل البراءة وعدمه ، هذا مع تطرّق المنع إلى كون القسمين الآخرين المدّعى فيهما الإجماع على الحجّيّة من حقيقة الاستصحاب ، لكون حال النصّ في مواضع الشكّ في التخصيص والنسخ والتقييد من الاصول اللفظيّة فإطلاق الاستصحاب عليها مسامحة واضحة.

وثانيها : انقسامه إلى استصحاب حال النصّ واستصحاب حال الإجماع ، وهذان قسمان لحال الشرع كما يظهر بأدنى تأمّل. فما يوهمه بعض العبارات من جعلهما قسيمين له غير سديد ، والظاهر بل المقطوع به دخولهما معا في محلّ النزاع. فما عن صاحب الحدائق في الدرر النجفية (1) من دعوى انحصار النزاع في استصحاب حال الإجماع ليس بجيّد ، ولعلّه وهم من التمثيل في غير واحد من الكتب الاصوليّة لمحلّ النزاع بمسألة المتيمّم إذا رأى الماء في أثناء الصلاة مع دعوى الإجماع على وجوب المضيّ فيها قبل الرؤية.

وأنت خبير بأنّ المثال لا يخصّص المقال.

وعن الغزالي القول بالفرق بين هذين القسمين بإنكار حجّيّة استصحاب حال الإجماع دون حال النصّ ، وستعرف أنّ ظاهره إنكار الحجّيّة مطلقا.

ص: 272


1- الدّرر النجفيّة : 34.

وثالثها : انقسامه إلى كون دليل المستصحب بحيث يدلّ على استمرار الحكم إلى حصول مانع أو إلى غاية معيّنة ، وكونه بحيث لم يدلّ على استمراره إليهما ، والظاهر وقوع النزاع فيهما معا.

ولقد فصّل بينهما المحقّق في المعارج (1) والخوانساري في شرح الدروس (2) بإنكار الحجّيّة في الثاني وإثباتها في الأوّل مطلقا ، كما هو ظاهر المحكيّ من المعارج (3) أو بشرط كون الشكّ في دخول الغاية كما ستسمع عن الخوانساري.

ولقد زعم المصنّف في آخر كلامه وتبعه بعضهم أنّ قول المحقّق موافق لإنكار المنكرين مطلقا وليس بشيء ، وستعرف تفصيل القول في ذلك عند شرح عبارة المصنّف.

وأمّا الجهة الثانية : انقسامه باعتبار المستصحب ، وهذا أيضا من وجوه كثيرة :

فمنها : أنّ المستصحب قد يكون أمرا وجوديّا كوجوب شيء وطهارته ونجاسته وحياة زيد ، وقد يكون أمرا عدميّا كعدم التكليف وعدم الرطوبة وعدم الكرّيّة وعدم النقل وعدم القرينة. والظاهر اندارجهما معا في النزاع خلافا لشيخ مشايخنا (4) رضوان اللّه عليهم حيث نفى الخلاف عن حجّيّة الاستصحاب العدمي ، ناسبا لدعوى الإجماع على اعتباره في العدميّات إلى استاذه السيّد في الرياض (5). واستشهد له بعد الإجماع المذكور باستقراء سيرة العلماء على التمسّك بالاصول العدميّة كأصالة عدم القرينة وأصالة عدم الاشتراك وأصالة عدم النقل ونحوها. واستدلالهم على الحجّيّة بعدّة امور لا تجري في الامور العدميّة مثل استغناء الشيء في بقائه عن العلّة ، وكفاية العلّة المحدثة في الحكم به ، مع ظهور استصحاب الحال في عنوانات المسألة في الأمر الوجودي ، وكذلك تعريفهم له بما هو ظاهر فيه.

والإجماع مع نفي الخلاف في مطلق الأمر العدمي غير واضح بل محلّ منع ، ولذا أنكر استصحاب عدم التذكية جماعة منهم صاحب المدارك (6) وإن كان يظهر دعواه أيضا من التفتازاني في شرح الشرح حيث قال : « وخلاف الحنفيّة المنكرين للاستصحاب إنّما هو في الإثبات دون النفي الأصلي ».

ص: 273


1- المعارج : 209 - 210.
2- مشارق الشموس : 75 - 76.
3- المعارج : 209 - 210.
4- انظر فرائد الاصول 3 : 27 والمراد بشيخ مشايخه هو المحقّق شريف العلماء المازندراني رحمه اللّه.
5- راجع ضوابط الاصول : 351.
6- المدارك 2 : 387.

والسيرة المدّعاة مع أنّها أخصّ لاختصاصها بباب الألفاظ والاصول اللفظيّة تندفع (1) :

أوّلا : استقرارها أيضا على العمل في باب الألفاظ بالاصول الوجوديّة أيضا كأصالة العموم ، وأصالة الإطلاق ، وأصالة بقاء المعنى اللغوي ، وأصالة بقاء الوضع وآثاره. ويظهر الإجماع على العمل بكلّ من العدميّة والوجوديّة في باب الألفاظ من المحقّق البهبهاني في محكيّة عن الرسالة الاستصحابيّة ، حيث انّه بعد نقل الخلاف فيه وحكاية القول بإنكار اعتبار الاستصحاب مطلقا عن بعض والقول بإثباته عن آخر والتفصيل عن ثالث ، قال : « لكنّ الّذي نجد من الجميع - حتّى من المنكر مطلقا - إنّهم يستدلّون بأصالة عدم النقل فيقولون : الأمر حقيقة في الوجوب عرفا فكذا لغة لأصالة عدم النقل ، ويستدلّون بأصالة بقاء المعنى اللغوي فينكرون الحقيقة الشرعيّة إلى غير ذلك كما لا يخفى على المتتبّع » انتهى (2).

وثانيا : أنّ سيرة العمل على الاصول المذكورة مسلّمة ، لكن كون مبناه على الاستصحاب بإرادة الاستصحاب من تلك الاصول العدميّة غير واضح.

وغاية ما هنالك استقرار بنائهم على البناء على العدم وترتيب آثاره في مقام احتمال النقل أو وجود القرينة أو الاشتراك وتعدّد الوضع ونحو ذلك ممّا يدفع احتماله بالأصل ، وأمّا كونه استصحابا للعدم الأصلي متضمّنا لملاحظة الحالة السابقة بل التعويل عليها فغير معلوم ، فمن الجائز كونه قاعدة اخرى مخصوصة بالألفاظ مأخوذة من العرف وأهل اللسان الكاشف عن جعل الواضع وترخيصه في ذلك عموما بل إلزامه به.

ومن ذلك يندفع أيضا استظهار الخروج عن محلّ النزاع من استصحاب النفي المسمّى بالبراءة الأصليّة ، لتصريح جماعة كالفاضلين والفاضل الجواد وغيرهم بالإطباق على العمل عليه ، لمنع كون البناء على البراءة هنا استصحابا للحالة السابقة كما أشرنا إليه سابقا ، فإنّ البراءة بنفسها أصل عقلي [ مأخوذة ] من قبح التكليف بلا بيان.

وأمّا استظهاره من استصحاب عدم النسخ المصرّح في كلام المحدّثين الاستر آبادي (3) والبحراني (4) بعدم الخلاف فيه ، حتّى أنّه مال الأوّل إلى كونه من ضروريّات الدين فهو أوضح منعا ، فإنّ المعهود في مواضع احتمال النسخ إنّما هو العمل على أصالة عدم النسخ وكونها استصحابا ممنوع ، بل ليست إلاّ كأصالة عدم التخصيص وأصالة عدم التقييد ، ولعلّها

ص: 274


1- حاشية شرح مختصر الاصول 2 : 284.
2- الرسائل الاصوليّة : 424 - 425.
3- الفوائد المدنية : 143.
4- الحدائق الناضرة 1 : 53.

أيضا من القواعد الغير المنوطة بملاحظة الحالة السابقة ، بل الأظهر بل المقطوع به في موارد هذه الاصول الثلاث عدم الالتفات إلى حالة سابقة أصلا ، وربّما كان مبناها على الرجحان والظهور كما في أصالة الحقيقة ولو فرض حصوله بعد الفحص وعدم العثور على المخصّص أو المقيّد أو الناسخ حيثما وجب الفحص ، وربّما كان على تقدير إرادة القاعدة مدركها في أصالة عدم النسخ هو الغلبة ، وفي أصالة عدم التخصيص وعدم التقييد هو العقل المستقلّ بإدراك قبح الخطاب بما له ظاهر وإرادة خلافه المعبّر عنه بقبح الإغراء بالجهل.

وأمّا الاستشهاد بالاستدلال المتقدّم الغير الجاري في العدميّات.

فيدفعه أوّلا : أنّه معارض باستدلالهم أيضا بما يختصّ بالعدميّات أو يعمّها والامور الوجوديّة. ومن جملة ذلك الاستدلال بأنّه لو لا العمل على الاستصحاب لزم سدّ باب الاجتهاد والاستنباط رأسا ، لمسيس الحاجة في تتميم الاستدلال بالأدلّة اللفظيّة من الكتاب والسنّة الّتي هي أغلب مباني الاستنباط ومدارك الأحكام إلى إعمال اصول عدميّة غير محصورة ، كأصالة عدم النقل ، وعدم القرينة ، وعدم الاشتراك ، وعدم الحذف والإضمار ، وعدم السقط وعدم الزيادة ، ونحو ذلك.

وثانيا : إمكان كون الوجه في الاقتصار على ما يثبت الاستصحاب في الوجوديّات هو أنّه لمّا كان الغرض الأصلي في المسألة هو التكلّم في الاستصحاب المعدود من أدلّة الأحكام الشرعيّة الفرعيّة فاكتفوا في بيان الدليل بذكر ما يثبته في الوجودي فقط لأنّه الحكم الشرعي لا العدمي ، مع أنّ الغالب في مظانّ الاقتصار في مقام الدليل على ذكر ما هو أخصّ من المدّعى تتميم عموم الدعوى بمقدّمة اخرى مطويّة في طيّ الاستدلال مركوزة في ذهن المستدلّ من الإجماع المركّب أو الأولويّة ، لأنّ الموجود المفتقر في وجوده إلى علّة موجودة إذا لم يحتج في بقائه إلى علّة فالمعدوم أولى بذلك.

وممّا أشرنا إليه يظهر الوجه في التعبير عن العنوان وتعريفهم له بما هو ظاهر في الوجودي بعد تسليم أصل الظهور ، فإنّه باعتبار أنّ الغرض الأصلي من تدوين المسألة هو التكلّم في دليليّة الاستصحاب للأحكام ، وهو لا ينافي دخول ما ليس بدليل في الاصطلاح أيضا في محلّ النزاع.

وربّما استدلّ لتعميم محلّ النزاع أيضا بأنّه لو صحّ خروج الاستصحابات العدميّة عن النزاع باتّفاق الكلّ على العمل بها ، لزم كون الخلاف في الاستصحاب الوجودي والتكلّم

ص: 275

في حجّيته لغوا ، لاستغناء الاستصحاب العدمي المتّفق على حجّيته عن الاستصحاب الوجودي ، إذ ما من أمر عدمي إلاّ وفي مقابله ضدّ وجودي ، فلو اريد استصحاب وجود ذلك الضدّ الوجودي يستغني عنه باستصحاب عدم الضدّ المعدوم ، مثلا لو أردنا استصحاب خيار الفسخ الثابت في آن إلى آن الشكّ في بقائه نتمسّك بأصالة عدم اللزوم ، ولو أردنا استصحاب الطهارة عند الشكّ في الحدث نتمسّك بأصالة عدم الحدث ، ولو أردنا استصحاب الكرّيّة نتمسّك بأصالة عدم القلّة ، ولو أردنا استصحاب نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره نتمسّك بأصالة عدم طهارته ، ولو أردنا استصحاب طهارة الثوب نتمسّك بأصالة عدم نجاسته ، ولو أردنا استصحاب حياة زيد نتمسّك بأصالة عدم الموت ، ولو أردنا استصحاب عدالة زيد نتمسّك بأصالة عدم الفسق وهكذا. فلا حاجة إلى التمسّك بالاستصحابات الوجوديّة فيكون التكلّم في حجّيتها لغوا ، ولا خفاء في ضعفه ، لأنّ الاستغناء عن الاستصحاب الوجودي بالأصل العدمي إنّما يصحّ على القول بالاصول المثبتة ، وهو خلاف التحقيق وخلاف مختار الأكثر المصرّح به في كلام جماعة.

وعليه فربّما يختلف الضدّ الوجودي مع الضدّ العدمي في الآثار والأحكام ، واستصحاب عدم الضدّ المعدوم يثمر في ترتّب آثار عدمه ولا يثمر في ترتّب آثار وجود الضدّ الموجود ، وذلك كما في عدالة زيد فإنّ أصالة عدم الفسق لا تثمر في ترتّب الأحكام المعلّقة على صفة العدالة من جواز الائتمام به ، وقبول شهادته ، وصحّة الطلاق الواقع بمحضره ، ونفوذ حكمه وفتواه ، وجعله قيّما على غائب أو صغير أو مجنون ، واستنابته عن الميّت في الحجّ والصوم والصلاة ، بل تثمر في ترتّب الأحكام المعلّقة على عدم الفسق كجعله وصيّا ، واستحقاقه الزكاة أو الخمس بناء على عدم اشتراط العدالة في المستحقّ ومانعيّة الفسق.

وبالجملة لابدّ في ترتيب آثار العدالة عند الشكّ في طروّ الفسق بعد البناء على حجّيّة استصحاب عدم الفسق وإعماله من أحد الأمرين : إمّا العمل بالأصل المثبت ، أو إثبات حجّيّة استصحاب العدالة ، والأوّل باطل فتعيّن الثاني. فلا يلزم من الإجماع على حجّيّة الاستصحاب في الامور العدميّة عدم الحاجة إلى التكلّم في حجّيّة الاستصحاب في الامور الوجوديّة.

نعم في نحو الطهارة والنجاسة أو الحدث يترتّب على استصحاب عدم الطهارة آثار النجاسة أو الحدث ، وعلى استصحاب عدم النجاسة وعدم الحدث آثار الطهارة ، إلاّ أنّه غير مطّرد.

اللّهمّ إلاّ أن يقال - بناء على كون العمل بالاستصحاب من باب الظنّ - : لا يتفاوت الحال فيه بين كونه مثبتا وعدمه فيعمل عليه على كلّ تقدير ، لأنّ المعيار حينئذ إنّما هو

ص: 276

الظنّ الثابت حجّيته بالفرض ، سواء فرض حصوله بالنسبة إلى نفس المستصحب أو بالنسبة إلى لوازمه العقليّة أو العاديّة.

والمفروض أنّ الظنّ بالملزوم يستلزم الظنّ بجميع لوازمه شرعيّة أو عقليّة أو عاديّة.

ويمكن دفعه : بأنّ القدر الثابت اعتباره من الظنّ الاستصحابي إنّما هو الظنّ المستند حصوله إلى نفس الاستصحاب ، لا الظنّ المستند إلى الظنّ بالمستصحب فتأمّل.

ومنها : أنّ المستصحب قد يكون حكما شرعيّا ، وقد يكون أمرا خارجيّا كالكرّيّة والرطوبة والحياة. والأوّل قد يكون حكما كلّيا من شأنه أن يؤخذ من الشارع ، كطهارة المتطهّر بعد خروج المذي المشكوك في ناقضيّته ، وطهارة البئر المشكوك في انفعالها بوقوع النجاسة ، ونجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره. وقد يكون حكما جزئيّا في موضوع خارجي كطهارة هذا الثوب أو نجاسته. والظاهر وقوع الخلاف في جميع هذه الأقسام بالحجّيّة مطلقا وعدمها كذلك والتفصيل ، وستسمع بعض ما يتعلّق بهذا المقام في الوجه الأوّل من الجهة الثالثة. والغرض الأصلي هاهنا بيان شيء آخر وهو أن التفصيل المشار إليه على أنحاء ثلاث :

أحدها : الحجّية في الحكم الشرعي كلّيا أم جزئيّا دون الأمر الخارجي وهو الّذي يظهر نقله من المحقّق الخوانساري ، حيث إنّه في مبحث الاستنجاء بالأحجار من شرح الدروس قال : « وينقسم الاستصحاب إلى قسمين باعتبار الحكم المأخوذ فيه إلى شرعي وغيره (1) » ومثّل للأوّل بنجاسة الثوب والبدن وللثاني برطوبته ، فإنّ المثال وإن كان من قبيل الحكم الجزئي غير أنّ مقابلة الحكم الشرعي لغيره قرينة توجب ظهور إرادة ما يعمّ الكلّي والجزئي من الحكم الشرعي.

وثانيها : الحجّية في الحكم الشرعي الجزئي دون غيره من الحكم الكلّي والأمر الخارجي ، وهو أيضا محتمل عبارة المحقّق المذكور بناء على الأخذ بظاهر المثال. قيل : وربّما يستظهر ممّا حكاه السيّد شارح الوافية عن المحقّق الخوانساري في حاشية له على قول الشهيد رحمه اللّه في تحريم استعمال الماء النجس والمشتبه (2).

وثالثها : الحجّية فيما عدا الحكم الشرعي الكلّي وإن كان أمرا خارجيّا ، وهو المحكيّ عن الأخباريّين. قيل : والأصل فيه عندهم أنّ الشبهة في الحكم الكلّي لا مرجع فيها عندهم

ص: 277


1- مشارق الشموس : 76.
2- شرح الوافية ( مخطوط ) : 339 ، راجع مشارق الشموس : 281 - 281.

إلاّ الاحتياط دون البراءة والاستصحاب ، فإنّهما عندهم مختصّان بالشبهة في الموضوع.

وأمّا القول بالحجّية في الحكم الشرعي الكلّي خاصّة دون غيره مطلقا ، أو في الأمر الخارجي خاصّة دون الحكم الشرعي مطلقا ، فغير موجود وقائله غير مذكور. فما في كلام بعض الأعلام وتبعه غير واحد : من جعل التفصيل بالحجّية في الأحكام الشرعيّة دون الامور الخارجيّة تارة ، والحجّية في الامور الخارجيّة دون الأحكام الشرعيّة اخرى قولان متعاكسان (1) ليس على ما ينبغي ، إذ أصحاب القول الأوّل ينكرون الاستصحاب في الأحكام الكلّية خاصّة وأصحاب القول الثاني يعتبرون الاستصحاب في الأحكام الشرعيّة خاصّة كلّية أو جزئيّة ، إلاّ أن يراد بالامور الخارجيّة الأحكام الجزئيّة اللازمة للموضوعات الخارجيّة.

ومنها : أنّ المستصحب قد يكون حكما تكليفيّا وقد يكون حكما وضعيّا كالسبب والشرط والمانع ، وهذان قسمان لأحد قسمي التقسيم السابق ، وقد وقع الخلاف فيهما أيضا بإطلاق الحجّية وإطلاق عدمها ، والتفصيل بالحجّية في الثاني دون الأوّل وهو الّذي صار إليه الفاضل التوني في الوافية (2).

وأمّا الجهة الثالثة : فمن وجوه أيضا :

أحدها : انقسامه باعتبار منشأ الشكّ المأخوذ فيه ، فإنّ الشكّ بهذا الاعتبار ينقسم إلى ما ينشأ من اشتباه حكم شرعي صادر من الشارع وهو المسمّى بالشبهة الحكميّة ، وما ينشأ من اشتباه أمر خارجي وهو المسمّى بالشبهة الموضوعيّة ، والأوّل كالشكّ في نجاسة الماء المتغيّر الناشئ عن الشبهة في كفاية زوال التغيّر بمجرّده في الطهارة أو احتياجه إلى مطهّر شرعي ، والشكّ في طهارة المكلّف المتطهّر بعد خروج المذي الناشئ عن الشبهة في ناقضيّة المذي بحسب الشرع. والثاني على قسمين :

أحدهما : ما لو كان المستصحب المشكوك حكما شرعيّا جزئيّا ، كالشكّ في بقاء الطهارة الناشئ عن الشكّ في حدوث البول أو كون الحادث بولا وما أشبه ذلك.

والاخر : ما لو كان المشكوك فيه أمرا خارجيّا ، كالشكّ في الرطوبة ، والكرّيّة ، والحياة ، ونقل اللفظ عن معناه الأصلي ونحو ذلك.

ويظهر من المحدّث الاستر آبادي في كلام محكيّ له عن الفوائد المدنيّة خروج الشبهات الموضوعيّة وبعض صور الشبهة الحكميّة وهي موارد الشكّ في النسخ عن محلّ

ص: 278


1- القوانين 2 : 57.
2- الوافية : 202.

النزاع ، للاتّفاق بل الضرورة على اعتبار الاستصحاب فيهما.

قال : « واعلم أنّ للاستصحاب صورتين معتبرتين باتّفاق الامّة ، بل أقول : أنّ اعتبارهما من ضروريّات الدين ، إحداهما : أنّ الصحابة وغيرهم كانوا يستصحبون ما جاء به نبيّنا صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى أن يجيء ما ينسخه.

الثانية : إنّا نستصحب كلّ أمر من الامور الشرعيّة - مثل كون الرجل مالك أرض وكونه زوج امرأة ، وكونه عبد رجل ، وكونه على وضوء ، وكون الثوب طاهرا أو نجسا ، وكون الليل أو النهار باقيا ، وكون ذمّة المكلّف مشغولة بصلاة أو طواف - إلى أن يقطع بوجود شيء جعله الشارع سببا لنقض تلك الامور » إلى آخر ما ذكره (1). وظاهر أنّ الجامع للأمثلة المذكورة وغيرها كون الشبهة موضوعيّة.

وقد يقال : أنّه لو لا تمثيله باستصحاب الليل والنهار لاحتمل أن يكون معقد إجماعه الشكّ من حيث المانع حدوثا أو منعا.

أقول : هذا الاحتمال قائم ولو بالنسبة إلى مثال الليل والنهار ، لجواز إطلاق المانع بمعنى الرافع على كلّ من الليل والنهار بالقياس إلى الآخر أو بالقياس إلى الحكم المعلّق عليه ، كوجوب الصيام المعلّق على النهار الّذي يرفعه الليل ، وجواز تناول المفطرات المعلّق على الليل الّذي يرفعه النهار ، فتأمّل.

ثمّ إنّ ما زعمه من اختصاص النزاع بالشبهات الحكميّة وإن كان يساعد عليه عدّهم الاستصحاب من الأدلّة العقليّة ، فإنّ الدليل العقلي حكم عقليّ يتوصّل به إلى حكم شرعيّ من شأنه أن يؤخذ من الشارع ، غير أنّ ظاهر العنوانات وجملة من استدلالات المثبتين والنافين هو عموم النزاع للشبهات الموضوعيّة أيضا ، لا حظ كلام المنكرين حيث ينكرون استصحاب زيد الغائب والبلدان المبنيّة على ساحل البحر ، وكلام المثبتين في استدلالهم بتوقّف نظام معاش الناس ومعادهم على الاستصحاب ، ولا يلزم من اختصاص ثمرة الدليليّة بالأحكام انحصار النزاع فيها.

غاية الأمر كونه بالقياس إلى الأحكام من باب الدليل وبالقياس إلى الموضوعات من باب الأمارة ، كالبيّنة وغيرها من الأمارات الشرعيّة المجعولة لتشخيص الموضوعات

ص: 279


1- الفوائد المدنيّة : 143.

الخارجيّة عند الاشتباه ، ومجرّد عدم كون بيان الموضوعات من شأن الشارع لا يوجب عدم اعتبار ما بيّنه وجعله أمارة وطريقا إليها كسائر الأمارات ، فدعوى الاتّفاق والضرورة على ما عرفت ليست بشيء.

وثانيها : انقسامه من حيث مفهوم الشكّ المأخوذ فيه إلى استصحاب ما يتساوى طرفا بقائه وارتفاعه ، واستصحاب ما ظنّ بقاؤه ، واستصحاب ما ظنّ ارتفاعه ، وذلك أنّ الشكّ قد يطلق على مطلق الاحتمال فينقسم إلى تساوي الطرفين ورجحان البقاء ورجحان الارتفاع ، وهل النزاع شامل للجميع أو يختصّ ببعض دون آخر؟

وتحقيقه : أنّه على القول بالاستصحاب تعبّدا من جهة الأخبار يعمّ الجميع ، لأنّ مفاد الأخبار عدم جواز نقض اليقين إلاّ بيقين مثله ، وكذلك على القول به من باب الظنّ النوعي ، على معنى أنّه بنوعه لو خلّي وطبعه يفيد ظنّ البقاء وإن عرض لبعض أفراده ما يمنعه عن افادة الظنّ ، وأمّا على القول به من باب الظنّ الشخصي - كما عرفته عن شيخنا البهائي (1) وغيره - فالوجه اختصاص النزاع بما يظنّ معه البقاء وخروج صورتي التساوي وظنّ الارتفاع ، لكن هذا كلّه على تقدير كون النزاع في باب الاستصحاب كبرويّا.

وأمّا على تقدير كونه صغرويّا كما استظهرناه من كلام العضدي حيث قال : « وقد اختلف في حجّيته لافادته ظنّ البقاء وعدمها لعدم إفادته ايّاه (2) » فالظاهر سقوط هذا البحث سواء قدّرنا الظنّ المتنازع فيه نوعيّا أو شخصيّا.

وثالثها : انقسامه باعتبار الجهة المقتضية للشكّ إلى استصحاب ما شكّ في بقائه من جهة الشكّ في المقتضي ، واستصحاب ما شكّ فيه من جهة الشكّ في المانع ، إذ لو علم وجود المقتضي وفقد المانع لعلم البقاء ، كما أنّه لو علم فقد المقتضي أو وجود المانع لعلم الارتفاع ، فلا يعرض الشكّ في البقاء والارتفاع إلاّ للشكّ من جهة أحد الأمرين.

والمراد به (3) الشكّ من حيث استعداد المستصحب وقابليّته للبقاء ، إمّا لعدم معلوميّة أصل استعداده للبقاء كالشكّ في خيار الغبن وغيره بعد الزمان الأوّل المشكوك في كونه فوريّا وعدمه ، أو لعدم معلوميّة مقدار استعداده للبقاء بالذات كالشكّ في الوضوء الاضطراري المأتيّ به لتقيّة أو ضرورة اخرى ، المشكوك في أنّ مقدار قابليّته للبقاء هل هو

ص: 280


1- الحبل المتين : 37.
2- شرح مختصر الاصول 2 : 454.
3- أي والمراد بالشكّ في المقتضي.

المرتضى وجماعة من العامّة على الثاني ويحكى عن المفيد رحمه اللّه المصير إلى الأوّل وهو اختيار الأكثر *

______________________________

ما دامت الضرورة أو ما لم يحدث شيء من النواقض وإن ارتفعت الضرورة ، أو باعتبار تردّده بين مقدارين معلومين لشيئين هو مردّد بينهما ، كما لو علم وجود طائر في بيت إلى زمان ثمّ شكّ بعد ذلك الزمان في بقائه باعتبار تردّده بين العصفور الّذي مقدار استعداده للبقاء سنة مثلا ، والحمامة الّتي مقدار استعداده للبقاء سنتان مثلا.

والمراد بالمانع هاهنا رافع الحالة السابقة مع القطع باستعداده للبقاء لولاه ، والشكّ من جهته إمّا في وجود ما علم كونه رافعا كما لو شكّ في خروج البول أو المني ، أو في رافعيّة ما علم وجوده إمّا لجهالة أصل الرافعيّة كالمذي المشكوك في رافعيّته بحسب الشرع ، أو لجهالة مفهوم الرافع الموجبة للشكّ في اندراج ما علم وجوده فيه وعدمه كالخفقة المشكوك اندراجها في النوم الّذي لا يعلم أنّه مجرّد زوال الحسّ عن العين أو هو مع زواله عن الاذن والقلب ، أو لجهالة حال هذا الّذي علم وجوده من حيث كونه مصداقا للرافع أو لغيره كالبلل المشتبه بين البول وغيره أو المني وغيره ، أو لجهالة المستصحب باعتبار تردّده بين ما يكون الموجود رافعا له وبين ما لا يكون رافعا له ، كالصلاة بلا سورة المشكوك في كونها رافعة لاشتغال الذمّة بالصلاة وعدمه باعتبار تردّده بين الاشتغال بالصلاة مع السورة أو بها لا معها ، وكذا الاشتغال بالصلاة يوم الجمعة المردّدة بين الظهر والجمعة إذا أتى بها جمعة ، فالشكّ في رافعيّته حينئذ إنّما هو باعتبار الاجمال في محلّ الاشتغال.

والظاهر وقوع الخلاف في الجميع بالحجيّة مطلقا وعدمها كذلك ، وقد يفصّل من جهة الشكّ في المقتضي فعدم الحجّية ومن جهة الشكّ في المانع فالحجّية. وقد يفصّل في الرافع أيضا بين الشكّ في وجوده والشكّ في رافعيّته ، فينفي الحجّية في الثاني مطلقا أو إذا لم يكن الشكّ في المصداق الخارجي.

* إطلاق الحكاية يعطي كونهما قولا بنفي الحجّية مطلقا وقولا بإثباتها كذلك والمحصّل من أقوال المسألة مضافا إليهما أحد عشر أو اثنا عشر قولا.

ثالثها : الفرق بين حال الإجماع وحال الشرع فالحجّية في الثاني دون الأوّل ، وهو

ص: 281

المعروف من الغزالي (1).

ورابعها : الفرق بين الامور العدميّة والامور الوجوديّة بالحجّية في الأوّل دون الثاني.

وخامسها : الفرق بين الأحكام التكليفيّة الابتدائيّة والأحكام الوضعيّة أو التكليفيّة التابعة لها بعدم الحجّية في الأوّل والحجّية في الأخيرين ، وعليه الفاضل التوني في الوافية (2).

وسادسها : الفرق بين الأحكام الشرعيّة كلّية أو جزئيّة والامور الخارجيّة بالحجّية في الأوّلين دون الأخير ، وهو الّذي حكاه الخوانساري في عبارته المتقدّمة (3).

وسابعها : الفرق بين الحكم الشرعي الكلّي وغيره من الحكم الشرعي الجزئي والأمر الخارجي بالحجّية فيما عدا الأوّل ، وهذا ما عرفت من الأخباريّين (4).

وثامنها : الفرق بين الحكم الشرعي الجزئي وغيره من الحكم الشرعي الكلّي والأمر الخارجي فالحجّية في الأوّل خاصّة ، وهو الّذي استظهره شارح الوافية ممّا حكاه شارح الدروس (5).

وتاسعها : الفرق بين ما كان الشكّ فيه من جهة المقتضي فعدم الحجّية وما كان الشكّ من جهة المانع فالحجّية ، وهو الّذي ينطبق عليه المحكيّ عن معارج المحقّق (6) من اعتباره فيما ثبت استمراره وشكّ في الغاية الرافعة له.

وعاشرها : هذا التفصيل مع اختصاص الحجّية في الشقّ الثاني بصورة الشكّ في وجود المانع ، وهو خيرة المحقّق السبزواري (7) على ما يظهر من عبارته الآتية.

وحادي عشرها : هذا التفصيل أيضا مع اختصاص الحجّية في الشقّ الثاني بصورتي الشكّ في وجود المانع أو في مانعيّة الموجود باعتبار الاشتباه المصداقي وقد سبق عن المحدّث الاستر آبادي (8) ما يقضي بكون مختاره الحجّية في جميع صور الشبهة الموضوعيّة وبعض صور الشبهة الحكميّة الّذي ضابطه الشكّ في النسخ ، وحينئذ فإن نزّل عليه ما عرفت من تفصيل الأخباريّين - كما صنعه بعض مشايخنا (9) - كانت الأقوال إحدى عشر ، وإن أخذناه قولا برأسه في مقابله كانت إثنى عشر.

ص: 282


1- المستصفى 1 : 128.
2- الوافية : 202.
3- انظر مشارق الشموس : 76.
4- حكاه عنهم في الرسائل الاصوليّة : 425.
5- شرح الوافية ( مخطوط ) : 339 ، مشارق الشموس : 281 - 288.
6- المعارج 209 - 210.
7- الذخيرة : 116 - 115.
8- الفوائد المدنيّة : 143.
9- فرائد الاصول 3 : 33.

وقد مثّلوا له بالمتيمّم إذا دخل في الصلاة ثمّ رأى الماء في أثنائها ، والاتّفاق واقع على وجوب المضيّ فيها قبل الرؤية ، فهل يستمرّ على فعلها بعدها استصحابا للحال الأوّل أم يستأنفها بالوضوء*

______________________________

* ونوقش في هذا المثال بما لا وقع له من عدم انطباقه على الممثّل ، وذلك أنّ محلّ الاستصحاب على ما بيّنه سابقا هو ما لا يقوم دليل على انتفاء الحكم في ثاني الحال ، وعدم قيام دليل على انتفاء حكم التيمّم بعد رؤية الماء محلّ تأمّل ، فإنّ العمومات الدالّة على اشتراط الوضوء على تقدير وجود الماء تنافي بقاء ذلك ، فالقول بالاستصحاب هنا ليس في محلّه.

وفيه : شمول العمومات المذكورة لوجدان الماء في أثناء الصلاة بالدلالة على اشتراط الوضوء في هذه الصلاة ليترتّب عليه استئنافها بالوضوء ليس بواضح بل محلّ منع ، بل القدر المسلّم إنّما هو دلالتها عليه بالعموم ما لم يتلبّس بالصلاة بعد التيمّم ، ولذا فرضوا المثال في صورة وجدانه في أثنائها ، مع أنّ مبنى التمثيلات غالبا على الفرض والتقدير ، فليقدّر المسألة ممّا لم يشمل دليل الحكم الأوّل لثاني الحال وإن لم يكن الواقع كذلك ، ولذا يقال : إنّ المناقشة في المثال غير مستحسن.

والظاهر أنّه من أمثلة الاستصحاب من جهة الشكّ في المقتضي ، باعتبار عدم وضوح مقدار استعداد حكم التيمّم للبقاء ، إذ لا يدرى أنّ مقدار وجوب المضيّ في الصلاة ما لم يرى الماء في الأثناء ، أو ما دام في الصلاة ولو بعد رؤية الماء؟

فما تخيّل من أنّه من قبيل الشكّ من جهة الرافع لأنّ الشكّ في أنّ وجدان الماء في أثناء الصلاة ناقض للتيمّم كما أنّه ناقض له قبلها أو لا؟ بمعزل عن التحقيق ، لأنّ وجدان الماء لو كان له وصف الناقضيّة كالحدث لوجب أن لا يفترق الحال فيه بين أثناء الصلاة وما قبلها كما في الحدث ، ولا معنى معه للشكّ في انتقاضه.

والسرّ في انتقاضه به قبل الصلاة هو أنّ التيمّم وحكمه معلّقان على فقدان الماء ، ووجدانه رافع لهذا الموضوع لكن لا مطلقا بل بشرط تمكّنه بعد الوجدان عن استعماله ، ولذا لو وجده ولم يمض زمان يتمكّن من استعماله فيه فتلف لم ينتقض على الأقوى ، ومنشأ الشكّ حينئذ فيما لو وجده في أثناء الصلاة هو أنّ حكم التيمّم هل يستمرّ إلى ما بعد

ص: 283

احتجّ المرتضى رضى اللّه عنه*

______________________________

وجدانه باعتبار أنّ الصلاة المتشاغل بها مانع شرعي عن استعماله ، والمانع الشرعي كالمانع العقلي ، فالتمكّن من استعماله غير حاصل أو لا يستمرّ؟ وهذا شكّ من جهة المقتضي لعدم معلوميّة مقدار الاستعداد للبقاء.

في أدلّة حجّيّة الاستصحاب

* والأنسب تقديم حجج القول بحجّية الاستصحاب ثمّ التعرّض لبيان حجج النافين. ولمّا ظهر من تضاعيف كلماتنا السابقة أنّ لهم في الاستصحاب طريقتين من حيث العقل ومن حيث التعبّد الشرعي من جهة الأخبار ، فالكلام في تحقيقه يقع في مقامين :

المقام الأوّل : في اعتباره إثباتا ونفيا من جهة العقل.

فنقول : احتجّ المثبتون بوجوه :

أوّلها : ما اعتمد عليه المحقّق في المعارج (1) من أنّ المقتضي للحكم الأوّل ثابت والعارض لا يصلح رافعا له فيجب الحكم بثبوته في الثاني ، أمّا أنّ المقتضي للحكم الأوّل ثابت فلأنّا نتكلّم على هذا التقدير ، وأمّا أنّ العارض لا يصلح رافعا فلأنّ العارض إنّما هو احتمال تجدّد ما يوجب زوال الحكم لكن احتمال ذلك يعارضه احتمال عدمه ، فيكون كلّ واحد منهما مدفوعا بمقابله ، فيبقى الحكم الثابت سليما عن رافع.

وفيه : من الضعف ما لا يخفى ، فإنّ المقتضي للحكم الأوّل - أي الحكم في الآن الأوّل - إمّا أن يراد به علّة الحكم الّتي هي واسطة في ثبوته كالتغيّر لنجاسة الماء ، والتيمّم لإباحة الدخول في الصلاة ووجوب المضيّ فيها ، أو دليله الّذي هو واسطة في إثباته وعلّة للعلم به كقوله عليه السلام : « خلق اللّه الماء طهورا لا ينجّسه شيء إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو رائحته (2) » وقوله تعالى : ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) (3) مثلا. وعلى التقديرين فالمقتضي له إمّا أن اقتضى ثبوته مقيّدا بالآن الأوّل ، أو اقتضاه على وجه الدوام والاستمرار ، أو اقتضاه على وجه الإهمال من دون تعرّض لتقييده بالآن الأوّل ولا دوامه واستمراره.

والأوّل خروج عن محلّ الاستصحاب ، إذ لم يقل أحد من القائلين بالاستصحاب به في نحوه لانتفاء المقيّد بفوات قيده ، وثبوت مثله في الآن الثاني يحتاج إلى مقتض آخر ويستحيل استصحاب الحكم الأوّل إليه ، فبقي الاحتمالان الأخيران ، والفرق بينهما أنّ الدليل

ص: 284


1- المعارج : 206 - 210.
2- الوسائل 1 : 101 ، الباب 1 من أبواب الماء المطلق ، ح 9.
3- المائدة : 6.

على أوّلهما منطبق على الشكّ من جهة المانع ، وعلى ثانيهما منطبق عليه من جهة المقتضي.

وعبارة الدليل بقرينة قوله : « فلأنّ العارض [ إنّما هو ] احتمال تجدّد ما يوجب زوال الحكم » وقوله : « فيبقى الحكم الثابت سليما عن رافع » أظهر بل ظاهر كالصريح في الأوّل ، وعليه فنتكلّم على قوله : « فيجب الحكم بثبوته في الآن الثاني » فإمّا أن يراد بالحكم بثبوته المحكوم عليه بالوجوب القطع بثبوته أو الظنّ به ، أو البناء عليه تعبّدا على معنى ترتيب آثار الثابت في الآن الثاني ، والأوّلان باطلان إذ لا موجب للقطع والظنّ بثبوته فيه مع احتمال تجدّد الرافع - أي حدوثه - بل حصول كلّ منهما مع هذا الاحتمال عند التحقيق محال ، ولا يجدي فيه جعل احتمال تجدّده معارضا باحتمال عدمه وكون كلّ منهما مدفوعا بمقابله ، لأنّ فرض التعارض بينهما واندفاع كلّ بصاحبه ليس إلاّ تحقيقا للشكّ في حدوث الرافع وعدم حدوثه ، وهو يوجب الشكّ في ثبوت الحكم في الآن الثاني وانتفائه ، ولو قطع أو ظنّ ثبوته مع ذلك لزم اجتماع النقيضين.

والثالث أيضا - مع خروجه عن الفرض من إثبات الاستصحاب من جهة العقل - باطل لافتقاره إلى دليل التعبّد والبناء ، والدليل خال عن ذكره.

وقد يقال : إنّ ظاهره دعوى القطع ببقاء الحالة السابقة واقعا ، فردّ : بأنّه لم يعرف هذه الدعوى من أحد ، واعترف بعدمه في المعارج (1) في أجوبة النافين وصرّح بدعوى رجحان البقاء.

أقول : وكأنّ الوجه في استظهار ذلك ظهور الحكم في قوله : « فيجب الحكم » في دعوى القطع ، ولعلّه الداعي للفاضل الجواد إلى إبدال الحكم في شرحه (2) بالظنّ ، وإرجاع الاستدلال إلى دعوى حصول المظنّة ببقاء الحالة السابقة.

ويزيّفه على هذا التقدير أنّ حصول الظنّ لا بدّ له من موجب ، وهو إمّا نفس تعارض الاحتمالين فتأثيره في ظنّ البقاء غير معقول ، وإنّما هو مؤثّر في الشكّ في البقاء والارتفاع.

أو الالتفات إلى المقتضي للحكم الأوّل باعتبار ما فيه من عموم أو إطلاق موجب لتناوله الآن الثاني كتناوله الآن الأوّل ، فهو خروج عن محلّ الاستصحاب ، لأنّه إثبات للحكم في الزمان الثاني بنفس دليل الحكم الأوّل لا بالاستصحاب.

أو الالتفات إلى نفس الحكم الثابت في الآن الأوّل ، فهو وإن كان يوافق مذاقهم من جعل المناط في الاستصحاب التعويل على الحالة السابقة غير أنّه إرجاع للدليل إلى الدليل

ص: 285


1- المعارج 209.
2- غاية المأمول ( مخطوط ) : الورقة 128.

الآتي ، وسيأتي الكلام فيه.

ويمكن تقرير الجواب عن الدليل بنهج آخر غير ما تقدّم ، وهو : أنّ المراد بالمقتضي إمّا أن يكون سبب الحكم في الواقع وعلّة ثبوته ، أو سبب العلم به وهو دليله وعلّة إثباته.

وعلى التقديرين فإمّا أن يراد به السبب التامّ - أي العلّة التامّة الّتي في الأوّل عبارة عن المقتضي المقارن وجوده لوجود شروط الاقتضاء وفقد موانع اقتضائه ، وفي الثاني عبارة عن الدليل التامّ السليم عن المعارض - أو السبب الناقض الّذي هو جزء العلّة الّذي في الأوّل عبارة عن المقتضي مع قطع النظر عن تحقّق شروطه وفقد موانعه ، وفي الثاني عبارة عن الدليل مع قطع النظر عمّا يعارضه.

فإن اريد به السبب التامّ الّذي هو العلّة التامّة والدليل التامّ.

ففيه - مع أنّه لا يلائم فرض احتمال تجدّد الرافع وفرض التعارض بينه وبين احتمال عدمه - : أنّه يوجب الغناء عن الاستصحاب ، ضرورة استحالة تخلّف المعلول والمدلول عن العلّة التامّة والدليل التامّ ، فالحكم في الآن الثاني يثبت بالأوّل في الواقع وبالثاني في الظاهر ، كما ثبت الحكم الأوّل بهما كذلك.

وإن اريد به السبب الناقص أعمّ من أن يكون سببا للحكم الواقعي أو العلم به.

ففيه : أنّا لسنا بصدد إثبات أنّ العارض يصلح لكونه رافعا بل إنّما نطلب المتمّم لما يقتضي ثبوت الحكم في الواقع وحصول العلم به في الظاهر ، وهو عدم المانع في الأوّل وعدم المعارض في الثاني.

وغاية ما أفاده الدليل هو عدم صلاحية كون العارض رافعا وهو لا يوجب العلم بعدم المانع والمعارض ، فمن أين يجيء وجوب الحكم بثبوت الحكم بمجرّد وجود جزء علّته ودليله؟ مع أنّ المعلول لا يثبت والمدلول لا يحصل إلاّ بالعلّة والدليل التامّين ، وهما لا يتمّان إلاّ بعد العلم بعدم المانع والمعارض ، فالمقتضى - بالفتح - لا يتأتّى إلاّ بعد تماميّة المقتضي - بالكسر - ولذا صار من ضروريّات العقول أنّ تحقق كلّ شيء يتوقّف على شيئين وجود المقتضي ورفع المانع ، والأخير لم يحرز بالدليل علما ولا ظنّا حتّى ينتج قطع البقاء أو ظنّه.

ولعلّه لأجل ذا كلّه قد يحتمل توجيه الدليل بأن يكون مراده بالمقتضي للحكم دليله ، وأنّ المراد بكونه ثابتا ثبوته في الآن الثاني بأن يكون له عموم أو إطلاق يتناوله ، وأنّ المراد بالعارض احتمال طروّ المخصّص أو المقيّد لذلك ، ومرجعه إلى الشكّ في تخصيص

ص: 286

العام أو تقييد المطلق ولو للشكّ في مخصّصية شيء موجود أو مقيّديته.

ولا ريب أنّه لا عبرة به في منع العمل بالعموم والإطلاق كما يرشد إليه تمثيله بالنكاح والشكّ في حصول الطلاق ببعض الألفاظ المختلف فيها ، ك- « أنت خليّة ، أو بريّة » فإنّ دليل عقد النكاح المؤثّر في حلّ الوطء وعلاقة الزوجيّة على وجه الدوام إنّما يقتضي في ذلك الدوام لما فيه من العموم الأزماني ، ودليل الطلاق مخصّص له مخرج لزمان وقوعه عن هذا العامّ ، ومع عدم الالتفات إلى احتمال التخصيص أو التقييد يرجع في اثبات الحكم إلى هذا العموم.

وهذا - بناء على التوجيه - وإن كان بحسب الواقع حقّا وهو الّذي قد يعبّر عنه باستصحاب حال العموم أو الإطلاق كما أشرنا إليه سابقا ، غير أنّه قد عرفت أنّه ليس من الاستصحاب المصطلح المتنازع فيه في شيء ، فالتوجيه المذكور أيضا إخراج للدليل عن محلّ الاستصحاب.

وثانيها : أنّ الثابت في الزمان الأوّل ممكن الثبوت في الآن الثاني وإلاّ لم يحتمل البقاء ، فيثبت بقاؤه ما لم يتجدّد مؤثّر العدم لاستحالة خروج الممكن عمّا عليه بلا مؤثّر ، فإذا كان التقدير تقدير عدم العلم بالمؤثّر فالراجح بقاؤه فيجب العمل عليه.

وفيه : أنّ البقاء في تقدير عدم العلم بالمؤثّر لا يكون راجحا إلاّ إذا كان عدم تجدّد المؤثّر راجحا ، ومجرّد عدم العلم بالمؤثّر لا يستلزمه ، لأنّه قد يجامع رجحان عدم تجدّده ، وقد يجامع رجحان تجدّده ، وقد يجامع تساوي احتمال تجدّده مع احتمال عدمه ، فيكون أعمّ ، والأعمّ لا يستلزم الأخصّ.

وثالثها : أنّ الشيء الفلاني قد كان ولم يظنّ عدمه ، وكلّما هو كذلك فهو مظنون البقاء ، فينتج أنّ الشيء الفلاني مظنون البقاء ، ثمّ يجعل ذلك صغرى لقياس آخر هكذا : أنّ الشيء الفلاني مظنون البقاء ، وكلّ مظنون البقاء يجب العمل عليه ، فالشيء الفلاني يجب العمل عليه.

ويمكن إرجاع الوجه السابق إلى هذا البيان ، فلا بدّ في تتميمه [ من ] إثبات الكبرى في كلّ من القياسين ، فيمكن الاستدلال على كبرى القياس الأوّل - وهو حصول الظنّ بالبقاء فيما كان ولم يظنّ عدمه - بوجهين :

أحدهما : الوجدان ، وهو أنّا متى ما راجعنا أنفسنا وجدنا فرقا بيّنا بين ما لو كان المشكوك مسبوقا بالوجود وما لو كان مسبوقا بالعدم ، كالزوجيّة المشكوكة إذا شكّ فيها الإنسان في امرأة تارة في حدوثها واخرى في بقائها ، فإنّه يدرك بالوجدان فرقا واضحا

ص: 287

بينهما ، وليس هذا الفرق إلاّ باعتبار كون زوجيّة هذه المرأة في الأوّل مرجوحة وفي الثاني راجحة ، وهذا هو معنى رجحان بقاء الحالة السابقة وجودا كان أو عدما.

وثانيهما : البرهان ، وهو أنّا نرى أنّ العقلاء قاطبة في جميع الأعصار والأمصار بناؤهم على الاتّكال إلى الحالة السابقة في كلّ شيء ، كما يرشد إليه ما شاع بينهم من إرسال المراسيل والمكاتيب إلى البلاد النائية مع احتمال انهدامها ، وإرسال التحف والهدايا والودائع والأمانات وأموال التجارات إلى النائين مع احتمال موتهم وعدم بقاء حياتهم ، وقراضهم واستقراضهم أموالا إلى أجل بعيد مع احتمال عدم بقاء المقرض أو المستقرض إلى ذلك الأجل ، ومسافرتهم إلى الأصقاع والنواحي والمصارع البعيدة للتجارات أو الزيارات أو مقاصد اخر مع احتمال خرابها وعدم بقائها على حالاتها الّتي لها دخل في نيل القصد ، إلى غير ذلك ممّا لا يحصى كثرة. فبناؤهم هذا مع كونهم شاكّين إمّا أن يكون لمرجّح أو لا لمرجّح ، والثاني ترجيح بلا مرجّح فلا يقدمون عليه. وعلى الأوّل فالمرجّح إمّا طريق ناظر إلى الواقع ونفس الأمر ، أو طريق ناظر إلى الظاهر كالاحتياط الّذي هو عبارة عن اختيار الفعل لرجاء أنّه صادف الواقع. والثاني باطل لأنّا كثيرا مّا نراهم يعتمدون على الحالة السابقة مع كونه خلاف الاحتياط ، مثل أنّهم يرسلون أموالا كثيرة إلى البلاد النائية لعامليهم مع كونهم شاكّين في بقاء العاملين ، وقضيّة الاحتياط في نحو ذلك هو ترك الاعتماد على الحالة السابقة ، كما هو واضح.

وعلى الأوّل فذلك الطريق إمّا أن يكون هو القطع ببقاء الحالة أو الظنّ ، ولمّا كان الأوّل مفروض الانتفاء فتعيّن الثاني وهو المطلوب.

والحاصل أنّ اعتمادهم على الحالة السابقة لا بدّ وأن يكون لمرجّح لاستحالة الترجيح [ بلا مرجّح ] والمرجّح ليس إلاّ الظنّ الحاصل على طبق الحالة السابقة ، وهذا هو المراد من كبرى القياس الأوّل.

وأمّا الدليل على كبرى القياس الثاني وهو حجّيّة الظنّ الحاصل على طبق الحالة السابقة ، فهو أيضا بناء العقلاء في الموارد المشار إليها ، فإنّه كما يكشف عن أصل حصول الظنّ على طبق الحالة السابقة فكذلك يكشف عن حجّيّة هذا الظنّ وجواز العمل عليه ، لأنّه لولاه لا يقدمون على العمل على طبق الحالة السابقة كما لا يخفى.

مضافا إلى أنّه لو لاه لزم ترجيح المرجوح على الراجح ، وذلك لأنّ ترك العمل بالظنون الاستصحابيّة إنّما يصحّ بأحد شيئين :

ص: 288

الأول : سقوط التكليف في مواردها رأسا.

الثاني : وجود طريق اجتهادي يرجع إليه فيها.

والأوّل خلاف الضرورة القاضية ببقاء التكليف مطلقا حتّى في مظانّ الاستصحاب.

والثاني خلاف الفرض من فقد الدليل الاجتهادي في مجرى الاستصحاب قطعيّا كان أو ظنّيا وإلاّ كان هو المتّبع ولا يعقل معه الاستصحاب ، فبقى احتمالان : أحدهما راجح وهو احتمال بقاء الحالة السابقة ، والآخر مرجوح ، ولا بدّ من الأخذ بأحدهما والأخذ بالثاني ترجيح للمرجوح ، فتعيّن الأخذ بالأوّل.

فإن قلت : إنّ بناء العقلاء إنّما ينهض حجّة حيث كشف عن حكم القوّة العاقلة ، وإنّما يعقل ذلك حيث لم يكن حكم العقل المستقلّ بخلافه ، والعقل مستقلّ بقبح التديّن في دين اللّه بطريق يشكّ في جواز التعبّد به شرعا وعدمه ، بأن يؤخذ مؤدّاه حكما يتديّن به ، لرجوعه بالأخرة إلى التعبّد بالشكّ والتديّن بالمشكوك - وهو قبيح عقلا يذمّ فاعله - والظنّ منه ، على ما قرّرناه في تأسيس أصالة حرمة العمل بالظنّ من بحث حجّيّة الظنّ ، ومعه يستحيل استكشاف حكم القوّة العاقلة ببناء العقلاء.

قلت : المدار في اعتبار بناء العقلاء على أحد الأمرين : من الكشف عن حكم القوّة [ لعاقلة ] ومن الكشف عن تقرير المعصوم ، وهو فيما نحن فيه كاشف عن الثاني ، لأنّ عملهم على الظنون الاستصحابيّة ليس أمرا متجدّدا مستحدثا بل هو ثابت من قديم الزمان حتّى زمن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم والوصيّ عليه السلام ومن المعلوم ضرورة اطّلاعهم عليه وتمكّنهم من الردع ولا سيّما النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم الّذي لا يحتمل في حقّه التقيّة ، وعدم ردعهم عنه ، وإلاّ لوصل إلينا كما وصل منعهم عن العمل بالقياس حتّى صار من ضروريّات مذهبنا ، وهذا يكشف عن رضاهم بذلك العمل.

فإن قلت : بناؤهم على هذا لا يكشف عن التقرير أيضا ، لجواز كون عدم ردعهم اكتفاء فيه بالعمومات الناهية عن العمل بما وراء العلم كتابا وسنّة كقوله تعالى : ( لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (1) ( وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) (2) وقوله عليه السلام : « من شكّ أو ظنّ فأقام عليهما فقد حبط عمله (3) » ونحو ذلك من الآيات والروايات ، ولكون هذه العمومات كافية

ص: 289


1- الإسراء : 36.
2- النجم : 28.
3- الوسائل 18 : 25 ، 113 ، الباب 6 ، 12 من أبواب صفات القاضي ، ح 8 ، 7 على الترتيب.

في ارتداعهم سقط عنهم وجوب الردع فلم يردعوا ، فلا يكشف عن الرضاء.

قلت : انّ الردع الواجب عليهم عليهم السلام قد يكون بعنوان ارشاد الجاهل وتنبيه الغافل ، وقد يكون بعنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولقد اشير إليهما معا في قوله تعالى : ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) (1) والقدر المسلّم ممّا يسقط بوجود العمومات المذكورة إنّما هو وجوب الردع بالعنوان الأوّل لا الثاني ، لكون مورده العالمين بالأحكام الخائضين في معاصي اللّه ، وعليه فلو كان العمل على الظنون الاستصحابيّة بمقتضى العمومات المذكورة منكرا لوجب الردع عنه على الإمام لعموم وجوب النهي عن المنكر ، وعدمه يكشف عن عدم المنكريّة ، وهذا ينهض مخصّصا للعمومات المذكورة.

وبالجملة العمومات الدالّة على حرمة العمل بما وراء العلم مسلّمة ، ولكنّها مخصّصة بتقرير المعصوم المكشوف عنه ببناء العقلاء ، كما أنّه يخصّص عمومات حرمة الغيبة بتقريره فيما لو اغتيب بحضرته متجاهر بالفسق وتمكّن من ردعه ومنعه ولم يفعل.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في تتميم الاستدلال ، ولكنّه مع ذلك ضعيف لتطرّق المنع إلى كلّ من الكبريين بمنع أدلّة إثباتهما من الوجدان والبرهان.

أمّا الوجدان المدّعى لاثبات الكبرى الاولى : فلأنّ الوجدان السليم يكذّبه.

وتوضيحه : أنّا متى ما راجعنا أنفسنا وجدنا الموارد فيما لو كان المشكوك فيه مسبوقا بالوجود مختلفة ، فربّ مقام يساوي احتمال البقاء لاحتمال عدمه ، كما لو كان الشكّ باعتبار المقتضي كالخيار المشكوك فيه بعد الزمان الأوّل باعتبار شبهة الفوريّة ، وربّ مقام يترجّح فيه احتمال البقاء ، وربّ مقام ينعكس فيه الأمر كما لو غبنا عن زيد بعد ما عرض له مرض يغلب البرء منه أو الهلاك فيه ، فلو شككنا في بقائه وعدمه يترجّح البقاء في الأوّل وعدمه في الثاني ، ولو حمل الظنّ المأخوذ في الكبرى على الظنّ النوعي على معنى أنّ الوجود السابق لو خلّي وطبعه وبنوعه يؤثّر في ظنّ البقاء لئلاّ يقدح فيه اختلاف الموارد - وهو الظاهر من عبارة الدليل المحرزة بأنّ الشيء الفلاني قد كان ولم يظنّ عدمه وكلّما كان كذلك فهو مظنون البقاء ، لوضوح عدم الملازمة بين عدم الظنّ بالعدم والظنّ بالبقاء إلاّ بإرادة الظنّ النوعي من مظنون البقاء -.

ص: 290


1- آل عمران : 104.

فيدفعه أيضا : منع قضاء الوجدان بأنّ الوجود الأوّل من شأنه التأثير في ظنّ البقاء وإن لم يؤثّر فعلا في بعض الموارد لوجود مانع ، بل ضرورة الوجدان قاضية بأنّه لو خلّي وطبعه وقطع النظر عن كلّ أمر خارج من غلبة بقاء أو غلبة ارتفاع لا يؤثّر في شيء من ظنّ البقاء وظنّ الارتفاع في شيء من الموارد.

وأمّا البرهان المدّعى من جهة بناء العقلاء.

ففيه : أنّ استقرار بناء العقلاء على العمل على طبق الحالة السابقة في الأمثلة المتقدّمة ونظائرها وأنّه لا بدّ له من موجب لئلاّ يلزم الترجيح من غير مرجّح وإن كان مسلّما ولا يمكن انكاره ، ولكنّ الموجب له على ما نشاهده في الأمثلة المذكورة إنّما هو العلوم العاديّة الموجودة فيها فمعتمدهم على العلم العادي بالبقاء لا غير ، وأمّا استقراء بنائهم على العمل على طبقها ولو مع انتفاء العلم العادي أو كون الموجب له فيما استقرّ بناؤهم عليه هو الظنّ بالبقاء محلّ منع.

وتوهّم أنّ العلم العادي المدّعى وجوده فيها ليس إلاّ الظنّ ، لأنّه عبارة عن الظنّ.

يدفعه : أنّ العلم ليس إلاّ الاعتقاد الجازم الغير المحتمل للخلاف عقليّا كان أو عاديّا بلا فرق بينهما ، إلاّ في أنّ موجبه في الأوّل هو المقدّمة العقليّة وفي الثاني العادة المستمرّة الغير المنتقضة.

غاية الأمر أنّه ربّما يقبل احتمال الخلاف على تقدير الالتفات إلى منشأ الاحتمال ، فما لم يحصل الالتفات إلى منشأ الاحتمال فهو جزم البتّة ، والمعتبر في الظنّ وقوع احتمال الخلاف لا مجرّد قبوله على تقدير الالتفات إلى منشائه ، والقدر المعلوم من بناء العقلاء في موارد الأمثلة المتقدّمة ونظائرها إنّما هو عملهم على طبق الحالة السابقة حال الغفلة عن منشأ احتمال عدم بقاء الحالة السابقة ، وليس هذا إلاّ تعويلا على العلم العادي.

ومع الغضّ عن جميع ذلك وتسليم الظنّ في موارد بناء العقلاء وكونه المعوّل عليه عندهم ، يتطرّق المنع إلى كبرى القياس الثاني ، ومحصّله منع حجّيّة الظنون الاستصحابيّة ووجوب العمل بها ، لكون دليله - من بناء العقلاء ولزوم ترجيح المرجوح - مدخولا.

أمّا الأوّل : فلأنّ القدر المعلوم من بناء العقلاء إنّما هو في الامور العرفيّة والأحكام المتعلّقة بامور المعاش وهو لا يكشف عن تقرير المعصوم ، ولا يجدي نفعا في حجّيّة الظنّ الاستصحابي في الأحكام الشرعيّة ولا في موضوعاتها إلاّ أن يستقرّ بناؤهم فيها أيضا وهو

ص: 291

غير معلوم ، بل المعلوم خلافه ، لما نشاهده فيها من تحيّرهم عند الشكّ في بقاء حالة سابقة منها ، كمن شكّ في الحدث بعد تيقّن الطهارة أو في الطهارة بعد تيقّن الحدث ، وفي أحكام من غاب غيبة منقطعة من زوجيّة زوجته وماليّة أمواله ونحو ذلك ممّا لا يحصى كثرة ، وتوقّفهم حتّى يرجعوا إلى العلماء ويسألوهم عن حكم الواقعة.

وتوهّم أنّ ذلك لعلّه لما عهدوه وعرفوا من شرعهم من أنّ وظيفة الجاهل في واقعة الرجوع إلى العالم بحكمها وأنّ من وظيفة المقلّد أخذ حكمه في الواقعة المبتلى بها من مجتهده ، غير قادح فيما ذكرناه من عدم استقرار بنائهم في الأحكام الشرعيّة وموضوعاتها على الاستقلال على العمل على طبق الحالة السابقة ولا التعويل على الظنون الاستصحابيّة بل يؤكّده.

ودعوى أنّ ذلك لعلّه لعدم حصول ظنّ لهم ببقاء الحالة السابقة فيها ، رجوع عن إطلاق دعوى حصول هذا الظنّ ووجوب العمل به استدلالا ببناء العقلاء ، وكاف في هدم الاستدلال ومنع ثبوت الاستصحاب من باب حكم العقل.

وأمّا الثاني : فلجواز الرجوع بعد فرض عدم ارتفاع التكليف في موارد الاستصحاب وعدم وجود الطرق الاجتهاديّة الناظرة إلى الواقع إلى الطرق الشرعيّة المتكفّلة لبيان الأحكام الظاهريّة المجعولة للمتحيّر ، كأصلي البراءة والاشتغال وأصالة التخيير كلّ في مجراه ، ولا يخلو موارد الاستصحاب عن هذه الاصول ، فلا يلزم بعد الأخذ بمؤدّاها ترجيح المرجوح ، سواء وافق الحالة السابقة أو خالفها.

ويظهر من السيّد شارح الوافية أنّ أصل حصول رجحان البقاء في الاستصحاب من الواضحات ولكن مشؤه الغلبة ، فقال - بعد دعوى رجحان البقاء - ، « إنّ الرجحان لا بدّ له من موجب ، لأنّ وجود كلّ معلول يدلّ على وجود علّة له إجمالا ، وليست هي اليقين المتقدّم بنفسه ، لأنّ ما ثبت جاز أن يدوم وجاز أن لا يدوم ، ويشبه أن يكون هي كون الأغلب في أفراد الممكن القارّ أن يستمرّ وجوده بعد التحقّق ، فيكون رجحان وجود هذا الممكن الخاصّ للإلحاق بالأعمّ الأغلب ، هذا إذا لم يكن رجحان الدوام مؤيّدا بعادة أو أمارة وإلاّ فيقوى بهما ، وقس على الوجود حال العدم إذا كان يقينيّا (1) » انتهى.

وتبعه بعض الأعلام قائلا : « بأنّ الوجدان السليم يحكم بأنّ ما تحقّق وجوده أو عدمه

ص: 292


1- شرح الوافية ( مخطوط ) : 325.

في حال أو وقت ولم يحصل الظنّ بطروّ عارض يرفعه فهو مظنون البقاء - إلى أن قال - : وهذا الظنّ ليس من محض الحصول في الآن السابق لأنّ ما ثبت جاز أن يدوم وجاز أن لا يدوم بل لأنّه لمّا فتّشنا الامور الخارجيّة من المعدومات والموجودات وجدناها باقية مستمرّة بوجودها الأوّل غالبا على حسب استعداداتها في مراتبها ، فنحكم فيما لا نعلم حاله بما وجدنا في الغالب إلحاقا بالأعمّ الأغلب » انتهى ما أردنا ذكره هنا (1).

وكلامه رحمه اللّه يتضمنّ دعويين ، إحداهما : قضاء الوجدان بحصول ظنّ البقاء في موارد الاستصحاب.

والاخرى : كون منشؤه الغلبة.

ويرد على الاولى أوّلا : ما أشرنا إليه سابقا من قضاء الوجدان بأنّ الظنّ يتبع خصوصيّات المقامات ويختلف بالقرائن الموجودة فيها ، فقد يظنّ البقاء وقد يظنّ عدمه وقد لا يظنّ شيء منهما.

وثانيا : أنّه يؤدّي في كثير من الصور إلى التناقض ، كما طعن به بعض الأخباريّين على القول بإفادته الظنّ ، وذلك فيما لو فرض حوض ورد فيه الماء تدريجا إلى موضع معيّن منه يشكّ في بلوغه حدّ الكرّ وعدمه ، فقضيّة استصحاب القلّة أو عدم الكرّيّة كون عدم كونه كرّا مظنونا ، ثمّ ورد عليه الماء أيضا إلى أن يبلغ كرّا يقينيّا فما زاد ، ثمّ اخذ من مائه تدريجا إلى أن يصل الموضع الأوّل ، وقضيّة استصحاب الكرّيّة حينئذ كونه مظنون الكريّة ، فيلزم على القول بالظنّ الوجداني على طبق الحالة السابقة القول بأنّ هذا المقدار المعيّن من الماء مظنون كونه كرّا ومظنون عدم كونه كرّا ، وهو ظاهر الفساد ، ولا نظنّ بأحد يعتمد باستصحاب القلّة لا يعتمد باستصحاب الكرّيّة أو بالعكس.

ونحوه مايع بالغ كرّا فصاعدا مشتبه بين الماء والبول فلاقاه طاهر وغسل فيه متنجّس ، فقضيّة استصحاب طهارة الأوّل ونجاسة الثاني حصول الظنّ بكونه ماء وبكونه بولا ، وأنّه واضح الفساد أيضا. والمفروض كون كلّ من الاستصحابين معمولا به ومعوّلا عليه عندهم ، وكذلك المتطهّر بمايع يشكّ في كونه ماء أو بولا مثلا فإنّه يحكم باستصحاب طهارة بدنه وبقاء حدثه مع أنّ الظنّ بهما محال.

وثالثا : أنّه ربّما يفضي إلى تخلّف المعلول عن علّته فيما لو كان الشكّ في البقاء والارتفاع

ص: 293


1- القوانين 2 : 53 - 54.

مسبّبا عن الشكّ في رافعيّة الحادث كالمذي للمتطهّر والرطوبة المردّدة بين الماء والبول إذا أصابت الثوب ، فإن صحّ ظنّ بقاء الطهارة في استصحابها تخلّف الشكّ فيها عن سببها وهو الشكّ في الحادث ، إلاّ أن يدّعى استلزامه الظنّ بعدم الناقضيّة في الأوّل والظنّ بالمائيّة في الثاني.

ويزيّفه - مع أنّه ممّا يكذّبه الوجدان - أنّه يوجب محذورا آخر في نحو اشتباه القبلة بين جهتين إذا صلّى إلى إحداهما الموجب للشكّ في بقاء الاشتغال ، فإنّ استصحابه يقتضي وجوب الإتيان بها إلى الجهة الباقية ويوجب الظنّ بكونها هي القبلة ، فيلزم الاكتفاء بها في الصلاة الاخرى كالعصر أو العشاء من دون تكرار لهما ، لكفاية ظنّ القبلة لمن تعذّر عليه العلم بها ، وهذا أيضا ضروريّ الفساد.

ورابعا : أنّ الاستصحاب الّذي نجده بأيدي العلماء يتمسّكون به في جميع أبواب الفقه من دون مراعاة ظنّ البقاء ، بل نراهم يتمسّكون به في مقام كان المستصحب مظنونا ، وفيما كان مشكوكا ، وفيما كان موهوما بكون خلافه مظنونا بظنّ غير معتبر ، كما في حكمهم ببقاء الغائب وترتيبهم أحكام الحياة عليه مع ظنّهم بموته من خبر فاسق أو فاسقين ونحوه.

وأقوى ما يفصح عن ذلك أنّ الشهيد قدس سره في القواعد عقد بابا لتعارض الأصل والظاهر ، وصار إلى تقديم الأصل على الظاهر مطلقا إلاّ في مواضع نادرة ، وهو المشهور بين الأصحاب ، ولا يعقل مقابلة الأصل للظاهر إلاّ مع كون المستصحب موهوما.

وممّا يشهد به أيضا إطباقهم على تقديم قول المنكر في باب الدعاوي مطلقا مع كون الظاهر كثيرا مّا في جانب المدّعي. وإطلاقهم فيمن تيقّن الطهارة وشكّ في الحدث أو تيقّن الحدث وشكّ في الطهارة بالبناء في الأوّل على الطهارة وفي الثاني على الحدث من دون تقييد له بظنّ البقاء ، وعدم إعلامهم للمقلّدين باشتراطه في البناء على الحالة السابقة ، وكذا فيمن تيقّن طهارة ثوبه أو نجاسته. فهذا كلّه آية عدم إناطة الاستصحاب بظنّ بقاء الحالة السابقة.

لا يقال : هذا كلّه إنّما يتوجّه على تقدير اعتبار الظنّ الشخصي لا على الاكتفاء بالظنّ النوعي ، فيؤول الأمر إلى دعوى أنّ الغلبة بنوعها ولو خلّي وطبعها تفيد الظنّ بالبقاء وإن لم تفده في بعض الموارد لمنع مانع.

لأنّه ممّا يأباه ضابط الغلبة في مواردها من كون المدار في حجّيتها - إن قلنا بها - على الظنّ الشخصي بلحوق مورد الشكّ بمورد الغالب ، ولأنّ الظنّ النوعي قد يجامع الظنّ الشخصي الغير المعتبر بالخلاف ، وهو لا يلائم قيد « لم يظنّ عدمه » الّذي أخذه العضدي في

ص: 294

تعريف الاستصحاب بقوله : « الشيء الفلاني قد كان ولم يظنّ عدمه (1) ». وفي معناه ما عرفت في عبارة بعض الأعلام من قوله : « ولم يحصل الظنّ بطروّ عارض يرفعه (2) » فإنّ قضيّة ذلك أنّه لا استصحاب أو أنّه لا يعتبر مع اتّفاق الظنّ الشخصي الغير المعتبر بخلاف الحالة السابقة.

إلاّ أن يقال : إنّ المراد بالظنّ النوعي هنا ما لا يكون الظنّ الشخصي شرطا ، لا ما لا يكون الظنّ الشخصي بالخلاف مانعا.

ويدفعه : ما سمعت من عمل العلماء على الاستصحاب مع كون المستصحب موهوما أيضا.

ومع الغضّ عن جميع ذلك فيضعف الاستناد إلى الغلبة بعدم نهوضها مؤثّرة في ظنّ البقاء.

وبعبارة اخرى : أنّ الثابتة منها غير منتجة والمنتجة منها غير ثابتة.

وتوضيحه : أنّ قاعدة الإلحاق والاستقراء في كلام أهل الاستدلال نوع من الدليل يعبّر عنه تارة بالاستقراء واخرى بقاعدة الإلحاق ، وهما لا يتغايران إلاّ باعتبار الحيثيّة ، فمن حيث إنّه يحرز به كبرى كلّيّة يقال له : الاستقراء ، ومن حيث إنّه يستنتج منه حال مورد الشكّ يقال له : قاعدة الإلحاق. ولذا ذكرنا في غير موضع أنّ الاستقراء الذّي يتمسّك به لإلحاق مورد الشكّ بمورد الغالب ينحلّ إلى حجّتين : إحداهما الاستقراء المنطقي وهو تصفّح الجزئيّات لينتقل من حالها إلى حال الكلّي الصادق عليها وعلى المشكوك فيه جنسا كان أو نوعا أو صنفا ، ومعنى الانتقال من حالها إلى حال الكلّي انكشاف الملازمة قطعا أو ظنّا بين الكلّي والوصف الموجود في الجزئيّات وكون ذلك الوصف من لوازم الكلّي. فيتحصّل منه قضيّة كلّيّة تؤخذ كبرى لوانضمّ إليها صغرى فرضيّة موضوعها الفرد المشكوك الحال لحصل قياس من الشكل الأوّل ، وهذا هو الحجّة الاخرى.

ومن هنا يقال : إنّ الاستدلال بالاستقراء لغرض الإلحاق لا يتمّ إلاّ بامور ثلاث :المستقرأ له ليتحصّل منه صغرى هذا القياس.

والمستقرأ فيه وهو الأفراد الغالبة الّتي وجدت على وصف ليحرز به الكبرى الكلّيّة.

والجامع بينهما الصادق عليهما ليتكرّر به الأوسط ويتعدّى الأكبر منه إلى الأصغر وهو المستقرأ له.

ويتّضح هذه المراتب كلّها بملاحظة الفرد المشكوك فيه من الحبشي بعد تصفّح جزئيّاته ووجدان الغالب منها على وصف السواد ، فينتظم القياس هكذا : « هذا حبشي ، وكلّ

ص: 295


1- انظر شرح مختصر الاصول 2 : 454.
2- القوانين 2 : 57.

حبشيّ أسود ، فهذا أسود » أمّا الصغرى فبحكم الفرض ، وأمّا الكبرى فبحكم الاستقراء ، وأمّا النتيجة فبحكم كون المشكوك فيه من أفراد الكلّي الملازم لوصف الجزئيّات المستقرأ فيها.

ثمّ إن كانت الكبرى قطعيّة كما في الاستقراء التامّ فالنتيجة أيضا قطعيّة ، وإن كانت ظنّية كما في الاستقراء الناقص فالنتيجة أيضا ظنّية ، وضابط قطعيّة الكبرى وظنّيتها هو العلم بعدم وجود فرد مخالف أو الظنّ بعدم وجوده.

فما قد يتوهّم - من أنّ الغلبة قسم من الاستقراء لأنّه على قسمين تامّ وهو تصفّح تمام الجزئيّات لإثبات حكم كلّي ، وناقص وهو تصفّح أكثر الجزئيّات لإثبات حكم كلّي سواء وجد المخالف - أعني الفرد النادر المخالف للأكثر - أو لم يوجد ، والثاني كثير ، والأوّل مثل التمساح.

وحينئذ يرتّب القياس حين الشكّ في الفرد هكذا : « هذا حيوان ، وكلّ حيوان يحرّك حنكه الأسفل عند المضغ إلاّ التمساح ».

وبعبارة اخرى : أنّ الاستقراء الناقص الّذي هو تصفّح أكثر الجزئيّات إن لم يوجد معه فرد نادر مخالف فيأتي كبرى القياس بدون استثناء وإلاّ فيأتي مع الاستثناء كما في المثال ، والغلبة هو استقراء ناقص ، لأنّ معنى الغلبة كون غالب الأفراد على نهج واحد ، فكلّ غلبة استقراء ولا عكس كلّيّا - ليس بسديد كما يظهر وجهه بالتأمّل فيما ذكرناه.

وكيف كان فالغلبة المؤثّرة في ظنّ لحوق المشكوك فيه بالأعمّ الأغلب لا تؤثّر فيه إلاّ بواسطة الكبرى الكلّيّة المحرزة بتلك الغلبة بشرط اندراج المشكوك فيه في العنوان الكلّي المتكرّر في مقدّمتي القياس ، محمولا في صغراه وموضوعا في كبراه.

وإذا تمهّد هذا فنقول : إنّ الشكّ المعتبر في الاستصحاب على ما بيّنّاه عند التقسيم قد يكون باعتبار الشكّ في المقتضي ، وقد يكون باعتبار الشكّ في وجود المانع ، وقد يكون باعتبار الشكّ في مانعيّة الموجود.

فعلى الأوّل يقرّر الصغرى : بأنّ هذا ما يشكّ في بقائه وارتفاعه باعتبار الشكّ في المقتضي.

وعلى الثاني تقرّر : بأنّ هذا ما يشكّ في بقائه وارتفاعه باعتبار الشكّ في وجود المانع.

وعلى الثالث يقرّر : بأنّ هذا ما يشكّ في بقائه وارتفاعه باعتبار الشكّ في مانعيّة الموجود.

ولا ريب أنّ كلاّ من هذه الصغريات تقتضي كبرى اخذ في موضوعها الشكّ في البقاء والارتفاع بأحد الاعتبارات الثلاث ، وما يتحصّل من الغلبة المدّعاة بعبارة : « أنّا فتّشنا الامور الخارجيّة من الأعدام والموجودات وجدناها باقية مستمرّة على وجودها الأوّل

ص: 296

غالبا » لا يحصّل لذلك ، لأنّ كلّ موجود بقي على وجوده الأوّل فإنّما وجد في آن وجوده - حدوثا وبقاء - لتحقّق المقتضي لوجوده وانتفاء المانع عن وجوده ، فيقال حينئذ : كلّ موجود تحقّق المقتضي لوجوده وانتفى المانع عنه في ثاني زمان وجوده فهو باق على وجوده الأوّل. وهذا كما ترى ليس من كبرى الصغريات المذكورة في شيء ، لعدم تكرّر الأوسط باعتبار عدم دخول الشكّ في البقاء والارتفاع بسبب الشكّ في المقتضي أو في وجود المانع أو في مانعيّة الموجود في موضوع هذه الكلّية المتحصّلة من الغلبة المدّعاة ، بل الكبرى المناسبة لها على الأوّل هو قولنا : « كلّما شكّ في بقائه وارتفاعه باعتبار الشكّ في المقتضي فهو باق ».

وعلى الثاني قولنا : « كلّما شكّ في بقائه وارتفاعه باعتبار الشكّ في وجود المانع فهو باق »

وعلى الثالث قولنا : « كلّما شكّ في بقائه وارتفاعه باعتبار الشكّ في مانعيّة الموجود فهو باق ».

وهذه الكبريات كما ترى غير محرزة ، لعدم ثبوت الغلبة في شيء منها لا على وجه تفيد القطع ولا على وجه تفيد الظنّ وهذا معنى قولنا : إنّ الثابتة منها غير منتجة والمنتجة منها غير ثابتة ، فليتدبّر فإنّ المقام دقيق.

وتوهّم أنّ تحقّق المقتضي وانتفاء المانع لبقاء المستصحب يحرز بغلبة اخرى لازمة للغلبة المدّعاة ، وهو أنّ الغالب فيما وجد تحقّق المقتضي وانتفاء المانع ، فيترتّب عليه ظنّ البقاء.

يدفعه : أنّه إن اريد به أنّ الغالب فيما وجد تحقّق المقتضي المانع في آن وجوده فهو حقّ لا سترة عليه ، بل المعلوم في كلّما وجد هو ذلك إلاّ أنّه لا يجدي نفعا في ظنّ التحقّق والانتفاء في آن الشكّ في وجود ما وجد. وإن اريد به أنّ الغالب فيما وجد تحقّق المقتضي وانتفاء المانع في آن الشكّ في وجوده ، فهذه الغلبة ممّا لا سبيل إلى إثباتها.

فإن قلت : لو لم يؤخذ الشكّ في تحقّق المقتضي أو انتفاء المانع أو عدم مانعيّة العارض في الأوسط المتكرّر الّذي هو محمول الصغرى وموضوع الكبرى تمّ القياس وحصل الإنتاج ، فيقال : « هذا ما وجد - أي دخل من العدم إلى الوجود - وكلّما وجد باق ، فهذا باق ».

أمّا الصغرى : فبالفرض ، وأمّا الكبرى : فبالغلبة الّتي قرّرها بعض الأعلام بقوله : « وجدناها باقية مستمرّة بوجودها الأوّل (1) ».

ص: 297


1- القوانين 2 : 57.

قلت : إن اريد من كونها باقية بقائها في الجملة فهو مسلّم ، بل الغالب في موارد الاستصحاب هو بقاء الحالة السابقة في الجملة ولكنّه غير مجد.

وإن اريد بقاؤها على وجه الاستمرار ولو بحسب استعداداتها.

ففيه : أنّه في كلّ آن إنّما هو باعتبار تحقّق المقتضي وانتفاء المانع ، فعلّة الحكم في الأفراد المستقرأ فيها غير محرزة في المستقرأ له ، لأنّ الشكّ في البقاء والارتفاع إنّما من جهة الشكّ في تحقّق هذه العلّة وعدمه ، ولو اريد إحرازها بالغلبة يدور الكلام السابق.

وبجميع ما قرّرناه يظهر ما في كلام بعض الأعلام من قوله - بعد عبارته المتقدّمة - : « فهاهنا مرحلتان الاولى في إثبات الاستمرار في الجملة ، الثانية إثبات مقدار الاستمرار ، ففيما جهل حاله من الممكنات القارّة يثبت الاستمرار في الجملة بملاحظة حال أغلب الممكنات ، مع قطع النظر عن تفاوت أنواعها وظنّ مقدار خاصّ من الاستمرار بواسطة حال النوع الّذي هو من جملتها. فالحكم الشرعي مثلا نوع من الممكنات قد يلاحظ من جهة مطلق الممكنات ، وقد يلاحظ من جهة مطلق الأحكام الصادرة من الموالي بالنسبة إلى العبيد ، وقد يلاحظ من جهة سائر الأحكام الشرعيّة (1) » انتهى.

فإنّا نقطع بأنّ كلّما بقي واستمرّ من الممكنات فإنّما بقاؤه واستمراره من جهة تحقّق مقتضيه وانتفاء مانعه ، والشكّ في البقاء والاستمرار في محلّ الاستصحاب إنّما هو باعتبار الشكّ في المقتضي أو باعتبار الشكّ في انتفاء المانع. والحكم ببقاء ما شكّ في تحقّق مقتضيه أو انتفاء مانعه واستمراره والحال هذه بملاحظة ما غلب استمراره من الممكنات أو أحكام الموالي بالنسبة إلى العبيد أو سائر الأحكام الشرعيّة مع القطع بأنّه لا يمكن إلاّ عند تحقّق المقتضي لوجوده وانتفاء المانع عن وجوده ، من المضحكات الّتي لا ينبغي التفوّه به. ولا يتفاوت الحال في ذلك بين كون المستصحب أمرا خارجيّا أو حكما شرعيّا ، ولا يجدي في ظنّ استمرار الحكم الشرعي في آن الشكّ في بقائه ملاحظة استمرار مطلق الممكنات ، ولا ملاحظة استمرار مطلق أحكام الموالي ، ولا ملاحظة استمرار سائر الأحكام الشرعيّة ما لم يظنّ تحقّق المقتضي لوجوده أو عدم تحقّق رافعه أو عدم رافعيّة الأمر المتحقّق المشكوك في رافعيّته.

والمفروض أنّ الظنّ بهذه الامور ممّا لا موجب له إلاّ توهّم غلبة تحقّق المقتضي

ص: 298


1- القوانين 2 : 57.

وانتفاء المانع في الممكنات القارّة الباقية المستمرّة وقد عرفت حالها.

وبقي من حجج المثبتين للاستصحاب وجهان آخران :

أحدهما : أنّه لو لا كونه حجّة لم يستقم استفادة الأحكام الشرعيّة من الأدلّة اللفظيّة ، لتوقّفها على أصالة عدم القرينة ، وأصالة عدم المعارض ، وأصالة عدم المخصّص وعدم المقيّد وعدم الناسخ ، وقد تقدّم في مقدّمات المسألة ما يضعّفه من أنّ الاصول اللفظيّة ليست من باب الاستصحاب ، بل هي قواعد مخصوصة مختصّة بباب الألفاظ المقرّرة لتشخيص المرادات ، المأخوذة من العرف الكاشف عن ترخيص الواضع ، ومرجعها إلى عدم اعتناء أهل العرف في العمل بالحقيقة والدليل والعامّ والمطلق والنصّ باحتمال وجود القرينة والمعارض والمخصّص والمقيّد والناسخ ، بالبناء على عدم هذه الامور المحتملة وترتيب آثار العدم على موارد احتمالها بترخيص من الواضع.

ولو سلّم كونها من باب الاستصحاب ، فغاية ما لزم من الدليل كونها حجّة ولا يلزم منه حجّيّة مطلق الاستصحاب ، والفارق هو انعقاد الإجماع على العمل عليها وعدم انعقاده في غيرها ، مع أنّ قصارى ما ثبت به حجّيّته في الامور العدميّة المتعلّقة بالألفاظ لا مطلقا.

وثانيهما : أنّه لو لاه لم يتقرّر معجزة ، فانسدّ باب إثبات النبوّات.

وبيان الملازمة : أنّ المعجزة عبارة عن الفعل الخارق للعادة كشقّ القمر وإرجاع الشمس وإنطاق الحصى ونحو ذلك ، فلو لا حصول الظنّ ببقاء الحالة السابقة وهي العادة لم يعلم كون الفعل الصادر من مدّعي النبوّة خارقا لها.

ويرد عليه : أنّ ابتناء تقرّر المعجزة على ظنّ بقاء العادة يستلزم بناء إثبات النبوّات على الظنّ ، لأنّ ظنّ بقاء العادة يستلزم ظنّ كون الفعل المقرون بدعوى النبوّة خارقا لها ، وهو يستلزم الظنّ بنبوّة المدّعي لها ، وأنّه ضروريّ الفساد.

ومع الغضّ عن ذلك يندفع الدليل بمنع الملازمة ، لأنّ بقاء العادة على حالته الأوّلية معلوم لكلّ أحد بضرورة الحسّ والعيان وبداهة الذهن والوجدان ، فيكون الفعل خارقا لها على وجه القطع واليقين ، لأنّ مرجعه إلى إقداره تعالى لمدّعي النبوّة على فعل لم يجر عادته تعالى على إقدار نوع البشر عليه ، فإذا صدر من واحد يقطع بأنّه من إقداره تعالى ، بل المعجزة هو فعل ما لا يكون مقدورا لنوع البشر بحكم العادة ، فإذا صدر من مدّعي النبوّة ما هو من هذا القبيل كشف عن كونه من قدرة القادر على الإطلاق ، وقد أجراه بيده تصديقا له في دعوى النبوّة ، فيعلم كونه نبيّا ، لقبح إظهار المعجزة بيد الكاذب ، وهذا معنى

ص: 299

احتجّ المرتضى رضي اللّه عنه بأنّ في استصحاب الحال جمعا بين حالين في حكم من غير دلالة*

______________________________

كونها خارقة للعادة ، فعدم كونه مقدورا بحكم العادة معلوم بالوجدان.

حجّة المانعين لحجّيّة الاستصحاب

* حجّة المانعين لحجّية الاستصحاب بوجوه :

منها : ما في الغنية (1) كما عن المرتضى في الذريعة (2) من أنّ المتعلّق باستصحاب الحال يثبت الحكم عند التحقيق بغير دليل.

توضيح ذلك : « أنّهم يقولون قد ثبت بالإجماع على من شرع في الصلاة بالتيمّم المضيّ فيها قبل مشاهدة الماء ، فيجب أن يكون على هذه الحالة بعد المشاهدة له ، وهذا منهم جمع بين الحالين في حكم من غير دليل اقتضى الجمع بينهما ، لأنّ اختلاف الحالتين لا شبهة فيه لأنّ المصلّي غير واجد للماء في إحداهما وواجد له في الاخرى ، فلا يجوز التسوية بينهما من غير دلالة ، وإذا كان الدليل إنّما يتناول الحال الاولى وكانت الاخرى عارية منه لم يجز أن يثبت لها مثل الحكم » (3) انتهى.

ومحصّله : أنّ دليل الحكم في الحالة الاولى غير متناول للحالة الثانية ، فيكون استصحاب الحكم الثابت في الاولى إلى الثانية إثباتا للحكم فيها من غير دليل وهو باطل ، فيكون الاستصحاب الّذي يتعلّقون به باطلا.

وهذا في غاية المتانة ، لما قرّرناه من أنّ ثبوت الحكم في وقت أو في حالة لا يلازم عقلا ثبوته في وقت آخر ولا في حالة اخرى ما لم يتناول دليله لهما. ودعوى حصول الظنّ ببقائه فيهما من ملاحظة ثبوته الأوّل أو من ملاحظة أمر آخر من غلبة أو غيرها ، مردودة على مدّعيها ، ولكنّه لا ينافي التعبّد بإجراء أحكامه وترتيب آثاره فيهما إلى أن يقطع بالخلاف ، إلاّ أنّه أيضا يحتاج إلى دليل وسيأتي بيانه من جهة الأخبار.

وعن المحقّق في المعارج الجواب عن الدليل المذكور : « بأنّ كون استصحاب الحكم عملا بغير دليل غير مستقيم ، لأنّ الدليل دلّ على أنّ الثابت لا يرتفع إلاّ برافع ، فإذا كان التقدير تقدير عدمه كان بقاء الثابت راجحا في نظر المجتهد ، والعمل بالراجح لازم (4) » انتهى.

وفيه : من الخلط بين عدم وجود الرافع وعدم العلم بوجوده ما لا يخفى ، إذ على تقدير

ص: 300


1- الغنية ( الجوامع الفقهيّة ) : 486.
2- الذريعة إلى اصول الشريعة 2 : 829 - 830.
3- الذريعة إلى اصول الشريعة 2 : 830.
4- المعارج : 209.

عدم الوجود رجحان بقاء الثابت بل كونه مقطوعا به ممّا لا غبار عليه ، إلاّ أنّه خارج عن محلّ فرض الاستصحاب.

وأمّا على تقدير عدم العلم بوجوده فرجحان البقاء محلّ المنع ، لفرض تساوي احتمال عدم وجوده لاحتمال وجوده ، وهو يستلزم تساوي احتمال بقائه مع احتمال عدم بقائه ، ومعه يستحيل كون البقاء راجحا.

نعم لو فرض كون احتمال عدم وجود الرافع راجحا لزمه رجحان البقاء ، إلاّ أنّه ممّا لا موجب له على وجه يطّرد.

ثمّ إنّ تعلّق هذا الجواب بالدليل المذكور محلّ المنع ، لانطباقه على استصحاب الحكم المشكوك في بقائه من جهة الشكّ في المانع ، وظاهر عبارة الدليل إنكار الاستصحاب فيما كان الشكّ في البقاء باعتبار الشكّ في المقتضي ، إلاّ على تقدير اعتبار مشاهدة الماء في أثناء الصلاة أمرا يشكّ في رافعيّته لوجوب المضيّ فيها ، وهو أيضا محلّ المنع كما نبّهنا عليه سابقا ، وعليه فمنشأ الشكّ في البقاء إلى الشكّ في مقدار استعداده وجوب المضيّ فيها للبقاء ، هل هو ما لم يشاهد الماء أو مطلقا؟ فتأمّل.

ومنها : أنّه لو كان الاستصحاب حجّة لوجب فيمن علم زيدا في الدار ولم يعلم بخروجه منها أن يقطع ببقائه فيها ، وكذا يلزم إذا علم بأنّه حيّ ثمّ انقضت مدّة لم يعلم فيها بموته أن يقطع ببقائه ، وهو باطل.

قال المرتضى - في عبارته الّتي حكاها المصنّف - : « وقد ثبت في العقول أنّ من شاهد زيدا في الدار ثمّ غاب عنه [ أنّه ] لم يحسن أن يعتقد استمرار كونه في الدار إلاّ بدليل متجدّد ، وصار كونه في الدار في الحالة الثانية وقد زالت الرؤية بمنزلة كون عمر وفيها مع فقد الرؤية (1) » انتهى.

وعن المحقّق في المعارج دفعه : « بأنّ لا ندّعي القطع ولكن ندّعي الرجحان والظنّ ببقائه ، وهذا يكفي في العمل به (2) ». والجزء الأوّل من الجواب في محلّه ، وما عداه أيضا محلّ المنع كما عرفت ، ثمّ يتطرّق المنع إلى جواز العمل بهذا الظنّ كما تقدّم فيما مضى.

ومنها : أنّه لو كان حجّة لزم التناقض ، إذ كما يقال : كان للمصلّي قبل وجدان الماء المضيّ في صلاته. فكذا بعد الوجدان ، كذلك يقال : إنّ وجدان الماء قبل الدخول في الصلاة

ص: 301


1- الذريعة إلى اصول الشريعة 2 : 832.
2- المعارج : 209.

كان ناقضا للتيمّم فكذا بعد الدخول ، أو يقال : الاشتغال بصلاة متيقّنة ثابت قبل فعل هذه الصلاة فيستصحب.

وعن المعتبر : « أنّ استصحاب الحال ليس حجّة ، لأنّ شرعيّة الصلاة بشرط عدم الماء لا يستلزم الشرعيّة معه ، ثمّ إنّ مثل هذا لا يسلم عن المعارض لأنّك تقول : « الذمّة مشغولة بالصلاة قبل الاتمام فكذا بعده (1) ».

وعن المعارج الجواب عنه : « بمنع وجود المعارض في كلّ مقام ، ووجود المعارض في الأدلّة المظنونة لا يوجب سقوطها حيث يسلم عن المعارض (2) ».

والأولى أن يقال : ليس اللازم للقول بحجّية الاستصحاب العمل به مطلقا حتّى في محلّ المعارضة ، خصوصا مع ملاحظة كون مداره على ظنّ البقاء ، فمع عدمه لا استصحاب أو لا عمل عليه. فإذا حصل ظنّ البقاء في أحد المتعارضين كان البقاء في المتعارض الآخر موهوما ، ضرورة أنّ الظنّ بالشيء يستلزم الظنّ بلوازمه ، فالظنّ ببقاء وجوب المضيّ في المثال يستلزم الظنّ بارتفاع اشتغال الذمّة بها ، وعدم كون وجدان الماء في حال الصلاة ناقضا ، لاشتراط ناقضيّته بالتمكّن من استعماله ولا تمكّن مع وجوب المضيّ فيها ، إذ الشكّ في ناقضيّته مسبّب عن الشكّ في التمكّن من استعماله وهو مسبّب عن الشكّ في وجوب المضيّ ، كما أنّ الشكّ في بقاء الاشتغال وارتفاعه بفعل هذه الصلاة مسبّب عن الشكّ في وجوب المضيّ فيها ، وما لزمه الشكّ السببي مقدّم طبعا على غيره ، ومعنى تقدّمه طبعا سبق رجحان البقاء في جانب الشكّ السببي ، وبذلك يندفع توهّم إمكان العكس.

ومنها : أنّه لو كان حجّة لكان بيّنة النفي أولى وأرجح من بيّنة الإثبات ، لاعتضادها باستصحاب النفي. وهو أضعف من سوابقه.

أمّا أوّلا : فلأنّه - على تقدير صحّة إعمال البيّنة في النفي - مشترك اللزوم بين القول بالحجّية والقول بعدمها ، إمّا بناء على ما زعمه جماعة من خروج استصحاب النفي بمعنى عدم التكليف والبراءة الأصليّة أو بمعنى مطلق الأمر العدمي عن موضع النزاع وكون حجّيته إجماعيّة ، أو بناء على أنّه لا كلام في أصالة البراءة في الشكّ في التكليف لشهادة العقل والنقل بها فيعتضد بها بيّنة النفي.

وأمّا ثانيا : فلأنّه ليس في النفي إن اريد به قول المنكر - بملاحظة أنّ البيّنة على

ص: 302


1- المعتبر 1 : 32.
2- المعارج : 209.

المدّعي واليمين على من أنكر وأنّ الشهادة على النفي غير مسموعة - بيّنة تصلح لمعارضة بيّنة الإثبات حتّى تمسّ الحاجة إلى طلب المرجّح وأخذ استصحاب النفي عاضد لها ، وما فرضوه من تعارض البيّنتين فإنّما هو في عنوان التداعي المنقسم عندهم إلى ما كان المدّعى به في يد أحدهما أو يد كليهما أو في يد خارج لا في عنوان الدعوى والإنكار ، لعدم كون إقامة البيّنة من وظيفة المنكر ولو أقامها لم تكن مسموعة.

والقول بأنّ معنى البيّنة على المدّعي انّ إقامة البيّنة تلزم على المدّعي لا على المنكر لا أنّ بيّنة المنكر ليست مسموعة إذا أقامها ، كما نسب إلى بعض الأصحاب.

يندفع - مع أنّه خلاف التحقيق - بأنّه : لو سلّم فليس معناه أنّ بيّنته تقبل ولو مع وجود بيّنه للمدّعي.

هذا مع تطرّق المنع إلى دعوى الاعتضاد ، لأنّ الأصل التعليقي كما لا يصلح معارضا للدليل كذا لا يصلح معاضدا له ، والاستصحاب منه حتّى على القول به من باب الظنّ كما هو واضح.

ولا ينتقض ما ذكرناه من عدم كون إقامة البيّنة من وظيفة [ المنكر ] ما في مسألة التداعي مع ثبوت يدي المتداعيين على العين ، من أنّ كلاّ منهما يكلّف بإقامة البيّنة مع كونه منكرا لكون ما في يده لصاحبه ، لعدم كون إقامة البيّنة لنفيه هذا ، بل إنّما هي لإثباته وهو دعواه لكون ما في يده له ، ووظيفة كلّ منهما لإنكاره الحلف لا غير.

أخبار الاستصحاب

المقام الثاني : في اعتباره وعدم اعتباره تعبّدا من جهة الأخبار ، والحقّ في هذا المقام هو القول بالحجّية مطلقا أو في الجملة ، والأخبار الدالّة عليه كثيرة :

منها : صحيحة زرارة الّتي لا يخلّ إضمارها بصحّتها ، لوضوح كون مثل زرارة أجلّ وأرفع من أن يسأل غير المعصوم ، فلا يكون المضمر إلاّ المعصوم الّذي هو إمّا الباقر أو الصادق عليه السلام ، قال : قلت له : الرجل ينام وهو على وضوء أيوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال : « يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن ، فإذا نامت العين والاذن والقلب وجب الوضوء ، قلت : فإن حرّك إلى جنبه شيء وهو لا يعلم به؟ قال : لا ، حتّى يستيقن أنّه قد نام ، حتّى يجيء من ذلك أمر بيّن ، وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين أبدا بالشكّ ، وإنّما ينقضه بيقين آخر (1) ».

ص: 303


1- التهذيب 1 : 8 ح 11 ، الوسائل 1 : 174 ، الباب الأوّل من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث الأوّل.

وينبغي النظر في متن الحديث وفقهه ليتّضح وجه الاستدلال وموضعه.

فنقول : إنّ قوله : « ينام » يحتمل وجوها :

أحدها : أن يراد بالنوم فيه هيئة النائم من الاضطجاع أو الاستلقاء والالتحاف ونحوه.

وثانيها : كونه من باب المجاز بالمشارفة الّذي مبناه على ملاحظة المناسبة بين زماني التلبّس بالفعل وما قبله باعتبار قربه منه ، فيسند الفعل الّذي من حقّه أن يسند إلى الأوّل إلى الثاني.

والفرق بين هذا الاعتبار وسابقه أنّه مجاز في « ينام » باعتبار الهيئة ، وسابقه مجاز فيه باعتبار المادّة.

وثالثها : كونه حقيقة هيئة ومادّة بإرادة النوم الحقيقي ، بناء على كون الخفقة والخفقتان من أفراد النوم الحقيقي ، وأنّ المراد بالنوم هاهنا ما يشملهما.

وقوله : « أيوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ » أيضا يحتمل وجوها :

الأوّل : كونه سؤالا عن ناقضيّة الخفقة والخفقتين باعتبار الشكّ في كونهما من النوم وعدمه ، ومنشؤه الجهل بحقيقة النوم ودورانه في نظر السائل بين كونه عبارة عن زوال الحسّ عن العين والاذن والقلب فقط ، أو أعمّ منه ومن زوال الحسّ عن العين فقط.

والثاني : في كونه سؤالا عن ناقضيّتهما مع العلم بكونهما من أفراد النوم ، ومنشؤه الشكّ في كون كلّ نوم ناقضا حتّى ما يكون خفقة - وهو أوّل مراتبه وفرده الخفيّ - وعدمه ، بل الناقض منه فرده الكامل ، نظير الشكّ في كون كلّ بول ناقضا حتّى الخارج من المخرج الغير الطبيعي وعدمه.

والثالث : كونه سؤال عن ناقضيّتهما مع العلم بعدم كونهما من أفراد النوم ، نظير الشكّ في ناقضيّة المذي مع العلم بعدم كونه من البول.

والرابع : كونه سؤالا عن ناقضيّتهما أيضا باعتبار الشكّ في كونهما من النوم وعدمه ، مع الشكّ في ناقضيّة كلّ نوم على تقدير كونهما من النوم.

والخامس : كونه سؤالا عن وجوب الوضوء عند الشكّ في تحقّق النوم الناقض وعدمه من دون قصد إلى السؤال عن ناقضيّة الخفقة والخفقتين ، وإنّما عبّر عنه بقوله : « أيوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ » لغلبة تحقّقهما مع النوم وسبقهما عليه ، فالمقصود بالسؤال أنّ الرجل يعرضه الخفقة والخفقتان بحيث يشكّ في تحقّق النوم معهما وحصوله في ضمنهما ، فهل يجب عليه الوضوء حينئذ أم لا؟

ص: 304

وهذا وإن كان بعيدا بالنظر إلى تعرّض الإمام في الجواب لبيان حقيقة النوم وقصر الناقضيّة على ما غلب منه على الحواسّ الثلاث ، المشعر بكون سؤال الراوي عن الناقضيّة باعتبار الشكّ في صدق النوم عليهما مع الشكّ في كون كلّ نوم ناقضا كما هو محصّل الاحتمال الرابع ، إلاّ أنّه يقرّبه السؤال الثاني ، فإنّه مع السؤال الأوّل يعطيان كون غرض السائل السؤال عن وجوب الوضوء عند الشكّ في تحقّق النوم الموجب له تارة عروض الخفقة والخفقتين ، واخرى عدم سماع الحركة إن حرّك إلى جنبه شيء. ولكنّ الإنصاف : أنّ الأوّل سؤال عمّا يتحقّق به النوم ، والثاني سؤال عمّا يحكم به بتحقّقه ، ومنشأ الأوّل الجهل بتمام حقيقة النوم الموجب لتوهّم تحقّقه بالخفقة والخفقتين وعدمه.

وعليه فأظهر الاحتمالات هو الاحتمال الأوّل ، وقوله عليه السلام : « قد تنام العين - إلى قوله - : فإذا نامت العين والاذن والقلب فقد وجب الوضوء » (1) محصّله : أنّ الموجب للوضوء هو النوم ، وهو ليس بمحض نوم العين - وهو زوال الحسّ من العين من غير اختيار على معنى صيرورته بحيث لا يقدر الإنسان على حمله على الإحساس وهذا هو مرتبة الخفقة والخفقتين - بل إنّما يتحقّق بنوم العين والاذن والقلب ، على معنى زوال الحسّ عن هذه الحواسّ ، فإنّ النوم حالة غير اختياريّة عارضة للإنسان غالبة على مشاعره موجبة لسقوطها قهرا عن الإحساس والإدراك ، كما يرشد إليه العرف بملاحظة أمارات الوضع من التبادر وصحّة سلب النوم عن حالة النعاس.

ويشهد به أيضا صحيحة زيد الشحّام قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الخفقة والخفقتين؟فقال : ما أدري ما الخفقة والخفقتين؟ أنّ اللّه تعالى يقول : ( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) (2) إنّ عليّا عليه السلام كان يقول : من وجد طعم النوم فإنّما أوجب عليه الوضوء (3) بناء على أنّ أخبار الأئمّة عليهم السلام بعضها يفسّر بعضا ، فإنّ الراوي سأل عن وجوب الوضوء بالخفقة والخفقتين بتوهّم كونهما من النوم أو من أمارات تحقّقه ، وقوله عليه السلام : « ما أدري ما الخفقة والخفقتين؟ » ليس على ظاهره من الجهل بحقيقة الخفقة والخفقتين ، بل نحو هذه العبارة في العرف تعريض لنفي إناطة الحكم أو موضوعه بما ادّعي عدم العلم به ، ردّا لتوهّم من توهّمه مناطا.

فحاصل غرض الإمام بيان أنّ النوم ليس شيئا يشتبه بالخفقة والخفقتين ، أو اشتبه تحقّقه

ص: 305


1- الوسائل 1 : 174 - 175 ، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، ح 1.
2- القيامة : 14.
3- التهذيب 1 : 8 ، الحديث 10 ، الاستبصار 1 : 8 - 81 ، ح 252 ، الوسائل 1 : 181 ، الباب 3 من أبواب نواقض الوضوء ، ح 8.

عند عروضهما ، بل أمر وجداني يدركه كلّ انسان عرضه بالوجدان ، كما أنّه يدرك عدم عروضه بالوجدان عند عروضهما ، فمن وجد طعم النوم وأدركه بوجدانه وجب عليه الوضوء.

ولأجل ذا كلّه فسّر الفقهاء النوم الّذي هو من نواقض الوضوء بأن يغلب النوم على الحاسّتين البصر والسمع ، وإنّما لم يعتبروا القلب نظرا إلى أنّ سلب الاختيار عن الاذن في زوال إحساسها وإدراكها يلازم سلب الاختيار عن القلب أيضا ، كما هو معلوم بالعيان.

نعم لا ملازمة بين زوال الحسّ عن العين وزواله عن الاذن والقلب ، لما يشاهد بالعيان الغنيّ عن البيان أيضا من أنّ العين يزول حسّها وإدراكها لا بمجرّد الغضّ والغمض بل بحيث لا يقدر الإنسان على حملها على شغلها لسلب الاختيار منه مع أنّ الاذن تسمع والقلب يدرك ، فالمناط في النوم صيرورة الحواسّ الثلاث بل الحاسّتين مغلوبة.

وقوله : « فإن حرّك إلى جنبه شيء وهو لا يعلم به » (1) سؤال عن صلاحية عدم العلم بحركة ما حرّك - على معنى عدم كونه مشعورا به - لكونه أمارة لتحقّق النوم الّذي وصفه الإمام عند الشكّ في تحقّقة ، وإنّما دعاه إلى هذا السؤال حيث عرف من جواب السؤال الأوّل أنّ مناط النوم الناقض هو غلبة النوم على السامعة ، وكان من علامته عدم إحساس الصوت ، فيناسبه توهّم عدم سماع حركة المتحرّك إلى جنب من عرضه الخفقة والخفقتان علامة لتحقّقه.

وقوله عليه السلام : « لا ، حتّى يستيقن أنّه قد نام ، حتّى يجيء من ذلك أمر بيّن » (2) يعنى به نفي صلاحية ما ذكر لكونه أمارة على النوم.

والسرّ فيه : أنّ عدم سماع الصوت والحركة إلى الجنب قد يكون لأجل سقوط الحاسّة عن الإدراك لغلبة النوم عليها ، وقد يكون لأجل عدم الالتفات إليه وتوجّه النفس إلى شاغل آخر ، فإنّ الإنسان الياقظ كثيرا مّا لا يستشعر الحركة والصوت لأجل ذلك ، إذ ( ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ) (3) فيكون أعمّ ، والأعمّ لا يلازم الأخصّ ولا يدلّ عليه بشيء.

وقوله : « حتّى يستيقن » إلى آخره ، معناه : أنّ المدار في الحكم بتحقّق النوم وانتقاض الوضوء به على استيقانه ومجيء أمر بيّن واضح من ذلك ، وعدم سماع الحركة والصوت لكونه أعمّ أمر خفيّ لا يكشف عن تحقّقه ، فلا يحكم لأجله بانتقاض الوضوء ، سواء كان

ص: 306


1- الواسائل 1 :1. 175 ، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، 1.
2- الواسائل 1 :1. 175 ، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، 1.
3- الأحزاب : 4.

مع وهم تحقّقه أو ظنّه أو الشكّ فيه.

ومحصّله : أنّ المدار في النقض على اليقين بالنوم لا على الشكّ والظنّ ، ومرجعه إلى أنّ الوضوء باق على حاله إلى أن يحصل اليقين بتحقّق النوم ، وهذا هو معنى الاستصحاب ، ثمّ شرحه عليه السلام واستدلّ عليه بقوله : « وإلاّ فهو على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين أبدا بالشكّ ، وإنّما ينقضه بيقين آخر (1) ».

وممّا بيّنّاه ظهر أنّ مورد الرواية من قبيل الاستصحاب من جهة الشكّ في وجود المانع كما فهمه المحقّق السبزواري (2) وأخذها دليلا على حجّيّة هذا النوع من الاستصحاب ، لا ما كان الشكّ فيه من جهة مانعيّة الموجود.

فما توهّم من دلالتها باعتبار وقوع السؤال الأوّل عن ناقضيّة الخفقة والخفقتين على هذا النوع أيضا فأخذه ردّا على السبزواري في انكاره له ، غفلة واضحة لا ينبغي الالتفات إليها ، فإنّ الفقرة الاولى من الرواية سؤال عن ناقضيّة الخفقة وورد على طبقه الجواب بعدم الناقضيّة إمّا لعدم كونها نوما أو لعدم كون كلّ نوم ناقضا ، وهذا ممّا لا تعلّق له بالاستصحاب ، كما أنّه لو سئل عن ناقضيّة المذي فأجاب بعدم كونه ناقضا لم يكن من الاستصحاب.

وإذا عرفت ذلك فاعلم : أنّ العمدة من موضع الدلالة من الرواية هو قوله : « وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه » إلى آخره ، فيجب صرف النظر إلى أنّه هل يدلّ على حجّيّة الاستصحاب عموما أو في الجملة.

فنقول : إنّ كلمة « إلاّ » لفظ مركّب عن الشرط والنفي ، والفعل المنفيّ بذلك النفي محذوف ، كما أنّ جواب الشرط أيضا محذوف ، فيكون التقدير : « وإن لا يستيقن أنّه قد نام فليس عليه وضوء » والفاء في قوله : « فإنّه على يقين من وضوئه » جزائيّة ومدخولها علّة للجواب المحذوف اقيمت مقامه ، فادخلت فيها « الفاء » الّتي من شأنها أن تدخل في الجواب ، فتكون مدخول الفاء علّة منصوصة ، ومن حكمها بضابطة حجّيّة العلّة المنصوصة أنّها تفيد عموم الحكم للمورد ولغيره ، باعتبار كون الخصوصيّات والإضافات المأخوذة في جانب العلّة في متفاهم العرف ملغاة ، بهذا الاعتبار كان قوله عليه السلام : « ولا ينقض اليقين أبدا بالشكّ » عامّا لليقين والشكّ في الوضوء وغيره من الأحكام الشرعيّة والامور الخارجيّة وجوديّة أو عدميّة ، ويكون معناه : لا ينقض شيء من أفراد اليقين بشيء من أفراد الشكّ.

ص: 307


1- الوسائل 1 : 174 - 175 ، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ح 1.
2- الذخيرة : 115 - 116.

وبما قرّرناه من قضيّة العلّة المنصوصة سقط احتمال إرادة العهد من « اللام » بقرينة سبق ذكر اليقين من الوضوء.

وأمّا ما توهّم من أنّ « لا ينقض اليقين » إلى آخره ، من باب النفي الوارد على العموم ، فيكون مفاده سلب العموم لا عموم السلب.

ففيه : أنّه من باب استفادة العموم من النفي لا من باب ورود النفي على العموم ، فإنّ « اللام » في « اليقين » و « الشكّ » لتعريف الجنس ، والمنفيّ إنّما هو نقض ماهيّة اليقين بماهيّة الشكّ ، والماهيّة لا تنفكّ عن شيء من أفرادها ، فيسري بواسطتها النفي إلى الجميع ، ضرورة أنّ عدم نقض ماهيّة اليقين بماهيّة الشكّ يستلزم عدم نقض شيء من أفراد اليقين بشيء من أفراد الشكّ.

ولئن سلّمنا كون « اللام » فيهما للاستغراق لا نسلّم كون مفاد النفي الوارد عليها سلب العموم - إن صحّحنا أصل هذه القاعدة في النفي الوارد على العموم - لأنّها إنّما نسلّم فيما لو كان العموم مستفادا من نحو لفظ « الكلّ » و « الجميع » لا من نحو المفرد المحلّى باللام الاستغراقي.

والسرّ فيه : أنّ كلمة « كلّ » قيد زائد في الكلام والنفي راجع إليه ، فتكون في حيّز النفي مسلوب العموم ، بخلاف « اللام » الاستغراقي فإنّها للإشارة إلى تعريف الماهيّة من حيث وجودها في ضمن جميع أفرادها ، ولذا عدّ المعرّف بلام الاستغراق كالمعرّف بلام العهد الذهني من أقسام المعرّف بلام الجنس. وأداة النفي تدخل على ما يدّل على الماهيّة أوّلا وبالذات الملحوظة ثانيا من حيث الوجود ، فيكون مفاد قوله عليه السلام : « لا ينقض اليقين » إلى آخره ، عدم نقض ماهيّة اليقين الموجودة في ضمن جميع أفراده بماهيّة الشكّ الموجودة في ضمن جميع أفراده ، وهذا اليقين بالآخرة يرجع إلى عدم نقض شيء من أفراد ماهيّة اليقين بشيء من أفراد ماهيّة الشكّ.

ولو سلّم كون « اللام » الاستغراقي ولفظة « كلّ » بمعنى واحد ، يتطرّق المنع إلى أصل القاعدة حسبما قرّره أهل العربيّة ، وبذلك فرّقوا بين قولنا : « لم يقم كلّ إنسان » بجعله لسلب العموم ، وقولنا « كلّ إنسان لم يقم » بجعله لعموم السلب ، فإنّهما لا يتبعان ورود النفي على العامّ وورود العامّ على النفي ، بل إنّما يتبعان الملاحظة ويختلفان باعتبار المعتبر ، فإن لوحظ إسناد الحكم الإيجابي إلى جميع الأفراد كإسناد القيام إلى كلّ إنسان ثمّ أورد عليه أداة

ص: 308

النفي كان مفاده سلب العموم ، سواء ادّي بعبارة : « لم يقم كلّ إنسان » أو بعبارة : « كلّ إنسان لم يقم » وإن لوحظ إسناد الحكم السلبي إلى الماهيّة كإسناد عدم القيام إلى ماهيّة الإنسان ثمّ اورد عليه أداة العموم كان لعموم السلب ، سواء ادّي بعبارة : « كلّ إنسان لم يقم » أو بعبارة : « لم يقم كلّ إنسان » فلا بدّ لاستعلام كون هذا المثال ونظائره من القسم الأوّل أو القسم الثاني من مراجعة العرف والأخذ بفهم أهله ، لأنّه المحكّم في تشخيص مداليل الألفاظ مفردة ومركّبة ، والّذي يقوى في النظر كونه من باب القسم الثاني ، إذ المنساق المتبادر منه كون الملحوظ أوّلا عدم القيام ثمّ عروض العموم. وعليه فليس في قوله تعالى : ( لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ ) (1) المحمول على عموم السلب خروج عن الظاهر ، فتأمّل.

وما نحن فيه أيضا من هذا القبيل ، فالملحوظ أوّلا هو عدم النقض المسند إلى ماهيّتي اليقين والشكّ ثمّ اعتبر عمومه بإيراد « اللام » الاستغراقي.

ولو سلّم عدم ظهور نوع هذا التركيب في عموم السلب فلا بدّ من حمل محلّ البحث عليه بقرينة العلّة المنصوصة ، ولذا لو قيل : « لا تأكل الرمّان لأنّه حامض » يفهم منه عرفا كون كلّ حامض مضرّا.

وقد يقرّر وجه الدلالة بإرجاع العلّة القائمة مقام الجواب المحذوف إلى كونه استدلالا منه عليه السلام على الجواب المحذوف بالقياس بطريق الشكل الأوّل ، الّذي صغراه قوله : « إنّه على يقين من وضوئه وقوله عليه السلام : « ولا ينقض اليقين أبدا بالشكّ » بصيغة المعلوم بمنزلة الكبرى الكلّية فيشمل الوضوء وغيره ، نظرا إلى تعيّن حمل « اللام » في اليقين والشكّ على الاستغراق من جهة اشتراط كليّة الكبرى في الشكل الأوّل ، ويؤكّده قوله : « أبدا » وهذا ينهض قرينة على جعله لعموم السلب وصرفه عن سلب العموم ، وإن كان النفي فيه واردا على العامّ.

وفيه نظر من وجهين :

الأوّل : عدم صلاحية قوله : « لا ينقض اليقين بالشكّ » كبرى في قياس صغراه « الرجل على يقين من وضوئه » لعدم تكرّر الأوسط الّذي هو في الشكل الأوّل عبارة عن كون الحدّ الوسط محمولا في الصغرى وموضوعا في الكبرى.

ومن الواضح تغاير محمول الصغرى وموضوع الكبرى ، إلاّ على تأويل بعيد بجعل قوله : « ولا ينقض اليقين بالشكّ » خبرا لمبتدأ محذوف ، وقرينة حذفه كونه مذكورا في

ص: 309


1- الحديد : 23.

الصغرى ، فيكون التقدير : كلّ من كان على يقين من وضوئه لا ينقض اليقين بالشكّ.

الثاني : أنّ اعتبار الكلّية في الكبرى لا يقضي باعتبار العموم في اليقين والشكّ بالنسبة إلى الوضوء وغيره ، لأنّ هذه الكلّية معتبرة في موضوع الكبرى والمفروض حصولها ، واليقين والشكّ واقعان في جانب المحمول.

وبالجملة الكليّة المعتبرة في كبرى الشكل الأوّل عبارة عن ثبوت الأكبر لجميع أفراد الأوسط ليتعدّى منه إلى الأصغر ، وهذا يتمّ بحمل « لا ينقض اليقين بالشكّ » على كلّ من كان على يقين من وضوئه من دون مراعاة العموم في اليقين والشكّ بالنسبة إلى غير الوضوء.

إلاّ أن يتشبّث لإثبات هذا العموم أيضا إلى مقدّمة اخرى ، وهي كون اليقين والشكّ جنسين معرّفين فيؤولان إلى العموم ، فيكون المعنى : « كلّ من كان على يقين من وضوئه لا ينقض كلّ يقين بكلّ شكّ » على وجه يكون محصّل المعنى : لا ينقض شيئا من اليقين بشيء من الشكّ على طريقة السلب الكلّي لا رفع الإيجاب الكلّي.

وفيه : أنّه يوجب عدم كون المحمول مربوطا بالموضوع ، فإنّ أخذ العموم بالنسبة إلى غير الوضوء كنجاسة الثوب مثلا ينحلّ إلى أن يقال : من كان على يقين من وضوئه لا ينقض اليقين بنجاسة ثوبه بالشكّ فيه. وهذا كما ترى كلام جنوني لا يليق بكلام الإمام عليه السلام فلا بدّ من أخذ عموم اليقين والشكّ بالنسبة إلى أفراد الوضوء ، فيكون المعنى : كلّ من كان على يقين من وضوئه لا ينقض كلّ يقين وضوئي بالشكّ فيه ، وليس هذا من تخصيص العامّ بالمورد ليدفعه كون الاعتبار بعموم اللفظ لا خصوص المورد ، بل من باب تحصيل العموم بقدر قابليّة المورد ، فالرواية حينئذ لا تنهض لإثبات حجّيّة الاستصحاب في غير الوضوء أيضا كما هو المطلوب.

لا يقال : إنّ هذين الإشكالين يتوجّهان أيضا على تقدير تتميم الاستدلال بقاعدة العلّة المنصوصة ، إذ العموم المنساق في متفاهم العرف من التنصيص بالعلّة ينحلّ إلى كبرى كلّيّة ينتظم بها قياس بطريق الشكل الأوّل صغراه العلّة المنصوصة ، ففي قول الطبيب : « لا تأكل الرمّان لأنّه حامض » ينساق منه أنّ كلّ حامض مضرّ ، وفي قول الشارع : « لا تشرب الخمر لأنّه مسكر » ينساق [ منه ] أنّ كلّ مسكر حرام ، فينتظم في الأوّل : « أنّ الرمّان حامض ، وكلّ حامض مضرّ ، فالرمّان مضرّ » وفي الثاني : « أنّ الخمر مسكر ، وكلّ مسكر حرام ، فالخمر حرام » ، ففي الرواية لا بدّ وأن يكون الكبرى اللازمة من التنصيص بالعلّة هو ما نطق به عليه السلام

ص: 310

بقوله : « لا ينقض اليقين بالشكّ » لأنّ العموم المنساق من العلّة المنصوصة - على ما تقدّم بيانه - مطلوب فيه لا غير ، فيرد عليه حينئذ أوّلا : عدم صلاحية ذلك لوقوعه كبرى إلاّ بتأويله إلى كونه خبرا لمبتدأ محذوف.

وثانيا : لزوم عدم ارتباط المحمول بالموضوع لو اعتبر عموم اليقين والشكّ بالقياس إلى غير الوضوء ، فلا بدّ من الاقتصار في اعتبار العموم على أفراد الوضوء فقط ، ومعه لا تنهض الرواية لإثبات تمام المدّعى.

لأنّا نقول : إنّ العلّة لعدم وجوب التوضّؤ على من تيقّن الوضوء وشكّ في الحدث إنّما هو عدم جواز نقض اليقين بالوضوء حدوثا والشكّ فيه بقاء ، وهذه العلّة بعد إلغاء الخصوصيّة - وهي إضافة اليقين والشكّ إلى الوضوء ثمّ إلى الرجل - علّة عامّة تجري في الوضوء وغيره ، والموجب للإلغاء إنّما هو الفهم العرفي ، باعتبار أنّ المنساق عرفا من التعليل عدم مدخليّة الخصوصيّات والإضافات في علّية العلّة ، فقوله : « لا ينقض اليقين بالشكّ » بصيغة المجهول هو العلّة التامّة في الحقيقة ، وقوله : « إنّه على يقين من وضوئه » بيان لتحقّق موضوع هذه العلّة ، وهو اليقين والشكّ في خصوص مورد السؤال ، فكأنّ تقدير الرواية في محصّل المعنى : « أنّه إن لا يستيقن أنّه قد نام فليس عليه وضوء لأنّه لا ينقض اليقين بالشكّ ، والمفروض أنّه على يقين من وضوئه وشاكّ في الحدث ». وهذا نظير ما لو قال الشارع : « من لم يعلم وجوب غسل الجمعة لا شيء عليه لأنّه على شكّ في التكليف ، ولا تكليف إلاّ بعد البيان » ومرجع نحو هذه التعليلات إلى تأسيس قاعدة شرعيّة تعبّديّة كلّية مطّردة ، ولا يعتبر فيها الانحلال إلى قياس مؤلّف من صغرى وكبرى. فليتأمّل.

وقد يحتمل في الرواية كون « إلاّ » في قوله : « وإلاّ فإنّه على يقين » شرطا وجوابه قوله : « ولا ينقض اليقين أبدا بالشكّ » بصيغة المعلوم ، وكأنّ قوله : « إنّه على يقين من وضوئه » توطئة وتمهيدا لإحراز موضوع هذا الجواب ، متخلّلا بينه وبين الشرط قصدا إلى المبالغة والتأكيد. ونحو هذا التركيب كثير الوقوع في الكلام وشائع في المحاورات ، كما في قولك - لمن يطلب حجرة في المدرسة مثلا وله دار - : « إن لم توجد في المدرسة حجرة فلك دار واسكن في دارك » ، حيث إنّ قولك : « اسكن في دارك » جواب للشرط ، « ولك دار » توطئة لذكر هذا الجواب إحرازا لموضوعه. وإذا حمل « لام » اليقين على الجنس قضيّة لأصالة الحقيقة ليكون المعنى عدم جواز نقض طبيعة اليقين بالشكّ تمّ الاستدلال بالرواية على

ص: 311

مطلق الاستصحاب ، لاستلزام الجنسيّة عموم النفي من باب السراية ، إذ النفي الوارد على الطبيعة بناءا على أنّها غير منفكّة عن شيء من أفرادها إنّما ينفيها في ضمن جميع الأفراد ، فيكون لعموم السلب وإلاّ لم يكن لنفي الطبيعة كما لا يخفى.

ولكن يشكل هذا الاحتمال في تتميم الاستدلال بملاحظة أنّ جنسيّة « اللام » وإن كانت يساعد عليها أصالة الحقيقة إلاّ أنّه يعارضها احتمال كونها للعهد بقرينة سبق ذكر مدخول « اللام » على حدّ قوله تعالى : ( أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ ) (1) فإنّه ممّا يصلح لصرف « اللام » عن الجنس ، إذ لا قبح في اعتماد المتكلّم عليه في إرادة العهد كما هو ملاك صلاحية كون شيء قرينة.

وبالجملة لا نرى في الاعتماد على سبق الذكر في إرادة العهد قبحا عقليّا ولا ما يأباه في العرف أيضا ، فهو حينئذ إن لم يؤثّر في الصرف عن الحقيقة إلى إرادة غيرها فلا أقلّ يؤثّر لمجرّد الصلاحية المذكورة في منع ظهورها في إرادة الحقيقة ، فتصير بذلك مجملة مردّدة بين الجنس والعهد. وله نظائر كثيرة كالشهرة في المجاز المشهور ، ووقوع الأمر عقيب الحظر ولو توهّما ، وتعقّب العامّ ضميرا يختصّ ببعض أفراده ، والاستثناء الواقع عقيب جمل متعاطفة بالقياس إلى ما عدا الجملة الأخيرة ، فإنّها إن لم تقوم قرينة صارفة للّفظ عن حقيقته إلى مجازه فلا أقلّ من أنّها تصيره صالحا ومتأهّلا لأن يكون المراد منه المعنى المجازي على وجه تساوي احتماله لاحتمال الحقيقة فيصير مجملا. وهذا المعنى في بعض الأمثلة المذكورة وإن كان محلّ منع ، إلاّ أنّ الغرض من ذكرها بيان أنّ كون سبق الذكر باعتبار مجرّد صلاحية كونه قرينة موجبا لإجمال المعرّف باللام ليس بعادم النظير ، ويكفي بشهرة المجاز المشهور على المشهور شاهدا بذلك.

وبالجملة فالاستدلال بالرواية إنّما يتمّ إذا تعيّن كون لام « اليقين » لتعريف الجنس من حيث هو ، وهذا يتوقّف على ثبوت عدم جواز إرادة العهد اعتمادا على سبق الذكر ، وإثباته في غاية الإشكال بل محلّ منع ، لعدم قبح عقلي ولا إباء عرفي في الاعتماد عليه ، بأن يراد من اللفظ بواسطته خلاف ما هو ظاهره ، فانحصر طريق تتميم الاستدلال بالرواية لإثبات عموم الدعوى في طريقة العلّة المنصوصة ، فعليها المعوّل.

ومن الأخبار صحيحة اخرى لزرارة وهي أيضا مضمرة ، رواها الشيخ في التهذيب عن

ص: 312


1- المزمّل : 15 - 16.

الحسين بن سعيد ، عن حمّاد ، عن حريز ، عن زرارة قال : قلت له : أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من مني ، فعلّمت أثره إلى أن اصيب له من الماء. فأصبت ، وحضرت الصلاة ونسيت أنّ بثوبي شيئا وصلّيت ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك؟ قال : تعيد الصلاة وتغسله.

قلت : فإن لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنّه أصابه فطلبته ولم أقدر عليه فلمّا صلّيت وجدته؟ قال : تغسله وتعيد.

قلت : فإن ظننت أنّه أصابه ولم أتيقّن ذلك ، فنظرت ولم أر شيئا ، ثمّ صلّيت فرأيت فيه؟ قال : تغسله ولا تعيد الصلاة.

قلت : لم ذلك؟ قال : لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت ، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا.

قلت : فإنّي قد علمت أنّه قد أصابه ، ولم أدر أين هو فأغسله؟ قال : تغسل ثوبك من الناحية الّتي ترى أنّه قد أصابها حتّى تكون على يقين من طهارتك.

قلت : فهل عليّ إن شككت أنّه أصابه شيء أن أنظر فيه؟ قال : لا ولكنّك إنّما تريد أن تذهب بالشكّ الّذي وقع في نفسك.

قلت : إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟ قال : تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته ، وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته ثمّ بنيت على الصلاة ، لأنّك لا تدري لعلّه شيء اوقع عليك ، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ » الحديث (1).

وموضع الدلالة هو قوله عليه السلام : « لأنّك كنت على يقين من طهارتك » إلى آخره ، في جواب السؤال عن وجه عدم وجوب إعادة الصلاة.

ويشكل تماميّة دلالته على عموم المدّعى من حجّيّة الاستصحاب مطلقا حتّى في غير مورد الرواية ، لأنّ مبناها إن كان على الأصل في « اللام » من كونها لتعريف الجنس فيفيد قوله عليه السلام : « ليس ينبغي عدم نقض ماهيّة اليقين بماهيّة الشكّ ، فيسري النفي إلى جميع أفراد الماهيّة فيزيّفه : سبق ذكر مدخول « اللام » الصالح لكونه قرينة العهد ، فإنّه إن لم يوجب ظهور إرادة العهد فلا أقلّ من منعه ظهور إرادة الجنس بالبيان المتقدّم.

وإن كان مبناها على العلّة المنصوصة المفيدة لعموم الحكم للمورد وغيره النافي لاحتمال العهد ، فيأباه تفريع الحكم المستفاد من قوله : « فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين

ص: 313


1- التهذيب 1 : 421 ، 1335.

بالشكّ » على يقين السائل بطهارة ثوبه ثمّ الشكّ بعده كما هو ظاهر كلمة « الفاء » إذ من البعيد كون حكم اليقين والشكّ في سائر الموارد متفرّعا على اليقين والشكّ في مورد خاصّ وهو طهارة الثوب ، بل هو عند التحقيق غير معقول ، وهذه قرينة عقليّة ناشئة عن قرينة لفظيّة تعيّن احتمال العهد في « اللام ». فقصارى ما دلّت عليه الرواية إنّما هو الاستصحاب في خصوص طهارة الثوب لا أزيد.

وهاهنا إشكال آخر في نهوض الرواية دليلا على مطلق الاستصحاب ينشأ من قول الراوي : « ثمّ صلّيت فرأيت فيه » مع قوله عليه السلام : « فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ » لأنّ قوله : « فرأيت فيه » يحتمل وجهين :

أحدهما : كون معناه رأيت الدم في الثوب بعد الصلاة على وجه علمت أنّه هو الدم الّذي ظننته قبل الصلاة أنّه أصابه.

وثانيهما : كون معناه رأيته على وجه لا أعلم أنّه الّذي ظننته قبل الصلاة أو أنّه شيء تجدّد بعدها.

وعلى الأوّل فقوله عليه السلام : « فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ » إمّا أن أراد به عدم نقضه حال الرؤية الّذي هو بعد الصلاة ، أو أراد عدم نقضه قبل الصلاة حين الشكّ في الإصابة والعدم ، فيؤول الأمر في وجه عدم وجوب الإعادة إلى اقتضاء الأمر الظاهري الناشئ من استصحاب طهارة الثوب للإجزاء ، بمعنى سقوط الإعادة ولو مع كشف الخلاف والأوّل باطل لا يجوز تنزيل كلام الإمام عليه السلام في : « قوله ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ » عليه ، لخروج الفرض بالنسبة إلى حال الرؤية وما بعد الصلاة من مورد الاستصحاب. فلا يصلح هذا الكلام حينئذ وجها لعدم وجوب الإعادة ، إذ البناء على إعادة هذه الصلاة بعد تبيّن وقوعها مع النجاسة ليس نقضا لليقين بطهارة الثوب الحاصل قبلها بالشكّ ، بل هو نقض له بيقين مثله وهو اليقين بنجاسته الحاصل بعدها ، بل الوجه في عدم وجوب الإعادة - الّذي ينبغي أن يذكر في الجواب بالنسبة إلى الصورة المفروضة - إنّما هو صحّة الصلاة بالنجاسة من الجاهل بها إذا علم بها بعد الفراغ.

والثاني وإن لم يكن بذلك البعيد لدلالة الرواية مع هذا الفرض على حكم الاستصحاب في الجملة ، مع دلالتها أيضا على اقتضاء الأمر الظاهري الشرعي المتولّد من الاستصحاب للإجزاء مع كشف الخلاف ، إلاّ أنّه ممّا يبعّده أيضا كلمة « ليس » بملاحظة كونها لنفي

ص: 314

الحال ، وقضيّة الفرض كونها لنفي الماضي ، والمناسب للفرض التأدية بلفظة « لم يكن » مكانها ، لا التأدية بها.

وأمّا الثالث (1) : وهو كون المراد من السؤال فرض رؤية الدم بعد الصلاة مع احتمال تجدّد إصابته بعدها وعدم العلم بكونه هو الّذي ظنّ إصابته قبلها ، فهو وإن كان ممّا يساعد عليه وضع كلمة « ليس » من كونها لنفي الحال ، وينطبق عدم الاعتناء باحتمال سبق النجاسة اعتمادا على أصالة تأخّر الحادث على استصحاب طهارة الثوب ، فيصحّ معه النهي عن نقض اليقين بالطهارة الحاصل قبل الصلاة بهذا الشكّ الطارئ بعدها ، فيدلّ الرواية على الاستصحاب ، واقتضاء الأمر الظاهري أيضا للإجزاء مع عدم كشف الخلاف ، إلاّ أنّه خلاف الظاهر من كلام الراوي في فرض السؤال ، لظهور قوله : « فرأيت فيه » في علمه بكون المرئيّ بعد الصلاة هو المظنون إصابته قبلها ولا سيّما مع التعبير بقوله : « فرأيته » كما في بعض النسخ.

وممّا يؤيّد كون ذلك أظهر الاحتمالين ورود السؤال عن وجه عدم وجوب إعادة الصلاة ، لكونه أليق بالسؤال باعتبار اشتداد حكم الصلاة مع النجاسة بالنسبة إلى الصلاة مع احتمال كونها بالنجاسة ، مضافا إلى أنّ الصلاة بالنجاسة أليق بالسؤال عن حكمها من الصلاة المشكوك كونها بالنجاسة وعدمه (2) فتعيّن حمل كلام السائل عليه.

وأمّا كلام الإمام عليه السلام فالمتعيّن بالنظر إلى ظاهر كلمة « ليس » حمله على الوجه الأوّل من إرادة المنع من نقض اليقين بالشكّ حين رؤية الدم في الثوب اللازم من البناء على إعادة الصلاة.

ويندفع الإشكال الوارد على هذا الوجه - من أنّ ذلك حينئذ نقض لليقين باليقين لا بالشكّ - بمنع كونه نقضا باليقين ، لوضوح أنّ وجوب إعادة الصلاة على تقديره ليس من آثار مجرّد رؤية الدم في الثوب بعد الصلاة ، بل الّذي من آثاره إنّما هو وجوب الغسل الّذي حكم به الإمام عليه السلام ، ولذا لا يجب الإعادة في الصلاة مع النجاسة المجهولة إذا علم بها بعدها ، بل هو من آثار انتفاء الأمر عن المأتيّ به مطلقا حتّى الأمر الظاهري ، فالبناء على الإعادة في مفروض السؤال من حين رؤية الدم مرجعه إلى البناء على انتفاء الأمر عن الصلاة المأتيّ بها مع النجاسة المرئيّة بعدها مطلقا حتّى الظاهري منه. وهذا طرح للاستصحاب ونقض لليقين بالشكّ ، وهما اليقين بطهارة الثوب والشكّ في إصابة الدم له

ص: 315


1- هذا سهو منه قدّس سره والصواب : « وأمّا الثانى » كما يظهر بالتأمّل في السياق ، والمراد به الاحتمال الثاني في قوله : « فرأيت فيه » الذي ذكره آنفا.
2- كذا في الأصل.

الحاصلان للسائل في مفروض سؤاله ممّا قبل الصلاة إلى حال الشروع فيها وحال التشاغل بها أيضا إلى الفراغ عنها إلى زمان رؤية الدم فيه. ومن الظاهر أنّ رفع اليد عن اليقين بالطهارة في جميع تلك الحالات لمجرّد الشكّ في إصابة النجاسة اللاحق به نقض لليقين بالشكّ ، والمنع منه عبارة عن الاستصحاب ، ويتولّد منه الأمر الظاهري بتلك الصلاة ، والمفروض حصول امتثاله والخروج عن عهدته ، فيلزم بالبناء على الإعادة الراجع إلى البناء على انتفاء الأمر الظاهري حال رؤية الدم طرح الاستصحاب المذكور ونقض اليقين بالشكّ المذكور من حين رؤية الدم ، ولقد منع منه قوله : « فليس ينبغي لك » إلى آخره ، المفيد لنفي الحال ، فقوله عليه السلام : « لا تعد » يدلّ على إجزاء الأمر الظاهري ، وقوله : « ليس ينبغي » إلى آخره ، يدلّ على منشأ ذلك الأمر الظاهري وهو الاستصحاب. وهذا هو معنى دلالة الرواية على الاستصحاب.

ولكنّه بمقتضى التفريع - حسبما بيّنّاه - مخصوص بالمورد ، وهو استصحاب طهارة الثوب عند الشكّ في عروض النجاسة له. ويمكن تعميم حكمه بالقياس إلى كلّ استصحاب بملاحظة كون المنساق من السؤال والجواب غفلة السائل عن هذا الجزئي من القاعدة الكلّية المعلومة لديه ، وهي أنّه لا يجوز نقض شيء من اليقين بشيء من الشكّ ، لعدم التفاته إلى كون المورد من مجاريها ، وورود الجواب بقوله : « لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت ، فليس ينبغي لك » إلى آخره ، لتنبيهه على الجزئي المغفول عنه تفريعا له على القاعدة المعلومة لديه. فما بعد « الفاء » وإن كان تفريعا على ما قبلها إلاّ أنّ المجموع من المتفرّع والمتفرّع عليه أيضا تفريع على القاعدة الكلّية المعلومة لدى السائل. فليتأمّل في المقام فإنّه دقيق.

ومن الأخبار صحيحة ثالثة لزرارة رواها الكليني في باب السهو في الثلاث والأربع بإسناده عن زرارة عن أحدهما « قال عليه السلام : وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث ، قام فأضاف إليها اخرى ولا شيء عليه ، ولا ينقض اليقين بالشكّ ، ولا يدخل الشكّ في اليقين ، ولا يخلط أحدهما بالآخر ، ولكنّه ينقض الشكّ باليقين ، ويتمّ على اليقين فيبني عليه ، ولا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات (1) » واستدلّ بها في الوافية (2) وقرّره

ص: 316


1- الكافي 3 : 351 ، باب السهو في الثلاث والأربع ح 3.
2- الوافية : 206.

السيّد الشارح (1) وتبعه جماعة ممّن تأخّر عنه (2). وموضع الدلالة على ما زعموه قوله : « ولا ينقض اليقين بالشكّ » وقوله : « ولا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات » يفيد عموم القاعدة بالنسبة إلى المورد وإلى غيره من موارد الاستصحاب كائنا ما كان.

وفي نهوضها دليلا عليه إشكال ، باعتبار أنّ قوله عليه السلام : « قام فأضاف إليها اخرى » إمّا أن يراد به القيام قبل التسليم والركعة المتّصلة بالثلاث المتيقّنة ليكون مرجعه إلى وجوب البناء على الأقل في الشكّ في عدد الركعات ، أو يراد به القيام بعد التسليم والركعة المنفصلة عن الثلاث. ليكون مرجعه إلى إيجاب البناء على الأكثر ، ولا سبيل إلى شيء منهما. أمّا الأوّل : فلأنّ قوله : « ولا ينقض اليقين بالشكّ » وإن كان ينطبق على الاستصحاب ، لكون المراد باليقين حينئذ هو اليقين السابق بعدم الإتيان بالركعة الأخيرة بعد اليقين بإتيان الثلاث الاولى ، وبالشكّ هو احتمال الإتيان بها بعد اليقين المذكور ، ولكنّ الحمل عليه يبعّده بل يبطله أوّلا : صدر الرواية المتكفّل لبيان الشكّ في الأربع والركعتين الظاهر في وجوب البناء على الأكثر ، حيث قال : « قلت له : من لم يدر في أربع هو أم في ثنتين وقد أحرز ثنتين؟قال : يركع بركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ويتشهّد ولا شيء عليه (3) » إلى آخره ، لظهور قوله عليه السلام : « يركع بركعتين » بقرينة تعيين قراءة الفاتحة في إرادة ركعتين مستقلّتين ، فليحمل الركعة فيما نحن فيه أيضا على إرادة الركعة المستقلّة وهي ركعة الاحتياط بشهادة وحدة السياق. وثانيا : مخالفته لمذهب الإماميّة من البناء على الأكثر.

ولا يجوز دفعه بجعل الحديث من باب خبر يؤخذ بجزء منه ويطرح جزؤه الآخر لمخالفته الدليل المعتبر من نصّ أو إجماع أو عقل مستقلّ ، مع [ عدم ] قدحه في الحجّية بالنسبة إلى الجزء المأخوذ به ، بتقريب أن يقال : إنّ الحديث مشتمل على حكمين : فرعي وهو وجوب البناء على الأقلّ في الشكّ في عدد الركعات ، واصولي وهو عدم جواز نقض اليقين بالشكّ ، فيطرح الأوّل لمخالفته المذهب ويؤخذ بالثاني وبه يثبت المطلب ، لوجوه (4) :

ص: 317


1- شرح الوافية ( مخطوط ) : 361.
2- مثل المحدّث البحراني في الحدائق 1 : 143 ، والوحيد البهبهاني في الرسائل الاصوليّة : 442 ، وصاحب الفصول في الفصول الغروية : 370 ، والمحقّق القمّي في القوانين 2 : 62.
3- الوسائل 5 : 323 ، الباب 11 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح 3.
4- هذا خبر لقوله : « ولا يجوز دفعه » الخ.

الأوّل : استلزامه تخصيص العامّ بالمورد بإخراجه عن قوله : « لا ينقض اليقين بالشكّ » المحمول على العموم بالفرض.

الثاني : قضاؤه بالغاء قوله : « لا ينقض اليقين بالشكّ » ، لعدم ارتباطه بالحكم الفرعي ، مع ظهور الكلام في كون الحكم الفرعي تفريعا على الحكم الاصولي. فيكون نظير ما لو قيل : إذا شككت في نجاسة ثوبك فاغسله ، لأنّ كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر ». وهذا كما ترى كلام سفهيّ يمتنع صدوره من الحكيم ، ويقبح التفوّه به بالنظر إلى الحكمة.

الثالث : أنّه يوجب الوهن في دلالة الحديث على الحكم الاصولي أيضا ، لأنّه لو كان قاعدة مطّردة يعوّل عليها في مظانّ اليقين والشكّ لعمل بها في المورد أيضا ، فترك العمل بها فيه يوجب عدم ثبوتها بهذا الحديث ، فتأمّل.

ولا يمكن أيضا دفعه على وجه يتمّ معه الدلالة على المطلب بحمله على التقيّة لموافقة الحكم المذكور لمذهب العامّة ، بدعوى : أنّ التقيّة في إجراء القاعدة في الموارد لا في نفسها ، بأن يحمل الحكم المستشهد له على بيان خلاف الواقع تقيّة وبيان القاعدة المستشهد بها على بيان الواقع.

أمّا أوّلا : فلأنّه ممّا يأباه الصدر الظاهر في البناء على الأكثر كما فهمه الأصحاب مع وجود موجب التقيّة بالنسبة إليه أيضا.

وأمّا ثانيا : فلأنّ احتمال التقيّة في إجراء القاعدة ربّما يسري إلى أصل القاعدة ، كما لو حكم الإمام عليه السلام بالحكم الموافق للقياس تقيّة واستند له إلى القياس ، ومعه لا يمكن التعويل في إثبات القاعدة على الرواية المخرجة مخرج التقيّة.

نعم إنّما يستقيم دعوى كون التقيّة في إجراء القاعدة لا في نفسها فيما لو كانت القاعدة محرزة بدليل آخر غير الحديث المحمول على التقيّة في الجملة.

وأمّا الثاني : فلأنّ الرواية مع الحمل على القيام بعد التسليم وإن كانت توافق المذهب ويلتئم معه الصدر والذيل ، غير أنّه لا يلائم الاستشهاد بقاعدة نقض اليقين بالشكّ ، لأنّها على ما عرفت مقتضية للبناء على الأقلّ لا الأكثر.

فالقول بأنّ اليقين الّذي لا ينقض هو اليقين بعدم الإتيان بالركعة الأخيرة وقضيّة عدم نقضه بالشكّ هو الإتيان بالركعة الاحتياطيّة ، ممّا ينتج ضدّ المطلوب ، لأنّه لو صحّ رجوع اليقين والشكّ إلى عدم الإتيان بالركعة الأخيرة كان المناسب له هو البناء على الأقلّ.

ص: 318

وما يقال : من أنّ اليقين الّذي لا ينقض بالشكّ في مورد الرواية إنّما هو اليقين السابق بالاشتغال بالصلاة ، فإنّه لا ينقض بالشكّ في حصول البراءة بل إنّما ينقض باليقين بالبراءة. وطريق حصول هذا اليقين هو البناء على الأكثر ثمّ الإتيان بركعة الاحتياط. أمّا الأوّل :فلأنّه على تقدير البناء على الأقلّ والإتيان بالركعة المتّصلة احتمل البطلان بسبب احتمال الزيادة في الركعة. وأمّا الثاني : فلأنّه على تقدير الاقتصار على الركعات المأتيّ بها بعد البناء فيها على الأكثر احتمل البطلان بسبب احتمال نقصان الركعة. فيلزم على التقديرين نقض اليقين بالشكّ ، فلا بدّ من البناء على الأكثر دفعا لاحتمال الزيادة ، ثمّ الإتيان بركعة الاحتياط دفعا لاحتمال النقض ، وقضيّة دفع الاحتمالين هو اليقين بالبراءة ، إذ ليس هاهنا ما يمنع عن هذا اليقين إلاّ احتمال الزيادة بسبب تخلّل التسليم والتكبير على تقدير النقصان في الركعات المأتيّ بها ، والأمر فيه سهل بعد ملاحظة كون هذه الزيادة في نحو ما نحن فيه ملغاة في نظر الشارع.

ففيه : أنّ هذا الكلام بالنظر إلى الخارج في غاية المتانة ، إلاّ أنّ الكلام في استظهار هذا المعنى من لفظ الرواية على وجه يكون قوله : « لا ينقض اليقين بالشكّ » منطبقا على الاستصحاب حتّى ينهض دليلا على حجّيّته ، وليس في هذا اللفظ ما يشهد بذلك ، لجواز كونه مسوقا لتأسيس قاعدة الاشتغال الّتي يستقلّ بها العقل ، بأن يكون المراد من نقض اليقين بالشكّ رفع اليد عن اليقين بالاشتغال بمجرّد احتمال البراءة وهو غير سائغ ، لأنّ اليقين بالاشتغال يستدعي يقين البراءة ولا يكفي فيه احتمالها. وهذا كما ترى قاعدة اخرى لا ترتبط بقاعدة الاستصحاب المنوطة بملاحظة الحالة السابقة.

فإن قلت : إنّ قوله عليه السلام : « لا ينقض اليقين بالشكّ » لفظ عامّ يصلح لإعطاء قاعدة الاشتغال ولإعطاء قاعدة الاستصحاب ، فليحمل عليهما بجعل اليقين أعمّ من اليقين بالاشتغال المستدعي ليقين البراءة واليقين السابق الّذي لا يجوز نقضه بالشكّ ، فتكون الرواية حينئذ مدركا لكلتا القاعدتين ولا ضير فيه.

قلت : - مع أنّ القاعدتين معنيان متغايران لا يمكن الجمع بينهما في الإرادة من لفظ واحد - إنّ حمله على ذلك بجعل اليقين أعمّ يوجب الجمع بين المتنافيين في مورد الرواية ، لوجوب العمل بكلّ من القاعدتين بالنسبة إلى المورد لئلاّ يلزم التخصيص بالمورد ، فإرادة بيان قاعدة الاستصحاب يقتضي البناء في المورد على الأقلّ وإرادة بيان قاعدة الاشتغال يقتضي البناء على الأكثر ، وهما متنافيان ، ولا يمكن تنزيل الرواية عليهما. فلا بدّ من حمل « اليقين »

ص: 319

على أحد الأمرين من اليقين السابق أو اليقين بالاشتغال ، ولا سبيل إلى الأوّل لقضائه بالبناء على الأقلّ وهو خلاف المذهب فتعيّن الثاني ، ومعه تصير الرواية أجنبيّة بالنسبة إلى موضع الاستدلال. فالإنصاف : أنّ هذه الرواية لا تنهض دليلا على الاستصحاب مطلقا.

ومن الأخبار ما رواه ابن بابويه في الموثّق عن إسحاق بن عمّار قال : قال لي أبو الحسن عليه السلام : « إذا شككت فابن على اليقين ، قال : قلت : هذا أصل؟ قال : نعم (1) ».

فإنّ قوله : « إذا شككت » لظهوره في حدوث الشكّ يفيد سبق يقين على الشكّ. وقوله : « فابن على اليقين » يعني به البناء على ذلك اليقين ، على معنى العمل على مقتضاه وترتيب الآثار على متعلّقة ، وهذا معنى الاستصحاب. وقوله : « هذ الأصل » سؤال عن كون البناء على اليقين قاعدة كلّية وضابطة مطّردة في جميع موارد الشكّ واليقين ، فقوله عليه السلام : « نعم » يفيد حجّيّة كلّ استصحاب.

غاية الأمر أنّه خرج منه صور الشكّ في عدد ركعات الصلاة بورود النصّ بالبناء فيها على الأكثر.

ويمكن المناقشة فيها من حيث الدلالة بأنّها إن لم نقل باختصاصها بصور الشكّ في عدد الركعات - فاريد باليقين يقين البراءة الّذي يحصل بالبناء على الأكثر مع الإتيان بركعات الاحتياط حسبما قرّرناه سابقا ، ولذا ذكرها الأصحاب في باب الشكوك في الركعات - فلا أقلّ من احتمال ورودها لتأسيس قاعدة الاشتغال ، بإرادة البناء على اليقين بالبراءة عند الشكّ فيها مع اليقين باشتغال الذمّة.

وبعبارة اخرى قوله عليه السلام : « إذا شككت فابن على اليقين » كما يحتمل أن يكون تقديره : « إذا شككت في بقاء شيء وارتفاعه بعد اليقين بحدوثه فابن على ذلك اليقين » فكذا يحتمل أن يكون تقديره : « إذا شككت في البراءة عند اليقين باشتغال الذمّة فابن على اليقين بالبراءة » وإن لم نقل بظهوره في الثاني فلا أقلّ من عدم ظهوره في الأوّل ، فلا دلالة في الرواية على المطلوب.

ويمكن الذبّ عنها : بمنع تساوي الاحتمالين فضلا عن ظهور ثانيهما ، لظهور « اليقين » في اليقين الفعلي فينطبق على اليقين الاستصحابي ، وحمله على اليقين بالبراءة خروج عن هذا الظاهر ، لأنّه ليس بحاصل فعلا بل من شأنه الحصول. فحمل لفظ الرواية على مثل

ص: 320


1- الوسائل 5 : 318 ، الباب 8 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح 2.

ذلك حمل له على اليقين الشأني.

وربّما يلزم ارتكاب خلاف ظاهر آخر في قوله : « فابن » بحمله على إرادة « حصّل ».

وتوهّم أنّ تنزيل الرواية على بيان حكم الاستصحاب يوجب حمل اليقين على إرادة اليقين السابق ، وهو أيضا خلاف ظاهر من لفظه الظاهر في اليقين الفعلي لا السابق ولا الشأني.

وإن شئت قلت : إنّه ظاهر في اليقين الحاصل فعلا لا فيما حصل ولا فيما يحصل بعد ، ففي تعيّن الخروج عن الظاهر لا فرق بين المعنيين.

يدفعه : أنّ اعتبار السبق في اليقين الاستصحابي لا ينافي الفعليّة ، نظرا إلى أنّ « السابق » في اليقين السابق عبارة عن متعلّق اليقين وهو الزمان السابق لا ظرف وجوده ، فهو مع الشكّ المعتبر معه في الاستصحاب كلاهما فعليّان ، غير أنّ متعلّق اليقين حدوث الحالة السابقة ومتعلّق الشكّ بقاؤها.

لا يقال : إنّ اليقين بالاشتغال أيضا في مورد قاعدة الاشتغال يقين فعلي ، فلو حمل عليه قوله : « فابن على اليقين » لم يكن خروجا من الظاهر ولا ارتكابا لخلافه ، ومن مقتضى البناء على اليقين بالاشتغال لزوم مراعاة ما يبرئ الذمّة « لأنّ تنزيل لفظ الرواية على يقين الاشتغال إرجاع له أيضا إلى الاستصحاب ولكن في خصوص الاشتغال لا مطلق الحالة السابقة ، لأنّ قولنا : « إذا شككت فابن على اليقين بالاشتغال » يقال فيما لو اريد إعمال الاستصحاب ، وفيما لو اريد إعمال قاعدة الاشتغال يقال : « إذا شككت فابن على اليقين بالبراءة » أي حصّل اليقين بها ولا تكتف باحتمالها. فالرواية على الاحتمال المذكور أيضا لا تخلو عن الدلالة على اعتبار الاستصحاب ولكن في الجملة ، كيف وتنزيلها عليه أيضا خروج عن الظاهر ، لأنّ لفظي « الشكّ » و « اليقين » مطلقان وصرفهما إلى البراءة والاشتغال بالخصوص لا بدّ له من صارف.

ولكنّ الإنصاف : أنّ دلالة هذه الرواية على الاستصحاب مطلقا أو في الجملة ليست بذلك الوضوح ، لقوّة احتمال ورودها في شكوك الصلاة بل في خصوص الشكّ في ركعاتها كما أو مأنا إليه في تقرير المناقشة المتقدّمة ، بأن يكون تقديرها « إذا شككت في شيء من ركعاتها فابن على ما يوجب اليقين بالصحّة المبرئة للذمّة » وهو البناء على الأكثر ثمّ الاحتياط بعد التسليم ، وإنّما عبّر بهذا اللفظ تعريضا على العامّة البانين فيها على ما لا يوجبه لاحتمال الزيادة في الركعة. ونظائر هذا التعبير لإفادة ذلك المعنى في الروايات الواردة في باب الشكوك كثيرة.

ص: 321

منها : ما رواه عمّار بن موسى الساباطي قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن شيء من السهو في الصلاة فقال : « ألا اعلّمك شيئا إذا فعلته ثمّ ذكرت أنّك أتممت أو نقصت لم يكن عليك شيء؟ قلت : بلى ، قال : إذا سهوت فابن على الأكثر ، فإذا فرغت وسلّمت فقم فصلّ ما ظننت أنّك نقصت ، فإن كنت قد أتممت لم يكن عليك في هذه شيء ، وإن ذكرت أنّك كنت نقصت كان ما صلّيت تمام ما نقصت (1) ».

وما أرسله الصدوق في الفقيه قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام لعمّار بن موسى : « يا عمّار ألا أجمع لك السهو كلّه في كلمتين ، متى ما شككت فخذ بالأكثر ، وإذا سلّمت فأتمّ ما خلت أنّك نقصته (2) ».

ومن الأخبار ما رواه الشيخ عن الصفّار عن عليّ بن محمّد القاساني قال : كتبت إليه عليه السلام وأنا بالمدينة عن اليوم الّذي يشكّ فيه من رمضان هل يصام أم لا؟ فكتب عليه السلام : « اليقين لا يدخل فيه الشكّ ، وصم للرؤية وأفطر للرؤية (3) » تمسّك بها بعض الأعلام (4) وهذه في وضوح الدلالة على الاستصحاب عموما بحيث لا يفتقر إلى بيان ، فإنّه عليه السلام بعد ما سئل عن حكم يوم الشكّ المردّد بين آخر شعبان وأوّل رمضان ، أو بين آخر رمضان وأوّل شوّال ، أصّل للسائل أصلا كلّيا وقنّن قانونا مطّردا وهو : أنّ اليقين لا يدخله الشكّ ، ومعناه : أنّ اليقين لا يزاحمه الشكّ ، ومزاحمه الشكّ لليقين عبارة عن إيجابه رفع اليد عنه وترك العمل به ، ومحصّله : المنع من نقض اليقين بالشكّ. ثمّ فرّع عليه فرعين لا ينطبقان عليه إلاّ على تقدير كون المراد به قاعدة الاستصحاب.

أحدهما : عدم وجوب الصوم إلاّ لرؤية هلال رمضان ، لسبق يقين شعبانيّة الشهر على يوم الشكّ ، فلا ينقض بالشكّ بل بيقين مثله ، وهو اليقين بخروج شعبان الحاصل برؤية هلال رمضان.

وثانيهما : عدم وجوب الإفطار إلاّ لرؤية هلال شوّال ، لسبق يقين رمضانيّة الشهر على يوم الشكّ ، فلا ينتقض بذلك الشكّ بل بيقين مثله حاصل برؤية هلال شوّال.

ولا يجري فيه ما تقدّم في الرواية السابقة من احتمال كون الغرض تأسيس قاعدة

ص: 322


1- الوسائل 5 : 318 ، الباب 8 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث 3 ، ح 2 : 349 ح 1448.
2- الوسائل 5 : 317 - 318 ، الباب 8 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح 1.
3- الوسائل 7 : 184 ، الباب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان ، ح 13.
4- القوانين 2 : 62.

الاشتغال ، لعدم ثبوت الاشتغال اليقيني في المورد الّذي هو يوم الشكّ ، أمّا في أوّل الفرعين : فواضح ، وأمّا في ثانيهما : فبناء على كون كلّ يوم من رمضان تكليفا مستقلاّ فيرجع الشكّ في يوم الشكّ إلى التكليف ، مع أنّ قاعدة الشغل على تقدير ثبوت الاشتغال في الأوّل يقضي بوجوب صوم يوم الشكّ لا نفي وجوبه ، وهي على تقدير ثبوته في الثاني غير جارية لدوران الأمر فيه بين المحذورين من وجوب صوم هذا اليوم وحرمته ، فدلالة الرواية على اعتبار الاستصحاب عموما وكونه أصلا كلّيا ممّا لا ينبغي الاسترابة فيه.

نعم ربّما يشكل الحال في التعويل عليها من جهة سندها باعتبار عليّ بن محمّد القاساني الّذي ضعّفه العلاّمة في الخلاصة (1) وعزى تضعيفه أيضا إلى الشيخ في أصحاب الهادي عليه السلام من رجال الشيخ (2) ولم نقف من غيرهما على توثيق له ، مع ما عن النجاشي (3) في ذمّه من أنّه غمز عليه أحمد بن محمّد بن عيسى وأنّه سمع منه مذاهب منكرة.

نعم في محكيّ المشتركات (4) وصفه بالثقة ، غير أنّ شهادة الجرح عندهم مقدّمة. ولئن سلّمنا عدم التعويل على تضعيف العلاّمة في الخلاصة لانتهائه إلى ابن الغضائري الّذي لا تعويل على تضعيفاته لأنّه كثيرا مّا يضعّف رجالا ليسوا بضعاف ، فلا أقلّ من إيراثه قصورا في السند. ولكن مع هذا كلّه يمكن جبر ضعف السند أو قصوره بعمل الأصحاب ، مع أنّه على تقدير عدم الجابر إنّما يقدح على القول بالعمل بالأخبار من باب الظنّ الخاصّ دونه من باب الظنّ المطلق كما هو الأقوى ، لابتنائه على ظنّ الصدور واطمئنانه وإن ضعف بحسب الاصطلاح المتأخّر ، فتأمّل.

ومن الأخبار ما رواه الصدوق في الخصال تارة في أوائله (5) مسندا عن أبيه عن سعد بن عبد اللّه عن محمّد بن عيسى اليقطيني عن القاسم بن يحيى عن جدّه الحسن بن راشد عن أبي بصير ومحمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السلام (6) ، واخرى في أواخره في حديث الأربعمائة رواه مرسلا عن أبي جعفر عليه السلام ، وفي الطريقين معا قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام : « من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه ، فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين (7).

وعن البحار مرسلا : « أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال : من كان على يقين فأصابه شكّ

ص: 323


1- خلاصة الأقوال 232 / 6.
2- رجال الشيخ : 417.
3- رجال النجاشي : 255 / 669.
4- هداية المحدّثين : 218.
5- كذا ، والصحيح في أواخره في حديث الأربعمائة.
6- لم أعثر عليه.
7- الخصال : 619.

فليمض على يقينه ، فإنّ اليقين لا يدفع بالشكّ (1) ».

وهذه الثلاث وإن كانت ضعيفة في الاصطلاح المتأخّر بارسال المرسل منها ، واشتمال سند المسند منها على القاسم بن يحيى الّذي ضعّفه العلاّمة في الخلاصة (2) إلاّ أن يقال : بأنّ التضعيف المذكور لكونه من ابن الغضائري لا يعبأ به ، ورواية الأجلّة ومنهم أحمد بن محمّد بن عيسى عن هذا الرجل آية الاعتماد عليه ، بل في التعليقة (3) أنّه آية وثاقته ، ومع ذلك فهي مع الروايات الاخر المتقدّمة باعتبار تكاثرها يتعاضد بعضها ببعض ، غير أنّ دلالتها على الاستصحاب عموما واضحة لا ينبغي الاسترابة فيه ، لظهور قوله عليه السلام : « من كان على يقين فشكّ ، أو أصابه شكّ » في اليقين السابق والشكّ اللاحق ، وفي كونه عليه السلام في مقام اعطاء قاعدة كلّية.

وتوهّم المناقشة فيها أيضا باعتبار ظهور « النقض » و « الدفع » في المناقضة والمدافعة الحقيقيّة ، وإنّما يتحقّق ذلك بين اليقين والشكّ إذا اتّحد موردهما زمانا ، بأن تكون الآثار السابقة المترتّبة على اليقين السابق مشكوكة باعتبار الشكّ في ثبوت الحالة السابقة ثمّة كما في صورة سريان الشكّ ، كعدالة زيد وصحّة عبادته إذا شكّ بعد الفراغ في أصل ثبوتها حين العمل بعد اليقين بها ، وظاهر عدم نقض اليقين بالشكّ في نحو هذه الصورة إنّما هو حفظ الآثار السابقة المترتّبة على اليقين السابق وهذا معنى آخر لا تعلّق له بالاستصحاب.

يندفع : بظهور قوله : « فليمض » في وجوب ترتيب الآثار المستقبلة لا مجرّد حفظ الآثار الماضية ، مع كون النقض الوارد في الأخبار إنّما يلاحظ بالنسبة إلى الآثار المستقبلة.

وهذه هي آخر الأخبار العامّة المستدلّ بها على الاستصحاب ، ولقد عرفت وضوح دلالة أكثرها عليه مطلقا أو في الجملة ، والظاهر عدم الفرق فيها بين ما لو كان الشكّ في بقاء الحالة السابقة باعتبار الشكّ في المقتضي أو باعتبار الشكّ في المانع كما هو المعروف بين المتأخّرين.

ومن مشايخنا من تأمّل فيه بالنسبة إلى الشكّ في المقتضي تبعا للمحقّق الخوانساري (4) ، وأوضح وجهه بما ملخّصه : أنّ النقض حقيقة في رفع الأمر الثابت كما في نواقض الطهارة ، ويطلق مجازا تارة على رفع الأمر الغير الثابت الّذي من شأنه الثبوت والاستمرار لوجود

ص: 324


1- البحار 2 : 272.
2- خلاصة الأقوال : 248 / 6.
3- تعليقة الوحيد البهبهاني : 264.
4- مشارق الشموس : 76.

المقتضي لثبوته ، واخرى على مطلق رفع اليد عن الأمر الغير الثابت ولو لعدم المقتضي له بعد الأخذ به ، والحقيقة هنا متعذّرة لانتقاض اليقين بنفسه بطروّ الشكّ ، ويجب حمله على أوّل المعنيين الآخرين لأنّه أقرب إلى الحقيقة ، فيخصّص متعلّقه بما من شأنه الاستمرار والاتّصال ، لأنّ الفعل الخاصّ يصير مخصّصا لمتعلّقة العامّ كما في قول القائل : « لا تضرب أحدا » ، فإنّ الضرب قرينة على اختصاص العامّ بالأحياء ولا يكون عمومه للأموات قرينة على إرادة مطلق الضرب عليه كسائر الجمادات (1).

أقول وتحقيق المقام : أنّ لا ينقض في قوله : « لا ينقض اليقين بالشكّ » وغيره من مرادفاته الواردة في الأخبار المذكورة باعتبار المادّة من الأفعال المسندة إلى المكلّف ، وحقيقة معناه وإن كان رفع الأمر الثابت ومنه فسخ البيع ، وهدم البناء ، وحلّ برم الحبل في « نقضت الحبل » ومنه قوله تعالى : ( لا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها ) (2) ، ونواقض الوضوء باعتبار أنّها أسباب لنقض الطهارة ورفعها ، و [ لكن ] قد يطلق مجازا على رفع اليد عن شيء على معنى ترك العمل على مقتضاه وعدم ترتيب أحكامه وآثاره ومنه نقض العهد واليمين.

وباعتبار الهيئة تفيد اعطاء حكم تكليفي أو إرشادي إلى المكلّف الّذي عرضه الشكّ بعد اليقين ، فوجب كون متعلّقه وهو النقض مقدورا له ، وقضيّة ذلك أن لا يراد به رفع الأمر الثابت ، ولا رفع الأمر الّذي من شأنه الثبوت ، سواء كان ذلك الأمر الثابت أو الّذي من شأنه الثبوت هو اليقين أو المتيقّن الّذي هو حياة زيد وعدالته وغيرهما من الامور الخارجيّة ، ونجاسة الماء المتغيّر بالنجاسة ، ووجوب المضيّ في الصلاة على المتيمّم ، والطهارة والحدث وغيرها من الأحكام الشرعيّة الكلّية أو الجزئيّة ، أو آثار اليقين وأحكامه الّتي تضاف إليها باعتبار كونها من آثار المتيقّن وأحكامه لعدم اختيار للمكلّف في شيء من ذلك.

أمّا الأوّل : فلأنّ اليقين بمجرّد طروّ الشكّ ينتقض قهرا وليس بقاؤه وانتقاضه من آثار قدرة المكلّف ليصحّ تعلّق التكليف برفعه.

وأمّا الثاني : فلأنّ المتيقّن وهو الحالة السابقة في بقائه وارتفاعه يتبع وجود مقتضيه وانتفاء مانعه ، فهو على تقدير تحقّق الأمرين باق لا محالة ، وعلى تقدير عدم تحقّق أحدهما مرتفع لا محالة ، وليس شيء منهما من حيث هو مشكوك من آثار قدرة المكلّف ليصحّ خطابه بعدم نقضه ورفعه.

ص: 325


1- فرائد الاصول 39 : 78 - 79.
2- النحل : 92.

وأمّا الثالث : فلأنّ الآثار المترتّبة على اليقين بأسرها من قبيل الأحكام الشرعيّة والأحكام العقليّة ورفعها عبارة عن نسخها ، وهو أيضا ليس من مقدورات المكلّف ليصحّ تكليفه بعدمه ، بل المقدور له إنّما هو رفع اليد عن اليقين السابق بترك العمل على مقتضاه وعدم ترتيب الأحكام المترتّبة عليه في الواقعة ، وهذا ممّا يصحّ تعلّق الخطاب به والنهي عنه ومحصّله : وجوب العمل بمقتضاه وترتيب آثاره وأحكامه ، وقضيّة ذلك حمل « النقض » على إرادة هذا المعنى وإن كان مجازيّا.

وقد يتوهّم أنّ ذلك يستدعي تصرفّا آخر في لفظ « اليقين » بحمله إمّا على إرادة المتيقّن تسمية للمتعلّق باسم المتعلّق ، أو على إرادة الأحكام والآثار تسمية للاّزم باسم الملزوم.

وظنّي أنّه ليس كما توهّم ، لأنّ نقض اليقين كناية عن رفع اليد عن اليقين المفروض حصوله قبل طروّ الشكّ ، على معنى ترك العمل على مقتضاه وعدم ترتيب أحكامه ، وهذا لا يقتضي تصرّفا في لفظ « اليقين » أصلا ، وطريق عدم رفع اليد عنه فرض القضيّة المشكوكة قضيّة متيقّنة وتنزيلها منزلتها ثمّ اجراء جميع ما كان يترتّب على القضية المتيقّنة من الآثار والأحكام على القضيّة المشكوكة.

فظهر أنّ الأقوى ما هو المعروف بين المتأخّرين من عموم الروايات بعد نهوض دلالتها على الاستصحاب لكلّ من الشكّ في المقتضي والشكّ في المانع بجميع أقسامه المتقدّمة ، وتوهّم اختصاصها بالثاني ليس على ما ينبغي ، لوروده على خلاف التحقيق ، وانتظر لزيادة تحقيق في ذلك عند الكلام على التفاصيل وتزييف حججها.

واستدلّ أيضا لا ثبات التعبّد بالاستصحاب بعدّة أخبار خاصّة واردة في موارد جزئيّة بتوهّم أنّها بمجموعها تدلّ عليه بقول مطلق ، كصحيحة عبد اللّه بن سنان قال : سأل أبي أبا عبد اللّه عليه السلام وأنا حاضر ، أنّي اعير الذمّي ثوبي وأنا أعلم أنّه يشرب الخمر ويأكل الخنزير فيردّه عليّ ، فأغسله قبل أن اصلّي فيه؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السلام : « صلّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك ، فإنّك أعرته إيّاه وهو طاهر ولم تستيقن أنّه نجّسه ، فلا بأس أن تصلّي فيه حتّى تستيقن أنّه نجّسه (1) ».

وموثّقة عبد اللّه بن بكير عن أبيه قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام : « إذا استيقنت أنّك قد أحدثت

ص: 326


1- الوسائل 2 : 1095 ، الباب 74 من أبواب النجاسات ، ح 1.

فتوضّأ ، وايّاك أن تحدث وضوءا أبدا حتّى تستيقن أنّك قد أحدثت (1) ».

وموثّقة عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السلام - في حديث - : « قال كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر ، فإذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم فليس عليك شيء (2) ».

والخبر المرويّ في كتب المشايخ الثلاث بطرق متعدّدة المتلقّى بالقبول : « الماء كلّه طاهر حتّى يعلم أنّه قذر (3) ».

ووجه انطباق مفاد الصحيحة على الاستصحاب واضح من حيث إنّ الإمام عليه السلام أمر السائل بالصلاة في الثوب وعدم الاعتناء باحتمال طروّ النجاسة تعويلا على طهارته السابقة ، وأناط التحرّز عنه في الصلاة ووجوب غسله لها باستيقان أنّ الذمّي نجّسه ، ولا يعنى من الاستصحاب إلاّ هذا.

وبهذا البيان يمكن تطبيق موثّقة ابن بكير عليه أيضا من حيث إنّه عليه السلام أناط وجوب التوضّؤ باستيقان الحدث.

وأمّا انطباق موثّقة عمّار عليه فلعلّ وجهه أنّه عليه السلام حكم في كلّ شيء نظيف باستمرار نظافته إلى أن يحصل العلم بقذارته. فقوله : « كلّ شيء نظيف » معناه كلّ شيء محكوم باستمرار نظافته إلى زمان علم قذارته أي طروّ القذارة له. وهكذا يقال في تطبيق قوله عليه السلام : « الماء كلّه طاهر » إلى آخره عليه.

وفيه نظر واضح ، لمنع كون الرواية مسوقة لتأسيس قاعدة الاستصحاب ، بل هي ظاهر الانسياق لإعطاء قاعدة اخرى يعبّر عنها بقاعدة الطهارة فيما شكّ طهارته ونجاسته إلى أن يعلم نجاسته ، نظير قاعدة الصحّة في فعل المسلم إلى أن يعلم الفساد ، وقاعدة الحلّ إلى أن يعلم الحرمة.

وتوضيح المقام : « أنّ قوله : « كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر » في بادئ النظر يحتمل وجوها :

أحدها : أن يراد بالموضوع العناوين الكلّيّة القابلة لكون حكمها الواقعي الطهارة ، وبالمحمول الطهارة الواقعيّة لتكون الرواية مسوقة لإنشاء الطهارة الواقعيّة للعناوين الكلّية.

وثانيها : أن يراد بالموضوع العناوين الكلّية الغير المعلوم حكمها الواقعي المردّد بين

ص: 327


1- الوسائل 1 : 176 ، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، ح 7 ، و 332 ، الباب 44 من أبواب الوضوء ح 1.
2- الوسائل 2 : 1054 ، الباب 37 من أبواب النجاسات ، ح 4.
3- الكافي 3 : 1 ، ح 2 ، 3 الفقيه 1 : 5 ، ح 1 باختلاف ، التهذيب 1 : 215 و 216 ، ح 619 - 621.

الطهارة والنجاسة مثل كلب الماء والحيوان المتولّد من طاهر ونجس الّذي لا يشبه أحد أبويه ولا مماثل له ، وبالمحمول الطهارة الظاهريّة ليكون الرواية مسوقة لإنشاء الطهارة الظاهريّة في العناوين الكلّية للجاهل بحكمها الواقعي من حيث الطهارة والنجاسة.

وثالثها : أن يراد بالموضوع الموضوعات الخارجيّة والجزئيّات الحقيقيّة المشتبهة بين عنوانين طاهر ونجس ، وبالمحمول الطهارة الظاهريّة لتكون الرواية مسوقة لإنشاء الطهارة الظاهريّة للموضوعات الخارجيّة المشتبهة.

والفرق بين هذا وسابقه - مع كون مفاد الرواية على التقديرين قاعدة الطهارة - واضح من حيث كون الشبهة في السابق حكميّة وفيه موضوعيّة.

ورابعها : أن يراد بالموضوع الأشياء المعلوم طهارتها في وقت المشكوك في بقاء الطهارة لها في وقت آخر ، وبالمحمول استمرار هذه الطهارة المعلومة لتكون الرواية مسوقة لإنشاء الحكم باستمرار الطهارة فيما علم طهارته وشكّ في استمرارها. وهذا هو الاستصحاب لو تمّت دلالة الرواية عليه ولو ظهورا.

وينبغي القطع بحسب ثاني النظر بفساد المعنى الأوّل القاضي بامتناع حمل الرواية عليه ، بدليل كون الغاية وهو قوله : « حتّى تعلم أنّه قذر » من تتمّة المحمول ومن المستحيل كون الطهارة الواقعيّة ، مغيّاة بغاية العلم ، لأنّ الأحكام الواقعيّة ولا سيّما الوضعيّة - ولا سيّما الطهارة والنجاسة - لا تتبدّل بالعلم والجهل. فالطاهر الواقعي طاهر في الواقع وإن جهل طهارته ، والنجس الواقعي نجس في الواقع وإن جهل نجاسته.

وأمّا المعاني الثلاث الباقية - أعني قاعدة الطهارة في الشبهة الحكميّة وهي في الشبهة الموضوعيّة واستصحاب الطهارة - فمن الأعلام (1) من يظهر منه امتناع الجمع بينها في الإرادة ، لتغايرها وفقد الجامع بينها ، فيلزم من إرادة الجميع استعمال لفظ الرواية في أكثر من معنى.

ومن الفضلاء من يظهر منه جواز الجمع بينها ، فقال - ردّا على بعض الأعلام - : « إنّ الرواية تدلّ على أصلين :

أحدهما : أنّ الحكم الأوّلي للأشياء ظاهرا هي الطهارة مع عدم العلم بالنجاسة ، وهذا لا تعلّق له بمسألة الاستصحاب.

ص: 328


1- القوانين 2 : 64.

الثاني : أنّ هذا الحكم مستمرّ إلى زمن العلم بالنجاسة ، وهذا من موارد الاستصحاب وجزئيّاته (1) ».

وفيه : أنّ المعنيين وإن كانا متداخلي المورد لعموم القاعدة لمورد استصحاب الطهارة ، إلاّ أنّه لا يمكن الجمع بينهما في الإرادة إلاّ لجامع يكون هو المراد ، حذرا عن الاستعمال في معنيين.

وغاية ما يمكن فرضه من الجامع العامّ للمعاني الثلاث هو أن يراد ب « كلّ شيء نظيف » كلّ ما لم يعلم نظافته فهو محكوم بكونه نظيفا.

ويدفعه : أنّه توهّم عموم للجميع وعند التحقيق قاصر عن إفادة الاستصحاب.

أمّا أوّلا : فلتغاير إنشاء أصل الطهارة ظاهرا للموضوع المشتبه حكمه الواقعي من حيث الطهارة والنجاسة ، وإنشاء استمرار الطهارة للموضوع المعلوم طهارته واقعا في وقت ، ولا يمكن إرادتهما معا من الهيئة التركيبيّة الّتي هي في الأصل جملة خبريّة ، والمعنى المذكور لا يصلح جامعا لهما ، بل هو ظاهر في إنشاء أصل الطهارة.

غاية الأمر تعيّن حملها على الطهارة الظاهريّة لدخول الشكّ في موضوعها.

وأمّا ثانيا : فلأنّ مناط الحكم في مورد قاعدة الطهارة إنّما هو مجرّد الشكّ في الطهارة والنجاسة لشبهة حكميّة أو موضوعيّة ، على معنى كونه بانفراده جزءا لموضوع هذا الحكم من دون مدخليّة شيء آخر معه فيه ، كما أنّ مناط الحكم في مورد أصالة الصحّة في فعل المسلم مجرّد الشكّ في الصحّة والفساد لشبهة موضوعيّة ، ومناط الحكم في مورد أصالة الحلّ في الأشياء هو مجرّد الشكّ في الحلّ والحرمة لشبهة حكميّة أو موضوعيّة ، بخلاف الاستصحاب فإنّ مناط الحكم في موارده هو المجموع من اليقين بثبوت الطهارة في وقت والشكّ في بقائها في آخر ، على وجه يكون المجموع من حيث المجموع جزاء للموضع لا أحدهما فقط.

وبالجملة مناط الحكم فيه وموضوعه مركّب من جزئين ، وهما اليقين السابق والشكّ اللاحق ، بحيث يكون لكلّ منهما مدخليّة في الحكم لاعتبار دخوله في موضوعه ، فلو فقد أحدهما فقد الحكم من حيث إنّه حكم استصحابي. فلو اريد من قوله : « كلّ شيء » ما اخذ فيه الأمران معا فلا يدخل فيه مورد القاعدة ، ولو اريد منه ما اخذ فيه الشكّ فقط فلا يدخل فيه مورد الاستصحاب ، والمعنى المذكور المتوهّم كونه جامعا ظاهر فيه ، ومعه لا يمكن تناوله للاستصحاب إلاّ بتوهّم إرادة الشكّ في الطهارة والنجاسة لا بشرط سبق العلم

ص: 329


1- الفصول : 373.

بالطهارة ولا عدم سبق العلم بها.

وفيه : أنّ هذا بعينه هو معنى قاعدة الطهارة الّتي لا يلاحظ لموردها حالة سابقة وإن كانت موجودة ، ولذا ذكرنا سابقا أنّها تعمّ مورد الاستصحاب ، ولا يلزم من ذلك - بناء على إرادة المعنى المذكور - دلالة الرواية على الاستصحاب أيضا ، لأنّ المعتبر فيه إنّما هو الشكّ في الطهارة والنجاسة بشرط سبق العلم بالطهارة ، ولذا كان المشكوك فيه في مورده هو بقاء الطهارة السابقة بعد الفراغ عن ثبوت أصلها ، لا أصل الطهارة وإن لم يحرز ثبوته. واللفظ المحمول على معنى ملحوظ لا بشرط غيره لا يتناول معنى ملحوظ (1) بشرط شيء آخر غيره ، بل لا يمكن إرادتهما معا من اللفظ في إطلاق واحد.

وما يقال : من أنّ المعنى الملحوظ لا بشرط لا ينافيه ألف شرط ، فإنّما هو بالنظر إلى التحقّق الخارجي لا بالنظر إلى الدخول في الإرادة من اللفظ ، فإن اريد به الملحوظ بشرط شيء فلا يمكن معه إرادة الملحوظ لا بشرط ، وإن اريد به الملحوظ لا بشرط فهو لا يتناول الملحوظ بشرط شيء لتغايرهما بحسب الاعتبار ، وإرادتهما معا من اللفظ يوجب استعماله في معنيين وهو غير سائغ. والحاصل : أنّ المعنى الملحوظ لا بشرط إذا اريد من لفظ بوصف اللابشرطيّة فينافيه شرط واحد فضلا عن ألف شرط. ويلزم منه أنّ اللفظ إذا اريد منه هذا المعنى فهو لا يفيد إلاّ قاعدة اخذ موضوعها على هذا الوجه ، ولا يفيد القاعدة الاخرى الّتي اخذ موضوعها بشرط شيء. ولو اريد به إفادة القاعدتين معا يلزم ما ذكر من محذور الاستعمال في معنيين.

فما عرفت عن بعض الفضلاء من تجويز دلالة الرواية على قاعدة الطهارة واستصحاب الطهارة معا إفراط في القول. كما أنّ ما توهّمه بعض الأعلام من امتناع الجمع بين المعاني الثلاث تفريط في القول. بل الحقّ المشكوك على حدّ الاعتدال هو التفصيل بإمكان الجمع بين المعنيين الأوّلين وعدم إمكانه بينهما وبين الأخير.

أمّا الثاني : فلما عرفت. وأمّا الأوّل : فلجواز أن يكون المراد ب « كلّ شيء » الموضوعات الخارجيّة على وجه تعمّ الشبهات الحكميّة والشبهات الموضوعيّة ، بأن يراد من « الشيء » الموضوع الخارجي الّذي يشكّ في طهارته باعتبار الشبهة في حكم نوعه ، أو باعتبار الشبهة في خصوصيّة موضوعه في نفسه.

ص: 330


1- كذا في الأصل ، ولعلّ الصواب : ملحوظا.

وعلى الأوّل يكون موردا لقاعدة الطهارة في الشبهات الحكميّة ، وعلى الثاني يكون موردا لها في الشبهات الموضوعيّة.

وبهذا البيان يندفع ما قيل - في نفي الفرق بين المعنيين الأوّلين - من : أنّه لو صار واحد من جزئيّات العنوان الكلّي المشكوك في حكمه متعلّقا للشكّ في الخارج كان من الشبهة الموضوعيّة ، إذ ليس ملاك الفرق بين الشبهة الحكميّة والشبهة الموضوعيّة هو مجرّد كون متعلّق الشكّ عنوانا كلّيا في الاولى وجزئيّا حقيقيّا في الثانية ، لتنقض الاولى بفرض تعلّق الشكّ بواحد من جزئيّات العنوان الكلّي ، بل المدار فيه على كون الشكّ في الطهارة مسبّبا عن اشتباه الحكم الشرعي ، أو عن اشتباه خصوصيّة في موضوعه بعد معلوميّة الحكم الشرعي لعنوانين كان ذلك الموضوع مردّدا بينهما ، والشبهة على الأوّل حكميّة وإن فرض مورد الشكّ جزئيّا ، وبعد ما سمعت من منع دلالة الرواية على القاعدتين بل لا بدّ من دلالتها إمّا على قاعدة الطهارة أو على استصحابها ، فاعلم أنّها بحسب متفاهم العرف أظهر في قاعدة الطهارة فلا تنهض دليلا على حكم الاستصحاب.

غاية الأمر أنّ مورد القاعدة قد يكون من مورد استصحاب الطهارة ، كما لو كان الشكّ في الطهارة مسبوقا بالعلم بها كما أشرنا إليه سابقا ، ولعلّه منشأ توهّم الدلالة من الرواية عليهما.

ويزيّفه : أنّ عموم قاعدة الطهارة باعتبار عموم موردها لمورد استصحاب الطهارة لا يوجب دلالة الرواية الدالّة على القاعدة على الاستصحاب أيضا.

ألا ترى أنّ مورد القاعدة قد يكون من مورد استصحاب النجاسة فيما لو كان الحالة السابقة فيما يشكّ في طهارته ونجاسته [ هي النجاسة ] ، فالقاعدة المستفادة من الرواية لعموم موردها قد تعمّ هذا المورد أيضا ، مع أنّه لا يعقل دلالة الرواية على استصحاب النجاسة.

ثمّ أنّ في دخول مستصحب النجاسة في المغيّا أو فيما بعد الغاية قولان ، ويظهر الفائدة في وقوع التعارض بين استصحاب النجاسة على تقدير مساعدة الدليل عليه وقاعدة الطهارة على القول بدخوله في المغيّا ، وعدم وقوعه على القول بدخوله فيما بعد الغاية.

وعلى القول بتقديم استصحاب النجاسة - كما هو الأقوى - لا بدّ من تصرّف في لفظ الرواية ، إمّا بالتخصيص في « كلّ شيء » حتّى يكون معنى الرواية : كلّما يشكّ في طهارته فهو محكوم بالطهارة إلاّ مستصحب النجاسة ، أو بالتعميم في قوله : « حتّى يعلم أنّه قذر » بحمل العلم على ما يعمّ العلم الشرعي ، واستصحاب النجاسة علم شرعي ، فأدلّة استصحاب النجاسة إمّا مخصّصة لدليل قاعدة الطهارة أو حاكمة عليه وهو الأظهر ، على ما ستعرفه في

ص: 331

مباحث تعارض الاستصحاب لسائر الاصول والقواعد الّتي منها قاعدة الطهارة.

وبجميع ما بيّنّاه في تلك الرواية يظهر الحال في الرواية الاخرى ، وهي قوله : « الماء كلّه طاهر حتّى يعلم أنّه قذر (1) ».

الاستدلال بالإجماع على حجّيّة الاستصحاب

فالإنصاف : أنّ الأخبار الخاصّة الواردة في موارد جزئيّة لا تنهض لإثبات الاستصحاب بقول مطلق ، لأنّ منها ما لا دلالة عليه أصلا ، والدالّ منها عليه أيضا لا يدلّ إلاّ على الاستصحاب في بعض الأشياء كالطهارة عن الحدث أو عن الخبث مع كون الشكّ في بقائها وارتفاعها باعتبار الشكّ في طروّ رافعها.

وقد يستدلّ أيضا لإثباته مطلقا بالإجماعات الجزئيّة المنعقدة في موارد خاصّة على الاعتناء والتعويل على اليقين السابق إلى أن يعلم خلاف الحالة السابقة ، كما في مسألة المتطهّر إذا شكّ في طروّ الحدث من البناء على الطهارة إلى أن يعلم طروّ الحدث إجماعا ، وفي مسألة المحدث الشاكّ في التطهّر من البناء على الحديث إلى أن يعلم الطهارة إجماعا ، وكذلك البناء على طهارة ثوب أو بدن أو غيرهما إلى أن يعلم طروّ النجاسة ، أو على نجاستها إلى أن يعلم طروّ الطهارة إجماعا ، والبناء على بقاء ما علم كونه ملكا لزيد مثلا على ملكيّته إلى أن يعلم المزيل إجماعا ، والبناء على حياة الغائب وبقاء أمواله وزوجته في ملكه وزوجيّته إلى أن يعلم موته ، والبناء على بقاء الليل أو النهار في شهر رمضان المعبّر عنه بمستصحب الليل والنهار إجماعا ، إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع في الفروع. فيستفاد من مجموع هذه الإجماعات أنّ الاستصحاب بجميع أفراده من الاصول الشرعيّة من دون اختصاص له ببعض الموارد دون بعض.

ويمكن المناقشة فيه أوّلا : بمنع كون البناء المذكور في معاقد الإجماعات تعويلا على الحالة السابقة ليكون استصحابا ، لجواز كون كلّ في مورده قاعدة اخرى غير الاستصحاب أثبتها الإجماع.

غاية الأمر مصادفة القاعدة لمورد الاستصحاب ، وهذه لا يقضي بكونه المعتمد ، كما عرفته في قاعدة الطهارة المستفاد من النصّ.

وثانيا : بمنع ثبوت عموم الحجّية بتلك الإجماعات بعد تسليم كون معاقدها من

ص: 332


1- الوسائل 1 : 100 ، الباب 1 من أبواب الماء المطلق ، الحديث 5.

الاستصحاب ، لاختصاصها بموارد محصورة لا يمكن التمسّك بحجّية الاستصحاب فيها لإثبات حجّيته على وجه العموم إلاّ من باب تنقيح المناط ، بأن يقال : إنّ المناط في مواردها إنّما هو التعويل على الحالة السابقة من حيث إنّها حالة سابقة من دون مدخليّة لخصوص المورد ، وهذا بمكان من المنع إذ لا منقّح لهذا المناط على وجه يطمئنّ بعدم مدخليّة الخصوصيّة. وعلى فرض التسليم فهو مقصور على بعض صور الاستصحاب ، وهو ما كان الشكّ في عروض المانع وطروّ المزيل والرافع ، فلا وجه للتعدّي إلى غير هذه الصورة ، هذا تمام الكلام في أدلّة المطلقين لحجّية الاستصحاب.

الكلام في حجج المفصّلين

اشارة

وبقي الكلام في حجج المفصّلين ، ولقد عرفت في مفتتح المسألة أنّ التفاصيل كثيرة :

في مقالة الفاضل التوني

الأوّل منها : ما أحدثه الفاضل التوني في الوافية وعزاه إلى نفسه وإن قصرت عبارته في إفادته ، وهو الفرق بين الأحكام التكليفيّة الابتدائيّة بعدم الحجّية فيها ، والأحكام الوضعيّة أو التكليفيّة التابعة لها بالحجّية. وينبغي نقل عبارته المسوقة لهذا التفصيل ثمّ التعرّض لبيان ما يرد ، فإنّه بعد الإشارة إلى الخلاف في المسألة ونقل حجّة النافين قال : « ولتحقيق المقام لا بدّ من إيراد كلام يتّضح به حقيقة الحال. فنقول : الأحكام الشرعيّة تنقسم إلى ستّة أقسام :

الأوّل والثاني : الأحكام الاقتضائيّة المطلوب فيها الفعل ، وهي الواجب والمندوب.

والثالث والرابع : الأحكام الاقتضائيّة المطلوب فيها [ الكفّ ] الترك وهي الحرام والمكروه.

والخامس : الأحكام التخييريّة الدالّة على الإباحة.

والسادس : الأحكام الوضعيّة ، كالحكم على الشيء بأنّه سبب لأمر ، أو شرط له أو مانع منه ، والمضايقة بمنع أنّ الخطاب الوضعي داخل في الحكم الشرعي ممّا لا يضرّنا فيما نحن بصدده.

إذا عرفت ذلك ، فإذا ورد أمر بطلب شيء فلا يخلو إمّا أن يكون موقّتا أم لا. وعلى الأوّل : يكون وجوب ذلك الشيء أو ندبه في كلّ جزء من أجزاء الوقت ثابتا بذلك الأمر ، فالتمسّك في ثبوت ذلك الحكم في الزمان الثاني بالنصّ ، لا بالثبوت في الزمان الأوّل حتّى يكون استصحابا وهو ظاهر.

وعلى الثاني : أيضا كذلك إن قلنا بإفادة الأمر للتكرار ، وإلاّ فذمّة المكلّف مشغولة حتّى يأتي به في أيّ زمان كان ، ونسبة أجزاء الزمان إليه نسبة واحدة في كونه أداء في كلّ جزء منها ، سواء قلنا بأنّ الأمر للفور أم لا.

والتوهّم بأنّ الأمر إذا كان للفور يكون من قبيل المؤقّت المضيّق اشتباه غير خفيّ على

ص: 333

المتأمّل ، فهذا أيضا ليس من الاستصحاب في شيء.

ولا يمكن أن يقال : [ بأنّ ] اثبات الحكم في القسم الأوّل فيما بعد وقته من الاستصحاب ، فإنّ هذا لم يقل به أحد ولا يجوز إجماعا.

وكذا الكلام في النهي ، بل هو الأولى بعدم توهّم الاستصحاب فيه ، لأنّ مطلقه يفيد التكرار ، والتخييري أيضا كذلك.

فالأحكام الخمسة - المجرّدة عن الأحكام الوضعيّة - لا يتصوّر فيها الاستدلال بالاستصحاب. فأمّا الأحكام الوضعيّة : فإذا جعل الشارع شيئا سببا لحكم من الأحكام الخمسة - كالدلوك لوجوب الظهر ، والكسوف لوجوب صلاته ، والزلزلة لصلاتها ، والإيجاب والقبول لإباحة التصرّفات والاستمتاعات في الملك والنكاح ، [ وفيه ] لتحريم امّ الزوجة ، والحيض والنفاس لتحريم الصوم والصلاة ، إلى غير ذلك - فينبغي أن ينظر إلى كيفيّة سببيّة السبب ، هل هي على الإطلاق؟ كما في الإيجاب والقبول ، فإنّ سببيّته على نحو خاصّ وهو الدوام إلى أن يتحقّق المزيل ، وكذا الزلزلة ، أو في وقت معيّن كالدلوك ونحوه ممّا لم يكن السبب وقتا ، وكالكسوف والحيض ونحوهما ممّا يكون السبب وقتا ، فإنّ السببيّة في هذه الأشياء على نحو آخر ، فإنّها أسباب للحكم في أوقات معيّنة. وجميع ذلك ليس من الاستصحاب في شيء ، فإنّ ثبوت الحكم في شيء من أجزاء الزمان الثابت فيه الحكم ليس تابعا للثبوت في جزء آخر ، بل نسبة السبب في اقتضاء الحكم في كلّ جزء نسبة واحدة ، وكذلك في الشرط والمانع.

فظهر ممّا ذكرنا : أنّ الاستصحاب المختلف فيها لا يكون إلاّ في الأحكام الوضعيّة- أعني الأسباب والشرائط والموانع للأحكام الخمسة - من حيث إنّها كذلك ، ووقوعه في الأحكام الخمسة إنّما هو بتبعيّتها ، كما يقال في الماء الكرّ المتغيّر بالنجاسة إذا زال تغيّره من قبل نفسه : بأنّه يجب الاجتناب عنه في الصلاة لوجوبه قبل زوال تغيّره ، فإنّ مرجعه إلى أنّ النجاسة كانت ثابتة قبل زوال تغيّره فيكون كذلك بعده. ويقال في المتيمّم إذا وجد الماء في الصلاة : إنّ صلاته كانت صحيحة قبل الوجدان فكذا بعده - أي كان مكلّفا ومأمورا بالصلاة بتيمّمه (1) قبله فكذا بعده - فإنّ مرجعه إلى أنّه كان متطهّرا قبل وجدان الماء فكذا بعده ، والطهارة من الشروط.

ص: 334


1- وفي الأصل : « بتتميمه » بدل « بتيمّمه » ، والصواب ما أدرجناه في المتن كما لا يخفى.

فالحقّ مع قطع النظر عن الروايات عدم حجّيّة الاستصحاب ، لأنّ العلم بوجود السبب أو الشرط أو المانع في وقت لا يقتضي العلم بل ولا الظنّ بوجوده في غير ذلك الوقت كما لا يخفى ، فكيف يكون الحكم المعلّق عليه ثابتا في غير ذلك الوقت. فالّذي يقتضيه النظر بدون ملاحظة الروايات : أنّه إذا علم تحقّق العلامة الوضعيّة تعلّق الحكم بالمكلّف وإذا زال ذلك العلم بطروّ الشكّ يتوقّف عن الحكم بثبوت ذلك الحكم الثابت أوّلا ، إلاّ أنّ الظاهر من الأخبار أنّه إذا علم وجود شيء فإنّه يحكم به حتّى يعلم زواله » انتهى كلامه (1).

وقوله : « إنّ الاستصحاب المختلف فيها لا يكون إلاّ في الأحكام الوضعيّة » يريد بالأحكام الوضعيّة ما عدا الأحكام الوضعيّة المبنيّة على الدوام والثابتة في أوقات معيّنة ، وضابطه الحكم الوضعي الثابت من دليله على وجه الاهمال من دون قضاء الدليل بدوامه ولا توقيته بوقت معيّن.

ومحصّل كلامه : أنّ الاستصحاب في نحو هذه الأحكام الوضعيّة أو التكليفيّة التابعة لها اللازمة لها حجّة دون غيرها من الأحكام التكليفيّة الابتدائيّة الغير التابعة لحكم وضعي ولا الأحكام الوضعيّة المبنيّة على الدوام أو التوقيت ، وهذا كما ترى يغاير التفصيل المعروف منه ، ومع ذلك فاللازم من كلامه عدم كونه تفصيلا في مسألة حجّيّة الاستصحاب مع فرض جريانه ، بل هو فيما نفاه إنكار لأصل الاستصحاب ونفي لجريانه لا أنّه نفي لحجّيته مع فرض جريانه ، فهو في الحقيقة من المطلقين لحجّية الاستصحاب القائلين بها في جميع موارد جريانه من جهة الأخبار ، إذ القائلون بحجّيته مطلقا لا يريدون بها الحجّية حتّى فيما ليس بجار فيه من الموارد ، بل معناها الحجّية مطلقا في مجاريه ، وهذا يوافق مختاره.

غاية ما هنالك أنّ بينه وبين غيره نزاعا موضوعيّا ، وهو أنّ الاستصحاب هل يجري في الأحكام التكليفيّة الابتدائيّة والأحكام الوضعيّة الثابتة على وجه الدوام أو التوقيت أو لا؟ فهو ناف لجريانه فيها لا أنّه ناف لحجّيته على تقدير جريانه.

وربّما تهافت كلماته من حيث إنّه ادّعى حجّيّة الاستصحاب في الأحكام الوضعيّة ، ومعناه كون المستصحب حيثما يجري نفس الحكم الوضعي ، ومثّل له بما يقضي بكون المستصحب موضوع الحكم الوضعي وهو النجاسة في الماء المتغيّر والطهارة في المتيمّم ، ضرورة أنّ الحكم الوضعي فيهما كون النجاسة سببا لوجوب الاجتناب وكون الطهارة

ص: 335


1- الوافية : 203 ، 200.

شرطا لصحّة الصلاة ، ونفس النجاسة والطهارة موضوع له وقد فرض الاستصحاب فيه لا في الحكم.

وبالجملة الحكم الوضعي في سلسلة الأسباب والشرائط والموانع سببيّة السبب وشرطيّة الشرط ومانعيّة المانع ، لا ذات السبب وذات الشرط وذات المانع ، ومورد الاستصحاب بل المستصحب على ما فرضه إنّما هو ذات السبب والشرط والمانع لا سببيّة الأوّل وشرطيّة الثاني ومانعيّة الثالث ، إلاّ أن يحمل الحكم الوضعي في كلامه على إرادة موضوعه وهو الذات ، فكانت مسامحة واضحة.

إلاّ أنّه على هذا الحمل يندفع عنه ما قد يورد على ما ذكره من أنّ المضايقة بمنع كون الخطاب الوضعي داخلا في الحكم الشرعي ممّا لا يضرّ فيما نحن بصدده ، من أنّ الحكم الوضعي إذا لم يكن حكما مستقلاّ محقّقا متأصّلا بل كان أمرا اعتباريّا انتزاعيّا ينتزعه العقل من الخطاب التكليفي فليس قابلا للاستصحاب ، فكيف يقول بأنّه لا يضرّ فيما هو بصدده؟

ووجه الاندفاع : أنّ المستصحب - بناء على تقريره - موضوع الحكم الوضعي لا نفسه ليضرّ في جريانه كونه أمرا اعتباريّا ، فليتأمّل.

ثمّ يبقى الكلام معه فيما أنكره من جريان الاستصحاب في الامور المذكورة من التكليفيّات والوضعيّات الّتي منها الأمر الموقّت الّذي استدلّ على عدم جريانه فيه بكون وجوب ذلك الشيء أو ندبه في كلّ جزء من أجزاء ذلك الوقت ثابتا بذلك الأمر ، فالتمسّك في ثبوت الحكم في الزمان الثاني بالنصّ لا بثبوته في الزمان الأوّل حتّى يكون استصحابا.

وفيه : أنّ الموقّت قد يشكّ في بقائه في جزء من أجزاء الوقت باعتبار الشكّ في الإتيان به وعدمه فيستصحب ، وقد يشكّ في بقائه باعتبار تردّد آخره بين زمان وما بعده إمّا لعدم تعرّض دليله لبيان الآخر ، أو لوقوع الخلاف فيه ، أو لاختلاف الأخبار فيه كالعشاء المردّد آخره - ولو في حقّ المضطرّ - بين نصف الليل وطلوع الفجر ، أو لورود بيان آخره بلفظ مجمل كغروب الشمس في تحديد آخر الظهرين بل العصر المردّد بين استتار القرص وذهاب الحمرة ، أو لمانع خارجي أوجب اشتباه الآخر والشكّ في دخوله من غيم وعمى ونحوهما ، مع فرض تبيّن كون الآخر بحسب الشرع بالنسبة إلى العصر أو صوم نهار رمضان هو ذهاب الحمرة ، فيستصحب الوجوب في الجميع.

إلاّ أن يقال : بكونه في الجميع ممّا يرجع إلى استصحاب الوقت وهو من قبيل الشرط

ص: 336

إن صحّ في غير الصورة الأخيرة ، فتأمّل. وقد يصحّ الاستصحاب في الموقّتات من جهة الأحوال الطارئة لها لا من جهة أجزاء الوقت ، كما لو دخل الوقت على الحاضر فسافر قبل فعل الصلاة ، أو على المسافر فحضر قبل فعلها ، فيستصحب وجوب الإتمام في الأوّل ووجوب القصر في الثاني ، كما تمسّك به القائلون بكون العبرة في نحوه بحال الوجوب لا الأداء إن لم يخدشه كونه من تبدّل الموضوع ، فتأمّل.

والأولى أن يقال : إنّ الضابط في عدم جريان الاستصحاب في حكم تكليفي أو وضعي أو غيرهما عدم تحقّق شيء من شروط جريانه من اليقين السابق ، والشكّ اللاحق وعدم سريانه ، وبقاء موضوع المستصحب ، ولا جهة لعدم جريانه في الأحكام التكليفيّة الابتدائيّة أو الوضعيّة المؤبّدة أو الموقّتة حسبما زعمه الفاضل إلاّ توهّم عدم تحقّق شكّ فيها.

وفيه : أنّ إنكار تحقّقه فيها يشبه بكونه من إنكار الواضحات ، فإنّ الحكم التكليفي قد يثبت بدليله ولم يعلم استمراره باحتمال الفوريّة فيشكّ في بقائه بعد انقضاء زمان الفور كوجوب ردّ السلام بعد فواته في زمان الفور.

وقد يثبت مع العلم باستمراره في الجملة ولكن يشكّ في مقدار استمراره كوجوب صلاة الكسوفين المشكوك في استمراره إلى الشروع في الانجلاء أو إلى تمام الانجلاء ، ومحرّمات الحائض ومكروهاتها المشكوك في استمرار الحرمة والكراهة فيه إلى حصول نقاء الدم أو إلى حصول الاغتسال ، وإباحة تناول المفطرات في ليل الصيام المشكوك استمرارها إلى الفجر الأوّل أو الثاني ، ووجوب الصوم أو وجوب صلاة العصر المشكوك استمرارهما إلى استتار القرص أو ذهاب الحمرة.

وقد يثبت ويعلم استمراره إلى غاية معيّنة ويشكّ في بقائه للشكّ في دخول الغاية ، وقد يكون من الموقّت أو الموسّع الغير الموقّت ويشكّ بقاؤه في جزء من الوقت للشكّ في الإتيان به كالظهرين مثلا ، وصلاة الزلزلة وغيرها ممّا وقته العمر.

وقد يشكّ البقاء في الموقّت أو الموسّع للشكّ في عروض الرافع أو رافعيّة العارض ، ويتحقّق ذلك في الأحكام الوضعيّة المؤبّدة أو الموقّتة ، فإنّ إباحة التصرّفات والاستمتاعات في الملك المسبّبة من الإيجاب والقبول وإن كانت ثابتة على نحو الدوام حسبما فرضه الفاضل مثالا لثبوت السببيّة على نحو الدوام - إلاّ أنّه قد يشكّ في بقائها لاحتمال عروض ما يرفعها من فسخ أو إقالة أو غيرهما من المخرجات عن الملك. هذا مع المناقشة في أنّ

ص: 337

الإباحة المذكورة ليست من السببيّة ولا محلاّ لها بل هي أثر مترتّب على السبب ومسبّب فيه.

لا يقال : إنّ من دأب الحاكم إذا كان حكيما أن يلاحظ موضوع حكمه بجميع مشخّصاته أوّلا ثمّ يحكم عليه بما أراد وشاء من وجوب أو ندب أو غيرهما ، وقضيّة ذلك عدم جريان الاستصحاب في حكم شرعي يشكّ في بقائه وارتفاعه باعتبار الشكّ في المقتضي - أعني استعداده للاستمرار - لأنّ الشارع إمّا أن يلاحظ موضوع الحكم - كردّ السلام مثلا - مقيّدا بالزمان الأوّل أو يلاحظه لا بهذا القيد ، وعلى التقديرين لا معنى لاستصحاب وجوبه ، لاستلزام الأوّل يقين الارتفاع في الزمان الثاني ، واستلزام الثاني يقين البقاء فلا شكّ على التقديرين.

لأنّا نقول : هذا إنّما يتوجّه إذا علم كون الموضوع في لحاظ الآمر مقيّدا أو مطلقا لمكان اليقين بالارتفاع على الأوّل والبقاء على الثاني فلا شكّ على التقديرين. وأمّا إذا لم يعلم أحد التقديرين فلا مانع من استصحاب الحكم ، وهو الوجوب المشكوك فوريّته. إلاّ توهّم عدم كون بقاء موضوع المستصحب محرزا.

ويدفعه : أنّ الضابط في موضوع المستصحب وإحراز بقائه العرف ، ونراهم في مثل ردّ السلام بعد انقضاء زمان الفور يحكمون ببقائه ، ولو بالبناء على نحو من المسامحة في عدم الاعتناء باحتمالي التقييد والإطلاق وجعله نفس ردّ السلام على طريقة الإهمال.

ولا ريب أنّه على هذا الوجه باق فيما بعد زمان الفور ، والتشكيك في بقائه إنّما هو من مقتضى المداقّة العقليّة وهي عند الأصحاب في كثير من المقامات بمعزل عن السقوط (1) بجعلهم المورد ممّا بقي فيه موضوع المستصحب بالبناء على المسامحة العرفيّة ومن ذلك تمسّكهم باستصحاب وجوب التمام عند الشكّ في حدوث التكليف بالقصر ، واستصحاب الكرّيّة وعدمها ، واستصحاب الليل أو النهار وغير ذلك من الامور التدريجيّة المتجدّدة شيئا فشيئا.

وبالجملة ضابط جريان الاستصحاب المبنيّ على بقاء موضوع المستصحب هو كون القضيّة المشكوكة في الزمان الثاني هي عين القضيّة المتيقّنة في نظر أهل العرف بلا تفاوت بينهما ، إلاّ في وصفي اليقين والشكّ الراجعين إلى الحكم لا إلى موضوعه ، ولا في الزمان المختلف بالسبق واللحوق المجعول بالاعتبارين ظرفا لليقين والشكّ من دون مدخليّة له في الموضوع أيضا ولو باعتبار المسامحة.

ص: 338


1- كذا في الأصل ، والأوفق بسياق العبارة هو : « بمعزل عن التحقيق » ، واللّه العالم.

القول بالتفصيل بين الامور العدميّة والوجوديّة

ومن التفاصيل : الفرق في حجّيّة الاستصحاب بين الامور العدميّة فالحجّية والامور الوجوديّة فعدم الحجّية.

وربّما يشكل الحال في عدّه قولا بالتفصيل مقابلا لانكار الحجّية رأسا مع ملاحظة ما تقدّم عند تحرير محلّ النزاع من نفي الخلاف تارة ودعوى الإجماع اخرى على حجّيّة الاستصحاب في العدميّات ، القاضي بخروجها عن محلّ النزاع وانحصاره في الوجوديّات ، فلو صحّحنا هذه الدعوى لم يعقل كون ما ذكر تفصيلا في المسألة ، بل هو قول بنفي الحجّية رأسا فيما هو محلّ النزاع.

ولكنّ الّذي يهوّن الخطب في ذلك هو ما قدّمناه من منع دعوى خروج العدميّات عن محلّ النزاع ، بدعوى عمومه لها أيضا استنادا إلى شواهد سبق ذكرها.

ويمكن أن يستشهد له أيضا بظواهر عبائر الحاجبي والعضدي والتفتازاني ، ففي المختصر : « الاستصحاب : الأكثر كالمزني والصير في والغزالي على صحّته ، وأكثر الحنفيّة على بطلانه ، سواء كان نفيا أصليّا أو حكما شرعيّا (1) » فإنّ التعميم بعد نقل الخلاف يقضي بعموم الخلاف للنوعين ، بناء على كون المراد بالنفي الأصلي مطلق الأمر العدمي وبالحكم الشرعي الحكم الشرعي الوجودي ، وإنّما جعله مقابلا للأمر العدمي لأنّ عدم الحكم فيما كان المطلوب بالاستصحاب هو العدم ليس حكما شرعيّا.

وعلى طبقه عبارة العضدي في الشرح قائلا بعد تعريف الاستصحاب بما سمعته مرارا - : « وقد اختلف في صحّة الاستدلال به لا فادته ظنّ البقاء وعدمها لعدم إفادته إيّاه ، فأكثر المحقّقين كالمزني والصير في والغزالي على صحّته ، وأكثر الحنفيّة على بطلانه فلا يثبت به حكم شرعي ، ولا فرق عند من يرى صحّته بين أن يكون الثابت به نفيا أصليّا ، كما يقال فيما اختلف في كونه نصابا : لم يكن الزكاة واجبة عليه والأصل بقاؤه ، أو حكما شرعيّا مثل قول الشافعيّة في الخارج من غير السبيلين : أنّه كان قبل خروج الخارج متطهّرا والأصل البقاء حتّى يثبت معارض والأصل عدمه (2) ».

وعلى طبقه عبارة التفتازاني في شرح الشرح قائلا : « وقد اتّفق أكثر المحقّقين كالمزني والصير في والغزالي على صحّة الاحتجاج به ، واتّفق أكثر الحنفيّة على بطلان الاحتجاج به ، سواء كان الاستصحاب نفيا أصليّا وهو استصحاب بقاء النفي الأصلي ، أو حكما شرعيّا

ص: 339


1- مختصر الاصول 2 : 453.
2- شرح مختصر الاصول 2 : 453.

مثل قول الشافعيّة في الخارج عن السبيلين : الإجماع منعقد على أنّ المحكوم عليه بالطهارة قبل خروج الخارج متطهّر والأصل البقاء على الطهارة حتّى يثبت معارض لها والأصل عدم المعارض (1) » انتهى.

نعم قد تقدّم منه سابقا كلام آخر وهو أنّ خلاف الحنفيّة إنّما هو في الإثبات دون النفي ، وهذا يقضي بكون الاستصحاب في النفي وفاقيّا بين الحنفيّة وأكثر المحقّقين ، إلاّ أنّه لا ينفي أصل الخلاف في النفي أيضا. ونحن بعد جميع اللتيّا والّتي لو سلّمنا الوفاق على الاستصحاب العدمي فإنّما نسلّمه في خصوص عدم التكليف المعبّر عنه بالبراءة الأصليّة ، وهو أيضا محتمل للنفي الأصلي في العبائر المذكورة بناء على كونه اصطلاحا عندهم في البراءة الأصليّة ، ولو تماشينا مع مدّعي خروج العدميّات عن محلّ النزاع زيادة على ذلك لعدّينا إلى الاصول العدميّة المعمولة في باب الألفاظ كعدم النقل وعدم القرينة وما أشبه ذلك ، إن جعلناها من باب الاستصحاب ، وأمّا خروج مطلق العدميّات فكلاّ ، وعليه فيستقيم عدّ التفصيل المذكور قولا في مقابل القول بنفي الحجّيّة مطلقا.

وربّما يشتبه معنى عدم حجّيّة الاستصحاب في الامور الوجوديّة حسبما أراده هذا القائل ، فإمّا أن يراد به أنّ الاستصحاب لا يوجب الحكم ببقاء المستصحب الوجودي وإن قصد به ترتيب أمر عدمي عليه كاستصحاب حياة زيد الغائب لترتيب عدم جواز تزويج امرأته بغيره ، أو يراد به أنّ الأمر الوجودي لا يثبت بالاستصحاب ولو كان من جهة ترتّبه على المستصحب العدمي الّذي يحكم ببقاء عدمه من جهة الاستصحاب كترتّب انتقال مال مورّث زيد الغائب الّذي مات حال غيبته على عدم موته الّذي يحكم ببقائه بالاستصحاب.

وجهان ، أظهرهما الأوّل ، لظهور التعبير بالاستصحاب في الامور العدميّة والامور الوجوديّة والفرق بينهما بحجّيّة الأوّل وعدم حجّيّة الثاني في الفرق بين الاستصحابين في الحجّيّة والعدم بالنسبة إلى المستصحب العدمي والمستصحب الوجودي.

ولعلّ مستند الفرق حسبما رامه القائل هو أنّ ظنّ البقاء بملاحظة الحالة السابقة الّذي عليه مدار حجّيّة الاستصحاب إنّما يتأتّى في الامور العدميّة دون الوجوديّة ، وذلك أنّ العدم لا يتوقّف في ابتدائه ولا استمراره إلى علّة بل يكفي فيه انتفاء علّة الوجود ، فإذا علم عدم شيء في زمان للعلم بانتفاء علّة وجوده فيه ظنّ بملاحظته بقاؤه في الزمان الثاني أيضا ،

ص: 340


1- حاشيه شرح مختصر الاصول 2 : 284.

بخلاف الوجود فإنّه يفتقر إلى علّة في ابتدائه واستمراره معا ، فإذا علم وجود شيء في زمان للعلم بوجود علّة وجوده لم يلزم منه بملاحظته العلم ولا الظنّ بوجوده في الزمان الثاني ، إلاّ على تقدير العلم أو الظنّ ببقاء علّة وجوده أو وجود علّة بقائه.

ومن هنا ظهر الوجه في عدم اقتضاء الاستصحاب ترتّب الأمر العدمي على المستصحب الوجودي على هذا القول ، فإنّه إذا لم يفد ظنّ البقاء في الملزوم الّذي هو المستصحب الوجودي لزمه عدم ظنّ البقاء في لوازمه وجوديّة أو عدميّة ، فإذا لم يحصل الظنّ باستصحاب حياة زيد ببقاء حياته لم يحصل الظنّ بعدم جواز تزويج امرأته بغيره ، وهذا هو معنى عدم اعتبار الاستصحاب بالنسبة إلى المستصحب الوجودي ولو لترتيب أمر عدمي عليه.

ويرد على هذا القول - بناء على استناده إلى الدليل المذكور - ما أشرنا إليه من الإشكال عند تحرير محلّ النزاع على مدّعي خروج العدميّات عن محلّ النزاع من أنّه ما من استصحاب عدمي إلاّ وفي مورده أمر وجودي وإن كان لكونه ضدّا وجوديّا للمستصحب العدمي ، فيلزم من الظنّ ببقاء عدم المستصحب العدمي الظنّ ببقاء وجود ذلك الأمر الوجودي ، مثلا يلزم من الظنّ بعدم موت الغائب الظنّ بحياته ، وقضيّة ذلك أن يظنّ عدم جواز تزويج امرأته وانتقال مال مورّثه إليه ، وهذا يغني عن التكلّم في اعتباره في الوجوديّات ، والتكلّم في أنّ الأمر الوجودي هل يثبت بالاستصحاب؟ ولو من جهة ترتّبه على المستصحب العدمي.

وتوهّم دفعه : بأنّ اعتبار الاستصحاب في العدميّات عند هذا القائل لعلّه ليس لأجل الظنّ بالأعدام لينشأ منه الظنّ بالوجودات ، بل لبناء العقلاء في امور معاشهم على الاعتماد على الحالة السابقة والأخذ بها بمقتضى جبلّتهم.

يندفع : بما قيل من أنّ عمل العقلاء في معاشهم على ما لا يفيد الظنّ بمقاصدهم والمضيّ في امورهم بمجرّد الشكّ والتردّد في غاية البعد ، بل لا وجه له بعد ملاحظة عدم جواز الترجيح بلا مرجّح ، ولذا تقدّم التمسّك ببناء العقلاء لا ثبات الاستصحاب مطلقا من حيث الظنّ بتقريب : أنّ بناءهم على الأخذ بمقتضى الحالة السابقة والحكم ببقائها في الزمان الثاني لابدّ وأن يكون عن مرجّح وليس إلاّ الظنّ.

وأضعف من هذا التوهّم توهّم دفعة أيضا : بأنّ المعتبر عند العقلاء من الظنّ

ص: 341

الاستصحابي هو الحاصل ببقاء الشيء من تحقّقه السابق ، لا الظنّ الناشئ من هذا الظنّ بالقياس إلى ما عدا المستصحب العدمي من لوازمه وجوديّة أو عدميّة ، ويكفي في ضعفه ملاحظة أنّ ظاهر كلام القائلين بالاستصحاب من حيث الظنّ وصريح بعضهم بناء حجّيّة الظنّ الاستصحابي على كونه ظنّا والظنّ بقول مطلق حجّة ، ولذا جعل العضدي الخلاف في صحّة الاستدلال بالاستصحاب وعدمه في أمر صغروي ، وهو أنّه يفيد ظنّ البقاء أو لا يفيده؟ وهذا لا يستقيم إلاّ بعد الفراغ عن اثبات كون مناط دليليّة الدليل وصحّة الاستدلال به الظنّ بالحكم ، وقضيّة ذلك أن لا يفرّق بين أفراده ولا موارده ولا أسبابه ، وأمّا دفع الإشكال أيضا بالبناء على بطلان الاصول المثبتة ، فلا يلزم من ثبوت العدم بالاستصحاب ثبوت ما قارنه من الامور الوجوديّة اللازمة له عقلا أو عرفا.

فيمكن دفعه : بأنّ بطلان الاصول المثبتة إنّما هو على طريقة من يرى الاستصحاب من باب التعبّد من جهة الأخبار كما هو المختار لما سنوجّهه في محلّه مفصّلا.

وملخّصه : عدم قضاء الأخبار إلاّ على وجوب ترتيب الآثار المترتّبة على المستصحب شرعا عليه المعبّر عنها باللوازم الشرعية ، ومعناه : أن يترتّب عليه في زمان الشكّ كلّ ما كان من الآثار مترتّبا عليه شرعا في زمان اليقين ، وأمّا على طريقة من يراه من باب الظنّ فالظاهر عدم الفرق في اللوازم الواجب ترتيبها على المستصحب بين اللوازم الشرعيّة والعقليّة والعاديّة ، لأنّ مناطه الظنّ المتساوي نسبته إلى الجميع ، مع ملاحظة قضاء البداهة بأنّ الظنّ بالشيء يقتضي الظنّ بجميع لوازمه شرعيّة وعقليّة وعاديّة.

والانصاف : أنّ الإشكال المذكور ممّا لا مدفع له ، والالتزام بذلك أولى من القصد إلى دفعه بمنع الاطّراد - لو اريد اطّراد لزوم الأمر الوجودي للمستصحب العدمي - بأن يقال : انّه ربّ استصحاب عدمّي ليس في مورده ضدّ وجوديّ يترتّب وجوده على عدم المستصحب العدمي الثابت بقاؤه بالاستصحاب ، ومن ذلك استصحاب عدم الوجوب أو الحرمة الثابت قبل وجود المكلّف أو قبل بلوغه مع عدم ترتّب وجود شيء من الأحكام الباقية على وجه يكون الحكم المجعول للواقعة بعد نفي الوجوب أو الحرمة بالاستصحاب هو ذلك الحكم من اباحة ونحوها ، إلاّ إذا قام دليل من الخارج عليه.

ومنه أيضا أصالة عدم التذكية ، وأصالة عدم القرينة ، واستصحاب عدم العدالة بمعنى الملكة الراسخة الّتي تبعث على ملازمة التقوى ، واستصحاب عدم الفسق بمعنى ارتكاب

ص: 342

الكبائر أو الإصرار على الصغائر ، بناء على ثبوت الواسطة بينهما وهو المجتنب عن الكبائر الغير المصرّ على الصغائر لا عن ملكة ، وهي الهيئة الراسخة في النفس الباعثة على الاجتناب وعدم الإصرار ، فلا يثبت الفسق بالأوّل ولا العدالة بالثاني لجواز الواسطة ، ونحوه الكلام في كلّ ضدّين بينهما واسطة أو وسائط.

نعم إنّما يستقيم دعوى اللزوم في كلّ ضدّين لا ثالث لهما ، فيلزم من استصحاب عدم أحد الضدّين وجود الضدّ الآخر لا محالة.

وأمّا بطلان هذا القول فيظهر بإبطال دليله المتقدّم لو كان هو دليله ، فيرد عليه أوّلا : أنّ الفرق المذكور - وهو أنّ ظنّ البقاء يتأتّى في الامور العدميّة ولا يتأتّى في الامور الوجوديّة - غير متعقّل ، إذ غاية ما هنالك أنّ العدم ليس كالوجود ليفتقر إلى علّة بل يكفي فيه انتفاء علّة الوجود ، إلاّ أنّه لا بدّ في العلم أو الظنّ به من العلم أو الظنّ بانتفاء علّة الوجود ، كما أنّه لا بدّ في العلم أو الظنّ بالوجود من العلم أو الظنّ بوجود علّة الوجود ، فكما أنّه في الزمان الثاني في الأمر الوجودي لا يحصل العلم ولا ظنّ بالوجود بمجرّد ملاحظة الوجود في الزمان الأوّل ، بل لا بدّ فيهما من العلم أو الظنّ ببقاء علّة الوجود أو وجود علّة البقاء. فكذلك في الأمر العدمي فلا يحصل العلم ولا الظنّ ببقاء العدم في الزمان الثاني بمجرّد ملاحظة ثبوت العدم في الزمان الأوّل ، بل لا بدّ فيهما من العلم أو الظنّ بانتفاء علّة الوجود في الزمان الثاني أيضا كما كان منتفيا في الزمان الأوّل.

هذا مع أنّه مبنيّ على القول بالاستصحاب من حيث الظنّ ولقد أبطلناه وزيّفناه من أصله بما لا مزيد عليه ، فعلى القول به من باب التعبّد من جهة الأخبار لا فرق بين العدميّات والوجوديّات ، لأنّ مرجعه حينئذ إلى عدم نقض اليقين بالشكّ ، ومعناه ترتيب آثار المتيقّن - وهو المستصحب - المترتّبة عليه في زمان اليقين عليه في زمان الشكّ ، ولا يتفاوت الحال فيه بين كونه أمرا عدميّا أو أمرا وجوديّا.

لكن قد يقال : إنّه على القول بالاستصحاب من باب التعبّد أيضا كان القول بالفرق متّجها ، لرجوعه عند التأمّل إلى ما يقرب من مذهب المحقّق الخوانساري القائل بحجّية الاستصحاب فيما دلّ الدليل على استمرار الحكم إلى غاية معيّنة وشكّ في حصول الغاية (1) ومذهب المحقّق السبزواري القائل به فيما كان الشكّ من جهة المانع بمعنى

ص: 343


1- مشارق الشموس : 75 - 76.

الرافع (1) ومذهب صاحب الفصول القائل به فيما له استعداد البقاء وقابليّة الاستمرار (2) ، فإنّ هذه المذاهب الثلاث مع استنادها إلى الأخبار متقاربة ، باعتبار اتّحادها موردا وكونها متشاركة في تخصيص الاستصحاب بما كان المقتضي لوجوده المطلق - أعني الوجود المسبوق بالعدم والوجود المسبوق بالوجود - المعبّر عن الأوّل بالحدوث وعن الثاني بالبقاء محرزا وكان الشكّ في البقاء والارتفاع باعتبار احتمال طروّ ما يرفعه ، فهؤلاء مطبقون على القول باستصحاب الطهارة في المتطهّر إذا طرأه الشكّ في الحدث ، إلاّ أنّ الخوانساري يقول باستصحابها لأنّها ما دلّ الدليل على استمرارها بعد الوضوء أو الغسل الّذي هو المقتضي لها إلى غاية حصول الحدث. والسبزواري يقول به لأنّها ما شكّ في بقائها من جهة المانع ، وصاحب الفصول يقول به لما فيها من استعداد البقاء وقابليّة الاستمرار ، وهذا القائل أيضا يقول بالاستصحاب في نحو هذا المورد الّذي ضابطه كون المقتضي محرزا وكون الشكّ من جهة المانع.

غاية الأمر في الفرق بين مختاره ومختار هؤلاء أنّهم في نحو المثال المذكور يعتبرون الاستصحاب في نفس الطهارة الّتي هي أمر وجودي ، وهذا يعتبره في عدم الحدث الّذي هو أمر عدمي بزعم عدم جريانه فيما عداه من الامور الوجوديّة اللازم وجودها لعدم ذلك الأمر العدمي.

وتوضيح ذلك : أنّ العدم في الأمر العدمي الّذي يراد استصحابه قد يكون جزءا من علّة وجود الشيء ابتداء كعدم القرينة الّذي هو مع الوضع علّة لحمل اللفظ على حقيقته ، وعدم التذكية الّذي هو مع الموت علّة لنجاسة الحيوان وحرمة أكله ، وما أشبه ذلك من الأمثلة. وقد يكون جزءا من علّة بقائه كعدم موت زيد الغائب الّذي هو مع العقد الواقع على امرأته علّة لبقاء حرمة تزويجها بغيره ، وعدم الحدث في المتطهّر الّذي هو مع الوضوء أو الغسل علّة لبقاء طهارته ، وما أشبه ذلك من الأمثلة.

والعلّة في الجميع مركبّة من أمر وجودي هو المقتضي وأمر عدمي هو فقد المانع الّذي يحرز فقده باستصحاب العدم ، وهذا الأمر العدمي الّذي وجوده مانع ، منعه في القسم الأوّل من باب الدفع وفي القسم الثاني من باب الرفع ، فالمانع المقابل للمقتضي هنا يراد به المعنى العامّ للدافع والرافع ، والامور العدميّة الّتي يستصحب عدمها عند هذا القائل لا تخلو عن

ص: 344


1- الذخيرة : 115.
2- الفصول : 369.

أحد هذين القسمين : فاللازم من مذهبه عدم حجّيّة الاستصحاب فيما كان الشكّ من جهة المقتضي كما هو مذهب هؤلاء الجماعة ، وفيما كان الشكّ من جهة المانع أيضا لو جعل المستصحب هو الأمر الوجودي لا الأمر العدمي.

فرجع قول هذا القائل بعدم حجّيّة الاستصحاب في الامور الوجوديّة إلى أنّ من الامور الوجوديّة ما كان الشكّ فيه باعتبار المقتضي كالنجاسة في الماء المتغيّر إذا زال تغيّره بنفسه ، ومنها : ما كان الشكّ فيه باعتبار احتمال وجود المانع بمعنى الدافع ، ومنها : ما كان الشكّ فيه باعتبار احتمال وجود المانع بمعنى الرافع ، وأيّا ما كان فلا استصحاب فيه.

أمّا الأوّل : فلعدم شمول قوله عليه السلام : « لا ينقض اليقين بالشكّ » (1) لما كان الشكّ فيه من جهة المقتضي كما زعمه الجماعة أيضا.

وأمّا الثاني : فلانتفاء الحالة السابقة كما يظهر وجهه بالتأمّل في مثالي استصحاب عدم القرينة واستصحاب عدم التذكية بالقياس إلى حمل اللفظ على الحقيقة والنجاسة والحرمة.

وأمّا الثالث فلأنّ الشكّ في بقاء الأمر الوجودي وارتفاعه مسبّب عن الشكّ في حدوث الرافع له ، والشكّ في بقاء الشيء إذا كان مسبّبا عن الشكّ في شيء آخر فلا يجتمع معه في الدخول تحت عموم « لا تنقض » ، سواء تعارض مقتضي اليقين السابق في الأوّل لمقتضي اليقين في الثاني أم تعاضدا ، بل الداخل فيه بمقتضى الاعتبار العقلي والانفهام العرفي هو الشكّ السببي ، فجرى فيه الاستصحاب دون الشكّ المسبّبي بنفسه ، وإن لزم من عدم الاعتناء بالأوّل عدم الاعتناء بالثاني أيضا كما هو معنى لا ينقض اليقين بالشكّ.

فظهر بعد التوجيه المذكور لهذا القول أنّه يوافق المذاهب الثلاثة المذكورة في الجملة ويخالفها في الجملة.

أمّا الموافقة ففي نفي حجّيّة الاستصحاب في أمر وجودي كان الشكّ فيه من جهة المقتضي.

وأمّا المخالفة ففي قصر الحجّية على الأمر العدمي الّذي هو دائما عبارة عن عدم وجود المانع بالمعنى الأعمّ - لا في الأمر الوجودي اللازم وجوده لذلك المستصحب العدمي - بل بمعنى الرافع خاصّة ، لأنّ عدم حجّيته في وجوديّ ليس له حالة سابقة وكان الشكّ في ابتداء وجوده لا في بقائه وفاقيّ ، بل إطلاق عدم الحجّية فيه مسامحة من باب سلب الحكم لانتفاء موضوعه ، إذ لا استصحاب فيما ليس له حالة سابقة ليكون حجّة ،

ص: 345


1- الوسائل 5 : 321 الباب 10 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح 3.

ومرجعه إلى عدم جريان الاستصحاب مع انتفاء اليقين السابق بل هو في نحوه يقتضي العدم ، لأنّ الأصل فيما شكّ في حدوثه عدم الحدوث ، كما ظهر أيضا أنّ دليله على عدم الحجّيّة في الامور الوجوديّة المنقسمة إلى الأقسام الثلاث المذكورة - بناء على استناده في إثبات الاستصحاب إلى الأخبار - مركّب من جزئين :

أحدهما : دعوى عدم دخول الاستصحاب الوجودي في عموم تلك الأخبار كما في القسم الأوّل والثالث.

وثانيهما : انتفاء الحالة السابقة المعتبرة في جريان الاستصحاب كما في القسم الثاني.

وطريق الجواب حينئذ : أنّه لا كلام في القسم الثاني من الامور الوجوديّة ، إذ لم يقل أحد بالاستصحاب وحجّيّته فيما ليس له حالة سابقة.

وأمّا القسم الأوّل فقد مرّ الإشارة إلى ضعف القول بعدم شمول قوله : « لا ينقض اليقين بالشكّ » لما كان الشكّ فيه من جهة المقتضي في خاتمة الاستدلال بالأخبار ، وسنتكلّم فيه أيضا على وجه التفصيل عند الكلام على المذاهب الثلاث المتشاركة في منع حجّيّة الاستصحاب في الشكّ في المقتضي وعند دفع مقالتهم هذه.

وأمّا القسم الثالث فصحّة دعوى عدم اندراج الشكّ المسبّبي في عموم : « لا ينقض اليقين بالشكّ » (1) بعد اندراج الشكّ السببي فيه مبنيّة على القول بورود الاستصحاب الموضوعي على الاستصحاب الحكمي ، استنادا إلى قاعدة عدم اجتماع الشكّ المسبّبي مع الشكّ السببي في الاندراج تحت عموم : « لا ينقض اليقين بالشكّ » (2) فعلى القول به - كما هو الأظهر على ما ستعرفه في مباحث تعارض الاستصحابين وغيرها - كان منع عموم الأخبار للاستصحاب الوجودي في نحو هذا القسم متّجها ، لكونه مع ما أشرنا إليه من وجه ورود الاستصحاب الموضوعي من واد واحد وإن كانا يتفارقان في اتّحاد مقتضى اليقين واختلافهما ، هذا.

ولكنّ الإنصاف : أنّ منع عموم « لا ينقض اليقين بالشكّ » (3) في مسألة المتطهّر الشاكّ في الحدث ونظائرها لاستصحاب الطهارة وعمومه لاستصحاب عدم الحدث مع كون الحاضر في الأذهان من أفراد اليقين والشكّ إنّما هو اليقين والشكّ في الطهارة لا اليقين

ص: 346


1- الوسائل 5 : 321 الباب 10 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح 3.
2- الوسائل 5 : 321 الباب 10 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح 3.
3- نفس الهامش السابق.

والشكّ في عدم الحدث - مضافا إلى ما يظهر بالتأمّل من كون مورد الأخبار الاستصحابيّة إنّما هو الاستصحابات الوجوديّة - خروج عن الإنصاف ، بل الظاهر من اليقين المنهيّ عن نقضه بالشكّ إنّما هو اليقين بوجود الحكم ، وهذا المعنى لو لم ندّع ظهوره في جميع أخبار الباب فلا أقلّ من كونه ظاهر بعضها ، وبه الكفاية في مؤنة إثبات حجّيّة الاستصحاب الوجودي ، وعليه فيتوجّه المنع إلى صحّة دعوى عدم الاندراج.

فطريق الجواب عن الدليل المذكور في هذا القسم والقسم الأوّل واحد ، وحينئذ فلا بدّ إمّا من إنكار قاعدة عدم اجتماع الشكّ المسبّبي مع الشكّ السببي في الاندراج تحت العموم رأسا ، أو تخصيصها بما لو كان متعلّق الشكّ المسبّبي ومتعلّق الشكّ السببي أمرين وجوديّين ، محافظة على قاعدة الورود فيما لو اختلف مقتضى اليقينين.

مقالة النراقي في المناهج

ثمّ إنّ هذا القول بعد التوجيه المذكور وإبداء الفرق بينه وبين المذاهب الثلاث المتقدّمة ربّما يظهر اختياره من الفاضل النراقي في مناهجه ، إلاّ أنّه عبّر عنه بحجّيّة استصحاب حال العقل دون استصحاب حال الشرع ، مريدا بحال العقل مطلق الأمر العدمي وبحال الشرع خصوص الحكم الشرعي الوجودي ، حيث أشار إلى اختياره في ذيل الفائدة الاولى من الفوائد الّتي ذكرها في خاتمة مسألة الاستصحاب ، فقال : « وقد تلخّص أنّ الأحكام الثابتة إنّما يحكم ببقائها بالاستصحاب إذا شكّ في المزيل لا في غيره ، وأنّ الحجّة من الاستصحاب ما كان الشكّ المعتبر فيه من هذا القبيل ، ولكن لا استصحاب حال الشرع بل استصحاب حال العقل.

ومن هذا يظهر الفرق بين ما قلنا وبين قول من خصّ حجّيّة الاستصحاب بما إذا كان الشكّ في المزيل ، فإنّ الظاهر أنّه يريد استصحاب حال الشرع ، ولو أراد ما قلنا كما هو المحتمل فنعم الوفاق » انتهى ملخّصا.

واحتجّ لعدم حجّيّة استصحاب حال الشرع فيما قبل ذلك بتعارضه مع استصحاب حال العقل غير ما هو الحجّة منه ، وأوضحه فيما قبل ذلك أيضا في مسألة تعارض الاستصحابين المحكوم عليهما بعدم إمكان العمل بشيء منهما فيتساقطان ، بأنّه : « إذا قال الشارع في ليلة الجمعة مثلا : صم ، وقلنا : بأنّ الأمر للفور وكنّا متوقّفين في إفادته المرّة أو التكرار ، فنقطع بوجوب صوم يوم الجمعة ونشكّ في السبت ، وفيه يتعارض الاستصحابان لأنّا كنّا يوم الخميس متيقّنين بعدم وقوع التكليف بصوم يوم الجمعة ولا السبت ، وبعد ورود

ص: 347

الأمر قطعنا بتكليف صوم يوم الجمعة وشككنا في السبت ، وهذا الشكّ مستمرّ من حين ورود الأمر وإلى يوم السبت ، ولا ينقض اليقين بالشكّ فيستصحب عدم تكليف يوم السبت بالصوم ، وكذا نقطع يوم الجمعة بالصوم ونشكّ في السبت فيستصحب التكليف - أعني وجوب الصوم - فيحصل التعارض.

فإن قلت : عدم التكليف المعلوم قبل الأمر إنّما يستصحب لو لا الدليل على التكليف ، واستصحاب الوجوب المتيقّن في الجمعة دليل شرعي فيرتفع عدم التكليف وينقض اليقين باليقين.

قلنا : مثله يجري في الطرف الآخر ، فيقال : وجوب صوم الجمعة إنّما يستصحب لو لا الدليل على عدمه ، واستصحاب عدمه المتيقّن قبل ورود الأمر دليل شرعي ، فيرتفع الوجوب.

لا يقال : إنّ العلم بالعدم قد انقطع وحصل الفصل فكيف يستصحب.

لأنّا نقول : إنّه لم يحصل فصل أصلا بل كنّا قاطعين بعدم إيجاب يوم السبت يوم الخميس ، وشككنا فيه بعد الأمر ولم نقطع بوجوب صومه أصلا فيجب استصحابه » انتهى.

وملخّص السؤال الّذي أشار إليه ثانيا بقوله : « لا يقال » أنّ اليقين السابق بعدم وجوب الصوم قد انتقض باليقين اللاحق بوجوبه ، وأنّ العدم المتيقّن سابقا قد انقطع وارتفع بالوجود المتيقّن لاحقا ، فلا شكّ في ارتفاع الحالة السابقة العدميّة ليصحّ استصحابها.

ومحصّل ما ذكره في الجواب : أنّ اليقين السابق بالعدم قد انتقض بقدر اليقين اللاحق بالوجود ، وأنّ المتيقّن بهذا اليقين قد انقطع على حسب مقدار الوجود المتيقّن لا ما زاد عليه ، وهو يوم السبت المشكوك في وجوب صومه ، فاليقين بالعدم بالنسبة إلى هذا الزمان غير منتقض بيقين ، ولا أنّ العدم بالقياس إليه منقطع بوجود وإلاّ لم يكن هناك شكّ.

وذكر أيضا بعد ذلك في أوائل الفائدة الاولى المشار إليها زيادة بيان لتعارض الاستصحابين بقوله : « إنّه إذا علم أنّ الشارع أمرنا بالجلوس يوم الجمعة ، وعلم أنّه واجب إلى الزوال ولم يعلم وجوبه فيما بعده ، فنقول : كان عدم التكليف بالجلوس قبل يوم الجمعة وفيه إلى الزوال وبعده معلوما قبل ورود أمر الشارع ، وعلم بقاء ذلك العدم قبل يوم الجمعة وعلم ارتفاعه والتكليف بالجلوس فيه قبل الزوال وصار بعده موضع الشكّ ، فهناك شكّ ويقينان ، وليس إبقاء حكم أحد اليقينين أولى من إبقاء حكم الآخر.

فإن قلت : يحكم ببقاء اليقين المتّصل بالشكّ وهو اليقين بالجلوس.

قلنا : إنّ الشكّ في تكليف ما بعد الزوال حاصل قبل مجيء يوم الجمعة وقت ملاحظة

ص: 348

أمر الشارع ، فشكّ في يوم الخميس مثلا حال ورود الأمر في أنّ الجلوس غدا هل هو مكلّف به بعد الزوال أيضا أم لا؟ واليقين المتّصل به هو عدم التكليف فيستصحب ويستمرّ ذلك إلى وقت الزوال » انتهى.

ثمّ تعدّى عن الشكّ في المقتضي كما هو الحال في مثالي الصوم والجلوس إلى الشكّ في المزيل للشكّ في رافعيّة الموجود أو في وجود الرافع ، وأجرى تعارض الاستصحاب الوجودي والاستصحاب العدمي في جميع فروضه وموارده ، وذكر من أمثلته وجوب الصوم إذا عرض مرض يشكّ معه في بقاء وجوب الصوم ، والطهارة إذا حصل الشكّ فيها لأجل المذي ، وطهارة الثوب المتنجّس بالبول إذا غسل بالماء مرّة ، فحكم في الأوّل بتعارض وجوب الصوم قبل عروض الحمى واستصحاب عدم وجوبه الأصلي قبل عروض الوجوب ، وفي الثاني بتعارض استصحاب الطهارة قبل المذي واستصحاب عدم جعل الشارع الوضوء سببا للطهارة بعد المذي ، وفي الثالث بتعارض استصحاب النجاسة قبل الغسل واستصحاب عدم كون ملاقاة البول سببا للنجاسة بعد الغسل مرّة ، فيتساقط الاستصحابان في نحو هذه الصور.

ثمّ دفع توهّم أنّه يلزم على هذا انتفاء الحكم الثابت أوّلا بمجرّد الشكّ ، فلا يبقى للعمل بالاستصحاب مورد حتّى فيما كان الشكّ من جهة المزيل ، بأنّه : « ليس كذلك بل يحكم ببقاء الحكم لكن لا لأجل استصحاب حال الشرع وهو استصحاب الحكم الوجودي ، بل لأجل استصحاب آخر من حال العقل وهو استصحاب عدم تحقّق المزيل فيما كان الشكّ في البقاء مسبّبا عن الشكّ في تحقّقه ، واستصحاب عدم جعل الشارع إيّاه مزيلا فيما كان الشكّ مسبّبا عن الشكّ في كونه مزيلا » انتهى ملخّصا.

ثمّ قال - في آخر هذه الفائدة - : « هذا في الامور الشرعيّة وأمّا الخارجيّة كاليوم والليل والحياة والرطوبة والجفاف وأمثالها ممّا لا دخل لجعل الشارع في وجودها ، فاستصحاب الوجود فيها حجّة بلا معارض ، لعدم تحقّق استصحاب حال عقل معارض لوجودها في مقام الشكّ » إنتهى.

وأوّل ما يرد عليه : منع تعارض الاستصحابين في مثالي الجلوس والصوم وغيرهما من أمثلة الشكّ في المقتضي ، ليكون ذلك منشأ لشبهة عدم حجّيّة الاستصحاب رأسا في صور هذا القسم ، وذلك لأنّ الزمان الأوّل أو اليوم الأوّل في المثالين ونظائرهما إمّا أن يكون في

ص: 349

لحاظ الآمر قيد للواجب - فيكون الواجب هو الجلوس المقيّد بما قبل الزوال ، والصوم المقيّد بيوم الخميس ، والمشكوك في وجوبه هو الجلوس المقيّد بما بعد الزوال ، والصوم المقيّد بيوم الجمعة - أو ظرفا للوجوب على معنى ثبوت الوجوب في ظرف هذا المقدار من الزمان مع الشكّ في ثبوته فيما بعده ، ومرجعه إلى الشكّ في مقدار امتداد الوجوب مع اتّحاد متعلّقه.

فإن كان الأوّل فليس هناك استصحاب وجودي ليعارضه الاستصحاب العدمي الجاري بالنسبة إلى الزمان الثاني ، واليوم الثاني للقطع بارتفاع وجوب أحد المقيّدين والشكّ في حدوث الوجوب للمقيّد الآخر ، ولا يعقل في نحوه استصحاب الوجوب فيكون استصحاب العدم بالنسبة إلى المقيّد الأوّل سليما.

وإن كان الثاني فليس هناك استصحاب عدمي ليعارض الاستصحاب المقتضي لبقاء الوجوب بالقياس إلى الزمان الثاني ، واليوم الثاني ، فإنّ معنى قوله عليه السلام : « لا ينقض اليقين بالشكّ » (1) - على ما بيّناه سابقا - هو المنع عن رفع اليد عن حكم اليقين بسبب الاعتناء بالشكّ ، ومرجعه إلى عدم الاعتناء بالشكّ وفرضه كأن لم يكن ، والشكّ الموجود في المثالين إنّما هو الشكّ في بقاء الوجوب وارتفاعه ، وهذا الشكّ لكون متعلّقة البقاء والارتفاع إنّما يرتبط باليقين اللاحق بالوجوب فوجب عملا بقوله : « لا ينقض اليقين بالشكّ » (2) عدم رفع اليد عن هذا اليقين بسبب الاعتناء بذلك الشكّ ، ومعناه فرض وجوده بمنزلة عدمه وهذا هو الاستصحاب الوجودي ، ولا يبقى بعده شكّ آخر [ حتّى ](3) يرفع اليد بسبب الاعتناء به عن حكم اليقين بعدم الوجوب المتحقّق به استصحاب عدمي معارض للاستصحاب الوجودي المفروض.

وبالجملة تحقّق استصحابين متعارضين مبنيّ على يقينين وشكّين ، فلا بدّ فيه مع تعدّد اليقين من تعدّد الشكّ ، والمفروض في المقام تعدّد اليقين ووحدة الشكّ ، وهذا الشكّ الواحد بملاحظة متعلّقه مرتبط باليقين بالوجوب ، فلا يلزم من العمل باستصحاب الوجوب نقض اليقين بعدم الوجوب بالشكّ لعدم شكّ آخر ينقض به هذا اليقين.

وإن شئت قلت : إنّ اليقين بالعدم إنّما نقض بيقين شرعي - بناء على أنّ اليقين الناقض

ص: 350


1- الوسائل 5 : 321 الباب 10 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح 3.
2- الوسائل 5 : 321 الباب 10 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح 3.
3- وفي الأصل : « لا » بدل ما أضفناه في المعقوفيتن ، ومعه لا يستقيم العبارة ولذا صحّحناه بما في المتن.

أعمّ من اليقين العقلي واليقين الشرعي - واليقين بالعدم الأزلي بالنسبة إلى الزمان الأوّل نقض باليقين العقلي ، وبالنسبة إلى الزمان الثاني وهو زمان الشكّ نقض بالاستصحاب ، وهو يقين شرعي لا بالشكّ ليكون ممّا نفاه قوله : « لا ينقض اليقين بالشكّ ».

لا يقال : إنّ انعكاس الفرض أيضا ممكن وهو أن يقال : إنّ استصحاب عدم الوجوب بالنسبة إلى زمان الشكّ يقين شرعي ، فترك العمل بمقتضى اليقين بالوجوب نقض له بذلك الاستصحاب الّذي هو يقين شرعي لا بالشكّ ، ودعوى عدم ارتباط الشكّ المفروض باليقين بعدم الوجوب لمكان تعلّقه ببقاء الوجوب وارتفاعه. يدفعها : أنّ هذا الشكّ هو الّذي حدث من حين ورود الخطاب والأمر من الشارع بالجلوس والصوم ، لأنّه أوجب الشكّ في انتقاض العدم الأزلي بالقياس إلى جلوس ما بعد الزوال وصوم يوم الجمعة وعدمه ، فيكون مرتبطا باليقين بالعدم ومن الواجب عملا بقوله : « لا ينقض اليقين بالشكّ » (1) عدم رفع اليد عن هذا اليقين بسبب الاعتناء بالشكّ المفروض ، وليس هنا شكّ آخر لئلاّ يرفع اليد بسبب الاعتناء به عن اليقين بالوجوب ، ومرجعه إلى أنّ رفع اليد عن هذا اليقين نقض لليقين باليقين الشرعي وهو الاستصحاب العدمي لا بالشكّ.

لأنّا نقول : - مع أنّ اللازم من ذلك كون المقام من تبادل الاستصحابين لا من تعارضهما ، فليس هناك إلاّ استصحاب واحد وهو على حدّ الانفصال الحقيقي إمّا استصحاب حال الشرع أو استصحاب حال العقل ، ويختلف بفرض الفارض واعتبار المعتبر - إنّ المتبادر إلى الذهن المنساق إلى الفهم في نحو المقام بعد ملاحظة قوله : « لا ينقض اليقين بالشكّ » (2) إنّما هو اليقين والشكّ من حيث تعلّقهما بالوجود حدوثا وبقاء.

فالّذي يجري في المورد بحسب متفاهم العرف إنّما هو الاستصحاب الوجودي ، وهو لكونه مثبتا للتكليف بالقياس إلى الاستصحاب العدمي النافي له بمنزلة الدليل المثبت للتكليف الوارد على الأصل النافي له ، فيكون واردا عليه رافعا لموضوعه الّذي هو الشكّ في انتقاض العدم بالنسبة إلى الزمان الثاني واليوم الثاني.

والسرّ فيه : أنّ الوجود ناقض للعدم فالعدم لا يعارض الوجود ، وكما أنّ الوجود الواقعي ناقض للعدم الواقعي فكذلك الوجود الشرعي الاستصحابي ناقض للعدم الشرعي الاستصحابي. لذا ذكرنا أنّ رفع اليد عن اليقين بالعدم بعد إعمال الاستصحاب الوجودي

ص: 351


1- تقدم آنفا.
2- تقدم آنفا.

نقض له بذلك الاستصحاب الّذي هو علم شرعي لا بالشكّ.

فملخّص ما ذكرناه في دفع شبهة التعارض : أنّ الزمان إن اخذ ظرفا للوجوب وغيره من الامور الوجوديّة المتيقّنة في وقت فلا يجري هنا إلاّ استصحاب وجوده ، لأنّ العدم قد انتقض بالوجود المطلق وقد حكم عليه بالاستمرار عملا بأدلّة الاستصحاب ، وإن اخذ قيدا له فلا يجري إلاّ استصحاب العدم ، لأنّ انتقاض عدم الوجود المقيّد لا يستلزم انتقاض المطلق والأصل عدم الانتقاض ، كما إذا ثبت وجوب صوم يوم الخميس بقوله : « صم يوم الخميس » وشكّ في يوم الجمعة.

وثاني ما يرد عليه : أنّ تعارض الاستصحابين حسبما زعمه إن صحّحناه إنّما يتأتّى فيما لم يعلم استعداده للبقاء والاستمرار ، أو لم يعلم مقدار استعداده لهما ، فلا يتأتّي فيما كان الشكّ باعتبار المزيل ، لعدم جريان الاستصحاب العدمي المفروض معارضا للاستصحاب الوجودي فيه ، فإنّ صوم اليوم بمفهومه يقتضي استمرار وجوبه إلى الليل إلاّ أن يتحقّق في الأثناء ما جعله الشارع رافعا له ، والوضوء بذاته باعتبار إطلاق سببيّته للطهارة يقتضي استمرار الطهارة إلى أن تحقّق ما جعله الشارع رافعا لها ، وملاقاة البول لذاتها باعتبار تماميّة تأثيره في تنجّس الملاقي يقتضي استمرار النجاسة إلى أن يتحقّق ما جعله الشارع رافعا لها. فالعدم الأزلي بالنسبة إلى جميع أزمنة عدم تحقّق الرافع بالنظر إلى جعل الشارع في جميع هذه الأمثلة ونظائرها قد انتقض يقينا بلا شكّ في انتقاضه ، المستلزم لاستمرار الوجود إلى ما شاء اللّه ، بل إلى الأبد لو فرض عدم تحقّق ما جعل رافعا على هذا الوجه. والشكّ في البقاء حيثما طرأ إنّما يطرأ بسبب الشكّ في الرافع إمّا تحقّقا للمجعول أو جعلا للمتحقّق ، لا لقصور الحكم عن استعداد البقاء والاستمرار من قبل الشارع لو لا ما جعله الشارع رافعا. فلا يتصوّر حينئذ استصحاب حال عقل راجع إلى جعل الشارع بالنسبة إليه حتّى في مثال الوضوء المجعول سببا مطلقا للطهارة المطلقة المستمرّة إلى آن تحقّق شيء من النواقض ، إذ ليس الكلام في الوضوء العذري الّذي يقال له : الوضوء الناقص - كالحاصل في مورد التقيّة المسوّغة فيه غسل الرجلين أو المسح على الخفّين أو غيرها من الضرورة المسوّغة للمسح على الخفّين ، ونحوه وضوء المسلوس والمبطون والمستحاضة الحاصل حال استمرار وجود الحدث ، ليقبل الشكّ في مقدار استعداد أثره الّذي هو إباحة الدخول في الصلاة للبقاء ، لينشأ منه الشكّ في جواز الدخول به في الصلاة بعد زوال العذر أيضا كما

ص: 352

أيضا كما جاز حال العذر أو لا؟ ومنشؤه أنّه لا يدرى أنّ كونه مبيحا للصلاة بحسب جعل الشارع هل هو ما دام العذر أو ما لم يحدث شيء من الأحداث الناقضة له؟ - بل الكلام إنّما هو في الوضوء الاختياري وهو المؤثّر في الطهارة ورفع الحدث لا مجرّد الاستباحة وهو لا يقبل التقييد بما دام العذر حيث لا عذر ، بل هو مغيّا بغاية طروّ ما جعل رافعا للطهارة ، فنحن نقطع تأثير الوضوء في حدوث أمر مستمرّ إلى الأبد لو لا ما جعل رافعا له ، ومعه لا معنى لاستصحاب عدم جعله سببا للطهارة بعد المذي ، لو لا المذي في الواقع ممّا جعل رافعا له ، بل لو كان رافعا له في الواقع لا معنى لذلك الاستصحاب أيضا ، لوضوح الفرق بين استناد ارتفاع الشيء إلى طروّ رافع له وبين استناده إلى عدم استعداده للبقاء لقصور مؤثّره في تأثيره بحسب جعل الشارع ، وما نحن فيه من قبيل الأوّل واستصحاب عدم الجعل من قبيل الثاني ، فلا يجري فيه إلاّ استصحاب الوجود الّذي عبّر عنه باستصحاب حال الشرع ، ويعضده استصحاب حال العقل الآخر وهو استصحاب عدم تحقّق ما جعله الشارع رافعا ، أو استصحاب [ عدم ] كون المتحقّق بحيث جعله الشارع رافعا ، فليتدبّر فإنّ المقام دقيق والطريق خفيّ.

القول بالتفصيل بين الامور الخارجيّة والأحكام الشرعيّة

ومن التفاصيل ما حكاه المحقّق الخوانساري في شرح الدروس (1) واستظهره بعض الأعلام (2) من المحقّق السبزواري (3) من الفرق بين الامور الخارجيّة مثل حياة زيد ورطوبة ثوبه ويبوسة بدنه والأحكام الشرعيّة بالحجّية فيها دون الامور الخارجيّة ، تمسّكا بعدم ظهور شمول الأخبار لها ، لبعد أن يكون مراد المعصوم الّذي وظيفته بيان الأحكام الشرعيّة بيان الحكم لهذه الامور. وربّما يحتمل في مراد هذا القائل من عدم حجّيّة الاستصحاب في الامور الخارجيّة وجهان :

أحدهما : ما كان المستصحب من الامور الخارجيّة وإن كان منشأ لحكم شرعي ، كالرطوبة الّتي هي منشأ لنجاسة الملاقي للنجس ، فيراد بالأحكام الشرعيّة الّتي يجوز استصحابها ما كان المستصحب حكما شرعيّا جزئيّا ، كما لو كانت الشبهة في بقائه وارتفاعه موضوعيّة ناشئة عن اشتباه الأمر الخارجي أو كلّيا كما لو كانت الشبهة حكميّة.

وثانيهما : ما كان منشأ الشكّ فيه من الامور الخارجيّة وإن كان المستصحب حكما شرعيّا ، فيراد بالأحكام الشرعيّة حينئذ ما لم يكن منشأ الشكّ في بقائه أمرا خارجيّا ،

ص: 353


1- مشارق الشموس : 76.
2- القوانين 2 : 63.
3- راجع ذخيرة المعاد : 115 - 116.

ومرجعه إلى الفرق في استصحاب الحكم الشرعي بين الحكم الجزئي والحكم الكلّي ، وبعبارة اخرى : بين الشبهة الموضوعيّة والشبهة الحكميّة.

وهذا الوجه على عكس ما ستعرفه من تفصيل الأخباريّين وهو في وضوح من الفساد ، لقضائه بأن لا يبقى للاستصحاب مورد إلاّ قليلا ، ضرورة أنّ أغلب الموارد الاستصحابيّة الأحكام الجزئيّة الّتي طرأها الشكّ باعتبار اشتباه حال الموضوع الصرف بقاءا أو ارتفاعا ، مع أنّه يؤدّى في أكثر الأخبار المتقدّمة إلى محذور تخصيص العامّ بالمورد ، لكون النوم في حديث الخفقة والخفقتان من الامور الخارجيّة ، وكذلك إصابة الدم في حديث دم الرعاف للثوب ، وملاقاة الذمّي للثوب بالرطوبة أو تنجيسه إيّاه بالخمر ، ونحوه في حديث إعارة الثوب للذمّي ، والظاهر أنّ هذا ليس بمراد القائل وإنّما ذكرناه إحتمالا ، وإن كان الوجه الأوّل أيضا قريبا منه في الفساد.

أمّا أوّلا : فلأنّ عدم كون بيان الموضوع من وظيفة المعصوم معناه أنّه لا يجب عليه بيانه بحيث يلزم من ترك بيانه قبح عليه ، لا أنّه لا يجوز له بيانه بحيث يلزم من بيانه قبح عليه ، فإذا صدر منه لفظ عامّ للموضوعات والأحكام - كما فيما نحن فيه ، لكون قوله عليه السلام : « لا ينقض اليقين بالشكّ » (1) بمعنى عدم نقض شيء من أفراد اليقين بشيء من أفراد الشكّ عامّا - فقضيّة عدم كون بيان الموضوعات من وظيفته بالمعنى المذكور لا تصرفه عن الموضوعات ولا تخصّصه بالأحكام.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ما ليس بيانه من الموضوعات وظيفة المعصوم إنّما هو الموضوعات الّتي لا مدخليّة لها في الأحكام الشرعيّة ولا يترتّب عليها شيء من الأحكام ، أو لا يبتلى بها المكلّف الناظر في الاستصحاب ، بخلاف الموضوعات الّتي يترتّب عليها الأحكام ويبتلى بها المكلّف على وجه يتوقّف معرفة الأحكام المترتّبة عليها على معرفتها ، ولذا ترى أنّ المعصوم في صحيحة زرارة بيّن حقيقة النوم بقوله : « قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن » (2) إلى آخره مع أنّه من الموضوع ، لكونه ممّا يترتّب عليه وجوب الوضوء ، والمفروض كون اشتباه السائل في وجوب الوضوء ومنشأ سؤاله اشتباه حقيقة النوم عليه ، فإنّ بيان نحو هذا الموضوع قد يجب على المعصوم بحيث يلزم من تركه قبح عليه ، وليس

ص: 354


1- الوسائل 5 : 321 الباب 10 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح 3.
2- الوسائل 1 : 174 - 175 الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، ح 1.

مراد القائل بحجّية الاستصحاب في الامور الخارجيّة دعوى حجّيته في الموضوعات الّتي لا يترتّب عليها حكم شرعي أصلا أو لا يبتلى بها المكلّف الناظر في الاستصحاب ، بل الموضوعات الّتي ينشأ منها الأحكام الشرعيّة المتعلّقة بالمكلّف ، كرطوبة ثوبه الّتي يترتّب عليها النجاسة بملاقاة النجس ، وكرّيّة الماء الّتي يترتّب عليها عدم انفعاله بملاقاة النجاسة ، وحياة الغائب الّتي يترتّب عليها حرمة تزويج امرأته وحرمة التصرّف في أمواله وما أشبه ذلك.

وأمّا ثالثا : فلأنّ الموضوع الخارجي كما أنّ بيانه ليس من وظيفة المعصوم فكذلك الحكم الجزئي للموضوع الخارجي أيضا ليس بيانه من وظيفته ، فكما أنّ رطوبة الثوب أو يبوسته من حيث إنّه موضوع خارجي بيانها ليس من وظيفته ، فكذلك نجاسته الحاصلة بالملاقاة لأجل الرطوبة وطهارتها الباقية لأجل اليبوسة من حيث إنّها حكم جزئي ليس بيانها من وظيفته ، بل وظيفته بيان حكم كلّي لموضوع كلّي ، كأن يقول : كلّ طاهر ملاق للنجس نجس مثلا.

وقضيّة ذلك أن يبعد كون مرادهم بقولهم : « لا تنقض اليقين بالشكّ » (1) بيان للحكم لمثل هذه الأحكام الجزئيّة أيضا.

وأمّا رابعا : فلأنّ الخارج عن وظيفته إنّما هو بيان الأحكام الجزئيّة للموضوعات الصرفة الخارجيّة المأخوذة بوصف الجزئيّة ، وأمّا الحكم الكلّي المجعول لها باعتبار وصف الاشتباه العارض لها فبيانه ليس إلاّ وظيفة الشارع ، فلو اشتبه مايع بين كونه طاهرا كالخلّ أو نجسا كالخمر مثلا فبيان أنّه خلّ أو خمر ليس من وظيفته ، ولكن بيان أنّ الحكم الكلّي فيه من حيث الاشتباه هو الطهارة ليس إلاّ من وظيفته. فلذا ورد في الخبر المستفيض : « أنّ كلّ شيء نظيف حتّى يعلم أنّه قذر (2) ». ولو اشتبه ماء قليل بين ملاقاة النجاسة المنجّسة له وعدمها فبيان الملاقاة أو عدمها ليس من وظيفته ، غير أنّ بيان أنّ الحكم الكلّي له باعتبار وصف الاشتباه هو الطهارة من وظيفته. ولذا ورد في الخبر المتلقّى بالقبول : « أنّ كلّ ماء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر (3) ». ولو اشتبه شيء بين الحلّ والحرمة لدورانه بين الملك والسرقة أو الغصب مثلا فبيانه أنّه أيّهما ليس من وظيفته. وأمّا بيان أنّ حكمه الكلّي باعتبار الاشتباه هو الحلّ فمن وظيفته لا غير. ولذا ورد في الخبر المعمول به : « أنّ كلّ شيء لك

ص: 355


1- تقدّم آنفا.
2- الوسائل 2 : 1054 ، الباب 37 من أبواب النجاسات ، الحديث 4.
3- الوسائل 2 : 1095 ، الباب 74 من أبواب النجاسات ، الحديث 1.

حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعينه (1) ». وكذلك الجلد المطروح المشتبه بين المذكّى والميتة فإنّ بيان أنّه أيّهما ليس من وظيفته ، وأمّا بيان أنّ حكمه الكلّي باعتبار وصف الاشتباه فليس إلاّ من وظيفته.

وحينئذ نقول : إنّ الاستصحاب المدلول عليه بالأخبار حكم كلّي تعرّض لبيانه المعصوم للموضوعات الصرفة والأحكام الجزئيّة والأحكام الكلّية باعتبار اشتباه حالها من حيث البقاء والارتفاع ، فهو حكم كلّي بيّن لموضوع كلّي وإن طرأه الكلّية بالعرض لما اخذ فيه من وصف الاشتباه.

لا يقال : كون الاستصحاب حكما كلّيا لا معنى له إلاّ كون المستصحب في زمان الشكّ حكما ظاهريّا مجعولا كما كان في زمان اليقين حكما واقعيّا مجعولا ، فلا بدّ وأن يكون المستصحب من الامور القابلة للجعل ليكون حكما واقعيّا في زمان وظاهريّا في زمان آخر ، والامور الخارجيّة كحياة زيد الغائب وعدالته ورطوبة ثوبه وكرّيّة الماء وقلّته وما أشبه ذلك ليست قابلة للجعل ، بل هي كنفس زيد وثوبه والماء من الامور الواقعيّة الّتي لا مدخل لجعل الشارع فيها ، فكيف يقال : إنّها في زمان الشكّ أحكام ظاهريّة مجعولة؟

لأنّا نقول : إنّ مدلول قوله عليه السلام : « لا ينقض اليقين بالشكّ » (2) ليس كون المستصحب بنفسه في زمان الشكّ حكما مجعولا ليعتبر فيه قابليّة الجعل ، بل مدلوله وجوب ترتيب الآثار الشرعيّة على المستصحب وإجراء اللوازم الثابتة للمتيقّن في زمان اليقين عليه في زمان الشكّ ، على معنى تنزيل القضيّة المشكوكة منزلة القضيّة المتيقّنة ليترتّب على المشكوك فيه من الآثار واللوازم الشرعيّة كلّما كان مترتّبا على المتيقّن. فاستصحاب حياة زيد معناه وجوب ترتيب الأحكام المترتّبة عليها على تقدير كونها متيقّنة من حرمة تزويج امرأته ، وحرمة التصرّف في أمواله. واستصحاب عدالة زيد معناه وجوب ترتيب أحكامها المترتّبة عليها في آن اليقين على زيد في زمان الشكّ في عدالته ، كجواز الائتمام به وقبول شهادته وصحّة الطلاق بمحضره ونحو ذلك ، فهذا هو الحكم الظاهري المجعول للمستصحب باعتبار اشتباه حاله من حيث البقاء والارتفاع. ولا يتفاوت الحال حينئذ بين كونه من الامور الخارجيّة أو من الأحكام الشرعيّة كلّية أو جزئيّة ، فإنّ لكلّ واحد بحسب الشرع آثارا يراد باستصحابه ترتيبها عليه.

ص: 356


1- الوسائل 12 : 60 ، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 4 ، مع تفاوت.
2- تقدّم آنفا.

نعم يشكل الحال في أنّه إذا كان الغرض من استصحاب الامور الخارجيّة ترتيب الآثار الشرعيّة على المستصحب فيها فلم لا يستصحب نفس تلك الآثار ليستغنى به عن استصحاب الموضوعات ، فإنّ استصحاب حرمة تزويج امرأة الغائب وحرمة التصرّف في أمواله الثابتتين في حال حياته يغني عن استصحاب الحياة ، واستصحاب جواز الائتمام بزيد وقبول شهادته الثابتين له في حال اليقين بعدالته يغني عن استصحاب العدالة. بل استصحاب الموضوعات لأجل ترتيب الأحكام عليها دون استصحاب نفس الأحكام المترتّبة عليها ربّما يشبه بكونه من باب الأكل من القفاء ، كما هو واضح.

إلاّ أن يقال : إنّ استصحاب الموضوعات إنّما يجدي في ترتيب كلّ من الآثار القديمة المتيقّنة سابقا والآثار المتجدّدة الغير المتيقّنة سابقا ، فلا يستغنى عنه بالنسبة إلى الآثار المتجدّدة الّتي لا يعقل استصحابها من جهة تجدّدها وعدم كونها متيقّنة في زمان اليقين بموضوعاتها بل ربّما كان عدمها متيقّنا ، كنجاسة الثوب بالملاقاة المترتّبة على استصحاب رطوبته ، وانتقال المال إلى الغائب من قريبه المتوفّى في زمان الشكّ في حياته ، واستحقاق زيد للوقف أو التولية أو الوصيّة المعلّقة على عدالة الطبقات من الأولاد وغيرهم طبقة بعد طبقة عند انقراض الطبقة السابقة في زمان الشكّ في عدالة زيد الّذي هو من الطبقة اللاحقة ، ونحوه وجوب الفطر عن العبد أو الابن الغائبين المترتّب على حياتهما على المولى والأب المنفقين لهما ، فلو لا استصحاب الموضوعات استحال ترتيب نحو هذه الآثار المتجدّدة والأحكام الغير الثابتة للموضوع في زمان اليقين بوجوده.

ولكن يزيّفه : أنّ عدم ثبوت هذه الأحكام المتجدّدة لموضوعاتها في زمان اليقين بوجودات تلك الموضوعات تنجيزا لا ينافي ثبوتها لها على وجه التعليق ، بل القطع حاصل بانتقال مال قريب الغائب إليه على تقدير اتّفاق وفاته في زمان اليقين بحياته ، ونجاسة الثوب على تقدير حصول ملاقاته للنجس في زمان اليقين برطوبته ، وبانتقال الوقف أو التولية أو الوصيّة إلى زيد على تقدير حصول انقراض الطبقة السابقة في زمان اليقين بعدالته ، وبوجوب زكاة العبد والابن على السيّد والأب على تقدير دخول العيد في زمان اليقين بحياتهما.

وبالجملة عدم وجود الآثار المتجدّدة في زمان اليقين بالموضوع إنّما هو لوجود مانع أو فقد شرط ، بحيث لو كان المانع ثمّة مفقودا أو الشرط موجودا لكانت الآثار مترتّبة عليه

ص: 357

البتّة فيستصحب تلك الآثار في زمان الشكّ في بقاء الحياة أو الرطوبة أو العدالة الّذي فقد فيه المانع الموجود ووجد الشرط المفقود ، ومرجعه إلى استصحاب الآثار الشأنيّة أو ترتّبها الشأني ، فليتأمّل.

نعم يمكن الذبّ عن الإشكال : بأنّ استصحاب الآثار والأحكام الشرعيّة بدون إحراز موضوعاتها غير صحيح ، بل غير معقول.

ولا ريب أنّ الحياة والرطوبة والعدالة في الأمثلة المذكورة جزء من موضوع الأثر الشرعي المترتّب عليه ، فلابدّ من إحرازه ولا يحرز إلاّ بالاستصحاب ، فاستصحاب الأثر لا يغني عن استصحاب الموضوع ، بخلاف استصحاب الموضوع فإنّه كاف في إثبات الآثار ومغن عن استصحابها ، لما عرفت من أنّ معنى استصحابه وجوب ترتيبها.

القول بالتفصيل بين الحكم الشرعي الكلّي وغيره

ومن التفاصيل : ما أحدثه الأخباريّون - كالفاضل الأستر آبادي (1) والمحدّث الشيخ الحرّ العاملي (2) ومن يحذو حذوهم - من قصر الحجّية على غير الحكم الشرعي الكلّي لكن لا بالمعنى الّذي هو في طرف العكس من التفصيل السابق كما توهّمه غير واحد ، بل بمعنى نفي الحجّية عن الحكم الشرعي الكلّي الّذي شبهة بقائه في زمان الشكّ حكميّة - كالخيار وحقّ الشفعة والماء المتغيّر بالنجاسة بعد زوال تغيّره والمتيمّم الواجد للماء في الصلاة وما أشبه ذلك - وإثباتها لغيره حتّى الحكم الشرعي الجزئي الّذي شبهة بقائه موضوعيّة كما أشرنا إليه عند نقل الأقوال.

وعن المحدّث الأستر آبادي بعد التصريح بنفي اعتباره في الحكم الشرعي الكلّي استثناء استصحاب عدم النسخ مدّعيا للإجماع بل الضرورة على اعتباره ، وله كلام حكي عن فوائده المكّية (3) ربّما يظهر من تضاعيفه حجّته على عدم الاعتبار في الحكم ، حيث إنّه بعد ما نقل أخبار الاستصحاب وأثبته بها قال : « لا يقال : هذه القاعدة تقتضي جواز العمل بالاستصحاب في أحكام اللّه تعالى كما ذهب إليه المفيد والعلاّمة من أصحابنا والشافعيّة قاطبة ، ويقتضي بطلان قول أكثر علمائنا والحنفيّة بعدم جواز العمل به.

لأنّا نقول : هذه شبهة عجز عن جوابها كثير من فحول الاصوليّين والفقهاء ، وقد أجبنا عنها في الفوائد المدنيّة تارة بما ملخّصه : أنّ صور الاستصحاب المختلف فيها عند النظر

ص: 358


1- الفوائد المدنيّة : 143.
2- الفوائد الطوسيّة : 208 ، والفصول المهمّة في اصول الأئمّة : 250.
3- حكاه الفاضل التوني في الوافية : 212.

الدقيق والتحقيق راجعة إلى أنّه إذا ثبت حكم بخطاب شرعي في موضوع في حال من حالاته نجريه في ذلك الموضوع عند زوال الحالة القديمة وحدوث نقيضها فيه.

ومن المعلوم أنّه إذا تبدّل قيد موضوع المسألة بنقيض ذلك القيد اختلف موضوع المسألتين ، فالّذي سمّوه استصحابا راجع في الحقيقة إلى إسراء حكم موضوع إلى موضوع آخر متّحد معه في الذات مختلف معه في الصفات.

ومن المعلوم عند الحكيم أنّ هذا المعنى غير معتبر شرعا وأنّ القاعدة الشريفة المذكورة غير شاملة له.

وتارة : بأنّ استصحاب الحكم وكذا الأصل - أي الحالة الّتي إذا خلّي الشيء ونفسه كان عليها - إنّما يعمل بهما ما لم يظهر مخرج عنهما ، وقد ظهر في محلّ النزاع لتواتر الأخبار بأنّ كلّما يحتاج إليه الامّة ورد فيه خطاب وحكم حتّى أرش الخدش ، وكثير ممّا ورد مخزون عند أهل الذكر عليهم السلام فعلم أنّه ورد في محلّ النزاع أحكام لا نعلمها بعينها ، وتواتر الأخبار بحصر المسائل في ثلاث : بيّن رشده ، وبيّن غيّه - أي مقطوع فيه ذلك لا ريب فيه - وما ليس هذا ولا ذاك ، وبوجوب التوقّف في الثالث (1) » انتهى.

ومحصّل هذا الكلام : أنّه استدلّ لنفي حجّيّة الاستصحاب في أحكام اللّه تعالى بوجهين ، مرجعهما إلى دعوى فقد المقتضي ووجود المانع.

أمّا الأوّل : فلأنّ الظاهر والمتبادر من قوله عليه السلام : « لا ينقض اليقين بالشكّ (2) » اتّحاد متعلّق اليقين والشكّ ، بأن يكون القضيّة المشكوكة بعينها هي القضيّة المتيقّنة من دون اختلاف بينهما إلاّ في الزمان ، على معنى اجتماع الوحدات - الّتي منها وحدة الموضوع - إلاّ وحدة الزمان.

وهذا المعنى حاصل في مثل رطوبة الثوب أو طهارته مثلا بعد اليقين بهما ثمّ الشكّ في بقائهما ، بخلاف نحو نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال التغيّر ، وجواز مضيّ المتيمّم في الصلاة بعد وجدان الماء ، لتعدّد موضوعي القضيّتين واختلافهما بكونه في القضيّة المتيقّنة هو الماء المتغيّر والفاقد للماء ، وفي القضيّة المشكوكة هو الماء الغير المتغيّر والواجد للماء ، فيكون النهي عن نقض اليقين بالشكّ الوارد في الأخبار شاملا للأوّل دون الثاني. وهذا هو معنى قوله : « وأنّ القاعدة الشريفة غير شاملة له ».

ويرد عليه حينئذ : أنّه إن أراد بما ذكره أنّ في استصحاب الحكم الشرعي قد يختلف

ص: 359


1- الفوائد المكّيّة ( مخطوط ) : الورقة 103.
2- الوسائل 5 : 321 الباب 10 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ح 3.

متعلّق اليقين والشكّ ويتعدّد موضوع القضيّتين فهو حقّ ولا سترة عليه ، كما في مسألة البقاء على تقليد الميّت فيمن قلّد المجتهد الحيّ حال حياته فمات ، نظرا إلى كون الحياة في الجملة شرطا في جواز التقليد - بناء على عدم جواز تقليد الميّت ابتداء - الثابت بالإجماع ولو منقولا ، كما أنّ غيره من البلوغ والعقل والإسلام والإيمان والاجتهاد والعدالة شروط له ، فيكون كلّ قيدا وجزءا للموضوع ، فالحكم في زمان ثبوته إنّما يثبت لهذا الموضوع - أعني الرجل البالغ العاقل المسلم المؤمن المجتهد العادل الحيّ - فإذا زال أحد هذه القيود استحال استصحاب الحكم الثابت حال وجوده لتبدّل الموضوع ، ونفي القيديّة الّذي هو انكار لكون الوصف جزءا من الموضوع عدول عن فرض كونه شرطا ، والكلام إنّما هو على هذا التقدير وإلاّ فعلى تقدير عدم شرطيّة الحياة مثلا مطلقا حتّى بالنسبة إلى ابتداء التقليد أو مع الشكّ في شرطيّتها كذلك فلا كلام.

وبالجملة اختلاف متعلّقي اليقين والشكّ وتعدّد موضوعي القضيّتين في بعض الموارد ليس بمنكر ، إلاّ أنّه لا يوجب السلب الكلّي - أعني نفي اعتبار الاستصحاب في الأحكام الشرعيّة مطلقا -.

وإن أراد اختلاف المتعلّقين وتعدّد الموضوعين في جميع الموارد فهو واضح الضعف. وظاهر المنع ، لكثرة ما اتّحد فيه المتعلّق والموضوع من موارد الأحكام الشرعيّة ، حتّى أنّ جميع صور الشكّ باعتبار الرافع وجودا أو وصفا من هذا الباب ، لعدم تبدّل حالة فيها إلى اخرى ، كالمتطهّر الشاكّ في بقاء طهارته للشكّ في وقوع الحدث أو في رافعيّة المذي ، فإنّ عدم الرافع بالقياس إلى الحكم - كالطهارة مثلا - ليس قيدا لوجوده الأوّلي بل هو قيد لوجوده الثانوي ، فهو شرط لبقائه واستمراره لا لحدوثه وإلاّ انقلب الرافع دافعا.

والفرق بينهما أنّ الرافع يمنع البقاء والدافع يمنع الحدوث ، ومن ذلك ما يقال : من أنّ الدفع أهون من الرفع ، فإذا لم يكن عدم الرافع قيدا للحكم في الزمان الأوّل لم يكن جزءا لموضوعه.

وقضيّة ذلك أن يتّحد متعلّق اليقين والشكّ ، على معنى كونه شيئا واحدا ذاتا ووصفا وإن اختلفا في تعلّق اليقين بحدوث ذلك الشيء وثبوته وتعلّق الشكّ ببقائه ، ولئن سلّمنا كون الشبهة فيما يشكّ فيه من جهة الشكّ في وجود الرافع موضوعيّة فهي فيما يشكّ فيه من جهة الشكّ في رافعيّة الموجود حكميّة جزما.

ص: 360

وإن فرضت الكلام في استصحاب الحكم الشرعي الّذي كان شكّه باعتبار المقتضي ، فيمنع الاختلاف والتعدّد في موارده الّتي ذهب الأصحاب إلى العمل بالاستصحاب فيها ، فإنّ اتّحاد موضوع القضيّتين على وجه يكفي في شمول النهي عن نقض اليقين بالشكّ أمر عرفي لأنّه المحكّم في باب الألفاظ ، ففيما كان منشأ الشكّ مجرّد تبدّل زمان بزمان - آخر كما في الخيار وحقّ الشفعة وغيرهما ممّا فيه شبهة الفوريّة - لا ينبغي الارتياب في صدق اتّحاد القضيّتين ، إذ يصدق عرفا أنّ القضيّة المتيقّنة في الزمان الأوّل بعينها مشكوكة في الزمان الثاني ، بناء منهم على كون الزمان الأوّل ظرفا للحكم الثابت فيه لا قيدا له ، بل نقول بذلك أيضا في كثير من موارد تبدّل حالة بحالة اخرى كالتغيّر في الماء المتغيّر ، وفقدان الماء في المتيمّم ، فإنّ التغيّر علّة للحكم الّذي هو نجاسة الماء ويستحيل معه كونه جزءا من موضوعه ، بل الموضوع هو نفس الماء ، فالنجاسة كانت ثابتة له في حال التغيّر من دون قيديّة التغيّر له فيتّحد القضيّتان أيضا ، وفقدان الماء في أوّل زمانه مسوّغ للتيمّم وعلّة مجوّزة له ووجدانه بعد التيمّم ناقض له ورافع لأثره إذا حصل قبل التشاغل بالصلاة ، ويشكّ في نقضه له إذا حصل في أثناء الصلاة أيضا وعدمه.

ومن أجل ذلك ما تراه في كلام الفقهاء من أنّ التيمّم ينتقض بوجدان الماء ، فليس شيء من الفقدان والوجدان قيدا واقعيّا للحكم ليكون جزءا من موضوعه ، فهما أيضا حالتان متبادلتان أوجب تبدّل إحداهما بالاخرى الشكّ في بقاء الحكم ، لاحتمال ناقضيّة الحالة الثانية لا لثبوت قيديّة الحالة الاولى.

وأمّا الثاني : فملخّصه : كون أخبار الاستصحاب على تقدير شمولها الأحكام الشرعيّة مخصّصة بما هو أقوى منها ، وهو تواتر الأخبار بورود الخطاب في كلّ حكم يحتاج إليه الامّة ، وبانقسام الأشياء إلى أقسام ثلاث ثالثها : الشبهات الّتي يجب التوقّف عندها والعمل بالاحتياط فيها.

والجواب عن ذلك : عدم معارضة شيء ممّا ذكر من الأخبار المتواترة الدالّة على ورود الخطاب في كلّما احتاج إليه الامّة ، والأخبار الدالّة على التوقّف والاحتياط في الشبهات.

أمّا الأوّل : فلأنّ الشكّ في بقاء الحكم الشرعي بعد اليقين بثبوته أيضا شيء يحتاج الامّة إلى ورود خطاب فيه وقد ورد بمقتضى عموم الأخبار المذكورة ، ويجوز أن يكون ذلك الخطاب هو أخبار الاستصحاب الناهية عن نقض اليقين بالشكّ ، الّذي معناه رفع اليد

ص: 361

عن مقتضى اليقين بسبب الاعتناء بالشكّ.

وأمّا الثاني : فلأنّه - بعد الغضّ عمّا تقدّم في مسألة البراءة والاحتياط من وجوه المناقشة في أخبار التوقّف والاحتياط الّتي منها منع دلالتها على الوجوب - لا شبهة في الحكم الشرعي المشكوك في بقائه بعد اليقين بثبوته بعد ملاحظة أخبار الاستصحاب الدالّة على وجوب العمل بالاستصحاب فيه ، فإنّه خرج بذلك عن عنوان « الشبهات » فلا يتناوله أخبار التوقّف والاحتياط.

ومع الغضّ عن ذلك أيضا نقول : إنّ أخبار الاستصحاب حاكمة على أخبار التوقّف والاحتياط ، متعرّضة بمضمونها ومدلولها اللفظي لبيان مقدار موضوع هذه الأخبار ، وهو أنّ الشبهة الّتي يجب الوقوف عندها والاحتياط فيها هو الشكّ الّذي لم يسبقه يقين أو الّذي ليس معه يقين سابق ، وذلك أنّ الشكّ من حيث هو ومع قطع النظر عن سبق حالة عليه له أحكام وآثار مجعولة ، وهي البراءة عند الشكّ في الوجوب وغير الحرمة ، ووجوب التوقّف والاحتياط عند الشكّ في الحرمة وغير الوجوب ، والتخيير عند الشكّ في الوجوب والحرمة ، وكلّ ذلك على مذهب الأخباريّين ، فإنّ المذكورات عندهم آثار ثابتة بجعل الشارع للشكّ حيثما تحقّق ولم يلاحظ معه شيء آخر ، وقولهم : « لا ينقض اليقين بالشكّ » معناه - على ما ذكرناه مرارا - المنع عن رفع اليد عن آثار اليقين بسبب الاعتناء بالشكّ ، ومرجعه إلى المنع من ترتيب آثار الشكّ على الشكّ الملحوظ معه حالة سابقة وهو الّذي سبقه يقين ، فيكون أخبار الاستصحاب مسوقة لنفي آثار الشكّ - الّتي هي البناء على البراءة أو التوقّف والاحتياط أو التخيير - عنه حيثما كان معه يقين سابق ، وهذا هو معنى قوله عليه السلام : « ولكنّه ينقض الشكّ باليقين ، ويتمّ على اليقين ، فيبنى عليه ولا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات (1) » أي حالات وجود اليقين معه ، وهو المراد أيضا من قوله عليه السلام : « فليمض على يقينه (2) » فإنّ الأمر بالمضيّ على اليقين مع الشكّ نفي لآثار الشكّ بالمرّة الّتي منها وجوب التوقّف والاحتياط في الشبهات ، وهذا هو معنى الحكومة.

وبجميع ما قرّرناه ظهر ما في أوّل كلام المحدّث من أنّ هذه الشبهة عجز عن جوابها كثير من فحول الفقهاء والاصوليّين ، فإنّ شمول قاعدة اليقين المستنبطة من عمومات

ص: 362


1- الوسائل 5 : 321 الباب 10 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح 3.
2- الوسائل 1 : 175 - 176 الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، ح 6.

الأخبار للاستصحاب في الأحكام الشرعيّة عين الصواب وليس شبهة واردة على سبيل المغالطة حتّى يحتاج إلى تجشّم الجواب. وليس القول بذلك إبطالا لقول أكثر علمائنا ، لأنّ الّذي أنكره أكثر علمائنا إنّما هو الاستصحاب باعتبار حكم العقل ومن حيث حصول ظنّ البقاء ، غير فارقين في ذلك بين الأحكام - كلّية وجزئيّة - وموضوعاتها من غير تعرّض أكثرهم ولا سيّما القدماء لما يستنبط من هذه الأخبار. مع أنّه لم يأت في الجواب الأوّل إلاّ ما اشتهر بين النافين لحجّية الاستصحاب ولا في الجواب الثاني إلاّ ما اشتهر بين الأخباريّين من وجوب التوقّف والاحتياط في الشبهات الحكميّة ، فليس شيء من الأمرين ممّا تفرّد به ، ومع ذلك قد عرفت ما فيهما من الضعف.

القول بالتفصيل بين استصحاب حال النصّ واستصحاب حال الإجماع

ومن التفاصيل : الفرق بين استصحاب حال النصّ فالحجّية واستصحاب حال الإجماع فعدمها ، والمعروف بينهم نسبة هذا القول إلى الغزالي (1). ولعلّ منشأ النسبة كلام العلاّمة في النهاية (2) فإنّه ذكر مسألة الاستصحاب ونسب إلى جماعة منهم الغزالي حجّيته ، ثمّ بعد ما تكلّم في أدلّة النافين والمثبتين ذكر عنوانا آخر لاستصحاب حال الإجماع ، ومثّل له بالمتيمّم إذا رأى الماء في أثناء الصلاة ، والخارج من غير السبيلين من المتطهّر ، ونسب إلى الأكثر ومنهم الغزالي عدم حجّيته.

ولكنّ الّذي يظهر بالتدبّر في كلامه المحكيّ عنه أنّه ينكر الاستصحاب في مطلق ما اختصّ مدلوله بالزمان الأوّل وعدم تناوله الزمان الثاني إجماعا كان أو غيره ، لفظا كان أو لبّا ، وأنّه يعتبر في انسحاب الحكم في غير الزمان الأوّل أيضا دلالة الدليل المثبت له على الدوام مطلقا ، وما لا دلالة عليه فلا يمكن استصحاب مدلوله من دون اختصاص له بالإجماع ، لأنّه على ما نقل حكايته عن العلاّمة في النهاية. قال : المستصحب إنّ أقرّ بأنّه لا يقيم دليلا في المسألة ، بل قال : أنا ناف ولا دليل على النافي ، فسيأتي بيان وجوب الدليل على النافي ، وإن ظنّ إقامة الدليل فقد أخطأ. فإنّا نقول : إنّما يستدام الحكم الّذي دلّ الدليل على دوامه ، فإن كان لفظ الشارع فلا بدّ من بيانه ، فلعلّه يدلّ على دوامه عند عدم الخروج من غير السبيلين لا عند وجوده ، وإن دلّ بعمومه على دوامه عند العدم والوجود معا كان ذلك تمسّكا بالعموم فيجب إظهار دليل التخصيص ، وإن كان بإجماع فالإجماع إنّما انعقد على دوام الصلاة عند العدم دون الوجود ،

ص: 363


1- المستصفى 1 : 224.
2- نهاية الوصول ( مخطوط ) : 407 - 412.

ولو كان لإجماع شاملا حال الوجود كان المخالف له خارقا للإجماع.

كما أنّ المخالف في انقطاع الصلاة عند هبوب الرياح وطلوع الشمس خارق للإجماع ، لأنّ الإجماع لم ينعقد مشروطا بعدم الهبوب وانعقد مشروطا بعدم الخروج وعدم الماء فإذا وجد فلا إجماع ، فيجب أن يقاس حال الوجود على حال العدم المجمع عليه لعلّة جامعة.

فامّا أن يستصحب الإجماع عند انتفاء الجامع فهو محال ، وهذا كما أنّ العقل دلّ على البراءة الأصليّة بشرط عدم دليل السمع فلا يبقى له دلالة مع وجود دليل السمع ، وكذا هنا انعقد الإجماع بشرط العدم فانتفى الإجماع عند الوجود ، وهذه دقيقة وهو أنّ كلّ دليل يضادّه نفس الخلاف فلا يمكن استصحابه ، والإجماع يضادّه نفس الخلاف إذ لا إجماع مع الخلاف ، بخلاف العموم والنصّ ودليل العقل فإنّ الخلاف لا يضادّه ، فإنّ المخالف مقرّ بأنّ العموم بصيغته تشمل محلّ الخلاف.

فإنّ قوله عليه وآله الصلاة والسلام : « لا صيام لمن لا يبيت الصيام من الليل (1) » شامل بصيغته صوم رمضان مع خلاف الخصم فيه ، فيقول : المسلّم شمول الصيغة لكنّي أخصّه بدليل فعليه الدليل ، وهذا المخالف لا يسلّم شمول الإجماع لمحلّ الخلاف ، لاستحالة الإجماع مع الخلاف وعدم استحالة شمول الصيغة مع الدليل ، فهذه دقيقة يجب التنبيه لها.

ثمّ قال : الإجماع يحرّم الخلاف فكيف يرتفع بالخلاف ، أجاب : بأنّ هذا الخلاف غير محرّم بالإجماع ولم يكن المخالف خارقا للإجماع ، لأنّ الإجماع إنّما انعقد على حالة العدم لا على حالة الوجود ، فمن ألحق الوجود بالعدم فعليه الدليل.

لا يقال : دليل صحّة الشروع دالّ على الدوام إلى أن يقوم دليل على الانقطاع.

لأنّا نقول : ذلك الدليل ليس هو الإجماع لأنّه مشروط بالعدم فلا يكون دليلا عند الوجود ، وإن كان نصّا فبيّنه حتّى ننظر هل يتناول حال الوجود أم لا؟

لا يقال : لم لا ينكروا على من يقول : الأصل إنّ ما ثبت دام إلى وجود قاطع ، فلا يحتاج الدوام إلى دليل في نفسه بل الثبوت هو المحتاج ، كما إذا ثبت موت زيد أو بناء دار كان دوامه بنفسه لا بسبب.

ص: 364


1- عوالي اللآلئ 3 : 132 ، ح 5.

لأنّا نقول : هذا وهم باطل ، لأنّ كلّ ما ثبت جاز دوامه وعدمه ، فلا لدوامه من سبب ودليل سوى دليل الثبوت ، ولو لا دليل العادة على أنّ الميّت لا يحيى والدار لا ينهدم إلاّ لهادم أو طول الزمان لما عرفنا دوامه بمجرّد ثبوته ، كما لو أخبر عن قعود الأمير وأكله ودخوله الدار ولم يدلّ العادة على دوام هذه الأحوال. فإنّا لا نقضي بدوامها ، وكذا خبر الشارع عن دوام الصلاة مع عدم الماء ليس خبرا عن دوامها مع وجوده فيفتقر في دوامها إلى دليل آخر (1) انتهى.

ولعلّ توهّم القول باختصاص منع الحجّية بحال الإجماع من الغزالي نشأ ممّا ذكره في الدقيقة لظهوره في الاختصاص.

ويزيّفه : الخروج عن هذا الظاهر بنصوصيّة سوابقه ولواحقه ، خصوصا إنكاره الأصل المعبّر عنه : « بأنّ ما ثبت دام » الّذي هو مستند القول بالحجّية ، تعليلا بأنّ ما ثبت جاز أن يدوم وأن لا يدوم الّذي هو مستند منكري الحجّية مطلقا. وهذا يقضي بإنكاره فيما يعمّ حال الإجماع وغيره.

وأظهر منه في إفادة الإنكار في حال النصّ أيضا قوله أخيرا : « وكذا خبر الشارع عن دوام الصلاة مع عدم الماء ليس خبرا عن دوامها مع وجوده ».

والعجب عن شارح المختصر (2) أنّه نسب القول بحجّية الاستصحاب إلى جماعة منهم الغزالي مع أنّه بمقتضى ما عرفت منه منكرا للحجّية مطلقا.

وأعجب منه ما عن السيّد صدر الدين الشارح للوافية (3) حيث جمع بين قولي الغزالي بوجهين

أحدهما : أنّ قوله بحجّية الاستصحاب ليس مبنيّا على ما جعله القوم دليلا من حصول الظنّ ، بل هو مبنيّ على دلالة الروايات عليها ، والروايات لا تدلّ على حجّيّة استصحاب حال الإجماع.

فإنّ فيه : - مع أنّه لا فرق في دلالة الروايات ، إذ مفادها وجوب ترتيب آثار القضيّة المتيقّنة على القضيّة المشكوكة المقتضي لسبق يقين ولحوق شكّ مع وحدة موضوعيهما ، وهذا لا يتفاوت الحال فيه بين كون مستند اليقين في القضيّة المتيقّنة هو الإجماع أو غيره من الأدلّة - أنّ بين الغزالي والتمسّك بالروايات في إثبات الاستصحاب بينونة تامّة ، لأنّه من العامّة والروايات خاصيّة ، مع أنّه قد عرفت أنّ التمسّك بالروايات إنّما حدث من

ص: 365


1- المستصفى 1 : 224 - 229.
2- شرح مختصر الاصول : 454.
3- شرح الوافية ( مخطوط ) : 344.

المتأخّرين وشاع بينهم ثمّ متأخّريهم ولم يكن معهودا بين قدماء أصحابنا ، فكيف بالعامّة الذين منهم الغزالي.

وكيف كان فبعد ما ظهر أنّ سند الغزالي في إطلاق انكاره الاستصحاب هو منع الأصل الّذي عوّل عليه مثبتوه ، يظهر أنّه لا يخالفنا من هذه الجهة لفساد هذه الطريقة عندنا أيضا ، حتّى أنّه لو فرض انحصار مدركه في هذا الأصل الفاسد كان المتّجه عدم حجّيته مطلقا ، فلا رادّ له من هذه الجهة.

نعم ينبغي النظر في صحّة التفصيل وسقمه بعد فرضه قولا في المسألة من أيّ قائل يكون ، سواء كان هو الغزالي أو غيره.

فنقول : إنّه قد يوجّه بما لو تمّ لا نتهض وجها لصحّته ، وهو أنّ الموضوع في النصّ مبيّن يمكن العلم بتحقّقه وعدم تحققّه في الآن اللاحق ، كما إذا قال : « الماء إذا تغيّر نجس » فإنّ الماء موضوع والتغيّر قيد للنجاسة ، فإذا زال التغيّر أمكن استصحاب النجاسة للماء ، وإذا قال : « الماء المتغيّر نجس » فظاهره ثبوت النجاسة للماء المتلبّس بالتغيّر ، فإذا زال التغيّر لم يمكن الاستصحاب ، لأنّ الموضوع هو المتلبّس بوصف التغيّر وهو غير موجود ، كما إذا قال : « الكلب نجس » فإنّه لا يمكن استصحاب النجاسة بعد استحالته ملحا ، فإذا فرضنا انعقاد الإجماع على نجاسة الماء المتّصف بالتغيّر فالإجماع أمر لبّي ليس فيه تعرّض لبيان كون الماء موضوعا والتغيّر قيدا للنجاسة ، أو أنّ الموضوع هو المتلبّس بوصف التغيّر ، وكذلك إذا انعقد الإجماع على جواز تقليد المجتهد في حال حياته ثمّ مات فإنّه لا يتعيّن الموضوع حتّى يحرز عند إرادة الاستصحاب.

ويزيّفه : أنّ الموضوع في حال النصّ كثيرا مّا لا يكون مبيّنا لعدم تعرّض في الخطاب لبيانه ، كما لو استفيد وجوب رجوع الجاهل في المسائل الفرعيّة الاجتهاديّة إلى العالم من مثل آيتي النفر والسؤال وغيرهما من الأخبار ، الغير المتكفّلة لبيان أنّ موضوع الحكم بالنسبة إلى المسؤول هل هو العالم الحيّ بوصف الحياة أو العالم لا بهذا الوصف؟

وفي حال الإجماع كثيرا مّا يكون مبيّنا كما لو انعقد الإجماع على نجاسة العصير وحرمته بالغليان إلى أن يذهب ثلثاه ، ثمّ ذهبا بغير النار ممّا يشكّ في كفايته في حصول الطهارة والحلّية باعتبار شبهة شرطيّة النار ، ففي الأوّل لا يعلم تحقّق موضوع الحكم في الآن اللاحق فلا يمكن استصحابه ، وفي الثاني يعلم تحقّقه فيمكن استصحابه ، على أنّ

ص: 366

إحراز بقاء موضوع المستصحب في زمان الشكّ موكول إلى نظر العرف الّذي ليس مقصورا على الدقّة الفلسفة ، فليس شيء من مبيّنيّة الموضوع في حال النصّ وعدم مبيّنيّته في حال الإجماع مطّردا لينهض ما ذكر فارقا بينهما في جريان الاستصحاب في أحدهما وعدم جريانه في الآخر على وجه الاطّراد.

وتحقيق المقام : أنّ الفرق في الحجّية وعدمها بين حالي النصّ والإجماع لا بدّ وأن يستند إمّا إلى تفاوت أدلّة الحجّية في تناولها لحال النصّ وعدم تناولها لحال الإجماع ، أو إلى ورود ما يخصّصها بحال النصّ ، أو إلى اشتراط الحجّية بأمر متحقّق في حال النصّ غير متحقّق في حال الإجماع. ولا سبيل إلى شيء من ذلك.

أمّا الأوّل : فلأنّا لا نعقل فرقا بين أدلّة المثبتين ولا أدلّة النافين حتّى على طريقة إثباته بالأخبار ، لأنّ مفاد الأخبار وجوب إجراء حكم القضيّة المتيقّنة على القضيّة المشكوكة فيما اتّحد موضوعاهما ، ومناط تحقّق صدق هذا المعنى لحوق الشكّ باليقين وتواردهما على موضوع واحد ، سواء كان مستند اليقين هو النصّ أو الإجماع أو غيرهما من الأدلّة اللفظيّة واللبّية.

وأمّا الثاني : فلعدم نهوض ما يخصّص الأخبار العامّة ، وعدم صلوح غيرها من أدلّتهم العقليّة على فرض نهوضها لإثبات الاستصحاب للتخصيص.

وأمّا الثالث : فلأنّ الشرط المدّعى اعتباره في حجّيّة الاستصحاب أو جريانه إن كان بقاء موضوع المستصحب في زمان الشكّ فقد عرفت أنّه ليس بدائم التحقّق في حال النصّ ولا بدائم الانتفاء في حال الإجماع.

وإن كان توهّم دلالة دليل الحكم على ثبوته في الآن الثاني كدلالته عليه في الآن الأوّل وهذا إنّما يتحقّق في النصّ باعتبار ما يطرأه من إطلاق أو عموم أفرادي أو أزماني ، فالمدّعي لانقطاع الحكم مدافع لهما فلا يقبل منه الحكم إلاّ بدليل التخصيص ، ومع عدم ثبوته يستصحب حكم الإطلاق والعموم ، فما لا دلالة لدليل الحكم على ثبوته في الآن الثاني لا معنى لاستصحابه ، فلا معنى لاستصحابه إذا ثبت بالإجماع لاختصاص انعقاده بالآن الأوّل بدليل الخلاف في الآن الثاني وهو ينافي الإجماع ، فنجيب عنه نقضا وحلاّ :

أمّا الأوّل : فلأنّ الإهمال الناشئ عن سكوت دليل الحكم عمّا بعد الآن الأوّل يجري في غير الإجماع من الأدلّة اللفظيّة واللبّية الّتي منها الفعل والتقرير ، اللذين لا يعقل فيهما

ص: 367

الدلالة على الدوام ، فلزم أن لا يجري في موردهما الاستصحاب ، وهذا يقتضي التفصيل لاءطلاق القول بالحجّية في حال النصّ ، مع أنّ الإجماع على حكم في وقت لا يلازم الخلاف فيما بعده ، لجواز سكوت المجمعين عنه نفيا وإثباتا.

وأمّا الثاني : فلمنع اشتراط ما ذكر في الاستصحاب بالمعنى المصطلح عليه حيث لم يقل به أحد ، بل المحقّق اشتراط خلافه فيه ، وإلاّ كان ثبوت الحكم في الآن الثاني لعموم الدليل أو إطلاقه وخرج بذلك عن ضابطة الاستصحاب.

نعم قد يطلق عليه الاستصحاب ويقال له : استصحاب حال العموم ، واستصحاب حال الإطلاق ، مسامحة وتوسّعا.

مقالة المحقّق الخوانساري رحمه اللّه

ومن التفاصيل : ما اختاره المحقّق الخوانساري في شرح الدروس في مسألة الاستنجاء بالأحجار ، قال : « اعلم : أنّ القوم ذكروا أنّ الاستصحاب إثبات حكم في زمان لوجوده في زمان سابق عليه ، وهو ينقسم على قسمين باعتبار الحكم المأخوذ فيه إلى شرعي وغيره.

فالأوّل مثل ما إذا ثبت نجاسة ثوب أو بدن في زمان فيقولون : إنّ بعد ذلك الزمان يجب الحكم بنجاسته إذا لم يحصل العلم بما يرفعها.

والثاني مثل ما إذا ثبت رطوبة ثوب في زمان ففيما بعد ذلك الزمان يجب الحكم برطوبته ما لم يعلم الجفاف ، فذهب بعضهم إلى حجّيته بقسميه ، وذهب بعضهم إلى حجّيّة القسم الأوّل [ فقط ].

واستدلّ كلّ من الفريقين بدلائل مذكورة في محلّها كلّها قاصرة عن إفادة المرام كما يظهر بالتأمّل فيها ، ولم نتعرّض لذكرها هنا بل نشير إلى ما هو الظاهر عندنا في هذا الباب.

فنقول : الظاهر أنّ الاستصحاب بهذا المعنى لا حجّيّة فيه أصلا بكلا قسميه ، إذ لا دليل عليه تامّا لا عقلا ولا نقلا.

نعم الظاهر حجّيّة الاستصحاب بمعنى آخر ، وهو أن يكون دليل شرعي على أنّ الحكم الفلاني بعد تحقّقه ثابت إلى زمان حدوث حال كذا أو وقت كذا مثلا معيّن في الواقع بلا اشتراطه بشيء أصلا.

فحينئذ إذا حصل ذلك الحكم فيلزم الحكم باستمراره إلى أن يعلم وجود ما جعل مزيلا له ، ولا يحكم بنفيه بمجرّد الشكّ في وجوده ، والدليل على حجّيته أمران :

أحدهما : أنّ هذا الحكم إمّا وضعي أو اقتضائي أو تخييري ، ولمّا وكان الأوّل عند

ص: 368

التحقيق يرجع اليهما فينحصر في الأخيرين ، وعلى التقديرين فيثبت ما رمناه.

أمّا على الأوّل : فلأنّه إذا كان أمر أو نهي بفعل إلى غاية معيّنة مثلا فعند الشكّ في حدوث تلك الغاية لو لم يمتثل التكليف المذكور لم يحصل الظنّ بالامتثال والخروج عن العهدة ، وما لم يحصل الظنّ لم يحصل الامتثال ، فلا بدّ من بقاء التكليف حال الشكّ أيضا وهو المطلوب.

وأمّا على الثاني : فالأمر أظهر كما لا يخفى.

وثانيهما : ما ورد في الروايات من أنّ اليقين لا ينقض بالشكّ.

فإن قلت : هذا كما يدلّ على المعنى الّذي ذكرته كذلك يدلّ على المعنى الّذي ذكره القوم لأنّه إذا حصل اليقين في زمان فلا ينبغي أن ينقض في زمان آخر بالشكّ نظرا إلى الروايات ، وهو بعينه ما ذكروه.

قلت : الظاهر أنّ المراد من عدم نقض اليقين بالشكّ أنّه عند التعارض لا ينقض ، والمراد بالتعارض أن يكون شيء يوجب اليقين لو لا الشكّ ، وفيما ذكروه ليس كذلك لأنّ اليقين بحكم في زمان ليس ممّا يوجب حصوله في زمان آخر لو لا الشكّ وهو ظاهر.

فإن قلت : هل الشكّ بكون الشيء مزيلا للحكم مع العلم بوجوده كالشكّ في وجود المزيل أو لا؟

قلت : فيه تفصيل ، لأنّه إن ثبت بالدليل أنّ ذلك الحكم مستمرّ إلى غاية معيّنة في الواقع ثمّ علمنا صدق تلك الغاية على شيء وشككنا في صدقها على شيء آخر ، فحينئذ لا ينقض اليقين بالشكّ ، وأمّا إذا لم يثبت ذلك بل ثبت أنّ ذلك الحكم مستمرّ في الجملة ومزيله الشيء الفلاني وشككنا في أنّ الشيء الآخر مزيل له أم لا؟ فحينئذ لا ظهور في عدم نقض الحكم وثبوت استمراره ، إذ الدليل [ الأوّل ] غير جار فيه لعدم ثبوت حكم العقل في هذه الصورة ، خصوصا مع ورود بعض الروايات الدالّة على عدم المؤاخذة بما لا يعلم.

والدليل الثاني الحقّ أنّه لا يخلو من إجمال ، وغاية ما يسلّم منها ثبوت الحكم في الصورتين اللتين ذكرناهما وإن كان فيه أيضا بعض المناقشات ، لكنّه لا يخلو عن تأمّل (1) للدليل الأوّل » انتهى ما أردنا نقله من كلامه قدس سره (2).

وملخّص ما أفاده بطول كلامه : أنّ الاستصحاب بمعنى إثبات حكم في زمان لمجرّد

ص: 369


1- وفي المشارق المطبوع بالحجر هكذا : « لكنّه لا يخلو عن تأييد للدليل الأوّل ».
2- مشارق الشموس : 76.

ثبوته في زمان سابق الّذي هو الاستصحاب بالمعنى الّذي يقول به القوم غير ثابت ، لأنّ ثبوت حكم في زمان لا يقتضي ثبوته في زمان آخر ، فإثبات الحكم في وقت بعد ثبوته في وقت سابق عليه لا بدّ له من دليل ، وهو إمّا دليل الحكم الأوّل أو دليل آخر خارج عنه ، والأوّل باطل لخروجه عن مورد الاستصحاب فتعيّن الثاني.

وحينئذ نقول : إنّ الحكم الّذي دلّ الدليل على ثبوته في الآن الثاني - الّذي هو زمان الشكّ - ما دلّ الدليل على استمراره إلى غاية معيّنة وشكّ في حصول الغاية أو صدقها على الحاصل ، فخرج صور الشكّ باعتبار المقتضي والشكّ في المانعيّة من صور الشكّ في المانع. والدليل القائم على الحجّية في الصورتين أمران :

أحدهما : قاعدة الاشتغال كما في وجوب صيام نهار رمضان عند الشكّ في دخول الليل ، فيجب إمساك زمان الشكّ تحصيلا ليقين البراءة بعد اليقين بالاشتغال.

ولا خفاء في ضعفه. أمّا أوّلا : فلعدم نهوض قاعدة الاشتغال لإثبات الاستصحاب أصلا لعدم كونها بعينها الاستصحاب ، نظرا إلى أنّها أصل برأسه مقابل للاستصحاب ، فهما أصلان متقابلان اخذ في أحدهما ملاحظة الحالة السابقة دون الآخر ، ولا أنّ مؤدّاها الاستصحاب ، لوضوح الفرق في المثال المتقدّم بين وجوب إمساك زمان الشكّ على أنّه الحكم الأوّل الّذي حكم ببقائه في زمان الشكّ ، وبين وجوب إمساكه على أنّ الإمساك في زمان الشكّ مقدّمة ليقين البراءة الواجب تحصيله فيجب مقدّمته ، ضرورة أنّ الوجوب المقدّمي ليس هو الوجوب الأوّل الأصلي وإن اعتراهما وصف الظاهريّة باعتبار دخول الشكّ في موضوعيهما.

وأمّا ثانيا : فلعدم اطّراد هذه القاعدة ، وعدم جريانها في جميع فروض الصورة المفروضة المدّعى حجّيّة الاستصحاب فيها بالخصوص ، بل عدم جريانها إلاّ في بعض الفروض النادرة ، وذلك أنّها في جريانها مشروطة بكون المورد من موارد التكليف الإلزامي ، وكون الشكّ في المكلّف به ، وعدم أوله إلى الشكّ في التكليف ، وإمكان الاحتياط بعدم دوران الأمر بين المحذورين. وهذه الشرائط فيما اريد إثبات استصحابه بتلك القاعدة لا تجتمع إلاّ في صورة واحدة ، وهي ما لو كان الحكم الّذي دلّ الدليل على استمراره إلى غاية معيّنة تكليفا إلزاميّا - من وجوب أو حرمة - وتعلّق بفعل واحد لوحظ لجميع أجزائه المتعاقبة على حسب تعاقب أجزاء الزمان المستمرّ إلى غاية كذا موضوعا واحدا ، على وجه يكون كلّ من التكليف والمكلّف به واحدا ، وشكّ بسبب الشكّ في دخول الغاية في

ص: 370

حصول أداء ذلك المكلّف به الواحد بتمام أجزائه فيما قبل زمان الشكّ ، أو عدم حصول أدائه إلاّ بمراعاة الجزء المقارن لزمان الشكّ إلى أن يحصل اليقين بدخول الغاية ، وحينئذ فقضيّة استدعاء الشغل اليقيني ليقين البراءة وجوب مراعاة ذلك الجزء أيضا ، كما في مثال صوم نهار رمضان الّذي يشكّ عند آخره في دخول المغرب ، وقد يكون الحكم الإلزامي بحيث تعلّق بفعل لوحظ في كلّ جزء يسعه من الزمان المغيّا موضوعا مستقلاّ تعلّق به الحكم بحيث ينحلّ نوع هذا الحكم إلى أحكام متعدّدة ، لموضوعات متعددة ومن أمثلته وجوب صيام الشهر عند رؤية هلاله إذا شكّ في التاسع والعشرين أنّه من هذا الشهر أو من الشهر المستقبل ، ففي مثل هذا المثال يؤول الشكّ في المكلّف به إليه في التكليف بصوم يوم الشكّ ، ويكون ممّا يجري فيه أصل البراءة لا أصل الاشتغال.

وقد لا يمكن الاحتياط في نحو القسم الأوّل لدوران الأمر بين المحذورين الموجب لتعارض الاحتياطين ، كما إذا وجب الجلوس في المسجد إلى الزوال والخروج من الزوال إلى المغرب ، فإنّ الاحتياط للتكليف بالجلوس عند الشكّ في الزوال معارض بالاحتياط للتكليف بالخروج ولا يمكن الجمع بينهما فلا بدّ في نحوه من الرجوع إلى أصل آخر غير الاحتياط ، كأصالة عدم الزوال ، أو عدم الخروج عن عهدة التكليف بالجلوس ، أو عدم حدوث التكليف بالخروج ، أو غير ذلك من الاصول الموضوعيّة.

ثمّ الحكم التخييري وهو الإباحة ممّا لا يعقل فيه قاعدة الاشتغال ، بل الأصل الجاري في مورده عند الشكّ في دخول الغاية إنّما هو أصل الإباحة ، إلاّ أن يقرّر قاعدة الاشتغال بالنسبة إلى الحكم التحريمي الثابت لما بعد الغاية بمقتضى تقييد الإباحة بالغاية ، كإباحة تناول المفطرات في ليلة صيام نهار رمضان المغيّاة بطلوع الفجر ، الملازم لحرمة تناولها بعد الفجر إذا شكّ في طلوعه ، فإنّ اليقين بالبراءة عن هذا الحكم التحريمي لا يتأتّى إلاّ باجتنابهما في زمان الشكّ.

وأنت خبير بأنّه على فرض صحّته لا ينتج بقاء الإباحة الّذي هو معنى استصحابها ، بل ينتج حدوث التحريم وهو ضدّ المطلوب.

وأمّا ما تكلّفه بعض الأعلام - من توجيه جريانها في الحكم التخييري بارجاعه إلى التكليفي ، من أنّ مقتضى التخيير إلى غاية معيّنة وجوب الاعتقاد بثبوته في كلّ جزء ممّا قبل الغاية ، ولا يحصل البراءة من التكليف باعتقاد التخيير عند الشكّ في حدوث الغاية

ص: 371

إلاّ بالحكم بالإباحة واعتقادها في هذا الزمان أيضا - فممّا لا وقع له ، لأنّ الاعتقاد بالإباحة فرع ثبوتها ، وإذا شكّ في ثبوتها في زمان لزم منه الشكّ في وجوب الاعتقاد بها في ذلك الزمان ، وهذا شكّ في التكليف لا في المكلّف به ، وعدم الاعتقاد بها فيه على تقدير ثبوتها في الواقع لا يوجب إخلالا بالاعتقاد بها في السابق الّذي ينحلّ إلى اعتقادات متعدّدة على حسب تعدّد أجزاء الزمان المستمرّ المتقدّم ، لعدم ارتباط أحد هذه الاعتقادات بالاخر على وجه يكون امتثال التكليف بها موقوفا على انضمام بعضها إلى بعض.

وثانيهما : لا ينقض اليقين بالشكّ الوارد في الأخبار ، بدعوى : أنّ الظاهر أنّ المراد من عدم نقض اليقين بالشكّ أنّه عند التعارض لا ينقض بالشكّ ، والمراد بالتعارض أن يكون شيء يوجب اليقين لو لا الشكّ ، وهذا المعنى يختصّ بما استمرّ إلى غاية ، وشكّ في دخول الغاية أو صدقها ولا يتناول غيره.

وتوضيح كلامه على وجه يتّضح حقيقة مرامه وسرّ ما ادّعاه من ظهور الخبر في صورة التعارض بين اليقين والشكّ ، فنقول : إنّ الصور المتصوّرة للمراد من لفظي « اليقين » و « الشكّ » كثيرة :

منها : أن يراد بهما اليقين والشكّ الفعليّان مع فرض تواردهما في زمان واحد على موضوع واحد ، على معنى اتّحاد متعلّقهما من حدوث شيء أو بقائه واتّحاد زمان حصولهما. وهذا ممّا ينبغي القطع ببطلانه لاستحالة اجتماع اليقين والشكّ على هذا الوجه لكونهما متضادّين ، فإذا حصل أحدهما في زمان يمتنع حصول الآخر في هذا الزمان مع تعلّقه بما تعلّق الأوّل ، فإذا حصل اليقين بشيء في زمان كان نقضه بالشكّ محالا ، لاستحالة حصول الشكّ معه ، والنهي عن المحال ، فلا يجوز تنزيل كلام الإمام عليه.

ومنها : أن يراد بهما الفعليّان أيضا مع تواردهما على موضوع في زمانين ، بأن اتّحد المتعلّق وتعدّد الزمان ، كما إذا تيقّن عدالة زيد يوم الجمعة ثمّ شكّ فيها في يوم [ السبت ] على وجه يسري إلى يوم الجمعة أيضا ، وهو الّذي يسمّى بالشكّ الساري. وهذا وإن أمكن تحقّقه إلاّ أنّه لا يجوز تنزيل الروايات عليه ، للإجماع على عدم اعتبار الاستصحاب مع سريان شكّه.

ومنها : الفعليّان أيضا لكن بعكس الفرض السابق ، وهو اتّحاد الزمان وتعدّد المتعلّق ، كما إذا حصل اليقين بحدوث شيء وشكّ في بقائه. وهذا أيضا ممكن ، ولكن لا يجوز حمل

ص: 372

« لا ينقض » على عدم نقض نحو هذا اليقين بمثل هذا الشكّ ، لأدائه إلى عراء كلام الحكيم عن الفائدة كما يظهر بأدنى تأمّل ، فوجب التصرّف في لفظ « اليقين » بحمله على اليقين الشأني وهو الّذي في معرض الحصول لتحقّق مقتضي حصوله ، بأن يكون الموجب لثبوت الحكم في الآن السابق موجبا لثبوته وحصول اليقين به في الآن اللاحق لو لا الشكّ ، وإنّما لم يحصل فعلا لمنع الشكّ من حصوله ، فتعيّن الحمل عليه لأنّه أقرب إلى الحقيقة بعد تعذّرها ، ولزم منه كون مورد الروايات صورة التعارض على معنى مزاحمة الشكّ الفعلي اليقين الشأني ومنعه إيّاه من أن يحصل.

وقضيّة ذلك خروج ما لو كان الشكّ باعتبار المقتضي للشكّ في استعداده للبقاء أو مقدار استعداده له عن موردها.

والفارق بين المقامين أنّ انتفاء اليقين في الأوّل مستند إلى وجود المانع وفي الثاني إلى فقد المقتضي ، فيقال في الأوّل : إنّه لو لا الشكّ لحصل اليقين ، وفي الثاني : إنّه لو علم وجود المقتضي لم يحصل الشكّ.

وبالجملة ليس المراد بالتعارض هنا ما هو نظير تعارض الدليلين ، ولا التمانع على معنى حصول المنع من الجانبين ، بل مزاحمة الشكّ لليقين ومنعه من حصوله ، وإنّما يكون كذلك إذا كان الشكّ فعليّا واليقين شأنيّا ، وإنّما يكون كذلك إذا كان المقتضي لثبوت الحكم في زمان الشكّ متحقّقا على وجه أوجب اليقين به لو لا الشكّ.

والجواب عن ذلك يظهر بمراجعة ما ذكرناه بعد الفراغ عن ذكر الأخبار في تتميم دلالتها على مطلق الاستصحاب.

ونزيد هنا أيضا : أنّ نقض اليقين بالشكّ إمّا أن يراد به رفع ذات اليقين ، أو رفع حكمه.

ولا سبيل إلى الأوّل ، لأنّ رفع ذات الشيء فرع على وجوده ، واليقين المفروض كونه تقديريّا معدوم صرف ، لوضوح أنّ التقدير لا يحقّق المقدّر ، فلا يصحّ إسناد رفع الذات إليه ، فلا يصحّ النهي عنه.

والثاني أيضا غير صحيح ، لأنّ اليقين التقديري لم يثبت له حكم حتّى لا يرفع ، إذ الأحكام المعلّقة على اليقين إنّما علّقت على اليقين الفعلي لا غير. فلا معنى للنهي عن رفع حكم ما لم يثبت له حكم.

إلاّ أن يقال : إنّ المراد من رفع حكم اليقين الشأني رفع الأحكام المعلّقة على اليقين

ص: 373

على فرض حصوله فعلا.

وحينئذ فنجيب : أنّه - بعد فرض كون رفع الحكم مقدورا للمكلّف ، أو توجيهه برفع اليد عن الأحكام المعلّقة على اليقين على معنى عدم ترتيبها - يوجب تصرّفا آخر في الروايات بحمل « النقض » على خلاف ظاهره ، وهذا يغني عن التصرّف في لفظ « اليقين » بحمله على الشأني ، لإمكان حمله كالشكّ على الفعلي على الوجه الثالث المتقدّم من اعتبار تعلّق اليقين بالحدوث وتعلّق الشكّ بالبقاء ، ويتمّ معه معنى الحديث من دون أن يستتبع محذورا ولا خروجا عن ظاهر لفظي « اليقين » و « الشكّ » ، فتعيّن الحمل عليه لأصالة الحقيقة ، ولأنّ المنساق عرفا من قوله : « لا ينقض اليقين بالشكّ (1) » بحسب التركيب الكلامي أنّ من طرأه شكّ في شيء بعد اليقين بتحقّقه فحكمه أن لا يلتفت إلى الشكّ الطارئ ، بل يعتبر اليقين ويجري أحكامه ، فيكون معنى الرواية حينئذ إفادة أنّ المدار في ترتّب الأحكام المعلّقة على الشيء على اليقين بحدوث ذلك الشيء وتحقّقه ، ولا يعتبر معه اليقين ببقائه ما لم يحصل اليقين بعدم بقائه. وقوله : « إنّما ينقضه بيقين آخر (2) » في بعض الأخبار المتقدّمة إشارة إلى ذلك ، بل قوله : « من كان على يقين في شيء فشكّ فليمض على يقينه (3) » منطبق عليه. وهذا هو معنى ما ذكرناه مرارا من أنّ حاصل معنى « لا ينقض اليقين بالشكّ » إيجاب تنزيل القضيّة المشكوكة منزلة القضيّة المتيقّنة وإجراء أحكامها عليها.

ولا ريب أنّ اليقين بحدوث الشيء - الّذي لا يعتبر معه في ترتيب أحكام ذلك الشيء اليقين ببقائه ولا يلتفت معه إلى الشكّ في البقاء - أعمّ من اليقين بالوجود المتعقّب للشكّ في البقاء باعتبار الشكّ في المقتضي ، وباعتبار الشكّ في وجود المانع ، وباعتبار الشكّ في مانعيّة الموجود ، فالرواية تعمّ كلاّ من الحكم المغيّا بغاية وغيره ممّا لم يدلّ دليله على استمراره إلى غاية معيّنة.

مقالة المحقّق السبزواري رحمه اللّه في الذخيرة

ومن التفاصيل : ما اختاره المحقّق السبزواري في الذخيرة حيث إنّه في مسألة الماء الكثير المطلق الّذي سلب عنه الإطلاق بممازجة المضاف النجس استدلّ على نجاسته بالاستصحاب.

ص: 374


1- الوسائل 5 : 321 الباب 10 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح 3.
2- الوسائل 1 : 174 - 175 الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، ح 1.
3- الوسائل 1 : 175 الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، ح 6.

ثمّ ردّه بأنّ استمرار الحكم تابع لدلالة الدليل ، والإجماع إنّما دلّ على النجاسة قبل الممازجة.

ثمّ قال : لا يقال : قول أبي جعفر عليه السلام في صحيحة زرارة : « ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا ، ولكن تنقضه بيقين آخر » يدلّ على استمرار أحكام اليقين ما لم يثبت الرافع.

لأنّا نقول : التحقيق أنّ الحكم الشرعي الّذي تعلّق باليقين إمّا أن يكون مستمرّا بمعنى أنّ له دليلا دالاّ على الاستمرار بظاهرها أم لا ، وعلى الأوّل فالشكّ في رفعه يكون على أقسام.

ثمّ ذكر الشكّ في وجود الرافع ، والشكّ في رافعيّة الشيء من جهة اجمال معنى ذلك الشيء ، والشكّ في كون الشيء مصداقا للرافع المبيّن مفهوما ، والشكّ في كون الشيء رافعا مستقلاّ.

ثمّ قال : إنّ الخبر المذكور إنّما يدلّ على النهي عن نقض اليقين بالشكّ ، وذلك إنّما يعقل في القسم الأوّل من تلك الأقسام الأربعة دون غيره ، لأنّ غيره لو نقض الحكم بوجود الأمر الّذي شكّ في كونه رافعا لم يكن النقض بالشكّ بل إنّما يحصل النقض باليقين بوجود ما يشكّ في كونه رافعا ، أو باليقين بوجود ما يشكّ في استمرار الحكم معه لا بالشكّ » فإنّ الشكّ في تلك الصور كان حاصلا من قبل ولم يكن بسببه نقض ، وإنّما يعقل النقض حين اليقين بوجود ما يشكّ في كونه رافعا للحكم بسببه ، لأنّ الشيء إنّما يستند إلى العلّة التامّة أو الجزء الأخير منها ، فلا يكون في تلك الصور نقض اليقين بالشكّ وإنّما يكون ذلك في صورة خاصّة دون غيرها ، انتهى (1).

والفرق بين هذا القول وما تقدّم عن المحقّق الخوانساري بعد اشتراكهما في نفي حجّيّة ما كان الشكّ فيه باعتبار المقتضي أنّه خصّ الحجّية بواحد من الأقسام الأربعة من الشكّ باعتبار المانع ، وهذا يعمّها في قسمين أو ثلاث منها مع اتّفاقهما على عدم الحجّية فيما شكّ في كونه رافعا مستقلاّ.

ويظهر جوابه ممّا مرّ ، ونزيد هنا : أنّ دلالة الخبر على النهي عن نقض اليقين بالشكّ مسلّمة ، كما أنّ استناد الشيء إلى العلّة التامّة أو الجزء الأخير منها أيضا مسلّم.

ولكن قد عرفت أنّ نقض اليقين بالشكّ المنهيّ عنه في الخبر ليس على حقيقته ، بل هو عبارة عن نقض حكم اليقين على معنى رفع اليد عن حكمه بسبب الاعتناء بالشكّ ، مع كون المراد منهما اليقين الفعلي المتعلّق بحدوث الشيء والشكّ الفعلي المتعلّق ببقاء ذلك الشيء.

وملخّص معنى النهي عنه الإرشاد إلى أنّ المدار في ترتيب أحكام الشيء عليه على

ص: 375


1- الذخيرة : 115 - 116.

اليقين بحدوثه ولا يعتبر معه اليقين ببقائه ، فيجب ترتيبها إلى أن يحصل اليقين بالخلاف.

وحاصله : أنّ اليقين بالبقاء ليس شرطا في ترتيبها ، بل اليقين بعدم البقاء مانع ، وهذا هو معنى : « وإنّما تنقضه بقين آخر » وهذا المعنى يعمّ جميع صور الشكّ باعتبار المقتضي وجميع الأقسام الأربعة من الشكّ باعتبار المانع ، بلا قصور في دلالة الخبر بالقياس إلى شيء منها حتّى الأقسام الثلاثة من الشكّ باعتبار المانع.

ودعوى أنّ النقض فيها إنّما يحصل بسبب اليقين بوجود ما يشكّ في كونه رافعا لأنّه الجزء الأخير من العلّة التامّة ، لا بسبب الشكّ لأنّه كان حاصلا قبل وجود ما يشكّ في كونه رافعا ولم يكن هناك نقض.

يدفعها : أنّها مغالطة واضحة مبناها على الغفلة عن حقيقة الحال ، فإنّ الشكّ المفروض حصوله قبل شكّ في رافعيّة النوع لنوع الحكم - كنوع المذي لنوع الطهارة - وهو ليس من الشكّ الوارد في الخبر المنهيّ عن نقض اليقين بسببه ، لعدم تعلّقه ببقاء هذه الطهارة الشخصيّة وغيرها من الحكم المفروض استمراره إلى وجود ما يرفعه ، بدليل كونه مجامعا لليقين بهذه الطهارة وذاك الحكم حدوثا وبقاء.

فانتفاء النقض حينئذ إنّما هو بسبب انتفاء الشكّ الناقض وهو الشكّ في البقاء بعد اليقين بالحدوث.

نعم إذا وجد ما يشكّ في كونه رافعا وحصل اليقين بوجوده حدث بسببه مع انضمام الشكّ السابق عليه شكّ آخر متعلّق ببقاء هذه الطهارة وغيرها ، وهذا من الشكّ في بقاء الشيء الحاصل بعد اليقين بحدوثه ، فلو رفع اليد عن أحكام اليقين بسبب الاعتناء بهذا الشكّ كان ذلك نقضا لليقين بسبب ذلك الشكّ الّذي لتأخّره عن اليقين بالوجود جزء أخير من العلّة التامّة فيندرج في عموم النهي ، فليتدبّر.

ومن التفاصيل : ما يظهر اختياره من المحكيّ عن المحقّق في المعارج حيث قال في آخر كلامه : « والّذي نختاره أن ننظر في دليل ذلك الحكم فإن كان يقتضيه مطلقا وجب الحكم باستمرار الحكم كعقد النكاح ، فإنّه يوجب حلّ الوطء مطلقا فإذا وجد الخلاف في الألفاظ الّتي يقع بها الطلاق فالمستدلّ على أنّ الطلاق لايقع بها لو قال : « حلّ الوطء ثابت قبل النطق بها فكذا بعده » كان صحيحا ، فإنّ المقتضي للتحليل وهو العقد اقتضاه مطلقا ، ولا يعلم أنّ الألفاظ المذكورة رافعة لذلك الاقتضاء ، فيثبت الحكم عملا بالمقتضي.

ص: 376

لا يقال : إنّ المقتضي هو العقد ولم يثبت أنّه باق.

لأنّا نقول : وقوع العقد اقتضى حلّ الوطء لا مقيّدا فيلزم دوام الحكم نظرا إلى وقوع المقتضي لا دوامه ، فيجيب أن يثبت الحلّ حتّى يثبت الرافع.

ثمّ قال : فإن كان الخصم يعني بالاستصحاب ما أشرنا إليه لم يكن ذلك عملا بغير دليل ، وإن كان يريد أمرا آخر وراء ذلك فنحن مضربون عنه » انتهى (1).

وظاهر عبارته قدس سره وإن كان قصر الحجّية على ما كان الشكّ بعد إحراز المقتضي لدوام الحكم باعتبار رافعيّة الموجود للحكم الّذي نفى الحجّية فيه المحقّقان المتقدّمان ، إلاّ أنّه لمّا كان في هذه الصورة أهون في الاعتبار بالقياس إلى صور الشكّ في وجود الرافع أو صدقه على موجود للشكّ في الصدق أو المصداق ، فهذا يعطي أولويّة الحجّية عنده في هذه الصور. فهو عند التحقيق قائل بالحجّية في جميع صور الشكّ باعتبار المانع وناف لها فيما هو باعتبار المقتضي.

ومن مشايخنا (2) من قوّى هذا القول ثمّ بعده القول المختار.

والجواب عن ذلك أيضا يظهر بمراجعة ما مرّ مرارا ولا نعيده.

نعم نزيد عليه : أنّ وجه الفرق إن كان توهّم كون مبنى الاستصحاب على ظنّ البقاء وهذا إنّما يتأتّى في الصورة المذكورة دون غيرها.

ففيه : منع الفرق في عدم الحصول ، ومنع الاعتبار على فرض تسليم الحصول.

وإن كان توهّم عدم تناول ما ورد من الأخبار لغير الصورة المذكورة ، أو نهوض ما أوجب تخصيصها.

تنبيهات الاستصحاب :

اشارة

ففيه : ما تقدّم من إثبات العموم مع منع وجود المخصّص. هذا تمام الكلام في أصل المسألة ، وينبغي ختمها بإيراد مطالب مهمّة :

المطلب الأوّل : عدم جريان الاستصحاب في الامور الاعتقاديّة

المطلب الأوّل

أنّه قد ظهر من تضاعيف ما تقدّم أنّه لا ينبغي التأمّل في جريان الاستصحاب وحجّيته في الموضوعات الخارجيّة المعبّر عنها بالموضوعات الصرفة ، وفي الموضوعات

ص: 377


1- المعارج : 209 و 210.
2- فرائد الاصول 3 : 51.

اللغويّة المعبّر عنها بالموضوعات المستنبطة ، وفي الأحكام الفرعيّة ، وكذلك في الأحكام الاصوليّة العمليّة في الجملة.

وأمّا الأحكام الاصوليّة الاعتقاديّة كوجوب الاعتقاد اليقيني بوجود الصانع أو وحدانيّته أو سائر صفاته الذاتيّة ، أو النبوّة أو غيرها ، فهي المقصودة من عقد هذا المطلب لننظر حالها من حيث قبولها لجريانه وعدمه.

فنقول : قولنا : « يجب الاعتقاد بنبوّة فلان » مثلا ، لاشتماله على ثلاثة أجزاء : الحكم والاعتقاد والمعتقد ، والاستصحاب فيه إمّا أن يفرض بالقياس إلى الحكم أو بالقياس إلى الاعتقاد أو بالقياس إلى المعتقد أو بالقياس إلى الآثار المترتّبة شرعا على أحد هذه الثلاث لو فرض له آثار. وبالتأمّل في ذلك ظهر أنّ المراد بالاستصحاب في اصول الدين ما يجري بالنسبة إلى نفس المكلّف فيها لا بالقياس إلى غيره ممّن كان في وقت موحّدا مسلما مؤمنا إذا شكّ في وقت آخر في بقاء توحيده أو إسلامه أو إيمانه ، لوجوب القطع حينئذ بجريان الاستصحاب وصحّته وحجّيته قصدا إلى ترتيب الآثار المعلّقة عليها الراجعة إلى المكلّف. بل هذا الاستصحاب عند التحقيق بالنسبة إلى المكلّف ليس من الاستصحاب في اصول الدين ، بل من الاستصحاب في الامور الخارجيّة والموضوعات الصرفة ، لوضوح أنّ توحيد زيد أو إسلامه أو إيمانه بالقياس إلى غيره من المكلّفين من الموضوعات الّتي علّق عليها أحكام راجعة إلى ذلك الغير كما أنّ عدالته كذلك ، فهذا الاستصحاب ممّا لا كلام فيه هنا. بل الغرض التكلّم في صحّة الاستصحاب الّذي يعمله المكلّف في اصول دينه الّتي كلّف فيها ، وقد عرفت أنّ له مراتب ثلاث.

فإن اريد إعماله في المرتبة الاولى - أعني الوجوب المتعلّق بالاعتقاد - فإن كان مع بقاء الاعتقاد فلا يعقل استصحابه لسقوطه بحصول امتثاله ، كما هو الأصل العقلي في سائر التكاليف الّتي من حكمها سقوطها بحصول أداء المكلّف به في الخارج ، فهو غير باق يقينا بناء على أنّ متعلّقه تحصيل الاعتقاد وقد حصل.

اللّهمّ إلاّ أن يقال : إنّه كما كان يجب تحصيل أصل الاعتقاد كذلك يجب الدوام والاستمرار في الاعتقاد بعد حصوله ، فإذا شكّ في وقت من الأوقات في بقاء ذلك الوجوب أمكن استصحابه.

ويزيّفه : منع طروّ الشكّ في بقاء وجوب الاستمرار في الاعتقاد لوجود دليله الأوّل بعينه في جميع الآنات من عقل مستقلّ أو نقل قطعي فلا يعقل استصحابه أيضا.

ص: 378

وإن كان مع زوال الاعتقاد وتبدّله بالشكّ ، فلا يتصوّر ذلك إلاّ مع سريان كما هو واضح.

فمرجع الكلام إلى وجوب تحصيل الاعتقاد ثانيا ، ولا حاجة لإثباته إلى الاستصحاب لوجود عين الدليل الأوّل من برهان عقلي أو نقل قطعي قاض بوجوب تحصيل الاعتقاد في المعارف ، وهذا يغني عن التشبّث بالاستصحاب.

وإن اريد إعماله في المرتبة الثانية.

ففيه : عدم معقوليّة الشكّ في الاعتقاد بقاء وارتفاعا لكونه أمرا قلبيّا ومعنى وجدانيّا ، فكلّ من بقائه وارتفاعه بعد مراجعة الوجدان معلوم لا يقبل التشكيك فلا يقبل الاستصحاب. وبذلك يعلم عدم صحّته في الآثار المعلّقة على الاعتقاد لوجوب ترتّبها مع بقائه واستحالة استصحابها مع زواله ، لاشتراطه ببقاء موضوع المستصحب.

وإن اريد إعماله في المرتبة الثالثة - أعني المعتقد - ففيه : أنّ المعتقدات في المعارف على قسمين :

أحدهما : ما كان مبناه بطبعه ولذاته على الدوام بحيث لا يقبل الزوال والانعدام ، كوجود الصانع ، ووجوب وجوده وقدمه وعلمه وقدرته وعدله ووحدانيّته وسائر صفاته الذاتيّة ، وهذا ممّا لا يعقل فيه الاستصحاب لعدم قبوله التشكيك.

وثانيهما : ما كان مبناه على الانقطاع كالنبوّة الخاصّة ، فإن اريد من استصحابها استصحاب نفس النبوّة من حيث إنّها صفة خاصّة ثابتة في النبيّ كموسى وعيسى وغيرهما فهي أيضا ممّا لا يمكن استصحابها ، لأنّها صفة قائمة بموصوفها وتابعة للذات غير منفكّة عنها حيّا وميّتا ، فلا بدّ من إرجاع استصحابها إلى الشريعة الّتي أتى بها النبيّ ، وهي قابلة للشكّ في البقاء بعد اليقين بالثبوت في وقت ، وقضيّة ذلك أن يصحّ استصحابها. وهذا هو الاستصحاب الّذي تمسّك به بعض أهل الكتاب عند مناظرته لبعض أفاضل السادة (1) قصدا إلى إفحامه في عدوله عن شرع موسى أو عيسى إلى دين محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم.

ولقد اجيب عنه بوجوه غير ناهضة بردّه ودفع متمسّكه :

ص: 379


1- هو السيّد باقر القزويني على ما نقله الآشتيانى في بحر الفوائد 3 : 150 - عن المصنّف وقيل : إنّه السيّد حسين القزويني. وقيل : إنّه السيّد محسن الكاظمي. وفي أوثق الوسائل 1. عن رسالة لبعض تلامذة العلاّمة بحر العلوم : أنّ المناظرة جرت بين السيّد بحر العلوم وبين عالم يهودي حين سافر إلى زيارة أبي عبد اللّه 7 في بلد ذي الكفل ، وكانت محلّ تجمّع اليهود آنذاك ، كما أنّه يحتمل تعدّد الواقعة.

أحدها : ما حكي (1) عن السيّد المناظر له من أنّا نؤمن ونقرّ بنبوّة كلّ موسى أو عيسى أقرّ بنبوّة نبيّنا صلى اللّه عليه وآله وسلم وكافر بنبوّة كلّ من لم يقرّ بذلك ، والظاهر أنّه أخذ ذلك ممّا ورد من مولانا الرضا عليه السلام في جواب الجاثليق (2).

وردّ : بأنّه بظاهره مخدوش بما عن الكتابي من أنّ موسى بن عمران أو عيسى بن مريم شخص واحد وجزئي حقيقي اعترف المسلمون وأهل الكتاب بنبوّته ، ونحن نقول : إنّ نبوّته باقية بحكم الاستصحاب وعلى المسلمين نسخها ، ولا يذهب عليك أنّ هذا لا يرد على جواب الإمام عن الجاثليق كما يظهر وجهه بالتأمّل وسنبيّنه إن شاء اللّه أيضا.

وثانيها : ما حكي عن الفاضل النراقي في المناهج (3) من أنّ استصحاب النبوّة معارض باستصحاب عدمها الثابت قبل حدوث أصل النبوّة. وهذا منه مبنيّ على ما تقدّم منه من الأصل الفاسد وهو أنّ الحكم الشرعي الموجود في زمان يقتصر فيه على القدر المتيقّن ، وبعده يتعارض استصحاب وجوده واستصحاب عدمه ، وقد تقدّم منّا ما أفسده بما لا مزيد عليه.

وثالثها : ما ذكره في القوانين (4) ممّا ملخّصه : الفرق بين النبوّة المطلقة ومطلق النبوّة ، والّذي يصحّ استصحابه هو النبوّة المطلقة وهي المعرّاة عن قيدي الدوام وخلافها بأن تكون مغيّاة بغاية معيّنة ، والثابت لموسى أو عيسى إنّما هو مطلق النبوّة وهي المردّدة بين المقيّدتين والمطلقة ، والاستصحاب لا يجري في مثله.

ومرجعه إلى منع جريان الاستصحاب في الكلّي المردّد بين امور مختلفة في استعداد البقاء ومقداره وعدم استعداد البقاء ، ومبنيّ ذلك المنع على أصله الّذي قرّره أوّلا ، ومحصّله : أنّ الاستصحاب مشروط بمعرفة استعداد المستصحب ، فلا يجوز استصحاب حياة الحيوان المردّد بين حيوانين مختلفين في الاستعداد بعد انقضاء مدّة استعداد أقلّهما استعدادا. وهذا عند التأمّل أضعف من سابقيه.

فأوّل ما يرد عليه : أنّه لا يشترط في الاستصحاب - على ما حقّقناه - إحراز استعداد المستصحب ولا إحراز مقدار استعداده للبقاء ، بل يجري الاستصحاب في كلّ محتمل البقاء علم استعداده للبقاء في الجملة أو لا ، علم مقدار استعداده وكان الشكّ في الرافع أولا ، وهو قدس سره أيضا اختار إطلاق القول بحجّيته سواء كان الشكّ المأخوذ باعتبار المقتضي أو

ص: 380


1- حكاه عنه في القوانين 2 : 70.
2- عيون أخبار الرضا عليه السلام 1 : 157 ، الاحتجاج 2 : 202.
3- مناهج الأحكام : 237.
4- القوانين 2 : 70.

باعتبار المانع ، ولا نعني من الشكّ باعتبار المقتضي إلاّ الشكّ في الاستعداد أو مقداره ، ومرجع منعه المتقدّم إلى إنكار الاستصحاب فيما شكّ في استعداده أو مقدار استعداده للبقاء ، وهو إنكار لحجّيته في الشكّ باعتبار المقتضي ، فيكون عدولا عمّا اختاره أوّلا.

إلاّ أن يذبّ عن ذلك : بأنّ الشكّ في الاستعداد أو مقداره قد يكون لاشتباه الوصف مع معلوميّة الموصوف ، بأن يكون ذاتا معيّنة يشكّ في استعداده أو مقدار استعداده للبقاء ، وقد يكون لاشتباه الموصوف بأن يكون ذاتا مردّدة بين نوعين معلومي الوصف مع اختلافهما في مقداره. والمعهود المتداول من الشكّ في المقتضي في ألسنتهم ما كان من قبيل الأوّل ، والقول بحجّية الاستصحاب فيه لا ينافي منع جريانه فيما هو من قبيل الثاني ، ومحلّ البحث من هذا القبيل.

ويتوجّه إليه حينئذ : أنّه يرجع إلى إنكار استصحاب القدر المشترك وهو ضعيف ، وسيأتي تحقيق القول فيه.

وثاني ما يرد عليه : نقض إنكاره الاستصحاب في المفهوم المردّد بالنبوّة المطلقة ، فإنّها بحسب الواقع ونفس الأمر لا تخلو عن النبوّة المؤبّدة والنبوّة المغيّاة إلى غاية منقضية ولا ثالث لهما في الواقع ، فالنبوّة المطلقة - بمعنى الغير المقيّدة - ومطلق النبوّة سيّان في التردّد بين الدوام والتوقيت. فإجراء الاستصحاب في إحداهما دون الاخرى تحكّم.

إلاّ أن يذبّ عن ذلك أيضا : بإبداء الفرق بينهما بأنّ المطلقة يحكم فيهما بالاستمرار إلى أن يثبت الرافع ، بخلاف مطلق النبوّة الّتي استمرارها غير محرز.

وفيه : أنّ الإطلاق في النبوّة المطلقة - بمعنى الغير المقيّدة المقتضي للحكم بالاستمرار - إن اريد به الظهور الّذي هو من أحوال الخطاب اللاحقة له ولو بانضمام حكم العقل بقبح الإغراء فالحكم بالاستمرار صحيح ، غير أنّه خروج عن ضابط الاستصحاب ، إذ لا مجرى للاستصحاب مع إطلاق الدليل. وإن اريد به الإهمال الناشئ عن إجمال الخطاب باعتبار عدم وضوح دلالته على إطلاق ولا تقييد ، فلازمه كون قضيّة النبوّة الثابتة به مهملة ، ومرجعها إلى المفهوم المردّد الّذي لا يتّجه فيه الحكم بالاستمرار بمقتضى أصله.

وثالث ما يرد عليه : أنّه يلزم من أصله الّذي ذكره اختصاص جريان الاستصحاب في الأحكام الغير المحدودة بحدود معيّنة بالحكم المطلق وعدم جريانه في مطلق الحكم ، فكثيرا مّا يتردّد الحكم الشرعي بين المطلق والمؤبّد والموقّت فوجب أن لا يجري فيه

ص: 381

الاستصحاب ، فلا وجه لإطلاق القول به في الأحكام.

ولو اعتذر بوجود الفارق - وهو الغلبة - بين الأحكام والنبوّات كما ينساق ذلك من تضاعيف كلامه ، بدعوى : أنّ الغالب في الأحكام المطلقات الّتي أراد فيها الشارع استمرارها ولو من مجرّد الوجود فيظنّ البقاء في محلّ الشكّ لأجل هذه الغلبة ، والغالب في النبوّات النبوّة المغيّاة بغاية معيّنة فلا يظنّ البقاء في مورد الشكّ لأجل هذه الغلبة.

لدفعه - مع ما يرد على دعوى الإطلاق من الترديد المتقدّم - : أنّ غلبة الإطلاق في الأحكام لا ينفي ندرة وجود المفهوم المردّد ، كما أنّ غلبة المغيّاة في النبوّات لا ينافي كون الفرد النادر هو المطلق لا المفهوم المردّد ، ولا يعيّن كون ذلك المطلق هو غير محلّ الاستدلال بالاستصحاب ، ولا يقضي بكون محلّ الاستدلال - أعني نبوّة موسى أو عيسى - من المفهوم المردّد لينهض ما ذكر في الجواب ردّا على المستدلّ ، فالأولى أن يجاب عنه بوجوه اخر غير ما ذكروه :

الأوّل : أنّه إن أراد من التمسّك بالاستصحاب إقامة الدليل الإقناعي لنفسه من دون قصد إلى إلزام الخصم.

فيرد عليه : أنّ الاستصحاب من الاصول الّتي يشترط في العمل بها الفحص عن الدليل ، والمفروض أنّ الفحص في اصول الدين ممكن بل متيسّر لانفتاح باب العلم فيها بحكم الضرورة والعقل المستقلّ ، القاضي بلزوم التكليف بغير المقدور من التكليف فيها بالعلم لو لا انفتاح بابه بوجود الطرق العلميّة ، مع قطع النظر عن الإجماع ونصوص القرآن الواردة في وعيد الكفّار وتعذيبهم وخلودهم في النار ، الكاشفة عن تمكّنهم من العلم وتقصيرهم في تحصيله ، وتمسّكه بالاستصحاب حينئذ إمّا أن يكون قبل الفحص فغير معتبر ، وإن كان بعد الفحص بما هو حقّه وعلى الوجه الّذي ينوط به إتمام حجّة اللّه تعالى على خلقه وبه ينقطع العذر فغير جار ، لكون الفحص على الوجه المذكور مؤديّا إلى العلم بأحد الطرفين لا محالة ، ومع العلم لا معنى للاستصحاب.

وإن أراد منه إلزام الخصم على بطلان دينه ، أو على حقّيّة دين المستدّل.

فيرد عليه : أنّ الاستصحاب الملزم للخصم ما يحرزه الخصم ، وهو موقوف على إحراز شروطه الّتي منها اليقين السابق والشكّ اللاحق ، واليقين بثبوت نبوّة موسى أو عيسى في زمانهما وإن كان حاصلا للمسلمين إلاّ أنّ الشكّ في بقائهما وارتفاعهما في زمان

ص: 382

محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم منتف بالنسبة إليهم لأنّه أمر وجداني وليس في أنفسهم شكّ في نسخ هذه النبوّة بنبوّة نبيّهم ، وشكّ الكتابي إن كان لا يصلح موضوعا لاستصحاب المسلم [ فالاستصحاب الّذي توهّمه الكتابي وفرضه من عند نفسه لا ينهض لإلزام المسلم على بطلان دينه ولا على حقّيّة دين الكتابي ، هذا ](1).

وبالتأمّل فيما ذكرناه يندفع ما لو أراد الكتابي بيان أنّ مدّعي ارتفاع الشريعة السابقة ونسخها يطالب بإقامة الدليل ، فإنّ مدّعي بقائها في نحو المسألة أيضا يفتقر إلى إقامة الدليل ، ولو استند إلى الاستصحاب عاد عليه البحث السابق.

وإن اعتذر بأنّي ناف للنبوّة الجديدة الّتي يثبته المسلمون ، وليس على النافي دليل بل المثبت مطالب بإقامة الدليل.

ففيه : أنّ دعوى النفي ودعوى الإثبات سيّان في احتياجهما إلى الدليل ، لأنّ النفي عبارة عن نفي مدّعي المثبت فيكون محتاجا إلى الدليل.

نعم ما يقال : من أنّ المانع يكفيه المنع ولا يكلّف بالإثبات ، بل الإثبات من وظيفة المستدلّ حقّ لا سترة عليه ، إلاّ أنّه ممّا لا يرتبط بالمقام لوضوح الفرق بين النافي والمانع ، فإنّ المانع من يمنع الاستدلال بمنع أحد مقدّمات دليل المستدلّ لا بعينه وهو النقض الإجمالي ، أو منع مقدّمة معيّنة أو كلّ واحد من مقدّمات الدليل وهو النقض التفصيلي ، بخلاف النافي فإنّه لا يتعرّض لدليل المستدلّ أصلا بل ينفي مدّعى المثبت ، ونفي مدّعاه دعوى منه وهي كدعوى الإثبات لا تسمع إلاّ بدليل.

فلو قيل : إنّه يكفي في دليله الأصل.

لدفعناه : بقضيّة اشتراط اعتباره بالفحص.

كما أنّه لو قيل : بأنّه قد يكتفى في دليل النفي بعدم الدليل على الإثبات ، كما يقال : أنّ عدم الدليل دليل العدم ، وهذا أصل مسلّم في الجملة ويعوّل عليه في كثير من المقامات.

لدفعه : أنّه كذلك ولكنّه بعد الفحص لا مطلقا ، فإذا انجرّ الكلام إلى الفحص وجودا أو عدما عاد الكلام السابق.

الثاني : أنّ الاستصحاب المتمسّك به لا بدّ له من مدرك ، فإن كان الأخبار فالتعويل

ص: 383


1- سقط ما بين المعقوفتين من قلمه الشريف في التعليقة ، وإنّما أوردناها من حاشيته على القوانين تتميما للمرام ، ( راجع حاشية القوانين : 110 )

عليها لإثبات الاستصحاب يستلزم الإذعان بنبوّة نبيّنا صلى اللّه عليه وآله ، لأنّ الأخبار منه صدرت بلسان أمنائه وصدور مثلها من موسى أو عيسى غير واضح.

وكون البناء عليها في الاحتجاج بالاستصحاب جريا على طريقة الخصم ومعتقده إلزاما له.

يدفعه : أنّ مقتضاها على طريقة الخصم نقض اليقين بيقين مثله ، وهو في العدول عن شرع موسى وعيسى على يقين من نسخه وحدوث شرع نبيّهم ، وإن كان بناؤه على ظنّ البقاء الحاصل في جميع موارد الاستصحاب ، فيتوجّه إليه منع حصول الظنّ أوّلا بسند تقدّم ذكره في أوّل المسألة ، ومنع اعتباره في اصول الدين ثانيا ، لعدم انسداد باب العلم فيها ، والعمدة من دليل حجّيّة الظنّ دليل الانسداد وهو غير جار هنا. وكون الظنّ الاستصحابي من الظنون الخاصّة لا يسلّم إلاّ لدليل خاصّ قطعي وليس إلاّ بناء العقلاء إن كان ، وهو على ما تقدّم في أوّل المسألة إنّما يسلّم في امور معاشهم لا في الأحكام الشرعيّة ولا سيّما الاصول الاعتقاديّة.

ولو سلّم بناؤهم على العمل به مطلقا حتّى الاصوليّة فإنّما يعملون به بعد الفحص وعدم الوصول إلى دليل علمي ، وبدونه لا تعويل عليه عندهم ، ومع حصوله لا بدّ من العلم بأحد الطرفين كما عرفت.

الثالث : أنّ الاستصحاب المذكور لا يفيد إلزاما لنا إلاّ مع يقيننا بالمستصحب وهي نبوّة موسى وعيسى ، ولا مستند له إلاّ أخبار نبيّنا في كتابه وسنّته ، لانتفاء برهان عقليّ وفى بهذه النبوّة الخاصّة ، وانتفاء الخبر المتواتر وشروطه خصوصا كون المخبر به حسّيّا ، لوفور الخطاء في الحدسيّات وإن بلغ المخبرون في الكثرة ما بلغوا ، والاعتماد على أخبار نبيّنا يستلزم انقطاع الاستصحاب لابتنائه على كونه نبيّنا. وتوهّم أنّه يتوقّف على صدقه لا على نبوّته ، يندفع : بأنّ صدقه لا يحرز إلاّ بنبوّته.

الرابع : أنّ المستصحب لا بدّ وأن يكون شريعة موسى وعيسى لما بيّنّاه سابقا من عدم كون نفس النبوّة قابلة للاستصحاب ، والشريعة عبارة عن مجموع ما جاء به النبيّ عن اللّه سبحانه ، ونحن معاشر المسلمين نعتقد أنّ من جملة ما جاء به موسى وعيسى من اللّه سبحانه بشارتهما برسول يأتي من بعدهما اسمه أحمد ، فإن اريد بالشريعة المستصحبة ما لم يشتمل على تلك البشارة فنحن لا نعتقدها ، ومعه يستحيل استصحابها. وإن اريد بها ما يشتملها فهي منقطعة بحكم الفرض.

ص: 384

ودعوى : أنّ النبيّ الموعود لم يأت بعد والّذي أتى وادّعى النبوّة ليس هو النبيّ الموعود ، لا تضرّنا بعد جزمنا بأنّه الموعود ، لأنّ المدار في جريان الاستصحاب وعدم جريانه على يقين الناظر فيه ببقاء المستصحب وشكّه فيه.

وإلى هذا الجواب يرجع ما ذكره أبو الحسن الرضا عليه السلام في جواب الجاثليق حيث قال له عليه السلام : ما تقول في نبوّة عيسى وكتابه ، هل تنكر منهما شيئا؟ قال عليه السلام : « أنّا مقرّ بنبوّة عيسى وكتابه وما بشّر به امّته وأقرّ به الحواريّون ، وكافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ بنبوّة محمّد صلى اللّه عليه وآله وكتابه ولم يبشّر به امّته (1) ».

والحاصل : معنى بقاء نبوّة عيسى مثلا بقاء دينه وشريعته لا بقاء نفس النبوّة ، لأنّها وصف تابع في بقائه وارتفاعه لموصوفه ، والموصوف غير باق فكذا الوصف.

وإذا كان كذلك فنقول : إنّا من المقرّين ببقاء دينه وشريعته في الجملة ، ومن المعتقدين به لأنّ من دينه الّذي أتى به إنّما هو التصديق بمن سلف وغيره من الأنبياء وكتبهم ، والبشارة برسول يأتي من بعده اسمه أحمد على ما نطق به قوله تعالى حكاية عنه : ( إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) (2) فإذعاننا برسالة محمّد صلى اللّه عليه وآله وتديّننا بدينه واتّباعنا لشريعته إنّما هو على حسب ما يقتضيه دين عيسى وشرعه. فالمتمسّك بالاستصحاب إن أراد بالمستصحب هذه الشريعة المتضمّنة للتصديق بالتوراة والبشارة برسالة محمّد صلى اللّه عليه وآله فتكلّف غير محتاج إليه ، لأنّا لسنا بمنكري هذه الشريعة وبقائها في الجملة ، وإن أراد غير ذلك فاستصحابه لا يفيدنا شيئا ، لأنّا لسنا بمعتقدي ذلك حتّى يلزمنا استصحابه.

وبعبارة اخرى : شريعة عيسى الّتي نحن نعتقدها كانت مغيّاة بغاية معلومة وهي حدوث شريعة محمّد صلى اللّه عليه وآله على حسب ما يقتضيه بشارة عيسى ، وهذا لا يحتاج إلى استصحاب ، والّتي ليست مغيّاة بهذه الغاية نحن لا نعتقدها فلا يعقل استصحابه الملزم لنا لانتفاء اليقين السابق.

وإذا انجرّ الكلام إلى هذا المقام فهاهنا دقيقة ينبغي التنبيه عليها ، وهي أنّ هذا كلّه في منع استصحاب أصل الشريعة السابقة. وأمّا استصحاب حكم من أحكامها الثابتة فيها إذا لم يعلم نسخه بالخصوص فالأقوى صحّته وحجّيّته ، إذ المستصحب إذا اجتمع فيه شرائط الاستصحاب وأركانه فلا يتفاوت الحال فيه بين كونه من أحكام هذه الشريعة أو من

ص: 385


1- عيون أخبار الرضا عليه السلام 1 : 156 و 157.
2- الصفّ : 6.

أحكام غيرها من الشرائع السالفة ، لوجود المقتضي وهو جريان دليل الاستصحاب وفقد المانع خلافا لمن أنكره استنادا إلى تشكيكات أوردها بعض مشايخنا مع ثمرات المسألة في رسالته الاستصحابيّة (1) ولا فائدة مهمّة في التعرّض لذكرها ومن يطلبها يراجع إلى الرسالة المذكورة.

المطلب الثاني : في الأصل المثبت

المطلب الثاني

في الأصل المثبت وهو الاستصحاب من حيث إنّه يفيد ثبوت غير المستصحب وآثاره الشرعيّة من مقارناته ، فيقال : إنّه ليس بحجّة أو ليس بثابت أو أنّه لا عمل بالاصول المثبتة ، ويعنى به أنّه لا يفيد ذلك.

وتوضيح المقام : أنّ ما يقارن المستصحب إمّا أن يكون بينه وبين المستصحب علاقة واتّصال يقال له : اللزوم أو لا ، بل كان مقارنته له لمحض الاتّفاق كفسق عمرو إذا قارن عدالة زيد حال اليقين [ بها ] ، وكرّيّة ماء إذا قارنت وجوب الاغتسال للجنابة حال اليقين بها ، ورطوبة ثوب أو طهارته إذا قارنت حرمة امرأة حال اليقين بها. وعلى الأوّل فإمّا أن يكون ذلك المقارن من لوازم المستصحب ، أو من ملزوماته ، أو لا من هذا ولا من ذلك ، بل كان مع المستصحب لازمين لأمر ثالث ، على معنى كونهما متلازمين في الخارج متشاركين في الملزوم.

وبعبارة اخرى : أنّ مقارنة ما قارن المستصحب لعلاقة بينهما إمّا أن يكون من جهة ترتّبه على المستصحب ، أو من جهة ترتّب المستصحب عليه ، أو من جهة ترتّبهما على أمر ثالث غيرهما. وعلى التقادير الثلاث فاللزوم الارتباط الحاصل بينهما إمّا أن يكون شرعيّا أو عقليّا أو عاديّا ، فهذه عشرة أقسام :

أمّا القسم الأوّل : فينبغي القطع بأنّ الاستصحاب لا يفيد ثبوت الأمر المقارن لمحض الاتّفاق وترتّبه على المستصحب. فلا يحكم بفسق عمرو لمجرّد استصحاب عدالة زيد ، ولا بكرّيّة الماء لمجرّد استصحاب وجوب الاغتسال للجنابة ، ولا بحرمة الامرأة المذكورة لمجرّد استصحاب رطوبة الثوب أو طهارته باعتبار مقارنتها للمستصحب حال اليقين به ، بل لو كان ذلك الأمر المقارن بحيث فيه بنفسه الاستصحاب لاجتماع شرائطه وتحقّق

ص: 386


1- فرائد الاصول 3 : 225 - 232.

أركانه فيه فهو المتّبع في الحكم بثبوته ، سواء وافق استصحابه لمقتضى استصحاب ذلك المستصحب أو خالفه ، وإلاّ فلا يمكن إثباته ولا الحكم بثبوته ولا ترتّبه على المستصحب.

لأنّ العمل بالاستصحاب إمّا أن يكون لظنّ البقاء فلا يلزم من ظنّ بقاء الشيء ظنّ بقاء مقارناته الاتّفاقية ، إذ لا واسطة بينهما من تلازم ولا ملازمة.

وإمّا أن يكون للأخبار فحاصل مفادها على ما بيّنّاه مرارا وجوب تنزيل المشكوك منزلة المتيقّن وترتيب آثار المتيقّن على المشكوك ، على أن تكون هذه الآثار أحكاما ظاهريّة للمشكوك ، على معنى كونها أحكاما مجعولة للمستصحب من حيث كونه مشكوك البقاء. فهي بالقياس إلى المتيقّن أحكام واقعيّة تترتّب عليه بوجوداتها الجعليّة الأوّلية ، وبالقياس إلى المشكوك أحكام ظاهريّة مجعولة تترتّب عليه بوجوداتها الجعليّة الثانويّة.

وظاهر أنّ المقارن الاتّفاقي بالقياس إلى المستصحب ليس من آثاره المترتّبة عليه حال اليقين ، فلا يكون من الآثار المجعولة له بعد طروّ الشكّ ، خصوصا إذا كان من الامور الخارجيّة الغير القابلة للجعل كفسق عمرو وكرّيّة الماء في المثالين المتقدّمين. فمثل هذا المقارن لا يندرج في عموم « لا ينقض اليقين بالشكّ (1) » ليجب ترتيبه على المشكوك.

وبما قرّرناه يظهر الحكم في ستّة أقسام اخر من التسع الباقية ، وهي ما لو كان الأمر المقارن ملزوما للمستصحب بحكم الشرع أو العقل أو العادة ، أو ملازما له بكونه معه لازمين لأمر ثالث شرعا أو عقلا أو عادة ، فإنّه في هذه الأقسام أيضا ليس من لوازم المستصحب ليدخل في عموم الأخبار الآمرة بترتيب آثار كلّ مستصحب حال اليقين على حال الشكّ ، فلا يفيد استصحابه وترتيب آثاره عليه ترتيبها عليه.

نعم على القول بالاستصحاب باعتبار إفادته ظنّ البقاء اتّجه الحكم بمقارناته في جميع هذه الأقسام ، لقضاء العلاقة والاتّصال بين شيئين في الوجود الخارجي بالاتّصال بينهما في الوجود الذهني أيضا ، على معنى عدم انفكاك أحدهما عن صاحبه في الذهن أيضا. فالعلم بأحدهما يستلزم العلم بالآخر والظنّ بأحدهما أيضا يستلزم الظنّ بالآخر ، فالظنّ باللازم لا ينفكّ عن الظنّ بالملزوم ، والظنّ بأحد المتلازمين أيضا لا ينفكّ عن الظنّ بالمتلازم الآخر خصوصا إذا كانا معلولين لعلّة مشتركة ، لوضوح دوران المعلول مع العلّة وجودا

ص: 387


1- الوسائل 5 : 321 الباب 10 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ح 3.

وعدما علما أو ظنّا أو وهما.

وأمّا الثلاث الباقية وهي ما لو كان الأمر المقارن من لوازم المستصحب شرعا أو عقلا أو عادة ، فالحقّ فيها أنّ المستصحب إن كان من الامور القابلة للجعل كالوجوب في الحرمة والإباحة وغيرها من الأحكام الشرعيّة المجعولة فاستصحابه يفيد ثبوت جميع آثاره وترتيبها عليه شرعيّة وعقليّة وعاديّة ، وإن كان من الامور الغير القابلة للجعل كالموضوعات الخارجيّة واللغويّة بل الأحكام الوضعيّة - بناء على ما حقّق في محلّه من عدم كونها من مجعولات الشارع - فاستصحابه لا يفيد إلاّ ثبوت الآثار الشرعيّة دون العقليّة والعاديّة.

والسرّ في هذا التفصيل : أنّ الأخبار الاستصحابيّة مسوقة لتأسيس حكم ظاهري مجعول للمكلّف الشاكّ في بقاء الحالة السابقة وارتفاعها من حيث هو شاكّ ، وهذا الحكم الظاهري المجعول هو نفس المستصحب فيما لو كان من الأحكام الشرعيّة القابلة للجعل وآثاره المترتّبة عليه فيما إذا كان من غيرها ، فقوله : « لا ينقض اليقين بالشكّ » نهي عن رفع اليد عن اليقين بسبب الاعتناء بالشكّ ، وهو يفيد وجوب تنزيل المشكوك منزلة المتيقّن ، ومعناه الأخذ به على أنّه حكم مجعول للشاكّ من حيث كونه شاكّا ، أو الأخذ بآثاره على أنّها أحكام مجعولة له من الحيثيّة المذكورة.

وبعبارة : اخرى مفاد قوله : « لا ينقض اليقين بالشكّ » مجعوليّة المستصحب أو مجعوليّة آثاره.

ففي الأوّل يجب الالتزام بالمستصحب على أنّه حكم ظاهري مجعول.

وفي الثاني يجب الالتزام بآثاره على أنّها أحكام ظاهريّة مجعولة.

وهذا هو معنى وجوب تنزيل المشكوك منزلة المتيقّن ، ولا يتمّ ذلك إلاّ إذا كان المستصحب أو آثاره من الأحكام الشرعيّة ، لأنّها قابلة للجعل دون الامور الخارجيّة.

وقضيّة ذلك أن لا يفيد الاستصحاب فيما لو كان المستصحب من قبيل الموضوعات الخارجيّة إلاّ ثبوت آثاره الشرعيّة الّتي هي من قبيل الأحكام الشرعيّة ، لكون الآثار العقليّة والعاديّة على ما ستعرفه في ضمن الأمثلة الآتية من قبيل الموضوعات الخارجيّة ونحوها ، فوجه بطلان الاصول المثبتة عدم وفائها باثبات اللوازم العقليّة والعاديّة لعدم اندراج هذين القسمين من اللوازم في دليل حجّيّة الاصول.

وإن أبيت إلاّ عن أنّ مدلول الأخبار وجوب الحكم ببقاء الحالة السابقة ومعناه ترتيب

ص: 388

الآثار الّتي كانت مترتّبة عليها على تقدير بقائها.

وبعبارة اخرى : أن يرتّب حال الشكّ جميع الآثار المترتّبة عليها حال اليقين ، وهذا هو الحكم الظاهري المجعول في حقّ الشاكّ ، وهو لا يقتضي جعلا آخر حتّى يجعل وظيفة الحكم الشرعي دون الموضوع الخارجي ، وينشأ منه الفرق المذكور بين اللوازم الشرعيّة وغيرها.

لدفعناه : بأنّ الآثار حال اليقين بالحالة السابقة إنّما كانت مترتّبة عليها بوجوداتها الواقعيّة الأوّلية الخلقيّة أو الجعليّة ، وهي على تقدير ارتفاع الحالة السابقة حال الشكّ في الواقع منقطعة لا محالة ، فلا يمكن ترتيبها لاستحالة تعلّق الفعل الوجودي بالمعدوم ، فلا بدّ لها من وجود ثانوي ولا يكون إلاّ بالجعل ليتمكّن من ترتيبها باعتبار وجوداتها الثانويّة الجعليّة. ولا يتمّ ذلك إلاّ فيما كانت من قبيل الأحكام الشرعيّة لا من قبيل الموضوعات الخارجيّة أو اللغويّة. ولو كان للّوازم العاديّة مثلا آثار شرعيّة قابلة للجعل لم يمكن ترتيبها أيضا ، لأنّ ترتّبها إنّما يكون بواسطة ترتّب ملزوماتها والواسطة متعذّرة بالفرض وبدونها لا يعقل ترتّبها.

وبالجملة فاللازم الشرعي للاّزم العادي إمّا أن يترتّب على ملزومه أو على ملزوم ملزومه وهو المستصحب ، والثاني خلاف الفرض ، والأوّل أيضا بدون ترتّب ملزومه غير ممكن.

نعم على القول باعتبار الاستصحاب من باب الظنّ اتّجه القول بالاصول المثبتة ، لما عرفت مرارا من عدم انفكاك الظنّ بالملزوم عن الظنّ باللازم ، سواء كان لزومه شرعيّا أو غيره.

وبالجملة اعتبار الاستصحاب إذا كان من بناء العقلاء فلا يفرق حينئذ في الامور الثابتة به بين نفس المستصحب ولوازمه ، شرعيّة وعقليّة وعاديّة ، بل مطلق مقارناته ولو اتّفاقية ، لأنّ الاستصحاب عندهم طريق لإحراز الواقع ظنّا كسائر الطرق الظنّية ، فبعد ما انكشف الواقع - وهو بقاء المستصحب - انكشافا ظنّيا ولو نوعيّا ترتّب عليه جميع لوازمه ، بلا فرق بين أنواعه لمساواتها إيّاه في الانكشاف الظنّي.

ولكن ربّما يشكل الحال بالنظر إلى عمل العلماء في الكتب الاصوليّة والفقهيّة حيث نراهم يعملون بالاصول المثبتة في جملة من المقامات ، ويتركون العمل بها في كثير منها ، فتارة يرتّبون على المستصحب ما هو من لوازمه العقليّة أو العاديّة ، واخرى يقتصرون على لوازمه الشرعيّة فمن موارد الأوّل الاصول اللفظيّة المحرزة للمرادات المجمع على العمل بها ،

ص: 389

كأصالة عدم القرينة وأصالة عدم النقل ونحوهما المعمول بها لإثبات إرادة الحقيقة ، أو إرادة المعنى اللغوي المعلوم ثبوته في صدر اللغة ، أو إرادة المعنى العرفي الثابت في العرف المشكوك ثبوته من صدر اللغة ، مع كون إرادة الحقيقة أو أحد المعنيين لازما عاديّا لعدم القرينة وعدم النقل.

ومنها : أصالة عدم الحائل على العضو لإثبات تحقّق الغسل أو المسح المعتبرين في الوضوء ، مع كونه مترتّبا على وصول الماء أو الرطوبة إلى البشرة وهو من اللوازم العاديّة لعدم وجود الحائل.

ونحوه أصالة بقاء الحائل عليه فيما لو تيقّن وجوده ثمّ شكّ زواله لإثبات عدم تحقّق الغسل أو المسح ، المترتّب على عدم وصول الماء أو الرطوبة إلى البشرة ، وهو لازم عادي لوجود الحائل.

ومنها : أصالة عدم طروّ النسيان عند الشكّ حال قراءة السورة في نسيان آية من الفاتحة لإثبات تحقّق قراءة الآية المشكوكة ، مع كونه لازما عاديّا لعدم النسيان.

ومنها : استصحاب بقاء الكرّ في الحوض لإثبات عدم انفعال الماء الباقي فيه بملاقاة النجاسة ، مع كونه ممّا يترتّب على كرّيّة الماء الباقي فيه وهو لازم عقلي لبقاء الكرّ.

ومنها : استصحاب الحياة لإثبات التوارث والاشتراك في الإرث بين زيد وعمرو إذا مات عنهما والدهما فيما لو اتّفقا على إسلاميها مع الاتّفاق على كون إسلام زيد في شعبان مثلا وإسلام عمرو في أوّل رمضان ، واختلفا في توارث عمرو وعدمه بسبب الاختلاف في كون موت أبيهما في أواسط شعبان أو في أواسط رمضان ، فادّعى زيد موته في الأوّل وادّعاه عمرو في الثاني فذكر جماعة منهم المحقّق في الشرائع (1) ، وغيره ممّن تقدّم عليه أو تأخّر عنه بأنّ المال بينهما نصفين ، لأصالة بقاء حياة المورّث إلى ما بعد إسلام عمرو مع ترتّب الحكم على تأخّر موت المورّث عن إسلام الوارث ، وهو لازم عقلي لبقاء حياة المورّث إلى ما بعد إسلام الوارث.

ومنها : استصحاب الحياة لإثبات القتل الموجب للقصاص أو الدية فيما لو اختلف الجاني والوليّ في ملفوف قدّه الجاني نصفين ، فادّعى الوليّ أنّه كان حيّا حال القدّ وادّعى

ص: 390


1- الشرايع 4 : 120.

الجاني أنّه كان ميّتا ، فإنّ المستفاد منهم في هذا الفرع نهوض استصحاب لا ثبات القتل الّذي هو سبب الضمان ، ولذا قد يعارض بأصالة عدم الضمان وإن ضعف من حيث إنّ بقاء الحياة بالاستصحاب إلى زمان القدّ سبب في الضمان فلا معنى لأصالة عدم الضمان.

وبالجملة فالمستصحب في هذا الفرع هو الحياة ، والضمان مترتّب على القتل وهو لازم عادي للحياة حال القدّ.

ومنها : استصحاب بقاء الحياة لترجيح قول الجاني فيما لو اختلف هو والولي في موت المجنيّ عليه بعد الاندمال أو قبله ، فلا ضمان حينئذ على ما ذكره جماعة تبعا للمبسوط (1) والشرائع (2) ، إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع من موارد اعتبارهم الاصول المثبتة ، فيتوجّه إليهم سؤال وجه الفرق والتفصيل بين الموارد ، فإن كان مبنى اعتبارهم الاستصحاب على الأخبار فقد عرفت أنّه يقتضي بطلان الاصول المثبتة مطلقا ، وإن كان على ظنّ البقاء فهو يقتضي صحّتها كذلك على ما بيّناه فما وجه الفرق والتفصيل؟

ويمكن الذبّ عن الإشكال بوجهين :

أحدهما : كون بناء عمل العاملين بالاصول المثبتة في بعض المقامات على اعتبار الاستصحاب من حيث الظنّ بالبقاء تعويلا على بناء العقلاء ، ولا يقدح فيه ترك العمل بها في بعض المقامات أيضا ، لأنّ اعتبار الاستصحاب على هذه الطريقة مبنيّ على مقدّمتين :

إحداهما : حصول الظنّ بالبقاء.

والاخرى : اعتبار هذا الظنّ وحجّيته.

وظاهر أنّ الظنّ بنفسه لا يلازم الحجّية ، وحينئذ فالظنّ ببقاء المستصحب وإن كان يستلزم الظنّ بلوازمه - شرعيّة أو عقليّة أو عاديّة كما عرفت سابقا - ولكن اعتبار الظنّ بالملزوم لا يلازم اعتبار الظنّ باللازم ، لجواز التفكيك بينهما في الاعتبار وعدمه بل وقوعه في الشرعيّات ، ومنه ما لو قام أمارة ظنّية بمسألة فرعيّة مستلزمة لمسألة اصوليّة على وجه يلزم من الظنّ بالاولى الظنّ بالثانية ، كما لو ورد خبر ظنّي بنجاسة المجسّمة المستلزمة لكفرهم ، فإنّه يعمل بالظنّ بالنجاسة لكونه ظنّا في المسألة الفرعيّة ولا يعمل بالظنّ بالكفر لعدم اعتبار الظنّ في اصول الدين ، ونحوه ما لو ظنّ لأمارة ظنّية بالقبلة عند تعذّر العلم بها

ص: 391


1- المبسوط 7 : 106 - 107.
2- الشرايع 4 : 241.

على وجه لزم منه الظنّ بالوقت في موضع إمكان العلم به من غير جهة التأخير ، فإنّ الظنّ الأوّل ممّا يجوز العمل به بخلاف الثاني.

ومن الجائز في بعض لوازم المستصحب باعتبار خصوص المورد عدم اعتبار الظنّ فيه مع اعتباره في ملزومه. إمّا لوجود المانع أو فقد المقتضي ، ومبنى الوجهين على أنّ الظنّ الاستصحابي هل هو من الظنون المطلقة أو من الظنون الخاصّة؟

فعلى الأوّل لا بدّ وأن يستند عدم اعتبار ما لا يعتبر الظنّ فيه إلى المانع ، وهو ما يخصّص دليل اعتبار مطلق الظنّ إن كان قابلا له.

وعلى الثاني لا بدّ وأن يستند إلى فقد المقتضي لاعتباره في بعض اللوازم ، بأن يكون الدليل القطعي الخاصّ القائم على حجّيّة الظنّ الاستصحابي مقصورا على الظنّ في اللزوم وبعض اللوازم دون بعض ، كما إذا دلّ الدليل على أنّه يجب الصوم عند الشكّ في هلال رمضان بشهادة عدل واحد ، فلا يلزم منه جواز الافطار بعد مضيّ ثلاثين يوما من ذلك اليوم إذا لم يثبت كون ذلك أوّل رمضان في الواقع ، بل غاية ما دلّ عليه دليل اعتبار الشهادة الظنّية إنّما هو وجوب صوم ذلك اليوم من حيث إنّه ظنّ بشهادة العدل كونه أوّل رمضان ، فلانتفاء هذا الموضوع عن يوم الشكّ من الآخر لم يتناول الدليل الوارد فيه للازمه ، وهو ما ظنّ كونه آخر رمضان. ولعلّ هذا أظهر الوجهين ، لأنّ العمدة من دليل اعتبار الاستصحاب من حيث افادته ظنّ البقاء بناء العقلاء ، وهو لكونه أمرا لبّيا يجب الاقتصار فيه على القدر الّذي تيقّن من لوازم المستصحب استقرار بناء العقلاء على العمل بالظنّ فيه. ومن اختلاف الموارد في ثبوت استقراره وعدم ثبوته نشأ الفرق بينهما في العمل بالاصول المثبتة وعدم العمل بها.

ولعلّ الضابط لموارد عملهم بها ما لو كان اللازم العقلي أو العادي متّحد الوجود مع المستصحب بحيث لا يتغايران إلاّ بحسب المفهوم ، كما في استصحاب بقاء الكرّ في الحوض وكريّة الماء الباقي فيه ، واستصحاب بقاء حياة مورّث زيد وعمرو إلى حال اسلام عمرو وتأخّر موته عن إسلام عمرو.

أو كان اللازم بحيث احرز وجود المقتضي لبقائه أو حدوثه بحيث لو لا طروّ المانع لبقى أو حدث ، فقصد بالاستصحاب إحراز فقد المانع على وجه يتغاير مع المستصحب في الوجود والمفهوم ، وذلك كاستصحاب عدم طروّ نسيانه قراءة آية من الفاتحة عند قراءة السورة ليترتّب على عدمه الّذي هو المستصحب حصول قراءة الآية المشكوكة بواسطة

ص: 392

وجود مقتضيه وهو عزم المصلّي حين الشروع في الصلاة على قراءة الفاتحة بجملتها ، وكاستصحاب عدم الحائل على العضو لترتيب وصول الماء إلى البشرة بواسطة مقتضيه وهو صبّ الماء وذلك العضو على قدر لو لا الحائل أوجب عادة وصوله إلى البشرة واستيعابه لها ، إلى غير ذلك من الأمثلة بخلاف ما لو لم يكن من أحد هذين القسمين ، كاستصحاب الطهارة عند خروج المذي الّذي لا يوجب في بناء العقلاء الحكم بعدم ناقضيّته ، واستصحاب طهارة الثوب عند وقوع رطوبة مردّدة بين الماء والبول عليه الّذي لا يوجب في بنائهم الحكم بمائيّة الرطوبة وما أشبه ذلك ممّا ستعرفه.

وثانيهما : منع عملهم بالاصول المثبتة في شيء من المقامات ، وما يوهمه في بعض المقامات ليس من العمل بالأصل المثبت بالمعنى المبحوث عنه ، وهو كون اللازم العقلي أو العادي مع المستصحب بحيث يتغايران في الوجود وكون ثبوت اللازم على تقدير ترتّبه مستندا إلى الأصل ، بأن يكون المقتضي لثبوته هو الأصل لا غير ، وهو فيما لم يكن المقتضي التامّ لثبوته من غير جهة الأصل محرزا - وذلك كما في مثالي المذي والرطوبة المردّدة بين الماء والبول ، ونحو ما لو وكلّ زيد عمرا في إجراء عقد النكاح على امرأة وشكّ في طروّ النسيان أو عروض مانع آخر ، فبمجرّد أصالة عدمه لا يجوز ترتيب آثار الزوجيّة على المرأة المذكورة المترتّبة على وقوع العقد الّذي هو لازم عادي للمستصحب العدمي - إذ مع كونهما متّحدي الوجود يعدّ آثار كلّ منهما آثارا للآخر ، كما في مثال استصحاب بقاء الكرّ في الحوض وكرّيّة الباقي ومع كون المقتضي لثبوته محرزا يستند ثبوته إلى ذلك المقتضي لا الأصل ، وإنّما يقصد بالأصل رفع المانع وإحراز عدمه.

وظاهر أنّ عدم المانع ليس جزءا من المقتضي ، إذ المانع ما يكون وجوده مؤثّرا في العدم ولا يعقل كون عدمه مؤثّرا في الوجود ، وذلك كما في أصالة عدم القرينة ونحوها ، فإنّ الأصل يحرز به عدم القرينة وحمل اللفظ على إرادة الحقيقة إنّما هو لوضع اللفظ وظهوره فيها فالمثبت لها هو الوضع والظهور لا غير ، والأصل المعمول به لإحراز فقد المانع في نحو ذلك لا يسمّى مثبتا ، بل ولو فرض دخوله في المقتضي لترتيب اللازم العقلي أو العادي وآثاره أيضا لا يسمّى مثبتا.

وهذا هو معنى ما في كلام بعض الأعلام في ذيل مسألة الصحيح والأعمّ عند البحث في جواز إجراء أصل العدم في ماهيّة العبادة من قوله - في ردّ بعض كلمات الوحيد

ص: 393

البهبهاني المنكر لجريانه - : « أنّ مرادهم من عدم حجّيّة الاستصحاب في نفس الحكم الشرعي أن يكون الاستصحاب مثبتا لنفس الحكم الشرعي ، مثل أن يقال : « إنّ المذي غير ناقض للوضوء مثلا لاستصحاب الطهارة السابقة ، فاستصحاب الطهارة السابقة هو المثبت لعدم كون المذي ناقضا ، وأصل العدم منفردا لا يثبت به الماهيّة بل هي بضميمة سائر الأدلّة المثبتة لها كما لا يخفى (1) ».

وقد يقال في تصحيح العمل بالاصول المثبتة : بأنّ بعض الموضوعات الخارجيّة المتوسّطة بين المستصحب وبين الحكم الشرعي من الوسائط الخفيّة ، بحيث يعدّ في العرف الأحكام الشرعيّة المترتّبة عليها أحكامها لنفس المستصحب ، فالمعيار خفاء توسّط الأمر العادي والعقلي بحيث تعدّ آثاره النفس المستصحب. وذلك كما في عدم دخول هلال شوّال في يوم الشكّ المثبتة لكون غده يوم العيد يترتّب عليه أحكام العيد من الغسل والصلاة والاضحيّة وغيرها ، فإنّ مجرّد عدم الهلال في يوم لا يثبت آخريّته ولا أوّليّة غده للشهر اللاحق ، لكنّ العرف لا يفهمون من وجوب ترتيب آثار عدم انقضاء رمضان وعدم دخول شوّال إلاّ ترتيب أحكام آخريّة ذلك اليوم لشهر وأوّليّة غده لشهر آخر ، فالأوّل عندهم ما لم يسبق مثله والآخر ما اتّصل بزمان حكم بكونه أوّل الشهر الآخر.

ونحوه استصحاب رطوبة النجس من المتلاقيين مع جفاف الآخر ، فإنّه لا يبعد الحكم بنجاسته ، مع أنّ تنجّسه ليس من أحكام ملاقاته للنجس رطبا ، بل من أحكام سراية رطوبة النجاسة إليه وتأثّره بها بحيث يوجد في الثوب رطوبة متنجّسة. ومن المعلوم أنّ استصحاب رطوبة النجس الراجع إلى بقاء جزء مائي قابل للتأثير لا يثبت تأثّر الثوب وتنجّسه بها إلاّ بواسطة سراية الرطوبة إلى الثوب ، ولكنّ الواسطة خفيّة ، إلاّ أنّ الحكم بالنجاسة مع ذلك مشكل ، ولذا حكي عن المحقّق (2) تعليل الحكم بطهارة الثوب الّذي طارت الذبابة عن النجاسة إليه عدم الجزم ببقاء رطوبة الذبابة ، فإنّ وجهه عدم قضاء الاستصحاب بوصول الرطوبة إليه.

وربّما احتمل كون وجهه معارضة هذا الاستصحاب باستصحاب طهارة الثوب مع قطع النظر عن قاعدة حكومة بعض الاستصحابات على بعض فليتدبّر.

ص: 394


1- القوانين 1 : 57.
2- انظر الذكرى 1 : 83 ، لم نعثر عليه في كتب المحقق ره.

المطلب الثالث : في أصالة تأخّر الحادث

المطلب الثالث

في أصالة تأخّر الحادث

واعلم أنّ الأصل في هذا العنوان ليس مثله في عنوان قولهم : « أصالة النفي » و « أصالة العدم » مرادا بهما الاستصحاب مضافا إلى المستصحب ، لاستحالة وقوع التأخّر مستصحبا بحيث تيقّن به في وقت وشكّ في بقائه وزواله في وقت آخر ، إذ لا يعقل له زوال إلاّ تبدّله بالتقدّم وهو محال ، فوجب التزام تأويل هنا إمّا بجعل الأصالة بمعنى القاعدة المقتضية للحكم بالتأخّر على ما تيقّن حدوثه وشكّ في بدو زمان حدوثه مع كون مدركها الاستصحاب ، أو جعل معناها على تقدير إرادة الاستصحاب كنظائرها استصحاب يلزمه تأخّر الحادث مع كون مستصحبه غير التأخّر من أمر وجوديّ أو عدميّ.

ومورد هذا الأصل ما لو تيقّن وجود حادث في وقت في الجملة ولم يعلم مبدأ وجوده ، هل هو الزمان المتقدّم أو الزمان المتأخّر الّذي تيقّن وجوده فيه حال الجملة؟ فيفرض له أنحاء ثلاثة من الزمان : زمان اليقين بعدم وجوده فيه ، وزمان اليقين بوجوده فيه ، وزمان الشكّ في وجوده فيه وهو الزمان المتوسّط بينهما ، ومرجعه إلى الشكّ في بقاء العدم الأزلي المتيقّن في الزمان الأوّل وعدمه فيه فيستصحب إلى زمان اليقين بوجوده ، وهذا هو استصحاب الأمر العدمي الّذي لزمه عقلا تأخّر حدوث الحادث المتيقّن وجوده في الزمان الثالث.

ثمّ إنّ الأمر الحادث المتيقّن وجوده قد يتقيّن وجوده في وقت معيّن ويشكّ في وجوده فيما قبله ، ككريّة الماء المتيقّنة يوم الجمعة المشكوكة يوم الخميس مع اليقين بعدمها قبل الخميس ، وموت زيد المتيقّن تحقّقه يوم الجمعة المشكوك في تحقّقه يوم الخميس مع اليقين بعدمه قبل الخميس.

وقد يتقّن وجوده في وقت مردّد بين زمانين ، كالماء إذا علمنا كونه كرّا في أحد اليومين إمّا الخميس أو الجمعة مع زوال كريّته فيما بعده والعلم بعدم كريّته قبل الخميس.

وعلى التقديرين فالأمر الحادث إمّا أن يكون واحدا يشكّ في حدوثه في الزمان المتقدّم أو في الزمان المتأخّر ، أو يكون متعدّدا إذا تيقّن وجود كلّ منهما وكان التحيّر في تقدّم أحدهما على الآخر إذا علم تاريخ وجود أحدهما دون الآخر ، أو في تقدّم كلّ منهما على الآخر إذا جهل تاريخهما ، ككريّة ماء وملاقاته الثوب النجس ، وموت كلّ من المتوارثين في موضع اشتباه المتقدّم منهما والمتأخّر ، واشتباه تقدّم موت المورّث على

ص: 395

اسلام الوارث وتأخّره عنه في مسألة اتّفاق الوارثين على إسلام أحدهما في غرّة رمضان واختلافهما في موت المورّث قبل الغرّة أو بعدها ، واشتباه تقدّم الطهارة أو الحدث ، واشتباه تقدّم رجوع المرتهن عن الإذن في البيع على وقوع البيع وتأخّره عنه ، إلى غير ذلك ممّا لا يحصى.

وإذا تمهّدت هذه الأقسام فينبغي التكلّم في جريان الاستصحاب فيها وعدمه ، ثمّ النظر في مقدار ما يترتّب على المستصحب العدمي من اللوازم والآثار.

فأمّا القسم الأوّل : فلا ينبغي التأمّل في جريان أصل الاستصحاب وانسحاب العدم الأزلي إلى أن يتّصل بزمان اليقين بالوجود ، لتحقّق شرائط الاستصحاب من اليقين السابق والشكّ اللاحق في البقاء فيشمله عموم قوله عليه السلام : « لا ينقض اليقين بالشكّ وإنّما ينقضه بيقين آخر مثله (1) » ثمّ يترتّب على ذلك المستصحب العدمي الأحكام الشرعيّة المترتّبة عليه حال اليقين به. فبأصالة عدم كرّيّة ماء الحوض في يوم الخميس إلى الآن المتّصل بيوم الجمعة يحكم ببقاء نجاسة الثوب المغسول بذلك الماء وانفعال الماء بملاقاته ، كما أنّ بأصالة عدم موت زيد من يوم الخميس إلى يوم الجمعة يحكم بمضيّ تصرّفات وكيله ومضيّ انتفاعات المستأجر من عينه المستأجرة ، بناء على بطلان الوكالة والإجارة بموت الموكّل والموجر. ولا يترتّب عليه ما زاد عليها من اللوازم العقليّة الّتي منها تأخّر حدوث الموت ، وصدق الحدوث على الوجود المتيقّن يوم الجمعة وهو الوجود المسبوق بالعدم ، بدعوى : أنّ أحد جزئي هذا المفهوم يثبت بالأصل وجزءه الآخر بانضمام الوجود المفروض فيه إليه ، ومرجعه إلى ترتيب هذا الموضوع الخارجي على المستصحب العدمي المتّصل بيوم الجمعة ، للزوم كون الاستصحاب بالقياس إلى هذا اللازم العقلي [ مثبتا ] ولقد عرفت في المبحث السابق أنّه لا عبرة بالاصول المثبتة.

وأمّا القسم الثاني : فلا إشكال فيه أيضا في جريان الاستصحاب بالنسبة إلى الزمان المتقدّم وهو يوم الخميس في المثال المتقدّم ، ومقتضاه عدم كرّيّة الماء فيه فيترتّب عليه جميع أحكام عدم الكرّيّة ، ولكن لا يثبت به كرّيّة يوم الجمعة لبطلان الأصل المثبت ، ومعارضة أصل العدم بالنسبة إلى يوم الخميس بمثله بالنسبة إلى يوم الجمعة ، إذ المفروض كون الحادث ممّا علم ارتفاعه بعد حدوثه مع تساوي نسبة حدوثه إلى اليومين. فكما أنّ الأصل عدم حدوثه في خصوص يوم الخميس فكذلك الأصل عدم حدوثه في خصوص

ص: 396


1- الوسائل 1 : 174 - 175 الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، ح 1 ، باختلاف يسير.

يوم الجمعة ، فلا يحكم بطهارة الثوب المغسول في أحد اليومين ، لأصالة بقاء نجاسته وعدم أصل آخر حاكم عليه.

نعم لو غسل به في كلّ من اليومين إتّجه الحكم بطهارته ، لانغساله بالكرّ الواقعي جزما ، فالنجاسة الأصليّة مرتفعة قطعا وعروض نجاسة اخرى غير معلوم والأصل عدمه ، نظير غسل الثوب النجس بكلّ من المشتبهين أحدهما نجس.

ومن فروع هذه القاعدة أيضا ما لو توضّأ عند الفجر بعد الحدث فصلّى به الصبح ، وهكذا عند الزوال فصلّى الظهر والعصر ، وهكذا عند الغروب فصلّى المغرب والعشاء ، ثمّ انكشف بعد ذلك لحوق حدث بأحد هذه الوضوءات قبل إحدى الصلوات الخمس وشكّ في الملحوق به ، هل هو وضوء الصبح وصلاته أو غير هما؟ فأصل التأخّر واستصحاب العدم وإن كان يقتضي عدم حدوثه قبل صلاة الصبح ولا الظهر ولا العصر ولا المغرب ، ولكن لا يحكم بحدوثه قبل العشاء ليكون الباطل هذه الصلاة بعينها.

أمّا أوّلا : فلبطلان الأصل المثبت.

وأمّا ثانيا : فلأنّ أصل العدم بالقياس إلى كلّ من الوضوءات والصلوات معارض بمثله في الآخر ، فلا بدّ من الرجوع إلى قاعدة الاشتغال المقتضيته ليقين البراءة بالنسبة إلى الصلاة الباطلة ، ولا يتأتّى إلاّ باعادة الخمس أو ثلاث منها كما هو الأقوى.

وأمّا القسم الثالث : وهو ما لو تعدّد الحادث كموت زيد وعمرو المتوارثين واشتبه المتقدّم منهما بالمتأخّر لجهالة تاريخهما ، فلا يمكن الحكم بتأخّر أحدهما المعيّن عن الآخر لأصالة عدم وجوده حال وجود الآخر ، لأنّ تأخّر وجود ذلك كتقدّم وجود الآخر لازم عقلي للمستصحب العدمي فلا يثبت بالأصل ، مضافا إلى أنّه معارض بأصالة عدم وجود الآخر حال وجود ذلك فيتساقط الأصلان ، لأنّ إعمال أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح ، وإعمالهما معا غير ممكن لأدائه بكلّ من الحادثين بالتأخّر والتقدّم معا وهو محال.

وهل يحكم بالتقارن فيما يمكن تقارن وجوديهما مع كون التحيّر أوّلا في التقدّم والتأخّر وثانيا في المتأخّر والمتقدّم ، تمسّكا بأصالة عدم وجود كلّ منهما قبل وجود الآخر؟ وجهان من كون التقارن لازما عقليّا لعدم كلّ قبل وجود الآخر فلا يثبت بالأصل ، ومن أنّ اللازم مع الملزوم هنا متّحدي الوجود خارجا وإن تغايرا ذهنا ، والمقام محلّ توقّف وظاهر الأصحاب أيضا في الفروع التوقّف.

ص: 397

وأمّا القسم الرابع : وهو ما لو تعدّد الحادث وشكّ في تأخّر أحدهما المعيّن لجهالة تاريخه مع كون الآخر معلوم التاريخ ففيه خلاف ، فقيل : بجريان أصل العدم في مجهول التاريخ ، وهو أصالة عدم وجوده في تاريخ وجود معلوم التاريخ وإثبات تأخّره عنه ، وعزي ذلك إلى جماعة ، بل إلى ظاهر المشهور. وقد صرّح بالعمل به الشيخ (1) وابن حمزة (2) والفاضلان (3) والشهيدان (4) وغيرهم (5) في بعض المقامات. كما في مسألة اتّفاق الوارثين على إسلام أحدهما في غرّة رمضان واختلافهما في موت المورّث قبل الغرّة أو بعدها ، فقالوا : إنّ القول قول مدّعي التأخّر. ونحوه ما لو أذن المرتهن للراهن في بيع الرهن ثمّ رجع ثمّ اختلفا ، فقال المرتهن : رجعت قبل البيع ، وقال الراهن : بعده ، ففصّل في المسالك (6) ناسبا له إلى الدروس (7) بين ما لو اتّفقا على زمان أحدهما فالأصل مع مدّعي التأخّر وما لم يتّفقا على زمان أحدهما فيقدّم قول المرتهن ، لتكافؤ الدعويين فيرجّح جانب الوثيقة لسبق تعلّق حقّ الرهن بالعين.

وقيل : بمنع العمل بالأصل وإلحاق صورة جهل تاريخ أحدهما بصورة جهل تاريخهما ، نسبه بعض مشايخنا (8) إلى بعض معاصريه (9) تبعا لبعض الأساطين ، مستشهدا بإطلاق الجماعة وعدم تفصيلهم في مسألة الطهارة والحدث وموت المتوارثين وغيرهما ، مستدلاّ على ذلك بأنّ التأخّر ليس أمرا مطابقا للأصل ، ولعلّ مراده من عدم مطابقة التأخّر للأصل أنّ الأصل إنّما يقتضي انسحاب أمر يكون حالة سابقة في الشيء والتأخّر ليس حالة سابقة في الشيء المشكوك في تأخّره ، فإنّ الأصل يقتضي عدم الحدوث لا الحدوث المتأخّر.

نعم هو لازم عقلي للمستصحب العدمي ، ولا دليل على ترتّبه عليه.

وقيل : بالعمل بالأصل من حيث الحكم على ما جهل تاريخه بعدم وجوده في تاريخ وجود ما علم تاريخه ، فيترتّب عليه جميع الآثار المترتّبة على عدم حدوثه ، ولا يعمل به في الحكم بتأخّر وجوده عمّا علم تاريخه إلاّ على القول بالاصول المثبتة وهو باطل ،

ص: 398


1- المبسوط 8 : 273.
2- الوسيلة : 225.
3- وهما المحقّق في الشرايع 4 : 120 والعلاّمة في القواعد ( الحجريّة ) 2 : 229 والتحرير 2 : 300.
4- الدروس 2 : 108 والمسالك 2 : 319.
5- كالفاضل الهندي في كشف اللثام 2 : 361.
6- المسالك 4 : 78.
7- الدروس 3 : 409.
8- فرائد الاصول 3 : 252.
9- وهو كاشف الغطاء في كشف الغطاء : 102.

واختاره بعض مشايخنا (1) وهو الأصحّ.

فصار المحصّل : أنّ الكلام في أصالة تأخّر الحادث نظير الكلام في الاصول المثبتة ، فحيثما تكون جارية لا بدّ فيها من الاقتصار على القدر المتيقّن ممّا يثبت بها ، وهو نفس الأحكام المترتّبة على المستصحب العدمي ، وأمّا ما زاد عليها من صفة التأخّر أو التقدّم والأحكام المترتّبة عليهما - إن كان - فلا وجه لترتيبه.

تذنيب : قد ذكرنا سابقا أنّ في مورد أصالة التأخّر يفرض ثلاثة أنحاء من الزمان زمان اليقين بعدم وجود الحادث فيه ، وزمان اليقين بوجوده فيه ، وزمان الشكّ في وجوده فيه وهو المتوسّط بينهما ، فهنا أمران يقينيّان أحدهما : الأمر العدمي المتيقّن في الزمان الأوّل ، وثانيهما : الأمر الوجودي المتيقّن في الزمان الثالث ، وكما يمكن انسحاب الأمر العدمي المتيقّن في الزمان الأوّل في زمان الشكّ إلى أن يتّصل بزمان اليقين بالوجود وهذا هو أصالة التأخّر ، وهل يجوز عكس ذلك - وهو ارقاء الأمر الوجودي من الزمان الثالث في زمان الشكّ إلى أن يتّصل بالزمان الأوّل ، وهو المسمّى عندهم باستصحاب القهقري ، وقد يعبّر عنه بالاستصحاب المعكوس ، لأنّه عكس الاستصحاب المعهود كما يظهر بأدنى تأمّل - أو لا؟

ولمتوهّم أن يتوهّم جواز ذلك أيضا عملا بعموم قوله عليه السلام : « لا ينقض اليقين بالشكّ (2) » بناء على ما مرّ مرارا من أنّ المراد به المنع عن رفع اليد عن اليقين بمعنى أحكام المتيقّن بسبب الاعتناء بالشكّ ، وهذا المعنى كما يصدق مع كون اليقين في الزمان السابق والشكّ في الزمان اللاحق فكذلك يصدق مع عكس ذلك أيضا ، وهو كون اليقين في الزمان اللاحق والشكّ في الزمان السابق.

وبعبارة اخرى : حرمة رفع اليد عن اليقين بسبب الاعتناء بالشكّ تقضي بوجوب ترتيب أحكام القضيّة المتيقّنة على القضيّة المشكوكة ، وهذا ممّا لا يتفاوت الحال فيه بين سبق القضيّة المتيقّنة على القضيّة المشكوكة وبين لحوقها بها.

ويزيّفه : ظهور اليقين والشكّ في الروايات في اليقين بوجود الشيء والشكّ في بقائه ، فيختصّ حكمه بصورة سبق اليقين ولحوق الشكّ ، بل هذا صريح قوله عليه السلام : « من كان على

ص: 399


1- وهو كاشف الغطاء في كشف الغطاء : 102.
2- الوسائل 1 : 174 - 175 الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، ح 1.

يقين فشكّ (1) » إلى آخره ، أو « من كان على يقين فأصابه به شكّ (2) » إلى آخره.

نعم ربّما يلزم من عدم انجرار الحكم إلى الزمان الماضي حادث يشكّ في حدوثه باعتبار الشكّ في انجرار ذلك الحكم ، وحيث إنّ الأصل عدمه فيلزم ثبوت الحكم في جميع الأزمنة الماضية المشكوك ثبوته فيها.

ومن أمثلته أصالة عدم النقل المعمول بها المتّفق عليها في لفظ ثبت في العرف كونه حقيقة في معنى وشكّ في كونه كذلك في صدر اللغة إلى زمان الشارع ليحمل خطاباته عليه ، كصيغة « افعل » في الوجوب ، فيقال في تقرير الأصل : أنّها في صدر اللغة كانت مستعملة لا محالة ، وكانت موضوعة أيضا لا محالة ، لتوقّف الاستعمال الصحيح على الوضع وإن لم يتوقّف على الحقيقة ، فلو كانت موضوعة لغير الوجوب لزم النقل والأصل عدمه ، فلزم كونها في اللغة أيضا للوجوب.

ويرد عليه : أنّ هذا الأصل أيضا ممّا لا تعويل عليه لرجوعه إلى الأصل المثبت.

نعم لا مانع منه في خصوص أصالة عدم النقل لما عرفت من قضيّة الاتّفاق ومدركه العرف وبناء العقلاء.

وبجميع ما قرّرناه ظهر فرق آخر بين استصحاب القهقري وأصالة التأخّر ، فإنّ الأوّل يلزمه اتّحاد الحادث وهو في الثاني قد يتعدّد ، بل هو ممّا لزمه التعدّد لا محالة إمّا في الزمانين ، أو في الزمانيّين وأيضا مورد الأوّل في نحو أصالة عدم [ النقل ] صورة الشكّ في وحدة المعنى وتعدّده باعتبار اللغة والعرف ، بخلاف ما لو علم التعدّد وشكّ في مبدأ حدوث الوضع المعلوم في العرف ، فإنّ مقتضى الأصل عدم ثبوته قبل زمان العلم به ، ومن فروعه كون الأصل في مسألة الحقيقة الشرعيّة عدم الثبوت على ما حقّق في محلّه.

المطلب الرابع : في استصحاب صحّة العبادة

المطلب الرابع

في استصحاب الصحّة المعمول به عند جماعة من الأصحاب كالشيخ (3) والحلّي (4) والفاضلين (5) وغيرهم في أبواب العبادات ، والمراد به ما كان مستصحبه الصحّة ومورده

ص: 400


1- الوسائل 1 : 175 الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، ح 6.
2- المستدرك 1 : 228 الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، ح 4.
3- انظر الخلاف 3 : 150 والمبسوط 2 : 147.
4- السرائر 1 : 220.
5- وهما المحقّق في المعتبر 1 : 54 والعلاّمة في نهاية الإحكام 1 : 538 وتذكرة الفقهاء 1 : 24.

العبادة الّتي شكّ في أثنائها في صحّتها بسبب طروّ أمر وجودي أو عدمي ، كنسيان الجزء بعد فوات محلّ تداركه ، والشكّ فيه بعد تجاوز محلّه ، وانتفاء ما يشكّ في كونه شرطا كطهارة مكان المصلّي إذا حصل فيه نجاسة غير مسرية في الأثناء ، ووقوع ما يشكّ في كونه قاطعا للهيئة الاتصاليّة المعتبرة في العبادة كالتأمين في القنوت والبكاء للسيّد المظلوم روحنا فداه.

وضابط الجميع طروّ ما يشكّ في كونه مفسدا لشبهة حكميّة أو موضوعيّة فيحكم بالصحّة استصحابا لها وتمسّكا باستصحابها.

وقد أوضحنا ضعفه في مطاوي مباحث الجزئيّة والشرطيّة من أصل البراءة ، ونزيدك توضيحا هاهنا بأنّ الصحّة المستصحبة إن اريد بها موافقة الأمر فاستصحابها بالقياس إلى الأجزاء غير صحيح لانتفاء اليقين السابق ، إمّا لليقين بعدمها على تقدير إرادة الأمر الأصلي ، لتعلّقه بمجموع أجزاء العبادة لا بكلّ جزء جزء ، فالموافقة له إنّما يتأتّى بعد الفراغ عن العمل على الوجه المعتبر في المأمور به أو لعدم اليقين بوجودها ما لم يحصل الفراغ عن العمل على تقدير إرادة الأمر الضمني الّذي يعتبر في الجزء باعتبار الجزئيّة ، إذ موافقة الأجزاء السابقة لذلك الأمر مراعاة باتمام العمل على الوجه المعتبر في المأمور به فما لم يحصل الفراغ لم يحصل اليقين بها.

وإن اريد بها ترتّب الأثر من حصول الامتثال أو سقوط القضاء فالفعلي منه موقوف على حصول العمل بجميع أجزائه على الوجه المعتبر في المأمور به ، والشأني منه حاصل في الأجزاء السابقة بلا حاجة لا ثباته إلى الاستصحاب ، ومع هذا لا يجدي نفعا في الحكم بالصحّة الفعليّة لأنّ الشكّ فيها إنّما نشأ لأمر راجع إلى الأجزاء اللاحقة لا لأمر راجع إلى الأجزاء السابقة ، فاحراز الصحّة الشأنيّة فيها مع عدم الحاجة فيه إلى الاستصحاب لا ينفع في رفع ذلك الأمر.

وبيانه : أنّ الصحّة الشأنيّة في الأجزاء السابقة عبارة عن كونها بحيث لو انضمّ إليها الأجزاء اللاحقة وارتبطت بها لترتّب على مجموعهما الأثر ، فهي في الأجزاء السابقة ثابتة على وجه الحكم في القضيّة الشرطيّة.

ولا ريب أنّ صدق الشرطيّة لا يستلزم صدق الشرط ، والشكّ في صدق الشرط وتحقّقه لا يستلزم الشكّ في صدق الشرطيّة ولا ينافي القطع بصدقها ، والشكّ في الصحّة الفعليّة

ص: 401

فيما نحن فيه إنّما جاء من جهة الشكّ في الشرط - وهو حصول الانضمام أو ارتباط المنضمّ بالمنضمّ إليه ، كما في صورة طروّ ما يشكّ في كونه قاطعا - لا من جهة الشكّ في الشرطيّة.

ولا ريب أنّ صدق الشرطيّة بعنوان القطع أو بحكم الاستصحاب لا يحقّق الشرط ، فالصحّة الشأنيّة الثابتة في الأجزاء السابقة مع الشكّ في انضمام اللاحق إلى السابق أو في ارتباط المنضمّ إلى المنضمّ إليه لا يجدي نفعا في الصحّة الفعليّة المنوطة بصدق الشرط وتحقّقه.

نعم ربّما يتمسّك لاحراز صحّة العبادة عند طروّ ما يشكّ في كونه مفسدا لها باستصحابات اخر :

منها : استصحاب قابليّة الأجزاء السابقة المأتّي بها لصيرورتها أجزاء فعليّة ، فإذا صارت أجزاء فعليّة بحكم الاستصحاب لترتّب عليها الصحّة المشكوك فيها.

وفيه : أنّ القطع ببقاء القابليّة كما هو مفروض المقام لا يجدي نفعا في صيرورتها أجزاء فعليّة فضلا عن استصحابها ، لأنّ صيرورتها أجزاء فعليّة مشروطة بشرط لا تحرزه مجرّد القابليّة ، وهو انضمام ما بقي من الأجزاء إليها على وجه يرتبط بما سبق بعدم طروّ ما يقطع الهيئة الاتصاليّة المعتبرة في الصلاة ، إذ المفروض أنّ الشكّ في الصحّة إنّما هو لأجل هذا الشرط لا القابليّة ولا محرز له.

ومنها : استصحاب وجوب الاتمام قبل عروض الشكّ في الصحّة ولزمه الصحّة.

وفيه : أنّ الاتمام بمعنى الاتيان بتمام ما بقي من الأجزاء ما لم يكن مقدورا للمكلّف لم يتعلّق به وجوب ، والقدرة مع الشكّ المفروض ليست بمحرزة خصوصا في صورة نسيان الجزء مع فوات محلّ التدارك وهو الدخول في الركن.

والسرّ في انتفاء القدرة على الاتمام هو أنّ حقيقة الاتمام عبارة عن الحاق الأجزاء الباقية بالأجزاء السابقة ، والقدرة عليه موقوفة على قابليّة الأجزاء السابقة لأن يلحق بها وقابليّة الأجزاء الباقية لّلحوق بالأجزاء السابقة ، والقابليّة الاولى وإن كانت محرزة بالقطع واليقين ولكن القابليّة الثانية غير محرزة بالفرض ، ولا يمكن احرازها بالاستصحاب لانتفاء الحالة السابقة بسبب عدم سبق اليقين بهذه القابليّة ومع انتفاء القدرة على الاتمام لا معنى لاستصحاب وجوبه.

ومنها : استصحاب وجوب المضيّ في العمل.

وفيه : أنّ موضوع وجوب المضيّ إنّما هو العمل الصحيح ، ولذا لا يجب المضيّ فيه مع الافساد إلاّ في الحجّ والصيام لدليله الوارد على خلاف القاعدة ، وهذا الموضوع مع الشكّ

ص: 402

في الصحّة غير محرز ، ولا يصحّ استصحاب الحكم مع عدم كون بقاء موضوع المستصحب محرزا ، والتمسّك لاحرازه باستصحاب الصحّة السابقة ممّا يدير البحث السابق.

ومنها : استصحاب حرمة القطع الثابتة يقينا قبل طروّ الشكّ ، فهذه الحرمة المستصحبة ممّا يلازم الصحّة المطلوبة.

وفيه : وضوح الفرق بين القطع والانقطاع ، ومع تحقّق الانقطاع قهرا لا يصدق القطع جزما ، ومرجع الشكّ في الصحّة إلى الشكّ في الانقطاع ومعه فصدق القطع غير محرز حتّى يستصحب حرمته.

وقد يتوهّم اثبات الصحّة المشكوكة في نظائر المقام بالتمسّك بالقاعدة المستنبطة من قوله عزّ من قائل : ( وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ ) (1) ، فإنّ الأعمال عامّ في كلّ عمل ومنه محلّ البحث ، فيحرم ابطاله وهو يلازم الصحّة.

وفيه : منع اندراج محلّ البحث في عموم القاعدة إلاّ بأن تكون القاعدة عبارة عن حرمة رفع اليد عن العمل مطلقا ، ولا يستقيم ذلك إلاّ بأن يحمل الابطال المنهيّ عنه في الآية على مطلق رفع اليد عن العمل ، واحتماله معارض باحتمال أن يراد منه ايجاد البطلان في العمل المشروع فيه بوصف الصحّة على حدّ قوله تعالى : ( لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ) (2) كما يرشد إليه سابق الآية ، أو احتمال أن يراد منه ايجاد العمل باطلا - أي بوصف البطلان - من أوّل الأمر ، على حدّ قولهم : « ضيّق فم الركيّة » ولا قرينة على تعيين الأوّل إن لم نقل بظهور الثاني في متفاهم العرف من اللفظ في نفسه.

مضافا إلى بعض الروايات القاضية بذلك كالمروي عن ثواب الأعمال (3) عن الباقر عليه السلام قال : « قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : « من قال سبحان اللّه غرس اللّه له بها شجرة في الجنّة ، ومن قال الحمد لله غرس اللّه له بها شجرة في الجنّة ، ومن قال لا إله إلاّ اللّه غرس اللّه له بها شجرة في الجنّة ، ومن قال اللّه أكبر غرس اللّه له بها شجرة في الجنّة ، فقال رجل من قريش : يا رسول اللّه إنّ شجرنا في الجنّة لكثير ، قال : نعم ولكن إيّاكم أن ترسلوا عليها نيرانا فتحرقوها ، وذلك أنّ اللّه تعالى يقول : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ ) (4).

مضافا إلى قضاء الحمل على المعنى الأوّل بلزوم تخصيص الأكثر ، لعدم حرمة رفع

ص: 403


1- محمّد : 33.
2- البقرة : 264.
3- ثواب الأعمال : 26 ثواب من قال سبحان اللّه و ... ، ح 3.
4- محمّد : 33.

اليد عن العمل في كثير من الواجبات وجميع المندوبات والمباحات والمكروهات ، فلا يبقى إلاّ بعض الواجبات وهو بالقياس إلى غيره ليس إلاّ كشعرة بيضاء في بقرة سوداء ، فما شكّ في بطلانه لم يصدق على رفع اليد منه الابطال بالمعنى الثاني.

المطلب الخامس : في استصحابي الاشتغال والبراءة

المطلب الخامس

في استصحاب الاشتغال حيث يجري قاعدة الاشتغال ممّا شكّ فيه في البراءة بعد اليقين باشتغال الذمّة ، واستصحاب البراءة حيث يجري أصالة البراءة ممّا شكّ فيه في التكليف ولو باعتبار اوله من المكلّف به إليه.

واعلم : أنّ الشكّ في البراءة في مجرى قاعدة الاشتغال إمّا أن يكون ناشئا من الشكّ في حصول المبرئ للذمّة ، أو من الشكّ في مبرئيّة الحاصل ، أو من الشكّ فيما اشتغلت به الذمّة من أوّل الأمر ، بأن يكون بحيث يجري فيه تقديران يحصل البراءة على أحدهما ولا تحصل على الآخر.

ومن أمثلة الأوّل ما لو شكّ في الاتيان بصلاة الظهر أو العصر مثلا بعد يقين الاشتغال بهما.

ومن أمثلة الثاني ما لو شكّ في كون فعل الصبيّ في صلاة الميّت بعد وجوبها على المكلّف عينا أو كفاية مسقطا لتكليف المكلّف ومبرءا لذمّته وعدمه ، ونحوه زكاة الفطر الّتي أدّاها الضيف عن نفسه في موضوع وجوبها على المضيف ، أو أدّاها المضيف عن الضيف في موضوع وجوبها عليه.

ومن أمثلة الثالث ما لو أتى يوم الجمعة بالظهر فقط أو الجمعة وحدها في موضع اشتباه المكلّف به المردّد بينهما ، ونحوه الاتيان بالصلاة خالية عن السورة ممّن اشتبه عليه الحكم الشرعي بالنسبة إلى جزئيّة السورة وعدمها ، ونحوه المأمور بعتق الكفّارة حال القدرة على المؤمنة إذا لم يأت به حتّى تعذّر عتق المؤمنة عند الشكّ في شرطيّة الإيمان وعدمها ، والأوّل لزمه في الصورة المفروضة براءة الذمّة والثاني لزمه بقاء الاشتغال.

ولا ريب في جريان قاعدة الاشتغال في جميع هذه الصور ، كما لا ريب في جريان استصحاب الاشتغال فيها ، كما أنّه لا ريب في جريان أصالة البراءة في غسل الجمعة المشكوك في وجوبه ولا في جريان استصحاب البراءة الأصليّة الثابتة فيه قبل البلوغ أو حال الجنون ، إلاّ أنّ الغرض من عقد هذا البحث بيان الاستغناء بالقاعدة والأصل عن الاستصحاب ،

ص: 404

لتضمّنه كلفة مراعاة اعتبار زائد لا حاجة إلى مراعاته في إعمال القاعدة والأصل.

وتوضيح ذلك : أنّ الاستصحاب لا يتمّ إلاّ بامور ثلاث : سبق اليقين بالاشتغال ، ولحوق الشكّ في بقائه ، وانسحاب الاشتغال من زمن اليقين إلى زمان الشكّ ليترتّب عليه لزوم القطع بالبراءة ، واستصحاب أيضا لا يتمّ إلاّ بسبق اليقين بالبراءة ولحوق الشكّ في بقائها ، وانسحاب البراءة السابقة في زمان الشكّ ليحكم بها فيه ، بخلاف قاعدة الاشتغال وأصالة البراءة.

فإنّ الاولى لا تتضمّن إلاّ اليقين بالاشتغال والشكّ في البراءة ، ولا حاجة في الحكم بلزوم القطع بالبراءة إلى تجشّم إثبات انسحاب الاشتغال من الزمان السابق إلى الزمان اللاحق ، وذلك لأنّ الحكم المذكور حكم عقليّ يتأتّى من العقل إرشادا للمكلّف إلى طريق دفع الضرر الاخروي المحتمل ، وهو العقاب الّذي يخاف ترتّبه على ما احتمل من بقاء المكلّف به في الذمّة ، ويكفي فيه مجرّد عدم العلم بالبراءة بعد اليقين بالاشتغال ، ولا حاجة إلى ترتيبه على الاشتغال المستصحب الّذي يحرز بالاستصحاب.

ولذا يقال : إنّ اليقين بالاشتغال يقتضي يقين البراءة ، ولا يقال : إنّ الاشتغال بعد ثبوته بالاستصحاب يقتضي لزوم القطع بالبراءة ، فإنّ من الأشياء ما هو من لوازم عدم شيء فلا يترتّب عليه إلاّ بعد إحرازه بالوجدان أو بالاستصحاب ، ومنها ما هو من لوازم عدم العلم بالشيء فيترتّب عليه لمجرّد الشكّ في وجوده ولا حاجة إلى إحراز عدمه بواسطة طريق آخر والمقام من هذا الباب.

وهذا نظير ما أوردناه في محلّه ردّا على من تمسّك لعدم حجّيّة الظنّ بأصالة عدم الحجّيّة من أنّه لا حاجة في الحكم بعدم الحجّيّة إلى الأصل ، لما في عدم العلم بالحجّيّة من الكفاية في الحكم بعد الحجّيّة.

والثانية (1) لا تتضمّن إلاّ الشكّ في الاشتغال الّذي يعبّر عنه بالشكّ في التكليف ، ولا حاجة إلى تجشّم إحراز اليقين بالبراءة ثمّ انسحاب البراءة من زمان اليقين إلى زمان الشكّ ، ضرورة أنّ البراءة في مواردها ما يحكم به العقل لمجرّد عدم العلم بالتكليف تعويلا على قبح التكليف بلا بيان ، وقبح العقاب بلا إقامة البرهان ، بل العقل لمجرّد عدم العلم بالاشتغال يحكم بها وإن لم يكن هناك حالة سابقة.

ص: 405


1- عطف على قوله : « فإنّ الأولى » الخ ، والمراد بالثانية هنا أصالة البراءة كما لا يخفى.

وبالجملة الاستصحاب يقتضي اعتبارا زائدا لا حاجة إلى مراعاته في أصلي الاشتغال والبراءة ، وهذا الاعتبار الزائد في مورد أصل البراءة من وجهين وفي مورد أصل الاشتغال من وجه واحد.

هذا كلّه على رأي العدليّة القائلين بالتحسين والتقبيح العقليّين ، لما عرفت من ابتناء القاعدتين على قاعدة التحسين والتقبيح ، وأمّا على مذهب الأشاعرة المنكرين لحكومة العقل فتمسّ الحاجة إلى التمسّك بالاستصحابين ، لاستلزام انكارهم حكومة العقل لانكار القاعدتين ، إن لم يخدشه قضاء أصلهم الفاسد بانكارهم العمل بالاستصحاب لابتنائه أيضا على حكومة العقل في قضيّة : « كلّما ثبت دام ».

ولكن يدفعه : منع انكارهم حكومة العقل رأسا حتّى من غير جهة الحسن والقبح في مسألة التحسين والتقبيح ، وانكارهم ادراك العقل حسن الأشياء وقبحها - على ما شرحناه في محلّه - إنّما هو من باب السلب بانتفاء الموضوع ، على معنى رجوعه إلى انكار الصغرى وهو أنّه ليس في الأشياء حسنا ولا قبحا يدركهما العقل ، قبالا لمقالة العدليّة من أنّ فيها حسنا أو قبحا يدركهما العقل في بعضها ، وهذا هو معنى كون حسن الأشياء وقبحها بالشرع لا بالعقل على ما هو المعروف من مقالتهم ، فانكارهم حكومة العقل بهذا المعنى في مسألة التحسين والتقبيح لا ينافي قولهم بحكومة العقل فيما لا يرجع إلى ادراكه الحسن والقبح ، ومنه حكمه الظنّي بدوام ما ثبت ، وعليه مبنى الاستصحاب المثبت من جهة العقل لا على ادراكه الحسن والقبح.

لا يقال : الاستغناء عن استصحابي الاشتغال والبراءة بسبب قاعدتي الاشتغال والبراءة على مذهب العدليّة حسبما ذكرت على إطلاقه ممنوع ، لجواز مسيس الحاجة إلى استصحابها في بعض الأحيان ، كما لو شكّ في بقاء الاشتغال أو البراءة المثبتين بقاعدتيهما في زمان بعد اليقين بهما في زمان سابق عليه ، فيحكم ببقائهما استصحابا للحكم العقلي المذكور.

لأنّ العقل إنّما حكم بذلك الحكم في موضوع وهو الشاكّ في البراءة في حكمه بالاشتغال ، والشاكّ في التكليف في حكمه بالبراءة ، وهذا الموضوع إن كان مرتفعا في الزمان الثاني فلا معنى لاستصحابه حكم العقل فيه ، لاستحالة الاستصحاب مع ارتفاع موضوع المستصحب ، وإن كان باقيا فلا يعقل الشكّ في بقاء حكمه العقلي لتمسّ الحاجة

ص: 406

إلى استصحابه.

ومن هنا يعلم طريق منع جريان الاستصحاب في الأحكام العقليّة ممّا يستقلّ العقل بادراك حسنه أو قبحه كقبح الظلم الملزوم لحرمته شرعا ، وحسن ردّ الوديعة الملزوم للوجوب شرعا ، فلا يعقل الاستصحاب في ذلك الحكم العقلي ولا ما يلزمه من الحكم الشرعي.

وتوضيحه : أنّ موضوع القضيّة العقليّة على حسبما لاحظه العقل وأحاط بجميع جهاته إن كان باقيا فلا يعقل الشكّ في بقاء حكمه ، وإن كان مرتفعا فلا يعقل الشكّ في ارتفاع حكمه ، ولو تطرّق إليه الاشتباه فإن كان الاشتباه للشكّ في وجود وصف وجودي مأخوذ في موضوع حكم العقل في ذلك الموضوع المشتبه ، كشخص من الكذب إذا شكّ في كونه ضارّا أو نافعا فلا يعقل الاستصحاب من جهته أيضا ، لا في الكلّيين ولا في المصداق المردّد بينهما.

أمّا في الأوّل فلانتفاء الشكّ ، وأمّا في الثاني : فلانتفاء الحالة السابقة.

وإن كان الاشتباه للشكّ في زوال وصف عنه بعد تحقّقه فيه ممّا هو مناط حكم العقل - كالسمّ المحكوم بقبح شربه عقلا سابقا باعتبار كونه ضارّا مهلكا إذا شكّ لطول مدّة بقائه في زوال هذه الخاصيّة عنه - فلا يعقل استصحاب قبحه أيضا ، لأنّ العقل الحاكم بقبحه في زمان وجود الوصف حاضر موجود ونراه أنّه لا يحكم فيه بالقبح ، والاستصحاب عبارة عن انسحاب الحكم المحتمل بقاؤه في لحاظ الحاكم به ، فإذا قطع أنّ الحاكم بالحكم الأوّل لا يحكم به في الزمان الثاني لم يصحّ استصحاب حكمه ، لعدم الشكّ في عدم بقائه.

إلاّ أن يقال : إنّ المقطوع بانتفائه في نحو الصورة المفروضة إنّما هو ادراك القبح وهو المراد من حكم العقل ، وهو لا يلازم ارتفاع القبح الواقعي الّذي هو عبارة عن كون الشيء بحيث يستحقّ فاعله الذمّ ، فيستصحب ذلك القبح الواقعي المتيقّن ثبوته المشكوك بقاؤه.

وبعبارة اخرى : أنّ محلّ الاستصحاب ليس هو ادراك العقل حتّى يستند في منع استصحابه إلى القطع بعدم بقائه ، بل مدرك العقل الّذي لا ينوط ثبوته وعدم ثبوته في الواقع بادراك العقل ، وهو قابل للاستصحاب للزومه ما اعتبر في الاستصحاب من سبق اليقين ولحوق الشكّ.

وفيه : أنّ ما يستقلّ العقل بادراكه لا يشكّ في بقائه وارتفاعه ، بل بقاؤه وارتفاعه تابع لبقاء موضوعه وارتفاعه ، فالمشكوك في المقام إنّما هو بقاء موضوع حكم العقل

ص: 407

وارتفاعه ، لا بقاء نفس الحكم وارتفاعه مع بقاء موضوعه.

فاستصحاب الحكم من دون إحراز بقاء موضوعه غير صحيح ، وإحراز بقاء الموضوع بالاستصحاب حيثما صحّ ممّا يغني عن استصحاب الحكم.

وبالجملة حكم العقل من حيث هو غير قابل للاستصحاب ، وكذلك الحكم الشرعي التابع له بحكم الملازمة بين العقل والشرع ، ولقد سبق منّا بعض الكلام المتعلّق بهذا المقام عند التعرّض لتقسيمات الاستصحاب وبيان أقسامه.

المطلب السادس : في الشكّ في الحادث

المطلب السادس

في الشكّ في الحادث الّذي يقال فيه تارة ببطلان الاصول في الفصول ، واخرى : بعدم جواز تعيين الحادث بالأصل ، ومورده ما لو علم انتقاض حالة أوّلية عدميّة أو وجوديّة بطروّ خلافها كوجود معدوم أو انعدام موجود وشكّ في محلّه.

وبعبارة اخرى : علم طروّ وصف وجودي أو عدمي على خلاف الحالة السابقة وشكّ في الموصوف ، كما لو علم دخول أحد في الدار وشكّ في الداخل أهو زيد أو عمرو ، أو علم خروجه من الدار وشكّ في الخارج أهو زيد أو عمرو ، ومنه ما لو أصاب الثوب ما يتردّد بين البول والماء ، أو علم في صورة كون زيد داخلا وعمرو خارجا بانتقاض إحدى هاتين الحالتين وشكّ في المنتقض ، أهو دخول زيد في الدار بخروجه منها أو خروج عمرو منها بدخوله فيها؟ فهل يجري في نحوه الأصل أو لا؟ وهل يعتبر على تقدير الجريان أو لا؟وهل يفيد على تقدير الاعتبار أو لا؟

وتحقيق المقام : أنّه إن اريد بالأصل المبحوث عنه أصالة عدم زيديّة الداخل ، أو عدم عمرويّة الخارج ، أو عدم بوليّة المصيب للثوب ، فهو واضح البطلان لعدم كون عدم الزيديّة حالة أوّلية في الحادث بوصف كونه حادثا ليستصحب بقاؤه ، وهذا هو معنى عدم معقوليّة الاصول في الفصول.

وإن اريد به أصالة عدم دخول زيد في الدار ، أو عدم خروج عمرو من الدار أو عدم حصول البول في الثوب مثلا ، فهو وإن كان جاريا في نفسه إلاّ أنّه غير معتبر لو كان الغرض منه إثبات كون الداخل عمرو مثلا ، لما سبق تحقيقه من بطلان الاصول المثبتة ،

ص: 408

ولا سيّما بالنسبة إلى ما ليس من لوازم المستصحب بل من مقارناته الاتّفاقية كما فيما نحن فيه ، لوضوح كون ما ذكر - أعني كون الداخل عمرو - من لوازم عدم دخول زيد في الدار في زمان اليقين به عقلا أو عادة.

نعم لو كان الغرض ترتيب الأحكام الشرعيّة المترتّبة على المستصحب في زمان اليقين به عليه في زمان الشكّ فلا إشكال في جريان الاستصحاب وصحّته من هذه الجهة ، إلاّ أنّه قد يشكل الحال من جهة كونه معارضا بمثله وإن كانت المعارضة عرضيّة ناشئة عن العلم الإجمالي بانتقاض إحدى الحالتين السابقتين ، أو انتقاض الحالة السابقة في أحد الأمرين ، فأصالة عدم دخول زيد مثلا معارضة بأصالة عدم دخول عمرو.

وحينئذ فهل يعمل بهما معا مطلقا أو يطرحان معا كذلك ، أو يعمل بأحدهما تخييرا أو تعيينا ويطرح الآخر؟ احتمالات.

ولكنّ الانصاف : كون المقامات مختلفة بما يقتضي التفصيل ، ففي بعضها يعمل بهما معا ، وفي بعض يطرحان معا ، وفي ثالث يؤخذ بأحدهما تخييرا ، وفي رابع يؤخذ بأحدهما عينا ، وعليه فصور المسألة على حسب اختلاف الموارد أربعة :

الصورة الاولى : ما جاز العمل بهما معا ، وهو كلّ مورد لم يلزم من العمل بهما معا مخالفة عمليّة للعلم الإجمالي الموجود في المقام ، كما لو توضّأ بمايع اشتبه حاله بعد الفراغ من الوضوء بين الماء والبول - على معنى حصول الشكّ في ذلك بعد الوضوء - فيعلم بارتفاع أحد الأمرين من الحدث أو طهارة أعضاء الوضوء فيحكم ببقاء الحدث وطهارة العضو استصحابا لهما.

ونحوه ما لو غسل المتنجّس بماء يشكّ بعد الغسل في كريّته ، فيعلم بارتفاع أحد الأمرين من نجاسة المغسول أو طهارة الغاسل - أعني الماء - فيحكم ببقاء نجاسة المغسول وطهارة الماء استصحابا لهما ، من دون أن يلزم في المثالين ونظائرهما من مخالفة العلم الإجمالي المخالفة القطعيّة العمليّة ، لعدم تأثير العلم الإجمالي في نظائر الفرض في توجّه خطاب وتنجّز تكليف ليلزم من مخالفته مخالفة الخطاب والتكليف المنجّز.

وأمّا ما يقال - في منع جريان الأصل هنا ليترتّب عليه صحّة العمل به في كلّ من الأمرين - من أنّ العمل بالاستصحاب إن كان من جهة بناء العقلاء المنوط بافادته ظنّ البقاء فلا يعقل حصول الظنّ هنا مع وجود العلم الإجمالي ، لوضوح أنّ الظنّ بالموجبة

ص: 409

الكلّية يناقضه العلم الإجمالي بالسالبة الجزئيّة وهو العلم بارتفاع أحد الأمرين.

وبالجملة لا يعقل الظنّ ببقاء كلّ من الأمرين مع العلم بارتفاع أحدهما.

وإن كان من جهة الأخبار فهو لا تشمل نحو المقام ، وهو ما لو توسّط بين اليقينين السابقين علم اجمالي موجب لانتقاض أحدهما باليقين ، ومرجعه إلى ظهور الشكّ في قوله : « لا ينقض اليقين بالشكّ (1) » في الشكّ الابتدائي وعدم تناوله الشكّ المتولّد من العلم الإجمالي.

فيدفعه : منع ظهور الشكّ في الابتدائي منه لعدم نهوض شاهد بذلك ، فهو أعمّ منه وممّا يتولّد من نحو العلم الإجمالي ، والظنّ الممتنع حصوله مع العلم الإجمالي بارتفاع أحد الأمرين إنّما هو الظنّ الشخصي ، ولا يقتصر في الاستصحاب - على القول به من حيث الظنّ - على الظنّ الشخصي على الأظهر ، بل يكفي فيه الظنّ النوعي الموجود في المقام ، لوضوح أنّ المراد به ما لو خلّي الشيء وطبعه لكان مورثا للظنّ ، وإنّما لا يحصل هنا فعلا لعروض مانع العلم الإجمالي.

الصورة الثانية : ما كان العلم الإجمالي بانتقاض إحدى الحالتين السابقتين في موضع توجّه خطاب وتنجّز تكليف بسببه على وجه يلزم من العمل بالأصلين فيهما المخالفة القطعيّة العمليّة بالنسبة إلى ذلك الخطاب ، كما في الشبهة المحصورة من مسألة ما لو أصاب نجاسة أحد الانائين الطاهرين واشتبه ، فإنّ العمل باستصحاب الطهارة فيهما يوجب مخالفة الأمر بالاجتناب عن النجس الواقعي ، والعمل به في أحدهما عينا ترجيح بلا مرجّح ، وتخييرا خروج عمّا يقتضيه الخطاب من لزوم مراعاة الموافقة القطعيّة على المختار في الشبهة المحصورة.

وضابط هذا القسم كون العلم الإجمالي محدثا للخطاب منجّزا للتكليف على الوجه الّذي هو الأصل في حجّيته من لزوم حرمة مخالفته القطعيّة ووجوب موافقته القطعيّة في موضع امكانها.

الصورة الثالثة : ما كان العلم الإجمالي منجّزا للتكليف في موضع لم يمكن الموافقة القطعيّة ، كما في الانائين الطاهرين إذا وقع على أحدهما نجاسة على وجه الاشتباه بعد ما تعيّن استعمال أحدهما المعيّن وترك استعمال الآخر بنذر وشبهه ، فلا بدّ من استعمال ما تعيّن

ص: 410


1- الوسائل 1 : 174 - 175 الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، ح 1.

استعماله وترك الآخر حذرا عمّا يلزم من المخالفة القطعيّة في صورتي استعمالهما معا أو ترك استعمالهما ، وحيث إنّ استعماله في مشروط بالطهارة مشروط بطهارته فلا بدّ من احرازها فيه بالأصل واستصحاب الطهارة السابقة ، وهذا عمل بأحد الأصلين على وجه التعيين.

وقد يجعل الضابط لهذا القسم كون أحد الاستصحابين بحيث لا يترتّب عليه ثمرة ولا فائدة باعتبار عدم أثر شرعي للمستصحب يترتّب عليه ، ويمثّل له بأصالة عدم سيادة زيد بمعنى استصحاب عدم تولّده من بني هاشم ، فإنّه وإن كان معارضا باستصحاب عدم تولّده من غير بني هاشم ، فإنّ الثاني ممّا لا يترتّب عليه شيء من الآثار والفوائد بخلاف الأوّل الّذي يترتّب عليه عدم جواز دفع الخمس ونحوه إليه فيتعيّن العمل عليه.

ونحوه استصحاب عدم المسجديّة في أرض اختلف في كونها مسجدا أو دارا ، فإنّه يترتّب عليه نفي أحكام المسجد من تحريم تنجيسها وادخال النجاسة فيها ولبث الجنب فيها ، بخلاف معارضه الّذي هو استصحاب عدم الدارية الّذي لا يترتّب عليه حكم إلاّ على القول بالاصول المثبتة ليترتّب أحكام المسجديّة.

ونحوه مسألة اختلاف الموكّل والوكيل بعدم اشترائه الجارية وكالة ، فادّعى الأوّل توكيله في اشتراء العبد والثاني توكيله في اشتراء الجارية ، فأصالة عدم توكيله في اشتراء الجارية يوجب الحكم بفساد العقد الواقع عليها وعدم تملّكها ، بخلاف أصالة عدم توكيله في اشتراء العبد إذ لا يترتّب عليه شيء إلاّ على العمل بالأصل المثبت.

ونحوه ما لو ادّعى زيد كونه ولد عمرو ليرثه ، وادّعى بكر بن عمرو كونه ولد خالد قصدا إلى نفي توارثه من عمرو ، فأصالة عدم تولّده من عمرو يقتضي ذلك فيعمل عليه ، لا على معارضه الّذي هو أصالة عدم تولّده من خالد ، لأنّه لا يقتضي توارثه من عمرو إلاّ على العمل بالأصل المثبت وهو باطل ، إلى غير ذلك من الأمثلة الّتي يذكر أكثرها في باب الدعاوي.

الصورة الرابعة : ما كان العلم الإجمالي منجّزا للتكليف أيضا مع عدم امكان موافقته القطعيّة على وجه أوجب الأخذ بأحد الأصلين وطرح الآخر تخييرا ، كما في الانائين إذا تعيّن استعمال أحدهما وترك الآخر بالنذر وشبهه ، ثمّ أصاب أحدهما نجاسة على وجه اشتبه كلّ من المنذور استعماله مورد النجاسة.

وقد يجعل من ذلك مطلق الانائين المشتبهين على القول بعدم جواز ارتكابهما معا لحرمة المخالفة القطعيّة وعدم وجوب اجتنابهما معا لعدم وجوب الموافقة القطعيّة ،

ص: 411

فالتخيير في ارتكاب أحدهما دون الآخر في معنى التخيير في الأخذ في الأخذ بالأصل الجاري في أحدهما وطرح الجاري في الآخر.

المطلب السابع : في الاستصحاب المتمسّك به لإثبات وجوب الأجزاء الباقية من العبادة المركّبة بعد تعذّر بعضها الآخر

المطلب السابع

في الاستصحاب المتمسّك به لإثبات وجوب الأجزاء الباقية من العبادة المركّبة بعد تعذّر بعضها الآخر.

واعلم : أنّه إذا وجب عبادة مركّبة عند دخول وقتها واجتماع سائر شرائطها فلم يأت بها المكلّف حتّى تعذّر بعض أجزائها ، كما إذا قطع بعض أعضاء الوضوء بعد تنجّز التكليف به ، فلهم في إثبات وجوب الإتيان بالأجزاء الباقية وعدم سقوط وجوبها بسبب سقوط وجوب الكلّ طرق عديدة.

منها : العمومات القاضية بعدم سقوط الميسور بالمعسور (1).

ومنها : الغلبة الملحقة لمورد الشكّ بمورد الغالب ، المحرزة باستقراء التكاليف المركّبة الّتي وجدت في الغالب بحيث لم يعف الشارع عن باقي أجزاء المركّب بسبب تعذّر بعضها.

ومنها : الاستصحاب على ما قد يوجد في بعض الكلمات ، وإليه يرجع كلام الفاضلين في المعتبر (2) والمنتهى (3) في مسألة الأقطع في الاستدلال على وجوب غسل ما بقي من اليد المقطوعة ممّا دون المرفق ، بأنّ : « غسل الجميع بتقدير وجود ذلك البعض واجب ، فإذا زال البعض لم يسقط الآخر » انتهى على أحد احتماليه.

ويقرّر الاستصحاب المذكور بوجهين :

أحدهما : استصحاب وجوب ما بقي من الأجزاء بعد تعذّر ما عداه ، فإنّه كان واجبا قبل زمان التعذّر فيستصحب بعده.

وفيه من الضعف ما لا يخفى ، فإنّ أجزاء العبادة المركّبة - على ما حقّقناه في بحث المقدّمة - لا يلحقها وجوب بواسطة وجوب المركّب إلاّ ثانيا وبالعرض وعلى سبيل المجاز.

ولو سلّم فالمراد بوجوبها الّذي اريد استصحابه إمّا أن يكون هو الوجوب التبعي المقدّمي ، فلا شكّ في ارتفاعه لارتفاع المعلول بزوال العلّة وهي وجوب الكلّ على أنّه

ص: 412


1- عوالي اللآلئ 4 : 58 ، ح 205.
2- المعتبر 1 : 144.
3- المنتهى 2 : 37 - 36.

ذو مقدّمة ، أو يكون الوجوب الأصلي النفسي فلا يقين بثبوته ، وعلى التقديرين لا يعقل استصحابه.

وثانيهما : استصحاب اشتغال الذمّة المتيقّن ثبوته قبل تعذّر الجزء المتعذّر ، فيستصحب بعده.

وهذا أضعف من الأوّل ، إذ الاشتغال المستصحب إن اريد به اشتغال ذمّة المكلّف بالكلّ فلا شكّ في ارتفاعه بتعذّر الكلّ ، وإن اريد به اشتغال ذمّته بما بقي من أجزائه فلا يقين بثبوته.

وتوهّم تصحيحه بجعل المستصحب هو الاشتغال لا بوصف إضافته إلى الكلّ ولا إلى الجزء ، وهو إذا شكّ في بقائه قابل للاستصحاب.

يدفعه : أنّ الاشتغال أمر وجودي فلا بدّ له من موضوع في نفس الأمر ، وهو إمّا الكلّ أو الجزء فيعود الكلام السابق.

لا يقال : لو فرض موضوع الاشتغال الأمر المجمل المردّد بين الكلّ والقدر المشترك بينه وبين الأجزاء الغير المتعذّرة أمكن استصحابه بعد تعذّر الجزء المتعذّر.

لأنّ المصحّح للاستصحاب على هذا التقدير إنّما هو احتمال كون متعلّق الاشتغال هو القدر المشترك المذكور ، وحيث إنّه عبارة عن الأمر المردّد بين الكلّ والجزء فالاشتغال بالنسبة إليه إن فرض على وجه التخيير لزم كون وجوب الجزء في مرتبة وجوب الكلّ وهو ضروري البطلان ، وإن فرض على وجه الترتيب انحلّ إلى أمرين : مطلق بالكلّ ، ومشروط بتعذّر الكلّ بالنسبة إلى الجزء الغير المتعذّر ، والأوّل ممّا لا شكّ في ارتفاعه ، والثاني ممّا لا يقين بثبوته ، مع أنّه إن صحّ الفرض لكفى تحقّق الشرط في تنجّز الأمر بالجزء ولا حاجة معه إلى استصحاب.

ومع الغضّ عن جميع ذلك فاستصحاب الاشتغال على الوجه المذكور لا ينتج المطلوب - وهو وجوب الأجزاء الباقية - إلاّ على القول بالاصول المثبتة ، أو ادّعي اتّحاد القضيّتين وهما الاشتغال الثابت بالاستصحاب ووجوب الأجزاء الباقية بحسب العرف وعدم المغايرة بينهما إلاّ باعتبار العبارة ، فيكون إحداهما عبارة اخرى للاخرى.

وبالجملة فالاستصحاب المتمسّك به لإثبات وجوب ما بقي من أجزاء المركّب ممّا لا يرجع إلى محصّل.

ص: 413

المطلب الثامن : في الاستصحاب الكلّي

المطلب الثامن

في استصحاب القدر المشترك الّذي قد يعبّر عنه باستصحاب الكلّي ، ونعني به ما كان المستصحب كلّيا مشتركا بين أمرين أو أزيد ، سواء كان من قبيل الجنس المشترك بين أنواع ، أو النوع المشترك بين أفراد.

ومحلّه ما إذا كان المتيقّن في الزمان السابق كلّيا في ضمن فرد مردّد بين تقديرين يقطع ببقائه على أحد التقديرين وارتفاعه على التقدير الآخر ، فيشكّ لذلك في بقاء الكلّي وارتفاعه ، سواء كان الشكّ من جهة المقتضي - كما لو تردّد ما في الدار من الحيوان بين ما لا يعيش إلاّ سنة وبين ما يعيش مائة سنة ، فيحكم ببقائه بعد انقضاء السنة استصحابا للحيوان الكلّي المشترك بين الفردين ، ويرتّب عليه آثاره الشرعيّة إن كانت من دون تعرّض للفردين بنفي الأوّل وإثبات الثاني - أو من جهة الرافع إذا حصل ما كان مزيلا للفرد الموجود على أحد تقديريه غير مزيل له على التقدير الآخر ، كالنجاسة الواقعة على الثوب المردّدة بين البول وغيره ، بناء على اعتبار التعدّد في إزالة الأوّل وكفاية المرّة في إزالة الثاني مع حصول غسله مرّة واحدة ، فيستصحب النجاسة من حيث إنّها كلّي مشترك بينهما ويترتّب عليه أحكامها الّتي منها وجوب غسله مرّة اخرى ، من دون تعرّض لإثبات خصوص البول ونفي الآخر.

ونحوها الحدث المردّد بين الأصغر والأكبر المتحقّق بخروج البلل المشتبهة بين البول والمنيّ ، مع حصول إحدى الطهارتين من الوضوء أو الغسل الموجب للشكّ في ارتفاع الحدث الكلّي المشترك بينهما ، فيستصحب إلى أن يحصل الطهارة الاخرى أيضا من دون تعرّض لإثبات شيء من الخصوصيّتين ونفي الاخرى.

وقد يجعل من استصحاب القدر المشترك ما لو علم بتحقّق الكلّي في ضمن فرد معيّن مع الجزم بارتفاع ذلك الفرد والشكّ في وجود فرد آخر مكانه على وجه يتقوّم به ذلك الكلّي وعدمه ، وهذا على قسمين :

أحدهما : أن يكون الشكّ في تعيين الفرد الموجود أهو من جنس الفرد الأوّل أو من غير جنسه ، كالسواد المشترك بين الأسود الشديد والأسود الخفيف إذا علم بتحقّقه في ضمن الفرد الأوّل ثمّ ارتفاعه بالغسل وتبدّله إلى ما يشكّ في كونه الفرد المجانس له وهو الأسود الخفيف سواده أو الفرد المغائر له كالأبيض ، وهذا يوجب الشكّ في بقاء القدر

ص: 414

المشترك وهو السواد المطلق وتقوّمه بالفرد الآخر وارتفاعه بسبب ارتفاع الفرد الأوّل وعدم قيام فرد آخر من جنسه.

ومن أمثلته أيضا نسخ الوجوب مع الشكّ في بقاء الجواز وتقوّمه بأحد الأحكام الثلاث الباقية وعدمه لاحتمال طروّ الحرمة.

وثانيهما : أن يكون الشكّ في أصل وجود فرد آخر يتقوّم به الكلّي المشترك وعدمه رأسا ، وذلك كما لو علم بوجود الإنسان الكلّي في ضمن زيد الموجود في الدار ثمّ علم بخروج زيد مع الشكّ في دخول عمرو الّذي يتقوّم به الإنسان الكلّي وعدمه ، ويرجع ذلك إلى الشكّ في بقاء الإنسان الكلّي في الدار وارتفاعه.

ومن أمثلته في الشرعيّات ولاية الأب أو الجدّ الثابتة على الصغير إلى أن يبلغ الصغير سفيها فيشكّ في حصول ولاية اخرى لهما عليه من حيث كونه سفيها وعدمه ، ومرجعه إلى الشكّ في بقاء كلّي الولاية ، ومن أمثلته أيضا عدم المذبوحيّة الّذي حكم المشهور باستصحابه في الجلد المطروح ، الّذي هو كلّي مشترك بين ما قارن منه حال الحياة وبين ما قارن منه حال الموت حتف الأنف ، حيث ارتفع الأوّل جزما بعد تيقّن ثبوته مع الشكّ في قيام الثاني مقام الأوّل وعدمه.

فهل يصحّ استصحاب القدر المشترك في جميع الأقسام المذكورة ، أو لا يصحّ في شيء منها ، أو يفصل بينها فيصحّ في البعض دون بعض؟

وتحقيق المقام : أنّه إن بنينا على دقّة النظر وراعينا المداقّة الفلسفة ينبغي القطع بعدم صحّته في شيء من أقسامه وفروضه.

أمّا في نحو القسمين الأوّلين : فلدورانه فيهما بين تقديرين لا يشكّ في بقائه على أحدهما ولا في ارتفاعه على الآخر ، فلا معنى لاستصحابه على التقديرين لخروجه عن ضابط الاستصحاب ، وهو الشكّ في بقاء الشيء وارتفاعه على وجه يتساوى الاحتمالان بعد اليقين بوجوده. وأمّا في نحو القسمين الأخيرين : فللقطع بانتفاء الخصوصيّة الاولى والشكّ في حدوث خصوصيّة اخرى يتقوّم بها الكلّي والأصل عدمها ، ومرجع المنع إلى تغاير القضيّة المشكوكة والقضيّة المتيقّنة موضوعا ، لتغاير الفردين من حيث الخصوصيّة ، والحصّة من الكلّي الموجودة مع الفرد المعلوم المأخوذ في القضيّة المتيقّنة مرتفعة جزما ، وبدليّة حصّة اخرى مأخوذة في الفرد المشكوك غير معلومة ، واستصحاب القدر المشترك

ص: 415

عند التحقيق يرجع إمّا إلى إبقاء ما لا يشكّ في عدم بقائه ، أو إلى إبقاء ما لم نحرز حدوثه بعد ، والكلّ كما ترى.

وإن بنينا على المسامحات العرفيّة وجعلنا المقام من مواردها ينبغي القطع بصحّته في الكلّ ، لبناء أهل العرف فيها على القاء الخصوصيّة واعتبار القدر المشترك لا بشرط شيء.

ولا ريب أنّه إذا اعتبر على هذا الوجه من مجرى الاستصحاب مطلقا وإن كانت الأقسام المذكورة متفاوتة في الظهور والخفاء.

ولكن كون جميع الأقسام المذكورة ممّا يتسامح فيه عرفا دون إثباته خرط القتاد ، بل الّذي يساعد عليه النظر منع صحّة الاستصحاب في نحو القسمين الأخيرين لو قدّر من باب استصحاب القدر المشترك ، لخروجه فيهما عن ضابط الاستصحاب بناء على التقدير المذكور.

قال الفاضل التوني - ردّا على استصحاب عدم التذكية الّذي تمسّك به الأكثر على نجاسة الجلد المطروح - : « إنّ عدم المذبوحيّة لازم لأمرين الحياة والموت حتف الأنف والموجب للنجاسة ليس هذا اللازم من حيث هو بل ملزومه الثاني - أعني الموت حتف الأنف - فعدم المذبوحيّة لازم أعمّ لموجب النجاسة ، فعدم المذبوحيّة اللازم للحياة مغاير لعدم المذبوحيّة العارض للموت حتف الأنف ، والمعلوم ثبوته في الزمان السابق هو الأوّل لا الثاني ، وظاهر أنّه غير باق في الزمان الثاني ، ففي الحقيقة خرج مثل هذه الصورة من الاستصحاب ، إذ شرطه بقاء الموضوع وعدمه هنا معلوم ، وليس مثل المتمسّك بهذا الاستصحاب إلاّ مثل من تمسّك على وجود عمرو في الدار باستصحاب بقاء الضاحك المتحقّق بوجود زيد في الدار في الوقت الأوّل وفساده غنيّ عن البيان » انتهى (1).

ومن مشايخنا (2) من استجود ما أفاده من عدم جواز الاستصحاب في المثال المذكور ونظائره.

ويمكن تصحيح هذا الاستصحاب ونظائره بجعله من باب استصحاب الحالة الواحدة العدميّة المستمرّة إلى حين الموت القابلة للاستمرار إلى ما بعد الموت ، من دون تعدّد الحالتين لتكونا فردين من القدر المشترك المشكوك في بقائه باعتبار الجزم بارتفاع الفرد الأوّل والشكّ في وجود الفرد الآخر ، إذ ليس هاهنا ما يوجب الفرديّة الملزومة للتعدّد والمغائرة إلاّ مقارنة الحالة المذكورة في الزمان السابق لحياة الحيوان ومقارنتها في الزمان

ص: 416


1- الوافية : 210.
2- فرائد الاصول 3 : 197.

الثاني لموته ، وهذا بمجرّده لا يلازم الفرديّة الّتي ملاكها كون الخصوصيّة مقوّمة للماهيّة ، وإلاّ لزم كون الاستصحاب في جميع موارده من استصحاب القدر المشترك ولم يقل به أحد.

وعلى هذا فلا مانع من استصحابها احرازا لمقتضي النجاسة الّذي شرط اقتضائها الموت وهو متحقّق بالفرض والشكّ إنّما هو في انتقاض الحالة العدميّة وارتفاعها بطروّ الذبح الشرعي. وهكذا الكلام في مثالي الولاية والسواد وغيرهما فالاستصحاب في هذه الأمثلة ونظائرها صحيح ، ولكن لا من باب استصحاب القدر المشترك بل من باب استصحاب الحالة الوحدانيّة القابلة للاستمرار وجوديّة كانت أو عدميّة ، وعلى هذا فانحصر استصحاب القدر المشترك في نحو القسمين الأوّلين ، والظاهر صحّته بناء على المسامحة وثبوت هذه المسامحة فيه عرفا.

المطلب التاسع : في استصحاب الامور التدريجيّة

المطلب التاسع

في استصحاب الامور التدريجيّة ، والمراد بالأمر التدريجي ما ينعدم سابقه بوجود لا حقه.

وبعبارة اخرى : ما يتوقّف وجود جزئه اللاحق على انعدام جزئه السابق.

وبعبارة ثالثة : ما لا يجتمع أجزاؤه في الوجود الخارجي ، كالقراءة والتكلّم والمشي ونبع الماء وسيلان دم الطمث ، وعلى هذا فما قد يوجد في كلام بعضهم من عدّ الكريّة من الامور التدريجيّة غير جيّد ، لأنّ الكرّ عبارة عن مقدار مخصوص من الماء وغيره يجتمع أجزاؤه في الوجود.

نعم قد يكون حصول أجزائه واجتماعها في الوجود تدريجا وهذا لا يوجب كونه من الامور التدريجيّة ، وإلاّ لزم كون المركّبات الخارجيّة بأجمعها من الامور التدريجيّة لوضوح أنّ كلّ مركّب كما يمكن تحصّل أجزاؤه في الخارج دفعة فكذلك يمكن تحصّلها تدريجا.

وعلى أيّ تقدير فالمقصد الأصلي من عقد هذا البحث هو التكلّم عن قابليّة الامور التدريجيّة للاستصحاب وجريانه فيها وعدمه.

فنقول : أنّ الاستصحاب المذكور إن كان عدميّا - كعدم القراءة وعدم جريان الماء ونحو ذلك - فلا ينبغي التأمّل في صحّته وجريانه ، بل هو عند التحقيق خارج عن معقد البحث.

وإن كان وجوديّا فالمعهود من طريقة العرف وعمل العلماء جريانه ، غير أنّ دقيق النظر يأباه ويقضي بعدم معقوليّة جريانه في الامور التدريجيّة ، لأنّها تدخل في الوجود جزء

ص: 417

فجزء أو كلّ جزء منه ينعدم بمجرّد وجوده ليخلفه الجزء الآخر ، فلو اريد من استصحابها استصحاب الأجزاء السابقة فقدار تفعت ، ولو اريد استصحاب الأجزاء اللاحقة فلم توجد بعد.

وعلى التقديرين لا معنى للاستصحاب فيها إلاّ أن يصحّح بالبناء على المسامحات العرفيّة ، الّتي مرجعها هنا إلى أخذ المستصحب الأمر الملئتم لذاته من أجزاء خارجيّة مرتّبة من حيث هي هي ولا بشرط وصفها بالسبق ولا اللحوق ، فيكون بهذا الاعتبار أمرا وحدانيّا مستمرّا وقابلا للاستمرار.

أو بإرجاع الاستصحاب إلى استصحاب الحالة المنتزعة عن الأمر التدريجي ، سواء كان متأصّلا في ذاته أو اعتباريّا محضا ، كالتلبّس بالكلام والقراءة والجريان أو اتّصافه به ، فمعنى استصحاب الأمر التدريجي استصحاب هذا الأمر المنتزع ولا ضير فيه ، إلاّ أنّ انتزاعه مشروط ببقاء الاتّصال العرفي بين الأجزاء المترتّبة في الوجود وعدم تخلّل فصل بينها ، إذ لو لاه لا معنى لاستصحابه حتّى في الأمر المنتزع للقطع بارتفاع ما سبق بسبب تخلّل الفصل.

وبالجملة فلو لا الالتزام بأحد الوجهين لم يصحّ الاستصحاب في شيء من الامور التدريجيّة مع فرض كون المستصحب نفس الأمر التدريجي.

ومحصّل ما ذكرناه في وجهه : أنّ مورد الاستصحاب هو الشكّ في بقاء الشيء المستصحب في الآن الثاني بعد اليقين بوجوده في الآن الأوّل ، والبقاء الّذي هو عبارة عن وجود الموجود الأوّل في الآن الثاني غير ممكن في الأمر التدريجي ليشكّ فيه ثمّ يحكم به بالاستصحاب ، إذ الّذي يشكّ في تحقّقه لو كان متحقّقا في آن الشكّ في الواقع كان تحقّقه مسبوقا بعدمه فيكون حدوثا ، لا أنّه مسبوق بالوجود ليكون بقاء ، فمرجع الشكّ في الحقيقة إلى الحدوث ، والاستصحاب يقتضي عدمه.

ومن طريق هذا البيان يظهر منع جريان الاستصحاب في الزمان الّذي هو غير قارّ بالذات ولا استقرار لوجوده ، بل يتجدّد شيئا فشيئا ولا يجتمع أجزاؤه في الوجود ، وإن اشتهر إعماله في الليل والنهار.

وعن بعض الأخباريّين (1) كون استصحاب الليل والنهار من الضروريّات.

ويزيّفه : منع الضرورة ، مضافا إلى مساعدة البرهان ببطلان هذا الاستصحاب لوجهين :

ص: 418


1- الفوائد المدنيّة : 143.

أحدهما : أنّ الزمان لا يتصوّر له آن آخر يكون ظرفا لوجوده ، وينقسم إلى زمان اليقين بوجوده وزمان الشكّ في بقائه.

وثانيهما : أنّه لا يتصوّر له بقاء ، لأنّ سابقه منعدم ولا حقه غير معلوم التحقّق ، وعلى فرض تحقّقه في الواقع كان مسبوقا بالعدم فكان حدوثا ، فالشكّ في تحقّقه شكّ في حدوثه لا في بقائه ، وهذا هو معنى ما يقال - في منع جريانه - من : أنّه لا يجري لتشخيص كون الجزء المشكوك فيه من أجزاء الليل أو النهار ، لأنّ نفس الجزء لم يتحقّق في السابق فضلا عن وصف كونه نهارا أو ليلا.

نعم ربّما يمكن الاستصحاب هنا أيضا بالبناء على المسامحة ، بجعل النهار أو الليل عبارة عن مجموع قطعة محدودة من الزمان من دون تحليلها إلى أجزائها ولا ملاحظة السبق واللحوق فيها ، ويقال : إنّها ما يشكّ في بقائه وانقضائه والاستصحاب يقتضي بقاءه.

أو بإرجاعه إلى امور عدميّة اخر متلازمة للزمان كعدم غروب الشمس وذهاب الحمرة وطلوع الفجر ، وعدم وصول القمر إلى المنزل الفلاني الّذي لزمه رؤية هلاله في استصحاب الشهر ونحو ذلك.

وربّما أمكن الاستصحاب الحكمي أيضا كحرمة الإفطار وإباحة تناول المفطرات ، غير أنّه لا يفيد كون الزمان المشكوك فيه نهارا أو ليلا لبطلان الأصل المثبت ، مع ابتنائه على غضّ النظر عن الشكّ في بقاء موضوع المستصحب بل الشكّ في موضوعيّة الباقي ، لأنّ الشكّ في أنّ هذا الجزء المتحقّق من الزمان من النهار أو من الليل لا في بقاء النهار أو الليل ومعه لا معنى للاستصحاب.

ومن هنا ظهر أنّه كما لا يصحّ الاستصحاب في الزمان فكذلك لا يصحّ في الزماني وهو الأمر المقيّد بالزمان ، كوجوب صيام نهار رمضان إذا شكّ في انقضاء النهار ، فليتأمّل حتّى تعرف أنّ المقام في استصحاب الزمان أو الأمر الزماني من مجاري أصلي الاشتغال والبراءة لا الاستصحاب.

المطلب العاشر : في الاستصحاب التقديري

المطلب العاشر

في الاستصحاب التقديري الّذي يراد به استصحاب الأمر التقديري ، وقد يعبّر عنه بالتعليقي فيما لو كانت القضيّة المستصحبة قضيّة تعليقيّة حكم فيها بوجود حكم على تقدير وجود أمر آخر ، كالحكم على العنب بحرمة مائه على تقدير الغليان ، وإذا صار زبيبا

ص: 419

فهل يستصحب هذه الحرمة التعليقيّة في مائه أيضا فيحرم عند تحقّق الغليان أو لا ، بل يستصحب في مائه الإباحة السابقة على الغليان بعد تحقّقه؟ وقد اختلف فيه ، فعن العلاّمة الطباطبائي (1) التمسّك به في مسألة حرمة العصير الزبيبي بالغليان بدعوى تقديمه على استصحاب الإباحة.

وعن السيّد صاحب المناهل منعه حاكيا له عن والده في مجلس الدرس ، حيث إنّه في ردّ تمسّك العلاّمة المذكور قال : « يشترط في حجّيّة الاستصحاب ثبوت أمر أو حكم وضعي أو تكليفي في زمان من الأزمنة قطعا ، ثمّ يحصل الشكّ في ارتفاعه بسبب من الأسباب ، ولا يكفي مجرّد قابليّة الثبوت باعتبار من الاعتبارات ، فالاستصحاب التقديري باطل.

وقد صرّح بذلك الوالد العلاّمة في مجلس الدرس ، فلا وجه للتمسّك باستصحاب التحريم في المسألة (2) » انتهى.

ومن مشايخنا أورد عليه : « بأنّه لا إشكال في أنّه يعتبر في الاستصحاب تحقّق المستصحب سابقا والشكّ في ارتفاع ذلك المتحقّق ولا إشكال أيضا في عدم اعتبار أزيد من ذلك.

ومن المعلوم أنّ تحقّق كلّ شيء بحسبه ، فإذا قلنا : « العنب يحرم ماؤه إذا غلا ، أو بسبب الغليان » فهناك لازم وملزوم وملازمة ، أمّا الملازمة - وبعبارة اخرى : سببيّة الغليان لتحريم ماء العصير - فهي متحقّقة بالفعل من دون تعليق.

وأمّا اللازم وهو الحرمة فله وجود مقيّد بكونه على تقدير الملزوم ، وهذا الوجود التقديري أمر متحقّق في نفسه في مقابل عدمه ، وحينئذ فإذا شككنا في أنّ وصف العنبيّة له مدخل في تأثير الغليان في حرمة مائه فلا أثر للغليان في التحريم بعد جفاف العنب وصيرورته زبيبا ، فأيّ فرق بين هذا وبين سائر الأحكام الثابتة للعنب إذا شكّ في بقائها بعد صيرورته زبيبا؟ » انتهى كلامه رفع مقامه (3).

أقول : والتحقيق في دفع هذا القول والطعن على الدليل المذكور أن يقال : « انّ هاهنا مقدّمات بني عليها الدليل.

المقدّمة الاولى : أنّه يعتبر في الاستصحاب الشكّ في بقاء الشيء في الآن الثاني بعد اليقين بتحقّقه في الآن الأوّل ، على معنى كون المستصحب أمرا ثابتا في وقت ثمّ شكّ في

ص: 420


1- المصابيح ( مخطوط ) : 447.
2- المناهل : 652 ( كتاب الأطعمة والأشربة ).
3- فرائد الاصول 3 : 223.

بقائه وارتفاعه في الوقت الآخر.

والثانية : أنّ القضايا الشرطيّة وما يجري مجراها تفيد الحكم بوجود شيء على تقدير وجود آخر ، على معنى تعليق حصول أمر على حصول أمر غير حاصل.

والثالثة : أنّ قضيّة التعليق عدم تحقّق المعلّق في الخارج ما لم يتحقّق المعلّق عليه ، على معنى توقّف وجود الأوّل على وجود الثاني.

وهذه المقدّمات كلّها صحيحة لا كلام في شيء منها ، وإنّما الكلام في تشخيص المعلّق هل هو حكم القضيّة أو موضوعه ، ومبنى الدليل على تخيّل الأوّل ، فيتفرّع عليه حينئذ القول بأنّ الحكم المعلّق لم يكن ثابتا في الزمان الأوّل من جهة عدم وجود الشرط المعلّق عليه ثمّة ، وإنّما هو قابل للثبوت باعتبار قابليّة المعلّق عليه للوجود ، فلا معنى لاستصحابه في الزمان الثاني ، لأنّ استصحاب الأمر الغير الثابت غير معقول ، ومن ذلك شبهة الدليل.

ولكنّ الّذي يساعد عليه النظر كون التعليق في موضوع الحكم لا في نفسه ، بل هو في جميع القضايا التعليقيّة يقع فعلا في حال النطق خبريّا كان أو طلبيّا ، ويبقى المحكوم به في الأوّل والمطلوب في الثاني ، مراعى حصوله على حصول المعلّق عليه ، فقولنا : « إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود » حكم فيه بوجود النهار على تقدير طلوع الشمس ، فالحكم - أعني إسناد الوجود إلى النهار على تقدير طلوع الشمس - إنّما يقع حال النطق ويبقى وجود النهار معلّقا على طلوع الشمس ، لأنّه الّذي لا يتحقّق ما لم يتحقّق الطلوع. ولذا يقال : إنّ صدق الشرطيّة لا يتوقّف على صدق الشرط ، ومعناه : أنّ صدق الإسناد لمطابقته الواقع لا يتوقّف على تحقّق الشرط في الخارج ، وكذا الكلام في قولنا : « إن جاءك زيد فأكرمه » فإنّ الحكم وهو الطلب الحتمي المتضمّن لمنع الترك على تقدير المجيء يقع في حال النطق ، والمطلوب وهو إيجاد الإكرام يبقى مراعى على تحقّق المجيء من زيد وبدونه لا يوجد الإكرام ، لأنّه ليس بمطلوب حينئذ لا أنّه لا وجوب أصلا ، وهذا الوجوب لتيقّن ثبوته قبل وجود الشرط المعلّق عليه إذا صار لعروض حالة أو تبدّل زمان مشكوك البقاء جاز استصحابه ، لتحقّق أركان الاستصحاب وشرائطه وشمول أدلّته له.

وعلى هذا القياس استصحاب الحرمة في مسألة العنب والزبيب لثبوت الحرمة في حال العنبيّة على تقدير الغليان والشكّ في بقائها في حال الزبيبيّة ، فإنّه في غاية الصحّة إن

ص: 421

لم يخدشه عدم بقاء موضوع المستصحب.

لا يقال : ما ذكرت من كون المعلّق في التعليقيّات هو المحكوم به لا الحكم والمطلوب لا الطلب ، ينافي ظاهر ما ذكروه في تعريف الواجب المشروط من أنّه ما يتوقّف وجوبه على ما يتوقّف عليه وجوده ، فإنّه يعطي كون الموقوف على وجود مقدّمة الوجود هو الوجوب لا الواجب.

لمنع المنافاة ، لأنّ معنى وجوبه في قولهم : « ما يتوقّف وجوبه » وجوب الإتيان به ، وقضيّة ظاهر التعريف أنّ مع عدم وجود مقدّمة الوجود لا يجب الإتيان به إمّا لأنّه لا وجوب أصلا كما في حقّ الفاقدين للشرط في تمام مدّة العمر ، أو لأنّ الإتيان به في هذه الحالة خاصّة ليس بواجب وإن تحقّق فيها أصل الوجوب المتعلّق بالإتيان بعد وجود الشرط في حقّ الفاقدين للشرط في بعض آنات العمر مع اتّفاق وجدانهم إيّاه في بعض آخر من آناته ، فليتأمّل فإنّه دقيق.

فالأقوى على ما حقّقناه جريان الاستصحاب التقديري وحجّيّته.

والمناقشة فيه : بعدم بقاء موضوع المستصحب وتبدّله.

يدفعها : أنّ الكلام في حجّيّة الاستصحاب التقديري نوعا مع فرض بقاء موضوع المستصحب وعدم تبدّله ، وأمّا عدم الحجّيّة من جهة عدم بقاء الموضوع فلا اختصاص له بذلك ليكون هو المناط الكلّي في منع حجّيّته ، بل سائر الاستصحابات أيضا مع عدم بقاء موضوعاتها ليست بحجّة.

كما أنّ المناقشة فيه بكونه معارضا باستصحاب حكم آخر تنجيزي كاستصحاب الإباحة قبل الغليان في مثال العصير الزبيبي ونحو ذلك أيضا.

يدفعها : بورود الاستصحاب التعليقي على غيره من الاستصحابات التنجيزيّة كما هو واضح.

هذا ولا يذهب عليك إنّا وإن رجّحنا الاستصحاب التعليقي واخترنا حجّيّته ، إلاّ أنّها حيث لم يكن هناك مانع آخر من حجّيّته من تبدّل موضوع ونحوه ، وحينئذ فلا يرد علينا القول بحرمة العصير الزبيبي تعويلا على استصحاب الحرمة التقديريّة الثابتة له حال العنبيّة كما تمسّك به العلاّمة الطباطبائي ، ليكون ذلك عدولا عمّا اخترناه في الفروع من القول بحلّيّته ، لأنّا تخلّصنا عنه ثمّة في هذه المسألة بالخصوص بتبدّل الموضوع ، لأنّ الحكم معلّق على ماء العنب ، والزبيب ليس بعنب بل كان عنبا ، فليتدبّر.

ص: 422

المطلب الحادي عشر : في استصحاب الحكم العرضي

المطلب الحادي عشر

في استصحاب الحكم العرضي ، ومحلّه أن يكون للشيء جهتان ذاتيّة غير معلومة الحكم وعرضيّة مرتفعة الحكم بمصادفة رافع له بعد اليقين بثبوته ، وذلك كما في الحيوان المتولّد من طاهر العين أبا كالغنم ونجس العين امّا كالكلب ، ولم يكن تابعا لأحد أبويه في الاسم ، ولا مماثلا لغيرهما من الحيوانات ، وكونه هذا الحيوان المتولّد منهما من حيث هو كذلك جهة ذاتيّة فيه ، وملاقاته لامّه برطوبة حين التولّد جهة عرضيّة ، ونجاسته من الجهة الاولى غير معلومة ، ومن الجهة الثانية معلومة ، مع فرض إصابة مطهّر شرعي إيّاه من مطر ، أو ماء جار ، أو ماء بحر على وجه أوجب زوال كلّ نجاسة عرضيّة قابلة للزوال ، فيشكّ حينئذ في نجاسته.

وحينئذ فلو حكم بنجاسته استصحابا لها ، لدفع ذلك الاستصحاب بأنّه لا بدّ فيه من اليقين السابق والشكّ اللاحق ، وبدون أحدهما يستحيل الاستصحاب. فلو اريد به استصحاب النجاسة المستندة إلى ذاته ، فهي غير معلومة من أوّل الأمر ، ولو اريد استصحاب النجاسة المستندة إلى الملاقاة العارضة له فهي غير مشكوكة بعد العلم بارتفاعها ، فلا يقين بثبوتها على تقدير ولا شكّ في ارتفاعها على تقدير آخر. والظاهر أنّ بطلان هذا الاستصحاب ممّا لا إشكال فيه.

ويزيد بطلانا ما يجامعه من الشكّ الساري بأن يكون الشكّ المأخوذ فيه ساريا ، وذلك كما لو اعتقد المجتهد في الواقعة بحكم خاصّ إلى زمان ثمّ بعد ذلك الزمان عرضه الشكّ في صحّة اعتقاده وفساده ، ومرجعه الشكّ في تحقّق الحكم المعتقد من أوّل الأمر وعدمه. وحينئذ فإن أراد إجراء ذلك الحكم في زمان الشكّ المذكور كان استصحابا مع الشكّ الساري ومستصحبه حكما عرضيّا ، لأنّه لو اريد به استصحاب ذلك الحكم من حيث كونه واقعيّا فهو غير معلوم الثبوت من أوّل الأمر ، ولو اريد به استصحابه من حيث كونه معتقدا أو من حيث إنّه ظاهري باعتبار عروض الاعتقاد فهو غير مشكوك البقاء لمكان القطع بارتفاعه.

ومن أمثلته العامّ المخصّص المقطوع حجّيّته قبل طروّ المخصّص ، فإذا طرأه يشكّ في بقاء حجّيّته على وجه يسري إلى ثبوتها في زمان اليقين بها ، فقد يحكم بالحجّيّة تمسّكا باستصحاب الحجّيّة المتيقّنة قبل طروّ المخصّص.

ويزيّفه : أنّ الشكّ فيه سار والمستصحب حكم عرضي ، لأنّه لو اريد بالحجّيّة المستصحبة ما هو بحسب الواقع ونفس الأمر فأصل ثبوتها غير معلوم ، ولو اريد ما هو

ص: 423

كذلك بحسب المعتقد فارتفاعه غير مشكوك. وبالجملة استصحاب الحكم العرضي بنوعه باطل خصوصا مع سريان شكّه.

المطلب الثاني عشر : في الشكّ الساري

المطلب الثاني عشر

في استصحاب الحالة السابقة مع كون شكّه ساريا ،والمراد بسريان الشكّ كون زمان الشكّ ظرفا للشكّ في الحدوث أيضا ، على معنى كون الشكّ شكّا في البقاء والحدوث معا ، ومحلّه أن يتيقّن شيء في وقت ثمّ يجيء وقت آخر يشكّ في تحقّقه فيه على وجه يسري إلى تحقّقه في الوقت الأوّل أيضا وعدمه ، كعدالة زيد المتيقّنة يوم الخميس مثلا المشكوك فيها يوم الجمعة على وجه يسري الشكّ إلى تحقّقها يوم الخميس ، الّذي لزمه زوال اليقين السابق بتحقّقها فيه ، ومعناه تبدّل اليقين بها بالشكّ في أنّه هل كان عادلا يوم الخميس حسبما تيقّن به أو لا؟ بل كان اليقين بها فيه من باب الاعتقاد المخالف للواقع.

ومثلها صحّة العبادة المقطوع بها في أثناء العمل المشكوك فيها بعد الفراغ بسبب طروّ الشكّ في الإخلال ببعض أفعالها أو اختلال بعض شرائطها ، وهذا الشكّ كما ترى على خلاف الشكّ المأخوذ في مورد الاستصحاب.

والفرق بينهما بعد اشتراكهما في تيقّن شيء في وقت ثمّ مجيء وقت آخر طرأ فيه الشكّ في تحقّقه ، أنّ في الأوّل يشكّ في الوقت الثاني في حدوث ما تيقّن حدوثه في الوقت الأوّل ، وفي الثاني يشكّ في الوقت في بقاء ما تيقّن حدوثه في الوقت الأوّل ، والأوّل لزمه زوال اليقين الموجود في الوقت الأوّل في الوقت الثاني ، والثاني لزمه بقاء اليقين الموجود في الوقت الأوّل في الوقت الثاني ، فالشكّ الساري خارج عن قانون موضوع الاستصحاب ، ولا يتحقّق في مورده من جهته استصحاب ، ولا يصدق معه الاستصحاب أصلا لا لغة ولا اصطلاحا.

أمّا الأوّل : فلأنّ الاستصحاب لغة عبارة عن أخذ الشيء مصاحبا له ، والشيء ما لم يكن محرزا يستحيل أخذه مصاحبا له ، وهو مع سريان الشكّ ليس بمحرز ، فلا يمكن أخذه مصاحبا له.

وأمّا الثاني : فلأنّ الاستصحاب الاصطلاحي المدلول عليه بالأخبار لا يتأتّى إلاّ مع اليقين السابق والشكّ اللاحق ، على وجه يكون الزمان اللاحق ظرفا للشكّ واليقين معا مع تعلّق اليقين بحدوث الشيء أو وجوده المطلق وتعلّق الشكّ ببقائه ، ولا يقين مع الشكّ

ص: 424

الساري أصلا ، لمكان التنافي بينهما فيما اتّحد متعلّقهما حدوثا ، فإذا آل الشكّ في الزمان الثاني إلى حدوث المتيقّن في الزمان السابق استحال معه بقاء اليقين بحدوثه ، وقضيّة ذلك أن لا يجري في مورده قاعدة الاستصحاب. وهل هنا قاعدة اخرى مفادها كون الشكّ المفروض الحادث بعد تيقّن الشيء المتعلّق بحدوثه وتحقّقه في الزمان السابق ملغى في نظر الشارع ، كما أنّ الشكّ في بقائه بعد تيقّن حدوثه ملغى في نظره بمقتضى أدلّة الاستصحاب أو لا؟

فعلى الأوّل كان ما ذكر قاعدة اخرى مغايرة لقاعدة الاستصحاب يرجع إليها في موارد الشكّ الساري. فقد يتوهّم ثبوت هذه القاعدة أيضا كالاستصحاب من أخبار الاستصحاب ، بدعوى : عدم اختصاص مدلولها بالشكّ في البقاء بل المنساق منها أنّ الشكّ بعد اليقين ملغى مطلقا ، سواء تعلّق بنفس ما تيقّنه سابقا أم ببقائه. ويظهر هذا التوهّم من المحقّق السبزواري فيما حكي عنه في الذخيرة في مسألة من شكّ في بعض أفعال الوضوء ، حيث قال : « والتحقيق أنّه إن فرغ من الوضوء متيقّنا للإكمال ثمّ عرض له الشكّ فالظاهر عدم وجوب إعادة شيء لصحيحة زرارة ولا تنقض اليقين أبدا بالشكّ (1) ».

وحكى بعض مشايخنا دعوى شمول الأخبار للقاعدتين عن غير واحد من معاصريه قال : « وإن اختلفوا بين مدّع لانصرافها إلى خصوص الاستصحاب ، وبين منكر له عامل بعمومه » وقال قبيل ذلك : « ولعلّه نشأ هذا التوهّم لهؤلاء من كلام الحلّي في السرائر حيث استدلّ على المسألة المذكورة بأنّه لا يخرج عن حال الطهارة إلاّ على يقين من كمالها وليس ينقض الشكّ اليقين ».

ثمّ دفعه بأنّ هذا التعبير من الحلّي لا يلزم أن يكون استفاده من أخبار عدم نقض اليقين بالشكّ.

ثمّ قال : « ويقرب من هذا التعبير عبارة جماعة من القدماء ، لكنّ التعبير لا يلازم دعوى شمول الأخبار للقاعدتين (2) » انتهى.

أقول : الإنصاف منع استفادة القاعدتين معا من هذه الأخبار ، أمّا أوّلا : فلا ستلزامه استعمال اللفظ في معنيين ، فإنّ مرجع كون الشكّ ملغى في مورديهما إلى البناء في إحداهما على حدوث ما تيقّنه سابقا في الزمان الأوّل وفي اخراهما على بقاء ما تيقّنه سابقا في

ص: 425


1- الذخيرة : 44.
2- فرائد الاصول 3 : 303 - 404.

الزمان الثاني.

ولا ريب أنّ الحدوث في الزمان الأوّل والبقاء في الزمان الثاني أمران متغايران لا يمكن اجتماعهما في محلّ واحد ، ولا جامع بينهما فلا يجوز اجتماعهما في الإرادة من لفظ « لا ينقض » في إطلاق واحد.

إلاّ أن يقال : إنّ نقض اليقين بالشكّ عبارة عن رفع اليد عن المتيقّن سابقا بالبناء على عدم حدوثه أو عدم بقائه ، فالمطلوب بالنهي إنّما هو عدم رفع اليد عمّا تيقّنه ، وهو قدر جامع بين البناء على حدوثه والبناء على بقائه كلّ في محلّه المبتلى به ، وقد اريد من اللفظ فلا يلزم محذور الاستعمال في معنيين.

فالأولى أن نقول - في وجه عدم إمكان الجمع بين القاعدتين في الإرادة من اللفظ : إنّ فرض شموله لهما يؤدّي إلى التناقض في مدلول اللفظ ، لأنّ ما رجع الشكّ إلى حدوثه سابقا يلازم تيقّن عدم حدوثه قبل ذلك الزمان المشكوك في حدوثه فيه ، وشموله للاستصحاب يعطي البناء على بقاء ما تيقّنه سابقا سواء كان أمرا وجوديّا أو أمرا عدميّا ، ومن الأمر العدمي عدم حدوث ما شكّ في حدوثه قبل الزمان المشكوك في حدوثه فيه ، والاستصحاب يقتضي البناء على عدم حدوثه ، ففرض شموله للقاعدتين يقضي فيه بالبناء على حدوثه والبناء على عدم حدوثه وهما نقيضان ، فليتدبّر.

وأمّا ثانيا : فلمنع شمول الأخبار للقاعدتين معا ، بل هي ظاهرة في خصوص الاستصحاب.

أمّا أوّلا : فلظهور اليقين والشكّ في قوله عليه السلام : « لا تنقض اليقين أبدا بالشكّ (1) » ونحوه في الفعليّين منهما ، وهذا يختصّ بما يشكّ في بقائه ، إذ لا يقين فعلا فيما شكّ في حدوثه.

وأمّا ثانيا : فلشهادة موارد أكثر هذه الأخبار من حيث عدم انطباقها إلاّ على الشكّ في البقاء ، كما لا يخفى على من لاحظها بكونها مسوقة لإعطاء قاعدة الاستصحاب لا غير ، وليس هذا من تخصيص العامّ بالمورد ، إذ لا دلالة للفظ العامّ على العموم بالنظر إلى القاعدتين ليكون الخروج عنه بمقتضي خصوص المورد تخصيصا له ، بل هو من تحصيل العامّ بالمورد.

وأمّا ثالثا : فلأنّ المنساق من قوله عليه السلام : « لا ينقض اليقين بالشكّ (2) » عرفا - على ما بيّنّاه مرارا - إفادة أنّ المعتبر في ترتيب أحكام الشيء عليه إنّما هو اليقين بوجوده ولا يعتبر معه

ص: 426


1- الوسائل 1 : 174 - 175 الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، ح 1.
2- نفس الهامش السابق.

اليقين ببقائه ، فوجب ترتيبها إلى أن يحصل اليقين بارتفاعه.

ويرشد إليه أيضا ظاهر قوله عليه السلام في صحيحة زرارة : « فإنّه على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين أبدا بالشكّ ، ولكن ينقضه بيقين آخر (1) » وهذا كما ترى لا ينطبق إلاّ على الاستصحاب.

نعم قوله عليه السلام : « من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه (2) » في بعض هذه الأخبار.

وكذلك قوله : « من كان على يقين فأصابه شكّ فليمض على يقينه (3) » في البعض الآخر ، ربّما يوهم ظهوره في الشكّ الساري بملاحظة المضيّ في لفظ « كان » ولكنّه أيضا مدفوع بظهور « فليمض على يقينه » في الشكّ في البقاء لأنّ المضيّ على اليقين معناه البناء على بقاء المتيقّن ، فليتأمّل.

وهل هنا مدرك آخر يؤخذ منه هذه القاعدة الّتي موضوعها ما إذا اعتقد المكلّف قصورا أو تقصيرا في زمان بشيء موضوعا كان كعدالة زيد وطهارة نفسه ، أو حكما اجتهاديّا كما لو اعتقد المجتهد في وقت طهارة الغسالة أو العصير العنبي بعد الغليان ، أو تقليديّا كما لو اعتقد المقلّد كون فتوى مجتهده في الواقعة ذلك ثمّ زال ذلك الاعتقاد بطروّ الشكّ في ثبوت المعتقد ثمّة وعدمه ، ومرجعه إلى الشكّ في مطابقة اعتقاده الواقع وعدمها ، أو لا مدرك لنحو هذه القاعدة في الأدلّة الشرعيّة أصلا فلا تكون ثابتة؟

فنقول : إن قصد من القاعدة إثبات حدوث ما تيقّنه في السابق ثمّ بقائه مستمرّا إلى اليقين بارتفاعه ، ليترتّب عليه الآثار والأحكام المعلّقة على وجوده ، ولازمه الحكم بإجزاء الأعمال الماضية الواقعة على طبق وجوده وتطبيق غيرها من الأفعال المستقبلة عليه ، فلا مدرك لها من عقل ولا نقل حتّى الاستصحاب ، لما عرفت من تغاير موضوعيهما فلا يمكن إثباتها به ، وكذلك إن قصد منها إثبات حدوثه في الزمان السابق فقط من دون إثباته في الأزمنة المتأخّرة ليترتّب عليه مضيّ الأعمال السابقة الواقعة على طبقه فقط.

نعم إن قصد منها مجرّد مضيّ الآثار الشرعيّة المترتّبة عليه في الزمان السابق وصحّة الأعمال الماضية المتفرّعة عليه ، فقد يقال : بثبوتها من أدلّة عدم اعتبار الشكّ بعد الفراغ وبعد تجاوز المحلّ مثل قوله عليه السلام في صحيحة ابن أبى يعفور : « إذا شككت في شيء من

ص: 427


1- الوسائل 1 : 174 - 175 الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، ح 1.
2- الوسائل 1 : 175 الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، ح 6.
3- إرشاد المفيد : 159 ، المستدرك : 228 الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، ح 4.

الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكّك بشيء ، إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تجزه (1).

وفي صحيحة زرارة : « إذا خرجت من شيء ثمّ دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء (2).

وفي موثّقة محمّد بن مسلم : « كلّما شككت فيه ممّا قد مضى فامضه كما هو (3) ».

وفي حسنة محمّد بن عيسى الأشعري : « كلّ شيء شكّ فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه (4) » إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع في كتب الفقه والحديث ، وهذا في بادئ الأمر وإن كان ممّا يقبله الطبع - فمن صلّى باعتقاد الطهارة ثمّ شكّ في مطابقة اعتقاده وكونه متطهّرا في ذلك الزمان بنى على صحّة صلاته ، ومن صلّى مع زيد باعتقاد العدالة مثلا ثمّ شكّ في عدالته في ذلك الزمان فصلاته ماضية وهكذا - ولكن دقيق النظر يأباه ، لأنّ قاعدة الشكّ بعد الفراغ أو تجاوز المحلّ بنفسها قاعدة لا يعتبر فيها سبق اليقين والاعتقاد ، ولذا كانت جارية إذا كان العامل حين العمل غافلا غير معتقد بشيء.

فالانصاف أنّه ليس هنا قاعدة يستنبط منها حكم شرعي اخذ في موضوعها الشكّ الساري من حيث هو كذلك.

نعم قد يكون الشكّ المأخوذ في قاعدة الشكّ بعد الفراغ من باب الشكّ بعد الفراغ (5) وأولى بعدم ثبوت نحو هذه القاعدة الأعمال المستقبلة ليكون مقتضاها لزوم تطبيق هذه الأعمال على وجود ما تيقّنه سابقا في الأزمنة المتأخّرة الّتي تقع فيها هذه الأعمال ، سواء كان بقاؤه إليها على تقدير حدوثه في الزمان الأوّل معلوما أو عدمه معلوما أو مشكوكا ، فلا يجوز ترتيب الآثار على ذلك المعتقد بالنسبة إلى تلك الأعمال والحكم بكونها صادرة حتّى أنّه لو صحّحناه قاعدة الشكّ بعد الفراغ بالقياس إلى الأعمال الماضية لم يكن لها أثر بالقياس إلى تلك الأعمال.

وبالجملة : لا يصحّ ترتيب الآثار بالنسبة إلى الأعمال المستقبلة على المعتقد السابق

ص: 428


1- الوسائل 1 : 331 ، الباب 42 من أبواب الوضوء الحديث 2.
2- الوسائل 5 : 336 ، الباب 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث الأوّل.
3- الوسائل 5 : 336 ، الباب 23 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث 3.
4- الوسائل 4 : 937 الباب 13 من أبواب الركوع ، الحديث 4.
5- كذا في الأصل ، والصواب : « نعم ، قد يكون الشكّ المأخوذ في قاعدة اليقين من باب الشكّ بعد الفراغ ». واللّه العالم.

مع فرض زواله بسريان الشكّ إليه إلاّ بعد إحراز أحد الأمرين ، ليس شيء منها بشيء :

أحدهما : تقدير تحقّق المعتقد في زمن الشكّ ، بأن يقال : إنّ الأعمال الماضية لكونها محمولة على الصحّة تكشف صحّتها عن تحقّق ما هو شرط في صحّتها في الواقع ، وإذا تحقّق المعتقد في الواقع يترتّب عليه كلّما هو مشروط به ، ومن جملة ذلك الأعمال المستقبلة ، فيحكم بوقوعها صحيحة أيضا لوقوع ما هو شرط في صحّتها في الواقع.

وثانيهما : تقدير كون الاعتقاد بذلك المعتقد المفروض حصوله في السابق صحيحا بحمله على الصحّة كفعل المسلم ، بأن يقال : إنّ أفعال المسلم كما أنّها محمولة على الصحّة فكذلك اعتقاداته ، فيكون الأعمال المستقبلة صحيحة لترتّبها على المعتقد بالاعتقاد الصحيح الثابت صحّته بالقاعدة المقتضية لصحّة الفعل.

وأنت خبير بما فيهما من التكلّف مع وضوح فسادهما.

أمّا الوجه الأوّل : فلأنّ غاية ما في الأعمال الماضية ترتّب الأحكام عليها دون تحقّق المعتقد ووقوعه في الواقع ، فإنّها إنّما يحكم بصحّتها لذواتها للقاعدة المشار إليها من جهة أنّها أعمال وقع الشكّ في صحّتها بعد الفراغ ، وهي لا توجب تحقّق المعتقد في الواقع لكونه ملزوما للصحّة ، والملزوم لا يثبت بمجرّد ثبوت اللازم إلاّ على القول بالاصول المثبتة الغير المعمول بها عندنا.

وأمّا الوجه الثاني : فلأنّ أصالة الصحّة على فرض جريانها في الاعتقادات إنّما يقضي بصحّة نفس الاعتقاد ولو في الواقع وهي لا توجب استمرار المعتقد ، وصحّة الأعمال مترتّبة على ثبوت المعتقد حين وقوعها لا على صحّة الاعتقاد وإن لم يكن حاصلا إلاّ على سبيل الفرض والتقدير.

المطلب الثالث عشر : في دوران الأمر بين التمسّك بالعامّ أو استصحاب حكم المخصّص

المطلب الثالث عشر

في جواز العمل بالاستصحاب في مورد العموم الأزماني وعدمه.

واعلم أنّ الدليل الاجتهادي كما أنّه قد يكون عامّا بحسب الأفراد كقوله : « أكرم العلماء » فكذلك قد يكون عامّا بحسب الأزمان ، ومعناه كون دليل الحكم في دلالته عليه بحيث لو خلّي وطبعه كان دالاّ على ثبوته في جميع الأزمان ، ودلالته عليه ما يسمّى بالعموم الأزماني.

وحينئذ نقول : إنّ الدليل الدالّ على الحكم في الزمان السابق إمّا أن يكون دالاّ على

ص: 429

ثبوته في الزمان الثاني وما بعده أيضا ، كقوله : « أكرم العلماء في كلّ زمان » ونحوه النهي في موارد إفادته الدوام ، أو يكون دالاّ على عدم ثبوته في الزمان الثاني وما بعده كقوله : « أكرم العلماء إلى أن يفسقوا » بالنسبة إلى ما بعد الغاية بناء على مفهوم الغاية ، أو يكون ساكتا عن حال الحكم في الزمان الثاني إثباتا ونفيا لإجماله كقوله : « صم إلى الليل » مع تردّد الليل بين استتار القرص وذهاب الحمرة ، أو لقصور في دلالته كقوله : « إذا تغيّر الماء نجس » فإنّه لا يدلّ على أزيد من حدوث النجاسة في الماء بالتغيّر. ونحوه الإجماع إذا انعقد على حكم في زمان ، بناء على أنّه لا يشمل ما بعد ذلك الزمان ولا يتعرّض له بنفي ولا إثبات.

ولا ينبغي الإشكال في جريان الاستصحاب في القسم الأخير ، كما لا ينبغي التأمّل في عدم جريانه في سابقه لارتفاع موضوعه بفرض وجود الدليل على ارتفاع الحكم في الزمان [ الثاني ]. وكذلك القسم الأوّل لأجل ذلك أيضا ، فإنّ موضوعه ما لا دليل على بقائه وارتفاعه ، والدليل المفروض رافع لهذا الموضوع. ولذا ذكرنا في غير موضع أنّ الأصل كما لا يصلح معارضا للدليل فكذلك لا يصلح معاضدا له ، وليس معناه أنّه يجري ولا يعارض ولا يعاضد ، بل معناه أنّه مع الدليل لا يجري ليعارض ويعاضد ، فالسالبة بانتفاء الموضوع.

وهذا كلّه ممّا لا كلام فيه ، وإنّما الكلام في أنّه إذا خرج من العامّ في القسم الأوّل بعض الأفراد في بعض الأزمنة عن العموم بالدليل ثمّ شكّ بعد ذلك الزمان في حكم هذا الفرد فهل هو ملحق به في الحكم أو بما قبله؟

وبعبارة أوضح : فهل يعمل فيه بالحكم العامّ المستفاد من الدليل العامّ تمسّكا بعمومه أو بالحكم الخاصّ المستفاد من الدليل المخصّص نظرا إلى استصحابه؟

وبعبارة ثالثة : فهل يكون حكمه هو الحكم العامّ نظرا إلى عموم دليله بحسب الأزمان ، أو الحكم الخاصّ نظرا إلى أنّه كان متيقّن الثبوت ثمّ شكّ في بقائه فيستصحب؟

والظاهر أنّ كلمات العلماء فيه مختلفة كما يظهر منهم في بعض المقامات الّتي منها مسألة تلقّي الركبان عند ظهور الغبن الفاحش للبايع المحكوم عليه بثبوت الخيار له ، المختلف في كونه على الفور كما عن جماعة تمسّكا بعموم الأزمان المستفاد من إطلاق ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1). ومنع جريان الاستصحاب ، أو على التراخي كما عن آخرين استنادا إلى استصحاب الحالة السابقة الّذي لازمه تخصيص العامّ به على تقدير العموم ، ونحوه

ص: 430


1- المائدة : 1.

الكلام في سائر الخيارات المختلف في فوريّتها.

والّذي يقتضيه جليّ النظر منع جريان هذا الاستصحاب الّذي مرجعه إلى تخصيص العامّ الأزماني ، لأنّ العموم على فرض ثبوته دليل رافع لموضوع الاستصحاب فلا استصحاب ، فالمانع من التمسّك به مستظهر إن كان مستند منعه هو ذلك.

ولكنّ الّذي يساعد عليه دقيق النظر هو التفصيل ، ففي بعض المقامات يتعيّن العمل بالعموم ولا استصحاب معه ، وفي بعضها يؤخذ بالاستصحاب لا بالعموم ، حتّى أنّه لو فرض مانع آخر من العمل بالاستصحاب وجب الرجوع إلى سائر الاصول لا العموم.

وضابط هذا التفصيل : أنّ الزمان الّذي اعتبر عموم الدليل بالنسبة إليه قد يؤخذ قيدا لموضوع الحكم على وجه يكون كلّ زمان موضوعا مستقلاّ ، فينحلّ الحكم العامّ إلى أحكام متعدّدة على حسب تعدّد الأزمان ، وذلك مثل « أكرم العلماء في كلّ يوم » مع خروج زيد يوم الجمعة بالدليل ، و « صم كلّ يوم » مع خروج صوم يوم العيد بالدليل ، وقد يؤخذ حالة في الحكم ويعبّر عنها بالدوام والاستمرار كقوله : « أكرم العلماء دائما ».

ففي القسم الأوّل لا محيص من العمل بالعموم ولا يجري معه الاستصحاب فلا يجوز العمل به ، وإلاّ لزم تخصيص العامّ بالاستصحاب وهو باطل ، وضابطه أنّه لو فرض في زمان الشكّ - وهو الزمان الثاني - موضع الاستصحاب دليل آخر على خلاف حكم العامّ لزم تخصيص آخر فيه زائدا على التخصيص الأوّل ، فكما أنّه في المثال المتقدّم بعد إخراج زيد يوم الجمعة لو اخرج عمرو أيضا يوم الجمعة لزم تخصيص آخر ، فكذلك لو اخرج زيد يوم السبت أيضا لزم تخصيص آخر ، وحينئذ فلو أخذ الاستصحاب موقع هذا المخصّص مدركا لإخراج زيد يوم السبت لزم تخصيص العامّ بالاستصحاب مع ثبوت عمومه ، وهو على ما بيّنّاه غير معقول.

والسرّ فيه : أنّ كلاّ من إكرام زيد يوم الجمعة وإكرامه يوم السبت فرد مستقلّ للعامّ اعتبر عمومه بالنسبة إليه ، ولا يلزم من تخصيصه بالنسبة إلى الفرد الأوّل خروج الفرد الثاني أيضا ، فلا بدّ في التزام خروجه أيضا من مخصّص آخر والاستصحاب غير صالح له ، بخلاف القسم الثاني فإنّ في نحوه لا مانع من طرف العامّ من العمل بالاستصحاب ، إذ لو فرض في موقعه دليل آخر على حكم الفرد المخرج في الزمان الثاني لم يلزم تخصيص آخر زائد على التخصيص الأوّل ، ففي مثل « أكرم العلماء دائما » لو اخرج زيد يوم الجمعة

ص: 431

بالدليل الغير المتناول لا جماله لحال زيد يوم السبت وأجرينا حكم المخصّص فيه يوم السبت وما بعده أيضا لم يلزم تخصيص آخر.

والسرّ في ذلك : أنّ الدوام الّذي هو حالة في وجوب اكرام زيد انقطع بالتخصيص الأوّل ، النافي يوم الجمعة للوجوب عن اكرامه طال زمان عدم وجوب اكرامه أو قصر ، فهو تخصيص واحد على كلّ حال ، حتّى أنّه لو دلّ الدليل الأوّل أو غيره على عدم وجوبه إلى الأبد لم يزد على التخصيص المذكور شيئا ، لوضوح أنّ الدوام لكونه حالة في الوجوب تابع ، فإذا انتفى المتبوع انتفى التابع طال زمان انتفاء المتبوع أو قصر.

وقضيّة ذلك أن يكون كلّ من وجوب اكرام زيد وعدم وجوبه فيما بعد الزمان الأوّل محتاجا إلى دليل ، فإذا قضى الاستصحاب بعدم وجوبه لم يكن مانع من العمل به ، كما أنّه لو قضى أصل البراءة به مع قطع النظر عن الاستصحاب لم يكن مانع من العمل به أيضا ، والخيار الثابت في زمان ظهور الغبن أو العيب أو غيرهما بالدليل المجمل الغير المتناول لما بعد زمان الفور كالإجماع ونحوه المنافي لعموم اللزوم ووجوب الوفاء بالعقد بحسب الأزمان من هذا القبيل ، فوجوب الوفاء به الّذي معناه سقوط الخيار بعد زمان الفور يحتاج إلى دليل ولا يكفي فيه عموم ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) ، كما أنّ بقاء الخيار فيه يحتاج إلى دليل والاستصحاب كاف فيه.

فما ذكره المانعون من التمسّك به من أنّ عموم الوفاء بالعقود من حيث الأفراد يستتبع عموم الأزمان وارد على خلاف التحقيق ، وكأنّهم لا حظوا ما قبل التخصيص وإلاّ فبعد التخصيص انقطع كلّ من العمومين بالنسبة إلى هذا الفرد ، وحيث إنّ عموم الأزمان الّذي هو عبارة عن دوام وجوب الوفاء بالعقد في بقائه وارتفاعه تابع لوجوب الوفاء ، ففي ثاني زمان التخصيص لا يعقل دوام مع عدم ثبوت الوجوب.

وبالجملة عموم الأزمان الّذي يعبّر عنه بالدوام المستفاد من إطلاق الأمر من الأحوال العارضة للحكم وليس من مشخّصات الموضوع ، كما أنّ جهات القضيّة الّتي منها الدوام في مصطلح أهل المنطق من الأحوال العارضة للحكم لا من مشخّصات موضوع القضيّة ولا من قيود محمولها.

ولا ريب أنّ العارض تابع لمعروضه فيثبت حيث ثبت وينتفي حيث انتفى ، فما لم

ص: 432


1- المائدة : 1.

يحرز الحكم لم يحرز الحالة العارضة له ، فلا يمكن الاستدلال على ثبوت الحكم بوجود الحالة العارضة ، لا لأنّها موجودة ولا يمكن أن يستدلّ بها عليه بل لا وجود لها مع عدم وجوده ، والشكّ في وجوده يستلزم الشكّ في وجودها ، فالاستدلال بها حينئذ عليه يرجع إلى الاستدلال بمشكوك على مشكوك وهذا كما ترى ، فإذا خرج فرد من العامّ في زمان بمخصّص ارتفع عنه حكم العامّ فانقطع بسببه دوامه بالنسبة إلى هذا الفرد ، فإذا شكّ في حكمه في ثاني زمان التخصيص لإجمال في المخصّص أو قصور في دلالته فلم يبق بالنسبة إليه بالخصوص في العامّ دلالة على الدوام ليستدلّ به على ملزومه الّذي هو الحكم ، فلا مانع من جريان الاستصحاب حينئذ والتمسّك به.

ومن أمثلته العصير العنبي قبل الغليان الّذي دلّ الدليل العامّ ك- ( أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ) (1) و ( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) (2) على حلّيته وطهارته على وجه الدوام ، المستفاد من إطلاق « احلّ » ثمّ ورد عليهما تخصيص من جهة ما دلّ على حرمته ونجاسة بالغليان ، وإذا ذهب ثلثاه بغير النار صار ذلك سببا للشكّ في بقاء الحرمة والنجاسة وزوالهما ، فيحكم ببقائهما استصحابا لحكم المخصّص ، ولا يحكم عليه بمقتضى العامّ من الحلّية والطهارة لانقطاع عمومه الأزماني تبعا للتخصيص الرافع لحكمه.

والعجب من سيّد الأفاضل في الرياض - على ما حكاه عنه الفاضل النراقي ونقله بعض مشايخنا (3) ملخّصا - حيث إنّه بعد التمسّك بالاستصحاب في موضع ، ذكر : « أنّ الاستصحاب المخالف للأصل دليل شرعي مخصّص للعمومات » ولا ينافيه عموم أدلّة حجّيته من أخبار الباب الدالّة على عدم جواز نقض اليقين بغير اليقين ، إذ ليست العبرة في عموم الدليل وخصوصه بدليل الدليل ، وإلاّ لم يتحقّق لنا في الأدلّة دليل خاصّ لانتهاء كلّ دليل إلى أدلّة عامّة ، بل العبرة فيهما بنفس الدليل ، ولا ريب أنّ الاستصحاب الجاري في مورد مخصوص دليل خاصّ لا يتعدّاه إلى غيره فيقدّم على العامّ كما يقدّم على غيره من الأدلّة. ولذا ترى أنّ الفقهاء يستدلّون على الشغل والنجاسة والتحريم بالاستصحاب في مقابلة عمومات البراءة الأصليّة وطهارة الأشياء وحلّيتها ، كقوله : « الناس في سعة ما لم يعلموا » و « كلّ شيء طاهر حتّى يعلم أنّه قذر » و « كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه » ومن ذلك استنادهم إلى استصحاب النجاسة والتحريم في صورة الشكّ في

ص: 433


1- المائدة : 5.
2- البقرة : 29.
3- فرائد الاصول 3 : 276 - 277.

ذهاب ثلثي العصير وفي كون التحديد تحقيقيّا أو تقريبيّا ، وفي صيرورته قبل ذهاب الثلثين دبسا وفي ذهاب ثلثيه بالشمس إلى غير ذلك » انتهى (1).

وفيه : أنّ المورد إن كان بحيث يجري فيه عموم الدليل فلا يعقل معه جريان الاستصحاب ، لما اخذ في موضوعه من عدم ذلك العموم باعتبار كونه دليلا ، وإن كان بحيث لا يجري فيه عموم الدليل فلا يعقل تخصيصه بما يقتضي فيه خلاف مقتضاه ، سواء كان هو الاستصحاب أو غيره.

وأمّا الاستشهاد لما زعمه من نهوض الاستصحاب مخصّصا للعامّ بالاستصحاب المذكورة.

ففيه : أنّها ونظائرها لا تعارض العمومات المثبتة للاصول الثلاثة من أصالة البراءة وأصالة الطهارة في الأشياء وأصالة الحلّيّة فيها ليكون العمل بها تخصيصا للعمومات ، بل هي إمّا واردة على الاصول المذكورة - بناء على أنّه قد اخذ في موضوعات هذه الاصول عدم العلم بشغل الذمّة وعدم العلم بالنجاسة وعدم العلم بالحرمة ، والعلم المأخوذ عدمه فيها أعمّ من العلم الحقيقي والعلم الشرعي ، واستصحاب شغل الذمّة فيما سبقه اليقين به واستصحاب النجاسة فيما سبقه اليقين بها واستصحاب الحرمة فيما سبقه اليقين بها علم شرعي - أو أدلّة حجّيتها حاكمة على العمومات المثبتة لهذه الاصول ، بناء على أنّ العمومات تقضي بأنّ ما لم يعلم شغل الذمّة به أو نجاسته أو حرمته يحكم ببراءة الذمّة عنه أو طهارته أو حلّيته. وقوله عليه السلام : « لا ينقض اليقين بالشكّ (2) » متعرّض بمدلوله لبيان كمّية موضوعات هذه العمومات ، وناطق بأنّ ما لم يعلم شغل الذمّة به أو نجاسته أو حرمته إنّما يحكم بالبراءة فيه أو طهارته أو حلّيته فيما لم يسبق اليقين بالشغل فيه أو بنجاسته أو بحرمته ، وأمّا مع سبق اليقين بأحدهما فيحكم فيها بشغل الذمّة وبالنجاسة وبالحرمة ، وعلى التقديرين لا تعارض ليكون علاجه بالتخصيص لتحكيم العموم على المعارض.

وبما بيّنّاه ظهر فساد ما ذكره بعض الأعلام في مسألة تخصيص الكتاب بخبر الواحد في تضاعيف الاستدلال على جوازه من قوله : « بل سدّ باب تخصيص الكتاب بخبر الواحد يوجب منع العمل بخبر الواحد ، إذ قلّما يوجد خبر لم يكن معارضا لظاهر من عمومات الكتاب ، فلا أقلّ من مخالفته لأصل البراءة الثابتة بنصّ الكتاب مثل ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما

ص: 434


1- راجع فرائد الاصول 3 : 276 - 277.
2- الوسائل 1 : 174 - 175 الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، ح 1.

آتاها ) (1) ونحو ذلك (2) » إذ لا معارضة لأخبار الآحاد المثبتة للتكاليف لعمومات أصل البراءة ، إمّا لورودها عليه أو لحكومة أدلّة حجّيتها على تلك العمومات ، فليتدبّر.

المطلب الرابع عشر : في أصالة عدم النسخ

المطلب الرابع عشر

في أصالة عدم النسخ المعمول بها عند العلماء المدّعى عليها الإجماع في كلام بعض الأخباريّين ، هل هي راجعة إلى الاستصحاب كما توهّم ، أو هي من الاصول اللفظيّة بملاحظة عموم دليل الحكم بحسب الأزمان ، كأصالة عدم التخصيص بالقياس إلى العموم الأفرادي؟

ولا بدّ لتحقيق ذلك من تحقيق الحال في مسألة اخرى وهي أنّه إذا ثبت حكم في ابتداء زمان البعثة وشكّ في ثبوته في الأزمنة المتأخّرة إلى زماننا ، فهل يجب متابعته علينا أو لا؟وعلى الأوّل فمدركه هل هو الاستصحاب أو الأصل اللفظي أو قاعدة اخرى ، والحقّ في الأوّل وجوب المتابعة ، وفي الثاني اختلاف الموارد والفروض في الوجوه الثلاث المذكورة.

وتوضيحه : أنّ الحكم الثابت في زمان البعثة قد يحتمل اختصاصه بذلك الزمان لاحتمال مدخليّة خصوصيّة فيه منتفية في غيره من دون خصوصيّة في المكلّفين الموجودين ثمّة ، حتّى لو كنّا نحن من الموجودين ثمّة لشملنا الحكم ، فيكون منشأ الشكّ احتمال مدخليّة خصوصيّة الزمان في الحكم ، وقد يحتمل اختصاصه بالمكلّفين الموجودين ثمّة لخصوصيّة فيهم منتفية فينا من دون مدخليّة لخصوص الزمان ، فيكون منشأ الشكّ احتمال مدخليّة خصوصيّة في المكلّف ، وقد لا يحتمل شيئا من الاختصاصين لما في دليله من عموم أفرادي وعموم أزماني من جهة إطلاق الدليل ، ولكن كان منشأ الشكّ احتمال طروّ رافع وهو النسخ.

ويجب علينا في الكلّ متابعته إلاّ أنّه في الصورة الاولى للاستصحاب ، وفي الثانية لقاعدة الاشتراك في التكليف المستفادة من النصّ والإجماع والضرورة ، ولا يجري فيها الاستصحاب لعدم كون بقاء موضوع المستصحب محرزا في زمان [ الشكّ ] باعتبار الشكّ في موضوعيّة الباقي.

وعلى هذا ينطبق ما ذكره بعض الأعلام (3) من أنّ الحكم الثابت في حقّ جماعة

ص: 435


1- الطلاق : 7.
2- القوانين 1 : 310.
3- القوانين 1 : 495 وانظر الفصول : 315.

لا يمكن اثباته في حقّ آخرين لتغاير الموضوع ، فإنّ ما ثبت في حقّهم مثله لا نفسه ، ولذا يتمسّك في تسرية الأحكام الثابتة للحاضرين إلى الغائبين أو المعدومين بالإجماع والأخبار الدالّة على الشركة لا بالاستصحاب.

وفي الثالثة للأصل اللفظي الّذي يرجع إليه أصالة عدم النسخ ، فتسمية ذلك بالاستصحاب كما في كلام الأخباريّين سهو.

هذا كلّه بالنسبة إلى هذه الشريعة. وأمّا لو علم بنصّ الكتاب أو بالسنّة المتواترة ثبوت حكم في شرع من الشرائع السالفة مثل قوله تعالى في شأن يحيى : انّه كان ( سَيِّداً وَحَصُوراً ) (1) وهو الّذي يحبس نفسه عن النساء ، أو المبالغ في حصر النفس عن الشهوات والملاهي ، فهل يثبت هذا الحكم في حقّنا أيضا أو لا؟ فيه قولان حكاهما في تمهيد القواعد (2) ومستند المثبتين أنّ عدم علم الناسخ كاف في استصحاب بقائه فهو حجّة مطّردة.

وردّه بعض الأعلام : « بأنّه مبنيّ على القول بكون حسن الأشياء ذاتيّا وهو ممنوع ومناف للقول بالنسخ ، بل التحقيق أنّه بالوجوه والاعتبارات وإن كنّا لا نمنع الذاتيّة في بعض الأشياء ، لكن إعمال الاستصحاب لا يمكن إلاّ مع قابليّة المحلّ » انتهى (3).

ويدفعه : أنّ الاستصحاب يجري حيث يجوز النسخ ، ولا يجوز النسخ إلاّ فيما كان قابلا للارتفاع ، وهو الّذي يجري فيه الاستصحاب أيضا سواء كان تابعا للحسن الذاتي أو بالوجوه والاعتبارات.

إلاّ أن يقال : إنّ مورد النسخ ما يكون حسنه بالوجوه والاعتبارات وإن كان الوجه والاعتبار من جهة خصوصيّة زمان الحكم ، وهذا على تقدير احتمال مدخليّة خصوصيّة في الزمان كما في محلّ البحث لا يجري فيه الاستصحاب ، لأنّ من شروطه قابليّة المحلّ للبقاء بأن لا يكون مردّدا بين مقدارين من الزمان أقلّ وأكثر ، إذ على هذا التقدير قابليّته للبقاء بعد انقضاء أقلّ الزمانين غير محرز فلا يجري معه الاستصحاب.

ويدفعه : أنّ مرجع ذلك إلى منع حجّيّة الاستصحاب مع الشكّ في المقتضي مطلقا أو في بعض صوره ، ولقد زيّفناه سابقا بإثبات حجّيّته مطلقا.

ولو أورد هنا أيضا بمثل ما تقدّم من أنّ الحكم الثابت في حقّ جماعة لا يمكن إثباته في حقّ آخرين بالاستصحاب لتغاير الموضوعين.

ص: 436


1- آل عمران : 32.
2- تمهيد القواعد 239 - 241.
3- القوانين 1 : 495.

لدفعه : فرض عدم مدخليّة خصوص مكلّف دون مكلّف في الحكم على وجه يعطي الموضوعيّة لجماعة دون آخرين.

نعم يمكن المناقشة في الاستصحاب المذكور بوجوه اخر :

الأوّل : أنّ استصحاب الحكم الثابت في شريعة عيسى أو موسى مثلا لا يفيد ثبوته في هذه الشريعة على وجه يجب علينا متابعته ، لجواز أن يكون لخصوص المبلّغ مدخليّة في الحكم الّذي يجب متابعته.

فنقول : إنّ الحكم لا بدّ له من مبلّغ وهو النبيّ ، ونحن نطلب أحكاما بلّغها نبيّنا صلى اللّه عليه وآله ، والحكم المذكور ليس ممّا بلّغه نبيّنا صلى اللّه عليه وآله فليس علينا متابعته ، بل لا يجوز ذلك.

ويمكن دفعه : بمنع مدخليّة خصوص المبلّغ في الحكم على وجه يكون جزء لموضوعه ، بل إنّما يعتبر المبلّغ في الأحكام الّتي يجب متابعتها على وجه الطريقيّة ، فالمدار في الإطاعة والمعصية ووجوب المتابعة على انكشاف الأحكام الإلهيّة بأيّ طريق كان ، وإن كان الطريق الغالب فيه بتبليغ النبيّ ، فالّذي يجب علينا بالنسبة إلى النبيّ إنّما هو الإيمان بنبوّته وبما أتى به من اللّه سبحانه من الشرائع والأحكام ، وهذا هو معنى وجوب التديّن بدين سيّد المرسلين والالتزام به ، وهذا لا ينافي وجوب متابعة حكم إلهي انكشف من غير جهة تبليغه ، كما لو رأى في المنام حكما على وجه قطع بكونه حكما إلهيّا.

ولا ينافيه الحكاية الواقعة فيما بين أفلاطون الحكيم وعيسى النبيّ حيث إنّه دعاه إلى الإيمان به فلمّا نظر أفلاطون في أحكام شرعه وجدها بمقتضى قواعد حكمته حقّا مطابقا للواقع فصدّق بكونه نبيّا مبعوثا من اللّه سبحانه ، وكون ما أتى به من الشرع من اللّه ، إلاّ أنّه قال له : « أنت نبيّ في حقّ غيري لا في حقّي » اعتذارا بعدم احتياجه في معرفة الأحكام الإلهيّة ، وقد حكم بكفره وخلوده في النار ، لأنّ كفره وخلوده في النار - بعد تسليم صحّة الحكاية - إنّما هو لعدم إيمانه بنبوّة نبيّ زمانه أو عدم تديّنه بما آمن ، حيث قال له : « أنت نبيّ في حقّ غيري لا في حقّي » لا لاتّباعه أحكاما من غير جهة تبليغ نبيّ زمانه.

مع أنّ أخذ الحكم المذكور بطريق [ الاستصحاب ] لا ينافي كون المستصحب ممّا بلّغه نبيّنا أيضا.

غاية الأمر أنّه لم يبلّغ إلينا كسائر الأحكام المجهولة الّتي جهالتها لنا لعدم بلوغ بيانها الينا ، مع أنّ وصوله إلينا بطريق الاستصحاب أيضا ينتهي بالأخرة إلى التبليغ ، لأنّ

ص: 437

الاستصحاب أيضا ممّا بلّغه النبيّ.

الثاني : ما اشتهر من أنّ هذه الشريعة ناسخة لغيرها من الشرائع ، فلا يجوز الحكم ببقاء أحكام الشريعة السابقة ليترتّب عليه وجوب متابعته.

ويمكن دفعه : بأنّه إن اريد كونها ناسخة لكلّ حكم إلهي من أحكام الشريعة السابقة فهو ممنوع ، وإن اريد بكونها ناسخة لبعضها بل أكثرها فهو لا ينافي بقاء بعضها ولو انكشف بقاؤه بطريق الاستصحاب ، فالمتيقّن من المنسوخ ما علم بالدليل ويبقى غيره على ما كان بحكم الاستصحاب.

نعم يمكن أن يقال : إنّا نعلم قطعا بنسخ كثير من الأحكام السابقة ، والمعلوم تفصيلا من هذه المنسوخات قليل جدّا ، فيعلم وجود منسوخ بين الأحكام المشكوك في نسخها إجمالا ، وهذا العلم الإجمالي مانع من العمل بالاستصحاب في هذه الأحكام ، لكونها من باب الشبهة المحصورة الواجب اجتنابها لوجود العلم الإجمالي.

ولكن يدفعه أوّلا : منع وجود العلم الإجمالي بوجود المنسوخ فيما بين الأحكام المشكوكة ، لأنّها في الكثرة ليست بحيث يستلزم عادة حصول العلم الإجمالي ، بل ليست إلاّ قليلة فلا تستلزمه عادة.

وثانيا : أنّه على فرض وجوده معارض بالعلم الإجمالي بوجود حكم لم ينسخ فيما بين الأحكام المشكوكة ، لأنّ ما لم ينسخ من الأحكام السابقة أيضا غير معلوم تفصيلا ، فبين الشبهات ما يحرم متابعته وما يجب متابعته وهما معلومان بالإجمال.

وقضيّة ذلك عدم وجوب اجتناب الجميع ولا وجوب ارتكاب الجميع ، حذرا عن المخالفة القطعيّة في التقديرين ، فلا مانع من العمل بالاستصحاب في البعض.

وثالثا : أنّ العلم الإجمالي ما لم يلزم مخالفته القطعيّة العمليّة لم يؤثّر في منع ارتكاب أطرافه ، وغاية ما يلزم من العمل بالاستصحاب في جميع الأحكام المشكوكة إنّما هو المخالفة الالتزاميّة ، وهو الالتزام بكون المستصحب في الجميع حكما إلهيّا مع أنّ منه ما يكون في الواقع منسوخا ، وإنّما يلزم المخالفة العمليّة بسبب استلزام العمل ترك الواجب أو فعل الحرام الفعليّين اللذين توجّه الخطاب بهما فعلا إلى المكلّف فيما لو كان المعلوم نسخه بالإجمال ما عدا الوجوب والحرمة من الأحكام الخمس مع كونه منسوخا في هذه الشريعة بأحدهما ، وليس كذلك إذ المعلوم بالإجمال مردّد بين جميع الأحكام الخمس ، كما أنّ الناسخ في

ص: 438

هذه الشريعة على تقدير كون المنسوخ ما عدا الوجوب والحرمة يحتمل كونه ما عداهما أيضا ، بأن نسخت الإباحة بالاستصحاب أو بالعكس أو بالكراهة أو بالعكس والاستصحاب بالكراهة أو بالعكس ، فلا يحصل القطع بالمخالفة العمليّة للعلم الإجمالي أصلا ، فلا مانع من العمل بالاستصحاب في جميع الوقائع المشكوكة من جهة العلم الإجمالي.

ويمكن المناقشة في القول بجواز متابعة حكم الشريعة السابقة تمسّكا بالاستصحاب من جهة اخرى ، وهي أنّ العمل بالاستصحاب في نحو المقام لكونه من الشبهات الحكميّة مشروط بالفحص عن الدليل في أدلّة هذه الشريعة. وبعد الفحص عن دليل هذا الحكم الثابت في الشريعة السابقة المشكوك ثبوته في هذه الشريعة فإمّا أن يوجد عليه دليل أو لا؟

وعلى الأوّل يتعيّن العمل بذلك الدليل وافق مؤدّاه لمقتضي الاستصحاب أو خالفه ، ولا حاجة إلى التمسّك بالاستصحاب حينئذ بل لا معنى له. وعلى الثاني فإمّا أن يكون الحكم المبحوث عنه إباحة بالمعنى الأعمّ من الاستصحاب والكراهة مع احتمال نسخه بالوجوب أو الحرمة ، أو غيرها من الوجوب أو الحرمة؟

فعلى الأوّل يبنى على أصلي البراءة والإباحة لرجوع الشكّ فيه إليه في التكليف من هذه الشريعة والأصل مع عدم العلم الإجمالي هو البراءة وعدم استحقاق العقوبة على المخالفة ، ولا حاجة معه أيضا إلى التمسّك بالاستصحاب. وعلى الثاني فالمرجع فيه أيضا إلى أصل العدم لا إلى استصحاب حكم الشريعة السابقة ، وذلك لما علم بالضرورة والأخبار المتواترة من أنّ نبيّنا صلى اللّه عليه وآله لم يقصّر ولم يهمل في تبليغ شيء من أحكام شريعته ، وما علم من طريقته من عدم حوالة امّته في شيء من الأحكام إلى شريعة اخرى ، وأمّا الوقائع المجهولة أحكامها فليست ممّا لم يبلّغ أحكامها إلى امّته بل بلّغها وبيّنها ، ولكنّها لم تصل إلينا لمانع.

وحينئذ نقول : إنّ الأصل في الحكم التكليفي الوجوبي أو التحريمي الّذي لم يصل بيانه إلينا عدمه ، أي عدم جعل الشارع إيّاه حكما في شريعته ، وعموم الاستصحاب وإن كان ممّا بيّنه النبيّ صلى اللّه عليه وآله أيضا إلاّ أنّ الأصل المذكور مع ما عرفت من الأخبار على تبليغه بجميع أحكام شريعته واستقرار طريقته على عدم إيكال امّته إلى الشرائع السابقة مع الأخبار الدالّة على أنّ كلّ ما حجب علمه عنّا فهو موضوع عنّا ، كاشفا (1) عن نسخ هذا الحكم في

ص: 439


1- كذا في الأصل ، ولعلّ الصواب : كاشف.

هذه الشريعة ومعه لا معنى لاستصحابه.

ويمكن دفعها أيضا : بأنّ استمرار حكم من زمان إلى غيره من الأزمنة المتأخّرة لا يقتضي بالنسبة إلى كلّ زمان جعلا على حدة لينفي احتمال حدوثه بالأصل ، بل يكفي فيه الجعل الأوّل فلا يبقى إلاّ احتمال النسخ ، والأصل والاستصحاب ينفيانه ، هذا.

ولكنّ الإنصاف : أنّ التعويل على استصحاب أحكام الشرع السابق إنّما يصحّ ما لم يظهر شرع لا حق ناسخ للشرع السابق ولو في الجملة. وأمّا بعد ظهوره وانتشاره واستقرار أحكامه فالتعويل على استصحاب أحكام الشرع السابق مشكل ، لأنّ مبنى العمل بالاستصحاب إن كان على طريقة القدماء الّتي مدركها بناء العقلاء فثبوته في محلّ البحث غير معلوم بل المعلوم خلافه لما نرى من استقرار بنائهم على عدم الرجوع إلى الشرع السابق بعد ظهور الشرع اللاحق الناسخ للشرع السابق ، وإن كان على الأخبار الناهية عن نقض اليقين بالشكّ فمفادها وإن كان حكما ظاهريّا مجعولا للشاكّ بعد اليقين ، لكن شمول هذا الحكم الظاهري لما كان المشكوك فيه من أحكام الشرع السابق غير واضح ، لانصراف الأخبار إلى اليقين والشكّ في أحكام هذه الشريعة الّتي أتى بها صادقها صلى اللّه عليه وآله هذا ، ولكنّ المسألة بعد لم يصف ويحتاج إلى تأمّل آخر.

ثمّ إنّ جماعة رتّبوا على إبقاء أحكام الشرع السابق في موضع الشكّ - تبعا لثاني الشهيدين - فروعا مخدوشة ، أوردها شيخنا قدس سره مع ما يخدشها في رسالته الاستصحابيّة (1).

خاتمة : في شروط الاستصحاب

اشارة

خاتمة : قد ظهر من تضاعيف المسألة أنّه يشترط في الاستصحاب أمران : اليقين السابق والشكّ اللاحق ، وهذان يعتبران في جريان الاستصحاب لا في اعتباره ، فما فقد أحدهما خارج عن موضوعه لا عن حكمه بالتخصيص ، ولذا يعبّر عنهما بركني الاستصحاب.

وقد ذكر بعضهم له شروطا آخر : بقاء الموضوع ، وعدم المعارض ، والفحص عن الدليل الاجتهادي. فإن اريد كونها شروطا لاعتباره بدعوى خروج الاستصحاب الجاري عن عموم الأخبار بالمخصّص ، كما خرج الاستصحاب في نحو الشكّ في الثلاث والأربع بل مطلق الشكّ في عدد الركعات المقتضي للبناء فيها على الأقلّ الخارج من العموم بدليل البناء على الأكثر من باب التخصيص ، ففيه : منع واضح لعدم جريانه بدونها.

وإن اريد به كونها شروطا لجريانه ، فهو وإن صحّ إلاّ أنّ مرجعها إلى ما تقدّم من ركني

ص: 440


1- فرائد الاصول 3 : 229 - 232.

الاستصحاب ، لأنّ الضابط في جريان الاستصحاب - على ما بيّناه مرارا - هو الشكّ في بقاء الشيء بعد اليقين بوجوده ، وما لم يكن موضوعه باقيا لم يكن بقاؤه مشكوكا ، بل المشكوك فيه حدوثه لموضوع آخر ولزمه انتفاء اليقين السابق ، ولو لا عدم المعارض أو الفحص عن الدليل الاجتهادي المحتمل وجوده لم يحرز الشكّ ، بحيث لو لا البناء على مقتضى الحالة السابقة لزم نقض اليقين بالشكّ.

نعم يمكن أن يجعل من شروط اعتبار الاستصحاب عدم تعلّق شكّه بعدد ركعات الصلاة مثلا ، فإنّ الاستصحاب حينئذ وإن كان جاريا غير أنّه لا يعمل به ، عملا بما دلّ على وجوب البناء على الأكثر المخصّص لعمومات الأخبار الدالّة عليه ، وإن كان قد يقال عليه : بأنّ ذلك أيضا ليس شرطا آخر وراء الشكّ اللاحق ، لأنّ البناء على الأكثر ليس نقضا لليقين بالشكّ بل هو نقض اليقين باليقين ، بناء على أنّه أعمّ من اليقين الوجداني واليقين التعبّدي ، والقاعدة المستفادة من دليل البناء على الأكثر يقين تعبّدي ، فتأمّل.

وكيف كان فنحن نتكلّم في الامور المذكورة على تقدير كونها شروطا ولو باعتبار رجوعها إلى ركني الاستصحاب ، فلابدّ من التكلّم في مباحث :

المبحث الأوّل : في اشتراط بقاء الموضوع

المبحث الأوّل

في اشتراط الاستصحاب ببقاء موضوع المستصحب.

واعلم أنّ المراد بالموضوع هنا معروض الحكم بسيطا كان أو مركّبا من الأجزاء الخارجيّة ، كالوضوء الّذي هو عبارة عن غسلتين ومسحتين. أو من الأجزاء العقليّة كالماء المتغيّر إذا اخذ بوصف التغيّر معروضا للنجاسة ، والمجتهد الحيّ إذا اخذ بقيد الحياة معروضا لحجّية فتاويه ، فيعتبر بقاء معروض الحكم على الوجه الّذي عرضه الحكم ، على معنى بقائه بجميع ما اعتبر معه من الأجزاء الخارجيّة والأجزاء العقليّة الّتي هي القيود فيما لو كان مقيّدا اخذ بوصف التقييد ، فلو انتفى معروض الحكم بنفسه أو انتفى بعض أجزائه أو أحد قيوده لم يكن الموضوع باقيا ، ومعنى بقائه حينئذ كون الموضوع في القضيّة المشكوكة في الزمان اللاحق بعينه هو الموضوع في القضيّة المتيقّنة في الزمان السابق ، بحيث لو فرض الحكم في القضيّة المشكوكة مخالفا للحكم في القضيّة المتيقّنة في الايجاب والسلب مع وحدة زمانيهما لزم التناقض ك- « زيد حيّ » و « عمرو موجود » و « بكر

ص: 441

عادل » مثلا إذا كان حياة زيد متيقّنة في زمان مشكوكة في آخر ، ووجود عمرو متيقّنا في زمان مشكوكا في آخر ، وعدالة بكر متيقّنة في زمان مشكوكة في آخر ، فيعتبر كون الموضوع في القضيّة المشكوكة هو زيد أو عمرو أو بكر على الوجه الّذي اخذ موضوعا في القضيّة المتيقّنة ، وهو الذات المعرّاة عن وصف المحمول - أي المأخوذة لا بشرط وصف المحمول - سواء كان المحمول هو الحياة أو الوجود أو العدالة وإنّما اعتبر ذلك في موضوع القضيّة إحرازا للمغايرة الذهنيّة فيما بينه وبين المحمول لئلاّ يلزم حمل الشيء على نفسه. وبذلك يندفع ما استشكله بعضهم في كلّية اعتبار بقاء الموضوع في الاستصحاب لانتقاضها باستصحاب وجود الموجودات عند الشكّ في بقائه ، فإنّ بقاء الشيء عبارة عن وجوده الثانوي أعني وجوده المسبوق بالوجود ، فلو كان ذلك معلوما في الزمان الثاني - كما هو المراد من احراز بقاء الموضوع في الزمان الثاني الّذي هو زمان الشكّ - فلا حاجة في الحكم ببقاء وجود الموجود في الزمان الثاني إلى وسط ، فما معنى استصحابه؟ وكذا الكلام في استصحاب الحياة.

ووجه الاندفاع : أنّ بقاء الموضوع وإن كان عبارة عن وجوده الثانوي إلاّ أنّه في كلّ شيء بحسبه من الوجود الثانوي ذهنا أو خارجا على النحو الّذي اخذ في القضيّة المتيقّنة ، فالموضوع في نحو « زيد موجود » و « عمرو حيّ » الذات المعرّاة عن وصفى الوجود والحياة وهي الذات المتقرّرة في الذهن ، وفي نحو « زيد عادل أو فاسق » الذات الموجودة في الخارج المعرّاة عن وصفي العدالة والفسق ، فبقاؤه في نحو الأوّلين لا يقتضي وجوده الثانوي الخارجي ليلزم من احرازه والعلم به رفع الحاجة عن الاستصحاب ، بل معناه كون المتقرّر في الذهن في زمان الشكّ هو المتقرّر في زمان اليقين.

ومرجع اشتراط بقاء الموضوع إلى وحدة موضوعي القضيّة المشكوكة والقضيّة المتيقّنة ومرجع ذلك إلى وحدة القضيّة في زمان اليقين والشكّ ، وبذلك ظهر أنّ تعدّد القضيّتين المتيقّنة والمشكوكة إنّما هو باعتبار تعدّد زماني اليقين والشكّ ، وإلاّ فأصل القضيّة واحدة في الزمانين ، ولا تصير واحدة إلاّ بوحدة الموضوع في الزمانين ، ويلزم من ذلك وحدة المحمول أيضا ، فرجع الكلام إلى أنّه يعتبر في جريان الاستصحاب وحدة الموضوع والمحمول في قضيّة يستصحب حكمها من زمان إلى آخر ، ولو انتفى وحدة الموضوع فلا استصحاب ، كما أنّه لو انتفى وحدة المحمول أيضا فلا استصحاب.

ص: 442

ويظهر أثر اعتبار الوحدتين في إثبات وجوب الجزء بعد تعذّر الكلّ بالاستصحاب ، كغسل الوجه واليدين مع مسح الرأس بعد تعذّر مسح الرجلين مثلا فإنّه غير صحيح جزما كما تقدّم سابقا ، ولكن يمكن استناد عدم الصحّة تارة إلى انتفاء وحدة موضوعي القضيّتين المتيقّنة والمشكوكة ، واخرى إلى انتفاء وحدة محموليهما ، لوضوح تغائر قولنا : « غسل الوجه واليدين من حيث كونه في ضمن الكلّ - وهو الوضوء - واجب » وقولنا : « غسل الوجه واليدين من حيث ذاته واجب » كتغائر قولنا : « غسل الوجه واليدين واجب » على معنى الوجوب الغيري المقدّمي وقولنا : « غسل الوجه واليدين واجب » على معنى الوجوب النفسي الذاتي.

وبالتأمّل في ذلك ظهر دليل اشتراط بقاء الموضوع الّذي مرجعه إلى وحدة موضوعي القضيّتين ، وهو لزوم انتفاء الشكّ اللاحق في تقدير وانتفاء اليقين السابق في آخر على تقدير عدم بقاء الموضوع ، الّذي مرجعه إلى تعدّد القضيّتين موضوعا أو محمولا ، وهما من أركان الاستصحاب فيستحيل بدون أحدهما.

هذا مضافا إلى أنّ الظاهر المتبادر من قولنا : « لا ينقض اليقين بالشكّ » وقوله عليه السلام : « من كان على يقين فشكّ ، فليمض على يقينه (1) » وحدة متعلّقي اليقين والشكّ ، ولا يعقل ذلك إلاّ إذا تعلّق اليقين بتحقّق الشيء - على معنى وجوده المطلق - وتعلّق الشكّ ببقائه ، ولا يتأتّي ذلك إلاّ مع وحدة ذلك الشيء في زماني اليقين والشكّ.

فرجع الكلام إلى دعوى أنّ بقاء الموضوع هو المتبادر من أخبار الاستصحاب ولو بواسطة الدلالة الالتزاميّة البيّنة بالمعنى الأعمّ ، أو العقليّة التبعيّة من باب الإشارة.

ويمكن الاستدلال عليه أيضا بالبرهان العقلي المبنيّ على مقدّمتين عقليّتين ، من امتناع وجود العرض لا في الموضوع ، وامتناع انتقال العرض ، ومقدّمة ثالثة سمعيّة مستفادة من الأخبار أو عرفيّة مستندة إلى بناء العقلاء في مجاري الاستصحاب ، وهو اعتبار كون الشكّ في بقاء الشيء بعد اليقين بوجوده المطلق.

فنقول : أنّ الحكم الّذي يقصد اثبات وجوده بالاستصحاب إمّا أن يقصد اثباته لا في الموضوع أو يقصد اثباته في الموضوع ، ولا سبيل إلى الأوّل لاستحالة وجود العرض لا في الموضوع ، وعلى الثاني فإمّا أن يقصد اثباته في موضوع آخر غير الموضوع الأوّل أو اثباته

ص: 443


1- الوسائل 1 : 175 الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، ح 6.

في الموضوع الأوّل ، ولا سبيل إلى الأوّل لأنّ الحكم الّذي اريد اثباته لغير الموضوع الأوّل إمّا أن يكون هو الحكم الأوّل أو مثله ، والأوّل باطل لاستحالة انتقال العرض ، وكذلك الثاني لأنّ مثل الحكم الأوّل غيره فلم يتيقّن وجوده في الزمان السابق ، فلم يكن الشكّ المفروض شكّا في بقاء الشيء بعد اليقين بوجوده المطلق ، بل هو شكّ في الحدوث فلا يلزم من عدم اثباته في الزمان الثاني نقض اليقين بالشكّ ، فتعيّن الثاني أعني القصد إلى اثبات الحكم في الموضوع الأوّل ، ويعتبر في احراز بقائه العلم ببقائه ولا يكفي فيه مجرّد الاحتمال.

وحينئذ فالناظر في الاستصحاب إن قطع ببقاء موضوع المستصحب فلا إشكال في صحّة الاستصحاب ، كما أنّه إن قطع عدم بقائه لا إشكال في عدم صحّته ، وإن شكّ في بقائه وعدم بقائه فهو محلّ إشكال ، وقضيّة شرطيّة بقاء الموضوع والعلم به عدم صحّته أيضا ، لأنّ ضابط بقاء الموضوع - على ما قرّرناه - إنّما هو وحدة القضيّة المتيقّنة والقضيّة المشكوكة ، على معنى كون القضيّة واحدة باعتبار وحدة موضوعها وكان حكمها متيقّنا في زمان ومشكوكا في آخر ، ومعنى استصحابه حينئذ عدم رفع اليد عن حكم تلك القضيّة بمجرّد طروّ الشكّ في بقائه ، ولم يعلم فيما احتمل ارتفاع موضوعه كون القضيّة المشكوكة هي المتيقّنة بعينها ، لئلاّ يرفع اليد عن حكمها بمجرّد طروّ الشكّ له ، مع أنّ الشكّ المفروض فيها ليس شكّا في بقاء الحكم فقط بل في الأمر الدائر بين البقاء والحدوث ، ومثل ذلك ممّا لم يشمله أدلّة الاستصحاب.

وأمّا ما يقال - : من أنّ بقاء الموضوع أعمّ من البقاء الواقعي والبقاء الظاهري ، كما أنّ العلم به أعمّ من العلم الوجداني المستند إلى الحسّ ونحوه والعلم الشرعي ، والاستصحاب علم شرعي وما يحرز به بقاء ظاهري.

وبعبارة اخرى : أنّ بقاء الموضوع قد يحرز بحكم الوجدان ، وقد يحرز بحكم الاستصحاب ، ففيما احتمل بقاؤه جاز احرازه في الزمان اللاحق بالاستصحاب ثمّ يستصحب الحكم المبحوث عنه ، ومرجعه إلى إعمال استصحابين أحدهما : استصحاب بقاء الموضوع الّذي مرجعه إلى احراز كون القضيّة المشكوكة بعينها هي المتيقّنة بالاستصحاب وثانيهما : استصحاب نفس الحكم المشكوك في بقائه وبقاء موضوعه - فكلام ظاهريّ لا ينبغي الاصغاء إليه عند التحقيق وفي النظر الدقيق ، لأنّ احراز بقاء الموضوع بالمستصحب الّذي هو عبارة عن استصحاب الموضوع لا يجدي نفعا في صحّة استصحاب

ص: 444

نفس الحكم المشروط فيه العلم ببقاء موضوعه ، الّتي ضابطها كون القضيّة من حيث كونها مشكوكة عينها من حيث كانت متيقّنة إن احتيج إليه ، مع أنّه في بعض الصور غير ممكن وهو فيما أمكن يغني عن استصحاب الحكم.

وتوضيحه : أنّ الشكّ في الحكم قد يكون مسبّبا عن الشكّ في الموضوع وقد يكون مسبّبا عن أمر آخر ، والشكّ في الموضوع على التقديرين قد يكون شكّا في بقاء الموضوع وقد يكون شكّا في موضوعيّة الباقي.

والفرق بينهما أنّ الموضوع قد يكون أمرا معيّنا يشكّ في بقائه ولو باعتبار الشكّ في زوال قيد من قيوده ، وقد يكون أمرا مجملا مردّدا بين شيئين أحدهما معلوم الارتفاع والآخر معلوم البقاء فيشكّ في موضوعيّة الباقي ، ثمّ الشكّ في البقاء قد يكون ناشئا عن شبهة في الموضوع الصرف المعبّر عنه بالأمر الخارجي ، وقد يكون ناشئا عن الشكّ في الموضوع المستنبط ، فهذه ستّة أقسام :

القسم الأوّل والثاني : ما شكّ في بقاء الموضوع وكان ناشئا عن الشبهة في أمر خارجي ، سواء كان الشكّ في بقاء الحكم مسبّبا عن الشكّ في الموضوع - كنجاسة الماء المتغيّر إذا شكّ في زوال تغيّره فيما فرض دخول الوصف في الموضوع ، وطهارة الماء الكرّ إذا شكّ عند ملاقاته النجاسة في زوال كرّيّته ، ومطهرّيّة الماء المطلق إذا شكّ عند اختلاطه بالمضاف في زوال إطلاقه ، ونجاسة الكلب في المملحة أو النار إذا شكّ في استحالته ملحا أو رمادا لظلمة ونحوها ممّا يمنع من الاعتبار ، وجواز التيمّم بالأرض والسجود عليها إذا شكّ بالطبخ في استحالتها - أو عن أمر آخر كعدالة المجتهد الغائب إذا شكّ في مسألة جواز تقليده ابتداء في بقاء عدالته مقرونا بالشكّ في حياته ، وكذلك عدالة زيد الغائب الّذي اريد الوصيّة إليه إذا شكّ في بقاء عدالته وحياته معا ، وحرمة زوجته على الغير إذا شكّ في بقائها عند احتمال طلاقه إيّاها مع الشكّ في حياته أيضا.

ففي هذين القسمين لا ينبغي التأمّل في جريان استصحاب الموضوع على نحو ما مرّ في بحث الاستصحاب في الامور الخارجيّة ، إلاّ أنّه مع كونه في القسم الأوّل مغنيا عن استصحاب نفس الحكم - لأنّ استصحاب الموضوع على ما بيّنّاه في بحث الاصول المثبتة لا معنى له إلاّ ترتيب الآثار الشرعيّة المعلّقة على ذلك الموضوع ، الّتي من جملتها الحكم المشكوك في بقائه - لا يجدي نفعا في صحّة استصحاب نفس الحكم في القضيّة الّتي

ص: 445

محمولها ذلك ، لما عرفت من أنّ المنساق من الأخبار الاستصحابيّة وحدة القضيّة في زماني اليقين والشكّ ، على معنى كون مورده قضيّة واحدة كان حكمها متيقّنا في زمان ومشكوكا في زمان آخر ، حتّى لا يرفع اليد عن حكمها لمجرّد طروّ الشكّ له وهو الاستصحاب ، ويحتمل في القضيّة المشكوكة هنا بالنظر إلى احتمال ارتفاع موضوع الحكم كونها غير القضيّة المتيقّنة فلم يحرز كونها في زماني اليقين والشكّ قضيّة واحدة حتّى لا يرفع اليد عن حكمها لمجرّد طروّ الشكّ له كما يظهر بأدنى تأمّل.

فالفرق بين استصحاب الموضوع واستصحاب الحكم هنا المقتضي لجريان الاستصحاب في الأوّل وعدم جريانه في الثاني معلوميّة كون القضيّة المشكوكة في الأوّل بعينها هي القضيّة المتيقّنة وعدم معلوميّة ذلك في الثاني ، والكلام إنّما هو في إحراز شرط الثاني وصحّة الأوّل لا تكفي فيه ، مع ما عرفت من أنّ الأوّل يغني عن الثاني في القسم الأوّل ولا حاجة معه إلى إعمال الاستصحاب في الحكم ، بل قد يقال : إنّ استصحاب الموضوع في القسم الثاني أيضا يغني عن استصحاب الحكم وإن لم يكن الشكّ فيه مسبّبا عن الشكّ في الموضوع ، لأنّ استصحاب الموضوع عبارة عن ترتيب الأحكام الشرعيّة المعلّقة عليه ، سواء كانت واقعيّة ثابتة بالأدلّة الاجتهاديّة أو ظاهريّة ثابتة بالأدلّة الفقاهيّة وهي الاصول. وكما أنّه إذا فرضنا بقاء زيد بحكم الوجدان من جهة الحسّ ونحوه كان حكمه الظاهري في مسألة الشكّ في طلاق زوجته حرمة تزويج تلك الزوجة على الغير بحكم الاستصحاب ، فكذلك إذا فرضنا بقاءه بالاستصحاب كان حكمه الظاهري حرمة تلك الزوجة على الغير من دون حاجة إلى استصحابه.

والحاصل : أنّ الآثار الشرعيّة المترتّبة على الموضوع الخارجي أعمّ من كونها أحكاما واقعيّة أوّليّة ثابتة بالأدلّة الاجتهاديّة أو أحكاما ظاهريّة ثانويّة ثابتة بحكم الاستصحاب ، وحرمة زوجة زيد الغائب مع العلم بحياته والعلم بعدم طلاقه إيّاها حكم واقعي له ومع الشكّ في الطلاق حكم ظاهري له ثابت بالاستصحاب ، فإذا أبقينا الموضوع بالاستصحاب عند الشكّ في بقائه يترتّب عليه جميع أحكامه الشرعيّة واقعيّة كانت أو ظاهريّة ، فمع استصحابه الّذي هو عبارة عن ترتيب تلك الأحكام لا حاجة إلى استصحابها.

وقد يجاب أيضا عن القول بجواز إحراز الموضوع في الزمان اللاحق بالاستصحاب في نحو القسم الثاني : بأنّه لا إشكال حينئذ في استصحاب الموضوع عند الشكّ ، لكن

ص: 446

استصحاب الحكم - كالعدالة مثلا - لا يحتاج إلى ابقاء حياة زيد ، لأنّ موضوع العدالة زيد على تقدير الحياة ، إذ لا شكّ فيها إلاّ على فرض الحياة فالّذي يراد استصحابه هو عدالته على تقدير الحياة.

وبالجملة فهنا استصحابان لكلّ منهما موضوع على حدة حياة زيد وعدالته على تقدير الحياة ، ولا يعتبر في الثاني اثبات الحياة ، ومبنى ذلك على كون القضيّة في قولنا : « زيد عدل » تقديريّة حيث حكم فيها بعدالة زيد على تقدير حياته ، ولا شبهة في صدقها لأنّها حقيقيّة والقضايا الحقيقيّة كلّها فرضيّة ، وصدق القضيّة الفرضيّة لا يتوقّف على ثبوت الموضوع فعلا بل يكفي فيه فرض الثبوت ، ولذا يجامع العلم بثبوته والعلم بعدمه والشكّ في الثبوت والعدم.

القسم الثالث والرابع : ما كان الشكّ في بقاء الموضوع ناشئا عن الشبهة في الموضوع المستنبط ، سواء كان الشكّ في بقاء الحكم مسبّبا عن الشكّ في بقاء الموضوع - كالخزف والآجر إذا شكّ في بقاء جواز السجود عليهما للشكّ في بقاء الأرضيّة فيهما ، الناشئ عن الشبهة في أنّ مسمّى الأرض بحسب الوضع العرفي أو اللغوي هل اعتبر فيه عدم المطبوخيّة أو لا؟ والماء والمختلط بالمضاف إذا شكّ في طهوريّته للشكّ في بقاء المائيّة فيه الناشئ عن الشبهة في أنّه هل اعتبر في وضع الماء عرفا أو لغة عدم اختلاطه بمضاف أو لا؟ وكذلك الممتزج بالتراب بحيث صار كدرا إذا شكّ في بقاء المائيّة فيه ، للشكّ في دخول وصف الصفاء في مسمّى الماء وعدمه - أو كان مسبّبا عن أمر آخر غير الشكّ المذكور كالشكّ في جواز السجود أو المطهرّيّة في الأمثلة المذكورة لاحتمال طروّ النجاسة مع الشكّ في بقاء صدق الأرض أو الماء بعد الطبخ والاختلاط بالمضاف أو التراب.

والظاهر عدم جريان الاستصحاب في هذين القسمين لا في قضيّة الحكم ولا في قضيّة الموضوع وهو قولنا : « هذا أرض أو ماء » مثلا ، لاحتمال تغاير القضيّتين لأنّ موضوع الحكم في قضيّة الحكم إنّما هو الأرض والماء وهو محتمل الارتفاع في القضيّة المشكوكة ، وموضوعه في قضيّة الموضوع إنّما هو المورد حال عدم الطبخ وعدم الاختلاط على معنى كون الأرض والماء محمولا على الغير المطبوخ والغير المختلط وهو غير باق في القضيّة المشكوكة.

ولك أن تقول : إنّ الشكّ في بقاء الموضوع هاهنا يرجع إلى الشكّ في موضوعيّة الباقي بالنظر إلى احتمال مدخليّة القيد العدمي أو الوجودي في مسمّى اللفظ ، ولو سلّم جريانه

ص: 447

بالنسبة إلى الموضوع فهو لا يجدي نفعا في صحّة استصحاب الحكم كما عرفت.

وممّا ذكر ظهر عدم جريان الاستصحاب في القسم الخامس أيضا ، وهو ما كان الشكّ في بقاء الموضوع من جهة الشبهة في دليل الحكم باعتبار عدم تعرّض فيه لبيان أنّه ما علم ارتفاعه أو ما علم بقاؤه ، كالماء المتغيّر إذا زال تغيّره بنفسه والمجتهد بعد مماته ، حيث لم يعلم من دليل نجاسة الأوّل وجواز تقليد الثاني أنّ موضوع الحكم هل هو الماء المتغيّر والمجتهد الحيّ بوصفي التغيّر والحياة على أن يكون الوصف أيضا من جملة الموضوع ، أو الماء والمجتهد لا بشرط الوصف على أن يكون الوصف خارجا عن الموضوع علّة لحدوث الحكم أو ظرفا لوجوده سواء كان الشكّ في بقاء الحكم مسبّبا عن الشكّ في الموضوع أو لا؟ فلا يجوز الاستصحاب بالنسبة إلى شيء من الموضوع والحكم.

أمّا الأوّل : فالاستحالة إثبات موضوعيّة الباقي باستصحاب بقاء ما لا شكّ في عدم بقائه.

وأمّا الثاني : فلفرض عدم كون بقاء الموضوع محرزا.

وإذا تمهّد هذا كلّه ظهر أنّ الاستصحاب لا يصلح محرزا لبقاء موضوع المستصحب فنقول : إنّه في مورد الشكّ في بقاء الموضوع لا بدّ لإحراز بقائه من الرجوع إلى الامور الخارجيّة الّتي منها الأمارات المقرّرة لتشخيص الموضوعات الخارجيّة ، كالصدق العرفي وقول أهل الخبرة وقول العدلين وقول العدل الواحد حيث يعتبر ، أو إلى الأمارات المقرّرة لإثبات الأوضاع والعلامات المميّزة للحقائق عن المجازات ، أو إلى الأدلّة الشرعيّة الواردة لبيان الأحكام ، فإن حصل في إحدى تلك المراتب ما يكشف عن الموضوع وبقائه أو ارتفاعه فلا إشكال حينئذ من حيث جريان الاستصحاب وخلافه ، وإلاّ فيحتمل وجهان :

أحدهما : إلحاق صورة الشكّ في البقاء بصورة القطع بعدم البقاء بقول مطلق في منع الاستصحاب بالوجه الّذي قرّرناه في منع نهوض الاستصحاب لإحراز البقاء ، وملخّصه : أنّ الشكّ في الشرط يستلزم الشكّ في المشروط ، ومرجعه إلى الشكّ في شمول قوله : « لا ينقض اليقين بالشكّ » لما يشكّ في بقاء موضوعه إن لم ندّع ظهور عدم شموله.

وثانيهما : التفصيل بمنع جريانه تارة وإثباته اخرى ، فالأوّل فيما كان الشكّ في البقاء من جهة زوال وصف عن الموضوع محتمل لمدخليّة وجوده فيه أو عروض وصف له يحتمل لمدخليّة عدمه فيه ، والثاني فيما كان الشكّ فيه من جهة احتمال وجود رافع أو رافعيّة موجود للموضوع ، أو ما اخذ فيه من وصف عنواني ذاتي كإطلاق الماء أو عرضيّ

ص: 448

كتغيّره ، أو من جهة تبدّل زمان حدوث الحكم بزمان آخر فيما يحتمل كونه من مشخّصات الموضوع كزمان الفور في الخيار ، وكلّ ذلك لبناء العقلاء على ما يرشد إليه الاستقرار.

وممّا يكشف عن بقاء الموضوع فيما يرجع لإحرازه إلى الامور الخارجيّة أن يصدق عرفا قضيّة قولنا : « هذا كان كذا سابقا » كما يقال في الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره : « إنّ هذا الماء كان نجسا سابقا » وفي الكرّ المشكوك بقاء كريّته : « أنّ هذا الماء كان كرّا » وفي جزء المركّب عند تعذّر جزئه الآخر : « أنّ هذا كان واجبا سابقا » فصدقها في العرف يكشف عن وحدة القضيّة المشكوكة والمتيقّنة موضوعا ومحمولا ، وهذا هو معنى بقاء الموضوع المحرز بالصدق العرفي ، وإن ظهر بالتدقيق الفلسفي والإغماض عن العرف تغايرهما موضوعا أو محمولا المخلّ ببقاء الموضوع القادح في صحّة الاستصحاب معه ، وهذا هو معنى المسامحة العرفيّة على ما اشتهر من بناء الاستصحاب في كثير من موارده عليها ، ومنه استصحاب نجاسة الكلب بعد موته لصدق قولنا : « هذا كان نجسا في السابق » عرفا ، مع أنّه لو بنينا على الدقّة استحال استصحاب نجاسته ، لأنّ موضوع النجاسة حال الحياة إنّما هو الكلب وهذا جماد لا كلب.

نعم لو لم يصدق هذه القضيّة بحسب العرف أيضا كما في الكلب إذا صار في المملحة ملحا ، والعذرة إذا صارت ترابا أو دودا أو رمادا أو فحما ، فلا يقال : « هذا كان نجسا » كشف عن عدم بقاء الموضوع فلا يصحّ معه الاستصحاب.

وممّا يستعلم منه الموضوع فيما يرجع لإحرازه إلى الأدلّة الشرعيّة كون الوصف أو ما يجري مجراه بحيث اخذ عنوانا في دليل الحكم إذا كان من الأدلّة اللفظيّة كأن يقال : « الماء المتغيّر بالنجاسة نجس » بخلاف ما لو قيل : « الماء إذا تغيّر نجس » فيظهر في الأوّل أنّ موضوع النجاسة هو الماء المتلبّس بالتغيّر فيقدح زواله حينئذ في جريان الاستصحاب ، وفي نحو الثاني يظهر أنّ موضوعها الماء فلا يقدح زواله في جريانه وإن احتمل عند العقل دخله في الموضوع.

وعلى هذه الطريقة مبنى الاستحالة المطهّرة للأعيان النجسة على ما عليه المعظم من أصحابنا الّتي هي عبارة عن تبدّل موضوع النجاسة وهو المستحيل بموضوع آخر وهو المستحال إليه ، كالكلب في المملحة إذا صار ملحا ، والنطفة في الرحم إذا صارت حيوانا ، والعذرة في النار إذا صارت رمادا إلى غير ذلك من أمثلة هذه المسألة ، فلا يحكم بنجاسة

ص: 449

المستحال إليه لزوالها بزوال اسم الكلب والنطفة والعذرة ، وهو العنوان الّذي علّق عليه حكم النجاسة في الخطاب بشهادة فهم العرف من قوله : « الكلب نجس » و « اجتنب عن النطفة » و « اغسل ثوبك عن العذرة » مثلا ، حيث يفهم من العنوان بحسب العرف كون موضوع النجاسة هو الذات المتصفة بالكلبيّة الّتي هي مسمّى لفظ « الكلب » باعتبار وضعه العرفي أو اللغوي وهكذا في النطفة والعذرة ، فإذا زال الوصف الّذي هو جزء الموضوع انتفى موضوع النجاسة ولزم منه زوال النجاسة ، لاستحالة بقاء الحكم بعد انتفاء موضوعه ، فيرجع بالنسبة إلى الباقي وهو المستحال إليه إلى ما يقتضي طهارته من دليل خاصّ ، أو أصل عامّ وهو أصالة الطهارة في الأشياء إن لم يوجد دليل خاصّ ، وعليه مبنى قاعدتهم المشهورة المعبّر عنها ب « أنّ الأحكام تدور مدار الأسماء » ومعناه : أنّها تدور مدار موضوعاتها الّتي هي مسمّيات الألفاظ الموضوعة بازائها ، فإذا تبدّل مسمّى لفظ بمسمّى لفظ آخر تبدّل حكمه أيضا ، سواء كان تبدّل المسمّى باعتبار زوال صورته النوعيّة كما في الكلب والملح ، أو زوال حال من أحواله المأخوذة في الوضع كما في الخمر إذا انقلب خلاّ.

ولا ينتقض ذلك بالحنطة النجسة إذا صارت طحينا ، والطحين عجينا ، والعجين خبزا ، ولا بالعنب النجس إذا صار مويزا ، والمويز عصيرا والعصير دبسا ، بتقريب : أنّ الاسم يتبدّل في كلّ مرتبة بآخر ولا يزول الحكم وهو النجاسة في شيء من المراتب ، لأنّ المراد من الأحكام الدائرة مدار الأسماء الأحكام الأصليّة المعلّقة في الخطاب على عناوينها الخاصّة ، كالكلب والخنزير والنطفة والعذرة وغيرها بالنسبة إلى النجاسة ، وليست الحنطة ولا العنب عنوانا للنجاسة في خطاب ، ولا النجاسة العارضة لهما بالملاقاة حكما أصليّا ورد في الخطاب معلّقا على اسمي الحنطة والعنب.

نعم قد استفيد من الأدّلة كالإجماع والأخبار الجزئيّة الواردة في موارد مخصوصة قاعدة كلّية لموضوع عامّ يكون الحنطة والعنب من جزئيّاتها ، وهي تنجّس كلّ ملاق للنجاسة ، على معنى قبوله النجاسة لعارض الملاقاة ، وهذا المعنى لا يزول بالطحن ولا بالعجن ولا بالخبز ، وإن استلزم ذلك اختلاط أجزاء محلّ الملاقاة بغيرها ، وهذا إن لم يؤكّد بقاء النجاسة على حالها لا يزيلها قطعا ، فليس في نحو المثالين إلاّ تبدّل التسمية ، وهذا ليس من تبدّل العنوان المعلّق عليه الحكم في الخطاب.

وإن شئت قلت : انّ العنوان المعلّق عليه النجاسة فيهما إنّما هو الجسم من حيث

ص: 450

ملاقاته ، وهو غير متبدّل لأنّه عبارة عن القدر الجامع بين الجزئيّات المتمايزة بصورها النوعيّة أو أحوالها العارضة.

ولا ينافيه ما قوّيناه في الفقه (1) من كون الاستحالة مطهّرة للمتنجّسات أيضا ، كالخشب المتنجّس إذا صار رمادا ، خلافا لمن منع ذلك من المتأخّرين تمسّكا بالاستصحاب من حيث إنّ نجاسة المتنجّسات ليست لصورها النوعيّة بل لأنّها أجسام ملاقية للنجاسة ، فالموضوع الّذي مناطه الجسميّة باق على حاله وإن زال عنه الصورة النوعيّة كالخشبيّة ، فيمكن استصحاب نجاسته.

لأنّ معروض النجاسة هو هذا الخشب بعنوانه الشخصي وهو الموضوع لا غير وقد تبدّل بالاستحالة بشخص آخر من ماهيّة اخرى ، وأحد جزئيه وهو الخشبيّة المنطبقة على الصورة النوعيّة غير باق ، فلا يلزم من نجاسته نجاسة الباقي لمجرّد الجسميّة المشتركة بينهما ، فإن لم يكن ذلك ممّا قطع بعدم بقاء الموضوع فلا أقلّ من كونه من المشكوك ، ومرجعه إلى الشكّ في موضوعيّة الباقي ولا يعقل معه الاستصحاب لعدم وحدة قضيّتي المتيقّن والمشكوك ، ولذا لا يصحّ أن يقال - إشارة إلى الشخص الباقي - : « هذا كان نجسا ».

المبحث الثاني : في اشتراط عدم المعارض للاستصحاب

اشارة

المبحث الثاني

في اشتراط عدم معارض للاستصحاب ، ولقد عرفت أنّه أيضا من مقوّمات الاستصحاب ، إذ لو لاه لما كان الاستصحاب جاريا ، فعدّه من الشروط لا وجه له إلاّ مسامحة.

وكيف كان فالبحث من جهة اشتراط عدم المعارض يقع تارة في مقابلة الاستصحاب للأدلّة الاجتهاديّة ، واخرى في مقابلته للأدلّة الفقاهيّة غير الاستصحاب ، والأولى أن يقال : في مقابلته لسائر الاصول غير الاستصحاب سواء كانت من الاصول العمليّة كأصل البراءة وأصالة الاشتغال وأصالة التخيير ، أو من الأمارات أو الاصول المعمولة لتشخيص الموضوعات الخارجيّة ، كاليد وأصالة الصحّة وما أشبههما ، وثالثة في مقابلته لاستصحاب آخر الّتي يعبّر عنها بتعارض الاستصحابين. وقبل الخوض في المقامات الثلاث ينبغي التعرّض لبيان الفرق بين الأدلّة الاجتهاديّة والأدلّة الفقاهيّة.

ص: 451


1- كما في كتابه الكبير في الفقه المسمّى ب « ينابيع الأحكام في معرفة الحلال من الحرام » نسأل اللّه تعالى أن يوفّقنا لإعداد هذا التراث الفقهي الكبير إن شاء اللّه.

فنقول : أنّ الدليل الاجتهادي ما كان بدلالته القطعيّة أو الظنّية ناظرا إلى الواقع ناطقا به كاشفا عنه كشفا علميّا ، والدليل الفقاهي ما يفيد العلم بكون مدلول الدليل الاجتهادي حكما ظاهريّا ، وهو الحكم الفعلي الّذي يجب على المكلّف العالم به التديّن به ، وهو مناط الإطاعة والمعصية وعليه مدار الثواب والعقاب ، ومن ذلك فتوى الفقيه والدليل العلمي القائم بكونها حجّة على المقلّد كالإجماع ، فإنّ الاولى تدلّ المقلّد على الواقع ظنّا والثاني يفيده العلم بكون ذلك المدلول حكمه الفعلي الّذي يجب عليه التديّن به.

وقيل : أصل هذا الاصطلاح من المحقّق البهبهاني قدس سره في حاشيته على المعالم ، وإنّما أخذه من تعريفي الاجتهاد والفقه باستفراغ الوسع في تحصيل الظنّ أو مطلق الاعتقاد بالحكم الشرعي الفرعي ، والعلم بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة ، فالدليل الاجتهادي ما به يصير المكلّف مجتهدا ، والدليل الفقاهي ما به يصير المجتهد فقيها ، فبهذا الاعتبار صحّ نسبة الأوّل إلى الاجتهاد ونسبة الثاني إلى الفقاهة فيكون الأوّل اجتهاديّا والثاني فقاهيّا ، ويتحصّل منهما مقدّمتان قطعيّتان ينتظم بهما القياس المعروف المعبّر عنه في كلّ مسألة اجتهاديّة : « هذا ما أدّى إليه ظنّي ، وكلّ ما ما أدّى إليه ظنّي فهو حكم اللّه في حقّي » والنتيجة الحاصلة منهما هي مرتبة الفقاهة المعرّفة بالعلم بالحكم الشرعي الفرعي ، مرادا منه الحكم الظاهري بمعنى الحكم الفعلي.

وبهذا يندفع الإشكال المعروف على تعريف الفقه بملاحظة أنّ أكثر الأدلّة ظنّية وهي لا تلائم العلم.

ووجه الاندفاع : ما أشاروا إليه من أنّ الظنّ في طريق الحكم لا نفسه وظنّية الطريق لا تنافي قطعيّة الحكم ، مرادا بالحكم المتكرّر الحكم الظاهري الفعلي ، ولقد أوضحناه مشروحا في تعريف الفقه (1).

وربّما يشكل الحال بملاحظة ما ذكرناه من ضابط الدليل الفقاهي فيما شاع بين علمائنا المعاصرين ومقاربيهم من إطلاق الأدلّة الفقاهيّة على الاصول الأربع العمليّة ، فإنّه لا ينطبق على المعنى المذكور كما لا يخفى ، إلاّ أن يحمل على المسامحة والتوسّع في الاستعمال بالنسبة إلى الدليل ، نظرا إلى أنّ كلاّ من الاصول الأربعة من قبيل القاعدة لا من قبيل الدليل ، لأنّها أحكام كلّية مجعولة للجاهل الملتفت إلى جهله من حيث كونه جاهلا.

ص: 452


1- تعليقة على المعالم الاصول 1 : 150.

ووجه التوسّع : أنّها قواعد مستنبطة من الأدلّة ووصفها بالفقاهة باعتبار كونها أحكاما فعليّة في موضوعاتها علمت من أدلّتها المفيدة للعلم.

وقد يقال : إنّ ما نصبه الشارع إن كان غير ناظر إلى الواقع أو كان ناظرا إليه ولكن فرض أنّ الشارع اعتبره لا من هذه الحيثيّة بل من حيث مجرّد احتمال مطابقته للواقع فهو من الاصول ، وإن كان بعضها مقدّما على البعض الآخر ، والظاهر أنّ الاستصحاب والقرعة من هذا القبيل ، والمراد بالاصول المفروض مقابلتها للاستصحاب في المقام الثاني إنّما هو هذا المعنى.

المقام الأوّل : في تعارض الاستصحاب مع الدليل الاجتهادي

وكيف كان ، فالمقام الأوّل : في مقابلة الاستصحاب للدليل الاجتهادي ، والمراد بمقابلته إيّاه أن يقتضي الدليل الاجتهادي عدم بقاء ما اقتضى الاستصحاب بقاءه ، وحيث إنّ الدليل ما كان معمولا في الأحكام والاستصحاب كثيرا مّا يكون في الموضوعات فالأولى أن يراد من الأدلّة في هذا المقام ما يعمّ الأمارات المعمولة في الموضوعات ، ليعمّ البحث في المقام البيّنة المقتضية لنجاسة ثوب يقتضي الاستصحاب طهارته.

وعلى أيّ حال كان فالدليل الاجتهادي إن كان ممّا يفيد العلم فهو مقدّم على الاستصحاب من باب التخصّص الّذي قد يعبّر عنه بالورود ، وهو خروج المورد بقيامه عن موضوع الاستصحاب المأخوذ فيه الشكّ ، إذ مع الدليل العلمي لا شكّ فلا استصحاب في الحقيقة ، وإن كان ممّا يفيد الظنّ فلا إشكال في تقدّمه أيضا على الاستصحاب والظاهر أنّه ممّا لا خلاف فيه ، بل عن الفاضل التوني (1) الإجماع عليه ، ووجهه أنّ الاستصحاب أصل تعليقي اخذ في مورده عدم دليل ولا أمارة على خلاف الحالة السابقة.

والعجب من بعض الأعلام (2) لما يظهر منه من زعم كون الاستصحاب من جملة الأدلّة ، فقد يرجّح عليه الدليل ، وقد يرجّح على الدليل ، وقد لا يرجّح أحدهما على الآخر. وفيه ما فيه.

وأعجب منه استشهاده لما زعمه بما ذكره بعضهم في مال المفقود من أنّه في حكم ماله حتّى يحصل العلم العادي بموته استصحابا لحياته ، مع وجود الروايات المعتبرة المعمول بها عند بعضهم بل عند جمع من المحقّقين الدالّة على وجوب الفحص أربع سنين.

وفيه : أنّ المقابل للاستصحاب بالمعنى المبحوث عنه أمارة قامت بموت المفقود في

ص: 453


1- الوافية : 208.
2- القوانين 2 : 75.

مقابلة الاستصحاب المقتضي لحياته ، لا الأخبار المذكورة الّتي هي على تقدير تماميّتها مخصّصة لعموم أدلّة الاستصحاب من حيث إفادتها وجوب البناء على موت المفقود بعد الفحص أربع سنين ، نظير ما دلّ على البناء على الأكثر في عدد الركعات مع اقتضاء الاستصحاب خلافه.

وكيف كان فلا ينبغي التأمّل في تعيّن العمل بالدليل الاجتهادي الظنّي دون الحالة السابقة ، وهل هو من باب التخصّص وهو خروج المورد من موضوع الاستصحاب أو من باب التخصيص وهو رفع اليد عن عموم أدلّة الاستصحاب في مورد الدليل الاجتهادي الوارد على خلاف الحالة السابقة ، أو من باب الحكومة؟ فنقول : ينبغي القطع بالتخصّص على القول بالاستصحاب من حيث الظنّ بناء على تعريف العضدي : « بأنّ الشيء الفلاني قد كان ولم يظنّ عدمه ، وكلّما هو كذلك فهو مظنون البقاء » فإنّ ظنّ العدم الّذي اخذ عدمه في ماهيّة الاستصحاب بدلالة : « ولم يظنّ عدمه » عبارة عن الظنّ المعتبر ، والدليل الاجتهادي المفروض ظنّ معتبر يوجب خروج المورد عن عنوان « ما لم يظنّ عدمه » ، وكذلك على تقدير عدم أخذ هذا القيد العدمي في ماهيّة الاستصحاب مع اعتبار حصول ظنّ البقاء فيها إن اريد به الظنّ الشخصي ، إذ مع ظنّ عدم البقاء المستند إلى الدليل الاجتهادي يستحيل ظنّ البقاء ، بل وكذلك إن اريد به الظنّ النوعي على معنى كون الحالة السابقة بحيث لو خلّي وطبعها تفيد ظنّ البقاء وإن لم تفده في بعض الموارد لعارض ، فإنّ الحالة السابقة إنّما يكون شأنها ذلك فيما لم يوجد هناك دليل أو أمارة ظنّية معتبرة ، ولذا يقال : إنّ الاستصحاب دليل تعليقي ، ومعناه تعليق الحكم على موضوع اخذ فيه القيد العدمي بالنسبة إلى الدليل والأمارة ، فالتعليق على عدمهما إنّما هو لبيان موضوع الحكم - كما في قولنا : « إن رزقت ولدا فاختنه » - لا لنفي الحكم عن غير محلّ القيد.

وأمّا على القول المختار من أخذ الاستصحاب من الأخبار والقول به من باب التعبّد فقد يقال : بأنّ العمل بالأدلّة في مقابل الاستصحاب من باب التخصّص ، بناء على أنّ المراد من الشكّ التحيّر في العمل وعدم الدليل والطريق ، ومع قيام الدليل الاجتهادي لا حيرة.

وإن شئت قلت : إنّ المفروض من الدليل الاجتهادي دليل قطعي الاعتبار فنقض الحالة السابقة نقض باليقين ، وكأنّ مبناه على أخذ الشكّ بمعنى تساوي الاحتمالين ، أو على جعل الاحتمال الراجح بالنسبة إلى عدم البقاء من باب الظنّ الغير المعتبر على تقدير أخذ الشكّ بمعنى ما يقابل اليقين بخلاف الحالة السابقة ، ليشمل الاحتمال المساوي والراجح

ص: 454

والمرجوح ، كما هو صريح قوله عليه السلام : « ولكنه ينقضه بيقين آخر مثله (1) » في صحيحة زرارة.

ويرد عليه : أنّ ما يقابل اليقين بظاهره يعمّ الظنّ المعتبر بعدم البقاء أيضا ، فخروجه من العموم مبنيّ على جعل اليقين لما يعمّ الظنّ المعتبر ، ولا يتمّ ذلك إلاّ بتحكيم دليل اعتبار الأمارة الظنّية على دليل الاستصحاب ، القاضي بكون الظنّ المستفاد من الأمارة الفلانيّة قائما مقام اليقين ، الكاشف بمدلوله عن كون المراد من اليقين في دليل الاستصحاب وغيره من الأدلّة المعتبرة لليقين في غير مورد الاستصحاب ما يعمّ ذلك الظنّ ، وهذا هو معنى الحكومة لا غير ، فتوهّم الخروج من باب التخصّص سهو.

وقد يتوهّم كون العمل بالأدلّة في مقابل الاستصحاب من باب التخصيص نظرا إلى أنّ قوله : « لا ينقض اليقين بالشكّ » عامّ في الاحتمال المساوي والمرجوح والراجح وهو الظنّ بعدم البقاء ، ودليل اعتبار الأمارة الظنّية - كالخبر الواحد الظنّي مثلا - عامّ في الظنّ الابتدائي والظنّ المسبوق باليقين الموافق للحالة السابقة والظنّ المسبوق المخالف لها ، وهذان عامّان من وجه ، فيتعارضان في الظنّ المخالف الحاصل من الأمارة المذكورة ، وقاعدة ارجاع التخصيص إلى أحد العامّين بعينه لعلاج التعارض وإن كان يقتضي لزوم مراعاة شاهد يرجّح هذا التخصيص ، غير أنّه يكفي فيه الشاهد الداخلي الّذي منه كون أحد العامّين أقلّ أفرادا من العامّ الآخر ، وهذا المرجّح هنا في جانب دليل اعتبار الأمارة ، لكون عمومه مقصورا على أفراد تلك الأمارة ودليل الاستصحاب عامّ في الرجحان المستند إلى تلك الأمارة وغيرها من سائر الأمارات المعتبرة وغيرها حتّى نحو القياس والاستحسان والنوم وما أشبه ذلك.

ويندفع ذلك أيضا : بما بيّناه من أنّ دليل اعتبار الأمارة متعرّض بمضمونه لبيان مقدار موضوع الأدلّة الّتي اخذ في موضوعها اليقين ، ومنها أدلّة الاستصحاب وكشفه عن إرادة ما يعمّ الظنّ المستفاد من الأمارة من لفظ « اليقين » وهذا أيضا نحو من الحكومة ، أو عن أنّ المراد من الشكّ المقابل لليقين المتناول لظنّ عدم البقاء ما عدا الظنّ المستند إلى تلك الأمارة ، فإنّ الحكومة قد تفيد خروج شيء من موضوع الدليل المحكوم عليه وقد تفيد دخول شيء فيه ، فليتأمّل في المقام فإنّه حقيق لأن يتأمّل فيه.

المقام الثاني : في تعارض الاستصحاب مع الأمارات
اشارة

المقام الثاني : في مقابلة الاستصحاب لسائر الأمارات الناظرة إلى الواقع المجعولة من

ص: 455


1- الوسائل 1 : 174 - 175 الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، ح 1.

هذه الحيثيّة ، والاصول الغير الناظرة إليه ، أو الناظرة إليه الّتي لم يعتبرها الشارع من هذه الحيثيّة ، بل من حيث مجرّد احتمال مطابقتها الواقع ، والكلام فيه يقع في مسائل :

المسألة الاولى : في تعارض الاستصحاب مع قاعدة اليد

المسألة الاولى : في مقابلة الاستصحاب لليد.

فاعلم أنّ اليد دليل على الملكيّة نصّا وفتوى ، ومن النصّ الدالّ عليه خبر حفص بن غياث المنجبر ضعفه برواية المشايخ الثلاث له وبعمل الأصحاب ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال له رجل : « إذا رأيت شيئا في يدي رجل أيجوز لي أن أشهد أنّه له؟ قال : نعم ، قال الرجل : أشهد أنّه في يده ولا أشهد أنّه له فلعلّه لغيره؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السلام : فيحلّ الشراء منه؟ قال : نعم ، قال أبو عبد اللّه عليه السلام : « فلعلّه لغيره؟ قال : ومن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكك ثمّ تقول بعد الملك : هو لي وتحلف عليه ، ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه إليك من قبله؟ ثمّ قال الصادق عليه السلام : لو لم يجز هذا ما قامت للمسلمين سوق (1) ».

مضافا إلى أنّ التعويل عليه في جميع الامور والمعاملات معلوم من طريقة العرف في جميع الملل والأديان في جميع الأعصار والأمصار ، مع امضاء الشارع إيّاه على ما هو معلوم بالضرورة.

ثمّ الظاهر أنّها عند العرف من باب الأمارة الكاشفة عن الواقع لا من باب الأصل التعبّدي ، فينتقلون منها في جميع مواردها إلى الملكيّة الواقعيّة انتقالا ظنّيا قريبا من القطع ، حتّى إنّهم إذا اشتروا شيئا من صاحب اليد يعتقدونه ملكا واقعيّا لهم مع أنّه تابع لملكيّته في الواقع لصاحب اليد قبل الاشتراء بل لا يحتملون عدم الملكيّة لهم بعد الاشتراء إلاّ باعتبار احتمال عدم ملكيّته لصاحب اليد قبله ، وعليه مبنى عملهم وامضاء الشارع أيضا حاصل فيه على هذا الوجه ، كما هو ظاهر الرواية المذكورة ، فإنّ لفظة « لعلّه » في كلام السائل في تعليل عدم الشهادة بالملك لفظ يكنّى به عن الاحتمال الضعيف ، فزعمه جهة مانعة من الشهادة بالملك فنقضه الإمام عليه السلام فيما اشتراه من غيره باعتقاد أنّه يصير ملكا ثمّ يقول بعد الملك : هو لي ويحلف عليه ، مع قيام الاحتمال المذكورة فيه قبل الاشتراء فيسري إليه بعد الاشتراء.

ثمّ أجاب عليه السلام عمّا زعمه بطريق الحلّ بقوله : « لو لم يجز هذا ما قامت للمسلمين سوق » ومحصّله : أنّ هذا الاحتمال ملغى في نظر الشارع ، ولازمه أنّه اعتبر ظنّ الملكيّة الناشئ عن اليد في جميع مواردها ولو بضميمة الغلبة من حيث إنّ الغالب في مواردها كون

ص: 456


1- الوسائل 18 : 215 ، الباب 25 من أبواب كيفيّة الحكم ، الحديث 2.

صاحب اليد مالكا وقلّة اليد المستقلّة الغير المالكيّة ، ليستقيم به أمر السوق وينتظم المعاملات السوقيّة المبتنية على الأملاك الّتي لا طريق إلى ملكيّتها إلاّ اليد.

وقضيّة اعتبار ذلك الظنّ أن يجري على المظنون جميع الآثار المترتّبة على الملك ومنها جواز الشهادة به.

وبهذا كلّه ظهر أنّ الاستصحاب - أعني استصحاب عدم الملكيّة - لا يعارض اليد ، وأنّها مقدّمة عليه من باب الحكومة - أعني حكومة دليل حجّيّة اليد على أدلّة الاستصحاب - وذلك أنّها تدلّ على عدم جواز نقض اليقين بالشكّ بمعنى مطلق احتمال عدم البقاء ولو ظنّا ، ويندرج فيه يقين عدم الملكيّة المتعقّب لاحتمال الملكيّة ظنّا.

والرواية المذكورة دلّت على أنّ الاحتمال الّذي لا ينقض به اليقين هو ما عدا ظنّ الملكيّة المستند إلى اليد.

ولا ينافيه ما اشتهر من أنّه لو أقرّ ذو اليد المدّعي عليه بكون ما في يده ملكا للمدّعي انتزع منه العين إلاّ أن يقين البيّنة على انتقالها إليه ، لأنّه ليس لتقديم الاستصحاب على اليد ، بل لأجل أنّه لدعوى الملكيّة يصير مدّعيا والمدّعي منكرا فيندرج في عموم البيّنة على المدّعي ، وبدونه يؤخذ بإقراره فينتزع منه العين ، ولذا لو لم يكن هناك مدّع أو أقرّ كونه لغير المدّعي لم ينتزع العين ولا يكلّف بإقامة البيّنة.

والسرّ في إفادة إقراره مع عدم إقامته البيّنة لانتزاع العين أنّه لا حكم ليده مع الإقرار ، لما عرفت من أنّ اعتبارها من حيث الأمارة إنّما هو باعتبار الغلبة ، وهي إنّما تفيد ظنّ اللحوق في الفرد المشتبه ، ومع الإقرار المذكور وعدم إثبات الانتقال بالبيّنة خرج المورد عن الاشتباه ، وهذا هو الوجه في تقديم البيّنة على اليد أيضا ، إذ مع قيامها على ملكيّة ما في اليد لغير صاحب اليد خرج عن كونه مشتبها.

ثمّ لو قلنا بكون اليد من الاصول التعبّديّة المبنيّة على مطلق احتمال الملكيّة راجحا أو مرجوحا أو مساويا كانت مقدّمة أيضا على الاستصحاب ، ولكن من باب التخصيص ، لأنّ دليلها حينئذ أخصّ من دليل الاستصحاب المأخوذ فيه الشكّ بمعنى مطلق الاحتمال كما يظهر وجهه بأدنى تأمّل.

وكما أنّ اليد في إفادة الملكيّة مقدّمة على الاستصحاب فكذلك قول ذي اليد في الإخبار بطهارة ما في يده ونجاسته مقدّمة عليه فيما كانت حالته السابقة مخالفة للمخبر به ، من غير فرق بين ما لو كانت القضيّة في الإخبار بصورة « هذا طاهر وهذا نجس » أو

ص: 457

« طهّرته ونجّسته » عملا بإطلاق فتوى الأصحاب بحجّية قول ذي اليد.

وفي كون اعتباره من حيث الأمارة الكاشفة عن الواقع بطريق الظنّ ، أو من حيث الأصل التعبّدي المبنيّ على مطلق احتمال المطابقة ولو مرجوحا ، وجهان من أنّ الإخبار من حيث الدلالة حكاية عن الواقع ، ومن أنّه من حيث السند يحتمل المطابقة واللامطابقة على وجه تساوي الاحتمالين ، أو مع رجحان الأوّل ومرجوحيّة الثاني ، أو بالعكس بناء على عدم اشتراط عدالة المخبر كما هو المصرّح به في كلامهم ويساعد عليه إطلاق روايات الباب ، ولا سيّما صحيحة الحلبي قال : « قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : الخفاف عندنا في السوق نشتريها فما ترى في الصلاة فيها؟ فقال : صلّ فيها حتّى يقال لك : انّها ميتة بعينه (1) فإنّ قوله : « حتّى يقال » مطلق في العادل والفاسق ومجهول الحال ، نعم إطلاقه في الكافر أيضا ممّا لا عامل به ظاهرا.

والأظهر هو الثاني عملا بالإطلاق فتوى ونصّا.

ويظهر فائدة الفرق بين الوجهين فيما لو تحقّق الإخبار بعد الاستعمال ، فعلى الكشف يفيد نجاسة الملاقي والمستعمل بخلافه على التعبّد ، فتكون النجاسة مقصورة على ما في اليد فيجتنب عنه في الاستعمالات اللاحقة ، ولا حكم له بالنسبة إلى الاستعمالات السابقة.

وعليه ينزّل ما عن جماعة أنّهم قيّدوا قبول إخبار الواحد بنجاسة إنائه بما إذا وقع الإخبار قبل الاستعمال ، فلو كان الإخبار بعده لم يقبل بالنظر إلى نجاسة المستعمل له كالمطبوخ ومواضع الوضوء واليدين والثياب ، غير أنّهم علّلوه بأنّه في الحقيقة إخبار بنجاسة الغير فلا يكفي فيه الواحد وإن كان عدلا.

ولا خفاء في ضعفه ، لأنّ اعتبار قول ذي اليد إن كان من حيث الطريقيّة لكشفه الظنّي عن الواقع فالظنّ بنجاسة الاناء حين تحقّق الإخبار يستلزم الظنّ بنجاسة المستعمل له ممّا لاقاه ، وقضيّة ذلك ترتيب أحكام النجاسة عليه أيضا.

إلاّ أن يقال : بالتفكيك بين الظنّين اللازم والملزوم ، بقصر دليل حجّيّة الظنّ المستفاد من قول ذي اليد على الملزوم كما وقع نظيره في الشرع كثيرا ، وقد مرّ بعض أمثلته في بحث الاصول المثبتة.

ولكن يزيّفه : أنّه لو صحّ هذا التفكيك لزم التزامه في لوازم الظنّ بنجاسة الاناء فيما

ص: 458


1- الوسائل 2 : 1071 الباب 50 من أبواب النجاسات ، ح 2.

لو تحقّق الإخبار قبل الاستعمال أيضا كما لا يخفى ، ولا يظنّ بأحد التزامه.

والفرق بينهما بسبق الاستعمال على الإخبار ولحوقه به ممّا لا يصلح فارقا بينهما في الحكم وهو حجّيّة الظنّ اللازم في الثانية دون الاولى.

ودعوى : أنّ المالك بعد ما وقع إناؤه على يد المستعير المستعمل له لا يدله على الإناء ، فلا يصدق على إخباره المتحقّق في تلك الحال قول ذي اليد.

يدفعها أوّلا : أنّ الواقع في فتاوى كثير منهم التعبير عن عنوان هذه القاعدة بقول المالك وهو صادق في محلّ البحث.

وثانيا : أنّه لم يخرج بذلك عن كونه ذي اليد لأنّه أمر عرفي ، بناء على أنّه ليس المراد من « اليد » الجارحة المخصوصة ، بل هي عبارة عن الاستيلاء على العين على وجه شرعي ، وهو مع إعارة العين باق على حاله خصوصا مع ملاحظة كون استيلاء المستعير فرعا على استيلاء المالك.

نعم يمكن الاستناد في منع تأثير قوله في نجاسة المستعمل له إذا وقع بعد الاستعمال إلى منع عموم في دليل اعتباره بحيث يشمل هذا الفرض ، بدعوى : أنّ هذا الإخبار لا يفيد علما ولا يستفاد من دليله من الروايات وغيرها أزيد من قبول إخبار ذي اليد لو تحقّق حال وجود المورد وبقائه في يده ، فيبقى غيره تحت أصالة الطهارة المستفادة من النصّ والإجماع.

وإن كان من حيث الموضوعيّة والأصل التعبّدي (1) فلا حاجة في منع القبول بالنسبة إلى الاستعمالات السابقة إلى تكلّف الاستدلال بكونه إخبارا بنجاسة الغير ، لأنّ معنى الموضوعيّة هو أن لا يترتّب حكم النجاسة إلاّ على موضوعه المأخوذ فيه إخبار ذي اليد ، ولا يكون إلاّ الإناء بالنسبة إلى الاستعمالات اللاحقة ، لانتفاء جزء الموضوع عنه حال الاستعمالات السابقة ، فهو في تلك الحال لم يكن محكوما بالنجاسة شرعا ليترتّب عليه نجاسة المستعمل له بسبب الملاقاة لأنّه لم يلاق نجسا شرعيّا.

المسألة الثانية : في تعارض الاستصحاب مع أصالة الصحّة

المسألة الثانية : في مقابلة الاستصحاب لأصالة الصحّة في العمل ، ولا إشكال في تقديم ذلك الأصل على الاستصحاب إن اريد به أصالة الصحّة في فعل المسلم الّذي هو من الاصول المجمع عليها فتوى وعملا بين المسلمين المنصوص عليه في الروايات.

ولقد أفردنا لتحقيق ذلك الأصل وتحرير أدلّته من الصحيحة والمزيّفة وبيان جملة من

ص: 459


1- عطف على قوله : « لأنّ اعتبار قول ذي اليد إن كان من حيث الطريقيّة لكشفه الظنّي عن الواقع ... الخ ».

فروعه رسالة على حدة (1) والظاهر أنّ اعتباره من حيث الأصل التعبّدي المكتفى فيه بمطلق احتمال الصحّة ولو مرجوحا ، وحيث إنّ دليله أخصّ من دليل الاستصحاب المأخوذ فيه ذلك الاحتمال أيضا ، فوجه تقديمه عليه إنّما هو تخصيص دليله ورفع اليد عن عمومه في موارد ذلك الأصل.

وربّما احتمل كون هذا الأصل من جملة الظواهر نظرا إلى أنّ الظاهر من حال المسلم هو الإتيان بالعمل الصحيح لا الفاسد فيظنّ الصحّة من هذه الجهة ، وتقديمه على الاستصحاب على هذا التقدير أيضا واضح ، ولكنّه حكومة لا تخصيصا.

وليعلم أنّه ليس المراد بالاستصحاب المقابل لأصالة الصحّة هو استصحاب الفساد ، لأنّه حيثما كان جاريا باعتبار كون حالته السابقة هو الفساد لا معنى لتقديم أصالة الصحّة عليه ، لأنّه قائم مقام العلم بالفساد ، ومن المعلوم أنّه لا مجرى لأصالة الصحّة مع العلم بالفساد أو ما يقوم مقامه. بل المراد به الاستصحاب الموضوعي المقتضي للفساد ، كأصالة عدم البلوغ فيما لو اختلف الضامن والمضمون له فادّعى الضامن كونه صبيّا حال الضمان ، وفيما لو اختلف المتبايعان في صحّة بيع لعدم بلوغ البايع أو المشتري أو كليهما ، وفيما لو اختلفا في الصحّة بادّعاء مدّعي الفساد عدم اعتبار المبيع بالوزن فيما كان من جنس الموزون أو بالكيل في المكيل ، أو للاختلاف في الرؤية فيما اعتبر فيه الرؤية والمشاهدة ، وقاعدة المزيل والمزال ، وتقديم الأصل السببي على الأصل المسبّبي. ومن ذلك تقديم الاستصحاب الموضوعي على الأصل الحكمي ، وتقديم الاستصحاب في الأمثلة المذكورة ونظائرها على أصالة الصحّة لكون الشكّ في الصحّة مسبّبا عن الشكّ في الموضوع ، ولعلّه لذا اضطربت كلمات جماعة من المتأخّرين في أمثال الفروع المذكورة بين متوقّف ومقدّم للاستصحاب الموضوعي.

وظاهر الجمهور تقديم أصالة الصحّة على معارضه وهو الأظهر ، لكون أدلّته أخصّ من دليل الاستصحاب.

والعجب من الشهيد أنّه في مسألة اختلاف الضامن والمضمون له بنى على تقديم قول مدّعي الفساد بادّعاء عدم البلوغ لأصالة براءة ذمّته عمّا ضمنه ، ولعلّه توهّم تعارض استصحاب عدم البلوغ وأصالة الصحّة وتساقطهما فيرجع إلى أصالة البراءة.

ص: 460


1- المسمّاة ب « رسالة في حمل فعل المسلم على الصحّة » المطبوعة مع رسالة العدالة بقم المشرّفة سنة 1419 ه. ق.

وفيه : منع تساقط الأصلين لعدم تعارض بينهما إلاّ بحسب الصورة ، فإنّ أصالة الصحّة لا تجري إلاّ ولزمها خروج الاستصحاب الموضوعي من عموم دليل الحجّية ، كما أنّ الاستصحاب الموضوعي لا يجري إلاّ ولزمه ارتفاع موضوع أصالة الصحّة لمكان سببيّة شكّه.

وعلى التقديرين لا معنى للتساقط المبنيّ على التعارض الواقعي ، ومن ذلك ظهر ما عن المحقّق الثاني في شرح عبارة العلاّمة حيث إنّ العلاّمة في مسألة اختلاف المتبايعين بادّعاء البائع عدم البلوغ حال البيع قال : « فيه وجهان ».

وقال المحقّق في شرحه : « من أصالة حمل فعل المسلم على الصحّة ومن أصالة عدم البلوغ (1) » فإنّ الأصلين لا يجريان معا لاستلزام جريان أحدهما عدم جريان الآخر فلا يصحّ الاستناد إليهما معا ، وحيث إنّ الاستصحاب كان يقتضي فساد العمل ، فأصالة الصحّة مكانه يقتضي الصحّة ، على معنى ترتّب الآثار الشرعيّة المعلّقة على العمل الصحيح بوصف الصحّة من النقل والانتقال والملكيّة واشتغال الذمّة وبراءتها ، ولا يثبت بها ما زاد عليها من الآثار العقليّة الّتي يتوقّف عليها الصحّة وترتّب الآثار الشرعيّة كالبلوغ ونحوه ، ليجري عليه سائر الآثار المتوقّفة على البلوغ الغير المترتّبة على ذلك العمل ولا على صحّته ، كصيرورته وصيّا أو متوليّا على الوقف إذا علّق الإيصاء إليه أو توليته على بلوغه. فلو اختلف الموجر والمستأجر في صحّة عقد الإجارة وفساده فادّعى المستأجر عدم تعيين مال الإجارة وادّعى الموجر تعيينه وكونه مائة ، أو اختلف المتبايعان في كون الثمن خمرا أو خلاّ فادّعى أحدهما كونه خمرا ليفسد العقد ، فغاية ما يقتضيه أصالة الصحّة إنّما هو حصول ملكيّة المنفعة وملكيّة المثمن. وأمّا مقدار الثمن أو جنسه فيحتاج إثباته إلى طريق آخر من بيّنة ونحوها.

وقد يراد من أصالة الصحّة المقابلة للاستصحاب ما يجري في عمل المكلّف نفسه ، كما في مورد الشكّ بعد الفراغ أو في أثناء العمل بعد تجاوز محلّ المشكوك فيه ، فإنّ الأصل عدم الإتيان بالمشكوك فيه جزءا وشرطا. والقاعدة المستفادة من الأخبار العامّة والخاصّة يقتضي البناء على الصحّة ، وهي أيضا من الاصول التعبّديّة ولا إشكال في تقديمها على الاستصحاب تخصيصا لدليله بأدلّتها.

أمّا في مسألة الشكّ بعد الفراغ فمطلقا وأمّا في مسألة الشكّ بعد تجاوز المحلّ ففي الجملة ، للإجماع على أنّ الشاكّ في فعل من أفعال الوضوء قبل إتمام الوضوء يأتي به

ص: 461


1- جامع المقاصد 5 : 315 نقلا بالمعنى.

وإن دخل في فعل آخر ، وأمّا الغسل والتيمّم فكذلك على ما نصّ عليه جماعة. وأمّا التكلّم في تحقيق هذا الأصل وأدلّته وسائر ما يتعلّق به مثل بيان المعنى المراد من الفراغ وما بعده وتجاوز المحلّ والدخول في الغير ونحو ذلك فليس من وظيفة هذا الفنّ ولا هذا الكتاب.

المسألة الثالثة : في مقابلة الاستصحاب مع القرعة

المسألة الثالثة : في مقابلة الاستصحاب للقرعة ، ولا ينبغي التأمّل في كونه مقدّما عليها ، كما أنّ سائر الاصول كأصل البراءة وأصل الاشتغال وأصل التخير مقدّمة عليها.

والوجه في ذلك : أنّ دليلها كالخبر العامّي « القرعة لكلّ أمر مشتبه » كما في رواية (1) أو « لكلّ أمر مشكل » كما في اخرى (2) أعمّ من أدلّة كلّ واحد من الاصول الأربع فيخصّص بتلك الأدلّة ، كما أنّه يخصّص بغير الفتاوى والأحكام بدليل الإجماع.

قال الشهيد في القواعد : ولا تستعمل القرعة في الفتاوى وفي الأحكام إجماعا (3). فتختصّ القرعة بموارد لا يجري فيها الاستصحاب وغيره من الاصول المذكورة ، وضابطها الشبهات الموضوعيّة الخارجيّة الّتي لم يكن لها طريق شرعي يوجب الخروج عن الشبهة فيها سوى القرعة ، سواء كان المشتبه معيّنا في الواقع مجهولا في الظاهر ، أو غير معيّن في الظاهر والواقع ، كما لو اشتبه اخته بأجنبيّة فهو ما دام حيّا لا ينكحهما معا من باب الشبهة المحصورة ، وإذا مات فتعيين الوارث منهما يحتاج إلى قرعة ، وكما لو انهدمت الدار على رجل وجاريته وزوجته وكان لهما ابنان فمات الرجل والامّان وبقي الولدان فتشخيص السيّد منهما والوارث للرجل يحتاج إلى قرعة ، وإذا اختلف الولدان في الذكورة والانوثة فلا يتناكحان لقاعدة الشبهة المحصورة ولكن لتشخيص المولى منهما لا بدّ من القرعة بينهما ، والشاة الموطوءة للإنسان المشتبهة في قطيع غنم فإنّه لا بدّ لذبحها وإحراقها من تشخيصها بالقرعة ولا ينفعها قاعدة الشبهة المحصورة ، وكالشاة المغصوبة المشتبهة بشياة مملوكة فقاعدة الشبهة المحصورة وإن كانت تقضي بوجوب الاجتناب عن الجميع بالنظر إلى عمل نفسه ولكنّها لا تنفع في تشخيص المغصوبة ليدفعها إلى مالكها إلاّ القرعة ، وكما في اختلاط الموتى في الجهاد ، والعبدين المأذونين في شراء كلّ منهما صاحبه إذا اختلفا بعد الشراء أو مات أحدهما ، أو تعارض البيّنتين للخارجين ، والوصيّة بما لا يسعه الثلث مع العلم بالسبق دون السابق ، واشتباه المطلّقة والمنذورة وطؤها إذا مات الزوج ، والمتداعيين في بنوّة لقيط ، والمولود إذا لم يكن له ما للرجال ولا ما للنساء ، إلى غير ذلك من أمثلة

ص: 462


1- لم نظفر عليه.
2- عوالي اللآلئ 2 : 285 ، ح 25.
3- القواعد والفوائد 2 : 23.

ما كان المشتبه معيّنا في الواقع.

ومثل مشاحّة الإمامين إذا لم يكن لأحدهما مرجّح موجب لاستحقاقه في الواقع ، وقصور المال عن الحجّتين الموصى بهما ، والمتزاحمين في مباح أو مشترك أو عند مدرّس أو حاكم ، وثلث العبيد الموصى بعتقه والموصى لهما إذا قصر الثلث عن أحدهما ، وتعدّد السيف والمصحف وما أشبه ذلك ممّا اشتبه ظاهرا وواقعا.

فما يوجد في كلام بعض الأصحاب كثاني الشهيدين وغيره من حصر المشتبه والمشكل بما تعيّن واقعا واشتبه ظاهرا ومنع جريان القرعة في المشتبهين واقعا وظاهرا ، فلم يعرف له وجه واضح متلقّى بالقبول.

وهذا البيان في وجه تقديم الاستصحاب على القرعة في غاية المتانة لو لا شبهة لزوم تخصيص الأكثر ، باعتبار كون خارج دليل القرعة أكثر بمراتب شتّى من داخله ، بل الأوّل غير محصور والثاني مقصور على أمثلة مخصوصة.

ويحتمل توجيهه بكونه من باب التخصّص والخروج الموضوعي ، بتقريب أن يقال : إنّ موضوع القرعة إنّما هو الأمر المشكل أو الأمر المشتبه على اختلاف الروايتين ، ولا إشكال ولا اشتباه فيما يجري فيه الاستصحاب وغيره من الاصول ، كما في الشاة الموطوءة في قطيع غنم ، والاخت المشتبهة بالأجنبيّة فلا إشكال فيهما من حيث وجوب الاجتناب عنهما معا لأصل الشغل ، ولكنّ الإشكال في تشخيص عين الحرام ليلزم على قيمته مثلا على قاعدة الضمان ، وتشخيص محلّ التوارث وارثا أو مورّثا.

فضابط الأمر المشكل ما ليس له طريق شرعي يرفع الاشتباه ، وقد يجتمع في شيء واحد حيثيّتان يجري في إحداهما شيء من الاصول فلا إشكال فيه من هذه الحيثيّة ، ولا يجري في الاخرى شيء من الاصول فهو من هذه الحيثيّة من الأمر المشكل.

وهذا الوجه ربّما يظهر اختياره من بعض الأعلام بناء على ما ذكره في الشبهة المحصورة عند دفع مقالة من يقول فيها بإعمال القرعة.

وهاهنا وجه في توجيه تقديم الاستصحاب على القرعة ، مبناه على ما قيل من أنّ أدلّة القرعة لا يعمل بعمومها إلاّ مع جبره بعمل الأصحاب أو بعمل جماعة ممّن يعتنى بشأنهم كالشيخين والفاضلين والشهيدين وأحزابهم.

وحينئذ نقول : إنّه لا قرعة في مجاري الاستصحاب لا لعدم جريانها ، بل لعدم تماميّة دليل اعتبارها ، إذ لم يعمل أحد من الأصحاب بعمومه مع الاستصحاب. وأمّا في مجاري

ص: 463

سائر الاصول فكلّ مورد لم يعمل الأصحاب بعموم دليل القرعة فيعمل فيه بالأصل الجاري فيه لعين ما عرفت ، وكلّ مورد عمل فيه الأصحاب أو جماعة بالقرعة دون الأصل الموجود فيه تعيّن تقديم القرعة فيه على الأصل كائنا ما كان ، لورود دليل القرعة حينئذ على أدلّة الاصول الثلاث لو كان مدركها العقل ، لوضوح أنّ العقل إنّما يحكم بالبراءة أو الاشتغال أو التخيير من حيث عدم البيان والقرعة المعتبرة بيان. وأمّا على تقدير الاستناد في هذه الاصول إلى النقل فالظاهر أنّ وجه تقديمها حينئذ حكومة دليلها على أدلّة هذه الاصول كما هو واضح.

المسألة الرابعة : في مقابلة الاستصحاب لغيره من الاصول العملية كالبراءة والاشتغال والتخيير ، حيث كان للمورد حالة سابقة تخالف مؤدّى هذه الاصول في شبهة حكميّة - كالعصير إذا ذهب ثلثاه بغير النار بعد صيرورته حراما بالغليان ، وكالحائض بعد الطهر وقبل الاغتسال بالقياس إلى حرمة الوطء - أو شبهة موضوعيّة كالعصير إذا شكّ في ذهاب ثلثيه ، والحائض إذا شكّ في انقطاع طمثه في باطن الفرج بعد انقطاعه في ظاهره ، إلى غير ذلك من الأمثلة الّتي يقدر المتدرّب على استخراجها ، والأصل في هذا الباب هو تقديم الاستصحاب على ما يقابله مطلقا إلاّ في بعض الصور على ما تعرفه.

والوجه في ذلك : أنّ المأخوذ في مورد أصل البراءة الشكّ في التكليف الناشئ عن عدم البيان واستصحاب الحالة السابقة من وجوب أو حرمة بيان لا يقبح معه العقاب على المخالفة.

وفي مورد أصل الاشتغال الشكّ في براءة الذمّة بدون الاحتياط والاستصحاب علم شرعي بها ، كاستصحاب وجوب الإتمام مثلا في بعض صور توقّف اليقين بها على الجمع بينه وبين القصر كما في المسير إلى ما يشكّ في بلوغه المسافة.

وفي مورد أصالة التخيير التحيّر كالتحيّر بين الإمساك والإفطار في يوم يشكّ كونه آخر رمضان أو أوّل شوّال واستصحاب بقاء رمضان أو عدم دخول شوّال رافع لهذا التحيّر ، فلا مورد مع جريانه لشيء من الاصول الثلاث ، والاستصحاب وارد على الجميع ، ومرجعه إلى أنّ الاستصحاب مزيل وغيره مزال.

ومن البيّن في تعارض الأصلين تقدّم المزيل على المزال.

وإن شئت قلت : إنّ الشكّ في بقاء الحالة السابقة المأخوذة في الاستصحاب سبب للشكّ المأخوذ في مجاري هذه الاصول ، وستعرف في تعارض الاستصحابين أنّ الشكّ السببي مقدّم على الشكّ المسبّبي.

وضابط الجميع هو الورود ، ومن ذلك يعرف أنّه قد يتقدّم أصل البراءة على

ص: 464

الاستصحاب كما في مسألة الشكّ في الجزئيّة أو الشرطيّة من مسائل دوران المكلّف به بين الأقلّ والأكثر ، فإنّ أصالة البراءة عن العقاب على ترك الأكثر واردة على استصحاب الأمر والاشتغال المقتضي لعدم الاجتزاء بالأقلّ إن قلنا بجريانه ، لكون الشكّ في بقائهما مسبّبا عن الشكّ في مسألة الجزئيّة أو الشرطيّة ، وأصالة البراءة ممّا يوجب الخروج عن هذا الشكّ فيرتفع به الشكّ المسبّب منه.

ولك أن تقرّر ورود الاستصحاب على الاصول الثلاث الباقية : أنّ مؤدّى الاستصحاب في مجاريه حكم ظاهري مجعول للشاكّ في بقاء الحالة السابقة بعد اليقين ، فإذا حصل العلم به بمقتضى أدلّة الاستصحاب خرج المكلّف عن كونه جاهلا بالمعنى المأخوذ في مجاري الاصول الثلاثة ، أعني الجاهل بالحكم الإلزامي المؤثّر في العقاب على مخالفته واقعيّا كان أو ظاهريّا ، والجاهل بالمكلّف به بعد اليقين بأصل التكليف ، والجاهل بكون حكم الواقعة المعلوم إجمالا هو الوجوب أو الحرمة الموجب للتحيّر بين الفعل والترك ، فليتدبّر.

لا يقال : العكس أيضا ممكن ، لأنّ موضوع جميع الاصول الأربع هو الجاهل لا غير.

لأنّا نقول : إنّ موضوع الاستصحاب هو الجاهل ببقاء الحكم الواقعي الّذي هو الحالة السابقة ، وموضوع سائر الاصول هو الجاهل بالحكم الشرعي واقعا وظاهرا ، والاستصحاب المفيد للعلم بالحكم الظاهري رافع للجهل بالحكم الظاهري المأخوذ في موضوع سائر الاصول ، فلا يعقل ورودها على الاستصحاب إلاّ في الصورة المذكورة.

وربّما يستشكل في تقديم الاستصحاب على أصالة البراءة في الشبهات الموضوعيّة بملاحظة رواية عبد اللّه بن سنان الّتي استدلّ بها جماعة على أصل الإباحة ، الّتي هي معارضة لاستصحاب حرمة التصرّف في الأشياء المذكورة فيها ، كقوله صلى اللّه عليه وآله : « كلّ شيء حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك وذلك مثل الثوب عليك ولعلّه سرقة ، والمملوك عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه وقهر فبيع ، أو امرأة تحتك وهي اختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غيره أو يقوم به البيّنة » (1).

ويدفعه : أنّ الاستصحاب الموجود في الأشياء المذكورة يوافق أصالة الإباحة المستفادة من الرواية ، وهو أصالة عدم السرقة ، وأصالة عدم بيع المملوك نفسه ، وأصالة عدم القهر عليه في بيعه ، وأصالة عدم تحقّق نسبة الاخوّة بين الرجل وامرأته ، وأصالة عدم

ص: 465


1- الوسائل 12 : 60 ، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث 4.

تحقّق الرضاع بينهما. وأمّا استصحاب حرمة التصرّف فيها فلا يعقل له حالة سابقة إلاّ الحرمة الثابتة فيها قبل وقوعها في يد المالك ، وهذه الحالة السابقة قد انقطعت بظاهر الأسباب الشرعيّة الجارية عليها من عقدي البيع والنكاح وغيرهما فلا يجوز استصحابها.

المقام الثالث : في تعارض الاستصحابين
اشارة

المقام الثالث : في تعارض الاستصحابين الّذي هو العمدة في هذا الباب ، وليعلم أنّ هذا العنوان ينقسم من جهات عديدة إلى أقسام كثيرة :

فتارة من جهة نفس التعارض ينقسمان إلى كون تعارضهما بأنفسهما - كما في استصحاب كرّيّة الماء ونجاسة الثوب المغسول به ، واستصحاب نجاسة الماء المتنجّس المشكوك في زوال نجاسته واستصحاب طهارة الجسم الملاقي له - أو بواسطة مقدّمة خارجيّة كما في الإنائين الطاهرين إذا أصاب أحدهما نجاسة واشتبه ، حيث إنّ استصحاب الطهارة في أحدهما مع مثله في الآخر لا يتعارضان بأنفسهما ، إلاّ أنّ العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة في أحد الإنائين يوجب عدم إمكان الجمع بينهما في العمل ، والماء القليل المتمّم كرّا بقليل طاهر المشكوك في طهره بإتمامه كرّا ، فإنّ استصحاب طهارة المتمّم - بالكسر - مع استصحاب نجاسة المتمّم - بالفتح - لا يتنافيان باعتبار الواقع ، لجواز كون بعض هذا الماء بحسب الواقع طاهرا وبعضه نجسا عقلا وإن لم يتمايزا حسّا ، إلاّ أنّ هنا مقدّمة إجماعيّة تمنع من الحكم بموجبها ، وهي عدم جواز اختلاف حكم ماء واحد في سطح واحد من حيث الطهارة والنجاسة.

واخرى من جهة المورد إلى كونهما في موضوعين كالأمثلة المذكورة ، أو في موضوع واحد ، كالماء المسبوق بالقلّة إذا شكّ في بلوغه كرّا ولاقاه نجاسة ، فيتعارض فيه استصحاب القلّة وعدم الكرّيّة واستصحاب الطهارة.

وقد يمثّل له بالجلد المطروح الّذي يتعارض فيه استصحاب عدم التذكية واستصحاب الطهارة.

ويمكن المناقشة فيه بعدم كون استصحاب الطهارة هنا في مجراه لتبدّل موضوع المستصحب ، بناء على دخول وصف الحياة في الموضوع ، أو لمكان الشكّ في موضوعيّة الباقي بناء على احتمال مدخليّة الوصف في الموضوع.

وثالثة من جهة الشكّ إلى ما كان الشكّ في أحدهما مسبّبا عن الشكّ في الآخر كما في الأمثلة المذكورة ، وما كان الشكّ في كلّ منهما مسبّبا عن ثالث كما في الماء القليل النجس المتمّم بطاهر كرّا ، فإنّ الشكّ في الاستصحابين فيه مسبّب عن الشكّ في مطهّريّة إتمامه كرّا

ص: 466

باعتبار الخلاف في المسألة.

وأمّا القسم الثالث وهو ما كان الشكّ في كلّ منهما مسبّبا عن الشكّ في الآخر فممّا ينبغي القطع ببطلانه ، لاستحالة تقدّم الشيء على نفسه ، خلافا لمن تخيّل جوازه ومثّل له بالعامّين من وجه لمعارضة أصالة العموم في كلّ منهما لمثلها في الآخر مع كون الشكّ في كلّ مسبّبا عنه في الآخر.

وفيه : أنّ الشكّ في كلّ منهما مسبّب عن العلم الإجمالي بتخصيص أحد العامّين ، فلا يدرى في نحو « أكرم العلماء » و « لا تكرم الفسّاق » هل اريد العموم من الأوّل والخصوص من الثاني أو بالعكس.

ورابعة من جهة المستصحب إلى موضوعيّين أو حكميّين أو مختلفين.

وخامسة من جهته أيضا إلى وجوديّين أو عدميّين أو مختلفين.

ولا يخفى أنّ أكثر هذه الأقسام متداخلة كما يظهر بالتأمّل في الأمثلة ، بل التعرّض للتقسيمات المذكورة جري على ما ذكر في المقام ، وإلاّ فلا يترتّب على أكثرها فائدة ، بل الفائدة المطلوبة من تعارض الاستصحابين إنّما تحصل في قسمي التقسيم الثالث ، فنقتصر على البحث عن حكميهما ، سواء كان تعارض الاستصحابين لذاتهما أو بواسطة أمر خارج ، في موضوعين أو في موضوع واحد ، وسواء كانا موضوعيّين أو حكميّين أو مختلفين ، وجوديّين أو عدميّين أو مختلفين ، فيقع البحث المذكور في مقامين :

الأوّل : في تعارض الاستصحاب السببي والمسبّبي

المقام الأوّل : فيما كان الشكّ في أحدهما سببا للآخر ، فالوجه فيه لزوم تقديم الشكّ السببي ورفع اليد عن الحالة السابقة في جانب الشكّ المسبّبي ، سواء على القول بالاستصحاب من باب الظنّ بالبقاء ، أو على القول به تعبّدا من جهة الأخبار.

أمّا الأوّل : فلأنّ قضيّة سببيّة الشكّ السببي دوام حصول ظنّ البقاء في جانبه دون جانب الشكّ المسبّبي.

أمّا أوّلا : فبالوجدان الغنيّ عن البيان ، فمن أنكره فقد كابر وجدانه.

وأمّا ثانيا فبالبرهان وبيانه : أنّ ظنّ البقاء إمّا أن يحصل في جانب السبب أو في جانب المسبّب أو في جانبيهما ، ولا سبيل إلى الأخير لأنّ قضيّة سببيّة الشكّ السببي لزوم الحالة السابقة في جانبه لنقيض الحالة السابقة في جانب المسبّب ، والظنّ بالملزوم يستلزم الظنّ باللازم ، ومعناه استلزام الظنّ ببقاء الحالة السابقة في جانب السبب للظنّ بعدم بقائها في

ص: 467

جانب المسبّب ، وهذا لا يجامع الظنّ ببقائها لاستحالة الظنّ بطرفي النقيض.

ولا إلى ما قبله لأنّ السبب مقدّم طبعا على المسبّب فلا يحدث الشكّ المسبّبي إلاّ بعد حدوث الشكّ السببي.

وقضيّة ذلك تقدّم الالتفات إلى الحالة السابقة في جانب السبب وسبق ملاحظتها على الالتفات إلى الحالة السابقة في جانب المسبّب وملاحظتها ، وهو على أصلهم من حصول ظنّ البقاء بملاحظة الكون الأوّل بنفسه أو مع انضمام الغلبة يؤثّر في ظنّ بقاء الحالة السابقة في جانب السبب ، ومعه يستحيل حصول ظنّ البقاء في جانب المسبّب لما عرفت بل يلزمه ظنّ عدم البقاء ، فتعيّن الأوّل.

ومع حصول ظنّ البقاء في الاستصحاب السببي وظنّ عدم البقاء في جانب المسبّب خرج الاستصحاب عن صلاحية المعارضة ، إمّا لعدم جريانه رأسا مع فرض جريان الاستصحاب السببي إن أخذنا ظنّ البقاء في ماهيّة الاستصحاب كما هو ظاهر تعريف العضدي ، أو لعدم معارضة غير الحجّة للحجّة إن جعلناه خارجا عن الماهيّة شرطا للاعتبار.

ويمكن تقرير البرهان بوجه أخصر وهو : أنّ احتمال البقاء في المسبّب تابع لاحتمال الارتفاع في السبب ، كما أنّ احتمال الارتفاع في المسبّب تابع لاحتمال البقاء في السبب ، ومعلوم أنّ التابع لا يخالف المتبوع ، والمفروض أنّ الاحتمالين في السبب مختلفان في الرجحان والمرجوحيّة مع كون الراجح هو احتمال البقاء ، ويتبعهما في ذلك الاحتمالان في المسبّب مع مرجوحيّة احتمال البقاء فيه ورجحان احتمال عدم البقاء ، فيصير بقاء الحالة السابقة في السبب وعدم بقائهما في المسبّب مظنونين وهو المطلوب.

وبعبارة أخصر : أنّ الأمارة المفيدة للظنّ باعتبار أنّه لا يحصل إلاّ من أمارة إنّما هي الحالة السابقة ، إذ بملاحظتها يحصل الظنّ الاستصحابي ومع قطع النظر عنها لا ظنّ.

والمفروض أنّ الالتفات إليها في جانب السبب سابق على الالتفات إليها في جانب المسبّب ، وسبق الالتفات إلى الاولى لا ينفكّ عن حصول الظنّ ببقائها ، ومع هذا لا يترتّب على الثانية أثر ، فيبقى حصول الظنّ بالبقاء في جانب المسبّب بلا أمارة توجبه.

والعجب من جمع بين الاستصحابين بالعمل بهما في مسألة الصيد الواقع بعد رميه في الماء القليل المشكوك في استناد موته إلى الرامي أو إلى الماء ، فيشكّ معه في نجاسة الماء كما هو مقتضى استصحاب عدم التذكية ، وطهارته كما هو مقتضى استصحاب الطهارة فيه ،

ص: 468

كما عن العلاّمة (1) ومن تبعه.

ويظهر القول به من بعض الأعلام أيضا (2) ، مع أنّه إن كان بناؤههم فيه على اعتباره من حيث ظنّ البقاء محال ، ولذا ردّه صاحب الحدائق (3) - على ما حكي - بالبناء على تقديم المزيل على المزال بما محصّله : أنّ فائدة الاستصحاب إنّما هي ترتيب آثار المستصحب والمزيل من الاستصحابين فيما نحن فيه إنّما هو استصحاب عدم التذكية لكونه سببا.

والمفروض أنّ ظنّ البقاء حاصل منه مقدّما على ظنّ البقاء الّذي في قوّة الحصول من المزال ، فكيف يمكن العمل بالمزال حينئذ مع أنّ استصحاب عدم التذكية الّذي هو المزيل لا فائدة له إلاّ ترتيب الآثار.

ومن المعلوم أنّ من آثار استصحاب عدم التذكية نجاسة الماء المفروض ، ومع الحكم بالنجاسة كيف يعقل استصحاب الطهارة ، إلاّ ممّن يجوّز اجتماع النقيضين وهو لا يقابل بالجواب.

وأمّا الثاني فيدلّ عليه وجوه :

الأوّل : الإجماع على العمل بالاستصحاب في الملزومات الشرعيّة لترتيب لوازمها ، وعدم الاعتناء بالاستصحاب في اللوازم في موارد كثيرة لا تحصى كثرة على وجه يحصل القطع من جهة الحدس بملاحظة كثرتها بكون مبنى عملهم على لزوم تقديم المزيل والاستصحاب السببي على غيره ، ومن جملة هذه الموارد استصحاب الطهارة من الحدث أو الخبث لإحراز جواز الدخول في الصلاة مع مقابلة استصحاب الأمر والاشتغال بها ، واستصحاب كرّيّة الماء أو إطلاقه لإحراز التطهّر أو التطهير به مع مقابلة استصحاب الحدث والنجاسة وعدم الطهارة ، واستصحاب حياة المفقود لترتيب وجوب إنفاق زوجته مع استصحاب عدم الوجوب ، واستصحاب عدالة الإمام في الاقتداء به مع استصحاب الأمر بالصلاة ، إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على المتتّبع.

ويؤيّده سيرة العقلاء وأهل العرف في الامور العرفيّة المستقرّة على الأخذ بالمزيل وعدم الاعتناء بالمزال.

ودعوى أنّ المسلّم من الإجماع إنّما هو على العمل بالاستصحاب السببيّة حيث لم يعارضها الاستصحابات المسبّبيّة - وضابطة العمل بها بالنسبة إلى الآثار الّتي لا تخالف الاستصحابات المسبّبيّة دون الآثار المخالفة لها ، ففي استصحاب كرّيّة الماء مثلا يحكم

ص: 469


1- انظر التحرير : 6 وحكاه عنه في مفتاح الكرامة 1 : 133.
2- القوانين 2 : 79.
3- الحدائق 1 : 527 - 528.

بطهارته عند ملاقاته النجاسة وجواز شربه واستعماله في سائر مشروط بالطهارة من مأكول ومشروب ونحوهما ، وإذا غسل به المتنجّس لا نسلّم الإجماع على الحكم بطهارته نظرا إلى استصحاب النجاسة فيه.

وهذا نظير أصالة الصحّة في العمل عند الشكّ بعد الفراغ حيث إنّها إنّما تقتضي الصحّة حيث لم يعارضها حكم ظاهري ، كما لو شكّ في صحّة الصلاة بعد الفراغ عنها للشكّ في الطهارة فيحكم بالصحّة عملا بأصالة الصحّة ، بخلاف ما لو عارضها حكم ظاهري كما لو تيقّن الحدث وشكّ في الطهارة قبل الصلاة فغفل ونسي تحصيل الطهارة إلى أن صلّى وفرغ عن الصلاة فتذكّر ، أو تيقّن نجاسة ثوبه وشكّ في تطهيره فنسي أن يغسله إلى أن صلّى فيه وفرغ عنها ، فإنّه لا يزال يشكّ في الصحّة بسبب ما سبقه من الشكّ قبل الصلاة وهو من الشكّ بعد الفراغ ، إلاّ أنّه لا يجوز البناء على أصالة الصحّة ، لمعارضة الحكم الظاهري وهو وجوب التطهّر وغسل الثوب حسبما اقتضاه استصحاب الحدث والنجاسة - شطط من الكلام ، إذ المفروض على ما قرّرناه استقرار عملهم بالاستصحابات السببيّة في الآثار كلّها حتّى ما خالف منها الاستصحابات المسببيّة.

هذا مع بطلان مقايسة ما نحن فيه على أصالة الصحّة في موضع معارضة الحكم الظاهري ، لأنّ أصالة الصحّة إنّما تجري حيث لم يعلم ببطلان العمل ، ولذا اخذ في موضوعه الشكّ بعد الفراغ ، والعلم بالبطلان أعمّ من الشرعي ، والاستصحاب في متيقّن الحدث والنجاسة المقتضي لوجوب التطهير والتطهّر علم شرعي ببطلان الصلاة بدونهما.

وبالجملة هذه الصلاة محكومة ببطلانها شرعا ومعه لا تأثير للأصل المذكور في اقتضاء الصحّة.

الثاني : الأخبار الاستصحابيّة الّتي هي العمدة في أدلّة حجّيّة الاستصحاب والاستدلال يقرّر من وجهين :

أحدهما : التعليلات الواردة فيها مع ملاحظة مواردها كقوله عليه السلام : « فإنّه كان على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين بالشكّ » بعد قوله : « لا ، حتّى يستيقن أنّه قد نام (1) » وقوله عليه السلام : لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت ، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا »

ص: 470


1- الوسائل 1 : 174 - 175 الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، ح 1.

بعد قوله عليه السلام : « تغسله ولا تعيد الصلاة » في صحيحته الاخرى (1) وقوله عليه السلام : « لأنّك أعرته إيّاه وهو طاهر ، ولم تستيقن أنّه نجّسه إيّاه » بعد قوله : « لا » في جواب السائل : « هل عليّ أن أغسله؟ » في رواية عبد اللّه بن سنان. (2)

فإنّه عليه السلام اعتبر اليقين بالطهارة حدثا وخبثا في عدم وجوب الوضوء وغسل الثوب وجواز الدخول في الصلاة بدونهما وصحّتها وعدم وجوب إعادتها ، وهذا إعمال للاستصحاب السببي ورفع اليد عن الاستصحاب المسبّبي المقتضي بخلاف هذه الأحكام وهو استصحاب الأمر بالصلاة. ثمّ تعليل إعمال الاستصحاب السببي بعدم جواز نقض اليقين بالشكّ يفيد عدم كون رفع اليد عن الحالة السابقة في جانب الشكّ المسبّبي نقضا لليقين بالشكّ ، وإلاّ كان تعليلا بالعلّة المشتركة وهو قبيح عقلا وعرفا.

والسرّ في عدم كونه نقضا لليقين بالشكّ : أنّ معنى الاستصحاب السببي ترتيب جميع آثار المستصحب عليه ما لم يحصل اليقين بارتفاعه ، ومن آثار الطهارة المستصحبة حدثا وخبثا جواز الدخول في الصلاة وصحّتها وعدم وجوب إعادتها بدون التطهير ، وهذا يقين شرعي بارتفاع الأمر بالصلاة وسقوطه ، فيكون رفع اليد عن الحالة السابقة في جانب المسبّب نقضا لليقين باليقين لا بالشكّ ، بناء على أنّ المراد من اليقين الناقض لليقين السابق أعمّ من اليقين الوجداني واليقين الشرعي.

وبذلك يظهر اطّراد الحكم المستفاد من الروايات بالتقريب الّذي ذكرناه من لزوم تقديم المزيل وعدم الاعتناء بالمزال ، ويندفع به شبهة اختصاصه بالمورد.

وثانيهما : أنّ قوله عليه السلام : « لا ينقض اليقين بالشكّ » وما بمعناه خصوصا قوله : « من كان على يقين فأصابه شكّ فليمض على يقينه ، فإنّ اليقين لا يدفع بالشكّ » بناء على تماميّة دلالته على الاستصحاب عامّ يشمل جميع أفراد اليقين والشكّ ، حتّى اليقين والشكّ في موارد تعارض الاستصحابين المزيل والمزال.

وهذا بعد تسليم العموم في لفظي « اليقين » و « الشكّ » ممّا لا كلام فيه ، بل الكلام في أنّ الداخل في هذا العموم بحسب إرادة الإمام عليه السلام هل هو اليقين والشكّ في جانب المزيل فقط ، أو في الجانبين معا ، أو في جانب المزال فقط؟ والأخير باطل للزومه التخصيص

ص: 471


1- الوسائل 2 : 1062 - 1062 الباب 41 من أبواب النجاسات ، ح 1.
2- الوسائل 2 : 1095 الباب 74 من أبواب النجاسات ، ح 1.

بلا موجب في الروايات بل تخصيص الأكثر ، وكذلك الثاني لأنّ دخول المزيل في العموم يوجب خروج المزال عن العموم خروجا موضوعيّا ، فتعيّن الأوّل.

وتوضيح ذلك كلّه : أنّ الاستصحاب وعدم نقض اليقين بالشكّ ممّا لا معنى له إلاّ لزوم ترتيب الآثار الشرعيّة المترتّبة على المتيقّن ما لم يحصل اليقين - بالمعنى الأعمّ من الشرعي - بارتفاعه ، سواء كانت الآثار ممّا لزم من بقاء المتيقّن بقاؤه كطهارة الجسم الطاهر الملاقي للماء المستصحب الكرّيّة أو الطهارة ، أو ممّا لزم من بقائه حدوثه كطهارة الجسم المتنجّس المغسول بالماء المستصحب الكرّيّة أو الطهارة.

ومن المعلوم أنّه ليس الحدث في مسألة من تيقّن الطهارة ، ولا النجاسة في مسألة من تيقّن طهارة ثوبه أو بدنه ، ولا الفسق في مسألة من تيقّن عدالته من آثار الأمر والاشتغال بالصلاة ، بل حصول الامتثال المسقط للأمر والصحّة المسقطة للإعادة من آثار العدالة والطهارة حدثا وخبثا.

وكذلك ليس عدم الكرّيّة فيما تيقّن كرّيّته ، وعدم الإطلاق فيما تيقّن كونه كرّا (1) والنجاسة في الكرّ المتيقّن طهارته المشكوك في تغيّره بالنجاسة من آثار نجاسة الثوب المغسول به ، ولا من آثار حدث من تطهّر به ، بل الطهارة الخبثيّة والحدثيّة من آثار كرّيّة الماء وإطلاقه وطهارته ، وكذلك ليس موت المفقود من آثار عدم وجوب نفقة زوجته ، بل وجوب نفقة الزوجة من آثار حياته ، وهكذا في سائر الأمثلة من تعارض المزيل والمزال.

وضابطه الكلّي أنّ نقيض الحالة السابقة في جانب المزال من آثار الحالة السابقة في جانب المزيل ، وليس نقيض هذه الحالة من آثار الحالة السابقة في جانب المزال.

وحينئذ فلو دخل اليقين والشكّ من المزال فقط في عموم قوله عليه السلام : « لا ينقض اليقين بالشكّ » لزم خروج اليقين والشكّ من المزيل عن حكم العامّ ، وهو تخصيص ينفيه الأصل ، مع كونه من تخصيص الأكثر لقلّة استصحاب غير سببي ، بخلاف ما لو دخل اليقين والشكّ في جانب المزيل في العموم ، فإنّه يوجب خروج المزال خروجا موضوعيّا ، لأنّ الاستصحاب بالنسبة إلى الآثار الشرعيّة المترتّبة على المستصحب علم شرعي ، فلا يكون رفع اليد عن الحالة السابقة من المزال نقضا لليقين بالشكّ ، بل هو نقض لليقين بالعلم الشرعي ، وهذا هو معنى ما يقال من أنّ الاستصحاب السببي مقدّم على الاستصحاب

ص: 472


1- والظاهر وقوع سهو هنا من قلمه الشريف ، وينبغي أن تكون العبارة هكذا : « وعدم الاطلاق فيما تيقّن كونه مطلقا » واللّه العالم.

المسبّبي من باب الحكومة.

ولكنّ الإنصاف : أنّه من باب التخصّص والخروج الموضوعي حسبما عرفت. وبهذا كلّه - مضافا إلى ما سبق - ظهر أنّ القول بالمعارضة الموجبة للتساقط والرجوع إلى أصل ثالث كما عن الشيخ والمحقّق والعلاّمة في بعض أقواله وجماعة من متأخّري المتأخّرين - على ما حكي - ليس على ما ينبغي.

فعن الشيخ في المبسوط (1) أنّه ذهب إلى عدم وجوب فطرة العبد المفقود إذا لم يعلم خبره ، والظاهر أنّ مستنده أصل البراءة.

وعن المحقّق في المعتبر (2) أنّه استحسنه مجيبا عن الاستدلال للوجوب بأصالة البقاء بأنّها معارضة بأصالة عدم الوجوب ، وعن تنظير وجوب الفطرة عنه بجواز عتقه في الكفّارة بالمنع عن الأصل تارة والفرق بينهما اخرى.

وعنه في اصول المعتبر (3) التصريح بأنّ استصحاب الطهارة عند الشكّ في الحدث معارض باستصحاب عدم براءة الذمّة بالصلاة بالطهارة المستصحبة.

كما أنّه ظهر أنّ ما عليه العلاّمة في بعض كتبه (4) - على ما حكي - من الحكم بطهارة الماء القليل الّذي وقع فيه صيد مرميّ لم يعلم استناد موته إلى الرمي مع الحكم بنجاسة الصيد عملا بالاستصحابين ، ليس على ما ينبغي. لكن عنه في غير واحد من كتبه (5) الحكم بنجاسة الماء ، وتبعه الشهيدان (6) واختاره بعض مشايخنا قدس سره (7) وهو المختار ، لأنّه إذا ثبت بأصالة عدم التذكية موت الصيد جرى عليه جميع أحكام الميتة الّتي منها انفعال الماء الملاقي له.

وخلاصة الكلام : أنّ إعمال الاستصحابين أو تعارضهما الموجب للتساقط والرجوع إلى المرجّحات مبنيّ على توهّم شمول الحكم المستفاد من الأخبار لهما معا ، بدعوى : أنّ الشكّ واليقين في جانب السبب مع الشكّ واليقين في جانب المسبّب مع قطع النظر عن الأخبار ودلالتها على الاستصحاب - أعني لزوم بقاء الحالة السابقة في زمن الشكّ -

ص: 473


1- المبسوط 1 : 239.
2- المعتبر 2 : 598.
3- المعتبر 1 : 32.
4- انظر التحرير : 6 ، وحكاه عنه في مفتاح الكرامة 1 : 133.
5- انظر قواعد الأحكام 1 : 190 ونهاية الإحكام 1 : 256 ، المنتهى 1 : 173.
6- راجع الذكرى 1 : 106 والبيان : 103 وتمهيد القواعد : 289 - 290.
7- فرائد الاصول 3 : 402.

في كونهما مصداقين للشكّ اللاحق باليقين السابق على حدّ سواء ، فليكن الحكم المستفاد من الأخبار باعتبار عموم لفظي « اليقين » و « الشكّ » لكلّ شكّ لا حق ويقين سابق شاملا لهما على حدّ سواء.

ويدفعه : أنّ مناط عموم الأخبار إنّما هو صدق نقض اليقين ، وهذا إنّما يصدق إذا بقي الشكّ على حاله ، ويختصّ ذلك باليقين والشكّ في جانب السبب ، لتبدّل الشكّ في جانب المسبّب بالعلم بعدم البقاء ولو شرعا ، فشمول العامّ للشكّ السببي كما هو المقطوع به ينزّل الشكّ المسبّبي منزلة العدم ، ويوجب اليقين الشرعي بعدم بقاء الحالة السابقة الّتي في جانبه ، فيكون رفع اليد عن هذه الحالة السابقة من قبيل نقض اليقين باليقين لا بالشكّ ، فلا يشمله عموم الحكم المستفاد من النهي في قوله « لا ينقض » فخروج الاستصحاب المسبّبي عن الحكم العامّ إنّما هو من جهة عدم المقتضي لا من جهة وجود المانع.

وبذلك يقوى القول بكون تقديم الاستصحاب السببي على المسبّبي من باب الحكومة ، وإن كان الأقوى كونه من باب الورود.

ومن هنا ظهر أنّه لا وجه للقول بالرجوع إلى المرجّحات الخارجيّة كما هو ظاهر الإطلاق المحكيّ عن تمهيد القواعد (1) في تعارض الأصلين ، فإنّه إنّما يصلح مع وجود المعارضة وقد عرفت أن لا معارضة ، لعدم شمول العامّ كلا المتعارضين ، كما أنّه لا وجه للقول بطرح الاستصحابين معا والرجوع إلى ما يوجد في المورد من سائر الاصول كالبراءة والاشتغال والتخيير ، إذ مع خلوّ الاستصحاب السببي عن المعارض باعتبار الحكومة أو الورود لا مفرّ من العمل بمقتضاه ، نظرا إلى أنّ العبرة في مقام المعارضة إنّما هو بالمعارضة الفعليّة فلا يكفي المعارضة الفرضيّة ، كما أنّه قد اتّضح فساد القول بالجمع بينهما بما لا مزيد عليه.

وممّا يرشد إلى فساد توهّم الجمع أنّ الاستصحاب السببي معه يصير كاللغو لانتفاء ما يترتّب عليه من الفوائد ، إذ المقصود بذلك الاستصحاب إمّا ترتيب الآثار الموافقة له وهي الآثار الموجودة سابقا كالحكم بزوجيّة زوجة زيد باستصحاب حياته فلا حاجة لها إلى ذلك الاستصحاب ، لكفاية الاستصحاب الجاري في نفس هذه الآثار ، إذ المفروض أنّ

ص: 474


1- تمهيد القواعد : 288 - 289.

الشكّ في حياة زيد يستلزم الشكّ في بقاء زوجيّة زوجته ، فكما أنّ الاستصحاب يستدعي بقاء الحياة فكذلك استصحاب بقاء الزوجيّة يستدعي الزوجيّة.

أو ترتيب الآثار المخالفة له وهي الآثار المعدومة سابقا ، فلا حاجة لها إليه أيضا بالفرض ، لأنّها تابعة للاستصحاب المسبّبي المعارض له ، وإن فرضت الكلام في الآثار الّتي لم يعلم حالتها السابقة فلا حاجة لها أيضا إلى هذا الاستصحاب ، لأنّها مندرجة لا محالة تحت أصل من الاصول من البراءة والإباحة والاشتغال والتخيير ، ومع كفاية هذا الأصل لا حاجة إلى اعتبار أمر زائد.

ولكن آورد : بمنع عدم الحاجة إلى الاستصحاب في الآثار السابقة ، فإنّ اجراء الاستصحاب في نفس تلك الآثار موقوف على احراز الموضوع لها ، وهو مشكوك فيه ، فلا بدّ من استصحاب الموضوع إمّا ليترتّب عليه تلك الآثار فلا يحتاج إلى الاستصحاب في أنفسها المتوقّفة على بقاء الموضوع يقينا كما سبق تحقيقه في مسألة اشتراط بقاء الموضوع ، وإمّا لتحصيل شرط الاستصحاب في نفس تلك الآثار كما توهّمه بعض في المسألة المتقدّمة ، فالاستصحاب في الملزومات ممّا يحتاج إليه على التقديرين ، فتأمّل.

الثاني : في تعارض الاستصحابين إذا كان الشكّ فيهما مسبّبا عن أمر ثالث

المقام الثاني : فيما كان الشكّ في كلا المتعارضين مسبّبا عن ثالث ، وحيث إنّ ذلك لا ينفكّ عن العلم الإجمالي بانتقاض إحدى الحالتين السابقتين ، فالأمر فيهما يدور بين طرحهما معا والرجوع إلى ما يجري في المورد من الاصول ، وبين الجمع بينهما في العمل ، ويختلف ذلك بحسب الموارد باعتبار حدوث تكليف إلزامي بسبب العلم الإجمالي بحيث يلزم من العمل بالأصلين مخالفته بعنوان القطع الّتي يعبّر عنها بالمخالفة القطعيّة العمليّة ، وعدم حدوث تكليف إلزامي بسببه على الوجه المذكور ، فهاهنا صورتان كان المتّجه فيهما التفصيل بينهما في الحكم من حيث الطرح والجمع.

الصورة الاولى : ما كان العلم الإجمالي مؤثّرا في حدوث تكليف إلزامي ، كما في الانائين الطاهرين إذا أصاب أحدهما نجاسة واشتبه ، فإنّ الاستصحاب في كلّ منهما بانفراده يقتضي البناء على الطهارة مع العلم بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما إجمالا وتأثيره في تنجّز التكليف بالاجتناب عمّا تنجّس منهما في الواقع ، وحينئذ فالعمل بالاستصحابين معا يوجب المخالفة القطعيّة العمليّة لذلك العلم الإجمالي ، وهي قبيحة عقلا

ص: 475

وشرعا ، والعمل بأحدهما بعينه ترجيح بلا مرجّح ، والعمل بأحدهما على وجه التخيير أيضا غير واضح بل غير سائغ ، إذ لا دليل على التخيير هنا من عقل ولا شرع ، أمّا الثاني : فظاهر وأمّا الأوّل : فلأنّ العقل إنّما يحكم بالتخيير في فردين من العامّ شملهما العموم ولكن وقع بينهما تعارض لأجل امتناع الجمع بينهما في العمل من جهة خارجيّة ، كما لو أمر السيّد عبده بضيافة كلّ عالم فوقع التعارض بين ضيافة زيد وضيافة عمرو لعدم إمكان اجتماعهما معا ، فحينئذ يحكم العقل بالتخيير بينهما بالأخذ بأحدهما وطرح الآخر ، لوجوب العمل بالعامّ بقدر الإمكان.

والمفروض أنّ أحدهما لا بعينه ممكن والممتنع هو الأخذ بالآخر لا بعينه بشرط انضمامه إلى الأوّل ، فيؤخذ بالممكن ويطرح غيره.

وأمّا إذا كان تعارضهما لخروج أحدهما عن العامّ واشتباه الخارج بغيره ممّا هو داخل تحته ، كما إذا علمنا في المثال أنّ السيّد أخرج عن العموم بمخصّص استثنائي مثلا واشتبه الخارج بين كونه زيدا أو عمرو فلا تخيير حينئذ عقلا ، بل العرف يحكم بالتوقّف ، وظاهر أنّ محلّ البحث من هذا القبيل ، لوضوح أنّ مناط الاستصحاب هو اليقين السابق والشكّ اللاحق ، فما لا شكّ فيه باعتبار حصول العلم بعدم البقاء فلا يتناوله عموم « لا ينقض ».

والمفروض في محلّ التعارض ارتفاع ذلك المناط في أحدهما ، وهذا يوجب انتفاء أحد الاستصحابين في الواقع ، فالموجود في المقام استصحاب واحد معيّن في الواقع وقد اشتبه محلّه ، ومعه لا يعقل التخيير ، ولا معنى أيضا لترجيح أحدهما بالرجوع إلى المرجّحات إن وجد مرجّح وإلاّ فالتخيير ، فإنّ كلاّ من الترجيح مع المرجّح والتخيير بدونه فاسد ، أمّا الثاني : فلما عرفت ، وأمّا الأوّل : فلأنّ المرجّح الّذي يرجّح أحد المتعارضين إمّا أن يكون من قبيل الأمارات الظنّية كالشهرة ونحوها ، أو يكون من غيرها من الاصول العمليّة الّتي لا يدور اعتبارها على ظنّ ، ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلأنّ الأمارة الظنّية المفروضة في المورد إن كانت معتبرة بحسب الشرع خصوصا أو عموما فهي بنفسها حجّة مستقلّة لا حاجة معها إلى التمسّك بالاستصحاب ، بل بناء على ما سبق تحقيقه من حكومة الأمارات على الاستصحاب لا مجرى له مع وجودها ، وافقت مؤدّاه أو خالفت.

نعم لو كان اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ النوعي أمكن ترجيحه بالمرجّحات

ص: 476

الاجتهاديّة ، غير أنّ هذه الطريقة على ما عرفت غير تامّة.

وإن كانت من الظنون الغير المعتبرة فهي لا تنهض للترجيح كما لا تنهض للدليل ، مع أنّها لكونها ناظرة إلى الواقع لا يوافق مؤدّاها للاستصحاب الّذي هو حكم ظاهري ، فلا تصلح للترجيح لوجوب اتّحاد مدلولي المرجّح والمرجّح.

وبالجملة الاستصحاب المأخوذ من الأخبار يقضي بكون المستصحب أو الأثر المترتّب عليه حكما ظاهريّا اخذ في موضوعه الجهل بالواقع ، والمرجّح الظنّي يقضي بكونه حكما واقعيّا اخذ في موضوعه الواقعة من حيث هي ، ومن الظاهر تغاير الحكمين فلا يتأكّد ولا يتقوّى أحدهما بالآخر ، ولذا لو كان هذا المرجّح من الظنون المعتبرة خصوصا أو عموما ارتفع بوجوده موضوع الحكم الظاهري.

وأمّا الثاني : فلأنّ الأصل العملي الّذي يرجع إليه للترجيح لا يخلو من كونه بحسب الرتبة مقدّما على الاستصحاب فيكون مزيلا له ، فلا مجرى معه لشيء من الاستصحابين ليكون مرجّحا لأحدهما أو مؤخّرا عنه فلا يصلح لكونه مرجّحا مع وجود ما هو مقدّم عليه ، كما لا يصلح لكونه دليلا معه ، نظير أصالة الإباحة والبراءة في مقابلة الدليلين الاجتهاديّين المتعارضين. ومرجعه إلى ما ذكرناه مرارا من أنّ الأصل العملي كما لا يعارض الدليل فكذلك لا يعاضده.

أو مقارنا له على معنى كونه مساويا للمتعارضين من حيث الاعتبار والحجّية ، فهو من حيث كونه في عرض الاستصحابين بل من سنخهما - على معنى استصحاب ثالث موافق لأحدهما إذ لا يعقل مساواته لهما في الرتبة إلاّ على هذا التقدير - تابع لما يوافقه منهما في الحكم ، والمفروض عدم إمكان العمل بذلك من جهة التعارض فكذلك ذلك المساوي الموافق له ، ومجرّد كونه معه وموافقته له لا يوجب قوّة فيه أصلا.

لا يقال : إنّ الأمر حينئذ بالنسبة إلى عمومات الاستصحاب دائر بين تخصيص الأكثر وتخصيص الأقلّ ، لدورانه بين طرح الاستصحابين المتوافقين وإخراجهما من العمومات وطرح الاستصحاب المخالف لهما وإخراجه عنها ، ومن البيّن أولويّة الثاني تقليلا للتخصيص المخالف للأصل ، وهو المراد من ترجيح أحد المتعارضين بالأصل الثالث الموافق لأحدهما المساوي لهما في مرتبة الاعتبار.

لأنّا نقول : إنّ أولوية تخصيص الأقلّ إنّما هي حيث كان الأقلّ مندرجا في الأكثر ، كما

ص: 477

إذا شككنا في قوله : « أكرم العلماء » مقرونا بمخصّص استثنائي مثلا في أنّ المخرج رجل واحد من الفقهاء مثلا أو رجلان ، فالعرف في نحوه يحكم بأولويّة الأقلّ بل العقل أيضا حاكم ، لأنّه القدر المتيقّن ممّا خرج من حكم العامّ.

وأمّا إذا لم يكن كذلك بل كانا متبائنين بأن لا يكون الأقلّ من جنس الأكثر كما إذا شككنا في المثال المذكور في أنّ المخرج هل هو الفقهاء الّذين هم ثلاثة رجال أو الحكماء الّذين هم رجلان أو أربعة رجال فلا أولويّة للأقلّ ، لعدم بناء العرف على الحكم بذلك ، ولعدم حكم العقل أيضا بل العقل حاكم بالوقوف ، وبناء العرف أيضا على التوقّف.

المبحث الثالث : في اشتراط التمسّك بالاستصحاب بالفحص عن الدليل الاجتهادي

المبحث الثالث : في اشتراط التمسّك بالاستصحاب بالفحص عن الدليل الاجتهادي بل مطلق المعارض ، وظاهر من ذكره كونه شرطا للاعتبار ، ولكن الّذي يساعد عليه النظر كونه شرطا للجريان ، لا لما علّل به من أنّ المقتضي للفحص إنّما هو العلم الإجمالي بوجود معارضات لجملة كثيرة من الاستصحابات مع وقوع الاشتباه ، ولا مجرى للاستصحاب إلاّ أن يعلم خلوّه عن المعارض ، وهو لا يمكن عادة إلاّ بالفحص ، لأنّه إن تمّ يقضي بعدم الاعتبار لا بعدم الجريان ، بل لأنّ المعارض على تقدير وجوده في الواقع فلا يخلو عن كونه واردا على الاستصحاب أو حاكما عليه كما سبق تحقيقه في المبحث الثاني.

وأيّا ما كان فلا مجرى للاستصحاب معه ، وبهذا ظهر وجه الاشتراط ودليله وهو أنّ الاستصحاب لا يجري إلاّ في موضوعه ولا يحرز موضوعه إلاّ بفقد ما يرد عليه أو يحكم عليه ، ولا يحرز ذلك إلاّ بالفحص فيجب.

هذا مضافا إلى الإجماع محصّلا ومنقولا ، والأدلّة الدالّة على وجوب سؤال أهل الذكر والتفقّه في الدين ، وطلب العلم بالأحكام كتابا وسنّة ، نظرا إلى أنّ مورد هذه الأدلّة هو الجاهل ، والشاكّ في بقاء الحالة السابقة جاهل. ولكن هذا كلّه في الأحكام الّتي يسمّى اشتباهها شبهة حكميّة وأمّا الموضوعات كالعدالة والرطوبة ونحوها فقضيّة ما ذكرناه من تقرير الوجه الأوّل من أنّ الاستصحاب لا يجري إلاّ في موضوعه الّذي لا يحرز إلاّ بالفحص لزوم اعتباره فيها ، لما عرفت في المبحث السابق من أنّ في الأمارات والاصول التعبّديّة المعمولة في الموضوعات الخارجيّة أيضا ما يكون واردا أو حاكما على الاستصحاب فلا مجرى له مع وجوده ، ولكنّ الظاهر عدم وجوب الفحص فيها بدليل الإجماع محقّقا ومنقولا ، وعليه فحصل الفرق بين الاستصحاب في الشبهات الحكميّة

ص: 478

وبينه في الشبهات الموضوعيّة.

ومحصّله كون العلم بعدم المعارض شرطا للعمل بالاستصحاب في الأوّل والعلم بوجود المعارض مانعا من العمل به في الثاني ، وحيث لا يعتبر فيه العلم بالعدم فلذا لا يشترط في العمل به الفحص عن المعارض وإن احتمل وجوده ، بل علم وجوده فيما بين الاستصحابات ، من غير فرق في ذلك بين المجتهد ومقلّده حيث رخّصه المجتهد في العمل به في الموضوعات إن جوّزناه فيعمل به حينئذ بلا فحص ، غير أنّه ربّما يستشكل في جواز ترخيصه في العمل به ولو كان عاميّا بحتا لأنّه كثيرا مّا يعمل بالاستصحاب مع معارضة استصحاب آخر مزيل له أو غيره ممّا يرد أو يحكم عليه من الأمارات أو الاصول ، لعدم تميّزه بين المزيل والمزال ، والوارد والمورود ، والحاكم والمحكوم عليه ، فالوجه حينئذ أن لا يرخّصه المجتهد في العمل بالاستصحاب على الوجه الكلّي ، بل يفتي له في كلّ مورد استصحابي بالحكم الاستصحابي الموجود في هذا المورد بالخصوص ، مثل أن يقول فيمن تيقّن الطهارة وشكّ في الحدث : أنّه يبني على الطهارة ، وفيمن تيقّن الحدث وشكّ في الطهارة : أنّه يبني على الحدث ، وفيمن تيقّن طهارة ثوبه وشكّ في تنجسه أو تيقّن نجاسته وشكّ في ازالتها : أنّه يبني على الطهارة في الأوّل والنجاسة في الثاني ، وهكذا يصنع في سائر الموارد كما هو الطريقة المعمولة عند أصحابنا المفتين رضوان اللّه عليهم.

ويمكن الفرق بين المقلّد العالم الّذي يعرف الاستصحاب وشرائطه فيرخّصه في العمل والعامي الّذي ليس بهذه المثابة فلا يرخّصه في العمل به ، بل يفتي له بما يحتاج إليه من الحكم الاستصحابي في كلّ مورد بما يخصّه.

هذا آخر ما أوردنا في باب الاستصحاب ، الحمد لله أوّلا وآخرا وظاهرا وباطنا ، وقد وقع الفراغ في ليلة الأربعاء السابعة والعشرين من الجمادي الأوّل من سنة ألف ومائتين وخمسة وثمانين سنة 1285.

ص: 479

ص: 480

فهرس المحتوى

تعليقة : في أصل البراءة... 3

الفرق بين الدليل والأصل... 3

في بيان مجاري الاصول العمليّة... 3

عدم كون أصل البراءة من الأدلّة العقليّة... 4

في بيان معنى المراد من « الأصل » في المقام... 5

وجه تقديم الدليل على أصل البراءة... 6

في أقسام الشكّ... 9

المقام الأوّل : الشكّ في التكليف لشبهة حكميّة... 12

المطلب الأوّل : الشبهة الحكميّة الوجوبيّة... 12

المسألة الاولى : في الشبهة الوجوبيّة الناشئة من جهة فقدان النصّ... 12

الآيات :

منها : الآية الاولى : قوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) ... 12

منها : الآية الثانية : قوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) ... 14

منها : الآية الثالثة : قوله تعالى : ( وَما كانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ ) 15

الروايات :

منها : حديث الرفع... 16

منها : حديث رفع القلم عن الصبيّ والمجنون... 19

منها : حديث الحجب... 23

ص: 481

منها : قوله عليه السلام : « الناس في سعة ما لم يعلموا »... 24

الاستدلال بالإجماع على البراءة... 26

الاستدلال بالعقل... 29

المسألة الثانية : في الشبهة الوجوبيّة الناشئة من إجمال النصّ... 31

المسألة الثالثة : في الشبهة الوجوبيّة الناشئة عن تعارض النصّين... 33

المسألة الرابعة : في الشبهة الموضوعيّة الوجوبيّة... 34

التنبه على أمرين :... 36

التنبيه الأوّل : بيان المراد من الوجوب المبحوث عنه في هذا المقام... 36

التنبيه الثاني : التسامح في أدلّة السنن... 40

المطلب الثاني : في الشبهة الحكميّة التحريميّة... 51

أدلّة البراءة :... 52

فمن الآيات : قوله تعالى : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ ) 53

ومن السنّة : قوله عليه السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي »... 54

منها : قوله عليه السلام : « أيّما امرئ ركب شيئا بجهالة فلا شيء عليه »... 56

منها : قوله عليه السلام « كلّ شيء يكون فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا ... »... 56

تقرير الإجماع على البراءة في الشبهات الحكميّة التحريميّة... 63

دليل العقل على البراءة في الشبهات الحكميّة التحريميّة... 63

الوجوه الاخر المستدلّ بها على البراءة في الشبهات الحكميّة التحريميّة... 63

أدلّة الأخباريّون على الاحتياط في الشبهات الحكميّة التحريميّة... 64

الآيات :... 64

1 - الطائفة الاولى من الروايات المستدلّ بها على الاحتياط : الروايات الآمرة بالاحتياط 65

الطائفة الثانية : أخبار التوقّف... 72

الطائفة الثالثة : أخبار التثليث... 78

تقرير دليل العقل على الاحتياط في الشبهات الحكميّة التحريميّة... 82

كلام الشهيد في الحيوان المتولّد من طاهر ونجس... 87

ص: 482

تذنيب : في الشبهة التحريميّة الموضوعيّة... 90

المطلب الثالث : في دوران الأمر بين الوجوب والتحريم لشبهة حكميّة أو موضوعيّة... 95

المقام الثاني : الشكّ في المكلّف به لشبهة حكميّة أو موضوعيّة... 109

المطلب الأوّل : في دوران الأمر بين الحرام وغير الواجب... 109

الصورة الاولى : في الشبهة الموضوعيّة من اشتباه الحرام بغيره... 109

المرحلة الأولى : في الشبهة المحصورة... 110

التنبيهات :... 129

الأمر الأوّل : في أنّ وجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة هل هو على حدّ الوجوب الشرعي أو لا؟    129

الأمر الثاني : في مناط وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة... 130

الأمر الثالث : في وجوب الاجتناب عن ملاقي المشتبه في الشبهة المحصورة... 134

فروع في ملاقي المشتبه... 136

الأمر الرابع : في الاضطرار إلى بعض أطراف الشبهة... 142

الأمر الخامس : حكم الشبهة المحصورة في التدريجيّات... 145

الأمر السادس : عدم الفرق في وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة بين ما لو كان الاشتباه بدويّا أو حصل بعد ما كانا ممتازين     147

المرحلة الثانية : في الشبهة الغير المحصورة... 148

الصورة الثانية وغيرها من صور دوران الأمر بين الحرام وغير الواجب... 156

المطلب الثاني : في دوران الأمر بين الواجب وغير الحرام... 157

الصورة الاولى : ما لو كان الاشتباه عن شبهة موضوعيّة... 157

التنبيهات :... 160

الصورة الثانية : ما لو كان اشتباه الواجب بغير الحرام لشبهة حكميّة من جهة فقد النصّ 169

الصورة الثالثة : ما لو اشتبه الواجب بغيره لشبهة حكميّة من جهة إجمال النصّ... 176

الصورة الرابعة : ما لو كان الاشتباه لتعارض النصّين وتكافؤهما... 176

ص: 483

دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر... 177

دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين... 177

الصورة الاولى : ما إذا كانت الشبهة حكمية لفقد النص المعتبر... 177

المقام الأوّل : في الشبهة الناشئة عن الشكّ في الجزئيّة... 177

المقام الثاني : في الشبهة الناشئة عن الشكّ في الشرطيّة... 187

الصورة الثانية : في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر لو كانت الشبهة الحكميّة من جهة الشكّ في الجزئيّة أو الشرطيّة لإجمال النصّ     191

الصورة الثالثة : الشبهة الحكميّة في دوران المكلّف به بين الأقلّ والأكثر لتعارض النصّين 195

الصورة الرابعة : دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر باعتبار الشكّ في الجزئيّة أو الشرطيّة موضوعيّة 196

تنبيهات الأقلّ والأكثر... 196

الأمر الأوّل : مقتضى الأصل فيما إذا ثبت جزئيّة شيء للعبادة وشكّ في ركنيّته... 197

المسألة الاولى : في بطلان العبادة المركّبة بنقص جزئها سهوا إلاّ أن يقوم على صحّته دليل 197

المسألة الثانية : في بطلان العبادة بزيادة جزئها عمدا وعدم بطلانها... 204

المسألة الثالثة : في زيادة الجزء سهوا... 209

الأمر الثاني : هل الأصل في الشرط والجزء كونهما مطلقتين أو مقيّدين؟... 209

الأمر الثالث : إذا ثبت شرطيّة شيء للعبادة وشكّ في كونه شرطا واقعيّا أو علميّا... 213

الأمر الرابع : في تعارض الجزء والشرط عن الإتيان بالعبادة... 215

الأمر الخامس : إذا ثبت اعتبار شيء في العبادة ودار بين كونه جزءا أو شرطا... 215

الأمر السادس : في دوران الأمر بين الشرطيّة والمانعيّة... 216

خاتمة : في شروط إعمال أصل البراءة... 217

في الاستصحاب... 250

الاستصحاب لغة واصطلاحا... 250

التنبيه على امور :

ص: 484

الأمر الأوّل : تقوّم الاستصحاب باليقين السابق والشكّ اللاحق... 254

الأمر الثاني : في كون الاستصحاب من الأدلّة العقليّة... 256

هل الاستصحاب أصل عملي أو أمارة ظنّية؟... 257

هل الاستصحاب مسألة اصوليّة أو الكلاميّة أو الفقهيّة؟... 258

الأمر الثالث : في تحرير محلّ النزاع... 262

في تقسيمات الاستصحاب... 264

الأقوال في حجّيّة الاستصحاب... 281

في أدلّة حجّيّة الاستصحاب... 284

حجّة المانعين لحجّيّة الاستصحاب... 300

أخبار الاستصحاب... 303

الاستدلال بالإجماع على حجّيّة الاستصحاب... 332

الكلام في حجج المفصّلين

في مقالة الفاضل التوني... 333

القول بالتفصيل بين الامور العدميّة والوجوديّة... 339

مقالة النراقي في المناهج... 347

القول بالتفصيل بين الامور الخارجيّة والأحكام الشرعيّة... 353

القول بالتفصيل بين الحكم الشرعي الكلّي وغيره... 358

القول بالتفصيل بين استصحاب حال النصّ واستصحاب حال الإجماع... 363

مقالة المحقّق الخوانساري رحمه اللّه... 368

مقالة المحقّق السبزواري رحمه اللّه في الذخيرة... 374

تنبيهات الاستصحاب :

المطلب الأوّل : عدم جريان الاستصحاب في الامور الاعتقاديّة... 377

المطلب الثاني : في الأصل المثبت... 386

المطلب الثالث : في أصالة تأخّر الحادث... 395

المطلب الرابع : في استصحاب صحّة العبادة... 400

ص: 485

المطلب الخامس : في استصحابي الاشتغال والبراءة... 404

المطلب السادس : في الشكّ في الحادث... 408

المطلب السابع : في الاستصحاب المتمسّك به لإثبات وجوب الأجزاء الباقية من العبادة المركّبة بعد تعذّر بعضها الآخر     412

المطلب الثامن : في الاستصحاب الكلّي... 414

المطلب التاسع : في استصحاب الامور التدريجيّة... 417

المطلب العاشر : في الاستصحاب التقديري... 419

المطلب الحادي عشر : في استصحاب الحكم العرضي... 423

المطلب الثاني عشر : في الشكّ الساري... 424

المطلب الثالث عشر : في دوران الأمر بين التمسّك بالعامّ أو استصحاب حكم المخصّص 429

المطلب الرابع عشر : في أصالة عدم النسخ... 435

خاتمة : في شروط الاستصحاب... 440

المبحث الأوّل : في اشتراط بقاء الموضوع... 441

المبحث الثاني : في اشتراط عدم المعارض للاستصحاب... 451

المقام الأوّل : في تعارض الاستصحاب مع الدليل الاجتهادي... 453

المقام الثاني : في تعارض الاستصحاب مع الأمارات... 455

المسألة الاولى : في تعارض الاستصحاب مع قاعدة اليد... 456

المسألة الثانية : في تعارض الاستصحاب مع أصالة الصحّة... 459

المسألة الثالثة : في مقابلة الاستصحاب مع القرعة... 462

المقام الثالث : في تعارض الاستصحابين... 466

الأوّل : في تعارض الاستصحاب السببي والمسبّبي... 467

الثاني : في تعارض الاستصحابين إذا كان الشكّ فيهما مسبّبا عن أمر ثالث... 475

المبحث الثالث : في اشتراط التمسّك بالاستصحاب بالفحص عن الدليل الاجتهادي... 478

ص: 486

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.