تعليقة على معالم الاصول المجلد 5

هوية الكتاب

المؤلف: السيّد علي الموسوي القزويني

المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني

الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي

المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1423 ه.ق

ISBN (ردمك): 964-470-313-8

المكتبة الإسلامية

تعليقة علی معالم الأصول

تأليف: الفقية المحقق والأصولي المدقق العلّامة السيد علي الموسوي القزويني قدس سره

تحقيق سبطه: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني

الجزء الخامس

مؤسسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة

ص: 1

اشارة

تعليقة علی معالم الأصول

(ج5)

تأليف: العلّامة السيّد عليّ الموسويّ القزوينيّ قدس سره

الموضوع: الأصول

تحقيق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزوينيّ

طبع و نشر: مؤسسة النشر الإسلامي

الطبعة: الأولی

المطبوع: 500 نسخة

التاريخ: 1423 ه

مؤسسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة

ص: 2

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى اللّه على محمّد وآله الطاهرين ، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

وبعد فالقول في نبذة ممّا يتعلّق بالأدلّة وما يستتبعها من القطع والظنّ من حيث الدليليّة والحجّيّة وعدمهما ، وينبغي قبل الخوض في أصل المطلب رسم مقدّمتين من باب المبادئ أو لتعين في زيادة البصيرة في البحث.

اشارة

في شرح ماهيّة الدليل والحجّة

المقدّمة الاولى

في شرح ماهيّة الدليل والحجّة ببيان المهمّ ممّا يتعلّق بهذا المقام ، فنقول : إنّ الدليل والحجّة متّحدان بالذات متغايران بالاعتبار ، لأنّهما بحسب الاصطلاح اسمان لشيء واحد ذي جهتين :

إحداهما : كونه بحيث يهتدى به الإنسان إلى مطلوب خبري ، ويتوصّل به إلى مجهول تصديقي.

واخراهما : كونه بحيث يغلب به الإنسان على خصمه ، ويلزمه على الإذعان بالمطلوب الخبري ، فبالاعتبار الأوّل يقال : « له الدليل » لمناسبة أنّه من الدلالة ، وهي لغة الهداية والإرشاد ، فالدليل هو الهادي والمرشد.

وبالاعتبار الثاني يقال له : « الحجّة » لمناسبة أنّ الحجّة لغة الغلبة ، فهو ما يحتجّ به الإنسان على الخصم ويغلب عليه ، تسمية للسبب باسم المسبّب ، فهما مقولان على الشيء الواحد بالتساوي لا الترادف ، لمكان ما بينهما من التغاير بالاعتبارين ، ولو اكتفينا في الترادف بمجرّد الاتّحاد في المفهوم والمصداق ، ولم نعتبر فيه اتّحاد الجهة والاعتبار كانا مترادفين.

ثمّ إنّ ذلك الشيء الواحد عرّف عند الاصوليّين ب « ما يتوصّل بصحيح النظر فيه إلى

ص: 3

مطلوب خبري » ، وقد يزاد قيد « الإمكان » ، فيقال : « ما يمكن التوصّل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري » ، بتخيّل أنّه لولاه لم يتناول التعريف الأدلّة المغفول عنها ، وفيه نظر.

وعند المنطقيّين : « بأنّه قولان فصاعدا يلزمهما لذاتهما قول ثالث » والمراد بالقول الثالث هو النتيجة المعبّر عنها في التعريف الأوّل بالمطلوب الخبري ، واعتبار القولين فصاعدا لأنّ الإنتاج الّذي هو الدلالة بمعنى الهداية والغلبة لا يتأتّى بل لا يمكن بأقلّ من مقدّمتين يطلب في إحداهما إثبات لازم لموضوع المطلوب وهو الأصغر ، وجعل ذلك اللازم في اخراهما ملزوما لمحموله الّذي هو الأكبر.

ولأجل ذا وجب اشتمال إحدى المقدّمتين على موضوع المطلوب وتسمّى « الصغرى » واخراهما على محموله وتسمّى « الكبرى » ، ولقد اشير إلى اعتبار التعدّد على الوجه المذكور في التعريف الأوّل بعبارة « النظر » ، نظرا إلى كونه عبارة عن ترتيب امور معلومة.

والأصل في اشتمال المقدّمتين على موضوع المطلوب ومحموله ، أنّ التوصّل بهما إلى المطلوب لا يتأتّى إلاّ بأن يكون بين موضوع المطلوب ومحموله أمر مشترك يكون لازما للأوّل وملزوما للثاني ، فتحرز الصغرى من ملاحظة كونه لازما للأوّل ، والكبرى من ملاحظة كونه ملزوما للثاني.

وقد جرت العادة بتسمية ذلك الأمر المشترك - لمجرّد كونه مشتركا بينهما على الوجه المذكور - بحدّ الوسط ، وقد يعبّر بالوسط ، أو الأوسط كالمتغيّر فيما بين العالم والحادث في دليل حدوث العالم ، فإنّه لازم للعالم وملزوم للحادث.

هذا إذا كان تأليف القياس بطريق الشكل الأوّل ، وإلاّ فقد يكون الأمر المشترك لازما لكلّ من الموضوع والمحمول كما في الشكل الثاني ، أو ملزوما لهما كما في الشكل الثالث ، أو ملزوما للأوّل ولازما للثاني كما في الشكل الرابع.

وبما بيّنّاه علم أنّ قضيّة الاعتبار المذكور في الأمر المشترك إذا كان تأليف القياس بطريق الشكل الأوّل أن يكون الأكبر لازما للأوسط والأوسط لازما للأصغر ، ولأجل ذلك يتأتّى الإنتاج ويحصل العلم بالنتيجة ، لضابطة أنّ لازم اللازم لازم ، وملزوم الملزوم ملزوم ، وكأنّه من ثمّ يقال : بأنّ الشكل الأوّل بديهي الإنتاج.

وكيف كان فالعمدة من أجزاء الدليل ، بل الجزء الأعظم منه إنّما هو الأمر المشترك المذكور المسمّى وسطا. ومن هنا شاع في لسانهم - ولا الاصوليّين - إطلاق الدليل على

ص: 4

الوسط تسمية للجزء الأعظم باسم الكلّ ، فيقال : إنّ دليل حدوث العالم هو التغيّر.

ومن ذلك أيضا إطلاق الدليل عند الاصوليّين على الأدلّة الأربعة ، ولشيوع هذا الإطلاق في لسان الاصوليّين قد يتوهّم أنّ الدليل عندهم اصطلاح في المفرد ، وليس كما توهّم بل هو مجرّد شيوع إطلاق مجازا ، وقد يطلق الوسط أيضا على الدليل تسمية للكلّ باسم جزئه الأعظم ، كما يقال : هذه الدعوى تحتاج إلى وسط ، أي إلى دليل ، وهذا الإطلاق أيضا شائع إلاّ أنّ العكس أشيع.

وبالتأمّل - في جميع ما قرّرناه - يتبيّن أنّ النتيجة بعينها مندرجة في كلّ من الصغرى والكبرى ، وأنّ العلم بها مندرج في كلّ من العلم بالصغرى والعلم بالكبرى ولكن اندراجا إجماليّا.

فالفرق بين العلم بنفسها الّذي يستحصل بالنظر ، والعلم بها في ضمن الصغرى أو الكبرى إنّما هو بالإجمال والتفصيل ، وذلك أنّ الحكم على العالم بكونه متغيّرا مثلا يتضمّن الحكم عليه بجميع لوازم التغيّر ومنها الحدوث ، فقولنا : « العالم متغيّر » يتضمّن قولنا : « العالم حادث » ، وأنّ الحكم بالحادث على المتغيّر يتضمّن الحكم به على جميع ملزومات المتغيّر ومنها العالم ، فقولنا : « كلّ متغيّر حادث » أيضا يتضمّن قولنا : « العالم حادث » ولكن تضمّنا إجماليّا أيضا.

فالعلم بحدوث العالم في ضمن قولنا : « العالم متغيّر » وقولنا : « كلّ متغيّر حادث » إجمالي ، إمّا لإجمال في محمول القضيّة ، أو لإجمال في موضوعها ، وإنّما يكون تفصيليّا حيث لم يكن معه إجمال في موضوع القضيّة ولا في محمولها.

ومن ذلك يعلم أنّ إنتاج المقدّمتين للنتيجة عبارة عن صيرورة العلم الإجمالي المندرج في كلّ منهما علما تفصيليّا ، وهو العلم بثبوت الأكبر بعنوان أنّه أكبر للأصغر بعنوان أنّه أصغر ، أعني العلم بثبوت الحادث بعنوان أنّه حادث للعالم بعنوان أنّه عالم ، لا العلم بثبوت الحادث بعنوان أنّه متغيّر للعالم ، ولا العلم بثبوت الحادث بعنوان أنّه حادث للعالم بعنوان أنّه متغيّر.

ثمّ بالتأمّل أيضا يعلم أنّ الحجّة بالمعنى المرادف للدليل لا تطلق على القطع ولا على الظنّ ، كما لا يطلق عليهما الدليل ، ولا يلحقهما وصف الحجّيّة أيضا كوصف الدليليّة ، لأنّ القطع أو الظنّ ما يستحصل من الدليل ، والحجّة اسم للسبب فلا يطلق على المسبّب الحاصل منها.

نعم يطلق على كلّ منهما الحجّة بمعنى آخر من الحجّيّة بمعنى وجوب متابعته ، وقد

ص: 5

يعبّر عنه بوجوب العمل به ، وهو عبارة عن ترتيب آثار الواقع على متعلّق القطع أو الظنّ وهو المقطوع أو المظنون به ، والحجّيّة بمعنى وجوب المتابعة ليس بعين الحجّيّة بمعنى الدليليّة ولا من لوازمها ، لأنّ النسبة بينهما بحسب المورد عموم من وجه.

في صحّة اطلاق الدليل على القطع والظنّ

فالافتراق من الحجّيّة بمعنى الدليليّة في أحد المتعارضين حيث يرجّح عليه المعارض الآخر مثلا ، ومن الحجّيّة بمعنى وجوب المتابعة في القطع والظنّ ، ومن موارد اجتماعهما ظواهر الكتاب مثلا ، فيقال : « إنّها حجّة » قبالا لمن أنكر الحجّيّة كالأخباريّة ، فيمكن أن يراد بها الدليليّة ، في مقابلة من ينكر الحجّيّة بدعوى طروّ الإجمال لها كما عليه فرقة منهم ، كما يمكن أن يراد بها وجوب المتابعة ، في مقابلة من ينكر الحجّيّة بدعوى منع الشارع من العمل بها كما عليه طائفة منهم.

ثمّ قد ذكرنا سابقا أنّ « الدليل » يطلق شائعا على الأوسط وعلى قياسه « الحجّة » ، وهل يصحّ إطلاقها بهذا المعنى على القطع؟

قد يقال : بأنّ كون القطع حجّة غير معقول ، وعلّل - بما ملخّصه - أنّ الحجّة عبارة عن الوسط الّذي به يحتجّ على ثبوت الأكبر للأصغر ، فهي ممّا يوجب القطع بالمطلوب فلا تطلق على نفس القطع ، وهذا هو الّذي يساعد عليه ظاهر النظر ، لما عرفت من أنّ الحجّة بهذا المعنى عبارة عن الأمر المشترك بين موضوع المطلوب ومحموله ، والقطع إذعان للنسبة بينهما فيتغايران.

ولكنّ الّذي يقتضيه دقيق النظر هو أن يقال : بأنّ ذلك مبنيّ على دخول القطع في موضوع الحكم المقطوع به ، ووقوعه جزءا لذلك الموضوع ، فرجع الكلام إلى أنّ الأحكام الشرعيّة المثبتة بالأدلّة القطعيّة هل تثبت لموضوعاتها الواقعيّة ، أو لموضوعاتها المعلومة بالتفصيل؟ بدعوى دخول العلم في وضع ألفاظ موضوعات الأحكام ، أو بدعوى انصراف ألفاظها في خطابات الشرع إلى المعلومات بالتفصيل ، أو بدعوى قيام دليل من خارج على دخول العلم في الموضوع بحسب الجعل الشرعي.

ففي نحو قوله عزّ من قائل ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ) الخمر (1) إمّا أن تكون الحرمة المقطوع بها من جهة الآية ثابتة للخمر الواقعي ، أو للخمر المقطوع به بإحدى الاعتبارات الثلاث.

فعلى الأوّل يقال - في الاستدلال على حرمة خمر خارجي - : هذا خمر ، وكلّ خمر

ص: 6


1- آية في سورة المائدة : 3 وفي المصحف الشريف : i « حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ... » فما في المتن سهو من قلمه الشريف.

حرام ، فهذا حرام.

وعلى الثاني يقال : هذا مقطوع الخمريّة ، وكلّ مقطوع الخمريّة حرام ، فهذا حرام ، ويظهر ثمرة الفرق فيما جهل خمريّته.

فعلى الوجه الثاني لا يثبت له الخمريّة لانتفاء جزء موضوع الحرمة ، وعلى هذا الوجه يصحّ إطلاق « الحجّة » بمعنى الوسط على القطع ، لفرض وقوعه وسطا في الدليل المذكور ، باعتبار دخوله في موضوع الحكم الشرعي ، بخلافه على الوجه الأوّل.

وأمّا تحقيق المقام وترجيح أحد الوجهين فموكول إلى مباحث اخر ، قد فرغنا عن إثبات ما هو الحقّ فيها ، بمنع دخول العلم في مسمّيات الألفاظ بحسب الوضع ، ومنع انصراف ألفاظها في الخطابات إلى المعلومات ، ومنع قيام دليل على جزئيّة العلم لموضوعات الأحكام على الوجه الكلّي.

وحيث ثبت ذلك بدليل خاصّ ، فلا إشكال في إطلاق « الحجّة » على القطع في خصوص هذا المورد لا مطلقا والتعرّض لتعيينه خارج عن وظيفة الفنّ.

وأمّا الظنّ ففي كونه حجّة بمعنى الوسطيّة ممّا لا محيص عن الالتزام به ، أخذا بموجب أدلّة حجّيّة الظنّ المطلق في الأحكام ، أو هي مع الموضوعات مطلقا على القول بالتعميم.

فعلى الأوّل : يقال - عند قيام دليل ظنّي بحرمة الخمر مثلا - : الخمر مظنون الحرمة ، وكلّ مظنون الحرمة يجب اجتنابه ، فالخمر يجب اجتنابه.

وعلى الثاني : يقال - عند قيام أمارة ظنّيّة بخمريّة شيء - : هذا مظنون الخمريّة ، وكلّ مظنون الخمريّة يجب اجتنابه ، فهذا يجب اجتنابه.

فإنّ هذه مخرجة عن أصالة حرمة العمل بالظنّ ، ومخصّصة لأدلّتها الّتي منها الآيات الناهية عن اتّباع الظنّ ، ومفاد [ ه ] وجوب متابعة الظنّ في الأحكام ، أو هي مع موضوعاتها إلاّ ما خرج بالدليل ، وقضيّة وجوب متابعته وقوعه وسطا في الدليل المستدلّ به ، لترتيب الأحكام المترتّبة على متعلّقه كوجوب الاجتناب في المثالين.

لكن ينبغي أن يعلم أنّ لمتابعة الظنّ معنيين :

أحدهما : متابعته على أنّه طريق مجعول من الشارع إلى الواقع ، فوجوب المتابعة حينئذ يراد به وجوب ترتيب أحكام الواقع على المظنون ، فمع مصادفته الواقع كان للمكلّف أجران ، أحدهما ما يترتّب على امتثال الحكم الواقعي ، والآخر ما يترتّب على سلوك هذا

ص: 7

الطريق من حيث كونه إطاعة وانقيادا للمولى.

وثانيهما : متابعته على أنّه من حيث هو هذه الصفة وجه واعتبار يتبعه الحكم الشرعي الواقعي ، على معنى حدوث جعله من الشارع عند طروّ هذه الصفة ، والصحيح هو الأوّل لكون الثاني من التصويب الباطل ، وسيأتي تفصيل هذا المقام مشروحا في محلّه.

وبالجملة الظنّ على أوّل المعنيين واسطة لترتيب أحكام الواقع على متعلّقه ، وعلى ثانيهما واسطة لإثبات حدوث متعلّقه ، أو حدوث متعلّق متعلّقه حكما واقعيّا ، فالظنّ على التقديرين حجّة بمعنى الوسطيّة.

في القطع الطريقي والموضوعي

المقدّمة الثانية

فيما يتعلّق بالقطع والظنّ من حيث الطريقيّة والموضوعيّة.

فليعلم أنّ الطريق بحسب الأصل هو السبيل الّذي يوصل إلى الشيء ، فطريق بغداد هو السبيل الموصل إلى الشيء ، ثمّ غلّب في الاصطلاح على الدليل الّذي يتوصّل به إلى مطلوب خبريّ ، والتوصّل إليه عبارة عن القطع أو الظنّ به الّذي يحصل بالدليل.

وحاصل معناه انكشاف الواقع في نظر القاطع أو الظانّ ، فالقطع انكشاف لا يحتمل معه الخلاف ، والظنّ انكشاف يحتمل معه خلاف الواقع ، ولأجل ذا توسّع في الاستعمال واطلق الطريق على نفس القطع والظنّ ، فيقال : إنّ القطع طريق إلى الواقع.

فحاصل معنى طريقيّة القطع - مثلا - بالنسبة إلى المقطوع به انكشاف الواقع فيما هو من قبيل الموضوع كالخمر مثلا ، أو الحكم وضعا كنجاسته ، أو تكليفا كحرمته.

وبالتأمّل : في ذلك يظهر أنّ الطريقيّة بهذا المعنى حاصل للقطع بنفسه ، وليست بجعل الشارع بل ليست قابلة للجعل ، لأنّ الشيء إنّما يقبل الإثبات إذا كان قابلا للنفي ، وطريقيّة القطع إلى الواقع ليست قابلة للنفي لأدائه إلى التناقض ، لأنّه يرجع إلى أن يقال : إنّ انكشاف الواقع ليس بانكشاف الواقع ، بل يرجع ذلك إلى نفي الواقع نفسه ، فالقطع بخمريّة شيء أو نجاسته أو حرمته بالمعنى المذكور حكم عليه بأنّه خمر أو نجس أو حرام ، ونفي طريقيّة القطع إليه حكم عليه بأنّه ليس خمرا أو نجسا أو حراما ، ولا ريب في تناقض الحكمين.

ولذا يقال : لا يجوز للشارع أن ينهى عن العمل به لأنّه مستلزم للتناقض ، والسرّ فيه أنّ القطع بخمريّة شيء مثلا يوجب أن يترتّب عليه جميع آثار الخمر الواقعي الّتي منها وجوب

ص: 8

الاجتناب عنه ، ونهي الشارع عن العمل به نفي لوجوب الاجتناب عنه ، ولا ريب في مناقضة « لا يجب الاجتناب عنه » ل- يجب الاجتناب عنه ».

أو أنّ انكشاف الواقع في الشيء يقتضي وجوب ترتيب آثار الواقع على المنكشف ، ونهي الشارع عن العمل به يتضمّن نفي وجوب ترتيب آثار الواقع على المنكشف وهما متناقضان.

وبالتأمّل في ذلك يعلم أنّ وجوب ترتيب آثار الواقع على المقطوع به أيضا ليس بجعل الشارع بل هو حكم عقلي ، لأنّه إنّما يكون بجعل الشارع إذا كان قابلا لنهي الشارع عن العمل به ، وليس قابلا له للزوم التناقض.

كما يعلم - بالتأمّل في جميع ما قرّرناه - عدم كون طريقيّة القطع قابلة للتخصيص للزوم التناقض في المستثنى ، فلا فرق في كونه طريقا إلى الواقع بين أفراده من حيث القاطع من مجتهد أو مقلّد أو عالم أو عامّي ، والمقطوع به من موضوع حكم شرعي ، أو نفس الحكم الشرعي فرعيّا كان أو اصوليّا ، عمليّا كان أو اعتقاديّا ، وأسباب القطع من المتعارفة الضروريّة ، أو النظريّة العقليّة أو النقليّة الحسّيّة ، أو الحدسيّة اللفظيّة ، أو اللبّيّة ، أو الغير المتعارفة من الرمل ، أو الجفر ، أو النوم ، أو طريق المكاشفة ، أو أزمان القطع من زمن الحضور ، أو أزمنة الغيبة.

وبالجملة : من خواصّ القطع الطريقي عدم قبول طريقيّته التخصيص في شيء من أفراده.

ثمّ إنّ هذا كلّه في القطع بالنسبة إلى القاطع في عمل نفسه بالقياس إلى المقطوع به والأحكام المترتّبة عليه ، وقد يعتبر القطع في موضوع حكم آخر غير الأحكام المترتّبة على المقطوع به ، كوجوب عمل المقلّد بفتوى المجتهد المقطوع بها ، فإنّ موضوع عمل المقلّد هو الحكم المفتى به والقطع مأخوذ فيه ، ومرجعه إلى أنّه يجب على المقلّد أن يعمل بما قطعه المجتهد حكم اللّه.

وهذا هو المسمّى بالقطع الموضوعي ، ويمتاز عن القطع الطريقي في امور :

الأوّل : أنّ الموضوعيّة لا تكون إلاّ بجعل الشارع ، لأنّ اعتبار القطع في موضوع الحكم الشرعي لابدّ له من معتبر وليس إلاّ الشارع ، ولا نعني من جعله إلاّ هذا ، بخلاف القطع الطريقي ، لما عرفت من أنّ الطريقيّة ليست مجعولة ولا قابلة للجعل.

الثاني : أنّه يقبل كلاّ من التعميم والتخصيص والإطلاق والتقييد ، بخلاف القطع الطريقي ، لما عرفت من أنّه لا يقبل التخصيص ولا التقييد للزوم التناقض.

ص: 9

والسرّ في قبول الأوّل أنّ كونه معتبرا في موضوع الحكم الشرعي إنّما يثبت بدليل ذلك الحكم ، فيتبع في عمومه وخصوصه وإطلاقه وتقييده دلالة ذلك الدليل ، فقد يدلّ دليل الحكم على اعتباره على وجه عامّ ، من دون مدخليّة خصوصيّة فيه من حيث القاطع والمقطوع به وأسباب القطع وأزمانه.

وقد يدلّ على اعتباره على وجه خاصّ لمدخليّة الخصوصيّة فيه من حيث القاطع والمقطوع به وأسباب القطع وأزمانه ، وبينهما متوسّطات ، لدلالة الدليل على اعتبار خصوصيّة في بعض الجهات المذكورة دون اخرى.

ومن القسم الأوّل : حكم العقل بحسن إتيان العبد بما قطع كونه مطلوبا لمولاه ، فإنّ حسن الإتيان حكم عقلي ، وموضوعه ما قطع العبد كونه مطلوبا للمولى ، والقطع مأخوذ فيه ، والحسن لأجل كون الإتيان به إطاعة وانقيادا وحسنه ذاتي.

ومن القسم الثاني : وجوب عمل المقلّد بما قطع غيره كونه حكم اللّه ، واعتبر فيه الخصوصيّة من جميع الجهات ، فمن جهة القاطع لما اعتبر فيه كونه مجتهدا مسلما إماميّا عادلا ، فخرج قطع غير المجتهد وقطع المجتهد الكافر وقطع المجتهد المخالف وقطع المجتهد الفاسق ، لعدم العمل للمقلّد بشيء من ذلك ، نظرا إلى ما دلّ على اشتراط التقليد باجتهاد المقلّد وإسلامه وإيمانه وعدالته.

ومن جهة المقطوع به يشترط كونه حكما فرعيّا لا اصوليّا إعتقاديّا أو عمليّا ، لما دلّ على عدم جواز التقليد في اصول الدين ولا الاصول العمليّة.

ومن جهة أسباب القطع يشترط كون مستنده الأدلّة المعهودة المتعارفة عند المجتهدين ، كالكتاب القطعي الدلالة ، والسنّة المتواترة ، والإجماع ، والعقل المستقلّ ، دون غيرها من رمل أو جفر أو نوم أو طريق مكاشفة ، إذ لا يجوز لغيره تقليده في ذلك القطع.

ومن جهة أزمانه يعتبر كونه في زمان عدم تيسّر المقلّد عن العلم لتعذّره أو تعسّره.

ومن المتوسّطات وجوب عمل الحاكم بشهادة شاهد علم المشهود به ، فيشترط كون علمه عن حسّ لا عن حدس ، ومنه نشأ عدم قبول الشهادة العلميّة.

الثالث : أنّه لا يقوم مقامه الأمارات الغير العلميّة إلاّ حيث ساعد عليه دليل خاصّ ، بخلاف القطع الطريقي في حكم شرعي فيقوم مقامه خبر العدل الواحد والاستصحاب وغيرهما من طرق الاجتهاد الغير ، العلميّة ، أو في موضوع خارجي فيقوم مقامه البيّنة واليد

ص: 10

والسوق والاستصحاب وغيره.

والسرّ في ذلك أنّ وجه اعتبار القطع إذا كان وجه الطريقيّة فيقوم مقامه الأمارات المعتبرة أيضا على وجه الطريقيّة ، لأنّ مفاد أدلّة اعتبارها أنّ الشارع اكتفى عن العلم في إحراز الواقع بها.

وأمّا القطع الموضوعي فلمّا كان المعتبر في موضوع الحكم الشرعي صفة القطع واليقين ، فغيرها من الأمارات الغير العلميّة غيرها ، فلا يقوم مقامها شيء منها إلاّ لدليل خاصّ ، فلو أنّ الشارع اعتبر في حفظ عدد الركعات الثنائيّة والثلاثيّة والأوليين من الرباعيّة صفة اليقين ، فلا يقوم مقامها الظنّ بمعنى رجحان أحد الطرفين ، ولا أصالة عدم الزائد إلاّ بدليل خاصّ غير أدلّة حجّية الظنّ أو أصالة عدم الأكثر في الصلاة ، ولو أنّه اعتبر في سقوط المائيّة والعدول إلى الترابيّة صفة اليأس عن الماء ، بمعنى علم المكلّف بعدمه فلا يجوز في إحرازه التعويل على البيّنة ولا استصحاب الحالة السابقة.

ولو فرض أنّه اعتبر في جواز أداء الشهادة صفة اليقين للشاهد بالمشهود به ، فلا يجوز له أن يستند في أدائها ، أو تحملّها للأداء إلى الاستصحاب أو البيّنة أو اليد ، إلاّ أنّه يظهر من رواية حفص (1) جواز الاستناد فيها إلى اليد ، ولذا لو كان مستند الشاهد في تحمّله الشهادة إقرار المديون بالدين فعند الشكّ في بقاء اشتغال ذمّته بالدين لا يجوز له أن يشهد بالبقاء استنادا إلى استصحاب حكم الإقرار السابق ، بل الواجب عليه الشهادة بالاقرار السابق ، لأنّه محلّ اليقين له ، واستصحاب حكم الإقرار بعد ثبوته بالبيّنة من وظيفة الحاكم.

ومن فروع المسألة : ما لو نذر أن يتصدّق كلّ يوم بدرهم ما دام متيقّنا بحياة ولده ، فإنّه لو شكّ في زمان في حياته لا يجب عليه التصدّق لأجل استصحاب الحياة ، أو عند قيام البيّنة ببقائها ، فأمّا لو علّق النذر بنفس حياة الولد فيكفي في وجوبه الاستصحاب.

ثمّ اعلم أنّ المرجع في معرفة أنّ العلم في موارد اعتباره من أيّ القسمين ، ليترتّب عليه قيام غيره من الأمارات مقامه وعدمه إلى الأدلّة المقامة لإعطاء ذلك الحكم الّذي يضاف إليه العلم المردّد بين الطريقي والموضوعي ، وليس لها طريق منضبط سوى الرجوع إليها.

وحينئذ يختلف الحال في مفاد الأدلّة على حسب اختلاف المقامات ، فعلى المستنبط التحرّي وحسن التأمّل لئلاّ يختلط الأمر ، فإنّه ربّما يشتبه الحال فيتوهّم العلم الطريقي علما

ص: 11


1- الوسائل : 27 : 292 / 2 ، ب 25 من أبواب كيفيّة الحكم.

موضوعيّا ، وقد ينعكس الأمر فيتوهّم العلم الموضوعي علما طريقيّا.

ومن أمثلة الأوّل : ما في خبر إسماعيل بن جابر المروي عن تفسير النعماني عن الصادق عليه السلام عن أمير المؤمنين عليه السلام : « إنّ اللّه تعالى إذا حجب عن عباده عين الشمس الّتي جعلها دليلا على أوقات الصلاة ، فموسّع عليهم تأخير الصلاة ليتبيّن لهم الوقت بظهورها ويستيقنوا أنّها قد زالت (1) » حيث توهّم كون موضوع الحكم - وهو وجوب الصلاة - هو اليقين بالزوال ، على معنى كون وجوبها معلّقا على الزوال المتيقّن ، وليس كما توهّم لقضاء الأدلّة من الإجماع والنصوص المعتبرة بإناطة وجوب الصلاة بالزوال الواقعي ، فتحمل الرواية على الإرشاد إلى طريق إحراز الواقع ، فيقوم مقامه غيره من الطرق الاخر الغير العلميّة.

ومن الثاني : ما وقع من العلاّمة في بعض كتبه ولعلّه التحرير - على ما حكي في مسألة الجاهل بحكم الغصب - من أنّه « ليس معذورا ، لأنّ التكليف ليس متوقّفا على العلم به ، وإلاّ لزم الدور (2) ».

وفيه : أنّ نفي توقّف التكليف على العلم - مع أنّه إنكار لما تطابق عليه العقل والنقل ، وقضى به إجماع الأمّة من كون العلم من شرائط التكليف - مبنيّ على توهّم العلم الموضوعي علما طريقيّا ، ومنشأه اختلاط الأمر عليه في الفرق بين الحكم الواقعي والتكليف الفعلي ، فيدفع لزوم الدور على تقدير توقّف التكليف بالعلم دون الحكم الواقعي بتعدّد الطرفين الّذي أحدهما ما يتوقّف على العلم ، والآخر ما لا يتوقّف عليه.

فإنّ الّذي لا يتوقّف على العلم إنّما هو الحكم الواقعي ، لأنّ علم المكلّف بالنسبة إليه تابع ومتأخّر عنه طبعا من حيث تعلّقه به ، والمتوقّف عليه إنّما هو التكليف الّذي قد يقال الحكم الظاهري ، وقد يعبّر عنه بالحكم الفعلي فلا دور ، والعلم بالنسبة إلى الأوّل طريق ، وبالنسبة إلى الثاني موضوع ، لأنّ الحكم الواقعي المعلوم تكليف وحكم فعلي.

وتوضيح الفرق بينهما : أنّ الحكم الواقعي عبارة عن الطلب النفساني القائم بنفس المتكلّم قبل أن يعلمه أحد ، وهو الّذي لو أفاده المتكلّم بعبارة قوله : ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ) (3) ، ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) (4) ، ونحو ذلك من الخطابات كان معنى إنشائيّا ، وهو المطابق لعلم اللّه المكتوب في اللوح المحفوظ ، المنزّل على النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ، المودّع عند

ص: 12


1- الوسائل 4 : 279 / 2 ، ب 58 من أبواب المواقيت.
2- لم نجده في التحرير بل وجدناه في المنتهى 4 : 230.
3- سورة البقرة : 43.
4- سورة آل عمران : 97.

أوصيائه عليهم السلام ، وهو الّذي يقبل كلاّ من علم المكلّف وجهله به ، ويقبل الغفلة عنه والالتفات إليه ، فهو بمجرّده ليس مناطا لوجوب الإطاعة وحرمة المعصية ، ولا يدور عليه استحقاق الثواب والعقاب ، بل المناط في وجوب الإطاعة وحرمة المعصية الّذي عليه مدار الثواب والعقاب إنّما هو التكليف الفعلي ، المتوقّف انعقاده على علم المكلّف بالمعنى الإنشائي المذكور.

فليس كلّ حكم واقعي تكليفا فعليّا ، لجواز الانفكاك في الجاهل والغافل ، ولذا كثيرا مّا يأتي المكلّف بما هو واجب واقعي ، أو يترك ما هو حرام واقعي ، ولا يثاب عليهما لجهله بالوجوب والحرمة ، أو يترك ما هو واجب واقعي ، أو يأتي بما هو حرام واقعي ، ولا يعاقب عليهما لجهله بالوجوب والحرمة أيضا.

وإن شئت قلت : إنّ المعنى الإنشائي الّذي ينشأه المتكلّم بخطاب قوله : « إفعل ، أو لا تفعل » مثلا مع قطع النظر عن علم مخاطبه به حكم واقعي ، وإذا علم به المخاطب ببلوغ الخطاب إليه يصير تكليفيّا ، فعلم المكلّف بالنسبة إلى الأوّل من حيث تعلّقه به طريق ، وبالإضافة إلى الثاني من حيث دخوله في موضوعه يعتبر على وجه الموضوعيّة فإنّ موضوعه الحكم الواقعي من حيث ما علم به المكلّف ، فالتكليف عنوان ينوط انعقاده وتحقّقه في نظر العرف والعقل والشرع بعلم المكلّف بالمعنى الإنشائي الّذي أنشأه المولى بخطابه.

والحاصل : مدلول قوله : ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ) (1) ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) (2) مثلا الّذي هو معنى إنشائي له اعتباران لا يدخل في أحدهما علم المكلّف أصلا ، ويتّصف بهذا الاعتبار بالواقعيّة ويسمّى بالحكم الواقعي.

ويدخل العلم في الآخر على وجه الموضوعيّة فيكون عنوانا آخر غير الأوّل ، ويسمّى بهذا الاعتبار بالتكليف ، وقد يسمّى حكما ظاهريّا ، وقد يعبّر عنه بالحكم الفعلي.

في الظنّ الطريقي والموضوعي

ثمّ إنّ الظنّ أيضا كالقطع في انقسامه إلى الظنّ الطريقي والظنّ الموضوعي ، غير أنّ الظنّ الطريقي يمتاز عن القطع الطريقي في كونه طريقا مجعولا من الشارع بخلاف القطع الطريقي لما بيّناه من أنّه بنفسه طريق إلى الواقع ولا يحتاج في طريقيّته إلى جعل الشارع.

والسرّ في الفرق أنّ القطع انكشاف لا يحتمل معه خلاف المنكشف ، فلا يحتاج في كونه طريقا إلى إحراز الواقع [ إلى جعل الشارع ] ليترتّب على المقطوع به آثار الواقع ، والظنّ انكشاف يحتمل معه خلاف المنكشف ، فلا يكون بنفسه طريقا إلى إحراز الواقع بحيث

ص: 13


1- سورة البقرة : 43.
2- سورة آل عمران : 97.

يترتّب على متعلّقه وهو المظنون آثار الواقع ، بل يحتاج إلى جعل الشارع ، ولأجل كون طريقيّته مجعولة يقبل من التخصيص من حيث الظانّ والمظنون وأسباب الظنّ وأزمانه [ و ] كلّ ما شاءه الجاعل وأراد ، فيجوز أن يخصّص من حيث المظنون بالحكم الشرعي دون موضوعه ، وهذا هو معنى عدم حجّية الظنّ في الموضوعات.

وفي الحكم الشرعي بالحكم الفرعي دون الاصولي الاعتقادي ، وهذا هو معنى عدم حجّيّة الظنّ في اصول الدّين.

ومن حيث الظانّ بالمجتهد دون المقلّد ، وهذا هو معنى عدم حجّيّة ظنّ المقلّد في الأحكام ، ومن حيث أسباب الظنّ بالظنّ الحاصل من الأدلّة المعهودة المتعارفة بين المجتهدين ، دون ما يحصل منه من الأسباب الغير المتعارفة.

وهذا هو معنى عدم حجّية الظنّ الحاصل من الرمل والجفر والنوم ، ومن حيث أزمانه بظنّ أزمنة انسداد باب العلم دون ما يحصل منه حال الانفتاح.

نعم الظنّ الطريقي مثل القطع الطريقي ، حيث يعتبر [ فيه ](1) قيام الأمارات الاخر المعتبرة الغير المنوط اعتبارها بالظنّ الفعلي - كالأصل والبيّنة واليد وسوق المسلمين وما أشبه ذلك - مقامه ، وإن كان أكثر هذه الامور لا يجري إلاّ في الموضوعات الخارجيّة ، فقيامها مقامه مقصور على الظنّ في الموضوعات إن كان حجّة فيها.

وبالتأمّل في كلماتنا يظهر أنّ الظنّ الطريقي والظنّ الموضوعي كلاهما مجعولان ، على معنى أنّه كما أنّ طريقيّة الظنّ الطريقي تثبت بجعل الشارع كذلك موضوعيّة الظنّ تثبت بجعله ، ومعنى طريقيّة المجعولة في الأوّل أنّه يجب شرعا على الظانّ أن ترتّب على مظنونه آثار الواقع ، على أنّه الواقع لا على أنّه مظنونه.

ومعنى موضوعيّة الثاني أنّه يجب عليه أن يرتّب على مظنونه من حيث إنّه مظنونه - أي لأجل صفة الظنّ المأخوذة معه - الأحكام المجعولة له من الحيثيّة المذكورة ، فلو فرض أنّ الشارع جعل لمظنون الخمريّة ، أو لمظنون الحرمة ، من حيث إنّه مظنون حكما خاصّا - كحرمة التكسّب به مثلا - يجب ترتيبه عليه ، بأن يقال : « هذا مظنون الخمريّة ، وكلّ مظنون الخمريّة يحرم التكسّب به » أو « هذا مظنون الحرمة وكلّ مظنون الحرمة يحرم التكسّب به » فإنّ حرمة التكسّب حكم جعله الشارع للمظنون بوصف كونه مظنونا ، أي

ص: 14


1- في الأصل « في » بدل « فيه » والصواب ما أثبتناه.

باعتبار صفة الظنّ المأخوذة معه على وجه الجزئيّة.

ثم إنّ الظنّ من حيث هو ظنّ يمتاز عن القطع من حيث هو كذلك في أمرين :

أحدهما : أنّه يقبل منع الشارع عن العمل به ، ويجوز للشارع أن ينهى عن العمل به ، بحيث يقطع الظانّ بحرمة العمل من غير أن يلزم منه محذورا ، وهذا هو معنى حرمة العمل به عموما الثابتة بعمومات الآيات والأخبار ، وحرمة العمل بظنّ القياس الثابتة بالضرورة والأخبار الناهية عن القياس ، بخلاف القطع فإنّه لا يقبل المنع والنهي ، للزوم التناقض أو اجتماع النقيضين ، فإنّ مقتضى القطع بالشيء أن ينعقد في ضمير القاطع أنّه يجب ترتيب آثار الواقع على المقطوع به ، ومقتضى نهي الشارع - لو فرض - أن ينعقد في ضميره أنّه لا يجب أو يحرم ترتيب آثار الواقع عليه ، وهما متناقضان.

وثانيهما : أنّه يجوز للشارع أن يجعل للظانّ من حيث كونه ظانّا حكما كلّيّا بالنظر إلى احتمال مخالفة الواقع ، من باب جعل الحكم الظاهري حكما على خلاف الحكم المجعول للواقعة من حيث هي ، بحيث يقطع الظانّ بهذا الحكم المجعول له ، كجواز تناول ما ظنّه حراما ، وجواز ترك ما ظنّه واجبا من غير أن يلزم محذور ، بخلاف القطع فإنّه لا يجوز أن يجعل للقاطع بوصف كونه قاطعا - نظرا إلى احتمال مخالفة قطعه الواقع - نحو الحكم المذكور ، على أن يكون حكما ظاهريّا له بحيث يقطع به للزوم اللغو في جعل ذلك الحكم ، فإنّ فائدة جعل الحكم الظاهري بالقياس إلى شخص المكلّف أن يلتزم به ويجريه في حقّه ، ولا يتمكّن من ذلك إلاّ بأن يندرج في موضوع ذلك الحكم ويلتفت إلى اندراجه فيه.

والقاطع ما دام قاطعا لا يلتفت إلى اندراجه في موضوع الحكم المذكور ، لعدم احتماله الخلاف في قطعه فيلغو جعل الحكم رأسا ، بخلاف الظنّ لقيام احتمال الخلاف في ظنّه عنده فيلتفت إلى اندراجه في موضوع حكم جعله الشارع للظانّ من حيث احتمال مخالفة ظنّه الواقع ، فليتدبّر.

هذا تمام الكلام في مقدّمات الباب المنعقد له الكتاب. وأمّا الكلام في نفسه ففيه مقصدان :

* * *

ص: 15

المقصد الأوّل : في أحكام القطع

اشارة

وفيه مطالب :

المطلب الأوّل : في التجرّي

المطلب الأوّل

في حكم القطع المخالف للواقع الّذي يقال له : الجهل المركّب ، فنقول : إنّ القطع بمقتضى كونه انكشافا للواقع ، يقتضي ترتّب أحكام الواقع على متعلّقة على أنّه الواقع ، كما لو قطع بخمريّة الشيء فيحرم شربه ، وهذه الحرمة يجب موافقته ويحرم مخالفته ، ويستحقّ الثواب بموافقته والعقاب على مخالفته.

وهذه الأحكام في ترتّبها لا تحتاج إلى أزيد من الأدلّة المثبتة لها من العقل والنقل للخمر ، وهذا في القطع المطابق.

وأمّا الغير المطابق ما لم ينكشف خلافه فلا إشكال في حسن موافقته عقلا ، واستحقاق الفاعل بسببه المدح عند العقلاء لكونه انقيادا ، والانقياد حسن لكشفه عن حسن سريرة العبد وكونه مع مولاه في مقام الإطاعة ، كما لا إشكال في قبح مخالفته عقلا ، واستحقاق الفاعل بسببه الذمّ عند العقلاء لكونه تجرّيّا والتجرّي قبيح ، لكشفه عن خبث سريرة العبد وكونه مع مولاه في مقام العصيان.

وإنّما الإشكال في كون هذه المخالفة عصيانا أيضا بحيث يستحقّ العقاب عليه أولا؟

وقد اختلفوا فيه على أقوال ، فقيل : بكونه عصيانا كما يظهر المصير إليه من جماعة في الواجب الموسّع ، في مسألة ظانّ ضيق الوقت إذا أخّر ثم انكشف الخلاف حيث حكموا بأنّه يعصي بالتأخير.

ص: 16

وعن جماعة (1) دعوى الإجماع عليه ، فإنّ تعبيرهم بظنّ الضيق على ما قيل لبيان أدنى فردي الرجحان فيشمل القطع بالضيق أيضا بل بطريق أولى.

ويظهر العدم من العلاّمة في التذكرة (2) حيث استوجه عدم العصيان في مسألة ظنّ ضيق الوقت ، واستقربه السيّد الطباطبائي في مفاتيحه (3) ، ومن الفضلاء (4) من فصّل وسيأتي بيان تفصيله ، وعن النهاية (5) وشيخنا البهائي (6) الوقف.

وحيث إنّ العصيان عبارة عن مخالفة الخطاب فلا يصدق إلاّ إذا كان هناك حكم وتكليف إلزامي ، ولا خطاب على القول بالعصيان إلاّ بان أنّ الشارع جعل بطروّ صفة القطع للمورد حكما مثل الحكم المجعول للموضوع الواقعي ، فإنّ الحكم المجعول للخمر الواقعي هو حرمة الشرب ، وقد جعل لمقطوع الحرمة على خلاف الواقع أيضا حرمة الشرب ، وهذا مع الأوّل كلاهما حكمان واقعيّان ، إلاّ أنّ الأوّل تبع الصفة الكامنة في الخمر الواقعي ، وهي المفسدة الواقعيّة الكامنة فيه.

والثاني صفة القطع الطارية للمورد ، فرجع النزاع حينئذ إلى أنّ صفة القطع الطارية للشيء على خلاف الواقع هل تؤثّر في حدوث حكم إلزامي للمورد؟ مثل الحكم الواقعي المجعول للموضوع الواقعي ، ومرجعه إلى أنّ قبح التجرّي أوجب قبح الفعل المتجرّى به المقتضي لجعل الحكم الإلزامي من إيجاب الفعل أو تحريمه حسبما اعتقده القاطع.

والأقوى من أقوال المسألة ثانيها.

لنا : أنّ الحكم الإلزامي المفروض لا بدّ له من حاكم وهو إمّا الشرع أو العقل ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلافتقاره إلى دليل ، وليس في الأدلّة الشرعيّة ما يدلّ على ذلك ، وستعرف ضعف ما تمسّك به للقول بالعصيان.

وأمّا الثاني : فلعدم استقلال العقل بإدراك حكم إلزامي يترتّب عليه العصيان واستحقاق العقوبة والنيران.

ص: 17


1- منهم العلاّمة في المنتهى : 4 : 107 والفاضل الهندي في كشف اللثام : 3 : 109 والسيّد العاملى في مفتاح الكرامة : 2 : 61.
2- التذكره : 2 / 391.
3- مفاتيح الاصول : 308.
4- هو صاحب الفصول.
5- نهاية الوصول ( مخطوط ) : 11 و 94.
6- الزبدة : 41.

وتوهّم أنّ العقل يلزم المكلّف على العمل بمعتقده ، ويخاطبه بقول : « إعمل بمعتقدك » فإنّه خطاب عقلي يتولّد منه الحكم الإلزامي ، فكيف ينكر استقلال العقل بذلك؟

يدفعه : أنّ هذا الخطاب العقلي المتوجّه إلى المكلّف ممّا لا كلام فيه ولا مجال لإنكاره ، ولكنّه لا يشمل ما نحن فيه ، فإنّ ما ذكر إلزام للمكلّف على العمل بمعتقده على أنّه الواقع لا من حيث أنّه معتقده ، فإذا انكشف الخلاف تبيّن أنّ الحكم العقلي لم يصادف محلّه ، أو عدم اندراج المورد في موضوعه ، وهذا أوجه حذرا عن تخطئة العقل.

واستدلّ للقول الآخر بوجوه :

منها : الإجماع على ما حكي ادّعائه عن جماعة في مسألة ظانّ ضيق الوقت على العصيان بالتأخير مع انكشاف الخلاف ، كما تقدّم.

ومنها : أنّ مخالفة الاعتقاد ما يستقلّ العقل بقبحه ، وكلّما يستقلّ العقل بقبحه محرّم شرعا ، فمخالفة الاعتقاد محرّم شرعا.

أمّا الكبرى : فبحكم الملازمة بين الحكم العقلي والحكم الشرعي المعبّر عنها بأنّ كلّما حكم به العقل حكم به الشرع.

وأمّا الصغرى : فلأنّه تجرّي والتجرّي قبيح ، مضافا إلى أنّه بالنسبة إلى المولى ظلم والظلم قبيح - فإنّ الظلم وضع الشيء على غير مستحقّه - والمولى من حيث مولويّته يستحقّ الإطاعة والانقياد لا المخالفة والعصيان ، ومخالفة الاعتقاد تعريض للنفس على معصية المولى فيكون ظلما.

ومنها : بناء العقلاء على الذمّ على معنى كون القاطع المخالف لاعتقاده مستحقّا للذمّ عند العقلاء مطلقا من غير توقّف إلى [ ان ] يظهر لهم المصادفة.

ومنها : أنّه مكلّف بالعمل على قطعه وقد خالفه فيكون عاصيا ، يظهر التمسّك به من بعض الأعلام (1) في مسألة ظانّ ضيق الوقت ، حيث إنّه ثمّة بعد ما اختار القول ببقاء المعصية بعد تبيّن الخلاف استدلّ عليه بأنّه مكلّف على العمل بظنّه وقد خالفه فيكون عاصيا ، ونحوه يجري فيما نحن فيه أيضا.

ص: 18


1- وهو المحقّق القمّي في القوانين 1 : 120.

ومنها : ما قرّره بعضهم (1) من أنّا لو فرضنا شخصين قطع كلّ منهما خمريّة مائع عنده فشرباهما ، فاتّفق مصادفة قطع أحدهما الواقع وعدم مصادفة قطع الآخر ، فإمّا أن يستحقّا العقاب أو لا يستحقّاه ، أو يستحقّه من صادف قطعه الواقع دون من لم يصادفه ، أو ينعكس الأمر ، ولا سبيل إلى الثاني والرابع ، لمنافاتهما لأدلّة الواقع المثبتة للحرمة للخمر الواقعي المقتضية لعصيان شربها واستحقاق العقوبة عليه ، ولا إلى الثالث لاستلزامه إناطة استحقاق العقاب بما هو خارج عن الاختيار وهو باطل لمنافاته العدل والحكمة.

أمّا الملازمة : فلأنّ التفرقة بين الشخصين لا بدّ وأن يكون عن فارق موضوعي بينهما ، وليس إلاّ مصادفة قطع أحدهما وعدم مصادفة الآخر لتساويهما في الحركات الاختياريّة ، والمصادفة والعدم قد حصلا لضرب من الاتّفاق من غير اختيار لهما فيهما ، فيلزم ما ذكر من الإناطة بأمر خارج عن الاختيار وهو المصادفة والعدم ، فتعيّن الأوّل وهو المطلوب (2).

والجواب عن الأوّل : - بعد الإغماض عن منع الإجماع مع فرض وجود الخلاف ، وعدم كفاية منقوله لأنّ أقصاه الظنّ الغير الكافي في نظائر المقام - أنّ الإجماع على العصيان إن اريد به الإجماع المصطلح الّذي حجّيّته باعتبار كشفه عن رأي المعصوم ، ففيه : أنّ محصّله غير حاصل ومنقوله غير نافع.

أمّا الأوّل : فلأنّ المسألة عقليّة تطلب من العقل لا من الشرع حتّى يستكشف فيها رأي المعصوم ، لا لأنّ بيان الامور العقليّة ليس من شأن الشارع ، بل لقبح أن يتوجّه إلى القاطع بخلاف الواقع خطاب من الشرع بالحكم الإلزامي المفروض كونه مجعولا في حقّه ، وهو حرمة شرب ما اعتقده خمرا على خلاف الواقع في مقابلة الواقع وهو حرمة شرب الخمر الواقعي ، لكونه من خطاب الجاهل الصرف بما جهله ، وخطاب الغافل فيما غفل عنه ، فإنّ القاطع بخلاف الواقع ما دام قاطعا لا يجوّز في اعتقاده الخلاف ، ولا يرى معتقده إلاّ واقعا ، فهو لا يعتقد في حقّه إلاّ حرمة شرب الخمر الواقعي ، ولا يلتفت إلى الحكم الآخر المفروض في مقابله ، وهو حرمة شرب الخمر المعتقد بوصف كونه معتقدا ، لعدم التفاته إلى اندراجه في موضوع ذلك الحكم ، فيكون خطابه به مع جهله وغفلته خطابا للجاهل الغافل وهو قبيح ، مضافا إلى كونه من اللغو السفه.

وحينئذ يقال : إنّ العصيان المجمع عليه بالإجماع الكاشف ، إن كان المراد به مخالفة

ص: 19


1- المقرّر هو المحقّق السبزواري في الذخيرة.
2- ذخيرة المعاد : 209 - 210.

الخطاب لأجل أنّ المخالف لقطعه الغير المطابق خالف الواقع ، وهو حرمة شرب الخمر الواقعي فهو كذب ، ومن المستحيل انعقاد الإجماع الكاشف على القضيّة الكاذبة ، وإن كان المراد به مخالفة الخطاب لأجل أنّه خالف الحكم الإلزامي الآخر المقابل للواقع ، وهو حرمة شرب ما اعتقده خمرا على خلاف الواقع ، ففيه : أنّ صدق العصيان في حقّه بهذا الاعتبار ، موقوف على تنجّز التكليف في هذا الحكم الإلزامي عليه ، وهو مشروط بعلمه به تفصيلا أو إجمالا حال كونه قاطعا ، والمفروض خلافه لكونه غافلا عنه بالمرّة ، فيقبح على الشارع أن يخاطبه - والحال هذه - بذلك الحكم الإلزامي المفروض كونه مجعولا في مقابلة الواقع.

والأصل فيما ذكرناه أنّ القاطع ما دام قاطعا لا يرى معتقده عنوانا آخر غير عنوان الواقع ، فلا يلتفت إلى الحكم الآخر المفروض كونه مجعولا في مقابلة الواقع ، فيكون خطابه بذلك الحكم خطابا للغافل.

ولأجل هذا كلّه كانت المسألة عقليّة تطلب من العقل لا من الشرع ، ولا يلزم نحو هذا المحذور على تقدير طلبها من العقل وحكم العقل بالعصيان ، لأنّ حكم العقل في مستقلاّته لا يكون بخطاب لفظي ، بل يكفي فيه تقبيح العقل الّذي يدركه القاطع بخلاف الواقع عند مخالفته لقطعه بمقتضى عقله ، وعلى تقدير ثبوت الملازمة بين نحو هذا التقبيح العقلي والحكم الشرعي يثبت العصيان المستلزم لاستحقاق العقاب.

وأمّا الثاني : فواضح فإنّ الإجماع الّذي محصّله غير حاصل ، فمنقوله أيضا غير نافع للقطع بخطأ ناقله.

وإن اريد به الإجماع اللغوي أعني اتفاق العقلاء الذين منهم العلماء على عصيان مخالفة القطع وإن خالف الواقع.

ففيه : أنّ هذا الاتّفاق ممّا لا أثر له إلاّ أن يرجع إلى اتفاق العقلاء على استحقاق الذمّ في مخالف القطع ، فيرجع إلى الوجه الثالث وستعرف جوابه.

والجواب عن الثاني : منع الصغرى بإبطال دليله من التجرّي والظلم.

أمّا بطلان الأوّل : فلأنّ قبح التجرّي وإن كان مسلّما ، إلاّ أنّه ما لم يستلزم قبح الفعل المتجرّى به لم يؤثّر في العصيان الموجب لاستحقاق العقاب ، والاستلزام في مخالفة القطع الغير المطابق ممنوع ، لأنّ القبح المفروض فيه قبح في الفاعل ، لكشفه عن خبث سريرته وسوء مقامه مع سيّده ، لا أنّه قبح في الفعل ، ولذا يقال عند توجيه الذمّ إليه : « بئس الرجل

ص: 20

أنت » ولا يقال : « بئس الفعل فعلك » وهذا آية عدم كون أصل الفعل قبيحا.

وأمّا بطلان الثاني : فلأنّ الظلم إنّما هو مخالفة السيّد فيما أمر أو نهى ، وكون ما نحن فيه من هذا القبيل أوّل المسألة بل محلّ منع ، فلا يكون ظلما بل يشبه الظلم ، ولذا عبّر عنه بتعريض النفس على المخالفة.

وعن الثالث : بأنّ ذمّ العقلاء واتّفاقهم على الاستحقاق مسلّم ، ولكنّه فيما انكشف الخلاف عندهم لا يزيد على قبح الفاعل حسبما بيّناه في قبح التجرّي ، وهو لا يوجب قبح الفعل ليكشف عن المبغوضيّة الملازمة للعصيان واستحقاق العقوبة.

وبالجملة ذمّ العقلاء إنّما ينهض دليلا على المعصية واستحقاق العقوبة إذا كان كاشفا عن قبح الفعل عندهم ، لا عن مجرّد صفة قبيحة في الفاعل ، والمسلّم في المقام هو الثاني ، فإنّ ذمّ الإنسان على الصفة القبيحة أيضا يحسن عند العقلاء وإن لم يقارنها فعل ، كالذمّ على سائر الصفات الذميمة.

وعن الرابع : بأنّ كون الظانّ مكلّفا بالعمل على ظنّه في الجملة مسلّم ، ولكن كون مخالفته عصيانا بقول مطلق غير مسلّم ، وذلك أنّ معنى التكليف بالعمل على الظنّ - حسبما استفيد من دليل حجّيّة الظنّ - وجوب ترتيب الآثار والأحكام على المظنون على أنّه واقع لا على أنّه مظنون ، فموضوع ذلك الحكم هو الظنّ من حيث إنّ متعلّقه الواقع ، والظنّ الغير المطابق غير مندرج في هذا الموضوع ، فلا يشمله الحكم المذكور.

غاية الأمر أنّ الظانّ بهذا الظنّ ما دام ظانّا يعتقد في حقّه وجوب العمل بالمعنى المذكور ، ولكن بعد ما انكشف فساد الظنّ تبيّن له عدم مصادفة اعتقاده الواقع ، على معنى تبيّن كون معتقده وجوبا خياليّا من غير أن يكون وجوب في الواقع.

ومن هنا يظهر بطلان نحو هذا الدليل المتمشّى في القطع الغير المطابق بل بطريق أولى ، نظرا إلى عدم كون حجّيّة القطع وطريقيّته إلى الواقع بجعل الشارع - كما حقّقنا سابقا - فالقاطع لكون قطعه عبارة عن انكشاف الواقع - ولو في نظره - يعتقد في حقّه وجوب ترتيب الآثار والأحكام على المنكشف من حيث إنّه الواقع ، لا من حيث إنّه عنوان آخر مغائر لعنوان الواقع ، فإذا انكشف بطلان قطعه تبيّن له عدم اندراجه في موضوع ذلك الحكم ، وكون الوجوب الذي اعتقده تكليفا خياليّا لا تكليفا واقعيّا.

وعن الخامس : بالنقض تارة والحلّ اُخرى.

ص: 21

أمّا الأوّل : فنقض ما ذكره في وجه بطلان الشقّ الثالث - بما ذكره في وجه بطلان الشقّ الثاني والرابع - من منافاة عدم استحقاق من صادف قطعه الخمر الواقعي لأدلّة الواقع الدالّة على حرمة شرب الخمر الواقعي ، فإنّ قضيّة دعوى المنافاة الالتزام باستحقاقه العقاب ، فيلزم إناطة الاستحقاق بأمر خارج عن الاختيار وهو مصادفة قطعه الخمر الواقعي.

وأمّا الثاني : فلأنّا نوافق المستدلّ في أحد جزئي ما رجّحه من الشقّ الأوّل ، وهو استحقاقهما العقاب ونقول : إنّ استحقاقه العقاب حقّ ، ولكنّه إنّما يستحقّه على الفعل الاختياري وهو شرب الخمر الواقعي ، فإنّه فعل صدر منه باختياره ، فالشارع يعاقبه لأنّه شرب الخمر الواقعي اختيارا لا لأنّ قطعه صادف الواقع ، وبالجملة هذا يعاقب على شرب الخمر الواقعي الّذي صدر منه اختيارا لا على مصادفة قطعه الواقع ، ونخالفه في الجزء الثاني ونقول :

بأنّه لا يلزم من نفي استحقاق من لم يصادف قطعه الواقع إناطة استحقاقه بأمر خارج عن الاختيار ، بل لو لزم ذلك للزم على قول المستدلّ ، لأنّ العقاب الّذي يلتزم استحقاقه فيه إمّا أن يترتّب على فعله الاختياري وهو شربه لما ليس بخمر واقعي ، أو على عدم مصادفة قطعه الواقع.

والأوّل باطل لأنّ الحرمة بموجب أدلّة الواقع - كما سلّمه المستدلّ - إنّما ثبتت لشرب الخمر الواقعي ، وثبوت مثلها للخمر المعتقد أيضا أوّل المسألة.

والثاني إناطة لاستحقاق العقاب بأمر خارج عن الاختيار وهذا قبيح ، بخلاف عدم العقاب عليه ، فإنّ القبيح إنّما هو معاقبة الإنسان بأمر لا يرجع إلى اختياره ، وأمّا عدم معاقبته بأمر لا يرجع إلى اختياره فلا قبح فيه ، وهذا نظير ما لو سقط أحد من السطح من غير اختيار ، أو ألقاه غيره قهرا عليه فمات ، فإنّ عقابه لأجل سقوطه قبيح لا عدم عقابه عليه ، فلا يلزم من مختارنا من عدم استحقاق من لم يصادف قطعه قبح أصلا ، ولا منافاة للعدل والحكمة.

والأصل فيما اخترناه - من استحقاق من صادف قطعه - أنّ حسن الثواب والعقاب على الأفعال والتروك ينوط بكون العمدة من جهات الفعل أو الترك اختياريّة ، فلا يقدح في الحسن ما لو كان فيه جهة غير اختياريّة أيضا ، كما في مثال من صادف قطعه الخمر الواقعي.

وقد ينزّل على هذه القاعدة ما ورد في الأخبار من أنّ « من سنّ سنّة حسنة كان له مثل أجر من عمل بها ، ومن سنّ سنّة سيّئة كان له وزر من عمل بها » (1) فلو فرضنا أنّ شخصين سنّا سنّة حسنة أو سيّئة واتّفق كثرة العامل بما سنّه أحدهما وقلّة العامل بما سنّه الآخر ،

ص: 22


1- الوسائل 11 : 16 / 1. ب 5 من أبواب جهاد العدوّ ح 1.

فإنّ مقتضى هذه الأخبار كون ثواب الأوّل أو عقابه أعظم ، وليس ذلك إلاّ باعتبار أنّ العمدة من جهتي السنّتين وهو التسنين اختياريّة.

وما اشتهر من أنّ للمصيب أجرين وللمخطئ أجرا واحدا (1) ولكنّه لا يخلو عن الخدشة.

والعمدة : في المقام هو حكم العقل ، فإنّه مستقلّ بالحكم بتساويهما في استحقاق المذمّة من حيث شقاوة الفاعل وخبث سريرته ، لا في استحقاق المذمّة والعقوبة على الفعل المقطوع بكونه معصية في أحدهما دونه في الآخر.

وأمّا التفصيل المتقدّم إليه الإشارة ، فيظهر اختياره من بعض الفضلاء (2) - في باب الاجتهاد والتقليد في مسألة معذوريّة الجاهل بالأحكام - فقال في جملة كلام له : « وأمّا إذا اعتقد التحريم فلا يبعد استحقاقه العقوبة بفعله وإن كان بطريق غير معتبر نظرا إلى حصول التجرّي بفعله ، إلاّ أن يعتقد تحريم واجب غير مشروط بقصد القربة فإنّه لا يبعد عدم ترتّب العقاب على فعله مطلقا أو في بعض الموارد ، نظرا إلى معارضة الجهة الواقعيّة للجهة الظاهريّة ، فإنّ قبح التجرّي ليس عندنا ذاتيّا بل يختلف بالوجوه والاعتبار.

فمن اشتبه عليه مؤمن ورع عالم بكافر واجب القتل ، فحسب أنّه ذلك الكافر فتجرّى ولم يقدم على قتله ، فإنّه لا يستحقّ الذمّ على هذا التجرّي عقلا عند من انكشف له الواقع وإن كان معذورا لو فعل.

وأظهر من ذلك ما لو جزم بوجوب قتل نبيّ أو وصيّ فتجرّى ولم يفعل ، ألا ترى أنّ المولى الحكيم إذا أمر عبده بقتل عدوّ له فصادف ابنه ، وقطع بأنّه ذلك العدوّ فتجرّى ولم يقتله ، أنّ المولى إذا اطّلع على حاله لا يذمّه بهذا التجرّي ، بل يرضى به وإن كان معذورا » - إلى أن قال - :

« ومن هنا يظهر أنّ التجري على الحرام في المكروهات الواقعيّة أشدّ منه في مباحاتها ، وهو فيها أشدّ منه في مندوباتها ، ويختلف باختلافها ضعفا وشدّة كالمكروهات.

ويمكن أن يراعى في الواجبات الواقعيّة ما هو الأقوى من جهاته وجهات التجرّي » (3) ، إلى آخر ما أردنا نقله.

ويجري هذه الأقسام الأربع - بقرينة ما سبق من الأمثلة - في التجرّي على الواجب ،

ص: 23


1- يدّل عليه ما في كنز العمّال : 6 / 7 ح 14597.
2- هو صاحب الفصول.
3- الفصول : 431 - 432.

وهو أن يقطع بوجوب ما ليس بواجب في الواقع فتركه ، فيقال : إنّ التجرّي على الواجب في المندوبات الواقعيّة أشدّ منه في مباحاتها ، وهو فيها أشدّ منه في مكروهاتها ، ويختلف باختلافها ضعفا وشدّة كالمندوبات.

ويمكن أن يراعى في المحرّمات الواقعيّة ما هو الأقوى من جهاته وجهات التجرّي ، وهذه مع الأربع المذكورة للتجرّي على الحرام ثمانية صور.

وملخّص ما ذكره من أحكام هذه الصور : أنّ التجرّي الّذي هو عبارة عن مخالفة القطع الغير المطابق في ستّة منها - وهي التجرّي على الحرام في المكروهات ، أو المباحات ، أو المندوبات ، والتجرّي على الواجب في المندوبات ، أو المباحات ، أو المكروهات - يؤثّر في المعصية واستحقاق العقوبة ، وإن كان القبح والعقاب في بعضها أشدّ منه في الآخر.

وفي الصورتين الباقيتين وهما التجرّي على الحرام في الواجبات الواقعيّة ، - كما لو قطع بتحريم واجب واقعي غير مشروط بالنيّة وقصد القربة وفعله - والتجرّي على الواجب في المحرمات الواقعيّة - كما لو قطع بوجوب محرّم واقعي وتركه - ذكر أنّه لا يبعد عدم ترتّب العقاب - على فعله أو تركه مطلقا ، أو في بعض الموارد ، نظرا إلى معارضة الجهة الواقعيّة للجهة الظاهريّة ، أي مزاحمة المصلحة الواقعيّة الّتي هي جهة في الحسن ، للتجرّي الّذي هو جهة في القبح ، على معنى منعها عن التأثير في القبح ، فيكون الفعل أو الترك حسنا لا غير.

ثمّ ذكر في آخر العبارة : « أنّه يحتمل القول بمراعاة الأقوى من جهتي الحسن والقبح ، فيرجّح الأقوى على غيره سواء كان هو المصلحة الواقعيّة الّتي تكون جهة في الحسن ، أو التجرّي الّذي هو جهة في القبح ، ومستنده في التفصيل - على ما ذكره في صدر العبارة - هو عدم كون قبح التجرّي ذاتيّا ، بل يختلف بالوجوه والاعتبارات.

وله كلام آخر في مبحث مقدّمة الواجب هو : « أنّ التجرّي إذا صادف المعصية الواقعيّة تداخل عقاباهما (1) » والمراد بمصادفة التجرّي للمعصية الواقعيّة هو ما لو قطع بتحريم محرّم واقعي وفعله ، وما لو قطع بوجوب واجب واقعي وتركه ، ولا يخفى ما في هذا التفصيل ودليله وسائر ما ذكره من الضعف والفساد.

فأوّل ما يرد عليه : ما حقّقناه في دليل القول المختار من منع كون قبح التجرّي مطلقا مؤثّرا في قبح الفعل المتجرّى به زائدا على قبحه الذاتي لو كان ، كما في التجرّي بفعل

ص: 24


1- الفصول : 87.

محرّم واقعي أو بترك [ واجب ] واقعي ، لأنّه قبح في الفاعل من حيث كشفه عن الشقاوة وخبث السريرة لا في الفعل ، فمخالفة القطع الغير المطابق لا يؤثّر في المعصية واستحقاق العقوبة في شيء من صورها الثمانية ، ولا مدخليّة فيه لمزاحمة الجهة الذاتيّة في الواجبات الواقعيّة والمحرّمات الواقعيّة.

وثاني ما يرد عليه : أنّ قبح التجرّي ذاتي - على معنى كون عنوان التجرّي بنفسه وحقيقته النوعيّة علّة تامّة لقبحه ، كالظلم الّذي هو وضع الشيء على غير مستحقّه - فإنّ التجرّي على المولى بمفهومه يقتضي القبح ، فلا يعرضه جهة محسّنة أصلا ، ولذا يقال : إنّه قسم من الظلم ، كما أنّ الانقياد المقابل له حسنه ذاتي - على معنى كون عنوانه علّة تامّة للحسن - فإنّ الانقياد للمولى بمفهومه يقتضي الحسن ، ويستحيل صيرورته قبيحا باعتبار أنّه لا يعرضه جهة مقبّحة ، فالتجرّي على المولى قبيح دائما ، كما أنّ الانقياد للمولى حسن دائما ، سواء قلنا بكونه مؤثّرا في قبح الفعل المتجرّى به أو لم نقل.

وثالث ما يرد عليه : أنّه لو سلّم عدم كون قبح التجرّي ذاتيّا - على معنى عدم كون عنوانه علّة تامّة للقبح - فلا يسلّم أيضا كونه ممّا يختلف بالوجوه والاعتبارات ، كالقبح في الأفعال الّتي لا تتّصف في حدّ أنفسها بحسن ولا قبح بل إنّما تتّصف بأحدهما باعتبار لحوق وجه من الوجوه الّتي تتبّع في لحوقها القصد والنيّة ، كبذل المال للغير فإنّه على وجه الصدقة حسن وعلى وجه الرشوة قبيح ، وضرب اليتيم فإنّه على وجه التأديب حسن وعلى وجه التعذيب قبيح ، والدخول على المؤمن فإنّه على وجه الزيارة حسن وعلى وجه الإهانة قبيح ، لأنّ بينهما واسطة وهو ما يتصف في نفسه بالقبح ، على أنّ عنوانه الخاصّ بالقياس [ إلى القبح ] من باب المقتضي الّذي قد يصادف ما يمنعه من اقتضاء القبح ويوجب حسنه ويقال له : « الجهة المحسّنة » ، كالكذب فإنّه في نفسه قبيح ويحسن لجهة النفع ، أو إنجاء النبيّ إذا عرضته عن قصد والتفات ، فهو بحيث لولا عروض هذه الجهة كان قبيحا ، لكون ذاته مقتضية للقبح على معنى أنّه باق على قبحه ، ما لم يعرض له تلك الجهة.

ولا ريب أنّ التجرّي في اقتضاء القبح من هذا القبيل ، فإنّ ذاته إن لم تكن علّة تامّة لقبحه فلا أقلّ من كونها مقتضية له ، فيكون على اقتضائه للقبح إلى أن يعرضه جهة محسّنة رافعة لقبحه أو مانعة له عن اقتضاء القبح.

وما ذكره من معارضة الجهة الواقعيّة في التجرّي على الحرام في واجب واقعي أو على

ص: 25

الواجب في محرّم واقعي لا يقبل منه ، لعدم صلاحيّة الجهة المذكورة - وهو حصول فعل الواجب في ضمن التجرّي على الحرام ، أو حصول ترك المحرّم في ضمن التجرّي على الواجب - لكونها محسّنة ، ولا مزاحمة للقبيح عن اقتضاء القبح ، فإنّ الجهة المتحقّقة في ضمن القبيح ما لم تتّصف في نفسها بالحسن لم تؤثّر في حسنه ، ولا في منع اقتضاء ذاته لقبحه ولا في رفع قبحه ، ولذا ترى أنّه لو تحقّق في ضمن الكذب الصادر من كاذب جهة نفع ، أو إنجاء نبيّ لضرب من الاتّفاق من دون قصد منه لتلك الجهة ، بل ولا علم منه باشتماله عليها ، لم ينفع في استحقاقه للمدح ولا في منع ذاته عن اقتضاء استحقاقه للذمّ ، وظاهر أنّ حصول فعل الواجب أو ترك المحرّم في ضمن التجرّي جهة لا تتّصف في نفسها بالحسن لوجهين :

أحدهما : أنّ الحسن والقبح إنّما يلحقان الأفعال الاختياريّة ، ومن شروط اختياريّة الفعل كون صدوره عن قصد ، والأفعال الصادرة لا عن قصد ملحقة بالأفعال الغير الاختياريّة ، فلا تتّصف عند العقل بحسن ولا قبح ، وفعل الواجب الواقعي مع ترك الحرام الواقعي في ضمن التجرّي إنّما حصلا لا عن قصد إلى عنوان الواجب حين الفعل ، ولا إلى عنوان المحرّم حين الترك ، فلا يتّصفان بالحسن فلا يصلحان جهة محسّنة للتجرّي.

وثانيهما : أنّ من موانع اتّصاف الأفعال والتروك جهالة عناوينها حين الفعل أو الترك ، فمن جهل خمريّة الخمر الواقعي لا يستحقّ بترك شربه مدحا كما لا يستحقّ بشربه ذمّا ، ومن جهل الكافر الحربي الواجب قتله فلم يقتله لجهله لم يستحقّ ذمّا ، كما أنّه لو قتله مع جهله لم يستحقّ مدحا ، ومن حسب المؤمن العدل كافرا حربيّا فلم يقتله لم يستحقّ به مدحا ، كما أنّه لو قتله لم يستحقّ به ذمّا ، وهذا هو معنى كونه معذورا كما صرّح به بقوله : « وإن كان معذورا لو فعل ».

والمفروض في التجرّي على الحرام في واجب واقعي ، وعلى الواجب في محرّم واقعي ، كون كلّ من الواجب والمحرّم مجهول العنوان عند المتجرّي ، لأنّ اعتقاد كون الأوّل محرّما والثاني واجبا جهل بعنوان الواجب في فعل الأوّل وبعنوان المحرّم في ترك الثاني ، فلا يتّصفان بالحسن ولا يستحقّ المكلّف بهما مدحا.

لا يقال : غاية ما يلزم من عدم اتّصاف الجهة الواقعيّة بالحسن أن لا تكون مؤثّرة في حسن الجهة الظاهريّة ، ولا يمتنع كونها مؤثّرة في رفع قبحها ، فالتجرّي على الحرام أو الواجب في الواجبات والمحرّمات الواقعيّتين وإن كان ممّا لا حسن فيه ، إلاّ أنّه لا قبح فيه

ص: 26

أيضا ، وهو المراد من معارضة الجهة الواقعيّة للجهة الظاهريّة.

وحاصل معناه كون الاولى مؤثّرة في رفع قبح الجهة الظاهرية.

لأنّا نقول : إنّ القبح عبارة عن استحقاق الذمّ فما لم يكن هناك استحقاق مدح يكافؤه لم يعقل ارتفاعه ، والمفروض أنّ الجهة الواقعيّة لم تؤثّر في استحقاق مدح فلا معنى لكونها مؤثّرة في رفع استحقاق الذمّ اللازم من التجرّي ، بل ولئن سلّمنا أنّها أثّرت في استحقاق مدح فلا داعي إلى التزام كونه رافعا للاستحقاق اللازم من التجرّي إلاّ على القول بالإحباط وهو باطل عندنا ، فلا تنافي بين الاستحقاقين حتّى يزاحم أحدهما الآخر ويرفعه ، فيجوز أن يستحقّ الذمّ بتجرّيه والمدح بفعله الواجب الواقعي أو تركه المحرّم الواقعي - كما فيمن نظر إلى الأجنبيّة في الصلاة - ومرجعه إلى عدم تعارض الجهتين ، إلاّ أن يكون ذلك من جهة لزوم اجتماع المتضادّين في الفعل المتجرّى به باعتبار تأثير التجرّي في حدوث حكم فيه مضادّ لحكمه الواقعي كما عليه مبنى كلامه.

ورابع ما يرد عليه : ما ذكره في مسألة مصادفة التجرّي المعصية الواقعيّة من تداخل عقابيهما ، إذ لو اريد من التداخل أنّهما يؤثّران في استحقاق عقاب واحد كما في تداخل الأغسال ، ففيه : أنّه مناف لاستقلال كلّ منهما في سببيّته لاستحقاق العقاب ، وهذا يقتضي تعدّد العقاب.

وإن اريد به اجتماع العقابين ، ففيه : مع أنّه ليس من التداخل بالمعنى المعروف أنّه خلاف مقتضى الأدلّة الواردة في المعاصي الواقعيّة ، لظهورها القريب من الصراحة في وحدة العقاب المترتّب على كلّ معصية ، فكلّ يترتّب عليه العقاب المقرّر له لا أزيد ، وهذا أيضا من أدلّة بطلان القول بكون التجرّي موجبا للمعصية واستحقاق العقوبة ، فليتدبّر.

فتحقيق المقام : أنّ التجرّي قبيح في الجميع لكن بالمعنى الراجع إلى الفاعل المتجرّي من حيث انكشاف خبث باطنه وسوء سريرته ، فيستحقّ بذلك الذمّ عند العقلاء ، لا بالمعنى الراجع إلى الفعل المتجرّى به.

وهل يترتّب على تجرّيه زيادة على استحقاقه المذمّة أثرا آخرا في الدنيا كالفسق وفي الآخرة كالعقاب؟ على معنى أنّ المتجرّي باعتبار كونه متجرّيا - لا باعتبار فعله المتجرّى به - يحكم بكونه فاسقا ويعاقب عليه في الآخرة أو لا؟ فيه خلاف ، حيث يظهر من الشهيد في كلام له عن القواعد منع ذلك ، - خلافا لبعض العامّة الّذي نسب إليه القول

ص: 27

بكلّ من الفسق والعقاب في كلامه المشار إليه - وهو قوله : « لا يؤثّر نيّة المعصية عقابا ولا ذمّا ما لم يتلبّس بها ، وهو ممّا ثبت في الأخبار العفو (1) عنه ، ولو نوى المعصية وتلبّس بما يراه معصية فظهر خلافها ، ففي تأثير هذه النيّة نظر ، من أنّها لمّا لم يصادف المعصية صارت كنيّة مجرّدة وهو غير مؤاخذ بها ، ومن دلالتها على انتهاك الحرمة وجرأته على المعاصي.

وقد ذكر بعض الأصحاب (2) : أنّه لو شرب المباح تشبيها بشرب المسكر فعل حراما ، ولعلّه ليس لمجرّد النيّة بل بانضمام فعل ، ويتصوّر محلّ النظر في صور :

منها : لو وجد إمرأة في منزل غيره فظنّها أجنبيّة فأصابها ، فبان أنّها زوجته أو أمته.

ومنها : ما لو وطئ زوجته بظنّ أنّها حائض ، فبانت طاهرة.

ومنها : ما لو هجم على طعام بيد غيره فأكله ، فتبيّن أنّه ملكه.

ومنها : ما لو ذبح شاة بظنّها للغير بقصد العدوان ، فظهرت ملكه.

ومنها : ما إذا قتل نفسا بظنّ أنّها معصومة ، فبانت مهدورة.

وقد قال بعض العامّة : يحكم بفسق المتعاطي ذلك ، لدلالته على عدم المبالاة بالمعاصي ويعاقب في الآخرة - ما لم يتب - عقابا متوسّطا بين الصغيرة والكبيرة ، وكلاهما تحكّم وتخرّص على الغيب (3) » إنتهى.

وإنّما نقل كلام بعض الأصحاب في شرب المباح تشبيها له بشرب المسكر شاهدا على أصل المطلب ، نظرا إلى دلالة التشبيه بالمسكر على فساد باطنه وخبث سريرته ، من حيث عدم اعتنائه بالمولى وهتك حرمته وجرأته على المعاصي وعدم مبالاته بها ، ونظيره وطئ زوجته تشبيها لها بأجنبيّة ، [ وقوله : ] « ولعلّه ليس لمجرّد النيّة بل بانضمام فعل الجوارح » تضعيف لوجه تأثير النيّة ، ومحصّله : أنّ التجرّي المفروض ليس من مجرّد النيّة بل المجموع منها ومن فعل الجوارح ، فإنّهما معا يدلاّن على ما ذكر لا النيّة وحدها ، والكلام فيها فلم يثبت لها تأثير.

وقوله : « وكلاهما تحكّم » تضعيف لقول بعض العامّة في كلّ من الفسق والعقاب ، والتحقيق عندنا : أنّه يوجب الفسق دون العقاب.

ص: 28


1- انظر الوسائل : 51 / 6 و 8 و 10 و 20 و 21 ، ب 6 من أبواب مقدّمة العبادات 51 - 55 / 6 و 8 و 10 و 20 و 21.
2- هو أبو الصلاح الحلبي في كتابه ( الكافي في الفقه ) : 279.
3- القواعد والفوائد : 1 / 107 - 108.

أمّا الأوّل : فلأنّ التجرّي لكشفه عن عدم مبالاته بالمعاصي وجرأته عليها - حتّى أنّه لو فرض مطابقة ظنّه في موارده للمعصية الواقعيّة لارتكبها - كاشف عن فقدانه للملكة النفسانيّة الرادعة عن ارتكاب الكبائر ، والإصرار على الصغائر الّتي هي حقيقة العدالة على المشهور.

ولا ريب أنّ الفاقد لها فاسق ، فالحكم بفسقه إنّما هو لانكشاف فقدان ملكة العدالة ، لا لفعله المتجرّى به لينافي ما قدّمناه من عدم كونه عصيانا.

وأمّا الثاني : فلأنّ العقاب فرع على العصيان وهو فرع على الخطاب وقد عرفت أنّ التجرّي في مورد الاعتقاد الغير المطابق لا يؤثّر خطابا ، فقد ظهر بملاحظة كلام الشهيد أنّه قد يكون بفعل ما ليس بمحرّم في الواقع باعتقاد كونه محرّما ، وقد يكون بقصد المعصية فيما ليس بمعصية باعتقاد كونه معصية ، وكلاهما قبيحان والمتجرّي فيهما معا يستحقّ ذمّ العقلاء ، ولكنّه لا يؤثّر في تحريم ما يتجرّى به فعلا كان أو قصدا.

وأمّا قصد المعصية فيما هو معصية في الواقع مع العلم بكونها معصية من غير تلبّس بها ، فلا ينبغي التأمّل في قبحه عقلا واستحقاق فاعله المذمّة عند العقلاء ، ولا كلام لأحد فيه حتّى عند علماء الكلام.

قال المحقّق الطوسي في التجريد : « ارادة القبيح قبيحة (1) » وهل هو مع قبحه العقلي محرّم شرعي أيضا أو لا؟ وعلى تقدير التحريم فهل يعاقب عليه أيضا في الآخرة أو لا؟

فنقول : إنّ في عدّة من الآيات والروايات الدلالة على التحريم وكونه منهيّا عنه ، وقد تقدّم بيان الجميع وبيان وجوه دلالاتها وسائر ما يتعلّق بها بعد نقل أقوال العلماء والإشارة إلى نوع اختلاف فيه - في ذيل مسألة مقدّمة الواجب عند البحث في أحكام مقدّمة الحرام ولا حاجة إلى إعادة ما سبق هنا.

وفي عدّة من الأخبار (2) الاخر العفو عنه ، - كما اعترف به الشهيد في عبارته المتقدّمة - فيقع التعارض بينها وبين الآيات والروايات المتقدّم إليهما الإشارة لكونها بين صريحة وظاهرة في ترتّب العقاب عليه فعلا.

وقد يجمع بحمل ما دلّ على العفو على من نوى المعصية وقدر على فعلها ولم يفعلها اختيارا ، وما دلّ على ترتّب العقاب على من نواها وعجز من فعلها فلم يفعلها قهرا.

ص: 29


1- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : 238.
2- انظر الوسائل : 1 : 51 - 55 / 6 و 7 و 8 و 20 و 21 ، من أبواب مقدّمة العبادات.

وقد يحتمل أيضا حمل الاولى على العزم المجرّد ، وحمل الثانية على العزم مع التلبّس بما يكون من مقدّمات المعصية ، أو حمل الاولى على ما كان المنويّ من الصغائر والثانية على ما كان المنويّ من الكبائر.

ثمّ يبقى الإشكال في العفو المستفاد من رواياته ، فإنّ الإخبار بعدم العقاب على المحرّم ينافي اللطف الواجب عليه تعالى ، ضرورة أنّ الوعد على الثواب والوعيد بالعقاب لطف ، لكون الأوّل مقرّبا إلى الطاعة والثاني مبعّدا عن المعصية فيكون واجبا عليه تعالى ، فكيف يصدر منه ما ينافيه وهو الإخبار بالعفو.

ويمكن الذبّ : بأنّ العقاب على ذي المقدّمة - الّذي هو أصل الفعل المقصود - والوعيد بالعقاب عليه كاف في الردع ، ويتمّ به اللطف ولا حاجة معه إلى الوعيد بالعقاب على فعل المقدّمات ، ولا على العزم على فعل

ذي المقدّمة ، فإنّ المكلّف إذا علم بأنّ أصل الفعل ممّا أوعد اللّه عليه العقاب يبعثه ذلك على عدم الإقدام عليه ، ولا على مقدّماته وعلى ترك العزم عليه إن كان مع ربّه في مقام الإطاعة والانقياد ، وإلاّ فلا ينفعه الوعيد على العزم وعلى فعل مقدّماته بالعقاب أيضا ، كما لم ينفعه الوعيد على أصل الفعل ، فالإخبار بالعفو عن معصية العزم - كما ورد في الأخبار - لا ينافي اللطف.

ثمّ إنّ العزم على المعصية وإن كان معصية إلاّ أنّه معصية مستقلّة ، لا أنّه المعصية المنويّة ، لكونه في نفسه منهيّا عنه.

ثم إنّ المحقّق من أقسام التجرّي ثلاث :

أحدها : مجرّد القصد على المعصية.

وثانيها : القصد إليها مع الاشتغال بما يكون من مقدّمات المعصية.

وثالثها : القصد إليها مع التلبّس بما اعتقد كونه معصية.

وقد يذكر أقسام ثلاث اخر :

منها : التلبّس بما يحتمل كونه معصية رجاء لتحقّق المعصية به.

ومنها : التلبّس به لعدم المبالات بالمعاصي.

ومنها : التلبّس به برجاء أن لا يكون معصية ، ولكن كون هذه من التجرّي مبنيّ على قيام احتمال المعصية ، وهو مبنيّ على عدم كون الجهل عذرا عقليّا أو شرعيّا ، وإلاّ فمع كونه عذرا بأحد الوجهين - كما في موارد أصل البراءة من الشبهات الوجوبيّة بل التحريميّة

ص: 30

أيضا - فاحتمال المعصية منفي بالأصل ، وإن احتمل معه مخالفة الحكم الواقعي.

والضابط في عدم عذريّة الجهل هو العلم الإجمالي بالوجوب في الشبهات الوجوبيّة ، أو بالتحريم في الشبهات التحريميّة مع التمكّن من العلم التفصيلي ، أو العلم الإجمالي بالواجب أو المحرّم فيما بين المشتبهات مع التمكّن من الامتثال ، كما في الشبهة المحصورة وجوبيّة أو تحريميّة.

المطلب الثاني : في القطع الحاصل من المقدّمات العقليّة

المطلب الثاني

قد عرفت في مقدّمات الباب - عند بيان الفرق بين القطع الطريقي والقطع الموضوعي - أنّ من خصائص العلم الطريقي عدم الفرق في طريقيّته إلى الواقع ووجوب متابعته بين أفراده من حيث القاطع ، والمقطوع به ، وأسباب القطع ، وأزمانه ، ومعنى وجوب متابعته وجوب ترتيب آثار الواقع على المقطوع به مطلقا ، سواء استند في حصوله إلى سبب عقلي أو نقلي أو ملفّق من العقلي والنقلي.

وبرهانه : أنّ العلم لا معنى له إلاّ انكشاف الواقع ، والواقع بعد ما انكشف فلا عذر للمكلّف في عدم ترتيب آثاره عليه ، فتخصيص طريقيّته ووجوب متابعته بسبب دون سبب غير معقول ، إلاّ بأن يقال : إنّ المقطوع به من السبب الفلاني ليس له تلك الآثار ، أو أنّ الآثار ليست من آثار المقطوع به ، والكلّ باطل بدليل الخلف ، إذ المفروض أنّ المقطوع به هو الواقع المنكشف ، فهو ممّا له آثار الواقع وآثار الواقع من آثاره.

وبالجملة : لا يعقل الفرق في طريقيّة العلم ووجوب متابعته بين أسبابه حذرا عن لزوم التناقض الّذي يوضحه دليل الخلف بالوجه الّذي قرّرناه ، ومرجعه إلى فرض المعلوم في الصغرى غير ما له الآثار المعلومة في الكبرى ، وفرض الآثار المعلومة في الكبرى لغير المعلوم في الصغرى ، وكلاهما خلاف ما فرض من صدق المقدّمتين ، خلافا لغير واحد من أصحابنا الأخباريّين (1) فانكروا جواز الاعتماد على القطع الحاصل من المقدّمات العقليّة النظريّة الغير القريبة من الحسّ لكثرة وقوع الغلط والاشتباه فيها ، فلا يمكن الركون إلى شيء منها كما يوضحه كلام محكي عن المحدّث الأسترابادي في فوائده المدنيّة ، ولا بأس بنقله هنا.

فإنّه - عند الاستدلال على انحصار الدليل في غير الضروريّات الدينيّة في السماع عن

ص: 31


1- كالأمين الأسترابادي والمحدّث الجزائري والمحدّث البحراني.

الصادقين عليهما السلام بوجوه كثيرة - قال : [ وتاسعها : مبنيّ على مقدّمة ] دقيقة شريفة تفطّنت لها بتوفيق اللّه تعالى وهي أنّ العلوم النظريّة قسمان ، قسم ينتهي إلى مادّة هي قريبة من الإحساس ، ومن هذا القسم علم الهندسة والحساب وأكثر أبواب المنطق ، وهذا القسم لا يقع فيه الخلاف بين العلماء والخطأ في نتائج الأفكار.

والسبب في ذلك أنّ الخطأ في الفكر إمّا من جهة الصورة أو من جهة المادّة ، والخطأ من جهة الصورة لا يقع من العلماء ، لأنّ معرفة الصورة من الامور الواضحة عند الأذهان المستقيمة ، ولأنّهم عارفون بالقواعد المنطقيّة ، وهي عاصمة عن الخطأ من جهة الصورة ، والخطأ من جهة المادّة لا يتصوّر في هذه العلوم لقرب الموادّ فيها إلى الإحساس ، وقسم ينتهي إلى مادّة هي بعيدة عن الإحساس ، ومن هذا القسم الحكمة الإلهيّة والطبيعيّة ، وعلم الكلام ، وعلم اصول الفقه ، والمسائل النظريّة الفقهيّة ، وبعض القواعد المذكورة في كتب المنطق كقولهم : « الماهيّة لا [ يتركّب ] من أمرين متساويين » وقولهم : « بعض نقيضا المتساويين متساويان ».

ومن ثمّ وقع الاختلافات والمشاجرات بين الفلاسفة في الحكمة الإلهيّة والطبيعيّة ، وبين علماء الإسلام في اصول الفقه ومسائل [ الفقه ] وعلم الكلام وغير ذلك [ من غير فيصل ].

والسبب في ذلك أنّ القواعد المنطقيّة إنّما هي عاصمة من الخطأ من جهة الصورة لا من جهة المادّة ، إذ أقصى ما يستفاد من المنطق في باب موادّ الأقيسة تقسيم الموادّ على وجه كلّي إلى أقسام ، وليست في المنطق قاعدة بها تعلم أنّ كلّ مادّة مخصوصة داخلة في أيّ قسم من [ تلك ] الأقسام ، [ بل و ] من المعلوم [ عند اولى الألباب ] امتناع وضع قاعدة يكفل بذلك » - إلى أن قال :

« فإن قلت : لا فرق في ذلك بين العقليّات والشرعيّات ، والشاهد على ذلك ما نشاهد من كثرة الاختلافات الواقعة بين أهل الشرع في اصول الدّين وفي الفروع الفقهيّة.

قلت : إنّما نشأ ذلك من ضمّ مقدّمة عقلية باطلة إلى المقدّمة النقليّة الظنّيّة أو القطعيّة.

ومن الموضحات لما ذكرناه - من أنّه ليس في المنطق قانون يعصم من الخطأ في مادّة الفكر - أنّ المشّائيّين ادّعوا البداهة في أنّ تفرّق ماء كوز إلى كوزين إعدام لشخصه وإحداث لشخصين آخرين ، وعلى هذه المقدّمة بنوا إثبات الهيولى.

والإشراقيّين ادّعوا البداهة في أنّه ليس إعداما للشخص الأوّل وإنّما انعدمت صفة من

ص: 32

صفاته وهو الاتّصال.

ثم قال : « إذا عرفت ما مهّدناه من المقدّمة الدقيقة الشريفة ، فنقول : إنّ تمسّكنا بكلامهم عليهم السلام فقد عصمنا من الخطأ وإنّ تمسّكنا بغيرهم لم نعصم (1) عنه » انتهى.

وحاصل ما ذكره : إبداء الفرق في الدليل العقلي بين ما لم يكن مقدّماته محسوسة ولا قريبة من الإحساس ، وما كان مقدّماته محسوسة أو قريبة من الإحساس ، كعلمي الهندسة والحساب الباحثين عن المقدار والعدد المفتقرين إلى المادّة في الخارج ، المأخوذين في هذين العلمين موضوعين مع قطع النظر عن المادّة ، فما يكون مقدّماته من هذا القسم يجوز الاعتماد عليه والركون إليه في استنباط الأحكام الشرعيّة ، وما يكون مقدّماته من قبيل الأوّل فلا يجوز الاعتماد عليها والركون إليها ، لكثرة ما يقع فيها من الغلط والاشتباه.

ووجهه : أنّ انعقاد الدليل في كلّ من الأقيسة لا بدّ له من صورة ، وهي الهيئة المعتبرة بين مقدّميه الصغرى والكبرى ، باعتبار التقديم والتأخير وتحقّق الشرائط المقرّرة في المنطق بالقياس إلى الأشكال الأربعة ، من إيجاب الصغرى وفعليّتها مع كلّيّة الكبرى في الشكل الأوّل ، واختلافهما في الكيف مع كلّيّة الكبرى ودوام الصغرى ، أو انعكاس سالبة الكبرى في الشكل الثاني ، وإيجاب الصغرى وفعليّتها مع كلّيّة إحداهما في الثالث ، وإيجابهما مع كلّيّة الصغرى أو اختلافهما في الكيف مع كلّيّة إحداهما في الرابع ، ومادّة يعبّر عنها بالملازمة فيما بين أطراف المقدّمتين المعبّر عنها بالأصغر والأوسط والأكبر المنحلّة إلى ملازمتين :

إحداهما : الملازمة بين الأصغر والأوسط ، واخراهما : الملازمة بين الأوسط والأكبر.

ومرجعهما إلى كون الأوسط لازما للأصغر وملزوما للأكبر في الشكل الأوّل ، أو كونه لازما لهما في الثاني ، أو كونه ملزوما لهما في الثالث ، أو كونه ملزوما للأصغر ولازما للأكبر في الرابع.

ولا ريب أنّ الخطأ حيثما يقع في مقدّمات الدليل فإنّما يقع باعتبار المادّة بزعم ملازمة بين شيئين لا ملازمة بينهما في الواقع في الصغرى أو الكبرى ، لا باعتبار الهيئة ، فإنّ التميّز بين الصورة المنتجة باعتبار تحقّق شرائط الإنتاج والصورة الغير المنتجة باعتبار تخلّف الشرائط أمر واضح يعرفه الأذهان السليمة والأفهام المستقيمة.

وإن شئت قلت : إنّ التمييز بينهما ضروري حاصل لكلّ ذي شعور ، ضرورة أنّه لو قيل

ص: 33


1- فوائد المدنيّة : 129 - 131.

- في تأليف القياس بطريق الشكل الأوّل مثلا - : « كلّ إنسان حيوان ، وبعض الحيوان جسم » ، أو قيل : « لا شيء من الإنسان بحجر ، وكلّ حجر جسم » ، يعلم كلّ أحد أنّ الأوّل لا ينتج قولنا : « كلّ إنسان جسم » ولا أنّ الثاني ينتج قولنا : « لا شيء من الإنسان بجسم » فالخلل الواقع في الدليل من جهة الهيئة لا يوجب خطأ ، بل الخطأ حيثما حصل فإنّما حصل لوقوع خلل في مادّة الدليل ، لبناء تأليفه على توهّم ملازمة في صغراه أو كبراه هي بحسب الواقع منتفية ، مثلا لو حصل القطع لأحد بحرمة الخمر لاعتقاده بكون الخمر مسكرا وكلّ مسكر حراما ، فدخول الخطأ في هذه النتيجة لا يتأتّى إلاّ باعتبار وقوع الخطأ في توهّم الملازمة بين الخمر والمسكريّة ، أو باعتبار وقوعه في زعم الملازمة بين المسكر والحرمة.

والسرّ فيه : أنّ إحراز الملازمة على أحد وجوهها المذكورة في الامور النظريّة الغير القريبة من الإحساس على وجه يفضي إلى إصابة الواقع في النتيجة أمر صعب بل في غاية الصعوبة ، وليس لمعرفتها طريق مضبوط في فنّ المنطق ، ولا في سائر فنون المعقول.

وقضيّة ذلك حينئذ كثرة وقوع الغلط والاشتباه في الأقيسة من جهة موادّها فيتّضح الفرق المذكور ، لوضوح أنّ الخطأ باعتبار المادّة فيما يكون مقدّماته محسوسة أو قريبة من الحسّ ممّا لا يكاد يقع ، وعلى فرض وقوعه في غاية الندرة ، بخلاف ما لا يكون مقدّماته كذلك إذ الخطأ والاشتباه فيها في غاية الكثرة ، ولأجل ذلك ما يشاهد من حصول الاختلافات والمشاجرات فيما بين الفلاسفة في الحكمة الإلهيّة والطبيعيّة ، وبين علماء الإسلام في العلوم الشرعيّة من الكلام واصول الفقه والمسائل الفقهيّة وغيرها ، وليس ذلك إلاّ من جهة بعد مقدّماتها عن الإحساس ، بخلاف فنون الرياضي ولا سيّما الهندسة والحساب ، ولذا ترى أنّ الاختلاف فيها بين أربابها في غاية الندرة ، وإذا كانت الحال في الأدلّة والمقدّمات العقليّة الغير القريبة من الإحساس بتلك المثابة من كثرة وقوع الخطأ والاشتباه فيها باعتبار موادّها ، فلا يجوز الاعتماد عليها والركون إليها ، وقضيّة ذلك عدم جواز متابعة القطع الحاصل منها ، هذا.

وممّن وافقه على هذا المذاق السيّد المحدّث الجزائري في أوائل شرح التهذيب فإنّه - على ما حكي عنه - بعد ذكر كلام المحدّث المتقدّم بطوله قال : « وتحقيق المقام يقتضي ما ذهب إليه.

فإن قلت : قد عزلت العقل عن الحكم في الاصول والفروع ، فهل يبقى له حكم في

ص: 34

مسألة من المسائل؟

قلت : أمّا البديهيّات فهي له وحده وهو الحاكم فيها.

وأمّا النظريّات فإن وافقه النقل وحكم بحكمه قدّم حكمه على النقل وحده ، وأمّا لو تعارض هو والنقلي فلا شكّ عندنا في ترجيح النقل وعدم الالتفات إلى ما حكم به العقل » - إلى أن قال - : « وهذا أصل يبتنى عليه مسائل كثيرة :

منها : مسألة الإحباط فإنّ أكثر علمائنا قد أقاموا الأدلّة العقليّة على نفيه ، مع أنّ الآيات والأخبار دالّة عليه.

ومنها : مسألة إسهاء اللّه تعالى نبيّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في الصلاة وحدها ، فإنّ الأخبار قد استفاضت في الدلالة عليه وقد عمل بها الصدوق قدس سره ، وقد أنكره أصحابنا اعتمادا على بعض الأمارات العقليّة.

ومنها : مسألة الإرادة ، فإنّ المتكلّمين من أصحابنا قد أقاموا البراهين العقليّة على كونها عين الذات ، وقد ورد في الأخبار المستفيضة أنّها زائدة عليها ، وأنّها من صفات الأفعال ، وذهب إليه شيخنا الكليني طاب ثراه وقد عنون بابا من اصول الكافي في زيادة الإرادة على الذات.

ومنها : تعيين أوّل الواجبات ، فذهب الأكثر إلى أنّه معرفة اللّه تعالى إذ هو أصل المعارف والعقائد الدينيّة ، وعليه يتفرّع كلّ واجب من الواجبات الشرعيّة ، وذهب بعضهم إلى أنّ أوّل الواجبات هو النظر فيها لأنّه واجب اتّفاقا وهو قبلها ، وهو مذهب المعتزلة والأوّل مذهب الأشاعرة ، وقيل : هو أوّل جزء من النظر ، لأنّ وجوب الكلّ يستلزم وجوب أجزائه ، وأوّل جزء من النظر واجب ومقدّم على النظر المقدّم على المعرفة.

وقال القاضي واختاره ابن فورك وإمام الحرمين أنّه القصد إلى النظر ، لأنّ النظر فعل اختياري مسبوق بالقصد المقدّم على أوّل أجزائه.

وقال بعض المحقّقين : وهذا النزاع لفظيّ ، إذ لو اريد الواجب بالقصد الأوّل أي اريد أوّل الواجبات المقصودة أوّلا وبالذات فهو المعرفة إتّفاقا ، وإن اريد الواجب مطلقا فالقصد إلى النظر ، لأنّه مقدّمة للنظر الواجب مطلقا فيكون واجبا أيضا.

والحاصل : أنّهم أقاموا الأدلّة على أنّ أوّل الواجبات هو المعرفة باللّه تعالى وعليه أكثر المحقّقين من الإماميّة بل لا ينقل منهم سواه ، وأمّا الأخبار فقد استفاضت بل تواترت بأنّ معرفة اللّه تعالى المجملة وهو : اللّه خالق للعالم ، وأنّه قادر حكيم ، ونحوه من الامور النظريّة

ص: 35

الّتي وقعت في القلوب بإلهام فطري الهيّ.

وذلك نظير قول الحكماء : « أنّ الطفل يتعلّق بثدي امّه بإلهام فطري الهي » فلم يتعلّق بالمكلّف وجوب وغيره إلاّ بعد بلوغ خطاب الشارع ، ومعرفة اللّه تعالى قد حصلت لهم قبل بلوغ الخطاب بطريق الإلهام ، بل قيل إنّ كلّ من بلغه دعوة النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم يقع في قلبه من اللّه تعالى اليقين بصدقه ، لما تواترت به الأخبار من قولهم عليهم السلام : « ما من أحد إلاّ ورد عليه الحقّ حتّى يصدع قلبه قبله أو تركه » ، فأوّل الواجبات هو الإقرار اللساني بالشهادتين على ما في الروايات » انتهى (1).

وعن المحدّث البحراني - في مقدّمات الحدائق - موافقته لهما في الجملة ، حيث نقل في هذا المقام كلاما للسيّد المتقدّم واستحسنه ، إلاّ أنّه صرّح بحجّيّة العقل الفطري الصحيح وحكم بمطابقيّته للشرع ومطابقة الشرع له.

ثمّ قال : « لا مدخل للعقل في شيء من الأحكام الفقهيّة من عبادات وغيرها ، ولا سبيل إليها إلاّ السماع عن المعصوم لقصور العقل المذكور عن الاطّلاع عليها ».

ثمّ قال : « نعم يبقى الكلام بالنسبة إلى ما لا يتوقّف على التوقيف فنقول : إن كان الدليل العقلي المتعلّق بذلك بديهيّا ظاهر البداهة - مثل الواحد نصف الاثنين - فلا ريب في صحّة العمل به ، وإلاّ فإن لم يعارضه دليل عقلي ولا نقلي فكذلك ، فإن عارضه دليل عقلي آخر فإن تأيّد أحدهما بنقلي كان الترجيح له وإلاّ فإشكال ، وإن عارضه دليل نقلي فإن تأيّد ذلك العقلي بدليل نقلي كان الترجيح للعقلي ، إلاّ أنّ هذا في الحقيقة تعارض في النقليّات ، وإلاّ فالترجيح للنقلي وفاقا للسيّد المحدّث المتقدّم ذكره وخلافا للأكثر ، هذا في العقلي بقول مطلق.

وأمّا لو اريد المعنى الأخصّ وهو الفطري الخالي عن شوائب الأوهام الّذي هو من حجج الملك العلاّم ، وإن شذّ وجوده في الأنام ففي ترجيح النقلي عليه إشكال » انتهى (2).

وأنت خبير بما في جميع هذه الكلمات من الفساد وخروجها عن السداد.

أمّا كلام المحدّث الأسترابادي فمع أنّه لا يرجع إلى محصّل - بعد منع وجود ما لا ينتهي من مقدّمات الدليل العقلي إلى المعلومات الضروريّة ولو بواسطة أو وسائط ، لاستحالة تحصيل المجهول النظري عن نظري مثله ، وأنّه منقوض بالدليل النقلي الّذي حصروه في الأخبار المأثورة عن الأئمّة الأطهار عليهم السلام ، من حيث إنّ وقوع الخطأ والاشتباه

ص: 36


1- شرح التهذيب : 47 ( مخطوط ).
2- الحدائق : 1 / 126 - 133.

في المطالب المستفادة منها إن لم يكن أكثر ممّا يقع في المطالب المتوصّل إليها بواسطة المقدّمات العقليّة النظريّة البعيدة عن الإحساس ، فلا أقلّ من عدم كونه أقلّ منه بسبب الخلل الواقعة في الأخبار من جهات عديدة ، فتارة : من حيث الصدور ، واخرى : من حيث جهة الصدور ، وثالثة من حيث المتن ، ورابعة من حيث الدلالة ، وخامسة : من حيث التعارض وعلاجه بالمرجّحات الظنّيّة المتعارضة.

فإنّ كلّ واحدة من هذه الجهات من أسباب الخطأ والاشتباه كثيرا ، فلو كان ذلك جهة للمنع لا نسدّ باب الاستنباط رأسا ، وتوهّم التفرقة بالاغتفار وعدمه ولو من جهة توهّم الفرق بالقصور والتقصير تحكّم ومجازفة واضحة لا يلتفت إليها - أنّ محلّ هذا المنع إمّا أن يكون الدليل العقلي قبل حصول العلم من جهته بالحكم الشرعي ، ومرجعه إلى المنع عن الخوض والنظر في المطالب العقليّة النظريّة للتوصّل إلى المطالب الشرعيّة لما يكثر فيها من الغلط والاشتباه ، أو يكون الدليل العقلي بعد حصول القطع من جهته بالحكم الشرعي ، ومرجعه إلى المنع من العمل بالقطع الحاصل من الدليل العقلي النظري.

فإن كان الأوّل فهو إنّما يسلّم في موضع العلم الإجمالي بوقوع الخطأ كثيرا في المطالب الشرعيّة الّتي يتوصّل إليها بواسطة تلك المطالب العقليّة الّتي يراد الخوض فيها ، ومع فرض العلم الإجمالي على الوجه المذكور فدعوى المنع عن الخوض فيها من باب المنع عن الشبهة المحصورة الّتي تثبت بحكم العقل كلام حسن لا يقابل بالإنكار ، غير أنّه خارج عن مفروض المسألة إذ لا يظنّ من الأصحاب بأحد يجوّز ذلك ، بل نلتزم عنهم أنّهم لا يجوّزونه جزما.

فكبرى الدعوى المذكورة مسلّمة لا يمكن الاسترابة فيها ، وإنّما الكلام في الصغرى وهي محلّ منع أشدّ المنع ، لكذب دعوى العلم الإجمالي بما ذكر ، إذ الأدلّة العقليّة الّتي يتداولها الأصحاب في استفادة المطالب الشرعيّة لا تخلو عن نوعين :

أحدهما : المستقلاّت العقليّة الّتي يحكم فيها العقل بدون ملاحظة خطاب [ الشرع ] وهي موارد التحسين والتقبيح العقليّين.

وثانيهما : الاستلزامات العقليّة الّتي يحكم فيها العقل بملاحظة خطاب الشرع ، كوجوب المقدّمة ، وحرمة الضدّ ، وحرمة العبادة وبطلانها من جهة امتناع اجتماع الأمر والنهي ، وفساد العبادات المنهيّ عنها ، إن كان ثابتا بحكم العقل لا بدلالة العرف وما أشبه ذلك ،

ص: 37

وليس عند الأصحاب ممّا عدا هذين النوعين من الأدلّة العقليّة النظريّة ما يتمسّكون به على وجه الاستناد للتوصّل إلى الأحكام الشرعيّة ، وليس لأحد في هذين النوعين علم إجمالي بوقوع خطأ فيها فضلا عن كثيره.

فإن قلت : لعلّ نظر هؤلاء إلى ما ورد في الأخبار من « أنّ دين اللّه لا يصاب بالعقول » وأنّه « لا شيء أبعد عن دين اللّه من عقول الناس » (1) وما يقرب من ذلك.

قلت : مع أنّ ذلك لا يلائم كلام المحدّث - المصرّح بكون الجهة المانعة كثرة الغلط والاشتباه ، وأنّ هذه الأخبار معارضة بما هو أكثر وأرجح منها من الأخبار الدالّة على مرجعيّة العقل ممّا يستفاد منه كون العقل أيضا حجّة من الحجج ، وأنّه الرسول الباطني الّذي هو شرع من داخل ، كما أنّ الشرع عقل من خارج ، وأنّه حجّة باطنيّة ، وأنّه ما يثاب ويعاقب به ، وأنّه ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان (2) ، إلى غير ذلك ممّا تقرب من هذه المضامين - أنّ مورد هذه الأخبار نظرا إلى سياقاتها إعمال العقل في إدراك علل الأحكام التوقيفيّة للتوصّل بها إلى نفس الأحكام ، نظرا إلى أنّ الأحكام منوطة بعلل خفيّة لا يدركها عقول الناس القاصرة ، بل لا يطلع عليها إلاّ اللّه سبحانه والراسخون في العلم الّذين عصمهم اللّه من الخطأ والزلل ، وأودعهم أحكامه وأوقفهم على عللها ومناطاتها.

وبالجملة : هذه الأخبار مسوقة في ردّ العامّة المخالفين حيث يستعملون عقولهم الناقصة في استنباط علل الأحكام من الطرق العقليّة الغير العلميّة المتداولة لديهم ، وكلامنا ليس في نحو هذه العقول المستعملة فيما ذكر ، وأصحابنا أيضا لا يجوّزون الركون إلى العقل بهذا المعنى ، كيف وأنّ المنع من القياس من ضروريّات مذهبنا.

فإن قلت : يمكن أن يكون نظرهم إلى ما يستفاد من جملة من الأخبار من أنّ الواجب علينا امتثال الأحكام الّتي بلّغها حجج اللّه تعالى الأئمّة المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين ، فكلّ حكم لم يكن الحجّة واسطة في تبليغه لم يجب امتثاله ، بل يكون من قبيل « اسكتوا عمّا سكت اللّه عنه » (3) - على معنى كونه ممّا لم يأمر اللّه تعالى حججه بتبليغه - مثل ما رواه زرارة بسند صحيح - على الصحيح - عن أبي جعفر عليه السلام في حديث في الإمامة قال :

ص: 38


1- كمال الدين : 324 ح 9 والوسائل : 27 : 203 / 69 و 73 ، ب 13 ، من أبواب صفات القاضي.
2- الكافي 1 : 11 و 16 / 3 و 12.
3- لم نعثر عليه بعينه ، نعم جاء في نهج البلاغه هكذا : « وسكت عن أشياء ولم يدعها نسيانا فلا تتكلّفوها » نهج البلاغة الحكمة : 105.

« أمّا لو أنّ رجلا قام ليله ، وصام نهاره ، وتصدّق بجميع ماله ، وحجّ جميع دهره ، ولم يعرف ولاية وليّ اللّه فيواليه ، ويكون جميع أعماله بدلالته إليه ، ما كان له على اللّه حقّ في ثوابه ، ولا كان من أهل الإيمان » (1).

وقول أبي عبد اللّه عليه السلام أيضا في حديث : « أما أنّه شرّ عليكم أن تقولوا بشيء ما لم تسمعوه منّا. » (2)

وقول أبي جعفر عليه السلام : « من دان اللّه بغير سماع من صادق ألزمه اللّه البتّة يوم القيامة » (3) وقوله عليه السلام أيضا في حديث آخر : « كلّ ما لم يخرج من هذا البيت فهو باطل » (4) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

وقضيّة هذا كلّه أن يكون الحكم المنكشف بغير واسطة تبليغ الحجّة ملغى في نظر الشارع ، وإن كان مطابقا للواقع.

قلت : مع أنّه خلاف ظاهر التعليل في كلام المحدّث الأسترآبادي ، نجيب عنه :

أوّلا : بالنقض بالأحكام المعلومة بمقدّمات ضروريّة أو بمقدّمات نظريّة قريبة من الإحساس لانتفاء الواسطة في ذلك كلّه.

وثانيا : بمنع دلالة الأخبار المذكورة على ما ذكر ، خصوصا الخبر الأوّل لكونه ظاهرا كالصريح في اشتراط صحّة الأعمال وترتّب الثواب عليها بمعرفة ولاية أهل البيت وموالاتهم ، ولم يدلّ ذلك على كون الحكم المنكشف بواسطة العقل القاطع لأهل الولاية وموالاة الأئمّة ملغى في نظر الشارع.

ولو سلّم دلالة الخبر على أزيد من الاشتراط المذكور فهو - كباقي الأخبار المذكورة - واردة في سياق الأخبار الكثيرة المتواترة معنا الواردة في ردّ المخالفين وردعهم في اعتمادهم على إدراكاتهم الظنّيّة بواسطة عقولهم الناقصة ، واستحساناتهم الباطلة ، وآرائهم الفاسدة للأحكام التوقيفيّة الصرفة الّتي لا طريق إلى إدراكها سوى خطاب الشرع وسنّة النبويّة والإماميّة ، واستبدادهم في ذلك وعدم اعتنائهم بأولياء اللّه وحججه أصلا ، فلا يدخل الأحكام المنكشفة بالعقل القاطع في مورد هذه الأخبار.

ص: 39


1- الوسائل 1 : 119 / 2 ، ب 29 من أبواب مقدّمة العبادات.
2- الوسائل 27 : 70 / 25 ، ب 7 من أبواب صفات القاضي.
3- الوسائل 27 : 75 / 37 ، ب 7 من أبواب صفات القاضي.
4- الوسائل 27 : 74 / 34 ، ب 7 من أبواب صفات القاضي.

ولو سلّم عدم ظهورها فيما ذكرناه ، وجب تنزيلها عليه جمعا بينها وبين العقل المستقلّ بعدم قبول القطع الطريقي للتخصيص بين أسبابه ، وعدم جواز منع الشارع من العمل بالقطع لإدائه إلى التناقض الّذي مرجعه هنا إلى لزوم الكذب في كلام الشارع ، أو إلى اجتماع النقيضين في الاعتقاد ، مع العقل المستقلّ بوجوب طاعة اللّه ورسوله وامنائه ، وامتثال أحكامه المعلومة من غير مدخليّة عند العقل فيه بخصوص تبليغ المعصوم نبيّا أو وليّا ، بل مناطه عنده انكشاف الواقع بأيّ طريق كان حتّى نحو الرمل والجفر أو غيرهما من الأسباب الغير المتعارفة.

وبالتأمّل فيما بيّناه اندفع ما عن السيّد صدر الدين في شرحه للوافية في جملة كلام له في حكم ما يستقلّ به [ العقل ] من قوله - بعد كلام طويل له في هذا المقام - : « لا يقال : من حصل له الجزم بأنّ شيئا خاصّا من شأنه أن يستحقّ على فعله الثواب وعلى تركه العقاب ، وأنّه مرضيّ ومراد للشارع ، وأنّه أمر به ، ولكنّه منع وصول أمره إلى المأمور مانع ، فلا شكّ أنّه يجوز له أن يتعبّد اللّه بفعل هذا الشيء ، وأنّه مثاب بفعله ، وأنّه لو عاقبه اللّه على الترك لا يكون عقابه قبيحا ، فحينئذ يجوز له الإفتاء بأنّ هذا الشيء واجب كما يجوز لنفسه العمل به بقصد أنّه واجب ، فقد ثبت مطلوبنا.

لأنّا نقول : إنّ التعبّد بمثل هذا الشيء محلّ نظر ، لأنّ المعلوم هو أنّه يجب فعل شيء أو لا يجب إذا حصل الظنّ أو القطع بوجوبه أو حرمته أو غيرهما من جهة نقل قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، لا أنّه يجب فعله أو تركه أو لا يجب مع حصولهما من أيّ طريق كان ، وقس عليه حال الفتوى.

ألا ترى أنّا لو رأينا المعصوم عليه السلام في المنام - وقلنا بأنّه هو للأحاديث (1) الدالّة على هذا - فأمرنا بشيء أو نهانا عن شيء لم يصل إلينا حكمه في اليقظة لكان جواز العمل والإفتاء به محلّ نظر وتأمّل ، فلا يبعد أن يقال بترتّب العقاب لو فعل أو ترك بقصد التقرّب ، أو أفتى بأحدهما » إلى آخر ما ذكره (2). »

ومحصّل مرامه رحمه اللّه : أنّ إطاعة اللّه تعالى في أوامره ونواهيه وامتثالهما إنّما تجب إذا حصل العلم أو الظنّ بهما من جهة النقل عن المعصوم قولا أو فعلا أو تقريرا ، إلا إذا حصل

ص: 40


1- كقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم : « من رآني في منامه فقد رآني ، فإنّ الشيطان لم يتمثّل بي » ( بحار الأنوار 49 : 283 / 1 ).
2- شرح الوافية ( مخطوط ) : 215.

العلم به من غير تلك الجهة من الطرق العلميّة الغير النقليّة ، ومرجعه إلى دعوى مدخليّة تبليغ المعصوم من نبيّ أو وصيّ في وجوب الإطاعة والامتثال.

ويزيّفه : أنّ دعوى هذا التخصيص إمّا من جهة العقل أو من جهة النقل ، والأوّل باطل لاستقلال العقل بخلافه حسبما عرفت وكذلك الثاني ، إذ ليس في النقل ما يوهم ذلك إلاّ الأخبار المذكورة وقد عرفت حالها من حيث إنّها غير دالّة على مدخليّة تبليغ المعصوم في وجوب الإطاعة والامتثال ، فإنّ هذه المدخليّة إمّا لأجل دخل تبليغ المعصوم في نفس الحكم على وجه الموضوعيّة فما لم يبلّغه المعصوم ليس بحكم اللّه تعالى الّذي يجب طاعته ، أو لدخله في طريق إدراكه ، فكلّ حكم لم يدرك من طريق السماع عن المعصوم ولو بالواسطة فلم يرد اللّه سبحانه إطاعته وإن طابق الواقع.

وأيّا مّا كان فالأخبار المذكورة غير دالّة عليه لا صراحة ولا ظهورا ، بل هي ظاهرة في نفي مرجعيّة الجبت والطاغوت وأتباعهما ، أو نفي اتّباع الأحكام الظنّيّة المدركة بالاستحسانات ، أو بمعونة العقول الناقصة المعمولة في استنباط علل الأحكام ومناطاتها.

فالحصر المستفاد من هذه الأخبار وغيرها من أدلّة وجوب الرجوع إلى الأئمّة عليهم السلام إضافيّ ، قصد بالإضافة إلى الجبت والطاغوت وأتباعهما ، أو بالإضافة إلى الأحكام الظنّيّة القياسيّة ، أو الاستحسانيّة على ما كان متعارفا عند المخالفين في زمان صدور هذه الأخبار ، لا بالإضافة إلى العقل المستقلّ في مستقلاّته ، ولا بالإضافة إلى الأحكام المعلومة بطريق الجزم بواسطة المقدّمات الضروريّة ، أو النظريّة العقليّة.

ولو سلّم ظهورها فيما ذكر يتعيّن صرفها إلى ما بيّناه ، ولو فرض عدم قبولها الحمل المذكور لا مناص من طرحها ، لأنّها أخبار آحاد لا تقاوم لمعارضة العقل المستقلّ ، فهي إمّا غير منافية أو مؤوّلة أو مطروحة.

وإن كان الثاني فالمنع من العمل بالقطع الحاصل من المقدّمات العقليّة النظريّة إن اريد به خطاب الشارع بعدم العمل بالقطع المذكور بعد حصوله ، فهو غير معقول ، لأنّه على تقدير مصادفة القطع للواقع يؤدّي إلى التناقض المتضمّن لتجويز الكذب على الشارع ، لرجوع المنع المذكور إلى إنكار الملازمة بين الأصغر ، والأوسط ، ومرجعه إلى إنكار الصغرى أو إلى إنكار الملازمة بين الأوسط والأكبر ، ومرجعه إلى إنكار الكبرى.

والمفروض أنّ مصادفة القطع للواقع لا تتأتّى إلاّ على تقدير صدق النتيجة ، وهو فرع

ص: 41

على صدق المقدّمتين ، وعلى تقدير عدم مصادفته الواقع فالمنع المذكور إمّا أن يؤثّر في زوال اعتقاد المكلّف بإحدى الملازمتين المستلزم لزوال القطع ، أو يؤثّر في حصول قطع آخر له بخلاف القطع الأوّل مع بقائه على حاله ، أو يؤثّر في حصول الظنّ له بخلافه مع بقائه على حاله ، أو يؤثّر في حصول احتمال الخلاف فيه مع بقائه ، والكلّ باطل.

أمّا الأوّل : فلكونه خروجا عن موضوع المسألة ، فإنّ الكلام في العمل بالقطع مادام باقيا.

وأمّا الثاني ، والثالث ، والرابع : فللزوم اجتماع النقيضين في الاعتقاد.

وأمّا الخامس : فلأنّ الخطاب مع فرض عدم دلالته القطعيّة ولا الظنّيّة لا يعقل فيه المنع والمانعيّة من العمل بالقطع المفروض ، فلا يكون حجّة ، نظرا إلى أنّ حجّيّة الخطاب باعتبار دلالته وإفادته القطع أو الظنّ ، فلو وجد مثل هذا الخطاب في الأخبار كان مطروحا ، أو مؤوّلا بما لا ينافي العمل بالقطع الحاصل من المقدّمات النظريّة البعيدة عن الإحساس.

لا يقال : لا يعني من المنع من العمل بالقطع المذكور المنع الخطابي في الظاهر ليؤدّي إلى محذور التناقض ، أو اجتماع النقيضين في الاعتقاد ، أو غير ذلك ، بل إنّما يعني به أنّ الشارع لا يرضى بالعمل به والركون إليه في الواقع وإن لم يمنعه أيضا في الظاهر.

لأنّ عدم الرضا بالعمل به مع مصادفته الواقع ممّا لا معنى له ، لأنّ معنى مصادفته كون متعلّقه الحكم الواقعي المجعول للواقعة في نفس الأمر ، ومعنى العمل به ترتيب آثار الواقع على متعلّقه ، فإذا كان المتعلّق هو الحكم الواقعي المجعول فكيف لا يرضى الشارع بترتيب آثاره عليه؟

ومن ذلك علم أنّه لا يصحّ أن يراد بالمنع أنّ الشارع يعاقب على العمل به في الواقع وإن لم يمنعه منه في الظاهر ، إذ لا يعقل أن يعاقب الشارع على ترتيب آثار الواقع عليه.

فإن قلت : إنّ العقاب إنّما يترتّب على تقصيره لا على نفس العمل بالقطع ، فإنّه لخوضه في مقدّمات يعلم إجمالا بكثرة الخطأ والاشتباه فيها قصّر في تحصيل القطع.

قلت : - لو سلّمنا العلم الإجمالي ، ثمّ سلّمنا صدق التقصير مع اتفاق المصادفة للواقع - إنّ العقاب على التقصير باعتبار خوضه فيها لا جهة له إلاّ من حيث التجرّي ، كما في مرتكب بعض أطراف الشبهة المحصورة في صورة عدم مصادفة ارتكابه الحرام الواقعي ، والتجرّي وإن كان قبيحا إلاّ أنّه على ما تقدّم تحقيقه قبح في الفاعل لا في الفعل المتجرّى به فلا يوجب عصيانا ولا عقابا.

ص: 42

ولو سلّم فالعقاب من جهته كلام آخر لا ربط له بالمقام ، حيث إنّ الكلام في العقاب على خصوص العمل بالقطع لا على الخوض في مقدّمات تحصيله باعتبار التجرّي.

ولو قدر المنع بمعنى عدم الرضا بالعمل والركون في القطع الغير المصادف ، فهو وإن كان مسلّما إلاّ أنّه لا اختصاص له بما حصل من المقدّمات العقليّة ، بل لو حصل من مقدّمات نقليّة فهو أيضا ممّا لا يرضى اللّه في الواقع بالعمل به والركون إليه ، مع أنّه لا فائدة فيه بالنظر إلى حال المكلّف الغير الملتفت إليه لعدم تجويزه الخلاف في قطعه.

ولو قدّر المنع بمعنى العقاب على العمل بالقطع الغير المصادف ، فهو لا يسلّم إلاّ مع العلم الإجمالي بكثرة الخطأ والاشتباه في تلك المقدّمات ، وقد تقدّم منع العلم الإجمالي بوقوع خطأ واحد فضلا عن كثيرة في المقدّمات العقليّة الّتي هي محطّ بحث الاصولي ، فإنّها غير خالية عن المستقلاّت العقليّة والاستلزامات العقليّة ، وليس في شيء منهما علم إجمالي.

وبالتأمّل في جميع ما قرّرناه ينقدح ما في ذيل كلام هذا المحدّث من قوله : « إن تمسّكنا بكلامهم فقد عصمنا من الخطأ وإن تمسّكنا بغيرهم لم نعصم منه » ، فإنّ الخطأ في أخبارهم إن لم يكن أكثر ممّا هو في الأدلّة العقليّة فليس بأقلّ منه ، مع أنّ المنع من التمسّك بغير كلامهم ممّا يخالف سيرة سلفنا الصالحين وطريقة آبائنا السابقين من المتكلّمين والفقهاء والمحدّثين ، حيث نراهم قديما وحديثا متمسّكين في المطالب الشرعيّة كلاميّة واصوليّة وفروعيّة بالبراهين العقليّة ، وكفاك شاهدا بذلك استنادهم إلى دليل اللطف الّذي هو دليل عقلي في كثير من المطالب الشرعيّة.

وهذا من أقوى الشواهد بعدم انحصار طريق إثبات المطالب في الأدلّة النقليّة.

وأمّا ما في كلام السيد الجزائري والمحقّق البحراني فمع ما فيهما من أكثر ما تقدّم من فرض التعارض بين الدليل العقلي والدليل النقلي وبين الدليلين العقليّين ، فإنّه من أعجب العجاب بل من أوضح المفاسد ، إذ الدليل العقلي ما كان دليليّته منوطة بحصول القطع منه ، والدليل النقلي ما كان دليليّته منوطة بإفادته القطع أو الظنّ ، والتعارض عبارة عن تنافي مدلولي الدليلين ، فإن كان الدليل العقلي ممّا حصل منه القطع بالمطلب فكيف أن يحصل القطع أو الظنّ من الدليل النقلي على خلافه ، وإن فرض حصول القطع أو الظنّ من الدليل النقلي فكيف يجوز أن يحكم العقل بخلافه على وجه القطع.

ومن ذلك ظهر وجه الفساد في فرض التعارض بين عقلي مع مثله ، فالدليل العقلي

ص: 43

إمّا لا معارض له أو لا يكون معارضا ، والأصل في ذلك استحالة القطع أو الظنّ بطرفي نقيض القضيّة ، كاستحالة القطع بأحد الطرفين والظنّ بالطرف الآخر ، للزوم اجتماع النقيضين في الذهن.

ومن ثمّ صرّحوا في مفتتح باب التعادل والتراجيح بعدم وقوع التعارض بين القطعيّين والظنّيين ، وقطعيّ وظنّي ، وإن اريد بالدليل العقلي المقابل للنقلي ما كان بصورة القياس ، وإن لم يفد القطع ولا الظنّ بخلاف ما أفاده النقلي من القطع أو الظنّ ، فهو - مع أنّه ليس بدليل لفقده ما هو مناط دليليّته - خارج عن محلّ البحث ، إذ لم نر أحدا في مثل ذلك جوّز العمل به دون النقلي المقابل له المفيد للاعتقاد بأحد الوجهين.

ومن ذلك علم أنّ العقليّين إذا لم يحصل من شيء منهما القطع يتساقطان ، وإن حصل القطع من أحدهما دون الآخر لا يتعارضان ، وعلى التقديرين لا معنى للإشكال حسبما صنعه المحدّث البحراني.

المطلب الثالث : في حجّيّة قطع القطّاع وعدمه

المطلب الثالث

في حجّيّة قطع القطّاع وعدمه

وقد ذكر شيخنا قدس سره (1) أنّه : « قد اشتهر في ألسنة المعاصرين أنّ قطع القطّاع لا اعتبار به » ، قال : « ولعلّ الأصل في ذلك ما صرّح به كاشف الغطاء قدس سره - حيث إنّه بعد الحكم بأنّ كثير الشك لا اعتبار بشكّه - قال : وكذا من خرج عن العادة في قطعه أو في ظنّه فيلغو اعتبارهما في حقّه » (2) إنتهى.

ولا يراد بالقطّاع من يكثر قطعه مطلقا ، بل من يقطع كثيرا من جهة الأسباب الغير المتعارفة كما يظهر من عبارة كاشف الغطاء (3) ، وإنّما عبّروا عنه بالقطّاع مع أنّه على مقتضى المبالغة والتكثير يشمل من يكثر قطعه من جهة الأسباب المتعارفة أيضا ، لأنّ الغالب فيه كون كثرة قطعه من جهة الأسباب الغير المتعارفة.

فإن أرادوا من عدم الاعتبار به ، عدم حجّيّته من حيث الموضوعيّة فيما أخذ القطع موضوعا له من الأحكام ، كما في الشهادة والفتوى ونحوهما فله وجه ، لأنّ أدلّة اعتباره

ص: 44


1- فرائد الأصول 24 : 65.
2- كشف الغطاء : 64.
3- كشف الغطاء : 64.

على هذا الوجه لا تشمل قطع القطّاع ، فرجع ذلك في الشهادة والفتوى إلى اشتراط حجّيّته فيهما بعدم كون صاحبه قطّاعا ، سواء رجع إلى اشتراط حكم للشاهد أو المفتي بذلك - كجواز أداء الشهادة وجواز الإفتاء - أو إلى اشتراط حكم لمن يقبل الشهادة كالحاكم ، أو من يقبل الفتوى كالمقلّد ، وهو جواز قبول الشهادة وجواز قبول الفتوى ، إلاّ أنّه يعتبر في جريان ذلك الحكم في حقّ الشاهد والمفتي أمران :

أحدهما : أن يعلم بكونه قطّاعا.

وثانيهما : أن يعلم أو احتمل كون حجّيّة قطعه مشروطة بعدم كونه قطّاعا ، لأنّه إذا علم باشتراط حجّيّة قطعه بعدم كونه قطّاعا بعد علمه بأنّه قطّاع فقد علم بعدم كون قطعه من موضوع جواز أداء الشهادة أو جواز الإفتاء ، وإذا احتمل اشتراط حجّيّة قطعه بعدم كونه قطّاعا بعد علمه بأنّه قطّاع فيشكّ في تحقّق موضوع حكمه - أعني جواز أداء الشهادة وجواز الإفتاء - والأصل يقتضي عدم الجواز.

وعلى الثاني يعتبر في جريان الحكم المذكور في حقّ الحاكم أو المقلّد أيضا أمران :

أحدهما : علمه بأنّ الشاهد أو المفتي قطّاع.

وثانيهما : أن يعلم أو احتمل كون حجّيّة قطع الشاهد أو المفتي في جواز قبول شهادته أو فتواه مشروطة بأن لا يكون قطّاعا ، لأنّه إذا علم بالاشتراط بعد علمه بكونه قطّاعا فقد علم بعدم كون قطعه من موضوع حكمه ، وإذا احتمل الاشتراط بعد العلم بكونه قطّاعا فقد شكّ في تحقّق موضوع حكمه ، والأصل معه يقتضي عدم جواز القبول.

وإن أرادوا من عدم الاعتبار عدم حجّيّة قطع القطّاع من حيث كاشفيّته فيما كان القطع طريقا إليه ، فلا يخلو إمّا أن يكون المراد منع القطّاع من الخوض في أسباب غير عادية تحصيلا للقطع ، أو يكون المراد منعه من العمل بقطعه الحاصل من جهة الأسباب الغير العادية حين حصوله.

فإن اريد الأوّل فجهة المنع من الخوض إمّا كون قطعه الّذي يحصل من تلك الأسباب ملزوما للخطأ ، أو كونه يكثر فيه الوقوع في الخطأ ، أو كونه لا يأمن من الوقوع في الخطأ.

والأوّل ممنوع ، والثاني غير بعيد ، والثالث مسلّم ، ولكنّه منقوض.

أمّا الأوّل : فلمنع الملازمة ، فإنّ القطّاع قد يصادف قطعه الواقع.

وأمّا الثالث : فلأنّ القطع من جهة الأسباب المتعارفة العادية لغير القطّاع أيضا لا يأمن

ص: 45

الوقوع في الخطأ ، لانتفاء العصمة ، ولم يقل أحد بكونه جهة للمنع من الخوض.

فبقي الوجه الثاني الّذي ذكرنا كونه غير بعيد ، وعليه فإن يقصد بخوضه معرفة موضوعات الأحكام فلا يسلّم المنع منه ، إلاّ فيما كان من موضوعات الوجوب في الواجبات كمعرفة القبلة للصلاة ، ومعرفة أوقات الصلوات ، ومعرفة هلال شهر رمضان ونحو ذلك ، أو فيه مع ما كان من موضوع الاستحباب في المستحبّات بالخوض في الأسباب الغير المتعارفة ، وإن قصد به معرفة نفس الأحكام ، على معنى استنباطها بالخوض في الأسباب الغير المتعارفة فالمنع منه مسلّم ، لأنّ أدلّة استنباط الأحكام الشرعيّة غير شاملة له.

وإن اريد الثاني - على معنى أنّه حين القطع الحاصل له من الأسباب الغير العادية يمنع فعلا عن العمل به - فهو غير معقول ، كما ذكرناه مرارا لإدّائه إلى التناقض المتضمّن لتجويز الكذب على الشارع ، أو اجتماع النقيضين في الذهن والاعتقاد ، ولا يجدي في دفعه ما تكلّفه بعض الفضلاء (1) من تقييد الحكم بعدم اعتبار قطع القطّاع بما « إذا علم القطّاع أو احتمل أن يكون حجّية قطعه مشروطة بعدم كونه قطّاعا » فإنّ الاشتراط والتقييد إنّما يحسن في القطع الموضوعي ، لأنّه يتحمّل من الشروط والقيود كلّما اعتبره جاعل الأحكام المأخوذ في موضوعها صفة القطع.

وأمّا القطع الطريقي فلا يتحمّل حجّيّته شرطا ولا قيدا ، لأنّ القطع من حيث طريقيّته عبارة عن انكشاف الواقع ، والواقع بعد ما انكشف يقتضي كون الآثار آثارا له مطلقا ، ولو دخل حجّيّته الشرط والقيد فهو ينفي كون الآثار آثارا له حيث ينتفي الشرط والقيد ، وهذا تناقض واضح.

ومنه يظهر ما في كلامه الآخر ، فإنّه وجّه الحكم بعدم اعتبار قطع القطّاع - بعد ما قيّده بما ذكر - « بأنّه يشترط في حجّيّة القطع عدم منع الشارع عنه ، وإن كان العقل أيضا قد يقطع بعدم المنع ، إلاّ أنّه إذا احتمل المنع يحكم بحجّية القطع ظاهرا ما لم يثبت المنع » (2) فإنّ حجّيّة القطع لا تقبل اشتراط عدم منع الشارع من حيث أنّ نفس القطع لا تقبل منع الشارع فيه للزوم التناقض ، فإنّ عدم ترتيب آثار الواقع على المقطوع به يناقض كون الآثار آثارا له كما هو المفروض.

فإنّ انكشاف كون الخمر حراما بواسطة انكشاف كونه مسكرا ، وانكشاف كون كلّ

ص: 46


1- هو صاحب الفصول في الفصول : 343.
2- الفصول : 343.

مسكر حراما يقتضي وجوب اجتنابه ، وحرمة التكسّب به ، وحرمة الاستشفاء به وغير ذلك من الأحكام ، ومنع الشارع عن العمل به ينفي كون هذه الأحكام آثارا له.

وله كلام ثالث يعجبني ذكره وهو أنّه مثّل لما ذكره في التوجيه من اشتراط حجّية القطع بعدم منع الشارع عنه بما إذا قال المولى لعبده : « لا تعتمد في معرفة أوامري على ما تقطع به من قبل عقلك ، أو يؤدّي إليه حدسك ، بل اقتصر على ما يصل إليك منّي بطريق المشافهة أو المراسلة » (1).

وفيه : أنّه إن اريد به منع العبد من النظر لمعرفة أوامر المولى من النظر في مقدّمات يرتّبها العقل ، أو منعه من الخوض لإحراز أوامره في طرق الحدس.

ففيه : مع أنّه لا دخل له بمسألة قطع القطّاع لما بينهما من العموم من وجه - فإنّ الناظر في تلك المقدّمات والخائض في هذه الطرق لإحراز أوامر الشرع قد لا يكون قطّاعا ، والقطّاع قد لا يكون ناظرا في هذه المقدّمات ولا خائضا في تلك الطرق كما لا يخفى - أنّه كلام خارج عن مسألة العمل بالقطع حال حصوله ، وإن اريد به منعه عن العمل بالقطع حال حصوله من أحد الطريقين فهو غير معقول ، مع أنّ المثال غير منطبق على الممثّل كما عرفت.

المطلب الرابع : في اعتبار العلم الاجمالي وعدمه

المطلب الرابع

في اعتبار العلم الإجمالي وعدمه

والكلام فيه يقع في مقامين :

أحدهما : اعتباره في ثبوت التكليف به ، وهذا هو معنى حجّيّة العلم الإجمالي ، ومحصّله : أنّ العلم الإجمالي بالخطاب هل يوجب تنجّز التكليف بالمعلوم بالإجمال كما أنّ العلم التفصيلي يوجبه أو لا؟

وهذا يتضمّن الكلام تارة في حرمة مخالفة العلم الإجمالي ، واخرى في وجوب موافقة العلم الإجمالي ، والغرض الأصلي من عقد المسألة هو البحث عن الجهة الاولى ، وأمّا الجهة الثانية فيعرف حكمها في مسألة أصلي البراءة والاشتغال.

ثانيهما : اعتباره في ارتفاع التكليف المعلوم بالتفصيل ، على معنى كفاية الامتثال

ص: 47


1- الفصول : 343.

الإجمالي في حصول البراءة ، وسقوط التكليف عند اشتغال الذمّة وعدمه ، كإكرام شخصين يعلم أنّ أحدهما زيد عند معلوميّة الأمر بإكرام زيد ومجهوليّة زيد مع إمكان استعلامه أو عدم إمكانه ، ومحصّل هذا العنوان أنّه هل يكفي في حصول الامتثال وفراغ الذمّة عن المكلّف به الموافقة الإجماليّة ، أو لا يكفي بل لابدّ من الموافقة التفصيليّة؟

أمّا المقام الأوّل : فليعلم أنّ الإجماليّة في العلم الإجمالي وصف فيه باعتبار متعلّق العلم ، وإلاّ فالعلم في نفسه غير قابل لوصف الإجماليّة ، فإنّ الإجمال المنسوب إليه العلم من « أجمل » بمعنى جمع ، فانتسابه إلى الإجمال بمعنى الجمع لكونه جامعا لاحتمالين فصاعدا.

وظاهر أنّ الجامع لاحتمالين فصاعدا المشتبه في الظاهر إنّما هو متعلّق العلم لا نفسه ، ومتعلّقه المشتبه - بسبب اجتماع الاحتمالين فصاعدا - فيه قد يكون نفس التكليف الدائر بين إيجاب شيء وتحريمه ، وقد يكون المكلّف - بالكسر - الدائر بين شخصين ، وقد يكون المكلّف - بالفتح - الدائر بينهما ، كما في مسألة وجدان المنيّ في الثوب المشترك ، وقد يكون المكلّف به الدائر بين أمرين فصاعدا ، كالصلاة إلى القبلة المردّدة عند اشتباه القبلة بين الجهات ، وصلاة يوم الجمعة المردّدة بين الظهر والجمعة وما أشبه ذلك.

فالأقسام أربعة ، إلاّ أنّ القسم الثاني - وهو الشبهة في المكلّف بالكسر - في خطابات الشرع غير معقول ، لانحصار المكلّف فيها في الشارع ولا تعدّد فيه.

نعم قد يوجد ذلك ويتأتّى فرضه في خطابات العرف ، كما لو توجّه إلى الولد أمر من أحد والديه ولم يعلم أنّه من أبيه أو من امّه.

ويظهر ثمرة هذا الاشتباه فيما لو مات أحدهما بعد الأمر وقبل امتثاله ، فإن كان الميّت هو الآمر سقط الأمر وانقطع التكليف وإلاّ كان الأمر باقيا إلى أن يحصل امتثاله.

هذا إن قسنا الشبهة إلى الخطاب الصادر من أحدهما ، وإن قسناها إلى خطاب الشارع بإطاعة الوالدين رجعت إلى الشبهة في المكلّف به ، إذ لا يدري أنّ الواجب عليه حينئذ هل هو إطاعة أبيه أو إطاعة امّه؟

وكيف كان فمحلّ البحث في المقام - بملاحظة ما ذكرناه - إنّما هو ما عدا القسم الثاني من الأقسام الثلاث الباقية.

والكلام في جميع هذه الأقسام يقع تارة في حرمة مخالفة العلم ، واخرى في وجوب موافقته الّذي يتأتّى بالجمع بين المحتملات في العلم ، كما أنّ الأوّل يتأتّى بترك جميع المحتملات.

ص: 48

وليعلم أيضا أنّ مخالفة العلم الإجمالي قد تكون عمليّة وقد تكون التزاميّة.

وضابط الأوّل : أن يعمل المكلّف في محلّ الشبهة عملا مخالفا لكلا طرفي الشبهة استنادا إلى أصل البراءة ، كما لو ترك الصلاة إلى جميع الجهات عند اشتباه القبلة ، أو ترك الظهر والجمعة معا يوم الجمعة ، وكذلك القصر والإتمام في المسير إلى أربعة فراسخ ، أو ارتكب جميع أطراف الشبهة في الشبهة المحصورة ، أو وطئ الزوجتين المحلوف بوطئ إحداهما وترك وطئ الاخرى معا ، أو ترك وطئهما معا.

وضابط الثاني : أن يعمل عملا موافقا لأحد الاحتمالين من غير التزام بأحد الحكمين المردّد فيهما عملا بأصل البراءة ، أو الإباحة في مسألة الشبهة في التكليف الإلزامي المعلوم بالإجمال المردّد بين إيجاب الشيء أو تحريمه ، كالزوجة المردّدة بين تحريم الوطئ وإيجابه بسبب الحلف ، عند الاشتباه في متعلّق الحلف هل هو فعل الوطئ أو تركه؟ إذا اختار الفعل أو الترك على وجه الدوام ، لبنائه على التخيير الاستمراري عملا بالأصل ، فإنّ العمل كائنا ما كان موافق لأحد الاحتمالين ، نظرا إلى أنّ الوجوب يقتضي دوام الفعل والتحريم يقتضي دوام الترك ، فلا مخالفة في اختياره في العمل بعنوان القطع بل هو موافقة احتمالية ، وإنّما المخالفة في الالتزام حيث لم يلتزم بأحد الحكمين من الايجاب والتحريم ولم يتديّن بشيء منهما ، بل التزم بالإباحة الّتي هي مفاد الأصل ، والمشهور في مثل هذه المخالفة كالمخالفة العمليّة هو عدم الجواز ، كما يقتضيه إطلاقهم في مسألة ما لو اختلفت الامّة على قولين لم يكن على أحدهما دليل ، حيث إنّ العلماء اختلفوا في ذلك على قولين :

أحدهما : طرح القولين معا والرجوع إلى الأصل وهو لجماعة (1).

والآخر : التخيير بينهما وهو المشهور (2) ، وعلّلوه : بأنّه لولاه لزم طرح قول الإمام بعنوان ، وهو مخالفة قطعيّة والمخالفة القطعيّة محرّمة ، وإطلاق هذا التعليل يشمل ما لو كان اختلاف الامّة في تعيين المكلّف به ، كما في مسألة الظهر والجمعة ، أو القصر والإتمام ، أو في تعيين التكليف الإلزامي المردّد بين الإيجاب أو التحريم ، فإنّ المخالفة اللازمة من طرح القولين في الأوّل عمليّة وفي الثاني التزاميّة لا غير.

وتحقيق المقام : أنّ حرمة مخالفة العلم الإجمالي من حيث الالتزام وعدمها مبنيّة على

ص: 49


1- العدّة : 2 / 636 والمعارج : 133 ومعالم الدين : 179 وقوانين الاصول 1 : 383.
2- العدّة : 2 / 637.

وجوب الالتزام وعدمه ، فإن اريد به التديّن بأنّ حكم الواقعة في الواقع على حسب ما جاء به النبيّ لا يخلو عن أحد الحكمين - بعد القطع بذلك الّذي هو العلم الإجمالي المفروض - فلا ينبغي التأمّل ولا الاسترابة في وجوبه.

والأصل في ذلك ما ثبت بالإجماع بل الضرورة ، مع الأخبار المتواترة من وجوب التديّن بما جاء به النبيّ ، وكونه من اصول العقائد ، فإنّ المراد به وجوب التديّن بما جاء به النبيّ على ما جاء به النبيّ ، فإن كان معلوما بالتفصيل وجب التديّن بهذا المعلوم بالتفصيل ، وإن كان معلوما بالإجمال وجب التديّن به على وجه الإجمال.

وإن اريد به التديّن بأحدهما بعنوان كونه حكما ظاهريّا ، فهذا ممّا لا دليل على وجوبه بحيث يكون تركه مخالفة قبيحة عقلا محرّمة شرعا ، بعد إحراز موافقة العمل لما هو في الواقع ولو احتمالا ، حتّى مع اختيار الفعل بناء على فرض كون الوجوب المقابل للحرمة هنا توصليّا تعلّق فيه الغرض بصدور الفعل بأيّ وجه اتفق ، فيكون صدور العمل بمجرّده كافيا في سقوط الأمر ، فإنّ المخالفة العمليّة غير متحقّقة في ذلك من حيث إنّ المكلّف لا يخلو عن أحد الأمرين - من فعل ذلك الشيء أو تركه - فإن اختار فعله فهو محتمل لموافقة الوجوب ، وإن اختار تركه فهو محتمل لموافقة الحرمة ، غير أنّه لو فعله أو تركه بداعي الإباحة وقصدها عملا بالأصل كان مخالفة للالتزام بوجوبه وحرمته ، حيث لم يلتزم بشيء منهما على أنّه حكم ظاهري ، ولا ضير فيها لمكان عدم الدليل على وجوب هذا الالتزام ، بحيث يكون تركه قبيحا عقلا ، موجبا لاستحقاق المؤاخذة والعقوبة شرعا.

فيندفع بما قرّرناه ما عساه يقال : من أنّ العدول عن كلّ من الوجوب والحرمة بالبناء على البراءة والإباحة - كما هو اللازم من الأخذ بالأصل - مخالفة للواقع قطعا ، لمكان القطع بأنّ الواقع لا يخلو عن أحدهما ، والمخالفة للواقع ممّا يمنع عنه العقل الضروري ويعدّ عنده معصية.

ووجه الاندفاع : أنّ الّذي يمنعه العقل ولا يجوّزه ويعدّ عنده معصية ، إنّما هو مخالفة الحكم الواقعي من حيث العمل ، بل من حيث الالتزام أيضا.

والذي يلزم فيما نحن فيه من العدول عنهما إنّما هو ترك الالتزام بكلّ منهما بعنوان أنّه حكم ظاهري ، وكونه ممنوعا عند العقل أيضا معصية لديه غير مسلّم.

نعم ربّما يشكل الحال في البناء على الإباحة عملا بالأصل من حيث عدم خلوّه عن مخالفة عمليّة للحكم الظاهري الّذي هو نفس الإباحة ، أو الحكم الواقعي الّذي هو أحد

ص: 50

الحكمين ، وذلك لأنّ التخيير الّذي يلتزم به بعد البناء على الإباحة إن كان باختيار الفعل دائما ، أو باختيار الترك كذلك - الّذي يقال له التخيير البدوي - لزم مخالفة الإباحة الملتزم بها من حيث العمل ، لأنّ التخيير الّذي يقتضيه الإباحة تخيير استمراري بين الفعل والترك ، وإن كان باختيار الفعل تارة واختيار الترك اخرى - الّذي يقال له : التخيير الاستمراري - لزم مخالفة الحكم الواقعي من حيث العمل ، لأنّه إن كان هو الوجوب فهو متضمّن للمنع من الترك ، فكيف يختار الترك تارة؟ وإن كان هو الحرمة فهو متضمّن للمنع من الفعل ، فكيف يختار الفعل اخرى؟ فلا محالة أحد الاختيارين مخالفة عمليّة قطعيّة للحكم الواقعي.

اللّهمّ إلاّ أن يذبّ على تقدير الالتزام بالتخيير البدوي بمنع لزوم مخالفة الحكم الظاهري من حيث العمل ، لأنّ الإباحة الملتزم بها ظاهرا وإن كانت تقتضي جواز اختيار الفعل تارة واختيار الترك اخرى ، إلاّ أنّها لا تتضمّن منع اختيار أحدهما دائما ، فاختيار الفعل دائما أو الترك كذلك - حذرا عن مخالفة الحكم الواقعي من حيث العمل - ليس مخالفة للحكم الظاهري من حيث العمل.

نعم عمدة إشكال المسألة إنّما هو في العدول عن الوجوب والحرمة معا ، وعدم الالتزام بأحدهما تعيينا أو تخييرا بدويّا بعنوان أنّه حكم ظاهري ، لما قيل من أنّ ظاهرهم في مسألة دوران الأمر بين الوجوب والتحريم الاتّفاق على عدم الرجوع إلى الإباحة ، وإن اختلفوا بين قائل بالتخيير وقائل بتعيين الأخذ بالحرمة.

وهذا يكشف عن أنّ الالتزام بالحكم كما يجب في الأحكام الواقعيّة ، كذلك يجب في الأحكام الظاهريّة أيضا ، وليس ببعيد بل هو الّذي يساعد عليه النظر الصحيح ، ويدلّ عليه كلّما دلّ على وجوب العمل على الظنون الاجتهاديّة ، وكلّما دلّ على وجوب التقليد.

فإنّ الأوّل عبارة عن وجوب الالتزام على المجتهد بمظنوناته على أنّها أحكام ظاهريّة ، والثاني عن وجوب الالتزام بفتاوى المجتهد على أنّها أحكام فعليّة ، فالأحكام الواقعيّة والظاهريّة سيّان في وجوب الالتزام ، غير أنّ الأوّل واجب نفسي ، ولذا كان له دخل في الاصول الاعتقاديّة.

والثاني واجب غيري لكونه إنّما يجب مقدّمة للعمل ، على معنى وقوع العمل على طبق المظنون والحكم المفتى به ، فلو فرض حصول المطابقة له من دون التزام كان كافيا من غير أن يترتّب عليه عقاب ، ولذا اكتفى به في إجزاء عمل تارك الطريقين ، وصحّة عبادات

ص: 51

الجاهل بمجرّد المطابقة للواقع بعد إحراز القربة فيها ، على ما سيأتي تحقيقه في باب الاجتهاد والتقليد.

فما يقال - في وجه جواز المخالفة الالتزاميّة في الشبهة الموضوعيّة عملا بأصل من الاصول - : من أنّ الأصل في الشبهة الموضوعيّة إنّما يخرج مجراه من موضوع التكليف ، فيقال - في المرأة المردّدة بين المحلوف على وطئها والمحلوف على ترك وطئها - : الأصل عدم تعلّق الحلف بوطئ هذه المرأة ، والأصل عدم تعلّقه أيضا بترك وطئها ، فتخرج المرأة بذلك عن موضوع حكمي التحريم والوجوب - وهو تحريم وطئ المحلوف على ترك وطئها ووجوب وطئ المحلوف على وطئها - فتحكم بالإباحة لأجل الخروج من موضوع الوجوب والحرمة لا لأجل طرحهما.

وفي الشبهة الحكميّة أيضا : بأنّ الاصول الجارية فيها وإن لم يخرج مجراها عن موضوع الحكم الواقعي ، بل كانت منافية لنفس الحكم كأصالة الإباحة مع العلم بالوجوب أو الحرمة ، فإنّ الاصول في هذه منافية لنفس الحكم الواقعي المعلوم إجمالا لا مخرجة عن موضوعه ، إلاّ أنّ الحكم الواقعي المعلوم إجمالا لا يترتّب عليه أثر إلاّ وجوب الإطاعة وحرمة المعصية ، والمفروض أنّه لا يلزم من إعمال الاصول مخالفة عمليّة له ، ووجوب الالتزام بالحكم الواقعي مع قطع النظر عن العمل غير ثابت ، ولو فرض ثبوت الدليل عقلا أو نقلا على وجوب الالتزام بحكم اللّه الواقعي لم تنفع ، لأنّ الاصول تحكم في مجاريها بانتفاء الحكم الواقعي ، فهي كالاصول في الشبهة الموضوعيّة مخرجة لمجاريها عن موضوع ذلك الحكم ، أعني وجوب الأخذ بحكم اللّه » (1).

ففيه : إنّ محصّله منع وجوب الالتزام بالأحكام الواقعيّة بل الظاهريّة أيضا بطريق أولى ، لعدم ثبوت الدليل عليه ، وقد عرفت الدليل عليه فيهما معا.

غاية الأمر أنّ الوجوب في الثاني مقدّمي صرف ، وفي الأوّل ذاتي ، ولا ينافيه كونه فيه أيضا مقدّمة للعمل لجواز مطلوبيّته لجهتين.

وما ذكر من أنّه « لو فرض ثبوت الدليل عليه لم ينفع ، لأنّ الاصول تحكم في مجاريها بانتفاء الحكم الواقعي » (2) ففيه : ما لا يخفى من ضعف التعليل ، لمنع حكومة الاصول بانتفاء

ص: 52


1- فرائد الاصول 1 : 85.
2- فرائد الاصول 1 : 85.

الحكم الواقعي ، فإنّها غير متعرّضة للواقع لا بنفي ولا بإثبات ، بل كافلة لبيان كيفيّة العمل ، ومفادها نفي صيرورة الحكم الواقعي المجهول - لعذريّة الجهل - حكما ظاهريّا وتكليفا فعليّا وبراءة ذمّة المكلّف عنه ، فأصالة الإباحة لو كانت جارية في مسألة دوران الأمر بين [ الوجوب ] والحرمة من الشبهة الحكميّة كان مفادها عدم صيرورة الحكمين تكليفا فعليّا في حقّ هذا المكلّف الغير العالم بالتفصيل ، لا انتفاء الحكم الواقعي المعلوم بالإجمال المردّد بينهما.

وعلى هذا ففي كونها مخرجة لمجاريها عن موضوع وجوب الالتزام بالحكم الواقعي منع واضح.

وممّا ذكرناه ظهر ما في دعوى كون أصالة الإباحة منافية لنفس الحكم الواقعي المردّد بين الوجوب والحرمة ، فإنّها على تقدير جريانها إذا لم تكن متعرّضة للواقع لا بنفي ولا بإثبات فكيف تكون منافية لنفس الحكم الواقعي؟.

وأمّا أنّها مع العلم الإجمالي هل تجري أو لا تجري؟ فقد عرفت منع جريانها ، نظرا إلى ظهور كلامهم في الاتّفاق على عدم الرجوع إلى أصل الإباحة في مسألة دوران الأمر بين الوجوب والحرمة.

والسرّ فيه أوّله إلى المخالفة القطعيّة للحكم الواقعي من حيث العمل ، فإنّ اختيار الفعل تارة والترك اخرى مخالفة عمليّة لكلّ من الوجوب والحرمة.

وأمّا ما ذكر في الشبهة الموضوعيّة ، من « أنّ الاصول مخرجة لمجاريها عن موضوع الحكم الواقعي » فيقال - في المرأة المردّدة بين المحلوف على وطئها والمحلوف على ترك وطئها - الأصل عدم تعلّق الحلف بوطئ هذه المرأة ، والأصل عدم تعلّقه بترك وطئها أيضا.

ففيه : أنّ جريان الأصلين - مع العلم بانتقاض إحدى الحالتين السابقتين إجمالا - غير معقول ، لعدم معقوليّة جريان أصل العدم مع اليقين بانتقاض الحالة السابقة ومع اليقين بعدم انتقاضها ، واليقين حاصل فيما نحن فيه بانتقاض إحدى الحالتين وعدم انتقاض الاخرى.

غاية الأمر اشتباه الحالة المنتقضة بالحالة الغير المنتقضة ، والاشتباه لا يجوّز جريان الأصلين ، وجعله من الشكّ في تعلّق الحلف بالوطئ أم لا؟ وفي تعلّقه بترك الوطئ أم لا؟

تكلّف وتمحّل ، إذ ليس صورة الشكّ هكذا ، بل بمعنى أنّا لا ندري أنّ أيّ الحالتين منتقضة ،

ص: 53

وأيّهما غير منتقضة مع اليقين بانتقاض إحداهما وعدم انتقاض [ الاخرى (1)] ، فبعد منع جريان الأصلين فإمّا أن يبنى على الإباحة عملا بأصل الإباحة أو يبنى على التخيير بين الوجوب والحرمة بدوا ، أو يبنى على الحرمة تغليبا لها على الوجوب.

والأوّل باطل لأنّه يؤدّي إلى المخالفة العمليّة للحكم الواقعي المعلوم بالإجمال ، ولظهور الاتّفاق على عدم الرجوع إليها ، فتعيّن أحد الوجهين الآخرين.

وأيّا مّا كان فهو التزام بالحكم الظاهري ، وقد ثبت وجوبه بالدليل ، وهو ما دلّ على أحد هذين الوجهين.

وبملاحظة ما بيّناه من ظهور الإطلاق أمكن صرف إطلاق كلامهم - في مسألة ما اختلفت الامّة على قولين لا دليل على أحدهما حسبما ادّعيناه سابقا - عن مسألة دوران الأمر بين المحذورين إلى مسألة دوران المكلّف به بين المتبائنين كالظهر والجمعة والقصر والإتمام ، وما أشبه ذلك إن تحمله بعض عباراتهم ، مثل التمسّك بمقتضى العقل من حظر ، أو إباحة على القول بإسقاط القولين ، حملا له على إرادة الرجوع إلى مطلق الأصل المناسب بحيث يشمل أصل الاشتغال وأصل البراءة ، بناء على أنّ كلاّ منهما في مجراه حكم عقلي.

وحينئذ يمكن دفع ردّ الشيخ (2) القول المذكور « بأنّه يوجب طرح قول الإمام » بمنع الملازمة ، لأنّه إنّما يلزم ذلك لو كان المراد من الأصل المرجوع إليه أصل البراءة ، بالمعنى النافي للتكليف الفعلي بكلّ من الفعلين لمجرّد اشتباه المكلّف به بينهما - ليكون نتيجته جواز تركهما معا ، وهذا ليس بلازم لجواز كون الأصل المرجوع إليه أصل الاشتغال - تحصيلا ليقين البراءة المقتضي للجمع بينهما - وهذا ليس بمخالفة قطعيّة بل موافقة قطعيّة أو أصل البراءة النافي للضيق اللازم من التعيين ليكون مفاده التخيير ، وهذا أيضا ليس بمخالفة قطعيّة بل مخالفة احتماليّة مع موافقة احتماليّة على تقدير جعل التخيير بدويّا ، على أنّ طرح قول الإمام المؤدّي إلى المخالفة القطعيّة مشترك الورود ، بل هو على قول الشيخ من البناء على التخيير أظهر ورودا ، بناء على ما استظهره بعض مشايخنا (3) من عبارة العدّة من كون مراده التخيير الواقعي وعليه مبنى اعتراض المحقّق في المعارج (4) عليه : بأنّ في التخيير أيضا إبطالا لقول الإمام إلى آخر ما ذكره.

ص: 54


1- في المصدر [ الآخر ].
2- العدّة 2 : 636.
3- فرائد الاصول : 1 : 79.
4- معارج الاصول : 133.

اللّهمّ إلاّ أن يدفعه : بمنع الملازمة ، لجواز أن يكون كون الإمام مع أحد الفريقين من باب اختيار أحد فردي الواجب التخييري.

وعلى هذا فقد يكون النزاع بينه وبين أهل القول الآخر لفظيّا على بعض التقادير ، وهو أن يكون مرادهم من الأصل المرجوع إليه أصل البراءة النافي للضيق اللازم من التعيين ليثبت به التخيير.

والفرق بينهما بالظاهريّة والواقعيّة ، بناء على أنّ التخيير الّذي مدركه أصل البراءة لا يكون إلاّ ظاهريّا لا يوجب فرقا بينهما في المخالفة القطعيّة وعدمها كما هو واضح.

وحينئذ لا مانع من جعل التخيير على قول هؤلاء أيضا استمراريّا ، كما هو كذلك على قول الشيخ ، نظرا إلى ما ذكرناه لدفع الاعتراض من جواز كون قول الإمام من باب اختيار أحد فردي الواجب التخييري.

هذا كلّه فيما يتعلّق بالمخالفة الالتزاميّة.

وأمّا المخالفة العمليّة : فهي على قسمين :

أحدهما : كون العمل مخالفا لخطاب تفصيلي متعلّق بعنوان كلّي مشتبه مصداقه ، سواء كان في شبهة موضوعيّة كإلانائين المشتبهين أحدهما نجس ، فإنّ الخطاب التفصيلي هنا قوله « اجتنب عن النجس » مثلا ، والنجس عنوان معلوم مصداقه مشتبه بين هذا الإناء أو ذلك الإناء ومخالفته يتأتّى بارتكاب الإنائين معا ، أو في شبهة حكميّة كالظهر والجمعة ، أو القصر والإتمام عند اشتباه المكلّف به ، فإنّ الخطاب التفصيلي هنا قوله : « صلّ » والصلاة عنوان كلّي ولا يعلم أنّه في ضمن الظهر أو القصر مأمور به ، أو في ضمن الجمعة أو العصر مأمور به ، ومخالفته يتأتّى بتركهما معا.

وثانيهما : كونه مخالفا لخطاب إجمالي مردّد بين خطابين من جنس واحد كإيجابين ، كما لو علمنا بأنّه يجب علينا إمّا قراءة الدعاء عند رؤية الهلال ، أو الصلاة عند ذكر النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ، أو تحريمين كما لو علمنا بأنّه يحرم علينا إمّا الوطئ بهذه المرأة أو أكل هذا الشيء ، أو من جنسين كإيجاب شيء أو تحريم آخر ، كما لو علمنا بأنّه إمّا يجب علينا غسل الجنابة أو [ تحريم ] الوطئ بالزوجة فيما إذا علم بأنّه صدر منه في زوجته فعل ولا يدري هل هو المواقعة ليجب الاغتسال عنه؟ أو الظهار ليحرم الوطئ بها؟

وحينئذ فالمخالفة تتأتّى في الأوّل بترك الفعلين معا ، وفي الثاني بارتكاب الفعلين معا ،

ص: 55

وفي الثالث بترك الأوّل وإتيان الثاني.

أمّا القسم الأوّل فالظاهر عدم الإشكال في عدم جواز المخالفة فيه مطلقا ، لكونه مخالفة للخطاب التفصيلي المفروض ، وهو معصية للشارع تعالى والمعصية قبيحة عقلا ، فاعلها مستحقّ لذمّ العقلاء ومحرّمة شرعا.

وتوهّم خروج الفعلين معا عن المعصية بأصل البراءة النافي للتكليف الفعلي بهما ، يدفعه : منع جريان الأصل مع العلم الإجمالي المفروض الّذي هو بالنسبة إلى أصل الخطاب الشرعي علم تفصيلي ، وتمام الكلام في تحقيق ذلك في باب أصل البراءة.

وأمّا القسم الثاني فيحتمل فيه وجوه :

الأوّل : عدم جواز المخالفة مطلقا ، لأنّه مخالفة للخطاب المردّد ، وهو معصية لله تعالى فتكون قبيحة وفاعلها مستحقّا للذمّ.

الثاني : جوازها مطلقا ، لأنّ الأمر المردّد لم يتعلّق به خطاب في شيء من الخطابات.

الثالث : الفرق بين المتجانسين فلا يجوز ، لأنّه بترك الفعلين معا يصدق عليه أنّه ترك واجبا ، كما أنّه بارتكاب الفعلين معا يصدق أنّه فعل محرّما ، وهذا آية المعصية القبيحة ، والمتخالفين فيجوز ، لأنّه لا يصدق بترك الأوّل أنّه ترك واجبا ولا بفعل الثاني أنّه فعل محرّما.

والرابع : التفصيل بين الشبهة في الموضوع والشبهة في الحكم ، فيجوز في الأوّل لأنّ المخالفة القطعيّة في الشبهات الموضوعيّة كثيرة بل في الكثرة فوق حدّ الإحصاء ، بخلاف الشبهات الحكميّة ، كما يعلم ذلك بمراجعة كلماتهم في مباحث الإجماع وعدم القول بالفصل نراهم لا يجوّزون ثمّة خرق الإجماع المركّب ولا إحداث القول بالفصل.

وأوجه الوجوه وأقواها الوجه الأوّل لوضوح ضعف البواقي ، إذ لا يقول أحد بتعلّق الخطاب بالأمر المردّد ، والخطاب مردّد في نظرنا لا بحسب الواقع ولا ضير فيه ، وصدق أنّه عصى اللّه بترك الأوّل وفعل الثاني ، وكثرة وقوع المخالفة القطعيّة في الشبهات الموضوعيّة غير معلومة ، فضلا عن كونها فوق حدّ الإحصاء وهو فيما وقع أحيانا مؤوّل.

ثمّ إنّ هذه الوجوه ، المحتملة إنّما هو في مخالفة علم إجمالي لم يتولّد منه علم تفصيلي ، وقد يتولّد منه علم تفصيلي - على معنى أن يتولّد من الواقعتين المفروض بينهما العلم الإجمالي واقعة ثالثة معلوم حكمها بالتفصيل - مثل ما لو علم بخروج ثوبه عن الطهارة أو بخروج ماء وضوئه عن الإطلاق ، فتوضّأ به ولبس الثوب وصلّى بهما عملا

ص: 56

بالأصل فيهما وهو استصحاب الحالة السابقة ، فإنّ صلاته هذه باطلة جزما إمّا لفوات شرط طهارة ثوبه ، أو لفوات شرط تطهّره.

وأيّا مّا كان فهو مبطل للصلاة وبطلانها يوجب أن يتوجّه إليه الخطاب بالإعادة بقوله : « أعد صلاتك ».

ومثله ما لو علم في إنائيه بأنّه إمّا هذا نجس أو ذاك مضاف ، فاستنجى بالثاني وتوضّأ بالأوّل فصلّى بهما ، فإنّ صلاته باطلة جزما إمّا لانتفاء الطهارة الحدثيّة أو لانتفاء الطهارة الخبثيّة ، وأيّا مّا كان فهو مبطل.

ومثله ما لو علم في مائين بأنّه إمّا هذا مغصوب أو ذاك مضاف ، وفي ثوب وماء إمّا بأنّ هذا مغصوب أو ذاك مضاف ، فتوضّأ بالأوّل أو لبس الثوب واستنجى بالماء ونحو ذلك ممّا لا يحصى.

فلو بنى على عدم الاعتناء بالعلم الإجمالي مطلقا ، وجوّزنا مخالفته مطلقا لأفضى إلى مخالفة العلم التفصيلي المتولّد منه في الأمثلة المذكورة ، فوجب أن لا يجوز ، إذ العلم التفصيلي الّذي لا يجوز مخالفته في حكم العقل لا فرق فيه بين ما كان ابتدائيّا أو متولّدا من العلم الإجمالي.

ولكن قد يتوهّم وقوع ذلك في الشرع في موارد كثيرة ولو على بعض الأقوال أو على قول بعضهم.

منها : ما تقدّم الإشارة إليه من مسألة (1) اختلاف الامّة على قولين الّتي صار فيها جماعة إلى طرح القولين معا بالرجوع إلى الأصل ، فإنّ ذلك - لو كان على إطلاقه - يشمل بعض الصور الّتي يؤول طرح القولين فيها إلى مخالفة عمليّة للعلم التفصيلي كما لا يخفى.

وقد عرفت لزوم هذه المخالفة على قول الشيخ أيضا ، بناء على إرادته التخيير الواقعي إلاّ على التوجيه المتقدّم.

ومنها : الشبهة المحصورة على القول بجواز ارتكاب الجميع دفعة أو تدريجا ، فإنّه لو كان على إطلاقه يؤدّي في بعض الصور إلى مخالفة تفصيليّة « كما لو اشترى بالمشتبهين من المذكّى والميتة جارية فوطئها ، فإنّه يعلم تفصيلا بطلان البيع في تمام الجارية وحرمة وطئها لكون بعض ثمنها ميتة » (2) مع أنّه لم يظهر من القائل استثناء مثل هذه الصورة.

ص: 57


1- تقدّم في الصفحة 59.
2- العلاّمة المجلسي في أربعينه : 582 والمدارك 1 : 108.

ومنها : تجويز بعضهم (1) اقتداء أحد واجدي المنيّ في الثوب المشترك بالآخر ، مع أنّ المأموم يعلم تفصيلا بطلان صلاته ، إمّا من جهة انتفاء شرط صحّة صلاة نفسه ، أو انتفاء شرط صحّة صلاة إمامه وهو الطهارة عن الحدث الأكبر ، فيتوجّه إليه الخطاب بالإعادة أو القضاء ، فلو اكتفى بالصلاة المذكورة - كما هو لازم القول المذكور - لزم مخالفة هذا الخطاب.

ومنها : حكم الحاكم بالتنصيف في عين تدّاعاه رجلان بحيث علم صدق أحدهما وكذب الآخر ، قد يصير النصفان إلى شخص ثالث بالاشتراء ونحوه ، وهو يعلم تفصيلا عدم انتقال أحد النصفين إليه من مالكه الواقعي.

ومنها : ما لو كان عند ودعي درهم لواحد ودرهمان لآخر ، فاختلطا ثمّ تلف عنده واحد من ثلاثة دراهم ، فإنّهم حكموا « بأنّ لصاحب الاثنين درهم ونصف من الباقيين ، والنصف الآخر لصاحب الواحد » (2) وقد يفضي ذلك إلى مخالفة تفصيليّة ، كما لو صار الواحد المشترك إلى ثالث بالاشتراء أو الهبة وهو يعلم تفصيلا بعدم انتقال النصف منه عن مالكه الواقعي إليه.

ومنها : ما لو أقرّ بعين لواحد ثمّ أقرّ بها لآخر ، فإنّها تقوّم فتدفع إلى الأوّل والقيمة إلى الثاني ، فقد يصير العين والقيمة إلى ثالث باشتراء ونحوه ، ثمّ يبيعهما بثمن واحد فيعلم عدم انتقال تمام الثمن إليه ، لكون بعض مثمنه مال المقرّ في الواقع.

ومنها : ما لو اختلف البايع والمشتري في كون المبيع بالثمن المعيّن الواصل إلى البائع عبدا أو جارية ، فإنّ البايع بعد التحالف يردّ الثمن إلى المشتري ، فإنّه مخالف للعلم التفصيلي بصيرورته ملكا للبايع ثمنا ، وكذا لو اختلفا في كون ثمن الجارية المعيّنة عشرة دنانير أو مائة درهم ، فإنّ الحكم بردّ الجارية بعد التحالف مخالف للعلم التفصيلي بدخولها في ملك المشتري ، إذ الاختلاف في تعيين المثمن أو الثمن بعد فرض وقوع العقد عليهما على وجه الصحّة لا يوجب بطلانه ، فيكون التصرّف في المثمن أو الثمن بعد الردّ تصرّفا في ملك الغير بعنوان العلم التفصيلي.

ومنها : حكمهم (3) « بأنّه لو قال أحدهما : بعتك الجارية بمائة ، وقال الآخر : وهبتني

ص: 58


1- التذكره 1 : 224 ونهاية الإحكام : 1 : 101 والتحرير 1 : 12.
2- الشرائع 2 : 121 ونهاية الإحكام : 314 وقواعد الأحكام 1 : 186 والدروس 3 : 333.
3- التذكرة 1 : 576 وجامع القاصد 4 : 453 ومفتاح الكرامة 4 : 766.

إيّاها ، أنّهما يتحالفان وتردّ الجارية إلى صاحبها ، مع أنّا نعلم تفصيلا بانتقالها عن ملك صاحبها إلى آخر » إلى غير ذلك من أمثال هذه الموارد الّتي حكموا بما يؤدّي إلى المخالفة العمليّة للعلم التفصيلي.

وهذا محذور واضح من حيث إنّه خرق لحكم العقل وتخصيص في الحكم العقلي ، فإنّ العلم بأيّ سبب حصل وعلى أيّ وجه حصل لا بدّ وأن يترتّب عليه آثار معلومة الّتي هي آثار الواقع ، بضرورة ما تقدّم في المباحث السابقة من حكم العقل ، فكيف يجوز مخالفته بترتيب خلاف تلك الآثار عليه إلاّ أن يفرض أنّها ليست من آثاره ، أو أنّه ليس ممّا له تلك الآثار ، ومرجعه إلى القدح في الكبرى أو الصغرى ، والكلّ باطل بدليل الخلف ، لفرض صدق كلّ من الكبرى والصغرى ، فاشكل الأمر في الموارد المذكورة ، إلاّ أنّه إشكال في تلك الموارد ولا يوجب إشكالا في أصل القاعدة ، من عدم جواز مخالفة العلم الإجمالي حيثما أدّى إلى مخالفة العلم التفصيلي.

ثمّ إنّ هذه المخالفة مخصوصة بالعلم التفصيلي المتولّد عن الواقعتين المعمول فيهما الأصل.

وأمّا العلم التفصيلي الابتدائي فلم يثبت مخالفته أصلا ، مع أنّه يمكن تطرّق التأويل بالنسبة إلى العلم التفصيلي المتولّد ، بل لا مناص منه صونا للقاعدة العقليّة عن الانتقاض ، وهو بالنسبة إلى الموارد المذكورة لا يخلو عن وجوه على سبيل منع الخلوّ وإن اختصّ بعضها ببعض ، مثل منع إطلاق كلام العلماء فيما استند لزوم المخالفة إليه كما في مسألة اختلاف الامّة على قولين بحمل الأصل المرجوع إليه بعد إسقاط القولين على ما لا يكون مفاده حكم ثالث مخالف للقولين ، وحمل التخيير في كلام الشيخ (1) على ما لا يؤدّي إلى طرح قول الإمام ، ومثل الالتزام بالصلح القهري مع كونه من صلح الحطيط الّذي مرجعه في الأعيان إلى هبة بعض المال للغير كما في مسألة الدرهم والدرهمين.

ومثله الحكم في المتحالفين بردّ الجارية أو ردّ الثمن فإنّه صلح قهري يقع بين البائع والمشتري.

ومثل المقاصّة عن الحقّ فيهما فإنّ البائع والمشتري يأخذ من صاحبه المثمن أو الثمن تقاصّا عن حقّه الّذي أنكره صاحبه.

ص: 59


1- العدّة : 2 / 637.

ومثل كون التحالف انفساخا شرعيّا للعقد فيرجع المثمن أو الثمن إلى ملك مالكه الأوّل.

ومثل كون العلم التفصيلي مأخوذ في موضوع حكم كحرمة بيع الميتة أو الاشتراء بها ، فإنّ الميتة المعلومة بالتفصيل يحرم بيعها والاشتراء بها لا غير.

ومثل كون الحكم الظاهري في حقّ مكلّف موضوعا لحكم مكلّف آخر كما في الاقتداء ، فإنّ شرط صلاة المأموم أن يحرز صحّة صلاة إمامه ، ويكفي فيها الصحّة الظاهريّة المستندة إلى أصل من الاصول الّتي منها أصالة الصحّة في فعل المسلم ، فلو عمّمنا الصحّة الظاهريّة بالقياس إلى الصحّة عند الإمام فقط ، اندفع الإشكال عن مسألة اقتداء أحد واجدي المنيّ في الثوب المشترك على القول بجوازه.

هذا تمام الكلام في العلم الإجمالي الحاصل عند اشتباه التكليف أو المكلّف به ، وأمّا العلم الإجمالي الناشئ عن اشتباه المكلّف بالفتح فعلى قسمين :

أحدهما : ما لو كان الاشتباه في عنوان مردّد بين شخصين كالجنب بالجنابة الحاصلة في الثوب المشترك.

وثانيهما : ما لو كان الاشتباه في شخص مردّد بين عنوانين كالخنثى المردّدة بين الذكر والانثى في الأحكام المختصّة بكلّ من النوعين.

أمّا القسم الأوّل : فيلاحظ كلّ من الشخصين حاله في الوقائع المرتبطة بالعنوان المشترك بينهما ، فيستفيد حكمه من حاله في الواقعة الّتي يبتلى بها من الوقائع المذكورة ، فقد يبتلى بواقعة يشكّ فيها في توجّه الخطاب إليه من باب الشكّ في التكليف.

وقد يبتلى بواقعة يعلم فيها بتوجّه خطاب تفصيلي غير مشتبه مصداق متعلّقه إليه.

وقد يبتلى بواقعة يعلم فيها بتوجّه خطاب تفصيلي مشتبه مصداق متعلقه إليه.

وقد يبتلى بواقعة يعلم فيها بتوجّه خطاب إجمالي مردّد بين خطابين إليه.

وهذه صور أربع يختلف أحكامها من حيث المخالفة للعلم التفصيلي أو الإجمالي وعدمها ، وجواز المخالفة وعدمه.

أمّا الصورة الاولى : فمن أمثلتها غسل الجنابة ، فإنّ لكلّ منهما إعمال أصل البراءة في حقّ نفسه ، والحكم بعدم وجوب الغسل عليه لمكان شكّه في توجّه خطاب قوله : « اغتسل للجنابة » إليه ، وهو شكّ في التكليف ويقبح للشارع أن يعاقب من كان منهما جنبا في الواقع على تركه ، لأنّ العقاب فرع على العصيان وهو فرع على تنجّز التكليف وهو فرع على

ص: 60

علمه تفصيلا أو إجمالا بتوجّه الخطاب إليه.

والمفروض أنّه لا علم له أصلا فلم يتنجّز عليه التكليف بالاغتسال فلم يكن تركه إيّاه عصيانا ، والعقاب من غير عصيان قبيح ، ومن أمثلتها أيضا دخول المسجدين ، واللبث في سائر المساجد ومسّ كتابة القرآن ، وقراءة سور العزائم ونحو ذلك.

وأمّا الصورة الثانية : فمن أمثلتها اقتداء ثالث بهما في صلاة واحدة بناء على أنّ خلوّ المصلّي عن الجنابة شرط واقعي لصحّة صلاته ، ومرجعه إلى اشتراط الصحّة بالطهارة عن الحدث ، فإنّ صلاة أحد الشخصين باطلة قطعا لفقدانه شرط الصحّة فيبطل ببطلانها بعض صلاة المقتدي ، وبطلانه يقضي ببطلان البعض الآخر فيبطل صلاته بتمامها وهو يعلم ببطلانها تفصيلا ، فيكون اقتدائه بهما مخالفة للعلم التفصيلي من حيث العمل ، بل هو ترك للصلاة عن علم ، لأنّ فعلها على وجه البطلان عن علم كتركها عن علم.

وكذلك حمل أحدهما الآخر وإدخاله المسجد الحرام للطواف وغيره ، بناء على أنّه كما يحرم على الجنب دخول نفسه في المسجد كذلك يحرم عليه إدخال الجنب فيه ، وعلى أنّ الدخول والإدخال يتحقّقان بحركة واحدة وإن تعدّد اعتبارها من حيث إنّها إن أخذت مقيسة إلى الحامل كانت دخولا وإن أخذت مقيسة إلى المحمول كانت إدخالا ، فإنّ هذه الحركة محرّمة قطعا والحمل للدخول والإدخال ارتكاب للمحرّم عن علم تفصيلي بالحرمة ، فيكون مخالفة عمليّة للعلم التفصيلي.

وأمّا الصورة الثالثة : فمن أمثلتها اقتداء ثالث بهما في صلاتين كالظهر والعصر ، فإنّ صلاة أحدهما باطلة بحكم فقدانه شرط الصحّة ، وكما لا يجوز للمصلّي أن يقتدي بإمام يعلم تفصيلا بطلان صلاته ، فكذلك لا يجوز له أن يقتدي بأحد إمامين يعلم بطلان صلاته وهو مشتبه ، فهو مخاطب بترك الاقتداء بأحدهما ، وهذا خطاب تفصيلي مشتبه مصداق متعلّقه فيكون اقتداء بهما في صلاتين مخالفة للعلم الإجمالي الّذي مرجعه إلى مخالفة الخطاب التفصيلي فيحرم ، وكذلك حمل أحدهما الآخر وإدخاله المسجد بناء على عدم تحقّقه مع الدخول بحركة واحدة ، وعلى رجوعهما إلى قدر مشترك بين إدخال نفسه وإدخال غيره وهو إدخال الجنب المتحقّق في ضمن كلّ من الإدخالين ، ولا ريب أنّه محرّم فتحريمه خطاب تفصيلي مشتبه مصداق متعلّقه ، إذ لا يدري أنّ هذا الإدخال المحرّم هل هو في ضمن إدخال النفس أو في ضمن إدخال الغير؟

ص: 61

وأمّا الصورة الرابعة : فمن أمثلتها حمل أحدهما الآخر وإدخاله المسجد ، بناء على عدم رجوع الدخول إلى إدخال النفس وعدم تحقّقه مع إدخال الغير بحركة واحدة ، فإنّه حينئذ يعلم بأنّه يحرم عليه أحد الأمرين من دخوله لكونه جنبا أو إدخاله الغير لكونه الجنب ، وهذا خطاب إجمالي مردّد بين خطابين ، كما لو علم بأنّه يحرم عليه إمّا وطئ هذه المرأة أو أكل هذا الشيء ، وقد تقدّم أنّ في مثله يحتمل وجوه وأقواها عدم جواز المخالفة مطلقا.

وهل يجوز لثالث الاقتداء بأحدهما في صلاة واحدة أو في صلاتين؟

الوجه المنع لقاعدة الاشتغال ، فإنّ اشتغال الذمّة اليقيني يستدعي اليقين بالبراءة ، ولا يحصل إلاّ بترك هذا الاقتداء.

مضافا إلى أنّه مخاطب بترك الاقتداء بمن يعلم إجمالا بطلان صلاته في نفس الأمر ، فيكونان كالمشتبهين في الشبهة المحصورة الّتي تقرّر في محلّه أنّ الأقوى فيها وجوب الاجتناب عن الجميع مطلقا ، ولذا قد يقال - في بيان أحكام صور اقتداء الغير بهما أو بأحدهما في صلاة واحدة أو في صلاتين - : أنّ المقتدي بهما في صلاة واحدة كمن ارتكب الإنائين المشتبهين معا دفعة واحدة ، والمقتدي بهما في صلاتين كمن ارتكب الإنائين معا تدريجا ، والمتقدي بأحدهما في صلاة واحدة أو صلاتين كمن ارتكب أحد الإنائين.

والوجه في الجميع على القول بوجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة مطلقا المنع ، هذا كلّه في الحكم التكليفي.

وأمّا الحكم الوضعي وهو بطلان صلاة المقتدي على تقدير اقتدائه فلا ينبغي التأمّل في البطلان في الصورة الاولى ، ولا في بطلان إحدى صلاته في الصورة الثانية ، فكان كمن فات عنه إحدى الصلاتين وهو لا يعلمها بعينها ، فيجب عليه إعادتهما أو قضائهما معا تحصيلا ليقين البراءة.

وأمّا في الصورة الثالثة فالبطلان وعدمه يبنى على مصادفة اقتدائه الجنب ، فيبطل صلاته في الواقع.

ويظهر الثمرة فيما لو انكشف له بعد ذلك كون إمامه الجنب فيعيد أو يقضي ، بخلاف ما لو لم يصادف فصلاته مجزية إن احرز فيها القربة ، وهل يعاقب على مخالفته لحكم الشبهة المحصورة؟ مبنيّ على كون التجرّي عصيانا موجبا لاستحقاق العقاب وقد تقدّم تحقيقه.

وهل يجوز لثالث استيجارهما لكنس المسجد أو تعميره والعمل فيه؟ وجهان من أنّ

ص: 62

دخول أو لبث من كان منهما جنبا في الواقع محرّم ، فاستيجارهما معا إعانة على هذا الإثم فيحرم ، ومن أنّ الاستيجار في حكمه من حيث المنع والجواز - لكونه إعانة على الإثم وعدمه - يتبع الدخول أو اللبث في كلّ منهما في كونه إثما وعدمه ، والإثم محلّ منع لأنّ كلاّ في دخوله أو لبثه يعتمد على أصل البراءة ، فيكون الدخول أو اللبث في كلّ منهما مباحا بالإباحة الظاهريّة ، فاستيجارهما إعانة على المباح لا على الإثم ، وليس

في الاستيجار جهة اخرى تقتضي تحريمه غير استلزامه دخول الجنب الواقعي أو لبثه ، وهذه الجهة لا تقتضي التحريم إلاّ من حيث الإعانة على الإثم ولا إثم على ما بيّناه ، وهذا أوجه.

وأمّا القسم الثاني : فيلاحظ فيه الشخص المردّد بين عنوانين أيضا حاله في الواقعة الّتي يبتلى بها فيستفيد حكمه من حاله في الواقعة المبتلى بها ، ومن أفراده الخنثى ، ولها في معاملاتها وعباداتها أحكام كثيرة فيتعرّض لها الفقهاء في أبواب متفرّقة ولا بأس بالإشارة إليها.

منها : حكمها في نكاحها بتزويجها إمرأة أو تزوّجها برجل ، وقد صرّحوا بعدم جوازه.

وحكى عن بعضهم دعوى الإجماع عليه ، قال بعض مشايخنا (1) قدس سره : والظاهر أنّه إجماعي وهو مع ذلك يوافق الاصول لأصالة عدم ترتّب الأثر على النكاح الواقع عليها في مسألتي التزويج والتزوّج ، وعدم حصول علقة الزوجيّة بينها وبين طرفها رجلا كان أو إمرأة ، فإنّ عقد النكاح عقد وضع لأن يقع بين الرجل والمرأة لإفادة الزوجيّة ، فلا بدّ في تأثيره من إحراز الذكوريّة والانوثيّة والمفروض عدم كون شيء منهما محرزا فيها لتردّدها بين الذكر والانثى ، فالأصل في العقد الذي يقع عليها عدم ترتّب أثر الزوجيّة عليه وعدم حصول العلقة بينها وبين طرفها ، فلا تصير زوجا ولا زوجة.

ومنشأ الشكّ في الصحّة أنّها في مسألة تزويجها إمرأة يحتمل كونها إمرأة ، وفي مسألة تزوّجها برجل يحتمل كونها رجلا فالعقد على التقديرين غير صحيح ، ضرورة عدم صحّة العقد بين إمرأتين وبين رجلين.

وقد يقرّر الأصل الموضوعي أيضا وهو أصالة عدم ذكوريّته في مسألة التزويج وأصالة عدم انوثيّته في مسألة التزوّج ، والمراد بها أصالة النفي بمعنى استصحاب العدم الأزلي.

والظاهر أنّ النظر فيها إلى ما قبل انعقاد النطفة فإنّ كلاّ من الذكوريّة والانوثيّة هناك كانت معدومة ، فيشكّ في انقطاع ذلك العدم الأزلي والأصل يقتضي بقاؤه. ويقصد به في

ص: 63


1- فرائد الاصول : 24 / 101.

المسألتين نفي آثار الذكوريّة أو الانوثيّة الّتي منها حصول علقة الزوجيّة بينها وبين طرفها بالعقد الواقع عليها ، فلا يقصد بأصالة عدم الذكوريّة إثبات كونها إمرأة ولا بأصالة عدم الانوثيّة إثبات كونها رجلا.

وها هنا إشكال ربّما يصعب دفعه وهو : أنّ الشيخ - على ما حكي عنه - في مبسوطه ورّثها بالزوجيّة - في باب مواريث الخناثي - وقال : « لو كان الخنثى زوجا أو زوجة كان له نصف ميراث الزوج ونصف ميراث الزوجة » (1) مع كون المسألة مفروضة في دورانها بين الزوج والزوجة ، وهذا بظاهره لا ينطبق على القواعد والاصول.

أمّا أوّلا : فلأنّه كيف يصحّ فرض عنوان الزوجيّة فيها ، مع ما عرفت من إجماعهم على عدم وقوع العقد عليها في شيء من طرفي الزوج والزوجة.

وأمّا ثانيا : فلأنّه كيف يعقل فرض دورانها بين الزوج والزوجة في واقعة واحدة ، فإنّها إن أخذت إمرأة فهي زوج ولا يعقل كونها زوجة ، وإن أخذها رجل فهي زوجة ولا يعقل كونها زوجا ، إلاّ أن يفرض العقد بينها وبين مثلها من الخناثي مع فرض تحقّق الإيلاج من كلّ منهما في الاخرى ثمّ مات إحداهما ، ولكن يشكل ذلك أيضا بأنّ التوريث يتبع الزوجيّة الشرعيّة ، وهي فرع على صحّة العقد والمفروض خلافها نظرا إلى الإجماع والأصل.

ومع هذا كلّه فقد ورد في بعض الروايات ما لا يكاد يعقل ، وهو ما رواه في الفقيه عن عاصم بن حميد عن محمّد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال : « إنّ شريحا القاضي بينما هو في مجلس القضاء إذ أتته إمرأة ، فقالت أيّها القاضي : اقضي بيني وبين خصمي ، فقال : ومن خصمك؟ قالت : أنت ، قال : أفرجوا لها ، فأفرجوا لها فدخلت ، فقال لها : وما ظلامتك؟ قالت : إنّ لي ما للرجال وما للنساء ، قال شريح : فإنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يقضي على المبال ، قالت : فإنّي أبول بهما جميعا ويسكنان معا ، قال شريح : واللّه ما سمعت بأعجب من هذا ، قالت : وأعجب من هذا ، قال : وما هو؟ قالت : جامعني زوجي فولدت منه ، وجامعت جاريتي فولدت مني ، فضرب شريح إحدى يديه على الاخرى متعجّبا! ثمّ جاء إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال : يا أمير المؤمنين لقد ورد عليّ شيء ما سمعت بأعجب منه ، ثمّ قصّ عليه قصّة المرأة ، فسألها أمير المؤمنين عليه السلام من ذلك ، فقالت : هو كما ذكر ، فقال لها ومن زوجك؟ قالت : فلان فبعث إليه ودعاه ، فقال : أتعرف هذه؟ قال : نعم هي زوجتي ، فسأله عمّا

ص: 64


1- المبسوط 4 : 117.

قالت فقال هو كذلك ، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : لأنت أجرأ من راكب الأسد حيث تقدّم عليها بهذا الحال.

ثمّ قال : يا قنبر ادخلها بيتا مع إمرأة فعدّ أضلاعها ، فقال زوجها : يا أمير المؤمنين لا آمن عليها رجلا ولا ائتمن عليها إمرأة ، فقال عليه السلام : عليّ بدينار الخصي - وكان من صالحي أهل الكوفة كان يثق به - فقال له - يا دينار أدخلها بيتا وعرّها من ثيابها ومرها أن تشدّ مئزرا وعدّ أضلاعها ، ففعل ذلك فكان أضلاعها سبعة عشر ، تسعة في اليمين وثمانية في اليسار ، فألبسها عليه السلام ثياب الرجال والقلنسوة والنعلين وألقى عليه الرداء وألحقها بالرجال ، فقال زوجها : يا أمير المؤمنين إبنة عمّي وقد ولدت مني تلحقها بالرجال؟ فقال : إنّي حكمت عليها بحكم اللّه تبارك وتعالى ، خلق حوّاء من ضلع آدم الأيسر الأقصى ، فأضلاع الرجال تنقص وأضلاع النساء تمام » (1) إلى آخره.

وهذه الرواية تشبه بكونها كذبا من حيث اشتمالها على ما يكذّبه العقل ، فإنّ توليد المرأة أمر محال ، حيث إنّ النساء ليس لهنّ قوّة مولّدة ، كيف وأنّ نطفة الرجل ونطفة المرأة نوعان مختلفان ، ولهما مقرّان مختلفان فيستحيل اجتماعهما في شخص واحد ، ومن ثمّ ألحقها أمير المؤمنين عليه السلام بالرجال.

ومنها : حكمها في النظر إلى الرجال والنساء ونظر كلّ من الطائفتين إليها فمقتضى القاعدة حرمة النظر إلى الطائفتين عليها ، وجواز النظر لكلّ من الطائفتين إليها.

أمّا الأوّل : فلأنّها بتردّدها بين الرجل والمرأة يعلم بأنّها مخاطب بحرمة النظر إلى إحدى الطائفتين ، فقضيّة علمها الإجمالي وجوب الاجتناب عن النظر المحرّم الواقعي ، ولمّا كان ذلك مشتبها عليها فيجب عليها الاجتناب عن النظرين من باب المقدّمة كما في الشبهة المحصورة.

وتوهّم أنّ المسلّم في العلم الإجمالي حرمة المخالفة القطعيّة لا وجوب الموافقة القطعيّة.

يدفعه : أنّ قضيّة حجّيّة العلم الإجمالي وجوب الموافقة أيضا كحرمة المخالفة ، فإنّ الخطاب المعلوم بالإجمال يجب امتثاله واليقين بالبراءة عنه ، ولا يحصل إلاّ بالاجتناب عنهما إلاّ أن يتضمّن ذلك عسرا شديدا ومشقّة عظيمة عليها ، بل قد يقال : بأنّ العسر هنا ليس بأخفى من العسر في الشبهة الغير المحصورة ، فإن تمّ ذلك إتّجه الجواز مطلقا لسقوط العلم الإجمالي حينئذ عن الاعتبار ، كما في الشبهة الغير المحصورة.

ص: 65


1- من لا يحضره الفقيه 4 : 327 - 328 / 5704.

وأمّا الثاني : فلأصالة البراءة الجارية لكلّ من الطائفتين في نفسه ، فإنّ الرجل لمكان شكّه في انوثيّتها يشكّ في حرمة النظر إليها ، كما أنّ المرأة لمكان شكّها في رجوليّتها يشكّ في حرمة النظر إليها ، وهو من كلّ منهما شكّ في التكليف وإن نشأ عن الشبهة الموضوعيّة ، والأصل براءة الذمّة عنه.

ومنها : حكمها في لباسها فيختار من الألبسة ما هو مشترك بين الرجال والنساء ، ويتجنّب عمّا يختصّ بالرجال كالعمامة والمنطقة وعمّا يختصّ بالنساء كالمقنعة ونحوها ، لأنّها تعلم إجمالا بتوجّه خطاب إلزامي إليها وهو مردّد بين قوله : « لا تتعمّم » وقوله : « لا تتقنّع » مثلا ، فيجب الاجتناب عنهما من باب المقدّمة.

وبالجملة : يعلم بأنّ أحد اللباسين حرام عليها لا محالة فيجب عليها تجنّبه ولا يحصل إلاّ بالتجنّب عنهما جميعا.

ومنها : ستارتها في الصلاة فيتجنّب عن لبس الحرير فيها وتستر جميع بدنها تحصيلا للبراءة اليقينيّة عن الصلاة ، ولا تحصل إلاّ بإحراز الشرطين : خلوّ المصلّي عن الحرير إذا كان رجلا ، وستر جميع البدن إذا كان إمرأة ، وهو مشتبه بينهما.

ومنها : حكم الجهر والإخفات في الصلاة الجهريّة كالعشائين والصبح ، فإن قلنا بكون الإخفات فيها على النساء رخصة - كما هو الأظهر - جاز لها كلّ من الجهر والإخفات.

وإن قلنا بكونه عزيمة فيجب عليها تكرار الصلاة بالجهر تارة والإخفات اخرى ، إلاّ إذا قام الإجماع على عدم وجوب التكرار في حقّها ، فيتخيّر حينئذ ، وقد يتخيّل التخيير لها مطلقا ، نظرا إلى ما ورد من معذوريّة الجاهل في الجهر والإخفات ، وهذا سهو لوجهين :

أحدهما : أنّ النص إنّما دلّ على معذوريّة الجاهل في لزوم الإعادة والقضاء إذا خالف الواقع في صلاته المأتيّ بها لجهله بالمسألة ، وكلامنا في تكليف هذا الجاهل من أوّل الأمر أهو الجهر أو الإخفات؟ وبينهما بون بعيد ، حتّى أنّه لو جهر أو أخفت متردّدا بطلت صلاته.

والآخر : أنّ مورد النصّ إنّما هو الجاهل بالحكم ، وما نحن فيه جاهل بالموضوع فلا يقاس على الجاهل بالحكم.

وبالجملة ما ورد في الأخبار (1) من معذوريّة الجاهل إنّما هو من كان جهله في مجرّد الحكم وكان مقصّرا في تحصيل العلم به ، فلا يشمل المقام الّذي جهله من جهة الموضوع

ص: 66


1- انظر الوسائل 6 : 86 / 1 ، الباب 26 من ابواب القراءة.

لا من جهة الحكم ، لأنّه يعلم بأنّ الرجل يجب عليه الجهر والمرأة يجب عليها الإخفات.

أمّا المقام الثاني : ففي اعتبار العلم الإجمالي في ارتفاع التكليف الثابت بالعلم التفصيلي أو الإجمالي ، - على معنى كفاية الامتثال الإجمالي في سقوط التكليف المعلوم بالتفصيل أو الإجمال - ولو مع التمكّن من الامتثال التفصيلي ، كإكرام شخصين علم أنّ أحدهما زيد عند الأمر بإكرام زيد مع إمكان معرفته بالفحص والسؤال ، وعدم كفايته إلاّ حيث لم يتمكّن من الامتثال التفصيلي.

ويظهر الثمرة في مسألة اشتباه الماء المطلق بغيره ، أو اشتباه جهة القبلة بغيرها ، أو اشتباه الثوب الطاهر بغيره.

فعلى الأوّل يكفي الامتثال الإجمالي الحاصل بالتوضّي أو الاغتسال بالمائين ، وبالصلاة إلى الجهتين معا ، وبالصلاة في الثوبين معا حتّى مع التمكّن من الاستعلام بالفحص والسؤال ، فيه إشكال ممّا نسب إلى المشهور من عدم جواز الاكتفاء بالاحتياط إذا توقّف على تكرار العبادة ، بل قيل : إنّ ظاهرهم - كما هو المحكي عن بعضهم (1) - ثبوت الاتّفاق عليه بل نسب إلى ظاهر الحلّي - فيما حكي عنه في مسألة الصلاة في الثوبين « عدم جواز التكرار للاحتياط حتّى مع عدم التمكّن من العلم التفصيلي » (2).

وتحقيق المقام : أنّ ما ثبت التكليف به تفصيلا أو إجمالا إمّا أن يكون معاملة ويقال لها : الواجب التوصّلي - وهو ما كان الغرض من الأمر به حصوله في الخارج كيفما اتّفق وإن لم يكن الإتيان به بداعي امتثال الأمر وقصد التقرّب - أو يكون عبادة ويقال [ لها ] : الواجب التعبّدي - وهو ما أمر به لغرض التعبّد الّذي لا يحصل إلاّ بالإتيان به بداعي امتثال الأمر وقصد التقرّب -.

فإن كان من الأوّل فلا ينبغي التأمّل في جواز الاكتفاء بالامتثال الإجمالي الذي يحصل بالاحتياط المبني على التكرار والجمع بين المحتملات ، كإزالة النجاسة عن المسجد عند اشتباه الموضع ، وكذلك إزالة النجاسة عن البدن أو الثوب ، فيكفي في سقوط الأمر حصول الإتيان بها بغسل الموضعين معا ، كما يشهد به القوّة العاقلة وعليه بناء العقلاء ، والظاهر خروج ذلك عن محلّ النزاع.

كيف وقد عرفت أنّ المعاملة عبارة عمّا يكفي حصوله كيفما اتّفق في سقوط الأمر به ،

ص: 67


1- الحدائق 5 : 401.
2- السرائر 1 : 185.

والإتيان به على نحو الإجمال من جملة صور اتّفاقه.

وإن كان من الثاني فالشكّ في كفاية الامتثال الإجمالي وعدم كفايته يتصوّر من وجهين :

أحدهما : أن يكون الشكّ راجعا إلى اشتراط معرفة التفصيل في أصل صدق الإطاعة الواجبة في العبادة عرفا أو عند العقلاء ، مع الإتيان بها على وجه الإجمال - كما في الأمثلة المتقدّمة - وعدمه.

وثانيهما : أن يكون الشكّ راجعا إلى اشتراط معرفة التفصيل في صحّة العمل مع فرض صدق الإطاعة عرفا أو عند العقلاء مع الإتيان بها على وجه الإجمال وبدون معرفة التفصيل ، وهذا في الصورتين نظير الشكّ في شرطيّة شيء في العبادة على القول بالصحيحة وعلى القول بالأعمّ ، من حيث رجوعه على الأوّل إلى صدق الاسم بدون الشرط المشكوك ، وعلى الثاني إلى صحّة العمل مع فرض صدق الاسم بدونه.

فإن كان من الوجه الأوّل فمقتضى القاعدة عدم كفاية الامتثال الإجمالي ، نظرا إلى أنّ الشغل الذمّة بالطاعة في العبادة يستدعي المبرأ اليقيني ولا يحصل إلاّ بالامتثال التفصيلي ، وهو أن يعلم حين الفعل المأتيّ به أنّه المأمور به الموجب إتيانه الامتثال ، فيجب عليه تحصيل العلم التفصيلي بالمكلّف به ، ولا يجزيه الاحتياط بتكرار العمل الموجب بعده للعلم بإتيانه.

وإن كان من الوجه الثاني فمقتضى القاعدة كفاية الامتثال الإجمالي وجواز الاحتياط بتكرار العبادة ، لرجوع الشكّ بمقتضي إلى اعتبار شيء زائد مع المكلّف به ، وهو الامتثال التفصيلي المتوقّف على تحصيل العلم التفصيلي بالمكلّف به ، والمفروض عدم وصول بيانه من الشارع فيجري أصل البراءة ، ويقضي بعدم اعتبار التفصيل المستلزم لكفاية الإجمال في حصول الامتثال ، هذا كلّه في الكبرى.

وإنّما الشأن في بيان الصغرى ، وهو أنّ الامتثال التفصيلي هل هو معتبر في صدق الإطاعة الواجبة مع العبادة أو لا؟

وقد يقال : بأنّه معتبر في صدقها ، وعليه مبنى المشهور المحكي فيه دعوى الاتّفاق لوجهين :

أحدهما : بناء العرف وطريقة العقلاء ، فإنّ من أتى بفعلين يعلم أنّ أحدهما المكلّف به مع تمكّنه من العلم به تفصيلا ، لا يقال - عرفا ولا في نظر العقلاء - : أنّه أطاع مولاه ، وإنّما يقال « إنّه أطاعه » بالإتيان بما يعلم حين العمل أنّه بعينه المأمور به وهو الامتثال التفصيلي ،

ص: 68

فلا يكفيه الإتيان بأمرين يعلم أنّ أحدهما المأمور به ولا يدري أيّهما هو؟ وهو الامتثال الإجمالي.

وثانيهما : قاعدة الاشتغال ، وبيانه : أنّ قصارى ما يقال في كفاية الامتثال الإجمالي هو : أنّ الغرض المطلوب للآمر في العبادات هو حصول الامتثال ، وهذا ممّا يحصل بالتكرار أيضا.

ويزيّفه : أنّ الإطاعة واجبة في العبادة قطعا ، ونحن إن لم ندّع العلم بعدم صدقها عرفا بدون التفصيل فلا أقلّ من الشكّ في صدقها ، وشغل الذمّة اليقيني يستدعي المبرأ اليقيني وليس إلاّ الامتثال التفصيلي المتوقّف على تحصيل العلم التفصيلي.

وتوهّم : التمسّك بإطلاق الأمر لنفي احتمال اعتبار خصوص التفصيل في الامتثال ، ولا تأثير معه لأصل الاشتغال.

يدفعه : أنّ التمسّك بالإطلاق لنفي اعتبار التفصيل في الامتثال إنّما يصحّ إذا كان الامتثال من قيود المأمور به لا من أغراض الآمر ، وهو خلاف التحقيق بل غير معقول ، فإنّ امتثال الآمر في لحاظ الأمر إنّما يلاحظ من باب العلّة الغائيّة ، فلا يكون من قبيل القيود ليكون اعتبار التفصيل فيه تقييدا في المأمور به فيصحّ نفيه بإطلاق الأمر ، وإذا كان من قبيل الأغراض فلا يمكن نفي اعتبار التفصيل بالتمسّك بالإطلاق ، إذ لا يلزم على تقديره تقييد في المأمور به ، فيبقى الأصل سليما عمّا يوجب الخروج عنه.

والوجهان كلاهما ضعيفان.

أمّا الأوّل : فلمنع عدم صدق الإطاعة بدون العلم التفصيلي ، إذ الإطاعة لا معنى لها عرفا إلاّ الامتثال وهو عبارة عن موافقة الأمر - بمعنى موافقة المأتيّ به للمأمور به - ووجوبها ليس زائدا على وجوب نفس الفعل ، فالاشتغال بها هو بعينه الاشتغال بالفعل نفسه ، ويرتفع ذلك الاشتغال بأداء المأمور به على حسبما امر بداعي الأمر به ، وهذا يتأتّى تارة بالإتيان بما يعلم أنّه المأمور به بداعي الأمر به.

واخرى بالإتيان بأمرين أو امور يعلم أنّ أحدهما المأمور به بداعي الأمر به ، بأن يكون داعيه من حين الشروع إلى الفراغ الإتيان بما هو مأمور به منهما ، ويكون داعيه من الإتيان بما هو مأمور به مجرّد الإطاعة وامتثال الأمر.

وغاية الفرق بين الصورتين أنّ العلم بأدائه على الوجه المذكور في الصورة الاولى حاصل من حين الإتيان ، وفي الثانية يحصل بعد الإتيان بالجميع ، ودعوى عدم صدق الإطاعة عرفا في الثانية غير مسموعة.

ص: 69

وأمّا الثاني : فلأنّ التشكيك في صدق الإطاعة بدون العلم التفصيلي بالمكلّف به بعينه حين الإتيان لا بدّ له من موجب ، وهو إمّا احتمال وجوب قصد الوجه من الوجوب في الواجب ، والندب في المندوب ، أو احتمال وجوب معرفة الوجه على أنّها في نفسها معتبرة في الصحّة ، لا على أنّها مقدّمة لإحراز قصد الوجه ، أو إطلاق الإجماعات المنقولة على عدم معذوريّة الجاهل في عباداته وعلى أنّها باطلة ، فإنّه يشمل الجاهل بالمكلّف به الّذي يحرز الإتيان به بطريقة الاحتياط ، والكلّ باطل.

أمّا الأوّلان : فلما حقّقناه في غير موضع من عدم اعتبار قصد الوجه ولا معرفته في صحّة العبادة ، على أنّ قصد الوجه عند معتبريه إنّما يعتبر على أنّه من شروط الامتثال لا على أنّه من قيود المأمور به ، وقد عرفت صدق الامتثال بدونهما.

وأمّا الثالث : فلمنع تناول هذه الإجماعات لهذا الجاهل ، فإنّ معقدها الجاهل المتسامح في أمر دينه التارك للطريقين لتسامحه في الدين الغير المبالي للمخالفة فيه ، أو الجاهل المقصّر الّذي لم يطابق عمله الواقع ، أو الجاهل الّذي لم يحرز في عمله القربة ، لتردّده حين العمل في كونه المأمور به أو المأمور به شيء آخر غيره.

وأيّا مّا كان فلا يندرج فيه المحتاط ، السالك لطريقه بالجمع والتكرار بداعي إدراك الواقع لاهتمامه في أمر الدين.

ثمّ إنّ في العمل بالاحتياط مزيد مباحث أوردناها مشروحة في موضعين من الكتاب :

أحدهما : في ذيل بحث أصل البراءة عند التكلّم في وجوب الفحص وعدمه.

وثانيهما : باب الاجتهاد والتقليد عند البحث في عبادات الجاهل.

نعم ينبغي [ أن يعلم ] أنّ الكلام في كفاية الامتثال الإجمالي لا يجري في العمل بالاحتياط عند الشكّ في أجزاء المكلّف به أو شروطه الموجب لدورانه بين الأقلّ والأكثر ، فإنّ الاحتياط هنا إنّما هو بمراعاة الإتيان بالأكثر المتحقّق بالإتيان بجميع الأجزاء المشكوكة والشرائط المشكوكة ، فإنّه في الحقيقة موافقة تفصيليّة ، لا أنّه موافقة إجماليّة لمكان العلم بكون المأتيّ به في صورة الاحتياط هو الفرد الكامل من المكلّف به على الأجزاء والشرائط المستحبّة زائدة على الأجزاء والشرائط الواجبة ، فهو إتيان بالمكلّف به مع زيادة.

غاية الأمر عدم التمييز فيما بين الأجزاء والشرائط الواجبة والمستحبّة ، وهذا لا يوجب كون الموافقة المتحقّقة فيه إجماليّة لا تفصيليّة ، بل الموافقة الإجماليّة مقصورة على ما كان المكلّف به دائرا بين أمرين متبائنين ، أو امور متبائنة على سبيل الانفصال الحقيقي

ص: 70

لشبهة موضوعيّة كاشتباه جهة القبلة ، أو حكميّة كاشتباه المسألة في الظهر والجمعة مثلا.

فصار محصّل الكلام في المقام : أنّ الاحتياط بالجمع والتكرار مع التمكن من العلم التفصيلي محلّ إشكال بالنظر إلى اشتهار عدم جوازه ، وإن كان الأقوى على ما بيّناه هو الجواز ، كالاحتياط الغير المستلزم للتكرار كما في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر على ما عرفت من جواز الاكتفاء فيه بالاحتياط في تحصيل الإطاعة وموافقة الأمر ، وأمّا إذا [ لم ] يتمكّن منه فلا يخلو إمّا أن يتمكّن من الظنّ التفصيلي المعتبر أو لا.

فعلى الثاني لا إشكال في جواز الاكتفاء بالموافقة الإجماليّة الحاصلة بالاحتياط ، سواء تمكّن من الظنّ الغير المعتبر الّذي وجوده بمنزلة عدمه ، أو لم يتمكّن منه أيضا ، إذ التكليف بما لا يطاق قبيح فالأمر دائر بين الموافقة القطعيّة الحاصلة بالتكرار ، والموافقة الاحتماليّة بناء على الاكتفاء بواحد من المحتملات والمخالفة القطعيّة بترك العبادة رأسا ، والثالث باطل لما تقدّم من حرمة المخالفة القطعيّة.

ولا ريب في اولويّة الأوّل ، بل تعيّنه بحكم العقل المستقلّ وفي نظر العقلاء ، مضافا الى أصل الشغل المستدعي المبرأ اليقيني الّذي لا يتأتّى باحتمال الموافقة ، وعلى الأوّل فلا يخلو أيضا إمّا أن يكون الظنّ التفصيلي المفروض الممكن حصوله من الظنّ المطلق الّذي حصل الاضطرار إلى العمل به من جهة الانسداد ، أو من الظنّ الخاصّ الّذي قام الدليل على اعتباره بالخصوص.

أمّا الأوّل : ففي جواز الاكتفاء بالموافقة الإجماليّة أو وجوب الموافقة التفصيليّة الظنّيّة وجهان : من أنّ العلم ولو إجماليّا أرجح من الظنّ لعدم احتماله مخالفة الواقع ، ومن أنّ التفصيل ولو ظنّيّا أحوط من جهة مصير جماعة إلى المنع من هذا الاحتياط أيضا ، مع كونه خلاف السيرة المستمرّة بين العلماء بل المسلمين كافّة.

ولكنّ الأقوى هو الأوّل ، لقضاء القوّة العاقلة ، وبناء العقلاء أيضا ، مع عدم منع في دليل الانسداد ، فإنّ المأخوذ في مقدّماته عدم وجوب الاحتياط لافضائه إلى العسر والحرج المنفيّين في الشريعة السمحة السهلة لا عدم جوازه ، فلا يعقل كون الظنّ الثابت اعتباره من جهته مانعا منه ، وتوهّم المنع من السيرة المستمرّة ، مدفوع : بأنّ السيرة قائمة على عدم الالتزام بالاحتياط ، ولعلّه لما فيه من الكلفة والمشقّة بالإضافة إلى العمل بالظنّ الّذي هو طريق شرعي قائم مقام العلم ، لا على المنع منه كما لا يخفى.

وأمّا الثاني ففيه أيضا وجهان : من أنّ العلم وإن كان إجماليّا ولكنّه لا يحتمل معه عدم

ص: 71

الإتيان بالمأمور به أصلا ، بخلاف الظنّ التفصيلي فإنّه غير مانع من احتمال الخلاف.

ومن أنّ الظنّ بعد ثبوت اعتباره بالخصوص ممّا قام شرعا مقام العلم ، وأنّه ما نزّله الشارع منزلته فمع إمكانه لا معنى لرفع اليد عنه.

وبالجملة : فالأمر في امتثال الأمر يدور بين رفع اليد عن جهة العلم والاكتفاء بالظنّ على جهة التفصيل ، ورفع اليد عن جهة التفصيل اكتفاء بالإجمال على جهة العلم ، ولكلّ وجه ، ولكنّ المشهور هو الوجه الأوّل والأقرب على حسب القواعد هو الوجه الثاني ، أعني الاكتفاء بالإجمال وعدم تعيّن الظنّ التفصيلي ، وما عرفت من دليل الوجه الأوّل فيه شيء لا يجوز معه الاعتماد عليه في ترجيحه على الوجه الثاني ، وهو أنّ المستفاد من أدلّة الظنّ الخاصّ هو جواز الاكتفاء به عن العلم ، لا وجوبه وتعيّن العمل به ولو في موضع إمكان العلم ولو إجمالا.

وبعبارة اخرى : العمل بالظنّ الخاصّ إنّما ثبت بدليله من باب الرخصة وهو مجرّد جواز الأخذ به ، لا من باب العزيمة وهو وجوب الأخذ به ، فليس في أدلّته ما يقضي بتعين العمل به في مقابلة العمل بالاحتياط الحاصل من اتّباع العلم الإجمالي ، فيبقى أولويّة جهة العلم سليمة عن المعارض ، إذ معنى قيام الظنّ مقام العلم جواز الاكتفاء به لا وجوبه.

هذا مع ما عرفت من أنّ الأقوى جواز الاحتياط بالجمع المستلزم للتكرار ، المقتضي لجواز الاكتفاء بالامتثال الإجمالي في مقابلة العلم التفصيلي الممكن حصوله ، فكيف به في مقابلة الظنّ التفصيلي المفروض إمكان حصوله دون العلم التفصيلي.

وأمّا الإشكال من جهة وجوب قصد الوجه الّذي لا يتأتّى مع العلم الإجمالي ، والاستناد إليه في إثبات تعيّن العمل بالظنّ.

ففيه : مع أنّ قصد الوجه من أصله غير واجب عندنا ، أنّه إنّما ثبت وجوبه عند معتبريه في موضع التمكّن منه ، والعالم بالإجمال غير متمكّن منه ، ودليل وجوبه إنّما دلّ عليه إذا كان علميّا ، وأمّا إذا كان ظنّيّا فلا دليل على وجوبه خصوصا في مقابلة العلم الإجمالي بإدراك الواقع ، بل هو بعد الفراغ آئل إلى العلم التفصيلي به ، بل قد عرفت أنّ تحصيل الواقع بطريق العلم ولو إجمالا أولى من تحصيل الاعتقاد الظنّي به ولو تفصيلا ، ولكنّ الأحوط في المقامين مراعاة الظنّ التفصيلي خروجا عن شبهة الخلاف في مسألة قصد الوجه وإن أحرز بطريق الظنّ ، أو في مسألة العمل بالاحتياط المتوقّف على الجمع والتكرار ، لمصير جمع إلى المنع منه بقول مطلق.

* * *

ص: 72

المقصد الثاني : في الظنّ

اشارة

واعلم أنّه قد عرفت في مقدّمات الباب أنّ القطع لا يحتاج إلى دليل الاعتبار لأنّه حجّة ومعتبر في نفسه ، بخلاف الظنّ فإنّه في حجّيّته واعتباره يحتاج إلى دليل ، فالظنّ يجامع كلاّ من منع الشارع من العمل به وتجويزه للعمل به.

والسرّ فيه : أنّ الظنّ بالشيء لا يلازم كون المظنون هو ذلك الشيء في الواقع ولو في نظر الظانّ ، ويجامع القطع بخلاف حكم الواقع كما لو ظنّ المكلّف بخمريّة شيء مثلا ، فإنّه يجامع القطع بكون ذلك الشيء غير محرّم ، نظرا إلى عدم كون الحرمة محمولة على مظنون الخمريّة ، بل على الخمر الواقعي من غير مدخليّة للعلم والظنّ فيه ، فمجرّد الظنّ بخمريّته لا يوجب القطع بحرمته بل يجامع كلاّ من القطع بالحرمة والقطع بعدم الحرمة والشكّ فيهما ، وإنّما يختلف ذلك باعتبار قيام الدليل القطعي على كلّ من المنع والتجويز ، وعدم قيام الدليل على شيء منهما ، فالظنّ يمتاز عن القطع بإمكان كونه معتبرا وكونه غير معتبر ، بخلاف القطع فإنّه لا يمكن كونه غير معتبر بمنع الشارع من اتّباعه للزوم التناقض ، أو خلاف الفرض الّذي يبطله دليل الخلف ، كما أنّ الشكّ يمتاز عنهما بعدم إمكان الاعتبار ، لأنّه بما هو شكّ عبارة عن تساوي الطرفين ، فلا يعقل أن يكون مناطا للأخذ بأحدهما.

نعم يمكن أن يقوم في المقام أمارة تعبّديّة توجب لزوم الأخذ بأحدهما ، غير أنّه ليس من اعتبار الشكّ بنفسه في شيء ، كما لا يخفى على الفطن العارف.

فالكلام في الظنّ يقع تارة : في إمكان اعتباره الّذي يعبّر عنه بإمكان التعبّد به عقلا.

واخرى : في وقوع التعبّد به عقلا أو شرعا وعدمه ، نظرا إلى أنّ الإمكان لا يستلزم الوقوع.

وثالثة : في خصوصيّات الموارد الّتي وقع فيها التعبّد بالعمل على الظنّ ، وتميّزها عن غيرها ممّا لم يقع التعبّد به ، ويتبعه البحث في مسألة الظنّ الخاصّ ، والظنّ المطلق الّذي

ص: 73

صار إليه المتأخّرون ، ففي هذا المقصد مقامات :

المقام الأوّل : في امكان التعبّد بالظنّ عقلا

المقام الأوّل في أنّه هل يمكن عقلا أن يتعبّدنا اللّه سبحانه بالعمل بالظنّ ، أو يستحيل ذلك عقلا استحالة عرضيّة ، من جهة استلزامه القبح ومنافاة الحكمة مع إمكانه الذاتي كالظلم منه تعالى ، لا استحالة ذاتيّة كالجمع بين النقيضين ونحوه.

وقد وقع الخلاف في ذلك بين العامّة والخاصّة غير أنّ المعروف بين الفريقين إمكانه.

وعن جماعة من المتكلّمين منّا كإبن قبة (1) وأتباعه ، ومن العامّة كالجبّائيين امتناعه ، غير أنّ هؤلاء لم يصرّحوا بذلك في خصوص الظنّ حيث لم نجد منهم هذا العنوان بخصوصه ، وإنّما أحالوا التعبّد بخبر الواحد استنادا إلى ما لا فرق فيه بينه وبين غيره من الأسباب الغير العلميّة الّتي منها الظنّ ، فبملاحظة جريان دليلهم في الظنّ على حدّ جريه في خبر الواحد نقطع بعموم كلامهم في دعوى الاستحالة.

فكيف كان فاستدلّ على القول بالإمكان : بأنّا نقطع بأنّه لا يلزم من التعبّد به محال.

ونوقش في هذا التقرير : بأنّ القطع بعدم لزوم المحال في الواقع موقوف على إحاطة العقل بجميع الجهات المحسّنة والجهات المقبّحة ، وعلمه بانتفاء الجهات المقبّحة ، والإحاطة مع العلم المذكور غير حاصلين في المقام.

فالأولى أن يقرّر : بأنّا لا نجد في عقولنا بعد التأمّل ما يوجب الاستحالة وهذا طريق يسلكه العقلاء في الحكم بالإمكان ، ويخدشه : بأنّ عدم وجدان ما يوجب الاستحالة لا يستلزم عدم وجوده في الواقع ، فلا بدّ في الحكم بالإمكان معه من وسط آخر وهو بمجرّده لا يصلح وسطا ، ولعلّه الأصل في نظر المستدلّ وإن لم يصرّح به في الدليل ، فيرجع حينئذ إلى ما قد يقال - في الاستدلال - : من أنّ الأصل هو إمكان التعبّد ، لما هو المقرّر من أنّه كلّما دار الأمر في شيء بين الإمكان والامتناع فالأصل هو الإمكان.

وقد أشار إليه الشيخ الرئيس أيضا - فيما حكي عنه - « من أنّه كلّما قرع سمعك شيء ولم يقم على امتناعه برهان فذره في بقعة الإمكان » ولم نتحقّق لهذا الأصل معنى إلاّ أن يراد منه القاعدة ، وهو قاعدة أنّ المانع يكفيه المنع ولا يطالب بالدليل ، بخلاف المدّعي

ص: 74


1- هو أبو جعفر محمّد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي وكان معتزليّا ثمّ تبصّر ، رجال النجاشي : 375 / 1023.

فإنّه يحتاج إلى دليل ويطالب به ، فالمدّعي للامتناع هو المحتاج إلى الدليل المطالب به دون القائل بالإمكان (1).

والسرّ فيه : أنّ الامتناع عبارة عن ضرورة جانب العدم ، وهذه الضرورة مزيّة لجانب العدم على جانب الوجود ، فلا بدّ في الإذعان بها من دليل فالمدّعي لها يطالب بدليله والقول بالإمكان منع لهذه المزيّة فلا يطالب قائله بالدليل ، وقد يجعل من فروع هذه القاعدة ما تقرّر في الدعوى والانكار من أنّ البيّنة على المدّعي ، فإنّه يدّعي أمرا زائدا على تصرّف المتصرّف وهو كون تصرّفه غصبا وعدوانيّا فيطالب بالبيّنة ، والمنكر بعد عجز المدّعي عن البيّنة يكفيه اليمين.

وفيه نظر ، بل المدّعي في مسألة دعوى الغصبيّة إنّما يطالب بالبيّنة لأنّه يدّعي خلاف الظاهر ، وهو ظهور التصرّف في الملكيّة لا لمجرّد أنّه يدّعي أمرا زائدا على أصل تصرّف المتصرّف.

وكيف كان فقد يحتمل في الأصل المذكور أن يراد به الاستصحاب في الأمر العدمي ، فإنّ الأصل في ضرورة جانب العدم - المأخوذة في مفهوم الامتناع - عدمها ، وهو واضح الفساد لانتفاء الحالة السابقة ، فإنّ الضرورة واللاضرورة في الأمر الدائر بين الإمكان والامتناع ليس شيء منهما حالة سابقة فيه يشكّ في بقائها وارتفاعها حتّى يصحّ الحكم ببقائها للاستصحاب ، ومثله في الفساد جعل الأصل بمعنى الظاهر المستند إلى الغلبة ، لغلبة الممكنات وندرة الممتنعات ، والظنّ يلحق الشيء بالأعمّ الأغلب.

ووجه الفساد : منع الصغرى تارة ومنع الكبرى اخرى.

أمّا الأوّل : فلعدم إمكان إحراز الغلبة والندرة إلاّ بعد الإحاطة بجميع الممكنات والممتنعات ، وهي غير ممكنة لامتناع إحاطة امور غير متناهية في زمان متناه ، والممكنات غير متناهية وكذلك الممتنعات ، بل عدم تناهي الممتنعات كالممكنات يأبى كونها نادرة بالندرة المعتبرة في الظنّ باللحوق.

وأمّا الثاني : فلامتناع ظنّ اللحوق فيما كان الشكّ في وصفه باعتبار الشكّ في اندراجه في أيّ النوعين المتّصفين بوصفين متقابلين ، كما لو شكّ في بياض فرد من الإنسان وسواده ، باعتبار اشتباهه بين الرومي الغالب في أشخاصه البياض ، والحبشي الغالب في أشخاصه السواد ، فإنّ غلبة أشخاص الرومي مثلا على أشخاص الحبشي لا يجدي نفعا في

ص: 75


1- الأسفار 1 : 364.

الظنّ بكونه أبيض كما هو واضح ، ومرجعه إلى انتفاء الاتّحاد فيما بين المشكوك فيه والأفراد الغالبة في العنوان الصادق عليهما صنفا أو نوعا أو جنسا.

ولا ريب أنّ الممكن والممتنع نوعان متقابلان ليس بينهما جهة جامعة ، وعنوان صادق عليهما يكون صنفا أو نوعا أو جنسا ، ومحلّ الشكّ مشكوك في اندراجه في أيّ النوعين حتّى يتّصف بوصفه من الإمكان والامتناع ، فالشكّ في وصفه إنّما هو باعتبار اشتباهه بين النوعين فيستحيل الظنّ بإمكانه من جهة غلبة الممكنات وندرة الممتنعات وإن فرضناها في كمال الندرة.

فالصحيح من محامل الأصل هنا هو ما ذكرناه من القاعدة وهو الّذي يقتضيه كلام الشيخ الرئيس أيضا ، لمكان قوله : « ولم يقم على امتناعه برهان » فإنّه كالصريح في أنّ المحتاج إلى إقامة البرهان إنّما هو القائل بالامتناع ، وأمّا المدّعي للإمكان فيكفيه مجرّد عدم قيام البرهان على الامتناع.

واحتجّ ابن قبة (1) بوجهين :

أحدهما : أنّه لو جاز التعبّد بخبر الواحد في الإخبار عن النبيّ لجاز التعبّد به في الإخبار عن اللّه تعالى لجامع كون المخبر عادلا في الصورتين ، والتالي باطل إجماعا ، وهو ضعيف من وجوه :

الأوّل : أنّ الإخبار في الصورتين إمّا أن يتعلّق باصول الدين أو بفروعه ، وعلى الأوّل فبطلان اللازم والملازمة كلاهما مسلّمان ، غير أنّ محلّ البحث ليس هو التعبّد به في اصول الدين ، فإنّ التعبّد به فيها غير جائز لا في الإخبار عن اللّه ولا في الإخبار عن النبيّ ولا في الإخبار عن الوصيّ ، لأنّ المطلوب فيها العلم وخبر الواحد لا يوجبه ، فيلزم بالتعبّد به على تقدير وقوعه إمّا التكليف بما لا يطاق إن قصد به إيجاب تحصيل العلم بالخبر الغير المفيد له ، أو نقض الغرض إن قصد به الأخذ بمؤدّى الخبر الغير العلمي وكلاهما قبيحان.

وعلى الثاني : فالملازمة مسلّمة ولكن بطلان التالي ممنوع ، إذ لا دليل على عدم حجّيّة الإخبار عن اللّه إذا تعلّق بالفروع ، والإجماع المدّعى عليه غير مسلّم ولذا يعمل بالأحاديث القدسيّة من غير نكير بقول مطلق ، بل قد يقال : إنّ لازم من يقول بحجّيّته عن المعصوم أن يقول بها عن اللّه تعالى أيضا ، لاتحاد الطريق ووحدة المناط وجريان دليل الحجّيّة فيهما معا.

ص: 76


1- حكاه المحقّق في المعارج : 141.

الثاني : أنّ التعبّد بخبر الواحد إمّا أن يراد به ما هو فعل المكلّف أعني العمل به ، أو ما هو فعل اللّه سبحانه - كما هو ظاهر اللفظ لوقوعه مسند إليه تعالى - يراد به معنى استعبدنا ، أي طلب منّا العبوديّة بمقتضى خبر الواحد ، أي الالتزام به والأخذ به على أنّه حكم اللّه.

فعلى الأوّل : يرد عليه عدم انطباق الدليل على المدّعى على فرض صحّة الإجماع ، فإنّ محلّ البحث إمكان تعبّده تعالى واستحالته ، وغاية ما يقضي به بطلان التالي - المستند إلى الإجماع على عدم جواز العمل بخبر الواحد في الإخبار عن اللّه تعالى - إنّما هو نقيض المقدّم ، وهو عدم جواز العمل بخبر الواحد في الإخبار عن النبيّ ، وهذا كما ترى لا يستلزم عدم إمكان تعبّده تعالى ، لجواز أن يكون مستند عدم جواز العمل في الإخبار عن اللّه عدم وقوع التعبّد منه تعالى ، نظرا إلى أنّه كاف في الحكم بعدم جواز العمل ، ويكون هذا هو مدرك الإجماع على عدم جواز العمل أيضا.

لا يقال : إذا ثبت عدم جواز العمل به ثبت عدم إمكان تعبّده تعالى بأنّه : لو تعبّدنا اللّه به مع عدم جواز العمل به الثابت بالإجماع لزم التكليف بما لا يطاق ، ونقض الغرض ، وكلاهما قبيحان عليه تعالى فيمتنع صدوره منه ، لمنع الملازمة فإنّ عدم جواز العمل المستند إلى عدم وقوع التعبّد منه تعالى حكم تعليقي مراعى بعدم وقوع التعبّد وحيث وقع ذلك التعبّد منه ارتفع به ذلك الحكم التعليقي.

وعلى الثاني : يرد عليه منع بطلان التالي بمنع الإجماع عليه ، إذ لو فرضنا أنّه تعالى أقام لنا دليلا قطعيّا على أنّه يجوز لكم أو يجب عليكم في امتثال أحكامي العمل بخبر الواحد عنّي ، لا يلزم بذلك قبح ولا محذور آخر ، ولا إجماع على قبحه أيضا ولم يدّعه أحد ، ولو ادّعاه لم يكن منه مقبولا بل لا نظنّ قائلا بقبحه ، ولعلّ المستدلّ أيضا لا يرضى به.

الثالث : أنّ محلّ البحث إنّما هو التعبّد بخبر الواحد بعد استقرار الشريعة وانتشار أحكامها واختفاء الطرق القطعيّة المنصوبة عليها منه تعالى علينا ، وحينئذ نقول : إن اريد من التعبّد به في الإخبار عن اللّه المأخوذ في قضيّة التالي تعبّده به في أصل بناء الشرع وابتداء تأسيسه فبطلان التالي ودعوى الإجماع عليه ، ولذا يعتبر في المخبر عن اللّه في ابتداء بناء الشرع - الّذي يقال له : « المتنبّي » أن يكون معه معجزة قطعيّة تدلّ على صدقه وتفيد العلم بحقيّة كلّما جاء به عن اللّه سبحانه ، ولكن الملازمة ممنوعة ، لأنّ التعبّد به في الإخبار عن النبيّ جائز بعد استقرار الشريعة.

ص: 77

وإن اريد منه التعبّد به بعد استقرار الشريعة مع اختفاء الطرق القطعيّة علينا فالملازمة مسلّمة وبطلان التالي ممنوع ، إذ لا دليل على عدم الجواز والإجماع المدّعى عليه ممنوع ، لعدم استتباعه قبحا ولا محذورا ، ولو بأنّه يؤدّي إلى تحليل الحرام وتحريم الحلال رجع الوجه الأوّل إلى الوجه الثاني فلا يكون دليلا على حدّة.

وثانيهما : أنّ التعبّد بخبر الواحد يؤدّي إلى تحليل الحرام وتحريم الحلال ، والتالي باطل ، فكذا المقدّم.

أمّا الملازمة : فلأنّ الخبر الواحد العاري عن قرائن الصدق محتمل للصدق والكذب ، فلا يكون دائم المصادفة للواقع بل كثيرا مّا يخالفه ، فما أخبر بحلّه لا يؤمن أن يكون حراما ، كما أنّ ما أخبر بحرمته لا يؤمن أن يكون حلالا ، فيلزم بهما في موضع المخالفة ما ذكر من تحليل الحرام وتحريم الحلال.

وأمّا بطلان [ التالي ] : فهو وإن لم يكن مذكورا في كلام المستدلّ ، ولكن يمكن أن يكون نظره فيه إلى لزوم أحد المحذورين من اجتماع الضدّين ونقض الغرض.

أمّا لزوم الأوّل : فلأنّ الحلّيّة والحرمة متضادّتان ، وتحليل الحرام حكم بحلّيّته وتحريم الحلال حكم بحرمته فيلزم ما ذكر.

وأمّا لزوم الثاني : فلأنّ الغرض من الحرام الامتناع عنه ومن الحلال عدم الامتناع عنه ، وتحليل الأوّل يقتضي عدم الامتناع عمّا تعلّق الغرض بالامتناع عنه ، كما أنّ تحريم الثاني يقتضي الامتناع عمّا تعلّق الغرض بعدم الامتناع عنه ، وكلاهما نقض للغرض.

ثمّ إنّ المراد من التحليل في عنوان « تحليل الحرام » ليس خصوص دلالة خبر الواحد على الحلّيّة بالمعنى المرادف للإباحة ، بل أعمّ منها ومن الدلالة على الوجوب أو الندب أو الكراهة ، كما أنّ المراد من الحلال في عنوان « تحريم الحلال » ليس خصوص المباح بالمعنى الأخص ، بل أعمّ منه ومن الواجب والمندوب والمكروه ، لأنّ الشيء قد يكون حراما وخبر الواحد المتعبّد به فيه يدلّ على وجوبه أو ندبه أو كراهته أو إباحته ، والكلّ من تحليل الحرام بالنظر إلى عموم الدليل ، وقد يكون واجبا أو مندوبا أو مكروها أو مباحا وخبر الواحد المتعبّد فيه يدلّ على حرمته ، وهو في الكلّ من تحريم الحلال بالنظر إلى عموم الدليل أيضا.

وكيف كان فقد اجيب عنه بوجوه (1) :

ص: 78


1- انظر الفصول : 271.

منها : أنّ التحليل والتحريم مع حرمة الحرام وحلّيّة الحلال إن فرضا متّحدين في الظرف وهو الواقع ، بأن يكون كلّ من الحرمة أو الحلّيّة مع مفاد خبر الواحد من الحلّيّة أو الحرمة حكما واقعيّا ، فالملازمة ممنوعة ، لأنّ دلالة خبر الواحد ليست علميّة فالحكم المستفاد منه حكم ظاهري ، وإن فرضناهما متعدّدين بحسب الظرف بأن يكون أحد الحكمين ثابتا له في الواقع ، والحكم الآخر المستفاد من خبر الواحد ثابتا له في الظاهر ، فبطلان اللازم ممنوع ، إذ لا ضير في مخالفة الحكم الظاهري في الشيء لحكمه الواقعي في نفس الأمر على القول بالتخطئة ، بل جميع الأحكام الاجتهاديّة المستنبطة من الأدلّة الغير العلميّة في مواضع عدم مصادفة الواقع - في الواقع على القول المذكور - أحكام ظاهريّة مخالفة للأحكام الواقعيّة ، ولا يلزم شيء من المحذورين ، لتعدّد الموضوع وانتفاء شرط تنجّز الحكم الواقعي ، وهو العلم بالخطاب تفصيلا أو إجمالا.

ومنها : نقض الاستدلال بأمارات غير علميّة وقع التعبّد بها في الشريعة ، كالفتوى في الأحكام للمقلّد - كما عن العلاّمة في النهاية (1) - والبيّنة واليد ونحوهما في الموضوعات للمجتهد والمقلّد ، لعدم دوام مصادفتها الواقع ، فلا يؤمن شيء منها عن تحليل الحرام وتحريم الحلال.

وعن بعضهم أيضا نقضه بالتعبّد بالقطع الّذي لا يؤمن من مخالفة الواقع.

ومنها : أنّ التعبّد بخبر الواحد إمّا أن يفرض مع انسداد باب العلم على المكلّف في المسألة ، على معنى عجزه وعدم تمكّنه من العلم فيها ، أو يفرض مع انفتاح باب العلم وتمكّن المكلّف منه.

وعلى الأوّل : فإمّا أن يقول المستدلّ بأنّ المكلّف ليس له في الواقعة حكم أصلا لا واقعا ولا ظاهرا ، فيكون فيها كالبهائم والمجانين ، أو يقول بأنّ له حكما ظاهرا لا واقعا ، أو يقول بأنّ له حكما واقعا لا ظاهرا.

فإن كان نظره في الصورة الاولى ، ففيه : مع أنّه كلمة هو قائلها بل لا نظنّه قائلا بها - لمنافاته عبارة الدليل المشتمل على تحليل الحرام وتحريم الحلال المقتضي لأن يكون هناك حراما وحلالا في حقّ المكلّف - أنّ ذلك خارج عن المتنازع وليس لنا فيه كلام ، لأنّ محطّ النظر في تلك المسألة جواز التعبّد بخبر الواحد ، أو بمطلق الظنّ على فرض بقاء التكليف والحكم على حدّ ما هو ثابت للمشافهين المتمكّنين من العلم.

ص: 79


1- لم نعثر عليه.

وإن كان نظره في الصورة الثانية ، ففيه : أنّه ليس في التعبّد بخبر الواحد حينئذ تحليل حرام ولا تحريم حلال ، إذ المفروض انتفاء الحليّة والحرمة الواقعيّين في حقّه ، وإنّما خبر الواحد وغيره من أنواع الظنون حكم ظاهري في حقّه ، والمفروض أنّه ممّا سلّمه المستدلّ فلا مجال لتوهّم الملازمة.

وإن كان نظره إلى الصورة الثالثة ، ففيه : إذا لم يجز للشارع أن يتعبّده بخبر الواحد ، فلا يخلو إمّا أن لا يتعبّده بشيء فهو في معنى ترخيصه تعالى في كلّ من الفعل والترك ، فلا يؤمن من أن يكون ترخيصا لفعل الحرام أو لترك الواجب ، أو يتعبّده بالعلم فهو تجويز للتكليف بالمحال ، أو يتعبّده بخلاف مقتضى خبر الواحد وهو الاحتمال الموهوم ، فهو خروج عن الإنصاف بل خلاف بديهة العقل ، لتضمّنه رفع اليد عن الراجح وإيجاب الأخذ بالمرجوح.

وإمّا أن يتعبّده بغير الخبر من سائر الأمارات الغير العلميّة بل الاصول أيضا ، فهو كرّ على ما فرّ ، لمشاركة الجميع في التأدية إلى تحليل الحرام وتحريم الحلال.

وإمّا أن يتعبّده بالاحتياط فهو إخراج للمقام عن محلّ الكلام من حيث إنّ الاحتياط أيضا طريق علمي ، وقد فرضناه غير متمكّن عن الطرق العلميّة بأسرها ، أو أنّه يفضي إلى العسر والحرج المنفيّين ، بل كثيرا مّا يتعذّر فيلزم تكليف ما لا يطاق.

وظنّي أنّ المستدلّ لا يلتزم بشيء من هذه الصور ، بل الظاهر أنّ محطّ نظره في الاستدلال على المنع إنّما هو صورة انفتاح باب العلم ، وربّما يؤيّده ما قيل من أنّه بحسب العصر أسبق من السيّد وتابعيه القائلين بانفتاح باب العلم في أعصارهم.

وممّا ذكرنا حينئذ ينقدح أنّه لا وقع لنقض الاستدلال بالفتوى كما عرفته عن العلاّمة ، لأنّ الآخذ بالفتوى ليس له طريق في التعبّد إلاّ الفتوى ، لأنّ المفروض انسداد باب العلم عليه.

وقد يقال : بأنّه ليس له شيء أبعد من تحريم الحلال وتحليل الحرام من العمل بالفتوى ولا لنقضه بالقطع مع احتمال كونه في الواقع جهلا مركّبا.

أمّا أوّلا : فلعدم كون القطع ممّا تعبّد به شرعا ، لما عرفت في مقدّمات الباب من عدم كون حجّيّته بجعل الشارع ، لأنّ قبول الجعل مقصور على ما كان قابلا لأن يقع وسطا في الدليل ، وليس إلاّ ما كان قابلا للمنع ولا يتأتّى ذلك إلاّ في موضع الاحتمال ، والقاطع ما دام قاطعا لا يحتمل في قطعه احتمال الخلاف ، فلا يعقل منعه من العمل بقطعه لأجل مخالفته الواقع.

وأمّا ثانيا : فلأنّ القاطع المخالف قطعه الواقع هو الجاهل المركّب ، وأيّ عاجز عن العلم

ص: 80

أعجز من الجاهل المركّب؟ وقد فرضنا أنّ غير العالم إذا كان شاكّا في الحكم الواقعي لا مناص له من التعبّد بخبر ، وأنّ هذا خارج عن مساق دليل المستدلّ ، فلأن يكون الجاهل الّذي لا يجري عنده احتمال مخالفة الواقع أصلا متعبّدا من الشارع بالعمل بقطعه طريق الأولويّة كما هو واضح.

وإن كان نظره إلى صورة الانفتاح والتمكّن من العلم - كما هو ظاهر دليله بعد التأمّل فيما قرّرناه - ، فنقول : إنّ التعبّد بالخبر حينئذ يتصوّر على وجهين :

أحدهما : أن يجب العمل به من الشارع لمجرّد كونه طريقا إلى الواقع كاشفا عنه كشفا ظنّيّا ، حيث لم يلاحظ فيه مصلحة سوى كشفه الظنّي عن الواقع.

ثانيهما : أن يجب العمل به لأجل أنّه يحدث في الواقعة بسبب قيام هذه الأمارة الظنّيّة بها مصلحة راجحة على المصلحة الواقعيّة الّتي تفوت على المكلّف على تقدير مخالفته الواقع ، كصلاة الجمعة إذا فرضناها في أزمنة الغيبة محرّمة لوجود مفسدة ، ولكن أخبر عادل بوجوبها فحدث بسببه مصلحة في فعلها راجحة على المفسدة المقتضية للتحريم ، وحدث بسبب حدوث المصلحة الراجحة وجوب في فعلها.

فإن أراد من التعبّد بالخبر إيجاب العمل به على الوجه الأوّل ، فكلامه في منع جواز التعبّد ودعوى استحالته حقّ لا سترة عليه.

وما ذكره في دليله من لزوم تحليل الحرام وتحريم الحلال متين لا شبهة فيه ، بل عليه بناء العقلاء في سلوك العبد طريقين يعلم بكون أحدهما موصلا إلى المطلوب ، ويظنّه في الآخر بحيث يحتمل فيه عدم الإيصال فاختاره دون الأوّل فاتّفق عدم إيصاله إليه ، فالعقلاء حينئذ يقبّحونه ويذمّونه على ترك سلوك الأوّل واختيار سلوك الثاني ، ولكن كلام من يجوّزه ليس على هذا الوجه كما ستعرفه.

وإن أراد منه إيجاب العمل به على الوجه الثاني فكلامه في منع جوازه غير موجّه ، إذ لا قبح في التعبّد به على هذا الوجه ولا يستتبع ما يوجب الاستحالة العقليّة من تحليل حرام أو تحريم حلال ، لأنّ تأثير المفسدة الواقعيّة في حدوث الحرمة بمقتضى الفرض كان مشروطا بعدم قيام الأمارة الظنّيّة بوجوب الفعل ، فإذا قامت - كما هو المفروض - انتفى بسبب قيامها شرط تأثير المفسدة الواقعيّة ، لأنّها بالقياس إلى الحكم الناشي منها من باب المقتضي لا العلّة التامّة ، ولذا ذكر العلاّمة في النهاية - تبعا للشيخ في العدّة (1) في ردّ ابن

ص: 81


1- العدّة 1 : 103.

قبه - « أنّ الفعل الشرعي إنّما يجب لكونه مصلحة ، ولا يمتنع أن يكون مصلحة إذا فعلناه ونحن على صفة مخصوصة ، وكوننا ظانّين بصدق الراوي صفة من صفاتنا ، فدخلت في جملة أحوالنا الّتي يجوز كون الفعل عندها مصلحة (1) » إنتهى.

لا يقال : إنّ على ما ذكرته وإن كان لا يلزم تحليل الحرام وتحريم الحلال المؤدّيان إلى الجمع بين الضدّين ونقض الغرض ، ولكنّه يلزم التصويب المجمع على بطلانه ، فإنّ قضيّة الفرض أن يكون حكم اللّه الواقعي تابعا في حدوثه لرأي المجتهد وظنّه الاجتهادي الناشي من الخبر الظنّي.

وقد اعترف العلاّمة في النهاية (2) - في مسألة التخطئة والتصويب - بكونه من التصويب الباطل.

وعدّه منه أيضا صاحب المعالم حيث أجاب - في تعريف [ الفقه ] عن كلام من قال : بأنّ الظنّ في طريق الحكم لا في نفسه ، وظنّيّة الطريق لا ينافي قطعيّة الحكم - : « بأنّه يستلزم التصويب (3) » فإنّ قطعيّة الحكم مع ظنّيّة الدليل لا معنى له على ما فهمه قدس سره إلاّ باعتبار القطع بحدوث مصلحة من قيام الأمارة الظنّيّة بالواقعة مؤثّرة في حدوث الحكم لها على خلاف مقتضى المصلحة أو المفسدة الواقعيّتين.

لأنّا نقول : إنّ الوجه المذكور من التعبّد بالخبر بل مطلق الأمارة الظنّيّة ممّا يجوّزه العقل ولا يستحيله ، وكونه من التصويب المجمع على بطلانه إن سلّمناه لا يستلزم الاستحالة العقليّة ، لأنّ الإجماع على بطلان التصويب إنّما يدلّ على عدم وقوع نحو التعبّد المذكور لا على عدم إمكانه ، وكلامنا في هذا المقام إنّما هو في الإمكان وعدمه لا في الوقوع وعدمه ، ولمّا انجرّ الكلام إلى هذا المقام فلا بأس بالتعرّض للوجوه المتصوّرة في جعل الأمارات الظنّيّة ، وبيان ما هو الصحيح منها وتميّزه عن غيره.

فنقول : إنّ جعل الأمارة قد يكون جعلا طريقيّا ، وهو أن تكون التعبّد بها لمجرّد كشفها عن الواقع ، بحيث لم يلاحظ في سلوكها وفي الفعل القائم به تلك الأمارة مصلحة ولا صفة محسّنة أو مقبّحة سوى مصلحة الواقع القائمة بالفعل في نفسه مع قطع النظر من الأمارة.

وقد يكون جعلا موضوعيّا ، وهو أن يكون التعبّد بها لأجل أنّ في نفسها مصلحة

ص: 82


1- نهاية الوصول ( مخطوط ) : 290.
2- نهاية الوصول ( مخطوط ) : 439.
3- معالم الاصول : 27.

مؤثّرة في حدوث الحكم الشرعي الّذي يكون حكما واقعيّا للفعل القائم به هذه الأمارة.

وقد لا يكون جعلها على وجه الطريقيّة الصرفة ، ولا على وجه الموضوعيّة المحضة ، بل يكون برزخا وواسطة بين الجعل الطريقي والجعل الموضوعي ، واللازم من كونه واسطة أن يكون له نحو شباهة بالجعل الطريقي ونحو شباهة بالجعل الموضوعي ، وهذه أقسام ثلاث :

أمّا القسم الأوّل : فيتصوّر على وجوه :

الأوّل : أن يكون الأمارة المجعولة طريقا إلى الواقع بحيث علم الشارع بدوام مصادفتها الواقع ، وإن لم يعلمه المكلّف ، سواء فرض في مقابلها وجود طرق علميّة أو لا.

الثاني : كونها بحيث يعلم الشارع بغلبة مصادفتها الواقع وإن لم يعلمه المكلّف ، سواء فرض في مقابلها طرق علميّة أيضا أو لا.

الثالث : كونها بحيث يعلم الشارع بأنّها أغلب مصادفة للواقع من الطرق العلميّة الموجودة في مقابلها ، باعتبار كثرة وجود ما يكون منها جهلا مركّبا لأجل مخالفته الواقع.

الرابع : كونها بحيث يعلم الشارع بكثرة مصادفتها الواقع مع كون الطرق العلميّة المقابلة لها غالب المطابقة للواقع ، لندرة وجود ما يكون منها جهلا مركّبا.

وأمّا القسم الثاني : فهو على وجهين :

الأوّل : أن يكون مصلحة الأمارة القائمة بالفعل المؤثّرة في حدوث الحكم الواقعي على طبقها مناطا للحكم الواقعي وجودا وعدما ، ومرجعه إلى أنّه ليس في الفعل مع قطع النظر عن الحادث فيه - بسبب قيامها به باعتبار خلوّها عن الصفة المحسّنة والصفة المقبّحة - حكم مشترك بين العالم بالأمارة والجاهل به ، وهذا أشنع فروض التصويب المجمع على بطلانه.

الثاني : أن يكون مصلحة الأمارة القائمة بالفعل راجحة على الصفة الكامنة في الفعل مزاحمة لها في التأثير ، مؤثّرة في حدوث حكم فعلي على طبقها ، مانعة عن فعليّة الحكم الّذي كان يقتضيه صفة الفعل لولا قيام هذه الأمارة به ، وكان ذلك الحكم حكما مشتركا بين العالم بقيام الأمارة به والجاهل به ، غير أنّه إن أخذ مقيسا إلى العالم كان حكما شأنيّا ، وإن أخذ مقيسا إلى الجاهل كان حكما فعليّا ، ومرجعه إلى كون تأثير صفة الفعل في حدوث الحكم الفعلي مشروطا بعدم قيام الأمارة الظنّية على خلافها ، وهذا أيضا يستلزم التصويب وإن كان دون الأوّل.

ص: 83

وأمّا القسم الثالث : فهو أن لا يكون في نفس الأمارة مصلحة ، ولم يحدث بسبب قيامها حكم للفعل - في مقابلة حكمه الواقعي الناشئ عن الصفة الكامنة فيه - من مصلحة أو مفسدة ، وكان المقصود من التعبّد بالأمارة سلوكها والأخذ بمؤدّاها على أنّه الواقع - على معنى ترتيب الآثار الشرعيّة عليه على أنّه الحكم الواقعي - مع اشتمال سلوكها على مصلحة يتدارك بها ما فات من المكلّف من مصلحة الواقع في الفعل أو الترك على تقدير مخالفة الأمارة للواقع.

وحاصل الفرق بين الوجه الأوّل من الجعل الموضوعي والوجه الثاني منه ، والوجه المتوسّط بينه وبين الجعل الطريقي ونفس الجعل الطريقي ، أنّه على الوجه الأوّل : ليس في الفعل نفسه - مع قطع النظر عن الأمارة القائمة بوجوبه - مصلحة ولا مفسدة ، فيكون في نفسه خاليا عن كلّ فعل ، وكان في الأمارة مصلحة مؤثّرة في حدوث مؤدّاها حكما فعليّا واقعيّا ، ولازمه أن لا يكون للجاهل بقيامها حكم فيه أصلا لا فعليّا ولا شأنيّا.

وعلى الوجه الثاني : في الفعل نفسه صفة من المصلحة والمفسدة ، ولكن تأثيرها في حدوث مقتضاها - من وجوب أو تحريم أو غيرهما - مراعى بعدم قيام أمارة الوجوب به ، فإذا قامت كان فيها مصلحة موجبة لحدوث مؤدّاها ، وهو الوجوب مثلا حكما فعليّا واقعيّا لكون تلك المصلحة راجحة على صفة الفعل مانعة عن فعليّة الحكم الّذي كان يقتضيه صفة الفعل لولا قيام الأمارة بخلافها.

ولذا قد يقال : بأنّ هذا الوجه أيضا كالأوّل في عدم ثبوت الحكم الواقعي للظانّ بخلافه من جهة الأمارة ، لأنّ الصفة المزاحمة بصفة اخرى لا تصير منشأ للحكم ، فلا يقال للكذب النافع أنّه قبيح في الواقع.

والفرق بينه وبين الوجه الأوّل - بعد اشتراكهما في عدم ثبوت الحكم الواقعي للظانّ بخلافه - أنّ [ حكم ] العامل بالأمارة المطابقة حكم العالم بالحكم الواقعي ولم يحدث في حقّه بسبب ظنّه حكم.

نعم كان ظنّه مانعا عن المانع وهو الظنّ بالخلاف.

وعلى الوجه الثالث : في الفعل نفسه مصلحة أو مفسدة لم يكن تأثيرها مراعى بعدم قيام الأمارة على خلافها ، ولم يكن في الأمارة بوجوبه مصلحة ، وكان الغرض من التعبّد بها الوصول إلى مصلحة الواقع ، فأمرنا الشارع بسلوكها والأخذ بمؤدّاها على أنّه الواقع ، مع اشتمال ذلك السلوك على مصلحة يتدارك بها ما فات من مصلحة الواقع على تقدير عدم موافقة الأمارة.

ص: 84

وعلى الوجه الرابع : في الفعل نفسه مصلحة أو مفسدة ينشأ منهما الحكم الواقعي ، ولم يكن تأثيرهما أيضا مراعى بعدم قيام الأمارة بخلافهما ، وقد أمرنا الشارع بسلوكها لمجرّد الوصول إلى الواقع من غير اشتماله على مصلحة متدارك بها.

أمّا الوجه الأوّل : فلا إشكال في بطلانه عند أهل القول بالتخطئة لكونه تصويبا ، وقد تواترت الأخبار بوجود حكم مشترك بين العالم والجاهل.

وكذلك الوجه الثاني : فإنّه أيضا نوع من التصويب لكون مصلحة الأمارة المزاحمة لصفة الفعل مغيّرة للحكم الواقعي مخصّصة له بالعالم به ، فيدلّ على بطلانه كلّما دلّ على بطلان التصويب ، ومنه الأخبار (1) الدالّة على كون الأحكام الواقعيّة مشتركة بين العالم والجاهل.

وأمّا الوجه الثالث : فهو الصواب عند المخطّئة القائلين بأنّ المصيب له أجران والمخطئ له أجر واحد ، وهذا الأجر كالأجر الثاني في الأوّل ما يترتّب على سلوك الأمارة المشتمل على مصلحة متدارك بها المصلحة الفائتة ، كما يظهر الالتزام به من الشهيد الثاني في روض الجنان (2) كما تعرفه فيما بعد.

وأمّا الوجه الرابع : فلا إشكال في جوازه في الأوّل والثالث من وجوهه المتقدّمة ، ولو مع التمكّن من الطرق المفيدة للقطع ، لمصلحة دوام إدراك الواقع أو أغلبيّته ، ولا يلزم قبح على الشارع ، ولا تفويت مصلحة الواقع على المكلّف بلا تدارك حتّى في الوجه الثالث ، لأنّ ما يلزم من فوات المصلحة على هذا التقدير يستند إلى الامور الخارجيّة لا إلى الشارع ، ولذا كان فواتها في الطرق المفيدة للقطع أكثر ، والجواز في هذا الوجه تعييني نظرا إلى أغلبيّة المصادفة.

وفي الوجه الأوّل يمكن كونه على وجه التخيير ، وكونه على وجه التعيين ، ويختلف بأن لا يكون في الطرق المفيدة للقطع ما يكون جهلا مركّبا ، فيتخيّر حينئذ بين سلوك الأمارات والرجوع إلى الطرق العلميّة ، وأن يكون فيها ما يكون جهلا مركّبا فيتعيّن سلوك الأمارات.

وأمّا هو في وجهه الثاني والرابع فمع تعذّر العلم وفقد الطرق المفيدة للقطع لا إشكال في جواز كلّ منهما ، وما يلزمهما من فوات مصلحة الواقع أو الوقوع في مفسدته - ولو نادرا - لا يستند إلى الشارع ، بل إلى الامور الخارجيّة الموجبة لفقد الطرق العلميّة ، ومع عدم تعذّره

ص: 85


1- الكافي 1 : 40 و 58 / 19 و 59 / 2 و 199 / 1.
2- والصواب : « في المقاصد العليّة » كما يأتي عن صاحب الحدائق 1 : 136 لاحظ المقاصد العليّة.

يراعى في جوازه عدم الجهل المركّب بالمرّة أو كونه أقلّ في الطرق ، فإن كان أكثر فلا إشكال في عدم الجواز لقبح تفويت مصلحة الواقع بلا تدارك ولو نادرا.

وكلام ابن قبة في منع التعبّد عقلا إنّما يتمّ في هذين الوجهين على التقدير المذكور لا مطلقا ، هذا كلّه في الكبرى.

وأمّا تشخيص الصغرى وهو أنّ الأمارات الغير العلميّة على تقدير مجعوليّتها على وجه الطريقيّة من أيّ الأقسام الأربع؟ فممّا لا سبيل إليه ولم يحم حوله أحد ، والّذي يمكن الإذعان به هو جواز جعل الأمارات على وجه الطريقيّة مع انسداد باب العلم ، وإن لم يشتمل سلوكها على مصلحة متدارك بها ، سواء كانت بحسب الواقع دائم المصادفة للواقع ، أو غالبها ، أو أغلبيّتها ، أو كثرتها ، ومع انفتاح باب العلم اعتبر اشتمال سلوكها على مصلحة يتدارك بها ما فات على المكلّف من مصلحة الواقع ، أو ما يقع فيه المفسدة.

ويظهر من العلماء على القول بالتخطئة التزامه ، ومن ذلك ما نقل حكايته عن ثاني الشهيدين في روض الجنان (1) عن صاحب الحدائق (2) في مسألة عدم كون الطهارة والنجاسة من الشرائط الواقعيّة النفس الأمريّة ، بل العلم داخل فيها ، من أنّه استعجب عن القول بكونهما واقعيّتين فقال : « لو كان كذلك للزم أن لا نستحقّ في أكثر أعمالنا وعباداتنا إلاّ أجر ذاكر مطيع ، لعدم اشتمالها غالبا على الطهارة الواقعيّة » (3).

وغرضه بذلك أنّا نصلّي غالبا مع انتفاء الطهارة الواقعيّة ، فيلزم أن لا نعطى أجر الصلاة وثوابها ، بل غاية ما نستحقّه إنّما هو أجر من كان ذاكرا لله سبحانه مطيعا إيّاه منقادا له.

ولا ريب أنّ المصلحة الّتي تلتزم بها في ترتيب الآثار على الأخذ بمؤدّى الأمارة من هذا القبيل ، فإنّ مرجعها إلى المنافع المترتّبة على العمل بالأمارة من حيث كونه ذكرا لله تعالى وإطاعة وانقيادا له ، لا المنافع المترتّبة على الفعل من حيث كونه المأمور به الواقعي.

فحاصل الاعتبار المذكور [ با ] لجعل على الوجه الأخير - الّذي هو أصحّ الوجوه - أنّ المراد من التعبّد بالأمارة الغير العلميّة بجعل من الشارع ، أنّه أمرنا وأوجب علينا العمل بالأمارة - على معنى الأخذ بمؤدّاها وترتيب الآثار والأحكام بأجمعها عليه - على أنّه

ص: 86


1- والصواب « شرح الالفيّة » بدل « روض الجنان » كما في الحدائق : 1 : 136.
2- الحدائق : 1 : 136.
3- المقاصد العليّة في شرح الرسالة الألفيّة : 292.

الواقع لا بمعنى أنّه بعينه الحكم الواقعي ، فإنّه لا يتمّ إلاّ على الجعل الموضوعي المستلزم للتصويب وقد عرفت بطلانه ، ولا بمعنى أنّ الآثار آثار لمؤدّى الأمارة من حيث إنّه مؤدّاها ، بل بمعنى أنّ مؤدّاها حكم ظاهري يجب ترتيب آثار الواقع عليه ما لم ينكشف مخالفته له ، ولا ريب أنّ الآثار الّتي يجب ترتيبها عليه على أنّه الواقع على أنحاء :

منها : ما يترتّب عليه قبل أداء الفعل ، كجواز الدخول فيه بنيّة التقرّب بل قصد الوجوب أيضا ، وفضيلة أوّل الوقت ، وفضيلة المسارعة والتعجيل إليه.

ومنها : ما يترتّب عليه في أثناء الفعل ، كحرمة الإبطال ، ووجوب الإتيان بالمشكوك فيه في صور الشكّ قبل تجاوز المحلّ ، ووجوب البناء في الشكّ في عدد الركعات ثمّ العمل بما يقتضيه بعد الفراغ من سجود سهو وركعات احتياط ، وغير ما ذكر من أحكام سائر الخلل الواقعة في الأثناء من سهو أو شكّ أو نحوهما.

ومنها : ما يترتّب عليه بعد أدائه ، كفضيلة النافلة المبتدئة على القول بحرمة التطوّع ممّن عليه فريضة ، وفضيلة التعقيبات الخاصّة المأتيّ بها بقصد الخصوصيّة ، وسقوط الإعادة والقضاء ونحو ذلك.

ثمّ إن كانت الأمارة مصادفة للواقع ، كما لو دلّت على وجوب الظهر يوم الجمعة وكان الواجب في الواقع أيضا هو الظهر ، كان ترتيب الآثار على مؤدّاها واقعا في محلّه ، وإلاّ كما لو دلّت على وجوب الجمعة مع كون الواجب الواقعي هو الظهر كان ترتيبها عليه واقعا في غير محلّه ، وحينئذ فلا بدّ من التزام سلوكها والأخذ بمؤدّاها من حيث [ كونه ] إطاعة وانقيادا [ يشتمل ] على مصلحة يتدارك بها ما فات على المكلّف ، من منافع أوّل الوقت والمسارعة والتعجيل ونفس الوقت ، والنافلة بعد الأداء والتعقيبات وغيرها حتّى منفعة نفس الفعل المأمور به المفروض فواتها ، من غير فرق بين ما لو [ لم ] ينكشف الخلاف أصلا إلى آخر مدّة العمر ، وما لو انكشف الخلاف إلاّ في سقوط الإعادة والقضاء ، فإنّ الحكم بهما مقصور على ما لو لم ينكشف خلاف مؤدّى الأمارة أصلا ، ووجب حينئذ كون مصلحة سلوك الأمارة بحيث يتدارك بها منفعة نفس الفعل المأمور به المفروض فواتها على المكلّف ، وأمّا في صورة انكشاف الخلاف فلا سقوط للاعادة لو انكشف في الوقت ، ولا القضاء لو كان في خارج ، لعدم كون مصلحة الأمارة حينئذ بحيث يتدارك بها مصلحة أصل الفعل لإمكان تداركها بالإعادة أو القضاء.

ص: 87

نعم لو كان الفعل الفائت في الوقت بحيث لم يشرع له قضاء كصلاة العيدين ، وجب التزام بكون مصلحة الأمارة بحيث يتدارك بها مصلحة نفس الفعل أيضا. وكونها بحيث يتدارك بها مصلحة النافلة الفائتة بعد الفراغ حينئذ ، على القول بحرمة التطوّع ممّن عليه فريضة - إنّما هو على تقدير كون المراد من الفريضة المانعة من النافلة الفريضة الواقعيّة وإن لم يعلم المكلّف اشتغال ذمّته بها لجهله بالواقع ، بخلاف ما لو كان المراد بها الفريضة الواقعيّة المعلوم للمكلّف اشتغال ذمّته بها ، فمصلحة النافلة على تقدير الإتيان بعد أداء الفعل على خلاف الواقع المستلزم لبقاء المأمور به الواقعي في الذمّة غير فائتة ، لانتفاء المانع بسبب انتفاء جزء موضوعه.

ثمّ إنّ ما ذكرناه من الاعتبار على الوجه الأخير - وهو كون جعل الأمارات متوسّطا بين الجعل الطريقي والجعل الموضوعي - لا يتفاوت فيه الحال بين الأمارات المعمولة في الأحكام والأمارات المعمولة في الموضوعات.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا : أنّ المراد بالأحكام الواقعيّة هي مدلولات الخطابات الواقعيّة الغير المقيّدة بعلوم المكلّفين ، ولا بعدم قيام الأمارات على خلافها ، ولها آثار عقليّة وشرعيّة تترتّب عليها عند العلم بها ، أو قيام أمارة حكم الشارع بوجوب البناء على كون مؤدّاها هو الواقع.

وإنّ ما صار إليه ابن قبة وأتباعه من عدم جواز التعبّد بخبر الواحد ، أو مطلق الأمارة الغير العلميّة عقلا على إطلاقه ممنوع ، بل إنّما يصحّ ذلك على بعض الوجوه المتصوّرة في الجعل حسبما فصّلنا.

وقد يعزى إلى بعضهم (1) - ولعلّه من العامّة - القول بوجوب التعبّد بخبر الواحد ، أو بمطلق الأمارة على اللّه سبحانه ، على معنى قبح تركه ، فإنّ الوجوب التكليفي غير معقول في حقّه تعالى ، وهذا مع قول ابن قبة - بقبح فعله - في طرفي الإفراط والتفريط.

وكيف كان فهو في غاية الضعف والسقوط ولمنع القبح في ترك جعل الخبر أو الأمارة طريقا عليه تعالى ، سواء أراد به قبحه حال انفتاح باب العلم ، أو قبحه حال انسداد بابه.

أمّا الأوّل : فلعدم وجوب جعل الطريق الغير العلمي عليه تعالى عقلا ، مع وجود الطرق العلميّة ، بل ربّما يكون قبيحا كما هو كذلك على بعض الوجوه المتقدّمة.

ص: 88


1- حكي هذا المذهب عن ابن سريج وغيره ، انظر العدّة 1 : 98 والمعتمد للبصري 2 : 106 والإحكام للآمدي 2 : 65.

وأمّا الثاني : فلأنّ جعل الطريق حال انسداد باب العلم بالخصوص بإقامة الدليل عليه كذلك ، إنّما يجب على اللّه تعالى ويقبح عليه تركه إذا لم يكن هناك طريق عقلي ، والمفروض وجوده وهو الظنّ ، لما ستعرفه من حجّيّته بحكم العقل من جهة دليل الانسداد ، ومعه لا يجب عليه تعالى جعل بالخصوص بإقامة دليل خاصّ على حجّيّة الخبر أو الأمارة ، إلاّ أن يراد به إمضائه تعالى حكم العقل ، ومرجعه إلى عدم المنع من العمل بالظنّ الّذي [ هو ] حكم العقل ، فقد تقرّر أنّه لا قبح في التعبّد ولا في تركه بل كلّ منهما جائز عقلا.

المقام الثاني : في وقوع التعبّد بالظنّ شرعا

المقام الثاني

في وقوع التعبّد بالظنّ شرعا في الجملة ، أو مطلقا وعدمه ، ومعنى وقوع التعبّد به أنّه يجب علينا من قبله تعالى التديّن بالمظنون ، أو مؤدّى الأمارة ، أو الأخذ به وترتيب الآثار عليه على أنّه الواقع ، سواء كان وجوب شيء أو تحريمه ، أو ندبه أو كراهته أو اباحته ، أو نجاسته أو طهارته ، أو غيرها من الوضعيّات.

وقبل الخوض في أصل المطلب ينبغي تمهيد مقدّمة تحتوي على تأسيس أصل يعوّل عليه ، ويرجع إليه عند عدم الدليل على وقوع التعبّد مطلقا أو في الموارد المشتبهة.

في تأسيس الأصل عند الشكّ في التعبّد بالأمارة

والمراد بالأصل هنا القاعدة المستفادة من الأدلّة ، فهل الأصل بهذا المعنى جواز العمل بالظنّ الّذي لم يدلّ دليل على وقوع التعبّد به ، أو تحريم العمل به؟

فنقول : إنّ العمل به حرام فهو الأصل بالأدلّة الأربعة ، أعني الكتاب والسنّة والإجماع والعقل.

ومن الكتاب آيات كثيرة حتّى عن بعض الأخباريّين أنّه وجد من الكتاب مائة آية تدلّ على حرمة العمل بالظنّ.

ومن السنّة أيضا روايات كثيرة ، بل قيل ما يقرب من خمسمائة رواية ، ونحن نكتفي من كلّ منهما على ما هو العمدة منه.

أمّا من الكتاب فآيات :

منها : قوله عزّ من قائل في سورة يونس ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ

ص: 89

الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ ... ) (1) تمسّك به الشهيد الثاني في بعض تحقيقاته على ما حكي ، وبعده المحقّق البهبهاني (2) في بعض رسائله ، وبعدهما شيخنا قدس سره (3).

ووجه الاستدلال : أنّه دلّ على أنّ ما ليس بإذن من اللّه من إسناد الحكم إليه فهو افتراء عليه ، وذلك لأنّه ذمّهم فيما حرّموه على أنفسهم من بعض الرزق ، وحصر الأمر فيه في كونه من جهة إذنه تعالى فيه ، أو من جهة الافتراء عليه ، فدلّت الآية على أنّ الواقعة فيما يرجع إليه ويسند إليه من الأحكام لا تخلو عن أحد الأمرين فإذا انتفى الإذن. - أمّا في مورد الآية فبحكم الاستفهام الإنكاري الّذي هو هنا للمبالغة في الإنكار والتنبيه على شدّة الذمّ والتشنيع.

وأمّا في محلّ الاستدلال ، فبحكم الفرض من عدم الدليل على وقوع التعبّد بالظنّ - تعيّن الافتراء ، وهو قبيح عقلا ومحرّم شرعا.

ولا يرد عليه : كونه في اصول الدين ، لاختصاص موردها بتحريم بعض الرزق الّذي هو من الفروع ، ولا أنّ العامل بالظنّ إنّما يعمل به بعد إقامة الدليل على جوازه فهو في عمله به يدّعي الإذن فيه من اللّه هذا.

ولكنّ الإنصاف عدم دلالة الآية على حكم العمل بالظنّ لوضوح عدم صدق الافتراء عليه.

فإنّ الافتراء على اللّه عبارة عن إسناد شيء إليه على خلاف الواقع مع العلم بأنّه خلاف الواقع ، ويرشد إليه ظاهر صدر الآية وذيلها أيضا ، والعمل بالظنّ إسناد للحكم المظنون إليه تعالى بظنّ المطابقة ، وبينه وبين الافتراء بالمعنى المذكور بون بعيد.

ومنها : الآيات الواردة في ذمّ متّبعي الظنّ ، مثل قوله سبحانه في سورة يونس ( قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ... ) (4).

وقوله أيضا في سورة النجم ( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ

ص: 90


1- سورة يونس : آية 59 - 60.
2- الرسائل الاصوليّة : 11.
3- فرائد الاصول 1 : 125.
4- سورة يونس : آية 34 ، 35 ، 36.

الْأُنْثى ... إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) (1).

ووجه الدلالة له طريقان :

أحدهما : سياق الآيتين لكونه في مقام ذمّ المشركين على اتّباعهم الظنّ ، فيكون اتّباع الظنّ مذموما والمذموم محرّم.

ثانيهما : قوله : ( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) فإنّ قضيّة عدم إغناء الظنّ عن الحقّ كونه باطلا ، يقال : « التيمّم لا يغني عن الوضوء » معناه : أنّ التيمّم في محلّ الوضوء باطل والباطل يحرم اتّباعه.

والإيراد على الاستدلال بهما باختصاصهما باصول الدين - لكون الخطاب فيهما مع المشركين في اتّخاذهم شركاء لله اتّباعا للظنّ في ذلك ، وغيرهم في جعلهم الملائكة بنات اللّه اتّباعا للظنّ في ذلك ، ولا كلام في حرمة العمل بالظنّ في اصول الدين - ضعيف ، بمنع الاختصاص.

أمّا أوّلا : فلما حقّق من أنّ العبرة بعموم اللفظ لا خصوص المورد ، وأنّ المورد الخاصّ لا يخصّص العامّ ، فإنّ قوله ( وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا ) و ( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ ) بملاحظة الذمّ المستفاد من السياق يتضمّن في متفاهم [ العرف ] قياسا بطريق الشكل الأوّل المشتمل على كبرى كلّيّة ، وهو أنّ اتّخاذهم شركاء لله وتسميتهم الملائكة انثى اتّباع للظنّ ، وكلّ اتّباع للظنّ مذموم محرّم.

وأمّا ثانيا : فلمكان قوله : ( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) فإنّ تعليل الذمّ على اتّباع الظنّ في اصول الدين بأنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئا تنصيص بالعلّة ، والعلّة المنصوصة تفيد العموم ، لظهورها في إعطاء قاعدة كلّيّة وضابطة مطّردة ، وهي أنّه لا شيء من الظنّ بمغن من الحقّ شيئا.

وهذه القاعدة الكلّيّة منطبقة على جميع مواردها وجزئيّات موضوعها ، ومن مواردها اتّخاذهم شركاء لله عن ظنّ.

ومنها : تسمية الملائكة انثى عن ظنّ.

ومنها : إسناد الحكم إلى اللّه تعالى عن ظنّ.

ص: 91


1- سورة النجم : آية 27 ، 28.

وأضعف من الإيراد المذكور ، ما أورد على الآية الاولى من أنّ « ظنّا » نكرة ، وهو ظنّ في اصول الدين جزما ، فيحمل عليه الظنّ في قوله ( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي ) لضابطة أنّ سبق مدخول « اللام » ينهض قرينة على إرادة العهد من « اللام » ، كما في قوله : ( كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ ... ) (1).

فإنّ سبق الذكر لا يقاوم ظهور التعليل ، مع أنّه في نفسه لا ينهض قرينة على إرادة العهد ، بل يحتاج إلى قرينة اخرى حاكمة على أصالة الحقيقة ، حتّى أنّ الحمل على العهد في الآية المستشهد بها ليس لمجرّد السبق بل لشخصيّة القضيّة ، فإنّ المراد من فرعون إنّما هو الشخص الخارجي المعهود الّذي دعاه موسى عليه السلام إلى الحقّ فعصاه ، فلا يحتمل « الرسول » إلاّ إرادة موسى ، وهذا هو الموجب للحمل على العهد ، لا سبق الذكر كما توهّمه النحاة.

ولكن مع هذا كلّه نهوض الآيتين دليلا على أصالة حرمة العمل بالظنّ بالمعنى المبحوث عنه مشكل ، إذ الحقّ الّذي لا يغني عنه الظنّ إمّا أن يراد به ما هو في طول الظنّ أعني الواقع ، فيراد بعدم إغناء الظنّ عنه عدم كفايته في إحراز الواقع وترتيب آثاره على المظنون ، ومرجعه إلى نفي طريقيّة الظنّ إلى الواقع ، إمّا لكثرة ما يتّفق فيه من عدم المطابقة ، أو لما يتضمّنه من تجويز خلاف الواقع ، فإنّ ما أخذ في مفهومه خلاف الواقع كيف يحرز به الواقع من دون جعل شرعي؟

أو يراد به ما هو في عرض الظنّ أعني العلم ، فيكون معنى عدم إغناء الظنّ عنه عدم كفايته في سقوط التكليف ، ومرجعه إلى نفي بدليّته عن العلم وقيامه مقامه.

والاستدلال إنّما يتمّ على الأوّل ، وبه يثبت عموم المنع من العمل بالظنّ سواء كان في الاصول أو في الفروع في صورة انفتاح باب العلم أو صورة انسداد بابه ، ولكن لا دلالة في الآيتين على تعيّنه لا صراحة ولا ظهورا ، بل اختصاص المورد باصول الدين ربّما يوجب ظهور إرادة الثاني كما فهمه بعض المفسّرين.

وعليه فغاية ما يفيده الآيتان إنّما هو عدم إغناء الظنّ عن العلم في محلّ وقوع التكليف بالعلم ، فيختصّ باصول الدين فلا يعمّ الفروع ، لأنّ وقوع التكليف بالعلم إنّما يثبت في اصول الدين ، أو بصورة انفتاح باب العلم ، فلا يعمّ صورة الانسداد ، لأنّ وقوع التكليف بالعلم في الفروع إنّما يصحّ على تقدير الانفتاح لا مطلقا ، فأصالة حرمة العمل بالظنّ

ص: 92


1- سورة المزّمّل : 15 و 16.

بالمعنى المبحوث عنه الشاملة للفروع مع الانفتاح والانسداد غير ثابتة بهما.

ومنها : الآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم الّتي أظهرها عموما وأصرحها دلالة ، قوله عزّ من قائل - في سورة بني اسرائيل - : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً ) (1) نهى اللّه سبحانه عن اتّباع غير المعلوم ، فيشمل العمل بالظنّ لأنّ المظنون غير معلوم.

وقال الطبرسي (2) في تفسيره : « وقد استدلّ جماعة من أصحابنا بهذا على أنّ العمل بالقياس وخبر الواحد غير جائز لأنّهما لا يوجبان العلم ، وقد نهى اللّه سبحانه عن اتّباع ما هو غير معلوم » ولا يرد عليه الاختصاص باصول الدين ، لظهور اللفظ وشهادة السوابق واللواحق.

وأمّا وجه التعليل ونكتة تخصيص السمع والبصر والفؤاد بالذكر فلم نقف على تعرّض لهما في كلامهم ، ولعلّه من جهة أنّ اتّباع ما هو غير معلوم عبارة عن الأخذ بغير المعلوم والالتزام به على أنّه حكم اللّه ، وهذا أمر قلبي يصدر من الفؤاد فيسئل عنه صاحبه ، أو أنّه عبارة عن ترتيب آثار المعلوم بغير المعلوم ، فيصدر من الجوارح والأعضاء وهذه الثلاث أشرفها وسيّدها.

والإيراد عليه - تارة : بأنّ الآية خطاب إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم فلا يعمّ حكمها لسائر الامّة.

واخرى : بأنّها من الخطابات الشفاهيّة ، ويحتمل اقترانها حين النزول بقرينة أفادت إرادة الخصوص لا العموم.

وثالثة : بأنّ الاستدلال إنّما يتمّ لو كانت كلمة « ما » نكرة موصوفة ، ليكون النفي الوارد عليها مفيدا للعموم ، وهو ليس بمتعيّن لاحتمال كونها موصولة وهي من ألفاظ العموم ، والنفي الوارد عليها حينئذ سلب العموم ونفي الكلّ الّذي يقال له رفع الإيجاب الكلّي ، - على ما نصّ عليه أهل العربيّة ، فارقين بين قولنا : « لم يقم كلّ إنسان » وبين قولنا : « كلّ انسان لم يقم » - فيكون معنى الآية : لا تتّبع كلّما ليس لك به علم ، وهذا لا ينافي جواز اتّباع بعض ما ليس به علم.

ورابعة : بأنّ الآية لو حملت على ظاهرها تخالف الإجماع ، للزوم حرمة العمل بالقطع أيضا

ص: 93


1- سورة الإسراء : آية 36.
2- مجمع البيان 6 : 415.

لأنّه من جملة ما وراء العلم ، فإنّه اعتقاد جازم لا يعتبر فيه مطابقة الواقع بخلاف العلم فيتغايران بحسب المفهوم ، فإذا حرم اتّباع غير المعلوم بعمومه لزم منه حرمة اتّباع المقطوع به (1) ، وهذا خلاف الإجماع المنعقد على حجّيّة القطع بل حكم العقل المستقلّ بحجّيته ، فلا بدّ من تصرّف وتأويل في الآية دفعا لهذه الحزازة ، وهو يتأتّى بحمل « العلم » على إرادة الاعتقاد الراجح ، فيعمّ القطع والظنّ أيضا ، فيحرم اتّباع ما وراء ذلك وهو الشكّ والوهم - واضح الدفع.

في الأوّل : بأنّ ظاهر الآية كون خطابها من باب « إيّاك أعني ويا جار [ ة ] اسمعي » ، فالحكم المستفاد منها للامّة لا للنبيّ ، ومع الغضّ عن ذلك فمجرّد اختصاص الخطاب به لا يوجب اختصاص الحكم به ، بل كونه من الخصائص يحتاج إلى دليل خاصّ ، بخلاف عمومه لسائر الامّة فإنّه يكفي فيه أصالة الاشتراك في التكليف - المقرّرة في محلّه - حتّى بينه وبين سائر الامّة.

وفي الثاني : بالأصل.

وفي الثالث : بعدم الفرق عندنا في إفادة عموم النفي بين صورتي ورود النفي على العامّ أو ورود العامّ على النفي - كما ذكرنا في غير موضع - والأصل فيه أنّ لفظة « كلّ » وما بمعناها وضع لغة لتسرية الحكم إلى جميع أفراد موضوعه ، ومرجعه إلى أنّها بحسب الوضع آلة لإدراك عموم الحكم للأفراد سواء كان الحكم إيجابيّا أو سلبيّا ، وسواء دخل العامّ على النفي أو انعكس الأمر.

وفي الرابع : بعدم إمكان توجّه النهي في الآية إلى المقطوع به في شيء من فرديه وهما العلم والجهل المركّب ، لاستحالة النهي عن اتّباع الواقع ، واستحالة تكليف الغافل والقاطع بخلاف الواقع [ الذي ] لا يلتفت إلى كون قطعه جهلا مركّبا ، فالآية عامّ في غير المقطوع به ، ولو سلّم عمومها له فالتأويل بالتخصيص بإخراج القطع أولى وأرجح من التأويل بالتجوّز بإرادة الاعتقاد الراجح من العلم ، ولو سلّم التجوّز فيكفي فيه تعرية العلم عن اعتقاد المطابقة ، ولا حاجة إلى تعريته عن اعتبار الجزم ، فيدخل الظنّ حينئذ في المنهي عن اتّباعه.

وممّا استدلّ به أيضا على حرمة العمل بما وراء العلم قوله تعالى - في سورة البقرة - : ( كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) (2) فإنّ النهي عن اتّباع خطوات الشيطان

ص: 94


1- وفي الأصل : « غير المقطوع به » والظاهر أنّه سهو منه قدس سره والصواب ما أثبتناه في المتن.
2- سورة البقرة : آية 168 ، 169.

الآمر بأن يقال على اللّه ما لا يعلم ، يدلّ على أنّ القول على اللّه بما لا يعلم مبغوض له سبحانه فيكون محرّما ، ويندرج فيه العمل بالظنّ لأنّ المظنون غير معلوم ، فالأخذ به على أنّه حكم اللّه تعالى قول عليه بما لا يعلم.

والإيراد عليه - تارة : بأنّ القول على اللّه عبارة عن الإفتاء فتكون الآية نهيا عن الإفتاء بغير علم ، والعمل بالظنّ ليس منه.

واخرى : بأنّ القول على اللّه ظاهر فيما هو راجع إلى نفسه من إثبات صفة له تعالى أو سلب صفة عنه بغير علم ، والعمل بالظنّ ليس منه - واضح الدفع : بأنّه بعد فرض كون المظنون غير معلوم فحرمة الإفتاء به يستلزم حرمة الالتزام به أيضا بواسطة عدم القول بالفصل ، لأنّ كلّ من حرّم الإفتاء بالمظنون حرّم العمل بالظنّ أيضا ، وكلّ من جوّز الثاني جوّز الأوّل أيضا ، وأنّ القول على [ اللّه ] بما لا يعلم أعمّ ممّا يرجع إلى الاصول وما يرجع إلى الفروع ، ولذا ذكر القاضي في تفسير الآية بيانا لقوله : « ما لا تعلمون » من اتّخاذ الأنداد وتحليل المحرّمات وتحريم الطيّبات ، فقال : « ففيه دليل على حرمة العمل بالظنّ رأسا ، وأمّا اتّباع المجتهد لما أدّى إليه ظنّ مستند إلى دليل قطعي فوجوبه قطعي ، لأنّه ظنّ في طريق الحكم لا في نفسه ، كما ذكرناه في كتبنا الاصوليّة ... إلى آخره. » (1)

فالقول على اللّه بما لا يعلم يعمّ كلاّ ممّا يرجع إليه تعالى نفسه من إثبات ما لا يجوز إثباته وسلب ما لا يجوز سلبه ، وما يرجع إلى الفرعيّات لمكان قوله : « وتحليل المحرّمات ... » إلى آخره ، مع أنّ العمل بالظنّ في الفروع والفتوى بمقتضاه أيضا قول على اللّه ، لأنّ معنى قول المجتهد : « هذا حلال ، وهذا حرام » أنّ هذا ما حلّله اللّه ، وهذا ما حرّمه اللّه.

والآيات الدالّة على الذمّ على اتّباع غير العلم كثيرة ، ومن ذلك أيضا قوله تعالى - في سورة الأنعام - ( قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) (2).

وقوله أيضا بعد ذلك : ( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) (3).

وقوله أيضا - بعد ذلك بفاصلة آيات - : ( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ

ص: 95


1- أنوار التنزيل في أسرار التأويل 1 : 160.
2- سورة الأنعام : آية 143.
3- سورة الأنعام : آية 144.

عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ ) (1).

وقوله تعالى - في سورة الجاثية - : ( ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) (2).

وقوله - عقيب ذلك بفاصلة عدّة آيات - : ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللّهُ عَلى عِلْمٍ ) - إلى أن قال - ( وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ ) (3).

وملخّص مفاد هذه الآيات : إنّ اللّه تعالى لا يترك العلم بغيره ولا يجزي عنه بما عداه ، ويؤاخذ كلّ عاقل بالعلم ولا يكتفي عنهم بالظنّ.

ومن الآيات المستدلّ بها أيضا ما دلّ منها على ذمّ التقليد ومنعه مثل قوله تعالى - : في سورة الزخرف - ( وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ * وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ * أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ * وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ ) (4).

وجه الاستدلال : أنّ التقليد عمل بغير علم ، والذمّ عليه يتناول العمل بالظنّ أيضا لأنّه أيضا عمل بغير علم ، ويشكل : بأنّ الآية ذمّ على التقليد في الاصول لا الفروع لاختصاص المورد بها ، وليس فيها لفظ عامّ حتّى يكون الاعتبار به دون المورد الخاصّ ، فالتعدّي إلى العمل بالظنّ في الفروع قياس ، وقوله : ( ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ ) وإن كان يدلّ على أنّ المناط هو عدم العلم بما جعلوه وما فعلوه إلاّ أنّه لا يجدي في التعدّي ، نظرا إلى أنّ الذمّ على العمل بغير [ العلم ] في الاصول إنّما هو من جهة وقوع التكليف فيها على العلم وكونه المطلوب فيها ، فالتعدّي منها إلى الفروع يتوقّف على ثبوت كون المطلوب فيها أيضا هو العلم ، فلا بدّ أوّلا من إثبات ذلك ، ثمّ التصدّي لتأسيس أصالة تحريم العمل بالظنّ ، فتأمّل.

وأمّا من السنّة : فأخبار متكاثرة ذكر العلاّمة البهبهاني (5) كثيرا منها في رسالته المعمولة

ص: 96


1- سورة الأنعام : آية 148.
2- سورة الجاثية : آية 18.
3- سورة الجاثية : 23 و 24.
4- سورة الزخرف : آية 19 - 23.
5- الرسائل الاصوليّة : 12.

في الاجتهاد ، والأخبار وهي بجميع طوائفها بالغة فوق حدّ التواتر ، فطائفة منها روايات كثيرة مستفيضة ناهية عن القول على اللّه بما لا يعلم ، مثل قوله عليه السلام : « حقّ اللّه على الخلق أن يقولوا ما يعلمون ويكفّوا عمّا لا يعلمون ، فإذا فعلوا ذلك فقد أدّوا إلى اللّه حقّه » (1) إلى غير ذلك ممّا بمعناه ويقف عليه المتتبّع.

وطائفة منها روايات مستفيضة ناهية عن الإفتاء بغير علم مثل قوله عليه السلام : « من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من اللّه لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، ولحقه وزر من عمل بفتياه » (2).

وقوله عليه السلام : « إيّاك وخصلتين ففيهما هلك من هلك ، إيّاك أن تفتي الناس برأيك وأن تدين بما لا يعلم » (3) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه الخبير.

وطائفة منها ما ينهى عن القضاء بغير علم ، مثل قوله عليه السلام - المرويّ بطرق كثيرة - : « القضاة أربعة ثلاثة في النار وواحد في الجنّة ، رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة » (4).

وطائفة منها الروايات الناهية عن العمل بغير علم ، وعن العمل بالظنّ بالخصوص ، مثل ما عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : « من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر ممّا يصلح » (5).

وما روى من قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم : « من شكّ أو ظنّ فأقام على أحدهما فقد حبط عمله ، إنّ حجّة اللّه هي الحجّة الواضحة » (6).

وما عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام : « ومن عمى نسي الذكر واتّبع الظنّ وبارز خالقه » (7) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

وأمّا من الإجماع : فالظاهر بل المقطوع به أنّه إجماعي بل ضروري.

ص: 97


1- الوسائل 18 : 12 / 10 ، ب 4 من أبواب صفات القاضي.
2- الوسائل 18 : 9 / 1 ، ب 4 من أبواب صفات القاضي.
3- الوسائل 18 : 10 / 3 ، ب 4 من أبواب صفات القاضي.
4- الوسائل : 18 / 11 / 6 ، ب 4 من أبواب صفات القاضي.
5- الوسائل 27 : 25 / 13 ، ب 4 من أبواب صفات القاضي.
6- بحار الانوار 49 : 134 / 1 والوسائل : 27 / 40 / 8 ، ب 6 من أبواب صفات القاضي.
7- الوسائل : 27 : 41 / 9 ب 6 من أبواب صفات القاضي.

قال المحقّق البهبهاني قدس سره في التاسعة من فوائده : وأيضا إجماع المسلمين على أنّه في نفسه ليس بحجّة ، ولذا كلّ من يقول بحجّيّة ظنّ يقول بدليل ، فإنّ تمّ وإلاّ فينكر عليه ويقال بعدم الحجّيّة ، - إلى أن قال - : وأيضا ظنّ الرجل أمر وحكم اللّه أمر آخر وكونه هو بعينه أو عوضه محتاج إلى دليل حتّى يجعل هو إيّاه أو عوضه (1).

وعنه في بعض رسائله : من « كون عدم الجواز بديهيّا عند العوامّ فضلا عن العلماء (2) » ونقل الضرورة ربّما يكون أقوى من نقل الإجماع كما نبّه عليه شيخنا الاستاذ عند تلمذّنا عنده.

وأمّا من العقل : فلتقبيح العقل المستقلّ من دان اللّه بما يجوّز فيه خلاف الواقع ، ويلتزم به على أنّه حكمه في الواقع من دون إذن منه فيه خصوصا ولا عموما ، وكذلك تقبيح العقلاء عبدا يلتزم في الامور الراجعة إلى مولاه من الأحكام والشرائع بما لا يعلم وروده منه بالخصوص ، ولا رخصة منه في الالتزام به على هذا الوجه.

وقد يقال : بأنّ منشأ هذا الحكم من العقل والعقلاء رجوع العمل بالآخرة إلى الترجيح من غير مرجّح ، لأنّه لو سئل العبد المذكور عن أنّه هل يحتمل عندك كون ما عليه مولاك على خلاف ما أخذته والتزمت به؟ لأجاب بنعم ، ثمّ لو سئل عن تساوي الاحتمالين ، فإن أجاب بنعم فيتوجّه إليه الذمّ من حيث ترجيحه أحد الطرفين المتساويين من غير مرجّح ، وإن أجاب بمرجوحيّة هذا الاحتمال ورجحان الاحتمال الآخر الّذي أخذ به بادّعاء كونه ظنّا ، سئل عن وجه العمل به مع احتمال كونه غير جائز عند مولاه ، فإن أجاب بالاحتمال المساوي توجّه إليه الذمّ المذكور ، لترجيحه أحد المتساويين من غير مرجّح ، وإن أجاب بالاحتمال الراجح نقل إليه الكلام إلى أن ينتهي إلى القطع بتجويز المولى وترخيصه في العمل به أو إلى الشكّ بمعنى تساوي الاحتمالين.

والأوّل خارج عن مفروض المقام وعن موضوع المسألة.

والثاني محقّق للمحذور المذكور من ترجيح أحد المتساويين ، وهذا هو مدرك ما اشتهر عندهم من أنّ الظنّ لا يثبت بالظنّ ، فإنّه يؤول بالآخرة إلى إثبات الظنّ بالشكّ ولا خفاء في استحالته.

فتقرّر : أنّ العمل بالظنّ في نفسه قبيح عقلا ومحرّم شرعا وهو المراد من أصالة التحريم في هذا الباب ، وقيد « في نفسه » احترازي يحترز به العمل به لدليل دلّ على إذن

ص: 98


1- الفوائد الحائريّة 1 : 136.
2- الرسائل الاصوليّة : 12.

الشارع ورخصته فيه ، فموضوع قضيّة حكم العقل بالقبح إنّما هو التديّن والالتزام بما يجوز فيه خلاف الواقع على أنّه حكم اللّه الواقعي من دون إذن منه فيه ، ولا ريب في قبحه عقلا ، بل أصل هذا العنوان ناطق بقبحه ولا حاجة معه إلى إقامة البرهان عليه.

وهل هو في القبح كالظلم على معنى كون العنوان علّة تامّة لقبحه فلا يقبل تخصيصا ، أو أنّه كالكذب على معنى كون العنوان من باب المقتضي للقبح ، فيجوز انقلاب قبحه حسنا بالوجوه والاعتبارات ، ومعناه قبول قبحه التخصيص بطروّ جهة محسّنة كجهة النفع في الكذب؟ احتمالان أظهرهما أوّلهما ، إذ لا يوجد في الجهات المحسّنة ما يوجب حسن العمل بالظنّ في نفسه بالمعنى المذكور ، ولا ينتقض ذلك بالعمل به من جهة إذن الشارع لأنّه خروج موضوعي ، لعدم كونه عملا بالظنّ في نفسه ، نظير قتل من وجب قتله شرعا المخرج من موضوع الظلم.

لا يقال : إنّ العمل بالظنّ قد يحسن بموافقة أصل من الاصول المعتبرة المعوّل عليها ، كما في الماء المتغيّر بالنجاسة عند زوال تغيّره بنفسه إذا ورد أمارة ظنّيّة بنجاسته ، فإنّه موافق لاستصحاب النجاسة ، وكما في القليل الملاقي للنجاسة إذا ورد فيه أمارة ظنّيّة بطهارته فإنّه يوافق استصحاب الطهارة ، فموافقة الأصل جهة محسّنة يحسن بها البناء على النجاسة في الأوّل وعلى الطهارة في الثاني.

لأنّ موافقة الأصل لا تصلح جهة محسّنة إلاّ حيث كان العمل بالظنّ بعينه هو العمل بالأصل ، وهو على المعنى المتقدّم للعمل بالظنّ محالّ ، فإنّ التديّن بمؤدّى الأمارة على أنّه مع تجويز خلاف الواقع فيه - الحكم الواقعي لا يجامع قطّ للتديّن بمؤدّى الأصل على أنّه حكم ظاهري مجعول للجاهل بالواقع.

لا يقال : إنّ البناء على مؤدّى الأمارة قد يحسن بموافقة الاحتياط ، كما لو دلّت على نجاسة شيء أو وجوبه أو تحريمه ، فموافقة الاحتياط جهة محسّنة ينقلب بها قبح العمل بالظنّ في نفسه حسنا.

لمنافاة التديّن والالتزام بما احتمل خلاف الواقع على أنّه الواقع ، للأخذ بالاحتياط الّذي هو عبارة عن الإتيان فعلا أو تركا بما احتمل الواقع برجاء إدراك الواقع ، فهما أيضا لا يجتمعان قطّ ، وحسن الاحتياط على كلّ حال لا يجدي نفعا في حسن العمل بالظنّ في نفسه بالمعنى المأخوذ في قضية القبح العقلي.

ص: 99

لا يقال : إنّ العمل بالظنّ في نفسه عبارة عن التديّن بالطرف الراجح وهو حسن ، لأنّه لولاه لزم ترجيح المرجوح على الراجح ، وهو التديّن بالطرف المرجوح وهو قبيح ، لمنع الملازمة فإنّ ترك التديّن بالراجح ليس معناه التديّن بالمرجوح لوجود الواسطة ، وهو التوقّف عن التديّن بأحد الطرفين ، ثمّ الرجوع إلى الأصل حسبما يجري في المورد من براءة أو اشتغال أو تخيير أو استصحاب.

ثمّ إنّ العمل بالظنّ في نفسه وهو التديّن والالتزام بالمظنون المحتمل عدم كونه من الشارع على أنّه منه كما أنّه قبيح عقلا ومحرّم شرعا لجهته الذاتيّة ، كذلك قد يحرم لجهة عرضيّة ، وهذه حيث يلزم من العمل به طرح أصل معوّل عليه الّذي مرجعه إلى طرح أدلّة ذلك الأصل ، كالاستصحاب فيما قامت الأمارة الظنّيّة بخلاف مؤدّاه كما في المثالين المتقدّمتين إذا دلّت أمارة على الطهارة في الأوّل ، والنجاسة في الثاني ، فالبناء على طهارة الأوّل ونجاسة الثاني على وجه التديّن والالتزام كما أنّه يحرم لذاته كذلك يحرم لعارض ، من جهة تضمنه طرح الاستصحاب فيهما.

وهاتان الجهتان قد تجتمعان - كما عرفت - وقد تتفارقا [ ن ] في العمل على وجه التديّن والالتزام بما لا يلزم منه طرح أصل من الاصول المعتبرة المعوّل عليها ، وفي العمل لا على وجه التديّن والالتزام بما يلزم منه طرح أصل من الاصول ، فإنّ العمل على طبق الظنّ إذا لم يكن على وجه التديّن والالتزام لا دليل على حرمته ، بل ربّما يكون حسنا إذا كان على وجه الاحتياط وهو الإتيان بما يحتمل كونه مطلوبا للشارع برجاء المطلوبيّة له ، أو الاجتناب عمّا يحتمل كونه مبغوضا للشارع برجاء المبغوضيّة له ، إلاّ أنّه إذا لزم منه طرح أصل معتبر معوّل عليه كان محرّما.

فتقرّر : أنّ العمل بالظنّ إذا وقع على وجه التديّن والالتزام حرام ، سواء استلزم طرح أصل معوّل عليه أم لم يستلزم ، ويتأكّد حرمته إذا استلزم ، وإذا وقع لا على وجه التديّن والالتزام لا يحرم إلاّ إذا استلزم طرح الأصل ، بل مع عدم استلزامه طرح الأصل قد يستحقّ الثواب عليه ، وهذا كما لو عمل به على وجه الاحتياط وهو أن يعمل على طبق الأمارة الظنّيّة برجاء كون مؤدّاها هو الواقع.

وبالجملة فالعمل بالظنّ قد يجتمع فيه جهتان للحرمة ، وذلك كما لو كان العمل على وجه التديّن والالتزام وكان مؤدّاه مخالفا للاصول.

ص: 100

وقد يكون محرّما لجهة واحدة ، كما إذا كان العمل على وجه الالتزام ولم يخالف لمقتضى أصل من الاصول ، أو خالفه ولم يكن على وجه الالتزام ، وإذا لم يخالفه ولم يكن على وجه الالتزام لم يكن محرّما ، بل قد يحسن ويستحقّ به الثواب لو كان على وجه الاحتياط ، نظرا إلى أنّه حسن على كلّ حال ، فليتدبّر.

وقد يستدلّ على أصالة تحريم العمل بالظنّ بوجوه اخر :

منها : أصالة عدم الحجّيّة وعدم وقوع التعبّد به وعدم إيجاب العمل به ، فإنّ حجّيّة الظنّ بل مطلق الأمارة الغير العلميّة إنّما تكون بجعل الشارع ، والأصل عدمه.

وعندي أنّ هذا الأصل ليس في مجراه ، لأنّ الكلام في حرمة العمل به وجوازه لذاته لا باعتبار الشكّ في الحجّيّة المجعولة ووقوع التعبّد من الشارع وعدمه ، حتّى أنّه يجري الكلام مع القطع بالعدم ، ولذا أخذنا في موضوعه قيد « في نفسه » وفسّرناه بأن لا يكون العمل بإذن الشارع ورخصته.

وقد يسلّم جريان الأصل ، ولكن يورد عليه : بعدم الاحتياج إليه في إثبات حرمة العمل ، لأنّها حكم يكفي في ترتّبه مجرّد عدم العلم بورود التعبّد من الشارع ، لأنّ موضوعها الشكّ في وقوع التعبّد وعدمه.

وبالجملة أصالة العدم إنّما يتمسّك بها لإحراز عدم شيء في ترتيب الأحكام المترتّبة على عدمه ، لا في ترتيب الأحكام المترتّبة على عدم العلم بوجوده ، وذلك كأصلي البراءة والاشتغال الذين يكفي فيهما مجرّد الشكّ في التكليف والشكّ في الفراغ ، ولا حاجة في الحكم بالبراءة في الأوّل ، وبعدم فراغ الذمّة في الثاني إلى توسيط أصالة عدم التكليف وأصالة عدم الفراغ.

وقد يخدشه - بعد الإغماض عمّا ذكرناه من عدم كون أصل العدم هنا في مجراه - : إنّه إنّما يتمّ في إثبات الحرمة التشريعيّة ، فإنّها مترتّبة على عدم العلم بورود التعبّد.

وأمّا الحرمة الذاتيّة فهي مترتّبة على عدم ورود التعبّد قطعا لا على عدم العلم بوروده ، فلا بدّ في ترتيبها وإجرائها من إحراز العدم بواسطة أصالة عدم الحجّيّة.

ومنها : قاعدة الاشتغال المقتضية لعدم جواز الاكتفاء بالأمارة ، فإنّ القطع حاصل بأنّه يجب علينا تحصيل الاعتقاد بالأحكام الشرعيّة الثابتة علينا في الشريعة ، والأمر في ذلك الاعتقاد الواجب تحصيله دائر بين الاعتقاد اليقيني أو مطلق الاعتقاد ولو ظنّا ، وظاهر أنّ

ص: 101

الشغل اليقيني يستدعي البرأة اليقيني ولا يتأتّى إلاّ مع تحصيل الاعتقاد اليقيني لأنّه مجمع على كفايته ، و [ مطلق ] الاعتقاد مختلف في الاكتفاء به وعدمه.

نعم على القول بالبراءة في نحو ذلك استنادا إلى أصل البراءة النافي للتعيين ، لما فيه من الضيق جاز الاكتفاء بمطلق الاعتقاد ولو ظنّا ، ولكنّه خلاف التحقيق لأنّ المرجع في مسألة اشتباه المكلّف به ، ودورانه بين التعيين والتخيير أصل الاشتغال المقتضي للتعيين.

وهذا أيضا ممّا لا محصّل [ له ] بل أضعف من سابقه لوجوه :

أمّا أوّلا : فلأنّ أصل الاشتغال إنّما يجري في الامور التوقيفيّة الصرفة الّتي يجوز فيها إجمال موضوع التكليف المعلوم بالإجمال ، والمقام ليس منها ، لأنّ الاعتقاد بالأحكام مقدّمة عقليّة لامتثالها والعمل بها ، والحاكم بوجوب تحصيله هو العقل كما أنّ الحاكم بمقدّميّته العقل.

ومن المعلوم أنّ العقل لا يتردّد في موضوع حكمه أهو الاعتقاد اليقيني بالخصوص ، أو ما يعمّه والاعتقاد الظنّي كما هو الحال في كلّ حاكم في موضوع قضيّة حكمه ، فالإجمال الموجب للاشتباه والتردّد في موضوع القضيّة إنّما يتأتّى لغير الحاكم ، وأمّا نفس الحاكم فلا يعقل الإجمال في نظره في موضوع حكمه الموجب للتردّد فيه ، وإلاّ لزم منه التردّد في الحكم فلا يصدر منه الحكم ما دام متردّدا ، والمفروض أنّ العقل يحكم بوجوب تحصيل الاعتقاد مقدّمة للعمل ، فإمّا يحكم بخصوص الاعتقاد القطعي كما هو كذلك أو يحكم بكفاية مطلق الاعتقاد ، فلا معنى لتوسيط أصل الاشتغال حينئذ.

وأمّا ثانيا : فلأنّ أصل الاشتغال على تقدير تسليم جريانه فيما نحن فيه لا ينتج أصالة تحريم العمل بالظنّ في نفسه ، لأنّ مفاده عدم كفاية الاعتقاد الظنّي في مقدّمة امتثال الأحكام الشرعيّة المعلومة بالإجمال ، لا حرمة العمل به لو حصل بنفس الحكم الشرعي.

وأمّا ثالثا : فلأنّ وجوب الإتيان بما يوجب اليقين بالبراءة في مجرى أصل الاشتغال حكم عقلي ، لأنّ الحاكم به العقل لا غير.

وقد عرفت أنّه مستقلّ بإدراك قبح العمل بالظنّ وحرمته ، ولا حاجة مع ذلك لإثبات هذه الحرمة إلى توسيط حكمه في مجرى أصل الاشتغال وهو مسألة دوران المكلّف به بين التعيين والتخيير ، بل التمسّك بهذا الحكم العقلي لإثبات أصالة الحرمة أشبه شيء بكونه أكلا من القفا.

ص: 102

والتحقيق : هو ما ذكرناه أوّلا من منع أصل الجريان ، وإن شئت قلت : بعدم الحاجة إليه ، لأنّ الاشتغال بالأحكام المعلومة بالإجمال إن كان ثابتا فهو بنفسه من مقتضيات عدم حصول البراءة بغير الاعتقاد القطعي من غير حاجة له إلى إعمال قاعدة اخرى ، فإنّ تحصيل الاعتقاد - على ما بيّناه - إنّما يجب مقدّمة للعمل بالأحكام المعلومة إجمالا ، ومعلوم أنّ العلم الإجمالي لو كان مصحّحا للاشتغال لكان كافيا في ثبوت عدم تأتّي البراءة إلاّ بالاعتقاد القطعي ، نظرا إلى أنّه حكم تابع لموضوعه المفروض تحقّقه في المقام ، وهو الشكّ في الحجّية وعدمها أو في حرمة العمل وعدمها ، فلا معنى مع ذلك لفرض دوران المكلّف به بين الاعتقاد القطعي أو ما يعمّه والاعتقاد الظنّي في المقدّمة.

ومنها : أنّ العمل بالظنّ مما يحتمل فيه الضرر ، وكلّما يحتمل فيه الضرر يجب اجتنابه ، فالعمل بالظنّ يجب اجتنابه.

أمّا الكبرى : فلوجوب دفع الضرر المحتمل.

وأمّا الصغرى فيمكن تقريرها تارة : بأنّ الأمر في العمل بالظنّ دائر بين الجواز والتحريم ، واحتمال التحريم احتمال للعقاب عليه وهو ضرر اخروي.

واخرى : بأنّ العمل بالظنّ لا يأمن من مخالفة الواقع ، ومخالفة الواقع محرّمة ، خصوصا إذا كانت تركا لواجب واقعي أو فعلا لمحرّم واقعي ، فاحتمال المخالفة فيه احتمال للتحريم وهو احتمال للعقاب عليه.

والجواب : منع الصغرى بكلا تقريريها.

أمّا على التقرير الأوّل : فلأنّ التحريم المحتمل إن اريد به الحرمة الشرعيّة ، فيتوجّه المنع إلى قيام احتمال العقاب عليه - إن صحّ فرض واقعة العمل بالظنّ ممّا لا نصّ فيه ، بناء على الإغماض عمّا تقدّم من القبح العقلي والتحريم الشرعي - فإنّ أصل البراءة النافي للعقاب المحتمل ترتّبه على الفعل في الشبهات الحكميّة التحريميّة ممّا لا نصّ فيه يؤمننا من الضرر الاخروي الّذي عليه مبنى الاستدلال.

وإن اريد به الحرمة التشريعيّة فهي مقطوع الانتفاء على تقدير ، ومقطوع الثبوت على تقدير آخر.

وعلى التقديرين لا معنى لدعوى قيام احتمال الضرر في العمل بالظنّ ، فإنّ التشريع إن فسّر بمعناه الأخصّ وهو إدخال ما ليس من الدين في الدين ليكون من الدين ، فالحرمة

ص: 103

منتفية قطعا لانتفاء موضوعها ، فإنّ العمل تعبّد وتديّن بما لا يعلم كونه من الدين ، لا بما يعلم عدم كونه من الدين ، وإن فسّر بمعناه الأعمّ وهو إدخال ما لم يعلم كونه من الدين في الدين ليكون من الدين ، فعلى القول بتحريمه أيضا كالأوّل فالحرمة ثابتة قطعا ، فلا معنى لجعله ممّا يحتمل فيه الضرر.

وأمّا على التقرير [ الثاني ] فلأنّ مخالفة الواقع ما لم تكن معلومة بالتفصيل أو بالإجمال لم تكن محرّمة ، فإنّ المحرّم إنّما هو المخالفة القطعيّة لا المخالفة الاحتماليّة ، ولا تكون المخالفة قطعيّة إلاّ مع العلم بالواقع تفصيلا أو إجمالا ، والمفروض في محلّ الظنّ انتفاء العلم بخلاف المظنون بكلا قسميه ، وأيضا فإنّ مخالفة الواقع فيما لو كانت تركا لواجب واقعي ، أو فعلا لحرام واقعي إنّما تؤثّر في ترتّب العقاب على تقدير تنجّز التكليف بهما فعلا وتوجّه الخطاب فيهما إلى المكلّف ، بحيث يصير الواجب الواقعي أو الحرام الواقعي واجبا فعليّا أو حراما فعليّا ، وهو مشروط بالعلم بالوجوب أو التحريم الواقعي تفصيلا أو اجمالا ، والمفروض في محلّ الظنّ بخلاف الوجوب أو التحريم انتفاء العلم بكلا قسميه.

ومنها : أنّ العمل بالظنّ بدعة ، وكلّ بدعة ضلالة ، والضلالة سبيلها إلى النار.

أمّا الكبرى : فلأخبار مستفيضة واردة بهذا المضمون بطرق الفريقين.

وأمّا الصغرى : فلأنّ التعبّد والتديّن بما يحتمل كونه خلاف الظنّ على أنّه الواقع من دون إذن من الشارع فيه إدخال لما لم يعلم كونه من الدين في الدين ليكون من الدين.

ويمكن منع الصغرى بأنّ مورد الأخبار - ولو بحكم الانصراف - إدخال ما علم عدم كونه من الدين ، لا ما يعمّه وإدخال ما لم يعلم كونه من الدين.

وقد يقال : بأنّ الأصل في العمل بالظنّ هو الجواز إلاّ ما خرج بالدليل ، ونسب (1) ذلك إلى السيّد الكاظمي في محصوله وشرحه (2) للوافية أيضا ، وربّما يظهر أيضا من بعض الأعلام في بعض عباراته ، ولكن ظاهره في أكثر كلماته كون ذلك الجواز على وجه انقلاب الأصل الأوّلي في أزمنة الغيبة.

وكيف كان فعن السيّد (3) التمسّك بأصالة الإباحة لأنّها الأصل في الأشياء.

وفيه أوّلا : أنّ أصل الإباحة إنّما يتمسّك به فيما لا يستقلّ بقبحه العقل.

ص: 104


1- حكاه عنه السيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : 452.
2- الوافي للمحقّق الكاظمي المعروف بالسيّد الأعرجي ( مخطوط ) : 29.
3- الوافي للمحقّق الكاظمي المعروف بالسيّد الأعرجي ( مخطوط ) : 29.

وقد عرفت أنّ العمل بالظنّ في نفسه ممّا يستقلّ بقبحه العقل ، فلا يجري فيه أصالة الإباحة ليكون مدركا للجواز.

وثانيا : أنّ الإباحة الّتي هي الأصل في الأشياء عبارة عن الإباحة بالمعنى الأخصّ وهي التسوية بين الفعل والترك الّتي يقال لها : « جواز الفعل والترك لا إلى بدل ، والجواز بهذا المعنى غير متصوّر في العمل بالظنّ ، لأنّ الواقعة الّتي ورد فيها الأمارة الظنّية - والمفروض أنّها بحسب الواقع غير خالية عن أحد الأحكام الخمس - لابدّ للمكلّف فيها من عمل ، والحال فيها حينئذ لا يخلو عن صور ثلاث :

الاولى : أن يجب عليه التعبّد والتديّن بمؤدّى أصل موجود فيها من الاصول الأربعة عينا.

الثانية : أن يجب عليه التعبّد والتديّن بمؤدّى الأمارة القائمة فيها عينا.

الثالثة : أن يجب [ عليه ] التعبّد والتديّن بكلّ منهما تخييرا ، فالأمر بالنسبة إلى العمل بالأمارة مردّد بين التحريم العيني والوجوب العيني والوجوب التخييري.

وعلى أيّ تقدير فالإباحة بمعنى جواز كلّ من الفعل والترك لا إلى بدل غير معقول.

ولو اريد بجواز العمل به ما يقابل حرمة العمل الّتي يدّعيها القائل بأصالة التحريم على معنى عدم الحرمة ، فلا ينافي الوجوب عينا أو تخييرا ، ومرجعه إلى عدم جواز ترك العمل به لا إلى بدل ، سواء لم يجز مطلقا أو أنّه حيثما جاز فهو ترك إلى بدل.

ففيه : مع أنّ الجواز بهذا المعنى ليس من مفاد أصل الإباحة ، فلا ينطبق الدليل على المدّعى ، أنّه قد تقدّم أنّ أصالة التحريم الثابتة بالعقل والنقل ممّا لا مجال لانكاره ، فلا معنى للجواز بالمعنى المذكور أيضا.

وقد يستدلّ لجواز العمل به بأصالة التخيير الجارية في مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، لأنّ الأمر مردّد بين تعيّن العمل بالأصل أو التخيير بينه وبين العمل بالأمارة الواردة على خلاف الأصل.

وفيه أوّلا : أنّ الأصل في هذه المسألة - على ما حقّقناه في محلّه - إنّما هو التعيين لأصالة الاشتغال الواردة هنا على أصل البراءة.

وثانيا : منع اندراج المقام في المسألة المشار إليها ، إذ الأصل الثابت مشروعيّته في الواقعة بالأدلّة القطعيّة تعليقي - على معنى كون اعتباره معلّقا ومراعى بأن لا يكون هناك

ص: 105

أمارة متعبّد بها شرعا - فالأمارة ليست طرفا مقابلا له ، فالأمر بالنسبة إليها يدور بين وجوب العمل بها عينا أو تحريم العمل بها عينا ، وهذا من مسألة دوران الأمر بين المحذورين وهو الوجوب والتحريم ، ولا ينافي ذلك ما تقدّم منّا في الجواب عن أصالة الإباحة ، لكون بناء الكلام ثمّة على المماشاة مع الخصم وإلاّ فاحتمال التخيير من أصله فاسد.

ولو قيل : بأنّ الأصل مع فرض الدوران بين المحذورين هو التخيير كما هو أحد القولين ، ففيه : - مع إمكان ترجيح التحريم ترجيحا لجانب الحرمة ، لأنّ فيها دفعا للمفسدة - أنّ تحريم العمل في مثل ما نحن فيه يكفي فيه عدم ثبوت وجوب العمل بالدليل ، فإنّ الأمر دائر بين العمل بما ثبت مشروعيّته وهو الأصل ، والعمل بما لم يثبت مشروعيّته وهو الأمارة.

ولا ريب أنّ عدم ثبوت المشروعيّة كاف في ثبوت التحريم ، لما تقدّم من تطابق العقل والنقل حينئذ على المنع من العمل حينئذ.

وبالتأمّل في ذلك ينقدح وجه آخر في منع التخيير في العمل بين الأصل والأمارة ، لو اريد بجواز العمل بالظنّ جوازه على وجه التخيير ، لأنّ التخيير بين المشروع وغير المشروع غير معقول.

ثمّ أصالة حرمة العمل بالظنّ - مع ابتنائها على بقاء التكاليف في الاصول والفروع - مبتنية على ثبوت إحدى المقدّمات الثلاث على وجه الانفصال الحقيقي ، وهي إمّا وجود طرق علميّة يرجع إليها المكلّف ، أو كون حجّيّة الاصول - لفظيّة وعمليّة - على وجه السببيّة والتعبّد - على معنى لزوم العمل بها مطلقا حتّى مع الظنّ الغير المعتبر بخلافها - أو كون دفع الضرر الاخروي الموهوم واجبا ليبنى المكلّف بعد الانصراف عن الأمارة - من جهة حرمة العمل بها في امتثال التكاليف المعلومة بالإجمال - على أحدها ، لئلاّ يلزم على تقدير انتفاء الجميع مع المنع من العمل بالظنّ من بقاء التكاليف المعلومة إجمالا التكليف بالمحال ، لاستحالة امتثالها على التقادير المذكورة.

ومن المقدّمات المذكورة وإن كان أوّلها في الفروع منتفية إلاّ أنّ الثانية منها غير منتفية ، لكون حجّيّة الاصول عندنا - على ما حققّناه في محلّه من باب التعبّد مطلقا - غير مقيّد بعدم الظنّ الغير المعتبر بالخلاف ، ولو فرض انتفائها أيضا فلا يمكن الاسترابة في ثبوت الثالثة ، لوجوب دفع الضرر الموهوم كالضرر المظنون إذا كان اخرويّا بحكم القوّة العاقلة وبناء العقلاء ، لأنّ مقتضى الفرض عدم حجّيّة أصل البراءة مع قيام الأمارة الظنّيّة بخلافها

ص: 106

ليؤمننا من العقاب المحتمل ، وإنّما قيّدنا الضرر بالاخروي لأنّ الضرر الدنيوي لا يجب دفعه عند العقلاء إلاّ مع الظنّ.

وعلى ما ذكرناه من حجّيّة الاصول على وجه التعبّد مطلقا ، يتّضح أصالة حرمة العمل بالظنّ كمال الاتّضاح ، بل يكون من البديهيّات الّتي لا حاجة فيها إلى تجشّم الاستدلال ، إذ الواقعة الّتي قامت فيها الأمارة الظنّيّة غير خالية عن أحد الاصول التعبّديّة ، والمفروض كون أدلّة تلك الاصول قطعيّة ومفادها لزوم الأخذ بمؤدّيات هذه الاصول ما لم يعلم خلافها ، والأمارة لا توجب العلم بخلافها ، فالالتزام بها مخالفة وطرح لتلك الاصول القطعيّة من جهة قطعيّة أدلّتها فيكون محرّما بنفس تلك الأدلّة ، ومعه لا حاجة إلى تكلّف الاستدلال على أصالة الحرمة ، ولا النظر في العمومات الناهية ليناقش فيها من حيث الدلالة بدعوى اختصاصها بالاصول وغير ذلك ، ولا إلى النظر في غيرها من الأخبار المدّعاة في المقام ، أو الاصول المقرّرة من وجوه شتّى لتكون مثارا للمناقشات من جهات شتّى.

ولا فرق في أصالة الحرمة الثابتة من أدلّة الاصول القطعيّة بين ما لو كان مورد الأمارة المخالفة لها من الاصول اعتقاديّة ، أو عمليّة أو من الفروع أو من الموضوعات مستنبطة أو صرفة ، فلو قامت أمارة ظنّيّة بدخول وقت الصلاة فيظنّ من جهتها دخول الوقت المستلزم للظنّ بوجوب الصلاة لا يجوز التعويل عليه ولا التعبّد به ، لاستلزامه طرح اصول كثيرة قطعيّة من أصالة البراءة ، واستصحاب الحالة السابقة من عدم دخول الوقت وعدم الوجوب وعدم المشروعيّة.

هذا تمام الكلام في تأسيس الأصل ، وحينئذ لابدّ من البحث في وقوع التعبّد بالظنون ببيان ما خرج ، أو ادّعى خروجه من أصالة الحرمة من الامور الغير العلميّة الّذي هو المقصد المهمّ من عقد مسألة حجّيّة الظنّ ، والعمدة من مباحث هذا الظنّ ، نظرا إلى أنّ عليها يدور الفقه وبها ينتظم أساسه ويستحكم بنيانه ، لقلّة ما في مداركه من الطرق القطعيّة والأدلّة العلميّة ، فنقول : هل خرج من أصالة الحرمة بعض الامور الغير العلميّة خصوصا أو لا؟

وعلى التقديرين فهل خرج منها الظنّ عموما مع انسداد باب العلم أو لا؟ فتمام البحث يقع في مقصدين :

* * *

ص: 107

في بيان ما خرج أو ادّعي خروجه من الامور الغير العلميّة من الأصل خصوصا أوّلها : الاصول والأمارات الغير العلميّة المعمولة في استنباط الأحكام الشرعيّة من الفاظ الكتاب والسنّة

المقصد الأوّل

في بيان ما خرج أو ادّعي خروجه من الامور الغير العلميّة من الأصل خصوصا وهو امور :

أوّلها

الامور الغير العلميّة من اصول وأمارات

المعمولة في استنباط الأحكام الشرعيّة من ألفاظ الكتاب والسنّة وما بحكمهما من الإجماعات المنقولة ، نظرا إلى اندراجها في الأدلّة اللفظيّة وهي على قسمين :

القسم الأوّل : في حجّية الظواهر

اشارة

القسم الأوّل : ما يستعمل منها في تشخيص المرادات من ألفاظهما بعد إحراز ظواهرها وتمييز حقائقها عن مجازاتها ، كأصالة الحقيقة ، وأصالة العموم ، وأصالة الإطلاق ، وأصالة عدم التخصيص ، وأصالة عدم التقييد ، وأصالة عدم الاضمار وغيرها ، ومرجع الجميع إلى أصالة عدم القرينة والقرائن الظنّيّة القائمة بخلاف الظواهر مقاميّة أو غيرها جزئيّة أو كلّيّة ، كتعقّب الأمر لتوهّم الحظر ، وغلبة استعمال المطلق في الفرد بحيث لم يبلغ حدّ الوضع التعيّني.

القسم الثاني : ما يستعمل منها في أوضاع الألفاظ وتمييز حقائقها عن مجازاتها ، ومرجعه إلى تشخيص الظواهر - أوّليّة وثانويّة - بإعمال الأمارات الظّنيّة ، كقول اللغوي مثلا في تشخيص أنّ لفظ « الصعيد » مثلا موضوع لمطلق وجه الأرض أو خصوص التراب ، ووقوع الأمر عقيب الحظر في تشخيص كونه ظاهرا في الإباحة ، والشهرة في المجاز المشهور لتشخيص كونه ظاهرا في المعنى المجازي ، حتّى أنّه إذا أراد المتكلّم إفادة الحقيقة احتاج إلى نصب قرينة تصرفه عن الظهور المذكور ، فالبحث في هذا القسم إنّما هو في أنّ اللفظ الفلاني ظاهر في المعنى الفلاني أو غير ظاهر فيه؟ والشكّ فيه ناش عن الشكّ في الأوضاع اللغويّة أو العرفيّة.

وفي القسم الأوّل إنّما هو في أنّ الظاهر المفروغ كونه ظاهرا مراد أو المراد غيره ،

ص: 108

والشكّ فيه مسبّب عن الشكّ في اعتماد المتكلّم على القرينة وعدمه ، فالكلام فيه كبروي وفي القسم الثاني صغروي ، وظاهر أنّ البحث عن كلّ من الصغرى والكبرى إنّما يحتاج إليه حيث كانت ظنّيّة ، فيرجع عنوان المسألة إلى أنّه هل وقع التعبّد بهذين الظنّين بالخصوص لاستفادة المرادات من الألفاظ كائنة ما كانت ملفوظة أو مكتوبة أو لا؟

ولنقدّم الكلام في الكبرى المتفرّعة على إحراز الصغرى ، وهو كون اللفظ الفلاني ظاهرا في هذا المعنى ، فهل هذا الظاهر حجّة - على معنى أنّه يجب بناء العمل عليه إلى أن ينكشف خلافه - أو لا؟ وهذا هو الكلام في القسم الأوّل.

فنقول : لا إشكال بل لا خلاف في حجّيّة ظواهر الألفاظ وجواز الأخذ بها في فهم المطالب واستفادة المقاصد ، سواء فرضت في موضع الخطاب كما في المحاورات والمخاطبات ، أو في موقع الكتاب كما في المراسلات والمكاتبات ، بل هي معلومة بإجماع علماء الإسلام قديما وحديثا من العامّة والخاصّة ، بل هي من ضروريّات العرف وأهل اللسان من جميع الملل والأديان في جميع الأعصار والأمصار من لدن بناء المخاطبة بالألفاظ في تفهيم المطالب واستفادة المقاصد إلى زماننا هذا ، بل هذه القضيّة - الثابتة في الجملة على طريقة المهملة - خارجة عن معقد البحث ومحطّ الكلام.

وإنّما الكلام في تفصيلها وأنّها هل هي ثابتة على وجه الإيجاب الكلّي أو الإيجاب الجزئي؟ وقد وقع بينهم بالنسبة إلى ذلك كلام بل خلاف في مقامين :

أحدهما : بالنسبة إلى ظواهر الكتاب العزيز ، فإنّ منهم كالأخباريّة من أنكر حجّيّتها وجواز الأخذ بها والحكم عليها بكونها مرادة ، ما لم يقطع بالإرادة أو لم يقم دليل من خارج كاشف عن الإرادة.

وثانيهما : بالنسبة إلى ظواهر الكتاب والسنّة في حقّ غير المشافهين الذين لم يقصد إفهامهم ولو بغير جهة المخاطبة والمشافهة كالمكاتبات والمراسلات ، فإنّ منهم من أنكر ذلك أو وقع في التشكيك فيه كبعض الأعلام (1) في غير موضع من كتابه ، حيث خصّ الحجّيّة بالمشافهين ومن في حكمهم ممّن قصد إفهامهم دون من لم يقصد إفهامهم ، فإنّ الحجّيّة في حقّه تحتاج إلى إثبات انسداد باب العلم واضطرار العمل بالظنّ مطلقا ، ومنه الظنّ المستفاد من ظواهر الألفاظ مطلقا في حقّ غير المشافهين ممّن لم يقصد إفهامهم.

ص: 109


1- قوانين الاصول : 1 / 398 - 403.

المقام الأوّل : في مستند الأخباريّين فيما ادّعوه من عدم جواز العمل بظواهر الكتاب

اشارة

أمّا المقام الأوّل : فمستند المنكرين فيه يرجع إلى أمرين :

أحدهما : منع وجود المقتضي للأخذ بظواهر الكتاب الّتي لم يقصد بها إفهام غير من خوطب به كالنبيّ والوصيّ ، تمسّكا بقوله عليه السلام : « إنّما يعرف القرآن من خوطب به » (1) فإنّ المقتضي للأخذ بالظاهر مركّب من مقدّمتين :

أحدهما : كون هذا الظاهر مرادا به الإفهام.

والاخرى : قبح الخطاب بما له ظاهر وإرادة خلافه من جهة لزوم الإغراء بالجهل لولا كون المراد به ظاهره ، وظواهر القرآن لعدم القصد بها إلى إفهام غير النبيّ والوصيّ فاقدة للمقدّمة الاولى.

ومن البيّن أنّ انتفاء الجزء يستلزم انتفاء الكلّ فلا مقتضي أصلا.

وثانيهما : دعوى وجود المانع من الأخذ بظواهره ، وهو إمّا الإجمال العرضي الطارئ لظواهره ، لكثرة ما تطرق إليها من التأويل بالتخصيص أو التقييد أو غيرهما من أنحاء التجوّز وأنواع الكناية ، فصارت من قبيل الألغاز والمعمّيات ، أو نهي الشارع عن الاستناد إلى القرآن مستقلاّ من غير تفسير الأئمّة عليهم السلام وبيانهم المراد من ألفاظه ، المستفاد من الأخبار الناهية عن تفسير القرآن بالرأي.

ثمّ الأصل الأوّلي المتقدّم تأصيله في حرمة العمل بغير العلم يقتضي عدم جواز الأخذ بظواهره لما يصدق عليه من أنّه عمل بغير العلم ، وها هنا أصل آخر يوافقه في اقتضاء المنع من العمل بها ، وهو أنّ الأصل عدم إرادته تعالى بتلك الظواهر إفهام المطلب وتفهيم المقصد.

والفرق بينه وبين الأوّل واضح من حيث عموم الموضوع وخصوصه ، فإنّ موضوع الأوّل هو العمل بغير العلم الّذي منه الظواهر ، وموضوع الثاني هو العمل بالظواهر خاصّة.

نعم ها هنا أصل ثالث هو بالقياس إلى أصالة التحريم مخصّص ، وبالقياس إلى أصالة عدم إرادة الإفهام وارد ، وهو أنّ الظاهر في كلّ متكلّم بحكم الغلبة - جنسيّة ونوعيّة وصنفيّة - أن يكون كلامه مقصودا به اللفظ والمعنى وإفهام المعنى المقصود بواسطة ظهور ذاتي كما لو كان اعتماده على وضع اللفظ ، أو ظهور عرضي فيما لو كان اعتماده على ما عدا الوضع من القرائن اللازم وجودها لئلاّ يلزم الإغراء بالجهل حاليّة أو مقاليّة أو عقليّة.

وقضيّة هذا الأصل أنّا في غناء عن تجشّم الاستدلال لإثبات حجّيّة ظواهر الكتاب وجواز

ص: 110


1- الكافي 8 : 312 / 485.

الأخذ بها في استفادة المرادات ، وإنّما العمدة في المقام إبطال منع الخصم ودفع سند إنكاره.

وقد عرفت أنّ سنده يرجع إلى أمرين منع وجود المقتضي للأخذ بالظواهر ودعوى وجود المانع منه.

والجواب عن الأوّل : كفاية الأصل المتقدّم في إحراز وجود المقتضي ، فإنّ قضيّة ذلك الأصل ظهور كلامه تعالى في الكتاب العزيز في كونه تعالى قاصدا إلى اللفظ وقاصدا إلى المعنى وقاصدا إلى إفهام المعنى المقصود ، وهذا المعنى المقصود إمّا أن يكون ظاهر اللفظ أو خلاف ظاهره ، ولا سبيل إلى الثاني للزوم الإغراء بالجهل فتعيّن الأوّل ، مضافا إلى الإجماع الضروري على أنّ الشارع ليس له طريقة مستحدثة في خطاباته ومكالماته مغائرة لطريقة العرف وعادة أهل اللسان من التعويل على الظواهر - ذاتيّة أو عرضيّة - في إفادة المطالب واستفادتها ، فدعوى أنّ ظواهر الكتاب لم يقصد بها إفهام غير النبيّ والوصيّ ممّا لا ينبغي الإصغاء إليه والاستناد لها إلى قوله عليه السلام : « إنّما يعرف القرآن من خوطب به » (1) فاسد.

أمّا أوّلا : فلعدم دلالة الخبر على أنّ ظواهر القرآن لم يقصد بها إفهام غير من خوطب به ، بل أقصاه الدلالة على أنّ فهم متشابهات القرآن منحصر فيمن خوطب به فإنّه من حديث قتادة ، وتمامه رواه الكليني في الكافي باسناده عن زيد الشحّام قال : « دخل قتادة (2) ابن دعامة على أبي جعفر عليه السلام فقال : يا قتادة أنت فقيه أهل البصرة؟

فقال : هكذا يزعمون ، فقال أبو جعفر عليه السلام : بلغني أنّك تفسّر القرآن؟ فقال له قتادة : نعم ، فقال أبو جعفر عليه السلام : بعلم تفسّره أم بجهل؟ قال : لا بل بعلم.

فقال له أبو جعفر عليه السلام : فإن كنت تفسّره [ بعلم ] فأنت أنت وأنا أسألك ، فقال قتادة : سل ، قال : أخبرني عن قول اللّه في سبأ ( وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ ) (3) فقال قتادة : ذلك من خرج من بيته بزاد حلال وراحلة وكراء حلال يريد هذا البيت كان آمنا حتّى يرجع إلى أهله.

فقال أبو جعفر عليه السلام : أنشدك باللّه يا قتادة هل تعلم أنّه قد يخرج الرجل من بيته بزاد وراحلة وكراء حلال يريد هذا البيت فيقطع عليه الطريق فتذهب نفقته ويضرب مع ذلك

ص: 111


1- الكافي 8 : 311 / 485.
2- هو من مشاهير محدّثي العامّة ومفسّريهم روى عن أنس بن مالك وأبي الطفيل وسعيد بن المسيّب والحسن البصري.
3- سورة سبأ : 18.

ضربة فيها اجتياحه؟ قال قتادة : اللّهمّ نعم.

فقال أبو جعفر عليه السلام : ويحك يا قتادة إن كنت قد فسّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت ، وإن كنت أخذته من الرجال فقد هلكت وأهلكت ، ويحك يا قتادة ذلك من خرج من بيته بزاد وراحلة وكراء حلال يروم هذا البيت عارفا بحقّنا يهوانا قلبه كما قال اللّه تعالى : ( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) (1) ولم يعن البيت فيقول إليه ، فنحن واللّه دعوة إبراهيم الّتي من هوانا قلبه قبلت حجّته وإلاّ فلا ، يا قتادة فإذا كان كذلك كان آمنا من عذاب جهنّم يوم القيامة ، قال قتادة : لا جرم واللّه لا فسّرتها إلاّ هكذا.

فقال أبو جعفر عليه السلام : ويحك يا قتادة إنّما يعرف القرآن من خوطب به » (2).

وموضع الدلالة أنّ قول قتادة : « لا بل بعلم » بعد قوله : « نعم » يتضمّن دعوى علمه بجميع القرآن حتّى متشابهاته ، وردّه الإمام عليه السلام بقوله : « إنّما يعرف القرآن من خوطب به » بعبارة الحصر من باب قصر الأفراد ، مضافا إلى أنّ ما ذكره قتادة في تفسير الآية المسؤول عنها يكشف عن فهمه منها معاني ثلاث :

أحدها : فهم كون الآية في شأن القاصد لبيت اللّه الحرام ، وهو ظاهرها بملاحظة السياق والآيات المتقدّمة عليها.

والثانية : أنّه فهم من إطلاق الأمر بالسير إليه كون السير مطلقا غير مشروط بشيء.

والثالثة : أنّه فهم من قوله : « آمنين » الأمان الدنيوي ، وهو السلامة من القطع والقتل وأخذ النفقة.

وقد صوّبه الإمام عليه السلام في فهمه الأوّل لمكان أنّه أيضا فسّرها بالقاصد لبيت اللّه الحرام ، وخطّأه في الأخيرين ببيان أنّهما من المتشابهات المنحصر علمها فيمن خوطب به ، لكون المراد من كلّ من « السير » و « الآمنين » خلاف ظاهره.

أمّا الأوّل : فبإرادة المقيّد بمعرفة حقّ الأئمّة الّتي هي شرط لصحّة الأعمال وقبولها.

وأمّا الثاني : فبإرادة الأمان الاخروي ، وهو الأمان من نار جهنّم يوم القيامة ، ثمّ حصر فهم المتشابهات فيمن خوطب به.

وأمّا ثانيا : فعلى تسليم دلالته على عدم القصد بها إلى إفهام غير من خوطب به ، لا يدلّ على انحصار من خوطب به في النبيّ والوصيّ ، بل يدخل فيه كلّ من كان حاضرا [ في ]

ص: 112


1- سورة إبراهيم : 37.
2- الكافي 8 : 311 / 485.

مجلس الخطاب ، بل ربّما قيل بدخول الغائبين من الموجودين في زمنه ، ويلزم من ذلك حجّيّة الظواهر في حقّ غير النبيّ والوصيّ.

وأمّا ثالثا : فعلى تسليم انحصار من خوطب به في الخبر فيهما فهو لا ينافي الحجيّة لغيرهما إلاّ على القول باختصاصها بمن قصد إفهامه ، وهذا - مع أنّ الخبر لا يدلّ عليه - إرجاع للكلام إلى المقام الثاني وستعرف بطلانه.

فخلاصة ما قرّرناه من المقتضي أنّ العمل بظواهر الألفاظ في جميع المخاطبات والمحاورات مبنيّ على إحراز مقدّمات :

إحداها : كون المتكلّم قاصدا للّفظ لا ساهيا ولا سابقا لسانه.

وثانيتها : كونه قاصدا للمعنى لا هاذلا ولا قاطعا نظره.

وثالثتها : كونه قاصدا لإفهام المعنى المقصود لا غير.

والأصل في هذه المراتب وإن كان يقتضي العدم ، لأنّ القصد أمر حادث والأمر عدمه ، ولكن ذلك الأصل قد انقلب إلى خلافه لإطباق العقلاء كافّة على حمل كلام كلّ متكلّم على كونه مقصودا به اللفظ والمعنى وإفهام ذلك المعنى ، ومدركه الظهور النوعي الناشئ من الغلبة في جميع المحاورات في جميع الأعصار والأمصار.

فالمقام من تعارض الأصل والظاهر ، غير أنّه أطبق العقلاء وأجمع العلماء على تقديم الظاهر وعدم الالتفات إلى الأصل ، وهذا الظهور الثابت اعتباره ببناء العقلاء وإجماع العلماء أصل ثانوي مخرج عن الأصل الأوّلي.

ثمّ يضمّ إليه مقدّمة اخرى ، وهي أنّ المعنى الّذي قصد المتكلّم إفهامه إمّا أن يكون هو الظاهر أو خلافه ، والثاني باطل للزوم الخطاب بما له ظاهر وإرادة خلافه من غير قرينة وهو غير جائز ، للزوم الإغراء بالجهل وهو قبيح ، وهذا بالنسبة إلى الجنس وهو جنس ظواهر كلام المتكلّمين ، ثمّ ننزّل منه إلى النوع وهو ظواهر كلام الشارع في الكتاب والسنّة ونقرّر الأصل فيه على الوجه المذكور ثمّ ننزّل منه الى الصنف وهو ظواهر كلام الشارع في الكتاب بالخصوص ونقرّر فيه الأصل أيضا على الوجه المذكور ، وهذا هو إحراز المقتضي.

والجواب عن الثاني : وهو دعوى وجود المانع في وجهه الأوّل ، وهو كون المانع هو الإجمال الطارئ لظواهر الكتاب من تطرّق المخالفة والتأويل إليها المعلوم بالإجمال ، بالنقض تارة والحلّ اخرى.

ص: 113

أمّا الأوّل : فلأنّه منقوض بالإجمال الطارئ لظواهر السنّة من كثرة تطرّق المخالفة للظاهر والتأويل إليها ، ولا ريب أنّ الإجمال مانع من العمل فيهما معا والفرق تحكّم.

وأمّا الثاني : فلأنّ الإجمال إنّما ينشأ من العلم الإجمالي بوجود مخالفات كثيرة للظواهر ، وهو في كلّ ظاهر يقع محلاّ للابتلاء يوجب الفحص عمّا يخالفه ، لا سقوطه عن الاعتبار وخروجه عن الحجّيّة رأسا ، كما هو الحال في السنّة الّتي يقولون بجواز العمل بها ، فإنّها لا ندّعي في الكتاب جواز العمل به مطلقا ومن غير فحص ، وبعد الفحص يزول الإجمال ويرتفع الإشكال.

وبالجملة لا فرق في ذلك بين الكتاب والسنّة ، وكما أنّ الكتاب لا يجوز العمل به قبل الفحص فكذلك السنّة لا يجوز الأخذ بها إلاّ بعد الفحص ، وكما أنّ الفحص في السنّة إذا حصل بشرائطه مجوّز للعمل بها فكذلك مجوّز له في الكتاب ، والفرق تحكّم بحت لا يليق بأهل الفضل.

فإن قلت : إنّ أثر العلم الإجمالي بوجود المخالفات الكثيرة الموجب للإجمال هو وجوب التوقّف ، وهو لا يرتفع بالفحص لعدم خروج المورد عن طرف العلم الإجمالي ، فالفحص عمّا يوجب مخالفة الظاهر لا يجدي نفعا في العمل بظواهر الكتاب المفروض صيرورتها [ مجملا ] ، كما أنّه لا يجدي نفعا في الأخذ بلفظ تردّد بين معنييه كالمشترك والمجاز المشهور ، وأحد الظاهرين الّذي خرج عن ظهوره بالتعارض الموجب للعلم الإجمالي به كالعامّين من وجه ، فإنّ أثر العلم الإجمالي فيهما وهو وجوب التوقّف لا يرتفع بالفحص الّذي لم يوجد معه القرينة المعيّنة.

قلت : هذا السؤال اشتباه منشؤه الغفلة عن حقيقة محلّ العلم الإجمالي الموجب للإجمال ، فإنّ المسلّم من العلم الإجمالي في المقام إنّما هو حصوله بوجود مخالفات كثيرة لظواهر الكتاب في الأخبار الّتي بأيدينا ، فبعد الفحص عند الابتلاء بظاهر وعدم وجود ما يخالفه - ولو ظنّا - خرج المورد عن طرف العلم الإجمالي ، ولو بقي احتمال المخالفة ينفى ذلك الاحتمال بالأصل ، ولا يمكن ذلك قبل الفحص لمكان العلم الإجمالي المانع من العمل بالأصل قبل الفحص ، وبعده يرتفع المانع لخروج المورد عن طرف العلم الإجمالي.

نعم لو فرض حصوله بوجود المخالفات في الأخبار الّتي ذهبت عنّا ، أو حصوله بوجودها في كلّ من الأخبار الّتي بأيدينا والّتي ذهبت عنّا ، أو حصوله بوجودها في الواقع

ص: 114

مردّدا بين ما بأيدينا وما ذهب عنّا ، فدعوى عدم جدوى الفحص في زوال العلم الإجمالي وارتفاع أثره حقّ لا سترة عليه ولا يمكن الاسترابة فيه ، كما لا يخفى على المتأمّل.

وعلى أحد هذه التقادير يصحّ تنظير ما نحن فيه بالفحص في اللفظ المتردّد بين المعنيين والظاهرين المتعارضين علم إجمالا بخروج أحدهما عن ظهوره ، بل الفحص على أوّل التقادير غير ممكن ، لا أنّه غير مجد كما هو واضح ، ولكن كون العلم الإجمالي المفروض في المقام على أحد هذه الوجوه غير واضح ، بل محلّ منع لما ذكرناه من أنّ المسلّم منه كونه حاصلا على الوجه الأوّل لا غير ، وحينئذ فقد يتأتّى زوال العلم الإجمالي وارتفاع أثره بأن وجد بالفحص مخالفات للظاهر في جملة من الظواهر ، بحيث خرجنا في هذه الجملة عن مقتضى الظاهر بالحمل على خلافه عملا بما يخالفه من الأخبار ، وبذلك يزول العلم الإجمالي ويرتفع أثره بالقياس إلى بواقي الظواهر ، لعدم العلم بعده بوجود مخالفات في الواقع زائدة على ما عثرنا عليه بالفحص بالقياس إلى الجملة المذكورة ، فتأمّل.

وأمّا الجواب عن دعوى وجود المانع باعتبار الأخبار المانعة من الاستناد إلى الكتاب مستقلاّ والناهية عن تفسير القرآن بالرأي ، فيستدعي التعرّض لذكرها وهي روايات كثيرة بالغة حدّ التواتر معنى ، بل متجاوزة في الكثرة عن حدّ التواتر وقد جمعها الشيخ الحرّ العاملي قدس سره في قضاء الوسائل وقد التقط شيخنا قدس سره في كتابه منها ما هو اظهرها دلالة.

مثل النبوي « من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار » (1).

وفي رواية اخرى « من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار » (2).

وفي نبوي آخر « من فسّر القرآن برأيه فقد افترى على اللّه الكذب » (3).

وعن أبي عبد اللّه عليه السلام « من فسّر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر ، وإن أخطأ خرّ أبعد من السماء » (4).

وفي النبوي العامّي « من فسّر القرآن برأيه ، فأصاب فقد أخطأ » (5).

ص: 115


1- عوالي اللآلي 4 : 104 / 154.
2- الوسائل 27 : 204 / 76 ، ب 13 من أبواب صفات القاضي.
3- الوسائل 27 : 190 / 37 ، ب 13 من أبواب صفات القاضي.
4- الوسائل 27 : 202 / 66 ، ب 13 من أبواب صفات القاضي.
5- الوسائل 27 : 205 / 79 ، ب 13 من أبواب صفات القاضي.

وعن مولانا الرضا عليه السلام عن أبيه عن آبائه عليهم السلام عن أمير المؤمنين عليه السلام قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : « إنّ اللّه عزّ وجلّ قال في الحديث القدسي : ما آمن بي من فسّر كلامي برأيه ، وما عرفني من شبّهني بخلقي ، وما على ديني من استعمل القياس في ديني » (1).

وعن تفسير العيّاشي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « من حكم برأيه بين اثنين فقد كفر ، ومن فسّر برأيه آية من كتاب اللّه فقد كفر » (2).

وعن مجمع البيان : « أنّه قد صحّ عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم وعن الأئمّة القائمين مقامه أنّ تفسير القرآن لا يجوز إلاّ بالأثر الصحيح والنصّ الصريح » (3).

وقوله : « ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن ، إنّ الآية تكون أوّلها في شيء ، وآخرها في شيء ، وهو كلام متصل ينصرف إلى وجوه » (4).

وفي مرسلة شبيب بن أنس عن أبي عبد اللّه عليه السلام إنّه قال لأبي حنيفة : « أنت فقيه أهل العراق؟ قال : نعم ، قال : فبأيّ شيء تفتيهم؟ قال : بكتاب اللّه وسنّة نبيّه ، قال : نعم ، قال : يا أبا حنيفة لقد ادّعيت علما ، ويلك ما جعل اللّه ذلك إلاّ عند أهل الكتاب الّذين أنزل عليهم ، ويلك ولا هو إلاّ عند الخاصّ من ذرّية نبيّنا [ محمّد ] صلى اللّه عليه وآله وسلم وما ورّثك اللّه من كتابه حرفا » (5).

وفي رواية زيد الشحّام قال : دخل قتادة على أبي جعفر عليه السلام « فقال له : أنت فقيه أهل البصرة؟ فقال : هكذا يزعمون » وقد تقدّم (6) تمام هذا الحديث.

وقيل في وجه الاستدلال بها : أنّ حاصله يرجع إلى أنّ منع الشارع يكشف عن انّ مقصود المتكلّم في الكتاب ليس تفهيم مطالبه بنفس هذا الكلام ، فليس من قبيل المحاورات العرفيّة.

فالجواب عنها تارة : بمنع دلالة الجملة ، واخرى : بمنع الدلالة في كلّ واحد واحد ، وثالثة : بالمعارضة.

ص: 116


1- الوسائل 27 : 45 / 22 ، ب 13 من أبواب صفات القاضي.
2- تفسير العيّاشي 1 : 18 / 6 ، والوسائل 27 : 203 / 67.
3- مجمع البيان 1 : 13 ، والوسائل 27 : 204 / 78 ، ب 13 من أبواب صفات القاضي.
4- الوسائل 27 : 192 / 41 ، ب 13 من أبواب صفات القاضي.
5- الوسائل 27 : 47 / 27 ، ب 6 من أبواب صفات القاضي.
6- الكافي 8 : 311 / 485.

أمّا الطريق الأوّل : فهو جواب إجمالي شامل للجميع ، وهو أنّ هذه الأخبار - بجملتها على ما يشهد به سياقاتها ، ويرشد إليه الإشارات الواقعة فيها - مسوقة للمنع من الاستناد إلى الكتاب على سبيل الاستقلال ، من دون فحص عن معارضاته في سائر الأدلّة ولا سيّما أخبار الأئمّة عليهم السلام وبياناتهم ، ونحن لا نجوّز العمل بظواهر الكتاب على هذا الوجه بل نعتبر في العمل بها الفحص عن المعارض بمراجعة أخبار أئمّتنا ، فإن عثرنا فيها على ما يخالف ظاهرا من ظواهر الكتاب ، إمّا بكونه مخصصا للعامّ الكتابي ، أو مقيّدا لمطلقه ، أو كاشفا عن تطرّق نسخ إليه ، أو قرينة على التجوّز فيه وكان جامعا لشرائط الحجّيّة نأخذ به ونخرج من جهته عن ظاهر الكتاب ونحمله على خلافه ممّا يساعد عليه البيان الموجود في الأخبار ، على ما نطق خبر الثقلين الحاكم بعدم افتراقهما إلى يوم القيام ، ومعناه أنّ كلّما هو في كتاب اللّه فهو موجود عند العترة الطاهرة ، وكلّما هو موجود عندهم فهو غير خارج عن الكتاب ، ومن ثمّ لو كان ما في الكتاب عامّا وما عندهم خاصّا مخالفا لعموم ذلك العامّ يجب الأخذ به ، لأنّه ينهض كاشفا عن عدم اعتبار عمومه حين النزول ، ومن هنا لا نقول بوجوب الاستماع أو الصمت عند قراءة القرآن على الإطلاق في جميع الأزمان والأحوال عملا بعموم قوله عزّ من قائل : ( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ) (1) لما ورد في أخبار أئمّتنا من تفسيره بأنّ المراد به قراءة الإمام العادل في الصلاة لا مطلقا ، وإن لم نعثر على ما يخالفه نعمل به وإن لم نعثر فيها على نصّ يوافقه ، فإنّ وجود نصّ يوافق ظاهر الكتاب ليس شرطا في العمل به عندنا ، نعم ما يخالفه مانع من العمل به ، خلافا للأخباريّين لجعلهم النصّ الموافق شرطا أيضا ، فموضع الخلاف بين المجتهدين وبينهم الظواهر الّتي لم يوجد في أخبار أئمّتنا ما يخالفها ولا ما يوافقها.

نعم الفريقان مطبقان على عدم استقلال الكتاب بإفادة المطالب والأحكام في الجملة ، خلافا منهما للعامّة لجعلهم الكتاب مستقلاّ في الإفادة ، وعدم التفاتهم إلى أخبار أئمّتنا ولا بياناتهم الموافقة أو المخالفة له ، فالطرائق في العمل بالكتاب ثلاثة :

الاولى : طريقة المخالفين وهي زعمهم كون الكتاب مستقلاّ بالإفادة ، غير مرتبط بشيء من أخبار أئمّتنا وبياناتهم لا شرطا ولا مانعا.

والثانية : طريقة الأخباريّين من أصحابنا وهي قولهم بعدم كون الكتاب مستقلاّ بالإفادة ،

ص: 117


1- سورة الأعراف : 204.

لارتباطه بأخبار الأئمّة بكون ما يوافق ظاهره شرطا في العمل به وما يخالفه مانعا منه.

والثالثة : طريقة المجتهدين من أصحابنا من عدم استقلال الكتاب بالإفادة في الجملة ، باعتبار كون ما يخالف ظاهره من أخبار الأئمّة مانعا مع عدم كون ما يوافقه شرطا.

والأخبار المذكورة المستدلّ بها واردة في ردّ الطريقة الاولى ، لا لإثبات الطريقة الثانية ، فلا تنافي الطريقة الثالثة.

وأمّا الطريق الثاني : فلعدم اندراج الظواهر بالذات في مورد شيء من الأخبار المذكورة ، أمّا الأخبار الناهية عن تفسير القرآن بالرأي على اختلاف مضامينها فلوجهين :

الأوّل : عدم كون العمل بالظواهر المتضمّن لحمل كلّ لفظ على معناه الظاهر - ظهورا أوّليّا كالحقيقة ، أو ثانويّا كالمجاز مع القرينة - من التفسير ، وعدم صدق التفسير بمفهومه اللغوي عليه ، فإنّه تفعيل من الفسر يقال : فسرت الشيء ، من باب ضرب بيّنته وأوضحته ، والتشديد مبالغة ، فهو والمشدّد بمعنى ، وقيل : مقلوب السفر ، يقال : سفرت المرأة. عن وجهها ، إذا كشفت ، وبمعناه : اسفرت والصبح. إذا أسفر ، أي إذا ظهر. فالتبيين والإيضاح والكشف بمعنى وكذلك البيان بمعنى التبيين ، ويعتبر في الجميع سبق خفاء ، والكشف أصرح ممّا عداه في ذلك ، ولذا ورد في الاستعمال لرفع الغطاء والستر عن الشيء المستور المغطّى ، ومنه : كشفت عن وجهها ، ولأجل ذا كلّه فسّر التفسير « بكشف المراد عن اللفظ المشكل » كما في القاموس (1) والمجمع - والمشكل من أشكل الأمر التبس قاله فيهما ، فاللفظ المشكل هو اللفظ الملتبس فيه المعنى المراد لإجمال أو تأوّل خال عن القرينة ، وكشف المراد إيضاح المعنى المراد ، وتعديته بكلمة المجاوزة لتضمينه معنى رفع الالتباس عن اللفظ - أو بكشف المغطّى ، كما نقله الطبرسي في مجمع البيان (2) وصاحب القاموس (3) أيضا ، والمغطّى الشيء المستور بالغطاء وهو الستر وكشفه رفع غطائه ، وهو في معنى اللفظ المحمول عليه عبارة عن رفع غطائه وستره الناشئ من الإجمال أو التأويل بلا قرينة.

فالتفسير بكلا المعنيين لا محلّ له إلاّ المتشابهات ، فلا يندرج فيه العمل بالظواهر الّذي هو عبارة عن الأخذ بمعاني الألفاظ الواضحة الدلالة عليها ، بعد الفحص عن معارضاتها اعتمادا على ما فيها من الأوضاع لغويّة أو عرفيّة أو شرعيّة ، أو على ما معها من القرائن

ص: 118


1- قاموس المحيط 2 : 110 مادّة الفسر. مجمع البحرين 2 : 401 مادّة الفسر.
2- مجمع البيان 1 : 13.
3- قاموس المحيط 2 : 110 مادّة الفسر.

حاليّة أو مقاليّة أو عقليّة ، وهذا كما ترى لا يصدق عليه التفسير بشيء من المعنيين ، إذ لا خفاء ولا مستوريّة في شيء ممّا يقتضيه وضع اللفظ ، ولا ما يساعد عليه القرينة المعتبرة الموجودة مع اللفظ.

وبالجملة لا خفاء ولا التباس ولا غطاء ولا ستر في ظاهر اللفظ الّذي يقتضيه وضعه أو القرينة المعتبرة الموجودة معه ليكون الأخذ به والحمل عليه كشفا بمعنى رفع هذه الامور.

وإن شئت فاستوضح ذلك من حمل « الأسد » في قول القائل : « رأيت أسدا » شفاها أو كتبا على المفترس ، اعتمادا على وضعه له وعملا بأصالة الحقيقة فيه ، وفي قول القائل : « رأيت أسدا يرمي » كذلك على الرجل الشجاع ، اعتمادا على قرينة « يرمي » وتعويلا على ظهوره في رمي السهم ، لا يقال له التفسير ، وكذلك العبد إذا وجد في كتاب مولاه إليه أنّه أمره بشيء ونهاه عن شيء ، فأخذ بظاهرهما وأمثتلهما فلا يقال : أنّه فسّر أمر مولاه أو نهيه بكذا ، من غير فرق فيه بين كون لسانه مع مولاه عربيّا أو فارسيّا أو غيرهما.

ولا ينتقض ما ذكرناه من عدم صدق التفسير على العمل بالظواهر بالترجمة للألفاظ العربيّة الّتي يحتاج إليها العجمي القح ، إذ الترجمة بيان للمعاني المرادة من ألفاظ لغة على حسبما يقتضيه أوضاع تلك الألفاظ في هذه اللغة للجاهل بها ، وهذا يتأتّى من كلّ عارف باللغة عالم بأوضاع ألفاظها إماما كان أو غيره ، بخلاف التفسير الّذي يحتاج إلى بيان الإمام من حيث إنّه من الراسخين في العلم ، فإنّه جهة زائدة على معرفة اللغة والعلم بأوضاع ألفاظها تنشأ عن جهالة المحتاج بالمعنى المراد في المتشابهات لإجمال أو تأويل بلا قرينة ، وإن كان من أهل اللغة العالمين بأوضاع ألفاظها ، وبيانه لا يتأتّى إلاّ ممّن أوقفه اللّه سبحانه على مراداته في المتشابهات من المجملات والمؤوّلات.

ومن هنا أمكن لك التفكيك بين الترجمة - وهو بيان المرادات على حسبما يقتضيه أوضاع ألفاظ لغة العرب - والتفسير - وهو بيان المرادات على حسبما أوقفه اللّه سبحانه عليها - بأنّ الأوّل أخصّ محتاجا إلى البيان وهو العجمي القح وأعمّ مبيّنا للمراد أعني كلّ من يعرف اللغة العربيّة ، والثاني أعمّ محتاجا إلى البيان أعني كلّ من عدا الإمام ممّن لا يفهم المتشابهات عجميّا كان أو عربيّا وأخصّ مبيّنا أعني الإمام مبيّنا خاصّة.

الثاني : منع كونه تفسيرا بالرأي - إن سلّمنا صدق التفسير عليه - فإنّ التفسير بالرأي عبارة من أن يذكر الإنسان لمتشابهات القرآن معنى من عند نفسه ، أو بمقتضى ميل نفسه وهوى طبعه.

ص: 119

وينزّل اللفظ المشكل المتشابه عليه من دون أن يستند فيه إلى قرينة معتبرة ، ولا إلى بيان من أهل بيت العصمة ، كما يكشف عن إرادة هذا المعنى قول مولانا الصادق عليه السلام في حديث إسماعيل بن جابر : « وإنّما هلك الناس في المتشابه ، لأنّهم لم يقفوا على معناه ، ولم يعرفوا حقيقته ، فوضعوا له تأويلا من عند أنفسهم بآرائهم ، واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء ، ونبذوا قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وراء ظهورهم » ... إلى آخره (1).

ونحوه قول مولانا أبي جعفر عليه السلام في حديث قتادة المتقدّم : « ويحك يا قتادة إن كنت إنّما فسّرت من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت وإن كنت أخذته من الرجال فقد هلكت وأهلكت ... » إلى آخره (2).

ومن الأعلام من أجاب عن الاستدلال على الأخبار المانعة من التفسير بالرأي - مضافا إلى ما ذكر على تقدير كون موردها الظواهر - بما ملخّصه : احتمال كون المراد منها منع من ترك في الظواهر متابعة الوضع فيها ، ورفع اليد عن الاصول والقواعد المعمولة لتشخيص الأوضاع أو المرادات ، من أصالة الحقيقة وأصالة عدم القرينة وعدم التخصيص وعدم التقييد وعدم الإضمار وعدم النقل وعدم الاشتراك وغير ذلك ، وأبدع من عند نفسه وبمقتضى طبعه وذوقه للّفظ الظاهر - مفردا كان أو مركّبا - معنى مخالفا للوضع والاصول والقواعد المذكورة ، ونزّله عليه فإنّ هذا هو الممنوع ، لا حمل كلّ ظاهر على معناه الظاهر بعد إعمال ما تعتبر في إثبات الوضع أو تشخيص من الاصول والقواعد » (3).

وفي معنى الأخبار المانعة من التفسير بالرأي ما تقدّم في عدادها من قوله عليه السلام : « من قال في القرآن بغير علم ... الخ » (4) فإنّ القول في القرآن بغير علم بقرينة ما في رواية قتادة المتقدّمة من قول أبي جعفر عليه السلام : « بعلم تفسّره أم بجهل؟ » وقول قتادة : « لا ، بل بعلم » عبارة عن التفسير بالرأي الّذي مورده المتشابهات ، إذ المتشابه هو الّذي يحتاج القول فيه إلى العلم بالمراد المستند إلى بيان أهل بيت العصمة عليهم السلام ، فيجري فيه الوجهان المتقدّمان أيضا.

وعلى تقدير تسليم كون مورده الظواهر ، يجري فيه الوجه الثالث الّذي ذكره بعض الأعلام.

وأمّا الطريق الثالث : فبالمعارضة ، ونعني به بيان ما يصرف الأخبار المانعة من الاستناد

ص: 120


1- الوسائل 27 : 200 / 62 ، ب 13 من أبواب صفات القاضي.
2- الكافي 8 : 311 / 485.
3- قوانين الاصول 1 : 398.
4- الوسائل : 27 / 204 / 76 ، ب 13 من أبواب صفات القاضى.

إلى الكتاب على وجه الاستقلال - على تقدير تسليم دلالاتها - عن الظواهر إلى المتشابهات ، ولو كان نحو تعارض فعلاجه الجمع بإرجاع التأويل إليها تقديما للنصّ أو الأظهر على الظاهر.

فنقول : إنّ الأخبار المذكورة يعارضها امور :

منها : قوله عزّ من قائل ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ... ) الآية (1) فإنّه يدلّ على انقسام الكتاب إلى محكمات ومتشابهات واشتماله عليهما بالفعل ، كذلك يدلّ على منع اتّباع المتشابهات ، لأنّ قوله : ( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ) - الآية - في سياق الذمّ والتوبيخ ، فتدلّ على المنع من العمل بالمتشابهات من غير رجوع إلى الراسخين ، ولا طلب العلم بتأويلها وبيان مراداته تعالى منها ممّن خوطب به ، وعلى أنّ مورد هذا المنع هي المتشابهات لا المحكمات ولا الكتاب المنقسم إليهما ، فيدلّ على أنّ المحكمات من حكمه عدم المنع من العمل [ بها ] ولو من دون رجوع إلى الراسخين في العلم وهو المطلوب.

وينهض ذلك بيانا لأنّ مورد الأخبار المانعة ما عدا المحكمات.

لا يقال : إنّ قصارى ما يدلّ عليه الآية ، إنّما هو منع العمل بالمتشابهات لا تجويز العمل بالمحكمات ، لعدم تعرّضه تعالى لبيان حكم لها ، فالآية ساكتة عنها منعا وتجويزا ، لوضوح دلالتها على حكم المحكمات أيضا.

أمّا أولا : فلانسباق الجواز من قرينة المقابلة على ما يرشد [ إليه ] متفاهم العرف من نظائر هذا التركيب.

ألا ترى أنّه لو قيل : الإنسان إمّا عالم أو جاهل ، والعلم فضله كذا وشرفه كذا ، وعلوّ مقامه عند اللّه كذا ، وأنّه أفضل من العابد ، حتّى ورد أنّه أفضل من سبعين عابد ، وفي رواية من سبعين ألف عابد ، ينساق منه في متفاهم العرف انتفاء هذه الأحكام عن الجاهل ، فالآية لمّا دلّت على المنع من العمل من دون رجوع إلى الراسخين في المتشابهات ، ينساق منه في متفاهم العرف انتفاء المنع في المحكمات ، ولا نعني من الجواز إلاّ هذا.

وأمّا ثانيا : فلمكان قوله : ( هُنَّ أُمُ ) (2) في وصف الآيات المحكمات ، أي أصله الّذي يرجع إليه في استفادة المطالب واستنباط الأحكام ، أو الأصل الّذي يردّ إليه غيره من

ص: 121


1- سورة آل عمران : 7.
2- سورة آل عمران : 7.

المتشابهات ، وهو الأظهر كما يرشد إليه قول مولانا الرضا عليه السلام في المروي عن العيون « من ردّ متشابه القرآن ، إلى محكمه هدي إلى صراط مستقيم » - ثمّ قال - « إنّ في أخبارنا متشابها كمتشابه القرآن ، ومحكما كمحكم القرآن ، فردّوا متشابهها إلى محكمها ولا تتّبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا » (1).

فإن ردّ متشابهها إلى محكمها عبارة عن استعلام تأويل متشابهات الكتاب عن محكماته ، وهذا إنّما يتأتّى في ظاهر منه اريد منه خلاف ظاهره الّذي يعلم من قرينة منفصلة مذكورة فيه أيضا وهي النصّ ، أو ظاهر آخر بالقياس [ إلى ] أظهر في الدلالة ، بضابطة أنّ النصّ والأظهر يقدّم على الظاهر على معنى نهوض أحدهما بيانا عن إرادة خلاف الظاهر منه ، وهو التعويل في المتشابه الّذي استعلم من المحكم.

وحاصله : حمل الظاهر على إرادة خلاف ظاهره لقرينة منفصلة هي النصّ أو الأظهر ، وهو المراد من تقديم النصّ أو الأظهر ، ومنه تقديم الناسخ على المنسوخ بحمل إطلاقه بالنسبة إلى الأزمان على إرادة عدم الاستمرار ، وتقديم الخاصّ على العامّ بحمله على إرادة الخصوص ، وتقديم المقيّد على المطلق بحمله على إرادة الفرد المعيّن.

ومن المعلوم أنّ الردّ بهذا المعنى فرع على وجود محكم في القرآن يكون بالنسبة إلى المردود نصّا أو أظهر ، وعلى جواز العمل به شرعا بعدم وجود منع شرعي من استفادة المطلب منهما بالاستقلال ، وهذا لا ينافي مفاد الآية من أنّ المتشابهات يرجع فيها إلى الراسخين في العلم ، لأنّ المستفاد من مجموع الروايات الّتي منها الرواية المذكورة أنّ متشابهات القرآن على قسمين :

أحدهما : ما يعلم تأويله بملاحظة محكماته وهذا كثير.

وثانيهما : ما لا يعلم تأويله إلاّ بالرجوع إلى الراسخين في العلم الّذي هو أعمّ من الرجوع إلى سنّة النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم أو سنّة أوصيائه عليهم السلام وهذا أكثر.

ومنه ما تقدّم الإشارة إليه في تأويله الآية ( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ) (2).

وبالتأمّل فيما قرّرناه من استظهار ردّ متشابه القرآن إلى محكمه من الرواية ، يندفع ما عساه يورد على الاستدلال بالآية من استلزامه الدور ، لأنّه اثبات لحجّيّة الكتاب بالكتاب ،

ص: 122


1- عيون أخبار الرضا عليه السلام 1 : 29 / 39 وبحار الانوار 2 : 185 / 8.
2- سورة الأعراف : 204.

فإنّ الاستدلال بظاهر الكتاب الّذي وافقه أخبار الأئمّة وبياناتهم لا ينكره الاخباريّة ، بل اعتبار وجود البيان في الأخبار في العمل بظواهر الكتاب أصل مطلبهم في المقام ، مع أنّ توهّم الدور هنا مندفع من جهة اخرى وهو أنّ إشكال الدور إنّما يتوجّه لو أردنا دفع ما ادّعوه من تشابه القرآن بأجمعه من حين نزوله - على ما حكاه منهم غير واحد بالآية وليس كذلك ، بل الغرض دفع مانعيّة الأخبار المستدلّ بها على المنع من العمل بالظواهر بالآية ، لنهوضها بيانا لكون مورد المنع المستفاد من الأخبار المانعة من الاستناد بالكتاب مستقلاّ إنّما هو متشابهات القرآن لا محكماته ، وهذا ممّا لا دور فيه أصلا.

فإن قلت : إنّ الاستدلال بالآية على خروج ظواهر الكتاب عن مورد الأخبار إنّما يتمّ على تقدير اندراج الظواهر في المحكمات وهو أوّل المسألة ، لجواز اختصاص المحكمات بقطعيّات الكتاب الّتي هي النصوص.

قلت : تدخل الظواهر في المحكمات باعتبار خروجها عن المتشابهات ، فإنّ ظاهر تقسيم الكتاب في الآية إليهما أن لا واسطة بينهما ، وإلاّ كانت قسما ثالثا وهو خلاف الحصر المستفاد من التقسيم ، فالظواهر حينئذ لابدّ وأن تكون داخلة في المتشابه أو في المحكم.

والأوّل باطل لأنّ المتشابه لغة ما يشبه بعضه بعضا ، وفي اللفظ ما يشبه بعض وجوهه بعضا أي يشبهه ويماثله في الاحتمال من اللفظ ، ومرجعه إلى تساوي احتمالات وجوهه بحيث اشتبه المراد بغيره.

وقد ورد تفسير المتشابه بما ذكرناه في عدّة روايات ، كالمروي عن الصادق عليه السلام أنّه سئل عن المحكم والمتشابه فقال : « المحكم ما يعمل به والمتشابه ما اشتبه على جاهله » (1).

وفي رواية اخرى « الناسخ الثابت ، والمنسوخ ما مضى ، والمحكم ما يعمل به والمتشابه الّذي يشبه بعضه بعضا » (2) وهذا المعنى كما ترى غير متحقّق في النصّ إذ ليس فيه إلاّ وجه واحد ، ولا في الظاهر لأنّ وجهه المخالف للظاهر لا يشبه معناه الظاهر في الاحتمال لعدم تساوي احتماليهما ، والمتّبع هو الاحتمال الراجح ، فيكون الظاهر مندرجا في المحكم.

ومن ثمّ استقرّ اصطلاحهم في المحكم والمتشابه على ما هو أجود الأقوال فيهما ، بجعل الأوّل عبارة عمّا اتّضح دلالته ، والمتشابه عمّا لم يتّضح دلالته ، أي لم يتّضح معناه المراد ، لتساوي احتمالات المعاني المحتملة ، واتّضاح الدلالة أعمّ من كونها على وجه

ص: 123


1- بحار الأنوار : 66 : 93 وتفسير العيّاشي : 1 / 162.
2- بحار الأنوار : 89 : 383 ح 19 وتفسير العيّاشي : 1 / 11.

القطع بالمراد ، أو على وجه الظنّ به.

وفي معناهما ما قيل أيضا : المحكم ما علم المراد بظاهره من غير قرينة تقترن به ، ولا دلالة تدلّ على المراد به لوضوحه نحو قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً ) (1) و ( لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ) (2) ونحو ذلك ممّا لا يحتاج في معرفة المراد به إلى دلالة خارجيّة ، والمتشابه ما لا يعلم المراد بظاهره حتّى تقترن به ما يدلّ على المراد منه لالتباسه ، نحو قوله تعالى : ( وَأَضَلَّهُ اللّهُ عَلى عِلْمٍ ) (3) فإنّه يفارق ( وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ ) (4) لأنّ إضلال السامري قبيح ، وإضلال اللّه تعالى حسن ، ولا يكون إلاّ بأن يراد منه : خذله اللّه تعالى عالما بضلاله.

وما قد يوجد في الأخبار من إطلاق المحكم على النصّ ، أو على الناسخ لا ينافي ما بيّناه ، لأنّ كلاّ من النصّ والناسخ من المحكم ، بل في بعض الروايات المنسوخات من المتشابهات والناسخات من المحكمات ، وإنّما يكون الناسخ من المحكم لأنّ الآية الناسخة بصراحة دلالتها مبيّنة للآية المنسوخة ، كاشفة عن إرادة خلاف ظاهر الإطلاق من عدم استمرار الحكم المستفاد منه.

ومنها : الخبران المتقدّمان وما بمعناهما المصرّحة بأنّ المحكم ما يعمل به والمتشابه ما اشتبه أو ما يشبه بعضه بعضا ، وهذا صريح أو كالصريح في أنّ المنع المستفاد من الأخبار المانعة في غير المحكمات المندرج فيها الظواهر.

ومنها : قول مولانا أمير المؤمنين عليه السلام - في حديث في احتجاجه على زنديق - : ثمّ إنّ اللّه قسّم كلامه ثلاثة أقسام ، فجعل قسما منه يعرفه العالم والجاهل ، وقسما منه لا يعرفه إلاّ من صفا ذهنه ولطف حسّه وصحّ تمييزه ممّن شرح اللّه صدره للإسلام ، وقسما لا يعلمه إلاّ اللّه وملائكته والراسخون في العلم ، وإنّما فعل ذلك لئلاّ يدّعي أهل الباطل المستولين على ميراث رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من علم الكتاب ما لم يجعله اللّه لهم ، وليقودهم الاضطرار إلى الائتمام بمن ولىّ أمرهم فاستكبروا عن طاعته » (5) ودلالته على عدم تشابه الجميع ، وعلى عدم المنع الشرعي من العمل بغير المتشابه واضحة.

فإنّ مراده عليه السلام في التقسيم : أنّ القسم الأوّل من القرآن ما يفهمه العوامّ والعلماء مثل ( إِنَ

ص: 124


1- سوره يونس : 44.
2- سورة النساء : 40.
3- سورة الجاثية : 23.
4- سورة طه : 85.
5- بحار الأنوار : 85 / 245.

اللّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً ) (1) و ( لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ ) (2) و ( خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) (3) و ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ) (4) ( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى ) (5) و ( إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ ) (6) وما أشبه ذلك.

والقسم الثاني : ما يفهمه العلماء خاصّة بأنوار ملكات أذهانهم.

والقسم الثالث : ما يختصّ علمه بعد اللّه وملائكته بالراسخين في العلم ، وهو المتشابهات من المجملات والمؤوّلات ، وإنّما خصّه بهم لحكمة أن لا يتظاهر عليهم أهل الخلاف المتأمّرين المستولين على حقّهم الّذي جعل اللّه لهم ، بادّعاء أنّهم يشاركهم في علم القرآن جميعه ، فيدلّ ذلك على أنّ مورد الأخبار المانعة من الاستقلال متشابهات القرآن.

ومنها : عدّة روايات وردت في الفرق بين القرآن والفرقان ، مثل رواية عبد اللّه بن سنان « قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن القرآن والفرقان؟ قال : القرآن جملة الكتاب وأخبار ما يكون ، والفرقان المحكم الّذي يعمل به ، وكلّ محكم فرقان » (7) وفي معناها غيرها.

وفيها دلالة واضحة على كذب ما ادّعوه من كون جميع القرآن متشابها ، كما أنّ فيها دلالة واضحة على أنّ من حكم المحكم جواز العمل به ، فبطل به ما ادّعوه من قيام المانع من العمل بمحكماته.

ومنها : الخبر المروي عن الكافي وتفسير العيّاشي عن الصادق عليه السلام عن أبيه عليه السلام عن آبائه عليهم السلام » قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أيّها الناس إنّكم في دار هدنة ، وأنتم على ظهر سفر ، والسير بكم سريع ، وقد رأيتم الليل والنهار والشمس والقمر يبليان كلّ جديد ، ويقرّبان كلّ بعيد ، ويأتيان بكلّ موعود فأعدّوا الجهاز لبعد المجاز ، قال : فقام المقداد بن أسود فقال : يا رسول اللّه وما دار الهدنة؟

فقال : دار بلاغ وانقطاع ، فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن ، فإنّه شافع مشفّع وما حلّ مصدّق ، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنّة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار ، وهو الدليل يدلّ على خير سبيل ، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل ، وهو

ص: 125


1- سورة يونس : 44.
2- سورة النساء : 40.
3- سورة الرعد : 16.
4- سورة البقرة : 43.
5- سورة الإسراء : 32.
6- سورة النحل : 115.
7- بحار الأنوار 89 : 15 / 11 ، وتفسير العيّاشي 1 : 9.

الفصل ليس بالهزل ، وله ظهر وبطن فظاهره حكم وباطنه علم ، ظاهره أنيق وباطنه عميق ، له تخوم وعلى تخومه تخوم ، لا تحصى عجائبه ، ولا تبلى غرائبه ، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة ، ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة ... » إلى آخره (1).

ودلالته على المطلب في مواضع.

ومنها قول مولانا أمير المؤمنين عليه السلام - في خطبة له في نهج البلاغة - : « والصلاة على نبيّه الّذي أرسله بالفرقان ليكون للعالمين نذيرا ، وأنزل القرآن ليكون إلى الحقّ هاديا وبرحمته بشيرا ، فالقرآن آمر زاجر ، وصامت ناطق ، حجّة اللّه على خلقه أخذ عليهم ميثاقه » (2) فإنّ الحجّيّة على عموم الخلق مع عموم التشابه ، أو عموم المنع من العمل حتّى بغير المتشابه لا يجتمعان ، كما أنّ الهداية والبشارة برحمة الحقّ لا تتمّان مع عموم المتشابه أو منع العمل بغير المتشابه.

ومنها : أخبار الثقلين المدّعى تواترها المنقول بطرق الفريقين ، المشتمل على الأمر بالتمسّك بالكتاب المستفاد من سياقاتها وغيرها ، من نحو « ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبدا ، أو [ لن ] تضلّوا ما [ إن ] تمسّكتم بهما » (3) وظاهر التمسّك بهما - أي بكلّ منهما - استقلال كلّ منهما بالإفادة في غير ما يحتاج إلى الانضمام ، من فهم المتشابهات ومعرفة الناسخ من المنسوخ ، ويتأكّد الظهور بملاحظة عطف العترة عليهم السلام ، لاستقلاله وعدم افتقاره إلى الانضمام ، ولا ينافيه عدم افتراقهما ، إمّا لأنّ ذلك لأجل إفهام متشابهات الآيات الواجب فيه الرجوع إلى العترة ، أو لأجل الموافقة بينهما في الأحكام المودّعة في الكتاب وعند أهل البيت عليهم السلام ، وما قد يتراءى من المخالفة بينهما بالعموم والخصوص فهو مخالفة صوريّه ترتفع بإرجاع التأويل إلى أحدهما الّذي ملاكه تقديم النصّ أو الأظهر على غيرهما ، وتؤول إلى الموافقة الحاصلة من نهوض النصّ والأظهر بيانا لإرادة خلاف الظاهر من غيرهما.

ومنها : الأخبار الآمرة بعرض الخبرين المتعارضين على الكتاب ، للأخذ بما وافقه وطرح ما خالفه ، الّذي لا يتمّ إلاّ بفهمه وجواز العمل به.

ومنها : الأخبار الكثيرة الّتي احتجّ فيها الأئمّة عليهم السلام ، لأصحابهم بما غفلوا عنه من الآيات الكتابيّة على الحكم المغفول عنه ، من غير تعرّض لبيان المراد إكتفاء بفهم المخاطب.

ص: 126


1- الكافي 2 : 598 / 2 وتفسير العيّاشي 1 : 2.
2- نهج البلاغة : خطبه 183.
3- الكافي 2 : 415 / 1 والوسائل 27 : 33 / 9 ، ب 5 من أبواب صفات القاضي ومسند أحمد بن حنبل : 3 / 14.

ومن ذلك المروي في الفقيه والكافي عن الصادق عليه السلام قال له رجل : إنّ لي جيرانا ولهم جوار يتغنّين بها ويضربن بالعود ، فربّما دخلت المخرج فأطيل الجلوس استماعا منّى لهنّ ، فقال الصادق عليه السلام : « لا تفعل ، فقال : واللّه ما هو شيء آتيه برجلي إنّما هو سماع سمعه اذني ، فقال الصادق عليه السلام : تاللّه أنت أما سمعت اللّه يقول ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً ) (1) فقال الرجل : كأنّي لم أسمع بهذه الآية من كتاب اللّه من عربي ولا عجمي » (2).

ونحوها الأخبار الكثيرة المتضمّنة لتعليم الأئمّة عليهم السلام أصحابهم الاحتجاج بما ورد في الكتاب على خصومهم من أهل الضلال ، وكذلك الأخبار المتضمّنة لتقرير الأئمّة عليهم السلام احتجاجات أصحابهم بعضهم على بعض في الاصول والفروع.

ومن ذلك : ما عن زرارة ومحمّد بن مسلم ، قال : قلنا للباقر عليه السلام : ما تقول في الصلاة في السفر كيف هي وكم هو؟ فقال : إنّ اللّه عزّ وجلّ يقول ( وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) (3) فصار التقصير في السفر كوجوب التمام في الحضر ، قال قلنا إنّما قال تعالى ( وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ ) ولم يقل : إفعلوا ، وكيف وجب ذلك؟ فقال عليه السلام : أو ليس قد قال اللّه عزّ وجلّ في الصفا والمروة ( فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ) (4) ألا ترون أنّ الطواف بهما واجب مفروض ، لأنّ اللّه عزّ وجلّ ذكره في كتابه وصنعه نبيّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وكذا التقصير في السفر شيء صنعه نبيّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وذكره اللّه تعالى في كتابه ... » إلى آخره (5).

فإنّ زرارة ومحمّد بن مسلم تمسّكا بظاهر الكتاب في عدم دلالة نفي الجناح على الوجوب ، بل الدالّ عليه هو صيغة الأمر ولم يأت بها اللّه سبحانه ، ولم يردعهما الإمام عليه السلام ولم يقل لهما ليس لكم الاستقلال بالتمسّك بظواهر الكتاب ، بل ذكر لهما أنّ هذا الظاهر ونظيره في نظركم اريد بهما خلاف ظاهرهما وهو الإيجاب ، والقرينة عليه فعل النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم الّذي هو بيان فعليّ للمحمل الّذي هو من المؤوّل.

ثمّ إنّ للفاضل السيّد الصدر كلاما في هذا المقام يعجبني ذكره للتنبيه على بعض ما يرد عليه ، فإنّه - على ما حكى - بعد ما قال : « إنّ الحقّ في العمل بالظواهر مع الأخباريّين » ذكر

ص: 127


1- سورة الإسراء : 6.
2- من لا يحضره الفقيه 1 : 80 / 177.
3- سورة النساء : 101.
4- سورة البقرة : 158.
5- من لا يحضره الفقيه 1 : 434 / 1265.

ما خلاصته : أنّ التوضيح يظهر بعد مقدّمتين :

الاولى : أنّ بقاء التكليف ممّا لا شكّ فيه ، ولزوم [ العمل ] بمقتضاه موقوف على الإفهام ، وهو يكون في الأكثر بالقول ، ودلالته في الأكثر تكون ظنّيّة ، إذ مدار الإفهام على القاء الحقائق مجرّدة عن القرينة وعلى ما يفهمون ، وإن كان احتمال التجوّز وخفاء القرينة باقيا.

الثانية : أنّ التشابه كما يكون في أصل اللغة (1) كذلك يكون بحسب الاصطلاح ، مثل أن يقول أحد : « أنا أستعمل العمومات وكثيرا مّا اريد الخصوص من غير قرينة ، وربما اخاطب أحدا واريد غيره ونحو ذلك » ، فحينئذ لا يجوز لنا القطع بمراده ، ولا يحصل لنا الظنّ به ، والقرآن من هذا القبيل ، لأنّه نزل على اصطلاح خاصّ ، لا أقول على وضع جديد ، بل أعمّ من أن يكون ذلك أو يكون فيه مجازات لا يعرفها العرب ، ومع ذلك قد وجد [ ت ] فيه كلمات لا يعلم المراد منها كالمقطّعات.

- ثمّ قال - قال : سبحانه : ( مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ) (2) الآية ، ذمّ على اتّباع المتشابه ، ولم يبيّن لهم المتشابهات ما هي ، وكم هي؟ بل لم يبيّن لهم المراد من هذا اللفظ ، وجعل البيان موكولا إلى خلفائه والنبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم نهى الناس عن التفسير بالآراء ، وجعل الأصل عدم العمل بالظنّ إلاّ ما أخرجه الدليل.

إذا تمهّد المقدّمتان فنقول : مقتضى الاولى العمل بالظواهر ومقتضى الثانية عدم العمل ، لأنّ ما صار متشابها لا يحصل الظنّ بالمراد منه ، وما بقي ظهوره مندرج في الأصل المذكور فنطالب بدليل جواز العمل ، لأنّ الأصل الثابت عند الخاصّة هو عدم جواز العمل بالظنّ إلاّ ما أخرجه الدليل.

لا يقال : إنّ الظاهر من المحكم ووجوب العمل بالمحكم إجماعيّ ، لأنّا نمنع الصغرى ، إذ المعلوم عندنا مساواة المحكم للنصّ ، وأمّا شموله للظاهر فلا - إلى أن قال -

لا يقال : إنّ ما ذكرتم لو تمّ لدلّ على عدم جواز العمل بظواهر الأخبار أيضا ، لما فيها من الناسخ والمنسوخ ، والمحكم والمتشابه ، والعامّ المخصّص ، والمطلق المقيّد.

لأنّا نقول : إنّا لو خلّينا وأنفسنا لعملنا بظواهر الكتاب والسنّة مع عدم نصب القرينة على خلافها ، ولكنّا منعنا من ذلك في القرآن للمنع من اتّباع المتشابه وعدم بيان حقيقته ، ومنعنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عن تفسير القرآن ، ولا ريب في أنّ غير النصّ محتاج إلى التفسير ،

ص: 128


1- كما في المشتركات ( منه ).
2- سورة آل عمران : 7.

وأيضا ذمّ اللّه تعالى عن اتّباع الظنّ وكذا الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم وأوصيائه ، ولم يستثنوا ظواهر القرآن - إلى أن قال -

وأمّا الأخبار ، فقد سبق أنّ أصحاب الأئمّة عليهم السلام كانوا عاملين بأخبار الآحاد من غير فحص عن مخصّص ، أو معارض ناسخ ، أو مقيّد ، ولولا هذا لكنّا في العمل بظواهر الأخبار أيضا من المتوقّفين » (1) إنتهى.

وفيه من جهات الاختلال ما لا يخفى ، خصوصا تهافت بعضه بعضا حيث أفاد تارة كون الوجه في عدم جواز العمل بظواهر القرآن لفقد (2) المقتضي ، واخرى كونه وجود المانع كما يظهر للمتأمّل المتدبّر.

ومع الغضّ عن ذلك فأوّل ما يرد عليه : منع عدم شمول المحكم للظاهر ، بل الظاهر بحسب العرف واللغة - على ما بيّناه سابقا - من المحكم لا المتشابه لعدم تحقّق التشابه بمعناه اللغوي فيه ، وعلى طبقه وردت الرواية كما تقدّم حيث فسّر المتشابه فيها بما يشبه بعضه بعضا ، فاللغة والعرف والشرع متطابقات في عدم كون الظاهر من المتشابه ، فلا جرم يكون من المحكم لانتفاء الواسطة فيما بينهما.

ولو سلّم قيام احتمال التشابه من جهة احتمال إرادة خلاف الظاهر من غير قرينة فهو غير ضائر ، إذ العلم بكون الشيء محكما ليس شرطا ، بل العلم بكونه متشابها مانع ، فالاحتمال غير قادح في محكميّة المحكم ، وإلاّ خرج أصالة الحقيقة بلا مورد كما يرشد إليه التأمّل.

وثاني ما يرد عليه : أنّ الإجماع العملي الّذي ادّعاه من أصحاب الأئمّة عليهم السلام في العمل بظواهر الأخبار ليس لأمر مختصّ بالأخبار ، بل لأمر مشترك بينها وبين الكتاب ، وهو الأمر المركوز في أذهانهم وأذهان قاطبة أهل اللسان قديما وحديثا في مطلق كلام المتكلّم ، وهو أنّ الأصل في كلام كلّ متكلّم كونه مقصودا به اللفظ والمعنى والإفهام الّذي لا يتمّ إلاّ بحمل كلّ ظاهر على ظاهره ، لئلاّ يلزم الإغراء بالجهل إلى أن يعلم قرينة خلافه ، وهذا هو المقتضي لجواز العمل بالظواهر في كلّ من الكتاب والأخبار ، ولو كان هناك إجماع مخرج من الأصل الأوّلي المقتضي للتحريم كان مدركه ذلك الأصل ، وهذا الأصل هو مفاد المقدّمة

ص: 129


1- فرائد الاصول 1 : 151 - 153 وشرح الوافية ( مخطوط ) : 140 - 146.
2- كذا في الأصل والأنسب « فقد المقتضي ».

الاولى حسبما ذكره ، وهو وارد على الأصل الّذي ذكره في المقدّمة الثانية ، فبطل بهذا كلّه دعوى فقد المقتضي.

وأمّا دعوى وجود المانع فقد ظهر بطلانها بما لا مزيد عليه من خروج ظواهر الكتاب عن دائرة العلم الإجمالي بعدم وجدان بيان إرادة خلاف الظاهر في أخبار أهل الذكر عليهم السلام بعد الفحص.

وتشابه هذه الظواهر من حين نزولها فلا ينفعه الفحص ، مردود : على مدّعيه ، لإجماع الفريقين على أنّ في الكتاب ظواهر محمولة على ظواهر من غير قرينة ، ومن أنّ حمل كلّ ظاهر على ظاهره ليس من التفسير في شيء ، ولو سلّم كونه من التفسير فكونه تفسيرا بالرأي ممنوع أشدّ المنع.

وبهذا كلّه ظهر ما في قوله : « ولا ريب في أنّ غير النصّ محتاج إلى التفسير » فإنّ المحتاج إلى التفسير ممّا عدا النصّ إنّما هو المتشابهات ، والظواهر ليست منها في عرف ولا لغة.

ودعوى : أنّ كلام ملك العلاّم لم يقصد به إفادة المطالب واستفادتها بالاستقلال ، بل بانضمام بيان أهل الذكر وتفسيرهم غير مسموعة ، كيف وهي لا تتمّ إلاّ على تقدير صحّة دعوى نزول القرآن من حين نزوله متشابها ، أو في غير نصوصه ، باعتبار كون جميع ظواهره مجازات مرادة بها معانيها المجازيّة من غير قرينة ، فاحيل بيانه إلى أهل الذكر ، والتقدير باطل لكونه دافعا للبداهة وقاطعا للضرورة.

ثمّ إنّه ينبغي ختم المسألة بذكر امور :

هل البحث عن حجّية ظواهر الكتاب قليل الجدوى أم لا؟

أوّلها : ما حكاه شيخنا قدس سره من « أنّه ربّما يتوهّم بعض (1) أنّ الخلاف في اعتبار ظواهر الكتاب قليل الجدوى ، إذ ليست فيه آية متعلّقة بالفروع والاصول إلاّ وقد ورد في بيانها أو في الحكم الموافق لها خبر أو أخبار كثيرة ، بل انعقد الإجماع على أكثرها ، مع أنّ جلّ آيات الاصول والفروع بل كلّها مما تعلّق الحكم فيها بامور مجملة لا يمكن العمل بها إلاّ بعد أخذ تفاصيلها من الأخبار » إنتهى (2).

وأورد عليه : بأنّ لعلّه قصّر نظره على الآيات الواردة في العبادات ، فإنّ أغلبها من قبيل ما ذكره ، وإلاّ فالعمومات والإطلاقات الواردة في المعاملات ممّا يتمسّك بها في الفروع المتجدّدة ، أو القديمة الغير المنصوصة أو المنصوصة بالنصوص المتعارضة المتكافئة كثيرة

ص: 130


1- هو الفاضل النراقي في مناهج الأحكام : 156.
2- فرائد الاصول : 24 / 155.

جدّا مثل : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) و ( وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (2) و ( تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (3) و ( فَرِهنٌ مَقْبُوضَةٌ ) (4) و ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) (5) و ( وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (6) و ( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ) (7) و ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) (8) و ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ ) (9) و ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ) (10) و ( عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ ) (11) و ( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (12) و ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ) (13) وغير ذلك ممّا لا يحصى كثرة ، بل هي في العبادات أيضا كثيرة مثل قوله : ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ ) (14) و ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) (15) و ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) (16) و ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا ) (17) وما أشبه ذلك ، فإنّ تمسّكهم بهذه الآيات ونظائرها في كافّة الفروع والاصول ممّا لا يخفى أمره على أحد ، كما أنّ تكثّر الفروع المتجدّدة والقديمة الغير المنصوصة أو المنصوصة بالنصوص الغير السليمة عن المعارض المكافئ ممّا لا يقابل بالإنكار ، كما أنّ عدم انتهاء أفراد هذه العمومات والإطلاقات إلى عدد مع عدم ورود خبر موافق سليم عمّا يكافئه إلاّ في أقلّ قليل منها ممّا لا ينكره إلاّ مكابر ، فلولا اعتبار هذه الآيات وحجّيّة هذه الظواهر لم يستقم التمسّك بها في تلك الفروع وهذه الأفراد.

في اختلاف القراءة في لفظ الكتاب

ثانيها : إذا اختلفت القراءة في لفظ الكتاب فهو على قسمين :

أحدهما : أن لا يوجب اختلافها اختلافا في المؤدّى بحيث لزم منه اختلاف الحكم الشرعي المستفاد منها ، كما في قوله : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) (18) كما في الأكثر ، أو « فتثبّتوا » كما عن بعضهم ، ومؤدّاهما واحد ولذا يعبّر كثيرا في كلماتهم مكان « التبيّن » بالتثبّت وهذا ممّا لا كلام لنا فيه هنا.

ص: 131


1- سورة المائدة : 1.
2- سورة البقرة : 275.
3- سورة النساء : 29.
4- سورة البقرة : 283.
5- سورة النساء : 5.
6- سورة الأنعام : 152.
7- سورة النساء : 24.
8- سورة الحجرات : 6.
9- سورة التوبة : 122.
10- سورة الأنبياء : 7.
11- سورة النحل : 75.
12- سورة التوبة : 28.
13- سورة المائدة : 4.
14- سورة التوبة : 28.
15- سورة المائدة : 6.
16- سورة المائدة : 6.
17- سورة النساء : 43.
18- سورة الحجرات : 6.

والقسم الآخر : ما يختلف المؤدّى بسبب اختلاف القراءة بحيث [ لزم منه ] اختلاف الحكم الشرعي ، كما في قوله تعالى : ( وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ) (1) حيث قرأ تارة بالتخفيف من الطهر الظاهر في النقاء عن الحيض ، واخرى بالتشديد من التطهّر الظاهر في الاغتسال.

وفائدة الاختلاف تظهر في حلّ الوطئ بعد النقاء وقبل الاغتسال وعدمه على ما هو مفاد الغاية ، فهل الحكم في نحو ذلك هو الجمع والإعمال بإرجاع التأويل إلى أحدهما لمرجّح الدلالة في الآخر من نصوصيّة أو أظهريّة ، والتخيير مع فقده أو التخيير مطلقا ، أو الوقف مع فقد المرجّح أو مطلقا والرجوع إلى الاصول أو القواعد العامّة؟ احتمالات :

وبيان ما هو الحقّ منها موقوف على ثبوت إحدى المقدّمتين :

الاولى : كون القراءات السبع المشهورة - وهي قراءة نافع وأبو عمرو والكسائي وابن عامر وابن كثير وعاصم وحمزة - كلّها ، أو هي مع الثلاث الباقية كقراءة أبي جعفر ويعقوب وخلف متواترة ، والمراد تواترها عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى القرّاء ، لا مجرّد تواترها عن القرّاء إلينا فقط ، ليكون سند كلّ قراءة قطعيّا على معنى حصول القطع لنا بصدورها عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم عن اللّه سبحانه بملاحظة التواتر ، وحينئذ تصير القراءتان في محلّ الاختلاف بمنزلة آيتين أو خبرين متواترين لفظا تعارضا من حيث الدلالة ، فيجب الجمع بينهما بحمل الظاهر منهما على النصّ أو الأظهر عملا بمرجّح الدلالة من النصوصيّة أو الأظهريّة إن كان موجودا ، فيحمل « يطّهرن » (2) بالتشديد على إرادة النقاء من الدم ، لأنّ « يطهرن » بالتخفيف أظهر دلالة في النقاء من « يطّهرن » بالتشديد في الاغتسال ، ويحتمل العكس بحمله مخفّفا على إرادة الطهارة من حدث الحيض الّذي لا يرتفع إلاّ بالاغتسال ، بدعوى : أنّ المشدّد منه أظهر في الاغتسال من مخفّفه في النقاء.

وفي كلام بعض الأعلام : « أنّ المرجّح هنا ثبت للتخفيف » (3) والظاهر أنّ مراده المرجّح الداخلي كما ذكرنا ، ويحتمل إرادة المرجّح الخارجي كورود الخبر على طبق التخفيف ، كما ورد في الأخبار ممّا دلّ على حلّ الوطئ قبل الاغتسال وبعد النقاء على كراهيّة.

الثانية : ثبوت الإجماع على تقدير عدم ثبوت التواتر على الوجه المذكور على جواز الاستدلال بكلّ قراءة ، كما ثبت الإجماع على جواز القراءة بكلّ قراءة ، فتصير بمنزلة

ص: 132


1- سورة البقرة : 222.
2- سورة البقرة : 222.
3- قوانين الاصول 1 : 406.

خبرين متعارضين في الدلالة قام الإجماع على حجّيّة كلّ منهما ، أو علم حجّيّة كلّ بدليل علمي آخر ، فلابدّ من الجمع أيضا على النهج المذكور.

وعلى تقدير وجود مرجّح الدلالة وإن لم يثبت التواتر ولا الإجماع تصيران كخبرين متعارضين ، علم صدور أحدهما دون الآخر ، فلاشتباه الحجّة حينئذ بغيرها لابدّ من التوقّف في محلّ التعارض ، والرجوع إلى غيرهما من أصل أو قاعدة كلّيّة مع عدم مرجّح لإحدى القراءتين ، أو على تقدير عدم ثبوت الترجيح.

ومن الاصول ما يقتضي موافقة قراءة التخفيف وهو استصحاب الحالة السابقة على النقاء ، أعني حرمة الوطئ الثابتة حال وجود الدم إلى أن يحصل الاغتسال.

ونقض بعموم قوله تعالى : ( فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ) (1) من حيث الأزمان ، بناء على كون كلمة « أنّى » لعموم الزمان لا المكان ، خرج منه أيّام الحيض وبقي الباقي ومنه ما بين النقاء والاغتسال ، فيدور الأمر بين استصحاب حكم المخصّص أو العمل بالعموم الزماني ، ويبطل الأوّل : بأنّ العموم ولو كان زمانيّا دليل اجتهادي ، وقد أخذ في موضوع الاستصحاب فقده فلا يجري مع وجوده.

وفيه : أنّه إنّما يستقيم فيما إذا لزم بالاستصحاب تخصيص في العامّ وطرح لعموم ، كما لو ورد الأمر بصيام كلّ يوم ثمّ نهي عن صوم يوم الجمعة مثلا ، فإذا استصحب الحرمة ليوم السبت أيضا لزم بالاستصحاب تخصيص زائد على التخصيص ، وليس الحال في محلّ البحث كذلك ، إذ لا يلزم من استصحاب حرمة الوطئ قبل الاغتسال تخصيص آخر في عموم ( أَنَّى شِئْتُمْ ) غير ما لزم بالمخصّص الأوّل وهو آية ( لا تَقْرَبُوهُنَ ) نظرا إلى إجمال الغاية الموجودة فيها بسبب اختلاف القراءة ، فيسري الإجمال إلى العامّ بقدر ما بين النقاء إلى الاغتسال.

وإن شئت فاستوضح ذلك بفرض أمارة معتبرة مكان الاستصحاب كالخبر الجامع لشرائط الحجّيّة الدالّ على حرمة الوقاع قبل الاغتسال ، فإنّ هذه الحرمة ليست حرمة اخرى بل من تتمّة الحرمة الاولى الّتي أفادها المخصّص الأوّل ، والخبر المفروض مبيّن له ورافع للإجمال عنه وعن العامّ ، وكاشف عن كون غاية حرمة الوقاع حسبما اريد من قوله : ( حَتَّى يَطْهُرْنَ ) هو الاغتسال.

ص: 133


1- سورة البقرة : 223.

وبالجملة طول زمان الحرمة المستفادة من المخصّص الأوّل لا يعدّ تخصيصا آخر ، فالاستصحاب المذكور لا يزاحمه شيء من طرف العامّ لمكان الإجمال.

في تواتر القراءات

ولما انجرّ الكلام إلى ذكر تواتر القراءات فلا بأس بالتكلّم في هذا المطلب فنقول : المعروف من مذهب الأصحاب تواتر السبع المعروفة ، وفي كلام جماعة (1) دعوى الشهرة فيه. وعن جامع (2) المقاصد والعزّيه (3) وفى الروض دعوى الإجماع على تواترها ، وعن مجمع البرهان (4) نفي الخلاف فيه ، وعن جماعة منهم الشهيدان في الذكرى (5) وروض الجنان (6) دعوى التواتر في الثلاث الباقية أيضا.

وفي كلام بعض الأعلام (7) : « كونه المشهور بين المتأخّرين » ناقلا له عن روض الجنان أيضا.

وفي كلام بعض الأعلام : « ثمّ إنّ ظاهر الأكثر أنّها متواترة إن كانت جوهريّة إلى أن قال : وأمّا إذا كانت ادائيّة كالإمالة والمدّ واللين فلا ، لأنّ القرآن هو الكلام وصفات الألفاظ ليست كلاما لأنّه لا يوجب ذلك اختلافا في المعنى ، فلا يتعلّق فائدة مهمّة بتواتره » (8) إنتهى.

والمراد بالجوهريّة ما يتعلّق بأصل الكلمة وحروفها كما في « مالك » و « ملك » بإثبات الألف وإسقاطه ، و « يطهرن » و « يطّهرن » بالتخفيف والتشديد وما أشبه ذلك.

وبالأدائيّة ما يتعلّق بكيفيّة أداء حروف الكلمة كالمدّ والإمالة واللين فهي من قبيل صفات الكلمة وحروفها.

وربّما عدّ ما ذكره رحمه اللّه من توجيه كلام الأكثر قولا بالتفصيل في المسألة وهو خيرة الزبدة. (9)

ثمّ من المعلوم أنّ تواتر القراءات كلّها أو بعضها مبنيّ على تواتر أصل القرآن ، لأنّ القراءة فرع فما لم يكن الأصل متواترا لم يعقل كون الفرع متواترا ، وأمّا تواتر الأصل فالظاهر أنّه لا كلام لهم فيه ، فإنّهم ذكروا من غير خلاف أنّ القرآن متواتر فما نقل آحادا

ص: 134


1- قوانين الاصول : 1 / 406 ومفاتيح الاصول : 322 ومناهج الأحكام : 150.
2- جامع المقاصد 2 : 245 - 246.
3- نقله عنه في مفتاح الكرامة 7 : 209.
4- مجمع الفائدة والبرهان 2 : 217.
5- الذكرى : 3 / 305.
6- روض الجنان : 264.
7- قوانين : 1 / 406.
8- قوانين الاصول : 1 / 406.
9- الزبدة : 61.

فليس بقرآن ، بل عندنا ألآن بل في جميع الأزمان ما هو أعلى من التواتر ، وهو التسامع والتظافر بين المسلمين البالغ بالقرآن ، وكونه كتاب نبيّنا صلى اللّه عليه وآله وسلم عن اللّه سبحانه إلى حدّ ضروريّ الدين ، حتّى أنّ منكره من المسلمين يلحق بالمرتدّين ، بل يعرفه سائر الملل والأديان ويعلمون أنّ الكتاب الّذي أتى به نبيّ هذه الامّة هو القرآن ، فلا جدوى في الإطالة والإطناب لإثبات تواتره ، ولا حاجة إلى تجشّم الاستدلال عليه بما ذكروه من توفّر الدواعي إلى نقله إلينا لما يتضمّنه من التحدّي والإعجاز ، وكونه أصل الأحكام وكلّما كان كذلك فالعادة تقضي بنقله متواترا.

وبالجملة ضروري الصدور من الشارع لا حاجة فيه إلى النظر والاستدلال ، وكيف كان فاحتجّوا على تواتره بوجوه :

منها : ما نقله بعض مشايخنا من أنّا قد أثبتنا كون القرآن متواترا ، فهو إمّا متواتر في القراءات السبع ، أو في بعضها دون بعض ، أو في غيرها ، أو لا فيها ولا في غيرها ، ولا سبيل إلى ما عدا الأوّل لبطلان الأخير بدليل الخلف ، فإنّ القرآن المتواتر لابدّ وأن يكون مقروّا بشيء من القراءات ، فإذا لم يكن متواترا في السبع ولا في غيرها لم يكن أصله متواترا ، وقد أثبتنا كونه متواترا.

وبطلان الثالث بعدم قائل به ، وكونه خلاف بديهة العقل نظرا إلى الأولويّة ، فإنّه بنى على كونه متواترا في قراءة فكونه كذلك في القراءات المعهودة المتداولة أولى من غيرها ، وبطلان الثاني بلزوم الترجيح من غير مرجّح ، فيتعيّن الأوّل.

ويزيّفه : منع لزوم الترجيح بغير مرجّح على تقدير اختيار الثاني ، فإنّا نقطع بأنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم قرأ القرآن على الوجه الصحيح ، والقدر المتيقّن منه واحدة من السبع أو العشر أو القدر الجامع بينها.

غاية الأمر أنّه تشابه علينا فلو بلغ نقله إلى القرّاء حدّ التواتر وإن اشتبه علينا لم يلزم الترجيح بلا مرجّح كما هو واضح.

وقد يجاب : بمنع الملازمة أيضا ، بأنّه إنّما يلزم على تقدير التسوية الواقعيّة بين القراءات مع عدم المرجّح في الواقع ، ومن الجايز عدم التسوية ووجود المرجّح في الواقع بالنسبة إلى البعض ، كما لو كان دواعي النقل فيه أكثر ، وشرائط التواتر فيه أجمع.

غاية الأمر عدم تعيّنه لنا ، وهو غير ضائر بعد ما كان المراد من التواتر ما تواتر عن

ص: 135

النبيّ إلى القرّاء ، فلا يرد أنّ المتواتر لا يشتبه.

ومنها : قضاء العادة بكونها متواترة لتوفّر الدواعي إلى نقلها.

ويزيّفه : أنّ قضاء العادة بتواتر الجميع قضيّة شرطيّة ، فإنّها إنّما تقضي على تقدير صدور الجميع عن النبيّ ، والكلام إنّما هو في صدق الشرط فمع قيام احتمال كون الصادر منه واحدة منها أو القدر المشترك بينها ، فالعادة لا تقضي بتواتر ما سواه.

ومنها : أنّ القراءة كيفيّة عارضة للفظ ، فيكون من قبيل الهيئة والهيئة جزء من اللفظ المركّب منها ومن المادّة ، وعدم تواترها يقضي بعدم تواتر الكلّ ، فيلزم عدم تواتر القرآن وهو خلاف الفرض.

ويزيّفه : أنّ الهيئة في ضمن قراءة مّا من القراءات ولا يلزم من عدم تواتر جميع السبع عدم تواتر البعض ، فلا يلزم خروج القرآن عن كونه متواترا كما هو واضح.

ومنها : الإجماعات المنقولة عن جماعة - كما تقدّم - المعتضدة بالشهرة المحقّقة والمحكيّة ونفي الخلاف.

ويزيّفه : - مع بعد تحقّق الإجماع الكاشف في محلّ البحث - أنّ هذه الإجماعات موهونة لا تفيدنا قطعا ولا ظنّا بالتواتر.

أمّا أوّلا : فلأنّه يوهنها مخالفة جمع من أساطين الطائفة كالشيخ في التبيان ، والطبرسي في مجمع البيان ، والسيّد الأجلّ عليّ بن طاووس في مواضع من كتاب سعد السعود ، والسيّد الجزائري في رسالة منبع الحياة ، والشهيد الثاني في شرح الألفيّة ، والفاضل المحدّث الكاشاني في مقدّمات تفسيره والعلاّمة البهبهاني في حاشية المدارك ، وبعض الأعلام وغيره ، لكون عبائرهم بين ظاهرة وصريحة في إنكار التواتر حتّى في السبع.

ففي المحكي عن التبيان « أنّ المعروف من مذهب الإماميّة والتطلّع في أخبارهم ورواياتهم أنّ القرآن نزل بحرف واحد على نبيّ واحد ، غير أنّهم أجمعوا على جواز القراءة بما يتداوله القرّاء ، وأنّ الإنسان مخيّر بأيّ قراءة شاء قرأ ، وكرهوا تجريد قراءة بعينها. » (1)

وفي مجمع البيان : « الظاهر من مذهب الإمامية أنّهم أجمعوا على القراءة المتداولة وكرهوا تجريد قراءة مفردة ، والشائع في أخبارهم أنّ القرآن نزل بحرف واحد. » (2)

وعن السيّد الجزائري - أنّه بعد ما اختار عدم التواتر - قال : « فقد وافقنا عليه السيّد

ص: 136


1- التبيان : 1 : 7.
2- مجمع البيان : 1 : 12.

الأجلّ عليّ بن طاووس في مواضع من كتاب سعد السعود » (1).

وفي المحكي عن شرح الألفيّة : « واعلم أنّه ليس المراد أنّ كلّما ورد من هذه القراءات متواترة ، بل المراد انحصار التواتر الآن فيما نقل من هذه القراءات ، فإنّ بعض ما نقل من السبعة شاذّ فضلا عن غيرهم كما حقّقه جماعة من أهل هذا الشأن » (2) ولا ينافيه ما عنه أيضا في الكتاب المذكور « من أنّ كلاّ من القراءات السبع من عند اللّه تعالى عزّ وجلّ ، نزل به الروح الأمين على قلب سيّد المرسلين صلوات اللّه عليه وآله الطاهرين تخفيفا على الامّة وتهوينا على أهل هذه الملّة » (3) لجواز أنّه إنّما علم ذلك من غير جهة التواتر عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم.

وفي أواخر المقدّمة الثامنة من تفسير الكاشاني : « وقد اشتهر بين الفقهاء وجوب التزام عدم الخروج عن القراءات السبع أو العشر المعروفة لتواترها وشذوذ غيرها ، والحقّ أنّ المتواتر من القرآن اليوم ليس إلاّ القدر المشترك بين القراءات جميعا دون خصوص آحادها ، إذ المقطوع به ليس إلاّ ذلك ، فإنّ المتواتر لا يشتبه بغيره. » (4)

وفي المحكي عن حاشية المدارك : « أنّ المراد بالمتواتر ما تواتر صحّة قراءته في زمان الأئمّة عليهم السلام بحيث يظهر أنّهم كانوا يرضون به ويصحّحون ويجوّزون ارتكابه في الصلاة ، لأنّهم صلوات اللّه عليهم كانوا راضين بقراءة القرآن على ما هو عند الناس ، وربّما كانوا يمنعون من قراءة الحقّ ويقولون (5) هي مخصوصة بزمان ظهور القائم عليه السلام » (6).

وفي كلام بعض الأعلام ما ملخّصه : « أنّ الّذي يمكن أن يدّعى معلوميّته هو كون مرادهم من تواتر القراءات تواترها عن الأئمّة عليهم السلام ، بمعنى تجويزهم قراءتها والعمل على مقتضاها لأمرهم بقراءة القرآن كما يقرأه الناس وتقريرهم لأصحابهم على ذلك.

وهذا لا ينافي عدم علميّة صدورها عن النبيّ ووقوع الزيادة والنقصان فيه ، قال : والإذعان بذلك والسكوت عمّا سواه أوفق بطريقة الاحتياط » (7) بل ربّما نسب الإنكار إلى جماعة من العامّة أيضا.

وأمّا ثانيا : فلمنع انعقاد العدد المعتبر في التواتر بالنسبة إلى شيء من القراءات في شيء

ص: 137


1- سعد السعود : 145.
2- المقاصد العليّة : 245.
3- المقاصد العليّة : 245.
4- تفسير الكاشاني : 15.
5- انظر الكافي : 2 : 633 / 23.
6- الحاشية على مدرك الأحكام 3 : 20.
7- قوانين الاصول 1 : 406.

من الطبقات ، بل أكثر القرّاء رواية - على ما ضبطه الطبرسي في مجمع البيان - حمزة بن حبيب الزيّاد (1) لأنّ له سبع روايات.

وأمّا من عداه فعلى الاختلاف بين الستّ والأربع والثلاث والاثنتين ورواية واحدة ، ولا ريب أنّ السبعة لا يكفي في عدد التواتر فكيف بما هو أقلّ منه ، خصوصا مع كون رواتهم من أهل الخلاف ، وخصوصا مع ما يظهر منهم في بعض المواضع من ابتناء قراءتهم المخصوصة واختيارهم لها على نحو من اجتهادهم ، كما في « مالك » و « ملك » على ما حكاه في المجمع.

وأمّا ما قيل : من أنّ بعض القرّاء من المتأخّرين أفرد كتابا في أسماء الرجال الّذين نقلوها في كلّ طبقة وهم يزيدون عمّا يعتبر في التواتر ، ففيه : منع واضح ، لأنّ ذلك إنّما يسلّم في مجموع رواة مجموع القراءات لا مطلقا.

وبعد الغضّ عمّا ذكرناه في توهين الإجماعات نقول : بأنّ أقصاها إفادة الظنّ بتواتر السبع ، والظنّ به يقضي إلى الظنّ بصدور الجميع عن النبيّ ، فتكون الإجماعات بمنزلة خبر واحد ظنّي دالّ على ذلك ، فيعارضه ما سيأتي ممّا يدلّ من الأخبار على أنّ القرآن نزل من عند واحد على حرف واحد ، تكذيبا لمن ادّعى على نزوله على سبعة أحرف تنزيلا له على وجوه قراءات السبع.

ومنها : أنّ تواتر السبع أو هي مع الثالث الباقية ما أخبر به العدول من فقهائنا وهو لا يقصر عن نقل الإجماع ، وعن جامع المقاصد (2) والمقاصد العليّة (3) والروض (4) « أنّ شهادة الشهيد (5) لا تقصر عن ثبوت الاجماع بخبر الواحد ».

ويزيّفه : أنّ غايته الظنّ بصدور الجميع فيأتي حديث المعارضة المذكورة.

ومنها : ما روته العامّة عن النبيّ وادّعى بعضهم تواتره ، أنّه قال : « نزل القرآن على سبعة أحرف كلّها شاف كاف » (6) بناء على ما عليه بعضهم من حمل السبعة أحرف على سبعة أوجه من القراءات.

ص: 138


1- مجمع البيان 1 : 12.
2- جامع المقاصد 2 : 246.
3- المقاصد العليّة : 529.
4- روض الجنان : 264.
5- في ذكرى الشيعة 3 : 305.
6- سنن النسائي : 37 ومسند أحمد بن حنبل 5 : 16 و 41 وصحيح البخاري 5 : 27.

ومن طرق أصحابنا ما رواه في الخصال عن عيسى بن عبد اللّه الهاشمي عن أبيه عن آبائه « قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : أتاني آت من [ عند ] اللّه تعالى فقال : إنّ اللّه تعالى يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد ، فقلت : يا ربّ وسّع على امّتي ، فقال : إنّ اللّه تعالى يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف » (1).

ويرد عليهما : - بعد الإغماض عن ضعف سنديهما وعدم معلوميّة تواتر الاولى منهما - منع الدلالة.

أمّا أوّلا : فلعدم التعرّض فيهما لتواتر السبع ، بل غايته الدلالة على كون نزوله من اللّه على سبعة أحرف كما في الاولى ، أو على كون المرخّص من اللّه سبحانه هو قراءة على سبعة أحرف ، فغايته ثبوت السبعة أحرف بخبر الواحد لا بالتواتر عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم.

وأمّا ثانيا : فلمنع كون الأحرف مرادا بها القراءات السبع ، لجواز أن يراد بها سبعة لغات كما حمل عليه ابن الأثير في نهايته (2) ، أو سبعة أقسام : أمر ، وزجر وترغيب ، وترهيب ، وجدل ، وقصص ، ومثل ، كما في رواية (3).

وفي اخرى « زجر وأمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال » (4).

ويؤيّدهما المروي عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام « إنّ اللّه تبارك وتعالى أنزل القرآن على سبعة أقسام ، كلّ قسم منها شاف كاف ، وهي أمر وزجر وترغيب وترهيب وجدل ومثل وقصص » (5) أو سبعة أبطن كما في غير واحد من الروايات كما يكشف عنه ما رواه في الخصال باسناده عن حمّاد بن [ عثمان ] ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام « إنّ الأحاديث تختلف منكم ، قال : فقال : إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف ، وأدنى ما للإمام أن يفتي على سبعة وجوه ، ثمّ قال : هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب » (6).

ومع الغضّ عن جميع ما ذكر ، فالخبران يعارضان ما هو أقوى منهما ، كالمروي في الكافي في الحسن كالصحيح عن الفضيل بن زياد « قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : إنّ الناس يقولون إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف ، فقال : كذبوا أعداء اللّه ولكنّه نزل على حرف واحد من عند الواحد » (7).

ص: 139


1- الخصال : 1 : 358 / 44.
2- الخصال : 1 : 358 / 44.
3- بحار الأنوار 89 : 186 / 3 - مجمع البيان 1 : 13.
4- بحار الأنوار : 90 : 4.
5- الحضال 1 : 358 / 43.
6- بحار الأنوار : 90 : 4.
7- الكافي 2 : 630 / 13.

وما رواه فيه أيضا باسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام « قال : إنّ القرآن واحد نزل من عند واحد ولكنّ الاختلاف يجيء من قبل الرواة » (1) وهما ظاهران كالصريح في بطلان الحمل على القراءات السبع ، فتعيّن الحمل على غيرها ممّا ذكرنا جمعا.

فالإنصاف : عدم معلوميّة تواتر السبع لعدم تماميّة أدلّة إثباته.

نعم المعروف المدّعى فيه الشهرة جواز الأخذ بها على التخيير في الصلاة وتلاوة القرآن وإن وجبت بنذر أو إجارة أو شبههما ، والأدعيّة والأذكار بل في المحكي عن منتهى العلاّمة نفي الخلاف فيه في الجملة ، قائلا : « وأحبّها اليّ قراءة عاصم بطريق أبي بكر بن عيّاش وأبي عمرو بن العلاء ، فإنّهما أولى من قراءة حمزة والكسائي لما فيهما من الإدغام والإمالة وزيادة المدّ وذلك كلّه تكلّف ولو قرأ بذلك صحّت صلاته بلا خلاف » (2).

وعن جماعة منهم الشيخ والطبرسي في التبيان ومجمع البيان نقل الإجماع عليه وقد تقدّم عبارتاهما.

وفي مفتاح الكرامة دعوى « اتّفاق المسلمين على جواز الأخذ بها » (3).

واستدلّ على ذلك مضافا إلى الإجماعات المنقولة بالرخصة المستفادة من الأخبار قولا وتقريرا.

ففي مفتاح الكرامة : « إنّ القائل بتواترها إلى أربابها لا إلى الشارع ، يقول إنّ آل الرسول عليهم السلام أمروا بذلك فقالوا : « اقرأوا كما يقرأ الناس » (4) وقد كانوا يرون أصحابهم وسائر من يتردّد إليهم يحتذون مآثر هؤلاء السبعة ، ويسلكون سبيلهم ، ولولا أنّ ذلك مقبول عندهم مرضي لديهم لانكروا عليهم ، مع أنّ فيهم من وجوه القرّاء كأبان بن تغلب وهو من وجوه أصحابهم ، وهو لا يختصّ بقراءة سوى قراءة هؤلاء وقد استمرّت طريقة الناس حتّى العلماء على ذلك ، على أنّ في أمرهم بذلك إكمال كلّ بلاغ ، مضافا إلى نهيهم عن مخالفتهم » (5) انتهى.

ومن الأخبار المذكورة في هذا الباب المرسل العامي « أنّ القراءة سنّة متبعة » (6) قال في مفتاح الكرامة : « وهذا الخبر مشهور رووه عن زيد بن ثابت » (7).

ص: 140


1- الكافي 2 : 630 / 12.
2- منتهى المطلب 5 : 64 / السادس.
3- مفتاح الكرامة 7 : 221.
4- الكافي كتاب فضل القرآن 2 : 623 / 23.
5- مفتاح الكرامة 7 : 220.
6- كتاب السبعة في القراءات لابن مجاهد : 50.
7- مفتاح الكرامة 7 : 222.

ومنها المرسل من طريق الخاصّة الّذي رواه الطبرسي في مجمعه عن الشيخ الطوسي رحمه اللّه قال : « روي عنهم عليهم السلام جواز القراءة بما اختلف القرّاء فيه » (1).

وخبر سالم بن أبي سلمة قال : « قرأ رجل على أبي عبد اللّه عليه السلام وأنا استمع حروفا من القرآن ليس على ما يقرؤها الناس ، فقال أبو عبد اللّه عليه السلام : كفّ عن هذه القراءة ، إقرأ كما يقرأ الناس حتّى يقوم القائم ، فإذا قام القائم قرأ كتاب اللّه على حدّه ، وأخرج المصحف الّذي كتبه علي عليه السلام ... » إلى آخره (2).

ومرسل محمّد بن سليمان عن بعض أصحابه عن أبي الحسن عليه السلام « قال : قلت له : جعلت فداك إنّا نسمع الآيات من القرآن ليس هي عندنا كما نسمعها ولا نحسن أن نقرأها كما بلغنا عنكم فهل نأثم؟ فقال : لا اقرؤا كما تعلّمتم فسيجيئكم من يعلّمكم » (3).

وخبر سفيان بن السمط « قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن ترتيل القرآن ، فقال : اقرؤا كما علّمتم » (4).

وخبر داود بن فرقد والمعلّى بن خنيس جميعا « قالا : كنّا عند أبي عبد اللّه عليه السلام و [ ومعنا ربيعة الرأي ، فذكرنا فضل القرآن ] فقال : ابو عبد اللّه عليه السلام إن كان ابن مسعود لا يقرأ على قراءتنا فهو ضالّ ، فقال ربيعة الرأي : ضالّ؟ فقال : نعم ، [ ضالّ ] ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السلام : أمّا نحن فنقرأ على قراءة ابيّ » (5).

وهذا ربّما يفوح منه رائحة التقيّة ولعلّه عليه السلام ذكر ذلك إصلاحا لما ذكر في شأن ابن مسعود الّذي هو من المخالفين وربيعة الرأي أيضا منهم ، كما أنّ ابيّ بن كعب منهم وإلاّ فائمّتنا عليهم السلام متبوعون لا تابعون ، فقراءتهم لا تكون إلاّ على قراءة أمير المؤمنين عليه السلام عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم.

والظاهر أنّه عبّر بمثل ما سمعت في رعاية حكمة التقيّة لموافقة قراءة ابن مسعود قراءتهم عليهم السلام من حيث إنّه أيضا أخذ القرآن عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم كما روى : أو لكون قراءته أقرب إلى قراءتهم من قراءات الآخرين.

وربّما يرد الخدشة في دلالة ما عدا الخبر غير المرسل ، لظهورها في الأمر بالاقتصار

ص: 141


1- مجمع البيان 1 : 13 - التبيان 1 : 9.
2- الكافي 2 : 633 / 23.
3- الكافي 2 : 619 / 2.
4- الكافي 2 : 631 / 15.
5- الكافي 2 : 463 / 27.

في قراءة القرآن على ما في المصاحف العثمانيّة المتداولة بين الناس من السور والآي والكلمات والحروف من غير نظر فيه إلى وجوه القراءات المتداولة لديهم أيضا ، إلاّ أن يقال : بدخوله في الإمضاء والرخصة ضمنا باعتبار كونها ممّا يتداوله الناس في ضمن تداول أصل القرآن بمعنى المصاحف العثمانيّة لديهم ، فليتدبّر.

ثمّ إذا ثبت جواز متابعة القرّاء السبع وجواز الأخذ بقراءاتهم فهل يجب الاقتصار على هذه القراءات ولا يجوز التعدّي إلى غيرها أو لا؟ بل يجوز التعدّي إلى غيرها ، بل يجوز ترك متابعتها رأسا؟

قال في مفتاح الكرامة بالأوّل إستنادا إلى أصل الاشتغال بتوهّم جريانه في المقام ، بتقريب : « ملاحظة اتّفاق المسلمين على جواز الأخذ بها واختلافهم في الأخذ بغيرها ، ويقين البراءة لا يحصل إلاّ بالأخذ بها فيجب » (1) وفيه من الوهن ما لا يخفى ، إذ المقام من مجاري أصالة البراءة النافية لشرطيّة شيء في العبادة عند عدم الدليل على الشرطيّة لا أصل الاشتغال ، فإنّ اشتغال الذمّة بأصل قراءة القرآن في الصلاة وغيرها ثابت ، والشكّ في وجوب مراعاة إحدى القراءات السبع على أنّها شرط في صحّة القراءة ولا دليل على

الوجوب ، إذ ما تقدّم من الإجماعات المنقولة منقولة على الجواز ، لأنّه المأخوذ في معاقدها - كما تقدّم - فلا تفيد وجوب الأخذ.

وأمّا الأخبار : فعدم دلالة الأخير منها على الوجوب مع ما فيه من إيهام التقيّة واضح.

وأمّا ما قبله : فلظهور الأمر الموجود فيه في الاستحباب بقرينة وقوعه جوابا للسؤال عن الترتيل المجمع على استحبابه ، وهذا ربّما يقرب كون الترتيل عبارة عمّا فسّره في النفليّة - تبعا لعلماء التجويد على ما حكي - بتبيين الحروف بصفاتها المعتبرة من الهمس والجهر والاستعلاء والإطباق والغنّة وغيرها والوقف التامّ والحسن وعند فراغ النفس مطلقا.

وأمّا الخبران الآخران : فالأمر الواقع فيهما من الأمر الواقع عقيب توهّم الحظر أو ظنّه ، كما يرشد إليه قول الراوي في أحدهما : « فهل نأثم » فلا يفيد إلاّ الإباحة والرخصة في الفعل ، وكذا الكلام في المرسل ، ولعلّ النكتة في تعبير الأصحاب في الفتاوي ومعاقد الإجماعات المتقدّمة بالجواز هو كون الأوامر الواردة في أخبار الباب لا تفيد - لأجل ما ذكر - أزيد من الرخصة المرادفة للجواز.

هذا مضافا إلى أنّ « ما يقرأه الناس » ، و « ما تعلّمتم » ، و « ما علّمتم » في هذه الأخبار

ص: 142


1- مفتاح الكرامه 7 : 221.

امور مجملة ، إذ لا يدرى أنّ ما يقرأ الناس الّذي هو ما تعلّموا وعلّموا في أزمنة صدور هذه الروايات هل هو إحدى قراءات السبع ، أو إحدى العشر ، أو وجوه اخر غيرها ، أو مجموعها متفرقّة بين جميع الناس؟ أو ليس المراد منها اعتبارات القرّاء ووجوه قراءاتهم ، بل المراد أصل ما في المصاحف العثمانية المتداولة لديهم إلى يومنا هذا ، من السور والآيات والكلمات والحروف ، بما فيها من الإعراب والبناء والحركات والسكنات المأخوذة في بنية الكلمات أو أواخرها ، ولا يبعد دعوى ظهور ذلك بملاحظة موارد سؤالات هذه الأخبار.

ولقد أجاد كاشف الغطاء فيما أفاد في هذا المقام بقوله : « ولا يجب قراءة القرّاء السبعة ، وهم حمزة وعاصم والكسائي وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ونافع ، ولا العشرة بإضافة يعقوب وخلف وابن شعبة ولا التجسّس عليها.

وإنّما الكلام القراءة على نحو إعراب المصاحف وقراءة الناس ، ويجوز اتّباع السبعة بل العشرة في عملهم لا في مذاهبهم ، كاحتسابهم السور الأربع أربعا ، وإخراج البسامل من جزئيّة القرآن أو السور » إنتهى (1).

فالإنصاف : أنّ المدار في امتثال التكليف بقراءة القرآن ، استحبابا ووجوبا ، في الصلاة أو غيرها على إحراز صدق الاسم ، على وجه الصحّة المعتبرة في اللغة العربيّة ، بأن لا يكون أداء الكلمات وحروفها على خلاف قانون العربيّة ، بزيادة أو نقيصة أو الإخلال في مادّة وجوهر ، أو هيئة وبنية أو إعراب وبناء أو حركة وسكون في بنية الحروف أو أواخرها ، وموالاة بين الحروف في التأدية والنطق ، ويدخل في الضابط المذكور رعاية مخارج الحروف على وجه يمتاز بعضها عن بعض وأمن الالتباس وانقلاب حرف حرفا آخر ، لا على الوجوه الدقيقة حسبما تكلّفه أهل التجويد وضبطوه في كتبها ، ويدخل فيه أيضا مراعاة الإدغام في كلمة واحدة الّذي يقال له التشديد كما في « مدّ » و « مرّ » و « فرّ » ، فإنّ ترك مراعاته يوجب إمّا ترك الحرف المدغم أو تحريكه أو فكّ الإدغام الموجب لفوات الموالاة في النطق بين الحرفين المدغم والمدغم فيه ، والكلّ على خلاف القانون في اللغة العربيّة.

ولقد أشار إلى ما بيّناه من الضابط في القراءة كاشف الغطاء قبيل العبارة المتقدّمة عنه بقوله : « ويلزم المحافظة على الحروف بالإتيان بما يدخل تحت اسمها ، ولا عبرة بالمخارج المقرّرة عند القرّاء ، وإنّما المدار على المخارج الطبيعيّة فلو خرجت عن الاسم كجعل الضاد

ص: 143


1- كشف الغطاء : 236.

والظاء زاء والقاف غينا أو بالعكس لمقتضى العجميّة ، أو القاف همزة لمقتضى الشاميّة ، أو الظاء ضادا أو بالعكس لمقتضى العجميّة ، أو اشتباه العربيّة فسدت واعيدت على وجهها ، وفي العجز يقوم العذر ولا يجب الاهتمام ، ومع القدرة والتقصير في التعلّم يجب ذلك ، والمحافظة على الحركات والسكنات الداخلة في الكلمات ، أو الإعرابيّة والبنائيّة ممّا يعدّ تركها لحنا في فنّ العربية ، فمن بدّل فقد أبطل القراءة أو هي مع الصلاة على اختلاف الوجهين ، ولو وقف على المتحرّك أو وصل الساكن ، أو فكّ المدغم من كلمتين ، أو قصّر المدّ قبل الهمزة أو المدغم ، أو ترك الإمالة والترقيق ، أو الإشباع أو التفخيم أو التسهيل ، ونحوها من المحسّنات فلا بأس عليه ، وإبقاء همزة الوصل في الوصل زيادة مخلّة ، كما أنّ حذف همزة القطع فيه نقض مخلّ » انتهى (1).

وبالجملة : ما ذكرناه من عدم وجوب كون قراءة القرآن مطلقا بعد إحراز الصحّة بالمعنى المذكور فيه على طبق إحدى القراءات السبع أو الثلاث الباقية أو غيرها هو مقتضى أصل البراءة الجاري في مسألة الشكّ في شرطيّته في المكلّف به ، ولا يخرج عن هذا الأصل في شيء من اعتبارات القرّاء ومحسّناتهم ، حتّى في الإدغام بين كلمتين ولو مع التنوين والنون الساكنة في حروف يرملون ، والمدّ اللازم عندهم كما في « اولئك » و « مدهامّتان » ، والإشباع في مثل « له » و « به » إلاّ حيث ساعد عليه دليل معتبر ولو كان طريقة متداولة في لغة العرب ، وأمّا التكلّم في موارد وجود الدليل المخرج عن الأصل فهو خارج عن وظيفة الاصولي ، وإنّما اعتبرنا الصحّة بالمعنى المذكور لأنّ القرآن اسم للمقدار من السور والآي والكلمات والحروف الواقعي الموجود من لدن أعصار أئمّتنا إلى يومنا هذا في المصاحف العثمانية أو منصرف إليه عند الإطلاق ، ولا يكون إلاّ صحيحا بالمعنى المذكور والتكليف ندبا أو إيجابا وارد عليه فيجب اعتباره.

ثمّ بقي من الامور المتعلّقة بالقرآن امور اخر نذكرها في تنبيهات :

التنبيه على امور :

التنبيه الأوّل : في أنحاء اختلاف القرّاء

التنبيه الأوّل :

إذا اختلف القرّاء فهو على قسمين :

أحدهما : أن يكون فيما يرجع إلى صفات الكلمة كالمدّ وتركه ، والإدغام وتركه ، والإمالة

ص: 144


1- كشف الغطاء : 236.

وتركها ، والإشباع وتركه ، والإظهار والإخفاء والجهر والهمس والشدّة والرخوة ، وهذا ممّا لا كلام فيه هنا بعد ما ظهر حكم محسّنات القراءة من عدم وجوب اتّباع القرّاء فيها رأسا ، فيجوز في محلّ الاختلاف ترك العمل بالقراءتين إن أمكن ، والأخذ بإحداهما والاحتياط فيهما بالجمع.

وثانيهما : أن يكون الاختلاف في نفس الكلمة وحروفها وإعرابها وتقديمها وتأخيرها وحذفها وذكرها ، وله على ما ضبطه الطبرسي وغيره سبعة صور :

الاولى : الاختلاف في إعراب الكلمة بما لا يغيّر معناها ولا لفظها في وجوده الكتبي ، كما في قوله « فيضاعفه » (1) و « فيضاعفه » بالرفع والنصب.

الثانية : الاختلاف في الإعراب بما يغيّر المعنى دون اللفظ كما في قوله « تلّقونه » (2) و « تلّقونه » بالفتحة والضمة.

الثالثة : الاختلاف في حروف الكلمة بما يغيّر المعنى دون اللفظ في الكتابة كما في قوله : « كيف ننشرها » و « ننشزها » (3) بالراء والزاء.

الرابعة : الاختلاف في الكلمة بما يغيّر اللفظ دون المعنى كما في قوله : « إن كانت إلاّ صيحة » (4) و « إلاّ زقية ».

الخامسة : الاختلاف في الكلمة بما يغيّر المعنى واللفظ كما في قوله : « طلح منضود » و « طلع » (5).

السادسة : الاختلاف بالتقديم والتأخير ، كما في قوله : « وجاءت سكرة الموت بالحقّ » و « جاءت سكرة الحقّ بالموت » (6).

السابعة : الاختلاف بالزيادة والنقصان ، كما في قوله : « وما عملت أيديهم » و « ما عملته أيديهم » (7) هل الحكم في مثل ذلك هو التخيير بين القراءتين أو الجمع بينهما؟ والمعروف الأوّل ، ويدلّ عليه ظاهر المرسلة المتقدّمة عن الشيخ بعبارة : « روى جواز القراءة بما اختلف القرّاء فيه » ، والظاهر أنّ الشيخ (8) عمل به ، ويظهر من الطبرسي (9) أيضا العمل

ص: 145


1- سورة البقرة : 245.
2- سورة النور : 15.
3- سورة البقرة : 259.
4- يس : 29.
5- الواقعة : 29.
6- ق : 19.
7- يس : 35.
8- التبيان 1 : 7 و 9.
9- مجمع البيان : 1 : 12 و 13.

عمل المسلمين ظاهرا من حيث اقتصارهم على قراءة واحدة وعدم التزامهم بالجمع ، ولكن طريق الاحتياط في محلّ التكليف - كما هو شيمة المتورّعين خصوصا في الصلاة - واضح.

التنبيه الثاني : في ما يتعلّق بالقراءة الشاذّة

التنبيه الثاني :

قد عرفت سابقا أنّهم ذكروا أنّ القرآن متواتر فما نقل آحادا فليس بقرآن ، وقد يعبّر عمّا نقل آحادا بالقراءة الشاذّة ، كلفظ « متتابعات » في ثلاثة أيّام كفّارة اليمين في قراءة عبد اللّه بن مسعود ويقولون : « لا عبرة بالشواذّ ».

وفي مفتاح الكرامة : « المعروف أنّ الشاذّ مرفوض » (1) ولا إشكال فيه من حيث القرآنيّة ، فلا يجري الأحكام الخاصّة بالقرآن كحرمة مسّه جنبا ، أو على حدث مطلقا في نحو ذلك ، و [ هل ] يعمل به في الحكم الفرعي المستفاد منه تنزيلا له منزلة خبر الواحد؟ ظاهرهم المنع وعن أبي حنيفة نعم ، زعما منه أنّه بمنزلة الآحاد فمن عمل بالآحاد فعليه العمل به ، وعلّله : بأنّه لا وجه لنقل العدل له في القرآن إلاّ السماع من النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم إمّا بوجه القرآن أو بوجه البيان.

واجيب : بمنع الانحصار لجواز أن يكون ذلك مذهبا للقارئ ، ودفعه بأنّ العدل لا يلحق مذهبه بالكتاب ، معارض بأنّ العدل لا يلحق الخبر بالكتاب ، على أنّ العدالة تمنع تعمّد الكذب والعادل ليس بمأمون من الخطأ والنسيان ، فلم لا يجوز أن يذكر اجتهاده مع القرآن خطأ أو نسيانا؟

وتوهّم : أنّ ما نحن فيه نظير ما قد يرد في الآحاد ممّا يدلّ على مطلب لغوي ككون [ الباء ] للتبعيض المستفاد من حديث زرارة ومحمّد بن مسلم (2) ، أو كون « الصعيد » لوجه الأرض إذا ورد به رواية عن المعصوم ، أو اصولي اعتقادي ككفر المجسّمة مثلا لو ورد به رواية ، فهي وإن لم تكن وافية بإثبات هذا المطلب إذ لا عمل بالآحاد في اللغات ولا في اصول الدين ، إلاّ أنّه لا حجر من العمل بها في الحكم الفرعي لو كان المطلب اللغوي أو الاصولي مستلزما لحكم فرعي ، كجواز التيمّم على الحجر ، ونجاسة القائل بالتجسيم.

يدفعه : بأنّ القارئ لم ينقله مسندا إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم بطريق ليكون من قبيل أخبار الآحاد

ص: 146


1- مفتاح الكرامة 2 : 396.
2- الوسائل 1 : 412 / 1 ب 23 من أبواب الوضوء.

الّتي يعمل بها في الأحكام.

التنبيه الثالث : في التحريف

التنبيه الثالث :

اختلفوا في وقوع التحريف - وهو التغيير بالزيادة والإسقاط - في القرآن وعدمه ، وليس الغرض من عنوان هذه المسألة تحقيق القول فيها لقلّة جدواه ، بل بيان أنّ التحريف على تقدير وقوعه في القرآن هل يمنع من العمل بظواهره ويخلّ بحجيّتها أو لا؟ والحقّ العدم خلافا لمن توهّمه ، كما يظهر من منكري وقوع التحريف في احتجاجهم بأنّ القول بالجواز فتح لباب الكلام على إعجاز القرآن وعلى استنباط الأحكام.

لنا على المختار أوّلا : عدم العلم الإجمالي باختلال شيء من ظواهر الكتاب مطلقا.

وثانيا : كونه على تقدير حصوله في شبهة غير محصورة كالعلم بوجود أخبار كاذبة فيما بين الأخبار ، فلا يقدح في الحجّيّة مطلقا.

وثالثا : على تقدير كونه في شبهة محصورة يمنع كون ما اختلّ بالتحريف من آيات الأحكام ، لجواز كونه من سائر الآيات المتعلّقة بمطالب اخر كالقصص والأمثال وغيرها.

وبعبارة اخرى : أنّ المعلوم بالإجمال مردّد بين كونه من الظواهر المتعلّقة بالأحكام أو كونه من الظواهر الاخر الّتي تعلّق (1) بغير الأحكام ، فلم يتحقّق بالقياس إلى ظواهر آيات الأحكام الّتي هي مورد أدلّة الحجّيّة مانع ، ولا منع من التمسّك بها.

ويكفي في سند ذلك المنع ما قيل : من أنّ التحريف على تقديره وقوعه في القرآن ليس بالزيادة بل بالإسقاط ، بل عن التبيان (2) ومجمع البيان (3) الإجماع على عدم الزيادة ، مع ما قيل : من أنّ الظاهر أنّ التحريف بالإسقاط لم يقع في آيات الأحكام بل في غيرها ، ومرجع ذلك المنع بالسند المذكور إلى خروج آيات الأحكام عن طرف العلم الإجمالي ، فالمعلوم بالإجمال إنّما هو في ظواهر الآيات الغير المتعلّقة بالأحكام.

لا يقال : إنّ التحريف الواقع في القرآن متساوي النسبة إلى ظواهر آيات الأحكام وإلى ظواهر غيرها ، فيكون موجبا لسقوط الجميع عن الاعتبار والحجّيّة ، نظير عمومات كثيرة علم بوجود مخصّص لها إجمالا غير معلوم بالتفصيل ، فكما أنّه يمنع من العمل بالجميع فكذا ما نحن فيه.

ص: 147


1- وفي الأصل : « لا تعلّق » الخ. والظاهر أنّه سهو منه رحمه اللّه والصواب ما أثبتناه في المتن.
2- التبيان : 1 : 3.
3- مجمع البيان : 1 : 15.

لوضوح الفرق بين المقامين ، بأنّ جهة المنع في مثال العمومات إنّما هي الإجمال العرضي الناشئ من التخصيص المعلوم بالإجمال ولا إجمال فيما نحن فيه ، بل الاختلال في أيّ ظاهر حصل بسبب وقوع التحريف فيه فإنّما هو خروج ذلك الظاهر عن الحجّية ، لما اعتراه من تغيير الحكم الشرعي المستفاد منه بسبب ما اعتراه من الزيادة أو الإسقاط ، وغاية ما يلزم من العلم الإجمالي في المعلوم بالإجمال المردّد بين ظواهر آيات الأحكام وظواهر غيرها ، إنّما هو احتمال تحقّق هذه الجهة من المنع في بعض ظواهر آيات الأحكام ، ومجرّد ذلك الاحتمال لا يصلح مانعا من التمسّك بها.

وقد يقال في الفرق بين المقامين ، بأنّ المعلوم بالإجمال فيما نحن فيه مردّد بين ما يكون معارضا لما يجب العمل به من الظواهر ، وبين ما لا يكون معارضا لها على تقدير وقوعه فيما لا يجب العمل به من الظواهر وهي الّتي لا تعلّق لها بالأحكام ، ومثل ذلك لا يوجب اجمالا في ظواهر آيات الأحكام الّتي يجب العمل بها ، إذ الإجمال فرع العلم بوجود المعارض ، وهو غير معلوم بالنسبة إلى هذه الظواهر ، بل المعلوم مردّد بين كونه معارضا لها وكونه غير معارض لها فتكون باقية على ظهورها ، ومعه لا وجه لرفع اليد عنها ولا عذر في عدم العمل بها.

وهذا نظير ما لو قال المولى لعبده : « أكرم العلماء » وقال جاره أيضا لعبده : « أكرم العلماء » ، ثمّ سمع عبد المولى قول : « لا تكرم زيد العالم » وتردّد بين كونه صادرا من مولاه إليه ومن الجار إلى عبده ، فإنّ هذا العبد لا يجوز له التوقّف في إكرام زيد وترك العمل بعموم خطاب المولى اعتذارا باستماعه ما تردّد بين كونه معارضا لذلك الخطاب وعدم كونه معارضا له على تقدير صدوره من الجار ، بل لو توقّف معتذرا بذلك استحقّ عقاب المولى وذمّ العقلاء ، وليس ذلك إلاّ من جهة أنّ المعلوم بالإجمال المردّد بين المعارض لظاهر الخطاب وغير المعارض له لا يوجب إجمالا فيه ولا يصادم ظهوره.

التنبيه الرابع : في ما أفاده المحقّق القمّي من استلزام حجّية ظواهر الكتاب من باب الظنّ الخاصّ المحال

التنبيه الرابع :

أنّه قد توهّم بعض الأعلام (1) - في باب الاجتهاد عند الكلام في حجّيّة ظنّ المجتهد ، ومنع حجّيّة ظواهر الكتاب في حقّ غير المشافهين - أنّ كون حجّيّة ظواهر الكتاب من

ص: 148


1- قوانين الأصول : 2 : 103.

باب الظنّ الخاصّ ما يستلزم وجوده عدمه وهو محال ، فحجّيّة الظواهر من باب الظنّ الخاصّ محال.

وبيان الملازمة : أنّ من جمله ظواهر الكتاب المفروض حجّيّتها العمومات الكتابيّة الناهية عن العمل بما وراء العلم ، مثل قوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (1) ( وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) (2).

ومقتضى تلك العمومات عدم حجّيّة ظواهر الكتاب وحرمة العمل بها ، لكونها ممّا وراء العلم.

وفيه : من المغالطة ما لا يخفى ، إذ الظواهر المأخوذة في أدلّة حجّيّتها من باب الظنّ الخاصّ أعمّ من الظواهر الأوّليّة - وهي الحقائق الأوّليّة بواسطة أصالة الحقيقة - والظواهر الثانويّة - وهي المجازات بمعونة قرائنها - فلو اريد من اندراج العمومات الناهية عن العمل بما وراء العلم في أدلّة حجّيّة ظواهر الكتاب اندراج ظهورها الأوّلي وهو العموم المتناول لظواهر الكتاب.

ففيه : منع الاندراج ، لأنّ أدلّة حجّيّة الظواهر مخرجة لظواهر الكتاب عن عموم الآيات الناهية ، لا أنّها شاملة له ، نظرا إلى أنّ أدلّة الحجّيّة واقعة في الطرف المقابل من أصالة حرمة العمل بالظنّ عموما ، فتكون مخرجة لموردها - وهو ظواهر الكتاب أوّليّة وثانويّة - عن هذا الأصل ، ومعنى إخراجه عنه تخصيص أدلّته الّتي منها الآيات الناهية ، فظواهر الكتاب مخرجة عن عموم هذه الآيات من جهة التخصيص ، فلا يعقل لها حينئذ ظهور أوّلي مندرج في أدلّة الحجّيّة ، ولو اريد به اندراج ظهورها الثانوي وهو حرمة العمل بما عدا ظواهر الكتاب ممّا وراء العلم ، فهو غير مناف لمقتضى أدلّة حجّيّة الظواهر - أوّلية وثانويّة - كما هو واضح.

ومرجع الجواب إلى منع الملازمة على تقديري إرادة الظهور الأوّلي وإرادة الظهور الثانوي ، فلا يلزم من حجّيّة ظواهر الكتاب عدم حجّيّتها.

لا يقال : إنّ التخصيص الملتزم به في العمومات الناهية معارض بمثله في أدّلة الحجّيّة ، فإنّها إنّما تدلّ على حجّيّة ظواهر الكتاب من حيث إنّها من المحكمات الّتي يجب العمل بها - على ما تقدّم في الأخبار الدالّة عليه - فهذه الأدلّة عامّة في نصوص الكتاب وظواهره ،

ص: 149


1- سورة الإسراء : 36.
2- سورة النجم : 28.

كما أنّ الآيات الناهية عامّة في ظواهر الكتاب وغيرها من سائر أنواع الظنون ، فأدلّة الحجّيّة مع الآيات الناهية من باب العامّين من وجه فيتعارضان في ظواهر الكتاب ، والتخصيص بإخراج الظواهر ممكن فيهما معا فما وجه إرجاعه إلى الآيات الناهية دون أدلّة الحجّيّة ، لأنّ العامّ الأول أظهر في العموم لكونه أقلّ أفرادا - فإنّ مورد أدلّة الحجّيّة منحصر في نصوص الكتاب وظواهره - من العامّ الثاني - لكونه أكثر أفرادا بمراتب شتّى من العامّ الأوّل ، والعامّ كلّما قلّ أفراده إزداد ظهوره في العموم وكلّما كثر أفراده ضعف ظهوره في العموم ، فأظهريّة أحد العامّين ينهض قرينة على إرجاع التخصيص إلى العامّ الآخر ، كما في سائر موارد تقديم الأظهر على الظاهر ، ومعناه إرجاع التأويل إلى الظاهر.

وبالتأمّل فيما بيّناه في رفع محذور لزوم عدم الشيء من وجوده ، على تقدير حجّيّة الظواهر من باب الظنّ الخاصّ ، يعلم اندفاع ما تخيّله بعض الأعلام في هذا المقام ، على تقدير تخصيص آيات التحريم بما عدا ظواهر الكتاب بأدلّة حجّيّة تلك الظواهر من لزوم التخصيص في الإجماع ، لو كان دليل الحجّيّة هو الإجماع كما استدلّ به أيضا (1).

وبيان الملازمة : أنّ الإجماع قائم بحجّيّة الظواهر ، ومن الظواهر آيات التحريم ، والمفروض عدم حجّيّة ظاهرها وهو العموم ودليله الإجماع المذكور ، فيلزم التخصيص في نفس ذلك الإجماع بإخراج هذا الظاهر عن معقده بنفسه وهو باطل.

أمّا أوّلا : فلأنّ الإجماع دليل لبّي قطعي لا يقبل التخصيص.

أمّا ثانيا : فللزوم اتّحاد المخصّص والمخصّص وهو محال.

ووجه الاندفاع : أنّ الإجماع الدالّ على حجّيّة ظواهر الكتاب لا يدلّ على عدم حجّيّة ظاهر آيات التحريم - لو اريد به ظهورها الأوّلي - بل يوجب بتخصيصه تلك الآيات ارتفاع ظهورها الأوّلي وانقلابها إلى الظهور الثانوي ، فليس فيها ظهور أوّلي ليدلّ دليل حجّيّة على حجّيّة حتّى يلزم منه استلزم الوجود العدم ، أو على عدم حجّيّته حتّى يلزم التخصيص في دليل الحجّيّة وهو الإجماع بنفس دليل الحجّية ، وأمّا لو اريد ظهورها الثانوي فقد عرفت أنّه لا ينافي مفاد دليل الحجّيّة وإن كان هو الإجماع ، فليتدبّر.

المقام الثاني : في حجّية ظواهر الكتاب لغير المشافهين

اشارة

أمّا المقام الثاني : في أنّ حجّيّة ظواهر الكتاب والسنّة مخصوصة بمن قصد إفهامه بها على جهة الخصوص ، كالخطابات الشفاهيّة بالنسبة إلى المشافهين ، ومن يحذو حذوهم من

ص: 150


1- قوانين الاصول 2 : 109.

الموجودين في زمن الخطاب الغائبين عن مجلسه ، أو على جهة العموم كما في الوصايا والكتب المصنّفة ونحوهما ، أو هي عامّة لمن لم يقصد إفهامه خصوصا ولا عموما أيضا.

وقد ذكرنا سابقا أنّ التشكيك في هذا المقام قد حصل لبعض الأعلام بل التتبّع في تضاعيف عباراته - في بحث حجّيّة الكتاب (1) وفي بحث حجّيّة أخبار الآحاد المستدلّ عليها بأدلّة حجّية مطلق الظنّ (2) ، وفي باب الاجتهاد - يعطي كونه منكرا لحجّيّة الظواهر مطلقا في حقّ من لم يقصد إفهامه من باب الظنّ الخاصّ ، بل لا بدّ في حجّيّتها له من إثبات انسداد باب العلم وفتح باب حجّيّة مطلق الظنّ ، استنادا إلى دليل الانسداد وغيره ، ليندرج فيه الظواهر في حقّ من لم يقصد إفهامه بها من غير فرق في ذلك بين ظواهر الكتاب وظواهر الأخبار.

ومستنده في هذا التفصيل - على ما ينساق من تضاعيف عباراته في الأبواب المذكورة - عدم الدليل على الحجّيّة بالخصوص لغير من قصد إفهامه من إجماع ولا غيره ، إذ الإجماع على حجّيّة الظواهر - إن سلّمناه مع مخالفة الأخباريّين في ظواهر الكتاب - فإنّما يسلّم بالنسبة إلى متفاهم المشافهين المخاطبين ومن يحذو حذوهم.

قال - في تضاعيف باب الاجتهاد في تعليل ما ادّعاه من اختصاص المسلّم من الإجماع بمتفاهم المشافهين - : « لأنّ مخاطبته كأنّ معهم ، والظنّ الحاصل للمخاطبين من جهة أصالة الحقيقة والقرائن الخارجيّة حجّة إجماعا ، لأنّ اللّه تعالى أرسل رسوله وكتابه بلسان قومه ، والمراد بلسان القوم هو ما يفهمونه ، وكما أنّ الفهم يختلف باختلاف اللسان فكذلك يختلف باختلاف الزمان وإن توافق اللسان ، فحجّيّة متفاهم المتأخّرين عن زمن الخطاب وظنونهم يحتاج إلى دليل آخر غير ما دلّ على حجّية متفاهم المخاطبين المشافهين ، لمنع الإجماع عليه بالخصوص » انتهى (3).

ومراده : من « اختلاف الفهم باختلاف اللسان » ما هو المعلوم بالضرورة من أنّ العجمي مثلا لا يفهم من الألفاظ العربيّة بمثابة ما يفهمه العربي ، بل بينهما تفاوت واضح في أصل الفهم وكيفيّته ومقداره وكذلك العكس ، ومن « اختلافه باختلاف الزمان » ما يرشد إليه الضرورة أيضا من أنّ ما يفهمه المتأخّرون عن زمن الخطاب ليس بمثابة ما يفهمه

ص: 151


1- قوانين الاصول 1 : 398 - 403.
2- قوانين الاصول : 1 / 440.
3- قوانين الاصول 1 : 398 و 2 : 103.

المخاطبون ، لتطرّق التغيير إلى الحقائق بالنقل والهجر وإلى المجازات وقرائنها بالوجود والاختفاء أو بالجلاء والخفاء.

وبذلك كلّه ربّما يختلّ فهم المراد ، فيفهم المتأخّرون من الخطاب خلاف ما فهمه المخاطبون بزعم أنّه المراد ، وليس بمراد في نفس الأمر.

أقول : والحقّ عدم الفرق في حجّيّة الظواهر كتابا وسنّة بين المخاطب المقصود إفهامه وغيره الّذي لم يقصد إفهامه ، حضر في مجلس الخطاب أو لا ، كان موجودا في زمنه أو لا ، فهي بالنسبة إلى الكلّ معلوم الحجّيّة بالخصوص لاتّحاد الطريق وعدم الفرق في الدليل ، فإنّ الأدلّة العلميّة القائمة بحجّيّة الظواهر ، من بناء العرف وطريقة العقلاء وإجماع العلماء موجودة بالنسبة إلى الفريقين ، ولذا ترى أنّ أهل العرف والعقلاء والعلماء من جميع الملل والأديان ، في جميع الأصقاع والأزمان يستفيدون المطالب من المكاتبات المكتوبة إلى من عداهم ، والمراسلات المرسولة إلى من سواهم ، نحو ما يستفيدها المخاطب المرسول إليه والمقصود إفهامه المكتوب إليه بلا نكير ولا تعقّل فرق.

وتوهّم أنّ المكاتبات والمراسلات من قبيل تأليف المؤلّفين وتصنيف المصنّفين المقصود بقاؤه أبد الدهر ليستفيد الناظرون فيها المطالب ، يكذّبها الوجدان وضرورة العيان القاضيين بالخلاف.

نعم إنّما يسلّم ذلك في الوصايا والقبالجات وما أشبهها.

وبما بيّناه يندفع ما ذكره من اختلاف الفهم باختلاف الزمان ، فإنّ ذلك لا يمنع من حجّيّة أصل الظهور المحرز بالاصول اللفظيّة الّتي منها الاصول العدميّة ، كأصالة عدم النقل والهجر ، وأصالة عدم القرينة ، وأصالة عدم الالتفات إلى القرينة الموجودة ، وما أشبه ذلك ، ومعنى الحجّيّة وجوب الأخذ بها في استفادة المطالب منها على أنّها المرادات ، فوجب ترتيب آثار المراد عليها ما لم ينكشف الخلاف ، وحيث انكشف تبيّن الخطأ في إحراز الظهور ، وهو ليس بضائر في حجّيّة أصل الظهور.

وبالجملة : فإنّا نرى العقلاء مطبقين في المراسلات والمكاتبات على أخذ مطالب من أرسلها ومقاصده واستكشاف عقائده ، من غير مراعاة كونهم مقصودين بالإفهام وعدمه ، بل لو فرضنا أنّ أحدا يمنع من أن يستفيد المطلب وهو ليس ممّن قصد إفهامه من الاستفادة ، تعليلا بعدم القصد إلى إفهامه كان مذموما عندهم.

ص: 152

وكيف كان فهذا البناء منهم ثابت مستقرّ وليس ممّا يستراب.

وبالتأمّل فيما قرّرنا يندفع ما لو قرّر الاستدلال على التفصيل المذكور ، بأنّ العمدة من دليل حجّيّة الظواهر هو إطباق العقلاء وإجماع العلماء على حمل كلام كلّ متكلّم على كونه مقصودا به اللفظ والمعنى ، وإفهام المعنى المقصود مع ضميمة مقدّمة عقليّة وهي : أنّ المعنى الّذي قصد إفهامه إمّا أن يكون ظاهرا للّفظ أو خلافه من غير قرينة ، والثاني باطل لقبح الإغراء بالجهل اللازم من الخطاب بما له ظاهر وإرادة خلافه من غير قرينة ؛ فتعيّن الأوّل.

وهذه المقدّمة لا تجري في حقّ غير المشافه ، لأنّ إرادة خلاف ظاهر اللفظ من غير قرينة لا يوجب في حقّه الإغراء بالجهل من جهة عدم كونه مقصودا إفهامه.

ولو قيل : بأنّ هذه المقدّمة وإن لم تكن جارية بالنسبة إليه إلاّ أنّه يجريها بالنسبة إلى المخاطب المقصود إفهامه ، فيأخذ بالظهور الّذي كان يأخذ به المخاطب بواسطة هذه المقدمّة ، لدفعه : أنّه لا يتمكّن من إجرائها في حقّه أيضا فيما لو احتمل وجود القرينة مع الخطاب ثمّة وقد اختفت عليه.

ووجه الاندفاع : أنّ العمدة ممّا يحرز به ظهور الظواهر هي الاصول العدميّة الّتي عمدتها أصالة عدم القرينة ، ولا فرق في جريانها ، وهو كأصالة الحقيقة أصل متّفق عليه عند العقلاء ومجمع عليه عند العلماء ، ونحوه أصالة عدم غفلة المتكلّم وعدم سهوه ، وعدم نسيانه لنصب القرينة فيما أراد من الخطاب خلاف ظاهره.

والمراد بأصالة عدم القرينة أصالة عدم وجود قرينة مع الخطاب اعتمد عليه المتكلّم في إفادة مراده ، والمخاطب في استفادة مراد متكلّمه.

لا يقال : إنّ هذا حسن لو كان الشكّ في حدوث القرينة ، وقد يكون الشكّ في الحادث ، لمكان العلم الإجمالي بوجود حالة مخصوصة بين المتكلّم والمخاطب حال الخطاب ، والقرينة أعمّ من المقاليّة والحاليّة فلا يجري لنفي الحاليّة أصالة عدم وجود القرينة.

لأنّ مجرّد وجود ما يقترن به الخطاب لا يكفي في الصرف عن الظاهر ، بل لا بدّ من التفات الجانبين والأصل عدمه ، والأصل الّذي يحرز به الظهور أعمّ من أصالة عدم وجود القرينة وأصالة عدم الالتفات إلى القرينة الموجودة ، وكلّ منهما معتبر معوّل عليه عند العقلاء والعلماء.

ومنع الإجماع عليه بالخصوص في نوع الظواهر أو في خصوص ظواهر الكتاب حسبما عرفت عن المفصّل مجازفة واضحة ؛ لأنّا نرى العلماء قديما من لدن أصحاب

ص: 153

الأئمّة ، وحديثا إلى يومنا هذا على اختلاف مشاربهم - من فتح باب الظنّ المطلق من جهة الانسداد وعدمه - والقول بالظنون الخاصّة وعدمه - لا يتأمّلون في العمل بظواهر الكتاب والأخبار ، ولا يزالون يتمسّكون بها في احتجاجاتهم من غير نكير ، مع عدم كونهم ممّن قصد إفهامهم ، ولا ينافيه ما تقدّم من الأخباريّين من منع العمل بظواهر الكتاب لعدم كونه خلافا منهم فيمن لم يقصد إفهامه بل لشبهات اخر ، ولذا لا يتأمّلون في ظواهر الأخبار لانتفاء هذه الشبهات في زعمهم.

وإن شئت قلت : إنّ خلافهم نشأ عن أمر صغروي ، فإنّهم ينكرون بقاء ظواهر الكتاب على كونها ظواهر ، أو عن أمر كبروي حيث يدّعون منع الشارع من جهة الأخبار الناهية عن تفسير القرآن بالرأي ، وإلاّ فهم على تقدير وجود الظواهر أو عدم ورود المنع المذكور مطبقون مع غيرهم في الحجّيّة ، كما يفصح عن ذلك موافقتهم المجتهدين في العمل بظواهر الأخبار ، بل هي ممّا يعمل بها جميع الامّة من العامّة والخاصّة مجتهديهم وأخباريهم.

ولا ريب أنّهم لا يفرّقون فيها بين من قصد إفهامه وغيره ، هذا مع عدم انحصار دليل حجّيّة الكتاب في الإجماع ، بل العمدة من أدلّته الأخبار المتقدّمة على اختلاف مضامينها ، فإنّ منها ما نقطع بعدم الفرق في مفادها بين الفريقين ، كالأخبار الآمرة بالرجوع إلى الكتاب والتمسّك بها ، والمفسّرة للمحكم بما يعمل به.

ومنها : ما يكون موردها الظواهر في حقّ غير المشافهين ، كالآمرة بعرض الخبرين المتعارضين على الكتاب لمعرفة الموافق والمخالف له ، بل مورد الأخبار الواردة في علاج الأخبار المتعارضة خصوص الإخبار في حقّ غير المقصودين بالإفهام كما هو واضح.

فعلم بما قرّرناه أنّه لا حاجة لإثبات حجّيّة الظواهر مطلقا إلى التزام عموم الخطابات الشفاهيّة للمعدومين ، ولا إلى إثبات كون وضع الكتاب العزيز والأخبار كتصنيف المصنّفين وتأليف المؤلّفين كما توهمه بعض الأعلام (1).

كما يعلم اندفاع ما يستشمّ من صاحب المعالم في بحث حجّيّة خبر الواحد في تتميم الاستدلال بدليل الانسداد ، حيث قال : « لا يقال : الحكم المستفاد من ظاهر الكتاب معلوم لا مظنون ، وذلك بواسطة ضميمة مقدّمة خارجيّة ، وهي قبح خطاب الحكيم بما له ظاهر وهو يريد خلافه من غير دلالة تصرف عن ذلك الظاهر ، سلّمنا ولكن ذلك ظنّ مخصوص ،

ص: 154


1- قوانين الاصول 2 : 103.

فهو من قبيل الشهادة لا يعدل عنه إلى غيره إلاّ بدليل.

لأنّا نقول : أحكام الكتاب كلّها من قبيل خطاب المشافهة ، وقد مرّ أنّه مخصوص بالموجودين في زمن الخطاب ، وأنّ ثبوت حكمه في حقّ من تأخّر إنّما هو بالإجماع وقضاء الضرورة باشتراك التكليف بين الكلّ ، وحينئذ فمن الجائز أن يكون اقترن ببعض تلك الظواهر ما يدلّ لهم على إرادة خلافها ، وقد وقع ذلك في مواضع علمناها بالإجماع ونحوه ، فيحتمل الاعتماد في تعريفنا بسائرها على الأمارات المفيدة للظنّ القويّ وخبر الواحد من جملتها ، ومع قيام هذا الاحتمال ينتفي القطع بالحكم ، ويستوي حينئذ الظنّ المستفاد من ظاهر الكتاب والحاصل من غيره بالنظر إلى إناطة التكليف به ، لابتناء الفرق بينهما على كون الخطاب متوجّها إلينا وقد تبيّن خلافه ، ولظهور اختصاص الإجماع والضرورة الدالّين على المشاركة في التكاليف المستفادة من ظاهر الكتاب بغير صورة وجود الخبر الجامع للشرائط الآتية ، المفيد للظنّ الراجح بأنّ التكليف بخلاف الظنّ الظاهر » (1). انتهى.

فإنّ ما ذكره في جواب « لا يقال » من منع قطعيّة الحكم المستفاد من ظاهر الكتاب ، كما نصّ عليه بقوله : « ومع قيام هذا الاحتمال ينتفي القطع بالحكم » وإن كان في محلّه ، نظرا إلى أنّ المقدمة الخارجيّة الّتي جعلها السائل واسطة في قطعيّة الحكم المستفاد من ظاهر الكتاب - وهي قبح الخطاب بما له ظاهر وإرادة خلافه من غير قرينة لكونه إغراء بالجهل - إن سلّمنا تمكّن المخاطب المشافه من إجرائها ، كما لو كان الخطاب بما له ظاهر في وقت الحاجة إلى البيان وانتفى معه احتمال وجود مصلحة مرجّحة لإخفاء القرينة مقتضية لحسن عدم البيان.

لا نسلّم تمكّن غيره ممّن ليس بمخاطب ولا مقصود إفهامه من إجرائها حتّى في حقّ المخاطب ، لقيام احتمال وجود قرينة مع الخطاب حين نزوله مفيدة لإرادة خلاف ظاهره قد اختفت علينا ، وإن التفت إليها المخاطب أو غفل عنها ، وغاية ما هنالك إعمال الأصل لنفي القرينة أو نفي الغفلة عن القرينة الموجودة ، غير أنّ الأصل واسطة لإحراز الظاهر ، ولا ينفي الاحتمال وهو مانع من القطع بإرادة الظاهر.

ولكن قوله : « ويستوي حينئذ الظنّ المستفاد من ظاهر الكتاب والحاصل من غيره

ص: 155


1- معالم الدين : 193.

بالنظر إلى إناطة التكليف به » إخراج لظواهر الكتاب في الحجّيّة عن الظنّ الخاصّ إلى الظنّ المطلق ، لأنّ الظنّ الحاصل من غيره الّذي سوّى بينه وبين الحاصل من ظاهر الكتاب هو الظنّ الّذي أقام على حجّيّته الدليل الرابع ، وهو دليل الانسداد ولا يكون إلاّ الظنّ المطلق ، كما أشعر به أيضا قوله : « بالنظر إلى اناطة التكليف به ».

وقوله : « لابتناء الفرق بينهما على كون الخطاب متوجّها إلينا - إلى قوله : ولاختصاص الإجماع والضرورة » إلخ دفع للواسطة المحتملة بين قطعيّة الحكم المستفاد من ظاهر الكتاب ، والحجّيّة من باب الظنّ المطلق ، وهي الحجّيّة من باب الظنّ الخاصّ ، ومرجعه إلى نفي حجّيّة ظواهر الكتاب من باب الظنّ الخاصّ.

واحتجّ عليه : بابتناء الحجّيّة على هذا الوجه على أحد الأمرين : من عموم الخطابات الشفاهيّة للغائبين المعدومين وقد تبيّن خلافه ، ومن الإجماع والضرورة الدالّين على المشاركة في التكاليف المستفادة من الكتاب وهو أيضا باطل ، لاختصاص أدلّة المشاركة في التكاليف بغير صورة وجود الخبر الجامع لشرائط الحجّية المنافي ظاهره لظاهر الكتاب.

والجواب : منع الابتناء على شيء من الأمرين لما عرفت مشروحا من أدلّة حجّيّتها.

ثمّ إنّ ما في آخر كلامه من دعوى « اختصاص أدلّة الاشتراك في التكاليف المستفادة من ظواهر الكتاب بغير صورة وجود الخبر المذكور » على إطلاقه غير سديد ، لأنّ الخبر المخالف لظاهر الكتاب إن كان مخالفته بحيث لا يمكن الجمع بينه وبين ظاهر الكتاب أصلا ، كما لو ورد في الأخبار « الخمر طاهر » ، قبالا لما فرض في الكتاب من قوله : « الخمر نجس » ، أو أمكن الجمع عقلا ولكن لا شاهد عليه عرفا ، كما لو ورد « لا تكرم العلماء » و « لا تكرم زيدا العالم » مثلا ، قبالا لما فرض في الكتاب من قوله : « اكرم العلماء » أو « أكرم زيدا العالم » ، فإنّ الحمل على العدول والفسّاق والرخصة في الفعل ومرجوحيّته ليثبت الكراهة وجه جمع محتمل ، غير أنّه لا يساعد عليه شيء معتبر في العرف ، فالمتعيّن فيهما - على ما حقّق في باب التعادل والتراجيح - طرح الخبر ، لعدم مقاومة سنده - بعد تعذّر الجمع - لسند الكتاب ليرجع فيهما إلى الترجيح ، أو يبني على التعادل المقتضي للتخيير ، أو غيره.

أمّا الأوّل : فلأنّه ليس في المرجّحات السنديّة ما يبلغ قطعيّة صدور الكتاب مع انتفاء التقيّة.

وأمّا الثاني : فلما يتضمّنه التخيير من تجويز طرح سند الكتاب وهو غير معقول ، كما أنّ

ص: 156

التساقط أو التوقّف ثمّ الرجوع إلى الأصل غير معقول ، ومرجع الجميع إلى أنّ قطعيّة سند الكتاب مع انتفاء التقيّة تمنع عن إدراج ما ذكر في بابي التراجيح والتعادل فتعيّن إطراح الخبر.

وإن كان مخالفته بحيث أمكن الجمع بينهما جمعا يساعد عليه متفاهم العرف ، كما في الخبر من قوله عليه السلام : « ثمن العذرة سحت » (1) قبالا لقوله تعالى : ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (2) وما أشبه ذلك من أمثلة الخاصّ الخبري والعامّ الكتابي ، وما في معناهما من المقيّد والمطلق بناء على وجود تخصيص الكتاب بخبر الواحد ، عملا بالنصوصيّة أو الأظهريّة اللتين هما من مرجّحات الدلالّة ، بل كلّ ما كان الخبر بحسب الدلالة من قبيل النصّ أو الأظهر والكتاب المقابل له من قبيل الظاهر ، فالخبر حينئذ بنصوصيّته أو أظهريّته ينهض بيانا لإرادة خلاف ظاهر الكتاب ، ويكون ذلك هو الحكم المشترك فيه المشافه وغير المشافه.

فبطل بذلك كلّه دعوى اختصاص الإجماع والضرورة الدالّين على المشاركة في التكاليف المستفادة من ظاهر الكتاب بغير صورة وجود الخبر الجامع لشرائط الحجّيّة ، لما عرفت من عموم المشاركة في جميع صور وجوده.

غاية الأمر كون ظهور الكتاب المعمول به في نحو الصورة الأخيرة من الصور الثلاث المذكورة لمخالفة الخبر هو الظهور الثانوي ، لانقلاب ظهوره الأوّلي إليه بواسطة نهوض الخبر بيانا.

تذنيب : في أنّ حجّية الظواهر يكون من باب الظنّ النوعي

تذنيب :

الظاهر أنّ حجّية الظواهر إنّما تكون بالنوع ، وقد يعبّر عنه بالظهور النوعي ، وقد يعبّر بالحجّيّة من باب الظنّ النوعي ، وقد يعبّر بكون مناط الحجّيّة هو الظهور العرفي.

والمراد بالجميع كون اللفظ بالنسبة إلى المعنى في نوع الاستعمالات بحيث يحمل عليه عرفا ، ولا يصرف عنه إلى غيره إلاّ بواسطة قرينة معتبرة في العرف ، ومن حكمه أن لا يعتبر في العمل به حصول الظنّ الفعلي بالمراد في شخص الاستعمال ، وأن لا يقدح فيه حصول الظنّ الغير المعتبر بخلافه ، ومرجعه إلى عدم كون الظنّ الفعلي بمقتضاه شرطا في حجّيّته ، ولا كون الظنّ الغير المعتبر بخلافه مانعا من حجّيّته.

وبالجملة : الظاهر حجّة بالنوع وعلى وجه الظهور العرفي ، سواء حصل الظنّ الفعلي

ص: 157


1- تهذيب الأحكام : 6 : 372 / 1080.
2- سورة البقرة : 275.

بمقتضاه في شخص الاستعمال أو لا ، وسواء حصل الظنّ الفعلي الغير المعتبر بخلافه اولا ، خلافا لمن زعم كون الظاهر حجّة إن حصل الظنّ الفعلي بمقتضاه ، ولمن زعم كونه حجّة ما لم يظنّ ظنّا غير معتبر بخلافه ، استنادا إلى عدم الدليل على الحجّيّة إذا لم تفد الظنّ ، أو إذا حصل الظنّ الغير المعتبر على خلافها.

لنا : طريقة العرف وسيرة العقلاء من أهل اللسان في جميع الألسنة واللغات على الأخذ بظواهر الألفاظ من غير مراعاة للظنّ الفعلي ، ولا اعتناء بالظنّ الغير المعتبر إذا حصل بخلافها ، كما يكشف عن ذلك ما أمر السيّد عبده بضيافة العلماء ، بقوله : « أضف العلماء » ثمّ عثر أنّ واحدا منهم لم يحضر مجلس الضيافة ، فسأله عن ذلك ، فأجاب « بأنّي لم أعده » معتذرا بأنّه انقدح في نفسي التردّد في أنّك أردته من العامّ أم لا ، أو رأيتك في الطيف (1) تقول لي أنّ فلانا غير داخل في مرادي ، فحصل لي التردّد في دخوله في العموم ، أو الظنّ بعدم دخوله ، لم يكن عذره مقبولا ، بل كان مذموما عند العقلاء ، ويصحّ للسيّد عقابه بأنّي ما نبّهتك على عدم إرادته ، ولا نصبت القرينة عليه ، فقد خالفتني وخالفت ظاهر خطابي.

وبالجملة : المرجع في العمل بالظواهر وكيفيّته هو بناء العرف ، وطريقة أهل اللسان بالإجماع والنصّ ، كما قال عزّ من قائل : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ ) (2) ونحن متى ما راجعنا أهل العرف نرى أنّ بناءهم مستقرّ في العمل بالظواهر على عدم مراعاة الظنّ الفعلي في شخص الاستعمال ، إذا كان اللفظ بحيث لو خلّي وطبعه لأفاد الظنّ به ، وعلى عدم الاعتناء بالشكّ ولا الظنّ الغير المعتبر ، فأصالة الحقيقة وما يحرزها من الاصول العدميّة ، كأصالة عدم القرينة وأصالة عدم التخصيص وأصالة عدم التقييد وأصالة عدم الحذف والإضمار وأصالة عدم النسخ كلّها معتبرة عندهم من حيث هي ، من غير أن يعتبر في التعويل عليها حصول الظنّ الشخصي بمقتضاها ، ولا أن يقدح في العمل عليها الظنّ الغير المعتبر على خلافها.

نعم إنّما يغلب في المحاورات ونوع الاستعمالات حصول العلم أو الظنّ الفعلي بالمراد الّذي هو مقتضى الظاهر نوعا ، فيدخل في الوهم كون العمل على الظواهر منوطا بحصوله وليس كما توّهم ، ولذا يؤخذ بمقتضى الظاهر في غير مورد الظنّ أيضا وإن كان نادرا ، بل

ص: 158


1- طيف الخيال : مجيئه فى النوم [ مجمع البحرين - مادّه « طيف » ].
2- سورة ابراهيم : 4.

على ما قرّرناه إجماع العلماء أيضا في ظواهر الكتاب والسنّة ، فإنّ الاصول المذكورة كلّها من الاصول المجمع عليها بقول مطلق.

ويكشف عنه عدّ بعض الأخباريّين (1) كالاصوليّين (2) استصحاب حكم العامّ والمطلق إلى أن يثبت المخصّص والمقيّد من الاستصحابات المجمع عليها ، بناء على ما حقّق من أنّ ذلك ليس من الاستصحاب المصطلح ، بل المراد به لزوم التمسّك بعموم العامّ وإطلاق المطلق ، وعدم رفع اليد عنهما حتّى يعلم المخصّص والمقيّد وإن لم يحصل ظنّ ، أو حصل ظنّ غير معتبر في شخص المورد.

ولا ينافيه ما قد يظهر منهم من التوقّف في العمل بالخبر الصحيح المخالف لفتوى المشهور ، أو طرحه بمخالفة الشهرة الفتوائيّة ، مع اعترافهم بعدم حجّيّة الشهرة ، فإنّ ذلك ليس من جهة مزاحمة الشهرة لدلالة الخبر من حيث العموم أو الإطلاق ، بل من جهة أنّها تزاحم الخبر من حيث سنده ، إمّا لما قيل من أنّ الدليل الدالّ على حجّيّة الخبر من حيث السند لا يشمل الخبر المخالف للمشهور ، أو لأنّ الشهرة على الخلاف تكشف عن خلل في صدوره ، أو جهة صدور فيتوهّن بها فلا يحصل الوثوق والاطمئنان بصدوره ، أو كون صدوره على وجه بيان الواقع لا على جهة التقيّة ، ولذا لا يتأمّلون في العمل بالظواهر القطعيّة صدورا على جهة بيان الواقع ، كالكتاب والسنّة النبويّة المتواترة إذا خالفها الشهرة الفتوائيّة.

نعم لو اقترن الظاهر بحال أو مقال صالح للقرينيّة بحيث أوجب إجمالا فيه سقط العمل به في محلّ الإجمال لا مطلقا ، ومن ذلك المجاز المشهور لأجل الشهرة الموجبة لإجماله بالنسبة إلى الحقيقة الموجب للتوقّف كما عليه المشهور ، والأمر الوارد عقيب يقين الحظر أو ظنّه أو توهّمه الموجب لإجماله بالنسبة إلى الوجوب ، والعامّ المتعقّب بضمير يختصّ ببعض أفراده ، والعمومات المتعقّبة بالاستثناء الصالح للرجوع إلى الجميع.

ولا يذهب عليك أنّ ما بيناه بعبارة الاستدراك ليس قولا بالتفصيل في العمل بالظواهر ، إذ لا ظهور في الموارد المذكورة ونظائرها حتّى يعمل به ، فخروجها عن العمل بالظواهر موضوعي لا حكمي ، ولذا لو كان ما يصلح لكونه قرينة كلاما مستقّلا منفصلا عن الظاهر لا يعتنى به في منع العمل بالظاهر ، لعدم استتباعه الإجمال فيه عند العرف ، وذلك كما لو قال المولى لعبده : « أكرم العلماء » ، ثمّ سمع العبد قول : « لا تكرم زيدا العالم » ، واشتبه قائله بين

ص: 159


1- هو المحدّث البحراني في الدرر النجفيّة : 34.
2- انظر تمهيد القواعد : 271 والقواعد والفوائد 1 : 133.

كونه مولاه أو غيره ، فإنّه لا يرفع اليد عن عموم خطاب المولى بمجرّد الاحتمال ، ونحوه ما لو قال المولى بعد العامّ : « لا تكرم زيدا » ، وكان زيد مشتركا بين عالم وجاهل ، وكذلك ما لو قال بعد العامّ في المثال : « أكرم الاشتقاقيّين » بحيث احتمل ذلك كونه قرينة كاشفة عن المراد بالعامّ ، وأنّه خصوص الاشتقاقيين.

ولقد أجاد من (1) قال بما حاصله : « أنّ الكلام إن كان مقرونا بحال أو مقال يصلح أن يكون صارفا عن المعنى الحقيقي فلا يتمسّك فيه بأصالة الحقيقة ، وإن كان الشكّ في أصل وجود الصارف ، أو كان هناك أمر منفصل يصلح لكونه صارفا فيعمل فيه على أصالة الحقيقة ».

كما حكاه شيخنا عن بعض معاصريه واستحسنه ، وقال : « بعدم كونه تفصيلا في حجّيّة الظهور اللفظي ، بل مرجعه إلى تعيين الظهور العرفي وتمييزه عن موارد الإجمال ، فإنّ اللفظ في القسم الأوّل يخرج عن الظهور إلى الإجمال بشهادة العرف ، ولذا توقّف جماعة في المجاز المشهور والعامّ المتعقّب بضمير يرجع إلى بعض أفراده ، والجمل المتعدّدة المتعقبة للاستثناء ، والأمر والنهي الواردين في مظانّ الحظر والإيجاب إلى غير ذلك ، ممّا احتفّ اللفظ بحال أو مقال يصلح لكونه صارفا ، ولم يتوقّف أحد في عامّ بمجرّد الاحتمال في دليل منفصل يحتمل كونه مخصّصا له ، بل ربّما يعكسون الأمر فيحكمون بنفي ذلك الاحتمال وارتفاع الإجمال لأجل ظهور العامّ ، ففي نحو ما لو قال المولى : « أكرم العلماء » وقال في خطاب آخر : « لا تكرم زيدا » ، مع اشتراك زيد بين عالم وجاهل لا يرفع اليد عن العموم بمجرّد الاحتمال ، بل يرفع الإجمال بواسطة العموم ، فيحكم بإرادة زيد الجاهل من النهي » (2).

وأمّا ما قيل : من أنّ احتمال إرادة خلاف مقتضى اللفظ إن حصل من أمارة غير معتبرة فلا يصحّ رفع اليد عن الحقيقة ، وإن حصل من دليل معتبر فلا يعمل بأصالة الحقيقة ، ومثّل له بما إذا ورد في السنّة المتواترة عامّ ، وورد فيها أيضا خطاب مجمل يوجب الإجمال في ذلك العامّ ولا يوجب الظنّ بالواقع ، فلا دليل على لزوم العمل بالأصل تعبّدا ، ولا يمكن دعوى الإجماع على لزوم العمل بأصالة الحقيقة تعبّدا ، فإنّ أكثر المحقّقين توقّفوا فيها إذا تعارض الحقيقة المرجوحة مع المجاز الراجح » (3).

ص: 160


1- هو الشيخ محمّد تقي في هداية المسترشدين 1 : 211.
2- فرائد الاصول 24 : 171.
3- هذا التفصيل للسيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : 35 - 36.

ففيه : أنّ عدم رفع اليد عن الحقيقة في القسم الأوّل بمجرّد الاحتمال الناشئ عن أمارة غير معتبرة حسن ، ورفع اليد عنها في القسم الثاني بمجرّد الاحتمال الناشئ من الإجمال في خطاب آخر غير جيّد ، بل قيل إنّ التوقّف في ظاهر خطاب لأجل احتمال خطاب آخر لكونه معارضا ممّا لم يعهد من أحد من العلماء ، بل لا يبعد حمل مجمل الخطاب الثاني على مبيّن الخطاب الأوّل ، ومقايسة المقام على المجاز المشهور خلط فيما يحتمل للصارفيّة بين المكتنف بالكلام والمنفصل عن الكلام ، إذ الأوّل يؤثّر في الإجمال بخلاف الثاني.

هذا تمام الكلام في حجّيّة الظنّون المعمولة ، لتشخيص المرادات من الألفاظ ، المعبّر عنها بالظواهر بعد إحراز كونها ظواهر.

وهذا هو البحث في القسم الأوّل الّذي هو البحث في كبرى القياس المنتظم ، بأنّ « هذا ظاهر ، وكلّ ظاهر حجّة ».

القسم الثاني : في ما يتعلّق بتشخيص الظواهر

وأمّا القسم الثاني : فهو البحث في الصغرى أعني ما يثبت به ظهور الظواهر أوّليّة كانت أو ثانويّة ، فليعلم أنّ الظهور في الظواهر الأوّليّة - وهي ظهور الحقائق في معانيها الحقيقيّة - يستند دائما إلى وضع لغوي أو عرفي أو شرعي شخصي أو نوعي ، في هيئة مفردة أو مركّبة ، كظهور « صعيد » مثلا في وجه الأرض لوضعه له ، وظهور صيغة « إفعل » في الإيجاب لوضعها له ، وظهور الجملة الشرطيّة في الانتفاء عند الانتفاء لوضعها للسببيّة ، إلى غير ذلك من أوضاع موادّ الألفاظ وهيئاتها المفردة وهيئاتها المركّبة.

في حجّية قول اللغوي

اشارة

كما أنّ الظهور في الظواهر الثانويّة - وهي ظهور المجازات في معانيها المجازيّة - يستند إلى قرائنها حاليّة أو مقاليّة أو عقليّة يعتبرها العرف في الصرف عن الحقيقة إلى المجاز وتعيينه ، ومن المعلوم أنّ ذلك بعد ثبوت مجازيّة المجاز باعتبار انتفاء الوضع ، كما أنّ الحمل على الحقيقة بعد ثبوت الحقيقة باعتبار ثبوت الوضع ، فكلّ من الحقيقيّة والمجازيّة قد ثبتت بطريق علمي ولا كلام لنا فيه هنا.

وقد تثبت بطريق ظنّي كنصّ لغوي غير مفيد للعلم ، وتبادر ظنّي وغيرهما من الأمارات الظنّيّة للحقيقة أو المجاز ، وهذا هو محلّ الكلام هنا ، على معنى أنّ الكلام هنا في حجّية الظنون المعمولة في تشخيص الظواهر وإثبات الأوضاع وتمييز الحقائق عن المجازات ، وهي الّتي يعبّر عنها بحجّيّة الظنّ في اللغات ، والغرض الأصلي النظر في كون الظنّ في اللغات الّذي يحرز به ظهور الظواهر ، هل هو من الظنون الخاصّة الّتي ثبتت

ص: 161

حجّيّتها بالخصوص بدليل علمي خاصّ مخرج لها من أصالة الحرمة أم لا؟

وهذه المسألة بهذا العنوان الكلّي ليست مذكورة في أكثر الكتب الاصوليّة ، بل المذكور في جملة منها بعض أفراد هذا العنوان الكلّي ، وهو الظنّ باللغة الحاصل من نصّ أهل اللغة ، ويعبّر عنه : « بأنّ قول أهل اللغة حجّة أم لا »؟ ونحن أيضا نقتصر على هذا العنوان الخاصّ ، ويعلم ما عداه بالمقايسة.

فنقول : إنّ لهم خلاف في حجّيّة قول أهل اللغة ، ولهم فيها أقوال متشتّة ، أوردناها مشروحة مع تحقيق منّا مستوفى في الجزء الأوّل من الكتاب (1) بحيث أغنانا عن التطويل والإطناب هنا ، ونزيد ها هنا أيضا تبعا لممشى شيخنا قدس سره.

ونقول : إنّ أهل القول بحجّيّة قول أهل اللغة ، إمّا أن يريدوا به جواز العمل به من باب الظنّ الخاصّ ، أو جواز العمل به لانسداد باب العلم في اللغات ، أو جواز العمل به للاضطرار إلى العمل به من جهة الاضطرار إلى العمل بمطلق الظنّ في الأحكام لدليل الانسداد فيها ، احتمالات منشؤها اضطراب كلماتهم واختلاف أدلّتهم المقامة على الحجّيّة.

فإن أرادوا الأوّل : فالحقّ هو عدم الحجّيّة على الوجه المذكور ، لعدم قيام دليل علمي عليه ، فإنّ قصارى ما استدلّوا على الحجّيّة على الوجه المذكور إنّما هو اتّفاق العلماء بل جميع العقلاء على الرجوع إلى اللغويين في استعلام اللغات ، والاستشهاد بأقوالهم في احتجاجاتهم ، من غير أن ينكر ذلك أحد على أحد.

وحكي عن السيّد (2) في بعض كلماته دعوى الإجماع على ذلك ، قال شيخنا قدس سره : « بل ظاهر كلامه المحكي دعوى اتّفاق المسلمين عليه » (3).

وحكي (4) عن الفاضل السبزواري دعوى اتّفاق العقلاء عليه قائلا - فيما حكي - : « صحّة المراجعة إلى أصحاب الصناعات المبادرين في صنعتهم البارعين في فنّهم فيما اختصّ بصناعتهم ، ممّا اتّفق عليه العقلاء في كلّ عصر وزمان » (5) انتهى.

ص: 162


1- تعليقة على معالم الاصول 2 : 51 - 16.
2- لم نعثر عليه في كلمات السيّد المرتضى ولا على الحاكي ، نعم حكاه السيّد المجاهد عن السيّد الاستاذ انظر مفاتيح الاصول : 61.
3- فرائد الاصول 1 : 174.
4- حكاه عنه السيد المجاهد في مفاتيح الاصول : 62.
5- رسالة في الغناء ( مخطوط ) للفاضل السبزواري.

وفيه مغالطة واضحة فإنّ عمل العلماء بقول اللغويين في الجملة مسلّم لا يمكن إنكاره ، غير أنّ بلوغه الإجماع الكاشف عن قول المعصوم ، أو عن حقّيّة المورد فيما هو محلّ البحث وموضوع المسألة - وهو العمل بقول لغوي غير مفيد للعلم فيما هو متعلّق بالأحكام التكليفيّة الّتي يعاقب فيها على العمل بغير العلم - غير معلوم ، بل المعلوم عدم ثبوته فيه ، وما يرى من عملهم به أو اتّفاقهم على العمل به فإنّما هو شيء ليس المقام منه.

وتوضيحه : أنّ موارد عملهم مختلفة ، وهي على ما يرشد إليه الاستقراء على أنحاء :

منها : ما يعملون به في موضع [ تعاضد ] بعضه ببعض ، كما لو اتّفق أهل اللغة على معنى ، أو تعدّدوا تعدّدا يفيد العلم بصدقهم.

ومنها : ما يعملون به لاعتضاده بالقرائن الخارجيّة ، من مطابقة العرف وشهادة الأمارات المعمولة في تشخيص الموضوعات ، فيحصل لهم العلم بما قالوا وإن كان القائل واحد.

ومنها : ما يعملون به في محلّ يتسامح فيه ، ولا يطالب فيه بالعلم ، ولا يعاقب فيه على العمل بغير العلم ، كما في الخطب والأشعار والقصائد والأدعيّة والأحاديث الغير المتعلّقة بالأحكام ، والآيات الغير الواردة في التكاليف.

ومنها : ما يعملون به في موضع المجادلة المقصود فيها الغلبة على الخصم وإسكاته ، فيستشهدون بقول لغوي لأجل هذا الغرض لا غير ، بل العمل المقصود هو مجرّد الغلبة والإسكات ، فلم يبق إلاّ ما هو موضوع البحث ، ولم يثبت فيه منهم الإجماع على العمل به على وجه يندرج في الظنون الخاصّة.

وإن أرادوا الثاني : فالحقّ فيه المنع أيضا ، لعدم انسداد باب العلم في اللغات الّذي مناطه الانسداد الأغلبي.

وأمّا الاستدلال على جواز العمل على الوجه المذكور بأنّه - لولاه لزم سدّ باب الإفادة والاستفادة لانسداد باب العلم في اللغات - فمدخول فيه بضرورة الانفتاح الأغلبي ، لكون أكثر اللغات ما يعلم به بمراجعة العرف واستعمال علائم الحقيقة أو المجاز المفيدة للقطع بهما ، وما لا يعرف بالعرف والأمارات فإنّما يعلم به بواسطة أقوال اللغويّين في موضع تعاضد بعضها ببعض ، وما لا معاضد له فإنّما يؤخذ به بملاحظة العادة وشهادة القرائن ، كما أنّا نعمل بقول عربيّ واحد عاميّ صرف أخبرنا بأنّ اللفظ الفلاني عندنا هو للمعنى الفلاني ، ولا ريب أنّه ليس عملا بالظنّ ، بل بما يفيد العلم بحكم العادة وشهادة قرائن المقام بصدقه ،

ص: 163

بل هذا طريق مألوف في تعلّم جميع اللغات عربيّة وفارسيّة وتركيّة وغيرها ، بل نرى بحكم الضرورة والعيان أنّ مبنى المحاورة في جميع الألسنة واللغات إنّما هو على العلم بأوضاعها والقطع بموضوعاتها ، ولا يوجد أحد أنّه يزعم أنّه في بعض ألفاظ لسانه يعمل في المحاورة على العمل بالظنّ فيه ، فكيف يقال : إنّه لولا جواز العمل بقول اللغوي في الأوضاع لزم سدّ باب الإفادة والاستفادة لانسداد باب العلم في اللغات؟

وظنّي أنّ وضع هذه الحجّة خلط بين الظنون المعمولة في إحراز الدلالات لتشخيص المرادات - وهي الظواهر الّتي يغلب فيها الظنّ بالمرادات ، فلولا العمل بهذا الظنّ جائزا لزم سدّ باب الإفادة والاستفادة - والظنون المعمولة لإثبات الأوضاع ، والملازمة مسلّمة في الأوّل دون الثاني ، وهو محلّ الكلام دون الأوّل.

وإن أرادوا الثالث : فلانسداد باب العلم في الأحكام جهات كثيرة أقلّها عدم تيسّر العلم في أقلّ قليل من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة المتعلّقة بالأحكام ، لعدم معلوميّة حال العرف ، ولا اتّفاق العلم من قول أهل اللغة فيها.

وظاهر أنّ عدم حجّية الظنّ في هذا القليل من الألفاظ لا يستتبع محذورا في الأحكام ، لإمكان الاحتياط فيما يتعلّق بها ، ولو سلّم الاضطرار إلى العمل به تبعا للاضطرار إلى العمل بمطلق الظنّ في الأحكام نقول به ، ولكنّه خارج عن موضوع المسألة ، لأنّه ليس عملا بالظنّ في اللغات ، لأنّه لا يثبت به وضع ولا حقيقة ولا مجاز ولا انفهام عرفي ، بل هو عمل بالظنّ في بعض الأحكام الّذي سبب حصوله الظنّ في اللغات ، فليتدبّر.

ثانيها : أي الثاني ممّا ادّعي خروجه من الأصل - : الاجماع المنقول بخبر الواحد

اشارة

وثانيها

أي الثاني ممّا ادّعي خروجه من الأصل :

الإجماع المنقول بخبر الواحد

فإنّ كثيرا ممّن يرى خبر الواحد حجّة من باب الظنّ الخاصّ يقول به أيضا في الإجماع المنقول ، فليس الغرض بيان حجّيّته من باب الظنّ المطلق ، لأنّا لو قلنا بالظنّ المطلق باعتبار دليل الانسداد اندرج فيه الإجماع المنقول أيضا ، فلا حاجة إلى تكلّف البحث عن حجّيّته بالخصوص.

كما أنّه ليس الغرض من حجّيّته من باب الظنّ الخاصّ بيان أنّه قام الدليل الخاصّ

ص: 164

على عنوان « الإجماع المنقول » من حيث أنّه هذا العنوان ، لأنّه بهذا العنوان لم يؤخذ في شيء من الأدلّة ، ولم يرد فيه آية كتابيّة ولا رواية نبوّيّة ولا رواية إماميّة ولم ينعقد عليه إجماع ، بل بيان أنّه هل يكون حجّة من باب أنّه نبأ عدل فيكون من أفراد خبر الواحد ، ويدلّ على حجّيّته كلّما دلّ على حجّيّة خبر الواحد من الأدلّة الخاصّة.

ولذا قيل : إنّه بمنزلة خبر الواحد ، ويعدّ بهذا الاعتبار من الأدلّة اللفظيّة ، ويلاحظ فيه سندا ودلالة ومعارضة ، وباعتبار السند يدخل فيه كثير من أقسام الخبر من صحيح وضعيف وغيرهما ، وهو إذا نقله العدل من أصحابنا كخبر صحيح عالي السند ، وباعتبار الدلالة يلحقه جميع أحكام الدلالة اللفظيّة ، من قوّة وضعف ونصوصيّة وظهور وعموم وخصوص وإطلاق وتقييد وبيان وإجمال ، وباعتبار معارضة مثله له يلحقه أحكام التعارض ، من طرح أو علاج بالجمع والترجيح والرجوع إلى المرجّحات وغيره.

ومرجع البحث في حجّيّته على الوجه المذكور إلى بيان الملازمة بينه وبين خبر العدل في الحجّيّة وعدمها ، فقيل : نعم وهو لأكثر القائلين بحجّيّة خبر الواحد ، فقالوا : بأنّ ناقل الإجماع يحكي مدلوله ويرويه عن الإمام فيكون رواية مصطلحة ، وقيل لا وهو لجماعة وهو الحقّ.

لنا عليه وجهان : أحدهما : ما يرجع إلى الطعن في السند ، لا بمعنى القدح في الناقل فإنّه ممّا لا معنى له ، بل بمعنى أنّ إسناد العدل قولا إلى الإمام من باب الحدس ليس كإسناده القول إليه من باب الحسّ ليشمله أدلّته ، أو يكون نظيره في إيراث الوثوق والاطمئنان.

وثانيهما : ما يرجع إلى القدح في الدلالة ، على معنى أنّ الإجماع الّذي ينقله العدل ليس بحيث يدلّ على ما هو المقصود من الإجماع المصطلح ، ليكون ذلك نقلا لقول الإمام ، من حيث عدم بقائه في كلامهم على حاله وحقيقته هذا بيان دليل المختار على وجه الإجمال.

وأمّا بيانه على سبيل التفصيل فنقول : إنّ الأدلّة الخاصّة المقامة على حجّيّة خبر الواحد ، إمّا أن تكون من الأدلّة اللبّيّة كسيرة أصحاب الأئمّة والقدماء في العمل بأخبار الآحاد الّتي هي إجماع عملي ، أو من الأدّلة اللفظيّة من الأخبار والآيات.

أمّا الأوّل : فعدم شمول السيرة والإجماع العملي للإجماع المنقول واضح لا حاجة له إلى البيان ، إذ لا لفظ فيه ليكون بعمومه أو إطلاقه متناولا له ، والقدر المعلوم المتيقّن من معقدهما الروايات المصطلحة والأخبار المأثورة عن أئمّتهم عليهم السلام لا غير ، وإن نقلت الكلام

ص: 165

إلى الإجماع الّذي نقله الشيخ - فمع أنّه يوجب الدور - فهو أيضا غير مجد في الشمول للإجماع المنقول ، لأنّه منقول على عمل أصحاب الأئمّة بالأخبار المتداولة لديهم ، ولا تكون إلاّ الروايات المصطلحة.

وأمّا الثاني : فلأنّ الأخبار من أدلّتها اللفظيّة على اختلاف أنواعها - من الواردة في مدح جماعة من الرواة الذين منهم الفضلاء الأربع ، كبريد بن معاوية العجلي وأبي بصير ليث البختري المرادي ومحمّد بن مسلم وزرارة بن أعين الذين ، ورد في شأنهم « بشّر المخبتين بالجنّة ، نجباء امناء اللّه ، ولولاهم انقطعت آثار النبوّة واندرست » (1) ومن الآمرة بالرجوع في معالم الدين إلى أصحابهم ورواة حديثهم ، (2) والآمرة بالأخذ من كتب بني الفضّال (3) وغيرهم من أشخاص مخصوصين من أصحابهم كزرارة ومحمّد بن مسلم وأبي بصير الأسدي وأبان بن تغلب ويونس بن عبد الرحمن وزكريّا بن آدم والعمري وابنه ، والواردة في علاج الخبرين المتعارضين المعبّر عنها بالأخبار العلاجيّة - لا تتناول الإجماع المنقول أيضا ، بل مواردها على ما يجده المتتبّع ليست إلاّ الروايات المصطلحة ، من دون أن يكون فيها لفظ عامّ أو مطلق يشمل الإجماع المنقول.

ودعوى : أنّ المناط في وجوب العمل بالروايات هو كشفها عن الحكم الصادر عن المعصوم ، ولا يعتبر في ذلك حكاية ألفاظ الإمام ، ولذا يجوز نقل الحديث بالمعنى ، وإذا كان المناط كشف الروايات عن صدور معناها عن الإمام ولو بلفظ آخر ، وأنّ حكاية الإجماع أيضا حكاية حكم صادر عن المعصوم بهذه العبارة الّتي هي معقد الإجماع أو بعبارة اخرى ، فوجب العمل به أيضا لأجل هذا المناط.

يدفعها : أنّ المناط المذكور مع فرض كون الكشف ظنّيّا ، ليس بمنصوص عليه ولا مجمع عليه ، وإلاّ لجرى في الشهرة بل فتوى الفقيه الواحد في بعض الأحيان ، لمكان الكشف الظنّي فيهما أيضا عن الحكم الصادر عن الإمام ، والمفروض عدم الإجماع على العمل بهما ، ولا أنّه مقطوع به من جهة الأخبار المذكورة ، بل غايته كونه مناطا ظنّيّا ، فالتعويل عليه في التعدّي إلى الإجماع المنقول يرجع إلى نحو من القياس المستنبط العلّة ، وفيه ما فيه.

ص: 166


1- الوسائل 27 : 142 / 4 ب 11 من أبواب صفات القاضي.
2- الوسائل 27 : 146 / 27 و 33 ب 14 من أبواب صفات القاضي.
3- الوسائل 27 : 142 / 13 ب 11 من أبواب صفات القاضي.

وأمّا الآيات : فعمدتها آية النبأ وبعدها آية النفر ، ولا يشمل شيء منهما الإجماع المنقول.

أمّا آية النبأ : فلأنّه تعالى فصّل فيها منطوقا ومفهوما بين نبأ الفاسق ونبأ العادل بإيجاب التبيّن في قبول الأوّل ، وإيجاب القبول من غير تبيّن في قبول الثاني.

وعلّل الأوّل بعدم الوقوع في الندم ، ودلّ ذلك على كون العدالة في الثاني قائمة مقام التبيّن في إفادة عدم الوقوع في الندم ، وهذا لا يتمّ إلاّ فيما انحصر العلّة الموجبة للوقوع في مخالفة الواقع الموجب للوقوع في الندم في تعمّد الكذب ، حتّى يقال : بأنّ احتماله يرتفع أو يضعف ضعفا لا يعتني به العقلاء بالتبيّن في الفاسق والعدالة في العادل.

والمفروض عدم انحصارها فيه ، لأنّ الاشتباه والخطأ الّذي هو طبيعة ثانويّة في الإنسان أيضا علّة موجبة للوقوع فيهما ، فلابدّ في قبول الخبر من إناطته بما يرتفع معه كلّ من احتمالي تعمّد الكذب والخطأ ، أو يضعف ضعفا لا يلتفت إليه العقلاء ولا يعتنون بشأنه ، أو تخصيص مورد الاكتفاء في القبول بمجرّد التبيّن والعدالة بما لا يجري فيه احتمال الخطأ ، وهو الإخبار عن حسّ لعدم وقوع الخطأ في الحسّيات ، أو كمال ندرته بحيث لا يعتنى باحتماله فيها العقلاء.

والأوّل في الآية منتف ، لأنّه إنّما انيط القبول فيها بعدالة المخبر الّتي لا تكفي في ارتفاع احتمال الخطأ ، لأنّ العادل لا يتعمّد الكذب ، وليس مأمونا من الخطأ ، لأنّه لا ينافي العدالة فتعيّن الثاني ، فوجب القول بأنّ مورد آية النبأ هو الإخبار عن حسّ الّذي هو عبارة عن حكاية قول المعصوم أو فعله أو تقريره المدركات بالحسّ ، فلا يندرج فيه الإجماع المنقول الّذي هو حكاية قول المعصوم المدرك بالحدس.

وبالجملة : مورد الآية - على ما ذكرناه أيضا - هو الروايات المصطلحة لا غير ، ويؤيّد ما ذكرناه من التقريب أنّ عدم الوقوع في الندم - المعلّل به القبول في الفاسق بعد التبيّن ، والعادل من غير تبيّن - لا يصحّ التعليل به إلاّ فيما [ لا ] يجري فيه احتمال الخطأ أو يضعف احتماله وليس إلاّ الحسّيّات ، وإلاّ وجب اعتبار أمر آخر يرفع احتماله ، والعدالة بمجرّدها غير رافعة لها.

وبالجملة : الوقوع في الندم علّة مشتركة بين تعمّد الكذب والخطأ ، فيقبح إناطة القبول بمجرّد العدالة ، لعدم وفائها بارتفاع العلّة المشتركة بكلّ من فرديها ، وهذا يكشف عن أنّ مورد الآية ما لا يجري فيه احتمال الخطأ ، فلا يدخل فيها الإجماع المنقول.

وخلاصة ما بيّناه في منع شمول الآية للإجماع المنقول ، هو : أنّ الفرق بين الفاسق

ص: 167

والعادل بإيجاب التبيّن وعدمه ، تعليلا بمخافة الندم في الأوّل دون الثاني لا يصحّ أن يكون من جهة احتمال الخطاء ، لأنّ ذلك علّة مشتركة بينهما من غير تفاوت بينهما فيه أصلا ، فيكون التعليل به قبيحا ، وإنّما يصحّ ذلك بحكم العرف والذوق بالنسبة إلى احتمال تعمّد الكذب وعدمه ، فإنّه في بناء العدل غير موجود أو أنّه على تقدير وجوده في غاية الضعف ، فلا يمنع من الوثوق والاطمئنان بالصدق ، بخلافه في جانب نبأ الفاسق ، وهذا هو الفارق بينهما بكون العمل بالأوّل من غير تبيّن مستتبعا للوقوع في الندم دون الثاني ، فيكون ذلك هو الداعي لله سبحانه إلى التفصيل.

فلا بدّ وأن يحمل ذلك - حيث إنّه تعالى أطلق فيه الحكم بالقبول على تقدير وعدمه على تقدير آخر من غير زيادة قيد آخر - على كلّ مورد انحصر فيه جهة المنع من قبول الخبر في احتمال تعمّد الكذب ، بأن يكون الاحتمالات الاخر المانعة من الوثوق والقبول - الموقعة على تقدير القبول في الندم التي منها احتمال الخطأ والاشتباه - مسدودة بملاحظة الخارج ، أو ضعيفة بحيث لا يعتني بها العقلاء أصلا ، كالامور الحسّيّة من قول أو فعل أو تقرير ، حيث إنّ الأوّل يدركه السمع والأخيران يدركهما البصر ، والإجماع المنقول ليست بهذه المثابة ولا بتلك المنزلة.

فإن قلت : لو صحّ ما ذكرت من البناء والاستظهار ، لوجب جواز العمل بخبر الفاسق إذا علم صدقه ، وعلم خطأه من خارج ، إذ لا ندم فيه حينئذ من جهة انتفاء احتمالي الكذب والخطأ ، وهذا يشبه بكونه خلاف الإجماع ، لبنائهم في خبر الفاسق على الردّ وعدم القبول ولو علم صدقه من الخارج ، كما يفصح عن ذلك مسألة الشهادة الّتي يعتبرون فيها العدالة مطلقا ، ولأجله لا يقبلون شهادة الفاسق كذلك.

قلت : خبر الفاسق المعلوم صدقه إن تحقّق في موارد الاستنباط كالأحكام الكلّيّة الإلهيّة فلا إشكال في جواز قبوله ووجوب العمل به ، فدعوى الإجماع على ردّه غير مسموعة.

كيف! وأنّ الشيخ نقل الإجماع على العمل بخبر المتحرّز عن الكذب وسمّاه صحيحا ، وإن تحقّق في موارد الشهادة فلا يقدح عدم قبوله ولو مع العلم بعدم تعمّده الكذب فيما ذكرناه ، لأنّ العدالة في خصوص الشهادة شرط تعبّدي أثبته الدليل من نصّ أو إجماع.

فإن قلت : هذا المعنى ينافيه ما يظهر من العلماء من استدلالهم لإثبات حجّيّة الشهادة أيضا بآية النبأ ، ومقتضاها كون مناط خبر العدل فيها أيضا الوثوق بالصدق والأمن من

ص: 168

الوقوع في الندم ، وهذا لا يلائم كون اعتبار العدالة تعبّدا حتّى في مورد يؤمن فيه من الوقوع في الندم بدونها.

قلت : ينقضه أنّهم - مع استنادهم في قبول خبر العدل إلى الآية وإثبات شرطيّة عدالة المخبر للعمل بخبره بها - يشترطون في المخبر - ولو عدلا - كونه ضابطا ، تعليلا بأنّه لا وثوق بخبر غير الضابط ولو عدلا ، فلو كان الاستناد إلى الآية في إثبات أصل اعتبار خبر العدل منافيا لاعتبار أمر زائد على العدالة بدليل آخر لما كان لاشتراط الضبط وجه ، إذ المفروض أنّها دلّت على قبول خبر العدل وهذا خبر عدل ، ولا معنى بعده لاشتراط الضبط ولا تعليله بعدم الوثوق لولاه.

فظهر أنّ إثبات أصل اعتبار خبر العدل بالآية لا ينافي اشتراط أمر زائد على العدالة بدليل من الخارج ، وعلى نحو ذلك نقول في مسألة الشهادة ، فإنّ أصل اعتبار شهادة العدل إنّما ثبتت بالآية ومقتضاها جواز القبول في موضع العلم بالصدق ولو مع انتفاء العدالة ، غير أنّ الدليل من الخارج دلّ على كون العدالة فيها معتبرة على وجه التعبّد ، كما أنّ الدليل الخارج أيضا أثبت فيها اعتبار التعدّد.

وأمّا آية النفر : فبعد الإغماض عن ظهورها في الفتوى والبناء على شمولها الرواية أيضا ، نقول : إنّ النافر إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم أو إلى الأئمّة ، وكذلك الآخذ من أحدهم إذا رجع إلى قومه لا يحكي له إلاّ ما أدركه بالسمع من القول ، وما رآه بالبصر من الفعل أو التقرير ، فيكون موردها الروايات المصطلحة ، ولا يندرج فيها الإجماع المنقول.

هذا كلّه في توضيح الطعن في السند حسبما أشرنا إليه سابقا على وجه الاختصار.

وأمّا توضيح القدح في الدلالة على معنى منع دلالة نقل الإجماع على كون قصد ناقله حكاية قول الإمام الّذي هو من السنّة ، وظهوره في حكاية السنّة ليندرج بذلك في الخبر المصطلح - الذي هو عبارة عن حكاية السنّة الدائرة بين قول المعصوم وفعله وتقريره - حتّى يشمله أدلّة حجّيّته ، فهو موقوف على بيان معنى الإجماع ووجه حجّيّته ، على معنى الملازمة بينه وبين قول الإمام أو موافقة قوله ، وأنّ هذه الملازمة هل هي ثابتة أم لا؟

فنقول : إنّ للعامّة والخاصّة في الإجماع تعاريف كثيرة بعبارات مختلفة مذكورة في كتبهم الاصوليّة ، وإطلاقاتهم « لفظ الإجماع » في الكتب الفقهيّة والاصوليّة أيضا في الكثرة خارجة عن حدّ الإحصاء ، إلاّ أنّ المستفاد من مجموع تعريفاتهم وإطلاقاتهم معان ثلاث

ص: 169

يطلق على كلّ واحد الإجماع :

أحدها : اتّفاق جميع علماء الامّة حتّى الإمام (1).

وثانيها : اتّفاق العلماء عدا الإمام (2).

وثالثها : اتّفاق جماعة يكشف اتّفاقهم عن رأي المعصوم (3) ، إلاّ أنّ اصطلاح العامّة والخاصّة - على ما يظهر من أكثر تعريفاتهم فيه - قائم بالمعنى الأوّل المأخوذ فيه اتّفاق كلّ الامّة ، أو جميع علمائهم الّذي منهم الإمام ، لأنّه من أجلّ الامّة وأفضل علمائهم ، حتّى أنّ معناه المصطلح عليه عند أصحابنا أيضا ذلك المعنى ، وإن قلنا بأنّ أصل حدوث الاصطلاح من العامّة وأصحابنا الخاصّة أخذوه منهم تبعا من غير أن يغيّروه ، كما يظهر ذلك من المرتضى قدس سره - فيما حكي عنه منقولا بالمعنى - من « أنّ الإجماع شيء أحدثه العامّة واخترعوه وأدرجوه في الأدلّة وجعلوه قسما منها ، ونحن أخذناه منهم لمّا رأيناه حقّا ووجدناه صالحا للحجّيّة ، لكن لا من الجهة الّتي زعموه بل من جهة اخرى وهي كشفه تضمّنا عن قول الحجّة باعتبار أنّ اتّفاق الامّة أو علمائهم يتضمّن قول إمامهم الّذي هو الحجّة فالإجماع حجّة لحجّيّة قول الإمام ، لا من حيث إنّه إجماع (4) » وهذا كما ترى مخالفة من أصحابنا للعامّة في وجه الحجّيّة ، والمخالفة في وجه الحجّية لا يستلزم المخالفة في الاصطلاح والتسمية ، ولذا ترى أنّ تعاريف قدمائهم إلى متأخّريهم - الّذين آخرهم كما قيل صاحب المعالم وشيخنا البهائي - منطبقة على ما حدّه العامّة الّذي اعتبروا فيه اتّفاق الكلّ ، ومع اتّفاق الكلّ يعلم دخول الإمام أيضا.

ومن هنا ذكر جمع من المحقّقين منهم الفاضل القمّي (5) : « أنّ كلّ إجماع عندهم إجماع عندنا ، وحجّة على مذهبنا من القول بوجود إمام معصوم في كلّ عصر ».

نعم ولقد شاع في كلام أصحابنا إطلاقه على كلّ من المعنيين الآخرين ، لا على أنّه تغيير للاصطلاح الأوّل ، ولا على أنّه إحداث لاصطلاح آخر خاصّ بهم ، بل مسامحة وتوسّعا في الاستعمال ، لكون كلّ في زعمهم كالإجماع المصطلح في الحجّيّة والاعتبار من

ص: 170


1- شرح مختصر الاصول : 1 : 122 والإحكام للآمدى 1 : 254.
2- تهذيب الوصول للعلاّمة الحلّي : 65 وغاية البادئ في شرح المبادئ ( مخطوط ) 73.
3- قوانين الاصول 1 : 349.
4- نهاية الوصول ( مخطوط ) : 241.
5- قوانين الاصول 1 : 358.

حيث الكشف عن موافقة قول الحجّة ورضاه ، كشفا التزاميّا بالالتزام العقلي أو العرفي ، وظاهر أنّ كون شيء كالإجماع المصطلح في الحجّيّة ووجهها عندهم لا يلازم كونه مثله في التسمية أيضا.

ولكنّا نتكلّم على كلّ من المعاني الثلاث ، غير أنّ الكلام في المعنى الأوّل إنّما يقع في الصغرى لا في الكبرى ، لأنّه إذا ثبت الصغرى - وهو اتّفاق كلّ الامّة أو كلّ العلماء حتّى الإمام - وعلم بذلك فلا يبقى مجال على مذهبنا للكلام في الكبرى وهو الحجّيّة ، ولا يبقى محلّ لقولنا الإجماع حجّة أم لا؟ لأنّه في المعنى يرجع إلى القول بأنّ ما يكشف عن قول الإمام كشفا تضمّنيّا حجّة أو ليس بحجّة؟ وهذا كما ترى تشكيك في حجّيّة ما يكشف عنه الإجماع أعني قول الحجّة ، وهو تشكيك في أمر ضروري على مذهبنا ، فلا يصدر عن جاهل فضلا عن العلماء.

ولذا ترى أنّ أصحابنا في عنوان هذا المعنى الّذي قد يعبّر عنه ب « طريقة القدماء » لم يتعرّضوا لبحث الحجّيّة أصلا ، لأنّ كونها مع الإجماع من قبيل القضايا الّتي قياساتها معها ، بل إنّما تعرّضوا لبيان امور كلّها ترجع إلى الصغرى من شروط الإجماع وأركانه وموانعه وفروعه.

وأمّا المعنى الثاني : فعمدة الكلام فيه يقع في الكبرى ، وهو ثبوت الملازمة بين اتّفاق من عدا الإمام من علماء الامّة وموافقة قوله وعدمه ، وإن كان يمكن فيه التكلّم عن الصغرى أيضا.

وأمّا المعنى الثالث : فإنّما الكلام فيه أيضا يقع في الكبرى ، وهو ثبوت الملازمة بين اتّفاق الجماعة ، وموافقة قول الإمام ورضاه الّتي عبّر عنها ب « الكشف » ، في عبارة قولهم : « اتّفاق جماعة يكشف اتّفاقهم عن رأي المعصوم ».

فأمّا المعنى الأوّل : فمعنى الكلام في صغراه هو أنّ اتّفاق جميع علماء الامّة حتّى الإمام على حكم شرعي ، بأيّ شيء يحرز وبأيّ طريق يعلم؟ وهل يمكن الاطّلاع عليه ، حتّى يستند إليه في اثبات حكم شرعي ، وينقل في مقام الاستنباط في كتب الاستدلال ، ليكون نقله حكاية للسنّة ، وهو قول الإمام المعلوم إجمالا في جملة أقوال المجمعين ، المفروض كونهم كلّ علماء الامّة حتّى إمامهم المعصوم على مذهبنا أو لا يمكن معه؟

فنقول : يتصوّر لإحرازه والعلم به طريقان :

أحدهما : أن يستقصى أقوال جميع العلماء بحيث يحصل اتّفاق لقاء الإمام في ضمنه ، وأخذ القول منه بعنوان رجل عالم ليدخل شخصه في أشخاصهم ، وقوله في أقوالهم ، سواء

ص: 171

تحقّق ذلك في مجلس واحد أو بلد واحد أو ناحية واحدة ، أو صقع من الأصقاع ، أو إقليم من الأقاليم ، أو قطر من الأقطار ، أو جميع أطراف العالم.

وثانيهما : أن يكون هناك معيار وميزان منضبط ، بينه وبين الواقع ملازمة قطعيّة ، ويكون بحيث لا يمكن لأحد التخلّف عنه والخروج منه ، من ضروري دين أو حكم عقل مستقلّ كحرمة الظلم مثلا على تقدير بلوغه حدّ الضرورة ، أو قبحه الذي يستقلّ به العقل ، فبذلك يعلم أنّ جميع علماء الامّة قائلون بموجبه ومقتضاه.

والفرق بين الطريقين : أنّ أقوال العلماء الّذين منهم الإمام تدرك بطريق الحسّ على الأوّل والحدس على الثاني ، ويعلم بها بالتفصيل على الأوّل ، وبالإجمال على الثاني ، والوصول إلى الإجماع على الأوّل بطريق اللمّ (1) وعلى الثاني بطريق الإنّ ، إذ العلم بالمجمع عليه بما معه من المعيار أوجب العلم بالاجماع على الثاني ، ولا سبيل إلى شيء من الطريقين.

أمّا الأوّل : فلأنّه محال عادي ، إمّا لعدم إمكان استقصاء الجميع بطريق الحسّ عادة ، أو لعدم إمكان لقاء [ الإمام ] الغائب [ عليه السلام ] بحيث أخذ منه القول ولو بعنوان رجل عالم عادة ، كما يشهد به ضرورة عدم اتّفاق ذلك لأحد من محصّلي الإجماع ، من علماء أزمنة الغيبة متقدّميهم ومتأخّريهم ولم يدّعه أحد.

وتوهّم إمكانه بأن يدخل أحد مجلسا حضر فيه العلماء ويعلم أنّ الإمام فيهم من غير أن يعرفه بشخصه ، فيسألهم عن حكم واقعة فأجابوه كلمة واحدة ، فإنّه إجماع أحرز بطريق الحسّ مع كون قول الإمام معلوما بالإجمال لكونه من جملتهم.

يدفعه : أنّ هذا حيث يتحقّق لا إشكال في كبراه ، ولا يمكن الاسترابة في حجّيّته لحجّيّة قول الحجّة ، ولكنّا نقطع بعدم تحقّقه لأحد من علماء أزمنة الغيبة ، وما فرض من إمكانه إمكان فرضي لا يجدي في تحصيل الإجماع ونقله ليكون نقله حكاية للسنّة ، بل الّذي يجدي في ذلك هو الإمكان الوقوعي والمفروض عدم وقوعه قطّ ، فيكون في حدّ الامتناع العادي.

نعم لا يبعد تحقّقه في أزمنة الحضور وليس كلامنا فيه.

وأمّا الثاني (2) : فلحصول العلم بالمجمع عليه بما فرض معه من المعيار من ضرورة دين

ص: 172


1- اللمّ : هو الاستدلال بالعلّة على المعلول. والإنّ : هو الاستدلال بالمعلول على العلّة.
2- وهو أن يكون بين الحكم المجمع عليه والواقع تلازما قطعيّا.

أو حكم عقل مستقلّ ، فيغني ذلك عن النظر في الإجماع المستحصل به التابع له ، بل لا يكون فرض الإجماع معه إلاّ كالحجر الموضوع في جنب الإنسان ، باعتبار أنّه لا يؤثّر أثرا ولا يفيد فائدة أصلا.

ونتيجة استحالة الطريق الأوّل وإغناء الطريق الثاني القطع بعدم تحقّق الإجماع بالمعنى الأوّل ، وهو اتّفاق جميع العلماء حتّى الإمام في الإجماعات التي حصّلها أصحابنا ، أعني علماء أزمنة الغيبة كالشيخين وأتباعهما ومن تقدّم عليهما ، ثمّ السيّدين المرتضى ورضي الدين وابن زهرة وابن طاووس وأتباعهم ، والفاضلين في كتبهما والشهيدين في كتبهما ، والعليين الكركي والميسي ، والمقدّس الأردبيلي وتلميذيه صاحبي المدارك والمعالم ، وغيرهم ممّن سبقهم أو لحقهم من المتصدّين لتحصيل الإجماع ونقله في رسائلهم وكتبهم الاستدلاليّة ، لانحصار طريقه في أمرين نقطع بانتفائهما فيها معا.

أمّا الأوّل : فلاستحالته العاديّة.

وأمّا الثاني : فلعدم كون محلّ البحث الإجماعات المنقولة المصادفة لضروري الدين أو حكم العقل المستقلّ ، إذ مع وجود أحد الأمرين لا حاجة إلى النظر في الإجماع المنقول ولا إلى إثبات حجّيّته ، إذ لا فائدة في الأمارة الغير العلميّة مع وجود الطريق العلمي ، بل مع العلم الحاصل منه فعلا.

وقضيّة ذلك كلّه أن يكون كلّ إجماع نقل في كلامهم مطلقا - كقولهم : إجماعا أو للإجماع ونحوه ، أو مع إضافته إلى الامّة أو المسلمين أو أهل الإسلام أو العلماء ونحوه - مرادا به المعنى الثاني وهو اتّفاق من عدا الإمام.

ولا ينافيه عدالتهم بدعوى لزوم الإغراء أو التدليس من حيث إنّهم يصطلحون الإجماع في معنى ، ويريدون في إطلاقاتهم معنى آخر ، لما ذكرناه من وجود القرينة القطعيّة على إرادة خلاف المعنى المصطلح عليه.

ودون الألفاظ المذكورة في ألفاظ نقل الإجماع قولهم : « أجمع الأصحاب » أو « أجمع أصحابنا أو علمائنا » أو « إجماع الشيعة » أو ما يؤدّي مؤدّاه لظهورها في إرادة اتّفاق من عدا الإمام ، ودونها لفظ « عندنا » الّذي يقال : إنّه يؤذن بدعوى الإجماع ، ودون الجميع لفظ « لا خلاف » و « بلا خلاف » ونحوه ، لانتفاء لفظ « الإجماع » فضلا عن معناه المصطلح عليه.

فملخّص ما بيّناه في منع كون نقل الإجماع حكاية السنّة ، أنّ العلم بقول الإمام المدّعى

ص: 173

حصوله بالإجماع بالمعنى الأوّل الّذي هو طريقة القدماء في القول بالكشف التضمّني ، بمنزلة العلم بالنتيجة الحاصل بالقياس بطريق الشكل الأوّل ، بتقريب : أنّ الاستدلال به ينحلّ إلى أن يقال : « الإمام واحد من علماء الامّة ، وكلّ واحد من علماء قال بكذا ، فالإمام قال بكذا » ، وهذا هو العلم بقول الإمام الحاصل بالنظر في الإجماع بالمعنى الأوّل ، ولا إشكال في إمكان حصوله على تقدير صدق المقدّمتين ، كما لا إشكال في صدق الصغرى منهما ، بل لا يمكن الاسترابة فيه لكونها ضروري الثبوت.

وإنّما الكلام في كلّيّة الكبرى وهو في غاية الإشكال بل موضع منع ، لأنّ طريق ثبوتها إن كان استقصاء أقوال العلماء بأجمعهم حتّى الإمام المعلوم دخوله فيهم إجمالا ، فهو على ما عرفت غير ممكن عادة ، وإن كان النظر في المعيار والميزان المنضبط الّذي يلازم الواقع ملازمة قطعيّة من ضروري دين أو حكم عقل مستقلّ ، فهو لإفادته العلم بالحكم المجمع عليه السابق حصوله على العلم بالإجماع يغني عن النظر في الإجماع التابع له ويرفع الحاجة إلى النظر فيه.

هذا مضافا إلى أنّا نقطع بانتفائه في الإجماعات المنقولة في كلام أصحابنا التي نتكلّم في حجّيّتها ، إذ لا كلام في الإجماعات المصادفة لضروري الدين أو حكم العقل المستقلّ ، إذ لا حاجة إلى النظر في الإجماع المنقول الّذي هو أمارة ظنّيّة مع وجود الطريق العلمي الضروري أو النظري ولا إثبات حجّيّته ، بل الكلام في الإجماعات المنقولة في غير الضروريّات والمستقلاّت العقليّة وما يلحق بها من الأحكام العقليّة الملحوظ فيها خطاب الشرع ، وهذه الإجماعات لا يمكن حملها على إرادة المعنى الأوّل لوجود القرينة القطعيّة الصارفة عنه.

وأمّا المعنى الثاني : وهو اتّفاق كلّ العلماء عدا الإمام المدّعى كونه كاشفا عن موافقة قول الإمام كشفا التزاميّا.

فنقول : إنّ مرجع دعوى الكشف فيه إلى دعوى الملازمة بينه وبين موافقة قول الإمام للحكم المجمع عليه ، والملازمة المدّعاة هنا ملازمة بين شيئين لا ملازمة بينهما في الواقع ، كالملازمة المدّعاة بين موت زيد وطيران الغراب فيما لو أخبر أحد بموت زيد ، وعلّله بأنّه رأى غرابا طار من المكان الفلاني ، وذلك لأنّ القائلين بالإجماع بهذه الطريقة كالشيخ (1) وأتباعه إنّما استدلّوا على الملازمة بقاعدة وجوب اللطف.

ص: 174


1- العدّة 2 : 642.

وتقريرها ملخّصة : أنّه لو كان قول الإمام مخالفا لما أجمعت الطائفة عليه مع عدم وجود مخالف لهم ، ولا دليل من كتاب أو سنّة قطعيّة على صحّته وسقمه ، ولا العلم بموافقة الإمام أو مخالفته لهم ، لوجب عليه ردعهم لأنّه لطف واللطف واجب ، ولمّا لم يكن ردعهم ، فنعلم بموافقة قوله لقولهم.

وهذه القاعدة في محلّها وموردها وإن كانت مسلّمة لا يمكن الاسترابة فيها ، إلاّ أنّ محلّ البحث ليس من موردها فلا حكم لها فيما نحن فيه أصلا ، وكيف كان فنجيب عنها تارة بالنقض ، واخرى بالحلّ.

أمّا النقض : فلأنّ المقصود من إعمال قاعدة اللطف هنا إمّا أن يكون إثبات حكم للاّحقين الناظرين في إجماع المجمعين ، وهو أن يكون إجماعهم مستندا للاحقين ، أو إثبات حكمه للمجمعين وهو أن لا يكون إجماعهم على الإفتاء بالحكم المجمع عليه خاليا عن المستند ، لكون قول الإمام الموافق له حينئذ مستندا له.

فإن كان الأوّل فيرد عليه : أنّ الإجماعيّات على تقدير عدم حجّيّة الإجماع فيها لا تزيد على غير المنصوصات ، فكما يجب فيما لا نصّ فيه الرجوع إلى الاصول العمليّة فكذلك في الإجماعيّات على التقدير المذكور ، فإنّها حينئذ تندرج فيما لا نصّ فيه الّذي حكمه الرجوع إلى الاصول ، وكما أنّ قاعدة وجوب اللطف لا حكم لها في غير المنصوصات فكذلك في الإجماعيّات.

وتوهّم الفرق : بأنّ غير المنصوصات قد صدر النصّ فيها عن الأئمّة عليهم السلام ببيانهم للأحكام الواقعيّة فيها ، غير أنّه فقد عنّا النصّ ولم يصل إلينا.

يدفعه : المعارضة بالمثل ، لجواز أن يصدر عنهم النصّ في الإجماعيّات بالحكم المجمع عليه أو بخلافه ، ولكنّه فقد عنّا ولم يصل إلينا.

وإن كان الثاني فيرد عليه : أنّ الإجماعيّات لا تنقص عن الاجتهاديّات التي يبنى فيها على الأمارات الظنّيّة من آية ، أو رواية ، أو أمارة اخرى.

فإنّ المجمعين في إفتائهم بالحكم المجمع عليه ، إمّا أن يكون لهم مستند من أصل أو آية أو رواية أو أمارة اخرى وقد خفي علينا ، أو فقد عنّا ذلك المستند ، ولا سبيل إلى الثاني لعدالتهم المانعة عن الإفتاء بغير مستند.

وعلى الأوّل فإمّا أن يكون ذلك المستند معتبرا وحجّة في حقّهم ولو من باب الحكم

ص: 175

الظاهري أو لا ، ولا سبيل إلى الثاني لعدالتهم المانعة عن الاستناد إلى ما ليس بحجّة في حقّهم ، فتعيّن الأوّل.

وقضيّة ذلك أن لا يكون لقاعدة وجوب اللطف حكم في الإجماعيّات بالنسبة إلى المجمعين ، كما أنّه لا حكم لها في الاجتهاديّات بالنسبة إلى المجتهدين.

وأمّا الحلّ : فوجوه تتّضح بعد بيان معنى اللطف ، ووجوبه ، ودليل وجوبه ، ومقدار وجوبه ، وكيفيّة وجوبه.

فنقول : المعروف بين المتكلّمين وجوبه بل لم يعرف لهم مخالف ، وتشكيك بعض القاصرين فيه من جهة قدحه في أدلّة المتكلّمين لا يعبأ به ، لابتنائه على الغفلة عن حقيقة معنى اللطف ، أو على الخلط بين حيثيّات الأدلّة ، فإنّ لهم على وجوبه وجوه أجودها وجهان :

أحدهما : لزوم نقض الغرض لو فعل ما ينافي اللطف ، أو ترك العمل بمقتضاه وهو قبيح يمتنع صدوره منه تعالى.

وثانيهما : لزوم البخل لولا إقدامه على فعل اللطف ، وهو صفة قبيحة يجب تنزيه الحكيم عنها ، واللطف - على ما هو المعروف المصرّح به في كلامهم - عبارة عن فعل ما يقرّب العبد إلى الطاعة ويبعّده عن المعصية ، والطاعة والمعصية المأخوذتان فيه عبارتان عن موافقة التكليف الإلزامي بإيجاب أو تحريم ومخالفته.

والمراد بهذا التكليف ما صار المعتزلة وأصحابنا الإماميّة في المسائل الكلاميّة إلى حسنه ، بقولهم : « إنّ التكليف حسن لاشتماله على مصلحة لا تحصل بدونه » ، فيكون الغرض من التكليف حصول تلك المصلحة ووصولها إلى المكلّف.

فالمراد بنقض الغرض في الدليل الأوّل هو فعل ما يفضي إلى عدم حصول ذلك الغرض ، بحيث يسند العدم في العرف والعادة إليه تعالى ، كما أنّ المراد بالبخل في الدليل الثاني ما يلزم بعدم إرشاده تعالى المكلّف إلى تلك المصلحة بسبب ترك اللطف أو فعل ما ينافيه ، فقضيّة قبح نقض الغرض عليه تعالى ، ووجوب تنزيهه عن الصفة القبيحة ، أن يجب عليه تعالى فعل ما يقرّب العبد إلى الطاعة ويبعّده عن المعصية ، وهذا لا يتمّ إلاّ بفعل كلّ ما له مدخليّة في التقريب إلى الطاعة والتبعيد عن المعصية ، لغرض حصول المصلحة ووصولها إلى المكلّف ، بحيث لولا فعله تعالى إيّاه صحّ إسناد تفويت المصلحة عليه إليه تعالى في العرف والعادة لا إلى غيره.

ص: 176

ومنه جعل التكليف إيجابا في الواجبات وتحريما في المحرّمات على طبق تلك المصلحة ، ومنه نصب أدلّة قطعيّة على التكاليف المجعولة ، ويندرج فيه إنزال الكتب وإرسال الرسل ونصب الأوصياء وإعطاء العقل المستقلّ ، بل الأصل فيما لا يستقلّ به العقل بعد الكتاب هو النبيّ والوصيّ بعده ، بل لا نعقل بعد الكتاب والعقل دليلا قطعيّا منصوبا من اللّه سبحانه إلاّ النبيّ والوصيّ ، والسنّة القطعيّة بالتواتر أو الاحتفاف بقرائن القطع من فروعهما ، كما أنّ الضرورة والإجماع حيث يوجدان وقلنا بكون ثانيهما دليلا قطعيّا أيضا من فروعهما ، ومنه أيضا إيجابه تعالى التبليغ ونصب الوصيّ على النبيّ ، وإيجابه حفظ ما بلّغه النبيّ من التكاليف المجعولة ، وتبليغ من لم يصل إليه من المكلّفين تبليغ النبيّ من تلك التكاليف ، ومنه أيضا إيجابه تعالى على الرعيّة إطاعة النبيّ والوصيّ ومعاونتهما فيما يحتاجان إلى المعاون لتبليغ التكاليف وإقامة الحدود وإحقاق الحقوق وجهاد الكفّار والمشركين وغير ذلك.

وهذا كلّه يسمّى لطفا وفسّر بما عرفت ، وقيّده المحقّقون - من المتكلّمين - بكونه على وجه لا يصل إلى حدّ الإلجاء ، إذ الواجب على اللّه تعالى وعلى رسوله والوصيّ بعده في جميع مراتب اللطف هو الإراءة والإرشاد إلى الحقّ ، لا الإيصال إلى المطلوب على وجه يؤول إلى الجبر والإلجاء السالبين للاختيار عن المكلّف ، أو عن غيره ممّن يمنع من الأعادي والمعاندين من توصّله إلى الحقّ المطلوب منه ، والمعتبر في الدليل القطعي المنصوب هو ذاك أيضا ، وضابطه كونه كافيا نافعا لمن يرجع إليه وينظر فيه ، ويحسن النظر ولم يقصّر فيه ، وقد احترزوا بالقيد المذكور - بالمعنى الّذي شرحناه - عن أمرين لا يندرجان في اللطف الواجب عليه تعالى ولا يجبان لوجوبه عليه.

أحدهما : أنّ المكلّف قد يكون لتقصيره وسوء اختياره وخبث باطنه لا يرجع إلى الدليل المنصوب له ولا ينظر فيه ، بل يعوّل على رأيه واستحسانه وقياسه ، وقد لا يتبع النبيّ أو الوصيّ بعده ولا يعاونهما ، بل يتّبع الجبت والطاغوت ويعاون أعاديهما ، وقد يتّبع هوى نفسه في ركوب المعاصي ولا يبالي في أمر دينه ويسامح في إطاعة النبيّ أو الوصيّ عصيانا ، فليس في حكم العقل ما يقضي بوجوب إجباره وإلجائه بحيث يتحقّق منه ما هو المطلوب منه قهرا عليه وبلا اختياره ، إذ في تركه لا يلزم إخلال باللطف الواجب عليه ، ولا قبح من نقض غرض أو بخل ، لأنّ ما يفوت من نحو هذا المكلّف من منافع التكاليف

ص: 177

المجعولة إنّما يستند فوته إلى نفسه لا إليه تعالى.

وثانيهما : أنّه قد يستند حصول خلاف اللطف إلى من يعاند الدين ، أو يبغض الوصيّ من أرباب الاستيلاء ، فيتعرّض لإخفاء الطرق المنصوبة وإعدامها ويحول بين الوصيّ وتبليغه الأحكام وإقامة الحدود ، ويمنعه من التصرّف في امور الرعيّة ويهتمّ في قتله وإهلاكه ، فمنه من يقتله ومنه من يلجاءه إلى الاعتزال أو الاختفاء والغيبة عن الأنظار ، وهذا أيضا ممّا ليس في حكم العقل ما يقضي بوجوب منعه ودفعه قهرا عليه وإجبارا له ، لأنّ ما يفوت على الرعيّة من منافع التكاليف المجعولة إنّما يستند فوته إلى هذا المعاند المانع لا إليه تعالى ، فلا يلزم بالنسبة إليه تعالى نقض غرض ولا قبح.

وقد عرفت أنّ من الألطاف الواجبة عليه تعالى أن يوجب على الوصيّ بعد النبيّ تبليغ ما معه من الأحكام والتكاليف المجعولة إلى الامّة وإظهارها لهم ، وإقامة الحدود بينهم والتصرّف في امورهم.

والفرق بين الألطاف الواجبة عليه تعالى واللطف الّذي يتأتّى من الوصيّ ، أنّ الأول واجب مطلق ، والثاني واجب مشروط معلّق وجوبه على اجتماع الشرائط وفقد الموانع ، ومن الشرائط رجوع المكلّفين وأتباعهم إيّاه ، ومعاونة الرعيّة في محلّ الحاجة إلى المعاون ، ومن الموانع منع الأعادي والخوف والتقيّة منهم.

ومن حكم الواجب المشروط سقوط وجوبه بفقد شرط أو وجود مانع ، فكلّ ما يرى من وقوع خلاف اللطف في الشريعة من الإمام فهو إمّا لفقد شرط أو لوجود مانع.

وأيّا مّا كان فهو مستند الى الرعيّة الّذين هم سبب استتاره وغيبته ، كما أشار المحقّق الطوسي في تجريده بقوله : « وجوده لطف وتصرّفه لطف آخر وعدمه منّا » (1) ويوافقه المحكي عن السيّد المرتضى في ردّ طريقة الشيخ ، من قوله : « ولا يجب عليه الظهور لأنّا إذا كنّا نحن السبب في استتاره فكلّ ما يفوتنا من الانتفاع به وبتصرّفه وبما معه من الأحكام يكون قد فاتنا من قبل أنفسنا فيه ، ولو أزلنا سبب الاستتار لظهر ، وانتفعنا به وأدّى إلينا الحقّ الّذي عنده » (2).

وإذا تمهّد هذا كلّه فنقول : إنّ الجواب عن الاستدلال لإثبات الملازمة بين الإجماع وموافقة قول الإمام أو رضاه بالحكم المجمع عليه ، على أنّه الحكم الواقعي بقاعدة اللطف من وجوه :

الأوّل : أنّ اللطف لا يقتضي وجوب ردع الطائفة عمّا أجمعوا عليه بإظهار القول

ص: 178


1- شرح تجريد الاعتقاد : 285.
2- العدّة 2 : 631.

بخلافه لو كان باطلا ، لجواز كون الردع وإظهار القول بالخلاف - الّذي يجب عليه من باب التبليغ عند اجتماع شرائط وجوبه وفقد موانعه - ممّا سقط وجوبه عنه لفقد شرط أو وجود مانع ، فعدمه مع قيام هذا الاحتمال لا يكشف عن الموافقة ، ولا رضاه بالحكم المجمع عليه على أنّه الحكم الواقعي.

الثاني : أنّ اللطف المقتضي لوجوب الردع عن الباطل أمر يتساوى نسبته إلى جميع الامّة وإلى بعضهم ، وحينئذ فالمراد من الردع الّذي يقتضيه اللطف إمّا أن يكون ردع كلّ واحد من آحاد المكلّفين في المسائل الإجماعيّة والمسائل الخلافيّة عمّا عليه من القول والاعتقاد لو كان باطلا وعدمه يكشف عن كونه حقّا ، أو ردع كلّ واحد من المجمعين في المسائل الإجماعيّة عن الحكم المجمع عليه لو كان باطلا وعدمه يكشف عن كونه حقّا ، أو ردع المجمعين عمّا أجمعوا عليه بمعنى هدم الهيئة الاجتماعيّة بردع بعضهم عن القول به وإبقاء بعض آخر عليه ، والكلّ باطل.

أمّا الأوّل : فلاستلزامه التصويب - وهو كون حكم اللّه الواقعي تابعا لاعتقاد المجتهد متعدّدا على حسب تعدّد المجتهدين - ولازمه كون الجهل بحكم مغيّرا لموضوعه ، بأن يكون ذلك الحكم مجعولا لمعتقده ويكون الحكم المجعول للجاهل به حكم آخر في عرضه ، وهو باطل للأدلّة المحرّرة في محلّه.

وإن قيل : إنّ هذا المذهب غير بعيد من كلمات جماعة من القدماء ، بل ربّما يظهر من كلام السيّد المرتضى - حيث إنّه في مسألة معذوريّة الجاهل في القصر والإتمام عند دفع شبهة أخيه السيّد رضي في استبعاده المعذوريّة استنادا إلى ما ادّعاه من الإجماع على بطلان عبادات الجاهل ، اعتذر للمعذوريّة - « بأنّه لا استحالة في كون الجهل مغيّرا للموضوع محدثا لحكم آخر للجاهل » ، فإنّ بطلان التصويب أوضح من أن يوضح (1).

وأمّا الثاني : فلما عرفت من تساوي نسبة اللطف المقتضي للّردع إلى الجميع وإلى البعض ، ويلزم منه التساوي في المسائل الإجماعيّة والخلافيّة وعدم حصوله في الخلافيّات بالقياس إلى مخالف الحقّ يكشف عن أنّ هناك حكمة مقتضية للعدم ، أو جهة مانعة من الوجود ويحتمل نحوهما في الإجماعيّات أيضا ، فلا يكشف عدم الردع عن حقيّة المورد ، مع أنّه لو كشف عنها فلا يكشف عن موافقة قول الإمام ، لأنّ حقيّة المجمع عليه أعمّ من

ص: 179


1- السيد المرتضى 2 : 384 ، الرسيّة الثانيّة.

موافقته لقول الإمام إلاّ على بطلان التصويب ، فيكون الواسطة في الكشف الّذي هو الملازمة هو بطلان التصويب لا دليل اللطف.

وأمّا الثالث : فلما عرفت أيضا من تساوي النسبة ، فإمّا أن لا يجب الردع أو أنّه على تقدير الوجوب يجب بالنسبة إلى كلّ واحد ، مع أنّ مرجع ما ذكر إلى أنّ اللطف يقتضي إبقاء البعض على الباطل وهو كما ترى ، فهدم الهيئة الاجتماعيّة المتضمّن لإبقاء البعض على الباطل ليس خروجا (1) عن مقتضى اللطف ، وتوهّم أنّه يكفي في إلقاء الخلاف ، يدفعه أنّ إلقاء الخلاف بمجرّده غير مفيد.

وتوهّم : أنّ فائدته عدم صدق اجتماع الامّة على الخطأ ، يدفعه : أنّ رعاية هذه الفائدة حسن على طريقة العامّة في حجّيّة الإجماع على مذاق من تمسّك منهم بخبر « لا تجتمع امّتي على الخطأ » (2) فإنّ النبيّ إذا أخبر بعدم اجتماع امّته على الخطأ فوجب على الإمام إلقاء الخلاف بينهم عند حصول اجتماعهم على الخطأ صونا لكلام النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم عن الكذب ، ولكن هذه الطريقة عندنا مزيّفة وكلامنا على الحجّيّة على طريقة الكشف.

الثالث : أنّ ردع المجمعين عمّا أجمعوا عليه لا يجب من باب اللطف لخصوصيّة فيه ، بل إنّما يجب لكونه بعضا من التصرّف الّذي هو من مناصب الإمام ، وهو منصوب لأجله ، ويندرج [ فيه ] تبليغ الأحكام وتنفيذها وإقامة الحدود وإحقاق الحقوق وتولّي القضاء وما أشبه ذلك ، فهو إمّا كلّي والردع في القضيّة الشخصيّة جزئيّ من جزئيّاته ، أو كلّ والردع في القضيّة الشخصيّة جزء من أجزائه ، وظاهر أنّ البعض لا يزيد على الجملة ، والجزء والجزئي لا يزيدان على الكلّ والكلّي ، والمفروض أنّ مطلق التصرّف الّذي هو إمّا كلّ أو كلّي غير حاصل من الإمام بشيء من جهاته في أزمنة الغيبة إلى يومنا هذا ، ويكشف ذلك عن عدم وجوبه عليه أو سقوط وجوبه عنه ، فلابدّ وأن يكون هناك جهة مسوّغة لتركه ، وهذه الجهة تسري إلى ردعه في القضيّة الشخصيّة أيضا ، فكيف يستكشف بإجماعهم عن مطابقة ما أجمعوا عليه لما هو عنده بمجرّد عدم الردع.

الرابع : أنّه لا مانع من كون الطائفة مجمعين على ما يخالف الحكم الّذي عند الإمام ولم يردعهم عنه من غير أن يلزم بذلك محذور ولا خروج عن مقتضى اللطف الواجب

ص: 180


1- والظاهر وقوع كلّه « ليس » سهوا من قلمه الشريف قدس سره ، كما يعطيه التدبّر فى السياق.
2- سنن ابن ماجه : كتاب فتن ح 8 ، بحار الأنوار 5 : 68 / 1.

عليه ، لأنّه على تقدير كون المجمع عليه على خلاف ما عنده ، فإجماعهم عليه إمّا أن يكون لأمر يرجع إلى الإمام من تقصيره في تبليغ الأحكام الّتي منها الحكم المجمع على خلافه ، أو نصب الطرق الّتي هي وسيلة لبلوغ الأحكام إلى جميع المكلّفين الذين منهم المجمعون ، أو لأمر يرجع إلى المجمعين من عدم رجوعهم بتقصيرهم وسوء اختيارهم إلى الطرق المنصوبة لهم وأخذهم بالرأي والقياس واتّباعهم للجبت والطاغوت ، أو لأمر يرجع إلى غيرهم ممّن حال بينهم وبين الطرق المنصوبة ومنعهم من الوصول إليها أو منعها من الوصول إليهم ، أو سعى في إخفائها أو إعدامها ، أو وقوع الاختلال فيها من جهات شتّى مخرجة لها عن الطريقيّة أو القطعيّة.

ولا سبيل إلى أوّل الوجوه ، لضرورة أنّ الإمام كالنبيّ لم يقصّر في شيء من تبليغ الأحكام ونصب الطرق الموصلة إليها المفيدة للقطع بها ما دام مختارا أو متمكّنا من جميع ذلك.

ولا إلى الثاني ، لوضوح أنّ علماء الطائفة الّذين هم عدول ليس لهم حدّ من التقصير في الاجتهاد ولا في مقدّماته ، فتعيّن الوجه الأخير وهو ليس من موارد اللطف ، لما تقدّم من أنّ اللطف يعتبر فيه عدم البلوغ حدّ الإلجاء ، والردع عن الباطل في هذه القضيّة الإجماعيّة ممّا لا يتأتّى إلاّ بقلع الأعادي والمعاندين لأهل الشرع ورفع منعهم ، أو دفعهم عن مقام المنع وإخفاء الطرق وإعدامها قهرا عليهم وإجبارا لهم.

وهذا على ما عرفت خارج عن حدّ اللطف ، مع أنّه لو صحّ الوجه الثاني لكان هو أيضا خارجا عن حدّ اللطف ، لأنّ ردع المجمعين في المسألة الإجماعيّة - على التقدير المذكور - لا معنى له إلاّ صرفهم عن التقصير واتّباع الهوى ومتابعة الجبت والطاغوت قهرا عليهم وإجبارا لهم.

وبالتأمّل في أكثر ما ذكرناه - في إبطال طريقة اللطف هنا - يظهر وجه دفع طريقة من يعتمد على التقرير في إثبات الملازمة بين الإجماع وموافقة قول الإمام.

ونزيد هنا أنّ التقرير إنّما يكون دليلا باعتبار كشفه عن رضا المعصوم الّذي هو مطابق للواقع وهو مشروط بامور :

منها : أن لا يكون لسكوت الإمام وعدم ردعه جهة من حكمة مقتضية لإخفاء الواقع ، أو جهة مانعة من إظهاره من خوف أو تقيّة ، ومن المحتمل قيام مثل الحكمة أو الجهة المانعة من التصرّف الكلّي هنا أيضا.

ص: 181

فإن اريد بالتقرير تقرير إمامنا الغائب عجلّ اللّه فرجه ، فهو مع قيام الاحتمال المذكور لا يكشف عن رضاه بالحكم المجمع عليه على أنّه الحكم الواقعي ، وكذلك لو اريد به تقرير سائر أئمّتنا عليهم السلام كلّ في زمانه ، مضافا إلى أنّه إنّما يتّجه التمسّك بتقريرهم على تقدير كون انعقاد الإجماع في أعصارهم عليهم السلام ، وهو ليس بواضح إن لم نقل بوضوح خلافه.

وربّما يستشمّ من كلام بعض الأعلام (1) أنّ الشيخ في إثبات الإجماع على طريقته اعتمد على الأخبار المتواترة في « أنّ الزمان لا يخلو عن حجّة كي إن زاد المؤمنون شيئا ردّهم وإن نقصوا أتمّه لهم ، ولولا ذلك لاختلط على الناس امورهم » (2).

والحديث بهذا اللفظ في عدّة طرق وفي المستفيض منها : « أنّ الأرض لا تخلو إلاّ وفيها عالم إذا زاد المؤمنون شيئا ردّهم إلى الحقّ وإن نقصوا شيئا تمّم لهم ، ولولا ذلك لالتبس عليهم أمرهم ولم يفرّقوا بين الحقّ والباطل » (3).

وفي المروي عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم « أنّ لكلّ بدعة من بعدي يكاد؟ بها الإيمان وليّا من أهل بيتي موكّلا به يذبّ عنه ويبيّن الحقّ ويردّ كيد الكائدين » (4). وفي آخر « ويعلن الحقّ ويردّ كيد الكائدين ».

وعنهم عليهم السلام « إنّ لنا في كلّ خلف عدولا ينفون عن الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين » (5).

وفي عدّة أخبار في تفسير قوله تعالى ( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) (6) « أنّ المنذر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وفي كلّ زمان إمام منّا يهديهم إلى ما جاء به النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم » (7) ، وفي بعضها « واللّه ما ذهبت منّا وما زالت فينا إلى الساعة » (8).

وعن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « ولم تخل الأرض منذ خلق اللّه [ تعالى ] آدم من حجّة له فيها [ إمّا ] ظاهر مشهور أو غائب مستور ، ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجّة اللّه فيها ولولا ذلك لم يعبد اللّه تعالى ، قيل : كيف ينتفع الناس بالغائب المستور؟ قال : كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب » (9).

ص: 182


1- قوانين الاصول 1 : 350.
2- بحار الأنوار 23 : 27 / 38.
3- بحار الأنوار : 23 : 26 / 36.
4- بحار الأنوار 2 : 315 / 79.
5- سورة الرعد : 8.
6- سورة الرعد : 8.
7- بحار الأنوار 23 : 5 / 5.
8- بحار الأنوار 23 : 4 / 5.
9- بحار الأنوار 23 : 6 / 10.

وعن الحجّة القائم عليه السلام : « وأمّا وجه الانتفاع في غيبتي فكالانتفاع بالشمس إذا غيّبها عن الأنظار السحاب ، وأنّي أمان لأهل الأرض كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء » (1).

وعن أمير المؤمنين عليه السلام في عدّة طرق « اللّهم إنّك لا تخلو الأرض من قائم بحجّة إمّا ظاهر مشهور أو خائف مغمور لئلاّ تبطل حججك وبيّناتك » (2) وفي بعضها « اللّهم لابدّ لأرضك من حجّة لك على خلقك يهديهم إلى دينك ، ويعلّمهم علمك لئلاّ تبطل حجّتك ولا تضلّ تبع أوليائك بعد إذ هديتهم ، إمّا ظاهر ليس بمطاع ، أو مكتتم مترقّب إن غاب عن الناس شخصه في حال هدايتهم ، كان علمه وآدابه في قلوب مثبتة فهم بها عاملون » (3).

والجواب : أنّ مفاد هذه الأخبار أيضا كمفاد دليل اللطف وطريق الجواب واحد ، ومحصّله - أنّه كما ظهر بما بيّناه مشروحا - أنّ دليل اللطف ساكت عن الدلالة على موافقة الحكم المجمع عليه في الإجماعيّات لما عند الإمام عليه السلام من الحكم الواقعي ، فكذلك هذه الأخبار أيضا ساكتة عن الدلالة على الموافقة ، إذ كما أنّ وجود ما لا نصّ فيه من الأحكام في الشرع الدائر بين ما بلّغه النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم أو الوصيّ بعده ولم يصل إلينا من جهة الحوادث ، وما لم يبلّغاه لقيام مصلحة مقتضية لإخفائه الّذي يرجع فيه إلى الاصول العمليّة لا ينافي مفاد هذه الأخبار ، فكذلك اختفاء ما عند الإمام على تقدير مخالفة الحكم المجمع عليه في الإجماعيّات له لا ينافي مفادها جزما.

وبعد ما بيّناه مشروحا من منع الملازمة - بين اتّفاق من عدا الإمام من العلماء وموافقة قول الإمام ، لفساد دليل الملازمة وقصور دلالته عليها - تبيّن أنّ نقل الإجماع المتمّم بقاعدة اللطف أو الأخبار المطابقة لها في المؤدّى من أيّ ناقل كان ليس نقلا للسنّة ولا نقلا لملزوم السنّة.

أمّا الأوّل : فلأنّ المفروض أنّه في كلام الناقلين عبارة عن اتّفاق جميع العلماء عدا الإمام ، فليس الإمام من جملة المجمعين ولا قوله في جملة أقوالهم.

وأمّا الثاني : فلوضوح انتفاء الملازمة بين الاتفاق المذكور وموافقة قول الإمام من جهة قصور دليلها.

نعم ناقله إنّما نقله باعتقاد الملازمة غير أنّ اعتقاده مع وضوح فساد مستنده لا يوجب الملازمة الواقعيّة.

ص: 183


1- بحار الانوار 52 : 92 / 7.
2- بحار الانوار 23 : 20 / 17.
3- بحار الانوار 23 : 49 / 94.

وأمّا المعنى الثالث : أعني اتّفاق جماعة يكشف اتّفاقهم عن رأي المعصوم فنقول : إنّ الظاهر أنّ التعبير بجماعة منكرة في هذا المعنى إنّما هو لتعميمه بالقياس إلى اتّفاق الكلّ واتّفاق ما دون الكلّ ، ومن المعلوم أنّ الاطّلاع على اتّفاق الجماعة بالمعنى الأعمّ المدّعى كونه كاشفا عن رأي المعصوم إنّما يحصل بتتبّع فتاويهم ، والمسألة المفتى بها في كلام العلماء على وجه الاتفاق إمّا أن تكون ضروريّة أو تكون نظريّة ، والأوّل خارج عن معقد البحث في حجّيّة الإجماع وحجّيّة نقله ، لأنّ المسألة الضروريّة في الشرعيّات لا تكون إلاّ في ضروري الدين أو المذهب.

وأيّا مّا كان فالضرورة المفروضة مع المسألة الإجماعيّة تغني عن النظر في الإجماع وترفع الحاجة إلى إثبات حجّيّته أو اثبات حجّيّة منقوله.

وعلى الثاني : فمحلّ البحث منها ما كانت المسألة نظريّة توقيفيّة صرفة من غير أن يكون للعقل مجال لإدراك حكمها ، وإلاّ كان حكم العقل فيها مستقلاّ أو تبعا لخطاب الشرع مغنيا عن النظر في الإجماع ومنقوله ، ورافعا للحاجة عن إثبات حجّيّتهما ، فبعد ما كان محلّ البحث اتّفاق الجماعة في مسألة نظريّة توقيفيّة صرفة يتطرّق المنع إلى كونه كاشفا عن رأي المعصوم ، لأنّ طريقه على ما ذكروه الحدس وهو غير ممكن غالبا ، على معنى عدم حصول العلم للناظر في اتّفاق الجماعة ، ولو في ضمن الكلّ بمطابقة الحكم المتّفّق عليه للحكم الواقعي الّذي هو رأي الإمام ومعتقده في غالب موارده.

فإنّا نقطع بأنّ لهم في المسألة الإجماعيّة الّتي حصل الإجماع فيها من تطابق الفتاوى على حكم واحد مستندا ، ونقطع أيضا بأنّ الغالب في المسائل النظريّة التوقيفيّة - الّتي منها المسائل الإجماعيّة - كون مستندها الأدلّة الغير العلميّة تعبديّة وظنّيّة ، كما يرشد إليه ما فرض من الانسداد الأغلبي في الأحكام ، فهم أو أكثرهم غير جازمين بما أفتوا به من الحكم المجمع عليه ، حتّى أنّه لو سئل كلّ واحد منهم أنّك هل تقطع بمطابقة ما أفتيت به الواقع؟ أجاب : « بأنّي لا أقطع بل أظنّ أو احتمل مخالفة الواقع. نعم إنّما أقطع بكونه الحكم الظاهري الّذي يجب التديّن به ». ومن المستحيل أن يحصل لغيرهم من اتّفاقهم على الفتوى الغير العلميّة - مع ملاحظة احتمال كلّ واحد منهم فيها مخالفة الواقع - الحدس والكشف العلمي على معنى العلم بمطابقتها الواقع ، وإن بلغوا في الكثرة إلى ما بلغوا ، حتّى أنّ الألف منهم أو أزيد إذا اتّفقوا عن ظنّ على حكم لا يفيد اتّفاقهم لغيرهم المطّلع على ظنّيّة فتواهم العلم بمطابقة الواقع.

ص: 184

حتّى أنّ الخبر المتواتر - الّذي عرّفوه بأنّه يفيد بنفسه العلم بصدقه - لا يفيد العلم بالصدق إذا كان أخبار المخبرين كلّهم أو جلّهم عن ظنّ بالمخبر به ، وإن بلغوا في الكثرة إلى ما بلغوا ، والكثرة الّتي اعتبروها فيه لإفادة العلم بالصدق إنّما اعتبرت لرفع احتمال الكذب القائم في نظر السامع خاصّة ، لا لإفادة العلم له مع قيام احتمال الكذب في نظر المخبرين بل هو إنّما يفيده بواسطة الكثرة بشرط كون خبرهم عن علم بصدق المخبر به.

فدعوى الكشف عن رأي المعصوم من جهة الحدث في اتّفاق الجماعة ممّا يشهد الذوق الصريح والاعتبار الصحيح بكذبه.

وغاية ما يمكن تسليمه الكشف عن وجود دليل معتبر على الحكم لو عثرنا عليه لعلمنا به ، وهذا انكشاف للحكم الظاهري لعدم معلوميّة حال ذلك الدليل من حيث المطابقة وعدمها.

وقضيّة ذلك أن لا يكون الإجماعات المنقولة في كلام أصحابنا المتأخّرين المحصّلة بطريق الحدس أيضا نقلا للسنّة ولا نقلا لملزوم السنّة.

أمّا الأوّل : فلأنّه نقل لاتّفاق الجماعة.

وأمّا الثاني : فلانتفاء الملازمة بينه وبين قول المعصوم إذ لا موجب لها ، بل لوجود المانع عنها وهو كون الاتّفاق في غالب موارده عن مستند غير علمي.

وملخّص القول : في القدح في حجّيّة الإجماع المنقول في كلام أصحابنا الناقلين للإجماعات بلفظ الإجماع المطلق من باب حجّيّة الخبر المصطلح ، إمّا بإرادة نقل قول المعصوم في ضمن الاتّفاق ، أو نقل ملزوم قول المعصوم.

هو : أنّ مستند الناقل في إدراك قول الإمام إمّا أن يكون هو الحسّ ، كما لو فرض أنّ سائلا ورد على جماعة منهم الإمام وهو لا يعرفه بشخصه ، وسألهم عن حكم مسألة فأجابوه كلمة واحدة بحكم ، فإنّه حينئذ أدرك قول الإمام بالحسّ والسماع منه وإن لم يعرفه بشخصه ، فإذا نقل إجماع الجماعة كان كالرواية المصطلحة نقلا للسنّة ، من غير فرق بينهما إلاّ في التفصيل والإجمال.

حيث إنّ القول المحكي في الرواية سنّة تفصيليّة ، لأنّ الراوي له سمعه من إمام عرفه بشخصه ، والمنقول في ضمن الإجماع سنّة إجماليّة ، حيث إنّ ناقله سمعه في ضمن أقوال الآخرين من إمام لم يعرفه بشخصه.

أو العقل كدليل اللطف ، سواء كان ناقله على هذه الطريقة هو الشيخ أو غيره ، وسواء

ص: 185

قلنا بعدم انحصار طريقة الشيخ في تحصيل الإجماع وإدراك قول الإمام معه في هذه الطريقة كما جزم به بعض الأعلام (1) ، أو قلنا بانحصار طريقته فيها كما جزم به شيخنا قدس سره (2) ويشهد له جملة من عباراته المحكيّة عن العدّة وغيرها.

ومن ذلك ما نقل عنه في ردّ مقالة السيّد في تزييف الإجماع بطريقة اللطف ، بدعوى أنّه فيما لو اتّفق الإماميّة على الباطل لا يجب على الإمام ردعهم ولا الظهور وإظهار الحقّ لهم ، تعليلا : « بأنّا إذا كنّا نحن السبب في استتاره ، فكلّ ما يفوتنا من الانتفاع به وبما معه من الأحكام يكون قد فاتنا من قبل أنفسنا ، ولو أزلنا سبب الاستتار لظهر وانتفعنا به وأدّى إلينا الحقّ الّذي كان عنده » (3).

قال الشيخ : « وهذا عندي غير صحيح ، لأنّه يؤدّي إلى أنّ لا يصحّ الاحتجاج بإجماع الطائفة أصلا ، لأنّا لا نعلم دخول الإمام عليه السلام فيها إلاّ بالاعتبار الّذي بيّناه ، ومتى جوّزنا انفراده بالقول وأنّه لا يجب ظهوره منع ذلك من الاحتجاج بالإجماع » (4) انتهى.

وهذا ظاهر كالصريح في انحصار الطريقة في الإجماع بطريق اللطف ، أو النقل ، كالأخبار المتقدّمة المطابقة لدليل اللطف في المؤدّى.

أو العادة ، على معنى أنّ العادة تحكم فيما لو اتّفقت الطائفة على شيء بأنّه قول إمامهم المعصوم ، ونظيره ما لو دخل أحد على أهل بلد مثلا هم مقلّدة مجتهد بينهم ، ووجدهم متّفقين على العمل بفتوى فإنّه يعلم بحكم العادة أنّه فتوى مجتهدهم الموجود بينهم ، فيكون الاتّفاق حينئذ ملزوما عاديا لقول الإمام ، ومن علامته كونه كاشفا عنه لكلّ أحد ، من دون اختصاص كاشفيّته ببعض دون بعض ، أو ضرورة دين أو مذهب أو حكم عقل مستقلّ.

أو جملة من المقدّمات النظريّة والاجتهادات الظنّيّة والأمارات الغير العلميّة ، على معنى إدراك قول الإمام بملاحظة الاتّفاق مع انضمام هذه الامور ، كما رأى أنّ جماعة نقلوا الإجماع وآخرين نفوا الخلاف ، وأنّ الطرف المقابل ورد على طبقه نصوص معتبرة وأخبار صحيحة لم يلتفتوا إليها ، وأنّ الحكم المجمع عليه لم يوجد على طبقه رواية ولو ضعيفة ، وأنّه مطابق لمسألة اصوليّة كعدم جواز اجتماع الأمر والنهي واقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ ، أو موافقة أصل من الاصول العامّة المعوّل عليها كأصالة عدم المعارض بعد الفحص أيضا فيما حصل الإجماع على بعض أفراد عامّ أو مطلق وما أشبه ذلك.

ص: 186


1- قوانين الاصول 1 : 350.
2- فرائد الاصول 1 : 193.
3- فرائد الاصول 1 : 194.
4- العدّة 2 : 631.

أو نفس الاتّفاق إذا حصل إدراك قول الإمام معه لضرب من الاتّفاق من دون أن يكون ملزوما عاديا له ، ولا معتضدا بمقدّمات نظريّة واجتهادات ظنّيّة.

فهذه وجوه متصوّرة لمستند ناقل الإجماع في إدراك قول الإمام إذا قصد به نقل السنّة ، أو نقل ملزوم السنّة ، ولا يمكن التعويل على نقله من باب العمل بالخبر المصطلح استنادا إلى أدلّة حجّيّته.

أمّا الوجه الأوّل : فلأنّه فرض يعزّ تحقّقه بل لا تحقّق له في أزمنة الغيبة ، وفي أزمنة الحضور نادر الوقوع ، مع أنّ القطع حاصل بعدم كون شيء من الإجماعات المنقولة في كلام الأصحاب من هذا القبيل.

وأمّا الوجه الثاني : فلفساد المستند ، لما عرفت من أنّ دليل اللطف لقصور دلالته على موافقة قول الإمام لا يصلح طريقا إلى إدراك قول الإمام.

وأمّا الوجه الثالث : فكذلك لما عرفت من قصور دلالة الأخبار على موافقة قول الإمام.

وأمّا الوجه الرابع : فلامتناع حكم العادة في اتّفاق أهل عصر واحد أو عصرين ، بل من شرط حكمها اتّصال السلسلة إلى أعصار الأئمّة عليهم السلام ، أو إلى ما يقرب من أعصارهم عليهم السلام ، وهذا وإن كان نفى البعد عنه شيخنا قدس سره في إجماعات المحقّق والعلاّمة ، تعليلا : « بأنّ الظاهر من ديدنهما أنّهما لا يقتصران في نقل الإجماع على اتّفاق أهل عصر واحد ، بل يعتبران اتّفاق علماء جميع الأعصار المتقدّمة أكثرها » (1) ولكنّه عند التحقيق والنظر الدقيق بعيد ، وحكم العادة مع هذا البعد أبعد.

نعم ، لا يبعد حكمها بوجود دليل معتبر ثمّة نشأ الاتّفاق منه ، وهذا ممّا لا كلام فيه ولا يوجب كون نقل الإجماع نقلا لملزوم السنّة ، بل هو نقل لملزوم الدليل المعتبر ، فيكون العمل به حينئذ لاندراجه في الظنّ الاطمئناني لا في الخبر المصطلح.

وأمّا الوجه الخامس : فلعدم كون محلّ البحث من الإجماعات المنقولة ما شهد الضرورة أو حكم العقل بصحّته ، لعدم الحاجة معهما إلى النظر في الإجماع المنقول ، ولا إلى إثبات حجّيّته.

وأمّا الوجه السادس : فلكثرة وقوع الخطأ في الامور الاجتهاديّة الظنّيّة ، وهذا يقضي بنفي الملازمة.

وأمّا الوجه السابع : فهو أردأ الوجوه ، لأنّ مقتضى الفرض انتفاء الملازمة ، وإلاّ لم يكن

ص: 187


1- فرائد الاصول 1 : 211.

إدراك قول الإمام على وجه الاتّفاق ، فيقوى احتمال الخطأ في حدس مدّعيه على هذا الوجه.

فالإنصاف : أنّ إثبات حجّيّة الإجماع المنقول على إطلاقه من جهة حجّيّة الخبر المصطلح في غاية الإشكال ، فلا يندرج في أدلّة حجّيّة الخبر الّتي عمدتها آية النبأ.

هذا مضافا إلى كثرة الموهنات القادحة في الحجّيّة ، باعتبار استلزامها قوّة احتمال الخطأ في النقل الّتي لا تنفيه أدلّة حجّيّة الخبر وإنّما تنفي احتمال الكذب ، مثل تعارض الإجماعين المنقولين من ناقل واحد في كتاب واحد أو في كتابين ، أو من ناقلين معاصرين أو متقاربي العصر ، ومثل كثرة ما يتّفق من أنّ العدل ينقل الإجماع على قول في مسألة ثمّ يعدل عن هذا القول في موضع آخر أو في كتاب آخر ، وكثيرا مّا ينقله في المسألة مع اشتهار خلافه عند الأصحاب ، أو ينقله على قول مع مخالفة غير واحد أو جمع من الأجلاّء وما أشبه ذلك ، مثل كثرة ما يوجد في كلام المحقّق والعلاّمة من الطعن في إجماعات غير واحد من ناقليها كالحلّي والسيّد ابن زهرة وكذلك الشهيد ونظرائه.

ومن ذلك ما قال المحقّق في موضع من المعتبر : « ومن المقلّدة من لو طالبته بدليل المسألة ، استند إلى الإجماع ، وليس عنده إلاّ فتاوى المشايخ الثلاث يعني السيّد والمفيد والطوسي ، فادّعى الإجماع لمجرّد ذلك من جهة حسن ظنّه بهم وبفتاويهم » (1) ويطعن أيضا كثيرا مّا على الإجماع المنقول بأنّه إجماع في محلّ الخلاف.

وإن شئت لاحظ المعتبر في مسألة تحديد الكرّ بثلاثة أشبار ونصف في كلّ من أبعاده الثلاث.

ولأجل بعض ما ذكرناه أوّل الشهيد في الذكرى (2) - على ما حكاه صاحب المعالم - كثيرا من الإجماعات المنقولة بتأويلات عديدة « من إرادة الشهرة ، أو عدم الظفر على المخالف حين النقل ، أو إرادة الإجماع على الرواية وتدوينها في كتب الحديث » (3) ونحو ذلك.

ولكن لا يذهب عليك ، أنّه لا يلزم ممّا أنكرناه من وجه الحجّيّة سقوطه على إطلاقه عن الحجّيّة رأسا ، بل حيث أفاد الظنّ بالحكم الشرعي يدخل في عنوان الظنّ الاطمئناني الّذي نقول بحجّيّته.

وسيجيء الكلام فيه وفي إقامة الدليل عليه.

ص: 188


1- المعتبر 1 : 62.
2- الذكرى : 511.
3- معالم الدين : 174.

ثمّ إنّ لبعض أفاضل الاصوليّين كالشيخ أسد اللّه التستري في حجّيّة نقل الإجماع تفصيلا ، حكاه شيخنا قدس سره (1) عن كتابه المسمّى بكشف القناع (2) ، ورسالته التي ألّفها في المواسعة والمضايقة ، وقد نقل كلامه بطوله ، ولا جدوى فيه بل العمدة بيان أصل التفصيل ، ثمّ التكلّم في صحّته وسقمه.

وملخّصه - على ما استفيد من كلامه - الفرق في الحجّيّة وعدمها بين نقل السبب الكاشف والمنكشف وهو قول الحجّة ، فالحجّيّة بالاعتبار الأوّل دون الاعتبار الثاني ، فإنّ الاتّفاق الّذي ينقله العدل سبب للكشف عن قول الحجّة وملزوم له ، أمّا عدم الحجّيّة بالنسبة إلى المنكشف ، فلأنّ أدلّة حجّيّة خبر العدل إنّما دلّت على حجّيّته في حسّيّاته ، وهي الامور المدركة بطريق الحسّ ، وقول المعصوم في محلّ الإجماع إنّما يدرك بطريق الحدس ، وأدلّة الحجّيّة لا تتناوله.

وأمّا الحجّيّة بالنسبة إلى السبب الكاشف ، فلأنّ الاتّفاق الّذي يخبر به العدل في محلّ نقل الإجماع عبارة عن الأقوال المجتمعة الّتي أدركها العدل إمّا بالسماع منهم أو بالمشاهدة في كتبهم ، فيكون من الامور الحسّية.

وإذا ثبت حجّيّة خبر العدل فيه ثبت السبب والملزوم بذلك الخبر ، فيترتّب عليه المسبّب واللازم ، فكان ثبوت السبب الكاشف بخبر العدل كما لو علمناه بطريق علمي كما في الإجماع المحصّل.

وبالجملة خبر العدل بالنسبة إلى السبب قائم مقام العلم به ، وبعبارة اخرى : إذا ثبت اعتبار خبر العدل بالنسبة إلى الملزوم كان كافيا في ترتّب اللازم عليه ، كما في صورة العلم بالملزوم ، وأمّا اعتبار خبر العدل بالنسبة إلى السبب والملزوم ، فلأنّ الأصل في كلّ خبر للعدل متعلّق بموضوع خارجي هو منشأ لحكم شرعي وطريق إلى استنباطه ، أو مقدّمة من مقدّمات الاستنباط وشرط من شروط طريقه. الحجّيّة وجواز العمل.

وعمدة الدليل عليه إجماع العلماء فتوى وعملا ، ولذا تراهم في المطالب الرجاليّة المتعلّقة بالآحاد يعتمدون على أخبار الآحاد من غير نكير وبلا خلاف.

بناء على أنّ مخالفة صاحبي المعالم (3) والمدارك (4) - حيث يعتبران التعدّد في التزكية ،

ص: 189


1- فرائد الاصول 1 : 218 - 224.
2- كشف القناع : 400 - 405.
3- معالم الدين : 204.
4- مدارك :

فلا يعتمدان على نقل الواحد - غير قادحة ، لكونها ناشئة عن اشتباه موضوعي ، وهو توهّم كون الإخبار بالعدالة من باب الشهادة لا الرواية ، وكذلك لا يتأمّلون في قبول العدل الواحد في تحرير أسئلة الروايات ، وحكاية الوقائع المأخوذة في السؤالات الّتي سئل عنها الإمام وصدر على طبقها الجواب.

وكذلك في ضبط أسانيد الروايات وذكر الوسائط وغير ذلك ، فإنّها من الموضوعات الخارجيّة الّتي هي من مقدّمات استنباط الحكم الشرعي وشروط طريقه ، وأنت خبير بما فيه.

أمّا أوّلا : فلكثرة الموهنات القادحة في التعويل على نقل السبب نفسه ، وقد تقدّم الإشارة إلى جملة منها ، فيقوى بها احتمال الخطأ في النقل وكونه لمجرّد وهم ، ومفاد أدلّة حجّيّة خبر العدل هو عدم الالتفات من جهة عدالته إلى احتمال الكذب في خبره ، لا عدم الالتفات إلى احتمال الخطأ والوهم في نقله ، بل كثيرا مّا توجب خروجها عن ظهورها في نقل السبب في خصوص شخص المسألة الفرعيّة ، كما هو المقصود بالأصالة ، لقوّة احتمال نقله وهما من ظاهر الروايات المدوّنة في كتب الأصحاب بتخيّل أنّ ذلك ملزوم لأن يتّفق على العمل به الأصحاب ، أو من قاعدة مجمع عليها أو أصل مجمع عليه أو نحو ذلك ، ممّا يستلزم الإجماع فيه الإجماع في شخص المسألة ، كما لو فرضنا الإجماع على جواز اجتماع الأمر والنهي في المسألة الاصوليّة مثلا ، فإنّه لا يلازم الإجماع على صحّة الصلاة في المكان المغصوب كما هو واضح.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ثبوت السبب والملزوم بخبر العدل القائم مقام العلم بهما ، إنّما يفيد في ترتيب المسبّب واللازم عليهما بعد الفراغ عن إثبات السببيّة للسبب والملازمة بين الملزوم وما يفرض لازما.

وقد منعناهما مشروحا في الإجماع المحصّل لجميع المذاهب في طريق الكشف ، فكيف بالإجماع المنقول.

وملخّص المنع : أنّ الملازمة بين اتّفاق العلماء وقول الحجّة ، لابدّ وأن تكون إمّا عقليّة أو شرعيّة أو عاديّة

أو اجتهاديّة - وهي الّتي تثبت بانضمام المقدّمات النظريّة والاجتهادات الظنّيّة إلى الاتّفاق - ولا سبيل إلى شيء منها.

أمّا الاولى : فلما عرفت من قصور دليلها وهو دليل اللطف.

وأمّا الثانية : فلأنّه لا دليل عليها إلاّ ما تقدّم من الأخبار ، وقد عرفت قصور دلالتها أيضا.

ص: 190

وأمّا الثالثة : فلعدم حكم للعادة بموافقة قول الحجّة إلاّ على تقدير اتّصال سلسلة الاتّفاق بأعصار الأئمّة عليهم السلام ، وتحقّقه في الإجماعات غير محرز ، إن لم نقل بمعلوميّة خلافه في الأكثر.

نعم إنّما يسلّم قضائها في الأكثر بوجود دليل معتبر للمجمعين لو عثرنا عليه لعملنا به ، ولكنّه لا يلازم مطابقة الواقع.

وأمّا الرابعة : فلأنّ غاية ما ثبت بالمقدّمات الظنّيّة الاجتهاديّة المنضمّة إلى الاتّفاق في محلّ وجودها ، إنّما هي الملازمة الظنّيّة وهي لا تزيد على الظنّ الاطمئناني بالحكم الواقعي.

ولا كلام لنا في الحجّيّة بهذا الاعتبار كما نبّهنا عليه سابقا.

ومع الغضّ عن ذلك كلّه نقول : بأنّ المخبر [ به ] في المقام لكونه اتّفاقا في النظريّات التوقيفيّة الناشئة عن الأدلّة الظنّيّة أو الأمارات التعبديّة ، فهو ليس بملزوم دائمي ولا غالبي للواقع أو قول الإمام ، الملازم له على تقدير كونه محقّقا ومعلوما لنا ، فكيف به على تقدير كونه منقولا ، وإن قلنا بحجّيّة نقل العدل بنوعه ، لأنّ حجّيّته بالنسبة إلى مطلوب المقام إنّما يثمر على تقدير ثبوت الملازمة الدائميّة بين المنقول المدّعى كونه كاشفا وبين المكشوف عنه. وينبغي ختم المسألة برسم امور :

الأمر الأوّل : في أنّ الاجماع المنقول هل يطابق الرواية المصطلحة أو أنّه حكاية للسنّة بالمعنى الأخصّ

الأمر الأوّل :

إنّ الإجماع المنقول إن قلنا بكونه نقلا للسنّة أو نقلا لملزوم السنّة ، هل يطابق الرواية المصطلحة في كونها حكاية لقول المعصوم أو فعله أو تقريره؟ أو أنّه حكاية للسنّة بالمعنى الأخصّ ، أعني قول المعصوم فقط؟

الظاهر أنّه يختلف على حسب اختلاف المذاهب في كيفيّة كاشفيّة الإجماع ، فعلى طريقة القدماء الّذين يعتبرون دخول شخص الإمام في المجمعين ، وقوله في أقوالهم ، كان نقل الإجماع حكاية لقول المعصوم خاصّة.

وعلى طريقة الشيخ كان حكاية لتقرير المعصوم ، لأنّ الإجماع على هذه الطريقة بانضمام دليل اللطف كاشف عن تقرير الإمام ، الكاشف عن رضاه بالمجمع عليه.

وعلى طريقة المتأخّرين كان حكاية للسنّة بالمعنى الأعمّ ، لأنّ الإجماع على هذه الطريقة باعتبار حكم العادة وغيره ، يكشف عن كون المجمع عليه مأخوذا عن رئيسهم الإمام ، وأخذ شيء من الإمام قد يستند إلى قوله ، وقد يستند إلى فعله ، وقد يستند إلى تقريره ، فيوافق الرواية المصطلحة في كونها أعمّ من حكاية قول المعصوم أو فعله أو تقريره.

ص: 191

الأمر الثاني : في أنّ الإجماع المحصّل هل هو من الأدلّة اللفظيّة أو اللبّية؟

الأمر الثاني : [ في أنّ الإجماع المحصّل هل هو من الأدلّة اللفظيّة أو اللبّية؟ ]

إنّ الإجماع حيثما نقول بحجّيّته من باب كونه نقلا للسنّة ، أو نقلا لملزوم السنّة ، أو مفيدا للظنّ الاطمئناني ، دليل لفظي يجري عليه جميع أحكام اللفظ من عموم وخصوص ، وإطلاق وتقييد ، وبيان وإجمال ، وانصراف وعدمه ، ويقبل التخصيص أيضا ، هذا ممّا لا كلام فيه.

وإنّما الكلام في الإجماع المحقّق - إن قلنا بكونه كاشفا - فهل هو من الأدلّة اللفظيّة - كما اشتهر في الألسنة - أو اللبّيّة؟

ويظهر الفائدة في إجراء أحكام اللفظ فيه أيضا ، والّذي يقتضيه التأمّل الصادق أنّه يمكن كونه لفظيّا وكونه لبّيا على جميع الطرائق ، ويختلف ذلك باعتبار معقد الإجماع.

أمّا على طريقة القدماء : فإن حصل الاتّفاق على قضيّة ملفوظة وعبارة مخصوصة ، كما لو اتّفقوا على الإفتاء بعبارة « كلّ كلب نجس » ، أو « الكلب نجس » ، كان دليلا لفظيّا باعتبار لفظيّة معقده من باب وصف الشيء بحال متعلّق الموصوف ، فإنّ العبارة المذكورة قد [ علمنا ] بصدورها من الإمام بواسطة الإجماع الكاشف ، فتكون كما لو سمعناها منه مشافهة ، أو علمنا بصدورها منه بتواتر ونحوه ، كما في المتواترات اللفظيّة ، فتقبل التخصيص بإخراج البحري والتقييد بالبرّي ، كما تقبل دعوى الانصراف إلى البرّي ، وإن حصل على أمر معنوي ، وهو مدلول العبارة المذكورة ومضمونها ، وهو نجاسة الكلب من غير أن يكون هناك لفظ ، كان دليلا لبّيا فلا يقبل شيئا من أحكام اللفظ ، فالقول بأنّ الإجماع غير قابل للتخصيص لكونه دليلا لبّيّا منزّل على هذا الوجه.

وأمّا على طريقة الشيخ : فلأنّ الإجماع كاشف عن تقرير المعصوم ، والتقرير على ما حقّق في محلّه يكون في الأقوال ، كما لو سمع عبارة « الكلب نجس » من قائل ولم ينكر عليه بلا عذر من خوف أو تقيّة ، فيكشف عن صدقه ومطابقته الواقع ، كما يكون في الأفعال فيكشف عن جوازه وإباحته ، وفي الاعتقادات كأن يعتقد أحد بعينيّة صفاته تعالى فيكشف عن حقيّته ، وحينئذ فلو فرض حصول الإجماع على نحو العبارة المذكورة ، وكشف عن تقرير الإمام إيّاهم عليها كان لفظيّا ، ولو فرض حصوله على مدلولها من غير أن يكون هناك لفظ ، بأن تواردت فتاويهم بعبارات مختلفة على حكم واحد كان لفظيّا [ لبيّا ](1).

وأمّا على طريقة المتأخّرين : فقد يقال : بأنّه لا يكون إلاّ لبّيّا ، إذ المفروض كشفه عن حقيّة

ص: 192


1- وفى الأصل « لفظيّا » وهو سهو ، والصواب ما أثبتناه في المتن كما يعطيه التأمّل فى السياق.

المورد باعتبار حكم العادة بامتناع التواطؤ على الخطأ ، وفيه : ما لا يخفى ، إذ العادة عند أهل هذه الطريقة الحكم بأخذ المورد عن الرئيس المعصوم ، ولا ريب أنّ المأخوذ عن المعصوم قد تكون قضيّة ملفوظة ، وقد يكون أصل الحكم ، فيجري الاعتباران على هذه الطريقة أيضا.

وما قد يتراءى في بعض العبارات في مقام بيان قبول الإجماع التخصيص والتقييد - من أنّ الإجماع ثبت على القاعدة ، وهي قابلة لكلّ من التخصيص والتقييد ، فتطرقهما إلى مورده لا ينافي اللبّيّة - على إطلاقه غير سديد.

لأنّ قبولهما إنّما يكون فيما لو كان المورد قضيّة ملفوظة ، وحينئذ يخرج عن اللبّيّة ، إلاّ أن يقال : بأنّها اصطلاح في الإجماع وإن فرض مورده اللفظ ، أو يفرض حصول الإجماع على أصل تعليقي ، وهو حكم ينوط ثبوته بعدم الدليل على الخلاف ، كما لو فرض حصول الإجماع على أصالة الإباحة في الأشياء ما لم يعلم دليل على الحظر ، أو على أصالة الطهارة في الأشياء ما لم يعلم دليل على النجاسة ، فإذا علم ورود نصّ على حرمة شيء أو نجاسته كان مخرجا عن الأصل المذكور ، وهذا تخصيص في الإجماع ولا ينافي لبّيّنه.

ويزيّفه : أنّ هذا من باب الإخراج [ عن الموضوع ] كالاستثناء المنقطع ، لا عن الحكم ليكون من التخصيص المصطلح ، وهذا هو الممنوع في الأدلّة اللبّيّة لا ما يفيد الخروج الموضوعي ، فليتدبّر.

وبما حققّناه يعلم أنّ الإجماع حيثما حصل في العبارة كما يكون دليلا لفظيّا كذلك يكون دليلا ظنّيّا من حيث الدلالة ، وإن كان قطعيّا من حيث السند وهو صدور العبارة كالكتاب والخبر المتواتر ، بخلاف ما حصل في المعنى فإنّه قطعي سندا ودلالة.

الأمر الثالث : في انقسام الإجماع إلى البسيط والمركّب

الأمر الثالث :

الإجماع ينقسم إلى بسيط وهو : اتّفاق الامّة على قول واحد ، ومركّب وهو : اتّفاق الامّة على قولين يلزمه نفي الثالث المفصّل أو المبائن ، ومناط الحجّيّة فيهما على الكشف عن قول الحجّة واحد ، فاختيار القول الثالث المنفي - الّذي يقال له : خرق الإجماع المركّب - حرام عندهم ، لكونه مخالفة لقول الحجّة ، وهذا ممّا لا غرض فيه ، بل الغرض الأصلي هنا بيان طريق الاستدلال به ولمّه.

فنقول : إنّ الفقيه إذا وجد في المسألة الفرعيّة إجماعا مركّبا متضمّنا لاتّفاق الفريقين على نفي التفصيل ، فإمّا أن يجد على أحد شطريه دليلا اجتهاديّا أو لا.

ص: 193

فعلى الأوّل : ينهض الدليل الاجتهادي الموجود مرجّحا لذلك الشطر ، ويتبعه الشطر الآخر لملازمة شرعيّة بينهما أثبتها الإجماع ، فإنّ مرجع الإجماع على نفي القول الثالث - وهو التفصيل بين المسألتين في الحكم - إلى الإجماع على الملازمة المذكورة ، فمرجع الاستدلال إلى الإجماع المركّب النافي للقول بالفصل - الّذي يقال له : الإجماع على عدم الفصل أيضا ، وقد يعبّر عنه مسامحة بعدم القول بالفصل - إلى الاستدلال بهذه الملازمة ، وذلك كما في مسألتي تقصير الصلاة وإفطار الصوم بالمسير إلى أربعة فراسخ المختلف فيهما عند الامّة على قولين ، وجوب كلّ منهما ، وعدم جواز كلّ منهما ، مع اتّفاق الفريقين على نفي الفصل وهو وجوب الأوّل وعدم جواز الثاني أو بالعكس ، ومعناه الإجماع على الملازمة بين وجوب التقصير ووجوب الإفطار ، والملازمة بين عدم جواز الإفطار وعدم جواز التقصير ، فلو ورد نصّ في إحدى المسألتين كقوله : « قصّر صلاتك بأربعة فراسخ » مثلا دلّ بالمطابقة على وجوب التقصير وبالالتزام على وجوب الإفطار ، ودليل الملازمة هو الإجماع المركّب ، فلو ورد نصّ على عدم جواز الإفطار إنعكس الأمر ، ولو وجد النصّان معا وقع التعارض بينهما بالعرض من جهة الملازمة المذكورة الثابتة بالإجماع المركّب لا بالذات لتعدّد موضوعيهما ، فلابدّ من العلاج بما هو طريقة المقرّر في باب التعادل والتراجيح.

وعلى الثاني : فإن وجد أصل فقاهي في أحد الطرفين مؤدّاه إثبات الوجوب أو نفيه ، فلا إشكال أيضا في أنّه يلحق به الطرف الآخر استنادا إلى الملازمة بينهما في كلّ من الإثبات والنفي ، لئلاّ يلزم طرح قول الإمام والمخالفة القطعيّة للواقع بلا مسوّغ لها ، وإن وجد الأصل الفقاهي في كلّ من الطرفين فإن اتّفقا في المؤدّى فلا إشكال أيضا إذ لا يلزم من إعمالهما مخالفة ، وإن اختلفا في المؤدّى ففي إعمالهما والعدم إشكال ، من عموم أدلّة الاصول المقتضي لإعمالهما ، ومن لزوم مخالفة العلم الإجمالي في العمل ، فإنّ إعمالهما يوجب الفصل بين المسألتين ، وهو مخالفة قطعيّة وطرح لقول الإمام في إحدى المسألتين ، ومبنى الإشكال على أنّه كما أنّ القطع بمخالفة قول الإمام في مرحلة الواقع غير جائزة ، فهل هي في مرحلة الظاهر أيضا غير جائزة أو جائزة؟

وقد يقال : بأنّه لا ضير فيه عملا بالأصلين ، وغايته لزوم مخالفة العلم الإجمالي وجوازه في الشريعة غير عزيز بل كثير ، وعزي إلى شريف العلماء وصاحب الفصول.

ويزيّفه : أنّ جواز مخالفة العلم الإجمالي إنّما ثبت في الشبهات [ الموضوعيّة ]

ص: 194

وفي المرافعات وكلامنا في الشبهات الحكميّة ، والحقّ منع عموم أدلّة الاصول بحيث يلزم من إعمالها المخالفة القطعيّة للواقع ، فإنّها مقيّدة بجهالة الواقع وعدم العلم به تفصيلا وإجمالا.

وقضيّة ذلك كون مخالفة العلم الإجمالي اللازمة من إعمال أصل أو أصلين محرّمة.

وحينئذ ففي محلّ البحث يلاحظ الأصلان المختلفان في المؤدّى ، فإن كانا من باب الوارد والمورود يقدّم الوارد ولا يلتفت إلى الآخر (1) ، وإلاّ فلا محيص من البناء على التخيير في العمل والأخذ بأحد الأصلين وطرح الآخر حذرا عن مخالفة العلم الإجمالي (2).

الأمر الرابع : في نقل التواتر

الأمر الرابع :

قد يلحق بنقل الإجماع في مسألة نقل التواتر في خبر في ثبوت الحجّيّة بذلك النقل ، فكما يثبت نقل الواحد حجّيّة الإجماع المنقول ، على معنى جواز التمسّك به في استكشاف قول المعصوم وترتيب آثار الواقع على الحكم المجمع عليه ، فكذلك يثبت بنقله التواتر في خبر حجّيّته ، على معنى الاستناد إلى التواتر المنقول فيه في استكشاف صدقه وترتيب أحكام الواقع على المخبر به.

ويظهر ثمرة هذا البحث في القراءات الثلاث المعروفة عن مشايخها أبي جعفر وخلف ويعقوب ، فإنّ الأصحاب بعد ما اتّفقوا على كون القراءات السبع متواترة ، اختلفوا في تواتر

ص: 195


1- وذلك كأصالة عدم تملّك الامّ بالإرث لما زاد على ثلاث الباقي أو سدسه بعد إخراج فريضة الزوج أو الزوجة من النصف أو الربع في مسألتي ما لو ترك الميّت أبوين مع الزوج أو الزوجة الواردة على أصالة عدم تملّك الأب بالإرث من حيث القرابة للزايد ممّا بقي بعد إخراج فريضة الامّ ، فإنّ ذا القرابة يستحقّ الإرث في ما بقي من ذي الفريضة ، فاستحقاقه مترتّب على استحقاق ذي الفريضة ومتفرّع على بقاء ما بقي منه ، فيكون الشكّ في تملّكه الزايد مسبّبا عن الشكّ في تملّك ذي الفريضة كالامّ لما زاد على ثلث الباقى وسدسه بعد إخراج فريضة الزوج أو الزوجة ، ففيما لو كانت الفريضة من إثنى عشر في الأبوين مع الزوج يحكم باستحقاق الامّ للاثنين وهو ثلث الستّة الباقية لأصالة عدم تملّكها الزايد عليهما وهو الاثنان ، فيستحقّ الأب الأربعة الباقية ولا يعارضها أصالة عدم تملّكه لما زاد على الاثنين ، لورودها عليها السببيّة شكها. [ انظر حاشية المصنّف رحمه اللّه على القوانين : 252 ]
2- كاستصحاب بقاء المال مع أصالة عدم حصول المال في مدعي الفقر لتلف مال ومدّعيه لعدم ماله له لأخذ الزكوة ، بناء على أنّ الامّة بين من قال بأنّه يقبل دعواه بلا بيّنة أو يمين في المسألتين ومن قال بأنّه لا يقبل فيهما إلاّ ببيّنه أو يمين من غير فصل بينهما ، ففي إعمال الأصلين معا كلّ في مورده المستلزم للتفصيل بين المسألتين وعدمه اشكال ... الخ [ حاشية المصنف على القوانين : 252 ].

الثلاث الباقية ، فعن الشهيد في الذكرى (1) والعلاّمة (2) إثباته ، وعن المحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة (3) وتلميذه في المدارك (4) نفيه.

ويظهر فائدة تواترها في جواز قراءة القرآن في الصلاة بإحدى هذه الثلاث ، نظرا إلى قاعدتهم المعروفة من « أنّ القرآن متواتر فما نقل آحادا فليس بقرآن ».

وعن ثاني الشهيدين في روض الجنان (5) والمحقّق الثاني في جامع المقاصد (6) تجويزه ، استنادا إلى إخبار الشهيد والعلاّمة بكونها متواترة ، وعلّلاه بأنّ هذا لا يقصر عن ثبوت الإجماع بخبر الواحد ، فيجوز القراءة بها ، وفيه نظر بل منع واضح.

أمّا أوّلا : فلمنع الحكم في الأصل ، وهو حجّيّة الإجماع المنقول بخبر الواحد كما تقدّم الكلام فيه مشروحا.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الأصل على تقدير تسليم حجّيّته ، فإنّما نسلّمها على تقدير كونه ملزوما واقعيّا لقول الحجّة عقلا أو شرعا أو عادة لا مطلقا ، بخلاف الفرع فإنّ الخبر المتواتر مناط حجّيّته - لمن تحقّق عنده تواتر - إنّما هو العلم بصدقه الحاصل من الخبر بنفسه ، فما لم يحصل العلم بصدقه منه بنفسه فهو داخل في خبر الواحد ، وإن تعدّد بل كثر مخبروه.

وعلى هذا فلا يجوز متابعة القراءات السبع في الصلاة إلاّ بتقدير ثبوت قرآنيّتها ، بتحقّق التواتر أو العلم بالتواتر فيها الحاصل من جهة النقل المفيد للعلم أو التسامع والتظافر.

ولا ريب أنّ إخبار الشهيد والعلاّمة بتواترها قاصر عن إفادة العلم به.

وقضيّة ذلك أن يكون إخبار كلّ واحد من مشايخها بما اختصّ به من القراءة - على تقدير عدم كونه من اجتهاده - من باب خبر الواحد ، لعدم تحقّق تواتره عندنا ، ولا العلم بتواتره الحاصل من جهة النقل وغيره.

وأمّا ثالثا : فلأنّ ثبوت حجّيّة الخبر بنقل التواتر فيه أو ثبوت التواتر فيه بخبر الواحد ممّا لم تحقّق معناه ، سواء اريد به كون الخبر المدّعى كونه متواترا بحيث يترتّب عليه آثار الصدق وعلى المخبر به أحكام الواقع ، أو كونه بحيث يترتّب عليه أحكام الخبر المتواتر لو

ص: 196


1- الذكرى : 187.
2- لم نعثر عليه في كتب العلاّمة ، بل وجدنا خلافه ، انظر نهاية الإحكام : 1 : 465 - والتذكرة 3 : 141.
3- مجمع الفائدة : 2 : 217 - 218.
4- المدارك 3 : 338.
5- روض الجنان : 262.
6- جامع المقاصد 2 : 246.

كان له أحكام خاصّة ، كالنذر فيما نذر حفظ عدّة أخبار متواترة فحفظ أخبار ادّعي تواترها ، والظهار فيمن علّق ظهار زوجته على إتيانها له بخبر متواتر فأخبرته بقراءة لأحد المشايخ الثلاث ، وذلك لأنّ التواتر صفة في الخبر تلحقه باعتبار إفادته بنفسه العلم بصدقه ، وقد حقّق في محلّه أنّه لا يكون كذلك إلاّ بواسطة كثرة المخبرين ليحكم العادة من جهتها بامتناع تواطئهم على الكذب ، وقد حقّق أيضا أنّ خصوصيّات المقامات المعبّر عنها بالقرائن الداخلة الراجعة إلى المخبر أو السامع أو المخبر به أو هيئة الخبر - حيث أثّرت في حصول العلم - لا تنافي مدخليّة الكثرة فيه.

ولا ريب أنّ هذه الكثرة الّتي لها مدخليّة في العلم بالصدق ، ليس لها عدد معيّن ولا حدّ منضبط حتّى يؤخذ به في مقام نقل التواتر ، بل يختلف على حسب اختلاف القرائن وخصوصيّات المقامات الراجعة إلى المخبرين أو السامعين ، وبذلك يختلف حال الأشخاص والأزمان والموارد في حصول العلم بصدق الخبر بملاحظة كثرة فيه وعدمه ، فربّ كثرة في المخبرين يفيد العلم لشخص ولا يفيده له مثلها في مخبرين آخرين ، وربّ كثرة توجب العلم لشخص ولا يفيد مثلها لشخص آخر ، وربّ كثرة توجبه في زمان ولا يوجبه مثلها في زمان آخر ، وربّ كثرة توجبه في مورد خاصّ من المخبر به ولا يوجبه مثلها في مورد آخر ، وعلى هذا فكلّ ما لم يحصل العلم بصدقه من هذه الفروض ونظائرها - ولو بملاحظة كثرة مخبريه - فهو لغير العالم بصدقه مندرج في خبر الواحد ، فكيف يترتّب عليه آثار الصدق ، وعلى المخبر به من جهة هذا الخبر أحكام الواقع من غير جهة أدلّة حجّيّة خبر الواحد؟

وكيف يمكن أن يرتّب عليه أحكام الخبر المتواتر من لم يتحقّق عنده كونه متواترا ، ولم يحصل له العلم أيضا بتواتره؟

نعم لو كان الخبر المدّعى تواتره ملزوما عاديّا للصدق في الواقع ، بحيث لم يتفاوت الأشخاص في إفادته العلم بصدقه - ولا يكون كذلك إلاّ إذا كانت خصوصيّات المقامات ملغاة عن التأثير باعتبار استقلال نفس الكثرة في التأثير - كان لما ذكر وجه ، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون كلّ ما ثبت كونه متواترا عند أحد متواترا عند غيره أيضا ، أو ملزوما واقعيّا للصدق بحكم العادة.

وبالجملة : نقل التواتر لا يفيد لنا كون الخبر المنقول تواتره حجّة باعتبار [ ه ] ، وإن جعلنا أصل النقل حجّة ، لأنّ أصل التواتر من جهة العدد كثرة وقلّة يتفاوت. ويختلف

ص: 197

باختلاف الأنظار والأزمان والأمكنة والأحوال والموارد ، إذ قد عرفت أنّ ربّ عدد معيّن يفيد العلم لأحد ولا يفيد مثله لغيره ، وربّما ينعكس الأمر ، وربّ عدد معيّن يفيده في زمان أو مكان أو حالة ولا يفيد مثله في غير هذا الزمان وهذه الحالة وهذا المكان ، وربّ عدد يفيده في مورد ولا يفيد مثله في غير ذلك المورد ، فليس له انضباط ولا انتظام ، ليكون ذلك معيارا للمطلوب ، ومعتبرا في الخبر عند النقل ، فيترتّب عليه أحكامه ولوازمه ، فمع ذلك كيف يكون مجرّد التواتر المنقول بخبر الواحد ملزوما واقعيّا للصدق وسببا عاديّا لمطابقة الواقع؟ مع أنّه كثيرا مّا يتّفق كون ذلك الّذي نقله هذا العادل منوطا بعدد عنده لا يفيدنا العلم بصدقه ، فكيف نصدّقه في الإخبار بالتواتر ونرتّب على الخبر لمجرّد إخباره أحكام المتواتر؟

ثالثها : أي ثالث ما ادّعي خروجه من الأصل - : الشهرة الفتوائيّة

وثالثها

أي ثالث ما ادّعي خروجه عن أصالة التحريم :

الشهرة الفتوائيّة

الحاصلة من مصير الأكثر إلى قول في المسألة ، سواء قابله قول آخر للأقلّ أو لا من جهة سكوت الأقلّ ، أو لعدم فتواه ، والمقصود بالبحث أيضا خروج ذلك من باب الظنّ الخاصّ لئلاّ يحتاج في إثبات حجّيّتها إلى فتح باب الظنّ المطلق وإثبات انسداد باب العلم ، فقد يتوهّم الحجّيّة فيها على الوجه المذكور استنادا إلى وجهين :

أحدهما : فحوى ما دلّ على حجّيّة خبر الواحد ، فإنّ الشهرة تفيد من الظنّ ما لا يفيده الخبر ، فيكون الظنّ الحاصل منها أقوى من الظنّ الحاصل من الخبر ، فتكون أولى بالحجّيّة.

وثانيها : توهّم الدلالة من مرفوعة زرارة ومقبولة عمر بن حنظلة الواردتين في بيان المرجّحات في الخبرين المتعارضين.

ففي أوليهما : « قال زرارة : قلت جعلت فداك يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيّهما نعمل؟ قال : خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر ، قلت : يا سيدي أنّهما معا مشهوران مأثوران عنكم ، قال : خذ بما يقوله أعدلهما (1) ... » إلى آخره.

بناء على كون الموصول كناية عن المشهور مطلقا رواية كان أو فتوى ، أو دلالة إناطة الحكم بالاشتهار على أنّ المناط هو الشهرة في نفسها وإن كانت في الفتوى.

ص: 198


1- مستدرك الوسائل 17 : 303 / 2.

وفي ثانيتها : قوله عليه السلام : - بعد ما فرض السائل تساوي الراويين في العدالة - « ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الّذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك ، فيؤخذ به ويترك الشاذّ الّذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه وإنّما الامور ثلاثة - إلى أن قال السائل - قلت : فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم (1)(2) ... إلى آخره.

بناء على أنّ المراد بالمجمع عليه في الموضعين هو المشهور ، بقرينة إطلاق غير المشهور على ما يقابله في قوله عليه السلام : « ويترك الشاذّ الّذي ليس بمشهور » ، والتعليل يدلّ على أنّ المناط هو الشهرة وإن كانت في الفتوى ، ولا خفاء في ضعفهما.

أمّا ضعف الأوّل فتارة : لمنع الحكم في الأصل ، فإنّ حجّيّة خبر العادل ليست من حيث الوصف أعني الظنّ ، بل من حيث الذات أعني عنوان الخبريّة ، وقد يعبّر عنها بالحجّيّة من باب السببّية ، وقضيّة الدليل هو الحجّيّة من حيث إفادة الظنّ لا من حيث السببّية كما في البيّنة.

واخرى : منع الحكم في الفرع بإبطال دعوى الأولويّة ، فإنّ هذه الأولويّة إمّا أن يراد بها ما هو نظير الأولويّة المعتبرة في القياس بطريق أولى ، أو ما هو نظير الأولويّة المعتبرة في مفهوم الموافقة.

وأيّا مّا كان فهي لا تنطبق على شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلأنّ المعتبر في أولويّة القياس بطريق أولى كونها قطعيّة ، ولا قطع هنا بل غايته كونها ظنّيّة.

وأمّا الثاني : فلأنّ المعتبر في الأولويّة المعتبرة في مفهوم الموافقة كونها عرفيّة ، منساقة في متفاهم العرف من ظاهر اللفظ الوارد في بيان الحكم المنطوقي ، كما في قوله تعالى : ( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ ) (3) وهي فيما نحن فيه ليست كذلك ، بل هي أولويّة اعتباريّة بشهادة الاستناد في إثباتها إلى أقوائيّة ظنّ الشهرة من ظنّ الخبر ، فالأولويّة المدّعاة اعتباريّة ظنّيّة ، ولا دليل على حجّيّتها من باب الظنّ الخاصّ حتّى يتمّ الاستدلال بها على حجّيّة الشهرة من باب الظنّ الخاصّ ، ولو استند في حجّيّتها إلى دليل الانسداد لزم من الاستناد إليها إثبات الظنّ الخاصّ بالظنّ المطلق ، وهذا كما ترى.

هذا مع ما قيل من أنّ الأولويّة الظنّيّة أوهن بمراتب من الشهرة ، فكيف يتمسّك بها في حجّيّتها؟

وأمّا ضعف الوجه الثاني : فلوضوح منع عموم الروايتين للشهرة في الفتوى أيضا ، بل

ص: 199


1- مستدرك الوسائل 2/303:17
2- الوسائل 27 : 106 / 1 ، الباب 9 من ابواب صفات القاضي.
3- سورة الإسراء : 23.

هما في متفاهم العرف ظاهرتان - كالصريح - في بيان حكم للشهرة في الرواية ، فإنّ السؤال الوارد فيهما سؤال عن مرجّح الخبرين المتعارضين ، وقد جعل عليه السلام في الجواب الشهرة من جملة المرجّحات ، من غير نظر في ذلك إلى الشهرة في الفتوى أصلا.

ألا ترى أنّه لو سئل أحد وقيل له : « أيّ المسجدين أحبّ إليك »؟ فإن قال : « ما كان اجتماع الناس فيه أكثر » فهو لا يدلّ على أنّه يحبّ كلّ مكان يكون اجتماع الناس فيه أكثر ، بيتا كان أو سوقا أو غيرهما ، مع أنّ في نفس الروايتين باعتبار السابق واللاحق ما يكون قرينة على اختصاص الخطاب سؤالا وجوابا بشهرة الرواية ، ومن ذلك قوله في الاولى : « أنّهما معا مشهوران مأثوران عنكم » (1) وفي الثانية : « وإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم » (2) فإنّ الشهرة في الشهرة في الفتوى لا يلزمها أن يقابلها فتوى اخرى بالخلاف ، كما عرفت سابقا عن كونها مشهورة أيضا ، مع أنّ حصول الشهرة في طرفي النقيض في المسألة الشخصيّة محال ، بخلاف حصولها في الخبرين المتعارضين.

وتوجيهه : بالشهرة عند القدماء والشهرة عند المتأخّرين ، يدفعه : ظهور المعيّة في كون مفروض السائل مشهوريّة المتقابلين في زمان واحد ، ولا يتوجّه إلى ما ذكرناه تخصيص العامّ بالمورد ، لأنّه تحصيل للعامّ في المورد ، ومعناه الأخذ بعمومه بقدر المورد ، فالسؤال والجواب متطابقان في الاختصاص بالشهرة في الرواية ، فما تقدّم في بيان وجه الاستدلال من دعوى عموم الموصول ، أو إناطة الحكم بالاشتهار مطلقا ، بعيد عن السياق سؤالا وجوابا.

ومن غرائب ما قيل في المقام هو : أنّ حجّيّة الشهرة ممّا يستلزم وجوده عدمه وهو محال ، فيكون الحجّيّة محالا.

أمّا الملازمة : فلأنّ المشهور بين العلماء الأعلام عدم حجّيّة الشهرة ، فهذه أيضا شهرة ، وحجّيّتها من حيث كونها من أفراد الشهرة المطلقة تستلزم عدم حجّيّة الشهرة المطلقة.

وفيه أوّلا : أنّ الّذي يقول بحجّيّة الشهرة يخصّ دعواه بالشهرة في المسائل الفرعيّة ، فهو لا يقول بحجّية الشهرة في المسألة الاصوليّة ، حتّى يتوجّه إليه المحذور.

وثانيا : أنّ مستند القول بعدم حجّيّة الشهرة هو الأصل وهو دليل تعليقي ، فإذا ثبت الحجّيّة بدليل كما يدّعيه القائل بها يرتفع الأصل المذكور ، ولازمه سقوط القول المشهور في المسألة الاصوليّة ، ورجوعه إلى القول بالحجّيّة ، فلا شهرة حينئذ في جانب عدم

ص: 200


1- مستدرك الوسائل 17 : 303 / 2.
2- الوسائل 27 : 106 / 1 ، ب 9 من أبواب صفات القاضي.

الحجّيّة ليشملها دليل الحجّيّة.

وأيضا فإنّ الأصل لا يفيد ظنّا بالحكم الواقعي ، وكذلك الشهرة الناشئة منه ، بخلاف الشهرة في المسائل الفرعيّة فإنّها في كلّ مسألة تفيد الظنّ بالحكم الواقعي ، والقائل بحجّيّتها يقول بها بهذا الاعتبار ، فالقول بحجّيّة الظنّ بالحكم الواقعي الحاصل من الشهرة لا يستلزم القول بحجّيّة الشهرة الغير المفيدة للظنّ بالحكم الواقعي ، كالشهرة في المسألة الاصوليّة باعتبار أن مدركها الأصل وهو لا يفيد ظنّا فلا يشملها الدليل الدالّ على حجّيّة الشهرة ، باعتبار أنّها مفيدة للظنّ بالحكم الواقعي.

رابعها : أي رابع ما ادّعي خروجه من الأصل - : خبر الواحد

رابعها

خبر الواحد

الّذي ذهب جماعة إلى حجّيّته من باب الظنّ الخاصّ ، وتمسّكوا له بأدلّة خاصّة سيأتي ذكرها ، وينبغي أن يعلم أنّ تركيب خبر الواحد في إطلاقه الأكثري ليس كتركيب الخبر المتواتر والخبر المستفيض ، فإنّه فيه إضافي وفيهما توصيفي.

نعم قد يوجد في بعض الإطلاقات وروده بلفظ « الخبر الواحد » ، فيكون تركيبه أيضا توصيفيّا ، والفرق بين الاعتبارين أنّ الوحدة على الوصف وصف في الخبر كالتواتر والاستفاضة ، وعلى الاضافة وصف في المخبر ، والمضاف إليه في الحقيقة هو المخبر وهو مطويّ ، والتقدير : خبر المخبر الواحد.

ثمّ إنّ وحدة المخبر لا يراد منها الوحدة الشخصيّة أي كون المخبر شخصا واحدا ، بل الواحد هنا اصطلاح في مقابلة العدد الكثير الكافي في إفادة الخبر بنفسه العلم بصدقه ، فخبر الواحد يعني به خبر لا يكون المخبر فيه عددا كثيرا على الوجه المذكور ، سواء تعدّد أو اتّحد.

ثمّ إنّ المسألة في حجّيّة خبر الواحد وعدم حجّيّته من المسائل الاصوليّة الباحثة عن حال الدليل ، لكن لا لما سبق إلى بعض الأوهام من أنّ البحث عن حال الدليل أعمّ ممّا يرجع إلى دليليّة الدليل ، - بأن يكون المقصود بالبحث إثبات الدليليّة وما يرجع إلى حال من أحوال الدليل الآخر بعد الفراغ عن إحراز دليليّته ، فإنّه خلاف التحقيق ، بل لأنّ الدليل هنا هو السنّة بمعنى قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، ولذا كان المعدود في عداد الأدلّة الأربعة هو السنّة لا خبر الواحد ، والمراد بالخبر في عنوان « خبر الواحد » المبحوث عن

ص: 201

حجّيّته هو الخبر المصطلح ، المعرّف بأنّه كلام يحكي قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، والمراد بالكلام الحاكي هو قول الراوي في مقام الرواية والحكاية قال الصادق مثلا كذا ، أو سمعته يقول كذا ، أو رأيته فعل كذا ، وما أشبه ذلك ، وهذا الكلام هو الحديث والخبر المصطلح ، ويقال له : خبر العادل وخبر الواحد.

فمرجع البحث عن حجّيّته إلى أنّه هل السنّة تثبت بخبر الواحد ، كما أنّها تثبت بالنقل المتواتر وبالنقل المحفوف بقرائن القطع أو لا تثبت؟

وهذا هو معنى حجّيّة الإجماع المنقول بخبر الواحد ، فإنّ الإجماع دليل ، ومعنى حجّيّة النقل الواحد فيه أنّ الإجماع يثبت بخبر الواحد ، وظاهر أنّ كون الدليل الثابت دليليّته بحيث يثبت بخبر الواحد أو لا يثبت ، حال من أحوال الدليل بعد الفراغ عن إحراز دليليّته.

وبالجملة : السنّة دليل ، والبحث عن حالها من حيث ثبوتها بخبر الواحد والعدم بحث عن حال الدليل من حيث إنّه دليل ومفروغ عن دليليّته.

ومحصّله : أنّ العادل الحاكي لقول الإمام أو فعله أو تقريره ، هل يصدق في حكايته ويحكم على محكيه بأنّه سنّة ، فيكون كلاما في السنّة؟

وبالتأمّل في هذا البيان يعلم أنّ البحث عن الحجّيّة بالمعنى المأخوذ في هذا العنوان راجع إلى إحراز سند السنّة ، وهو صدور القول أو الفعل مثلا من المعصوم ، على معنى أنّ المقصود من إثبات الحجّيّة هو إحراز الصدور ، بلا نظر هنا إلى جهة الصدور ، وهو كون صدوره على وجه بيان الواقع لا على وجه تقيّة أو توريّة أو نحو ذلك ، ولا إلى جهة الدلالة ، وإن كان تماميّة الدليل تتوقّف على إحراز جميع هذه الجهات وغيرها من الجهات الكثيرة ، كظهور السند في الاتّصال في محلّ احتمال الإرسال ، وظهور بعض المشتركات بين الثقة وغيرها الواقعة في السند - باعتبار انصراف الإطلاق - في الثقة ، كظهور « أحمد بن محمّد » في الثقة الجليل المعروف المكنّى ب « ابن عيسى » الّذي هو شيخ القمّيّين ، وظهور كون الجواب صادرا لبيان الواقع كما يقتضيه منصب الإمامة ، لا على وجه التقيّة وقصد التورية ، وظهور الهيئة التركيبيّة لمتن الرواية في عدم السقوط والحذف ، وظهور ألفاظه باعتبار أوضاعها لغة أو عرفا أو شرعا في معانيها في أنفسها ، وظهورها أيضا في كون هذه المعاني مرادة ، وظهور القرائن الخارجيّة حالية أو مقاليّة أو مقاميّة في إرادة غير هذه المعاني من المعاني المجازيّة.

ص: 202

فإنّ هذه كلّها ظهورات نوعيّة ، لكلّ منها مدخليّة في دليليّة الرواية ، ويتوقّف نهوضها دليلا على الحكم الواقعي على حجّيّة هذه الظنون ، غير أنّه لا نظر في دليل حجّية خبر الواحد - بالمعنى المبحوث عنه المقصود في العنوان - إلى هذه الظنون على اعتبار حكاية الراوي وهو الخبر - في إحراز السند ، على معنى قيامه مقام العلم بصدور ما حكاه من قول أو فعل أو تقرير من الإمام.

فما قد يتراءى من عبارات بعضهم من ترتيب بعض الجهات المذكورة على دليل حجّيّة خبر الواحد باعتبار أنّه خبر ، ليس على ما ينبغي.

ومن ذلك ما في كلام السيّد صدر الدين وغيره في مسألة الفحص عن المخصّص للعمل بالعامّ ، من إنكار وجوبه استنادا إلى إطلاق آية النبأ الدالّة بمفهومها على وجوب قبول نبأ العدل من غير تبيّن ، فإنّ الإطلاق ينفي وجوب الفحص في العمل بالعامّ الوارد في الرواية.

وفيه : أنّ الآية بعد تسليم تماميّة دلالتها إنّما يدلّ على وجوب القبول من حيث السند المحتمل للصدق والكذب ، ومعناه تصديق العادل فيما حكاه ، والحكم عليه بالصدق وعدم الاعتناء باحتمال الكذب ، والفحص عن المخصّص في العمل بالعامّ إنّما هو لإحراز دلالة العامّ على العموم ، والدلالة إنّما تقصد بعد إحراز السند فلا ينفيه الإطلاق المسوق لإحراز السند من غير نظر إلى حيث الدلالة.

ومن ذلك أيضا ما ردّ به التمسّك بإطلاق الإجماع المنقول على عدم جواز تقليد الموتى المتناول للبدوي والاستمراري ، من أنّا أثبتنا أنّ خبر الواحد حجّة من باب الظنّ ، وهو هنا لا يفيد الظنّ بعموم المنع.

وفيه : أنّ ما ثبت اعتباره من باب الظنّ في الخبر إنّما هو سند الخبر وحيث صدوره ، على معنى البناء على صدور الإجماع وتحقّقه تعويلا على نقل ناقله الذي هو من الخبر ، وهذا ممّا لا تعلّق له بجهة الدلالة.

والمناقشة المذكورة على تقدير تماميّتها مناقشة في الدلالة ، فلا تكون متفرّعة على دليل السند الدالّ على اعتبار نقل العدل وخبره من باب الظنّ.

وإذا تمهّد هذا كلّه فاعلم أنّ الظاهر أنّه لا كلام لأحد في أصل وجوب العمل في الجملة بما في أيدينا اليوم من الأخبار المدوّنة في الكتب الأربعة وغيرها من الكتب المعتبرة ، بل قد يقال : بأنّ هذا ممّا أجمع عليه في هذه الأعصار ، بل لا يبعد كونه ضروري الدين ، بل

ص: 203

ربّما نسب إلى المرتضى (1) والقاضي (2) وابن زهرة (3) وابن ادريس (4) دعوى تواترها كلّها أو جلّها ، ولا ينافيه كون أكثر ما وجد في الكتب الأربعة وغيرها ما لم ينقل إلاّ بطريق واحد أو بطريق غير بالغ حدّ التواتر ، لأنّهم يدّعون إحراز التواتر في جميع كتب الأخبار الّتي ذهب عنّا أكثرها ، والمعروف عن جماعة (5) من الأخباريّين دعوى قطعيّة صدورها نظرا إلى قرائن تشهد بذلك.

وربّما عزي ذلك إلى الطبرسي (6) بل المفيد (7) أيضا ، وهو ظاهر المحكي عنه ممّا نقل حكايته عنه عن المحقّق في المعارج (8) من أنّه قال : « إنّ خبر الواحد القاطع للعذر هو الّذي يقترن إليه دليل يفضي بالنظر إلى العلم ».

وربّما نسب ذلك أيضا إلى المرتضى واتباعه ، وهاتان الدعويان ساقطتان عندنا ، إذ لا سبيل لنا إلى إحراز التواتر في تلك الأخبار ، ولا إلى الاطّلاع على قرائن تفيد القطع بالصدور في كلّها أو جلّها.

والقرائن الّتي ذكرها الأخباريّون كلّها مدخولة على ما حقّقنا في غير المقام ، ولأجل ذا تنزّل بعض الأخباريّين عن دعوى قطعيّة الصدور إلى دعوى كونها قطعيّة العمل ، سواء كانت في الكتب الأربعة أو غيرها من الكتب المعروفة ، ككتب الصدوق من الأمالي والخصال والعلل.

وعن بعضهم استثناء الشاذّ المخالف للمشهور ، وليس غرضنا هنا التعرّض لجميع المقالات المتعلّقة بالباب ، ولا جدوى أيضا في التعرّض لأقوالهم المتشتّة ومذاهبهم المختلفة ، بل العمدة هنا التعرّض لذكر قولين طال فيهما التشاجر وكثرت في منعهما النقوض والإبرامات.

أحدهما : القول بعدم جواز العمل بخبر الواحد بطريق السلب الكلّي ، كما عن السيّد (9) وأتباعه ممّن تقدّم ذكرهم.

ص: 204


1- الذريعة 2 : 528 رسائل الشريف المرتضى 3 : 309.
2- حكاه عنه صاحب المعالم في المعالم : 189.
3- الغنية ( الجوامع الفقهيّة ) : 475.
4- السرائر 1 : 51.
5- منهم صاحب الوسائل في الوسائل : 27 / 105 ، والشيخ حسين الكركي في هداية الأبرار : 17.
6- مجمع البيان : 5 : 133.
7- التذكرة باصول الفقه ( مصنّفات الشيخ المفيد ) 9 : 44.
8- معارج الاصول : 187.
9- رسائل الشريف المرتضى : 3 / 309.

وثانيهما : القول بجواز العمل به على وجه الإيجاب الكلّي ، وحكاه في المعتبر إلى الحشويّة ، وجعله إفراطا في القول وطعن عليه حيث قال : « أفرط الحشويّة في العمل بخبر الواحد حتّى انقادوا لكلّ خبر ، وما فطنوا لما تحته من التناقض ، فإنّ من جملة الأخبار قول النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم « ستكثر بعدي القالّة عليّ » (1).

وقول الصادق عليه السلام « إنّ لكلّ رجل منّا رجل يكذب عليه » (2).

ثمّ قال : واقتصر بعض عن هذا الإفراط ، فقال : كلّ سليم السند يعمل به وما علم أنّ الكاذب قد يلصق والفاسق قد يصدق ، ولم يتنبّه أنّ ذلك طعن في علماء الشيعة وقدح في المذهب ، إذ لا مصنّف إلاّ وهو قد يعمل بخبر المجروح كما يعمل بخبر المعدّل.

ثمّ قال : وأفرط آخرون في طرف ردّ الخبر حتّى أحال بعضهم استعماله عقلا ونقلا ، واقتصر آخرون فلم يروا العقل مانعا لكن الشرع لم يأذن في العمل به.

وكلّ هذه الأقوال منحرفة عن السنن والتوسّط ، أصوب ، فما قبله الأصحاب أو دلّت القرائن على صحّته عمل به ، وما أعرض الأصحاب عنه أو شذّ يجب إطراحه » (3) انتهى.

واحتجّ للمانعين : بالكتاب والسنّة والاجماع.

أمّا الكتاب : فمنه الآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم (4) ، والتعليل الوارد في آية النبأ (5).

ويزيّفه : بعد تسليم دلالة الآيات وشمولها لغير اصول الدين ، أنّها لا تزيد على أصالة التحريم بل هي من مداركها.

وقد عرفت أنّ أصالة التحريم مسلّمة ، والكلام إنّما هو فيما خرج عنها بالدليل من باب التخصيص ، فلو تمّ دليل الحجّيّة وجواز العمل ولو في الجملة كان مخرجا عنهما مخصّصا لهما معا ، فلا ينبغي الاستناد إلى الآيات المذكورة في هذا المقام الذي يتكلّم فيه فيما استثنى من الأصل ، وعلى المثبت بيان دليل الاستثناء ، ولا يقابل ذلك الدليل بعد تمامه بما ذكر من عمومات المنع من العمل بما وراء العلم. وتعليل آية النبأ يندفع بأنّ التعليل بمقتضى ظاهر سياق الآية راجع إلى العمل بخبر الفاسق من غير تبيّن ، لأنّه الّذي يوجب

ص: 205


1- رواه في المعتبر مرسلا عن الصادق عليه السلام 1 : 29.
2- ورد قريب منه في الوسائل : 27 : 206 / 1 ، ب 14 من أبواب صفات القاضي.
3- المعتبر 1 : 39.
4- الإسراء : 36 ويونس : 36 والأنعام : 116.
5- الحجرات : 6.

الوقوع في الندم ، ولا يجري في العمل بخبر العادل تعويلا على عدالته الموجبة للوثوق بصدقه والاطمئنان بصدوره ، فإنّه يؤمننا من الوقوع في الندم ، نظرا إلى ما دلّ على إناطة العمل بالخبر بالموثوق والاطمئنان ، واعتبار التبيّن في العمل بخبر الفاسق أيضا لأجل إفادته لهما ، ومنه اشتهار العمل بالخبر الضعيف أو عمل جماعة من أجلاّء الأصحاب ، وغير ذلك من القرائن المفيدة لهما.

وأمّا السنّة : فمنها المروي عن البحار (1) عن بصائر الدرجات (2) عن محمّد بن عيسى ، قال : « أقرأني داود بن فرقد الفارسي كتابه إلى أبي الحسن الثالث عليه السلام وجوابه بخطّه عليه السلام ، فكتب نسألك عن العلم المنقول [ إلينا ] عن آبائك وأجدادك صلوات اللّه عليهم أجمعين قد اختلفوا علينا فيه فكيف العمل به على اختلافه؟ فكتب عليه السلام بخطّه وقرأته « ما علمتم أنّه قولنا فالزموه وما لم تعلموه فردّوه إلينا ». ومثله عن مستطرفات السرائر (3).

وفيه : أنّه بنفسه خبر واحد فلا يعقل التمسّك به في منع العمل بخبر الواحد ، هذا مع احتماله إرادة ما يعمّ الوثوق والاطمئنان من لفظ « العلم » جمعا بينه وبين ما دلّ على إناطة العمل بخبر الواحد بهما.

ومنها : الأخبار الدالّة على عدم جواز العمل بالخبر المأثور إلاّ إذا وجد له شاهد من كتاب اللّه ، أو من السنّة المقطوع بها ، أو الإجماع أو العقل ، كما صرّح به الشيخ في الاستبصار وغيره ، فتدلّ على المنع عن العمل بالخبر المجرّد عن القرينة ، مثل ما ورد في غير واحد من الأخبار من أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم قال : « ما جاءكم عنّي لا يوافق القرآن لم أقله » (4) ، وقول أبي جعفر وأبي عبد اللّه عليهما السلام. « لا يصدّق علينا إلاّ ما يوافق كتاب اللّه وسنّة نبيه » (5) وقوله عليه السلام : « إذا جاءكم حديث عنّا فوجدتم عليه شاهد أو شاهدين من كتاب اللّه فخذوا به ، وإلاّ فقفوا عنده ثمّ ردّوه إلينا حتّى نبيّن لكم » (6).

ورواية أبي يعفور قال : سألت أبا عبد اللّه عن اختلاف الحديث يرويه من أثق به ومن

ص: 206


1- بحار الأنوار 2 : 241 / 33.
2- بصائر الدرجات : 524 / 26.
3- السرائر : 3 / 584.
4- الوسائل 27 : 111 / 15 ، ب 9 من أبواب صفات القاضي.
5- الوسائل 27 : 123 / 47 ، ب 9 من أبواب صفات القاضي.
6- الوسائل 27 : 112 / 18 ، ب 9 من أبواب صفات القاضي.

لا أثق به ، قال : « إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب اللّه ومن قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فخذوا به ، وإلاّ فالّذي جاءكم أولى به » (1).

وقوله عليه السلام لمحمّد بن مسلم : « ما جاءك من رواية من برّ أو فاجر يوافق كتاب اللّه فخذ به ، وما جاءك من رواية من برّ أو فاجر يخالف كتاب اللّه فلا تأخذ به » (2).

وقوله عليه السلام : « ما جاءكم من حديث لا يصدّقه كتاب اللّه فهو باطل » (3).

وقول أبي جعفر عليه السلام : ما جاءكم عنّا فإن وجدتموه موافقا للقرآن فخذوا به ، وإن لم تجدوه موافقا فردّوه ، وإن أشتبه الأمر عندكم فقفوا عنده ، وردّوه إلينا حتّى نشرع من ذلك ما شرع لنا » (4).

وقول الصادق عليه السلام : « كلّ شيء مردود إلى كتاب اللّه والسنّة ، وكلّ حديث لا يوافق كتاب اللّه فهو زخرف » (5).

وصحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد اللّه عليه السلام : « لا تقبلوا علينا حديثا إلاّ ما وافق الكتاب والسنّة ، أو تجدوا معه شاهدا من أحاديثنا المتقدّمة ، فإنّ المغيرة بن سعيد لعنه اللّه دسّ في كتاب أصحاب أبي أحاديث لم يحدّث بها أبي ، فاتّقوا اللّه ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا وسنّة نبيّنا » (6).

إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في طرح الأخبار المخالفة للكتاب والسنّة ولو مع عدم المعارض ، فإنّها كثيرة جدّا بل متواترة معنى كما ادّعي.

وجه الاستدلال بها : أنّها واضح الدلالة على حجّيّة كلّ خبر تشهد القرينة القطعيّة من الكتاب والسنّة المقطوع بها على صدقه ، وعدم حجّيّة غيره سواء خالف الكتاب والسنّة أو لم يوافقهما ، وإنّما لم يذكر فيها الإجماع ودليل العقل من القرائن المفيدة للقطع بصدق الخبر - كما صنعه الشيخ - لرجوعهما إلى الكتاب والسنّة ، فإنّ الإجماع لا ينفكّ عن السنّة

ص: 207


1- الوسائل 27 : 110 / 11 ، ب 9 من أبواب صفات القاضي.
2- مستدرك الوسائل 17 : 304 / 5 ب 9 من أبواب صفات القاضي.
3- مستدرك الوسائل 17 : 304 / 7 ، ب 9 من أبواب صفات القاضي.
4- الوسائل 27 : 120 / 37 ، ب 9 من أبواب صفات القاضي.
5- الوسائل 27 : 111 / 14 ، ب 9 من أبواب صفات القاضي.
6- بحار الأنوار 2 : 250 / 62.

باعتبار كشفه عن قول المعصوم ، وحكم العقل إن كان على سبيل التنجيز كحرمة الظلم ونحوها فهو موجود في الكتاب لا محالة بل في السنّة أيضا ، وإن كان على سبيل التعليق كأصل البراءة ونحوه فكذلك أيضا ، فإنّ مدركه من عمومات أصل البراءة مذكور في الكتاب والسنّة ، إن لم نقل بأنّه لا معنى لجعل مخالفته ميزانا لكذب الخبر.

ويمكن أن يكون الكتاب والسنّة المجعولين فيها ميزانا لصدق الخبر وكذبه كنايتين عن مطلق الدليل القطعي ، فلا يرد عليها أنّها لا تدلّ على اعتبار مطلق القرينة المفيدة للقطع بصدق الخبر ، وإلاّ كان عليهم عليهم السلام ذكر الإجماع ودليل العقل أيضا في عداد القرائن.

وكيف كان فقد يجاب عن الأخبار المذكورة : بأنّها لا تقاوم لمعارضة الأخبار الدالّة على حجّيّة خبر الواحد ، لكونها أقوى منها باعتبار أنّها أكثر عددا وأرجح عملا واعتضادا ، فلابدّ من إطراحها أو ارتكاب خلاف الظاهر فيها.

وقد يجاب أيضا : بتنزيلها على الآحاد الواردة في العقائد الفاسدة ، مثل الجبر والغلوّ والتفويض والتجسيم وغيره ممّا افترى فيها على الأئمّة عليهم السلام ، فلا يمكن الأخذ بها لمخالفتها الكتاب والسنّة ، بل مطلق الدليل القطعي القائم على بطلان هذه العقائد.

والتحقيق في الجواب أن يقال : إمّا أن يراد من الاستدلال بتلك الأخبار بيان مانعيّة المخالفة للكتاب أو السنّة من العمل بالخبر المخالف ، كما هو مقتضى ما دلّ منها على طرح الخبر المخالف لهما ، أو بيان شرطيّة الموافقة لأحدهما الموجبة للعلم بالصدق للعمل بالخبر ، كما هو مقتضى ما دلّ منها على طرح كلّ خبر لا يوافقهما.

وأيّا مّا كان فهو غير صحيح.

أمّا الأوّل : فلأنّه إن اريد بالمخالفة المفروض كونها مانعة ، المخالفة الكلّيّة الحاصلة بالتبائن الكلّي الّذي ضابطه تعذّر الجمع أو تعسّره ، فهو يوجب إخراج الأخبار الدالّة على وجوب طرح الخبر المخالف - على كثرتها حتّى ادعي تواترها معنى - بلا مورد ، إذ لا يكاد يوجد في الآحاد خبر خالف الكتاب والسنّة بالتبائن الكلّي ، بل قد يقال : بأنّه لا يوجد ذلك في الأخبار الكاذبة الّتي كان وضّاع الحديث يضعونها ويدسّونها في كتب أصحاب أئمّتنا عليهم السلام ، بل وضع مثل ذلك ينافي غرضهم من تلبيس الأمر على أصحاب الأئمّة في الاصول والفروع وترويج مذاهبهم الباطلة ، لعلمهم بعدم قبول أحد لمثل هذا الخبر المخالف ، ومن هنا يعلم أنّ هذا النحو من الخبر على تقدير وجوده فيما بين أخبار الآحاد

ص: 208

- باعتبار أنّه لا يقبله أحد بل لا يجوّز قبوله - خارج عن محلّ النزاع ، لأنّ مخالفته على هذا الوجه كافية في إسقاطه عن الحجّيّة.

وإن اريد بها المخالفة الجزئيّة الحاصلة بالعموم والخصوص أو الإطلاق والتقييد ، بأن يكون الخبر خاصّا مخالفا لعمومات الكتاب والسنّة ، أو مقيّدا مخالفا لمطلقاتهما ، فحينئذ إمّا أن يراد من كون المخالفة على هذا الوجه مانعة ، أنّها أمارة على الكذب في الخبر المخالف ، وهو الباعث على وجوب طرحه ففيه : أنّه يوجب الكذب في أكثر الأخبار الموجودة بأيدينا اليوم المأثورة عن الأئمّة عليهم السلام إن لم نقل كلّها ، لأنّها تخالف الكتاب والسنّة هذه المخالفة ، وهذا مع بعده في نفسه مدفوع بالعلم الإجمالي بأنّ الصادر من تلك الأخبار وغيرها من الأئمّة عليهم السلام أكثر من غيره بمراتب شتّى ، فلا يمكن رفع اليد عن العلم الإجمالي بمجرّد هذه الأخبار ، وإن جعلنا مدركه ما عهدناه من أرباب التصانيف في الأحاديث ، نقدوها وانتخبوها من مجموع أحاديث الاصول فأخرجوا منها الأخبار الكاذبة المجعولة على حسب وسعهم واجتهادهم ، فلم يبق من تلك الأخبار في أحاديث تصانيفهم إلاّ أقلّ قليل منها.

فإن قلت : إنّ المعلوم بالإجمال يتميّز من غيره بأمارات الصدق والقرائن المفيدة للوثوق بصدق الأكثر ، فيبقى غيره العاري عن نحو هذه القرائن خارجا عن طرف العلم الإجمالي ، محكوما عليه بالكذب ، لوجود أمارته معه وهو مخالفة الكتاب والسنّة ، فيجب طرحه عملا بهذه الأخبار.

قلت : فعلى هذا بطل السلب الكلّي المدّعى من جهة هذه الأخبار ، لأنّه يرتفع بالإيجاب الجزئي ولو في ضمن الأقلّ فضلا عن الأكثر ، كما فيما نحن فيه.

أو يراد أنّ المخالفة على هذا الوجه مانعة تعبّدا من الشارع عن العمل بالخبر المخالف مطلقا ، سواء عارضه خبر موافق لهما أو لا.

ففيه : أنّ دليل هذا التعبّد - وهو الأخبار المذكورة - معارض بما هو أقوى وأرجح من جهات شتّى ممّا يدلّ على جواز العمل بخبر الواحد الموثوق بصدقه وصدوره من جهة الأمارات والقرائن الموجبة للوثوق.

أو يراد أنّها مانعة تعبّدا من العمل به إذا عارضه خبر موافق.

ففيه : أنّه لا ينافي الحجّيّة الذاتيّة ولا حجّيّة الخبر المخالف السليم عن المعارض ، فيؤول مفاد الأخبار حينئذ إلى بيان حكم الترجيح في الخبرين المتعارضين بالموافقة

ص: 209

والمخالفة للكتاب ، فتكون هذه الأخبار في سياق ما ورد في الأخبار العلاجيّة لبيان الترجيح بهذا المرجّح ولا كلام فيه.

وأمّا الثاني : فلأنّه إن اريد من شرطيّة الموافقة أنّها قرينة صدق توجب العلم بصدور الخبر الموافق ، ففيه : منع واضح ، لأنّ مجرّد موافقة الخبر الخاصّ أو المقيّد لعمومات الكتاب والسنّة أو مطلقاتهما لا يمكن كونها قرينة موجبة للعلم بالصدق والصدور مطلقا ، وإن أوّل بصدور مضمونه لا نفسه.

ومع التنزّل فلا يسلّم إفادتها العلم بصدور الخبر بنفسه أو بمضمونه إلاّ على تقدير نصوصيّة العمومات والمطلقات في دلالاتهما على جميع الأفراد الّتي منها مورد هذا الخبر الموافق ، ضرورة أنّه لو ورد في أخبار الآحاد قوله : « لا بأس ببيع العنب ممّن يعمل خمرا » مثلا ، فإنّه يوافق قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (1) ولكنّه لا يصير بمجرّد هذه الموافقة قطعي الصدور من المعصوم إلاّ إذا كان دلالة ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) على جميع أفراده الّتي منها بيع العنب ممّن يعمل خمرا على طريق النصوصيّة الموجبة للقطع بدخول كلّ فرد في الإرادة ، إذ مع احتمال عدم الدخول في كلّ فرد ، حتّى هذا الفرد احتمل عدم الصدور في ذلك الخبر.

ودعوى النصوصيّة في دلالة العمومات والمطلقات باطلة لا ينبغي الإصغاء إليها ، بل غاية ما فيهما من العموم والإطلاق كون الدلالة فيهما على وجه الظهور والظنّ ، وقضيّة الظنّ بدخول كلّ فرد في الإرادة - حتّى هذا الفرد - كون الخبر الوارد فيه موافقا للعموم أو الإطلاق أيضا ظنّي الصدور فأين القطع بالصدق؟

وإن اريد منها أنّ الموافقة لها أمارة صدق وقرينة توجب الظنّ بالصدور فهو مسلّم ، ولكنّ الأخبار الدالّة على شرطيّة الموافقة بهذا المعنى لا تزيد على الدلالة على أنّ شرط العمل بخبر الواحد هو الوثوق بصدقه والاطمئنان بصدوره ، فتكون مسوقة في سياق ما سيأتي من الأخبار الدالّة على إناطة العمل به بالوثوق والاطمئنان ، وهذا ممّا لا كلام فيه فارتفع النزاع ، بل الأخبار المستدلّ بها حينئذ لنا لا علينا.

وقد يجاب أيضا : بأنّ هذه الأخبار على تقدير تسليم دلالتها على وجوب طرح الخبر المخالف ، أو الغير الموافق للكتاب والسنّة مطلقا لا يتناول الأخبار الّتي لم تحرز فيها مخالفة ولا عدم موافقة لهما ، وهي الأخبار الدالّة على أحكام لم توجد هذه الأحكام ولا

ص: 210


1- سورة البقرة : 275.

مقابلاتها في كتاب ولا سنّة على وجه تبلغه أفهامنا القاصرة.

وقد دلّ على جواز ذلك غير واحد من الأخبار الدالّة على أنّه قد يرد من الأئمّة ما لا يوجد في الكتاب والسنّة ، كالمروي عن البصائر والاحتجاج مرسلا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، أنّه قال : « ما وجدتم في كتاب اللّه فالعمل به لازم ، ولا عذر لكم في تركه ، وما لم يكن في كتاب اللّه تعالى وكانت فيه سنّة منّي فلا عذر لكم في ترك سنّتي ، وما لم يكن فيه سنّة منّي ، فما قال أصحابي فقولوا به ، فإنّما مثل أصحابي فيكم كمثل النجوم ، بأيّها أخذ اهتدى ، وبأيّ أقاويل أصحابي أخذتم اهتديتم ، واختلاف أصحابي لكم رحمة لكم ، قيل : يا رسول اللّه ، ومن أصحابك؟ قال أهل بيتي » (1) الخبر.

والرواية المنقولة عن العيون ، وفيها : « أنّ ما ورد عليكم من خبرين مختلفين فأعرضوهما على كتاب - اللّه إلى أن قال - : وما لم يكن في الكتاب فأعرضوهما على سنن رسول اللّه - إلى أن قال - : وما لم تجدوا في شيء من هذه فردّوا إلينا علمه فنحن أولى بذلك » (2).

ومرجعه إلى أنّ الدليل أخصّ من المدّعى ، فلا يثبت به الكلّيّة المدّعاة.

وأمّا الإجماع : فادّعاؤه على المنع معروف من السيّد المرتضى ، وقيل : إنّه ادّعاه في مواضع من كلامه ، وجعله في بعضها بمنزلة القياس في كون ترك العمل به معروفا من مذهب الشيعة (3) وهو ظاهر المحكي عن الطبرسي في مجمع البيان حيث قال : « لا يجوز العمل بالظنّ عند الإماميّة إلاّ في شهادة العدلين ، وقيم المتلفات وأروش الجنايات » (4) ، فإنّ ظاهره بملاحظة الأمثلة ، أنّه أراد بالظنّ خبر الواحد الظنّي ، أي المظنون الصدق ، وقد جعل المنع من العمل به من مذهب الإماميّة.

وفيه : لو كان موضع الدلالة من كلامه هو هذه العبارة نظر من وجهين ، لجواز كون مراده الظنّ أو الخبر الظنّي في الموضوعات لا خبر العادل في الأحكام ، وكيف كان فيأتي في كلام الشيخ - عند نقله الإجماع على جواز العمل - أنّه كان يعترف بما ادّعاه السيّد من الإجماع على المنع من العمل بأخبار الآحاد ، إلاّ أنّه أوّله بكون معقده الأخبار المرويّة

ص: 211


1- بصائر الدرجات : 1 / 11 / 2 والاحتجاج : 2 : 105.
2- عيون أخبار الرضا عليه السلام 2 : 21 / 45 والوسائل 27 : 113 / 21 ، ب 9 من أبواب صفات القاضي.
3- رسائل الشريف المرتضى 1 : 24 و 3 : 309.
4- مجمع البيان 4 : 57 ذيل الآية 79 من سورة الأنبياء.

بطرق المخالفين.

وكيف كان فما ادّعاه السيّد من الإجماع - بل معروفيّة المنع من مذهب الشيعة - محصّله غير متحقّق ، ومنقوله غير مفيد ، والاعتماد على نقله في منع العمل بخبر الواحد غير صحيح ، لأنّه أيضا من قسم خبر الواحد.

وعلى بناء اعتباره على كشفه الظنّي عن السنّة ، أو وجود دليل معتبر ، نظرا إلى كونه نقلا للكاشف عن أحد الأمرين ، يرد عليه أيضا : أنّه - مع ما ستعرفه من معارضة إجماع الشيخ (1) وشهرة خلافه بين المتقدّمين والمتأخّرين وغير ذلك - لا يكشف عن أحد الأمرين ولو ظنّا ، فلا يمكن التعويل عليه أصلا ، بل دعوى المعروفيّة من المذهب أمر عجيب ، حيث لم نعثر على ما يشهد بما ادّعاه من كلام المورّخين ، ولا أصحابنا المحدّثين ، ولا علماء الرجال ولا غيرهم ، بل المعلوم من مذهبهم شدّة المحافظة على كتب الأخبار ، والمبالغة في حفظ الأحاديث المرويّة عن الأئمّة الأطهار ، حتّى أنّه ملأت طواميرهم من الأحاديث والأخبار وضبط أسانيدها ، وصنّفت كتب كثيرة ورسائل عديدة في ضبط أحوال الأسانيد ، والمبالغة في جرحها وتعديلها ، ولم نقف من أحد منهم على إشارة إلى ما ادّعاه السيّد من إجماع الطائفة والمعروفيّة من مذهب الشيعة ، ولا إلى ما ارتكبه من تنزيل العمل بالأخبار منزلة العمل بالقياس.

فلو صحّ ما ادّعاه فكيف يخفى على من عداه ، بل المتتّبع في كتب الأحاديث والرجال يعلم ضرورة من حال أربابها أنّ العمل بأخبار الآحاد في الجملة كان من مذهب الإماميّة ، وكان عليه طريقة الرواة وأصحاب الأئمّة عليهم السلام ، فإن أراد السيّد وأتباعه بما ادّعوه منع العمل بالأخبار مطلقا ، حتّى روايات الثقات والصحاح منها باصطلاح القدماء ، وما يطمئنّ بها النفس ويسكن إليها الفؤاد فنحن لا نصدّقهم بل نخالفهم ، لأنّ المعلوم من ضرورة المذهب خلافه ، ولا نسلّم منهم الإجماع على الدعوى المذكورة ، وإن أرادوا منع العمل في الجملة وعلى وجه الإيجاب الجزئي فلا مخالفة بيننا وبينهم ، لأنّا لا ندّعي الكلّيّة بل في الجملة ، ومناطه على ما ستعرفه ما يوجب الاطمئنان والوثوق.

وقد يجاب : أيضا بطريق المعارضة بالنظر إلى دعوى الشيخ الإجماع على جواز

ص: 212


1- العدّة 1 : 128.

العمل ، المعتضدة بدعوى جماعة اخرى الإجماع على حجّيّة خبر الواحد في الجملة ، وتحقّق الشهرة على خلافها بين القدماء والمتأخّرين.

أدلّة المثبتين لحجّية خبر الواحد

اشارة

فلنشرع بذكر ما احتجّ به المثبتون للحجّيّة ، فنقول : إنّ لهم من الأدلّة الكتاب والسنّة والإجماع والعقل.

1 - آية النبأ وتقريب الاستدلال بها

أمّا الكتاب : فمنه آيات كثيرة منها ثلاثة تمسّك بها الشيخ في العدّة ، وهي آيات النبأ والنفر والكتمان ، وقيل أوّل من تمسّك بها فيما نعلم الشيخ ، والعمدة منها آية النبأ وهي قوله تعالى في سورة الحجرات : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) (1).

وينبغي التعرّض قبل بيان وجه الاستدلال لشرح مفردات الآية ، فقوله : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ ) أي أخبركم فاسق بشيء ، وقوله : ( فَتَبَيَّنُوا ) أي اطلبوا بيان صدق الخبر وظهوره وثبوت المخبر به في الخارج ، ولذا شاع تفسيره بالتثبّت بالفحص والسؤال ، وقوله : ( أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ ) أي مخافة أو كراهة أن تصيبوا ، والإصابة بحسب الأصل والوضع اللغوي وإن كانت لمطلق إيصال الشيء خيرا كان أو شرّا ، إلاّ أنّ إطلاقها ينصرف إلى إيصال الشرّ ، ولا يصرف إلى إيصال الخير إلاّ لقرينة ، ومنه المصيبة حيث تطلق مطلقة على إيصال العزاء الّذي هو من الشرّ ، ففرق بين مطلق الإصابة ، والإصابة المطلقة ، حيث إنّ الاولى لما يعمّ الخير والشرّ ، والثانية ظاهرة عرفا بحكم الانصراف في الشرّ ، ولا تطلق على الخير إلاّ مقيّدة ، فقوله : ( أَنْ تُصِيبُوا ... ) إلى آخره أي مخافة أن توصلوا الشرّ من نهب الأموال ، أو أسر النفوس ، أو قتلهم بسبب جهلكم بكذب الخبر ، وقوله : ( فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) أي فتدخلوا في الصباح حال كونكم نادمين إن جعلناه بمعنى الدخول في الصباح كما هو الأصل فيه ، أو فتصيروا نادمين إن جعلناه بمعنى الصيرورة كما جوّزه النحاة.

وحاصل المراد أنّ إصابة القوم بجهالة كذب الخبر ممّا يوجب الوقوع في الندامة ، والتعبير عن هذا المعنى بقوله : ( فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) استعارة بالكناية ، حيث شبّه إصابة القوم بالجهالة بإصابة قوم في ظلام الليل الّتي ربّما توجب الوقوع في الندامة ، باعتبار وقوعها على غير مستحقّها بعد ما ارتفع الظلام بالدخول في الصباح ، وكذلك إصابة قوم نهارا عملا بالخبر الغير المعلوم صدقه بلا تبيّن صدقه ، فأطلق على المشبّه ما هو من

ص: 213


1- سورة الحجرات : 6.

خواصّ المشبّه به ، ومحصّل المعنى : تعليل الأمر بالتبيّن عند العمل بخبر الفاسق بعدم الوقوع في الندم ، كما هو شأن العمل بالخبر الغير المعلوم صدقه من غير تبيّن صدقه ، بخلاف العمل به بعد التبيّن.

وأمّا وجه الاستدلال : فيقرّر تارة بالبناء على مفهوم الشرط لكون قضيّة الآية شرطيّة ، واخرى بالبناء على مفهوم الوصف ، لمكان ذكر « الفاسق » [ الّذي ] هو من الوصف.

أمّا الأوّل : فلأنّه تعالى علّق وجوب التبيّن على مجيء الفاسق بالنبأ ، وقضيّة التعليق على الشرط انتفاء وجوبه عند انتفاء مجيء الفاسق به ، وهو قد يجامع مجيء العادل به ، وحينئذ فإمّا أن يجب القبول أو يجب الردّ مطلقا ، والثاني باطل لاستلزامه كون العادل أسوأ حالا من الفاسق فتعيّن الأوّل ، إذ لا واسطة وهو المطلوب.

وظنّي أنّ توسيط المقدّمة الأخيرة ممّا لا حاجة إليه في تتميم الاستدلال ، بل الاستدلال يتمّ بدونه بناء على أنّ وجوب التبيّن شرطي ، ومعناه كون العمل بخبر الفاسق مشروطا بتبيّن صدقه ، وهذا هو منطوق الآية ، ومفهومها الّذي هو عبارة عن انتفاء الحكم المنطوقي عند انتفاء الشرط ، هو عدم كون العمل بخبر العادل مشروطا بالتبيّن ، ومعناه جواز العمل به من غير تبيّن فسقط اعتبار المقدّمة الأخيرة المشتملة على الترديد ، ولعلّهم في توسيط هذه المقدّمة زعموا التبيّن واجبا نفسيّا وحينئذ فانتفاء الوجوب النفسي في القضيّة المفهوميّة لا يلازم القبول من غير تبيّن ، لجواز الواسطة وهي الردّ من غير تبيّن ، فلا يتمّ الاستدلال إلاّ بنفي احتمال الواسطة ، فلابدّ من توسيط المقدّمة الأخيرة المشتملة على ترديد خبر العادل بعد نفي وجوب تبيّن صدقه وكذبه بين وجوب القبول ووجوب الردّ. ثمّ نفي الاحتمال الثاني ببطلان كون العادل أسوأ حالا من الفاسق بضرورة من حكم العقل.

أقول : نفسيّة الواجب هنا وإن كان يساعد عليه الأصل اللفظي ، وهو ظهور الأمر المطلق في الوجوب النفسي - كما حقّق في محلّه - غير أنّ هذا الظهور يصرف عنه لصارف ، وهو القرينة المقامة على الوجوب الشرطي من وجوه ثلاث :

أحدها : اتّفاق العلماء قديما وحديثا على أنّ التبيّن في خبر الفاسق إنّما اعتبر مقدّمة للعمل لا غير.

وثانيها : قضاء القوّة العاقلة بعدم كون التبيّن بنفسه عنوانا يصلح للوجوب ، وكونه مطلوبا للشارع لولا العمل بالخبر.

وثالثها : التعليل الوارد في الآية ، فإنّ إصابة قوم بجهالة والوقوع في الندامة بسببها إنّما

ص: 214

يتأتّى بواسطة العمل بالخبر بلا تبيّن لا غير ، على أنّه على تقدير البناء على الوجوب النفسي أيضا لا حاجة إلى اعتبار الواسطة ، لمنع الملازمة على احتمال وجوب الردّ ، على معنى أنّه لا يلزم على تقدير عدم قبول نبأ العدل مع وجوب تبيّنه كونه أسوأ حالا ، فإنّ احتمال الكذب في نبأ الفاسق لمّا كان احتمالا ظاهرا فوجب التبيّن عنده لأجل ذلك ، بخلاف نبأ العادل فإنّ الاحتمال المذكور فيه ضعيف بل في غاية الضعف ، فانتفى وجوب التبيّن عنده من جهته.

وهذا يدلّ على حسن حاله لا على سوء حاله ، وقول المستدلّ في الترديد وحينئذ فإمّا أن يجب القبول أو يجب الردّ ، قلنا في ردّه : أنّ التبيّن في نبأ الفاسق على زعمه لم يكن لأجل العمل ، فكيف يردّد نبأ العادل بين وجوب القبول ووجوب الردّ.

وبالجملة فالمستدلّ إمّا أن يقول بكون التبيّن في نبأ الفاسق مقدّمة للعمل به ، أو لا يقول به.

فعلى الأوّل سقط احتمال الوجوب النفسي في التبيّن.

وعلى الثاني سقط اعتبار الترديد في تتميم الاستدلال ، إذ المفروض عدم تعلّق الغرض في التبيّن بالنسبة إلى نبأ الفاسق بالعمل به ، كما هو معنى نفسيّة الوجوب حتّى يصحّ أن يقال : بأنّه إذا جاز العمل به بعد التبيّن ولم يجز العمل بنبأ العادل مع التبيّن ومع عدمه لزم كونه أسوأ حالا.

وأمّا الثاني : فلأنّه تعالى علّق إيجاب التبيّن على كون المخبر فاسقا ، فينتفي عند انتفائه.

والفرق بين هذا التقرير والتقرير السابق ، أنّ الانتفاء هنا يعتبر في الوصف وثمّة في الشرط ، والقضيّة المفهوميّة على اعتبار مفهوم الشرط ينحلّ إلى قولنا : « إن لم يجئكم نبأ فاسق فلا يجب عليكم التبيّن » ، وعلى اعتبار مفهوم الوصف بنحلّ إلى قولنا : « إن جاءكم غير فاسق بنبأ فلا يجب عليكم التبيّن » ، ومعناه إن جاءكم عادل بنبأ فلا يجب التبيّن ، إذ لا واسطة بين الفاسق والعادل في نفس الأمر ، وحينئذ إمّا أن يجب القبول أو يجب الردّ إلى آخر ما تقدّم ، وقد عرفت ما فيه.

لا يقال : أنّ كون المخبر فاسقا يتضمّن وصفين بل أوصافا ثلاث ، كونه مخبرا ، وكون المخبر واحدا على ما يقتضيه تنوين التمكن ، وكون المخبر الواحد فاسقا ، وكلّ واحد يصلح للعلّيّة فيحتمل كلّ تعليل الحكم به ، فسقط الدلالة على عدم وجوب التبيّن عند كون المخبر عادلا ، لقيام احتمال التعليل بأحد الوصفين الأوّلين ، وكلّ منهما وصف عامّ مشترك بين الفاسق والعادل ، وإن كان ثانيهما أخصّ من الأوّل ، إلاّ أنّه كالأوّل أعمّ من الثالث.

ص: 215

لأنّا نقول : إنّ كلاّ من الوصفين الأوّلين إنّما يصلح للعلّيّة وتعليل الحكم به إذا لوحظ بما هو هو ولو خلّي وطبعه ، لا بالنظر إلى قضيّة الآية ، فإنّها ظاهرة في التعليل بالوصف الأخير وهو الفسق.

أمّا أوّلا : فلأنّه المتبادر من الآية في متفاهم العرف.

وأمّا ثانيا : فلأنّه المذكور في الكلام صريحا.

وأمّا ثالثا : فلاقتران الحكم بذلك الوصف.

وأمّا رابعا : فلأنّه المناسب أو أشدّ مناسبة لإيجاب التبيّن ، فإنّ الفسق يناسب عدم قبول الخبر ، أو أشدّ مناسبة له لأنّه يناسب الكذب ، وهو المانع من القبول.

ثمّ إنّه أورد على الاستدلال بالآية بإيرادات كثيرة ترتقي إلى خمسة وعشرين أو ستّة وعشرين ، وإن كان أكثرها قابلا للدفع ، إلاّ أنّ منها ما لا مدفع له وهو أمران :

أحدهما : أنّ الاستدلال بالآية إمّا أن يكون باعتبار مفهوم الوصف ، أو باعتبار مفهوم الشرط ، ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلأنّ المحقّق - على ما قرّر في محلّه - عدم حجّيّة مفهوم الوصف ، على معنى أنّ التعليق على الوصف لا يفيد العلّيّة والتعليل لكثرة الفوائد ، وكون هذه الفائدة ظاهرها أو أظهرها عرفا غير مسلّم ، خصوصا إذا لم يعتمد الوصف الوارد في الكلام على موصوف كما فيما نحن فيه.

وتوهّم اعتماده بالموصوف المقدّر وهو « رجل » أو « مخبر » أو نحو ذلك والمقدّر كالمذكور.

يدفعه : أنّ التقدير ممّا لا موجب له والأصل عدمه ، فيكون الوصف المذكور أشبه باللقب ، فالمفهوم المتوهّم من جهته أشبه بمفهوم اللقب ، لأنّ اللقب هو الاسم وفسّر بما هو العمدة في الكلام وهو المسند والمسند إليه ، وغيرهما من القيود فضلة ، ومنها الشرط في القضيّة الشرطيّة ، والوصف في القضيّة التوصيفيّة ، وظاهر أنّ ورود الفضلة في الكلام لا بدّ لها من فائدة أزيد من الفائدة المطلوبة من أصل الكلام ، وهو إفادة أصل الحكم الّتي لا تتمّ إلاّ بالمسند والمسند إليه ، ولذا لا يقتضي التعليق على أحدهما فائدة اخرى سوى فائدة أصل الكلام ، وهو السرّ في عدم حجّيّة مفهوم اللقب ، فإنّ ذكر المسند أو المسند إليه لأنّ الكلام لا يتمّ بدون أحدهما وفائدته لا تتمّ إلاّ بذكرهما معا ، بخلاف ذكر ما هو من الفضلة

ص: 216

فإنّه ممّا لا يتوقّف عليه تماميّة أصل الكلام ولا تماميّة فائدته ، فلابدّ لذكرها من فائدة اخرى ، وإفادة الانتفاء عند الانتفاء تصلح لتلك الفائدة ، والمفروض أنّ « الفاسق » في الآية باعتبار أنّه لم يعتمد على موصوف أنّما اعتبر مسندا إليه ، فيكون من العمدة وهي اللقب ، وقد عرفت أنّ التعليق على العمدة لا يدلّ على الانتفاء عند الانتفاء ، وهذا هو معنى كون المفهوم المتوهّم بالنسبة إلى ذلك الوصف أشبه بمفهوم اللقب.

وفيه نظر : لأنّ ما هو من قبيل مفهوم اللقب ، هو انتفاء أصل حكم الكلام المتقوّم بالمسند والمسند إليه ، كما لو قلنا في مثل ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ ) أنّه يدلّ على عدم مجيء العادل ، ولا كلام في عدم حجّيّة هذا المفهوم ، لا انتفاء حكم آخر غير الحكم المتقوّم بالمسند والمسند إليه كما فيما نحن فيه ، فإنّ إيجاب التبيّن عن نبأ الفاسق غير إسناد المجيء بالنبأ إلى الفاسق ، فلو فرض دلالة التعليق على انتفائه عند انتفاء الفسق كان من مفهوم الوصف لا غير ، فلا معنى لجعله أشبه بمفهوم اللقب ، فانحصر طريق ردّ الاستدلال في منع حجّيّة مفهوم الوصف.

وأمّا الثاني : فلعدم كون التعليق في الآية مساوق لتعليل الحكم بالشرط في موضوع محقّق على كلا تقديري وجوده وانتفائه ، كما هو الضابط في حجّيّة مفهوم الشرط ، كما في قوله : « إن جاءك زيد فأكرمه » ، لا لبيان كون الشرط محقّقا لموضوع الحكم بحيث يقضي انتفائه بانتفاء أصل الموضوع ، ففي مثل ذلك لا يقصد منه المفهوم ، للزوم اللغو كما في قولك : « إن قدم زيد من السفر فاستقبله » ، و « إن رزقت ولدا فاختنه » ، و « إن أصبت مالا فأنفقه » ، و « إذا لقيت أسدا فاحذر منه » ، ومنه قوله عزّ من قائل : ( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ) (1) الآية ، ولا ريب أنّ ما نحن فيه من هذا الباب ، فإنّ مجيء الفاسق بنبأ محقّق لموضوع وجوب التبيّن - وهو نبأ الفاسق - ومع انتفائه لا نبأ أصلا حتّى يتبيّن صدقه أو كذبه ، فالسالبة في جانب المفهوم لو قصد إفادته إنّما هي من جهة انتفاء الموضوع وهي غير مفيدة ، فيلزم كون اعتباره وقصده لغوا.

لا يقال : إنّ السلب من جهة انتفاء الموضوع خلاف ظاهر القضيّة ، لكونها حقيقة في كون سلبها لانتفاء المحمول مع تحقّق الموضوع فلتحمل عليه لأصالة الحقيقة ، لأنّ الأصل

ص: 217


1- سورة الأنفال : 41.

إنّما يرجع إليه في موضع تردّد اللفظ بين حقيقته ومجازه ، ولا يكون إلاّ حيث أمكن إرادة الحقيقة ، وحينئذ كان الأصل هو الحمل على السلب باعتبار انتفاء المحمول ، ولا يعدل عنه إلى غيره إلاّ لصارف ، والمقام ليس منه لكون الموضوع متيقّن الانتفاء على تقدير انتفاء الشرط فلا محيص من التزام كون السلب في السالبة في جانب المفهوم - لو كان مرادا - باعتبار انتفاء [ الموضوع ](1) لا غير.

فإن قلت : إنّ هذا إنّما يتوجّه على تقدير اعتبار الحكم السلبي لأمر عدمي وهو نبأ الفاسق ، [ لا ] لأمر وجودي وهو نبأ العدل ، وعليه مبنى الاستدلال لا على الأوّل ، ولذا قيل في تقريره : أنّ عدم مجيء فاسق بنبأ قد يجامع مجيء العادل به ، وحينئذ فالسلب إنّما هو لأجل انتفاء المحمول مع تحقّق الموضوع.

قلت : هذا يستقيم لو كان المأخوذ في القضيّة المنطوقيّة نقيض مجيء العادل بنبأ والمفروض خلافه ، لأنّ المأخوذ فيها نقيض عدم مجيء الفاسق بنبأ ، ولا ريب أنّ مجيء العادل بنبأ ليس بعين عدم مجيء الفاسق بنبأ ، لاستحالة كون الأمر الوجودي عين أمر عدمي ، ولا أنّه من أفراده ، ومصاديقه ، لاستحالة كون الأمر الوجودي فردا ومصداقا لأمر عدمي ، بل هو مقارناته الاتفاقيّة ، لأنّ عدم مجيء فاسق بنبأ قد يقارنه من باب البغت والاتّفاق مجيء عادل بنبأ ، ومجرّد هذه المقارنة لا توجب كون موضوع الحكم السلبي في القضيّة المفهوميّة هو الأمر الوجودي ، فدعوى : عموم عدم مجيء الفاسق بنبأ لمجيء العادل به ، وأنّه أعمّ منه فيشمله الحكم ، وهو عدم وجوب التبيّن ، واضح الدفع : بأنّ العموم المدّعى هنا إن اريد به عمومه في الصدق فهو محال لما عرفت من استحالة كون الأمر الوجودي مصداقا لأمر عدمي.

وإن اريد به عمومه له في التحقيق الخارجي ، على معنى أنّ عدم مجيء فاسق بنبأ قد يتحقّق معه مجيء عادل بالنبأ ، فهو مسلّم لرجوعه إلى المقارنة الاتفاقيّة.

ولا ريب أنّ الحكم المسوق في القضيّة لموضوع لا يتناول لوازم ذلك الموضوع فكيف بمقارناته الاتفاقيّة ، فلو صحّ إرادة عدم وجوب تبيّن الصدق والكذب على تقدير عدم مجيء الفاسق بنبأ ، فهو لا يشمل نباء العادل لمجرّد كون مجيء العادل به ممّا قد يقارن عدم مجيء الفاسق بنبأ من باب الاتّفاق.

ص: 218


1- وفى الأصل : « المحمول » بدل « الموضوع » والظاهر أنّه سهو منه رحمه اللّه ولذا صحّحناه بما فى المتن.

نعم لو فرض كون نقيض مجيء العادل بنبأ مأخوذا مع نقيض عدم مجيء الفاسق بنبأ في القضيّة المنطوقيّة ، بأن يكون قضيّة الآية هكذا : « إن جاءكم فاسق بنبأ ولم يجئكم عادل به فتبيّنوا » إتجّه عموم الحكم المفهومي لنبأ العادل ، لكون قضيّة المفهوم حينئذ هكذا : « إن لم يجئكم فاسق بنبأ وجاءكم عادل به فلا يجب عليكم التبيّن » ، والمفروض عدم كون وضع قضيّة الآية على هذا الوجه.

وبالجملة : ما توهّم من العموم - مع قطع النظر عمّا ذكرناه من أنّه من المستحيل كون الأمر الوجودي مصداقا للعدمي ، وأن حكم القضيّة لا يتناول لوازم موضوعه فضلا عن مقارناته الاتفاقيّة - عموم فرضي منوط باعتبار المعتبر ، ومع عدم ثبوت هذا الاعتبار كان المتّبع ما يساعد عليه الانفهام العرفي.

ولا ريب أنّ الانفهام العرفي في نظائر المقام - كما يرشد إليه التدبّر في الأمثلة المتقدّمة - لا يساعد إلاّ على ما ذكرناه ، من كون السلب - على تقدير كونه مرادا - من جهة انتفاء الموضوع ، ولا يتسارع الذهن إلى ما ذكر من الفرد الفرضي الاعتباري أصلا ، بل هو شيء قد يقارن عدم مجيء الفاسق بالنبأ من باب الاتّفاق ، ومجرّد المقارنة الاتفاقيّة لا توجب انفهامه من اللفظ بحيث يعمّه الحكم أو يختصّ به.

ألا ترى أنّ في مثل « إن قدم زيد من السفر فاستقبله » ، قد يكون عدم قدوم زيد يقارنه قدوم عمرو ، ولا يتسارع ذهن أحد إلى انفهام عدم وجوب استقبال عمرو لمجرّد المقارنة الاتفاقيّة لقدومه عدم قدوم زيد ، حتّى يتّجه أن يقال : إنّ السلب في سالبة القضيّة المفهوميّة بانتفاء المحمول لا الموضوع.

ثانيهما : ما نقل إيراده عن محكي (1) العدّة (2) والذريعة (3) والغنية (4) ومجمع البيان (5) والمعارج (6) وغيرها (7) ، ومحصّله : أنّ الدلالة المفهوميّة على حجّيّة خبر العادل الغير المفيد للعلم وجواز العمل به من غير تبيّن ، إن سلّمناها فإنّما هي لظهور التعليق في الجملة الشرطيّة أو الوصفيّة في انتفاء وجوب التبيّن عند العدالة ، ويعارضه ظهور التعليل في الآية في عموم وجوب

ص: 219


1- حكى عنهم في مفاتيح الاصول : 355.
2- العدّة 1 : 113.
3- الذريعة 2 : 536.
4- الغنية ( الجوامع الفقهية ) : 475.
5- مجمع البيان 5 : 133.
6- معارج الاصول : 146.
7- شرح زبدة الاصول للمولى صالح المازندراني ( مخطوط ) : 166.

التبيّن في كلّ من خبر الفاسق وخبر العادل ، لأنّ مفاده أنّ خوف الوقوع في الندم بالعمل بالخبر من جهة الوقوع في مخالفة الواقع علّة لوجوب التبيّن ، وخوف الوقوع في الندم قائم في العمل بخبر العادل أيضا لأنّه ينشأ من احتمال الكذب في الخبر ، وهو أمر مشترك بين خبر الفاسق وخبر العادل.

غاية الأمر كونه في خبر الفاسق أقوى منه في خبر العادل ، كما أنّ احتمال الصدق في خبر العادل أقوى منه في خبر الفاسق ، ومجرّد هذا التفاوت لا يوجب فرقا بينهما في خوف الوقوع في الندم وعدمه.

لا يقال : - خبر العادل لا يحتمل الكذب ، لأنّه يوجب الفسق وهو ينافي العدالة ، نعم يحتمل فيه الخطأ وهو لا ينافي العدالة لأنّه يصدر لا عن عمد وقصد ، إلاّ أنّه احتمال ضعيف لا يعتنى به عند العقلاء خصوصا في الحسّيّات ، فلا موجب لخوف الوقوع في الندم في العمل بخبر العادل حتّى يشمله عموم التعليل - لأنّ انكار قيام احتمال الكذب في خبر العادل مكابرة لا ينبغي الإصغاء إليها. والاستناد فيه إلى أنّه توجب الفسق ، والفسق ينافي العدالة.

يدفعه أوّلا : أنّ معنى منافاة الفسق العدالة أنّه لا يجامع العدالة في زمان واحد ، لا أنّه لا يرفع العدالة ، ولا ريب أنّ العادل قد يفسق فيخرج عن العدالة ، فالكذب الموجب للفسق ليس بمستحيل من العادل ، فلا استحالة في كون المخبر قبل إخباره عادلا ويصير فاسقا بنفس إخباره ، والأصل فيه أنّ العدالة أمارة يغلب معها الظنّ بالصدق ، لا أنّها طريق إلى العلم بالصدق.

وثانيا : منع الملازمة بين الكذب والفسق ، لأنّ العادل كثيرا مّا يكذب لمصلحة راجحة في نظره كما في محلّ التقيّة فلا ينافي عدالته ، فلا يأمن الناظر في خبر من الوقوع في الندامة بالعمل به من غير تبيّن ، فظهور التعليق في الآية يعارضه ظهور التعليل فيها ويرجّح عليه ، لأنّ التعليل في متفاهم العرف أظهر في العموم من التعليق في المفهوم ، ومن الواجب تقديم الأظهر على الظاهر ، بل نقول : بأنّ التعليل في كثير من المقامات حاكم على كثير من الظهورات ، فقد يخصّص فيما هو بحسب الدلالة اللفظيّة عامّ ، وقد يعمّم فيما هو بحسب الدلالة اللفظيّة خاصّ.

ومن الأوّل ، قول القائل : « لا تأكل الرمّان لأنّه حامض » فإنّه يخصّص الحكم بالأفراد الحامضة ، مع أنّ « لا تأكل الرمّان » عامّ.

ص: 220

ضرره » فإنّه يدلّ على أنّ كلّ دواء لا يؤمن ضرره يجب اجتنابه وإن وصفه غير النسوان ، مع أنّ المورد بحسب الدلالة اللفظيّة خاصّ ، وما نحن فيه أيضا من هذا القبيل لأنّ مورد الأمر بالتبيّن خاصّ وهو خبر الفاسق ، والتعليل يعمّمه بخبر العادل أيضا فيكون حاكما على التعليق فيحمل التعليق ، حينئذ على فوائده الاخر غير فائدة الانتفاء عند الانتفاء ، وإن قلنا بأنّها أظهر الفوائد ، لأنّ الأظهريّة إنّما تكون متّبعة إذا لم يزاحمها ما هو أقوى منها ، أو يحكم عليها في متفاهم العرف لا مطلقا.

نعم لا بدّ لتخصيص الفاسق بالذكر من نكتة ، ولعلّه للتنبيه على فسق مورد نزول وهو الوليد كما نبّه عليه في المعارج (1).

لا يقال : إنّ المفهوم أخصّ مطلقا من التعليل لأنّه خاصّ بخبر العادل ، والتعليل عامّ فيه وفي خبر الفاسق ، ومن الواجب تخصيص العامّ بالخاصّ ، ولا ضير فيه بناء على جواز تخصيص العامّ بمفهوم المخالفة ، فإيجاب التبيّن لا يتناول خبر العادل الغير المفيد للعلم.

ولو سلّم كون النسبة بين المفهوم والتعليل عموما من وجه كما قد يتوهّم ، لكون الأوّل عامّا في خبر العادل المفيد للعلم وغير المفيد له ، والثاني عامّا في خبر الفاسق وخبر العادل ، فيتعارضان في خبر العادل الغير المفيد للعلم ، وجب إرجاع التخصيص إلى التعليل لا المفهوم ، وإلاّ لزم كون مورده خبر العادل المفيد للعلم ، وهو إلغاء الآية المسوقة لبيان حجّيّة خبر الواحد على زعمهم ، لأنّ الخبر المفيد للعلم حجّة في نفسه ولا يحتاج حجّيّته إلى دليل ولا إلى خطاب من الشارع ، كما تقدّم في مباحث العلم من أنّه حجّة في نفسه لا بجعل الشارع.

لأنّا نقول أوّلا : بنحو ما قد يقال من اختصاص قاعدة تخصيص العامّ بمفهوم المخالفة بالمخصّص المنفصل ، بأن يكون الكلام المشتمل على المفهوم منفصلا عن الكلام المشتمل على العامّ ، كما في قوله : « أكرم العلماء » مع قوله الآخر : « إن جاءك زيد فأكرمه ».

وثانيا : أنّ ملاحظة العموم والخصوص مطلقا أو من وجه ، وتخصيص العامّ بالخاصّ ، أو إرجاع أحد العامّين من وجه إلى الآخر ، بإخراج مادّة الاجتماع عنه ، إنّما تتّجه لو فرض التعارض بين التعليل ونفس المفهوم الّذي مورده إمّا خاصّ مطلقا أو عامّ من وجه ، وليس مبنى الإيراد المذكور على ذلك ، بل على فرض التعارض بين ظاهر التعليق وظاهر التعليل ، وهذا ليس من تعارض العامّ والخاصّ ، ولا من تعارض العامّين من وجه ، وإن كان مورد

ص: 221


1- معارج الاصول : 146.

المفهوم على تقدير بقاء ظهور التعليق على حاله خاصّا مطلقا أو عامّا من وجه.

وقد عرفت أنّ مقتضى أظهريّة التعليل أو حكومته طرح ظهور التعليق وحمله على فوائده الاخر ، فمرجع الإيراد إلى سقوط الدلالة المفهوميّة في الآية بتحكيم عموم التعليل عليها.

وعن بعضهم (1) الذب عنه بمنع اندراج العمل بخبر العادل في عموم التعليل ، حملا للجهالة على السفاهة الباعثة على ارتكاب ما لا ينبغي ارتكابه في طريقة العقلاء ، المستتبع للتعسّف والندامة وملامة النفس ، من حيث ارتكابه له من غير تدبّر ولا رويّة ولا إعمال فطنة على ما هو من شيمة السفهاء ، تمسّكا بقوله تعالى : ( فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) لا مجرّد عدم العلم بصدق الخبر ، وإلاّ لما جاز الاعتماد على الشهادة والفتوى ، وحينئذ فيخرج عنه العمل بخبر العادل حسبما يتداوله العقلاء ، لأنّهم لا يعملون به على هذا الوجه ، بل تعويلا على العدالة الموجبة للوثوق والاطمئنان بصدق الخبر.

وكأنّه في النقض بالشهادة والفتوى غفلة عن قضيّة التخصيص ، أو أنّه توهّم لاستحالة التخصيص في مثله نظير التخصيص في العقليّات ، بزعم أنّ إصابة قوم بجهالة تجري مجرى القبائح العقليّة الغير القابلة للتخصيص ، وإلاّ فلا مانع من القول بأنّ التعليل يقتضي بعمومه عموم المنع فخرج عنه ما خرج وبقي الباقي.

وقد تقدّم في دفع كلام ابن قبة أنّ العمل بما فيه مخالفة الواقع أحيانا قد يحسن لأجل الاضطرار إليه ، وعدم وجود ما هو الأقرب إلى الواقع منه ، كما في الاعتماد على الفتوى ، وقد يكون لأجل مصلحة فيه تزيد على مفسدة مخالفة الواقع وعدم إدراكه ، كما فيها أيضا مع الشهادة في غالب مواردها.

وكيف كان فهذا الكلام كما ترى فى غاية الوهن والسقوط ، فإنّه مع كونه خلاف ظاهر « الجهالة » ممّا يأباه محلّ نزول الآية ، فإنّها نزلت في جماعة من العقلاء الذين قد همّوا قتال بني المصطلق ، وليس فيهم من يحكم بسفاهته ، خصوصا على ما في بعض التفاسير من أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم قد همّ قتالهم ، فلا يبقى للجهالة محمل إلاّ مجرّد عدم العلم بصدق الخبر.

ولا ينافيه ظاهر لفظ الندامة « لأنّها » تتحقّق من العقلاء المتدبّرين عند انكشاف الخلاف في فعلهم ، فتراهم يقولون عند إظهار الندامة : « لعلّني لم أفعل هذا » ، أو « لم أقدم عليه أو لم أرتكبه » بل ربّما طرأهم ذلك في العمل عن علم ، فالجهالة لا محمل له إلاّ عدم العلم بصدق الخبر بالمعنى المتناول للظنّ به ، ولا سيّما الظنّ الابتدائي الّذي قد يحصل بخبر

ص: 222


1- حكاه ابن التلمساني عن القاضي ، انظر مفاتيح الاصول : 356.

الفاسق ثمّ يزول بملاحظة فسقه.

فإن كان ولابدّ من منع دخول خبر العادل في عموم التعليل دفعا للإيراد لا بدّ من صرف « التبيّن » عن التبيّن العلمي - وهو طلب العلم بصدق الخبر الّذي عليه مبنى الإيراد ، ويقتضيه قانون اشتقاقه من البيان - إلى التبيّن العرفي ، وهو طلب الوثوق والاطمئنان بصدقه ، وإنّما خصّ إيجاب التبيّن بهذا المعنى بخبر الفاسق لأنّ الفاسق لمكان فسقه لا رادع له من الكذب أصلا ، فليس في خبره من الامور الداخلة ما يوجب الوثوق والاطمئنان بصدقه ، فلابدّ في تحصيله من مراجعة الأمارات الخارجيّة ، بخلاف خبر العادل فإنّ عدالته أمارة داخليّة توجب الوثوق والاطمئنان بصدق خبره ، فالعمل بخبره اعتمادا على الوثوق والاطمئنان ليس من الإصابة بجهالة ، فلا يجري فيه التعليل ، ولأجل ثبوت هذا الفرق بينه وبين خبر الفاسق نزلت الآية إرشادا إلى أنّ خبر الفاسق في نفسه ليس محلاّ للوثوق والاطمئنان ، بل لابدّ من تحصيلهما فيه بمراجعة الأمارات الخارجيّة وهو التبيّن المأمور به.

ولا يذهب عليك حينئذ أنّ بذلك الحمل وإن كان يندفع الإيراد المذكور إلاّ أنّه ينفتح به باب الكلام على التمسّك بالمفهوم لإثبات حجّيّة خبر العادل ، وجواز العمل به من غير تبيّن ، لأنّه ممّا لا يحتاج اليه حينئذ لكفاية دلالة منطوق الآية في ذلك ، فإنّ مقتضاه في متفاهم العرف إناطة الحكم إثباتا ونفيا بحصول الاطمئنان - فالحجّيّة سواء كان في خبر العادل أو الفاسق ، غاية الأمر أنّه في الأوّل يحصل غالبا بملاحظة عدالته وفي الثاني لا يحصل غالبا إلاّ بمراجعة الخارج - وعدم حصوله ، فعدم الحجّيّة سواء كان في خبر الفاسق أو العادل ، ولذا ترى جماعة من أساطين أصحابنا حكموا بحجّيّة الخبر الضعيف المنجبر بالشهرة وعمل الأكثر استنادا إلى منطوق الآية ، وكذلك الشيخ في العدّة (1) في تجويزه العمل بخبر الفاسق المتحرّز عن الكذب ونحو ذلك ممّا عدا الصحاح والحسان ، وإن كان قد يناقش فيه عدم كفاية مجرّد التحرّز عن الكذب نوعا في الاطمئنان بشخص الخبر من حيث فقده الرادع عن الكذب ، وهو الخوف والحياء من اللّه سبحانه ، ومن هنا خالفه المحقّق على ما حكي عنه.

وأمّا الإيرادات الاخر الّتي يمكن الذبّ عنها فكثيرة ، ونحن نقتصر على جملة :

منها : أنّ مفهوم الآية يعارضه الآيات الناهية عن العمل بغير العلم ، والنسبة بينهما عموم من

ص: 223


1- العدّه 1 : 152.

وجه ، إذ المفهوم خاصّ في خبر العادل وعامّ فيما يفيد منه العلم وما لا يفيده ، والآيات خاصّة بما عدا العلم وعامّة في خبر العادل وخبر الفاسق ، فيجتمعان في خبر العادل الغير المفيد للعلم ، فيرجع إلى قاعدة الترجيح ، ومع عدم إمكانه بعد التساقط إلى أصالة عدم الحجّيّة.

وفيه : - مع أنّ فرض عموم المفهوم بالنسبة إلى خبر العادل المفيد للعلم لا يجدي نفعا في جواز إرجاع التخصيص إليه بإخراج ما لا يفيد العلم ، لعدم كون ما يفيد العلم قابلا لورود الخطاب بحجّيّته ، فيكون نصّا في مادّة الاجتماع ، وإخراجه منه يوجب بقائه بلا مورد ، وهو طرح له مناف لأدلّة حجّيّته منع جهة العموم في المفهوم ، إذ المراد من النبأ في المنطوق هو ما لا يعلم صدقه ولا كذبه بقرينة الأمر بالتبيّن ، فإنّ ما يعلم صدقه أو كذبه لا حاجة له إلى التبيّن ، فكذلك نبأ العادل في جانب المفهوم ، لأنّ المفهوم في عمومه وخصوصه يتبع المنطوق ، فالمفهوم أخصّ مطلقا من الآيات الناهية ، فلابدّ من تخصيصها به ، وغاية ما يلزم هو تخصيص العامّ بمفهوم المخالفة ، وهو - على ما حقّق - جائز ، والسرّ فيه كون التعليق أظهر في المفهوم من الآيات في العموم.

وقد يتكلّف لاعتبار نسبة العموم من وجه بينهما لإعمال قاعدة الترجيح أو البناء على التساقط والرجوع إلى الأصل ، بدعوى : انقلاب نسبة العموم مطلقا في الآيات إلى نسبة العموم من وجه بفرض ورود التخصيص عليها بالبيّنة ، فيكون الآيات خاصّة بما عدا البيّنة وهو أعمّ من خبر الفاسق.

والمفروض أنّ المفهوم خاصّ بخبر العادل الغير [ المفيد ] للعلم ، وهو أعمّ من البيّنة وغير البيّنة ، ويتعارضان في غير البيّنة منه ، ويمكن إرجاع التخصيص إليه بإخراج غير البيّنة وهو الرواية - عنه.

ويزيّفه : أنّ دعوى انقلاب النسبة في الخاصّ والعامّ المطلقين ، بفرض العامّ مخصّصا بخاصّ آخر غير الخاصّ الأوّل - كما في « أكرم العلماء » و « لا تكرم الفاسق منهم » ، إذا فرض تخصيص الأوّل ب « لا تكرم النحويّين » ، فيؤول قوله : « أكرم العلماء » إلى قوله : « أكرم ما عدا النحوي منهم » ، وهو أعمّ من العادل والفاسق منهم ، كما أنّ قوله : « لا تكرم الفاسق منهم » أعمّ من النحوي وغير النحوي ، فيتعارضان في [ غير ] النحوي الفاسق - مغالطة واضحة ، إذ الخاصّان لا مقابلة بينهما وهما معا يقابلان العامّ ، ولا ترتّب بينهما بل يتساوى نسبتهما إليه ، على معنى كونهما في الكشف عن إرادة ما عدا العموم من العامّ في درجة

ص: 224

واحدة ، وإن كان أحدهما في وروده متأخّرا عن الآخر بحسب الزمان ، فيخصّص العامّ بكلّ منهما ، فيصير من العامّ الّذي ورد عليه تخصيصات عديدة ، فقوله : « أكرم العلماء » في المثال المذكور يخصّص تارة بقوله : « لا تكرم الفاسق منهم » ، واخرى بقوله : « لا تكرم النحويّين » ، وكذلك الآيات الناهية فيما نحن فيه ، تخصّص تارة بدليل البيّنة كالإجماع مثلا ، واخرى بمفهوم الآية ، إذ ليس بينهما تقابل في أنفسهما ولا ترتّب في مقابلتهما الآيات ، بل نسبتهما إليهما نسبة واحدة في درجة واحدة.

ومن ذلك ينقدح : فساد توهّم انقلاب النسبة بطريق آخر ، وهو اختصاص الآيات بصورة التمكّن من العلم بدليل حجّيّة الظنّ في صورة تعذّر العلم ، فهي بملاحظة هذا التخصيص عامّة في خبر الفاسق وخبر العادل ، والمفهوم عامّ في صورتي تعذّر العلم والتمكّن منه ، ويتعارضان في خبر العادل الغير المفيد للعلم مع التمكّن من العلم بالواقع ، ويمكن تخصيص المفهوم أيضا بصورة تعذّر العلم.

وفيه : أيضا منع انقلاب النسبة ، بل الآيات باقية على عمومها المطلق بالنسبة إلى الجميع ، فهي عامّة بالقياس إلى إمكان العلم وتعذّره والبيّنة وغيرها ، وخبر العادل وغيره ، وقد خرج منها صورة تعذّر العلم بالعقل القاطع ، والبيّنة بدليلها من الإجماع ونحوه ، وخبر العادل بمفهوم الآية.

وكلّ من هذه الثلاث خاصّ بالنسبة إليها ولا ترتّب بينها ، وكون البعض مخصّصا لها لا يمنع من تخصيصها بالبعض الآخر.

وإن كان الأوّل في وروده متقدّما على الآخر ، وكان تخصيص الآيات به سابقا على تخصيصها بالآخر ، لأنّ ملاك تخصيص العامّ بالخاصّ هو كشف الخاصّ عن عدم إرادة العموم من العامّ ، وهذا نسبة واحدة حاصلة في الجميع ، فإنّ كون دليل حجّيّة الظنّ عند تعذّر العلم كاشفا عن عدم دخول صورة تعذّر العلم في الإرادة من الآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم ، لا ينافي كون مفهوم الآية أيضا كاشفا عن عدم دخول خبر العادل في الإرادة منها ، ولا كون دليل البيّنة أيضا كاشفا عن عدم دخولها فيها ، فالآيات لا تعارض مفهوم الآية على حال.

ومنها : أنّه لو دلّت الآية بمفهومها على حجّيّة خبر العادل لدلّت على حجّيّة الإجماع الّذي نقله السيّد وأتباعه على عدم حجّيّة خبر الواحد ، فإنّه أيضا خبر أخبر به العدول ، ومفاده عدم حجّيّة خبر العادل مطلقا ، فيلزم من دلالة الآية على الحجّيّة عدم الحجّيّة.

ص: 225

وفيه : - مع ما تقدّم في بحث الإجماع المنقول من عدم شمول أدلّة حجّيّة خبر العادل الّتي منها آية النبأ للإجماع المنقول مطلقا ، وما تقدّم في القدح في أصل الإجماع الّذي نقله هؤلاء - من الضعف ما لا يخفى.

أمّا أوّلا : فلأنّ إخبار هؤلاء معارض بإخبار الشيخ بالإجماع على الحجّيّة ، وهما فردان من العامّ تنافيا حيث يلزم من العمل بأحدهما ترك العمل بالآخر ، نظير « أكرم العلماء » إذا وقع التنافي بين إكرام زيد وإكرام عمرو ، فلا جرم يكون أحدهما خارجا عن العموم وهو مشتبه ، فيكون دلالة العامّ بالقياس إلى محلّ التنافي مجملة ، فتسقط عن الحجّيّة ، وتبقى دلالته بالقياس إلى ما عداهما سليمة.

وأمّا ثانيا : فلما ادّعي من وقوع إجماع الفريقين من النافين لحجّيّة خبر الواحد والمثبتين لها على خروج هذا الخبر عن الآية.

وأمّا ثالثا : فلأنّ هذا الخبر قاتل لنفسه ، لأنّه أيضا خبر واحد ، فيلزم من دخوله خروجه ، فتبقى دلالة الآية بالقياس إلى ما عداه سليمة.

لا يقال : هذا الخبر لا يدخل في مدلوله ، وهو عدم حجّيّة الخبر وإلاّ لزم تقدّم الشيء على نفسه وهو محال ، فإنّ حكم القضية إنّما يلحق بموضوع محرز قبل لحوقه.

وقضيّة قول السيّد : « خبر الواحد ليس بحجّة إجماعا » ، إنّما تنعقد خبرا بعد لحوق محمولها بموضوعها وهو خبر الواحد ، فهي قبل لحوق هذا الحكم بذلك الموضوع لم تكن خبرا ، بل صارت خبرا بعد لحوق الحكم بموضوعها ، فلا يعقل دخوله فيه لتأخّر خبريّته عنه ، وإلاّ لزم تقدّم كونه خبرا على كونه خبرا ، لأنّ هذا يتوجّه لو قلنا بدخوله في الحكم بدلالة اللفظ عليه ، وليس كذلك لقصور دلالة اللفظ عليه ، بل إنّما يدخل فيه بتنقيح المناط القطعي ، فإنّ مناط عدم حجّيّة خبر الواحد المدّعى عليه الإجماع إنّما هو عدم إفادته العلم ، وهذا المناط موجود في ذلك الخبر أيضا فيعمّه حكمه ، ولذا لو سئل السيّد عن أنّه لو وصل إلينا إجماعك بخبر واحد هل يجوز العمل به؟ لأجاب : بأنّه لا.

وأمّا رابعا : فلأنّ الأمر دائر بين خروجه ودخول ما عداه ، وبين دخوله وخروج ما عداه.

ولا ريب أنّ الأوّل متعيّن ، لا لمجرّد لزوم تخصيص الأكثر ، بل انتهائه إلى الواحد وهو قبيح ، بل للزوم تأدية المطلب على تقدير الثاني بعبارة قبيحة لا تصدر من المتكلّم الحكيم ، لأنّ المقصود الأصلي من الكلام بيان عدم حجّيّة شيء من خبر العادل وقد أدّاه بعبارة

ص: 226

قوله : « كلّ خبر عادل حجّة » فإنّ مرجع القضيّة المفهوميّة إلى هذه العبارة العامّة ، والمفروض أنّ المراد منها خصوص خبر السيّد ، ومفاده عدم حجّيّة شيء من خبر العادل ، فيكون هذا هو المقصود من عبارة « كلّ خبر عادل حجّة » ، وهذا نظير ما لو قال قائل : « صدّق زيدا في كلّ خبره » ، فأخبره زيد بألف من الأخبار ثمّ أخبره بكذب جميعها ، مع فرض كون مراد القائل من قوله : « صدّق زيدا في كلّ خبره » خصوص هذا الخبر الأخير ، فإنّ قضيّة الفرض كون مقصوده الأمر بتكذيب زيد في كلّ خبره ، وقد أدّاه بعبارة قوله : « صدّق زيدا في كلّ خبره » ، وهذا كما ترى كلام سفهي يقبح صدوره من الحكيم!

ومنها : أنّ « النبأ » ينصرف إلى الخبر بلا واسطة ، فلا يشمل الآية للروايات المأثورة عن الأئمة عليهم السلام ، لما فيها من الوسائط الكثيرة الحاصلة من سلسلة رجال السند ، فإنّ ما رواه محمّد بن مسلم مثلا عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : « لمّا خلق اللّه العقل استنطقه فقال : أقبل ، فأقبل ، ثمّ قال : أدبر ، فأدبر ، ثمّ قال : وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقا أحبّ إليّ منك ... » الخ (1) إنّما بلغنا بوسائط رجال السند.

وهو على ما في الوسائل ، محمّد بن يعقوب قال : حدّثني محمّد بن يحيى العطّار ، عن أحمد ابن محمّد بن الحسن بن محبوب ، عن العلاء بن رزين ، عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام.

والظاهر أنّ مبنى هذا الإيراد على توهّم قصر « النبأ » في الآية على الرواية المصطلحة ، وهي حكاية قول الإمام أو فعله أو تقريره ، لأنّها الّتي تبلغ بالوسائط المذكورة ، وعلى هذا يسهل الجواب عنه بعد تسليم الانصراف المذكور ، وهو منع كون النبأ مقصورا على الرواية المصطلحة ، فإنّه محمول على معناه اللغوي وهو أعمّ من الرواية عن الإمام ، والرواية عن الراوي عن الإمام ، والرواية عن الراوي عن الراوي عن الإمام وهكذا.

ولا ريب أنّ السند من أوّله إلى آخره مشتمل على نبآت عديدة على حسب تعدّد رجاله ، وكلّ واحد منها في حدّ نفسه خبر بلا واسطة ، وهي إخبار الشيخ الحرّ العاملي في المثال عن الكليني ، وإخبار الكليني عن ابن يحيى العطّار وإخبار ابن يحيى عن ابن محمّد بن عيسى وإخبار ابن محمّد بن عيسى عن ابن محبوب ، وإخبار ابن محبوب عن ابن رزين ، وإخبار ابن رزين عن ابن مسلم ، وإخبار ابن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام ، ومفهوم الآية عامّ في كلّ نبأ عادل فيشمل الجميع ، ويدلّ على وجوب قبول كل واحد ، ولذا يعتبر العدالة في جميع رجال

ص: 227


1- الكافي 1 : 28 / 32.

السند ليندرج كلّ واحد من هذه الأخبار في نبأ العادل ، فبطل دعوى عدم الشمول باعتبار انصراف إطلاق « النبأ » إلى الخبر بلا واسطة ، إذ ليس هنا خبر مع الواسطة لئلاّ يشمله الإطلاق.

هذا ولكن انفتح من طريق هذا الجواب باب إشكال آخر أعظم من أصل الإيراد ، وهو أنّ حكم المفهوم لا يعمّ من الأخبار الّتي يتضمّنها السند ما عدا الخبر الأوّل وهو رواية الشيخ الحرّ عن الكليني ، لترتّب خبريّة ما عداه على حكم العامّ وتأخّر تحقّقه عن ثبوته له ، وذلك لأنّ وجوب قبول خبر العادل الّذي هو المفهوم عبارة عن وجوب تصديق المخبر في خبره ، على معنى الحكم على خبره بكونه صدقا.

وبعبارة اخرى : ترتيب آثار الصدق عليه ، ومن آثار صدق الشيخ الحرّ في إخباره عن الكليني كون الكليني مخبرا عن محمّد بن يحيى ، كما أنّ من آثار صدق الكليني في إخباره عن محمّد بن يحيى العطّار كون محمّد بن يحيى مخبرا ، ومن آثار صدق محمّد بن يحيى في إخباره عن أحمد بن محمّد بن عيسى كون أحمد بن محمّد مخبرا ، وهكذا كلّ لا حق بالقياس إلى سابقه.

ألا ترى لو أخبرنا زيد بأنّ عمروا أخبره بقدوم الحاج ، فمن آثار صدق زيد كون عمرو مخبرا بقدوم الحاج ، ضرورة أنّه لولا إخبار عمرو بقدوم الحاج وتحقّق هذا الخبر منه لم يكن زيد صادقا في خبره ، وقضيّة تأخّر خبريّة ما عدا الخبر الأوّل عن الحكم وترتّبه على ثبوته للخبر الأوّل عدم دخوله فيه ، وإلاّ لزم تقدّم الشيء على نفسه ، والأصل الكلّي في ذلك وجوب كون أفراد العامّ متساوية الأقدام بالنسبة إليه ، بأن يكون فرديّة الجميع في مرتبة واحدة ، بأن لا يكون فرديّة البعض متفرّعة على ثبوت الحكم للبعض الآخر متأخّرة عنه ، وإلاّ لم يعقل دخوله في حكم العامّ ، بل لابدّ لإثبات الحكم له من خطاب آخر.

وبالجملة الآية لا تدلّ على وجوب قبول خبر يتوقّف خبريّته على حكم الشارع بوجوب قبول الخبر ، لأنّ حكم القضيّة إنّما يثبت لموضوع يكون متحقّقا قبل ثبوت ذلك الحكم ومحرزا من غير جهته ، وأمّا لو توقّف موضوعيّة الموضوع على تماميّة حكم القضيّة وثبوته لغير ذلك الموضوع أوّلا فلا يثبت له ذلك الحكم ، بل يحتاج إلى خطاب آخر ، ومن هنا لو قال القائل : « كلّ خبري كاذب » لم يشمل حكمه لنفسه ، لأنّه إنّما يصير خبرا بعد تماميّة حكمه ، لأنّه قبل لحوق الحكم بالكذبيّة بكلّ خبري لم يكن خبرا ، وبعد ما صار خبرا لا حكم يشمله إلاّ بواسطة خطاب آخر ، فمفهوم الآية لا يشمل ما عدا الخبر الأوّل من الأخبار

ص: 228

المتدرّجة ، لأنّ كون ما عداه خبرا من آثار وجوب قبوله ومن لوازمه لا من ملزوماته.

ومن هنا قد يقال : بأنّ أدلّة قبول الشهادة لا تشمل الشهادة على الشهادة ، لأنّ الأصل لا يدخل في موضوع [ الشهادة ](1) إلاّ بعد قبول شهادة الفرع.

وقد يجاب عن الإشكال : بالنقض ، فتارة : نقضه بما قاله الفقهاء وأجمعوا عليه من أنّ الإقرار بالإقرار إقرار ، استنادا إلى عموم « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » ومعناه إلزام المقرّ بالإقرار على المال المقرّ به في الإقرار المقرّ به ، مع أنّ صيرورة ذلك الإقرار إقرارا إنّما هو بعد سماع الإقرار به وتصديق المقرّ في إقراره هذا ، ومن آثاره تحقّق الإقرار المقرّ به.

وفيه : أنّ للإجماع مدخليّة فيه ولا كلام فيه.

واخرى : بالاستصحاب المزيل عند من يقول بتقدمّه على المزال ، كاستصحاب طهارة الماء المتقدّم على استصحاب نجاسة الثوب المغسول به ، فإنّ ثبوت حكم العامّ لبعض أفراده كما لا يصلح مدخلا للبعض الآخر فيه ، كذلك لا يصلح مخرجا للبعض الآخر عنه ، فقوله عليه السلام : « لا ينقض اليقين بالشكّ » ، الدالّ على عدم جواز رفع اليد عن اليقين السابق بالشكّ اللاحق ، عامّ في كلّ يقين وكلّ شكّ ، فكيف يوجب عدم جواز رفع اليد عن اليقين بطهارة الماء بالشكّ في نجاسته لجواز رفع اليد عن اليقين بنجاسة الثوب بالشكّ في طهارته.

وفيه : أنّ ثبوت حكم العامّ لبعض الأفراد وإن لم يصلح مخرجا للبعض الآخر عن حكمه ، إلاّ أنّه يصلح مخرجا له عن موضوعه ، كما أنّه في محلّ الكلام وإن لم يصلح مدخلا لبعض الأفراد في الحكم ولكنّه يصلح مدخلا لشيء آخر في موضوعه ، ولا ريب أنّ استصحاب طهارة الماء علم شرعي بطهارة الثوب ، فرفع اليد عن اليقين بنجاسته إنّما هو بذلك العلم الشرعي لا بالشكّ ، فتقديم الاستصحاب المزيل إنّما هو لإخراج الاستصحاب المزال عن موضوع نقض اليقين بالشكّ لا أنّه إخراج له عن حكم نقض اليقين بالشكّ.

فالتحقيق : في دفع الإشكال أن يقال : بأنّ عدم قابليّة لفظ العامّ لأن يدخل في عمومه ما تأخّر من أفراده عن تماميّته وثبوته للفرد الآخر ، لا ينافي ثبوت الحكم له بغير دلالة اللفظ ، كما لو علم مناطه في نظر المتكلّم ، ككون مناط قبول الخبر في نظره عدالة المخبر ، مضافا إلى منع توقّف خبريّة ما عدا الخبر الأوّل وتحقّقه الخارجي على قبوله ولا على

ص: 229


1- وفي الأصل : « الشاهد » بدل « الشهادة » والظاهر أنّه سهو منه رحمه اللّه والصواب ما اثبتناه فى المتن.

وجوب قبوله ، فإنّ الخبر الأوّل واسطة في إثبات الخبر الثاني لا في ثبوته ، وكذلك الخبر الثاني بالنسبة إلى الثالث ، وهو بالقياس إلى الرابع ، وهكذا إلى أن ينتهي سلسلة الأخبار إلى خبر الراوي عن الإمام.

وفرق واضح بين علّة وجود الشيء وعلّة العلم بوجوده ، لضرورة أنّ الصادر الأوّل في الخارج إنّما هو القول من الإمام عليه السلام ، ثمّ بعده رواية محمّد بن مسلم في المثال المذكور عنه ، ثمّ بعده رواية العلاء بن رزين عنه ، وبعده رواية الحسن بن محبوب عنه ، وبعده رواية أحمد بن محمّد عنه ، وبعده رواية محمّد بن يحيى عنه ، وبعده رواية الكليني ، وبعده رواية الشيخ الحرّ العاملي ، فالترتيب الطبيعي يقتضي عكس ما تخيّل في المقام ، فكلّ لا حق طريق إلى انكشاف صدور سابقه وواسطة للعلم بوجوده في الخارج ، فلا يرد : أنّه لا حاجة حينئذ في الأخذ بقول الإمام والعمل به إلى توسيط الوسائط المذكورة ، فإنّا لا نعلم صدوره منه إلاّ بالنظر في تلك الوسائط.

ومنها : أنّ العمل بمفهوم الآية في الأحكام الشرعيّة غير ممكن ، لوجوب الفحص عن المعارض في العمل بخبر العدل فيها ، ومفهوم الآية نفي وجوب التبيّن في خبر العدل ، فخبر الفاسق وخبر العادل في الأحكام الشرعيّة سيّان في وجوب التبيّن عندهما ، فلابدّ من تنزيل الآية على الإخبار في الموضوعات ، لأنّها هي الّتي لا يجب الفحص فيها عن المعارض.

لا يقال : إنّ جواز قبول خبر الواحد في الموضوعات الخارجيّة مطلقا يستلزم جواز قبوله في الأحكام الشرعيّة بالإجماع المركّب والأولويّة ، لانسداد باب العلم في الأحكام دون الموضوعات ، لأنّ المراد بقبوله في الموضوعات قبوله فيها في الجملة لا مطلقا ، ولذا قد يعتبر في قبوله فيها انضمام عدل آخر إليه ليكون جزءا للحجّة ، وهذا يكشف عن عدم كونه في الموضوعات مطلقا في نفسه حجّة مستقلّة ، فاندفع توهّم الإجماع المركّب والأولويّة لثبوت الفصل ، وعدم الملازمة بين القبول في الجملة والقبول مطلقا.

ويدفعه : أيضا وضوح الفرق بين التبيّن الّذي يجب في قبول خبر الفاسق ، والفحص عن المعارض الّذي يجب في العمل بخبر العدل في الأحكام ، فنفي الأوّل عند إخبار العدل في الأحكام لا ينافي ثبوت الثاني في العمل به فيها ، فإنّ الفحص عن المعارض في العمل بالخبر في الأحكام اعتبار زائد على إثبات حجّيّته الذاتيّة ، ولذا يثبت هذا الاعتبار في كلّ دليل ثابت الحجّيّة ، حتّى أنّ خبر الفاسق في الأحكام بعد تبيّن صدقه - وهو طلب ظهور

ص: 230

صدقه وعدم مخالفته الواقع بتحصيل الوثوق والظنّ الاطمئناني بصدقه - يجب في العمل به فيها الفحص عن المعارض.

فالفرق بينه وبين خبر العدل أنّ خبر العدل حجّة في نفسه من جهة عدالة المخبر ، وخبر الفاسق لا يصير حجّة إلاّ بتبيّن صدقه أعني طلب ظهور صدقه بالفحص والسؤال ، فالتبيّن عنده إنّما يجب لإحراز المقتضي لجواز قبوله أعني لاحراز الحجّيّة الذاتيّة ، والمعارض على تقدير وجوده مانع من العمل بالحجّة بعد الفراغ عن إثبات حجّيّته لذاته ، فالفحص عن المعارض إنّما يجب إحرازا لفقد المانع ، لا إحرازا لوجود المقتضي ، فخبر الفاسق بعد التبيّن الّذي مناطه تحصيل الوثوق والظنّ بصدقه ، وخبر العدل من غير تبيّن سيّان في وجوب الفحص عن المعارض في العمل بهما في الأحكام الشرعيّة ، مع كون الفحص عن المعارض فيهما قد يستتبع الظنّ بعدمه فيعمل بكلّ منهما في مورده ، وقد يستتبع العلم بوجوده وحينئذ فلابدّ من التحرّي في علاج التعارض ، إمّا بإعمال قواعد التراجيح على تقدير وجود المرجّح ، أو بإعمال قواعد التعادل حسبما هو مقرّر في محلّه على تقدير فقد المرجّح.

ومنها : أنّ الآية لابدّ فيها من التزام أحد الأمرين ، إمّا الغاء المفهوم فيها ، أو تخصيصه بإخراج الإخبار بالارتداد عن عمومه ، لأنّ خبر العدل الواحد لا يكفي فيه بل لا أقلّ من اعتبار إخبار عدلين به في ثبوته ، والثاني باطل للزوم تخصيص العامّ بالمورد ، لأنّ مورد الآية إخبار الوليد بارتداد القوم وهو غير جائز باتّفاق الاصوليّين ، فيعيّن الأوّل ، ومرجعه إلى عدم إمكان العمل بالمفهوم لاستلزامه محذور إخراج المورد ، فيجب طرحه ، أعني الحكم على الآية بعدم اعتبار المفهوم فيها.

ويدفعه أوّلا : بأنّ عدم ثبوت الارتداد بإخبار عدل واحد لا يقضي بتخصيص المفهوم ، بل يقتضي تقييد قبول خبر العدل فيه بانضمام العدل الآخر إليه ولا ضير فيه ، بل هذا التقييد بالقياس إلى سائر موارد البيّنة ممّا لا محيص عنه ، من غير لزوم منافاة للمفهوم لأنّ كلّ واحد من العدلين لا يجب التبيّن في قبول خبره ، ولك أن تمنع لزوم التقييد أيضا بدعوى : أنّ قبول خبر العادل من غير تبيّن بالنظر إلى إطلاق المفهوم أعمّ من قبوله على الاستقلال أو على أنّه جزء للبيّنة.

أو بدعوى : أنّ المفهوم هو قبول خبر العادل في الجملة ، وأمّا أنّه هل هو على

ص: 231

الإطلاق ، أو على وجه الجزئية؟ فهي ساكتة عن الدلالة على تعيين أحد الأمرين ، فلو دلّ دليل من الخارج بالقياس إلى مورد ، كالارتداد مثلا على أنّه على وجه الجزئيّة لاعتبار التعدّد في ثبوته ، لم يلزم تصرّف في المفهوم ، لأنّ ما يقبل على وجه الجزئيّة أيضا من جملة المفهوم ، لاندراجه بحسب الواقع في القضيّة المهملة.

وغاية ما فيه الاحتياج إلى البيان الرافع للإجمال ، فلا تخصيص ولا تقييد ، لا بالنسبة إلى المورد ولا غيره.

وثانيا : أنّ تخصيص المفهوم بإخراج الإخبار بالارتداد إن كان ولا بدّ منه لا يوجب إخراج المورد ، لعدم كون الإخبار بالارتداد مورد المفهوم لعدم [ مجيء ] عادل به في الخارج ، وإنّما هو مورد لمنطوقها لفرض مجيء الفاسق به وهو الوليد.

وبالجملة المورد إنّما يلاحظ في جانب المنطوق ، ومورده خبر الفاسق بالارتداد لا خبر العادل به ، ونحن لا نخصّص المنطوق بالمورد المذكور حتّى يلزم المحذور ، بل نخصّص المفهوم بإخراج خبر العادل بالارتداد ، ولا ضير فيه بعد قيام الدليل عليه.

ومنها : ما عن غاية المبادئ من أنّ الآية بمفهومها تدلّ على عدم وجوب التبيّن ، وهو لا يستلزم العمل لجواز وجوب التوقّف ، ولا يلزم كون العادل أسوأ حالا ، بل إنّما يلزم ذلك على تقدير وجوب ردّ خبره ، لا على تقدير وجوب التوقّف فيه.

ويدفعه : أنّه غفلة عمّا تقدّم الاشارة إليه سابقا ، من أنّ التبيّن المأمور به عند نبأ الفاسق واجب شرطي لا أنّه نفسي.

وعلى هذا فيكون تقدير منطوق الآية « إن جاءكم فاسق بنبأ فيجب عليكم [ التبيّن ] لأجل العمل به » ، ومعناه : أنّه لا يجوز العمل به من غير تبيّن ، فيكون تقدير مفهومها : « إن جاءكم عادل بنبأ فلا يجب عليكم التبيّن لأجل العمل به » ومعناه : أنّه يجوز العمل به من غير تبيّن ، فلا واسطة بين عدم وجوب التبيّن وجواز العمل.

ومنها : أنّ إيجاب التبيّن علّق على فسق المخبر ، وهو الخروج عن طاعة اللّه ، فالفاسق هو الخارج عن طاعة اللّه ، وقضيّة التعليق عدم وجوب التبيّن عند انتفاء الفسق بهذا المعنى ، وظاهر أنّ من لم يخرج عن طاعة اللّه لا يكون إلاّ المعصوم ، أو التالي له كبعض الصحابة وبعض خواصّ الأئمّة عليهم السلام ، فيكون مؤدّى المفهوم وجوب العمل بخبر المعصوم والتالي له ، ولا يكون إلاّ معلوم الصدق ، والممنوع في جانب المنطوق حينئذ هو العمل بخبر الفاسق

ص: 232

المحتمل كذبه من غير تبيّن.

ومن هنا قد يتّجه الانتصار للقائل بحرمة العمل بخبر الواحد الغير المعلوم صدقه ، بل مطلق ما وراء العلم بمنطوق الآية.

وعلى هذا فلا حاجة في إنهاض الآية دليلا على حرمة اتّباع غير العلم إلى التمسّك بالتعليل.

ويدفعه : منع كون المراد من إطلاق الفاسق مطلق الخارج عن طاعة اللّه ، فإنّ النظر في معنى الفسق إن كان إلى أصل اللغة ، فهو فيه لمطلق الخروج من الشيء على وجه الفساد من دون إضافته إلى طاعة اللّه ، ولذا يطلق الفويسقة على الفأرة على ما في بعض الروايات لخروجها عن حجرها على وجه الفساد ، وهو أنّها توهي البناء وتضرم البيت على أهله ، فالفاسق بهذا المعنى لا يستلزم العصمة فيما يقابله كما لا يخفى.

وإن كان إلى إطلاقات الكتاب والسنّة فالغالب فيها إطلاقه على الكفر المقابل للإيمان ، فالفاسق هو الكافر ، ومنه قوله تعالى : ( فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) (1) فهو بهذا المعنى أيضا لا يستلزم العصمة فيما يقابله ، وإن كان إلى عرف المتشرّعة أو إطلاقات أهل الشرع فالشائع فيه إطلاق الفاسق على ما يقابل العادل ، وهو من له الملكة الرادعة عن ارتكاب الكبائر الّتي منها الكذب ، وهذا أيضا لا يستلزم العصمة الغير المتحقّقة إلاّ باجتناب الصغائر أيضا ، مع أنّه لو سلّم كون المراد بالفسق مطلق الخروج عن طاعة اللّه ، فهو أيضا لا يستلزم العصمة فيما يقابله ، لإمكان الخلوّ عن الكبيرة والصغيرة معا بعد التوبة فيمن علم توبته عن الذنب مطلقا.

ومنها : أنّ الدلالة المفهوميّة أقصاها الظنّ ، والمسألة الاصوليّة لا يكتفى فيها بالظنّ.

وفيه : أنّ الظنّ إمّا ظنّ مطلق أو ظنّ خاصّ مستفاد من الظهور اللفظي ، والمسألة الاصوليّة أيضا إمّا من اصول الدين أو من اصول الفقه ، والّذي لا يكتفى فيه بالظنّ مطلقا حتّى الظنّ الخاصّ المستفاد من ظهور لفظي هو ما يكون من اصول الدين ، وأمّا ما كان من اصول الفقه فالظنّ المستفاد من الظهور اللفظي حجّة فيه ، وإن لم يكن مطلق الظنّ حجّة فيه.

ثمّ إنّه كما استدلّ بمفهوم الآية على حجّيّة خبر العادل ، فكذلك قد يستدلّ بمنطوقها على حجّيّة خبر الفاسق إذا ظنّ من جهة أمارة وقرينة ظنّيّة صدقه ، بناء على أنّ التبيّن المأمور به للعمل بخبر الفاسق أعمّ من العلمي والظنّي ، ومن التبيّن الظنّي النظر في الشهرة الجابرة لضعف الخبر ، سواء كانت شهرة على العمل به أو على مضمونه أو على تدوينه.

ص: 233


1- سورة الكهف : 50.

وإن جعلناه أعمّ من التفصيلي ، وهو تحصيل الظنّ بصدق كلّ واحد من أخبار المخبر ، والإجمالي وهو تحصيل [ الظنّ ] بصدق المخبر في نوع إخباره ، دلّت الآية على حجّيّة خبر المتحرّز عن الكذب ، وإن كان فاسقا بسائر جوارحه.

وعليه مبنى طريقة القدماء في العمل بخبر الفاسق المتحرّز عن الكذب المعدود عندهم صحيحا ، فالآية بمجموع منطوقها ومفهومها تدلّ على حجّيّة أخبار الآحاد بجميع أنواعها الأربع المتداولة عند المتأخّرين ، من الصحيح والموثّق والحسن والضعيف المنجبر بالشهرة وغيرها من القرائن الظنّيّة ، أمّا الصحيح فبالمفهوم ، وأمّا الضعيف المنجبر فبالمنطوق نظرا إلى التبيّن الظنّي التفصيلي.

وأمّا الموثّقات والحسان فلأنّ النظر في وثاقة الراوي أو حسن حاله الغير البالغة حدّ العدالة ، تبيّن إجمالي وطلب لظهور الصدق إجمالا.

وفيه : - مع مخالفته لظاهر مادّة « التبيّن » ، ولفظ « الجهالة » ونفس تعليل الآية - نظر واضح ، إذ لو اريد من التبيّن الظنّي ما يبلغ حدّ الاطمئنان وهو سكون النفس وزوال تزلزله ، رجع ذلك إلى اعتبار الظنّ الاطمئناني بالواقع ، فهو الحجّة في الحقيقة من دون مدخليّة لخصوصيّة الخبر ، مع أنّ هذا هو المقصود من الاستدلال بالآية لا غير.

ولو اريد به ما يوجب رجحان الصدق ، وإن لم يبلغ حدّ الاطمئنان ، فالحمل عليه بمكان من الفساد لرجوعه في الحقيقة إلى إلغاء الآية وإخراج كلام الحكيم لغوا ، لأنّ لزوم طلب الرجحان في العمل بالخبر من ضروريّات العقول ، ولا يوجد عاقل يعمل به مع الحيرة والتردّد في صدقه وكذبه ، فحمل الآية عليه إرجاع لها إلى توضيح الواضح.

ومن جملة الآيات : آية النفر المذكورة في سورة البراءة ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (1) بتقريب : أنّه تعالى أوجب الحذر عند إنذار الطائفة ، من دون اعتبار إفادة خبرهم العلم بتواتر أو قرينة ، فدلّ على وجوب العمل بخبر الواحد ، أمّا عدم اعتبار إفادة خبرهم العلم فلأنّ الطائفة بمفهومها تعمّ الواحد والاثنين والجماعة.

ولو سلّم أنّها لا تعمّ إلاّ الجماعة ولو بقرينة ضمير الجمع ، فلم يعتبر في الجماعة المرادة منها بلوغها حدّا يفيد خبرهم العلم بصدقهم.

ص: 234


1- سورة التوبة : 122.

2 - آية النفر وتقريب الاستدلال بها

ولو سلّم أنّ أقلّ الطائفة جماعة يغلب فيها إفادة العلم ، ولكنّه لم يعتبر إنذار الجماعة بأجمعهم واحدا واحدا من القوم ، بأن يكون المراد لكلّ واحد جماعة يفيد إنذارهم العلم بالمنذر به ، بل المراد إنذار واحد من الطائفة واحدا من القوم على وجه التوزيع ، كما هو القياس في جمع قوبل جمعا آخر من إفادته التوزيع في متفاهم العرف ، وهو أن يأخذ كلّ واحد من آحاد أحد الجمعين واحدا من آحاد الجمع الآخر على حدّ قولك : « ركب القوم خيولهم » ومنه قوله عزّ من قائل : ( وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَ ) (1) وقوله أيضا : ( وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ ) (2) وقوله : ( وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ ) (3) وقوله : ( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ) (4) حيث يفيد الأوّل ركوب كلّ واحد فرسه ، والثاني إيتاء كلّ واحدة صداقها ، والثالث إيتاء كلّ يتيم ماله ، والرابع نكاح كلّ واحد ما نكح أبوه ، والخامس قتل كلّ واحد ولده ، وإذا وجب على كلّ واحد من القوم الحذر عقيب إنذار منذره ثبت حجّيّة غير الواحد ، لأنّ المنذر واحد وإنذاره خبر واحد.

وأمّا بيان أنّه تعالى أوجب الحذر فيقرّر من وجهين :

أحدهما : أنّ حقيقة الترجّي مستحيلة عليه تعالى ، إمّا لأنّها ملزومة للجهل ، أو الشكّ في حصول المترجّى وعدم حصوله ، أو لأنّ الترجّي مأخوذ من الرجاء وهو المحبّة وهي من مقولة الأعراض والمعاني الّتي لا تقوم به تعالى ، فتكون كلمة « لعلّ » منسلخة عن معنى الترجّي فتكون ظاهرة في إرادة الطلب وإن كانت مجازا فيه ، إمّا مجاز الاستعارة بأن تكون استعارة تمثيليّة ، وهي أن تشبّه صورة منتزعة عن مركّب بصورة اخرى منتزعة عن مركّب آخر ، فيستعمل اللفظ الموضوع للمشبّه به في المشبّه ، ففي الآية شبّه طلب الحذر من حيث إنّه قد يحصل المطلوب وقد لا يحصل برجائه من حيث إنّه قد يحصل المرجوّ وقد لا يحصل ، فاستعمل اللفظ الموضوع للثاني في الأوّل ، أو مجازا مرسلا من تسمية اللازم باسم الملزوم ، فإنّ الرجاء بمعنى المحبّة يستلزم مطلوبيّة المرجوّ ورجحانه.

فإذا دلّت كلمة « لعلّ » على طلب الحذر ورجحانه ثبت وجوبه ، إمّا للإجماع المركّب ، أو لما ذكره صاحب المعالم من « أنّه لا معنى لندب الحذر لأنّه مع قيام المقتضي له يجب

ص: 235


1- سورة النساء : 4.
2- سورة النساء : 2.
3- سورة النساء : 22.
4- سورة الإسراء : 31.

ومع عدم قيامه لا يحسن » (1).

أو لما قيل أيضا من أنّه لولا وجوب الحذر يلغو الإنذار المفروض كونه واجبا ، نظير ما استدلّ به غير واحد منهم [ صاحب ] المسالك (2) على وجوب تصديق المرأة وقبول قولها في العدّة والحمل بقوله تعالى : ( وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَ ) (3) دلّت الآية على حرمة الكتمان ووجوب الإظهار عليهنّ ، فيجب قبول قولها في دعوى الحمل وإلاّ يلغو الإظهار.

وثانيهما : أنّ كلمة « لولا » في الماضي للتنديم والتوبيخ فتدلّ على وجوب النفر ، و « اللام » في قوله : ( لِيَتَفَقَّهُوا ) وفي ( لِيُنْذِرُوا ) للغاية ، فتدلّ على أنّ الغاية المقصودة من إيجاب النفر هو التفقّه ثمّ الإنذار ، وكلمة « لعلّ » أيضا واقعة موقع « لام » الغاية كما في قولك : « أسلم لعلّك تدخل الجنّة » ، و « تب لعلّك تفلح » ، ومنه قوله تعالى : ( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى ) (4) فإذا وجب النفر وجب غايته المقصودة منه وهو الإنذار ، وإذا وجب الإنذار وجب غايته أيضا وهو الحذر عقيب الإنذار ، لأنّ المتكلّم إذا أوجب شيئا فهو لا يرضى بانتفاء غايته والإخلال بها.

وقد يقرّر ذلك : بأنّ ذا الغاية مقدّمة للغاية ، وكما أنّ إيجاب ذي المقدّمة بخطاب أصلي يكشف عن وجوب المقدّمة ، فكذلك إيجاب المقدّمة بخطاب أصلي يكشف عن وجوب ذي المقدّمة.

وأمّا ما يقال - في منع دلالتها على وجوب الإنذار ليجب بوجوبه الحذر - من أنّ الظاهر ورودها في سياق آيات الجهاد ، كما يشهد به الآيات السابقة عليها واللاحقة بها ، خصوصا قوله : ( وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ) (5) فيكون المراد بالنفر المأمور به هو النفر إلى الجهاد ، ومن المعلوم أنّ الغاية المقصودة من النفر إلى الجهاد ليس هو التفقّه بمعنى تعليم الأحكام ، بل إذلال الكفر وإعلاء كلمة الإسلام.

نعم ربّما يترتّب عليه التبصّر في الدين واستكمال الإيمان واليقين بما يتّفق لهم من مشاهدة آيات اللّه ، وظهور أوليائه على أعدائه ، وسائر ما يتّفق في حرب المسلمين مع

ص: 236


1- معالم الدين : 190.
2- المسالك 2 : 31.
3- سورة البقرة : 228.
4- سورة طه : 14.
5- التوبة : 122.

الكفّار والمشركين من آيات عظمة اللّه وحكمته وإعلام النبوّة ، ولزمه أنّهم كانوا إذا رجعوا من الجهاد إلى قومهم المتخلّفين في المدينة أخبروهم بكلّ ما شاهدوه ، فهو المراد من التفقّه والإنذار ، ولامهما للعاقبة ومطلق الفائدة لا للغاية ، فالتفقّه والإنذار من قبيل الفوائد الغير المقصود المترتّبة على النفر إلى الجهاد ، لا الغايات المقصودة منه لتجب بوجوبه (1).

ففيه : ما لا يخفى ، فإنّ ظهور الآية في وجوب التفقّه ووجوب الإنذار بعده ممّا لا مجال إلى إنكاره ، إمّا لمنع كون المراد من « النفر » هو النفر إلى الجهاد ، كما يرشد إليه روايات متكاثرة معتبرة ، وفيها الصحاح وغيرها المتكفّلة لاستشهاد الأئمّة عليهم السلام واستدلالهم لبيان وجوب التفقّه بتلك الآية ، بل في عدّة منها الدلالة صريحة على النفر والمسافرة من البلاد البعيدة لمعرفة الإمام استشهادا بتلك الآية ، ولا ينافيه وقوعها في حيّز آيات الجهاد ، وهذا لا يعطيها السياق الّذي به على خلاف هذا المطلب ، وكم من هذا القبيل في الآيات القرآنيّة ، فإنّها بما هي هي لا سياق لها ، ولا مقتضي لارتباط بعضها ببعض بالنظر إلى نزولها متفرقّة ، فكثيرا مّا ترى أنّ الآية نزلت في مطلب خاصّ غير المطلب الّذي نزلت فيه الآيات السابقة عليها أو اللاحقة بها ، خصوصا هذه الآية بالنظر إلى الأخبار المفسّرة لها بما فهمه المستدلّون بها المخرجة لها عن سياق آيات الجهاد.

ولقد تعرّض لنقل نبذة منها شيخنا قدس سره في رسالته في حجّيّة الظنّ (2) وممّا هو صريح في كون المراد النفر من البلاد إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ، رواية عبد المؤمن الأنصاري المرويّة عن العلل ، « قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : إنّ قوما يروون أنّ رسول اللّه قال : اختلاف امّتي رحمة ، فقال : صدقوا ، فقلت : إن كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب ، قال : ليس حيث تذهب وذهبوا ، إنّما أراد قول اللّه عزّ وجلّ ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) فأمرهم أن ينفروا إلى رسول اللّه فيتعلّموا ثمّ يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم ، إنّما أراد اختلافهم من البلدان لا اختلافا في دين اللّه ، إنّما الدين واحد إنّما الدين واحد (3).

أو لأنّه على تقدير تسليم كونها من الآيات المتعلّقة بالجهاد ، فهو لا ينافي كون التفقّه ثمّ الإنذار بعده واجبا مقصودا من باب الغاية من نفر الطائفة من كلّ فرقة إلى الجهاد ، نظرا

ص: 237


1- قاله الحسن وأبو مسلم ، انظر التبيان 5 : 321 ومجمع البيان 3 : 83 و 84.
2- فرائد الاصول 1 : 281.
3- الوسائل 27 : 141 / 10 ، ب 11 من أبواب صفات القاضي.

إلى أنّها كافلة لتفصيل ما أجمله قوله : ( وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ) (1) فإنّ الآية قد فسّرت بأنّها وردت لنهي المؤمنين عن نفر جميعهم إلى الجهاد ، حتّى أنّهم كادوا يخلّون النبيّ في المدينة وحده ، فأمرهم اللّه تعالى بأن ينفر من كلّ فرقة طائفة ، ويتخلّف طائفة اخرى عند النبيّ فيتعلّموا منه صلى اللّه عليه وآله وسلم مسائل حلالهم وحرامهم ، ويأخذوا منه أحكام اصولهم وفروعهم ، ويخبروا بما تعلّموه وأخذوا منه قومهم النافرين المجاهدين إذا رجعوا إليهم من الجهاد ، ولا ينافيه الضمائر بعد اعتبار عودها إلى المتخلّفين ، وإن لزم منه خلاف ظاهر لضرب من الاستخدام ، فالمناقشة في الدلالة على الوجه المذكور خلاف الإنصاف.

نعم الّذي يقتضيه الإنصاف ومجانبة الاعتساف ، هو عدم دلالة الآية على حجّيّة خبر الواحد الغير العلمي أصلا لوجوه اخر :

أوّلها : منع إطلاق إيجاب الحذر بحيث يعمّ ما لو لم يفد خبرهم العلم ، فإنّ قوله : ( لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) يفيد إيجاب الحذر على كلّ واحد من المنذرين على وجه الإجمال والإهمال ، مع السكوت عن الإطلاق بالنسبة إلى حصول العلم لهم من إنذار المنذرين وعدم حصوله والتقييد بحصول العلم ، فمفاد الآية هو وجوب الحذر على كلّ واحد عقيب الإنذار.

وأمّا أنّ الواجب على كلّ واحد هو الحذر عقيب الإنذار سواء حصل منه العلم بالمنذر به أو لم يحصل ، أو أنّه الحذر بشرط حصول العلم به فهي ساكتة عنهما ، بل معرفة تعيين أحدهما يحتاج إلى بيان آخر ، ولا يكفي فيه هذا الخطاب ، نظير ما لو قال الطبيب لحضّار مجلسه المرضى مع اختلافهم في المرض : « أيّها الحاضرون عليكم بشرب الدواء » فإنّه وإن كان يدلّ على وجوب شرب الدواء على كلّ واحد ، ولا يدلّ على أنّ الواجب على كلّ واحد شرب مطلق الدواء بل لكلّ واحد دواء خاصّ على كيفيّة مخصوصة يجب وصول بيانه بخطابات اخر ، وله في خطابات الشرع نظائر كثيرة.

منها : قوله تعالى ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (2) فإنّه يدل على وجوب الصلاة على كلّ مكلّف في الجملة ، وأمّا أنّ الواجب على كلّ واحد هو الصلاة كيفما اتّفقت ، أو أنّه أيّ صلاة وبأيّ كيفيّة فلا دلالة له عليه ، نظرا إلى اختلاف المكلّفين على حسب اختلاف حالاتهم ومقتضياتهم ، فالواجب على كلّ منهم صلاة مخصوصة بكيفيّة مخصوصة يحتاج معرفتها

ص: 238


1- التوبة : 122.
2- سورة البقرة : 43.

إلى بيانات خارجيّة ، لا يكفي عنها هذا الخطاب من جهة أنّه إنّما ورد مورد الإجمال والإهمال ، من غير قصد فيه إلى إطلاق ما يجب ، ولا إلى تقييده.

هذا مضافا إلى إمكان دعوى استظهار اعتبار [ حصول العلم فى قبول الخبر ](1) من الآية ، ولو بمعونة مقدّمة خارجيّة ، فإنّ التفقّه الواجب على النافرين أو المتخلّفين عبارة عن تعلّم الأحكام ، فالواجب عليهم إنّما هو طلب العلم والعمل به فكذلك على القوم المنذرين ، لمقدّمة الاشتراك في التكليف ويؤيّده أنّ التفقّه في الدين شامل لما لا يكفي فيه إلاّ العلم وهو اصول الدين ؛ فإنّ تعلّم أحكام الدين أعمّ من تعلّم أحكام اصوله وفروعه ، كما يكشف عن ذلك أيضا ما في عدّة من الأخبار من استشهاد الإمام عليه السلام بتلك الآية على وجوب النفر والمسافرة لمعرفة إمام العصر ، ثمّ إنذار النافرين لقومهم المتخلّفين بعد رجوعهم إليهم ، وظاهر أنّ الإمامة ممّا لا يثبت إلاّ بالعلم ، وإنّما جعلناه مؤيّدا لا حجّة مستقلّة لإمكان أن يتوجّه إليه القول بأنّ شمول التفقّه لما لا يكفي فيه العلم - وهو اصول الدين - لا ينافي كفاية ما عدا العلم في غير اصول الدين.

وعلى هذا فما تقدّم في تقرير استعارة كلمة « لعلّ » بأنّه شبّه طلب الحذر في أنّ المطلوب قد يحصل وقد لا يحصل برجاء الحذر ، لابدّ أن يوجّه بأنّ الإنذار قد يفيد العلم فيحصل الحذر بوجوبه حينئذ ، وقد لا يفيده فلا يحصل الحذر لعدم وجوبه حينئذ ، لا بأنّ المنذرين منهم من يطيع فيحصل منه الحذر ، ومنهم من يعصي فلا يحذر.

ثانيها : أنّ المراد بالتفقّه الواجب على النافرين أو المتخلّفين تعلّم الامور الواقعيّة المتعلّقة بالدين ، وهي الأحكام الواقعيّة الّتي جاء بها النبيّ ، فيكون المراد من الإنذار الواجب عليهم الإنذار بما تفقّهوا فيه من الامور الواقعيّة ، فيكون المراد بالحذر الواجب على القوم هو قبول هذه الامور الواقعيّة المنذر بها المتفقّه فيها ، فالآية تدلّ على وجوب قبول قول المنذرين في كلّ ما أخبروا به من الامور الواقعيّة ، لا على وجوب قبولهم في كلّ ما أخبروا به سواء كان من الامور الواقعيّة أم لا ، فلابدّ من أن يتحقّق عند المنذرين كون ما أخبر به المنذرون من الامور الواقعيّة ، ولا يتحقّق ذلك إلاّ بالعلم ، فإذا شكّ في كون ما أخبروا به هل هو من الامور الواقعيّة أم لا؟ أو احتمل عدم كونه منها كما هو الحال في

ص: 239


1- والظاهر وقوع السقط هنا من قلمه الشريف ، وما اثبتناه في المعقوفين حرصا منّا على استقامة العبارة فهو موجود بعينه في حاشيته على القوانين ج 2 ص 31 ، فراجع.

مورد خبر الواحد الظنّي ، فالآية لا تدلّ على وجوب قبوله.

وبالجملة : الآية لا تثبت إلاّ كبرى كلّيّة ، والشبهة في موضع عدم العلم بصدق الخبر إنّما هي في الصغرى ، وظاهر أنّ المثبت للكبرى لا يفي بإثبات الصغرى ، بل الصغرى لابدّ من إثباتها وإحرازها باعتبار الخارج المفيد للعلم.

ثالثها : أنّ معنى وجوب قبول خبر الواحد - بالمعنى المتنازع فيه - هو وجوب تصديق الراوي فيما يحكيه عن المعصوم من قول أو فعل أو تقرير ، فإنّ محلّ البحث هو حجّيّة الخبر بمعنى الرواية المصطلحة ، والآية لا تدلّ عليه أصلا إذ الإنذار الواجب على المتفقّهين ظاهر في إبلاغ شيء على وجه التخويف ، على ما هو من شغل الوعّاظ في مقام الوعظ والإيعاد ، حيث يخوّفون عباد اللّه عن ركوب محارم اللّه وترك واجباته وحبس الحقوق الواجبة عليهم وقلّة المبالاة في الدين والمسامحة في تحصيل مسائله ومعرفة حلاله وحرامه ، والحذر عقيب الإنذار بهذا المعنى عبارة عن التخوّف والاتّعاظ ، فالآية إنّما تدلّ على وجوب التخوّف والاتّعاظ على المنذرين الباعث لهم على مجانبة المحرّمات ، والمواظبة على الواجبات والمراقبة في أداء الحقوق ، وترك المسامحة في تحصيل معرفة المسائل والخروج عن حضيض الجهل ، وهذا كما ترى لا يقتضي حجّيّة قول المنذرين من حيث هو قولهم ، لا على وجه الرواية ولا على وجه الإفتاء.

ولو سلّم عدم كون الآية مسوقة لإيجاب مجرّد الوعظ والإيعاد على ما هو وظيفة الوعّاظ ، فغايته الدلالة على وجوب إبلاغ ما فهمه المنذورن من ألفاظ قول النبيّ أو أفعاله ، والتعبير عنها بالإنذار المأخوذ فيه التخويف من جهة أنّ الإبلاغ المذكور إذا كان بيانا للواجبات أو المحرّمات أو وجود شيء وتحريمه ، فهو يتضمّن تخويفا وتحذيرا من العقاب على المخالفة والعصيان ، فيكون الواجب على القوم هو الحذر بمعنى اتّباع المنذرين فيما فهموه على حسب وسعهم وبقدر طاقتهم على ما هو وظيفة المقلّدين ، فالآية مسوقة حينئذ لإيجاب الإفتاء واتّباع المفتي في الفتوى ، لا لإيجاب الإبلاغ على وجه الرواية والحكاية للقول أو الفعل أو التقرير من حيث أنّه خبر ، ولذا استدلّ بها جماعة على وجوب الإفتاء فجعلها من أدلّة وجوب التفقّه والاجتهاد كفاية ، ووجوب التقليد على العوام أولى من جعلها من أدلّة حجّيّة خبر الواحد.

ومن الآيات المستدلّ بها على الحجّيّة : قوله تعالى في سورة البقرة : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ

ص: 240

ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ ) (1) استدلّ بها جماعة تبعا للشيخ في العدّة ، بتقريب : أنّ الآية دلّت على حرمة الكتمان وهو يستلزم وجوب الإظهار ، وهو يستلزم وجوب القبول ، وإلاّ يلغو الإظهار فيلغو كلامه تعالى في تحريم الكتمان ووجوب الإظهار.

وفيه : منع كون الآية في مقام إيجاب قبول شيء ، بل نزلت في ذمّ أحبار اليهود حيث كانوا يكتمون أعلام النبيّ وعلامات نبوّته الّتي بيّنها اللّه سبحانه في التوراة ، فتدلّ على حرمة كتمانها المستلزمة لوجوب الإقرار بها ليترتّب عليه الإقرار بنبوّته صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فهو المقصود بالآية.

ولو سلّم أنّ المراد إيجاب إظهارها لعوام اليهود المستلزم لوجوب قبول قولهم ، فهو بملاحظة كون النبوّة ممّا يعتبر فيه العلم يقتضي اعتبار حصول العلم من قولهم في إظهار علامات النبيّ.

ولو سلّم أنّ لفظ الآية عامّ بالنسبة إلى غير مورد نزولها ، فغاية ما تفيده وجوب قبول قول المظهر للحقّ على وجه الإجمال والإهمال ، حسبما تقدّم في آية النفر من غير قصد إلى الدلالة على أنّه يقبل بقول مطلق ، أو بشرط اتّفاق العلم.

والسرّ في ذلك : أنّ وجوب الإظهار يتبع وجوب قبول قول المظهر له ، لا أنّ وجوب القبول يتبع وجوب الإظهار ، فكلّ مورد يجب فيه القبول على غير من عنده الحقّ يجب إظهاره على من عنده ، وينعكس بأنّه كلّ مورد لا يقبل فيه القول لا يجب فيه الإظهار.

وقضيّة ذلك أنّ من الموارد ما لا يقبل فيه قول المظهر للحقّ ، ولعلّه حيث لم يفد العلم ، وهذا نظير إقامة الشهادة المأمور بها في قوله تعالى : ( وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ) (2) المنهيّ عن كتمانها في قوله تعالى : ( وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) (3) وغير ذلك من أدلّة وجوب أداء الشهادة ، فإنّها تدلّ على أنّ كلّ مورد يقبل فيه الشهادة يجب أدائها ، وينعكس بأنّ كلّ مورد لا يقبل فيه الشهادة لا يجب فيه أدائها ، ولذا يجب أدائها على العادل ولا يجب على الفاسق.

وممّا يرشد إلى ورود الآية مورد الإجمال ، أنّه لا يلزم السكوت في معرض البيان لولا إرادة الإطلاق ، كما هو المناط في إحراز الظهور الإطلاقي في الخطابات.

ص: 241


1- سورة البقرة : 159.
2- سورة الطلاق : 2.
3- سورة البقرة : 283.

ولو سلّم دلالة الآية على وجوب إظهار الحقّ في كلّ مورد ، فهو لا يستلزم وجوب قبول قول المظهر له على كلّ حال ، لجواز كون إرادة عموم الإظهار لأجل رجاء حصول العلم ووضوح الحقّ من تعدّد المظهرين ، أو من معونة القرائن ، مع أنّ مفاد الآية وجوب إظهار الحقّ على من عنده الحقّ ، فالواجب قبوله على المستمعين في إظهار الحقّ من حيث إنّه حقّ ، لا من حيث إنّه قوله ، ولا وجوب قبول قوله في كلّ شيء وإن لم يكن حقّا ، فإذا شكّ المستمع في كون ما أظهره حقّا أم لا ، أو احتمل عدم كونه حقّا ولو مرجوحا فالآية لا تدلّ على وجوب قبول قول المظهر له ، وإن دلّت على وجوب الإظهار عليه ، نظرا إلى رجاء حصول العلم من تعدّد المظهرين أو من معونة القرائن.

3 - آية الاذن وتقريب الاستدلال بها

ومن الآيات قوله تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (1) بتقريب : أنّ وجوب السؤال يستلزم وجوب قبول الجواب وإلاّ يلغو السؤال ، ومسبوقيّة الجواب بالسؤال لا مدخليّة لها في وجوب القبول ، حتّى يتوجّه أنّه لا يقتضي قبول [ قول ] الراوي الغير المسبوق بالسؤال ، للقطع بأنّ المناط هو قبول القول وإن لم يصدق عليه عنوان الجواب باعتبار عدم السؤال ، أو للإجماع المركّب وعدم القول بالفصل.

والمراد من أهل الذكر أهل العلم ، فيدخل فيهم الرواة في رواياتهم المسموعة عن المعصومين عليهم السلام ، لأنّهم عالمون بما سمعوه ، فإذا سئل الراوي الّذي هو من أهل العلم عمّا سمعه من الإمام في خصوص الواقعة ، فأجاب : بأنّي سمعته يقول كذا ، وجب القبول بحكم الآية ، فيجب قبول قوله ابتداء : إنّي سمعت الإمام يقول كذا ، لأنّ حجّيّة قوله هو الّذي أوجب السؤال عنه ، لا أنّ وجوب السؤال أوجب قبول قوله.

ويرد عليه أوّلا : أنّ الآية بمقتضى ظاهر السياق نزلت في أهل الكتاب ، فالمراد من أهل الذكر أحبارهم وعلمائهم ، كما يشهد به ما قبل الآية فإنّها على ما في سورة النحل هكذا ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ ) (2) ، وعلى ما في سورة الأنبياء ( وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (3).

ولو قطع النظر عن ظاهر السياق فيرد عليه أيضا أوّلا : منع كون المراد من أهل الذكر

ص: 242


1- سورة النحل : 43.
2- سورة النحل : 43 - 44.
3- سورة الأنبياء : 7.

مطلق أهل العلم ، بل خصوص أئمّتنا عليهم السلام على ما ورد في الأخبار المستفيضة المفسّرة لأهل الذكر بالأئمّة عليهم السلام ، وقد عقد الكليني في اصول الكافي بابا لإيراد هذه الأخبار ولا يقدح ضعف أسانيد جملة منها ، لأنّ فيها ما هو من الصحاح ، وما هو من الموثّقات وما هو من الحسان.

وثانيا : منع صدق أهل الذكر بمعنى أهل العلم على الرواة في مسموعاتهم ، وإن استتبع سماعهم حصول العلم لهم ، فإنّ أهل العلم لا يطلق إلاّ على العلماء من حيث إنّهم علماء ، لا من حيثيّات اخر ، والرجل في مسموعاته من الأقوال لا يقال عليه أنّه من أهل العلم ، وإن كان من غير هذه الجهة من أهل العلم.

وثالثا : أنّ الأمر بالسؤال معلّق على عدم العلم بالمسؤول عنه ، فيدلّ على أنّ الغاية المقصودة من السؤال هو العلم ، لا العمل بالقول وإن لم يحصل منه العلم تعبّدا ، ويؤيّده ورود الآية في سياق اصول الدين وعلامات النبيّ الّتي لا يطلب فيها العمل تعبّدا ، ولا يكفي فيها ما عدا العلم إجماعا ، نظرا إلى أنّها نزلت في كفّار قريش في استبعادهم اجتماع البشريّة والنبوّة ، بل استحالتهم الصفات البشريّة من الأكل والشرب والمشي في الأسواق في النبيّ ، كما يرشد إليه ما قبل الآية من قوله ( وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ) (1) وما بعدها من قوله : ( وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ ) (2).

ورابعا : أنّ الآية ظاهرة في وجوب سؤال العلماء ، وقبول جوابهم فيما علموه بالسماع عن المعصومين وغيره من الأحكام والأخذ به والعمل عليه ولو تعبّدا ، لا قبول قول الراوي في حكاية قول الإمام أو فعله أو تقريره الّتي هي الرواية المصطلحة لا غير ، فمفاد الآية حينئذ إنّما هو إيجاب الاستفتاء على ما هو وظيفة المقلّد ، ولذا استدلّ بها جماعة على وجوب التقليد في عمل العامي.

ومن الآيات المستدلّ بها : قوله تعالى - في سورة براءة - ( وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (3) فإنّه تعالى مدح نبيّه بتصديقه للمؤمنين وقرنه بالتصديق باللّه ، فيدلّ على كونه حسنا ، فإذا ثبت كونه حسنا كان واجبا

ص: 243


1- الأنبياء : 3.
2- الأنبياء : 8.
3- سورة التوبة : 61.

للإجماع المركّب.

ويرد عليه أوّلا : أنّ الاذن في صفة النبيّ عبارة عن سريع التصديق ، بمعنى الإذعان والاعتقاد بكلّ ما يسمع ، لا عمّن يعمل بكلّ ما يسمع تعبّدا وإن لم يفد العلم ، ومدحه صلى اللّه عليه وآله وسلم بذلك من جهة حسن ظنّه بالمؤمنين ، وعدم سوء الظنّ بهم ، وعدم اتهامهم.

وثانيا : منع كون المراد من تصديقه للمؤمنين جعل كلّ [ خبر ] لهم صدقا مطابقا للواقع وترتيب جميع آثار الواقع على المخبر به ، كما هو المراد من حجّيّة خبر الواحد ، للزوم التناقض في كثير من الموارد ، كما لو اخبر مؤمن بشيء وآخر بنقيضه ، وانتفاء الخيريّة في كثير من الآثار كالقتل فيمن أخبر عنه بالارتداد مثلا ، والجلد فيمن أخبر عنه بزنا أو شرب خمر مثلا ، والقطع فيمن أخبر عنه بسرقة ، والتعزير فيمن أخبر عنه بترك واجب كإفطار نهار رمضان ، ونحو ذلك ممّا ليس في قبوله الخبر والعمل به خير ، بل هو نفس التنزيل المراد به إظهار صدق كلّ مخبر من المؤمنين وعدم تكذيبه بأن يقول له في خبره : صدقت ، أو يقول : ما كذبت ، وإن علم بكذبه في الواقع ، وهو الّذي يقال له : « التصديق الصوري والتصديق المخبري » ، بخلاف إيمانه باللّه فإنّه عبارة عن الإذعان والاعتقاد ، وجعل كلّ خبر له صدقا مطابقا للواقع.

فلفظ « الإيمان » حيث اضيف إلى المؤمنين يغاير معناه حيث اضيف إليه تعالى ، ويشهد بذلك امور :

منها : تكرير اللفظ.

ومنها : التفكيك بين الموضعين بالتعدية بالباء وباللام ، فإنّ الاولى آية إرادة الإذعان والاعتقاد ، كما في لفظ « التصديق » أو « العلم » حيث عدّا بالباء ، بخلاف الثانية فإنّ الباء للتقوّي يراد به تأكيد الحكم والإسناد ، ولعلّه لإكثاره من تصديق المؤمنين ، فلا يقتضي إذعانا واعتقادا بل غايته إظهار الصدق وعدم التكذيب.

ومنها : قوله تعالى : ( قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ ) (1) فإنّه ورد على الذين كانوا يقولون في صفته صلى اللّه عليه وآله هو اذن مريدين به أنّه يقبل كلّ خبر سمعه ويجعله صدقا ، وحاصله أنّه ليس باذن بالمعنى الّذي تزعمون ، بل اذن خير لكم ، بأنّه إذا سمع خبرا من اللّه يقبله وإذا سمع الخبر من كلّ مؤمن يظهر قبوله وصدقه ولا يكذّبه لئلاّ يخجل ، أو ينكسر قلبه من غير أن

ص: 244


1- سورة التوبة : 61.

يؤذي أحد ممّن أخبر عنه بسوء.

ومنها : ما عن تفسير العياشيّ عن الصادق عليه السلام : من « أنّه يصدّق المؤمنين لأنّه كان رؤوفا رحيما بالمؤمنين » ، فإنّ تعليل التصديق بالرأفة والرحمة على كافّة المؤمنين لا يقتضي إلاّ إرادة إظهار القبول والصدق لئلاّ يخجل أو ينكسر قلبه ، بل ينافي قبول قول أحد على الآخر بحيث يرتّب عليه آثاره ، وإن أنكر المقول عنه وقوعه ، إذ مع الإنكار لابدّ من تكذيب أحدهما فكيف يكون رؤوفا رحيما بهما معا.

ومنها : ما رواه القمّي على ما نقل عنه في سبب نزول الآية ، من « أنّه نمّ منافق على النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم فأخبره اللّه ذلك ، فأحضره النبيّ وسأله فحلف أنّه لم يكن شيء ممّا ينمّ عليه ، فقبل منه النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فأخذ الرجل بعد ذلك يطعن على النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ويقول : إنّه يقبل كلّما يسمع ، أخبره اللّه أنّي أنمّ إليه وأنقل أخباره فقبل ، فأخبرته أنّي لم أفعل فقبل ، فردّه اللّه تعالى بقوله لنبيّه : ( قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ ) (1) » (2) ومن المعلوم أنّ تصديقه صلى اللّه عليه وآله وسلم للمنافق لم يكن بترتيب آثار الصدق عليه مطلقا ، وإلاّ لزم تكذيبه تعالى ، وهذا التعبير يقضي بكون المراد بالمؤمنين المقرون بالإيمان المظهرون له من غير اعتقاد ، فيكون الإيمان لهم على حسب إيمانهم.

وبتضاعيف ما بيّناه ظهر أنّ التصديق للمخبر في خبره له معنيان :

أحدهما : ما يرجع إلى نفس المخبر ، وهو مجرّد الحكم عليه بكونه صادقا ، وأنّه ليس بكاذب ، من دون جعل المخبر عنه واقعا ولا ترتيب آثار الواقع عليه ، وهو الّذي يقتضيه حمل فعل المسلم وقوله على الصحيح والأحسن ، فإنّه لا يقتضي أزيد من الحكم عليه بعدم كونه قبيحا ومعصية.

وثانيهما : ما يرجع إلى خبره وهو جعله صدقا والمخبر به واقعا وترتيب جميع الآثار عليه ، ومحلّ البحث من حجّيّة خبر الواحد هو هذا المعنى ، والمستفاد من الآية هو حسن التصديق بالمعنى الأوّل ، فلا تنهض دليلا على الحجّيّة بالمعنى المبحوث عنه.

ثمّ اعلم أنّه على تقدير تسليم نهوض الآيات المذكورة أدلّة على حجّيّة خبر الواحد الغير العلمي ، وتسليم دلالة كلّ واحد على الحجّيّة لابدّ من حمل مطلقاتها على المقيّد منها ، وهو آية النبأ المتضمّنة لاعتبار قيدين أو قيد واحد في ، النبأ فيكون مفادها بعد الحمل حجّيّة خبر العادل المورث للاطمئنان أو الخبر المورث للاطمئنان وإن لم يكن مخبره

ص: 245


1- سورة التوبة : 61.
2- تفسير القمّي 1 : 300.

[ عادلا ] والترديد مبنيّ على اعتبار المفهوم في آية النبأ شرطا أو وصفا وعدمه.

فهي على الأوّل باعتبار المفهوم يقتضي اعتبار قيد العدالة ، وباعتبار التعليل بمخافة الوقوع في الندم تقتضي اعتبار حصول الاطمئنان ، إذ لا يتخلّص من الوقوع في الندم إلاّ بذلك.

وعلى الثاني تقتضي باعتبار التعليل اعتبار الاطمئنان في العمل بكلّ خبر ، ولو مع فسق المخبر أو جهالة حاله.

هذا تمام الكلام في الاستدلال على حجّية خبر الواحد بالكتاب.

4 - الاستدلال على حجّية خبر الواحد بالسنّة

وأمّا السنّة : فاستدلّ منها بطوائف من الأخبار.

الطائفة الاولى

ما ورد من الأخبار العلاجيّة في علاج التعارض في الخبرين المتعارضين الدائر بين الترجيح والأخذ بالمرجّح ، أو التخيير في العمل على تقدير التعادل وفقد المرجّح ، فإنّها تدلّ على حجّيّة خبر الواحد من وجوه :

منها : التعارض المفروض في مورد هذه الأخبار الواردة في علاجه ، فإنّه فرع على الحجّيّة الذاتيّة لعدم معقوليّة التعارض بين الحجّة وغير الحجّة ، ولا بين فردين من غير الحجّة.

ومنها : قول المعصوم الموجود فيها وهو الأمر المتكرّر بالأخذ بذي المرجّح وطرح غيره ، وبالتخيير على تقدير فقد المرجّحات.

ومنها : تقرير المعصوم عليه السلام ، لدلالة أسئلة هذه الأخبار على كون العمل بأخبار الأئمّة عليهم السلام متداولا بينهم ، وأنّهم كانوا معتقدين بجوازه وقيام المقتضي للجواز وكونهم مأذونين في الأخذ بما وصل إليهم بالواسطة أو الوسائط ، وإنّما سألوا عن طريق رفع المانع عن العمل ، وصدر الأجوبة ببيان طريق رفع المانع ، لا الردع عن معتقدهم ، ولا منع المقتضي للجواز.

وبالتأمّل في بعض ما ذكرناه يندفع ما عساه يورد على الاستدلال ، بعدم دلالتها على كون الأخبار المعمول بها عندهم أخبارا غير علميّة ، لجواز كونها أخبارا معلومة الصدور عندهم بتواتر أو احتفاف قرينة ، فإنّه ممّا يأباه التعارض المفروض في موردها ، لاستحالة وقوعه في الأخبار العلميّة كسائر الأدلّة العلميّة.

وأمّا ما يورد على المقبولة منها. يكون موردها اختلاف الحاكمين فيما حكما به ،

ص: 246

فيدفعه : ظهور السؤال في كون اختلاف الحاكمين ناشئا من اختلاف الروايتين بل هذا صريح قول السائل : « وكلاهما اختلفا في حديثكم » مع ظهور الجواب بل صراحة ذيلها في كون المراد بيان المرجّح للروايتين اللتين استند إليهما الحاكمان ، ولذا قال : « ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الّذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك ، فيؤخذ به من حكمنا ، ويترك الشاذ الّذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه - إلى أن قال - : فإن كان الخبران عنكم مشهورين ، قد روى الثقات عنكم ، قال : ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة » (1) الحديث.

مضافا إلى صراحة غيرها في الخبرين المتعارضين ، مثل ما رواه الحسن بن الجهم عن الرضا عليه السلام ، « قال : قلت له تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة ، فقال : ما جاءك عنّا فقس على كتاب اللّه عزّ وجلّ وأحاديثنا ، فإن كان يشبههما فهو منّا ، وإن لم يكن يشبههما فليس منّا ، قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيّهما الحقّ؟ قال : فإذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت » (2).

وما رواه أيضا عن العبد الصالح عليه السلام « قال : إذا جاءك الحديثان المختلفان فقسهما على كتاب اللّه وأحاديثنا فإن أشبهها فهو حقّ ، وإن لم يشبهها فهو باطل » (3).

نعم قد يورد عليها : بأنّ دلالتها على اعتبار الخبر الغير المقطوع الصدور وإن كانت واضحة لا يمكن الاسترابة فيها ، ولكن لا إطلاق فيها يعمّ كلّ خبر غير مقطوع الصدور ، فغاية ما فيها الدلالة على قضيّة مهملة ، إذ لا يدري أنّ المعمول به عندهم المفروض وقوع التعارض فيه هل هو كلّ خبر أو نوع منه ، وأنّه أيّ نوع؟ أو أنّه صنف خاصّ منه؟

ويمكن الذبّ عنه في الجملة بأنّه يستفاد منها مناط ، وهو كون المدار في العمل بالوثوق والاطمئنان ، فيصير مفاد المجموع اعتبار خبر الثقة العادل ، ولذا قال عليه السلام : في مرفوعة زرارة « خذّ بأعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك » (4).

ص: 247


1- الوسائل 27 : 106 / 1 ، ب 9 من أبواب صفات القاضي.
2- الوسائل 27 : 121 / 40 ، ب 9 من أبواب صفات القاضي.
3- الوسائل 27 : 123 / 48 ، ب 9 من أبواب صفات القاضي.
4- عوالي اللآلي 4 : 133 ح 229 ومستدرك الوسائل : 17 / 303 ح 2.

وقال أبو عبد اللّه في خبر الحرث بن المغيرة : « إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلّهم ثقة فموسّع عليك حتّى ترى القائم عليه السلام فترد إليه » (1).

الطائفة الثانية

الأخبار المتكاثرة القريبة من التواتر المدّعى تواترها ، كما عن العلاّمة المجلسي الواردة في إرجاع آحاد أصحابهم إلى آخرين ، بحيث يظهر منها عدم الفرق بين فتواهم في حقّ من شأنه الأخذ بالفتوى ، وروايتهم في حقّ من شأنه الأخذ بالرواية والعمل بها.

ومن الآحاد المرجوع إليهم محمّد بن مسلم ، وزرارة ، وأبان بن تغلب ، وأبو بصير ، وزكريّا بن آدم ، ويونس بن عبد الرحمن ، والعمري وابنه.

ففي رواية عبد اللّه بن يعفور ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : « أنّه ليس كلّ ساعة ألقاك ، ولا يمكن القدوم ويجيء الرجل من أصحابنا فيسألني ، وليس عندي كلّ ما يسألني عنه ، فقال : ما يمنعك من محمّد بن مسلم الثقفي ، فإنّه سمع من أبي وكان عنده وجيها » ، وفي نسخة اخرى « فما يمنعك عن الثقفي - يعني محمّد بن مسلم - فإنّه سمع من أبي أحاديث وكان عنده وجيها » (2).

ورواية المفضّل بن عمر أنّ أبا عبد اللّه قال : للفيض بن المختار في حديث « فإذا أردت حديثنا فعليك بهذا المجالس ، وأومأ إلى رجل من أصحابه ، فسألت أصحابنا عنه ، فقال : زرارة بن أعين » (3).

ورواية إبراهيم بن عبد الحميد وغيره قالوا قال أبو عبد اللّه عليه السلام : « رحم اللّه زرارة بن أعين ، لولا زرارة ونظرائه لاندرست أحاديث أبي » (4).

ورواية يونس بن عمّار أنّ أبا عبد اللّه عليه السلام قال له - في حديث - : « أمّا ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السلام فلا يجوز ذلك أن تردّه » (5).

ورواية أبي بصير أنّ أبا عبد اللّه عليه السلام قال له - في حديث - : « لولا زرارة ونظرائه لظننت

ص: 248


1- الوسائل 27 : 122 / 41 ، ب 9 من أبواب صفات القاضي.
2- الوسائل 27 : 144 / 23 ، ب 11 من أبواب صفات القاضي.
3- الوسائل 27 : 143 / 19 ، ب 11 من أبواب صفات القاضي.
4- الوسائل 27 : 143 / 4. ب 11 من أبواب صفات القاضي.
5- الوسائل 27 : 143 / 4. ب 11 من أبواب صفات القاضي.

أنّ أحاديث أبي ستذهب » (1).

ورواية مسلم ابن أبي حيّة قال : « كنت عند أبي عبد اللّه عليه السلام في خدمته ، فلمّا أردت أن افارقه ودّعته ، وقلت : أحبّ أن تزوّدني ، فقال : إئت أبان بن تغلب فإنّه قد سمع منّي أحاديث كثيرا ، ما رواه لك فأروه عنّي » (2).

ورواية أبان بن عثمان أنّ أبا عبد اللّه عليه السلام قال له : « انّ أبان بن تغلب قد روى عنّي رواية كثيرة فما رواه لك عنّي فاروه عنّي » (3).

ورواية شعيب العقرقوفي قال قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : ربما نحتاج أن نسأل عن الشيء فمن نسأل » قال : عليك بالأسدي يعني أبا بصير » (4).

ورواية علي بن المسيّب الهمداني ، قال قلت للرضا عليه السلام : شقّتي بعيدة ولست أصل إليك في كلّ وقت فممّن آخذ معالم ديني « قال : من زكريّا بن آدم القمّي المأمون على الدين والدنيا ... » إلى آخره (5).

ورواية عبد العزيز بن المهتدي قال سألت الرضا عليه السلام أنّي لا ألقاك في كلّ وقت فعمّن آخذ معالم ديني؟ « فقال : خذ عن يونس بن عبد الرحمن » (6).

وروايته الاخرى عنه عليه السلام قال قلت : لا أكاد أصل إليك أسألك عن كلّ ما احتاج إليه من معالم ديني ، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما احتاج إليه من معالم ديني؟ « فقال : نعم » (7).

وروايته الاخرى عنه أيضا قلت للرضا عليه السلام : إنّ شقّتي بعيدة فلست أصل إليك في كلّ وقت ، فآخذ معالم ديني عن يونس مولى آل يقطين؟ (8).

ورواية أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن عليه السلام ، قال : سألته وقلت : من اعامل؟ وعمّن آخذ؟ وقول من أقبل؟ فقال : العمري ثقتي فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي ، وما قال لك عنّي

ص: 249


1- الوسائل 27 : 142 / 16 ، ب 11 من أبواب صفات القاضي.
2- رجال الكشّي 2 : 623 ، والوسائل 27 : 147 / 30 ، ب 11 من أبواب صفات القاضي.
3- الوسائل 27 : 140 / 8 ، ب 11 من أبواب صفات القاضي.
4- الوسائل 27 : 142 / 15 ، ب 11 من أبواب صفات القاضي.
5- الوسائل 27 : 146 / 27 ، ب 11 من أبواب صفات القاضي.
6- الوسائل 27 : 148 / 34 ، ب 11 من أبواب صفات القاضي.
7- الوسائل 27 : 147 / 33 ، ب 11 من أبواب صفات القاضي.
8- الوسائل 27 : 148 / 35 ، ب 11 من أبواب صفات القاضي.

فعنّي يقول ، فأسمع له وأطع ، فإنّه الثقة المأمون ، قال : وسألت أبا محمّد عليه السلام عن مثل ذلك ، فقال : العمري وابنه ثقتان فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان وما قالا لك فعنّي يقولان ، فاسمع لهما وأطعهما فإنّهما الثقتان المأمونان ... » إلى آخره (1).

وهذه الطائفة أيضا مشتركة مع الطائفة الاولى في الدلالة على إناطة وجوب قبول الخبر بوثاقة الراوي ، خصوصا رواية عبد العزيز المعتضدة بخبري أحمد بن إسحاق ، الدالّة على كون قبول قول الثقة أمرا مفروغا عنه عند السائل ، فسأل من باب طلب إحراز الصغرى عن وثاقة يونس ليترتّب عليه أخذ معالم الدين عنه.

الطائفة الثالثة

الأخبار المتكاثرة جدّا المتواترة معنى الدالّة بمجموعها على مرجعيّة روايات الأئمّة عليهم السلام بعد النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم وإذنهم في روايتها والرجوع إليها والأخذ بها والعمل عليها ، بحيث يظهر منها عدم الفرق بين أزمنة حضورهم وما بعدها.

ونحن نذكر هنا نبذة منها وقد جمعها في الوسائل ، مثل قول الحجّة عجل اللّه فرجه في التوقيع لإسحاق بن يعقوب ، « وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنّا حجّة اللّه عليهم » (2).

ورواية الحسين بن روح عن أبي محمّد الحسن بن عليّ عليهما السلام أنّه سأل عن كتب بني فضّال ، « فقال : خذوا بما رووا وذروا ما رأوا » (3).

والمروي عن الرضا عليه السلام عن آبائه عليهم السلام ، « قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : اللّهمّ ارحم خلفائي ثلاث مرّات ، فقيل له : يا رسول اللّه ومن خلفائك؟ قال : الّذين يأتون من بعدي ويروون عنّي أحاديثي وسنّتي ، فيعلّمونها الناس من بعدي » (4).

والمروي عن الصادق عليه السلام « قال : إذا نزلت بكم حادثة لا تعلمون حكمها فيما ورد عنّا ،

ص: 250


1- الكافي 1 : 330 / 1.
2- الوسائل : 27 : 140 / 9 ، ب 11 من أبواب صفات القاضي وكمال الدين : 484 / 4. والغيبة للشيخ الطوسي : 389 / 355.
3- الوسائل 27 : 142 / 13 ، ب 11 من أبواب صفات القاضي.
4- الوسائل 27 : 92 / 53 ، ب 8 من أبواب صفات القاضي.

فانظروا إلى ما رووه عن عليّ عليه السلام فأعملوا به » (1).

ورواية عليّ بن حنظلة قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : « اعرفوا منازل الناس على قدر رواياتهم عنّا » (2).

ورواية جميل بن درّاج « قال أبو عبد اللّه عليه السلام : أعربوا حديثنا فإنّا قوم فصحاء » (3).

ورواية عبد السلام الهروي عن الرضا عليه السلام « قال : رحم اللّه عبدا أحيا أمرنا ، قلت : كيف يحيي أمركم ، قال : يتعلّم علومنا ويعلّمها الناس ، فإنّ الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتّبعونا » (4).

ورواية عبيد بن زرارة قال « قال أبو عبد اللّه عليه السلام : احتفظوا بكتبكم فإنّكم سوف تحتاجون إليها » (5).

ورواية أبي بصير قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام : « يقول : اكتبوا فإنّكم لا تحفظون حتّى تكتبوا » (6).

ورواية المفضّل بن عمر قال قال لي أبو عبد اللّه عليه السلام : « اكتب وبثّ علمك في إخوانك فإن متّ فأورث كتبك بنيك ، فإنّه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيها إلاّ بكتبهم » (7).

ورواية محمّد بن الحسن ابن أبي خالد قال : قلت لأبي جعفر الثاني عليه السلام : جعلت فداك إنّ مشايخنا رووا عن أبي جعفر عليه السلام وأبي عبد اللّه عليه السلام وكانت التقيّة شديدة ، فكتموا كتبهم فلم ترو عنهم ، فلمّا ماتوا صارت تلك الكتب إلينا ، « فقال : حدّثوا بها فإنّها حقّ » (8).

والمرويّ في حديث رسالة أبي عبد اللّه عليه السلام إلى أصحابه : « أيّتها العصابة عليكم بآثار رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وسنّته وآثار الأئمّة الهداة من أهل بيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، فإنّه من أخذ بذلك فقد اهتدى ، ومن ترك ذلك ورغب عنه ضلّ ، لأنّهم هم الذين أمر اللّه بطاعتهم وولايتهم » (9).

ص: 251


1- الوسائل 27 : 91 / 47 ، ب 8 من أبواب صفات القاضي.
2- الوسائل 27 : 150 / 41 ، ب 11 من أبواب صفات القاضي.
3- الوسائل 27 : 83 / 25 ، ب 8 من أبواب صفات القاضي.
4- الوسائل 27 : 92 / 52 ، ب 8 من أبواب صفات القاضي.
5- الوسائل 27 : 81 / 17 ، ب 8 من أبواب صفات القاضي.
6- الوسائل 27 : 81 / 16 ، ب 8 من أبواب صفات القاضي.
7- الوسائل 27 : 81 / 18 ، ب 8 من أبواب صفات القاضي.
8- الوسائل 27 : 84 / 27 ، ب 8 من أبواب صفات القاضي.
9- الوسائل 27 : 86 / 36 ، ب 8 من أبواب صفات القاضي.

وما عن الكشيّ من أنّه ورد توقيع على القاسم بن عليّ وفيه : « أنّه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا ، قد علموا أنّا نفاوضهم سرّنا ونحمله إليهم » (1).

ومرفوعة الكناني عن الصادق عليه السلام في تفسير قوله تعالى : ( وَمَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) (2) « قال : هؤلاء قوم من شيعتنا ضعفاء ، وليس عندهم ما يتحمّلون إلينا فيستمعون حديثنا ويقتبسون من علمنا ، فيرحل قوم فوقهم وينفقون أموالهم ويتبعون أبدانهم حتّى يدخلوا علينا ويسمعوا حديثنا فينقلوا إليهم فيعيه اولئك ويضيعه هؤلاء ، فاولئك الّذين جعل اللّه لهم مخرجا ويرزقهم من حيث لا يحتسبون » (3).

ورواية إبراهيم بن موسى المروزي عن أبي الحسن عليه السلام « قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من حفظ من امّتي أربعين حديثا ممّا يحتاجون إليهم في أمر دينهم ، بعثه اللّه يوم القيامة فقيها عالما » (4).

ورواية حنّان بن سدير قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام « يقول من حفظ منّا أربعين حديثا من أحاديثنا في الحلال والحرام ، بعثه اللّه يوم القيامة فقيها عالما ولم يعذّبه » (5).

والمروي عن عليّ عليه السلام « قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم من حفظ من امّتي أربعين حديثا ينتفعون بها ، بعثه اللّه يوم القيامة فقيها عالما » (6).

ورواية ابن عبّاس عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم « قال : من حفظ على امّتي أربعين حديثا من السنّة كنت له شفيعا يوم القيامة » (7).

ورواية أنس قال : « قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : من حفظ عنّي من امّتي أربعين حديثا في أمر دينه يريد به وجه اللّه والدار الآخرة ، بعثه اللّه يوم القيامة فقيها عالما » (8) ، والخبر بهذا المضمون مع اختلاف يسير في بعض ألفاظه قريب من التواتر بل متواتر.

ورواية ابن أبي يعفور عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، « أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم خطب الناس في مسجد الخيف ، فقال : نضر اللّه عبدا سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلّغها من لم يسمعها ،

ص: 252


1- الوسائل 27 : 149 / 40 ، ب 11 من أبواب صفات القاضي.
2- سورة الطلاق : 3.
3- الوسائل 27 : 90 / 45 ، ب 8 من أبواب صفات القاضي.
4- الوسائل 27 : 94 / 60 ، ب 8 من أبواب صفات القاضي.
5- الوسائل 27 : 95 / 61 ، ب 8 من أبواب صفات القاضي.
6- الوسائل 27 : 99 / 72 ، ب 8 من أبواب صفات القاضي.
7- الوسائل 27 : 98 / 71 ، ب 8 من أبواب صفات القاضي.
8- الوسائل 27 : 54 / 59 ، ب 8 من أبواب صفات القاضي.

فربّ حامل فقه غير فقيه ، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه ».

وفي رواية عن الصادق عليه السلام ، قال له سفيان الثوري : يا أبا عبد اللّه [ عليه السلام ] حدّثنا بحديث خطبه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في مسجد الخيف - إلى أن قال - : فقال سفيان : مر لي بدواة وقرطاس حتّى أثبته فدعا به ثمّ قال : اكتب.

بسم اللّه الرحمن الرحيم خطبه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في مسجد الخيف نصر اللّه عبدا سمع مقالتي فوعاها وبلّغها من لم تبلغه.

يا أيّها الناس ليبلّغ الشاهد الغائب ، فربّ حامل فقه ليس بفقيه ، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه » (1).

ورواية معاوية بن عمّار ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : رجل رواية لحديثكم ، يبثّ ذلك في الناس ، ويسدّده في قلوبهم وقلوب شيعتكم ، ولعلّ عابدا من شيعتكم ليس له هذه الرواية أيّهما أفضل؟ « قال : الرواية لحديثنا يسدّد به قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد » (2).

ورواية أبي البختري عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، « قال : إنّ العلماء ورثة الأنبياء وذلك أنّ الأنبياء لم يورّثوا درهما ولا دينارا ، وإنّما ورّثوا أحاديث من أحاديثهم ، فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظّا وافرا ، فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه ، فإنّ فينا أهل البيت في كلّ خلف عدولا ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين » (3).

ورواية أبي خديجة عن أبي عبد اللّه عليه السلام « قال : من أراد الحديث لمنفعة الدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب ، ومن أراد به خير الآخرة أعطاه اللّه خير الدنيا والآخرة » (4).

ورواية أبي بصير قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : قول اللّه جلّ ثناؤه ( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) (5) « قال : هو الرجل يسمع الحديث فيحدّث به كما سمعه ولا يزيد فيه ولا ينقص منه » (6).

وروايته الاخرى قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن قول اللّه عزّ وجلّ ( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ

ص: 253


1- الوسائل 27 : 89 / 44 ، ب 8 من أبواب صفات القاضي.
2- الوسائل 27 : 77 / 1 ، ب 8 من أبواب صفات القاضي.
3- الوسائل 27 : 78 / 2 ، ب 8 من أبواب صفات القاضي.
4- الوسائل 27 : 78 / 4 ، ب 8 من أبواب صفات القاضي.
5- سورة الزمر : 18.
6- الوسائل 27 : 79 / 8 ، ب 8 من أبواب صفات القاضي.

الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ... ) إلى آخر الآية « فقال : هم المسلّمون لآل محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم الّذين إذا سمعوا الحديث لم يزيدوا فيه ولم ينقصوا منه جاؤوا به كما سمعوه » (1).

ورواية محمّد بن مسلم ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : أسمع الحديث منك فأزيد وأنقص؟ « قال : إن كنت تريد معانيه فلا بأس » (2).

ورواية داود بن فرقد قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : إنّي أسمع الكلام منك فاريد أن أرويه كما سمعته منك فلا يجيء « قال : فتعمّد ذلك؟ قلت : لا ، قال : تريد المعاني؟ قلت : نعم ، قال : فلا بأس » (3).

ورواية أحمد بن عمر الحلال ، قال : قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام الرجل من أصحابنا يعطيني الكتاب ولا يقول أروه عنّي يجوز لي أن أرويه عنه؟ « قال : فقال إذا علمت أنّ الكتاب له فاروه عنه » (4).

ورواية السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، « قال : قال أمير المؤمنين عليه السلام : إذا حدّثتم بحديث فاسندوه إلى الّذي حدّثكم ، فإن كان حقّا فلكم وإن كان كذبا فعليه » (5).

ورواية أبي بصير قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام الحديث أسمعه منك أرويه عن أبيك أو أسمعه من أبيك أرويه عنك؟ « قال : سواء إلاّ أنّك ترويه عن أبي أحبّ اليّ.

وقال أبو عبد اللّه عليه السلام لجميل : ما سمعته منّي فاروه عن أبي » (6).

ورواية أبي سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام « قال : سمعته يقول : ليس عليكم جناح فيما سمعتم منّي أن ترووه عن أبي عليه السلام ، وليس عليكم جناح فيما سمعتم من أبي أن ترووه عنّي ، ليس عليكم في هذا جناح » (7).

ورواية حفص بن البختري قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام نسمع الحديث منك فلا أروي منكم سماعه أو من أبيك « فقال : ما سمعته منّي فاروه عن أبي ، وما سمعته منّي فاروه عن

ص: 254


1- الوسائل 27 : 82 / 23 ، ب 8 من أبواب صفات القاضي.
2- الوسائل 27 : 80 / 9 ، ب 8 من أبواب صفات القاضي.
3- الوسائل 27 : 80 / 10 ، ب 8 من أبواب صفات القاضي.
4- الوسائل 27 : 80 / 13 ، ب 8 من أبواب صفات القاضي.
5- الوسائل 27 : 81 / 14 ، ب 8 من أبواب صفات القاضي.
6- الوسائل 27 : 80 / 11 ، ب 8 من أبواب صفات القاضي.
7- الوسائل 27 : 104 / 85 ، ب 8 من أبواب صفات القاضي.

رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم » (1).

ورواية ابن المختار أو غيره رفعه قال : قلت لابي عبد اللّه عليه السلام : أسمع الحديث منك فلعلّي لا أرويه كما سمعته ، « فقال : إذا أصبت الصلب منه فلا بأس إنّما هو بمنزلة تعال وهلمّ واقعد واجلس » (2).

وفي رواية مرفوعة عن أبي عبد اللّه عليه السلام « إذا أصبت معنى حديثنا فأعرب عنه بما شئت » إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

وهذه الطائفة من الأخبار لا تعرّض فيها لاعتبار العدالة أو الوثاقة أو الأمانة ، غير أنّ الطائفتين السابقتين متعرّضة لذلك ، كما دلّ عليه « الأعدليّة » و « الأصدقيّة » و « الثقة » و « المأمون » وغير ذلك.

فيحمل الطائفة الثالثة أيضا على ذلك ، فالمستفاد من مجموع طوائف الأخبار على سبيل القطع واليقين هو جواز الأخذ بالخبر الغير العلمي الموثوق بصدقه أو صدق راويه في نوع أخباره ، ومرجعه إلى إناطة جواز العمل به بحصول الاطمئنان بصدقه أو صدق راويه ، وهذا كما ترى لا يستلزم اعتبار الاطمئنان بالحكم الواقعي المستفاد منه ، فلا يرد : أنّه لو اعتبر الظنّ الاطمئناني في العمل بخبر الواحد لانسدّ باب العمل بأكثر الأخبار ، لابتنائه على مقدّمات لا تكاد جملة منها تورث ظنّا فضلا عن بلوغه حدّ الاطمئنان ، إذ الظنّ الاطمئناني في صدق الخبر أو راويه إحرازا لسنده ، وهو - صدوره - غير الظنّ الاطمئناني بالحكم الواقعي المستفاد منه.

فالظنّ الاطمئناني إنّما نعتبره في الخبر باعتبار الحيثيّة الّتي نبحث باعتبارها عن حجّيّته ، وهي حيثيّة الصدق والصدور لا من الحيثيّات الاخر ، ومن الجائز كون بعض هذه الحيثيّات ممّا لم يعتبر فيه ظنّ أصلا ، فكيف يصير الحكم الواقعي المستفاد منه مظنونا بالظنّ الاطمئناني.

وتوضيح ذلك : أنّ دليل الحكم الواقعي قد يكون مفيدا للعلم ، فلا إشكال في وجوب العمل به لأنّ الحجّة حينئذ هو العلم ، وقد يكون مفيدا للظنّ كالشهرة لو قلنا بحجّيّتها ، وهو أيضا ممّا لا إشكال في وجوب العمل به لأنّ الحجّة حينئذ هو الظنّ ، وقد لا يكون مفيدا لأحدهما بل يكون العمل به ثابتا من باب التعبّد ، ولو مع الشكّ بل الوهم بالنسبة إلى الحكم

ص: 255


1- الوسائل 27 : 104 / 86 ، ب 8 من أبواب صفات القاضي.
2- الوسائل 27 : 105 / 87 ، ب 8 من أبواب صفات القاضي.

الواقعي ، وظاهر أنّ النتيجة على الأوّل علميّة ، وعلى الثاني ظنّيّة ، وعلى الثالث شكّيّة أو وهميّة ، وهي مع ذلك حكم اللّه في حقّ المجتهد.

وقد يكون دليل واحد موقوفا على مقدّمات بعضها علميّة وبعضها ظنّيّة ، وظاهر أنّ النتيجة حينئذ تكون ظنّيّة ، وقد يكون موقوفا على مقدّمات بعضها ظنّيّة وبعضها شكّيّة كما لو كانت من الأمارات التعبّدية ، وظاهر أنّ النتيجة حينئذ شكّيّة ومع ذلك هي حكم اللّه لا غير ، فلو أخبرنا عدل عن الإمام بأنّه قال : « أكرم العلماء » فالعمل به موقوف على مقدّمات بعضها ظنّيّة وبعضها تعبّديّة ، لأنّه يتوقّف أوّلا على إثبات صدق المخبر في قوله : « قال كذا » ، وبعد الفراغ عن ذلك لابدّ من إحراز أنّ المراد من الأمر هل الوجوب أو غيره ، ومن العلماء هل هو العموم أو الخصوص.

ثمّ بعد الفراغ عن ذلك ، لابدّ من النظر على أنّ الإمام إنّما أراد هذا المعنى في مقام بيان الحكم الواقعي المكتوب في اللوح المحفوظ ، أو في مقام التقيّة.

ولا ريب أنّ الجهة الاولى ظنّيّة ، وهي الّتي نقول فيها بالظنّ الاطمئناني.

وأمّا الجهة الثانية فهي مبتنية على الظنّ النوعي ، من جهة كون حجّيّة الظواهر من هذا الباب.

وكذلك الجهة الثالثة لو قلنا بموجب أصالة عدم التقيّة من باب التعبّد ، فلو فرضنا عدم اتّفاق ظنّ شخصي في هاتين الجهتين فكيف تصير النتيجة الّتي هي حكم اللّه علميّة أو ظنّية ، ومع هذا يجب الأخذ بها لمكان التعبّد الّذي لا يضرّ فيه الشكّ ولا الوهم ، ومن هذا الباب ما لو أخبرنا العدل بقوله : « قال فلان » ، فإنّ الشكّ تارة يقع في صدقه وكذبه في إسناد القول إلى فلان ، واخرى من جهة تعبيره بلفظة « قال » من حيث إنّها تطلق ويراد منها إسناد القول إليه بسماع منه ، وقد تطلق ويراد منها إسناد القول إليه بحذف الواسطة من غير سماع منه ، غير أنّه ظاهر في الأوّل ، ولا يعتبر فيه حصول الظنّ الشخصي.

نعم يعتبر الظنّ الاطمئناني في الجهة الاولى ، فإذا فرضنا حصوله في تلك الجهة لا يلازم ذلك حصوله من الجهة الاخرى ، بل قد تكون هذه الجهة مشكوكة غير أنّ الشكّ فيها بعد إعمال أصالة عدم الحذف غير مضرّ بلزوم الأخذ بالنتيجة ، ومع هذا فكيف يدّعى الظنّ بأصل الحكم الواقعي فضلا عن كونه اطمئنانيّا؟

وبالجملة فليس معنى حجّيّة خبر الواحد من باب الظنّ الاطمئناني لزوم تحصيل الظنّ الاطمئناني بالحكم الواقعي ، بل قد لا يحصل بالنسبة إليه إلاّ الشكّ ، لكون بعض مقدّمات

ص: 256

دليله تعبّديّة صرفة غير مبتنية على الظنّ الشخصي.

فما قد يقال في المناقشة في الإجماع المنقول على العموم : من أنّه حجّة من باب الظنّ ولا ظنّ منه بعموم ذلك الحكم - غير سديد ، لأنّ الظنّ إنّما يعتبر في سند الإجماع ، وهو كون ناقله صادقا في نقله على معنى لزوم اعتبار الظنّ بصدقه ، وهذا لا ينافي عدم الظنّ بمفاده ومؤدّاه إذا كان معقده لفظا عامّا دالاّ على الحكم من باب الظنّ النوعي الغير المبتني على الظنّ الشخصي ، هذا تمام الكلام في الاستدلال بالسنّة.

5 - الاستدلال على حجّية خبر الواحد بالإجماع

وأمّا الإجماع : فيقرّب من وجوه :

أوّلها : الإجماع على حجّيّة خبر الواحد قبالا للسيّد وأتباعه المانعين من حجّيّة خبر الواحد الغير العلمي ، فقيل : إنّ لتحصيله طريقين على وجه منع الخلوّ :

الأوّل : تتّبع أقوال العلماء من زماننا إلى زمان الشيخين ، فيكشف ذلك كشفا قطعيّا عن رضا الإمام عليه السلام بالحكم ، أو عن وجود نصّ معتبر في المسألة ، ولا يلتفت في ذلك إلى خلاف السيّد وأتباعه لعدم قدحه فيه ، إمّا لكونهم معلومي النسب كما عن الشيخ في العدّة (1) أو للاطّلاع على كون خلافهم لشبهة حصلت لهم كما عن العلاّمة في النهاية (2) ، فيقطع بعدم موافقة الإمام لهم ، أو لعدم اشتراط اتّفاق الكلّ في الإجماع بطريقة المتأخّرين المبتنية على الحدس.

الثاني : تتبّع الإجماعات المنقولة في ذلك في كلمات العلماء صراحة وظهورا ، وهي كثيرة جدّا بالغة إلى عشرة بل زائدة.

منها : ما حكي عن الشيخ في العدّة في هذا المقام ، فإنّه - على ما حكي - قال : « وأمّا ما اخترته من المذهب ، وهو أنّ الخبر الواحد إذا كان واردا من طريق أصحابنا القائلين بالإمامة ، وكان ذلك مرويّا عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم أو عن أحد الأئمّة عليهم السلام ، وكان ممّن لا يطعن في روايته ، ويكون سديدا في نقله ، ولم يكن هناك قرينة تدلّ على صحّة ما تضمّنه الخبر ، لأنّه إذا كان هناك قرينة تدلّ على صحّة ذلك كان الاعتبار بالقرينة ، وكان ذلك موجبا للعلم كما تقدّمت القرائن ، جاز العمل.

والذي يدلّ على ذلك إجماع الفرقة المحقّة ، فإنّي وجدتها مجتمعة على العمل بهذه الأخبار الّتي رووها في تصنيفاتهم ودوّنوها في اصولهم ، لا يتناكرون ذلك ولا يتدافعون حتّى أنّ واحدا منهم إذا أفتى بشيء لا يعرفونه سألوه من أين قلت هذا؟ فإذا أحالهم على

ص: 257


1- العدّه 1 : 128 - 129.
2- نهاية الوصول ( مخطوط ) : 296.

كتاب معروف ، أو أصل مشهور ، وكان راويه ثقة لا ينكر حديثه سكتوا وسلّموا الأمر وقبلوا قوله ، هذه عادتهم وسجيّتهم من عهد النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ومن بعد الأئمّة عليهم السلام إلى زمان جعفر بن محمّد الّذي انتشر عنه العلم وكثرت الرواية من جهته ، فلولا أنّ العمل بهذه الأخبار كان جائزا لما أجمعوا على ذلك ، لأنّ إجماعهم فيه معصوم لا يجوز عليه الغلط والسهو ، والّذي يكشف عن ذلك أنّه لمّا كان العمل بالقياس محظورا عندهم في الشريعة لم يعملوا به أصلا ، وإذا شذّ منهم واحد عمل به في بعض المسائل واستعمله على وجه المحاجّة لخصمه وإن لم يكن اعتقاده ، ردّوا قوله وأنكروا عليه وتبرّأوا من قوله ، حتّى أنّهم يتركون تصانيف من وصفناه ورواياته لمّا كان عاملا بالقياس ، فلو كان العمل بالخبر الواحد جرى بذلك المجرى لوجب فيه أيضا مثل ذلك ، وقد علمنا خلافه.

فإن قيل : كيف تدّعي إجماع الفرقة المحقّة على العمل بخبر الواحد ، والمعلوم من حالها أنّها لا ترى العمل بخبر الواحد ، كما أنّ من المعلوم أنّها لا ترى العمل بالقياس ، فإذا جاز ادّعاء أحدهما جاز ادّعاء الآخر.

قيل : المعلوم من حالها الّذي لا ينكر أنّهم لا يرون العمل بخبر الواحد الّذي يرويه مخالفوهم في الاعتقاد ويختصّون بطريقه ، فأمّا ما كان رواته منهم وطريقه أصحابهم فقد بيّنا أنّ المعلوم خلاف ذلك.

فإن قيل : أليس شيوخكم لا يزالون يناظرون خصومهم في أنّ خبر الواحد لا يعمل به ، ويدفعونهم عن صحّة ذلك حتّى أنّ منهم من يقول : لا يجوز ذلك عقلا ، ومنهم من يقول : لا يجوز ذلك سمعا ، لأنّ الشرع لم يرد به ، وما رأينا أحدا تكلّم في جواز ذلك ، ولا صنّف فيه كتابا ، ولا أملى فيه مسألة ، فكيف أنتم تدّعون خلاف ذلك؟

قيل له : من أشرت إليهم من المنكرين لأخبار الآحاد إنّما تكلّموا من خالفهم في الاعتقاد ، ودفعوهم من وجوب العمل بما يروونه من الأخبار المتضمّنة للأحكام الّتي يروون خلافها ، وذلك صحيح على ما قدّمناه ، ولم نجدهم أنّهم اختلفوا فيما بينهم ، وأنكره بعضهم على بعض العمل بما يروونه إلاّ مسائل دلّ الدليل الموجب للعلم على صحّتها ، فإذا خالفوهم فيها أنكروا عليهم لمكان الأدلّة الموجبة للعلم والأخبار المتواترة بخلافه.

على أنّ الّذين اشير إليهم في السؤال أقوالهم متميّزة بين أقوال الطائفة المحقّة ، وقد علمنا أنّهم لم يكونوا أئمّة معصومين ، وكلّ قول قد علم قائله وعرف نسبه وتميّز من

ص: 258

أقاويل سائر الفرقة المحقّة لم يعتّد بذلك القول ، لأنّ قول الطائفة إنّما كان حجّة من حيث كان فيهم معصوم ، فإذا كان القول من غير معصوم علم أنّ قول المعصوم داخل في باقي الأقوال ، ووجب المصير إليه على ما بيّنته في الإجماع » انتهى (1) ما أردنا نقله من موضع الحاجة ، وعورض إجماعه الّذي عرفته بما تقدّم من إجماع السيّد (2) على المنع.

ويمكن الذبّ تارة : بترجيح إجماع الشيخ.

واخرى : بالجمع بينه وبين إجماع السيّد ورفع التنافي عمّا بينهما.

أمّا الأوّل : فإمّا لأنّ الشيخ أبصر وأعرف بما هو المعهود المعمول به في فقه أهل البيت وفروع أحكامهم ، لكونه من الفقهاء وأهل الحديث ، بخلاف السيّد الّذي فنّه الكلام فيجوز أن يخفى عليه بعض ما هو من خصائص الفروع ، أو لاعتضاد إجماعه بموافقة المعظم وسائر الإجماعات المنقولة الآتية.

وأمّا الثاني فتارة : بتنزيل إجماع السيّد على خبر الواحد في الاصول ، لأنّه كان من المتكلّمين ومن مذهبهم منع العمل بخبر الواحد في المسائل الكلاميّة واصول العقائد ، وكان هو المعهود في نظر السيّد فأطلق المنع ونقل عليه الإجماع ، وهذا ممّا لا ينكره الشيخ ، بل ادّعى الإجماع على العمل به في الفروع ، وليس بمعلوم أنّ السيّد ينكره.

واخرى : بتزيل كلام السيّد على أخبار المخالفين المرويّة بطرقهم - كما أوّله بذلك المحقّق في المعتبر - (3) والشيخ لا يخالفه ، بل تقدّم في كلامه ما هو صريح في منع العمل عليها ، وإنّما جوّز العمل بما رواه أصحابنا.

وثالثة : بتنزيل خبر الواحد المجرّد عن القرائن في معقد إجماع السيّد على ما تجرّد عن القرائن الموجبة للوثوق والاطمئنان ، بناء على كون مراده من العلم الّذي ادّعاه بصدق الأخبار مجرّد الاطمئنان ، فإنّ المحكي عنه في تعريف العلم بأنّه ما اقتضى سكون النفس (4) ، وهو الّذي ادّعى بعض الأخباريّين (5) أنّ مرادنا بالعلم بصدور الأخبار هو هذا المعنى ، لا اليقين الّذي لا يقبل الاحتمال.

ولم يظهر من تضاعيف كلمات الشيخ ، أزيد من تجويز العمل بالأخبار الموثوق بصدورها.

ص: 259


1- العدّة 1 : 126 - 129.
2- رسائل الشريف المرتضى 1 : 24 و 3 : 309.
3- المعتبر 1 : 29.
4- الذريعة 1 : 20.
5- هو المحدّث البحراني في الدرر النجفيّة : 63.

قال شيخنا قدس سره : « إنّ الإنصاف أنّه لم يتّضح من كلام الشيخ دعوى الإجماع على أزيد من الخبر الموجب لسكون النفس ، ولو بمجرّد وثاقة الراوي وكونه سديدا في نقله لم يطعن عليه في روايته » (1).

ومنها : ما حكي عن السيّد الجليل رضيّ الدين بن طاووس حيث طعن على السيّد في جملة كلام له بقوله : « ولا يكاد ينقضي تعجّبي كيف اشتبه عليه أنّ الشيعة يعمل بأخبار الآحاد في الامور الشرعيّة ، ومن اطّلع على التواريخ وشاهد عمل ذوي الاعتبار ، وجد المسلمين والمرتضى وعلماء الشيعة الماضين عاملين بأخبار الآحاد بغير شبهة عند العارفين ، كما ذكر محمّد بن الحسن الطوسي في كتاب العدّة وغيره من المشغولين بتصفّح أخبار الشيعة وغيرهم من المصنّفين » انتهى (2).

ويظهر منه أنّ غير الشيخ أيضا ادّعي إجماع الشيعة على العمل بأخبار الآحاد.

ومنها : ما حكي عن نهاية العلاّمة من قوله : « إنّ الأخباريّين منهم لم يعوّلوا في اصول الدين وفروعه إلاّ على أخبار الآحاد ، والاصوليّين منهم كأبي جعفر الطوسي عمل بها ولم ينكره ، سوى المرتضى وأتباعه لشبهة حصلت لهم » (3) انتهى.

وظاهره أنّه لولا حصول الشبهة لهم لكانوا داخلين في الإجماع على العمل بأخبار الآحاد ، ويحتمل كون شبهتهم في الموضوع ، وهو إنكار كون الأخبار المعمول بها لديهم غير علميّة بزعم وجود القرائن وإفادتها العلم ، كما ادّعاه الأخباريّون.

أو دعوى : كون الأخبار الّتي عمل بها الشيعة ودوّنوها في كتبهم محفوفة بالقرائن ، كما يظهر ذلك في كلامه المحكي عن الموصليّات ، قائلا : « إن قيل : أليس شيوخ هذه الطائفة عوّلوا في كتبهم في الأحكام الشرعيّة على الأخبار الّتي رووها عن ثقاتهم ، وجعلوها العمدة والحجّة في الأحكام؟ وقد رووا من أئمّتهم فيما يجيء مختلفا من الأخبار عند عدم الترجيح أن يؤخذ منه ما هو أبعد من قول العامّة ، وهذا يناقض ما قدّمتموه.

قلنا : ليس ينبغي أن يرجع عن الامور المعلومة المشهورة المقطوع بها بما هو مشتبه وملتبس مجمل ، وقد علم كلّ موافق ومخالف أنّ الشيعة الإماميّة تبطل القياس في الشريعة حيث لا يؤدّى إلى العلم ، وكذلك تقول في أخبار الآحاد » (4).

ص: 260


1- فرائد الاصول 1 : 332.
2- لم نعثر عليه.
3- نهاية الاصول ( مخطوط ) : 296.
4- رسائل الشريف المرتضى 1 : 210.

ومنها : ما حكي عن العلاّمة المجلسي في بعض رسائله ، حيث ادّعى تواتر الأخبار ، وعمل الشيعة في جميع الأعصار على العمل بخبر الواحد (1).

ومنها : ما حكي عنه أيضا في البحار في تأويل بعض الأخبار الّتي تقدّم ذكرها في دليل السيّد وأتباعه ، ممّا دلّ على المنع من العمل بالخبر الغير المعلوم الصدور ، من « أنّ عمل أصحاب الأئمّة عليهم السلام بالخبر الغير العلمي متواتر بالمعنى » وظاهره دعوى إجماع أصحاب الأئمّة على العمل بالخبر الغير العلمي بعنوان القطع به من جهة التواتر ، قيل : « وهذا لا يقصر عن دعوى الشيخ والعلاّمة الإجماع على العمل بأخبار الآحاد » (2).

ومنها : ما حكي عن النجاشي من دعوى « أنّ مراسيل ابن عمير مقبولة عند الأصحاب » (3) ولمّا كان الجهة الباعثة على ذلك أنّ ابن عمير لا يرسل أو لا يروي إلاّ عن ثقة ، دلّ ذلك على أنّ كلّ من لا يرسل أو لا يروي إلاّ عن ثقة فقد أجمع الأصحاب على قبول مراسيله أو رواياته ، ونسب نحوه أيضا إلى الشهيد في الذكرى (4) وعن كاشف الرموز - تلميذ المحقّق - « أنّ الأصحاب عملوا بمراسيل البزنطي » (5).

ومنها : ما حكي عن ابن ادريس في رسالة خلاصة الاستدلال الّتي صنّفها في مسألة فوريّة القضاء ، في مقام دعوى الإجماع على المضايقة وإطباق الإماميّة عليها إلاّ نفرا من الخراسانيّين ، قال في تقريب الإجماع : « أنّ ابني بابويه والأشعريّين كسعد بن عبد اللّه ، وسعد بن سعد ، ومحمّد بن علي بن محبوب ، والقمّيّين أجمع كعليّ بن إبراهيم ، ومحمّد بن الحسن بن الوليد ، عاملون بالأخبار المتضمّنة للمضائقة ، لأنّهم ذكروا أنّه لا يحلّ ردّ الخبر الموثوق بروايته » (6) وظاهره دعوى إجماع الإماميّة على حرمة ردّ الخبر الموثوق.

وربّما ينهض دعواه الاجماع هنا قرينة على أنّ مراده ومراد السيّد من الخبر العلمي في منعهم العمل بغيره الخبر الموثوق به لا غير ، فلا مخالفة.

ومنها : ما حكي عن المحقّق في المعتبر في مسألة خبر الواحد من قوله : « أفرط الحشويّة في العمل بخبر الواحد ، حتّى انقادوا كلّ خبر ، وما فطنوا لما تحته من التناقض ،

ص: 261


1- بحار الانوار 2 : 245 ، ذيل حديث 55.
2- بحار الانوار 2 : 245 / 55.
3- رجال النجاشى : 326 رقم الترجمة 887.
4- الذكرى 1 : 49.
5- كاشف الرموز 1 : 452.
6- رسالة خلاصة الاستدلال وهي مفقودة وحكاه عنه الشهيد في غاية المراد 1 : 102.

فإنّ من جملة الأخبار قول النبيّ : « ستكثر بعدي القالة عليّ » (1) وقول الصادق عليه السلام : « أنّ لكلّ رجل منّا رجلا يكذب عليه » (2) واقتصر بعضهم من هذا الإفراط ، فقال : كلّ سليم السند يعمل به وما علم أن الكاذب قد يصدق ، ولم يتنبّه على أنّ ذلك طعن في علماء الشيعة وقدح في المذهب ، إذ ما مصنّف إلاّ وهو يعمل بالخبر المجروح كما يعمل بخبر العدل » (3) إلى آخر ما أردنا ذكره ، وكلامه كما ترى صريح في أنّ علماء الشيعة يعملون بخبر العدل ، كما يعملون بخبر غيره أيضا ، ولا يتوهّم كون مرادهم العمل بأحدهما حيث أوجب العلم ، لأنّه إخراج لقوله عن معقد كلامه ، فإنّ كلامه في الخبر الغير العلمي ، فإنّه الّذي أحال استعماله عقلا قوم وشرعا آخرون ، كما نقلهما أيضا في ذيل كلامه المذكور.

ومنها : ما حكي عن الشهيد في الذكرى والمفيد الثاني ولد الشيخ الطوسي ، « من أنّ الأصحاب قد عملوا بشرائع أبي الحسن بن بابويه عند إعواز النصوص ، تنزيلا لفتاويه منزلة رواياته » (4) ولو لا عمل الأصحاب برواياته الغير العلميّة لم يكن وجه في العمل بتلك الفتاوى عند فقد رواياته بل تقييد العمل بفتاويه بإعواز النصوص على الإطلاق يدلّ على أنّ الأصحاب كانوا يعملون بسائر النصوص غير رواياته عند وجودها ، ولا ينبغي أن يحتمل فيها إرادة النصوص العلميّة بدليل العدول عند إعوازها إلى فتاوى ابن بابويه ، لا إلى النصوص الغير العلميّة.

ومنها : ما حكي عن شيخنا البهائي في مشرق الشمسين من « أنّ الصحيح عند القدماء ما كان محفوفا بما يوجب ركون النفس إليه » (5) قال شيخنا : « وذكر فيما يوجب الوثوق امورا لا تفيد إلاّ الظنّ ، ومعلوم أنّ الصحيح عندهم هو المعمول به ، وليس مثل الصحيح عند المتأخّرين في أنّه قد لا يعمل به لإعراض الأصحاب عنه ، أو لخلل آخر ، فالمراد أنّ المقبول المعمول به عند القدماء ما تركن إليه النفس وتثق به » (6) انتهى.

وهذه الإجماعات المنقولة - وإن لم يصرّح بلفظ « الإجماع » في أكثرها - تفيد كثرتها واستفاضتها مع انضمام بعض القرائن إليها - مثل ذهاب معظم الأصحاب بل كلّهم عدا السيّد

ص: 262


1- ورد قريب منه في الوسائل 27 : 206 / 1 ، ب 14 من أبواب صفات القاضي.
2- رواه في المعتبر مرسلا عن الصادق عليه السلام 1 : 29.
3- المعتبر 1 : 29.
4- الذكرى 1 : 51.
5- مشرق الشمسين : 269.
6- فرائد الاصول 1 : 340.

وأتباعه من زمان الصدوق إلى زماننا هذا إلى حجّيّة الخبر الغير العلمي - العلم بحصول الإجماع على العمل بخبر الغير العلمي في الجملة ، والمتيقّن منه الخبر الموثوق بصدقه الموجب للاطمئنان.

وثانيها : أن يدّعى الإجماع حتّى من السيّد وأتباعه على وجوب العمل بخبر الواحد الغير العلمي في زماننا هذا وشبهه ممّا انسدّ فيه باب القرائن المفيدة للعلم بصدق الخبر ، ولا ينافيه منع السيّد لأنّ الظاهر أنّه منعه بزعم عدم الحاجة إلى خبر الواحد المجرّد ، كما يظهر ممّا ذكره في جواب ما اعترضه على نفسه بقوله : « فإن قلت : إذا سددتم طريق العمل بأخبار الآحاد ، فعلى أيّ شيء تعوّلون في الفقه كلّه؟

فأجاب بما حاصله : أنّ معظم الفقه يعلم بالضرورة والإجماع والأخبار العلميّة ، وما يبقى من المسائل الخلافيّة يرجع فيها إلى التخيير » (1) ولقد عثرنا في غير موضع من كلمات السيّد تجويز العمل بالظنّ على تقدير انسداد باب العلم ، ولكن يشكل - إتمام هذا التقرير بانضمام مقدّمة انسداد باب القرائن المفيدة للعلم بصدق الخبر - بأنّه يأبى ما هو المقصود بالبحث من حجّيّة خبر الواحد الغير العلمي من باب الظنّ الخاصّ الّذي لا يتفاوت فيه بين زماني انسداد باب العلم وانفتاحه ، قبالا للظنّ المطلق المنوط حجّيّته بانسداد باب العلم المختصّ بأزمنة الغيبة ، إلاّ أن يدفع : بإبداء الفرق بين انسداد باب القرائن المفيدة للعلم بصدق الخبر ، وانسداد باب العلم بالأحكام الواقعيّة ، وهذا هو مناط حجّيّة الظنّ المطلق ، وانسداد باب العلم بصدق الخبر لا يلازمه كما هو واضح.

وثالثها : استقرار سيرة المسلمين كافّة على استفادة الأحكام الشرعيّة من أخبار الثقات المتوسّطة بينهم وبين الإمام أو المجتهد ، من غير نكير ولا توقّف ، وكما أنّ عمل المقلّدين في أزمنة الغيبة بنقل الثقات بفتاوي مجتهديهم من غير نكير يكشف عن رضا المجتهدين بذلك ، أو وصول إذن إليهم من المجتهدين فيه ، فكذلك عمل أهل أزمنة الحضور بنقل الثقات لروايات الأئمّة يكشف عن رضا الأئمّة بذلك ، أو عن وصول إذن منهم في ذلك إليهم ، فعمل الفريقين إجماع عملي يكشف عن رضا الرئيس ، أو إذنه ، وهو المراد من السيرة.

وظنّي أنّ الإجماع بهذا التقرير أسدّ وأمتن من التقرير الأوّل.

وبالتأمّل فيما بيّناه من توجيه الاستدلال ، يندفع ما ذكره السيّد في جملة كلام له جوابا عمّا اعترضه على نفسه ، وهو « أنّه لا خلاف بين الامّة في أنّ من وكلّ وكيلا ، أو استناب

ص: 263


1- رسائل الشريف المرتضى 3 : 312 - 313.

صديقا في ابتياع أمة أو عقد على امرأة في بلد ، أو في بلاد نائية ، فحمل إليه الجارية وزفّ إليه المرأة ، أو أخبر أنّه أزاح العلّة في ثمن الجارية ومهر المرأة ، وأنّه اشترى هذه وعقد على تلك ، أنّ له وطئها والانتفاع بها في كلّ ما يسوغ للمالك والزوج ، وهذه سبيله مع زوجته وأمته إذا أخبرته بطهرها وحيضها ، ويرد الكتاب على المرأة بطلاق زوجها أو بموته فتتزوّج ، وعلى الرجل بموت امرأته فيتزوّج اختها ، وكذا لا خلاف بين الامّة في أنّ للعالم أن يفتي ، وللعامي أن يأخذ منه مع عدم علمه أنّ ما أفتى به من شريعة الإسلام وأنّه مذهبه.

فأجاب عنه بما حاصله : « أنّه إن كان الغرض من هذه الردّ على من أحال التعبّد بخبر الواحد فمتوجّه فلا محيص عنه ، وإن كان الغرض الاحتجاج به على وجوب العمل بأخبار الآحاد في التحليل والتحريم ، فهذه مقامات ثبت فيها التعبّد بأخبار الآحاد من طرق علميّة ، من إجماع وغيره على أنحاء مختلفة في بعضها لا يقبل إلاّ أخبار أربعة ، وفي بعضها لا يقبل إلاّ عدلان ، وفي بعضها يكفي العدل ، وفي بعضها يكفي خبر الفاسق والذمّي كما في الوكيل ومبتاع الأمة والزوجة في الطهر والحيض ، وكيف يقاس على ذلك رواية الأخبار في الأحكام » (1) انتهى ملخّصا.

والذي دعاه إلى هذا الجواب ، كون السؤال نقضا بالموارد الخاصّة من الأخبار [ الغير ] العلميّة المعمول بها عند الامّة بلا خلاف.

فأجاب بأنّها مخرجة بأدلّة خاصّة علميه ، فلا يقاس عليها الروايات المأثورة عن الأئمّة ، وأمّا الاستدلال بالسيرة بالبيان الّذي ذكرناه ، فهو سالم عن الاعتراض المذكور.

ورابعها : استقرار طريقة العقلاء طرّا على الرجوع بخبر الثقة في امورهم العادية ، ومنها الأوامر الجارية من الموالي الى العبيد ، فإنّ العبيد في الإطاعة والمعصية بموافقة أوامر الموالي ومخالفيها يعتمدون على نقل الثقات للأوامر من الموالي مع صدق الطاعة والمعصية عرفا أيضا ، وربّما قيل في توجيه الاستدلال بذلك : « بأنّ الشارع إن اكتفى بذلك منهم في الأحكام الشرعيّة فهو ، وإلاّ وجب عليه ردعهم وتنبيههم على بطلان سلوك هذا الطريق في الأحكام الشرعيّة ، كما ردع في أحكام خاصّة ، وحيث لم يردع علم منه رضاه بذلك ، لأنّ اللازم في باب الإطاعة والمعصية ، الأخذ بما يعدّ طاعة في العرف وترك ما يعدّ معصية كذلك » (2).

وفيه : نظر واضح ، فإنّ عدم الردع عن الطريقة في الامور العادية - بمعنى ما يتعلّق بامور المعاش - لا يكشف عن الرضا ، لعدم وجوب الردع عنها لو كانت باطلة على الشارع

ص: 264


1- رسائل الشريف المرتضى 1 : 37 - 41.
2- فرائد الاصول 1 : 345.

وامنائه ، لعدم كون بيان ما يرجع إلى امور المعاش من وظيفته.

ولو قيل في الامور العادية بالمعنى المذكور ما هو من قبيل موضوعات الأحكام الشرعيّة ، ككون هذا خمرا أو خلاّ أو ماء ميتة أو خزا أو جلد ما لا يؤكل لحمه وما أشبه ذلك ، ويقبل فيها الواحد ويحرز به الموضوع ، فيترتّب عليه الأحكام الشرعيّة المترتّبة على كلّيّات هذه الموضوعات ، ولا ريب أن التقرير في مثل ذلك يكشف عن الرضا.

قلنا لو سلّم استقرار طريقة العقلاء على قبول الواحد في مثل ذلك أيضا ، نقول : بأنّ قصارى ما يستلزمه إنّما هو حجّيّة خبر الواحد في الموضوعات الخارجيّة ، ولا ملازمة بينها وبين الحجّيّة في الروايات المصطلحة في الأحكام الشرعيّة الكلّيّة الالهيّة ، ولو اريد من الامور العادية ما يعمّ الأحكام الشرعيّة فهو مع بعده غير معلوم ، إذ لم يظهر من العقلاء استقرار طريقة بما ذكر في الأحكام الشرعيّة ، إلاّ أن يراد بالعقلاء خصوص المسلمين ، فيرجع التقرير المذكور إلى الوجه السابق ، وهو استقرار سيرة المسلمين.

وقد يورد عليه أيضا : بأنّه يكفي في ردعهم الآيات المتكاثرة ، والأخبار المتظافرة بل المتواترة ، على حرمة العمل بما وراء العلم.

وفيه : أنّ وجود الأدلّة الناهية عن العمل بما وراء العلم ، لا يسقط الردع عن الباطل ، كما أنّ وجود أدلّة الأحكام الواقعيّة لا يسقط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في موارد وجوده ، والردع عن الباطل المحرّم إنّما يجب في موارد التقرير على المعصوم نبيّا كان أو وصيّا ، لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعنى الأعمّ عليه ، وهو إرشاد الجاهل وتنبيه الغافل ، وردع العاصي عن معصيته من ترك واجب أو فعل محرّم مع العلم بالوجوب والحرمة ، بدليل وجوب اللطف وقوله تعالى : ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) (1) ، ولئن سلّمنا كون اللطف هنا مع وجود الأدلّة الناهية من اللطف المندوب فلا يجري دليل اللطف ، فهو لا ينافي جريان الآية خصوصا أنّ العاملين بخبر الثقة إنّما يعملون به باعتقاد الجواز ، وردعهم عن معتقدهم على تقدير عدم الجواز واجب عليه ، ومجرّد وجود العمومات الناهية عن العمل بما وراء العلم لا يوجب ارتداعهم ، ولا يكفي في الردع إذ لا يلزم طرحها ، فليتدبّر.

وخامسها : إجماع الصحابة على العمل بخبر الواحد من غير نكير ، كما عن العلاّمة في

ص: 265


1- سورة آل عمران : 104.

النهاية (1) وعنه أنّه ذكر فيها مواضع كثيرة ممّا عمل فيها الصحابة بخبر الواحد.

وقد يورد عليه : بأنّه إن اريد من الصحابة العاملين بالخبر ، من كان في ذلك الزمان لا يصدر إلاّ عن رأي الحجة عليه السلام ، فلم يثبت عمل أحد منهم بخبر الواحد فضلا عن ثبوت تقرير الإمام عليه السلام له ، وإن اريد به الهمج الرعاع الذين يصغون إلى كل ناعق ، فمن المقطوع به عدم كشف عملهم عن رضا الإمام عليه السلام لعدم ارتداعهم بردعه في ذلك اليوم ، ولعلّ هذا مراد السيّد رحمه اللّه حيث أجاب عن هذا الوجه « بأنّه إنّما عمل بخبر الواحد المتأمّرون الّذين يحتشم التصريح بخلافهم ، فإمساك النكير عليهم لا يدلّ على الرضا بعملهم » (2).

وهذا كما ترى خلاف الإنصاف ، لأنّ عمل الّذين يحتشم التصريح بخلافهم بخبر الواحد على تقدير كونه محرّما ليس بأشدّ من عملهم بالقياس ، وقد منع الأئمّة عليهم السلام من العمل به وصرّحوا بخلافهم في الخلأ والملأ ، حتّى صدر عنهم في ذلك رواية متكاثرة بل متواترة بل بالغة فوق حدّ التواتر ، حتّى صار حرمته بواسطة إكثارهم عليهم في المنع من ضروريّات مذهب الشيعة ، فعملهم في مثل ذلك بملاحظة عدم ردع الأئمّة عليهم السلام عن ذلك أصلا لا في الملأ ولا في الخلأ ، حتّى أنّه لم يصدر عنهم في منعه رواية واحدة حتّى لبعض خواصّهم يكشف عن الرضا قطعا.

نعم إن كان ولابدّ من المناقشة في هذا الوجه من تقرير الإجماع ، فطريقها منع الصغرى ، وهو منع كون الأخبار المعمول بها ثمّة أخبار غير علميّة ، على وجه كانوا مجمعين على العمل بها بوصف كونها غير علميّة.

نعم لا مضائقة عن كون [ عمل ] أكثر عوامهم من جهة المسامحة وقلّة المبالاة في الدين كذلك ، كما هو الحال في أكثر أعوام هذه الأزمان والأيّام ، حيث يصغون إلى كلّ ناعق لعدم تميزهم وقلّة مبالاتهم ، وهذا لا يكفي في انعقاد الإجماع وحصوله.

وسادسها : دعوى الإجماع من الإماميّة حتّى السيّد وأتباعه على وجوب الرجوع إلى هذه الأخبار الموجودة في أيدينا المودعة في اصول الشيعة وكتبهم ، وهذا هو الّذي ربّما فهمه بعضهم (3) من عبارة الشيخ المتقدّمة عن العدة (4) ، فحكم بعدم مخالفته للسيّد قدس سره.

وأورد عليه أوّلا : بأنّه إن اريد ثبوت الاتّفاق على العمل بكلّ واحد واحد من أخبار

ص: 266


1- نهاية الوصول ( مخطوط ) : 295.
2- الذريعة 2 : 537.
3- هو الشيخ حسين الكركي العاملي في كتاب هداية الأبرار إلى طريق الأئمّة الأطهار : 68 و 69.
4- العدّة 1 : 126 و 129 و 142.

هذه الكتب ، فهو ممّا علم خلافه بالعيان ، لكثرة ما فيها ممّا أعرضوا عنه لضعف سند ، أو إرسال أو مخالفة كتاب ، أو إجماع أو نحوه ، وإن اريد ثبوت الاتّفاق على العمل بها في الجملة على اختلاف العاملين في شروط العمل ، حتّى أنّه يجوز أن يكون المعمول به عند بعضهم مطروحا عند آخر ، فهذا لا ينفعنا إلاّ في حجّيّة ما علم اتّفاق الطائفة على العمل به بالخصوص ، وهذا لا يوجد في الأخبار إلاّ نادرا.

وثانيا : بأنّ ما ذكر من الإجماع لا ينفع حتّى في الخبر الّذي علم اتّفاق الطائفة على قبوله والعمل به ، لأنّ الشرط في الاتّفاق العملي أن يكون وجه عمل المجمعين [ معلوما ] ، وأن يكون إجماعهم على وجه واحد معلوم.

ألا ترى أنّه لو اتّفق جماعة من الرجال على عمل علم برضا الإمام بعملهم ، كاتّفاقهم على النظر إلى إمرأة لكن بعضهم لكونها زوجته ، وآخر لكونها امّ زوجته ، وآخر لكونها بنت زوجته ، وآخر لكونها منكوحة أبيه ، وآخر لكونها حليلة إبنه ، وآخر لكونها أمة ، وآخر لكونها بنته ، وآخر لكونها اخته ، وآخر لكونها عمّته ، وآخر لكونها خالته ، وآخر لكونها بنت أخيه ، وآخر لكونها بنت اخته ، وهكذا فهل يحلّ لغيرهم ممّن لا محرميّة بينه وبينها أن ينظر إليها ، لاتّفاق الجماعة الكاشف عن رضا الإمام؟ بل لو رأى عاقل شخص الإمام ينظر إلى امرأة ، فهل له التأسّي به؟ وليس هذا كلّه إلاّ من جهة أن الفعل بما هو فعل مجمل لا دلالة له على شيء إلاّ حيث علم وجهه ، ووجه اتّفاق الطائفة على العمل بهذه الأخبار غير معلوم ، فمن المحتمل أن يكون العمل بها من بعض المجمعين لكونها معلومة الصدور عنده بتواتر أو احتفاف قرينة ، ومن آخر لكونها قطعيّة العمل ، ومن ثالث لكونها مفيدة للظنّ الّذي هو الحجّة لا غير.

فكيف يمكن القول بأنّه يكشف عن رضا الإمام لنا على العمل بها على أنّها أخبار غير علميّة من حيث الخبريّة ، حتّى لو فرضنا أنّ من المجمعين من يعمل بها على هذا الوجه خصوصا مع علمنا بخطأ أكثر هؤلاء أو بعضهم في جهة العمل ، بل هذا في الحقيقة ليس من الاتّفاق على العمل بخبر الواحد الغير العلمي من حيث الخبريّة ، وإن لم يظنّ صدوره بل ولم يفد الظنّ بالحكم الواقعي (1).

هذا تمام الكلام في الاستدلال على الحجّية من جهة الإجماع.

ص: 267


1- فرائد الاصول 1 : 349 / 350 مع اختلاف يسير.

6 - الاستدلال على حجّية خبر الواحد بالعقل

وأمّا العقل : فيقرّر أيضا بوجوه بعضها ما لو تمّ كان مفاده حجّية خبر الواحد من حيث الخبريّة ، وبعضها ما لو تمّ لقضى بحجّيّة مطلق ما يفيد الظنّ الّذي منه خبر الواحد ، أو بحجّيّة الظنّ مطلقا أو في الجملة ، فيدخل فيه الظنّ الخبري.

أوّلها : حجّيّة العلم الإجمالي الّتي هي حكم عقلي الحاصل بصدور كثير من هذه الأخبار الّتي في أيدينا بل أكثرها ، من ملاحظة أحوال الرواة المحدّثين وأرباب التصانيف والكتب المعتمدة من المشايخ الثلاث ومن تقدّم عليهم ، وتتّبع تراجمهم المذكورة في الرجال وغيره وشدّة اهتمامهم في ضبط الحديث وتنقيحه وتنقيبه ، وتخليص كتبهم عن الأخبار المكذوبة ، وعدم إيداع أخبار الكتب المدسوس فيها في تلك الكتب ، واحترازهم عمّن يروي عن المجاهيل ويعتمد المراسيل وعن كتابه ورواياته ، حتّى أنّ أحمد بن محمّد بن عيسى أخرج البرقي عن قم لاتّهامهم إيّاه عنده بأنّه يروي عن المجاهيل ويعتمد المراسيل ، وقصّته معروفة ، إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع ، فإنّ هذه الامور وغيرها توجب العلم الإجمالي بصدور كثير من أخبار هذه الكتب بل جلّها ، وقضيّة حجّيّة العلم الإجمالي وجوب العمل بكلّ خبر يظنّ صدوره ، للتوصّل إلى العمل بالمعلومات بالإجمال.

لا يقال : هذا العلم الإجمالي معارض بالعلم الإجمالي بوجود أخبار كاذبة مدسوسة في كتب أصحاب الأئمّة ، من جعل الكذّابين ووضّاع الحديث على ما ورد في أخبار مستفيضة ، خصوصا أبي الخطّاب لعنه اللّه وأصحابه ، والمغيرة بن [ سعيد ](1) لعنه اللّه وأصحابه ، مثل ما ورد من أنّه عرض يونس بن عبد اللّه على سيّدنا أبي الحسن الرضا عليه السلام ، كتب جماعة من أصحاب الباقر عليه السلام والصادق عليه السلام فأنكر منها أحاديث كثيرة أن يكون من أحاديث أبي عبد اللّه عليه السلام ، وقال : إنّ أبا الخطّاب كذب على أبي عبد اللّه عليه السلام وكذلك أصحاب أبي الخطّاب يدسّون الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد اللّه عليه السلام (2).

وما روي عن هشام بن الحكم أنّه سمع أبا عبد اللّه عليه السلام « يقول : كان المغيرة بن [ سعيد ] لعنه اللّه يقول الكذب على أبي ، ويأخذ كتب أصحابه وكان أصحابه المستترون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي ، فيدفعونها إلى المغيرة لعنه اللّه فكان يدسّ فيها الكفر

ص: 268


1- وفي الأصل : « مغيرة بن سعد » والصحيح « مغيرة بن سعيد » كما اثبتناه فى المتن.
2- اختيار معرفة الرجال : 224 ، رقم الترجمة 401.

والزندقة ويسندها إلى أبي عبد اللّه عليه السلام » ، (1) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع. والعلم الإجمالي هنا أيضا حجّة فيجب الاجتناب عن كلّ خبر غير معلوم الصدور للتوصّل إلى الاجتناب عن الأخبار المكذوبة ، فإنّا لا ندّعي القطع بصدور الكلّ كما نسب إلى بعض الأخباريّين ، ولا الظنّ بصدور الكلّ حتّى ينافيه العلم الإجمالي بوجود الأخبار المكذوبة ، ولا يقتضي ذلك وجوب الاجتناب عن هذه الأخبار الّتي بأيدينا لخروجها عن طرف العلم الإجمالي المذكور بعد تنقيح أصحاب الحديث وكتبه وإخراجهم الأخبار المكذوبة عن كتبهم.

ولو سلّم كونها من أطراف العلم الإجمالي ، فهو حاصل بين محلّ الابتلاء وغيره ، فإنّ محلّ كلامنا هو هذه الأخبار لا ما لم يبلغنا وذهب عنّا فلا حكم له.

نعم أصل هذا التقرير من الدليل العقلي فاسد الوضع.

أمّا أوّلا : فلأنّ العمل بالأخبار المعلوم صدورها عن الأئمّة عليهم السلام إنّما يجب لوجوب امتثال الأحكام الواقعيّة الّتي هي مداليل هذه الأخبار ومضامينها ، فإنّ الخبر الصادر عن الإمام إنّما يجب العمل به من حيث كشفه عن حكم اللّه الواقعي ، فالعلم الإجمالي إنّما يعتبر بالقياس إلى الأحكام الصادرة عن الأئمّة عليهم السلام وهو لا يختصّ بهذه الأخبار ، بل حاصل في مجموع الأمارات الظنّيّة الّتي منها هذه الأخبار ، ومنها الإجماعات المنقولة ، ومنها الشهرة والاستقراء وغيرهما ، فإنّا نعلم إجمالا من جهة الضرورة وغيرها بصدور أحكام كثيرة عن الأئمّة عليهم السلام ، وهي في مجموع الأمارات من حيث المجموع ، وهو يقتضي وجوب امتثالها بطريق العلم تفصيلا أو إجمالا من جهة البناء على الأخبار ، ومع تعذّره أو تعسّره أو سقوط اعتباره لدليل دلّ على عدم وجوب العمل بالاحتياط في امتثال أحكام اللّه المعلومة بالإجمال فبطريق الظنّ ، ويقال له : الامتثال الظنّي التفصيلي ، فالدليل المذكور لو تمّ لقضى بحجّيّة كلّ ما يفيد الظنّ بصدور الحكم عن الحجّة وإن لم يكن من سنخ الخبر لا حجّية خصوص [ الخبر ] ، فهذا في الحقيقة معنى وجوب العمل بمطلق الظنّ ، لا وجوب العمل بأخبار الآحاد بالخصوص.

لا يقال : العلم الإجمالي الّذي هو مناط العمل حاصل فيما بين الأخبار الّتي بأيدينا ، فالمعلوم صدوره إنّما هو كثير من هذه الأخبار ، وأمّا صدور الأحكام الاخر المخالفة

ص: 269


1- اختيار معرفة الرجال : 225 ، رقم الترجمة 402.

للاصول غير مداليل هذه الأخبار ، فهو ليس بمعلوم ولا مظنون.

لأنّا نقول : حصول العلم الإجمالي في خصوص هذه الأخبار أمر مسلّم لا كلام لنا فيه ، ولا يمكن الاسترابة فيه أيضا ، إلاّ أنّه لا ينافي العلم الإجمالي بصدور الأحكام في مجموع الأمارات الّتي منها هذه الأخبار ، فالأمارات الاخر غير خارجة عن طرف العلم الإجمالي بصدور الأحكام الكثيرة عن أهل بيت العصمة ، وهذا نظير العلم الإجمالي بوجود شياة محرّمة في قطيع غنم هذا البلد المجامع للعلم الإجمالي بوجود شياة محرّمة في مجموع قطاع أغنام العالم.

غاية الأمر أنّ المعلوم بالإجمال إذا أخذ في المجموع ، كان آحاده الغير المعلومة بالتفصيل أكثر ممّا أخذ في خصوص قطيع هذا البلد ، وفي خصوص هذه الأخبار ، والأصل في ذلك أنّ الأخبار الصادرة عن أهل بيت العصمة ممّا وصل إلينا وما لم يصل في الكثرة أضعاف هذه الأخبار الواصلة إلينا ، فتكون الأحكام الصادرة عنهم المخالفة للاصول أضعاف الأحكام المستفادة من هذه الأخبار.

فنقول : إنّا نعلم إجمالا بصدور أحكام كثيرة غير محصورة عن الأئمّة عليهم السلام بهذه الأخبار الواصلة إلينا ، وبأخبار اخر غير واصلة إلينا ، ويكشف عنها سائر الأمارات الظنّيّة ، فتصحّ دعوى كون العلم الإجمالي حاصلا في مجموع الأمارات لا في خصوص أخبار الآحاد فقط.

وأمّا ثانيا : فلأنّ نتيجة هذا الدليل على تقدير تماميّته إنّما هو الأخبار المظنون صدق مضامينها من الأحكام وصدورها من الإمام ، فإنّ متعلّق التكليف الذي يتنجّز بسبب العلم الإجمالي إنّما هو العمل بالحكم الصادر عن الإمام ، والعمل بالخبر إنّما يعتبر مقدّمة له لا في نفسه ، فيكون متعلّق التكليف المقدّمي أيضا في الأخبار المظنونة هو العمل بالأحكام المظنونة المستفادة منها ، فالقدر الثابت بالدليل هو وجوب العمل بخبر يظنّ بصدق مضمونه وصدوره من الإمام ولو بإعانة الشهرة ونحوها ، لا كلّ خبر ظنّ بصدق نفسه وصدوره من الإمام وإن لم يظنّ بصدق مضمونه وصدوره ، والنسبة بين ظنّ صدور الخبر وظنّ صدور مضمونه عموم من وجه ، والظنّ بالحكم الصادر من الإمام الّذي هو مضمون الخبر لا يلازم الظنّ بصدور نفس الخبر ، لأنّه قد يظنّ صدور مضمونه من جهة الشهرة ونحوها ، وصدور مضمونه أعمّ من صدوره بنفس هذا الخبر أو بمرادفه ، فقد يظنّ صدق الخبر ولا يظنّ صدق مضمونه ، وقد يظنّ صدق مضمونه ولا يظنّ صدق نفس الخبر ، وقد يظنّ صدقهما معا ،

ص: 270

ومحلّ البحث هو الخبر المظنون صدق نفسه وإن لم يظنّ صدق مضمونه ، ومورد الدليل هو الخبر المظنون صدق مضمونه وإن لم يظنّ صدق نفسه.

وأمّا ثالثا : فلأنّ الدليل لا ينتج وجوب العمل بأخبار الآحاد الغير العلميّة بالمعنى المتنازع فيه ، لأنّه يقتضي وجوب العمل بالأخبار المظنون صدورها بالوجوب الغيري ، من جهة [ كونه ] مقدّمة للتوصّل إلى العمل بالأخبار المعلوم صدورها بالإجمال ، ولم يفد وجوب العمل بالأخبار المظنون صدورها في حدّ أنفسها ، وإن لم يلاحظ فيها جهة المقدّميّة كما هو محلّ البحث ، ويظهر أثر هذا الكلام في الأخبار المظنون صدورها لو فرضت خارجة عن طرف العلم الإجمالي ، فلم يعلم بذلك الدليل حالها من حيث وجوب العمل بها ، ولا جواز العمل بها حتّى تكون مخرجة عن أصالة حرمة العمل بما وراء العلم.

وأمّا رابعا : فلأنّ مرجع هذا الدليل إلى إثبات وجوب العمل بأخبار الآحاد ، من جهة قاعدة الاشتغال عملا بموجب العلم الإجمالى المقتضي لوجوب الخروج عن عهدة المعلومات بالإجمال ، وتحصيل اليقين بالبراءة عنها ، فلا ينهض مخصّصا للعمومات الناهية عن العمل بما وراء العلم ، كما هو المقصود بالبحث.

وثانيها : ما ذكره الفاضل التوني في الوافية - في جملة الوجوه الّتي استدلّ بها على حجّيّة الخبر الموجود في الكتب المعتمدة للشيعة ، كالكتب الأربعة مع عمل جمع به من غير ردّ ظاهر - من « أنّا نقطع ببقاء التكليف إلى يوم القيامة ، ولا سيّما بالاصول الضروريّة ، كالصلاة والزكاة والصوم والحجّ والمتاجر والأنكحة ، ونحوها ، مع أنّ جلّ أجزائها وشرائطها وموانعها إنّما يثبت بالخبر الغير القطعي ، بحيث يقطع بخروج حقائق هذه الامور عن كونها هذه الامور عند ترك العمل بخبر الواحد ، ومن أنكر فإنّما ينكره باللسان وقلبه مطمئنّ بالإيمان » (1).

وأورد عليه أوّلا : بأنّ العلم الإجمالي حاصل بوجود الأجزاء والشرائط بين جميع الأخبار ، لا خصوص الأخبار المشروطة بما ذكره ، ومجرّد وجود العلم الإجمالي في تلك الطائفة الخاصّة لا يوجب خروج غيرها عن أطراف العلم الإجمالي - كما عرفت في الجواب الأوّل عن الوجه الأوّل (2) - وإلاّ أمكن (3) إخراج بعض هذه الطائفة الخاصّة ودعوى العلم

ص: 271


1- الوافية : 159.
2- راجع الصفحة : 269.
3- وفى النسخ المتداولة من الفرائد هكذا : « والاّ لما أمكن » الخ ، والصواب هو ما في المتن كما يعطيه التدبّر فى السياق.

الإجمالي في الباقي كأخبار العدول مثلا ، فاللازم حينئذ إمّا الاحتياط والعمل بكلّ خبر دلّ على جزئيّة شيء أو شرطيّته ، وإمّا العمل بكلّ خبر ظنّ صدوره ممّا دلّ على الجزئيّة أو الشرطيّة ، إلاّ إن يقال : إنّ المظنون الصدور من الأخبار هو الجامع لما ذكر من الشروط.

وثانيا : أنّ [ مقتضى ] هذا الدليل وجوب العمل بالأخبار الدالّة على الأجزاء والشرائط دون الأخبار الدالّة على عدمهما ، خصوصا إذا اقتضى الأصل الجزئيّة والشرطيّة (1).

وثالثا : أنّه لا ينهض حاكما على العمومات الناهية.

والأولى أن يقال في الردّ : أنّه إن اريد بهذا البيان دعوى العلم الإجمالي بأنّ لحقائق العبادات والمعاملات أجزاء وشرائط وموانع ، فيجب العمل بأخبار الآحاد المثبتة لتلك الأجزاء والشرائط والموانع للتوصّل إلى المعلومات بالإجمال.

ففيه : أنّه يرجع إلى الوجه الأوّل ، فيرد عليه أكثر ما ورد عليه ، مضافا إلى عدم قضائه بحكم الأخبار النافية للجزئيّة أو الشرطيّة أو المانعيّة.

وإن اريد به أنّه لو ترك العمل بالآحاد المتكفّلة لبيان الأجزاء والشرائط والموانع للعبادات والمعاملات ، يلزم منه خروج حقائقهما عمّا هي عليها.

ففيه : أنّه يرجع إلى دليل الانسداد المنتج لحجّيّة الظنّ مطلقا أو في الجملة ، وذلك لأنّ دعوى الملازمة تتوقّف على إحراز مقدّمات ، منها بقاء التكليف بحقائق العبادات والمعاملات وأجزائهما وشرائطهما وموانعهما ، ومنها انسداد باب العلم بها غالبا ، ومنها قبح التكليف بما لا يطاق لو كلّفنا بالعلم فيها ، أو الخروج عن الدين لو منعنا من العمل بالأخبار الغير القطعيّة المتكفّلة لبيان الأجزاء والشرائط والموانع ، فتعيّن العمل بها.

فنقول : إنّ نتيجة الدليل حينئذ هو وجوب العمل بكلّ ما يوجب الظنّ بحقائق العبادات والمعاملات وأجزائهما وشرائطهما وموانعهما ، لا خصوص الأخبار الغير القطعيّة ، فضلا عن هذه الطائفة المخصوصة.

وثالثها : ما اعتمد عليه بعض الأفاضل (2) ولخّصه شيخنا قدس سره ، وهو أنّ وجوب العمل بالكتاب والسنّة ثابت بالإجماع بل الضرورة والأخبار المتواترة ، والمفروض أنّ بقاء هذا

ص: 272


1- فرائد الاصول 1 : 361 و 362 مع اختلاف يسير.
2- هو الشيخ محمّد تقي الإصفهاني ، صاحب هداية المسترشدين.

التكليف بالنسبة إلينا أيضا ثابت بالأدلّة المذكورة ، فحينئذ يجب الرجوع إليهما بطريق العلم إن أمكن ، وإلاّ فيجب الرجوع بطريق الظنّ.

وبعبارة اخرى : وحينئذ فإن أمكن الرجوع إليهما على وجه يحصل العلم بهما بحكم أو الظنّ الخاصّ به فهو ، وإلاّ فالمتّبع هو الرجوع إليهما على وجه يحصل الظنّ منهما (1).

وقضيّة كلامه انقسام السنّة إلى ما هو قطعي وما هو ظنّي ، وكلاهما يجب الرجوع إليهما ، ولكن على وجه الترتيب لا مطلقا.

وهذا الانقسام كما ترى لا يتمشّي في الكتاب ، لأنّ الظاهر أنّ القطعيّة والظنّيّة هنا تعتبران بالنسبة إلى السند والصدور ، بدليل : أنّ مورد الدليل [ الّذي ] هو محلّ البحث إنّما هو خبر الواحد الغير العلمي ، قبالا للأخبار العلميّة لتواتر أو احتفاف قرائن ، وظنّيّة السند بالقياس إلى الكتاب غير متصوّر ، وحينئذ فإدراجه في الدليل ممّا لا جدوى فيه.

والعمدة من مورد الدليل هو السنّة ، لأنّ المقصود إنتاجه لوجوب العمل بالسنّة الظنّيّة ، وحينئذ فيرد عليه : أنّه إمّا يرجع إلى دليل الانسداد المنتج لحجّيّة مطلق الظنّ ولو في الجملة ، أو لا يرجع إلى محصّل أصلا ، لأنّ السنّة إن اريد بها معناها المصطلح عليه - وهو قول المعصوم أو فعله أو تقريره - فالدليل راجع إلى دليل الانسداد ، لاشتراط [ الرجوع ] إلى السنّة الظنّيّة والعمل بها بعدم إمكان العلم ، فيفيد وجوب العمل بكلّ ما يظنّ صدور بيانه من الحكم الواقعي من المعصوم بقول أو فعل أو تقرير ، وهذا لا يختصّ بالخبر المصطلح ، بل لو ظنّ من جهة الشهرة أو الإجماع المنقول أنّ الحكم المشهور أو معقد الإجماع صدر بيانه من المعصوم بقول أو فعل أو تقرير وجب الأخذ به ، وكذلك الاستقراء والأولويّة الظنّيّة إذا ظنّ من جهتهما صدور الحكم من المعصوم بإحدى الجهات.

نعم قد لا يظنّ بهما ذلك ، بل يظنّ بالحكم الواقعي من غير ظنّ بصدور بيانه منه ، وإن كان من الأحكام المخزونة عند الإمام ، إذ لا يلزم في كلّ ما هو مخزون عنده أن يكون ممّا صدر بيانه منه ، فإنّ كثيرا من الأحكام الواقعيّة لم يصدر بيانها من الأئمّة عليهم السلام لمصلحة مقتضية لإخفائها ، أو تأخير بيانها إلى وقته المعلوم.

وإن اريد بها حكاية قوله أو فعله أو تقريره ، كما هو الاصطلاح في الخبر والحديث ،

ص: 273


1- هداية المسترشدين : 397 ، الوجه السادس.

فإن كان الغرض من الرجوع إليها الأخذ بالمحكي المتضمّن للحكم الشرعي ، فيرجع إلى التقدير الأوّل فيرد عليه ما عرفت ، وإن كان الغرض إيجاب الرجوع إليها في نفسها مع قطع النظر عن المحكي ، فهو ممّا لا محصّل له ولا تصلح مقسما للقطعيّة والظنّيّة ، ولا معنى لوجوب الرجوع إلى الحكاية القطعيّة والحكاية الظنّيّة المجرّدة عن القول والفعل والتقرير المفيد للحكم.

فالإنصاف : أنّه ليس في الوجوه العقليّة ما يفي بإثبات حجّيّة الواحد من حيث الخبريّة.

* * *

ص: 274

في الوجوه الّتي استدلّ بها على حجّية مطلق الظنّ :

اشارة

وأمّا الأدلّة المقامة على حجّيّة [ مطلق ] الظنّ

الوجه الأوّل : لزوم دفع الضرر المظنون عقلا

الّذي منه ما يحصل بالخبر فأربعة :

أوّلها

أنّ مخالفة المجتهد لما ظنّه حكم اللّه من وجوب أو تحريم مظنّة للضرر ، ودفع الضرر المظنون واجب (1) ، أمّا الصغرى فيقرّر تارة : بأنّ ظنّ الوجوب يتضمّن ظنّ استحقاق العقاب على الترك ، كما أنّ ظنّ التحريم يتضمّن استحقاق العقاب على الفعل ، والعقاب ضرر.

واخرى : بأنّ ظنّ الوجوب يستلزم ظنّ مفسدة في الترك ، كما أنّ ظنّ التحريم يستلزم ظنّ مفسدة في الفعل ، والمفسدة ضرر.

والفرق بين التقريرين : أنّ العقاب على التقرير الأوّل ضرر اخروي والمفسدة على الثاني ضرر دنيوي ، وإنّما خصّ الوجوب والتحريم بالذكر ، لأنّ ظنّ سائر الأحكام كالاستحباب والكراهة والإباحة لا يتضمّن ضررا ، إذ المستحبّ ما جاز تركه بلا استحقاق عقاب على الترك ولا مفسدة فيه ، والمكروه ما جاز فعله بلا استحقاق عقاب على الفعل ولا مفسدة فيه ، والمباح ما جاز تركه وفعله على جهة سواء بلا استحقاق عقاب عليهما ولا مفسدة فيهما ، وأمّا المنقصة التي يتضمّنها الكراهة فهي دون المفسدة فلا تعدّ ضررا ، ولو سلّم فهو ضرر متسامح فيه ، وليس بناء العقلاء على الاحتراز منه.

وعن النهاية (2) أنّه جعل كلاّ من الضررين دليلا مستقلاّ على المطلب ، وكيف كان فقد اجيب عنه بوجوه :

الأوّل : ما عن الحاجبي (3) وتبعه غيره (4) من منع الكبرى ، فإنّ دفع الضرر المظنون احتياط

ص: 275


1- استدلّ به العلاّمة في النهاية : 297 والمحقّق القمّي في القوانين 1 : 447 وصاحب الفصول في الفصول : 278 ومفاتيح الاصول : 484 - 485.
2- نهاية الوصول ( مخطوط ) : 297.
3- شرح مختصر الاصول : 163 ، المتن للحاجبي والشرح للعضدي.
4- كالعضدي ( شارح المختصر ).

استحساني ، لا أنّه حكم إلزامي إن قلنا بالتحسين والتقبيح العقليّين فكيف بأنّه لا نقول بهما.

وفيه : أنّه لا إشكال في أنّه حكم إلزامي ، وعليه إطباق العقلاء في امورهم ، بل نراهم مطبقين على ذمّ من أقدم على ما ظنّه ضررا ، بل نقول : إنّهم مطبقون على الالتزام بدفع الضرر المحتمل حيث كان الاحتمال عقلائيّا ، فضلا عن الضرر المظنون.

وقد يورد عليه أيضا : بأنّه لولا وجوب دفع الضرر المظنون أو المحتمل لزم سدّ باب إثبات وجوب معرفة اللّه ، لابتنائه على قاعدة وجوب شكر المنعم الّتي لا تتمّ إلاّ بمقدّمة وجوب دفع الضرر المظنون أو المحتمل ، وبأنّه لولا وجوبه لزم سدّ باب إثبات النبوّات وإفحام الأنبياء ، لأنّ نبوّة المتنبّي لا يثبت إلاّ بالنظر في معجزته ، ووجوبه يتوقّف على قاعدة وجوب دفع الضرر المظنون أو المحتمل ، وبأنّهم قيّدوا موضوع مسألة الحظر والاباحة المختلف فيها بالخلوّ عن أمارة المفسدة ، ويظهر منه أنّه لا نزاع في قبح الارتكاب مع وجودها.

والتمسّك بهذه الامور في مقام استكشاف الواقع حسن ، وأمّا في مقابلة الحاجبي فلا وقع فيها ، لأنّه من الأشاعرة وهم الّذين أنكروا التحسين والتقبيح العقليّين ، ثمّ تنزّلوا من باب المماشاة عن هذا الإنكار الكلّي ، وقالوا : بأنّ العقل لا حكم له في مسألتين :

إحداهما : مسألة وجوب شكر المنعم.

والاخرى : مسألة الأشياء النافعة الخالية عن أمارة المضرّة قبل ورود الشرع ، ولذا التزموا في كلّ من مسألتي وجوب معرفة اللّه ووجوب النظر بكون الوجوب شرعيّا لا عقليّا ، فالإيراد عليه حينئذ بنحو ما ذكر ليس على ما ينبغي.

وقد يورد عليه أيضا : بأنّ ما ذكره من ابتناء الكبرى على التحسين والتقبيح العقليين غير ظاهر ، لأنّ تحريم تعريض النفس للمهالك والمضارّ الدنيويّة والاخرويّة ممّا دلّ عليه الكتاب والسنّة ، مثل التعليل في آية النبأ وقوله تعالى : ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) (1) وقوله تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) (2) إلى غير ذلك من الآيات ، وفيه : نظر واضح مع أنّه خروج عن الاستدلال بالدليل العقلي.

الثاني : ما عن العدّة (3) والغنية (4) وغيرهما (5) من أنّ وجوب دفع الضرر المظنون مختصّ

ص: 276


1- سورة البقرة : 195.
2- سورة النور : 63.
3- العدّة 1 : 107.
4- الغنية 1 ( الجوامع الفقهيّة ) : 476.
5- انظر الذريعة 2 : 549.

بالمضارّ الدنيويّة ، فلا يجري في المضارّ الاخرويّة كالعقاب.

وفيه : أنّا لا نجد فرقا في حكم العقل بين الضررين ، فإنّ مناطه التضرّر وموضوعه الاحتراز عمّا يتضرّر به الإنسان ، وهذا لا يتفاوت في وجوبه الحال بين الضررين ، مع أنّ المضارّ الاخرويّة أشدّ وأعظم ، فحكم العقل بوجوب دفعها أولى وأظهر ، فلا معنى للفرق بينها وبين المضارّ الدنيويّة إلاّ أن يكون مبناه على أنّ الضرر الدنيوي تابع لأصل الفعل ، لأنّه يترتّب عليه من باب الخاصيّة بلا مدخليّة للعلم والجهل في ترتّبه عليه ، فلا يكون الجهل فيه عذرا رافعا له مانعا عن ترتّبه ، بخلاف الضرر الاخروي كالمؤاخذة والعقاب وانحطاط الدرجة وغيرها ، فإنّها لا تترتّب على أصل الفعل ، بل على العلم بالتكليف الإلزامي المتوقّف على نصب الشارع لطريق علمي عليه ، أو ما يقوم مقام العلم به من الظنون الخاصّة ، فيتوقّف على نصّ الشارع بقيام أمر غير علمي مقام العلم ، وإذا انتفى الأمران فالعقل يحكم بكون المكلّف مأمونا من العقاب المترتّب على العلم أو ما يقوم مقامه ، ومعناه كون الجهل حينئذ عذرا رافعا للضرر ، فيرجع حينئذ إلى ما سنقرّره من الجواب التحقيقي.

الثالث : النقض بالأمارات الظنّيّة الّتي نصّ الشارع أو قام القاطع بعدم اعتبارها ومنع العمل بها كخبر الفاسق والقياس على مذهب الإماميّة (1) ، فإنّ مخالفة ما ظنّه المجتهد من جهة القياس واجبا مظنّة للضرر ، والتخصيص في الدليل العقلي غير صحيح ، وإنكار حصول الظنّ من القياس أو خبر الفاسق مكابرة للوجدان.

وردّ تارة : بالتزام العمل بهذا الظنّ أيضا ، ومنع حرمته عند انسداد باب العلم ، كما يستفاد ذلك من بعض الأعلام في مواضع من قوانينه (2).

واخرى : بأنّ الشارع إذا ألغى ظنّا تبيّن أنّ في العمل به ضرر أعظم من ضرر ترك العمل به ، وحاصله : أنّ دفع الضرر إنّما يجب عند العقل حيث لم يزاحمه ضرر آخر أقوى منه ، والقياس بملاحظة منع الشارع من العمل به يعلم فيه أنّ في العمل به مفسدة هي في نظر الشارع أعظم من المفسدة المترتّبة على تركه ، بل مفسدة العمل مفسدة متيقّنة ، ومفسدة الترك مفسدة غير متيقّنة ، ومن المعلوم في حكم العقل تعيّن دفعه.

ص: 277


1- هذا النقض مذكور في الذريعة 2 : 550 والغنية : 476 ومعارج الاصول : 43.
2- قوانين الاصول 1 : 448.

وضعّف الأوّل : بأنّ الظاهر أنّه خلاف مذهب الشيعة ، ولا أقلّ من كونه مخالفا لإطلاقات إجماعاتهم المنقولة - مستفيضة بل متواترة - كما يعلم في باب القياس.

ويضعّف الثاني : بأنّ الإتيان بما يظنّ وجوبه وترك الاتيان بما يظنّ حرمته ، احترازا عن الضرر المحتمل ترتّبه على الترك في الأوّل والفعل في الثاني ، احتياط من ذلك الضرر ، وهذا ليس من العمل بالقياس على معنى الاستناد إليه والتديّن به ، فمفسدة منع الشارع مترتّبة على العمل بهذا المعنى ، وهو ليس بلازم من دفع الضرر المظنون باختيار الفعل فيما ظنّ وجوبه والترك فيما ظن حرمته ، فلا مزاحمة بين الضررين ، ولا منافاة بين دفعيهما ، لأنّ مفسدة منع الشارع تترتّب على الاستناد إلى القياس ، ومفسدة ظنّ الوجوب أو الحرمة تترتّب [ على ] الفعل أو تركه ، فاختيارهما على وجه الاحتياط لا يلازم الأخذ بالقياس على وجه الاستناد ، كما هو واضح.

وإن شئت قلت : إنّ فعل ما ظنّ وجوبه وترك ما ظنّ حرمته من جهة القياس دفعا للضرر المحتمل ترتّبه على ترك الأوّل وفعل الثاني عمل بالاحتياط لا أنّه عمل بالقياس ، فلو أبدل الردّ المذكور - المتضمّن لدعوى المفسدة في العمل بالأمارات الممنوعة في الشرع - بدعوى : أنّ في نهي الشارع عن الاعتناء بها وترخيصه في مخالفتها مع علمه بأنّ تركها ربّما يفضي إلى ترك الواجب أو فعل الحرام ، مصلحة يتدارك بها الضرر المظنون على تقدير ثبوته في الواقع كان أولى ، وإن كان ذلك أيضا لا يخلو عن تأمّل ، لعدم خلوصه عن شبهة التخصيص في الحكم العقلي ، فليتدبّر.

والتحقيق في الجواب : منع الصغرى على تقدير إرادة الضرر الاخروي ، فإنّ ظنّ الوجوب أو الحرمة لا يستلزم ظنّ ترتّب العقاب على الترك أو الفعل ، إلاّ إذا كان بين الوجوب الواقعي والحرمة الواقعيّة وترتّب العقاب على المخالفة بالترك أو الفعل ملازمة واقعيّة ، وحينئذ كان العلم بهما علما بترتّب العقاب ، والظنّ بهما ظنّا بترتّب العقاب ، والشكّ فيهما شكّا في ترتّب العقاب.

بتقريب : أنّ اللازم الواقعي للشيء كما يتبعه في أصله ، كذلك يتبعه في حالاته العارضة له من العلم به أو الظنّ به أو الشكّ فيه ، وإنّما يسلّم الملازمة الواقعيّة بينهما إذا كان كلّ من الوجوب والحرمة الواقعيّين علّة تامّة لاستحقاق العقاب ، وهو بمكان من المنع بالعيان ، لكثرة ما كان المكلّف يترك واجبا واقعيّا ، أو يأتي بحرام واقعي ، ولا يستحقّ بهما عقابا

ص: 278

عقلا وشرعا من جهة الإجماع ونحوه على نفي العقاب ، كما لو كان جاهلا بالوجوب والحرمة بالجهل البسيط أو المركّب ، وهذا آية انتفاء العلّيّة التامّة ، فوجب الالتزام بكون كلّ منهما بالقياس إلى ترتّب العقاب من باب المقتضي الّذي من شأنه مجامعة فقد شرط أو وجود مانع فلا يقتضي ، ومعناه هنا أن يكون اقتضاء الوجوب والحرمة الواقعيّين وتأثيرهما في استحقاق العقاب على الترك والفعل مشروطا بالعلم أو الظنّ المعتبر بهما ، فإذا انتفى الشرط - كما فيما نحن فيه - انتفى المشروط ، وهو اقتضاء الوجوب والحرمة الواقعيّين لترتّب العقاب واستلزامهما له.

وقضيّة ذلك عدم استلزام الظنّ بأحدهما الظنّ بالعقاب على الترك أو الفعل ، وهذا هو معنى منع الصغرى.

فإن قلت : إنّ عدم ترتّب العقاب في صورة الجهل بسيطا أو مركّبا إنّما هو لاستقلال العقل بقبح التكليف مع الغفلة أو الشكّ أو القطع بالعدم ، ومرجعه إلى أنّه يستقلّ بالحكم بقبح العقاب والمؤاخذة بلا بيان ، وأمّا مع الظنّ بالوجوب أو الحرمة فلا يستقلّ [ العقل ](1) بقبح المؤاخذة والعقاب ، ولا إجماع عليه أيضا.

قلت : كما لا يستقلّ العقل بقبح العقاب كذلك لا يستقلّ بحسنه أيضا ، فلا يكفي مجرّد منع استقلال العقل وعدم ثبوت الإجماع على استحقاق العقاب في تتميم الاستدلال ، بل لابدّ من إثبات أنّ مجرّد الوجوب الواقعي ومجرّد الحرمة الواقعيّة يستلزمان العقاب حتّى يكون الظنّ بأحدهما ظنّا به ، وإذا لم يحكم العقل بحسن العقاب حكما بتيّا ولا ظنّيّا ولم يثبت الإجماع عليه لا إجماعا قطعيّا ولا ظنّيّا لم يكن العقاب مظنونا.

لا يقال : غاية ما يلزم من ذلك كون العقاب مشكوكا فيه ويندرج بذلك في الضرر المحتمل ، وقد تقدّم أنّه أيضا واجب الدفع وعليه إطباق العقلاء ، لمنع كون العقاب على مخالفة الوجوب الواقعي والحرمة الواقعيّة من دون علم ولا ظنّ معتبر بهما محتملا ، فإنّ الظنّ المشكوك في اعتباره في حكم الشكّ ، على معنى أنّه كما أنّ الشكّ في الوجوب أو الحرمة الواقعيّين لا يوجب التكليف الفعلي ، وهو أن يصير الوجوب أو الحرمة المشكوك فيهما تكليفا فعليّا على المكلّف بحيث يستحقّ العقاب على مخالفته وإن كانا ثابتين في الواقع ، فكذلك بأحدهما بالظنّ المشكوك الاعتبار لا يوجب التكليف الفعلي ، على معنى

ص: 279


1- وفى الأصل : « العقاب » بدل « العقل » وهو سهو من قلمه الشريف قطعا ، ولذا صحّحناه بما في المتن.

صيرورة المظنون تكليفا فعليّا ، فيكون كالشكّ بذلك محقّقا لموضوع أصل البراءة الثابت بعمومات الكتاب والسنّة ، بل العقل المستقلّ في الجملة بقبح التكليف بلا بيان وقبح العقاب بلا إقامة البرهان ، وأصل البراءة وإن لم يستلزم انتفاء الوجوب أو الحرمة المشكوك فيهما أو المظنون بهما بالظنّ المشكوك الاعتبار في الواقع ولا ينفيهما ، لكنّه يفيد انتفاء التكليف الفعلي والبراءة عن العقاب المحتمل ترتّبه على المخالفة ، فإنّ احتمال ترتّبه أو الشكّ في ترتّبه على ترك ما ظنّ وجوبه أو فعل ما ظنّ حرمته ابتدائي ترتفع بعد التأمّل في الأصل القطعي الثبوت والنظر في حكم العقل بالقبح ، فالعقاب على مخالفة ما ظنّه المجتهد واجبا أو حراما كما أنّه غير مظنون ، كذلك غير محتمل أيضا.

وهذا هو معنى ما يقال : من أنّ الأصل الثابت بالعقل والنقل يؤمننا من العقاب على مخالفة الواقع على تقدير حصولها بواسطة الجهل به ، المتحقّق عند عدم العلم ولا الظنّ المعتبر به كما فيما نحن فيه.

وأمّا على تقدير إرادة الضرر الدنيوي ، وهو المفسدة اللازمة من الترك في الواجب الواقعي أو من فعل الحرام الواقعي ، فيمكن الجواب أيضا بمنع الصغرى ، فإنّ الظانّ بوجوب الشيء أو حرمته إن بنى على العمل بالاحتياط بإتيان ما ظنّ وجوبه وترك ما ظنّ حرمته بتقريب حسن الاحتياط فلا كلام ، وإن بنى على ترك الاحتياط تعويلا على أصل البراءة واستنادا إليه فهو وإن كان مخالفة للظنّ إلاّ أنّه لا يستلزم ظنّ الوقوع في المفسدة على تقدير ثبوت الوجوب أو الحرمة في الواقع ، لوجوب وجود المصلحة المتدارك بها هذه المفسدة في العمل بالأصل ، على معنى مزاحمة مصلحة العمل بالأصل لمفسدة الترك أو الفعل ومنعها لها عن الحصول ، كتناول الترياق المتدارك به مفسدة السمّ فيمن شربه ، فإنّ الشارع الحكيم المقرّر لأصل البراءة مرجّحا للجاهل الّذي منه الظانّ بالظنّ المشكوك الاعتبار ، وجب عليه أن يعتبر في التعويل عليه والاستناد إليه نحو المصلحة المذكورة ، عملا بمقتضى حكمته ، وهو عدم إيقاعه المكلّف الجاهل في المفسدة الواقعيّة حيث قرّر له الأصل ، مع علمه بأنّه قد يفضي إلى ترك واجب واقعي أو فعل حرام واقعي ، خصوصا في الشبهات الحكميّة الّتي محلّ البحث منها ، لاستناد الشبهة فيها إلى الشارع حيث لم ينصب على الواقع دليلا علميّا ولم يجعل إليه طريقا غير علمي.

فإن قلت : يلزم على ما ذكرت أن لا يبقى لقاعدة وجوب دفع الضرر المظنون أو

ص: 280

المحتمل مورد حتّى في المضارّ الدنيويّة ، لأنّ أصل البراءة على ما ذكرت وارد عليها ورافع لموضوعها وهو ظنّ الضرر بل احتماله أيضا ، وهو كما يجري في الشبهات الحكميّة كذلك يجري في الشبهات الموضوعيّة أيضا الّتي موردها الموضوعات الخارجيّة.

قلت : الموضوعات الخارجيّة باعتبار الضرر المظنون أو المحتمل فيها مع كون الضرر دنيويّا قسمان :

أحدهما : ما كان الضرر المحتمل فيه نظير الضرر المحتمل في الشبهات الحكميّة ، وهو المفسدة الّتي يتبعها الحكم الشرعي من وجوب أو حرمة ، كالمايع المشتبه المظنون كونه خمرا ، واللحم المشتبه المظنون كونه ميتة ، والثوب المشتبه المظنون كونه حريرا أو غصبا ، وما أشبه ذلك ، وهذه هي الشبهات الموضوعيّة الملحقة بالشبهات الحكميّة في جريان أصل البراءة فيها ، الوارد على قاعدة وجوب دفع الضرر المظنون أو المحتمل لارتفاع موضوعها.

وثانيهما : ما كان الضرر المحتمل فيه ضررا ماليّا أو نفسيّا أو غيرهما ، ممّا يتّفق أحيانا باعتبار الخارج من تلف أو تعيّب أو هلاكة أو جناية أو غير ذلك ، كظنّ خسران التجارة أو وجود اللصّ ونحوه في الطريق ، وظنّ الغرق في البحر أو الحرق في البرّ ، وظنّ وقوع الجدار أو السقف ، وظنّ التضرّر من شرب ذاك الدواء أو من الصوم أو غير ذلك ممّا لا يعدّ ولا يحصى ، وهذه هي الموضوعات الخارجيّة التي يجري فيها قاعدة وجوب دفع الضرر المظنون بل المحتمل ، ولا يجري فيها أصل البراءة ، لحكومة القاعدة الّتي مدركها العقل المستقلّ على أدلّته الّتي منها العقل المستقلّ أيضا الحاكم ببراءة الذمّة عن التكليف والعقاب المشكوك فيهما ، بل لعدم اندراج المورد وهو الموضوعات المظنون فيها المضارّ المذكورة في موضوع الأصل ، إذ لا يشكّ فيها في تكليف يترتّب على مخالفته مفسدة دنيويّة وعذاب اخروي لا لشبهة حكميّة ولا لشبهة موضوعيّة ، بل يظنّ فيها أو يحتمل ضرر يترتّب عليه التكليف ، وهو وجوب الاحتراز وحرمة الارتكاب.

وضابط الفرق بين القسمين - الّذي يعرف به مورد قاعدة وجوب دفع الضرر عن مجرى أصل البراءة - هو أنّ كلّ موضوع خارجي كان الضرر المظنون أو المحتمل فيه عنوانا لحكم شرعي ، من وجوب اجتناب أو حرمة ارتكاب ، ومنه وجوب الإفطار وحرمة الإمساك فيما يظنّ كون الصوم مضرّا ، ونحوه غيره ممّا يجوّزه ظنّ الضرر من ترك واجب أو فعل حرام ، بحيث لو لا ظنّه ولا احتماله لم يكن الموضوع محكوما عليه بذلك الحكم ،

ص: 281

فهو مورد لقاعدة وجوب دفع الضرر وهو القسم الثاني.

وكلّ موضوع خارجي لم يكن الضرر المظنون أو المحتمل عنوانا لحكمه ، بل عنوان الحكم فيه كلّي يشكّ في اندراج ذلك الموضوع فيه ، كالشكّ في كون هذا المائع خمرا وهذا اللحم ميتة وهذا الثوب حريرا وهذا المال مغصوبا وما أشبه ذلك ، فهو مجرى من مجرى أصل البراءة الّذي يقال له : الشبهات الموضوعيّة ، وهو القسم الأوّل ، فلا يلزم من العمل بأصل البراءة في الشبهات الحكميّة والشبهات الخارجيّة أن لا يبقى للقاعدة مورد لاختلاف الموضوع.

وممّا يرد على الدليل أيضا : أنّه لا يجري في مطلق الظنّ الّذي هو موضوع البحث ، كالظنّ بعدم الوجوب والظنّ بعدم الحرمة. - وبعبارة اخرى : الظنّ المخالف للاحتياط - بل مختصّ بالظنّ الموافق للاحتياط.

وتوهّم تتميمه بعدم القول بالفصل ، يندفع : بأنّه في الظنّ الموافق لا يفيد وجوب الإتيان بالفعل أو وجوب تركه باعتبار أنّه عمل بالظنّ ، بل إنّما قضي بهما من حيث إنّ الإتيان وتركه احتياط عن الضرر المظنون ، واحتراز عن المفسدة المظنونة ، وهذا المعنى في الظنّ المخالف للاحتياط منتف.

ومن هنا يعلم عدم إمكان وحدة المناط ، بدعوى : أنّ مناط العمل في الظنّ الموافق هو صفة الظنّ من حيث إنّها هذه الصفة ، وهو موجود في الظنّ المخالف أيضا ، لما عرفت من أنّ المناط هو الاحتياط المنتفي في الظنّ المخالف ، ضرورة أنّ ترك ما ظنّ وجوبه (1) وفعل ما ظنّ حرمته ليس احتياطا.

وبجميع ما ذكر يتبيّن : أنّ مفاد الدليل لا ينافي أصالة حرمة العمل بالظنّ ، ولا الدليل المذكور يعارض عمومات ذلك الأصل ، لا بطريق التباين الكلّي ولا الجزئي ، فلا يلزم من جهته تخصيص فيها ، ضرورة أنّ مفادها حرمة العمل بالظنّ على معنى ترتيب آثار الواقع عليه والأخذ بالمظنون على أنّه الواقع ، أو أنّها إنّما تدلّ على حرمته من حيث إنّه لا يغني عن الواقع ، وهذا لا ينافي تطبيق العمل عليه رجاء لإحراز الواقع ، واحتياطا عن مخالفته وحذرا عن العقاب الاخروي ، والمفسدة اللازمة من الترك أو الفعل في الدنيا.

ص: 282


1- وفى الأصل : « ترك ما ظنّ عدم وجوبه » والظاهر أنّ كلمة « عدم » سهو من قلمه الشريف ، والصواب ما أثبتناه فى المتن ، فلاحظ ، تأمّل.

وعلى هذا فما في كلام بعض الأعلام (1) - في غير موضع من كتابه - من دعوى انقلاب الأصل الأوّلي بأصالة جواز العمل بالظنّ مطلقا إلاّ ما خرج بالدليل ، مع استدلاله على الحجّيّة بالأدلّة العقليّة الّتي منها ذلك الدليل ليس بسديد ، لو كان مستنده ذلك الدليل ، خصوصا إذا أراد به الانقلاب الكلّي فليتدبّر.

ولا بأس بالإشارة إلى بعض الفروع والأحكام المترتّبة على قاعدة وجوب دفع الضرر.

فنقول : إنّ الضرر الدنيوي في الموضوعات إن كان معلوما أو مظنونا فلا إشكال في وجوب دفعه ، لإطباق العقلاء وإجماع العلماء عليه ، فالظنّ باعتبار إضافته إلى الضرر في الموضوعات من الظنون الخاصّة الثابتة الحجّيّة بالأدلّة القطعيّة الّتي منها ما ذكر ، ومنها مجموع الأخبار المتفرّقة في أبواب العبادات ، وإن حصل من السبب المعلوم عدم حجّيّة نوعه ، أو السبب المشكوك في حجّيّة نوعه فضلا عن السبب المعلوم حجّيّة نوعه ، بل ظنّ الضرر حاله كحال ظنّ السلامة في الامور المعاشيّة الّذي هو أيضا حجّة من باب الظنّ الخاصّ ، لإطباق العقلاء وإجماع العلماء عليه ، مضافا إلى أنّه لو لا كونه حجّة لاختلّ نظم المعاش وانهدم أساس العالم.

ومن هنا يتبيّن : أنّ الضرر إذا كان موهوما لم يجب دفعه في العاديّات والشرعيّات معا ، لإطباق العقلاء وإجماع العلماء على طريقيّة الظنّ بالسلامة ، مع أنّ الضرر الموهوم لم يؤخذ عنوانا في الأدلّة الشرعيّة ، ولم يعلّق عليه حكم في الشريعة.

وأمّا الضرر المشكوك فهو أيضا ما لم يتولّد من الشكّ خوف الضرر - وهو اضطراب النفس - بناء على عدم كونه لازما مساويا لظنّ الضرر بل هو لازم أعمّ ، ممّا لا دليل على وجوب دفعه ، ولم يؤخذ في الشريعة عنوانا لحكم شرعي ، ولأنّ الشكّ في موارده ليس طريقا إلى الواقع.

ويظهر الثمرة : في وجوب ما توقّف وجوبه على عدم الحرمة الناشئة من جهة الضرر عند الخوف فيه ، لئلاّ يلزم اجتماع الأمر والنهي كالصوم والطهارة المائيّة ونحوه ، عند الشكّ في كونه مضرّا من دون أن يتولّد منه خوف ، ولمّا لم يكن الحرمة مع الشكّ في الضرر ثابتة فلا مانع من ثبوت الوجوب ، فإنّ المانع إنّما هو حرمة الفعل المظنون أو المخوف فيه الضرر ، لا احتمال الضرر المجرّد عن الخوف ، وهو ليس بمحرز بل المحرز خلافه.

لكن قد يقال - كما عن صاحب الكفاية في منع الوجوب عند الشكّ في الضرر - : « إنّ

ص: 283


1- قوانين الاصول 1 : 448.

وجوب الأفعال معلّق على الأمن من الضرر ، وهو مع الشكّ فيه ليس بمأمون فلا وجوب » (1).

وفيه : أنّ الوجوب معلّق على خوف الضرر ، ومجرّد الشكّ فيه لا يستلزمه.

نعم إذا تولّد منه الخوف فلا إشكال ، فالمقتضي للنهي الّذي لا يجامعه الأمر من جهة امتناع الأمر والنهي إمّا ظنّ الضرر أو خوفه ، لا الشكّ فيه مطلقا.

ثمّ إنّ مقتضى قوله عليه السلام : « لا ضرر ولا ضرار » (2) النافي لمجعوليّة الأحكام الضرريّة ، أنّ الأحكام الشرعيّة لا تجامع الضرر ، وهل المنافي لها العلم أو الظنّ المعتبر بالضرر ، أو الضرر الواقعي سواء علم به أو ظنّ أو لا؟

والحقّ فيه أنّ المانع من الحكم الشرعي هو الضرر الواقعي بشرط العلم أو الظنّ به ، لا لأنّهما مأخوذان معه على وجه الموضوعيّة ، بل لأنّهما طريقان إليه. ويتفرّع عليه فرعان :

أحدهما : ما لو قطع أو ظنّ بالضرر في عبادة الطهارة المائيّة ، أو صيام رمضان فأتى بها ، ثمّ انكشف انتفاء الضرر في الواقع.

وثانيهما : عكس ذلك ، وهو ما لو قطع أو ظنّ بانتفاء الضرر فيها فأتى بها ، ثمّ انكشف وجوده في الواقع ، فهل يحكم فيهما بفساد العبادة المستلزم لوجوب الإعادة والقضاء عند ارتفاع الضرر أو لا؟

فنقول : أمّا الصورة الاولى فلا محيص فيها من فساد العبادة ، لا لمانعيّة الضرر من الصحّة حتّى يقال : بأنّ المفروض انتفاؤه في الواقع ، بل لأنّه لو لا الفساد هنا لزم اجتماع الأمر والنهي وهو غير جائز ، نظرا إلى أنّ القطع والظنّ المفروضين يوجبان النهي الفعلي عن الفعل ، لكونه معلّقا على اعتقاد الضرر ، وهو لا يجامع الأمر ، فيلزم الفساد لانتفاء الأمر.

وأمّا الصورة الثانية : فقد يتوهّم فيها أيضا فساد العبادة ، نظرا إلى أنّ قوله عليه السلام : « لا ضرر ولا ضرار » ينفي الضرر الواقعي ، ويدلّ على أنّه كالحدث مانع من الصحّة ودافع لمصلحة العبادة وإن لم يعلم به ، ومعه يستحيل الأمر بها أيضا.

نعم لو قلنا بأنّ المانع من الصحّة ورافع المصلحة هو العلم أو الظنّ المعتبر بالضرر ، لاتّجه القول بالصحّة في الصورة المفروضة ، لكنّ الظاهر من الخبر خلافه.

ويزيّفه : منع شمول الخبر للصورة المفروضة ، وإن قلنا بأنّ الضرر المنفي فيه هو الضرر الواقعي لا العلم ، فيبقى عمومات الأمر بالعبادة سليمة عمّا يخرجها عنها ، فإنّ مفاده - على

ص: 284


1- لم نعثر عليه.
2- بحار الأنوار 2 : 276 / 28.

التحقيق - نفي مجعوليّة الأحكام الّتي يتضرّر بسببها الإنسان ، بأن يكون العلّة الباعثة على تضرّره الحكم المجعول ، فحاصل معنى الخبر : أنّه تعالى لم يجعل في شرع الإسلام حكما يتضرّر بسببه الإنسان ، أو أنّ كلّ حكم يتضرّر بسببه الإنسان فهو غير مجعول ، وهو بهذا المعنى لا يشمل الصورة المفروضة ، ولا ينفي الأمر بالعبادة فيها ، لأنّ السبب الباعث على تضرّر الإنسان والحامل له على الوقوع في الضرر اعتقاده بانتفاء الضرر لا مجعوليّة الوجوب ، ولذا يتضرّر على تقدير عدم المجعوليّة أيضا ، فالضرر مترتّب على اعتقاد المكلّف - ولو ظنّا معتبرا ثابت الطريقيّة - لا على جعل الحكم الواقعي ، فلا قاضي من جهة الخبر بعدم جعله في هذه الصورة وما هو بحكمها ، مثل ما لو كان شاكّا في الضرر في مورده ، وكان فيه عنده أصل كلّي منضبط يرى نفسه بمقتضى ذلك الأصل مكلّفا بالعمل كالاستصحاب مثلا ، فانكشف وجود الضرر بعد العمل.

وبالتأمّل فيما قرّرناه يتبيّن : أنّ قاعدة وجوب دفع الضرر المقطوع أو المظنون ليست متّحدة مع قاعدة نفي الضرر المستفادة من الخبر ، ولا أنّهما متلازمتان ، بل قاعدتان متغايرتان بينهما بحسب المورد عموم من وجه ، فيجتمعان في مورد ، وهو ما لو قطع أو ظنّ بالضرر في عبادة كالطهارة والصوم مثلا مع مطابقتهما الواقع ، فيصحّ فيه التمسّك بكلّ منهما لنفي الوجوب ، ويفترقان في آخرين.

فمن افتراق الاولى ما لو قطع أو ظنّ بالضرر مع انكشاف عدم مطابقتهما الواقع ، ومن افتراق الثانية ما لو نفى مجعوليّة حكم ضرري من غير أن يجب أو يحرم شيء على المكلّف ، كلزوم العقد المنفي عند ظهور غبن أو عيب أو نحو ذلك ممّا يوجب الخيار من جهة القاعدة.

ففي ذلك ونظائره لا يجري قاعدة وجوب دفع الضرر المقطوع أو المظنون ، لأنّ وجوب الدفع من عوارض فعل المكلّف وينحلّ إلى وجوب الإتيان بما يتضرّر المكلّف بتركه ووجوب ترك الإتيان بما يتضرّر الانسان بفعله ، كإفطار نهار رمضان في الأوّل وإمساكه في الثاني.

ومن تغائر القاعدتين أنّ الموجب لانتفاء الوجوب الواقعي في مورد القاعدة الاولى إنّما هو لزوم اجتماع الأمر والنهي لولاه ، كما أشرنا إليه ، وفي مورد القاعدة الثانية عدم مجعوليّته في الواقع رأسا.

ومن تغائرهما أيضا أنّ القطع أو الظنّ بالضرر يترتّب عليهما انتفاء الحكم الواقعي وإن لم يطابقا الواقع في القاعدة الاولى ، ويشترط مطابقتهما الواقع في القاعدة الثانية.

ص: 285

ومن تغائرهما أيضا مدرك القاعدة الاولى هو العقل من جهة بناء العقلاء وإطباقهم على الاحتراز ، ومدرك القاعدة الثانية هو الشرع من جهة الخبر.

الوجه الثاني : لزوم ترجيح المرجوح على الراجح

ثانيها

« أنّه لو لم يؤخذ بالظنّ لزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح » (1).

وتوضيحه بحيث يتبيّن به الملازمة : أنّ الرجحان والمرجوحيّة قد يلاحظان بالقياس إلى وجود الشيء وعدمه في الخارج ، فالراجح ما له مزيّة على الآخر والمرجوح ما كان خاليا عن المزيّة ، وترجيحه عبارة عن اختياره على ذي المزيّة ، وإنّما يكون قبيحا إذا كان لداع غير عقلائي ، ويقال له : « المرجّح الفاعلي » ولو كان شهوة نفسانيّة ، قبالا للمرجّح العقلائي وهو المراد من المزيّة ، وإلاّ فلو كان خاليا عن المرجّح مطلقا حتّى المرجّح الغير العقلائي فترجيحه كالترجيح بلا مرجّح محال لا أنّه قبيح ، فإنّ اختيار أحد المتساويين على آخر لا لداع وغرض ولو فاعليّا إذا كان محالا فاختيار المرجوح منهما على الآخر الّذي هو الراجح لا لداع وغرض حتّى الفاعلي أيضا محال بل أشدّ استحالة.

وقد يلاحظان بالقياس إلى وجود الشيء وعدمه في الذهن ، فالرجحان حينئذ أن يكون أحد طرفي النسبة مظنونا فالراجح هو المظنون ، والموهوم مرجوح ، وترجيحه عبارة عن الأخذ به والعمل عليه ، على معنى تطبيق الحركات والسكنات الخارجيّة عليه وهذا قبيح لا أنّه محال ، وإذا كان ذلك قبيحا فخلافه وهو الأخذ بالراجح وهو المظنون واجب.

واجيب (2) تارة : بمنع الملازمة ، إذ لم يثبت وجوب الترجيح ، فلا يرجّح المرجوح ولا الراجح ، ولا يؤخذ بالموهوم ولا بالمظنون ، بل يتوقّف.

ويزيّفه : عدم إمكان الواسطة ، إذ لا محيص من العمل الدائر بين وقوعه على طبق المظنون ، أو على طبق الموهوم ، والتوقّف عن العمل غير معقول.

واخرى : بمنع قبح ترجيح المرجوح على إطلاقه ، فإنّ المرجوح وهو الموهوم قد يوافق الاحتياط ، كما لو كان المظنون عدم وجوب شيء أو عدم حرمته ، فالأخذ به حينئذ حسن لا أنّه قبيح.

وردّ : بأنّ الأخذ بالمرجوح بعنوان أنّه عمل بالاحتياط ليس ترجيحا للمرجوح ، بل

ص: 286


1- هذا الاستدلال أشار إليه العلاّمة في نهاية الوصول ( مخطوط ) : 297 والمحقّق القمّي في قوانين الاصول 1 : 243 وصاحب الفصول في الفصول : 286.
2- هداية المسترشدين : 411.

هو جمع في العمل بين الراجح والمرجوح ، فإنّ البناء في المظنون عدم حرمته على الترك لا ينافي الإباحة المظنونة ، لأنّها عبارة عن التخيير بين الفعل والترك ، كما أنّ البناء في المظنون عدم وجوبه على الفعل لا ينافي الإباحة المظنونة.

ولو قدّر الإتيان بالفعل حينئذ على وجه الوجوب وبقصده ليمتاز عن المباح كان مخالفا للاحتياط ، فلا يكون عملا بالاحتياط ، لأنّ الاحتياط عبارة عن الإتيان بما لعلّه واجب لا الإتيان بما لأنّه واجب.

ولكن يشكل ذلك : بأنّ ما لا ينافي الإباحة المظنونة - لتضمّنها التخيير بين الفعل والترك - إنّما هو اختيار الفعل في بعض الأحيان واختيار الترك كذلك ، لا دوام الفعل أو دوام الترك ، والعمل بالاحتياط لا يتأتّى إلاّ بالدوام وهو ينافي التخيير بينهما ، إلاّ أن يذبّ : بأنّ المنافي له إنّما هو دوام الفعل لأنّه واجب ودوام تركه لأنّه حرام ، لا دوام الفعل لرجاء كونه واجبا أو دوام تركه لرجاء كونه حراما.

فالجواب التحقيقي وجهان :

أحدهما : النقض بالظنون المحرّمة العمل الثابت حرمتها بالخصوص بالإجماع أو الضرورة أو غيرهما.

وثانيهما : الحلّ بأنّ قبح ترجيح المرجوح على الراجح وإن كان مسلّما ، إلاّ أنّ الأمر فيما نحن فيه دائر بين صور ، في جملة منها لا ترجيح حتّى يكون بالقياس إلى الموهوم قبيحا ، وفي بعضها يرجّح المظنون عملا بدليل الانسداد لا لقبح ترجيح المرجوح ، فيرجع الدليل إلى دليل الانسداد ، لا أنّه دليل آخر.

وتوضيح ذلك : أنّ الواقع في المسألة المظنونة إمّا أن يكون ملحوظا ومنظورا للشارع ، على معنى كون مطلوبه إدراك الواقع والوصول إليه أو لا؟

وعلى الأوّل فإمّا أن يكون مطلوبه إدراك الواقع بطريق علمي على نحو الإجمال ، أو بطريق علمي على نحو التفصيل ، أو بطريق ظنّي على وجه التفصيل على معنى تحصيل الظنّ التفصيلي به.

فإن كان الأوّل : فهو ممّا لا معنى له إلاّ إناطة الأمر بالعمل بأصل البراءة ، فيدور الأمر مدار ما يجري معه الأصل ، وهو عدم الوجوب أو عدم الحرمة سواء كان هو المظنون أو الموهوم.

وإن كان الثاني : فهو ممّا لا معنى له إلاّ إيجاب العمل بالاحتياط ، سواء وافق المظنون

ص: 287

أو الموهوم.

وإن كان الثالث : فهو ممّا لا معنى له إلاّ إيجاب تحصيل العلم (1) التفصيلي بالواقع.

وإن كان الرابع : فهو لا يتمّ إلاّ - بعد إبطال الاحتمالات الثلاث المذكورة - بمقدّمات دليل الانسداد ، المنتجة لتعيّن العمل بالظنّ والأخذ بالمظنون ، لأنّه أقرب إلى الواقع ، فلا يجوز الأخذ بالموهوم لأنّه أبعد عن الواقع ، لا لأنّه ترجيح للمرجوح على الراجح ، فالدليل حينئذ راجع إلى دليل الانسداد لا أنّه ورائه.

الوجه الثالث : ما ذكره السيّد المجاهد رحمه اللّه

ثالثها

ما حكي (2) عن السيّد الطباطبائي قدس سره : « من أنّه لا ريب في وجود واجبات ومحرّمات كثيرة بين المشتبهات ، ومقتضى ذلك وجوب الاحتياط بالإتيان بكلّ ما يحتمل الوجوب ولو موهوما ، وترك كلّ ما يحتمل الحرمة كذلك ، ولكن مقتضى قاعدة نفي العسر والحرج عدم وجوب ذلك ، لأنّه عسر أكيد وحرج شديد ، فمقتضى الجمع بين قاعدتي الاحتياط وانتفاء الحرج العمل بالاحتياط في المظنونات دون المشكوكات والموهومات ، لأنّ الجمع على غير هذا الوجه بإخراج بعض المظنونات وإدخال بعض المشكوكات والموهومات باطل إجماعا ».

واجيب عنه : بأنّه راجع إلى دليل الانسداد ، لوضوح أنّ كلّ مقدّمة يؤخذ لإتمام دليل الانسداد لابدّ من أخذها لإتمام هذا الدليل ، فلابدّ فيه من توسيط مقدّمة القطع ببقاء التكليف ، ومن توسيط مقدّمة الانسداد [ الأغلبى لباب العلم ] ، ومن توسيط مقدّمة لزوم التكليف بما لا يطاق لو كلّفنا بالعلم ، ومن توسيط مقدّمة بطلان الرجوع إلى أصل البراءة في الجميع للزوم الخروج عن الدين ، ومن توسيط مقدّمة بطلان العمل بالاحتياط في الجميع إمّا للعسر أو للإجماع ، ومن توسيط مقدّمة بطلان التبعيض بالأخذ ببعض المظنونات مع بعض المشكوكات والموهومات.

ونتيجة كلّ ذلك حينئذ تعيّن الأخذ بالمظنونات.

مع أنّ العمل بالاحتياط في المشكوكات كالمظنونات أيضا لا يلزم منه حرج قطعا ، لقلّة موارد الشكّ المتساوي الطرفين كما لا يخفى ، فيقتصر في ترك الاحتياط على

ص: 288


1- كذا فى الأصل ، ولعلّه سهو منه والصواب « الظن » بدل « العلم » كما يعطيه التدبّر فى السياق.
2- حكاه شريف العلماء عن استاذه صاحب الرياض في مجلس المذاكرة على ما في بحر الفوائد 1 : 189.

الموهومات فقط ، ودعوى : أنّ كلّ من قال بعدم الاحتياط في الموهومات قال بعدمه في المشكوكات أيضا ، في غاية الضعف والسقوط.

الوجه الرابع : الدليل المعروف بدليل الانسداد

رابعها : الدليل المعروف بدليل الانسداد

وهو دليل عقلي مركّب من مقدّمات عديدة ، مذكورة في كلام القوم بأجمعها صراحة أو ضمنا ، حتّى أنّ منهم من طوى ذكر بعضها ولم يصرّح به تعويلا على وضوحه ، وإذا تمّ ذلك الدليل بثبوت جميع مقدّماته لا يبقى إشكال وتشكيك في حجّيّة الظنّ المطلق وتعيّن العمل به ، بل لا اختصاص له بالأحكام الفرعيّة بل يجري في جميع الموارد - لو تمّ بجميع مقدّماته - حتّى المسائل الاصوليّة والموضوعات الخارجيّة وغيرها ، كالعدالة للرواة وأئمّة الجماعة والشهود إذا لم يوجد فيها شيء من الطرق العلميّة والظنون الخاصّة ، بل الاصوليّة الاعتقاديّة أيضا على تقدير جريان الدليل فيها.

وما يرى من أنّه لا يعمل فيها بالظنّ بل الإجماع على منعه ، فإنّما هو لعدم جريانه فيها باعتبار ثبوت التكليف فيها بالعلم وانفتاح بابه بوجود الطرق العلميّة ، حتّى أنّه لو اتّفق مسألة منها لم يوجد فيها طريق علمي مع وجود أمارة ظنّيّة أمكن منع البناء عليها والتديّن بالمظنون فيها ، لعدم ثبوت التكليف الفعلي لنا بالنسبة إلى ما لا نتمكّن من العلم فيه ، فلو ظننّا بدليل ظنّي بكون الحسن عليه السلام من أئمّتنا أفضل من الحسين عليه السلام ، أو بكون علومهم حضوريّة مثلا أو نحو ذلك ، وكان العلم متعذّرا فيه أمكن منع اعتبار هذا الظنّ ووجوب التعبّد به والتديّن بالمظنون ، لمنع ثبوت التكليف الفعلي علينا في خصوص تلك المسألة ، وإن كان ثابتا للعالمين أو المتمكّنين من العلم فيها.

وكيف كان فالمقدّمة الاولى : القطع بثبوت أحكام واقعيّة فعلا ، وتكاليف التزاميّة من وجوبات وتحريمات للعالمين بها بالتفصيل ، كالنبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم وأصحابه الموجودين في زمنه الّذين تربّوا في حجره ، وضابطه : أنّ الأحكام الّتي نزل بها جبرئيل كانت ثابتة عليهم فعلا ، مع القطع بعدم كوننا في وقائع تلك الأحكام كالبهائم والصبيان والمجانين ، بأن أهملنا الشارع ولم يجعل في حقّنا حكما بالفعل مطلقا حتّى الإباحة - بناء على أنّها كغيرها تحتاج إلى خطاب وانشاء - بل لنا في تلك الوقائع أيضا أحكام فعليّة أنشأها الشارع وخاطبنا بها فعلا وهذا هو معنى بقاء التكليف.

ص: 289

المقدّمة الثانية : انسداد باب العلم والظنّ الخاصّ في معظم المسائل الفقهيّة.

المقدّمة الثالثة : القطع بعدم كون أحكامنا الفعليّة بأجمعها في جميع الوقائع المشتبهة ، هي الأحكام المجعولة للجاهل المستفادة من الطرق المقرّرة له ، كأصل البراءة وأصل الاشتغال والاستصحاب ، وحاصله : القطع بعدم كون حكمنا اليوم في جميع الوقائع هو الرجوع إلى الاصول من أصالة النفي وأصل البراءة ، ولا الأخذ بطريقة الاحتياط الموجب للعلم الإجمالي بالامتثال.

المقدّمة الرابعة : أنّ العقل المستقلّ بقبح التكليف بما لا يطاق - على تقدير تعيّن التعبّد بالعلم - يحكم بتعيّن الرجوع إلى الظنّ والأخذ به تحصيلا للامتثال الظنّي والموافقة الظنّيّة ، وعدم جواز العدول عنه إلى الموافقة الوهميّة بأن يؤخذ بالطرف المرجوح ، ولا الموافقة الشكّيّة بأن يعتمد على أحد طرفي المسألة من دون تحصيل الظنّ فيها ، أو يعتمد على ما يحتمل كونه طريقا شرعيّا للامتثال من دون إفادته الظنّ أصلا.

أمّا المقدّمة الاولى : فهي بالنسبة إلى كلّ من جزئيها - من ثبوت الأحكام الواقعية في حقّ العالمين بها وبقائها في حقّنا أيضا ، وعدم كون حالنا في وقائع تلك الأحكام كحال البهائم والصبيان والمجانين - بديهي الثبوت ولا حاجة لها إلى إثبات وإقامة برهان.

وأمّا المقدّمة الثانية : فهو أيضا بالنسبة إلى انسداد باب العلم غير محتاجة إلى البيان ولا الإثبات ، ضرورة قلّة ما يوجد في مسألة من طريق علمي يفي بانفراده في إثبات المسألة بجميع جهاتها على وجه لا يحتاج إلى إعمال أمارة غير علميّة حتّى الضروريّات والإجماعيّات.

ألا ترى أنّ أظهر ضروريّات الدين هو وجوب الفرائض اليوميّة ، ولا يثبت فيها بسبب الضرورة إلاّ أصل الوجوب ، أو هو مع كونها خمس صلوات ، أو هما مع كون الظهر منها أربع ركعات وكذلك العصر والعشاء ، والمغرب ثلاثة ، والصبح ركعتين.

وأمّا تفاصيل أحكام من أجزائها وشرائطها وموانعها وقواطعها ، والخلل الواقعة فيها من الشكوك والسهو والزيادة والنقيصة وغيرها ممّا لا يحصى كثرة ، فلا يوجد فيها من العلم أثر ، بل لم يعهد إلى الآن قول بانفتاح باب العلم في الأحكام حتّى أنّ الأخباريّة أيضا لا يقولون ، وما اشتهر منهم من علميّة الأخبار الموجودة بأيدينا فإنّما أرادوا بذلك علميّة صدورها ، وهذا لا يلازم علميّة نفس الأحكام المستفادة منها.

وأمّا بالنسبة إلى انسداد باب الظنّ الخاصّ ، فلأنّ ما ثبت عندنا من الظنون الخاصّة إنّما

ص: 290

هو ظواهر الكتاب وهي لا توجد إلاّ في أقلّ قليل من الأحكام ، ومع ذلك قلّما يوجد مسألة وجد فيها ظاهر الكتاب يفي ذلك الظاهر بإثبات المسألة من دون حاجة له إلى إعمال أمارة غير علميّة.

وأمّا الإجماع المنقول المدّعى كون من الظنون الخاصّة ، فقد ظهر عدم تماميّة دليله ، فالإجماعات المنقولة بهذا الاعتبار مندرجة في الظنون المطلقة وكذلك خبر الواحد ، فإنّ الّذي ثبت منه كونه حجّة من حيث الخبريّة ليكون ظنّا خاصّا إنّما هو نوع خاصّ منه ، وهو الخبر الموثوق بصدقه أو صدق راويه ويقال له : « الصحيح القدمائي » ، وهذا ليس مقدار يفي بضميمة ما يوجد من الأدلّة العلميّة مع قلّتها وباقي الظنّون الخاصّة مع ندرتها بإثبات معظم الأحكام الشرعيّة ، بحيث لا يبقى مانع من الرجوع إلى الأصل حسبما يناسب الواقعة من الاستصحاب والبراءة والاشتغال والتخيير ، حتّى يتفرّع عليه عدم الحاجة إلى التشبّث بالظنّ المطلق ، وهذه المقدّمة هي العمدة من مقدّمات دليل الانسداد بل الظاهر من جماعة المصرّح به في كلام بعضهم كون ثبوت هذه المقدمّة كافيا في حجّيّة الظنّ المطلق ، للإجماع عليه على تقدير انسداد باب العلم والظنّ الخاصّ.

وأمّا المقدّمة الثالثة : فلبطلان مرجعيّة أصالة النفي والبراءة الأصليّة أو العمل بالاحتياط في جميع الوقائع المشتبهة حتّى المظنونة منها.

أمّا بطلان الرجوع إلى الأصل فإمّا للدليل على عدم جواز الرجوع إليها في الجميع ، أو لعدم الدليل على الجواز.

أمّا الأوّل ، فأوّلا : للإجماع القطعي على عدم الإهمال في الوقائع المشتبهة وترك التعرّض لامتثال الأحكام المعلومة رأسا ، ويعلم ذلك بالتتبّع ومراجعة كلماتهم ، بل لا نظنّ أحدا من أهل المعرفة أنّه يظنّ بالعلماء العاملين بالأخبار أنّهم على تقدير عدم نهوض أدلّة حجّيّتها بالخصوص يطرحونها رأسا ويستريحون بالأصل المقرّر للجاهل في مواردها كما هو واضح ، مع أنّهم كثيرا مّا يذكرون أنّ الظنّ في الشرعيّات يقوم مقام العلم عند تعذّره ، وقد وجدنا في بعض كلمات السيّد (1) الاعتراف بالعمل بالظنّ عند تعذّر العلم ، وادّعى العلاّمة في المختلف الإجماع عليه بقوله : « فإنّ غلبة الظنّ تكفي في العمل بالتكاليف الشرعيّة إجماعا » (2).

وثانيا : للزوم الخروج عن الدّين ، لا على معنى أنّه كفر وارتداد كما قد يتوهّم من هذه

ص: 291


1- انظر رسائل الشريف المرتضى 3 : 39 وحكاه عنه فى المعالم : 197.
2- المختلف 3 : 26.

العبارة عن قصور الفهم ، فأورد عليه : بأنّ العدول عن الظنون الاجتهاديّة إلى الأخذ بالبراءة الأصليّة فيها ليس من موجبات الكفر إجماعا ، بل عدم التديّن بما علم كونه نزل به جبرئيل من الأحكام والشرائع والسنن.

وإن شئت قلت : لزوم المخالفة القطعيّة ، للعلم بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة فيما بين المظنونات ، وهي قبيحة عقلا محرّمة شرعا.

لا يقال : هذا مشترك الورود فيما إذا أدّى الظنّ في جميع الوقائع المظنونة إلى موافقة الأصل ، فإنّ المناط هو مخالفة العلم الإجمالي سواء لزمت من العمل بالظنّ الموافق للأصل أو من العمل بالأصل نفسه.

لأنّا ندفعه : بأنّ هذا غير ممكن للزوم التناقض ، فكما أنّ الإيجاب الجزئي يناقض السلب الكلّي ، فكذلك العلم بالإيجاب الجزئي أيضا - كما هو معنى العلم الإجمالي بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة - يناقض الظنّ بالسلب الكلّي.

ولو سلّم إمكانه فهو غير واقع ، لأنّ أكثر الأدلّة الغير العلميّة الموجودة بأيدينا مخالفة للأصل.

ولو سلّم وقوعه نمنع جواز الأخذ حينئذ في جميع تلك الوقائع ، بل يعمل بالاحتياط في الظنّ الضعيف وبمؤدّى الأصل في الظنّ القوي ، ولو تساوت الظنون في القوّة والضعف فيعمل بالظنّ الموافق للأصل إلى أن يبقى مقدار لو عمل فيه بالظنّ أيضا حصل العلم بالمخالفة فيؤخذ فيه بالاحتياط ، أو أنّه يعمل بالاحتياط إلى أن ينفي من المظنونات ما خرج عن طرف العلم الإجمالي حذرا في الجميع عن المخالفة القطعيّة.

وأمّا الثاني : فلمنع جريان أصل البراءة فيما نحن فيه ، لاختصاص أدلّته بالشكّ في التكليف إيجابا أو تحريما ، لا الشكّ في تعيين مورده بعد العلم بثبوت أصله ، فلو شككنا في وجوب غسل الجمعة يوم الجمعة يجرى فيه الأصل ، بخلاف ما لو شككنا في أنّ الواجب يوم الجمعة هل هو غسل أو صلاة الجمعة بعد العلم بوجوب شيء فيه فلا مجرى للأصل فيه ، وما نحن فيه من هذا الباب لأنّا نعلم إجمالا أنّ في المظنونات واجبات كثيرة ومحرّمات كثيرة ، ولكنّها اشتبهت بين المظنونات بحيث يحتمل في كون كلّ ما ظنّ وجوبه أو حرمته أو عدم وجوبه منها.

وربّما ردّ الرجوع إلى أصالة البراءة ، بأنّ اعتبارها من باب الظنّ ، والظنّ منتف في

ص: 292

مقابل الخبر ونحوه من الأمارات الظنّيّة المفروض وجودها في المسألة ، كما عن صاحبي المعالم (1) والزبدة (2) وغيرهما.

وهذا الردّ في غاية السقط ، إن اريد به اعتبار كون أصالة البراءة مفيدة للظنّ بنفي الحكم الإلزامي في الواقع ، إذ لا نظر فيها إلى الواقع بل هي أصل موضوعه الجهل بالحكم الواقعي ، وظاهر أنّ الأصل الّذي موضوعه الجهل بالواقع باعتبار كونه مقرّرا للجاهل لا يطلب منه الوصول إلى الواقع حتّى يعتبر فيه ، ويمنع من حصوله مع وجود الخبر أو أمارة اخرى ، ومفاده البراءة وخلوّ ذمّة المكلّف عن الحكم الإلزامي المشكوك فيه إيجابا أو تحريما ، وهو في مفاده الّذي هو الحكم الظاهري قطعيّ لقطعيّة دليله من العقل والنقل.

وإن اريد بكون اعتباره من باب الظنّ أنّه في مفاده من الحكم المجعول للجاهل ظنّي ، فهو ممّا لا محصّل له ، إلاّ دعوى كون الأدلّة المقامة بذلك الأصل يعتبر في دلالتها عليه إفادة الظنّ بذلك الحكم المجعول ، وهي مع وجود الخبر لا تفيده ، ومرجعه إلى منع شمولها لهذا المورد من جهة وجود الخبر ونحوه ، فهو أوضح سقوطا من سابقه.

أمّا أوّلا : فلأنّ الأدلّة المقامة به من العقل والنقل المطابق له قطعيّة مفيدة للقطع بذلك الحكم المجعول في موضوعه ، وإلاّ لم يكن دليل على اعتباره إلاّ من باب الظنّ المطلق ، فكيف يسوغ المناقشة في دليله بإبداء احتمال مرجعيّة الأصل حتّى يقابل بالردّ المذكور.

وأمّا ثانيا : فلأنّ وجود الخبر الظنّي وغيره لا يمنع من حصول الظنّ من أدلّة الأصل بمفاده ، وإن حصل الظنّ من الخبر أيضا لعدم المنافاة بتغاير موضوعيهما ، فإنّ الخبر يفيد الظنّ بحكم الواقعة من حيث هي ، وأدلّة الأصل تفيد الظنّ بحكم الواقعة من حيث جهالة حكمها الواقعي ، والظنّ الأوّل لعدم ثبوت حجّيّته غير خارج عن الجهل ، وبذلك يندفع ما يمكن أن يقال : من أنّ موضوع الأصل مع وجود الخبر ونحوه غير محرز ، لعدم (3) شمول أدلّته ظنّا بهذا الاعتبار ، مع أنّ أدلّة الأصل مقيّدة بعدم وجود دليل قطعي ولا دليل قطعي الاعتبار على الواقع ، والخبر المفروض وجوده غير قطعي ولا أنّه قطعي اعتباره ، فوجوده بمثابة عدمه.

على أنّه لو كان مبنى الردّ على فرض كونه قطعي الاعتبار ، فالاعتراف به منع لعدم (4)

ص: 293


1- معالم الدين : 192 - 193.
2- الزبدة : 58.
3- وفى الأصل : « فعدم » والصواب ما أثبتناه في المتن بملاحظة السياق ، فتدبّر.
4- وقد سها قلمه الشريف في هذا المقام ، والصواب : « فالاعتراف به منع لتماميّة دليل الانسداد. الخ ». فلاحظ وتأمّل.

تماميّة دليل الانسداد ، بواسطة عدم ثبوت ما هو العمدة من مقدّماته ، وهو انسداد باب العلم والظنّ الخاصّ ، فلا يعقل الاستناد لإتمامه إلى منع مرجعيّة الأصل لوجود الخبر.

وأمّا ما أورد أيضا - على القول بالرجوع إلى الأصل مع وجود الأمارة الظنّيّة كالخبر : - من أنّ دليل الأصل وهو الإجماع ليس بموجود فيما قابله الخبر وغيره ، فهو أضعف من سابقه ، لأنّ الإجماع على تقدير انحصار دليل الأصل فيه قائم بالأصل الكلّي ، ووجود الخبر المختلف فيه لا يخرج المورد عن موضوعه في نظر من لا يراه معتبرا من باب الظنّ الخاصّ.

ومن الأعلام من أورد على الرجوع إلى الأصل على تقدير كون مدركه العقل المستقلّ : « بأنّ حكم العقل إمّا أن يراد به الحكم القطعي أو الظنّي ، فإن كان الأوّل فدعوى كون مقتضى أصل البراءة قطعيّا أوّل الكلام ، كما لا يخفى على من لاحظ أدلّة المثبتين والنافين من العقل والنقل ، سلّمنا كونه قطعيّا في الجملة ، ولكنّ المسلّم إنّما هو قبل ورود الشرع ، وأمّا بعد ورود الشرع فالعلم بأنّ فيه أحكاما إجمالا يثبّطنا عن الحكم بالعدم قطعا. كما لا يخفى ، سلّمنا ذلك ولكن لا نسلّم حصول القطع بعد ورود الخبر الواحد الصحيح على خلافه ، وإن أراد الحكم الظنّي سواء كان بسبب كونه بذاته مفيدا للظنّ أو من جهة استصحاب الحالة السابقة ، فهو أيضا ظنّ مستفاد من ظاهر الكتاب والأخبار الّتي لم يثبت حجّيّتها بالخصوص ، مع أنّه ممنوع بعد ورود الشرع ، ثمّ بعد ورود الخبر الصحيح إذا حصل من خبر الواحد ظنّ أقوى منه » (1) انتهى.

وفيه : أنّه لا ريب في كون حكم العقل بالبراءة قطعيّا ولا ينبغي الاسترابة فيه ، لأنّ مناطه عدم البيان من جهة استقلاله بقبح التكليف بلا بيان ، والبيان بمجرّد وجود الخبر المشكوك الاعتبار غير حاصل ، وكذلك غيره من الأمارات الغير المعتبرة ، وحيث حصل البيان بنصب دليل علمي أو قطعي الاعتبار فلا حكم له ، لا بعنوان القطع ولا الظنّ.

وأمّا الخبر الصحيح المفروض وجوده في المسألة ، فإن قام دليل قطعي على اعتباره كان بيانا ، ومعه لا مجرى لأصل البراءة ، وإلاّ فوجوده كعدمه في عدم منعه من حكم العقل ، سواء فرضناه قطعيّا أو ظنّيّا.

وأمّا المنع من حكمه من جهة العلم الإجمالي الحاصل بعد ورود الشرع ، فهو حقّ لا سترة عليه ، فالوجه في إبطال الرجوع إلى أصل البراءة هو ما بيّناه من الوجوه الثلاث.

ص: 294


1- قوانين الاصول 1 : 442.

وبها يندفع ما أورده المحقّق الخوانساري جمال الدين رحمه اللّه في حاشيته حيث قال : « يرد على الدليل المذكور أنّ انسداد باب العلم بالأحكام الشرعيّة غالبا لا يوجب جواز العمل بالظنّ حتّى يتّجه ما ذكروه ، لجواز أن لا يجوز العمل بالظنّ ، فكلّ حكم حصل العلم به من ضرورة أو إجماع نحكم به ، وما لم يحصل العلم به نحكم فيه بأصالة البراءة ، لا لكونها مفيدة للظنّ ولا للإجماع على وجوب التمسّك بها ، بل لأنّ العقل يحكم بأنّه لا يثبت تكليف علينا إلاّ بالعلم أو بظنّ يقوم على اعتباره دليل يفيد العلم ، ففيما انتفى الأمران فيه يحكم العقل ببراءة الذمّة عنه وعدم جواز العقاب على تركه ، لا لأنّ الأصل المذكور يفيد ظنّا بمقتضاها حتّى يعارض بالظنّ الحاصل من أخبار الآحاد بخلافه ، بل لما ذكرناه من حكم العقل بعدم لزوم شيء علينا ما لم يحصل العلم لنا ولا يكفي الظنّ به ، ويؤكّده ما ورد من النهي عن اتّباع الظنّ ، وعلى هذا ففيما لم يحصل العلم به على أحد الوجهين وكان لنا مندوحة عنه كغسل الجمعة فالخطب سهل ، إذ نحكم بجواز تركه بمقتضى الأصل المذكور.

وأمّا فيما لم [ يكن ] مندوحة عنه كالجهر بالتسمية والإخفات بها في الصلاة الإخفائيّة الّتي قال بوجوب كلّ منهما قوم ، ولم يمكن لنا ترك التسمية ، فلا محيص لنا عن الإتيان بأحدهما ، فنحكم بالتخيير فيها ، لثبوت وجوب أصل التسمية وعدم ثبوت الجهر والإخفات ، فلا حرج لنا في شيء منهما. وعلى هذا فلا يتمّ الدليل المذكور [ لأنّا ] لا نعمل بالظنّ أصلا » انتهى (1).

ويردّه : الوجوه الثلاث المتقدمّة ، وقد يردّ أيضا : « بأنّ أصل البراءة لا يجري في جميع الفقه ، كما لو تردّد المال بين شخصين فيما إذا شكّ في صحّة بيع المعاطاة فتبايع بها إثنان ، فإنّه لا يجري هنا البراءة لحرمة تصرّف كلّ منهما على تقدير كون المبيع ملك صاحبه وكذا في الثمن ، ولا معنى للتخيير أيضا لأنّ كلاّ منهما يختار مصلحته ، وتخيير الحاكم هنا لا دليل عليه مع أنّ الكلام في حكم الواقعة لا في علاج الخصومة.

اللّهمّ : إلاّ أن يتمسّك في أمثال المقام بأصالة عدم ترتّب الأثر ، بناء على كون أصالة العدم من الأدلّة الشرعيّة ، وحينئذ فإبدال أصالة البراءة في الإيراد بأصالة العدم أولى لكونه أشمل » (2).

وأمّا بطلان الرجوع إلى الاحتياط بفعل كلّ ما يحتمل الوجوب أو الجزئيّة أو

ص: 295


1- حاشية جمال الدين الخوانساري على شرح المختصر ( مخطوط ) : 119.
2- فرائد الاصول 1 : 401 - 402.

الشرطيّة ، وترك كلّ ما يحتمل الحرمة أو المانعيّة أو القاطعيّة ، أو الجمع بين المحتملات بفعل الجميع أو ترك الجميع في المكلّف به الدائر بين امور متعدّدة فلوجهين :

أحدهما : الإجماع القطعي على عدم وجوب الاحتياط في المقام ، لا بمعنى إجماعهم على عدم الالتزام بالاحتياط في كلّ المسائل الفقهيّة أو جلّها حتّى يرد عليه بأنّ عدم الأكثر منهم ، لعلّه لوجود المدارك المعتبرة عندهم في الأحكام ، فلا يقاس عليهم غيرهم ممّن لا يجد مدركا ، ولا بمعنى إجماعهم حتّى الأخباريّين على عدم وجوب الاحتياط في الشبهات الوجوبيّة ، حتّى يرد عليه أنّ كلامهم ثمّة إنّما هو في الشبهات البدويّة فلا يقاس عليها غيرها من صورة وجود العلم الإجمالي كما في المقام ، بل بمعنى إجماع العلماء على عدم كون المرجع في الشريعة على تقدير انسداد باب العلم وفقد الظنون الخاصّة رأسا ، أو عدم كفاية الموجود منها إلاّ في أقلّ قليل من الأحكام ، هو طريقة الاحتياط والالتزام بفعل كلّ ما يحتمل الوجوب ظنّا أو شكّا أو وهما ، وترك كلّ ما يحتمل الحركة كذلك ، كما يعلم ذلك أيضا بالتتبع في كلمات الأصحاب وطريقة عملهم في غير المعلومات.

ثانيهما : لزوم العسر الأكيد والحرج الشديد من الالتزام بالاحتياط في جميع الوقائع المشتبهة الموجبين لاختلال نظم العالم ، لكثرة المشتبهات ولا سيّما الموهومات بحيث خرجت في الكثرة عن حدّ الإحصاء ، كما يرشد إليه ضرورة قلّة المعلومات ، بل لو قطعنا النظر عن الاحتياطات اللازمة في أبواب المعاملات وسائر أبواب العبادات ، كفى ما يلزم من محذور العسر و [ الحرج ] في خصوص الطهارة والصلاة الّتي تتكرّر في الليل والنهار خمس مرّات في خمس أوقات ، لكثرة المسائل الخلافيّة المتعلّقة بهما من حيث الأجزاء والشرائط والموانع والقواطع والشكوك ومسائل السهو والنسيان.

فالالتزام بالاحتياط في الجميع ولا سيّما الخلافات الموجبة لدوران المكلّف به بين المتبائنين ، كالجهر أو الإخفات بالتسمية في الصلوات الإخفاتيّة الّتي لا يتمّ الاحتياط فيها إلاّ بالجمع والتكرار ، حتّى أنّه قد لا يتمّ إلاّ بتكرار صلاة واحدة مرارا عديدة ، يوجب أن يستغرق فعل الطهارة والصلاة جميع آنات الليل والنهار ، فيختلّ به سائر امور المعاش وهذا هو معنى اختلال نظام العامّ ، وهذا العسر الّذي يلزم من أصل العمل بالاحتياط ما يشترك فيه المجتهد ومقلّدوه.

وها هنا عسر آخر موجب للاختلال أيضا يختصّ به المقلّد ، نظرا إلى أنّ الاحتياط لا

ص: 296

يتمّ إلاّ بعد معرفة موارد الاحتياط ، ثمّ معرفة كيفيّته الّتي تختلف على حسب اختلاف الموارد ، ثمّ معرفة تعارض الاحتياطات بعضها بعضا وموارد تعارضها ، وعلاج التعارض بترجيح الاحتياط الناشئ من الاحتمال القوي على الاحتياط الناشئ من الاحتمال الضعيف.

وهذه الوجوه من المعرفة كلّها أمر صعب لا يستقلّ به المقلّد بل يحتاج إلى التعلّم من معلّم ، وفيه أيضا ما لا يخفى من العسر الشديد الموجب لاختلال امور المعاش.

ولنذكر مثالا واحدا لذلك ، وهو أنّ الاحتياط في مسألة التطهّر بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر في ترك التطهّر به ، غير أنّه قد يعارضه في الموارد الشخصيّة احتياطات اخر بعضها أقوى منه وبعضها أضعف وبعضها مساو له ، فإنّ المكلّف الّذي حصل له الابتلاء بذلك الماء قد يوجد عنده ماء آخر أيضا للطهارة ، وقد لا يوجد معه إلاّ التراب ، وقد لا يوجد من مطلق الطهور إلاّ هذا الماء.

والاحتياط في الأوّل : هو التطهّر بالماء الآخر ، إن لم يزاحمه الاحتياط من جهة اخرى ، كما إذا أصاب الماء الآخر ما (1) لم ينعقد الإجماع على طهارته كعرق الجنب من الحرام مثلا.

وفي الثاني : هو الجمع بين المائيّة والترابيّة ، إن لم يزاحمه ضيق الوقت المقتضي للاحتياط بترك الجمع لحفظ الوقت.

وفي الثالث : الطهارة بذلك المستعمل والصلاة معها إن لم يزاحمه أمر آخر واجب أو محتمل الوجوب ظنّا أو وهما.

وبالجملة تعلّم موارد الاحتياط الشخصيّة وكيفيّته ، وعلاج التعارض للمقلّد يكاد يلحق بالمتعذّر ، فكيف بالعمل به في جميع الوقائع المشتبهة؟

لا يقال : لا يجب على المقلّد تقليد هذا المجتهد الّذي أدّى نظره إلى انسداد باب العلم والظنّ الخاصّ في معظم الفقه ، بل يقلّد غيره ممّن لا يرى باب العلم أو الظنّ الخاصّ مسدودا.

لأنّا نقول أوّلا : نفرض الكلام في صورة انحصار المجتهد في ذلك القائل ، أو انحصار القول في المجتهدين في هذا القول.

وثانيا : يتمّ الكلام في المجتهد نفسه ، لما عرفت من أنّ العسر اللازم في العمل بالاحتياط مشترك بين المجتهد والمقلّد.

وثالثا : بأنّ الكلام في حكم المسألة على تقدير انسداد باب العلم والظنّ الخاصّ على

ص: 297


1- وكلمة « ما » هنا موصولة ، أي : « شىء لم ينعقد الإجماع على طهارته » الخ.

وجه يكفي في معظم الفقه على حسبما يراه ذلك المجتهد ، مع اعتقاده بكون القول بخلاف ذلك ، ناشئا عن الركون إلى ما لا ينبغي الركون إليه.

فنقول : إنّ حكم اللّه سبحانه حينئذ إمّا وجوب العمل بالظنّ أو وجوب الاحتياط ، فإن قلت بالثاني لزمك العسر والحرج ، وإن قلت بالأوّل ثبت المطلوب.

ولابدّ أن يفتي لغيره من المكلّفين بشيء ، فإن أفتى بالرجوع إلى طريقة الاحتياط فهو إفتاء بما يوجب العسر والحرج الموجبين للاختلال ، وإن أفتى بمؤدّى اجتهاده وظنّه ثبت المطلوب أيضا ، مع أنّ الاحتياط فيما دار الأمر بين المتبائنين ، وفيما لو دار المال بين صغيرين يحتاج كلّ منهما إلى صرفه إليه غير ممكن ، فلا مناص عن العمل بالظنّ.

ثمّ إنّه أورد على ما ذكرناه في إبطال مرجعيّة الاحتياط بوجوه :

منها : النقض بما لو أدّى اجتهاد المجتهد إلى الظنّ بما يوجب الحرج ، كوجوب الترتيب بين الحاضرة والفائتة لمن عليه فوائت كثيرة ، ووجوب الغسل على مريض أجنب متعمّدا وإن أصابه من المرض ما أصابه ، ووجوب امور كثيرة يلزم العسر بمراعاتها جميعا ، فلو كان العسر اللازم من العمل بقاعدة موجبا للإعراض ورفع اليد عنها أوجبه في القواعد والأحكام المبتنية على الظنون المطلقة.

وفيه : من السهو والغفلة عن حقيقة مفاد الأدلّة النافية للعسر والحرج ، ومعاملة تلك الأدلّة للأدلّة المثبتة لسائر التكاليف ما لا يخفى ، فإنّ الأدلّة المثبتة للتكاليف إمّا مخصّصة بالأدلّة النافية للعسر والحرج أو مخصّصة لها فهي قسمان :

أحدهما : العمومات المثبتة للتكاليف من نحو قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (1) و ( أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) (2) وما أشبه ذلك ، قبالا لقوله تعالى : ( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (3) ( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (4) فإنّ الأوّل وإن كان يعمّ مورد الحرج وغيره ، والثاني يعمّ الصلاة وغيرها ، غير أنّ الثاني مقدّم على الأوّل لا لما توهّم من أنّ النسبة بينهما عموم من وجه ، وأصالة البراءة ترجّح الأدلّة النافية للعسر ، أو لأنّ المرجّحات الخارجيّة كعمل العلماء ونحوه يرجّحها ، بل لأنّها بطبعها ولذاتها مقدّمة عليها ، كما يشير إليه رواية عبد الأعلى مولى آل سام في رجل عثر وانقطع ظفره فجعل عليه مرارة فكيف يصنع

ص: 298


1- سورة المزمّل : 20.
2- سورة البقرة : 187.
3- سورة الحج : 78.
4- سورة البقرة : 185.

بالوضوء؟ « فقال عليه السلام : يعرف هذا وأشباهه من كتاب اللّه ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (1) امسح عليه » (2) بتقريب : أنّ ظاهر الجواب أنّ هذا وأشباهه يعرف حكمه من عموم نفي الحرج ، وهذا - مع أنّ الأدلّة الواردة في وجوب المسح على البشرة أيضا عمومات - ممّا ليس له معنى محصّل سوى تقدّم الأدلّة [ النافية ] للحرج لذاتها على عمومات سائر التكاليف.

والسرّ في ذلك : أنّها بمضمونها ومدلولها اللفظي متعرّضة لحال عمومات أدلّة التكاليف ببيان مقدار موضوعها ، وهو ما لم يكن فيه عسر ولا حرج ، ومرجعه إلى نفي مجعوليّة الحكم الحرجي ، وبعبارة نفي جعل الوجوب لمورد الحرج ، فتكون كالمفسّرة لها وقد يسمّى ذلك بالحكومة ، وهو ليس من باب التخصيص بل شبه تخصيص ، لأنّ التخصيص هو إخراج شيء عن حكم العامّ لولا الإخراج لزم الكذب والتناقض ، كما في قوله : « أكرم العلماء » و « لا تكرم زيدا » ، بخلاف الحكومة فإنّها تفسير وبيان لمقدار الموضوع ونفي لمجعوليّة الحكم لمورد العسر.

ومن آية ذلك أنّه لولا الدليل المحكوم عليه لزم اللغو في الدليل الحاكم ، بخلاف التخصيص فإنّه لولا العامّ المخصّص لم يكن المخصّص لغوا ، كما يعلم ذلك بملاحظة المثال المتقدّم.

وثانيهما : خصوص الأدلّة المثبتة للتكليف لموضوع عسر حرجي بطبعه ، كأدلّة وجوب الجهاد والحجّ وما أشبههما ، وضابطه : كونها لخصوص موضوعها أخصّ من الأدلّة النافية للعسر والحرج ، فتخصّصها بضابطة تقدّم الخاصّ على العامّ ، فالأدلّة الظنّيّة المؤدّية إلى الظنّ بما فيه العسر والحرج إن كانت من قبيل القسم الأوّل فتخصّص بالأدلّة النافية للعسر والحرج بغير مورديهما ، وإن كانت من قبيل القسم الثاني فتخصّص بها أدلّة نفي العسر والحرج لأنّها أيضا عمومات ظنّيّة قابلة للتخصيص ، فلا إشكال في شيء من التقديرين فبطل النقض.

وممّا يخصّصه أدلّة نفي الحرج من باب الحكومة بغير محلّ العسر والحرج أدلّة حسن الاحتياط ووجوبه على تقدير وجودها ، وهذا هو المقصود في إبطال مرجعيّة الاحتياط استنادا إلى استلزامها العسر والحرج.

بل قد يقال : إنّ أدلّة العسر بالنسبة إلى قاعدة الاحتياط من قبيل الدليل بالنسبة إلى الأصل ، فتقديمها عليها أوضح من تقديمها على العمومات الاجتهاديّة.

ص: 299


1- سورة الحج : 78.
2- الوسائل 1 : 464 / 5 ، ب 39 من أبواب الوضوء.

وأمّا ما ذكره من فرض تأدية ظنّ المجتهد إلى وجوب امور يلزم من مراعاتها العسر والحرج.

ففيه بعد الإغماض عن منع إمكانه ، نظرا إلى أنّا علمنا من أدلّة نفي الحرج وغيرها بأنّ واجبات الشرع وإن كانت كثيرة إلاّ أنّها ليست بحيث يوجب فعلها العسر على المكلّف ، وهذا العلم الإجمالي يمنع من حصول الظنّ التفصيلي بوجوب امور يلزم من فعلها العسر ، والإغماض عن منع وقوعه بعد تسليم إمكانه ، نظرا إلى كثرة ما يخالف الاحتياط فيما بين الأمارات من أخبار الآحاد والإجماعات المنقولة والشهرات والأولويّات الظنّيّة وغيرها ، بحيث فيها التأدية إلى الظنّ باستحباب امور كثيرة ، والظنّ بحرمة امور اخر والظنّ بكراهة امور اخر ، والظنّ بإباحة امور اخر.

بل لو تأمّلت في الأمارات الاجتهاديّة الّتي يستعملها المجتهد لوجدت أكثرها أدلّة مؤدّية إلى غير التكاليف المقتضية للوقوع في العسر والحرج - أنّه لا محذور في ذلك ، لما أشرنا إليه من أنّ أدلّة نفي العسر والحرج قابلة للتخصيص بأدلّة تكاليف كانت أخصّ منها إذا لم يوجب العسر اللازم منها اختلال النظم ، مع أنّ العسر اللازم من مراعاة الامور المظنون وجوبها مشترك اللزوم بين القول بالعمل بالظنّ والقول بالرجوع إلى الاحتياط ، لأنّ العسر إنّما يلزم من وجوب الإتيان بها سواء كان ذلك الإتيان لأجل أنّها الواجب ، أو لرجاء أنّها الواجب.

وبقي على الثاني زيادة لزوم الحرج باعتبار أنّ القائل به يوجب الاحتياط في المشكوكات والموهومات أيضا ، ونحن لا نوجب الإتيان بها كما هو واضح ، ولو فرض في بعض الأحيان تأدية الظنّ إلى اختلال النظم ، فنحن لا نبالي من طرحه وترك العمل به ، والاقتصار منه على العمل بما لا يلزم منه محذور الاختلال.

ومنها : أنّ الأدلّة النافية للعسر والحرج يعارضها الأدلّة الدالّة على حرمة العمل بالظنّ ، والثانية أكثر فإن لم نقل بترجيحها لذلك فلا أقلّ من التكافؤ ، وأقلّ مراتبه التساقط ، فيبقى أصالة الاحتياط مع العلم الإجمالي بالتكاليف الكثرة سليمة عن المزاحم.

ويزيّفه : أيضا منع التعارض أمّا أوّلا : فلما عرفت عند تأسيس أصالة حرمة العمل بالظنّ أنّ حرمة العمل به ليست بذاتيّة بل عارضيّة ، من حيث إنّه لا يغني من الحقّ باعتبار عدم دوام مصادفته الواقع ، فلا يأمن من تأدية العمل به إلى مخالفة الواقع من وجوب أو تحريم ، وأدلّة نفي الحرج لا تنفي هذه الحرمة بل إنّما تنفي الوجوب والحرمة الذاتيّتين إذا

ص: 300

كان حرجيّين لا مطلقا ، فلا تكون في مقابلة أدلّة حرمة العمل بالظنّ ، بل المقابل لها دليل الانسداد والمقابل لدليل الانسداد قاعدة الاحتياط الآمرة بإحراز الاحتمالات الموهومة وترك العمل بالظنون القابلة لها ، وهي ساقطة بأدلّة نفي العسر ، فيبقى دليل الانسداد سليما.

وأمّا ثانيا : فلأنّ توهّم التعارض نشأ من زعم أنّ أدلّة نفي العسر مقتضية لوجوب العمل بالظنّ ، قبالا لأدلّة حرمته.

ويدفعه : أنّ التمسّك بأدلّة نفي الحرج ليس لإحراز المقتضي لوجوب العمل بل لدفع المانع من اقتضاء مقتضيه ، فإنّ المقتضي لتعيّن العمل بالظنّ هو دليل الانسداد ، وقاعدة الاحتياط مانعة من اقتضائه ، وأدلّة نفي العسر لدفع ذلك المانع.

وأمّا ثالثا : أنّ أدلّة حرمة العمل بالظنّ تعارض دليل الانسداد كما عرفت ، والأدلّة النافية للعسر والحرج مع ما تقدّم من عدم جواز المخالفة القطعيّة والخروج عن الدين لإحراز بعض مقدّماته ، وهو بطلان احتمال مرجعيّة أصالة البراءة وطريقة الاحتياط ، فتأمّل.

وأمّا رابعا : فلأنّ العسر والحرج قسمان :

أحدهما : ما لا يوجب اختلال نظم العالم.

وثانيهما ما يوجبه.

والأوّل ينفيه الكتاب والسنّة والإجماع.

والثاني ينفيه العقل أيضا ، مضافا إلى الثلاث المذكورة لاستقلال العقل بقبح جعل حكم يؤدّي إلى اختلال نظم العالم ، والأدلّة الدالّة على حرمة العمل بالظنّ لا تقاوم لمعارضة العقل المستقلّ.

وقد عرفت أنّ العمل بالاحتياط فيما نحن فيه يوجب من العسر ما يؤدّي إلى اختلال النظم.

وأمّا خامسا : فلمّا عرفت من أنّ أدلة نفي العسر والحرج حاكمة على سائر الأدلّة المثبتة للتكاليف ، وإن كان بينهما بحسب المفهوم عموم من وجه.

ومنها : أنّ الأدلّة النافية للعسر و [ الحرج ] إنّما تنفي الأحكام العسرة الحرجيّة الّتي تثبت بأصل الشرع ، فلا تنافي الأحكام الحرجيّة الّتي لا يستند وقوعها إلى الشارع بل إلى تسبيب من المكلّف نفسه ، ولذا لو نذر امورا عسرة كالأخذ بالاحتياط في جميع الأحكام الغير المعلومة ، وكصوم الدهر أو إحياء الليالي أو المسير إلى الحجّ ماشيا كان النذر منعقدا ،

ص: 301

لأنّ الالتزام بها إنّما جاء من قبل المكلّف لا الشارع ، ونحوه ما لو آجر نفسه لعمل شاقّ ، فإنّ مشقّته لم تمنع من صحّة الإجارة ووجوب الوفاء.

فحينئذ نقول : إنّ الموجب للاحتياط بإتيان كلّ ما يحتمل الوجوب وترك كلّ ما يحتمل الحرمة وإن كان انسداد باب العلم واختفاء الأحكام الواقعيّة ، غير أنّ السبب في ذلك إنّما هو تقصير المكلّفين في محافظة الآثار الصادرة من الشارع المبيّنة للأحكام المميّزة بين الحلال والحرام الّتي منها حضور الإمام عجّل اللّه فرجه ، وهذا السبب وإن لم يكن من فعل كلّ مكلّف لعدم مدخليّة أكثرهم فيه ، إلاّ أنّ التكليف بالعسر ليس قبيحا عقليّا حتّى لا يتساوى في قبحه السبب وغيره ، ويختصّ عدم قبحه بمن صار سببا من سوء اختياره ، بل هو أمر منفيّ بالأدلّة السمعيّة الّتي ظاهرها نفي الأحكام الشرعيّة العسرة الثابتة في الشريعة أوّلا وبالذات ، فلا تنافي عروض التعسر في امتثالها لجميع المكلّفين ويتساوى فيه المقصّر وغيره.

ألا ترى أنّ الاجتهاد الواجب على المكلّفين - ولو كفاية - من الامور الشاقّة جدّا خصوصا في هذه الأزمنة ، مع أنّ السبب فيه تقصير المكلّفين الموجبين لاختفاء آثار الشريعة ، وهل يفرق في نفي العسر والحرج بين الوجوب الكفائي والعيني؟

ويزيّفه : أنّ الأدلّة النافية للعسر والحرج في نفي مجعوليّة الحكم لموضوع متعسّر لا يتحمّل عادة ، عامّة لما كان تعسّره بسبب من الشارع من مرض أو برودة هواء أو نحو ذلك ، وهو الّذي ورد فيه قولهم عليهم السلام : « ما غلب اللّه عليه فاللّه أولى بالعذر » (1). وما كان بسبب من غير الشارع سواء كان هو المكلّف نفسه أو غيره ، خصوصا ما يبلغ منه حدّ اختلال النظام والإضرار بامور المعاش ، الّذي جعل الحكم والإلزام به قبيح عقلي الّذي لا فرق في قبحه بين القسمين.

وقد ذكرنا سابقا أنّ العسر اللازم من العمل بالاحتياط فيما نحن فيه من هذا القبيل ، مع تطرّق المنع فيه من استناد سبب التعسّر وهو انسداد باب العلم واختفاء الأحكام الواقعيّة إلينا ، بل يستند إلى غيرنا من المعاندين الّذين هم أعداء الشرع وصادعيه ، والنقض بالالتزامات الحاصلة بالنذر وشبهه في غير محلّه.

أمّا أوّلا : فلأنّ أدلّة نفي العسر والحرج حاكمة على عمومات النذر وشبهه أيضا كسائر العمومات المثبتة للتكاليف ، فوجوب الوفاء بما تعذّر أو تعسّر من مورد النذر بحيث لا يتحمّل عادة ممنوع ، فيتوجّه المنع إلى انعقاد النذر في الأمثلة المذكورة بالنسبة إلى محلّ العسر.

ص: 302


1- الكافي 3 : 412 / 1.

وأمّا ثانيا : فلوضوح الفرق بين التزام المكلّف بما ألزم به الشارع وبين إمضاء الشارع لما التزمه المكلّف ، ومورد أدلّة نفي العسر والحرج ما كان من قبيل الأوّل ، فإنّها تنفي الإلزام الحرجي الّذي يتبعه التزام المكلّف ، ومنه إيجاب العمل بالاحتياط فيما نحن فيه ، وما يلتزمه المكلّف بالنذر وشبهه وكذلك الإجارة من الأعمال الشاقّة من قبيل الثاني ولا تنفيه أدلّة نفي الحرج.

والسرّ في الفرق : أنّها واردة في مقام الامتنان فتخرج عنها التزامات المكلّف ، فلا تنفي إمضاء الشارع لها وإلزامه التابع لها كما هو واضح.

وأمّا النقض بالاجتهاد : فهو أيضا في غير محلّه ، لمنع مشقّة فيه لا تتحمّل عادة بالنسبة إلى أهله ، بل هو لأهله ليس بأشقّ من أكثر المشاغل الصعبة الّتي يتحملّها الناس لمعاشهم.

ولو سلّم كونه بنوعه أمرا شاقّا متعسّرا لا يتحمّل عادة ، فدليل وجوبه كفاية بل عينيّا في بعض الأحيان لكونه أخصّ من أدلّة نفي العسر والحرج يخصّصها ، كما تقدّم بيانه.

وقد يجاب عن احتمال مرجعيّة الاحتياط بوجوه اخر ، غير ما ذكرناه من الإجماع ولزوم العسر والحرج.

منها : منع وجوب الاحتياط إذ لا دليل عليه ، والأدلّة المقامة على وجوبه مدخولة ، فغايته كونه مستحبّا حيث لم يوجب إلغاء الحقوق الواجبة.

ولا خفاء في ضعفه ، إذ التحقيق أنّ الاحتياط في مثل المقام - بعد الإغماض عمّا ذكرناه في منع وجوبه - واجب ، لوجود المقتضي لوجوبه ، وهو العلم الإجمالي بالتكاليف الالزاميّة مع اشتباه محلّها ، ومعناه الشكّ في المكلّف به الدائر بين الامور المتبائنة بعد العلم بأصل التكليف إجمالا ، وستعرف في مسألة البراءة والاشتغال وجوب الاحتياط فيه.

ومنها : أنّ الاحتياط مع فرض انسداد باب العلم وفقد الظنّ الخاصّ ، وعدم اعتبار الظنّ الاجتهادي ، وملاحظة القول بوجوب معرفة الوجه غير ممكن ، كما عليه جماعة ، لأنّه لا يتمّ إلاّ بإحراز معرفة الوجه الّتي هي إمّا شرط أو محتمل للشرطيّة على القولين بوجوبها وعدم وجوبها ، وإحرازها غير ممكن لأنّها إنّما تحرز إمّا بالعلم بالوجه والمفروض إنسداد بابه ، أو بالظنّ الخاصّ به والمفروض فقده ، أو بالظنّ الاجتهادي به والمفروض عدم اعتباره ، وهذا أيضا ضعيف.

أمّا أوّلا : فلأنّه على تقدير تماميّته ، لا يجري إلاّ في موارد التعبّد أعني العبادات.

ص: 303

وأمّا ثانيا : فلأنّ وجوب معرفة [ الوجه ] عند قائليه إمّا شرطي ، على معنى كون نفس معرفة الوجه شرطا للعبادة ، أو مقدّمي على معنى كونه مقدّمة لقصد الوجه الّذي هو كقصد القربة واجب في العبادة ، ولا يتمّ إلاّ بمعرفة الوجه ، ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلمنع كون معرفة الوجه من شروط صحّة العبادة ، لعدم الدليل عليه بل الدليل على خلافه ، كما يعلم من سيرة النبيّ وأصحابه وسير [ ة ] الأئمّة عليهم السلام وأصحابهم بعد التتبّع في رواياتهم ، ومن ثمّ صار الحقّ عندنا في مسألة الجاهل في العبادات هو الصحّة والإجزاء مع المطابقة لا مع عدمها ، كما قرّرناه في باب الاجتهاد والتقليد.

وأمّا الثاني : لمنع وجوب قصد الوجه رأسا - كما حقّقناه في محلّه - فلا يجب لأجله معرفة الوجه مقدّمة ، فإنّه كقصد القربة يعتبران لإحراز الإطاعة والامتثال.

ولا ريب أنّ الإطاعة والامتثال ليس بأمر توقيفي يجب أخذه من الشارع ، بل هو شيء موكول إلى العقل والعرف ، ولا نرى في العقل والعرف ما يقضي بتوقّف إطاعة الشارع وامتثال أمره على قصد الوجه المتوقّف على معرفته ، الراجعة إلى معرفة الوجوب والندب ، بل يكفي في صدقهما عند العقل والعرف مجرّد الرجحان عند الشارع والمطلوبيّة له ، بل احتمالهما أيضا فيكفي في صدقهما الإتيان بالفعل لأجل أنّه راجح عند الشارع ومطلوب له ، بل الإتيان به لرجاء أنّه راجح عنده ومطلوب له من دون توقّف له على إحراز كون ذلك الرجحان والمطلوبيّة على وجه الوجوب أو الندب ، ليتوقّف ذلك على العلم بالوجوب أو الندب.

ولو سلّم وجوب قصد الوجه فهو عند قائليه إنّما يعتبر حيث يمكن ، وهو مع تعذّر معرفة الوجه غير ممكن ، فيسقط وجوبه ويلزم منه عدم وجوب مقدّمته.

فإن قلت : نعم ولكنّ المقصود في المقام ترجيح العمل بالظنّ على العمل بالاحتياط بملاحظة اشتراط معرفة الوجه وإن صارت الآن متعذّرة ، فإنّ في الأوّل إحرازا للوجه بالطريق الظنّي ، وحيث تعذّر إحرازه بطريق علمي فإحرازه بالطريق الظنّي أولى من عدم إحرازه رأسا.

وحاصله أنّه إذا دار الأمر بين إحراز الوجه بطريق ظنّي ، وبين تفويته رأسا كان الأوّل أولى.

قلت : لا نتحقّق معنى إحراز الوجه بالطريق الظنّي ولا نتعقّل فائدته.

فإن قلت : معناه الظنّ بالوجوب وفائدته إحراز الإطاعة والامتثال به.

قلت : إحراز الإطاعة والامتثال بالظنّ بالوجوب ، إمّا لأنّ الظنّ بالوجوب له مدخليّة في حصول الإطاعة والامتثال ، أو لأنّه معتبر للتوصّل إلى نيّة الوجه الّتي لها مدخليّة فيهما ،

ص: 304

وأيّا مّا كان فهو باطل.

أمّا الأوّل : فلما عرفت من عدم توقّف صدقهما عند العقل ولا في العرف على العلم بالوجه ، فضلا عن الظنّ به.

وأمّا الثاني : فلأنّ الظنّ بالوجوب لا يجدي نفعا في حصول نيّة الوجه الّتي هي عبارة عن قصد الإتيان بالفعل لوجوبه ، لأنّه لا يتأتّى إلاّ مع الجزم بالغاية ، ولا جزم بها مع الظنّ بالوجوب.

والسرّ : في عدم جدواه : أنّ المفروض عدم ثبوت حجّيّته ، وظاهر أنّ الظنّ الغير المعتبر بوجوب شيء بمنزلة الشكّ فيه ، وكما أنّ الشكّ في الوجوب لا يمكن معه قصد الوجوب ، فكذلك الظنّ الغير المعتبر بوجوبه أيضا لا يمكن معه قصد الوجوب.

نعم لو كان الظنّ من الظنون الخاصّة كان الوجوب الثابت به وجها ظاهريّا ، حصل الجزم به من مقتضى علميّة أدلّة الظنّ الخاصّ فيتأتّى به قصد الوجه الظاهري ، لكن قد عرفت فقد الظنون الخاصّة مع انسداد باب العلم.

ثمّ إذا اكتفى في إحراز قصد الوجه بالوجه الظاهري على تقدير وجود الظنّ الخاصّ جاز الاكتفاء به على تقدير العمل بالاحتياط ، لأنّه على ما بيّناه من العلم الإجمالي بوجود واجبات كثيرة فيما بين الوقائع المظنونة والمشكوكة والموهومة واجب ، ومعناه وجوب الإتيان بجميع محتملات الوجوب ، فإذا وجب الإتيان بكلّ محتمل الوجوب ، فيقصد الإتيان به لوجوبه ، وهذا أيضا قصد للوجه الظاهري وقد حصل لمكان الجزم بالغاية.

فإن قلت : إنّما نرجّح العمل بالظنّ لأنّ فيه امتثالا تفصيليّا ، وهو بحكم العقل والشرع أولى من الامتثال الإجمالي الحاصل بالاحتياط ، لإجماعهم على عدم كفاية الامتثال الإجمالي مع التمكّن من الامتثال التفصيلي ، كما يظهر من كلامهم في مسألة الصلاة إلى أربع جهات عند اشتباه القبلة ، وفي الثوبين أو أكثر عند اشتباه الثوب الطاهر بالثوب النجس.

وعلى هذا فلا يمكن في العمل بالاحتياط نيّة الوجه حتّى الوجه الظاهري.

قلت : التفصيل إنّما يرجّح الامتثال التفصيلي على الإجمالي إذا كان في العلم لا مطلقا ، على معنى أنّه إذا تمكّن المكلّف من الامتثال العلمي التفصيلي كان متعيّنا ، ولا يجوز العدول عنه إلى الامتثال العلمي الإجمالي ، لإجماعهم عليه ظاهرا.

وهذا هو الّذي يظهر من كلامهم في مسألة اشتباه القبلة ، ومسألة اشتباه الثوب الطاهر ،

ص: 305

ولذا فرضوا الصلاة إلى الجهات أو في الأثواب في صورة الاشتباه ، فلو يمكّن من صلاة واحدة في مكان معلوم قبلته أو في ثوب معلوم الطهارة ، فلا يكفيه في حصول الامتثال صلوات متعدّدة في مكان آخر مشتبه قبلته ، أو في أثواب اخر مشتبه طاهرها.

وأمّا إذا تعذّر الامتثال العلمي التفصيلي ودار الأمر بين الامتثال الظنّي التفصيلى والامتثال العلمي الإجمالي فلا دليل على ترجيح الأوّل ، بل الدليل من جهة القوّة وبناء العقلاء على خلافه ، خصوصا مع عدم ثبوت حجّيّة الظنّ كما فيما نحن فيه.

بل قد عرفت أنّ هذا الظنّ في حكم الشكّ ، وكما لا يعقل ترجيح الامتثال الشكّي على الامتثال العلمي الإجمالي ، فكذلك لا يصحّ ترجيح الامتثال الظنّي بظنّ غير ثابت الحجّيّة على الامتثال العلمي الإجمالي ، بل قد يقال : لا يبعد ترجيح الاحتياط على تحصيل الظنّ الخاصّ الّذي قام الدليل عليه بالخصوص.

فالعمدة في إبطال مرجعيّة الاحتياط على معنى منع وجوبه ، هو ما ذكرناه من الإجماع ولزوم العسر البالغ حدّ اختلال النظم ، والإضرار بامور المعاش.

وقد استشكل في المقام شيخنا قدس سره بما ملخّصه : « أنّ غاية ما أبطله الإجماع وأدلّة نفي الحرج ، إنّما هو وجوب الاحتياط في جميع الوقائع الغير المعلومة من مظنونات الوجوب ، ومشكوكات الوجوب وموهومات الوجوب ، على طريقة رفع الإيجاب الكلّي وهو لا يلازم السلب الكلّي ، ولا يوجب رفع اليد عن الاحتياط بالكلّية ، لجواز السلب الجزئي الغير المنافي للإيجاب الجزئي المعبّر عنه هنا بالتبعيض ، وهو الأخذ بالاحتياط في البعض من الجميع دون بعض.

والأصل في ذلك أنّ مقتضى القاعدة العقليّة والنقليّة لزوم الامتثال العلمي التفصيلي للأحكام والتكاليف المعلومة إجمالا ، ومع تعذّره يتعيّن الامتثال العلمي الإجمالي في الجميع ، ومع تعذّره أو قيام الدليل على عدم وجوبه في الجميع لو دار الأمر بين الامتثال الظنّي في الكلّ وبين الامتثال العلمي الإجمالي في البعض والظنّي في الباقي ، كان الثاني هو المتعيّن عقلا ونقلا.

ففيما نحن فيه إذا تعذّر الاحتياط الكلّي ودار الأمر بين إلغائه بالمرّة والاكتفاء بالإطاعة الظنّيّة ، وبين إعماله في المظنونات والمشكوكات وإلغائه في الموهومات ، كان الثاني هو المتعيّن ، ولو فرض العسر أيضا نرفع اليد عن الاحتياط في المشكوكات ، ونحتاط في مظنونات الوجوب بالفعل ، ومظنونات الحرمة بالترك ، ولو فرض بقاء العسر

ص: 306

أيضا نرفع اليد عنه في بعض المظنونات أيضا ، إلى أن يبقى ما لا عسر في الاحتياط فيه ، فلم يلزم من الإجماع ولزوم العسر بطلان الاحتياط رأسا ، والمفروض أنّ العمدة في مقام إثبات حجّيّة الظنّ مطلقا إبطاله لأنّه العمدة في المنع » (1).

ويمكن الذبّ عنه : بأنّ هذا التفصيل إنّما يحسن لو كان القائل بمرجعيّة الاحتياط إنّما يقول بوجوبه في جميع الوقائع الغير العلميّة تعبّدا ، وليس كذلك بل يقول به لأنّه يفيد الموافقة القطعيّة والامتثال العلمي لجميع المعلومات بالإجمال ، فمناط وجوبه هو ذلك وهذا المناط غير حاصل في الاقتصار في الاحتياط على المظنونات ، أو هي مع المشكوكات مع الاعتراف بقلّة المشكوكات في نفسها.

نعم الاحتياط في هذا المقدار إنّما يفيد القطع بموافقة جملة من المعلومات بالإجمال ، لوجود العلم الإجمالي في المظنونات أيضا ، ولكن حصول القطع بموافقة جملة منها مشترك بين تقديري مرجعيّة الاحتياط حينئذ وطريقيّة الظنّ المطلق المفروض في المظنونات ، إذ المفروض موافقة الظنّ للاحتياط إذ كما يحصل القطع بموافقة جملة منها بالأخذ بالاحتياط من حيث إنّه أخذ بالاحتياط ، فكذلك يحصل ذلك للقطع بعينه بالأخذ بالظنّ من حيث إنّه أخذ بالظنّ بلا فرق بينهما أصلا.

نعم إنّما يحصل الفرق بين التقديرين في جهات اخر ، لا مدخليّة لها في الفرق بينهما من حيث إفادة القطع بموافقة جملة منها وعدم إفادته له.

منها : حصول الفرق بينهما في كيفيّة الأخذ ، إذ على مرجعيّة الاحتياط يؤخذ بالمظنون وجوبا أو حرمة ، لأنّه طرف للعلم الإجمالي المقتضي لوجوب الاحتياط ، وعلى طريقية الظنّ يؤخذ به لأنّه محرز للواقع وطريق إليه.

ومنها : حصوله بينهما في النيّة ، إذ على مرجعيّة الاحتياط يؤخذ بالمظنون لرجاء أنّه الواقع ، وعلى طريقيّة الظنّ يؤخذ به لأجل أنّه الواقع.

ومنها : حصوله بينهما باعتبار المسألة من حيث الفرعيّة والاصوليّة ، إذ المسألة على الأوّل فرعيّة لأنّ معنى وجوب الاحتياط في المظنونات وجوب الإتيان بكلّما ظنّ وجوبه وترك كلّما ظنّ حرمته إحتياطا ، وعلى الثاني اصوليّة.

وبالجملة : القول بوجوب الأخذ بالمظنون لأنّه احتياط له معنى ، والقول بتعيّن العمل

ص: 307


1- فرائد الاصول 1 : 421 - 423.

بالظنّ لأنّ الظنّ حجّة له معنى آخر ، والمسألة على الأوّل فرعيّة ، وعلى الثاني اصوليّة.

ومنها : حصوله بينهما في بعض مقامات الخطاب مثل تخصيص العامّ بالظنّ وعدمه بالاحتياط ، فيما لو قال : « أكرم العلماء » مع علمنا إجمالا بورود تخصيص عليه بحيث أوجب الإجمال في العامّ ، ثمّ ظننّا من جهة أمارة ظنّيّة بحرمة إكرام زيد العالم.

فإن قلنا بوجوب الأخذ بالحرمة المظنونة من جهة أنّه عمل بالاحتياط ، فلا ينهض ذلك لتخصيص أكرم العلماء ، ولا يرفع عنه الإجمال الناشئ من العلم الإجمالي بورود تخصيص عليه ، بخلاف ما لو قلنا بوجوب الأخذ بها لأنّه عمل بالظنّ ، والظنّ حجّة على معنى كونه طريقا إلى إحراز الواقع ، فإنّه حينئذ ينهض لتخصيص العامّ وربّما يرتفع به إجماله.

ولا ريب أنّ الفرق بينهما في هذه الجهات لا يوجب فرقا بينهما في إفادة أحدهما القطع بموافقة جملة من المعلومات بالإجمال ، وعدم إفادة الآخر إيّاه ، بل القطع حاصل على التقديرين.

وبالجملة : هذا القطع لازم الحصول بكلّ من تقديري تسمية ذلك عملا بالاحتياط المنوي حين العمل وتسميته عملا بالظنّ ، فلابدّ إمّا من الالتزام بالاحتياط في الجميع المؤدّي إلى العسر الموجب لاختلال النظم تحصيلا للموافقة العلميّة لجميع الواجبات والمحرّمات المعلومتين بالإجمال ، أو من القول بأنّ الشارع بعد تعذّر الموافقة العلميّة التفصيليّة لا يريد من المكلّفين الامتثال العلمي الإجمالي في التكاليف الواقعيّة المشتبهة بين الوقائع الغير العلميّة ، بل يكتفي منهم بالامتثال الظنّي التفصيلي في خصوص كلّ واقعة ظنّيّة ، وإن استلزم ذلك حصول العلم الإجمالي بامتثال جملة غير معيّنة منها ، ولأجل ذلك ارتفع العلم الإجمالي بوجود التكاليف الواقعيّة فيما بين الوقائع الغير العلميّة بعد الأخذ بجميع الوقائع المظنونة.

والأوّل باطل بالعقل والنقل فتعيّن الثاني ، وهذا هو معنى كون المرجع في صورة انسداد باب العلم بمعظم الأحكام الشرعيّة هو الظنّ المطلق ، والواسطة وهو التفصيل المتقدّم ملغاة في نظر الشارع.

وممّا يفصح عن صحّة ما قلناه ، أو يؤيّده : أنّ أصل البراءة أصل قطعي مستفاد من العقل والنقل قرّره الشارع لنفي التكليف الإلزامي في محلّ الشكّ والاحتمال ، والمفروض أنّ حرمة المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي وقبحها أيضا حكم عقلي ، فلو كان المرجع في

ص: 308

جميع الوقائع الغير المعلومة هو الاحتياط لزم خروج الأصل القطعي بلا مورد في الشبهات الحكميّة ، وهو خلاف الاجماع حتّى على طريقة الأخباريّين في الشبهات الوجوبيّة ، ولو بنى على الرجوع إلى أصل البراءة في الجميع لزم المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي ، والخروج عن الدين ، فلابدّ وأن يكون هناك طريقة وسطى لم يلزم بسلوكها شيء من المحذورين ، وهو الأخذ بالظنّ في الوقائع المظنونة ، والرجوع إلى الأصل في غيرها ، لخروجه عن طرف العلم الإجمالي ظاهرا.

ومن طريق إبطال مرجعيّة أصل البراءة والاحتياط في الجميع يعلم اندفاع ما قد يورد أيضا : بأنّ انسداد باب العلم والظنّ الخاصّ لا ينتج تعيّن العمل بالظنّ ، لجواز الرجوع في كلّ مسألة إلى الأصل الجاري في تلك المسألة ، من غير الالتفات إلى العلم الإجمالي بوجود الواجبات والمحرّمات بين الوقائع ، بأن يلاحظ الواقعة في نفسها ، فإن كان فيها حكم سابق يمكن بقائه كالماء المتغيّر بالنجاسة إذا زال تغيّره بنفسه استصحب وبنى على الاستصحاب فيها ، وإلاّ فإن كان الشكّ في أصل التكليف كشرب التتن ، وقراءة الدعاء عند رؤية الهلال ، بنى فيها على أصل البراءة ، وإن كان الشكّ في تعيين المكلّف به مثل القصر والإتمام في المسير إلى أربعة فراسخ بنى على الاحتياط فيها إن أمكن ، وإلاّ كما إذا دار التكليف الإلزامي بين الوجوب والتحريم بنى على أصالة التخيير فيها.

ووجه الاندفاع : لزوم كلّ من محذوري مرجعيّة البراءة ومرجعيّة الاحتياط ، فإنّ مرجع الاصول المذكورة إلى قسمين :

أحدهما : الاصول النافية للتكاليف ، كأصالة البراءة واستصحابي عدم الوجوب ، أو عدم الحرمة فيما كان حالته السابقة أحدهما ، وأصالة التخيير.

وثانيهما : الاصول المثبتة للتكليف كأصل الاشتغال واستصحابي الوجوب أو الحرمة فيما كان حالته السابقة أحدهما ، فالوقائع المشتبهة بهذا الاعتبار على قسمين :

أحدهما : ما يجري فيه الاصول النافية ، ويلزم من العمل بها المخالفة القطعيّة.

والآخر : ما يجري فيه الاصول المثبتة ، ويلزم من بناء العمل عليهما العسر والحرج لكثرة المشتبهات في المقامين.

وأضعف من الإيراد المذكور ما نوقش أيضا : من أنّ الشارع إمّا أغمض عن الواقع ورفع اليد عنه ولم يتعلّق غرضه بإدراكه ، أو لا؟ فعلى الأوّل يتعيّن الأخذ بالاحتياط إذ لا

ص: 309

طريق إلى إدراكه كما هو حقّه ، وعلى الأوّل لا معنى لتعيّن الأخذ بالظنّ لأنّه من جهة أقربيّته إلى الواقع ، والمفروض أنّه ملغى.

وفيه : من المغالطة ما لا يخفى ، ومع ذلك نختار الشقّ الثاني ، لوضوح بطلان الأوّل بملاحظة العلم الإجمالي بثبوت التكاليف الواقعيّة ، ووجود واجبات ومحرّمات كثيرة فيما بين الوقائع المشتبهة ، وقضاء الضرورة بعدم كون حالنا فيها كحال البهائم ، ونمنع الملازمة بينه وبين تعيّن الأخذ بالاحتياط لما تقدّم من الإجماع ولزوم العسر والحرج ، فتعيّن العمل بالظنّ بحكم العقل المستقلّ ، فإنّ الشارع لا تصرّف له في الوقائع سوى أنّه أحدث أحكاما وضعيّة أو غير وضعيّة ، تكليفيّة طلبيّة أو غير طلبيّة ، إلزاميّة أو غير إلزاميّة ، ولم يتعرّض لبيان كيفيّة امتثالها ، بل أحال بيانها إلى العقل ، كما أنّ الإلزام بأصل الامتثال من وظيفته.

ولا ريب أنّ العقل يلزم أوّلا بالامتثال العلمي التفصيلي ، ومع عدم إمكانه وتعذّره لعذر عقلي أو شرعي يلزمه بالامتثال العلمي الإجمالي ، ومع عدم إمكانه وتعذّره لعذر عقلي أو شرعي - ومنه العسر - يلزمه بالامتثال الظنّي التفصيلي ، ومع عدم إمكانه أو تعذّره لعذر عقلي أو شرعي يلزمه بالامتثال الاحتمالي.

وهذه مراتب أربعة لكيفيّة الامتثال مرتّبة في نظر العقل ، ولا يجوز العدول من المرتبة العليا إلى السفلى إلاّ لعذر عقلي أو شرعي ، فلا يحكم بتعيّن العمل بالظنّ تحصيلا للامتثال الظنّي التفصيلي ، إلاّ بعد قيام العذر عقلا أو شرعا بالقياس إلى العلم التفصيلي والاحتياط الّذي يحصل بهما الامتثال العلمي تفصيلا أو إجمالا.

وبالتأمّل في ذلك يندفع مناقشة اخرى في الدليل ، وهي أنّ انسداد باب العلم والظنّ الخاصّ لا ينتج تعيّن العمل بالظنّ ، لجواز أن يكون هناك طريق آخر تعبّدنا الشارع بالعمل به والرجوع إليه ، كالقرعة أو الرمل أو الرجوع إلى فتوى العالم بها وتقليده فيها.

وهذه أضعف من سابقتها ، لأنّه - مع مخالفته الإجماع على عدم الرجوع إلى القرعة وما بعدها - واضح الدفع بأنّ الطريق الآخر إن كان ممّا يحتمل كونه طريقا فالرجوع إليه - دون ما فرض في المسألة من الظنّ - عدول عن الامتثال الظنّي من غير عذر عقلي ولا شرعي إلى الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي ، وهو ممّا يستقلّ العقل بمنعه ، مع أنّ قيام ما يحتمل كونه طريقا في الطرف المقابل للطرف المظنون لا يخرجه عن كونه موهوما ، فالرجوع إليه يرجع إلى طرح المظنون والالتزام بالموهوم ، وهو قبيح عقلا لأنّه ترجيح

ص: 310

للمرجوح ، وإن كان ممّا يظن كونه طريقا فالرجوع إليه وإن كان نوعا لا يخالف العمل بالظنّ ، لما ستعرفه من أنّ الظن على تقدير ثبوت اعتباره بدليل الانسداد لا فرق فيه بين ما لو تعلّق بنفس الواقع وما لو تعلّق بكون شيء طريقا إليه ، فإنّ العمل به حينئذ مجز عن الواقع ، لكونه بدلا عن الواقع وإن تخلّف عنه في الواقع ، ولكنّه إذا قام بالطرف الموهوم فالأمر يدور بين الظنّ بنفس الواقع ، والطريق المظنون طريقيّته ، ويقع التعارض بينهما ، وفيه كلام سيأتي.

وأمّا الرجوع إلى العالم وتقليده فيما أفتى به ، فهو بالنسبة إلى العامي الغير البالغ رتبة الاجتهاد ممّا لا كلام في تعيّنه في حقّه ، غير أنّه ممّا لا ينبغي أن يقابل به العمل بالظنّ ، لأنّ المراد به عمل المجتهد بظنّه الاجتهادي ، وأمّا بالنسبة إلى العالم البالغ رتبة الاجتهاد فممّا لا معنى له ، لأنّ العالم الآخر الّذي هو المقلّد - بالفتح - إن كان موافقا للمقلّد - بالكسر - في القول بانسداد باب العلم وفقد الظنّ الخاصّ ، فالرجوع إليه عمل بظنّ غيره ، وهو ليس بأولى من عمله بظنّ نفسه ، بل العكس أولى ومتعيّن بحكم العقل المستقلّ لكون ظنّ نفسه أقرب إلى الواقع ، بل ظنّ الغير في مقابلة ظنّ نفسه في خصوص المسألة الشخصيّة وهم ، وإن كان مخالفا له لزعمه انفتاح باب العلم ، أو وجود الظنّ الخاصّ كخبر الواحد الّذي يزعم حجّيّته استنادا إلى دلالة آية النبأ مثلا ، فرجوع من يغلّطه ويقطع بخطائه في الطريقة إليه وأخذه بفتواه ممّا لا معنى له.

ومرجع الكلّ إلى الإجماع على منع التقليد للمجتهد وحرمته ، وممّا أجمع عليه العلماء على ما ادّعي أنّ المجتهد إذا لم يجد دليلا في المسألة على التكليف كان حكمه الرجوع إلى البراءة ، لا إلى من يعتقد وجود الدليل على التكليف.

وبجميع ما ذكر اندفع أيضا : ما توهّم من التنافي بين التزام بقاء التكليف في الوقائع المجهولة الحكم وعدم ارتفاعه بالجهل ، وبين التزام العمل بالظنّ ، نظرا إلى أنّ التكليف بالواقع إن كان باقيا فلا يجدي في امتثاله غير الاحتياط وإحراز امتثاله إجمالا.

ووجه الاندفاع : أنّ مقتضى الأصل العقلي مع الإمكان وعدم طروّ العذر العقلي والشرعي هو هذا.

وأمّا مع عدم الإمكان أو طروّ العذر - ولو شرعا كالحرج - فلا منافاة في التزام العمل بالظنّ لما ذكر ، إذ قد عرفت أنّه ليس بعد الامتثال العلمي تفصيلا وإجمالا وما بحكمه من

ص: 311

الامتثال الظنّي بالظنّ الخاصّ طريق آخر للامتثال يكون مقدّما على الامتثال الظنّي.

فملخّص تقرير الانسداد : أنّ العقل بملاحظة العلم الإجمالي بثبوت التكاليف الواقعيّة ، وانحصار طريق امتثالها عقلا أو شرعا في الامتثال الظنّي ، يحكم بتعيّن العمل بالظنّ ، وهل المراد به وجوب العمل به على التعيين ، أو وجوب العمل به مطلقا ولو على التخيير ، وإن كان قد يكون على التعيين؟

ويظهر الثمرة في العمل بالاحتياط حيث أمكن بلا عسر وحرج ، فهل هو في مقابل العمل بالظنّ الاجتهادي أحد فردي الواجب التخييري أو لا؟

وعلى الثاني فهل يكون مسقطا عن الواجب التعييني وهو العمل بالظنّ أو لا؟

وتحقيقه مبنيّ على النظر في مسألة مشروعيّة الاحتياط في العبادات ، على معنى كونه كطريقي الاجتهاد والتقليد طريقا مجعولا ، أو على معنى كونه مسقطا عن الطريق المجعول ، نظرا إلى أنّ وجوب سلوك أحد الطريقين غيريّ توصليّ ، قصد به إدراك مصلحة الواقع ، أو مثل مصلحة الواقع ، والاحتياط أيضا إدراك لمصلحة [ الواقع ].

وتمام الكلام في باب الاجتهاد والتقليد في مسألة عبادات الجاهل.

تنبيهات دليل الانسداد :

اشارة

وينبغي التنبيه على امور مهمّة :

الأمر الأوّل هل النتيجة الّتي يقتضيها دليل الانسداد ، هي اعتبار الظنّ بنفس الواقع أو الظنّ بالطريق أو كليهما؟

الأمر الأوّل

إذ قد عرفت أنّ مقتضى دليل الانسداد بحكم المقدّمات المأخوذة فيه ، وجوب تحصيل الامتثال الظنّي للأحكام الواقعيّة المعلومة بالإجمال الغير المعلومة بالتفصيل.

فاعلم أنّ الامتثال الظنّي قد يحصل بموافقة نفس الحكم الفرعي المظنون كونه حكما واقعيّا ، كالاجتناب عن العصير المظنون حرمته ونجاسته ، وقد يحصل بموافقة مؤدّى الأمارة المظنون كونها طريق إلى الحكم الفرعي الواقعي ، كالاجتناب عن العصير الّذي قامت الأمارة بحرمته ونجاسته ، وإن لم يحصل الظنّ من جهتها بكون الحرمة أو النجاسة حكما واقعيّا ، فالظنّ الّذي يضاف إلى أمارة كالشهرة قد يكون ظنّا بنفس الواقع حصل من الأمارة ، وقد يكون ظنّا بكون الأمارة طريقا إلى الواقع حصل من أمارة اخرى ، وكما أنّ الأخذ بنفس الواقع المعلوم أو المظنون مبرءا للذمّة وموجب لفراغها فكذلك الأخذ بمؤدّى الطريق المعلوم أو المظنون كونه طريقا مبرءا للذمّة وموجب لفراغها وإن لم يصادف

ص: 312

الواقع ، باعتبار كونه بدلا عن الواقع مسقطا عنه.

وإذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّه قد اختلفت أنظار القائلين بدليل الانسداد القائم بحجّيّة الظنّ في تعيين ما يثبت حجّيّته بمقدّمات ذلك الدليل ، هل هو الظنّ بنفس الواقع من أيّ شيء حصل ، أو الظنّ بطريق الواقع ، على معنى الظنّ بكون أمارة كالشهرة مثلا طريقا إلى الواقع وإن لم يحصل منه ظنّ بنفس الواقع ، أو الظنّ بنفس الواقع والظنّ بطريقه معا ، وأنّهما سيّان في الحجّيّة لكونهما متشاركين في إبراء الذمّة وتفريغها كما يظهر اختياره من بعض الأعلام (1) وعليه شيخنا الاستاد قدس سره؟ (2).

والأوّل خيرة شريف العلماء وبعض تلامذته ، بزعم أنّ الظنّ بكون الشيء طريقا مبرءا للذمّة ظنّ في المسألة الاصوليّة ، ولم يثبت من دليل الانسداد اعتباره ، لاختصاصه بالظنّ في المسائل الفرعيّة ، وعدم جريانه في المسائل الاصوليّة (3).

والثاني طريقة بعض الأفاضل في هداية المسترشدين (4) وتبعه أخوه في الفصول (5) ، ومستندهما في اختيار هذه الطريقة أمران :

أحدهما : ما قرّره في الفصول بقوله : « إنّا نقطع بأنّا مكلّفون في زماننا هذا تكليفا فعليّا بأحكام فرعيّة كثيرة ، لا سبيل لنا بحكم العيان وشهادة الوجدان إلى تحصيل كثير منها بالقطع أو بطريق معيّن نقطع من السمع بحكم الشارع بقيامه ، أو قيام طريقه مقام القطع ولو عند تعذّره ، كذلك نقطع بأنّ الشارع قد جعل لنا إلى تلك الأحكام طرقا مخصوصة ، وكلّفنا تكليفا فعليّا بالرجوع إليها في معرفتها ، ومرجع هذين القطعين عند التحقيق إلى أمر واحد ، وهو القطع بأنّا مكلّفون تكليفا فعليّا بالعمل بمؤدّى طرق مخصوصة ، وحيث إنّه لا سبيل لنا غالبا إلى تعيينها بالقطع ، ولا بطريق نقطع من السمع بقيامه بالخصوص ، أو قيام طريقه كذلك مقام القطع ولو بعد تعذّره ، فلا ريب أنّ الوظيفة في مثل ذلك بحكم العقل إنّما هو الرجوع في تعيين تلك الطرق إلى الظنّ الفعلي الّذي لا دليل على عدم حجّيته ، لأنّه أقرب إلى العلم وإلى إصابة الواقع ممّا عداه ، وإنّما اعتبرنا في الظنّ أن لا يقوم دليل معتبر على عدم جواز الرجوع إليه حينئذ ، لأنّ الحكم بالجواز هنا ظاهري فيمتنع ثبوته مع انكشاف خلافه ، ومع

ص: 313


1- قوانين الاصول 1 : 452.
2- فرائد الاصول 1 : 437.
3- ضوابط الاصول : 266 ومفاتيح الاصول : 458 - 459.
4- هداية المسترشدين : 394.
5- الفصول : 277.

تعذّر هذا النوع من الظنّ فالرجوع إلى ما يكون أقرب إليه مفادا من المدارك الّتي لا دليل على عدم حجّيّتها مع الاتّحاد ، ومع التعدّد والتكافؤ فالتخيير ، لامتناع الأخذ بما علم عدم جواز الأخذبه كما مرّ أو ترجيح المرجوح أو الترجيح مع عدم المرجّح » إلى آخر ما ذكره رحمه اللّه (1).

ويرد عليه وجوه :

أوّلها : منع نصب الشارع طرقا مخصوصة للأحكام الواقعيّة ، ودعوى العلم الإجمالي مردودة بأنّه لابدّ له من مدرك عقلي أو سمعي أو غيرهما من ضرورة أو إجماع والكلّ مفقود ، ولو صحّ ما ذكر من نصب الطرق لكان وضوح تلك الطرق بمثابة وضوح الشمس في رابعة النهار ، لتوفّر الدواعي بين المسلمين على ضبطها وحفظها والمحافظة عليها عن الاندراس والاختفاء ، كيف واحتياج كلّ مكلّف إلى معرفتها أكثر من احتياجه إلى مسائل صلواته الخمس.

واحتمال اختفائها مع ذلك لعروض دواعي الاختفاء كما اتّفق بالنسبة إلى المرجع بعد النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم نظرا إلى أنّ الحاجة إلى معرفة الطرق ليست بأكثر من الحاجة إلى معرفة المرجع والحجّة بعد النبيّ - مدفوع بوضوح الفرق بين المقامين ، فإنّ الدواعي العارضة الباعثة على اختفاء المرجع هي الدواعي إلى طلب السلطنة الباطلة وما أشبه ذلك ، وليس شيء منها عارضة بالنسبة إلى الطرق على تقدير كونها منصوبة ، فعدم وضوحها بحيث يعرفها كلّ مكلّف إنّما هو لعدم نصب الشارع إيّاها من أصلها ، لا لاختفائها بعد نصبها.

وبالجملة ردّ الاستدلال لكونه عقليّا يكفي فيه احتمال عدم نصب الطرق المخصوصة للأحكام الواقعيّة ، وعليه مبنى المنع ، وسنده احتمال إرجاع الشارع لامتثال أحكامه الواقعيّة إلى حكومة العقل المستقلّ ، إجراء لها مجرى أحكام الموالي بالنسبة الى عبيدهم ، على ما هو طريقة العقلاء المستمرّة فيها ، من جهة حكومة العقل من جعل المدار في امتثالها والموافقة لها تحصيل العلم بها من أيّ سبب كان ، ومع تعذّره فعلى تحصيل الظنّ الاطمئناني بها ، ومع تعذّره فعلى الظنّ المطلق وإن لم يبلغ حدّ الاطمئنان ، ومع تعذّره أيضا فعلى الأخذ بأحد طرفي المسألة حذرا عن المخالفة القطعيّة والإعراض عن التكاليف الواقعيّة الالهيّة.

وبالتأمّل في ذلك يندفع توهّم القول بأنّ منع نصب الطرق لا يجامع القول ببقاء

ص: 314


1- الفصول : 277.

الأحكام الواقعيّة ، إذ بقاء التكليف من دون نصب طريق إليها ظاهر البطلان.

وتوضيح الاندفاع : منع بطلان بقاء التكليف مع عدم نصب طريق خاصّ غير علمي إليه ، فإنّ الباطل إنّما هو التكليف بغير المقدور ، لا إرجاع كيفيّة الامتثال إلى العقل المستقلّ وإناطته بالعلم ، ثمّ الظنّ الاطمئناني ، ثمّ الظنّ الغير الاطمئناني ، ثمّ الأخذ بأحد طرفي المسألة ، نظرا إلى حكومة العقل في مراتب الامتثال الدائر بين العلمي والظنّي الاحتمالي بتقدّم بعضها على بعض.

وبالجملة جعل تكليف واقعي لا يلازم نصب طريق خاصّ إليه قبالا للعلم ، أو الظنّ بنفس الواقع لا عقلا ولا شرعا ولا عرفا ، كما في أحكام الموالي بالقياس إلى عبيدهم ، وغيرهما من صنوف الحاكم والمحكوم من العقلاء الذين مدار طريقتهم على حكومة العقل.

فإن قلت : العلم الإجمالي بنصب الطريق حاصل من الإجماع ، فإنّ المعلوم من سيرة العلماء وطريقة الفقهاء في مدارك استنباطهم اتّفاقهم على وجود طريق منصوب ، ولا ينافيه الاختلاف في الأشخاص بملاحظة أنّ منهم من يعمل بخبر الواحد دون غيره ، ومنهم بالإجماع المنقول دون غيره ، لأنّ ذلك اختلاف في التعيين [ وهو ] لا ينافي الاتّفاق على القدر المشترك.

قلت : الاتّفاق ممنوع ، فإنّ جماعة من معتبريهم كالسيّد (1) وموافقيه ممّن تقدّم عليه ومن تأخّر (2) عنه منعوا نصب الطريق الخاصّ ، بتقريب : أنّهم زعموا كون المدار في امتثال الأحكام الواقعيّة على العلم لدعواهم انفتاح بابه ، وهذا في معنى منعهم نصب الطريق الغير العلمي ، بل منهم من أحاله كابن قبة القائل باستحالة التعبّد بخبر الواحد بل مطلق الأمارة الغير العلميّة (3).

وقد يقرّر سند المنع من الاتّفاق ، بأنّه لو كان هناك طريق منصوب من الشارع للأحكام الواقعيّة لكان هو خبر الواحد ، لأنّه القدر المتيقّن من أفراد هذا العنوان على تقدير مساعدة دليل عليه ، لبطلان منصوبيّة غيره مع وجوده ، والتالي باطل ، لأنّ السيّد وأتباعه منعوا من العمل بخبر الواحد ، وبالغوا في المنع حتّى أنّ منهم من أحاله ، وهذا يدلّ على أنّهم لا يقولون بوجود طريق منصوب ، وإلاّ لزم كونه عندهم غير خبر الواحد وهو باطل.

ومع الغضّ عن ذلك وتسليم عدم مخالفة السيّد وأتباعه في القول بنصب الطريق

ص: 315


1- رسائل الشريف المرتضى 3 : 309.
2- وهم الشيخ المفيد وابن ادريس وابن زهرة والطبرسي وغيرهم.
3- حكاه المحقّق في معارج الاصول : 141.

الخاصّ ، نمنع كون اتّفاقهم المتوهّم مجديا في حصول العلم الإجمالي لنا بالقدر المشترك المردّد ، لأنّه إنّما يتمّ ذلك إذا ثبت اتّفاقهم على القدر المشترك أوّلا ، ثمّ وقع الاختلاف في تعيينه ، نظير ما هو الضابط في حصول العلم بالقدر المشترك في المتواتر المعنوي ، المعتبر فيه اتّفاق المخبرين الكثيرين على الإخبار بالقدر المشترك بين الوقائع الخاصّة ثمّ اختلافهم في تعيينه ، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، بل القدر المشترك المتوهّم هنا أمر انتزاعي منتزع عن الموارد الخاصّة ، فإنّه لما اتّفق في الخارج من باب المقارنات الاتفاقيّة عمل كلّ واحد بطريق مخصوص ، فانتزع من موارد عملهم على وجه الاختلاف مفهوم « الطريق المنصوب » ، وعبّر عنه بالقدر المشترك ثمّ ادّعى الاتّفاق عليه ، فيكون الاتّفاق المدّعى عليه أيضا انتزاعيّا ، وهذا كما ترى لا يفيدنا العلم بأنّ هنا طريقا منصوبا لا محالة حتّى نرجع في تعيينه إلى الظنّ المطلق ، لأنّ كلّ من اختار طريقا خاصّا لنفسه فإنّما اتّفق اختياره له لتأدية نظره على حسب اجتهاده إلى كونه منصوبا من الشارع ، ويجوز على كلّ واحد الخطأ فيما أدّى إليه نظره.

وربّما استظهر إجماعهم على نصب طريق خاصّ من الإجماع على المنع من العمل بالقياس.

وفيه : منع الملازمة أمّا أوّلا : فبالنقض بأنّه مستلزم لكون المرجع في تعيين الطريق المعلوم أيضا طريقا خاصّا لا الظنّ المطلق ، للإجماع على المنع من العمل بالقياس في التعيين.

وأمّا ثانيا : فبالحلّ ، بأنّ الإجماع على المنع من العمل بالقياس في نفس الأحكام الشرعيّة يجامع كلاّ من احتمالي كون المرجع في الأحكام هو الظنّ أو كونه الطريق الخاصّ الّذي نصبه الشارع ، فيكون أعمّ والأعمّ لا يلازم الأخصّ ، مع أنّ منع العمل بالقياس إنّما هو لتداول العمل به من المخالفين في زمان انفتاح باب العلم لهم كأعصار الأئمّة وأهل بيت العصمة الّذين هم بوّاب العلم ، فالمنع من العمل به حينئذ لا يلازم جعل غيره طريقا للأحكام ، لعدم الحاجة إليه مع انفتاح باب العلم كما هو واضح.

فإن قلت : لا مجال لإنكار الطريق المعلوم ثبوته إجمالا ، حتّى على القول بالظنّ المطلق في الأحكام ، غاية الأمر أنّه على هذا القول عبارة عن مطلق الظنّ ، وهو طريق عقلي فلا كلام في وجود طريق للأحكام ، وهو مردّد بين طريق خاصّ جعلي ، أو مطلق الظنّ الّذي هو طريق عقلي.

ص: 316

قلت : مطلق الظنّ ليس طريقا في عرض الطريق المجعول ، إذ لا معنى للعمل بمطلق الظنّ مع وجود المبرأ اليقيني ، كما أنّه لا معنى للعمل بالأصل مع وجود الدليل ، فالقول بالظنّ المطلق في الأحكام لا يلازم القول بالطريق الخاصّ المردّد بين الطريق الجعلي والطريق العقلي ، بل لو كان هناك طريق للأحكام لكان مجعولا لا غير.

فإن قلت إنّ الشارع قد جعل للموضوعات طرقا مخصوصة كيد المسلم ، وسوق المسلم ، وفعل المسلم ، وقول ذي اليد ، وقول العدل حيث يقبل ، والبيّنة ، وعلامات القبلة ، وما أشبه ذلك ، فكيف بالأحكام بل هي أولى بجعل طرق لها.

قلت : لا ملازمة ، فالأولويّة المدّعاة ممنوعة ، لقوّة احتمال كون الحكمة في الموضوعات لزوم اختلال النظم لولا نصب الطرق فيها ، كما أشار إليه بقوله عليه السلام : « ولو لم يجز هذا ما قام للمسلمين سوق » (1) في خبر حجّيّة اليد بخلاف الأحكام.

ثانيها : أنّه لو سلّم نصب الطريق للأحكام ، فهو لا يلازم بقائه إلى يومنا هذا ، فالمعتبر هو العلم بوجود الطريق المنصوب في الأمارات الّتي بأيدينا اليوم ، وهذا العلم غير لازم من مجرّد العلم بنصب الطريق ، لجواز كونه في الأمارات الّتي ذهبت عنّا ، ومن المحتمل كون الطريق المنصوب هو الخبر الصحيح المزكّى كلّ واحد من رجال سنده بتزكية عدلين وما أشبه ذلك ، ولا ريب في ندرته في الأخبار الموجودة بأيدينا اليوم.

ثالثها : أنّه لو سلّم نصب الطريق وبقائه في الأمارات الّتي بأيدينا اليوم ، كخبر الواحد والإجماع المنقول والشهرة ، وظهور الإجماع والاستقراء والأولويّة الظنّيّة ، ولكن لا يلزم من ذلك كون المرجع في تعيينه الظنّ ، بل اللازم فيه الأخذ بالقدر المتيقّن من الأمارات ، فإنّ المتيقّن منها الخبر الصحيح وبعده الإجماع المنقول ، إذ لم يقل أحد بحجّيّة الشهرة وما بعدها دون الخبر الصحيح والإجماع المنقول ، فيؤخذ بالأوّل فإن لم يف بغالب المسائل فبالثاني أيضا ، فلا معنى لتعيين الطريق بالظنّ مع وجود القدر المتيقّن ووجوب الرجوع في الباقي إلى أصالة حرمة العمل بما وراء العلم.

نعم لو احتيج في مسألة إلى العمل بإحدى أمارتين من البواقي ، واحتمل الطريقيّة المنصوبة في كلّ منهما صحّ تعيينه بعد الإغماض عمّا ستعرفه.

رابعها : أنّه لو سلّم عدم وجود القدر المتيقّن ولكنّه لا يلزم من ذلك التعيين بالظنّ ، بل

ص: 317


1- الكافي 7 : 387 / 1 التهذيب 6 : 261 ب 90 / 100.

اللازم في مثل ذلك هو العمل بالاحتياط الحاصل بالأخذ بكلّما احتمل من الأمارات كونه الطريق المنصوب المعلوم بالإجمال خروجا عن عهدة العلم الإجمالي ، لا الاقتصار على ما يظنّ كونه كذلك ، كما هو الضابط الكلّي في كلّ مورد علم التكليف إجمالا واشتبه المكلّف به.

لا يقال : - الاحتياط مع دوران الأمر بين المحذورين غير ممكن ، وكما أنّ العمل بالطريق واجب وكذلك العمل بما ليس طريقا حرام ، وكلّ أمارة يحتمل كونها الطريق المجعول يحتمل كونها غيره - لأنّ حرمة العمل بما ليس طريقا تشريعيّة لا شرعيّة ، والعمل بما يحتمل الطريقيّة لرجاء أن يكون هو الطريق لا حرمة فيه حتّى على جهة التشريع ، وهذا ما يقال من أنّ الاحتياط رافع لموضوع التشريع.

نعم الحرمة الشرعيّة في هذا الاحتياط ربّما تصحّ من جهة أنّه يؤدّي إلى مخالفة الاصول المعتبرة الجارية في موارد الأمارات الّتي يؤخذ بها احتياطا من جهة احتمال الطريقيّة ، ومرجعها إلى طرح أدلّة الاصول وهو محرّم ، ولكنّه أيضا واضح الدفع بأنّ الأصل الموجود في مورد الأمارة إن كان موافقا لها في المؤدّى فالعمل بها ليس مخالفة له ولا طرحا لأدلّته ، وإن كان مخالفا لها فإن كان من قبيل أصل البراءة أو الاستصحاب فلا إشكال في عدم المخالفة أيضا ولا طرح الأدلّة ، لعدم حجّيّة أصل البراءة مع العلم الإجمالي بثبوت التكليف والشكّ في المكلّف به ، وعدم حجّيّة الاستصحاب أيضا مع العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة في بعض موارد الأمارات من جهة كونها في الواقع هو الطريق المجعول ، وإن كان من قبيل الاحتياط فيدور الأمر في العمل في كلّ مسألة يكون الاحتياط فيها مخالفا للأمارة الموجودة فيها ، بين الاحتياط في المسألة الفرعيّة والاحتياط في المسألة الاصوليّة ، فإنّ العمل بالأمارة على أنّها الطريق المنصوب أو لرجاء أنّها الطريق ، مسألة اصوليّة ويقدّم الاحتياط في المسألة الفرعيّة حينئذ على الاحتياط في المسألة الاصوليّة ، لأنّ الأوّل محصّل لنفس الواقع ، والثاني محصّل لطريقه الّذي لا يلازم الواقع.

وبالجملة العمل بالاحتياط في المسألة الاصوليّة لازم ما لم يعارضه الاحتياط في المسألة الفرعيّة ، وإلاّ فيعمل بالاحتياط في المسألة الفرعيّة ، ومرجعه إلى أنّ العمل مطلقا على الاحتياط ، إلاّ أن يقال : بلزوم الحرج من العمل بالاحتياط في موارد جريان الاحتياط في نفس المسألة ، كما في مسائل الشكّ في الجزئيّة أو الشرطيّة فتأمّل.

خامسها : أنّه على تقدير تسليم العلم الإجمالي بنصب الطريق ، ووجود الطريق

ص: 318

المنصوب في الأمارات الّتي بأيدينا اليوم ، وعدم وجود القدر المتيقّن ، وعدم وجوب الاحتياط نمنع حكم العقل بتعيّن العمل بالظنّ في الطريق ، وحرمة العمل بالظنّ في نفس الحكم الواقعي ، بل يجوز كلاّ منهما نظرا إلى أنّ العلم الإجمالي كما أنّه حاصل بالنسبة إلى الطرق المنصوبة ، فكذلك حاصل بالنسبة إلى الأحكام الواقعيّة ، ونصب الطريق المعلوم بالإجمال يفيد كون مؤدّاه بدلا عن الواقع ، ومقتضى البدليّة هو التخيير ، وجواز الأخذ بكلّ من الواقع ومؤدّى الطريق في صورتي انفتاح باب العلم بهما - فيحكم العقل بالتخيير بين إدراك الواقع بتحصيل العلم به ، وإدراك مؤدّى الطريق بتحصيل العلم به - وانسداد باب العلم بهما ، فيحكم العقل أيضا بالتخيير بين العمل بالظنّ في الطريق ، والعمل بالظنّ في نفس الحكم الواقعي ، لأنّ كلّ منهما براءة ظنّيّة ولا ترجيح لإحداهما على الاخرى.

نعم لو كان باب العلم مفتوحا بالنسبة إلى الطريق المنصوب ، لا بالنسبة إلى الحكم الواقعي المجعول ، تعيّن الأخذ بمؤدّى الطريق لتقديم البراءة القطعيّة عند العقل على البراءة الظنّيّة ، كما أنّه كذلك في صورة العكس ، وهو انفتاح باب العلم بالأحكام الواقعيّة دون الطرق المنصوبة ، فيؤخذ بالواقع المعلوم دون الطريق المظنون تقديما للبراءة القطعيّة على الظنّيّة.

وبالجملة الطريق المعلوم نصبه إجمالا أمّا إن يكون منصوبا حال انفتاح باب العلم بمعظم الأحكام الشرعيّة أو حال انسداد باب العلم به ، فإن كان الأوّل فجواز العمل به مشروط بالعلم به كالعلم بنفس الواقع ، ومعه لا يحكم العقل إلاّ بالتخيير عملا بمقتضى البدليّة.

وإن كان الثاني فتقديم العمل به في حكم العقل على العمل بالظنّ في نفس الواقع ، مشروط أيضا بالعلم به ، لعدم جواز العدول عن البراءة القطعيّة إلى البراءة الظنّيّة ، وأمّا مع انسداد باب العلم بالطرق كانسداد بابه بالأحكام ، فلا يحكم العقل بتقديم إحراز الطريق بالظنّ على إحراز الواقع بالظنّ ، لعدم الفرق في البراءة الظنّيّة.

وحاصل ذلك يرجع إلى منع رجوع القطعين إلى أمر واحد ، وهو القطع بأنّا مكلّفون تكليفا فعليّا بالعمل بمؤدّى الطريق ، فإنّه ممّا لا قاضي به أصلا إلاّ بتوهّم إلغاء الواقع بالمرّة ، بدعوى : أنّ نصب الطريق ولو مع عروض الاشتباه فيه موجب لصرف التكليف عن الواقع إلى العمل بمؤدّى الطريق ، وهو باطل لفرض العلم الإجمالي الحاصل من الضرورة والإجماع وغيرهما ببقاء التكليف بالواقع ، مع بطلان التصويب ، وسيلحقك مزيد بيان لبطلان ذلك.

فإن قلت : أنّ الشارع إذا عيّن للواقع طريقا يرجع إليه عند انسداد باب العلم ، ثمّ انسدّ

ص: 319

باب العلم بذلك الطريق أيضا ، نعلم أنّه كان بناءه على العمل بالظنّ في الطريق دون نفس الواقع.

ألا ترى أنّ المقلّد يعمل بالظنّ في تعيين المجتهد لا في نفس الحكم الواقعي ، والقاضي يعمل بالظنّ في تحصيل الطرق المنصوبة له لقطع الخصومات ، كالبيّنة واليمين والنكول والقرعة والإقرار وغيره من موازين القضاء ، لا في تحصيل الحقّ الواقعي بين المتخاصمين ، ولعلّ السرّ في ذلك : أنّه إذا عيّن الطريق للواقع دلّ ذلك على أنّ مطلوبه تحصيل الواقع بذلك الطريق لا مطلقا ، ولزم من ذلك أنّه إذا انسدّ باب العلم بالطريق أن يعمل بالظنّ في تعيينه لا في تحصيل نفس الواقع.

قلت : هذه دعوى كاذبة ومغالطة واضحة ، ويكفي في استكشاف كذبها أنّه إذا كان باب العلم مفتوحا بالنسبة إلى الحكم الواقعي وطريقه معا ، فإنّا نقطع بأنّ المكلّف حينئذ مخيّر بين إدراك الحكم الواقعي بتحصيل العلم به ، وإدراك مؤدّى الطريق المنصوب له بتحصيل العلم به.

وهذا يدلّ على أنّ خصوصيّة الطريق لا مدخليّة له في مطلوب الشارع ، بل مطلوبه أحد الأمرين من الامتثال العلمي لنفس الحكم الواقعي ، والامتثال العلمي لبدله الّذي هو مؤدّى الطريق ، وإذا انسدّ باب العلم بهما معا وانحصر طريق الامتثال في العمل بالظنّ - تحصيلا للامتثال الظنّي المتقدّم في حكم العقل على الامتثال الاحتمالي والمتأخّر عن الامتثال العلمي - لزمه أن يكون مطلوبه أيضا أحد الأمرين ، من الامتثال الظنّي لنفس الحكم الواقعي الحاصل من العمل بالظنّ في تعيين الواقع ، والامتثال الظنّي لبدله الحاصل من العمل بالظنّ في تعيين الطريق.

ومن ذلك يعلم كذب دعوى العلم بكون بناء الشارع بعد انسداد باب العلم بالطريق أيضا على العمل بالظنّ [ في الطريق ] دون نفس الواقع ، فإنّ العلم بما ذكر ممّا لا مستند له من العقل والنقل ، بل المعلوم من جهة العقل كما عرفت خلافه ، وتنظير المقام بمسألتي المقلّد والقاضي وارد على خلاف التحقيق ، لوضوح الفرق بين المسألتين وما نحن فيه ، فإنّ الظنون الّتي يستعملها المجتهد في كلّ من تحصيل الواقع وتعيين الطريق كلّها من واد واحد ، وهي الظنون الاجتهاديّة المتعارفة المقتدّم إليها الإشارة من أخبار الآحاد المعتبرة ، والاجماعات المنقولة ، وظهور الإجماع والشهرة والاستقراء والأولويّة الظنّيّة ، وهذه ظنون يغلب فيها المطابقة مع عدم مع الشارع عن شيء منها بالخصوص ، كما منع عن القياس.

ومثل هذه الظنون في الانضباط وغلبة المطابقة الظنون الّتي يستعملها المقلّد في تعيين

ص: 320

المجتهد ، والقاضي في تحصيل موازين القضاء ، فإنّها ظنون منضبطة يغلب فيها المطابقة ، كاشتهار الرجل بالاجتهاد بين العلماء والمجتهدين ، وجلوسه في مجلس القضاء والإفتاء بحيث يرجع إليه الناس في الترافع وأخذ الفتوى ، بل ظنون القاضي في تحصيل موازين القضاء هي من سنخ ظنون المجتهد ، لكونها من جملة الظنون الاجتهاديّة المنضبطة ، بخلاف ظنّه بالحقّ الواقعي ، وظنّ المقلّد بالحكم الواقعي ، فإنّهما من الظنون الغير المنضبطة الحاصلة من الأمارات الجزئيّة ، والأسباب الغير المنضبطة الّتي يغلب فيها عدم المطابقة هذا.

وقد يدفع التنظير في الجملة بإمكان أن يقال : إنّ مسألة عمل القاضي بالظنّ في الطريق مغائرة لمسألتنا من جهة أنّ الشارع لم يلاحظ الواقع في نصب طرق القضاء وأعرض عنه ، وجعل مدار قطع الخصومة على الطرق التعبّديّة مثل الإقرار والبيّنة واليمين والنكول والقرعة وشبهها ، بخلاف الطرق المنصوبة للمجتهد على الأحكام الواقعيّة ، فإنّ الظاهر أنّ مبناها على الكشف الغالبي عن الواقع ، ووجه تخصيصها من بين سائر الأمارات كونها أغلب مطابقة وكون غيرها غير غالب المطابقة ، بل غالب المخالفة للواقع ، كما ينبئ عنه ما ورد في منع العمل بالعقول في دين اللّه : « وأنّه ليس شيء أبعد عن دين اللّه من عقول الرجال ، وأنّ ما يفسده أكثر ممّا يصلحه وإنّ الدين يمحق بالقياس ونحو ذلك » (1).

ولا ريب أنّ المقصود من نصب الطريق إذا كان غلبة الوصول إلى الواقع لخصوصيّة فيها من بين سائر الأمارات ، ثمّ انسدّ باب العلم بذلك الطريق المنصوب ، وحصل الالتجاء إلى إعمال سائر الأمارات الّتي لم يعتبرها [ الشارع ] في نفس الحكم لوجود الأوفق منها بالواقع ، فلا فرق بين إعمال هذه الأمارات في تعيين ذلك الطريق وبين إعمالها في نفس الحكم الواقعي. بل الظاهر أنّ إعمالها في نفس الواقع أولى لإحراز المصلحة الأوّليّة الّتي هي أحقّ بالمراعاة من مصلحة نصب الطريق ، فإنّ غاية ما في نصب الطريق من المصلحة ما به يتدارك المفسدة المترتّبة على مخالفة الواقع اللازمة من العمل بذلك الطريق ، لا إدراك المصلحة الواقعيّة ، ولهذا اتّفق العقل والنقل على ترجيح الاحتياط على تحصيل الواقع بالطريق المنصوب في غير العبادات ممّا لا يعتبر فيه نيّة الوجه اتّفاقا ، بل الحقّ ذلك فيها أيضا ، كما مرّت الإشارة إليه في إبطال وجوب الاحتياط.

فإن قلت : كيف تنكر الفرق بين الظنّ في الطريق والظنّ في نفس الواقع ، مع أنّ الظنّ في

ص: 321


1- الوسائل 27 : 192 / 41 ، ب 12 من أبواب صفات القاضي.

الطريق واجد للظنّ بالواقع ، فيكون أولى بالعمل من الظنّ بالواقع الغير الواجد للظنّ في الطريق ، لأنّ الطريق المبحوث عنه هنا عبارة عن أمارة ظنّيّة تفيد الظنّ بالحكم الواقعي ، وإذا ظنّ طريقيّته كان معناه الظنّ في الطريق الواجد للظنّ بالواقع ، بخلاف الظنّ بالواقع الحاصل عن أمارة ظنّيّة لم يظنّ طريقيّتها للواقع ، والحاصل : أنّ العمل بالأوّل امتثال للحكم الواقعي والظاهري معا ، والعمل بالثاني امتثال للحكم الواقعي فقط.

قلت : لا نتحقّق معنى هذا الكلام ، فإن اريد بذلك أنّ في الطريق المظنون الطريقيّة خصوصيّة لها مدخليّة في واقعيّة الواقع ، ففيه : أنّ مرجعه إلى تقييد الواقع بالخصوصيّة الملحوظة في الطريق ، وأنّ مطلوب الشارع هو الواقع المقيّد بتلك الخصوصيّة ، وهذا خلاف مقتضى دليل نصب الطريق بل خلاف مفهوم طريقيّة الطريق ، فإنّ مبنى جعل الأمارة طريقا إلى الواقع على كشفها الغالبي عن الواقع ، فلا خصوصيّة فيه إلاّ الكشف الغالبي ، وهذه الخصوصيّة حيثيّة تعليليّة لا تقييديّة.

وقضيّة ذلك : أن يكون الواقع مطلقا غير مقيّد بخصوصيّة في الطريق ، حتّى أنّ مرجع العمل بالطريق في صورتي العلم أو الظنّ بطريقيّته إلى الأخذ بمؤدّى الطريق على أنّه الواقع لا على أنّه قيد للواقع ، ولا على أنّه الواقع المقيّد بتلك الخصوصيّة.

وإن اريد به أنّ الواقع وإن كان مطلقا غير مشروط بشيء من الخصوصيّة في الطريق ، ولكنّ الطريق المظنون الطريقيّة المفيد للظنّ بالواقع لمّا اجتمع فيه ظنّان - ظنّ كونه طريقا ، والظنّ الحاصل منه بالحكم الواقعي - كان ذلك جهة مرجّحة للظنّ في الطريق على الظنّ بالواقع الحاصل من غير الطريق.

ففيه أوّلا : أنّه خروج عن القول بالظنّ في الطريق وخلاف مقتضى دليل حجّيّته ، فإنّ الظنّ في الطريق مع الظنّ بالواقع يجتمعان في مادّة ، ويفترقان في اخريين ، لأنّه قد يظنّ بطريقيّة ما يفيد الظنّ بالواقع ، وقد يظنّ بطريقيّة ما لا يفيد الظنّ بالواقع ، وقد يظنّ بالواقع ممّا لا يظنّ طريقيّته بل يكون طريقيّته مشكوكة أو موهومة.

ومرجع الكلام المذكور بالتوجيه المذكور إلى اعتبار الظنّ في الطريق في مادّة اجتماعه مع الظنّ بالواقع ، وهو خروج عن القول [ بالظنّ في الطريق ] وخلاف مقتضى دليله ، لأنّ الظنّ في الطريق عنده مقابل للظنّ بالواقع ، وقرينة المقابلة تقتضي كون المعتبر عنده الظنّ في الطريق لا بشرط إفادته الظنّ بالواقع ، على معنى كون الظنّ في الطريق حجّة

ص: 322

سواء أفاد الظنّ بالواقع أو لم يفد.

وثانيا : أنّه يرجع إلى ترجيح بعض الظنون على بعض آخر ، فإنّ سلسلة الظنون المطلقة ثلاثة : منها : الظنون المظنون الاعتبار.

ومنها : الظنون المشكوك الاعتبار.

ومنها : الظنون الموهوم الاعتبار.

والظنّ بالواقع الحاصل من الطريق المظنون الطريقيّة ، مندرج في الظنون المظنون الاعتبار ، وترجيحه على الظنّ بالواقع يرجع إلى ترجيح الظنون المظنون الاعتبار على الظنون المشكوك الاعتبار والظنون الموهوم الاعتبار ، وهذا الترجيح مبنيّ على القول بكون نتيجة دليل الانسداد مهملة ، قاضية بملاحظة الترجيح بين الظنون ومراعاة بينها ، ومن المرجّحات كون الظنّ مظنون الاعتبار بالقياس إلى مشكوكه وموهومه.

وأمّا على القول بكونها محصورة كلّيّة ، فلا حاجة إلى الترجيح لأنّ الجميع حجّة.

وأمّا الكلام في أنّها مهملة أو كلّيّة ، فهو كلام آخر لا مدخل له بالظنّ في الطريق ، وسيأتي القول فيه مشروحا.

وثانيهما : ما قرّره في هداية المسترشدين (1) « بأنّه لا ريب في كوننا مكلّفين بأحكام الشريعة وأنّه لم يسقط عنّا التكاليف والأحكام الشرعيّة في الجملة ، وأنّ الواجب علينا أوّلا هو تحصيل العلم بتفريغ الذمّة في حكم المكلّف ، بأن يقطع معه بحكمه بتفريغ ذمّتنا عمّا كلّفنا به ، وسقوط التكليف عنّا ، سواء حصل العلم منه بأداء الواقع أو لا ، حسب ما مرّ تفصيل القول فيه.

وحينئذ فنقول إن صحّ لنا تحصيل العلم بتفريغ الذمّة في حكم الشارع فلا إشكال في وجوبه وحصول البراءة به ، وإن انسدّ علينا سبيل العلم به كان الواجب علينا تحصيل الظنّ بالبراءة في حكمه ، إذ هو أقرب إلى العلم به فتعيّن الأخذ به عند التنزّل من العلم في حكم العقل بعد انسداد سبيل العلم [ به ] والقطع ببقاء التكليف ، دون ما يحصل معه الظنّ بأداء الواقع ، كما يدّعيه القائل بأصالة حجّيّة الظنّ وبينهما بون بعيد ، إذ المعتبر في الوجه الأوّل هو الأخذ بما يظنّ كونه حجّة بقيام دليل ظنّي على حجّيّته ، سواء حصل منه الظنّ بالواقع أو لا.

وفي الوجه الثاني لا يلزم حصول الظنّ بالبراءة في حكم الشارع ، إذ لا يستلزم مجرّد

ص: 323


1- هداية المسترشدين : 394.

الظنّ بالواقع الظنّ باكتفاء المكلّف بذلك الظنّ في العمل ، سيّما بعد النهي عن اتّباع الظنّ ، فإذا تعيّن تحصيل ذلك بمقتضى حكم العقل لزم اعتبار أمر آخر يظنّ معه برضا المكلّف بالعمل به ، وليس ذلك إلاّ الدليل الظنّي الدالّ على حجّيّته ، فكلّ طريق قام دليل ظنّي على حجّيّته عند الشارع يكون حجّة ، دون ما لم يقم عليه ذلك » انتهى (1).

وأشار بقوله : « حسبما مرّ تفصيل القول فيه » إلى ما حقّقه سابقا في مقدّمات هذا الباب بقوله : « رابعها - يعني رابع المقدّمات - : أنّ المناط في وجوب الأخذ بالعلم وتحصيل اليقين من الدليل هل هو اليقين بمصادفة الأحكام الواقعيّة الأوّليّة إلاّ أن يقوم دليل على الاكتفاء بغيره ، أو أنّ الواجب أوّلا هو تحصيل اليقين بتحصيل الأحكام وأداء الأعمال على وجه أراده الشارع في الظاهر ، وحكم معه بتفريغ ذمّتنا بملاحظة الطرق المقرّرة لمعرفتها ممّا جعلها وسيلة للوصول إليها سواء علم بمطابقة الواقع أو ظنّ ذلك ، أو لم يحصل شيء منهما؟ وجهان.

والذي يقتضيه التحقيق هو الثاني ، فإنّه قدر الّذي يحكم العقل بوجوبه ، ودلّت الأدلّة المتقدّمة على اعتباره ، ولو حصل العلم بها على الوجه المذكور لم يحكم العقل بوجوب تحصيل العلم بما في الواقع ، إذ لم يبن الشريعة من أوّل الأمر على وجوب تحصيل كلّ من الأحكام الواقعيّة على سبيل القطع واليقين ، ولم يقع التكليف به حين انفتاح سبيل العلم بالواقع ، وفي ملاحظة طريقة السلف من زمن النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام كفاية في ذلك ، إذ لم يوجب النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم على جميع من في بلده من الرجال والنسوان السماع منه في تبليغ الأحكام ، أو حصول التواتر لآحادهم بالنسبة إلى آحاد الأحكام ، أو قيام القرينة القاطعة على عدم تعمّد الكذب أو الغلط في الفهم ، أو في سماع اللفظ بالنظر إلى الجميع ، بل لو سمعوه من الثقة اكتفوا به - إلى أن قال - : ويشهد بذلك أيضا ملاحظة الحال في موضوعات الأحكام ، فإنّه اكتفى الشارع في ابتنائها بطرق مخصوصة من غير إلزام بتحصيل العلم بها بالخصوص لما فيه من الحرج والمشقّة في كثير من الصور ، فإذا كان الحال في الموضوعات على الوجه المذكور مع كون تحصيل العلم بها أسهل ، فذلك بالنسبة إلى الأحكام أولى ، وأيضا من الواضح كون المقصود من الفقه هو العمل وتحصيل العلم به إنّما هو من جهة العلم بصحّة العمل ، وأدائه مطابقا للواقع.

ومن البيّن أنّ صحّة العمل لا يتوقّف على العلم بالحكم ، كما لا يتوقّف على العلم

ص: 324


1- هداية المسترشدين : 391.

بالموضوع ، والاقتصار على خصوص العلم بالنسبة إلى الحكم لا يثمر العلم بصحّة العمل بالنظر إلى الواقع مع الاكتفاء بغيره في تحصيل الموضوع ، وليس المتحصّل للمكلّف حينئذ بالنسبة إلى العمل إلاّ العلم بمطابقة العمل لظاهر الشريعة ، والقطع بالخروج عن العهدة في حكم الشارع ، فينبغي أن يكون ذلك هو المناط بالنسبة إلى العلمين.

فتحصّل ممّا قرّرنا : كون العلم الّذي هو مناط التكليف أوّلا هو العلم بالأحكام من الوجه المقرّر شرعا لمعرفتها والوصول إليها ، والواجب بالنسبة إلى العمل هو أدائه على وجه يقطع معه بتفريغ الذمّة في حكم الشرع ، سواء حصل العلم بأدائه على طبق الواقع ، أو على طبق الطريق المقرّر من الشرع ، وإن لم يعلم ولم يظنّ بمطابقتها لمتن الواقع.

وبعبارة اخرى : لابدّ من معرفة أداء المكلّف به على وجه اليقين ، أو على وجه منته إلى اليقين ، من غير فرق بين الوجهين ولا ترتيب بينهما ، ولو لم يظهر طريق مقرّر من الشرع لمعرفتها تعيّن الأخذ بالعلم بالواقع على حسب إمكانه ، إذ هو طريق إلى الواقع بحكم العقل ، من غير توقّف لإيصاله إلى الواقع على بيان الشرع بخلاف غيره من الطرق المقرّرة » انتهى ما أردنا نقله من كلامه (1).

وفيه : مع ما فيه من تهافت بعض عباراته لبعض آخر ، أنّ مبناه على الغفلة عن حقيقة معنى الطريق ، وتخيّل أنّه ما يقابل الواقع ، غفلة عن أنّ ما يقابل الشيء لا يعقل كونه طريقا إليه.

وتوضيحه : أنّه قد ظهر من تقرير دليل الانسداد أنّ العمدة من مقدّماته القطع ببقاء التكليف ، وهذا ينحلّ إلى العلم الإجمالي بثبوت الأحكام الواقعيّة الالزاميّة في حقّنا ، كما كانت ثابتة في حقّ أصحاب النبيّ ومن يحذو حذوهم مع القطع بكوننا مكلّفين بامتثالها ، ومعنى امتثالها موافقتها على وجه يصدق عليها الإطاعة ، فلا يكفي فيها الموافقة الاتّفاقيّة بل يعتبر كونها موافقة اختياريّة ، وإنّما يتأتّى الموافقة الاختياريّة بسلوك طريق يثبت طريقيّته بحكم العقل ، كالأسباب المفيدة للعلم بالأحكام الواقعيّة ، كالسماع عن النبيّ أو الوصيّ والخبر المتواتر أو المحفوف بالقرائن المفيدة للقطع ، أو بجعل الشارع كأخبار الثقات والعدول من أصحاب النبيّ والوصيّ ، ونوّابهما المنصوبين في بلدهما أو بلاد اخر.

والفرق بين الطريق العقلي والطريق الجعلي ، أنّ الأوّل يعتبر حصول العلم منه بالحكم الواقعي.

ص: 325


1- هداية المسترشدين : 384 - 385.

والثاني يعتبر حصول العلم بطريقيّته ، وقد جرت عادتهم بتسمية مؤدّاه بالحكم الظاهري ، لا بمعنى أنّه حكم مقابل للحكم الواقعي ، بل باعتبار أنّه حكم واقعي توصل إليه بالطريق الجعلي القائم مقام الطريق العقلى ، نظير الأمر الظاهري الشرعي قبالا للأمر الواقعي الّذي هو عبارة عن الأمر بالمأمور به الواقعي الّذي يحرز بطريق العلم ، والأمر الظاهري الشرعي عبارة عن الأمر بالمأمور به الواقعي الّذي يحرز بطريق شرعي أقامه الشارع مقام العلم.

وبالتأمّل في ما ذكر ظهر أنّ مقابلة الطريق الجعلي للطريق العقلي ليس من حيث المؤدّى - بأن يكون مؤدّاه حكما مقابلا للحكم الواقعي ، لأنّه خلاف مفهوم الطريق ولابتنائه على الجعل الموضوعي في الأمارات ، وقد عرفت بطلانه في مباحث حجّيّة العلم - بل من حيث كيفيّة التأدية - من جهة أنّ الطريق العقلي يعتبر كون تأديته على وجه إفادة العلم بالحكم الواقعي ، والطريق الجعلي لا يعتبر في تأديته لمؤدّاه إفادة العلم ولا الظنّ بمطابقة مؤدّاه للحكم الواقعي ، بل يجامع الشكّ في المطابقة والعدم ، غير أنّ مقتضى جعله طريقا وجوب سلوكه للعمل على طبقه والأخذ بمؤدّاه على أنّه الحكم الواقعي ، لا على أنّه حكم آخر مقابل للحكم الواقعي.

ويظهر ثمرة الفرق : بين الاعتبارين في الإجزاء وعدمه عند كشف الخلاف ، وهذا هو معنى إبراء الذمّة وتفريغها في مقابلة مصادفة الواقع وإدراكه ، فإنّ كون سلوك الطريق الجعلي مبرأ للذمّة في حكم الشارع إنّما هو ما لم ينكشف مخالفته الواقع لا مطلقا ، كما يظهر الالتزام به من الفاضل المذكور.

وعلى هذا فالمكلّف إمّا أن يتمكّن من الطريق العقلي والطريق الجعلي معا ، فهو في حكم العقل مخيّر بين سلوكيهما.

أو يتمكّن من الطريق العقلي دون الطريق الجعل إمّا لعدم جعل طريق أو لعدم إمكان العلم بالطريق المجعول ، فيتعيّن عليه سلوك الطريق العقلي لتحصيل العلم بالحكم الواقعي.

أو يتمكّن من الطريق الجعلي دون الطريق العقلي ، كمن انسدّ عليه باب العلم دون الظنّ الخاصّ. يتعيّن عليه سلوك الطريق الجعلي بالأخذ بمؤدّاه على أنّه الحكم الواقعي.

أو لا يتمكّن عن شيء منهما ، بأن ينسدّ عليه باب العلم بالمعنى الشامل للظنّ الخاصّ ، وهو الطريق الجعلي المقرّر إمّا لعدم العلم بجعل طريق أو لعدم إمكان العلم بالطريق

ص: 326

المجعول ، وانحصر سبيل امتثال الأحكام الواقعيّة المعلومة بالإجمال في الظنّ بنفس الواقع ، أو الظنّ في الطريق أو الظنّ بكلّ منهما ، قام الظنّ في جميع الصور عند العقل مقام العلم ، لكونه أقرب إلى العلم ولتقديم البراءة الظنّيّة على البراءة الاحتماليّة.

وقضيّة ذلك : أن يكون في الصورة الثالثة (1) مخيّرا في حكم العقل بين تحصيل الظنّ بالواقع ، وتحصيل الظنّ بطريقيّة ما احتمل كونه طريقا مقرّرا في حكم الشرع ، لكون العمل بالظنّ في كلّ منهما براءة ظنّيّة مع اشتراكهما في كيفيّة العمل ، وهي الأخذ بالمظنون على الأوّل ، وبمؤدّى الطريق المظنون على الثاني على أنّه الواقع.

ودعوى : الفرق بينهما بأنّ مجرّد الظنّ بالواقع لا يستلزم الظنّ باكتفاء الشارع بذلك الظنّ في العمل ، فلا يحصل من العمل به الظنّ بالبراءة في حكم الشارع بخلاف الظنّ في الطريق ، فإنّه ظنّ باكتفاء الشارع في العمل بذلك الظنّ ، فيلزم من العمل به حصول الظنّ بالبراءة في حكم الشارع.

يدفعها : أنّه إن اريد بذلك أنّ الظنّ في الطريق مظنون الاعتبار ، بخلاف الظنّ بنفس الواقع فإنّه مشكوك الاعتبار ، ففيه : أنّه تحكّم محض لتساويهما في الشكّ في الاعتبار.

وإن اريد به أنّ ما ظنّ طريقيّته مظنون الاعتبار ، بخلاف الظنّ بالواقع ، ففيه : أنّ كلاّ من الظنّين إن أخذ به باعتبار متعلّقه فالعمل به براءة ظنّيّة بلا تفاوت بينهما ، وإن أخذ به باعتبار الشكّ في اعتباره عند الشارع. فالشكّ في اعتبار كلّ منهما مانع من حصول الظنّ بالبراءة في حكم الشارع ، مع أنّ ملاك طريقيّة الطريق إذا كان الأخذ بمؤدّاه على أنّه الواقع ، من دون مدخليّة لخصوص هذا الطريق في صيرورة مؤدّاه حكما شرعيّا مستقلاّ ، فيشاركه في ذلك الملاك الظنّ بالواقع ، لأنّ العمل به عبارة عن الأخذ بالمظنون على أنّه الواقع من دون مدخليّة لخصوصيّة الظنّ في كون المظنون به حكما شرعيّا مستقلاّ ، بل العمل بالأوّل على الوجه المذكور إذا استلزم الظنّ بالبراءة في حكم الشارع فالعمل بالثاني على الوجه المذكور أولى باستلزامه الظنّ بالبراءة في حكمه ، لأنّ الأوّل أخذ بما لا يظنّ كونه الواقع على أنّه الواقع ، والثاني أخذ بما ظنّ كونه الواقع على أنّه الواقع.

وقد يقرّر الأولويّة : بأنّ ترجيح الظنّ بسلوك الطريق المقرّر على الظنّ بسلوك الواقع

ص: 327


1- قد سها قلمه الشريف هنا والصواب : « الرابعة » بدل « الثالثة » ، والمراد بها الصورة الّتي لا يتمكّن المكلّف بشيء من الطريق العقلي والجعلي ، كما يظهر ذلك بالتأمّل فى السياق.

لم يعلم وجهه ، بل الظنّ بالواقع أولى في مقام الامتثال ، لحكم العقل والنقل بأولويّة إحراز الواقع.

وبالجملة : فكما أنّ الظنّ بالطريق المقرّر قائم مقام العلم به في حكم العقل ، فكذلك الظنّ بالواقع قائم مقام العلم به في حكمه ، فيكون كلّ منهما براءة ظاهريّة عن الواقع ، ويكون حكم العقل بالبراءة في كلّ منهما مراعى بعدم انكشاف خلاف الواقع ، فكلّ من مؤدّى الطريق و [ الطريق ] المظنون حكم ظاهري يجب مراعاته ، على أنّه مطابق للواقع ومسقط عنه ما لم يظهر مخالفته له ، ومع ظهور المخالفة خرج عن كونه حكما ظاهريّا.

والحاصل : أنّ سلوك الطريق المجعول في مقابل العمل بالواقع ، لا في مقابل العلم ولا الظنّ بالعمل بالواقع ، نعم العلم أو الظنّ بسلوكه في مقابل العلم أو الظنّ بالعمل بالواقع ، فدعوى : أنّ الظنّ بسلوك الطريق يستلزم الظنّ بالفراغ بخلاف الظنّ بإتيان الواقع ، فاسدة جدّا.

هذا مضافا إلى إمكان منع جعل الشارع طريقا إلى الأحكام ، إقتصارا على الطريق العقلي المنجعل عند العقلاء ، وهو العلم الممكن حصوله ، وعلى تقدير تعذّره يقوم الظنّ الاطمئناني مقامه عقلا.

وقد يردّ القول بالظنّ في الطريق بمخالفته لإجماع العلماء ، بزعم أنّ منهم من عمّم حجّيّة الظنّ من جهة دليل الانسداد بالنسبة إلى جميع المسائل العلميّة اصوليّة وفروعيّة ، ومنهم من خصّصه بالمسائل الفروعيّة ، فالقول بعكس ذلك خرق للإجماع المركّب لأنّه إحداث للقول الثالث ، وهذا الكلام (1) في غاية الضعف والسقوط.

أمّا أوّلا : فلمنع تحقّق الإجماع على نفي القول الثالث ، بل غايته أنّه لم يتّفق من العلماء إلى زمان حدوث هذا القول قائل به ، وهو لا يلازم إجماعهم على نفيه.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الإجماع بسيطا أو مركّبا يختصّ بالتوقيفيّات وحجّيّة الظنّ حكم عقلي ، ومدركه دليل الانسداد المركّب من المقدّمات المتقدّمة ، فإن كان ولا بدّ من إبطال القول بحجّيّة الظنّ في الطريق فقط فلا سبيل إليه إلاّ منع جريان مقدّمات دليل الانسداد في المسائل الاصوليّة ، أو منع اختصاصها بالمسائل الاصوليّة ، وإلاّ فعلى تقدير مساعدة دليل الانسداد عليه فلا سبيل إلى ردّه بالإجماع المركّب.

ثمّ إنّ في مقابل القول المذكور حجّيّة الظنّ في الأحكام الفرعيّة ، لا الظنّ في الطريق ، الّذي هو عبارة عن حجّيّة الأمارة المحتملة الحجّية كالخبر أو الشهرة أو الغلبة ، لعدم

ص: 328


1- ضوابط الاصول : 266.

جريان مقدّمات دليل الانسداد في المسائل الاصوليّة الّتي منها حجّيّة الأمارات المحتملة الحجّيّة ، وحيث إنّ مبنى هذا القول على منع جريان مقدّمات دليل الانسداد في المسائل الاصوليّة ، فالكلام في صحّته وسقمه يأتي عند البحث في حجّيّة الظنّ المتعلّق بالمسائل الاصوليّة إن شاء اللّه تعالى.

الأمر الثاني : هل يقتضي دليل الانسداد كلّية النتيجة أو إهمالها؟

الأمر الثاني

في أنّ نتيجة دليل الانسداد هل هي مجملة أو مطلقة؟ وبعبارة اخرى : هل هي قضيّة مهملة أو محصورة كلّيّة؟ وليعلم أنّ الإطلاق والإهمال يلاحظان تارة : بالنسبة إلى أسباب الظنّ وهي الأمارات المفيدة له.

واخرى : بالنسبة إلى موارده من المسائل الفرعيّة والاصوليّة.

وثالثة : بالنسبة إلى أشخاصه من المجتهد والمقلّد.

ورابعة : بالنسبة إلى أوقاته ممّا بعد زمان الفحص وما قبله.

وخامسة : بالنسبة إلى مراتبه من الظنّ الاطمئناني وما دونه.

وهذه الجهات كلّها محلّ كلام ، إلاّ أنّ المقصود بالبحث في عنوان هذا الأمر إنّما هو الإهمال والإطلاق من الجهة الاولى ، أعني بالنسبة إلى أسباب الظنّ.

ويظهر الثمرة : في الاحتياج إلى توسيط شيء من المقدّمات المعمّمة لتتميم العمل بالظنّ في المسائل الفرعيّة - من مقدّمة عدم الكفاية - أو لزوم الترجيح بلا مرجّح ، أو الإجماع المركّب ، أو غير ذلك - على الإهمال وعدم الاحتياج إليه على الإطلاق والكلّيّة ، فالكلام في هذا الأمر يقع تارة : في أصل الإهمال وخلافه.

واخرى : في أنّه على الإهمال هل ثبت المرجّح لبعض الأسباب على بعض أم لم يثبت؟

وثالثة : في أنّه على الإطلاق والكلّيّة كيف خرج القياس ونحوه ، بحيث لا يلزم تخصيص في الدليل العقلي الّذي لا يقبله ، فها هنا مقامات :

المقام الأوّل : في كون النتيجة مهملة أو مطلقة أي محصورة كلّيّة ، فليعلم : أنّ شبهة الإهمال في النتيجة إنّما تتأتّى لو قرّر دليل الانسداد بالنسبة إلى مجموع المسائل الفقهيّة من حيث

ص: 329

المجموع ، كما هو مقتضى طريقة من أبطل الرجوع إلى أصل البراءة بلزومه الخروج عن الدين ، والاحتياط بلزومه الحرج.

وأمّا لو قرّر بالنسبة إلى مسألة شخصيّة أو بالنسبة إلى كلّ مسألة مسألة - كما يظهر ذلك من بعض الأعلام في قوانينه (1) ، حيث أبطل البراءة والاحتياط لا من جهة الخروج من الدين أو الحرج ، بل لعدم الدليل على حجّيّة الأوّل مع وجود الأمارة الظنّيّة ، ولا على وجوب الثاني.

ومن صاحبي المعالم (2) والزبدة (3) حيث تمسّكا لإثبات حجّيّة خبر الواحد بدليل الانسداد ، بناء على اقتضائه العمل بمطلق الظنّ - فلا يعقل في نتيجته الإهمال ، كما لا يعقل ذلك في قولنا : « الإنسان كاتب إذا فرضت القضيّة شخصيّة ، بأن يراد من « الإنسان » خصوص زيد مثلا ، وإنّما تصير مهملة إذا اريد به مجموع أشخاصه ، فيشكّ في ثبوت الحكم لكلّ واحد من آحاد المجموع ، أو لجملة منها دون اخرى.

والسرّ في عدم إمكان الإهمال في المسألة الشخصيّة ، أنّ الإهمال وصف يتأتّى في موضع التعدّد في موضوع القضيّة ، والظنّ في المسألة الشخصيّة لا تعدّد فيه سواء كان شخصيّا أو نوعيّا.

والحاصل : أنّ جريان دليل الانسداد لو توقّف على إبطال مرجعيّة الاصول في كلّ مسألة مسألة ، بأن يقال - في كلّ مسألة - : أنّ التكليف بالنسبة إليها باق ، وباب العلم فيها مسدود ، والعمل بأصل البراءة فيها غير جائز ، والعمل بالاحتياط غير واجب ، وكذلك الاستصحاب الموافق لأحدهما ، فتعيّن العمل بالظنّ فيها كائنا ما كان ، فلا يجري في نتيجته حينئذ بحث الإهمال ، لتعيّن العمل بالظنّ الموجود في المسألة كائنا ما كان ، من غير فرق بين الظنّ الشخصي والظنّ النوعي ، إذ لا مناص منه بعد إبطال مرجعيّة الاصول فيها كما هو واضح.

وبالتأمّل فيما ذكرنا يظهر : أنّ فرض الإهمال بالنسبة إلى الظنون والأمارات الظنّية إنّما يصحّ بالنسبة إلى القدر الزائد على القدر المكتفى به من الظنون والأمارات في دفع المحاذير الّتي كانت تلزم على تقدير البناء على الاصول ، أو القدر الزائد على القدر المتيقّن منها - على تقدير وجوده - مع كونه كافيا في تحصيل الفقه ، كالأخبار الصحيحة الأعلائيّة

ص: 330


1- قوانين الاصول 1 : 440.
2- معالم الدين : 192.
3- الزبدة : 58.

مع كونها كافية في تحصيل الفقه.

فالاهمال المقصود بالبحث في المقام إنّما يتصوّر بالنسبة إلى ما زاد على القدر المذكور لا بالنسبة إلى ذلك القدر ، حتّى أنّه لو فرض قيام الكفاية بجميع الظنون والأمارات الموجودة في أيدينا اليوم ، فلا يمكن فرض الإهمال حينئذ أصلا ، لأنّ مقدّمات دليل الانسداد قائمة بما يتحصّل به الفقه من الظنون ، فلابدّ وأن يكون معقدها قدر الكفاية ولو كان هو الجميع ، وضابطه : كون الظنون بحيث لولا العمل بشيء منها لزم منه من المحاذير ما يلزم من البناء على الاصول في مكانه.

وعلى هذا فلو فرضنا أفراد الظنون والأمارات الموجودة بأيدينا اليوم ألفا ، وفرضنا قيام الكفاية بخمسمائة منها مثلا ، كان بحث الإهمال جاريا في الخمسمائة الاخرى لا في الخمسمائة الاولى.

وعلى ذلك يتفرّع البحث الآتي في ثبوت المرجّح لبعض الظنون على بعض ، حتّى يعيّن أشخاص قدر الكفاية بالمرجّح المفروض وجوده مع البعض وعدم ثبوته حتّى يعمّم الحجّيّة بالنسبة إلى القدر الزائد ، حذرا عن الترجيح بلا مرجّح.

هل نتيجة دليل الانسداد اعتبار الظنّ من باب الكشف عن حكم الشرع أو حكومة العقل

وإذا عرفت هذا كلّه فاعلم : أنّ معنى الإهمال والكلّيّة هو أنّ العقل بملاحظة مقدّمات دليل الانسداد هل يحكم بوجوب العمل بالظنون على وجه تكون قضيّة حكمه مردّدة بين الكلّيّة والجزئيّة؟ أو يحكم بوجوب العمل بجميع الظنون على معنى [ حجّية ] كلّ ظنّ ، فتكون القضيّة كلّيّة؟

ومنشأ ذلك الإشكال اختلاف النظر في أنّ حكم العقل ها هنا هل هو من باب الكشف عن الوجوب المجعول للشارع وإدراكه ، نظير حكمه بوجوب ردّ الوديعة الّذي لا يكون إلاّ من باب الإدراك ، أو هو من باب الجعل وإنشاء الوجوب من قبله ، كحكمه بوجوب إطاعة اللّه في أوامره ونواهيه؟

فإن قلنا بالأوّل : فلا ينبغي الارتياب في الإهمال ، لأنّ العقل المدرك لحكم الشرع ليس عليه إدراك موضوع ذلك الحكم على جهة التفصيل ، بل يكفي إدراكه في الجملة ، ولذا كان موضوع وجوب العمل بالظنّ عند الشارع مردّدا في نظره بين كونه جملة من الظنون أو جميع الظنون.

وإن قلنا بالثاني : فلا يعقل فيه الإهمال ، على معنى كون حكم العقل في نظره قضيّة

ص: 331

مردّدة بين الكلّيّة والجزئيّة ، خصوصا لو فرضت الجزئيّة أيضا مردّدة غير معيّنة باعتبار عدم تعيين البعض ، إذ لا يعقل من حاكم أن يحكم بما لا يعلم موضوع حكمه ولم يكن الموضوع معيّنا عنده من غير اختصاص له بالعقل ، فإنّ الحكم على شيء بشيء على وجه الجعل والإنشاء فرع على تصوّر ذلك الشيء ، فلابدّ وأن يكون معيّنا عنده إمّا بالبعض أو بالجميع ، ولا واسطة بينهما.

وحيث إنّ الأوّل في مورد حكمه منتف ، لأنّه لا يوجب العمل بهذا الظنّ أو بالظنّ الفلاني ، تعيّن الثاني.

فمن يقول بإهمال النتيجة يلزمه القول بالكشف والإدراك ، ولذا تراهم يجعلون للظنون مراتب ، [ من ] مقطوع الاعتبار ومظنونه ومشكوكه وموهومه ، فيأخذون في العمل بعد الأخذ بمقطوع الاعتبار بالقدر المتيقّن وهو مظنون الاعتبار ، ثمّ على فرض عدم كفايته يتعدّون إلى مشكوك الاعتبار.

ومن يقول بإطلاق النتيجة يلزمه القول بالجعل والإنشاء ، فلذا يحتاج في إخراج القياس ونحوه إلى تكلّف ، بخلاف من يقول بالإهمال فإنّه لا تكلّف حينئذ في إخراجه.

والذي يتراءى في بادئ النظر ، كون حكم العقل بملاحظة مقدّمات دليل الانسداد على وجه الكشف والإدراك ، لمكان إسناد الحكم في كلّ مقدّمة إلى الشارع ، بأن يقال - في بيان بقاء التكليف وانسداد باب العلم الموجب لعدم وقوع التكليف بتحصيله ، وبطلان مرجعيّة الأصل والاحتياط - أنّ الشارع كلّفنا بامتثال أحكامه المعلومة بالإجمال ، وأنّه لم يوجب علينا تحصيل العلم بها حذرا عن التكليف بما لا يطاق ، لتعذّر العلم بانسداد بابه ، وأنّه لم يجوّز لنا البناء على أصل البراءة في جميع الفقه لئلاّ يلزم الخروج عن الدين ، ولم يوجب علينا العمل بالاحتياط أيضا ، حذرا عن العسر والحرج واختلال النظم ، فأوجب علينا العمل بالظنّ لانحصار السبيل فيه ، وحكمه بأنّه : أوجب علينا إدراك لمجعول الشارع.

ولكن الّذي يساعد عليه دقيق النظر كون حكمه على وجه الجعل والانشاء ، فالنتيجة المستحصلة من مقدّمات الدليل هو قوله : « اعمل بالظنّ » لا « أوجب علينا العمل بالظنّ » ، والمقدّمات المذكورة وغيرها - وإن كانت مسندة إلى الشارع ، أو مستندة إلى الإجماع - كلّها لإحراز موضوع ذلك الحكم العقلي.

لنا : شهادة العيان وقضاء الوجدان بأنّ العمل بالعلم مع إمكانه وبالظنّ مع تعذّره

ص: 332

وغيرهما ممّا يندرج في كيفيّة الإطاعة من فروع الإطاعة ، وكما أنّ وجوب إطاعة اللّه تعالى في أوامره ونواهيه ليس من مجعولات الشارع بل هو إلزام من العقل ، فكذلك وجوب العمل بالعلم تحصيلا للإطاعة العلميّة أو بالظنّ تحصيلا للإطاعة الظنّية ليس من مجعولاته بل هو إلزام من العقل ، ضرورة أنّ كلّ عبد مكلّف إذا راجع العقل - الّذي هو حجّة عليه في الباطن - وعرض عليه أنّه توجّه إليه من المولى أحكام إلزاميّة معلومة له بالإجمال يخاطبه العقل بقوله : « أطع مولاك » ، ولو قال له العبد : « كيف أطيعه »؟ ، يخاطبه بأنّه : « حصّل العلم واعمل به » ، ولو قال : « العلم متعذّر لانسداد بابه » ، يخاطبه « حصّل الظنّ واعمل به لأنّه أقرب إلى العلم » ، ولو قال : « لعلّ هنا طريقا آخر مندرجا في كيفيّة الإطاعة » ، يخاطبه : « بأنّه أيّ طريق كان فالعمل به في مقابل طريقي العلم والظنّ إطاعة احتماليّة لا يعدل إليها ، ولا يجترأ بها مع امكان الإطاعة العلميّة أو الإطاعة الظنّيّة ».

وعلى هذه الأحكام العقليّة الّتي كلّها إلزامات من العقل مدار العقلاء في الأوامر العرفيّة ونواهيها.

وعلى قياسها الأوامر الشرعيّة ونواهيها ، ولا ينافي كون وجوب الإطاعة إلزاما من العقل - لا حكما مجعولا للشارع - ما ورد في الشرع من أوامر الإطاعة ونواهي المعصية ، لأنّها كأوامر الطبيب ونواهيه خطابات إرشاديّة معرّاة عن الطلب ، ولذا لا يترتّب على موافقتها ومخالفتها أزيد ممّا يترتّب على موافقة الأوامر الخاصّة والنواهي الخاصّة ومخالفتهما ، كما أنّه لا يترتّب على موافقة أوامر الطبيب ومخالفتها أزيد ممّا يترتّب على ذات الفعل المأمور به أو المنهيّ عنه ، على معنى نفس الإطاعة والمعصية ، وإن لم يكن هنا أمر أو نهي.

ولقائل أن يقول : كون حكم العقل على وجه الانشاء والإلزام - بأن يكون صورة حكمه « إعمل بالظنّ » لا « أوجب الشارع العمل به » - لا يلازم إطلاق النتيجة الذي هو عبارة عن عموم حكمه لجميع المسائل المسدود فيها باب العلم ، أو لجميع الظنون أو لجميع الأمارات الظنّيّة ، بل لا ينافي الإهمال والإجمال.

وذلك : لأنّ حكم العقل في جميع موارده سواء كان على وجه الكشف والإدراك ، أو على وجه الجعل والانشاء لابدّ له من وسط فإنّه لا يحكم إلاّ عن وسط ، وهو عبارة عمّا يقع مدخولا للام التعليل ، أو « أنّ » التعليليّة ، فإن كان وسط حكمه قبح تكليف ما لا يطاق اللازم من إيجاب العمل بالعلم ، بأن يقول : « اعمل بالظنّ لأنّ التكليف بما لا يطاق قبيح ، أو

ص: 333

لئلاّ يلزم تكليف ما لا يطاق » لزمه عموم الحكم لعموم العلّة.

بخلاف ما لو كان وسطه حكمه عدم لزوم الخروج عن الدين أو العسر والحرج واختلال النظم ، بأن يقول : « اعمل بالظنّ لئلاّ يلزم الخروج عن الدين ، أو لئلاّ يلزم العسر والحرج » ، فإنّه لا يلازم عموم الحكم لعدم جريان التعليل في الزائد على القدر المكتفى به من الظنون ، فإنّ أحد المحذورين إنّما يلزم على تقدير ترك العمل بجميع الظنون لا على تقدير ترك العمل بالزائد على القدر المكتفى به.

والمفروض أنّ دليل الانسداد لا يتمّ إلاّ بإبطال مرجعيّة البراءة والاحتياط ، فلابدّ في حكم العقل وإلزامه بالعمل بالظنّ من توسيط أحد الوسطين بل كليهما ، ولو علّل الحكم بمجموع الأوساط الثلاث المذكورة بأن يقول : « إعمل بالظنّ لئلاّ يلزم تكليف ما لا يطاق ، ولا الخروج عن الدين ، ولا العسر والحرج » ، كان في عدم عمومه تابعا للأخيرين ، لأنّ الدليل لا يتمّ إلاّ بإبطال مرجعيّة الأصلين.

لا يقال : ها هنا وسط آخر يعلّل به حكم العقل ، وهو كون الظنّ أقرب إلى العلم ، وهذا يعمّ الجميع ، لأنّ الأقربيّة صفة في صفة الظنّ من حيث هي هذه الصفة ، وهي كما ترى موجودة في الجميع ، وكلّ حكم صحّ تعليله بعلّة خاصّة وبعلّة عامّة كان في خصوصه وعمومه تابعا للعلّة العامّة.

لأنّا نقول : اعتبار الأقربيّة إلى العلم إنّما هو لترجيح الإطاعة الظنّيّة على الإطاعة الاحتماليّة عند دوران الإطاعة الواجبة بالعلم الإجمالي بينهما ، فهو فرع على بقاء وجوب الإطاعة ، فالتعليل بها لأجل الترجيح المذكور لا يتمشّى فيما زاد على القدر المكتفى به في دفع المحذور ، لخروجه عن طرف العلم الإجمالي الموجب لعدم العلم ببقاء وجوب الإطاعة ، حتّى يدور الإطاعة الواجبة بين الظنّيّة والاحتماليّة.

فالأقربيّة إلى العلم فيما يجوز فيه العمل بالأصل من غير محذور غير معتبرة في نظر العقل ، فلا يعمّه حكمه التابع للأقربيّة إلى العلم أيضا.

في أنّه على تقدير إهمال النتيجة هل ثبت لبعض الظنون من مرجّح على البعض الآخر أو لا؟

المقام الثاني :

في أنّه على تقدير إهمال النتيجة هل ثبت لبعض الظنون من مرجّح على البعض الآخر أو لا؟ والمراد بالمرجّح مزيّة في البعض توجب تعيينه ، فيعتبر وجوده على تقدير

ص: 334

ثبوته في تمام القدر المكتفى به ، لأنّ وجوده في بعضه مع قضاء الدليل بالحجّيّة في غيره أيضا إلى تمام القدر المكتفى به غير مفيد ، بل وجوده بمثابة عدمه.

فنقول : قد استدلّ لتعميم حجّيّة الظنّ من حيث الأسباب ، بأنّه : - لولاها - بأن يجوز العمل ببعض دون بعض - لزم الترجيح بلا مرجّح لتساوي الظنّين ، وهو باطل ، فثبت التعميم ، والعمدة في ذلك إثبات صغراه ، وهو إثبات التساوي المبنيّ على عدم ثبوت المرجّح.

ومن هنا مسّت الحاجة إلى النظر في ثبوت المرجّح وعدمه ، فقد يذكر وجوده من المرجّح ، ويقال : بأنّ ما يصلح أن يكون مرجّحا امور :

الأوّل : تيقّن الحجّيّة لبعض الظنون ، على معنى كونه القدر المتيقّن ممّا علم حجّيّته من جهة دليل الانسداد لا من جهة دليل آخر ، واحترزنا بذلك القيد عن الظنون الخاصّة المفروض انسداد باب العلم بالنسبة إليها أيضا ، وما تيقّن حجّيّته من جهة دليل الانسداد ليس من الظنون الخاصّة المانع وجودها من تماميّة دليل الانسداد ، ولقد مثّل له بالخبر الّذي زكّى جميع رواته بعدلين ، ولم يعمل في تصحيح سنده ولا في تمييز مشتركاته بظنّ أضعف نوعا من سائر الأمارات الاخر ، ولم يوهن بمعارضة شيء منها ، وكان معمولا به عند الأصحاب كلاّ أو جلاّ ومفيدا للظنّ الاطمئناني بالصدور ، إذ لا ريب أنّ كلّ خبر انتفى فيه أحد هذه القيود الخمسة احتمل كون غيره حجّة دونه ، فلا يكون متيقّن الحجّيّة على كلّ تقدير.

الثاني : أقوائيّة بعض الظنون ، على معنى كون البعض أقوى من البعض ، فيتعيّن العمل عليه ، وضابط الأقوائيّة كون الاحتمال الآخر المقابل للطرف الراجح في غاية البعد ، فإنّه كلّما ضعف الاحتمال المخالف قوى الاحتمال الراجح وإزداد رجحانه.

الثالث : مظنونيّة الاعتبار ، على معنى كون بعض الظنون مظنون الحجّيّة قبالا لمشكوكها أو موهومها ، فإنّه في مقام الدوران يكون أولى من غيره ، إمّا لكونه أقرب إلى الحجّيّة من غيره ، ومعلوم أنّ القضيّة المهملة بعد صرفها إلى البعض بحكم الأصل تحمل على ما هو أقرب محتملاتها إلى الواقع ، وإمّا لكونه أقرب إلى إحراز مصلحة الواقع ، لأنّ المفروض رجحان مطابقته الواقع ، باعتبار أنّه أمارة مفيدة للظنّ بالواقع ورجحان كونه بدلا عن الواقع لمكان الظنّ بحجّيّته ، على معنى كونه طريقا قائم مقام الواقع بحيث يتدارك مصلحة الواقع بمصلحته على تقدير عدم مطابقته الواقع ، فاحتمال مخالفة هذه الأمارة للواقع ولبدله موهوم في موهوم ، بخلاف احتمال مخالفة سائر الأمارات للواقع ، فإنّها على

ص: 335

تقدير مخالفتها الواقع لا يظنّ كونها بدلا عن الواقع.

هذه غاية ما يمكن أن يذكر من المرجّحات لبعض الظنون على بعض ، وليس شيء منها بشيء.

أمّا المرجّح الأوّل : فلأنّ قصارى ما يمكن فرض كونه متيقّن الحجّيّة من جهة دليل الانسداد هو الخبر المشتمل على القيود الخمسة ، وكونه مرجّحا لا يمكن الاسترابة فيه ، بل إطلاق المرجّح عليه مسامحة ، لكونه معلوم الحجّيّة تفصيلا لكونه حجّة على كلا تقديري حجّية غيره وعدم حجّية غيره ، وعدم إمكان حجّيّة غيره دونه ، ولكنّه لندرته وغاية قلّته لا يشفي العليل ولا يروي الغليل ، فلا ينفع في صرف القضيّة المهملة المجملة إليه ، بحيث لو عمل في غير مورده بالأصل أو الاحتياط دون غيرهما من الأمارات الاخر لم يلزم محذور ، ومرجع عدم نفعه إلى عدم وجوده في تمام القدر المكتفى به في دفع المحاذير.

وبعبارة اخرى : أنّ الحجّيّة من جهة دليل الانسداد قد ثبت في أزيد من هذا المقدار ، فلا يمكن صرف القضيّة المهملة - الّتي هي نتيجة الدليل - إليه ، والاقتصار في العمل بالظنّ عليه فقط والبناء في غيره على البراءة والاحتياط.

سلّمنا كونه كثيرا في نفسه ولكن نعلم إجمالا بأنّه يكثر فيه ما لا يتمّ العمل به إلاّ بما يخصّصه ، أو بما يقيّده أو بما يوجب التجوّز فيه من الأمارات الاخر فيخرج بذلك عن كونه متيقّن الحجّيّة بالخصوص ، إلاّ أن يقال : بأنّه بعد الحاجة إلى التعدّي إلى غيره كان ذلك الغير أيضا متيقّنا ولو بالإضافة إلى ما بقي من الأمارات الاخر ، ولكنّه لا ينفع أيضا لخروجه بسبب العلم الإجمالي عن الانضباط ، لأنّ مخصّصاته ومقيّداته وقرائن مجازه ليست منضبطة معلومة بالتفصيل ، حتّى يؤخذ بها معه ويصرف إليها القضيّة المهملة من أوّل الأمر ، ويطرح ما بقي منها كما هو المقصود من الترجيح.

وأمّا المرجّح الثاني : فلأنّ الظنّ الأقوى بالمعنى المذكور الّذي ملاك أقوائيّته كون الاحتمال المخالف معه في غاية الضعف ، مفهوم غير منضبط مصاديقه فيما بين الأمارات ، حتّى يصرف إليها القضيّة المهملة من أوّل الأمر ، إذ لا يراد من الظنّ الأقوى ما يعارضه من الأمارة الاخرى في مسألة واحدة ، حتّى ينضبط الأقوى بما يفيد الظنّ فعلا لصيرورة المعارض حينئذ وهما لاستحالة حصول ظنّين فعليّين في كلا طرفي القضيّة ، بل المراد به الأقوى بالنسبة إلى ما يقابله في مسألة اخرى بحيث يحصل الظنّ الفعلي منهما معا كلّ في

ص: 336

مورده ، ولا ريب أنّ مصاديقه ليست منضبطة معلومة بالتفصيل في الخارج حتّى يؤخذ بها في تعيين موضوعات القضيّة المهملة ، ودعوى انضباطه بإناطة أقوائيّته بإفادته الظنّ الاطمئناني ، يدفعه : أنّ مصاديق ما يفيد الظنّ الاطمئناني أيضا بحسب الخارج ليست منضبطة ولا معلومة بالتفصيل حتّى يؤخذ بها في صرف القضيّة المهملة ، كما لا يخفى على المتأمّل.

وأمّا المرجّح الثالث : فلعدم صلاحيّة الظنّ بالحجّيّة الحاصل لنا من غير جهة دليل الانسداد للترجيح ، أي تعيين كون الظنون المعيّنة عند الشارع الثابت وجوب العمل بها على الإجمال بحكم دليل الانسداد هي هذه الظنون المظنونة الحجّيّة في نظرنا ، سواء اريد بالتعيين بسببه أنّه يفيد اليقين بكون الظنون المعيّنة عند الشارع المندرجة في القضيّة المهملة هي هذه الظنون المظنونة الحجّية لنا ، أو أنّه يفيد الظنّ بذلك.

أمّا الأوّل : فلضرورة أنّ الظن في الظنّ لا يتولّد منه اليقين.

وأمّا الثاني : فلأنّ العقل لا يستحيل أن يعتبر الشارع من الظنون ظنونا لا ينوط اعتبارها في نظره بظنّنا بالاعتبار والحجّية ، ولذا لا يلتفت في موارد الظنون المطلقة على تقدير وجودها ، والأمارات المجعولة في الموضوعات كالبيّنة ويد المسلم ونحوهما إلى الظنون المطلقة القائمة بخلافها.

ومرجع المنعين إلى منع الملازمة اليقينيّة والظنّيّة بين الظنّ الغير المعتبر باعتبار ظنون معيّنة عندنا ، وبين كون الظنون المعيّنة عند الشارع المعلومة اعتبارها عنده على وجه القضيّة المهملة في نظرنا هي هذه الظنون المعيّنة المظنونة الاعتبار عندنا ، فلا يبقى إلاّ الشكّ أعني الشكّ في كون الظنون المعيّنة عند الشارع المعتبر في نظره ، هل هي الظنون المظنونة الاعتبار في نظرنا أو غيرها؟ خصوصا إذا كان الظنّ باعتبار هذه الظنون بنفسه مشكوك الاعتبار ، أو موهومه كالشهرة إذا قامت بحجّيّة أمارة ، كالخبر الصحيح المزكّى رواته بعدل واحد ، نظرا إلى أنّ المشهور عدم حجّيّة الشهرة.

هذا كلّه إذا كان حكم العقل في القضيّة المهملة من جهة دليل الانسداد على وجه الكشف ، وإدراك الوجوب المجعول للشارع.

وأمّا لو كان على وجه الإنشاء والإلزام كما اخترناه ، فسند منع الملازمة أوضح منه على تقدير الكشف والإدراك ، فإنّ العقل بعد تعذّر الإطاعة العلميّة تفصيلا وإجمالا ، إنّما يلزم المكلّف بالعمل بالظنّ لجهة مشتركة بين الأنواع الثلاث ، وهو كونه إطاعة ظنّيّة مقدّمة

ص: 337

على الإطاعة الاحتماليّة ، من غير نظر منه إلى خصوصيّة في بعض الأنواع ، ولا تقييد موضوع حكمه بكونه مظنون الاعتبار ، ولا بعدم كونه موهوم الاعتبار خصوصا مع ملاحظة انتهاء الظنّ بالاعتبار بالآخرة إلى الشكّ في الاعتبار ، لأنّه أيضا ظنّ يحتاج إلى دليل الاعتبار وكذلك الظنّ باعتباره لو كان هو أيضا مظنون الاعتبار ، إلى أن ينتهي إلى الشكّ من جهة فقد دليل على اعتباره ، وانتفاء أمارة ظنّيّة على اعتباره.

والحاصل : أنّ الظنّ الحاصل من ذهاب الأكثر بحجّيّة ظنون مخصوصة كالأخبار الصحيحة ، والضعاف المنجبرة بالشهرة ، والإجماعات المنقولة ، لا يصلح للترجيح ، أي تعيين كون الجملة المعيّنة عند الشارع الغير المعيّنة عندنا هي هذه الظنون ، لا بحيث أفاد العلم بذلك ولا بحيث أفاد الظنّ به ، ضرورة أنّ الظنّ بحجّيّة هذا الظنّ غير الظنّ بتعيين الحجّة من الظنّ في نظر الشارع ، ولا ملازمة بينهما عقلا ولا عرفا.

ولو سلّم استلزامه الظنّ بالتعيين توجّه المنع إلى جواز التعويل على هذا الظنّ ، فإنّ الظنّ بحجّيّة ظنّ كالظنّ بتعيين الحجّة من الظنّ سيّان في عدم جواز التعويل عليهما ، لاشتراكهما في جهة المنع وهي أصالة حرمة العمل بالظنّ ، فقضيّة قولهم : « لا يمكن إثبات الظنّ بالظنّ » عامّة للنوعين جارية في المقامين لاتّحاد طريق المسألتين ، خلافا لمن زعم الفرق بينهما بتسليم المنع في الأوّل دون الثاني ، كبعض الأفاضل ومن تبعه حيث إنّه في تقرير الوجه الثالث من الوجوه الّتي تمسّك بها لإثبات الظنّ في الطريق.

قال : « الثالث : أنّ قضيّة بقاء التكليف وانسداد سبيل العلم به ، مع كون قضيّة العقل أوّلا تحصيل العلم به هو الرجوع إلى الظنّ قطعا على سبيل القضيّة المهملة ، وحينئذ فإن قام دليل قاطع على حجّيّة بعض الظنون ممّا فيه الكفاية في استعلام الأحكام ، انصرف إليه تلك القضيّة المهملة من غير إشكال فلا تفيد حجّيّة ما زاد عليه ، ولو تساوت الظنون من كلّ وجه قضى ذلك بحجّيّة الجميع ، نظرا إلى انتفاء الترجيح في نظر العقل وعدم إمكان رفع اليد عن الجميع ، ولا العمل بالبعض دون البعض لبطلان الترجيح بلا مرجّح ، فيجب الأخذ بالكلّ حسبما يدّعيه القائل بحجّيّة مطلق الظنّ.

وأمّا إذا قام الدليل الظنّي على حجّيّة بعض الظنون ممّا فيه الكفاية دون البعض ، فاللازم البناء على ترجيح ذلك ، إذ لا يصحّ القول بانتفاء المرجّح بين الظنون بالحجّيّة في بعض تلك الظنون دون البعض ، إلى أن أورد على نفسه بقوله :

ص: 338

فإن قلت : إن اقيم الدليل على حجّيّة الظنّ المطلق فقد ثبت ما يدّعيه الخصم ، وإن لم يقم عليه دليل فلا وجه للحكم بمقتضى الدليل الظنّي ، من البناء على الحجّية أو نفيها ، فإنّه رجوع إلى الظنّ واتّكال عليه وإن كان في مقام الترجيح ، والاتّكال عليه ممّا لا وجه له قبل قيام القاطع ، إلى أن تصدّى بدفع الإيراد بقوله :

قلت : ليس المقصود في المقام إثبات حجّيّة تلك الظنون بالأدلّة الظنّيّة القائمة عليها ، ليكون الاتّكال في الحكم بحجّيّتها على مجرّد الظنّ ، بل المثبت حجّيتها هو الدليل العقلي المذكور.

والحاصل من تلك الأدلّة الظنّيّة هو ترجيح بعض تلك الظنون على البعض ، فيمنع ذلك من إرجاع القضيّة المهملة إلى الكلّيّة ، بل يقتصر في مفاد المهملة المذكورة على تلك الجملة ، فالظنّ المفروض إنّما يبعث على صرف مفاد الدليل المذكور إلى ذلك وعدم صرفه إلى سائر الظنون ، نظرا إلى حصول القوّة بالنسبة إليها لانضمام الظنّ بحجّيتها إلى الظنّ الحاصل منها بالواقع ، بخلاف غيرها حيث لا ظنّ بحجّيّتها في نفسها ، وإذا قطع العقل بحجّيّة الظنّ بالقضيّة المهملة ثمّ وجد الحجّيّة متساوية النسبة بالنظر إلى الجميع ، فلا محالة يحكم بحجّيّة الكلّ حسبما مرّ.

وأمّا إن وجدها مختلفة وكان جملة منها أقرب إلى الحجّية من الباقي ، نظرا إلى الظنّ بحجّيّتها مثلا دون الباقي ، فلا محالة يقدّم المظنون على المشكوك والموهوم ، والمشكوك على الموهوم في مقام الحيرة والجهالة ، فليس الدليل الظنّي المفروض مثبتا لحجّيّة تلك الظنون ، حتّى يكون اتّكالا على الظنّ في ثبوت مظنونه ، وإنّما هو قاض بقوّة جانب الحجّيّة في تلك الظنون ، فينصرف إليه ما قضى به الدليل المذكور من حجّيّة الظنّ في الجملة » انتهى (1).

وفيه : من التحكّم ما لا يخفى ، فإنّ الظنّ بالحجّيّة مع الظنّ بتعيين الحجّة كلاهما مندرجان في أصالة حرمة العمل بالظنّ ، فكما أنّ استعمال الأوّل لإثبات حجّيّة ظنّ آخر عمل بالظنّ ، وجوازه يحتاج إلى دليل قطعي يخرجه من أصالة الحرمة وبدونه يحرم ، فكذلك استعمال الثاني لتعيين الحجّة من الظنّ عند اللّه عمل بالظنّ ، وجوازه يحتاج إلى دليل قطعي يخرجه من أصالة الحرمة وبدونه يحرم.

وبالجملة : لا نعقل فرقا أصلا بين المقامين ، لاتّحاد جهة المانعة من الاتّكال وجريانها فيهما معا ، والعجب أنّ الفاضل المذكور تفطّن بما ذكرناه ، من عدم الفرق حيث اعترض

ص: 339


1- هداية المسترشدين : 394 - 395.

على نفسه بقوله :

فإن قلت : صرف مفاد الدليل المذكور إلى ذلك إن كان على سبيل اليقين تمّ ما ذكر ، وإن كان ذلك أيضا على سبيل الظنّ كان ذلك أيضا اتّكالا على الظنّ ، فإنّ النتيجة تتبع أخسّ المقدّمات ، والظاهر أنّه من قبيل الثاني لتقوّم الظنّ بقيام احتمال الخلاف ، فإذا فرض تحقّق ذلك الاحتمال كان الظنّ المذكور كعدمه ، فتساوى الظنون المفروضة بحسب الواقع ولا يتحقّق ترجيح بينهما حتّى ينصرف الدليل المذكور إلى الراجح منها.

والحاصل : لا قطع حينئذ بصرف الدليل المذكور إلى خصوص تلك الظنون من جهة ترجيحها على غيرها ، لاحتمال مخالفة الظنّ المفروض للواقع ، ومساواتها لغيرها من الظنون بحسب الواقع ، بل احتمال عدم حجّيّتها بخصوصها ، فلا قطع بحجّيّتها بالخصوص بوجه من الوجوه ، حتّى يكون الاتّكال هنا على اليقين ، وغاية الأمر حصول الظنّ بذلك فالمحذور على حاله ، ثمّ أجاب عنه بما لا نتحقّق معناه بقوله :

قلت : الاتّكال في حجّيّة تلك الظنون ليس على الظنّ الدالّ على حجّيتها بحسب الواقع ، ولا على الظنّ بترجيح تلك الظنون على غيرها بعد إثبات حجّيّة الظنّ في الجملة ، بل التعويل فيها على القطع بترجيح تلك الظنون على غيرها عند دوران الأمر بينها وبين غيرها.

وتوضيح ذلك : أنّ قضيّة الدليل القاطع المذكور هو حجّية الظنّ على سبيل الاهمال ، فيدور الأمر بين القول بحجّيّة الجميع والبعض ، ثمّ الأمر في البعض يدور بين بعض الظنون وغيره والتفصيل ، وقضيّة العقل في الدوران هنا بين حجّيّة الكلّ والبعض هو الاقتصار على البعض ، أخذا بالقدر المتيّقن ، ولذا قال علماء الميزان : القضيّة المهملة في قوّة الجزئيّة.

واعترف جماعة بأنّه لو قام الدليل القاطع على حجّية الظنون الخاصّة كافية للاستنباط لم يصحّ التعدّي عنها في الحجّية إلى غيرها من الظنون ، وأنّه لا يثبت بالقضيّة المهملة المذكورة ما يؤيّد عليها ، ولو لم يتعيّن البعض حجّة في المقام ودارت الحجّة بين سائر الأبعاض من غير تفاوت بينهما في نظر العقل ، لزم الحكم بحجّيّة الكلّ لبطلان ترجيح البعض من غير مرجّح ، إلى آخر ما مرّ.

وأمّا لو كانت حجّيّة البعض ممّا فيه الكفاية مظنونة بخصوصه بخلاف الباقي ، كان ذلك أقرب إلى الحجّية من غيره ممّا لم يقم على حجّيّته كذلك ، فيتعيّن عند العقل الأخذ به دون غيره ، فإنّ الرجحان حينئذ قطعي وجداني والترجيح من جهته ليس ترجيحا بمرجّح ظنّي بل قطعي ، وإن كان ظنّا بحجّيّة تلك الظنون ، فإن كان المرجّح ظنّا لا يقتضي كون الترجيح

ص: 340

ظنّيّا وهو ظاهر » (1) انتهى.

وأنت خبير بما فيه ، فإنّ الترجيح إذا كان بمعنى التعيين لا يعقل كونه قطعيّا مع كون المرجّح أعني المعيّن ظنّا بالحجّيّة ، فإنّ العقل بملاحظة الظنّ بحجّيّة الظنون المظنونة الاعتبار لا يحكم حكما قطعيّا بأنّ الجملة المعيّنة عند الشارع هي هذه الظنون ، ويكفي في سند منع ذلك أنّ الظنّ بحجّيّة هذه الظنون يحتمل معه خلاف الحجّيّة ، ومعنى احتمال خلاف الحجّيّة فيها احتمال كون الجملة المعيّنة عند الشارع غيرها ، ومع قيام هذا الاحتمال كيف يعقل كون الترجيح بمعنى التعيين قطعيّا؟ على معنى الحكم القطعي من العقل بذلك بملاحظة الظنّ بالحجّيّة ، خصوصا مع ملاحظة ما ذكرناه في منع حصول الظنّ بذلك أيضا ، من أنّ العقل لا يستحيل أن لا يكون الحجّيّة والاعتبار في نظر الشارع منوطا بظنّنا بالحجّيّة ، بل بأمر آخر لا ملازمة بينه وبين ظنّنا بالحجّيّة.

وبالجملة إمّا أن تقول بكون الجملة من الظنون ثبت بدليل الانسداد ، كونها حجّة على وجه المهملة الآئلة إلى الجزئيّة معيّنة عند الشارع ، كما هو قضيّة كون حكم العقل على وجه الإدراك لحكم الشرع ، أو تقول بعدم كونها معيّنة عنده ، كما هو اللازم من كون حكم العقل على وجه الإنشاء.

وأيّا مّا كان فالظنّ بحجّيّة ظنون مخصوصة ، لا يلازم الترجيح القطعي ملازمة عقليّة بحيث يحكم العقل به حكما قطعيّا.

أمّا على الأوّل : فلاحتمال خلاف الحجّيّة في تلك الظنون الّذي هو في معنى احتمال مغائرة الجملة المعيّنة عند الشارع لتلك الظنون ، مع ما عرفت من عدم استحالة العقل لإناطة الحجّيّة في نظر الشارع بأمر لا ملازمة بينه وبين ظنّنا بالحجّيّة.

وأمّا على الثاني : فلأنّ مناط إلزام العقل بالعمل بالظنّ بعد تعذّر الإطاعة العلميّة كونه إطاعة ظنّيّة ، وهي أقرب إلى الإطاعة العلميّة ، فتكون مقدّمة على الإطاعة الاحتماليّة عند دوران الأمر بينهما ، وهذا المناط عامّ يجري في الظنون المشكوكة والظنون الموهومة [ الحجّيّة ] جريه في الظنون المظنونة [ الحجّيّة ].

ودعوى : أنّ الظنّ بحجّيّة تلك الظنون يوجب كونها أقرب إلى العلم من غيرها ، وإذا كان مناط حكم العقل كون الإطاعة الظنّيّة أقرب إلى الإطاعة العلميّة من الإطاعة

ص: 341


1- هداية المسترشدين : 395.

الاحتماليّة ، نقول بأنّ الإطاعة الظنّيّة بظنّ مظنون الحجّيّة ، أقرب إلى الإطاعة العلميّة من الإطاعة الظنّيّة بظنّ مشكوك الحجّيّة أو موهومها.

يدفعها : أنّ مناط أقربيّة ظنّ إلى العلم بالقياس إلى ظنّ آخر إنّما هو أقوى الظنّين ، ومناط الأقوائيّة في الظنّ كما أشرنا إليه سابقا أضعفيّة احتمال خلاف الواقع فيه.

ولا ريب أنّ الأقوائيّة بهذا المعنى لا تنوط بالظنّ بالحجّيّة ، بل لا ملازمة بينهما ، لأنّها كثيرا مّا تحصل في الظنّ المشكوك الاعتبار أو موهومه.

ألا ترى أنّه كثيرا مّا يحصل من الشهرة أو الأولويّة الظنّيّة أو الاستقراء أو الإجماع الظنّي من الظنّ القوي ما لا يحصل من الخبر الصحيح أو الإجماع المنقول ، فكون الإطاعة الظنّيّة بالظنّ المظنون الاعتبار أقرب إلى الإطاعة العلميّة غير مطّرد ، إذ لو بنى على ملاحظة مراتب الظنّ من حيث القوّة والضعف والأقوائيّة والأضعفيّة ، كثيرا مّا يكون الأقرب إلى الإطاعة العلميّة الإطاعة الظنّية بالظنّ المشكوك أو موهومه ، فرجع الكلام إلى أن يقال : إنّه إذا دار الأمر بين الإطاعة الظنّيّة والإطاعة الاحتماليّة ، قدّمت الاولى في حكم العقل على الثانية لأنّها أقرب إلى الإطاعة العلميّة ، وفي هذا المقام لا يلاحظ مرتبة الظنّ ، وإذا دار الأمر بين الإطاعة الظنّيّة بالظنّ الأقوى والإطاعة الظنّيّة بالظنّ الأضعف ، قدّمت الاولى على الثانية لأنّها أقرب إلى الإطاعة العلميّة أيضا ، وحكم العقل بالتقديم على التقديرين لا ينوط بمظنونيّة الحجّيّة والاعتبار ، خصوصا إذا كان الظنّ بالحجّيّة في نفسه من الظنون المشكوكة الحجّيّة ، أو من الظنون الموهومة الحجّيّة.

فإن قلت : إنّ الإطاعة الحاصلة من العمل بالظنّ المظنون الحجّيّة ، أتمّ وأكمل من الإطاعة الحاصلة من العمل بغيره ، والعقل بملاحظة الأتمّيّة والأكمليّة يحكم بترجيح هذا الظنّ على غيره.

قلت : الأتمّيّة المدّعاة إمّا أنّ تكون لكون هذا الظنّ أقوى من غيره ، أو لكونه جامعا للواقع وبدله ، نظرا إلى أنّ معنى الظنّ بحجّيّته كون مؤدّاه بدلا عن الواقع ، فإن طابق الواقع فالعمل به إدراك للواقع ، وإن خالفه فالعمل به إدراك لبدله ، فالإطاعة الحاصلة منه غير خالية عن إدراك الواقع أو إدراك بدله ، بخلاف الحاصلة من العمل بغيره ، فإنّها على تقدير عدم المطابقة خالية عن إدراك الواقع وبدله معا ، ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلما بيّناه من أنّ ملاك أقوائيّة الظنّ إنّما هو أضعفيّة احتمال الخلاف فيه ، ولا

ص: 342

ملازمة بينهما وبين كون الظنّ مظنون الحجّيّة ، لكثرة ما يحصل من الظنّ المشكوك الاعتبار أو موهومة من الظنّ بالواقع ما هو أقوى بمراتب ممّا يحصل من الظنّ المظنون الاعتبار.

وأمّا الثاني : فلعدم قضاء مطلق الظنّ القائم بحجّيّة ظنّ بإثبات البدليّة بحسب جعل الشارع ، بل يتوقّف ذلك على قيام دليل قاطع بحجّيّته بالخصوص ، أو على كون الظنّ القائم بها من الظنون الخاصّة ، والمفروض انتفاء الأمرين معا ، فالإطاعة الظنّيّة الحاصلة من الظنّ المظنون الاعتبار على تقدير عدم المطابقة خالية عن إدراك الواقع وبدله ، فكيف تصير أتمّ وأكمل ممّا عداها؟

وبالتأمّل فيما ذكرنا مضافا إلى ما مضى ، يعلم أنّ الظنّ بالاعتبار إنّما يصلح لصرف القضيّة المهملة إلى ما هو قائم به إذا قام دليل قاطع أو ظنّ خاصّ بحجّيّته بالخصوص.

وأمّا مع انتفاء الأمرين ، كما هو مفروض المقام ، فهو بعد باق تحت أصالة حرمة العمل بالظنّ ، فكيف يمكن أن يكون صارفا؟

ومن هنا ينفتح لنا سبيل إلى إلزام القائل (1) بمرجّحيّة الظنّ بالاعتبار على بطلان قوله ، بأن نقول : إمّا أن يقوم قاطع بحجّية مطلق الظنّ ، فلا مورد للترجيح لفرض حجّيّة الجميع ، أو لا يقوم فلا يمكن الترجيح بمطلق الظنّ ، لمنع الحرمة بفرض اندراجه تحت أصالة الحرمة.

وأمّا المعارضة لإلزام القائلين بمطلق الظنّ بأنّهم « كما يقولون : يجب علينا في كلّ واقعة البناء على حكم ولعدم كونه معلوما يجب في تعيينه العمل بالظنّ ، فكذا نحن نقول : بأنّه بعد ما وجب العمل بالظنّ في تعيين الحكم ، فلعدم كون ذلك الظنّ معلوما يجب في تعيينه العمل بالظنّ.

ففيه : من المغالطة ما لا يخفى ، لأنّ القدر المتيقّن خروجه من أصالة الحرمة بالدليل العقلي هو الظنّ المعمول به في تعيين الحكم ، وأمّا الظنّ المعمول به في تعيين هذا الظنّ ، فهو بعد باق تحت الأصل ، فجواز العمل به ممنوع فضلا عن وجوبه ، فالإلزام المذكور في غاية الضعف.

وأضعف منه ما اعترضه هذا القائل ، على القائل بكون المراد من الترجيح في المقام هو التعيين ، بقوله : « إنّ هذا القائل خلط بين ترجيح الشيء وتعيينه ، ولم يعرف الفرق بينهما » ، ثمّ ذكر في بيان الفرق بينهما ما محصّله : « أنّ الترجيح في عنوان الترجيح بلا مرجّح ، عبارة

ص: 343


1- هو الفاضل النراقي في عوائد الأيّام : 397 - 398.

عن سكون النفس إلى أحد الطرفين والميل إليه من غير مرجّح ، والمراد من التعيين هو الحكم بلزوم ما سكن إليه النفس ومالت إليه ووجوبه ، ولا ملازمة بين الترجيح بمعنى سكون النفس وميلها ، وبين الحكم باللزوم والوجوب ، لأنّ الحكم باللزوم والوجوب يحتاج إلى دليل ، والمرجّح لا يكون دليلا ».

ثمّ ذكر لمورد التخلّف مثالين.

أحدهما : أنّه لو دار أمر العبد في أحكام السلطان المرسلة إليه بين امور ، وكان بعضها مظنونا بظنّ لم يعلم حجّيّته من طرف السلطان ، صحّ له ترجيح المظنون ، ولا يجوز له الحكم بلزوم ذلك.

وثانيهما : أنّه لو قدّم إلى أحد طعامان ، أحدهما ألذّ من الآخر ، فاختاره عليه لم يرتكب ترجيحا بلا مرجّح وإن لم يلزم أكل الألذ ، ولكن لو حكم بلزوم الأكل لابدّ من تحقّق دليل عليه ، ولا يكفي مجرّد الألذّيّة ، إلى أن قال :

« وبالجملة : فالحكم بلا دليل غير الترجيح بلا مرجّح ، فالمرجّح غير الدليل ، والأوّل يكون في مقابل الميل والعمل ، والثاني يكون في مقابل التصديق والحكم.

ثمّ قال : ليس المراد أنّه يجب العمل بالظنّ المظنون حجّيّته ، وأنّه الّذي يجب العمل به بعد انسداد باب العلم ، بل المراد أنّه بعد ما وجب على المكلّف لانسداد باب العلم وبقاء التكليف العمل بالظنّ ، ولا يعلم أيّ ظنّ؟ لو عمل بالظنّ المظنون حجّيّته أيّ نقص يلزم عليه؟

فإن قلت : ترجيح بلا مرجّح ، فقد غلطت غلطا ظاهرا ، وإن كان غيره فبيّنه حتّى ننظر » انتهى (1).

والعجب أنّه نسب الخلط إلى من جعل الترجيح هنا بمعنى التعيين ، وهو أولى بأن ينسب إليه الخلط حيث جعل التعيين بمعنى الحكم بلزوم أحد طرفي الفعل والترك ووجوبه ، بل نقول : إنّ الترجيح في المقام لا محمل له إلاّ التعيين ، وليس المراد من التعيين ما ذكره بل ما يقابل الإبهام ، والمراد بالإبهام كون الجملة المعيّنة عند الشارع من الظنون - بحكم دليل الانسداد الدالّ على وجوب العمل به - مبهمة عندنا ، فالتعيين المقابل له يراد به رفع ذلك الإبهام ، وقولنا : الظنّ بالحجّيّة لا يصلح مرجّحا ، أنّه لا يصلح رافعا لذلك الإبهام ، لأنّه لا يوجب التعيين ، ولا الظنّ بأنّ الجملة المعيّنة عند الشارع هي الظنون المظنون حجّيّتها ، والمفروض أنّه في نفسه أيضا باق تحت أصالة الحرمة ، لعدم قيام قاطع على

ص: 344


1- عوائد الأيّام : 396 - 397.

حجّيّته ، ومع حرمة العمل به لا يمكن الاعتماد عليه في التعيين ورفع الإبهام.

وله في الشرعيّات نظائر كثيرة يضبطها ثبوت وجوب شيء معيّن عند الشارع غير معيّن عندنا ، كالواجب من الصلاة يوم الجمعة المردّد بين الظهر والجمعة ، فلو حصل الظنّ من جهة الشهرة مثلا بأنّه الظهر لا يمكن التعويل عليه في التعيين ورفع الإبهام ، إلاّ إذا قام قاطع على حجّيّة ذلك الظنّ ، وبدونه كان مندرجا في أصالة الحرمة ، ومع حرمة العمل به لا يعقل الترجيح - بمعنى التعيين - به ، بل ولا الترجيح بمعنى سكون النفس وميلها إليه ، كما يرشد إليه التأمّل الصادق.

وعلى هذا فالمرجّح بمعنى المعيّن للواجب المردّد بين امور لا يكون إلاّ دليلا ، والظنّ من حيث هو ليس دليلا.

ثمّ إنّه كما أنّ الظنّ بحجّيّة بعض الظنون لا يعيّن الجملة المعيّنة ، ولا يصرف القضيّة المهملة إلى الظنون المظنونة الاعتبار ، كذلك الظنّ بعدم حجّيّة بعض الظنون كالأولويّة والاستقراء والشهرة لا يعيّنها ، ولا يصرف القضيّة المهملة عن هذا البعض إلى ما عداه ، لمنع الصغرى تارة ومنع الكبرى اخرى على حذو ما سبق من المنعين بالنسبة إلى الظنّ بالحجّيّة ، فإنّ الظنّ بعدم حجّيّة الظنون المذكورة لا يوجب اليقين ولا الظنّ بأنّ الجملة المعيّنة عند الشارع من الظنون الثابت حجّيّتها على وجه الإهمال والإجمال بدليل الانسداد هي فيما عدا الظنون المظنون عدم اعتبارها ، لأنّ العقل لا يستحيل أن لا ينوط اعتبار الظنّ وعدم اعتباره في نظر الشارع بظنّنا بعدم حجّيّة بعض الظنون ، فيحتمل كون الظنون المعيّنة عنده في الظنون المذكورة وفيما عداها.

ولو سلّم كونه موجبا للظنّ بالتعيين ، لتطرّق المنع إلى جواز الاعتماد عليه في التعيين ، لاندراجه تحت أصالة التحريم.

وقد يمنع جواز تعيين القضيّة المهملة بالظنّ بعدم حجّيّة الظنون المذكورة بما لا كرامة فيه ، وهو أنّ دعوى حصول الظنّ على عدم اعتبار هذه الظنون ممنوعة ، لأنّ مستند الشهرة على عدم اعتبار هذه الظنون ليس إلاّ عدم الدليل عند المشهور على اعتبارها فيبقى تحت الأصل ، لا لكونها كالقياس منهيّا عنها بالخصوص ، ومثل هذه الشهرة المستندة إلى الأصل لا يوجب الظنّ بالواقع.

وفيه : أنّه ممّا لا وقع فيه ، لأنّ بناء الكلام على وجود الظنون الموهوم الاعتبار فيما

ص: 345

بين أنواع الظنون ، سواء حصل الظنّ بعدم [ الاعتبار ] من الشهرة أو من غيرها.

ثمّ إنّه قد يقال : بأنّه قد يصحّ تعيين القضيّة المهملة بالظنّ في مواضع :

أحدها : أن يقوم على حجّيّة بعض الظنون شيء من الظنّ المتيقّن اعتباره من جهة دليل الانسداد ، إمّا مطلقا كما إذا قام فرد من الخبر الصحيح المزكّى بعدلين الذي متيقّن اعتباره فيما بين سائر الأخبار وسائر الأمارات - على معنى كون اعتباره متيقّنا على كلا تقديري اعتبار ما عداه من الأخبار أو سائر الأمارات ، وعدم اعتبار ما عداه كذلك - على حجّية بعض ما دونه ، فإنّه حينئذ يصير متيقّن الاعتبار لأجل قيام الظنّ المتيقّن الاعتبار على اعتباره ، أو بالاضافة إلى الظنّ الذي هو قائم على اعتباره لا مطلقا ، إذا كان ذلك الظنّ القائم حجّة ببعض الوجوه ، كالإجماع المنقول إذا قام على حجّيّة الاستقراء.

فإنّ الأوّل متيقّن الاعتبار بالاضافة إلى الاستقراء الّذي لو كان حجّة من جهة دليل الانسداد كان الإجماع المنقول أيضا حجّة يقينا ، ولا يحتمل كونه حجّة دونه ، لا بالإضافة إلى الخبر الصحيح المذكور ، فالاستقراء حينئذ يصير ظنّا معتبرا بقيام الإجماع المنقول الثابت حجّيته ببعض الوجوه ، ونحوه الشهرة إذا فرضناها متيقّنة الاعتبار بالنسبة إلى الاستقراء أيضا ، بحيث لم يحتمل اعتباره دونها ، وقامت على اعتباره بعد ثبوت حجّيّتها ببعض الوجوه.

وثانيها : أن يكون الظنّ القائم على حجّيّة ظنّ متّحدا لا تعدّد فيه ، كما إذا كان مظنون الاعتبار منحصرا فيما قام أمارة واحدة على حجّيّته ، فإنّه يعمل به في تعيين المتّبع وإن كان أضعف الظنون ، لأنّه إذا تعذّر العلم في مسألة تعيين ما هو المتّبع بعد الانسداد ، ولم يجز الرجوع فيها إلى الاصول حتّى الاحتياط كما سيجيء ، تعيّن الرجوع إلى الظنّ الموجود في المسألة ، فيؤخذ به لما عرفت من أنّ كلّ مسألة انسدّ فيها باب العلم ، وفرض عدم صحّة الرجوع فيها إلى مقتضى الاصول ، تعيّن بحكم العقل العمل بأيّ ظنّ وجد في تلك المسألة.

وثالثها : أن يتعدّد الظنون في مسألة تعيين المتّبع بعد الانسداد ، بحيث يقوم كلّ واحد منها على اعتبار طائفة من الأمارات كافية في الفقه ، لكن يكون هذه الظنون القائمة كلّها في مرتبة لا يكون اعتبار بعضها مظنونا ، وحينئذ إذا وجب بحكم مقدّمات الانسداد في مسألة تعيين المتّبع بالرجوع فيها إلى الظنّ في الجملة ، والمفروض تساوي الظنون الموجودة في تلك المسألة ، وعدم المرجّح لبعضها ، وجب الأخذ بالكلّ » (1) انتهى.

ص: 346


1- فرائد الاصول 1 : 488 - 490.

وفي الجميع نظر : لخروج الأوّل والثالث عن مسألة تعيين الحجّة من الظنون عند اللّه بالظنّ ، نظرا إلى أنّ المراد بذلك الظنّ ما لم يقم قاطع بحجّيّته ، لأنّ الكلام في مرجّحيّة الظنّ بالحجّيّة في الظنون المظنونة الاعتبار ، ودليل الانسداد أو ما قام على حجّيّته دليل من أفراد الخبر الصحيح المذكور قاطع ، فالعمل بالظنّ المفروض لكونه مقطوع الحجّيّة ولو من جهة دليل الانسداد ، فليس من مسألة تعيين الحجّة من الظنون عند اللّه بظنّ لم يقم قاطع بحجّيّته ، ولذا علّلنا منع الاعتماد عليه ببقائه بعد تحت أصالة حرمة العمل بالظنّ ، والمانع من الاعتماد هو حرمة العمل.

وخروج الثاني عن مسألة إهمال النتيجة ، لما ذكرنا سابقا من أنّ التكلّم في إهمال النتيجة وإطلاقها إنّما يجري إذا قرّر دليل الانسداد ومقدّماته بالنسبة إلى مجموع المسائل من حيث المجموع ، لا إذا قرّر بالنسبة إلى مسألة شخصيّة ، ولا بالنسبة إلى كلّ مسألة مسألة كما هو واضح.

وإذ قد تبيّن عدم ثبوت المرجّح لبعض الظنون على بعض على تقدير إهمال النتيجة ، فينبغي التكلّم في تعميم حكم الحجّيّة بالنسبة إلى كلّ ظنّ ، بناء على فرض حكم العقل من باب الكشف بذكر الوجوه الّتي يتمسّك بها للتعميم.

فنقول : إنّ الّذي نعتمد عليه للتعميم هو أنّ معنى إهمال نتيجة دليل الانسداد كون النتيجة المستحصلة منه في حجّية الظنّ مردّدة بين الجزئيّة والكلّيّة ، وقاعدة الأخذ بالقدر المتيقّن وإن كانت تساعد على صرفها إلى الجزئيّة ، لأنّ الأصل الأوّلي في الظنون عدم الحجّيّة ، بل حرمة العمل بها إلاّ ما خرج بالدليل ، والقدر المتيقّن ممّا خرج بدليل الانسداد هو بعض الظنون الّذي ينضبط بقدر الكفاية في حصول الفقه ، بحيث لو بني في الباقي على مقتضى الاصول لم يلزم محذور ، ولكن قبح الإغراء بالجهل وقبح التكليف بما لا يطاق اللازم من إجمال الجزئيّة وإبهام الجملة المعيّنة عند الشارع عندنا - ضرورة أنّ إيجاب العمل بظنون معيّنة عنده مبهمة عندنا تكليف بغير المقدور - يصرفها إلى الكلّيّة باقتضاء أنّ الشارع أوجب علينا العمل بكلّ ظنّ.

وتوهّم منع الملازمة على تقدير جزئيّة القضيّة بإناطة تعيين الجملة المعيّنة بظنون اخر قائمة على الحجّيّة ، بأن يقال : إنّ كلّ ظنّ قام على حجّيّته أمارة ظنّيّة اخرى ، كالشهرة ونحوها فهو من الجملة المعيّنة عند الشارع.

ص: 347

يدفعه : أنّ هذا يرجع إلى الترجيح بالظنّ بالحجّيّة في الظنون المظنونة الاعتبار ، وقد تقدّم الكلام في منعه بما لا مزيد عليه ، ونزيد هنا منع وفاء هذه الظنون المستعملة في التعيين بالقدر المكتفى به في دفع المحاذير ، لأنّ الظنون المظنونة الاعتبار في نفسها أقلّ بمراتب شتّى من قدر الكفاية ، فيلزم من الاقتصار عليها ما يلزم من الاقتصار على المعلومات ، ومن التعدّي إلى تمام قدر الكفاية مع انتفاء الظنّ في تعيينه الإغراء بالجهل والتكليف بما لا يطاق ، فلا محيص من التزام عموم الحكم في نظر الشارع حذرا عن المحذورين أيضا ، مع الحذر عن سائر المحاذير.

ولكن يزيّفه ، ما سنذكره في تضعيف الوجه الرابع من الوجوه المعمّمة الآتية ، من بلوغ الظنون المظنونة الاعتبار باعتبار كثرة أسباب الظنّ بالاعتبار حدّ الكفاية ، بحيث لم يلزم من العمل بالأصل في باقي الأحكام محذور.

واستدلّ على التعميم بوجوه اخر :

منها : ما اعتمد عليه في الضوابط من أنّه بعد انكسار سورة الأصل بأمر مجمل إمّا أن يترك العمل بجميع أفراد الظنون ، أو يرجّح بعض الأفراد ويعمل به ، أو يعمل بالتخيير ، أو يعمل بالجميع ، لا سبيل إلى الأوّل للزوم مخالفة الأمر المقطوع ، وهو البرهان العقلي ، ولا إلى الثاني للزوم الترجيح بلا مرجّح ، ولا إلى الثالث لكونه مخالفا للإجماع ولعدم دوران الأمر بين [ المحذورين ] والتخيير إنّما هو فيما دار الأمر بين المحذورين ، فتعيّن الرابع وهو العمل بالجميع وهو المطلوب » (1).

والظاهر أنّه أراد بمخالفة الدليل العقلي لزوم المخالفة القطعيّة في المسألة الاصوليّة لا في الفروع ، فإنّ إيجاب العمل بالظنون في الجملة تكليف إلزامي في المسألة الاصوليّة ، وترك العمل مطلقا مخالفة له بعنوان القطع ، ولزوم الترجيح بلا مرجّح مبنيّ على ما تقدّم مشروحا من فقد المرجّح وعدم صلاحيّة ما توهّم مرجّحا ، ومنه مظنونيّة الاعتبار للترجيح.

والمراد بالإجماع على بطلان التخيير إجماع القائلين بالظنّ المطلق ، ووجه هذا الإجماع أنّهم مطبقون على تعميم الحكم ، غير أنّ منهم من يعمّمه بنفس دليل الانسداد ، ومنهم من يعمّمه بتوسيط مقدّمة اخرى.

ووجه عدم كون المقام من موارد التخيير ، عدم كون الكلام في الظنون المتعدّدة

ص: 348


1- الضوابط 1 : 295.

المتعلّقة بمسألة واحدة حتّى يلتجأ إلى التخيير في العمل ، لعدم إمكان العمل بالجميع كما في الخبرين المتعارضين ، بل في الظنون المتعدّدة الكثيرة على حسب تعدّد المسائل المتعلّق كلّ واحد بمسألة دون اخرى ، فلا تنافي بينها في العمل.

وكيف كان : فيرد على الوجه المذكور قصوره عن إفادة المطلب ، لبقاء مجال أن يقال : بأنّا لا نقول بجواز ترك العمل بجميع الأفراد ، ولا بترجيح بعض الأفراد ، ولا بالتخيير في العمل ، بل بوجوب الاقتصار في العمل على الظنون المعيّنة عند الشارع الّتي أوجب علينا العمل بها ، وهذا شقّ خامس لا بدّ من إبطاله ، ولا يبطله إلاّ قبح الإغراء بالجهل ، وقبح التكليف بما لا يطاق ، فهو العمدة في إثبات التعميم.

ومنها : ما ذكره في الضوابط أيضا من « أنّه لا ريب في أنّ الاقتصار على مظنون الاعتبار ، يكون ملزوما لما يلزم من الاقتصار على المعلومات من الخروج عن الدين واختلال النظم بالرجوع في الباقي إلى الاصول ، فلابدّ من العمل بجميع الظنون.

ثمّ أورد على نفسه : بأنّ اللازم من ذلك هو التعدّي إلى مشكوك الاعتبار ، لا إلى موهومه لأنّه لا مقتضى له.

فأجاب عنه أوّلا : بأنّ موهوم الاعتبار لا وجود له في سلسلة الظنون ، بل هي في الحقيقة منحصرة في مظنون الاعتبار ومشكوكه ، لأنّ مستند الأكثر في ذهابهم إلى عدم الحجّيّة هو الأصل ، وهو لا يفيد الظنّ بعدم الاعتبار ، فكلّ ما عدّ من قسم موهوم الاعتبار من الظنون كلّها داخلة في مشكوك الاعتبار فالتعدّي في العمل عن مظنون الاعتبار إلى مشكوكه في معنى العمل بالظنون كلّها.

وثانيا : أنّ اللازم ممّا ذكرنا من عدم جواز الاقتصار على مظنون الاعتبار هو وجوب التعدّي إلى غيره ، لا إلى خصوص مشكوك الاعتبار وذلك الغير مردّد بينه وبين موهوم الاعتبار ، فيكون المقام من مسألة الشكّ في المكلّف به ، ومقتضى قاعدة الاشتغال هو العمل بالكلّ ، كالجمع بين المحتملات الّذي يقتضيه قاعدة الاشتغال عند اشتباه المكلّف به بعد اليقين بالتكليف.

وثالثا : بأنّه يلزم من الاقتصار على مظنون الاعتبار ومشكوكه معا أيضا ما يلزم من الاقتصار على مظنون الاعتبار فقط ، فعموم الحجّيّة لجميع أسباب الظنّ ليس بمحلّ الشكّ (1).

ص: 349


1- الضوابط : 295.

ويرد عليه أيضا : أنّ لقائل أن يقول : إنّا لا نعرف مظنون الاعتبار ولا مشكوكه ولا موهومه ، ولا نقول بوجوب الاقتصار ولا عليه وعلى الثاني (1) ، بل نقول بوجوب الاقتصار على الظنون المعيّنة عند الشارع الّتي أوجب علينا العمل بها على تقدير جزئيّة قضيّة النتيجة ، ولو أبطلته باستلزامه الإغراء بالجهل وتكليف ما لا يطاق فلابدّ من إيجابه تعالى العمل بالجميع لئلاّ يلزم هذين المحذورين ، فيكون هذا هو العمدة في إثبات التعميم لا ما ذكرته.

ومنها : ما اعتمد عليه شيخنا قدس سره وقرّره بقوله : « إن كان القدر المتيقّن كافيا في الفقه ، بمعنى أنّه لا يلزم من العمل بالاصول في مجاريها المحذور اللازم على تقدير الاقتصار على المعلومات فهو ، وإلاّ فالواجب الأخذ بما هو المتيقّن بين الأمارات الباقية بالنسبة إلى غيرها ، فإن كفى في الفقه بالمعنى الّذي ذكرنا فهو ، وإلاّ فيؤخذ بما هو المتيقّن بالنسبة وهكذا.

ثمّ لو فرضنا عدم القدر المتيقّن بين الأمارات أو عدم كفاية ما هو المتيقّن مطلقا أو بالنسبة ، فإن لم يكن على شيء منها أمارة فاللازم الأخذ بالكلّ ، لبطلان التخيير بالإجماع ، وبطلان طرح الكلّ بالفرض ، وفقد المرجّح ، فتعيّن الجميع.

وإن قام على بعضها أمارة ، فإن كانت أمارة واحدة كما إذا قامت الشهرة على حجّيّة جملة من الأمارات كان اللازم الأخذ بها ، لتعيّن الرجوع إلى الشهرة في تعيين المتبّع من بين الظنون.

وإن كانت أمارات متعدّدة قامت كلّ واحدة منها على حجّيّة ظنّ مع الحاجة إلى جيمع تلك الظنون في الفقه وعدم كفاية بعضها عمل بها ، ولا فرق حينئذ بين تساوي تلك الأمارات القائمة من حيث الظنّ بالاعتبار والعدم ، وبين تفاوتها في ذلك.

وأمّا لو قامت كلّ واحدة منها على مقدار من الأمارات كاف في الفقه ، فإن لم تتفاوت الأمارات القائمة في الظنّ بالاعتبار وجب الأخذ بالكلّ - كالأمارة الواحدة - لفقد المرجّح ، وإن تفاوتت فما قام متيقّن الاعتبار أو مظنون الاعتبار على اعتباره يصير معيّنا لغيره ، كما إذا قام الإجماع المنقول بناء على كونه مظنون الاعتبار على حجّيّة أمارة غير مظنون الاعتبار ، وقامت تلك الأمارة فإنّها تتعيّن بذلك (2) انتهى.

ومرجعه إلى ما نقلناه عن الضوابط أوّلا ، إلاّ أنّه أضاف إليه شروطا وقيودا ، فإنّ ملخّص ما أفاده قدس سره : أنّ بطلان التخيير وبطلان طرح الكلّ وبطلان الترجيح يقتضي العمل

ص: 350


1- كذا في الأصل.
2- فرائد الاصول 1 : 491 - 492.

بجميع الظنون ، سواء لم يقم على حجّيّة شيء منها أمارة ، أو قامت أمارات متعدّدة كلّ أمارة على حجّيّة ظنّ مع الحاجة إلى الجميع وعدم كفاية البعض ، أو كلّ أمارة على حجّيّة مقدار من الظنون كاف في الفقه مع تساوي تلك الأمارات المتعدّدة في الظنّ بالاعتبار وعدمه ، ويشترط في جميع الصور الثلاث عدم وجود متيقّن الاعتبار فيما بين الظنون ، أو عدم كفاية ما هو متيقّن الاعتبار في الفقه ، على معنى لو عمل بالاصول في غيره لزم ما يلزم من الاقتصار على المعلومات ، وعدم قيام أمارة واحدة على حجّيّة جملة منها كافية في الفقه ، ولا أمارات متعدّدة كلّ أمارة على حجّيّة مقدار كاف من الظنون في الفقه مع تفاوتها في تيقن الاعتبار وعدمه ، أو مظنونيّة الاعتبار وعدمه ، لوجوب الاقتصار على قدر الكفاية مع انتفاء كلّ من الشروط الثلاثة.

ويرد عليه أوّلا : أنّه لولا انضمام قبح الإغراء بالجهل ، وتكليف ما لا يطاق إلى بطلان التخيير ، وطرح الكلّ والترجيح بلا مرجّح لم يترتّب وجوب العمل بالجميع ، لقيام احتمال وجوب العمل بجملة معيّنة عند الشارع مبهمة عندنا كافية في الفقه.

وثانيا : منع جواز استعمال الأمارة في التعيين ، لكونها ظنّا ولا دليل على خروجها عن أصالة الحرمة.

لا يقال : إنّ الدليل المخرج لها أيضا هو دليل الانسداد ، فكما أنّ انسداد باب العلم بالأحكام فتح لنا باب العمل بالظنّ في تعيينها ، فكذلك كانسداد باب العلم بالظنون المعيّنة المعمول بها في الأحكام فتح لنا باب العمل بالظنّ في تعيينها ، وهو الأمارة القائمة على الحجّيّة بأحد الاعتبارين المتقدّمين.

لأنّا نقول : هذا إنّما يتّجه لو كان نتيجة الدليل بالنسبة إلى الظنّ في الأحكام جزئيّة ، ليكون مفادها حجّيّة جملة من الظنون معيّنة عند الشارع ، وأمّا على تقدير الكلّيّة فلا ، لعدم مسيس الحاجة حينئذ إلى تعيين البعض بمعيّن خارجي وهو الأمارة الظنّية القائمة بالحجّيّة ، فالعقل بملاحظة احتمال الكلّيّة لا يحكم بخروج تلك الأمارة عن أصالة الحرمة.

وبالجملة : دليل الانسداد حكم عقلي ، والعقل يحكم بتعيّن العمل بالظنّ في تعيين الأحكام ، ولا يحكم به في تعيين الظنون المعمول بها لتعيين الأحكام ، والفارق هو الحاجة إلى العمل بالظنّ مع حصر المناص فيه في الأوّل ، وعدم الحاجة إليه في الثاني ، ولا باعث على عدم الحاجة إلاّ عدم كون القضيّة في تعيّن العمل بالظنّ في الأحكام جزئيّة.

ص: 351

فإن قلت : لابدّ في العمل بالظنّ في الأحكام من تعيين الظنون المعمول بها للمكلّف ، لئلاّ يلزم الإغراء بالجهل ، وتكليف ما لا يطاق وهو يتأتّى بأحد الأمرين : من حجّيّة كلّ ظنّ عند الشارع ، ومعيّن خارجي للبعض - وهو الأمارة الظنّية القائمة بالحجّية - على تقدير كون الحجّة عند الشارع جملة معيّنة من الظنون ، فالأمر في موضوع الحكم العقلي دائر بين كلّ ظنّ ، وجملة من الظنون يعيّنها المعيّن الخارجي ، وهو الأمارة القائمة على الحجّيّة ، فالعقل بملاحظة قبح الإغراء [ بالجهل ] وتكليف ما لا يطاق لا يحكم بالأوّل لقيام احتمال الثاني ، وقبح الأمرين يندفع بكلّ من الفرضين.

قلت : الفرض الثاني يتضمّن جزئين :

أحدهما : كون الحجّة عند الشارع جملة من الظنون لا كلّ ظنّ.

والآخر : كون الأمارة القائمة على حجّية جملة من الظنون ما اعتبره الشارع معيّنا لتلك الجملة المعيّنة عنده ، وقبح الإغراء بالجهل مع قبح تكليف ما لا يطاق إنّما يتمسّك بهما لنفي الجزء الأوّل لا لنفي الجزء الثاني ، فإنّه يكفي في نفيه مجرّد عدم ورود بيانه من الشارع ، وهذا نظير ما لو دار العامّ الصادر من المتكلّم - كقوله : « أكرم العلماء » مثلا - بين كون المراد منه كلّ الأفراد أو بعضها المعيّن منها بمعيّن خارجي اعتبره المتكلّم معيّنا ، وهو الأمارة الظنّية القائمة بأنّ البعض المعيّن المراد من العامّ هو هذا ، فإنّ كون الأمارة معيّنة للبعض المراد يحتاج إلى ورود بيانه من المتكلّم ، ويكفي في نفيه عدم ورود ذلك البيان ، ثمّ يبقى في العامّ احتمال إرادة البعض المعيّن عند المتكلّم قبالا لإرادة الكلّ ، ويتمسّك لنفيه بقبح الإغراء بالجهل وتكليف ما لا يطاق.

ففيما نحن فيه أيضا لو كان الأمارة الظنّية القائمة على حجّيّة بعض الظنون ما اعتبرها الشارع معيّنة للجملة المعيّنة عنده ، فلابدّ من ورود بيانه من الشارع ، والمفروض عدم ورود بيان منه في ذلك وهو كاف في نفي احتمال كون الأمارة معيّنة ، ويبقى احتمال كون الحجّة عند الشارع بعض الظنون المعيّنة عنده المجهولة لنا ، ويتمسّك لنفيه بقبح الإغراء بالجهل وقبح التكليف بما لا يطاق.

ومنها : ما حكاه شيخنا عن غير واحد من معاصريه - وقيل : إنّه السيّد صاحب الرياض وابنه صاحب المناهل - من الاستناد إلى عدم الكفاية ، حيث إنّهم بعد تقسيم الظنون إلى مظنون الاعتبار ومشكوكه وموهومه ، اعترفوا بأنّ مقتضى القاعدة بعد إهمال النتيجة

ص: 352

الاقتصار على مظنون الاعتبار ، ثمّ على المشكوك ، ثمّ يتسرّى إلى الموهوم.

لكنّ الظنون المظنونة الاعتبار غير كافية ، إمّا بنفسها بناء على انحصارها في الأخبار الصحيحة بتزكية عدلين ، وإمّا لأجل العلم الإجمالي بمخالفة كثير من ظواهرها للمعاني الظاهرة منها ، ووجود ما يظنّ منه ذلك في الظنون المشكوكة الاعتبار ، فلا يجوز التمسّك بتلك الظواهر للعلم الإجمالي المذكور ، فيكون حالها حال ظاهر الكتاب والسنّة المتواترة في عدم الوفاء بمعظم الأحكام ، فلابدّ من التسرّي - بمقتضى قاعدة الانسداد ، ولزوم المحذور من الرجوع إلى الاصول - إلى الظنون المشكوكة الاعتبار الّتي دلّت على إرادة خلاف الظاهر في ظواهر مظنون الاعتبار فيعمل بما هو من مشكوك الاعتبار مخصّص لعمومات مظنون الاعتبار ومقيّد لإطلاقاته وقرائن لمجازاته.

فإذا وجب العمل بهذه الطائفة من مشكوك الاعتبار ، ثبت وجوب العمل بغيرها ممّا ليس فيها معارضة لظواهر الأمارات المظنونة الاعتبار ، بالإجماع على عدم الفرق بين أفراد مشكوك الاعتبار ، فإنّ أحدا لم يفرّق بين الخبر الحسن المعارض لإطلاق الصحيح ، وبين خبر حسن آخر غير معارض لخبر صحيح ، بل بالأولويّة القطعيّة ، لأنّه إذا وجب العمل بمشكوك الاعتبار الّذي له معارضة لظاهر مظنون الاعتبار ، فالعمل بما ليس له معارض أولى.

ثمّ نقول : إنّ في ظواهر مشكوك الاعتبار موارد كثيرة يعلم إجمالا بعدم إرادة المعاني الظاهرة ، والكاشف عن ذلك ظنّا هي الأمارات الموهومة الاعتبار ، فنعمل بتلك الأمارات ، ثمّ نعمل بباقي أفراد الموهوم الاعتبار بالإجماع المركّب ، حيث إنّ أحدا لم يفرّق بين الشهرة المعارضة للخبر الحسن بالعموم والخصوص ، وبين غير المعارض له ، بل بالأولويّة كما عرفت » انتهى (1).

وفيه نظر من وجوه :

أمّا أوّلا : فلأنّه إن اريد من القاعدة المقتضية للاقتصار على مظنون الاعتبار ، كون مظنونيّة الاعتبار مرجّحة في نظر الشارع ، ومعيّنة لموضوع القضيّة المهملة ، ففيه : المنع المتقدّم مرارا ، حيث لا شاهد عليه من عقل ولا شرع.

وإن اريد منها كونه القدر المتيقّن ممّا خرج من أصالة التحريم بدليل الانسداد ، ففيه : أنّ القدر المتيقّن على ما تقدّم الإشارة إليه ، هو الأخبار الصحيحة المزكّاة بتزكية عدلين ،

ص: 353


1- فرائد الاصول : 1 / 293 - 295.

لا مطلق مظنون الاعتبار.

فإن قلت : كون ما ذكر قدرا متيقّنا إنّما هو باعتبار كونه مظنون الاعتبار ، فيكون مظنون الاعتبار بجميع أفراده من القدر المتيقّن.

قلت : كونه القدر المتيقّن إنّما هو من جهة كونه أقرب إلى العلم في نظر العقل بعد تعذّره وانسداد بابه ، بملاحظة بعد احتمال الكذب فيما زكّاه عدلان ، لا من جهة كونه مظنون الاعتبار.

فإن قلت : مظنون الاعتبار على إطلاقه أيضا أقرب إلى العلم.

قلت : هذا إنّما يستقيم لو كان الجهة الموجبة لانقسام الظنون إلى الأقسام الثلاث المذكورة هو اختلاف مراتب الظنّ ، من حيث القوّة والضعف والمتوسّط بينهما ، ولعلّه موضع منع لظهور كلامهم في التقسيم - بل صريح بعضهم - كون الموجب له ذهاب الأكثر إلى العمل أو إلى ترك العمل ، وعدم ذهابهم إلى شيء منهما ، وهذا لا يلازم كون كلّ ما ذهب الأكثر إلى العمل به أقوى ، وكلّ ما ذهب إليه الأكثر إلى ترك العمل به أضعف ، وقد بيّنا سابقا أنّ الشهرة ربّما تفيد من الظنّ ما لا يفيده الخبر الصحيح.

فإن قلت : إنّ مظنون الاعتبار منحصر فيما زكّاه عدلان ، كما تقدّم التصريح في كلام غير الواحد.

قلت : هذا واضح المنع ، لأنّ الظنّ بالاعتبار على ما يرشد إليه النظر يحصل من امور :

منها : شهرة الحجّيّة ، كما في الخبر الصحيح مطلقا.

ومنها : طريقة القدماء في العمل بالروايات المنوط عندهم بكونها موجبة لسكون النفس ، ولذا يعتمدون على أخبار المتحرّز عن الكذب ، وإن كان فاسقا بسائر جوارحه ، ومن ثمّ وصفوا خبره بالصحّة.

ومنها : الشهرة الجابرة لضعف الخبر في الأخبار الضعيفة المنجبرة بالشهرة ، سواء كانت شهرة في العمل أو في الرواية.

ومنها : الأخبار المستفيضة الدالّة على إناطة حجّيّة الخبر بكونه موثوقا بصدوره ، فإنّ كلاّ من هذه الامور يفيد ظنّ الحجّيّة والاعتبار ، فيندرج في مظنون الاعتبار حينئذ الصحاح مطلقا ، وجملة كثيرة من الموثّقات ، وجملة من الحسان والضعاف المنجبرة بالشهرة ، والأخبار الموثوق بصدورها من جهة القرائن الداخلة أو الخارجة ، فدعوى الانحصار واضحة الفساد.

وأمّا ثانيا : فلمنع عدم كفاية مظنون الاعتبار بعد ما عرفت من عدم انحصاره في الصحاح المزكّاة بتزكية عدلين ، فإنّ الأقسام المذكورة له وافية بمعظم الأحكام ، بحيث لم

ص: 354

يلزم من الرجوع إلى الاصول في الباقي محذور.

وأمّا ثالثا : فلأنّ العلم الإجمالي إنّما يوجب التسرّي إلى مشكوك ، أو منه إلى موهوم الاعتبار إذا قرّر : بأنّا نعلم إجمالا بمخالفة ظواهر كثير من مظنون الاعتبار لقرائن هي في مشكوك الاعتبار أو في موهوم الاعتبار ، على معنى كونها عمومات مخصّصة بما هو من مشكوك الاعتبار ، أو موهومه ، ومطلقات مقيّدة بما هو من أحدهما ، أو مجازات قرائنها من أحدهما ، وحينئذ فالعمل بهذه الأفراد من مظنون الاعتبار لا يتمّ إلاّ بالعمل بتلك الأفراد من مشكوك الاعتبار أو موهومه ، فإذا وجب الأوّل بحكم العقل وجب الثاني أيضا بحكمه.

ولكن حصول العلم الإجمالي على هذا الوجه محلّ منع ، بل القدر المسلّم منه هو العلم بمخالفة ظواهر كثير من مظنون الاعتبار لقرائن هي أيضا من مظنون الاعتبار لا من مشكوكه أو موهومه ، على معنى كون كلّ من العامّ والخاصّ أو المطلق والمقيّد أو المجاز وقرينته من أفراد هذا النوع ، فلا مقتضى للتسرّي إلى النوع الآخر من جهة العلم الإجمالي.

وأمّا رابعا : فعلى تسليم حصوله على الوجه الأوّل ، فغايته قضائه بالتسرّي من مشكوك الاعتبار إلى الأفراد الكاشفة عن المرادات من طائفة من مظنون الاعتبار ، لا إلى غيرها من الأفراد الغير الكاشفة ، وكذا الكلام على تقدير التسرّي إلى موهوم الاعتبار ، فإنّ مرجع العلم الإجمالي المفروض إلى العلم بكون جملة من مشكوكات الاعتبار ، أو موهوماته مطابقة للواقع ، من جهة كشفها عن المرادات في مظنونات الاعتبار على تقدير مطابقتها الواقع ، على معنى أنّها بحيث لو كانت مطابقة للواقع كانت المرادات منها ما يكشف عنها ما هو من مشكوكات الاعتبار أو موهوماته ، وظاهر أنّ العمل بها لأجل هذه العلّة لا يوجب التعدّي إلى ما ليس فيه هذه العلّة ، وهو مشكوكات الاعتبار أو موهوماته الغير الكاشفتين عن مرادات مظنونات الاعتبار.

فإنّ العلم الإجمالي بوجود حسان أو شهرات مخصّصة لعمومات الأخبار الصحيحة ، أو مقيّدة لمطلقاتها لا يوجب التعدّي إلى الحسان أو الشهرات الغير المزاحمة للأخبار بتخصيص أو تقييد ، فضلا عن إيجابه التعدّي إلى الاستقراء والأولويّة.

ودعوى الإجماع واضحة الفساد ، إذ الإجماع إنّما يعتبر من باب الكشف عن قول المعصوم ورأيه ، ولا ريب أنّ الحكم بالحجّيّة في الطائفة الاولى لعلّة غير مطّردة في الطائفة الثانية حكم عقلي نعلم بعدم تعرّض الإمام لبيانه قولا ولا فعلا ، بل غاية ما يضاف إليه في

ص: 355

الواقعة أنّه قرّر حكم العقل ، والمفروض عدم وقوع حكم من العقل في غير مورد العلّة أعني الكشف عن المرادات لينعقد فيه التقرير أيضا.

ومن هنا يظهر ما في دعوى الأولويّة القطعيّة ، فإنّ مناط العمل في الطائفة الاولى إذا كان مفقودا في الطائفة الثانية ، فأيّ أولويّة للطائفة الثانية حينئذ فضلا عن كونها قطعيّة حتّى توجب التعدّي إليها؟

وكأنّ توهّم الإجماع إنّما نشأ عن ملاحظة إجماع أصحاب الظنون الخاصّة في العمل بها على عدم الفرق بين أفراد الخبر الحسن ، ولا بين أفراد الشهرة لأجل ثبوت دليل خاصّ دلّهم على ذلك بزعمهم كآية النفر ، ورواية « خذ بما اشتهر بين أصحابك » مثلا ، فتعدّوا إلى المقام وادّعوا الإجماع على عدم الفرق فيه أيضا ، غفلة عن أنّ الكلام فيه إنّما هو على الظنون المطلقة المفروضة على تقدير فقد الظنون الخاصّة.

ونعم ما قال شيخنا قدس سره في هذا المقام : « من أنّه لو ادّعى الإجماع على أنّ كلّ من عمل بجملة من الأخبار الحسان أو الشهرة لأجل العلم الإجمالي بمطابقة بعضها الواقع ، لم يعمل بالباقي الخالي عن هذا العلم الإجمالي ، كان في محلّه » (1).

ومنها : ما حكاه شيخنا قدس سره عن بعض مشايخه طاب ثراه (2) من الاستناد للتعميم إلى قاعدة الاشتغال ، « بتقريب : أنّه قد ثبت بدليل الانسداد وجوب العمل بالظنّ في الجملة ، والمفروض عدم وجود قدر متيقّن كاف في الفقه ، لما عرفت من أنّ الأخبار الصحيحة المزكّاة بتزكية عدلين غير وافية إلاّ بأقلّ قليل من الأحكام ، وأنّ الظنّ الواجب العمل الّذي هو المكلّف به مشتبه بغيره ، فوجب العمل بكلّ ظنّ يحتمل كونه ممّا يجب العمل به عند الشارع ، لأنّ اليقين بالاشتغال يستدعي اليقين بالبراءة الّذي لا يحصل إلاّ بهذا التقدير.

ومنع جريانها هنا لكون ما عدا واجب العمل من الظنون محرّم العمل من جهة أصالة التحريم ، فيدور الأمر بين المحذورين ، فكلّ ظنّ يحتمل كونه من واجب العمل يحتمل كونه محرّم العمل أيضا ، مدفوع : بأنّ الحرمة هنا تشريعيّة ، لا أنّها شرعيّة ناشئة عن مفسدة ذاتيّة ، لأنّه إنّما حرم العمل بالظنّ من حيث كونه لا يغني من الحقّ شيئا وهو العلم ، فالمحرّم إنّما هو العمل بالظنّ على وجه الوجوب وعلى أنّه كالعلم مأمور به وهو التشريع ، لا العمل بما يحتمل كونه واجبا لاحتمال الوجوب ولرجاء كونه واجبا ، وهذا ليس تشريعا ».

ص: 356


1- فرائد الاصول : 1 / 497.
2- هو شريف العلماء ، راجع ضوابط الاصول : 255.

وأورد عليه شيخنا قدس سره : « بأنّ قاعدة الاشتغال في مسألة العمل بالظنّ ، معارضة في بعض الموارد بقاعدة الاشتغال في المسألة الفرعيّة ، كما إذا اقتضى الاحتياط في الصلاة وجوب السورة ، وكان هناك ظنّ مشكوك الاعتبار دالّ على عدم وجوبها ، فإنّه يجب مراعاة قاعدة الاحتياط في الفروع المقتضية لقراءة السورة لاحتمال وجوبها » (1).

ويشكل بعدم كون المعارضة في محلّها.

أمّا أوّلا : فلأنّ الاحتياط في المسألة الاصوليّة مقدّم عليه في المسألة الفرعيّة ، لوروده عليه باعتبار سببيّة شكّه.

وأمّا ثانيا : فلأنّ المثال المذكور للمسألة الفرعيّة ، لكونه من الشكّ في جزء العبادة ممّا لا يجري فيه أصالة الاشتغال حتّى تعارض قاعدة الاشتغال في المسألة الاصوليّة ، بل هو من مجرى أصالة البراءة لرجوع الشكّ في الأجزاء والشرائط - كما حقّق في محلّه ، وعليه المورد قدس سره - إليه في التكليف ، فلا معارض لقاعدة الاشتغال المتمسّك بها للتعميم.

وأمّا ثالثا : فلأنّ الاحتياط في المسألة الفرعيّة بعد تسليم جريانه ووجوب العمل به ، لا ينافي الاحتياط في المسألة الاصوليّة المقتضي لوجوب العمل بالظنّ المشكوك الاعتبار ، أو موهومه الدالّ على عدم وجوب السورة بحيث يلزم من العمل به طرحه ، لأنّ معنى العمل بالظنّ الّذي يقتضيه الاحتياط في المسألة الاصوليّة تطبيق الفعل - بمعنى الحركات والسكنات الخارجيّة - على مقتضاه ، وليس مقتضى الظنّ القائم بعدم وجوب السورة وجوب الفعل على وجه عدم الوجوب حتّى يناقضه وجوب الفعل المحتمل الوجوب لرجاء الوجوب ، بل مقتضاه إمّا وجوبه لا على وجه الوجوب ، أو عدم وجوبه على وجه الوجوب (2).

وأيّا منهما كان فلا يناقضه وجوب الفعل لاحتمال الوجوب ورجائه ، كما هو مقتضى الاحتياط في المسألة الفرعيّة.

نعم ربّما يتصوّر المنافاة في بادئ النظر بين الاحتياطين ، فيما لو علم إجمالا بحرمة أحد امور ، وقام على وجوب كلّ واحد ظنّ من المشكوك أو الموهوم ، فإنّ الاحتياط في المسألة الاصوليّة في نحوه يقتضي وجوب الإتيان بالكلّ ، والاحتياط في المسألة الفرعيّة يقتضي وجوب الاجتناب عن الكلّ ، وهما قضيّتان متناقضتان.

ولكنّ الّذي يساعد عليه النظر : هو عدم المعارضة هنا أيضا ، لعدم جريان الاحتياط في

ص: 357


1- فرائد الاصول 1 : 497.
2- كذا فى الأصل.

المسألة الاصوليّة حينئذ ، المبنيّ على اندراج الظنون المذكورة المقابلة للعلم الإجمالي المخالف لها في الاقتضاء في موضوع دليل الانسداد ، بل عدم جريان دليل الانسداد بالقياس إليها رأسا فضلا عن قاعدة الاشتغال المبتني جريانها على جريانه ، لأنّ العلم الإجمالي المنجّز للتكليف كالعلم التفصيلي يتولّد منه العلم التفصيلي بوجوب الاجتناب عن كلّ واحد من الامور المذكورة ، مقدّمة للعلم بالامتثال في ترك المحرّم الواقعي منها المعلوم بالإجمال المشتبه بالبواقي ، ومعه لا يجري في مورده دليل الانسداد لانتفاء مقدّمة الانسداد فيه ، فلا مقتضي لجواز العمل بالظنون المذكورة المخالفة له في المقتضى فضلا عن وجوبه ، فالاحتياط في المسألة الفرعيّة الناشئ وجوبه عن العلم الإجمالي لا مقابل له ليعارضه.

وأمّا رابعا : فلخروج نحو الصورة المفروضة من الظنون القائمة بعدم الوجوب عن مورد كلام القائل بالتعميم استنادا إلى قاعدة الاشتغال ، فإنّ غرضه بذلك إنّما هو التعميم في الظنون الموافقة للاحتياط ، وهي الدالّة على وجوب أو تحريم ، أو حكم وضعي يتولّد منه الوجوب والتحريم كالنجاسة ونحوها ، لا الظنون المخالفة له الموافقة لأصل البراءة ، لخروجها عن مورد دليل الانسداد ، فكيف بقاعدة الاشتغال ، لعدم لزوم محذور من الرجوع إلى الأصل الموافق لها بعد العمل بالظنون الموافقة للاحتياط في جميع الأنواع الثلاث من المظنونة والمشكوكة والموهومة.

فالظنون الدالّة على عدم الوجوب أو على عدم الحرمة خارجة عن معقد كلام القائل بالتعميم ، بل عن مجرى دليل الانسداد أيضا ، فكيف يورد عليه في استناده إلى قاعدة الاشتغال بمعارضة مثلها في المسألة الفرعيّة ، إلاّ أن يقال : بأنّ هذا التخصيص خلاف طريقة أهل القول بالظنون المطلقة ، فإنّهم لا يفرّقون في الحجّيّة ووجوب العمل بين الظنون المثبتة للتكاليف الإلزاميّة وما تتولّد منه من الأحكام الوضعيّة ، وبين الظنون النافية لها الدالّة على الإباحة أو الاستحباب أو الكراهة ، ضرورة أنّهم يعتمدون على الظنون في الجميع.

وقضيّة ذلك أن يقصد التعميم بالنسبة إلى الجميع ، ولا ينافي كون مدلولها الإباحة وغيرها من الأحكام الغير الإلزاميّة وجوب العمل بها ، إمّا لأنّ وجوب العمل بالظنّ يراد به الاعتقاد بالمظنون على أنّه حكم اللّه ، أو التديّن به كذلك ، أو تطبيق العمل عليه في كلّ حكم بحسبه هذا.

ولكن يرد على التمسّك بقاعدة الاشتغال : أنّها لا تفيد التعميم بالمعنى المقصود ، وهو

ص: 358

أنّ الشارع أوجب علينا العمل بكلّ ظنّ على أن يكون الحكم الواقعي في واقعة العمل بكلّ ظنّ هو الوجوب ، وقاعدة الاشتغال غير متكفّلة لبيان ذلك ، بل لبيان طريق تحصيل البراءة اليقينيّة عمّا اشتغلت الذمّة به ، من العمل بالجملة المعيّنة من الظنون عند الشارع المبهمة عندنا.

هذا كلّه في التعميم وعدمه ، بناء على إهمال النتيجة المبنيّ على كون حكم العقل على وجه الكشف ، وأمّا على تقدير كونه من باب الجعل والحكومة على معنى إلزام العقل ، فقد يتكلّم في التعميم وعدمه بين أسباب الظنّ ، وقد يتكلّم فيهما بالنسبة إلى مراتبه.

أمّا الأوّل فقد يقال : بأنّه لا يتصوّر عدم التعميم بالنسبة إلى أسباب الظنّ ، المقصود من العمل به تحصيل الموافقة الظنّيّة المقدّمة على الموافقة الاحتماليّة ، كما أنّه لا يعقل عدم التعميم بالنسبة إلى أسباب العلم ، المقصود من العمل به تحصيل الموافقة العلميّة المقدّمة على الموافقة الظنّيّة على تقدير انفتاح بابه ، لاستقلال العقل بعدم الفرق بين أسبابه.

وفيه : نظر واضح ، فإنّ وجوب تقديم الموافقة الظنّيّة في نظر العقل إنّما هو ما دام وجوب الإطاعة باقيا ببقاء العلم الإجمالي ، وإذا فرض ارتفاع العلم الإجمالي فيما زاد على القدر المكتفى به ارتفع الوجوب عن الإطاعة ، فلا مقتضى لتقديم الموافقة الظنّيّة على الاحتماليّة.

وتوهّم : أنّ العقل إنّما يلزم على العمل بالظنّ لكونه أقرب إلى العلم المفروض انسداد بابه ، وهذا مناط عامّ لجميع أسبابه.

يدفعه : أنّ اعتبار الأقربيّة إلى العلم أيضا جهة لترجيح الموافقة الظنّيّة ، لأنّها أقرب إلى الموافقة العلميّة.

ومن هنا علم أنّ توجيه الجهة الباعثة على استقلال العقل بعدم الفرق بأنّ المقصود الانكشاف الظنّي فلا يعقل الفرق بين أسبابه ، كما لا فرق فيما كان المقصود الانكشاف الجزمي بين أسبابه أيضا ، لا ينفع في نفي الفرق ، لأنّ الانكشاف الظنّي أيضا كالانكشاف الجزمي إنّما يجب تحصيله حيثما أمكن لكونه مقدّمة للإطاعة الواجبة ، فيدور مدار بقاء وجوبها ببقاء العلم الإجمالي.

ولا حكم لوجوب التديّن بأحكام اللّه تعالى ولو إباحة ، ولا لوجوب الإقرار بكلّ ما جاء به النبيّ ، لكفاية الإجمال فيهما ، فلا مجال لأحد أن يقول إنّ من الموافقة الواجبة ما هو عمل القلب أو اللسان ، المتوقّف على معرفة تفاصيل الأحكام الّتي جاء بها النبيّ علميّة مع إمكانها ، أو ظنّية مؤدّية إلى حجّيّة كلّ ظنّ من أيّ أمارة حصل. فالوجه في تعميم حكم

ص: 359

العقل بالنسبة إلى الأسباب على ما يساعد عليه التأمّل هو التمسّك بالأدلّة النافية للعسر والحرج بالنسبة إلى ما يتوقّف عليه الاقتصار على القدر المكتفى به على تقدير كون حكم العقل مقصورا عليه ، من تعيين مقداره وتمييز مصاديقه وتشخيص موارده من المسائل وأسبابه من الأمارات ، فإنّ القدر المكتفى به مع ما زاد عليه مفهومان مجملان من الجهات المذكورة ، والاقتصار على الأوّل في العمل لا يتمّ إلاّ بعد التعيينات المذكورة ، وكلّ منها عسر شديد وحرج عظيم.

ولك أن تقول : بكونه متعذّرا عاديّا ، ولعلّه لم يحم حول شيء منها أحد ، ولا ريب أنّ الأدلّة النافية للعسر والحرج كما تنفي وجوب الاحتياط - حسبما تقدّم في مقدّمات دليل الانسداد - كذلك تنفي وجوب الاقتصار على القدر المكتفى به المتوقّف على الامور العسرة ، فالعقل لأجل ذلك مستقلّ في الإلزام على العمل بالظنّ بعدم الفرق بين أسبابه.

وأمّا الثاني : فمرجع الكلام فيه إلى أنّ الظنّ في موضوع قضيّة حكم [ العقل ] ، هو الظنّ القوي الاطمئناني ، الّذي ملاكه البلوغ إلى حدّ يزول معه التزلزل ويرتفع التحيّر ، أو هو الظنّ المطلق ولو كان ضعيفا ، فيجوز الاكتفاء به وإن أمكن تحصيل الظنّ القوي.

وعلى الأوّل فهل الظنّ الغير الاطمئناني في المسائل المظنونة بذلك الظنّ ، - بعد تعذّر الظنّ الاطمئناني بعدم وجود أمارة توجبه - ملحق بالشكّ في المسائل المشكوكة ، لخلوّها عن الأمارة الظنّيّة بالمرّة ، أو أنّه مرجع يجب العمل به خالف الاحتياط أو وافقه؟

فقد يقال : - بالنظر إلى أنّ مقتضى القاعدة العقليّة في أحكام اللّه المعلومة بالإجمال وجوب امتثالها العلمي التفصيلي ، ومع تعذّره بانسداد باب العلم فالامتثال العلمي الإجمالي الحاصل بالاحتياط ، بإتيان كلّما يحتمل الوجوب ، وترك كلّما يحتمل الحرمة ، ومع عدم إمكانه أو تعسّره فالامتثال الظنّي ، إلى ما لم يكن في العمل بالاحتياط عذر أو عسر فيعمل به حينئذ ، لأنّ المقدّمة النافية له من مقدّمات دليل الانسداد إنّما نفته على وجه الإيجاب الكلّي.

ومن المعلوم أنّ إبطال الموجبة الكلّيّة ليس إثباتا للسالبة الكلّيّة - بوجوب الاقتصار على الظنّ القوي الاطمئناني ، تعليلا : بأنّ العقل حاكم بأنّ الظنّ القوي الاطمئناني أقرب إلى العلم عند تعذّره ، وبأنّه إذا لم يمكن القطع بموافقة أحكامه تعالى وجب تحصيل الموافقة لها بالظنّ الأقرب إلى العلم ، وحينئذ فإن قام على خلاف مقتضى الاحتياط في خصوص المسألة ، أو فيها من حيث كونها إحدى المسائل المقطوع إجمالا بتحقّق تكليف إلزامي فيها

ص: 360

أمارة ظنّية توجب الظنّ الاطمئناني بمطابقة الواقع أخذنا بها وتركنا من جهتها الاحتياط ، وكلّ مسألة لم يوجد فيها نحو هذه الأمارة ، يعمل فيها بالاحتياط سواء لم يوجد فيها أمارة أصلا كالمسائل المشكوكة ، أو كانت ولم تبلغ مرتبة الاطمئنان.

نعم لو لم يمكن الاحتياط من جهة دوران الأمر بين المحذورين ، تعيّن البناء على التخيير في المسائل المشكوكة ، والعمل بالظنّ في المظنونة بالظنّ الغير الاطمئناني وإن كان في غاية الضعف ، لأنّ الموافقة الظنّية أولى من غيرها.

أقول : وهذا التفصيل عندنا بمعزل عن التحقيق ، لما يرد عليه بظاهره من خروج الأصل القطعي وهو أصل البراءة - على ما بيّناه عند الكلام في مقدّمات دليل الانسداد - في الشبهات الحكميّة بلا مورد ، وهو خلاف مقتضى العقل والنقل بل الإجماع ، حتّى على طريقة الأخباريّة ولكن في الشبهات الوجوبيّة ، فهو بالإعراض عنه أحرى.

وعمدة المطلب في المقام هو النظر في ثبوت الترتّب بين الظنّ الاطمئناني والظنّ الغير الاطمئناني ، على معنى عدم جواز العدول إلى الثاني ولا الاكتفاء به إلاّ إذا تعذّر الأوّل وعدم ثبوته.

فنقول : إنّ المسائل الغير العلميّة بعد استفراغ الوسع لها في الأمارات الظنّيّة إمّا أن لا يوجد فيها أمارة أصلا ، فالمرجع فيها إلى الاصول الأربع - وهي الاستصحاب وأصالة البراءة وأصالة الاشتغال وأصالة التخيير - أو يوجد فيها من الأمارات الموجبة للظنّ الاطمئناني تعيّن متابعتها والعمل بالظنّ الحاصل منها وافق الاحتياط أو خالفه ، أو يوجد فيها من الأمارات الموجبة للظنّ الغير الاطمئناني ، فإن كانت بحيث علم عدم إمكان حصول أمارة اخرى موجبة للظنّ الاطمئناني ، تعيّن متابعتها والعمل بالظنّ الحاصل منها وافق الاحتياط أو خالفه مع جواز العدول إلى العمل بالاحتياط وهو أحوط ، أو كانت بحيث أمكن حصول أمارة اخرى موجبة للظنّ الاطمئناني فيها.

فإن كانت تلك الأمارة الممكن حصولها مطابقة لها جاز متابعتها والعمل بالظنّ الحاصل منها أيضا ، ولا يجب تحصيل ما يمكن حصوله من الأمارة الموجبة للظنّ الاطمئناني ، كما في تقليد غير الأعلم الموافق للأعلم ، وإن كانت مخالفة لها مع موافقة الأوّل للاحتياط ومخالفة هذه له جاز العمل بها أيضا ، لأنّه في معنى العمل بالاحتياط ، كما جاز العمل بالاحتياط مع فرض حصول الظنّ الاطمئناني على خلافه.

وهذه الأقسام كلّها خارجة عن محلّ البحث في الترتّب بين الظنّ الاطمئناني وغيره ،

ص: 361

بل محلّ البحث صور اخرى ، وهي ما لو خالفت أمارة الظنّ الغير الاطمئناني للاحتياط مع موافقة أمارة الظنّ الاطمئناني له ، أو عدم مخالفة شيء منهما الاحتياط لعدم إمكانه ، إمّا لدوران الأمر بين المحذورين بأن يدلّ إحداهما على الوجوب واخراهما على الحرمة ، أو لدوران المكلّف به بين المتبائنين ، بأن يدلّ إحداهما على أنّ المكلّف به هذا ، والاخرى على أنّه ذاك ، كما في القصر والإتمام ، والظهر والجمعة وما أشبه ذلك.

وحينئذ فالذي يساعد عليه النظر ، كون حكم العقل مقصورا على الظنّ الاطمئناني ، لأنّه أقرب إلى العلم ، ومعناه الأقربيّة إلى الواقع ، فإنّه إذا تعذّر إدراك الواقع بطريق العلم تفصيلا أو إجمالا تعيّن في حكم العقل المستقلّ إدراكه بالأقرب إلى العلم الّذي معناه الأقرب إلى نفس الواقع ، فإنّ الرجحان في الظنّ الاطمئناني أكثر منه في غيره لكون احتمال الخلاف في غيره أقوى منه فيه ، هذا.

ولكنّ الإنصاف : أنّه لا جدوى لما ذكرنا من التفصيل ، بالنظر إلى أنّ موضوع دليل الانسداد هو الظنّ بنفس الواقع الّذي لا يكون إلاّ فعليّا ، ومن المستحيل اجتماع ظنّين في طرفي النقيض ، فالوجه أن يقال : إنّ الواجب تحصيله على المجتهد هو الظنّ القوي الاطمئناني لأنّه الأقرب إلى العلم ، وإن لم يمكن إلاّ الظنّ الغير الاطمئناني فالعمل به إذا وافق الاحتياط أو فيما لم يمكن الاحتياط لدوران الأمر بين المحذورين حسن ، وهو في غيرهما في حكم الشكّ فيدخل في أصالة التحريم ، ويرجع في مورده إلى الاصول.

وأمّا توهّم : وجوب العمل بالاحتياط في المظنونات بالظنون الغير الاطمئنانيّة ، وفي المشكوكات إلى أن يلزم منه العسر ، فيرجع حينئذ إلى الاصول ، أو إلاّ أن لا يمكن الاحتياط فيبنى على الظنّ في المظنونات ، وعلى التخيير في المشكوكات ، فممّا لا مقتضى له من عقل ولا نقل ، لعدم بقاء العلم الإجمالي بوجود التكاليف الإلزاميّة بعد العمل بالظنون الاطمئنانيّة على كثرتها المخرجة للباقي عن طرف العلم الإجمالي ، فإنّ أخبار الآحاد الموثوق بصدورها من الصحاح ، والموثّقات والحسان والضعاف المنجبرة بعمل الأصحاب أو الأكثر منهم ، أو جماعة من معتبريهم ، أو المعتضدة بما يوجب الاطمئنان منضمّة إلى الإجماعات المنقولة إلاّ ما شذّ منها لخصوصيّة في المورد مانعة من حصول الاطمئنان ، والشهرات المحقّقة إلاّ ما قلّ منها أيضا ، والأمارات المتراكمة الموجبة بتراكهما الاطمئنان من الاستقراء والأولويّة ، وظهور الإجماع ونفي الخلاف والشهرة المحكيّة ، وفتوى من

ص: 362

يعتمد على فتاويه عند إعواز النصوص ، كافية وافية بمعظم الأحكام جدّا.

وبالجملة : فكثرة الظنون الاطمئنانيّة في الأخبار ، وغيرها من الأمارات بحيث يرجع في الموارد الخالية عمّا يوجبه إلى الاصول وإن وجد فيها ظنون لا تبلغ مرتبة الاطمئنان ، ممّا لا ينبغي الاسترابة فيه.

تذنيب :

ما تقدّم من الكلام إنّما هو في الظنّ المتعلّق بنفس الواقع ، وأمّا الظنّ المتعلّق بطريقه حيث لم يفد الظنّ بالواقع ، فلم نقف في الوجوه العقليّة ولا النقليّة على ما يقتضي حجّيّته بحيث يخرج معه الأمارة المظنون كونها طريقا عن أصالة حرمة العمل بما وراء العلم ، وتوهّم عموم دليل الانسداد وجريانه فيه ، مدفوع : بمنع العلم الإجمالي بنصب الطرق الغير العلميّة إلى الأحكام الواقعيّة.

لا يقال : إنّ الظنّ الاطمئناني الحاصل من أمارة ، أو أمارات إذا تعلّق بحجّيّة أمارة كالإجماع المنقول أو الشهرة مثلا ، كان في حكم الظنّ الاطمئناني المتعلّق بنفس الواقع في كونه مبرئ للذمّة ، وكما أنّ العمل بالظنون المتعلّقة بنفس الواقع يوجب براءة الذمّة عن الأحكام المعلومة بالإجمال ، فكذلك الأخذ بمؤدّيات الأمارة المظنون كونها طريقا يوجبها ، لأنّها دعوى بلا شاهد وقياس مع الفارق ، فإنّ الظنّ بنفس الواقع إنّما يوجب البراءة اليقينيّة لاستقلال العقل بملاحظة مقدّمات دليل الانسداد بأنّ الشارع بعد تعذّر العلم التفصيلي وتعسّر العلم الإجمالي أو سقوط اعتباره ، اكتفى في موافقة أحكامه المعلومة بالإجمال بالموافقة الظنّية ، وأقام الظنّ فيها مقام العلم بها.

وأمّا الظنّ بحجّيّة الأمارة ، فكون الأخذ بمؤدّى متعلّقها مبرءا إمّا من جهة كون مؤدّاها نفس الواقع ، أو من جهة كونه بدلا عنه ، ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلضرورة عدم الملازمة بين مؤدّاها وبين الواقع ، وإلاّ كان معلوما أو مظنونا ، والمفروض أنا نتكلّم على تقدير عدم اتّفاق الظنّ منها بنفس الحكم الواقعي ، وغايته الاحتمال فيكون الأخذ به موافقة احتماليّة ، فكيف يتصوّر كونها مبرئة للذمّة بطريق اليقين ، مع عدم دليل على اكتفاء الشارع بها.

وأمّا الثاني : فلأنّ البدليّة عن الواقع - مع ابتنائها على الجعل الموضوعي في الأمارات ،

ص: 363

وقد ظهر بطلانه في مباحث حجّيّة القطع ، لكونه من التصويب الباطل - لكونها على خلاف الأصل يحتاج إلى دليل ، وأيّ دليل دلّ عليه؟

فإن قلت : دلّ عليه دليل الانسداد.

قلنا : دليل الانسداد كما أشرنا اليه سابقا غير جار في الظنّ في الطريق.

أمّا أوّلا : فلانتفاء العلم الإجمالي بنصب الطرق الغير العلميّة.

وأمّا ثانيا : فلأنّ مناط حكم العقل بملاحظة مقدّمات الدليل ، كون الظنّ أقرب إلى العلم ومعناه الأقربيّة إلى الواقع ، وقضيّة البدليّة هو المغايرة والبينونة ، فكيف يشمله الحكم المنوط بالأقربيّة؟

المقام الثالث :

فيما قام دليل قطعي على منع العمل ببعض الظنون كالقياس ونحوه ، فكيف يصير خروج ذلك عن دليل الانسداد بحيث لا يلزم تخصيص في الدليل العقلي؟ وفيما قام ظنّ على عدم اعتبار ظنّ آخر ، ولا ريب في عدم إمكان العمل بهما جميعا ، فهل يطرحان معا أو يرجّح الظنّ المانع أو الممنوع ، أو يرجع إلى الترجيح؟ وجوه بل أقوال ، ففي المقام مطلبان :

في كيفيّة خروج الظنّ القياسي عن دليل الانسداد

المطلب الأوّل :

في بيان كيفيّة خروج القياس ونحوه عن دليل الانسداد بحيث لا يلزم فيه التخصيص ، فنقول : إنّ من القضايا المشتهرة عندهم المسلّمة لديهم عدم جواز التخصيص في الدليل العقلي وجوازه في الأدلّة اللفظيّة ، للزوم التناقض في الأوّل ، من جهة أنّ قضيّة حكم العقل إذا كانت محصورة كلّيّة لا تكون إلاّ بشمول الحكم العقلي لجميع أفراد الموضوع شمولا واقعيّا ، بحيث يحصل القطع بذلك ، ولو أخرج منه حينئذ بعض الأفراد بالاستثناء ونحوه ، بإعطاء نقيض ذلك الحكم له يلزم التناقض ، وهو اختلاف القضيّتين بحيث يلزم من صدق إحداهما كذب الاخرى ، وعدم لزومه في الثاني لعدم كون دخول الفرد المخرج في العموم دخولا واقعيّا تابعا لإرادة اللافظ ، بل هو دخول صوري تابع لوضع اللفظ الموجب لظهوره في إرادة العموم من دون أن يكون مرادا في الواقع ، وإذا أخرج الفرد حينئذ فقد أخرج عمّا هو ظاهر اللفظ ، لا عمّا هو المراد في الواقع ، فالحكم ليس بشامل له في الواقع ، حتّى يلزم

ص: 364

من إثبات نقيضه له التناقض.

وتوهّم لزومه في المقام مبنيّ على جعل نتيجة دليل الانسداد مطلقة ، على معنى المحصورة الكلّيّة ، بأن يحكم العقل بملاحظة مقدّمات ذلك الدليل بوجوب العمل بكلّ ظنّ ، سواء فرض كونه على وجه الكشف أو من باب الحكومة ، فيندرج الظنّ القياسي في عموم ذلك الحكم وإلاّ لم تكن القضيّة كلّيّة ، خصوصا إذا كان مناط حكمه كون العمل به إطاعة ظنّيّة ، أو كون الظنّ أقرب إلى العلم.

والتحقيق في دفعه : منع الملازمة ، لمنع شمول الحكم العقلي للظنّ القياسي ونحوه ممّا يقطع بمنع الشارع للعمل به بالخصوص ، فإنّ معنى دوران نتيجة الدليل هنا بين الجزئيّة والكلّيّة ، دوران حكم العقل بوجوب العمل بالظنّ بين البعض أو الجميع من الظنون المحتملة الحجّيّة ، المنقسمة عندهم إلى مظنون الاعتبار ومشكوكه وموهومه.

والمفروض أنّ موضوع دليل الانسداد أيضا هو هذه الظنون ، ومن المعلوم بالبداهة عدم اندراج الظنّ القياسي ونحوه في عنوان هذه الظنون ، فلا إخراج ولا تخصيص بل هو خارج من موضوع القضيّة من أصله ، ولو جعلنا نتيجة الدليل مهملة ثمّ ضممنا إليها شيئا من المقدّمات المعمّمة المتقدّمة لتعميم حكم العقل بالنسبة إلى جميع الظنون لم يدخل فيه الظنّ القياسي ونحوه أيضا ، كما يظهر بأدنى تأمّل.

وبالجملة : هذا الظنّ لا يدخل في عموم حكم العقل على تقدير كلّيّة النتيجة ، ولا في التعميم المستفاد من إحدى مقدّماته على تقدير إهمالها ، حتّى يحتاج إلى إخراج ويلزم منه إشكال التخصيص في الدليل العقلي.

والسرّ في عدم دخوله في التعميم ، عدم شمول شيء من مقدّماته له ، أمّا مقدّمة الترجيح بلا مرجّح فلعدم لزومه بتعيين ما عداه للعمل ، لكفاية منع الشارع من العمل به في كونه مرجّحا لما عداه ، بل ربّما يكتفى في مقام الترجيح بظنّ منع الشارع بالخصوص ، بل احتماله فضلا عن القطع به.

وأمّا مقدّمة عدم الكفاية ، فلوضوح [ كفاية ] ما عداه من الظنون في معظم الأحكام ، بحيث لا يلزم بالرجوع في موارد القياس إلى الاصول محذور أصلا.

وأمّا الإجماع المركّب ، فلمعلوميّة الإجماع على الفرق ، فإنّ كلّ من فتح باب الظنّ المطلق وجوّز العمل به منع العمل به.

ص: 365

وأمّا قاعدة الاشتغال ، فلأنّ مجراها كلّ ظنّ محتمل الوجوب ، وهذا مقطوع الحرمة.

وأمّا الإغراء بالجهل ، والتكليف بما لا يطاق على ما اعتمدنا عليه في التعميم فلوضوح عدم كونه من الجملة المعيّنة عند الشارع المجهولة عندنا ، حتّى يلزم من وجوب الاقتصار عليه الإغراء [ بالجهل ] والتكليف بما لا يطاق.

وقيل على تقدير كون مقدّمات دليل الانسداد موجبة لحكومة العقل المفروض كونها مطلقة ، يشكل توجيه خروج القياس وأمثاله ممّا يقطع بعدم اعتباره وحرمة العمل به من الظنون ، لئلاّ يلزم منه التخصيص في الدليل العقلي المؤدّي إلى التناقض ، حتّى أنّ المتعرّضين لدفع هذا الإشكال والجواب عن ذلك السؤال ذكروا في توجيهه وجوها :

منها : ما ذكره القمّي رحمه اللّه من منع حرمة العمل بالقياس في أمثال زماننا ، لأنّ دليله إن كان الأخبار (1) الناهية عن العمل به ، فهي مسوقة لردّ العامّة حيث خالفوا أئمّتنا ، وأعرضوا عن أهل الذكر الّذين أمر اللّه بسؤالهم ، وتركوا الثقلين بتركهم الثقل الأصغر الّذي عنده علم الثقل الأكبر ، فاتّبعوا آرائهم وركنوا إلى أقيستهم فضلّوا أو أضلّوا ، وإلى ذلك أشار النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم في جملة حديث بقوله : « برهة يعملون بالقياس » (2) وكذلك مولانا أمير المؤمنين عليه السلام بقوله : « أنّ قوما اعيتهم الأحاديث أن يحفظوها وأعوزتهم النصوص من أن يعوها (3) فتمسّكوا بآرائهم (4) » الحديث.

فلا تشملنا لعدم مخالفتنا الأئمّة وإعراضنا عن أهل الذكر وتركنا الثقلين ، وإن كان الإجماع والضرورة عند علماء المذهب كما ادّعي ، فقيامهما في كلّ زمان محلّ المنع ، كيف فأيّ إجماع دلّ وأيّ ضرورة قضت بحرمة العمل بما يظنّ من جهة القياس لو فرض انسداد باب الظنّ أيضا ، وانحصار طرقه في القياس لعامّة المكلّفين ، أو لمكلّف خاصّ باعتبار بعده عن بلاد الإسلام (5).

وفيه : أنّ منع شمول الأخبار لأمثال زماننا خلاف الإنصاف ، كيف وأنّ أكثرها مطلقة إطلاقا شاملا لجميع الأزمان ، وجملة منها معلّلة بعلل لا يعقل فيها الفرق فيها بين الأزمان ،

ص: 366


1- الوسائل 27 : 38 / 2 و 3 و 4 و 10 و 11 و 15 و 18 و 20 ، ب 6 من أبواب صفات القاضي.
2- بحار الأنوار 2 : 308 / 68.
3- وعى يعي من الاستماع وجمعه يعوا.
4- بحار الأنوار 2 : 84 / 9 والمستدرك 17 : 308 / 6.
5- قوانين الاصول 1 : 449.

كقولهم عليهم السلام : « إنّ دين اللّه لا يصاب بالعقول » (1).

وقوله عليه السلام : « لا شيء أبعد من عقول الرجال عن دين اللّه » (2).

وقوله عليه السلام : « السنّة إذا قيست محق الدين » (3).

وقوله عليه السلام : « كان ما يفسده أكثر مما يصلحه (4).

وقوله عليه السلام : « أوّل من قاس الشيطان » (5) وما أشبه ذلك.

وأمّا منع الإجماع والضرورة عند علماء المذهب مكابرة ، فإنّ معاقد الإجماعات المنقولة في ذلك مطلقة ، وضرورة المذهب في الجملة معلومة ، وممّا يقضي الضرورة ببطلانه ما لزم القول بدخول القياس في مطلق الظنّ المحكوم بحجّيّته العمل بالقياس المفيد للظنّ في مقابل الخبر الصحيح.

ومنها : ما ذكره الفاضل المذكور أيضا من منع حصول الظنّ من القياس ، ولا سيّما مع ملاحظة أنّ مبنى الشرع على التفريق بين المتّفقات والجمع بين المختلفات ، ولا سيّما أيضا مع ملاحظة قولهم عليهم السلام : « أنّ دين اللّه لا يصاب بالعقول ، وأنّه ليس شيء أبعد من عقول الرجال عن دين اللّه ، وأنّ السنة إذا قيست محق الدين » وغيره ممّا دلّ على غلبة عدم مصادفة الواقع في العمل بالقياس (6).

وفيه : أيضا أنّ منع حصول الظنّ من القياس بقول مطلق مكابرة للوجدان ، ودعوى منع كون مبنى الشرع على التفريق والجمع من حصوله ، مدفوعة : بمنع كون مبنى الشرع على ذلك مطلقا.

نعم قد يتّفق فيه أنّ الشارع جمع بين المختلفات وفرّق بين المتّفقات ، وهذا في جنب ما فرّق فيه بين المختلفات وجمع بين المتّفقات ليس إلاّ أقلّ قليل.

نعم ملاحظة الأخبار المذكورة ربّما توهّن القياس في إفادة الظنّ ، وربّما توجب ارتفاع الظنّ الحاصل منه في بادئ الأمر ، وأمّا منعه من حصوله دائما فلا ، كيف وقد يحصل منه

ص: 367


1- كمال الدين : 324 / 9 ، بحار الانوار : 2 : 303 / 41.
2- الوسائل : 27 / 203 / 69 و 73 ، ب 13 من أبواب صفات القاضي.
3- الوسائل : 27 / 41 / 10 ب 6 من أبواب صفات القاضي.
4- الوسائل : 27 : 25 / 13 ب 4 من أبواب صفات القاضي.
5- الوسائل 27 : 46 / 24 ، ب 6 من أبواب صفات القاضي.
6- قوانين الاصول 1 : 448 و 2 : 112.

القطع - على ما قيل - كما في تنقيح المناط القطعي مثلا ، مع أنّ الأولويّة الظنّيّة المعدودة عندهم من الظنون

المطلقة ليست إلاّ من القياس المفيدة للظنّ الّذي منشؤه ملاحظة العلّة المستنبطة ، وأمّا آكديّة العلّة في الفرع فلا مدخليّة له في حصول الظنّ وعدمه ، فتأمّل.

ومنها : ما ذكر الفاضل المذكور أيضا ، من « منع انسداد باب العلم بالنسبة إلى موارد القياس ، فإنّ الأدلّة القطعيّة القائمة بمنع العمل به ، أوجب لنا العلم بأنّ الشارع أرجعنا في موارده إلى الأدلّة السمعيّة والاصول اللفظيّة والاصول العمليّة ، فلا يجري فيه الدليل الّذي عمدة مقدّماته انسداد باب العلم » (1).

وفيه : أيضا أنّ هذا ليس إلاّ تقريرا للإشكال وتكريرا للسؤال ، فإنّ العلم الحاصل من الأدلّة المانعة بإرجاع الشارع هو الباعث على إخراج القياس من عموم حكم العقل ، ودعوى خروجه عن موضوع ذلك الحكم وهو مقدّمة انسداد باب العلم ، مدفوعة : بأنّ هذه المقدّمة عبارة عن انسداد باب العلم بالأحكام الواقعيّة.

ولا ريب أنّ العلم المفروض حصوله في موارد القياس من الأدلّة المانعة من العمل به ، ليس علما بالأحكام الواقعيّة لتلك الموارد.

ومنها : ما ذكره الفاضل المذكور أيضا ، من « أنّ التكليف بما لا يطاق وانسداد باب العلم وبقاء التكليف أوجب جواز العمل بما يفيد الظنّ ، يعني في نفسه ، ومع قطع النظر عمّا يفيد ظنّا أقوى.

وبالجملة ما يدلّ على مراد الشارع ولو ظنّا ، ولكن لا من حيث إنّه يفيد الظنّ ، لا أنّه يوجب جواز العمل بالظنّ المطلق النفس الأمري ، وهذا المعنى قابل للاستثناء فيقال إنّه يجوز العمل بكلّ ما يفيد الظنّ بنفسه ويدلّ على مراد الشارع إلاّ بالقياس ، وبعد وضع القياس عن البين ، فإذا تعارض باقي الأدلّة المفيدة للظنّ فحينئذ يعتبر الظنّ النفس الأمري » (2) انتهى.

وذكر في الحاشية - في توضيح قوله : وهذا المعنى قابل للاستثناء » - : « أنّه استثناء من الدالّ على الحكم ، فالمستثنى منه هو أسباب الظنّ لذواتها لا باعتبار افادتها الظنّ الفعلي ، فيكون المستثنى أيضا ذات القياس لا [ وصف ] الظنّ الحاصل منه فعلا » (3).

ص: 368


1- قوانين الاصول : 1 : 448 - 449 و 2 : 112.
2- قوانين الاصول 1 : 4401 و 2 : 114.
3- قوانين الاصول 1 : 448.

ويمكن أن يقرّر محصّل مرامه بوجهين :

الأوّل : أنّ دليل الانسداد بمقدّماته مفروض في أسباب الظنّ الّتي بطبائعها ولذواتها تفيد الظنّ ، بأن تكون الذات فيها مقتضية لحصول الظنّ ، وإن لم يحصل في بعض الأحيان لمانع ، فيخرج عنها القياس لعدم إفادته الظنّ بطبعه ولذاته ، وعدم كون ذاته مقتضية له ، وإن كان قد يفيده من باب المقارنة الاتّفاقيّة ، والمنع في الأدلّة المانعة لأجل الإرشاد إلى ذلك والتنبيه عليه ، ومرجعه إلى رفع توهّم كونه من الأسباب المفيدة للظنّ لذواتها ، فيكون استثنائه المفروض مع دليل الانسداد للانقطاع (1).

وثانيهما : أنّ الشارع جعل لنا أحكاما ، وأرادها منّا من الأسباب المفيدة للظنّ ، الّتي يقال لها : الأدلّة الدالّة على مراد الشارع ظنّا ، فدليل الانسداد مفروض في الأسباب المفيدة للظنّ بالأحكام على أنّها مرادة للشارع منها ، فيخرج منها القياس ، فإنّه وإن كان قد يفيد الظنّ بالحكم ، ولكن لا من حيث إنّه مراد منه ، فإنّ الأدلّة المانعة من العمل به لبيان أنّ الأحكام المجعولة لموارد القياس لم يردها الشارع من القياس.

وعلى أحد هذين التوجيهين ينطبق أيضا قوله في موضع آخر : « أنّ القياس مستثنى من الأدلّة الظنّيّة ، لا أنّ الظنّ القياسي مستثنى من مطلق الظنّ » والاستثناء في الموضعين على كلا التوجيهين عبارة عن التنبيه على خروج القياس من موضوع حكم العقل لا عن الإخراج من حكمه.

وعلى ما بيّناه فلا ينبغي دفع كلامه « بأنّ نتيجة المقدّمات المذكورة لا تتغيّر بتقريرها على وجه دون وجه ، فإنّ مرجع ما ذكر من الحكم بوجوب الرجوع إلى الأمارات الظنّيّة في الجملة إلى العمل بالظنّ في الجملة ، إذ ليس لذات الأمارة مدخليّة في الحجّيّة في لحاظ العقل ، والمناط هو وصف الظنّ سواء اعتبر مطلقا ، أو على وجه الإهمال.

وقد تقدّم أنّ النتيجة على تقدير الحكومة ليست مهملة ، بل هي معيّنة للظنّ الاطمئناني مع الكفاية ومع عدمها فمطلق الظنّ ، وعلى كلا التقديرين لا وجه لإخراج القياس.

وأمّا على تقرير الكشف فهي مهملة لا يشكل معها خروج القياس ، إذ الإشكال مبنيّ على

ص: 369


1- أي يكون الاستثناء المفروض حينئذ على طريقة الاستثناء المنقطع وهو إخراج القياس عن موضوع حكم العقل الّذي هو مورد دليل الانسداد لا عن حكمه ليكون تخصيصا في الدليل العقلى.

عدم الإهمال وعموم النتيجة » إنتهى (1) ، كما صنعه الشيخ الاستاد قدس سره.

بل الوجه في دفعه أوّلا : أنّ صرف دليل الانسداد عن نفس الظنّ إلى أسبابه غير جيّد ، لأنّه خلاف ما علم ضرورة من كون موضوع حكم العقل هو صفة الظنّ لا سببه ، ولذا كان مناط حكم العقل بوجوب العمل به كونه امتثالا ظنّيّا مقدّما على الامتثال الاحتمالي.

وثانيا : عدم جدواه بشيء من التوجيهين في دفع الإشكال.

أمّا على التوجيه الأوّل : فلأنّه إن اريد من عدم كون القياس مفيدا للظنّ بطبعه ولذاته ، أنّه لا يفيده لأجل ملاحظة منع الشارع من العمل به ، أو من جهة الأخبار المانعة من العمل به ، ففيه : أنّ عدم حصول الظنّ منه لمانع لا ينافي كون ذاته مقتضية للظنّ.

وإن اريد أنّه لا يفيده مطلقا ولو مع قطع النظر عن منع الشارع والأخبار المانعة ، فهو خلاف الإنصاف ، بل نحن ندرك بالوجدان أنّ الذهن عند النظر في القياس يتسارع إليه الظنّ أكثر ممّا يتسارع إليه عند النظر في أكثر ما عداه من الأمارات ، فهو أيضا ممّا يفيد بطبعه ولذاته الظنّ بالحكم.

وأمّا على التوجيه الثاني : فلأنّ كون الأحكام المجعولة الإلهيّة مرادة من الأسباب الظنّيّة ، فتكون تلك الأسباب أدلّة دالّة على مراد الشارع ظنّا إمّا أن يحرز بدليل الانسداد أو بغيره ، ولا سبيل إلى الثاني لأنّه لو كان هناك ممّا عدا دليل الانسداد ما يدلّ على أنّ الشارع أراد أحكامه المجعولة من الأسباب المفيدة للظنّ ، لأغنى عن النظر في دليل الانسداد ، لكون أسباب الظنّ على هذا التقدير ظنونا خاصّة قائمة مقام العلم ، ومعه لا مجرى لدليل الانسداد.

وأمّا الأوّل فحكم العقل - بملاحظة بقاء الأحكام والتكاليف ، وفقد الطرق العلميّة وقبح تكليف ما لا يطاق ، وانحصار المناص في الأسباب الظنّيّة - بأنّ الشارع أرادها من تلك الأسباب ، وأنّه يجب العمل بها لأجل أنّها دالّة على مرادات الشارع منها يعمّ القياس أيضا ، لأنّه كغيره من الأسباب الظنّيّة ، وإنّما نعلم عدم كون الأحكام المجعولة لموارده مرادة منه بواسطة الأدلّة الناهية عن العمل به ، بحيث لولاها كان داخلا في عنوان الأسباب المفيدة للظنّ بالأحكام على أنّها مرادة منها ، الّذي هو موضوع حكم العقل على ما فرضه ، وهذا بعينه التخصيص في الدليل العقلي.

لا يقال : إنّ لكلامه قدس سره معنى ثالث وهو أن يكون موضوع حكم العقل الناشئ من

ص: 370


1- فرائد الاصول 2 : 525.

مقدّمات دليل الانسداد أسباب الظنّ من حيث ذواتها لا من حيث إفادتها ، فيكون الحكم العقلي القائم بتلك الانسداد نظير الإجماع القائم على وجوب العمل بها ، فكما أنّ الأدلّة المانعة من العمل بالقياس تكشف عن [ عدم ] اندراجه في معقد الإجماع (1) ، فكذلك في الحكم العقلي القائم بها تكشف عن عدم اندراجه في موضوع حكم العقل ، فلا يخصّص.

لأنّا نقول : إنّ هذا بقرينة التنظير بالإجماع يتمّ على تقدير الإهمال ، ليكون النتيجة وجوب العمل بأسباب الظنّ في الجملة ، فيصحّ حينئذ دعوى كشف الأدلّة المانعة من العمل بالقياس ، ولكنّه خارج عن مفروض السؤال ، لابتنائه على حكومة العقل ، مع كون حكمه على الوجه الكلّي ، ولا محيص حينئذ من التخصيص ، لأنّ من دأب العقل أنّه ما لم يحط في قضيّة حكمه بجميع أطراف القضيّة ، ولم يلاحظ جميع خصوصيّات موضوع القضيّة ومشخّصاته لم يحكم فيها بشيء إثباتا ونفيا ، وإذا كان قضيّة حكمه محصورة كلّيّة فلا يحكم فيها على الوجه الكلّي إلاّ بعد ملاحظة جميع أفراد الموضوع ملاحظة تفصيليّة ، أو إجماليّة بأن يلاحظ عامّا مندرجا فيه الجميع.

ففي المقام لابدّ أن يلاحظ ذوات أسباب الظنّ من حيث سببيّتها له ، فإذا لاحظها بهذه الحيثيّة وحكم عليها بوجوب العمل ، اندرج فيه القياس لا محالة ، فيكون المنع المستفاد من الأدلّة المانعة من العمل به تخصيصا في حكم العقل.

فإن قلت : إنّ العقل إنّما يلاحظ الأسباب المحتملة الحجّيّة من الحيثيّة المذكورة ، ويحكم عليها بوجوب العمل على الوجه الكلّي ، ومن المعلوم ضرورة حينئذ عدم دخول القياس في حكمه ، لخروجه عن موضوعه.

قلت : إذا كان مبنى دفع الإشكال على هذا الاعتبار ، فلا داعي إلى العدول عن الظنون في تقرير دليل الانسداد إلى أسبابها ، لرجوع البيان المذكور إلى ما قرّرناه في دفع الإشكال.

ومنها : ما نقله شيخنا من « أنّ دليل الانسداد إنّما يثبت حجّيّة الظنّ الّذي لم يقم على عدم حجّيّته دليل ، فخروج القياس على وجه التخصّص لا التخصيص.

توضيح ذلك : أنّ العقل إنّما يحكم باعتبار الظنّ ، وعدم الاعتناء بالاحتمال الموهوم في مقام الامتثال ، لأنّ البراءة الظنّيّة يقوم مقام البراءة العلميّة ، وأمّا إذا حصل بواسطة منع الشارع القطع بعدم البراءة بالعمل بالقياس ، فلا يبقى براءة ظنّيّة حتّى يحكم العقل بوجوبها.

ص: 371


1- وفي الأصل : « القياس » بدل « الإجماع » وهو سهو منه والصواب ما أثبتناه فى المتن.

وإن شئت فاستوضح ذلك من حكم العقل بحرمة العمل بالظنّ ، وطرح الاحتمال الموهوم عند انفتاح باب العلم في المسألة ، كما تقدّم في تقرير أصالة حرمة العمل بالظنّ ، فإذا فرض قيام الدليل من الشارع على اعتبار ظنّ ووجوب العمل به ، فإنّ هذا لا يكون تخصيصا في حكم العقل بحرمة العمل بالظنّ مع التمكّن من العلم ، لأنّ حرمة العمل بالظنّ مع التمكّن إنّما هو لقبح الاكتفاء بما دون الامتثال العلمي مع التمكّن من العلمي ، فإذا فرض الدليل على اعتبار ظنّ ووجوب العمل به صار الامتثال في العمل بمؤدّاه علميّا فلا يشمله حكم العقل بقبح الاكتفاء بما دون الامتثال العلمي ، وما نحن فيه على العكس من ذلك » (1) انتهى.

ومحصله : أنّ العقل إنّما يحكم بوجوب العمل بالظنّ لكونه براءة ظنّيّة ، والعمل بالقياس ليس براءة ظنّية ليشمله حكم العقل ، لمكان القطع بعدم البراءة الحاصل من منع الشارع الّذي هو مع الظنّ بالبراءة متنافيان.

وفيه : أنّ إنكار الظنّ بالبراءة بالعمل بالقياس مع الاعتراف بحصول الظنّ بالحكم الواقعي متنافيان يستحيل اجتماعهما ، لكون المراد بالبراءة هو الموافقة لحكم اللّه وجوبا كان أو حرمة أو استحبابا أو كراهة أو إباحة ، والظنّ بموافقة الحكم في العمل بالظنّ به لازم عقلي للظنّ به ، كما أنّ العلم بموافقته في العمل بالعلم به لازم عقلي للعلم به ، فالبراءة الظنّية كالبراءة العلميّة ليست بأمر جعلي ، حتّى يتبع منع الشارع من العمل بالعلم أو الظنّ وعدمه ، فإمّا أن يقال : بعدم حصول ظنّ بالحكم من القياس ، أو يقبل كون العمل به براءة ظنّيّة بمعنى الموافقة الظنّيّة ، والتفكيك بينهما بإثبات الأوّل ونفي الثاني تناقض.

وقد يجاب أيضا بما محصّله : أنّ حال الظنّ عند الانسداد كحال العلم عند الانفتاح ، وكما يقبح النهي عن العمل بالعلم على وجه الطريقيّة مع التمكّن منه لأنّه مفوّت للواقع وهو نقض للغرض ، فكذلك يقبح النهي عن العمل ببعض الظنون على وجه الطريقيّة مع عدم التمكن من العلم ، لأنّه مفوّت للواقع وهو نقض للغرض ، ومبناه على تسليم عدم لزوم التخصيص والتناقض بالبيان المذكور ، وقد عرفت لزومه أيضا.

ومنها : « أنّ النهي يكشف عن وجود مفسدة غالبة على المصلحة الواقعيّة المدركة على تقدير العمل به ، فالنهي عن الظنون الخاصّة في مقابل حكم العقل بوجوب العمل بالظنّ مع الانسداد ، نظير الأمر بالظنون الخاصّة في مقابل حكم العقل بحرمة العمل بالظنّ مع الانفتاح.

ص: 372


1- فرائد الاصول 1 : 525 - 526.

فإن قلت : إذا بني على ذلك فكلّ ظنّ من الظنون يحتمل أن يكون في العمل به مفسدة كذلك.

قلت : نعم ، ولكن احتمال المفسدة لا يقدح في حكم العقل بوجوب سلوك طريق يظنّ معه بالبراءة عند الانسداد ، كما أنّ احتمال وجود المصلحة المتداركة لمصلحة الواقع في ظنّ لا يقدح في حكم العقل بحرمة العمل بالظنّ عند الانفتاح ، وقد تقدّم في آخر مقدّمات الانسداد أنّ العقل مستقلّ بوجوب البراءة الظنّيّة مع عدم العلم ، ولا اعتبار باحتمال كون شيء آخر هو المتعبّد به غير الظنّ ، إذ لا يحصل من العمل بذلك المحتمل سوى الشكّ في البراءة أو توهّمها ، ولا يجوز العدول عن البراءة الظنّيّة اليهما » (1).

ومحصّله : أنّ العقل بملاحظة انسداد باب العلم يحكم بوجوب العمل بكلّ ظنّ ، من حيث إنّ فيه إدراكا لمصلحة الواقع ، أو المصلحة المتداركة لمصلحة الواقع ، وهذا لا ينافيه النهي عن القياس من حيث وجود مفسدة فيه غالبة على مصلحة الواقع ، فلا تخصيص لعدم وحدة الموضوع الّتي هي من شروط التناقض ، نظير حكم العقل بحسن كلّ صدق من حيث كونه صدقا ، الّذي لا ينافيه حكمه بقبح الصدق الضارّ من حيث كونه ضارّا ، من جهة تعدّد الموضوع باعتبار قيدي الحيثيّة ، وعلى عكسه قبح كلّ كذب وحسن الكذب النافع ، ويشكل : بأنّ الحيثيّة إذا كانت تعليليّة كما فيما نحن فيه ، فلا يجدي تعدّدها في تعدّد الموضوع.

والأولى أن يوجّه عدم التنافي : بأنّ العقل إنّما يحكم بوجوب العمل بكلّ ظنّ إدراكا لمصلحة الواقع ، أو ما يتدارك به تلك المصلحة ما لم يكن فيه مفسدة غالبة على مصلحة الواقع ، وإلاّ فيحرّم العمل فلا تنافي ، لكون علّة وجوب العمل مقيّدا بالخلوّ عن المفسدة الغالبة ، والنهي كاشف عن وجود المفسدة الغالبة ، فلا يكون مورده مشمولا لحكم العقل ، لانتفاء علّته باعتبار انتفاء قيدها.

هذا ولكنّ الشيخ الاستاد طاب ثراه زيّفه بعد ما كان يستحسنه في سابق الزمان بقوله : « إنّ ظاهر أكثر الأخبار الناهية عن القياس أنّه لا مفسدة فيه إلاّ الوقوع في خلاف الواقع ، وإن كان بعضها ساكتا عن ذلك ، وبعضها ظاهرا في ثبوت المفسدة الذاتيّة ، إلاّ أنّ دلالة الأكثر أظهر ، فهي الحاكمة على غيرها كما يظهر لمن راجع الجميع ، فالنهي راجع إلى سلوكه من باب الطريقيّة ، وقد عرفت الإشكال في النهي على هذا الوجه.

ص: 373


1- فرائد الاصول 1 : 528.

إلاّ أن يقال : إنّ النواهي اللفظيّة عن العمل بالقياس من حيث الطريقيّة لابدّ من حملها في مقابل العقل المستقلّ على صورة انفتاح باب العلم بالرجوع إلى الأئمّة عليهم السلام ، والأدلّة القطعيّة منها كالإجماع المنعقد على حرمة العمل به حتّى مع الانسداد لا وجه له غير المفسدة الذاتيّة ، كما أنّه إذا قام دليل على حجّيّة الظنّ مع التمكّن من العلم نحمله على وجود المصلحة المتداركة لمخالفة الواقع ، لأنّ حمله على العمل من حيث الطريقيّة مخالف لحكم العقل بقبح الاكتفاء بغير العلم مع تيسّره (1).

أقول : ويمكن الذبّ عن الإشكال الّذي أشار إليه بقوله : « وقد عرفت الإشكال في النهي عنه على هذا الوجه » - ، وهو لزوم تفويت الواقع الموجب لنقض الغرض من النهي عن العمل بالظنّ على وجه الطريقيّة مع الانسداد : بأنّه قد يجوز عند العقل الفرق والتفصيل بين الظنّ الغالب مطابقته الواقع ، والظنّ الغالب عدم مطابقته الواقع ، بايجاب العمل بالأوّل مراعاة لغلبة مطابقته ، والنهي عن العمل بالثاني لغلبة عدم مطابقته ، ولا قبح فيه ، ولا يستفاد من الأخبار الناهية عن القياس أزيد من غلبة عدم المطابقة فيه ، بل هذا صريح ما تقدّم من قوله عليه السلام : « كان ما يفسده أكثر ممّا يصلحه ».

نعم هذا لا يجدي مع انحصار الطريق في المسألة الفرعيّة في الظنّ القياسي.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ ما استشكله إنّما هو إشكال في جواز النهي على الوجه المذكور ، لا أنّه إلزام على بقاء إشكال التخصيص في حكم العقل على حاله ، فإنّه مندفع على كلّ حال ، فتأمّل.

ومنها : ما اعتمد عليه شيخنا قدس سره من « أنّ خصوصيّة القياس من بين سائر الأمارات هي غلبة مخالفته للواقع ، كما يشهد به قوله عليه السلام : « إنّ السنّة إذا قيست محق الدين » (2) ، وقوله : « كان ما يفسده أكثر ممّا يصلحه (3) » ، وقوله : « ليس شيء أبعد من عقول الرجال عن دين اللّه (4) » ، وغير ذلك وهذا المعنى خفي على العقل الحاكم بوجوب سلوك الطرق الظنّيّة عند فقد العلم ، فهو إنّما يحكم بها لإدراك أكثر الواقعيّات المجهولة بها ، فإذا كشف الشارع عن حال القياس وتبيّن عند العقل حاله ، فيحكم حكما إجماليّا بعدم جواز الركون إليه.

ص: 374


1- فرائد الاصول : 1 : 529.
2- الوسائل 27 : 41 / 10 ، ب 6 من أبواب صفات القاضي.
3- الوسائل 27 : 25 / 13 ، ب 4 من أبواب صفات القاضي.
4- الوسائل 27 : 203 / 69 و 73 ، ب 13 من أبواب صفات القاضي.

نعم إذا حصل الظنّ منه في خصوص مورد لا يحكم بترجيح غيره عليه في مقام البراءة عن الواقع ، لكن يصحّ للشارع المنع عنه تعبّدا ، بحيث يظهر منه : أنّي لا اريد الواقعيّات الّتي تضمّنها ، فيحسن له النهي عن العمل به في جميع موارده حتّى مورد حصل الظنّ منه بالواقع ، وإن فرض مطابقته الواقع في هذا المورد ، فالمحسّن لنهي الشارع عن سلوكه على وجه الطريقيّة كونه في علم الشارع مؤدّيا في الغالب إلى مخالفة الواقع.

والأصل في ذلك : أنّه كما أنّ العقل مستقلّ بإدراك حسن الوقوع في مفسدة قليلة دفعا للمفاسد الكثيرة ، وبإدراك حسن الوقوع في مفسدة يسيرة توصّلا إلى المصالح الكثيرة ، وبإدراك حسن تفويت محصلة قليلة دفعا للمفاسد الكثيرة ، وبإدراك حسن تفويت مصلحة يسيرة توصّلا إلى المصالح الكثيرة ، فكذلك مستقلّ بإدراك حسن أن ينهى الشارع عن سلوك طريق ظنّي يغلب مخالفته الواقع في جميع موارده حتّى مورد حصل منه الظنّ بالواقع وإن فرض مطابقته له ، إذ غاية ما يلزم منه تفويت مصلحة الواقع في ذلك المورد ، وهو إذا كان لدفع الوقوع في المفاسد الكثيرة اللازم من غلبة مخالفته الواقع ممّا لا قبح فيه ، بل قد عرفت استقلال العقل بحسنه ، ونظيره في الشرعيّات أنّه يصحّ للشارع أن يقول للوسواسي القاطع بنجاسة ثوبه « لا اريد منك الصلاة بطهارة الثوب » ، وإن كان ثوبه في الواقع نجسا حسما لمادّة وسواسه ، وفي العرفيّات ما لو نصب الرجل ولده الصغير في دكّانه ، وهو يعلم من حاله أنّه يبيع أمتعة الدّكان بحسب ظنونه القاصرة للمنفعة الّتي يغلب فيها المخالفة الموجبة لغلبة الخسارة ، فيصحّ له نهيه عن البيع بحسب ظنونه في جميع مواردها ، وإن لزم منه في بعض الموارد فوات المنفعة ، لأنّه تفويت منفعة يؤدّي إلى دفع الخسارات الكثيرة.

ولا ريب أنّ العقل بعد ما اطّلع على حال القياس بكشف الشارع عن غلبة مخالفته الواقع ، لا يعمّ حكمه القياس ولا الظنّ القياسي بوجوب سلوك الطرق الظنّيّة لإدراك أكثر الأحكام الواقعيّة المجهولة المسدود فيها باب العلم ، فلا تخصيص في حكم العقل أصلا.

وإن شئت قلت : إنّ حكمه بوجوب سلوك الطرق الظنّيّة مبنيّ على غلبة مطابقتها الواقع ، فيخرج عنها ما يغلب مخالفته له ، وقد كشف الشارع له عن كون القياس على هذه الحالة ، فليتأمّل (1).

ص: 375


1- فرائد الاصول 2 : 259 - 530 - 531 - نقلا بالمعنى.

في وجوب الأخذ بالظنّ المانع دون الظنّ الممنوع

المطلب الثاني :

فيما لو قام ظنّ بعدم حجّيّة ظنّ آخر ، على معنى منعه من العمل به ، وتحريمه إيّاه ، لا على عدم الدليل على حجّيّته كالشهرة القائمة على عدم حجّية الشهرة ، استنادا إلى عدم الدليل على الحجّيّة ، ويسمّى الظنّ الأوّل بالمانع والثاني بالممنوع ، ففي وجوب الأخذ بالظنّ الممنوع أو المانع ، أو بالأقوى منهما ، أو التساقط وجوه ، بل قيل أقوال :

وقد نسب شيخنا (1) أوّلها إلى بعض مشايخه (2) ، بناء منه على ما يراه من أنّ دليل الانسداد يثبت به حجّيّة الظنّ في الفروع لا في المسائل الاصوليّة ، والظنّ القائم بعدم حجّيّة ظنّ آخر ظنّ في المسألة الاصوليّة فلا اعتبار به ، فيتعيّن الأخذ بالظنّ الممنوع لأنّه ظنّ في المسألة الفرعيّة.

واللازم من مذهب (3) أهل القول بالظنّ في الطريق ثانيها ، لأنّه الّذي اقتضى دليل الانسداد اعتباره لا الظنّ بنفس الواقع ، بناء على أنّ الظنّ في الطريق أعمّ ممّا يفيد إثبات الطريق وما يفيد نفيه.

ومن مشايخنا من اختار الرجوع إلى الأقوى ، ممنوعا كان أو مانعا إن كان وإلاّ فالتساقط ، قال : « وإذا ظنّ بالشهرة نهى الشارع عن العمل بالأولويّة فيلاحظ مرتبة هذا الظنّ ، فكلّ أولويّة في المسألة كان أقوى مرتبة من ذلك الظنّ الحاصل من الشهرة اخذ به ، وكلّ أولويّة كان أضعف منه وجب طرحه ، وإذا لم يتحقّق الترجيح بالقوّة حكم بالتساقط ، لعدم استقلال العقل بشيء منهما حينئذ » (4).

أقول : وظنّي أنّ القولين الأوّلين خارجان عن مسألة مزاحمة الظنّ المانع للظنّ الممنوع ، لأنّ المنع أمر نسبي بين المانع والممنوع ، ولا يعقل تحقّقه مع عدم ثبوت حجّيّة أحدهما بدليل الانسداد.

وقضيّة بناء الأخذ بالظنّ الممنوع في القول الأوّل على عدم ثبوت حجّيّة الظنّ في المسائل الاصوليّة ، بقاء الظنّ الممنوع سليما عمّا يزاحمه ، لأنّ ما فرض كونه مانعا باق تحت أصالة التحريم ، فلا يعقل منه المنع من العمل بالظنّ في المسألة الفرعيّة ، كما أنّ قضيّة بناء الأخذ بالظنّ المانع في القول الثاني على عدم ثبوت حجّية الظنّ بنفس الواقع بدليل

ص: 376


1- فرائد الاصول 1 : 532.
2- هو شريف العلماء رحمه اللّه.
3- هو صاحب الفصول : 277.
4- فرائد الاصول 1 : 536.

الانسداد بقاء ذلك الظنّ في حكم الأصل ، سواء وجدت الأمارة الدالّة على حرمة العمل به أو لم توجد ، فيكون وجود الظنّ المانع بمثابة عدمه ، فلا منع بين الظنّين على القولين ، بل المزاحمة المنوط بها المنع مبتنية على ثبوت حجّيّة كلّ من الظنّين بدليل الانسداد ، بفرض جريانه في المسائل الفرعيّة والمسائل الاصوليّة معا.

وحينئذ يشكل الحال في تحقّق المنع ، بفرض كون الشهرة مثلا مانعة من العمل بالأولويّة ، لأنّ معنى ثبوت حجّيّة الأولويّة بدليل الانسداد وجوب العمل بالظنّ الحاصل منها ، ومقتضى ثبوت حجّية الشهرة المانعة به حرمة العمل به ، فيلزم التناقض في مدلول الدليل العقلي ، بل هو من اجتماع المتنافيين وهو محال ، وليس لقائل أن يقول : بأنّ الحجّيّة بدليل الانسداد إنّما ثبتت في نوعي الشهرة والأولويّة ، والتناقض إنّما يلزم من اجتماع الشخصين ، فنلتزم بخروج أحد الشخصين من دليل الانسداد دفعا لمحذور التناقض في مدلوله ، لأنّ خروج أحد الشخصين لابدّ له من مخرج ، وهو إمّا دخول الشخص الآخر فيه ، أو نفس تناقض المدلولين ولزوم اجتماع المتنافيين ، ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلأنّ دخول أحد الفردين عند التنافي في العامّ لا يصلح دليلا على خروج الفرد الآخر منه ، لكون أفراد العامّ متساوية الأقدام بالنسبة إلى عمومه ، وأنّه متساوي النسبة إلى الجميع ، فجعل أحد الظنّين مخرجا للظنّ الآخر من دليل الانسداد محال آخر.

وأمّا الثاني : فلأنّه يوجب التخصيص في الدليل العقلي وهو أيضا محال. إلاّ أن يذبّ : باعتبار كون الخروج الملتزم به خروجا عن موضوع الدليل العقلي لا من حكمه ، بدعوى : أنّ الأمارة المانعة - مع فرض اندراجها في دليل الانسداد بعنوان القطع - مع مزاحمتها للأمارة الممنوعة كالأولويّة في المسألة ، لها نوع حكومة بل ورود على الأمارة الممنوعة ، ومرجعها إلى رفعها لموضوع الدليل العقلي عن الأمارة الممنوعة ، إمّا لأنّها تمنع من حصول الظنّ منها ، وموضوع حكم العقل إنّما هو الظنّ الحاصل من الأمارة لا ذات الأمارة ، أو لأنّ دليل الانسداد إنّما قضى بوجوب العمل بالظنّ بالحكم لأنّه مصلحة ظنّيّة خالية عن أمارة المفسدة ، والأمارة المانعة توجب الظنّ بالمفسدة ، فيصير الحكم المظنون مصلحة ظنّيّة جامعها المفسدة الظنّية ، فالظنّ المفروض حينئذ لمجامعة الظنّ بالمفسدة لا يكون مشمولا لحكم العقل ، أو لأنّ دليل الانسداد إنّما قضى بحجّيّة الأمارات الظنّيّة لغلبة مطابقتها الواقع ، فيخرج منه ما يغلب مخالفته ، والأمارة المانعة كالشهرة القائمة بحرمة

ص: 377

العمل بالأولويّة مثلا كاشفة ظنّا عن غلبة مخالفتها الواقع ، فلا تكون مشمولة لحكم العقل.

وعلى جميع التقادير يتعيّن الأخذ بالظنّ المانع نظرا إلى حكومته ، وهذا هو المختار في المسألة ، غير أنّه مبنيّ على ثبوت حجّيّة الظنّ في المسائل الاصوليّة بدليل الانسداد ، وسيأتي تحقيق القول في ذلك إن شاء اللّه تعالى.

عدم الفرق على التعميم بين ما تعلّق الظنّ بنفس الحكم أو تعلّق بالموضوع

الأمر الثالث

مقتضى عموم نتيجة دليل الانسداد لكلّ ظنّ ، أو تعميمه بإحدى المعمّمات لكلّ ظنّ في الأحكام الشرعيّة ، عدم الفرق في وجوب العمل بالظنّ بالحكم الشرعي بين ما لو كان الظنّ به مستفادا من أمارة قائمة بنفس الحكم كالإجماع المنقول والشهرة وغيرهما في المسألة الفرعيّة ، وما لو كان مستفادا من أمارة مسوقة لبيان مسمّى اللفظ الوارد في الدليل - كتابا أو سنّة - باعتبار وضعه لغة ، كالصعيد إذا ظنّ من جهة قول لغوي ظنّي كونه لمطلق وجه الأرض ، وهو يؤدّي بملاحظة قوله تعالى : ( فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً ) (1) إلى الظنّ بجواز التيّمم على الحجر ولو مع وجود التراب.

أو عرفا كالدابّة إذا ظنّ من جهة الشهرة في استعمالات أهل العرف كونه بالوضع العرفي الثانوي للأنعام الثلاثة ، أعني الخيل والبغال والحمير ، فيحصل منه الظنّ بطهارة أبوالها مثلا ، من جهة النصّ الدالّ على طهارة بول الدابّة.

أو شرعا كما في الحقائق الشرعيّة إذا ظنّ من جهة الشهرة والغلبة في استعمالات الشارع وتابعيه كونها بالوضع الشرعي التعييني أو التعيّني للمعاني الشرعيّة ، فيحصل منه الظنّ بأحكام علّقت في الكتاب أو السنّة عليها.

أو من أمارة قائمة ببيان المراد من اللفظ الوارد في الدليل كتفسير الراوي للّفظ في المشترك ، وغلبة الإطلاق بالقياس إلى فرد في المتواطئ ، والشهرة في المجاز المشهور ، أو الأمر الواقع عقيب الحظر بالنسبة إلى الإباحة المطلقة ، أو الإباحة الخاصّة.

أو من أمارة متعلّقة بالموضوع الخارجي ككون الراوي عادلا أو إماميّا ، أو كون « أبي بصير » هو المرادي لا غير في المشتركات ، أو كون المرويّ عنه في المضمرات هو الإمام ،

ص: 378


1- سورة النساء : 43.

وما أشبه ذلك ممّا يحصل الظنّ به من القرائن الخارجيّة بحيث يلزم منه الظنّ بالحكم الشرعي من جهة رواية في سندها من ذكر ، وهو من الموضوعات الخارجيّة.

والضابط الكلّي : كلّ ظنّ في تشخيص الظواهر أو تعيين المرادات ، أو تميز الموضوعات الخارجيّة إذا تولّد منه الظنّ بالحكم الشرعي ، فإنّه من حيث كونه ظنّا بالحكم الشرعي حجّة ، ويجب العمل به لعموم وجوب العمل بالظنّ في الأحكام الشرعيّة الثابت بدليل انسداد باب العلم في الأحكام ، ولا حاجة في إثباته إلى كلفة إثبات انسداد باب العلم في اللغات وأوضاع الألفاظ والحقائق الشرعيّة والموضوعات الخارجيّة ، ولا إلى إحراز الانسداد الأغلبي فيها ، حتّى لو قلنا بانفتاح باب العلم في اللغات وأوضاع الألفاظ والمطالب الرجاليّة إلاّ في أقلّ قليل منها ولو موردا واحدا ، وجب العمل بالظنّ بالحكم الحاصل فيه من أمارة موجودة فيه بالفرض.

والسرّ فيه : ما تبيّن بما لا مزيد عليه ، من أنّ مناط حكم العقل بملاحظة انسداد باب العلم في الأحكام بوجوب العمل بالظنّ فيها كونه امتثالا ظنّيّا ، وموافقة ظنّيّة للأحكام ، وهذا المناط مطّرد في كلّ ظنّ بالحكم من أيّ سبب حصل ، وإن لم يكن من الأمارات المعدودة من أدلّة الأحكام.

وبما ذكرناه يعلم : أنّ الظنون الرجاليّة عندنا معتبرة من باب الظنّ الاجتهادي المعبّر عنه بالظنّ المطلق في الأحكام.

وعلى هذا فتزكية أهل الرجال وتعديلاتهم إنّما تعتبر من حيث اعتبار الظنّ المطلق في الأحكام ، لا من باب الشهادة ولا من حيث الرواية.

وقد ظهر من باب التنبيه : أنّ الظنّ في اللغات إذا استند إلى أمارة خارجيّة ، سواء رجع إلى إحراز الظواهر وإثبات الأوضاع ، أو إلى إحراز الدلالات وتشخيص المرادات من حيث هو ظنّ في اللغات ليس بحجّة ، كما تقدّم تحقيقه سابقا عندالكلام في الظنون المدّعى خروجها من أصالة التحريم ، بل في المجلّد الأوّل من الكتاب عند الكلام في حجّيّة قول أهل اللغة (1) ، وكذا الظنّ المطلق في مسائل اصول الفقه - وفاقا لشريف العلماء ومن تبعه - كما حقّقناه أيضا في ذيل البحث عن حجّيّة قول أهل اللغة ، لا لما استدلّ عليه من استلزام الحجّيّة عدمها - نظرا إلى نقل الإجماع وتحقيق الشهرة في عدم الحجّيّة ، وهذه أيضا مسألة

ص: 379


1- تعليقة على معالم الاصول 2 : 51 - 16.

اصوليّة يحصل منهما الظنّ فيها.

وقضيّة حجّيّة الظنّ في المسائل الاصوليّة حجّيّة الظنّ الحاصل منهما في هذه المسألة ، ويلزم عدم حجّيّة الظنّ فيها ، لمنع انعقاد الإجماع وتحقّق الشهرة في عدم الحجّيّة ، لكون أصل المسألة من المستحدثات.

ولو سلّم نقل الإجماع وحكاية الشهرة ، فلا تحصل منهما الظنّ بعدم الحجّيّة بعد مساعدة الدليل على الحجّيّة ، لأنّ مدرك الإجماع لو كان ، والشهرة لو حصلت إنّما هو أصالة التحريم ، بناء على عدم دليل على الحجّيّة ، فخرج من الأصل بل لأصالة التحريم وعدم شمول دليل الانسداد للظنّ في المسائل الاصوليّة.

فإنّ متوهّم الشمول ، إمّا أن يريد به جريان دليل الانسداد في نفس المسائل الاصوليّة كجريانه في المسائل الفرعيّة ، أو يريد به جريانه في الأحكام الشرعيّة المندرج فيها الأحكام الاصوليّة ، كحجّيّة الإجماع المنقول ، وحجّيّة خبر الواحد ، وحجّيّة الشهرة ، وحجّيّة الاستقراء ، ونحو ذلك على معنى وجوب العمل بها ، أو يريد به جريانه في المسائل الفرعيّة ، فيثبت به حجّيّة الظنّ في الأحكام الفرعيّة وإن تولّد من ظنّ آخر ، والمفروض أنّ الظنّ في المسائل الاصوليّة يتولّد منه الظنّ بالأحكام الفرعيّة ، فيكون حجّة بنفس دليل الانسداد.

وأيّا مّا كان فهو ليس بشيء ، أمّا الأول : فلانفتاح باب العلم في مباحث الألفاظ ، بالمعنى المتناول للمبادئ اللغويّة منها ، لكون المرجع فيها غالبا إلى العرف المفيد للقطع ، ولو اتّفق منها ما لم يحصل فيه القطع من العرف فهو نادر ، لا يلزم من ترك العمل بالظنّ فيه محذور.

وأمّا المسائل العقليّة كمباحث الحسن والقبح وغيرها ممّا يرجع فيها إلى العقل ومنه المبادئ الأحكاميّة غالبا ، فالعقل إن حكم فيها فلا يكون حكمه إلاّ بعنوان القطع ، وإلاّ فلا حكم له ولو ظنّا.

وبالجملة باب العلم فيها أيضا مفتوح ، لكون مدركها العقل الّذي لا يكون حكمه إلاّ بعنوان القطع.

وأمّا مباحث الحجّيّة منها ، فجريان دليل الانسداد فيها بالخصوص مبنيّ على تقرير الدليل على وجه يكون نتيجته حجّيّة الظنّ في الطرق ، وقد عرفت منعه.

وأمّا الثاني : فمع عدم انحصار المسائل الاصوليّة في مباحث الحجّيّة ، لا يتمّ إلاّ بتقرير دليل الانسداد في الظنّ بنفس الواقع والظنّ في طرقه ، وقد عرفت منعه.

ص: 380

وأمّا الثالث : فمع عدم اطّراد تولّد الظنّ بالحكم الفرعي من الظنّ في المسألة الاصوليّة ، أنّ وجوب العمل به من حيث استلزامه الظنّ بالحكم الفرعي ليس من حجّية الظنّ في المسائل الاصوليّة من حيث أنّه ظنّ في المسائل الاصوليّة ، بل هو من حجّيّة الظنّ في الأحكام الشرعيّة الفرعيّة من أيّ سبب حصل ، ومن أسبابه الأمارة القائمة بالمسألة الاصوليّة.

والضابط الكلّي فيما يدخل في دليل الانسداد ، وما لا يدخل فيه ، هو انسداد باب العلم في كلّ ما يكون بيانه من وظيفة الشارع ، فيحكم العقل بقيام الظنّ فيه مقام العلم ، لكون العمل به امتثالا ظنّيّا على معنى الموافقة الظنّيّة ، فيدخل فيه الأحكام الكلّيّة الإلهيّة تكليفيّة ووضعيّة ، حتّى أجزاء العبادات وشرائطها وموانعها ، وكذلك المعاملات ، وخرج عنه المسائل الاصوليّة ، لكون المرجع في مباحث ألفاظها العرف ، وفي مسائلها العقليّة هو العقل ، وكلّ منهما طريق علمي في الغالب.

وأمّا مباحث الحجّيّة فدخولها في الضابط مبنيّ على أن يقرّر بكلّ ما انسدّ فيه باب العلم ممّا كان بيانه من الأحكام الكلّيّة الإلهيّة ، ونصب طرق غير علميّة عليها من وظيفة الشارع ، على معنى كون كلّ منهما واجبا عليه ، فإذا انسدّ باب العلم بهما معا قام الظنّ في كلّ منهما مقام العلم.

ولكنّه غير سديد ، لمنع كون نصب الطرق من وظيفة الشارع ، على معنى وجوبه عليه بحيث لزم عليه من تركه القبح ، حيث لا دليل عليه من عقل ولا نقل ، كما تقدّم.

ويخرج عنه الموضوعات المستنبطة ، لكون المرجع فيها العرف واللغة ، وكلّ منهما في غالب مواردهما طريقا علميّا ، وكذلك الموضوعات الخارجيّة الصرفة ككون هذا المائع ماء أو خلاّ أو خمرا ، وهذا الشيء ترابا أو صعيدا ، وهذا الجلد ممّا يؤكل لحمه ، وهذا الثوب حريرا أو غير حرير ، وهذا الحيوان غنما أو كلبا ، وما أشبه ذلك ، لعدم كون بيان هذه الامور أيضا من وظيفة الشارع مع انفتاح باب العلم في معظمها ، لكون المرجع فيها العرف وأهل الخبرة ، وهما أيضا طريقان علميّان في غالب مواردهما ، وما شذّ من الموارد ممّا لا يحصل بهما العلم فهو بحيث لو بني فيه على العمل بالبراءة أو الاحتياط كلّ في موضعه المناسب لم يلزم محذور من مخالفة قطعيّة ولا اختلال نظم ، فلا يجري فيها أيضا دليل الانسداد ، ولا قاضي بحجّيّة الظنّ ووجوب العمل به فيها عموما ، ولا ينافيه ثبوت الحجّيّة له في جملة من الموارد ، كظنّ دخول الوقت في أوقات الفرائض عند تعذّر العلم ، وظنّ جهة القبلة عند

ص: 381

عدم إمكان العلم بها ، وظنّ الضرر في العدول من الطهارة المائيّة إلى الترابيّة ، وفي المرض المبيح لإفطار رمضان ، وفي سقوط وجوب الواجبات وإباحة المحرّمات وغير ذلك ، وكذلك البيّنة وقول ذي اليد ، ويد المسلم وسوقه ، وما أشبه ذلك لعدم كون الحجّيّة في هذه الظنون أو أسبابها من مقتضى دليل الانسداد ، بل حجّية كلّ إنّما هو لدليل خاصّ به فهي من الظنون الخاصّة.

والفرق بين الظنّ الثابت حجّيّته عموما لدليل الانسداد أو خصوصا لدليل خاصّ ، وبين غيره ممّا لم يثبت حجّيّته عموما ولا خصوصا ، أنّ العامل بالأوّل مع مخالفته الواقع معذور ، على معنى رفع العقاب الاخروي عنه ، وهو في عمله به مثاب ومأجور ، بخلاف الثاني فإنّ العامل به على تقدير المخالفة ليس بمعذور في دار الآخرة ، ولا أنّه مثاب ولا مأجور.

ومن هنا علم أنّ الموافقة الظنّيّة في الثاني إنّما تجزي مع الموافقة لا عند المخالفة ، بخلاف الأوّل فإنّ الامتثال الظنّي فيه يفيد الإجزاء مع الموافقة والمخالفة معا ، حيث لم ينكشف الخلاف في دار الدنيا ، بل لا يمكن إرجاع الظنّ في الامور الخارجيّة إلى الظنّ في الأحكام من باب الاستلزام ، لأنّ ذلك ظنّ بانطباق الجزئي الخارجي على الكلّي المعلوم أو المظنون بالظنّ المعتبر حكمه الشرعي ، فقياس الظنّ بالامور الخارجيّة على الظنّ في المسائل الاصوليّة واللغويّة في استلزامه الظنّ بالامتثال قياس مع الفارق ، لأنّ هذا ظنّ بالامتثال من جهة كونه ظنّا بنفس الحكم الشرعي فيندرج بذلك في دليل الانسداد ، وذلك ظنّ بالانطباق على الكلّي المعلوم أو المظنون حكمه فلا يندرج في دليل الانسداد ، لأنّه دليل يتوصّل به إلى تعيين الحكم ظنّا لا إلى تعيين موضوعه ، فحجّيّة الظنّ في تعيين الحكم المستلزم للمعذوريّة على تقدير المخالفة ، لا يستلزم حجّيّته المستلزمة للمعذوريّة على تقدير المخالفة بعدم الانطباق.

عدم العبرة بالظنّ في اصول الدين

الأمر الرابع

في أنّ الظنّ في اصول الدين هل هو حجّة كما في الفروع أم لا؟

وليعلم أوّلا أنّ الفرق بين الاصول والفروع هو أنّ المطلوب بالذات في الفروع هو العمل ، والعلم وغيره ممّا يقوم مقامه يطلب على وجه الطريقيّة ومن باب المقدّمة ، فلا محيص فيها من العمل على طبق علم أو ظنّ أو أصل من الاصول ، فلا معنى للوقف فيها على حال ، بخلاف الاصول الّتي لا يطلب فيها بالذات إلاّ الاعتقاد والتديّن بالمعتقد من غير

ص: 382

مدخليّة للعمل فيها ، وإن اجتمع فيها مع الجهة النفسيّة جهة الغيريّة ، باعتبار كون الاعتقاد مع التديّن بالمعتقد شرطا في صحّة العمل في الفروع ، ثمّ الاعتقاد بمعنى الإذعان للواقع والتديّن به - على معنى قبوله دينا في اصول الدين - كلّ منهما مطلوب على وجه الموضوعيّة على معنى محبوبيّة كلّ من الأمرين لذاته لمصلحة في نفسه.

وقد اختلفوا في أنّ هذا الموضوع المطلوب لذاته ، أعني الإذعان هل هو خصوص العلم بمعنى الاعتقاد الجازم المطابق المستحصل من النظر والاستدلال ، أو هو العلم بمعنى الاعتقاد الجازم المطابق وإن حصل من التقليد ، أو هو الاعتقاد الظنّي المستحصل من النظر ، أو هو الاعتقاد الظنّي مطلقا وإن حصل من التقليد ، أو الاعتقاد الظنّي المستحصل من الأخبار ، أو هو الجزم أو الظنّ ولو من التقليد ، فذهب إلى كلّ فريق ، فحصل لهم في المسألة أقوال ستّ ، ذكرناها في باب الاجتهاد والتقليد في مسألة التقليد في اصول الدين ، غير أنّه ينبغي أن يعلم أنّ القول بكفاية الظنّ فيها مطلقا ليس مستنده دليل الانسداد ، لعدم جريانه فيها لانفتاح باب العلم فيها ، أو لعدم ثبوت التكليف بالإيمان حيث يتعذّر العلم لئلاّ يلزم التكليف بما لا يطاق ، بل لابدّ لكلّ من يكتفي فيها بالظنّ من دليل خاصّ به.

والأقوى بل الحقّ الّذي لا محيص عنه هو وجوب تحصيل العلم فيها ، وعدم كفاية الظنّ مطلقا ، وإن حصل من الأخبار ، للأدلّة الأربعة من العقل والإجماع والكتاب والسنّة الّتي ذكرناها مشروحة في المسألة المشار إليها من الباب المذكور ، ولا حاجة إلى التعرّض لذكرها هنا.

وأمّا القول بكفاية الظنّ فيها فلم نقف على دليل سوى ما ذكره في الضوابط ممّا ملخصه : « أنّه إن جاز الاكتفاء به فهو المطلوب ، وإلاّ لزم تكليف ما لا يطاق مع انسداد باب العلم ، واختلال النظام مع انفتاحه إذا اشتغل الجميع بتحصيل العلم في الاصول » (1) ولا خفاء في وهنه بل هو أوهن من بيت العنكبوت ، لمنع الملازمة في كلّ من التقديرين.

أمّا الأوّل : فلعدم التكليف بالإيمان مع الانسداد ، لتعذّر المكلّف به وامتناعه ، ولا ريب أنّ القدرة عليه من شروط التكليف ، وبدليّة الظنّ عن العلم حينئذ تحتاج إلى دليل مفقود في المقام.

وأمّا الثاني : فلأنّ العادة لا تجمعهم على الاشتغال دفعة واحدة ، لأنّ من الناس من

ص: 383


1- ضوابط الاصول 1 : 316.

يشتغل حال استكمال الآخرين ، ومنهم من يدرك البلوغ حال اشتغال الآخرين ، ومنهم يتولّد حال بلوغ الآخرين ، وهكذا فمع اختلاف حالات الناس على الوجه المذكور ، فكيف تحويهم العادة على الاشتغال بتحصيل العقائد حتّى يلزم اختلال النظام على تقدير اعتبار العلم.

ثمّ إنّ اصول العقائد على قسمين :

أحدهما : ما يجب فيه الاعتقاد والتديّن بالمعتقد مطلقا ، فيجب النظر في تحصيل الاعتقاد حينئذ مقدّمة ، ومن حكم هذا القسم لزوم الكفر تارة بانتفاء الاعتقاد ، واخرى بعدم التديّن بعد الاعتقاد ، ويقال له : كفر الجحود ، ولأجل ذا يحكم بكفر إبليس وفرعون وهامان ، وكثير من الكفّار والمشركين.

وفي الحديث بعد ما جعل الكفر على خمسة أوجه منها : كفر الجحود ، « وأمّا كفر الجحود فهو الجحود بالربوبيّة ، والجحود على معرفة وهو أن يجحد الجاحد وهو يعلم أنّه حقّ قد استقرّ عنده ، وقد قال اللّه تعالى : ( وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ (1)) (2).

وثانيهما : ما يجب فيه التديّن مشروطا بحصول الاعتقاد ، فما لم يكن الاعتقاد حاصلا لم يجب النظر في تحصيله ، ومن حكمه لزوم الكفر بعدم التديّن بالمعتقد بعد حصول الاعتقاد ، لا بانتفاء الاعتقاد سيّما في الغافل الغير الملتفت إلى أصل المسألة المندرجة في هذا القسم.

وأمّا تشخيص مصاديق القسمين فلا يخلو عن إشكال وغموض ، إلاّ أنّ الذي ينبغي أن يذعن به هو أنّ معرفة اللّه تعالى ، وصفاته الثبوتيّة الراجعة إلى إثبات العلم والقدرة ، وصفاته السلبيّة الراجعة إلى سلب الحدوث والحاجة ، ويندرج فيهما عدله في مقابل الظلم والجبر ، وحكمته في مقابل صدور القبيح منه فعلا وتركا ، ونبوّة نبيّنا صلى اللّه عليه وآله وسلم وإمامة الاثنى عشر عليهم السلام ، والمعاد الجسماني ، وسؤال القبر وعذابه ، ووجود الجنّة والنار ، والحساب والكتاب والميزان والصراط ، من قبيل القسم الأوّل ، وأنّ كون كلامه تعالى حادثا أو لفظيّا ، وعينيّة صفاته ، ونبوّة سائر الأنبياء وعصمة نبيّنا صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وكونه أفضل امّته أو أفضل من الأنبياء أو من الملائكة أيضا ، وعصمة الأئمّة عليهم السلام وكونهم أفضل من الأنبياء أو من الملائكة أيضا ، وعلمهم بما كان وما يكون وكون علمهم حضوريّا أو اراديّا وتفاصيل أحوال المعاد ومعانيها على وجه التفصيل ، من قبيل القسم الثاني ».

ص: 384


1- سورة النمل : 14.
2- الوسائل 1 : 32 / 9 ، ب 2 من أبواب مقدّمة العبادات.

وينبغي نقل ما عثرنا عليه من كلمات العلماء الأخيار ، ثمّ التعرّض لنقل جملة من الأخبار المتعلّقة بهذا المضمار ، فعن نصير الملّة والدين ، محمّد بن الحسن الطوسي رحمه اللّه : « أقلّ ما يجب اعتقاده على المكلّف ، هو ما ترجمه قول لا إله إلاّ اللّه محمّد رسول اللّه » (1).

وقال المحدّث الكاشاني في حقائقه بعد نقله لتلك العبارة : « ثمّ إذا صدّق الرسول فينبغي أن يصدّقه في صفات اللّه واليوم الآخر وتعيين الإمام المعصوم ، كلّ ذلك بما يشتمل عليه القرآن من غير مزيد وبرهان.

أمّا في صفات اللّه فبأنّه حيّ ، قادر ، عالم ، مريد ، متكلّم ، ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير.

وأمّا في الآخرة فبالإيمان بالجنّة والنار والصراط والميزان والحساب والشفاعة وغيرها ، ولا يجب عليه أن يبحث عن حقيقة الصفات ، وأنّ الكلام والعلم وغيرهما حادث أو قديم ، بل لو لم يخطر هذه بباله ومات مات مؤمنا ، فإن غلب على قلبه شكّ أو إشكال فإن أمكن إزالته بكلام قريب من الأفهام وإن لم يكن قويّا عند المتكلّمين ولا مرضيّا فذلك كاف ، ولا حاجة إلى تحقيق الدليل » انتهى (2).

وعن المسالك في باب الشهادات في فروع اشتراط الإيمان في الشاهد ، وردّ شهادة كلّ مخالف في شيء من اصول العقائد ، أنّه قال : « المراد بالاصول الّتي تردّ شهادة المخالف فيها ، مسائل التوحيد والعدل والنبوّة والإمامة والمعاد.

وأمّا فروعها من المعاني والأحوال من فروع الكلام فلا يقدح الخلاف فيها ، لأنّها مباحث ظنّيّة ، والاختلاف فيها بين علماء الفرقة الواحدة كثير شهير ، وقد عدّ بعض العلماء ما وقع الخلاف بين المرتضى وشيخه المفيد فبلغ نحوا من مائة مسألة ، فضلا عن غيرهما » انتهى (3).

وقال المحقّق الأردبيلي ، في شرح الإرشاد في الباب المذكور : « والمراد به يعني الإيمان اعتقاد الإماميّة الاثني عشريّة من أصناف الشيعة لا غير ، والظاهر أنّه يحصل بمعرفة اللّه ونبوّة نبيّنا محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم وتصديقه في جميع ما جاء به من الأحكام وغيرها ، مثل الموت وعذاب القبر والحشر والنشر والنار والثواب والعقاب والصراط والميزان ، وغير ذلك من نبوّة جميع الأنبياء ، والكتب السالفة ، وأنّه لا نبيّ بعده ، وبإمامة الأئمّة الإثني عشر كلّ

ص: 385


1- حكاه عند الفيض الكاشاني رحمه اللّه في الاصول الأصليّة : 180.
2- الحقائق في محاسن الأخلاق : 40.
3- مسالك الأحكام 2 : 402.

واحد واحد ، وأنّ آخرهم قائمهم حيّ من وقت موت أبيه وإمامته حتّى يظهره اللّه تعالى ، وأنّه إمام الزمان حتّى تفنى الدنيا وينتهي التكليف ، كلّ ذلك يكفي إجمالا بطريق العلم اليقيني الّذي لا يحتمل نقيضه ، وإن لم يكن برهانيّا » انتهى (1).

ونسب إلى ظاهر جماعة كالشهيدين في الألفيّة (2) وشرحها (3) ، والمحقّق الثاني في الجعفريّة (4) وشارحها (5) وغيرهم (6) « أنّه يكفي في معرفة الربّ التصديق بكونه موجودا واجب الوجود لذاته ، والتصديق بصفاته الثبوتيّة الراجعة إلى صفتي العلم والقدرة ، ونفي الصفات الراجعة إلى الحاجة والحدوث ، وأنّه لا يصدر منه القبيح فعلا أو تركا ، ويكفي في معرفة النبيّ معرفة شخصه بالنسب المعروف المختصّ به ، والتصديق بنبوّته وصدقه ، ويكفي في معرفة الأئمّة عليهم السلام معرفتهم بنسبهم المعروفة والتصديق بأنّهم أئمّة يهدون بالحقّ ، ويجب الانقياد إليهم والأخذ منهم ، ويكفي في التصديق بما جاء به النبيّ ، التصديق بما علم مجيئه به متواترا ، من أحوال المبدأ والمعاد ، كالتكليف بالعبادات والسؤال في القبر وعذابه ، والمعاد الجسماني والحساب والصراط والميزان والجنّة والنار إجمالا » (7).

وقال في القوانين : « المراد باصول الدين هو أجزاء الإيمان وهو عندنا خمسة ، وهي معرفة الباري الواجب بالذات المستجمع لجميع الكمالات ، المنزّه عن النقائص ، ويرجع تفصيل هذا الإجمال إلى الواجب الوجود العالم القادر المنزّه عن الشريك والاحتياج وعن فعل القبيح واللغو ، فيندرج في ذلك العدل والحكمة ، ولا حاجة إلى إفراد العدل إلاّ لمزيد الاهتمام به ، إلى أن قال :

ثمّ التصديق بنبوّة نبيّنا وما جاء به تفصيلا فيما علم به ، وإجمالا فيما لم يعلم ، والظاهر أنّه لا يجب تحصيل العلم بالتفصيل في تحقيق الإيمان ، والمراد بالإذعان الإجمالي أن يوطن نفسه على أنّ كلّ ما لم يطّلع عليه ممّا جاء به يذعن به إذا اطّلع عليه ، وممّا علم به إجمالا ولم يعلم كيفيّته ، مثل الحساب والصراط والميزان وأمثال ذلك ، فيكفيه الإذعان في الجملة ، إلى أن قال :

ثمّ المعاد الّذي جعلوه إحدى الاصول الخمسة يمكن اندراجه فيما جاء به النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم

ص: 386


1- شرح الإرشاد : 12 / 298.
2- الألفيّة والنفليّة : 38.
3- المقاصد العليّة : 38.
4- الرسالة الجعفريّة 1 : 80.
5- الفوائد العليّة في شرح الجعفريّة للفاضل الجواد ( مخطوط ) : 13 - 15.
6- كأبي المجد الحلبي في إشارة السبق : 14.
7- فرائد الاصول 1 : 565 - 567.

خصوصا الجسماني منه ، وإن قلنا بحكم العقل بثبوته في الجملة كما هو الواضح ، وقد أشار إليه الكلام الإلهي ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً ) (1) فيمكن جعله أحدا من الخمسة بالاستقلال أيضا ، ولكن لا بخصوص الجسماني.

والحقّ أنّ العقل قاطع به في الجملة ، والشرع صادع لجسمانيّة بالبديهة ، ثمّ الإذعان بإمامة الأئمّة الاثني عشر ، إلى أن قال :

وأمّا النظر في جزئيّات أحوال النبيّ والوصيّ مثل كونهم معصومين ، وكون نبيّنا خاتم الأنبياء ومبعوثا على الثقلين ، وكذلك عصمة الأئمّة ، وكونهم منصوبين بالنصّ لا باختيار الناس ، وأنّ علمهم لم يكن من اجتهاد ، وأنّ انقراضهم بانقراض الدنيا ، فيكفي فيه الإذعان الإجمالي بالمعنى المتقدّم ، والظاهر أنّ الاكتفاء في الإسلام بالشهادتين إنّما هو لاندراج غيرهما فيهما ، كما لا يخفى على المتأمّل ، سيّما في أوّل الإسلام » انتهى ما أردنا نقله (2).

وأمّا الأخبار : ففي رواية محمّد بن سالم عن أبي جعفر عليه السلام المرويّة في الكافي ، كما حكي « أنّ اللّه عزّ وجلّ بعث محمّدا وهو بمكّة عشر سنين ، فلم يمت بمكّة في تلك العشر سنين أحد يشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمّدا رسول اللّه إلاّ أدخله اللّه الجنّة بإقراره ، وهو إيمان التصديق » (3).

وفي رواية سليم بن قيس عن أمير المؤمنين عليه السلام : « أنّ أدنى ما يكون به العبد مؤمنا أن يعرّفه اللّه تبارك وتعالى إيّاه فيقرّ له بالطاعة ، ويعرّفه نبيّه فيقرّ له بالطاعة ، ويعرّفه إمامه وحجّته في أرضه وشاهده على خلقه ، فيقرّ له بالطاعة فقلت : يا أمير المؤمنين وإن جهل جميع الأشياء إلاّ ما وصفت؟ قال : نعم » (4).

ورواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : جعلت فداك أخبرني عن الدين الذي افترضه اللّه تعالى على العباد ما لا يسعهم جهله ولا يقبل منهم غيره ما هو؟ فقال : أعد عليّ فأعاد عليه فقال : شهادة أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمّدا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وأقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحجّ البيت من استطاع إليه سبيلا ، وصوم شهر رمضان ، ثمّ سكت قليلا. ثمّ قال والولاية والولاية مرّتين ، ثمّ قال : هذا فرض اللّه عزّ وجلّ على العباد ». الحديث (5).

ص: 387


1- سورة المؤمنون : 115.
2- قوانين الاصول 2 : 206 و 207.
3- الكافي 2 : 29 / 1.
4- كتاب سليم بن قيس : 59 وبحار الانوار 69 : 16 / 3.
5- الكافي 2 : 22 / 1.

ورواية عيسى بن السري قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : حدّثني ما بنيت عليه دعائم الإسلام الّتي إذا أخذت بها زكى عملي ، ولم يضرّني جهل ما جهلت بعده ، « فقال : شهادة أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمّدا رسول اللّه ، والإقرار بما جاء من عند اللّه ، وحقّ في الأموال الزكاة ، والولاية الّتي أمر اللّه بها ولاية آل محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية ، وقال اللّه تعالى : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (1) فكان عليّ عليه السلام ثمّ صار من بعده الحسن ثمّ من بعده الحسين ثمّ من بعده عليّ بن الحسين ثمّ من بعده محمّد بن علي ثمّ هكذا يكون الأمر ، إنّ الأرض لا يصلح إلاّ بإمام ... » إلى آخره (2).

ورواية أبي اليسع ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : أخبرني دعائم الإسلام الّتي لا يسع أحدا التقصير عن معرفة شيء منها الّتي من قصر عن معرفة شيء منها فسد عليه دينه ، ولم يقبل منه عمله ، ومن عرفها وعمل بها صلح دينه ، وقبل عمله ولم يضيق به ممّا هو فيه لجهل شيء من الامور جهله ، ثمّ « قال : شهادة أن لا إله إلاّ اللّه ، والإيمان بأنّ محمّدا رسول اللّه ، والإقرار بما جاء به من عند اللّه ، وحقّ في الأموال الزكاة ، والولاية الّتي أمر اللّه عزّ وجلّ بها ولاية آل محمّد صلى اللّه عليه وآله وسلم (3).

ورواية إسماعيل ، قال : سألت أبا جعفر عليه السلام عن الدين الّذي لا يسع العباد جهله ، « فقال : الدين واسع ، وأنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهلهم ، فقلت : جعلت فداك أما احدّثك بديني الّذي أنا عليه؟ فقال : بلى ، قلت : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمّدا عبده ورسوله ، والإقرار بما جاء من عند اللّه ، وأتولاّكم وأبرأ من عدوّكم ومن ترك رقابكم وتأمّر عليكم وظلمكم حقّكم ، فقال : ما جهلت شيئا. فقال : هو واللّه الّذي نحن عليه ، فقلت : يسلم أحد لا يعرف هذا الأمر؟ قال : لا إلاّ المستضعفين ، قلت : من هم؟ قال : نسائكم وأولادكم (4).

ورواية عمرو بن حريث ، أنّه قال لأبي عبد اللّه عليه السلام : ألا أقصّ عليك ديني؟ « فقال : بلى ، قلت : أدين اللّه بشهادة أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له ، وأنّ محمّدا رسول اللّه ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم شهر رمضان ، وحجّ البيت ، والولاية وذكر الأئمّة عليهم السلام ، فقال : يا عمرو هذا دين اللّه ودين آبائي الّذي أدين اللّه به في السرّ والعلانية ... ». إلى آخره (5).

ص: 388


1- سورة النساء : 59.
2- الكافي 2 : 21 / 9.
3- الكافي 2 : 19 / 6.
4- الكافي 2 : 405 / 6.
5- بحار الأنوار 66 : 6 / 7.

ورواية : عجلان بن أبي صالح ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : أوقفني على حدود الإيمان ، « فقال : شهادة أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمّدا رسول اللّه ، والإقرار بما جاء من عند اللّه ، وصلوات الخمس ، وأداء الزكاة ، وصوم شهر رمضان ، وحجّ البيت ، وولاية وليّنا ، وعداوة عدوّنا ، والدخول مع الصادقين » (1).

ورواية سفيان بن السمط عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديث ، « قال : الإسلام هو الظاهر الّذي عليه الناس ، شهادة أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمّدا رسول اللّه ، وأقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحجّ البيت ، وصيام شهر رمضان ، فهذا الاسلام » (2) إلى غير ذلك ممّا يبلغ من نحو هذه المضامين حدّ التواتر ، وذكر الصلاة وغيرها من الفروع لكونها من ضروريّات ما جاء به النبيّ ، أو اعتبار لما يكشف عن التديّن المعتبر في الإسلام والإيمان ، فتأمّل.

ثمّ إنّ ضابط الفرق بين القسمين المائز بين مصاديقهما ، لا ينبغي أن يناط بأنّ كلّما وقع الاختلاف فيه من المعارف بين أهل الاسلام وسائر فرق الكفر الأصلي ، كوجود الصانع تعالى وتوحيده ، ونبوّة نبيّنا واليوم الآخر ، فهو من قبيل القسم الأوّل.

وكلّما كان الاختلاف فيه واقعا بين أهل الاسلام كحدوث كلامه تعالى ، وعينيّة صفاته ، ورؤيته وتجسّمه ، وصفات النبيّ وصفات الأئمّة ، وجملة من تفاصيل اليوم الآخر ، فهو من قبيل القسم الثاني ، لانتقاض عكسه في الأوّل ، وطرده في الثاني بإمامة أئمّتنا عليهم السلام بل بعدله وحكمته أيضا ، لوقوع الاختلاف فيهما بين المسلمين مع كونهما من الواجب المطلق.

ولا أن يناط بأنّ كلّما لا يوجد فيه القاصر ، بل كلّ ما من خالف فيه الواقع فهو مقصّر فهو من قبيل القسم الأوّل ، كوجود الصانع تعالى ، ووحدانيّته وصفاته الكماليّة ثبوتيّة أو سلبيّة وعدله وحكمته ، ونبوّة نبيّنا وإمامة الأئمّة ، والمعاد الجسماني وكلّما يوجد فيه القاصر فهو من قبيل القسم الثاني ، لوجود القاصر في القسم الأوّل كما حقّقناه في مسألة التخطئة والتصويب في اصول العقائد.

ولا يبعد أن يناط بأنّ كلّما يوجد من المسائل المتعلّقة بالمعارف فيها الأدلّة القطعيّة المنضبطة ، فهو من القسم الأوّل كما في وجود الصانع ، ومراتب توحيده ، وصفاته الكماليّة ثبوتيّة وسلبيّة وعدله وحكمته ، للعقل المستقلّ في جميع ذلك ، وفي نبوّة نبيّنا لمعجزاته ، وخوارق عاداته ومكارم أخلاقه ، ومحاسن أفعاله ، وفي إمامة أئمّتنا أيضا لتواتر النصوص

ص: 389


1- بحار الانوار 65 : 330 / 4.
2- بحار الانوار 65 : 247 / 6.

بإمامتهم ، ومعجزاتهم ، وخوارق عاداتهم ، ومكارم أخلاقهم ، والمعاد الجسماني ، وسؤال القبر وعذابه والحساب والميزان والصراط والجنّة والنار كلّ في الجملة لتواتر الأخبار بالجميع عن النبيّ والأئمّة عليهم السلام ، وتكاثر الآيات فيها ، وتظافر الامّة عليها ، والضرورة من الدين في الجميع ، بل قد يدّعى العقل المستقلّ في أصل المعاد ، لأنّه لولاه لضاع عمل العاملين وضاعت حقوق المظلومين ، ولساوى أشقى الأشقياء وأفضل الأنبياء ، لعدم حصول ما يصلح للجزاء في الدنيا ، مع ما نرى من إقبال الدنيا إلى الفجّار على قدر إدبارها عن الأخيار ، بل قد يدّعى حكومة العقل بالنسبة إلى جسميّة المعاد أيضا ، فإنّ الطاعة والمعصية إنّما وقعتا في هذا البدن ، فكيف يسوّغ المجازاة بالمثوبة أو العقوبة لغيره.

بخلاف ما لم يوجد فيه دليل قطعي منضبط فإنّه من القسم الثاني ، وإن كان قد يتّفق حصول القطع بتعاضد العقل الظنّي بالنقل ، أو تراكم الظنون ، أو الاعتماد على قول العالم الثقة وما أشبه ذلك ، كصفات النبيّ ، وصفات الأئمّة ، وتفاصيل يوم الجزاء ، والأحوال العارضة من حين الممات إلى انقضاء مدّة الحشر والنشر ، ومعاني الصراط والميزان وتطائر الكتب وغير ذلك ، فإنّه من القسم الثاني ، كما أشار إليه وإلى ضابطه الشهيد الثاني في عبارته المتقدّمة ، بقوله : « لأنّها مباحث ظنّيّة ، ووجه ظنّيّتها كون آياتها غير متكاثرة ورواياتها غير متواترة ، مع اختلافها وتعارض بعضها بعضا في كثير (1).

وعلى هذا الضابط يكون عينيّة صفاته تعالى من القسم الأوّل لاستقلال العقل فيه ، وكذلك عصمة الأنبياء والأئمّة لارتفاع الوثوق بقولهم في الإخبار عن اللّه أو عن النبيّ لولاها.

وعلى الضابط المذكور ظهر دليل إطلاق الوجوب في القسم الأوّل واشتراطه في القسم الثاني ، فإنّ إيجاب تحصيل العلم بالواقع فيما لا يوجد فيه دليل قطعي ، منضبط تكليف بما لا يطاق ، بخلاف ما وجد فيه ذلك ، فليتدبّر.

وها هنا مسائل :

المسألة الاولى :

إنّ المكلّف فيما كان وجوب التديّن بالواقع مشروطا بحصول الاعتقاد العلمي به ، إن

ص: 390


1- المقاصد العليّة : 25.

كان غافلا عن المسألة رأسا غير ملتفت إليها أصلا ، فلا إشكال في أنّه لا شيء عليه في الدنيا ولا في الآخرة ، وإن لم يكن غافلا بل كان ملتفتا إلى المسألة شاكّا في طرفيها ، فهل يجب عليه إزالة الشبهة بطلب ما يفيده العلم ولو بنحو مسألة العلماء الموثوق بهم؟ الوجه العدم ، لأصالة البراءة من جهة عدم الدليل عليه من عقل ولا نقل ، بل هذا هو ثمرة اشتراط وجوبه كما بيّناه.

هل يجب إزالة الشبهة في الاعتقادات

وهل يجوز له أن يعقد قلبه من طرفي المسألة على ما لو كان خطأ في الواقع لم يضرّه ويتديّن به؟ كما لو عقد على وجود المعاد ويتديّن به لو كان في شبهة ، أو على وجود الجنّة والنار بالفعل ، نظير ما لو عقد من كان في وجود الصانع تعالى في شبهة على وجوده فإنّ خطاءه لا يضرّ ، بخلاف ما لو عقد على الطرف الآخر فأخطأ فإنّه يضرّه جزما ، الظاهر نعم ، لعدم المانع بل العقل مستقلّ بحسنه ، على معنى حكمه بأن لا حرج في فعله ، بل يمكن دعوى رجحانه العقلي بالنظر إلى حسن الاحتياط.

وفي روايات أهل العصمة أيضا ربّما وقع الإشارة إلى هذا المسلك ، كما في صحيح محمّد بن عبد اللّه الخراساني خادم الرضا عليه السلام ، قال : دخل رجل من الزنادقة على أبي الحسن عليه السلام ، وعنده جماعة « فقال أبو الحسن عليه السلام : أيّها الرجل أرأيت إن كان القول قولكم وليس هو كما تقولون ألسنا وإيّاكم شرّعا سواء؟ لا يضرّنا ما صلّينا وصمنا وزكّينا وأقررنا ، فسكت الرجل ، ثمّ قال أبو الحسن عليه السلام : وإن كان القول قولنا وهو قولنا ألستم قد هلكتم ونجونا ... ». إلى آخره (1).

وفي معناه المنسوب إلى مولانا أمير المؤمنين عليه السلام من قوله عليه السلام :

قال الطبيب والمنجّم كلاهما *** لن تحشر الأموات فقلت أبكما

إن صحّ قولكما فلست بخاسر *** وإن صحّ قولي فالخسار عليكما (2)

ولو ظنّ الطرف المذكور فأولى بحسن العقد عليه والتديّن به.

نعم لو ظنّ الطرف الآخر وجب الوقف دفعا للضرر المحتمل ، بل لو عقد حينئذ أيضا على الطرف الموهوم وتديّن به ، لا حجر فيه ولا حرج عليه أيضا.

هذا كلّه فيما لو دارت المسألة بين الإثبات والنفي ، وأمّا إذا دارت بين المتبائنين

ص: 391


1- بحار الأنوار 3 : 36 / 12.
2- بحار الأنوار 75 : 87 ، والديوان المنسوب بالإمام عليه السلام : 396.

كالصفات الدائرة بين العينيّة والزيادة على الذات ، والنبوّة الدائرة بين شخصين ، والخلافة الدائرة بين رجلين ، والمعاد الدائر بين الجسماني والروحاني وما أشبه ذلك ، فلا يتمشّى فيه القاعدة المذكورة ، ولا يجوز العقد على أحد الطرفين ما لم ينته إلى العلم ، لقيام احتمال الضرر على تقدير الخطأ في كلّ منهما.

عدم العبرة بالظنّ في المعارف والعقائد

المسألة الثانية :

لا فرق فيما تقدّم من عدم كفاية الظنّ في المعارف بين الظنّ المطلق والظنّ الخاصّ ، لإطلاق أدلّة اعتبار العلم فيها ، كإطلاق معاقد الإجماعات وعموم الأدلّة المانعة من العمل بالظنّ ، وفي الظنّ الخاصّ أيضا لا فرق بين ما قام دليل حجّيّته على اعتبار سنده ، وعدم الاعتناء باحتمال الكذب فيه ، كخبر العدل على القول بتماميّة أدلّة حجّيّته من حيث الخبريّة ، وما قام على اعتباره من حيث الدلالة ، كظواهر الكتاب والأخبار المتواترة ، فلا يجوز عقد القلب على مضمون آية ، أو رواية متواترة ظاهر الدلالة المتعلّقة باصول العقائد ، إلاّ إذا بلغ حدّ العلم لإطلاق الأدلّة وعمومها ، ولا ينافيه كون معنى الظنّ الخاصّ عدم الفرق في حجّيّته بين انسداد باب العلم وانفتاحه ، إذ ليس معنى ذلك حجّيّة ذلك الظنّ فيما يعتبر فيه العلم على وجه الموضوعيّة ، بل حجّيّته في الفروع ولو مع انفتاح باب العلم فيها ، وكذلك لا ينافيه ما تقدّم منّا لبيان الفرق بين القسمين من المعارف من التمسّك بظواهر الآيات أو الأخبار ، لأنّه ليس على وجه الاستدلال على المسألة الاصوليّة ، بل على وجه الاستشهاد للمطلب المعلوم بما يشهد له من النقل كتابا أو سنّة ، حتّى أنّها لو كانت من الآحاد لا ضير في الاستشهاد بها.

في ما يتعلّق بضروري الدين

المسألة الثالثة :

فيما يتعلّق بضروريّ الدين

فنقول : إنّ ضروريّات الدين على الإطلاق الشائع ، عبارة عن جملة من الأحكام الفرعيّة الّتي وضح كونها من دين الإسلام لجميع آحاد المسلمين ، بحيث لا يخفى ذلك على أحد منهم إلاّ من كان قريب العهد بالإسلام ، أو كان ساكنا في بلاد الكفّار ، ونحو ذلك ممّن لم يطّلع على الوضوح الموجب للعلم بكونها من الدين ولو في البعض.

ص: 392

وقد يطلق على ما يعمّه وجملة من الأحكام الاصوليّة الّتي وضح كونها من دين الإسلام ، ومنه ما في كلام العلاّمة في التحرير الجاعل ضابط الكافر المحكوم بنجاسته في النصّ والإجماع جاحد الضروري ، حيث قال : الكافر « كلّ من جحد ما يعلم من الدين ضرورة ، سواء كانوا حربيّين ، أو أهل الكتاب ، أو مرتدّين ، وكذا النواصب والغلاة والخوارج » (1).

ومحلّ الكلام في هذا المقام هو المعنى الأخصّ الّذي هو الشائع من إطلاقه في كلامهم ، والظاهر عدم الخلاف في كفر منكر الضروري بهذا المعنى ، بل الظاهر كونه إجماعيّا كما يظهر دعواه من شارح المفاتيح قائلا - على ما حكى - « أنّ كلّ من أنكر ضروري الدين يكون خارجا عنه عند الفقهاء إذا لم يحتمل فيه الشبهة » ، إلى آخر كلامه (2).

وظاهر العبارة رجوع التقييد بعدم احتمال الشبهة في حقّ المنكر إلى الحكم بخروجه عن الدين.

وأصرح منه في اعتبار التقييد ما في كلام جمال الملّة والدين في حاشية الروضة من قوله : « ثمّ بعض ما علم ثبوته من الدين ضرورة إنّما يكون إنكاره كفر ، إذا لم يكن ذلك لشبهة ، كأن يكون مثلا قريب العهد بالدين ولم ينشأ بين أهله ، فلو كانت لشبهة لا يحكم بكفره » (3).

ويؤدّي مؤدّاهما ما عن كاشف اللثام من تقييد إنكار الضروري بمن يعلم الضروريّة (4).

ونحوه عبارة مجمع البرهان الآتية ، والمقصود من القيد إخراج صورة الشبهة ، وهل المعتبر انتفاء نفس الشبهة ، كما هو مقتضى عبارة حاشية الروضة ، أو انتفاء احتمالها ، كما هو مقتضى عبارة شرح المفاتيح؟

الظاهر أنّ كلاهما معتبران ، إلاّ أنّ الأوّل معتبر في أصل الكفر ، والثاني معتبر في التكفير ، فالشبهة حيثما تحقّقت مانعة عن حصول الكفر بالإنكار ، واحتمالها حيثما كان قائما مانع عن تكفير المنكر ، ولو كان بحسب الواقع كافرا ، ومرجعه إلى أنّ علم المنكر بالضروريّة شرط في كفره ، والعلم بعلمه شرط في تكفيره.

والفرق أنّ عدم التكفير لا ينافي وقوع الكفر في الواقع ، بخلاف عدم الكفر فإنّه لا

ص: 393


1- تحرير الأحكام الشرعيّة 1 : 158.
2- مصابيح الظلام : ( مخطوط ) 452.
3- حاشية الروضة ( آقا جمال الخوانساري ) : 24.
4- كشف اللثام : 1 / 410.

يجامع وقوعه.

ثمّ إنّ في كون إنكار الضروري لرجوعه إلى تكذيب النبيّ وإنكار صدقه يوجب الكفر ، أو أنّه سبب مستقلّ فيه من دون اعتبار رجوعه إلى ما ذكر ، قولان :

أوّلهما : ما صار إليه جماعة من متأخّري المتأخّرين ، منهم المحقّق الأردبيلي (1) ومحشي (2) الروضة ، والمحقّق (3) القمّي في قوانينه ، وعن ظاهر الذخيرة (4) ، وشارح الروضة (5).

وثانيهما : ما نسبه في مفتاح الكرامة (6) إلى ظاهر الأصحاب ، حاكيا للنسبة عن استاده.

ويظهر منه أنّ فائدة الاختلاف تظهر في تكفير المنكر مع قيام احتمال الشبهة على الثاني وعدمه على الأوّل ، ولا خفاء في ضعفه ، فإنّ الظاهر بملاحظة ما عرفته من المعتبرين من تقييد الإنكار الموجب للكفر والتكفير بعدم الشبهة واحتمالها - وفي معناه العلم بالضروريّة ، وفي معناهما ما في عبارة مجمع البرهان ، من قوله : « الضروري الّذي يكفّر منكره الّذي ثبت عنده يقينا كونه من الدين ، ولو بالبرهان ولو لم يكن مجمعا عليه » (7) انتهى ، كون مورد الفتاوى ومعاقد الإجماع مقيّدا بما ذكر.

فمحلّ النزاع الّذي هو موضوع كفر المنكر للضروري هو الإنكار لا لشبهة ، المتّفق عند الفريقين على كونه موجبا للكفر والتكفير ، إمّا لرجوعه إلى تكذيب النبيّ ، أو لكونه في نفسه سببا للكفر ، لا لتضمّنه إنكار حكمته تعالى ، بل لكونه إنكارا لقبول ما علم بواسطة الضرورة كونه ما أتى به النبيّ من عند اللّه ، و [ الامتناع من ](8) الانقياد به والتديّن به ، وأخذه دينا لنفسه ، فإنّ إنكار الضروري يتصوّر على أقسام :

الأوّل : إنكار إتيان النبيّ به ، وهذا هو الشبهة المعتبر انتفائها في كفر المنكر ، وانتفاء احتمالها في تكفيره ، ولا كلام لأحد في أنّه لا يوجب الكفر.

ص: 394


1- مجمع الفائدة والبرهان 3 : 199.
2- حاشية الروضة ( آقا جمال الدين الخوانساري ) : 25.
3- قوانين الاصول 2 : 208.
4- ذخيرة العباد في شرح الإرشاد : 150.
5- مناهج السويّة للفاضل الهندي ( مخطوط ) 888.
6- مفتاح الكرامة 2 : 38.
7- مجمع الفائدة والبرهان : 3 / 199.
8- سقط ما بين المعقوفين عن قلمه الشريف ولقد صحّحناه بما فى المتن طبقا لما فى حاشيته على القوانين ( حاشية القوانين : 168 ).

الثاني : إنكار كونه من عند اللّه ، وهذا هو تكذيب النبيّ ، ولا كلام لأحد في أنّه يوجب للكفر.

الثالث : إنكار كونه على طبق الحكمة بعد العلم بأنّه أتى به النبيّ ، والعلم بأنّه من عند اللّه ، وهذا أيضا يوجب الكفر لتضمّنه إنكار حكمته تعالى.

الرابع : إنكار قبوله والانقياد به وأخذه دينا ، ولا إشكال في كونه كفرا أيضا ، ومنه كفر إبليس ، لامتناعه عن قبول وجوب السجود لآدم والانقياد به استكبارا حيث قال : ( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ) (1) وإن احتمل كونه لأجل إنكار كونه على طبق الحكمة ، ومنه أيضا كفر الخوارج والنواصب خصوصا أوائلهم.

أمّا الأوّل : فلأنّ ممّا جاء به النبيّ من عند اللّه هو وجوب دخول الناس في إطاعة أمير المؤمنين عليه السلام والانقياد له ، ولم يقبله الخوارج بخروجهم عليه ومحاربتهم له ، وممّا أتى به أيضا من عند اللّه هو وجوب موالاة أهل البيت عليهم السلام ، ولم يقبله النواصب بمعاداتهم وإظهار العداوة لهم.

وتقييد الفتاوى ومعاقد الإجماع بعدم الشبهة واحتمالها احتراز عن القسم الأوّل.

ومرجع القول الأوّل إلى زعم كون إنكار الضروري من قبيل القسم الثاني.

ومرجع القول الثاني إلى زعم كونه من قبيل القسم الرابع ، لا بمعنى أنّه إذا تضمّن تكذيب النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم لا يوجب الكفر ، فإنّه ممّا لا سبيل إليه ، بل على معنى أنّه لا يلزم الالتزام بكونه لهذه الجهة ، بل يكون سببا للكفر مع انتفاء هذه الجهة ، وهو الأقوى.

وبالتأمّل فيما قرّرناه : يندفع ما اعترضه بعض مشايخنا على القول الثاني ، بعد ما نقل نسبته إلى ظاهر الأصحاب ، من « أنّه لا وجه حينئذ لما اشتهر من إخراج صورة الشكّ ، فإنّ إنكار اصول الدين كالإلهيّة والرسالة لا فرق في تكفير منكرها بين ما كان الجحد مع العلم أو لشبهة ، وأيضا فإنّ الأخبار الدالّة على بيان الإسلام وتحديده خالية عن اعتبار التصديق بخصوص الضروريّات من حيث إنّها صارت ضروريّة » انتهى (2).

فإنّ الضروري بالمعنى المبحوث عنه لا يقاس على الإلهيّة والرسالة وغيرهما من اصول العقائد ، الّتي لا فرق في كفر منكرها بين الشبهة وعدمها ، لوضوح الفرق بين

ص: 395


1- سورة ص : 76.
2- كتاب الطهارة 2 : 355.

العمليّات والعلميّات.

والفارق كما بيّناه سابقا : أنّ المقصود بالذات في العمليّات بعد الإقرار والقبول إنّما هو العمل ، والعلم لا يطلب فيها إلاّ مقدّمة للعمل ، لكون اعتباره لمجرّد الطريقيّة ، بخلاف العلميّات الّتي يطلب فيها الإذعان بمعنى العلم ، والقبول بمعنى التديّن بالمعلوم ، لما عرفت سابقا من أنّ المعتبر في الإسلام شيئان : الإذعان للواقع ، وقبوله وأخذه دينا ، فالكفر يلزم تارة باعتبار انتفاء الإذعان ، واخرى لأجل انتفاء القبول ، ومرجعه إلى كون منكره كافرا ، سواء كان عن شبهة أو مع العلم ، بخلاف الضروري الّذي لم يكن من قبيل العلميّات ، إذ لا يعتبر منه في الإسلام إلاّ الإقرار والقبول ، فإنكاره إنّما يؤثّر في الكفر بعد العلم بمقدّمتين ، أعني العلم بأنّه ما جاء به النبيّ وكلّما جاء به النبيّ فهو من الدين ، وإن لم يكن هذا العلم مقصودا للشارع بالذات.

وقضيّة ذلك أن لا يكون انتفاء العلم مؤثّرا في الكفر والتكفير أصلا ، وهذا هو معنى خروج صورة الشبهة.

وأمّا دعوى : خلوّ الأخبار المحدّدة للإسلام عن اعتبار التصديق بخصوص الضروريّات ، ففيها : أنّ الأخبار وإن لم تشتمل على التصديق بالضروريّات ، إلاّ أنّها مشتملة على اعتبار الإقرار بكلّ ما جاء به النبيّ من عند اللّه ، فإنّ الإقرار لا يراد به هنا الإقرار اللساني بل الإقرار القلبي ، وهو قبول كلّما جاء به النبيّ من عند اللّه ، وأخبر به عن اللّه والتديّن به ، من « قرّ وأقرّ بمعنى ثبت وأثبت » ، ولا يكون إلاّ بقبوله وتسليمه وأخذه دينا ، وضروريّات الدين يقال لطائفة ممّا جاء به النبيّ طرئها الضرورة ، فيجب الإقرار بها باعتبار أنّها ممّا جاء به النبيّ ، على ما دلّ عليه الأخبار المستفيضة القريبة من التواتر بل المتواترة ، مضافا إلى الإجماع وغيره.

فإنكار الضروري على معنى عدم قبوله والتديّن به ، إنّما يوجب الكفر لكونه إنكارا لما جاء به النبيّ ، لا لكونه ضروريّا بوصف الضروريّة ، فإنّ هذا الوصف لا مدخليّة له في موضوع هذا الحكم ، بل المناط فيما يعتبر في الإسلام وما يكون كفرا هو الإقرار بما جاء به النبيّ وإنكاره ، حتّى أنّه يلزم الكفر المصحّح للتكفير بإنكار ما علم كونه ما جاء به النبيّ من جهة النظر والبرهان ، كما تقدّم التصريح بذلك في عبارة مجمع البرهان (1).

ص: 396


1- مجمع الفائدة والبرهان 3 : 199.

ولا ينافيه إفراد الضروريّات بالعنوان في كلام الفقهاء ، لأنّه ليس لإحراز موضوع الكفر على أنّ لخصوص الضروريّة مدخليّة فيه وفي الحكم به ، بل لأنّه الطريق المعرّف لتحقّق الكفر بمجرّد الإنكار ، بناء على أنّه من المسلم الّذي عاش مدّة عمره بين المسلمين ، فلا يحتمل في حقّه الشبهة وعدم العلم بكون ما أنكره ممّا جاء به النبيّ ، حتّى أنّه لو ادّعاه لم يسمع منه ، بخلاف ما يتوصّل إليه بطريق النظر ، فإنّ النظريّات يغلب فيها الخطأ والاشتباه ، فإن ادّعى منكره الشبهة مع قيام احتمالها قبل منه ، لأصالة الإسلام وعموم درأ الحدود بالشبهات ، فيدرأ عنه التكفير.

وبالجملة : فالموجب للكفر هو إنكار ما جاء به النبيّ من عند اللّه مع العلم بأنّه كذلك ، سواء طرئه الضروريّة أو كان نظريّا توصل إليه بالبرهان.

وممّا يدلّ عليه مضافا إلى الأخبار المتقدّم إليها الإشارة الصريحة في كون الإقرار بكلّ ما جاء به النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم من عند اللّه معتبرا في دين الإسلام ، أخبار معتبرة اخر مستفيضة ، ففي صحيحة عبد الرحيم القصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديث « قال : الإسلام قبل الإيمان وهو يشارك الإيمان ، فإذا أتى العبد بكبيرة من كبائر المعاصي ، أو صغيرة من صغائر المعاصي ، الّتي نهى اللّه عنها كان خارجا من الإيمان ، وثابتا عليه اسم الإسلام ، فإن تاب واستغفر عاد إلى الإيمان ، ولم يخرجه إلى الكفر والجحود والاستحلال ، فإذا قال للحلال هذا حرام ، وللحرام : هذا حلال ، ودان بذلك فعندها يكون خارجا عن الإيمان والإسلام إلى الكفر » (1).

وفي مكاتبة له أيضا : « ولا يخرجه إلى الكفر إلاّ الجحود والاستحلال ، بأن يقول للحلال هذا حرام ، وللحرام : هذا حلال ، ودان بذلك فعندها يكون خارجا عن الإسلام والإيمان ، داخلا في الكفر ، وكان بمنزلة من دخل الحرم ، ثمّ دخل الكعبة وأحدث في الكعبة حدثا ، فأخرج عن الكعبة وعن الحرم ، فضرب عنقه » (2) ودلالتهما على أنّ المناط في كفر [ المنكر ](3) للضروري بل مطلق المقطوع به ، هو عدم الديانة به المتحقّق في ضمن الديانة بخلافه واضحة ، بل الأخير يدلّ على أنّ فعل ما ينافي تعظيم ما ثبت وجوب تعظيمه بضرورة من الدين يوجب الكفر ، ولا يكون إلاّ إذا صدر الفعل على وجه الإنكار المنافي للإقرار به بقرينة : « ودان بذلك ».

ص: 397


1- بحار الأنوار 5 : 32 / 39.
2- بحار الأنوار 65 : 256 / 15.
3- وفي الأصل : « الإنكار » بدل « المنكر » والصواب ما أثبتناه فى المتن بقرينة السياق.

وفي معناهما صحيحة أبي الصباح الكناني ، عن أبي جعفر عليه السلام « قال : قيل لأمير المؤمنين عليه السلام إذا شهد أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمّدا رسول اللّه ، يكون مؤمنا؟ قال عليه السلام : فأين فرائض اللّه؟ - إلى أن قال - فما بال من جحد الفرائض كان كافرا » (1).

فإنّ ذيله يدلّ على أنّ المراد بالإيمان في السؤال ما يرادف الإسلام ، وقد اعتبر فيه بقوله فأين فرائض اللّه؟ الإقرار بها ، لأنّ مراده عليه السلام بذلك بقرينة جحدها الموجب للكفر ، أين الإقرار بفرائض اللّه.

وفي معنى الجميع ولو باعتبار أنّ أخبار الأئمّة عليهم السلام بعضها يفسّر بعضا ، صحيحة عبد اللّه بن سنان ، قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يرتكب الكبيرة ، فيموت هل يخرجه ذلك من الإسلام ، وإن عذب كان عذابه كعذاب المشركين ، أم له مدّة وانقطاع؟ « فقال عليه السلام : من ارتكب كبيرة من الكبائر ، فزعم أنّها حلال أخرجه ذلك من الإسلام وعذّب أشدّ العذاب ، وإن كان معترفا أنّه ذنب ومات عليها أخرجه من الإيمان ، ولم يخرجه من الإسلام ، وكان عذابه أهون من عذاب الأوّل » (2).

وصحيحة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال - في حديث - فقيل له أرأيت المرتكب للكبيرة يموت عليها أتخرجه من الإيمان ، وإن عذّب بها فيكون عذابها كعذاب المشركين أو له انقطاع؟ « قال : يخرج من الإسلام إذا زعم أنّها حلال ، ولذلك يعذّب بأشدّ العذاب ، وإن كان معترفا بأنّها كبيرة ، وأنّها عليه حرام ، وأنّه يعذّب عليها ، وأنّها غير حلال ، فإنّه معذّب عليها وهو أهون عذابا من الأوّل ، ويخرجه من الإيمان ولا يخرجه من الإسلام » (3).

فإنّ المراد بالزعم فيها عقد القلب الّذي هو عبارة اخرى عن التديّن ، بخلاف المعصية المتضمّن لعدم التديّن بحرمة الحرام ولا وجوب الواجب.

ورواية [ أبي ] عمرو الزبيري عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، « قال : الكفر في كتاب اللّه عزّ وجلّ على خمسة أوجه ، فمنها كفر الجحود على وجهين ، والكفر بترك ما أمر اللّه عزّ وجلّ به ، وكفر البراءة ، وكفر النعم ، فأمّا كفر الجحود فهو الجحود بالربوبيّة والجحود على معرفة ، وهو أن يجحد الجاحد وهو يعلم أنّه حقّ قد استقرّ عنده ، وقد قال اللّه تعالى : ( وَجَحَدُوا بِها )

ص: 398


1- بحار الأنوار 66 : 19 / 2.
2- الكافي 2 : 285 / 23.
3- الكافي 2 : 280 / 10.

و ( اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ) (1) - إلى أن قال - الوجه الرابع من الكفر ، ترك ما أمر اللّه عزّ وجلّ به ، وهو قول اللّه عزّ وجلّ ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ) (2) فكفّرهم بترك ما أمر اللّه عزّ وجل به ونسبهم إلى الإيمان ولم يقبله منهم ولم ينفعهم عنده ، فقال : ( فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ ) (3).

وصحيحة بريد العجلي عن أبي جعفر عليه السلام ، قال سألته عن أدنى ما يكون به العبد مشركا؟ « قال : من قال للنواة حصاة وللحصاة أنّها نواة ثمّ دان به » (4) ، إلى آخر ما يقف به المتتبّع.

والمراد بالأخير كناية عن القول للحقّ أنّه باطل وللباطل أنّه حقّ ، أو للحلال أنّه حرام وللحرام أنّه حلال.

ثمّ إنّه لا فرق في وجوب الإقرار بالضروريّات ، وكفر منكرها بين ضروريّات الدين وضروريّات المذهب ، لأنّ الإقرار بها إنّما يجب لكونه إقرارا بما جاء به النبيّ من عند اللّه ، وهو معتبر بالنصّ والإجماع فيكون إنكاره كفرا ، وكما أنّ ما جاء به النبيّ قد يكون ضروريّا بين المسلمين بحيث لا يخفى كونه من الدين الّذي أتى به النبيّ من عند اللّه على أحد من المسلمين ، إلاّ من كان قريب العهد بالإسلام ، أو ساكنا في بلاد الكفر ، كذلك قد يكون ضروريّا بين الشيعة بحيث لا يخفى كونه من الدين الّذي أتى به النبيّ من عند اللّه على أحد من الشيعة ، إلاّ من كان قريب العهد بالتشيّع ، أو كان ساكنا في بلاد المخالفين ، فيكون الإقرار بكلّ منهما بعد العلم بأنّه ممّا أتى به النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم من عند اللّه على معنى قبوله والانقياد به وأخذه دينا معتبرا في الإسلام ، فيكون إنكاره على معنى عدم قبوله وعدم أخذه دينا كفرا ، سواء تضمّن إنكار الأوّل تكذيب النبيّ في إخباره به عن اللّه تعالى أو لا ، وإنكار الثاني تكذيب الأئمّة في إخبارهم به عن النبيّ أو لا.

وقضيّة كلام من جعل الكفر اللازم من إنكار الضروري باعتبار رجوعه إلى تكذيب النبيّ الّذي مرجعه إلى إنكار الرسالة ، أن لا يقول بكفر منكر ضروري المذهب ، بدعوى أنّه لا يكذّب النبيّ ، بل يكذّب الأئمّة في إخبارهم عن النبيّ ، فيكون إنكارا لإمامتهم.

وغاية ما يلزم من ذلك ، إنّما هو الخروج عن مذهب الشيعة الاثني عشريّة ، لا عن

ص: 399


1- سورة النمل : 14.
2- سورة البقرة : 85.
3- سورة البقرة : 85.
4- الكافي 2 : 397 / 1.

الإسلام ، بل هو المصرّح به في كلام غير واحد من أصحاب القول المذكور.

كما صرّح به العلاّمة المجلسي في رسالته الفارسيّة في العقائد المسمّى بحقّ اليقين (1) ، وتبعه بعض الأعلام في قوانينه ، قائلا : « اعلم أنّ ضروري الدين كما يستلزم إنكاره الخروج عن الدين ، فضروري المذهب أيضا يستلزم إنكاره الخروج عن المذهب » انتهى (2).

وفيه : ما عرفت ومحصّله : أنّ الضروري ليس عنوانا آخر سوى عنوان ما جاء به النبيّ الّذي يكون الإقرار به من الإسلام ، ولازمه أن يكون إنكاره كفرا ، وهذا أمر مشترك بين ضروري الدين وضروري المذهب ، فعلى هذا فإنكار ضروريّ المذهب قد يكون إنكارا لإخبار الأئمّة به عن النبيّ ، وقد يكون إنكارا لإتيان النبيّ به عن اللّه ، وقد يكون إنكارا لكونه من عند اللّه ، وإن أذعن بإخبار الأئمّة عن النبيّ وإخبار النبيّ عن اللّه.

وقد يكون إنكارا لكونه على وفق الحكمة ، وقد يكون إنكارا لقبوله وامتناعا للتديّن به ، والأوّلان لا يوجبان الكفر وإن كان الثاني يوجب الخروج عن المذهب ، والبواقي كلّها كفر وخروج عن الإسلام ، والمعنى المقصود في عنوان إنكار الضروريّ المعدود سببا مستقلاّ للكفر هو الأخير ، والكفر من جهته مشترك اللزوم بين ضروريّ الدين وضروريّ المذهب ، لكون كلّ ممّا جاء به النبيّ الّذي يجب الإقرار به لكونه من الإسلام.

ومن العجب ما في كلام شيخنا قدس سره من قوله : « وأمّا التديّن بالضروريّات ففي اشتراطه ، أو كفاية عدم إنكارها مع العلم بكونها من الدين ، وعدم اشتراط ذلك أيضا فلا يضرّ إنكارها مع العلم بكونها من الدين ، وجوه أقواها الأخير ، ثمّ الأوسط » (3) انتهى.

فأوّل ما يرد عليه : [ عدم ](4) التغاير بين الوجه الأوّل والثاني ، فإنّ الإنكار عبارة عن عدم التديّن ، فعدمه بضابطة النفي في النفي عبارة عن التديّن ، إلاّ أنّ يقال بملاحظة ثبوت الواسطة وهو التوقّف بمنع الملازمة ، لأنّ عدم التديّن بمعنى الإنكار أعمّ من التديّن والتوقّف ، وعدم استلزامه الأعمّ للأخصّ ضروريّ.

وثاني ما يرد عليه : أنّ ترجيح الوجه الأخير ، في معنى القول بأنّ إنكار ما جاء به النبيّ المقابل للإقرار به ، غير مضرّ في الدين والإسلام ، وهو خلاف النصّ والإجماع.

ثمّ إنّ في عنوان الإنكار الموجب للكفر وعدمه صورا ، ينبغي التعرّض لها لتشخيص

ص: 400


1- حق اليقين : 545.
2- قوانين الاصول 2 : 212.
3- فرائد الاصول 24 : 568.
4- زيادة يقتضيها السياق.

محلّ الكفر عن غيره :

الاولى : إنكار ما علم كونه ما أتى به النبيّ من عند اللّه بضرورة الدين ، أو المذهب ، أو بالنظر والبرهان ، ولا ريب في كونه كفرا بجميع تقاديره الثلاث.

الثانية : إنكار ما ظنّ كونه كذلك بواسطة الدليل الظنّي الثابت حجّيته بالأدلّة القطعيّة ، وهذا بواسطة عدم العلم بكونه بالخصوص ممّا أتى به النبيّ لا يوجب الكفر ، بل غايته الفسق والإثم.

نعم لو كان إنكاره ايّاه بحيث يؤدّي إلى إنكار الحكم الكلّي الاصولي ، وهو وجوب اتّباع ذلك الدليل الظنّي كما هو مفاد أدلّة الحجّيّة لزم منه الكفر ، لأنّ من جملة ما جاء به النبيّ هو ذلك الحكم الاصولي ، وكذا الحال في إنكار مؤدّى الدليل التعبّدي الغير المنوط حجّيّته بحصول الظنّ الفعلي ، كخبر العادل عند من يرى أدلّة حجّيّته بالخصوص تامّة ، فإنّ إنكاره وعدم التديّن به في الواقعة الخاصّة فسق ، وإذا رجع إلى إنكار الحكم الكلّي الاصولي الّذي هو أيضا ممّا أتى به النبيّ مع العلم به بواسطة قطعيّة أدلّة حجّيّته لزم منه الكفر ، وكذلك إنكار مفاد الأصل العملي كالاستصحاب وأصل البراءة ، فإنّه أيضا من حيث الخصوص ليس كفرا ، وإذا رجع إلى إنكار الحكم الكلّي المجعول للجاهل المعبّر عنه بالحكم الظاهري لزم الكفر.

الثالثة : انكار مؤدّى الأمارات الشرعيّة المعمول بها في الموضوعات كالبيّنة واليد وغيرها ومنها حكم الحاكم الشرعي ، فإنّ انكاره إنّما يوجب الكفر إذا رجع إلى إنكار وجوب اتّباعه الّذي هو مفاد أدلّة الحجّيّة ، لعموم أدلة الإقرار بما جاء به النبيّ.

وربّما يشير إلى ذلك في خصوص الحكم ما في مقبولة عمر بن حنظلة من قوله عليه السلام : ينظران إلى من كان منكم قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكما ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنّه استخفّ بحكم اللّه وعلينا ردّ ، والرادّ علينا الرادّ على اللّه وهو على حدّ الشرك (1).

وبما بيّناه ظهر حكم خرق الإجماع بسيطا ومركّبا المفيد للعلم بالحكم الواقعي باعتبار كشفه عن قول المعصوم ، أو عن رضاه ، أو عن كون المجمع عليه مأخوذا منه ، بناء على أنّ الأئمّة عليهم السلام كانوا يصدرون عن النبيّ ، فإنّه إذا كان على سبيل ردّ ما علم كونه ممّا

ص: 401


1- الوسائل 27 : 136 / 1 ، ب 11 من أبواب صفات القاضي.

جاء به النبيّ من عند اللّه ، وعدم قبوله دينا كفر ، لأنّه خلاف الإقرار بكلّ ما جاء به النبيّ من عند اللّه المأخوذ في الإسلام ، ولعموم ما تقدّم في المعتبرة من قوله عليه السلام : « يخرج من الإسلام إذا زعم أنّها حلال » ، وما بمعناه.

ومن ذلك علم حكم مخالفة الحكم العقلي فيما يستقلّ به العقل ، بناء على الملازمة بينه وبين الحكم الشرعي ، إذا كانت على سبيل الردّ وعدم قبوله دينا.

في وقت وجوب تحصيل المعارف

المسألة الرابعة : اختلف الأكثر القائلون بوجوب تحصيل المعارف بطريق العلم مطلقا أو اليقين الحاصل بالدليل ، وعدم كفاية التقليد فيها في وقت التكليف بتحصيل المعارف على أقوال :

فعن بعض المتكلّمين : أنّه وقت إمكان تحصيلها سواء كان قبل البلوغ الشرعي بسنين أو بعده كذلك ، فحيث أمكن توجّه الخطاب بتحصيلها ولو قبل البلوغ ، ومتى لم يمكن لم يتوجّه ولو بعد البلوغ ، لأنّ من شروط صحّة التكليف القدرة على المكلّف به ، ومع عدمها كان التكليف محالا.

وعن بعض الفقهاء : أنّ وقت التكليف بالمعارف هو وقت التكليف بسائر العبادات ، وهو البلوغ الشرعي الّذي هو في الذكر عبارة عن بلوغه خمسة عشر سنة ، وفي الانثى عن بلوغها تسعة سنين ، غير أنّه يجب المبادرة إلى تحصيل المعارف قبل الامتياز (1) بالأعمال.

وعن الشيخ : أنّ وقت التكليف بالمعارف في الذكر هو بلوغه عشر سنين عاقلا ، واعترض عليه : بحديث رفع القلم عن الصبيّ حتّى يحتلم أو حتّى يبلغ - على اختلاف الرواية - كما في النبويّ المروي بطرق الفريقين « رفع القلم عن ثلاثة عن الصبيّ حتّى يحتلم ، وعن المجنون حتّى يفيق ، وعن النائم حتّى ينتبه أو يستيقظ » (2) ، على اختلاف الرواية أيضا ، كما أعترض على سابقه : بأنّ الاناث مع ضعفهنّ ونقصان عقولهنّ ، كيف يكلّفن بتحصيل المعارف بعد تسعة سنين ، ولا يكلّف به الذكور إلى ستّة عشر سنة مع كمال عقلهم.

ودفع تارة : بالنقض بسائر العبادات والأعمال.

واخرى : بأنّ عدم بلوغ عقولنا إلى حكمة الفرق بين الفريقين لا يقضي بعدمها ، وفعل الشارع الحكيم لا يخلو عن حكمة ولو خفيّة لا ينتهي إليها العقول القاصرة ، مع أنّ صحّة

ص: 402


1- كذا فى الأصل.
2- بحار الأنوار 4 : 277 / 41 وصحيح البخاري كتاب الطلاق : 11 ، وسنن الترمذيّ كتاب الحدود : 1.

التكليف منوطة بالعقل ، والقدر المشترك منه الكافي في صحّة الخطاب حاصل لكلّ من الفريقين بعد بلوغه ، والفرق بينهما غالبا بالقوّة والضعف لا يوجب تفاوتا في الحكم ، مع أنّا نرى غالبا في الانثى بعد استكمالها التسع من الإدراك والتميز ما لا نجده للذّكر في هذا السنّ إلى ما يقرب من بلوغه الخمسة عشر.

وقد يجاب أيضا : بأنّ التكليف إنّما هو دون الطاقة بل الوسع ، والفرق مع الطاقة والوسع لعلّه لكونهنّ أحقّ بتعجيل الحمى - لنقصان عقولهنّ ، فعلمهنّ بعدم التكليف ادعى لهنّ إلى المعاصي - من الذكور ، ولأنّ الذكور لكونهم أكثر موردا للمحن والمصائب ، وأثقل أحمالا لتحمّلهم أحمال الإناث ، وتكلّفهم مؤنتهنّ لابدّ لهم في تحصيل التدرّب في امور المعاش من فرصة ليكمل لهم فيه التجارب.

فأقوى الأقوال أوسطها : لأصالة البراءة ، واستصحاب الحالة السابقة على حصول الإمكان قبل البلوغ الشرعي ، والإمكان حيثما حصل إنّما يجعل المورد متأهّلا لأن يتوجّه إليه الخطاب ، ولا يصلح مثبتا له ، بل المثبت له الدليل ، ولا دليل عليه من عقل ولا نقل.

أمّا الأوّل : فلأنّ الّذي يمكن توهّم الاستناد إليه من جهة العقل ، إنّما هو حكمه بوجوب النظر في معرفة اللّه دفعا للضرر المحتمل ، أو لإزالة خوف زوال النعمة ، أو خوف العقوبة عن النفس المترتّبين على عدم معرفة المنعم وعدم شكره بما يليق ، ويدفعه : أنّ القدر المسلّم منه إنّما هو حكمه بما ذكر بعد البلوغ الشرعي ، وأمّا قبله فلحكمه بالبراءة الأصليّة يؤمنه من ضرر زوال النعمة والعقوبة ، فتأمّل.

وأمّا الثاني : فلأنّ غاية ما يمكن الاستناد إليه من جهة النقل ، إنّما هو عمومات التكليف بالمعارف ، من نحو قوله ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللّهُ ) (1) وقوله : ( اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ) (2).

ويدفعه : أنّ هذه العمومات كسائر عمومات التكاليف معلّقة بشرائط التكليف التي منها البلوغ ، عملا بعمومات البلوغ الحاكمة عليها في متفاهم العرف ، مثل حديث « رفع القلم عن الصبيّ حتّى يحتلم » ، أو يبلغ (3) وما روي عن النبيّ أيضا ، أنّه قال : « إذا استكمل المولود خمسة عشرة كتب ما له وما عليه وأخذ منه الحدود » (4) ، وغير ذلك من أخبار إناطة

ص: 403


1- سورة محمّد ( ص ) : 19.
2- سورة الحديد : 17.
3- بحار الأنوار : 40 : 277 / 4.
4- الخلاف 3 : 283 ، وتلخيص الحبير 3 : 42 / 1241 ، وفتح العزيز 10 / 278.

تكاليف الصبيان وأحكامهم ببلوغهم ، وأدلّة تبعيّة أولاد المسلمين والكفّار لآبائهم في الطهارة والنجاسة إلى أن يبلغوا.

ويؤيّد الجميع : ظاهر المنقول في المصابيح (1) من إجماع الإماميّة بل إجماع المسلمين كافّة ، فإنّ العلماء مع اختلافهم في حدّ البلوغ بالسنّ مجمعون على أنّ البلوغ الرافع للحجر هو الّذي يثبت به التكليف ، وأنّ الّذي يثبت به التكليف في العبادات هو الّذي يثبت به التكليف في غيرها ، وأنّ الّذي يثبت به التكليف في بعض العبادات كالصلاة مثلا هو الّذي يثبت به التكليف في العبادات الباقية ، وهذا أمر ظاهر في الشريعة معلوم من طريقة فقهاء الفريقين وعمل المسلمين في الأعصار والأمصار من غير نكير.

ثمّ اختلف في أنّ المكلّف بالمعارف إذا اشتغل بالنظر في تحصيلها ، فهل هو في هذه الحالة كافر أو مؤمن؟ فعن المرتضى الجزم بكونه كافرا (2).

واستشكله الشيخ زين الدين - على ما حكي عنه - « بأنّه يلزم حينئذ أن نحكم بكفر كلّ أحد في أوّل كمال عقله الّذي هو أوّل وقت تكليفه بالمعرفة ، ويلزم أيضا لو مات في ذلك الوقت أن يكون مخلّدا في النار ، وهذا كلّه في غاية البعد من عدالته تعالى وسعة رحمته بل في بعض الصور يلزم الظلم وتكليف ما لا يطاق ، كما لو لم يقصّر فمات في ذلك الوقت ، أو قبل مضيّ زمان يسع النظر إلى أن يستكمل المعرفة ، إلاّ أن يقال : بأنّ هذا النوع من الكفر لا يوجب في صاحبه العذاب ، ويقال : بأنّ الإجماع على خلود الكافر في نار جهنّم مقصور على من اختار الكفر عن اعتقاد.

ولو قيل : بأنّ كلّ من لم يكن من أهل النار يدخل الجنّة ، بناء على عدم الواسطة بين هذين الفريقين ، فيلزم أن يكون غير المؤمن مخلّدا في الجنّة ، وهذا خلاف إجماعهم على عدم دخول غير المؤمن الجنّة.

فجوابه : إمكان كون دخول ذلك فيها نوعا من التفضّل ، كأطفال المؤمنين حيث يدخلونها تفضّلا ، بدعوى اختصاص الإجماع المذكور بمن كلّف بالإيمان ، ومضى عليه مدّة تسع تحصيله وقصّر فيه.

والتحقيق : أنّ مثل ذلك المفروض لا يحكم بإيمانه ولا بكفره حقيقة في مدّة نظره في تحصيل المعارف ، بل إنّما يجري عليه حكم الإيمان بتبعيّة أبيه وامّه كالأطفال ، لعدم تحقّق

ص: 404


1- المصابيح : ( مخطوط ) 17.
2- رسائل الشريف المرتضى 2 : 317.

التكليف عليه بتمامه حتّى يخرج من حكم الأطفال ، فهو باق على حالته الأوّليّة حتّى يمضي عليه زمان يمكنه النظر الموصل إلى الإيمان بتمامه » ، انتهى كلامه نقلا بالمعنى.

أقول : والظاهر أنّ موضوع المسألة المتنازع في حكمه ، من كمل بالبلوغ والعقل ، وكلّف بالمعرفة واشتغال بالنظر لتحصيلها ولم يستكملها بعد ، واحترزنا بالقيد الأوّل عن الأطفال لعدم وقوع اسم المؤمن ولا الكافر عليهم ، ولذا يحكم عليهم بالتبعيّة لآبائهم في الطهارة والنجاسة ، وبالثاني عن المجانين لما ذكرناه في الأطفال ، وبالثالث عن الّذين كانوا في قطر من الأرض لم يقرع بأسماعهم صيت الإسلام ولا الكفر ولم يفهموا أنّ في العالم دينا ومذهبا ، ضرورة عدم توجه الخطاب إليهم بتحصيل المعرفة ، لقبح تكليف الغافل وعدم جواز تكليف ما لا يطاق ، ولقوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) أو ( إِلاَّ وُسْعَها ) (1) وقوله أيضا : ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ) (2) وهؤلاء لم يقم عليهم البيّنة ، وللأخبار الواردة بأنّ اللّه عزّ وجلّ يحتجّ على العباد بما آتاهم وعرّفهم ، ولم يتمّ عليهم الحجّة.

وقضيّة ذلك أن لا يقع عليهم اسم المؤمن ولا الكافر ، أمّا الأوّل : فلأنّ المؤمن من الإيمان بمعنى التصديق باللّه سبحانه وبصفاته وعدله وبرسوله وبما جاء به الرسول وبالأئمّة عليهم السلام وباليوم الآخر وهؤلاء لا تصديق لهم.

وأمّا الثاني : فلأنّ الكافر يطلق لمعنيين :

أحدهما : الساتر للحقّ بعد ظهوره ، وهؤلاء ليسوا بذلك.

وثانيهما : من الكفر بالمعنى الّذي عرّفه أكثر المتكلّمين على ما حكي ، وهو عدم الإيمان ممّن شأنه الإيمان ، وهؤلاء لغفلتهم الصرفة ليس من شأنهم الإيمان ، بناء على أنّ مناط شأنيّة الإيمان ما يكفي في صحّة توجّه الخطاب بتحصيله ، وإن شئت فسّرها بالقوّة القريبة من الفعل ، احترازا عن الإمكان الذاتي.

وبالرابع (3) عمّن اختار عدم الإيمان مع تفطّنه بوجوب النظر فيه عن تقصير ، لعدم الاسترابة في وقوع اسم الكافر بالمعنى الثاني عليه ، وجريان أحكام الكفر عليه في الدنيا والآخرة.

وبالخامس عمّن استكمل القدر الواجب عليه من المعارف ، لعدم الاسترابة في وقوع

ص: 405


1- سورة الطلاق : 7 - البقرة : 286.
2- سورة الأنفال : 42.
3- أي واحترزنا بالقيد الرابع الخ.

اسم المؤمن عليه وجريان أحكام الإيمان عليه في الدنيا والآخرة.

وحينئذ نقول : إن كان النزاع راجعا إلى جريان أحكام المؤمن ، أو أحكام الكافر في الدنيا على الموضوع المفروض ، فالظاهر أنّ الحالة السابقة على البلوغ من الطهارة التبعيّة وغيرها في أولاد المؤمنين ، والنجاسة التبعيّة وغيرها في أولاد الكفّار ، مستصحبة إلى أن يستكمل القدر الواجب من المعرفة ، لطروّ الشكّ في قدح العارض وهو التشاغل بالنظر في تحصيل المعرفة ، وإن كان راجعا إلى وقوع اسم « المؤمن » أو اسم « الكافر » عليه ، فالظاهر عدم وقوع اسم « المؤمن » عليه لعدم التصديق مطلقا ، ولا وقوع اسم « الكافر » بمعناه الأوّل لأنّه لم يستر حقّا بعد ظهوره ، ولا بمعناه الثاني إلاّ إذا اريد من عدم الإيمان ممّن شأنه الإيمان عدمه بقول مطلق ، أي سواء اختار العدم بترك التشاغل بالنظر لتقصير ، أو لا باختيار التشاغل ، وهذا غير واضح وإن ساعد عليه إطلاق التعريف ، مضافا إلى عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة في المعنى المذكور على إطلاقه ، وبدونه لا ينفع الإطلاق على الوجه المفروض ، فعدم وقوع شيء من الاسمين عليه أولى بالإذعان ، كما عرفت عن الشهيد الثاني.

وإن كان راجعا إلى حكمه في الآخرة لو اتّفق موته في هذه الحالة ، فهل يجري عليه حكم الكفر أو الإيمان؟ فالّذي ينبغي أن يقطع به هو عدم العذاب والدخول في النار بقول مطلق ، للزوم الظلم ومنافاته قواعد العدل وأمّا أنّه يدخل الجنّة مطلقا ، أو أنّه من أهل الأعراف كذلك ، أو أنّه تعالى يعامل معه بمقتضى علمه ، فإن علم أنّه لو بقي حيّا صار مؤمنا فيدخله الجنّة ، أو آل أمره إلى خلاف الإيمان في بعض الجهات فيعذّبه بالنار ، أو أنّه إن كان من أولاد المؤمنين فحاله كحال أطفال المؤمنين في التبعيّة للآباء في الدخول في الجنّة ، وإن كان من أولاد الكفّار فحاله كحال أطفالهم المختلف فيها قولا ورواية وجوه ، لم نقف على دليل لتعيين بعضها ، فالتوقّف عن التعيين سبيل النجاة ، ثمّ إنّ باقي ما يتعلّق بمسألة الظنّ في اصول الدين وغيره قد أوردناه في الباب المتقدّم ذكره.

في انجبار الظنّ الغير المعتبر

الأمر الخامس

إذا قلنا بعدم حجّيّة ظنّ أو بعدم حجّية الظنّ المطلق ، فهل نفي الحجّيّة يستلزم سلب جميع الآثار من الطريقيّة والجابريّة والموهنيّة والمرجحيّة أو أنّه مقصور على الطريقيّة؟

ص: 406

فيترتّب عليه سائر الآثار ، مثل كونه جابرا ضعف سند أو قصوره ، أو قصور دلالة من جهة الإجمال أو ضعفها ، كالدلالة على المفهوم في التعليق على الوصف المشعر بالعلّيّة ، أو موهنا لسند معتبر في نفسه ، أو دلالة معتبرة ، أو مرجّحا لأحد المتعارضين على الآخر ، فها هنا مباحث :

المبحث الأوّل

في انجبار الظنّ الغير المعتبر

فنقول : إنّ عدم اعتبار الظنّ المبحوث كونه جابرا إمّا أن يكون من جهة ورود النهي عنه بالخصوص كالقياس ، أو من جهة دخوله في أصالة التحريم بالعموم.

أمّا القسم الأوّل : فينبغي القطع بعدم كونه صالحا للجبر في جميع وجوهه ، لعموم النهي الوارد في الأخبار الناهية المفيد لكون استعمال القياس في الدين مبغوضا للشارع ، سواء كان استعماله على وجه اتّخاذه دليلا على الحكم الشرعي بالاستقلال ، أو على وجه جعله جابرا لضعف أو قصور سند أو دلالة ، من غير فرق بين كون الجهة الباعثة على نهي الشارع اشتماله على مفسدة ذاتيّة ، أو غلبة مخالفته الواقع.

وأمّا القسم الثاني : فظاهر أدلّة أصالة التحريم من عمومات الآيات والروايات يساعد على عدم صلاحيّته للجبر أيضا ، فإنّ اتّخاذه جابرا للسند اتّباع لما عدا العلم ، فيعمّه قوله تعالى : ( لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (1) واتّباع للظنّ فيعمّه المنع المستفاد من قوله : ( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ ) (2) ويتأكّد ذلك بالتعليل بأنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئا ، لدخول جبر السند في عموم النكرة المنفيّة.

نعم يمكن أن يستظهر جواز الجبر به من الأدلّة المتقدّمة في حجّيّة خبر الواحد الدالّة على إناطة الحجّيّة بالظنّ والوثوق بصدوره ، لرجوع الظنّ الموافق للخبر الضعيف إلى الظنّ بصدوره ، فيكون حجّة بموجب أدلّة الحجّيّة ، وهذا هو معنى الجبر ، إلاّ أن يدفع الاستظهار : بأنّ مفاد أدلّة حجّيّة المجبور كونه مفيدا للظنّ بصدوره ولو لقرينة داخليّة ، لا مجرّد كونه مظنون الصدور وإن حصل الظنّ من أمارة خارجيّة غير معتبرة.

ومحلّ البحث هو هذا فلا يندرج في أدلّة الحجّيّة ، وهذا هو الّذي يساعد عليه التدبّر

ص: 407


1- سورة الإسراء : 36.
2- سورة الأنعام : 116.

في مساق أدلّة الحجّيّة ، فإنّ العمدة منها في الدلالة على المناط المذكور هي الطائفة الثانية من الأخبار المتقدّمة في باب حجّيّة خبر الواحد ، الدالّة على كون مناط الحجّيّة وثاقة الراوي ، أو عدالته أو أمانته ، بعبارة : أنّ فلانا ثقة ، أو أنّ فلانا وفلانا ثقتان ، أو أنّ فلانا مأمون في دينه ، وما يؤدّي مؤدّى هذه العبارات.

ولا ريب أنّه لا ينساق منها أزيد من كون مناط الحجّيّة إفادة الخبر باعتبار وثاقة الراوي ومأمونيّته الظنّ والوثوق بصدوره ، وهذا ليس من جبر ضعف السند ، أو قصوره بالظنّ الغير المعتبر في شيء.

لا يقال : إنّ ما في جملة من الأخبار العلاجيّة ، كمقبولة ابن حنظلة ومرفوعة زرارة ، وغيرهما من الدلالة على الترجيح تارة بأعدليّة الراوي ، أو أصدقيّته ، أو أفقهيّته ، واخرى بموافقة الكتاب أو مخالفة العامّة ، دليل على أنّ مناط الحجّيّة أعمّ من كونه بنفسه مفيدا للظنّ بصدوره ، كما في الترجيح بالأعدليّة واختيها ، لأنّها من القرائن الداخليّة ، أو كونه مظنون الصدور لأمارة خارجيّة ، كما في الترجيح بموافقة الكتاب أو مخالفة العامّة ، لأنّهما من القرائن الخارجيّة.

لأنّا نقول : إنّ إناطة ترجيح إحدى الحجّتين على الاخرى بما يوجب ظنّ الصدور ، غير إناطة إثبات الحجّيّة بما يفيد ظنّ الصدور ، وكلامنا في الثاني فلا يندرج في أخبار الترجيح.

ويظهر الثمرة : في الخبر الضعيف الخالي عن المعارض المظنون صدوره من جهة أمارة خارجيّة غير معتبرة ، فهل يصير بمجرّد ذلك حجّة أو لا؟ الوجه العدم لعدم جواز التعويل على الظنّ المذكور ، لعموم أصالة التحريم وعدم الدليل المخرج له عنها.

وممّا ذكرنا اتّضح أنّ ما اشتهر بينهم ، من انجبار ضعف سند الخبر بالشهرة في الفتوى كما نسب إلى المشهور ممّا لا أصل له ، وفاقا لثاني الشهيدين (1) المنكر لقاعدة الانجبار ، إذ غاية ما يمكن أن يقال في بيان مدركه أنّ الشهرة توجب الظنّ بصدوره ، والخبر المظنون صدوره حجّة.

وفيه : منع كلّ من الصغرى والكبرى.

أمّا الأوّل : فلمنع إفادة الشهرة في الفتوى الظنّ بصدور ذلك الخبر ، بل أقصى ما يفيده الظنّ بمطابقة مضمونه لنفس الأمر.

ص: 408


1- المسالك 6 : 156.

وأمّا الثاني : فلأنّه على فرض تسليم استلزامه الظنّ بصدور ذلك الخبر ، قد عرفت أنّه لا دليل على حجّيّة الخبر المظنون الصدور على إطلاقه.

وقد يعلّل منع الكبرى بأنّ جلّهم لا يقولون بحجّيّة الخبر المظنون الصدور مطلقا ، فإنّ المحكي عن المشهور اعتبار الإيمان في الراوي ، مع أنّه لا يرتاب أحد في إفادة الموثّق الظنّ بصدوره ، فإن قيل : إنّ ذلك لخروج خبر غير الإمامي بالدليل الخاصّ ، مثل منطوق آية النبأ ، ومثل قوله عليه السلام : « لا تأخذنّ معالم دينك من غير شيعتنا » (1).

قلنا : إن كان ما خرج بحكم الآية والرواية خاصّا بما لا يفيد الظنّ فلا يشمل الموثّق ، وإن كان عامّا له ولما يفيده ، كان خبر غير الإمامي المنجبر بالشهرة والموثّق متساويين في الدخول تحت الدليل المخرج ، ومثل الموثّق خبر الفاسق المتحرّز عن الكذب ، والخبر المعتضد بالأولويّة والاستقراء وسائر الأمارات الظنّيّة ، مع أنّ المشهور لا يقولون بذلك.

وبالجملة : فالفرق بين الضعيف المنجبر بالشهرة ، والمنجبر بغيرها من الأمارات ، وبين الخبر الموثّق المفيد لمثل الظنّ الحاصل من الضعيف المنجبر ، في غاية الإشكال ، خصوصا مع عدم العلم باستناد المشهور إلى ذلك الخبر الضعيف.

وقد يدّعى كون الجبر بالشهرة مستفادا من مقبولة عمر بن حنظلة ، ومرفوعة زرارة الآمرين بالأخذ بما اشتهر بين الأصحاب من المتعارضين.

وفيه : نظر ما تقدّم من أنّ ترجيح إحدى الحجّتين في مقام التعارض بالشهرة ، لا يلازم حجّيّة غير الحجّة في نفسه في غير مقام التعارض بالشهرة ، مع أنّ كلامنا في الشهرة في الفتوى ، وهذه شهرة في الرواية ، ولذا فرض الراوي فيما بعد ذلك كون الخبرين معا مشهورين ، وتوهّم التعدّي إلى الشهرة في الفتوى بقوله : « فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه » ، نظرا إلى أنّه من العلّة المنصوصة المفيدة للعموم ، يدفعه ، أنّه عامّ في مورده ، فإنّ المجمع عليه معناه المجمع على روايته ، للقرينة المذكورة من أنّ المتعارضين قد يكونان معا مشهورين.

نعم لو كان الشهرة حاصلة على العمل بالخبر الضعيف ، وقد يقال لها : الشهرة الاستناديّة ، ومعناها كون مستند المشهور في الفتوى هو العمل بذلك الخبر الضعيف ، فقد يقال بكونها جابرة دون ما لم يعلم استنادها إليه.

ص: 409


1- الوسائل 27 : 150 / 42 ، ب 11 من أبواب صفات القاضي.

وقد يوجّه ذلك : بأنّ عمل المعظم أو الأكثر به ، يكشف عن قرينة صدق لو عثرنا عليها لعملنا به من جهتها أيضا ، وهذا أيضا مشكل ، لأنّ غاية ما هنالك الكشف الظنّي عن وجود القرينة ، وأقصاه صيرورة الخبر بالنسبة إلينا مظنون الصدق والصدور من جهة أمارة ظنّيّة غير معتبرة ، وأيّ دليل على كفاية ذلك الظنّ لنا في العمل بالخبر الضعيف مع عموم أصالة تحريم العمل بالظنّ؟ وربّما حكي كون الخبر الضعيف المنجبر من الظنون الخاصّة حيث ادّعي الإجماع على حجّيّته وهو غير ثابت.

وقد يدّعى (1) : كون جبر السند بالشهرة [ مستفادا ] من مفاد منطوق آية النبأ الدالّ على جواز قبول خبر الفاسق بعد التبيّن ، بناء على أنّه أعمّ من التبيّن الظنّي ، والنظر في الشهرة فتوى أو عملا أو رواية من حيث استلزامه الظنّ بصدق الخبر الضعيف تبيّن ظنّي.

ويزيّفه : بعد منع الاستلزام في بعض أقسام الشهرة ، أنّ البناء على تعميم التبيّن يأباه أوّلا : مادّة التبيّن ، لكونه من البيان بمعنى الوضوح ، فيكون ظاهرا في التبيّن العلمي ، فلا يصرف عنه إلاّ لقرينة مفقودة في الآية.

وثانيا : لفظ « الجهالة » لظهوره فيما يقابل العلم ، والظنّ الغير المعتبر كما هو مفروض المقام غير خارج منه.

نعم لو كان الظنّ المأخوذ في التبيّن الظنّي من الظنون المعتبرة خصوصا أو عموما قام بمقتضى دليل اعتباره مقام العلم ، ومفروض المسألة ليس منه.

وثالثا : تعليل الأمر بالتبيّن بما يوجب الندم ، وظاهر أنّ التعويل على الظنّ الغير المعتبر في العمل بالخبر الضعيف اكتفاء بالتبيّن الظنّي المفروض من موجبات الندم ، فيشمله المنع من العمل المستفاد من المنطوق.

وهذه الوجوه هو التحقيق في الجواب ، لا ما عساه يجاب من : « أنّه إن اريد من التبيّن الظنّي ما يبلغ حدّ الاطمئنان ، الّذي معياره سكون النفس ، رجع ذلك إلى اعتبار الظنّ الاطمئناني بالواقع ، فهو الحجّة في الحقيقة من دون مدخليّة لخصوص الخبر ، والمقصود من الاستدلال بالآية ، جعل الخبر حجّة من جهة استحصال الظنّ بصدقه من الشهرة لا غير ، وإن اريد به ما يوجب رجحان الصدق وإن لم يبلغ حدّ الاطمئنان ، فحمل الآية عليه بمكان من الفساد ، لرجوعه في الحقيقة إلى إلغاء الآية وإخراج كلام الحكيم لغوا ، لأنّ لزوم

ص: 410


1- إدّعاه الوحيد البهبهاني في الفوائد الحائريّة : 487 ، وكذا كاشف الغطاء في كشف الغطاء : 38.

طلب رجحان الصدق في العمل بالخبر من ضروريّات العقول ، ولا يوجد عاقل يعمل به مع الحيرة والتردّد في صدقه وكذبه ، فحمل كلام الحكيم عليه إرجاع له إلى توضيح الواضح » ، فإنّه في محلّ البحث غير جيّد ، لبناء الكلام على عدم اعتبار الظنّ المدّعى كونه جابرا ، فلا ينفع بلوغه حدّ الاطمئنان في كونه حجّة.

فنقول في منع جابريّته : إنّه في نفسه غير حجّة ، ولا أنّه قابل لجبر ضعف الخبر ولا قصوره إلاّ على تقدير ثبوت التعميم في التبيّن ، وقد عرفت منعه بما ذكرناه من الوجوه.

وبما ذكر علم الوجه في عدم جواز جبر الدلالة قصورا من جهة الإجمال كقوله عليه السلام : « اعتدي ثلاثة قروء » (1) أو ضعفا كدلالة الكلام باعتبار التعليق على الوصف على المفهوم الوصفي ، فلو وجدنا الشهرة العمليّة بين العلماء في إيجاب الاعتداد بثلاثة أطهار ، أو في نفي وجوب الزكاة في معلوفة الغنم ، فلا ينجبر بها قصور دلالة الأوّل ولا ضعف دلالة « في الغنم السائمة زكاة ».

أمّا أوّلا : فلأنّ غاية ما فيها الكشف الظنّي عن الحكم الواقعي ، لا عن كون ذلك مرادا من الخطاب.

وأمّا ثانيا : فلأنّ هذا الكشف الظنّي على تقدير رجوعه إلى المراد لا يجوز التعويل عليه ، لمكان عدم اعتبار ذلك الظنّ ، ويؤيّده : أنّ الظنّ الغير المعتبر كالحاصل من النوم أو الرمل أو الجفر أو خبر الصبيّ والقياس ، كما لا يصلح مزاحما للظهور اللفظي فيما كان ظاهر الدلالة على المعنى المراد - بناء على ما حقّقناه في غير موضع ، وسنذكره أيضا كون الظهور اللفظي معتبرا من باب الظنّ النوعي ، وهو كون اللفظ بحيث لو خلّي وطبعه مفيدا للظنّ بالمعنى المراد ، وإن اتّفق في مورد عدم حصول ظنّ منه فعلا ، لفقد شرط أو وجود مانع كالظنّ الغير المعتبر بالخلاف ، ومرجعه إلى عدم كون الظنّ الفعلي بالمراد شرطا في اعتبار الظهور ، ولا كون الظنّ الغير المعتبر بخلافه مانعا منه فكذلك لا يصلح محرزا للظهور ، الّذي لا يتأتّى إلاّ بكون الكلام بنفسه أو بواسطة القرائن المعتبرة ظاهرا في معنى على أنّه المراد منه ، وهو المقصود من جبر الدلالة.

وبما بيّناه ظهر أنّ ما قيل : من « أنّ ما اشتهر من أنّ ضعف الدلالة منجبر بعمل الأصحاب غير معلوم المستند » في محلّه ، إن اريد بعمل الأصحاب الشهرة الفتوائيّة ، وأمّا

ص: 411


1- الوسائل 22 : 254 / 1 ، ب 38 كتاب الطلاق.

دعوى انجبار قصور الدلالة بفهم الأصحاب كما اشتهرت أيضا ، فمن مشايخنا (1) من يظهر منه تصحيحها ، مبيّنا للفرق بينه وبين سابقه « بأنّ فهم الأصحاب وتمسّكهم به كاشف ظنّي عن قرينة على المراد ، بخلاف عمل الأصحاب ، فإنّ غايته الكشف عن الحكم الواقعي الّذي لا يستلزم كونه مرادا من ذلك اللفظ » ويشكل الاكتفاء في الأوّل بالكشف الظنّي عن قرينة المراد ، فإنّ المعتبر في القرينة المعيّنة للمراد القطع بوجودها.

نعم لا يعتبر كون دلالتها قطعيّة حيث كانت لفظيّة ، بل يكفي ظهورها اللفظي ، كما في « يرمي » في « رأيت أسدا يرمي » ، فلا بدّ في جبر قصور الدلالة بفهم الأصحاب من كشفه القطعي عن وجود قرينة مع الخطاب لو عثرنا عليها لعملنا بها في استكشاف المراد من اللفظ المفروض كونه بنفسه قاصر الدلالة على المعنى المبحوث عنه.

في توهين الظنّ الغير المعتبر للدليل المعتبر

المبحث الثاني :

في توهين الظنّ الغير المعتبر للدليل المعتبر ، على معنى تأثيره في وهنه وضعفه ، بحيث خرج عن الاعتبار وسقط عن الحجّية.

فنقول : إنّ عدم اعتبار الظنّ المذكور إمّا للدّليل على عدم اعتباره بالخصوص كالظنّ القياسي ، أو لعدم الدليل على اعتباره بالخصوص ، فيدخل في عموم أصالة التحريم.

أمّا الأوّل : فالدليل المعتبر الّذي يبحث في وهنه بالظنّ المذكور ، إمّا أن يكون معتبرا من باب الظنّ النوعي ، على معنى كون نوعه لو خلّي وطبعه مفيدا للظنّ بالواقع ، وإن لم يفده في بعض الأحيان لمانع ، أو يكون معتبرا من باب التعبّد المطلق ، بأن تكون الحجّيّة قائمة بذات السبب من غير نظر إلى ظنّ شخصي ولا نوعي ، أو يكون معتبرا من باب التعبّد مقيّدا بعدم الظنّ على الخلاف الّذي يقال له : السببيّة المقيّدة ، أو يكون معتبرا من باب الوصف ، أي بشرط إفادته الظنّ الفعلي بالواقع.

وعلى الأوّل فدليل اعتباره على الوجه المذكور إمّا الشرع ، كالخبر الصحيح بناء على كونه من الظنون الخاصّة الملحوظة عند الشارع على هذا الوجه ، أو بناء العرف الّذي أمضاه الشارع وقرّره في خطاباته ومكالماته ، كأصالة الحقيقة وغيرها من الظواهر اللفظيّة ، فالأنواع خمس.

ص: 412


1- فرائد الاصول 1 : 585.

فإن كان المقابل للظنّ القياسي ممّا اعتبر شرعا أو عرفا من باب الظنّ النوعي ، فالذي ينبغي أن يقطع به هو عدم توهينه له ، وعدم تأثيره في وهنه ، فلو حصل الظنّ من القياس في مورد على خلاف مدلول الخبر الصحيح الموجود فيه ، أو على خلاف مؤدّى الظهور اللفظي الموجود فيه ، كان الخبر والظهور على اعتبارهما من دون خلل فيه باعتبار مخالفة القياس لهما ، لأنّ نهي الشارع عنه المعلّل بغلبة مخالفته الواقع ، وأنّ ما يفسده أكثر ممّا يصلحه يقتضي نفي جميع الآثار المترتّبة عليه ، فكما أنّه باعتبار هذا النهي لا يؤثّر قوّة للضعيف ، فكذلك لا يؤثّر باعتباره ضعفا للقويّ ، لأنّ كلاّ من القوّة والضعف من الآثار المنفيّة بحكم النهي المذكور المعلّل بالعلّة المذكورة.

ويؤيّده بل يدلّ عليه أيضا استقرار السيرة المستمرّة بين العلماء فيما دلّ على اعتباره الشرع ، وبين أهل العرف فيما دلّ على اعتباره بناء العرف ، على عدم التوقّف عن العمل حتّى يفحصوا عن وجود القياس على الخلاف ، مع أنّ العلماء يوجبون الفحص عن المعارض في العمل بالدليل ، والفحص عن الموهن على تقدير ثبوت الموهنيّة كالفحص عن المعارض ، وكما أنّ الثاني واجب فكذلك الأوّل ، والسيرة المستمرّة تنفيه في الأوّل ، وإمضاء الشارع لبناء العرف في الظهورات اللفظيّة حصل على هذا الوجه.

ولا ريب [ أنّ ] السيرة النافية لوجوب الفحص عن الموهن في النوعين كاشفة عن عدم الموهنيّة ، وأيضا فلو كان القياس ممّا ثبت له في نظر الشارع صفة الموهنيّة ، لكان على أصحابنا الإماميّة أن يدوّنوه ، ويتعرّضوا لضبط أقسامه ، ويذكروا شرائطه في كتبهم الاصوليّة أو الفقهيّة على حسبما صنعه العامّة العاملين بالقياس ، لينتفعوا به ويرجعوا إليه في مقام توهين الدليل ، والتالي باطل لإعراضهم الكلّي عن القياس المعلوم بضرورة من مذهبهم.

وأقوى ما يشهد بما ذكرنا ، أنّ العاملين بالقياس في الأحكام ذكروا لحجّيّته شروطا ، منها : خلوّ الواقعة عن النصّ من كتاب أو سنّة ، بل خلوّها عن خبر الواحد ، وهذا صريح في نفي صلاحيّة القياس لتوهين الدليل من آية أو رواية معتبرة حتّى عند العاملين به ، وكذا الكلام فيما كان المقابل له ما اعتبر على وجه التعبّد مطلقا بل الأمر فيه أوضح.

وأمّا لو كان المقابل له ما اعتبر على وجه التعبّد المقيّد ، أو من باب الوصف فهل يوجب وهنا فيهما أو لا؟ وجهان ، من أنّه يوجب انتفاء القيد العدمي في أوّلهما ، وانتفاء الشرط في ثانيهما ، فخرجا عن الاعتبار ضرورة أنّه إذا انتفى القيد انتفى المقيّد ، وأنّه إذا

ص: 413

عدم الشرط عدم المشروط ، ومن النهي المقتضي لنفي الآثار فلا ينبغي أن يؤثّر في الوهن.

ولكن يزيّفه : أنّه إنّما ينفي الآثار الشرعيّة المجعولة ، كالحجّيّة والجابريّة والمرجّحيّة ونحوها.

ولا ريب أنّ انتفاء القيد العدمي ، أو الشرط الوجودي بسبب الظنّ القياسي على الخلاف ، أثر عقلي يترتّب عليه قهرا.

والوهن الّذي معناه الخروج عن الاعتبار مستند إلى ذلك الأثر ، بل إسناد التوهين إلى القياس وظنّه مسامحة ، لأنّ الخروج عن الاعتبار يستند حقيقة إلى انتفاء القيد وفقد الشرط ، ولمّا كان العلّة في الانتفاء والفقد هو الظنّ القياسي على الخلاف ، فيسند إليه التوهين إسنادا للشيء إلى العلّة الاولى ، فالأوجه كونه موجبا للوهن فيهما.

نعم يمكن أن يقال - في منع التوهين فيهما أيضا - بأنّ مقتضى نهي الشارع عن القياس سقوط الظنّ القياسي في نظر الشارع ، بحيث لم يلتفت إليه في شيء من الموارد ، ولم يلحظه في شيء من المقامات الّتي منها مقام جعل الطرق ولو على أحد الوجهين المذكورين ، ومرجعه إلى أنّ وجوده وعدمه سيّان ، وأنّ وجوده بمثابة عدمه في نظره.

وقضيّة ذلك أن يكون مزاحمته للخبر المجعول على وجه التعبّد المقيّد ، أو بشرط إفادته الظنّ بالواقع فعلا في نظره ، بمثابة عدم مزاحمته له بالنظر إلى إصابة الواقع ، على معنى أنّ حالة كونه مزاحما بالظنّ القياسي مع حالة عدم كونه مزاحما به سيّان في نظر الشارع ، من حيث إصابته الواقع وإيصاله إليه ، ضرورة أنّه على تقدير كونه مشغولا بمزاحمة الظنّ القياسي يفيد من إصابة الواقع في نظر الشارع نحو الاصابة الّتي يفيدها على تقدير عدم كونه مشغولا بالمزاحمة ، قضيّة لكون وجود ذلك الظنّ في نظر الشارع بمثابة عدمه ، وهذا هو معنى عدم تأثيره في الوهن ، وإن أوجب انتفاء القيد العدمي أو الشرط الوجودي ، فإنّه لا يقدح في الاعتبار والحجّيّة في نظر الشارع ، اكتفاء منه بإصابة الواقع نحو الإصابة الحاصلة حال عدم انتفائهما ، بل لك أن تمنع انتفاء القيد العدمي فيما قيّد به ، مع وجود الظنّ القياسي على الخلاف ، بتقريب : أنّ الشارع الناهي عن القياس من جهة كون وجود ظنّه في نظره بمثابة عدمه عند تقييده الخبر المزاحم به ، إنّما قيّده بعدم الظنّ الغير القياسي على الخلاف.

ولا ريب أنّ هذا القيد غير منتف في صور وجود الظنّ القياسي على خلاف مؤدّاه.

ص: 414

نعم هذا البيان لا يجري فيما كان اعتباره مشروطا بإفادته الظنّ الفعلي ، لاستحالة اجتماع ظنّين في طرفي نقيض النسبة.

ولكن نقول : إنّ انتفاء الشرط إنّما يقدح في الاعتبار إذا كان شرطا تعبّديّا ، ولعلّه موضع منع ، بل هو شرط توصّلي قصد به التوصّل إلى إحراز إصابة الواقع.

ولا ريب أنّ إصابة الواقع تتّبع شأنيّة إفادة الظنّ لا فعليّة إفادته ، والظنّ الفعلي إنّما اعتبر حصوله لكونه كاشفا عن شأنيّة إفادته ، والظنّ القياسي يمنع من فعليّة إفادته لا شأنيّته ، وعليها مدار إصابة الواقع لا على الفعليّة.

فإن قلت : هذا على تقدير تسليمه إنّما يتمّ لو كان اعتبار الدليل بشرط إفادته الظنّ الفعلي ثابتا بحكم الشارع ، ولا يتمشّى فيما ثبت بحكم العقلي من جهة الالتجاء والاضطرار إلى العمل به ، لتعذّر العلم وانسداد بابه ، لأنّ العقل إنّما يحكم به لكون أقرب إلى العلم المفروض تعذّره ، فإذا اتّفق الظنّ القياسي على خلافه صار مؤدّاه موهوما.

ولا ريب أنّ الوهم أبعد من العلم ، فلا يشمله الحكم العقلي بالاعتبار لمجرّد ما فيه من شأنيّة إفادة الظنّ.

قلت : مناط حكم العقل وإن كان أقربيّة الظنّ إلى العلم ، ولكن مناط هذا المناط إنّما هو الأقربيّة إلى الواقع ، لأنّ العلم هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع.

ولا ريب أنّ مدار الأقربيّة إلى الواقع على شأنيّة إفادة الظنّ لا على فعليّته ، فإذا اطّلع العقل على نهي الشارع عن القياس المقتضي لكون وجود الظنّ الحاصل منه على خلاف ما حكم العقل باعتباره بشرط إفادته الظنّ في نظر الشارع بمثابة عدمه ، كان حالة مزاحمة الظنّ القياسي له وحالة عدم مزاحمته له سيّان في نظره أيضا من حيث إيصاله إلى الواقع ، فالظنّ القياسي على الخلاف كما لا يقدح في الاعتبار في نظر الشارع ، كذلك لا يقدح فيه في نظر العقل.

قال شيخنا قدس سره في جملة كلام له في هذا المقام : « إنّ العقلاء إذا وجدوا في شهرة خاصّة أو إجماع منقول مقدارا من القوّة والقرب إلى الواقع ، والتجأوا إلى العمل على طبقها مع فقد العلم ، وعلموا ببيان الشارع أنّ حال القياس أنّه لا عبرة بما يفيده من الظنّ ، ولا يرضى الشارع بدخله في دين اللّه ، لم يفرّقوا بين كون الشهرة والإجماع المذكورين مزاحمين بالقياس أو لا ، لأنّه لا ينقصهما ممّا هما عليه من القوّة والمزيّة المسمّاة بالظنّ الشأني

ص: 415

والنوعي والطبعي.

ومن هنا صحّ للقائلين - لأجل الانسداد - بمطلق الظنّ إلاّ ما خرج ، أن يقولوا بحجّيّة الظنّ الشأني ، بمعنى أنّ الظنّ الشخصي إذا ارتفع عن الأمارات المشمولة لدليل الانسداد بسبب أمارة خارجة عنها ، لم يقدح ذلك في حجّيّتها ، بل يجب القول بذلك على رأي من يجري دليل الانسداد في كلّ مسألة كما يظهر من صاحب القوانين (1) - لأنّه إذا فرض في مسألة وجود أمارة مزاحمة بالقياس ، فلا وجه للأخذ بخلاف تلك الأمارة ، فافهم.

هذا كلّه مع استمرار السيرة على عدم ملاحظة القياس في شيء من الموارد الفقهيّة ، وعدم الاعتناء به في الكتب الاصوليّة ، فلو كان يترتّب عليه أثر ولو في الوهن ، لوجب التعرّض له في الاصول ، والبحث والتفتيش عن وجوده في مسائل الفروع ، لأنّ الفحص عن الموهن كالفحص عن المعارض واجب » (2).

أقول : ويؤيّد جميع ما ذكرناه في منع موهنيّة القياس مطلقا ، الرواية الواردة في قصّة أبان (3) ، الدالّة على ردع الإمام عليه السلام إيّاه ، في ردّه الخبر الوارد في تنصيف دية أصابع المرأة بعد بلوغها ثلث الدية لمجرّد مخالفته القياس ، فإنّها صريحة - من جهة كونها في سياق الذمّ على ترك الخبر بسبب القياس - في وجوب قبوله مع مزاحمة القياس له ، فتدبّر.

هذا كلّه ولكنّ الانصاف أنّ القياس في مقابلة الدليل المعتبر المفروض وجوده في المسألة لا يفيد الظنّ على خلاف مؤدّى ذلك الدليل ، حتّى يتكلّم في إيراثه الوهن في الدليل وعدمه ، ويبنى عدمه بالنسبة إلى ما اعتبر من باب السببيّة المقيّد ، أو من باب الوصف على التوجيه المتقدّم المبنيّ على التكلّف ، لا لما ذكره غير واحد من الأصحاب من أنّه لا يفيد الظنّ بملاحظة منع الشرع ، وأنّ مبنى الشرع على الجمع بين المختلفات والتفريق بين المتّفقات ، بل لأنّا لو سلّمنا الظنّ مع هذه الملاحظات ، فإنّما يفيده مع خلوّ المسألة عن الدليل المعتبر ، وأمّا مع وجوده من أيّ [ نوع من ] أنواعه المتقدّمة كان ، كما هو مفروض المقام فلا.

والسرّ فيه : أنّ القياس حكم عقلي ظنّي ، ولذا يعدّ عند أهله من الأدلّة العقليّة ، ضرورة أنّ الحاكم في مورده بلحوق الفرع بالأصل ، وجريان حكم الأصل في الفرع هو العقل ،

ص: 416


1- قوانين الاصول 1 : 440.
2- فرائد الاصول : 1 : 294 - 295.
3- بحار الأنوار 101 : 407 / 6 ، فقه الرضا : 44.

يحكم به بملاحظة الترديد والدوران ، أو السبر والتقسيم ، أو المناسبات الذوقيّة ، أو غير ذلك ممّا هو مقرّر عند عامليه ، ومن دأبه أنّه يحكم به مع خلوّ المورد عن الدليل.

وأمّا مع وجوده واطّلاعه عليه فلا ، وعلى هذا فما يفرض في مقابل القياس من الدليل - على أحد وجوهه المذكورة - يزاحم القياس ، لا أنّ القياس يزاحمه موضوعا أو حكما.

وأمّا الثاني : أعني ما كان الظنّ الغير المعتبر المقابل للدليل المعتبر ممّا لم يدلّ دليل على اعتباره بالخصوص ، كالشهرة أو الاجماع المنقول ، أو الأولويّة الظنّيّة ، أو الغلبة والاستقراء ، أو غيرها ممّا يندرج في الظنون المطلقة ، قبالا للخبر الصحيح مثلا على القول بحجّيّته بالخصوص بأحد الوجوه المتقدّمة ، فلا ينبغي التأمّل في عدم وهن ما اعتبر على وجه الظنّ النوعي ، أو من باب السببيّة المطلقة بسببه ووجهه واضح.

كما أنّه لا ينبغي التأمّل في وهن ما اعتبر من باب السببية المقيّدة ، أو من باب الوصف ، لاستلزام انتفاء القيد أو الشرط انتفاء المقيّد والمشروط.

في الترجيح بالظنّ الغير المعتبر

المبحث الثالث :

في الترجيح بالظنّ الغير المعتبر ، الّذي سمعت مرارا أنّه قد يكون ممّا نهى عنه الشارع بالخصوص كالقياس ، وقد يكون ممّا يندرج في أصالة الحرمة لعدم دليل على اعتباره بالخصوص.

فأمّا القسم الأوّل : فالأقوى بل الحقّ الّذي لا محيص عنه عدم الترجيح به ، بل ظاهر أصحابنا إطباقهم عليه ، حيث نراهم أنّهم في موارد تعارض الخبرين بعد البناء على تعادلهما لفقد المرجّحات الداخليّة والخارجيّة ، لا يلتفتون إلى القياس ولا يطلبونه ، بل كلّ يأخذ على مقتضى مذهبه في التعادل ، من البناء على التساقط ثمّ الرجوع إلى الأصل ، أو على التوقّف ثمّ الرجوع إلى الأصل أو على التخيير.

نعم يظهر من العبارة المحكيّة عن المعارج (1) وجود القول به في أصحابنا ، لأنّه في باب القياس ذكر أنّه : « ذهب ذاهب إلى أنّ الخبرين إذا تعارضا وكان القياس موافقا لما تضمّنه أحدهما ، كان ذلك وجها يقتضي ترجيح ذلك الخبر.

ويمكن أن يحتجّ لذلك : بأنّ الحقّ في أحد الخبرين ، فلا يمكن العمل بهما ولا

ص: 417


1- معارج الاصول : 186 - 187.

طرحهما ، فتعيّن العمل بأحدهما ، وإذا كان التقدير تقدير التعارض فلابدّ للعمل بأحدهما من مرجّح ، والقياس يصلح أن يكون مرجّحا لحصول الظنّ به ، فتعيّن العمل بما طابقه.

لا يقال : أجمعنا على أنّ القياس مطروح في الشريعة.

لأنّا نقول : إنّه بمعنى أنّه ليس بدليل على الحكم ، لا بمعنى أن لا يكون مرجّحا لأحد الخبرين ، وفائدة كونه مرجّحا كونه رافعا للعمل بالخبر المرجوح ، فيعود الراجح كالخبر السليم عن المعارض ، فيكون العمل به لا بذلك القياس ، وفيه نظر » انتهى (1).

أقول : أوّل ما يرد عليه : أنّ مقتضى النواهي عن العمل بالقياس ، وأنّه محق به الدين ، وأنّ دين اللّه لا يصاب بالعقول ، وأنّ ما يفسده أكثر ممّا يصلحه ، وأنّ أوّل من قاس شيطان ، وغير ذلك كون استعمال القياس بجميع وجوهه وجهاته مبغوضا للشارع ، فيكون استعماله في الترجيح مبغوضا له أيضا.

وثاني ما يرد عليه : أنّ قوله : « فتعيّن العمل بما طابقه » تعليلا بحصول الظنّ به ، مع قوله : « فائدة كونه مرجّحا كونه رافعا للعمل بالخبر المرجوح » ، كرّ على ما فرّ منه ، من جعل معنى مطروحيّة القياس في الشريعة عدم كونه دليلا على الحكم.

أمّا أوّلا : فلأنّ الحكم الّذي لا يكون القياس دليلا عليه أعمّ من الحكم الفرعي والحكم الاصولي ، ومعنى كون القياس رافعا للعمل بالخبر المرجوح أنّه يحرم العمل به ، وهو حكم اصولي صار القياس دليلا عليه مقتضيا له ، لأنّه لولاه لكان العمل به جائزا.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الدليل الّذي ليس القياس فيه بدليل على الحكم - على تقدير كون المراد به الحكم الفرعي خاصّة - أعمّ من تمام المقتضي للحكم وجزء المقتضي له بوحدة المناط ، وأخذ الظنّ الحاصل من القياس مرجّحا للخبر المطابق له يؤول إلى جعله جزءا للمقتضي ، لأنّ مرجع ترجيح الخبر به إلى أنّ المقتضي للحكم هو الخبر المظنون صدق مضمونه ، والمفروض أنّ هذا الظنّ هو الظنّ الحاصل من القياس لا غير.

وأمّا ثالثا : فلأنّ هذا الظنّ على طريقة القائلين بمطلق الظنّ في الأحكام - بناء على كون الحجّة عندهم هو الظنّ الفعلي - تمام المقتضي ، والمفروض استناده إلى القياس بلا مدخل للخبر في حصوله ، وإلاّ لم يعقل كونه مرجّحا له.

ولأجل ذا كلّه صار القياس مهجورا في نظر الأصحاب ، واستقرت سيرتهم في

ص: 418


1- فرائد الاصول : 1 : 595 - 598.

الاستنباط على هجره وترك الاعتناء به ، وعدم الالتفات إلى الظنّ القياسي في مقام الترجيح ، ولم يتوقّفوا في البناء على التساقط ، أو التوقّف أو التخيير ، عند عدم مرجّح آخر حتّى يبحثوا عن القياس ، كما يكشف عنه مع وضوحه أنّه لو كان كذلك لاحتاجوا إلى تدوين القياس ، والبحث عن شرائطه لينتفعوا به في الترجيح الّذي هو من أعظم الفوائد ، ولا ينحصر التدوين والبحث في جهة الحجّيّة ، مع إمكان القول بأنّ تتميم الحجّة به - ولو لإحراز فقد المانع الّذي هو المعارض به - نوع من الحجّيّة ، لأنّ عدم المانع جزء من العلّة ، وإلى بعض ما ذكرناه لعلّه ينظر قول المحقّق « وفيه نظر » بعد نقله الحجّة المذكورة.

وأمّا القسم الثاني : فالترجيح المطلوب منه إمّا أن يقصد به ترجيح دلالة أحد المتعارضين على دلالة الآخر ، فيما كان تعارضهما باعتبار الدلالة ، كما في العاميّن من وجه بالنسبة إلى مورد الاجتماع وأشباههما ، ومنه قوله عليه السلام : « اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه » (1) ، مع قوله عليه السلام : « كلّ شيء يطير لا بأس بخرئه وبوله » (2) إذا فرض عدم قوّة ظهور أحدهما على ظهور الآخر ، فيتعارضان في بول الطير الغير المأكول وخرئه ، والظاهر عدم [ اختصاص ] ذلك بما لو كانا ظنّي السند ، بل يجري الكلام في الكتاب والسنّة المتواترة أيضا.

أو يقصد به ترجيح وجه الصدور في أحدهما ، وهو كونه لبيان الحكم الواقعي لا للتقيّة ، أو غيرها من الحكم المقتضية لبيان خلاف الواقع وتمييزه عمّا صدر لا لبيان الحكم ، فيما كان تعارضهما باعتبار وجه الصدور ، سواء كانا مقطوعي الصدور أو مظنونيه مع بقاء الظنّ بصدوريهما.

أو يقصد به ترجيح صدور أحدهما - بأن صار بالترجيح مظنون الصدور - على صدور الآخر فيما كان تعارضهما باعتبار الصدور ، فالكلام في مقامات ثلاث :

المقام الأوّل : فالظهور الّذي يقصد ترجيحه في أحد المتعارضين على ظهور الآخر ، بجعله أقوى منه بالظنّ الغير المعتبر الحاصل من شهرة ، أو غلبة أو نحوهما إذا حصل على طبقه ، إمّا أن يكون معتبرا من باب الظنّ النوعي ، أو بشرط عدم الظنّ على الخلاف ، أو بشرط حصول الظنّ منه أو من غيره على طبقه ، أو بشرط حصول الظنّ منه بالخصوص ، أو باعتبار أصالة عدم القرينة على خلافه التي لا يعتبر فيها إفادتها الظنّ الفعلي ، احتمالات بل

ص: 419


1- الوسائل 3 : 405 / 2 ، ب 8 من أبواب النجاسات.
2- الوسائل 3 : 413 / 1 ، ب 10 من أبواب النجاسات.

أقوال ، وإن كان أقواها الأوّل على ما قدّمنا تحقيقه في بحث حجّيّة الظواهر ، وخروجها عن أصالة الحرمة ، وفي الجزء الأوّل من الكتاب (1) من مباحث أصالة الحقيقة ، إلاّ أنّا نتكلّم على كل احتمال على فرض صحّة القول به.

فنقول : إنّ صور البحث في المقام الأوّل خمس ، والحقّ في الجميع عدم اعتبار الظنّ المذكور في الترجيح وعدم وقوعه مرجّحا ، ولو اطلق عليه المرجّح في بعض الصور كان مسامحة مبنيّة على نوع من المجاز ، لخروجه عن ضابط الترجيح ، وهو تقوية الظهور على معارضه.

أمّا في الصورة الاولى : فلأنّ الظنّ المطلق الغير المعتبر لا يوجب كون الظاهر الموافق أظهر من معارضه في متفاهم العرف بالأظهريّة ، الّتي هي مناط الترجيح في باب تعارض الظاهرين ، بل غايته موافقته لمضمون أحدهما ، وهو بمجرّده لا يفيد فيه قوّة ، ولا في معارضه ضعفا ، ولا يخرجه عن الحجّيّة ، كما هو قضيّة كونه معتبرا من باب الظنّ النوعي.

وأمّا الصورة الثانية : فلأنّه أوجب خروج ما يخالفه عن الحجّيّة رأسا لفقد شرطه ، فانحصر الحجّة فيما وافقه ، فيتعيّن الأخذ به لبقائه سليما عن المعارض ، ومرجعه إلى ارتفاع التعارض ، ضرورة أنّ غير الحجّة لا يعارض الحجّة ، كما يفصح عنه أنّه لو لم يكن في مقابل هذا المعارض إلاّ ذلك الظنّ لأسقطه عن الحجّيّة ، كما أنّه لو لم يكن في مقابل الظاهر الموافق له هذا المعارض لا يفيد فيه ذلك الظنّ شيئا ، بل كانت الحجّة منحصرة فيه ، وإذا كان التقدير تقدير عدم المعارض وانحصار الحجّة لم يكن للترجيح معنى ، ولو اطلق عليه المرجّح مع ذلك لمجرّد أنّه السبب في سقوط المعارض عن الحجّيّة كان مسامحة.

وأمّا الصورة الثالثة : فلسقوط المخالف أيضا عن الحجّيّة ، وانحصار الحجّة في الموافق ، فلا ترجيح كما لو لم يكن إلاّ هذا الظنّ ، فإطلاق المرجّح عليه مع عدم وجود مبدأ اشتقاقه مسامحة واضحة.

وأمّا الصورة الرابعة : فلسقوطهما معا عن الحجّيّة بالنسبة إلى مورد التعارض لفقد الشرط ، فتعيّن الرجوع إلى قاعدة أو أصل لولا المتعارضان كان مرجعا ، كقاعدة الطهارة واستصحاب طهارة الملاقي - في مثال الطير الغير المأكول - وكذا الحال في الصورة الاولى بعد إجمال المتعارضين بالنسبة إلى مادّة اجتماعهما.

ص: 420


1- تعليقة على معالم الاصول 2 : 141.

وأمّا الصورة الخامسة : فلسقوطهما أيضا عن الحجّيّة بالنسبة إلى مورد التعارض ، لأنّ أصالة عدم القرينة الّتي هي مناط الحجّيّة في كليهما ، معارضة في كلّ منهما بمثلها في الآخر.

ومن المقرّر في باب تعارض الأصلين أنّهما مع عدم حكومة أحدهما على الآخر يتساقطان ، فيتعيّن الرجوع إلى قاعدة أو أصل كان مرجعا لولا هذان المتعارضان ولا يسوغ العمل بالظنّ الموافق لأحدهما في هذه الصورة وسابقتها والصورة الاولى ، كالحاصل من شهرة النجاسة في بول الطير الغير المأكول وخرئه ، لأنّه حينئذ يصير مرجعا لا مرجّحا ، والمفروض حرمة العمل به بحكم أصالة التحريم.

والحاصل : أنّ مدار الدلالة اللفظيّة على الظهور ، ومناط ترجيح المتعارضين باعتبار الدلالة - على معنى تعارض الظاهرين - أظهريّة أحدهما من الآخر الّتي يعبّر عنها بالأقوائيّة ، والظنّ المطلق الحاصل من الأمارة الخارجيّة على طبق أحد الظاهرين لا يعطيه الأظهريّة ، وإن قلنا به من باب الظنّ النوعي ، فلا يكون مرجّحا لأحد الظهورين ، فالتعويل عليه يرجع إلى جعله مرجعا.

وأمّا المقام الثاني : فترجيح وجه الصدور بالظنّ الغير المعتبر الحاصل من الشهرة أو الإجماع المنقول أو غيرهما ، معناه ترجيح أصالة عدم التقيّة في أحد المتعارضين عليها في المتعارض [ الآخر ] ، فإنّها المرجع لإحراز وجه صدور الخبر ، وهو أصل معمول به عند الأصحاب مجمع عليه لديهم ، فلو ورد خبر معتبر سندا واحتمل فيه وروده مورد التقيّة لموافقته بعض مذاهب العامّة يدفع بذلك الأصل ، وإذا ورد خبران متعارضان واحتمل في كلّ منهما الورود تقيّة لموافقة كلّ قولا من قولي العامّة في المسألة ، كما لو وردا في الوضوء ودلّ أحدهما على وجوب مسح الرجلين فيه ، والآخر على وجوب غسلهما ، بحيث علمنا بورود أحدهما على وجه التقيّة ، وحصل من شهرة وجوب المسح عند أصحابنا ، أو من الإجماع المنقول فيه الظنّ بصدور الخبر الموافق له لبيان الواقع وإظهار الحق وصدور الخبر المخالف على وجه التقيّة ، فمعنى ترجيح الأوّل على الثاني ترجيح أصالة عدم التقيّة فيه عليها في الثاني ، لأنّها المرجع في إحراز وجه الصدور وعليها مدار حجّيّة الخبر.

فنقول : إنّ هذا الأصل إن جعل بمعنى أصالة العدم في كلّ حادث ، نظرا إلى أنّ الصدور على وجه التقيّة لابدّ له من موجب ، وهو الخوف من ضرر المخالفين ، وهذا الخوف مانع من إظهار الحقّ وبيان الواقع ، ويشكّ في حدوثه والأصل عدمه ، فهي في كلّ من الخبرين

ص: 421

معارضة بمثلها في الخبر الآخر فيتساقطان ، لعدم حكومة إحداهما على الاخرى ، فيبقى كلّ منهما بلا مرجع لإحراز كون وجه صدوره إظهار الحقّ وبيان الواقع.

وحينئذ فلو اخذ بالظنّ المذكور لإحراز ذلك ، كان مرجعا ودليلا مستقلاّ فخرج عن كونه مرجّحا ، وكذلك إن جعل ذلك الأصل بمعنى ظهور حال المتكلّم إذا كان إماما - بملاحظة كونه منصوبا لبيان الأحكام الواقعيّة - في كون كلامه صادرا لإظهار الحقّ وبيان الواقع ، مع كون هذا الظهور [ مشروطا ] بإفادته الظنّ الفعلي بذلك ، فإنّ الظهورين لفقد شرط اعتبارهما يسقطان عن الاعتبار ، فيبقى الظنّ الغير المعتبر لو عمل عليه مرجعا وخرج عن كونه مرجّحا ، هكذا قيل في الصورتين.

وفيه نظر : لأنّ [ المرجع ](1) في الحكم الواقعي الّذي يتديّن به هو الخبر ، وموافقة الظنّ المفروض له مزيّة توجب تقديمه على معارضه الخالي عن تلك المزيّة ، وهذا هو معنى الترجيح ، فلابدّ أن يتكلّم في جوازه لا في تحقّق موضوعه ، وإن جعل بمعنى الظهور المذكور أيضا ، ولكن يشترط في اعتباره عدم الظنّ على خلافه ، خرج الخبر المخالف للظنّ المفروض عن الحجّيّة لفقد شرط اعتبار أصالة عدم التقيّة فيه ، وانحصر الحجّة في الخبر الموافق له لبقائه سليما عن المعارض ، وإن جعل بمعنى الظهور المذكور مع كونه معتبرا من باب الظنّ النوعي ، نظير ظهور كلام المتكلّم في كونه قاصدا لا هازلا ، ولم يشترط في اعتباره الظنّ الفعلي ، ولا عدم الظنّ على الخلاف ، فيتعارض الأصلان بمعنى الظهورين.

وهذا هو محلّ الكلام في الترجيح بالظنّ الغير المعتبر المفروض ، والمتّجه فيه الجواز ووجهه يعلم ممّا نذكر.

وأمّا المقام الثالث : ففي الترجيح بالظنّ الغير المعتبر - المبنيّ عدم اعتباره على عدم القول بحجّيّة الظنّ المطلق - لأحد الخبرين المتعارضين من حيث الصدور ، بناء على القول بحجّيّتهما من باب الظنّ النوعي ، لا على الحجّيّة بشرط إفادة الظنّ ، ولا بشرط عدم الظنّ على الخلاف ، فهذه قيود ثلاث معتبرة في محلّ الكلام ، لخروج الظنّ المفروض بانتفائها عن المرجّحيّة ، فإنّه على القول بالحجّيّة يصير مرجعا وحجّة مستقلّة ، ويسقط الخبران على القول بحجّيّتهما بشرط إفادة الظنّ ، والخبر المرجوح خاصّة على القول بالحجّيّة

ص: 422


1- وفى الأصل « المرجّح » بدل « المرجع » والظاهر أنّه سهو من قلمه الشريف والصواب ما اثبتناه في المتن كما يعطيه التأمّل فى السياق.

بشرط عدم الظنّ على الخلاف عن الحجّيّة ، وانحصر الحجّة على الثاني في الخبر الموافق للظنّ المفروض ، وصار كالخبر السليم عن المعارض.

وتحرير المسألة : أنّ الظنّ الغير المعتبر إذا حصل على وفق مضمون أحد الخبرين كشف ظنّا عن صدوره ، أو صدور مرادفه عن الإمام ، فيكشف كذلك عن وجود خلل في الخبر الآخر ، إمّا في صدوره أو جهة صدوره أو دلالته ، فهل يوجب ذلك الظنّ استحقاق الأوّل لأن يقدّم على الثاني؟ بحيث يستحقّ الطرح على التقدير الأوّل ، أو الحمل على التقيّة ، أو غيرها على الثاني ، أو التأويل فيه على الثالث.

وبعبارة اخرى : أنّ موافقة الخبر الموافق مضمونة للظنّ المفروض ، هل تعدّ في نظر الشارع مزيّة فيه موجبة لتقديمه على معارضه أو لا؟

فقد يقال : بالمنع استنادا إلى الأصل الأوّلي في الظنّ ، إذ كما أنّ الأصل فيه عدم الحجّيّة المستقلّة ، فكذلك الأصل فيه عدم المرجّحيّة ، سواء جعلنا مدرك ذلك الأصل عموم الآيات الناهية عن اتّباع الظنّ ، والأخبار الناهية عن القول بما لا يعلم ، أو جعلناه قاعدة التشريع المحرّم بالأدلّة الأربعة ، بناء على الأخذ بمضمون الخبر الموافق لذلك الظنّ على وجه التديّن به ، والالتزام به على أنّه الحكم الشرعي الواقعي ، من غير دليل قطعي يدلّ عليه ، أو جعلناه مخالفة القواعد أو الاصول القطعيّة الموجود في المورد الّتي هي المرجع على تقدير عدم وجود هذين الخبرين ، فإنّ هذه الوجوه متساوي النسبة إلى الحجّيّة والمرجّحيّة جارية بعينها في الترجيح أيضا ، وقد عرفت في الترجيح بالقياس أنّ المرجّح يحدث حكما شرعيّا لم يكن مع عدمه ، وهو وجوب العمل بما يوافقه بعينه ، وحرمة العمل بمعارضه ، مع كون الحكم بدونه هو التخيير أو الرجوع إلى الأصل الموافق للآخر ، وقيل بالترجيح بسببه ، نسبه شيخنا إلى ظاهر كلمات المعظم قائلا :

« ولكنّ الّذي يظهر من كلمات معظم الاصوليّين هو الترجيح بمطلق الظنّ » (1) ، ويمكن أن يستدلّ عليه بوجوه :

أوّلها : قاعدة الاشتغال ، لدوران الأمر بين التعيين والتخيير ، من الشكّ في كون الموافقة للظنّ المفروض مزيّة موجبة لتعيين العمل بالخبر الموافق ، وعدمه المقتضي للتخيير بينه وبين الخبر المخالف في العمل.

ص: 423


1- فرائد الاصول 1 : 605.

ولا ريب أنّ الأخذ بالخبر الموافق يوجب اليقين بالبراءة ، بخلاف الأخذ بالخبر الآخر.

وتوهّم : أنّ الخبر المخالف قد يكون موافقا للاحتياط في المسألة الفرعيّة ، فيعارض قاعدة الاشتغال في المسألة الاصوليّة ، بل يرجّح عليه في مثل المقام مدفوع : بمنع المعارضة ، لو اريد بالاحتياط في المسألة الفرعيّة ما يفرض مع الشكّ في التكليف ، أو مع الشكّ في المكلّف به الّذي يؤول إلى الشكّ في التكليف ، لورود أصل البراءة عليه ، وهو موافق للخبر الموافق للظنّ.

ولو اريد به ما يفرض مع الشكّ في المكلّف به ، الّذي لا يؤول إلى الشكّ في التكليف ، الّذي هو مورد اجتماع قاعدة الاحتياط مع قاعدة الاشتغال في المسألة الفرعيّة.

ففيه : أنّه [ إن ] اريد بذلك أنّ نفس الاحتياط في المورد يقتضي الأخذ بمضمون الخبر المخالف للظنّ المفروض.

فيزيّفه : أنّ قاعدة التخيير في العمل بين الخبرين ، على تقدير عدم الترجيح بذلك الظنّ ، واردة على جميع الاصول المفروضة في المورد على تقدير فقد الخبرين معا الّتي منها قاعدة الاحتياط ، كما أنّ تعيين العمل بالخبر الموافق له على تقدير الترجيح به ، يوجب وروده على جميع الاصول الّتي منها قاعدة الاحتياط ، ولذا يحكم بالتخيير أيضا مع فقد المرجّح ، وإن كان أحدهما موافقا للاستصحاب والآخر مخالفا له ، المقتضي لجواز الأخذ بالخبر المخالف.

وإن اريد به أنّ بعض الأخبار (1) الدالّة على وجوب الأخذ بما وافق الاحتياط من الخبرين وطرح ما خالفه ، يقتضي وجوب الأخذ بمضمون الخبر المخالف للظنّ.

فيزيّفه : ما تقرّر في محلّه ، من عدم نهوض تلك الأخبار لتخصيص الأخبار الدالّة على التخيير.

نعم يرد عليه أوّلا : عدم نهوض قاعدة الاشتغال لاثبات المرجّحيّة بحسب الواقع للظنّ الغير المعتبر ، ولا استحقاق التقديم للخبر الموافق له ، بل غايته اقتضاء كون الأخذ بمضمونه مبرأ للذمّة على وجه اليقين.

وثانيا : إطلاق أخبار التخيير المتناول لصورة موافقة الأمارة الغير المعتبرة لمضمون أحد المتعارضين ، فإنّه حاكم على قاعدة الاشتغال كما هو واضح.

ص: 424


1- مستدرك الوسائل 17 : 303 / 2 ، الباب 9 من أبواب صفات القاضي.

وثالثا : النقض بصورة الشكّ في التعيين والتخيير ، من دون استناد له إلى موافقة الأمارة الغير المعتبرة ، فإنّ مناط جريان القاعدة هو ذلك الشكّ ، ولا يلزم فيه كونه مسبّبا عن اتّفاق موافقة الأمارة الغير المعتبرة.

ورابعا : النقض بصورة موافقة القياس لأحدهما ، لجريان القاعدة فيها أيضا لقيام احتمال التعيين والشكّ فيه أيضا.

وتوهّم : أنّ النواهي الكاشفة عن مبغوضيّة القياس عند الشارع ، حاكمة على قاعدة الاشتغال المقتضية لتقديم ما وافقه القياس.

يدفعه : أنّ الآيات الناهية عن اتّباع الظنّ ، الدالّة على أنّه لا يغني من الحقّ شيئا ، والأخبار الناهية عن القول بغير علم أيضا حاكمة عليها ، والفرق بين المقامين تحكّم صرف.

ثانيها : ظهور الإجماع على ذلك الّذي حكى شيخنا استظهاره عن بعض مشايخه (1) قال : « فتراهم يستدلّون في موارد الترجيح ببعض المرجّحات [ الخارجيّة ] بإفادته للظنّ بمطابقة أحد الدليلين للواقع ، فكان الكبرى وهي وجوب الأخذ بمطلق ما يفيد الظنّ على طبق أحد الدليلين مسلّمة عندهم ، ويؤيّده الإجماعات المستفيضة على وجوب الأخذ بأقوى المتعارضين وأرجحهما ، واستدلالهم على الترجيح في بعض المقامات بقبح ترجيح المرجوح على الراجح (2).

وهذا أضعف من سابقه بل أوهن من بيت العنكبوت ، فإنّ ظهور الإجماع غايته الظنّ ، فالتمسّك به إثبات لمرجّحيّة الظنّ الغير المعتبر بالظنّ الغير المعتبر ، فإنّه من أفراد الظنّ المطلق بني المسألة على عدم القول بحجّيّته ، فيدور الكلام.

وأمّا التأييد بالإجماعات المستفيضة فكبرى الأخذ بأقوى الدليلين مسلّمة ، بل الإجماع عليها معلوم ، ولكن القدر المتيقّن من معقده الّذي هو معقد الإجماعات المستفيضة ما كان أقوى الدليلين في نفسه ، وهو الأقوى بأعدليّة الراوي ، أو أفقهيّته أو بكونه مسندا ، أو مشهورا روايته أو غير ذلك من المرجّحات الداخليّة والخارجيّة ، وكون ما وافق مضمونه أمارة غير معتبرة - كالاستقراء والأولويّة الظنّيّة ، بل الشهرة في الفتوى والإجماع المنقول -

ص: 425


1- هو السيد المجاهد في مفاتيح الاصول : 717.
2- نهاية الوصول ( مخطوط ) 451 ومفاتيح الاصول : 686 وفرائد الاصول 1 : 608.

أقواهما ، أوّل المسألة.

نعم لو كانت هذه الأمارة بحيث كشفت بعنوان القطع عن مزيّة داخليّة لموافقتها على معارضه لو عثرنا عليها تفصيلا لأخذنا بمقتضاها من الترجيح ، وجب علينا الأخذ بها ، ودخل الموافق لها حينئذ في معقد الإجماع محصّلا ومنقولا ، لأنّ العمل بأرجح الدليلين واجب إجماعا ، سواء علم وجه الرجحان تفصيلا أو علم إجمالا ، ولذا قيل : إنّ الترجيح بالشهرة أو الإجماع المنقول حيث كشفا عن قرينة داخليّة في سند أحد الخبرين أو دلالته ممّا لا ينبغي الخلاف فيه.

وأمّا التأييد بقبح ترجيح المرجوح ، ففيه : أنّ كبرى هذه القاعدة مسلّمة ، بل هي قاعدة عقليّة لا يمكن الاسترابة فيها ، ولكنّ الكلام في الصغرى ، وكون ما خالف من المتعارضين للأمارة الغير المعتبرة مرجوحا ، وما وافق مضمونه الظنّ الغير المعتبر راجحا أوّل المسألة ، إذ العبرة بالراجح والمرجوح بحسب الواقع أو في نظر الشارع ، وكون ما ظننّا موافقة مضمونه الواقع من أمارة غير معتبرة راجحا في نظره يحتاج [ إلى دليل ] لعدم الملازمة ، ومجرّد الكبرى المذكورة لا تنهض دليلا عليه.

وممّا يؤكّد ذلك ، أنّه لو كانت هذه القاعدة تامّة بحسب كبراها وصغراها في مطلق الأمارات الظنّيّة ، لاقتضت حجّية نفس المرجّح بل حجّيّة الظنّ المطلق ، فيكون المرجّح مرجعا ودليلا مستقلاّ ولذا بني الكلام في المسألة على القول بعدم حجّيّة الظنّ المطلق ، وليس ذلك إلاّ للبناء على عدم تماميّة صغرى قاعدة قبح ترجيح المرجوح على الراجح بالنسبة إلى الظنّ المطلق.

والعجب عن شيخنا قدس سره فإنّه مع علوّ مقامه في التدقيق والتحقيق ، انتصر لشيخه المستظهر للإجماع مستشهدا بجملة من كلماتهم ، لا شهادة فيها على ما رامه شيخه.

فقال : « الإنصاف أنّ بعض كلماتهم يستفاد منه أنّ العبرة في الترجيح بصيرورة مضمون أحد الخبرين بواسطة المرجّح أقرب إلى الواقع من مضمون الآخر ، ولذا استظهر بعض مشايخنا (1) الاتّفاق على الترجيح بكلّ ظنّ ما عدا القياس.

فمنها : ما تقدّم عن المعارج (2) من الاستدلال للترجيح بالقياس ، بكون مضمون الخبر الموافق له أقرب إلى الواقع من مضمون الآخر.

ص: 426


1- هو السيد المجاهد في مفاتيح الاصول : 717.
2- معارج الاصول : 186 - 187.

ومنها : ما ذكروه في مسألة تعارض الناقل مع المقرّر ، فإنّ مرجع ما ذكروه فيها لتقديم أحدهما على الآخر إلى الظنّ بموافقة أحدهما لحكم اللّه الواقعي ، إلاّ أن يقال : إنّ هذا الظنّ حاصل من نفس الخبر المتصف بكونه مقرّرا أو ناقلا.

ومنها : ما ذكروه في ترجيح أحد الخبرين بعمل أكثر السلف ، معلّلين بأنّ الأكثر يوفّق الصواب بما لا يوفّق له الأقلّ ، وفي ترجيحه بعمل علماء المدينة ، إلاّ أن يقال أيضا : بأنّ ذلك كاشف عن مرجّح داخلي في أحد الخبرين.

وبالجملة فتتبّع كلماتهم يوجب الظنّ القوي ، بل القطع بأنّ بناءهم على الأخذ بكلّ ما يشتمل على ما يوجب أقربيّته إلى الصواب ، سواء كان الأمر راجع إلى نفسه أو لاحتفافه بأمارة أجنبيّة توجب قوّة مضمونها » (1) انتهى.

وفي جميع الكلمات ما لا يخفى ، أمّا ما تقدّم عن المعارج فقد تقدّم أنّ المحقّق في المعارج نقل الترجيح بالقياس - تعليلا بحصول الظنّ منه ، فتعيّن العمل بما طابقه - عن ذاهب بصيغة التنكير ، ثمّ ذيّله في آخر كلامه بقوله : « وفيه نظر ».

وهذا كلّه يشعر بتمريض هذا المذهب ، فكيف يستظهر اتفاقهم على الترجيح بالظنّ المطلق المفروض عدم حجّيّته.

ومع الغضّ عن ذلك ، فالأقربيّة إلى الواقع المستندة إلى ظنّنا الغير المعتبر لا تنهض مرجّحة إلاّ إذا كانت معتبرة في نظر الشارع ، وأنّه يحتاج إلى دليل يدلّ عليه ، وأيّ دليل عليه مستفاد من كلام هذا الذاهب؟ فإن قيل : بأنّه الإجماع الظاهر من كلامه ، فيدور عليه الإشكال السابق.

وأمّا كلامهم في مسألة تعارض الناقل والمقرّر ، فلأنّ المنساق من حجّتي الفريقين فيها رجوع نزاعهم إلى الصغرى ، وهو تعيين محلّ التأسيس من الخبرين المخالف للأصل والموافق له ، مع اتّفاقهم على كون الخبر الّذي فيه التأسيس أولى بالتقديم ، فمن يقدّم الناقل يزعم التأسيس فيه ، ومن يقدّم المقرّر يقدّمه بزعم أنّ فيه التأسيس.

ولا ريب أنّ المؤسّسيّة في أيّ منهما كانت مزيّة فيه نفسه ، موجبة للظنّ بكون مضمونه حكم اللّه الواقعي دون مضمون معارضه ، لخلوّه عن تلك المزيّة ولا كلام لأحد في مرجّحيّة نحو هذه المزيّة المندرجة في المرجّحات الداخليّة ، إلاّ أن يقال : بأنّها مع ذلك

ص: 427


1- فرائد الاصول 1 : 609 - 610.

ليست خارجة من الظنّ المطلق الّذي كلامنا في مرجّحيّته.

وأمّا ما ذكره في مرجّحية عمل أكثر السلف أو علماء المدينة ، فلقوّة احتمال كشفه عندهم عن مرجّح داخلي في أحد الخبرين ، عثر عليه الأكثر أو علماء المدينة ولم يكشف عنه عمل الأقلّ ، وهذا هو معنى أنّ الأكثر يوفّق للصواب بما لا يوفّق له الأقلّ ، ولذا خصّوه بأكثر السلف وعلماء المدينة ، فإنّ السلف لقرب عهدهم بأزمنة صدور الأخبار يجدون معها من القرائن الراجعة إلى الصدور أو جهته أو دلالته ما لا يجده المتأخّرون لبعد عهدهم ، كما أنّ علماء المدينة لكونهم في بلد الصدور يجدون منها ما لا يجده النائون عن البلد.

ومن المعلوم وجوب العمل بأرجح الخبرين لمرجّح فيه ، سواء علم المرجّح تفصيلا أو إجمالا.

ثالثها : جملة من الأخبار العلاجيّة الدالّة بالتعليلات الواقعة فيها وإشعاراتها وإشاراتها على كلّيّة مطّردة في جميع الأمارات الخارجيّة المندرجة في الظنون المطلقة ، وهي أنّ مناط الترجيح في الخبرين المتعارضين هو الأقربيّة إلى الواقع ، سواء كانت لمرجّح داخلي أو خارجي ، فكلّما كان أحد المتعارضين أقرب إلى الواقع تعيّن الأخذ به ، وإن استندت أقربيّته إلى أمارة خارجيّة غير منصوصة.

ويستفاد من هذا المناط من مواضع في تلك الأخبار ، وإن اختلفت في كيفيّة دلالاتها بالظهور كما في بعضها ، ودونه الّذي يقال له الإشعار كما في كثير منها ، إلاّ أنّ هذه الإشعارات بتراكم بعضها إلى بعض تبلغ حدّ الظهور ، فمن المواضع التعليلات المصرّح بها في الأخبار المستفيضة الآمرة بالأخذ بما خالف العامّة وطرح ما وافقهم ، فعلّل الحكم في بعضها : « بأنّ فيه الرشاد » ، وفي آخر : « بأنّ الرشد في خلافهم » ، وفي ثالث : « بأنّ الحقّ في خلافهم ».

ويوافقها في هذا التعليل ، ما ورد في صورة عدم وجود من يفتي بالحقّ في البلد ، من قوله عليه السلام : « ائت فقيه البلد فاستفته في أمرك ، فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه ، فإنّ الحقّ فيه » (1) وإن لم يكن مثلها بحسب المورد.

والسرّ في هذه التعليلات الّذي هو وجه الحكمة للأمر بالأخذ بما خالفهم ، الجاري في الأخبار المطلقة الآمرة بذلك الغير المشتملة على العلّة المذكورة ، ما تكفّل لبيانه مرفوعة أبي إسحاق الأرجاني إلى أبي عبد اللّه عليه السلام قال : قال عليه السلام : « أتدري لم امرتم بالأخذ بخلاف ما

ص: 428


1- الوسائل 27 : 115 / 23 ، ب 9 من أبواب صفات القاضي.

يقوله العامّة؟ فقلت : لا أدري ، فقال : إنّ عليّا عليه السلام لم يكن يدين اللّه بدين إلاّ خالف عليه الامّة إلى غيره إرادة لإبطال أمره ، وكانوا يسألون أمير المؤمنين عليه السلام عن الشيء الّذي لا يعلمونه ، فإذا أفتاهم بشيء جعلوا له ضدّا من عند أنفسهم ليلبّسوا على الناس » (1).

ويستفاد من الأخبار الاخر كون ذلك سيرة أهل الخلاف من امراء بني اميّة وبني العبّاس وعلمائهم بالنسبة إلى سائر الأئمّة عليهم السلام كلّ في عصره ، حتّى حكي عن أبي حنيفة أنّه قال : « خالفت جعفرا عليه السلام في كلّ ما يقول أو يفعل ، لكنّي لا أدري هل يغمض عينيه في السجود أو يفتحهما » (2).

ولا ريب أنّ هذه بظهورها الّذي هو كالصريح باعتبار ما فيها من التعليلات ، تدلّ على أنّ المناط في الترجيح إنّما هو إصابة الحقّ ومطابقة الواقع ، فيؤخذ بما هو أقرب إليه وأشدّ مطابقة له.

وقضيّة حجّيّة العلّة المنصوصة إلغاء الخصوصيّة ، ولا ينافيه ما عن الشيخ والمحقّق من تعليل الترجيح بمخالفة العامّة بكون الخبر المخالف أبعد من التقيّة ، لأنّ معنى كونه أبعد من التقيّة كونه أقرب إلى الواقع ، بتقريب أنّ ما لم يكن وجه صدوره التقيّة - كما يكشف عنه المخالفة للعامّة - كان ظاهرا في القصد إلى إظهار الحقّ وبيان الواقع.

ومنها : تعليل الأخذ بالخبر المشهور بين الأصحاب الّذي رواه كلّهم ، دون الشاذّ الّذي يختصّ بروايته بعضهم : « بأنّ المجمع عليه لا ريب فيه » كما في مقبولة ابن حنظلة ، بتقريب : أن ليس المراد من نفي الريب نفي ماهيّته الموجبة لنفي جميع أفرادها ، حتّى يكون معناه : أنّ المجمع عليه لا ريب فيه من جميع الجهات ، ولا من إثبات الريب للشاذّ النادر على ما يقتضيه قرينة المقابلة ومفهوم التعليل ، أنّه لا ريب في بطلانه ، وإلاّ لم يكن لفرضهما مشهورين معا ولا لفرض وقوع التعارض معنى كما لا يخفى ، بل المراد نفي الريب بمعنى العيب والخلل المحتمل في الخبر الشاذّ احتمالا ظاهرا يعتني به العقلاء عن المجمع عليه ، على معنى خلوّه عن هذا العيب وإن احتمل فيه عيب آخر من جهة اخرى ، أو أنّه لا يحتمل فيه ذلك العيب احتمالا ظاهرا وإن احتمل ضعيفا لا يلتفت إليه العقلاء ، فيكون المراد من الريب المنفي فيه هو الريب الإضافي ، ولا ريب أنّ التعليل به على كلا

ص: 429


1- الوسائل 27 : 116 / 24 ، ب 9 من أبواب صفات القاضي ، علل الشرايع 1 : 531.
2- حكاه المحدّث الجزائري في زهر الربيع : 522.

الاحتمالين في معنى التعليل بكون المجمع عليه أقرب إلى الواقع ومعارضه أبعد عنه.

ومنها : ما دلّ على الترجيح بالأوثقيّة ، فإنّ كون الراوي ثقة معناه كونه بحيث يعتمد على روايته ، فمعنى أوثقيّته شدّة الاعتماد عليه ، فتعليق الأمر بالترجيح عليها يشعر بأنّ العلّة في الأخذ بخبره كونه أقرب مطابقة للواقع ، إذ لا معنى لشدّة الاعتماد على الراوي في روايته إلاّ هذا ، فإذا حصل هذا المعنى في أحد الخبرين من مرجّح خارجي لزم اتّباعه.

ومنها : ما في المقبولة من الترجيح بأصدقيّة راوي أحدهما ، وليس ذلك إلاّ لكون النظر إلى كون خبره أقرب مطابقة للواقع ، لأنّ الصدق عبارة عن المطابقة للواقع والأصدق يحتمل الملكة والحال معا.

فعلى الأوّل يراد منه أقوى ملكة للبعث على ملازمة الصدق ، كما أنّ الأعدل يراد منه أقوى ملكة للبعث على ملازمة التقوى.

وعلى الثاني يراد منه كون صدقه بحسب الوقوع الخارجي أكثر وأغلب من كذبه.

وأيّا مّا كان فمناط ترجيح خبره أقربيّته إلى الواقع ، بخلاف الترجيح بالأعدليّة فإنّه ربّما يكون النظر إلى مصلحة اخرى غير مجرّد الأقربيّة ، كما في اعتبار العدالة للبيّنة ، فإنّه ليس لمجرّد إحراز مطابقة شهادته للواقع ، ولذا لا يقبل شهادة الموثوق بصدقه لكونه متحرّزا عن الكذب أو متّسما بالصدق ، مع كونه فاسقا من جهة اخرى.

ومنها : الترجيح بالأفقهيّة كما في المقبولة أيضا ، فإنّها توجب أقربيّة مضمون خبر الأفقه إلى الواقع ، وتفصيل القول في تحقيق هذه المواضع ، إنّما هو في الجزء الأخير من الكتاب ، في باب التعادل والتراجيح عند شرح فقرات المقبولة.

تذنيب :

إذا لم يحصل العلم بمرجّحيّة الظنّ المطلق ، ولم يقم عليها دليل معتبر شرعا ، ولم يوجد ظهور لفظي فيها كما لو فرضنا عدم تماميّة ظهورات الأخبار العلاجيّة ، ولكن حصل الظنّ بمرجّحيّته من أمارة كظهور الاجماع المستنبط من كلمات العلماء كما تقدّم ، فهل هو حجّة ويجب العمل به أو لا؟

قيل : الظاهر وجوب العمل به في مقابل التخيير ، وإن لم يجب العمل به في مقابل الاصول ، لثبوت التكليف بالترجيح بين المتعارضين ، وانتفاء المرجّح اليقيني ، وفقد ما دلّ الشرع على كونه مرجّحا ، فيدور الأمر بين البناء على التخيير في جميع الموارد ، أو العمل

ص: 430

بالظنّ المذكور ، ولا سبيل إلى الأوّل للزوم مخالفة الواقعي فتعيّن الثاني.

ولا خفاء في ضعفه لتهافت ما بين الالتزام بثبوت التكليف بالترجيح ، والاعتراف بانتفاء المرجّح اليقيني وفقد ما دلّ الشرع على كونه مرجّحا ، فإنّ انتفاء الأوّل مع فقد الثاني يوجب الشكّ في مرجّحيّة أقربيّة مضمون أحد المتعارضين إلى الواقع من جهة الظنّ المطلق ، وهو يستلزم الشكّ في ثبوت التكليف بالترجيح بذلك.

وغاية ما يلزم من فرض الظنّ بالمرجّحيّة ، كون ثبوت التكليف به مظنونا ، وهذا لا يكفي في الثبوت الشرعي ليترتّب عليه وجوب العمل بذلك الظنّ إلاّ على تقدير الالتزام بالدور ، لتوقّف ثبوت التكليف على حجّيّة ذلك الظنّ ، فلو توقّف حجّيّته على ثبوت التكليف كما هو مفروض الدليل لزم الدور.

ومع الغضّ عن ذلك فالقدر المتيقّن المقطوع به من التكليف بالترجيح هو ثبوته في موارد المرجّحات المنصوصة داخليّة أو خارجيّة ، وأمّا غيرها ممّا يكون من محلّ البحث ، فثبوته فيه غير معلوم لا تفصيلا ولا إجمالا.

فإن قلت : غاية ما يلزم ممّا ذكرت فساد المقدّمة الاولى من مقدّمات الدليل ، ولكنّا نقول ، بكفاية المقدّمتين الأخيرتين في تتميم الدليل بلا حاجة إلى اعتبار انضمام المقدّمة الاولى ، فإنّ الأمر يدور بين البناء على التخيير في جميع الموارد والعمل بالظنّ بمرجّحيّة الظنّ المطلق ، والأول مستلزم لمخالفة الواقع فتعيّن الثاني.

قلت : إنّ القبيح عقلا المحرّم شرعا إنّما هو المخالفة القطعيّة للواقع ، وإنّما يلزم ذلك من التخيير في جميع الموارد على تقدير كونه تخييرا استمراريّا مع اختيار أحد المتعارضين والعمل به تارة ، واختيار المتعارض الآخر والعمل به اخرى ، والتخيير الملتزم به في أمثال المقام كما حقّق في باب التعادل بدويّ ، واللازم منه إنّما هو المخالفة الاحتماليّة والموافقة الاحتماليّة لا المخالفة القطعيّة ، ولا حجر من المخالفة الاحتماليّة وإلاّ كان مطّردا في العمل بالظنّ أيضا.

هذا مضافا إلى قلّة موارد حصول الظنّ المطلق على طبق مضمون أحد المتعارضين في نفسها ، فإنّ مورد الترجيح على تقدير وجود المرجّح إنّما هو المتعارضان حيث تعذّر الجمع بينهما ، كما لو كانا متبائنين وما بمعناهما ، وهذا على أقسام ثلاث :

أحدها : ما يوجد فيه شيء من المرجّحات المنصوصة داخليّة أو خارجيّة ، ولا كلام في

ص: 431

وجوب الترجيح فيه ، فهذا القسم خارج عن معقد المسألة.

وثانيها : ما لا يوجد فيه شيء من المرجّحات المنصوصة ، ولكن يمكن الرجوع فيه إلى عموم كتاب أو سنّة قطعيّة أو أصل ، وهذا القسم أيضا خارج عن محلّ الكلام ، لأنّ العامّ المفروض مرجع ، أو موافقته مرجّحة على اختلاف الرأيين ، والأصل المفروض أيضا على ما قرّرناه - في مباحث تعارض المقرّر والناقل - مرجع ، لأنّ المتعارضين يتساقطان فيرجع إلى الأصل ، لدخول المورد بعد التساقط في عنوان ما لا نصّ فيه الّذي هو موضوع الأصل ، بناء على ما حقّق في محلّه من أنّه أعمّ من كونه لفقد النصّ أو إجماله أو تعارضه.

وثالثها : ما لا يمكن الرجوع إلى عموم ولا إلى أصل ، وهذا أيضا قد لا يتّفق فيه ظنّ مطلق على طبق مضمون أحد المتعارضين ، وهذا أيضا خارج عن محلّ الكلام ، وقد يتّفق الظنّ المطلق على طبق أحدهما مع فرض حصول الظنّ من أمارة بمرجّحيّة ذلك الظنّ ، وهذا هو محلّ الكلام ، ولا يتّفق إلاّ في أقلّ قليل من الموارد ، وأيّ مخالفة قطعيّة للواقع يلزم من التخيير البدوي في مثله؟ فالوجه فيه التخيير لا العمل بالظنّ المذكور عملا بعموم أخبار التخيير ، ولكنّ الأحوط اختيار الخبر الموافق للظنّ المطلق خروجا عن شبهة الخلاف ، تارة بالنسبة إلى الظنّ المحتمل للمرجّحيّة ، واخرى بالنسبة إلى الظنّ المحتمل للحجّيّة وهو الظنّ بمرجّحيّة الظنّ الأوّل.

هذا آخر ما أوردناه في مباحث الظنّ بعد الفراغ عن مباحث خبر الواحد.

* * *

ص: 432

تعليقة : في الفعل والتقرير

اشارة

- تعليقة -

في الفعل والتقرير

وليعلم أنّ البحث في حجّيّة خبر الواحد - على ما تقدّم - يعمّ فعل المعصوم وتقريره ، لما ذكرناه في غير موضع من رجوع البحث عن حجّيّة خبر الواحد إلى أنّه هل يثبت السنّة بنقل الواحد الغير المفيد بنفسه العلم بصدقه ، وهو قول الراوي قال : الصادق عليه السلام كذا ، أو سمعته يقول كذا ، أو رأيته فعل كذا ، أو فعل بحضرته كذا ولم ينكر على الفاعل أو لم يردعه أو سكت عليه ، وكون السنّة ثابتة بالنقل الغير المفيد للعلم بصدقه وعدمه جهة مشتركة بين قول المعصوم وفعله وتقريره ، إذ السنّة عبارة عن قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، وخبر الواحد المأخوذ في العنوان أيضا عبارة عمّا يرادف الحديث وهو ما يحكي قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، بناء على أنّ الموصول كناية عن الكلام الحاكي لأحد الثلاثة ، والمراد به قول الراوي بإحدى العبارات المتقدّمة وما بمعناها.

وأمّا حجّيّة نفس قول المعصوم أو فعله أو تقريره بعد تحقّقه ودلالته على حكم معيّن - على معنى الملازمة الواقعيّة بينه وبين الحكم الواقعي المستندة إلى عصمة المعصوم نبيّا كان أو إماما ، عن الخطأ والنسيان والزلل والعصيان - فممّا لا كلام لأحد فيه ومن المسلّمات عندهم ، بل هو بملاحظة العصمة من القضايا الّتي قياساتها معها ؛ ومن الواضحات الّتي ليس من شأنها أن يبحث عنها في المسائل العلميّة النظريّة ، ولذا تراهم لا يتعرّضون في الكتب الاصوليّة للبحث عن أصل حجّيّة قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، حتّى أنّ أصحابنا في باب الإجماع الّذي حجّيّته عندهم لأجل كشفه عن قول المعصوم لا يتكلّمون في حجّيّة هذا القول المكشوف عنه ، بل يتكلّمون في كشف الإجماع وعدمه عن قول المعصوم وفي كيفيّة الكشف على تقديره ، أهو من باب التضمّن أو الالتزام العقلي

ص: 433

أو العرفي؟ ومرجعه إلى التكلّم في صغرى الدليل ، وهو أنّ قول المعصوم هل يثبت بإجماع الطائفة أو لا؟ لا في كبراه وهو أنّ هذا القول على فرض ثبوته هل هو حجّة أو لا؟ كما أنّ الكلام في حجّيّة خبر الواحد على ما وجّهناه راجع إلى الصغرى لا الكبرى.

وعلى هذا فليس غرضنا من البحث عن فعل المعصوم وتقريره القصد إلى بيان حجّيّة فعله وتقريره بعد تبيّن دلالتهما على الحكم الشرعي المعيّن ، ولا القصد إلى بيان حجّيّة خبر الواحد المتكفّل لنقل أحدهما ، لأنّ بيان الأوّل من توضيح الواضح وبيان الثاني إعادة لما سبق في بحث حجّيّة خبر الواحد ، بل القصد إلى بيان بقايا الأحكام المتعلّقة بالفعل والتقرير ، فالكلام في مقامين :

المقام الأوّل : في ما يتعلّق بفعل المعصوم عليه السلام

اشارة

المقام الأوّل

فيما يتعلّق بفعل المعصوم

فنقول : الفعل الصادر من المعصوم قد يكون عادة في مقابل العبادة ، على معنى كونه من الطبيعيّات قبالا للشرعيّات ، كالأكل والشرب والنوم واليقظة والجلوس والقيام والمشي على الأرض والركوب ، وما أشبه ذلك ممّا ينوط به تعيّش نوع الإنسان إذا لو حظت بطبائعها من دون اشتمالها على خصوصيّة يحتمل دخلها في الرجحان ، وقد يكون متردّدا بين العادة والعبادة ، كأكل الزبيب على الريق ، ونوم القيلولة ، والجلسة عقيب السجدتين من غير مداومة عليها ، إذ لا يدري أنّه من باب نوع أكل الزبيب أو النوم أو الجلوس اتّفق وقوعه في حالة الريق أو وقت القيلولة أو عقيب السجدتين ، أو أنّه باعتبار تلك الخصوصيّة صار شرعيّا لتأثيرها في رجحانه الدائر بين الوجوب والاستحباب ، وقد يكون عبادة دائرة بين الواجب والمستحبّ ، وهذا الثالث أيضا إمّا أن يكون خاصّا به على معنى كونه من خصائصه ، أو يكون متردّدا بين الخاصّ وغيره ، أو لا يكون خاصّا به.

وهذا الثالث أيضا إمّا أن يكون بيانا لمجمل يعلم وجهه ، أو يكون بيانا لمجمل لم يعلم وجهه ، أو لا يكون بيانا لمجمل.

وهذا الثالث أيضا إمّا أن يعلم وجهه من وجوب أو ندب أو إباحة ، أو يعلم رجحانه من قصده القربة فيه فيكون متردّدا بين الواجب والمستحبّ ، أو لا يعلم وجهه أصلا فيكون متردّدا بين الواجب والمستحبّ والمباح بل المكروه أيضا إن جوّزنا صدوره من المعصوم ، فهذه صور تسع هي امّهات أقسام فعل المعصوم ، ويذكر أحكام هذه الأقسام في مسائل :

ص: 434

المسألة الاولى : فيما كان الفعل الصادر من المعصوم : من الأفعال الطبيعيّة العاديّة

المسألة الاولى :

فيما كان الفعل الصادر من المعصوم من الأفعال الطبيعيّة العاديّة ، ولا إشكال في حكمه كما هو المصرّح به في كلام جماعة بل ظاهرهم الإجماع عليه ، من حيث كون هذه الأفعال مباحة له ولنا ، بل الظاهر خروجها عن موضوع كلامهم في هذا الباب ، إذ النظر في فعل المعصوم إمّا من حيث التأسّي به في فعله وأنّه هل هو واجب علينا أو مستحبّ لنا أو مباح لنا ، أو من حيث دلالته في حقّنا على حكم لولا النظر فيه لم يكن ذلك الحكم ثابتا ، كما لو فعل ما يحتمل الحرمة أو ترك ما يحتمل الوجوب ، فيدلّ على الإباحة اللازمة لانتفاء الحرمة والوجوب في الصورتين ، نظرا إلى عصمته المانعة من ارتكاب الحرام وترك الواجب ، فتخرج الطبيعيّات عن كلتا الحيثيّنين لعدم كونها من جهة أنّها من لوازم تعيّش كلّ أحد محلاّ للتأسّي ، وكون إباحتها ثابتة في حقّنا من غير جهة فعل المعصوم كالضرورة وحكم العادة ، حتّى أنّ منهم من التزم بخروجها عن السنّة حيث قيّد تعريفها بما تقدّم بغير العاديّات احترازا عن العادي من قول المعصوم وفعله وتقريره.

والمراد بالعادي من فعل المعصوم هو هذه الأفعال ، نظرا منه في هذا الاحتراز إلى أنّ السنّة نوع من أدلّة الأحكام الشرعيّة ، ولا حاجة في معرفة الإباحة اللازمة للأفعال العاديّة إلى النظر في فعل المعصوم ، لكونها معلومة بالضرورة وبداهة العادة.

المسألة الثانية : في ما كان الفعل الصادر من المعصوم متردّدا بين العادي والشرعي

المسألة الثانية :

فيما كان الفعل الصادر منه متردّدا بين العادي والشرعي ، كالأمثلة المتقدّمة ونظائرها الّتي منها ما ذكره الشهيد في قواعده : « من دخوله صلى اللّه عليه وآله من ثنيّة كداء (1) بالفتح والمدّ ، وخروجه من ثنيّة كدى (2) بالضمّ والقصر ، ونزوله بالمحصّب (3) لمّا نفر في الأخير (4) وتعريسه (5)

ص: 435


1- كداء ( بالفتح والمدّ ) الثنيّة العليا بمكّة ممّا يلي المقابر ، النهاية لابن الاثير : 4 / 12 مادّة « كداء ».
2- كدى ( بالضمّ والقصر ) الثنيّة السفلى ممّا يلي باب العمرة ، النهاية : 4 : 12.
3- المحصب هو الشعب الّذي مخرجه الى الأبطح بين مكّة ومنى ، النهاية 1 : 232 مادّة حصب.
4- أي في اليوم الاخير وهو اليوم الثالث عشر من ذي الحجّة الّذي هو آخر أيّام التشريق وهي الحادي عشر والثانى عشر والثالث عشر ، والنفر هو نفر الحاجّ من منى إلى مكّة وهو نفران ، أحدهما : نفرهم فى اليوم ، الثاني عشر ويسمّى النفر الأوّل والآخر نفرهم فى اليوم الثالث عشر ويسمّى النفر الثاني وقد يعبّر عنه بالنفر الأخير باعتبار وقوعه فى اليوم الأخير ( راجع حاشيته على القوانين 2 : 61 ).
5- التعريس نزول المسافر آخر الليل للنوم والاستراحة ، وذو الحليفة بضم الحاء المهملة وفتح اللام وإسكان الياء مصغّ الحلفة وهو موضع على ستّة أميال من المدينة وميقات الحاجّ ، كذا فى المجمع ( حاشية القوانين : 2 : 61 ).

لمّا بلغ ذا الحليفة (1) فهل هي أفعال عاديّة وقعت منه في هذه المواضع لضرب من الاتّفاق أو أنّها من الشرعيّات لرجحانها باعتبار الخصوصيّة؟

وقد اضطربت كلمة الأصحاب في حكم هذا القسم ، فإنّ منهم من رجّح كونه من الطبيعيّات استنادا إلى أصالة عدم التشريع.

ومنهم من رجّح كونه من الشرعيّات استنادا إلى ظاهر حاله عليه السلام من حيث إنّه بعث لبيان الشرع.

ومنهم من يظهر منه التوقّف في القول حيث ذكر الوجهين من غير ترجيح.

ومنهم من أرجع المقام إلى مسألة تعارض الأصل والظاهر ، فمن قدّم فيها الأصل كالمشهور يرجّح هنا الطبيعيّة ، ومن يقدّم الظاهر لزمه هنا ترجيح الشرعيّة.

ومنهم من اعترض على التمسّك بالأصل لترجيح الطبيعية برجوعه إلى الاصول المثبتة ، لأنّ أصالة عدم التشريع معناها أصالة عدم جعل الوجوب وعدم جعل الاستحباب ، ويقصد بها الحكم على مورد الشكّ من فعل المعصوم بكونه من أفعاله الطبيعيّة ، وهذا إثبات توصل إليه بالأصل ، وحيث إنّ الاصول المثبتة باطلة وليست بحجّة ، فلا يجوز التعويل على الأصل المذكور ويكون وجوده بمثابة عدمه ، فيبقى الظاهر سليما عن المعارض ، ومقتضاه كون الأصل بمعنى القاعدة في كلّ فعل للمعصوم كونه شرعيّا إلاّ ما خرج بالدليل ، وحيث لا دليل على خروج مورد الشكّ من أفعاله فيدخل في المستثنى منه ويحكم عليه بكونه من الشرعيّات.

وفيه : ما لا يخفى ، لمنع الظهور المدّعى في هذا المقام لولا غلبة يستند إليها الظهور ، ومجرّد كونه عليه السلام بعث أو نصب لبيان الشرعيّات لا يوجبه ، لأنّ معنى ذلك أنّ بيان الشرعيّات لا يتأتّى إلاّ منه من حيث إنّه منصبه ووظيفته وهو المقصود من بعثه ونصبه ، لا أنّ كلّما يتأتّى منه من الأفعال فهو بيان للشرع ، فإنّه ليس إلاّ كغيره من بني نوع البشر في أنّ له أيضا أفعالا عاديّة هي من لوازم تعيّشه كغيره من رعيّته وتابعيه ، ونحن إن لم ندّع الغلبة في أفعاله العاديّة الّتي لم يقصد بها بيان الشرع ، فلا أقلّ من منع دعوى الغلبة في كونها شرعيّة ، على معنى قصده فيها بيان الشرع الدائر بين الوجوب والاستحباب ، فالوجه هو التعويل على أصالة عدم التشريع لنفي الوجوب والاستحباب في حقّنا في نحو هذه

ص: 436


1- القواعد : 1 / 212.

الأفعال ، فنحكم على مثل الزبيب على الريق ، ونوم القيلولة ، وجلسة الاستراحة بعدم كونه واجبا علينا ولا مستحبّا لنا ، واللازم من ذلك كونه مباحا إجراء لحكم الأفعال العادية عليه.

ودعوى كونها أصلا مثبتا وهو باطل ، يدفعها : أنّا لا نقصد بأصالة عدم التشريع إثبات الموضوع وهو كون محلّ الشكّ فعلا طبيعيّا للمعصوم ، بل نفي آثار الشرعيّة عن فعله هذا ، وهو كونه محلاّ للتأسّي أو محلاّ للاستدلال به على ثبوت حكم في حقّنا ، على ما بيّناه من رجوع البحث في فعل المعصوم إذا كان شرعيّا تارة إلى التأسّي به في فعله وجوبا أو ندبا أو إباحة ، واخرى إلى دلالته على حكم في حقّنا.

فملخّص نفي هذه الآثار عدم كون ذلك الفعل بالنسبة إلينا محلاّ للتأسّي ، ولا محلاّ للاستدلال ، لبقائه على إباحة نوعه الثابتة بحكم الضرورة وقضاء العادة ، فلا حاجة لإثبات هذه الإباحة في حقّنا أيضا إلى النظر في ذلك الفعل ، كما ظهر وجهه في المسألة السابقة.

ومن الأعلام من قال في هذا المقام : « إنّ الكلام في ذلك يرجع إلى ما لا يعلم وجهه » (1) وقضيّة كلامه جريان النزاع الآتي فيما لا يعلم وجه فعل المعصوم وأقواله الآتية ، من وجوب التأسّي به أو استحبابه أو إباحته أو التوقّف هنا أيضا ، وفيه نظر واضح ، لأنّ محلّ النزاع الآتي فيما لم يعلم وجهه هو ما علم كونه شرعيّا ولم يكن من خصائصه ، وهذا غير معلوم الشرعيّة ، فبمقتضى أصالة عدم التشريع يخرج عن محلّ ذلك النزاع حسبما بيّناه.

المسألة الثالثة : في ما كان العفل الصادر من المعصوم شرعيّا مع العلم بكونه من خصائصه

المسألة الثالثة :

فيما كان الفعل الصادر منه شرعيّا مع العلم بكونه من خصائصه ، كالتهجّد وصوم الوصال (2) والزيادة على أربع وما أشبه ذلك ، وهذا خارج عن محلّ نزاعهم الآتي ، لأنّ النزاع إن كان في حكم التأسّي فهذا ليس محلاّ للتأسّي لفرض اختصاصه به ، وإن كان في دلالته على حكم في حقّنا فهذا ليس محلاّ للاستدلال به على حكم في حقّنا ، لفرض اختصاصه به أيضا.

المسألة الرابعة : في ما كان الفعل الصادر من المعصوم مع كونه شرعيّا مردّدا بين كونه من خصائصه وعدمه

المسألة الرابعة :

فيما كان الفعل الصادر منه مع كونه شرعيّا مردّدا بين كونه من خصائصه وعدمه ، وهل

ص: 437


1- قوانين 1 : 490.
2- وهو أن ينوي صوم يومين فصاعدا كالثلثه ولا يفصل بينهما بفطر ، أو صوم يوم إلى وقت متراخ عن الغروب ومنه أن يجعل عشاؤه سحوره ( راجع المختلف 3 : 507 ).

هنا أصل يقتضي الحكم عليه بأحد الطرفين أو لا؟ فقد يقال : إنّ الأصل عدم كونه من الخصائص لأصالة عدم الاختصاص ، وعورض : بأصالة عدم الاشتراك ، فإنّ كونه حكمه معلوم ، والمشكوك فيه كونه حكم الباقين.

فإن قلت : الاختصاص أمر زائد على كونه حكمه (1).

قلنا : الاشتراك أيضا أمر زائد على كونه حكمه ، ويبقى أصالة عدم كون هذا حكمنا في المورد لأجل فعله خاليا عن المعارض ، هكذا قرّر الأصل ومعارضته بالمثل في المناهج.

وكأنّه أراد بأصالة عدم الاختصاص أصالة عدم التخصيص ، فإنّ تخصيص الحكم به بعد جعله المتيقّن أمر حادث آخر يشكّ في حدوثه والأصل عدمه ، نظير تخصيص العامّ الّذي يقال بكونه خلاف الأصل ، فإنّ التلفظ بالعامّ أمر حادث حدث من المتكلّم يقينا ، وتخصيصه أمر حادث آخر يشكّ في حدوثه والأصل عدمه ، وحاصل معنى المعارضة : أنّ جعل أصل الحكم وتعلّقه به عليه السلام متيقّن وتشريك الامّة معه فيه أمر حادث يشكّ في حدوثه والأصل عدمه ، وحاصل السؤال : أنّ تعلّق الحكم به وإن كان متيقّنا ولكن اختصاصه به المتضمّن نفيه عمّن عداه أمر زائد عليه يشكّ في حدوثه والأصل عدمه ، وحاصل الجواب : أنّ اشتراك الغير معه المتضمّن لإثباته لمن عداه أيضا أمر زائد عليه يشكّ في حدوثه والأصل عدمه.

أقول : ويرد على أصالة عدم الاختصاص لإثبات الاشتراك على الوجه الذي قرّرناه ، أنّ اختصاص حكم مجعول بالنبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم لا يفتقر إلى تخصيص حتّى يقال إنّه أمر حادث يشكّ في حدوثه والأصل عدمه ، بل يكفي فيه تعلّقه به مع عدم ثبوت تعلّقه بغيره من امّته ، فإنّ جعل الحكم كائنا ما كان يقتضي تعلّقه بمكلّف ، والقدر المتيقّن منه في مفروض المسألة تعلّقه بالنبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وأمّا تعلّقه بغيره فمشكوك فيه فينفي بالأصل لكونه أمرا حادثا يشكّ في حدوثه ، وذلك نظير ما لو صدر ضرب من زيد واقع على عمرو مع الشكّ في وقوعه على بكر أيضا ، فينفي احتماله بالأصل لكونه حادثا يشكّ في حدوثه.

ودعوى : أنّ الاختصاص أمر زائد على كونه حكمه.

يدفعها : أنّه ليس أمرا حادثا زائدا على كونه حكمه يشكّ في حدوثه حتّى ينفي بالأصل ، بل هو أمر اعتباري انتزاعي ينتزع من الحكم من حيث تعلّقه به وعدم تعلّقه بغيره

ص: 438


1- قوانين الاصول : 490.

ولو بحكم الأصل.

ولكن كون ذلك الأصل سليما عمّا يرد عليه مبنيّ على جواز خلوّ واقعة هذا الحكم في حقّنا عن حكم مجعول بكوننا فيها كالصبيان والمجانين والبهائم ، وهو خلاف التحقيق ، بل في كلّ واقعة في حقّنا بحكم الضرورة والإجماع والأخبار المتواترة - كما تقدّم بيانه في مقدّمات دليل الانسداد - حكم مجعول من الخمس المعروفة ، فيشكّ في تغائر حكمنا المجعول لحكمه والأصل ينفيه ، لأنّه يقتضي جعلا آخر زائدا على جعل حكمه والأصل عدمه ، وهو يقتضي المشاركة بكون الحكم المتعلّق بالنبيّ متعلّقا بغيره أيضا ، وهذا الأصل لسببيّة شكّه وارد على أصالة عدم التعلّق.

لا يقال : كون الشكّ في تعلّق الحكم المتعلّق بالنبيّ بغيره مسبّبا عن الشكّ في جعل حكم مغائر لذلك الحكم في حقّ غيره ، ليس بأولى من العكس ، فينعكس الورود ، إذ لا شبهة في تعلّق حكم بغيره مردّد بين كونه الحكم المتعلّق به ، أو الحكم الآخر بسبب الشكّ في جعل حكم آخر ، فبأصالة عدم جعل حكم آخر في حقّ غيره يحكم بتعلّق الحكم المتعلّق به بغيره ، وهذا هو معنى مشاركة غيره في الحكم الثابت له من غير فرق فيه بين كونه إباحة شيء له ، أو وجوب شيء أو حرمته عليه ، أو استحبابه ، أو كراهته له.

هذا ولكنّ الإنصاف : أنّ الأصل المذكور لا يثمر إلاّ على القول بالاصول المثبتة ، إذ لا تعارض بينه وبين أصالة عدم تعلّق ما تعلّق بالنبيّ بالذات ، بل التعارض يحصل بينهما لعارض من جهة مقدّمة عدم خلوّ الواقعة في حقّنا عن الحكم ، وهذا الحكم المعلوم بالإجمال مردّد بين الحكم المجعول للنبيّ وبين غيره ، فلا ترتّب بين الشكّين ، بل هما مسبّبان عن العلم الإجمالي الحاصل من المقدّمة المذكورة.

وقد يفصّل ويقال : بأنّه ليس في الاصول الفقاهيّة كأصل العدم وغيره ما يكون مرجعا في جميع فروض المسألة ، بل أصل العدم قد يقضي بالاشتراك وقد يقضي بالاختصاص فيختلف مقتضاه ، فإنّه لو ثبت في حقّه إباحة شيء وشككنا في أنّ الثابت في حقّنا أيضا هو الإباحة حتّى يلزم الاشتراك ، أو الحرمة حتّى يلزم الاختصاص ، فلا ريب في أنّ الأصل هو الأوّل ، لأنّ ثبوت الحرمة في حقّنا يحتاج إلى الجعل ، والأصل عدمه مضافا إلى أصالة البراءة.

وكذا لو شككنا في كون الثابت في حقّنا الوجوب ، وكذلك إذا ثبت له حرمة شيء

ص: 439

وعلمنا بأنّ الحكم في حقّنا غير الإباحة ، ولكن شككنا في أنّه الحرمة أو غيرها من الوجوب أو الاستحباب أو الكراهة ، فلا شبهة في أنّ مقتضى الأصل هو الاشتراك ، لأنّ عدمه يوجب تعدّد الجعل وهو مشكوك فيه والأصل ينفيه.

وكذلك لو كان الثابت له وجوب شيء وعلمنا بأنّ حكمنا غير الإباحة ، وشككنا في أنّه الوجوب ليلزم الاشتراك ، أو غيره من الحرمة أو الكراهة أو الاستحباب.

وكذلك لو ثبت له استحباب شيء أو كراهته ، وشككنا في وجوب الأوّل وحرمة الثاني علينا ، فيحكم بالاشتراك لأصلي البراءة والإباحة ، مضافا إلى أصالة عدم تعدّد الجعل ، وأمّا لو ثبت له حرمة شيء وشككنا في حرمته علينا أيضا أو إباحته لنا ، فيحكم بالإباحة للأصل.

وكذلك لو ثبت له وجوب شيء وشككنا في وجوبه علينا أيضا وعدمه ، فيحكم بالعدم للأصل.

وهذا التفصيل كما ترى خال عن التحصيل ، لابتنائه على انتفاء الجعل في الإباحة ، وهذا تحكّم بل الأحكام الخمس الواقعيّة بأسرها مجعولة ، فلا يتفاوت الحال فيها من حيث جريان أصالة عدم الجعل ، وافقها أصل البراءة وأصل الإباحة أو لا ، لكون الجميع في الافتقار إلى الجعل على حدّ سواء ، وإلاّ كانت الواقعة كوقائع البهائم خالية عن الحكم.

فظهر أنّ الأصل من جهة أصالة عدم تعدّد الجعل هو الاشتراك ، ويؤيّده ندور المختصّات وغلبة المشتركات ، والظنّ يلحق الشيء بالأغلب.

والمناقشة فيه تارة : بمنع الظنّ باللحوق من الغلبة ، لأنّ العلم بالمخالفة في الحكم بين النبيّ والامّة ، كما في المختصّات مانع من حصوله.

واخرى : بمنع اعتبار الظنّ الحاصل منها ، لعدم الدليل عليه.

يدفعها : في المنع الأوّل عدم كون مبنى التمسّك بها على الاستقراء المنطقي المفيد للعلم ، أو الظنّ بالملازمة بين الحكم والكلّي ليثبت بها كبرى كلّيّة قطعيّة أو ظنّيّة ، حتّى يمنعه العلم أو الظنّ بوجود الفرد المخالف للأفراد الغالبة في الحكم ، بل على كون الغلبة في نفسها أمارة ظنّيّة كسائر الأمارات ، مثل الشهرة والإجماع المنقول والأولويّة ونحوها ، فالعلم بمخالفة النادر للغالب في الحكم لا يمنع من إفادتها الظنّ باللحوق.

وفي المنع الثاني البناء على حجّيّة الظنّ المطلق وهذا منه ، مع أنّ في بعض الأخبار إشارة إلى حجّيّة الغلبة من باب الظنّ الخاصّ ، كما في موثّقة إسحاق بن عمّار عن العبد

ص: 440

الصالح أنّه قال : « لا بأس بالصلاة في فرو اليماني وفيما صنع في أرض الإسلام؟ قلت فإن كان فيها غير أهل الإسلام ، قال : إذا كان الغالب عليها المسلمون فلا بأس » (1).

هذا مضافا إلى ظهور الإجماع من كلماتهم على استواء النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم والامّة في الحكم إلاّ فيما ثبت اختصاصه به ، وإلى عموم ما دلّ من الأخبار على أنّ حكم اللّه في الأوّلين والآخرين وفرائضه عليهم سواء ، وكذا الكلام في الفعل الصادر من غير النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم من المعصومين إذا احتمل الاختصاص والاشتراك إن قلنا بأنّ لهم خصائص أيضا كالنبيّ ، كما يظهر من بعض الأخبار كرواية محمّد بن مسلم قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : « الأئمّة بمنزلة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلاّ أنّهم ليسوا بأنبياء ، ولا يحلّ لهم من النساء ما يحلّ للنبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم ، وأمّا ما خلا ذلك فهم بمنزلة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم » (2) ، فالأصل فيه أيضا فقاهة واجتهادا بالوجوه المتقدّمة الاشتراك إلاّ فيما ثبت الاختصاص ، وقد يستدلّ لأصالة الاشتراك بين النبيّ والامّة في الفعل المردّد بآية الاسوة (3) الحسنة وغيرها من أدلّة التأسّي ، وفيه نظر.

المسألة الخامسة : في ما كان الفعل الصادر من المعصوم شرعيّا لم يكن من مختصّاته مع كونه بيانا لمجمل علم وجهه وعلم بيانيّته من قصده أو تنصيصة

المسألة الخامسة :

فيما كان الفعل الصادر منه شرعيّا لم يكن من مختصّاته ، مع كونه بيانا لمجمل علم وجهه وعلم بيانيّته من قصده أو تنصيصه ، كقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم : « خذوا عنّي مناسككم » (4) بيانا لقوله تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) (5) و « صلّوا كما رأيتموني اصلّي » (6) ، بيانا لقوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (7) ، و « هذا وضوء لا يقبل الصلاة إلاّ به » بعد ما توضّأ صلى اللّه عليه وآله وسلم مبتدأ في الغسل من الأعلى وفي غسل اليدين من المرفقين ، كما ورد في الخبر الصحيح ، ولا كلام لأحد في حكم هذا الفعل في نفسه من حيث كونه تابعا في وجهه لمبيّنه إن واجبا فواجب وإن مستحبّا فمستحبّ ، وليس المراد من كونه بيانا أنّه يعيّن وجه الفعل ، بل صفته.

وتفصيل ذلك : أنّ هذا الفعل البياني قد يشتمل على عدّة حركات أو حالات يعلم كونه

ص: 441


1- الوسائل 3 : 491 / 5 ، ب 50 من أبواب النجاسات.
2- الكافي 1 : 270 / 7 وبحار الأنوار 16 : 360 / 57.
3- الأحزاب : 21.
4- مستدرك الوسائل 9 : 420 باب 54 / 4 وعوالي اللآلي 4 : 34 / 118.
5- سورة آل عمران : 97.
6- بحار الأنوار 82 : 279 باب 34 وعوالي اللآلي 1 : 197 / 8 وسنن الدارقطني 1 : 346 / 10.
7- سورة البقرة : 43.

بعضها داخلا في البيان ، وكون بعضها خارجا عنه ، وكون بعضها مشتبها حاله من حيث الدخول والخروج ، كما لو استقبل في صلاته البيانيّة وابتدأ في غسل الوجه من الأعلى وفي غسل اليدين من المرفقين ، وما علم كونه داخلا بكونه من أجزاء العبادة فمنه ما علم كونه واجبا ، ومنه ما علم كونه مندوبا ، ومنه ما يكون مشتبها بين الواجب والمندوب ، وما علم كونه واجبا قد يكون واجبا ركنيّا ، وقد يكون واجبا غير ركني وقد يكون مشتبها بينهما ، وما لا يكون واجبا ركنيّا منه ما يتدارك منسيّه بعد الفعل ، ومنه ما لا يتدارك منسيّه ، ومنه ما اشتبه بينهما ، فالكلام في جهات :

أمّا الجهة الاولى : فهل الأصل فيما اشتبه بين دخوله في البيان أو خروجه منه أن يكون داخلا فيه أو خارجا منه؟ على معنى كونه من العادة ، أو لضرب من الاتّفاق وجهان ، من أصالة عدم التشريع ، ومن ظهور فعله من قرينة المقام وشهادة الحال - باعتبار كونه في معرض البيان - في قصد البيان من فعله هذا ، وأوجههما الثاني تقديما للظاهر هنا على الأصل ، لدلالة نفس تعرّضه لبيان المجمل بالفعل مع علمه بكون دلالة أكثر أجزائه على قصد البيانيّة على وجه الظهور ، على أنّه اكتفى في ثبوت البيانيّة بذلك الظهور ، ورخّص لتابعيه في التعويل عليه لئلاّ يلزم نقض الغرض ، أو لئلاّ يلزم الإغراء بالجهل المنوط بتأخير البيان عن وقت الحاجة ، مع كونه من الظنّ بالحكم الشرعي الحاصل من فعل المعصوم لا بالموضوع الخارجي ، فيندرج في الظنّ المطلق الثابت حجّيّته بدليل الانسداد.

هذا مضافا إلى الظهورات اللفظيّة فيما ثبت بيانيّته بالتنصيص كالأمثلة المتقدّمة ، فإنّ قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم : « خذوا عنّي مناسككم » ظاهر في كون كلّما استحدثه في فعله البياني داخل في البيان وقوله : « صلّوا كما رأيتموني اصلّي » ظاهر في مدخليّة جميع الخصوصيّات فيما قصد بيانه ، وقوله : « هذا وضوء ... إلى آخره » ظاهر في الإشارة إلى الفعل بجميع ما استحدثه فيه.

والمناقشة في الأوّل والثاني : بمنع ظهور الأمر في الوجوب ، لجواز إرادة الندب أو مطلق الرجحان ، مدفوعة : بما تقرّر في محلّه ، من أنّ الأمر حقيقة في الوجوب ، كما أنّ المناقشة في الثاني باحتمال كون « صلّوا » إخبارا بصيغة الماضي لا إنشاء ، فيكون إخبارا من فعل الأنبياء أو الملائكة ليلة المعراج ، مدفوعة : بكون هذا الاحتمال لغاية بعده لا يلتفت إليه ، ولا يوجب خروج الصيغة بظاهر الكتابة عن كونها ظاهرة في الأمر ، مضافا إلى

ص: 442

أنّه يأباه مقام البيان كما هو المفروض ، ويبعّده أيضا عدم سبق ما يصلح مرجعا للضمير لا باعتبار اللفظ ولا باعتبار السياق.

كما أنّ المناقشة في الثالث : بأنّ نفي القبول لا يستلزم نفي الصحّة ، مدفوعة : بأنّ ظاهر سياق البيانيّة إرادة نفي الصحّة من نفي القبول.

هذا كلّه فيما استحدثه في الفعل البياني من الخصوصيّات ، كما إذا استقبل في صلاته وابتدأ في الغسل من الأعلى أو من المرفقين كما عرفت ، وأمّا لو كان قبل الشروع في الفعل البياني متلبّسا بصفة كما لو كان مستور العورة قبل الصلاة فدخل فيها بهذه الحالة ، أو كان على الطهارة فصلّى على الجنازة بيانا ، فالوجه عدم دلالة فعله بهذه الحالة على أنّ لها دخلا في البيان وأنّها معتبرة في العبادة وجوبا أو استحبابا ، لانتفاء الظهور الناشئ من شهادة الحال كما لا يخفى ، فتبقى أصالة عدم التشريع سليمة عمّا يزاحمها ، ومرجعه إلى أنّ ثبوت المدخليّة لنحو هذه الأحوال المتلبّس بها قبل التشاغل بالفعل البياني يحتاج إلى دلالة خارجيّة ، والتخصيص اللفظي ببيانيّته أيضا لا يوجب ظهور كون غير ما استحدثه من الصفات المقارنة للفعل المتلبّس بها قبله مقصودا بالبيان ، معتبرا في المجمل على وجه الجزئيّة أو الشرطيّة.

وأمّا الجهة الثانية : فبعد ما ثبت كون ما استحدثه المعصوم في فعله البياني داخلا في البيان ، على معنى قصده الدلالة على كونه معتبرا في المجمل على وجه الشطريّة أو الشرطيّة ، وتردّد في وجهه بين كونه واجبا أو مستحبّا ، فهل الأصل كونه من الواجب أو لا؟

فقد يتوهّم بناء ذلك على مسألة جريان الأصل في ماهيّات العبادات عند الشكّ في وجوب شيء فيها جزءا أو شرطا وعدمه ، فهل القول بجريان الأصل النافي للجزئيّة والشرطيّة ، يتّجه الحكم فيما نحن فيه بعدم الوجوب المستلزم لثبوت الاستحباب لدوران الأمر بينهما ، وعلى القول بعدم جريانه بدعوى كون المرجع فيها أصل الاشتغال القاضي بوجوب الإتيان بكلّ ما يحتمل كونه معتبرا في [ العبادة ] جزءا أو شرطا ، يتّجه الحكم هنا بالوجوب.

وربّما يظهر هذا البناء من كلمات بعض الأعلام (1) أيضا في هذا المقام.

ص: 443


1- قوانين الاصول 1 : 493.

ولكنّ الإنصاف أنّه بناء غير جيّد لخروجه عن معقد البحث ، إذ المقصود استظهار الدلالة من فعل المعصوم على أحد الوجهين ، بعد ما ظهر منه الدلالة على دخول ما استحدثه في البيان.

والذي يساعد عليه التحقيق والنظر الدقيق هو الوجوب ، إلاّ ما ثبت استحبابه بدليل من الخارج.

وتوضيح ذلك : أنّه لا ينبغي الاسترابة في أنّ الفعل بما هو فعل مجمل ، لا دلالة فيه على شيء حتّى وجهه فضلا عن صفة المجمل من وجوب شيء فيه شطرا أو شرطا ، إلاّ إذا اقترن بقرينة حال أو مقام تعطيه الدلالة على شيء ، ومن قرائن المقام كون الفاعل قاصدا لبيان مجمل ، وكما أنّ هذه القرينة توجب ظهوره في دخول ما استحدثه في البيان على معنى كونه معتبرا في المجمل على وجه الجزئيّة أو الشرطيّة ، فكذلك توجب ظهوره في كونه واجبا بوجوب الكلّ إن كان من قبيل الجزء ، أو بوجوب المشروط إن كان من قبيل الشرط.

وبالجملة : كما أنّ قضيّة مبينيّة الفعل القصد إلى إفادة دخول ما استحدثه في البيان ، فكذلك قضيّة مبيّنيّة (1) القصد إلى إفادة وجوبه بوجوب المبيّن جزءا كان أو شرطا.

لا يقال : كونه جزءا للواجب لا ينافي استحبابه ، لأنّ من أجزاء الواجب أجزائه المستحبّة كالقنوت والتكبير المستحبّة للصلاة ، والمضمضة والاستنشاق وتثنية الغسلات في الوضوء ، فجزء الواجب يجامع كلاّ من الوجوب والاستحباب ، فالفعل المبيّن للمجمل الدالّ على الجزئيّة لا ينافي استحبابه حتّى ينكشف منه الوجوب وعلى هذا فلم لا يجوز أن يكون البدأة من الأعلى في غسل الوجه ومن المرفقين في غسل اليدين مثلا من الأجزاء المستحبّة للوضوء المجمل الّذي بيّنه المعصوم بفعله؟

لأنّا نقول : قضيّة الفعل البياني الدالّ على جزئيّة ما استحدثه أو شرطيّته ، كونه جزءا أو شرطا لماهيّة المجمل ، وجزء الماهيّة لا ينفكّ عنها والجزء المستحبّ جائز الانفكاك عنها وإلاّ لم يكن مستحبّا ، فمعنى جزئيّته - على ما حقّقناه في غير موضع - كونه جزءا للفرد الأفضل ، لأنّ معنى استحبابه استحباب اختيار الفرد المشتمل عليه وهو معنى أفضليّة الفرد ، فكون الجزء جزءا للفرد الأفضل خلاف ظاهر دليل الجزئيّة ، فلا يصار إليه إلاّ لدليل من خارج يصرف بدلالته على الاستحباب دليل الجزئيّة عن ظاهره ، وعلى هذا فكون البدأة

ص: 444


1- كذا فى الأصل.

من الأعلى أو من المرفقين من الأجزاء المستحبّة في الوضوء خلاف ظاهر الفعل البياني ، وكذلك سائر ما استحدثه المعصوم في فعله بيانا لكونه معتبرا في المجمل شطرا أو شرطا ، ما لم يقم دليل على استحبابه ، كما هو مفروض المقام.

وأمّا الجهة الثالثة : فبعد ما ثبت بفعل المعصوم كون ما استحدثه في فعله البياني جزءا واجبا للعبادة المجملة باعتبار كونه من أجزاء الماهيّة ، واشتبه بين الركن وغيره ، فهل الأصل فيه كونه ركنا أو لا؟

وتحقيق المقام : أنّ البحث عن ركنيّة ما ثبت جزئيّته بفعل المعصوم لا مدخليّة فيه لخصوص فعل المعصوم ، بل هو من جزئيّات مسألة أصالة الركنيّة فيما ثبت جزئيّته للعبادة ، سواء ثبت الجزئيّة بقول المعصوم أو فعله أو تقريره ، أو دليل آخر لبّي أو لفظي.

والحقّ فيها - على ما حقّقناه في أواخر باب أصل البراءة - هو الركنيّة ، لأنّ جزء الماهيّة بمفهومه يقتضي كونه بحيث ينتفي بانتفائه الماهيّة ، وإلاّ لم يكن جزءا للماهيّة.

هذا مضافا إلى أنّ الجزء الغير الركني أيضا بمفهومه تقتضي افتقاره إلى دليل ولا يكون إلاّ لأنّه خلاف الأصل ، وذلك لأنّ معنى الجزء الركني هو عدم الفرق في جزئيّته بمقتضى دليله بين العالم والجاهل ، والعامد والساهي ، والمتذكّر والناسي ، والجزء الغير الركني ما كان جزءا في حقّ العامد المتذكّر دون الساهي والناسي ، وهذا كما ترى تخصيص يحتاج إلى دليل. وإذا لم يكن دليل فالأصل عدم التخصيص ، فالأصل في الجزء أن يكون ركنا إلاّ ما دلّ الدليل على عدم ركنيّته.

والسرّ في ذلك : الّذي هو لمّ المسألة ، أنّ العبادة المركّبة من أجزاء كالصلاة التي أوّلها التكبيرة وآخرها التسليمة ليس لها وجود مغاير لوجودات أجزائها ، بل وجودها عين مجموع وجودات أجزائها ، وإذا انتفى بعض هذه الوجودات لفوات الجزء - ولو سهوا أو نسيانا - كان ذلك انتفاء لمجموع وجودات الأجزاء ، وهو بعينه انتفاء لوجود العبادة ، ووجودات الأجزاء الباقية غير مجموع وجودات أجزاء العبادة.

وأمّا الجهة الرابعة : فبعد ما ثبت في الجزء الثابت جزئيّته للعبادة المجملة بفعل المعصوم كونه جزءا غير ركني ونسي في محلّه ، فهل الأصل فيه كونه ممّا يتلافى بعد الفراغ أو لا؟

والوجه هو الثاني ، لأنّ وجوب التلافي تكليف زائد على التكليف بأصل العبادة المفروض حصول امتثاله ، بفرض عدم بطلانها بالإخلال بالجزء نسيانا ، وهذا التكليف

ص: 445

الزائد محلّ شكّ لعدم الدليل عليه ، فالأصل براءة الذمّة عنه ، بل لو فات أصل العبادة في وقتها فوجوب فعلها بعد الوقت ، بناء على ما حقّق من عدم تبعيّة القضاء للأمر الأوّل يحتاج إلى الدليل ، فكيف بجزئها إذا فات في محلّه.

وأمّا ما يتوهّم من الأصل الاجتهادي في وجوب التلافي من جهة عموم قوله عليه السلام : « اقض ما فاتك كما فات » (1) لأنّ ما فات عامّ يشمل فوات الجزء أيضا ، ففيه : المنع من صدق القضاء على تدارك الجزء المنسي بعد الفراغ ، إلاّ إذا حمل على إرادة الفعل الّذي هو أحد معانيه ، وهو موضع منع ، بل الواجب حمله على إرادة فعل ما فات في الوقت في خارجه إمّا لكونه حقيقة شرعيّة فيه كما هو الأظهر ، أو لأنّه حقيقة متشرّعة فيه بحيث يعمّ عرف الأئمّة عليهم السلام فيحمل عليه ما في أخبارهم ، أو لأنّه غالب الإطلاق في أخبارهم عليهم السلام على ذلك فينصرف إليه الإطلاق.

هذا مع أنّ متن الرواية ليس على ما اشتهر في الألسن وهو ما ذكر ، بل هو قوله عليه السلام : « ما فاتتك من فريضة ، فاقضها كما فاتتك (2) » وكلمة « من » بيانيّة ، واحتمال التبعيض يدفعه سبق الموصول الّذي هو كلمة الإبهام المحتاج من جهته إلى البيان فليتدبّر.

ثمّ إنّ هذا كلّه في بيان مجمل علم كون وجهه الوجوب ، وكذا الكلام فيما علم كون وجهه الاستحباب ، فما استحدثه المعصوم في فعله البياني له يجري فيه الانقسام المتقدّم الّذي يتولّد منه الجهات المذكورة ، والأصل في الجميع ما عرفت.

ولا ينافي كون وجه أصل العبادة هو الاستحباب وجوب الجزء ، إذ ليس المراد بوجوب الجزء هنا خصوص الوجوب الشرعي المتضمّن للطلب الحتمي ، بل الوجوب الشرطي على حدّ وجوب الوضوء للنافلة ، ومعناه الثبوت في العبادة ، وكونه بحيث يتوقّف عليه الكلّ في وجوده الخارجي باعتبار دخوله في الماهيّة.

وإن شئت قلت في التقسيم : أنّ ما استحدثه المعصوم في فعله البياني ، قد يكون خارجا عن العبادة ، وقد يكون داخلا فيها ، وقد يكون مشتبها بينهما ، وما دخل فيها قد يكون جزءا لأصل الماهيّة ، وقد يكون جزءا للفرد الأفضل ، وقد يكون مشتبها بينهما ، وجزء الماهيّة قد يكون ركنا ، وقد يكون غيره ، وقد يكون مشتبها بينهما. (3)

ص: 446


1- الكافي : 1 / 103.
2- بحار الأنوار 85 : 216.
3- بحار الانوار 85 : 216.

نعم لا يجري هنا التقسيم الرابع إذ لا تلافي لمنسي جزء النافلة أصلا ، كما حقّق في الفقه ، وفي البطلان بنقصان الركن فيها سهوا إشكال ، ينشأ منه الإشكال في جريان التقسيم الثالث أيضا.

المسألة السادسة : في ما كان الفعل الصادر من المعصوم مع كونه شرعيّا وعدم كونه من خصائصه بيانا لمجمل لم يعلم وجهه

المسألة السادسة :

فيما كان الفعل الصادر من المعصوم مع كونه شرعيّا وعدم كونه من خصائصه ، بيانا لمجمل لم يعلم وجهه ، وهذا أيضا من حيث الوجه يتبع مبيّنه فيكون مجهول الوجه ، ولا ينافي ذلك بيانيّته ، إذ ليس المراد من كونه بيانا للمجمل أنّه يبيّن وجهه ، بل معناه أنّه يبيّن صفته وكيفيّته من حيث ما اعتبر فيه وما لم يعتبر من الأجزاء والشرائط ، فيجب متابعته من حيث الكيفيّة الّتي تعرّض لبيانها.

ولأجل ما عرفت من التبعيّة في الوجه وإن لم يكن خصوصه معلوما ، خرج الفعل البياني عن عنوان البحث الآتي من وجوب التأسّي بالمعصوم في فعله وعدمه ، وثبوت حكم في حقّنا بفعله وعدمه على تقدير عدم وجوب التأسّي ، لثبوت الحكم في حقّنا في محلّ البيان من غير جهة فعله ، وهو عموم الخطاب المفروض كون مفاده من حيث الحكم مبيّنا ومن حيث موضوعه مجملا كما في المسألة السابقة ، أو من حيث الحكم وموضوعه معا مجملا كما في هذه المسألة ، بل قد يكون عروض جهة البيانيّة لفعله بعد صدور الخطاب كاشفا عن عموم مفاده من حيث الحكم لغيره من الامّة ، وإن كان أصل الخطاب بصيغة المفرد الظاهرة في الاختصاص ، كقوله تعالى : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) (1) مع فرض إتيانه عليه السلام بركعتين مثلا بيانا للصلاة ، فإنّه يكشف عن الشركة في وجه الصلاة وإن كان خصوصه مجهولا لنا ، لتردّده بين الوجوب والندب من جهة إجمال الأمر بين الإيجاب والاستحباب ، لأنّ التعرّض للبيان إنّما هو لتعليم صفة المكلّف به وكيفيّته ، فلولا الشركة في أصل التكليف لم يكن فائدة لبيان الصفة وتعليم الكيفيّة فيلغو ، وإذا كان الخطاب مجملا من وجهين فتارة : من حيث الحكم المردّد بين الوجوب والاستحباب ، واخرى : من حيث موضوعه باعتبار صفته وكيفيّته ، كما في عنوان هذه المسألة فلابدّ في التخلّص من الإجمال من حيث الموضوع من الرجوع إلى فعل المعصوم المفروض وقوعه بيانا ، ولو

ص: 447


1- سورة الإسراء : 78.

اتّفق في بعض ما استحدثه فيه اشتباه في بعض الجهات يرجع لرفعه إلى الأصل الّذي قرّرناه في المسألة السابقة.

وأمّا الإجمال من حيث الحكم المعبّر عنه في عنوان المسألة بعدم العلم بوجه المجمل ، فلابدّ في التخلّص عنه من الرجوع إلى القواعد والاصول ، لعدم تعرّض المعصوم لبيانه في فعله من هذه الجهة ، ومن الاصول أصل البراءة في الشبهات الحكميّة من دوران الأمر بين الوجوب والاستحباب إذا نشأت الشبهة من إجمال النصّ ، فتحكم بكون وجه ما بيّنه المعصوم بفعله في حقّنا الاستحباب عملا بأصل البراءة المحرز موضوعه هنا بإجمال النصّ.

فلو احتمل فيه الإباحة أيضا بني عليها بعد نفي احتمال الوجوب بالأصل.

المسألة السابعة : في ما كان الفعل الصادر من المعصوم في غير مقام بيان المجمل ، علم وجهه من وجوب أو استحباب أو إباحة

اشارة

المسألة السابعة :

فيما كان الفعل الصادر من المعصوم في غير مقام بيان المجمل ، علم وجهه من وجوب أو استحباب أو إباحة ، فالمشهور وجوب التأسّي به فيه.

وعن السيّد في الذريعة (1) نفي الخلاف فيه.

وعن الشيخ في العدّة (2) أنّه نقل قولا بعدم الوجوب ، وآخر بعدم الجواز ، وربّما حكى قول رابع بالتفصيل بين العبادات فالوجوب أو المعاملات والمناكحات فعدمه.

وهنا تفصيل آخر اختاره في المناهج ، وهو عدم جوازه فيما فعله وجوبا أو ندبا ، وكراهته فيما فعله مكروها لو جاز صدوره عنه ، وإباحته فيما سواه.

وظاهر أنّ موضوع هذه المسألة الّذي هو محلّ هذا النزاع ، مع اعتبار عدم وقوعه بيانا لمجمل ، ما لم يكن بالوجه المعلوم من خصائصه ، كما هو ظاهر عبارة التهذيب (3) وصريح عبارة المنية حيث قال : « وأمّا ما علم وجهه من أفعاله عليه السلام ممّا ليس من خصائصه فيجب علينا التأسّي به عند الأكثر من المعتزلة والفقهاء ، بمعنى أنّه إن كان واجبا وجب علينا أن نوقعه على وجه الوجوب ، وإن كان نفلا كنّا متعبّدين به على وجه النفل ، وإن كان مباحا كنّا متعبّدين باعتقاد إباحته ، وكان لنا فعله وتركه ، وأوجب بعضهم التأسّي به في العبادات دون

ص: 448


1- الذريعة 2 : 576.
2- عدّة الاصول 2 : 573.
3- تهذيب الوصول إلى علم الاصول : 54.

المناكحات والمعاملات وأنكر آخرون ذلك كلّه » (1).

وبذلك ظهر ضعف دليل التفصيل على عدم الجواز فيما فعله وجوبا أو ندبا ، فإنّه استدلّ بلزوم إيجاب ما لم يعلم وجوبه ، والحكم باستحباب ما لم يعلم استحبابه ، لاحتمال كونه على هذا الوجه من خصائصه وهو حرام ، إلى أن قال : مضافا إلى ما ورد عنهم من قولهم « إنّا أهل بيت لا يقاس بنا أحد » (2) ثمّ علّل الكراهة فيما فعله مكروها بأنّ الظاهر عدم الخلاف في كراهته ، والإباحة فيما فعله مباحا بالأصل الخالي عن المعارض ، واحتمال اختصاص الإباحة لا يدفع الأصل.

ووجه الضعف : أنّ مبناه على التشريع من جهة قيام احتمال الاختصاص ، وهذا الاحتمال منفيّ بحكم الفرض ، مع أنّه لو بنينا على تعميم موضوع هذه المسألة بالقياس إلى ما يحتمل كونه من الخصائص ، بأن يكون الموضوع ما لم يعلم كونه منها ، كفى في الخروج عن التشريع المحرّم أصالة عدم الاختصاص فقاهة واجتهادا ، فاحتمال كونه من الخصائص منفيّ إمّا بحكم الفرض أو بحكم الأصل.

وكذا ظهر ضعف القول بعدم الجواز مطلقا ، على ما نقله الشيخ في العدّة.

واحتجّ الأكثر على القول بوجوب التأسّي بوجوه :

منها : الإجماع على الرجوع في الأحكام إلى أفعاله صلى اللّه عليه وآله وسلم كما في قبلة الصائم ، فقد روي عن امّ سلمة أنّها سألته صلى اللّه عليه وآله وسلم عنها بعد ما سألها الصحابة ، « فقال لها : لم لا تقولين لهم أنّي اقبّل وأنا صائم » (3) وكما في الغسل عن التقاء الختانين ، فروي أنّ الصحابة اختلفوا في الغسل من التقاء الختانين ، فسألوا عائشة : « فقالت : فعلت أنا ورسول اللّه عليه وآله السلام فاغتسلنا » (4) فرجعوا إلى ذلك واتّفقوا عليه وإجماعهم إنّما كان بفعله صلى اللّه عليه وآله وسلم.

وأيضا نقل في المحصول « أنّ عمر كان يقبّل حجر الأسود ، ويقول : إنّي أعلم أنّك حجر لا يضرّ ولا ينفع ، ولولا أنّي رأيت رسول اللّه عليه الصلاة والسلام كان يقبّلك ما كنت اقبّلك » (5) فعلم أنّ فعله عليه السلام متّبع للامّة.

ص: 449


1- منية اللبيب : 216.
2- معاني الأخبار : 56 وبحار الأنوار 22 : 407 / 22.
3- صحيح احمد بن حنبل : 2 / 120 و 185.
4- سنن الترمذي : كتاب الطهارة 80 وسنن ابن ماجة : كتاب الطهارة 111.
5- سنن النسائي : مناسك 147 وسنن ابن ماجة : مناسك 27 وصحيح البخارى : حجّ 50.

وعن العلاّمة في النهاية دفعه : « بمنع استناد الإجماع إلى فعله عليه السلام بل إلى قوله : إذا التقى الختانان وجب الغسل ، وسؤال عمر عائشة إنّما كان ليعلم أنّ فعله عليه السلام هل كان مطابقا لأمره صلى اللّه عليه وآله أم لا؟ » وفيه من البعد ما لا يخفى.

ولكنّ الإجماع المتمسّك به على وجوب التأسّي به صلى اللّه عليه وآله يزيّفه أنّه لا يكشف عن وجوب التأسّي ، ولا عن ثبوت حكم في حقّ الامّة بنفس فعله صلى اللّه عليه وآله فيما لم يثبت حكمه من غير جهة فعله ، لجواز بنائه على مقدّمة خارجيّة ثابتة عندهم على وجه الكبرى الكلّيّة بدليلها من قوله صلى اللّه عليه وآله ، وهي أصالة المشاركة في الأحكام والتكاليف ، ورجوعهم إلى أفعاله صلى اللّه عليه وآله إنّما هو لإحراز الوجه الّذي هو الحكم المشترك فيه ، إلاّ أن يقال : بأنّ المراد من إثبات حكم في حقّ الامّة بفعله صلى اللّه عليه وآله تعيين الحكم المشترك بينه وبين الامّة ، وهو المراد من التأسّي أيضا بناءا على أنّه عبارة عن الإتيان بما فعله على الوجه الّذي فعله.

ومنها : قوله عزّ من قائل : ( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ) (1) استدلّ به العلاّمة وغيره ، قال في التهذيب : « الاسوة الإتيان بفعل الغير لأنّه فعله ، وقوله : ( لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللّهَ ) تخويف على الترك » (2).

أقول : كونه تخويفا إنّما هو باعتبار عكس نقيض قضيّة الآية ، فإنّ قوله : ( لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ) ينعكس بأنّ من لم يكن يرجو اللّه واليوم الآخر ليس له في رسول اللّه اسوة حسنة ، وهذا تخويف على ترك الاسوة ، وظاهر أنّ التخويف على ترك الشيء دليل على وجوبه.

والإنصاف : أنّ الاستدلال بالآية أيضا غير ناهض ، أمّا أوّلا : فلمنع دلالتها على الوجوب بل أقصاها الدلالة على الجواز أو مطلق الرجحان ، وإنّما تحصل الدلالة على الوجوب لو قال مكان « لكم عليكم » لكون « على » للإلزام ، وغاية ما ينساق من « اللام » الجواز ، ودعوى : أنّ الدلالة على الوجوب تحصل من قوله : ( لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ) لكونه تخويفا على الترك ، يدفعها : منع كون ذلك تخويفا على الترك بل هو ترغيب على الفعل ، والتخويف على الترك يحصل من « لفظ يخاف اللّه واليوم الآخر ».

والفرق بينه وبين ما في الآية ، أنّ الخوف حيث يضاف إلى اللّه تعالى أو إلى اليوم الآخر ينصرف إلى عذاب اللّه وعذاب اليوم الآخر فيكون تخويفا ، والرجاء حيث يضاف إليهما

ص: 450


1- سورة الأحزاب : 21.
2- تهذيب الاصول : 54.

ينصرف إلى ثوابه تعالى وثواب اليوم الآخر.

فحاصل معنى قوله : ( لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ) : لمن كان يبتغي ثواب اللّه ويبتغي ثواب اليوم الآخر ، وهذا كما ترى ترغيب على فعل الاسوة ، وأقصى ما يفيده الترغيب على فعلها رجحانه لا وجوبه.

وأمّا ثانيا : فلمنع كون المراد من الاسوة في رسول اللّه التأسّي به فيما يفعله ، لجواز كون المراد بها الشركة ، كما في قولهم : « المال اسوة بين الغرماء » أي شركة بينهم يتساهمون فيه بأن يأخذ كلّ منه سهما على نسبة دينه ، ومن الجائز كون المراد منها في الآية الشركة بين النبيّ والامّة في الأحكام والشرائع ، فتكون الآية حينئذ من أدلّة المشاركة في التكليف من دون تعلّق لها بمقام التأسّي به في فعله ، ويحتمل أيضا أن تكون الاسوة هنا من المواساة ، فيكون مفاد الآية إيجابا لمواساة الامّة بينهم بأموالهم وأنفسهم بأن يعينوه بهما في حروبه وجهاده مع الكفّار والمشركين.

وأمّا ثالثا : فلمنع عموم للآية بحيث يثبت به الحكم على وجه الإيجاب الكلّي ، أعني وجوب التأسّي برسول اللّه في كلّ ما فعله ، كما هو المقصود بالبحث في المسألة الاصوليّة ، حيث يقصد فيها تأسيس قاعدة كلّيّة في فعل المعصوم ، إذ ليس في الآية إلاّ لفظ « اسوة » وهي نكرة في سياق الإثبات ولا عموم فيها ، فقصارى ما يعطيه الآية هو وجوب التأسّي به في الجملة ، ويكفي في صدق هذه القضيّة الجزئيّة في حقّ المخاطبين بها تأسّيهم برسول اللّه في ما يرجع إلى الاصول ، كالإيمان باللّه وتوحيده وصفاته الكماليّة ، أو فيما يرجع إلى الفروع كالصلاة والصوم والحجّ مثلا.

وأمّا رابعا : فلأنّ ما يستفاد منها من وجوب التأسّي به فيما يفعله إنّما يصحّ فيما علم كون وجهه الوجوب ، لا فيما علم كون وجهه الاستحباب أو الإباحة ، لمنافاة وجوب الإتيان لكلّ من الاستحباب والإباحة فيما فعله مندوبا أو مباحا ، إلاّ أن يقال : بأنّ الحكم يرجع إلى القيد الأخير من مفهوم الاسوة وهو الاتيان بفعله على الوجه الّذي فعله ، فوجوب الإتيان بالمندوب على وجه الندب ، وبالمباح على وجه الإباحة لا ينافي استحباب الأوّل وإباحة الثاني ، فإنّ الإتيان بالمندوب على وجه الوجوب وبالمباح أيضا على وجه الوجوب حرام ، وقضيّة حرمة ذلك وجوب الإتيان [ بالأوّل ] على وجه. [ الندب ] وبالثاني على وجه الإباحة.

ص: 451

وإنّما يحصل المنافاة لو قلنا بوجوب الإتيان بكلّ منهما في مقابلة تركه ، لأنّ الاستحباب يتضمّن جواز كلّ من الفعل والترك مع رجحان الفعل ، والإباحة تتضمّن جواز كلّ منهما على وجه التسوية.

وأمّا على تقدير اختيار الفعل ، فإذا دار الأمر بين الإتيان على وجه الوجوب والإتيان على وجه الندب أو الإباحة ، فلا ريب في حرمة الأوّل وتعيّن الثاني من دون تناف بينه وبين استحبابه وإباحته.

وأمّا خامسا : فلخروج موضوع المسألة عن مورد الآية ، فإنّه إذا علم وجه الفعل وعلم عدم كونه من خصائصه ، فاللازم من المقدّمتين ثبوت المشاركة ، ويستغني بذلك عن النظر في الآية والاستدلال بها على وجوب في نحوه أو إثبات حكم في حقّ الامّة بفعله ، إلاّ أن يقال : إنّ المشاركة في التكاليف والأحكام بينه وبين الامّة إنّما تثبت بدليلها ، ومن الجائز تعدّد الأدلّة عليها ، والآية الدالّة على وجوب التأسّي به فيما فعله واجبا أو مندوبا أو مباحا من جملة أدلّتها ، فتأمّل.

فالعمدة من الأجوبة الوجوه الثلاث الاول والعمدة منها الوجه الأوّل ، فليتدبّر.

ومنها : قوله تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) (1) فإنّ الأمر مشترك بين الفعل والقول ، وهو الطلب الإلزامي الحاصل بالقول ، والتهديد يفيد حرمة مخالفة الرسول فيما يفعله وما يأمر به ، فيدلّ على وجوب التأسّي به في فعله.

واجيب : بمنع الاشتراك ، ولو سلّم فالمشترك لا يحمل على أحد معنييه بعينه إلاّ لقرينة ، ولا قرينة [ على ] الفعل ، وبني الاستدلال على ظهور المشترك عند التجرّد عن القرينة في إرادة جميع معانيه ، فهو قول ضعيف لا يلتفت إليه ، مع أنّ استعمال المشترك في أكثر من معنى غير جائز.

وقد يجاب : بمنع التجرّد لوجود القرينة على إرادة القول ، وهو سبق ذكر الدعاء في قوله تعالى : ( لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً ) (2) والدعاء لا يكون إلاّ بالقول ، ذكره في المنية (3) والمناهج (4) ، وفيه نظر : إذ ليس المراد بالدعاء دعوة الرسول لينهض قرينة على إرادة القول من الأمر.

ص: 452


1- سورة النور : 63.
2- سورة النور : 63.
3- منية اللبيب : 215.
4- مناهج الاصول.

فعن القمّي في تفسيره ، قال : « لا تدعوا رسول اللّه كما يدعو بعضكم بعضا » (1).

وعن الباقر عليه السلام [ في قوله عز وجلّ : « لا تجعلوا دعاء الرسول كدعاء بعضكم بعضا » ] يقول : « لا تقولوا يا محمّد ولا يا أبا القاسم ، لكن قولوا : يا نبيّ اللّه ويا رسول اللّه » (2) وهذا المعنى كما ترى ممّا لا تعلّق له بالآية اللاحقة ليكون قرينة على إرادة القول من الأمر.

ومنها : قوله تعالى : ( ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (3) يدلّ على وجوب الأخذ بكلّ ما أتاه الرسول والتأسّي به أخذ بما أتاه فيكون واجبا.

وفيه : منع صدق إيتانه لنا على ما فعله واجبا أو مندوبا أو مباحا من دون قصد إلى البيان كما هو موضوع المسألة ، ومع الغضّ عن ذلك فالنهي قرينة على إرادة الأمر من الإيتاء.

ومنها : قوله تعالى : ( إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ) (4) أمر باتّباعه معلّقا على محبّة اللّه فيكون واجبا ، والاتّباع هو الإتيان بمثل فعله على الوجه الّذي فعله لأجل أنّه فعله ، وهذا بعينه هو معنى التأسّي.

وفيه : أنّ اتّباع الشخص مقول بالتواطئ على موافقته في كلّ ما يفعل ، أو على موافقته في كلّ ما يقول.

والأوّل عبارة عن الإتيان بمثل ما فعله على الوجه الّذي فعله.

والثاني عن الإتيان بما يأمر به وترك الإتيان بما ينهى عنه ، فلابدّ في قوله : ( فَاتَّبِعُونِي ) من تقدير متعلّق ، وهو مردّد بين الأمرين ، ونحن إن لم ندّع كونه أظهر في الثاني فلا أقلّ من أن نمنع ظهوره في الأوّل ، هذا ولكن لو ادّعي ظهوره في الأعمّ باعتبار حذف المتعلّق لم يكن بعيدا ، ولعلّه عليه مبنى الاستدلال.

ومنها : قوله تعالى : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (5) فإنّ التأسّي بالرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم أو اولي الأمر فيما فعله إطاعة له فيكون واجبا للأمر بها في الآية.

واجيب : بأنّ إطاعة اللّه لا يكون إلاّ بموافقة أمره أو نهيه ، فكذلك إطاعة الرسول واولي الأمر لمكان العطف ، ولا خفاء في ضعفه.

ص: 453


1- تفسير القمّي : 462.
2- بحار الأنوار 17 : 27 / 1.
3- سورة الحشر : 7.
4- سورة آل عمران : 31.
5- سورة النساء : 59.

والأولى في الجواب أن يقال : بأنّ الإطاعة في نفسها ظاهرة في موافقة الخطاب أمرا أو نهيا ، سواء اضيفت إلى اللّه الّذي يستحيل في حقّه التأسّي ، أو إلى الرسول أو اولي الأمر ، فلا تتناول التأسّي بهما في فعلهما ، مضافا إلى تطرّق المنع إلى دلالة الأمر هنا على الوجوب ، لكونه إرشاديّا معرّى عن الطلب.

ومنها : قوله تعالى : ( زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ ) (1) فإنّ قوله : « لكى لا يكون على المؤمنين حرج » في معنى ليتأسّوا به في تزويج أزواج أدعيائهم من غير حرج عليهم من جهة العار أو ملامة الناس ، بمعنى أنّهم إذا رأوا أنّ النبيّ تزوّج بزوجة دعيه يتأسّون به في ذلك بلا حرج ، فدلّ ذلك على وجوب التأسّي به.

واجيب : تارة بأنّ نفي الحرج عن التأسّي به إباحة له ، لا أنّه إيجاب له.

واخرى : بأنّه أعمّ من الإيجاب والندب والإباحة ، والعامّ لا يدلّ على الخاصّ.

ومنها : المروي في الفقيه باسناده عن عبد اللّه بن المغيرة عن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السلام « قال : أوصي رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم إلى عليّ عليه السلام وحده ، وأوصى عليّ عليه السلام إلى الحسن والحسين عليهما السلام جميعا ، فكان الحسن أمامه فدخل رجل يوم عرفة على الحسن عليه السلام وهو يتعذّى والحسين صائم ، ثمّ جاء بعدما قبض الحسن عليه السلام فدخل على الحسين عليه السلام يوم عرفة وهو يتغذى وعليّ بن الحسين عليه السلام صائم ، فقال له الرجل : إنّي دخلت على الحسن عليه السلام وهو يتغذّى وأنت صائم ، ثمّ دخلت عليك وأنت مفطر ، فقال : إنّ الحسن عليه السلام كان إماما فأفطر لئلاّ يتّخذ صومه سنّة وليتأسّي به الناس ، فلمّا أن قبض كنت أنا الإمام فأردت أن لا يتّخذ الناس صومي سنّة فيتأسّى الناس بي » (2).

والجواب : أنّه لدفع « توهّم الناس وجوب صوم يوم عرفة ، لا لإيجاب التأسّي به عليه السلام في إفطاره ، وقوله : « ليتأسّى به الناس » مع قوله : فيتأسّى الناس بي » ليس بظاهر في الإيجاب ، إلاّ أن يرجع الإيجاب إلى اعتقاد الاستحباب أو عدم الوجوب.

والإنصاف : أنّ أدلّة وجوب التأسّي بالمعصوم في فعله المعلوم وجهه غير تامّة ، فلا يثبت بها وجوبه.

نعم يثبت بفعله الخاصّ الّذي هو الوجه المفروض كونه معلوما في حقّ غيره ، لحجّيّة فعله باعتبار كونه معصوما ، لا يعصى ولا يجهل بحكم اللّه ولا يسهو ولا ينسى ، فلا يأتي

ص: 454


1- سورة الأحزاب : 37.
2- من لا يحضره الفقيه 2 : 88 / 1810.

بغير الواجب على وجه الوجوب ، ولا بغير المندوب على وجه الندب ، ولا بغير المباح على وجه الإباحة.

والفرق بين الاعتبار المذكور لثبوت الحكم في حقّ غيره بفعله ، وبين التأسّي به في فعله المنفي وجوبه ، أنّ التأسّي يعتبر في مفهومه قيود ثلاث ، وهو الإتيان بمثل فعل المعصوم على الوجه الّذي فعله لأجل أنّه فعله ، وقضيّة الاعتبار المذكور إذا كان وجه فعله الوجوب وجوب الإتيان بمثل ذلك الفعل على وجه الوجوب ، لا لأجل أنّه فعله بل لأجل وجوبه علينا ، وإذا كان وجه فعله الندب استحباب الإتيان بمثل فعله على وجه الاستحباب بداعي ذلك الاستحباب ، لا لأجل أنّه فعله ، وإذا كان وجه فعله الإباحة جواز الإتيان به على وجه الإباحة لأجل كونه مباحا ، لا لأجل أنّه فعله.

ألا ترى أنّا نصلّي وجوبا ونغتسل في الجمعة استحبابا ونأكل أو نشرب إباحة ، ولا نلاحظ في شيء منها ولا في نظائرها كونه لأجل أنّه فعله المعصوم ، ولأجل ذلك لا يصدق على شيء منها التأسّي.

لا يقال : إنّ الحكم في حقّ غيره إنّما يثبت بمقدّمة المشاركة في التكليف لا بفعل المعصوم ، لأنّ الحكم المشترك فيه مع قطع النظر عن فعل المعصوم مطلقة ، المردّد بين الوجوب والندب والإباحة والكراهة ، وتعيينه إنّما يعلم بفعل المعصوم وهو المراد من ثبوت الخاصّ في حقّ غيره بفعله.

فائدة : في طرق معرفة وجه فعل المعصوم عليه السلام

فائدة :

بعد ما تبيّن ثبوت الحكم الخاصّ في حقّنا بفعل المعصوم المعلوم وجهه ، ينبغي أن نبيّن طرق معرفة وجه فعله.

فنقول : قد عرفت أنّ وجه فعله إمّا الوجوب أو الندب أو الإباحة ، ولمعرفته طريقان :

أحدهما : ما يشترك فيه الثلاثة ، والآخر : ما يختصّ بأحدها دون الآخرين.

أمّا الطريق الأوّل فوجوه :

الأوّل : أن ينصّ المعصوم بوجه فعله ، كأن يقول : هذا الّذي فعلته أو أفعله واجب أو مندوب أو مباح ، أو يقول : فعلته على وجه الوجوب أو الندب أو الإباحة.

الثاني : وقوعه منه امتثالا لخطاب مبيّن باعتبار وضوح دلالته على الحكم المسوق لبيانه ، كما لو صلّى امتثالا لقوله تعالى : ( أَقِمِ الصَّلاةَ ) أو كاتب عبده امتثالا لقوله تعالى :

ص: 455

( فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً ) (1) أو اصطاد امتثالا لقوله تعالى : ( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ) (2) فبوقوعه امتثالا في الأوّل يعلم أنّه وقع واجبا ، وفي الثاني يعلم أنّه وقع مندوبا ، وفي الثالث يعلم أنّه وقع مباحا.

الثالث : وقوعه بيانا لمجمل علم وجهه ، فبضابطة ما تقدّم من أنّه في الوجه يتبع مبيّنه ، يعلم أنّه وقع منه واجبا أو مندوبا أو مباحا على حسب وجه المجمل المفروض كونه معلوما.

وأمّا الطريق الثاني : فيعلم إباحة فعله تارة : بأن يفعله من دون مداومة عليه ثمّ يتركه من دون عذر ، فبالترك من دون عذر ينفي احتمال الوجوب لمكان عصمته المانعة من ترك الواجب ، وبعدم المداومة على فعله ينفي احتمال الندب ولو احتمل فيه الندب مع عدم المداومة يضمّ إليه أصالة النفي أعني أصالة عدم تعلّق طلب به.

واخرى : بتجرّده عمّا يدلّ على وجه مغاير للإباحة ، مع استحالة وقوع الذنب منه النافية لاحتمال الحرمة وأصالة عدم تعلّق طلب به ايجابا وندبا ، ولو احتمل فيه الكراهة أيضا ينفي بأصالة عدم تعلّق الطلب بتركه ، فيتعيّن الإباحة في الصورتين معا.

ويعلم ندبيّته بوجوه :

الأوّل : قصده القربة بفعله مع أصالة عدم المنع من تركه ، فبالأوّل يثبت رجحانه وبالثاني ينفي احتمال وجوبه ، فيتعيّن الندب.

الثاني : أن يوقعه بقصد القربة ثمّ يتركه من غير نسخ ولا عذر ، فالأوّل يوجب رجحانه وبالثاني يعلم عدم الوجوب ، فيتعيّن الندب.

الثالث : أن يدوم عليه ثمّ يتركه في بعض الأحيان من غير عذر ولا نسخ ، فإنّ المداومة عليه يكشف عن رجحانه ، والترك بلا عذر ولا نسخ ينفي الوجوب ، فيتعيّن الندب.

الرابع : أن يوقعه معصوم على وجه الرجحان ويتركه في ذلك الوقت معصوم آخر ، فينكشف عن كونه مندوبا كصوم يوم عرفة الّذي صامه الحسن وأفطره الحسين عليهما السلام أو صامه الحسين وأفطره عليّ بن الحسين عليهما السلام على ما تقدّم في خبر ابن المغيرة عن سالم.

الخامس : كونه قضاء عن عبادة مندوبة ، كغسل يوم الجمعة إذا أتى به في غير وقته بعد ما فات عنه في وقته ، فإنّ الفرع لا يزيد على الأصل ، فيعلم كونه على وجه الاستحباب.

ص: 456


1- سورة النور : 33.
2- سورة المائدة : 2.

السادس : أن يتخيّر المعصوم بينه وبين مندوب آخر كتخيّره بين التسحّر وتلاوة القرآن في وقت السحر من ليالي شهر رمضان ، فيعلم به ندبيّة التسحّر أيضا ، إذ لا معنى للتخيير بين المندوب وغير المندوب.

ويعلم وجوبه أيضا بوجوه :

الأوّل : تخيّره بينه وبين واجب ، كما لو قرأ فاتحة الكتاب مكان التسبيحات الأربع في الثالثة والأخيرتين بحيث علم من حاله كون بنائه على التخيير ، فيثبت به وجوب القراءة تخييرا ، لاستحالة التخيير بين الواجب وما ليس بواجب.

الثاني : اقترانه بأمارة الوجوب الّتي هي من لوازم الواجب ، كما لو صلّى بأذان وإقامة ، فيعلم بذلك وقوع الصلاة على وجه الوجوب ، نظرا إلى أنّ الأذان والإقامة من خصائص الفرائض.

الثالث : كونه فعلا لو لم يجب لم يجز بل كان محرّما ، كما لو جمع بين الركوعين أو أزيد في صلاة الكسوف ، فإنّ زيادة الركن في محلّ البطلان محرّمة إلاّ إذا كانت واجبة ، كما في المأموم إذا رفع قبل الإمام سهوا فيجب العود تحصيلا للمتابعة ، ولذا لا يجوز العود إذا رفع عمدا ولو عاد بطلت.

الرابع : كونه فعلا ربط وجوبه بوجود غيره بالنذر ، كما لو نذر أنّه إن رزق له ولد تصدّق فرزق فتصدّق ، وقد يعبّر عنه بوقوعه جزاء لشرط موجب للفعل ، فيعلم وجوب التصدّق.

الخامس : كونه قضاء لعبادة واجبة لوجوب موافقة القضاء لأدائه ، وفيه منع واضح لعدم التلازم ، فقد يكون الفائت واجبا مع استحباب قضائه كزكاة الفطر على القول باستحباب قضاء فائتها بعد الوقت.

ثمّ إنّ المراد بالعلم هنا أعمّ من العلم العقلي وهو الاعتقاد الجازم المطابق ، والعلم الشرعي كما لو استند في إحراز وجه فعل المعصوم إلى أصل اجتهادي أو عملي ، كما عرفت الاستناد إليه في بعض الصور.

المسألة الثامنة : في ما لو صدر الفعل من المعصوم على وجه الرجحان المشترك بين الوجوب والندب

المسألة الثامنة :

فيما لو صدر الفعل من المعصوم على وجه الرجحان المشترك بين الوجوب والندب

ص: 457

الموجب لتردّد الفعل بين الواجب والمندوب ، سواء علم الرجحان بقصده التقرّب فيه أو بكونه بحسب النوع من قبيل العبادة المأخوذ فيها الرجحان ، فهل يجب التأسّي به هنا أو يثبت وجوب مثله في حقّنا بفعله أو لا؟ خلاف على أقوال. نقلها في المنية ، الوجوب نسبه إلى جماعة من الاصوليّين من العامّة ، والندب نسبه إلى الشافعي والجويني ، والإباحة نسبه إلى المالك ، والتوقّف نسبه إلى السيّد منّا والصيرفي والغزالي وجماعة من أصحاب الشافعي ، واختار هو كونه للقدر المشترك بين الوجوب والندب ، وعلّله : بأنّ التقرب إلى اللّه بالفعل رفع كونه مباحا ومحظورا ومكروها ، وخصوصيّة كلّ من الوجوب والندب لم يعلم قصدها على التعيين وكذلك في حقّ امّته (1).

أقول : ولعلّه رحمه اللّه إنّما لم يلتفت إلى أصالة النفي أو أصالة البراءة النافيتين للوجوب ليتعيّن الندب في حقّنا لخروجه عن موضوع البحث ، فإنّ المقصود إثبات حكم في حقّنا بفعل المعصوم ، وتعيّن الندب على تقدير الاستناد إلى الأصل يستند إليه لا إلى الفعل ، فتأمّل.

ولك أن تقول : إنّه لو احرز هنا كون وجه فعله هو الندب بضميمة أصالة النفي - كما تقدّم بيان كونه من طرق معرفة الوجه - يثبت الندب في حقّنا أيضا بفعله ، من دون حاجة إلى إعمال أصل آخر.

وكيف كان فالراجح في النظر القاصر في هذه المسألة ، ثبوت الندب في حقّنا بفعل المعصوم مع انضمام أصل إليه لنفي احتمال الوجوب في فعله أو في فعلنا.

المسألة التاسعة : في ما كان الفعل الصادر من المعصوم غير معلوم الوجه والرجحان

المسألة التاسعة :

فيما إذا كان الفعل الصادر من المعصوم غير معلوم الوجه والرجحان ، ففي وجوب التأسّي أو ندبه أو إباحته وعدمه أقوال :

وقيل : بالندب ، ونسب إلى الشافعي والجويني.

وقيل : بالإباحة ، ونسب إلى المالكي.

وقيل : بالوقف ونسب إلى السيّد والشيخ في الذريعة والعدّة ، ويظهر من العلاّمة والعميدي في التهذيب (2) والمنية (3) ، وهو الأقوى ، إذ لو كان المقصود بالبحث هنا إثبات حكم

ص: 458


1- منية اللبيب : 214.
2- تهذيب الاصول : 53.
3- منية اللبيب : 214.

من الوجوب أو الندب أو الإباحة للتأسّي بالمعصوم في فعله ، فهو في مفروض المسألة غير ممكن التحقّق ، لعدم العلم بوجه فعله فلا يمكن الإتيان بمثله على الوجه الّذي فعله.

ولو كان المقصود إثبات حكم في حقّنا بفعله ، فإن اريد بذلك الحكم المقصود إثباته الحكم الواقعي ، وهو ما يعرض الواقعة من حيث هي وهو فعل المكلّف لعنوانه الخاصّ.

ففيه : أنّ ذلك الحكم لا يثبت إلاّ بفعله المعلوم وجهه ، والمفروض عدم العلم بالوجه.

وإن اريد به الحكم الظاهري وهو المجعول للواقعة من حيث جهالة حكمها الواقعي ، ففيه : أنّ هذا الحكم ليس إلاّ الإباحة ، ولا يثبت إلاّ بالأصل ، والظاهر أنّ أهل القول بالتوقّف لا ينكرونه.

واحتجّ أهل القول بالوجوب على ما نقله في التهذيب والمنية بقوله تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) (1) وقوله أيضا ( لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (2) وقوله : ( فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ) (3) وقوله : ( ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ) (4) وقوله : ( أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) (5) وقوله : ( زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ ) (6) بأنّه أحوط.

وقد ظهر الجواب عمّا عدا الأخير في المسألة السادسة ، ونزيد هنا أنّ الأمر في الآية الاولى ظاهر في المعنى الإنشائي ، مع تطرّق المنع إلى اشتراكه بينه وبين الفعل ، كالمنع من الحمل عليه على تقدير الاشتراك بلا قرينة تعيّنه ، ومن ظهور المشترك عند تجرّده في إرادة جميع معانيه ، ومن جواز استعماله في أكثر من معنى.

والاسوة في الآية الثانية غير ممكن التحقّق في مفروض المسألة مع تطرّق المنع إلى دلالتها على الوجوب ، إذ ليس « اللام » مثل « على » في إفادة الإلزام ، وتوهّم التخويف من قوله : ( لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ) سهو وخلط بينه وبين الترغيب.

والاتّباع في الآية الثالثة وإن كان يتحقّق في فعل الرسول ، وهو عبارة عن الإتيان بمثل فعله على الوجه الّذي فعله ، وفي قوله أيضا وهو عبارة عن موافقة أمره أو نهيه ، وهو بكلّ من معنييه في مفروض المسألة غير ممكن التحقّق ، لعدم معرفة وجه فعله وانتفاء الأمر والنهي.

ص: 459


1- سورة النور : 63.
2- سورة الأحزاب : 21.
3- سورة آل عمران : 31.
4- سورة الحشر : 7.
5- سورة النساء : 59.
6- سورة الأحزاب : 37.

والايتاء في الآية الرابعة لا يصدق على فعل المعصوم في غير مقام البيان والتعليم ، مع أنّه بقرينة النهي ظاهر في الأمر.

والإطاعة في الآية الخامسة ظاهرة في موافقة الأمر والنهي ، ولا أمر ولا نهي في مفروض المسألة ، مع أنّ أمر الإرشاد لا يفيد الوجوب.

ونفي الحرج في الآية السادسة ظاهر في الإباحة ، أو أنّه أعمّ من الوجوب وغيره من الثلاث الباقية ، ولا دلالة في العامّ على الخاصّ.

وغاية ما يفيده الأحوطيّة هو الرجحان في محلّ احتماله وهو أعمّ من الوجوب ، فلا يستلزمه إلاّ على تقدير وجوب الاحتياط فيما يحتمل فيه الوجوب ولا قائل به ، ولو سلّم وجود القائل فأدلّة وجوبه كما حقّق في محلّه مدخولة.

لا يقال : يلزم على ما ذكرت خروج فعل المعصوم عن كونه حجّة ، إذ لا مورد للحجّيّة إذا لم يجب التأسّي به في فعله ولم يثبت بفعله حكم في حقّنا ، واللازم باطل لأنّ من ضروريّات مذهب الشيعة بل دين الإسلام بالقياس إلى فعل الرسول حجّيّة فعله كقوله ، لمنع الملازمة ، ويظهر أثر حجّيّته فيما إذا صدر فعله بيانا لمجمل ، وفيما علم وجه فعله ، وفيما شكّ في حرمته وإباحته فرأيناه أنّه فعله ، وفيما شكّ في وجوبه وإباحته فوجدناه أنّه تركه بلا عذر ، فالأوّل يرفع احتمال الحرمة ، والثاني يرفع احتمال الوجوب لمكان عصمته المانعة من ارتكاب الحرام وترك الواجب من غير عذر فيتعيّن [ الإباحة ] ، ورفع احتمال الحرمة في موضوع المسألة أيضا من آثار حجّيّته وإن لم يتعيّن بعده حكم خاصّ من الأربع أو الثلاث الباقية.

المقام الثاني : في ما يتعلّق بتقرير المعصوم عليه السلام

المقام الثاني

فيما يتعلّق بتقرير المعصوم

فنقول : إنّ التقرير لغة تفعيل من القرار وهو الثبوت ، فالتقرير هو التثبيت ، وفسّر بجعل الشيء قارا أي ثابتا.

وقد يفسّر بما هو من لوازم هذا المعنى ، وهو إمضاء الشيء وإنفاذه.

وفسّر أيضا بما هو لازم عدمي له ، وهو عدم الزجر والردع فيه.

واصطلاحا - على ما يستفاد من تفسيراتهم وتعريفاتهم الناقصة وموارد إطلاقاتهم له وتمسّكهم به - سكوت المعصوم عمّا اطّلع عليه من فعل أو ترك أو قول أو اعتقاد مع تمكّنه من الردع عنه ، وقولنا : « سكوت المعصوم » احتراز عن سكوت غيره إذ لا عبرة به

ص: 460

ولا يسمّى تقريرا ، وقولنا : « عمّا اطّلع عليه » احتراز عن سكوته عمّا لم يطّلع عليه بالأسباب العاديّة المتعارفة ، لعدم كشفه عن رضاه فلا يسمّى تقريرا أيضا ، وقولنا : « من فعل إلى آخره » ، بيان للموصول قصد به تعميم التعريف بالقياس إلى موارد المعرّف ، فإنّه قد يتحقّق في فعل فعل بحضرته أو في عصره واطّلع عليه كشرب التتن أو شرب القهوة مثلا ، وقد يتحقّق في ترك شيء اطّلع عليه كما لو ترك أحد الأذان قبل صلاته ، أو القنوت في صلاته ، وقد يتحقّق في قول سمعه كما لو سئل عن مسألة فأجاب غيره ، وقد يتحقّق في اعتقاد اطّلع عليه سواء تعلّق بحكم فرعي ، كما لو سأله أحد عن البئر مات فيها فأرة أيّ شيء يطهّرها؟ « فقال : ينزح منها سبع دلاء » فقول السائل : « أيّ شيء يطهّرها؟ » يكشف عن اعتقاده بالتنجيس ، أو بحكم اصولي كما لو اطلع من أحد باعتقاده عينيّة صفاته تعالى أو بكفر المجسّمة ، فسكوته مع تمكّنه من الردع يكشف في الأوّل عن جواز الفعل بمعنى عدم حرمته ، وفي الثاني عن جواز الترك بمعنى عدم وجوبه ، وفي الثالث عن صدق القول بمعنى مطابقته في الواقع ، وفي الرابع عن صواب الاعتقاد بمعنى حقّيّته ، وقولنا : مع تمكّنه من الردع » احتراز عن سكوته عمّا لا يتمكّن من الردع عنه لمانع من خوف ضرر أو تقيّة أو غير ذلك ، فإنّه لا يكشف عن الرضاء فلا يسمّى تقريرا ، وزاد بعضهم قيد « احتمال العود » إليه (1) احترازا عمّا لا يحتمله مع كونه صغيرة مع عدم وجوب الردع حينئذ ، إذ لا محلّ له مع عدم احتمال العود.

والأولى ترك هذا القيد لأنّ عدم العود إلى الصغيرة [ يقتضي ] عدم صيرورتها كبيرة ولا يخرجها عن الحرمة ، ويجب عليه الردع عن الحرام حال الاشتغال بها وإن كان صغيرة لو كانت في زمان يسعه الردع عنها.

وأضعف من التقييد المذكور القول باعتبار عدم كون الفاعل جاهلا بحكم ما فعله بحضرته أو في عصره لو كان هو الحرمة ، لأنّه لا تكليف عليه باجتنابه فلا يجب على المعصوم ردعه عن ذلك ، فإنّ المعصوم يجب عليه ردع العالم والجاهل عمّا حرم في الواقع ، غير أنّه في الأوّل من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وفي الثاني من باب تنبيه الغافل وإرشاد الجاهل ، وكلاهما واجبان عليه كما هو مقتضى منصبه ، وقد يعبّر عنهما بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعنى الأعمّ ، والجامع بينهما الردع عن الباطل بل هو

ص: 461


1- أي زيادة قيد « احتمال العود » إلى الفعل الذي فعل بحضرته أو في عصره.

جامع بين الأفعال والتروك والأقوال والاعتقادات.

وبما قرّرناه يتبيّن : أنّ التقرير الّذي يتمسّك به لكونه حجّة ، ينضبط بكون مورده مورد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإرشاد الجاهل ، فإنّ الكلّ واجب عليه ، وعصمته دليل على أنّه لا يخلّ بالواجب من غير عذر.

والأولى أن يقال : إنّ تقرير المعصوم حجّة في كلّ مورد يجب عليه الردع عن الباطل ، وقضيّته أن يشترط حجّيّته بشروط وجوب الردع ، من الاطّلاع والتمكّن من الردع واحتمال التأثير وعدم المصلحة في تركه.

ومن هنا يعلم أنّ العمدة في دليل حجّيّة تقريره عصمته ، كما أشرنا إليه فإنّه لكونه معصوما لا يخلّ بما وجب عليه ، فسكوته عن الواقعة مع تحقّق شروط وجوب الردع عنها على تقدير البطلان إنّما هو باعتبار عدم وجوب الردع عنها ، وذلك يكشف عن رضاه بها ، وهو يلازم الجواز فعلا كانت أو تركا ، أو الحقّيّة قولا كانت أو اعتقادا.

ثمّ إنّ سكوته عن الردع قد يعلم كونه في محلّ اطّلاعه على الواقعة.

وقد يعلم كونه في محلّ عدم اطّلاعه على الواقعة ، وقد يحتمل الأمران.

وأيضا قد يعلم كونه في محلّ تمكّنه من الردع عنها ، وقد يعلم كونه في محلّ عدم تمكّنه من الردع عنها وقد يحتمل الأمران.

وأيضا قد يعلم كونه في محلّ احتماله تأثير ردعه ، وقد يعلم كونه في محلّ علمه بعدم التأثير وقد يحتمل الأمران ، ولا إشكال في صور العلم بل الإشكال في صور الاحتمال الّتي هي صور الشكّ.

فتارة في اطّلاعه على الواقعة ، واخرى في تمكّنه من الردع ، وثالثة في احتماله للتأثير ، فهل يوجد في المقامات الثلاث أصل يرجع إليه لإحراز أحد طرفي الشكّ أو لا؟

أمّا المقام الأوّل : فالظاهر وجود الأصل في جانب العدم وهو أصالة عدم اطّلاعه على الواقعة ، ولا ينافي نفي اطّلاعه بالأصل ما ورد في صفة الإمام أنّه عالم بما كان وما يكون ، لأنّ الظاهر أنّ علومهم إراديّة مع أنّ المراد نفي الاطّلاع من جهة الأسباب العاديّة لا العلوم الغيبيّة الّتي هي من صفات الإمام.

وأمّا المقام الثاني : فلا إشكال في أنّ الأصل فقاهة واجتهادا يقتضي التمكّن.

أمّا الأوّل : فلأصالة عدم طروّ المانع من خوف أو موجب ضرر آخر.

وأمّا الثاني : فلأنّ الأصل في أفعال كلّ فاعل مختار كونها اختياريّة ، والظنّ يلحق

ص: 462

الشيء بالأعمّ الأغلب ، ومنه سكوت المعصوم عن الردع فإنّه على تقدير استناده إلى عدم التمكّن من جهة المانع كان اضطراريّا وهو موضع شكّ ، والأصل يقتضي كونه اختياريّا ، وإنّما الإشكال في حجّيّة تقرير احرز بالأصل.

فقد يتوهّم : كونه حجّة حيث فرّق بين الأصل المذكور في المقام الأوّل والأصل في المقام الثاني ، في أنّ نتيجة الأوّل مع عدم حجّيّة التقرير ، ونتيجة الثاني حجّيّته ، وفيه : نظر بل منع لأنّ تقرير المعصوم ليس كقوله في الحجّيّة ، فإنّ مناط حجّيّة قوله الظهور اللفظي وإن احرز بمعونة أصل عملي أو اجتهادي ، بخلاف تقريره ، فإنّ مناط حجّيّته الكشف عن رضا المعصوم باعتبار عصمته الباعثة على استحالة إخلاله بما وجب عليه من دون عذر ، وهذا حكم عقلي ولذا عدّ التقرير من الأدلّة اللبّيّة ، ومن دأب العقل أنّه ما لم ينسدّ عنده في قضايا حكمه باب الاحتمال لا يحكم بشيء ، واحتمال عدم التمكّن من الردع لا يرتفع بشيء من الأصلين كما لا يخفى ، فالوجه عدم الحجّيّة ولو فرض اندراج الظنّ الحاصل منه بضميمة الأصل الاجتهادي في حجّيّة مطلق ظنّ المجتهد ، فهو ليس من حجّيّة تقرير المعصوم في شيء.

وأمّا المقام الثالث : فلا يوجد فيه أصل يحرز به أحد طرفي الشكّ ، فسكوته نظرا إلى قيام احتمال علمه بعدم تأثير ردعه في الارتداع لا ينافي الحرمة ، فلا يكشف عن رضاه الملازم للجواز الواقعي ، فلا يكون تقريره حينئذ حجّة.

والسرّ فيه : أنّ تقرير المعصوم كفعله في السقوط عن الحجّيّة حيث صار مجملا باعتبار عدم معلوميّة وجهه ، والتقرير عند قيام الاحتمال الغير المنافي لحرمة ما فعل بحضرته أو في عصره - كاحتمال علمه بعدم تأثير ردعه - مجمل لا يكشف عن الرضا فلا يكون حجّة ، وحيث خرج عن الحجّيّة باعتبار طروّ الإجمال فلا فرق فيه بين كونه مجملا من جميع الجهات كما لو احتمل في سكوته علمه بعدم تأثير ردعه كما عرفت ، أو من بعض الجهات فيخرج عن الحجّيّة في محلّ إجماله وله صور كثيرة :

منها : سكوته على من ترك القنوت في صلاته واحتمل في حقّه النسيان ، فإنّه لا ينافي وجوبها في حال التذكّر ، فلا يدلّ على رضاه بجواز تركه مطلقا.

ومنها : سكوته على من لبس الحرير في الحرب مع احتمال كونه لضرورة الحرب ، فالقدر المتيقّن منه دلالته على الرضا في خصوص حال الحرب لا سائر الأحوال.

ص: 463

ومنها : سكوته على من كفّر في صلاته واحتمل في حقّه التقيّة ، فلا يدلّ على جوازه في غير حال التقيّة.

ومنها : سكوته على من أكل لحم الإرنب مع احتمال كونه لأجل الاضطرار إلى أكله لسدّ الجوع ، فلا يدلّ على إباحته مطلقا حتّى في غير حال الاضطرار.

ومنها : سكوته على من أكل طين الأرمن مع قيام احتمال كونه للتداوي ، فلا يدلّ على إباحة أكله في غير مقام التداوي.

[ منها ] : سكوته على من شرب الفقّاع واحتمل في حقّه الجهل بالموضوع ، فلا يدلّ على إباحته في حقّ العالم.

ففي الجميع يجب الاقتصار على القدر المتيقّن والتوقّف في غيره ، لمكان إجمال التقرير بالقياس إلى ما عدا المتيقّن ، ومرجع الجميع إلى عدم حكم العقل بالنظر إلى الإجمال الناشئ عن الاحتمال ، فليتدبّر.

ثمّ إنّ من تقرير المعصوم فيما فعل في عصره واطّلع عليه ، وتمكّن من ردعه ولم يردع السيرة الّتي يتمسّك بها الفقهاء في أبواب الفقه من العبادات والمعاملات ، فمن الاولى ما تمسّكوا به للصلاة في الصحاري المتّسعة ، ومن الثانية ما تمسّكوا به للمعاملة المعاطاطيّة ، فإنّ مناط حجّيّتها كشفها عن تقرير المعصوم من النبيّ أو الإمام ، ولذا يعتبر فيها كونها قديمة مستمرّة من زمن النبيّ أو أعصار الأئمّة عليهم السلام ، فلو كانت حادثة في الأزمنة المتأخّرة عن أعصارهم لا عبرة بها ، وكذلك ما شكّ في حدوثها وقدمها.

ومن السيرة الكاشفة عن التقرير الكاشف عن رضا المعصوم الملازم للواقع بناء العقلاء الّذي لا يزال العلماء يتمسّكون به في الجملة ، فإنّ موارد التمسّك به مختلفة ، فقد يتمسّك به في الامور اللغويّة ومنه بناء العقلاء على ذمّ العبد التارك لامتثال أمر مولاه ، فإنّه يكشف عن فهمهم الوجوب من الأمر ، فيثبت به كون الأمر حقيقة في الوجوب ، وقد يتمسّك به في المطالب العقليّة ، ومنه بناء العقلاء على مدح من أحسن على المسيء وذمّ من أساء على المحسن ، فإنّه يكشف عن حكم العقل باستحقاق الأوّل للمدح والثاني للذمّ ، فيثبت به حسن الإحسان وقبح الإساءة.

وقد يتمسّك به في الأحكام الشرعيّة كجواز أخذ الماء واستعماله من الأنهار المملوكة في الصحاري والأملاك من دون مراعاة إذن مالكيها ، وهذا الأخير من السيرة الكاشفة عن

ص: 464

التقرير الكاشف عن رضا المعصوم دون الأوّلين ، فيعتبر فيه الاتّصال بأزمنة المعصومين.

تنبيهان :

أحدهما : لو فعل أحد في حضور المعصوم فعلا كما لو اغتسل مرتمسا في نهار رمضان مثلا ، ونهى عنه غير المعصوم وسكت هو عنهما معا ، فقد يتوهّم أنّ هذا من تعارض التقريرين تقريره الفاعل على فعله ، والناهي على نهيه ، فالأوّل يكشف عن جواز الفعل المستلزم لكون نهي الناهي في غير موقعه ، والثاني يكشف عن كون النهي في موقعه المستلزم لعدم جواز الفعل ، ولا يخفى ما بينهما من التدافع للزوم التناقض ، فلابدّ من الأخذ بأحدهما وطرح الآخر رفعا للتّعارض ، والوجدان يساعد على تقديم التقرير على النهي الكاشف عن عدم جواز الفعل ، وإنّما اكتفى الإمام في الردع عنه بنهي غيره لحصول الغرض به ، نظرا إلى كون وجوب الردع عن المحرّم من باب النهي عن المنكر من الكفائي الّذي يسقط بفعل البعض عن غيره ، والأوجه هو منع انعقاد التقرير بالنسبة إلى الفعل نظرا إلى الحكمة المذكورة.

ثانيهما : قد يتوهّم وقوع التعارض بين تقرير المعصوم وردعه فيما صدر في حضوره فعل من أحد ثمّ صدر ذلك أيضا من واحد آخر وسكت المعصوم عن الأوّل وردع الثاني ، فالأوّل يدلّ على جواز ذلك الفعل والثاني على حرمته ، وهذا محال للزوم التناقض فلابدّ من ترجيح الردع اكتفاء بردع أحد الفاعلين عن ردع الآخر لحصول الغرض ، نظرا إلى المشاركة في التكليف ، وربّما يمكن الجمع بكون من قرّره حكمه الظاهري هو الجواز لابتلائه بموجب التقيّة ، وكون الثاني حكمه الواقعي هو المنع والحرمة لعدم ابتلائه بموجب التقيّة فليتأمّل.

* * *

ص: 465

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ربّ العالمين وصلّى اللّه على محمّد وآله الطاهرين ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

تعليقة في الأدلّة العقليّة في تعريف الدليل

اشارة

- تعليقة -

في الأدلّة العقليّة

واعلم أنّهم قسّموا طرق الأحكام الشرعيّة إلى الأدلّة الشرعيّة كالكتاب والسنّة والإجماع والأدلّة العقليّة المنقسمة إلى الأقسام الآتية ، وانتساب الدليل في القسم الثاني إلى العقل كما هو مفاد « ياء » النسبة إنّما هو باعتبار استناد ثبوت الملزوم في الملازمة الّتي بينه وبين الحكم الشرعي أو ثبوت نفس الملازمة أو ثبوتهما معا إلى العقل ، ويقابله الدليل الشرعي وهو ما لا مدخليّة للعقل فيه أصلا ، بأن يستند أحدهما أو كلاهما إلى الشرع فقط.

وتوضيح المقام : أنّ الدليل بحسب عرف المنطقيّين وإن كان مركّبا عبارة عن مجموع مقدّمتي القياس ، إلاّ أنّه في لسان الاصوليّين - على ما تنبّه عليه غير واحد من المحقّقين شاع - إطلاقه على المفرد وهو الأوسط ، سواء كان لازما للأصغر وملزوما للأكبر ، أو لازما لهما ، أو ملزوما لهما ، أو ملزوما للأصغر ولازما للأكبر على ما هو الضابط المقرّر في الأشكال الأربعة ، ومنه إطلاقه على الأربع المعروفة في أدلّة الأحكام الشرعيّة لكونها بأسرها مفردات بهذا المعنى.

ولا ينافيه تعريفهم له ب « ما يمكن التوصّل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري » بتوهّم أنّ النظر المأخوذ فيه عبارة عن ترتيب امور معلومة للتأدّي إلى مجهول ، فلا يكون إلاّ في المركّب.

إمّا لأنّ بناء التعريف على مصطلح أهل المنطق ، فإنّه غير مهجور عندهم لشيوع إطلاقه عليه أيضا في لسانهم.

أو لصدق النظر بهذا المعنى مع انضمام الغير إليه إذ هو على هذا الاصطلاح ممّا لا مناص

ص: 466

عنه لاستحالة التأدّي والتوصّل بدونه ، ولا ملازمة بين أخذ التركيب في مفهوم النظر وبين أخذه في معنى الدليل لبناء كلّ على الاصطلاح ولا مشاحّة فيه ، فتأمّل.

والأوجه الأوّل ، فدليل حدوث العالم عند المنطقي هو مجموع قولنا : « العالم متغيّر ، وكلّ متغيّر حادث » وعند الاصولي هو « المتغيّر ».

ومن الأعلام من مثّل مكان الأوسط بالأصغر حيث قال - في تضاعيف مسألة التقليد في اصول الدين عند شرح الدليل - : « فالعالم عند الاصوليّين دليل على إثبات الصانع وعند المنطقيّين العالم حادث وكلّ حادث له صانع » (1) وهذا يقتضي أن يكون دليل حدوث العالم أيضا عند الاصوليّين هو العالم.

وهذا بظاهره غير سديد لأنّ « العالم » من حيث هو ملزوم للحدوث ، ومن المستحيل نهوض الملزوم دليلا على لازمه في موضع الشكّ في لزومه له.

وغاية ما يمكن أن يقال في توجيهه هو : أنّ العالم من حيث إنّه متغيّر دليل ، وهذا أيضا لا يتمّ ، لأنّ المتغيّر له اعتباران : اعتبار كونه لازما للعالم ، واعتبار كونه ملزوما وإنّما يكون دليلا إذا اخذ بالاعتبارين لا بالاعتبار الأوّل فقط.

ومرجع التوجيه إلى فرض « المتغيّر » باعتبار كونه لازما للعالم دليلا وهو خلاف الاصطلاح.

وبعبارة اخرى : أنّ الأوسط قد يؤخذ باعتبار الملازمة بينه وبين الأصغر ويتولّد منه الصغرى ، وقد يؤخذ باعتبار الملازمة بينه وبين الأكبر ويتولّد منه الكبرى ، وإنّما يكون دليلا في مصطلح الاصولي إذا اخذ بالاعتبارين معا.

بل لنا أن نقول - بالنظر إلى ظاهر إطلاقاتهم - : إنّه يكون دليلا إذا اخذ بالاعتبار الثاني فقط ، كما يفصح عنه إطلاقهم الدليل على الأربع الّتي كلّها أوساط مأخوذة بهذا الاعتبار لا غير ، كما يعلم وجهه بأدنى تأمّل.

وكان السرّ في إحداث هذا الاصطلاح أنّ العمدة في التوصّل والجزء الأعظم من المركّب إنّما هو الأوسط بالاعتبارين بل بالاعتبار الثاني ، حتّى أنّ بعضهم سمّاه بالجزء المقوّم ، فغلب اسم الكلّ على جزئه الأعظم ، مراعاة لمناسبة أنّ محطّ نظرهم في مباحث الفنّ هو الأدلّة الأربع المأخوذة بالاعتبار المذكور ، فالأوسط المأخوذ بهذا الاعتبار ملزوم في الملازمة بينه وبين الحكم الشرعي في أدلّة الأحكام الشرعيّة فهو مع هذه الملازمة إن كانا

ص: 467


1- القوانين 2 : 196.

بحيث احرز أحدهما أو كلاهما بالعقل يقال له : الدليل العقلي ، وإلاّ يقال له : الدليل الشرعي.

وهذا البيان في الكتاب والسنّة واضح ، لاستناد ثبوت الملزوم فيهما - باعتبار كونه كلام اللّه أو قول امنائه أو فعلهم أو تقريرهم - إلى الشرع.

وكذا الإجماع على طريقة أصحابنا القائلين بحجّيته من حيث الكشف عن قول المعصوم تضمّنا أو التزاما عقليّا أو عاديّا ، فإنّ الملازمة حينئذ معتبرة بين الإجماع الكاشف والحكم الشرعي ، فصحّ استناد الملزوم وهو الإجماع الكاشف إلى الشرع ، لأنّ النسبة يكفي فيها أدنى ملابسة.

وأمّا على طريقة العامّة القائلة بحجّيّته لذاته ومن حيث هو ، فثبوت الملزوم وهو الإجماع بمعنى الأقوال المحترمة من الامّة وإن لم يكن مستندا إلى الشرع حيث لا التفات لهم إلى جهة الكشف ، إلاّ أنّ الملازمة بينه وبين الحكم الشرعي تثبت عندهم بالشرع ، كما يعلم ذلك بملاحظة استدلالهم لإثباتها بجملة من الآيات والروايات.

لا يقال : إنّ الضابط المذكور بالقياس إلى الأدلّة غير متحقّق في الكتاب والسنّة ، فإنّ كلام اللّه تعالى كقول امنائه أو فعلهم أو تقريرهم إنّما يكشف عن الحكم الشرعي لملازمة واقعيّة أثبتها العقل بواسطة استحالة الكذب عليه تعالى وعليهم ، مضافا إلى عصمتهم.

لأنّ الملازمة هاهنا بعد ما ثبت في المسائل الكلاميّة من وجوب حكمته وصدقه تعالى وامتناع الكذب وفعل القبيح عليه ووجوب عصمة امنائه الملزومة لصدقهم ، لا تفتقر إلى إثبات في لحاظ الاستدلال بها على الأحكام الشرعيّة ، لينظر في أنّ المثبت لها هل هو الشرع أو العقل ، بل هي بعد ثبوت الصفات المذكورة في المسائل الكلاميّة بالقياس إلى كلامه تعالى وقول امنائه وغيره ممّا ذكر ضروريّ الثبوت ، بل بمثابة القضايا الّتي قياساتها معها.

وبالجملة ليس الغرض من الأدلّة العقليّة المقامة على الصفات المذكورة إثبات الدليليّة لهذه الامور لتكون الملازمة الّتي هي الدليليّة مستندة في ثبوتها إلى العقل بل الغرض إنّما هو تحصيل المعرفة المعتبرة في تحقّق الإيمان أو كماله.

ثمّ إذا أخذنا بها في مقام الاستنباط كانت الملازمة بينها وبين الأحكام الشرعيّة من القضايا الّتي قياساتها معها من غير حاجة لها إلى إثبات بالشرع أو العقل.

وهو السرّ في عدم تعرّض الاصوليّين في المباحث الاصوليّة لإثبات هذه الملازمة ، كما تعرّضوا لها في الإجماع أو العقل أو غيرهما من الأدلّة الغير العلميّة.

ص: 468

وتوهّم أنّ الملازمة حينئذ مستندة إلى الصفات المذكورة المستندة إلى الأدلّة العقليّة الكلاميّة فصحّ استنادها إلى العقل ، لأنّ المستند إلى المستند إلى شيء يستند إلى ذلك الشيء ، مضافا إلى أنّ المتكلّمين يستدلّون في إثبات العصمة لامناء اللّه تعالى بأنّه لولاها لارتفع الوثوق بقولهم في الإخبار عن اللّه تعالى أو عن رسوله ، وقضيّة ذلك كون النظر في مسألة إثبات العصمة إلى إثبات الملازمة بين قولهم وما يخبرون به من الأحكام والشرائع.

يدفعه : أنّ المراد من استناد ثبوت الملزوم أو الملازمة إلى الشرع أو العقل ما يكون أوّليّا ، وهو أن يكون الاستناد بدون توسّط شيء آخر ، وإلاّ كانت الأدلّة بأسرها عقليّة لانتهاء حجّية الجميع إلى العقل ، وليس النظر في الاستدلال المذكور في المسألة الكلاميّة إلى الاستدلال على الملازمة بدليل العصمة ، بل إلى الاستدلال على العصمة بملزوم الملازمة أو عينها ، وذلك لأنّه لمّا ثبتت في المطالب الكلاميّة أنّ غرضه تعالى ومقصوده الأصلي من إرسال الرسل ونصب الأوصياء إنّما هو تبليغ الأحكام والشرائع إلى العباد ، ولا يتمّ ذلك إلاّ بعصمتهم المانعة عن الكذب والخطأ والسهو والنسيان فلولاها لزم نقض الغرض ، لارتفاع الوثوق عن قولهم مع احتمال أحد المذكورات ، ودليليّة قولهم مثلا من لوازم هذه الفائدة بلزوم ضروريّ غير مفتقر إلى إثبات ولا استدلال.

ولو سلّم كونها عينها فاستناد ثبوتها إلى الشرع من حيث إنّها فائدة قصدها اللّه تعالى من إرسال الرسل ونصب الأوصياء أولى من استناده إلى العقل.

وبما قرّرناه في ضابط الدليل الشرعي ظهر أنّ ما عن الفاضل التوني في الوافية (1) وتبعه بعض الأعاظم من جعل ما ثبت فيه كلّ من الملزوم والملازمة بالشرع - كالملازمة بين القصر والإفطار - دليلا عقليّا ، ليس على ما ينبغي.

وقد يوجّه : بأنّ الملازمة في نحو ذلك وإن ثبتت بالشرع إلاّ أنّ اللازم يثبت بالعقل لحكمه بعدم انفكاك اللازم عن الملزوم بل استحالة انفكاكه ، ويزيّفه : أنّ الملازمة إذا ثبتت بالشرع فلا حاجة إلى حكم من العقل بعدم الانفكاك أو استحالته إلاّ من باب تأكيد حكم الشرع ، إذ الملازمة من الملزوم بمعنى استحالة انفكاك الملازم عن الملزوم أو عدم انفكاكه ، فاللازم يستند في ثبوته إلى الشرع ، ولو فرض هاهنا حكم من العقل أيضا كان تأكيدا لحكم الشرع ، وكذا الحال على تقدير كون القضيّة اتّفاقيّة ، فبعد حكم الشرع فيها بالملازمة

ص: 469


1- الوافية : 219.

لا معنى لحكم العقل حينئذ إلاّ من باب تأكيد حكم الشرع.

ولعلّ مبنى الاعتبار المذكور على توهّم كون الجهة في إثبات الدليل إلى العقل أو الشرع انتساب الحكم المستفاد منه إلى أحدهما ، وهو - مع بعده في نفسه وظهور خلافه من كلماتهم - لا يتمّ أيضا كما عرفت ، فالوجه في هذا النوع ونحو هذا المثال عدّه من الأدلّة الشرعيّة.

ثمّ إنّ الدليل العقلي على ما عرّفوه : « حكم عقليّ يتوصّل به إلى حكم شرعي ». وظاهر أنّ الدليل العقلي قسم من الدليل المطلق وأخصّ منه ، والمقصود من تعريفه معرفته من حيث الخصوصيّة الّتي بها يمتاز عن مشاركاته في الماهيّة لا من حيث الماهيّة المشتركة الموجودة فيه.

وقد يتوهّم أن قضيّة كونه أخصّ اشتمال تعريفه على ما اشتمل عليه تعريف الأعمّ مع زيادة ، وممّا اشتمل عليه تعريف الدليل كما تقدّم قيدا « الامكان » و « صحيح النظر » ولا معنى لإخلاء تعريف الدليل العقلي عن هذين القيدين.

ويزيّفه - بعد تسليم لزوم اعتبار هذين القيدين في تعريف الأعمّ - : أنّ عدم أخذهما في تعريف الأخصّ لا يخلّ بصحّته ، لما بيّنّاه من أنّ الغرض من تعريف الأخصّ معرفة الجهة المميّزة لا معرفة الجهة المشتركة لئلاّ يلزم تحصيل الحاصل ، نظرا إلى حصول المعرفة من هذه الجهة بتعريف الأعمّ.

وبالجملة تعريف الأخصّ إنّما يقصد به إيضاح حال المعرفة باعتبار الخصوصيّة المأخوذة فيه لا باعتبار الماهيّة الموجودة فيه.

فتعريف الدليل العقلي يقصد به معرفته من حيث كونه عقليّا لا من حيث كونه دليلا ، لحصول معرفته من هذه الحيثيّة بتعريف الدليل ، فلا يجب اشتماله على كلّ ما اشتمل عليه تعريف الدليل ، وقولنا : « حكم عقلي » في جنس هذا التعريف أعمّ من حكم العقل بما يرجع إلى إحراز الملزوم كحكمه بقبح الظلم والعدوان وحسن العدل والإحسان ، وحكمه بما يرجع إلى إثبات الملازمة كما في مقدّمة الواجب وضدّ المأمور به ، بناء على كون المسألة فيهما عقليّة باحثة عن الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّماته ، والملازمة بين الأمر بالشيء وحرمة ضدّه ، ونحوهما الملازمة بين حكم الأضعف وحكم الأقوى ، كما في التعدّي عن التأفيف إلى الضرب والشتم في الحرمة ، لحكم العقل بالملازمة بين حكميهما بناء على كونه من باب القياس لا مفهوم الموافقة ، فيشمل التعريف كلا قسمي الدليل العقلي من المستقلاّت والاستلزامات.

ص: 470

فما سبق إلى بعض الأوهام من نقض عكسه بمثل وجوب المقدّمة وحرمة الضدّ وغيرهما من الاستلزامات - تعليلا بأنّ ظاهر عبارة التعريف تغاير الحكمين ليتوصّل بأحدهما إلى الآخر ، إذ يستحيل التوصّل بدونه ، وحكم العقل في الموارد المذكورة وهو الوجوب والحرمة متّحد مع حكم الشرع ، إذ ليس حكم المقدّمة والضدّ شرعا إلاّ الوجوب والحرمة - ممّا لا ينبغي الإصغاء إليه ، إذ ليس حكم العقل في المسألتين وغيرهما هو الوجوب والحرمة ، بل حكمه بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّماته أو حرمة ضدّه ، وبذلك يتوصّل إلى الحكم الشرعي وهو وجوب المقدّمة في مسألة طيّ مسافة الحجّ ، وحرمة الضدّ كالصلاة في المسجد مكان إزالة النجاسة عنه.

ولا ريب أنّهما متغايران ، وعلى تقدير كون حكم العقل في الموارد المذكورة هو الوجوب والحرمة يتطرّق المنع إلى اتّحاده مع حكم الشرع ، لوضوح أنّ حكم العقل فيها إنّما هو الوجوب أو الحرمة بمعنى مفهوم الوجوب والحرمة ، والحكم الشرعي الّذي يتوصّل إليه إنّما هو مصداق الوجوب والحرمة ، وهو المعنى الإنشائي الجزئي الحقيقي القائم بنفس الآمر.

وبذلك ظهر أنّه لا حاجة في التفصّي عن النقض إلى تكلّف الالتزام بالتغاير الاعتباري الحاصل باعتبار الحاكم ، بدعوى : أنّ وجوب المقدّمة من حيث إنّ الحاكم به العقل يغايره من حيث إنّ الحاكم به الشرع.

وقولنا : « يتوصّل به إلى حكم شرعي » معناه تأثير الحكم العقلي في التوصّل إلى الحكم الشرعي ، بحيث يسند إليه التوصّل في العقل والعرف إسنادا حقيقيّا.

وبهذا يندفع ما قد يورد على التعريف : من أنّ التوصّل به إلى الحكم الشرعي إن اريد به كون الحكم العقلي علّة تامّة للتوصّل انتقض عكس التعريف رأسا ، إذ ليس في الأحكام العقليّة ما يكون علّة تامّة للتوصّل ، إذ غايته كون الحكم العقلي إحدى مقدّمتي القياس الّذي يستحيل التوصّل بدونه.

وإن اريد به مجرّد المدخليّة في التوصّل انتقض طرد التعريف بالمقدّمات العقليّة المعمولة في تتميم الاستدلال بالدليل الشرعي الموصل إلى الحكم الشرعي كوجوب اللطف ، وقبح الخطاب بما له ظاهر وإرادة خلافه ، وقبح الإغراء بالجهل ، وقبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وقبح النسخ قبل حضور الوقت ، وقبح التكليف بما لا يطاق وغير ذلك.

وقلّما يتّفق في الأدلّة الشرعيّة ما لا حاجة في تتميم الاستدلال به إلى بعض هذه

ص: 471

المقدّمات ، فيلزم أن يصدق على الحكم المستفاد من الأدلّة الشرعيّة كونه ما يتوصّل إليه بحكم عقلي وهو باطل ، لأنّه لا يقال عليه : إنّه حكم مستفاد من الدليل العقلي.

وقولنا : « حكم شرعي » يراد به الحكم الفعلي الّذي يجب التديّن به وبناء العمل عليه ، سواء كان حكما واقعيّا كوجوب ردّ الوديعة وحرمة الظلم المتوصّل إليهما بواسطة الحسن والقبح العقليّين ، أو حكما ظاهريّا معلّقا على عدم ورود الشرع بالخلاف كإباحة تناول الأشياء النافعة الخالية عن أمارات المفسدة المتوصّل إليها بواسطة الحسن العقلي ، بمعنى عدم كون الفعل على صفة توجب استحقاق الذمّ.

لا يقال : قضيّة ذلك دخول موضوع مسألة الإباحة والحظر في عنوان مسألة التحسين والتقبيح العقليّين ، فيلزم كون الأشياء المذكورة من المستقلاّت العقليّة ، وهذا ينافي ما يوجد في كلام القائلين بالتحسين والتقبيح العقليّين من التصريح بكون هذه الأشياء ممّا لا يستقلّ العقل فيها بإدراك حسن ولا قبح.

ومن ذلك عبارة الفاضل الجواد قائلا : « الأشياء الغير الضروريّة عند المعتزلة قسمان ما يدرك العقل حسنها وقبحها وينقسم إلى الأحكام الخمسة - إلى أن قال - : وما لا يدرك العقل حسنها ولا قبحها لكنّها ممّا ينتفع بها ، كشمّ الورد وأكل الفاكهة مثلا ، فهذه قبل ورود الشرع ممّا اختلف في حكمها » إلى آخر ما ذكره (1).

لأنّا لا نسلّم أنّ كلّ القائلين بالتحسين والتقبيح العقليّين صرّحوا بذلك ، ولو صرّح به بعضهم فهو مبنيّ على مختاره في هذه الأشياء من منع إدراك العقل فيها حسنا وقبحا ، وستعرف أنّه أحد أقوال المعتزلة في تلك الأشياء تبعا للأشاعرة وهو لا ينافي كونها عند غيره ممّا يدرك العقل حسنها الملزوم للإباحة كما عليه أكثرهم أو قبحها الملزوم للحظر كما عليه جماعة منهم.

وممّا يشهد بذلك أيضا تعبيرهم عن عنوان مسألة الحظر والإباحة على مذهب الأشاعرة بمسألة « التنزّل » بمعنى أنّ الأشاعرة نازعوا العدليّة في مسألة التحسين والتقبيح العقليّين فأنكروا إدراك العقل فيها الحسن والقبح بالكلّية على طريقة السلب الكلّي قبالا لقول العدليّة بالإدراك على طريقة الإيجاب الجزئي.

ثمّ سلّموا الإدراك في الجملة من باب التنزّل والمماشاة وأنكروه في الأشياء النافعة

ص: 472


1- شرح الزبدة - للفاضل الجواد -.

قبل ورود الشرع ووافقهم جماعة من المعتزلة ، ولولا هذه الأشياء من جزئيّات عنوان مسألة التحسين والتقبيح بل كانت قسيما له لم يكن للتنزّل معنى كما لا يخفى.

ولو سلّم تصريح كلّهم بما ذكر أمكن كون المراد بالحسن المنفيّ في هذه الأشياء ما هو ملزوم الوجوب ، وهو كون الفعل على صفة توجب استحقاق المدح ، وهذا لا ينافي كونه ممّا يدرك فيه الحسن بمعنى ملزوم الإباحة.

وستعرف أنّ الحسن قد يطلق عندهم على ما يعمّه ، ومنه تفسير الحسن ب « ما لا حرج في فعله » ويرادفه ما في تهذيب العلاّمة من تفسيره ب « الفعل الّذي لا يكون على صفة تؤثّر في استحقاق الذمّ قبالا للقبيح وهو الّذي يكون على صفة تؤثّر في استحقاق الذمّ » (1).

وممّا بيّنّاه ظهر أنّ ما عرفت عن الفاضل لا يخلو عن اختلال ، إذ لو أراد بكون الأشياء المذكورة ممّا لا يدرك العقل حسنها ولا قبحها عند المعتزلة كونها كذلك عند جميعهم على معنى اطباقهم عليه فهو كذب وفرية ، وإن أراد كونه كذلك عند بعضهم فهو حقّ ، لكنّه خلاف ظاهر عبارته.

والعجب أنّه قدس سره بعد ما وافق الأكثر في هذه الأشياء بالقول بالإباحة أشكل عليه الأمر بالنظر إلى ما ذكره أوّلا فأورد على نفسه سؤالا يرجع إلى توهّم التدافع قائلا : « لكن يبقى شيء وهو أنّ الحكم بالحسن فيما نحن فيه لا يجتمع مع فرض أنّه ممّا لا يدرك بالعقل حسنه ولا قبحه ».

ثمّ تكلّف في دفعه بوجهين :

أحدهما : أنّ العقل لا يدرك الحسن والقبح بالنظر إلى خصوصيّاتها ويحكم حكما عامّا بالحسن بالنسبة إلى الجميع.

وملخّصه : أنّ العقل إذا لاحظ أكل الفاكهة مثلا بهذا العنوان الخاصّ لا يحكم فيه بشيء من الحسن والقبح وإذا لاحظه بعنوان أنّه ما اشتمل على المنفعة يحكم بحسنه فلا منافاة.

وثانيهما : أنّ العقل لا يدرك حسنها ولا قبحها ابتداءا أو مجرّدة عن ملاحظة شيء آخر ولا ينافي ذلك حكمه بالحسن عامّا بالنظر إلى الدليل.

ومحصّله : أنّ العقل لا يدرك حسنها ولا قبحها إدراكا ضروريّا بحيث لا يحتاج في إدراكه إلى النظر في وسط ، وهو لا ينافي إدراكه الحسن بطريق النظر.

ص: 473


1- تهذيب الوصول إلى علم الاصول : 52 - 53 ( نقلا بالمعنى ).

ما يدخل في الدليل العقليّ وما لا يدخل

ولا يخفى ما في ذلك كلّه ، لمنع ظهور التدافع أوّلا فإنّ النفي في كلام بعضهم لا ينافي إثبات الآخرين ، ولو سلّم ظهوره فالوجه في دفعه ما أشرنا إليه من إبداء الفرق بين الحسن في القضيّة المنفيّة والحسن في القضيّة المثبتة ، ولا حاجة مع ذلك إلى تكلّف الوجهين.

وهل أصل البراءة المعمول فيما لا نصّ فيه وما في حكمه باعتبار تعارض النصّين أو إجمال النصّ من الأدلّة العقليّة أو لا؟

قضيّة ظاهر التعريف العدم ، لأنّه ما يتوصّل به إلى نفي الحكم الشرعي لا إلى إثباته ، ويؤكّده مقابلة الأصل للدليل على ما هو المعروف من طريقة الفقهاء والاصوليّين ، فهو ليس من المعرّف ليشمله التعريف ، وعليه فيكون ذكره في باب الأدلّة العقليّة استطرادا.

ويحتمل الشمول بجعل الحكم - بناء على التفسير المتقدّم - أعمّ من إثبات التكليف ونفيه ، وعليه مبنيّ نظر من عدّه من الأدلّة العقليّة كبعض الأعلام (1) لكنّ الإنصاف أنّه ليس من قبيل الدليل ليتكلّف لإدراجه في تعريف الدليل العقلي بل هو من قبيل المدلول ، سواء كان مدركه النقل لو استفدناه من عمومات الآيات والأخبار ، أو العقل لو تمسّكنا في إثباته إلى قبح التكليف بلا بيان وقبح العقاب من دون إقامة البرهان ، فهو على التقديرين قاعدة مستفادة من الدليل مفادها فراغ الذمّة عن التكليف المشكوك فيه ، فالدليل العقلي على التقدير الثاني هو دليل ذلك الأصل لا نفسه ، وهذا هو السرّ في مقابلة الأصل للدليل ، ومنه يظهر الحال في الاستصحاب إن قلنا به من جهة الأخبار النافية لنقض اليقين بالشكّ فيكون من القواعد الكلّية المستنبطة من الأدلّة الشرعيّة ومفاده وجوب إبقاء ما كان على معنى ترتيب آثارهم ، فيكون ذكره أيضا استطرادا.

نعم إن قلنا به من جهة العقل كما هو طريقة العامّة بناء منهم على حكم العقل بأنّ ما ثبت دام حكما ظنّيّا ، فوجه كونه من الأدلّة العقليّة - كما هو الظاهر من أهل هذه الطريقة - تعميم الحكم العقلي بالقياس إلى الظنّي منه ، ولعلّ ظاهر التعريف يأباه ، ومنه بان الوجه في كون القياس عند عامليه من الأدلّة العقليّة بناء على أنّ الموجب للتعدّي من الأصل إلى الفرع في الحكم إنّما هو عليّة الجامع الّتي حكم بها العقل بملاحظة إحدى طرق استنباط العلّة حكما ظنّيّا.

وربّما أمكن التأمّل في دخول نحو القياس والاستصحاب - من حيث إفادتهما الظنّ

ص: 474


1- قوانين الاصول 2 : 13.

لا القطع - في المعرّف ، بناء على ثبوت الفرق بحسب الاصطلاح بين الدليل والأمارة بجعل الأوّل ما يفيد العلم والثاني ما يفيد الظنّ ، كما في كتب جماعة من العامّة منهم الحاجبي والعضدي وجماعة من الخاصّة منهم العلاّمة والعميدي.

قال في التهذيب : « الدليل ما يفيد معرفته العلم بشيء آخر إثباتا أو نفيا والأمارة ما يفيد ظنّه » (1).

وحكي نحوه عن المحقّق الطوسي في تجريده حيث قال : « ملزوم العلم دليل وملزوم الظنّ أمارة » (2) ويمكن الذبّ بملاحظة إطلاقهم الدليل على الأدلّة الأربعة مع بناء الغالب من الغالب على الظنّ ولا سيّما أخبار الآحاد والإجماعات المنقولة ، فإمّا أن يقال : بأنّ الفرق المذكور إنّما كان بحسب الاصطلاح القديم وقد صار مهجورا عند المتأخّرين ، أو يقال : إنّه كان من اصطلاحات المتكلّمين وإنّما أورده علماء الاصول في كتبهم الاصوليّة تبعا بمناسبة إيرادهم جملة كثيرة من المطالب الكلاميّة فيها.

ثمّ إنّ تخصيص الحكم العقلي في تعريف الدليل العقلي بكونه موصلا إلى حكم شرعي مع أنّه قد يوصل إلى غير الحكم الشرعي إنّما هو لكون محطّ نظر الاصولي في مباحث الأدلّة العقليّة ما يكون موصلا إلى الحكم الشرعي ، وعدم تقييده بكونه فرعيّا تنبيه على أنّ الدليل العقلي كما يجري في الفروع كذلك يجري في الاصول بالمعنى الأعمّ من اصول الفقه واصول العقائد.

فمن الأوّل حجّية الظنّ وجواز العمل به ، المثبت بقبح التكليف بما لا يطاق بعد إحراز بقاء التكليف وانسداد باب العلم.

ومن الثاني وجوب معرفة اللّه المتوصّل إليه بواسطة وجوب شكر المنعم الّذي هو حكم عقلي ، ووجوب النظر في تحصيل معرفة اللّه ومعرفة النبيّ ومعرفة الإمام وغيرها من المعارف الثابت بوجوب دفع الضرر المظنون أو المحتمل بالاحتمال العقلائي الّذي معياره حصول الخوف في النفس ، وعدل الواجب تعالى وحكمته المثبتان بقبح الظلم وقبح ارتكاب القبيح ، وغير ذلك ممّا لا يحصى كثرة.

فالدليل العقلي المبنيّ على قاعدة التحسين والتقبيح العقليّين - عند مثبتيها - عامّ النفع كثير الفائدة ينتفع بفوائده في الفروع والاصول بقسميها ، قد حرم من فوائده من أنكر أصل

ص: 475


1- تهذيب الوصول إلى علم الاصول : 49.
2- كشف المراد : 243.

هذه القاعدة.

ثمّ إنّه قد أشرنا سابقا أنّ الحكم العقلي على قسمين ، وضابطه : أنّ العقل قد يحكم بدون توسّط خطاب الشرع ومن غير توقّف في حكمه على ملاحظته ، سواء ورد من الشرع خطاب أو لا ، كحكمه بوجوب ردّ الوديعة وحرمة الظلم وغيرهما ممّا يرجع إلى التحسين والتقبيح العقليّين فهو « المستقلاّت العقليّة » ، لاستقلال العقل في حكمه.

وقد يحكم بتوسّط خطاب الشرع كحكمه بوجوب المقدّمة بملاحظة الخطاب بذي المقدّمة ، وحرمة ضدّ المأمور به بملاحظة الخطاب بالمأمور به ، وغيرهما ممّا يرجع إلى حكم العقل بالملازمة بين الحكمين ، فهو « الاستلزامات العقليّة » وقرينة المقابلة تعطي التعبير عنها ب « غير المستقلاّت العقليّة » لعدم استقلال العقل فيها بالحكم ، والكلام في مصاديق هذا القسم وأنّ العقل هل يحكم أو لا يحكم وتحقيق ما هو الحقّ في كلّ قد تقدّم في مباحث الأوامر والمفاهيم.

وأمّا الكلام في القسم الأوّل فيقع في مقامات :

في التحسين والتقبيح العقليّين

المقام الأوّل

في التحسين والتقبيح العقليّين

وقد اختلفوا في أنّ حسن الأشياء وقبحها هل هما عقليّان أو شرعيّان ، فالعدليّة من الإماميّة والمعتزلة على الأوّل والأشاعرة على الثاني ، والقضيّة في كلام الأوّلين تحتمل وجهين :

أحدهما : أنّ في الأشياء حسنا وقبحا لا يدركهما إلاّ العقل ، فيكون معنى القضيّة في كلام الآخرين بقرينة المقابلة أنّ فيها حسنا وقبحا لا يدركهما إلاّ الشرع ، وهذا غير صحيح لقضائه بكون الشرع على مذهب العدليّة معزولا عن إدراك حسن الأشياء وقبحها والضرورة قاضية ببطلانه ، بل الشارع الخالق للعقل الموجد للأشياء أولى بإدراك حسنها وقبحها لاستحالة الجهل عليه ، فكلّ حسن أو قبح في الأشياء أدركهما العقل فقد أدركهما الشرع أيضا بالضرورة ، وعليه مبنى الملازمة الآتية بين حكم العقل وحكم الشرع على ما هو لازم قول العدليّة كما ستعرفه.

وثانيهما : أنّ في الأشياء في حدّ أنفسها حسنا وقبحا يدركهما العقل ولا يتوقّف إدراكه لهما على ورود خطاب من الشرع بأمر أو نهي ، وحينئذ فالقضيّة في كلام الآخرين يحتمل وجهين :

ص: 476

الأوّل : أنّ حسن الأشياء وقبحها لا يدركهما إلاّ الشرع والعقل معزول عن الإدراك ، وهذا مع أنّه خلاف صريح كلماتهم في تضاعيف المسألة لا يناسب اصول الأشاعرة ، لأنّ من اصولهم الفاسدة عدم كون أفعاله تعالى معلّلة بالأغراض ، بل هو تعالى يفعل ويحكم ويأمر وينهى لا لغرض ولا داع ، والبيان المذكور يقضي بكون أوامره تعالى ونواهيه معلّلة بما في الأشياء بحسب الواقع من الحسن والقبح اللذين أدركهما الشارع فأمر أو نهى بحسبهما.

الثاني : أنّه ليس في الأشياء في حدّ أنفسها ومع قطع النظر عن خطاب الشرع حسن أو قبح يدركهما العقل ، بل هما في لحوقهما الأفعال يتبعان خطاب الشرع ، فالفعل إذا أمر به الشارع يصير حسنا بأمره وإذا نهى عنه الشارع يصير قبيحا بنهيه.

وبالجملة حسن الفعل إنّما هو باعتبار كونه مأمورا به وقبحه إنّما هو باعتبار كونه منهيّا عنه ، لا باعتبار نفسه مع قطع النظر عن أمر الشارع ونهيه ، وهذا هو الصحيح المصرّح به في كلمات القوم.

ومن هنا قد يقرّر صورة النزاع بأنّهم اختلفوا في أنّ حسن المأمور به من موجبات الأمر - بمعنى أنّه ثبت بالأمر - أو من مدلولاته - بمعنى أنّه ثبت بالعقل والأمر دليل - كما عن التلويح ، وكأنّه يريد به ثبوته بالعقل في الجملة لينطبق على مذهب العدليّة القائلة بإدراك العقل حسن الأشياء أو قبحها على وجه الإيجاب الجزئي.

نعم قضيّة دلالة الأمر على حسن المأمور به وكشفه عنه عامّة على معنى أنّ كلّ فعل أمر به الشارع كشف عن أنّ فيه حسنا أدركه الشارع ، سواء كان بحيث أدركه العقل أيضا كما في مستقلاّته أو لا كما في غيرها.

هذا مع إمكان جعل قضيّة ثبوته بالعقل أيضا عامّة لكن بالقياس إلى العقول الصحيحة الكاملة ، وما يرى من اختلاف الأشياء في إدراك العقل الحسن أو القبح في بعضها دون آخر فإنّما هو باعتبار اختلاف العقول في مراتب الكمال والنقصان ، وإلاّ فالعقول الصحيحة الكاملة تدرك حسن جميع الأشياء وقبحها ، وهذا هو معنى ما تقرّر في الكلام من أنّه كان من أعلام نبوّة نبيّنا صلى اللّه عليه وآله وسلم ، أنّه يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، ومعناه أنّه يأمرهم بما يحسّنه العقول الصحيحة وتشهد بكونه معروفا ، وينهاهم عمّا تقبّحه العقول الصحيحة وتشهد بكونه منكرا ، ويحلّ لهم ما تشهد بكونه طيّبا ، ومنه قصّة الأعرابي حيث أسلم من غير إعجاز ، وقد قيل له : عن أيّ شيء أسلمت؟ وماذا رأيت منه؟ فقال : ما أمر بشيء فقال

ص: 477

العقل : ليته نهى ، ولا نهى عن شيء فقال العقل : ليته أباحه ».

في معاني الحسن والقبح

ثمّ إنّ لكلّ من الحسن والقبح معاني ليس النزاع إلاّ في بعضها :

الأوّل : كون الشيء صفة كمال كالعلم والشجاعة والسخاء أو صفة نقص كالجهل والجبن والبخل ، وقد يعبّر بكونه كمالا أو نقصا بإسقاط الصفة بزعم لحوقهما الأفعال أيضا - كما يقال في العرف : « إطاعة المولى حسن ومعصيته قبيح » - وعدم اختصاصهما بمقولة الصفات ، وهو سهو إذ الحسن والقبح اللاحقان بالاطاعة والمعصية إنّما يراد بهما استحقاق فاعلهما المدح أو الذّم عند العقل ، وإن كان ولا بدّ من حملهما على المعنى المذكور فهما يلحقان الإطاعة والمعصية باعتبار ما يكشفان عنه ممّا هو من مقولة الصفات.

وبيانه : أنّ الإطاعة والمعصية مفهومان منتزعان عن متعلّقات الأوامر والنواهي باعتبار ما يلحقها من الامتثال أو تركه ، وهما كاشفان عن صفة نفسانيّة يعبّر عنها بحسن السريرة وسوئها ، واتّصافهما بالحسن والقبح بمعنى الكمال والنقص إنّما هو باعتبار هذه الصفة من باب وصف الشيء بحال متعلّقه ، أو وصف الملزوم بوصف اللازم.

وبالجملة فلا ينبغي التأمّل في كون الحسن والقبح بهذا المعنى من لواحق الصفات والملكات النفسانيّة.

الثاني : ملائمة الطبع كالطعام اللذيذ والماء البارد ، ومنافرة الطبع كالطعام على التخمة والدواء المرّ ، وكذلك الصوت الحسن وصوت الحمير.

الثالث : موافقة الغرض ومخالفته كقتل زيد لأعدائه وأحبّائه ، وقد يعبّر عنهما بموافقة المصلحة ومخالفتها بزعم الاتّحاد ، وليس كما زعم إذ الغرض عبارة عمّا يرجى ويتوقّع حصوله من فعل شيء وقد لا يكون مصلحة بل قد يكون خلافها كالغنى والفقر فإنّ الأوّل قد يكون مفسدة مع موافقته الغرض والثاني قد يكون مصلحة مع مخالفته الغرض ، فالغرض والمصلحة قد يجتمعان وقد يتفارقان ، والأولى جعل ما ذكر معنى آخر.

الرابع : كون الشيء بحيث لا حرج في فعله شرعا ويعمّ المباحات الشرعيّة ، وكونه بحيث في فعله حرج ويختصّ بالمنهيّات الشرعيّة.

وفي معناه ما في التهذيب والنهاية من : « أنّ الحسن ما للفاعل القادر عليه العالم به أن يفعله والقبيح ما ليس له فعله » (1).

ص: 478


1- تهذيب الوصول إلى علم الاصول : 52 ، نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة 12 صفحة 2 ( مخطوط ).

الخامس : كون الفعل بحيث يستحقّ فاعله المدح أو الذمّ كما في كلام الأكثر.

وفي التهذيب : « الحسن الفعل الّذي لم يكن على صفة تؤثّر في استحقاق الذمّ والقبيح الّذي يكون على صفة تؤثّر في استحقاق الذمّ » (1) وكأنّه رام به تعميم ما يدركه العقل للأحكام العقليّة الأربعة ما عدا الحرمة العقليّة ونقض عكس الثاني وطرد الأوّل بالقبيح لذاته ، وهو السرّ في ترك الأكثر قيد « على صفة ».

وظاهر كلام المتعرّضين لذكر هذه المعاني كونها معاني متبائنة استعمل اللفظ في كلّ على الاستقلال على وجه يكون اللفظ بالقياس إليها من باب متكثّر المعنى ، حتّى أنّ بعض الأواخر تكلّم في حقيقتها ومجازها ، ودقيق النظر يعطي كون اللفظين بحسب العرف واللغة لمعنى واحد يعبّر عنه في الفارسية ب « خوب » و « بد » ولهذا المعنى وجوه واعتبارات ، والمذكورات أو غيرها ممّا لم نذكره وجوه له ، وسيلحقك زيادة تحقيق في ذلك.

ومحلّ النزاع من المعاني المذكورة أو من وجوه المعنى الواحد على ما هو المصرّح به في كلمات الفريقين إنّما هو المعنى الخامس ، المتضمّن لاستحقاق المدح والذمّ لإطباقهما على إدراك العقل للحسن والقبح للأشياء بالمعاني الاخر.

نعم ربّما يتوهّم من العلاّمة في التهذيب وقوع النزاع في المعنى الأوّل أيضا ، حتّى أنّه عند الاستدلال على مختاره من التحسين والتقبيح العقليّين أخذ العلم في أمثلة ما يحسّنه العقل والجهل في أمثلة ما يقبّحه (2) وهذا غريب ويمكن إصلاحه بحمل العلم على تحصيله والجهل على ترك النفس جاهلا على معنى إبقائها على الجهل اختيارا ، فإنّ الأوّل ما يستحقّ فاعله المدح والثاني ما يستحقّ فاعله الذمّ.

ومنهم من أخذ في المعنى المتنازع فيه استحقاق الثواب والعقاب أيضا فقال : « الحسن والقبح كون الفعل بحيث يستحقّ فاعله المدح والثواب أو الذمّ والعقاب ». ولعلّ مبناه على تخيّل أنّ الحسن والقبح اللذين يثبتهما العدليّة يراد بهما ما يلازم الحكم الشرعي بملازمة هي بالقياس إليه بمثابة القضايا الّتي قياساتها معها ، ولذا لم يختلف العدليّة في أصل الملازمة ، بل الأشاعرة أيضا مطبقون معهم فيها على تقدير ثبوت الملزوم ، ونزاعهم إنّما هو في إثبات الملزوم وهو الحكم العقلي بالحسن والقبح ، وبعد ثبوته فالملازمة متّفق عليه بين الفريقين.

وأمّا ما يوجد في أصحابنا من التشكيك فيها أو إنكارها فأمر حدث من جماعة من

ص: 479


1- تهذيب الوصول إلى علم الاصول : 52.
2- تهذيب الوصول إلى علم الاصول : 53.

متأخّري المتأخّرين أوّلهم الفاضل التوني (1) تبعا للزركشي من أواخر الأشاعرة ، حيث رأى شناعة ما عليه أصحابه من إنكار التحسين والتقبيح العقليّين وكونه يشبه بإنكار الضروري ويرجع إلى تكذيب الوجدان ، فلم يتمكّن من موافقتهم فوافق العدليّة في إثبات الملزوم وأنكر الملازمة بينه وبين الحكم الشرعي ، وظاهر أنّ ما أدركه العقل من الحسن والقبح لا يلازم الحكم الشرعي بالملازمة المذكورة إلاّ بأن يدخل فيه استحقاق الثواب والعقاب ، وهذا كما ترى وهم فاسد.

أمّا أوّلا : فلأنّ المراد من الحكم العقلي ومسألة التحسين والتقبيح عند العدليّة ما يتوصّل به إلى الحكم الشرعي على وجه يكون الحكم العقلي دليلا والحكم الشرعي مدلولا عليه.

ومن البيّن وجوب تغاير الدليل والمدلول ، فلو دخل استحقاق الثواب والعقاب فيما أدركه العقل من الحسن والقبح لزم دخول الحكم الشرعي فيما أدركه العقل ، وكون المدلول من جملة الدليل ، وهو باطل.

وبيان الملازمة : أنّ استحقاق الثواب والعقاب اعتبار في جانب الحكم الشرعي ، لأنّه يترتّب على الإطاعة والمعصية وموافقة الخطاب ومخالفته ، فلو دخل فيما أدركه العقل لدخل فيه ملزومه.

وقضيّة بطلان اللازم عدم دخول الاستحقاق المذكور فيما أدركه العقل ، ولا ينافيه ما ذكر من أنّ المراد ممّا أدركه العقل ما يلازم الحكم الشرعي بالملازمة المذكورة ، لعدم ابتناء هذه الملازمة على دخول استحقاق الثواب والعقاب فيما أدركه العقل ، بل هي مبنيّة على مقدّمة اخرى هي بالقياس إلى الحسن والقبح العقليّين بمثابة القضايا الّتي قياساتها معها ، وهي محبوبيّة ما حسّنه العقل ومبغوضيّة ما قبّحه لله تعالى ، نظرا إلى أنّ المراد بالحسن والقبح اللذين يدركهما العقل في محلّ النزاع حكم العقل باستحقاق الفاعل للمدح والذمّ في نظر كلّ عاقل وحكمه ، ولا سيّما العقول الصحيحة حتّى الإله الخالق للعقول.

وإلى ذلك يشير ما عن العضدي تبعا للحاجبي من : « أنّ النزاع في حكم العقل بأنّ الفعل حسن أو قبيح في حكمه تعالى » (2) فإنّ معناه - بناء على ظاهر العبارة - حكم العقل بكون الفعل بحيث يستحقّ فاعله المدح أو الذمّ في نظره تعالى وحكمه أي حكمه بكونه كذلك أو حكمه بالاستحقاق المذكور ، وحيث إنّ حكمه تعالى مطابق لعلمه فصحّ أن يقال

ص: 480


1- الوافية : 171.
2- شرح المختصر : 69 - 70.

بكونه كذلك في عمله تعالى ، لا ما احتمله بعض الفضلاء بقوله : « هذا الكلام يحتمل وجوهاً :

الأوّل : أنّ النزاع في إدراك العقل حسن حكمه تعالى بشيء أو قبحه.

الثاني : أنّ النزاع في إدراك حسن الفعل وقبحه المؤثّرين في وقوع حكمه به على حسبه من إيجاب أو غيره.

الثالث : أنّ النزاع في إدراك العقل حسن الفعل أو قبحه بالنسبة إليه تعالى » (1) لكون هذه الوجوه بمراحل عن هذه العبارة ولا تتحمّلها بظاهرها ، وظاهر أنّ كون الفعل بحيث يستحقّ فاعله المدح أو الذمّ في حكمه تعالى وعلمه لزمه المحبوبيّة والمبغوضيّة له تعالى ، وهما تستلزمان كونه بحيث أوجبه أو حرّمه ، ثمّ يترتّب عليهما استحقاق الثواب والعقاب على الموافقة والمخالفة.

وأمّا ثانيا : فلانّه لو دخل استحقاق الثواب والعقاب فيما أدركه العقل عند العدليّة من الحسن والقبح مع فرض كونه من لوازم الحكم الشرعي لزم أن لا يكون للنزاع في الملازمة - الّذي وقع لمتأخّري المتأخّرين - محلّ ، إذ المفروض كون الحكم الشرعي ممّا أدركه العقل بواسطة إدراكه ما هو من لوازمه ، ومعه لا معنى للنزاع في الملازمة بين الحكم العقلي والحكم الشرعي ، لأنّ ما أدركه هو الحكم الشرعي لا غير.

نعم ربّما وقع النزاع في حجّية هذا الإدراك على معنى وجوب متابعته ، بناء على ما عليه جماعة من الأخباريّة من إنكارهم حجّية إدراكات العقل في النظريّات.

وأنت خبير بأنّ الكلام في حجّية إدراكات العقل غير الكلام في الملازمة بين الحكم العقلي والحكم الشرعي ، ولا يمكن إرجاع أحدهما إلى الآخر ، وطريق ردّ المنكرين للحجّية على نهج آخر مقرّر في مباحث حجّية القطع ، ولذا توجّه إليهم ثمّة لزوم التناقض أو اجتماع النقيضين لو أرادوا من إدراك العقل إدراكه القطعي - كما هو ظاهر أكثرهم - ومن عدم حجّيته ما هو بالقياس إلى القاطع ، ولم يتوجّه نحوه هاهنا إلى منكري الملازمة.

وأمّا ثالثا : فلأنّ من منكري الملازمة كالفاضل التوني من بنى إنكاره على التفكيك بين الواجب والحرام العقليّين ، فعرّف الواجب : « بما يستحقّ فاعله المدح وتاركه الذمّ والحرام عكسه » (2) والواجب والحرام الشرعيّين فعرّف الواجب : « بما يستحّق فاعله الثواب وتاركه العقاب والحرام عكسه » (3) فوافق العدليّة في القول بالواجب والحرام العقليّين وتنظّر في استلزامهما

ص: 481


1- الفصول : 316.
2- الوافية : 171.
3- الوافية : 171.

الواجب والحرام الشرعيّين تمسّكا بوجوه تأتي ذكرها في محلّه ، وهذا يدلّ على أنّ استحقاق الثواب والعقاب اعتبار يؤخذ في جانب الحكم الشرعي لا في جانب الحكم العقلي.

وأمّا رابعا : فلأنّ استحقاق الثواب والعقاب بالقياس إلى الحكم العقلي من عوارض الشخص لا من لوازم الماهيّة ، والكلام في مسألة التحسين والتقبيح إنّما هو في إثبات الماهيّة لا في إثبات شخص يكون الاستحقاق المذكور من عوارضه ، وذلك : أنّ الحسن والقبح بالمعنى المبحوث عنه يراد به أعمّ ممّا يرجع إلى أفعال اللّه تعالى وما يرجع إلى أفعال العباد.

مع إمكان أن يقال : إنّ الغرض الأصلي من عقد المسألة في أصل تدوينها باعتبار كونها كلاميّة إنّما هو إثبات ما يرجع إلى أفعال اللّه تعالى ونفيه ليتفرّع عليه مطالب كلاميّة اختلف فيها العدليّة والأشاعرة ، وكانت مبنيّة عند العدليّة على قاعدة التحسين والتقبيح العقليّين ، مثلا أنّهم كانوا يقولون : إنّه تعالى ليس بخالق لأفعال العباد لأنّه يثيبهم ويعذّبهم عليها ، والعقل يحكم باستحقاق من يفعل ثمّ يثيب ويعاقب على فعل نفسه للذمّ ، ويقولون : إنّه لا يفعل فعلا إلاّ لغرض ، لأنّ من يكون عمله لغير داع مستحقّ للذمّ ، وأنّهم يقولون : لا يجوز له تعالى أن يفضّل المفضول على الفاضل ، لأنّ من يفعل ذلك يستحقّ الذمّ عند العقل ، إلى غير ذلك ممّا لا يحصى كثرة.

وظاهر أنّ دخول استحقاق الثواب والعقاب فيما يرجع إليه تعالى غير معقول ، وإنّما يصحّ اعتباره بالقياس إلى ما يرجع إلى أفعال العباد ، فوجب تعرية موضوع المسألة عن ذلك ليصحّ رجوعه إلى أفعاله تعالى أيضا.

ثمّ إنّه قد ظهر من تضاعيف كلماتنا المتقدّمة أنّ محلّ النزاع بالقياس إلى الأفعال الموصوفة بالحسن والقبح أعمّ من أفعال الخلق وأفعال الخالق ، والأشاعرة ينكرون اتّصاف أفعاله تعالى بالحسن والقبح ، ولذا يجيزون عليه الظلم والجبر والفعل لا لغرض وداع ، والتكليف بالمحال وتعذيب المطيع حتّى نحو النبيّ ، وتنعيم العاصي حتّى نحو قاتل النبيّ ، وتفضيل المفضول على الفاضل كما في أمر الخلافة ، على خلاف العدليّة في جميع ذلك استنادا إلى قاعدة التحسين والتقبيح.

لكن ينبغي تخصيصه بالقياس إلى أفعال الخلق بأفعال المكلّفين ، لوضوح عدم لحوقهما أفعال غيرهم كالصبيّ والمجنون ، ولذا لا يمدح عند العقلاء بعطائه ولا يذمّ بمنعه.

ومن هنا ينبغي القطع باختصاص النزاع بالنسبة إلى المكلّفين بأفعالهم الاختياريّة وأمّا

ص: 482

الأفعال الاضطراريّة الّتي ليس للفاعل جهة اختيار فيها فلا يلحقها حسن ولا قبح ، ولا يستحقّ الفاعل من جهتها مدحا ولا ذمّا ، حتّى أنّ الأشاعرة في بعض أدلّتهم لنفي التحسين والتقبيح العقليّين استدلّوا بكون أفعال العباد اضطراريّة ، بناء منهم على أصلهم الفاسد من كون العباد مجبورين في أفعالهم.

وإذا تمهّد هذا كلّه فنقول : إنّ الأصحّ بل الحقّ الّذي لا محيص عنه ما عليه العدليّة لأنّه العدل لقضاء الضرورة بذلك ، فإنّ من الأفعال على ما يعرف بالعيان ويدرك بالوجدان ما يحسّنه العقل ويحكم باستحقاق فاعله من حيث هو فاعله المدح كالعدل والإحسان والصدق النافع ، ومنها ما يقبّحه العقل ويحكم باستحقاق فاعله من حيث هو فاعله الذمّ كالظلم والعدوان والكذب الضارّ ، ومن أوضح المحاسن مجازاة المسيء بالإحسان ، ومن أقبح القبائح مجازاة المحسن بالإساءة ، فإنّ العقلاء مطبقون على مدح الأوّل وذمّ الثاني ، وليس إلاّ لشهادة عقولهم باستحقاق الأوّل للأوّل واستحقاق الثاني للثاني ، وكون الاستحقاقين من القضايا المركوزة في أذهانهم ، كما يجده كلّ ذي مسكة راعى الإنصاف وجانب الاعتساف ، وخلّى نفسه عن الشكوك والشبهات ، وخلع عن قلبه العصبيّة والعناد ومتابعة الشهوات.

وتوهّم كون كلّ ذلك من جهة الانس بالشرع حيث أمر ببعض ما ذكر ونهى عن بعض.

يدفعه : فرض الكلام فيمن لا يقول بشرع كالبراهمة وغيرهم من منكري وجود الصانع.

هذا مضافا إلى أنّ مرجع معاني الحسن والقبح على ما أشرنا إليه سابقا إلى أمر واحد ، ووجه اعتبار الجميع وجه واحد ، وهي مع ذلك متشاركة في الخواصّ والآثار في المحبوبيّة والمبغوضيّة والمدح والذمّ ، فالالتزام بالإدراك العقلي في البعض يوجب الالتزام به في الجميع وإنكاره في البعض يوجب الإنكار في الجميع ، والتفصيل بالإثبات في بعض والنفي في غيره غير صحيح.

قضاء الضرورة بما عليه العدليّة من ثبوت التحسين والتقبيح العقليّين

وتوضيح ذلك : أنّهما في جميع موارد إطلاقهما مفهومان انتزاعيّان ينتزعهما العقل لمنشأ المحبوبيّة والمبغوضيّة الناشئتين :

تارة باعتبار كون الشيء كمالا أو نقصا.

واخرى باعتبار ملائمة الطبع ومنافرته.

وثالثة باعتبار موافقته الغرض ومخالفته.

ورابعة باعتبار موافقته المصلحة ومخالفته.

ص: 483

وخامسة باعتبار عنوانه الخاصّ كالعدل والإحسان ومجازاة المسيء بالإحسان ، والظلم والعدوان ومجازاة المحسن بالإساءة ، فإن كلّ عاقل راجع وجدانه يجد أنّه بعقله أو طبعه يحبّ كلّ صفة كمال كالعلم وما يلائم طبعه وما يوافق غرضه أو مصلحته والعدل بعنوان كونه عدلا وغيره ممّا ذكر ، ويمدح على الجميع ويبغض أضدادها ويذمّ على الجميع ، والعقل ينتزع عن الأشياء بالمعنى الدائر بين الصفات والملكات والأفعال وما يعمّها باعتبار المحبوبيّة والمبغوضيّة أو إحدى الجهات المذكورة المقتضية للمحبوبيّة والمبغوضيّة مفهوما يعبّر عنه بالحسن أو القبح المفسّرين في الترجمة الفارسية ب « خوبي » و « بدي » ومعنى إدراك العقل للحسن والقبح حينئذ إمّا انتزاعه لذلك المفهوم أو انتقاله إلى المفهوم المنتزع الموجود في الذهن.

وإذا جاز ذلك الانتزاع أو الانتقال إلى المنتزع للعقل في نحو العلم والجهل ، وشرب الماء البارد مع شرب الدواء المرّ ، وقتل زيد لأعدائه وأحبّائه ، جاز في نحو العدل والإحسان ، ومجازاة المسيء بالإحسان ، والظلم والعدوان ، ومجازاة المحسن بالإساءة ، وإذا لم يجز في الأخير لم يجز في غيره والفرق تحكّم أو مكابرة.

ولعلّه إلى هذا البيان يشير ما عرفته عن العلاّمة من ذكر العلم والجهل في عداد أمثلة ما يحسّنه العقل ويقبّحه ، مع كونه من أمثلة ما يحسن عند العقل لكماله وما يقبح عنده لنقصه ، نظرا إلى أنّ وجه اعتبار الحسن والقبح فيما هو من محلّ النزاع هو وجه اعتبارهما فيما هو من غيره.

فإن قلت : وجه الفرق لعلّه أنّ انتزاع العقل لهما في غير محلّ النزاع إنّما هو لإدراكه الجهة المنتزع بها كملائمة الطبع ومنافرته وغيره ولو بمعونة الوجدان وعدم إدراكه لها في محلّ النزاع.

قلت : - مع أنّه ينتقض في نحو الصدق النافع والكذب الضارّ المعدودين عند العدليّة ممّا يحسّنه العقل ويقبّحه مع كون الجهة المقتضية للانتزاع فيهما إنّما هي جهة النفع وجهة الضرر وهما عند التحقيق من قبيل الأغراض ، فالأوّل يحسّن عند العقل لموافقته غرض العقلاء والثاني يقبّح لمخالفته غرض العقلاء ، وبه يتمّ المقصود بالاستدلال من إثبات الإيجاب الجزئي - أنّ هذا الفرق يبطله أنّ العنوان الخاصّ في نحو العدل والظلم أيضا ممّا يدركه العقل ولو بمعونة الوجدان ، كما أنّ كونه جهة للمحبوبيّة والمبغوضيّة واستحقاق

ص: 484

الفاعل فيهما للمدح أو الذمّ ممّا يدركه العقل بمعونة الوجدان.

فالفرق أيضا تحكّم والمكابرة بإنكار إدراكه المحبوبيّة والمبغوضيّة تكذيب للوجدان فلا يلتفت إليه.

أدلّة القول بثبوتهما

واحتجّوا على المختار بوجوه اخر :

أحدها : أنّ الحسن والقبح لو كانا بالشرع لا بالعقل لزم إفحام (1) الأنبياء ، فتنفي فائدة بعثهم ، واللازم باطل بالضرورة.

بيان الملازمة : أنّ النبيّ إذا طلب من المكلّف اتّباعه فللمكلّف أن يقول : ليس عليّ اتّباعك إلاّ إذا علمت صدقك ، ولا أعلم صدقك إلاّ بالنظر في معجزتك ، ولا أنظر في معجزتك ، إلاّ إذا وجب عليّ النظر ، ولا يجب عليّ النظر إلاّ بقولك ، وقولك قبل ثبوت صدقك ليس حجّة ، فينقطع النبيّ.

وقد يقرّر الملازمة : بأنّه إذا قال النبيّ : « انظروا في معجزتي لتعلموا صدقي » كان لهم أن يقولوا : « لا ننظر حتّى يجب علينا النظر ، ولا يجب حتّى ننظر ، ولا ننظر ليجب » وهذه معارضة لا مدفع للنبيّ عنها وهو معنى الإفحام.

واعترض عليه : بأنّ إفحام الأنبياء مشترك اللزوم بين القولين ، لأنّ وجوب النظر عقلا على معنى كونه بحيث يستحقّ فاعله المدح وتاركه الذمّ ليس ضروريّا ، لتوقّفه على إعمال مقدّمات كلّها نظريّة لوقوع الخلاف في الجميع ، كون النظر مفيدا للعلم مطلقا والمخالف فيها السمينة ، وكونه مفيدا له في الإلهيّات والمخالف فيه المهندسون ، وكون المعرفة واجبة والمخالف فيه الحشويّة ، وتوقّف المعرفة على النظر والمخالف فيه الصوفيّة لبنائهم على تحصيل المعرفة بطريق المكاشفة ، ووجوب مقدّمة الواجب والمخالف فيه جماعة من الاصوليّين وهذه المقدّمات إن لم يكن كلّها نظريّا فلا أقلّ من كون بعضها نظريّا ، وحينئذ فلهم أن يقولوا : « لا ننظر حتّى يجب ، ولا يجب حتّى ننظر » أي لا ننظر في معجزتك إلاّ بإلزام ولا إلزام إلاّ بالنظر في المقدّمات المذكورة.

وجوابه : مضافا إلى أنّ أكثر هذه المقدّمات بديهيّ الثبوت أو بمثابة البديهي بالقياس إلى الأذهان الصافية الخالية عن الشكوك والشبهات ، ولا سيّما المقدّمة الاولى والثانية ، لأنّ كون جملة كثيرة من علوم آحاد الناس نظريّة معلوم لهم ببداهة وجدانهم ، مع العلم

ص: 485


1- أي إلزامهم وإسكاتهم ( منه ).

الضروري لأكثر الموحّدين المتشرّعين الناظرين في الإلهيّات ببلوغ نظرهم فيها - ولا سيّما أركان الإيمان وصفات الواجب - إلى مرتبة العلم ، أنّ هذا إنّما يتوجّه لو كان مبنى الاستدلال على إثبات وجوب النظر بالعقل باعتبار كونه مقدّمة لمعرفة اللّه الواجبة وليس كذلك ، بل على إثباته باعتبار حكم العقل عموما بوجوب دفع الضرر المحتمل وإزالة خوف العقوبة عن النفس ، الّذي يكفي في حصوله احتمال صدق المقدّمات المذكورة مع احتمال صدق النبيّ في إخباره بنبوّته وحقيّة شريعته ، ووجوب معرفة اللّه سبحانه ووعيده على المخالفة بالعذاب الأليم والخلود في نار الجحيم في دار الآخرة.

وتوهّم لزوم توسيط قاعدة المقدّمية في تتميم الاستدلال على هذا التقدير أيضا باعتبار كون النظر مقدّمة لدفع الضرر فيتوجّه سؤال نظريّة وجوب المقدّمة وبه يلزم الإفحام أيضا.

يدفعه : منع مقدّميّة النظر لدفع الضرر ، بل هو من أفراده ومصاديقه ، وإجراء حكم الكلّي الثابت له بالعقل أو الشرع عموما على فرد له ليس من باب قاعدة المقدّمية ، لما قرّرناه في محلّه من عدم كون فرد الكلّي من مقدّماته ، ولو سلّم كون النظر مقدّمة سببيّة لدفع الضرر من غير جهة الفرديّة فهو من الأسباب الّتي وجوبها عين وجوب مسبّباتها ، لا أنّها من الأسباب الّتي تجب بوجوب المسبّبات لقاعدة المقدّمية ، بأن يكون وجوبها متفرّعا على القول بوجوب المقدّمة ، وهي الّتي يكون بينها وبين مسبّباتها ترتّب في الوجود الخارجي وتغاير بحسب المفهوم والمصداق ، فإنّ النظر وجوده في الخارج عين وجود مسبّبه وهو دفع الضرر وإزالة الخوف عن النفس من دون تغاير بينهما إلاّ بحسب المفهوم والعنوان ، كتكرار الصلاة في جميع موارده لتحصيل العلم بأداء المأمور به الواقعي ، وقد تقدّم في بحث المقدّمة أنّ وجوب نحو هذا السبب عين وجوب مسبّبه ولا يمكن التفكيك بينهما في الوجوب بناء على القول بعدم وجوب المقدّمة ، وحينئذ نقول : إنّ العقل إنّما يحكم بوجوب النظر على معنى استحقاق تاركه الذمّ بلحاظ أنّه بعينه دفع للضرر وإزالة للخوف لعدم تغايرهما بحسب الوجود ، إذ بمجرّد حصوله يزول الخوف بانكشاف صدق النبيّ المستتبع لحصول معرفة اللّه تعالى.

نعم إنّما يتغاير معه في الوجود زوال الخوف ويكون النظر بالقياس إليه من الأسباب الّتي بينها وبين مسبّباتها ترتّب في الوجود الخارجي ، ولكن موضوع حكم العقل ليس هو النظر بعنوان أنّه زوال الخوف ليتفرّع وجوبه على القول بحكم العقل بوجوب مقدّمة

ص: 486

الواجب ، بل بعنوان أنّه إزالة للخوف.

ولا ريب أنّهما لا يتغايران إلاّ بحسب العنوان من دون ترتّب بينهما في الوجود ، والفرق بين إزالة الخوف وزواله واضح من حيث إنّ الأوّل فعل اختياري للمكلّف ولا خارج له إلاّ النظر ، فإذا حصل باستكمال النظر لزمه ترتّب الزوال عليه قهرا.

ثمّ إنّ هذا الوجوب العقلي كاف في إقدام المكلّف على النظر ، لأنّ العقل بمجرّد إدراك هذا الوجوب يلزم المكلّف به ويحرّكه إليه ، ولا حاجة معه إلى إلزام آخر من الشرع ليعود محذور الإفحام.

وثانيها : أنّهما لو لم يكونا عقليّين لم تجب معرفة اللّه تعالى ، لتوقّف معرفة الإيجاب على معرفة الموجب ، المتوقّفة على معرفة الإيجاب ، فيدور.

وتفصيل ذلك : أنّ الاشاعرة لمّا أنكروا الحسن العقلي ، قالوا : إنّ حسن المعرفة ووجوبها إنّما كان بأمره تعالى وإيجابه ، حيث يقول : ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللّهُ ) (1) وحينئذ فيتوجّه أنّ معرفة إيجابه موقوفة على معرفته بالضرورة لمكان الاضافة ، فيجيء الدور.

وأمّا عندنا فلمّا كان شكر المنعم واجبا عقليّا لزمنا معرفته لنتمكّن من شكره بما يليق ، إذ لا يعقل شكر من لا يعرف ، هذا على ما في كلام السيّد الكاظمي رحمه اللّه في شرحه للوافية.

ولنا في وضع الدليل نظر ، مرجعه إلى منع الدور ثمّ منع الملازمة ، إذ لا يعتبر في معرفة اللّه تعالى معرفته بوصف كونه موجبا ليتوقّف على معرفة إيجابه ، بل معرفته من حيث هو ، وهي لا تتوقّف على معرفة إيجابه المعرفة بل على النظر في تحصيل المعرفة ، فقصارى ما يلزم من انتفاء معرفة اللّه هو عدم معرفة ايجابه المعرفة لا عدم وجوب معرفته في الواقع ، فيتطرّق المنع حينئذ إلى الملازمة.

إلاّ أن يقال : إنّ المراد من قولنا : « لم يجب معرفة اللّه » أنّه لم يعرف وجوب معرفة اللّه.

ويرد عليه : مع ما فيه من التكلّف ، عدم ابتنائه على إلزام الدور مع عدم لزومه على ما عرفت.

ثمّ إنّه لمّا كان مبنى هذا الدليل في طريقة أصحابنا على وجوب شكر المنعم فلا بأس بالتعرّض لبيانه ، والإشارة إلى ما يرد عليه ثمّ إصلاحه ، وبيان تقريب الاستدلال به.

فنقول : إنّ المعروف من تقريره أنّ كلّ عاقل يراجع نفسه يرى أنّ عليه نعما ظاهرة

ص: 487


1- محمّد : 19.

وباطنة ، جسميّة وروحانيّة ممّا لا يحصى كثرة ، ولا شكّ ولا ريب أنّها من غيره ، فهذا العاقل إن لم يلتفت إلى منعمه ولم يعترف له بإحسان ولم يذعن بكونه منعما ولم يتقرّب إلى مرضاته يذمّه العقلاء ويستحسنون سلب تلك النعم عنه ، وهذا معنى الوجوب العقلي.

وأيضا إذا رأى العاقل نفسه مستغرقة بالنعم العظام يجوّز أنّ المنعم لها قد أراد الشكر عليها ، وإن لم يشكره يسلبها عنه ، فيحصل له خوف العقوبة ، ولا أقلّ من سلب تلك النعم ، ورفع الخوف عن النفس واجب مع القدرة وهو قادر على ذلك فلو تركه كان مستحقّا للذمّ ، وإذا ثبت وجوب شكر المنعم ووجوب إزالة الخوف عن النفس فهو لا يتمّ إلاّ بمعرفة المنعم حتّى يشكره على حسب مرتبته ، وعلى ما يستحقّه ويمكن المناقشة في إناطة حكم العقل بالوجوب بخوف زوال النعم لو لا الشكر حتّى ينتج وجوب المعرفة ، بأنّ أعظم النعماء وأصلها نعمة الحياة ، والعاقل يقطع بأنّها زائلة بالموت لا محالة شكر أم لم يشكر ، مع القطع بعدم كون المدار فيما عداها على المعرفة ولا الشكر ليزول بعدمهما وإلاّ وجب زوالها عن الكفّار على اختلاف أصنافهم ، وعن أهل المعاصي المحرز كونهم كذلك بعدم قيامهم بشكر منعمهم ، ولا ريب أنّ الالتفات إلى ذلك ربّما يأمنه من خوف زوال النعم بما عدا الموت.

والأولى لإثبات وجوبه بطريق العقل أن يقال : إنّ شكر المنعم من حيث إنّه شكر المنعم - على ما يدرك بالوجدان السليم - ممّا يحسّنه العقل ويقبّح تركه ، كما أنّه يحسّن ردّ الوديعة ويقبّح تركه ، والمنكر مكابر.

فلو قيل : إنّ الحسن بهذا الاعتبار وإن كان مسلّما إلاّ أنّه لا يصلح ملزما للعبد بالشكر إلاّ إذا استلزم إيجابا ، فإن كان من المنعم فهو موقوف على معرفته وبدونها لا إيجاب ، وإن كان من غيره فمع أنّه لا يجدي نفعا في الإلزام يبطله دليل الخلف.

لقلنا : مع أنّ الموقوف على المعرفة إنّما هو العلم بالإيجاب لا نفس الإيجاب إن اريد به الواقعي لا الظاهري ، ولعلّ احتمال الإيجاب من المنعم في نظره على وجه أوجب خوف العقوبة على المخالفة ولو في دار الآخرة الّتي يكفي فيها الاحتمال الناشئ عن إخبار مخبر كاف في قيامه والتزامه بالشكر ، أنّ العاقل المجانب للعناد إذا تفطّن بحكم عقله بالحسن فلا يجوّز بإرشاد عقله لنفسه الإقدام على القبيح لئلاّ يتوجّه إليه ذمّ العقلاء ، بل لئلاّ يستحقّ ذمّهم كما هو شيمة المعتدلين في ارتكاب المحاسن واجتناب القبائح ولو مع قطع النظر عن

ص: 488

الشرع ووروده ، بل ومع إنكار الشرائع ، وليس هذا إلاّ من جهة تحريك العقل وإرشاده بعد إدراكه الحسن والقبح من غير حاجة إلى إيجاب من موجب.

ويمكن تقرير الدليل المذكور على وجه يكون نتيجته وجوب النظر في معرفة اللّه تعالى ، بأن يقال : إنّهما لو لم يكونا بالعقل لما وجب النظر في معرفة اللّه تعالى وإلاّ لزم الدور ، لأنّ وجوب النظر المفروض استفادته من إيجابه تعالى موقوف على معرفة اللّه ، وأنّه هل يجب اتباعه أم لا؟ ومعرفته كذلك موقوفة على وجوب النظر في معرفة اللّه المفروضة.

وأمّا عندنا فوجوبه عقليّ مستفاد إمّا من قاعدة وجوب شكر المنعم وقد تقدّم تقريرها ، لكن لا بدّ من انضمام مقدّمة اخرى إلى البيان المتقدّم وهو أنّ معرفة المنعم إنّما تتمّ بالنظر ، لأنّ التقليد غايته إفادة الظنّ وهو لا يزيل الخوف ، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب ، لأنّه لو لا انضمامه لم يفد البيان المتقدّم كيفيّة تحصيل المعرفة ولا تعيّن كونها بالنظر.

أو قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل وإزالة الخوف عن النفس ، وقد عرفت بيانها أيضا في تتميم الاستدلال بالوجه الأوّل.

ونزيد هاهنا أنّ العاقل المتفطّن قبل دخوله في الإسلام أو غيره إذا سمع المسلمين يقولون : إنّ للعالم صانعا ، وقد خلق جنّة وجحيما ، وأرسل نبيّا بشريعة ونصب له وصيّا لحفظ شريعته ، وأراد من العباد معرفته ومعرفة نبيّه ووصيّ نبيّه والتصديق بشريعته والتديّن بجميع ذلك بعد المعرفة ، وفرض عليهم طاعته وطاعة نبيّه ووصيّ نبيّه ، ووعد لمن عرف جميع ذلك وتديّن وأطاع الدخول في الجنّة والخلود في نعيمها ، وأوعد لمن جهل شيئا من ذلك أو جحده عنادا بالدخول في الجحيم والخلود في عذابها ، فهو لا محالة يحسّ في نفسه الخوف بترك المعرفة ، فيجب إزالته عقلا بتحصيل المعرفة ، ولا تتمّ إلاّ بالنظر المفيد للعلم.

ولو أردنا تقرير هذا الدليل لنفي كفاية الظنّ ولا التقليد في معرفة اللّه أضفنا إليه أنّ الخوف لا يزول بالتعويل على الأمارات الظنّية الّتي ليس من شأنها دوام الإصابة للواقع ، ولا الركون إلى التقليد الّذي لو خلّي وطبعه ليس بدائم الإفادة للمعرفة ولا بدائم الإصابة للواقع ، ولو من جهة اشتباه المحقّ بالمبطل وعدم التمكّن من تميز أهل الحقّ من أهل الباطل إلاّ بالنظر.

هذا ولكنّ التقرير المذكور للدليل أيضا يندفع بمنع التوقّف في المقدّمة الاولى ، فإنّ المتوقّف على معرفة اللّه هو العلم بوجوب النظر لا نفس وجوب النظر ، بحيث يلزم من انتفائها عدم وجوب النظر في الواقع ، ثمّ بمنع التوقّف في المقدّمة الثانية لعدم توقّف معرفة

ص: 489

اللّه على وجوب النظر بل إنّما يتوقّف على أصل النظر وجب أو لم يجب ، فالإنصاف أنّه لا يمكن إلزام الأشاعرة على بطلان مذهبهم بهذا الدليل بشيء من تقريريه.

وثالثها : أنّهما لو لم يكونا بالعقل لجاز منه تعالى إظهار المعجزة بيد الكاذب إضلالا للعباد فينسدّ باب إثبات النبوّات ، ولجاز منه الكذب في وعده ووعيده فيرتفع الوثوق بهما فينتفي فائدة التكليف.

وبيان الملازمة : واضح ، لبناء مذهب الخصم على أنّه لا يقبح عليه تعالى شيء عقلا ، وبطلان اللازم أوضح ، بخلاف ما عليه العدليّة لقبح الإضلال والكذب عليه تعالى عقلا ، فيمتنع صدوره منه لعلمه وحكمته وغنائه.

وتوهّم أنّه يكفي في الامتناع قبحه في الشرع واضح الفساد ، لأنّ القبح الشرعي إنّما يثبت باعتبار كونه منهيّا عنه ومن المستحيل توجّه ذلك النهي إليه تعالى ، مع أنّ هذا القبح يثبت بالشرع والكلام إنّما هو في إثبات الشرع الّذي منه هذا القبح فيستحيل توقّفه عليه لرجوعه إلى توقّف الشيء على نفسه.

وأمّا ما عن بعض قاصريهم في دفع الاستدلال من أنّ صدقه تعالى في وعده ووعيده وصدق أنبيائه في دعوى النبوّة إنّما يحرز بجريان عادته تعالى بعدم الكذب وعدم إظهار المعجزة بيد الكاذب.

فيدفعه : أنّ جريان عادته تعالى بذلك إن اريد به إمكانه فلا ينفع لأنّه لا يوجب الوقوع ، وإن اريد به الوقوع فلا محرز له في نظر المكلّف لقيام احتمال إظهاره المعجزة بيد الكاذب عنده في جميع الأنبياء ، وقيام احتمال الكذب في وعده ووعيده الواردين في جميع الشرائع ، مع أنّه لا داعي له إلى هذه العادة بعد الالتزام بأنّه لا يقبح عليه شيء.

وتوهّم أنّ الداعي عدم خروج فعله تعالى في بعث الأنبياء وجعل التكاليف بلا فائدة.

يدفعه أنّه لا ضير في ذلك عندهم لتجويزهم عليه تعالى أن يفعل لا لغرض ولا داع ، مع أنّ العادة لكونها ناشئة عن التكرّر والغلبة أمارة ظنّية وغايتها الظنّ وهو لا يدفع احتمال الكذب في المقامين ، فالمحذور على حاله سيّما مع ملاحظة جواز التخلف في العادات ، مع أنّ العادة إنّما تنشأ عن التكرار وهو مسبوق على المرّة فيستحيل إحراز العادة بالقياس إلى المرّة الاولى والثانية فلا نافي للاحتمال فيهما ، ويلزم منه عدم التمكّن من إحرازها بالقياس إلى الثالثة وهكذا إلى آخر النبوّات.

ص: 490

ومن الفضلاء من أورد في المقام سؤالا وهو كون إشكال ارتفاع الوثوق بإخباره تعالى بالمعاد وبسائر مواعيده مشترك الورود بين القول بنفي التحسين والتقبيح وبين القول بثبوتهما بالوجوه والاعتبارات ، إذ على هذا القول يجوز عند العقل أن يتحقّق في الكذب مصلحة مرجّحة لوقوعه رافعة لقبحه ، فإذا تطرّق هذا الاحتمال إلى تلك الإخبار عاد الإشكال.

قال : « وربّما أمكن تأييده بما ثبت عند أصحابنا الإماميّة من جواز التقيّة على الإمام ، فإنّها لا تختصّ عندهم بالأفعال بل يجري في الأقوال أيضا ، فإذا جاز أن يقول الإمام عبارة كاشفة عن الواقع على خلاف ما هو عليه مراعاة لمصلحة التقيّة جاز مثله في حقّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم بل وفي حقّه تعالى أيضا ، فكيف يحصل الوثوق بتلك الأخبار.

ومن هنا ذهب بعض الزنادقة من المنتسبين إلى الإسلام إلى أنّ الأخبار الواردة في الشريعة ممّا يتعلّق بتعذيب الكفّار والفسّاق بأسرها أخبار صوريّة غير مطابقة للواقع ، قصد بها مجرّد التخويف لحفظ النظام وتكميل الأنام » (1).

ويدفعه : أنّ قضيّة قاعدة التحسين والتقبيح العقليّين قبح الكذب على اللّه تعالى مطلقا حتّى على القول المذكور ، لامتناع تحقّق الجهة المحسّنة له في حقّه تعالى وهو الاضطرار إليه لحفظ نفس محترمة أو دفع ضرر يخاف طروّه ولا يتسامح فيه عند العقلاء ، وضابطه انحصار الطريق في الإتيان بكلام غير مطابق يترتّب عليه ما قصد من حفظ نفس أو دفع ضرر ، ومنه التقيّة في القول الواجبة على الإمام عليه السلام من الوقاية بمعنى الحفظ ، فإنّه إنّما كان يراعيها عند الاضطرار إلى الإتيان بعبارة غير مطابقة - ولو بطريق التورية - لحفظ نفسه الشريفة أو دفع شرّ الأعداء عنه أو عن شيعته في العاجل أو الآجل ، وهذه هي الحكمة الباعثة على التقيّة في أفعالهم أيضا حتّى أنّها قد تبلغ بهم إلى اختيار الغيبة على الظهور - مع توقّف الحكمة الباعثة على نصبه وهو التصرّف والتدبير في الامور الدينيّة على ظهوره - إذا لم يكن مندوحة في حفظ نفسه الشريفة عنها ، كما اتّفق ذلك لإمام عصرنا عجّل اللّه فرجه ، حيث إنّه لما انتهت نوبة الإمامة إليه عليه السلام ولم يكن له بدل يقوم مقامه فيما وجوده لطف فيه على تقدير إصابة الأعداء إيّاه بقتل أو إهلاك - كما كان لآبائه السالفين عليهم السلام - تعيّن عليه التوقّي عن ضررهم بما لم يتعيّن على آبائه عليهم السلام وهو الغيبة.

ووجه امتناع الاضطرار إلى الكذب في حقّه تعالى رجوعه إلى العجز عمّا يترتّب عليه

ص: 491


1- الفصول : 319.

بدونه ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا ، فبقى من الكذب المحتمل في حقّه تعالى ما روعي فيه مصلحة لم ينحصر طريقها فيه وتأثير نحو هذه المصلحة في حسنه غير واضح ، بل خروج ما لم يبلغ حدّ الاضطرار بالقياس إلى المكلّفين عن حدّ القبح العقلي موضع منع ، وإن قصد به استجلاب المنافع أو استدفاع المضارّ المتسامح فيها عند العقلاء ، ولذا ترى أنّ من يرتكب الأقاويل الكاذبة لمجرّد استجلاب المنافع لنفسه أو لغيره كان ساقط المحلّ عند العقلاء مذموما لديهم ، ولا يعذّره كونه طريقا إلى استجلاب تلك المنافع ، وليس هذا إلاّ لعدم تأثير ما عدا الاضطرار في حسن الكذب من أيّ قائل كان.

ولهذا كلّه ظهر فساد مقالة بعض الزنادقة ، فإنّ تجويز ما ذكر في الأخبار المشار إليها دائر بين تجويز العجز في حقّه تعالى أو ارتكاب القبيح ، لعدم خلوّ الفرض عن الاضطرار فيلزم الأوّل أو عدمه فيلزم الثاني ، وهذا هو الوجه في امتناع وقوع الكذب من الأنبياء لقبحه ما لم يحصل الاضطرار إليه.

نعم ربّما أمكن فرض تحقّق الاضطرار في حقّهم لكنّه لا يؤثّر في حسنه ورفع قبحه ، لمنافاته الحكمة الباعثة على بعثهم وهو إظهار الحقّ وإمحاق الباطل وإتمام الحجّة وقطع المعاذير على من آمن برسالته ومن كفر بها ، وهذه مصلحة عظيمة لا يعارضها مصلحة حفظ النفس والاحتراز عن الضرر وإن كان معلوما ، ولذا كان يجب عليهم الدعوة إلى الحقّ مع الأمن من شرّ أهل الباطل ومع عدمه ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ) (1) بل ربّما كانوا مأمورين على الجهاد والقتال وإن تضمّن إصابة ضرر عليهم من جرح أو قتل ، ومن هنا ظهر أنّه لا معنى للتقيّة في حقّهم فعلا ولا قولا كذبا ولا تورية.

والفرق بين النبيّ والإمام أنّ الأوّل على ما عرفت مبعوث لإظهار الحقّ وإتمام الحجّة ، ولا يتمّ ذلك إلاّ ببيان الواقع في جميع الوقائع المتعلّقة بالامور الدينيّة من المعارف اليقينيّة والأحكام الفرعيّة ، والإمام بعده منصوب لحفظ الشريعة وإزاحة العلّة والجهل عن الأنام ببيان ما يحتاجون إليه من المعارف والأحكام بعد ما تمّت الحجّة ولزمت البيّنة ببيان الرسول حتّى بالنسبة إلى وجوب معرفة الإمام واتّباعه ، كما نصّ عليه قوله عزّ من قائل : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) (2) وكما أنّ وجود كلّ من النبيّ والإمام من الألطاف الواجبة عليه تعالى فكذلك تصرّف كلّ منهما وتدبيره في

ص: 492


1- الأنفال : 42.
2- المائدة : 3.

الامور الدينيّة لطف واجب عليه ، ولكنّه بالقياس إلى الثاني مشروط بمساعدة مصلحة التقيّة لعدم منافاة الاشتراط للحكمة الباعثة على نصبه ، وبالقياس إلى الأوّل مطلق بالنسبة إلى هذا الشرط لمنافاة الاشتراط للحكمة الباعثة على بعثه.

وبالجملة التعليق في إيجاب التصرّف والتدبير في الامور الدينيّة بالقياس إلى مصلحة التقيّة يخلّ باللطف الواجب على النبيّ ولا يخلّ باللطف الواجب على الإمام ، لأنّ مصلحة الدعوة وإتمام الحجّة وإظهار الحقّ أقوى من مصلحة التقيّة ، كما أنّ مصلحة التقيّة بعد ما ظهر الحقّ وتمّت الحجّة أقوى من مصلحة إزاحة العلّة وإزالة الجهل ، لأنّ عدمهما لا يستند إلى الإمام بل إلى الرعيّة لامتناعهم عن الرجوع إليه أو منعهم إيّاه عن القيام بمنصبه.

وجوه احتجاج الأشاعرة على نفيهما

احتجّت الأشاعرة بوجوه واهية نقتصر منها على وجهين ذكرهما العلاّمة في التهذيب (1) :

أحدهما : أنّ أفعال العباد اضطراريّة فينتفي اتّصافها بالحسن والقبح عقلا اتّفاقا ، أمّا عندنا فواضح ، وأمّا عند الخصم فلأنّهما عنده من صفات الأفعال الاختياريّة لا غير.

وثانيهما : قوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (2).

وجه الاستدلال : أنّ الحسن والقبح لو كانا بالعقل لزم حصول التعذيب قبل بعث الرسول ، والتالي باطل فالمقدّم مثله.

بيان الملازمة : أنّ التعذيب لازم للوجوب على تقدير تركه وللحرام على تقدير فعله ، فإذا كان الوجوب والحرمة بالعقل لم يتوقّفا على بعث الرسول فيتحقّق التعذيب قبله ، وأمّا بطلان التالي فلقوله عزّ من قائل : ( وَما كُنَّا ... ) إلخ (3) ، فإنّه نفى التعذيب من دون بعثة الرسول.

وفيه : أنّ أقصى ما في الآية نفي فعليّة التعذيب وهو لا ينافي استحقاق العذاب ، لإمكان العفو وهو اللازم للوجوب والحرمة لا غير ، ودعوى امتناع العفو عندهم عن الإخلال بالواجبات العقليّة بإطلاقها حتّى قبل البعثة بل مطلقا ممنوعة ، كيف ولم يظهر إلى الآن قائل بذلك ، ولذا قيل : « إنّه افتراء لو اريد نسبته إلينا » وعلى تقدير وجود قائل به فهو ممّن لا يعتدّ به ولا يوجب قوله إطباقهم عليه.

ولو سلّم الاستلزام فليس في الآية عموم ولا إطلاق بحيث يشمل المقام ، بل غاية مفادها نفي استحقاق العذاب على طريقة القضيّة المهملة.

ص: 493


1- تهذيب الوصول إلى علم الاصول : 53.
2- الإسراء : 15.
3- الإسراء : 15.

ولو سلّم الظهور فلعدم صلاحيتها لمقاومة العقل المستقلّ لا بدّ من تأويلها بتخصيص أو تعميم ، فقد يحمل على ما لا يستقلّ به العقل ، وقد يجعل الرسول أعمّ من الظاهر والباطن.

ومع الغضّ عن جميع ذلك فهو لا يدفع مقالة من يعترف بالحكم العقلي وينكر الملازمة بينه وبين الحكم الشرعي ، كما عليه بعض أصحابنا تبعا للزركشي.

إلاّ أن يقال : إنّ مبنى الاستدلال على ما أطبق عليه الفريقان من ثبوت الملازمة على تقدير ثبوت الملزوم ، والخلاف إنّما هو في إثبات الملزوم ونفيه ، وإذا جاز للخصم الاكتفاء في إثبات الملازمة بإثبات الملزوم اعتمادا على الاتّفاق المذكور جاز لنا الاكتفاء في نفي الملزوم بنفي اللازم تعويلا على الاتّفاق المذكور ، الّذي مرجعه إلى الإجماع المركّب ، فيلزم أن يكون القول بإثبات الملزوم ونفي الملازمة خرقا لهذا الإجماع فلا يلتفت إليه.

وكيف كان فينبغي التكلّم في الدليل الأوّل.

فنقول : إنّ لهم في إثبات صغرى هذا الدليل - على ما عزى إليهم - طريقين :

أحدهما : أنّه تعالى علم بأفعال العباد قبل وقوعها ، فيمتنع وقوع خلاف ما علم منهم ، وإلاّ لا نقلب علمه جهلا وهو محال.

وعن الفخر الرازي في أربعينه تحرير ذلك بما محصّله : « أنّه كما أنّ بين وقوع كلّ من الفعل والترك من الفاعل في وقت واحد ووقوع الآخر منه منافاة ذاتيّة لامتناع الجمع بينهما ، كذلك بين العلم بأحدهما ووقوع الآخر منافاة ذاتيّة ، إذ المطابقة للواقع معتبرة في ذات العلم ، فإذا فرض علمه تعالى بأحدهما تحقّق المنافي الذاتي لوقوع الآخر فيمتنع القدرة عليه ، إذ لا يتمّ القدرة على الشيء مع تحقّق المنافي الّذي لا سبيل إلى رفعه » (1).

وفيه : أنّ علمه تعالى - كما حقّق في محلّه - ليس علّة للمعلوم ، بل هو في أصل تعلّقه وكيفيّته تابع له ، فإن كان ما سيقع من الفاعل في وقته باختياره هو الفعل تعلّق به العلم كذلك ، وحينئذ فإذا جاء الوقت واختار الفاعل الفعل على حسب ما تعلّق به العلم كان الواقع في الخارج هو الفعل الاختياري الّذي كونه سيختاره الفاعل أوجب تعلّق العلم به لا غير ، وبعد وقوعه بالاختيار امتنع وقوع الترك معه ، لا لخروجه عن الاختيار بالذات ، بل لعدم تعلّق قدرة المختار به باعتبار الوصف وهو اجتماعه مع ما ينافيه ، فإنّ كلاّ من الفعل والترك قبل اختيار أحدهما اختياريّ على معنى كون الفاعل القادر على كلّ منهما بالذات

ص: 494


1- حكاه عنه في الفصول : 322.

بحيث إن شاء اختار الفعل وإن شاء اختار الترك ، وإذا اختار أحدهما لم يخرج الآخر عن كونه اختياريّا بالذات ، بل يمتنع وقوعه لعدم كون وصف الاجتماع بينهما مقدورا ، وإذا كان علمه تعالى تابعا لاختياره لم يعقل كونه مؤثّرا في عدم اختياريّته.

وبالتأمّل فيما قرّرناه يظهر أنّ دعوى المنافاة الذاتيّة بين العلم بأحدهما ووقوع الآخر وهم ، إذ لا منافاة بالذات إلاّ بين وقوع المعلوم ووقوع الآخر.

نعم لمّا كان العلم باعتبار ما أخذ فيه من المطابقة للواقع تعلّق بما سيقع في الخارج بالاختيار صحّ إسناد المنافاة إليه ، ووقوع الآخر على سبيل العرض والمجاز من باب وصف الشيء بحال متعلّقه ، وبذلك علم أنّ امتناع القدرة على الآخر ليس لمنافاة العلم إيّاه بالذات بل لفرض وقوع متعلّق العلم الّذي هو المنافي له بالذات ، كما علم أيضا أنّ انقلاب علمه تعالى جهلا على تقدير وقوع خلاف المعلوم ليس من آثار اختياريّته بل من آثار فعليّة وقوعه ، فاستحالته إنّما تنفي فعليّة وقوعه لا اختياريّته ، لا بمعنى كون العلم مانعا من وقوع خلاف المعلوم ومقتضيا لعدمه ، فإنّ معنى العلم بالشيء انكشاف الواقع للعالم لا التأثير في وقوعه أو عدم وقوع خلافه بل باعتبار استحالة تعلّقه بغير الواقع.

قال بعض الفضلاء : « إنّ المستحيل هناك أمران :

الأوّل : وقوع غير ما يقع من الفاعل المختار ، ومرجع هذه الاستحالة إلى وجوب الصدور منه من جهة تحقّق علّته التامّة الّتي من جملتها الاختيار والقدرة ، وهذا هو الوجوب بالاختيار الّذي لا ينافي الاختيار بل يحقّقه.

الثاني : تخلّف علم العالم عمّا علمه ، ومرجع هذه الاستحالة إلى استحالة علمه تعالى بغير الواقع لا إلى سببيّته للواقع واستدعائه له » (1).

وأمّا ما توهّم من أنّ القدرة على خلاف ما علمه تعالى قدرة على قلب علمه تعالى جهلا وهو محال.

فيدفعه ما ذكره الفاضل المذكور من : « أنّا نلتزم بأنّ لا قدرة على قلب علمه تعالى جهلا ، لكن نمنع منافاة ذلك القدرة على خلاف المعلوم.

وتوضيحه : أنّه تعالى لمّا كان عالما بالأشياء على ما هي عليه في الواقع فلا بدّ أن يكون علمه بالفعل الاختياري على وجهه ، من وقوعه من الفاعل على وجه الاختيار ،

ص: 495


1- الفصول : 327.

وحينئذ فيرجع الحاصل إلى أنّه تعالى عالم بأنّ الفاعل المختار يفعل كذا حال قدرته على خلاف ما يفعله ، فإنّ ذلك معنى اختياريّة الفعل له ، فقدرة الفاعل على خلاف ما علمه منه تعالى ليس قدرة على قلب علمه تعالى جهلا ، كيف وقد علم بوقوعه منه في هذه الحالة ، فقدرته عليه محقّقة لعلمه تعالى بفعله على وجهه ، وإنّما يلزم القلب إذا فعل خلاف ما علمه تعالى لكنّه محال ، فاتّضح أنّ استحالة قلب علمه تعالى جهلا راجعة إلى استحالة علمه تعالى بخلاف ما يقع منك لا إلى استحالة قدرتك على خلاف ما علمه ، فأنت قادر في نفسك على خلاف ما علمه لكنّه محال في حقّه أن يعلم خلاف ما تفعله » (1) إلى آخر ما ذكره وله لتحقيق المقام بيانات وافية وإفادات شافية ومن يطلبها فليراجع كتابه.

وثانيهما : أنّ أفعال العباد لو كانت اختياريّة فصدورها إمّا أن يكون بمرجّح أو لا وكلاهما باطل.

أمّا الثاني : فللزوم الترجيح بلا مرجّح.

وأمّا الأوّل : فلأنّ المرجّح إمّا من قبله تعالى فيجب فلا يقدر على تركها ، أو من قبل العباد فننقل الكلام إليه ، فنقول صدوره إمّا بمرجّح أو لا ، فثبت كونها اضطراريّة.

وعن جماعة تقريره : بأنّ فعل العبد لو كان اختياريّا لاحتاج إلى مرجّح ، وننقل الكلام إلى ذلك المرجّح ، فإن كان اختياريّا تسلسل وإلاّ فالاضطرار.

وعن العضدي تقريره : بأنّ فعله إن كان لازم الصدور بحيث لا يمكنه الترك فذلك الاضطرار ، وإن جاز وجوده وعدمه فإن افتقر إلى مرجّح قلنا هو مع مرجّحه إمّا لازم الصدور أو جائزه ، فإن كان لازما فالاضطرار ، وإلاّ فلا بدّ له من مرجّح وتسلسل ، وإن لم يفتقر إلى مرجّح بل كان بحيث يصدر عنه تارة ولا يصدر عنه اخرى مع تساوي الحالين من غير تجدّد أمر من الفاعل فهو اتّفاقي لا اختياري.

وعن بعض المتأخّرين تقريره : بأنّه إن وجب صدور الفعل فلا اختيار ، وإلاّ فلا صدور لمّا تقرّر من أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد.

وقد يقرّر أيضا : بأنّ جميع ما يتوقّف عليه الفعل إذا تحقّق فإمّا أن يلزم الفعل أو لا ، وعلى الأوّل يلزم الاضطرار ، وعلى الثاني يلزم جواز تخلّف المعلول عن علّته العامّة ، بل يلزم مع الصدور الترجيح لا لمرجّح ، إذ المفروض أنّه لم يزد على عدم الصدور.

ص: 496


1- الفصول : 327 - 328.

وقد يقرّر أيضا : بأنّ الفعل الاختياري ما لا يقع إلاّ بإرادة ، فإن كانت من فعله أيضا تسلسل ، وإن كانت من فعل الغير جاء الاضطرار.

وعن بعضهم التعلّق في دفع الشبهة بالتزام الترجيح بلا مرجّح.

وقد نصّ في المنية (1) بجواز ترجيح القادر لأحد الطرفين الفعل والترك على الآخر لا لمرجّح كالهارب من السبع إذا صادف طريقين متساويين.

وعن آخرين بأنّه لا ضرر في العجز عن حلّ الشبهة بعد ثبوت الحقّ بالبيّنة ، وهذا ممّا لا كرامة فيه إذ لا داعي إلى الاعتراف بالعجز بعد سهولة دفع الشبهة. وأضعف منه الالتزام بجواز الترجيح من غير مرجّح ، لأنّه يخالف صريح الوجدان والاستشهاد بالمثال المذكور ونحوه واضح الدفع ، لمنع بنائه على الترجيح من غير مرجّح.

وتوضيح المقام : أنّ « الترجيح » في هذا العنوان وفي عنوان « ترجيح المرجوح على الراجح » عبارة عن اختيار أحد طرفي الممكن من الفعل والترك ، و « المرجّح » عبارة عمّا يوجب رجحانه في نظر الفاعل المختار ، وهو قد يكون عقلائيّا إذا كان ممّا يعتبره العقلاء مناطا للترجيح ، وقد يكون فاعليّا وهو ما اعتبره الفاعل المختار مناطا له وإن لم يصلح له في نظر العقلاء بحيث يتوجّه إليه من الترجيح بسببه ذمّ العقلاء.

فضابط الفرق بين النوعين كون المرجّح بحيث يرفع ذمّ العقلاء وعدمه ، والمراد من « عدم المرجّح » في عنوان « الترجيح بلا مرجّح » انتفاء المرجّح رأسا حتّى ما يكون فاعليّا ، والمراد من « ترجيح المرجوح على الراجح » اختيار أحد طرفي الممكن لمرجّح غير عقلائي ، ومحصّله ترجيح المرجوح العقلائي على الراجح العقلائي لمرجّح غير عقلائي أوجب فيه رجحانا فاعليّا ، ومن آثاره قضاؤه باستحقاق الفاعل ذمّ العقلاء.

وبهذا علم السرّ في الفرق بين العنوانين ، حيث حكم على الأوّل بالاستحالة وعلى الثاني بالقبح على معنى كونه بحيث يستحقّ فاعله الذمّ.

وبذلك ظهر أنّ اللازم من مذهب الأشاعرة في إنكارهم التحسين والتقبيح العقليّين تجويز ترجيح المرجوح على الراجح ، كما أنّهم يجوّزون على اللّه تعالى تفضيل المفضول على الفاضل ، بخلاف الترجيح من غير مرجّح لعدم كون استحالته من جهة قبح عقلي ، وظاهر أنّ استحالة هذا العنوان ليست لمدخليّة المرجّح في تحقّق ما يختاره الفاعل

ص: 497


1- منية اللبيب : 19.

المختار من أحد طرفي الممكن من غير واسطة بل لمدخليّته في تحقّق ما هو من مقدّمات تحقّقه وهو « الإرادة » بمعنى الجزم بالإيقاع ، الّذي هو المقدّمة الأخيرة من مقدّمات الفعل الاختياري عقلا ، لاستلزام انتفائه انتفاء هذه المقدّمة.

ومن البيّن استحالة وجود الشيء مع انتفاء مقدّمة وجوده ، والسرّ في مقدّميته أنّ انتفاء الجزم مع الالتفات إلى طرفي الفعل والترك يلازم التردّد بينهما ، ومن المستحيل اختيار أحدهما ما دام متردّدا ، فلا بدّ في الترجيح من دفع التردّد بمراعاة مرجّح عقلائي أو فاعلي أوجب رجحان أحد الطرفين المستتبع للجزم بإيقاعه.

فظهر أنّ مراعاة المرجّح في الترجيح إنّما تجب على الفاعل المختار حال التردّد ، ورفعه عبارة عن الجزم بإيقاع أحد الطرفين المردّد فيهما ، وهذا التردّد قد يحصل في شيء بعينه بين فعله وتركه فلابدّ فيه من مرجّح أوجب رجحان أحدهما المستتبع للجزم بإيقاعه وقد يحصل في أشياء بين فعل أحدها وترك الجميع ، فلا بدّ فيه من مرجّح أوجب رجحان أحدهما على وجه يستتبع الجزم بايقاعه ، ولو فرض وجوده في جانب فعل أحدها كفى ذلك في اختيار بعض معيّن منها وخروجه عن عنوان الترجيح من غير مرجّح ، إذ التعيين ليس من الترجيح حال التردّد ويكفي فيه الرجحان المشترك على البدل ، ضرورة أنّه في مقابلة ترك الجميع ترجيح مع المرجّح ، وأمّا هو في مقابلة اختيار المعادل فلا تردّد بينهما ليستدعي مراعاة مرجّح آخر ، وبذلك ظهر خروج المثال المذكور ونظائره عن عنوان الترجيح من غير مرجّح.

نعم لو فرض بعد حصول مرجّح القدر المشترك عروض تردّد له في مصاديقه فلا بدّ حينئذ من مرجّح آخر يرفع هذا التردّد وأوجب رجحان المصداق المعيّن ، ولا يكفي في ترجيحه على معادله وجود مرجّح القدر المشترك ، وبدونه يستحيل الترجيح أيضا ، فملاك الترجيح بلا مرجّح المحكوم عليه بكونه مستحيلا عند العقل هو ترجيح أحد الطرفين المردّد فيهما حال التردّد ، ولا فرق في استحالته عند العقل بين كون التردّد حاصلا بين فعل شيء بعينه وتركه ، أو بين فعل أحد أشياء وترك الجميع ، أو بين أحد هذه الأشياء بعينه ومعادله ، والتردّد مانع في الجميع ورفعه الّذي هو عبارة عن الجزم بإيقاع أحد الطرفين بعينه معتبر في اختيار أحدهما في الجميع ، فليتدبّر.

وبالجملة « المرجّح » في هذا العنوان مأخوذ عن الرجحان وهو أن يكون لأحد طرفي

ص: 498

الوجود والعدم مزيّة على الآخر ، وإنّما يكون كذلك إذا اشتمل على نفع أو غرض عقلائي أو فاعلي. و « الترجيح » عبارة عن اختيار الفاعل أحدهما. ومعنى كونه بلا مرجّح خلوّه عن المزيّة باعتبار عدم اشتماله على نفع وغرض عقلائي ولا فاعلي ، ولا إشكال في استحالته حتّى عند الأشاعرة ، ولا ينافيه ما اختلفت فيه الأشاعرة والمعتزلة في مسألة أنّ الإرادة بمجرّدها تصلح مرجّحة لأحد طرفي الفعل والترك على معنى كونها داعية إلى اختياره وإن لم يكن فيه مزيّة على الآخر ، فاختارت الأشاعرة جوازه ، إذا الإرادة يراد بها القصد إلى أحد الطرفين على معنى الجزم بإيقاعه ، فلو فرض حصولها من غير مزيّة فلا ينبغي التأمّل في كفايتها في الاختيار ، وإنّما الكلام في صحّة الفرض وهو موضع منع ، وهذا هو معنى ما ذكرناه من أنّ وجود المرجّح إنّما يعتبر في الترجيح لمدخليّته في تحقّق مقدّمة وجود الفعل الاختياري.

فالوجه أن يدفع الشبهة تارة بالنقض واخرى بالحلّ.

أمّا الأوّل : فبالنقض بأفعاله تعالى حرفا بحرف ، مع اتّفاق الملّيين على اختياره تعالى فيها كما هو معنى كونه فاعلا مختارا لا فاعلا موجبا ، فأقصى ما في التعلّق بشبهة الجبر عدم اتّصاف أفعال العباد بالحسن والقبح عند العقل فيلزم خروج هذه القاعدة عن كونها مدركا للأحكام الشرعيّة الفرعيّة ، والغرض الأصلي من تدوين هذا الباب وتمهيد هذه القاعدة إنّما هو تعرّف الأحكام الراجعة إلى أفعاله تعالى فالشبهة المذكورة بعد تمامها لا تستلزم عدم حكم العقل ، بل غاية ما فيها عدم جريانه في هذا النصف من الأفعال.

ومن هنا ربّما يتوجّه إليهم سؤال آخر وهو أنّ التعلّق بشبهة الجبر هاهنا خروج ما عن معقد البحث ، إذ الكلام في أنّ العقل هل يدرك في أفعال العباد حسنا وقبحا أو لا؟

والشبهة المذكورة إنّما تقضي بعدم صلوحها للاتّصاف بهما لا بعدم إدراك العقل لهما فيها على تقدير صلوحها للاتّصاف بهما ، وحينئذ فيجوز دعوى إدراكه لهما على طريقة القضيّة الشرطيّة ، بأن يقال : إنّ أفعال العباد على تقدير كونها اختياريّة فالعقل يدرك حسنها وقبحها ، ولا يقدح في صدق هذه الدعوى كونها اضطراريّة ، لما تقرّر من أنّ كذب الشرط لا يستلزم كذب الشرطيّة ولا ينافي صدقها.

وأمّا الثاني : فالأوجه في طريقه أن يقال : إنّ صدور الأفعال من العباد لابدّ وأن يكون لمرجّح ، ولكن لا يلزم في المرجّح أن يكون من قبله تعالى أو من قبل العباد ، بل قد يكون

ص: 499

شيئا آخر في نفس تلك الأفعال كملائمة طبع أو موافقة غرض أو موافقة مصلحة ، أو حسن ذاتي أو وصفي أو اعتباري ولو باعتبار اشتماله على منفعة ، أو كونه بحيث يدفع به مضرّة.

وتوهّم لزوم الاضطرار حينئذ بناء على الوجه الثاني من وجوه تقرير الشبهة لكون الامور المذكورة للترجيح جهات غير اختياريّة.

يدفعه : أنّ مرجّحات الأفعال والتروك بالقياس إليهما في نظر الفاعل من قبيل الدواعي ، ومن شأن الداعي أن يدعو الفاعل المختار إلى اختيار ما هو راجح في نظره وإن كان مرجوحا بحسب الواقع ، ومن لوازم اختياره أن ينقدح في نفسه الإرادة الحتميّة المتعلّقة بإيقاعه المعبّر عنها بالعزم عليه ، بمعنى الجزم به في وقت له مدخليّة في تحقّق المرجّح ، فإذا أوقعه فيه لزمه وقوعه بوصف الوجوب الّذي لا ينافي الاختيار ، بل لكونه من آثار الاختيار يؤكّده ويحقّقه ، كما أنّه لزمه امتناع الطرف المقابل الّذي هو أيضا لكونه من آثار الاختيار لا ينافي الاختيار بل يؤكّده ويحقّقه ، لقضاء الوجدان الصريح بأنّه حال ظهور رجحان أحد الجانبين أو حال تردّده بينهما كان مختارا فيهما معا ، بل معنى تردّده قبل ظهور الرجحان أو بعده هو التردّد في اختيار هذا أو ذاك ، فهو بحيث في نفسه الاختيار وتردّده يكون في محلّ بروز ذلك الاختيار ، فكلّ من الوجوب والامتناع مسبوقان بذلك الاختيار مترتّبان عليه ناشئان عنه ، وهذا هو معنى ما اشتهر في حلّ الشبهة واعتمد عليه العلاّمتان وغيرهما من أنّ الوجوب بالاختيار كالامتناع بالاختيار - لا ينافي الاختيار بل يؤكّده ، وإنّما يلزم الجبر لو كان الوجوب لا عن قدرة واختيار.

ولا يتوهّم من بياننا هذا كون الإرادة الّتي هي شرط في وقوع الفعل الاختياري اضطراريّة ليتوجّه إلينا شبهة الجبر بالبيان الأخير ، لكون الإرادة أيضا كصدور الفعل اختياريّة ، فإنّ الفاعل المختار إذا راجع وجدانه عند التردّد بين الفعل والترك وتطلّب وجود الداعي إلى أحدهما كما يجد نفسه بصريح وجدانه مختارا في الفعل والترك كذلك يجده مختارا في إرادة الفعل وترك إرادته الّذي مرجعه إلى إرادة الترك ، ووجود الداعي في الحقيقة - على ما بيّنّاه مرارا - شرط لتحقّق الإرادة في نفسه باختياره ، وتحقّقها شرط لصدور الفعل منه باختياره ، فهو حال كلّ من وجود الفعل وتحقّق الإرادة مختار في كلّ من الفعل والترك وإرادة خلاف محلّ هذه الإرادة إلى أن يتشاغل بأحدهما بعد إرادة ذلك بعينه فيجب هذا ويمتنع الآخر ، إلاّ أنّه لا يختار ولا يريد إلاّ ما ساعد عليه الداعي وتعلّق به

ص: 500

الإرادة ، وما قد يتّفق من عدم صدور الفعل مع وجود الداعي فإنّما ينشأ ذلك من ضعف الداعي ، لوضوح أنّ لدواعي الأفعال بحسب القوّة والضعف مراتب كثيرة ، وإنّما يؤثّر في تحقّق الإرادة وصدور الفعل بالاختيار إذا بلغ حدّ القوّة.

وبالجملة فكلّ من الإرادة بالمعنى المتناول لترك الإرادة والفعل المتناول للترك فعل اختياري ، إلاّ أنّ الأوّل من أفعال النفس والثاني من أفعال الجوارح وكلاهما من آثار القدرة والاختيار ، لأنّه في حال التردّد كما كان بحيث إن شاء اختار الفعل وإن شاء اختار الترك كذلك يكون بحيث إن شاء أراد الفعل وعزم عليه وإن شاء أراد الترك وجزم به ، إلاّ أنّه لا يختار ولا يريد إلاّ ما هو راجح في نظره بوجود المرجّح في جانبه والداعي إليه.

وإلى هذا كلّه أشار بعض الفضلاء بقوله : « أنّ علّية الفاعل لصدور الإرادة منه بقدرته واختياره تتمّ عند وجود الداعي المعتبر ، وعلّيته لصدور الفعل منه كذلك تتمّ عند وجود الإرادة » - إلى أن قال - : « إذا عرفت ذلك اتّضح عندك معنى قوله عليه السلام : « لا جبر ولا تفويض ، بل أمر بين الأمرين » (1) فإنّ كون الدواعي الّتي تجري الأفعال الاختياريّة بحسبها موجودة في العبد بإيجاده تعالى على حسب ما فيه من الاستعداد الذاتي أو الكسبي يوجب نفي تفويض أمر الفعل إليه بالكلّية ، وصدور أفعاله منه على حسب تلك الدواعي بقدرته واختياره يوجب نفي إجباره تعالى عليها ، وأيضا كون أفعال العبد مستندة إلى إقداره تعالى له عليها حال صدورها منه يوجب نفي التفويض بمعنى استقلال العبد بها ، وصدورها منه بذلك الإقدار يوجب نفي الجبر لاستناده إلى قدرته المخلوقة فيه » انتهى (2) والأصحّ الوجه الثاني.

وبالتأمّل في جميع ما قرّرناه يندفع الشبهة بسائر وجوه تقريرها ، فإنّ لزوم صدور الفعل ووجوبه من آثار القدرة والاختيار ، كما أنّهما من أجزاء العلّة التامّة لصدوره.

ثبوت الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع

المقام الثاني

في أنّه إذا ثبت الحكم العقلي أعني الحسن والقبح اللذين أدركهما العقل فهل هو دليل على الحكم الشرعي ، على معنى ثبوت الملازمة بينهما بحيث ينحلّ إلى كبرى كلّية ، كما ينحلّ حكم العقل بالحسن والقبح إلى صغرى ضروريّة ، فينتظم قياس بطريق الشكل الأوّل هكذا : « ردّ الوديعة أو الظلم مثلا حسن أو قبيح عقلا ، وكلّ حسن أو قبيح عقلا واجب أو

ص: 501


1- الكافي 1 : 160 ، ح 13.
2- الفصول : 326.

حرام شرعا » أو لا؟ وجهان ، بل قولان ، أوّلهما المعروف بين العامّة والخاصّة المتّفق عليه بين الفريقين الأشاعرة والمعتزلة كما نبّهنا عليه سابقا ، بل المجمع عليه عند أصحابنا الإماميّة خلفا عن سلف إلى أن وصلت النوبة إلى الفاضل التوني (1) فحصل له التشكيك في الملازمة فأنكرها تبعا للزركشي من أواخر الأشاعرة ، وتبعه بعض من تأخّر عنه كالفاضل السيّد صدر الدين في شرحه للوافية وغيره.

ومن مشايخنا من ادّعى عليه إجماع المخالف والمؤالف محصّلا ومنقولا في حدّ الاستفاضة القريبة من التواتر إن لم نقل بكونه متواترا بسيطا ومركّبا ، على معنى أنّ كلّ من قال بحكم العقل قال بالملازمة بينه وبين حكم الشرع ، وكلّ من لم يقل به قال بها أيضا على تقدير حكم العقل.

وممّا يشهد بدخول الأشاعرة في الإجماع على الملازمة احتجاجهم لنفي التحسين والتقبيح العقليّين بآية نفي التعذيب قبل بعث الرسول ، لما عرفت من أنّه لا يتمّ إلاّ على تقدير تسليم الملازمة ، ليرجع الاحتجاج إلى الاستدلال على نفي الملزوم وهو حكم العقل بنفي اللازم وهو حكم الشرع كما هو مفاد الآية على تقدير صحّة دلالتها.

وأمّا تحرير هذا النزاع بحيث يرجع إلى حجّية إدراك العقل ووجوب متابعة القطع العقلي ثمّ إقامة الدليل على الحجّية ووجوب المتابعة كما في الضوابط ويظهر من كلمات بعض الأعلام في غير موضع من تضاعيف هذه المسألة فهو سهو واضح وغفلة ظاهرة ، لما أشرنا إليه سابقا من أنّ النزاع في الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع غير النزاع في حجّية إدراكات العقل وله موضع آخر في مباحث حجّية القطع.

ثمّ إنّ الّذي يظهر من تضاعيف كلماتهم كون الحكم الشرعي الّذي يلازمه الحكم العقلي عبارة عن الوجوب والحرمة وأخواتهما بالمعنى المصطلح ، المعبّر عنه بكون الشيء بحيث يستحقّ فاعله الثواب وتاركه العقاب أو تاركه الثواب وفاعله العقاب وهكذا ، وهذا بالنظر إلى ملزومه المنتسب إلى الشارع لا يخلو عن إجمال لكونه قابلا لأن يكون من آثار مجرّد المحبوبيّة والمبغوضيّة النفسانيّتين ، أو من آثار المجعول الواقعي ، أو من آثار الطلب الفعلي المعبّر عنه بالإيجاب والتحريم.

والفرق بين هذه الاعتبارات بأنّ الأخير مسبوق بالجعل والمحبوبيّة والمبغوضيّة ، كما

ص: 502


1- الوافية : 171.

أنّ الجعل مسبوق بالمحبوبيّة والمبغوضيّة ، فيكون الأخير أخصّ من الأوّلين مطلقا ، والأوسط أعمّ منه وأخصّ من الأوّل مطلقا.

فالقول بأنّ الحكم العقلي يدلّ على الحكم الشرعي لابدّ وأن يرجع إمّا إلى أنّه يكشف عن المحبوبيّة والمبغوضيّة الملزومتين لاستحقاق الثواب والعقاب ، أو إلى أنّه يكشف عن المجعول الواقعي المستلزم لهما ، أو إلى أنّه يكشف عن الطلب الفعلي المستلزم لهما.

ولم نقف في كلامهم على تحرير لهذه المراتب ، ولعلّه لعدم ثمرة يعتدّ بها في الفرق بينها على ما سنقرّره.

ثمّ إنّهم ذكروا في هذا المقام أنّ « كلّما حكم به العقل حكم به الشرع » وظاهر الأكثرين كصريح البعض كون ذلك بيانا للملازمة بين الحكمين ، مرادا به إحراز الكبرى المذكورة ليتمّ بها دليليّة الحكم العقلي على الحكم الشرعي ، نظرا إلى استحالة التوصّل بمجرّد الصغرى المحرزة بحكم العقل ، وهذا بملاحظة أنّ حكم العقل ليس إلاّ مجرّد حكمه بالحسن والقبح بمعنى استحقاق المدح والذمّ يستدعي نوع تصرّف في محمول تلك القضيّة بإضمار أو استخدام ، فيكون التقدير : « أنّ كلّما حكم به العقل من حسن أو قبح فقد حكم الشرع بمقتضاه من إيجاب أو تحريم مثلا » لعدم صحّة عود الضمير إلى الموصول بالمعنى المراد منه ، وإلاّ كان ما حكم به الشرع هو الحسن والقبح ، ولذا فسّر السيّد الفاضل الشارح للوافية تلك القضيّة من باب بيان حاصل المعنى : « بأنّ كلّ فعل له جهة مقتضية لحكم خاصّ عند العقل فقد حكم الشارع عليه بمثل ذلك الحكم » ولو جعلت القضيّة لبيان وجه الملازمة ودليلها - كما هو أحد الاحتمالين - لم يحتجّ إلى إضمار ولا استخدام ، لكون المعنى حينئذ : « أنّ ما حكم العقل به من حسن أو قبح فقد حكم الشرع به أي بذلك الحسن والقبح ».

ومحصّله : أنّ ما حسّنه العقل أو قبّحه فقد حسّنه الشرع وقبّحه ، وذلك لأنّ الحسن والقبح بالمعنى المتنازع فيه - على ما ذكرناه عند تحرير محلّ النزاع في المقام الأوّل ونقلنا عن العضدي - هو حكم العقل بكون الفعل حسنا أو قبيحا في حكمه تعالى ، واللازم من ذلك كون كلّ حسن عند العقل محبوبا وكلّ قبيح عند العقل مبغوضا له تعالى ، واللازم من المحبوبيّة والمبغوضيّة جعل الوجوب والحرمة ثمّ الإيجاب والتحريم الّذي هو الحكم الشرعي الفعلي ، وهذا هو الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، إلاّ أنّه لم نقف من القوم على من التفت إلى هذا الاحتمال مع أنّه أقرب بالاعتبار.

ص: 503

وعلى الاحتمال المشهور الّذي التفت إليه القوم فقد يذكر للحكم في جانب موضوع القضيّة احتمالان كون المراد من حكم العقل ما يكون فعليّا أو ما يكون شأنيّا ، فمعنى ما حكم به العقل إمّا ما حكم به فعلا أو ما حكم به شأنا ، وللحكم في جانب محمولها احتمالات ثلاث :

أحدها : حكم الشرع بمثل حكم العقل ، على معنى حكمه بما يكون مطابقا لحكم العقل وإن تغاير بكون الأوّل إرشاديّا والثاني مولويّا ، واللازم من هذا الاحتمال تعدّد كلّ من الحاكم والحكم.

وثانيها : أنّ ما حكم به العقل من وجوب أو حرمة فقد أمضاه الشرع وأجازه ، بأن يراد من حكم الشرع إمضاؤه بحكم العقل وتصديقه إيّاه فيه ، واللازم من ذلك تعدّد الحاكم دون الحكم.

وثالثها : أنّ حكم العقل بعينه هو حكم الشرع ، على معنى أنّه حكم الشرع بيّنه تعالى بلسان العقل ، ولازمه وحدة كلّ من الحاكم والحكم.

فالوجوه المحتملة في المقام ستّة ، وهذا بعد ما عرفت من أنّ حكم العقل في مسألة التحسين والتقبيح ليس إلاّ حكمه بالحسن والقبح ليس بسديد ، والقضيّة لا تتحمّل شيئا من الوجوه المذكورة.

نعم كان لها وجه لو كان ما حكم به العقل هو الوجوب والحرمة وغيرهما من الأحكام ، غير أنّه على ما عرفت خلاف الفرض ، لوضوح أنّ الكلام في الملازمة إنّما هو بعد الفراغ عن النزاع مع الأشاعرة الواقع في حكم العقل بالحسن والقبح بالمعنى المتضمّن لاستحقاق المدح والذمّ لا غير.

ثمّ إنّه قد سبق إلى بعض الأوهام جريان النزاع في الملازمة في الاستلزامات العقليّة الّتي يحكم فيها العقل بملاحظة خطاب الشرع كوجوب مقدّمة الواجب وحرمة ضدّ المأمور به وغيرهما أيضا ، وهذا في النظر الدقيق على خلاف التحقيق إذ المبحوث عنه في باب الاستلزامات ليس إلاّ ملازمة شيء لحكم شرعي ، كالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّماته ، وبينه وبين حرمة ضدّه ، أو الملازمة بين مقدّمية الشيء للواجب ووجوبه ، وبين ضدّية شيء للمأمور به وحرمته ، فإذا حكم العقل بتلك الملازمة - ولو من باب دلالة الإشارة - فلم يعقل ملازمة اخرى يكون أحد طرفيها الحكم الشرعي لينازع فيها ، وأيضا فإنّ المقصود بالبحث عن الملازمة هاهنا إثباتها ليثمر في التوصّل إلى الحكم

ص: 504

الشرعي بالحكم العقلي ، ومرجع حكم العقل في الاستلزامات إلى إدراكه الحكم الشرعي وهو الوجوب أو غيرهما للمقدّمة أو الضدّ أو غيرهما لمقدّمات تترتّب عنده ، فالتوصّل إلى الحكم الشرعي قد حصل بإدراكه له بالفرض ، ومعه لا معنى للبحث عن الملازمة بين ما أدركه وبين الحكم الشرعي ، لأنّ ما أدركه نفس الحكم الشرعي المتوصّل إليه.

نعم لمّا كان ما أدركه هو الوجوب أو الحرمة أو غيرهما على الوجه الكلّي باعتبار كون معروضه « المقدّمة » أو « الضدّ » بعنوانهما الكلّي فهو ليس من الحكم الشرعي بالمعنى المبحوث عنه في الفقه ، وهو مصداق الوجوب والحرمة العارض لمثل طيّ مسافة الحجّ والصلاة في المسجد مكان إزالة النجاسة عنه بواسطة كونه مقدّمة للواجب أو ضدّا للمأمور به المضيّق ، ولكن اجراء حكم الكلّي فيما هو من مصاديقه لا يحتاج إلى ملازمة اخرى ، بل يكفي فيه اندراجه تحت ذلك الكلّي وكونه من مصاديقه.

نعم ربّما أمكن اجراء نزاع الأخباريّة في حجّية إدراكات العقل في الاستلزامات أيضا ، غير أنّه - بعد تسليمه على ما عرفت - نزاع اخر غير النزاع في الملازمة ، فالنزاع في الملازمة مخصوص بمسألة التحسين والتقبيح العقليّين واقع بعد الفراغ عن اثبات حكم العقل بالحسن والقبح.

ثمّ إنّ الملازمة بين الحكمين إمّا أن تكون بديهيّة ثابتة بالبداهة ، أو تكون نظريّة تثبت بواسطة مقدّمات نظريّة.

فإن اريد الأوّل فالحقّ أنّها ثابتة ، ولكن بين حكم العقل وحكم الشرع بمعنى المحبوبيّة والمبغوضيّة اللتين يترتّب عليهما استحقاق الثواب والعقاب ، وذلك لأنّه بعد ما ثبت حكم العقل بكون الفعل حسنا أو قبيحا في حكمه تعالى فيعلم بالبداهة أنّه بحيث يحبّه تعالى أو يبغضه ، كما هو شيمة كلّ عاقل حكيم حيث إنّه يحبّ ما يوجب في فاعله استحقاق المدح ويبغض ما يوجب في فاعله استحقاق الذمّ ، وأمّا ثبوت أزيد من ذلك من الجعل الواقعي أو الطلب الفعلي فيحتاج إلى إعمال مقدّمات نظريّة اخر ، ولعلّه كاف في مقالة الخصم المنكر للملازمة بين الحكم العقلي والحكم الشرعي بمعنى الوجوب والحرمة ، المفسّرين بكون الفعل بحيث يستحقّ فاعله الثواب وتاركه العقاب أو بالعكس ، بل قد يقال : إنّ حقيقة الحكم الشرعي هو المحبوبيّة والمغبوضيّة والإرادة والكراهة لا غير ، وأنّ غيرهما من المجعول الواقعي أو الطلب الفعلي المعبّر عنه ب « الإيجاب » و « التحريم » فإنّما يعتبر

ص: 505

لكونه كاشفا عن الحكم ودليلا عليه وليس بحكم حقيقة وإن أطلق عليه اسم « الحكم » على ما صرّح به بعض المحقّقين.

وإن اريد الثاني فيمكن إثباتها أيضا بين حكم العقل والحكم الشرعي بمعنى المجعول الواقعي بل الطلب الفعلي أيضا بالعقل والنقل معا ، وأمّا إثباتها بينه وبين الجعل الشرعي بالعقل فيكفي فيه كون جعل الأحكام على طبق الجهات الواقعيّة الّتي منها الحسن والقبح المدركين بالعقل لطفا وكون اللطف واجبا على ما تقرّر في الكلام.

وأمّا إثباتها كذلك بالنقل فيكفي فيه ما ظهر من أحاديثنا من أنّه تعالى جعل لكلّ فعل حكما من الخمس المعروفة ، وأنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم بيّن حكم جميع الأفعال فحكم بوجوب كلّ ما فيه جهة مقتضية له وبحرمة ما فيه جهة مقتضية لها وهكذا ، وقد وصل إلينا بعض ذلك وبقي غيره محفوظا ومخزونا عند أهل البيت عليهم السلام ولم يظهروه لمصلحة لا نعلمها بالخصوص.

وأمّا إثباتها بينه وبين الطلب الفعلي المتعلّق بالفعل والترك المعبّر عنه ب « الإيجاب » و « التحريم » بالعقل فيكفي فيه استقلال العقل بقبح الأمر بالقبيح والنهي عن الحسن ، وحسن الأمر بالحسن والنهي عن القبيح.

وأمّا إثباتها كذلك بالنقل فيكفي فيه ما ورد في الكتاب والسنّة من أنّه تعالى لا يأمر بالسوء والفحشاء والمنكر ، وإنّما يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر ، وقال عزّ من قائل : ( وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) (1) ( قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ) (2) فإنّ « الفحشاء » القبائح و « القسط » العدل وقال أيضا : ( قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ ) (3) وقال أيضا : ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ ) (4) إلى غير ذلك ممّا لا يحصى كثرة.

وأمّا المنكرون للملازمة فإنكارهم إمّا أن يرجع إلى تخطئة العقل في إدراكه الحسن والقبح ، على معنى جواز كون ما حسّنه قبيحا وما قبّحه حسنا في الواقع ، وإنّما حكم بالحسن في الأوّل والقبح في الثاني خطأ في إدراكه ومعه يستحيل كونه منشأ للحكم

ص: 506


1- الأعراف : 28.
2- الأعراف : 29.
3- الأعراف : 32.
4- الأعراف : 157.

الشرعي الواقعي ، أو يرجع إلى منع كون الحسن والقبح العقليّين من العلل التامّة للأحكام ، لجواز مصادفة حكمه بهما لفقد شرط أو وجود مانع ، كما يظهر من السيّد الفاضل في شرحه للوافية حيث قال - بعد تفسير القضيّة المشهورة بما تقدّم - : « بقي الكلام في أنّ ما يدركه عقولنا من الجهات هل هي علّة تامّة للأحكام؟ فنقول : لا شكّ أنّ بعض الأفعال يمكن أن يشتمل على جهة مقتضية لحكم لو لا معارضة جهة اخرى مقتضية لحكم مخالف لحكمها لها ، وقد يصير بعض الأزمنة أو الأمكنة أو اختلاف الأشخاص أو اختلاف حالات شخص واحد من أجزاء العلّة التامّة لثبوت الأحكام للأفعال ، فلو فرضنا أنّ عقلا أدرك في فعل فحكم بحسنه لا يجوز لنا أن نحكم بصدق حكمه ، لجواز غفلته عن معارضة جهة اخرى موجب للقبح مع رجحان الثانية على الاولى ، وهكذا حكم غفلته عن خصوصيّة الأزمنة والأمكنة وغيرهما.

نعم لو أحاط عقل بالعلّة التامّة فحكم باعتبارها بالحسن والقبح لقطعنا بحسن حكمه ، لأنّه حكم بوجود المعلول من جهة وجود علّته التامّة ، ولعلّ من الأحكام قلّما يكون كذلك ، إذ أكثرها ممّا لا سبيل للعقل إلى الإحاطة بجهاتها المقتضية لها ، فعلى هذا يمكن أن يكون شيء حسنا عند عقولنا وهو قبيح في الواقع وبالعكس ، وما هذا إلاّ لكون ما نظنّه علّة غير تامّة في الواقع لفقد شرط أو وجود مانع » انتهى.

ويندفع الأوّل : بأنّا نتكلّم على تقدير مطابقة حكم العقل للواقع ، وندّعي الملازمة فيما حكم العقل بحسنه أو قبحه على تقدير كونه كذلك في الواقع ، فالمسألة كبرويّة وما تقدّم على فرض تمامه كلام في الصغرى لا يوجب قدحا في الكبرى ، مع أنّ احتمال الخطأ في حكمه إنّما يجري في النظريّات الّتي ثبوت الحكم فيها منوط بإعمال مقدّمات نظريّة يكثر فيها الخلط والاشتباه ، وحكمه بالحسن والقبح في أكثر موارده منوط بسبب ضروري ، لما عرفت في تقرير الدليل عليه من أنّه بحكم العيان وضرورة الوجدان يدرك في بعض الأفعال كونه بحيث أوجب في فاعله استحقاق مدح العقلاء كالعدل والإحسان والصدق النافع ومجازاة المسيء بالإحسان ، وفي بعضها كونه بحيث أوجب في فاعله استحقاق ذمّ العقلاء كالظلم والعدوان والكذب الضارّ ومجازاة المحسن بالإساءة ، وتجويز الخطأ في نحو ذلك خطأ من مجوّزه ، خصوصا إذا كان مستند الحكم هو الوجدان ، مع أنّا نعلم بالبداهة كونه مصيبا في موارد حكمه كما في الأمثلة المذكورة ونظائرها.

ص: 507

ويندفع الثاني : بأنّ من دأب العقل وديدنه أنّه لا يحكم في قضيّة إلاّ بعد الفراغ عن إحراز موضوعها بجميع خصوصيّاته ومشخّصاته وقيوده وحيثيّاته ، وبعد الإحاطة بجميع جهاته واعتباراته ، بل هذا طريقة كلّ حاكم في قضيّة حكمه من أهل العرف كان أو أهل الشرع ، ومن هنا ما قيل من أنّ مفهوم الصيغة إنّما يرد على مدلول المادّة بعد اعتبار قيودها وحيثيّاتها ، وحينئذ فإذا احتمل العقل في قضيّة مدخليّة خصوص زمان أو مكان أو غيرهما لا يتسارع إلى الحكم عليه بحسن ولا قبح ولا غيرهما إلاّ ويتحرّى إلى أن يتبيّن عنده المدخليّة أو عدم المدخليّة فيحكم بحسبهما ، وإن لم يتبيّن شيء من ذلك عنده فلا يزال متوقّفا في الحكم ، ولعلّ كثيرا ممّا لا حكم للعقل فيه من غير المستقلاّت من هذا القبيل ، فلم يبق في قضايا حكمه ما حكم فيه بحسن أو قبح واحتمل معه فقد شرط لجواز غفلته عن خصوصيّة الأزمنة أو الأمكنة أو غيرهما.

وأمّا احتمال غفلته عن وجود المانع فيما أدرك فيه جهة مقتضية لحكم خاصّ وهو جهة اخرى مقتضية لخلاف ذلك الحكم.

ففيه : أنّ الإنصاف أنّ ما يدركه العقل من الحسن والقبح قد يكون علّة تامّة للحكم الشرعي ، وقد يكون مقتضيا له قابلا لمصادفة ما يمنعه عن الاقتضاء ، ويتبع في ذلك الفعل المتّصف بهما ، فإنّه بعنوانه الخاصّ قد يكون علّة تامّة لحسنه أو قبحه كالظلم بالنسبة إلى القبح ولزمه كون الوصف أيضا علّة تامّة للحكم ، وقد يكون مقتضيا له كالكذب بالقياس إليه فلزمه كون الوصف أيضا بالقياس إلى الحكم كذلك.

ويعرف كونه من أيّ القسمين بعدم قبوله التخصيص في الأوّل ولذا لا يقال : « كلّ ظلم قبيح إلاّ الظلم الفلاني » وقبوله إيّاه في الثاني ، ولذا يصحّ القول : « بأنّ كلّ كذب قبيح إلاّ الكذب الفلاني ».

وبأنّه إذا اخذ معه جهة محسّنة أو جهة مقبّحة فإن أوجب انقلاب الموضوع وخروجه الموضوعي كان من الأوّل كقتل النفس مثلا ، فإنّه باعتبار كونه ظلما قبيح فإذا اخذ معه كونه على وجه القصاص أو كونه لأجل الارتداد خرج عن كونه ظلما ، وإلاّ بأن يفيد خروجه عن الحكم كان من الثاني كالكذب إذا اخذ فيه جهة النفع.

وبأنّ قيد الحيثيّة مع الأوّل يكون مستدركا ومع الثاني احترازيّا ، فإنّه في قولنا : « الظلم من حيث إنّه ظلم قبيح » لا يفيد شيئا ، وفي قولنا : « الكذب من حيث إنّه كذب قبيح » يفيد

ص: 508

الاحتراز عن الكذب من حيث إنّه نافع.

ففيما كان الحسن أو القبح علّة تامّة للحكم باعتبار كون الفعل الموصوف بهما علّة تامّة لهما فلا إشكال معه في الملازمة كما اعترف به الفاضل المتقدّم ، وكذلك فيما كان مقتضيا له على المذهب الحقّ إذا اخذ مع الفعل الموصوف به قيد الحيثيّة ، والعقل أيضا إنّما يحكم عليه بالحسن أو القبح على هذا الوجه لا مطلقا ، لما عرفت من أنّه لا يحكم في القضيّة بشيء إلاّ بعد الإحاطة بجميع جهات موضوعها وإحرازه بجميع قيوده وحيثيّاته ، فإنّه في حكمه بقبح الكذب مثلا يلاحظ الكذب من حيث إنّه كذب ثمّ يحكم عليه بالقبح ، وهذا لا ينافي حسنه من حيث إنّه نافع في إنجاء نبيّ أو وصيّ نبيّ لأنّهما موضوعان متغايران بالفرض والاعتبار ، كما أنّ حكمه بحسن الصدق من حيث إنّه صدق لا ينافي قبحه من حيث كونه ضارّا لتعدّد موضوعيهما ، فغفلته عن الجهة المحسّنة في الأوّل والمقبّحة في الثاني إن صحّحنا جوازها لا تقدح في صدق حكمه المذكور ولا يوجب كذبه كما هو واضح.

نعم ربّما يحصل الغفلة في الصدق الضارّ والكذب النافع ، فيحكم بحسن الأوّل لملاحظته من حيث هو وقبح الثاني لملاحظته كذلك غفلة عن الجهة المقتضية للقبح في الأوّل والحسن في الثاني ، غير أنّه ليس غفلة من العقل لأنّ وظيفة العقل الحكم على الأشياء بعناوينها الخاصّة أو العامّة لا إجراء حكمه فيما هو من مصاديق أحد العنوانين ، بل من الناظر في حكمه لإجرائه فيما هو من مصاديق موضوعه حيث أجرى حكم أحد العنوانين فيما هو من مصاديق عنوان آخر غفلة.

ولا ريب أنّ ملاحظة المصاديق وتشخيص بعضها عن بعض لإجراء حكم كلّ عنوان في مصداقه الواقعي لا غير من وظيفة الناظر في الحكم لا من وظيفة الحاكم ، فحصول الغفلة للأوّل لا يوجب قدحا في صحّة حكم الثاني.

ومن هذا القبيل الغفلة فيما توارد عليه جهتان متزاحمتان كالصدق مثلا إذا تضمّن نفعا بإنجاء مؤمن عن القتل وإضرارا بإيقاع مؤمن آخر في القتل ، فغفل الناظر عن إحدى الجهتين وحكم بمقتضى الجهة الاخرى ، من دون مراعاة أنّ المورد من تعارض الجهتين فلا بدّ فيه من الترجيح ثمّ الحكم عليه بالوجوب أو الحرمة أو التسوية ثمّ البناء على التخيير والإباحة.

بل لنا أن نقول : إنّ الحكم بقبح الصدق الضارّ لجهة الضرر وحسن الكذب النافع لجهة

ص: 509

النفع ليس باعتبار كون هذا أو ذاك في نفسه موضوعا لحكم العقل ، بل لاندراج الأوّل في عنوان « إضرار الغير » الّذي هو لذاته قبيح عند العقل واندراج الثاني في عنوان « إيصال النفع إلى الغير » الّذي هو لذاته حسن عند العقل ، وكذلك لطم اليتيم تعذيبا وتأديبا ، فإنّ قبح الأوّل وحسن الثاني إنّما هو لاندراجهما تحت القبيح والحسن الذاتيّين عند العقل وهما الظلم والعدل ، لكون الأوّل من الظلم والثاني من العدل ، فلو حصل خلط واشتباه بإجراء حكم الإضرار على ما ليس بضارّ في الواقع ، أو إجراء حكم النفع على ما ليس بنافع في الواقع ، أو إجراء حكم الظلم على ما ليس بظلم في الواقع ، أو إجراء حكم العدل على ما ليس بعدل في الواقع ، فهو ليس من العقل بل من الناظر في حكمه لإجرائه على ما هو من مصاديق موضوعه.

وعلى هذا القياس جميع الجهات المحسّنة أو المقبّحة للأفعال الخاصّة ، لرجوع الجميع إلى الوجوه - من الوجه بمعنى العنوان العامّ الأوّلي - الّذي يحكم العقل بحسنه أو قبحه لذاته ، وهو المراد من الوجوه والاعتبارات في عنوان قولهم : « أنّ الحسن والقبح بالوجوه والاعتبارات » وإطلاق « الوجه » على العنوان العامّ الأولي هو المعنى المعهود المصطلح عند الفقهاء والمتكلّمين ، ومنه الوجه المبحوث عنه في مباحث النيّة المعتبرة في العبادات ، يقولون : هل يعتبر فيها قصد الوجه أو لا؟

وما يوجد في كلامهم كثيرا من إطلاقه على الوجوب والندب فإنّما هو توسّع في الاستعمال لضرب من المجاز ، ولعلّه تسمية للمسبّب باسم السبب ، لكون الوجوب والندب في الأفعال الخاصّة مسبّبا عن العنوان العامّ الأولي الصادق عليها صدق الجنس على جزئيّاتها الإضافيّة ، ومنه أيضا ما في كلام المتكلّمين من أنّه يعتبر في حسن الفعل واستحقاق الثواب عليه وقوعه لوجوبه أو ندبه ، أو لوجه وجوبه أو ندبه.

وبالجملة وظيفة العقل في مستقلاّته إدراك حكم الكلّيات من حسن أو قبح ، كما أنّ وظيفة الشارع في غير مستقلاّت العقل بيان حكم الكلّيات ، وأمّا إجراء حكم كلّ كلّي على ما هو من جزئيّاته في المقامين فهو من وظيفة الناظر لا الحاكم عقلا كان أو شرعا ، فلو اتّفق غفلة واشتباه للناظر في الجزئيّات بإجراء حكم كلّي فيما هو من جزئيّات كلّي آخر للناظر لا يسند ذلك إلى الحاكم ، فتجويز الغفلة والاشتباه على العقل في موضوعات حكمه بالحسن والقبح أو في جزئيّات تلك الموضوعات هفوة وزلّة من مجوّزه فلا ينبغي الإصغاء إليه.

ص: 510

أدلّة القول بعدم الملازمة

ثمّ إنّ الفاضل التوني (1) احتجّ على ما اختاره من منع الملازمة بوجوه :

أحدها : قوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (2) فإنّه سبحانه تعالى أخبر بنفي التعذيب حتّى يبعث الرسول ، وليس المراد إثبات التعذيب بعد البعث وقبل تبليغ الحكم إلى المكلّف بل اثباته بعد التبليغ ، فالمسألة قد فرضت في الصورة الّتي حكم العقل بحكم ولم يصل من الشارع حكم ، فالتعذيب يكون منفيّا فلا يجوز الحكم على هذا الواجب العقلي والحرام العقلي بأنّه واجب أو حرام شرعا بل يكون مباحا ، لأنّ الإخبار من اللّه تعالى على نفي التعذيب إباحة منه سبحانه للفعل والترك ، هكذا قرّره السيّد الشارح رحمه اللّه.

والمعروف في ردّه هو : أنّ نفي التعذيب لا ينافي استحقاق العذاب لجواز العفو ، والواجب الشرعي هو ما يستحقّ تاركه العقاب لا ما عوقب عليه ، حتّى أنّ الفاضل المستدلّ في سابق كلامه فسّر الواجب الشرعي : « بما يستحقّ فاعله الثواب » وتاركه العقاب والحرام الشرعي عكس ذلك ، قبالا للواجب العقلي المفسّر بما يستحقّ فاعله المدح وتاركه الذمّ والحرام العقلي عكسه ، وهذا منه مع الاستدلال المذكور عجيب.

وأعجب منه أنّه في أثناء البحث تفطّن للردّ المذكور وضاق عليه الأمر بذلك فعدل عمّا ذكره أوّلا في شرح الواجب الشرعي إلى القول بأنّه ما يجوّز المكلّف العقاب على تركه ، ومع إخبار اللّه تعالى بنفي العقاب لا يمكن هذا التجويز.

وفيه : مع الغضّ عن أنّ ذلك خلاف ما عليه اصطلاح الأكثر في الواجب الشرعي ، أنّ تجويز العقاب على ترك الفعل معناه كون الفعل بحيث يجوز لله تعالى أن يعاقب عليه بالنظر إلى ذاته ، ولا ينافي ذلك عدم جوازه لئلاّ يلزم كذبه تعالى في إخباره بنفي العذاب ، فيقال في الواجب العقلي على تقدير استلزامه الواجب الشرعي أنّه بحيث يجوّز المكلّف العقاب عليه بالنظر إلى ذاته وإن لم يجوّزه بالنظر إلى إخباره تعالى بنفي التعذيب لئلاّ يلزم كذبه ، كما في سائر موارد إخباره تعالى بالعفو من غير مستقلاّت العقل.

ومع الغضّ عن ذلك أيضا نقول : إنّا ندّعي الملازمة بين كون الفعل واجبا أو حراما عند العقل - على معنى استحقاق المدح والذمّ عليه - وكونه محبوبا أو مبغوضا لله تعالى يترتّب عليه استحقاق الثواب والعقاب ، على معنى ترتّبه على موافقة ميله تعالى ورضاه ، وهذا يكفي في انعقاد الحكم الشرعي المبحوث عن الملازمة بينه وبين الحكم العقلي على ما

ص: 511


1- الوافية : 172.
2- الإسراء : 15.

عرفت ، سواء فسّرت الواجب الشرعي بما يستحقّ العقاب على تركه أو ما يجوّز المكلّف العقاب على تركه ، أو غيرهما ، إذ ليس الكلام في الملازمة بين الحكم العقلي وأمر اصطلاحي حتّى يغيّر الاصطلاح على حسب ما اقتضاه المذهب في الملازمة.

وبذلك يندفع أيضا ما ذكره السيّد الشارح في تفسير الواجب الشرعي من أنّه ما يوجب فعله الثواب من حيث هو إطاعة وتركه العقاب من حيث هو مخالفة ، وقال : « وقد مرّ أنّ إخبار اللّه تعالى بنفي التعذيب إباحة للفعل والترك ، فلا يكون ثمّة إطاعة ولا مخالفة فلا وجوب ولا حرمة ».

وحاصل الدفع : أنّه يكفي في صدق « الإطاعة » و « المخالفة » موافقة ميله تعالى ومحبوبه ومخالفته ، فيصدق على الفعل حينئذ أنّه ما يوجب فعله الثواب من حيث هو إطاعة وتركه العقاب من حيث هو مخالفة ، ويتطرّق المنع إلى كون إخباره تعالى بنفي التعذيب إباحة للفعل والترك لجواز الواسطة وهو العفو ، إذ ليس معنى ما يوجب تركه العقاب من حيث هو مخالفة ما يوجب تركه وجوب العقاب لئلاّ يجامع العفو - وإلاّ كان مدافعا لما علم بالضرورة من الدين وبالكتاب العزيز والسنّة المتواترة من عفوه يوم القيام عن ذنوب أهل الفسق في الجملة ، والإخبار به في الآيات المصرّحة به فوق حدّ الإحصاء - بل ما يوجب جواز العقاب وهذا لا ينافيه عدم وقوع العقاب ، فيجمع بين كون الواجب العقلي واجبا شرعيّا وبين مفاد الآية بأنّه ما يوجب تركه جواز العقاب من حيث هو مخالفة وأنّه ما يوجب تركه عدم وقوع العقاب من حيث إخباره تعالى بالعفو أو بعدم التعذيب الّذي هو أعمّ منه ومن انتفاء موجب جواز العقاب.

نعم يمكن أن يقال في دفع الردّ : إنّ نفي التعذيب وإن لم يستلزم نفي الاستحقاق عقلا غير أنّه يستلزمه عرفا ، فإنّ المنساق من نحو هذا الخطاب في متفاهم العرف إنّما هو نفي التعذيب على وجه الاستحقاق ، وبذلك يكون الاخبار به إباحة للفعل والترك.

وهذا حسن لو لا إمكان القول بظهور الآية في الورود للامتنان ، ولا يتمّ ذلك إلاّ بثبوت الاستحقاق وإلاّ فلا موجب للتعذيب ليكون نفيه امتنانا كما هو واضح.

لكنّ الإنصاف أنّ نفي التعذيب مع فرض الوجوب والحرمة الشرعيّين ربّما يؤدّي إلى نقض الغرض من إيجاب هذا الواجب وتحريم هذا الحرام ، لاستلزامه تجرّي المكلّف بترك الواجب وفعل الحرام تعويلا منه على عدم العقاب عليه ، ولا يكفي استحقاقه المعلوم لديه

ص: 512

بالفرض صارفا له عن ذلك كما لا يخفى والتحقيق في ردّ الاستدلال أن يقال : إنّ ظاهر الآية بملاحظة سابقها ولا حقها كونها منساقة بسياق قوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) (1) و ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ) (2) وقوله عليه السلام : « الناس في سعة ما لم يعلموا » (3) و « ما حجب اللّه علمه عن العباد » (4) و « رفع عن امّتي تسعة » (5) وعدّ منها ما لا يعلمون ، وما أشبه ذلك من عمومات أصل البراءة فيما لا نصّ فيه كتابا وسنّة فيكون مفادها حينئذ نفي العقاب على مخالفة الواجبات الواقعيّة والمحرّمات الواقعيّة المستورة على المكلّف لجهالته بالحكم الشرعي بسبب عدم بلوغه إليه ، فلا يدخل فيه ما نحن فيه لعدم جهالة حكمه الشرعي بحكم الملازمة بينه وبين الحكم العقلي.

ومع الغضّ عن ذلك نجيب عن الاستدلال بالإهمال تارة أو التخصيص اخرى أو التعميم ثالثة ، وقد سبق بيان الجميع في ردّ استدلال الأشاعرة بالآية على نفي حكومة العقل.

وثانيها : جملة من الأخبار المختلفة المضامين :

منها : ما يدلّ على أنّه لا يتعلّق التكليف إلاّ بعد بعث الرسل ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيي من حيّ عن بيّنة.

ومنها : ما يدلّ على أنّه على اللّه تعالى بيان ما يصلح الناس وما يفسد (6).

ومنها : ما يدلّ على أنّه لا يخلو زمان عن إمام معصوم ليعرّف الناس ما يصلحهم وما يفسدهم (7).

ومنها : ما يدلّ على أنّ اللّه تعالى يحتجّ على العباد بما آتاهم وعرّفهم ، ثمّ أرسل إليهم رسولا وأنزل إليهم الكتاب ، فأمر فيه ونهى ، أمر فيه بالصلاة والصيام إلى آخره (8).

والجواب عن الأوّل : يظهر ممّا مرّ ، فإنّ المراد به نفي التكليف حتّى يبعث الرسل في الواجبات والمحرّمات الواقعيّة المجهولة للمكلّفين بعدم بلوغ الحكم الواقعي إليهم ،

ص: 513


1- الطلاق : 7.
2- الأنفال : 42.
3- المستدرك 18 : 20 ، الباب 12 من أبواب مقدّمات الحدود ، الحديث 4 - عوالى اللآلي 1 : 424.
4- الوسائل 18 : 119 ، الباب 12 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 28.
5- الوسائل 11 : 295 ، الباب 56 من أبواب جهاد النفس الحديث الأوّل.
6- الخصال : 283 باب الخمسة ح 31.
7- راجع الكافي 1 : 178 ، باب أنّ الأرض لا تخلو من حجّة.
8- الكافي 1 : 164 - كتاب التوحيد - باب حجج اللّه على خقلقه - ج 4.

ولا جهالة في مستقلاّت العقل لبداهة الملازمة ، ومع الغضّ عن ذلك فمفاده ليس إلاّ قضيّة مهملة ولو سلّم العموم فلا يقاوم لمعارضة البداهة القاضية بالملازمة ، فلا مناص من تأويل إمّا بالتخصيص أو بالتعميم في الرسل.

وعن الثاني : بأنّ المراد بالموصول إمّا الأحكام الواقعيّة باعتبار كونها إرشادا منه تعالى إلى المصالح والمفاسد النفس الأمريّة ، أو الأفعال والتروك المشتملة على المصالح والمفاسد النفس الأمريّة ، وأيّا مّا كان فكون بيانه على اللّه تعالى لا يشمل ما نحن فيه ، لأنّ العقل بعد ما أدرك حسن الفعل أو قبحه فقد كشف عن محبوبيّته لله تعالى أو مبغوضيّته ، فكان ممّا يصلح الناس ويفسد وقد حصل بيانه ، ولا حاجة معه إلى بيان آخر إلاّ لأجل التأكيد.

ولو سلّم فبيانه تعالى ما يصلح وما يفسد أعمّ منه بلسان العقل أو بلسان الشرع ، وقد حصل فيما نحن فيه بلسان العقل.

ولو سلّم فالمنساق من الرواية في متفاهم العرف بيان ما يحتاجون إلى بيانه ، ولا حاجة لهم فيما حسّنه العقل أو قبّحه إلى بيانه تعالى.

وعن الثالث : بأنّ معرفة كون الفعل محبوبا أو مبغوضا لله تعالى معرفة للمصلح والمفسد وقد حصلت بحكم العقل ، ولا حاجة معه إلى تعريف الإمام ، سواء اريد بالمصلح والمفسد نفس الأحكام الواقعيّة أو موضوعاتها من الأفعال والتروك ، فالرواية مخصوصة بغير مستقلاّت العقل.

وعن الرابع : بأنّ الإيتاء والتعريف لا ينحصران فيما إذا كانا بتوسّط الرسل ، بل المعرفة الحاصلة من العقل إيتاء وتعريف من اللّه سبحانه ، وعلى هذا فما آتاهم مختصّ بما يستقلّ به العقل أو شامل له ولما لم يعلم إلاّ من جهة الشرع.

ويؤيّد الأوّل لفظة « ثمّ » فيكون إرسال الرسل مؤيّدا له كاشفا عن الّذي يخفى على العقل كما نبّه عليه السيّد الفاضل ، ويمكن أن يراد بما أعطاهم نفس العقل المدرك للحسن والقبح ، المرشد إلى فعل الحسن وترك القبيح ، فلو لا كون مدركاته أحكاما شرعيّة أو ملزومات لها لم يتمّ الاحتجاج به على الناس.

وأمّا ما يقال على الوجه الأوّل من أنّ الخبر وإن دلّ على ترتّب أمر على ما يستقلّ فيه العقل ، ولكنّه لا يدلّ على ترتّب ما هو لازم الوجوب والحرمة الشرعيّين ، وهذا هو النافع لمن يحكم بالشرعيّين ، لقضاء العقل بالعقليّين.

ص: 514

ففيه : أنّا لا نعقل ممّا يترتّب على ما يستقلّ فيه العقل إلاّ المحبوبيّة والمبغوضيّة الّتي يترتّب عليها الثواب والعقاب من حيث الإطاعة والمخالفة ، فإن كان ما هو من لوازم الوجوب والحرمة الشرعيّين هو هذا فهو المطلوب ، وإلاّ نمنع اعتباره فيهما لما ذكرناه مرارا من كفاية مجرّد المحبوبيّة والمبغوضيّة النفسانيّتين في انعقاد الحكم الشرعي وترتّب جميع آثاره ولوازمه ، وإنّ الزائد عليهما من الجعل أو الطلب فعلا فلا يعتبر إلاّ لأجل الكشف عنه والدلالة عليه.

وثالثها : قوله عليه السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي » (1) دلّت الرواية على إناطة الحرمة الشرعيّة في كلّ شيء ببلوغ النهي عنه إلى المكلّف ، فلا حرمة ما لم يبلغ النهي ، وهو عامّ يشمل المستقلاّت العقليّة أيضا ، فلو أنّ بين القبح العقلي والتحريم الشرعي ملازمة واقعيّة لم يصحّ إناطة حرمته ببلوغ النهي.

والجواب : أنّ الإطلاق بحسب العرف واللغة عبارة عن رفع قيد الشيء وإزالته ، يقال : أطلقت الأسير ، أي رفعت قيد أسره ، ومنه ما في الدعاء : « اللّهمّ أطلق لساني بذكرك » (2) أي ارفع قيده الّذي حبسه عن ذكرك ، ومنه الطلاق الّذي يقال في الشرع على إزالة قيد النكاح ، وقد يطلق على حالة منتزعة عن الشيء باعتبار عدم ورود القيد به ، ومنه « ناقة طلق » أي ما ليس بها قيد ، والمطلق في وصف الماء أي ما لا حاجة في ذكره إلى قيد ، والمطلق لنوع من اللفظ ، ومنه قوله عليه السلام : « مطلق » في الرواية (3) نظرا إلى أنّ التكليف في الفعل المكلّف به الّذي منه الحرمة نحو قيد يؤخذ معه ، وليس المراد من الرواية ما ينطبق على المعنى الأوّل وهو رفع قيد الحرمة ، ليكون المعنى : كون كلّ شيء مرفوع الحرمة حتّى يرد فيه نهي ، بل المراد كونه بحيث لا يرد عليه قيد الحرمة حتّى يرد فيه نهي.

وحينئذ فقضيّة الرواية إمّا خبريّة يراد بها الإخبار عن كلّ شيء بكونه بحيث ليس فيه قيد الحرمة إلى أن يرد فيه نهي من باب بيان الواقع.

ففيه : منع شمول عمومها لمستقلاّت العقل ، إمّا لأنّ مفاد الرواية حينئذ كون الأشياء قبل بلوغ النهي فيها إلى المكلّف بمنزلة أفعال البهائم في خلوّها عن الحكم ، ولو باعتبار خلوّها عن الجهات المقتضية للحكم.

ولا ريب أنّ حكم العقل في مستقلاّته بالحسن أو القبح الموجبين للمحبوبيّة والمبغوضيّة

ص: 515


1- الفقيه 1 : 317 ح 937.
2- الكافي 1 : 70 ، الأمالي للصدوق : 649.
3- الفقيه 1 : 317 ح 937.

أوجب خروجها عن عداد أفعال البهائم ، بل هي في الحقيقة داخلة فيما بعد الغاية ، لبلوغ النهي فيها بالمبغوضيّة المستتبعة لاستحقاق العقاب على الترك الكافية في انعقاد الحرمة الشرعيّة ، بناء على عدم كون النهي هنا مرادا به خصوص النهي اللفظي ، لما سبق تحقيقه في مباحث الأوامر والنواهي (1) من عدم دخول الصيغة المخصوصة ولا اللفظ في وضع الأمر والنهي لغة وعرفا.

غاية الأمر دخول الطلب فيهما ، ويكفي في ثبوته فيما نحن فيه بعد إثبات المحبوبيّة والمبغوضيّة بحكم العقل ما تقدّم من إمكان إثباته بانضمام مقدّمات اخر عقليّة ونقليّة ، مع أنّه إنّما يعتبر فيما يحتاج إليه للكشف عن المحبوبيّة والمبغوضيّة النفسانيّتين ، وبعد انكشافهما بحكم العقل لا حاجة إلى التزامه.

أو لعدم صدق قولنا : كلّ شيء لم يرد فيه نهي فهو مطلق ، لانتقاضه بالواجبات بل المندوبات والمكروهات ، لعدم خلوّها عن قيد تكليفي ، فلا بدّ وأن يكون المراد : أنّ كلّ شيء احتمل فيه الحرمة ولم يعلمها المكلّف بالخصوص فهو مطلق إلى أن يبلغه النهي عنه ، والمفروض في المقام علمه بالحكم الشرعي بواسطة حكم العقل.

وإمّا إنشائيّة (2) اريد بها إنشاء الإباحة.

ففيه أوّلا : أنّ إباحة القبيح كالأمر بالقبيح قبيح عقلا.

وثانيا : إنّ هذه الإباحة لا يجوز أن تكون واقعيّة وإلاّ لم تكن مغيّاة بورود النهي ، والإباحة الظاهريّة أيضا موضوعها الجاهل بالحكم الواقعي ولا جهل في المقام.

وبالجملة ما يستقلّ العقل بقبحه لا يندرج في عموم الرواية بشيء من محتملاتها.

ورابعها : الخبر الموثّق عن أبي جعفر عليه السلام قال : « بني الإسلام على خمس الصلاة والزكاة والصيام والحجّ والولاية ، ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية ، فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه ، أما لو أنّ رجلا صام نهاره وقام ليله وحجّ في جميع دهره وتصدّق بجميع ماله ، ولم يعرف وليّ اللّه فيواليه ويكون جميع أعماله بدلالته إليه ، فليس على اللّه حقّ في ثوابه ، ولا هو من أهل الإيمان » (3) دلّت الرواية على أنّ ترتّب الثواب على الأعمال بل استحقاقه مقصور على دلالة الإمام عليه السلام إليها.

ص: 516


1- سبق في ج 3 : 8.
2- عطف على قوله : « فقضيّة الرواية إمّا خبريّة » الخ.
3- الكافي 2 : 18 ح 4.

وقضيّة ذلك انحصار طريق أخذ الأحكام في الشرع ، وهذا ينفي طريقيّة حكم العقل.

والجواب : أنّ هذه الرواية بقرينة صدرها وردت في ردّ المخالفين حيث لم يعرفوا وليّ اللّه بل أنكروا ولايته ولم يوالوه ، ولم يرجعوا إليه في أخذ أعمالهم وأحكامهم ، بل رجعوا إلى الطرق الفاسدة الغير المشروعة من الرأي والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وغيرها ، من غير نظر فيها إلى ما يستقلّ فيه العقل ، وأنّ الحكم العقلي هل يلازم الحكم الشرعي أم لا؟ وأنّ الوجوب والحرمة العقليّين هل يلازمان الإيجاب والتحريم الشرعيّين أم لا؟ فليس فيها ما يدلّ على نفي الملازمة.

ومع الغضّ عن ذلك نقول : إنّ مفاد الرواية اشتراط تحقّق الإيمان وصحّة الأعمال بمعرفة الإمام وموالاته ، فلا إيمان لمن فقدهما ، كما لا صحّة لأعماله كالمخالفين ، ولا ينافي ذلك ثبوت الأحكام الشرعيّة بالقياس إليهم وتوجّه الخطاب إليهم ، لما تقرّر في محلّه من أنّهم كالكفّار مكلّفون بفروع الشرع ومخاطبون بهما ، إلاّ أنّ أعمالهم لا تقع صحيحة لانتفاء ما هو من شروط الصحّة ، ولا يفترق الحال في ذلك بين كون الأحكام والأعمال ثابتة بخطاب الشرع كما في غير المستقلاّت العقليّة أو بحكم العقل كما في مستقلاّته ، حتّى أنّه لا يجديهم إحسانهم ولا صدقهم ولا عدلهم ولا أمانتهم ولا ردّهم الوديعة مع ثبوت أحكام هذه العناوين على القول بالملازمة بالقياس إليهم أيضا.

وأمّا قوله عليه السلام : « ويكون جميع أعماله بدلالته إليه » فهو حصر لطريقيّة أخذ الأعمال في دلالة الإمام من باب قصر القلب ، قبالا للطرق الفاسدة المتداولة عند المخالفين بنفي الطريقيّة عنها وإثباتها ، له فتكون الأعمال المذكورة في الرواية مختصّة بالأعمال الّتى يأخذ فيها المخالفون بتلك الطرق الفاسدة وليست إلاّ العبادات التوقيفيّة وغيرها ممّا لا يستقلّ فيه العقل ، كما يشعر به أيضا سبق ذكر الصلاة والزكاة والصيام والحجّ الّتي هي من هذا القبيل ، وهذا لا ينافي طريقيّة حكم العقل في مستقلاّته ، بل انحصار الطريق في غير المستقلاّت في الشرع هو الّذي يقول به أهل القول بالملازمة أيضا.

وخامسها : أنّ أصحابنا والمعتزلة قالوا : « إنّ التكليف فيما يستقلّ به العقل لطف » يعني أنّ انضمام التكليف الشرعي بالتكليف العقلي - بمعنى تواردهما معا - لطف ، كما أنّ مطلق التكليف السمعي لطف فيما لا يستقلّ به العقل ، والعقاب بدون اللطف قبيح ، فلا يجوز العقاب على ما لم يرد فيه من الشرع نصّ لعدم اللطف فيه حينئذ.

ص: 517

والجواب أوّلا : إنّ كلام أصحابنا والمعتزلة هنا إثبات للملازمة بين حكم العقل والحكم الشرعي بأحد وجوهه المتقدّمة ، على ما أومأنا إليه أيضا بقاعدة اللطف ، ومحصّله : أنّ الإيجاب والتحريم من الشارع على طبق الوجوب والحرمة العقليّين ليكون كلّ واجب عقلي واجبا شرعيّا وكلّ حرام عقلي حراما شرعيّا لطف ، ولا يلزم فيهما كونهما بخطاب لفظي بعد قيام ما يغني عنه من حكم العقل مع انضمام مقدّمة اخرى ، فهذا دليل لنا لا علينا.

وثانيا : أنّ ذلك بعد أخذ اللطف بمعناه المعروف - وهو ما يقرّب العبد إلى الطاعة ويبعّده عن المعصية - على مختارنا أدلّ ، وذلك لأنّ صدق هذا المفهوم وتحقّقه في الخارج يستدعي إحراز طاعة ليكون التكليف السمعي مقرّبا إليها وإحراز معصية ليكون مبعّدا عنها ، ولا طاعة ولا معصية فيما يستقلّ به العقل إلاّ ما يحرز بحكم العقل قبل النظر في خطاب الشرع ، وهذا مبنيّ على ثبوت الملازمة بينه وبين الحكم الشرعي الّذي موافقتها إطاعة ومخالفته معصية ، ويكفي في ذلك - على ما مرّ مرارا - مجرّد المحبوبيّة والمبغوضيّة ، فيكون الإيجاب والتحريم السمعيّان حينئذ مقرّبا إلى الإطاعة اللازمة من موافقة المحبوبيّة والمبغوضيّة ، ومبعّدا عن المعصية اللازمة من مخالفتهما.

وبالجملة : فلو لا الملازمة المذكورة فيما يستقلّ به العقل لم يكن هناك إطاعة ولا معصية ، فلا يصدق على التكليف السمعي فيه كونه مقرّبا إلى الطاعة ومبعّدا عن المعصية.

وممّا يفصح عن صحّة ما قلناه ما عن جمهور العدليّة من الإماميّة والمعتزلة في تفسير الوجه - بعد تعريفه بالسبب الباعث على إيجاب الواجب وندب المندوب - بأنّه اللطف في الواجبات والمندوبات العقليّة ، ومعناه على ما ذكره جماعة منهم المحقّق الثاني في جامع المقاصد (1) أنّ السمعيّات ألطاف في العقليّات قبالا لمن جعله مجرّد الأمر كالأشاعرة ، ولمن جعله الشكر على معنى أنّ الفعل إنّما يجب لكونه شكرا للمنعم كالكعبي ، ولمن جعله ترك المفسدة اللازمة من الترك كبعض المعتزلة ، فإنّ الوجوب العقلي - على ما مرّ - هو كون الفعل بحيث يستحقّ فاعله المدح وتاركه الذمّ ، والندب كونه بحيث يستحقّ فاعله المدح ولا يستحقّ تاركه الذمّ ، وهذا قد يكون بحيث يستقلّ العقل بإدراكه كما في مستقلاّته ، وقد يكون بحيث لا يدركه إلاّ بواسطة خطاب الشرع الوارد لإيجاب الواجب وندب المندوب ، على معنى إنشاء الوجوب والندب الشرعيّين كما في غير مستقلاّته.

ص: 518


1- جامع المقاصد 1 : 202.

ولا ريب أنّ الإيجاب والندب الشرعيّين لا يكون لطفا في الواجبات والمندوبات العقليّة إلاّ إذا تضمّن الوجوب العقلي بالمعنى المذكور طاعة ومعصية ، والندب العقلي طاعة ، ولا يكون كذلك إلاّ إذا استلزم الأوّل محبوبيّة الفعل ومبغوضيّة الترك ، والثاني محبوبيّة الفعل فقط لله تعالى ليكون موافقة الأوّل والثاني طاعة ومخالفة الأوّل معصية ، أو إذا استلزاما الجعل الواقعي أو الطلب الفعلي أيضا ليترتّب على موافقة أحدهما أو مخالفته الطاعة والمعصية ، وحينئذ يصدق على إيجابه تعالى أنّه لطف بمعنى المقرّب إلى الطاعة والمبعّد عن المعصية اللازمتين من مجرّد المحبوبيّة والمبغوضيّة النفسانيّتين ، أو من المجعول الواقعي أو من الطلب الفعلي ، ولكن لا يعتبر فيه كونه بالخطاب اللفظي إلاّ فيما لا يستقلّ العقل بإدراك الوجوب العقلي ، فلا يجب في مستقلاّته ورود خطاب من الشرع بوجوب الواجب وندب المندوب ، وإن كان ذلك أيضا لطفا.

ودعوى قبح العقاب بدون اللطف على إطلاقها غير مسلّمة ، بل المسلّم قبحه بدونه فيما لا طريق للمكلّف إلى إدراك الوجوب العقلي إلاّ خطاب الشرع ، وليس كذلك الحال فيما يستقلّ فيه العقل ، لفرض استقلاله بإدراك الحسن والقبح المرادفين للوجوب والحرمة العقليّين.

وبالجملة الخطاب اللفظي الّذي مفاده التكليف السمعي فيما يستقلّ العقل بإدراك حسنه أو قبحه لطف مندوب ، وليس شرطا في صحّة العقاب ليقبح بدونه ، وليس مراد جمهور العدليّة من كون الإيجاب والندب لطفا في الواجبات والمندوبات العقلية أنّه لابدّ وأن يكون بخطاب اللفظ حتّى في المستقلاّت ، لأنّ غاية ما ذكروه كون الإيجاب والندب بالمعنى المتضمّن للطلب الفعلي لطفا ، وهذا أعمّ من أن يكون مدلولا عليه بالعقل أو بخطاب الشرع.

والسرّ في ذلك : أنّ الخطاب اللفظي ليس من مقوّمات ماهيّة الإيجاب والندب ولا من لوازم ماهيّة الطلب ، بل هو من عوارض الشخص ، بل قد عرفت مرارا أنّه لا يعتبر في صدق الطاعة والمعصية حصول الطلب الفعلي ولا الجعل الواقعي ، بل يكفي فيهما مجرّد المحبوبيّة والمبغوضيّة النفسانيّتين.

وإن شئت صدق هذه المقالة فراجع نفسك في معاملتك مع عبدك الّذي اشتريته ، فقد تجعل له حكما كوجوب التجارة وحرمة قتل ولدك ، ثمّ أبرزته له بالطلب الفعلي بقولك : « يا عبدي أوجبت عليك التجارة ، أو أتجر لي ، وحرّمت عليك قتل ولدي ، أو لا تقتل ولدي » وقد تجعل له ذلك الحكم ولكن لم تبرزه له ، أو أبرزته ولم يصل إليه خطابك بعدم بلوغ

ص: 519

الطومار الّذي أرسلته إليه ، وقد لا تجعل له ذلك الحكم أيضا ولكن الفعل بحيث يكون محبوبا أو مبغوضا في نظرك ، بحيث لو أردت جعل حكم لم تجعل إلاّ الوجوب والحرمة ، ولو أردت إنشاء الطلب بعد الجعل لم تطلب إلاّ الفعل أو الترك ، وكان للعبد طريق إلى إدراك هذه الصفة أو إدراك المجعول الواقعي ، فترى أنّ العبد إذا خالف في جميع هذه الصور الثلاث بترك الإتجار أو إيقاع القتل يستحقّ عقابك ويحسن لك عقابه ، وترى أنّ استحقاقه العقاب في الصورتين الأخيرتين ليس إلاّ كاستحقاقه في الصورة الاولى ، ولا يعذّره العقلاء لو اعتذر بعدم طلب المولى ، أو بعدم جعله الحكم مع اعترافه بإدراك المجعول الواقعي أو إدراك الصفة النفسانيّة.

ثمّ إنّ بعض الفضلاء اختار في مسألة الملازمة تفصيلا فأنكرها واقعا وأثبتها ظاهرا ، حيث قال : « الحقّ أن لا ملازمة عقلا بين حسن الفعل أو قبحه وبين وقوع التكليف على حسبه ومقتضاه ، وإنّما الملازمة بين حسن التكليف بالفعل أو الترك وبين وقوعه.

نعم جهات الفعل من جملة جهات التكليف ، فقد يقتضي حسن الفعل أو قبحه حسن التكليف به أو بتركه ، وقد لا يقتضي لمعارضة جهة اخرى في نفس التكليف ، هذا إذا اريد بالملازمة الواقعيّة منها ، ولو اريد بها الملازمة ولو بحسب الظاهر فالظاهر ثبوتها. »

ثمّ أسند إلى بعض المحقّقين الموافقة ، إلى أن قال : « فلنا في المقام دعويان » (1) وتمسّك لأوّلهما - وهو نفي الملازمة الواقعيّة بين حسن الفعل أو قبحه وبين وقوع التكليف على حسبه - بالوجوه الآتية الضعيفة.

وأنت بمراجعة ما قرّرناه من كلماتنا في دفع شبهة السيّد الفاضل الشارح للوافية في إنكار كون جهات الفعل عللا تامّة للأحكام الشرعيّة تعرف ضعف هذا التفصيل أيضا.

وملخّصه : أنّ وقوع المعارضة بين الجهات في موضوع قضيّة حكم العقل غير معقول ، إذ قد عرفت أنّ العقل في قضيّة الكذب قد يلاحظ الكذب من حيث هو فيحكم بقبحه ، وقد يلاحظه من حيث النفع فيحكم بحسنه ، وفي قضيّة الصدق قد يلاحظ الصدق من حيث النفع فيحكم بحسنه ، وقد يلاحظ من حيث الضرر فيحكم بقبحه ، وهما قضيّتان متصادقتان لا تنافي بينهما ، فيكون الحسن والقبح في موضوع كلّ منهما مقتضيا لحسن التكليف ووقوعه على حسبه من إيجاب أو تحريم.

ص: 520


1- الفصول : 337.

نعم ربّما يتأتّى المعارضة بين الجهات فيما هو من مصاديق موضوع حكم العقل ، غير أنّه ليس من معقد الكلام في مسألة الملازمة في شيء ، لعدم كونه من حيث إنّه مصداق وجزئي حقيقي من موضوع حكم العقل في شيء.

وأضعف من أصل هذه الدعوى الوجوه الّتي تمسّك بها لإثباتها.

منها : حسن التكليف الابتدائي ، فإنّ الضرورة قاضية بحسن أمر المولى عبده بما لا يستحقّ فاعله من حيث إنّه فاعله المدح في نظره ، استخبارا لأمر العبد أو إظهارا لحاله عند غيره ، ولو كان حسن التكليف مقصورا على حسن الفعل لما حسن ذلك.

ويزيّفه : أنّ دعوى الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع الّتي هي مضمون قضيّة قولهم : « كلّما حكم به العقل حكم به الشرع » لا ترجع إلى دعوى كون حسن التكليف مقصورا على حسن الفعل ، لينتقض بالتكليف الابتلائي التوطيني الّذي يقصد به استعلام حال العبد من حيث الانقياد للمولى وعدمه أو إعلام حاله للغير ، إذ ليس معنى قولنا : « كلّما حسن الفعل حسن التكليف به ، وكلّما قبح الفعل حسن التكليف بتركه » إنّه كلّما حسن التكليف بالفعل حسن ذلك الفعل لينقضه ما ذكر.

نعم إنّما يرد هذا نقضا على القول بالملازمة في عكس هذه القضيّة ، المعبّر عنها بقولهم : « كلّما حكم به الشرع حكم به العقل » فإنّها إذا كانت على ظاهرها يتوجّه إليه ما ذكر ، ولذا ترى أنّ بعض الأعلام أورده نقضا لذلك العكس ، وكأنّه قدس سره خلط بين المقامين ، إلاّ أن يوجّه كلامه : بأنّه كما يجوز ورود الأمر الابتلائي بالفعل الخالي عن الجهة المحسّنة بالمرّة المساوي للترك الخالي منها أيضا ، فكذلك يجوز وروده بالفعل القبيح المشتمل على الجهة المقبّحة ، كما في قضيّة إبراهيم عليه السلام في أمره بذبح ولده ، فلو كان بين قبح الفعل وحسن التكليف بتركه ووقوع ذلك التكليف ملازمة واقعيّة لما صحّ ذلك ، وحيث فرضنا صحّته بحكم الضرورة كشف ذلك عن انتفاء الملازمة الواقعيّة بين حسن الفعل أو قبحه ووقوع التكليف على حسبه.

وفيه : مع بعده عن صوغ العبارة ، إنّ من شرائط الأمر الابتلائي التوطيني جهل المكلّف بحال الفعل المأمور به من حيث عدم كون الإتيان به مرادا للآمر ، واعتقاده بمحبوبيّة فعله ومبغوضيّة تركه له ، ليحصل له توطين النفس للامتثال على ما هو غرض الآمر ، وإنّما يتأتّى ذلك إذا لم يكن هناك ما يكشف له عن تساوي الفعل والترك في نظر الآمر ، أو قبحه عنده المقتضي لمحبوبيّة الترك ومبغوضيّة الفعل ، وهذا الشرط فيما استقلّ العقل بإدراك قبحه

ص: 521

منتف ، لعلم المكلّف بقبح الفعل المأمور به عند الآمر بواسطة استقلال عقله بإدراك قبحه ، ولئن صحّحنا تعلّق الأمر الابتلائي التوطيني بالفعل القبيح عند الآمر فإنّما هو فيما لا طريق للمكلّف إلى العلم بقبحه عنده كما في غير مستقلاّت العقل ، فهو في محلّ البحث محال.

وتوهّم وقوعه في قضيّة إبراهيم عليه السلام ، يدفعه : منع علمه عليه السلام بقبح ذبح ولده بالخصوص ، فإنّ ذبح الولد قد يحسن لبعض الجهات وبانضمام بعض الخصوصيّات ، كما أنّ الكذب مثلا يحسن لجهة النفع ، ويكفي في ارتفاع العلم بقبحه احتمال وجود جهة محسّنة له.

أو منع اعتقاده عليه السلام بكون الأمر المذكور أمرا بأصل الذبح بل إنّما كان أمرا بمقدّماته وقد علمه عليه السلام أيضا ، ولذا ترى أنّ المصنّف في مسألة الأمر مع علم الآمر بانتفاء الشرط أجاب بذلك عن استدلال القائل بجوازه بقضيّة إبراهيم عليه السلام بتوهّم كونه أمرا بالذبح مع انتفاء شرطه وهو عدم النسخ.

ولو سلّم جواز ورود الأمر الابتلائي بالقبيح العقلي أيضا فهو لا ينافي ثبوت الملازمة الواقعيّة بين قبحه وبين وقوع الحكم الشرعي على حسبه ، فإنّ معناها كون الحسن أو القبح مقتضيا لوقوع الحكم الشرعي على حسبه بحسب الواقع ، بأن يكون حكما واقعيّا ، وظاهر أنّ الأمر الابتلائي على تقدير وروده بما حكم العقل بقبحه ممّا لا يرفع هذا الحكم الواقعي.

وتوضيحه : أنّ الأمر كائنا ما كان لابدّ وأن يستتبع حسنا ومصلحة مقتضية له ، إمّا في الفعل المأمور به كالأمر بالصلاة وغيرها ، أو في نفس الأمر مع خلوّ المأمور به عن المصلحة بالمرّة ، وذلك كالأمر المحمول على التقيّة على أحد القولين - وهو عدم كون التقيّة مصلحة في الفعل المأمور به بل هي مصلحة في نفس الأمر ، أو على أحد التقديرين وهو كون التقيّة قوليّة محضة. فالمصلحة حينئذ في الأمر ، لا على التقدير الآخر وهو كون التقيّة فعليّة ، لوجوب كونها حينئذ مصلحة في المأمور به - أو في أمر خارج يكون فعل المأمور به محصّلا له في الخارج إمّا باعتبار الأمر كالامتثال إذا كان هو المحبوب في نظر الآمر دون الفعل المحصّل له بالذات ، أو باعتبار نفسه ككونه مظهرا لكمال انقياد العبد مع مولاه عند غيره إذا قصد بالأمر إظهاره.

فإنّ المصلحة المؤثّرة في الحسن إنّما هو في الإظهار لا في المأمور به ولا في الأمر.

وهذه أقسام ثلاث ، لا إشكال في كون الأمر المفروض في القسم الأوّل موجبا لحدوث حكم في الفعل المأمور به بحسب الواقع.

ص: 522

كما أنّه لا إشكال في أنّه لا يوجب حدوث حكم فيه في القسم الثاني.

كما لا إشكال أيضا في القسم الثالث بكلتا صورتيه ، فإنّ الأمر الموجود فيهما ليس إلاّ أمرا صوريّا غير متضمّن لطلب قصد به ترتّب ما يترتّب على الفعل باعتبار هذا الأمر أو باعتبار نفسه من غير أن يحدث من جهته في الفعل حكم وهو الوجوب ، المتضمّن للطلب المستتبع لاستحقاق العقوبة على المخالفة.

ولا ريب أنّ الأمر الابتلائي التوطيني من هذا الباب ، فوروده على ما هو قبيح في الواقع لا ينافي كون حكمه الشرعي بحسب الواقع هو الحرمة ، فهو ممّا يجامع الملازمة الواقعيّة بين القبح العقلي ووقوع الحكم الشرعي وهو الحرمة على حسبه.

ومنها : التكاليف الّتي ترد مورد التقيّة إذا لم يكن في نفس العمل تقيّة ، فإنّ إمكانها بل وقوعها في الأخبار المأثورة عن الأئمّة الأطهار عليهم السلام ممّا لا يكاد يعتريه شوب الإنكار ، وإن منعنا وقوعه في حقّه تعالى بل وفي حقّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم أيضا. فإنّ تلك التكاليف متّصفة بالحسن والرجحان لما فيها من صون المكلّف أو المكلّف عن مكائد الأعادي وشرورهم ، وإن تجرّد ما كلّف به عن الحسن الابتدائي ، وطريانه بعد التكليف من حيث كونه امتثالا وطاعة لا يقدح في ذلك ، لأنّ الكلام في الجهة المتفرّع عليها التكليف لا الجهة المتفرّعة على التكليف - إلى أن قال - : وليس التكليف حينئذ صوريّا محضا مجرّدا ألفاظه عن إرادة المعنى لبعده عن مظانّ الاستعمال ، مع أنّ التكليف في الحقيقة على حسب مؤدّى تلك الألفاظ عند جهل السامع بخلافها ، فلا باعث على صرفها عن ظاهرها وتجريدها عن معانيها.

والجواب : أنّ هذا أيضا بظاهره لا يرتبط بالمقام ، لأنّه إنّما يرد نقضا على من يدّعي اقتضاء حسن التكليف حسن الفعل المكلّف به ، وهذا ممّا لا تعلّق له بمقالة من يدّعي اقتضاء حسن الفعل حسن التكليف به ووقوعه ، واقتضاء قبحه حسن التكليف بتركه ووقوعه.

إلاّ أن يوجّه : بأنّ حسن الفعل أو قبحه فيما أدركهما العقل كما أنّه على القول بالملازمة يقتضي حسن التكليف بالإيجاب أو التحريم ليكون الفعل واجبا أو حراما شرعيّا ، فكذلك خلوّه عن الحسن والقبح وعدم اشتماله على جهة محسّنة ولا على جهة مقبّحة عند العقل - على معنى تساوي الفعل والترك في الواقع بحيث أدركه العقل على القول بالملازمة - يقتضي إباحته ، شرعا وورود التكليف بإيجاب أو تحريم عليه على جهة التقيّة ينافي الإباحة ، وهذا آية عدم الملازمة بين حكم العقل وبين وقوع التكليف على

ص: 523

حسبه وهذا التوجيه يجري في الوجه السابق كما أنّ ما تقدّم ثمّة جار هنا أيضا.

وفيه أوّلا : أنّه قد ذكرنا سابقا أنّ الحكم العقلي قد يكون مقتضيا للحكم الشرعي إذا كان الفعل بعنوانه الخاصّ مقتضيا لحسنه أو قبحه ، ومعنى كونه مقتضيا أنّه يؤثّر في حدوث الحكم الشرعي ويقتضيه لو لا مانع يمنعه عن الاقتضاء ، وحينئذ يقال : إنّ تساوي الفعل والترك بخلوّهما عن الجهة المحسّنة والمقبّحة جهة مقدّمية للإباحة الشرعيّة لو لا المانع وهو المراد من الملازمة ، وأثرها ثبوت الإباحة لما لم يطرئه جهة التقيّة ، ولا يقدح في ذلك زوالها عند طروّ هذه الجهة.

وثانيا : أنّ موضوع الإباحة هو الفعل الّذي لاحظه العقل من حيث هو فحكم بتساوي طرفيه ، وهذا لا ينافيه ورود التكليف بإيجاب أو تحريم على جهة التقيّة على ما اخذ فيه تلك الجهة لكونها تقييديّة فيتعدّد الموضوع ، كإباحة الصدق من حيث هو لو فرض خلوّه عن الحسن والقبح ، ووجوب الصدق النافع وحرمة الصدق الضارّ ، لعدم المنافاة بينها باعتبار تعدّد موضوعاتها.

وثالثا : أنّ منافاة التكاليف المذكورة للإباحة الواقعيّة على تقدير تسليم وحدة الموضوع إنّما هي إذا كانت على ظاهر التكليف ، بأن يراد من الأمر والنهي الواردين على جهة التقيّة - في القول فقط دون العمل - الإيجاب والتحريم المتضمّنين للطلب ، ليكون الفعل باعتباره واجبا أو حراما ، وهذا في حيّز المنع بل ليست إلاّ تكاليف صوريّة معرّاة عن الطلب ، على معنى صدور الخطاب الدالّ على التكليف من دون إرادة التكليف منه لمصلحة التقيّة ، وهذا لا يوجب ارتفاع الحكم الواقعي عن المورد إباحة كانت أو غيرها.

وتوضيح المقام : أنّه يستفاد من جماعة من الفقهاء في تضاعيف المسائل الفرعيّة في الخبر الّذي علم خروجه مخرج التقيّة مع ظهوره في الوجوب أو الحرمة حمله على الاستحباب أو الكراهة ، والحكم على المورد بكونه مستحبّا أو مكروها ، مع كون مذهب العامّة فيه هو الوجوب أو الحرمة استنادا إلى الاعتبار ، وبيانه : أنّ الخبر إذا ورد تقيّة فيتصوّر فيه وجهان :

الأوّل : الحكم بكونه كذبا ، على معنى كونه ممّا أراد الإمام عليه السلام ظاهره المخالف للواقع لمصلحة التقيّة.

والثاني : الحكم بكونه مؤوّلا [ الّذي ] يعبّر عنه بالتورية ، على معنى كونه ممّا أراد

ص: 524

الإمام عليه السلام خلاف ظاهره الموافق للواقع من غير نصب قرينة عليه لمصلحة التقيّة ، فإذا دار الأمر بينهما بعد إحراز صدوره على جهة التقيّة فالأولى أن يحمل على الثاني قضاء للاعتبار بل القوّة العاقلة ، نظرا إلى أن الكذب إنّما يرتفع عنه القبح العقلي حيث لا مندوحة منه ، وإرادة خلاف ظاهر الخطاب من غير نصب قرينة عليه إنّما يقبح عقلا إذا قصد به إفهام المراد ولا قبح فيما لم يقصد به الإفهام أصلا ، وإمكانه في محلّ الفرض مندوحة من الكذب وما أشبهه من بيان خلاف الواقع ، فالمناسب لمنصب الإمامة أنّه عليه السلام اختار ذلك.

والتحقيق عندنا تخصيص ذلك بما لو كانت في القول فقط ، إذا الغرض في التقيّة في العمل لا يتأتّى إلاّ بإرادة الظاهر ، لأنّه التكليف ما دامت التقيّة موجودة.

ومن هنا يقال : إنّ التقيّة في موردها حكم ظاهري بل واقعيّ ثانوي ، ولمّا كانت التقيّة المفروضة في محلّ الكلام تقيّة في القول لا في العمل فالمتّجه في الخطابات الواردة في موردها إنّما هو الحكم بعدم كونها على ظاهر التكليف ، وإنّما هي تكاليف صوريّة قصد بها مجرّد إظهار الموافقة في المذهب مراعاة لمصلحة التقيّة الّتي لا يقتضي أزيد من ذلك ، ولا بعد في ذلك عن مظانّ الاستعمال ، ولا يلزم صرف الخطاب عن ظاهره ولا تجريده عن معناه من دون باعث عليه ، وإذا لم يكن هذه الخطابات والتكاليف على ظاهرها فلم يحدث من جهتها للفعل حكم شرعي من إيجاب ولا تحريم ، فيكون باقيا على حكمه الواقعي من إباحة أو غيرها ، فالتكاليف الواردة مورد التقيّة لا تنافي الملازمة الواقعيّة بين الأحكام العقليّة والأحكام الشرعيّة.

ومنها : أنّه لا ريب في أنّ كثيرا من الأحكام المقرّرة في الشريعة معلّلة في الحقيقة ولو بحسب الظنّ أو الاحتمال بحكم غير مطّردة في جميع مواردها ، ومع ذلك فقد حافظ الشارع على عمومها وكلّيتها حذرا من الأداء إلى الإخلال بموارد الحكم ، كتشريع العدّة لحفظ الأنساب من الاختلاط ، حيث أثبتها الشارع بشرائطها المقرّرة على سبيل الكلّية حتّى مع القطع بعدم النسب أو بعدم الاختلاط ، كما في المطلّقة المدخول بها دبرا أو مجرّدا عن الانزال ، والغائب عنها زوجها ، والمتروك وطؤها مدّة الحمل وغير ذلك ، فإنّه لو جعل المدار في ذلك على العلم أو الظنّ بعدم النسب أو عدم الاختلاط لأدّى إلى تفويت الحكمة وحصول الاختلاط في كثير من الموارد بالتلبيس أو الالتباس وكذلك الحال في تشريع غسل الجمعة لرفع رياح الآباط مع ثبوت استحبابه مع عدمها ، وكراهة الصلاة في الحمّام

ص: 525

لكونه مظنّة للرشاش ، وفي الأودية لكونها مظنّة لمفاجاة السيل مع ثبوتها عند القطع بعدمها إلى غير ذلك ، فهذه الامور فعلا أو تركا وإن كان حسنها الابتدائي مقصورا على الموارد الّتي تشتمل على الحكم ، وقضيّة ذلك حسن التكليف بتلك الموارد خاصّة ، لكن لمّا كان في تعميم التكليف حكمة كمال المحافظة على موارد الحكم حسن تعميم التكليف ، فحسن الفعل في الموارد الّتي تتجرّد عن الحكمة من جهة التكليف ، وليس حسن التكليف من جهته وإلاّ لدار.

ثمّ ما ذكرنا من أنّ الأحكام المذكورة معلّلة بتلك الحكم فقط إن لم يكن مظنونا فلا أقلّ من كونه محتملا ، وهو كاف في إثبات ما أردناه من نفي الملازمة ، إذ تجويز العقل ذلك ينافي حكمه بالملازمة (1).

وفيه أوّلا : منع كون هذه الحكم علل حقيقيّة للأحكام المذكورة مؤثّرة في جعلها وحدوثها ، وإنّما هي مناسبات واعتبارات ذكرت لتقريب هذه الأحكام إلى أفهام المكلّفين ، فمن الجائز كونها بحسب الواقع من آثار حكم آخر مطّردة خفيّة لا يطّلع عليها إلاّ العالم بخفايا الامور ، وكون هذه المناسبات من الفوائد المترتّبة على موضوعات هذه الأحكام المجعولة في بعض مواردها لا من الدواعي الباعثة للشارع على جعلها.

وثانيا : منع انحصار علل جعل هذه الأحكام المطّردة في هذه الحكم الغير المطّردة - على فرض كونها عللا واقعيّة - ليلزم الإشكال من عدم اطّرادها ، لجواز أن يكون لجعلها في غير موارد هذه الحكم عللا اخر خفيّة لا يحيط بها إلاّ العقول الكاملة ، وكان علّة جعل الأحكام على وجه الاطّراد المجموع من هذه الحكم وغيرها ممّا نعقله من خفايا الحكم ، ونحوه غير عزيز في الشرعيّات والعرفيّات ، كما لو أمر الطبيب جماعة بشرب السكنجبين مثلا لإطفاء الحرارة في بعضهم ولإسهال الصفراء في آخر ولإبقاء المزاج على الاعتدال في ثالث.

وثالثا : أنّ كون حسن الفعل في بعض ما لا يستقلّ فيه العقل باعتبار التكليف - على فرض تسليمه - من دون أن يكون حسن التكليف فيه أيضا باعتبار حسن الفعل لئلاّ يلزم الدور لا ينافي الملازمة بالمعنى المتنازع فيه ، إذ ليس معناها أنّ حسن التكليف في جميع موارده باعتبار حسن الفعل ليخدشه ما ذكر من الموارد ، بل معناها أنّ حسن الفعل في جميع موارده يلازم حسن التكليف ، وهذا ممّا لا يمكن نقضه بنحو ما ذكر.

ص: 526


1- الفصول : 339.

ومنها : الأخبار الدالّة على عدم تعلّق بعض التكاليف بهذه الامّة دفعا للكلفة والمشقّة عنهم ، كقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم : « لو لا أن أشقّ على امّتي لأمرتهم بالسواك » (1) فإنّ وجود المشقّة في الفعل قد يقدح في حسن الإلزام به وإن لم يقدح في حسن الفعل ، وذلك حيث لا يكون هناك ما يحسن الابتلاء ولا يكون في الفعل مزيد حسن بحيث يرجّح الإلزام به مع المشقّة كما في الجهاد ، فالفعل الشاقّ قد يكون حسنا بل واجبا عقليّا ، لكن لا يحسن الإلزام به لما فيه من التضييق على المكلّف مع قضاء الحكمة بعدمه (2).

وفيه أوّلا : أنّ السواك على ما هو مورد الرواية من أفراد ما لا يستقلّ فيه العقل لعدم استقلاله بإدراك حسنه أو قبحه ، ولا كونه ممّا أحاط بجميع صفاته وجهاته المحسّنة أو المقبّحة ، فنقض الملازمة فيما يستقلّ فيه بما ليس من أفراده غير سائغ ، لوجوب كون المنقوض به من أفراد المنقوض ، وكون السواك ممّا كشفت الرواية عن اشتماله على جميع الجهات المحسّنة والصفات الملزمة بحيث لم يكن جهة لعدم وقوع الإلزام به إلاّ مانعيّة أمر خارج عن الفعل وهو الكلفة والمشقّة - بملاحظة أنّ « لو لا » لامتناع الثاني لوجود الأوّل ، فيفيد حصر المانعيّة في المشقّة واستناد امتناع الثاني إلى وجودها - لا يوجب دخوله في عنوان ما يستقلّ فيه العقل ، لفرض قصور العقل عن إدراك هذه الصفة فيه لو لا الرواية الكاشفة عنها.

وثانيا : منع قضاء الرواية باعتبار اشتمالها على « لو لا » الامتناعيّة باشتمال السواك على الحسن الملزم الملازم للوجوب الشرعي على القول بالملازمة ، وهو كون الفعل بحيث يستحقّ فاعله المدح وتاركه الذمّ ، ولا تنافي كون الموجود فيه هو الحسن غير الملزم الملازم للاستحباب على القول المذكور وهو كونه بحيث يستحقّ فاعله المدح ولا يستحقّ تاركه الذمّ وذلك لأنّ هذه الرواية ونظائرها يقصد بها المبالغة في الاستحباب والتنبيه على كون الجهة المحسّنة المقتضية لوقوع التكليف على حسبها متأكّدة ، بحيث يقرب من مرتبة الجهة المحسّنة الملزمة ، والمفروض تحقّق الملازمة بينها وبين الاستحباب الشرعي ، فإنّ استحباب السواك في هذه الشريعة من الامور الواضحة الّتي لا يعتريها شوب الإنكار ، وليس هذا إلاّ من جهة استلزام حسن الفعل حسن التكليف به ووقوعه ، فالرواية باعتبار موردها بالبيان المذكور تصلح لكونها من أدلّة المختار.

ص: 527


1- الوسائل 1 : 354 الباب 3 من أبواب السواك ، ح 4.
2- الفصول : 339.

وثالثا : أنّ ثبوت الاستحباب هنا بعد نفي الإلزام لجهة المشقّة آكد في إثبات الملازمة بين حسن الفعل وحسن التكليف به ولو استحبابا لأنّ حسن الفعل على ما أشرنا إليه قد يتضمّن حيثيّتين ، حيثيّة استحقاق الفاعل المدح وحيثيّة استحقاق تاركه الذمّ ، وهذا هو الملازم للإلزام عند أهل القول بالملازمة ، وقد يتضمّن الحيثيّة الاولى فقط وهو الملزوم للاستحباب عندهم ، وكون المشقّة قادحة في حسن الإلزام معناه أنّها ترفع من الحسن بالمعنى الأوّل حيثيّته الثانية مع بقائه بالحيثيّة الاولى ملزوما للاستحباب.

وهذا هو السرّ في بقاء الاستحباب بعد نفي حسن الإلزام ، كما أنّ الجهة المقبّحة إذا طرئت الفعل الحسن ترفع حسنه بكلتي الحيثيّتين.

ورابعا : أنّه لو سلّم بقاء الحسن الملزم في السواك بعد رفع الإلزام فهو بالقياس إلى الإلزام من باب المقتضي ، ويجوز دعوى الملازمة أيضا بينهما بتقريب : أنّه بحيث لو لا المانع لأثّر في الإلزام.

وخامسا : أنّ المسألة عقليّة يطلب فيها القطع ، والقائل بالملازمة إنّما يدّعيها لقاطع ، والرواية خبر واحد ظنّي مع ظنّية دلالته ، فلا يصلح مستندة للمنع في المسألة العقليّة ، إلاّ أن يغيّرا سلوك الاستدلال بالاستناد إلى الأدلّة النافية للعسر والحرج من عمومات الكتاب ، كقوله عزّ من قائل : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (1) و ( يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (2) والسنّة كقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم : « بعثت بالملّة الحنيفيّة السهلة السمحة » (3).

بتقريب : أنّ هذه الأدلّة مسوقة في سياق الامتنان ، فلابدّ من الامور العسرة الشاقّة المرفوع عنها التكاليف الإلزاميّة من حسن ملزم وإلاّ لم يتمّ الامتنان ، فعلم بذلك جواز انفكاك حسن الفعل عن حسن التكليف به على حسبه.

وجوابه : أنّه المعارضة بالمثل بالنظر إلى ما تقدّم من الفاضل المستدلّ من الاعتراف بالملازمة بين حسن التكليف وبين وقوعه ، فإنّ ما ذكر من المحذور مشترك الورود بيننا وبينه ، إذ التكليف المرفوع عن الموارد العسرة الشاقّة إن لم يكن حسنا لم يتمّ الامتنان ، وإن كان حسنا بطلت الملازمة بين حسن التكليف وبين وقوعه.

فإن قلت : إنّ التكليف حسن ولكن عدمه أحسن ، فدار الأمر بين الحسن والأحسن ،

ص: 528


1- الحج : 78.
2- البقرة : 185.
3- الوسائل 5 : 246 الباب 14 من أبواب بقيّة الصلوات المندوبة ، ح 1.

ويرجع الكلام إلى مسألة كلاميّة وهي أنّه هل يجب على اللّه تعالى الأخذ بالأولى في أفعاله وأحكامه أو لا؟ وذلك كما يقال : إنّ عقوبة أهل المعصية حسن والعفو عنهم أحسن ، فعلى القول بالوجوب وجب اختيار الأحسن ، وهذا هو السرّ في عدم وقوع التكليف مع كونه حسنا.

قلت : هذا لا يدفع المعارضة ، إذ المفروض عدم وقوع التكليف سواء كان الباعث عليه كونه أحسن أو جهة اخرى ، فلابدّ في التفصّي عن الإشكال إمّا من منع منافاة عدم وقوع التكليف لمقام الامتنان مع الاعتراف بخلوّه عن الحسن ، أو من منع ورود الأدلّة المذكورة في مقام الامتنان ، بل إنّما وردت لبيان الواقع من عدم تعلّق تكليف إلزامي بالامور العسرة الشاقّة ، فإذا جاز للمستدلّ في دفع المعارضة أحد هذين المنعين جاز لنا أيضا في ردّ الاستدلال ونقول : إنّ هذه الامور خالية عن الحسن الملزم بطروّ المشقّة والعسر ، ولكن رفع التكليف عنها مع هذا الفرض لا ينافي الامتنان ، أو أنّ الأدلّة الدالّة على رفعه ليست مسوقة للامتنان.

ولو تمحّل فعدل عن التقريب المذكور إلى الاستدلال بالامور المذكورة المرفوع عنها التكاليف الإلزاميّة على نهج آخر ، وهو أنّ التكليف الّذي هو فعله سبحانه إنّما يحسن لكونه لطفا ، بمعنى المقرّب إلى الطاعة والمبعّد عن المعصية ، والامور الشاقّة ولا سيّما ما لا يتحمّل منها عادة في عرضة عدم الوقوع من أغلب آحاد الناس ، فلو وقع بها التكاليف الإلزاميّة كان منافيا للّطف الواجب عليه تعالى ، لكونها حينئذ مقرّبة إلى المعصية ومبعّدة عن الطاعة فيقبح وقوعها منه تعالى وإن فرض اشتمال هذه الامور على الحسن فظهر بذلك أنّ المدار في حسن التكليف وعدمه على اللطف وخلافه ، فما كان لطفا حسن وما كان منافيا له قبيح ، لا على حسن الفعل وعدمه.

وممّا ينبّه على ذلك ما في كلام علماء الكلام من أنّ التكليف حسن لأنّه نفع ، وواجب لأنّه زجر أي زجر عن المعصية ، ومرجعه مع ما ذكر إلى أنّ التكليف لا يتبع صفات الفعل المكلّف به ، بل إنّما يتبع الصفات الّتي في نفسه.

لدفعناه : بمنع استناد المعصية إلى التكليف الإلزامي على تقدير وروده بهذه الامور ، فإنّ عدم وقوعها من لوازم ما فيها من المشقّة وورود التكليف الإلزامي بها يوجب صدق المعصية على هذا الترك لا أنّه يؤثّر فيه ، فلا يكون مقرّبا إليها ليقبح باعتبار كونه خلاف اللطف.

نعم إنّما لا يحسن باعتبار كون المشقّة الطارئة أثّرت في خروجها عن الحسن الملزم ، على معنى ارتفاع الجهة المقتضية للإلزام من حسنها.

ص: 529

ولا ريب في قبح التكليف الإلزامي بما ليس فيه حسن إلزامي ، فيكون المدار في حسن التكليف وعدمه على حسن الفعل وعدمه ، ولذا صحّ التكليف الإلزامي بما لا يرتفع حسنه الملزم بالمشقّة كالجهاد والحجّ والصوم في القيظ (1) ونحو ذلك.

ومنها : أنّ الصبيّ المراهق إذا كان كامل العقل لطيف القريحة تثبت الأحكام العقليّة في حقّه كغيره من الكاملين ، ومع ذلك لم يكلّفه الشارع بوجوب ولا تحريم لمصالح داعية إلى ترك تكليفه بهما ، من التوسعة عليه وحفظ القوانين الشرعيّة عن التشويش وعدم الانضباط. (2)

وفيه : أنّه قد ظهر من تضاعيف كلماتنا السابقة أنّ الحكم الشرعي له مراتب ثلاث ، الطلب الفعلي المتعلّق بالفعل أو الترك المعبّر عنهما بالإيجاب والتحريم ، والمجعول الواقعي المكتوب في اللوح المحفوظ ، والمحبوبيّة والمبغوضيّة النفسانيّتان ، والقدر المسلّم عدم ثبوته في حقّ الصبيّ المراهق في موارد الأحكام العقليّة الثابتة في حقّه إنّما هو الحكم الشرعي بالمعنى الأوّل ، وهذا لا ينافي ثبوت الأحكام المجعولة في

الواقع المكتوبة في اللوح المحفوظ في حقّه ، ولا محبوبيّة ومبغوضيّة أفعاله وتروكه للشارع تعالى بحيث يترتّب على موافقتهما ومخالفتهما استحقاق المثوبة والعقوبة.

وهذا على ما بيّنّاه مرارا كاف في انعقاد الحكم الشرعي ، سواء سمّيته تكليفا أو لا ، ولا نعني بالملازمة بين الأحكام العقليّة والأحكام الشرعيّة أزيد ممّا يلازم الحكم الشرعي بهذا المعنى ، وهذا لا ينافي ما ورد في الأخبار من رفع القلم عن الصبيان بقول مطلق ، لجواز أن يراد برفع القلم عنهم رفع قلم العقوبة عنهم في معاصيهم الغير المنافي لاستحقاقها فيكون مفاد الأخبار المشار إليها الوعد والإخبار بالعفو الحتمي عنهم لمصالح دعت إليه ، وكم من هذا القبيل في الشريعة ، ومن هذا الباب العفو عن قصد المعصية على ما ورد به الروايات المستفيضة ، مع أنّه قبيح بصريح العقل واستفاضة النقل عليه كتابا وسنّة.

ومنها : إنّ جملة من الأوامر الشرعيّة متعلّقة بجملة من الأفعال مشروطة بقصد القربة والامتثال ، حتّى أنّها لو تجرّدت عنه لتجرّدت عن وصف الوجوب كالصوم والصلاة والحجّ والزكاة ، فإنّ وقوعها موصوفة بالوجوب الشرعي أو رجحانه مشروط بنيّة القربة حتّى أنّها لو وقعت بدونها لم تتّصف به ، مع أنّ تلك الأفعال بحسب الواقع لا تخلو إمّا أن تكون

ص: 530


1- القيظ : شدّة الحرّ ، و « القيظ » الفصل الذي يسمّيه الناس الصيف ( المصباح المنير ).
2- الفصول : 339.

واجبات عقليّة مطلقا أو بشرط الأمر بها ووقوعها بقصد الامتثال.

وعلى التقديرين يثبت المقصود ، أمّا على الأوّل : فلحكم العقل بوجوبها عند عدم قصد الامتثال وحكم الشرع بعدم وجوبه ، وأمّا على الثاني : فلانتفاء الحسن قبل التكليف وحصوله بعده ، فلم يتفرّع حسن التكليف على حسن الفعل. (1)

وفيه : أنّه ينبغي أن يعلم أوّلا : أنّ الأفعال المذكورة الّتي هي من قبيل العبادات لا يجوز أن تكون بحسب الشرع بالقياس إلى قصد الامتثال واجبات مشروطة ، بأن يكون وجوبها مشروطا بقصد امتثال الأمر ، لئلاّ يلزم توقّف الشيء على نفسه ، فإنّ قصد امتثال الأمر يتوقّف على الأمر ، فلو توقّف عليه الوجوب الشرعي الّذي هو عبارة اخرى للأمر لتوقّف على نفسه وهو محال.

وبهذا علم فساد ما يفهم من قوله : « وحكم الشارع بعدم وجوبه » من اشتراط حكم الشارع بالوجوب بقصد الامتثال قبالا لحكم العقل بالوجوب من غير اشتراط ، ومحصّله : كون الوجوب العقلي بالقياس إليه مطلقا والوجوب الشرعي مشروطا.

وربّما ينهض ذلك قرينة على كون « مشروطة » في صدر العبارة نصبا على أن يكون حالا لمضمون الجملة المتقدّمة ، أو رفعا على أن تكون خبرا بعد خبر لإسم « إن » في هذه الجملة ، لا جرّا على أن تكون نعتا ل « جملة من الأفعال » من الأفعال كما هو أحد محتملات هذا القيد ، فيكون مفاد هذه العبارة أيضا على التقديرين كون الأوامر الشرعيّة المتعلّقة بتلك الأفعال مشروطة بقصد الامتثال.

وقد عرفت أنّه محال ، فوجب كونها بالقياس إليه بحسب الشرع واجبات مطلقة.

وحينئذ فإمّا أن يكون في حدّ أنفسها مشتملة على مصلحة واقعيّة قصد من الأمر بها حصول تلك المصلحة أو لا ، بل كانت المصلحة في أمر خارج يكون فعل المأمور به باعتبار الأمر به محصّلا له كالإطاعة والامتثال.

وعلى الأوّل : فإمّا أن يكون قصد الامتثال من قيود المأمور به على وجه يكون له كسائر قيوده مدخليّة في حصول المصلحة المقصودة من الفعل ، بأن لم يكن للآمر غرض من الأمر به إلاّ حصول هذه المصلحة المتوقّف على قصد الامتثال ، أو لا يكون من قيوده بل إنّما اعتبر لكونه محقّقا للامتثال الّذي هو كمصلحة الفعل من أغراض الآمر من الأمر به ،

ص: 531


1- الفصول : 339.

بأن يكون له غرضان أحدهما حصول مصلحة الفعل ، والآخر حصول الامتثال الّذي قد يكون مطلوبا لنفسه ولا يحصل إلاّ بالقصد ، كما أنّه في القسم المتقدّم الّذي لم يقصد في الأمر بالفعل مصلحة إلاّ مصلحة الامتثال إنّما يعتبر لكونه محقّقا له فهذه أقسام ثلاث وموارد التعبّد المعتبر في صحّتها نيّة القربة وقصد الامتثال بأجمعها لا تخلو عن هذه الأقسام ، ولا يتّجه النقض بشيء منها.

أمّا القسم الأوّل : فلحسن الفعل اللازم من المصلحة الموجودة فيه بالفرض ، المستتبع لوقوع التكليف الشرعي على حسبه. وكذلك على القسم الثاني.

وأمّا القسم الثالث : فلأنّ الفعل كما أنّه خال عن الحسن النفسي فكذلك الأمر به أيضا خال عنه ، بل الحسن إنّما هو في الأمر الخارج وهو الامتثال.

نعم ربّما يعرضهما حسن غيريّ لجهة كون الفعل باعتبار الأمر الوارد به محصّلا لما هو حسن لنفسه ، فإن كان النظر في هذا القسم إلى خلوّ الفعل عن الحسن الذاتي فالأمر أيضا مثله ، وإن كان النظر إلى حسن الأمر لغيره فالفعل أيضا مثله ، فبطل بجميع ما ذكر قوله : « لانتفاء حسن الفعل قبل التكليف وحصوله بعده فلم يتفرّع حسن التكليف على حسن الفعل ».

فإنّا نقول : إنّ وجوب الفعل عقلا فيما هو حسن لنفسه مطلق مع كون حسن التكليف متفرّعا عليه ، وكأنّه رحمه اللّه فرض الكلام على تقدير اشتراط الأوامر المذكورة بقصد القربة ، بل هو على ما عرفت ظاهر عبارته ذيلا بل صدرا أيضا بعد إنهاض الذيل قرينة للصدر وقد ظهر فساده ، ولعلّه وهم نشأ عن ملاحظة عدم اتّصاف الخالي عن قصد القربة بالوجوب فزعم أنّه شرط في الوجوب ، ولم يفرّق بين المصداق والعنوان ، فإنّ المأمور به بحسب العنوان إذا كان هو الفعل المقرون بالنيّة مثلا فلا يكون الفعل الخالي عنها خارجا عنه باعتبار كون القيد المذكور كسائر قيوده للاحتراز ، فعدم اتّصاف ما خرج بالوجوب إنّما هو لخروجه عن حكم المأمور به لا لاشتراط وجوبه بحسب العنوان الكلّي بقصد الامتثال فليتدبّر.

ثمّ إنّ الوجوه المذكورة هي الشبهات الّتي عجز الفاضل المستدلّ بها عن حلّها ، فأحدث القول المتقدّم بالفرق بين التلازم الواقعي فأنكره والتلازم الظاهري فأثبته ، وكلامه في بيان الثاني هو « أنّه لو جهل العقل جهات التكليف وأدرك جهات الفعل حكم في الظاهر بثبوت التكليف ، عملا بعموم الآيات وما في معناها من الأخبار ، ولأنّ قضيّة جهات الفعل وقوع التكليف على حسبها إن لم يعارضها مانع ، ولا يكفي احتماله ، إذ المحتمل

ص: 532

لا يصلح في نظر العقل لمعارضة المقطوع به ، وقريب منه ما لو أدرك العقل بعض جهات الفعل المقتضية لحسنه أو قبحه وشكّ في وجود جهة فيه تعارض تلك الجهة ، فإنّه يحكم بثبوت التكليف على حسبها ولا يعتدّ باحتمال الجهة المعارضة ، إمّا لأصالة عدمها أو لحكم العقل بقبح الفعل أو الترك والحال هذه حكما واقعيّا ، وإن كان مبناه على الظاهر » إلى آخر ما ذكره. (1)

والظاهر أنّ مراده من عموم الآيات وغيرها بقرينة سابق كلامه نحو قوله تعالى : ( يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ ) (2) وغيره ممّا يدلّ على أنّه يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن السوء والفحشاء.

ومحصّل مرامه : أنّ الأحكام الشرعيّة المثبتة بالأحكام العقليّة أحكام ظاهريّة ، لكون الحكم بها مراعى بعدم وجود المانع وعدم ظهور جهة معارضة ، فتكون كالأحكام الظاهريّة المستفادة من نحو أصلي الإباحة والبراءة المعلّقة على عدم وجود دليل على الحرمة والوجوب ، كإباحة شرب التتن وعدم وجوب غسل الجمعة مثلا المحكوم بهما عقلا ونقلا ما لم يوجد دليل على خلافهما ، ومنشؤه على ما ظهر من تعليلاته مصادفة حكم العقل لاحتمال وجود المانع ، الّذي هو أعمّ من احتمال وجود الجهة المعارضة للجهة المحسّنة أو المقبّحة للفعل في نظر العقل ، ولعلّه أراد بالمانع في مقابلة الجهة المعارضة - مع أنّها أيضا من قبيل المانع - ما هو نظير الصغر في الصبيّ المراهق المانع من توجّه الخطاب إليه ، وإن اتّصف أفعاله بالحسن والقبح عند العقل ، والمشقّة في موارد العسر والحرج المانعة من التكليف الإلزامي بها وإن اشتملت عند العقل على الحسن الملزم.

وكيف كان فيرد عليه : ما تقدّم تحقيقه من أنّ العقل في قضايا حكمه ما لم يحط بجميع جهات الفعل ولم ينسدّ عنده جميع الاحتمالات لم يحكم فيه بحسن ولا قبح.

نعم إنّما يتمشّى احتمال وجود المانع أو وجود الجهة المعارضة في القضيّة الشخصيّة الّتي موضوعها من مصاديق موضوع حكم العقل في القضيّة الكلّية ، وهو ليس من محلّ البحث في مسألة الملازمة ، ولعلّ تجويز جريان الاحتمال في قضيّة حكم العقل وهم نشأ من اشتباه المصاديق بالمفاهيم.

والسرّ في عدم جريان احتمال وجود المانع في قضيّة حكم العقل هو أنّ المانع هاهنا ليس على حدّ المانع بالمعنى المعهود المقابل للمقتضي ، الغير المنافي وجوده لوجوده بل

ص: 533


1- الفصول : 340.
2- الأعراف : 157.

إنّما يمنعه عن الاقتضاء ويؤثّر في عدم اقتضائه لا في ارتفاعه ، بل المراد به ما ينافي المقتضي ويرفعه.

ألا ترى أنّ قبح الكذب من حيث هو مقتض لتحريمه شرعا ، وإذا طرأه جهة النفع في حفظ النفس المحترمة عن القتل يقال لها المانع ، مع أنّها رافعة لقبح الكذب لا أنّها مانعة عن اقتضائه التحريم مع بقائه ، وذلك لأنّ القبح عبارة عن كونه بحيث يستحقّ فاعله الذمّ ، وإذا لحقته جهة النفع خرج عن كونه بحيث يستحقّ فاعله الذمّ إلى كونه بحيث يستحقّ فاعله المدح ، لا أنّه مع كونه بحيث يستحقّ فاعله الذمّ يصير بحيث يستحقّ فاعله المدح أيضا ، بأن يجتمع فيه الوصفان مع منع الوصف الثاني عن تأثير الأوّل في الحكم الشرعي وهو التحريم.

وحينئذ فمعنى احتمال وجود المانع في موضوع حكم العقل احتمال وجود ما لا يجامع حسنه أو قبحه ، وحيثما احتمل ذلك في نظر العقل يبقى متحيّرا ومتردّدا في حسن ذلك الشيء وقبحه ، على معنى هل هو بحيث يستحقّ فاعله المدح أو هو بحيث يستحقّ فاعله الذمّ؟ ومعه يستحيل منه الحكم بحسنه وقبحه ، ولا يجديه أصالة عدم وجود المانع نفعا في رفع هذا التحيّر والتردّد المانع عن الحكم بهما.

غاية ما هنالك أن يحكم بأحدهما على تقدير عدم وجوده ، ولا ريب أنّ تقدير الشيء لا يحقّقه في الخارج ، والحسن والقبح التقديريّان لا يؤثّران عند العقل في حكم شرعي أصلا ، لا واقعا ولا ظاهرا.

ألا ترى أنّه لو قيل : « هذا المايع إن كان خمرا فهو حرام » ، فلا خفاء في أنّ تقدير كونه خمرا مع عدم ثبوت خمريّته لا يوجب الحكم عليه بالحرمة الواقعيّة ولا الظاهريّة ، فكلّ ما حكم فيه العقل بحسن أو قبح فلا بدّ وأن يلازم الحكم الشرعي واقعا ، وكلّما لم يحكم فيه بحسن أو قبح على التحقيق لاحتمال وجود المانع لم يعقل فيه حكمه بالملازمة ، لا واقعا ولا ظاهرا.

وبالجملة فالعقل إذا أدرك في الشيء حسنا أو قبحا يحكم ببداهته بالتكليف الشرعي على حسبما أدركه ، ويستحيل حكم الشارع بخلافه ، لقبح النهي عن الحسن والأمر بالقبيح ، وإذا أدرك تساوي فعله وتركه وخلوّه عن الحسن والقبح يحكم ببداهته بإباحته ، ولا يجوّز خلافها لقبح إيجاب نحوه أو تحريمه ، إلاّ أن يعرضه حسن بعد الأمر به باعتبار كونه مقدّمة لمحبوب وهو الامتثال ، فرجع الكلام إلى أنّ جهات الفعل والصفات الكامنة فيه حيثما استقلّ العقل بإدراكها علل تامّة للأحكام الشرعيّة الواقعيّة.

ص: 534

وبهذا ينقدح أنّ ما ذكرناه سابقا من أنّ الحسن والقبح فيما إذا كان الفعل لعنوانه الخاصّ مقتضيا لهما كالصدق والكذب مقتضيان للحكم الشرعي ، فيجامعهما المانع عن اقتضائهما ليس على ما ينبغي ، بل التحقيق الّذي يساعد عليه النظر الدقيق أنّ كلاّ منهما في جميع موارده علّة تامّة للحكم الشرعي ، وإن كان الفعل لعنوانه الخاصّ مقتضيا له ، إذ معنى الجهة المانعة للفعل عن الاقتضاء أنّه يمنعه عن اقتضاء الحسن كما في الصدق الضارّ ، أو عن اقتضاء القبح كما في الكذب النافع ، فمع وجودها لا حسن في الأوّل ولا قبح في الثاني ، ليكون بالقياس إلى الحكم الشرعي مقتضيا ومع عدمها وجب التأثير.

ومن هنا ظهر فساد ما قد يقال : من أنّ الفعل القبيح إذا لحقته الجهة المحسّنة فالإتيان به إنّما هو من باب ارتكاب أقلّ القبيحين ، كما في الكذب النافع في إنجاء النبيّ عن القتل مثلا فإنّ كلاّ من الكذب وترك الإنجاء قبيح إلاّ أنّ قبح الثاني أكثر ، ومنه العمل بالظنّ حال انسداد باب العلم الّذي تطابق العقل والنقل بقبحه ، فإنّه إنّما يسوغ لكونه أقلّ القبيحين منه ومن مخالفة العلم الإجمالي بترك امتثال الأحكام المعلومة بالإجمال رأسا ، إذ القبيح عند طروّ الجهة المحسّنة له لا يبقى على قبحه ليكون فعله من ارتكاب أقلّ القبيحين.

هذا تمام الكلام في قضيّة قولهم : « كلّما حكم به العقل حكم به الشرع ».

وأمّا عكسها : وهو « أنّ كلّما حكم به الشرع حكم به العقل » فالكلام فيه هو أنّ حكم الشرع في موضوع هذه القضيّة إمّا أن يراد به إنشاء الشارع بإيجاب أو تحريم أو غيرهما ، أو جعله الواقعي للوجوب أو الحرمة أو غيرهما ، أو الوصف النفساني المعبّر عنه بالحبّ والبغض النفسانيّين ، وحكم العقل في محمول القضيّة إمّا أن يراد به إدراكه لعين ذلك الحكم المحكوم به الشرعي ، أو حكمه على الفعل بالوجوب والحرمة العقليّين المأخوذ فيهما استحقاق المدح والذمّ ، وملخّصه : كون الفعل بحيث يحسّنه العقل أو يقبّحه.

وعلى التقديرين ينبغي أن يراد من حكمه ما يعمّ الشأني - ليكون المعنى أنّ كلّما حكم به الشرع فهو بحيث لو أدرك فيه العقل صفات الفعل وأحاط بجميع جهاته لأدرك ذلك الحكم الشرعي ، أو حكم بوجوبه أو حرمته العقليّين - لا الفعلي بالخصوص ، لئلاّ ينتقض بغير مستقلاّته الّتي لا يدرك فيها إلاّ من جهة خطاب الشرع ، الكاشف عن وجود الصفة المحسّنة أو المقبّحة في الفعل بحسب الواقع ، إلاّ أن يراد بالعقل خصوص العقول الصحيحة الكاملة ، فيرجع معنى القضيّة حينئذ إلى ما تقدّم عن المتكلّمين من عدّهم من

ص: 535

أعلام نبوّة نبيّنا صلى اللّه عليه وآله أنّه كان يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطيّبات بالبيان المتقدّم ، ومنه ما سبق من قصّة الأعرابي.

والأصل في هذه القضيّة مضافا إلى شهادة حديث الأعلام وقصّة الأعرابي لزوم الترجيح من غير مرجّح في إيجابه تعالى أو تحريمه أو غيرهما ، أو جعله الوجوب أو الحرمة أو غيرهما ، أو حبّه أو بغضه لو لا اشتمال الفعل بحسب الواقع على صفة محسّنة أو مقبّحة ، وهو قبيح على الحكيم ، كما أنّه يقبح عليه التسوية بين طرفي الفعل والترك فيما اشتمل على صفة محسّنة أو مقبّحة.

وأمّا ما يقال في دفعه : من منع الملازمة ، لجواز كون المرجّح على تقدير الخلوّ عن الصفات بالمرّة إرادته تعالى ، نظير ما قيل في دفع احتجاج القائل بكون دلالات الألفاظ على معانيها لمناسبات ذاتيّة بينهما بأنّه لولاها لزم الترجيح بلا مرجّح إن كان هناك تخصيص وإلاّ لزم الترجيح من غير مرجّح ، فدفع بأنّ إرادة الحكيم تصلح مرجّحة للتخصيص.

ففيه : أنّ الإرادة في المقامين عبارة عن العلم بالأصلح لا القصد لئلاّ يلزم التسلسل ، فتجويز كون المرجّح فيما نحن فيه هو الإرادة اعتراف بمطلوبنا ، إذ الأصلحيّة ممّا لا معنى محصّل له إلاّ الوجوب والحرمة العقليّين.

وقد يستدلّ أيضا بالإجماع محصّلا ومنقولا ، وبالآيات والأخبار الدالّة على أنّه تعالى لا يأمر إلاّ بحسن ولا ينهى إلاّ عن قبيح ، ومنه قوله عزّ من قائل : ( قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ) (1) حصر تعالى تحريمه في الفواحش وهي القبائح ، فدلّ على أنّه كلّما حرّمه الشارع فهو بحيث لو أدرك العقل قبحه الواقعي كما أدركه الشارع لحكم بالتحريم أيضا.

فثبت بما قرّرناه من الملازمة في القضيّتين أنّ العقل والشرع متطابقان.

ثمّ إنّ الفاضل المذكور نقل في مسألة الملازمة قولين آخرين :

أحدهما : ما عن بعض من التفصيل بين الأحكام المتعلّقة بالمعارف فأثبتها وغيرها فأنكرها ، محتجّا بما دلّ عليه جملة من الأخبار (2) من تعذيب عبدة الأوثان ، فإنّها بإطلاقها تشمل زمن الفترة أيضا ، فتدلّ على حجّية مدركات العقل بالنسبة إلى العقائد (3).

ص: 536


1- الأعراف : 33.
2- الكافي 3 : 249 ، ح 6 و 7 ، البحار 5 : 292 - 293 ، ح 14 و 15.
3- الفصول : 345.

وثانيهما : ما حكاه عن بعض الأفاضل من الفرق بين الضروريّات والنظريّات فخصّ النفي بالنظريّات محتجّا بأمرين :

الأوّل : ما دلّ من الأخبار على أنّ دين اللّه لا يصاب بالعقول (1) ، وما دلّ على أنّ الناس مكلّفون بالرجوع إلى الكتاب والسنّة (2) ، فإنّ ظاهرهما حصر الحجّة فيهما.

الثاني : أنّ المطالب النظريّة كثيرا مّا يقع فيها الاشتباه والخطأ وإن بالغ الناظر في المحافظة على مقدّماتها ، كما يشهد به الوجدان فلا يحصل للناظر القطع بها ، لأنّه كلّما رتّب البراهين بمقدّماتها المستلزمة للمطلوب منع نفسه من الانقياد بها والتسليم لمقتضاها علمه الإجمالي بكثرة وقوع الخطأ في النظر ، وإنّ الناظر كثيرا مّا يقطع بالحكم بمشاهدة مقدّمات معلومة عنده بالضرورة ثمّ ينكشف خلافه ، فيجوز أن يكون علمه بالحكم المستفاد من النظر من ذلك القبيل ، إذ لا يتمكّن من التميّز بحيث لا ينتقض بذلك اليقين الإجمالي ، وإذا تحقّق عنده ذلك امتنع جزمه بالحكم (3).

وأنت بملاحظة ما نبّهنا عليه مرارا من الفرق بين النزاع في الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع والنزاع في حجّية إدراكات العقل ، تعرف أنّ عدّ هذين القولين من أقوال النزاع في الملازمة خلط بين المقامين ، لأنّهما بملاحظة حججهما المذكورة يناسبان النزاع في حجّية إدراكات العقل.

ومع هذا نقول في دفع حجّة الأوّل : بأنّ الأخبار إنّما دلّت على تعذيب عبدة الأوثان لمخالفتهم الواقع بعد انكشافه لهم ، فهو المناط في استحقاقهم التعذيب ، وهو موجود فيما يستقلّ فيه العقل من الفروع أيضا ، لأنّ إدراك العقل فيها معناه انكشاف الواقع عنده لازمه استحقاق التعذيب على المخالفة ، بل استحقاق العقوبة على مخالفة الواقع بعد انكشافه ضروريّ لا حاجة له إلى الاستدلال.

وفي دفع أوّل حجّتي الثاني : أنّ الأخبار المشار إليها إنّما وردت ردّا على العامّة في تخريجهم علل الأحكام بعقولهم القاصرة ، ومعناها أنّ العلل الخفيّة لأحكام الدين لا تبلغ إليها العقول الناقصة ، كما هو ظاهر قوله عليه السلام : « لا يصاب » فإنّ إصابة الشيء عبارة عن البلوغ إليه ، فتكون مختصّة بما لا يستقلّ فيه العقل ، لأنّ مفادها نفي إدراك العقل لا نفي حجّية

ص: 537


1- الكافى 1 : 46 ، ح 13 و 16.
2- الكافي 1 : 69 - 71 باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب.
3- الفصول : 345.

إدراكه بعد حصوله ، مع أنّها لو كانت متعرّضة لنفي حجّيته لكانت شاملة للضروريّات أيضا.

وفي دفع ثانيهما : أنّا ندّعي الحجّية في قطع العقل على تقدير حصوله ، لأنّه عبارة عن انكشاف الواقع ووجوب الأخذ بالواقع بعد انكشافه ضروريّ ، ويكفي فيه أدلّة الواقع ولا حاجة له إلى دليل آخر ، والعلم الإجمالي بوقوع الخطأ في النظريّات لا يمنع عن حصول القطع في بعض الموارد ، وبعد حصوله يستحيل تجويز الخطأ فيه من القاطع ، وتجويزه من غيره لا يقدح في حجّيته للقاطع على معنى وجوب ترتيب آثار الواقع على المقطوع به ، لأنّه في نظر القاطع ليس إلاّ الواقع.

في الإباحة والحظر

المقام الثالث

في أنّ الأشاعرة بعد مخالفتهم العدليّة في أصل التحسين والتقبيح العقليّين وإنكارهم حكومة العقل رأسا ، تنزّلوا من باب المماشاة عمّا ادّعوه من السلب الكلّي إلى إنكار حكم العقل في مسألتين تتفرّعان على مذهب العدليّة :

إحداهما : وجوب شكر المنعم ، فقالوا : بأنّه لا حكم للعقل فيها.

واخراهما : الأشياء الغير الضروريّة النافعة قبل ورود الشرع ، فقالوا : بأن لا حكم له فيها أيضا لا بإباحة ولا حظر.

ووافقهم في الثانية بعض المعتزلة واختلف الآخرون ، فبعضهم إلى أنّه يحكم بالإباحة وآخر إلى أنّه يحكم بالحظر ، وثالث إلى الوقف ، ولا يرجع ذلك إلى قول الأشاعرة لأنّه نفي لحكم العقل وهذا توقّف في الحكم وعدمه ، ومعناه أنّه لا يدري أنّه يحكم أو لا؟ وعلى الأوّل بأيّ شيء يحكم؟

ومن الأعلام (1) من زعم في هذا المقام أن ليس في الأشياء ما اتّفق العدليّة على حكم العقل بإباحته ، تعليلا بأنّه إذا كان نحو شمّ الورد وأكل الفاكهة ممّا اختلف في إباحته وحظره ، فأيّ شيء يبقى ليكون إباحته ممّا اتّفقت عليه العدليّة؟

ثمّ أورد على من قال بأنّ ما يستقلّ فيه العقل ينقسم عند العدليّة إلى الأحكام الخمس مؤذنا بدعوى إجماع العدليّة عليه ، ورماه بالغفلة في هذه الدعوى لما زعمه من عدم اتّفاق العدليّة على الحكم بإباحة شيء ، ولا خفاء في أنّه ليس كما زعم ، لأنّ ما اتّفق العدليّة على

ص: 538


1- القوانين 2 : 9.

انقسامه إلى الأحكام الخمسة هو ما أحاط العقل بجميع جهاته من الأشياء ، فأدرك في بعضها حسنا ملزما فيكون واجبا ، وفي بعضها حسنا غير ملزم فيكون مندوبا ، وفي بعضها قبحا ملزما فيكون محرّما ، وفي بعضها قبحا غير ملزم فيكون مكروها ، وفي بعضها خلوّه عن جميع الجهات المحسّنة والجهات المقبّحة فيكون مباحا ، وما اختلفوا في إباحته وحظره ما لم يدرك فيها حسنا ولا قبحا لعدم إحاطته بجميع جهاته ، على معنى جهله بجهاته الواقعيّة مع اشتماله على منفعة خالية عن أمارة المضرّة.

فالاختلاف في إباحة نحو ذلك لا ينافي الاتّفاق على حكم العقل بإباحة نحو ما تقدّم.

نعم غاية ما هنالك القدح في تحقّق ما أدرك العقل خلوّه عن جميع الجهات من الأشياء في الخارج.

وهذا على تقدير صحّته قدح في الصغرى ولا يوجب كذب الكبرى ، لأنّ الحكم بإباحة ما ذكر إنّما هو على تقدير تحقّقه في الخارج.

وهاهنا إشكال مشهور - تقدّم الإشارة إليه وإلى دفعه في تعريف الدليل العقلي - متوجّه إلى أهل القول بالإباحة والحظر ، فإنّ القول بحكم العقل بأحدهما يناقض فرض كون هذه الأشياء ممّا لا يستقلّ فيه العقل.

ويندفع أوّلا : منع كونها ممّا لا يستقلّ فيه العقل ، وإخراجها عن عنوان ما يستقلّ فيه أمر حدث من المتأخّرين ، وإلاّ فهي بحسب أصل تدوين مسألة التحسين والتقبيح العقليّين وعند أوائل العدليّة كانت من أفراد ما يستقلّ فيه العقل ، المتنازع في استقلال العقل فيها بإدراك الحسن والقبح ، أو بإدراك الحكم الشرعي بدون ملاحظة خطاب الشرع ، ولذا يسمّى البحث فيها على رأي الأشاعرة بمسألة « التنزّل ».

وثانيا : أنّ معنى ما يستقلّ فيه العقل عند العدليّة ما يستقلّ فيه عند جميع العدليّة ، وكون هذه الأشياء ممّا لا يستقلّ فيه العقل معناه عدم استقلال العقل فيه عند كلّ العدليّة ، وهذا لا ينافي كونها ما يستقلّ فيه العقل عند بعضهم ، والمفروض أنّ القائل بأنّ العقل يحكم فيها بالإباحة أو الحظر بعض العدليّة لا كلّهم.

وثالثا : أنّ ما يستقلّ فيه العقل معناه استقلال العقل بإدراك حسنه أو قبحه بالمعنى المأخوذ فيه استحقاق المدح والذمّ ، وعدم استقلال العقل في هذه الأشياء بإدراك الحسن والقبح بهذا المعنى لا ينافي استقلاله بإدراك الحسن والقبح بمعنى آخر ، وقد تقدّم أنّ من

ص: 539

معاني الحسن والقبح ما لا حرج في فعله وما في فعله حرج ، والإباحة معناها عدم الحرج في الفعل والحظر معناه الحرج فيه.

ورابعا : أنّ عدم استقلال العقل بإدراك الحسن والقبح في هذه الأشياء لا ينافي استقلاله بإدراك الحكم الشرعي من إباحة أو حظر بدون واسطة إدراكه الحسن والقبح.

وقد يجاب بوجهين آخرين :

الأوّل : أنّ معنى عدم استقلال العقل فيها عدم استقلاله لعناوينها الخاصّة مع قطع النظر عن اندراجها تحت عنوان عامّ استقلّ فيه العقل ، وهذا لا ينافي حكمه فيها بالاباحة أو الحظر بملاحظة اندراجها تحت العنوان العامّ ، وهو ما اشتمل على المنفعة ، أو التصرّف في ملك الغير من دون إذنه.

وردّ : بنقضه ببعض ما يستقلّ فيه العقل الّذي لا يحكم العقل بحسنه أو قبحه لعنوانه ، بل بملاحظة اندراجه تحت عنوان عامّ حكم بحسنه أو قبحه ، كلطم اليتيم المحكوم عليه بالقبح لاندراجه في عنوان الظلم.

الثاني : أنّ معنى عدم استقلال العقل فيه عدم حكمه فيه بشيء ابتداءا وبدون النظر في وسط ، وهذا لا ينافي حكمه بالنظر إلى وسط.

وردّ أيضا : بنقضه ببعض ما يستقلّ فيه العقل ، كإعطاء الفقير المحكوم عليه بالحسن بواسطة كونه إحسانا.

وقد يجاب أيضا : بأنّ معنى ما لا يستقلّ فيه العقل أنّه لا يدرك فيه الحكم الواقعي بالاستقلال ، وهذا لا ينافي إدراكه فيها ما يكون حكما ظاهريّا ، فإنّ المراد بالإباحة والحظر المبحوث عنهما الإباحة والحظر الظاهريّان ، كما نسب القول به إلى بعض.

ويشكل ذلك : بأنّ ملاك الحكم الظاهري دخول الجهل بالحكم الواقعي والشكّ فيه في موضوعه ، وإنّما يتمّ ما ذكر لو كان مناط حكم العقل بالإباحة أو الحظر في نظر المبيحين والحاظرين في هذه الأشياء جهالة حكمها الواقعي ، بأن يحكم العقل بأحدهما لأنّها مجهول الحكم ، وهو خلاف مقتضى كلمات الفريقين وأدلّتهما على ما ستعرفها ، فالأظهر كون المراد بهما الإباحة والحظر الواقعيّين ، ولذا تمسّك المبيحون بأنّه لو كان لها حكم غير الإباحة لبيّنه الشارع ، والحاظرون بحرمة التصرّف في مال الغير بدون إذنه ، إذ لا شكّ في أنّ هذه الحرمة حرمة واقعيّة.

ص: 540

وربّما ايّد ذلك بتصريحهم بأنّ المتوقّف حاظر من حيث العمل أخذا بالاحتياط ، لقضائه بأنّ الرجوع إلى الاحتياط الّذي هو حكم ظاهري إنّما هو بعد التوقّف بين الحكمين ، فلو لا كونهما واقعيّين لم يكن للتوقّف ثمّ الرجوع إلى الحكم الظاهري الّذي هو الاحتياط وجه ، لأنّ الحظر الظاهري لا معنى له إلاّ الحرمة من جهة الاحتياط.

وفيه نظر ، لأنّ التوقّف قد يتأتّى بين الظاهريّين ، كما يأتي نظيره في مسألة أصالة البراءة ، فإنّ المتوقّف من الأخباريّين ثمّة متوقّف عن الحكم بالبراءة ووجوب الاحتياط معا في موضوع مجهول الحكم بعد توقّفه عن الحكم الواقعي ، وهما عند قائليهما حكمان ظاهريّان ، مع كونه من حيث العمل كالقائل بوجوب الاحتياط في الأخذ بالاحتياط.

والفرق بين الاحتياطين دخول الجهل بالحكم الواقعي فقط في موضوع الأوّل والجهل به مع الجهل بالحكم الظاهري في موضوع الثاني.

وأضعف من ذلك ما عساه يستدلّ به على نفي كونهما ظاهريّين من لزوم تسبيع الأحكام ، بانضمام الإباحة الظاهريّة والحظر الظاهري إلى الخمس المعروفة الّتي هي أحكام واقعيّة ، واللازم باطل لقضاء الضرورة بانحصار الأحكام في الخمس ، ووجه الضعف - بعد النقض بالبراءة ووجوب الاحتياط عند قائليهما في المسألة الآتية ، وهما حكمان ظاهريّان فيلزم التسبيع - : أنّ الواقعيّة والظاهريّة بالقياس إلى الحكم الشرعي ليستا من الفصول المنوّعة ، بل هما من الأحوال العارضة للخمس ، فإنّ كلاّ منها باعتبار تعلّقه بالواقعة لعنوانها الخاصّ حكم واقعي ، وباعتبار تعلّقه بها بعنوان مجهول الحكم حكم ظاهري ، فالإباحة الظاهريّة والحظر الظاهري قسمان من الحرمة والإباحة لا أنهما قسيمان لهما.

وربّما علّل كونهما ظاهريّين بأنّ أدلّة القائلين بهما إنّما تفيد الإباحة والحظر ما لم يظهر مفسدة أو رخصة ، فإنّه لا يمكن نفي الاحتمال العقلي رأسا ، سيّما مع ملاحظة ما ورد في الشرع من تحريم بعض المنافع الخالي عن المضرّة مثل الغناء وشرب الفقّاع الغير المسكر ونحوهما ، فربّما يكون في الشيء مفسدة ذاتيّة لا يدركها العقل ثمّ يكشف عنها الشرع.

وفيه : أنّ خروج مورد عن موضوع حكم ودخوله في موضوع حكم آخر لا يوجب كون الحكم الأوّل حكما ظاهريّا ، وموضوع الإباحة عند المبيحين هو المنفعة الخالية عن أمارة المفسدة ، بزعمهم أنّ العقل يحكم على هذا الموضوع بالإباحة ، فإذا ورد في مورد منع من الشرع - كما في المثالين - خرج المورد عن هذا الموضوع بسبب انتفاء قيد الخلوّ

ص: 541

عن أمارة المفسدة ، وموضوع الحظر عند الحاظرين هو التصرّف في مال الغير بدون إذن صاحبه ، بزعمهم أنّ العقل يحكم على هذا الموضوع بالحظر ، فإذا ورد في مورد رخصة من الشرع خرج المورد عن هذا الموضوع بسبب انتفاء قيد عدم الإذن.

إلاّ أن يقال : إنّ الحكم الظاهري ما تعلّق بفعل المكلّف لاندراجه تحت عنوان عامّ محكوم عليه بذلك الحكم وإن لم يؤخذ فيه الجهل بالحكم الواقعي ، ولكنّه خلاف المصطلح ، مع أنّه يستلزم كون كثير من الأحكام الواقعيّة أحكاما ظاهريّة ، لمكان تعلّقها بأفعال المكلّفين على هذا الوجه.

وبما بيّنّاه اندفع ما أورده بعض الفضلاء على بعض الأعلام في تنزيله مقالة المبيح والحاظر على إرادة الحكم الواقعي ، بأنّه : « قد تبيّن لغير المصوّبة منهما بعد ملاحظة الشرع فساد كلّ من المقالتين ، فكان اللازم لهم ترك النزاع ، وإلاّ لعاد محصّله إلى أنّ أيّ الجهلين المركّبين يلحق الفعل قبل ملاحظة الشرع؟ وهو لا يشبه بنزاع أهل العلم » (1) فإنّ خروج مورد عن موضوع حكم إلى موضوع حكم آخر ليس من انكشاف خطأ حكم العقل ، ولا من تبدّل حكم بحكم آخر مع اتّحادهما ، فتبيّن فساد كلّ من المقالتين بعد ملاحظة الشرع موضع منع ، وقضيّة تعدّد موضوعي الحكمين عدم ارتباط المقام بالتصويب كما زعمه الفاضل المذكور ، فلا يعود النزاع إلى ما ذكر من لحوق أيّ الجهلين بالفعل ، بل النزاع في لحوق أيّ الحكمين الواقعيّين عقلا بالأفعال الغير الضروريّة المشتملة على المنفعة الخالية عن أمارة المفسدة.

وبجميع ما قرّرناه ظهر الفرق بين أصل الإباحة وأصل البراءة ، من حيث إنّ مفاد الأوّل حكم واقعي ومفاد الثاني حكم ظاهري ، ولزمه فرق آخر وهو كون الأوّل من الاصول الاجتهاديّة الناظرة إلى الواقع ، والثاني من الاصول الفقاهيّة الّتي لا نظر فيها إلى الواقع المتكفّلة لبيان كيفيّة العمل.

لا يقال : فائدة الفرق بين الاجتهاد والفقاهة إنّما تظهر في صلاحية المعارضة وعدمها ، وهذه الفائدة هاهنا منتفية ، لأنّه إذا ورد في الشرع تحريم بعض المنافع كالغناء مثلا فكما أنّ أصل البراءة لا يصلح لمعارضة دليل التحريم فكذلك أصل الإباحة ، فإنّ عدم المعارضة في نحو الصورة المفروضة إنّما هو لخروج المورد عن موضوع الأصل ، وهو المنفعة الخالية عن أمارة المفسدة ، لكون دليل التحريم الوارد فيه أمارة للمفسدة ، وإلاّ فلو فرض الدليل

ص: 542


1- الفصول : 345.

المخالف واردا في نفس ذلك الموضوع - كما لو ورد في أخبار الآحاد ما يدلّ على أنّ كلّ منفعة خالية عن أمارة المفسدة محظور - جاء التعارض بينه وبين أصل الإباحة الّذي هو حكم عقلي بالإباحة ، مع عدم صلاحية أصل البراءة لمعارضة هذا الدليل أيضا ، فتأمّل.

وقد يذكر فرق آخر بين الأصلين ، وهو أنّ أصل الإباحة يرجع إلى إثبات حكم شرعي للمنافع وأصل البراءة إلى نفي التكليف أو آثاره كالعقوبة وغيرها ، وأمّا إثبات حكم آخر من الاستحباب أو الإباحة أو الكراهة فلا بدّ فيه من دليل آخر فتأمّل.

وفرق آخر أيضا ، وهو أنّ النظر في هذا الأصل إلى حال العقل من حيث إنّه يحكم بالإباحة أو بالحظر مع قطع النظر عن العمل وفي مسألة أصل البراءة إلى حال العمل من حيث إنّه يبنى فيه على البراءة أو الاحتياط من غير نظر إلى العقل ، بمعنى كون العقل في البحث الآتي مسكوتا عنه ، كما أنّ العمل في هذا البحث مسكوت عنه.

وبالجملة : لمّا كان مسألة الحظر والإباحة من تتمّة مسألة التحسين والتقبيح العقليّين ، فالبحث فيها إنّما هو في حال العقل من حيث إنّه يحكم أو لا يحكم؟ وعلى تقدير الحكم فهل يحكم بالإباحة أو الحظر؟ بخلاف المسألة الآتية الّتي موضوعها عمل المكلّف من حيث إنّه مجهول الحكم ، من غير نظر فيها إلى حال العقل من حيث إنّه يحكم أو لا يحكم.

وفرق آخر أيضا ، وهو اختصاص هذا الأصل بالشبهات التحريميّة بخلاف الأصل الآتي لاختصاصه بالشبهات الوجوبيّة - كما هو ظاهر مادّة البراءة - أو لعمومه لهما.

وفيه : منع الاختصاص في الأصل الآتي ، وعلى تقدير العموم فالبحث الآتي ممّا يغني عن البحث في هذا الأصل ، لدخول الأخصّ في الأعمّ ومعه لا جهة لتعدّد العنوانين ، مع أنّ هذا إنّما يلائم على تقدير كون مفاد الأصلين هو الحكم الظاهري ، وقد عرفت منعه على القول بالإباحة هاهنا ، فتأمّل.

ومن الفضلاء (1) من فرّق بينهما بأنّ أصل الإباحة أخصّ بحسب المورد ، لجريان أصل البراءة فيما يحتمل الإباحة وفيما لا يحتمله ، سواء كان عدم احتماله لها في نفسه كما في العبادة أو لقيام دليل على نفيها بالخصوص كما في الدخول في سوم المؤمن ، بخلاف أصل الإباحة فإنّه لا يجري إلاّ حيث يحتمل الإباحة ، وهذا أيضا ضعيف يظهر وجهه بملاحظة ما مرّ.

ثمّ قد عرفت من تضاعيف ما تقدّم أنّ نزاعهم هاهنا ليس في المستقلاّت الّتي يدرك

ص: 543


1- الفصول : 301.

العقل حسنها أو قبحها ولا في غيرها مطلقا ، بل فيما كان منها مشتملا على المنفعة وخاليا عن أمارة المفسدة وقد يعبّر عنها بالمضرّة.

والسرّ في اعتبار القيدين أنّه لو لا اشتمال الشيء على المنفعة كمضغ الخشب وتحريك اليد ونحوهما كان ارتكابه لغوا ، واللغو عبث والعبث قبيح عقلا ، فيكون محرّما أو مكروها على حسب مرتبة قبحه ، ولا معنى معه للنزاع في إباحته ، كما أنّه كذلك لو لا خلوّه عن أمارة المفسدة ، لأنّ أمارة المفسدة إن اريد بها الدليل الكاشف عن وجود مفسدة واقعيّة فالمتّبع هو هذا الدليل ، وإن اريد بها ما يوجب ظنّ المضرّة فيدخل في عنوان دفع الضرر المظنون الواجب عقلا ، فيكون تركه بإتيان الفعل قبيحا.

وربّما سبق إلى بعض الأوهام عموم النزاع لما لا منفعة فيه أيضا ، نظرا إلى عموم أدلّتهم الّتي منها التصرّف في مال الغير وعموم بعض العناوين ، فإنّ الحاجبي في مختصره عقد البحث في أفعال العقلاء وأطلق حيث قال : « الثاني في مسألة التنزّل أنّه لا حكم لأفعال العقلاء ، عندنا » (1) والعلاّمة في النهاية (2) فرض البحث في الأفعال الّتي لا يدرك العقل حسنها وقبحها قبل ورود الشرع ، وفي الجميع ما لا يخفى ، خصوصا كلام الحاجبي لأنّه على ضدّ المطلوب أدلّ ، لأنّ أفعال العقلاء لا تكون إلاّ مع المنفعة.

ثمّ الموجود في كلامهم أيضا تقييد العنوان بما قبل ورود الشرع ، وكأنّه عبارة اخرى لاعتبار الخلوّ عن أمارة المفسدة ، بناء على كون المراد منها الدليل الكاشف عن وجود مفسدة واقعيّة في المورد ، لكنّ الظاهر أنّ المراد به اعتبار ما يكون لحاظ حكم العقل ، فهو من قيود موضوع المسألة لا من أجزاء موضوع حكم العقل ، وعليه فهو محتمل لوجوه : بأن يراد منه ما قبل سنخ الشرع حتّى شرع أبينا آدم عليه السلام : أو ما قبل شرع نبيّنا صلى اللّه عليه وآله وسلم كزمان الفترة ، أو قبل صدور الخطاب من الشارع في هذه الأشياء ، أو قبل وصول الخطاب الصادر منه إلينا ، أو ملاحظة هذه الأشياء مع قطع النظر عن خطابه على تقدير صدوره منه ووصوله إلينا ، وظاهر الأدلّة يساعد على الوجه الثالث أو ما يعمّه والوجه الرابع أيضا ، فهو الأصحّ وأردأ الوجوه الأوّل والثاني كما هو واضح.

وإذا تمهّد جميع ما ذكر فاعلم أنّه احتجّ المبيحون بوجوه غير تامّة :

منها : ما عن السيّد المرتضى رحمه اللّه من أنّ المنافع الخالية عن المضرّة ليس فيها مفسدة

ص: 544


1- شرح المختصر : 77 - 78.
2- نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة 14 ( مخطوط ).

عاجلة ولا مفسدة آجله.

أمّا الأوّل : فلأنّا نتكلّم على هذا التقدير.

وأمّا الثاني : فلأنّه لو كان فيها مفسدة آجلة لبيّنها الشارع لوجوب اللطف عليه تعالى ، والمفروض عدمه ، لأنّا نتكلّم قبل ورود الشرع فتكون مباحة (1).

وفيه - كما عن الشيخ - : أنّ اللطف إنّما يجب لو لم يكن مصلحة في تركه ولا مفسدة في فعله ، ومن الجائز أن يكون عدم تعرّض الشارع لبيان المفسدة الآجلة لقيام مصلحة في عدم البيان ومفسدة في البيان.

ومنها : ما تمسّك به العلاّمة في التهذيب (2) من أنّها منفعة خالية عن أمارة المفسدة ولا ضرر على المالك بتناولها فوجب حسنه كالاستظلال بجدار الغير ، قال السيّد في المنية - فى توضيحه - أمّا أنّه منفعة فظاهر.

وأمّا خلوّه عن أمارات المفسدة فلأنّه إنّما نتكلّم على تقديره.

وأمّا أنّه لا ضرر فيه على المالك فبيّن أيضا.

وأمّا أنّه متى ما كان كذلك وجب القطع بحسنه فلأنّه يحسن منّا الاستظلال بجدار الغير عند كونه موصوفا بالصفات المذكورة ، فهو العلّة في الحسن لدورانه معها وجودا وعدما ، وهذه العلّة موجودة في محلّ النزاع فوجب القطع بحسنه ، لوجوب وجود الحكم عند تحقّق علّته (3).

وفيه أوّلا : منع الحكم في الأصل ، فإنّه أيضا عن محلّ النزاع.

وثانيا : منع كون علّة الحكم فيه كونه موصوفا بالصفات المذكورة ، بل العلّة فيه إذن المالك المعلومة من ملاحظة مجاري العادات.

وثالثا : منع كون الصفات المذكورة علّة تامّة للحكم ، فلا يلزم من تحقّقها في الفرع ثبوت الحكم فيه أيضا لجواز وجود شرط للحكم في الأصل دون الفرع ، أو وجود مانع له في الفرع دون الأصل ، والدوران على ما تقرّر في محلّه لا يفيد العلّية التامّة.

ومنها : أنّ الحكم الشرعي كالوجوب والحرمة والندب والكراهة مشروط بالعلم والبيان ، وحيث لا علم ولا بيان فلا حكم قطعا ، ضرورة أنّ المشروط عدم عند عدم

ص: 545


1- الذريعة إلى اصول الشريعة 2 : 811 - 809 نقلا بالمعنى.
2- تهذيب الوصول إلى علم الاصول : 55 - 56.
3- منية اللبيب : 21 - 22.

شرطه ، ومع انتفاء هذه الأحكام الأربع لا بدّ من الحكم بالإباحة وهو المطلوب.

وفيه أوّلا : منع كون الحكم الشرعي بمعنى الوجوب الواقعي والحرمة الواقعيّة والندب والكراهة الواقعيّين مشروطا بالعلم ، وإلاّ لزم الدور وتقدّم الشيء على نفسه ، لأنّ المشروط متأخّر طبعا عن الشرط ، كما أنّ العلم متأخّر طبعا عن متعلّقه ، فقضيّة كونه شرطا للأحكام المذكورة تقدّمه عليها ، وقضيّة تعلّقه بها تأخّره عنها وأنّه محال ، بل المشروط بالعلم إنّما هو التكليف الفعلي وهو صيرورة هذه الأحكام الواقعيّة بحيث يجب بناء العمل عليها ، وترتيب الآثار عليها وحينئذ فأقصى ما يلزم من انتفاء العلم والبيان إنّما هو انتفاء التكليف الفعلي وهو لا يلازم انتفاء هذه الأحكام بحسب الواقع فلم يثبت الإباحة الواقعيّة على ما هو المطلوب.

وثانيا : أنّ الإباحة إن اريد بها مجرّد عدم الحرج في الفعل فالملازمة مسلّمة ، غير أنّه غير مجدية ، لأنّها بهذا المعنى ليست إلاّ عين انتفاء الأحكام الأربع ، وهذا ليس من حكم العقل بالإباحة بالمعنى المتنازع فيه الّذي مرجعه إلى إدراك العقل للإباحة الشرعيّة ، وإن اريد بها الإباحة بالمعنى المصطلح الّذي هو خامس الأحكام التكليفيّة فالملازمة غير مسلّمة ، إذ الإباحة بهذا المعنى أيضا حكم شرعي فيتوقّف ثبوته على العلم

والبيان ، وحيث ليس فليس.

ومنها : ما عن بعض المتأخّرين من أنّه سبحانه إنّما خلق الأشياء لأن ينتفع بها العباد ، ولو لا كونها مباحة لما حصل ذلك الغرض ، فيكون فعله تعالى عبثا تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

وضعفه غير خفيّ لمنع كلّية هذه الدعوى ، كما يفصح عنه ورود المنع في كثير من الأشياء ، ومنع الملازمة على تقدير تسليم الكلّية ، إذ لا يلزم من انتفاء منفعة التناول انتفاء مطلق المنفعة في خلقها ، لجواز أن يكون في نفس وجودها منافع لا يدركها العقول.

ومنها : ما قيل بأنّه العمدة من أدلّة هذا القول وأقواها وهو بناء العقلاء ، فإنّ بناءهم في جميع الأعصار والأمصار على تناول المنافع الخالية عن المضرّة من غير توقّف ، وهذا يكشف عن استقلال العقل بإباحتها.

واجيب : بأنّ القدر المسلّم المعلوم من بنائهم إنّما هو تناول المنافع حيث علموا بعدم مضرّة فيها أصلا ، وأمّا ما احتمل المضرة ظنّا أو وهما فبناؤهم غير ثابت على تناوله على معنى إطباقهم عليه ، ولا ينافيه تناول بعضهم لعدم مبالاة أو مسامحة أو نحوها ، لأنّه ليس من بناء العقلاء بالمعنى الكاشف عن الإباحة العقليّة.

واحتجّ الحاظرون بوجهين :

ص: 546

أحدهما : أنّ تناول هذه الأشياء تصرّف في ملك الغير من دون إذنه وهو قبيح عند العقل فيكون محظورا عقليّا ، أمّا الكبرى : فمن الواضحات الغنيّة عن البيان ، وأمّا الصغرى : فلأنّ الإذن المعتبرة في المقام عبارة عن ترخيص الشارع ، وهو منتف من جهة العقل والشرع معا.

أمّا الأوّل : فلأنّ النزاع في إثبات حكم العقل ولم يثبت.

وأمّا الثاني : فلأنّ الكلام مفروض في الأشياء قبل ورود الشرع ولو لعدم وصول الخطاب إلى المكلّف.

ويزيّفه : منع إطلاق قبح التصرّف في ملك الغير من دون إذنه عند العقل ، وإنّما يسلّم حكمه بذلك في مواضع ليس المقام بشيء منها :

الأوّل : ما لو تضرّر المالك بالتصرّف في ملكه.

الثاني : ما لو تضرّر المتصرّف بتصرّفه فيه.

والثالث : ما لو منع المالك من التصرّف في ملكه ، والكلّ منتف فيما نحن فيه.

أمّا الأوّل : فلأنّ المالك هاهنا ليس إلاّ اللّه سبحانه ، ولا يعقل في حقّه تضرّر في تناول هذه الأشياء.

وأمّا الثاني : فلأنّ المفروض عدم المضرّة في هذه الأشياء ، فلا يتضرّر المتصرّف بتصرّفه لا في ماله ولا في بدنه ولا في نفسه ولا في عرضه ، والضرر الدنيوي بالقياس إلى المتصرّف لا يخلو عمّا يعود إلى ماله أو بدنه أو نفسه أو عرضه والكلّ منتف ، فاحتمال تضرّر المالك أو المتصرّف أو كليهما ساقط في المقام بالفرض.

وأمّا الثالث : فلأنّ المفروض عدم ورود منع من الشارع كما هو قضيّة فرض البحث فيما قبل ورود الشرع ، وحكم العقل بقبح التصرّف في غير هذه المواضع غير مسلّم.

لا يقال : إنّ العقل كما يحكم بقبح التصرّف في ملك الغير مع تحقّق منع المالك كذلك يحكم به مع احتماله ، لقضاء إتمام الدليل بذلك بعوده إلى الوجه الآتي فلا يكون دليلا على حدة ، لأنّ المنع المحتمل من المالك إمّا أن يكون لأجل وصول الضرر إلى المالك أو إلى المتصرّف أو إلى كليهما ، ولمّا كان المالك هو اللّه تعالى ولا يتصوّر ضرر في حقّه فلا بدّ من أول الضرر المحتمل إلى المتصرّف الّذي هو العبد من جهة منعه تعالى إيّاه من تناول هذه الأشياء ، فيرجع الكلام حينئذ إلى وجوب دفع الضرر المحتمل كما هو مفاد الوجه الثاني ، وهو الّذي تمسّك

ص: 547

به الشيخ في العدّة (1) ، وهو ما حاصله أنّ هذه الأشياء ليست مأمونة عن المفسدة فيجب دفعها ، ولا يتأتّى إلاّ باجتنابها فيجب الاجتناب فيحرم الارتكاب ، وهذا هو الحظر العقلي.

ومحصّله قيام احتمال الضرر في هذه الأشياء ، على معنى الاحتمال المساوي لا مطلق الاحتمال ولو مرجوحا ، ودفع الضرر المحتمل واجب عقلا.

وجوابه : منع الصغرى تارة ومنع الكبرى اخرى.

أمّا الأوّل : فلأنّ الضرر المحتمل هاهنا ليس إلاّ العقوبة على مخالفة الواقع المحتملة في المقام لقيام احتمال الحرمة الواقعيّة ، ويرتفع هذا الاحتمال بأنّ العقل المستقلّ بقبح العقاب بلا بيان يؤمننا عن الضرر الاخروي الّذي هو العقوبة على مخالفة الواقع ، ولا يتصوّر مفسدة اخرى بحسب الآخرة ممّا عدا العقوبة على مخالفة الواقع.

وأمّا الثاني : فلمنع قضاء العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل إلاّ فيما إذا كان مظنونا أو محتملا بالاحتمال العقلائي ، الّذي ملاكه كون الاحتمال بحيث أوجب دخول الخوف في النفس ، بل المدار في الضرر الدنيوي أيضا على الظنّ أو الاحتمال العقلائي الموجب للخوف ، ولذا ترى أنّ الفقهاء في أبواب الفقه لا يخرجون عن عمومات التكاليف إلاّ في مواضع ظنّ الضرر ، كما في مسألة تسويغ إفطار نهار رمضان إذا كان مظنون الضرر لا مطلقا ، والحكم بجواز العدول عن المائية إلى الترابيّة إذا ظنّ ضرر المائيّة إلى غير ذلك ممّا لا يحصى كثرة ، على وجه يظهر للمتتبّع اتّفاقهم على عدم الاعتناء بالضرر المشكوك ، وعدم نهوض مطلق احتمال الضرر لتخصيص عمومات الأدلّة.

نعم قد يوجد في كلام المتكلّمين الأخذ بمقتضى احتمال الضرر وإن لم يبلغ مرتبة الظنّ ، كما في مسألة وجوب شكر المنعم حيث حكموا به ، استنادا إلى أنّ في عدم الشكر احتمال زوال النعمة فيجب دفعه ولا يكون إلاّ بالشكر ، لكنّه إنّما هو لزعم كون هذا الاحتمال بحيث أوجب عروض خوف الزوال للنفس ، ومعه لا إشكال في استقلال العقل بوجوب دفعه.

وبذلك اندفع نقض القاعدة بعدم تحرّز العقلاء عن الحائط أو البناء المحكم البنيان مع احتمال الوقوع عقلا ، فإنّ ذلك ونظائره إنّما هو لعدم كون الاحتمال ممّا أوجب الخوف ، وبهذا علم عدم الحاجة في دفعه إلى دعوى كون ذلك من جهة معارضة هذا الاحتمال لاحتمال ضرر آخر.

ص: 548


1- العدّة 2 : 745.

وبالجملة : فاحتمال الضرر ما لم يبلغ حدّ الظنّ أو حدّا أثّر في حصول الخوف للنفس لا دليل على وجوب دفعه لا عقلا ولا شرعا ، ومبنى البحث في المسألة ليس على قيام ظنّ الضرر ولا احتماله على الوجه المذكور ، فلا يندرج المقام في قاعدة وجوب دفع الضرر المظنون ولا المحتمل في موضع يجب دفعه ، فعلم أنّ أدلّة الفريقين بأجمعها مدخولة.

وتحقيق المقام : أنّه إن اريد بالإباحة في محلّ النزاع مجرّد عدم الحرج في تناول المنافع الخالية عن أمارة المفسدة قبل ورود الشرع فنحن من المبيحين ، ويظهر وجهه من تضاعيف ما ذكرناه في تزييف أدلّة المبيحين ، ولا سيّما الوجه الثالث ، وإن اريد بها ما زاد على ذلك على معنى حكم العقل بالإباحة الواقعيّة فنحن من المانعين أو المتوقّفين ، والأوّل أوجه (1).

إلى هنا إنتهى الجزء الخامس من هذه التعليقة المباركة - حسب تجزئتنا -

ويتلوه الجزء السادس إن شاء اللّه تعالى

وأوّله : تعليقة في أصل البراءة

ص: 549


1- جفّ قلمه الشريف عن بيان ثاني الوجهين من أدلّة القائلين بالحظر واكتفى بذكر اولاهما فقط ، كما لا يخفى على المتأمّل.

ص: 550

فهرس المحتوى

في شرح ماهيّة الدليل والحجّة... 3

في صحّة اطلاق الدليل على القطع والظنّ... 6

في القطع الطريقي والموضوعي... 8

في الظنّ الطريقي والموضوعي... 13

المقصد الأوّل : في أحكام القطع

المطلب الأوّل : في التجرّي... 16

المطلب الثاني : في القطع الحاصل من المقدّمات العقليّة... 31

المطلب الثالث : في حجّيّة قطع القطّاع وعدمه... 44

المطلب الرابع : في اعتبار العلم الاجمالي وعدمه... 47

المقصد الثاني : في الظنّ... 73

المقام الأوّل : في امكان التعبّد بالظنّ عقلا... 74

المقام الثاني : في وقوع التعبّد بالظنّ شرعا... 89

في تأسيس الأصل عند الشكّ في التعبّد بالأمارة... 89

في بيان ما خرج أو ادّعي خروجه من الامور الغير العلميّة من الأصل خصوصا أوّلها : الاصول والأمارات الغير العلميّة المعمولة في استنباط الأحكام الشرعيّة من الفاظ الكتاب والسنّة... 109

القسم الأوّل : في حجّية الظواهر... 109

ص: 551

المقام الأوّل : في مستند الأخباريّين فيما ادّعوه من عدم جواز العمل بظواهر الكتاب... 110

ختام البحث بذكر امور

هل البحث عن حجّية ظواهر الكتاب قليل الجدوى أم لا؟... 130

في اختلاف القراءة في لفظ الكتاب... 131

في تواتر القراءات... 134

التنبيه على امور :

التنبيه الأوّل : في أنحاء اختلاف القرّاء... 144

التنبيه الثاني : في ما يتعلّق بالقراءة الشاذّة... 146

التنبيه الثالث : في التحريف... 147

التنبيه الرابع : في ما أفاده المحقّق القمّي من استلزام حجّية ظواهر الكتاب من باب الظنّ الخاصّ المحال  148

المقام الثاني : في حجّية ظواهر الكتاب لغير المشافهين... 150

تذنيب : في أنّ حجّية الظواهر يكون من باب الظنّ النوعي... 157

القسم الثاني : في ما يتعلّق بتشخيص الظواهر... 161

في حجّية قول اللغوي... 161

ثانيها : أي الثاني ممّا ادّعي خروجه من الأصل - : الاجماع المنقول بخبر الواحد... 164

ختام البحث بذكر امور

الأمر الأوّل : في أنّ الاجماع المنقول هل يطابق الرواية المصطلحة أو أنّه حكاية للسنّة بالمعنى الأخصّ   191

الأمر الثاني : في أنّ الإجماع المحصّل هل هو من الأدلّة اللفظيّة أو اللبّية؟... 192

الأمر الثالث : في انقسام الإجماع إلى البسيط والمركّب... 193

الأمر الرابع : في نقل التواتر... 195

ص: 552

ثالثها : أي ثالث ما ادّعي خروجه من الأصل - : الشهرة الفتوائيّة... 198

رابعها : أي رابع ما ادّعي خروجه من الأصل - : خبر الواحد... 201

أدلّة المثبتين لحجّية خبر الواحد... 213

1 - آية النبأ وتقريب الاستدلال بها... 213

2 - آية النفر وتقريب الاستدلال بها... 235

3 - آية الاذن وتقريب الاستدلال بها... 242

4 - الاستدلال على حجّية خبر الواحد بالسنّة... 246

5 - الاستدلال على حجّية خبر الواحد بالإجماع... 257

6 - الاستدلال على حجّية خبر الواحد بالعقل... 268

في الوجوه الّتي استدلّ بها على حجّية مطلق الظنّ :

الوجه الأوّل : لزوم دفع الضرر المظنون عقلا... 275

الوجه الثاني : لزوم ترجيح المرجوح على الراجح... 286

الوجه الثالث : ما ذكره السيّد المجاهد رحمه اللّه... 288

الوجه الرابع : الدليل المعروف بدليل الانسداد... 289

تنبيهات دليل الانسداد :

الأمر الأوّل هل النتيجة الّتي يقتضيها دليل الانسداد ، هي اعتبار الظنّ بنفس الواقع أو الظنّ بالطريق أو كليهما؟        312

الأمر الثاني : هل يقتضي دليل الانسداد كلّية النتيجة أو إهمالها؟... 329

هل نتيجة دليل الانسداد اعتبار الظنّ من باب الكشف عن حكم الشرع أو حكومة العقل... 331

في أنّه على تقدير إهمال النتيجة هل ثبت لبعض الظنون من مرجّح على البعض الآخر أو لا؟ 334

في كيفيّة خروج الظنّ القياسي عن دليل الانسداد... 364

ص: 553

في وجوب الأخذ بالظنّ المانع دون الظنّ الممنوع... 377

عدم الفرق على التعميم بين ما تعلّق الظنّ بنفس الحكم أو تعلّق بالموضوع... 378

عدم العبرة بالظنّ في اصول الدين... 382

هل يجب إزالة الشبهة في الاعتقادات... 391

عدم العبرة بالظنّ في المعارف والعقائد... 392

في ما يتعلّق بضروري الدين... 392

في وقت وجوب تحصيل المعارف... 402

في انجبار الظنّ الغير المعتبر... 406

في توهين الظنّ الغير المعتبر للدليل المعتبر... 412

في الترجيح بالظنّ الغير المعتبر... 417

تعليقة : في الفعل والتقرير... 433

المقام الأوّل : في ما يتعلّق بفعل المعصوم عليه السلام... 434

المسألة الاولى : فيما كان الفعل الصادر من المعصوم : من الأفعال الطبيعيّة العاديّة... 435

المسألة الثانية : في ما كان الفعل الصادر من المعصوم متردّدا بين العادي والشرعي... 435

المسألة الثالثة : في ما كان العفل الصادر من المعصوم شرعيّا مع العلم بكونه من خصائصه... 437

المسألة الرابعة : في ما كان الفعل الصادر من المعصوم مع كونه شرعيّا مردّدا بين كونه من خصائصه وعدمه   437

المسألة الخامسة : في ما كان الفعل الصادر من المعصوم شرعيّا لم يكن من مختصّاته مع كونه بيانا لمجمل علم وجهه وعلم بيانيّته من قصده أو تنصيصة... 441

المسألة السادسة : في ما كان الفعل الصادر من المعصوم مع كونه شرعيّا وعدم كونه من خصائصه بيانا لمجمل لم يعلم وجهه... 447

المسألة السابعة : في ما كان الفعل الصادر من المعصوم في غير مقام بيان المجمل ، علم وجهه من وجوب أو استحباب أو إباحة... 448

ص: 554

فائدة : في طرق معرفة وجه فعل المعصوم عليه السلام... 455

المسألة الثامنة : في ما لو صدر الفعل من المعصوم على وجه الرجحان المشترك بين الوجوب والندب   457

المسألة التاسعة : في ما كان الفعل الصادر من المعصوم غير معلوم الوجه والرجحان... 458

المقام الثاني : في ما يتعلّق بتقرير المعصوم عليه السلام... 460

تعليقة في الأدلّة العقليّة في

تعريف الدليل... 466

ما يدخل في الدليل العقليّ وما لا يدخل... 474

في التحسين والتقبيح العقليّين... 476

في معاني الحسن والقبح... 478

قضاء الضرورة بما عليه العدليّة من ثبوت التحسين والتقبيح العقليّين... 483

أدلّة القول بثبوتهما... 485

وجوه احتجاج الأشاعرة على نفيهما... 493

ثبوت الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع... 501

أدلّة القول بعدم الملازمة... 511

في الإباحة والحظر... 538

ص: 555

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.