تعليقة على معالم الاصول المجلد 4

هوية الكتاب

المؤلف: السيّد علي الموسوي القزويني

المحقق: السيد علي العلوي القزويني

الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي

المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1425 ه.ق

ISBN (ردمك): 964-470-535-1

المكتبة الإسلامية

تعليقة علی معالم الأصول

تأليف: الفقية المحقق والأصولي المدقق العلّامة السيد علي الموسوي القزويني قدس سره

تحقيق حفيدة: السيد علي العلوي القزويني

الجزء الرابع

مؤسسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة

ص: 1

اشارة

تعليقة علی معالم الأصول

(ج4)

تأليف: العلّامة السيّد عليّ الموسويّ القزوينيّ قدس سره

الموضوع: الأصول

تحقيق: السيد عليّ العلويّ القزوينيّ

طبع و نشر: مؤسسة النشر الإسلامي

عدد الصفحات: 864

الطبعة: الأولی

المطبوع: 500 نسخة

التاريخ: 1425 ه.ق

مؤسسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة

ص: 2

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أصل

المشهور بين أصحابنا أنّ الأمر بالشيئين أو الأشياء على وجه التخيير يقتضي إيجاب الجميع ، لكن تخييرا *

________________________________

في شرح ماهيّة الواجب المخيّر

بحث في الواجب المخيّر *

واعلم أنّ الأمر باعتبار الفعل المأمور به ينقسم إلى التعييني والتخييري ، وذلك لأنّ الأمر كائنا ما كان مسبوق حصوله على تصوّر الفعل المأمور به لا محالة ، فالآمر إمّا أن يتصوّر الشيء باعتبار مصلحة لا تتأتّى في الخارج إلاّ بحصول ذلك الشيء بعينه ، أو باعتبار مصلحة تتأتّى بحصوله وبحصول غيره ثنائيّا أو ثلاثيّا وهكذا لقيامها في الجميع.

فعلى الأوّل يسمّى الأمر المتعلّق بذلك الشيء : « تعيينيّا » والمأمور به واجبا معيّنا.

وعلى الثاني يسمّى الأمر : « تخييريّا » والمأمور به واجبا مخيّرا إن كان كلّ ممّا قام به المصلحة قابلا لتعلّق الطلب به ، بأن يكون من مقولة الأفعال الاختياريّة للمكلّف.

ومن خواصّ الأمر التعييني عدم حصول امتثاله إلاّ بأداء المأمور به المعيّن ، ومن لوازم الأمر التخييري حصول امتثاله بكلّ واحد من الأبدال الّتي تعلّق بها الطلب تخييرا ، ولا غرض يتعلّق بالواجب المعيّن في هذا الباب وإنّما المقصود بالأصالة من عقد الباب البحث عمّا يتعلّق بالواجب المخيّر ، فلذا لم يتعرّض الجماعة ومنهم المصنّف في هذا الباب لذكر المعيّن ، وأمّا الواجب المخيّر فتنقيح البحث فيه يستدعي رسم مقامات :

المقام الأوّل

في شرح ماهيّة الواجب المخيّر

ولمّا كان ذلك نوعا من الواجب فينبغي الإشارة أوّلا إلى ما يقضي بتحديد الواجب مطلقا.

ص: 3

فنقول : إنّ الواجب باعتبار المبدأ مأخوذ عن الوجوب باعتبار معناه المبنيّ للمفعول ، ولمّا كان الوجوب باعتبار معناه للفاعل حسبما هو مأخوذ في مفهوم الأمر والصيغة عرفا ولغة ماهيّة مركّبة عن طلب الفعل المقرون بالمنع عن الترك فيعتبر معناه للمفعول الّذي هو أثر منه على حسبه ، فيكون الواجب المأخوذ منه عبارة : « عمّا طلب فعله ومنع عن تركه » فيخرج المباح بقيد « الطلب » والمحرّم والمكروه باعتبار تعلّقه بالفعل والمندوب بالقيد الأخير ، فسلم الحدّ في طرده ولا ينتقض في عكسه بالموسّع والمخيّر والكفائي ، لأنّ « المنع من الترك » الّذي هو فصل للوجوب لابدّ وأن يعتبر في مفهوم الواجب على حسب ما اعتبر فيه الطلب الّذي هو جنس للوجوب ، والمفروض اعتبار تعلّقه في الموسّع بالفعل في مجموع الوقت المضروب له ، فكان المنع متعلّقا بتركه في مجموع ذلك الوقت لا مطلقا ، بمعنى أنّ المطلوب لمّا كان هو الفعل في مجموع أجزاء الوقت فكان الممنوع تركه في مجموع الوقت لا مطلقا فتركه في بعض أجزائه ليس بممنوع.

واعتبار تعلّقه في المخيّر بين الإطعام والصيام - مثلا - بالإطعام المقيّد بعدم حصول الصيام ، والصيام المقيّد بعدم حصول الإطعام ، فكان المنع متعلّقا بترك المقيّدين لا الإطعام والصيام مطلقا ، بمعنى أنّ المطلوب فعل ما كان منهما مقرونا بترك الآخر ، فيكون الممنوع ترك ما كان منهما مقرونا بترك الآخر لا مطلقا ، فترك الصيام بعد حصول الإطعام ليس ممنوعا لأنّه لم يكن مطلوبا ، كما أنّ ترك الإطعام بعد حصول الصيام ليس ممنوعا لأنّه لم يكن مطلوبا.

واعتبار تعلّقه في الكفائي بجميع المكلّفين على نحو يسقط بفعل البعض عن الباقين ، فهو قبل حصول المسقط مطلوب من الكلّ فعله وممنوع تركه ، وارتفاع هذا المعنى بعد حصوله فيما لم يحصل أداؤه إنّما هو لانتفاء موضوعه ، فيصدق على كلّ واحد أنّه ما طلب فعله ومنع عن تركه ، وهذا هو الّذي يساعد إليه التدبّر في تحديد الواجب على وجه يتناول ما هو بحسب الشرع وما هو بحسب العرف في جميع أنواعه ممّا يضاف إلى العالي أو غيره.

وأمّا ما قيل في تحديده : من « أنّه ما يذمّ تاركه » ، أو « ما يذمّ تاركه لا إلى بدل » ، أو « ما يذمّ لا إلى بدل ولا عن عذر » ، أو « ما يعاقب تاركه » ، أو « ما يستحقّ تاركه العقاب » ، أو « ما يستحقّ تاركه لا إلى بدل العقاب » ، أو « ما يستحقّ تاركه لا إلى بدل الذمّ أو ذمّا » أو « ما يذمّ تاركه بوجه مّا » ، أو « ما يذمّ تاركه شرعا على بعض الوجوه » فليس شيء منها بشيء لابتنائها على اصطلاح صرف ، أو كونها تفسيرا للشيء بلازمه في أخصّ صوره ، موجبا

ص: 4

لعدم تناوله لجملة من أنواع المحدود من جهة عراها عن استلزام الذمّ أو العقاب أو استحقاقهما كما لا يخفى ، مع انتقاض أكثرها في عكسها من جهات عديدة ، مع افتقار سلامة الباقي إلى تكلّفات واهية كما تقدّم الإشارة إليها في بحث المقدّمة.

وإن أبيت إلاّ عمّا يكون تحديدا على هذا النمط ، فالأجود أن تقول في تحديده : « بأنّه ما يذمّ تاركه ولو من جهة غيره » بالتقريب المتقدّم في البحث المذكور ، مع ما فيه من نوع تأمّل أيضا يظهر وجهه بأدنى التفات إلى ما سبق.

في تحديد الواجب المخيّر

وأمّا المخيّر الّذي هو نوع من الواجب ومعقد للبحث هنا فلم نجد في كلام القوم حسبما حضرتنا من كتبهم تحديدا له إلاّ ما تعرّض له البهائي من حكاية تحديده بوجهين :

أحدهما : ما أشار إليه في حاشية زبدته من أنّه : « ما يسقط الواجب بفعله ».

وثانيهما : ما ذكره في المتن من أنّه : « ما عيّن له الشارع بدلا من غير نوعه اختيارا » ثمّ قال - في توجيه القيود - : فخرج « بالتعيين » احتراق الميّت وبالثاني (1) صوم المسافر والموسّع والكفائي ، وبالأخير الوضوء ونحوه.

ولا يخفى ما في الأوّل منهما من الفساد الواضح ، فإنّ الموصول لو اريد به ما ليس بواجب يكون تحديدا بالمبائن ، إذ المفروض تحديد الواجب لا غيره ، ولو اريد به الواجب خاصّة ليكون المعنى : « واجب يسقط بفعله » يكون للواجب المعيّن بالخصوص أو متناولا له أيضا ، والمفروض إرادة تحديد الواجب المخيّر فلا يطّرد.

ولو اريد به ما يعمّ الواجب وغيره انتقض في طرده أيضا بفرد الكلّي ، وبفعل غير المكلّف ، وبفعل مكلّف غيره ، وبغير فعله المسبّب عن فعله ، وبفعله على وجه غير مشروع ، وبفعله إذا كان ضدّا للواجب المضيّق ، وبفعله إذا كان جزءا أخيرا من أجزاء الواجب ، وبالجزء الأخير من العلّة التامّة ، فإنّ الفرد مسقط للكلّي المأمور به ، واحتراق الميّت أو أكل السبع إيّاه مسقط لتغسيله الواجب ، ونزول المطر وورود السيل على النجس مسقط للغسل الواجب أو إزالة النجاسة عن المسجد ، ومثله نيابة الغير عنه في أداء دينه ونحوه ممّا يقبل النيابة ، والامتناع الرافع للتكليف المسبّب عن إيجاده اختيار [ اً ] سبب الامتناع مسقط لما في ذمّته من الواجب ، وكذلك غسله المحرّم كما إذا كان بماء مغصوب ، والوجه في البواقي ظاهر.

وأمّا الثاني : فيرد على عكسه التخيير في مقدّمات الواجب بناءا على وجوبها ، لعدم

ص: 5


1- فإنّ له بدلا كما قال اللّه تعالى ( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر ) ولكنّه بدل من نوعه. ( منه عفي عنه ).

كون بدليّة بعض عن بعض فيها ناشئة عن تعيين الشارع ، والتخيير في غير الشرعيّات ، والتخيير فيما بين الركعتين والأربع الثابت شرعا في المواطن الأربع ، والتخيير فيما بين تسبيحة وثلاث ، وإصبع وأصابع ، وأربعين وخمسين من منزوحات البئر بناءا على وجوب القدر الزائد على الأقلّ ، إلاّ أن يراد بالمغايرة النوعيّة ما يشمل المغايرة العدديّة.

وقد يدفع أيضا بجعل التغاير في القصر والإتمام تغايرا نوعيّا ، فأورد على طرده بصوم المسافر تعليلا بأنّ مغايرة القضاء للأداء لا تقصر عن مغايرة القصر والإتمام.

ويرد على طرده أيضا التخيير في المندوبات مع أنّ البدليّة وتعيين البدل من توابع الأمر الوارد على وجه التخيير فيكون من باب التحديد باللازم ، مع أنّها وصف قائم بجميع المتعادلين لكون كلّ بدلا عن الآخر وإن كان في حدّ ذاته أصلا ، وقضيّة التعريف اختصاصها بالبعض الموجب لكون غيره أصلا على الإطلاق.

فالأولى أن يقال في تحديده : « بأنّه ما اعتبر في وجوبه قيد عدميّ راجع إلى غير شرط وجوده » فخرج المندوب المخيّر بقيد « الوجوب » وبالقيد « العدميّ » المعيّن ، وبالأخير الموسّع والكفائي والقضاء والبدل الاضطراري كالتيمّم ونحوه ، لرجوع القيد العدمي المعتبر في وجوبها إلى شروط الفعل من زمان ومكان وفاعل وتمكّن ، ولا يصير بسبب اشتماله على لفظ « الوجوب » دوريّا لعدم كونه تحديدا للواجب بل لوصفه الّذي هو « المخيّر » من حيث وقوعه وصفا للواجب الّذي علم حدّه وماهيّته ، فلا توقّف لمعرفة الوجوب المأخوذ فيه على معرفة الواجب المخيّر بل تتوقّف على معرفة الواجب المطلق وهي لا تتوقّف على هذا الحدّ ، ولا يرد على طرده الواجب المشروط إذا كان شرطه أمرا عدميّا كعدم الحيض لوجوب الصلاة على المرأة ، لأنّه ليس معتبرا في وجوب الواجب بل هو معتبر في وجوب ما ليس بواجب كما لا يخفى.

في تعيين ما تعلّق به الوجوب في الواجب المخيّر

المقام الثاني

في تحقيق ما اختلف فيه أنظار الاصوليّين في الواجب المخيّر من تعيين ما تعلّق به الوجوب ، وقد ذكروا فيه أقوالا متشتّة يأتي الإشارة إليها تفصيلا والعمدة منها قولان :

أحدهما : ما عزى إلى أصحابنا وجمهور المعتزلة من أنّ الواجب كلّ واحد على البدل ، فلا يجب الجميع ولا يجوز الإخلال بالجميع وأيّها فعل كان واجبا في نفسه لا أنّه بدل عمّا

ص: 6

هو واجب.

وثانيهما : ما نسب إلى الأشاعرة من أنّ الواجب أحدهما لا بعينه.

والحقّ مع الأوّلين إن أرادوا بما ذكروه ما نقرّره بعد ذلك ، فتحقيق القول فيه يستدعي النظر تارة فيما يقضي به القوّة العاقلة ويساعد عليه الوجدان.

واخرى فيما تساعد عليه العرف والظواهر الّتي تساق لإفادة الوجوب التخييري.

أمّا الجهة الاولى : فقد تقرّر في غير موضع أنّ الوجوب باعتبار إضافته إلى من ينشئه ماهيّة مركّبة عن طلب ومنع ، ومن المعلوم بضرورة الوجدان أنّ إنشاءه في كلّ موضع مسبوق بتصوّر محلّه ، فهو إمّا أن يكون أمرا واحدا أو أمرين فصاعدا ، والأوّل ممّا لا كلام فيه هنا.

وعلى الثاني فالأمران إمّا أن يكونا متشاركين في المصلحة أو لا.

والثاني خارج عن المبحث أيضا والأوّل هو محلّ البحث هنا ومحلّ للوجوب التخييري إذا كان الأمران قبل تعلّق الوجوب بهما مباحين أو مندوبين أو مختلفين ، دون ما إذا كان كلاهما أو أحدهما محرّما ، إذ لا يعقل تعلّق الوجوب بالمحرّم ولو تخييرا ، لأنّه ملزوم للمحبوبيّة والمحرّم ملزوم للمبغوضيّة ومن المستحيل انقلاب المبغوض محبوبا.

نعم ربّما يوجب حصول أحد الفردين عند امتثال الوجوب المتعلّق به وبمعادله تخييرا دخول ذلك المعادل في عنوان آخر كلّي محرّم فيحرم بهذا الاعتبار ، لا أنّه كان محرّما حيثما تعلّق به وبمعادله الوجوب ، كما في تزويج المرأة المطالبة للتزويج (1) من أحد الكفوين الخاطبين لها الواجب على الوليّ تخييرا ، فإنّ كلاّ منهما واجب تخييري ما لم يحصل أحدهما في الخارج ، وأمّا معه يصير الآخر محرّما لاندراجه في عنوان التزويج على ذات البعل ، وأمّا إذا كانا مباحين أو مندوبين أو مختلفين تعلّق بهما الوجوب تخييرا مقيّدين بقيد عدمي فكلّ منهما ما دام القيد باقيا واجب ولا إباحة فيه ولا ندب ما دام مقيّدا بذلك القيد ، وإذا ارتفع القيد عن أحدهما بحصول الآخر في الخارج رجع إلى ما كان عليه أوّلا من إباحة أو ندب.

فما في تهذيب العلاّمة من تقسيم الأمر بالشيئين على الترتيب وعلى البدل على ثلاثة أقسام كما أشار إليه بقوله : « يصحّ الأمر بالشيئين على الترتيب وعلى البدل ، أمّا مع تحريم الجمع كأكل المباح والميتة والتزويج من كفوين ، أو مع إباحته كالوضوء والتيمّم وستر

ص: 7


1- وفي المصدر : « للزوج » والصواب ما أثبتناه.

العورة بثوبين ، أو مع ندبه كخصال الظهار وكفّارة الحنث » إن اريد به ما قرّرناه فمرحبا بالوفاق وإلاّ كان واضح المنع ، إذ الجمع بين الشيئين بما هو جمع بينهما لم يقرّر له في الشريعة حكم بالخصوص كما ذهب إلى بعض الأوهام أيضا.

وعلى أيّ حال كان فالغرض الأصلي في المقام النظر في كيفيّة تعلّق الوجوب المركّب من الطلب المضاف إلى الفعل والمنع المضاف إلى الترك بالشيئين المتشاركين في المصلحة حيثما كانا صالحين لذلك ، فهو ممّا يحتمل فيه وجوه :

أحدها : أن يقال : بأنّ الآمر بعد ما فرغ عن تصوّر الأمرين يطلب كلاّ منهما بالخصوص ويمنع عن ترك كلّ بانفراده لا بشرط عدم حصول الآخر ، فيكون كلّ واجبا على كلا تقديري وجود صاحبه وعدمه ، وهذا هو الّذي نقلوه عن بعض المعتزلة.

ولكن يبطله - مع أنّه خلاف ما يشهد به ضرورة الوجدان وإخراج لمفروض المقام عن محلّ الوجوب التخييري مفهوما ومصداقا - : أنّه إذا حصل أداء أحدهما حصل معه المصلحة الداعية إلى إيجابهما ، فإن بقي الباقي على ما كان عليه من الوجوب أدّى إلى طلب الحاصل لما هو المفروض من مشاركته مع الأوّل في المصلحة وأنّه محال.

لا يقال : لو صلح ذلك محذورا لسرى إلى كثير من الواجبات العينيّة إذا اجتمع منها على المكلّف واجبان فصاعدا ، لاشتراك الجميع في مصلحة التقرّب فإنّها تحصل لا محالة بأداء الواجب الأوّل فيفضي بقاء وجوب الباقي إلى تحصيل الحاصل ، لوضوح الفرق بين ما يتّحد من المصلحة نوعا وما يتّحد منها شخصيّا ، وقد يؤخذ فيها بالقياس إلى محلّها نحو إضافة توجب صيرورتها شخصا وجزئيّا حقيقيّا غير قابل للتعدّد كالتوصّل بالقياس إلى المقدّمة ، فإنّها تجب لمصلحة التوصّل إلى الواجب ولكن لا لنوع التوصّل بل التوصّل إلى هذا الواجب ، فإذا حصل ذلك بإيجاد مقدّمة مّا لا يعقل تحصيله بعد ذلك بإيجاد غيرها ممّا شاركه في وصف الإيصال ، بخلاف ما إذا كانت المصلحة بين الواجبين واحدة بالنوع فإنّ حصول أحد أفرادها بأداء أحدهما لا يقضي بحصول الفرد الآخر ، فلا مانع في حكم العقل لو بقي الآخر على وجوبه تحصيلا للفرد الآخر من نوع المصلحة.

ولا ريب أنّ مصلحة التقرّب من هذا القبيل ، إذ الّذي يحصل بأداء الواجب الأوّل إنّما هو مرتبة خاصّة من التقرّب والمقصود من إيجاب الواجب الثاني حصول مرتبة اخرى فوق تلك المرتبة وهكذا بخلاف محلّ البحث ، فإنّ المصلحة الملحوظة فيه ليس اتّحادها

ص: 8

اتّحادا نوعيّا كما لا يخفى على المتأمّل.

وإن خرج عن كونه واجبا (1) بدعوى كون الأوّل مسقطا عنه - كما يزعمه بعض المعتزلة - قضى بكون إيجابه أوّلا سفها ، مع أنّ الإيجاب لابدّ فيه من محبوبيّة جانب الفعل ومبغوضيّة جانب الترك ، فترك ذلك إن فرض مع المبغوضيّة إمتنع سقوط الإيجاب عنه وإن فرض لا معها إمتنع تعلّق الإيجاب من أوّل الوهلة ، ولو فرض معها أوّلا ثمّ ارتفاعها عنه بحصول الواجب الأوّل رجع إلى فرض كون المبغوض تركه مع ترك ذلك الواجب ، وهو فرض آخر يقضي بوجوبه على تقدير عدم حصول ذلك الواجب لا مطلقا حتّى يكون واجبا على كلا تقديري حصوله وعدمه.

لا يقال : لزوم كون الإيجاب سفها لخلوّه عن الفائدة محذور يرد عليك في مواضع :

منها : في المضيّقين المتزاحمين إذا تشاغل المكلّف بأحدهما ، لحكم العقل بالتخيير ولا سيّما مع اتّفاقهما في الحقيقة.

ومنها : ما لو أوجد المكلّف في نفسه سبب امتناع الامتثال بعد استقرار التكليف.

ومنها : تكليف العصاة فإنّه مع علمه تعالى بأنّه يعصي عبث.

ومنها : تكليف الكافر بالفروع بل الاصول أيضا ، لعدم ترتّب فائدة التكليف وهو الامتثال على شيء.

لأنّ تعلّق التكليف بما يسقط وجوبه من المضيّقين ليس من جهة إيجابه بالخصوص ، بل الإيجاب بالنسبة إليه وإلى سائر الأفراد واحد وأثره يتعدّد باعتبار تعدّد تلك الأفراد ، وفي حصول فائدة هذا الإيجاب يكفي في نظر العقل والعرف حصول الامتثال في ضمن غير ذلك الفرد الّذي سقط عنه الأثر باعتبار تعذّر الإتيان به ، وأنّ فائدة التكليف غير منحصرة في الامتثال بل كثيرا مّا يصحّ لفائدة قطع العذر وإتمام الحجّة ونحو ذلك ، فعدم ترتّب فائدة الامتثال على تكليف من يعصي بإيجاد سبب الامتناع اختيارا ، أو بعدم إرادة الامتثال اختيارا ، أو بعدم إيجاده لشرط الامتثال اختيارا لا ينافي ترتّب فائدة اخرى عليه كما لا يخفى.

وثانيهما : أن يقال : بأنّه بعد ما فرغ من تصوّر الأمرين يطلب كلاّ منهما ويمنع عن ترك كلّ بشرط عدم اتّفاق حصول الآخر ، مع رجوع الشرط إلى الطلب (2) والمنع معا حتّى يكون

ص: 9


1- عطف على قوله : فإن بقي الباقي على ما كان عليه من الوجوب إلخ.
2- بأن يكون معنى قوله : « افعل هذا أو ذاك » بحسب اللبّ إلى أن يقال : « افعل هذا إن لم تفعل ذاك ، وافعل ذاك إن لم تفعل هذا » أو يقال : « إن لم تفعل هذا فافعل ذاك ، وإن لم تفعل ذاك فافعل هذا » هذا في الفرض الأوّل ، وفي الفرض الثاني يكون معناه : « أطلب منك كلاّ من هذا أو ذاك وأمنع عن ترك هذا إن تركت ذاك وعن ترك ذاك إن تركت هذا » وهكذا. ( منه عفي عنه ).

الوجوب مشروطا باعتبار جنسه وفصله ، أو إلى المنع فقط حتّى يكون الوجوب مشروطا باعتبار فصله ومطلقا باعتبار جنسه.

وفيه - مع أنّ الاشتراط في الوجوب ممّا نفيناه رأسا عن العالم بالعواقب - : أنّه في خصوص المقام ممّا لا يكاد ينتظم ، فإنّ المعيار في عدم الحصول إن كان مجرّد عدم الوجود الخارجي فهما قبل الإتيان بأحدهما غير حاصلين فينبغي أن يكون كلاهما واجبين ، وإن كان عدم إرادة الإيجاد أو إرادة عدم الإيجاد فالمكلّف قد لا يريد إيجادهما معا ، أو يريد عدم إيجادهما معا فينبغي أن يكون كلاهما واجبين أيضا ، وقد يريد إيجادهما معا فينبغي أن لا يجب شيء منهما أبدا ، وقد يريد إيجاد أحدهما دون الآخر فينبغي أن يختلف الواجب باختلاف المكلّفين في الرأي ، وهو يشبه بمقالة تبرأ عنها كلّ من المعتزلة والأشاعرة ويسندها كلّ إلى صاحبه على أحد احتمالاتها.

وبالجملة لا خفاء في سخافة هذا الوجه بحيث لا ينبغي الالتفات إليه فضلا عن ذكره.

وأمّا احتمال رجوع الشرط إلى المنع فقط فهو أوضح فسادا ، فإنّ الفصل تابع للجنس في تعلّقه فعلا وعدمه فكيف يعقل فرض الجنس مطلقا والفصل مشروطا ، ضرورة استحالة تخلّف التابع عن المتبوع.

وثالثها : أن يقال : بأنّه بعد الفراغ عن التصوّر يطلب كلاّ منهما ويمنع عن تركه بشرط عدم اتّفاق حصول الآخر مع رجوع الشرط إلى المطلوب ، حتّى يكون الوجوب مطلقا والواجب مقيّدا.

وقضيّة ذلك انقسام كلّ منهما إلى قسمين باعتبار قيدين متقابلين ، أحدهما واجب وهو ما يصادف منهما عدم حصول الآخر.

وثانيهما غير واجب وهو ما يصادف منهما حصول الآخر ، فالّذي يتّصف بالوجوب من خصال الكفّارة الإطعام المصادف لعدم حصول الكسوة والتحرير ، والكسوة المصادفة لعدم حصول التحرير والإطعام ، والتحرير المصادف لعدم حصول الكسوة والإطعام ، وأمّا ما صادف منها حصول أحد الآخرين أو كليهما فليس بواجب لا مطلقا ولا مشروطا ، وهذا هو الأوجه الّذي يساعد عليه الوجدان كما ستعرفه.

ص: 10

ورابعها : أن يقال : بأنّه بعد الفراغ عن التصوّر يطلب كلاّ منهما بانفراده ويمنع عن ترك المجموع منهما من حيث المجموع ، بمعنى كون الممنوع منه والمبغوض في نظره ترك كلّ مع معادله لا ترك البعض مع أداء البعض الآخر.

وقضيّة ذلك تعلّق جنس الوجوب بالقياس إلى كلّ منهما بأمر بسيط وتعلّق فصله بأمر مركّب وهو ترك هذا وترك ذاك ، فيرتفع المنع بانتفاء أحد الجزئين ويتبعه في الارتفاع الطلب الّذي هو جنس ، إذ لا بقاء له بدون الفصل.

وهذا الوجه ما يستفاد عن بعض الأفاضل حيث قال : « إنّ حقيقة الوجوب كما عرفت هي مطلوبيّة الفعل على سبيل الحتم والجزم في الجملة ، بأن يريد الآمر صدور الفعل من المكلّف ولا يرضى بتركه بالمرّة ، فإذا أمر المكلّف بأفعال عديدة على سبيل التخيير فقد أراد حصول كلّ واحد منها على وجه المنع من ترك الجميع ، بأن لا يكون تاركا للكلّ - إلى أن قال - : فالطلب متعلّق بكلّ واحد من الأفعال الّتي وقع التخيير بينها - إلى أن قال - : لا يقال : إنّ قضيّة ما ذكر من تعلّق الطلب بكلّ واحد من الأفعال الّتي وقع التخيير بينها - إلى أن قال - : لا يقال : إنّ قضيّة ما ذكر من تعلّق الطلب بكلّ واحد منها حصول الامتثال بالفعل الثاني والثالث مثلا من تلك الأفعال وإن ارتفع المنع من الترك بفعل الأوّل مع أنّ الحال على خلاف ذلك ، إذ بعد الإتيان بواحد منها لا يبقى هناك تكليف أصلا.

لأنّا نقول : إنّ الطلب الحتمي الحاصل في المقام المتعلّق بكلّ منهما متقوّم بالمنع من الترك الملحوظ على الوجه المذكور ، فإذا فرض ارتفاع المنع من الترك بفعل واحد منها قضى ذلك بارتفاع الطلب المتقوّم به ، فلا وجه لتحقّق الامتثال بعد ذلك » انتهى.

ولا يخفى ما فيه من الوهن أيضا ، فإنّ الجنس والفصل ذاتيّان لشيء واحد فلا بدّ من تواردهما على محلّ واحد ، فالطلب إذا أضيف إلى فعل شيء يجب أن يضاف المنع أيضا إلى ترك ذلك الشيء دون غيره ممّا يبائنه ، أو المجموع منه ومن غيره ، أو الأمر المردّد بينه وبين غيره ، إذ لا يعقل تعلّق الجنس بشيء وتعلّق فصله بغير ذلك الشيء وإلاّ لم يكن فصلا له.

ألا ترى أنّ العلم بقيام زيد مركّب عن جنس وهو الاعتقاد الراجح وفصل وهو الجزم والمطابقة للواقع ، وكلّ منهما متعلّق بالقيام ولا يعقل بعد تعلّق الاعتقاد به تعلّق الجزم والمطابقة بما يبائنه وهو القعود ، ولا بالمجموع منه ومن القعود ، ولا بما يتردّد بينهما وإلاّ لما كان علما بالقيام بالخصوص ، فإذا فرض في محلّ الكلام تعلّق الطلب بكلّ واحد من الأفعال بانفراده فكيف يعقل تعلّق المنع بترك المجموع منه ومن معادلاته مع أنّه فصل له ،

ص: 11

وترك المجموع مغاير لترك البعض ، والطلب متعلّق بفعل ذلك البعض ، بل لابدّ وأن يتعلّق المنع بترك كلّ بانفراده ليكون كلّ واجبا برأسه على سبيل التعيين ، وهو خلاف الفرض بل عدول عن مذهب الأصحاب إلى ما ذهب إليه بعض المعتزلة ، مع أنّ المقيّد إذا ورد على شيء لا يتخلّف عنه قيده وإلاّ لم يكن مقيّدا ، كما أنّ الملزوم إذا حصل في شيء لابدّ وأن يحصل فيه لازمه استحالة تخلّف اللازم عن الملزوم.

فلو سلّمنا أنّ المنع من الترك ليس فصلا للوجوب بل كان قيدا خارجا عن ماهيّته أو لازما من لوازمه لما تمّ الوجه المذكور ، لجريان قضيّة الاستحالة في الجميع على حدّ سواء.

وخامسها : أن يقال : بأنّه بعد الفراغ عن تصوّرهما ينتزع منهما أمرا مشتركا بينهما اعتبارا كمفهوم « أحدهما » فيطلبه بعينه ويمنع عن تركه ، فيكون المتّصف بالوجوب جنسا وفصلا هو القدر المشترك الاعتباري دون الخصوصيّتين ، وهذا هو الّذي نسبوه إلى الأشاعرة ولكنّه اشتباه صرف لما سيأتي.

وفيه : أنّا نجد من أنفسنا عند إنشاء التخيير الإيجابي خلاف ذلك ، فإنّ الملحوظ قبل الإنشاء ليس إلاّ الخصوصيّتين والصفة المقتضية للطلب الإلزامي ليست قائمة إلاّ بكلّ من الخصوصيّتين على تقدير عدم حصول الخصوصيّة الاخرى ، والحبّ والبغض النفسانيّين اللّذان يحرّكان إلى الإيجاب ثابتان في كلّ منهما على التقدير المذكور ، ولا داعي إلى العدول عن إيجاب الخصوصيّتين على هذا التقدير إلى إيجاب غيرهما من الأمر الانتزاعي ، بل الإيجاب أيضا يتبع سائر الامور المذكورة في تعلّقه بكلّ منهما مقيّدا بعدم حصول غيرها بحكم الوجدان.

نعم قد يتعلّق الإيجاب بذلك القدر المشترك فيما إذا كان أفراده غير محصورة ولا ملحوظة إلاّ على سبيل الإجمال ، ونظيره أفراد الواجب المعيّن على القول بتعلّق الأحكام بالأفراد لا الطبائع ، فإنّ الأفراد حينئذ تلاحظ إجمالا وينتزع منها مفهوم « الأحد » فيطلب على سبيل الحتم والإلزام ، والمقام ليس منه جزما.

فبالجملة لا ريب في أنّ التخيير الإيجابي لا يقع إلاّ بين شيئين فصاعدا مع تقييد كلّ منهما بحالة عدم حصول الآخر ، فيكون الواجب هو المقيّد منهما بتلك الحالة لا مطلقا ، والتخيير يقع بين المقيّدين لا بينهما على الإطلاق ، فهما مع انتفاء القيد ليسا بواجبين أصلا لا تعيينا ولا تخييراً.

ص: 12

لنا على ذلك : مضافا إلى شهادة الوجدان ، دوران صفة الوجوب الكاشفة عن المحبوبيّة والمبغوضيّة وجودا وعدما مع التقييد بذلك القيد وجودا وعدما ، فنرى أنّ ترك هذا حال ترك ذاك مبغوض كما أنّ ترك ذاك حال ترك هذا مبغوض ، بخلاف ترك هذا حال فعل ذلك وترك ذاك حال فعل هذا ، إذ لا مبغوضيّة فيهما أصلا ، فيكون الممنوع ترك هذا حال عدم حصول ذاك ، وترك ذاك حال عدم حصول هذا ، وإذا انضمّ إليه الطلب الكاشف عن محبوبيّة الفعل يكون المحصّل : أنّ الواجب فعل هذا حال عدم حصول ذاك ، وفعل ذاك حال عدم حصول هذا.

وقضيّة ذلك أن لا يكون فعل هذا حال حصول ذاك ولا فعل ذلك حال حصول هذا واجبا ، والمراد بحالة الحصول حال دخول أحدهما في حيّز الوجود لا مطلق التشاغل ، بل لابدّ معه من الفراغ عن الفعل حتّى يكون الآخر غير واجب لانتفاء قيد وجوبه الموجب لعدم مبغوضيّة تركه.

وأيضا قد عرفت مرارا أنّ الوجوب مركّب من طلب ومنع ، وأنّهما ملزومان لمحبوبيّة ومبغوضيّة ، ولا إشكال في أنّ المبغوض في نظر الآمر عند الإيجاب التخييري فيما بين الشيئين كأكل الرمّان وشرب الرقي مثلا إنّما هو ترك الشيئين معا لا ترك أحدهما مع فعل الآخر ، وهو في معنى ترك هذا حال عدم حصول ذاك وترك ذاك حال عدم حصول هذا ، وظاهر أنّ « هذا حال عدم ذاك » و « ذاك حال عدم هذا » مفهوم مقيّد إذا اضيف إليه الترك كان مبغوضا.

وقضيّة ذلك كون المحبوب نقيض ذلك الترك ، وهو الفعل إذا اضيف إلى هذا المقيّد لا مطلقا ، فإنّ الوصفين المتناقضين يستدعيان موصوفين متناقضين ، ولا يعقل التناقض بين الموصوفين وهما الفعل والترك إلاّ إذا تواردا على محلّ واحد لمكان اشتراطه بوحدة الموضوع بالمعنى المتناول لجميع الوحدات الثمانية ، فإذا كان محلّ أحد المتناقضين وهو الترك المبغوض شيئا مقيّدا لابدّ وأن يكون محلّ المتناقض الآخر وهو الفعل المحبوب أيضا هذا الشيء المقيّد ، فيكون الواجب في المثال المذكور أكل الرمان مقيّدا بحالة عدم حصول شرب الرقي ، وشرب الرقي مقيّدا بحالة عدم حصول أكل الرمّان ، فأكل الرمّان حال حصول شرب الرقي وشرب الرقي حال حصول أكل الرمّان ليس بواجب ، لا سابقا على حصول ما حصل ولا لاحقا بحصوله ولا مقارنا لحصوله ، فيتحقّق بملاحظة الإيجاب على النحو المذكور بالنسبة إلى كلّ من « أكل الرمّان » و « شرب الرقي » مفهومان مقيّدان بقيدين

ص: 13

متقابلين تقابل الإيجاب والسلب ، والواجب من هذين المفهومين أحدهما والآخر باق على ما عليه ذلك الشيء قبل الإيجاب بعنوانه الكلّي من الحكم المقرّر له شرعا ولو بحكم الأصل من إباحة أو استحباب ، فالأصحاب مع أكثر المعتزلة إن أرادوا بما قالوه من عدم وجوب الجميع وعدم جواز الإخلال بالجميع وأيّها فعل كان نفس الواجب هذا المعنى فمرحبا بالوفاق ، وإلاّ فمع أنّه ممّا لا يكاد يتعقّل مردود عليهم.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ ما أوردنا في إبطال الأوّل من الوجوه المذكورة على من أوجب الجميع بعينه مع سقوط البعض بفعل غيره ، من لزوم كون إيجاب ما زاد على الواحد عبثا منافيا للحكمة ، لا يتّجه على ما قرّرناه وإن كان المقيّد الّذي هو محلّ الوجوب بحسب لحاظ الذهن متعدّدا باعتبار تعدّد الشيئين ، فإنّ المكلّف به حينئذ واحد على كلّ حال والتكليف أيضا واحد على كلّ تقدير ، وذلك لاستحالة تحقّق القيدين معا في الخارج من جهة مناقضة كلّ مقيّد لقيد الآخر.

ومن البيّن استحالة الجمع بين المتناقضين فيستحيل الجمع بين المقيّدين مع المقارنة ومع الترتيب فيستحيل التكليف بهما معا ، بل الّذي يتحقّق في الخارج واحد وهو أحد المقيّدين ، فيكون الإيجاب واحدا ولا تعدّد فيه حتّى يلزم خروج ما زاد على الواحد عبثا كما هو قضيّة الوجه الأوّل ممّا تقدّم ، ولمّا كان كلّ من هذين المقيّدين في لحاظ الذهن ملحوظا بقيد الخصوصيّة فتعلّق الإيجاب به بهذا الاعتبار لا أنّه تعلّق بالمفهوم المشترك بينهما لا بقيد الخصوصيّة ، ولمّا كان كلّ منهما في تعلّق الإيجاب به مع قيد الخصوصيّة لم يعتبر فيه تعيين بالنسبة إلى إيجاده المحصّل للامتثال فحصل التخيير بينهما بهذا الاعتبار.

فعلى هذا يصحّ أن يقال : إنّ الواجب أحدهما لا على التعيين مع اعتبار الخصوصيّة ، لا مع عدم اعتبارها ليكون الواجب مفهوم « الأحد » بعنوانه الكلّي الغير الملحوظ معه الخصوصيّة ، بأن لا يكون للخصوصيّة مدخل في الاتّصاف بالوجوب. وإلى ذلك يمكن إرجاع مقالة الأشاعرة من أنّ الواجب أحد الأبدال ، بأن يراد بالواجب ما يستقرّ في ذمّة المكلّف ، إذ من الظاهر أنّ الذمّة لا يستقرّ فيها إلاّ ما أمكن وجوده في الخارج ، ولا يوجد فيه إلاّ « الأحد » الملحوظ معه الخصوصيّة ، وأمّا مفهوم « الأحد » بما هو مفهوم ليس إلاّ أمرا ذهنيّا ولا يعقل له وجود فضلا عن إمكانه ، فيكون ما يستقرّ في ذمّة المكلّف أحد المقيّدين مع الخصوصيّة لا بشرط التعيين لينافي قضيّة التخيير ولا بشرط عدم التعيين ليمتنع إيجاده.

ص: 14

وإلى ذلك ينادي مثالهم المعروف من أنّ السيّد إذا قال لعبده : « أمرتك أن تخيط هذا الثوب أو تبني هذا الحائط في هذا اليوم أيّهما فعلت اكتفيت به ، وإن تركت الجميع عاقبتك ، ولست آمرك أن تجمع بينهما بل أمرتك أن تفعل واحدا منهما لا بعينه ».

وفي بيان المختصر عند تصحيح هذا المقال : « أنّ هذا الكلام معقول ولا يمكن أن يقال لم يكن مأمورا بشيء لأنّ غرضه العقاب بترك الجميع ، ولا يمكن أن يقال الجميع مأمور به فإنّه صرّح بنقيضه ، ولا واحد بعينه لأنّه صرّح بالتخيير ، فلا يبقى إلاّ أن يقال : المأمور به واحد لا بعينه » فإنّه إن لم يكن نصّا ظاهر فيما قرّرناه من أنّ الممنوع والمبغوض ترك الجميع ، فيكون الواجب أحدهما مع الخصوصيّة لا على التعيين ، ولا يتّجه ذلك إلاّ إذا لوحظ كلّ منهما بالخصوص حال عدم حصول الآخر ، لمكان التنصيص ب- « لست آمرك أن تجمع بينهما » فقولهم : « لا بعينه » وصف للواجب لا أنّه قيد لما حصل له وصف الوجوب وشرط فيه ، بمعنى أنّ الواجب شيء لم يعتبر فيه تعيين كما في الواجب المعيّن لا أنّه شيء بشرط عدم التعيين.

وأقوى ما يرشد إليه أيضا ما ذكره الحاجبي عند دفع اعتراض المعتزلة على الأشاعرة في مقالتهم بأنّ غير المعيّن مجهول ويستحيل وقوعه فلا يكلّف به ، من أنّه معيّن من حيث هو واجب وهو واحد من الثلاثة فينتفي الخصوص ، فصحّ إطلاق غير المعيّن عليه.

وحاصل مراده : أنّ واحدا من الثلاثة له اعتبارات ثلاث :

أحدها : الواحد بشرط التعيين.

وثانيها : الواحد بشرط عدم التعيين.

وثالثها : الواحد لا بشرط التعيين ولا بشرط عدم التعيين.

والأوّل باطل لمنافاته قضيّة التخيير ، والاعتراض إنّما يتّجه لو كان الواجب الواحد باعتباره الثاني وليس بمراد في المقام ، فتعيّن الواحد بالاعتبار الثالث وهو لكونه لم يعتبر فيه تعيين من جهة إلغاء خصوصيّته المتشخّصة حين الإيجاب صحّ وصفه بغير المعيّن ، ووصفه بغير المعيّن من جهة عدم اعتبار تعيين فيه لا ينافي كونه معيّنا في حدّ ذاته من جهة كونه بالخصوص محلاّ للوجوب لا باعتبار المفهوم المشترك بينه وبين غيره من الثلاثة ، ولكونه لم يعتبر فيه عدم التعيين صحّ تعلّق التكليف به.

وعلى هذا فلا وقع لما أورده بعض الفضلاء على أصحاب تلك المقالة بقوله : « من قال بأنّ الواجب في صورة التخيير هو أحد الامور إن أراد به مصداقا لا بعينه.

ص: 15

ورد عليه ما مرّ من امتناع وجوده في الخارج ، وإن أراد به المفهوم الحاصل في ضمن الأفراد كما نصّ عليه الحاجبي والعضدي اتّجه عليه إشكالان :

الأوّل : أنّه لا يتمّ على عدم وجود الطبائع في الخارج كما يراه الحاجبي حيث اختار عدم تعلّق الأمر بالطبيعة وخصّ تعلّقه بالأفراد ، واحتجّ عليه بامتناع وجود الكلّي في الخارج مع أنّه قد اختار في المقام أنّ الواجب مفهوم « الأحد » الحاصل في الأفراد فبين ما اختار في المقامين تدافع.

والثاني : في أنّ الطلب المتعلّق بمفهوم « الأحد » غير متعلّق به باعتبار كونه مفهوم « أحد » وإلاّ لامتثل بإتيان غير المذكور ، بل متعلّق به باعتبار كونه مقيّدا بأحد الامور المذكورة.

ولا ريب أنّ المفهوم المقيّد بكلّ واحد يبائن المفهوم المقيّد بالآخر كنفس القيد ، إذ قضيّة مبائنة القيود مبائنة التقييد المقتضية لمبائنة المقيّدات من حيث كونها مقيّدات ، فإن تعلّق الوجوب بواحد من تلك القيودات لا بعينه كان مبهما وورد عليه ما مرّ من أنّه ممتنع ، وإن تعلّق بمفهوم أحدها عاد الكلام إليه » انتهى.

لجواز أن يختار الشقّ الأوّل ويدفع المحذور بجعل « لا بعينه » وصفا للواجب بعد تعلّق الوجوب به باعتبار خصوصيّته المتعيّنة من جهة عدم اعتبار تعيين فيه من حيث عدم انحصار طريق الامتثال في أدائه ، لا قيدا فيما يحصل له وصف الوجوب ليكون له مدخل في الاتّصاف به.

وأن يختار الشقّ الثاني - وإن كان خلاف التحقيق بملاحظة ما قرّرناه في إبطال الأخير من الوجوه المتقدّمة - ويذبّ عن أوّل الإشكالين بإبداء الفرق بين المقامين بكون مفهوم « الأحد » هنا كلّيا منتزعا عن الأفراد باعتبار إلغاء ما فيها من الخصوصيّة مع عدم اعتبار التعيين في شيء منها ، فلم لا يجوز كونه في إرادتهم منتزعا عنها بعد تعلّق الوجوب بها بالخصوص على غير جهة التعيين ، فإطلاق كونه واجبا من جهة كونه منتزعا عن الواجب لا أنّه واجب بنفسه على وجه تعلّق الحكم به على سبيل الحقيقة ، مع أنّ الملازمة بين المقامين ممنوعة من وجه آخر ينشأ عن التأمّل في كون أحد الامور كلّيا وإن أطلق عليه المفهوم ، لأنّ الكلّي حسبما عرّفوه : « ما لا يمتنع فرض صدقه على كثيرين » فالمراد بفرض صدقه على كثيرين تجويز العقل لاتّحاده في الخارج مع امور متكثّرة أو صحّة حمله على امور متكثّرة كمفهوم « الإنسان » بالقياس إلى زيد وعمرو وبكر وغيره من أفراده الغير المتناهية.

ص: 16

ولا ريب أنّ مفهوم « أحد الأفراد » ليس بهذه المثابة ، إذ لا يجوّز العقل اتّحاده مع زيد وعمرو وبكر في آن واحد لمنافاة الوحدة للكثرة ، وكذا لا يصحّ حمله على الكثرة بأن يقال : زيد وعمرو وبكر أحد الأفراد ، ومثله في هذا الحكم « فرد مّا » في مدلول النكرة.

نعم يصدق على كلّ من الامور المذكورة بدلا عن صدقه على الآخر في آنات متبادلة ، وهو من لوازم ما اعتبر فيه من الابهام وإلغاء التعيين ومجرّد ذلك لا يقضي بكونه كلّيا.

فالحقّ أنّه مفهوم كالجزئي مطابق لمصداقه يحصل له من جهة إلغاء خصوصيّته المشخّصة له بعد إلغاء تعيينه حين اعتبار النسبة بينه وبين ما نسب إليه ، ولذا يقال له :

المفهوم الاعتباري والكلّي الانتزاعي ، فهو في الحقيقة جزئي كالمنتزع عنه وتسميتها بالكلّي مجاز لمشاركته له في عدم اعتبار الخصوصيّة معه.

إلاّ أن يقال : بأنّ المأخوذ في حدّ الكلّي من صدقه على الكثيرين أعمّ من الصدق الآني والصدق التبادلي وهو غير ظاهر بل الظاهر خلافه.

وعن ثانيهما : بنحو ما تقدّم من الفرق بين أخذ « لا بعينه » وصفا للواجب باعتبار عدم اعتبار تعيين فيه ، أو قيدا لما حصل له وصف الوجوب حتّى يكون شرطا في الامتثال ، والإشكال إنّما يرد على الثاني دون الأوّل.

وبالجملة الّذي يظهر من تضاعيف كلمات الأشاعرة استدلالا ونقضا وإبراما ودفعا للنقوض الواردة عليهم أنّه لا يغاير مقالتهم لمقالة المعتزلة وإن غايرتها في العبارة ، وكأنّ الموهم للمغايرة ما في كلامهم من أنّ الواجب أحد الأبدال لا بعينه بزعم أنّ مرادهم به المفهوم المعرّى عن اعتبار الخصوصيّة واعتبار التعيين وقد عرفت خلافه ، وسيأتي زيادة توضيح في ذلك في شرح عبارة المصنّف.

وأمّا الجهة الثانية : فمن جملة الظواهر ما ورد في الكتاب العزيز من قوله تعالى ( لا يُؤاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ ) (1) الآية.

وعن ابن عبّاس قوله : ( بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ) أي بتعقيدكم الأيمان وهو توثيقها بالقصد والنيّة.

وقيل : وقرأ عقدتم بالتخفيف وعاقدتم ، والمعنى : ولكن يؤاخذكم بنكث ما عقدتم ،

ص: 17


1- المائدة : 89.

والنكث النقض ومنه قوله تعالى : ( نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ ) (1) أي نقضوها ، والعقد الشدّ والميثاق ومنه قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (2).

وفي المجمع : هي جمع عقد بمعنى العقود وهي أوكد العهود ، والفرق بين العهد والعقد أنّ العقد فيه معنى الاستيثاق والشدّ ولا يكون إلاّ من متعاقدين ، والعهد قد يتفرّد به الواحد. والكفّارة التغطية ، لأنّه تكفّر الذنب عن الإنسان أي تمحوه وتستره وتغطّيه ، وكلمة « الفاء » في قوله : « فكفّارته » يمكن كونها للتفريع على ما سبق ذكره من نكث ما عقدوه الّذي يؤاخذ اللّه به ، وكونها الجزاء لشرط مقدّر فيكون المعنى : وإن نكثتم أيمانكم بعد ما عقّدتموها فكفّارته إطعام عشرة مساكين إلى آخره ، وهذا هو محلّ الاستشهاد.

وعن أصحاب القول بأنّ الواجب في المخيّر كلّ واحد على البدل الاحتجاج بظاهر الآية ، تعليلا بأنّ المتبادر منها إيجاب الاطعام والتحرير على سبيل البدليّة.

وعن الأشاعرة أيضا الاحتجاج به تعليلا بأنّ كلمة « أو » لأحد الشيئين أو الأشياء وتعلّق الأمر بواحد منهم محقّق ومستقيم والنصّ دالّ عليه بظاهره فيجب العمل بمقتضاه.

ومن الأعلام من استوجه كلا الوجهين ، ولا بأس بأن نشير إلى دقيقة حسبما يساعده العرف والقواعد ليتّضح بها مفاد الآية ونظائرها ممّا يرد في العرف وفي الشرع كتابا وسنّة ، وهي أنّ كلمة « أو » على ما يشهد به الاستعمالات المتداولة في العرف ترد لمعان :

أحدها : التنويع القاضي بكون كلّ ممّا بعدها قسما لما قبلها المأخوذ موضوعا في القضيّة ومن لوازمه وقوعها في حيّز الخبر خاصّة.

وثانيها : الترديد القاضي بكون الحكم فيما بين الموضوع وأحد الأمرين أو الامور على جهة التشكيك مع المنع عن كلّ من الاجتماع والافتراق كما في الانفصال الحقيقي ، أو عن الاجتماع فقط كما في منع الجمع ، أو عن الافتراق فقط كما في منع الخلو ، وهو كسابقه في اختصاصها بوقوعها في حيّز الخبر أيضا ويمتاز عنه بعموم موضوع القضيّة في الأوّل وكونه من الماهيّات الملحوظة لا بشرط وخصوص محمولها مع تعدّده ، وخصوص موضوعها وكونه جزئيّا حقيقيّا أو إضافيّا في الثاني مع عموم محمولها وتعدّده ، فقولنا : « العدد زوج أو فرد » من قبيل الأوّل ، كما أنّ « هذا العدد زوج أو فرد » من قبيل الثاني وقس عليهما كلّما يرد عليك من الأمثلة ، ويكثر في الثاني تعقّب الجملة لها أسميّة أو فعليّة

ص: 18


1- التوبة : 12.
2- المائدة : 1.

بخلاف الأوّل إذ لا يتعقّبها فيه إلاّ المفرد.

وثالثها : التخيير القاضي بالرخصة في كلّ من طرفي الفعل والترك ، فيكون إباحة أو جعل الاختيار في أداء ما يحصّل - من الامور المصحوبة لها - به الغرض الباعث على إيجاب تلك الامور لا على جهة التعيين ، فلا يلاحظ معه عموم ولا خصوص في الموضوع ولا المحمول ، بل هو ممّا يلازم الإنشاء على خلاف الأوّلين ، مع كون القضيّة باعتبار وضعها إنشائيّة أو لا مع اشتمالها على الغرض الّذي هو مصلحة الطلب بعنوان وروده للتعليل أو متعلّقا لذلك الطلب أو موضوعا في القضيّة المسوقة لإفادته ، فقولك : « اضرب اليتيم أو احبسه للتأديب » و « أدّب اليتيم بالضرب أو الحبس » و « تأديب اليتيم ضربه أو حبسه » و « اضرب اليتيم أو احبسه » يرد في جميع عباراته لإفادة معنى واحد ولكن العبارات تختلف في تطرّق تجوّز إلى بعضها دون بعض ، فإنّ الأوّل والأخير لا تجوّز فيهما أصلا مع الفرق بينهما في الاشتمال على علّة الحكم وعدمه ، بخلاف الثانية والثالثة لأنّ في « أدّب اليتيم بالضرب أو الحبس » مجازا عقليّا من جهة أنّ مقصود المتكلّم في مثل ذلك إيجاب السبب ، ولكن يأتي بالعبارة على وجه يكون الأمر واردا على المسبّب توسّعا مع التنبيه على الحكم وعلّته ، وفي « تأديب اليتيم ضربه أو حبسه » مجازا لغويّا من وجهين :

الأوّل : من جهة إطلاق الإخبار في موضوع الإنشاء.

والثاني : من جهة إطلاق المسبّب على سببه أو بالعكس.

وتوضيح ذلك : أنّ السبب قد يطلق ويراد المسبّب كما في « رعينا الغيث » كما أنّ المسبّب قد يطلق ويراد به السبب كما في « أمطرت السماء نباتا ».

ولا ريب أنّ اللفظ إذا استعمل في معنى مجازي يؤول باعتبار ما تضمّنه الاستعمال من النسبة التقييديّة عند التحليل إلى جملة خبريّة تشتمل على المعنى المستعمل فيه موضوعا واللفظ المستعمل محمولا ، فيقال في المثالين : « النبات غيث » و « المطر نبات » ولمّا كان الحمل ممّا يقتضي الاتّحاد الموجب لامتناع حمل المبائن فلا مناص في تلك القضيّة أيضا من تجوّز في موضوعها ، بأن يراد بالنبات في المثال الأوّل ما يحصل به النبات من باب تسمية السبب باسم المسبّب ، وبالمطر في المثال الثاني ما يحصل بالمطر من باب تسمية المسبّب باسم السبب ، أو في محمولها بأن يراد بالغيث في المثال الأوّل ما يحصل بالغيث من باب تسمية المسبّب باسم السبب ، وبالنبات في المثال الثاني ما يحصل به النبات من

ص: 19

باب تسمية السبب باسم المسبّب ، وإلى أيّهما تطرّق التجوّز بقي الآخر على حقيقته.

وعلى هذا القياس قولك : « تأديب اليتيم ضربه أو حبسه » فإمّا أن يراد بالتأديب ما يحصل به التأديب مجازا ، أو بالضرب ما يحصل بالضرب ، وبالحبس ما يحصل بالحبس من باب ذكر المسبّب أو السبب وإرادة السبب أو المسبّب ، والنكتة في هذا التجوّز التنبيه على الحكم وعلّته معا.

وإلى ذلك ينظر قوله تعالى : ( فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) ضرورة أنّ الكفّارة مصلحة للأمر مسبّبة عن الامور المذكورة لا نفس المأمور به ، كما يومئ إليه بعض العبائر ، ولا كلّي مشترك بين تلك الامور كما يستفاد من بعض الأعلام في قوله : « فالخطاب بالكفّارة عينيّ يستتبع التخيير في أفرادها ، والخطاب بأحد الخصال تخييريّ » فإنّ محو الذنب ما يتسبّب عن الخصال لا أنّها بعينها محو ، فذكرها في الكلام تنبيه على علّة الطلب الإيجابي وهو مستفاد من الهيئة التركيبيّة ومتعلّق بالخصال لا بالكفّارة ، وهي إمّا أن يكون المراد بها ما يحصل به الكفّارة أو تكون على حقيقتها ، ويراد بالخصال المذكورة ما يحصل بها ، وأيّا مّا كان فهو مجاز بالعلاقة المذكورة ويفيد مفاد هذا التركيب قولك : « أطعم المساكين أو اكسهم أو حرّر رقبة للكفّارة » وقولك : « كفّر بإطعام المساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة ».

وكلمة « أو » في هذه التراكيب لا يعقل كونها تنويعيّة لما عرفت من قضيّة اختصاصها بالإخبار فلا تلائم المقام ، مع عدم ملائمتها لكلمة « الفاء » سواء جعلناها تفريعيّة أو جزائيّة ، مضافا إلى انتفاء شرط التنويع هنا من عموم موضوع القضيّة وخصوص محمولها ، ولا ترديديّة لمنافاة الإنشاء للإخبار مع امتناع الجهل والتشكيك هنا ، مع أنّ الترديد الملازم للتشكيك إن اخذ بالقياس إلى الطلب فهو ممّا لا محصّل له بل لا يكاد يعقل ، أو بالقياس إلى المطلوب فكذلك لأنّ الشكّ في متعلّق الطلب بعد الجزم بصدوره ممّا لا معنى له ، فقول الأشاعرة بأنّ « أو » لأحد الشيئين أو الأشياء إن كان منزّلا إلى هذا المعنى فهو مقطوع بفساده ، غير أنّه قد عرفت أنّ مقالتهم لا تغائر بالذات لمقالة الأصحاب وأكثر المعتزلة ، فيكون مرادهم به ما يرجع إلى ما ذكروه من كون الواجب كلّ واحد على البدل ، بمعنى تعلّق الوجوب بالخصوصيّات مع إلغاء ما في كلّ منها من التعيين الّذي هو مفاد التخيير.

وقضيّة ذلك أن يحمل الاستدلال على إرادة أنّ « أو » للدلالة على أنّ ما يستقرّ في ذمّة

ص: 20

المكلّف من الخصوصيّات الّتي يدور الواجب بينها واحد منها دائما غير معيّن موكول تعيينه في الامتثال إلى اختيار المكلّف.

فيكون مرجع الاستدلالين إلى معنى واحد وإن كان تعبيرهم ب- « الأحد » يوهم إرادة وقوع الطلب بالمفهوم المنتزع مع قطع النظر عن ملاحظة الخصوصيّة ، وإنّما عبّروا بذلك ردّا على بعض المعتزلة في توهّم تعلّق الوجوب بالجميع مع سقوطه بفعل البعض وبعض آخر في دعوى تعلّقه بواحد معيّن عند اللّه على كلّ من المذهبين الآتيين.

فقضيّة ما ذكر تعيّن المعنى الثالث في كونه مرادا من كلمة « أو » وهذا هو المتبادر منها ، كما أنّ المتبادر من التصريح بذكر الخصال تعلّق الوجوب المستفاد من الهيئة بكلّ منها بالخصوص لا بالمفهوم المنتزع عنها وإلاّ لخرج في الكلام بلا معبّر وهو كما ترى ، ولا يمكن كونه مرادا من كلمة « أو » لعدم كونه من المعاني الحرفيّة مع عدم تحقّق اندراجه فيما هو الضابط في الحروف من عموم الوضع وخصوص الموضوع له.

ومحصّل مفاد التخيير يرجع إلى جعل الاختيار في أداء ما يحصل به الامتثال مع المكلّف وإنشاء الاكتفاء بالبعض لا على جهة التعيين ، ويلزمه إلغاء التعيين عن الخصوصيّات المتخيّرة للطلب ، فلا ينبغي أن يكون مفاد الآية إيجاب الجميع لمنافاته التعبير ب- « أو » ولا إيجاب البعض المعيّن لمنافاته التخيير الملازم لإلغاء جهة التعيين ، بل مفادها إنشاء مطلوبيّة كلّ بعض وممنوعيّة تركه حال عدم حصول الآخر وتركه ، وهذا التقييد من لوازم التخيير الملازم لإنشاء الاكتفاء بالبعض مع إلغاء جهة التعيين.

ولمّا كان القيد في كلّ مناقضا لقيد الآخر وقضيّة ذلك مناقضة المقيّدات فمتعلّق الطلب الإيجابي المستفاد من الهيئة واحد دائما وملحوظ بالخصوص ، وتعيينه في الامتثال موكول إلى اختيار المكلّف فبأيّها أتى فقد أتى بنفس الواجب لا ببدله ولا ما يسقط عنه ، إذ ليس الواجب معناه إلاّ ما كان مطلوبا فعله ومبغوضا تركه ، ولا ريب أنّ كلّ واحد من الخصال الثلاث حال عدم حصول الآخرين مطلوب فعله ومبغوض تركه أخذا بموجب الآية.

فالقول بأنّ الواجب في المخيّر مفهوم « أحد هما » كما نسب إلى جماعة من الخاصّة والعامّة إن اريد به المفهوم المنتزع ليس على ما ينبغي ، لمخالفته صريح الوجدان وظاهر الخطاب.

وقد يوجّه ذلك كما في كلام بعض الأفاضل « بإرادة الوجوب التبعي بالنسبة إلى المفهوم التابع للوجوب المتعلّق بالخصوصيّات على سبيل التخيير ، فيقال : إنّ كلاّ من الوجوب

ص: 21

بمعنى أنّه لا يجب الجميع ، ولا يجوز الإخلال بالجميع ، وأيّها فعل كان واجبا بالأصالة. وهو اختيار جمهور المعتزلة *.

_____________________________

التعييني والتخييري إمّا أن يكون أصليّا أو تبعيّا فالوجوه أربعة ، والأمر في الوجوب التعييني الأصلي ظاهر كالوجوب التخييري الأصلي كخصال الكفّارة ، وأمّا الوجوب التعييني التبعي فكمطلوبيّة أحد تلك الخصال على سبيل التعيين فإنّه تابع لتعلّق الخطاب بتلك الأفعال على سبيل التخيير ، فالوجوب التخييري التبعي كوجوب الإتيان بأفراد الطبيعة على سبيل التخيير عند تعلّق الأمر بها ، فكلّ واجب تخييري أصلي يلزمه وجوب تعييني تبعي ، كما أنّ كلّ واجب تعييني أصلي يلزمه وجوب تخييري تبعي إذا تعلّق الوجوب بطبيعة كلّية ، لا بأن يكون هناك تكليفان مستقلاّن يكون أحدهما تعيينيّا والآخر تخييريّا ، بل هناك تكليف واحد يختلف الحال فيه بحسب الاعتبارين المذكورين ، نظير ما يقال في الدلالة المطابقيّة والتضمّنيّة فإنّ هناك دلالة واحدة لها اعتباران يعدّ بالنسبة إلى أحدهما مطابقة وبالنسبة إلى الآخر تضمّنا فأحد هذين القسمين تابع للآخر من غير أن يكون هناك دلالتان متعدّدتان في الواقع تكون إحداهما تابعة للاخرى.

فنقول بمثل ذلك في المقام ، فإنّ الوجوب الحاصل هنا أيضا واحد يختلف الحال فيه بحسب الاعتبارين المذكورين ، حيث إنّه يتعلّق أصالة بكلّ من تلك الأفعال على وجه التخيير بينها ويتبعه صحّة اتّصاف أحدها بالوجوب التعييني التبعي من غير أن يكون هناك وجوبان ، وكذا الحال في اتّصاف الماهيّة بالوجوب التعييني فإنّه يتبعه وجوب أفرادها بالوجوب المتعلّق بالطبيعة لاتّحادها معها على سبيل التخيير.

فظهر بذلك أنّ الحال في الواجبات التخييريّة على عكس الواجبات التعيينيّة » انتهى.

ولا يخفى أنّ الوجوب التبعي بهذا المعنى اصطلاح آخر غير ما تقدّم تفسيره في بحث المقدّمة وإلاّ فهو منطبق على الوجوب العرضي الملحوظ بالنسبة إلى لوازم الواجب.

في ذكر أقوال المسألة والإشارة إلى أدلّتها

المقام الثالث

في ذكر أقوال المسألة والإشارة إلى أدلّتها

* وهذا أوّل الأقوال وقد جعله المصنّف مشهورا بين أصحابنا ثمّ عزاه إلى جمهور

ص: 22

المعتزلة ، وعزاه في المنية إلى أصحابنا ومحقّقي المعتزلة وهو يومئ إلى إطباق أصحابنا عليه ، ومثله ما في كلام بعض الأعلام من نسبته إلى أصحابنا وجمهور المعتزلة.

وفي كلام بعض الأفاضل : « أنّه ما اختاره كثير من أصحابنا كالسيّد والشيخ والمحقّق والعلاّمة في بعض كتبه » وكأنّه إشارة إلى ما في التهذيب من اختياره ذلك ، ولكن العجب منه أنّه مع مصيره إليه هنا صرّح عند تحديد الواجب : « بما يذمّ تاركه » بكون الواجب في المخيّر هو الكلّي الّذي فسّره بعضهم بالصادق على الخصال المتعدّدة.

وربّما يشكل الحال في توجيه العبارة الواقعة في كلام هؤلاء عند تفسير قولهم : « بوجوب كلّ واحد على البدل » على وجه يخالف سائر الأقوال ، وإلاّ فهي بظاهرها لا تبائن القول بكون الواجب واحدا معيّنا عند اللّه وهو الّذي يفعله المكلّف الّذي يتبرّأ عنه كلّ من المعتزلة والأشاعرة ويسنده كلّ إلى صاحبه ، لأنّ هذا القائل يتسالمهم في دعوى المقدّمة الاولى وهو عدم وجوب الجميع ، بمعنى عدم وجوب كلّ واحد على التعيين لا مع الاجتماع ولا مع التفريق ، وكذلك في دعوى المقدّمة الثانية وهي عدم جواز الإخلال بالجميع بأن لا يأتي بشيء من الخصال ، ولا ريب أنّ المقدّمة الثالثة أيضا لا تنافي مقالته لجواز أن يقول : بأنّ كون ما يفعله المكلّف هو الواجب بالأصالة ، من جهة أنّ فعل المكلّف يكشف عن أنّ ما فعله هو الّذي عيّنه اللّه تعالى في حقّه ، وذلك يختلف باختلاف المكلّفين في الفعل.

ويمكن دفعه : بأنّ كون ما فعله المكلّف واجبا بالأصالة ليس من جهة أنّ فعله كاشف عن أنّ ما فعله هو الّذي عيّنه اللّه تعالى في حقّه ، بل من جهة أنّه ما أوجبه اللّه تعالى بالخصوص ولم يعتبر فيه تعيينا عليه ، وخيّر بينه وبين معادله الّذي أوجبه بالخصوص ولم يعتبر فيه تعيينا ، فكون الشيء واجبا بالأصالة يرد على معنيين ، أحدهما : ما اعتبر فيه التعيين مضافا إلى تعلّق الطلب به بالخصوص وثانيهما : ما تعلّق به الطلب بالخصوص وإن لم يعتبر فيه تعيين.

والقول المذكور يراد به المعنى الأوّل ومراد الجماعة من العبارة المذكورة هو المعنى الثاني ، فهما يشتركان في دعوى مدخليّة الخصوصيّة فيما يتّصف بالوجوب ، ويفترقان في دعوى اعتبار التعيين على المكلّف أيضا وعدم اعتباره فيما يتّصف بالوجوب ، وإنّما هو في مقام الامتثال موكول إلى اختيار المكلّف ومشيّته ، ولذا تراهم يوردون على القول المذكور بكونه منافيا للتخيير الّذي هو محلّ الكلام ، وقولهم : « أيّها فعل » في العبارة المذكورة بيان لهذا المعنى.

ص: 23

ومحصّله : أنّ أيّا من الخصال اختاره المكلّف عند الامتثال على حسب ما ثبت له من التخيير الملازم لإلغاء التعيين وعدم اعتباره كان واجبا بالأصالة ، من جهة كونه ملحوظا بخصوصه وتعلّق الطلب به مع اعتبار قيد « الخصوصيّة » لا بأمر منتزع عنه مشترك بينه وبين معادله.

ويبقى الإشكال في تصوير هذا المعنى بحيث يكون كلّ متعلّقا للوجوب بالخصوص مع إلغاء جهة التعيين عن كلّ الّذي هو مفاد التخيير أو لازم له ، ويمكن دفعه أيضا بنحو ما قرّرناه سابقا.

وتوضيح ذلك : أنّ معنى قولهم : « لا يجب الجميع » أنّه ليس الجميع بحيث تعلّق به الوجوب على سبيل العامّ الاستغراقي حتّى يكون كلّ واجبا برأسه ويجتمع على المكلّف واجبات متعدّدة ، ولا على سبيل العامّ المجموعي حتّى يكون كلّ جزء للواجب.

ومعنى قولهم : « لا يجوز الإخلال بالجميع » أنّه ليس الجميع بحيث يكون ترك كلّ واحد جائزا في نظر الشارع حتّى ينافي تحقّق وصف الوجوب ، بل ترك الجميع على نحو العموم الاستغراقي مبغوض في نظره وممنوع عنه في خطابه ، وهو في معنى القول بأنّ ترك كلّ حال ترك الآخر مبغوض عنده وممنوع عنه في خطابه ، وقضيّة التوفيق بين هاتين المقدّمتين وجوب كلّ حال ترك الآخر ، لأنّ المنع عن ترك كلّ في تلك الحال ملازم لطلب كلّ في تلك الحال ، فجنس الوجوب مع فصله واردان على كلّ في تلك الحال ، فينتج أنّ الواجب فعل كلّ حال ترك الآخر ، وهذا مفهوم مقيّد صادق على كلّ واحد إذا قيس إلى حال ترك الآخر ، فيتحقّق في المقام مقيّدات فرضيّة والمكلّف مخيّر فيما بينهما فبأيّهما أتى يصدق عليه أنّه أتى بنفس الواجب ، لأنّه إتيان به حال ترك الآخر فيكون ما أتى به واجبا بالأصالة ، وهذا معنى قولهم : « أيّها فعل كان واجبا بالأصالة ».

وقضيّة ذلك كون الواجب المستقرّ في ذمّة المكلّف واحدا دائما ، لأنّ قضيّة مناقضة مقيّد كلّ لقيد الآخر مناقضة المقيّدات.

ومن البيّن استحالة التكليف بالامور المتناقضة ، فيستحيل من اللّه الحكيم إيجاب كلّ واحد من المقيّدات على سبيل العموم الاستغراقي ، بل الموافق للعدل والحكمة إيجاب كلّ واحد بالخصوص على طريق العموم البدلي ، وهذا هو مفاد التخيير المتضمّن لكون تعيين ما يحصل به الامتثال موكولا إلى اختيار المكلّف وهو واحد دائما ، فيكون هذا معنى قولهم : « كلّ واحد واجب على البدل ».

ص: 24

وقالت الأشاعرة : الواجب واحد لا بعينه ، ويتعيّن بفعل المكلّف * .

__________________________________

ومما يرشد إلى ما قرّرناه ما رواه الشيخ في باب كيفيّة الصلاة من التهذيب عمّن ذكره عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : سألته عن الركعتين الأخيرتين ما أصنع فيهما؟ فقال : إن شئت فاقرأ فاتحة الكتاب وإن شئت فاذكر اللّه فهو سواء.

قال : قلت : فأيّ ذلك أفضل؟ فقال : هما واللّه سواء إن شئت سبّحت وإن شئت قرأت (1).

بتقريب : أنّ التعليق على المشيّة هو معنى التخيير والقضيّتان واردتان على حدّ الانفصال الحقيقي.

ومن البيّن أنّ المشيّة إذا تعلّقت فيما بين الأمرين بأداء أحدهما يمتنع تعلّقها بأداء الآخر ، لكونها ملزومة للصارف عن الآخر أو لمشيّة تركه وهما ملزومان للترك ، فيكون وجوب ما تعلّقت به المشيّة ثابتا له حال ترك الآخر ، لكون ما تعلّق به المشيّة ملزوما لترك ذلك الآخر ، والمفروض تعلّق الأمر في صريح اللفظ بكلّ منهما بالخصوص مقيّدا بأمر عدمي ملازم لإلغاء جهة التعيين بعد اعتبار الخصوصيّة وملاحظتها.

* وعبّر عنه بعض الأفاضل بمفهوم « أحدهما » وهو خطأ ، إذ لم نجد في كلام أحد من أصحاب هذا القول التعبير بذلك ، وكأنّه نشأ عمّا في كلام جماعة - منهم بعض الأعلام - من تفسير واحد لا بعينه بالكلّي فرقا بين هذه المقالة ومقالة المعتزلة وستعرف فساد ذلك أيضا.

وكيف كان فهذا القول عزاه الفاضل المشار إليه إلى جماعة من الخاصّة والعامّة ، وممّن ذكره منهم مضافا إلى ما نذكره العلاّمة في النهاية ونهج الحقّ والشهيد والمحقّق الكركي والمحقّق الخوانساري.

ثمّ قال : « وعن القاضي حكاية إجماع سلف الامّة عليه ، وحكاه في العدّة عن شيخنا المفيد وعزاه في نهج الحقّ إلى الإماميّة مؤذنا بإطباقهم عليه ». انتهى.

وعليه الحاجبي وغير واحد من شرّاح مختصره والبيضاوي في المنهاج وشارحه في معراج الوصول.

ومن أصحابنا الفاضل النراقي في المناهج ، قال : « الواجب في المخيّر هو الواحد لا بعينه ، لا الماهيّة في ضمن أيّ فرد شاء ، ولا كلّ واحد على البدل إلاّ بإرجاعهما إلى الأوّل ، - إلى

ص: 25


1- تهذيب الأحكام 2 : 98.

أن قال : - والفرق بين الماهيّة والواحد لا بعينه وعلى البدل أنّه لا يلاحظ في الأوّل تشخّص أصلا.

والثاني هو الماهيّة مع تشخّص مّا ، فهما مشتركان في الكلّية مختلفان في ضمّ التشخّص وعدمه.

والثالث هو الماهيّة مع التشخّص المعيّن ، بمعنى أنّ الخصوصيّة ملحوظة مع كلّ واحد ، فإذا تعلّق الوجوب بالأوّل يكون تعلّقه بالماهيّة أصالة وبالتشخّص المطلق والمعيّن تبعا ، وإن تعلّق بالثاني يكون تعلّقه بالأوّلين أصالة والثالث تبعا ، وإن تعلّق بالثالث يكون تعلّقه بالثلاثة أصالة ، فيكون هذا الفرد المعيّن مطلقا بدلا عن الآخر ». انتهى.

وكأنّ مراده بالماهيّة الّتي نفى كونها واجبة ما أشار إليه شيخنا البهائي حيث قال : « والواجب أحد الأبدال الصادق على أيّها شاء أو تحصيل الكلّي كالكفّارة فيما يشاء من جزئيّاته »

وفي جعله الواحد لا بعينه مقابلا لكلّ واحد على البدل الّذي نفاه أيضا تنبيه على أنّ ما اختاره يغاير مختار الأصحاب بل الأشاعرة أيضا ، بناء على رجوع واحد لا بعينه عند التحقيق إلى كلّ واحد على البدل كما ستعرفه ، ولا محصّل له إلاّ أن يكون مراده به المفهوم الكلّي الصادق على كلّ من الجزئيّات ، كما أنّ ظاهر البهائي من قوله : « أحد الأبدال الصادق على أيّها شاء » هو إرادة ذلك.

ويوافقه على هذا المعنى السيّد في المنية قال : « والحقّ أنّ المسقط للفرض شيء واحد وهو الأمر الكلّي الصادق على كلّ واحد من الأفراد ، ويكون المجموع أو كلّ واحد من أفراده مسقطا إنّما هو لاشتماله على ذلك الكلّي لا لخصوصيته ». انتهى.

ووجه موافقته : أنّ المسقط للفرض لا يغاير الفرض مغائرة تامّة ، بل هو إمّا نفس الفرض أو فرد منه إذا كان ولا يعقل العكس ، فإذا كان التقدير تقدير الكلّي مسقطا كان الفرض هو ذلك الكلّي وإلاّ لزم كونه مغايرا للمسقط أو فردا منه ، والأوّل خلاف الفرض والثاني ممّا لا سبيل إليه ، لأنّ الكلّي بما هو كلّي لا يعقل له وجود ، ووجوده في ضمن الفرد يغني عن فرضه مسقطا بعد كون الفرض هو الفرد لكونه بنفسه مسقطا ، هذا إذا كان مراده بالفرض هو الواجب.

وأمّا إذا كان المراد الوجوب فالموافقة أوضح ، لأنّ الكلّي لا يوجد بدون الفرد ومع

ص: 26

قال العلاّمة رحمه اللّه ونعم ما قال : الظاهر أنّه لا خلاف بين القولين في المعنى* ، لأنّ المراد بوجوب الكلّ على البدل أنّه لا يجوز للمكلّف الإخلال بها أجمع ، ولا يلزمه الجمع بينها ، وله الخيار في تعيين أيّها شاء. والقائلون بوجوب واحد لا بعينه عنوا به هذا ، فلا خلاف معنويّ بينهم. نعم هاهنا مذهب تبرّأ كلّ واحد من المعتزلة والأشاعرة منه ونسبه كلّ منهم إلى صاحبه واتّفقا على فساده ،

__________________________________

وجوده يكون أولى بنسبة الإسقاط إليه على تقدير كونه هو محلّ الفرض ، فنسبته إلى الكلّي تقضي بكون الكلّي هو محلّ الفرض.

فممّا قرّرنا تبيّن أنّ كون الواجب هو الكلّي الصادق على الجزئيّات قول محقّق ذهب إليه جماعة من أصحابنا ، والواحد لا بعينه في كلام الآخرين المنسوب إلى الأشاعرة أيضا لا ينطبق عليه ، لرجوعه إلى كلّ واحد على البدل الّذي نبّه النراقي على مغايرته بالواحد لا بعينه الّذي اختاره ، ولا محصّل له في مقابلة كلّ واحد على البدل إلاّ كونه كلّيّا.

وأمّا ما تقدّم في كلام البهائي من تجويز كون الواجب تحصيل الكلّي كالكفّارة فيما يشاء من جزئيّاته فهو مغاير للجميع ، ولم يعهد نقله عن أحد إلاّ ما عرفت في كلام النراقي.

ويظهر من البهائي ارتضاؤه بهذا المعنى فهو مجوّز لكونه فيما بين خصال الكفّارة أحد الأبدال وكونه نفس الكفّارة ، ولكن في كونها كلّيا بالقياس إلى الخصال كلام قد تقدّم وجهه ، وأداة الترديد تومئ إلى عدم جزمه بأحد الأمرين وإنّما يجوّز كلاّ منهما.

* والمراد بعدم الخلاف بين القولين أنّه كما أنّ الأوّلين يقولون بتعلّق الوجوب بكلّ واحد بالخصوص مع إلغاء جهة التعيين ، فكذلك الأشاعرة أيضا يعترفون بذلك ويعتبرون في متعلّق الوجوب قيد « الخصوصيّة » وإنّما يعبّرون عنه بواحد لا بعينه تنبيها على عدم تعلّقه بالجميع ليكون ردّا على بعض المعتزلة ، ولا بواحد معيّن عند اللّه غير معيّن عند المكلّف ليكون ردّا على من يقول به ، أو أنّ غرضهم بذلك التنبيه على أنّ ما يستقرّ في ذمّة المكلّف واحد دائما ولا تعيين فيه من جهة التخيير ، وهذا كما ترى ممّا لا سبيل للأوّلين إلى إنكاره كما عرفت ، فالحاصل : أنّ الوجوب لابدّ له من متعلّق وهو إمّا كلّ واحد من الخصال بقيد الخصوصيّة ومع اعتبار التعيين ، أو كلّ واحد بقيد الخصوصيّة لا مع اعتبار التعيين ، أو المفهوم المشترك بينها المنتزع عنها لا بقيد الخصوصيّة ومع عدم التعيين ، والأوّل باطل

ص: 27

باتّفاق الفريقين والثاني مختار للأوّلين وهو الّذي تسلّمه الأشاعرة أيضا.

نعم يحصل المخالفة بينهما لو قالت الأشاعرة بالثالث ، كما قال به جملة من أصحابنا وهو باطل ، والّذي يدلّ عليه مضافا إلى ما قدّمنا ذكره امور :

منها : ما في شرح منهاج البيضاوي عند شرح كلام البيضاوي في هذا المقام من قوله : « قد عرفت أنّ الوجوب حكم متعلّق بفعل المكلّف ، فهذا المتعلّق لا يخلو من أن يكون معيّنا كالصلاة والصوم أو غير معيّن ، وغير المعيّن لا يخلو من أن يكون من بين امور معيّنة أو من بين امور غير معيّنة ، والثاني محال لامتناع التكليف والأوّل يسمّى بالواجب المخيّر كالخصال الثلاث في الكفّارة ».

وجه الدلالة : أنّه جعل متعلّق الوجوب فعل المكلّف كما هو الضابط في جميع الأحكام.

ولا ريب أنّ المفهوم المنتزع أمر اعتباري وليس من فعل المكلّف في شيء ليكون متعلّقا للوجوب عند هذا القائل.

ومنها : ما في كلام ذلك أيضا من قوله : « وعند المعتزلة الوجوب متعلّق بمجموع خصال الثلاث ، بمعنى أنّه لا يجوز للمكلّف ترك الجميع ولا يجب عليه أيضا الإتيان بالجميع ، بل لو فعل واحدا منها لتأدّى به الواجب وبه سقط التكليف عنه ، فعلى هذا لا خلاف في المعنى.

ووجه الدلالة : أنّه من الأشاعرة واعترف بعدم الخلاف بين مقالتهم لمقالة المعتزلة وإن اختلفتا في العبارة.

ومنها : ما في تهذيب العلاّمة من أنّه بعد ما اختار طريقة المعتزلة ذكر له مثالا بذكره الأشاعرة وإن شئت فلاحظ قوله : « والحقّ أنّ كلّ واحد منها واجب مخيّر فيه ، بمعنى أنّه لا يجب الجميع ولا يجوز الإخلال بالجميع وأيّما فعل كان واجبا بالأصالة ، لأنّه لا استبعاد في أن يقول السيّد لعبده : أوجبت عليك أحد هذين بحيث لا يحلّ لك تركهما ولا اوجبهما عليك فأيّهما شئت إفعل ».

ومنها : ما في كلام الحاجبي عند دفع اعتراض المعتزلة القائلة بوجوب الجميع على كون الواجب واحدا لا بعينه ، بلزوم أحد الأمرين من التخيير بين الواجب وغيره واجتماع التخيير والوجوب في شيء واحد ، لأنّ الواحد الّذي هو الواجب إمّا أن يكون هو الواحد المخيّر فيه فيلزم الثاني أو غيره فيلزم الأوّل ، من قوله : « والحقّ أنّ الّذي وجب لم يخيّر فيه

ص: 28

والّذي خيّر فيه لم يجب لعدم التعيين والتعدّد يأبى كون المتعلّقين واحدا كما لو حرّم أو أوجب واحدا ».

ومحصّل الاعتراض : أنّ التخيير في الواجب المخيّر وصف للواجب فلا يصحّ فرضه بين الواجب وغير الواجب ، وهو ملزوم لتجويز الترك والواجب ملزوم لمنع الترك ، فإذا كان الواحد واجبا ومخيّرا فيه لزم اجتماع تجويز الترك ومنع الترك في شيء واحد وأنّه محال.

وملخّص الدفع : أنّ محلّ الوجوب والتخيير الملزومين لأمرين متناقضين هو الواحد ولكن باعتبار ما يلحقه من الاعتبارين المتضادّين ، فإن اعتبر في حال عدم حصوله معادله فهو واجب لا يجوز تركه وإن اعتبر في حال حصول معادله فليس بواجب ويجوز تركه ، فلم يلزم توارد المتناقضين على محلّ واحد.

وقوله : « لعدم التعيين » تعليل لعدم وجوب ما خيّر فيه ، يعني أنّ الواحد في اتّصافه بالوجوب لا تعيين فيه ، بمعنى أنّه ليس بمثابة يكون واجبا على تقدير حصول معادله وعلى تقدير عدم حصوله كما هو شأن كلّ واجب معيّن بالقياس إلى ما يقابله ، بل هو واجب على التقدير الثاني وغير واجب على التقدير الأوّل ، فما وجب غير ما جوّز تركه وما جوّز تركه غير ما وجب ، لكفاية التعدّد الاعتباري في اتّصاف المحلّ بوصفين متضادّين.

فقوله : « والتعدّد يأبى كون المتعلّقين واحدا » إشارة إلى هذا المعنى ، يعني أنّ التعدّد الّذي يطرأ الواحد من جهة ما يؤخذ من الاعتبارين المتقابلين يأبى عن كون محلّ الوصفين واحدا غير قابل لاجتماعهما فيه.

وقوله : « كما لو حرّم أو أوجب واحدا » يعني لو حرّم الشارع واحدا وأوجب آخر ، وهو استشهاد على عدم منافاة الواحد لتوارد الوصفين المتضادّين عليه من جهة ما يلحقه من التعدّد بعدم منافاته لتوارد التحريم والوجوب عليه من جهة ما لحقه من التعدّد ، ضرورة أنّه محرّم على تقدير حصول الآخر وواجب على تقدير عدم حصوله.

ولا ريب أنّ هذا الكلام على التوجيه المذكور لا ينطبق إلاّ على ما قرّرناه في توجيه كلام الأصحاب والمعتزلة ، ولازمه كون مرادهم بالواحد في تعلّق الوجوب ولحوق التخيير به مصداقه الّذي يعتبر فيه الخصوصيّة لا محالة ، لكون الاعتبارين ممّا يلحق المصداق دون المفهوم الملازم لإلغاء الخصوصيّة عنه ، والتعبير عنه بالواحد من جهة إفادة أنّ ما يستقرّ في الذمّة إنّما هو الواحد دون المتعدّد ، كما يزعمه بعض المعتزلة في قولهم بوجوب الجميع.

ص: 29

وربّما يوجّه كلامه - كما في بيان المختصر - بما لا يرجع إلى محصّل ، وهو من وجهين ناشئين عن احتمالي رجوع قوله : « لعدم التعيين » إلى الّذي وجب أو إلى المخيّر فيه :

أحدهما : أنّ الّذي وجب غير متعيّن لأنّه واحد من الثلاثة من حيث هو واحد لا بعينه ، وهو أمر كلّي مشترك بينهما وهو غير مخيّر فيه ، والمخيّر فيه معيّن لأنّ المخيّر فيه هو كلّ واحد من الثلاثة على التعيين ، وهو غير واجب والمخيّر فيه ليس بواحد.

وثانيهما : أنّ الّذي وجب معيّن من حيث هو واحد لا تعدّد فيه ، والمخيّر فيه لا يكون معيّنا من حيث هو متعدّد.

وفيه أيضا : أنّ قوله : « والتعدّد » إشارة إلى دليل آخر على أنّ الواجب والمخيّر فيه لا يتّحدان ، توجيهه : أنّ الوجوب والمخيّر يتعدّدان وتعدّد المتعلّقين يأبى أن يكون المتعلّقان - أي الواجب والمخيّر فيه - واحدا كما لو حرّم الشارع واحدا وأوجب آخر ، فإنّ تعدّد الوجوب والحرمة يأبى أن يكون متعلّقهما أي الواجب والحرام واحدا.

ولا يخفى ما في الجميع من البعد ، مع عدم جدوى شيء من ذلك في دفع الاعتراض ، فإنّ الدفع لابدّ وأن يكون رافعا للاعتراض عن المورد الّذي هو محلّ سؤال الخصم.

ولا ريب أنّ الخصم إنّما سأل عن أنّ الواحد الّذي هو الواجب إن كان هو المخيّر فيه لزم اجتماع الوجوب والتخيير في محلّ واحد ، والكلام الوارد في دفعه مبنيّ على تسليم ذلك الشقّ ومنع الملازمة ، ولا يستقيم إلاّ بأن يقال : أنّ الواجب هو الواحد في أحد اعتباريه والمخيّر فيه أيضا هو ذلك الواحد في اعتباره الآخر ، وأوّل ما ذكر من الوجهين لا يطابق السؤال ، بل هو اختيار لشقّ ثالث من شقيّ الاعتراض مبنيّ على جعل الوجوب وصفا لشيء وهو الكلّي المشترك ، وجعل التخيير معتبرا بين امور اخرى غير ذلك الشيء وإن كان لها تعلّق به باعتبار كونها جزئيّاته ، وهو ليس بشيء ممّا ذكره المعترض في تقرير الاعتراض من الشقّين. ومثله الكلام في ثاني الوجهين لرجوعه إلى الأوّل في جعل الوجوب وصفا للكلّي والتخيير وصفا للأفراد ، إذ لا فرق بينهما إلاّ في جعل عدم التعيين تارة وصفا للواحد الواجب واخرى وصفا لما خيّر فيه من الأفراد.

وأمّا ما ذكره في توجيه قوله : « والتعدّد » فأوضح فسادا ، لأنّه إقرار باعتراض المعترض لا أنّه دفع للاعتراض ، ضرورة أنّه اعترض بلزوم اجتماع المتضادّين في محلّ واحد على أحد شقّي اعتراضه ، وهو في معنى القول بأنّ تعدّد الوجوب والتخيير يأبى عن

ص: 30

اتّحاد متعلّقيهما فكيف يمكن فرضه متّحدا.

إلاّ أن يقال : بأنّ المراد دفع الاعتراض بطريق الإنّ ، بمعنى أنّا بملاحظة تعدّد المتعلّق - أعني الوصف - نستكشف عن تعدّد المتعلّق - أعني الموصوف - وإن لم نعلمه بالخصوص ، كما في الوجوب والحرمة ، ولكنّه بعيد عن سياق العبارة غاية البعد وما ذكرناه أظهر وأوفق وأسدّ.

ومنها : أنّ الأشاعرة في نقوضهم وإبراماتهم - على ما يشهد به التتبّع كما في مختصر الحاجبي وشروحه ومنهاج البيضاوي وشرحه - لم يتعرّضوا إلاّ لدفع كلام من يقول بوجوب الجميع ونقل احتجاجه ، وكلام من يقول بوجوب الواحد المعيّن عند اللّه ونقل استدلاله ، فلو كان القول بوجوب كلّ واحد على البدل مغايرا لمذهبهم تعرّضوا لدفعه ونقل الاحتجاج عليه.

ومنها : أنّ من الأشاعرة - كالحاجبي والعضدي - من يرى في الواجبات المعيّنة تعلّق الأوامر بالأفراد ، ومرادهم بها مفهوم « فرد مّا » فلو كان مرادهم بأحد الأفراد في المخيّر هو المفهوم لما كان بينه وبين المعيّن فرق ، مع أنّهم قالوا بالفرق ولم يعترض عليهم أحد من السلف بعدم الفرق ، فلابدّ وأن يكون مرادهم بأحد الأفراد هنا المصاديق دون المفهوم إلاّ أن يفرّق بينهما بما سنذكره وهو بعيد.

فما في كلام المصنّف من تصديق العلاّمة في دعوى عدم الخلاف بين القولين في المعنى في محلّه.

وبما قرّرناه تبيّن أنّه لا ينبغي الالتفات إلى ما أورد عليه المدقّق الشيرواني بقوله : « لعلّه أراد أنّه لا خلاف يترتّب عليه الثمرة وإلاّ فالفرق ظاهر ، فإنّ ظاهر القول بأنّ الواجب هو الواحد المبهم أنّ الطلب متعلّق به والخصوصيّات غير منظورة ولا مطلوبة وإن لم يمكن الانفكاك عن جميعها ، وظاهر القول بوجوب الجميع على الترديد والتخيير أنّ الغرض متعلّق بالخصوصيّات لكن على سبيل الترديد.

ولا يخفى أنّ تعلّق الطلب بالخصوصيّات مردّدا بينها لا يستلزم تعلّقه بالقدر المشترك ، إذ ربّما لا يتحقّق بينهما مشترك يصلح لتعلّق الغرض به.

ووافقه على ذلك الإيراد بعض الأعلام ، حيث قال : « فربّما قيل : انّ النزاع لفظيّ وليس كذلك ، ولكنّه قليل الفائدة في الفقه ».

ولأجل توّهم ذلك الفرق أشكل عليه الأمر وأشار إليه بقوله : « ولكن الإشكال في

ص: 31

تحقيق معنى التخيير على مذهب الأشاعرة من جهة أنّ الكلّي لا تعدّد فيه ولا تخيير فيه وإلاّ لزم التخيير بين فعل الواجب وعدمه » ثمّ تصدّى بدفعه فقال : « ويندفع بأنّ المراد المخيّر في أفراده فالوصف بحال المتعلّق » وكأنّه مأخوذ عمّا أشرنا إليه عن بيان المختصر من الوجهين في توجيه كلام الحاجبي وقد عرفت فساده.

ثمّ أورد على نفسه إشكالا آخر ، بناءا على ما ذكره في دفع الإشكال الأوّل بقوله : « ويشكل هذا بالواجبات العينيّة ، فإنّها أيضا كليّات مخيّر في أفرادها ».

فتعرض لدفعه بقوله : « ويمكن دفعه : بأنّ الكلّي في المخيّر جعليّ عقليّ منتزع من الأفراد تابع لها في الوجود كأحد الأبدال بخلافه في العينيّات ، فإنّه متأصّل وعلّة للأفراد وسابق عليها طبعا ، وقد يجتمع الاعتباران كالكفّارة بالنسبة إلى الخصال ، فالخطاب بالكفّارة عينيّ يستتبع التخيير في أفرادها ، والخطاب بأحد الخصال تخييريّ ».

وهو غير سديد لأنّ العمدة في المقام الفرق بين الواجبين باعتبار تعلّق وصف الوجوب بهما على حسبما اعتبره الشارع وجعله لا باعتبار المتعلّق ، وما ذكره من الفرق مع كونه إعتباريّا فرق بينهما باعتبار المتعلّق وهو لا يقضي بالفرق بينهما باعتبار الوصف المتعلّق ، على أنّ مثل ذلك الفرق إن كان مجديا وإن كان ولا بدّ لكان الأولى أن يفرّق بكون الأفراد في المخيّر مختلفات في الحقيقة لكونها طبائع متبائنة ، وفي المعيّن متّفقات في الحقيقة لكونها جزئيّات لطبيعة واحدة.

وقد يضاف إلى ما ذكر وجهان آخران :

أحدهما : أنّ الأفراد في الواجبات العينيّة متّفقة في الحقيقة وفي التخييريّة مختلفة.

وأورد عليه : التخيير في الصلاة بين القصر والإتمام والتخيير في التسبيحات بين واحدة وثلاث ، لاتّحادهما في الحقيقة في الجميع.

وردّ : بأنّ المراد بالحقيقة ما تعلّق بها الخطاب الشرعي عينا أو تخييرا ، وهي قد تكون جنسيّة وقد تكون نوعيّة وقد تكون صنفيّة ، فقوله تعالى ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) ينحلّ باعتبار الاصناف إلى خطابات عديدة ، خطاب إلى الحاضر وخطاب إلى المسافر وخطاب إلى الصحيح وخطاب إلى المريض وهكذا ، ولا ريب أنّ الصلاة إذا اضيفت إلى هذه المذكورات تختلف ماهيّتها ولو بحسب الصنف ، فكلّ من القصر والإتمام ماهيّة على حدة بخلاف أفراد كلّ من القصر والإتمام فإنّها امور متّفقة في الحقيقة ، فكذلك التسبيحة الواحدة إذا

ص: 32

لوحظت بشرط الوحدة والتسبيحات الثلاث إذا لوحظت بشرط الانضمام ، فإنّهما ماهيّتان مختلفتان صنفا ضرورة تباين الماهيّة بشرط لا والماهيّة بشرط شيء.

وثانيهما : أنّ التخيير في العينيّات عقليّ وفي التخييريّات شرعيّ.

وقد يستشكل في الفرق بين الواجب المخيّر على قول المعتزلة والواجب المعيّن على القول بتعلّق الأحكام بالأفراد ، إذ الوجوب كما أنّه يتعلّق في المخيّر بخصوص الأفراد كذلك في العينيّات.

ويدفعه : أنّ الوجوب على هذا القول يتعلّق بمفهوم فرد مّا وفي المخيّر - على قول المعتزلة - يتعلّق بكلّ واحد من أطراف التخيير بالخصوص على جهة البدليّة ، وبينهما بون بعيد.

ثمّ انّك بالتأمّل فيما نقلناه من العبارات تعرف أنّ القوم في ثمرة الفرق بين القولين بين مصرّح بنفيها وقائل بقلّتها.

ومن الفضلاء من قال - بعد الفراغ عن تحرير المذهبين وإبداء الفرق بينهما على نحو ما ذكروه واختياره مذهب المعتزلة والاستدلال عليه وعلى بطلان مذهب الأشاعرة - : « فقد اتّضح ممّا قرّرنا أنّ الواجب على القول المختار متعدّد وعلى القول الآخر لا تعدّد فيه.

فتظهر الثمرة بين القولين فيما لو نذر أن يأتي بواجبات متعدّدة في زمان أو مكان مخصوص ، فإنّ ذمّته تبرأ بما لو أتى بالخصال فيه على الأوّل دون الثاني ، وفي مبحث النيّة فإنّه يصحّ أن يتقرّب بالخصوصيّة على الأوّل دون الثاني ، وفي مسألة اجتماع الأمر والنهي فإنّه على ما قرّرنا يمتنع تعلّق النهي التعييني بأحد أفراد الواجب المخيّر.

وأمّا على ما قرّروه فيبتني جوازه وعدمه على كفاية تعدّد الجهة وعدمها ، ومن نفى ثمرة النزاع فكأنّه غفل عن ذلك ».

ومن الأعاظم من قال - في الفرق بين القولين وابداء الثمرة بينهما - : بأنّ أحدهما يجعل الأفراد واجبة بخلاف الآخر على ما زعمه ، فإنّه يجعل الواجب الكلّي الانتزاعي وهو مفهوم « أحدهما » وبذلك يختلف في الأحكام الأوّلية كاجتماع الأمر والنهي ، وكون الأفراد وجوبها من باب المقدّمة وعدمهما كما أنّ اختلاف الأحكام التعليقيّة في غاية الظهور.

ومن الأجلّة من قال : وأمّا الثمرة بين قول الإماميّة والأشاعرة فتظهر في قصد الوجه ، فعلى الأوّل لزم عند الامتثال قصد خصوصيّة كلّ من تلك الامور الّتي يريد الإتيان بها.

وعلى الثاني ينوي القدر المشترك الكلّي وهو مفهوم « أجدها » إن أوجبنا قصد الوجه.

ص: 33

وتظهر أيضا في النذر فمن نذر أن يعطي درهما لمن أتى بواجب فأتى أحد بأحد الخصال على قصد الخصوصيّة في الامتثال فعلى قول الإماميّة يبرّ النذر بإعطاء الدرهم وعلى قول الأشاعرة لا.

وأيضا لو نذر أن يعطي درهما لمن أتى بثلاث طبائع من الواجبات الّتي ورد من الشارع أمر بها بخصوصها ، فصام أحد وأفطر في صيامه الواجب فأعتق عبدا ، ثمّ أفطر وأطعم المساكين ، ثمّ أفطر وصام شهرين ، فعلى قول الإماميّة يبرّ نذره باعطائه الدرهم ، لأنّه أتى بطبائع كلّ منها واجبة بخصوصها ، وعلى قول الأشاعرة لا لأنّه لم يأت إلاّ بطبيعة واحدة وهي كلّي « أحدها » بدفعات تدريجا ولم يتعلّق أمر من الشارع إلاّ بطبيعة واحدة وهي « أحدها » وإنّما هو أوجد طبيعة واحدة ثلاث مرّات لا أنّ ما وجد طبائع متعدّدة.

وتحقيق المقام : أنّ المسائل الاصوليّة هي القواعد الّتي يستنبط منها الأحكام الشرعيّة الفرعيّة ، وهذه القواعد لكونها نظريّة لابدّ في حصول المعرفة بها من تصوّرات وتصديقات.

ألا ترى أنّ قولنا : « الأمر حقيقة في الوجوب » أو « صيغة افعل حقيقة في الوجوب » ممّا لا يتأتّى التصديق به إلاّ بتصوّرات راجعة إلى موضوع القضيّة ومحمولها ومتعلّقاتهما ، وتصديقات راجعة إلى ما يوجب الانتقال إلى النسبة الخبريّة في ذلك التصديق والحكم بها ، ولأجل ذلك أوردوا في مفتتح كتبهم - زيادة على ما هو معلوم بالضرورة أو مذكور في سائر الفنون المدوّنة أو في تضاعيف مباحث نفس الفنّ - مقدّمة سمّوها بالمبادئ جريا على مصطلح أهل الميزان بعد ما قسّموها على نوعين لغويّة وأحكاميّة.

وظاهر أنّ ما يطلب في تلك المبادئ قد يكون ممّا يفيد شيئا من التصوّرات المذكورة كحدّي الحقيقة والمجاز وحدود أنواعهما وحدّي الوجوب والواجب وحدود أنواعهما وغيرها ممّا يعبّر عنها بالمبادئ التصوّريّة.

وقد يكون ممّا يفيد شيئا من التصديقات كإثبات أمارات الحقيقة والمجاز وإثبات بعض أنواعهما ، وإثبات إدراك العقل لحسن الأشياء وقبحها ، وحكمه بوجوب شكر المنعم ونحو ذلك ممّا يعبر عنها بالمبادئ التصديقيّة.

ومن المبادئ التصديقيّة ما يكون راجعا إلى أصل الحكم نفيا وإثباتا مع إحراز موضوع القضيّة ومحمولها أو السكوت عنهما أو فرض ثبوتهما ، وما يكون راجعا إلى تعيين محلّه من المحكوم عليه أو المحكوم به وغير ذلك من متعلّقاتهما زمانا ومكانا مع

ص: 34

كون أصل الحكم مفروغا عنه أو مسكوتا عنه أو مفروض الثبوت.

ومن خواصّ الأوّل أنّه قاعدة من المبادئ التصديقيّة يستنبط منها قاعدة اخرى ممّا هو مندرج في المسائل الاصوليّة ، ومن جملة ذلك مسألة إدراك العقل لحسن الأشياء أو قبحها ، فإنّ حقيقة البحث فيها ترجع إلى إثبات ملزوم وهو حكم العقل في الأشياء في الجملة ، والنظر في ثبوت الملازمة بينه وبين حكم الشرع مسألة اصوليّة متفرّعة على المسألة الاولى ، ضرورة أنّ البحث عن الملازمة فرع ثبوت الملزوم.

ولأجل ذلك الفرق بين النوعين نجد فرقا بيّنا بين بحث الواجب الموسّع وبحثي المخيّر والكفائي مع كون الجميع من المبادئ التصديقيّة الأحكاميّة ، لعدم اندراجها في ضابطة المسائل الاصوليّة ، فإنّ البحث عن الأوّل في عنوان قولهم : « هل يجوز الأمر بالفعل في زمان يفضل عليه أو لا يجوز؟ » يرجع إلى اثبات أصل الحكم ونفيه بخلاف البحث عن الأخيرين ، فإنّ أصل الحكم فيهما محرز وإنّما التشكيك والإشكال حاصلان في موضوعه ، فحصل لهم في تعيينه آراء مختلفة.

ولذا ترى أنّ الأوّل ممّا يتفرّع عليه مسألة اخرى اصوليّة ، وهي أنّ الواجب الموسّع على فرض ثبوته هل له بدل بحسب أصل الشرع أو لا؟ وعلى تقديره فهل هو العزم على الفعل في كلّ جزء من الوقت اريد تركه فيه أو غيره من إيقاعاته الّتي تفرض بالقياس إلى أجزاء الوقت.

والوجه في كون ذلك مسألة اصوليّة دون ما هي مترتّبة عليه ما قدّمناه في بحث الضدّ من الضابط الكلّي بخلاف الأخيرين حيث لا يترتّب عليهما إلاّ حصول تصوّر الموضوع على جهة التفصيل في مواضع ذكر المخيّر والكفائي كما لا يخفى.

ونظير هذين البحثين من المبادئ اللغويّة ما وقع النزاع بينهم في تعيين واضع اللغات وأمثال ذلك ، فمن صرّح بنفي الثمرة بين القولين في الواجب المخير ، إنّما أراد به هذا المعنى ، ضرورة أنّه ليس في المقام مسألة اصوليّة تترتّب عليهما على جهة الاختصاص كما هو الشأن في ثمرات المسائل المختلف فيها ، حيث يراد منها ما يكون غاية مطلوبة من عقد المسألة ووضعها.

فما يقال في دفعه : بظهور الثمرة بينهما في قصد الوجه وجواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه والأحكام التعليقيّة ليس على ما ينبغي ، ضرورة عدم كون المقصود من عقد تلك

ص: 35

المسألة تفرّع هذه الامور عليها نفيا أو إثباتا بل هي - على فرض تسليم صحّتها - من الفوائد الّتي تترتّب على المسألة من باب البغت والاتّفاق ، مع أنّ لنا المنع عن تفرّعها عليها من هذه الجهة أيضا لو أرادوا من جعلها ثمرة هذا المعنى ، فإنّ النيّة والتقرّب يتبعان رجحان الشيء الناشئ عن المصلحة الواقعيّة الكامنة فيه ، ومعلوم بالوجدان أنّ الراجح في نظر الآمر في متن الواقع وما هو ذو مصلحة عنده بحسب اللبّ هو الخصوصيّة ، وإن علّق طلبه في الخطاب بما عرى عن الخصوصيّة فيكون التقرّب أو مصلحة اخرى حاصلا بالخصوصيّة لا بالمفهوم المنتزع ، كيف وهو ملحوظ تبعا وتعلّق به الطلب توسّعا.

وقضيّة ذلك حصول الامتثال لو نوى الخصوصيّة على القولين لكونه إطاعة له في إيجاد ما تعلّق به غرضه ، وما هو راجح في نظره ومحبوب عنده بحسب اللبّ ونفس الأمر ، واجتماع الأمر والنهي مع تعدّد الجهة ليس له مفهوم محصّل إلاّ أنّ الشارع تصوّر أمرين محرّمين عنده أو أحدهما محرّم والآخر محلّل ، ثمّ انتزع عنهما مفهوم « الأحد » وأمر به ، فكلّ منهما أو غير ما هو المحلّل منهما من حيث خصوصيّته محرّم ومنهيّ عنه ومن حيث كونه أحد الأمرين مأمور به ، فيكون امتثالا وعصيانا معا ، وهو كما ترى ممّا لا يكاد يتعقّل حتّى على القول بجواز الاجتماع مع تعدّد الجهة ، فإنّ انتزاع المفهوم عند إرادة الأمر به عن المتعدّد في حكمة الحكيم فرع المحبوبيّة القائمة بكلّ وتابع للمصلحة الموجودة في كلّ ، وإلاّ لكان المتّعين الأمر بما هو المحبوب وما هو ذو مصلحة كامنة.

ومن البيّن أنّ المبغوض لا يصير محبوبا وما فيه المفسدة لا يعقل كونه ذا مصلحة إذا فرضنا في عرض واحد بأن يؤثّر كلّ أثره ، وما يرى من اجتماعهما في الشيء على نحو السويّة المستدعية للتسوية فيه بين طرفي فعله وتركه ، أو على وجه يغلب معه المصلحة على المفسدة غلبة قاضية بالأمر به لا مدخل له في محلّ الكلام لعدم بقاء المفسدة المفروضة مؤثّرة لأثرها ، وهو اقتضاء النهي فيكون وجودها بمنزلة عدمها.

فإن قلت : فأيّ فرق بين الصورة المفروضة وبين الصلاة في الدار المغصوبة الّتي يصحّحها أصحاب القول بكفاية تعدّد الجهة في اجتماع الأمر والنهي ، ويقولون : بأنّها من حيث كونها صلاة مأمور بها ومن حيث كونها غصبا منهيّ عنها؟ قلت : الفرق بينهما أنّ المأمور به والمنهيّ عنه ثمّة في ملاحظة الشارع طبيعتان متمايزتان ، ولا مدخل لشيء منهما في الاخرى ولم يلاحظ شيء منهما حين ملاحظة الاخرى ، فطبيعة الصلاة في كونها

ص: 36

مأمورا بها لا بشرط شيء كما أنّ طبيعة الغصب في كونها منهيّا عنها لا بشرط شيء ، فإذا أجمع بينهما المكلّف في شخص واحد كان إمتثالا من حيث إيجاده لطبيعة الصلاة وعصيانا من حيث إيجاده لطبيعة الغصب ، لأنّ المفروض تعلّق الأمر والنهي بهما لا بشرط شيء وما به تشخّص الفرد وهو إضافتهما إلى هذا المكان الخاصّ ليس بمأمور به ولا منهيّ عنه ، لعدم كونه من مقولة الأفعال ، كما أنّ المجموع منه ومن الطبيعتين المعبّر عنه بالفرد ليس بمأمور به ولا منهيّ عنه لعدم تعلّق الأحكام بالأفراد ، فلا يبقى في المقام إلاّ الطبيعتان والمفروض أنّه لا تداخل بينهما أصلا ، فلا يلزم كون المبغوض محبوبا والمحبوب مبغوضا ، كما لا يلزم اجتماع المصلحة والمفسدة في شيء واحد بخلاف محلّ الكلام ، فإنّ مفهوم « الأحد » لكونه منتزعا عن هذا وهذا لا يفارق الخصوصيّتين أصلا ، بل لكلّ من الخصوصيّتين مدخل في كونه مأمورا به ، إذ لو لا إحداهما لتعيّن الاخرى في كونها مأمورا بها ، فيكون في كونه مأمورا به في نظر الآمر بشرط شيء ، والأمر به على هذا الوجه ينافي مبغوضيّة الشرط وكونه منهيّا سواء فرضنا النهي في أحد الخصوصيّتين أو كلتيهما.

فيؤول مآل الأمر به على هذا التقدير إلى أن يقول الآمر : « اريد منك هذا الشيء حتما بشرط أن تؤخذه في ضمن ما هو مبغوض لي » وهو كما ترى كلام سفهيّ يمتنع صدوره من الغافل الحكيم.

فإن قلت : هذا مسلّم فيما لو كانت الخصوصيّتان محرّمتين ومع الاختلاف فلا ، إذ الاشتراط بالخصوصيّة المحرّمة حينئذ غير لازم ليلزم منه المحذور.

قلت : لا ريب أنّ مفهوم « الأحد » على إطلاقه غير مطلوب ، وإلاّ لزم الامتثال بغير هاتين الخصوصيّتين ، بل هو من حيث إضافته فلو اعتبر إضافته إلى المحلّل بالخصوص كان الواجب هو الواحد بعينه مع الاتّحاد وهو خلاف الفرض ، أو تعلّق الأمر بما لا يتحقّق في ضمن المنهيّ عنه وهو أيضا خلاف الفرض ، ولو اعتبر إضافته إليه وإلى المحرّم لزم المحذور ، لأنّ الإضافة لا يراد بهما إلاّ الاشتراط.

غاية الأمر كون المحرّم شرطا في الامتثال وقيدا للمأمور به على جهة البدليّة ، وهو مثل جعله كذلك على جهة التعيين في استلزامه لتقبيح قائله ورميه بالسفاهة.

وممّا قرّرناه سابقا في غير موضع يظهر فساد تفريع مسألة النذر حسبما فرضه بعض الفضلاء أيضا ، فإنّ الواجب من الخصال واحد دائما لكونه مقيّدا بما يمتنع معه تعلّق الوجوب

ص: 37

وهو : أنّ الواجب واحد معيّن عند اللّه تعالى غير معيّن عندنا ، إلاّ انّ اللّه تعالى يعلم أنّ ما يختاره المكلّف هو ذلك المعيّن عنده تعالى*.

ثمّ إنّه أطال الكلام في البحث عن هذا القول. وحيث كان بهذه المثابة فلا فائدة لنا مهمّة في إطالة القول في توجيهه وردّه. ولقد أحسن المحقق رحمه اللّه حيث قال بعد نقل الخلاف في هذه المسألة : « وليست المسألة كثيرة الفائدة ».

__________________________________

بالمتعدّد ، فما في أوّل كلامه من التصريح بتعدّد الواجب على مذهب المعتزلة خبط عظيم.

ولو سلّم فكون الإتيان بالخصال الثلاث موجبا لبرّ النذر في حيّز المنع لانصراف الإطلاق إلى الواجبات المعيّنة ، فإنّ الواجب إن لم يكن حقيقة في خصوص المعيّن فلا أقلّ من كونه عند الإطلاق ظاهرا فيه خاصّة كما لا يخفى.

* وهذا هو أحد أقوال المسألة.

وقال في شرح المنهاج : أنّ كلاّ من الفريقين ينسب هذا القول إلى الآخر ويدفع عن نفسه ، وقضيّة هذا القول أن لا يعلم المكلّف قبل الاختيار بل قبل الفراغ عن العمل بما هو واجب عليه.

فمن مفاسده أن يتعذّر عليه قصد الوجه إن أوجبناه ، بل قصد الامتثال أيضا إن كان من مقولة العبادات إن جعل اختياره بل فعله علّة كاشفة عن الوجوب ، أو تعيين الواجب عليه كما هو قضيّة التقرير المذكور في العبارة من سبق الوجوب والتعيين على اختياره ، لسبق علمه تعالى بما يختاره على اختياره.

نعم لو جعل الاختيار علّة محدثة للتكليف أمكن له قصد الوجه والامتثال ، بدعوى : أنّ بمجرّد اختياره بعضا من الخصال يتعلّق به الوجوب ويتعيّن عليه ذلك المعيّن فيقصد الوجه والامتثال حين الشروع بالفعل.

وهذا ربّما يوهمه بعض العبائر كما في عبارة شارح المنهاج حيث أورد على نفسه في دفع ما أورده على هذا القول من الاعتراض.

وإن شئت تفصيل ذلك فلاحظ قوله : « وهذا القول مردود في الجملة لأنّ التعيين ينافي التخيير ، إذ لو كان معيّنا لا متنع ترك ذلك المعيّن لامتناع ترك الواجب ، فلو كان مخيّرا فيه لجاز تركه ، والتخيير وهو جواز أن يترك كلّ واحد منها على البدل ثابت في الكفّارة باتّفاق الفريقين فانتفى الأوّل وهو التعيين فلا يكون الواجب واحدا معيّنا عند اللّه تعالى.

ص: 38

فإن قيل : لا نسلّم التنافي بين تعيين الواجب من الثلاث وبين التخيير فيه ، لجواز كون محلّ التعيين غير محل التخيير ، بأن يكون الواجب واحدا معيّنا والمكلّف مختار بين كلّ واحد ولكن يختار المكلّف المعيّن فيكون الواجب معيّنا واختاره المكلّف منها ، أو بأن يكون المكلّف مخيّرا بين كلّ واحد وإن اختار واحدا منها عيّنه اللّه تعالى ذلك الواحد المختار لأجله ، أو بأن يكون الواجب واحدا معيّنا ولكن يسقط ذلك الواجب بغيره إذا كان بدلا له ، فيكون المكلّف مخيّرا بين الواجب أمرا معيّنا وبدله ». انتهى.

ولكن يضعّفه : أنّ هذا الوجه خلاف ما يساعده أدلّة هذا القول الآتية ، وخصوص ما ذكر في الاحتجاج على هذا القول - على ما في بيان المختصر في توجيه الحجّة الّتي قرّرها الحاجبي - من أنّه : « علم اللّه تعالى ما يفعل المكلّف من الخصال الثلاث فيكون متعيّنا في علم اللّه تعالى ، والوجوب تعلّق به فيكون الواجب معيّنا وهو ما يفعله المكلّف » إلى آخره.

ولذا قال بعض المحقّقين في توجيهه - عند شرح العبارة - : « بأنّ المراد أنّ الواجب معيّن عنده تعالى سواء فعل المكلّف أم لا ، ولكن اختيار المكلّف وفعله على تقدير الامتثال يكون موافقا لما أوجبه اللّه عليه ، فيختلف الواجب بالنسبة إلى المكلّفين ، ولو لم يفعل المكلّف ولم يمتثل بقي ذلك المعيّن في ذمّته.

وقد يوهم بعض عبارات القوم أنّ الواجب معيّن عند اللّه تعالى وهو ما يفعله المكلّف ، بمعنى : أنّ تعيينه عنده تعالى بكونه ما يفعله المكلّف.

ويرد عليه : أنّه لو لم يفعل المكلّف شيئا منها يلزم أن لا يكون شيء واجبا معيّنا عنده تعالى » إلى آخره.

ولا يذهب عليك أنّ ما نقله ذلك المحقّق معنى آخر في توجيه هذا القول غير ما ذكرناه ونقلناه عن عبارة شارح المنهاج ، فإنّ ذلك مبنيّ على جعل اختيار المكلّف من شرائط حدوث التكليف حين حصول الاختيار بخلاف المعنى المذكور ، لابتنائه على جعل الوجوب تابعا لعلمه تعالى باختيار المكلّف وهو سابق على الاختيار ، فيكون الوجوب التابع له سابقا عليه.

وربّما يستفاد عن بعض العبائر معنى آخر لكون الواجب معيّنا عند اللّه ، وهو عدم مدخليّة اختيار المكلّف في إيجابه تعالى لا بعنوان الشرطيّة ولا بعنوان المتبوعيّة بالقياس إلى علمه تعالى ، بل هو معيّن عنده تعالى على حسبما اقتضته إرادته الحتميّة وهو أوفق بما نقلوه من أدلّة هذا القول كما ستعرفه ، غير أنّه لا يساعده أكثر العبائر ، وهو حينئذ بالنظر

ص: 39

إلى موافقة اختيار المكلّف له محتمل لوجهين :

أحدهما : حصول الموافقة من باب البغت والاتّفاق.

وثانيهما : حصولهما بإجبار منه تعالى ، وهو في غاية البعد.

وقضيّة ذلك تعدّد الواجب عنده تعالى على جهة التعيين حسب تعدّد أطراف الاختلاف في اختيار المكلّفين ، غير أنّه ينافيه التقييد « بالواحد » في نقل هذا القول حيث يقال : انّ الواجب واحد معيّن ، إلاّ أن يراد به كونه واحدا بالنسبة إلى كلّ مكلّف لا بالنسبة إلى الجميع.

كما أنّ قضيّة ذلك بقاء الواجب في ذمّة من يعصي منهم ولا يأتي بشيء من الخصال واستحقاقه العقاب لذلك.

وبقي في المقام قولان آخران محكيّان عن المعتزلة أيضا :

أحدهما : ما تقدّم الإشارة إليه من أنّ الوجوب يتعلّق بالجميع ويسقط بفعل البعض.

وربّما يلوح عن بعضهم كما في شرح الشرح ذهاب بعض المعتزلة إلى أنّه يثاب ويعاقب على كلّ واحد ولو أتى بواحد سقط عنه الباقي.

ثمّ نقل قولا عن الإمام في البرهان أنّ أبا هاشم اعترف بأنّ تارك خصال الكفّارة لا يأثم إثم من ترك واجبات ، ومن أتى بها جميعا لم يثب ثواب واجبات لوقوع الامتثال بواحدة.

وثانيهما : أنّ الواجب واحد معيّن عند اللّه تعالى يسقط به وبالآخر ، وكأنّه مأخوذ عمّا ذكره شارح المنهاج احتمالا كما تقدّم في عبارته.

وينبغي الإشارة إلى أدلّة الأقوال وما أورد عليها من الأجوبة والاعتراضات.

فاحتجّوا على القول المختار بوجوه ذكرها بعض الأفاضل :

أوّلها : أنّه لا شكّ في أنّه قد يشترك أفعال عديدة في الاشتمال على مصلحة لازمة للمكلّف بحيث لا يجوز إهمالها في حكم العقل ، فإن كانت تلك المصلحة ممّا يدركها العقل يجب على المكلّف الإتيان بخصوص كلّ من تلك الأفعال لإحراز تلك المصلحة بحكم العقل ، وإلاّ لزم دلالة الشرع عليه كذلك نظرا إلى وجوب اللطف عليه.

وقضيّة ذلك وجوب كلّ من تلك الأفعال بخصوصه على وجه التخيير بينها ، فلا وجه حينئذ للقول بوجوب الجميع وإن سقط بفعل البعض لما عرفت من انتفاء المقتضي له ، وللقول بوجوب واحد منها دون الباقي لما عرفت من قيام المقتضي في كلّ منها على نحو واحد ، فلا يعقل ترجيح البعض في الإيجاب دون الباقي.

ص: 40

ثمّ قال الفاضل المذكور : وقد أشار إلى هذا الوجه في الذريعة وغيره.

وثانيها : أنّه لا شكّ في ورود الأمر في الشريعة بعدّة واجبات على وجه التخيير بينها ، وقضيّة الأدلّة الدالّة على وجوب تلك الأفعال وجوب كلّ منها لذاته على وجه التخيير ، ولا مانع عقلا من إيجاب تلك الأفعال على الوجه المذكور ، فهناك أفعال عديدة متّصفة بالوجوب متعلّقة للطلب حسبما هو ظاهر تلك الأدلّة ، فلا داعي إلى صرفها عن ظواهرها ولا إلى ارتكاب خلاف ظاهر فيها.

وثالثها : اتّفاق الأصحاب على القولين الأوّلين ، بل اتّفاق الاصوليّين عدا شذوذ لا عبرة بأقوالهم.

وقد عرفت رجوع أحدهما إلى الآخر وكون النزاع بينهما لفظيّا ، فتعيّن البناء على القول المذكور وبه يبطل سائر الأقوال.

ولا يخفى ما فيه من الوهن إذ الاتّفاق لو اريد به ما يكشف عن رأي المعصوم فهو بهذا المعنى ممّا لا مجال له في الاجتهاديّات ، وذهاب الأصحاب وغيرهم إلى ما فهموه مبنيّ على اجتهاداتهم المبنيّة على الظنّ والمرجّحات لا على دليل تعبّدي دعاهم إلى ذلك.

ولا ريب أنّ الوفاق الحاصل بالاجتهاد لا يصلح كاشفا عن رأي المعصوم ، ولو اريد به ما يكشف عن حقيّة المورد من جهة قضاء العادة بامتناع تواطؤهم على الخطأ مع كثرتهم فهو فرع ثبوت الصغرى بالوجدان ، وإرجاع أحد الفريقين إلى الآخر مبنيّ على الاجتهاد وهو لا يفيد الموافقة فيما بينهما بحسب الواقع إلاّ أن يكون الاجتهاد قطعيّا.

ورابعها : أنّه لا سبيل إلى القول بوجوب الجميع لعدم تعلّق الأمر بها كذلك ، ولا للقول بوجوب واحد منها لورود التخيير بينه وبين غيره ، ومن الواضح عدم جواز التخيير من الحكيم بين ما له صفة الوجوب وما ليس كذلك ، كيف ولو اشتمل الآخر على المصلحة المترتّبة على الواجب لم يعقل ترجيح أحدهما بالوجوب دون الآخر ، وإن لم يشتمل عليها لم يجز التخيير المذكور لما فيه من تفويت مصلحة الواجب ، وعلمه تعالى بأنّه لا يختار إلاّ الواجب لا يحسّن التخيير المذكور كما لا يحسن التخيير بين الواجب والمباح إذا علم أنّه يختار الواجب ، وإذا بطل الوجهان تعيّن القول بوجوب كلّ واحد على سبيل التخيير ، أو وجوب أحدهما على سبيل البدليّة ، وقد ثبت أنّ مفاد « أحدهما » عين الآخر فيثبت المدّعى.

ولا يخفى ما فيه بالنسبة إلى مقدّمته الاولى من المصادرة ، إذ لم يثبت بعد عدم تعلّق

ص: 41

الأمر بالجميع.

وخامسها : أنّ جميع الأقوال منحصرة فيما ذكرناه ، وقد تبيّن رجوع القولين الأوّلين إلى أمر واحد وانتفاء الخلاف بينهما في المعنى ، والمفروض أنّ سائر الأقوال بيّن الوهن لما فيها من ارتكاب امور يقطع بفسادها ، فتعيّن الأخذ بما اخترناه.

وهذا الوجه كما ترى لا يجدي في إلزام الخصم وكأنّه دليل إقناعي.

حجّة القول بوجوب أحدها لا بعينه وجوه :

أوّلها : ما أشار إليه الحاجبي وفصّله في بيان المختصر : بأنّا نقطع بجواز تعلّق الأمر بواحد غير معيّن من جملة الامور المتعدّدة عقلا ، والنصّ دلّ على جوازه سمعا.

أمّا الأوّل : فلأنّ السيّد إذا قال لعبده : « أمرتك أن تخيط هذا الثوب أو تبني هذا الحائط في هذا اليوم ، أيّهما فعلته إكتفيت ، وإن تركت الجميع عاقبتك ، ولست آمرا أن تجمع بينهما ، بل أمرتك أن تفعل واحدا منهما لا بعينه » الكلام معقول ، ولا يمكن أن يقال : لم يكن مأمورا بشيء ، لأنّه عرّضه للعقاب بترك الجميع ، ولا يمكن أن يقال : بأنّ الجميع مأمور به فإنّه صرّح بنقيضه ، ولا واحد بعينه لأنّه صرّح بالتخيير ، فلا يبقى إلاّ أن يقال : المأمور به واحد لا بعينه.

وأمّا الثاني : فقوله تعالى ( فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) (1) فإنّ التخيير فيه دلّ على جواز كون المأمور به واحدا منها لا بعينه.

وهذا الوجه كما ترى في كمال المتانة إن اريد بالواحد لا بعينه مصداقه كما هو الأظهر ، نظرا إلى أنّ الدليل قائم لدفع كلام من أوجب الجميع وكلام من أوجب واحدا معيّنا ، فالتعبير بالواحد وقع قبالا للأوّل وب « عينه » وقع قبالا للثاني ، وذكر الخصوصيّتين تنبيه على أنّ المتعلّق هو الخصوصيّة دون المفهوم المنتزع.

وثانيها : ما أشار إليه أيضا في المختصر وبيّنه في الشرح بأنّ : تزويج البكر المطالبة للنكاح من أحد الكفوين الخاطبين ، ووجوب إعتاق واحد من جنس ارقابه في كفّارة الظهار ، يدلّ على جواز تعلّق الأمر بواحد لا بعينه من جملتها ، وذلك لأنّه لو كان التخيير يوجب تعلّق الوجوب بالجميع لوجب تزويج الخاطبين وإعتاق جميع الرقاب والتالي ظاهر الفساد فالمقدّم مثله.

ولو كان التخيير يوجب تزويج واحد بخصوصه - أي على التعيين - وكذا إعتاق واحد

ص: 42


1- المائدة : 89.

بعينه لامتنع التخيير والتالي باطل ، ضرورة تحقّق التخيير فيلزم بطلان المقدّم.

فأمّا (1) الملازمة : أنّ التخيير لو كان موجبا لوجوب واحد بعينه لكان موجبا لنقيضه ، فإنّ التخيير ينافي التعيين لأنّ التخيير يجوّز ترك المعيّن والتعيين لا يجوّزه ، وكلّ ما كان موجبا لنقيضه كان ممتنعا والكلام فيه كسابقه.

فإن اريد بالواحد مصداقه الملحوظ فيه الخصوصيّة مع إلغاء جهة التعيين عنه الّذي هو مفاد التخيير فهو في كمال المتانة ، وإلاّ كان متّضح المنع.

وثالثها : ما نقله بعض الأفاضل من أنّ الإنسان لو عقد على قفيز من صبرة لم يكن المبيع قفيزا معيّنا وكان الخيار للبائع في التعيين ، فالواجب هناك غير معيّن والتعيين فيه باختيار المكلّف ، وكذا الحال في غيره من الواجبات التخييريّة من غير تفاوت أصلا.

وهذا الوجه لو تمّ لقضى بتعلّق الوجوب بالمفهوم المنتزع الّذي هو كلّي بدلي ، ضرورة أنّ الخصوصيّة في بيع الصبرة غير ملحوظة على جهة التفصيل ، بل الّذي يتعلّق به ملك المشتري هو الكلّي بما هو كلّي ، فهو الّذي يجب على البائع أداؤه عملا بمقتضى وجوب الوفاء.

ولكن يدفعه - مع أنّه قياس - وضوح الفرق بين المقامين ، فإنّ الخصوصيّات ثمّة لا امتياز بينها أصلا ، ولذا لا يعقل ملاحظة كلّ بالخصوص عند الإنشاء بخلاف المقام ، لامتياز كلّ خصوصيّة بذاتها عن خصوصيّة اخرى ، ولذا ترى أنّ الآمر عند الإنشاء لا يزال يلاحظها على جهة التفصيل ، وإن كان يأتي في العبارة بلفظة « الواحد » و « الأحد ».

فإن اريد بالاحتجاج أنّ الحكم وضعا وتكليفا كما يتعلّق في بيع القفيز من الصبرة بالكلّي المعرّى عن ملاحظة الخصوصيّات فكذلك يتعلّق في محلّ البحث بالكلّي المعرّى فهو واضح الفساد ، لقيام الفرق بين المقيس والمقيس عليه.

وإن اريد به أنّه إذا صحّ تعلّق الحكم بواحد لم يلاحظ معه خصوصيّة أصلا فتعلّقه بواحد لوحظ معه الخصوصيّة واعتبرت في تعلّقه به بطريق أولى ، فله وجه كما لا يخفى.

ورابعها : لو فعل الكلّ جميعا كان الواجب واحدا منها بالإجماع ، فكذا يجب أن يكون الواجب أحدها قبل الفعل ، إذ لا يختلف الحال في ذلك قبل إيجاد الفعل وبعده.

وفيه : إن اريد بالواحد المصداق الّذي لوحظ معه الخصوصيّة ولها مدخل فيه فهو جيّد وإلاّ كان الإجماع ممنوعا ، فإنّ المعتزلة لا يقولون به بل يعتبرون الخصوصيّة في متعلّق

ص: 43


1- وفي الأصل : « فإنّ الملازمة ... الخ » والصواب ما أثبتناه في المتن.

الوجوب حدوثا وبقاءا أو ارتفاعا.

وخامسها : أنّه لو ترك الجميع لاستحقّ العقاب على واحد منها ، فعلم أنّ الواجب هو أحدها.

وفيه : أنّه لا ملازمة بين العقاب على واحد وتعلّق الوجوب بواحد ، كما هو لازم من يقول بوجوب الجميع ، فلم لا يجوز أن يكون الوجه في ذلك كون العقاب تابعا للمصلحة ، فترتّب العقاب على أحدها من جهة الاكتفاء بمصلحة واحد منها ، وإنّما تعلّق الوجوب بالجميع لوجود تلك المصلحة في الجميع حذرا عن الترجيح من غير مرجّح ، وعدم كون واحد لا بعينه إلاّ أمرا اعتباريّا ، وسقوطه عن غير ما حصل لامتناع تحصيل الحاصل فلا منافاة.

سادسها : أنّه لو كان في كلّ واحد منها جهة موجبة لفعله ليصحّ اتّصافه بالوجوب من جهتها لزم وجوب الجمع بينها مع امكان إحراز المصلحة الموجبة ، فيخرج بذلك عن حدّ الوجوب التخييري ، وإن كانت تلك في أحدها كان الواجب واحدا منها كما هو المدّعى.

وفيه : أنّه قد يكون المصلحة القائمة بكلّ واحد بحيث لا يكتفى إلاّ بحصولها في كلّ واحد بانفراده فيجب كلّ واحد بانفراده ، ولا يجوز في حكمة الحكيم إهمالها في شيء منها بعدم إيجابه ، وقد يكون بحيث يكتفى بحصولها في ضمن أيّ منها حصل ، ولمّا كان قيام تلك المصلحة في الجميع على نهج سواء ولا مزيد لبعض فيها بالقياس إلى الآخر ، فالحكمة إقتضت إيجاب كلّ واحد على جهة التخيير ، وهو جعل الاختيار في أداء ما يحصل به الامتثال منها للمكلّف ولا داعي إلى العدول عن ذلك إلى إيجاب أحدها إن اريد به المفهوم ، وإلاّ كان راجعا إلى إيجاب كلّ واحد على جهة التخيير.

حجّة القول بوجوب الجميع وسقوطه بالبعض وعدم وجوب واحد لا بعينه : فعلى الجزء الأوّل : قياس المخيّر على الكفائي في عمومه للجميع وسقوطه بفعل البعض ، والجامع اشتراكهما في وصف الوجوب مع سقوط الوجوب بفعل البعض ، وورود النصّ بلفظ « التخيير » لا ينافي عموم الوجوب للجميع وسقوطه بفعل البعض (1).

وعلى الجزء الثاني : بأنّ غير المعيّن مجهول ويستحيل وقوعه فلا يكلّف به ، وأيضا لو كان الواجب واحدا من حيث هو أحدها لا بعينه مبهما يكون المخيّر فيه واحدا لا بعينه من حيث هو أحدها ، فإن تعدّدا لزم التخيير بين واجب وغير واجب ، وإن اتّحدا لزم اجتماع التخيير والوجوب.

ص: 44


1- وكان عدم المنافاة من جهة إرجاع التخيير إلى ما يسقط به الوجوب لا أنّه راجع إلى ما تعلّق به الوجوب. ( منه عفي عنه ).

والجواب عن الأوّل : وجود الفارق وهو الإجماع على تأثيم الكلّ في الكفائي وعلى البعض المبهم في المخيّر ، مضافا إلى شمول الخطاب للكلّ في الكفائي لوروده بصيغة الجميع وعدم شموله [ في المخيّر ](1) إلاّ واحدا على جهة البدليّة لتضمّنه لفظا يفيد ذلك وهو كلمة « أو » ، فيكون الوجه المذكور اجتهادا في مقابلة النصّ.

واجيب أيضا : بأنّ تأثيم مكلّف لا بعينه غير معقول ، لأنّه لا يمكن عقاب أحد الشخصين لا على التعيين ، فلم يكن الوجوب في الكفاية متعلّقا بواحد غير معيّن بخلاف تأثيم المكلّف على ترك واحد لا بعينه فإنّه معقول ، لأنّه يجوز أن يعاقب المكلّف على أحد الفعلين لا بعينه ، فيكون الوجوب متعلّقا بواحد لا بعينه.

واعترض عليه : بأنّ التأثيم بترك واحد لا بعينه من ثلاثة أيضا غير معقول ، لأنّه يلزم الترجيح من غير مرجّح.

وفيه : أنّ التأثيم بترك واحد إنّما هو من جهة تعلّق الغرض بمصلحة واحد لا بمصالح الجميع ، ولذا تقولون أنتم بسقوط الوجوب عند حصول البعض ، ولا ريب أنّه حينئذ لا يعدّ من الترجيح بلا مرجّح ، ولأجل ذلك لا يعتبر التعيين فيما خصّ التأثيم بتركه.

وعن الثاني : بأنّ المستحيل وقوعه هو الواحد بشرط عدم التعيين لا الواحد لا بشرط من جميع الجهات ، ولا الواحد بشرط الخصوصيّة مع عدم اعتبار التعيين ، وفرق واضح بين عدم اعتبار التعيين واعتبار عدم التعيين ، والمحذور وارد على الثاني دون الأوّل ، وأنّ الواجب هو الواحد في حال عدم حصول الواحد الآخر والمخيّر في تركه هو الواحد في حال حصول الواحد الآخر ، فالوجوب والتخيير لا يجتمعان في محلّ واحد.

وقد يستدلّ على هذا القول أيضا : بأنّ الوجوب لا بدّ له من محلّ يقوم به ، فإمّا أن يقوم بواحد معيّن من تلك الأفعال ، أو بواحد مبهم منها ، أو بالمجموع ، أو بكلّ واحد ، ولا سبيل إلى الأوّل إذ لا ترجيح له على غيره مع الاشتراك في المصلحة الموجبة ، ولا إلى الثاني إذ لا بدّ من قيام الوجوب بمحلّ معيّن ، ضرورة عدم إمكان قيام الصفة المتعيّنة بالموصوف المبهم ، ولا إلى الثالث وإلاّ كان المجموع واجبا ، فتعيّن الرابع وهو المدّعى ، وإنّما يسقط الوجوب بفعل البعض لقيام الإجماع على عدم بقاء التكليف مع الإتيان بالبعض.

وفيه : أنّ هاهنا احتمالا خامسا وهو تعلّق الوجوب بكلّ واحد على سبيل التخيير

ص: 45


1- أضفناه لاستقامة العبارة.

بالمعنى الّذي قرّرناه ، فلا محذور ولا سقوط ولا وجوب للجميع.

حجّة القول بوجوب واحد معيّن وجوه :

الأوّل : أنّه لا شكّ في أنّ المكلّف إذا أتى بمجموع الخصال الثلاث كان ممتثلا للفعل الواجب ، وحينئذ فهذا الامتثال لا يخلو من أن يكون بالكلّ من حيث هو كلّ ، أو بكلّ واحد واحد ، أو بواحد غير معيّن أو بواحد معيّن ، لا سبيل إلى الأوّل وإلاّ كان الكلّ واجبا إذ لا معنى للواجب إلاّ ما حصل الامتثال به وهو باطل اتّفاقا ، ولا إلى الثاني وإلاّ اجتمع المؤثّرات وهي الإعتاق والاطعام والصيام على أثر واحد وهو الامتثال وهو محال ، وإلاّ لزم احتياج الامتثال إلى كلّ واحد من هذه الثلاث مع استغنائه عن كلّ واحد منها ، ولا إلى الثالث إذ غير المعيّن غير موجود إذ لو كان موجودا كان معيّنا ، وغير الموجود لا يحصل به الامتثال فتعيّن الرابع وهو المطلوب.

الثاني : أنّ الوجوب أمر معيّن فلا بدّ وأن يكون متعلّقه أيضا معيّنا ، لأنّ المعيّن يستدعي المعيّن ، وذلك المعيّن لا يجوز أن يكون هو الكلّ من حيث هو كلّ وإلاّ كان الكلّ واجبا ، ولا كلّ واحد واحد وإلاّ اجتمع المؤثّرات على أثر واحد ، ولا واحد غير معيّن لأنّه غير موجود ، فتعيّن كونه واحدا معيّنا وهو المطلوب.

الثالث : أنّ الثواب على الواجب المخيّر إمّا أن يكون بفعل المجموع أو بفعل كلّ واحد أو بفعل واحد غير معيّن أو بفعل واحد معيّن والكلّ باطل إلاّ الأخير لما عرفت ، فثبت المطلوب.

وأيضا العقاب الحاصل عن ترك الواجب المخيّر إمّا أن يكون بترك الكلّ أو بترك كلّ واحد أو بترك واحد غير معيّن أو بترك واحد معيّن ، وكلّ من الثلاث الاول باطل لما ذكر ، فتعيّن الرابع وهو المطلوب.

والجواب عن الأوّل : بأنّ الامتثال يحصل بفعل واحد ملحوظ معه الخصوصيّة تلغى عنه جهة التعيين وهو موجود ، والّذي لا يوجد هو الواحد مع اعتبار عدم التعيين ، ولا ملازمة بينه وبين عدم اعتبار التعيين.

وقد يجاب أيضا : باختيار الشقّ الثاني ، ودفع المحذور بكون الامور الشرعيّة معرّفات للآثار ولا علل حقيقيّة حتّى يمتنع اجتماع عدّة منها على معلول واحد.

وفيه نظر يظهر وجهه ممّا سيأتي في ذكر ملحقات المسألة إن شاء اللّه.

ص: 46

وإجماله : أنّ حصول الامتثال بكلّ واحد فرع وجوب كلّ واحد على التعيين وأنتم لا تقولون به ، وما تذهبون إليه من وجوب كلّ واحد على البدل والتخيير لا يستدعي إلاّ الامتثال بواحد من حيث استلزامه تعلّق الوجوب بواحد كما مرّ شرحه بما لا مزيد عليه.

وعن الثاني : بأنّ الوجوب وإن كان أمرا معيّنا ويقتضي محلاّ معيّنا ولكن يكفي فيه كونه معيّنا بوجه مّا وهو في كلّ شيء بحسبه ، والواحديّة ممّا يوجب تعيّنا فيه كما أنّ الاثنينيّة ممّا يوجبه وهكذا إلى آخر المعيّنات العدديّة ، والممتنع تعلّق المعيّن بما يكون غير معيّن من جميع الجهات ، والتعيّن في بعض الجهات يرفع الامتناع الملحوظ في المقام ، ولذا ترى أنّ الفقهاء يعتبرون في صحّة العقد معلوميّة المبيع ويجعلونه من أركان البيع لئلاّ يلزم الغرر المجمع على نفيه ، ومع ذلك يكتفون فيها بالنسبة إلى كلّ شيء بما يرجع إلى بعض الجهات ممّا هو متعارف في تعيينه في العرف والعادة من عدد أو وزن أو كيل أو ذرع أو نحوه من المقادير ، والمفروض أنّ الملك أيضا أمر معيّن من جهة كونه أمرا وجوديّا يقتضي محلاّ معيّنا.

هذا على مذهب من يرى الواجب واحدا لا بعينه.

وأمّا على المختار فنقول : إنّ تعيين متعلّق الوجوب لو اريد به ما يرجع إلى حقيقته المتعيّنة في نفس الأمر الممتازة به عن كلّ ما سواها الملحوظة عنوانا في تعليق الوجوب ، فهو حاصل بإيجاب كلّ واحد بالخصوص على وجه التخيير الموجب لتحقّق عنوانين مقيّدين في كلّ بقيدين متقابلين ، وذلك لا يقتضي كون الواجب معيّنا على الإطلاق وعلى كلا التقديرين كما لا يخفى.

ولو اريد به ما يكون مناطا لحصول الامتثال كما في الواجب المعيّن ، فلا نسلّم كون كلّ وجوب مقتضيا لذلك ، وإلاّ لما كان بين الوجوب التعييني والتخييري فرق بالذات ، والاتّفاق واقع على أنّهما متفارقان لذاتهما.

وبذلك يظهر الجواب عن الثالث : فإنّ الثواب والعقاب يتبعان الشيء على حسب ما اعتبره الشارع عند تعليق الوجوب ، ولمّا كان ما أوجبه الشارع في المخيّر هو كلّ واحد بالخصوص حال عدم حصول الآخر فالثواب يترتّب على فعل واحد حال ترك الآخر ، والعقاب يترتّب على ترك ذلك الواحد حال ترك الآخر ، فلو أتى بالجميع دفعة فإن قصد الامتثال بواحد يثاب بذلك الواحد ، ولا يقتضي ذلك تعيينا في نفس الأمر ، لأنّ تعيينه يقتضي تعيين الممتثل لا تعيين ما يمتثل به كما يشهد به الذوق السليم والوجدان المستقيم ،

ص: 47

وهو متعيّن ، وإن قصد الامتثال بالجميع فلا ثواب له لعدم قصده الامتثال بما أوجبه عليه الشارع فيكون مبدعا مشرّعا فيستحقّ العقاب لذلك ، وسيأتي زيادة تحقيق في ذلك إن شاء اللّه تعالى.

حجّة القول بأنّ الواجب واحد معيّن عند اللّه تعالى غير معيّن عندنا وهو ما يفعله المكلّف :أنّ اللّه تعالى علم ما يفعله المكلّف من الخصال الثلاث فيكون متعيّنا في علم اللّه تعالى والوجوب تعلّق به ، فيكون الواجب معيّنا وهو ما يفعل المكلّف.

والجواب : أنّ إيجابه تعالى لا يتبع فعل المكلّف ولا علمه بفعله ، وإلاّ لما كان التارك عاصيا لكون السالبة بانتفاء الموضوع من جهة انتفاء الفعل منه ، إذ لا يصدر منه فعل حتّى علمه اللّه تعالى فيوجبه عليه وهو ضروريّ البطلان ، بل هو يتبع المصلحة الكامنة في الشيء ، فمقتضى حكمته البالغة أن يوجبه على المكلّف ويعلّمه به سواء فعله المكلّف أو لم يفعله ، ولمّا كانت المصلحة قائمة في محلّ البحث بعدّة امور على نحو السويّة فالحكمة تقتضي إيجاب الجميع عليه على سبيل التخيير لئلاّ يلزم الترجيح من غير مرجّح ، فلذا لا يحصل حينئذ اختلاف بين المكلّفين في المكلّف به ، بخلاف ما لو أوجب واحدا معيّنا فإنّه مع أنّه ترجيح بلا مرجّح يوجب الاختلاف بينهم وهو باطل بالإجماع كما ادّعي في المقام على حدّ الاستفاضة ، ولنختم المسألة بإيراد امور تتضمّن فوائد مهمّة وقواعد لطيفة :

هل الأمر حقيقة في التعيين ومجاز في التخيير أو للقدر المشترك بينهما؟

الأمر الأوّل : في أنّه لا إشكال كما لا خلاف في أنّ الأمر ورد في الشريعة على نوعين تعييني وتخييري ، فهل هو حقيقة في الأوّل ومجاز في الثاني ، أو للقدر المشترك بينهما ، أو مشترك بينهما لفظا ، أو هما من مقتضيات ما يلحقه باعتبار المأمور به من الإطلاق والتقييد ، أوجه أوجهها الأخير خلافا لظاهر جماعة منهم السيوري في كنز العرفان ، والمحقّق الأردبيلي والمصنّف والمحقّق الخوانساري على ما حكاه بعض الأفاضل في مصيرهم إلى الأوّل ، وحكاه بعض الأعاظم عن السبزواري أيضا استنادا إلى التبادر ، ولبعض الأعاظم في جعله احتمال كونه للقدر المشترك قويّا (1) حيث قال : « مدلول الصيغة هل هو مطلق الوجوب أو العيني التعييني يحتمل الأوّل قويّا ».

لنا : القطع بأنّ الصيغة لغة وعرفا موضوعة للوجوب - بمعنى الطلب الحتمي - أو الطلب المقرون بالمنع حسبما تقدّم تحقيقه ، وهو يتحقّق في التخييري تحقّقه في التعييني من غير

ص: 48


1- كذا في الأصل.

حصول فرق بينهما بزيادة فيه ولا نقيصة ولا تطرّق تصرّف إليها في أحدهما دون الآخر ، بل هو فيهما على منوال واحد ، ولا يكونان بالقياس إليه فردين لأمر مشترك بينهما لعدم كونهما من مقولة الطلب ومبائنته لهما جنسا وفصلا ، بل التعيين والتخيير مفهومان متقابلان يعرضان المأمور به المدلول عليه بالمادّة باعتبار ملاحظته مطلقا بالقياس إلى حالتي حصول الغير معه وعدم حصوله ، أو مقيّدا بالقياس إلى حالة عدم حصول الغير الّذي اعتبر معادلا له حسبما تقدّم تفصيل القول فيه بما لا مزيد عليه.

ولا ريب أنّ هذا التقيّد ممّا يجيء من خارج لفظي كأداة الترديد المتخلّلة بين المأمور به ومعادله المفروض له شرعا كما لو قال : « صم أو أعتق رقبة » أو بين متعلّق المأمور به ومعادله كما لو قال : « أكرم زيدا أو عمرا » أو لبّي عقلي كما لو حكم العقل بالتخيير فيما لو ورد أمران بمفهومين متضادّين لا يمكن الجمع بينهما أصلا لا على سبيل الاجتماع ولا على سبيل الافتراق ، أو لبّي غير عقلي كما لو ورد أمر بالجمعة وأمر بالظهر وقام الإجماع على أنّ المطلوب أحدهما ، فكون الأمر تعيينيّا إنّما هو من مقتضيات إطلاق المأمور به كما أنّ كونه تخييريّا من مقتضيات تقييده بما ذكر من القيد العدمي ، وظاهر أنّه لا يحصل بهذا الإطلاق ولا ذاك التقييد اختلاف في مدلول الصيغة كما هو الحال في « أعتق رقبة » و « أعتق رقبة مؤمنة » من حيث إنّ الطلب الحتمي في كلّ منهما على منوال واحد ، وإنّما يحصل الفرق بينهما في المطلوب من حيث الإطلاق والتقييد ، وهذا التقييد حيثما حصل لا يستلزم تجوّزا في مدلول المادّة فضلا عن مدلول الصيغة - على ما هو التحقيق - بالنظر إلى تعدّد الدالّ والمدلول ، ولو سلّم التجوّز فيه فهو لا يستلزم تجوّزا في مدلول الصيغة لمفارقتها لها وضعا والكلام فيه دون غيره.

فما عن السبزواري من دعوى التبادر في التعييني إن أراد به ما يقتضي بدخول التعيين في مدلول الصيغة باعتبار الوضع الراجع إليها فهو في حيّز المنع وإن أراد به غير ذلك فلا محصّل له إلاّ ما قرّرناه من قضاء إطلاق المأمور به المقرون بالسكوت في معرض البيان بذلك ، وهو ممّا لا قضاء له بالمجازيّة في التخييري كما عرفت ، إلاّ أن يراد بها ما يلزم في مدلول المادّة وهو مع أنّه خارج عن موضع البحث موضع منع.

واحتجّ بعض الأعاظم على ما اختاره بوجوه :

ص: 49

منها : أنّ امتياز العيني والتعييني يتحقّق بالامور الخارجة عن نفس الطلب المدلول عليه بالصيغة كالعطف وتركه في الصيغة أو المأمور به ، كما في التعييني والتخييري وهما خارجان عن نفس مدلول الصيغة.

وفيه : أنّ حصول الامتياز بالامور الخارجة مسلّم ، كما أنّ كون العطف وتركه من الامور الخارجة مسلّم ، غير أنّهما يوجبان فرقا في متعلّق الطلب من حيث الإطلاق والتقييد لا أنّه يحصل بهما فردان للطلب ليكون الطلب بالنسبة إليهما قدرا مشتركا كما هو المطلوب وذلك واضح ، مع أنّه على فرض الصحّة في مقابلة القول بالحقيقة والمجاز قريب من كونه مصادرة بالمطلوب وإثباتا للمدّعى بتقرير أصل الدعوى ، فإنّ الخصم لا يسلّم خروج التعييني عن مدلول الصيغة وضعا ولم تنهض في الدليل حجّة تلزمه بذلك كما لا يخفى.

ومنها : أنّ حروف العطف من طوارئ المفاهيم ولا يحدث بها اختلاف في أنفسها ، فإذا قيل : « أعتق أو صم » مثلا أو « أكرم زيدا أو عمرا » فمدلول الصيغة ما يعرض له العطف ، ولا يتحقّق اختلاف في نفس المدلول بترك العطف أو فعله كما في سائر المفاهيم.

وبالجملة هذا الاختلاف نشأ من العطف وممّا هو خارج عن المدلول ، ويؤيّده عدم عدّ أحد من العلماء من باب التعارض هذا العطف بأحد الوجهين.

ومحصّل هذا الوجه يرجع إلى التمسّك بما هو ضابط في باب حروف العطف من أنّها إذا لحقت مفاهيم سائر الألفاظ لا توجب فيها اختلافا بحسب المعنى ، بل هي بعد لحوقها باقية على ما كانت عليه قبل لحوقها ، وهو كما ترى على إطلاقه غير مرضيّ.

كيف وقد عرفت أنّ العطف إذا كان بكلمة « أو » وما يجري مجراها يوجب تقييدا في الملحوق به.

ولا ريب أنّه مغاير لما هو عليه بدونها من الإطلاق.

ومن هنا ظهر ما في قوله : « فمدلول الصيغة ما يعرض له العطف » من الاشتباه الفاحش ، فإنّ العطف إنّما يعرض المأمور به أو متعلّقه لا الطلب حتّى ينظر في حصول اختلاف فيه باعتبار ترك العطف وفعله.

ومنها : أنّ الأمر في الجميع مردّد بين الاشتراك المعنوي واللفظي والمجاز ، والأوّل مقدّم في مثله.

ص: 50

وفيه أوّلا (1) : منع كون التعييني والتخييري فردين لمشترك بينهما ليصحّ فرض الصيغة بالنسبة إليه مشتركا معنويّا ، بل هما من لوازم إطلاق المأمور به وتقييده حسبما قرّرناه.

وثانيا : أنّ هذه القاعدة على إطلاقها غير مرضيّة ، وكون المقام من مجاريها على فرض تسليم كونهما فردين لجامع بينهما غير مسلّم ، كيف واستعمال الصيغة في ذلك القدر الجامع محلّ منع فضلا عن غلبة ذلك الاستعمال ، مع أنّ العطف بكلمة « أو » قرينة قامت على إرادة التخييري لا محالة حتّى على القول بالمجازيّة فيه ، فالأمر بالنسبة إليها مردّد بين كونها للتجوّز أو للإفهام ولا مزيّة لأحدهما على الآخر إلاّ أن يدّعى غلبة الثاني على الأوّل بحسب النوع والوقوع الخارجي وهو في حيّز المنع ، كما يشهد به ملاحظة القول بأنّ أغلب اللغات المجازات ، بناء على أنّ المراد بها الاستعمالات المجازيّة لا مفاهيمها الكليّة كما يقتضيه ما بطل من دليل هذا القول.

فتحصّل من جميع ما تقرّر : أنّ مقالتنا في مواضع التخيير ترجع إلى التزام التقييد في مدلول المادّة ، كما أنّ مقالة من يجعله مجازا ترجع إلى التزام التجوّز في مدلول الصيغة ، ومقالة من يجعله فردا للقدر المشترك بينه وبين التعييني ترجع إلى التقييد في مدلولها ، فلا مخالفة بين المقالات الثلاث في الالتزام بمخالفة الظاهر لكون الجميع في الافتقار إلى خارج يوجب الانصراف عن الظاهر على نهج سواء ، فلذا حصل الاتّفاق على كون التخييري خلاف الظاهر.

ويظهر فائدة الفرق بين الوجوه الثلاث فيما لو ورد أمر عامّ متناول بظاهره لجميع المكلّفين ثمّ قام دليل آخر منفصل قضى بنفي كونه عينيّا بالنسبة إلى صنف منهم ، كما في الجمعة الّتي دلّ قوله تعالى : ( فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ ) (2) على وجوبها على عامّة المكلّفين

ص: 51


1- والجواب التحقيقي عن ذلك أوّلا منع الكبرى ، وثانيا منع الصغرى. أمّا الأوّل : فلما تقدّم في المبادئ اللغويّة من أنّ الاشتراك المعنوي حيثما قابله المجاز لم يثبت دليل من العرف على اولويّته وكونه الأصل في مقابلة الحقيقة والمجاز. وأمّا الثاني : فلمنع دوران الأمر في المقام بين الوجوه الثلاث ، لأنّ التعيين والتخيير على ما تقدّم ويشهد به الوجدان ليسا جهتين راجعتين إلى الصيغة الموضوعة للطلب بكون الأوّل مأخوذا في وضعها أو هو مع الثاني مأخوذا في وضعيها أو كونهما فردين لمشترك بينهما هو المأخوذ في وضعها بل هما راجعين إلى المأمور به الّذي هو مدلول المادّة ينتزعان عنه باعتبار ما يطرءه من الإطلاق والتقييد ، وبالتأمّل في ذلك يظهر الجواب التحقيقي عن الوجهين الآخرين. ( منه عفي عنه ).
2- الجمعة : 9.

ووقع الإجماع مثلا على عدم كونها عينيّة بالنسبة إلى من لم يتمكّن عن حضور النبي صلى اللّه عليه وآله أو نائبه الخاصّ المأذون في أدائها ، فعلى المختار يثبت الوجوب التخييري في حال الغيبة بينها وبين الظهر ، وعلى القول بكونها حقيقة في التعييني فقط يسقط الوجوب عنها في تلك الحال بالمرّة ، وعلى الاشتراك المعنوي محتمل للوجهين معا.

وتوضيح ذلك : أمّا على الأوّل فلأنّ نفي اللازم بالدليل المنفصل يستدعي نفي الملزوم أعني الإطلاق في المأمور به ، وهو ملزوم لثبوت ملزوم التخيير وهو التقييد لئلاّ يلزم ارتفاع المتقابلين بالعدم والملكة بعد فرض تناول الخطاب.

ومن البيّن أنّ ثبوت الملزوم يستلزم ثبوت لازمه ، فقضيّة ذلك كون المكلّف في حال الغيبة مخيّرا بين الجمعة والظهر.

وإن شئت تصوير ذلك على وجه يوجب الاطمينان فلا حظ قوله : « أعتقوا رقبة » مع قوله لبعض من اندرج في ذلك الخطاب : « لا أجتزي منك بعتق الكافرة » فإنّه نفي لما هو لازم لإطلاق الرقبة وهو التخيير العقلي بين الكافرة والمؤمنة ، وظاهر أنّ نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم وهو الإطلاق.

وقضيّة ذلك ثبوت التقييد بالمؤمنة بالنسبة إلى ذلك البعض ، وإلاّ لزم ارتفاع الإطلاق والتقييد وهو محال. إلاّ على تقدير خروج ذلك البعض عن الخطاب الأوّل بالمرّة من باب التخصيص ، وهو ليس ممّا يفيده الخطاب الثاني لعدم قضائه بعدم وجوب عتق الرقبة على إطلاقها وإلاّ لما كان لتخصيص الكافرة بالذكر فائدة ، والمفروض أنّه لا دليل سواه يقضي بالخروج عن ظاهر الخطاب الأوّل ، والضرورة تتقدّر بقدرها وليس قدرها هنا إلاّ التقييد.

وأمّا على الثاني : فلأنّ العينيّة المنفيّة بالدليل المنفصل داخلة على هذا القول في الحقيقة ، ونفي الحقيقة باعتبار نفي بعض أجزائها بالنسبة إلى بعض أفراد موضوعها لا يقضي بقيام المعنى المجازي مقامها ، كيف ولو قضى بذلك لزم كون الخطاب الأوّل مستعملا في معناه الحقيقي والمجازي معا ، لأنّ المفروض دخول المعنى الحقيقي في الإرادة بالنسبة إلى الفرد الغير المخرج ، بل لازمه التخصيص حينئذ ، فلا يثبت في حال الغيبة وجوب للجمعة أصلا ولو تخييرا ، بل يصير محرّمة حينئذ لاندراجها في عموم أدلّة التشريع والبدعة المحرّمة.

ونظير ذلك ما لو قال : « أكرم العلماء » ثمّ قال : « لا يجب عليك إكرام الاشتقاقيّين منهم » فليس لأحد حينئذ أن يقول بثبوت الاستحباب بالنسبة إلى الاشتقاقيّين بعد نفي الحقيقة

ص: 52

بالخطاب الثاني ، فيحرم إكرامهم حينئذ لو فعله بقصد التشريع.

لا يقال : إنّ رفع العامّ لا يستلزم رفع الخاصّ ، وغاية ما أفاده الدليل المنفصل إنّما هو نفي القيد الّذي هو العينيّة في محلّ الكلام والحتميّة في نظيره وهو لا يقضي بنفي أصل الوجوب في الأوّل ولا بنفي الطلب في الثاني ، فيتعيّن الأوّل بما يقابل العينيّة فيثبت الوجوب التخييري أيضا والثاني بما يقابل الحتميّة فيثبت الاستحباب.

لأنّا نقول : إنّما نسلّم ذلك فيما إذا لوحظ العامّ في تعلّق الخطاب به لا بشرط شيء ، كما لو قال : « أكرم الإنسان » فتعذّر على المكلّف من أفراده العالم فإنّه لا يوجب تعذّر أصل الإنسان ليقضي بارتفاع الطلب ، بل يتعيّن عليه الامتثال في سائر أفراده ، لأنّ انتفاء الخاصّ لا يستلزم انتفاء العامّ.

وأمّا إذا لوحظ بشرط شيء وهو انضمامه إلى بعض خصوصيّاته فلا ، إذ لا عموم له حينئذ حتّى لا يلزم انتفاؤه من انتفاء الخصوصيّة ، كما لو قال : « أعتق رقبة مؤمنة » واتّفق تعذّر المؤمنة فلا يمكن القول حينئذ بوجوب عتق الكافرة ، لأنّها فرد من الرقبة وانتفاء الخاصّ لا يقتضي انتفاء العامّ.

والفرق بين المقامين : أنّ الحكم في الأوّل تعلّق بالطبيعة المطلقة المعرّاة عن ملاحظة الخصوصيّات فبتعذّر بعض الخصوصيّات ينصرف الحكم إلى خصوصيّاتها الاخر لوجود الطبيعة المطلقة في ضمنها ، والحكم تابع لها لا للخصوصيّات ، بخلاف الثاني لتعلّق الحكم حينئذ بالطبيعة المقيّدة فيكون تابعا لوجود القيد ولا يتسرّى منه إلى القيود الاخر ، لخروجها عن الطبيعة المقيّدة فإثبات الحكم لها أيضا بعد انتفاء القيد المفروض يحتاج إلى دليل مستأنف ، ولا ريب أنّ الوجوب على القول بحقيقيّة الصيغة في التعييني إنّما أخذ في مدلول الصيغة مقيّدا بالعينيّة ، كما أنّ الطلب في مدلولها على القول بكونها حقيقة في الوجوب اخذ مقيّدا بالحتميّة ، فلا عموم فيهما من حيث كونهما مدلولين لها حتّى لا يلزم من نفي الخصوصيتيّن نفيهما ، فالوجوب والطلب اللذين يتعيّنان بما يقابل العينيّة والحتميّة في فرض المعترض إن اريد بهما ما يكون مدلولا للخطاب فهو فرع كون المراد من الصيغة المعنى العامّ الملحوظ لا بشرط شيء وهو خلاف الفرض ، وإن اريد بهما ما يكون خارجا عن المدلول فهو محتاج إلى دليل منفصل ولم يثبت ، ولو ثبت فهو خارج عمّا نحن بصدده.

ومع الغضّ عن جميع ذلك فالأمر دائر حينئذ بين المجاز والتخصيص ، ومن المقرّر في

ص: 53

محلّه أنّ الثاني مقدّم على الأوّل ، ولا سيّما المقام المستلزم للاستعمال في المعنيين.

وأمّا على الثالث : فلأنّ الأمر مردّد حينئذ بين كون الوجوب التعييني بالنسبة إلى المتمكّنين في خطاب « فاسعوا » مرادا منه لا بقيد الخصوصيّة ، بدعوى : كون المراد الوجوب المطلق والخصوصيّة إنّما استفيدت من دليل منفصل ، أو مرادا منه بقيد الخصوصيّة ، بدعوى : أنّ المراد منه الوجوب المقيّد من حيث كونه مقيّدا.

فعلى الأوّل يثبت الوجوب التخييري في حال الغيبة أيضا ، إذ لا يلزم من نفي الخاصّ نفي العامّ ، كما في « أعتق رقبة » و « أعتق رقبة مؤمنة » فيكون كلّ من إثبات العينيّة ونفيها بالدليل بالنسبة إلى الصنفين من الأحكام الواردة على ماهيّة واحدة ملحوظة لا بشرط شيء من تلك الأحكام في الخطاب الأوّل ، كالصلاة الّتي هي ماهيّة واحدة فرضا وتختلف أحكامها في الخطاب الشامل لجميع أنحاء المكلّفين بالنسبة إلى الحاضر والمسافر والصحيح والمريض الّتي تثبت بالأدلّة المنفصلة ، لا أنّها مرادة من الخطاب بأصل الصلاة.

وعلى الثاني ينتفي الوجوب من رأسه ، لكونه بحسب المعنى حينئذ كاحتمال كونها حقيقة في الوجوب التعييني. وقد عرفت الوجه في انتفاء الوجوب بالنسبة إلى هذا الاحتمال ، وإن شئت توضيحه فلاحظ قوله : « أعتق رقبة » مع قرينة دلّت على أنّ المراد خصوص الرقبة المؤمنة ، مع قوله - لبعض المخاطبين - : « لا يجب عليك عتق المؤمنة » حيث إنّ الخطاب الثاني يقضي بأنّه لا تكليف لهذا البعض رأسا ، لا أنّ له تكليفا في ضمن غير المؤمنة كما لا يخفى.

فما ذكره بعض الأعاظم تفريعا على ما اختاره من الاشتراك المعنوي في قوله : « ومن فروع الأوّل صلاة الجمعة ، فإنّ أمر « فاسعوا » دلّ على وجوب صلاة الجمعة والإجماع وقع على عدم كونها عينيّة بالنسبة إلى من لم يتمكّن من حضور صلاة النبيّ صلى اللّه عليه وآله أو صلاة من أذنه بها ، فيبقى الوجوب التخييري بالنسبة إليهم على المختار ، ويرفع الوجوب مطلقا على القول الآخر فتصير حراما لعموم حرمة التشريع والبدعة والتوقيفيّة ، فيلزم في حال الغيبة على الأوّل أحد الأمرين ، وعلى الثاني يمكن بناء المسألة على أنّ رفع الخاصّ لا يقتضي رفع العامّ فيثبت التخيير أيضا » ليس على ما ينبغي لما عرفته مفصّلا ، إلاّ إذا كان الأصل المحرز عنده في الكلّي المقرون استعماله بإرادة الفرد كونه من باب إطلاق الكلّي على الفرد ، المستلزم لتعدّد الدالّ والمدلول لا من باب الاستعمال في الخصوصيّة كما هو الأظهر ،

ص: 54

إذ به يحصل الجمع بين ما يقتضي إفادة الطبيعة وهو الوضع وما يقتضي إفادة الخصوصيّة وهو الأمارة الخارجيّة القائمة بذلك ، نظرا إلى أنّها لازمة على كلّ تقدير.

وظاهر أنّ إعمال المقتضيين مع إمكانه أوفق بحكمة المتكلّم من إهمال أحدهما وإعمال الآخر من غير أن يترتّب عليه مزيّة معنويّة قاضية برجحان الإهمال ، مضافا إلى أنّ قرينة إفادة الخصوصيّة توجب على الأوّل صرف المعنى وهو الطبيعة إلى بعض أفرادها.

وعلى الثاني توجب صرف اللفظ إلى ذلك الفرد كما هو شأن القرائن الصارفة في سائر المجازات.

ولا ريب أنّ الأوّل أهون من الثاني ، إذ لا يزاحمها في صرف المعنى شيء بخلاف صرفها اللفظ الّذي يزاحمها فيه الوضع الثابت لذلك اللفظ.

هل الأصل في الواجب هو التعييني أو التخييري؟

الأمر الثاني : قضيّة ما قرّرناه من الفرق بين التعييني والتخييري كون الأمر حيثما ورد بملاحظة إطلاق متعلّقه ظاهرا في التعييني ظهورا سكوتيّا حاصلا عن ملاحظة ترك بيان ما يقتضي تقييده ، لا ظهورا وضعيّا ولا انصرافيّا كما هو الحال في سائر المطلقات بالقياس إلى ما يلحقها من التقييدات.

فمن هنا تبيّن أنّ الأصل في الوجوب إذا ثبت بالدليل اللفظي هو الوجوب التعييني ، فلو دار الأمر بينه وبين التخييري في موضع الاشتباه كما لو ورد أمران متعاقبان بشيئين يمكن الجمع بينهما في الامتثال ولو على التفريق مع إسقاط العاطف المحتمل كونه « واو » الجمع أو كلمة الترديد كما لو قال : « قم صلّ » أو قال : « صلّ الجمعة صلّ الظهر » يحمل عليه خاصّة من غير توقّف ، ولا يلتفت إلى احتمال التخيير لما قرّرناه من قضيّة الظهور ، فإنّ الظاهر هو الحجّة ولا يعارضه مجرّد الاحتمال ، مضافا إلى قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ، ويؤيّده قاعدة الشغل واستصحاب الأمر ، ولا يعارضهما أصل البراءة هنا.

ولقد نصّ بذلك جماعة منهم بعض الأفاضل في قوله : « كما ينصرف الأمر حين الإطلاق إلى الوجوب كذا ينصرف إلى الوجوب النفسي المطلق العيني التعييني ».

ثمّ أخذ بالاستدلال على ما ادّعاه من الانصراف بالنسبة إلى كلّ من الامور المذكورة حتّى قال : « وأمّا بالنسبة إلى العيني التعييني فظاهر ، لوضوح توقّف قيام فعل الغير مقام فعل المكلّف ، وكذا قيام فعل آخر مقام ذلك الفعل على ورود الدليل ».

ومن الأعاظم من نصّ بذلك أيضا حيث قال - بعد الفراغ عن الاستدلال بالوجوه

ص: 55

المتقدّمة على ما اختاره من الاشتراك المعنوي - :

« نعم الظاهر من الأمر إذا اطلق مجرّدا عمّا يدلّ على التخييري أو الكفائي ما يقابلهما » ثمّ استشهد لذلك بفهم العرف في قوله : « ولذا ترى أنّ أهل العرف يقبّحون احتمال أحدها من العبد مع الإطلاق ، بل يعدّون مثله مفيدا للإيجاب عينيّا معيّنا نفسيّا ولا يشكّون فيه ».

وأنت خبير بأنّ دعوى الظهور على طريقته لا تستقيم إلاّ من جهة الانصراف الناشئ عن غلبة الإطلاق على العيني التعييني ، كما هو الحال في المطلقات المنصرفة إلى أفرادها الشائعة.

والعجب عنه أنّه لم يلتفت إلى هذا المعنى الّذي هو لازم مذهبه ، واستدلّ على ما ادّعاه من الظهور بوجوه لا تكاد تنضبط وتوجب ثبوت مدّعاه ، لأنّه قال - بعد كلامه المذكور - : « إلاّ أنّ ذلك ليس من نفس المدلول بل باعتبار الخارج ، وهو تعيّن المأمور به أو الفاعل ، فضلا عن لزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة في الأدلّة لولاه ، وأنّ سقوط التكليف بفعل الغير أو بشيء آخر خلاف مقتضى قاعدة الاشتغال واستصحابه ، كما أنّ الأخير مناف للتوقيفيّة ومستلزم للترجيح من غير مرجّح لو قيل بتخصيص شيء بالبدليّة أو جواز بدليّة كلّ شيء من كلّ شيء وكلاهما قطعيّ الفساد ، وممّا مرّ بان الحكم فيما لو ثبت الوجوب بالإجماع واختلف في كونه عينيّا أو كفائيّا تعيينيّا أو تخييريّا ، فإنّ بالاستصحاب يحكم بالعينيّة والتعيين ».

وأنت خبير بأنّ التمسّك بقاعدة لزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة إنّما يلائم ما اخترناه ، من جهة أنّ التخييري يستلزم تقييدا في المأمور به وهو مع عدم البيان في موضع الحاجة إغراء بالجهل ، بخلاف التعييني فإنّه حينئذ من لوازم الإطلاق وهو لا يحتاج إلى بيان ، لأنّه من مقتضيات الوضع الثابت مع اللفظ في جميع الأحوال.

وأمّا على ما اختاره فالتعييني أيضا كالتخييري في الاحتياج إلى البيان من جهة قضاء اعتبار كلّ واحد منهما مع الخطاب بلحوق تقييد بالطلب المطلق المدلول عليه بالصيغة على زعمه ، فقبح التأخير كما أنّه ينفي احتمال التخييري فكذلك ينفي احتمال التعييني أيضا.

وقضيّة ذلك قضاء الأمر المجرّد بالطلب المطلق المعرّى من ملاحظة القيدين فمن أين يجيء الظهور المدّعى ، إلاّ أن يكون المجموع من القاعدة وتعيّن المأمور به دليلا على ذلك ، بكون القاعدة لنفي احتمال التخييري وتعيّن المأمور به لإحراز الظهور في التعييني ، ولكن

ص: 56

القواعد الاخر لا ربط لها بما رامه أصلا ، لأنّها امور لا تجدي إلاّ حكما في مقام العمل والظهور اللفظي راجع إلى مقام الاجتهاد وبينهما بون بعيد ، إلاّ أن يكون غرضه بذلك ترجيح أحد الاحتمالين بها على فرض التكافؤ ، أو تأييد الظهور اللفظي بها كما صنعناه ، غير أنّ الأوّل لا يوافق مطلوبه كما أنّه مع الثاني خلاف ما يظهر من عبارته.

وأمّا إذا ثبت وجوب شيء بالدليل اللبّي ودار بين كونه تعيينيّا أو تخييريّا من جهة الخلاف الواقع فيه بين الفقهاء ، فهل هنا أصل يقتضي رجحان أحدهما على الآخر أو لا؟وظاهر أنّه لا مجال هنا للقواعد اللفظيّة ولا الظواهر العرفيّة إذ لا مدخل للّفظ والعرف في اللبّ.

نعم يمكن أن يقال : بأنّ المظنون بملاحظة تعيّن ما تعلّق به الوجوب المردّد باللبّ بحسب ذاته وحقيقته المتعيّنة في نفس الأمر اعتبار التعيين فيما يحصل به الامتثال أيضا ، غير أنّه ظنّ عقلي والعقل لا مدخل له في التوقيفيّات فلا مناص حينئذ من النظر فيما تقتضيه الاصول العمليّة.

ولا يذهب عليك أنّ الشبهة في المقام حكميّة لا موضوعيّة ناشئة عن الشكّ في المكلّف به لا في التكليف ، إذ لا يدري أنّ المأمور به هو الشيء المعيّن بشرط التعيين أو المردّد بينه وبين غيره ممّا يفرض معادلا له.

فحينئذ يمكن أن يقال : بترجيح الثاني عملا بأصل البراءة ، فإنّ الأمر بالمعيّن بشرط التعيين يوجب ضيقا على المكلّف من حيث إنّه ليس له الانصراف في الامتثال عن هذا المعيّن إلى غيره بخلاف المخيّر ، فإنّ للمكلّف توسعة من حيث إنّ الاختيار له ، فإذا شكّ في اشتغال ذمّته بالمضيّق المذكور وعدمه ينفيه بالأصل المستفاد من قوله : « الناس في سعة ما لم يعلموا » و « رفع عن امّتي تسعة ، منها ما لا يعلمون » ونحو ذلك ممّا هو مقرّر في محلّه ولكن يدفعه : أنّ العمل بالأصل إنّما يتّجه إذا لم يكن في المقام أصل موضوعي وارد عليه رافع لموضوعه.

وقد عرفت مرارا أنّ مرجع التخيير إلى إسقاط جهة التعيين عمّا تعلّق به الأمر وهو في المقام محلّ للشكّ والأصل عدمه (1).

مضافا إلى أنّ ما يشكّ في كونه معادلا له مشكوك في تعلّق الطلب به أيضا بعد القطع

ص: 57


1- على معنى أصالة عدم تعرّض الآمر لإسقاط جهة التعيين عمّا تعلّق به الطلب المعنوي من الماهيّة المتعيّنة بحسب نفسها. ( منه عفي عنه ).

بتعلّقه في الجملة بماثبت وجوبه باللبّ والأصل ينفيه ، فارتفع بذلك موضوع الأصل المذكور.

مضافا إلى الشكّ في اندراج ما ذكر من الضيق في عموم أدلّة ذلك الأصل فيبقى قاعدة الشغل المقتضية للقطع بالبراءة مع استصحاب الأمر وأصالة عدم الإجزاء سليمة عن المعارض.

مضافا إلى قاعدة التوقيف في العبادات الموجبة لاندراج ما لم يثبت توقيفه من الشرع بالخصوص في عموم أدلّة البدعة المحرّمة ، ولو سلّم جريان أصل البراءة واستقامته في المقام فهو لا يصلح للمعارضة للأصلين المذكورين ، لما قرّر في محلّه من ورودهما عليه ، إلاّ أن يوجّه المقام بادراج التعيين المشكوك في اعتباره مع المأمور به في سنخ الشروط الّتي ينفيها الأصل في موضع الشكّ ، ولا يعارضه الأصلان لوروده عليهما في هذا المقام من جهة كون شكّه سببيّا.

وفيه : أنّ هذا الكلام إنّما يتمّ في الشروط الحقيقيّة ، وهي الامور المستقلّة الخارجة عن ذات المأمور به الّتي يحتاج شرطيّتها له إلى ورود نصّ خاصّ فينفي احتمال شرطيّتها في موضع الشكّ بالأصل المستفاد من قوله عليه السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نصّ » بخلاف المقام ، فإنّ التعيين ليس بأمر خارج عن ذات المأمور به بل هو من مقتضيات حقيقته المتعيّنة ، فلا يحتاج اعتباره مع المأمور به إلى ورود نصّ بالخصوص ، بل يكفي في ثبوته عدم ورود دليل على إسقاطه ، والمفروض فقد ما يوجب سقوطه من الأدلّة الشرعيّة ، وعدم الدليل في مثله يكفي في ثبوت العدم ، فلا أصل في البين يكون واردا على الأصلين.

ولأجل ذلك صرّح بعض الأعاظم فيما تقدّم من كلامه بكون الأصل في موضع التردّد في جانب التعييني تمسّكا بالأصلين المذكورين ، وقد نصّ بذلك أيضا بعض الأفاضل في قوله : « وأمّا إذا ثبت وجوب شيء بالعقل أو الإجماع ودار بين وجهين أو وجوه من المذكورات فالظاهر البناء على الوقف ، إذ لا ترجيح لأحد الوجوه في حدّ ذاته ، ولا إطلاق حينئذ ليؤخذ بمقتضاه ، ويرجع حينئذ في العمل إلى الاصول الفقهيّة فمع الدوران بين الوجوب التعييني والتخييري يؤخذ بالأصل لحصول اليقين بالبراءة بأداء ذلك الفعل دون غيره ، وكذا مع الدوران بين العيني والكفائي ». انتهى.

فتقرّر بما ذكرنا : أنّ الأصل عند دوران الأمر بين التعييني والتخييري هو التعييني إلاّ أن يثبت دليل على خلافه ، سواء ثبت الوجوب بالأدلّة اللفظيّة أو الأدلّة اللبّية ، ولا يتفاوت الحال فيما ثبت الوجوب باللفظ بين كون ما يفيد الوجوب صيغة الأمر أو مادّة الأمر أو

ص: 58

لفظة « يجب » ونحوه ، فإنّ الكلّ ظاهر في التعييني إلى أن يثبت خلافه كما صرّح به الفاضل المذكور ، حيث قال : « وما ذكرناه من الانصراف كما يجري في صيغة الأمر وما بمعناه كذا يجري في لفظ « الوجوب » وما يؤدّي مؤدّاه إذا تعلّق بفعل من الأفعال ».

ثمّ اعلم أنّ الدليل إذا كان لفظيّا قد يكون نصّا في التعييني كما لو قال : « افعل هذا ولا يجزيك غيره » وقد يكون نصّا في التخييري بالضرورة كما لو قال : « افعل أحدا من هذين » أو بالنظر والاجتهاد كما لو قال : « افعل هذا وذاك » وهما ليسا بما يمكن الجمع بينهما ، وقد يكون ظاهرا في التعييني بالضرورة كما لو قال : « افعل هذا » أو بالنظر والاجتهاد كما لو قال : « افعل هذا افعل ذاك » بإسقاط العاطف المردّد بين الحرفين ، وقد يكون ظاهرا في التخييري بالضرورة كما لو قال : « افعل هذا أو ذاك » أو بالنظر والاجتهاد كما لو قال : « افعل هذا » ثمّ قال : « افعل أحد الأمرين من هذا وذاك » فإنّ الأوّل بملاحظة قاعدة حمل المطلق على المقيّد يصير ظاهرا في التخييري ، وإن كان في بادئ النظر ظاهرا في التعييني لأنّه ظهور ابتدائيّ لا يعبأ به.

في التخيير بين الأقلّ والأكثر

الأمر الثالث : قد عرفت بملاحظة ما تقدّم أنّ التخيير عقليّا كان أو شرعيّا مفهوم لا يتحصّل إلاّ في متعدّد وأقلّه إثنان وظاهر أنّ التعدّد لا بدّ في حصوله بين شيئين من تغاير هذين الشيئين تغايرا ذاتيّا كما في التخيير بين زيد وعمرو عقلا من أفراد الكلّي المأمور به ، والتخيير بين الإطعام والصيام شرعا من أفراد الواجب المخيّر.

أو اعتباريّا وهو قد يكون في كونه موجبا للتغاير محتاجا إلى جعل من الشارع بالخصوص ، كالقصر والإتمام في التخيير فيما بين الركعتين والأربع في المواطن الأربع من أقسام التخيير الشرعي ، وقد لا يكون محتاجا إلى جعل مستقلّ بل يكون تابعا لفرض الموضوع متشخّصا بمشخّصاته المعيّنة الملحوظة بالإجمال تارة بذلك المشخّص واخرى بما يقابله ، والمشخّص يكون بالنسبة إلى الموضوع من عوارضه لا محالة ، فهو قد يكون من مقولة المكان كما في التخيير بين أفراد الكلّي المتميّزة بحسب الأمكنة وهو تخيير عقلي لا محالة ، وقد يكون من مقولة الزمان كما في التخيير بين أجزاء الزمان في الواجب الموسّع وهو أيضا تخيير عقلي.

وقد يقال بكونه تخييرا شرعيّا نظرا إلى أنّ التوسيع في الوقت ممّا يثبت بنصّ الشارع ، وهو في معنى التخيير بين أجزاء الوقت المضروب ، كما يستفاد ذلك من المصنّف أيضا فيما

ص: 59

يأتي من بحث الواجب الموسّع.

ويمكن التفصيل فيما بين الموقّت فيكون التخيير فيه شرعيّا ، لأنّ وقته محدود بداية ونهاية بأصل الشرع وغير الموقّت فيكون التخيير بالنسبة إليه عقليّا ، نظرا إلى عدم اعتبار الشارع حدّا في وقته بالخصوص.

وقد يكون من مقولة العدد كما في التخيير بين درهم ودرهمين بالقياس إلى الصدقة المأمور بها ، أو بين فرد وفردين من أفراد الكلّي المأمور به الّذي يثبت بحكم العقل ، والتخيير في النزح بين ثلاثين وأربعين ، وفي المسح بين إصبع وإصبعين وثلاث أصابع الّذي ثبت بحكم الشرع ، وهذا هو الّذي يعبّر عنه عندهم بالتخيير بين الأقلّ والأكثر ، ولمّا كان التخيير ممّا يستلزم اتّصاف كلّ من الفردين بالوجوب على سبيل البدليّة حسبما تقدّم فقد يقع الإشكال في تصويره هنا على وجه لا يكون منافيا لاتّصاف الزائد في جانب الأكثر الّذي هو أحد فردي الواجب التخييري بالوجوب ، نظرا إلى أنّ الواجب ما يعرضه الوجوب في جميع أجزائه ، وإلاّ فلو خصّ الوجوب به في بعض الأجزاء لا يكون الباقي جزءا له ، وهو من وجوه :

أحدها : أنّ التخيير هنا إنّما يقع على القدر الزائد ، لأنّ الأقلّ ممّا لا يجوز الإخلال به على كلّ تقدير ، سواء فرضناه فردا برأسه للواجب المخيّر أو جزء من الفرد الآخر وهو الأكثر ، فلا تخيير بالنسبة إليه ، فلا يبقى له محلّ إلاّ القدر الزائد ، والتخيير فيه على تقدير كونه واجبا تخيير بين فعل الواجب وتركه ، وهو كما ترى ممّا لا يتعقّل.

وثانيها : أنّ الأقلّ لكونه فردا من الواجب التخييري يحصل به امتثال الأمر لا محالة ، فلو وجب القدر الزائد مع حصول الامتثال به لزم بقاء الوجوب مع حصول الامتثال ، أو لزوم الامتثال عقيب الامتثال وهو أيضا ممّا لا يتعقّل.

وثالثها : أنّ الواجب ما لا يجوز تركه لا إلى بدل ، والقدر الزائد على الأقلّ يجوز تركه ولا بدل له فكيف يكون واجبا ، ولأجل ذلك وقع الخلاف فيما بينهم بالنسبة إلى اتّصاف القدر الزائد بالوجوب وعدمه ، وحصل منهم أقوال متشنتّنة :

منها : وجوب القدر الزائد مطلقا ، لكون المجموع منه ومن الناقص فردا للواجب أخذا بظاهر اللفظ.

ومنها : استحباب القدر الزائد مطلقا ، لجواز تركه لا إلى بدل.

ص: 60

ومنها : الفرق بين ما لو كان حصول الأكثر تدريجيّا فالواجب هو الأقلّ خاصّة لحصول الطبيعة المأمور بها في التخيير العقلي وأحد فردي الواجب في التخيير الشرعي ، وبه على التقديرين يحصل الامتثال ومعه لا معنى لوجوب الزائد ، وبين ما لو كان حصوله دفعيّا فالمتّصف بالوجوب هو الجميع لكونه فردا من الواجب.

نعم اختياره مستحبّ لكونه أكمل الأفراد ، والمراد بالتدريج هنا حصول الأقلّ عند الامتثال بالأكثر قبل حصول القدر الزائد.

ومنها : اعتبار القصد في ذلك ، فيجب الزائد مع قصد امتثال الأكمل ولا يجب مع قصد امتثال الأنقص ، عزاه في المناهج إلى طائفة منهم والده ، واختاره هو أيضا ولكن ضمّ إليه تفصيلا فقال - بعد حكاية القول المذكور - : « وهو الحقّ في العبادات إذا قصد أحدهما بخصوصه ، وأمّا إذا لم يقصده وفي غيرها فالواجب هو الأنقص خاصّة في التدريجي والأكمل في الدفعي ».

ويمكن أن يقال في دفع الإشكال : إنّ الوجوب أمر واقعيّ لا ينوط بتلك الاجتهادات المبتنية على الاعتبارات ، بل هو تابع للإيجاب لكونه أثرا حاصلا منه ، والإيجاب أمر راجع إلى ما في ضمير الآمر ، وهو في ترتّب أثره عليه مسبوق بما تحقّق في ضمير الآمر من ملاحظة متعلّق أثره ، ومتعلّق ذلك الأثر لا بدّ وأن يكون فعل المكلّف وهو في محلّ البحث إنّما هو طبيعة النزح والمسح والتسبيحة وغيرها ، والأقلّيّة والأكثريّة عرضان حاصلان عن اعتبار العدد في تشخيص تلك الطبيعة قائمان بها وليسا ممّا تعلّق بهما أثر الإيجاب ، ضرورة امتناع تعلّق الحكم بما ليس من مقولة الأفعال ، لكن الطبيعة في ضمير الآمر إذا لوحظت تارة مقيّدة بالعدد المحصّل للأقلّيّة واخرى بالعدد المحصّل للأكثريّة يحصل به طبيعتان ثانويّتان متقابلتان كلّ منهما بدل عن الآخر في عروض وصف الوجوب بهما ، فالأقلّ بما هو أقلّ ليس عنوانا تعلّق به وصف الوجوب بالخصوص ، ولا الأكثر بما هو أكثر عنوانا تعلّق به الوجوب بالخصوص ، بل العنوان في لحاظ الآمر إنّما هو الطبيعة بشرط هذا مع الطبيعة بشرط ذاك ، والتخيير واقع بينهما ، فيكون الواجب في نظر الآمر بالضابطة الّتي قرّرناها كلّ منهما حال عدم حصول الاخرى ، والّذي يجوز تركه كلّ منهما حال حصول الاخرى ، فالزائد لا مدخل له في المقام وليس ملحوظا في نظر الآمر بالخصوص ليكون منشأ للإشكال وينظر في حكمه من أنّه هل يجوز تركه ، لا إلى بدل أو

ص: 61

لا يجوز ، بل العبرة إنّما هي بالطبيعتين المقيّدتين.

ومن البيّن أنّه لا يجوز ترك شيء منهما لا إلى بدل ، وإنّما يجوز ترك كلّ منهما إلى بدل ، وهذا معنى قولنا : « إنّ كلاّ منهما حال عدم حصول الاخرى واجبة ، وكلّ منهما حال حصول الاخرى ليست بواجبة » والمعيار في الحصول وعدم الحصول إنّما هو وجود الصارف للمكلّف عن إيجاد إحدى الطبيعتين ، فإن كان له صارف عن إيجاد تلك الطبيعة لا يجوز له الإخلال بإيجاد الطبيعة الاخرى ، وإن كان له صارف عن إيجاد الطبيعة الاخرى لا يجوز له الإخلال بإيجاد تلك الطبيعة ، فإن أتى بكلّ منهما مع وجود الصارف عن الاخرى يكون ممتثلا ، وإن لم يأت بشيء منهما لوجود الصارف عنهما معا يكون عاصيا ، ولمّا كان إيجاد الصارف وتركه أمرا اختياريّا له فيحرم عليه إيجاد الصارفين معا ، ويحلّ إيجاد أحدهما مع ترك الآخر الملازم لإرادة إيجاد إحدى الطبيعتين ، ولمّا كان وجوب الشيء يقضي بوجوب مقدّمته ووجوب المقدّمة إنّما هو على حسب وجوب ذيها فهو في إيجاد الصارفين وترك الآخر أيضا مخيّر ، ووجوب إرادة إحدى الطبيعتين من باب المقدّمة أيضا تخييريّ ، فإن أوجد الصارف عن الطبيعة المقيّدة بالعدد الأكثر مع إرادته لإيجاد الطبيعة المقيّدة بالعدد الأقلّ له ذلك ، فإذا أتى بها حينئذ فإنّما أتى بعين الواجب ، وإن أوجد الصارف عن الطبيعة المقيّدة بالأقلّ مع إرادة إيجاد الطبيعة المقيّدة بالأكثر له ذلك ، فإذا أتى بها حينئذ فقد أدّى نفس الواجب وهو المجموع من الناقص والزائد ، لأنّ الناقص بما هو ناقص على هذا التقدير لم يكن له مدخل في لحاظ الآمر وعروض وصف الوجوب ، كما أنّ الزائد بما هو زائد لم يكن له على هذا التقدير مدخل في اللحاظ وعروض الوصف ، بل إنّما لوحظ كلّ منهما في اعتبار هذا التقييد بعنوان الجزئيّة ، من غير فرق في ذلك بين حصول الناقص قبل الزائد أو حصولهما معا.

فحصول الأوّل قبل حصول الثاني على تقدير وجود الصارف عن الطبيعة المقيّدة بالعدد الأقلّ لا يقضي بحصول الامتثال حتّى لا يعقل بقاء الوجوب بالنسبة إلى الزائد ، لعدم تعلّق الوجوب به بالخصوص بل وجوبه حينئذ لكونه جزءا من الواجب وجوب عرضي بالقياس إلى وجوب أصل الواجب أو مقدّمي باعتبار كون الجزء مقدّمة.

ومن البيّن أنّ امتثال الوجوب العرضي لا يقضي بامتثال الوجوب الذاتي ما لم يحصل الكلّ في الخارج ، كما أنّ امتثال الوجوب المقدّمي لا يقضي بامتثال الوجوب الأصلي

ص: 62

النفسي ما لم يحصل ذو المقدّمة في الخارج ، ولا فرق أيضا بين العبادات وغيرها.

غاية الأمر أنّ العبادة مأخوذة في صحّتها قصد التقرّب ، وهو أمر آخر وراء الإرادة.

والفرق بينهما مع اشتراكهما في توقّف وجود الواجب عليهما أنّ الإرادة من المقدّمات العقليّة للوجود ، وهي لازمة لجميع الأفعال وإن لم تكن من العبادات بل كانت من المحرّمات ، وقصد التقرّب من المقدّمات الشرعيّة فلذا يختصّ بالعبادات مع كونه عبارة عن الداعي وهو مقدّم دائما على الإرادة الّتي هي من المقدّمات العقليّة ، لكونها عبارة عمّا يقارن حدوثها لإيجاد الفعل.

فما في كلام الفاضل النراقي من الاستدلال على ما ذكره من الفرق ، بأنّه : « لا بدّ في الامتثال في العبادات من نيّة الفعل والتقرّب به وممّا يميّزه عن غيره ، فلا يمتثل بالجزء إلاّ مع قصد كونه العبادة المعيّنة المطلوبة ، فإذا لم يقصده وقصد كونه جزء عبادة لا يوافق الأمر بالجزء ، بل الأمر التبعي الّذي دلّ عليه الأمر التخييري بالكلّ ، فلا يصحّ إلاّ إذا أتى بالزائد من غير فرق بين التدريجي والدفعي » ليس على ما ينبغي ، إذ قصد التقرّب لا يستدعي قصد الفعل بخصوصيّته المتعيّنة بل يكفي فيه مجرّد قصد امتثال الأمر المتعلّق به بأداء المأمور به ، وهو ممّا لا قضاء له بتمييز العبادة المطلوبة عن غيرها ، بل القاضي به إنّما هو الإرادة الّتي هي من المقدّمات العقليّة ، وهي كما أنّها لازمة للفعل في العبادات فكذلك لازمة له في غيرها ، وإذا تعلّقت هذه الإرادة بالجزء لا بعنوان كونه جزء حين وجود الصارف عن الكلّ بعنوان كونه كلاّ كان أداؤه على هذا التقدير أداء لنفس الواجب لا جزئه بملاحظة ما ذكرنا ، وإذا تعلّقت به بعنوان أن يكون جزء للكلّ حين وجود الصارف عنه لا بعنوان كونه جزءا كان أداؤه على هذا التقدير أداء لجزء الواجب لا نفسه ، فلا يمتثل إلاّ بأداء الجزء الآخر معه أو أدائه ثانيا بإرادة اخرى متعلّقة بها لا بعنوان أنّه جزء ، وإن لم يكن المقام من جملة العبادات ، على أنّ امتثال الأمر بأداء المأمور به لازم في كلّ من العبادة وغيرها.

غاية الأمر أنّ قصد الامتثال وقصد التقرّب به ليس بلازم في غير العبادة.

نعم يتفاوت الحال فيما ذكرنا فيما لو كان التخيير بين أفراد الكلّي المأمور به عقلا أو بين أفراد الواجب التخييري شرعا ، وإنّما يتمشّى ذلك في الثاني وهو العمدة في المقام.

وأمّا الأوّل فقد تبيّن حكمه في بحث المرّة والتكرار ، وصار البناء فيه على عدم وجوب القدر الزائد على المرّة ولو على المختار من تعلّق الأمر بالماهيّة ، فراجع. ولا حاجة إلى الإعادة.

ص: 63

هذا ولكن يبقى في المقام إشكال آخر أمتن من الإشكال المذكور ، وهو : أنّ الأمر في حكم العقل كائنا ما كان تابع للمصلحة الكامنة في الشيء ، وقد عرفت أنّها في الواجب المخيّر لا بدّ وأن يشارك في الاشتمال عليها جميع أفراد ذلك الواجب ، بأن تكون قائمة في كلّ منها بانفراده على جهة سواء من غير مزّية ملزمة فيها لبعضها على الآخر ، وإلاّ تعيّن إيجاب ذلك البعض معيّنا أو مع ما يشاركه في الاشتمال على تلك المزيّة ، ويقبح عند العقل التخيير بينه وبين ما خلى عنها بالمرّة وإن اشتمل على حصّة من تلك المصلحة ، كما يقبح التخيير بين المشتمل على المصلحة وما خلى عنها بالمرّة ، بل الحصّة الموجودة فيه على هذا التقدير بالنسبة إلى مقام الإيجاب والإلزام يكون وجودها بمنزلة العدم.

فالزيادة المعتبرة في جانب الأكثر إن كان لها مدخل في تلك المصلحة بحيث لولاها لما كان الناقص مجديا في حصول المصلحة فكيف يجعل الأقلّ فردا من الواجب مع قصوره عن إفادة المصلحة المذكورة ، من جهة خلائه عن الزيادة الّتي ينوط بحصولها حصول المصلحة ، وإن لم يكن لها مدخل أصلا بحيث لولاها لما اختلّت المصلحة في حصولها بحصول الناقص فكيف يجعل كونها جزءا للواجب ، وموجبا فواته لاختلال الامتثال بذلك الواجب كما هو المفروض على القول بوجوب الكلّ.

على انّا نرى بالوجدان أنّ الطبيب في مقام المعالجة لو قام مصلحة علاجه للمريض بثلاثة مثاقيل من دواء خاصّ ليس له عقلا تخيير المريض بينه وبين مثقال أو مثقالين ، كما أنّه لو قامت المصلحة بمثقالين ليس له إيجاب الثلاثة بل ولا تجويز الزيادة إذا أوجبت فسادا في أصل المطلوب ، نعم له أن يخيّره بين الثلاثة ومثقالين من دواء آخر يترتّب عليه ما يترتّب على الأوّل من المصلحة ، والمقام ليس من ذلك في شيء.

ويمكن دفعه أيضا : بأنّ التعبديّات لا تقاس على العقليّات الصرفة ، والعقل قاصر في غالب مواردها عن إدراك ما فيها من المصالح والحكم ، ولذا صار مبنى الشريعة على الجمع بين المفترقات والتفريق بين المجتمعات ، فلم لا يجوز أن يكون في الناقص باعتبار نقصانه نحو خصوصيّة تكافؤ ما في الزائد باعتبار زيادته من هذا النحو من الخصوصيّة ، فلا حظهما الشارع الواقف على حقائق الأشياء متكافئين في الاشتمال على تلك الخصوصيّة المنوطة تارة بالنقصان واخرى بالزيادة ، فأمر بهما معا على جهة التخيير تحصيلا لتلك الخصوصيّة من المصلحة ، ولمّا كان النصّ بظاهره دلّ على إرادة ذلك فيجب علينا الأخذ بموجبه

ص: 64

وإحالة تفصيله إلى علم اللّه سبحانه ، وليس علينا النظر في أنّ الزيادة هل له مدخليّة في ترتّب المصلحة أو لا؟ إذ لا معنى للاجتهاد في مقابلة النصّ ، ولا داعي إلى صرف الخطاب عن ظاهره لمجرّد ذلك أو شبهات اخر كما صنعه جماعة فحملوه بالنسبة إلى الزيادة على الاستحباب ، مع عدم تجويزهم للاستعمال في المعنى الحقيقي والمجازي معا ولا قاضي بالطلب إلاّ صيغة واحدة وهي عندهم حقيقة في الوجوب أو منصرفة إليه ، فمع استفادة الوجوب عنها أيّ شيء يؤدّيهم إلى الاستحباب في الزيادة؟ إلاّ مع الالتزام بكون المراد حينئذ مطلق الطلب ولو مجازا وخصوصيّة الوجوب في الناقص والاستحباب في الزائد تفهم من خارج ، كما في الخطاب بالصلاة المتناول لجميع أنحاء المكلّفين مع اختلافهم في الخصوصيّات الراجعة إليهم ، غير أنّه إخراج للخطاب إلى إيجاب تعيين إذ ليس ذلك معنى التخيير ، وهو كما ترى اجتهاد غير مقبول حيث لا يساعد عليه العقول.

الأمر بالشيئين أو الأشياء على سبيل الترتيب

الأمر الرابع : كما يتعلّق الأمر بشيئين متشاركين أو أشياء متشاركة في المصلحة على وجه التخيير ، فكذلك قد يتعلّق الأمر بالمتشاركين أو المتشاركة في المصلحة على سبيل الترتيب ، بأن يكون الأمر الثاني مرتّبا على الأمر الأوّل ومنوطا تعلّقه بعدم تمكّن امتثال الأوّل ، وقد أشار إليه في المنهاج وشرحه مع جعلهما له باعتبار حرمة الجمع كأكل المذكّى والميتة ، وإباحته كالوضوء والتيمّم ، وندبه كالإعتاق والإطعام والصوم في كفّارات الصوم على أقسام ثلاث.

وقد أشار إلى ذلك العلاّمة أيضا في التهذيب مع الإشارة إلى انقسام كلّ منهما إلى ثلاثة أقسام ، أمّا أمثلة أقسام الثاني فكما عرفت ، وأمّا أمثلة أقسام الأوّل فكالتزويج من كفوين في محرّم الجمع ، وستر العورة بثوبين في مباح الجمع ، وكفّارة الحنث في مندوب الجمع.

وظاهره كونهما قسمين للأمر بالشيئين أو الأشياء لا على سبيل الجمع كما نصّ به السيّد في المنية وقال : « واعلم أنّ الأمر بالشيئين أو الأشياء لا على سبيل الجمع قد يكون على الترتيب بمعنى كون الثاني غير مسقط للفرض مادام الأوّل مقدورا ، وقد يكون لا على الترتيب بل على البدل ، بمعنى كون كلّ منهما قائما مقام الآخر إلى آخره » وهو أعمّ من الأمر بالشيئين أو الأشياء على سبيل التخيير كما لا يخفى وقد يقع اسم التخيير على القسمين معا وهو تسامح جزما ، لعدم اندراج القسم الثاني في ضابطة الواجب التخييري ، بل هو في الحقيقة واجب تعييني في كلّ من المراتب كما صرّح به بعض الأفاضل وأخوه

ص: 65

وهذا واضح ، وإنّما الكلام هنا في شيئين :

أحدهما : أنّ اعتبار الترتيب بين الشيئين أو الأشياء في مقام الأمر يلازم الاشتراط والتعليق ، وهو إنّما يصحّ من غير العالم بالعواقب وأمّا منه - فبناء على التحقيق - موضع إشكال ، بل الّذي يساعد عليه البرهان أن يخصّ الخطاب الأوّل بمن يتمكّن عن الشيء الأوّل الّذي هو المقدّم لمكان علمه تعالى بتمكّنه ، والخطاب الثاني بمن يتعذّر عليه ذلك ، فهو مكلّف به مطلقا كالأوّل لا أنّه مكلّف به بشرط أن لا يتمكّن من الأوّل ، كالاضطراريّات من أفراد الصلاة بالقياس إلى غير المتمكّنين من المكلّفين من الفرد الاختياري الجامع لشرائط الاختيار.

وثانيهما : أنّ ما ذكروه من الأحكام الثلاث لصور الجمع في كلّ من القسمين ممّا لا يتحقّق معناه ، فإن أرادوا أنّ الجمع من حيث إنّه مفهوم حاصل من انضمام كلّ واحد إلى الآخر في الإيجاد الخارجي فهو له حكم بنفسه ، بمعنى أنّه ممّا لا حظه الشارع بالخصوص وأثبت له تلك الأحكام ، فهو كلام سخيف لا ينبغي الالتفات إليه.

وإن أرادوا أنّ الانضمام له مدخليّة في ثبوت تلك الأحكام لما زاد على الواحد الّذي دخل في حيّز الوجود بحيث لولاه لما كان ذلك الزائد حراما ولا مباحا ولا مندوبا فأوضح فسادا من الأوّل ، ضرورة أنّ أكل الميتة مع التمكّن عن أكل المذكّى حرام سواء حصل الانضمام بينهما أم لم يحصل ، والتيمّم مع التمكّن عن الوضوء لو حصل الإتيان [ به ] لا بقصد التشريع [ بل ] لغرض معتدّ به فهو مباح سواء انضمّ إليه الوضوء أيضا أو لا ، ومع قصد التشريع يكون حراما ولو مع الانضمام ، وكذلك الكلام في خصال الكفّارات فإنّ ما زاد منها على الواحد الّذي أتى به لأجل الامتثال له في حدّ ذاته حكم استحبابي ثابت من غير جهة الانضمام ، فلو أوتي به من هذه الجهة كان امتثالا لذلك الحكم وإلاّ كان محرّما لأجل البدعة.

فالأولى أن يقال : إنّ ما بقي من معادلات الواجب المخيّر بعد حصول البعض يتبع في الحكم ما قبل تعلّق الخطاب التخييري إن مندوبا فمندوب وإن مباحا فمباح ولو بحكم الأصل ، لأنّ قضيّة ما قرّرناه من معنى التخيير انحلال القضيّة التخييريّة إلى عقدين إيجابيّ وسلبي ، فالّذي يبقى بعد حصول الامتثال بالبعض يدخل في العقد السلبي فيكون بلا مانع عن جريان ما ثبت لعنوانه الخاصّ من الحكم خصوصا أو عموما فيه ، فيجري مجرى المندوب أو المباح ما لم يلحقه نيّة الوجوب التخييري وإلاّ يحرم للتشريع ، كما أنّه قد

ص: 66

يحرم أيضا بدخوله بسبب لحوقه بما حصل للامتثال في عنوان عامّ محكوم عليه شرعا بالحرمة كما في التزويج من الكفوين ، إذ لو لا دخول التزويج في عنوان تزويج ذات البعل لما كان محكوما عليه بالحرمة.

وعلى قياس ما ذكر ما بقي من الشيئين المأمور بهما على الترتيب إلاّ إذا كان من مقولة العبادة ولم يثبت له بعنوانه الخاصّ حكم إباحة ولا حكم ندب ، كالتيمّم فيمن أتى بالوضوء ، فإنّه لو أتى به لتحصيل الطهارة يكون بدعة محرّمة سواء نوى فيه الوجوب أو الندب ، ومثله الكلام في الأفراد الاضطراريّة للصلوات الواجبة فيمن تمكّن عن الفرد الاختياري.

اتّصاف أحد أفراد الواجب التخييري بالاستحباب

الأمر الخامس : عن جماعة - على ما في كلام بعض الأفاضل - جواز اتّصاف أحد أفراد الواجب المخيّر بالاستحباب ، بأن يكون واجبا تخيّيريّا ومندوبا تعيينيّا ، وعزاه بعض الأعاظم إلى الأكثر ثمّ صار إليه ، وخالفهم الفاضل المذكور محتجّا بما تقرّر عندهم من تضادّ الأحكام واستحالة اجتماع المتضادّين في محلّ واحد.

وعن بعضهم الاحتجاج أيضا بعدم إمكان تعلّق الاستحباب بشيء من أفراد الواجب التخييري ، ولا يخفى ما فيه من المصادرة.

واعترض عليه بعض الأعاظم : بأنّ الحقّ جواز اجتماع الأحكام باختلاف الحيثيّات ، فهاهنا لو قيل بكون الواجب التخييري هو الكلّي لأمكن استحباب أحد الأفراد عينا ، فيستحبّ اختياره ويجوز تركه ولم يتّصف بالوجوب شرعا بل شرطا ، ولو قيل بكونه كلّ واحد على وجه البدليّة لأمكن الاجتماع بكون الاستحباب بنفسه والوجوب بملاحظة القيد كالوجوب الغيري والاستحباب النفسي ، فلا منافاة أصلا.

ثمّ قال : فظهر أنّ الأظهر هو القول الآخر ، ومن فروعه الاستنجاء بالماء مع التخيير بينه وبين الأحجار ، وصلاة الجمعة على القول بالتخيير إلى غير ذلك.

وقال الفاضل المتقدّم - بعد احتجاجه المذكور على المنع - : « وعلى القول بجواز تعلّق الأمر والنهي بشيء واحد من جهتين ، كما هو المختار عند جماعة من المتأخّرين فلا ريب في الجواز في المقام نظرا إلى اختلاف الجهتين ».

ثمّ قال : وقد يتخيّل جواز اجتماعهما في المقام بناءا على المنع من اجتماع الأمر والنهي أيضا ، ولذا ذهب إليه بعض من لا يقول بجواز اجتماعهما نظرا إلى منع مضادّة بين الاستحباب النفسي والوجوب التخييري ، كما أنّه لا مضادّة بين الاستحباب النفسي والوجوب

ص: 67

الغيري ، لوجوبه حينئذ لنفسه نظرا إلى حصول القدر المشترك به واستحبابه بملاحظة خصوصيّة إضافيّ بالنظر إلى غيره.

ثمّ أورد عليه : « بأنّه إن اريد بجواز اجتماع الأمرين جواز الجمع بين الوجوب التخييري والندب المصطلح يعني ما يجوز تركه مطلقا فبيّن الفساد ، لوضوح أنّه ليس يجوز تركه كذلك وإلاّ لم يتّصف بالوجوب التخييري ، لما عرفت من حصول المنع من ترك كلّ واحد من الواجبين المخيّرين في الجملة ، فإنّ كلاّ منهما مطلوب للآمر على وجه المنع من تركه وترك ما يقوم مقامه ، وإن اريد بذلك جواز اجتماع الوجوب التخييري والندب بغير معناه المصطلح أعني ما يكون فعله راجحا بالنسبة إلى فعل غيره رجحانا غير مانع من النقيض ، نظير ما اعتبر في مكروه العبادة من مرجوحيّة فعلها بالنسبة إلى فعل غيرها كما يومي إليه قوله : « يكون استحبابه إضافيّا بالنسبة إلى غيره » فلا مجال لتوهّم مانع منه في المقام ولا يعتريه شبهة ولا إشكال ، والظاهر أنّ أحدا لا يقول بامتناعه » إلى آخره.

فقد تبيّن ممّا ذكر أنّهم متسالمون في جواز اجتماع الوجوب الغيري مع الاستحباب النفسي ، وظاهرهم أيضا كونهم متسالمين في عدم جواز اجتماع الوجوب والاستحباب النفسيّين ، وهو كما ترى فرق بلا فارق وتفكيك بلا وجه ، فإن أرادوا أنّ اجتماع النفسيّين إنّما يؤدّي إلى كون ترك المأمور به ممّا جوّزه الشارع ومنع عنه معا مضافا إلى لزوم اجتماع جواز الترك وعدم جوازه في محلّ واحد والأوّل خطاب سفهيّ محال صدوره عن الحكيم ، والثاني اجتماع للنقيضين في محلّ واحد فيمتنع معه الجمع بين النفسيّين ، ضرورة استلزام مناقضة الفصول لمناقضة الاصول. ففيه : أنّ الأمر في الغيري والنفسي أيضا كذلك ، ضرورة تضمّن الطلب الندبي للشيء لتجويز تركه وتضمّن الطلب الحتمي له للمنع عن تركه ، مع لزوم اجتماع جواز الترك وعدم جوازه فيلزم المحذوران جزما ، والاختلاف بينهما في ذلك في الغيريّة والنفسيّة لا يجدي في مفارقتهما عن النفسيّين ما لم يتعدّد فيهما موضوع الحكمين والمفروض خلافه ، ضرورة خروج الحكمة الباعثة على حدوث الحكم عن موضوع الحكم ، غاية الفرق بينهما أنّ النفسيّة جهة داخليّة لأنّ محصّل مفادها كون الداعي إلى الإيجاب الرجحان القائم بنفس الشيء ، والغيريّة جهة خارجيّة لأنّ مفادها كون الداعي إلى الإيجاب رجحان في الغير المرتبط حصوله بحصوله.

وإن أرادوا أنّ الوجوب الغيري إنّما يجتمع مع ما يقتضي الاستحباب النفسي ولا استحالة

ص: 68

فيه ، لجواز أن يكون في ذات الشيء رجحان غير بالغ حدّ المنع عن الترك محصّل للاستحباب فطرأه من الخارج رجحان آخر بالغ حدّ المنع عن الترك ، فيكون مستحبّا لاشتماله على مقتضى الاستحباب وواجبا لاشتماله على طلب الإيجاب بخلاف النفسيّين ، فإنّ الشيء مع اشتماله لذاته على مقتضى الاستحباب لا يمكن اشتماله لذاته أيضا على مقتضى الإيجاب ، لأنّ ما بالذات لا يختلف ولا يتخلّف ، ففيه : أنّ ذلك ليس من اجتماع الاستحباب مع الوجوب في شيء من حيث أنّه عبارة عن الطلب المقرون بتجويز الترك ، وعروض الوجوب بمعنى الطلب المقرون بالمنع عن الترك مانع عن عروضه فهو واجب صرف ما لم يلحقه الامتثال ، ومع لحوقه ينقلب مستحبّا صرفا ، فهو في آن اتّصافه بالاستحباب حقيقة لا يتّصف بالوجوب إلاّ على سبيل المجاز بعلاقة الأول أو الكون ، وفي آن اتّصافه بالوجوب حقيقة لا يتّصف بالاستحباب إلاّ على سبيل المجاز أيضا بإحدى العلاقتين أو بعلاقة المشابهة.

وبالجملة الواجب الغيري ما لم يلحقه وجوبه للغير بعدم وجوب ذلك الغير يصحّ اتّصافه بالاستحباب حقيقة في بعض الأحيان ، فإذا لحقه الوجوب أوجب ارتفاع فصل الاستحباب ، وظاهر أنّ انتفاء الشيء لوجود مانعه كانتفائه لفقد مقتضيه في عدم ترتّب أحكام الوجود عليه ، وكما أنّ الشيء ينتفي بوجود مانع عن وجوده ابتداء فكذلك قد ينتفي بتحقّق رافع له ، كما قد ينتفي بعدم ما يقتضي وجوده ، والرافع قد يكون اختياريّا من قبل المكلّف كالامتثال وسلب القدرة عن نفسه ، وقد يكون اضطراريّا من قبل الغير كزوال قدرته قهرا ، ومنه طروّ الضدّ الوجودي كما هو الحال بالقياس إلى ما كان مباحا فطرئه الوجوب ، فهل يعقل القول فيه باجتماع الاباحة والوجوب ، ونظيره بعينه ما كان مستحبّا فطرئه الوجوب ، ولذا صرّح المحقّقون بأنّ الأحكام بأسرها ممّا يضادّ بعضها بعضا.

ومن هنا يتبيّن الحقّ في معقد المسألة بالنظر إلى ما قرّرناه في معنى الواجب التخييري ، من كون الواجب كلّ واحد حال عدم حصول الآخر ، فإذا كان الإطعام حال عدم حصول الصيام واجبا فكيف يعقل اتّصافه بالاستحباب العيني المتضمّن لتجويز تركه في كلّ من تقديري حصول الصيام وعدمه ، فإنّه يناقض المنع عن تركه حال عدم حصول الصيام ، إلاّ أن يجعل الاستحباب وصفا للإطعام بعد حصوله أو حال حصول الصيام أو بعد حصوله ، وهو كما ترى ليس من مسألة الاجتماع في شيء ، فإنّ موضوع الحكمين يتغاير

ص: 69

على الأوّل بالزمان وعلى الأخيرين بالذات كما لا يخفى.

نعم على مذهب من يرى الواجب في المخيّر كلّيا وهو مفهوم « الأحد » لا مانع من اتّصاف البعض بالاستحباب ، بأن يكون متعلّق الوجوب هو الكلّي ومتعلّق الاستحباب هو الفرد كما في الصلاة في المسجد ، غير أنّه أيضا ليس من الاجتماع في شيء لتعدّد الموضوعين.

فإن قلت : إذا جاز اتّصاف الفرد بالاستحباب مع اتّصاف الكلّي بالوجوب من جهة تعدّد موضوعيهما فقد جاز اتّصافه بالحرمة مع اتّصاف كلّيه بالوجوب ، فيلزم اجتماع الأمر والنهي مع تعدّد الجهة لتعدّد موضوعيهما حسبما ذكروه في ثمرة الخلاف في الواجب المخيّر ، وهو اعتراف منك بخلاف ما ذكرته في منع تلك الثمرة.

قلت : إنّما منعنا عن ذلك ثمّة من جهة أنّ محصّله يرجع إلى أنّ الشارع إنّما تصوّر الحرام وغير الحرام وانتزع عنهما قدرا مشتركا وهو مفهوم « أحدهما » فأمر به ، وهو ممّا لا يتعقّل ولا يجري مثله في مفروض المقام ، إذ تصوّر المستحبّ وغير المستحبّ ثمّ الأمر بالقدر المشترك بينهما ممّا لا مانع عنه عقلا ، كما أنّ تصوّر المباحين ثمّ الأمر بالقدر المشترك بينهما ممّا لا مانع عنه.

نعم لا نضائق عن كون أحد فردي الواجب المخيّر أفضل من الآخر وثوابه أكثر ، كالإتمام في التخيير بينه وبين القصر في [ المواطن ] الأربع ، والاستنجاء بالماء في التخيير بينه وبين الأحجار ، ولا نظنّ فيه خلافا كما نفاه بعض الأعاظم ، ولكنّ الأفضليّة لا تستلزم الاستحباب بالمعنى الحقيقي.

العدول عمّا شرع فيه من أفراد الواجب المخيّر

الأمر السادس : لا إشكال في أنّ الواجب في المخيّر لا يتعيّن على المكلّف بقصد الشروع في واحد معيّن ، كما لا إشكال في أنّ الوجوب لا يسقط رأسا بالشروع فيه إلى أن يحصل الفراغ كما هو الشأن في سائر التكاليف ، ضرورة كون سقوط التكليف منوطا بحصول الفعل في الخارج حسبما اعتبره الشارع.

فهل يتعيّن الواجب بمجرّد الشروع في واحد معيّن فليس له العدول حينئذ إلى الفرد الآخر ومع عدوله لا يمتثل أو لا بل التخيير باق إلى أن يحصل الفراغ ، فلو عدل في الأثناء إلى الفرد الآخر كان ممتثلا ، فيه إشكال ، ينشأ من أنّ التخيير عبارة عن جعل الاختيار في تعيين ما يحصل به الامتثال من الأفراد المخيّر فيها للمكلّف ، أو عبارة عن جعل الاختيار في أداء ما يحصل به الامتثال من تلك الأفراد للمكلّف.

ص: 70

ولا ريب أنّ عدول المكلّف عمّا شرع فيه إلى أداء الفرد الآخر اختيار منه لأداء ما يحصل به الامتثال ، كما كان إتيانه بما لم يعدل عمّا شرع فيه اختيارا لأداء ما يحصل به الامتثال ، وهذا هو الأقرب والأظهر من معنى التخيير بل هو من مقتضى المعنى الّذي استفدناه من العقل والنقل حسبما مرّ تفصيله بما لا مزيد عليه ، فإنّ الطلب إذا كان من أوّل الأمر متعلّقا بكلّ واحد لا على التعيين فأيّ شيء قضى باعتبار التعيين في الواحد الّذي شرع فيه ولو بعد القطع.

وإذا كان المكلّف به هو كلّ واحد حال عدم حصول الآخر في أصل وضع الخطاب التخييري ، فأيّ دليل دلّ على أنّ المكلّف به هو ما شرع فيه المكلّف ولو بعد قطعه مطلقا ، سواء حصل في مكانه الفرد الآخر أو لم يحصل ، مضافا إلى أنّ التخيير لو كان عبارة عن جعل اختيار التعيين للمكلّف الموجب لحصول التعيين بالشروع لقضى بحصوله أيضا بمجرّد القصد والنيّة وإن لم يشرع وهو ضروريّ البطلان.

فما يقال في وجه الأوّل : من أنّه مخيّر في اختيار أيّهما شاء فإذا اختار أحدهما زال التخيير ، وأيضا جواز العدول بعد الشروع في الفعل يتوقّف على قيام الدليل عليه وهو منتف ، ليس ممّا ينبغي الالتفات إليه كيف وأنّ الأوّل مع كونه مصادرة إنّما يتّجه على الاحتمال الّذي قد عرفت ضعفه ، وأنّه لا ملازمة بين عدم العدول وكون ما أوتي به بعد العدول مجزيا ، إذ ليس في المقام إلاّ توهّم المنع عن إبطال العمل وهو مع أنّه غير مطّرد مردود بأنّ الإبطال المعلوم كونه محرّما في الشرع لا يقدح في صحّة ما يؤتى ثانيا من الأفراد ، كما في أفراد الكلّي المأمور به في الواجب المعيّن فضلا عمّا لم يعلم بالمنع عنه شرعا ، والّذي يقول ببقاء التخيير يعترف بتحريم الإبطال فيما ثبت تحريمه بالخصوص ، كما في التخيير بين الظهر والجمعة حيث يحرم عليه الإبطال بعد الشروع في أحدهما ، وأمّا لو عصى فأبطل كان التخيير باقيا وله الإتيان بالآخر.

وربّما يستند على المختار إلى الاستصحاب ، فإنّه لو شرع في أحدهما جاز له العدول إلى الآخر استصحابا لما ثبت إلى أن يسقط التكليف بأدائه ، وكأنّ المراد به جواز العدول عن كلّ منهما إلى الآخر الثابت له قبل الشروع في أحدهما ، فإنّ جواز العدول عن ذلك إلى هذا وعن هذا إلى ذلك قبل الشروع في الفعل هو معنى البدليّة الثابتة في موضع التخيير فيستصحب بعد الشروع إلى أن يحصل الفراغ حيث لا علم بما يرفعه ، وهذا ممّا لا بأس به

ص: 71

غير أنّه ليس بعامّ الجريان حتّى فيما حرم إبطاله شرعا كما عرفت.

وإن كان الاستصحاب ولا بدّ وأن يتمسّك به في المقام فالأولى أن يقال : بأنّ ما لم يشرع فيه قبل الشروع في صاحبه كان قابلا للاجتزاء به فيستصحب ، مضافا إلى أصالة عدم طروّ ما يرفع القابليّة عنه وعدم خروجه عن حيّز الطلب التخييري وعدم لحوق اعتبار التعيين بصاحبه الّذي شرع فيه ، نظرا إلى كونه قبل الشروع مقطوعا بعدمه ، ويؤيّده أصل البراءة عن التعيين بناءا على جريانه في المقام كما قد يتوهّم.

تحقّق الامتثال بإتيان أحد أفراد الواجب المخيّر

الأمر السابع : لو أتى المكلّف في الواجب المخيّر بواحد من الأفراد واكتفى به امتثل جزما وليس عليه شيء بعد ذلك ، ولا يعقل معه امتثال ليجب تحصيله ، إذ لو اريد به ما كان بالنسبة إلى الأمر الأوّل الثابت بعنوان التخيير كان تحصيلا للحاصل ، بناء على ما قرّرناه من كون المكلّف به المستقرّ في ذمّة المكلّف واحدا دائما ، ولو اريد به ما كان بالنسبة إلى الأمر الآخر كان خلاف الفرض وإلاّ انقلب المخيّر معيّنا ، وحينئذ فلو أتى بالفرد الآخر بنيّة امتثال الأمر الإيجابي كان تشريعا محرّما ، وكذلك لو قصد به امتثال الأمر الاستحبابي إلاّ مع العلم باستحبابه بالخصوص أو رجحان الجمع بينهما الحاصل من الخارج ، ولا يكفي فيه مجرّد احتمال الاستحباب ، كما لا يكفي مجرّد احتمال الوجوب بناء في البدعة المحرّمة على تفسيرها الأعمّ.

وأمّا بناء على تفسيرها الأخصّ - كما هو الأظهر - اختصّ التحريم بما لو علم فيه بانتفاء الأمر بالمرّة استحبابيّا وإيجابيّا.

ولو أتى بالجميع أو بما زاد على الواحد دفعة واحدة فإن قصد الامتثال بواحد منها لا بعينه لا ريب في أنّه على تقدير حصوله يستند إلى واحد لا بعينه ، ولو ذهب وهم إلى منع حصوله حينئذ استنادا إلى أنّ الواحد لا بعينه مبهم فلا يعقل الامتثال به ، لدفعناه بمنع اقتضاء الامتثال بعد القطع بثبوت أصل التكليف محلاّ معيّنا كما هو الحال في صورة اشتباه الواجب بغيره ، فيأتي المكلّف بجميع أطراف الشبهة بقصد امتثال الوجوب المقطوع بثبوته إجمالا ، كيف وهو تابع لأصل الوجوب الثابت فكما أنّه في تعلّقه لا يقتضي محلاّ معيّنا حسبما قرّرناه في دفع شبهة من يجعل الواجب واحدا معيّنا فكذلك الامتثال في حصوله ، وربّما يتخيّل استناد حصول الامتثال حينئذ إلى ما هو من الأفراد أكثر ثوابا.

وفيه : أنّ مجرّد أكثريّة الثواب لا تقضي باختصاص الامتثال بذلك الواحد إلاّ على

ص: 72

تقدير اختصاص الوجوب به ، وهو خلاف الفرض وإلاّ انقلب الواجب التخييري واجبا تعيينيّا وهو باطل.

وقد يتوهّم - كما عن الشيخ في العدّة - كون المثاب عليه المعاقب عليه [ و ] متعيّنا حينئذ في الواقع في علمه تعالى غير معيّن عندنا فيكون الواجب المبرئ للذمّة أيضا كذلك ، لأنّ ما يعلمه اللّه تعالى أنّه واجب لا يتغيّر عن كونه واجبا إذا فعله مع غيره فيثيبه عليه ثواب الواجب واستحقّ العقاب بترك ذلك.

وهذا كما ترى كلام لا يجري في المقام بل هو يتمشّى في الواجب المعيّن عند اشتباهه بغيره ، فيأتي المكلّف بهما معا تحصيلا للامتثال بما هو معيّن عليه في الواقع ، والواجب في المقام لا تعيّن فيه في الظاهر والواقع معا.

ويظهر من العلاّمة في التهذيب - كالمحكيّ عنه في النهاية - أنّ الامتثال يستند إلى كلّ واحد ، حيث قال - في ردّ استدلال من يرى الواجب معيّنا عند اللّه - : بأنّ المكلّف إذا فعل الجميع فإن سقط الفرض به كان الجميع واجبا ، وإن سقط بواحد لا بعينه كان المعيّن مستندا إلى المطلق. وهذا خلف ، وإن سقط بكلّ واحد لزم اجتماع العلل على معلول واحد ، فتعيّن المعيّن بأنّ هذه معرّفات.

ولا يخفى أنّه اختيار للشقّ الأخير ودفع للمحذور بأنّ هذه الامور ليست بعلل حقيقيّة بل هي معرّفات ولا يمتنع اجتماعها على أثر واحد ، ولكن كلامه مطلق بالنسبة إلى القصد وعدمه في واحد أو في كلّ واحد.

ويمكن توجيه كلامه على وجه لا ينافي ما ذكرناه ، وهو أن يقال : إنّ المراد باستناد الامتثال إلى كلّ واحد استناده على سبيل البدليّة لا على سبيل الاستقلال كأصل الوجوب ، فكما أنّه في تعلّقه بكلّ واحد حاصل على سبيل البدليّة فكذلك الامتثال فإنّه حاصل على سبيل البدليّة ، لأنّ استناده إلى واحد ليس بأولى من استناده إلى صاحبه حيث إنّ الجميع متّصف بالوجوب على سبيل التخيير.

ويؤيّده ما حكى عنه في النهاية - في جواب ما قرّره الخصم فيما إذا أتى بالجميع دفعة من أنّه هل يستحقّ الثواب بالجميع وأنّه هل ينوي الوجوب بالجميع؟ إلى آخره - من أنّه إنّما يستحقّ على فعل كلّ منها ثواب المخيّر لا المعيّن ، بمعنى أنّه يستحقّ الثواب على فعل امور كان يجوز له ترك كلّ واحد بشرط الإتيان بصاحبه لا ثواب فعل امور كان يجب عليه

ص: 73

إتيان كلّ واحد منها بعينه ، إلى آخره.

ولكن ينبغي تنزيل إطلاق كلامه إلى صورة قصد الامتثال في واحد لا بعينه أو في كلّ واحد على البدل ، بناء على أنّ مفاد العبارتين شيء واحد لرجوع كلّ إلى الآخر كما تبيّن سابقا.

ويبقى في المقام بالنسبة إلى ما قرّرناه إشكال وهو : أنّ الواجب في المخيّر إذا كان كلّ واحد حال عدم حصول الآخر - على ما تقرّر - فكيف يقال بحصول الامتثال مع الإتيان بالجميع دفعة والشرط غير حاصل والقيد منتف لاقتران حصول كلّ بحصول الآخر وحصوله حال حصوله.

ويدفعه : أنّ حال المقارنة غير حال الحصول ، لأنّ المراد به هنا ما يسقط معه الطلب التخييري ويحصل به الامتثال ، ولا يتأتّى ذلك إلاّ مع سبق أحدهما في بروزه في الخارج ودخوله في حيّز الوجود بعنوان الامتثال ، فحينئذ لا يبقى طلب ليجب امتثاله في ضمن ما لم يحصل ، فيكون تركه جائزا وإلاّ لزم الامتثال عقيب الامتثال وهو غير معقول.

وقضيّة ذلك كون المراد بحال عدم الحصول الّذي هو المعيار في منع ترك كلّ بالقياس إليه في الآخر عدم سبق الدخول في حيّز الوجود الخارجي في شيء منهما على صاحبه.

ولا ريب أنّ هذا المعنى متحقّق في كلّ منهما حال المقارنة ، إذ يصدق على كلّ منهما أنّه لم يسبق على صاحبه في الوجود الخارجي حتّى يلزم عدم بقاء الطلب بالقياس إليه الموجب لعدم ترتّب الصحّة على أدائه الّتي هي فرع الأمر.

وبالجملة الواجب فيما بين الإطعام والصيام وإن كان هو المقيّد من كلّ منهما بحال عدم حصول الآخر ، ولكنّ المراد بحال عدم الحصول حال عدم سبق أحدهما في وجوده الخارجي على الآخر ، الموجب لعدم بقاء الطلب القاضي بعدم وجوبه بعد ، وهذا المعنى حاصل مع حصولهما دفعة حصوله مع حصول أحدهما دون الآخر ، ولمّا كان الواجب المستقرّ على ذمّة المكلّف واحدا على كلّ تقدير فأوجب أداءهما معا دفعة امتثالا واحدا دائرا بين هذا وذاك على جهة البدليّة كما كان الوجوب دائرا بينهما كذلك ، وهل يحسب ما عدا ذلك الواحد امتثالا للأمر الاستحبابي على تقدير كونه مستحبّا ، فيه وجه مبنيّ على كون الداعي إلى الجمع تحصيل امتثال الأمرين معا.

ولو نوى القربة المطلقة بأداء الجميع أمكن القول بامتثال الأمرين معا أيضا بناء على عدم وجوب قصد الوجه في امتثال الأوامر كما هو المحقّق أخذا بموجب القواعد ، وإن

ص: 74

قصد امتثال الأمر الإيجابي بالجميع فلا ريب في تحريمه للتشريع ، وهل يوجب ذلك إخلالا في الصحّة بالنسبة إلى الواحد لا بعينه الّذي هو محلّ الوجوب أو لا؟

ولا يبعد التفصيل بين التعبّديّات فلا يمتثل أصلا إذ لم يأت بما هو وظيفته على وجهه وما أتى به لم يكن وظيفته ، وبين التوصّليّات فيمتثل لأنّ الغرض الأصلي من الأمر بها حصول المصلحة المعلومة وقد حصلت ، ولا يقدح قصد ما ليس من الوظيفة كما لا يخفى.

تعليقة في الواجب الكفائي

- تعليقة -

كما أنّ الواجب باعتبار الفعل ينقسم إلى تعييني وتخييري فكذلك باعتبار الفاعل ينقسم إلى فرض عين وفرض كفاية ، والشائع في لسانهم التعبير عنهما ب- « العيني » و « الكفائي » والأوّل خارج عن معقد الباب والثاني يعرّف تارة بما في تهذيب العلاّمة من أنّه : « كلّ فعل تعلّق غرض الشارع بإيقاعه لا من مباشر معيّن » ، واخرى : بما في زبدة البهائي من : « أنّه ما يسقط عن الكلّ بفعل البعض قطعا أو ظنّا شرعيّا » وثالثة بما في كلام بعض الأعلام من : « أنّه ما قصد به غرض يحصل بفعل البعض » ورابعة بما حكاه بعض الأفاضل من : « أنّه ما وجب على الجميع لا على سبيل الجمع » وفي معناه أيضا : « ما وجب على الكلّ على البدل ».

ويرد على الأوّل : البينونة بينه وبين المحدود ، حيث إنّ الملحوظ في الثاني الماهيّة - على ما هو شأن التحديدات - والمذكور في الحدّ الأفراد ، ولا ريب أنّها تبائن الماهيّة ، مضافا إلى خروجه بعدم صدق « كلّ فعل » على شيء من الأفراد غير منعكس ، مع أنّه لا يستقيم إلاّ على رأي من يجعل الوجوب على البعض الغير المعيّن ، لأنّ مفاد تعلّق التكليف بالكلّ لزوم مباشرة الكلّ ما لم يقم من يسقط التكليف بفعله عن الباقين ، وهو ملزوم لتعلّق الغرض بمباشرة المعيّن لمكان تعلّق التكليف بالقياس إلى كلّ بالمعيّن ، فنفي تعلّق الغرض بمباشرة المعيّن ملزوم لنفي تعلّق التكليف بالمعيّن وهو خلاف ما ذهب إليه المعرّف حيث يقول بتعلّق الوجوب بكلّ واحد.

ويرد على الثاني : انتقاضه في طرده بالواجب العيني التوصّلي كأداء الدين فيما إذا كان على كلّ واحد من المكلّفين فقام متبرّع وأدّاه عن الجميع ، فصدق عليه أنّه ما يسقط عن الكلّ بفعل البعض.

ص: 75

ويرد على الثالث : أنّ الوصف في جملة « يحصل » إن اريد به ما كان متضمّنا لنفي الغير من باب قصر الصفة على الموصوف ، بمعنى كونه مخصّصا للغرض بما يحصّل بفعل البعض خاصّة كان الحدّ منتقضا في عكسه بالنسبة إلى ما يحصل من الغرض المقصود بفعل الكلّ ، كما لو قام الكلّ بأداء الواجب وإن كان في شأنه بحيث يسقط بفعل البعض أيضا ، بل لا يبقى حينئذ للمحدود مصداق نظرا إلى أنّ الغرض المقصود في جميع موارد الكفائي كما أنّ من شأنه أن يحصل بفعل البعض فكذا من شأنه أن يحصل بفعل الكلّ ، بل قد يكون بحيث لا يحصل إلاّ بفعل الكلّ وهو كفائيّ في حدّ ذاته.

وإن اريد به ما لا تعرّض له للنفي بل كان ذلك الغير مسكوتا عنه نفيا وإثباتا ، بمعنى كونه كاشفا عن حال أحد الفردين وهو ما يسقط بقيام البعض مع السكوت عن حال الفرد الآخر وهو ما يسقط بقيام الكلّ ، كان الحدّ قاصرا عن تأدية تمام الماهيّة ، وأيضا إن اريد بالبعض ما يكون معيّنا كان منافيا لما هو المأخوذ في ماهيّة الكفاية من عدم اعتبار تعيين الفاعل ومخالفا لجميع أقوال المسألة ، وإن اريد به ما يكون مبهما كان الحدّ منتقضا في طرده بجميع الواجبات العينيّة التوصليّة ، ضرورة أنّ ما يقصد بها من الغرض يحصل بفعل أيّ بعض كان وإن لم يكن هو المكلّف كأداء الدين وغسل النجس الواجبين على الأعيان حيث يحصل الغرض بهما بفعل المكلّف نفسه وبفعل غيره كائنا ما كان كما لا يخفى.

ويرد على الأخيرين : بأنّ القيدين لو اريد بهما ما يرجع إلى الوجوب باعتبار تعلّقه بالفاعل بمعنى تعلّقه بكلّ واحد على سبيل البدليّة ، فهو باطل على جميع المذاهب في الواجب الكفائي لو فرض تعلّقه بالأعيان كذلك وموافق للقول بكون الوجوب على البعض المبهم لو فرض تعلّقه أصالة بما يصدق على الأعيان كذلك وليس شيء منه تحديدا للواجب الكفائي على التحقيق ، ولو اريد بهما ما يرجع إلى الواجب باعتبار كونه معتبرا في صحّة الفعل بحيث لو أدّاه الجميع على الاجتماع لم يقع صحيحا فهو متّضح الفساد أيضا ، لما نبّهنا عليه إجمالا ويأتي تفصيل القول فيه من وقوعه على الوجه الصحيح لو قام الجميع بأدائه ، فاعتبار البدليّة قيدا للصحّة في الحدّ موجب لخروجه مبائنا لعدم كونه معتبرا في ماهيّة المحدود.

والأولى في تحديده أن يقال : « بأنّه ما له طلب عامّ لغرض يتساوى نسبته إلى الجميع » ولو أردنا تحديد الوجوب على الكفاية قلنا : « ما يعمّ الكلّ في تعلّقه لغرض

ص: 76

يتساوى نسبته إلى الجميع » فخرج الواجب العيني تعبّديا كان أو توصّليا ، لكونه منوطا بمصلحة تعود إلى المكلّف نفسه ولا تضاف إلى غيره ، وإن كانت قد تتأدّى بفعل الغير فتوجب سقوط التكليف عمّن هي عائدة إليه كما في التوصّلي.

وبذلك يتبيّن أنّ كلاّ من التوصّلي والتعبّدي إذا كان بمعناه الأعمّ (1) لا مطلقا ينقسم إلى العيني والكفائي ، فالعيني التعبّدي يفارق الكفائي التوصّلي من جهتين والكفائي التعبّدي من جهة واحدة ، والمراد بالكفائي التوصّلي ما كان توصّليا صرفا وإلاّ فالتعبّدي منه أيضا توصّلي ولكنّه مشوب من جهة عروض الجهة التعبديّة له كالتوصّلي من العيني إذا كان مشوبا بتلك الجهة ، كالطهارة عن الحدث بخلاف الطهارة عن الخبث فإنّها توصّلية صرفة غير أنّها عينيّة لعود المصلحة المطلوبة منه إلى المكلّف نفسه ، فالتوصّلي والكفائي يتشاركان في كون الإيجاب لأجل التوصّل إلى مصلحة غير القربة داعية إليه ويتفارقان في عود تلك المصلحة إلى المكلّف نفسه كتفريغ ذمّته وتطهير ثيابه كما في الأوّل ، أو إلى ما يتساوى نسبته إليه وإلى غيره من المكلّفين كاحترام الميّت وتطهير المسجد كما في الثاني ، ولأجل ذلك صار التكليف في الأوّل عينيّا وإن سقط بفعل البعض أيضا وفي الثاني كفائيّا لأنّ في التعيين حينئذ ترجيحا من غير مرجّح.

وقضيّة ذلك كون الوجوب فيه متعلّقا بكلّ واحد مع سقوطه بفعل البعض إذا كان على قدر الكفاية ، لبطلان القول بتعلّقه بالمجموع من حيث المجموع والقول بتعلّقه بالبعض المبهم.

وتفصيل القول فيه : أنّه لو قال من له عبيد : « يا عبيدي أكرموا زيدا » أو قال : « أمرتكم بإكرام زيد » أو قال : « أوجبت عليكم اكرام زيد » وما أشبه ذلك ممّا يؤدّي هذا المؤدّى فهو في بادئ النظر محتمل لوجوه :

أوّلها : كون المراد منه إيجاب الفعل على كلّ واحد على جهة التعيين بحيث لولا حصول أدائه منه بنفسه لما ارتفع الطلب عنه ولو حصل الأداء من غيره.

وثانيها : كون المراد فيه إيجاب الفعل على كلّ واحد على جهة التعيين بحيث كان حصول الأداء من البعض كافيا في ارتفاع الطلب عن بعض آخر وإن لم يحصل المباشرة منه بنفسه.

ص: 77


1- والمراد بالتعبّدي بالمعنى الأعمّ ما كان حصول الامتثال به منوطا بقصد القربة سواء كان الغرض الأصلي من إيجابه حصول القربة كما في الصلاة والصيام أو حصوله في الخارج كالطهارات الثلاث. ( منه عفي عنه ).

وثالثها : كون المراد منه إيجاب الفعل على كلّ واحد على جهة البدليّة الموجبة لوحدة الطلب وسقوطه بفعل البعض أيضا.

ورابعها : كون المقصود بالأصالة منه إيجاب الفعل على المجموع من حيث هو ، الموجب لوحدة الطلب أيضا ولكن من جهة وحدة المكلّف وحدة إعتباريّة نظرا إلى كون المجموع ممّا نزّله الآمر منزلة مكلّف واحد ، لا وحدة المكلّف به كما في الوجه السابق.

وخامسها : كون المقصود بالأصالة منه إيجاب الفعل على بعض منهم لا بعينه.

وسادسها : كون المقصود منه إيجاب مطلق على البعض الغير المعيّن ومشروط على الكلّ مع كون شرطه عدم حصول الفعل من البعض.

ولا يذهب عليك أنّ هذا الوجه أردء الوجوه بل مقطوع بفساده ، من حيث أدائه إلى الاستعمال في المعنيين ، كما أنّ الوجه الأوّل أحسنها بل هو الظاهر المنساق من اللفظ في نظر العرف والعادة عند تجرّده من القرائن الخارجيّة ، ولذا يذمّ عند العقلاء من العبيد من ترك الفعل مع قيام غيره بأدائه معتذرا باحتمال كون حصوله في الجملة كافيا في ارتفاع الطلب عنه ، أو باحتمال كون الإيجاب على كلّ واحد على البدل أو على المجموع من حيث هو أو على البعض أو كونه مشروطا بالنسبة إلى الكلّ مع مصادفته لعدم حصول الشرط ، كما أنّه يذمّ لو تركه معتذرا باحتمال كونه للندب.

ومن هنا تبيّن أنّ ذلك ظهور ينحلّ عند التحقيق إلى ظهورات متعدّدة ، ظهور المباشرة الظاهرة في لزوم حصولها لا مجرّد لزومها وإن لم تحصل عند قيام ما احتمل كونه مسقطا ، وظهور التعدّد في الطلب والمطلوب والمطلوب منه ، وظهور التعيين في آحاد المطلوب منه على حسبما يساعد عليه التخاطب ، وظهور كون ذلك الطلب مطلقا.

أمّا الظهور الأوّل فهو من مقتضيات النسبة الّتي اعتبرها الآمر بين طرفي الخطاب ، فإنّ الإسناد في كلّ فعل مسند إلى فاعل - ولو في حيّز الإخبار - ظاهر في المباشرة ظهورا عرفيّا حتّى يتبيّن خلافه ، ولذا صار الإسناد إلى غير من هو له عندهم مجازا عقليّا ، فما يرى في التوصليّات من سقوط لزوم المباشرة بحصول الفعل من غير المكلّف فهو على خلاف الأصل.

وقضيّة ذلك كون حمل الأمر كائنا ما كان على ثاني الوجوه المذكورة مستلزما لطرح ظهور واحد وهو غير سائغ إلاّ مع دليل معتبر صارف عن هذا الظهور.

وأمّا الظهور الثاني وهو تعدّد الطلب المستلزم لتعدّد طرفيه فهو من مقتضيات كونه

ص: 78

أمرا نسبيّا ، فإنّ الأمر النسبي كما أنّه يتبع منتسبيه في تعقّله وتحصّله فكذلك يتبعهما في كمّه وكيفه ، فإن تعدّد المطلوب لزم منه تعدّد الطلب وإن اتّحد الإنشاء ، لأنّه منشأ ووحدة الإنشاء لا يستلزم وحدة المنشأ ، كما أنّه لو تعدّد المطلوب منه لزم منه تعدّد الطلب أيضا على الوجه المذكور.

والفرق بين التعدّدين أنّ الأوّل لا يستلزم تعدّد المطلوب منه بخلاف الثاني ، فإنّ المطلوب يتعدّد مع تعدّد المطلوب منه لا محالة غير أنّه تعدّد في نوع واحد ، ولو تعدّد الطرفان في حدّ ذاتهما لزم منه بالقياس إلى الطلب تعدّد في تعدّد كما لا يخفى على المتأمّل.

ومفروض المقام أنّ المطلوب منه متعدّد لمكان التعبير عنه في مقام البيان بصيغة الجمع ، وهي بحسب الوضع تشمل الآحاد المجتمعة ويقتضي الحكم لواحد واحد بعينه لأنّها من المعارف ، والمعرفة ما دلّ على شيء بعينه.

وقضيّة ذلك أنّه لو حمل الأمر على ثالث الوجوه أو رابعها أو خامسها لزم منه طرح ظهور التعدّد في الطلب ناشئا عن طرح ظاهر أداة الخطاب ، فإنّ صيغة الجمع من الضمائر إذا كانت للآحاد المجتمعة على سبيل التعيين فإطلاقه على كلّ واحد على البدل أو على المفهوم الاعتباري المتولّد عن فرض المجموع من حيث هو بمنزلة مكلّف واحد أو على البعض المبهم تجوّز فيحتاج إلى قرينة إن صحّ أصل التجوّز في جميع هذه الصور.

وأمّا الظهور الأخير فوجهه واضح بملاحظة ما سبق في بحث المقدّمة.

ومن جميع ما تقرّر يتبيّن أيضا : أنّ الأصل في الواجب كونه عينيّا وأنّ الكفائي لا يصار إليه إلاّ بدليل ، من غير فرق في ذلك بين ما يأتي فيه من المذاهب لأنّه دائر بين ما عدا الوجه الأوّل من الوجوه المتقدّمة.

وقد عرفت أنّ كلاّ من ذلك على خلاف ظاهر الأمر ، فلو ورد أمر في الشريعة مجرّدا عن القرينة فهو منصرف في نظر العرف إلى العيني ، الظاهر في لزوم حصول المباشرة من المكلّف ، كما نصّ عليه غير واحد منهم بعض الأفاضل وبعض الأعاظم على ما سبق منهما في بحث المخيّر من العبارة المصرّحة بذلك ، وقضيّة ذلك أن لا يعدل عنه إلاّ بدليل منفصل قاض بإرادة الكفائي من إجماع ونحوه ، وهذا إذا ثبت وجوب الشيء بالأوامر اللفظيّة واضح لا إشكال فيه.

نعم يشكل الحال لو ثبت وجوبه بالدليل اللبّي حيث لا لفظ في البين حتّى يؤخذ

ص: 79

بظاهره ، فلا مناص من الوقف في مقام الاجتهاد إن لم يقم من الشرع ما يقضي بتعيّن أحد القسمين ، وحصل الإجمال في مفاد ما قام من اللبّ ، كما أنّه لا مناص حينئذ من الرجوع إلى الاصول الشرعيّة المقرّرة للشاكّ فإذن يختلف الحكم من حيث معاملة العيني أو الكفائي بحسب اختلاف الموارد والصور ، فإن سبق على المكلّف اطّلاع على الخطاب أو سببه ثمّ حصلت المباشرة من غيره وشكّ في بقاء التكليف في ذمّته وارتفاعه يحكم بالبقاء استصحابا للحالة السابقة ، نظرا إلى أنّ حصول المباشرة من البعض يوجب سقوط الطلب من غيره إذا كان كفائيّا دون ما إذا كان عينيّا ، وإن لم يسبقه اطّلاع إلى أن حصلت المباشرة من البعض فاطّلع بعده بالخطاب وتحقّق سببه يحكم بعدم الوجوب عليه لأصالة البراءة مضافة إلى استصحابها ، نظرا إلى عود شكّه حينئذ إلى كونه في التكليف وتعلّق الخطاب به في آن تعلّقه بغيره الّذي حصلت المباشرة منه فيكون الأصلان المذكوران جاريين بلا إشكال.

لا يقال : إنّ لزوم المباشرة النفسيّة من مقتضيات توجّه الطلب إلى المكلّف ولا مدخل لخصوصيّة الأمر اللفظي فيه ، لكون الطلب ثابتا مع الأمر اللبّي ثبوته مع الأمر اللفظي.

وقد اعترفت أنّ سقوطها يحتاج إلى دليل ، وقضيّة ذلك جريان الأصل المذكور فيما ثبت وجوبه باللبّ أيضا فلا وجه لما حكمت به من الوقف اجتهادا والرجوع إلى الاصول الشرعيّة عملا ، لأنّ لزوم المباشرة وإن كان من مقتضيات الطلب إلاّ أنّ ثبوته على المكلّف فرع بقاء الطلب فيمن سبق اطّلاعه وتعلّقه فيمن تجدّد له الاطّلاع.

ولا ريب أنّ كلاّ من البقاء والتعلّق لا بدّ له من وسط يقتضيه من ظهور لفظي ونحوه وهو منتف ، إذ لا لفظ ليكون ظاهره حجّة وما انتهض من اللبّ على أصل الطلب في الجملة ساكت عن حكم ما بعد حصول المباشرة من البعض بقاء عند سبق الاطّلاع وتعلّقا عند تجدّده فلا مناص من الوقف اجتهادا والأخذ بموجب الأصلين عملا.

نعم يمكن أن يقرّر الأصل الاجتهادي على وجه يعمّ كلاّ من النوعين بناء على ما قرّرناه من ملاك الفرق بين الكفائي والعيني من عدم اختصاص المصلحة الداعية إلى الإيجاب واختصاصها ، بمعنى أنّ مصلحة الواجب إن كانت بحيث لا ترجع إلى المكلّف نفسه على جهة الاختصاص سواء رجعت إليه باعتبار كونه من الجملة أولا فالواجب كفائيّ وإلاّ فعينيّ ، بأن يقال : إنّ الطلب كائنا ما كان ممّا يتضمّن النسبة وإضافة المطلوب إلى المطلوب منه ، والإضافة ممّا يقتضي الاختصاص ولزوم المباشرة النفسيّة مع عود

ص: 80

المصلحة إلى المكلّف نفسه ، بمعنى كونها ممّا يضاف إليه دون غيره من مقتضيات الاختصاص ، لأنّ معنى الاختصاص كون ما يضاف من الفعل إلى المكلّف ممّا لا يتمشّى بعنوان كونه مطلوبا للآمر وراجحا في نظره إلاّ ممّن توجّه إليه طلبه وأنّ لمباشرته بنفسه مدخليّة في حصول المصلحة الباعثة على حدوث ذلك الطلب ، وأنّها ممّا يعود إليه على جهة الاختصاص ، وقضيّة ذلك كون الواجب عينيّا في محلّ الفرض فلا وقف ولا حاجة إلى إعمال الأصلين.

في حقيقة الوجوب الكفائي

ولكن يدفعه : أنّ غاية ما يلزم من اقتضاء الاضافة للاختصاص - بعد فرض تسليمه في غير باب الألفاظ أيضا - أنّ المصلحة الملحوظة في نظر الآمر لا تتأتّى في الخارج إلاّ بمباشرة المكلّف لأداء الفعل الّذي كلّف به ، وأمّا عودها إليه على الوجه المذكور فلا يظهر من الأمر إذا كان لفظيّا ولا تقتضيه الاضافة الظاهرة في الاختصاص أيضا حتّى في مورد اللفظي ، كيف وأنّ الغالب في العرفيّات عود المصلحة إلى الآمر دون المكلّف كما لا يخفى ، ولا غلبة للعيني في الشرعيّات لتكون منشأ لظهور عودها إلى المكلّف نفسه ، بل قضيّة غلبة الكفائي بحسب الوجود عمّا بين الواجبات الشرعيّة - كما يشهد بها التتبّع وملاحظة كثرة الحرف والصنائع الّتي وجبت كلّ واحدة منها كفاية - عدم عودها إلى المكلّف على جهة الاختصاص إن اعتبرنا تلك الغلبة وإلاّ فوجه حصر المناص في الوقف اجتهادا ظاهر حتّى في مورد الأمر اللفظي لو غضضنا البصر عمّا قرّرناه سابقا من الأصل اللفظي فكيف بالأمر اللبّي الّذي هو بمعزل عن ذلك.

وعلى أيّ حال كان فإذا ثبت وجوب شيء في الشريعة وقام من الخارج ما يقضي بكونه فرض كفاية لا إشكال في وجوب المصير إليه وتعيّن الخروج عن الأصل الّذي قرّرناه ، وإنّما الإشكال في كيفيّة هذا الوجوب وحقيقة محلّه من حيث المكلّف ، فإنّه دائر بين ما عدا الأوّل من الوجوه المتقدّمة من الخمس الباقية ولأجل ذلك اختلف الاصوليّون على أقوال :

منها : أنّه يتعلّق بالجميع ويسقط بفعل البعض ، وهو الّذي عزاه بعض الفضلاء إلى المحقّقين ولم ينقل من أصحابنا خلاف ذلك ، بل وفي كلام بعض الأفاضل أنّه المحكيّ عن أصحابنا ، وفي مناهج النراقي ذهب إليه أكثر الإماميّة.

وعن بعضهم أنّه المشهور وعليه أصحابنا وأكثر العامّة ، وعليه الحاجبي في المختصر

ص: 81

وتبعه شارحه في بيانه ، وصرّح به العلاّمة في التهذيب وتبعه السيّد في المنية. واختاره بعض الأعلام وبعض الأعاظم وبعض الفضلاء وفاقا لأخيه مع تغاير مّا بينه وبين ما ذهبا إليه ، من جهة أنّهما جعلا الوجوب على كلّ واحد على البدل بخلافه على ما يظهر منهم عنوانا ودليلا من حيث كونه وجوبا على كلّ واحد على التعيين ، حتّى أنّ الثاني نزّله إلى ما اختاره على ما في صريح كلامه ، وهو الّذي يقتضيه ظاهر الأوّل حيث إنّه صار إلى مختاره بزعم الموافقة للمحقّقين فيما عزاه اليهم.

ومنها : أنّه يتعلّق بالبعض ممّن قام به الكفاية ، عزاه في المنية إلى قوم وعليه البيضاوي في المنهاج ، ويظهر من شرحه المعراج حيث قرّر مذهب المصنّف ولم ينكر عليه.

وفي كلام بعض الأفاضل : « أنّه محكيّ عن جماعة من العامّة كالرازي والبيضاوي ، وعزى إلى الشافعيّة ولم ينسب ذلك إلى الخاصّة بل أكثر العامّة على خلافه ».

ويظهر عن جمال المحقّقين - فيما حكي عنه من الإيراد على الاحتجاج الآتي للقول الأوّل كما يأتي بيانه - الميل إليه.

ومنها : أنّه يتعلّق بالمجموع من حيث هو لا بكلّ واحد ولا بالبعض. فمع الترك يلزم تأثيم المجموع بالذات وتأثيم كلّ واحد بالعرض ، ومع إتيان البعض به يصدق حصول الفعل من المجموع في الجملة ويسقط الوجوب ، وهذا القول ممّا لم نجد قائلا به بالخصوص غير أنّ نقله في كلام القوم بالغ حدّ التواتر.

وفي كلام بعض الأفاضل عزى إلى قطب الدين الرازي.

ومنها : ما اختاره الفاضل النراقي بعد ما نقله عن بعض الإماميّة من أنّ الكفائي واجب مطلق على البعض الغير المعيّن ومشروط على الكلّ.

وحكاه بعض الأفاضل عن بعض المتأخّرين مستظهرا عن كلامه تفسير البعض الغير المعيّن بالبعض اللابشرط الصادق على كلّ بعض من جهة انطباقه على البعض اللابشرط.

والظاهر أنّ مراد هذا القائل من دعوى الوجوب المشروط بالقياس إلى الكلّ كونه مشروطا بعدم إقدام من يكون من المعيّنين مصداقا للبعض اللابشرط الّذي يكون الوجوب بالنسبة إليه مطلقا.

ويؤيّده ما حكي عن بعض آخر من المتأخّرين أيضا من أنّ كلّ واجب كفائي يستلزم واجبا عينيّا مشروطا يدلّ عليه الأمر بالكفائي التزاما فهو واجب على كلّ واحد بشرط

ص: 82

عدم قيام غيره بأدائه وهو مع ذلك واجب مطلق على بعض غير معيّن ، فإذا لم يقم أحد منهم عوقب الكلّ بالترك لا لأجل تركهم الكفائي بل لتركهم الواجب المشروط مع تحقّق الشرط ، ومع قيام البعض لا يعاقب الباقون لعدم تحقّق شرط الوجوب.

وإنّما جعلناه مؤيّدا لإمكان الفرق بينهما بكون الأوّل ناظرا إلى الجمع بين القولين بزعم أنّ الكفائي في كلّ خطاب يرد على هذين الوجهين ويفيد الخطاب مفاد القولين معا لا هذا وحده ولا ذاك وحده غير أنّه بالنسبة إلى القول الأوّل مشروط وبالنظر إلى الثاني مطلق ، والكلّ من قسم الكفائي المغاير للعيني لمكان الفرق بينهما بكون العيني ما يتعلّق بالكلّ أو بالبعض المعيّن مطلقا أو مشروطا ولا يسقط بفعل البعض فيما إذا تعلّق بالكلّ والكفائي ما يتعلّق بالكلّ مشروطا وبالبعض الغير المعيّن مطلقا ، والأوّل يسقط بحصول امتثال الثاني لاستلزام عدم اتّفاق تحقّق شرط الوجوب ، بخلاف الثاني المحتمل لكونه مصيرا إلى كون مفاد كلّ خطاب كفائي وجوبا كفائيّا مطلقا متعلّقا بالبعض الغير المعيّن وهو مدلوله المطابقي ووجوبا عينيّا مشروطا متعلّقا بالكلّ وهو مدلول له بالالتزام.

ولا ريب أنّه مبنيّ على إناطة الفرق بين العيني والكفائي بمجرّد كون الأوّل متعلّقا بالكلّ أو بالبعض المعيّن مطلقا كان أو مشروطا ، وكون الثاني متعلّقا بالبعض الغير المعيّن فيكون راجعا إلى اختيار القول الثاني في الجملة لابتنائه على توهّم هذا الفرق لا على ما عليه المشهور من أنّ الفرق بينهما في السقوط بالبعض الغير المعيّن وعدمه.

وممّا يشهد به ما في معراج الوصول في شرح منهاج الاصول من أنّه عند بيان مذهب البيضاوي الّذي هو من أصحاب القول الثاني جعل الفرق بين النوعين منوطا بما ذكر لا بما عليه المشهور ، فقال : « انّ الوجوب إمّا أن يكون متناولا لجميع المكلّفين كالصوم والصلاة أو متناولا للبعض المعيّن كالتهجّد ويسمّى فرض العين ، أو متناولا لبعض غير معيّن كالجهاد ويسمّى فرض كفاية » إلى آخره.

ثمّ إنّك بالتأمّل في مطاوي كلماتهم وتضاعيف عباراتهم في تحرير الأقوال المذكورة وتقرير أدلّتها مع ما ذكروه من النقوض والابرامات والتنظيرات تعرف أنّ الاختلاف بينها معنويّ وليس النزاع لفظيّا بزعم رجوع تلك الأقوال إلى معنى واحد ، وهو كون الوجوب على الجميع على وجه يقتضي أداء الواجب بفعل البعض الّذي يعبّر عنه بوجوبه على الكلّ على سبيل البدليّة الموجب لكون سقوطه عن الباقين من جهة أداء الواجب لا لعروض مسقط له.

ص: 83

فما في كلام بعض الأفاضل من احتمال كون مرجع الأقوال إلى شيء واحد فيعود الخلاف بينها لفظيّا ليس على ما ينبغي ، كيف وأنّ استدلال القائلين بتعلّق الوجوب بالبعض على إبطال مذهب المشهور بأنّ الواجب الكفائي يسقط بفعل البعض فلو كان واجبا على الجميع لما كان كذلك ، لأنّ ما وجب على المكلّف يستبعد أن يسقط عنه بفعل غيره ، مع ما أجاب به عنه ابن الحاجب وغيره من أنّ ما ذكرتم استبعاد وهو لا يقتضي الامتناع ممّا ينادي بالمغايرة بينهما بحسب المعنى.

ثمّ إنّ الحقّ في المسألة ما عليه المشهور من وجوبه على الكلّ وسقوطه بفعل البعض إذا كان على قدر الكفاية.

وقبل الخوض في الاستدلال ينبغي التنبيه على دقيقة يترتّب عليها فوائد مهمّة.

وهي : إنّا وإن وافقنا المشهور في أصل المذهب غير أنّه خالفناهم فيما يفرّق به بين العيني والكفائي ، فإنّهم جعلوا ملاك الفرق بينهما بسقوط الفرض بفعل البعض وعدمه ، ونحن جعلناه بإضافة مصلحة الواجب إلى المكلّف نفسه وعودها إليه على جهة الاختصاص وإضافتها إلى ما يتساوى نسبته إلى الجميع على الوجه الّذي قرّرناه.

والفرق بين الطريقين : أنّ الأوّل يقضي بكون ما يقابل الكفائي من العيني هو العيني التعبّدي خاصّة الّذي لا يسقط بفعل غير المكلّف.

والثاني يقضي بكونه أعمّ من العيني التعبّدي والعيني التوصّلي ، وبذلك ينقدح فساد الطريق الأوّل ، فإنّ سقوط الفرض عن المكلّف بغير فعله ليس من خصائص الكفائي بما هو كفائي لاشتراك العيني التوصّلي معه في ذلك ، ولذا أشرنا في ذيل تحديد الكفائي - بما تقدّم - إلى أنّ كلّ كفائيّ توصّليّ من هذه الجهة.

وقضيّة عدم الفرق بين التوصّلي والكفائي من تلك الجهة كون الأصل في الواجب [ عدم ](1) كونه توصّليا كما أنّ الأصل فيه كونه عينيّا ، فإنّ مخالفة الكفائي للأصل إنّما هي لأجل تلك الجهة وهي مشتركة بينه وبين التوصّلي من العيني ، فيكون التوصّلي من العيني أيضا على خلاف الأصل بالتقريب الّذي قرّرناه طابق النعل بالنعل ، فحينئذ يشكل الحال من جهة منافاة ذلك الأصل لما قرّرناه - في مباحث الجزء الثاني من الكتاب - من أنّ

ص: 84


1- زيادة يقتضيها السياق.

الأصل في الواجب كونه توصّليا وأنّ التعبّدي منه على خلاف الأصل بالوجه المقرّر ثمّة ، ولكن يندفع الإشكال باختلاف الجهة في جريان هذين الأصلين اختلافا رافعا للمنافاة ، فإنّ التعبّدي والتوصّلي يمتازان من جهتين :

إحداهما : أنّ التعبّدي منوط صحّته بقصد الامتثال والإتيان به على وجه القربة ، لكونه ما أمر به لأجل التقرّب والزلفى بخلاف التوصّلي بما هو توصّلي ، لكونه ما أمر به لأجل حصوله في الخارج على أيّ نحو اتّفق.

واخراهما : كون التوصّلي ما أمر به لغرض يحصل بفعل الغير أيضا بخلاف التعبّدي ، فإنّ الغرض المطلوب منه إمّا يعلم بأنّه لا يحصل بفعل الغير أو لا يعلم بأنّه هل يحصل ذلك الغرض بفعل الغير أو لا يحصل؟

ومن البيّن أنّ عدم العلم بالحصول كاف في الحكم بعدم الحصول أخذا بظاهر الأمر المقتضي للمباشرة النفسيّة ولزوم حصولها من المكلّف نفسه ، فسقوط تلك المباشرة اللازمة بفعل الغير يحتاج إلى دليل منفصل دلّ على أنّ المطلوب من هذا الأمر غرض يحصل بفعل المكلّف نفسه وبفعل غيره مكلّفا كان - كما في الكفائي - أو غيره كما في التوصّلي من العيني كالطهارة من الخبث.

فإذا دار الأمر بين التعبّدي والتوصّلي من الجهة الاولى كان الأصل هو التوصّلي ، لأنّ مرجعه إلى الدوران بين كون الأمر واردا على الشيء بشرط شيء أو واردا عليه لا بشرط شيء.

وظاهر أنّ اللابشرط من مقتضى الأصل لفظا واعتبارا اجتهادا وعملا بخلاف بشرط شيء.

وإذا دار الأمر بينهما من الجهة الثانية كان الأصل هو التعبّدي بتقريب ما تقدّم ، فهذا الأصل على النحو المقرّر ليس من خصائص الكفائي كما يوهمه كلامنا المتقدّم لجريانه فيه وفي التوصّلي من العيني على نهج سواء.

وإن شئت تقريره على وجه عامّ فافرض موضوعه الواجب التوصّلي فإنّه يعمّ من الجهة الّتي ينوط بها الأصل المذكور له وللكفائي أيضا كما تبيّن.

وبقي الكلام في هذا المقام في بيان منشأ ذلك الأصل ومدركه ، وقد أشرنا إجمالا إلى أنّ مبناه على دعوى الظهور العرفي القائم باللفظ كائنا ما كان ، وواضح أنّ الظهورات العرفيّة لا بدّ وأن تستند إلى دلالة اللفظ على اختلاف أنواعها من أوليّة أو ثانويّة أو ثالثيّة ، ولا بأس

ص: 85

بأن نشير إلى قاعدة يتبيّن بها لمّ هذه الدلالة المفيدة للأصل المذكور وكيفيّتها والسرّ فيها ، لتجدي في إلزام من رام المخاصمة في منع ذلك الأصل وكابر في دعوى عدم ثبوته.

فنقول : انّ الأمر صيغة ومادّة حسبما يساعد عليه المتفاهم العرفي له ظهور في الطلب الإلزامي مستندا إلى دلالة الأوليّة المستندة إلى الوضع ، وظهور في حدث مّا وفاعل مّا مستندا إلى دلالته الثانويّة ، وظهور في مباشرة ذلك الفاعل لذلك الحدث مستندا إلى دلالته الثالثيّة على حدّ صيغ سائر الأفعال المفيدة بظاهرها للمباشرة.

والمراد بالدلالة الأوليّة : كون المدلول مدلولا مطابقيّا كالطلب الإلزامي المستفاد من الصيغة أو المادّة وضعا كما قرّرناه في محلّه.

وبالدلالة الثانويّة كونه مدلولا له بالالتزام البيّن بالمعنى الأخصّ كالحدث والفاعل اللذين هما في مدلول الأمر ليسا بداخلين في وضعه لعدم ثبوت الوضع في لحاظ الواضع إلاّ لمجرّد الطلب ، وإنّما يستفادان منه بعد استفادة الطلب من جهة اقتضاء الأمر النسبي للطرفين المطلوب والمطلوب منه ، فالطلب في وضع الأمر له مقيّد بهما على نحو دخول التقييد وخروج القيد كما في « العمى » لعدم البصر ، ولذا يلزم من تصوّره تصوّرهما على نحو الترتّب في الانتقال غير أنّهما في لزومهما للطلب ليسا إلاّ مفهومين مبهمين لا بيان فيهما في حدّ أنفسهما وإنّما يبيّنهما أمر خارج عمّا وضع للطلب ، فالخصوصيّة في كلّ من الحدث والفاعل تستفاد عمّا اعتبره المتكلّم مطلوبا ومطلوبا منه لا عمّا هو داخل في مدلول الأمر بما هو أمر ، وهو الصيغة في الأمر بالصيغة ومادّة « أم ر » في الأمر بالمادّة.

ومن هنا يتبيّن أنّ الطلب في مدلول الصيغة بل المادّة نسبة قائمة بنفس الأمر متضمّنة للنسبة الفاعليّة ، فصيغة الأمر تشارك صيغ سائر الأفعال في دلالتها على النسبة الفاعليّة وتفارقها في اقتران تلك النسبة للنسبة الطلبيّة وكونها مقيّدة بها ، وإلى ذلك ينزّل مقالتهم المعروفة في الفرق بين النسب الخبريّة والنسب الانشائيّة من أنّ الاولى ما كانت ثابتة بين طرفيها مع قطع النظر عمّا يفيدها من الألفاظ بخلاف الثانية فإنّها لا توجد إلاّ بإيجاد اللفظ.

ومحصّل ذلك : أنّ النسبة الخبريّة نسبة ترد مطلقة وتنوط بالواقع ونفس الأمر ولم يؤخذ معها قيد ولا تقييد بغير منتسبيها ، بل هو في الحقيقة تقيّد لا أنّه تقييد ، والنسبة الانشائيّة نسبة مقيّدة بما لا وجود له إلاّ بإيجاد اللفظ وهو الطلب ، فتوقّف النسبة الإنشائيّة على اللفظ إنّما هو من جهة توقّف قيدها عليه ، وبذلك يستقيم حدّ الخبر بكلام لنسبته

ص: 86

خارج تطابقه أو لا تطابقه ، ولا ينتقض بالإنشاء - كما سبق إلى بعض الأوهام - فإنّ العبرة في الإنشاء بما هو إنشاء إنّما هي بالنسبة المقيّدة ، وهي أن لا تحقّق له في لحاظ الخارج حتّى يعتبر المطابقة واللامطابقة بينه وبين ما هو في لحاظ اللفظ ، بل إنّما يتحقّق حين التلفّظ وكما أنّ التلفّظ لا خارج له أصلا بالمعنى الّذي هو في الخبر فكذلك ما يتحقّق حينه.

نعم ربّما يمكن اعتبار المطابقة واللامطابقة في الإنشاء بالقياس إلى النسبة الفاعليّة إذا لو حظت معرّاة عن القيد المذكور ، نظرا إلى أنّ المخاطب قد يمتثل فيصدر عنه الفعل وقد لا يمتثل ولا يصدر عنه الفعل ، فيكون قولك : « قم » بهذا الاعتبار نظير قولك : « ستقوم » في احتمالي المطابقة واللامطابقة ، غير أنّ هذا الاعتبار بمراحل عن مدلول الإنشاء بما هو مأخوذ في وضع الصيغة وما يؤدّي مؤدّاها.

وقد يذكر في دفع الإشكال ما لا يكاد يستقيم كما لا يخفى على المتأمّل وهو الّذي أشرنا إليه في مباحث الصيغة.

فما في كلام جماعة من الأعلام من أنّ لصيغة « افعل » نسبتين طلبيّة وفاعليّة إن كان ناظرا إلى ما قرّرناه فمرحبا بالوفاق ، وإلاّ ففي حيّز المنع بعدم كونه ممّا يساعد عليه الفهم والاعتبار.

وبما ذكر تقرّر أنّ دلالة صيغة « افعل » على النسبة الفاعليّة تضمّنيّة كدلالتها على النسبة الطلبيّة ، ولا ينافيه ما تقدّم من أنّ الطلب الإلزامي مدلول لها مطابقة بالوضع ، إذ ليس المراد به الطلب من حيث إضافته إلى المتكلّم فقط بل الطلب من هذه الحيثيّة ومن حيث تضمّنه للنسبة الفاعليّة فيكون كلّ جزء للموضوع له ، وإلى ذلك ينزّل ما حقّقناه في بحث الصيغة من أنّها حقيقة في الإيجاب.

ويبقى الكلام في شيء آخر لا يخلو عن إشكال وهو أنّه هل العبرة في الإنشاء والإخبار بالقياس إلى الأفعال بالمعنى الإفرادي الّذي يستفاد من الصيغة وحدها ، أو بالمعنى التركيبي المستفاد من انضمام الفعل إلى ما اعتبر كونه فاعلا له بالخصوص؟ وأمّا غيرها كالجمل الاسميّة فلا إشكال في أنّ العبرة فيهما بالقياس إليه بالمعنى التركيبي ، فقضيّة ما اتّفق عليه [ علماء ] العربيّة والاصوليّة من أخذ الكلام جنسا في حدّيهما هو الثاني ، كما أنّ قضيّة ما يذكره [ علماء ] العربيّة من كون الفعل للنسبة والزمان والفاعل هو الأوّل ، وهو الّذي يساعد عليه أيضا قول الاصوليّة من أنّ صيغة « افعل » لها نسبتين طلبيّة

ص: 87

وفاعليّة ، ومن أنّها موضوعة للطلب مطلقا أو إذا كان حتميّا ونحوه وهو كما ترى تهافت بين كلماتهم.

ويمكن الجمع بأنّ العبرة فيهما بالنسبة التامّة الّتي يصحّ السكوت فيها ، وهي منوطة باعتبار التركيب بين الفعل وفاعله ، لا لأنّ المجموع المركّب موضوع بالنوع للنسبة التامّة كما توهّم ، بل لأنّ المأخوذ في مدلول الفعل وضعا نسبة إجماليّة من جهة إبهام متعلّقها وهو المنسوب إليه المدلول عليه بالفعل التزاما ، فيفتقر حصول الفائدة التامّة إلى انضمام ما يبيّنه وهو الّذي اعتبر كونه فاعلا بالخصوص ليصير النسبة المذكورة تفصيليّة ، فمرادهم بالنسبة في حدّي الخبر والإنشاء هي النسبة التفصيليّة كما أنّ المأخوذ في مدلول الفعل باعتبار الصيغة هو النسبة الإجماليّة ، فإن اعتبرنا المعنى الإنشائي أو الإخباري نسبة إجماليّة كان العبرة فيه بالمعنى الإفرادي وإن اعتبرناه نسبة تفصيليّة كان العبرة فيه بالمعنى التركيبي فارتفع التهافت عمّا بين الكلمات المذكورة.

وبالدلالة الثالثيّة : كونه مدلولا بالالتزام الغير البيّن بالمعنى الأخصّ كلزوم المباشرة النفسيّة الّذي يحصل الانتقال إليه بعد تصوّره وتصوّر توجّه الخطاب إلى ما اعتبر كونه فاعلا وتعلّق الطلب به وتصوّر النسبة بينهما ، نظرا إلى أنّ الإلزام على الفعل لا معنى له إلاّ الإلزام على إيجاده وهو لا يحصل إلاّ بالمباشرة فتكون لازمة.

وقضيّة ذلك أن لا يسقط الطلب بعد تعلّقه به إلاّ إذا حصلت المباشرة منه بنفسه ، فلو اتّفق في موضع أنّه سقط بغير مباشرته كان لدليل دلّ على كون [ فعل ](1) الغير موجبا للسقوط ، وأمّا الدلالة على رجحان الفعل واشتماله على المصلحة الملزمة واشتراط القدرة عليه أو غيرها من الشرائط العامّة فليست لفظيّة بل هي عقليّة تحصل بضمّ مقدّمة خارجيّة إلى ما دلّ عليه اللفظ من قبح الترجيح بغير مرجّح ، وامتناع التكليف بما لا يطاق ونحوه ، فيكون هذه الامور من لوازم المأمور به باللزوم الغير البيّن بالمعنى الأعمّ ، فلو قام من الخارج ما دلّ على سقوط الفعل بغير مباشرته كان الواجب توصّليا ، كما أنّه لو قام مع ذلك ما قضى بكون الغرض من إيجابه ما يتساوى نسبته إلى المكلّف ومكلّف آخر غيره كان كفائيّا ، فينبغي أن ينظر حينئذ إلى أصل آخر يقتضي تعلّقه بالجميع مع سقوطه بفعل البعض أو تعلّقه بالبعض الغير المعيّن أو بالمجموع من حيث هو.

ص: 88


1- أضفناه لاستقامة العبارة.

وظاهر أنّ الّذي يليق بذلك النظر إنّما هو ما لو علّق الحكم بظاهره على صيغة الجمع ، كما لو قال : « إفعلوا » أو « أمرتكم » أو « يجب عليكم » وأمّا لو علّق بظاهره على أمر مبهم كما لو قال : « ليفعل بعضكم أو طائفة منكم » فلا يبعد الالتزام بتعلّقه في الواقع بذلك الأمر المبهم ، غير أنّه قليل الوجود في الخطابات الشرعيّة وإنّما الّذي يكثر وقوعه فيها هو الوجه الأوّل ، فعليه نقول قد سبق منّا الإشارة إجمالا إلى ما يقتضي تعلّقه بالجميع.

وتفصيله هنا : أنّ ما ذكرناه من الوجوه على حسب الأقوال المتقدّمة لا يختلف الحال فيها بالقياس إلى ما قرّرناه من المعيار في الكفائي من تساوي مصلحة الإيجاب إلى الجميع ، فإنّ غاية ما يقتضيه ذلك إنّما هو عدم التعلّق بالبعض المعيّن لأدّائه إلى الترجيح بلا مرجّح ، وهذا المحذور كما ترى يندفع بكلّ من الوجوه المذكورة ، وإنّما يختلف الحال فيها بالقياس إلى التعليق على صيغة الجمع ، فإنّ ظاهر الجمع يقتضي التعلّق بكلّ واحد بعينه لأنّه باعتبار الوضع اللغوي عبارة عن الآحاد المجتمعة ومعلوم أنّ العبرة في آحاد الجمع باعتبار التعيين والإبهام إنّما هو بحال مفرده الّذي يدلّ على واحد من تلك الآحاد وضعا ، فإن كان المفرد باعتبار وضعه لشيء بعينه - كالمعارف - كان جمعه للآحاد المجتمعة على هذا الطريق ، وإن كان لشيء لا بعينه - كالمنكرات - كان جمعه للآحاد المجتمعة على هذا النهج ، وكما أنّ المفرد إذا كان لشيء بعينه وتعلّق به الحكم في ظاهر الخطاب كان الظاهر مقتضيا لتعلّقه به بعينه فتكون إرادة غير ذلك منه مستلزمة لتطرّق التجوّز إليه ، فكذلك الجمع إذا كان لأشياء بأعيانها ، وتعلّق الحكم به في ظاهر الخطاب فيكون الظاهر مقتضيا لتعلّقه بهذا وهذا وهذا بأعيانها ، وظاهر أنّ هذا المعنى يخالف تعلّقه ببعض منها لا بعينه ، أو بالمجموع منها من حيث المجموع بحيث كان المجموع موردا للحكم لا هذا بعينه وهذا بعينه ، فكان المتعيّن حينئذ هو الوجه الأوّل أخذا بحقيقة اللفظ وظاهره وحذرا عن التجوّز الّذي لا داعي إليه من العقل والنقل ، مضافا إلى ما نجد من بناء المسلمين قاطبة في جميع الأعصار وعملهم كافّة في كلّ الأعصار على الإتيان بالواجب مع الاجتماع ومع الانفراد مع كون كلّ واحد على تقدير الاجتماع ناويا لوجوبه عليه بالخصوص كما في صلاة الأموات ونحوها ، فلولا تعلّقه بكلّ واحد كان ذلك منهم على تقدير الاجتماع تشريعا محرّما وهو خلاف البديهة من بنائهم ومذهبهم.

وإلى أنّ إيجابه على الجميع ممّا يقتضيه العدل والحكمة ، لأنّ الإيجاب على البعض

ص: 89

يوجب الترجيح الممتنع إن كان مع التعيين وربّما يفضي إلى فوات الغرض وعدم إتمام الحجّة إن كان مع الإبهام ، نظرا إلى أنّ فعل الواجب أمر يثقل الإقدام عليه في أكثر النفوس ، وإذا علموا أنّ الوجوب على البعض فكثيرا مّا يتعاقدون عنه على وجه يردّه كلّ إلى صاحبه فيختلّ به أمره ولا يحصل الغرض المطلوب من إيجابه ، والمجموع من حيث هو أمر اعتباري لا وجود له في الخارج فالإيجاب عليه ربّما ينافي الحكمة في نظر العقل كما لا يخفى على المتأمّل ، وهذه الوجوه كما ترى وإن لم يطّرد بعضها بحيث يشمل كلاّ ممّا ثبت وجوبه باللفظ أو باللبّ ، غير أنّ الباقي مطّرد فثبت تعلّق الوجوب بالجميع ، ولا ينافيه سقوطه بفعل البعض عن الباقين ، لأنّه خلاف ظاهر أوجبه الدليل في الكفائي فلابدّ من المصير إليه.

ثمّ إنّ هذا السقوط هل هو من جهة أداء الواجب أو لعروض مسقط؟ فإنّ سقوط الوجوب عن المكلّف بعد تعلّقه به قد ينشأ عن حصول الفعل المأمور به في الخارج - وإن كان إطلاق السقوط عليه حينئذ لا يخلو عن مسامحة من جهة ابتناء صدقه حقيقة على الارتفاع لعارض خارجي مع قابليّته للبقاء لولا ذلك المعارض ، ولا ريب أنّ حصول المتعلّق في الخارج رافع للقابليّة - وقد ينشأ عن حصول مصلحة الإيجاب أو ارتفاع الموضوع بطروّ ما يرفعه ممّا هو خارج عن اختيار المكلّف وقدرته كنزول المطر أو ورود السيل الرافعين للنجاسة عن المحلّ ، ومثله وصول حقّ الغير إليه بأداء المتبرّع ، ومثله أيضا إبراء الغريم ، واحتمل الأوّل بعض الأفاضل في كلام الجماعة واختاره أيضا ومنه نشأ ما عرفت منه من إرجاع الأقوال إلى معنى واحد ، ولكن ظاهرهم عنوانا ودليلا - كما يشهد به التتبّع - يقتضي خلاف ذلك.

وكيف كان فالوجهان مبنيّان على التحقيق في شيء آخر وهو النظر في أنّ مفاد الخطاب على الكفاية هل هو تعلّق الوجوب بالجميع على طريق العينيّة على حدّ الخطاب في الواجبات العينيّة ثمّ سقوطه بفعل البعض ، فيكون السقوط حينئذ من جهة حصول المصلحة ، بل حينئذ ارتفاع في بعض الفروض بالنسبة إلى الباقين كما يظهر من الجماعة ، أو تعلّقه بالجميع على طريق البدليّة على حدّ الخطاب في الواجبات التخييريّة بالقياس إلى الأفعال المخيّر فيها ، فيكون السقوط حينئذ من جهة أداء الواجب المردّد بين الباقين ومن قام بأدائه كما رجّحه الفاضل المذكور وتبعه بعض الفضلاء؟

فيه وجهان من قضاء الوجدان بأنّ المبغوض في نظر الآمر والمبغوض عنده في كلّ

ص: 90

فرض كفائي إنّما هو ترك الجميع لا ترك البعض مع قيام بعض آخر بالفعل ، فلو لا تعلّقه بهم على طريقة البدليّة القاضية بارتفاع المنع بفعل أيّ بعض كان لما كان كذلك كما في الواجبات العينيّة ، ومن قيام الإجماع على تأثيم الكلّ - كما استفاض نقله من العامّة والخاصّة ، بل هو متواتر حقيقة - فلولا تعلّقه بهم على طريق العينيّة لما كان لتوجّه التأثيم اليهم على طريق العينيّة وجه.

ويمكن دفعه : بأنّ استحقاق التأثيم إنّما يستند إلى صدق المخالفة وتحقّق العصيان من الكلّ ، وهو على تقدير ترك الجميع مع بدليّة الوجوب فيما بينهم متساوي الصدق على الجميع كما لا يخفى ، فلا منافاة بين تأثيم الجميع وتعلّق الوجوب بهم على طريق البدليّة.

وقضيّة ذلك تعيّن الوجه الثاني المستلزم لكون السقوط عن الباقين من جهة أداء الواجب ، ولكن ما ذكرناه من ظاهر اللفظ وبناء المسلمين قاطبة يكشف عن خلاف ذلك ، إذ قضيّة البدليّة وحدة التكليف مع إسقاط جهة التعيين عن الآحاد المجتمعة المدلول عليها بصيغة الجمع ، فيكون الأداء بنيّة الوجوب من كلّ واحد تشريعا وهو بديهيّ الفساد ، فالمتعيّن حينئذ هو الوجه الأوّل فيفسد به ما توهّمه الفاضلان المذكوران.

ويظهر فائدة الفرق بين الوجهين فيما ذكر من التشريع في صورة الاجتماع بنيّة الفرض ، وفيما لو علّق الظهار على فعل ما وجب عليه بالخصوص ، وفي انعقاد النذر الموجب للزوم الحنث لو تعلّق بأداء صلاة الميّت ونحوها حال عدم قيام غيره بأدائها ، نظرا إلى أنّه يقتضي محلاّ قابلا ولا يكون إلاّ إذا لم يتعلّق بفعله بالخصوص وجوب ، لأنّ سبق تعلّقه به على النذر مانع عن انعقاده من جهة امتناع تعلّق الوجوبين بفعل واحد ، وهو على تقدير كون الوجوب على طريق البدليّة قابل له ، إذ لم يتعلّق به بالخصوص حينئذ وجوب وإنّما تعلّق بما كان صدقه عليه على نحو البدليّة ، وكونه موجبا للامتثال من جهة [ أنّه أحد الأبدال لا من جهة ](1) أنّه واجب بالخصوص ، فيكون بالقياس إلى متعلّق [ .... ](2) بينهما ، كما لو نذر إيقاع صلاة الظهر في المسجد ، بخلافه على تقدير عينيّة الوجوب لسبق تعلّق الوجوب بفعله حينئذ بالخصوص على النذر فلا يقع النذر مؤثّرا ، كما لو نذر الإتيان بصلاة الظهر مثلا.

وممّا ذكر تبيّن ظهور الفائدة أيضا في جواز أخذ الاجرة على صلاة الميّت ونحوها

ص: 91


1- هكذا يقرأ ما في نسخة الأصل.
2- ساقط عن نسخة الأصل.

وعدمه ، فعلى بدليّة الوجوب يجوز ذلك لأنّه لا يأخذها على مورد الوجوب وهو الكلّي البدلي بل يأخذها على فرد منه وهو فعله الخاصّ بوصف كونه فعله بخلافه على عينيّة الوجوب.

ثمّ اعلم أنّ ما ذكرناه من أولويّة أوّل الوجوه المذكورة إنّما هو مبنيّ على الترجيح ، وإلاّ فالأمر في الحقيقة دائر بين طرح ظاهر الأمر وهو عدم سقوط لزوم المباشرة من المكلّف بفعل غيره وطرح ظاهر الجمع وهو تعلّق الحكم بكلّ واحد من آحاد مدلوله على سبيل التعيين إن قسنا الوجه الأوّل في مقابلة الوجه الثاني ، وإن قسناه في مقابلة الوجه الثالث فالأمر يدور بين طرح ظاهر وطرح ظاهرين.

أمّا الأوّل : فلأنّه على تقدير تعلّق الحكم بالبعض الغير المعيّن لا يلزم بالنسبة إلى الأمر مخالفة ظاهر كما لا يخفى ، بل هو مخالفة لظاهر الجمع بخلافه على تقدير تعلّقه بكلّ واحد على جهة التعيين مع سقوطه بفعل البعض عن الباقين ، فإنّه ارتكاب بخلاف ظاهر الأمر ، غير أنّ ذلك أولى من مخالفة ظاهر الجمع لكون الجمع أظهر في مدلوله من الأمر في مدلوله المذكور ، لكون الأوّل مدلولا مطابقيّا والثاني مدلولا التزاميّا ، ولا ريب أنّ دلالة المطابقة أقوى بمراتب من دلالة الالتزام ، ولا سيّما الالتزام الغير البيّن.

وأمّا الثاني : فلأنّ الحمل على الوجه الثالث يستلزم طرح ظاهر الجمع وطرح ظاهر الأمر.

أمّا الأوّل : فواضح.

وأمّا الثاني : فلأنّ مبنى هذا القول على سقوط الأمر بفعل البعض عمّا تعلّق به في الواقع من المفهوم الاعتباري ، ضرورة أنّ ما يصدر عن البعض ليس بصادر عن المجموع من حيث هو حقيقة ، وصدق إسناده إليه لو سلّمناه مجازيّ نظير ما في قولك : « قتل بنو فلان زيدا » وقد قتله واحد منهم ، بخلاف ما لو حملناه على الوجه الأوّل فإنّه لا يستلزم إلاّ طرح ظاهر الأمر فكان أولى بالضرورة.

هذا كلّه على حسبما تفرّدنا في تقرير الدليل على مذهب المشهور ولم نر أحدا تعرّض لذكر شيء ممّا ذكر ، بل المشهور من حجّتهم أنّه لو لم يكن على جميع المكلّفين لما أثم الجميع ، والتالي باطل بالإجماع فيلزم بطلان المقدّم.

بيان الملازمة : أنّه يمتنع مؤاخذة الإنسان بترك ما لا يجب عليه.

وفيه : ما لا يخفى من أنّه إنّما يستقيم إذا كان المراد بالبعض عند القائل بالوجوب عليه

ص: 92

ما يكون مبهما في الظاهر دون الواقع ، [ أو ما يكون ملحوظا بشرط ](1) الإبهام في الظاهر والواقع نظرا إلى عدم صدقه حينئذ الكلّ (2).

به ما لم يعتبر فيه تعيينه الذاتي لا في الظاهر ولا في الواقع المعبّر عنه بالبعض اللابشرط الصادق على كلّ معيّن صدقا بدليّا فلا ، ضرورة أنّ استحقاق الاثم يناط بالعصيان وهو حاصل من الكلّ على تقدير ترك الجميع ، لكون كلّ واحد ممّا صدق عليه البعض اللابشرط ، فتكون قضيّة العصيان صادقة على كلّ صدقها على صاحبه ، وإلى ذلك ينظر ما قيل في الإيراد عليه من أنّه لا ملازمة بين تأثيم الكلّ واستحقاقهم العقوبة وبين الوجوب على الكلّ ، إذ يمكن القول بوجوبه على مطلق البعض وتأثيم الكلّ.

ألا ترى أنّه يصحّ أن يقول المولى لعبيده : « ليأت أحدكم بهذا الفعل في هذا العام البتّة ولو تركتموه أجمع لأعاقبكم جميعا على ترك مطلوبي » ويحكم العقلاء حينئذ بتأثيم الجميع واستحقاقهم للعقوبة مع إيجابه على أحدهم.

وأمّا ما يقال في ردّه : من أنّه إن اريد بوجوبه على مطلق البعض كون المكلّف هو البعض في الجملة من غير أن يتعلّق الوجوب بكلّ منهم ، فقضاء ذلك بتأثيم الكلّ غير معقول بل قضيّة ذلك تأثيم المكلّف الّذي هو البعض ، وإن اريد به وجوبه على كلّ واحد من جهة كونه بعضا منهم فهو غير القول بوجوبه على الكلّ ، فليس في محلّه بعد ما كان المراد بمطلق البعض البعض اللابشرط الموجب لتحقّق العصيان من الجميع بتركهم أجمع.

فإن قلت : فرض الوجوب على البعض على هذا الوجه يستلزم الوجوب على كلّ واحد على طريق البدلية لصدق البعض بهذا المعنى على كلّ واحد كذلك فلا يغاير القول بوجوبه على البعض حينئذ القول بوجوبه على الكلّ.

قلت : إن اريد به كون الوجوب ثابتا على هذا الوجه على كلّ واحد بالأصالة بدعوى أنّ البعض المطلق ليس ملحوظا في المقام إلاّ عنوانا لملاحظة الخصوصيات على هذا الوجه فهو ليس بلازم لهذا القول ضرورة أنّ مراد قائله بالبعض ما يكون ملحوظا بالأصالة لإثبات الحكم له أوّلا وبالذات من دون نظر إلى الخصوصيات.

وإن اريد به لزوم ثبوته لكلّ واحد بالعرض مع تسليم ثبوته أصالة للبعض نظير وجوب

ص: 93


1- ومن المؤسف عليه وقوع سقط هنا من نسخة الأصل ونحن مع شدّة فحصنا عنها لم نعثر عليها.
2- هكذا يقرأ ما في نسخة الأصل.

لوازم الواجب فهو غير قادح نظرا إلى أنّ النزاع فيما يثبت له الوجوب الأصلي دون العرضي.

هذا ولكنّ الإنصاف أنّ المنع عن لزوم ثبوت الوجوب على كلّ واحد بالأصالة على تقدير تعلقه بالبعض اللابشرط لا يخلو عن مكابرة كيف وإنّ البعض اللابشرط ممّا لا محصل له ذهنا ولا خارجا سوى الخصوصيّات الّتي اعتبرت بينها في لحاظ الأمر.

ومن البيّن أنّها إذا لوحظت على هذا الوجه يعبّر عنها بالبعض المطلق اللابشرط في مقابلة البعض بشرط التعيين والبعض بشرط الإبهام.

وقضيّة ذلك كون الوجوب الثابت لعنوان البعض المطلق ثابتا لعنوان كلّ واحد على سبيل البدليّة بحسب الحقيقة غير أنّه لا يجدي نفعا في دفع الإيراد بعد ملاحظة ما سبق تحقيقه من أنّ مقصود القائلين بكون الوجوب على الجميع تعلّقه بهم على سبيل العينية المستلزمة لتعدّد الطلبات والتكاليف على حسب تعدّد المكلفين المندرجين في الخطاب لا على سبيل البدليّة.

وما ذكر في الاحتجاج غير قاض به لعدم منافاة تأثيم الكلّ للوجوب عليهم على سبيل البدليّة أو للوجوب على البعض له المطلق منهم كما لا يخفى.

وإليه ينظر أيضا ما عن جمال المحقّقين في حاشيته على العضدي « من منع التنافي بين تعلق الوجوب بالبعض المبهم وتعلّق الاثم بالجميع بل لا مانع منه وكون ذلك غير ممنوع.

فالظاهر كما تشهد به الملاحظة الصحيحة تعلّق الوجوب على البعض المبهم والغرض صدور الفعل من البعض أيّ بعض كان لكن لما لم يمكن تأثيم البعض الغير المعين معقولا تعلّق القصد ثانيا بتأثيم الجميع لو تركوه ولا يمكن إنكار ذلك فضلا عن أن لا يكون معقولا » انتهى.

والعجب عن بعض الأفاضل في فهمه المغايرة بين هذا والإيراد السابق مع أنّ مؤدّاهما واحد.

وأمّا ما في تقرير هذا الإيراد من دعوى كون التعلّق بالبعض المبهم ممّا تشهد به الملاحظة الصحيحة ، ففيه ما فيه ، بل الملاحظة الصحيحة شاهدة بخلافه كما عرفت.

وقد يحكى الاحتجاج على مذهب المشهور أيضا بوجهين آخرين :

أحدهما : أنّه لو وجب على أحدهم فلا تعيّن له عندنا ضرورة فإمّا أن يكون معيّنا في الواقع أو يكون مبهما في الواقع ، ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلوضوح عدم استحقاق شخص للعقوبة من جهة ترك غيره ما وجب عليه ،

ص: 94

بل قضيّة دوران التكليف بين شخصين في غير الكفائي عدم استحقاق شيء منهما للعقوبة على تركه كما في الجنابة الدائرة بين شخصين.

وأمّا الثاني : فلكون الوجوب أمرا خارجيّا لا يمكن تعلّقه خارجا بالمبهم بل لا بدّ له من متعلّق معيّن في الخارج ليصحّ تعلّقه به.

ووهنه واضح للمتأمّل ، فإنّ البعض عند القائل بالوجوب عليه من حيث كونه أمرا منتزعا عن المعنيين وهم آحاد المكلفين له نوع تعيّن ، لوضوح عدم كون مراده به ما يكون مبهما من جميع الجهات بحيث لم يكن له اضافة إلى المكلّفين المعيّنين ، بل المراد به ما يضاف إليهم من حيث كونه فيما بينهم ... توصيفه بالمبهم لكون المراد بالإبهام عدم اعتبار فيه ... على حدّ الخطاب في الواجبات العينيّة ثمّ سقوطه بفعل ... (1) عدم التعيين من هذه الجهة تعيّنه من جهة اضافته إلى المعنيين والوجوب في تعلّقه وإن كان يقتضي محلاّ معيّنا ولكن يكفي فيه هذا النحو من التعيّن ولا يقتضي أزيد من ذلك بالضرورة.

وثانيهما : أنّه يصحّ لكلّ منهم أن ينوي الوجوب بفعله إجماعا ولو كان واجبا على البعض لما صحّ ذلك لكون قصد الوجوب من غير من يجب عليه بدعة محرّمة.

أدلّة القول بتعلّق الوجوب بالبعض في الواجب الكفائي

حجّة القول بتعلّق الوجوب بالبعض وجوه :

الأوّل : أنّ الواجب على الكفاية يسقط عن المكلّفين بفعل البعض ، فلو كان واجبا على الجميع لما كان كذلك ، لأنّ الواجب على المكلّف يستبعد أن يسقط عنه بفعل غيره.

الثاني : أنّه كما يجوز أمر المكلّف بواحد مبهم كخصال الكفّارة ، فكذا يجوز أمر واحد مبهم قياسا عليه ، والجامع تعدّد متعلّق الوجوب مع سقوط الوجوب بفعل البعض.

الثالث : قوله تعالى : ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ) (2) فإنّ طلب الفقه من فرض الكفاية ، والآية أوجبت على كلّ فرقة أن ينفر منهم طائفة وتلك غير معيّنة ، فيكون المأمور بعضا غير معيّن.

والجواب عن الأوّل : بأنّه استبعاد محض لا يصلح دليلا ولا سيّما في مقابلة الدليل ، كيف وهو من مقتضى الترجيح الّذي قدّمنا ذكره ، مع أنّ سقوط التكليف عن المكلّف بفعل الغير ليس بعادم النظير ليكون منشأ للاستبعاد ، وكفى بسقوط وجوب أداء الدين عن المديون بأداء المتبرّع شهيدا بذلك.

ص: 95


1- وقع سقط هنا في نسخة الأصل.
2- التوبة : 122.

وعن الثاني : ببطلان القياس أوّلا ، ومنع الحكم في المقيس عليه ثانيا ، إن اريد بالجواز وقوعه لما تقدّم تحقيقه في بحث الواجب المخيّر ، وإن اريد به الإمكان يرتفع المنع ولكنّه غير مجد في المقام لأنّه أعمّ من الوقوع الّذي هو المتنازع فيه ، وكونه مع الفارق ثالثا ، فإنّ العقاب بترك واحد ولو مبهما معقول من غير محذور بخلاف عقاب واحد ، فإنّه مع تعيين ذلك الواحد يستلزم الترجيح [ بلا مرجّح ] ومع عدمه لا يعقل.

وعن الثالث : بأنّ الآية مسوقة لبيان من يسقط بهم الوجوب ويتأدّى بفعلهم الواجب لا من يتعلّق بهم الوجوب ، بدليل أنّ « لولا » مع الماضي للتنديم والتوبيخ ، وهو لا يصحّ من العدل الحكيم إلاّ مع سبق تكليفهم بطلب الفقه جامعين لشرائط التكليف.

وقضيّة ذلك حصول الإيجاب وتعلّق التكليف بهم قبل نزول الآية ، فصحّ كونها لمجرّد بيان المسقط مع قطع النظر عمّن تعلّق به التكليف.

نعم لو كانت الآية ابتداء خطاب في إيجاب التفقّه لكان في دلالتها على تعلّق الوجوب بالبعض المبهم قوّة واضحة ، وقد عرفت القرينة على خلافه.

وكأنّ النكتة في نزولها لبيان المسقط أنّهم لمّا علموا أنّ هذا التكليف قد تعلّق بهم جميعا وكان اقدامهم جميعا على أداء المكلّف به قاضيا - من جهة طول زمانه - باختلال امور معاشهم وعدم انتظام سائر حوائجهم ، فتحيّروا أو تثاقلوا إلى أن يتعاقدوا عن الفعل ، فنزلت الآية في سياق ذمّهم وتوبيخهم على التقاعد مع إرشادهم إلى طريق الامتثال والخروج عن العهدة جمعا بين الحقّين ، أو تعليما لحكم الواجب على الكفاية.

مع أنّ كون الآية مقيّدة لتعلّق الوجوب على البعض - على فرض كونها ابتداء خطاب - لا يقدح لما نبّهنا عليه من أنّ الّذي يصلح محلاّ للنزاع ومثار الأقوال إنّما هو ما لو ورد الخطاب على صيغة الجمع الظاهرة في تناول الجميع باعتبار الوضع اللغوي والآية ليست منه ، وعلى ذلك يحمل كلّما ورد في خطاب الشرع من نظائر الآية كما في قوله تعالى : ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) (1) وقوله أيضا : ( وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (2).

وقد يقرّر الجواب - على ما في بيان المختصر - : بأنّ « الطائفة » كما يحتمل أن يكونوا هم الذين أوجب اللّه عليهم طلب الفقه ، احتمل أن يكونوا هم الذين يسقطون الوجوب

ص: 96


1- آل عمران : 104.
2- النور : 2.

بالمباشرة عن الجميع ، والاحتمال الثاني وإن كان مرجوحا ولكن يحمل عليه جمعا بين الدليلين ، فإنّا لو حملنا « الطائفة » على الذين أوجب اللّه عليهم يلزم بطلان دليلنا وهو الإجماع على تأثيم الجميع بتركه ، ولو حملنا على المسقطين لم يلزم بطلان دليلنا ولا ترك العمل بالآية ، فتعيّن المصير إليه ، لأنّ الجمع بين الدليلين واجب بقدر الإمكان.

وهو كما ترى ، فإنّ لزوم الجمع فرع التنافي ، وقد عرفت أنّ مفاد الإجماع لا ينافي تعلّق الوجوب بالبعض.

ولو سلّم أنّه ينافيه فالآية لا تنافي الإجماع بعد ما ذكرنا من القرينة على إرادة بيان المسقط ودعوى أنّه مرجوح بالقياس إلى إرادة بيان محلّ الوجوب واضحة المنع ، إذ لا ظهور لها فيما عدا ذلك ليكون ذلك مرجوحا بقرينة ما ذكر ، فلا حاجة إلى إجراء قاعدة الجمع.

أدلّة القول بتعلّق الوجوب بالمجموع في الواجب الكفائي

حجّة القول بوجوبه على المجموع من حيث هو : أنّه لو تعيّن على كلّ واحد كان إسقاطه عن الباقين رفعا للطلب بعد تحقّقه فيكون نسخا فيفتقر إلى خطاب جديد ، ولا خطاب ولا نسخ فلا يسقط ، بخلاف الإيجاب على المجموع من حيث هو ، فإنّه لا يستلزم الإيجاب على كلّ واحد ، فيكون التأثيم للجميع بالذات ولكلّ واحد بالعرض.

وجوابه : أنّ النسخ الّذي يحتاج إلى خطاب جديد ما يكون موجبا لإخراج بعض الأزمان عمّا اقتضاه ظاهر الخطاب الأوّل المثبت للحكم من ثبوته على سبيل الاستمرار والدوام ، بأن يكون في إثبات الحكم عامّا لجميع الأزمان ، وإنّما يحصل ذلك في المقام لو قيل بارتفاع الأمر بالكفائي بالمرّة بعد ثبوته إلى هذا الزمان ، بحيث لم يكن الفعل واجبا بعد [ ه ] إلى يوم القيام ولو عند تحقّق أسباب وجوبه المقرّرة له قبل ذلك.

ولا ريب أنّ المقام ليس من هذا الباب ، بل الوجوب فيه يرتفع بعد قيام من قام به الكفاية ، لانتفاء موضوعه وحصول متعلّقه في الخارج بحيث لو بقي بعد ذلك على ذمّة الباقين كان طلبا للحاصل ، بل ارتفاعه حينئذ إنّما هو من مقتضيات الخطاب الّذي أثبته ، فإنّ الحكمة الباعثة على صدوره ليست إلاّ حصول المصلحة المقصودة بحصول الفعل وقد حصلت ولو بمباشرة غير هذا المكلّف ، فيكون كالأمر بغسل الثوب إذا ارتفع بمباشرة غيره ولو بغير اطّلاعه ، وكما أنّه لا يحتاج إلى خطاب جديد إجماعا ضروريّا ولا يكون من باب النسخ أيضا فكذلك المقام ، مع أنّ فرض الوجوب على هذا الوجه ممّا لا يكاد يتعقّل له محصّل ، فإنّ الإيجاب لا يقصد منه حيثما تعلّق بالمكلّف إلاّ مباشرته بنفسه ، وإذا فرض

ص: 97

تعلّقه بالمجموع من حيث هو فلا بدّ وأن يكون ممّا قصد به مباشرة المجموع من حيث هو ، وهو كما ترى غير معقول ، نظرا إلى أنّ المجموع من حيث هو مفهوم اعتباري لا وجود له في الخارج ، وما يحصل من البعض أو من كلّ واحد ليس ممّا حصل من المجموع ... (1).

وأمّا الثاني : فلمنع الغلبة إن اريد بها ما ثبت في حقوق اللّه الّتي منها محلّ البحث.

نعم لا نضائق ثبوتها في حقوق الناس ولكنّها غير مجدية هنا ، ولو سلّم الجميع يتّجه المنع عن اعتبارها ، إذ قصارى ما يحصل منها إنّما هو الظنّ فيبتني اعتباره على فتح باب مطلق الظنّ ، وستعرف تفصيل القول في منعه.

وأمّا الثالث : فلمنع العموم في أدلّة قبولها كما لا يخفى على المتتبّع في الروايات الواردة في قبولها في موارد ليس المقام منها ، ولا سيّما على تقدير الاستناد لقبولها في تلك الموارد إلى الإجماع.

وأمّا الرابع : فلأنّ كونها في معنى العلم شرعا مسلّم في موارد قبولها ، وكون المقام من تلك الموارد أوّل الكلام ، وقد عرفت المنع من عموم ما دلّ على اعتبارها في تلك الموارد.

وأمّا الثاني : فقد يقال في منع كونه حجّة بعدم عموم ما دلّ على حجّيته إلاّ آية النبأ وهي مع الشكّ في عمومها لنحو المقام معارضة بعموم ما دلّ على عدم حجّية الظنّ ، والنسبة بينهما عموم من وجه ، ولا مرجّح أو المرجّح هنا للثاني بسبب كونه منطوقا والاصول والشهرة ، ولذا لو كانت عموما مطلقا لا ينفع.

وفيه : ما لا يخفى من وروده على خلاف التحقيق ، فإنّ العامّ إنّما يؤخذ بعمومه على حسبما يقتضيه مفهومه الوارد تارة جنسا هنا لأنواع واخرى نوعا لأشخاص.

وهو على الأوّل يعتبر عمومه بالقياس إلى الأنواع.

وعلى الثاني بالقياس إلى الأشخاص.

ولا ريب أنّ الظنّ أو ما وراء العلم في مورد ما دلّ على منع العمل بهما واردان جنسا لأنواع منها خبر العدل الواحد ، فيعتبر عمومهما في منع العمل بهما من هذه الجهة ، فيكون خبر الواحد من جملة تلك الأنواع ممنوعا عن العمل به بالنوع ، ويتبعه أشخاصه المندرجة تحته في ذلك المنع ، غير أنّه لا يعتبر في الجنس عموم آخر بالقياس إليها على سبيل الاستقلال ليكون عنوانا للحكم الاصولي ومناطا للقاعدة الكليّة ، فإذا قوبل ما دلّ على

ص: 98


1- سقط من نسخة الأصل هنا بعض ما يرتبط بالمقام كما لا يخفى.

حجّية خبر العدل لذلك العامّ كان أخصّ منه ، رافعا لموضوعه بالنسبة إلى نوع من أنواعه ، مزاحما لصغرى القياس المأخوذة بالنسبة إلى ذلك النوع لإثبات حكم العامّ له فيكون واردا عليه ، سواء اعتبرنا أصالة الحقيقة في العامّ من باب التعبّد أو الظنّ النوعي أو الظنّ الشخصي ، لكونها مقيّدة على الأوّل بعدم العلم بالخلاف.

وعلى الثاني بعدم العلم أو عدم الظنّ الشخصي بالخلاف.

وعلى الثالث بالعلم أو الظنّ الفعلي بالوفاق.

وما فرض من العامّ الثاني المخالف لكونه قطعي السند رافع للقيد بجميع أقسامه ، ومزاحم للصغرى بجميع صورها ، إذ معه لا يقال : « انّ خبر الواحد ما لم يعلم بخروجه عن عموم ما دلّ على المنع » ولا أنّه : « ما لم يعلم أو يظنّ بخروجه » ولا « أنّه ما علم أو ظنّ بدخوله » وإذا كان الحال فيه كذلك فكيف يتوهّم العامّ الأوّل معارضا له.

وكيف يصحّ القول بكون النسبة بينهما عموم من وجه مع أنّه ليس الحال فيهما إلاّ كما لو قال : « يصحّ بيع الحيوان » ثمّ قال : « لا يجوز بيع الإنسان » حيث لا يقال فيهما أنّهما عامّان متعارضان وبينهما عموم من وجه ، لكون الثاني عامّا للمملوك وغيره والأوّل عامّا للإنسان وغيره ، فيجتمعان في الإنسان المملوك ، إذ لا يعقل في مثل ذلك مادّة افتراق من أحد الجانبين لينفرد عنه مادّة الاجتماع ، نظرا إلى أنّ الثاني ليس له فرد يكون خارجا عن الأوّل كما أنّه له فرد خارج عنه.

وقضيّة ذلك كونه بالقياس إليه خاصّا وإن كان عامّا بالقياس إلى ما تحته ، وظاهر أنّ الخاصّ مقدّم في جميع أحواله بجميع أفراده.

هذا كلّه إذا فرضنا عموم ما دلّ على اعتبار خبر العدل بالقياس إلى ما يجري في الأحكام وما يجري في موضوعاتها الّتي فيها محلّ الكلام ، وأمّا لو فرضناه بالقياس إلى ما لا يفيد منه العلم وما يفيده ولو بمعونة القرائن الداخلة أو الخارجة اتّجه القول بكون النسبة بينه وبين ما دلّ على المنع عموما من وجه ، لكن يقع المناقشة في دعوى عدم الترجيح أو كون المرجّح في جانب عموم المنع ، لما قرّر في محلّه من أنّ العامّين من وجه إذا كانا من باب الظاهر والأظهر يبنى على ما كان منهما أظهر ، تقديما لمرجّح الدلالة على سائر المرجّحات ، داخليّة كانت أو خارجيّة كالأصل والشهرة على ما [ في ] كلام القائل.

ولا ريب أنّ ما يقضي بالجواز من العامّين أظهر دلالة ممّا يقضي منهما بالمنع من

ص: 99

جهات شتّى وإن كانت دلالته مفهوميّة.

منها : أنّ الأوّل أقلّ أفرادا من الثاني ، ومن المقرّر المصرّح به أنّ العامّ كلّما قلّ أفراده قربت دلالته بخلاف ما لو كثرت أفراده.

ومنها : أنّ الثاني في مورد التخصيصات كثيرة بخلاف الأوّل ، وظاهر أنّ كثرة التخصيص من موجبات ضعف الدلالة بالقياس إلى قلّته ، بل التخصيص ولو واحدا ممّا يوجب وهنا في العامّ ، ولذا صار قوم إلى منع حجّية العامّ المخصّص.

ومنها : أنّ الثاني وارد مورد توهّم الاختصاص ، ولذا صرّح بعض الأعلام في غير موضع بكونه مختصّا باصول الدين بخلاف الأوّل.

وممّا ذكر يتّضح ما في قوله : « ولذا لو كانت عموما مطلقا لا ينفع ».

والأولى في منع نهوض خبر العدل حجّة في المقام أن يقال : بمنع نهوض آية النبأ دليلا على حجّية خبر الواحد مطلقا ، لأنّ العمدة في وجه الاستدلال إنّما هو البناء على مفهوم الشرط ، وهو على تقدير ثبوته هنا غير قاض بحكم نبأ العدل نفيا واثباتا ، إذ ليس نبأ العدل بما سيق الكلام لبيان حكمه لا منطوقا ولا مفهوما.

أمّا الأوّل : فواضح.

وأمّا الثاني : فلأنّ العبرة في المفهوم إنّما هو بالدلالة على انتفاء المشروط عند انتفاء الشرط ، فلا بدّ وأن يكون المعتبر انتفائه في جانب المفهوم ما اعتبر ثبوته من الشرط في جانب المنطوق.

وظاهر أنّ ما اعتبر ثبوته في منطوق الآية إنّما هو مجيء الفاسق بالنبأ ، فيكون المعتبر في مفهومها عدم مجيء الفاسق بالنبأ ، فأقصى ما يحصل من الدلالة المفهوميّة حينئذ إنّما هو عدم وجوب التبيّن عند عدم مجيء الفاسق ، وأمّا مجيء العادل فليس بداخل فيه أصلا ولا أنّه من لوازمه عقلا ولا عرفا.

ودعوى : أنّه يشمل ما لو جاء العادل بنبأ فلا يجب التبيّن فيه أيضا.

يدفعها : أنّ هذا الشمول ليس ممّا يقتضيه لفظ ، حيث لا لفظ في جانب المفهوم ولا فهم عرفي ، حيث إنّه شيء يعتبره العقل من جهة أنّ قضيّة عدم مجيء الفاسق قد تجامع من باب الاتّفاق مجيء العادل ، ومثل هذا الاعتبار لا اعتداد به في نظر العرف ولا ينوط به أمر المحاورة وطريقة أهل اللسان كما لا يخفى على المتأمّل ، ولذا ترى أنّ العرف في مفهوم

ص: 100

قوله : « إن جاءك زيد فأكرمه » لا يحكم بنفي وجوب إكرام عمرو إذا جاء حال عدم مجيء زيد ، مع أنّ قضيّة الشمول ثابتة هنا أيضا ، والّذي يشهد بذلك عدم فهم المعارضة بين هذا المفهوم وما لو قال بعد القول الأوّل : « إن جاءك عمرو فأكرمه » أصلا ومن هنا لو قال : « إذا قصدك عدوّك بسيفه فادفعه » لا يقال : إنّه يفهم منه عدم وجوب دفع المحبّ لو قصد بسيفه ، بل التحقيق أنّ اعتبار هذا المعنى في المفهوم يرجع بالأخرة إلى اعتبار مفهوم اللقب ، وهو خلاف التحقيق بل مناف لما استقرّ عليه المذهب.

نعم ربّما يرد على الجمود على حكم عدم مجيء الفاسق أنّه يؤدّي إلى إخراج السالبة في جانب المفهوم إلى كون سلبها باعتبار انتفاء الموضوع وهو خلاف ظاهر القضيّة حيثما اطلقت.

ولكن يدفعه : أنّ ذلك على تقدير صحّته إنّما يسلّم في القضايا الملفوظة ، وهي في المقام من القضايا المعقولة الصرفة الّتي لا تتّصف بما هو من أوصاف الألفاظ لكونها من الامور اللبّية فلا يعقل فيها ظهور ولا خلافه ، مع أنّ إدخال ما ليس ممّا سيق الكلام لإفادة حكمه في المفهوم أشدّ مخالفة للظاهر من حمل السالبة على المنتفية بانتفاء الموضوع ، ضرورة كون ذلك بالقياس إليه أظهر بمراتب شتّى فيكون متعيّنا ، والفرار عن مخالفة ظاهر لا يقضي بالتزام مخالفة ظاهر آخر إلاّ إذا كانت أهون منها في نظر العرف والمفروض خلافه ، بل هي عن أصلها بمعزل عن الاعتبار في بديهة المحاورات كما عرفت.

مع أنّ لنا أن نمنع ورود الآية الشريفة مورد افادة المفهوم ، لجواز كون المقصود الأصلي فيها التنبيه على فسق مورد نزولها ، أو إفادة الحكم في مورد الغالب نظرا إلى أنّ الغالب على الفاسق إنّما هو تطرّق الكذب إلى أخباره ، والغالب في حكمة إيجاب التبيّن إنّما هو استظهار كذب الخبر عن صدقه ، وهو لا ينافي وجوبه في خبر العادل لحكم اخرى ، فيدور الأمر بين ارتكاب هذا النحو من خلاف الظاهر وبين ما تقدّم فلا بدّ من الترجيح ، مع أنّ العلّة المنصوصة كثيرا مّا تجري في خبر العادل أيضا ، لأنّه وإن كان بعد التأمّل لا يتعمّد في الكذب إلاّ أنّه لا يأمن عن الخطأ والاشتباه والسهو والنسيان والتورية والتقيّة ، بل وتعمّد الكذب أيضا لمصلحة اخرى راجحة على مصلحة الصدق في الواقع أو في نظره ، بل كثيرا مّا يعوّل في إخباره على من أخبره وهو كاذب في نفس الأمر.

ولا ريب أنّ هذه الجهات إذا لو حظت في خبر العادل كان كخبر الفاسق في إفضاء العمل به من غير تبيّن إلى الندم.

ص: 101

ومن البيّن أنّ علّة المنطوق إذا كانت مشتركة بينه وبين المفهوم كان اعتبار المفهوم معه قبيحا على المتكلّم منافيا لحكمته ، فلا بدّ من الالتزام بكون مثل هذا المفهوم ساقطا في نظره غير داخل في مراده صونا لحكمته.

هذا كلّه إذا أردنا الاستناد في إثبات حجّية خبر الواحد إلى آية النبأ وأمّا إذا أردنا الاستناد إلى آية النفر فعدم شمولها - على تقدير نهوضها دليلا - لمثل ما نحن فيه ممّا لا يحتاج إلى البيان ، لظهورها في تحصيل أصل الأحكام وعدم تناولها لأسبابها ولا غيرها من الموضوعات الخارجيّة كما لا يخفى على المتأمّل.

وممّا ذكر تبيّن حال الظنّ المطلق في عدم اعتباره بالنسبة إلى خصوص المقام ، لعدم انقلاب الأصل الأوّلي بالنسبة إلى الموضوعات إلاّ في مواضع معدودة ليس المقام منها كما لا يخفى ، ودليل اعتباره في الأحكام لا يتناول المقام جزما لانتفاء جملة من مقدماته ، كيف وأنّ العمدة من تلك المقدّمات إنّما هو بقاء التكاليف وثبوتها فلا بدّ وأن يكون التكليف محرزا ليتّخذ الظنّ طريقا إليه ، والمقصود في المقام إثبات كون الظنّ طريقا إلى تحقّق ما يقضي تحقّقه بإحراز التكليف ، فإحرازه هنا متأخّر رتبة عن إحراز طريقيّة الظنّ ، وهو على عكس موضوع دليل الحجّية ولا يعقل في مثله التناول.

وثانيها : إذا تعذّر حصول العلم بتحقّق السبب أو عدمه - ولو في نظر المكلّف كما في موضع عدم رجاء حصوله بأحد طرفي القضيّة - فلا شيء عليه ، بناء على ما سبق ، ومضافا إلى أصالة البراءة واستصحاب الحالة السابقة ، وإذا لم يتعذّر حصوله بأحد الطرفين - ولو في نظره كما في موضع رجائه - فهل يجب عليه الفحص والنظر إلى أن يحصل له العلم بأحدهما أو يئس عن حصوله أو لا؟

والظاهر أنّ فيه خلافا حيث إنّ بعض مشايخنا بعد ما أوجب الفحص في إعمال أصل البراءة - على وفق ما عليه الأصحاب - خصّه بالشبهات الحكميّة ، وأمّا الشبهات الموضوعيّة فنفاه فيها مدّعيا عليه الإجماع بقسميه.

ثمّ عزى إلى بعضهم أنّه قد يفتي مع الاتّفاق المذكور على وجوبه فيما لو كانت الشبهة الموضوعيّة وجوبيّة ، كما في استطاعة الحجّ ونصاب الزكاة ، حيث أوجب الفحص عنهما ، واستغربه مذيّلا له بعدم صيرورة وجهه معلوما إلى الآن.

ومن الأعلام من أوجبه في استطاعة الحجّ ، وظاهره عموم الحكم حيث نبّه عليه

ص: 102

بقوله : « وبالجملة تقدّم العلم بالوصف لا مدخليّة له في ثبوت الوصف والواجبات المشروطة بوجود شيء إنّما يتوقّف وجوبها على وجود الشرط لا على العلم بوجوده فبالنسبة إلى العلم مطلق لا مشروط ، مثل أنّ من شكّ في كون ماله بقدر استطاعة الحجّ ، لعدم العلم بمقدار المال لا يمكنه أن يقول : إنّي لا أعلم أنّي مستطيع ولا يجب عليّ شيء ، بل يجب عليه محاسبة ماله ليعلم أنّه واجد للاستطاعة أو فاقد لها.

نعم لو شكّ بعد المحاسبة في أنّ هذا المال هل يكفيه في الاستطاعة أم لا فالأصل عدم الوجوب حينئذ ، فمقتضى تعليق الحكم على المتّصف بوصف في نفس الأمر لزوم الفحص ، ثمّ العمل بمقتضاه ، فإذا قيل : « أعط كلّ بالغ رشيد من هذه الجماعة درهما » يقتضي إرادة السؤال عمّن جمع الوصفين لا الاكتفاء بمن علم اجتماعهما فيه » انتهى كلامه رفع مقامه (1).

ومن الأعاظم من حكى الخلاف فيه واستظهر عدم الوجوب مذيلا له بما يقضي بميله إلى الوجوب ، حيث نبّه عليه بقوله : « وأمّا لو لم يعلم به كما لو شكّ في الاستطاعة هل يجب عليه المحاسبة ، وكذا إذا كان له أحد النقدين ويكون مغشوشا وانقضى عليه سنة ولا يعلم أنّه بقدر النصاب فاختلفوا فيه ، والأظهر عدم الوجوب للأصل وكون الوجوب مشروطا بالاستطاعة وبلوغ النصاب ، إلاّ أن يقال : لمّا كان الناس صنفين فالمفهوم عرفا وجوب الفحص ، فإنّ المولى إذا أمر عبيده بأنّ من كان عنده ألف دينار فليأت منها بمائة ، ومن كان عنده مائة فليأت منها بعشرة ، فيفهم عرفا وجوب المحاسبة على كلّ حتّى يتبيّن المكلّف من غيره ، وهذا لمّا كان للشارع حكمان متعلّقان بعباده أحدهما : « أنّ المستطيع منهم يجب عليهما الحجّ » والآخر : « أنّ غير المستطيعين لا يجب عليهم » فيجب على المكلّفين أن يتفحّصوا عن أحوالهم حتى يظهر خطابهم.

وبالجملة تعليق الحكم بالامور الواقعيّة يقتضي لزوم الفحص أو الاحتياط فيما يمكن ، لو لم نقل بوجوب الجزم بالمنوي لو وقع الشكّ في حصول شرط الواجب أو سببه مع فوريّة الحكم ، ومنه السعي في رؤية الهلال من شهر رمضان أو الشوال ، والحجّة فيه فهم العرف ، فإنّ المولى إذا قال لعبيده : « من استطاع منكم للسفر فليسافر ، ومن دخل عليه الشهر فليأت بكذا » فيفهم منه عرفا لزوم الفحص لمن شكّ في حصول الاستطاعة أو دخول الشهر ، ولا يسمع منه الاعتذار في الترك بعدم العلم ، والسبب في الفهم تعليق الحكم

ص: 103


1- قوانين الاصول : 260.

بالشهر الواقعي والاستطاعة الواقعيّة ، بخلاف ما لو قال : « من علم بالشهر أو بالاستطاعة فليسافر وليأت بكذا » فلا يفهم منه لزوم الفحص والبحث ». انتهى (1).

ويمكن دعوى ابتناء القول بوجوب الاستهلال لصوم رمضان - وهو قول معروف - على القول بالوجوب هنا ، وكيف كان فالّذي يظهر واللّه أعلم وجوبه الّذي يمكن الاستناد فيه إلى وجوه

أوّلها : قضاء القوّة العاقلة بذلك ، فإنّه لا يأبى عن جواز معاقبة المكلّف التارك للفحص عن تحقّق سبب الوجوب مع تمكّنه عنه بتركه المصادف لتحقّقه في الواقع على ترك الواجب المشروط به ، تعويلا على مجرّد عدم العلم به.

فلو صلح مجرّد عدم العلم عذرا امتنع عنه تجويز ذلك ، لأنّه فرع تنجّز التكليف وهو ممتنع مع العذر ، فتنجّزه مع تحقّق شرطه في الواقع في نظره آية تجويزه لإيجاب الفحص مع الشكّ ، إدراكا للواقع من باب المقدّمة.

وثانيها : بناء العقلاء في خطاباتهم المعلّقة وفهمهم إيجاب الفحص منها حين المخاطبة.

ألا ترى أنّ الأمير لو أرسل إلى رعيّته طومارا متضمّنا لقوله : « يا أهل مملكتي من دخل منكم في ماله الربح ليحضر ساحتي إدراكا لطولي ومن خالفني بترك ذلك أدركه سخطي » وكان الأمير ممّن يقف على عواقب الامور وحقائق الأحوال ، فإنّهم حينئذ لا يزالون يذعنون على أنفسهم وجوب محاسبة أموالهم في موضع الشكّ في دخول الربح فيها ، بحيث لو تركها بعضهم مع التمكّن لأطبقوا على توبيخه ورميه بالعصيان ، ولا يكون اعتذاره بعدم العلم مقبولا عندهم ولا عند الأمير ، فلذا لو قضى عليه بالسياسة والتعذيب سكتوا عليه بلا نكير ، ولا رمي له بالخروج عن طريقة العدل ، بل يردّون عليه اعتذاره بما ذكر بكونه متمكّنا عن تحصيل العلم بالفحص.

وثالثها : ما يقضي بوجوب دفع احتمال الضرر مطلقا من القاعدة الّتي استفيدت من العقل وطريقة العقلاء ، ضرورة أنّ الواجب إذا كان مشروطا بما لا مدخليّة للعلم فيها من حيث الموضوعيّة وهو في موضع رجاء حصول العلم بتحقّق شرط وجوبه كان تركه محتملا للضرر ، ولا يندفع إلاّ بالفحص المورث لليأس أو حصول العلم بأحد الطرفين.

نعم لو كان العلم بحيث دلّ الدليل على أنّ له مدخلا في موضوع السببيّة ، بدعوى

ص: 104


1- إشارات الاصول.

دلالته على اشتراط وجوبه بالعلم بالسبب لا بنفس السبب اتّجه عدم وجوب الفحص عمّا يفيده ، لوضوح عدم وجوب المقدّمة إذا كانت من شرائط الوجوب ، فلذا لا يجب تحصيل الاستطاعة مقدّمة - على ما قرّرناه في بحث المقدّمة - بخلاف العلم بها إذا كانت بنفسها شرطا ، فإنّه قد يجب تحصيله أو تحصيل اليأس عن حصوله في موضع الشكّ في حصولها مقدّمة لواجب آخر وهو دفع الضرر ، عند قيام احتماله ، كما هو الحال في المقام.

ولا ينافيه كون العلم من شرائط التكليف حتى يقال : بأنّه لا تكليف مع عدمه ، وإلاّ لزم وجود المشروط بدون شرطه وأنّه محال ، فلا معنى لدعوى قيام احتمال الضرر إذ لا يراد به ما كان منه حاصلا بالفعل بل أعمّ منه وممّا كان منه في معرض الحصول ، كما لو تمكّن المكلّف عن تحصيله ، ضرورة أنّ عمدة أدلّة كونه شرطا إنّما هو العقل ، وهو على ما يساعد إليه الوجدان قاض بشرطيّته على هذا الوجه ، ولذا كان الجاهل في عباداته الواقعة على خلاف الواقع غير معذور في جهله إذا كان مقصّرا كما هو التحقيق وعليه غير واحد من المحقّقين ، فلو لا كفاية الاقتدار على العلم في تنجّز التكاليف وتوجّه الخطابات لما يعقل وجه لعدم معذوريّته ، بناء على أنّ المراد به عدم المعذوريّة بالنظر إلى مخالفة الواقع كما هو الظاهر ، وتمام القول فيه موكول إلى محلّه ، ولعلنا نتعرّض لزيادة تحقيق فيه أيضا في ذيل الكلام.

نعم يمكن المناقشة في القاعدة المذكورة بأنّ اجرائها في الامور الاخرويّة الّتي منها المقام ممّا يفضى إلى انسداد باب التمسّك بأصل البراءة ، لكونه في جميع مجاريه ملزوما لاحتمال الضرر الاخروي والمفروض وجوب دفعه بتلك القاعدة ، فأيّ موضع يبنى فيه على الأصل؟

ولكن يدفعها : أنّ أصل البراءة حيثما يكون جاريا رافع لاحتمال الضرر ، كما أنّ العلم بعدم توجّه الخطاب حيثما يحصل رافع له ، غير أنّ جريانه وجودا وعدما يدور مدار موضوع يحقّقه الفحص ويحصّله وهو الشكّ في موضع تعذّر العلم واليأس عن الطرق العلميّة ولو شرعيّة ، ولذا صار جواز العمل به عندهم مخصوصا بما بعد الفحص.

وسنورد زيادة توضيح في ذلك عند الاستدلال بالوجه الرابع.

وإذا بنينا على وجوب دفع احتمال الضرر كما هو المحقّق فطريقه إمّا إعمال الأصل المبتني على كون موضوعه محرزا ، أو تحصيل العلم بتوجّه الخطاب ولو بواسطة العلم بتحقّق سببه الداعي للمكلّف إلى الامتثال أو تحصيل العلم بعدم تعلقه ولو بواسطة العلم

ص: 105

بعدم تحقّق سببه الموجب لارتفاع الاحتمال.

وبعبارة اخرى : دفع احتمال الضرر إنّما يتوقّف على أحد الامور الثلاث من العلم الشرعي بعدم تعلّق التكليف ، وهو الأصل الّذي لا مجرى له إلاّ بعد إحراز موضوعه ، أو العلم الوجداني بعدمه ، أو العلم الوجداني بثبوته ، وأيّ منها كان فهو في محلّ الشكّ الابتدائي موقوف على الفحص فيكون واجبا من باب المقدّمة.

ورابعها : أنّ الفرار عن احتمال وجوب المشروط عند الشكّ في تحقّق الشرط ممّا لا يتأتّى إلاّ مع التشبّث بالأصل ، ولا يجوز العمل به إلاّ في موضوعه ومجراه على حسبما اقتضاه دليله.

ولا ريب أنّ موضوعه حسبما يقتضيه ذلك الدليل هو الشكّ المصادف لتعذّر العلم ، ومجراه حالة اليأس عن الطرق العلميّة.

وذلك لأنّا لو استفدناه عن حكم العقل بقبح التكليف بلا بيان والعقاب بلا إقامة البرهان كان استفادة هذا المعنى في غاية الوضوح ، فإنّ عدم البيان في موضوع حكم العقل ليس هو مجرّد عدم وجدان المكلّف للبيان ، بل هو عبارة عن عدم وصول البيان إليه في نفس الأمر ، وهو أخصّ من عدم وجدانه.

ولو استفدناه عن حكم الشرع بنفي التكليف أو لوازمه عمّن لا يعلم به بواسطة الآيات والروايات الواردة في هذا الباب ، مثل قوله عزّ من قائل ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ) (1) و ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) (2) وقوله عليه السلام : « ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » (3) و « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه أمر أو نهي » (4) و « الناس في سعة ما لم يعلموا » (5) أو « رفع عن امّتي تسعة منها ما لا يعلمون » (6) ونحو ذلك ممّا هو مقرّر في محلّه فكذلك أيضا ، فإنّك إذا تأمّلت في تلك النصوص بعين الدقّة لوجدتها بأسرها قاضية بكون العبرة في مفادها بحالة العذر واليأس عن العلم ، ضرورة ظهور « البيّنة » الّتي علّق عليها الهلاك فيما يكون كذلك بحسب الواقع ونفس الأمر ، فيكون العبرة في عدمها الملازم لانتفاء الهلاك بعدم وصولها إلى المكلّف بحسب الواقع أيضا لا بمجرّد عدم وجدانه إيّاها في بادئ الأمر.

وظهور « الإتيان » في وصول الخطاب إليه بحسب الواقع ، فيكون المراد بعدمه المأخوذ

ص: 106


1- الأنفال : 42.
2- الطلاق : 7.
3- وسائل الشيعة 27 : 163.
4- وسائل الشيعة 6 : 289.
5- مستدرك الوسائل 18 : 20.
6- وسائل الشيعة 15 : 369.

موضوعا في المستثنى منه عدم وصول الخطاب إليه كذلك ، وظهور قضيّة « الحجب » المسندة إلى اللّه سبحانه فيما لو لم يصل إليهم الخطاب في نفس الأمر ، وعدم صدقها فيما لو استند عدم علمه إلى تسامحه في التعلّم وقلّة مبالاته في تحصيل المعرفة بالأحكام مع تيسّره عن الطرق العلميّة ووصول البيان إليه على حسب بلوغ أسبابه العادية إليه.

وظهور الغاية وهي ورود الأمر والنهي في وصول الخطاب إليه بحسب نفس الأمر ، فيكون المعتبر في موضوع المغيّا - وهو الإطلاق الملازم لانتفاء التكليف ولوازمه - عدم وصوله بعدم ورودهما كذلك.

وظهور عدم العلم في الجهل الصرف الّذي لا يتحقّق إلاّ في حقّ الغافل أو المعتقد بالخلاف من باب الجهل المركّب أو الشكّ المستقرّ الّذي يتحقّق لمن التفت إلى احتمال توجّه الخطاب ، وظاهر أنّ الشكّ لا يتأتّى له الاستقرار إلاّ مع اليأس والعذر.

هذا مضافا إلى استفادة ذلك أيضا عن سياق الرواية بقرينة سائر الفقرات المذكورة فيها من السهو والنسيان والخطأ والإكراه ، نظرا إلى كون هذه الامور بأجمعها ممّا لا اختيار للمكلّف فيها ، بل هي من الاضطراريّات الطارئة عليه قهرا الخارجة عن اختياره بالمرّة ، فليكن المعتبر في عدم العلم أيضا ما لا يكون لاختيار المكلّف مدخليّة فيه أصلا ، وظاهر أنّ عدم العلم إذا صادف رجاء حصوله بالفحص وتيسّر له ذلك أيضا ممّا يصدق عليه أنّه ممّا يكون لاختياره مدخليّة فيه ، سيّما إذا كان في موضع لو أتى فيه بالفحص لتوصّل إلى طريق علمي ، لكونه حينئذ ناشئا عمّا تركه اختيارا من الفحص والاستعلام ، فلا يكون ممّا يتناوله الرواية في قضائها برفع المؤاخذة.

فصار محصّل مفاد كلّ هذه النصوص أنّ موضوع ذلك الأصل إنّما هو الشاكّ المتعذّر عن العلم المأيوس عن طرقه ، ولا ريب أنّ هذا المعنى لا يحرز في مواضع رجاء العلم إلاّ بعد الفحص فيكون واجبا ، وبدونه كان العمل بالأصل غير جائز لخروجه عمّا أفاده أدلّته.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ هذه الوجوه بأسرها جارية في جميع المقامات حتّى عند العمل بالأصل في موضع الشكّ في طهارة شيء من الموضوعات ونجاسته ، أو حلّيته وحرمته ونحوه ، فيشكل الحال بملاحظة ما سبق عن بعض مشايخنا من دعوى الإجماع على عدم الفحص في الموضوعات.

ويمكن الذبّ عنه بعدم ثبوته أوّلا ، وقد عرفت حكاية الاختلاف عن بعض الأعاظم ،

ص: 107

وهو المعتمد بملاحظة ما نرى من عمل بعضهم بالخلاف وفتواه بلزوم الفحص كما عرفت عن بعض الأعلام ، مضافا إلى شهادة القول المعروف بوجوب السعي في رؤية هلال رمضان.

ومنع اعتباره ثانيا ، لأنّ المسألة اجتهاديّة والإجماع إنّما يعتبر من حيث الكشف ، فيختصّ مورده بالتعبّديّات ولا يجري في الاجتهاديّات ، مضافا إلى أنّه على فرض ثبوته غير واضح المدرك ، بل القطع حاصل - بملاحظة ما قرّرناه - بابتنائه على الخطأ في الاجتهاد ، ومع الغضّ عن جميع ذلك فلعلّه ناش عن دليل تعبّدي بلغهم في ذلك وكلامنا في المقام إنّما هو في مقتضى القواعد الاصوليّة فلا ينافي ورود التعبّد الشرعي على خلافها ، فتأمّل جيّدا.

في الفروع المتعلّقة بالواجب الكفائي

ثمّ بقي في المقام فروع ينبغي الإشارة إليها :

منها : أنّ ما سبق من البحث في وجوب الفحص إنّما هو على تقدير إمكانه مع إمكان حصول العلم بأحد الطرفين ولو في نظر المكلّف إذا كان راجيا لحصوله ، وأمّا مع التعذّر فإن كان العذر في أصل الفحص - بأن لا يتمكّن عن محاسبة ماله لإحراز الاستطاعة أو النصاب نفيا وإثباتا ، لعدم تمكّنه عن ماله أو لعدم مقوّم يقوّمه - فلا إشكال في سقوط التكليف به عقلا ، ضرورة امتناع التكليف بغير المقدور ولو كان غيريّا ، وإن كان العذر في حصول العلم مع تمكّنه عن الفحص - بأن يكون قاطعا بأنّه لا يحصل له العلم وإن بلغ فحصه ما بلغ - فهل يجب عليه الفحص أيضا أو لا؟ وجهان ، من كون وجوبه حيثما يثبت نفسيّا لمصلحة كامنة فيه لذاته ، أو غيريّا ناشئا عن وجوب غيره ، ولكن قضيّة ما قرّرناه من الوجوه على وجوبه كون الوجوب الثابت له غيريّا وإن أو هم ما عدا الوجهين الأخيرين بل ما عدا الوجه الثاني في بادئ النظر كونه نفسيّا ، لوضوح أنّ الوجوب الثابت هنا إنّما يثبت من باب المقدّمة وقد قرّرنا في محلّه أنّ الوجوب المقدّمي غيريّ تبعي ، ومن لوازم الوجوب الغيري أنّه لا يثبت إلاّ مع ثبوت وجوب الغير ، كما أنّ من خواصّ الوجوب المقدّمي أنّه لا يثبت لشيء إلاّ في موضع المقدميّة.

وظاهر أنّ ذا المقدّمة في الفرض المذكور لا وجوب له على تقدير ولا حاجة له إلى مقدّمة على آخر ، فإنّ وجوب الفحص على ما عرفت إمّا أن يكون للتوصّل إلى العلم أو لإحراز موضوع الأصل وهو التعذّر ، والعلم مع تعذّره لا يعقل وجوب له فلا يعقل الوجوب لمقدّمته ، لأنّ وجوبها مشروط بالقدرة على ذيها كما أنّه مشروط بالقدرة على نفسها ،

ص: 108

وكونه متعذّرا من أوّل الوهلة رافع لتوقّف إحراز تعذّره على شيء ، ومعه لا يعقل للفحص مقدّميّة فلا يعقل اتّصافه بالوجوب ، بل وجوبه على هذا التقدير شرطي ، لكونه شرطا لجواز العمل بالأصل كما هو مفاد الوجه الأخير ، ومن الممتنع صدق عنوان « الشرطيّة » عليه مع تحقّق ما هو مناط المشروط به الموجب لتحقّق المشروط.

ولا ينافي ذلك مفاد الوجه الأوّل ولا الوجه الثاني عند التحقيق ، لابتناء حكم العقل بجواز معاقبة التارك للفحص على كونه عقابا على ترك ذي المقدّمة كما هو الحال في سائر المقدّمات بالقياس إلى تركها ومخالفة الأمر بها ، وبناء العقلاء في خطاباتهم أيضا ناظر إلى هذا المعنى ، حيث لا يفهمون منها بالنسبة إلى الفحص إلاّ وجوبه للغير ، فلذا لا يبادرون إلى توبيخ من ترك الفحص في موضع الشكّ مع إدراكه الواقع لمجرّد الاحتمال أو تعويلا على الاحتياط الّذي هو حسن على كلّ حال.

ومنها : أنّه لو ترك الفحص في موضع إمكانه مع رجاء العلم فصادف تحقّق الشرط في الواقع فلا إشكال في استحقاقه العقاب على مخالفة الواقع ، المتحقّقة بترك المشروط ، لمصادفته تحقّق ما هو مناط تنجّز التكليف وهو التمكّن عن العلم به ، وأمّا لو صادف عدم تحقّقه ففي استحقاقه العقاب وجه مبنيّ على قبح التجرّي كما هو الأظهر ، لا على الواقع حيث لا مخالفة له ، ولا على ترك الفحص حيث إنّ وجوبه غيريّ.

ومن هنا - مضافا إلى ما سبق - تبيّن حكم الجاهل في العبادات ، فإنّ التحقيق فيه أنّه معذور مع القصور سواء خالف عمله الواقع أو طابقه ، كما أنّه معذور مع التقصير بالقياس إلى الواقع لو طابقه عمله إن جوّزنا له إمكان قصد التقرّب مع الجهل فإنّه غير خال عن الإشكال ، وإن كان غير معذور من جهة التجرّي ، وليس بمعذور معه بالقياس إليه أيضا لو خالفه عمله ، والحجّة على الجميع ما أشرنا إليه في هذا الفرع وسابقه.

ومنها : أنّه لو تعذّر عن الفحص ، أو تمكّن عنه وتعذّر له العلم ابتداء ، أو صادف فحصه تعذّره إلى أن انكشف له بعد زمان تحقّق السبب حين التعذّر ، فإن كان المحلّ باقيا ببقاء سبب الحكم وموضوعه فلا محيص من أداء الفرض لوجود المقتضي وفقد المانع ، وليس عليه بالقياس إلى ما سبق شيء ، كما أنّه لو كان المحلّ فائتا بارتفاع السبب والموضوع معا كما في إزالة النجاسة عن المسجد إذا حصلت بنزول المطر ونحوه ، أو ارتفاع الموضوع فقط كما في أحكام الموت إذا احترق الميّت أو القي في البحر ونحوه ، لا شيء عليه بالنظر

ص: 109

إلى السابق واللاحق.

وأمّا لو كان الموضوع باقيا مع انتفاء السبب كالاستطاعة إذا انكشف زوالها بعد تحقّقها حال تعذّر العلم أو الفحص فلا شيء عليه بالنظر إلى ما سبق ، وأمّا بالنظر إلى اللاحق فهل يجب عليه العمل أداء لو كان وقته باقيا ، أو قضاء لو كان في خارج الوقت أو لا؟

فالّذي يتراءى في بادئ النظر وجوب أدائه مع بقاء وقته أخذا بموجب التعليق على الأمر الواقعي بلا مدخليّة للعلم فيه والمفروض تحقّقه فيؤثّر أثره ، نظرا إلى أنّ التعليق قد وقع على حدوث السبب لا بقائه ، فلذا يجب الحجّ على من تعمّد في تأخيره إلى ما زالت الاستطاعة.

ولكن صحيح النظر يعطي خلافه ، لأنّ العلم وإن لم يكن داخلا في السبب ولكنّ العلم بتحقّقه شرط لتنجّز التكليف المشروط به ، وفرض العذر ينافيه ، وظاهر أنّ انتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط ، فالتكليف ليس بثابت لا حين تحقّق السبب ولا حين الانكشاف أمّا الأوّل : فلانتفاء أحد شرطيه.

وأمّا الثاني : فلانتفاء شرطه الآخر ، وحدوث السبب إنّما يصلح سببا لثبوت التكليف مع اجتماع سائر شرائطه ، والمفروض انتفاء بعضها حين حدوثه ، فلا يعقل معه ثبوت المشروط سواء كان وقته باقيا أو لا ، ولا ينافيه وجوب القضاء في صوم الحائض وصلاة النائم لأنّه تعبّد ثابت بالدليل فيقتصر على مورده. ولا يقاس عليه غيره.

ومن هنا بان حكم ما لو ترك الفحص مع إمكانه إلى ما انكشف زوال السبب بعد تحقّقه ، فإنّه يجب عليه العمل لو كان وقته باقيا لانكشاف سبق تعلّق التكليف بتحقّق شرطيه ، بناء على ما سبق تحقيقه من أنّ شرط التكليف من العلم ما يعمّ الجهل المصادف لتمكّن إزالته ، وهو حاصل حين تحقّق السبب.

وقد عرفت أنّ ما علّق عليه التكليف من السبب إنّما هو حدوثه لا بقاؤه ، فالشرطان متحقّقان حال ترك الفحص فيؤثّران أثرهما ، وأمّا لو صادف ذلك حال خروج الوقت فوجوب القضاء مبنيّ على ورود الأمر الجديد لعدم كونه بالفرض الأوّل.

ومنها : أنّه لو ترك الفحص في الواجب الكفائي تعويلا على أنّه لو كان سبب وجوبه متحقّقا لقضى العادة باطّلاع غيره عليه ، فيقوم بالعمل فيسقط عنه الفرض على فرض تعلّقه به بتحقّق سببه في الواقع ، فهل يكون معذورا في ترك الفحص بالنسبة إلى عنوان التجرّي أو لا؟

ص: 110

وتحقيق هذا الكلام مبنيّ على النظر في أنّه لو علم بالسبب وتقاعد عن القيام بالعمل تعويلا على قيام من يسقط بفعله الفرض عنه عادة هل يجوز له ذلك أو لا؟ إذ قد ذكرنا أنّ الفحص إنّما يجب مقدّمة وإذا جاز التقاعد عن العمل في ذي المقدّمة إلى من يسقط بفعله الفرض فلأن يجوز في مقدّمته طريق الأولويّة.

والتحقيق في ذلك حسبما يساعد إليه القواعد يقتضي التفصيل بين ما لو كان الفرض من الموسّعات وما لو كان من المضيّقات.

فعلى الأوّل لا إشكال في الجواز ، لأنّ غاية ما يستلزمه التقاعد حينئذ إنّما هو التأخير لو لم يحصل الشروع من الغير حين عزمه عليه ، وهو جائز في الموسّع مع الظنّ بسلامة نفسه ، فيكون جائزا مع العلم بمباشرة الغير فيما بعد ذلك بطريق أولى.

وأمّا مع الظنّ بمباشرة الغير فلا يبعد الجواز أيضا ، قياسا له على الظنّ بسلامة نفسه في العاقبة بالنسبة إلى واجباته العينيّة ، لأنّ الظنّ إنّما يعتبر هنا تحرّزا عن موضوع العصيان في التأخير بالتجرّي وهو منقّح بالقياس إلى الفرض المذكور.

ولكن يضعّفه إمكان إبداء الفارق بين المقامين ، وهو أنّ الظنّ بسلامة العاقبة إنّما يكتفى به في إحراز جواز التأخير ، لتعذّر العلم بها عادة كما هو الحال في الحكم بتنجّز التكاليف أوّل الوقت على من يظنّ بالسلامة والتمكّن ، نظرا إلى عدم إمكان العلم بهما لغالب الناس ، وهذا المعنى ليس بمحرز في محلّ البحث فلا معنى لدعوى تنقيح المناط.

إلاّ أن يقال : بأنّ اعتبار الظنّ فيما ذكر إنّما ثبت من جهة الإجماع فتوى وعملا بل السيرة أيضا ، وهو ليس بمعلّل بما ذكر وإن صادف ذلك معقده.

ومن البيّن أنّ مجرّد مصادفة شيء لمعقد الإجماع لا يصلح علّة لانعقاده ولا باعثا على جعل الحكم المجمع عليه ، ولكنّه لا يجدي نفعا في المقام ، لأنّ غايته عدم العلم بالفارق ، والمعتبر في تنقيح المناط إنّما هو العلم بعدم الفارق وهو ليس بحاصل ، وجريان ما تقدّم من التعليل بالتحرّز عن موضوع العصيان في كلا المقامين لا يقضي بعدم الفرق بينهما ، لجواز قيام الفرق بما ذكر من قضيّة تعذّر العلم ولو احتمالا ، ومن البيّن أنّ احتمال قيام الفرق ينافي العلم بعدم الفرق.

فالأولى أن يقال : باعتبار الظنّ بسلامة نفسه في العاقبة مع الظنّ بصدور الفعل من غيره فيها ، ومع عدمه لا يسوغ له التأخير ، إذ لا طريق له إلى الجواز إلاّ ظنّه بمباشرة الغير فيما

ص: 111

بعد ذلك وهو ليس بثابت الطريقيّة هنا ، حيث لا دليل عليه إلاّ أن يتمسّك بالإجماع أو السيرة وهو في غاية الإشكال ، لعدم ثبوت الأوّل وجواز ابتناء الثاني على التسامح وقلّة المبالاة.

ومن هنا تبيّن حكم ما لو احتمل عنده قيام الغير بالعمل فيما بعد ذلك ولو مرجوحا ، فإنّ جواز التأخير له ينوط بظنّ سلامة نفسه ، بل المعتبر في جواز التأخير له في غير صورة العلم بقيام الغير إنّما هو ظنّه بسلامة عاقبته ، وفرض ظنّه بقيام الغير معه ممّا لا يؤثّر في شيء ، فيكون كالحجر الموضوع في جنب الإنسان.

وربّما يمكن الإشكال بالقياس إلى جواز التقاعد في صورة العلم بصدور العمل من غيره ، نظرا إلى ما تقرّر سابقا من [ أنّ ] الأمر في الكفائي كما في العيني [ إنّما ] يتوجّه إلى الكلّ ويقصد به مباشرة الكلّ ، فالعلم المذكور إن حصل بدون ظنّه بسلامة نفسه في العاقبة كان كالعلم في الواجبات العينيّة بصدور العمل من غيره من المكلّفين مع عدم ظنّه بسلامة نفسه في العاقبة ، فكما أنّه لا يقضي بجواز التأخير له في عمل نفسه فكذلك في المقام ، وإن حصل مع ظنّه بسلامة نفسه كان العبرة في جواز التأخير له بذلك الظنّ ، فيكون العلم المفروض معه كالحجر الموضوع في جنب الانسان ، فلا وجه للحكم بجواز التقاعد استنادا إليه أصلا.

ولكن يدفعه : أنّ غاية ما يقبح هنا إنّما هو التقاعد عن العمل بعنوان العصيان ، وكلامنا إنّما هو في التقاعد بعنوان التعويل على حصول المسقط مع العلم به وهو ليس بقبيح عقلا ولا عرفا ، بل هو ممّا يجوّزه العقل والعرف.

ووجهه : أنّ الواجب في الكفائي وإن كان ملزوما لطلب المباشرة من الكلّ كالعيني ، غير أنّ بينه وبين العيني فرقا في نظر العقل والعرف ، وهو أن فعل البعض في الكفائي لكونه مسقطا للفرض عن البعض الآخر فكأنّه قائم مقام فعل ذلك البعض ، والّذي قام به يعدّ في نظر العقل والعرف نائبا عن الّذي لا يقوم به ، وإن لم يكن ذلك مؤدّيا للفعل بعنوان النيابة بل إنّما يأتي بما يجب على نفسه أصالة ، فينزّل فعله عند العقل والعرف منزلة فعل غيره من مشاركيه في التكليف ، فلذا نرى العرف لا يقبّحون من يتقاعد في الكفائي حين اشتغال غيره بالعمل ، تعويلا على أنّه كاف في حصول غرض المولى ومسقطا عن فرضه ولا يعاقبه المولى لو رآه على هذه الحالة ، وكما أنّ تقاعد البعض حال اشتغال غيره على الوجه المذكور جائز عرفا وعقلا ولا قبح فيه أصلا ، فكذلك حال علمه بأنّه سيحصل الاشتغال من غيره في المستقبل ، فإنّ المناط إنّما هو حصول الغرض وقيام المسقط وكون الغير

ص: 112

بمنزلة النائب وفعله بمنزلة فعل المتقاعد ، وهو حاصل في كلا المقامين جزما ، ولا يعتبر معه ظنّ بالسلامة ولا غيره بخلاف صورتي الظنّ والاحتمال ، فإنّ المناط المذكور ليس بمحرز فيهما بعنوان الجزم واليقين ، فلا قضاء للعقل ولا العرف فيهما بشيء ، بل يمكن دعوى أنّهما حينئذ يقضيان بالخلاف وعدم جواز التقاعد إلاّ مع الظنّ بالسلامة ، دفعا للضرر المحتمل المتولّد عن احتمال عدم حصول المباشرة من الغير أيضا ، فيبقى الواجب بلا تعقّبه للامتثال فيوجب الوقوع في المؤاخذة والعقاب.

وعلى الثاني (1) : يفصّل ما لو حصل الشروع من الغير في أوّل أزمنة إمكان العمل وما لو حصل بعده ، فعلى الأوّل يجوز التقاعد لما عرفت من قضيّة تنزيله منزلة النائب بحكم العقل والعرف.

وعلى الثاني لا يجوز لاستلزامه تأخير المضيّق وهو غير جائز على ما هو مفاد التضييق ، ولو كان بالمعنى الأعمّ.

فصار محصّل الكلام : أنّ التقاعد في الموسّع جائز مع العلم بحصول المباشرة من الغير ولو في الآجل دون غيره ، فلا بدّ حينئذ إمّا من الظنّ بسلامة العاقبة أو مباشرة الفعل فعلا ، وبدونهما يعصى بالتأخير وإن صادف حصول الفعل بعده ، وفي المضيّق جائز مع حصول الاشتغال فعلا دون غيره وإن علم بحصوله في الآجل.

وبمثل ذلك يفصّل في التقاعد عن الفحص لمن لا يعلم بتحقّق السبب ، ففي الموسّع يجوز مع العلم بأنّه على تقدير تحقّقه يطّلع عليه غيره عادة ويأتي به ولو في الآجل ، وفي المضيّق يجوز مع العلم بحصول الاشتغال فعلا من غيره لو كان السبب متحقّقا على وجه يقضي العادة باطّلاع ذلك الغير عليه لئلاّ يلزم تأخير المضيّق في الامتثال.

وثالثها : أنّ الواجب حيثما تمّ شرائط وجوبه يترتّب عليه جميع أحكامه ولوازمه ، من كون فاعله ممدوحا مستحقّا للثواب وتاركه مذموما مستوجبا للعقاب ، والكفائي أيضا بعد تمام أسبابه ليس إلاّ على حدّ سائر الواجبات مستلزم إيجاب جميع ما له مدخليّة في إيجاده من باب المقدّمة.

وهذا ممّا لا كلام فيه ، وإنّما الإشكال في أنّ إيجاده في الخارج قد يتوقّف على صرف مؤنة وبذل مال فهل يجب ذلك على المكلّفين كما يجب أصل العمل ، كما هو الحال في

ص: 113


1- عطف على قوله : « فعلى الأوّل لا إشكال في الجواز » الخ.

الواجبات العينيّة إذا توقّف حصولها على صرف الماء كالوضوء ونحوه ، وفي موضوع توقّف تحصيل الماء على أن يتّجر بشيء من المال ولو كثيرا أو لا يجب ذلك؟ بل الواجب أصل العمل في موضع اتّفاق ما يفتقر إلى صرف المال من غير جهته؟

فقضيّة القول بوجوب المقدّمة هو الوجوب ، لأنّه ممّا لا يتمّ الواجب إلاّ به فيجب ، والمفروض أنّه يثبت بحكم العقل فليس قابلا للتخصيص.

ولكن يشكل ذلك في تغسيل الميّت وتكفينه وسائر أعماله المحتاجة إلى المؤنة إذا لم يخلّف ما يتّجر به السدر والكافور والكفن ونحوه ، لقيام سيرة الناس على عدم الالتزام بذلك ، بل فتوى الفقهاء قائمة بذلك مصرّحة باستحباب البذل حينئذ كما في الشرائع وغيره ، وفي إرشاد العلاّمة : « ويستحبّ للمسلمين بذل كفن الميّت لو فقد الكفن » وفي كلام جماعة نفي الخلاف عن عدم الوجوب كما عن المسالك والذخيرة والنهاية ، بل عليه نقل الإجماعات على حدّ الاستفاضة ، ومنها ما عن الرياض وشرح الوسائل في محكي اللوامع.

وربّما يتوجّه هذا الإشكال بالنظر إلى بناء العرف في أوامرهم لما نجدهم ملتزمين ببذل المؤن فيما يرجع إلى أنفسهم من مصالح الواجبات دون ما يرجع منها إلى غيرهم آمرا كان أو غيره ، ولذا لو أمره العالي بشرب الدواء مثلا لا يسمع عذره في ترك الشرب بعدم حضور الدواء عنده مع تمكّنه من إحضاره ولو بالاتّجار ، بل لا يزال مذموما عند الآمر وغيره ممّن عثر بحاله ، بخلاف ما لو أمره بترتيب الدواء المخصوص له أو لغيره ، فإنّه لا يلتزم بالامتثال إلاّ إذا حضر أجزاء ذلك الدواء عنده أو كان عنده من مال الآمر ما يكفيه في تحصيل أجزائه ، متقاعدا عن العمل مع انتفاء الأمرين وتمكنه من تحصيل المطلوب ببذل شيء من نفسه ، فإنّه حينئذ لا حرج عليه ويسمع عذره ولا يؤاخذ بتمكّنه عن صرف المال من نفسه.

وهذا الفرق بين المقامين كما ترى ممّا لا يعرف له وجه ، فإن كان الالتزام ببذل المال في الأوّل ممّا ينشأ عن استلزام الأمر بالشيء إيجاب ما لا يتمّ إلاّ به فالتفكيك بينه وبين الثاني ممّا لا يعقل ، وإن كان عدم الالتزام به في الثاني من جهة أنّ الخطاب ممّا لا قضاء له بذلك ، فلا يتمّ إلاّ على تقدير منع استلزام الأمر بالشيء إيجاب مقدّماته فهو جار في الأوّل أيضا.

إلاّ أن يقال : بأنّ ذلك حكم آخر ثبت عندهم في الأوّل بقرينة خارجة عامّة وهو في غاية البعد ، مع أنّ استلزام الأمر بالشيء إيجاب مقدّماته ممّا يشهد به ضرورة العقول فكيف

ص: 114

يخفى على العرف.

ولو قيل بالنسبة إلى الشرعيّات بأنّ القاعدة وإن كان تقتضي ذلك إلاّ أنّ عموم « لا ضرر ولا ضرار » و « لا يحلّ مال امرء إلاّ بطيب نفسه » و ( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (1) ونحوه أوجب الخروج عنها.

لدفعه : أنّ القاعدة إذا كانت مأخوذة من العقل - ولو تبعا - امتنع تخصيصها.

نعم يمكن التفصّي عن الإشكال فيها وفي العرفيّات بأحد من الطرق الثلاث من منع دخول بذل المال في عداد المقدّمات ، أو دعوى كون الواجب بالنسبة إليه مشروطا ، أو دعوى كونه مشروطا بما هو محصّل له ، فعدم وجوبه إمّا من جهة أنّه ليس بمقدّمة أصلا ليجب تحصيله ، أو من جهة أنّه مقدّمة وجوديّة اخذت مقدّمة للوجوب أيضا كالقدرة فلا يتّصف بالوجوب المقدّمي باتّفاق من أصحاب القول بوجوب المقدّمة وأصحاب القول بنفي الوجوب ، أو من جهة أنّه يرجع في الحقيقة إلى السعي في تحصيل مقدّمة الواجب المشروط فلا يجب ، كالسعي في تحصيل الاستطاعة الّتي جعلت شرطا للوجوب بالتكسّب ونحوه ، حيث لا يجب اتّفاقا من أصحاب القولين.

أمّا الأوّل فبأن يقال : انّ المقدميّة وصف يعبّر عنه بكون الشيء موقوفا عليه لحصول غيره ، وهو وصف وجودي في الشيء يعرضه إذا كان في ذاته لذاته أو لجريان العادة أو لاعتبار المعتبر شيء يقتضي تقدّمه بحسب الرتبة على غيره ممّا فرض هو مقدّمة له وكونه من لوازم وجوده ، بحيث لولاه لما اتّفق له وجود في الخارج أصلا ، لا لأنّ انتفاءه يكشف عن انتفاء شيء من مقدّمات وجوده كما في المعلولين لعلّة ثالثة ، بل لأنّه يكشف عن كونه بنفسه مقدّمة له ، فيقال له المقدّمة حينئذ ، عقليّة كانت إذا كان تقدّمها الذاتي من مقتضيات ذاتها وطبعها ، أو عاديّة إذا كان تقدّمها ممّا جرت به العادة ، أو شرعيّة إذا كان تقدّمها ممّا اعتبره الشارع بأن لاحظ في ذيها نحو تقييد لولاها لما لحقه ذلك التقييد ، فإنّ العقل إذا لاحظ ما فيها من مقتضي التقدّم بإحدى الجهات الثلاث يحكم بكونها مقدّمة وموقوفا عليها ، فالتوقّف في الكلّ عقليّ وإن كان ما ينشأ منه التوقّف قد يكون بحكم العادة وقد يكون بجعل الشرع ، وهذا المعنى كما ترى غير متحقّق في المقام بالقياس إلى بذل المال في تحصيل التمكّن عن أداء الواجبات الكفائيّة في الشرعيّات والواجبات الّتي يرجع

ص: 115


1- النساء : 29.

مصالحها إلى غير المكلّف في العرفيّات ، وذلك لوضوح عدم لحوق التقييد الشرعي بما هو واجب بالقياس إليه ، وعدم جريان العادة بإيصال المصالح إلى الغير بواسطة بذل الأموال.

نعم قد يتّفق ذلك في بعض الأحيان ومجرّد ذلك لا يوجب حصول العادة ، وعدم اشتماله على ما يقتضي تقدّمه بالذات على العمل في نظر العقل ، بل غاية ما في الباب أنّه يتقدّم عليه بالذات حصول ما يتأدّى به ، فلذا يقال : انّه حصل فتأدّى به العمل ، وهو قد يتّفق في بعض الأحيان أنّه يقارنه البذل من باب المقارنات الاتّفاقيّة. ولكنّ الانصاف أنّه لا مجال إلى إنكار المقدميّة من جهة العقل هنا ، إذ لا يراد بالمقدّمة ما يكون بلا واسطة فحصول ما يتأدّى به العمل مقدّمة بلا واسطة ، وله أيضا مقدّمات منها البذل ، فكونه من إحدى مقدّمات المقدّمة كاف في ترتّب حكم المقدّمة عليه لو كان في حدّ ذاته مقدّمة للوجود الصرف.

وأمّا الثاني فبأن يقال : إنّ مقدّمة الواجب - على ما قرّر في محلّه - إنّما يجب تحصيلها إذا كان ذلك الواجب مطلقا ، والواجب قد يكون مشروطا إذا كان مقدّمة وجوده غير مقدور لاعتبار اشتراط وجوبه حينئذ بحصول تلك المقدّمة ، ولا يعقل في مثله إطلاق الوجوب لأدائه إلى التكليف بغير المقدور ، ومحلّ البحث من البذل الّذي ينظر في وجوبه كفاية على المسلمين من جملة المقدّمات الغير المقدورة ، لأنّه ليس عبارة عن مجرّد الإعطاء باليد وما يقوم مقامها ، بل هو في الحقيقة أمر معنوي هو من صفات النفس ويعبّر عنها في الفارسيّة ب- « گذشت كردن » وهذه الصفة كما ترى من الصفات الاضطراريّة الخارجة عن اختيار المكلّف ، المنوطة في حدوثها للنفس بقيام دواع أحيانيّة غير اختيارية راجعة إلى إحراز ما يصلحه في معاشه ومعاده ، أو دفع ما يفسده فيهما من المضارّ ومنافيات الرأي ، وظاهر أنّ بذل المال في المقام ممّا لا داعي إليه يعتدّ به في نظر العرف ليكون هو من جهة تحقّقه دائم الحدوث للنفوس ، ولا سيّما بملاحظة ما في أكثرها من الانقباض في فكّ المال عن نفسه مجّانا.

وهذا المعنى هو الّذي اعتبره الشارع في صحّة المعاملات من العقود والإيقاعات ونبّه عليه بقوله : « لا يحلّ مال امرء إلاّ بطيب نفسه » و ( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (1) ونحو ذلك ممّا يشتمل على اعتبار الرضاء النفساني ، وكون الرضاء من الامور الغير الاختياريّة المنوطة بدواع غير اختياريّة ممّا لا كلام فيه ، وإذا كان البذل في حدّ ذاته وصفا غير اختياري ولا داعي إليه في خصوص المقام يكون دائم التحقّق عند

ص: 116


1- النساء : 29.

النفس - كما في الاكتسابات المبنيّة على شيء من الدواعي الحاصلة عند النفس دائما - فيقبح التكليف به كما يقبح إطلاق التكليف بما يتوصّل به إليه المستلزم للتكليف به أيضا.

نعم لو حصل البذل اتّفاقا من جهة شيء من الدواعي صحّ التكليف بما يتوصّل به إليه وبسائر مقدّماته ، ولكنّه لا يجدي نفعا في إحراز كون التكليف به ثابتا على الإطلاق ، ليلزم منه إطلاق [ التكليف بما يتوصّل به إليه ].

ولا يقاس ذلك على ما تقدّم الإشارة إليه من مسألة وجوب السعي في [ تحصيل الطهارة المائيّة ] ولو ببذل المال في تحصيل الماء ولو كثيرا ، أو اشترائه ولو بأزيد [ من ثمن المثل ، لأنّه ] تعبّد ثبت بالشرع من جهة ما ورد فيه من الروايات.

[ خصوص ] قوله تعالى : ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا ) (1) حيث إنّه علّق جواز التيمّم [ على عدم وجدان الماء ] والوجدان يصدق مع التمكّن عن الماء بشرائه وبذل المال فيه.

نعم ... أيضا إلى قاعدة المقدميّة ولكنّه عند التحقيق بملاحظة ... بل العمدة في المقام هو النصّ والإجماع ، لا بمعنى أنّ النصّ ... بتعلّق التكليف بما ذكر من الأمر النفسي الغير المقدور ليتّجه المحذور ، ... المأمور به هنا في الحقيقة هو ما يقصد من الغايات عن ذلك الأمر النفسي ... إعطاء المال باليد ودفع الثمن بالجارحة أو ما يقوم مقامهما ، وهي كما ترى امور مقدورة للمكلّف فلا يقبح التكليف بها.

لا يقال : فعلى هذا إيجاب الاشتراء على المكلّف ممّا لا مجال إلى انطباقه على القاعدة المقتضية لاعتبار الرضاء النفساني في العقود ، إذ مفروض المقام انتفائه فلا يقتضي الاشتراء إباحة استعمال ما يشترى به ، مع انّ الغرض الأصلي منه إنّما هو التوصّل إلى استعماله ، لأنّا قد ذكرنا أنّه صفة نفسانيّة تحدث قهرا بحدوث دواعيها ، والفرار عن مخالفة أمر الشارع بالاشتراء ودفع المال وعصيانه الحاصل من جهة إفضاء ذلك إلى ترك ما هو مقصود بالأصالة يصلح داعيا إليه وباعثا عليه ، فكان الاشتراء حينئذ مقرونا بما هو شرط للصحّة.

فإن قلت : فلم لا تعتبر مثل ذلك في محلّ البحث ولا يلتزم بتعلّق الأمر المقدّمي بما فرضته من الامور الاختياريّة ليوجب بالأخرة حدوث الأمر الغير الاختياري وهو البذل الّذي هو من صفات النفس.

قلت : الالتزام بذلك ممّا يحتاج إلى دليل وقد عرفت أنّ المستند فيما التزمنا به إنّما هو

ص: 117


1- النساء : 43.

النصّ وهو ليس بموجود في المقام ، بل العمدة على تقدير الالتزام إنّما هو وجوب المقدّمة ، وهو مبنيّ على إطلاق الأمر بذي المقدّمة ، وظاهر أنّ أوّل المقدّمات في المقام إنّما هو البذل بالمعنى المذكور ، وما ذكر من إعطاء المال ودفع الثمن بالجارحة من لوازمه ، وهو لكونه غير مقدور لا يصلح لاطلاق الأمر بالنسبة إليه ، ولم يثبت إطلاقه ... أيضا ، مع أنّه غير معقول ، مع كون بعض مقدّماته غير مقدورة ، فإنّ الواجب ... مرتّبة في الوجود الخارجي ، مع كون أوّل تلك المقدّمات أو بعضها ... الأمر به باعتبار مقدوريّة بعض مقدّماته ، لأنّه بحكم الملازمة ... جميع مقدّماته الّتي منها المقدّمة الغير المقدورة ، لأنّ ... الوجوب لها من جهة الأمر بذيها في عرض واحد ودرجة ... الكثرة ما بلغت ، مضافا إلى أنّ الاستفادة الأمر باللوازم عن الأمر بذي المقدّمة هنا ممّا يفضي إلى الدور ، لأنّ ذلك موقوف على كون ذلك الأمر مطلقا وهو موقوف على كون تلك الصفة النفسانيّة ممّا ألغاها الشارع ، وهو موقوف على كون ذلك الأمر مطلقا ، وهو دور صريح.

نعم لو اتّفق بتلك المقدّمة الغير المقدورة حصول في الخارج أحيانا صحّ الأمر به ، فيقضي ذلك الأمر بوجوب سائر مقدّماته المقدورة.

وممّا ذكر تبيّن أنّه لا مجال لأحد إلى أن يقول ... أنّ إطلاق الأمر بالنسبة إلى لوازم البذل غير ثابت بأنّ الأصل فيه ... (1) في محلّه إنّما هو الإطلاق ، لأنّ ذلك في مورد قيام القرينة على الخلاف ... وعدم مقدوريّة بعض المقدمات مع ملاحظة ما ذكرناه من القاعدة ... قرينة قويّة على ذلك ، فلذا صرّحوا بكون الواجب بالنسبة إلى مقدّماته الغير المقدورة مشروط.

نعم لو فرض ورود نصّ بالخصوص متعلّق بلوازم البذل لا مناص من المصير إلى وجوبها الكاشف عن إطلاق الأمر بأصل ذي المقدّمة من غير لزوم محذور ، لأنّ الأمر باللوازم حينئذ ينتهض داعيا إلى حصول الأمر الغير المقدور فيرتفع به ما هو مانع عن تعلّق التكليف به مع عدم حصوله وهو التكليف بغير المقدور ، والمفروض خلوّ المقام عن ذلك ، وكأنّ النكتة الباعثة على الفرق بين مقامنا هذا وما تقدّم في مسألة وجوب السعي في تحصيل الطهارة المائيّة بأيّ نحو اتّفق بورود النصّ فيه بلوازم البذل دون مقامنا هذا ، فإنّ مصلحة الواجب فيه لكونه راجعة إلى المكلّف نفسه فحكمته البالغة تقتضي الرأفة على ما

ص: 118


1- هنا قد زالت بعض الكلمات في نسخة الأصل ومن ثمّ علّمنا مواضعه بالعلامة ( ... ).

هو من لوازم الأمر الغير المقدور الموجب لحصوله قهرا إيصالا لتلك المصلحة إليه ، نظرا إلى تعلّق غرضه تعالى بتكميله ورفعه إلى مراتب الكمال بخلاف مقامنا ، لما عرفت مرارا فإنّ غاية ما يصل فيه إلى المكلّف إنّما هو الثواب وهو لازم مشترك بينه وبين ما تقدّم.

وممّا يرشد إلى أنّ ما ذكر من الصفة النفسيّة أمر غير مقدور أنّ الرضاء النفساني الّذي هو عينها أو قريب منها لم يرد به أنّه في الشرعيّات ولا العرفيّات بل ربّما يعدّ الأمر به في نظر العقلاء مستهجنا.

هذا ولا يقاس ذلك في المقام على ما ثبت من وجوب البذل في مواضع الحسبة كحفظ النفس المحترمة المشرفة على الهلاك المتوقّف على صرف المؤونة مع كون الوجوب فيه كفائيّا ، لأنّ المكلّف في بذله هناك مخيّر بين التبرّع وقصد الاسترداد.

ولا ريب أنّ الاسترداد من الدواعي النفسانيّة الباعثة على حصول الأمر النفساني ، فالتكليف به حقيقة تكليف بما هو في حكم المقدور أو بلوازمه المقدورة أيضا.

ولا يخفى أنّ مثل ذلك لا يجري في المقام ، إذ المفروض أنّ الميّت لم يترك شيئا يستردّ منه المبذول له ، وإلاّ كان المتعيّن التوصّل إلى الواجب بما تركه ولم يكن الحاجة ماسّة إلى البذل.

نعم لو فرض أنّه ترك شيئا ولكن كان موته في موضع تعذّر فيه الوصول إليه لا نضائق الالتزام بوجوب البذل بقصد الاسترداد ، لتناول أدلّة الحسبة له أيضا لكن مفروض المقام ليس من هذا الباب.

فإن قلت : إنّ الاسترداد المعتبر قصده في مواضع الحسبة أعمّ من الاسترداد عن بيت المال أو عن المحلّ إن كان موسرا ولو في الآجل ، وهذا المعنى كما ترى يجري في المقام أيضا ، فإنّ المكلّف هنا يبذل من ماله الكفن وسائر لوازم الميّت بقصد الاسترداد عن بيت المال.

قلت : إن كان فرض موته في موضع وجود بيت المال كان المتعيّن صرف لوازمه منه ، لأنّه مال عيّن لمصالح المسلمين وهو منها بل العمدة منها ، كما يظهر من طريقة الشارع في زيادة اهتمامه بأمر الأموات ، فلذا قدّم مصارف تجهيز الميّت من تركته على ديونه ووصاياه وتوريث ورثته في صورة انحصار تركته فيما يكفي لوازمه ولا حاجة معه إلى إلزام الغير بالبذل ، ولذا صرّح الأصحاب بوجوب البذل من بيت المال إن كان موجودا مع اتّفاقهم على عدم وجوبه على المسلمين ، وإن كان في موضع عدم وجوده ففرض الاسترداد منه محال ،

ص: 119

مع أنّ ثمرة البحث إنّما تظهر في تلك الصورة.

ولكنّ الانصاف أنّ عدم مقدوريّة الوصف النفساني هنا لا يمنع عن تعلّق التكليف به ، لأنّ متعلّق التكليف لا بدّ وأن يكون بنفسه مقدورا أو منتهيا إلى المقدور ، وهذا الوصف وإن كان بنفسه غير مقدور ولكنّه يرجع بالأخرة إلى ما هو مقدور ، وهو النظر والتأمّل فيما يوجب تحقّق دواعيه النفسانيّة من زيادة في المال أو بركة في الرزق والعمر أو طمع في الاشتهار ونحوه ، إذا علم المكلّف أنّ الإقدام على هذا العمل ممّا يوجب هذه الامور ويترتّب عليه تلك الفوائد ، ولا ريب أنّ النظر [ والتأمّل ] مقدوران فلا مانع من التكليف بما هو مسبّب عنهما لمقدوريّة سببهما كما هو الحال في التوليديّات ، ومن هذا الباب الأمر بأعمال القلب من المحبّة والبغض والاعتقادات ، فهذه وإن كانت امورا غير مقدورة ولكنّها تنتهي إلى المقدور وهو النظر والتأمّل فيما يوجبها عن الأسباب والمقتضيات.

وأمّا الثالث فبأن يقال : على تقدير كون البذل أمرا اختياريّا أو راجعا إلى الاختيار - نظرا إلى أنّ التكليف بشيء لا يرجع إلى الاختيار قبيح لا مطلقا - أنّ الأمر بتغسيل الموتى وتكفينهم مشروط بوجوب ما يكفيهم في تحصيل الكفن والخليطين فعلا ، سواء كان من تركته أو من بذل باذل له ، فلو حصل ذلك الشرط يجب على المسلمين كفاية الإقدام على العمل من التغسيل بالخليطين والتكفين ومع عدمه فلا شيء عليهم بالنسبة اليهما ، بل دفن عريانا بعد تغسيله مرّة بالماء القراح كما عليه بعض الأصحاب ، وأمّا ما عليه البعض الآخر من وجوب ثلاث أغسال بالقراح فوارد على خلاف التحقيق ، لأنّ ما زاد على الغسل الواحد كان وجوبه مشروطا بما لم يحصل الشرط ، ووجوده من حيث الصحّة مقيّدا بما لم يحصل معه ، وظاهر أنّ انتفاء الشرط ممّا يقضي بانتفاء المشروط ، فلا أمر بالقياس إلى ما زاد ليجب امتثاله.

والاحتجاج عليه : « بأنّ الميسور لا يسقط بالمعسور » و « ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه » ونحو ذلك في غير محلّه.

والّذي يكشف عمّا ذكرناه من اشتراط الوجوب بما ذكر اجماعهم على عدم وجوب البذل على المسلمين مع الفقدان ، مضافا إلى ما في التهذيب عن أحمد بن محمّد عن الحسن بن محبوب عن الفضل بن يونس الكاتب قال : « سألت أبا الحسن موسى عليه السلام فقلت له : ما ترى في رجل من أصحابنا يموت ولم يترك ما يكفّن به أيشتري له كفنه من الزكاة؟

ص: 120

فقال : أعط عياله من الزكاة قدر ما يجهّزونه فيكونون هم الذين يجهّزونه ، قلت : فإن لم يكن له ولد ولا أحد يقوم بأمره فاجهّزه أنا من الزكاة؟ قال : كان أبي يقول : حرمة بدن المؤمن ميّتا كحرمته حيّا ، فوار بدنه وعورته وجهّزه وكفّنه وحنّطه واحتسب بذلك من الزكاة ، وشيّع جنازته » إلى آخره (1).

وجه الدلالة : أنّه سأل عن جواز صرف الكفن عن الزكاة في رجل مات ولم يترك ما يكفّن به ، فهو شاهد بأنّ عدم وجوبه على المسلمين كان مفروغا عنه عنده وإلاّ لكان الأولى أن يسأل عنه على تقدير جهله به ، أو كان المتعيّن عدم السؤال أصلا على تقدير كون المحقّق عنده وجوبه عليهم ، مع أنّ الإمام لم يبيّن له أنّ ذلك محلّ الوجوب على المسلمين وهو منصوب لتبليغ الأحكام ، فلو لا عدم الوجوب كان عدوله عن بيان ذلك منافيا لمنصبه ، ولا سيّما كون السؤال واقعا في محلّ الحاجة ، ولا ريب أنّ عدم وجوبه على المسلمين لا يلائم إطلاق وجوب الكفن المتعلّق بهم ، فلا بدّ وأن يكون مشروطا إذ لا ثالث لهما وهو المطلوب ، فحينئذ لو كان في المقام أوامر مطلقة قاضية بوجوب التكفين على الإطلاق المستلزم لوجوب جميع مقدّماته الّتي منها بذل الكفن يقيّدها تلك الرواية لمكان كونها مقيّدة كما عرفت ، مضافة إلى الإجماع المتقدّم ، كيف ووجوب الإطلاق القاضي بوجوب تحصيل الكفن له في حيّز المنع كما أنكره الشيخ الاستاذ - في شرحه للإرشاد - دام ظلّه (2).

وممّا يشهد بذلك أيضا قيام الإجماع وورود النصوص بأنّ كفن الميّت وسائر جهاته يخرج من ماله لو كان له مال ، وأنّ كفن الزوجة على الزوج متعيّنا ، وكفن المملوك على سيّده كذلك ، فلو كان أوامر التكفين المتعلّقة بجميع المكلّفين كفاية مطلقة غير مشروطة بما ذكرنا لكانت قاضية بوجوب الكفن عليهم أيضا كفاية ، كسائر مقدّماته الغير المنوطة بصرف المؤونة ، ولم يكن لوجوبه العيني على الزوج والسيّد وجه ، والتالي باطل ، فيكون ذلك كاشفا عن أنّ المراد من تلك المطلقات وجوب تكفينه في كفن مبذول له من ماله أو من زوجه أو من سيّده أو من متبرّع كما تنبّه عليه الشيخ الاستاذ دام ظلّه.

فإن قلت : لم لا يجوز اعتبار الترتيب هنا بكون الوجوب ثابتا على الزوج والسيّد أوّلا عينا ثمّ مع فقدهما على المسلمين كفاية؟

ص: 121


1- التهذيب 1 : 445.
2- وهو الشيخ الأعظم الأنصاري ، في كتاب الطهارة.

قلت : مع أنّه لم يقل بذلك أحد ، أنّ الترتيب إن اريد استفادته عن تلك الأوامر فهي غير قاضية بذلك لورودها مطلقة من تلك الجهة ، وإن اريد استفادته من الخارج فهو مفقود في المقام فلا سبيل إليه أصلا.

فبجميع ما قرّرناه تبيّن أنّ الواجبات الكفائيّة المنوطة بصرف المؤونة على أنواع :

منها : ما يكون واجبا مطلقا على المسلمين مع وجوب صرف المؤونة عليهم أيضا كفاية على وجه التخيير فيه بين المتبرّع وقصد الاسترداد.

ومنها : ما يكون واجبا مطلقا أيضا عليهم مع وجوب صرف المؤونة عن بيت المال.

ومنها : ما يكون واجبا مشروطا بوجود ما يحتاج إلى البذل سواء حصل من البذل أو من غيره من الجهات.

ثمّ بقي في المقام شيء وهو أنّه قد ذكرنا الإشكال سابقا بالنسبة إلى العرفيّات من حيث استقرار بنائهم في الأوامر على الفرق بين ما يرجع مصلحة الواجب إليهم فيلتزمون بصرف المؤونة في موضع الحاجة للتوصّل إلى ما هو واجب عليهم ، وما يرجع المصلحة إلى غيرهم آمرا كان أو غيره فلا يلتزمون به.

ولكن لا يخفى أنّ هذا الفرق ثابت عندهم في المصالح الخاصّة وأمّا لو كانت المصلحة عامّة راجعة إلى آحادهم على سبيل الاشتراك مع كونها في موضع الوجوب الكفائي فبناؤهم فيه على الالتزام بجميع المقدّمات حتّى صرف المؤونة من أنفسهم - كما لو أمر السلطان رعاياه بتعمير سور البلد مثلا حفظا لهم عن اللصّ وغيره من الأعداء فإنّهم لا يزالون حينئذ يقدمون على العمل ويصرفون من أنفسهم المؤونة ولا يتوقّفون على وصولها من السلطان ، وكأنّه لقيام قرينة عندهم دالّة على كون هذا الوجوب مطلقا غير مشروط بوجود المؤونة عندهم من مال السلطان ، فعلى هذا لا يبعد المصير إلى وجوب البذل في الشرعيّات أيضا فيما لو كان وجوب الكفائي لمصلحة عامّة لجميع المكلّفين كحفظ بيضة الإسلام ونحوه ، فيكون ذلك حينئذ نوعا رابعا من أنواع الكفائي هذا.

ورابعها : أنّ الكفائي هل يجوز فيه إقدام الكلّ أو أكثر من واحد على أدائه أو لا؟ وعلى تقدير الجواز فهل يقع العمل في كلّ واحد على وصف الوجوب أو لا؟

وتفصيل القول فيه : إنّك قد عرفت أنّ الكفائي ما يعمّ الكلّ في تعلّقه ، بمعنى أنّه يتعلّق بكلّ واحد من المكلّفين على سبيل التعيين ، وأمّا في حصوله الموجب لسقوط الفرض فقد

ص: 122

لا يصلح إلاّ الوحدة ، بمعنى كون ما يحصل في ظرف الخارج بمباشرة المكلّف واحدا كان أو متعدّدا فعلا واحدا في نظر العقل والعرف ، وقد يصلح للوحدة والتعدّد معا ، بمعنى كونه صالحا لأن يكون ما حصل في الخارج فعلا واحدا أو أفعالا متعدّدة.

أمّا الأوّل فعلى قسمين :

أحدهما : ما لا يصلح إلاّ مباشرة واحد.

وثانيهما : ما يصلح لها ولمباشرة المتعدّد ، فهذه أنواع الثلاث :

أحدها : ما لا يصلح إلاّ الوحدة من مباشر واحد كغسل الميّت ، ففي مثل ذلك لا ينبغي التكلّم في جواز إقدام الكلّ وعدمه ، لأنّ الجواز الشرعي إنّما ينظر في ثبوته بعد إحراز الجواز العقلي ، وما فرض في المقام ليس قابلا لاجتماع الكلّ ولا أكثر من واحد على أدائه في آن واحد على سبيل الدفعة.

نعم لو أراد الكلّ أداءه في آنات متعدّدة على سبيل التدريج فهو وإن كان قابلا له غير أنّ الجواز الشرعي هنا منتف ، لقضاء حصوله بالدفعة الاولى بحصول الامتثال الموجب لارتفاع الأمر ، فيكون ما عداها من الدفعات اللاحقة بدعة محرّمة من غير فرق فيه بين كون المأمور به هنا هو الماهيّة أو المرّة ، كما هو الظاهر المنساق من أدلّته بل هو المصرّح به في أكثر الفتاوي ومعاقد الإجماعات وبعض الروايات ، الّتي منها رواية الحلبي المرويّة في التهذيب قال : « قال أبو عبد اللّه عليه السلام : يغسّل الميّت ثلاث غسلات ، مرّة بالسدر ، ومرّة بالماء يطرح فيه الكافور ، ومرّة اخرى بالماء القراح ، ثمّ يكفّن » إلى آخره (1).

ص: 123


1- وفي حكم ما ذكرناه من تعلّق الحكم بالجميع وعدم صلوح حصول الفعل إلاّ من واحد الضمان المترتّب على الأيادي المتعاقبة على عين واحدة ، فإنّه متعلّق بالجميع ويسقط بفعل البعض. أمّا الأوّل : فلمفهوم « على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » أي على عهدتها والتزامها وكونها ملتزمة به حتّى تؤدّيه بعينه أو بدله ، والضمان عبارة عن كون شيء على الذمّة بمعنى العهدة والالتزام ، فالرواية قاضية بكون اليد سببا للضمان. ومن المقرّر على ما يأتي في محلّه أنّ تعدّد الأسباب يقضي بتعدّد المسبّبات حيثما أمكن تعدّدها ، وأنّ الأصل عدم التداخل والمفروض في تعاقب الأيدي على عين واحدة تعدّد الأسباب ، فكلّ يضمن بتلك العين على تقدير البقاء أو بدلها على تقدير التلف ، ومعنى ضمان الكلّ كون تلك العين أو بدلها على ذمّة الجميع حتّى يؤدّوه ولا يضرّ فيه وحدة العين أو بدلها كما لا يضرّ وحدة الفعل في الكفائي ، حيث يجعل لكلّ واحد بعينه اشتغال الذمّة بذلك الفعل الواحد الناشئ عن التكليف به. غاية الأمر أنّه إذا حصل التأدية من بعضهم للعين أو بدلها يسقط عن الباقين كالكفائي لارتفاع موضوع التأدية معه من جهة وحدة العين فلا يقبل التعدّد وبدل الواحد أيضا واحد لا يعقل كونه متعدّدا. ( منه عفي عنه ).

وثانيها : ما يصلح لمباشرة واحد أو متعدّد مع عدم صلوحه إلاّ الوحدة كإزالة النجاسة من المسجد وإنقاذ الغريق وإطفاء الحريق ونحو ذلك من أنواع حفظ النفس المحترمة ، فإنّ كلّ واحد من ذلك صالح لمباشرة الواحد والمتعدّد ، سواء كان في موضع عدم كفاية الواحد أو في موضع كفايته ، غير أنّ ما يبرز في الخارج على تقدير حصوله من المتعدّد لا يعدّ إلاّ فعلا واحدا ، وهو أيضا ممّا لا ينبغي النظر في عدم اتّصاف ما يصدر من كلّ واحد بالوجوب من جهة أنّ التكليف إنّما يتعلّق بالعمل التامّ وما صدر من كلّ على فرض الاجتماع ليس بنفسه عملا تامّا ، بل العمل التامّ إنّما هو مجموع ما حصل من المجموع ، وأمّا جواز الاجتماع هنا وإن كان قابلا للتكلّم غير أنّ حكمه يعلم ممّا يقرّر فيما بعد ذلك.

وثالثها : ما يصلح للوحدة والتعدّد مع صلوحه للوحدة والتعدّد مع صلوحه لمباشرة واحد ومتعدّد كصلاة الميّت وردّ السلام ونحوه ، فهذا هو محلّ الكلام وظاهر أنّ قضيّة قولنا « بتعلّق الوجوب بكلّ واحد » جواز إقدام الكلّ أو أكثر على أدائه ، وعلى تقدير حصوله من أكثر فكلّ واحد يقع على وصف الوجوب.

أمّا الثاني : فلحصول الجميع حال بقاء الوجوب المتعلّق بالجميع فلا مجال إلى إنكار وصف الوجوب في شيء من ذلك.

وأمّا الأوّل : فلأنّ المأمور به في الحقيقة هو الماهيّة وجواز الإتيان بها من مقتضيات الأمر لأنّه جنس له ، والمفروض أنّ الأمر بها متعلّق بكلّ واحد ، فيكون الأداء من كلّ واحد إتيانا بما تعلّق به المقتضي للجواز ، ومعه لا مجال للتشكيك في الجواز ، وإلاّ لزم مفارقة النوع عن الجنس أو ما هو بمنزلته وهو محال.

نعم لو أراد واحد منهم أو أكثر الإتيان بها بعد حصول أدائها من الغير فليس له ذلك ، لفقد ما يقتضي ذلك من جهة ارتفاع الأمر بحصول المأمور به في الخارج قبله فيندرج تحت قاعدة البدعة فيكون حراما.

فإن قلت : الجواز كما أنّه يحتاج إلى وجود المقتضي كذلك يحتاج إلى فقد المانع ، وما ذكر من الوجه لإحرازه إنّما يجدي في إحراز المقتضي ، وهو غير كاف لمصادفة ذلك المقتضي لوجود المانع وهو لزوم تحصيل الحاصل ، إذ المفروض أنّ الماهيّة المأمور بها تتأدّى بفعل واحد فالإقدام على إيجادها ممّن زاد عليه تحصيل للحاصل وهو محال.

قلت : استحالة تحصيل الحاصل إنّما تنشأ من استحالة إعادة المعدوم ، ولا ريب أنّ

ص: 124

اعادة المعدوم لا يتصوّر لزومها إلاّ فيما لو حصل الأداء من الأكثر تدريجا ، فيقال حينئذ لمن أراد الامتثال بها متأخّرا أنّ الامتثال فرع الأمر الّذي لا بدّ له من موضوع ، فإن أردت امتثاله في الماهيّة الحاصلة سابقا فلا يعقل إلاّ على تقدير إعادة تلك الماهيّة وهو محال لصيرورتها منعدمة ، وإن أردت امتثاله في ماهيّة اخرى لاحقة لها فلا يعقل إلاّ إذا ثبت الأمر بها ، وهو مبنيّ على ورود أمر آخر وكون الأمر الأوّل مفيدا للتكرار ، وكلاهما خلاف الفرض.

وإلى ذلك ينزّل قولهم في نظائر المقام بأنّه : « لا معنى للامتثال عقيب الامتثال » وهذا المعنى كما ترى لا يجري في محلّ الكلام أصلا ، لعدم ابتناء حصول الامتثال من كلّ واحد حين إقدامهم على العمل في آن واحد على اعادة المعدوم ، ولا على ورود الأمر الآخر ، ولا على افادة الأمر الأوّل للتكرار ، فلا مانع من جواز إقدام الكلّ على العمل على سبيل الدفعة.

نعم يشكل الحال في ذلك على القول بتعلّق الأمر الكفائي بالكلّ على سبيل البدليّة كما عليه بعض الأفاضل وغيره ، لأنّ قضيّة البدليّة كون المأمور به فعلا واحدا والإقدام من الجميع يستلزم تعدّد الأفعال الواقعة دفعة ، وهو مناف لمقتضى الأمر فلا دليل على مشروعيّته.

وأمّا ما أفاده الفاضل المشار إليه في منع ذلك من أنّ الأمر الكفائي قد تعلّق بمطلق الطبيعة كغيره من الواجبات ، فالقول بأنّ الواجب هو المرّة ممّا لا وجه له فواضح الفساد ، لأنّ المرّة الّتي لا وجه للالتزام بها ما لو استفيدت عن الأمر على حسب دلالته الوضعيّة ، نظرا إلى أنّ المحقّق في محلّه كونه موضوعا لطلب الماهيّة دون المرّة والتكرار.

وأمّا إذا قامت قرينة من الخارج على اعتبارها في مقام فلا مجال من الالتزام بها ، وهي في المقام من مقتضيات البدليّة الّتي التزمت باعتبارها في الواجب الكفائي ، بناء على أنّ المراد بها هنا البدليّة في الفاعل وهي تستلزم البدليّة في الفعل ، ومعنى البدليّة في الفعل هنا كون المطلوب بالأمر حصول العمل من فاعل حال عدم حصوله من غيره وحصوله من ذلك الغير حال عدم حصوله من الأوّل ، ولا يعقل في مثل ذلك إلاّ كون المطلوب بالأمر هو المرّة.

ولا ريب أنّ إقدام الجميع عليه على سبيل الدفعة ينافي ذلك ، بناء على أنّ المراد بالمرّة هو الفرد - كما هو الأظهر على ما قرّرناه في محلّه - لا الدفعة الواحدة ، وظنّي أنّ هذا الكلام المبتني على الخبط العظيم إنّما نشأ عن ذلك الفاضل الملتزم بالبدليّة في المقام بملاحظة إجماعهم فتوى وعملا على جواز المباشرة في الكفائي من الكلّ في آن واحد بنيّة الوجوب من كلّ ، لعجزه عن دفعه ، وهذا من أقوى الشواهد القائمة ببطلان مذهبه كما

ص: 125

أشرنا إليه سابقا.

وخامسها : أنّ المعتبر في سقوط فرض الكفاية عن الباقين هل هو شروع من قام به الكفاية في العمل أو فراغه عن العمل؟ قيل فيه وجهان ، ويظهر عنه (1) الخلاف في ذلك حيث أسند الوجه الثاني إلى جماعة واختاره محتجّا بالأصل وإطلاق الأمر ، وهذا هو الّذي يساعد إليه النظر.

لنا : على ذلك بعد الأصل ، ما تقدّم من أنّ السقوط إمّا من جهة أداء الواجب في الخارج أو من جهة ارتفاع الموضوع بحصول المصلحة الداعية إلى الأمر ، وأيّا منهما كان فلا يعقل السقوط إلاّ بعد الفراغ.

أمّا على الأوّل : فلأنّ أداء الواجب معناه حصول الفعل في الخارج ولا يكون إلاّ بالفراغ.

وأمّا على الثاني : فلأنّ حصول مصلحة الواجب في الخارج منوط بحصول تمام الفعل ، مع أنّ قيام البعض بأداء العمل بمنزلة قيام البعض الباقي بأدائه لكونه منه بمنزلة النائب كما عرفت ، وكما أنّ ذلك البعض الباقي في واجباته العينيّة لا يفرغ ذمّته بمجرّد شروعه في العمل ، فكذلك في واجباته الكفائيّة إذا شرع في العمل من هو بمنزلته وقائم مقامه.

كيف ولو صحّ السقوط بالنسبة إليه بمجرّد شروع الغير لصحّ بالنسبة إلى الشارع أيضا لكون الأمر واحدا وكونهما في تعلّق ذلك الأمر بهما في عرض واحد وهو واضح الفساد ، مع أنّ المطلوب بالأمر إنّما هو إيجاد الفعل في الخارج لا مجرّد الشروع فيه ، فكيف يعقل سقوطه بمجرّد الشروع وهو منوط بحصول الامتثال الّذي هو منوط بحصول ما يمتثل به.

وبالجملة سقوط الفرض عن الباقين بمجرد شروع البعض لا نعقل له وجها إلاّ أن يقال : انّ الحكمة في إيجاب الكفائي على الجميع أن لا يتقاعد الجميع عن العمل ، فإذا حصل الشروع من البعض ارتفعت الحكمة المذكورة ، فينبغي أن يرتفع الأمر أيضا.

وفيه : أنّ هذه الحكمة إنّما اعتبرت في لحاظ الآمر مقدّمة لعدم فوات الواجب الموجب لفوات المصلحة الداعية إلى إيجابه.

ولا ريب أنّ ارتفاعها حينئذ دائر مدار عدم صدق قضيّة الفوات ، وهو منوط بصدق قضيّة الإدراك ولا يتأتّى ذلك إلاّ بعد الفراغ.

ص: 126


1- أي عن الفاضل المشار إليه وهو صاحب هداية المسترشدين 2 : 388.

ويظهر فائدة الوجهين فيما لو أراد الباقون الإقدام على العمل فيما بين شروع غيرهم إلى فراغه إذا كان العمل بنفسه قابلا لأن يجتمع على أدائه أكثر من واحد مع عدم الدلالة على اعتبار الوحدة في الامتثال ، نظرا إلى أنّ جواز الإقدام على أداء الواجب فرع بقاء وجوبه ، ويشكل الحال حينئذ على المختار فيما لو لحق الباقون بعد شروع غيرهم إلى ما فرغ ذلك عن العمل قبلهم ، فهل يجب عليهم قطع العمل لأنّ الأمر الكفائي قد ارتفع بحصول الغرض أو الواجب إنّما هو إتمامه لأنّ القدر المتيقّن ممّا ارتفع من الأمر إنّما هو ما تعلّق بالبعض الّذي حصل له الفراغ وأمّا الباقون فارتفاع الأمر عنهم محلّ شكّ فيستصحب إلى تمام العمل ، وهو الأظهر عملا بعموم ( لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ ) (1) مضافا إلى الأصل السليم عن المعارض.

ثمّ انّه لو حصل الفراغ للبعض عن العمل قبل تلبّس الآخرين فلا إشكال في سقوط الفرض عنهم ، ولا يجب معه عليهم التلبّس ، بل لو حصل بنيّة الوجوب مع العلم بالسقوط كان محرّما ، وأمّا كونه مندوبا بالخصوص أو مباحا فمبنيّ على ورود الدليل على الندب وعدمه ، ومن المندوب طلب العلم مع وجود من قام به الكفاية ، ومن المباح الصناعات كذلك لو قطع النظر عن العمومات القاضية بأنّ كلّ عمل يؤتى به لله عزّ وجلّ كان مندوبا وموجبا للثواب كان الجميع من المندوبات.

فما عن بعضهم في نوع الواجب الكفائي من القول بكونه بعد حصول المسقط نفلا لعدم صدق حدّ الواجب عليه ، لعلّه ناظر إلى إرادة هذا المعنى ، وإلاّ فكيف يعقل ذلك مع أنّه لم يرد فيه إلاّ أمر واحد إيجابي قد ارتفع بعد حصول المسقط ، إلاّ على توهّم أنّ المرتفع إنّما هو فصل الوجوب لا جنسه فيتخلّف عنه فصل الندب.

وفيه : مع أنّه غير معقول كما يأتي تحقيقه في محلّه ، أنّه ممّا لا يساعد إليه التعليل المذكور ، ومجرّد عدم صدق حدّ الواجب عليه لا يستلزم صدق حدّ المندوب عليه ، لكونه أعمّ والعامّ لا يصلح دليلا على الخاصّ.

وأمّا عن البعض الآخر قبالا للأوّل - من القول بكونه فرضا كالسابق لما فيه من ترغيب الفاعل ، لأنّ ثواب الفرض يزيد على ثواب النفل ، ولأنّ الفرض متعلّق بالجميع

ص: 127


1- محمّد : 33.

والسقوط إنّما هو - بالتخفيف - ففي غاية الوهن ونهاية الفساد ، مع عدم انطباقه بشيء من الأقوال المتقدّمة في أصل المسألة ، كيف وأنّ ما يترتّب على واجبات الأفعال أو مندوباتها إنّما هو من توابع الوصف العنواني الوجوبي أو الندبي.

ومن البيّن أنّ التابع لا يثبت إلاّ بعد إحراز متبوعه والكلام إنّما هو في إحراز المتبوع ، ومع ذلك فلو اريد بالاستدلال بزيادة ثواب الفرض استدلالا على طريق اللم فهو مع كونه استحسانا واضح المنع ، لأنّ العلّة الداعية إلى طروّ الوصفين في لحاظ الشارع إنّما هو رجحان الأفعال على اختلاف مراتبه ، فإذا بلغ الرجحان حدّا صار ملزما كان ما نشأ منه من الإلزام كافيا في ترغيب الفاعل ولا حاجة معه إلى الزيادة في الثواب ، وإلاّ فالحكمة تقتضي لأن يجعل الثواب زائدا ترغيبا للفاعل ، فزيادة الثواب حينئذ من لوازم النفل على ما يقتضيه الحكمة ، فكيف يستدلّ بها على نقضيه وهو الفرض.

ولو اريد به ما يكون استدلالا على طريق الإنّ فهو فرع ثبوت كون العمل بعد حصوله ممّن قام به الكفاية ممّا يترتّب عليه ثواب حتّى ينظر في تضمنه لما هو من لوازم الفرض وهو الزيادة - بناء على تسليمه - أو هو من لوازم النفل وهو النقصان ، ثمّ يستدلّ على الأوّل بكونه ممّا له مدخل في ترغيب الفاعل ، وهو كما ترى موضع منع ، بل الّذي يبني على عدم الوجوب يجعل العقاب مكان الثواب من جهة التشريع إن لم يبلغه عموما أو خصوصا دليل النفل ، كيف وأنّ الاستدلال على هذا التقدير إنّما يستقيم إذا ثبت أصل الرجحان ودار بين كونه في ضمن النفل أو في ضمن الفرض وهو على إطلاقه ممنوع.

وأمّا في الوجه الثاني من أنّ السقوط إنّما هو للتخفيف فلا يعقل معناه بعد ملاحظة الكلام المتقدّم في جهته ، من أنّه إمّا من جهة أداء الفرض أو ارتفاع موضوعه والتخفيف ممّا لا مدخل له في شيء منهما ، بل لا يصلح في الحكمة كونه من المقتضيات ، لأنّ موضوع الفرض إن كان باقيا مع عدم حصول أدائه في الخارج فالتخفيف ممتنع لمنافاته حكمة الإيجاب ، وإلاّ فالسالبة بانتفاء الموضوع أو بارتفاع الحكمة ، ولو سلّم أنّ التخفيف أيضا ممّا يصلح لذلك فمحلّه إمّا قبل قيام من قام به الكفاية أو بعده ، ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلأنّ أصحاب القول بتعلّق الفرض بالجميع لا يقولون بالسقوط هنا بل هو ممّا لا يقول به أحد من الأقوال.

وأمّا الثاني : فلأنّ التخفيف حينئذ إمّا أن يكون لازم الحصول فيخرج العمل عن كونه

ص: 128

فرضا ، أو لا فيكون عدولا عن فرض الكفاية إلى فرض العين ، بناءا على مذاقهم في الفرق بينهما بنحو ما سبق.

إلاّ أن يقال : بأنّه من باب المقتضي للسقوط لا العلة التامّة ، فقد يصادف فقدان شرط وقد يصادف وجود مانع ، فعدم حصوله فعلا لا ينافي كون الفرض فرض كفاية ، وهو مع أنّه تكلّف لا ينبغي ارتكابه في أمثال المقام ممّا لا شاهد عليه من العقل والنقل ، بل الشواهد قائمة بخلافه كما لا يخفى على المتأمّل.

وسادسها : أنّ الكفائي باعتبار سقوطه بفعل غير المكلّف وعدمه على أنواع :

منها : ما لا يسقط بفعل غير المكلّف من صبيّ أو مجنون كصلاة الأموات وتغسيلهم.

ومنها : ما يسقط بفعل غيره كمواراتهم وتطهير المسجد وإنقاذ الغريق ونحوه.

ومنها : ما هو محلّ شكّ كردّ السلام إذا حصل من أحد الفريقين ، فالأوّلان ممّا لا إشكال فيهما ، كما أنّه لا إشكال في أنّ الأصل في الأخير هو عدم السقوط لاستصحاب الأمر واستدعاء الشغل اليقيني لليقين بالبراءة ، وإنّما الإشكال في منشأ هذا الاختلاف والعلّة الداعية إلى سقوط الفرض عن المكلّف بفعل الصبيّ والمجنون في بعض الموارد وعدم سقوطه في بعضها الآخر.

ويمكن أن يقال في ذلك : بأنّه إنّما نشأ عن اختلاف الحكم الداعية إلى الأمر الكفائي في كونها ممّا يتأدّى بفعل الصبيّ والمجنون كما في القسم الثاني وعدمه كما في القسم الأوّل ، فإنّ صلاة الأموات إنّما شرّعت احتراما لهم ولا ريب أنّ أفعال الصبيّ والمجنون ممّا لا اعتداد بها في نظر العرف والعقل ولا تعدّ إكراما في محلّ الإكرام ، ولذا لا تتّصف بحسن ولا قبح ، بل ربّما أوجب ايثارها للإكرام إهانة واستهزاء ، كما لو أرسل الأمير صبيانا إلى استقبال من يجب عليه إكرامه ، فالشكّ في القسم الثالث إنّما هو من جهة تردّد الحكمة بين القسمين المذكورين ، أو يقال : بأنّه إنّما نشأ ممّا هو من طوارئ الواجب وهو اعتبار قصد القربة في صحّته وعدمه ، نظرا إلى أنّ القربة عبارة عن أداء المأمور به بعنوان الاطاعة وامتثال الأمر فلا يتأتّى قصدها إلاّ ممّن وجب عليه الاطاعة وتعلّق به الأمر ، والصبيّ والمجنون خارجان عن هذا العنوان ، فالشكّ في محلّه حينئذ إنّما هو من جهة الشكّ في اعتبار قصد القربة وعدمه كما في ردّ السلام.

أو يقال : بأنّ ذلك إنّما نشأ عن كون فعلهما موجبا لارتفاع ذات الموضوع وعدمه ، ففي

ص: 129

مثل المواراة والتطهير والإنقاذ يسقط الفرض بفعلهما من جهة قضاء ذلك الفعل بعدم بقاء ذات الموضوع بخلاف الصلاة والتغسيل ، فإنّ ذات الموضوع وهو الميّت باقية بعد فيجب على المكلّفين الخروج عن عهدة تكليفهم ، لكون وجود ما صدر عن غيرهم من جهة عدم تعلّق التكليف به بمنزلة عدمه.

وممّا يشهد بذلك أنّه لو اتّفق انعدام الميّت بإحراقه أو إلقائه في البحر سقط الفرض ولو كان ذلك من فعل الصبيّ والمجنون ، وليس السقوط هنا إلاّ من جهة انتفاء ذات الموضوع كما لا يخفى ، فما عن ثاني الشهيدين من إجراء وجهين في فعل الصبيّ مبتنين على شرعيّة عبادته وعدمه - كما حكاه بعض الأعاظم - ليس على ما ينبغي ، فإنّ شرعيّة عبادة الصبيّ إنّما تجدي في العبادات الراجعة إليه دون ما يرجع منها إلى المكلّفين ، والكلام في هذا المقام إنّما هو في أنّ عمله هل هو مجز عمّا وجب على المكلّفين أو لا؟

ولا ريب أنّ شرعيّة ذلك العمل له لا يلازمه ، لأنّ معنى شرعيّته اشتماله على نحو رجحان أوجب ترتّب ثواب عليه متعلّق بوالديه ، وهو ممّا لا مدخل له في الإجزاء عن عمل المكلّفين.

نعم ربّما يشكل الحال بالقياس إلى ما قرّرناه من الأصل لمورد الشكّ بناءا على ثاني الوجوه المذكورة لمنشأ الاختلاف ، فإنّ بناء الفرق لو كان على اعتبار قصد القربة وعدمه كان مقتضى الأصل هو السقوط بفعل الصبيّ والمجنون ، لأنّ الأصل في الواجب عدم كونه عبادة كما قرّرناه في محلّه.

وهذا الأصل وارد على الأصل المتقدّم ، لابتنائه على إطلاق الأمر وأصالة البراءة عن الشرطيّة الواردة هنا على استصحاب الحال وقاعدة الاشتغال.

ويمكن الذبّ عنه : بأنّ استصحاب الحال وقاعدة الاشتغال إنّما يجريان في المقام من جهتين

إحداهما : صدور العمل من المكلّف خالية عن القصد الموجب للشكّ.

وثانيتهما : صدوره عن غير المكلّف الموجب له أيضا ، وما ذكر من الأصل إنّما يصلح واردا عليهما من الجهة الاولى ، وظاهر أنّ سقوط العمل بهما من جهة لا يقضي بسقوط العمل بهما من الجهة الاخرى ، كما في المتيمّم إذا صادفه الماء في أثناء الصلاة موجبا للشكّ في صحّة صلاته ومع ذلك كان شاكّا في إباحة التراب الّذي تيمّم فيه.

ص: 130

وظاهر أنّ استصحاب الحال وقاعدة الاشتغال يقتضيان عدم الصحّة من الجهتين معا ، غير أنّ العمل بهما من الجهة الأولى ساقط بملاحظة أصالة ... (1)

وثامنها : لا خفاء أنّ فعل الغير إنّما يوجب سقوط الفرض عن الباقي إذا وقع على الوجه الصحيح ، فلو علم بالصحّة لا إشكال في السقوط كما أنّه لو علم بالفساد لا إشكال في عدم السقوط ، وإذا لم يعلم بشيء منهما فالمتّجه التعويل في إحراز الصحّة على أصالة الصحّة في فعل المسلم ، لعموم « ضع أمر أخيك على أحسنه » وبناء المسلمين في جميع الأعصار والأمصار عليه بناءا كاشفا عن الرضاء ، ولأنّه أصل يعوّل عليه فيما هو أعظم من المقام كما في القدوة وغيرها من العينيّات كما لا يخفى على المتأمّل ، فيكون التعويل عليه فيه أولى بالجواز ، بل ولا نجد فيه خلافا من العلماء إلاّ في بعض شقوق المسألة كما ستعرفه مع ضعفه.

واحتجّ بعض الأفاضل بعدم إمكان العلم بالصحّة الواقعيّة في الغالب ومحصّله : أنّه لو لا جواز التعويل على الأصل المذكور في إحراز صحّة فعل الغير لزم اشتراط العلم بالصحّة الواقعيّة وهو باطل لعدم إمكان العلم بالصحّة الواقعيّة في الغالب.

وهو كما ترى واضح الدفع ، لمنع بطلان التالي ، فإنّ اشتراط العلم بالصحّة الواقعيّة لا يوجب قبحا ولا محذورا وإن كان غير ممكن في الغالب ، فإنّ غاية ما يلزم من عدم حصول العلم بالصحّة ولو لتعذّره ، تعيّن العمل على المكلّف وأداء الفعل بطريق المباشرة وهذا ممّا لا محذور فيه أصلا.

إلاّ أن يقال : إنّ الحكمة تقتضي أن لا يجعل الشارع ما لا يمكن حصوله في الغالب شرطا لعراه عن الفائدة ، ولكنّه مجرّد دعوى لا شاهد عليها من العقل والشرع ، وعراه عن الفائدة غير مسلّم بعد كون انتفائه ممّا يترتّب عليه فائدة تعيّن العمل وإن شئت قلت : إنّ تعيّن العمل بعد تعذّر العلم بالصحّة الواقعيّة في فعل الغير أيضا طريق آخر من العلم بالصحّة الواقعيّة ، فيشترط العلم بالصحّة الواقعيّة في الحكم بالسقوط إمّا بتحصيله في فعل الغير أو بالمباشرة بالفعل وأدائه على وجه الصحّة.

ثمّ إنّ الأصل المذكور لكونه من الأصول التعبّديّة بحسب الشرع لا ينوط اعتباره

ص: 131


1- ومن المؤسف ضياع بعض الوريقات في هذا الموضع من نسخة الأصل.

بحصول الظنّ بالصحّة ، بل قضيّة كونه تعبّديّا التعويل عليه ولو في موضع احتمال الصحّة ، كما هو الحال في سائر الأمور التعبّديّة ، ولا يعارضه أصالة العدم واستصحاب الحالة السابقة وأصل الشغل لوروده من جهة كونه أخصّ موردا على سائر الأصول كما قرّر في محلّه ، فتنهض أدلّته مخصّصة لأدلّة هذه الأصول أو من جهة حكومة أدلّته على أدلّة الأصول المذكورة.

فما يقال : من أنّ القدر الثابت من السقوط بالإجماع إنّما هو مع الظنّ بالصحّة ، وأمّا مع عدمه فلا بدّ من البناء على حكم الأصل المقتضي لعدم سقوطه ، فاسد جدّا إذ لو اريد بالظنّ المعتبر في المقام ما يستند إلى الأصل المذكور فهو تقييد في دليل ذلك الأصل بلا دليل.

ولو اريد به ما يستند إلى الأسباب الاخر فنمنع اعتباره في موضع حصوله ، والإجماع المدّعى على أنّه يسقط مع الظنّ بالصحّة ممنوع ، كيف وأنّ الإجماع قائم على السقوط مع الصحّة ، وقضيّة الاقتصار على القدر المتيقّن من مورد الإجماع هو اعتبار العلم خاصّة ، فيبقى غيره تحت الأصل.

والأولى أن يجاب : بأنّه إن اريد بذلك أنّ الإجماع على السقوط بفعل البعض عن الباقين ينهض مقيّدا لأدلّة ذلك الأصل بصورة الظنّ بالصحّة في فعل البعض ، ففيه : أنّ الإجماع غير متعرّض لذلك بل الإجماع قائم على السقوط بفعل البعض الصادر على الوجه الصحيح ، فلا بدّ من إحراز الصحّة الواقعيّة إمّا بطريق العلم أو بما يقوم مقامه والأصل المذكور قائم مقامه.

وإن اريد بذلك أنّ قاعدة الاقتصار في معقد الإجماع على السقوط بفعل الغير على القدر المتيقّن اعتبار الظنّ بصحّة فعل الغير.

ففيه : أنّ الإجماع قائم على السقوط مع الصحّة وقاعدة الاقتصار في مورده على القدر المتيقّن تقتضي اعتبار العلم بها لا الاكتفاء بالظنّ فيبقى هذه تحت الأصل.

وقد يعترض عليه أيضا : بأنّ الأصل المذكور معارض بأصالة عدم تعلّق الوجوب فيما لو علم بالواقعة بعد قيام ذلك البعض به ولا قائل بالفصل بين الصورتين فيتساقطان.

وردّه بعض الأفاضل : « بأنّ قضيّة اليقين بالاشتغال هو الحكم بمقتضاه بعد حصوله مع عدم حصول اليقين بالبراءة ، وقضيّة أصالة البراءة هو الحكم بها في صورة عدم ثبوت الاشتغال شرعا ، فلا بدّ من الأخذ بمقتضى كلّ من الأصلين في محلّه ، وقيام الإجماع على

ص: 132

عدم الفصل بين الأمرين بحسب الواقع لا ينافي الأخذ بالتفصيل في مقام العمل عملا بمقتضى الأصل في كلّ من الصورتين ، فالّذي يقتضيه الأصل هو البناء على التفصيل إلاّ أنّه قام الدليل على السقوط حينئذ مطلقا ».

وأنت خبير بما في كلّ من الاعتراض وردّه.

أمّا الأوّل : فلأنّ تعلّق الوجوب حال عدم العلم بالواقعة لم يكن مانع عنه إلاّ الجهل بها ، وقد ارتفع ذلك المانع على ما هو في الصورة المفروضة.

غاية الأمر كونه مقارنا لاحتمال ارتفاع المقتضي للتعلّق ، وهو الأمر الكلّي الكفائي من جهة احتمال حصول الرافع له وهو تحقّق المسقط الشرعي ، فإذا حكم ببقاء ذلك المقتضي بالاستصحاب وأصالة عدم عروض الرافع له لا بدّ من تعلّق الوجوب لوجود مقتضيه وفقد المانع.

غاية الأمر استناد وجود المقتضي إلى الاستصحاب ، وهو ليس بنكير ولا عادم النظير ، بل غالب الاستصحابات من هذا القبيل كما لا يخفى على المتأمّل ، فإنّ الغالب في الاستصحاب أنّه يجري فيما يقتضي الآثار الشرعيّة الّتي هي لوازم شرعيّة للمستصحب.

فصار الحاصل : أنّ أصالة عدم تعلّق الوجوب ما كان الشكّ فيها مسبّبا عن الشكّ في سقوط الأمر الكفائي فلا يكون صالحا للمعارضة له ، فلا أصل في تلك الصورة ليكون معارضا للأصل المقتضي لعدم السقوط في الصورة الاخرى وهي ما لو علم بالواقعة قبل قيام البعض به ، فلا وجه لدعوى التساقط حينئذ ، مع أنّك إذا بنيت على تساقط الأصلين فأيّ شيء يدلّك على الحكم بالسقوط في صورة عدم الظنّ بالصحّة الّتي وقع التفصيل بينها وبين صورة الظنّ بها.

فإن استندت في ذلك إلى الإجماع على السقوط فهذا المفصّل لا يسلّم ثبوته في تلك الصورة.

وإن استندت إلى أصالة الصحّة في فعل المسلم فالظاهر أنّه ليس بمستند هذا القائل في الحكم بالسقوط حيثما يحكم به كما يظهر بالتأمّل في أطراف كلامه المتقدّم ، على أنّ ما ذكرته إنّما يصلح اعتراضا على من اعتمد على أصالة الصحّة من جهة المقتضي مع جعله الأصل عدم السقوط في غير صورة الظنّ بالصحّة مانعا عن اقتضاء هذا الأصل ، فيكفي حينئذ في إحراز رفع ذلك المانع فرض التعارض بين الأصلين ودعوى تساقطهما.

ولكن القائل المشار إليه ليس في هذا المقام وإنّما شبهته نشأت في وجود المقتضي

ص: 133

للسقوط وهو الإجماع الّذي زعمه مقتضيا.

واذا اعترضت عليه بإبطال ما أقامه من المقتضي لعدم السقوط لا يلزم منه ثبوت مطلوبك وهو الحكم بالسقوط ، إذ لا بدّ له من وسط وهو غير ثابت في نظره ، إلاّ إذا اعتمدت على أصل البراءة بعد تساقط الأصلين ، فيكون كلامك قاصرا عن إفادة تمام غرضك.

وأمّا الثاني : فلأنّ الأخذ بموجب الأصلين يستلزم طرح العلم الإجمالي الحاصل في المقام بملاحظة الإجماع على عدم الفعل ، لأنّ العلم حاصل حينئذ بأنّ الإمام عليه السلام على أحد الحكمين من وجوب أداء الفعل في الصورتين معا وعدم وجوبه فيهما كذلك ، فالأخذ بالحكمين معا عملا بالأصلين مخالفة لذلك العلم ، وهي تنافي حجّية العلم الإجمالي.

واذا انتهى الكلام إلى هذا المقام لا بأس بأن نشير إلى قاعدة مهمّة تعمّ بها البلوى.

وهي أنّها إذا تحقّق إجماع مركّب بين مسألتين لا بدّ في الاستناد إليه من دليل آخر على أحد شطريه وهو حكم إحدى المسألتين ليكون ذلك الحكم ملزوما له في المسألة الاخرى ، ودليل الملازمة بينهما هو الإجماع على عدم الفرق.

فالإجماع المركّب في الحقيقة دليل على الملازمة.

ومن البيّن أنّ الملازمة لا تثبت إلاّ إذا ثبت الملزوم بدليل آخر ، فإن كان الاستناد في إحراز الملزوم إلى دليل اجتهادي فلا إشكال في حصول الملازمة حينئذ بالإجماع على عدم الفرق ، وإن كان الاستناد إلى غيره من الاصول العمليّة القائمة لإحراز الحكم الظاهري ففي جوازه خلاف بينهم.

وجماعة من الأعلام يستندون إليها أيضا كما يظهر للمتتبّع ، ولكن التحقيق على ما يساعد إليه النظر خلافه ، وذلك لأنّ دليل الملزوم مع دليل الملازمة لا بدّ من اتحاد الموضوع فيهما وإلاّ لا يعقل ثبوت الملازمة وهو منتف في المقام ، لأنّ ما يثبت من الملزوم هنا بحكم الأصل إنّما هو حكم ظاهري والإجماع قائم على عدم الفرق بين المسألتين في الحكم الواقعي.

ومن البيّن مغايرة موضوع الحكم الظاهري لموضوع الحكم الواقعي ، إذ في الأوّل يفرض الواقعة من حيث كونها مجهول الحكم ، وفي الثاني تفرض الواقعة من حيث هي هي ، فلو اريد حينئذ إثبات الملازمة بالإجماع يكون مغايرة الموضوعين مانعة ، ولو اريد إثباتها بالأصل الّذي أوجب ثبوت الملزوم يكون راجعا إلى البناء على الاصول المثبتة ولا تعويل عليها عندنا.

ص: 134

نعم لو كان الإجماع قائما على عدم الفرق بين المسألتين في الحكم الواقعي والظاهري معا اتّجه الاستناد إليه في إثبات الملازمة ، ولكن ثبوت الإجماع بهذه المثابة محلّ منع ، لجواز كون رأي الإمام عليه السلام بالنسبة إلى الحكم الظاهري هو الفرق بين المسألتين ، استنادا في كلّ منهما إلى الأصل الجاري فيها بالخصوص ، لذا صار الفاضل المشار إليه في ردّه إلى البناء على الأصلين معا.

ولكن قد عرفت أنّ ذلك أيضا مشكل من جهة أدائه إلى مخالفة العلم الإجمالي بالنسبة إلى الواقع.

إلاّ أن يقال في دفعه : بأنّ العلم الإجمالي إنّما يحرم مخالفته إذا كان حاصلا مع الشكّ في المكلّف به ، لكونه موجبا حينئذ لارتفاع موضوع الأصل من براءة أو استصحاب.

وأمّا إذا كان حاصلا مع الشكّ في التكليف كما هو الحال في محلّ البحث - لأنّ قول الإمام مردّد بين كونه وجوب الفعل أو عدم وجوبه - فلا يحرم مخالفته ، إذ لا يوجب حينئذ ارتفاع موضوع أصل البراءة واستصحاب عدم تعلّق الوجوب وهو الجهل بحكم الواقعة بخصوصها بحسب الواقع ، فيجري الأصل الّذي قرّره الشارع لموضوع مجهول الحكم فيجب الأخذ بموجبه ، كيف ولو بني على عدم الاعتداد به من جهة مخالفته للعلم الإجمالي لانسدّ باب التمسّك به في جميع موارده ، إذ العلم حاصل في كلّ واقعة من وقائع الشك في التكليف بأنّ الإمام إمّا على الوجوب أو على عدم الوجوب وهو كما ترى.

فتبيّن من ذلك أنّ ما بنى عليه ذلك الفاضل منطبق على القواعد ، ولكن نحن في غناء عن هذا الطريق ، لأنّا لا نعتمد على شيء من الأصلين من جهة اخرى.

أمّا على الأصل المقتضي لعدم السقوط في صورة سبق العلم بالواقعة فلورود أصالة الصحّة في فعل المسلم عليه كما عرفت ، وأمّا على الأصل المقتضي للسقوط في صورة تأخّر العلم بالواقعة فلورود استصحاب الأمر الكلّي الكفائي وأصالة عدم طروّ ما يرفعه عليه ، فلا أصل في الصورتين ليتّجه البناء عليه فيهما.

ثمّ أنّه هل يشترط في إحراز الصحّة المسقطة عدالة الفاعل أو لا؟ بل الفسق مانع عنها أو لا؟ بل العبرة بموافقة العمل لما قرّر في ظاهر الشريعة ولو بحكم الأصل أوجه ، صار بعض الأفاضل إلى الأخير منها وهو الحقّ ، خلافا للمحكيّ عن الفاضل الصالح تبعا للفاضل الجواد في مصيرهما إلى اشتراط العدالة.

ص: 135

ويظهر فائدة الوجوه فيما لو حصل أداء الفعل من الفاسق أو مجهول الحال.

لنا على المختار : وجود المقتضي وفقد المانع.

أمّا الأوّل : فلعموم الأصل المذكور في جريانه من حيث إنّه أصل تعبّدي ولا تقييد في أدلّته بما يخرج الفاسق عن تحته ، وغايته الشكّ في لحوقه فيرتفع بالأصل ، مضافا إلى قيام السيرة على ذلك كما لا يخفى على من تأمّل في موارد بناء المسلمين ، حيث لا يلتزمون بإحراز العدالة في أداء الكفائي التزامهم بإحرازها في سائر الموارد كالقدوة ونحوها ، بل يكتفون بما صدر عن بعض من يصلح له ولو مع العلم بفسقه.

وأمّا الثاني : فلأنّ ما احتمل كونه مانعا إنّما هو الفسق وهو غير صالح له إلاّ اذا كان في حدّ ذاته ملزوما لعدم الصحّة ، والملازمة ممنوعة ، سواء اريد بها العقليّة أو الشرعيّة.

أمّا الأوّل : فلأنّ الفسق أعمّ من عدم موافقة العمل لما قرّر في ظاهر الشريعة والأعمّ لا يعقل ملزوما للأخصّ.

وأمّا الثاني : فلفقد ما دلّ من الشرع على أنّ عدم الفسق أو العدالة شرط في صحّة العمل شرعا ، كما دلّ الدليل على انّ الإيمان شرط في صحّة العبادات شرعا ، بل الشرع كما يظهر بالتأمّل في الضرورة والإجماع بخلافه.

نعم لو حصل القيام بأداء الكفائي من مخالف أو كافر لا نقول بصحّته إذا كان من مقولة العبادات ، لا لأنّ الأصل المذكور لا يجري في حقّهما حتّى المخالف الّذي هو من مصاديق المسلم ، بل لورود ما دلّ على شرطيّة الإيمان في صحّة العبادة على أدلّة ذلك الأصل ، مع إمكان المناقشة في أصل شمول دليله كما لا يخفى.

وعن الفاضلين المتقدّمين الاحتجاج بأنّ الفاسق لا يقبل خبره لو أخبر بإيقاع الفعل ولا عبرة بفعله.

وردّ : بأنّه قياس فاسد.

وربّما يوجّه : بأنّه لو أخبر بصحّة فعله لما يقبل خبره لما دلّ على وجوب التثبّت عند خبره فمع عدمه أولى.

وردّ أيضا : بأنّ عدم الصحّة من جهة قوله لا يقضي بعدم الحكم بها من جهة الأصل المذكور.

ألا ترى أنّه لو أخبر بما يوافق الأصل لم يقبل قوله مع العمل بمقتضى الأصل.

ص: 136

ومحصّل ذلك : أنّ الشارع نهانا عن العمل بخبر الفاسق بما هو هو وعن الاستناد إليه والركون عليه كذلك ، ولا يلزم من ذلك عدم جواز الحكم بصحّة عمله استنادا إلى أصل آخر من الاصول الّتي قرّرها لتشخيص الموضوعات ، بل يمكن أن نقول انّ قضيّة هذا الأصل هو جواز العمل بقوله أيضا ، لأنّ مجرّد الفسق لا يصلح أمارة على الكذب ، غايته أنّ قوله خال عن أمارة الصدق وهي العدالة ، ولكنّه لا يقضي بمنع العمل به استنادا إلى الأصل الجاري في الأقوال جريانه في الأفعال ، غير أنّه ممّا أخرجه الشارع عن ذلك الأصل بما دلّ على وجوب التثبّت عند خبره فيجب الاقتصار على القدر المخرج ويبقى الباقي تحته ومنه فعله.

وعن الفاضل الجواد زيادة على ما مرّ الاحتجاج بأنّ قيام الظنّ مقام العلم إنّما هو بنصّ خاصّ أو لدلالة العقل عليه ، وهما منتفيان في المقام فلا عبرة به ، مضافا إلى أنّ وجوبه على المكلّف معلوم والسقوط عنه بذلك مظنون والعلم لا يسقط بالظنّ.

وهو كما ترى ، فإنّ الأصل المذكور ظنّ نوعي قائم مقام العلم شرعا لعموم دليله ، فيكون علما شرعيّا.

وقضيّة ذلك أن يكون العلم بالوجوب ساقطا بالعلم بالسقوط لا بالظنّ به.

واذ قد عرفت أنّ الحكم بصحّة فعل البعض المسقط عن الباقين كان على أصالة الصحّة في فعل المسلم.

فاعلم أنّه قد يحصل الإشكال في بادئ النظر في جريان ذلك الأصل في بعض صور المسألة بحيث يوجب تشويشا في النظر ، فلا بدّ من النظر في صغريات المسألة تمييزا بين ما هو من مجاري الأصل وما ليس من مجاريه.

فنقول : إذا أقدم بعض المكلّفين بخطاب الكفاية على أداء الفعل فإمّا أن يعلم بكونه مجتهدا ، أو يعلم بكونه مقلّدا ، أو يعلم بكونه محتاطا ، أو يعلم بكونه مسامحا في الدين بالنسبة إلى أخذ معالمه وتعلّم مسائله ، أو يعلم بعدم كونه مجتهدا وتردّد بين كونه مقلّدا أو محتاطا أو مسامحا ، أو يعلم بعدم كونه مقلّدا وتردّد بين كونه مجتهدا أو محتاطا أو مسامحا ، أو يعلم بعدم كونه محتاطا وتردّد بين كونه مجتهدا أو مقلّدا أو مسامحا ، أو يعلم بعدم كونه مسامحا وتردّد بين كونه مجتهدا أو مقلّدا أو محتاطا ، أو يعلم بعدم كونه مجتهدا ولا مقلّدا وتردّد بين كونه محتاطا أو مسامحا ، أو يعلم بعدم كونه محتاطا ولا مسامحاً

ص: 137

وتردّد بين كونه مجتهدا أو مقلّدا ، أو يعلم بعدم كونه مجتهدا ولا محتاطا وتردّد بين كونه مقلّدا أو مسامحا ، أو يعلم بعدم كونه مجتهدا ولا مسامحا وتردّد بين كونه مقلّدا أو محتاطا ، أو يعلم بعدم كونه مقلّدا ولا محتاطا وتردّد بين كونه مجتهدا أو مسامحا ، أو يعلم بعدم كونه مقلّدا ولا مسامحا وتردّد بين كونه مجتهدا أو محتاطا ، أو لا يعلم بشيء ممّا ذكر بل تردّد بين الجميع.

وعلى تقدير العلم بكونه مجتهدا فإمّا أن يكون موافقا للباقي في الرأي والاعتقاد في جميع خصوصيّات العمل أو يكون مخالفا له ولو في بعضها أو لا يعلم حاله من حيث الموافقة والمخالفة ، وعلى تقدير العلم بالمخالفة فإمّا أن يكون الخلاف بينهما بالعموم والخصوص (1) أو بالتباين (2) أو لا يعلم الحال من هذه الجهة أيضا.

وعلى تقدير كونه مقلّدا فإمّا أن يكون مقلّدا له إن كان مجتهدا أو لمجتهده إن كان مقلّدا أو مقلّدا لمجتهد آخر موافق له فى الرأي أو مقلّدا لمجتهد آخر مخالف له في الرأي أو لا يعلم حاله أصلا أو في الجملة (3).

وهذه صور كثيرة تبلغ عددا إلى اثنين وعشرين صورة بل إذا تأمّلت فيها بالقياس إلى جهات واعتبارات اخر تقدر على تكثيرها إلى أن تبلغ فوق الكثرة كما لا يخفى ، ولا إشكال في إعمال [ أصل ] المذكور بالقياس إلى كثيرها .... (4) بل أكثرها لتضمّنها ما هو مناط جريانه وموضوعه وهو الشكّ في الصحّة والفساد الملازم لقيام احتمال الصحّة الواقعيّة.

نعم يقع الإشكال في جملة من تلك الصور :

منها : ما لو كان العامل مجتهدا مخالفا في الرأي أو مقلّدا لمجتهد آخر مخالف في الرأي وفي حكمه ما لو تردّد بين المجتهد المخالف والمقلّد له.

ومنها : ما لو كان العامل محتاطا أو متردّدا بينه وبين المسامح.

ومنها : ما لو كان العامل مسامحا في الدين لقلّة مبالاته.

ص: 138


1- وهو أن يقول الفاعل بوجوب الجهر بالتكبيرات مثلا في صلاة الميّت والباقي قائل بعدم وجوبه أو يقول الأوّل بعدم الوجوب اللازم للاكتفاء بالاخفات فيها والثاني يقول بالوجوب. ( منه عفي عنه ).
2- وهو أن يقول أحدهما بوجوب الجهر في التكبيرات والآخر قائل بوجوب الاخفات فيها مثلا. ( منه عفي عنه ).
3- وهو أن يعلم بأنّه مقلّد لمجتهد آخر ولكن لا يعلم بكون ذلك المجتهد مخالفا في الرأي أو موافقا. ( منه عفي عنه ).
4- والظاهر وقوع السقط هنا من نسخة الأصل كما يظهر بالتأمّل في مطاوي الكلام.

ومنشأ الإشكال في الأوّل : أنّ الفعل من حيث صدوره عن الفاعل له استناد اليه فالصحّة المعتبرة فيه من هذه الحيثيّة ما اقتضاه اجتهاده أو اجتهاد من يقلّده ، فلذا لا يكون مجزيا في حقّه لو وقع على خلاف ما اقتضاه ذلك الاجتهاد ولو طابق ما اقتضاه اجتهاد غيره ، ومن حيث قيامه مقام فعل الباقي له استناد إلى الباقي فالصحّة المعتبرة فيه من هذه الحيثيّة ما اقتضاه اجتهاد الباقي أو اجتهاد من يقلّده ، فلذا لا يقع مجزيا في حقّه لو أتى به على طبق ما اقتضاه اجتهاد الفاعل.

فيرجع إشكال المسألة إلى أنّ العبرة في إعمال أصالة الصحّة هل هي بالصحّة عند الفاعل أو بالصحّة عند الحامل؟ وحيث قد بيّنا في رسالة منفردة لنا (1) في تحقيق ذلك الأصل على أنّ العبرة في الصحّة بما يكون كذلك عند الحامل يتّضح دفع ذلك الإشكال.

وبيانه الإجمالي هنا : أنّ ذلك الأصل على ما يستفاد من أدلّته طريق قرّره الشارع لغير الفاعل الحامل له على الصحّة إلى ترتيب آثار الصحّة على الفعل الصادر من المسلم خاصّة ، لأنّ الفاعل له طريق آخر إلى ترتيب آثار الصحّة على فعله وهو اجتهاده أو اجتهاد من يقلّده الّذي أمضاه الشارع وجعله نافذا في حقّه فإنّه إذا أوقع الفعل على طبق ذلك الاجتهاد لا حاجة له في ترتيب آثار الصحّة عليه إلى طريق آخر ، حتّى ذلك الأصل المقرّر في الشريعة لترتيب آثار الصحّة على فعله من حيث كونه صادرا منه ، ومعنى ترتيب آثار الصحّة عليه لغير الفاعل - الّذي جعل ذلك الأصل طريقا له إلى ترتيبها - ترتيب الأحكام المتعلّقة به شرعا المعلقة على صدور ذلك الفعل على وجه الصحّة ، ومعنى كونه طريقا أنّ صدور الفعل من المسلم الذى هو موضوعه ممّا جعله الشارع قائم مقام تحقّق الأمر الواقعي الّذي علّق عليه أحكامه المتعلّقة به ، وهو الّذي يكون واقعيّا في نظره لا في نظر غيره فإنّ اعتقاد كلّ معتقد حجة في حقّه لا في حقّ غيره.

ومن جملة تلك الأحكام سقوط الفرض في الكفائي عنه بمجرّد صدور الفعل عن غيره على وجه الصحّة ومعه كيف يعقل البناء (2). منه على الصحّة عند غيره الّتي هي عين الفساد عنده.

ص: 139


1- قاعدة حمل فعل المسلم على الصحّة ( المطبوعة بانضمام رسالة في العدالة ) : 247.
2- فإنّه إذا كان حكمه معلّقا على تحقّق الأمر الواقعي الّذي هو عبارة عمّا يكون واقعيّا في نظره فلا بدّ وأن يكون صدور الفعل من المسلم الّذي هو قائم مقام تحقّق ذلك الأمر الواقعي محكوما بانطباقه على ذلك الأمر الواقعي من حيث إنّه واقعي في نظره لا من حيثيّة اخرى. وبعبارة اخرى : الحكم بالسقوط المعلّق إمّا على تحقّق ما كان أمرا واقعيّا في نظر المكلّف أو على تحقّق ما نزّله الشارع منزلة تحقّق ذلك الأمر الواقعي وهو صدور الفعل من المسلم في موضع الشكّ في انطباقه على ذلك الأمر الواقعي. ( منه عفي عنه ).

فحينئذ يبنى على إعمال ذلك الأصل في فعل صادر عن مجتهد أو مقلّد لمجتهد آخر متى ما قام عنده احتمال وقوعه على وفق مذهبه سواء وافقه الفاعل في أصل المذهب أو خالفه بالعموم والخصوص أو بالتبائن ، كما لو احتمل في حقّه السهو أو النسيان أو الخطأ أو سبق اللسان أو غيره ممّا أوجبه في إيقاع العمل على هذا المنوال ، لأنّ ذلك الأصل إنّما قرّر له طريقا في موضع الشكّ كما يستفاد من أدلّته ، ولا سيّما الرواية المتقدّم إليها الإشارة المقيّدة بما فيها من الغاية.

ولا ريب أنّ المفروض من موضع قيام الاحتمال المذكور منه وإن كان ذلك الاحتمال مرجوحا في بعض صور الفرض كما لا يخفى ، نظرا إلى ما تقدّم ذكره من أنّ الأصل إذا كان تعبّديا لا يقدح فيه الظنّ بخلافه ما لم يقم على اعتباره بالخصوص دليل والمقام منه.

وأمّا إذا علم بوقوع العمل على خلاف مذهبه فليس له البناء على الأصل والحكم بالسقوط ، بل يعقل للأصل هنا مجرى بعد العلم بفساد العمل ، لعلمه بوقوعه على خلاف ما هو الصحيح عنده وإن كان محكوما عليه بالصحّة على حسبما اقتضاه اعتقاد العامل ، لانتفاء ما هو مناط جريانه وما اخذ موضوعا في مجراه وهو الشكّ في الصحّة والفساد.

فما في كلام بعض الأفاضل من الحكم بالسقوط حتّى في الصورة المفروضة تعليلا ببعض الوجوه الناقصة والاعتبارات الفاسدة ليس على ما ينبغي ، كيف وهو ممّا لا بدّ له من وسط وهو منحصر في علمه بصحّة ما صدر عن البعض بعد علمه بأصل الصدور ، والأصل المقرّر له طريقا إلى ترتيب آثار الصحّة في مواضع الشكّ وقيام احتمال الصحّة ، وعلمه بفساد معتقد الفاعل ينافي كلاّ منهما ، وكون ما صدر على طبق ذلك المعتقد محكوما عليه بالصحّة في ظاهر الشريعة بالنسبة إلى الفاعل لا يجدي نفعا في تحقّق شيء من الأمرين ، وارتفاع التكليف عنه لا يوجب ارتفاع الأمر الكلّي الكفائي الّذي هو منوط بحصول المكلّف به ، لأنّه أعمّ من حصول المكلّف به وإن فرضناه أمرا واحدا ، فإنّ الكلام في أنّ ذلك الأمر الواحد هل حصل في الخارج ليوجب ارتفاع الأمر الكلّي؟

والمفروض أنّ غير الفاعل معتقد بعدم حصوله على حسب اجتهاده ومعه كيف يعقل

ص: 140

الحكم بارتفاع الأمر.

ولو سلّم عدم اعتقاده به فلا أقلّ من الشكّ فيبقى استصحاب الحال وقاعدة الاشتغال سليمين عن المعارض إذ لم يكن لهما معارض ، في غير الصورة المفروضة إلاّ أصالة الصحّة في فعل المسلم.

وقد عرفت أنّها من جهة انتفاء موضوعها غير جارية فيها ، نظرا إلى أنّ الشكّ في ارتفاع الأمر لا ينافي العلم بالفساد باعتبار الواقع ، ضرورة أنّ الصحّة والفساد يختلفان باختلاف الآراء والأحكام الظاهريّة ، تتفاوت بتفاوت الاجتهادات ، وكون العمل محكوما بصحّته على حسب اجتهاد بعض المجتهدين من باب الحكم الظاهري له لا ينافي القطع بفساده بالنظر إلى الواقع في اجتهاد مجتهد آخر ، ومعنى الشك في ارتفاع الأمر مع العلم بفساد العمل بالنظر إلى الواقع أنّ هذا العمل المخالف لما في نفس الأمر في اعتقادنا المحكوم بصحّته في ظاهر حكم العامل هل أوجب ارتفاع الأمر المتعلّق بما هو صحيح في الواقع على حسب اعتقادنا أو لا؟

ومعناه التلازم بين الحكم الظاهري لأحد وقيامه مقام الحكم الظاهري لآخر ، والشك إنّما هو في الملازمة ، وهو ملازم للعلم بالطرفين اللازم والملزوم ، فإنّا نقطع قبل قيام البعض بأداء الفعل بأنّ حكمه الظاهري في تلك الواقعة إنّما هو ما اقتضاه اجتهاده أو اجتهاد مجتهده ، مع قطعنا بأنّ حكمنا في تلك الواقعة هو ما اقتضاه اجتهادنا بعنوان كونه هو الحكم الواقعي ، بحيث لو أردنا الإقدام على حسب اجتهاد الأوّل ليس لنا ذلك ، كما أنّه لو أراد الأوّل الإقدام عليه على حسب اجتهادنا لا يجزيه ، فإذا حصل منه القيام به على حسب اجتهاده فشكّ في أنّه هل يقوم مقام ما هو الحكم في حقّنا المغاير لما هو في حقّه أو لا؟ومعناه الشكّ في ارتفاع الأمر المتعلّق في تلك الواقعة بنا إذ لم يثبت له رافع ، والمقام من باب الشكّ في قدح العارض فيجري الاستصحاب ولا معارض له يكون رافعا لموضوعه ، لأنّ أصل الصحّة مع اعتقاد الفساد بالنظر إلى الواقع لا يجري.

ومنشأ الإشكال في الثاني : الشكّ في أنّ الاحتياط مع تمكّن العلم بأحد الطريقين الاجتهاد والتقليد هل هو ممّا جعله الشارع طريقا إلى اطاعته واكتفى به في امتثال أوامره ونواهيه أو لا؟ نظرا إلى أنّ أصالة الصحّة إنّما يصلح للاستناد إليها فيما ثبت له من الشرع وجه صحّة ثمّ شكّ في طروّ ما يوجب الفساد.

ص: 141

وتحقيق هذا المقام موكول إلى محلّه ، فإن ثبت كون هذا الطريق من الطرق الشرعيّة لا إشكال في جريان الأصل المذكور لإحراز الصحّة في موضع شكّ في طروّ ما يوجب الإخلال فيها ، وإلاّ فلا إشكال في عدم جريانه ، لكونه ملزوما للعلم بفساد الأصل ومعه لا معنى لإجراء الأصل الّذي موضوعه الشكّ في الفساد.

ومنشأ الإشكال في الثالث : الشكّ في أنّ الجاهل في العبادات إذا كان مقصّرا هل هو معذور إذا طابق عمله للواقع أو لا؟

ولتحقيق ذلك أيضا محلّ آخر يأتي إن شاء اللّه.

فإن ثبت ثمّة كونه معذورا وعلم بمطابقة عمله للواقع لا حاجة معه إلى إعمال الأصل بل يحكم بالسقوط بمجرّد ذلك العلم ، وإن لم يعلم بها فهو موضع جريان الأصل بلا تأمّل ، وإلاّ فلا إشكال في عدم جريانه بالتقريب المتقدّم.

ومن موارد الإشكال في ذلك المقام ما لو اختلف الفاعل والباقي في المكلّف به الواقعي الأوّلي والواقعي الثانوي ، كأن يكون الفاعل مكلّفا بالفرد الاضطراري لعدم تمكّنه عن الفرد الاختياري فأتى بما هو وظيفته ، كما لو كان المقام بالنسبة إليه موضع تقيّة فأتى بالعمل على حسب ما يقتضيه التقيّة ويكون الباقي مكلّفا بالفرد الاختياري لتمكّنه عنه ، فهل يكتفي في الحكم بسقوط الفرض عنه بما حصل الإتيان به من الفرد الاضطراري أو لا؟

والأقرب عدم الاكتفاء به بالتقريب المتقدّم فيما لو اختلفا في الرأي والمذهب ، مع إمكان أن يقال : انّ المتعذّر عن الفرد الاختياري مع وجود المتمكّن عنه لا تكليف له في تلك الواقعة ، بل هو في حكم من لا يقدر على العمل أصلا ، فكما أنّه لو اختلف المكلّفون في الكفائي في القدرة على أداء العمل وعدمها كان الفرض على القادر على التعيين وليس على غيره تكليف ، فكذلك ما لو اختلفا في التمكّن عن الاختياري وغيره ، فإنّ التكليف حينئذ يتعلّق بالمتمكّن عنه خاصّة وليس على غيره شيء كما لا يخفى.

وأمّا لو اختلف المكلّفون في خطاب الكفائي فيما بين قائل بالوجوب وقائل بعدمه ، فتركه القائل بالعدم تعويلا على حكمه الظاهري فلا إشكال في أنّه لا يوجب سقوط الفرض عن القائل بوجوبه كما في ردّ السلام ، وأمّا لو أتى به القائل بالوجوب بعنوان الاستحباب فهل يوجب ذلك سقوط الأمر عمّن يقول بالوجوب أو لا؟ فالأقرب هو الأوّل ، إذ ليس في الكفائي إلاّ أمر واحد غير أنّهما اختلفا في فهم الوجوب والاستحباب منه ،

ص: 142

والمفروض أنّ قصد الوجه ليس بلازم في أداء المأمور به ، وقد حصل الأداء من البعض على وجهه ، غير أنّه يخرج قصد الاستحباب منه لغوا لكونه قصدا في غير محلّه ، وإنّما العبرة بحصول ما هو المأمور به في الواقع عند القائل بالوجوب والمفروض حصوله فيؤثّر أثره ، ومنه سقوط الفرض عن المتقاعد.

ومن مواضع الإشكال الاختلاف بين البعض الآتي بالفعل وبين الباقي في الحكم الظاهري الناشئ عن الاشتباه والحكم الواقعي المبنيّ على عدم الاشتباه ، كما لو أقدم البعض على غسل الميّت بالماء المستصحب الطهارة وعلم الآخر بملاقاته النجاسة ، فهل يوجب ذلك سقوط الفرض عن الآخر؟

فيه إشكال من أنّ البعض قد أتى بالمأمور به حال الاشتباه على وجهه فقضى ذلك بالسقوط عنه وعن الآخر ، لأنّ الضابط في الأمر بالكفاية أنّه إذا سقط عن البعض سقط عن الجميع ، ومن أنّ ذلك العمل وقع فاسدا في اعتقاد الآخر فلا ينشأ منه بالنسبة إليه أثر.

ولكنّ الأمر في ذلك بعد ما عرفت من معنى « الحمل » و « الصحّة » هيّن ، فإنّ من لا اشتباه له قبل تشاغل من له الاشتباه بأداء الفعل كان تكليفه بالتغسيل بغير ذلك الماء ، وكما أنّه قبل التشاغل لو أراد الغسل بذلك الماء لم ينشأ منه بالنسبة إليه أثر فكذلك لم ينشأ منه أثر بالنسبة إليه لو حصل التشاغل وأداء الفعل من غيره ، وكون ذلك الفعل بالنسبة إلى فاعله محكوما بالصحّة لانطباقه على المأمور به الظاهري حكم ظاهري في حقّه ولا ملازمة بينه وبين الحكم الواقعي في حقّ الآخر ، فإنّ الحكم الواقعي في حقّ الآخر انطباق العمل على المأمور به الواقعي ولم يحصل فرضا ، ولا منافاة بين سقوط التكليف عن الفاعل وعدم سقوطه عن الآخر ، ودعوى أنّ الضابط في الكفائي أنّه إذا سقط عن البعض سقط عن الجميع إنّما تصحّ ، إذا اتّحد القضيّة في تكليفيهما موضوعا ومحمولا ، كما لو كان التكليف بالنسبة إلى كليهما ظاهريّا أو واقعيّا فالتفكيك بينهما في السقوط وعدمه في الصورة المفروضة إنّما جاء من الفرق بينهما في موضوعي القضيّتين من حيث كون التكليف في أحدهما ظاهريّا وفي الآخر واقعيّا.

وأيضا ما سقط عن الفاعل إنّما هو حكم ظاهري جاء في حقّه من أدلّة الاستصحاب الواردة على أدلّة الواقع الجارية في حقّه الغير الجارية في حقّ غيره ، لأنّ الاستصحاب مع العلم بالخلاف ممّا لا معنى له ، وكما أنّ الاستصحاب وأدلّته غير جاريين في حقّه فكذلك

ص: 143

لا يجري في حقّه ما ينشأ منهما من الأثر ، كيف ومعنى جريان الاستصحاب في مثل المقام قيام الطهارة المستصحبة مقام الطهارة الواقعيّة من قبل الشارع ، وهذه القضيّة غير صادقة في حقّ من يعلم بالحال لانتفاء موضوعها ، ومعه كيف يعقل جريان حكمها في حقّه والحكم لا بدّ له من موضوع يتقوّم به وهو منتف هنا.

ومن هذا الباب بالتقريب المذكور ما لو كان الإخلال في العمل بالنسبة إلى البعض الآتي منه ممّا لا يوجب عليه الإعادة بعد التذكّر ، كما لو صلّى في ثوب مجهول النجاسة في حقّه أو نسي من أجزاء الصلاة ما ليس بركن وعلم غيره بالحال ، فإنّه لا يوجب سقوط الفرض عن العالم بالحال لكون العمل الواقع بالنسبة إليه فاسدا ، ولذا لا يجوز له الاكتفاء به ابتداءا فكيف يعقل ترتّب الأثر عليه بالنسبة إليه ، وكونه مجزيا في حقّ فاعله حكم جاء من أدلّة اخر واردة على أدلّة الواقع والمفروض عدم جريان تلك الأدلّة في حقّ غيره ، ومعه كيف يعقل جريان ما ينشأ منها من الأثر في حقّه ، وتوهّم المنافاة بين السقوط في حقّ البعض وعدمه في حقّ الآخر يندفع بما تقدّم من أنّ التفكيك بينهما في ذلك أمر نشأ عن اختلاف القضيّتين في الموضوع ، والملازمة بين السقوطين إنّما تسلم مع اتّحادهما.

ومن الأفاضل من فصّل بين الفرضين فرجّح السقوط في الثاني وعدمه في الأوّل وهو غير واضح الوجه ، ومجرّد كون الأوّل بعد التذكّر وتبيّن الخلاف ممّا يوجب الإعادة على الفاعل دون الثاني لا يصلح فارقا بينهما ، كيف وأنّ المأمور به في كلّ منهما بالنسبة إليه قد وقع على وجهه ، غايته أنّ الدليل الخارجي فرّق بينهما في لزوم الإعادة بعد تبيّن الخلاف في أحدهما دون الآخر.

وهذا الفرق كما ترى ثابت بالنسبة إلى الفاعل وإلاّ فلا فرق بينهما في فساده بالنسبة إلى غيره المتذكّر للحال من ابتداء الأمر ، وكما أنّ العمل في الأوّل لا يجدي بالنسبة إليه في سقوط تكليفه بالواقع فكذلك في الثاني ، والفرق بينهما ليس إلاّ مكابرة واضحة.

وتاسعها : أنّهم بعد ما اتّفقوا على أنّ فرض الكفاية يسقط بفعل البعض عن الباقين اختلفوا في أنّه لو ظنّ كلّ طائفة بحصول الفعل من الاخرى فظهر خطأهم فهل الحكم بالسقوط باق وليس عليهم بعد ذلك شيء أو لا؟ بل التكليف باق لو كان وقت الوجوب باقيا على أقوال.

وهذا الكلام وإن كان مبنيّا على كفاية الظنّ في الحكم بالسقوط كما عليه جماعة ،

ص: 144

ولكنّه يجري على المختار من أنّه لا بدّ في الحكم بالسقوط من العلم بالحصول ولا يكفي فيه الظنّ لو علم كلّ طائفة بحصول الفعل من الاخرى فانكشف خلافه بكونه جهلا مركّبا.

وعلى أيّ حال كان ، فأوّل الأقوال السقوط وعدم بقاء التكليف ، صرّح به من العامّة شارح المنهاج ، فقال : « وحكم الفرض على الكفاية أنّه لو ظنّ كلّ من الطائفة أنّ غيره فعل ذلك الواجب سقط عنهم وإن لم يفعل أحد في نفسه » وهو الظاهر من إطلاق العبارة المحكيّة عن المنهاج موافقة للنهاية من أنّه إن ظنّ كلّ طائفة من المكلّفين أنّ غيره فعل يسقط الواجب عن الكلّ.

بل يظهر من إطلاق ما حكاه السيّد في المنية عن فخر الدين من أنّ التكليف فيه موقوف على حصول الظنّ الغالب ، فلو غلب على ظنّ جماعة أنّ غيرها يقوم بذلك سقط عنها ، وإن غلب على ظنّهم أنّ غيرها لا يقوم به وجب عليهم ، وإن غلب على ظنّ كلّ طائفة أنّ غيرهم لا يقوم به وجب على الجميع وجوبا على الأعيان ، وإن غلب على ظنّ كلّ طائفة أنّ غيرهم يقوم به سقط الفرض عن كلّ واحد من تلك الطوائف.

وهو الظاهر من إطلاق العلاّمة في التهذيب حيث قال : « والتكليف فيه موقوف على الظنّ فإن ظنّت طائفة قيام غيرها به سقط عنها ، ولو ظنّت كلّ طائفة ذلك سقط عن الجميع »

ويظهر أيضا عن البهائي فيما تقدّم من تعريف الكفائي بأنّه ما يسقط عن الكلّ بفعل البعض قطعا أو ظنّا شرعيّا ، مفسّرا للظنّ الشرعي في الحاشية بما يوجبه من اخبار العدلين أو الشياع أو الخبر المحفوف بالقرائن ونحوه.

وثانيها : بقاء التكليف بعده ما دام الوقت باقيا صرّح به بعض الأفاضل واستظهر بعض الأعاظم مستدلاّ بإطلاق الأمر وكون اعتبار الظنّ من باب المرآتيّة لا الموضوعيّة.

وثالثها : التفصيل الّذي حكاه الفاضل المشار إليه عن بعض الأفاضل حيث إنّه بعد ما استشكل في القول بالسقوط مطلقا قال : « انّ التحقيق فيه التفصيل بأنّه إن كان هناك عموم أو إطلاق يقضيان بلزوم الإتيان بذلك في جميع الأحوال تعيّن العمل به ، وإلاّ فلا ، عملا بالاستصحاب » والظاهر أنّ مراده بالاستصحاب استصحاب السقوط المحكوم به حال الظنّ.

وتنظّر بعضهم في الحكم بالسقوط مطلقا وظاهره التوقّف حيث قال : « إذا حصل هذا الظنّ للجميع ولم يقم به فهل يسقط الوجوب أم لا؟ فيه نظر ، إذ يلزم منه ارتفاع الوجوب قبل أدائه من غير مبيح.

ص: 145

ويدفعه : أنّ سقوط الوجوب قد يكون بغير المبيح كانتفاء محلّه مثل الإحراق الرافع لوجوب الغسل ».

والّذي يظهر أنّ ذلك البعض هو الفاضل الجواد فيكون ذلك رابع أقوال المسألة.

والصواب هو القول الثاني ، وقد قدّمنا التحقيق في نظيره في مسألة الأمر الموسّع إذا ظنّ المكلّف ضيق الوقت فانكشف فساد ظنّه ، ونقول هنا أيضا أنّ المسقط للكفائي بحكم الأمر ليس إلاّ حصول الفعل من البعض في الواقع دون العلم أو الظنّ بحصوله ، وإنّما هما واسطتان في الحكم بالسقوط لا نفس السقوط فإذا انكشف فسادهما تبيّن عدم السقوط.

وبعبارة اخرى : أنّ العلم أو الظنّ علّة للحكم بالسقوط لا نفس السقوط ، فإذا تبيّن فسادهما انكشف فساد العلّة وهو يستلزم فساد المعلول ، فتبيّن أنّ الحكم بالسقوط إنّما وقع في غير محلّه فيكون وجوده بمنزلة عدمه ، ولا يعقل معه إلاّ بقاء الوجوب على حاله إلى أن يحصل أداء متعلّقه أو يخرج وقته.

والاستصحاب المتقدّم في المحكيّ عن بعض الأفاضل لا عبرة به ، بل لا استصحاب في الحقيقة من جهة سريان شكّه إلى آن اليقين كعدالة زيد إذا صار حال الشكّ في البقاء حدوثها في الآن السابق مشكوكا فيه ، بأن يكون الزمان اللاحق ظرفا للشكّ في البقاء والحدوث معا.

وعاشرها : ربّما يحكى عن ظاهر غير واحد القول بأنّ فرض الكفاية أفضل من فرض العين.

وعزى القول به على ما في كلام بعض الأفاضل إلى أكثر المحقّقين.

ويظهر من الفاضل المشار إليه الميل إلى العدم ونفى عنه البعد بعض الأعاظم تعليلا باشتماله على الامتثال مع الإحسان على الامّة بسبب تخليصهم عن العقاب مع كونه حافظا لمصلحة يترتّب نفعها على الجميع ويحلّ نفسه محلّهم بخلاف فرض العين.

وأنت خبير بوهن الجميع من جهة أنّ الاشتمال على الامتثال مشترك بينهما والإحسان على الامّة قد يتأتّى في العينيّات ، كما أنّ حفظ المصلحة الّتي يعود نفعها إلى الجميع قد يترتّب في بعض المندوبات كالوقف على جهة عامّة أو الوصيّة لها.

وعن الأكثر الاحتجاج بأنّه : ما يسقط الحرج بفعله عن نفسه وعن غيره.

وأورد عليه :

أوّلا : بأنّ الواجب في العيني أفعال عديدة وفي الكفائي فعل واحد ، ومن الواضح أنّه

ص: 146

تعريف الواجب الموسّع وبيان حقيقته

أصل

الأمر بالفعل في وقت يفضل عنه*

_______________________________

لا أفضليّة للواجب الّذي يجب الإتيان به مرّة على ما يجب تكراره. وفيه : ما فيه من منع الصغرى كما تقدّم.

وثانيا : بأنّ الأفضليّة ليست من جهة إسقاط العقاب ، بل إنّما تلاحظ من جهة زيادة الثواب ، وكون الثواب المترتّب على الكفائي أكثر ممّا يترتّب على العيني ممّا لا دليل عليه.

واحتجّ للقول الآخر بزيادة الثواب في العيني لكون المثابين فيه أكثر من المثابين في الكفائي.

وردّ : بأنّ كثرة الثواب من جهة كثرة المثابين غير كثرة الثواب المترتّب على الفعل في نفسه والأفضليّة تتبع ذلك ، على أنّ تعدّد الثواب من الجهة المذكورة يمكن فرضه في الكفائي أيضا ، كما لو حصل أداؤه من الجميع أو من غير واحد ، ولمّا كان ذلك الخلاف ممّا لا يترتّب على تحقيق القول فيه فائدة مهمّة فلا يجدي الكلام في الوجوه المذكورة نقضا وإبراما ، ولا في إقامة الدليل على ما هو الصواب ، وإلاّ فلا خفاء في أنّ كلّ ما ذكر اعتبار ضعيف لا يصلح سندا في أمثال المقام.

هذا تمام المقال فيما أوردناه في بحث الكفائي على حسبما ساعدنا إليه المجال ، فإنّه هو الموفّق في كلّ حال.

* واعلم أنّ الواجب باعتبار الزمان الّذي يقع فيه له تقسيم آخر غير ما تقدّم من تقسيماته باعتبارات اخر.

والّذي شاع في لسانهم ممّا يحصل بهذا التقسيم ما يقع عليه اسم « المضيّق » واسم « الموسّع » وإلاّ فهو بهذا الاعتبار ما يقع عليه تارة اسم المطلق ، واخرى اسم المؤقّت وثالثة اسم المضيّق ، ورابعة اسم الموسّع وخامسة اسم الفوري ، وكلّ من ذلك بنحو من الاعتبار الّذي يلاحظ مع الفعل المأمور به بالنظر إلى زمان وقوعه.

والّذي يساعد عليه الذوق أن يقال في التقسيم العامّ الشامل لجميع تلك الأقسام : بأنّ الواجب إمّا فوريّ أو غير فوريّ.

وعلى الأوّل فإمّا أن يكون الزمان في أوّله وآخره محدودا بوقت معيّن لا يتجاوز عنه

ص: 147

تقدّمّا وتأخّرا أو لا.

والأوّل ما يعبّر عنه ب- « المضيّق » وقد يقيّد بالمعنى الأخصّ ، وقد يقع عليه اسم « الموقّت » باعتبار كونه أحد قسميه.

والثاني على قسمين :

أحدهما : ما يكون الفوريّة - وهو لزوم التعجيل في أدائه - من قيود المأمور به الّتي يفوت المأمور به بالإخلال فيها ، ويعبّر عنه ب- « الفوري » على الإطلاق كردّ السلام ، وقد يسمّى بالفوري التقييدي.

وثانيهما : ما يكون الفوريّة مطلوبا آخر أثبته الدليل مع المأمور به ، ويعبّر عنه ب- « المضيّق » باعتبار عدم الرخصة في التأخير ، كالحجّ حيث لا رخصة في تأخيره عن العام الأوّل من الاستطاعة ، وقد يسمّى ب- « الموسّع » باعتبار التوسعة في زمان الإجزاء ، وقد يعتبر فيه كونه مضيّقا من جهة وموسّعا من اخرى ، وقد يجعل بهذا الاعتبار قسما من المضيّق بالمعنى الأعمّ والموسّع بالمعنى الأعمّ ، قبالا للمضيّق والموسّع بمعناهما الأخصّ.

وعلى الثاني : فإمّا أن يكون زمان أدائه مع كونه موسّعا محدودا في أوّله وآخره بوقت معيّن لا يتجاوز عنه تقدّما وتأخّرا فهو « الموسّع بالمعنى الأخصّ » قبالا للمضيّق بهذا المعنى ، كالفرائض اليوميّة أو لا يكون كذلك ، بل زمان أدائه باق من طرف الآخر ما دام العمر فهو المسمّى بالأمر المطلق قبالا للموقّت ، كصلاة الزلزلة وغيرها من الآيات غير الكسوفين.

وقد يطلق عليه اسم « الموسّع » أيضا باعتبار معناه العامّ الشامل للمحدود وغيره.

ثمّ إنّ الأصل في الواجب لفظا وعملا كونه موسّعا بهذا المعنى ، فإنّه الّذي يقتضيه إطلاق الأمر وأصالة عدم التقييد بما يوجب الفوريّة أو التوقيت ، ويساعد عليه أصل البراءة عمّا يوجب استحقاق العقاب بالتأخير ، واستصحاب الأمر بعد تأخير الامتثال عن زمن الفور ، ولا حكم معه لقاعدة الشغل المقتضية للتعجيل.

فإن ثبت دليل على اعتبار الفوريّة فإن أوجب مع ذلك كونها من قيود المأمور به انقطع به كلّ من الإطلاق والأصل والاستصحاب ، فيكون الفور التقييدي على خلاف الاصول لفظا وعملا ، فلا يصار إليه إلاّ مع دليل ينقطع به تلك الاصول ، وإن أوجب كونها مطلوبا آخر مع المأمور به انقطع به أصل البراءة خاصّة ، فيكون المضيّق باعتبار زمان الرخصة والموسّع باعتبار زمان الإجزاء مخالفا لذلك الأصل دون الإطلاق والاستصحاب ، فإذا دار

ص: 148

جائز عقلا* ، واقع على الأصحّ. ويعبّر عنه بالواجب الوسّع ، كصلاة الظهر مثلا. وبه قال أكثر الاصحاب ، كالمرتضى ، والشيخ ، والمحقّق ، والعلاّمة ، وجمهور المحقّقين من العامّة.

________________________________

الأمر بينه وبين الفور التقييدي كان الأصل في جانبه عملا بالإطلاق وأصالة عدم التقييد والاستصحاب إن كان دليل أصل الواجب لفظيّا ، وإلاّ انحصر الأصل في كونه من مقتضى الاستصحاب كما لا يخفى.

وإن ثبت دليل على اعتبار التوقيت انقطع الأصول أيضا بحذافيرها بالمرّة كما في المضيّق بالمعنى الأخصّ. أو في الجملة كما في الموسّع بالمعنى الأخصّ.

ثمّ إن علم في مورد ذلك الدليل مساواة الوقت للعمل أو كونه زائدا عليه فلا إشكال ، وإن علم التوقيت في الجملة وتردّد بين المساواة والزيادة كان الأصل هو الزيادة ، لأصالة البراءة عمّا يوجب استحقاق العقاب بالتأخير عمّا يحصل به من أجزاء الوقت المساواة المحتمل لكونه آخر أجزاء الوقت المضروب له ، واستصحاب الأمر فيما بعد ذلك الجزء إلى ما يوجب القطع بكونه آخر أجزاء الوقت ، فيكون الموسّع بالمعنى الأخصّ على طبق الأصل من هذه الجهة بالقياس إلى الموسّع بالمعنى الآخر ، كما أنّ المضيّق المقابل له على خلاف الأصل بالقياس اليه بالمعنى المتقدّم.

وأمّا إذا ثبت الفور في المأمور به بعنوان القيديّة ودار بين كونه من باب المضيّق بالمعنى الأخصّ أو الفور التقييدي فلا يجري فيه شيء من الأصول المذكورة ليرجّح به أحد الطرفين ، فيلزم من ذلك الوقف اجتهادا وإن كان لا يترتّب على عدمه ثمرة عملا ، نعم يمكن اعتبار أصل آخر هنا يرجّح ثاني الاحتمالين نظرا إلى أنّ ضبط الوقت أوّلا وآخرا ممّا يحتاج إلى زيادة مؤنة كما لا يخفى على المتأمّل ، فالأصل عدمها.

فبما ذكر تبيّن شرح قول المصنّف : « الأمر بالفعل في وقت يفضل عنه » فإنّ الموسّع موقّتا كان أو غيره على تقدير ثبوته واجب أمر به في وقت يفضل عنه ، وسيأتي زيادة توضيح في ذلك.

* خبر للعبارة المتقدّمة ، وتفصيل القول فيه : أنّ الواجب إذا لوحظ معه وقت فإمّا أن يكون ذلك الوقت ناقصا عن زمان أدائه تماما ، بمعنى كونه ممّا لا يسع إيقاعه فيه بالتمام ،

ص: 149

أو مساويا ، أو زائدا عليه بمعنى كونه ممّا يسع إيقاعه فيه وما زاد.

وقد نصّ غير واحد من الخاصّة والعامّة بامتناع الأوّل مع نفي الإشكال عنه في عبارة ، أو نفي الكلام عنه في عبارة اخرى ، أو نفي الخلاف عنه في عبارة ثالثة ، أو نفي النزاع عنه في رابعة ، إلاّ على أحد الوجهين من تجويز التكليف بالمحال كما عليه جماعة من العامّة ، أو على إرادة القضاء في المعذور الّذي زال عذره في الوقت وقد بقى منه مقدار ركعة أو تكبيرة ، كما لو كان صبيّا فبلغ أو كانت المرأة حائضا فطهرت في هذا المقدار من الوقت ، فإنّه وإن لم يسع العمل بتمامه غير أنّه يسع الالزام حتّى يجب عليه القضاء.

وربّما يقرّر بما في محكي النهاية - على ما في الهداية - من أنّه إذا اريد إيقاع بعضه فيه وإتمامه فيما بعده فلا مانع ، كما ورد في الخبر : « من أدرك ركعة في الوقت فقد أدرك الوقت ».

وربّما يتوهّم جواز هذا القسم كالقسم الآتي استنادا إلى تلك الرواية ، فإنّ مقدار ركعة من الوقت ممّا لا يسع تمام العمل وقد وقع فيه التكليف به.

ويبطله : أنّه إنّما يستقيم لو كان المعنى من أدرك هذا المقدار من الوقت يجب عليه أداء تمام العمل فيه ، وهو من حيث أدائه إلى تكليف ما لا يطاق المستحيل واضح البطلان ، بل المنساق من الرواية أنّها ليست في موضع الطلب والإنشاء حيث لا داعي إلى الحمل عليه ، بل هو إخبار إمّا على سبيل الحمل الحقيقي وهو باطل لاستلزامه الكذب ، أو على سبيل الحمل المجازي من باب التشبيه الّذي حذفت معه أداته ، ليكون التقدير : « من أدرك ركعة من الوقت فكأنّه أدرك الوقت » فهو المتعيّن ، بناءا على أنّ المراد بمدخولي « اللام » هو الوقت المعهود المضروب للصلاة بحسب الشرع ، فيحمل التشبيه حينئذ على أظهر الأحكام وهو كون وقوع العمل على تقدير إدراك تمامه في الوقت أداءا.

فيكون مفاد الرواية : أنّ إدراك ركعة من الصلاة في الوقت مع تعقّب تتميمه في خارج الوقت ما نزّله الشارع منزلة إدراكه تمامها في الوقت ، وحكم عليه بكونه أداءا وإن لم يكن تمامه واقعا في الوقت.

فيكون تلك الرواية حاكمة على أدلّة التوقيت ، ضرورة أنّ قضيّة التوقيت وقوع الصلاة بجميع أجزائها في الوقت بحيث لو فرض وقوع التكبيرة منها قبل الوقت أو تسليمها بعده كانت فاسدة ، غير أنّ الرواية كشفت بمضمونها عمّا هو حقيقة المراد من دليل التوقيت ،

ص: 150

فضعف بذلك القول بكونه قاضيا مطلقا أو لما يقع خارج الوقت خاصّة ، لقضاء ظاهر الرواية بكونه مؤدّيا مطلقا كما هو ثالث الأقوال في هذا المقام ، وفي شمولها لما يقع أوّل الوقت من بعض الصلاة مع وقوع ما عداه قبله احتمال قوي ، لولا ظهور لفظة « أدرك » في إدراك الأخير بحسب العرف والعادة.

وأمّا القسم الثاني فصرّح غير واحد من الفريقين مع دعوى الإجماع أو الاتفاق أو نفي الخلاف أو النزاع أو الإشكال بجوازه ، بل وقوعه في الشرع كصوم رمضان.

وقد يقال : باختصاص هذا القسم بحكم الاستقراء - مع كونه من مقتضى الفرار عن العسر العظيم - بالتروك ، كما يعلم من المثال المذكور ، ولا يرد مسألة التراوح في أحكام النزح لعدم ابتنائه على التطبيق الحقيقي الّذي هو محلّ الفرض ، ولذا جاز للمتراوحين الصلاة جماعة وغير ذلك ممّا يستلزم خلوّ بعض اليوم عن الاشتغال ، على أنّ التطبيق الحقيقي في بعض الموقّتات كالصلوات اليوميّة ممّا لا يمكن عادة كما لا يخفى.

وكأنّ الداعي إلى عدم تعرّض المصنّف لذكر هذين القسمين هو ما ذكر من قضيّة عدم الإشكال أو عدم الخلاف فيهما امتناعا وجوازا.

وأمّا القسم الثالث فهو الّذي تعرض لذكره المصنّف لوقوع الخلاف في جوازه حيث انّ جماعة من العامّة كأبي الحسن الكرخي وجماعة من الأشاعرة وجماعة من الحنفيّة أنكروا ذلك وذهبوا إلى امتناعه كالأوّل.

وربّما يحكى ذلك عن المفيد من أصحابنا ، كما يشير إلى ذلك المصنّف أيضا فيما بعد ذلك ، وسيأتي عن بعضهم المناقشة في ذلك ، وصار الآخرون إلى جوازه عقلا ووقوعه شرعا ، ومستند المنع إمّا ما يرجع إلى إنكار المقتضي كما يومئ إليه احتجاج المجوّزين بإمكان اشتراك أجزاء الوقت في المصلحة المقتضية لإيجاب الفعل فيه كما في عبارة المنية ، أو إلى إبداء المانع كما هو المصرّح به في جملة العبائر من تعليل الامتناع بأداء الفضلة في الوقت إلى جواز ترك الواجب.

وعليه فما في كلام جماعة من المجوّزين الاستناد إلى ما يقضي بوجود المقتضي قبالا لمن يستند في المنع إلى وجود المانع ليس على ما ينبغي ، لأنّ المقتضي قد يجامع وجود المانع فعلى المجوّز رفعه ، لجواز كون المقتضي ممّا يسلّمه الخصم.

ص: 151

وكيف كان فظاهرهم عنوانا ومثالا يعطي اختصاص النزاع بما كان من الموسّع موقّتا ، لكن دليل المانعين لكونه ممّا لا يقبل التخصيص يفيد القطع بكونه فيما يعمّ الموقّت وغيره ، فلا بدّ من حمل ما يوهم الاختصاص على إرادة المثال ، ولا ينافيه ما يأتي عن المانعين من افتراقهم في تأويل ما دلّ بظاهره على وقوع التوسعة في الفرائض اليوميّة إلى مذاهب من حيث إنّ ذلك مختصّ بالموقّت ، لأنّ كلّ ذلك تكلّف منهم ارتكبوه للتفصّي عمّا ورد عليهم من إشكال الوقوع في خصوص الموقّت ، فاختصاص ذلك إنّما هو من جهة اختصاص الإشكال لا اختصاص أصل الدعوى ، ومخالفتهم هنا وإن كانت في الإمكان الّذي نفيه يستلزم نفي الوقوع غير أنّا نورد الكلام معهم في مقامين :

أحدهما : في إمكان الموسّع عقلا ومنع امتناعه ، وهذا هو الّذي أشار إليه المصنّف إجمالا بقوله : « جائز عقلا ».

وثانيهما : في وقوعه شرعا إلزاما لهم بما هو أخصّ ممّا أنكروه ، وهذا هو الّذي يشير إليه المصنّف فيما يأتي عنه.

في وقوع الواجب الموسّع

أمّا المقام الأوّل : فإمكان الموسّع مع أنّه ضروريّ يعرفه كلّ فطرة سليمة ممّا لا مجال إلى إنكاره ، لوجود ما يقتضي إمكانه وفقد ما يصلح مانعا عنه.

وبعبارة اخرى : المقتضي لإمكانه بالذات موجود والموجب لامتناعه بالعرض مفقود.

أمّا الأوّل : فلوضوح أنّ الواجب ما لا ينعقد إلاّ مع رجحان ينشأ منه وصفه العنواني ، وذلك الرجحان بحكم الاستقراء مع قضاء الوجدان قد يكون من لوازم الماهيّة الملحوظة لا بشرط شيء من الامور الخارجة عنها ، المنوّعة لها من زمان أو مكان أو آلة أو حالة أو صفة أو نحوها من الاعتبارات الخارجة ، وقد يكون من لوازم الماهيّة الملحوظة بشرط شيء أو أشياء ممّا ينوّعها من الامور المذكورة ، ضرورة أنّها قد تكون راجحة في زمان دون آخر ، ومكان دون آخر ، وآلة دون أخرى ، وحالة دون اخرى ، وهكذا إلى آخر ما له مدخليّة في إثباتها ، فالزمان أيضا ممّا قد يستند إليه رجحان الواجب وينوط به المصلحة المطلوبة من إيجابه.

ولا ريب أنّه في إيراثه الرجحان قد يكون بحيث يستند الرجحان في لحاظ الآمر إلى مجموع أجزائه من حيث المجموع ، بحيث لولا انضمام بعض تلك الأجزاء لما كان ما اوتي

ص: 152

به في غير ذلك الجزء هو النوع الراجح ، وإن صلح في حدّ ذاته لأن يقع في غير المجموع ، كالصوم المنوط رجحانه الباعث على إيجابه بانقضاء تمام أجزاء النهار من أوّل الفجر إلى المغرب ، فإنّه بما هو هو ليس إلاّ إمساكا مقرونا بالنيّة ، وهذا المعنى كما ترى قابل لأن يتحقّق في جزء من النهار كساعة أو ساعتين أو أقلّ أو أكثر ، غير أنّ ما اعتبر فيه من الرجحان منوط بتحقّق هذا المعنى في تمام أجزاء النهار بحيث لولا تحقّقه في بعضها ولو كان أقلّ قليل منها لحصل الاختلال في الراجح ، ولم يكن الحاصل حاصلا بوصف الرجحان ولا الوجوب ، ولا أنّه يوجب الامتثال ولا ترتّب الثواب ولا المصلحة المطلوبة من إيجابه.

وقد يكون بحيث يستند الرجحان إلى كلّ جزء من أجزائه ممّا يسع إيقاع الفعل فيه ، على وجه لو وقع في أيّ منها على البدل كان كافيا في تأدية العمل الراجح والواجب الّذي انيط رجحانه بهذا الزمان المضروب له.

وقضيّة ذلك ثبوت التوسعة في وقت أدائه ، بمعنى صلاحية وقوعه في كلّ جزء من ذلك الوقت على البدل ، كالواجب التخييري بالقياس إلى أفراده.

هذا كلّه في الموقّت.

وأمّا غيره فوجود المقتضي للتوسعة وإمكانها فيه أظهر وأوضح ، التفاتا إلى أنّ الواجب إذا كان غير موقّت معناه أنّه لوحظ في اعتبار وصفه العنواني لا بشرط شيء من الزمان ، بأن لا يكون لخصوصيّة زمان دون آخر مدخليّة في رجحانه الباعث على إيجابه ، ومن لوازم ما لوحظ لا بشرط شيء جواز اجتماعه مع ألف شرط ، ولا نعني من جواز التوسعة إلاّ هذا المعنى.

وبالجملة الزمان كائنا ما كان - كالمكان والآلة وغيرهما - من لوازم وجود الماهيّة ، إلاّ أنّه قد يؤخذ مع ذلك قيدا لها في تعلّق وصف الوجوب بها ، فيلزم من ذلك تخصيص ما هو من لوازم وجودها بما يكون محدودا في أوّله وآخره ، وإخراج بعض ما يشاركه من جهة اللزوم عن كونه مشاركا له في إناطة رجحان الماهيّة به بضبطه في طرفيه الأوّل والآخر المعبّر عنه بالتوقيت ، واذا فرض كون ذلك الزمان المحدود والوقت المضبوط صالحا لأزيد من إيقاع تلك الماهيّة مرّة كانت الماهيّة في تعلّق وصف الوجوب بها بالقياس إلى أجزائه لا بشرط شيء وإن كانت بالقياس إليه من حيث كونه محدودا بشرط شيء ، كما أنّها فيما

ص: 153

لم يعتبر شيء من الزمان الّذي هو من لوازم وجودها معها في تعلّق الوجوب بها لا بشرط شيء بالقياس إليه وسائر أجزائه.

وقضيّة ذلك كونها في كلّ من الصورتين قابلة لكلّ شرط زماني هو من أجزاء وقتها المضروب لها أو من أجزاء ظرف وجودها ، كسائر الماهيّات بالقياس إلى ما يفرض لها من الشروط الغير الزمانيّة من مكان أو آلة أو حالة ، فكما أنّ الإتيان بسائر الماهيّات في ضمن أيّ جزء ممّا ذكر من الشروط حيثما لو حظت لا بشرط شيء منها ممّا يكفي في حصول الامتثال بلا مدخليّة لخصوص شيء من ذلك فيه ، فكذلك الإتيان بها في ضمن أيّ جزء ممّا عيّن له من الوقت المحدود أو ما هو ظرف لوجودها ، وإبداء الفرق بينهما بدعوى إمكان الأوّل دون الثاني تحكّم واضح.

ولا أظنّ الخصم ينكر ذلك ، كيف وهو قريب من إنكار أبده البديهيّات ، فالانصاف أنّه ليس بصدد إنكار الإمكان الذاتي بل إنّما يدّعي الامتناع العرضي لشبهة عرضت له في توهّم وجود ما يمنع المقتضي المذكور عن اقتضائه.

وأمّا الثاني : فلأنّه ليس في المقام ممّا توهّمه الخصم موجبا للامتناع إلاّ استلزام التوسعة في الوقت ترك الواجب.

وفيه : إن اريد به لزوم تركه مطلقا فالملازمة ممنوعة ، إذ التوسعة في الوقت إنّما تتضمّن تجويز الترك إلى أن يتضيّق الوقت فيتعيّن معه الفعل ، وإن اريد به لزوم تركه في الجملة وإن لحقه الفعل فيما بعد ذلك ولو كان [ في ] الجزء الأخير منه فبطلان التالي ممنوع ، إذ لا بدّ له من دليل ليتمّ به الدليل ، وهو إمّا أمر لفظي بمعنى أنّ تجويز تركه في الجملة ممّا يوجب فوات صدق اسم « الواجب » عرفا ولغة ، أو أمر شرعي بمعنى أنّ الشرع قد كشف عن أنّ ذلك لا يجامع الإيجاب ، أو أمر عقلي بمعنى قضاء العقل بمنافاة ذلك للحكمة أو استلزامه قبحا آخر ، كما لو صرّح بالإيجاب وتجويز الترك على الإطلاق ، ولا سبيل إلى شيء من ذلك.

أمّا الأوّل : فلأنّ « الواجب » عرفا ولغة ليس إلاّ ما كان فعله مطلوبا وتركه ممنوعا ، وهو ممّا يصدق مع تجويز الترك في الجملة ، لأنّه في الحقيقة تأخير والممنوع في مفهوم الواجب هو الترك المطلق ، وهو ليس بعين التأخير ولا أنّه يستلزمه.

وأمّا الثاني : فلوضوح فقد ما يدلّ من الشرع على هذا المعنى ، كيف وقد خرجت فيه

ص: 154

كتابا وسنّة ظواهر قضت بوقوع الموسّع الّذي هو أخصّ من الإمكان على ما ستعرفه.

وأمّا الثالث فلأنّ ما يعدّ سفها أو قبيحا أو منافيا للحكمة إنّما هو تجويز ترك الواجب في موضع الإيجاب بالمرّة ، لاستلزام الإيجاب المنع من تركه بالمرّة أو عدم الرضاء به ، وتجويز التأخير ليس منه ، ولا ينشأ منه بنفسه قبح آخر بل هو بنحو من الاعتبار قد يعدّ حسنا من حيث تضمّنه لتسهيل أمر الامتثال للمكلّف ، وتقليل ما ينشأ من أصل التكليف بالنسبة إليه من الضيق المعنوي الّذي ينظر إليه اشتقاقه من الكلفة ، بل نرى بالوجدان الّذي يرشد إليه بناء العقلاء أنّ العقل لا يأبى عن قول العدل الحكيم لعبده : « أوجبت عليك الفعل الفلاني في اليوم الفلاني ورخّصتك في اختيار إتيانه في أيّ جزء منه أوّلا أو آخرا أو وسطا ، ولا اعاقبك على تأخيره إلى الجزء الأخير منه ، وإنّما اعاقبك على تركه رأسا » بل ولو صدر مثل ذلك عنه لا يقبّحه العقلاء أصلا ولا يرمونه بالسفاهة ، كما أنّهم يقبّحونه فيما لو قال : « أوجبت عليك كذا وأرضى بتركه رأسا ».

وأمّا المقام الثاني : فهو الّذي أشار إليه المصنّف بقوله : « واقع على الأصحّ ويعبّر عنه بالواجب الموسّع كصلاة الظهر مثلا ».

ومحصّل الدليل على الوقوع ظاهر قوله عزّ من قائل ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) (1) فإنّه في ظاهر الفهم العرفي يقضي بامتداد الوقت من الدلوك إلى الغسق.

ودعوى اختصاصه بالأوّل أو بالآخر أو كونه مراعى إلى إدراك الآخر مع شرائط التكليف فيكشف عن سبق الوجوب وإلاّ فلا ، تقييد في ذلك بلا دليل وتأويل خال عن التحصيل ، كما يرشد إليه ما ورد في تفسير الآية من صحيح عبيد بن زرارة فقال : « إنّ اللّه افترض أربع صلوات أوّل وقتها من زوال الشمس إلى انتصاف الليل ، منها صلاتان أوّل وقتهما من عند زوال الشمس إلى غروب الشمس إلاّ أنّ هذه قبل هذه ، ومنها صلاتان أوّل وقتهما من غروب الشمس إلى الانتصاف إلاّ أنّ هذه قبل هذه » (2).

وفي معناه ما في الرواية : « إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الصلاتين الظهر والعصر ، إلاّ أنّ هذه قبل هذه ، ثمّ أنت في وقت منهما حتّى تغيب الشمس » (3).

ص: 155


1- الاسراء : 78.
2- البحار 79 : 358 و 80 : 68 ، الوسائل 4 : 157.
3- الوسائل 4 : 126.

وفي معناها رواية زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال : « أحبّ الوقت إلى اللّه عزّ وجلّ حين يدخل وقت الصلاة فصلّ الفريضة ، فإن لم تفعل فإنّك في وقت منهما حتى تغيب الشمس » (1)

وفي معناها رواية عبد اللّه بن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام عن وقت العصر والظهر فقال : « إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر والعصر جميعا ، إلاّ أنّ هذه قبل هذه ، ثمّ أنت في وقت منهما حتّى تغيب الشمس » (2).

وفي معناها مرسلة داود بن فرقد قال : « إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر حتّى يمضي مقدار ما يصلّي المصلّي أربع ركعات فإذا مضى ذلك فقد دخل وقت الظهر والعصر حتّى يبقى من الشمس مقدار ما يصلّى أربع ركعات ، فإذا بقي مقدار ذلك فقد خرج وقت الظهر والعصر وبقي وقت العصر حتّى تغيب الشمس » (3) إلى غير ذلك من النصوص ، وهي وإن كانت لا تجدي في دفع شبهة الخصم من حيث إنّه لا يقول بها غير أنّها تجدينا في اختيار المذهب وتحصيل ما هو حقيقة الأمر.

هذا مع أنّ في الآية المشار إليها إمّا أن يراد تطبيق العمل مرّة لتمام الوقت المذكور فيها على وجه ينطبق أوّله على أوّله وآخره على آخره ، أو يراد تكراره إلى انقضاء الوقت ، أو إيقاعه في جزء معيّن منه ، أو إيقاعه في جزء منه غير معيّن ، أو إيقاعه في أيّ جزء منه اتّفق ، والأوّل - مع أنّه غير ممكن عادة فيفضي إلى التكليف بالمحال - خلاف ما قامت به سيرة المسلمين في جميع الأمصار وما انعقد عليه إجماع علمائهم في كلّ الأعصار ، كما أنّ الثاني يخالفهما.

والثالث خلاف الفرض ، حيث لا دليل على العهد والتعيين من كتاب أو سنّة أو إجماع أو عقل ، ولا أنّ الآية المتضمّنة للتوقيت تعرّضت للتعيين.

وإلى ذلك أشار المصنّف فيما بعد ذلك بقوله : « وليس في الأمر تعرّض لتخصيصه بأوّل الوقت أو آخره ولا بجزء من أجزائه المعيّنة قطعا ، بل ظاهره ينفي التخصيص ، ضرورة دلالته على تساوي نسبة الفعل إلى أجزاء الوقت ، فيكون القول بالتخصيص بالأوّل أو الآخر تحكّما باطلا » انتهى.

ص: 156


1- الاستبصار 1 : 261 ، الوسائل 4 : 120.
2- من لا يحضره الفقيه 1 / 216.
3- الاستبصار 1 : 261 ، الوسائل 4 : 127.

والرابع كالأوّل في تأديته للتكليف بالمحال ، فتعيّن الخامس وهو المطلوب.

وربّما يحكى الاحتجاج (1) عليه أيضا : بأنّ الفعل لو وقع في كلّ جزء من أجزاء الوقت كان مجزيا بالإجماع ، ولا يكون كذلك إلاّ إذا كان محصّلا لمصلحة الواجب ، وكان إيقاعه في كلّ وقت قائما مقامه في غيره من الأوقات فيكون واجبا ، إذ لولاه فإمّا من جهة فوات مصلحة الواجب فيكون حراما ، أو من جهة بقائها فيكون أداء الفعل ثانيا واجبا ، وكلاهما باطلان إجماعا.

وردّ : بأنّه لو اريد بكون الإتيان بالفعل في كلّ جزء من الوقت مجزيا أنّ الإتيان به إتيان بالمأمور به فهو المتنازع فيه ، ولو اريد به كونه مسقطا للخطاب فهو أعمّ ، لجواز كون إيقاعه في بعض الأجزاء ندبا يسقط به الفرض وفي آخر واجبا فيكون أعمّ.

أقول : يمكن تتميم الحجّة وتوجيهها على وجه يندفع به الردّ المذكور - وإن كانت العبارة المذكورة في تقريرها قاصرة عن تأديته - وهو أن يقال : إنّ ما ذكر من عموم القضيّة إنّما يصحّ بعد إحراز مقدّمتين :

إحداهما : كون الفعل في بعض أجزاء الوقت نفلا ، وهو ممّا لا دليل عليه من عقل ولا نقل ، ولا تعرّض في الأمر الموقّت للتنبيه عليه أصلا ، كيف وهو ممّا يفضى إلى وقوع استعماله في أكثر من معنى.

ولا ريب أنّ مجرّد الاحتمال مع عدم قيام الدليل لا يكفي في ثبوته ، مع كونه من التوقيفيّات الّتي الأصل فيها العدم ، والمراد به القاعدة الّتي يعبّر عنها ب- « أنّ عدم الدليل دليل العدم ».

وثانيتهما : كون النفل على فرض ثبوته مسقطا عن الفرض ، وهو أيضا على خلاف الأصل فلا يصار إليه ، ولا يعتنى باحتماله إلاّ في مورد الدليل والمقام ليس منه ، وثبوته في باب الزكاة - على فرض تسليمه - خارج بالدليل فلا يقاس عليها غيره.

وبالجملة هذه الحجّة منوطة بالإجماع على كون إيقاع الفعل في أيّ جزء من أجزاء الوقت محصّلا لمصلحة الواجب ، وهو على حدّ الانفصال الحقيقي دائر بين كونه من جهة

ص: 157


1- قرّره السيّد في المنية هكذا : « ولوقوع الإجماع على أنّ المؤدّى للفعل المأمور به على الوجه المذكور في أيّ جزء من أجزاء الوقت يكون مؤدّيا للفرض ، وذلك مؤذن بأنّ إيقاع الفعل في أيّ جزء كان مساو لإيقاعه في غيره من تلك الأجزاء في تحصيل مصلحة الواجب ، وذلك مستلزم لوجوبه فيه ، إذ لو كان الفعل في بعض أجزاء الوقت غير محصّل لمصلحة الواجب لكان إمّا مفوّتا لها فيكون حراما أو لا ، فيجب إيقاع الفعل في جزء آخر غيره تحصيلا لتلك المصلحة وهما خلاف الإجماع » انتهى. ( منه عفي عنه ).

حصول نفس الواجب أو من جهة حصول ما يوجب سقوطه من النفل على الوجه المفروض.

والثاني منفيّ بالأصل وعدم قيام دليل على شيء من المقدّمتين المحتاج إليهما في تصحيحه ، فتعيّن الأوّل.

وقد شاع الاحتجاج عليه أيضا بما يشير إليه المصنّف ، وجنح إليه الحاجبي في مختصره من : « أنّه لو كان الوقت معيّنا لكان المصلّي في غيره إمّا مقدّما للفعل على وقته فلا يصحّ ، أو مؤخرا له عن وقته فيكون قاضيا فيعصى ، وكلاهما خلاف الإجماع ».

أقول : يرد عليه نظير ما سبق في الاحتجاج السابق ، كما أشار إليه بعض الأعاظم.

ويمكن تصحيحه والذبّ عمّا يرد عليه بنحو ما مرّ ، وإن كانت العبارة قاصرة عن أدائه.

وقد يحكى الاستدلال عليه أيضا : « بأنّه لو اختصّ الوجوب بأوّل الوقت لاستحقّ الذمّ بتأخيره إلى آخر الوقت كما يستحقّه بتأخيره عن الوقت ، ولا نتفت فائدة ضرب الوقت ، لأنّ ما يفعل بعده يكون قضاء لما يفعل فيه ، ولو اختصّ بآخره لزم محالات ، من أنّ الفعل لو كان في أوّله نفلا - كما اختاروه - وجب كون النيّة مطابقة له ، ومن تحريم الأذان والإقامة في أوّل الوقت لاختصاصهما بالفرائض ، ومن عدم تأدية الفرائض لو لم يؤدّها إلاّ في أوّل الوقت ، ومن لزوم أفضليّة النفل من الفرض فإنّ تقديم المغرب أفضل من تأخيرها » وهو بظاهره غير وجيه ولا يندفع به شبهة الخصم ، لتمكّنه من اختيار الشقّ الأوّل ودفع أوّل الوجهين بمنع الملازمة على تقدير ومنع بطلان التالي على تقدير آخر ، إذ لو اريد بلزوم استحقاق الذمّ بالتأخير الى آخر الوقت لزومه مع عدم لحوق العفو به لو فعله في الآخر كان الملازمة ممنوعة.

ولو اريد به لزومه مع لحوق العفو لو فعله في الآخر كان بطلان التالي ممنوعا ، إذ لا دليل عليه إلاّ الإجماع ، ولا إجماع إلاّ على نفي استحقاق الذمّ من غير تعقّب العفو.

وبعبارة اخرى : لو اريد باستحقاق الذمّ حدوثه وإن لم يبق بلحوق العفو بالفعل في الآخر اتّجه المنع عن بطلان التالي.

ولو اريد به بقاؤه بعد الحدوث اتّجه المنع عن الملازمة ، إذ القائل باختصاص الوقت بالأوّل يدّعي عدم بقائه بلحوق العفو.

ودفع ثانيهما أيضا بمنع انحصار فائدة ضرب الوقت في بيان وقت الأداء ، إذ بيان وقت العفو بعد انقضاء وقت الأداء أيضا من جملة الفوائد وإن كان الأوّل أظهرها ، فلم لا يجوز أن يراد به حصول تلك الفائدة بعد ما قام الدليل على امتناع إرادة ما هو أظهر منها ، وبذلك

ص: 158

أدلّة المنكرين للواجب الموسّع وأجوبتها

وأنكر ذلك قوم ؛ لظنّهم أنّه يؤدّي إلى جواز ترك الواجب. ثمّ إنّهم افترقوا على ثلاثة مذاهب.

أحدها : أنّ الوجوب ، فيما ورد من الأوامر الّتي ظاهرها ذلك ، مختصّ بأوّل الوقت*

__________________________________

يمتاز الواجب الموسّع عن المضيّق ، إذ ليس في تأخير المضيّق عن وقته المضروب له عفو حتمي بخلاف الموسّع ، فإنّ ما فيه من التوسعة في الوقت يرجع إلى التوسعة في وقت العفو الحتمي بعد انقضاء وقت الأداء إلى آخر الوقت الّذي دلّ عليه النصّ.

وعن اختيار الشق الثاني ودفع أوّل المحاذير بالتزام وجوب نيّة النفل تحصيلا لمطابقة النيّة للعمل ، فإنّ من يجعل أصل العمل نفلا لا يبالي عن القول بكون الواجب في نيّته نيّة النفل ، إذ لا يمنعه عن ذلك مانع بعد ما لم يكن له مانع عن القول بكون أصل العمل نفلا.

ودفع ثانيها بمنع تحريم الأذان والإقامة أوّل الوقت هنا مع منافاته لاختصاصهما بالفرائض ، فإنّ من يجعل العمل أوّل الوقت نفلا إنّما يجعله بدعوى قيامه مقام الفرض وكونه نازلا منزلته ولذا يلتزم بكونه مسقطا عنه ، فإذا دلّه الدليل على تلك الدعوى يسهّل عليه الأمر في تحليل الأذان والإقامة إذ ادّعى كونه من مقتضيات عموم المنزلة ، فإنّ معنى كونه قائما مقام الفرض أن يلحقه جميع أحكامه أو الظاهرة من أحكامه الّتي منها اشتراط الطهارة في الصحّة مثلا.

ومنها : سقوط الأمر بحصوله في الخارج.

ومنها : جواز الأذان والإقامة له إلى غير ذلك ممّا هو من خواص الفرض ، فيختصّ الحكم في تحريمهما حينئذ بما لم يكن من النوافل قائما مقام الفريضة كما لا يخفى.

ودفع ثالثها بمنع الملازمة لو اريد بعدم تأدية الفرائض عدم تأديتها ولا تأدية ما يقوم مقامها.

ومنع بطلان التالي لو اريد به عدم تأديتها مع تأدية ما يقوم مقامها.

ودفع رابعها بأنّ كون تقديم المغرب أفضل من تأخيرها لا ينافي عدم كون النفل أفضل من الفرض ، لأنّ ذلك حكم ثبت للنفل الّذي لم يكن قائما مقام الفرض ، وأمّا ما قام مقامه فلا مانع من أن يثبت له أحكامه الّتي منها أفضليّة التقديم ، أخذا بموجب قيامه مقامه.

* عزاه في بيان المختصر إلى طائفة ، وفي شرح المنهاج إلى من هو من أصحاب

ص: 159

الشافعي ، وفي التهذيب إلى بعض الأشاعرة ، وفي شرحه للسيّد إلى جماعة منهم ، وفي أكثر العبارات الحاكية لهذا المذهب التصريح بكونه قضاء فيما بعد أوّل الوقت.

فربّما يجمع في بعض (1) حواشي الكتاب بين هذا القول والإجماع على عدم العصيان بالتأخير بأنّهم وإن خصّصوا الوجوب بالأوّل لكنّهم قائلون أنّ الفعل ليس بمعيّن في الأوّل ، بل المكلّف مخيّر بين أدائه في الأوّل وقضائه في الثاني ، وهو بظاهره بخلاف ما هو المشهور في وجه الجمع.

وأشار إليه بعض المحقّقين من أنّ ذلك بثبوت العفو بفعله في الآخر ، بناء على ما نقل من « أنّ أوّل الوقت رضوان اللّه وآخره عفو اللّه » فإنّ ثبوت العفو بالتأخير لا يلائم التخيير بينه وبين عدمه ، نظرا إلى امتناع التخيير بين مباح ومحرّم ، واستلزام العفو التحريم.

وأيّا من التوجيهين كان فبه يدفع ما ذكروه في ردّ هذا القول ، وأشار إليه المصنّف فيما بعد ذلك من لزوم المعصية والعقاب بالتأخير لو اختصّ بأوّل الوقت وهو خلاف الإجماع ، كما أشرنا إليه أيضا فيما سبق.

وعلى أيّ حال كان فهذا القول يتضمّن دعويين اختصاص الوجوب بالأوّل وصيرورة الفعل قضاء في غيره.

والمعروف من حجّته ما قرّره المصنّف فيما بعد ذلك ، وقد يستفاد من بعض العبارات - كما في شرح المنهاج - الاحتجاج له بقوله عليه السلام : « أوّل الوقت رضوان اللّه وآخره عفو اللّه » فإنّ الأوّل دليل على الاختصاص والثاني دليل على القضائيّة ، نظرا إلى أنّ العفو لا يكون إلاّ عند التقصير.

وأجاب عنه شارح المنهاج : بأنّ ذلك لبيان وقت الفضيلة ، والكلام إنّما هو في وقت الوجوب.

وتوضيح ذلك : أنّ الرضوان - على ما في كلام بعض أهل اللغة - أعلى مراتب الرضاء ، وفي الدعاء : « بلّغ بي رضوانك » أي أبلغني منتهى رضاك ، فيكون معنى الحديث حينئذ : أنّ الصلاة في أوّل الوقت توجب أعلى مراتب رضاء اللّه تعالى ، وهو يستلزم العفو عن معاصيه ، وفي آخره توجب العفو عن المعاصي وهو يستلزم الرضاء في الجملة ولو في

ص: 160


1- ملاّ صالح على ما في العبارة المحكيّة عنه ( منه ).

وهو الظاهر من كلام المفيد رحمه اللّه على ما ذكره العلاّمة*.

وثانيها : أنّه مختصّ بآخر الوقت ، ولكن لو فعل في أوّله(1) كان جاريا مجرى تقديم الزكاة ؛ فيكون نفلا يسقط به الفرض**.

_________________________________

مرتبته الدانية ، فيكون الحديث واردا في موضع الفرق بين الأوّل والآخر بكون الأوّل أفضل من حيث ايجابه لأعلى مراتب الرضاء.

* وربّما يضاف إليه ابن أبي عقيل كما في كلام بعض الأعلام ، وقضيّة إطلاق حكاية المصنّف تبعا للعلاّمة عن المفيد أنّه يقول بذلك في مطلق الموسّعات وهو يخالف ما عن الشيخ من أنّه عزاه إليه في خصوص الصلاة ، وعليه يمكن اخراجه من أصحاب هذا القول ، وإنّما قال بالاختصاص في خصوص الصلاة لدليل بلغه فيها بالخصوص من نصّ أو غيره ، وإلاّ فقد عرفت أنّ مبنى هذا القول - على ما لو تمّ - لقضى بامتناع الموسّع على الإطلاق ، من أنّ التوسعة في الوقت يؤدّي إلى ترك الواجب وخروجه عن الوجوب.

ولأجل ذلك قد يناقش في أصل تلك النسبة ويحكم بكونها سهوا ، تعليلا بأنّ أصحابنا بعد اطباقهم على أنّ للظهرين وقتين أحدهما القدم والقدمان أو المثل والمثلان ، والآخر ما بعد ذلك إلى آخر الوقت المحدود ، اختلفوا على قولين :

أحدهما : القول بأنّ الأوّل وقت الفضيلة والثاني وقت الإجزاء.

وثانيهما : القول بأنّ الأوّل وقت للمختار والثاني للمضطرّ.

والمفيد إن كان من أصحاب القول الأوّل ففساد النسبة واضح ، وإن كان من أصحاب القول الثاني فكذلك ، لاختصاص خلافهم في الوقتين بالفرائض اليوميّة ، وقضيّة القول بالامتناع العقلي في الموسّع اطّراد النزاع في جميع الموسّعات ، مضافا إلى أنّ مقدار القدم أو المثل ولو فرضناه للمختار ممّا يزيد على فعل الظهر قطعا فهو قائل بوقوع الموسّع شرعا ، مع أنّه لو تمّ فهو قول بالضيق شرعا وهو لا يقضي بامتناع التوسعة عقلا.

والقول المذكور مبنيّ على ذلك ، ولم يظهر من المفيد في قوله في مسألة فرعيّة الموافقة لأصحاب هذا القول في المسألة الاصوليّة كما لا يخفى.

** حكاه في التهذيب وبيان المختصر وشرح المنهاج عن بعض الحنفيّة.

ص: 161


1- وقع في الأول - الف

وثالثها : أنّه مختصّ بالآخر ، وإذا فعل في الأوّل وقع مراعى ، فإن بقي المكلّف على صفات التكليف تبيّن أنّ ما أتى به كان واجبا ، وإن خرج عن صفات المكلّفين كان نفلا* . وهذان القولان لم يذهب إليهما أحد من طائفتنا ، وإنّما هما لبعض العامّة.

________________________________

وعزاه السيّد في المنية إلى جماعة منهم كما عن العلاّمة في النهاية ، ولم ينقل لهم حجّة إلاّ ما يذكره المصنّف فيما بعد ذلك من أنّه لو كان واجبا في أوّل الوقت لعصي بتأخيره ، لأنّه قد ترك الواجب حينئذ والتالي باطل بالإجماع والمقدّم مثله.

واجيب عنه بوجهين :

أحدهما : ما أشرنا إليه سابقا وتعرّض لذكره بعض الأعلام من منع الملازمة على تقدير ومنع بطلان التالي على آخر.

وثانيهما : ما تعرّض لذكره جماعة منهم المصنّف وأخصر العبارات في تأديته ما في بيان المختصر في شرح عبارة الحاجبي في الجواب من أنّ التأخير والتعجيل في الواجب الموسّع كخصال الكفّارة ، فكما أنّ تارك أحد الخصال لا يعصي إذا أتى بالباقي ، كذلك تارك الواجب الموسّع في أوّل الوقت لا يعصي إذا أتى به في آخر الوقت.

ومحصّل ذلك : أنّ العصيان بالتأخير إنّما يلزم لو قلنا باختصاص الوجوب بالأوّل وهو بمعزل عن التحقيق ، بل نقول باشتراكه بين الأوّل والوسط والآخر على نحو البدليّة والتخيير اللذين أثبتهما العقل بملاحظة توسعة الوقت.

وقضيّة ذلك قيام وقوعه في كلّ من الأوّل والوسط والآخر مقام وقوعه في الآخر فيكون مجزيا ، لا لأنّه نفس المأمور به كما توهّم ، بل لانطباقه على المأمور به الكلّي من جهة كونه أحد أفراده المتميّزة بأجزاء الوقت ، ومن لوازم الإجزاء بهذا العنوان أن لا يكون التأخير موجبا للعصيان ، كما أنّ أداء الكلّي المأمور به في غير الموسّع في ضمن أحد أفراده لا يوجب عصيانا بترك أدائه في ضمن فرده الآخر.

* ولا يخفى ما في العبارة من نوع قصور في التأدية من حيث إنّ الواقع في حكايات هذا المذهب مكان قوله : « فإن بقي المكلّف على صفات التكليف » « فإن بقي إلى آخر الوقت وهو على صفات التكليف » فهو يعتبر في وجوب ما وقع من الفعل أمرين كان مع

ص: 162

انتفائهما معا أو انتفاء أحدهما نفلا.

ويمكن تطبيق العبارة على هذا المعنى بنحو من التصرّف بحمل صفات التكليف على شرائط التكليف الّتي منها آخر الوقت على القول باختصاص الوجوب به.

وكيف كان فهذا القول محكي عن الكرخي ، وقد اختلفت عباراتهم في حكاية مذهبه.

فمنهم من حكى عنه نظير ما في العبارة المتضمّن للحكم باختصاص الوجوب بالآخر ، مع الحكم بوجوب ما وقع منه قبله على تقدير بقائه إليه على صفات التكليف ، كما في شرح المنهاج ومحكي الأحكام.

ومنهم من حكى عنه ما لا تعرّض فيه لذكر اختصاص الوجوب بالآخر كما في محكي النهاية والمصرّح به في المنية قال : « ومنهم من قال : بأنّ الفعل المؤدّى في أوّل الوقت لا نعلم لكونه واجبا أو مندوبا بل يراعى فيه آخر الوقت ، فإن أدركه الفاعل وهو على صفات المكلّفين كان ما أتى به واجبا وإلاّ كان نفلا ، وهو منقول عن ابن عبّاس الكرخي ».

وقريب منه ما في بيان المختصر من قوله : « قال الكرخي : انّ الصلاة المأتيّ بها في أوّل الوقت موقوفة ، فإن أدرك المصلّي آخر الوقت وهو باق على صفة المكلّفين فما قدّمه واجب ، وإن لم يدرك آخر الوقت أو أدرك ولم يبق على صفة المكلّفين فما قدّمه نفل ».

ومنهم من حكى عنه كأبي الحسين البصري على ما في كلام بعض الأفاضل القول « بأنّه إن أدرك المصلّي آخر الوقت وهو على صفة التكليف كان ما فعله مسقطا للفرض ، وإلاّ كان فرضا » وهذا كما ترى على عكس سابقه.

ومنهم من حكى عنه كأبي بكر الرازي - على ما في كلام الفاضل المشار إليه - القول بأنّ الصلاة يتعيّن وجوبها بأحد شيئين ، إمّا بأن يفعل أو بأن يتضيّق وقتها.

وكأنّ الاختلاف في حكايات مذهبه نشأ عن الاختلاف في فهم عبارته في بيان مذهبه من جهة ما فيه من التشويش والاضطراب.

وهذا القول مع وضوح سخافته ربّما يشكل الحال في تصويره ، بل العبارة الاولى من حكاياته غير خالية في ظاهرها عن نوع تدافع ، فإنّ قضيّة اختصاص الوجوب بآخر الوقت عدم اتّصاف ما وقع في غيره بالوجوب ، كما أنّ قضيّة اتّصافه به عدم اختصاصه بالآخر ، وقد جمع في العبارة بين الحكمين المتدافعين.

ص: 163

ويوجّه تارة : بأنّ ما يختصّ بالآخر إنّما هو الوجوب بمعنى استحقاق العقوبة على التأخير ، فلا ينافيه اتّصاف ما وقع في غيره بالوجوب بمعنى آخر.

واخرى : بأنّ معنى اختصاص الوجوب بالآخر اختصاص كونه ظرفا للوجوب أو كاشفا عن سبق الوجوب ، فإنّ المكلّف إن بقي إليه وهو على صفة التكليف ولم يكن آتيا بالفعل قبله كان ظرفا للوجوب.

وإن كان آتيا به قبله كان كاشفا عن سبق الوجوب ، وإن لم يبق إليه على صفة التكليف لم يكن ظرفا ولا كاشفا.

وثالثة : بأنّه إنّما يقول باختصاص الوجوب به إذا بقي إليه وهو على صفات المكلّفين لم يكن أدّى الفعل في غيره لا مطلقا.

ورابعة : بأنّ كون ما وقع في غير الآخر واجبا تسمية من باب التجوّز لقيامه مقام الواجب من جهة كونه مسقطا له ، وإلاّ فالواجب في الحقيقة ما يقع في الآخر.

وأنت خبير بما في هذه التوجيهات من الوهن وكونها بالقياس إلى القول المذكور توجيها بما لم يرض به صاحبه.

أمّا الأوّل : فينفيه ما اعتمد عليه المنكرون للتوسعة من الدليل العامّ المقرّر بما تقدّم ، من أدّاء التوسعة في الوقت إلى جواز ترك الواجب الموجب لخروجه عن كونه واجبا ، وهذا كما ترى يقضي بأنّ الوجوب المتنازع في عمومه لتمام الوقت أو اختصاصه بجزء معيّن منه إنّما هو الوجوب بالمعنى المتضمّن لطلب الفعل مع المنع عن الترك المنافي لجواز الترك ، فيكون مراد من خصّه بآخر الوقت الوجوب بهذا المعنى ، وإن استلزم ذلك استحقاق الذمّ والعقوبة بالترك ، فحمله على مجرّد الاستحقاق إخراج له عن المتنازع فيه ، واذا حملناه على المعنى المتنازع فيه يلزم ما ذكر من التدافع.

وأمّا الثاني : فينفيه عدم جدواه في دفع الإشكال ، لأنّ الظرفيّة للوجوب على تقدير بقاء المكلّف إلى آخر الوقت على صفات التكليف مع عدم إقدامه على الفعل لا اختصاص لها بآخر الوقت ، كما هو قضيّة القول بكونه كاشفا عن سبق الوجوب على تقدير الإقدام ، فإنّ مبنى هذا الكلام على ثبوت الوجوب في تمام الوقت بشرط بقاء المكلّف إلى آخره على صفات التكليف ، غايته أنّه لو اتّفق له على هذا التقدير الإقدام على أداء الفعل فيما قبله انقطع الوجوب ولا يعقل معه بقاؤه إلى آخر الوقت ليكون ظرفا له ، ولو لم يتّفق له

ص: 164

الاقدام إلى آخر الوقت بقي الوجوب إليه ، فيكون الظرفيّة حينئذ وصفا مشتركا بينه وبين سائر الأجزاء ، فخرج عنوان اختصاص الوجوب بالآخر بلا مصداق أو متشاغلا بما يناقضه ، إذ المفروض وقوع إطلاقه في صورة كون الآخر كاشفا عن سبق الوجوب على سبيل التجوّز.

وأمّا الثالث : فينفيه أنّ اعتبار القيود الثلاث في صدق عنوان الاختصاص مشترك بين هذا القول وسابقه المحكيّ عن بعض الحنفيّة ، إذ لا نظنّ أنّه يدّعي تعلّق الوجوب مع عدم إدراك آخر الوقت أو إدراكه مع عدم بقاء صفات التكليف ، ولا أنّه يدّعي بقاءه على تقدير حصول الفعل قبل الآخر ، بل هو مصرّح بكونه على تقدير الحصول قبل آخر الوقت نفلا يسقط به الفرض.

وهذا هو محلّ الخلاف بينهما من حيث إنّ هذا القائل يجعله واجبا وهو مناف لقوله بالاختصاص على سبيل الإطلاق ، والتزام التقييد في بعض فقرات العبارة المحكيّة مع ورودها في الحكاية مطلقة ليس بأولى من التزام الخطأ في فهم دعوى الاختصاص عن أصل العبارة الصادرة عن هذا القائل ، ويرشد إليه خلوّ جملة من حكايات مذهبه عن دعوى الاختصاص كما عرفت.

وأمّا الرابع : فينفيه أنّه لو صحّ ذلك لقضى بكون الخلاف بين هذا القول وسابقه لفظيّا ، ضرورة أنّ اتّصاف ما حصل قبل آخر الوقت بالوجوب من الجهة المذكورة ممّا لا ينكره أصحاب القول السابق ، فإنّه نفل في الحقيقة ولا مانع من تسميته بالواجب لأجل قيامه مقام الواجب ، وهو كما ترى بعيد غاية البعد.

والّذي يختلج بالبال في حلّ الإشكال أن يقال : إنّ الوقت في الواجبات الموقّتة من شرائط الوجوب كما عرفت سابقا.

ومحصّل الخلاف في إمكان التوسعة وعدمه يرجع إلى أنّ كلّ جزء من الوقت المحدود هل هو شرط مستقلّ للوجوب بعنوان البدليّة أو لا؟ بل الشرط جزء معيّن منه وهو الأوّل كما عليه أصحاب القول الأوّل ، أو الآخر كما عليه الآخرون ، فهؤلاء متوافقون على أنّ شرط الوجوب هو الآخر غير أنّهم متخالفون في جعله من باب العلّة المحدثة أو من باب العلّة الكاشفة ، لا بمعنى أنّ الشرط على هذا التقدير هو نفس الآخر من حيث هو ليلزم تقدّم المشروط على شرطه ، بل بمعنى أنّ الشرط في الحقيقة هو كون المكلّف ممّن يلحقه آخر الوقت ، وهذا الشرط على تقدير بقائه إلى آخر الوقت مقارن لمشروطه في الحصول ،

ص: 165

فإدراك آخر الوقت علّة محدثة للوجوب عند بعض الحنفيّة وعلّة كاشفة عن تحقّق شرطه في الواقع الموجب لسبق الوجوب من حين تحقّق شرطه عند الكرخي.

وبهذا الاعتبار يصحّ أن يقال : بأنّ الوجوب مختصّ بآخر الوقت لما في إضافة الأمر الاعتباري - الّذي هو شرط الوجوب - إليه مدخليّة تامّة في عروض وصف الشرطيّة وتحقّق عنوان السببيّة ، فالحكم باختصاص الوجوب بالآخر حينئذ إنّما هو من جهة كون الآخر محقّقا لموضوع الشرطيّة ومحلّ السببيّة ، كما أنّ الحكم بذلك على مذهب بعض الحنفيّة إنّما هو من جهة كون الآخر بنفسه موضوعا للشرطيّة ومحلاّ للسببيّة.

ويمكن أن يقال : إنّ شرط الوجوب عند الكرخي هو مجموع أجزاء الوقت المحدود من حيث المجموع ، لا كلّ جزء على الاستقلال ولا بعض منها على التعيين ، وظاهر أنّ المشروط حينئذ لا تحقّق له إلاّ بعد تحقّق شرطه بجميع أجزائه ، فالمكلّف ما لم يلحقه آخر الوقت لا يعلم بالوجوب وإذا لحقه يعلم بسبقه ، لا لأنّ الشرط هو نفس الهيئة الاجتماعيّة ليلزم تحقّق المشروط قبل تمام شرطه ، بل لأنّ الشرط كونه ممّن يلحقه تلك الهيئة الاجتماعيّة ، فحينئذ يصحّ الحكم باختصاص الوجوب بآخر الوقت من جهة كونه الجزء الأخير من علّة الوجوب ، والجزء الأخير من العلّة كنفس العلّة في صحّة استناد المعلول إليه.

فلذا ترى أنّه ينوط به وجودا وعدما كما ينوط بنفس العلّة وجودا وعدما.

هذا ، ولكن لا يذهب عليك أنّ القول بكلّ من التوجيهين لا يلائم القول بامتناع التوسعة في الوقت ولا دليله ، مع أنّه يعدّ عندهم من المذاهب المتفرّعة على هذا القول ، وذلك لأنّ ما يظهر بإدراك آخر الوقت على صفات التكليف من سبق الوجوب نوع توسعة في وقت أداء الواجب ووجوبه ، ولا يجري معه دليلهم العامّ الّذي استندوا إليه في إنكار التوسعة من أدائها إلى جواز ترك الواجب ، لأنّ قضيّة هذا الدليل نفي هذا النوع من التوسعة أيضا.

إلاّ أن يقال في دفع الأوّل : بأنّ معنى التوسعة المتنازع فيها على ما أشرنا إليه استقلال كلّ جزء ممّا يسع الفعل من أجزاء الوقت في الشرطيّة للوجوب.

ولا ريب أنّ القول المذكور إنكار للتوسعة بهذا المعنى ، والّذي تضمّنه من التوسعة ليس من المتنازع فيه في شيء.

ويظهر الفائدة بينه وبين القول بالتوسعة بالمعنى المتنازع فيه في أمور :

ص: 166

منها : مصادفة المكلّف لعدم إدراك آخر الوقت وإن جامع سائر شرائط التكليف قبله ، فإنّه قادح في وجوب الفعل فيما سبق على هذا القول وغير قادح على القول بالتوسعة إذا كان على سائر شرائط التكليف.

ومنها : الظنّ أو العلم بالموت أو اتّفاق عذر آخر قبل آخر الوقت ، فإنّه لا يوجب عصيانا بالتأخير ولا ينشأ منه أثر على الأوّل دون الثاني.

ومنها : جواز نيّة الفرض بأداء الفعل قبل آخر الوقت على الثاني دون الأوّل وإن صادف في الواقع وجوبه كما لو كان في موضع إدراك آخر الوقت.

وفي دفع الثاني : بجواز كون الدليل المذكور مستندا لهذا القول أيضا ، بناءا على احتمال أنّه توهّم عن أصحاب القول بالتوسعة أنّهم أرادوا باستقلال كلّ جزء في الشرطيّة ما يستلزم الوجوب العيني للفعل في كلّ جزء يصدق عليه عنوان الشرطيّة ، فذكر في ردّه بأنّه باطل لإفضائه إلى جواز ترك الواجب وخروجه عن كونه واجبا.

فيردّه حينئذ : أنّ الفرار عن هذا المحذور لا يقتضي إناطة شرط الوجوب بإدراك آخر الوقت أو بالهيئة الاجتماعيّة من أجزاء الوقت ، لارتفاعه أيضا بجعل كل جزء مستقلاّ في الشرطيّة بعنوان البدليّة ، وأصحاب القول بالتوسعة أيضا أرادوا هذا المعنى لا استقلال كلّ جزء في الشرطيّة بعنوان العينيّة المستلزم لعينيّة الوجوب في كلّ جزء ، فلا محذور في مقالتهم ليوجب الفرار عنه المصير إلى ما يخالفها.

وعلى أيّ حال كان فمذهب الكرخي في تقريره الأوّل مع سخافته وابتناء تصحيحه على تكلّف واضح ممّا لم ينقل عليه - بعد ما تقدّم من الدليل العامّ - حجّة تقضي به على جهة الخصوصيّة.

وعلى هذا القياس تقريره الثاني وإن كان خالصا عن حزازة التدافع.

وأمّا تقريره الثالث فهو صريح في اعتبار الضيق في المأمور به المتحقّق بأحد الأمرين من وصول آخر الوقت ومصادفة العذر الرافع للتكليف في أثنائه.

وأمّا تقريره الرابع فالظاهر أنّه اشتباه نشأ في فهم مقصوده ، وإلاّ فهو بظاهر الحكاية لا ينافي مذهب أصحاب القول بالتوسعة ، إذ لا ينكر أحد أنّ الواجب الموسّع يتعيّن وجوبه بأحد الأمرين من الفعل ولحوق آخر الوقت ، بناءا على أنّ المراد بالفعل في أحد الأمرين مجرّد الشروع فيه لا الهيئة الحاصلة بعد الفراغ ، فإنّه حينئذ ممّا لا يعقل اتّصافه بالوجوب

ص: 167

والحقّ تساوي جميع أجزاء الوقت في الوجوب ، بمعنى أنّ للمكلّف الاتيان به في أوّل الوقت ، ووسطه ، وآخره ، وفي أي جزء اتّفق إيقاعه كان واجبا بالأصالة ، من غير فرق بين بقائه على صفة التكليف ، وعدمه. ففي الحقيقة يكون راجعا إلى الواجب المخيّر*

________________________________

لئلاّ يفضي إلى تحصيل الحاصل ، فكيف يقال بتعيّن الوجوب فيه ، ولعلّ الإعراض عن ذلك بجميع تقاديره أولى وأهمّ.

* وكأنّه أراد به رجوعه إليه من حيث الحكم والثمرة لا من حيث الإسم والماهيّة ، ضرورة أنّ اختيار الأداء والامتثال في كلّ منهما موكول إلى المكلّف ، وإن كان ذلك في أحدهما بحكم العقل فيما بين أفراد ما تعلّق به الوجوب وفي الآخر بنصّ الشرع فيما بين أمور كلّية تعلّق بكلّ منها الوجوب على قيد الخصوصيّة مع إلغاء جهة التعيين ، غير أنّه تأبى عن ذلك عبارته الآتية في ذيل المسألة القاضية بانحصار الفرق بينهما فيما ذكره ثمّة.

وقد سبقه إلى نظير هذه العبارة بيان المختصر حيث قال : « الواجب الموسّع راجع عند التحقيق إلى الواجب المخيّر ، إذ الصلاة المؤدّاة في كلّ جزء من أجزاء الوقت غير المؤدّاة في غيره بحسب الشخص ، والواجب هو أحد الأشخاص المتمايزة بالأوقات من حيث هو أحدها لا بعينه كخصال الكفّارة ». وقريب منهما ما في شرح المنهاج من قوله : « الواجب الموسّع مثل الواجب المخيّر في التخيير ، فإنّ المكلّف مخيّر بين أفراد الفعل في المخيّر ومخيّر بين أجزاء الوقت في الموسّع »

فإن أرادوا به مجرّد التشبيه وبيان كون الموسّع جاريا مجرى المخيّر في الحكم فلا كلام معهم بل هو كذلك كما عرفت ، وإن أرادوا ما زاد على ذلك فهو متّضح المنع بل واضح الفساد ، لوضوح الفرق بين المخيّر وغيره فإنّ تخييره شرعيّ وفي غيره عقليّ.

وملاك الفرق بينهما : أنّ الخصوصيّات ملحوظة في الأوّل على جهة التفصيل ووصف الوجوب حاصل فيها بقيد الخصوصيّة على نحو البدليّة المتولّدة عن إلغاء جهة التعيين عن كلّ منها بالنظر إلى مقام الامتثال الراجع في الحقيقة إلى بيان أنّ كلاّ مطلوب فعله وممنوع تركه حال اختيار ترك صاحبه ، وليس بمطلوب فعله ولا ممنوع تركه حال اختيار فعل صاحبه ، بل لا يساعد الوجدان عند إنشاء التخيير إلاّ إلى هذا المعنى ، ولا ينساق غيره من

ص: 168

هل يجب العزم على أداء الفعل إذا أخّره عن أوّل الوقت في الواجب الموسّع؟

وهل يجب البدل؟ وهو العزم على أداء الفعل في ثاني الحال ، إذا أخّره عن أوّل الوقت ووسطه.

________________________________

الخطاب الوارد فيه كما سبق تفصيل القول فيه في محلّه ، بخلاف الخصوصيّات في غيره حتّى ما لو كان منه موسّعا ، فإنّها غير ملحوظة فيه أصلا ولم يتعلّق الوصف بشيء منها رأسا ، بل الملحوظ أصالة هو الجامع بينها المعبّر عنه بالكلّي ، وهو الّذي تعلّق به الطلب الحتمي ومنع عن تركه ، ولمّا كان ذلك من حيث كونه ملحوظا لا بشرط شيء من تلك الخصوصيّات قابلا لأن يتحقّق في ضمن كلّ واحدة منها على جهة البدليّة ولم يتحصّل له بحسب الخارج وجود مع تعريته عنها بأسرها وكان واحدة منها لا بعينها من لوازم وجوده في الخارج فيثبت بينها تخيير بحكم العقل ، فيكون ذلك التخيير مشاركا للتخيير الشرعي فيما هو من لوازمه ، وهو كون الإتيان بأيّ منها إذا اختاره المكلّف موجبا لامتثال الأمر ، وإن كان ذلك في التخيير الشرعي من جهة كون المأتيّ به نفس المأمور به وفي العقلي من جهة انطباقه على المأمور به ، من غير فرق في ذلك بين كونها متمايزة بأجزاء الوقت والزمان أو بأجزاء الحيّز والمكان ، أو بغيرها من الاعتبارات الراجعة إلى الشخص الخارجة عن الماهيّة العارضة لها من باب العرض المفارق.

فما ذكره المصنّف في ذيل المسألة من أنّ الفرق بين التخيير في الموضعين أنّ متعلّقه في الخصال الجزئيّات المتخالفة الحقائق وفيما نحن فيه - يعني به الموسّع - الجزئيّات المتّفقة الحقائق ، ليس على ما ينبغي.

كما أنّ ما ظهر عمّا نقلناه عن شرح المنهاج الّذي أشار إليه المصنّف أيضا من أنّ الفرق بينهما أنّ المكلّف في المخيّر مخيّر بين أفراد الفعل وفي الموسّع مخيّر بين أجزاء الوقت ، ليس على ما ينبغي إن كان مرادهما بذلك انحصار الفرق ، وإلاّ فلا نزاع.

وكأنّ الّذي دعاهم إلى ذلك على تقدير إرادة الانحصار وإرجاع الموسّع إلى المخيّر بعنوان الحقيقة مصيرهم في الأحكام إلى تعلّقها بالأفراد لا الطبائع كما يشهد به ظاهر عبارة المصنّف فيما عرفت ، بل هو صريح ما ذكره في ردّ الأخيرة من شبهات القائل بالتخيير في الموسّع بين الفعل والعزم ، من أنّ أجزاء الوقت في الموسّع باعتبار تعلّق الأمر بكلّ واحد منها على سبيل التخيير يجري مجرى الواجب المخيّر.

* ظاهر جماعة كالعبارة أنّ ذلك تفريع على القول بالتوسعة ووقوع الموسّع وأنّ

ص: 169

القول بوجوب العزم بدلا عن الفعل في كلّ جزء يؤخّر ايقاعه فيه غير مرتبط بمذهب المنكرين لهما.

وستعرف أنّ للقول بوجوب العزم حيثيّتين يرتبط في أحدهما بمذهب أصحاب القول بالتوسعة وفي الاخرى بمذهب المنكرين لها.

وكيف كان فالبدليّة وصف يلاحظ بين شيئين فصاعدا إذا قام كلّ مقام الآخر ، ويستلزم في موارد التكليف التخيير الّذي يرجع بالأخرة إلى تجويز ترك أحد الشيئين على تقدير فعل الآخر والمنع عن تركه على تقدير ترك الآخر.

فبهذا الاعتبار يعبّر عن أحدهما ب- « البدل » من حيث قيامه مقام صاحبه في افادة الامتثال واسقاط الأمر. وعن الآخر ب- « المبدل » من حيث إنّه قام صاحبه مقامه.

وقد جرى ديدنهم في هذا التفريع بتسمية العزم بدلا والفعل مبدلا ، ولكن في تشخيص ذلك المبدل نوع اشتباه ، حيث ورد ذكره في كلامهم مجملا مع كونه محتملا لوجوه لا يستقيم فرض البدليّة حسبما زعمه أصحاب القول بها إلاّ مع بعضها ، فإنّ ما يفرض كونه مبدلا إمّا نفس الفعل الّذي تعلّق به الأمر القابل لإيقاعات جزئيّة على حسب أجزاء الوقت المضروب له أو أجزاء ما هو من لوازم وجوده ، أو إيقاعه في الجزء الأوّل ثمّ الجزء الثاني ثمّ الجزء الثالث وهكذا إلى أن يتضيّق الوقت على وجه يكون العزم في كلّ لاحق بدلا عن إيقاع الفعل في سابقه وله اعتباران :

أحدهما : أن يكون في عروض وصف المبدليّة له فردا من المأمور به الكلّي متميّزا بأجزاء الوقت ، بمعنى كون العزم بدلا عنه من حيث إنّه من أفراد الفعل الّذي تعلّق به الأمر المتمايزة بأجزاء الوقت من غير أن يعتبر بالقياس إليه أمر ولا حكم آخر غير ما ثبت له من عنوان الفرديّة.

وثانيهما : أن يكون في عروض ذلك الوصف له ممّا حصل له عنوان آخر مأمور به غير ما هو عنوان أصل الفعل الّذي أمر به ، وهو التعجيل والمسارعة إلى فعل المأمور به ، بمعنى وقوع العزم بدلا عن واجب آخر غير المأمور به منطبق على فرده المتميّز بأجزاء الوقت وهو الفور والبدار إلى فعل المأمور به.

والأوّل باطل وإن اسند إلى ظاهر السيّد إرادته ، للإجماع على أنّ مجرّد حصول العزم مكان الفعل لا يوجب سقوط الأمر بذلك الفعل ، ومن أحكام البدليّة الناشئة عن التخيير أن

ص: 170

يكون كلّ من المعادلات إذا حصل كافيا في حصول الامتثال وسقوط الأمر وارتفاع التكليف بالمرّة كما في خصال الكفّارة ونحوها.

ومثله الثاني في البطلان بتقريب ما ذكر ، فإنّ الايقاع الجزئي من ايقاعات الفعل وإن لم يكن بنفسه مأمورا به - بناءا على أنّ الحكم إنّما تعلّق بالطبيعة المعرّاة عن تلك الإيقاعات وملاحظتها - غير أنّه يوجب الامتثال والخروج عن عهدة التكليف من جهة انطباقه على المأمور به الكلّي ، فلو صحّ بدليّة العزم عنه لوجب كونه كافيا في الخروج عن عهدة التكليف بما هو فرد له كما أنّه بنفسه كاف في ذلك ، والتالي باطل بالإجماع والمقدّم مثله.

فتعيّن أن يكون مرادهم بما يقع مبدلا ما ذكر في الوجه الثالث ، كما تنبّه عليه بعض الأفاضل وإن كان عباراتهم في نقل ذلك المذهب خالية عن التصريح بذلك ، فحينئذ يبقى أصل الفعل واجبا بلا بدل كما أنّه يبقى كلّ واحد من أفراده يبقى خاليا عن البدل.

والّذي يفرض العزم بدلا عنه إنّما هو الفور والبدار إلى فعل المأمور به الّذي هو بنفسه واجب.

وعلى هذا فلا وقع لما ذكره غير واحد في دفع هذا القول ، منهم شارح المنهاج بقوله : « لو كان العزم صالحا لبدليّة الفعل الواجب لتأدّى الواجب به وسقط عنه ، إذ البدل ما يقوم مقام المبدل ، لكن لا يتأدّى الواجب به إتّفاقا » وكأنّهم فهموا من كلامه ارادة المعنى الأوّل كما استظهره بعض الأفاضل من كلام السيّد ، أو أنّهم غفلوا عن احتمال إرادة المعنى الأخير ولم يلتفتوا إليه.

وممّا ذكر تبيّن أنّ القول ببدليّة العزم لا يكاد ينضبط إلاّ باحراز مقدّمتين :

إحداهما : وجوب الفور والبدار مع كلّ واجب موسّع.

وثانيتهما : ثبوت التخيير بينه وبين العزم ليتولّد منه حكم البدليّة.

وستعرف أنّ كلاّ منهما في محلّ المنع وموضع الفساد ، كما تبيّن من هنا أيضا أنّ القول ببدليّة العزم - بناءا على احتمال الوجه الأخير - مبنيّ على إنكار الموسّع بالمعنى الأخصّ ومصير إلى اثبات التضيّق بالمعنى الأعمّ.

وبهذا يفارق عن القول باختصاص الوجوب بأوّل الوقت من حيث إنّه مصير إلى التضيّق بالمعنى الأخصّ ، فهذا القائل يوافق أصحاب القول بالتوسعة في مصيره إلى التوسعة في وقت الأداء وإن كان يخالفهم في اعتبار الضيق بالنسبة إلى الرخصة ، ويوافق أصحاب القول بالاختصاص بالأوّل في مصيره إلى عدم الرخصة في التأخير وإن كان يخالفهم في القول

ص: 171

قال السيّد المرتضى : نعم ، واختاره الشيخ رحمه اللّه على ما حكاه المحقّق عنه ، تبعهما السيّد أبو المكارم ابن زهرة ، والقاضي سعد الدين بن البرّاج ، وجماعة من المعتزلة*.

________________________________

ببقاء وقت الأداء ، فهو قائل بالتوسعة من جهة ومنكر لها من اخرى كما أشرنا إليه.

وربّما يحكى جعل العزم في حكم البدليّة جزءا من البدل ، بدعوى : أنّ بدل الفعل في أوّل الوقت هو العزم على الفعل في ثانيه مع أدائه فيه ، ثمّ العزم على الفعل فيه مع أدائه فيه (1) بدل من الفعل في ثاني الوقت ، وهكذا فيكون الفعل في آخر الوقت مع ما تقدم عليه من العزم على الفعل في ثاني الحال وثالثه إلى آخر الوقت بدلا عن الفعل في ثاني الوقت.

ولا يخفى على المتأمّل سخافة ذلك وبعده عن كلماتهم بمراحل ، ولذا أورد عليه بعض الأفاضل. « بأنّه - مع مخالفته لظواهر كلماتهم إذا جعل الفعل في ثاني الحال وثالثه مثلا بعضا من البدل - فأيّ مانع من كونه هو البدل على الاستقلال من غير حاجة إلى ضمّ العزم إليه ».

* والمعروف في كتب العامّة إسناد هذا القول إلى القاضي أبي بكر الباقلاني على ما ضبطه البهائي في حواشي زبدته.

وفي التهذيب والمنية إسناده إلى الجبّائيين أيضا.

وقوّاه البهائي في زبدته مستظهرا في حواشيها عن كلام السيّد في الذريعة دعوى كونه مذهبا لأصحابنا الإماميّة ، فقال : « وحاصل كلام المرتضى في الذريعة أنّ للعلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوال :

الأوّل : الوجوب في أوّل الوقت.

الثاني : الوجوب في آخره.

الثالث : الوجوب في كلّ الوقت مخيّرا بين الفعل والعزم إلى أن يبقى مقدار الفعل فيتعيّن ، وجعل القول بالمراعاة مندرجا تحت القول الثاني.

وأهمل الرابع القول الّذي ذهب إليه بعض المتأخّرين كالحاجبي والعلاّمة والمحقّق ، وإهماله لذلك يشعر بأنّه لم يكن معروفا في عصره ، وكذا حصره أقوال العلماء في الثلاثة وقوله بعد ذلك : « لا يجوز عندنا تأخير الصلاة عن أوّل الوقت إلاّ ببدل هو العزم » صريح

ص: 172


1- كذا في الأصل.

والأكثرون على عدم الوجوب ، ومنهم المحقّق والعلاّمة رحمهما اللّه* وهو الأقرب.

فيحصل ممّا اخترناه في المقام دعويان.

لنا على الأولى منهما : أنّ الوجوب مستفاد من الأمر ، وهو مقيّد بجميع الوقت. لأنّ الكلام فيما هو كذلك. وليس المراد تطبيق أجزاء الفعل على أجزاء الوقت ، بأن يكون الجزء الأوّل من الفعل منطبقا على الجزء الأوّل من الوقت ، والأخير على الأخير ؛ فإنّ ذلك باطل إجماعا. ولا تكراره في أجزائه ، بأن يأتي بالفعل في كلّ جزء يسعه من أجزاء الوقت. وليس في الأمر تعرّض لتخصيصه بأوّل الوقت أو آخره ولا بجزء من أجزائه المعيّنة قطعا ، بل ظاهره ينفي التخصيص ضرورة دلالته على تساوي نسبة الفعل إلى أجزاء الوقت.

فيكون القول بالتخصيص بالأوّل أو الآخر تحكّما باطلا. وتعيّن القول بوجوبه على التخيير في أجزاء الوقت. ففي أيّ جزء أدّاه فقد أدّاه في وقته.

وأيضا : لو كان الوجوب مختصّا بجزء معيّن ، فإن كان آخر الوقت ، كان المصلّى للظهر مثلا في غيره مقدّما لصلاته على الوقت ؛ فلا تصحّ ، كما لو صلاّها قبل الزوال. وإن كان أوّله ، كان المصلّي في غيره قاضيا ، فيكون بتأخيره له عن وقته عاصيا ، كما لو أخّر إلى وقت العصر ، وهما خلاف الإجماع.

ولنا على الثانية : أنّ الأمر ورد بالفعل ، وليس فيه تعرّض للتخيير بينه وبين العزم** ، بل ظاهره ينفي التخيير ، ضرورة كونه دالاّ على وجوب الفعل بعينه.

________________________________

في أنّ القول الثالث هو مذهب أصحابنا الإماميّة رضي اللّه عنهم وإلاّ لبطل حصر أقوال العلماء في الثلاثة » انتهى.

وحكاه بعض الأفاضل عن تلميذه الفاضل الجواد ، وعنه أيضا أنّه عزاه إلى أكثر أصحابنا.

* نسبه بعض الأعاظم إلى المعظم واختاره وعليه بعض الأعلام وغيره ممّن تأخّر عنه ، واختاره السيّد في المنية تبعا لشيخه في التهذيب وغيره ، وعزاه إلى أبي الحسين البصري وفخر الدين وأكثر المحقّقين وهو المختار.

** احتجاج على عدم وجوب العزم بدلا عن الفعل حسبما توهّمه الجماعة ، والحجّة

ص: 173

ترجع إلى قياس استثنائي وارد في القضيّة المأخوذة على حدّ منع الخلو.

ومحصّله أنّه لو وجب العزم تخييرا بينه وبين الفعل في أوّل الوقت فإمّا أن يكون ذلك بدلالة أصل الأمر الوارد بذلك الفعل أو بدلالة خارج عليه ، ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلأنّ الأمر في الدلالة على التوسعة ورد مطلقا ولم يكن في الدلالة على جواز تأخير الفعل عن أوّل الوقت إلى آخره مقيّدا بما يقضي ببدليّة العزم واشتراط جواز تأخيره بالعزم عليه في ثاني الحال ليلزم منه ثبوت التخيير بينهما ، بل هو من جهة تعلّقه بما لم يؤخذ معه ما أوجب سقوط جهة التعيين عنه وعدم اعتبارها معه كما في الأمر بالخصال ظاهر في نفي التخيير ودالّ على وجوب الفعل بعينه.

وأمّا الثاني : فلعدم قيام دليل من العقل والنقل على أنّ العزم واجب تخييرا بينه وبين الفعل ، وعدم الدليل في مثله دليل العدم ، مضافا إلى أنّ الأصل عدمه من جهات عديدة ، والوجوه الّتي استندوا إليها لوجوبه على نحو البدليّة كلّها مدخولة لا تنهض دليلا عليه.

وبما قرّرناه يندفع ما أورده البهائي على الاستدلال لخلوّ الأمر عن الدلالة على البدليّة ، وعلى ما ذكره العلاّمة في المختلف في إبطال مذهب المرتضى - من أنّ وجوب الموسّع لا يستلزم وجوب العزم ، وإنّما وجوب العزم مستفاد من أحكام الإيمان لا من وجوب الموسّع - : « بأنّ خلوّ الأمر عنها لا يمنع ثبوتها لدليل » وأنّ السيّد لم يقل بأنّ وجوب العزم مستفاد من وجوب الموسّع وإنّما استفاده من لزوم خروج الواجب عن كونه واجبا » فإنّ هذا الدليل كغيره من أدلّة هذا القول عليل ولا يصلح دليلا على الحكم المخالف للظاهر والاصول لما سيتبيّن بعد ذلك إن شاء اللّه.

واستدلّ على ذلك أيضا بوجوه :

منها : أنّ البدل لا بدّ وأن يكون مساويا لمبدله في جميع الامور المعتبرة وإلاّ لم يكن بدلا عنه لأنّه قائم مقامه ، ولا يعقل إلاّ إذا اعتبر فيه جميع ما هو معتبر في المبدل والعزم ليس منه ، لأنّ الفعل مسقط للتكليف وهو لا يسقطه فلا يكون بدلا.

ومنها : أنّ البدل لا بدّ وأن يوافق مبدله في العدد وإلاّ يستحيل كونه بدلا ، لأنّ وجوب البدل على حدّ وجوب المبدل ، فحينئذ إن وجب العزم في الوسط أيضا لزم مخالفة البدل من جهة تعدّده للمبدل من جهة اتّحاده ، وإلاّ فإن وجب الفعل في الوسط لزم التكرار في الأمر ، وإن لم يجب لزم سقوطه في الأوّل ببدليّة العزم ، والكلّ باطل.

ص: 174

ومنها : أنّ العزم لو صحّ كونه بدلا لم يجز فعله مع القدرة على المبدل ، كسائر الأبدال مع مبدلاتها.

ومنها : أنّ العزم من أفعال القلب ولم يعهد في الشريعة جعل أفعال القلب بدلا عن أفعال الجوارح.

ومنها : أنّه لو أخّر الصلاة عن أوّل الوقت مع الغفلة عن العزم كان عاصيا بترك الأصل وبدله.

ومنها : أنّا نقطع بأنّ من صلّى الظهر مثلا في أثناء الوقت كان ممتثلا بما امر به ، وليس ذلك إلاّ لكون المأتيّ به صلاة بخصوصها لا لكونها بدلا عن العزم ، ولو كان القول بالبدليّة صحيحا لكان الامتثال بسبب كونها بدلا.

وقد يقرّر ذلك : بالقطع بأنّ الامتثال بالفعل إنّما يحصل من غير جهة البدليّة.

ومنها : أنّ العزم على الفعل من أحكام الإيمان فيثبت مع ثبوته وينتفي مع انتفائه فهو واجب مطلقا ، ولذا كان واجبا قبل الوقت.

ولا يخفى ما في جميع تلك الوجوه من الوهن وعدم انتهاضها دليلا على بطلان دعوى وجوب العزم.

أمّا الأوّل : فلما أشرنا إليه سابقا ، وحاصله هنا : أنّ ذلك إنّما يستقيم إذا كان المراد بالمبدل في كلام القائل ببدليّة العزم عنه نفس الفعل ، وأمّا إذا كان مراده إيقاعه في أوّل الوقت بعنوان البدار والمسارعة إليه فلا ، ضرورة أنّ البدار حينئذ مبدل يسقط التكليف به بالعزم على الفعل في ثاني الحال وثالثه وهكذا.

وقد يجاب عنه أيضا : بأنّ المبدل هنا هو الإيقاعات الجزئيّة إلى أن يتضيّق الوقت.

وفيه : إن اريد بالايقاعات ما يصدق عليها عنوان البدار والمسارعة فهو متّجه لرجوعه حينئذ إلى ما ذكرناه ، وإن اريد بها ما يصدق عليها عنوان الفرديّة فهو باطل لكونه كرّا على ما فرّ فإنّ العزم إذا كان بدلا عن الفرد لزم كونه قاضيا بامتثال الأمر أيضا ، لأنّ ذلك من أحكام المبدل والمفروض أنّ الفرد لم يتعلّق به الأمر على مذهب المجيب ، بل الأمر إنّما تعلّق بالكلّي وكون الفرد موجبا للامتثال من جهة انطباقه على ذلك الكلّي.

وأمّا الثاني : ففيه - مع ابتنائه على ما لعلّه ليس بمراد في المقام كما عرفت - منع استحالة مخالفة البدل لمبدله في العدد ، إذ لا نعقل مانعا من الشرع والعقل عن تعدّد البدل مع اتّحاد المبدل ، لأنّ ذلك حكم منوط بالتعبّد ، وكون وجوب البدل على حدّ وجوب

ص: 175

المبدل لا يقتضي ذلك ، بل غايته لزوم الموافقة في ماهيّة الوجوب وكيفيّته.

وقد يجاب أيضا : بمثل ما مرّ من أنّ المبدل هو الايقاعات فيتعدّد المبدل كتعدّد البدل ففيه : ما عرفت.

وأمّا الثالث : ففيه منع الملازمة ، فإنّها تسلّم في الأبدال الاضطراريّة كالتيمّم بدلا عن الوضوء والقعود بدلا عن القيام ونحو ذلك ، والبدليّة هنا عند القائل بها - كما يظهر من تشبيه المقام بخصال الكفّارة ومن استدلاله أيضا بأنّ العزم ثبت فيه حكم خصال الكفّارة - اختياريّة.

وقضيّة ذلك كون كلّ من الفعل والعزم بدلا من جهة ومبدلا من اخرى ، فلا يعتبر في مثل ذلك انتفاء القدرة على أحدهما في الاكتفاء بالآخر.

وأمّا الرابع ففيه : أنّ عدم ورود بدليّة فعل القلب عن فعل الجارحة في الشريعة في غير هذا المقام لا ينافي ورودها فيه إذا ساعد إليه الدليل فإنّه المتّبع ، فالشأن إنّما هو في ابطال ذلك الدليل ، وما ذكر في الاحتجاج لا يجدي بالنسبة إليه نفعا.

وأمّا الخامس ففيه : أنّه لو فرض الغفلة عن العزم على وجه تقارن الغفلة عن الفعل أيضا ، بمعنى كونه غافلا عن الفعل وعن بدله معا ، فانتفاء العصيان من جهة انتفاء التكليف لأنّ الغافل لا تكليف عليه ، ولو فرضت مع التذكّر للفعل فبطلان التالي ممنوع ، كيف ولزوم العصيان حينئذ لازم لمذهب من يقول بكون جواز تأخير الفعل عن أوّل الوقت مشروطا بالعزم عليه ، فالشأن حينئذ إنّما هو في منع الشرطيّة.

وأمّا السادس ففيه : أنّه لو اريد به أنّ البدل لا بدّ في كونه قائما مقام مبدله من كون وقوعه بقصد عنوان البدليّة ، فاعتبار ذلك في الأبدال على الإطلاق ممنوع ، وثبوت اعتباره في التيمّم بالدليل لا يقضي باعتباره في غيره كما هو الحال في خصال الكفّارة ، وقد تبيّن أنّ الخصم يقيس المقام عليها ، ولو اريد به أنّ الصلاة بعد وقوعها لا يصدق عليها عنوان البدليّة فهو محلّ منع على مذهب الخصم.

وأمّا السابع فأجاب عنه في الزبدة بأنّ : « كون العزم من أحكام الإيمان لا ينافي بدليّته في وقت » يعني وقت ترك الواجب.

وعلّله في الحاشية : « بجواز أن يكون الشيء واجبا في نفسه ومع هذا يصير بدلا عن واجب آخر في بعض الأوقات ، كمن نذر الاعتكاف فدخل شهر رمضان فينوب الصوم الواجب أصالة عن صوم الاعتكاف كما قاله بعضهم ».

ص: 176

ولم يقم على وجوب العزم دليل غيره ؛ فيكون القول به أيضا تحكّما ، كتخصيص الوجوب بجزء معيّن.

احتجّوا لوجوب العزم : بأنّه لو جاز ترك الفعل في أوّل الوقت أو وسطه ، من غير بدل ، لم ينفصل عن المندوب* ؛ فلا بدّ من إيجاب البدل ليحصل التمييز بينهما. وحيث يجب ، فليس هو غير العزم ، للاجماع على عدم بدليّة غيره.

________________________________

* هذه الحجّة بهذا التقرير مذكورة عن السيّد في كلام جماعة منهم السيّد في المنية.

وقد يقرّر - كما في الزبدة - « بخلوّ تركه عن بدل في الفجاءة ولا اثم فيخرج عن الوجوب ». ويمكن كونه حجّة اخرى غير ما ذكر.

وعلى أيّ حال كان فأجاب السيّد في المنية : « بمنع الملازمة مستندا إلى أنّ إيقاع الصلاة في الوقت إنّما ينفصل عن المندوب بكونه امتثالا للأمر الجازم بخلاف المندوب ، ومشاركته للمندوب في جواز الترك وحصول الثواب لا يقدح في وجوبه مع انفصاله عنه بما ذكرناه ».

وكان محصّل كلامه في الجواب : أنّ ما ذكروه بين الواجب والمندوب من الفرق بأنّ الأوّل ما لا يجوز تركه بلا بدل والثاني ما يجوز تركه بلا بدل فرق بينهما اصطلاحي ، وعدم بقاء الفرق بينهما بحسب الاصطلاح على تقدير عدم وجوب بدليّة العزم لا يقضي بعدم الفرق بينهما بحسب اللبّ والمعنى ، والأحكام منوطة بالامور اللبّية والمعنويّة لا الامور الاصطلاحيّة ، والفرق بينهما من هذه الجهة حاصل ولو مع عدم بدليّة العزم ، وهو أنّ الصلاة الواقعة في الوقت إنّما تقع بعنوان كونه إمتثالا للأمر الايجابي الحتمي الجازم بخلاف المندوب ، فإنّه يقع لا بهذا العنوان.

وإلى هذا يمكن تنزيل ما أجابه العلاّمة في المختلف عمّا نقله عن السيّد من الاحتجاج المذكور من منع الملازمة ، فما ذكره البهائي في حواشي الزبدة في ردّ ذلك بأنّ : « للبحث في هذا الجواب مجالا واسعا » ليس في محلّه.

ويمكن تنزيل كلام العلاّمة إلى ما ذكره جماعة منهم المصنّف في منع الملازمة وهو - على ما قرّره بعض الأعلام - : أنّه لا كلام لنا في الفرد الأخير وأمّا في الباقي فالبدل متحقّق وهو كلّ واحد من الجزئيّات المتمايزة بالوقت.

ص: 177

وبأنّه ثبت في الفعل والعزم حكم خصال الكفّارة ، وهو أنّه لو أتى بأحدهما أجزأ ، ولو أخلّ بهما عصى* ، وذلك معنى وجوب أحدهما ؛ فيثبت.

________________________________

وهذا الجواب وإن كان بظاهره أمتن ممّا ذكره السيّد في المنية كما لا يخفى على المتأمّل ، إلاّ أنّ فيه أيضا عند التحقيق شيئا ، وهو أنّ اعتبار البدليّة فيما بين الجزئيّات المتمايزة بالوقت على نحو ما يعتبرها المستدلّ فيما بين الفعل والعزم مبنيّ على أحد الأمرين ، من تعلّق الأحكام بالأفراد أو استلزام التوسعة في الوقت التخيير الشرعي فيما بين أجزائه والجزئيّات المتمايزة بتلك الأجزاء ، والكلّ ممنوع كما عرفت سابقا ، مع ابتناء ذلك على تغيير في عبارة الدليل بأن يقال : لو جاز تركه بلا بدليّة العزم لم ينفصل عن المندوب.

والأولى في دفع الاحتجاج أن يقال : بأنّ دعوى كون الواجب ما لا يجوز تركه لا إلى بدل متين لا غبار عليه ، ولكنّه لا ينافي وجوب الموسّع على تقدير عدم بدليّة العزم ، لأنّ ما ذكر في الحدّ مفهوم له نوعان :

أحدهما : ما يجوز تركه إلى بدل كالمخيّر في التخيير الشرعي كما في الخصال.

وثانيهما : ما لا يجوز تركه رأسا ، لأجل أنّه لا بدل له في الشريعة كالواجب العيني ، ولا سيّما إذا كان مضيّقا بالمعنى الأخصّ ، والموسّع من هذا النوع فعدم كون العزم بدلا عنه لا يستلزم جواز تركه لئلاّ ينفصل عن المندوب.

فبجميع ما ذكرناه تبيّن أنّ أجوبة هذا الاحتجاج ثلاث ، غير الأخير منها ما وجدناه في كلام القوم كما عرفت.

وأمّا هو فلم نجد من تعرّض منهم لذكره ولعلّه أمتن وأسدّ.

وأمّا الجواب عمّا قرّره البهائي : فبأنّ الواجب على ما يساعد عليه النظر ما لا يجوز تركه لا إلى بدل ولا عن عذر ، والموت فجأة يصلح عذرا في المقام على ما هو المصرّح به في كلام غير واحد ، فلا يخرج الموسّع بلا بدليّة العزم عن الوجوب بسبب حصول تركه بالموت فجأة.

* والجواب : أنّ لزوم العصيان بالترك في آخر الوقت مسلّم ولكنّه ليس من محلّ الكلام ، لكونه إخلالا بالواجب المعيّن لا فردي المخيّر ، وفي غيره ممنوع إن اريد مجرّد تركه مع عدم العزم عليه في ثاني الحال ، وإن اريد تركه مع العزم على عدم الفعل رأسا فهو كما لو تركه في آخر الوقت فإنّ العصيان إنّما هو على ترك الواجب المعيّن خاصّة ، فلو صادف بعد ذلك فعله كان العصيان المتقدّم على العزم على المعصية.

ص: 178

والجواب عن الأوّل : أنّ الانفصال عن المندوب ظاهر ممّا مرّ ، فإنّ أجزاء الوقت في الواجب الموسّع باعتبار تعلّق الأمر بكلّ واحد منها على سبيل التخيير تجرى مجرى الواجب المخيّر. ففي أيّ جزء اتّفق إيقاع الفعل فهو قائم مقام إيقاعه في الأجزاء البواقي. فكما أنّ حصول الامتثال في المخيّر بفعل واحدة من الخصال لا يخرج ما عداها عن وصف الوجوب التخييرىّ ، كذلك إيقاع الفعل في الجزء الأوسط أو الأخير من الوقت في الموسّع لا يخرج إيقاعه في الأوّل منه مثلا عن وصف الوجوب الموسّع ، وذلك ظاهر. بخلاف المندوب ،

________________________________

وقد تقرّر في محلّه أنّه قبيح وموجب للعصيان وإن استتبع العفو.

وهذا الجواب يرجع محصله إلى النقض الإجمالي كالثاني ممّا ذكره المصنّف من الجوابين.

وأمّا الأوّل منهما فالظاهر رجوعه إلى كونه جوابا بالمعارضة كما لا يخفى.

ولهم حجج اخرى واهية :

منها : ما أشار إليه البهائي - مضافا إلى ما سبق منه - من لزوم تساويه قبل الوقت وفيه.

ومنها : أنّ تارك المأمور به في الحال مع عدم العزم له في المستقبل معرض عن الأمر ، والإعراض عنه حرام ، وترك الحرام واجب ، وهو إمّا بالفعل أو ببدله وهو العزم لانحصار البدليّة فيه إجماعا.

ومنها : أنّ العزم على ترك الواجب عزم على الحرام ، والعزم على الحرام حرام ، فالعزم على ترك الواجب حرام ، فحينئذ يجب العزم على فعل الواجب لعدم انفكاك المكلّف عن هذين العزمين ، فحيث امتنع أحدهما وجب الآخر.

والجواب عن الأوّل : بمنع لزوم التساوي بمجرّد عدم بدليّة العزم ، كيف وهو ممّا لا يجوز تركه في تمام الوقت وإيقاعه في أيّ جزء منه بقصد أداء المأمور به وامتثال الأمر الجازم جائز وموجب للامتثال بخلافه ما قبل الوقت ، فإن تركه فيه رأسا جائز والإتيان به على القصد المذكور محرّم لكونه تشريعا ، وكلّ من لوازم عدم الوجوب.

ومن البيّن أنّ انتفاء اللازم من أدلّة انتفاء الملزوم.

وعن الثاني : بمنع تحقّق موضوع ... (1)

ص: 179


1- ومن المؤسف ضياع بعض الأوراق هنا من نسخة الأصل.

فانّه لا يقوم مقامه حيث يترك شيء. وهذا كاف في الانفصال.

وعن الثاني أنّا نقطع بأنّ الفاعل للصلاة مثلا ممتثل باعتبار كونها صلاة بخصوصها ، لا لكونها أحد الأمرين الواجبين تخييرا ، أعني : الفعل والعزم ؛ فلو كان ثمّة تخيير بينهما ، لكان الامتثال بها من حيث إنّها أحدهما ، على ما هو مقرّر في الواجب التخييرىّ. وأيضا ، فالإثم الحاصل على الإخلال بالعزم - على تقدير تسليمه - ليس لكون المكلّف مخيّرا بينه وبين الصلاة ، حتّى يكونا كخصال الكفّارة ، بل لأنّ العزم على فعل كلّ واجب - إجمالا ، حيث يكون الالتفات إليه بطريق الإجمال ، وتفصيلا عند كونه متذكّرا له بخصوصه - حكم من أحكام الإيمان يثبت مع ثبوت الإيمان ، سواء دخل وقت الواجب أو لم يدخل. فهو واجب مستمرّ عند الالتفات إلى الواجبات إجمالا أو تفصيلا. فليس وجوبه على سبيل التخيير بينه وبين الصلاة.

________________________________

فحينئذ لو اختلفت الأحوال على المكلّف في أجزاء الوقت من غير سبق علم له بحصوله فلا إشكال في أنّه يأتي في كلّ جزء أراد أداء الصلاة فيه بما يناسب حالته في ذلك الجزء سواء كانت حالة اختيار أو حالة اضطرار ولو سبقه علم بحصوله كما لو علم في أوّل الوقت وهو قادر على الفرد الاختياري بأنّه لو أخّر أداء المكلّف به يطرئه في الأجزاء المتأخّرة حالة اضطرار تسلب قدرته على الفرد الاختياري أو أنّه كان في أوّل الوقت غير متمكّن إلاّ عن الفرد الاضطراري وكان في موضع رجاء زوال العذر الموجب للتمكّن عن الفرد الاختياري في الأجزاء المتأخّرة فهل يجب عليه التأخير في الثاني والإقدام على العمل في أوّل الوقت في الأوّل ، فيه إشكال.

ويمكن ترجيح الأوّل بملاحظة قاعدة الشغل ، ضرورة أنّ اليقين بالاشتغال يستدعي اليقين بالبراءة ، ولا يتأتّى إلاّ بالتأخير في موضع رجاء زوال العذر والتقديم في موضع احتمال طروّ العذر ، غير أنّ إطلاق دليل التوقيت بالنسبة إلى أجزاء الوقت يقضي بخلافه ، ضرورة أنّه يدلّ على مشاركة كلّ للأجزاء الاخر في تعلّق التكليف فيه ، وكون إيقاع الفعل فيه موجبا للامتثال وسقوط الأمر فحينئذ لو كان المكلّف في أوّل الوقت غير متمكّن إلاّ عن

ص: 180

واعلم : أنّ بعض الأصحاب توقّف في وجوب العزم ، على الوجه الذي ذكر. وله وجه ، وإن كان الحكم به متكرّرا في كلامهم. وربّما استدلّ له بتحريم العزم على ترك الواجب ، لكونه عزما على الحرام ، فيجب العزم على الفعل ، لعدم انفكاك المكلّف من هذين العزمين ، حيث لا يكون غافلا ، ومع الغفلة لا يكون مكلّفا. وهو كما ترى.

حجّة من خصّ الوجوب بأوّل الوقت : أنّ الفضلة في الوقت ممتنعة ؛ لأدائها إلى جواز ترك الواجب ؛ فيخرج عن كونه واجبا. وحينئذ فاللازم صرف الأمر إلى جزء معيّن من الوقت ، فإمّا الأوّل أو الأخير ، لانتفاء القول بالواسطة. ولو كان هو الأخير ، لما خرج عن العهدة بأدائه في الأوّل. وهو باطل إجماعا ، فتعيّن أن يكون هو الأوّل.

________________________________

الفرد الاضطراري فإمّا أن يكون مكلّفا بما لا يسعه من الفرد الاختياري أو بما يسعه من الفرد الاضطراري ، أو لا تكليف له بالصلاة في أوّل الوقت بل يجب عليه انتظار الآخر ليصادفه زوال العذر الموجب للتمكّن عن الفرد الاختياري ، والأوّل تكليف بما لا يطاق ، والثالث موجب للتقييد في دليل التوقيت ، وهو ممّا لا دليل عليه إلاّ ما قرّر من الأصل الّذي لا يصلح لذلك لارتفاع موضوعه الّذي هو الشك بملاحظة إطلاق التوقيت الّذي هو دليل اجتهادي فتعيّن الثاني.

لا يقال : لو اخترنا وجوب التأخير إلى زوال العذر لا يلزم خلوّ الأوّل عن التكليف لينافيه إطلاق دليل التوقيت ، بناءا على جواز التكليف بالشيء قبل مجيء وقته ، على نحو يكون التكليف مطلقا والمكلّف به مقيّدا نظير وجوب الصيام في نهار رمضان الّذي يتعلّق قبل الفجر.

لأنّا نقول : بأنّ المنافاة إنّما تحصل بالنسبة إلى الأجزاء ، فإنّ قضيّة إطلاق التوقيت حصول التكليف في كلّ جزء وتساوي نسبة الأجزاء بعضها إلى بعض في كون إيقاع الفعل في كلّ مجزيا وموجبا للامتثال.

ومن هنا يتحصّل تحقيق إجمالي بالقياس إلى مسألة الإجزاء في الأمر ، ومثله الكلام فيما لو كان في أوّل الوقت بلا عذر عالما بطروّه فيما بعده أو محتملا له فأخّر الصلاة إلى

ص: 181

والجواب : أمّا عن امتناع الفضلة في الوقت ، فقد اتّضح ممّا حقّقناه آنفا ، فلا نطيل باعادته. وأمّا عن تخصيص الوجوب بالأوّل ، فبأنّه لو تمّ لما جاز تأخيره عنه ، وهو باطل أيضا ، كما تقدّمت الاشارة إليه.

واحتجّ من علّق الوجوب بآخر الوقت : بأنّه لو كان واجبا في الأوّل لعصى بتأخيره ؛ لأنّه ترك للواجب ، وهو الفعل في الأوّل ، لكنّ التالي باطل بالاجماع ، فكذا المقدّم.

وجوابه : منع الملازمة ، والسند ظاهر ممّا تقدّم ؛ فانّ اللزوم المدّعى إنّما يتمّ لو كان الفعل في الأوّل واجبا على التعيين. وليس كذلك ، بل وجوبه على سبيل التخيير. وذلك أنّ اللّه تعالى أوجب عليه إيقاع الفعل في ذلك الوقت ، ومنعه من إخلائه عنه ، وسوّغ له الاتيان به في أي جزء شاء منه. فان اختار المكلّف إيقاعه في أوّله أو وسطه أو آخره ، فقد فعل الواجب.

________________________________

أن صادفه ذلك ، فحينئذ إمّا أن يكون مكلّفا أو لا؟ والثاني باطل لإفضائه إلى تقييد دليل التوقيت من غير دليل.

وعلى الأوّل فإمّا أن يكون مكلّفا بما يناسب العذر أو بما لا يناسبه.

والثاني باطل لإدّائه إلى التكليف بما لا يطاق فتعيّن الأوّل.

فإن قلت : بعد ما أنكرت الإطلاق في المقام الأوّل كيف يمكنك التمسّك به هنا.

قلنا : قوله تعالى ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) (1) له إطلاق من جهات عديدة :

منها : ما ادّعي بالنسبة إلى الصلاة وقد أنكرناه.

ومنها : ما ادّعيناه بالنسبة إلى أجزاء الوقت المحدود بالدلوك والغسق ، وهذا الإطلاق ممّا لم يطرئه جهة اجمال.

ولا ورد عليه تقييد فيكون سليما عن المعارض ومحلا للاستناد إليه فلا منافاة بين الكلامين كما أنّه لا فرق في الحكم بين المقامين.

فإن قلت : القول بالتخيير في أوّل الوقت بين فردي الاختياري والاضطراري ينافي

ص: 182


1- الاسراء : 78.

وكما أنّ جميع الخصال في الواجب المخيّر يتّصف بالوجوب ، على معنى أنّه لا يجوز الاخلال بالجميع ولا يجب الاتيان بالجميع ، بل للمكلّف اختيار ما شاء منها ، فكذا هنا لا يجب عليه إيقاع الفعل في الجميع ، ولا يجوز له إخلاء الجميع عنه. والتعيين مفوّض إليه مادام الوقت متّسعا ؛ فاذا تضيّق تعيّن عليه الفعل.

وينبغى أن يعلم : أنّ بين التخيير في الموضعين فرقا ، من حيث انّ متعلّقه في الخصال الجزئيات المتخالفة الحقائق ، وفيما نحن فيه الجزئيّات المتّفقة الحقيقة ؛ فانّ الصلاة المؤدّاة مثلا في جزء من أجزاء الوقت مثل المؤدّاة في كلّ جزء من الأجزاء الباقية ، والمكلّف مخيّر بين هذه الأشخاص المتخالفة بتشخّصاتها ، المتماثلة بالحقيقة. وقيل : بل الفرق أنّ التخيير هناك بين جزئيّات الفعل وها هنا في أجزاء الوقت. والامر سهل.

________________________________

اشتراط الاكتفاء بالاضطراري بالعجز عن الاختياري.

قلنا : إنّما ينافيه لو قلنا بذلك التخيير في حالة واحدة وهو باطل بالضرورة كما لا نقول به في القصر والإتمام بل نقول بالتخيير في أوّل الوقت بين إيقاع الصلاة في جزء يناسبه الفرد الاختياري لمصادفة ذلك الجزء حالة الاختيار وجزء يناسبه الفرد الاضطراري لمصادفته حالة الاضطرار وظاهر أنّ ذلك لا يستلزم التخيير في وقت حالة الاختيار بين ما يناسبه وما يناسب حالة الاضطرار وذلك واضح.

- تعليقة -

هل الإجزاء من المسائل الاُصوليّة أو من المبادئ الأحكاميّة؟

اختلفوا في أنّ الأمر بالشيء هل يقتضي الإجزاء مع الإتيان به على وجهه أو لا؟ على قولين أو أقوال.

ظاهر العناوين من اشتمالها على اقتضاء الأمر وعدمه كون المسألة من المسائل الأصوليّة ، لرجوع البحث فيها نفيا واثباتا على حسب هذا الظهور إلى الاقتضاء الّذي هو مرادف للدّلالة أو قريب منها ، بل وفي بعض العبائر التصريح بالدلالة ونفيها ، ولكن سياق

ص: 183

الأدلّة من الطرفين - على ما يأتي - ومفادها أيضا كونه بحثا عن حكم من أحكام المأمور به الّتي يثبتها العقل بملاحظة الأمر ، ككونه موجبا لاستحقاق الثواب في تقدير وكونه موجبا لاستحقاق العقاب في تقدير ، ومن هذا القبيل كونه موجبا للإجزاء بالمعنى الآتي وعدمه ، فتكون من المبادئ الأحكاميّة وهو الأقرب بملاحظة ما سيأتي.

في حقيقة الإجزاء

ولا بدّ قبل الخوض في أصل المطلب من رسم امور :

أوّلها : أنّ فعل المكلّف باعتبار لحوق الحكم الشرعي به يطرءه التقسيم عندهم باعتبارات شتّى.

منها : تقسيمه إلى ما يكون مجزيا وما لا يكون مجزيا ، والإجزاء لغة - حسبما صرّح به أهل اللغة - الكفاية ، واصطلاحا - على ما في تهذيب العلاّمة وشرحه المنية - كون الإتيان بالفعل كافيا في سقوط التعبّد به.

ومحصّله : كفاية الفعل في سقوط التعبّد ، وقريب من ذلك ما في المنهاج وشرحه من أنّه الأداء الكافي في سقوط التعبّد به.

وقضيّة ذلك كون النقل على فرض تحقّقه من باب النقل من العامّ إلى الخاصّ وقالوا : إنّما يحصل الإجزاء بهذا المعنى إذا أتى به المكلّف مستجمعا لجميع الأمور المعتبرة فيه شرعا ، فغير المجزي على هذا ما لا يكون كذلك إذا لم يوقعه على الوجه المطلوب منه.

وفي المنية عن قوم : أنّ الإجزاء عبارة عن سقوط القضاء ، ومثله ما في شرح المنهاج عن الفقهاء.

غير أنّه أورد عليه : بصدق الإجزاء حيث أتى المكلّف بالفعل في وقته ، وعدم صدق سقوط القضاء لعدم موجب القضاء وهو خروج الفعل عن الوقت ، كما انّ السيّد نقل ردّ ما حكاه بأنّ سقوط القضاء قد يتحقّق بدون الإجزاء فيغايره ، كما لو أتى المكلّف بالفعل مجرّدا عن بعض شروطه ثمّ مات ، فإنّه يسقط عنه القضاء ولا يكون هذا الفعل مجزيا بالاتّفاق.

ثمّ نقل الجواب عنه : بأنّ المسقط للقضاء هنا إنّما هو الموت لا الفعل ، فلا يصدق على الفعل أنّه مسقط ، كما لا يصدق عليه أنّه مجز فلا يغايره.

ويمكن دفع الإيراد المذكور أيضا : بأنّ المراد بسقوط القضاء سقوط ما يلزم المكلّف على تقدير إخلاله بالفعل في بعض الامور المعتبرة فيه أو تركه إيّاه في الوقت.

فالقضيّة هنا شأنيّة فلا ينافيها عدم تحقّق الفعليّة لعدم حصول الموجب ، ولذلك يتناول

ص: 184

الحدّ لما لا قضاء له أصلا كصلاة العيدين مثلا ، حيث يراد بسقوط القضاء بالنسبة إليه - حسبما ذكروه في تحديد « الصحّة » عند الفقهاء بما سيأتي في بحث النهي - سقوطه على تقدير ثبوته فيه شرعا ، وهذا المعنى عند التحقيق يرجع إلى المعنى الأوّل لمكان الجزم بأنّ سقوط التعبّد ممّا لا محصّل له إلاّ بسقوط القضاء ، بناء على كون المراد بالقضاء هنا الإتيان بالمأمور به ثانيا في الوقت أو في خارجه كما ستعرفه.

نعم يشكل ذلك بكون الإجزاء على المعنى الأوّل على ما يظهر منهم وصفا للفعل ، فلذا حصل التعبير عنه بما يكون من المبادئ المتعدّية بخلاف سقوط القضاء.

ولكن الخطب في ذلك سهل بعد ملاحظة توسّع باب المسامحة والتوسّع في العبارة ، فلعلّ مراد من فسّره بذلك اسقاط القضاء فيتّحد المعنيان لكونهما تعبيرين عن هذا المعنى ، مع إمكان كون نظره في ذلك إلى تفسير الإجزاء بالمعنى المتنازع فيه على ما يستفاد من تتبّع كلماتهم في تلك الأمثلة من كون مرادهم بالإجزاء سقوط القضاء ، كما يفصح عن ذلك ما في جملة من عناوينهم من التعبير بأنّ الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الإجزاء كما في بعضها ، أو يوجبه كما في آخر ، أو يستلزمه كما في ثالث ، فلولا المراد هذا المعنى لكان المناسب التعبير ب- « أنّ الإتيان بالمأمور به مجز » ونحوه كما لا يخفى ، وكأنّه إلى ذلك ينظر ما في مختصر الحاجبي وبيانه لشارحه من التعبير عن العنوان ب- « أنّ الإجزاء الامتثال ، فالاتيان بالمأمور به على وجهه تحقّقه اتّفاقا ، وقيل : الإجزاء سقوط القضاء فيستلزمه ، وقال عبد الجبّار : لا يستلزمه ».

فتبيّن من ذلك أنّ الإجزاء قد يطلق عندهم على سقوط القضاء الّذي هو معنى الصحّة على اصطلاح الفقهاء ، بل على الامتثال أيضا الّذي هو معناها عند المتكلّمين كما يأتي بيانه في بحث النهي.

كما تبيّن بملاحظة ما في عبارة المختصر وغيره أنّ النزاع في تلك المسألة مخصوص بالإجزاء بمعنى سقوط القضاء ، وهو المصرّح به في كلام غير واحد من أصحابنا المتأخّرين مع دعوى الاتّفاق أو نفي الخلاف في الإجزاء بمعنى الامتثال ، كما يتبيّن أيضا بملاحظة جميع ما قرّرناه بعض الاشتباهات الحاصلة في المقام لبعض الأعلام ، حيث ذكر للإجزاء عند تحرير موضع النزاع معنيين

أحدهما : كون الفعل مسقطا للتعبّد به ثانيا.

ص: 185

وثانيهما : إسقاط القضاء ، ثمّ أخذ بالتصرّف في الأوّل بحمله على إرادة حصول الامتثال ، مستشهدا باتّفاقهم على الإجزاء بهذا المعنى ، بزعم أنّ المعنى الأوّل الّذي خرج عن المتنازع هو هذا المعنى ولا يستقيم ذلك إلاّ بصرفه عن ظاهره ، وهو كما ترى ليس في محلّه فإنّ المعنيين على ما عرفت تعبيران عن معنى واحد.

والّذي ادّعى عليه الاتّفاق إنّما هو الإجزاء بمعنى الامتثال وهو إطلاق آخر ، لا الإجزاء بمعنى كون الفعل مسقطا للتعبّد به حتّى يحتاج إلى تكلّف التأويل بما ذكر.

وبالتّأمّل فيما قرّرناه تعرف أنّ وصف الفعل بالإجزاء بالمعنى المتنازع فيه يرادف وصفه بالصحّة في العبادات على اصطلاح الفقهاء ، كما أنّ وصفه بالإجزاء بالمعنى المتّفق عليه يراد وصفه بالصحّة فيها على اصطلاح المتكلّمين ، إذ لا يراد بالامتثال إلاّ ما يرجع محصّله إلى موافقة الأمر كما لا يخفى.

وأمّا وصفه بالاجزاء بمعنى إسقاط التعبّد أو إسقاط القضاء فهو وصف له بما يلازم الصحّة على اصطلاح الفقهاء لا بما يرادفها.

فما في كلام بعض الأعلام - من أنّ الظاهر أنّ الإجزاء في العبادات هو اللازم المساوي للصحّة فيها - على إطلاقه ليس بسديد.

ولكن يشكل ما ذكرنا : بأنّ الإجزاء بالمعنيين المتّفق عليه والمتنازع فيه ليس وصفا للفعل كما أشرنا إليه إجمالا فيما سبق ، مع أنّ ظاهرهم في تقسيم الفعل باعتبار الصحّة وخلافها إلى الصحيح وغيره كون الصحّة بكلّ من المعنيين وصفا له.

ويمكن دفعه : بالتزام كون الإجزاء بهذين المعنيين أيضا وصفا للفعل ، ولا ينافيه وصفه بالإجزاء بمعنى الإسقاط في كلّ من تعبيريه بعد ملاحظة اعتبار تعدّد الجهة ، نظرا إلى أنّ الصحّة على اصطلاح المتكلمين عبارة عن موافقة الأمر على معنى موافقة المأتيّ به للمأمور به.

وإنّما يتأتّى ذلك بإيجاد ما يوافق المأمور به عنوانا وقيودا ، بأن يكون فردا من الكلّي المأمور به - بناء على ما سبق تحقيقه من تعلّق الأحكام بالطبائع - فالفعل حينئذ له اعتباران : اعتبار الإيجاد الّذي هو وصف إضافي فيما بينه وبين الفاعل ، لاضافته إليه من حيث تعلّقه به وإلى الفاعل من حيث صدوره عنه ، واعتبار الوجود وهو الحاصل بالايجاد المتحقّق بعده ، فالإجزاء بمعنى الاسقاط وصف يلحقه باعتباره الأوّل ، والصحّة بمعنى

ص: 186

موافقة الأمر وصف يلحقه باعتباره الثاني ، فإنّ مفادها بالأخرة يرجع إلى الصفة الحاصلة في الموجود الثابت في ظرف الخارج.

والفرق بين الوصفين كالفرق بين وصفي العلّة والمعلول والتأثير والأثر ، لكون الاعتبار الثاني متأخّرا بحسب الرتبة عن الأوّل.

غير أنّ هذا التوجيه لا يتمشّى في الإجزاء بالمعنى المرادف للصحّة على اصطلاح الفقهاء ولا يدفع الاشكال بالنسبة إليه ، فلا بدّ في دفعه من منع ظهور كون الصحّة بهذا الاصطلاح وصفا للفعل على نحو الحقيقة ، ولا ينافيه إطلاق الصحيح عليه أيضا بهذا الاعتبار ، لأنّه إطلاق يرد على سبيل المجاز ويراد به الموجب للصحّة ، فإنّ أداء الفعل على ما هو مأمور به هو المسقط للقضاء مطلقا ، فيكون الإطلاق من باب وصف الشيء بما يكون مسبّبا منه بواسطة اللفظ الموضوع للذات المتّصفة بالصحّة بعلاقة السببيّة ، كما في إطلاق « القاتل » على سبب القتل.

ولو فسّرنا المعنى في اصطلاح الفقهاء بإسقاط القضاء كما في جملة من العبائر تعيّنت في كونها وصفا للفعل على نحو الحقيقة وتوجّه الاشكال فبطل بذلك دعوى الترادف بين وصفه بالإجزاء بالمعنى المتنازع فيه ووصفه بالصحّة على هذا الاصطلاح ، غير أنّ هذا التفسير بعيد عن كلماتهم ، ولا سيّما بملاحظة تفسيرهم للصحّة عند إرادة بيان ما هو القدر المشترك بين صحّة العبادات وصحّة المعاملات بترتّب الأثر كما في كلام الأكثر ، أو متابعة الغاية كما في المنهاج وشرحه ، ضرورة أنّ الأثر المترتّب على صحيح العبادة عند الفقهاء إنّما هو سقوط القضاء لا إسقاطه ، فإنّ الاسقاط وصف للفعل ووصف الشيء لا يكون أثرا مترتّبا عليه كما لا يخفى.

وثانيها : صورة المسألة على وجه ينطبق عليه كلّ من محلّ الوفاق ومحلّ الخلاف ما لو أتى المكلّف بالمأمور به على الوجه المعتبر فيه شرعا ، بأن يكون جامعا لجميع الأجزاء والشرائط وخاليا عن كلّ الموانع ، كما وقع التصريح به في مفاتيح السيّد ، وهو المستفاد عن غيره من أهل الاصول تصريحا وتلويحا كما لا يخفى على المتتبّع البصير ، فمحلّ الوفاق من ذلك أنّه يصير بذلك ممتثلا.

وقد عرفت عن الحاجبي فيما سبق دعوى الاتّفاق ، ووافقه على هذه الدعوى شارح المختصر في بيانه ، وحكى ذلك عن شارحه العضدي أيضا ، وعن شارح المنهاج أيضا ، بل

ص: 187

عن العضدي التعليل : بأنّ معنى الامتثال وحقيقته ذلك.

ومحلّ الخلاف من ذلك خروجه عن التكليف بالمرّة بذلك وفراغ ذمّته عمّا كانت مشغولة به ، وعدم وجوب إعادته عليه لا في الوقت ولا خارجه وعدمه.

فالأوّل ما عزاه في المنية إلى المحقّقين ، وبعض الأعلام عزاه إلى المشهور ، والسيّد في مفاتيحه عزاه إلى السيّد في الذريعة والشيخ في العدة والمحقّق في المعارج والمعتبر ، والعلاّمة في المنتهى والنهاية والتهذيب والمبادي ، والشهيدين في الذكرى والروض ، والمحقّق الثاني في جامع المقاصد ، والمحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة ، وسبط ثاني الشهيدين في المدارك ، والفاضل الخراساني في الذخيرة ، والمحدّث الكاشاني في المعتصم ، والرازي في المحصول ، وعليه الحاجبي في المختصر ، والبيضاوي في المنهاج ، وشارحاهما وأصحابنا المتأخّرين كافّة بل عن الإحكام : هو مذهب أصحابنا والفقهاء وأكثر المعتزلة ، وعن العدة : ذهب إليه الفقهاء بأجمعهم وأكثر المتكلّمين ، وعن نهاية السؤول : قال به الجمهور ، وعن النهاية : ذهب إليه المحقّقون.

في كلام القاضي عبد الجبّار ونقده

والثاني ما نسب إلى القاضي عبد الجبّار ، وأضاف إليه بعض الأعلام وغيره أبا هاشم ، بل يستفاد عن بعض العبارات - كما يأتي - أنّ لهما أتباعا في ذلك فقالا : « أنّ الإتيان بالمأمور به على وجهه لا يقتضي سقوط القضاء » غير أنّهم اختلفوا في تقرير هذا المذهب عنهما ، فعن إحكام الآمدي : « أنّ القاضي قال : بأنّه لا يقتضي اسقاط القضاء ولا يمتنع من الأمر به » واحتمله بعض الأعلام ، وصرّح به التفتازاني بقوله : « فإنّ مذهب عبد الجبّار هو أنّه قد أدّى الواجب وأتى بالمأمور به ، ومع ذلك يحتمل عدم خروجه عن العهدة ، قال : لا يمتنع عندنا أن يأمر الحكيم ويقول : إذا فعلت أثبت عليه وأدّيت الواجب ويلزمه القضاء مع ذلك ، وهذا مشعر بأن ليس النزاع في الخروج عن عهدة الواجب بهذا الأمر بل في أنّه هل يصير بحيث لا يتوجه إليه تكليف بذلك الفعل بأمر آخر » انتهى.

وعن العدّة : قال كثير من المتكلّمين أنّه لا يدلّ على ذلك ولا يمتنع أن لا يكون مجزيا ويحتاج إلى القضاء.

وعن نهاية السؤول : قال أبو هاشم وعبد الجبّار وأتباعهما أنّه لا يمتنع الأمر بالقضاء مع فعله ، فلزم من ذلك أنّه لا يدلّ على عدم وجوبه بل يكون عدم الوجوب مستفادا من الأصل.

وعن النهاية : قال أبو هاشم وأتباعه والقاضي عبد الجبّار أنّه لا يقتضي الإجزاء بمعنى

ص: 188

سقوط القضاء.

وثالثها : قد تحصّل بالتأمّل في جميع ما قرّر في الأمر السابق من البداية إلى النهاية امور :

الأوّل : اختلاف الاصولييّن في فهم مراد القاضي وتقرير مذهبه على وجهين :

أحدهما : نفي الاقتضاء مجرّدا عن دعوى اخرى متضمّنة لقضيّة إيجابيّة منضمّة إلى القضيّة السلبيّة.

وثانيهما : نفيه مع دعوى عدم اجتماع أمر آخر بالقضاء غير الأمر الأوّل.

وربّما يحتمل في هذا المذهب القول باقتضاء الأمر لعدم الإجزاء وعدم سقوط القضاء في الجملة ، ولعلّ وجهه أنّ عدم الاقتضاء في قول هذا القائل مفهوم له فردان :

أحدهما : سكوته عن الإجزاء نفيا وإثباتا ، فيقابله قول الآخرين باقتضائه للإجزاء.

وثانيهما : اقتضاؤه لعدم الإجزاء ، فيقابله قول الآخرين باقتضاء الإجزاء أو بعدم اقتضاء عدم الإجزاء ، ولا يخفى بعده بل سقوطه ووضوح فساده ، حيث لم يرد لبيان ذلك في كلامهم تصريح ولا تلويح ولا إشارة ، بل هو ما ينافيه الأدلّة من الطرفين ، بل التحقيق أنّ الوجه الثاني أيضا سهو ، لكون أدلّة الطرفين متّفقة على الوجه الأوّل ، ولعلّه وهم نشأ عمّا تقدّم في عبارة عبد الجبّار - على ما في محكيّ التفتازاني - من قوله : « ويلزمه القضاء » بتوهّم أنّ هذه قضيّة يراد بها إيجاب القضاء فيكون خطابا آخر غير الأوّل مثبتا للقضاء.

وفيه : منع إفادة ذلك هذا المعنى وإلاّ لكان عليه الإتيان بضمير الخطاب موضع الغيبة ويقول : « ويلزمك القضاء » فالعدول عن الخطاب إلى الغيبة قرينة واضحة على إرجاع الضمير إلى ما قبله وهو « الواجب » ، فيكون المراد بتلك القضيّة حينئذ أنّ الواجب من لوازمه القضاء.

ولا ريب أنّ تعليق الحكم على الوصف ممّا يشعر بعلّيّة مأخذ الاشتقاق وهو هنا وصف الوجوب ، وهو كما ترى وصف حصل في الواجب بالأمر الأوّل ، فيكون ثبوت القضاء من مقتضيات هذا الوصف لا من مقتضيات ما حصل فيه بأمر آخر ، بل لا يبعد انطباق ذلك على الوجه الثالث الّذي زيّفناه كما لا يخفى.

ويمكن كون ذلك التوهّم ناشئا عن توهّم كون الامتثال المتّفق على حصوله عبارة عن الخروج عن عهدة التكليف كما صرّح به التفتازاني ، فعلى هذا لا بدّ وأن يرجع مفاد هذا المذهب إلى أنّ الإتيان بالمأمور به على وجهه المستلزم للخروج عن العهدة لا يستلزم امتناع أمر آخر بالقضاء ، ولمّا كان إنكار ذلك ممّا يقرب من إنكار الضروري فلا بدّ وأن

ص: 189

يرجع كلام المثبتين للإجزاء إلى دعوى عدم تسمية المأمور به بالأمر الثاني قضاء في الاصطلاح ، فيعود النزاع بين الفريقين حينئذ لفظيّا راجعا طلى أمر لفظيّ اصطلاحي كما صرّح به بعض الأعلام.

ولا يخفى بعده عن طريقة أهل النظر ، ولا سيّما المحقّقين وفحول العلماء المتقدّمين والمتأخّرين من العامّة والخاصّة ، مع عدم كونه ممّا يساعد عليه شيء من أطراف المسألة ، ولا سيّما أدلّتها الّتي العمدة في تحصيل موضع النزاع في خلافيّات المسائل اصوليّة وفروعيّة ، بل الراحج في النظر القاصر القريب من كونه مقطوعا به أنّ الخلاف حاصل على الوجه الأوّل.

وعليه فلعلّ منشأ الخلاف - حسبما يرشد إليه التأمّل - أنّ الأمر له مدلول مطابقي وهو الطلب الحتمي المتعلّق بايجاد الفعل في الخارج الّذي يترتّب على مخالفته استحقاق العقوبة وعلى موافقته استحقاق المثوبة ، ومدلول التزامي يثبته العقل وهو حصول الامتثال بفعله على معنى موافقة الأمر لو أتى به المكلّف على وجهه الرافع لاستحقاق العقوبة [ و ] الموجب لاستحقاق المثوبة ، ومدلول آخر التزامي أيضا من جهة العقل على تقدير ثبوته وهو حصول الإجزاء الموجب لفراغ ذمّة المكلّف عمّا استقلّت به أوّلا بالمرّة ، فمرجع دعوى المثبتين إلى اثباته أيضا من جهة العقل كما يشهد به أدلّتهم الآتية وجعله كسابقه من توابع أداء المأمور به على وجهه ، كما أنّ مرجع دعوى النافين إلى نفي ذلك ، بدعوى عدم منافاة حصول الامتثال وموافقة الأمر لبقاء المأمور به بعد في الذمّة المحتاج رفعه إلى الإتيان به ثانيا في الوقت وخارجه.

فالمسألة حينئذ عقليّة لا مدخل لها بما يرجع إلى ما هو من أحوال الدليل ، والّذي يفصح عن ذلك - مضافا إلى عدم مساعدة أدلّة الطرفين غيره أكثر العناوين المشتملة على التعبير بأنّ الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الإجزاء أو لا يقتضيه؟ يستلزمه أو لا يستلزمه؟ يوجبه أو لا يوجبه؟

نعم في تهذيب العلاّمة التعبير عنه بأنّ الأمر يقتضي الإجزاء ، غير أنّه لا ينافي ما ذكرناه بعد حمله على المسامحة في التعبير أو أنّ الاضافة يكتفي فيها بأدنى الملابسة ، نظرا إلى أنّ الأمر أيضا له مدخليّة في الجملة في حصول الإجزاء ، لاستناده إلى حصول الأداء المأمور به على هذا الوصف ، وهو وصف أعطاه الأمر ، وممّا ينتهض قرينة على ذلك

ص: 190

ورود هذا البحث في ذلك الكتاب في فصل أحكام المأمور به الّتي ثالثها هذا الحكم.

لا يرتبط هذا البحث بالبحث في تبعيّة القضاء للأداء وعدمها

ومع ما ذكرنا فنحن نتكلّم في المسألة على كلّ من الوجهين المذكورين ، ونقرّر ما هو التحقيق فيهما خروجا عن شبهة الاحتمال.

الثاني : أنّ النزاع لا ينوط بظهور نقص في المأتيّ به بالقياس إلى المأمور به الواقعي ، بل هو عند التحقيق مخصوص بما يكون المأتيّ به الموجب للامتثال هو المأمور به الواقعي كما هو صريح العبارة المحكيّة عن عبد الجبّار فيما تقدّم وهو المصرّح به في مطاوي كلمات القوم ، كما يفصح عنه تصريحهم بكون المأتيّ به جامعا لجميع الأجزاء والشرائط خاليا عن جميع الموانع ، وعليه ينبّه تعبيرهم عن العنوان ب- « إتيان المأمور به على وجهه ».

فما في كلام بعض الأواخر - من تخصيص الخلاف بغير الواقعي الأوّلي من الواقعي الثانوي والظاهري الشرعي والظاهري العقلي بدعوى رجوعه إلى أمر صغروي ، وهو أنّ البدليّة المأخوذة في هذه الأنواع بالقياس إلى الواقعي الأوّلي هل هي بدليّة دائميّة فلا يجب إعادتها بعد زوال العذر أو تبيّن الفساد ، أو بدليّة مشروطة بما دام العذر أو ما لم يتبيّن الفساد والنقص فيجب إعادتها مع زوال العذر أو تبيّن الفساد والنقص - ليس على ما ينبغي ، كيف وهو ما لم يتعرّض لذكره أحد ولم يقع إشارة إليه في كلام أحد ممّن تعرّض لتحرير موضع النزاع ونقل الأقوال.

نعم حصل في بعض المذكورات نزاع آخر غير مرتبط بهذا النزاع وسنشير إلى ما هو التحقيق فيه أيضا ، وتنزيل هذا البحث إلى ذلك النزاع ممّا لا يساعد عليه شيء من أطراف المسألة ، ولعلّه وهم نشأ عن ملاحظة تمسّك النافين بوجوب القضاء في الصلاة المأتيّ بها مع ظنّ الطهارة المتعقّب لانكشاف كذبه ، ولا ريب أنّ ذلك ليس مبنيّا على إناطة الحكم عند المستدلّ بجعل البدليّة مشروطة ، بل ظاهر الاستدلال أنّه غافل بالمرّة عن هذا المعنى كما يفصح عنه أدلّة المثبتين.

الثالث : أنّ الكلام في هذه المسألة لا يرتبط بما يأتي البحث عنه من تبعيّة القضاء للأداء وعدمها ، ولا بما تقدّم البحث عنه من كون الأمر للماهيّة أو المرّة أو التكرار ، حتّى يكون البحث في هاتين المسألتين مغنيا عن هذا البحث ، بتوهّم رجوع القول بعدم الإجزاء إلى القول بتبعيّة القضاء للأداء ، ورجوع القول الآخر إلى القول بعدم التبعيّة ، وكون القول بالإجزاء متفرّعا على القول بالماهيّة أو المرّة والقول بعدم الإجزاء إلى القول بالتكرار ،

ص: 191

لوضوح الفرق بينه وبينهما كما بين السماء والأرض ومغايرته لهما موضوعا ومحمولا وعنوانا ودليلا ، فإنّ البحث عن المسألتين بحث عن حال الدليل وهذا البحث بحث عن حال المأمور به ، ومسألة القضاء مفروض - على ما ستعرفه - فيما لو فات المأمور به في وقته بتركه بالمرّة أو حصول إخلال فيه موجب لفساده من جهة الأجزاء أو الشرائط ، وهذه المسألة مفروضة فيما لو حصل الإتيان بالمأمور به على ما امر به ، ومسألة القضاء مخصوصة بما لو كان المأمور به موقّتا ، وهذه المسألة عامّة له ولغيره وللقائل بالإجزاء أن يقول بتبعيّة القضاء للأداء ، كما أنّ للقائل بعدمه أن يقول بمنع تبعيّة القضاء للأداء ، ومحمول القول بالماهيّة أو المرّة دلالة الأمر على كون المطلوب بالأمر إيجاد الماهيّة من حيث هي أو من حيث وجودها في ضمن المرّة ، ومحمول القول بالإجزاء حصول فراغ الذمّة للمكلّف عمّا امر به من ماهيّة أو مرّة بعد ما أتى به على وجهه ، ومحمول القول بالتكرار دلالة الأمر على كون المطلوب إيجاد الماهيّة في ضمن مرّات متكرّرة حسبما يقتضيه الإمكان عقلا وشرعا بحيث لو انحلّ الأمر لرجع إلى أوامر متعدّدة على حسب تعدّد المرّات الممكنة ، موجبة لكون كلّ مرّة مأمورا بها على الاستقلال ، ومحمول القول بعدم الإجزاء بقاء ذمّة المكلّف مشغولة بما أتى به على وجهه من المأمور به حتّى يأتي به ثانيا في الوقت أو خارجه حتّى أنّه يلزم من ذلك لزوم القضاء في كلّ مرّة أتى بها على وجهها من المرّات المأمور بها على الاستقلال.

فلذا يورد عليه بامور ، منها : لزوم تحصيل الحاصل المبنيّ على إعادة المعدوم ، أو عدم كون المأتيّ به تمام المأمور به الّذي هو خلاف الفرض ، فيجري هذا القول على القول بالماهيّة والمرّة أيضا كما يجري القول بالإجزاء على القول بالتكرار أيضا ، ولازمه كفاية كلّ مرّة اوتي بها على وجهها وعدم وجوب الإتيان بها ثانيا بعنوان القضاء الّذي يقول به الخصم.

لا يرتبط هذا البحث بالبحث في تبعيّة القضاء للأداء وعدمها

الرابع : كون القضاء المتنازع في سقوطه وعدمه مرادا به الإتيان بالمأمور به ثانيا في الوقت أو خارجه لا معناه المصطلح المبحوث عنه في المسألة الآتية ، ولا ما يعمّه والإعادة على معناها المصطلح أيضا ، فما في بعض العبائر - من أنّ المراد به مطلق التدارك الشامل للإعادة والقضاء ، أو أنّ المراد بالإجزاء سقوط فعل المأمور به ثانيا أعمّ من الإعادة والقضاء - ليس بسديد إن أراد بهما المعنى المصطلح عليه فيهما ، فإنّ الإعادة على هذا المعنى عبارة عن فعل المأمور به ثانيا ، لوقوع الأوّل على نوع من الخلل ، والقضاء عبارة

ص: 192

عن إدراك مافات في الوقت في خارجه.

ولا ريب أنّ موضوع البحث على ما تقدّم بيانه ينافي كلاّ من المعنيين.

وإذا تمهّد ذلك فنقول : إنّ أهل القول بعدم اقتضاء الإجزاء إن أرادوا أنّ الإتيان بالمأمور به أوّلا لا يوجب امتناع ورود أمر آخر بإتيانه ثانيا ولا ينافيه بل يمكن معه توجّه أمر آخر ، وأنّ الأمر الأوّل ساكت نفيا وإثباتا عن الإتيان بالمأمور به ثانيا ، بحيث لو ورد أمر آخر به لا يعارضه الأمر الأوّل ، فنصدّقهم على ذلك وفاقا لبعض الأجلّة وجماعة من الأعاظم - على ما حكاه - كالسيّد وابن زهرة والشيخ والآمدي وغيرهم ، ثمّ نسأل القائلين بالاقتضاء فإن رجع دعواهم إلى امتناع ذلك بالنظر إلى دلالة اللفظ أو العقل فهو دفع للضرورة ولا ينبغي صدوره عمّن هو دونهم فضلا عنهم ، وإن رجعت إلى منع تسمية ذلك قضاء في الاصطلاح فهو كلام خال عن المحصّل ، إذ ليس غرض الخصم إثبات أمر لفظي ليتوجّه إليه المنع ، بل هو مدّع لأمر معنوي وهو مسلّم بينه وبينهم فلا معنى للنزاع.

وإن أرادوا أنّ الإتيان بالمأمور به على وجهه لا يلازم فراغ الذمّة عنه وإن كان يلازم امتثال الأمر به.

فيدفعه : أنّ كفاية أداء المأمور به على هذا الوجه في سقوط المأمور به عن الذمّة وفراغها عنه بالمرّة ممّا يقضي به ضرورة الوجدان والقوّة العاقلة وجرت عليه سيرة العقلاء كافّة ، مضافا إلى أنّ تجويز بقائه في الذمّة مع فرض حصول امتثال الأمر به ممّا يفضي إلى تجويز اجتماع النقيضين ، لوضوح أنّ امتثال الأمر ممّا لا يتأتّى إلاّ بتأدّي المأمور به ، على معنى انتقاله من الذمّة إلى الخارج ، ومعه لا يعقل تجويز بقائه فيها إلاّ على تجويز الاجتماع بينه وبين عدمه وهو محال ، مع أنّ بقاءه فيها لا بدّ له من موجب وهو إمّا الأمر الأوّل أو أمر آخر غيره ، ولا سبيل إلى شيء منهما ، أمّا الأوّل : فلا بتنائه على بقاء الاستدعاء الأوّل على حاله ، وهو مع حصول امتثاله ووجود مورده في الخارج - كما هو المفروض - سفه لانقضاء المصلحة الداعية إليه.

وأمّا الثاني : فلكونه خلاف الفرض ، مع أنّ الأوامر منوطة بمصالح النفس الأمريّة ، والمصلحة في المقام إمّا أن تكون ممّا يتأتّى بالأداء الأوّل أو بالأداء الثاني أو بهما معا ، والكلّ باطل.

أمّا الأوّل : فلإفضائه إلى لغويّة تعلّق الأمر بالثاني.

ص: 193

وأمّا الثاني : فلإفضائه إليها في تعلّقه بالأوّل.

وأمّا الثالث : فبدليل الخلف ، فإنّ المفروض كفاية الإتيان الأوّل في حصول المصلحة المقصودة منه ، مع أنّ الباقي في الذمّة إمّا أن يكون عين ما أتى به أوّلا أو غيره.

وعلى الثاني فإمّا أن يجب الإتيان به على أنّه متمّم للأوّل أو على مطلوب آخر برأسه ، ولا سبيل إلى شيء من ذلك.

أمّا الأوّل : فلاستحالة تحصيل الحاصل.

وأمّا الثاني : فلخروجه عن مفروض الكلام من حصول المأمور به في الخارج بكماله فلا يحتاج إلى متمّم.

وأمّا الثالث : فلابتنائه على دلالة الأمر عليه وهي منتفية بضرورة العرف والوجدان ، ولا سيّما مع ما قرّرناه في محلّه من كون المطلوب بالأمر إيجاد الماهيّة الّتي تتحصّل بحصول فرد منها.

مع أنّ بقاءه في الذمّة إمّا لبقاء المصلحة المطلوبة منه أو لا.

وعلى الثاني فإمّا أن تكون تلك المصلحة ممّا يمكن حصولها بالإتيان به ثانيا أو لا.

ولا سبيل إلى الأوّل لقضاء عدم بقاء المصلحة في الذمّة بارتفاع الأمر ومعه لا قاضي بالإتيان به ثانيا.

ولا إلى الثاني لاستلزام إمكان حصولها بذلك لإمكان حصولها بالأوّل إذ لا فرق بينهما في الامور المعتبرة جزءا وشرطا وقد فرضنا عدم حصولها به ، وذلك يكشف عن عدم إمكانه ، وإلاّ لم يعقل لعدم حصولها بعد الإتيان به على وجهه وجه.

ولا إلى الثالث لرجوع بقاء التكليف به على هذا الوصف إلى التكليف بما انتفى عنه شرط وقوعه وقد عرفت امتناعه.

مع أنّ أداء المأمور به على وجهه لو لم يكن كافيا في خروج الذمّة عن الاشتغال لكان رافعا للعلم بالامتثال ، والتالي باطل بالضرورة والمقدّم مثله.

وبيان الملازمة : أنّ الامتثال ما لا يتأتّى إلاّ مع موافقة المأتيّ به للمأمور به ، وقيام احتمال بقاء الذمّة مشغولة ممّا لا يستقيم إلاّ في موضع احتمال عدم الموافقة ، وهو مع خلاف الفرض مناقض للعلم بالامتثال.

وقد يقرّر الملازمة : بأنّه لو لم يكن مجزيا لبقى احتمال توجّه التكليف ومع احتماله

ص: 194

يحتمل عدم الامتثال ، إذ لا يتصوّر توجّه التكليف مع تحقّق الامتثال ، واحتمال عدم الامتثال ملازم لعدم العلم بالامتثال ، لأنّ العلم بالشيء ينافيه احتمال نقيضه.

وأورد عليه : بمنع استلزام احتمال توجّه التكليف لاحتمال عدم الامتثال ، فإنّ فاقد الطهورين إذا صلّى يتحقّق به الامتثال ومع هذا يتوجّه إليه التكليف ، ولا يخفى ما فيه من الوهن.

ثمّ انّ للقوم احتجاجات بين ما هو فاسد وما هو ناقص تعرّض لذكرها السيّد في مفاتيحه.

فمن الفاسد ما عن الشيخ في العدّة من أنّ النهي يقتضي فساد المنهيّ عنه فينبغي أن يكون الأمر مقتضيا للإجزاء لأنّه ضدّه وكأنّه وارد لإلزام الخصم من حيث أنّه يعمل بالقياس ، أو أنّه معارضة في دليله من حيث انّه تمسّك بمثل ذلك فيما يأتي.

ومن الناقص ما عن نهاية العلاّمة من أنّه فعل المأمور به فيخرج عن عهدة التكليف ، أمّا المقدّمة الاولى فبالفرض ، وأمّا الثانية فلأنّه لو بقي مكلّفا فإمّا بالفعل الّذي فعله أوّلا فيلزم منه تحصيل الحاصل ، أو بغيره فيلزم أن يكون الأمر متناولا لغير المأتيّ به فلا يكون المأتيّ به تمام متعلّق الأمر وقد فرضنا خلافه.

والوجه في نقصانه : أنّه يستقيم لو قال الخصم بكون صحّة المأتيّ به مقيّدة بلحوق الإتيان به ثانيا ، ولعلّه يزعم الإتيان الثاني مأمورا به برأسه ، فلا بدّ من بيان ما يرفع هذا الاحتمال أيضا كما قرّرناه.

وقد أورد عليه أيضا : بأنّ فعله ثانيا مثل المأتيّ به أوّلا لا نفسه ، فلا يكون تحصيلا للحاصل.

وفيه : أنّ لزوم الإتيان بالمثل إمّا بالأمر الأوّل أو بغيره ، والأوّل باطل لحصول امتثال ذلك الأمر فيكون مرتفعا ، مع فرض عدم دلالته على كون المأتيّ به ثانيا مأمورا به برأسه ، والثاني خارج عن مفروض الكلام.

وقد يقال في ردّه أيضا : بأنّ المطلوب هو الماهيّة لا الأفراد ولا شكّ في أنّ الإتيان بالماهيّة بعد حصولها أوّلا تحصيل للحاصل.

ودفعه بعض الأعلام : بكونه قريبا من الهذيان ، لاستلزام ذلك كون فعل جميع الأنواع المندرجة تحت جنس بعد فعل واحد منها تحصيلا للحاصل ، ولا يخفى وهنه على المتأمّل.

فإنّ مبنى الردّ على أنّ لزوم إيجاد الماهيّة ثانيا عملا بالأمر الأوّل ممّا لا معنى له إلاّ لزوم إيجادها على أنّها مأمور بها بذلك الأمر ، والمفروض أنّها حاصلة على هذا الوجه ،

ص: 195

فإيجادها ثانيا كذلك ممّا لا يتأتّى إلاّ مع إعادة الحاصل.

ولا ريب أنّه عين تحصيل الحاصل المحكوم عليه بالاستحالة ، كما صرّح به هو رحمه اللّه فيما سبق في كلامه عند بيان الملازمة في تقرير الاستدلال بقوله : « فتحصيل الامتثال الثاني لا يتمّ إلاّ بإعادة الامتثال الأوّل وهو تحصيل للحاصل ».

وعن القول بعدم الإجزاء الاحتجاج بوجوه :

منها : ما قرّره في شرح المنهاج عن أبي هاشم من مقايسة الأمر على النهي ، فكما أنّه لا يوجب فساد المنهيّ عنه بدليل صحّة البيع عند نداء الجمعة وإن كان منهيّا عنه فكذلك الأمر في عدم اقتضائه للإجزاء.

وفيه : مع أنّه قياس أنّ الفرق واضح بين المقامين ، من حيث انّ مناط الحكم فيهما بعد انتفاء الدلالة اللفظيّة نفيا واثباتا إنّما هو العقل ، فكما أنّ عدم الفساد في نهي المعاملات يستند إلى حكم العقل بعدم منافاة مبغوضية شيء لترتّب الأثر الشرعي عليه ، إذا كان بنفسه مقتضيا لذلك الأثر الّذي لا ينوط وجوده على المحبوبيّة ، فكذلك الإجزاء في الأمر بها وبالعبادات فإنّه حكم يستقلّ به العقل إذا كان المأتيّ به بنفسه هو المأمور به.

واجيب أيضا - على ما في شرح المنهاج - : بمنع هذا القياس ، تعليلا بعدم العلّة الجامعة بين الأمر والنهي.

فإن قيل : بأنّ العلّة الجامعة كونهما حكمين شرعيّين.

فجوابه : الفرق بينهما ، فإنّ النهي عن الشيء قد يكون سببا لتحقّق أمر آخر كالنهي عن البيع وقت النداء في كونه سببا لتحقّق الجمعة ، بخلاف الأمر فإنّه اقتضاء فعل فإذا حصل أداء ذلك الفعل انقطع ذلك الاقتضاء.

ومنها : ما حكاه السيّد في مفاتيحه من أنّ الأمر لا يفيد إلاّ كونه مأمورا به وأمّا دلالته على سقوط التكليف فلا.

وفيه : عدم دلالة الأمر مسلّم ، ومع دلالة العقل عليه يثبت المطلوب ولا حاجة إلى دلالة اخرى.

وإلى ذلك ينظر ما عن نهاية العلاّمة من الجواب : بأنّ الإتيان بتمام ما اقتضاه الأمر يقتضي أن لا يبقى الأمر مقتضيا لشيء آخر ، وهو المراد بالإجزاء.

ومنها : ما حكاه السيّد أيضا من أنّه لو وجب الإجزاء لاكتفي باتمام الحجّ الفاسد

ص: 196

والصوم الّذي جامع فيه عن القضاء ، والاحتجاج بالحجّ الفاسد أيضا مذكور في كلام الحاجبي.

واجيب عنه - كما عن العلاّمة ، والمحقّق والرازي ، والآمدي - : بمنع كون إتمام الحجّ والصوم الفاسدين مجزيا عن الأمر بهما حيث لم يقعا على الوجه المطلوب شرعا ، ولا نزاع لنا في أنّ الفعل إذا أخلّ فيه ببعض شروطه أو صفاته المطلوبة شرعا لا يفيد إجزاء ، فثبوت القضاء إنّما هو لادراك ما فات من المأمور به ، والإتمام شيء آخر أمر به تعبّدا لا دخل له في المأمور به الأوّل.

ولا ريب أنّ الأمر به يقتضي الإجزاء فلذا لا يجب قضاؤه ثانيا ، وقد ينزّل إلى هذا المعنى ما في عبارة الحاجبي في مقام الجواب عن ذلك من قوله : « وإتمام الحجّ الفاسد واضح ».

وقد يوجّه أيضا - كما في بيان مختصره - : بأنّ المماثلة بين الأداء والقضاء واجب ، واتمام الحجّ الفاسد واضح أنّه لا يكون مماثلا لما أتى به في السنة الآتية.

ومنها : ما حكاه السيّد أيضا - كما في مختصر الحاجبي وبيانه - من أنّه لو دلّ على الإجزاء لكان المصلّي بظنّ الطهارة آثما أو ساقطا عنه القضاء عند تبيّن الحدث ، والتالي باطل لعدم الإثم مع عدم سقوط القضاء.

وأمّا الملازمة : فلأنّه إمّا مأمور بالصلاة بطهارة يقينيّة ، فيكون عاصيا حيث صلّى بغير يقين ، أو طهارة ظنيّة وقد امتثل فيخرج عن العهدة فلا يجب عليه القضاء.

وأجاب عنه الحاجبي بوجهين :

أحدهما : ما يرجع إلى منع بطلان التالي على تقدير كونه مأمورا بطهارة ظنيّة ، وبيّنه في البيان بمنع عدم سقوط القضاء فإنّه مختلف فيه ، والمختار عندنا السقوط.

وثانيهما : منع الملازمة ، ومحصّله : أنّ الّذي يجب على المكلّف الإتيان به ليس قضاء لما أتى به أوّلا بل هو واجب آخر مثل الواجب الأوّل المأتيّ به ، وقد وجب عليه بسبب آخر عند تبيّن الحدث لا بسبب الواجب الأوّل.

وعن نهاية العلاّمة ما يقرب من ذلك من أنّ القضاء هنا استدراك لما فات عنه من مصلحة ما أمر به أوّلا ، وأمّا المصلحة المستدركة بالصلاة مع ظنّ الطهارة فلا قضاء عنها.

ثمّ بقي في المقام مسائل ينبغي التنبيه عليها :

في إجزاء المأمور به الاضطراري عن المأمور به الواقعي

المسألة الاولى

إذا تعذّر المكلّف عن المأمور به الواقعي بعدم تمكّنه عن بعض شروطه أو عن بعض

ص: 197

أجزائه وأتى ببدله المعبّر عنه ب- « المأمور به الاضطراري » و « الواقعي الثانوي » كما لو تعذّر عن الطهارة المائيّة فأتى بالصلاة مع الطهارة الترابيّة أو تعذّر عن الساتر فأتى بها عاريا ، أو عن القيام فأتى بها قاعدا وما أشبه ذلك ، فهل يوجب ذلك سقوط القضاء بالنسبة إلى المأمور بها الواقعي ، حتّى أنّه لو تمكّن عنه بعد ذلك بزوال العذر ليس عليه الإتيان به ولو كان الوقت باقيا ، كما ليس عليه الإتيان ثانيا بما أتى به من البدل أو لا بل عليه الإتيان بالمأمور به الواقعي أيضا امتثالا للأمر به؟ فيه قولان :

فعن ابن الجنيد وابن أبي عقيل إيجاب الإعادة على المتيمّم إذا صلّى ثمّ وجد الماء في الوقت على القول بجوازه أوّل الوقت ، كما عن ابن الجنيد أيضا ايجابها على العاري إذا صلّى كذلك ثمّ وجد الساتر في الوقت لا في خارجه ، محتجّا بفوات شرط الصلاة وهو الستر فيجب الإعادة.

وأورد عليه - كما قرّره ثاني الشهيدين - : بوقوع الصلاة مجزية بامتثال الأمر فلا يستعقب القضاء ، والستر شرط مع القدرة لا بدونها.

وتحقيق القول في ذلك : أنّ أجزاء الواجب وشروطه كنفس الواجب في جميع الامور المعتبرة في التكليف ، فكما أنّ القدرة على أصل الواجب من شروط تعلّق الوجوب به بحكم العقل ، فكذلك القدرة على كلّ واحد من أجزائه وشرائطه أيضا شرط لتعلّقه ، فهو بالنسبة إلى من لم يتمكّن عن بعض أجزائه أو شروطه مشروط ، على معنى اختصاص وجوبه بالمتمكّنين عنه بجميع أجزائه وشروطه.

وأمّا غيرهم فإن كان عدم التمكّن فيه مستغرقا لجميع الوقت فلا تكليف له بذلك الفعل جزما بحكم العقل ، وأمّا تكليفه ببدله ممّا خلى عن ذلك الجزء والشرط أو اشتمل على ما يقوم مقامهما فهو موقوف على دلالة الشرع ولا مدخل للعقل فيه نفيا واثباتا بعد ما نفاه عن الأصل ، فحيثما تثبت يثبت وإلاّ فلا.

وإن لم يكن مستغرقا لجميع الوقت كما لو كان المكلّف المتعذّر أوّل الوقت مثلا بحيث يزول عذره ويلحقه التمكّن عن معذوره في غيره من أجزاء الوقت بحسب الواقع فهذا هو محلّ الكلام هنا ، فحينئذ لا بدّ وأن ينظر أوّلا : في حكم العقل لمعرفة أنّه هل يجوّز في تلك الصورة شمول الخطاب حال العذر لمن له العذر معلّقا على الوقت المصادف لزوال عذره ، أو منجّزا مع وقوع حصول الفعل معلّقا على مجيء ذلك الوقت مع علم المكلّف بالحال أو

ص: 198

جهله - كما أنّه يجوّز شموله قبل الوقت معلّقا تعلّقه أو حصول متعلّقه على دخول الوقت - أو لا يجوّزه ؛ كما أنّه لا يجوّز شموله لمن له العذر المستغرق.

وثانيا : في مقتضى دلالة الشرع الواردة في البدل بالقياس إلى جميع موارده ، من حيث إنّها في اقتضاء البدليّة هل هي مقيّدة بما دام العذر باقيا أو مطلقة حتّى بالقياس إلى ما بعد زوال العذر ، فهاهنا مقامات يظهر الثمرة في أوّلهما فيما لو قلنا في المقام الثانى بعدم الإطلاق في دلالة الشرع على البدليّة ، مع قولنا في المقام الأوّل بجواز شمول الخطاب حال العذر عقلا بأحد الوجهين الجاريين في التعليق ، فحينئذ يجب على المكلّف الاقدام على أداء المأمور به الواقعي بمجرّد زوال عذره لوجود المقتضي - وهو ظاهر الخطاب المتناول بعمومه المتمكّنين أوّل الوقت - وفقد المانع ، لكون زوال العذر ممّا يكشف عن عدم تحقّق ما يمنع عن شمول ذلك الظاهر له كشموله لغيره وهو العذر المستغرق لجميع الوقت ، والمفروض أنّه لا مانع في المقام سواه.

ومن البيّن لزوم وجود الشيء عند وجود مقتضيه وفقد مانعه ؛ كما أنّه يظهر الثمرة في ثانيهما فيما لو بنينا فيه على إطلاق تلك الدلالة ، فحينئذ ينزّل ذلك الإطلاق العذر المنقطع منزلة العذر المستغرق في قضائه بعدم تناول ظاهر خطاب الأصل لمن له ذلك العذر.

وقضيّة ذلك أن لا يجب عليه شيء بالقياس إلى المأمور به الواقعي ، وفراغ ذمّته من جميع الجهات لو أتى بالبدل على ما هو مأمور به بعنوان البدليّة.

فأمّا المقام الأوّل : فقد تقدّم منا في بحث المقدّمة وغيره الإشارة إلى ما يمكن الاكتفاء به في تحقيق هذا المقام من جواز اتّصاف الشيء ومقدّماته بالوجوب قبل دخول وقته عقلا ، فإنّه عند التحقيق من جزئيّات ذلك المقام ، لوضوح انتفاء التمكّن عن الفعل الموقّت قبل مجيء وقته ، فيكون الأمر به حينئذ أمرا بما يلحقه التمكّن عند دخول الوقت.

ومحصّل الدليل على ذلك هنا قضاء الوجدان المنطبق على طريقة أهل العقول والأذهان في جميع الملل والأديان بأنّ التمكّن الّذي يراه العقل شرطا في التكليف إنّما هو معتبر في نظره في الجملة ، على معنى حصوله حال الفعل ولو اتّفق تلك الحال في جزء من أجزاء الوقت المضروب له شرعا ، سواء سبقه العذر أو لحقه أو لا ، ولا نجد من العقل شائبة منع ، ولا في نظر الحكمة رائحة قبح في أمر الحكيم لمن يراه متمكّنا في بعض آنات وقوع المأمور به وإن كان هو حال صدور ذلك الأمر غير متمكّن عنه.

ص: 199

وإن شئت فاستوضحه بملاحظة بناء العقلاء فيما لو خاطب المولى عبيده المتعدّدين وقال : « إفعلوا غدا كذا وكذا » مع اختلاف أحوالهم بتمكّن بعضهم عنه في جميع آنات الغد ، وعدم تمكّن البعض الآخر إلاّ في بعضها ، وعدم تمكّن البعض الثالث في شيء منها ، فإنّهم لو تركوه حينئذ بأجمعهم لاستحقّ من عدا الأخير منهم للذمّ والعقاب على جهة سواء ، ولا يعدّ من عدا الفريق الأوّل معذورا في نظر المولى ولا العقلاء بسبب ما لحقه من العذر في أوّل الغد أو وسطه أو آخره ، كما أنّه لا عذر للفريق الأوّل أصلا بخلاف الأخير حيث إنّه معذور عند المولى وغيره ، فلذا يقبح تشريكه مع غيره في الذمّ والعقاب ، وليس ذلك إلاّ من جهة إذعانهم بكفاية التمكّن في الجملة بالمعنى المتقدّم ، ولا فرق في ذلك بين ما لو علم المكلّف حال الخطاب بزوال عذره فيما بعد ذلك وما لو جهل به.

غاية الأمر أنّ التكليف على الأوّل يقع منجزا والمكلّف به معلّقا على حصول شرط وقوعه ، بخلاف الثاني الّذي يبقى فيه أصل التكليف معلّقا بالمعنى الّذي قرّرناه في بحث الأمر مع العلم بانتفاء الشرط ، ولكن لا بالنسبة إلى التمكّن الّذي هو منتف حال الخطاب ، بل بالنسبة إلى علم المكلّف بتوجّه الخطاب إليه وصدور الطلب بالقياس إليه ، فإنّه ما دام العذر لا علم له بذلك وإن احتمل زواله.

نعم إذا زال وعلم به يتبيّن له توجّه الخطاب إليه فيتعلّق به الطلب لعلمه حينئذ بصدوره بالنسبة إليه أيضا ، ويستكمل به أركان التكليف بأجمعها ولو فرض كونه قبل ذلك معتقدا بخلاف ما علم به حينئذ ، فإنّ الأحكام منوطة بالامور الواقعيّة والاعتقاد بمجرّده لا يصلح مخصّصا لعموم الخطاب المفروض بعد فرض تناوله له بالوضع مع تبيّن فساده ، بل الّذي يخصّصه بحكم العقل انتفاء ما هو مناط الحكم في متن الواقع ، ومفروض المقام خلافه.

نعم لو زال عذره في الواقع وهو باق على اعتقاده فلا تكليف له ما دام ذلك الاعتقاد ، لانتفاء شرطه الّذي هو العلم حينئذ دون التمكّن الّذي كان منتفيا قبل ذلك.

والحال في تبيّن التكليف وتوجّه الخطاب إليه بانكشاف زوال العذر له كالحال في تبيّنه للظانّ بالتمكّن أوّل الوقت إذا انقضى منه ما يسعه أداء المكلّف به وهو على تمكّنه ، فلذا تراهم متّفقين على وجوب الاقدام عليه اعتمادا على ظنّه في نفسه ببقاء تمكّنه.

ومن هنا - مضافا إلى ما مرّ في بحث الواجب الموسّع - يندفع توهّم التخيير أوّل الوقت فيه بين فرديه الاختياري والاضطراري إذا كان المكلّف بحيث يلحقه في أجزاء ذلك الوقت

ص: 200

كلّ من جهات الاختيار والاضطرار ، كيف والفرد الاضطراري بدل اضطراري للاختياري فلا يعدل إليه إلاّ مع عدم التمكّن عن الاختياري ، لكون الأمر الوارد به على فرضه واردا على هذا الوجه قاضيا باعتبار الترتيب بينه وبين الأصل معلّقا على عدم التمكّن عنه ، ومفروض المقام خلافه ، لكفاية التمكّن عن الاختياري في الجملة ولو في بعض آنات وقته في صحّة التكليف به وإلزام المكلّف عليه عقلا ، وهو حاصل ولو في الجزء الأخير منه.

وقضيّة ذلك وجوب تأخير الفعل إلى آخر الوقت على اولي الأعذار كما عليه المرتضى وابن الجنيد وسلاّر على ما في المحكيّ عنهم ، ولعلّه إلى ذلك ينظر الأخبار الواردة في المتيمّم الآمرة بتأخير الصلاة إلى آخر الوقت ، بل عليه نقل الإجماع كما عن المرتضى.

هذا كلّه على حسب قواعد العقل ، فلو فرض حينئذ أنّ المأمور به الواقعي ما لا بدل له في الشريعة ليقوم مقامه عند تعذّره - كالصلاة لفاقدي الطهورين - تعيّن الإتيان به عند زوال العذر ولو اتّفق في الجزء الأخير من الوقت ، لوجود المقتضي وهو عموم الجمع في قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (1) ونحوه ، وارتفاع المانع الّذي لولاه لا نكشف عدم توجّه الخطاب رأسا.

ولو فرض ورود بدل له كالصلاة بالتيمّم عند تعذّر المائيّة ، والصلاة بثوب نجس عند تعذّر غيره وتعذّر تطهيره ، والصلاة عريانا عند تعذّر الساتر وما أشبه ذلك ، فلا بدّ حينئذ من ملاحظة دليل ذلك البدل فإن لم يثبت فيه إطلاق أو عموم قاض بتساوي العذر المنقطع مع العذر المستمرّ في الحكم بثبوت البدليّة كان دليل الأصل حينئذ سليما عن المعارض كالصورة الاولى فيتعيّن الأخذ به جزما.

وقضيّة ذلك عدم التخيير بينه وبين بدله ، وإن ثبت فيه إطلاق أو عموم على الوجه المذكور يقع التعارض بينه وبين دليل الأصل ، فلا بدّ من مراجعة قواعد الترجيح حينئذ فيحكم بصحّة توهّم التخيير على فرض تحكيم دليل البدل على دليل الأصل.

وأمّا المقام الثاني : فقد يتوهّم فيه الإطلاق في الأدلّة الواردة لاعطاء حكم البدليّة كقوله تعالى : ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا ) (2) وغيره ممّا ورد فيه وفي سائر الأبدال من الأخبار إطلاقا قاضيا بجواز الاكتفاء بالبدل عند طروّ العذر عن الأصل ، سواء وقع أوّل الوقت أو وسطه أو آخره ، وكأنّه من هنا نشأ ما عليه الشيخ والشهيدين وغيرهما من تجويز الإتيان بالصلاة أوّل الوقت لذوي الأعذار ، على خلاف ما عرفت عن السيّد وابن الجنيد وسلاّر من

ص: 201


1- المزمّل : 20.
2- النساء : 43.

إيجاب تأخيرها إلى آخر الوقت - كما هو أحد الوجوه المحتملة في تعليل ثاني الشهيدين بمخاطبتهم بالصلاة من أوّل الوقت بإطلاق الأمر فتكون مجزية للامتثال - وهو كما ترى في غاية الإشكال لتطرّق المنع إلى دعوى ذلك الاطلاق في تلك الأدلّة ، لوضوح أنّ مفادها عند العرف حسبما يشهد به السياق قضيّة وردت لتشريع حكم البدليّة في الجملة ، وبيان أنّ هذه الأبدال ما يجوز الاكتفاء بها عمّا هو مأمور به في الواقع من دون نظر فيها إلى تعميم الحكم بالقياس إلى من لحقه زوال العذر فيما بعد أوّل الوقت ، ليكون ذلك قاضيا بخروج المفروض عن عموم دليل الأصل ، وظاهر أنّ هذه القضيّة يكفي في صدقها ثبوتها على سبيل الجزم واليقين بالنسبة إلى من استمرّ عذره إلى آخر الوقت ، فيبقى الباقي تحت عموم دليل الأصل.

فبجميع ما قرّرناه تبيّن أنّ ما في كلام ثاني الشهيدين وغيره من التعليل المذكور عليل ، لوروده على خلاف التحقيق.

فإنّه لو أراد بما ذكره من إطلاق الأمر إطلاقه بالنسبة إلى المأمور به الواقعي فهو ممّا ينبغي القطع بفساده ، لأنّ الأخذ بإطلاق الأمر على هذا المعنى حمل لخطاب الشرع على اعتبار التكليف بغير المقدور ، لعدم القدرة على المأمور به الواقعي ما دام العذر ، وهو باطل بضرورة العقل.

ولو أراد إطلاقه بالنسبة إلى بدله الّذي أثبته الشرع ، ففيه : أنّه ظاهر في المأمور به الواقعي ولا يتناول غيره ، وتعيّن العدول عنه إلى بدله إنّما يعرف بدليل آخر لا بمجرّد ذلك الأمر ، فلذا أشرنا سابقا إلى أنّ المكلّف لو طرئه العذر الرافع للتكليف لا يقضي فيه العقل إلاّ بخروجه عن عموم الخطاب من غير أن يستقلّ باثبات بدل له.

ولو أراد إطلاق الأمر بالبدل فقد تبيّن منعه ، ولو سلّم فيقع التعارض بينه وبين دليل الأصل وبينهما عموم من وجه ، لتناول دليل الأصل كلاّ ممّن تمكّن عنه في تمام الوقت ومن تمكّن عنه في بعضه بداية أو أثناء أو نهاية ، وشمول دليل البدل كلاّ ممّن له العذر في تمام الوقت ومن له العذر في بعض أجزائه.

ولا ريب أنّ التصرّف في الثاني أولى ، لاستناد دلالة الأوّل على العموم إلى الوضع فيكون أقوى من دلالته على الاطلاق من جهة استناده إلى حكم العقل الناشئ عن السكوت في معرض البيان.

ص: 202

فالقول بوجوب التأخير إلى آخر الوقت على ذوي الأعذار متّجه جزما ، ولا يمكن دفعه ما لم يرد على خلافه نصّ بالخصوص.

ولا يذهب عليك أنّ المراد بالوجوب هنا ليس الوجوب التعبّدي ، بل الوجوب التوصّلي المقدّمي الّذي يحكم به العقل إلزاما للمكلّف على تحصيل اليقين بالامتثال في موضع اليقين بالاشتغال ، فيكون التأخير حينئذ مقدّمة علميّة فتجب حيث يجب العلم كما في المقام ، من غير فرق في ذلك [ بين علمه ](1) بزوال العذر مع التأخير وبين رجائه ، فإنّ اليقين بالبراءة في كلّ منهما موقوف على التأخير وإن كان بينهما يحصل الفرق من جهات اخر ، مثل أنّ الأوّل قاطع بعدم البراءة مع عدم التأخير والثاني شاكّ فيه ، والأوّل فاعل للمحرّم حينئذ بالنظر إلى التشريع دون الثاني ، بناء على تفسير « البدعة » بمعناها الأخصّ كما هو الظاهر.

نعم يمتاز عنهما في جميع تلك الأحكام من كان من أوّل الوقت قاطعا بعدم زوال العذر إلى آخره ، فهو حينئذ قاطع بعدم تكليف له إلاّ بما يناسب عذره من الأبدال ، فلو أتى به من دون تأخير لم يكن فاعلا للمحرّم ولا أنّه مخاطب من جانب العقل بالتأخير من باب المقدّمة ، لأنّه حين العذر لا يعتقد في حقّه التكليف بغير ما يناسب حاله ، وهو في اعتقاده ما لا مقدّمة له ، لأنّه يقطع بالبراءة في جميع أجزاء الوقت ومعه لا يعقل مخاطبته بالتأخير من باب المقدّمة العلميّة.

غاية الأمر أنّه إذا انقطع عذره في الأثناء انكشف له فساد اعتقاده من جميع الجهات المذكورة.

نعم لو استفدنا وجوب التأخير عن الروايات - على فرض ورودها في الباب - نظير الأخبار الواردة في تأخير المتيمّم فربّما يحتمل كونه تعبّديا ويتساوى فيه حينئذ من قطع بزوال العذر ومن قطع بعدمه ومن شكّ فيهما كما لا يخفى.

وإذا تمهّد هذا كلّه فاعلم أنّ إشكال المسألة وهي كون أداء المأمور به الاضطراري مفيدا للإجزاء مطلقا إنّما ينشأ عن الشبهة في أنّ المكلّف المعذور الّذي يلحقه في الوقت زوال العذر هل هو بحسب الواقع ونفس الأمر مكلّف بما يناسب عذره أو لا ، بل هو مكلّف في متن الواقع - ولو حال العذر - بالمأمور به الواقعي الّذي ينوط حصوله بلحوق زوال العذر؟

فعلى الأوّل لا إشكال في أنّ الإتيان بالبدل الاضطراري على وجهه ممّا يفيد امتثال

ص: 203


1- أثبتناه استظهارا ، والأصل هنا مطموس.

الأمر به ، فيستلزم الإجزاء وفراغ الذمّة عنه وعن المأمور به الواقعي جزما.

أمّا الأوّل فلعين ما تقدّم من الوجوه القاضية بالإجزاء.

وأمّا الثاني : فلعدم اشتغال الذمّة به ما دام العذر وحصوله بعد زواله مبنيّ على ورود أمر متجدّد ، والأصل عدمه مع أصالة البراءة.

وعلى الثاني لا إشكال في عدم الإجزاء ، بل هو حينئذ من جهة عدم كونه في متن الواقع مكلّفا بالبدل الاضطراري ممّا لا يفيد الامتثال فضلا عن الإجزاء ، فإنّ ما حصل منه حينئذ لم يكن بما امر به وما امر به لم يحصل بعد ، فيجب عليه الخروج عن عهدة هذا الأمر ولا يتأتّى إلاّ بأدائه على ما أمر به.

ولا يذهب عليك أنّ هذا في الحقيقة خارج عن موضوع مسألة الإجزاء ، فالقول بوجوب الإتيان بالمأمور به الواقعي حينئذ لا ينافي المختار ، ونحن حيث رجّحنا فيما تقدّم من المقامين ثاني الاحتمالين أخذا بموجب أدلّة المأمور به الواقعي ، إمّا لأنّه لا معارض لها في محلّ البحث ، أو لتحكيمها على معارضها على الفرض المتقدّم كان الراجح عندنا في أصل المسألة القول بعدم كفاية الإتيان بالبدل الاضطراري في سقوط المأمور به الواقعي عن الذمّة ، بل هي باقية بعد على اشتغالها به إلى أن يحصل أداؤه على وجهه.

هذا كلّه حسبما يقتضيه القواعد الاصوليّة ، مع إمكان ورود دليل من الخارج على خلافها في الدلالة على الكفاية والسقوط وفراغ الذمّة بالمرّة ، بكشفه عن كون التكليف الواقعي فيما حصل أداؤه من البدل الاضطراري ، فإنّه على تقدير وروده ممّا يجب الأخذ به ، وأمّا النظر في وروده والعدم فليس من وظيفة هذا الفنّ.

هل تجزئ الصلاة مع الطهارة الظاهريّة عن الصلاة مع الطهارة الواقعيّة؟

المسألة الثانية

إذا أتى المكلّف بالصلاة مع عدم تيقّن الطهارة تعويلا على استصحابها ثمّ تبيّن عدم مصادفته للواقع بانكشاف انتفاء الطهارة في نفس الأمر ، فالظاهر أنّه لا يجزيه في سقوطه القضاء بالنسبة إلى الصلاة مع الطهارة الواقعيّة ، وإن كان يجزيه بالقياس إلى المأمور به الظاهري.

وتوضيح ذلك : أنّ العلم لا يدخل في مداليل الألفاظ ، وخطاب الشرع لا يتعلّق إلاّ بالامور الواقعيّة ، والأصل في الشرط - حيثما ثبت اشتراط شيء بشيء أخذا بما ينساق من القضيّة في العرف والعادة - كونه شرطا واقعيّا من غير مدخليّة للعلم فيه بغير عنوان

ص: 204

الطريقيّة إلاّ فيما دلّ على خلافه دليل خاصّ ، كما في أحكام لباس المصلّي ومكانه من حيث الطهارة والنجاسة والاباحة وغيرها ، فالمكلّف بالصلاة مع الطهارة مخاطب بها مع الطهارة الواقعيّة على ما هو مفاد ظاهر الخطاب ، ولمّا كان الاشتغال اليقيني ممّا يستدعي اليقين بالبراءة وهو ما لا يحصل إلاّ مع إحراز الطهارة الواقعية بطريق اليقين فالعقل يلزمه من باب الهداية والارشاد على تحصيل اليقين بها ، فهذا اليقين ما يثبت اعتباره بحكم العقل طريقا إلى الواقع ومرآتا على إحراز المكلّف به الواقعي ، من غير أن يكون له مدخليّة في الموضوع ، ولكنّ الشرع لكمال رأفته على المكلّف أضاف إليه طريقا آخر وهو الاستصحاب الّذي يرجع مفاده إلى الأخذ بمقتضى الحالة السابقة في ترتيب الأحكام وعدم الاعتناء باحتمال خلافها ، ونزّله في ترتيب تلك الأحكام منزلة اليقين قائما مقامه في كونه طريقا إلى إحراز الواقع ، وحكم بأنّه أيضا ممّا يحرز به الواقع تعبّدا منّي ، كما أنّ اليقين ممّا يحرز به الواقع تعبّدا من العقل ، فإذا اعتمد المكلّف على كلّ منهما في موضع جريانه يحصل له العلم بالبراءة ، غير أنّه في أحدهما علم حقيقي وفي الآخر علم شرعيّ ، فوجوب الأخذ به في إحراز الطهارة وغيرها ممّا يقع العلم الحقيقي طريقا إليه حكم ظاهري ثبت التعبّد به من الشرع ، وظاهر أنّه لا ملازمة بينه وبين الحكم الواقعي المعبّر عنه ب- « القضيّة الشأنيّة » الثابتة في متن الواقع المتوجّهة إلى المكلّف حيثما جامع شرائط التكليف ، بل هو معه حكمان قد يتوافقان وقد يتخالفان ، وحيثما حصل الموافقة بينهما خرج المقام عن موضوع الكلام ، للجزم بتعلّق الحكم الواقعي به فعلا من جهة وجود مقتضيه وفقد مانعه كتعلّق الحكم الظاهري به ، والمفروض أنّه خرج عن عهدته بطريق شرعي تعبّده الشارع على العمل به في إحراز الواقع ، فقد عمل بمقتضى كلّ من الحكمين ومعه ليس عليه شيء في الوقت ولا في خارجه ، لعين ما تقدّم من أدلّة الإجزاء ، كما أنّه لو حصل المخالفة بينهما بعدم مصادفة الاستصحاب للواقع مع عدم تبيّن ذلك للمكلّف خرج عن موضوع الكلام ، وليس عليه شيء بالنظر إلى الواقع مطلقا لا من جهة أنّه قد أحرزه وخرج عن عهدته ليكون على خلاف الفرض ، بل لكون السالبة في حقّه حينئذ منتفية الموضوع ، فإنّه من جهة تعبّده شرعا على العمل بطريقه المجعول وعدم علمه بالمخالفة بمنزلة الغافل.

ومن البيّن قبح تكليف الغافل ، فليس عليه بالنظر إلى الواقع تكليف ليستدعى منه الخروج عن العهدة ، والّذي ثبت عليه من التكليف الظاهري الناشئ عن هذا التعبّد قد خرج

ص: 205

عن عهدته ، ومجرّد ثبوت القضيّة الشأنيّة في متن الواقع ما لم تنته إلى الفعل لا يكفي في ترتّب آثار التكليف عليه.

وأمّا لو حصلت المخالفة فيها وعلم بها أيضا بعد العمل على مقتضى تكليفه الظاهري مع بقاء الوقت فهو محلّ البحث في المقام.

فنقول حينئذ : لا مانع في حكم العقل من تعلّق الحكم الواقعي به في تلك الصورة ، وكونه مخاطبا بالصلاة مع الطهارة الواقعيّة ولو كان ذلك قبل تبيّن المخالفة ، لكونه على فرض ثبوته من باب الأمر بما علم الآمر بلحوق زوال العذر والمانع عن التكليف.

وقد تقدّم أنّه ممّا يجوّزه العقل ، والمفروض أنّ المقتضي أيضا وهو عموم الخطاب موجود ، فيكون في متن الواقع مكلّفا بغير ما أتى به وإن كان هو لا يعلم به ما دام عدم تبيّن المخالفة ، ولا يستلزم ذلك محذورا بعد لحوق تبيّن المخالفة الكاشف عن كون تكليفه بحسب الواقع في غير ما أتى به.

ومن المعلوم أنّ هذا التكليف أيضا ممّا يقتضي الخروج عن العهدة ولم يحصل ، ولا يجزيه الإتيان بما وافق تكليفه الظاهري ، ولا ينافيه دليل ذلك التكليف لما عرفت من قضيّة كونه معتبرا من باب الطريقيّة.

وقد تبيّن كذبه وعدم إيصاله للمكلّف إلى ما هو مطلوب منه في الواقع ، مع إمكان استفادة هذا الحكم عن نفس ذلك الدليل ، كما يفصح عنه ملاحظة الغاية في جملة من الأخبار الاستصحابيّة كما لا يخفى ، وخصوص قوله عليه السلام في خبر زرارة وغيره : « وإنّما تنقضه بيقين آخر » ونحو ذلك بعد قوله عليه السلام : « ولا ينقض اليقين أبدا بالشكّ ».

هذا كلّه على حسب القواعد الاصوليّة المفروضة مع الاغماض عمّا يرد عليها من الأدلّة الشرعيّة فيكون كلاما تامّ الجريان في جميع موارد مخالفة الحكم الظاهري للواقعي ولا اختصاص له بالمقام.

ومن جملة تلك الموارد ما لو عمل المجتهد على مقتضى ظنّه الاجتهادي فانكشف له بعد العمل مخالفة ظنّه للواقع ، وفي حكمه مقلّده العامل على مقتضى هذا الظنّ ، فمع بقاء الوقت يجب عليهما الإعادة ، ومع خروجه يبتنى على مسألة القضاء ، ولا ينافيه قيام الدليل الشرعي من اجماع ونحوه على الخلاف ، لأنّه حكم على تقديره ثبوته وارد على خلاف الأصل.

ومن هنا تبيّن عدم منافاة ما في خبر زرارة في الصحيح الّذي عدّوه من أدلّة حجيّة

ص: 206

الاستصحاب الوارد في دم الرعاف من الحكم بعدم الإعادة استنادا إلى الاستصحاب بقوله عليه السلام : « تغسله ولا تعيد الصلاة ، قلت : لم ذاك؟ قال : لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت ، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا » مع ما فيه أيضا من خروجه عن محلّ الكلام من كون طهارة الثوب من الشرائط العلميّة المخرجة على خلاف الأصل من وجه آخر كما عرفت.

اعتقاد المكلّف لا يؤثّر في حصول الإجزاء ما لم يطابق المعتقد الواقع

المسألة الثالثة

اعتقاد المكلّف فيما يأتي به على وفق معتقده لا يؤثّر في حصول الإجزاء ما لم يطابق المعتقد الواقع ، إذ الإجزاء فرع الإتيان بالمأمور به على وجهه والمعتقد بما هو معتقد في موضع المخالفة ليس بمأمور به في الواقع ، ولا يعقل من مجرّد الاعتقاد تأثير في كون ما ليس بمأمور به في الواقع مأمورا به واقعا ولا ظاهرا ، لا في حكم العقل ولا في حكم الشرع ، وعليه بناء العقلاء كافّة ويساعد عليه القوّة العاقلة ، مضافا إلى فقد دليل عليه من الشرع ، وما هو في اعتقاد المكلّف أمر خيالي وليس بأمر حقيقي واقعي ولا ظاهري ، فالتعبير عنه ب- « الأمر الظاهري العقلي » - كما في بعض العبائر - وارد على خلاف التحقيق أو مراد به المعنى المجازي بتقريب ما ذكرناه.

وتوهّم مخاطبة العقل للمكلّف بقوله : « إعمل بمعتقدك » غفلة عن أنّه الزام له على العمل بالمعتقد بعنوان أنّه واقع ، والمفروض في المقام كون المعتقد فاقدا للعنوان فيكون فاقدا للالزام الصادر من العقل أيضا.

ولا ينافيه لحوق المدح في بعض الأحيان بسبب العمل بالمعتقد وإن خالف الواقع ، لأنّه مدح على الفاعل من حيث كشف عمله عن كونه مع المولى في مقام الاطاعة والانقياد ، لا أنّه مدح على الفعل ليوجب فيه حسنا كاشفا عن الأمر به من العقل أو الشرع ، وتفصيل القول في ذلك موكول إلى محلّه ، فحينئذ لو عمل المكلّف على طبق معتقده ولم ينكشف له فساد اعتقاده أبدا ليس عليه شيء بالنظر إلى الواقع لا إعادة ولا قضاء لقبح خطاب الغافل ، ولو انكشف له فساد اعتقاده فإن كان في الوقت يجب عليه الإعادة ادراكا للواقع الّذي لا مانع من خطابه به حينئذ عملا بعموم المقتضي السليم عن مصادفة المانع ، وإن كان في خارجه يجب عليه القضاء فيما ثبت له القضاء بحسب الشريعة.

وربّما يتوهّم العدم بدعوى الامتثال المقتضي للإجزاء تمسّكا بامور :

ص: 207

الأوّل : إطلاق المعظم بأنّ امتثال الأمر يقتضي الإجزاء بمعنى الخروج عن عهدة التكليف وسقوط التعبّد به ثانيا.

والثاني : أنّه حين العمل كان مكلّفا بمعتقده ولم يكن مكلّفا بما في الواقع لأنّه تكليف بما لا يطاق ، فالمأمور به في الصورة المفروضة هو هذا العمل الّذي أتى به على وجهه ، فيلزم منه أن يترتّب عليه جميع ما يترتب على الإتيان بما هو متعلّق الأمر الشرعي بحسب الواقع.

والثالث : أنّه حين العمل وبعده كان متيقّنا ببراءة ذمّته عن الواقع ، واتيانه بالمأمور به وسقوط التكليف عنه ، فيجب استصحاب المذكورات بعد كشف الخطأ عملا بعموم قوله عليه السلام : « لا ينقض اليقين إلاّ بيقين مثله » ونحوه.

والرابع : أنّ في لزوم الإعادة حرجا عظيما في كثير من الصور.

والجواب عن الأوّل : إنّ اطلاق المعظم وارد في امتثال الأمر الحقيقي الواقعي أو الظاهري فلا يتناول الأمر الخيالي ، وقد عرفت عدم ثبوت الأمر بالنسبة إلى المعتقد بما هو معتقد بحسب الحقيقة ، فما حصل الإتيان به ليس بمأمور به وما أمر به في الواقع لم يحصل الإتيان به.

وعن الثاني : منع كونه مكلّفا حين العمل بمعتقده إن اريد به الحقيقي ، ومنع كون التكليف بالواقع تكليفا بما لا يطاق ، وإنّما يلزم ذلك لو اريد منه الإتيان به حال الاعتقاد وأمّا لو اريد منه حال الاعتقاد الإتيان به بعد انكشاف فساده فلا ، لكونه من باب الأمر بما علم الآمر بزوال علّة المنع حال حصول الفعل ، وهذا شيء لا يأبى عنه العقل كما عرفت ، ولا يندرج في عنوان التكليف بما لا يطاق ، فلا يلزم منه أن يترتّب عليه جميع ما يترتّب على الإتيان بما هو متعلّق الأمر الشرعي بحسب الواقع.

وعن الثالث : بأنّ انكشاف فساد الاعتقاد ممّا يقضي بعدم تحقّق المعتقد في الآن السابق ومعه لا يعقل الاستصحاب ، كيف وقد عرفت أنّ ما يثبت مع الاعتقاد الكاذب أمر خيالي ، فيكون كلّ من المذكورات في ترتّبه على ذلك الاعتقاد مبنيّا على مجرّد الخيال ولا واقعيّة له ليمكن استصحابه في الزمان اللاحق ، مع أنّ من أركان الاستصحاب كون الزمان اللاحق ظرفا للشكّ وانكشاف فساد الاعتقاد ممّا يوجب اليقين بالخلاف فيخرج عن مجرى الاستصحاب.

وعن الرابع : بأنّ وجوب الإعادة والقضاء إنّما يلتزم به في غير موضع المنع ، ولزوم

ص: 208

العسر والحرج في كثير من الصور - على فرض تسليمه - مانع شرعي قائم في المقام من باب الطواري فلا يكون منافيا لما قرّرناه ، على أنّ الكلام إنّما هو في مقتضى القواعد الكلّيّة والقاعدة كثيرا مّا يلحقه التخصيص كما هو الحال في أصل التكاليف الواقعيّة الخارجة عن محلّ البحث ، فلذا يخصّص ذلك الكلام بغير ما لو أخذ الاعتقاد فيه من باب الموضوعيّة ، فإنّ المأمور به حينئذ في موارد ثبوته إنّما هو المعتقد بما هو معتقد وقد خرج عن عهدة التكليف به فليس عليه شىء من الإعادة والقضاء بعد تبدّل الاعتقاد ، وهذا كما ترى ممّا لا ربط له بما لو أخذ الاعتقاد فيه من باب الطريقيّة وهذا هو محلّ الكلام دون غيره ، واللّه الهادي.

ص: 209

- تعليقة -

اعتقاد المكلّف لا يؤثّر في حصول الإجزاء ما لم يطابق المعتقد الواقع

اختلف الاصوليّون في أنّ الأمر بالموقّت هل يقتضي فعله خارج الوقت مع فواته في الوقت أو لا؟ على قولين :

أوّلهما : ما عزاه في المنية إلى بعض الفقهاء وجماعة من الحنابلة.

وثانيهما : ما عزاه إلى محقّقي الاصولييّن وعليه العلاّمة والحاجبي ، وعزاه في الزبدة إلى الشيخ والأكثر ، وأضاف إليه السيّد الخراساني في شرحها العضدي والبيضاوي وعليه البهائي أيضا.

وهذه المسألة وإن فرضوها في خصوص الموقّت وعبّروا عنها في أكثر الكتب الاصوليّة بكون القضاء تابعا للأداء ، على معنى ثبوته بالأمر الأوّل أو كونه بأمر جديد ، على معنى افتقار ثبوته إلى ورود أمر آخر به غير الأمر الأوّل ، غير أنّ ضابطه ودليله على النفي والاثبات يجري في جميع المقيّدات عند فوات قيودها زمانا أو مكانا أو غيرهما ، فإنّ سياق الاستدلال في الجميع واحد ، وكيف كان فتحقيق المسألة يقتضي رسم امور :

أحدها : انّ « القضاء » يطلق لغة على معان ليس شيء منها من محلّ البحث هنا ولا فائدة مهمّة في ذكرها أيضا ، كما أنّه ليس من محلّ الكلام ما عن الشهيد من اطلاقاته الاخر في لسان العلماء إلاّ بعضها ، كفعل ما فات في الوقت المحدود بعد ذلك الوقت - سواء وجب عليه في الوقت أو لم يجب أو وجب على غيره - والإتيان بالفعل ، واستدراك ما تعيّن وقته إمّا بالشروع فيه كالاعتكاف أو بوجوبه فورا كالحجّ إذا أفسد ، وما وقع مخالف لبعض الأوضاع المعتبرة فيه كما يقال - فيمن أدرك ركعتين مع الإمام - : يقضي ركعتين بعد التسليم ، وفي السجدة والتشهّد يقضي بعد التسليم ، وما كان بصورة القضاء المصطلح عليه ، ومنه قولهم في الجمعة : يقضي ظهرا.

ص: 210

وهو على المعنى المبحوث عنه هنا ما يقابله « الأداء » أو يقابلهما الإعادة في بعض الوجوه ، ومن الأعاظم من صرّح بكون الإعادة والقضاء من مستعملات الشارع بالقياس إلى ما يأتي من معنييهما مدّعيا عليه القطع ، بل المستفاد منه ثبوت الحقيقة الشرعيّة فهما خلافا لما حكاه عن بعضهم من دعوى كونهما من اصطلاحات القوم ، وهذا صحيح على فرض تحقّق ما قرّرناه في محلّه من مناط ثبوت الحقيقة الشرعيّة وهو موضع إشكال.

نعم لا ينبغي الاسترابة في ثبوت الحقيقة المتشرّعيّة فيهما ، بل وفي « الأداء » المقابل لهما ، غير أنّهم اختلفوا في تحديدها بما هو معتبر في مفاهيمها العرفيّة من القيود زيادة ونقيصة على ما يأتي.

ومن هنا جاء الخلاف بينهم في اعتبار النسبة فيها بين كلّ مع الآخر ، حيث إنّ الحاجبي جعل كلاّ مبائنا لصاحبيه ، ففرّق بين القضاء وأخويه بوقوعهما في الوقت ووقوعه خارج الوقت ، وفرّق بينهما بأوّلية وقوع الأداء وثانويّة وقوع الإعادة ، والسيّد في المنية جعل الأداء أعمّ من الإعادة بعدم اعتبار الأوليّة فيه مع مبائنتهما للقضاء بوقوعه خارج الوقت خاصّة وهو الّذي يقتضيه ظاهر العلاّمة أيضا.

وعن بعض الاصولييّن عدم اعتباره الفعل في الوقت في الإعادة ، فيكون النسبة بينها وبين كلّ واحد من الأداء والقضاء عموم من وجه ، لصدقها مع الأداء دون القضاء إذا فعلت العبادة في الوقت ومع القضاء دون الأداء إذا فعلت في خارجه ، وصدق كلّ واحد منهما بدونها إذا لم يكن مسبوقا باتيان شيء آخر.

ومن الاصوليّين (1) من جعل العبادات على أنواع ثلاث ، منها : ما لا يوصف بشيء من الأداء والإعادة والقضاء ، وهو ما لم يعيّن له في الشريعة وقت كالأذكار والنوافل المطلقة.

ومنها : ما يوصف بالأداء والإعادة دون القضاء ، وهو ما عيّن له وقت ولم يكن الوقت محدودا كالحجّ ، ولا ينافيه إطلاق القضاء على الحجّ المستدرك لحجّ فاسد ، لأنّه مجاز من حيث إنّه يشابه المقضي في الاستدراك.

ومنها : ما يوصف بالأداء والإعادة والقضاء ، وهو ما عيّن له وقت محدود كالفرائض اليوميّة.

فتقرّر بما ذكر أنّ مورد هذه الأوصاف بأجمعها ما يكون من العبادات موقّتا دون ما يكون موسّعا بمعناه الأعمّ المتناول للمضيّق باعتبار الرخصة دون الإجزاء وهو غير موقّت ،

ص: 211


1- شارح المختصر في بيانه ( منه ).

وهل يعتبر فيه كونه واجبا؟ - كما يوهمه ظاهر عبارة العلاّمة في التهذيب حيث أخذ الواجب موردا للقسمة إلى تلك الأوصاف ، أو لا يعتبر فيه الوجوب كما يستفاد عن الحاجبي في تعبيره عن المقسم بالموصول.

وصرّح به في البيان والمنية معلّلا بكون بعض المندوبات ممّا يلحقه تلك الصفات - وجهان ، أقواهما الثاني.

ويمكن كون ورود الواجب في كلام العلاّمة من باب المثال أو كونه من الفرد الغالب ، فصورة التقسيم - على ما في كلامه - أنّ الواجب إن اتي به في وقته سمّي الإتيان أداء ، وإن كان بعد وقته المضيّق أو الموسّع سمّي قضاء ، وإن فعل ثانيا في وقته لوقوع الأوّل على نوع من الخلل سمّى إعادة ، فيكون الإعادة على هذا التفسير أخصّ من الأداء.

وعلى ما في مختصر الحاجبي « الأداء » ما فعل في وقته المقدّر له شرعا أوّلا ، « والقضاء » ما فعل بعد وقت الأداء استدراكا لما سبق له وجوب مطلقا.

« والإعادة » ما فعل في وقت الأداء ثانيا لخلل ، فيكون الإعادة على هذا التفسير مبائنة للأداء ، والأوّل أظهر نظرا إلى صدق « الأداء » عند المتشرّعة على العبادة المعادة في وقته.

ثمّ الظاهر أنّ « القضاء » ممّا لا يتأتّى صدقه إلاّ مع صدق قضيّة الفوات في الوقت ، فيخرج به ما لو لم يكن المكلّف خارج الوقت مكلّفا في الوقت لجنون مستمرّ أو عدم بلوغ ، ولا ينوط صدق الفوات بسبق الوجوب في الوقت كما يقتضيه إطلاق العلاّمة ، فيشمل ما لو كان واجبا على المستدرك في الوقت وتركه عمدا أو سهوا ، وما لو لم يكن واجبا عليه تمكّن منه كالصوم في حقّ المسافر أو لم يتمكّن منه لمانع شرعي كصوم الحائض - ويمكن اندراج صوم المسافر في ذلك أيضا كما لا يخفى - أو عقلي كصلاة النائم ، وما كان واجبا على غير المستدرك كقضاء الولي ، خلافا لما في عبارة الحاجبي من اعتبار سبق الوجوب ، فيخرج صومي المسافر والحائض وصلاة النائم ، إلاّ أن يؤول العبارة بحمل سبق الوجوب على إرادة سبق سببه كما فسّرها به في البيان. فيدخل الجميع.

ويشهد به ما في ذيل العبارة من التعميم بقوله : « أخّره عمدا أو سهوا ، تمكّن من فعله كالمسافر أو لم يتمكّن لمانع من الوجوب شرعا كالحائض أو عقلا كالنائم ».

وعن بعض الاصوليّين أنّه فرّط في تفسير القضاء حيث قيّده بكونه استدراكا لما سبق وجوبه على المستدرك ، فيخرج به صوم المسافر وفعل الحائض والنائم وعمل المولى ، وهو

ص: 212

ضعيف جدّا وارد على خلاف العرف.

ثمّ أنّ لهم خلافا في الإعادة حيث إنّ العلاّمة كالحاجبي فسّرها بما فعل في وقت الأداء ثانيا لخلل في الأوّل أي لفوات ركن أو شرط احترازا عن صلاة من صلّى صلاة مستجمعة لشرائط الصحّة.

وعن بعضهم أنّها ما فعل وقت الأداء ثانيا لعذر وهو أعمّ من الخلل ، فصلاة من صلّى مع الإمام بعد أن صلّى صلاة صحيحة منفردا إعادة على الثاني دون الأوّل ، وهو الأظهر أخذا بقضيّة الصدق عند المتشرّعة.

وقد عرفت عن بعضهم خلافا آخر فيها من حيث عدم اعتبار الوقوع في الوقت بل العبرة بوقوعه ثانيا ولو في خارج الوقت ، وهو أيضا ضعيف لا يلتفت إليه.

وثانيها : قد تبيّن بما تقدّم أنّ القضاء الّذي يعبّر عنه باستدراك ما فات في الوقت أعمّ بحسب الاصطلاح من استدراك ما فات عن عمد أو عن عذر من مانع عقليّ أو شرعي ، ومن استدراك ما فات عن المستدرك أو عن غيره ، ولكن ينبغي أن يعلم أنّ تعبيرهم عن العنوان بكون القضاء بالفرض الأوّل أو بفرض جديد مع احتجاج الطرفين بكون مفاد الخطاب الأمر بشيئين لا يفوت أحدهما بفوات الآخر أو بشيء واحد ، وخصوص ما يأتي عن العضدي من البناء ، يعطي اختصاص البحث في المسألة بما لو فات عن المكلّف عن عمد - بعد وجوبه عليه - بتركه في الوقت بالمرّة أو اخلاله ببعض ما اعتبر فيه من ركن أو شرط.

وقضيّة ذلك رجوع الخلاف إلى الإيجاب الجزئي والسلب الكلّي ، فيكون وجوب القضاء ممّا يثبت بدليل خارج ممّا اتّفق عليه الفريقان في الجملة ، كما في صلاة النائم وصوم المسافر وفعل الحائض وعمل الولي ، كيف لا ولم يثبت في هذه الفروض أمر في الوقت بالنسبة إلى المستدرك حتّى ينازع في كونه مقتضيا للقضاء وعدمه ، وعلى هذا القياس في الخروج عن المتنازع فيه باتّفاق الفريقين صلاة الجمعة والعيدين.

وثالثها : عن العضدي أنّه بنى المسألة على أنّ قولنا : « صم يوم الخميس » المركّب في الذهن واللفظ من شيئين هل المأمور به فيه الشيئان فيبقى أحدهما بعد انتفاء الآخر أو الشيء الواحد ، مع قوله : بأنّ هذا الخلاف - أعني كون المطلق والمقيّد شيئين في الوجود الخارجي أو شيئا واحدا - مبنيّ على الخلاف في أنّ الجنس والفصل متمايزان في الوجود أم لا.

وتوضيح مرامه ما في عبارة التفتازاني من أنّه لا خفاء في أنّا إذا تعقّلنا صوما

ص: 213

مخصوصا وقلنا : « صم يوم الخميس » فقد تعقّلنا أمرين وتلفّظنا بلفظين. وأمّا أنّ المأمور به هو هذان الأمران أو شيء واحد يصدقان عليه ويعبّر عنه باللفظ المركّب عنهما مثل « صوم يوم الخميس » فمختلف فيه.

فمن ذهب إلى الأوّل جعل القضاء بالأمر الأوّل ، لأنّ المأمور به شيئان فإذا انتفى أحدهما بقي الآخر.

ومن ذهب إلى الثاني جعل القضاء بأمر جديد ، لأنّه ليس في الوجود إلاّ شيء واحد فإذا انتفى سقط المأمور به.

ثمّ اختلافهم في هذا الأصل وهو أنّ المطلق والمقيّد بحسب الوجود شيئان أو شيء واحد يصدق عليه العينان ناظر إلى الاختلاف في أصل آخر وهو أنّ تركّب الماهية من الجنس والفصل وتمايزهما هل هو بحسب الخارج أم بمجرّد العقل ، فإن قلنا بالأوّل كان المطلق والمقيّد شيئين لأنّهما بمنزلة الجنس والفصل ، وإن قلنا بالثاني - وهو الحقّ - كانا بحسب الوجود شيئا واحدا.

وعن بعض المحقّقين (1) ردّ ذلك بأنّ كونهما شيئين في الخارج لا يقتضي كون القضاء بالفرض الأوّل ولا ينافي كونه بفرض جديد ، لاحتمال أن يكون غرض الآمر إتيانهما مجتمعا فمع انتفاء أحدهما ينتفي الاجتماع ، وكذا لا يجدي كونهما شيئا واحدا في نفي كون القضاء بالفرض الأوّل واثبات كونه بفرض جديد ، لاحتمال كون المراد المطلق لا بشرط الخصوصيّة ، وذكر الخاصّ لكونه محصّلا للمطلق بلا نظر إلى خصوصيّة الشيء المذكور ، فلا ينتفي المطلق بانتفاء هذا القيد ، فالنافي لكون القضاء بالفرض الأوّل مستظهر لثبوت الاحتمال الغير المستلزم للقضاء وعلى المثبت نفي ذلك.

والتحقيق في ردّه أن يقال : بمنع ابتناء الأصل الأوّل على الأصل الثاني ، فإنّ الفصل وما هو بمنزلته من القيود ممّا لا يصلح لأن يتعلّق به الحكم الشرعي جزما ، وإن سلّمنا تمايزهما بحسب الوجود عن الجنس وفرضناه مع كلّ منهما في الخارج موجودين متمايزين ، كيف وأنّ الحكم لا يتعلّق إلاّ بما كان من مقولة الأفعال ، ومبنى القول بكون المأمور به شيئا واحدا على فرض تعلّقه بالماهيّة المقيّدة على نحو دخول التقييد وخروج القيد.

ومبنى القول الآخر على توهّم حصول ملاحظة الماهيّة في نظر الآمر باعتبارين :

ص: 214


1- سلطان العلماء في حاشية العضدي.

أحدهما : اعتبارها مطلقة معرّاة عن الزمان وغيره.

والآخر : اعتبارها مقيّدة بزمان أو مكان أو غيرهما.

وقضيّة ذلك عدم انتفاء الأوّل بانتفاء الثاني لفوات قيده ، فالتركّب الخارجي على القول الأوّل بمجرّده لا يوجب كون أحد الجزءين - وهو الزمان أو المكان - موردا للحكم من حيث عدم صلوحه له ، كما أنّ مجرّد التركيب العقلي لا يقضي بكون مورد الحكم شيئا واحدا من حيث كون المقام صالحا لأن يلحقه الاعتباران في لحاظ الآمر ، فلا ملازمة في شيء من التقديرين.

ورابعها : لا خفاء في أنّ القول بكون القضاء بالفرض الجديد لا يكون موقوفا على القول بحجّية مفهوم الزمان ونحوه ، لما تبيّن في محلّه من أنّ مرجع ثبوت المفاهيم بأسرها إلى قضاء الخطاب بانتفاء سنخ الحكم عن غير محلّ النطق حتّى ما يثبت منه بخطاب آخر ، فلذا يقع التعارض بينه وبين المفهوم وهذا هو الّذي ينكره نفاة المفاهيم.

وأمّا الحكم الشخصي الّذي سيق لافادته الخطاب فلا خلاف بين الفريقين في بحث الحجّية وعدمها في انتفائه عمّا عدا محلّ النطق ، لكون العبارة الصادرة قاصرة عن إفادة ثبوت ذلك الحكم فيه وغير وافية بمشاركته لمحلّ النطق في الحكم المقصود منها.

ولا ريب أنّ الحكم بتوقّف القضاء على أمر جديد ممّا يتمّ بمجرّد الحكم باختصاص ذلك الحكم بمحلّ القيد ، ولو فرض الخطاب بالنسبة إلى نوعه ساكتا عن الدلالة على النفي.

نعم ربّما يشكل ما تقدّم منّا في بحث المفاهيم غير مرّة من دعوى عدم الخلاف في انتفاء الحكم الشخصي المقصود من القضيّة عن غير محلّ النطق كما نبّهنا عليه هنا أيضا ، نظرا إلى القول بكون القضاء تابعا للأداء ، فإنّ مرجع هذا القول بقرينة المقابلة إلى إنكار انتفاء الحكم الشخصي ، فيكون كلّ من النوع والشخص ممّا اختلف في الدلالة على انتفائه عن غير محلّ النطق وعدمها ، غير أنّ الخلاف على الأوّل بين قول بالدلالة على النفي وقول بمنع الدلالة عليه ، وعلى الثاني بين قول بالدلالة على الثبوت وقول بانكار تلك الدلالة ، فهذا في الحقيقة خلاف في المنطوق راجع إلى تعيين مقدار ما يستفاد من الخطاب من الحكم المنطوقي فليتدبّر.

وبعد ما عرفت هذه الامور ، فاعلم : أنّ الحقّ في المسألة ما عليه المحقّقون والأكثر من توقّف القضاء على ورود أمر جديد به.

ص: 215

لنا على ذلك : تبادر وحدة التكليف في مثل « صم يوم الخميس » وظهور التقييد عرفا ولغة في مدخليّة القيد في الحكم ودخوله في موضوعه ، وقضيّة ذلك انتفاؤه بفواته ، ضرورة أنّه يدور وجودا وعدما على تحقّق موضوعه.

وبذلك يندفع ما توهّم في المقام من الاستصحاب ، واستدلّ به على القول بكون القضاء من مقتضى الفرض الأوّل ، فإنّ الاستصحاب مع ارتفاع موضوع المستصحب ممّا لا معنى له ، فيبقى أصل البراءة سليما عن المعارض من جهة الأمر الأوّل.

واحتمال كون ورود القيد من جهة أنّه محصّل للمطلق كاحتمال كون اعتبار المقيّد من جهة أنّه أفضل أفراد المطلق وأكملها ، ممّا لا يلتفت إليه بعد قيام ظهور المدخليّة.

وتوهّم تعلّق الأمر بشيئين لا يلزم من انتفاء أحدهما - وهو الماهيّة المقيّدة - انتفاء الآخر وهو الماهيّة المطلقة.

يدفعه : أنّه إن اريد به أنّ ذلك ممّا يقتضيه العبارة على حسب الدلالة العرفيّة ، فيردّه : أنّ الدلالة إمّا منطوقيّة أو مفهوميّة ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الاولى : فلما عرفت من قصور العبارة الواردة لإفادة المنطوق عن إفادة ما زاد على حكم الماهية المقيّدة.

وأمّا الثانية : فلعدم جريان ما عدا مفهوم الموافقة هنا جزما ، وهو أيضا غير جار لفقد المقام ما هو ضابطه الكلّي من أولويّة المسكوت عنه بالحكم الوارد على محلّ النطق ، وبدونها يكون التعدّي قياسا وهو باطل.

وإن اريد به أنّ ذلك ما يعتبره الآمر كذلك عند إرادة الإنشاء وإن قصرت العبارة عن إفادته.

فيرّده : أنّ ذلك خلاف ما يقضي به الوجدان في نظائر تلك العبارة وعليه بناء العرف من كون الهيئة ما يوردها المتكلّم على المادّة بعد ما اعتبر معها القيود والحيثيّات ، فإنّ ذلك هو المعلوم من بناء العرف عند إرادة التقييد والعبارة ظاهرة فيه. فيجب حملها عليه ، ولم يثبت من اللفظ بشيء من الدلالات ولا من العقل بشيء من الملازمات ما يقضي باعتبار الإطلاق معه أيضا فلا وجه للالتزام به.

ودعوى أنّ الزمان ظرف من ضروريّات المأمور به غير داخل فيه ، فلا يؤثّر اختلاله في سقوطه.

يدفعه : أنّه إن اريد بعدم دخوله فيه عدم كونه من ذاتيّاته أو عدم كونه معه ممّا تعلّق به

ص: 216

الأمر فهو مسلّم ، ولكنّه لا يقدح فيما ادّعيناه لعدم ابتنائه على شيء من الأمرين.

وإن اريد به عدم مدخليّته بالمرّة في وصفه العنواني ، فهو مع أنّه مصادرة ما ينبغي القطع ببطلانه من حيث إنّ التقييد بالزمان وغيره من ضروريّات المأمور به كثيرا ما يدخل في المأمور به وينوط به وصفه العنواني ، ويكون القيد ممّا يدور عليه حسن المأمور به ويتوقّف عليه المصلحة الواقعيّة المعتبرة في حسنه كما يشهد به الوجدان السليم والعقل المستقيم ، ومنكره مكابر خارج عن طريق العقل والانصاف فلا يعبأ به.

وممّا ذكر يتّضح ما لو قرّر الوجه المذكور : بأنّ الزمان المقدّر ظرف ، والظرف لا يكون مطلوبا لأنّه ليس بمقدور ، وما لا يكون مطلوبا فإخلاله لا يؤثّر في سقوط التكليف كما في بعض العبائر ، إذ لا يدّعي أحد تعلّق الطلب بما يكون من مقولة الزمان بل المقصود تعلّقه بما يكون مقيّدا به على نحو يكون القيد خارجا بمعنى تعلّق غرض الآمر بإيجاد الفعل في خصوص هذا الزمان بحيث لا غرض له أصلا فيما يخرج عنه ، ولا ريب أنّه أمر جائز عند العقل أو متعارف فيما بين العقلاء والخطاب دالّ عليه بظاهره إن لم نقل بكونه صريحا فيه ، فيجب المصير إليه حذرا عن مخالفة الحجّة.

وما في احتجاج الخصم - مضافا إلى ما ذكر - من مقايسة زمان المأمور به هنا على أجل الدين الّذي لا يلزم من انقضائه سقوط الدين ولا يؤثّر في سقوط وجوب الأداء ، واضح الدفع بكونه قياسا ومع الفارق ، فإنّ الأجل إنّما يعتبر في الدين ظرفا للرخصة فقط فلا ينافيه بقاء زمان الإجزاء بعد فوات زمن الرخصة كما ثبت في الشرعيّات نظيره في الحجّ ، وهو كما ترى خارج عن موضوع الكلام ، لعدم كون ما يقع في الزمن المتأخّر قضاءا ، مضافا إلى فرق آخر بين المقامين وهو القطع ببقاء العلّة الداعية إلى أصل الأمر في مسألة الدين وهو اشتغال الذمّة بحقّ الغير الّذي لا يسقط إلاّ بأدائه أو حصول المسقط من قبل الغير ، بخلاف المقام الّذي لم يكن هذه المقدّمة محرزة فيه ، فلا مناص فيه من الاقتصار على ما يساعد عليه ظاهر الخطاب ، وليس ذلك إلاّ ثبوت التكليف في الوقت خاصّة ، فلا بدّ في ثبوت القضاء في جميع موارده من أمر جديد.

وما يقال في دفعه - مضافا إلى ما مرّ - من أنّه لو كان بأمر جديد لكان أداءا كما في الأمر الأوّل لوقوع كلّ منهما في وقته والتالي باطل ، غفلة عمّا تقدّم من معنى القضاء فإنّه عبارة عمّا يقع خارج وقت الأمر الأوّل بعنوان كونه استدراكا لما فات فيه.

ص: 217

ولا ريب أنّ هذه قضيّة تصدق مع الفرض المذكور ومعه كيف يقال بكونه أداء.

والقول بأنّ الأمر الأوّل لو لم يكن موجبا للقضاء لكان إيجاب القضاء مخالفا للظاهر ، واضح المنع بما أشرنا إليه سابقا من كون العبارة الواردة في إفادة الأمر الأوّل ساكتة عن حكم خارج الوقت نفيا وإثباتا ، فثبوت ذلك الحكم بخطاب آخر لا ينافيه ، مع أنّه لو قلنا بالدلالة على النفي بناء على حجّية مفهوم الزمان وغيره اتّجه المنع إلى بطلان التالي ، ضرورة أنّ الظاهر ربّما يدفع بالنصّ والأظهر.

وقد يستدلّ على ما ذهب إليه الخصم مضافا إلى الوجوه المتقدّمة بوجوه اخر أوضح فسادا.

منها : كقوله عليه السلام : « إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم » و « الميسور لا يسقط بالمعسور » و « ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه » وأنّ الغالب وجوب القضاء فلابدّ له من مقتض والأصل عدم ما سوى الأمر الأوّل ، وأنّ الغالب في الأوامر ثبوت القضاء على تقدير فوات الفعل في وقته فيحمل عليه غيره.

والجواب عن الرواية الاولى - بعد سلامة سندها - : بأنّ الفعل المقيّد بما خرج من الوقت ليس ممّا يستطاع عليه في خارج الوقت.

نعم إنّما يستطاع على أصل الفعل لا بشرط الوقت وهو ليس بمأمور به على ما هو مفروض المقام.

وعن الثانية - مع القدح في سندها - : بأنّ المنساق منها كون كلّ من الميسور والمعسور مأمورا به على الاستقلال أو كونهما فردين من الكلّي المأمور به والمقام لا يندرج في شيء منهما.

لا يقال : أمر صوم يوم الخميس مع صوم يوم الجمعة فردان من الصوم المطلق فيندرج في الصورة الثانية وتشمله الرواية ، إذ لا يسقط صوم يوم الجمعة بتعسّر صوم يوم الخميس ، لأنّ ذلك إنّما يجدي إذا كان المأمور به الصوم المطلق وهذا هو محلّ البحث ، إذ المفروض تعلّق الأمر بالصوم المقيّد بالخميس وتعلّقه معه بالمطلق أوّل الكلام ، كما أنّ تعلّقه بالمقيّد بالجمعة مقطوع بعدمه.

فإن قلت : المطلق في ضمن المقيّد بعد فوات المقيّد ميسور ، والمفروض أنّه جزء من المقيّد والّذي خرج معسورا إنّما هو جزؤه الآخر وهو القيد فيشمله الرواية.

ص: 218

قلنا : القيد ليس ممّا يؤمر به ليندرج في المعسور الّذي هو في الرواية عبارة عمّا عسر من المأمور به ، بل المأمور به هو المقيّد بوصف أنّه مقيّد وقد صار معسورا بفوات قيده ، والمطلق بوصف أنّه مطلق وإن كان ميسورا غير أنّه ليس جزءا من المأمور به ، ومعنى كون المطلق جزءا من المقيّد اشتمال المقيّد على حصّة منه ، فالميسور ليس من المأمور به في شيء والمأمور به معسور ، فالمقام ليس من مورد هذه الرواية.

وعن الثالثة : بمنع تناولها لما عدا المركّب الخارجي الّذي يمتاز أجزاؤه بعضها عن بعض في نظر العرف ولو في لحاظ الفرض والاعتبار ، كالأجزاء الكسريّة الّتي تعرض في الجسم ، ولا ريب أنّ لفظ « الكلّ » المتكرّرة في الرواية من المفاهيم العرفيّة الّتي لا تصدق إلاّ على ما له تركّب خارجي وإطلاق « الكلّ » و « الجزء » على المقيّد والمطلق اصطلاح محدث فلا عبرة به ، نظرا إلى أنّ الخطابات الشرعيّة تنزّل على المفاهيم العرفيّة دون الامور الاصطلاحيّة والمقيّد ممّا لا يصدق عليه « الكلّ » عند العرف.

ألا ترى أنّه لا يصحّ أن يقال : « شربت الماء البارد كلّه » عند إرادة المقيّد مركّبا من المطلق وتقيّده بالبرودة ، ولا أن يقال : « صمت يوم الخميس كلّه » في موضع إفادة حصول ذلك المقيّد ، بل ولو قيل ذلك لا تصرف إلاّ إلى شرب تمام الماء وصوم تمام اليوم ، ولا يفهم منه العموم بالقياس إلى جزئهما العقليّين فيكون مورد الرواية حينئذ غير محلّ البحث على ما ستعرفه.

وعن الغلبة الاولى : بأنّ الأمر الأوّل إذا كان بحسب العبارة قاصرا عن تناول ما بعد الوقت فكيف يقال بأنّ الأصل عدم ما عداه ، فإنّ القطع بوجوب القضاء في الغالب مع ملاحظة قصور عبارة الأمر الأوّل قاطع لذلك الأصل ، وموجب لكون وجوب القضاء ثابتا بما عداه وإلاّ لزم خلاف الفرض ، مع أنّه لا اشكال لأحد في ثبوت الأمر المتجدّد بالقضاء ولو بنحو العموم في مثله قوله عليه السلام : « اقض ما فاتتك كما فاتتك » فلو فرض مع ذلك وجوب القضاء مستفادا من الأمر الأوّل لزم حمل ذلك الأمر المتجدّد على التأكيد وهو خلاف الأصل ، لأنّ التأسيس أولى من التأكيد.

وعن الغلبة الثانية : بكونها أجنبيّة عن محلّ البحث ، فإنّها إنّما تجدي إذا ثبت وجوب القضاء في مورد الغالب بنفس الأمر الأوّل وهو أوّل الكلام ، إذ لم يثبت إلى الآن من وجوب القضاء ما يستندها إلى الأمر الأوّل ، مع أنّ تحقّق مورد الشكّ المحتاج إلى إلحاقه بمورد الغالب ممّا يشهد بعدم قضاء الأمر الأوّل بوجوب القضاء ، وإلاّ كان مغنيا عن النظر في وسط آخر.

ص: 219

وقد يستدلّ على المذهب المختار بوجوه اخر :

منها : ما أشار إليه العلاّمة وغيره من أنّ الأمر تارة يستتبع القضاء ، واخرى لا يستتبعه كصلاة الجمعة والعيدين فيكون الأمر المطلق بالموقّت أعمّ من المستتبع للقضاء ومن غيره ، فلا يصلح دليلا على أحدهما عينا لعدم دلالة العامّ على الخاصّ.

وفيه : أنّ ذلك إنّما يتّجه إذا لم يكن عدم استتباع ما لا يستتبعه ناشئا عن دليل خارجي ، وإلاّ انحصر الأمر المطلق بما هو هو في المستتبع.

ومنها : ما أشار إليه ابن الحاجب وحاصله ما قرّره شارح المختصر في بيانه من أنّه لو كان الأمر الأوّل مقتضيا لوجوب الفعل بعد وقته المقدّر لكان وقوعه بعد الوقت أداء ، لكون وقوعه كذلك كوقوعه في الوقت من حيث إنّ كلاّ منهما مقتضى الأمر ، والمفروض أنّ وقوعه في الوقت أداء فكذلك وقوعه فيما بعد الوقت والتالي باطل بالاتّفاق.

وفيه : ما تبيّن سابقا من أنّ القضاء ما يقع خارج الوقت بعنوان كونه استدراكا لما فات في الوقت ، وهذا العنوان ممّا يتأتّى ولو استفيد الوجوب من الأمر الأوّل ، فإنّ خصوصيّة المدرك ممّا لا تأثير له في اختلاف العنوان.

ومنها : ما أشار إليه أيضا ومحصّل تقريره ما في البيان من أنّه لو كان وجوب القضاء بالأمر الأوّل لكان وقوع الفعل في الزمان الأوّل متساويا لوقوعه في الزمان الثاني ، لأنّ المقتضي واحد ، والتالي باطل لأنّ المكلّف يأثم بالتأخير قصدا.

وفيه : أنّ ذلك إنّما يرد إذا قال الخصم بكون مفاد الأمر الأوّل في إيجاب الأداء والقضاء التخيير بينهما حسبما هو ثابت في خصال كفّارة الإفطار ، وهو ليس بلازم من مذهبه ، لجواز أن يقول باعتبار الترتيب بينهم حسبما هو ثابت في خصال كفّارة الظهار فلا يجوز العدول عن الأداء إلى غيره اختيارا ، وعلى فرضه مع الاختيار يلزم الاثم فلا يكون وقوعه في الزمان الأوّل متساويا لوقوعه في الزمان الثاني.

فالمناقشة فيه بأنّ اعتبار الترتيب ممّا لا يستفاد من الأمر الأوّل على فرض إفادته لوجوب القضاء مع الأداء.

يدفعها : جواز أن يقول الخصم بأنّ اعتبار التوقيت على ما هو مفروض المقام كاف في ثبوت اعتبار الترتيب ، فإنّه ممّا لا بدّ له من فائدة لئلاّ يخرج لغوا ، فإذا فرضنا أنّ فائدته ليست إفادة انتفاء الحكم عمّا بعد الوقت فلا جرم ينحصر الفائدة في الدلالة على اعتبار الترتيب.

ص: 220

تذنيب

في حكم ما إذا ورد الأمر بمركّب وتعذّر بعض أجزائه

إذا ورد الأمر بمركّب وتعذّر بعض أجزائه بمصادفة مانع ونحوه فالّذي يساعد عليه النظر ويرشد إليه القوّة العاقلة عدم وجوب الأجزاء الباقية بمجرّد ذلك الأمر ، بل عدم دلالته عليه [ على ] ما صرّح به بعض الأعاظم مستظهرا اتّفاقهم عليه أيضا.

والوجه في ذلك : أنّ التكاليف بأسرها مشروطة في حكم العقل بالقدرة على الأفعال ومقدّماتها الداخليّة والخارجيّة ، من غير فرق بين كونها شرعيّة أو عرفيّة ، صرّح المولى بالاشتراط حين الإنشاء أو لم يصرّح بل لم يلتفت إليه أيضا ، فإنّ الأمر إذا صدر ممّن لا يعلم بالعواقب يقع مشروطا بحسب الواقع وإن كان بحسب العبارة مطلقا ، فيكون الطلب معلّقا - بالمعنى الّذي استظهرناه في بحث أمر الآمر مع العلم بانتفاء شرطه - في حقّ غير العالم من وقوعه مستكملا لجهاته الثلاث معلّقا استقراره على اجتماع الشروط الّتي منها القدرة ، فإن تبيّن مصادفته للقدرة على نفس المأمور به وكلّ من أجزائه وشروطه انكشف استقراره ، وإلاّ انكشف زواله ، فمع طروّ العذر عن بعض الأجزاء سابقا أو لاحقا لا أمر بالكلّ جزما ، ضرورة استحالة التكليف بغير المقدور ، ولا بالأجزاء الباقية من جهة هذا الأمر لا أصالة ولا مقدّمة.

أمّا الأوّل : فلظهور الأمر من حيث وروده بالكلّ في كون المصلحة الداعية إلى حسنه ورجحانه قائمة بالهيئة الاجتماعيّة والأجزاء الباقية ليس منها جزما.

وأمّا الثاني : فلأنّ الأمر المقدّمي يتبع الأمر بذي المقدّمة وجودا وعدما ومع ارتفاع المتبوع لا يعقل بقاء للتابع.

وأمّا العالم بالعواقب فهذا الأمر منه يصير من باب الأمر بما علم انتفاء شرطه ، نظرا إلى أنّ انتفاء القدرة على الجزء يستلزم انتفاء القدرة على الكلّ ، وقد تقرّر أنّ ذلك غير جائز سيّما مع علم المأمور أيضا بالحال ، فالخطابات العامّة لا تتناول هذا المكلّف واقعا. وإن كان ظاهرها في غير العالم التناول ، ومعه لا يعقل وجوب بتلك الخطابات بالنسبة إلى الأجزاء الباقية لا أصليّا ولا مقدّميا لعين ما تقدّم.

هذا إذا لم يكن العذر مسبوقا بحالة التمكّن وقت التكليف مع مضيّ مقدار من الوقت يسعه الفعل.

وأمّا مع مسبوقيّته فطروّ العذر يوجب ارتفاع التكليف عن الكلّ أيضا ، لأنّ القدرة كما

ص: 221

أنّها شرط في حدوث التكليف فكذلك في بقائه ، وأمّا الكلام في تحقّق العصيان وعدمه فيبتني على ما سبق في بحث الواجب الموسّع وحال الأجزاء الباقية كما تقدّم (1).

وما يقال : من أنّ الّذي يظهر من خطاب الموالي لعبيدهم وجميع الآمرين لمأموريهم والشارع للمكلّفين سواء خاطبوا مجملا أو مفصّلا أنّ هناك خطابين أحدهما متوجه إلى الطبيعة المشتركة بين الأجزاء والآحاد ، وثانيهما إرادة ذلك العدد المخصوص من بين الأعداد فالإتيان بالبعض من حيث البعضيّة وخصوص الجزئيّة لا مانع من أن يتعلّق به النيّة ويثاب على الخصوصيّة فإن اريد به أنّ الخطابين يقصدان من لفظ واحد ، فمع أنّه خلاف ظاهر الخطاب ومخالف لما صرّحوا به في مسألة الصحيحة والأعمّ من اتفاق الفريقين على كون الماهيّة المخترعة في حيّز الطلب متّصفة بالصحّة ومشتمل على اعتبار زائد يغني عنه من اعتبار خطاب آخر بالعدد المخصوص لكونه فردا من الطبيعة المشتركة فيغني الخطاب لها عن خطاب آخر به يستلزم ثبوت التخيير بين هذا العدد وبين غيره من أفراد الطبيعة المشتركة إن اعتبر الخطابان في مرتبة واحدة ، أو كون الأمر مستعملا في معنيين الوجوب المطلق والوجوب المشروط إن فرضا في مرتبتين لكون الأمر بالنسبة إلى ما عدا العدد المخصوص مشروطا بعدم التمكّن عن هذا العدد واللازم بكلا قسميه باطل ، مع ما عرفت من بطلان التعليق من الشارع في بعض صوره الّذي يندرج فيه المقام.

وإن اريد منهما يقصدان من لفظين أحدهما : ما ورد في خصوص العدد المخصوص وهو الكلّ بما هو كلّ ، وثانيهما : ما ورد في غيره ممّا يشمل ما عدا العدد المخصوص من مراتب النقصان ، فهو مع أنّه خارج عن مفروض الكلام من جهة كون التكليف بما عدا الكلّ حينئذ مستفادا عن خطاب آخر غير ما ورد فيه من الأمر المتعلّق به إنّما يستقيم إذا فرض الخطاب فيما بين هذا العدد وبين غيره ممّا نقص عنه لا بينه وبين الماهيّة المشتركة بينه وبين غيره لئلاّ يلزم تعلّق الأمر بالقدر المشترك بين المقدور وغيره. وهو محال كتعلّقه بغير المقدور فقط ، وظاهر العبارة المعنى الثاني كما لا يخفى.

ص: 222


1- وقد وقفنا بعد مدّة طويلة من زمن الفراغ عن تحقيق المسألة على موافقة الفاضل النراقي في عوائده حاكيا عن صاحب المدارك والمحقّق الخوانساري ، استنادا إلى ما يرجع إلى ما قرّرناه من الدليل وهو أنّ وجوب الإتيان بالأجزاء الممكنة أو استحبابه خلاف الأصل ، والأمر بالكلّ لا يستلزم الأمر بالأجزاء إلاّ تبعا واذا انتفى المتبوع انتفى التابع ( منه ).

والحاصل أنّ الأجزاء الباقية بعد تعذّر بعض أجزاء المأمور به لا تندرج في الأمر بالكلّ لتكون واجبة بعد تعذّر الكلّ بنفس ذلك الأمر ، بل وجوبها إن كان ولا بدّ منه إنّما يستفاد من أمر آخر ، كما أنّ وجوب القضاء لا بدّ وأن يستفاد من أمر آخر غير الأمر الأوّل من غير فرق في ذلك بين العرفيّات والشرعيّات ، وإنّما الشأن في بيان أنّه هل تجب الأجزاء الباقية بدليل آخر أو لا ، فالظاهر أنّ فيه خلافا أشار إليه بعض الأعاظم بقوله : « فاختلفوا في بقاء التكليف وعدمه على أقوال ثالثها الفرق بين المركّب العقلي والخارجي ، إلاّ أنّ الظاهر اتّفاقهم على عدم دلالة الأمر عليه ، وإنّما الاختلاف نشأ من جهة الخارج ».

ولا يخفى عليك أنّ فائدة هذا البحث إنّما تظهر فيما لم يثبت له أو لجزئه المتعذّر بدل في الشريعة بالخصوص ، كما في الأجزاء الاضطراريّة القائمة مقام الفرد الاختياري من المأمور به عند تعذّره ، وليس الإشكال بالنسبة إلى محلّ الفائدة في إمكان الوجوب بالدليل المتجدّد ، فإنّه ممّا لا يستريب فيه ذو مسكة ، بل الإشكال في فعليّة الوجوب الثابت بورود الدليل الخارج على أدلّة وجوب الكلّ من باب الحكومة ، فإنّ من الأعاظم من اختار الوجوب في المركّبات الخارجيّة خاصّة مستدلاّ بالروايات واصفا لها بالاعتبار كقوله عليه السلام : « وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم » و « الميسور لا يسقط بالمعسور » و « ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه » وحكى الاستدلال عليه أيضا بالاستصحاب والاستقراء ، ولا يخفى ما فيهما ، فإنّ الاستصحاب مع عدم بقاء موضوعه كما هو مفروض المقام ممّا لا معنى له ، والعلّيّة غير ثابتة وعلى فرضها غير ثابت الاعتبار.

والعمدة النظر في الروايات ، فإنّ لهم فيها سندا ودلالة كلاما فلذا حكي في دليل القول بعدم البقاء مطلقا تضعيفها في كلا الاعتبارين ، غير أنّ بعض الأعاظم دفعه باستظهار انجبارها بعمل الفحول حاكيا عن بعضهم أنّ الفقهاء يذكرونها في كتبهم الاستدلاليّة على وجه القبول وعدم الطعن في السند أصلا ونقلت في العوالي عنهم عليهم السلام ومشهورة في ألسن جميع المسلمين يذكرونها ويتمسّكون بها في محاوراتهم ومعاملاتهم من غير نكير ، والخطب في ذلك أيضا سهل والمهمّ تحقيق الدلالة فيها ، فإنّها في بعضها ممّا لا يخلو عن إشكال وإن أخذها بعض الأعاظم أخذ المسلّمات ، ووجه الإشكال أنّ الرواية الاولى محتملة لوجوه كثيرة يختلف مفادها في متفاهم العرف بحسب اختلاف تلك الوجوه ، فإنّ لفظة « من » في قوله عليه السلام : « منه » محتملة لكونها بمعنى « الباء » على حدّ قوله تعالى :

ص: 223

( يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ ) (1) غير أنّها في المقام تكون للتعدية كما لا يخفى ، ولكونها للبدليّة على حدّ قوله تعالى : ( أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ ) (2) ولكونها مفسّرة على حدّ قوله تعالى : ( فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ ) (3) غير أنّها ... (4).

ص: 224


1- الشورى : 45.
2- التوبة : 38.
3- الحجّ : 30.
4- هذا آخر ما ظفرنا عليها من الأوراق المرتبطة بهذا المبحث ومع المؤسف ضاعت بقيّة الأوراق المتعلّقة بالمقام طيلة الأيّام ونحن مع كثرة فحصنا عنها لم نعثر عليها ولعلّ اللّه يحدث بعد ذلك أمرا.

- تعليقة -

في المنطوق والمفهوم

ما هو المقصود بالأصالة من عقد هذا الباب؟

والمقصود بالأصالة من عقد هذا الباب إنّما هو التكلّم في حجّيّة المفاهيم بجميع أنواعها ، وذكر المنطوق معه هنا إمّا لمجرّد مناسبة المقابلة فيما بينهما بحسب مصطلح الاصولي حيث اصطلحوهما في مدلولين متقابلين ، أو لما يلحقه في تضاعيف الباب من الأحكام المختصّة به ، أو المشتركة بينه وبين المفهوم أو لكونه واسطة لإدراك جملة من الأحكام اللاحقة بالمفهوم.

وكيف كان فمشارب الاصوليّين في موضع عنوان هذا الباب مختلفة.

فمنهم : من أفرده بباب مستقلّ برأسه وهم الأكثرون.

ومنهم : من أورده في باب الأوامر كالمصنّف وقبله العلاّمة ثمّ البهائي في التهذيب والزبدة.

ومنهم : من أدرجه في باب الأدلّة العقليّة كما في وافية التوني جاعلا له من الاستلزامات العقليّة الّتي ذكر منها في هذا الباب أربعة أنواع : مقدّمة الواجب ، والنهي عن الضدّ ، والمنطوق الغير الصريح ، والمفهوم.

والأوفق بمباحث الفنّ الأقرب إلى الصواب ما صنعه الأكثرون ، إذ لا مدخليّة لخصوصيّة الأمر في بحث المفاهيم ، بل موضوع البحث عند التحقيق هو الخطاب المتضمّن لتقييد الحكم بشرط أو صفة أو غاية أو غيرها ، والحكم المأخوذ هنا لا ينحصر في الأمر فإنّه قد يكون وضعيّا وقد يكون تكليفيّا ، والتكليفي قد يكون اقتضائيّا وقد يكون تخييريّا ، والاقتضائي قد يكون أمرا وقد يكون نهيا ، والأمر قد يكون إيجابيّا وقد يكون ندبيّا ، والنهي قد يكون تحريميّا وقد يكون كراهيّا ، والمبحث أعمّ من الجميع.

وعلى هذا نبّه المصنّف بقوله : « تعليق الأمر بل مطلق الحكم على شرط » إلى آخر ما ذكره.

وأمّا ادراجه في الأدلّة العقليّة فلعلّه مبنيّ على القول بثبوت المفهوم بدلالة عقليّة من

ص: 225

جهة الحكمة ، كما سيأتي عند تحرير أقوال المسألة في حجّيّة مفهوم الشرط ، وعليه مبنى الاحتجاج بأنّه لو لم يفد التعليق انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط أو الوصف لكان التعليق لغوا ، وإلاّ فعلى الطريقة الحقّة - من كون الدلالة على الانتفاء عند الانتفاء لفظيّة منوطة بالوضع أو التبادر والانفهام العرفي - فلا وجه لذكرها في باب الأدلّة العقليّة ولا لعدّها من الاستلزامات العقليّة.

وبالتأمّل فيما ذكرنا ينقدح كون المسألة في مباحث الحجيّة اصوليّة باحثة عن حال الخطاب المتضمّن للتعليق من حيث إنّه يدلّ أو لا يدلّ على الانتفاء عند الانتفاء ، ولا ينافيه التعبير بالحجّيّة في تضاعيف عباراتهم كقولهم : « مفهوم الشرط مثلا حجّة ، ومفهوم الوصف ليس بحجّة » لأنّه من باب التعبير باللازم ، حيث إنّ الدلالة المعتبرة حيث ثبتت يلزمها الحجّيّة ، فالبحث إنّما هو في إثبات الملزوم وهو « الدلالة » لا في إثبات اللازم وهو « الحجّيّة بعد الفراغ عن إحراز الملزوم » كما ربّما يوهمه العبارة في بادئ الرأي ، فإنّ الحجّيّة بعد ثبوت الدلالة ممّا لا مجال لأحد إلى إنكاره.

وكيف كان فينبغي قبل الخوض في مباحث الحجّيّة ، أن يورد امور تلاحظ في الباب من باب المبادئ المشتركة بين المنطوق والمفهوم فنذكر هذه الامور في مقامات :

المنطوق والمفهوم من مصطلحات الاُصوليّين

المقام الأوّل

في أنّ المنطوق والمفهوم من مصطلحات الاصوليّين ، وهما ليسا كالحقيقة والمجاز والمشترك والمنقول من صفات اللفظ ، ولا كالكلّيّة والجزئيّة والتواطؤ والتشكيك من صفات المعنى لذاته ، ولا كالمطابقة والتضمّن والالتزام من صفات الدلالة ، بل وصفان للمعنى من حيث مدلوليّته للّفظ ويقال له : المدلول ، فيكونان وصفين للمدلول لتنصيص بعض الاصوليّين كالتفتازاني بذلك ، ناسبا له إلى صريح عباراتهم حيث قال - في شرح قول العضدي : « وما ها هنا مصدريّة » - هذا وإن كان مصحّحا لكون المفهوم والمنطوق من أقسام الدلالة ، لكنّه يحوج إلى تكلّف عظيم في تصحيح عبارات القوم ، لكونها صريحة في كونهما من أقسام المدلول كما قال الآمدي : « المنطوق ما فهم من اللفظ نطقا أي في محلّ النطق ، والمفهوم ما فهم من اللفظ في غير محلّ النطق » انتهى.

وتبادر المدلول حيث يردان في الاستعمال مطلقا وهو المعهود من اطلاقاتهما في تضاعيف الكتب الفقهيّة والاصوليّة كما يقال في آية النبأ (1) مثلا أنّ منطوقها وجوب التثبّت

ص: 226


1- الحجرات : 6.

عند مجيء الفاسق ومفهومها عدم وجوبه عند مجيء العادل أو عدم مجيء الفاسق.

ولحوق « ياء » النسبة بهما حيثما يرجعان إلى الدلالة توصيفا أو حملا وهو آية المبائنة كما في « الرجل البغدادي ».

وليس في كلامهم ما يخالف ما ذكرنا إلاّ ما يوهمه عبارة الحاجبي حيث قسّم الدلالة إلى المنطوق والمفهوم قائلا : « الدلالة منطوق وهو ما دلّ عليه اللفظ في محلّ النطق ، والمفهوم بخلافه أي في غير محلّ النطق ».

والعضدي أخذ بهذا الإيهام فزعم انقسام الدلالة إليهما ، فقال : « إنّ ما ها هنا مصدريّة ».

ووافقه على ذلك التوهّم ، صاحب بيان المختصر قائلا : « الدلالة تنقسم إلى منطوق وإلى مفهوم ».

وربّما نسب جعلهما وصفين للدلالة إلى ظاهر ثاني الشهيدين.

ولا خفاء في ضعف الكلّ خصوصا ما سمعته من العضدي لظهور كلمة « ما » هنا في الموصول ، وجعلها مصدريّة ليس بأولى من جعل الدلالة بمعنى المدلول كما صنعه الفاضل الباغنوي بل هذا هو المتعيّن لوجود القرينة عليه في عبارة المختصر من وجوه : كتذكير الخبر ، وظهور الضمير المجرور في العود إلى الموصول من غير استخدام ، والعود إلى كلمة « ما » على تقدير المصدريّة غير ممكن فيلزم الاستخدام وهو خلاف ظاهر آخر ، وقوله في تقسيم المنطوق : « والأوّل صريح وهو ما وضع اللفظ له ، وغير الصريح بخلافه وهو ما يلزم منه » فإنّ ما وضع له اللفظ وما يلزمه لا يكونان إلاّ من قبيل المدلول.

ولا ينافي ما ذكر قولهم في المنطوق الغير الصريح أنّه : « ينقسم إلى دلالة اقتضاء ودلالة تنبيه وإيماء ودلالة إشارة » لا بتنائه على المسامحة في التعبير ، أو على الحذف والتقدير ، فإنّ المنطوق الغير الصريح إذا كان عبارة « عمّا يلزم ممّا وضع له اللفظ » فهو المدلول عليه الالتزامي بدلالة اقتضاء أو بدلالة تنبيه وإيماء ، أو بدلالة إشارة ، فالمقسم هو المدلول عليه الالتزامي لا نفس الدلالة ، كما أنّه لا ينافيه ما قد يوجد في كلامهم من التعبير : « بأنّ اللفظ بمنطوقه يدلّ على كذا وبمفهومه يدلّ على كذا » كما يقال في قوله : « في الغنم السائمة زكاة » : أنّه يدلّ بمنطوقه على وجوب الزكاة في السائمة وبمفهومه على عدم وجوبها في المعلوفة ، فإنّ نحو هذا التركيب يرد في كلامهم على أنحاء :

فقد يرد في موضع إرادة وصف اللفظ كما يقال : « اللفظ الفلاني يدلّ بحقيقته على كذا

ص: 227

وبمجازه على كذا ».

وقد يرد في موضع إرادة وصف جزء اللفظ كما يقال : « الأمر يدلّ بهيئته على الطلب الحتمي وبمادّته على الماهيّة المطلقة ».

وقد يرد في موضع إرادة وصف الدلالة كما يقال : « اللفظ الفلاني يدلّ بالمطابقة على كذا وبالتضمّن على كذا وبالالتزام على كذا ».

وقد يرد في موضع إرادة وصف المعنى كما يقال : « هذه القضية تدلّ بمضمونها على كذا »

والعبارة المذكورة محتملة لهذه الوجوه كلّها ، أو ظاهرة في الوجه الأخير لا ما قبله.

وبالجملة لا ينبغي لذي مسكة الاسترابة في رجوع وصفي المنطوق والمفهوم إلى المدلول بوصف أنّه مدلول.

هل تكون واسطة بين المنطوق والمفهوم أم لا؟

المقام الثاني

بعد ما علم أنّ المنطوق والمفهوم قسمان من المدلول ، فهل بينهما واسطة من مداليل الألفاظ ، بأن يكون منها ما لا يكون منطوقا ولا مفهوما ، أو لا واسطة بينهما فكلّ مدلول إمّا منطوق أو مفهوم؟ وجهان ينشئان من اختلاف كلماتهم واضطراب جملة من عباراتهم.

وقد يقال : إنّ المعاني المفردة خارجة عنهما.

وقضيّة ذلك اختصاصهما بمداليل الألفاظ المركّبة الّتي يجمعها الحكم أو الحال لشيء مذكور أو غير مذكور ، على ما يستفاد من كلام العضدي وتبعه بعض الأعلام ، ولعلّه وهم نشأ عن ذلك ومرجعه إلى اعتبار حكم وموضوع فيهما ، ونحوه كلام من يجعل لفظة « ما » في تعريفيهما موصولا كناية عن المدلول الّذي فسّره بالحكم وضمير « في محلّ النطق » راجعا إلى موضوعه ، أو مدخول كلمة « في » عبارة عنه ، مضافا إلى تقسيمهم المفهوم إلى مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة ، ومفهوم المخالفة إلى أقسامه الآتية مع نزاعهم الآتي في الحجّيّة ، فإنّ هذه الكلمات كما ترى توهم كونهما من المعاني المركّبة هذا.

ولكن في مقابلها جملة من عباراتهم المطلقة ، الظاهرة بإطلاقها في عموم المنطوق لمعاني المفردات أيضا كقولهم : المراد بالمنطوق مدلول اللفظ ، وبالمفهوم ما يلزم من المدلول ، وأنّ المراد بالمنطوق الصريح ما وضع له اللفظ وبغير الصريح ما يلزم ممّا وضع له.

مع إمكان القول بأنّ الّذي يظهر من التأمّل في مطاوي عباراتهم أنّ المنطوق قبالا للمفهوم كدلالة المطابقة قبالا للتضمّن والالتزام ، فكما أنّ المطابقة لا يستلزمهما وهما

ص: 228

يستلزمانها ، فكذلك المنطوق لا يستلزم المفهوم وهو يستلزمه ، ومادّة التخلّف المعاني المفردة مطلقا كما يعطيه صريح بعض عباراتهم ، أو بعض منها كما يعطيه صريح البعض الآخر.

فمن الأوّل : ما ذكره في بيان المختصر في شرح أمثلة الأقسام الثلاث المذكورة لدلالة الاقتضاء المعدودة عندهم من المنطوق الغير الصريح ، فقال : « مثال ما توقّف صدق المتكلّم عليه قوله : « رفع عن امّتي الخطأ والنسيان ... » فإنّ ما هو لازم للمعنى الموضوع له لفظ « الخطأ » وهو حكم الخطأ مقصود منه وتوقّف صدقه عليه ، ومثال ما توقّف عليه الصحّة العقليّة قوله : ( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) (1) فإنّ ما هو لازم للمعنى الموضوع له لفظ « القرية » وهو الأهل مقصود منه وتوقّف الصحّة العقليّة عليه ، لأنّ السؤال عن القرية غير صحيح عقلا ، ومثال ما توقّف عليه الصحّة الشرعيّة ، قولك للغير : « أعتق عبدك عنّي على ألف » فإنّه يستدعي التمليك ، لتوقّف العتق عليه شرعا.

فالتمليك لازم للمعنى الّذي وضع له لفظ « أعتق عنّي » وهو مقصود وتوقّف عليه الصحّة الشرعيّة ».

ووجه صراحة ذلك : أنّه بعد ما فسّر قبل هذه العبارة المنطوق الصريح : « بما وضع له اللفظ » والغير الصريح : « بما يلزم عمّا وضع له اللفظ » جرى في الأمثلة المذكورة على التفسير المذكور ، وجعل كلاّ من اللازم والملزوم من المعاني المفردة ولا ينافيه قوله في ذيل العبارة المذكورة : لازم للمعنى الّذي وضع له لفظ « أعتق عنّي » لوضوح كون مراده وضع لفظ « أعتق » باعتبار المادّة أعني العتق.

وحاصل مراده : كون الملك ممّا يتوقّف عليه صحّة العتق شرعا ينهض قرينة على أنّ المراد من قوله : « أعتق عبدك عنّي على ألف » استدعاء تمليك عبده منه على ألف أوّلا ثمّ اعتاقه عنه ، فالملزوم وهو العتق مراد من لفظ : « أعتق » باعتبار مادّته ، ولازمه وهو التمليك مدلول عليه بدلالة الالتزام الحاصلة بملاحظة توقّف الصحّة الشرعيّة للعتق على الملك.

ومن الثاني : عبارة شارح المنهاج في تقسيم الخطاب إلى ما دلّ بمنطوقه وما دلّ بمفهومه فقال :

« فإن دلّ بمنطوقه فيحمل على الحقيقة الشرعيّة أوّلا إذ التخاطب فيه ، فإن لم يمكن حمله على الحقيقة الشرعيّة يحمل على العرفيّة ، إذ هي أقرب إلى الفهم وأسبق إلى الذهن ،

ص: 229


1- يوسف : 82.

فإن لم يمكن حمله على الحقيقة العرفيّة يحمل على اللغويّة ، وإن لم يمكن حمله على اللغويّة يحمل على المجاز الشرعي ثمّ اللغوي ثمّ العرفي.

وإن دلّ الخطاب على الحكم بمفهومه ، فذلك المفهوم اللازم لا يخلو من أن يكون لازما عن مفرد أو مركّب.

واللازم عن المفرد إمّا أن يتوقّف عليه المفرد عقلا كقولك : « إرم » فإنّه يلزم منه تحصيل المرمي والقوس ، والرمي يتوقّف عليهما عقلا.

وإمّا أن يتوقّف عليه المفرد شرعا كقولك : « أعتق عبدك عنّي » ، فإنّه يلزمه تمليك العبد أوّلا ثمّ اعتاقه عنه ، فالإعتاق يتوقّف على التمليك شرعا والتمليك لازم فيه ، وهذا القسم وهو اللازم من المفرد يسمّى اقتضاء ، أي الخطاب يقتضيه.

واللازم عن المركّب لا يخلو : من أن يكون موافقا لمدلول المنطوق في الإيجاب والسلب ، أو لا يكون موافقا » إلى آخر ما ذكره.

وعلى هذا فيوجّه الكلمات المتقدمّة المفيدة لثبوت الواسطة ، بأنّ النظر في اعتبار الحكم وموضوعه فيهما وفي التعريف المفيد لذلك أيضا إنّما هو إلى محلّ اجتماعهما ، فلا يكونان إلاّ من قبيل الحكم الّذي هو معنى تركيبي ، وعليه مبنى تقسيمهم للمفهوم وهو محلّ نزاعهم في حجّيّته ، وطن كان يستفاد من كلام شارح المنهاج انفكاك المفهوم من المنطوق أيضا ، كما في اللازم عن المفرد الّذي يتوقّف عليه المفرد عقلا أو شرعا وقد سمّاه ب- « مفهوم الاقتضاء ».

وعلى هذا فالمفهوم ليس تابعا للمنطوق كما أنّ المنطوق لا يتبع المفهوم.

فصار المحصّل : أنّه لا يخرج عنهما شيء من المداليل اللفظيّة المرتبطة بمقام الإفادة والاستفادة.

نعم إنّما يخرج عنهما المداليل العقليّة الصرفة الغير المرتبطة بمقام الإفادة والاستفادة وإن استندت بنوع من الاعتبار إلى الألفاظ ، كما في دلالة اللفظ على وجود اللافظ ، وكونه إنسانا وذا لسان ونحوه من لوازم التلفّظ الثابتة مع الألفاظ لمجرّد حكم العقل ، ولا يلزم من خروجها تحقّق الواسطة بينهما كما قد يسبق إلى الوهم ، لكون العبرة في انقسام المدلول إليهما بما يناط به مقام الإفادة والاستفادة ، كما يرشد إليه التأمّل في تضاعيف كلماتهم.

هذا ولكنّ الّذي يعطيه الإنصاف ويقتضيه مجانبة الاعتساف ، هو الإذعان بكونهما اصطلاحين في مداليل المركّبات وعدم جريانهما في مداليل المفردات ، فاللفظ في حدّيهما

ص: 230

عبارة عن اللفظ المركّب ، فما سمعت عن شارحي المختصر والمنهاج من إجرائهما في المفردات أيضا غير سديد ، وسيلحقك زيادة توضيح لذلك إن شاء اللّه.

في الفرق بين المنطوق والمفهوم

المقام الثالث

ربّما يظهر منهم خلاف في حقيقة الفرق بينهما حسبما جرى عليه اصطلاحهم ، حيث إنّ الأكثرين منهم جعلوا كلاّ ممّا وضع له اللفظ وما يلزم منه بأحد الوجوه الآتية من المنطوق ، إلاّ أنّهم فرّقوا بينهما بجعل الأوّل صريحا والثاني غير صريح كما أشرنا صريحا وستعرف تفصيله ، وخالفهم في ذلك شارح المنهاج فجعل مناط الفرق بينهما بكون المنطوق مدلول اللفظ والمفهوم ما يلزم من المدلول ، سواء كان لازما عن مفرد فمفهوم اقتضاء ، أو عن مركّب فمفهوم موافقة أو مخالفة كما ظهر ذلك من كلامه المتقدّم بعين عبارته.

وقضيّة إطلاقه في جعل مدلول اللفظ منطوقا من غير أن يعتبر معه الوضع كون المعاني المجازيّة بأسرها من المنطوق ، على ما تقدّم منه من جعل المعاني المفردة من المنطوق في الجملة ، فيكون المفهوم المقابل له أعم ممّا يلزم اللفظ عن مدلوله الحقيقي أو عن مدلوله المجازي ، فلو قال : « إرم » كان الرمي منطوقا وتحصيل القوس والمرمي مفهوما لتوقّف الأوّل عليه عقلا ، وكذلك لو قال : « إضرب » مريدا به الرمي مجازا ، ولو قال : « أعتق عبدك عنّي بألف » كان الإعتاق منطوقا والتمليك مفهوما لتوقّف الأوّل عليه شرعا ، وكذلك لو قال : « كفّر عنّي بعبدك على ألف » مريدا به الإعتاق مجازا.

ويظهر قبول هذه الطريقة من العلاّمة - على ما حكي عنه - في إيراده على ما حكاه عن بعضهم من تعريف المنطوق : « بما فهم من اللفظ في محلّ النطق » بأنّه منقوض بدلالة الاقتضاء ، فإنّ الأحكام المضمرة فيها مفهومة من اللفظ في محلّ النطق ، مع أنّه لا يقال فيها : أنّها دلالة المنطوق.

وممّا يلزم على هذا القول كون وجوب المقدّمة والنهي عن الضدّ من قبيل المفهوم ، لكون كلّ منهما لازما عن مركّب وهو الأمر بالشيء ، مع أنّه لم يقل به أحد.

ولو دفع في الأوّل بعدم اندراجه في ضابط مفهوم الموافقة وهو اختلاف الحكمين في الأولويّة ، ولا في ضابط مفهوم المخالفة وهو اختلافهما في الإيجاب والسلب ، كان الثاني متوجّها لمكان الاختلاف في الإيجاب والسلب.

وكيف كان فالوقوف مع الأكثر أولى وأجدر ، كما هو المعيار في معرفة الامور

ص: 231

الاصطلاحيّة حيث يرجع فيها إلى أهل الاصطلاح كلّهم أو أكثرهم أو جماعة من معتبريهم ، ولا خفاء في شذوذ القول المذكور وندرة قائله.

ثمّ إنّه على مذهب الأكثر ربّما يتأمّل في الفرق بين المنطوق الغير الصريح والمفهوم ، كما في الشرح على الشرح للتفتازاني ، نظرا إلى كون كلّ منهما عندهم من المدلول الالتزامي اللازم للمدلول المطابقي.

واستشكل فيه أيضا السيّد صدر الدين في شرحه للوافية ، بل يظهر منه الميل إلى ما نقلناه عن شارح المنهاج من القول النادر ، حيث يقول : « فليت شعري ما الّذي جعل مثل هذا المعنى معنى التزاميّا أو منطوقا غير صريح ، وأخرج مفهوم الموافق أو المخالف عن المنطوق وجعلهما مقابلا له ، مع أنّ مطلق المفهوم ممّا يفهم عندهم من المعنى المطابقي وله مدخل في فهمه ، ويفهمه أهل اللغة أو العرف إمّا دائما أو في الأغلب ».

فالأولى ما جعله البعض كما نقله الفاضل الجواد وقال في شرحه للزبدة : « وبعضهم يجعل غير الصريح من المفهوم ، ويجعل المنطوق ما دلّ عليه اللفظ مطابقة أو تضمّنا ، والمفهوم ما كان لازما للمدلول ، ويجعل الاقتضاء والإيماء والإشارة من أقسام المفهوم ... إلى آخره ».

أقول : لعلّ مراده من البعض شارح المنهاج ، ويحتمل كونه غيره فيكون شارح المنهاج موافقا له ، لأنّه أهمل دلالة الإيماء ودلالة الإشارة بل ما يتوقّف عليه صدق الكلام من دلالة الاقتضاء ، لأنّه على ما تقدّم في كلامه لم يذكر من أقسامها إلاّ ما يتوقّف عليه الصحّة عقلا أو شرعا ، وإن عبّر عنه بالمفرد على خلاف ما عبّر به الأكثر أعني الكلام.

وكيف كان فالأمر في الذبّ عن الإشكال سهل ، لثبوت الفرق بينهما بحسب الموضوع ، فإنّ المنطوق الغير الصريح مدلول لموضوع مذكور في الكلام ، والمفهوم مدلول لموضوع غير مذكور فيه.

وقد يتوهّم الفرق بأنّ الملازمة في المفهوم عرفيّة وفي المنطوق الغير الصريح عقليّة أو شرعيّة حتّى في دلالة الإشارة ، من حيث إنّ العقل يحكم فيها بملازمة ما خرج عن المقصود للمقصود صونا لكلام الحكيم عن وصمة الكذب.

ويزيّفه : منع انحصار الملازمة في غير الصريح في العقليّة والشرعيّة ، فإنّ دلالة الإيماء

ص: 232

ما يحصل الدلالة فيه لبعد الاقتران عرفا (1) فمنشأ الدلالة هو الاستبعاد العرفي فلا تكون الملازمة حينئذ إلاّ عرفيّة.

وإن كان ولا بدّ من بيان فرق آخر بينهما من غير جهة الموضوع ، فالأولى أن يفرّق بأن ليس المراد من لازم ما وضع له في تفسير المنطوق الغير الصريح ما ثبت لزومه له لذاته ، بحيث يلزم من تصوّره تصوّره وهو اللازم البيّن بالمعنى الأخصّ ، أو يلزم من تصوّرهما وتصوّر النسبة بينهما الجزم باللزوم وهو البيّن بالمعنى الأعمّ ، لعدم انطباق شيء من الأقسام الآتية وضابطها والأمثلة المذكورة لها على ذلك ، بل المراد به على ما يظهر من هذه الأمور ما يثبت لزومه له لعارض بحكم العقل أو الشرع أو العرف ، بواسطة توقّف صدق الكلام أو توقّف صحّته عقلا أو صحّته شرعا على إرادته وحده من دون ارادة ملزومه ، أو بواسطة بعد اقترانه عرفا لو لا إرادة كون ما اقترن به علّة مع إرادة ملزومه لذلك الملزوم ، أو بواسطة أنّه لولا لزومه للمراد من الكلام - وهو الملزوم وحده - لزم ما امتنع على المتكلّم الحكيم من كذب أو بيان لخلاف الواقع ، أو تناقض ، أو تكليف بما لا يطاق أو نحو ذلك من منافيات الحكمة ، بحيث لولا توقّف الصدق أو الصحّة عقلا أو شرعا أو الاستبعاد العرفي أو لزوم ما امتنع على الحكيم لم يكن لزوم لما فرض كونه لازما لما وضع له اللفظ أصلا.

ومن ذلك يعلم أنّ إطلاق اللازم عليه مسامحة أو أنّه اصطلاح آخر غير ما هو الاصطلاح المعروف ، بخلاف المفهوم فإنّ لزومه للمنطوق ثابت له لذاته بحيث يلزم تصوّره من تصوّره ، ضرورة أنّ من تصوّر الحكم المقيّد بشرط مثلا يلزم تصوّر نقيض ذلك الحكم على تقدير انتفائه كما يظهر بأدنى تأمّل ، وعليه مبنى دعوى التبادر في كلام من يتمسّك به لإثبات حجّيّة المفهوم حيث يكون حجّة.

ص: 233


1- كقوله : « كفّر » عقيب قول السائل : « واقعت أهلي في نهار شهر رمضان » فيراد من قوله : « كفّر » باعتبار اقترانه بقول السائل ذلك إفادة حكمين ، أحدهما : وجوب الكفّارة وثانيهما : كون الوقاع علّة له ، والأوّل ما وضع له هذا اللفظ المركّب والثاني ما يلزم منه ، ثبت لزومه باستبعاد الاقتران عرفا لولا كونه مرادا ، ومن هذا البيان يعلم الفرق بين دلالة الاقتضاء ودلالة الإيماء من وجه آخر غير ما ذكرنا من ضابط الفرق بينهما في التقسيم وهو أنّ المراد في الاولى هو اللازم فقط وفي الثانية هو الملزوم واللازم معا ، غير أنّ الأوّل يراد من اللفظ والثاني من الاقتران. [ راجع حاشية المصنّف رحمه اللّه على القوانين 1 : 123 ].

في تعريف المنطوق والمفهوم

المقام الرابع

في تعريف هذين الموضوعين حسبما صنعه الاصوليّون ، والمعروف فيما بينهم قولا ونقلا أنّ المنطوق : ما دلّ عليه اللفظ في محلّ النطق ، والمفهوم : ما دلّ عليه اللفظ لا في محلّ النطق.

وقد يعبّر عن الدلالة بالفهم فيقال : إنّ المنطوق ما فهم من اللفظ في محلّ النطق والمفهوم بخلافه كما عن النهاية ، وفي معناهما : المنطوق ما فهم من اللفظ نطقا والمفهوم بخلافه كما عن الآمدي ، ويعبّر في تضاعيف كلماتهم ومطاوي عباراتهم عن محلّ النطق تارة بالمنطوق به واخرى بالملفوظ به ، وعن غير محلّ النطق بالمسكوت عنه ، والجامع بينهما ما له المدلول قبالا للمدلول المعبّر به عن الحكم ، فما له المدلول عبارة عن موضوعه ، والمراد بالموضوع هنا - بل مطلق مصطلح الاصوليّين على ما قيل - ما له نوع تعلّق بالحكم سواء كان مسندا أو مسندا إليه أو من متعلّقات المسند أو المسند إليه ، أو كان من شروط الحكم أو أسبابه أو علله الناقصة ، لا خصوص الموضوع المنطوقي ، فالشرط والوصف والغاية وكلّ قيد وفضلة في الكلام موضوع بهذا المعنى ، فهو بهذا المعنى قد يكون هو المكلّف وقد يكون هو المكلّف به ، وقد يكون من قيودهما ، وقد يكون من شروط التكليف وعلله.

وعلى هذا فيكون مدخول الظرفيّة أعني « محلّ النطق » عبارة عن نفس الموضوع المعبّر عنه بما له المدلول ، كما تنبّه عليه الفاضل السيّد صدر الدين وحكى عن بعض الفضلاء أنّه قال في حاشيته على شرحه للزبدة : « يعبّر عن المذكور بمحلّ النطق وعن المسكوت عنه بغير محلّ النطق ».

ومن هنا ظهر النكتة في التعبير عن الموضوع بمحلّ النطق فإنّه باعتبار كونه مذكورا في الكلام ، وإدخال النفي عليه بعبارة « لا في محلّ النطق » أو « في غير محلّ النطق » في تعريف المفهوم تنبيه على اعتبار كون موضوع الحكم المفهومي غير مذكور في الكلام ، فهذا هو الفارق بينه وبين المنطوق ، فالموضوع في نحو : « الغنم السائمة فيه زكاة » هو « السوم » وهو مذكور في القضيّة المنطوقيّة دون المفهوميّة ، وفي مثل : « إن جاءك زيد فأكرمه » هو « مجيء زيد » وهو مذكور في المنطوق دون المفهوم.

فحاصل معنى تعريف المنطوق حينئذ : « أنّه حكم دلّ عليه اللفظ ، ثابت في موضوع مذكور في الكلام » والمفهوم : « حكم دلّ عليه اللفظ ، ثابت في موضوع غير مذكور ».

ص: 234

وعبارته الاخرى ما ذكره بعض الأعلام من أنّه : مدلول يكون حكما أو حالا لشيء مذكور ، سواء كان نفس ذلك المدلول مذكورا أو لا.

وهو المستفاد من كلام العضدي وغيره وأخصر عبارات تعريف المفهوم : « ما افيد لغير مذكور » والمنطوق بخلافه فهو الأولى ، والمراد من ثبوت الحكم في الموضوع بالمعنى المذكور تعلّقه به حسبما اعتبره المتكلّم حيث ربطه به وعلّقه عليه وقيّده به ، لا خصوص عروضه له كما هو المعتبر في الموضوع المنطقي.

فبما شرحناه ظهر أنّ ما تقدّم تعريف تامّ لا مسامحة فيه ولا قصور ، فلا حاجة في إصلاحه إلى تكلّف وارتكاب خلاف ظاهر من استخدام ونحوه كما زعمه بعض الأعلام ، حيث اختلط عليه الأمر فقال : « إنّ في الحدّ تسامحا ، لأنّ معيار الفرق بينهما كون ما له المدلول وهو موضوع الحكم مذكورا وعدمه ، مع كون المقصود من المدلول هو الحكم أو الوصف ، فلا يتمّ جعل قوله : « في محلّ النطق » حالا عن الموصول إلاّ بارتكاب نوع من الاستخدام ، ولو جعل الموصول كناية عن الموضوع يلزم خروجه عن المصطلح وارتكاب نوع استخدام في الضمير المجرور » انتهى.

وكأنّ مبناه على زعم كون « محلّ النطق » محمولا على إرادة اللفظ ، فيكون المعنى : ما دلّ عليه اللفظ حال كونه في اللفظ ، وكونه ثابتا في اللفظ كناية عن كونه مذكورا فيه.

وأنت خبير بأنّه في غاية البعد ، والتعبير عمّا له المدلول في مطاوي كلماتهم بالمنطوق أو الملفوظ به أقوى شاهد بأنّ المراد به نفس الموضوع ، ويتأكّد ذلك بنصّ من عرفت.

وبهذا كلّه ظهر أنّ ما في كلام بعض الأواخر عند الكلام في الحدّين من إكثار الاحتمالات - بأنّ الموصول إمّا كناية عن الحكم أو عن موضوعه ، وعلى التقديرين فالضميران إمّا يعودان إلى الحكم أو إلى موضوعه ، أو الأوّل يعود إلى الحكم والثاني إلى موضوعه ، أو بالعكس احتمالات ترتقي إلى ثمانية ، وأقلّها محذورا كون الموصول عبارة عن الحكم وعود الضمير المجرور إلى الحكم وضمير الحال إلى الموضوع وفيه نوع استخدام - ليس بسديد ، فإنّ مبناه على ما سمعت عن بعض الأعلام وقد عرفت فساده.

وحينئذ نقول : إنّ الموصول لا يتحمّل إلاّ كونه عبارة عن الحكم ، والضميران لا يتحمّلان إلاّ العود إلى الموصول بمعنى الحكم ، ومدخول الظرفيّة لا يتحمّل إلاّ كونه عبارة عمّا له المدلول وهو الموضوع فلا استخدام.

ص: 235

كما ظهر بما بيّنّاه في تفسير الموضوع أنّه لا وقع لما أورد على الحدّين بالقياس إلى قولنا : « إن جاءك زيد فأكرمه » وغيره من القضايا الشرطيّة من حيث إنّ ما له المدلول في كلّ من الحكم المنطوقي والحكم المفهومي وهو زيد مذكور في الكلام ، فيختلّ عكس حدّ المفهوم وطرد حدّ المنطوق ، فإنّه يندفع : بأنّ الموضوع بالمعنى المذكور في القضيّة المنطوقيّة هو « المجيء » لأنّه الّذي تعلّق بالحكم باعتبار أنّه علّق عليه الحكم ، فيكون الحكم المفهومي معلّقا على « عدم المجيء » وهو غير مذكور في الكلام ، فلا حاجة في دفع الإشكال إلى تكلّف أن يقال : إنّ موضوع المنطوق « زيد الجائي » وهو ليس بموضوع المفهوم.

وقد أورد على الحدّين بناء على التوجيه بامور اخر ذكرها بعض الفضلاء :

منها : إنّهما منقوضان بمفهوم الحصر ب- « إنّما » في صورة قصر الموصوف على الصفة ، كقولنا : « إنّما زيد شاعر » فإنّ ما له المدلول « زيد » وهو مذكور في الكلام ، وقد توارد عليه الحكمان : الإيجابي والسلبي ، أعني الشاعريّة له ونفي الصفات الاخر عنه.

وفيه : منع كون ما له المدلول في هذا التركيب هو « زيد » بل هو « شاعر » فيفيد إثبات الزيديّة للشاعر أعني الذات المتّصفة بالشاعريّة ، ونفيها عن الصفات الاخر كالكاتب والقارئ ونحوهما كما هو مفاد قصر الموصوف على الصفة ، فالحكم المنطوقي ثابت للشاعر والمفهومي للصفات الاخر وهي غير مذكورة في الكلام.

والوجه فيما ذكرناه ما قرّر في محلّه من أنّ المحصور فيه في الحصر ب- « إنّما » هو ما ذكر أخيرا وهو الصفة في تركيب قصر الموصوف على الصفة ، ومعنى كون ما ذكر أخيرا محصورا فيه إفادة التركيب إثبات ما ذكر أوّلا له وهو المنطوق ونفيه عمّا عداه وهو المفهوم.

ومبنى الإيراد على الخلط بين صورتي قصر الصفة على الموصوف وقصر الموصوف على الصفة بإجراء معنى الصورة الاولى في الثانية ، وما بيّناه أولى ممّا قد يتكلّف في دفع الإشكال باعتبار الاتّصاف في القضيّة المنطوقيّة وعدم الاتّصاف في القضيّة المفهوميّة ، فيرجع منطوق قولك : « إنّما زيد شاعر » إلى : أنّ زيدا متّصف بالشاعريّة ، ومفهومه إلى : أنّ زيدا غير متّصف بغير الشاعريّة.

ومنها : أنّهما منقوضان بدلالة الآيتين على أقلّ الحمل ، لأنّ الموضوع فيه مدلول الأقلّ دون الحمل وهو غير مذكور.

وفيه : منع كون الموضوع مدلول الأقلّ ، فإنّه مع ستّة أشهر من الحكم والموضوع هو

ص: 236

الحمل فكأنّه قيل : الحمل أقلّه ستّة أشهر ، مع أنّ مدلول الأقلّ إن اريد به مصداقه وهو ستّة أشهر فهو مذكور في احدى الآيتين لكونه مرادا من الحمل ، بتقريب أنّ كون الموضوع مذكورا أعمّ من كونه مذكورا بلفظه أو بمعناه.

ومنها : أنّ كلاّ منهما منقوض بمثل قول القائل : « أكرم خدّام العالم » حيث يدلّ على وجوب إكرامه بطريق الأولويّة ، فإنّه يعدّ من مفهوم الموافقة على ما يقتضيه طريقتهم ، مع أنّ ما ثبت له الحكم وهو « العالم » مذكور.

ودفعه الفاضل : بأنّ ما ثبت له الحكم - أعني الوجوب - إنّما هو : « إكرام العالم » وما ذكر في المنطوق إنّما هو : « اكرام خدّام العالم » وهما متغايران.

والأولى أن يقال : إنّ الموضوع بمعنى ما له تعلّق بالحكم المنطوقي هو الخدّام المضاف بوصف الإضافة ، والعالم مذكور معه لمجرد التعريف لا لأنّ له تعلّقا به ، بل له تعلّق بالحكم المفهومي ، وهو بهذا التعلّق غير مذكور في الكلام ، فتدبّر.

وبمثل هذا أو سابقه يندفع النقض في الحصر بأنّما في صورة قصر الصفة على الموصوف بمثل : « إنّما غير زيد أكرمت ».

ومنها : أنّ حدّ المفهوم منقوض بدلالة الأمر بالشيء على وجوب مقدّمته ، وبدلالته على حرمة الضدّ وفساده.

ودفع : بأنّهما من أحكام الصلاة ومحمولاتها وهي مذكورة ، فكأنّه قيل : الصلاة يجب مقدّمتها ويحرم ضدّها ، ونحوها إزالة النجاسة عن المسجد ، فالمقدّمة والضدّ مأخوذان في جانب المحمول جزءان من الحكم لا أنّهما موضوعان.

ويؤيّده كون الوجوب والحرمة المضافين إليهما غيريّين ، لعروضهما لهما لمصلحة في غيرهما وهو الصلاة والإزالة مثلا ، فيتأكّد بذلك كونهما من أحكام [ الصلاة ] والإزالة.

وفيه : أنّه تكلّف بعيد ، والأولى في دفع الإشكال الالتزام بخروجهما عن المعرّف رأسا ، فإنّه ليس بذلك البعيد لأنّهما من الأحكام العقليّة التبعيّة ، لأنّ العقل يحكم بهما بملاحظة خطاب الشرع ، ولذا ذكرنا في بحثي المقدّمة والضدّ أنّ النزاع في المسألتين في الوجوب والنهي التبعيّين ، وأنّ المسألة الباحثة عنهما عقليّة باحثة عن حكم العقل بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته أو حرمة ضدّه.

ومن ثمّ أدرجناهما في المبادئ الأحكاميّة ، كما يرشد إليه أيضا طريقة من أدرجهما

ص: 237

في مباحث الأدلّة العقليّة في الاستلزامات العقليّة قبالا للمستقلاّت العقليّة ، وظاهر أنّ الأحكام العقليّة لا تندرج في المنطوق والمفهوم ، ولا يصحّ إطلاق شيء منهما عليها لكونهما من المداليل اللفظيّة ، فلا داعي حينئذ إلى إدراج وجوب المقدّمة وحرمة الضدّ في حدّ المنطوق بل لا معنى له ، ويكفي في خروجهما عنه وعن حدّ المفهوم أيضا قيد « دلالة اللفظ » المأخوذ.

ومن أقوى ما يشهد بما ذكرنا ، أنّه لم يوجد في كلام فقيه ولا اصوليّ أنّه أطلق المنطوق أو المفهوم عليهما كما أنّهما يطلقان على سائر الأحكام العقليّة بل على مطلق الأحكام اللبّية ؛ خذ هذا واغتنم.

في تقسيم المنطوق إلى صريح وغير صريح

المقام الخامس

في أنّهم قسّموا المنطوق إلى صريح وهو : ما وضع له اللفظ ، وغير صريح : وهو ما يلزم ممّا وضع له اللفظ.

وصرّح غير واحد من العامّة والخاصّة كبعض أفاضل السادة والبهائي في الزبدة وغيرهما باندراج المدلول التضمّني في المنطوق الصريح.

وأنكره بعض الفضلاء واستشكله بعض الأعلام قائلا : « ولي في كون التضمّني صريحا إشكال ، بل هو من الدلالة العقليّة التبعيّة ، فالأولى جعله من باب الغير الصريح ».

أقول : وعندي أنّ هذا الخلاف ممّا لا يرجع إلى محصّل ولا يعود إلى طائل ، لكونه اختلافا في أمر اصطلاحي ، فكون التضمّني بحسب الاصطلاح من قسم الصريح أو غير الصريح لا يترتّب عليه فائدة عمليّة ولا علميّة ، ولا يكون مبتنيا على اختلافهم في أنّ دلالة التضمّن هل هي دلالة متميّزة عن دلالة المطابقة حتّى تكون عبارة عن فهم الجزء بعد فهم الكلّ أو لا؟ بل هي أمر اعتباري يتولّد من إضافة الدلالة على ما وضع له اللفظ إلى الجزء ، على معنى أنّها دلالة واحدة يقال لها : « المطابقة » باعتبار إضافتها إلى الكلّ ، و « التضمّن » باعتبار إضافتها إلى الجزء ، فالفرق بينهما اعتباري كما سبق إلى بعض الأوهام.

فإنّ هذا كلام في مسألة علميّة والمقام ليس منها ، فلا مانع من انعقاد اصطلاح المنطوق الصريح فيما يعمّ الأمر الحقيقي وهو المطابقة والأمر الاعتباري وهو التضمّن إن بنينا على عدم كونها متميّزة عن المطابقة.

مع أنّه لو أردنا تحقيق المقام نقول : بأنّ بناء الخلاف إنّما هو على أنّ المراد ممّا وضع

ص: 238

له اللفظ في تفسير الصريح هل هو ما ثبت له الوضع بالاستقلال أو مطلقا ولو بمشاركة؟

والأظهر الثاني كما صرّح به التفتازاني في شرحه على شرح العضدي ، فلا ينبغي الاسترابة حينئذ في كون التضمّني من المنطوق الصريح ، ولا ينافيه كون الدلالة عليه تبعيّة إن اريد به ما يستتبعه الدلالة على الكلّ ، نظرا إلى أنّ الانتقال إلى الكلّ ممّا لا يتعقّل مع التعرية عن الانتقال إلى الجزء ولو إجمالا ، لا بمعنى أنّ هناك انتقالين ممتازين يقال لهما : هذا انتقال إلى الكلّ وذلك انتقال إلى الجزء ، بل بمعنى أنّه انتقال واحد وهو : الانتقال إلى الكلّ ، ويقال له : « المطابقة » بهذا الاعتبار ، ويصحّ إضافته إلى الجزء أيضا فيقال له : « التضمّن » ولذا قيل : إنّ الدلالة فيهما واحدة والفرق بينهما اعتباري كما عرفت.

مع أنّ الّذي يظهر من طريقتهم أنّ مناط الصراحة إنّما هو بكون الدلالة حاصلة من نفس اللفظ بلا افتقار لها إلى توسيط غيره من مقدّمة عقليّة أو شرعيّة أو عرفيّة.

ولا ريب أنّ الدلالة على الجزء أيضا تحصل في ضمن الكلّ بنفس اللفظ ، بملاحظة ما ذكرناه مرارا من كون الفرق بينهما اعتباريّا ، لوضوح أنّ الدلالة الواحدة الّتي إذا اضيفت إلى الكلّ كانت مطابقة وإذا اضيفت إلى الجزء كانت تضمّنا ليست إلاّ حاصلة بنفس اللفظ.

ومن هنا اتّجه أن يقال : إنّ هذه الدلالة الواحدة بالقياس إلى الجزء إذا كانت في حدّ ذاتها أمرا اعتباريّا فلتكن في عروض وصف الصراحة لها أيضا أمرا اعتباريّا ، على معنى أنّ المنطوق الصريح أمر واحد مستند إلى نفس اللفظ وهو المدلول المطابقي ويصحّ إضافته إلى الجزء فيكون مدلولا تضمّنيّا.

ثمّ إنّهم قسّموا المنطوق الغير الصريح إلى ما يكون مدلولا التزاميّا بدلالة الاقتضاء ، وما يكون مدلولا التزاميّا بدلالة التنبيه والإيماء ، وما يكون مدلولا التزاميّا بدلالة الإشارة.

وعن الحنفيّة التعبير عن الأوّل باقتضاء النصّ ، وعن الثاني بإيماء النصّ ، وعن الثالث بإشارة النصّ.

وذلك لأنّ ما يلزم ممّا وضع له إمّا أن يكون مقصودا للمتكلّم بالإصالة أو لا ، و « الثاني هو الدلالة بالإشارة كدلالة الآيتين (1) على أقلّ الحمل ، ودلالة النبويّ صلى اللّه عليه وآله وسلم : النساء ناقصات عقل ودين ، قيل : وما نقصان دينهنّ؟ قال : تمكث إحداهنّ شطر دهرها لا تصلّي » على أكثر الحيض وأقلّ الطهر وهو عشرة ، وغير ذلك من الأمثلة المذكورة في كتب الاصول.

ص: 239


1- البقرة : 233 والأحقاف : 15.

فإنّ شيئا ممّا ذكر ليس مقصودا بالإفادة من الخطاب أصالة ، بل المقصود بالأصالة شيء آخر يستلزمه تبعا.

وعلى الأوّل فإن كان ممّا يتوقّف عليه صدق الكلام كقوله صلى اللّه عليه وآله : « رفع عن امّتي تسعة » في الدلالة على رفع المؤاخذة ، أو صحّته عقلا كقوله تعالى : ( وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ) (1) في الدلالة على سؤال أهل القرية ، أو صحّته شرعا كقوله : « أعتق عبدك عنّي بألف » في الدلالة على استدعاء التمليك فدلالة اقتضاء ، وإلاّ فلو اقترن الخطاب بما لو لم يكن علّة له لبعد الاقتران فدلالة تنبيه وإيماء ، كدلالة قوله عليه السلام : « كفّر » المقترن بقول السائل : « واقعت أهلي في نهار رمضان » على علّية الوقاع لوجوب الكفّارة ، وكقوله عليه السلام : « فلا إذن » بعد ما سئل عن جواز بيع الرطب بالتمر المقترن بقوله : « نعم » في جواب قوله عليه السلام : « أينقص إذا جفّ؟ » على علّية النقصان لعدم الجواز.

لا يقال : قضيّة ما تقدّم في المقام السابق من كون دلالة التضمّن تبعيّة ، مع ما ذكرت هنا من تبعيّة دلالة الإشارة أيضا وعدم كون شيء منهما مقصودا من الخطاب أصالة ، كون التضمّن من دلالة الإشارة أو كون المدلول عليه بالإشارة من المنطوق الصريح ، فبطل بذلك أحد الأمرين من جعل المدلول التضمّني من المنطوق الصريح أو جعل المدلول عليه بالإشارة من غير الصريح.

لأنّا نقول : إنّ الصراحة وعدمها على ما يستفاد من طريقتهم - كما أشرنا إليه سابقا - ليسا منوطين بأصالة القصد وعدمها ولا التبعيّة وعدمها بل بكون اللفظ مستقلاّ في الإفادة - كما في المنطوق الصريح ومنه المدلول التضمّني كما عرفت سابقا - وعدمه ، كما في غير الصريح لافتقار الخطاب في إفادته إلى توسيط أمر آخر وانضمامه إليه من مقدّمة عقليّة أو شرعيّة كما في الأنواع المذكورة.

أمّا ما يفتقر إلى انضمام المقدّمة العقليّة فكدلالة الإشارة ، والقسم الأوّل والثاني من دلالة الاقتضاء.

وأمّا ما يفتقر إلى المقدّمة الشرعيّة فكالقسم الأخير من دلالة الاقتضاء فإنّ عبارة : « أعتق عبدك عنّي بألف » من حيث إنّها إيجاب لعقد الوكالة في العتق يتوقّف صحّته - أي ترتّب الأثر عليه - على استدعاء تمليك العبد ، فإنّ صحّة الوكالة فرع على صحّة الموكّل

ص: 240


1- يوسف : 82.

فيه ، فلا يصحّ التوكيل في عتق العبد الغير المموك كما لا يصحّ التوكيل في بيع الخمر ونحوه ، ولك أن تقول : بأنّها من حيث إنّها قبول للبيع على القول بجواز تقديمه على الإيجاب ووقوعه بالأمر ، يتوقّف صحّته على قصد التملّك.

وأمّا ما يفتقر إلى المقدّمة العرفيّة فكدلالة الإيماء ، نظرا إلى أنّ الدلالة على قصد العليّة والتعليل إنّما تثبت بواسطة الاستبعاد العرفي.

فدلالة التضمّن ودلالة الإشارة وإن كانتا متشاركان في التبعيّة وعدم أصالة القصد إلاّ أنّهما متمايزان في استقلال الخطاب بالإفادة وعدمه.

وهذا هو الباعث على كون الاولى من الصريح والثانية من غير الصريح ، وبينهما فرق آخر وهو : أنّ التبعيّة في الاولى لأصل الدلالة وفي الثانية للمدلول ، لوضوح أنّ المدلول الالتزامي منفصل عن المدلول المطابقي ، وقد يكون مقصودا من الخطاب لكن لا أصالة بل تبعا ، لئلاّ يلزم الكذب أو بيان خلاف الواقع أو نحوه ممّا لا يجوز على الحكيم في الخطاب بالقياس إلى ما هو المقصود بالأصالة.

ومن الأفاضل من أورد على حصر دلالة الاقتضاء في الأنواع الثلاث المذكورة بخروج ما يتوقّف عليه صحّة الكلام لغة أو عرفا ، حيث قال : « وأنت خبير بأنّ ما ذكروه غير حاصر لوجوه دلالة الالتزام ممّا لا يندرج في المقام.

والأولى في التقسيم أن يقال : إنّ الدلالة الالتزاميّة ممّا لا يعدّ من المفهوم إمّا أن تكون مقصودة للمتكلّم بحسب العرف ولو بملاحظة المقام أو لا ، وعلى الأوّل فإمّا أن يتوقّف صدق الكلام أو صحّته عقلا أو شرعا أو لغة أو عادة عليه أو لا.

فالأوّل هو دلالة الاقتضاء كما في الأمثلة المتقدّمة وقوله : « نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض » فإنّ صحّته لغة يتوقّف على تقدير « راضون » وقولك : « رأيت أسدا في الحمّام » فإنّه يتوقّف على صدور كون الأسد في الحمّام بحسب العادة على إرادة الرجل الشجاع منه » - إلى أن قال - : « والظاهر أنّ معظم القرائن العقليّة واللفظيّة القائمة على إرادة المعاني المجازيّة من قبيل دلالة الاقتضاء كما في قوله تعالى : ( يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (1) وقولك : « رأيت أسدا في الحمّام » و « جرى النهر » وإن كان دلالة نفس المجاز على معناه من قبيل دلالة المطابقة » انتهى.

ص: 241


1- الفتح : 10.

ويدفعه : وروده بالنسبة إلى كلّ من القسمين على خلاف التحقيق.

أمّا بالنسبة إلى ما يتوقّف عليه صحّة الكلام لغة ، فلمّا قرّرناه سابقا من أنّ المنطوق والمفهوم وصفان للمداليل المركّبة أعني معاني المركّبات التامّة ، وظاهر أنّ الكلام بمعنى المركّب التامّ لا يتمّ إلاّ بتحقّق الإسناد والمسند والمسند إليه ، فكما لا يتمّ بالمسند فقط فكذلك لا يتمّ بالمسند إليه فقط ، فتوقّف صحّة الكلام لغة في المثال المتقدّم على تقدير « راضون » إنّما هو لأنّ الكلام لغة لا يتمّ بذكر المسند إليه وحده ، لأنّ الإسناد لا ينعقد به بانفراده ، بل لا بدّ معه من اعتبار ما يكون مسندا ملفوظا أو مقدّرا ، فالإسناد المستفاد من الكلام بعد تقدير المسند نفس ما وضع له هذا المركّب فيكون منطوقا صريحا ، لا أنّه ما يلزم منه ليكون غير صريح ، إذ ليس فيه وراء هذا الإسناد اسناد آخر ليكون هذا لازما منه.

وأمّا الثاني فلإمكان القول بدخول ما يتوقّف عليه صحّته بحسب العرف والعادة كقوله : « رأيت أسدا في الحمّام » في عنوان ما يتوقّف عليه صدقه إن كان خبرا ، أو صحّته عقلا إن كان إنشاء ، فإنّ قوله : « رأيت أسدا » مريدا به المفترس كما أنّه قد يكون كذبا حيث لم يصدر منه رؤية أصلا فكذلك يكون كذبا حيث كان مرئيّه الرجل الشجاع لا المفترس ، فيتوقّف صدق هذا الكلام على إرادة الرجل وقوله : « في الحمّام » في المثال الّذي ذكره الفاضل ، وعلى هذا القياس قوله تعالى : ( يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (1) وغيره ممّا يكون قرينته عقليّة ، وقوله : « جرى النهر » ونحوه ممّا يكون قرينته لفظيّة ، فإنّ الجميع ممّا يتوقّف صدق الكلام على إرادة المعنى المجازيّ من اللفظ المفرد الّذي هو من أجزاء المركّب ، حتّى أنّ المثال المعروف المذكور في كلامهم لذلك العنوان من هذا الباب ، فإنّ قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم : « رفع عن امّتي تسعة » إنّما يكون صدقا إذا اريد منه رفع مؤاخذة التسعة مثلا على طريقة المجاز في الإعراب بإضمار المؤاخذة أو المجاز في الكلمة.

ومن هذا الباب أيضا قوله تعالى : ( لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ) (2) وغيره من الأخبار المؤوّلة بالإنشاء ، لأنّه لولاه لزم الكذب في كلام الحكيم وهو قبيح عقلا ، ويمكن اندراجه فيما يتوقّف عليه صحّته عقلا ، هذا.

ولكنّ الّذي يقتضيه الإنصاف ومجانبة الاعتساف هو أن يقال : بعدم بناء المنطوق الغير الصريح في شيء من أنواعه عندهم على التجوّز في المفرد الّذي يقال له : المجاز في

ص: 242


1- الفتح : 10.
2- الواقعة : 79.

الكلمة ، بل على اعتبار لازم للمعنى المركّب مع كونه وحده مقصودا من الخطاب ، أو كونه مع ملزومه مقصودين كما في قوله عليه السلام : « كفّر » مقترنا بقول السائل : « واقعت أهلي في نهار رمضان » لأنّه اريد منه إفادة حكمين أحدهما وجوب الكفّارة وثانيهما كون علّته الوقاع ، والأوّل ما وضع له هذا اللفظ المركّب والثاني ما يلزم منه بلزوم ثبت باستبعاد الاقتران عرفا لولا كونه مرادا ، أو كونه لازما للمقصود غير مقصود منه أصالة بل المقصود بالأصالة هو الملزوم ، فدلالة الاقتضاء حينئذ مبنيّة على التقدير والإضمار ومختصّة بالمجاز في الإعراب كما فهمه بعض الأعلام.

وقد يكون معنى مجازيّا للمركّب كما في قوله تعالى : ( لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ) (1) ونظائره ، فالمجاز في الكلمة بجميع أفراده خارج عن عنوان المنطوق صريحا وغير صريح ، لكونهما مع المفهوم من المداليل المركّبة.

وظاهر أنّ التجوّز في بعض مفردات المركّب لا يوجب التجوّز في نفس المركّب في معناه التركيبي الموضوع له بالوضع النوعي الهيئي ، فإنّ : « رأيت أسدا » بنوعه موضوع للإخبار برؤية الأسد ، سواء اريد منه المفترس أو الرجل الشجاع ، وإن توقّف صدق الكلام في نحو أسد يرمي » على الثاني ، إذ ليس كلّما يتوقّف عليه صدق الكلام موجبا لكون المعنى التركيبي المراد منه من المنطوق الغير الصريح مع عدم كون ذلك المعنى خلاف ما [ وضع له ] المركّب بنوعه ، فإنّ الّذي يتوقّف عليه الصدق هنا إنّما هو التجوّز في المفرد.

والّذي يوجب كون المدلول من المنطوق الغير الصريح في موضع توقّف الصدق أو الصحّة العقليّة أو الصحّة الشرعيّة هو التجوّز في المركّب كما في الآية المشار إليها ، أو المجاز في الإعراب المستتبع للتقدير والإضمار الّذي يرجع أيضا بنحو من الاعتبار إلى التجوّز ، فإنّ المعنى التركيبي الّذي وضع له لفظ « اسئل القرية » بنوعه من حيث إنّه هذا النوع الخالي عن لفظ « الأهل » وغيره ممّا يضاف إلى « القرية » إنّما هو استدعاء سؤال القرية.

ولا ريب أنّ استدعاء سؤال أهل القرية بزيادة « الأهل » غير هذا المعنى وليس ممّا وضع له نوع هذا اللفظ ، بل وضع له نوع قولنا : « اسئل أهل القرية » بذكر « الأهل » ونحوه الكلام في مثل : « رفع عن امّتي تسعة » بناء على إضمار « المؤاخذة » فليتأمّل جيّدا ، فإنّه دقيق يرتفع به جملة كثيرة من الاشتباهات ، فلا حاجة إلى ذكر قسم آخر يشمل المجازات

ص: 243


1- الواقعة : 79.

في المفرد سواء كانت قرائنها عقليّة أو لفظيّة أو غيرها ، لعدم اندراج معاني المفردات في اصطلاح صريحا أو غير صريح حسبما حقّقناه سابقا.

في الفرق بين دلالة الاقتضاء ودلالة الإيماء

فائدتان

الاولى

قد ظهر بالإشارات الواقعة في تضاعيف كلماتنا المتقدّمة أنّ الفرق بين دلالة الاقتضاء ودلالة الإيماء - مضافا إلى ما تقدّم من ضابط الفرق بينهما في التقسيم - أنّ المراد في الاولى هو اللازم فقط وفي الثانية هو الملزوم واللازم معا ، غير أنّ الأوّل يراد من اللفظ على وجه الحقيقة والثاني ممّا اريد منه على وجه الكناية ، وأنّ الفرق بينهما وبين دلالة الإشارة كون المراد من اللفظ فيها الملزوم وفيهما اللازم أو هو مع الملزوم.

فبالتأمّل في جميع ذلك مع ما تقدّم ينقدح أنّ الخطاب المفيد للمنطوق قد يكون ذا منطوق واحد صريح ، وهو ما قصد منه ما وضع له فقط كما في مواضع انتفاء الدلالات الثلاث المذكورة لغير الصريح.

وقد يكون ذا منطوق واحد غير صريح كما في دلالة الاقتضاء.

وقد يكون ذا منطوقين صريح وغير صريح مع كونهما معا مقصودين بالأصالة كما في دلالة الإيماء ، أو كون الصريح مقصودا وغيره لازما منه كما في دلالة الإشارة.

ثمّ إنّ ما ذكرناه بالنسبة إلى دلالة الاقتضاء من كون المراد فيها اللازم فقط إنّما هو في مثل قوله : « رفع عن امّتي تسعة » وقوله : « واسئل القرية ».

وأمّا في قوله : « أعتق عبدك عنّي بألف » فهو ذو وجهين ، كون المقصود منه اللازم فقط ، أو الملزوم واللازم معا.

ومبنى الوجهين على كون طريق التأويل فيه على إضمار « مملّكا » فيكون المراد منه استدعاء عتق عبد المخاطب حال كونه مملّكا له منه بالألف ، وهو اللازم ، أو كون طريقه على إرادة استدعاء عتقه واستدعاء تمليكه منه بألف قبله ، والأوّل هو الملزوم فيراد من اللفظ على وجه الحقيقة والثاني لازم منه فيقصد على وجه الكناية ، فيكون اللفظ حينئذ ذا منطوقين صريح وغير صريح مع كونهما مقصودين بالأصالة.

المناطيق الغير الصريحة ظهورات ثانويّة

الثانية

إنّ المناطيق الغير الصريحة ظهورات ثانويّة مستندة إلى ألفاظها يصار إليها لقرائن خارجة

ص: 244

عنها من مقدّمة عقليّة أو شرعيّة أو عرفيّة ، فلا ينبغي الاسترابة في حجّيّتها ووجوب الأخذ بها في استنباط الحكم الشرعي ، ودليله ما دلّ على حجّية ظواهر الألفاظ بقول مطلق.

ولكن ينبغي أن يعلم أنّ من القرائن ما تكون صارفة للّفظ عن ظهوره الأوّلي من غير تعرّض لتعيين شخص اللازم المراد للمتكلّم ، فلا بدّ حينئذ من تحرّي قرينة اخرى للتعيين ولو نحو الأقربيّة العرفيّة ، ومن ذلك ما في قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم : « رفع عن امّتي تسعة » إلى آخره ، فإنّ قصارى ما يلزم فيه من صون هذا الكلام عن الكذب هو القطع بعدم إرادة رفع هذه الامور بأعيانها.

وأمّا كون المرفوع خصوص المؤاخذة أو الحكم الشرعي مطلقا وإن كان وضعيّا فلم يتبيّن من هذه القرينة ، بل لا بدّ معها من اعتبار قرينة اخرى من أقربيّة عرفيّة ونحوها وهي ممّا يختلف باختلاف الأنظار ، ولذا وقع الاختلاف فيما بينهم على قولين.

فالمشهور على الأوّل ، وجماعة منهم الشهيد الثاني على الثاني فحكموا بارتفاع الأحكام الوضعيّة أيضا عن التسعة ، وليس ببعيد بالنظر إلى مقام الامتنان ، ولكنّ الأقرب هو الأوّل.

ولعلّنا نورد فيه بعض (1) في مباحث أصل البراءة عند الكلام في فقه الحديث إن شاء اللّه تعالى.

في تقسيم المفهوم إلى مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة

المقام السادس

في أنّهم قسّموا المفهوم إلى مفهوم موافقة وهو : الحكم الموافق لمنطوق الكلام في الإيجاب والسلب ، كتحريم شتم الوالدين وضربهما المستفاد من قوله تعالى ( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ ) (2) الدالّ على تحريم التأفيف منطوقا ، ومفهوم مخالفة وهو : الحكم المخالف للمنطوق في الإيجاب والسلب ، كنفي وجوب الزكاة عن المعلوفة المستفاد عمّا دلّ على وجوبها في السائمة وقد جرت العادة بتسمية الأوّل بفحوى الخطاب ولحن الخطاب أيضا.

وعن العلاّمة الشيرازي أنّه قال : « إنّما سمّي فحوى الخطاب لأنّ الفحوى ما يفهم منه على سبيل القطع وهذا كذلك ، ولحن الخطاب لأنّه معناه واللحن هو المعنى ، ولمّا كان هذا النوع من المفهوم ممّا سبق فهمه إلى الذهن سمّي بهذا الإسم إشعارا بأنّه كان معناه ». انتهى.

وعن أبي زيد اللغوي أنّه قال : « لحنه أي فهمه ، وألحنه أي أفهمه ».

وفي كلام بعض الأفاضل : والمحكيّ عن البعض أنّه إن كان ثبوت الحكم في المفهوم

ص: 245


1- كذا في الأصل.
2- الإسراء : 23.

أولى من ثبوته في المنطوق سمّي بالأوّل وإن [ كان ] مساويا لثبوته له سمّي بالثاني ».

أقول : ولعلّه لذا قد يقال : والظاهر أن يعتبر في الملحون أن لا يكون في كمال الظهور بل يكون محتاجا إلى إعمال الفطنة ولو قليلا.

ويسمّى الثاني بدليل الخطاب ، وينقسم إلى مفهوم الشرط ، ومفهوم الوصف ، ومفهوم الغاية ، ومفهوم الحصر ، ومفهوم العدد ، ومفهوم اللقب ، وغيرها ، وقيل : الحصر في مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة عقليّ وفي أقسام مفهوم المخالفة استقرائي ، ولا كلام لأحد في حجّية مفهوم الموافقة.

وفي كلام بعض الأفاضل : « والظاهر أنّه لا خلاف في حجّيّته والاعتماد ».

نعم ربّما وقع الخلاف فيه من جهتين اخريين لا من جهة الحجّيّة :

إحداهما : في أنّه هل يشترط في مفهوم الموافقة أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به كآية التأفيف وقولك : « إن ضربك أبوك فلا تؤذه » الدالّ على حرمة الأذيّة مع عدم الضرب بطريق أولى ، وقولك : « لا تؤذي الفاسق » الدالّ على منع أذيّة العادل بطريق أولى ، أو لا؟ بل يكفي المساواة كقولنا : « لا تأكلوا مال اليتامى » الدالّ على حرمة التصرّف المتلف المساوي للأكل في الإتلاف.

والاوّل محكيّ عن المعظم وعن ثاني الشهيدين وهو الحقّ الّذي لا محيص عنه ، لقضاء الوجدان السليم بأنّ الانتقال إلى حكم المسكوت عنه يحصل في العرف والعادة بدلالة الالتزام البيّن بالمعنى الأعمّ ، على معنى أنّه في نحو آية التأفيف يلزم من تصوّر الملزوم وهو : « تحريم التأفيف » وتصوّر اللازم وهو : « تحريم الضرب » وتصوّر النسبة بينهما وهو كون « الضرب » أولى بالتحريم من « التأفيف » في نظر العقل والعرف - لضابطة أنّ من يبغض الأدنى يبغض الأعلى ومن يحبّ الأدنى يحبّ الأعلى - الجزم باللزوم ، على معنى القطع بأنّ المتكلّم القاصد للملزوم قاصد للاّزم أيضا وليس كذلك الحال في المتساوي ، إذ لا يلزم من تصوّر الطرفين والنسبة بينهما وهو التساوي الجزم باللزوم كما هو واضح.

ثانيتهما : في أنّ تعدية الحكم من المنطوق به إلى المسكوت هل هو بطريق القياس - أي إلحاق فرع كالضرب بأصل كالتأفيف - في الحكم كالحرمة لجامع بينهما وكونه علّة للحكم في الأصل وأقوى وآكد في الفرع - أم هو بدلالة اللفظ؟ وبالتأمّل في الجهة الاولى تعرف أنّ الأصحّ هنا هو القول الثاني ، لأنّ الالتزام البيّن - ولو بالمعنى الأعمّ - من دلالة

ص: 246

أصل

الحقّ أنّ تعليق الأمر بل مطلق الحكم على شرط ، يدلّ على انتفائه عند انتفاء الشرط(1) (1).

________________________________

اللفظ ، فإنّا نجد أنّ الانتقال إلى حكم الفرع ليس للحركة الذهنيّة إلى الجامع وكونه في الأصل علّة للحكم وفي الفرع أقوى وآكد في الاقتضاء ، بل بواسطة الانتقال من ملزوم إلى لازم لملازمة كشف عنها أولويّة المسكوت عنه بالحكم في نظر العرف والعقل ، لضابطة ما ارتكز في الأذهان السليمة من أنّ من يبغض الأدنى يبغض الأعلى ومن يحبّ الأدنى يحبّ الأعلى ، فهذا هو معنى دلالة اللفظ ، لا كما قيل في بيانها من كون هذا الكلام منقولا عن معناه اللغوي وهو الحكم على الأدنى إلى الحكم عليه وعلى الأعلى ، فقوله تعالى : ( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ ) (1) معناه المنقول إليه المنع من جميع أنواع الأذى ، فإنّ النقل المدّعى سواء اريد به النقل الوضعي المستتبع لتجدّد وضع عرفي في لفظ : « التأفيف » لمطلق الأذى ، أو النقل المجازي وهو التجوّز في اللفظ بإرادة الأذى مطلقا ، مع وضوح فساده - حيث لم يقل به أحد - ينافي كون الخطاب في محلّ المفهوم ذا دلالتين منطوقيّة ومفهوميّة مع كون الاولى مطابقيّة والثانية التزاميّة ، إذ هذا الّذي وصف صار [ ذا ] دلالة واحدة مجازيّة.

* وتفصيل القول في المبحث ليتضح به ما هو الحقّ في محلّ البحث يستدعي تمهيد مقدمات :

في معنى الشرط

المقدّمة الاولى

في أنّ الشرط بالسكون بحسب العرف الكاشف عن اللغة ، إلزام الشيء والتزامه حسبما ينساق منه عند إطلاق مشتقّاته ، كقولك : « شرط زيد أن يفعل كذا » و « شرط عليه عمرو أن يفعل كذا » و « شرط زيد أن لا يخرج زوجته من البلد » و « شرطت زوجته عليه أن لا يخرجها من الوطن » وهكذا ، فإنّ المتبادر منه هو ما ذكر ، وهو المصرّح به في كلام جمّ غفير من أساطين العلماء وغير واحد من أئمّة اللغة.

فعن الصحاح : « الشرط معروف وكذلك الشريطة ، والجمع شروط وشرائط ، وقد شرط

ص: 247


1- الإسراء : 23.

عليه كذا ويشرط واشترط عليه ».

فإنّ قوله : « معروف » إحالة لمعرفته إلى العرف ، فيكون تنصيصا بالمعنى العرفي كما هو ديدنهم في بيان المعاني المعروفة عند العامّة.

ويوافقه ما في القاموس من أنّ : « الشرط إلزام الشيء والتزامه في البيع ونحوه » بناء على كون لفظ « ونحوه » لتعميم المعنى بالقياس إلى مشاركات البيع في الجنس القريب والبعيد معا ، فيشمل الإيقاعات أيضا كالنذر وأخويه كما فهمه بعضهم ونفى عنه البعد بعض الأفاضل.

ويحتمل اختصاصه بالمشاركات في الجنس القريب كالعقود ، فيكون مؤدّاه أخصّ ممّا في الصحاح لاختصاصه بالشروط الضمنيّة المأخوذة في ضمن العقود اللازمة ، هذا بحسب العرف العامّ ثمّ يتمّ بالنسبة إلى الصدر الأوّل من اللغة إلى زمن الشارع وما بعده بأصالة عدم النقل.

وعليه يحمل ما في رواية : « المؤمنون عند شروطهم » (1) بناء على أنّ الإلزام عبارة عن إيجاد سبب اللزوم لا إيجاد نفسه ، لوضوح أنّ جعل اللزوم الشرعي عند إيجاب سببه لا يكون إلاّ من فعل اللّه سبحانه.

وممّا يؤيّده عدم صدقه على « الأمر » الّذي هو أيضا إلزام بمعنى جعل اللزوم.

ويوافقه مفاد الرواية - بناء على كونها في موضع الإنشاء صونا لها عن الكذب ومخالفة الإجماع - لوضوح أنّ الواجب على المؤمنين الوفاء بما يوجدونه من الأسباب الملزمة ، على معنى القيام بمقتضاها.

ومن هنا صحّ الاستدلال بها على صحّة جميع الأسباب الشرعيّة وإفادتها اللزوم ، حتّى العقود والشروط المأخوذة في ضمنها فضلا عن النذر وأخويه.

ثمّ إنّ عطف الالتزام على الإلزام في عبارة القاموس يحتمل التفسير ، فيكون الإلزام مرادفا للإلتزام وعلى الإلزام على النفس ويحتمل المبائنة من ذكر الخاصّ بعد العامّ ، فيعمّ الإلزام كلاّ ممّا هو على الغير وما هو على النفس ، أو من ذكر المبائن بعد المبائن فيكون الإلزام عبارة عمّا هو على الغير ، وعليه فالظاهر أنّ لفظ « الشرط » بينهما على التواطؤ والاشتراك المعنوي لا الاشتراك اللفظي ولا الحقيقة والمجاز ، وقد يرجّح الأخير لتبادر الإلزام وصحّة السلب عن الالتزام ، مع ما في الاشتراك لفظا من مخالفة الأصل والقاعدة ، وما في الاشتراك معنى من فقد الجهة الجامعة ، ويزيّفه : أنّ المعنى العرفي المتقدّم المأخوذ

ص: 248


1- الوسائل 15 : 30 ، الباب 20 من أبواب المهور ، ح 4.

لا بقيد كونه على النفس أو على الغير جامع قريب ، ودعوى صحّة السلب كذب ، والتبادر ممنوع ولو سلّم فإطلاقيّ.

ويطلق « الشرط » في العرف العامّ أيضا على وجه الحقيقة على ما يتوقّف عليه وجود الشيء مطلقا ، بالمعنى الشامل للمقدّمات الداخليّة والخارجيّة السببيّة أو الشرطيّة ، كما تنبّه عليه بعض الأفاضل وعزاه إلى استاذه العلاّمة إطلاقا شائعا حقيقيّا ، لعدم صحّة سلب « الشرط » عن العلل والأسباب والشرائط والأجزاء كما يظهر بأدنى تأمّل.

ويكشف عن عدم صحّته الاستنكار العرفي فيقال : « شرط حركة المفتاح حركة اليد » ولو قيل « ليس شرطا له » كان مستهجنا.

ويقال : « النظر المنطقي شرط لحصول العلم » و « الصعود من السلّم شرط للكون على السطح » و « كل من المادّة والصورة شرط للسرير » ولا يصحّ في شيء منها القول بأنّه ليس شرطا.

وعليه ينطبق ما ورد في صحيحة فضيل من قوله : « ما الشرط في الحيوان؟ قال عليه السلام : ثلاثة أيّام للمشتري ، قلت : وما الشرط في غير الحيوان؟ قال عليه السلام : البيّعان بالخيار ما لم يفترقا » (1). أي شرط الخيار ومعناه ما يتوقّف عليه ثبوته.

ومنه ما ورد من أنّه : « من قال : لا إله إلاّ اللّه وجبت له الجنّة بشرطها وشروطها » (2) فإنّ الشرط بمعنى التصديق بالولاية إمّا جزء ، إن جعل قول « لا إله إلاّ اللّه » كناية عن الإيمان ، أو شرط اصولي إن جعل كناية عن كلمة التوحيد.

ويؤيّد ثبوت هذا المعنى عرفا كونه في الاصطلاح - على ما ستعرفه - لمعنى لا يلائم الإلزام والالتزام ، نظرا إلى أنّه لا يكون إلاّ بالنقل الّذي يعتبر فيه ملاحظة المناسبة ، فلا بدّ وأن يكون المعنى المنقول منه هو مطلق ما يتوقّف عليه وجود الشيء ، فيكون نقله إلى المتوقّف عليه الّذي يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده الوجود من نقل العامّ إلى الخاصّ ، لا الإلزام والالتزام لكمال البينونة بين المعنى المصدري الحدثي والمعنى الإسمي الجامدي.

وإذا ثبت كون ذلك المعنى أيضا معنى عرفيّا فلا محيص من الالتزام بالاشتراك لفظا بينه وبين المعنى الأوّل ، لعدم صحّة السلب ، وفقد الجامع القريب ، لما عرفت من البينونة في الحدثيّة والإسميّة.

ومن الأعاظم من فصّل فيهما بين اللغة والعرف ، فجعله في اللغة حقيقة في مطلق

ص: 249


1- الخصال : 127.
2- عوالي اللآلي 4 : 94.

الإلزام والالتزام. وفي العرف حقيقة في الانتفاء عند الانتفاء.

ثمّ إنّ « الشرط » في لسان أهل الصناعات يطلق على معان اخر فعند الاصوليّين على ما عرفت : « ما يلزم من عدمه العدم ، ولا يلزم من وجوده الوجود ».

وعند النحويّين على ما يلي : إحدى أدوات الشرط وإن لم يقصد بها التعليق ك- « إن » و « لو » الوصليّتين.

وفي كلام غير واحد : أنّه قد يطلق على العلّة وقد يعبّر عنها بالسبب.

وفي كلام جماعة : أنّه قد يطلق على الجملة الشرطيّة ، وهي المصدّرة بإحدى أدوات الشرط.

ولا ينبغي التأمّل في تحقّق الاصطلاح بالقياس إلى الأوّلين وتحقّقه بالقياس إلى الثالث محلّ شكّ ، لجواز كون الإطلاق عليه باعتبار المعنى العرفي العامّ.

والظاهر تحقّقه في المعنى الثالث (1) عند الاصوليّين في هذه المسألة ، كما في قولهم : « مفهوم الشرط حجّة ، أو ليس بحجّة ».

ولذا قد يقال : إنّ موضع النزاع في الحجّيّة وعدمها هو هذا المعنى لا المعنى العرفي العامّ ولا مصطلح الاصولي ولا النحوي ، وهو كما ترى معارض بقولهم الآخر : « تقييد الحكم بالشرط أو تعليقه على الشرط يقتضي الانتفاء عند الانتفاء أو لا يقتضي » إذ لا يعقل كون الجملة الشرطيّة قيدا لحكمها ولا معلّقا عليها ذلك الحكم ، ولو صحّحنا إرادة الجملة في العبارة الاولى بتكلّف تأويل « الباء » سببيّة ليكون المعنى : تقييد الحكم بسبب الجملة الشرطيّة ، لما صحّ ذلك في العبارة الثانية لعدم صحّة السببيّة في كلمة الاستعلاء.

هذا ، ولكنّ التحقيق أنّ مصطلح النحوي مع هذا المعنى الاصولي متلازمان ، إذ الجملة الشرطيّة لا يراد إلاّ ما اشتمل على جزء يسمّيه النحاة شرطا ، والّذي يسمّونه شرطا لا يكون إلاّ جزء ممّا يعبّر عنه الاصوليّون بالشرط ، فلا يوجب إرادة شيء من المعنيين إخلالا بمحلّ النزاع ، وأيّ منهما دخل في الإرادة فهو محلّ للنزاع.

نعم يختلف ذلك على حسب اختلاف العبارات الصادرة منهم في عنوان المسألة وتقرير النزاع حسبما تقدّم ، فإن قالوا : « مفهوم الشرط حجّة » لا مناص من حمله على

ص: 250


1- كذا في الأصل ، والصواب : « الرابع » بدل « الثالث » والمراد به هو ما في كلام الجماعة من أنّه يطلق على الجملة الشرطيّة.

الجملة الشرطيّة ، وإن قالوا : « تعليق الحكم على الشرط » لا مناص من حمله على مصطلح النحوي ، وإن قالوا : « تقييد الحكم بالشرط » فهو جائز الأمرين ، نظرا إلى احتمالي السببيّة وغيرها في كلمة « باء » وإن كان ظاهرا في مصطلح النحوي أيضا.

وأمّا الشرط بالتحريك فهو لمعان لا دخل لها بمحلّ البحث أصلا ومنها العلامة فالأولى عدم الإطناب بالتعرّض لذكرها.

في بيان إطلاقات الجملة الشرطيّة

المقدّمة الثانية

في بيان إطلاقات الجملة الشرطيّة ، فإنّها في العرف بالمعنى الدائر بين العامّ والخاصّ تطلق على معان كثيرة :

فقد تطلق ويراد منها علقة السببيّة التامّة المنحصرة ، على معنى إفادة كون الشرط سببا تامّا للجزاء مع الانحصار أي انحصار السبب فيه ، كقولنا : « إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود ».

وقد تطلق ويراد منها علقة السببيّة التامّة الغير المنحصرة ، كقولنا : « إذا بلت فتوضّأ ».

ومنه قوله : « لولا عليّ لهلك عمر » ومنه قول الحماسي : « لو طار ذو حافر قبلها لطارت ولكنّه لم يطر » (1) وعلى هذا جرى قاعدة أهل الميزان في القياس الاستثنائي من أنّ استثناء نقيض التالي ينتج رفع المقدّم دون العكس ، ممثّلين له بقولهم : « إن كان هذا إنسانا كان حيوانا ».

وقد يطلق ويراد منها علقة السببيّة الغير التامّة كقولك : « إن بعت دارك مثلا تملّكت الثمن ».

وقد يطلق ويراد منها غير علقة السببيّة وهو على وجوه :

منها : أن يراد منها علقة الشرطيّة كقولك : « إن قبضت في المجلس صحّ الصرف ».

ومنها : أن يراد منها علقة التلازم في معلولي علّة ثالثة كقولك : « إن كان النهار موجودا فالعالم مضيء ».

ومنها : أن يراد علقة التلازم في لازمي ملزوم واحد كقولك : « إن كان هذا كاتبا فهو ضاحك ، وإن كان هذا قابلا للعلم فهو قابل للصنعة والكتابة ».

ومنها : أن يراد كون الأوّل كاشفا عن وجود الثاني ، ويقال له : علّة الحكم بوجود [ الثاني ] كقولنا : « إن نزل الثلج فالزمان شتاء » و « إن كان النهار موجودا فالشمس طالعة ».

ومنها : أن يراد اجتماع الثاني مع الأوّل لمجرّد المقارنة الإتّفاقيّة من دون علاقة بينهما

ص: 251


1- القوانين : 72 ومختصر المعاني : 95.

كقولنا : « إن كان الإنسان ناطقا كان الحمار ناهقا ».

وقد تطلق ويراد منها : التسوية بين وجود الشرط وعدمه في وجود الجزاء.

وبعبارة اخرى : تعميم الجزاء بالقياس إلى تقديري وجود الشرط وعدمه ، كقولك : « إن أكرمتني أو لم تكرمني اكرمك » و « إن جاءك أو لم يجئك زيد فأكرمه » ومنه « أكرم الضيف ولو كان كافرا » و « أعط الفقير وإن كان درهما ».

في ظهور الجملة الشرطيّة في العلقة فيما بين الشرط والجزاء

وقد تطلق ويراد منها : رفع التوهّم عن مخاطب توهّم علقة بين الشرط ونقيض الجزاء ، بعد ما كانت العلقة بين الجزاء ونقيض الشرط مفروغ عنهما عنده ، كقولك : « إن ضربك أبوك فلا تؤذه » و « إن أهانك أبوك فلا تضربه » و « إن خذلك فلا تقتله » ويمكن إرجاعه إلى سابقه بنحو من الاعتبار ، وأمّا كونه عينه كما سبق إلى بعض الأوهام فلا خفاء في بطلانه كما يظهر بأدنى تأمّل.

والعمدة في هذه المقدّمة النظر في أنّ القضيّة الشرطيّة لو خلّيت وطبعها وجرّدت عمّا سواها من الداخلة والخارجة ظاهرة في أيّ من هذه المعاني ظهورا وضعيّا أو إطلاقيّا أو انصرافيّا؟

فنقول : المعروف المشهور فيما بين الاصوليّين بل مطلق أهل اللغة من أهل العربيّة وغيرهم كونها ظاهرة في علقة السببيّة التامّة المنحصرة ، وهذا ينحلّ إلى دعوى ظهورات أربع : ظهور الجملة الشرطيّة في العلقة والربط بين الشرط والجزاء ، وظهورها في كون هذه العلقة علقة سببيّة الشرط للجزاء ، وظهورها في تماميّة السبب ، وظهورها في انحصاره في الشرط. فالكلام في تحقيق المعنى المذكور بالنظر إلى الظهورات المذكورة يقع في جهات :

الجهة الاولى

في أنّه لا ينبغي التأمّل في ظهورها في العلقة والربط فيما بين الشرط والجزاء - على معنى اتّصال مضمون الجملة الجزائيّة بمضمون الجملة الشرطيّة وكونه مربوطا به - بل هو ممّا لا خلاف فيه ، كما هو المصرّح به في كلام غير واحد ، بل الظاهر أنّه محلّ وفاق كما يفصح عنه تقريرهم النزاع في الحجّيّة وعدم الحجّيّة في الجهة الرابعة.

لنا على ذلك : تبادر العلاقة والربط ، وعدم تبادر غيره من مجرّد المقارنة الإتّفاقيّة بينهما بلا علاقة أصلا ، والتسوية ، ورفع التوهّم ، والأوّل علامة الحقيقة والثاني علامة المجاز.

مضافا إلى قضاء الوجدان بأنّ المصير إلى غيره من المعاني الثلاث المذكورة لا يتأتّى

ص: 252

إلاّ بمعونة خارج من قرينة حاليّة أو مقاليّة أو عقليّة وهذا أيضا آية المجاز.

وإلى أنّه لولاه لساوت الشرطيّة والحمليّة في إفادة المطلب وهو ممّا يكذبه طريقة العرف وضرورة الوجدان ، بل من ضروريّات العرف واللغة ثبوت الفرق بين الشرطيّة والحمليّتين المنحلّ إليهما الشرطيّة بعد تجريدها عن أداة الشرط وما لزمها غالبا من الفاء الجزائيّة ، كقولنا : « إن جاءك زيد فأكرمه » فإنّها بعد التجريد المذكور تنحلّ إلى قولنا : « جاءك زيد » وقولنا : « أكرم زيدا » والفرق الثابت بينهما بضرورة العرف واللغة لا يكون إلاّ في أنّ الشرطيّة بنفسها تقتضي علاقة وربطا بين جزئيها وهو اتّصال الجزاء بالشرط وارتباطه به ، بخلاف الحمليّتين فإنّ قولنا : « جاءك أو يجيئك زيد » لا يقتضي لذاته اتّصال مضمون جملة « أكرم زيدا » بضمونها وكونه مربوطا به ، كما أنّ قولنا : « أكرم زيدا » لا يقتضي لذاته ارتباط مضمونها بمضمون جملة : « جاءك أو يجيئك زيد » وهذا آية المغايرة بينهما بحسب المعنى فيكون استعمال الشرطيّة في غير ما قصد به إفادة العلقة والربط استعمالا في غير ما وضع له كالمعاني الثلاث المذكورة فيكون مجازا.

وبالتأمّل فيما قرّرناه ينقدح أنّ الظهور المدّعى في هذه الجهة ظهور وضعي.

لا يقال : عدم قصد العلقة والربط منها فيما يقصد بها التسوية خصوصا نحو : « أكرم الضيف ولو كان كافرا » وما يقصد بها رفع التوهّم محلّ منع ، بل الظاهر أنّ المتكلّم في مثل : « أكرم الضيف ولو كان كافرا » قصد إفادة كون الحكم مترتّبا على وصف « الضيافة » بلا مدخليّة للإيمان وعدم الكفر فيه ، بكون « الإيمان » شرطا أو « الكفر » مانعا ، وفي مثل : « إن ضربك أبوك فلا تؤذه » و « إن أهانك أبوك فلا تضربه » قصد إفادة ترتّب الحكم على وصف الابوّة في الأب بلا مدخليّة للضرب وعدمه أو الإهانة وعدمها فيه ، وكذا الحال في سائر الأمثلة ممّا اخذ فيه وصف عنواني مع موضوع الحكم ، ولا ريب أنّ الترتّب المقصود من القضيّة يتضمّن العلقة والربط في أخصّ صورها وهو السببيّة التامّة.

لأنّا نقول : هذا خارج عن معقد البحث وهو قصد العلقة والربط في الجملة الشرطيّة بين الجزاء والشرط ، والمفروض ليس منه بل هو من قصد العلقة والربط بين الحكم والوصف العنواني المأخوذ مع موضوعه ، فالأمثلة المذكورة في الحقيقة من تعليق الحكم على الوصف ، ورد في الكلام بصورة القضيّة الشرطيّة لكنتة التنبيه على علّيّة الوصف وكونه سببا تامّا لعدم مدخليّة الشرط فيه وجودا وعدما.

ص: 253

نعم ربّما يتوهّم فيما اريد منه المقارنة الاتّفاقيّة كونه مستعملا في العلقة والربط الادّعائي ، فأصل الاستعمال حقيقة والتصرّف في أمر عقلي وهو جعل المقارنة بين الشرط والجزاء فردا من العلقة والربط الحقيقي ، فوجه استعمال الشرطيّة في المقارنة الاتّفاقيّة هو وجه استعمالها في العلقة والربط وهو كونه استعمالا فيما وضع له وهو مشكل ، ولو تمّ فلا يقدح فيما ادّعيناه من الظهور بل يؤكّده.

في ظهور الجملة الشرطيّة في سببيّة العلقة والربط

الجهة الثانية

في أنّه لا ينبغي الاسترابة في ظهورها في سببيّة العلقة والربط ، على معنى كون الشرط سببا للجزاء مؤثّرا في وجوده فيكون الجزاء مسبّبا عنه ، كما هو المصرّح به في كلامهم من غير خلاف يظهر عدا ما ستعرفه من العلاّمة مع ما يزيّفه ، لتبادر الربط السببي وعدم تبادر غيره ممّا نذكره ، فقولنا : « إن أكرمتني أكرمتك » و « إن شتمتني شتمتك » و « إن جئتني جئتك » و « إن ضربتني ضربتك » و « إن جاءك زيد فأكرمه » و « من يأتيني فله درهم » و « من دخل الدار فأعطه درهما » إلى غير ذلك من الأمثلة يتبادر في الجميع ترتّب الجزاء على الشرط باعتبار كون الشرط سببا مؤثّرا في وجوده ، تبادرا مستندا إلى حاقّ اللفظ الغير الملحوظ معه غيره من الامور الخارجة عنه ، حتّى أنّه لو خلّي وطبعه في مثل : « إن قبضت صحّ الصرف » و « إن كان النهار موجودا فالشمس طالعة » و « إن كان النهار موجودا فالعالم مضيء » و « إن كان هذا كاتبا كان ضاحكا » و « إن كان قابلا للعلم كان قابلا للصنعة والكتابة » و « إن كان هذا إنسانا كان حيوانا » يتبادر منه أيضا كون الجزاء مترتّبا على الشرط ، باعتبار سببيّة الشرط وإنّما لم نحمله عليه لمنع خارج يصرفه عن الربط السببي من قرينة شرعيّة أو عقليّة أو غيرهما ، لوضوح أنّه لو لا علمنا من أمر شرعي أو أمر عقلي أو غيرهما بأنّ الشرط في هذه الأمثلة ليس سببا للجزاء لم يستبق إلى أذهاننا إلاّ الربط السببي في الشرط وترتّب الجزاء عليه في الوجود.

ويتأكّد هذا التبادر بالتأمّل في مفاد « اگر » الّذي هو ترجمة « إن » و « لو » في الفارسيّة ، ويؤيّده ما هو المصرّح به في كلام أهل العربيّة من أنّ « إن » لسببيّة الأوّل للثاني ، وتفسيرهم أيضا الشرطيّة بسببيّة الأوّل للثاني أو للحكم به ، وجعلهم أيضا كلم المجازاة للشرطيّة المفسّرة بالسببيّة والمسبّبيّة بين الجملتين ، وتعبيرهم عن الجملة الثانية بالجزاء الّذي هو عبارة عمّا يترتّب على غيره في الوجود ، ونحوه تعبيرهم عن الأسماء المتضمّنة لمعنى

ص: 254

الشرط أو مطلق أدوات الشرط ب- « كلم المجازاة » من الجزاء بالمعنى المذكور.

وأقوى ما يشهد بما ذكرنا نزاعهم في مفاد كلمة « لو » من أنّها هل هي لامتناع الثاني لامتناع الأوّل كما هو المشهور بين الجمهور وجعلوا منه قوله تعالى : ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا ) (1) أو لامتناع الأوّل لامتناع الثاني كما عليه الحاجبي - مستندا إلى أنّ الأوّل سبب والثاني مسبّب وانتفاء السبب لا يدلّ على انتفاء المسبّب ، لجواز تعدّد الأسباب وقيام سبب آخر ، ولكن انتفاء المسبّب يدلّ على انتفاء السبب ، لأنّ عدمه لا يكون إلاّ بعدم جميع أسبابه - فإنّ أصل سببيّة الأوّل للثاني مسلّمة عند الفريقين والنزاع إنّما هو في استلزام عدمه لعدم الثاني وعدمه.

وبالتأمّل في جميع ما قرّرناه يظهر أنّ ظهور الجملة الشرطيّة في سببيّة العلقة والربط أيضا وضعي ، وهاهنا كلامان :

أحدهما : للعلاّمة في التهذيب عند الاحتجاج على حجّيّة مفهوم الشرط : « بأنّ الشرط ليس علّة لوجوده ولا مستلزما له ، فلو لم يستلزم العدم العدم خرج عن كونه شرطا ». انتهى.

فإن أراد من عدم استلزام وجوده الوجود أنّ الجملة الشرطيّة وإن أفادت السببيّة ولكنّها لا تفيد تماميّة السبب ، بل يحتاج في تأثيره واقتضائه إلى انضمام أمر آخر إليه وجوديّ يقال له : « الشرط » أو عدميّ يقال له : « المانع » فهو لا ينافي ما حقّقناه ، لأنّه لا ينكر أصل السببيّة بل ينكر تماميّته ، وهذا كلام آخر يتعلّق بالجهة الآتية.

وإن أراد منه أنّها تفيد الربط الشرطي على معنى كون الأوّل شرطا اصوليّا للثاني ، فهو خلط بين الاصطلاحين كما تنبّه عليه بعض الأعلام ، نشأ غفلة عن كون مرادهم بالشرط في تضاعيف هذه المسألة هو الشرط النحوي لا الشرط الاصولي ليكون معناه : ما لا يلزم من وجوده الوجود.

ولقد عرفت أنّ المتبادر من الجملة عند إطلاقها كون الشرط النحوي سببا اصوليّا ، ولذا فسّرت الشرطيّة عندهم بسببيّة الأوّل للثاني.

وثانيهما : ما سبق إلى بعض الفضلاء من كون ظهور الربط السببي من الجملة أو من الأداة باعتبار الإطلاق ، على معنى أنّه من انصراف المطلق إلى هذا الربط الخاصّ كما هو الظاهر من عبارته ، حيث إنّه جعل أدوات الشرط موضوعة لعلقة اللزوم وهو كون الثاني

ص: 255


1- الأنبياء : 22.

لازم الحصول لحصول الأوّل ، ثمّ حصرها في علقة العليّة بأنواعها الثلاث وهو : كون الأوّل سببا للثاني ، أو مسبّبا عنه ، أو مشاركا له في العلّة.

فقال : « إنّ أدوات الشرط في هذه الموارد ونظائرها إنّما تستعمل لإفادة كون الجزاء لازم الحصول للشرط.

وأمّا أنّ الشرط سبب للجزاء أو مسبّب عنه أو مشارك له في العلّة فمستفاد من امور خارجة ولا اختصاص لها بأحدها ».

إلى أن قال : « لكن حيث إنّ الظاهر من اللزوم عند الإطلاق هو اللزوم بدون الواسطة يتبادر منه عند الإطلاق كون الشرط شرطا والجزاء مشروطا ، بل نقول الظاهر من اعتبار المقدّم ملزوما والتالي لازما أن يكون الملزوم شرطا بالمعنى المتقدّم واللازم مشروطا له مطلقا ، يعني كون الأوّل سببا والثاني مسببا وهو المعنى المتقدّم ».

ثمّ قال : « منشؤه أنّ صفة اللازميّة لازمة للمشروط دون الشرط ، فإنّه قد لا يكون لازما ، فلها مزيد اختصاص به ولهذا ينصرف مطلقها إليه ، فهذا هو السرّ في تبادر شرطيّة الشرط للجزاء عند الإطلاق مطلقا ، لا كون أداته موضوعة لذلك إذ المفهوم منها في الموارد ليس إلاّ معنى واحدا وهو كون الجزاء لازما للشرط ». انتهى.

وملخّصه : أنّ الجملة الشرطيّة بوضع الأداة تفيد الملازمة بين المقدّم والتالي مطلقا ، وهذا ينصرف إلى كون المقدّم ملزوما والتالي لازما مطلقا ، وإطلاق لازميّة التالي ينصرف إلى كونه مشروطا وملزومه شرطا (1).

ويرد عليه : أنّ الانصراف لا بدّ له من موجب ، فإن كان لكمال الفرد بدعوى : أنّ لازميّة التالي للمقدّم له فردان ، أحدهما : كون المقدّم شرطا أي سببا له ، والآخر : كونه مشاركا له في العلّة ، والأوّل أكمل الفردين فينصرف إليه إطلاق اللازميّة.

فيرد عليه : أنّ كمال الفرد لا يصلح موجبا للانصراف عند المحقّقين كما هو المحقّق وإن كان بالغلبة والشيوع على معنى أنّ الغالب في لازميّة التالي للمقدّم كون المقدّم شرطا وسببا له فينصرف إليه مطلقها.

ففيه : أنّ ظهور الجملة أو الأداة في السببيّة إنّما هو لحاقّ اللفظ من دون غلبة ولا شيوع كما هو واضح.

ص: 256


1- كذا في الأصل ، والأنسب أن يقال : « وإطلاق لازميّة التالي ينصرف إلى كونه مسبّبا وملزومه سببا ».

فإنّ التحقيق أنّ أوّل ما ينتقل إليه الذهن من اللفظ هو الربط الخاصّ أعني الربط السببي ، لا أنّه ينتقل أوّلا إلى الربط اللزومي مطلقا ثمّ ينتقل ثانيا إلى الربط السببي.

في ظهور الجملة الشرطيّة في تماميّة السبب واستقلاله

الجهة الثالثة

في أنّه لا ينبغي التشكيك في ظهورها في تماميّة السبب واستقلاله ، على معنى عدم افتقار الشرط في ترتّب الجزاء عليه واقتضائه لوجوده إلى انضمام وجود أمر وجوديّ يقال له : « الشرط » إليه ، ولا إلى اعتبار عدم أمر عدمي يقال له : « المانع » معه ، بحيث لولا وجود الأوّل أو عدم الثاني لم يكن وجوده كافيا في ترتّب الجزاء عليه.

ومرجع هذا الظهور إلى التلازم بينهما في الوجود ، على معنى كون الشرط كالمجيء في قولنا : « إن جاءك زيد فأكرمه » بمقتضى ظهور التعليق بحيث كلّما وجد كان وجوده كافيا في ترتّب الجزاء عليه ، سواء وجد معه غيره ممّا احتمل كونه شرطا من أجزاء العالم أو لم يوجد ، وسواء عدم معه غيره ممّا احتمل كونه مانعا من أجزاء العالم أو لم يعدم ، فلو احتمل في المثال المذكور كون عدالة زيد أو ركوبه معتبرا مع مجيئه في وجوب إكرامه أو احتمل كون فسقه مانعا من وجوب إكرامه لم يلتفت إليه ، بل يبني على عدم الشرطيّة وعدم المانعيّة عملا بالظهور المذكور ، وهذا الظهور يفارق الظهور المتقدّم في الجهتين الاوليين في كون ما تقدّم ظهورا وضعيّا وهذا إطلاقي ، لاستناده إلى إطلاق ورود الشرط في القضيّة ، بمعنى عدم ذكر قيد وجوديّ ولا عدمي معه.

فالشكّ في شرطيّة شيء في تأثيره واقتضائه في وجود الجزاء أو في مانعيّة شيء آخر من تأثيره واقتضائه ، يرجع إلى الشكّ في تقييده بالقيد الوجودي أو العدمي ليكون المؤثّر التامّ هو المقيّد ، فينفى بالإطلاق وأصالة عدم التقييد.

مضافا إلى أنّه لولا المؤثّر والسبب التامّ في نظر المتكلّم هو الشرط المذكور في القضيّة مطلقا ولا بشرط شيء من القيود الوجوديّة والقيود العدميّة لزم السكوت عن بيان القيد في محلّ الحاجة إلى البيان وأنّه قبيح ، لكونه من الإغراء بالجهل القبيح على المتكلّم الحكيم ، وتوهّم سبق ذكر القيد أو عدم الحاجة إلى ذكره مدفوع بفرض خلافه.

لا يقال : كيف يمكن نفي المدخليّة في التأثير عن كلّ ما عدا الشرط تمسّكا بالإطلاق ، مع أنّه قد يكون الشيء سببا للشرط ، أو شرطا من شروطه ، أو سببا لسببه ، أو شرطا من شروط سببه ، إلى غير ذلك من مقدّمات وجود الشرط الّتي لها مدخليّة في تأثيره ولو

ص: 257

بالواسطة ، بل نفي المدخليّة من نحو هذه المقدمات غير معقول ، إذ لا تحقّق للشرط بدونها حتّى يترتّب عليه الجزاء بالاستقلال ، لعدم كون محلّ التمسّك بالإطلاق نحو هذه الامور.

أمّا أوّلا : فلعدم كون مدخليّة هذه الامور من محلّ الاحتمال والشكّ ليصحّ نفيه بالإطلاق أو الأصل.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الغرض نفي مدخليّة ما احتمل مدخليّته من الامور الملحوظة في جانب العرض من الشرط ، لا نفيها فيما احتمل مدخليّته من الامور الواقعة في جانب طوله ، والامور المذكورة من هذا القبيل لكونها من مقدّمات وجود الشرط لا ممّا احتمل كونه كالشرط مقدّمة لوجود الجزاء.

والأصل فيما ذكرناه من الفرق : أنّ الكلام في تماميّة الشرط واستقلاله بعد الفراغ عن إحراز وجوده ولا يمكن له الوجود إلاّ بعد تحقّق جميع ما له مدخليّة في وجوده.

فإذا وجد أو فرض إمكان وجود [ ه ] بتحقّق جميع مقدمات وجوده ثمّ شكّ في مدخليّة شيء آخر في تأثيره ممّا ليس من قبيل مقدّمات وجوده - كعدالة زيد ، أو ركوبه ، أو عدم فسقه ، أو نحو ذلك ممّا يحتمل مدخليّته مع مجيئه في تأثيره في وجود [ ه ] ممّا هو على تقدير ثبوت المدخليّة من مقدّمات وجود الجزاء لا من مقدّمات وجود الشرط حتّى أنّه لو كان الجزاء من قبيل الوجوب كوجوب إكرام زيد كان ذلك على تقدير المدخليّة من شروط الوجوب لا من مقدّمات وجود شرطه وسببه - ينفى احتمالها بالإطلاق والأصل.

هل الشرط سبب على التعيين أو على البدل؟

الجهة الرابعة

في أنّ الشرط بعد ما ثبت كونه سببا تامّا - على معنى ثبوت التلازم بينه وبين الجزاء في الوجود - هل هو سبب على التعيين باعتبار انحصار سبب وجود الجزاء فيه ، أو على البدل باعتبار كونه أحد أسباب وجود الجزاء؟

فعلى الأوّل يثبت بينهما التلازم في العدم أيضا ، فمرجع البحث في ظهور الجملة الشرطيّة أو أداة الشرط في انحصار السبب في الشرط المذكور فيها وعدم ظهورها فيه إلى ظهورها في التلازم بينهما في العدم أيضا ، على معنى كون الشرط بمقتضى ظاهر التعليق بحيث يلزم من عدمه مطلقا عدم الجزاء ، أي سواء قام مقامه ما احتمل كونه سببا أو لم يقم.

فملخّص عنوان البحث في الجهة الرابعة : أنّ الجملة الشرطيّة بمقتضى ظاهر التعليق هل تفيد كون الشرط سببا على التعيين ، أو تفيد كونه سببا مع السكوت عن كونه كذلك

ص: 258

على التعيين أو على البدل.

فنقول : الظاهر المتبادر من الجملة الشرطيّة في متفاهم العرف كقوله : « إن جاءك زيد فأكرمه » كون وجود الجزاء بحيث يترتّب على وجود الشرط ، فيكون بحيث يترتّب عدمه على عدمه.

وهذا هو معنى التلازم بينهما في العدم ، حصل انفهامه بعد انفهام التلازم في الوجود.

فالظهور وضعيّ من باب دلالة الالتزام باللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ وبذلك يفارق عن الظهورات الاخر.

وتوضيح المقام : أنّ التعليق المستفاد من الجملة الشرطيّة المفيد للسببيّة من مقتضى أداة الشرط بوضعها الإفرادي لا من مقتضى أصل الجملة الشرطيّة وذلك أنّ الجملة الشرطيّة بحسب الأصل جملتان حمليّتان : ك- « جاءك زيد » و « أكرمه » في المثال المذكور ، وظاهر أنّ هاتين الجملتين لا يقتضي إحداهما لذاتها ربطا ولا ارتباطا بالاخرى ، وقد تكون بحسب الواقع أو في لحاظ المتكلّم ، وجعله إحداهما مرتبطة بالاخرى باعتبار ترتّب مضمونها في الوجود على مضمون الاخرى ، فمسّت الحاجة إلى رابط يربطهما ويدلّ على ارتباط إحداهما بالاخرى بالاعتبار المذكور ، فوضعت له الأداة وما بمعناها ، فهي في الحقيقة موضوعة للنسبة بين مضموني الجملتين من حيث ترتّب أحدهما في الوجود على الآخر ويلزمه أن يترتّب عدمه أيضا على عدمه ، فالانتفاء عند الانتفاء الّذي هو عبارة عن التلازم بينهما خارج عن الوضع ولازم للموضوع له.

وممّا يرشد إلى ذلك أنّ وجود مضمون الجملة الثانية معلّقا على وجود مضمون الجملة الاولى هو الّذي صرّح به في الكلام واريد من الجملة الثانية ، ضرورة أنّ الّذي يراد من قوله : « فأكرمه » إنّما هو وجوب الإكرام على تقدير وجود المجيء ، وأمّا عدم وجوبه على تقدير عدم المجيء فلا يتحمّله هذا اللفظ ، بأن يكون مستعملا فيه لذلك اللفظ ، كما أنّ الوجوب كذلك لا على وجه الحقيقة ولا على وجه المجاز ، فالانتفاء عند الانتفاء حينئذ خارج عن الموضوع له المستعمل فيه اللفظ ولازم له ، فقولنا : « إن جاءك زيد فأكرمه » يدلّ على وجوب إكرام زيد على تقدير مجيئه مطابقة وهو المنطوق ، وعلى نفي وجوب إكرامه التزاما وهو المفهوم ، ولزوم الثاني للأوّل إنّما نشأ من وضع الأداة للربط السببي بين الشرط والجزاء والدلالة على النسبة بين مضمونيهما من حيث ترتّب وجود مضمون الثاني على

ص: 259

وجود مضمون الأوّل ، فيكون الالتزام لفظيّا وضعيّا باللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ لا غير ، لوضوح لزوم تصوّر الثاني من تصوّر الأوّل.

ولما كان مرجع الكلام في إثبات التلازم المذكور إلى البحث عن حجّيّة مفهوم الشرط ففي تحقيقه مزيد بحث وزيادة كلام يأتي في أصل المسألة إن شاء اللّه ، فليكن ما قرّرناه هنا على ذكر منك حتّى يلحقك تمام الكلام في محلّه.

ثمرة النزاع بين القول بمفهوم الشرط وعدمه

المقدمة الثالثة

ذكر جماعة منهم السيّدان السندان بحر العلوم في فوائده وصهره في مفاتيحه إنّ ثمرة النزاع تظهر في المفهوم المخالف للأصل لا الموافق له.

قال في الفوائد : « إنّ ثمرة الخلاف تظهر فيما إذا كان حكم المفهوم مخالفا للأصل ، وأمّا مع موافقته له فأصل الحكم ثابت وإن تعدّد المدرك على القول بالحجّيّة ، واتّحد على القول بعدمها ».

وقال في المفاتيح : « ويظهر ثمرة الخلاف في مواضع :

منها : ما لو كان الحكم المذكور في المنطوق موافقا للأصل ، نحو « إن لم تكن مستطيعا فلا يجب عليك الحجّ » و « إن لم تسرق فلست بضامن » و « إن بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء » فإنّ القائل بالحجّيّة يثبت بها حكما مخالفا للأصل وهو « وجوب الحجّ » و « تحقّق الضمان » و « النجاسة » عند الاستطاعة والسرقة وعدم بلوغ الماء قدر كرّ ، والقائل بالعدم لا يثبت ذلك بل يتمسّك بالأصل في غير المنطوق ويسوّى بينه وبين غيره.

ومنها : ما لو ذكر حكما مخالفا للأصل على سبيل العموم نحو : « أكرم العلماء » ثمّ علّقه على أمر بكلمة « إن » نحو : « أكرم العلماء إن كانوا طوّالا » وعلمنا باتّحاد التكليف ، فإنّ المانع من الدلالة لا يخصّص العامّ والمثبت لها يخصّصه نظرا إليها ، وأمّا لو أطلق حكما مخالفا للأصل ثمّ علّقه كذلك نحو : « أعتق رقبة » و « أعتق رقبة إن كانت مؤمنة » فلا يظهر فيه ثمرة للمسألة ، لأنّ اللازم حينئذ حمل المطلق على المقيّد اتّفاقا.

اللّهمّ إلاّ أن يكون الحكم وضعيّا نحو : « الماء طاهر » و « إن كان الماء قدر كرّ فهو طاهر » فتفرّع على المسألة.

وكذا لا يظهر الثمرة فيما إذا علّق ابتداء بكلمة « إن » نحو : « إن جاءك فأكرمه » فإنّ اللازم الحكم في غير المنطوق بما يقتضيه الأصل وهو الّذي يقول به القائل بالدلالة.

ص: 260

نعم القائل بها يجعل ذلك خطابا شرعيّا والقائل بالعدم يجعله حكما عقليّا وليس في هذا كثير ثمرة ».

ومن الأعلام من أورد عليه بكمال وضوح الثمرة والفائدة في الموافق للأصل أيضا ، لأنّ المدّعي للحجّيّة يقول : بأنّ هاهنا حكمين من الشارع فلا يحتاج إلى الاجتهاد في طلب حكم المسكوت كما أنّ المنكر يحتاج ، وكونه موافقا للأصل لا يكفي إلاّ بعد استفراغ الوسع في تحصيل الظنّ بعدم الدليل كما سيأتي في محلّه.

وأيضا الأصل لا يعارض الدليل ولكنّ الدليلين يتعارضان ويحتاج المقام إلى الترجيح ، فإذا اتّفق ورود دليل آخر على خلاف المفهوم فيعمل عليه من دون تأمّل على القول بعدم الحجّية ، ويقع التعارض بينه وبين المفهوم على القول بالحجّيّة وربّما يرجّح المفهوم على مناطيق إذا كان أقوى ، فضلا عن منطوق واحد.

ومن الفضلاء من أورد عليه أيضا : بأنّ المفهوم الّذي نقول بحجّيّته لا فرق فيه بين أن يكون موافقا للأصل أو مخالفا له ، مع أنّ الثمرة تظهر في الموافق عند التعارض.

ومن مشايخنا من أورد عليه أيضا : بأنّا وإن لم نقل بإفادة القضيّة الشرطيّة المفهوم بوجه من الوجوه ، إلاّ أنّها تفيد أنّ الجزاء فيها لا يشمله لباس الوجود إلاّ بواسطة سبب ، فوجوده في نفسه مخالف للأصل ما لم يوجد له سبب ، فقولك : « إن جاءك زيد فيباح إكرامه ، أو لا يجب إكرامه » مثلا إنّما يفيدان إباحة إكرامه أو عدم وجوب إكرامه مستندا إلى سبب وهو مجيئه ، ولازمه أن لا يوجد الإباحة المذكورة ولا عدم الوجوب المذكور إلاّ بسبب ، وأنّهما ليسا باقيين على مقتضى الأصل الأوّلي ، فحينئذ لا يتفاوت الحال بين القولين في الثمرة الّتي ذكروها.

أقول : وكأنّه نقض لما ذكره الجماعة من عدم ظهور ثمرة للقولين في المفهوم الموافق بما سلّموا من ظهورها في المخالف للأصل بطريق المعارضة ، ومبناها على أنّ إنكار حجّيّة المفهوم في الجملة الشرطيّة راجع إلى منع دلالتها على التلازم بين الشرط والجزاء في العدم كما تقدّم.

وأمّا دلالتها على التلازم بينهما في الوجود فلا ينكره المنكرون للحجّيّة.

وعلى هذا فالجملة الشرطيّة باعتبار دلالتها على هذا التلازم أخرجت واقعة « إكرام زيد » على تقدير عدم مجيئه في المثالين عن تحت الأصل المقتضي للإباحة أو عدم

ص: 261

الوجوب وهذا هو معنى قوله : « إنّهما ليسا باقيين على مقتضى الأصل الأوّلي » ، وحينئذ فكما لا يصحّ للقائل بحجّيّة المفهوم المخالف للأصل القول بإباحة إكرام زيد أو عدم وجوبه على تقدير عدم مجيئه تمسّكا بالأصل فكذلك لا يصحّ لمنكرها القول بهما تمسّكا بالأصل أيضا ، لاتّفاق الفريقين على الدلالة المنطوقيّة وهي الدلالة على التلازم في الوجود.

غاية الأمر أنّ القائل بالحجّيّة له مانع آخر عن التمسّك بالأصل وهو الدلالة المفهوميّة.

وأنت خبير بما في كلّ من نفي ظهور الثمرة بين القولين في الموافق للأصل وكلّ من الإيرادات المذكورة عليه من الضعف.

أمّا الأوّل فلأنّ مرجع نفي الثمرة بينهما إلى اتّحاد نتيجة القولين في مقام الاستنباط في المسألة الفرعيّة ، فإنّ كلاّ من الفريقين في واقعة « إكرام زيد » على تقدير « عدم مجيئه » في المسألة الفرعيّة ، عند ورود قوله : « إن جاءك زيد فأكرمه » مثلا يبني على عدم الوجوب ، فهو اتّحاد بينهما في النتيجة وإن كان القائل بالحجّيّة يبني عليه لدلالة الخطاب عليه والمنكر لها يبني عليه لدلالة العقل عليه.

ويدفعه : أنّ اتّحاد النتيجة إن اريد به اتّحادها صورة فهو لا ينافي تغايرهما ذاتا ، وإن اريد به الاتّحاد بحسب الذات فهو واضح المنع ، لوضوح التغاير بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري ، فعدم الوجوب على القول بالحجّيّة متعلّق بواقعة إكرام زيد عند عدم مجيئه لعنوانه الخاصّ فيكون حكما واقعيّا ، وعلى القول الآخر متعلّق بها لعنوان مجهول الحكم وما لا نصّ فيه فيكون حكما ظاهريّا ، فيترتّب على الأوّل كلّما هو من آثار الحكم الواقعي ، وعلى الثاني كلّما هو من آثار الحكم الظاهري.

وأمّا الإيرادات : فأمّا ما ذكره بعض الأعلام ففيه :

أوّلا : أنّ ثمرة المسألة - على ما بيّنّاه مرارا في غير موضع - عبارة عن الفائدة المطلوبة من عقد تلك المسألة وتدوينها ، والضرورة قاضية بعدم كون الغرض من عقد هذه المسألة لزوم الفحص وعدمه ، ولا وقوع المعارضة ووجوب الترجيح وعدمها ، بل الغرض من تمهيد المسائل الاصوليّة الباحثة عن أحوال الأدلّة بأسرها على ما هو مفاد « لام » الغاية المأخوذة في تعريف اصول الفقه بأنّه : « العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة » إنّما هو استنباط الأحكام من الأدلّة بواسطتها ، وطريقه أن تؤخذ تلك القواعد - الّتي هي مسائل اصول الفقه - في مقدّمات الاستدلالات على المسائل الفرعيّة ، ولأجل

ص: 262

ذلك عدّ علم اصول الفقه من مباني الفقه ومبادئ الاجتهاد ، كما يقال - في أخذ ثمرة كون صيغة « افعل » للوجوب عند إثبات الوجوب للصلاة مثلا في المسألة الفرعيّة استدلالا بقوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (1) - : « أقيموا » صيغة « افعل » وكلّ صيغة « افعل » حقيقة في الوجوب « فأقيموا » حقيقة في الوجوب.

ثمّ يقال في أخذ ثمرة أصالة الحقيقة في الاستعمال : أنّ « أقيموا » لفظ مستعمل في الخطاب مجرّدا عن قرينة المجاز ، وكلّ لفظ مستعمل في الخطاب مجرّدا عن قرينة المجاز يجب حمله على معناه الحقيقي « فأقيموا » يجب حمله على معناه الحقيقي وهو الوجوب ، فدلّت الآية على وجوب الصلاة.

وفي إثبات وجوب الحجّ على المستطيع استدلالا بمثل : « إن لم تكن مستطيعا فلا يجب عليك الحجّ » على تقدير وروده في خطاب الشرع على القول بحجّيّة مفهوم الشرط ، يقال : الحجّ ما ورد بعدم وجوبه على تقدير عدم الاستطاعة الجملة الشرطيّة ، وكلّما ورد بعدم وجوبه على تقدير عدم الاستطاعة الجملة الشرطيّة فهو واجب على تقدير « الاستطاعة » فالحجّ واجب على تقدير « الاستطاعة ».

أمّا الصغرى : فبحكم الفرض ، وأمّا الكبرى : فلأنّ تعليق الحكم على شرط يقتضي انتفاءه عند انتفاء الشرط ، والمنكر للحجّيّة يدرجه فيما لا نصّ فيه فيقول : الحجّ عند الاستطاعة ما لا نصّ بوجوبه ، وكلّما لا نصّ بوجوبه فليس بواجب ، فالحجّ ليس بواجب.

وحينئذ فربّما يتّجه القول بأنّ ثمرة الفرق بين القول بالحجّيّة والقول بعدمها تظهر فيما لو كان المفهوم مخالفا للأصل ، إذ النتيجة المحصّلة بالاستنباط حينئذ على الأوّل حكم مخالف للأصل وعلى الثاني حكم موافق له ، بخلاف ما لو كان موافقا للأصل إذ النتيجة المحصّلة به على القولين حكم موافق للأصل فلم يظهر بينهما فرق.

فالإيراد عليه حينئذ : بأنّ الثمرة بينهما تظهر في مسألة وجوب الفحص أو في مقام التعارض غير سديد ، إلاّ أن يراد بها مطلق الفائدة المترتّبة على المسألة وإن لم تكن مقصودة من تدوينها ، أو ما هو من الآثار المترتّبة على الحكم الواقعي والحكم الظاهري فيرجع إلى ما بيّنّاه.

هذا كلّه مضافا إلى أنّ القائل بالحجّيّة ومنكرها سيّان في لزوم الفحص.

ص: 263


1- البقرة : 43.

غاية الأمر أنّ الأوّل يفحص عن المعارض والثاني يفحص عن الدليل ، لاشتراط الفحص في العمل بكلّ من الأدلّة الغير العلميّة والاصول.

وأمّا ما ذكره بعض الفضلاء ففيه : أنّ نفي ظهور الفرق بين القولين فيما وافق الأصل لا يرجع إلى نفي حجّيّته ، حتّى يقابل بأنّ المفهوم الّذي نقول بحجّيّته لا فرق فيه بين أن يكون موافقا للأصل أو مخالفا له ، بل نفي ظهور ثمرة الفرق بين القولين على ما تقدّم من الجماعة - خصوصا عبارة السيّدين (1) - مبنيّ على فرض وجود القولين في الموافق للأصل أيضا بتوهّم اتّحاد النتيجة فيهما من حيث كونها من مقتضى الأصل ، وإن استند فيه القائل بالحجّيّة إلى دلالة الخطاب لا إلى الأصل.

وحينئذ لا يتعلّق به الإيراد عليه بأنّ المفهوم الّذي نقول بحجّيّته لا فرق فيه بين أن يكون موافقا للأصل أو مخالفا له.

هذا ولكنّ الانصاف : أنّه رحمه اللّه ذكر ذلك في مقابلة صاحب الوافية من هؤلاء الجماعة ، فإنّه تعدّى من نفي ظهور الثمرة إلى نفي الحجّيّة قائلا - على ما حكي - « بأنّ فائدة المفهوم إنّما تظهر إذا كان الحكم فيه مخالفا للأصل.

وأمّا إذا كان موافقا له كما في الأمثلة الّتي استشهدوا بها ، فالحكم إنّما يثبت فيها بالأصل.

ودعوى الحجّيّة حينئذ إنّما نشأت من الغفلة عن ذلك ، لكون حكم المفهوم مركوزا في العقل من جهة الأصل » فقابله الفاضل المورد بقوله : « المفهوم الّذي نقول بحجّيّته لا فرق فيه »

وأمّا ما ذكره من العلاوة : فقد اتّضح ما فيه من قضاء الضرورة بعدم كون عقد هذه المسألة الاصوليّة لأن يظهر ثمرته عند التعارض ، إلاّ أن يراد بالثمرة مطلق الفائدة المترتّبة على المسألة وإن لم تكن مقصودة ، أو يراد منها ما هو من آثار الحكم الواقعي وما هو من آثار الحكم الظاهري فيما إذا ورد دليل آخر على خلاف المفهوم باعتبار دلالته على حكم مخالف للأصل ، فإنّه على القول بالحجّيّة يعارضه المفهوم لأنّه دليل باعتبار دلالة الخطاب عليه ، وعلى القول بعدمها لا معارض له لأنّ الأصل لا يعارض الدليل.

وأمّا الإيراد الأخير : فهو أضعف من سابقيه ، وذلك لأنّ القائل بالحجّيّة فيما خالف الأصل في نحو : « إن جاءك زيد فيباح إكرامه ، أو لا يجب إكرامه » إنّما لا يصحّ له البناء على « إباحة إكرامه » أو « عدم وجوب إكرامه » عند عدم مجيئه تمسّكا بالأصل لخروج الواقعة

ص: 264


1- وهما السيّد بحر العلوم في الفوائد وصهره في المفاتيح.

على قوله عن الأصل بدلالة الخطاب على الحكم المخالف للأصل من حرمة إكرامه حينئذ أو وجوبه.

وهذا الكلام لا يجري في حقّ المنكر للحجّيّة.

أمّا أوّلا : فلأنّ إنكار الحجّيّة لا يرجع إلى دعوى تسبّب الجزاء في القضيّة الشرطيّة عن سبب هو إمّا الشرط المذكور فيها أو غيره ممّا يقوم مقامه في السببيّة والتأثير في وجود الجزاء ، بل إلى منع دلالة القضيّة على التلازم بينهما في العدم المعبّر عنه بلزوم الانتفاء عند الانتفاء ، نظرا إلى جواز تعدّد الأسباب وقيام سبب آخر مقام الشرط ، والمراد بالجواز هو الاحتمال لا أنّه كذلك ألبتة ، فيحتمل عنده كون حكم الواقعة عند انتفاء الشرط المذكور هو الإباحة أيضا أو عدم الوجوب كذلك ، لاحتمال تعدّد الأسباب وقيام سبب آخر مقامه ، ويحتمل كون حكمها الواقعي ضدّ الإباحة أو نقيض عدم الوجوب أعني الحرمة أو الوجوب لاحتمال انحصار السبب في الشرط المذكور فيها ، وهذا من الشكّ في التكليف الإلزامي فتندرج الواقعة في عنوان مجهول الحكم المعبّر عنه بما لا نصّ فيه ، فيجري فيها الأصل الكلّي المقرّر لعنوان مجهول الحكم المقتضي للإباحة أو عدم الوجوب ، فكيف يقال عليه أنّهما ليسا باقيين على مقتضى الأصل الأوّلي.

وأمّا ثانيا : فلأنّ المنكر للحجّيّة لا يبني في المسكوت عنه على الحكم المنطوقي حتّى يقال عليه : بأنّه بمقتضى القضيّة مستند إلى سبب وهو « المجيء » في المثالين ، لأنّه الّذي لا يكون باقيا على مقتضى الأصل الأوّلي ، فلا يصحّ الاستناد فيه حينئذ إلى الأصل لأنّ الحكم المنطوقي حكم واقعي غاية الأمر موافقته الأصل ، والمنكر لمنعه دلالة القضيّة على الانتفاء عند الانتفاء متوقّف في الحكم الواقعي للواقعة ، لتردّده عنده بين الإباحة وضدّها أو عدم الوجوب ونقيضه ، فلا مناص له في مقام العمل من الرجوع إلى أصل من الاصول المقرّرة للجاهل بالحكم الواقعي الفاقد للدليل ، فالإباحة أو عدم الوجوب الّذي يبنى عليه حينئذ عملا بذلك الأصل حكم ظاهريّ لا أنّه حكم منطوقي ، فكيف يورد عليه : بأنّه ليس باقيا على مقتضى الأصل الأوّلي؟

نعم لو علم - ولو إجمالا - أنّ إباحة الإكرام أو عدم وجوبه لهما سبب آخر غير « المجيء » محقّق في الواقع قائم مقامه عند انتفائه ، اتّجه القول بأنّهما ليسا باقيين على مقتضى الأصل الأوّلي من حيث مخالفة موضوعهما لموضوع مقتضى الأصل ، ولكنّه بمعزل

ص: 265

عن مفروض المقام بل عن محلّ النزاع ، إذ القائل بالحجّيّة أيضا في مثل هذه الصورة لا يقول بالانتفاء.

ومع الغضّ عن ذلك فأيّ تعلّق لهذا الكلام بما تقدّم من القول باختصاص ظهور الثمرة بين القولين بما كان المفهوم مخالفا للأصل كما في المثال المذكور؟ إذ مرجع هذا القول إلى أنّ ما يتحصّل على القول بعدم الحجّيّة نتيجة تخالف النتيجة الحاصلة على القول بالحجّيّة ، والحال في المثال كذلك إذ القائل بالحجّيّة يبني على الحرمة أو الوجوب والقائل بعدمها يبني على الإباحة أو عدم الوجوب ولو من غير جهة الأصل وهما متخالفان ، بخلاف ما لو كان المفهوم موافقا للأصل فإنّ النتيجة واحدة على القولين ، فتأمّل.

في تأسيس الأصل عند فقد الدليل على أحد القولين في المسألة

المقدّمة الرابعة

في تأسيس أصل يرجع إليه عند فقد الدليل على أحد القولين في المسألة.

فنقول : إنّ الاصول المتصوّرة في المقام على أنحاء :

منها : ما يرجع إلى حال المكلّف ، وهو أصالة البراءة النافية للتكليف الإلزامي إيجابا أو تحريما عند الشكّ في حكم المسكوت عنه ، وهذا الأصل قد يساعد على القول بالحجّيّة ، كما لو كان المفهوم على فرض ثبوته موافقا للأصل كقوله : « إن جاءك زيد فأكرمه » وقد يساعد على القول بنفيها كما لو كان المفهوم على تقدير ثبوته مخالفا للأصل كقوله : « إن جاءك زيد فيباح إكرامه أو لا يجب إكرامه ».

ومنها : ما يرجع إلى حال الواقعة أعني الجزاء ، وهو أصالة عدم تعدّد أسباب وجوده ، فإنّه بعد الالتزام بسببيّة الشرط - أخذا بدلالة القضيّة الشرطيّة على سببيّة الشرط له الّتي مرجعها إلى التلازم بينهما في الوجود - يشكّ في أنّه هل جعل له سبب آخر أم لا؟ والأصل عدمه ، ومرجعه إلى انحصار السبب في الشرط ، ويلزم منه التلازم بينهما في العدم أيضا ، فهذا الأصل يساعد على القول بالحجّيّة مطلقا.

ومنها : ما يرجع إلى حال الجملة الشرطيّة باعتبار لحاظ الوضع ، وهو أصالة عدم التفات الواضع حينما التفت إلى الوجود عند الوجود وأخذه في الوضع إلى الانتفاء عند الانتفاء ، وعدم تعرّضه لأخذه جزءا أو قيدا للموضوع له ليكون مدلولا عليه للّفظ تضمّنا ، بدعوى : وضع الجملة لمجموع الوجود عند الوجود والانتفاء عند الانتفاء أو التزاما بدعوى وضعها للوجود عند الوجود مقيّدا بالانتفاء عند الانتفاء على وجه دخول التقيّد وخروج

ص: 266

القيد ، وهذا يساعد على القول بعدم الحجّيّة ولا خفاء في وهن الجميع.

أمّا الأوّل : فلأنّ أصل البراءة أصل قرّره الشارع للجاهل المتحيّر فلا نظر فيه إلى الواقع ، بل هو متكفّل لبيان كيفيّة عمل المكلّف الجاهل بالحكم الواقعي من حيث هو جاهل ، من غير تعرّض فيه للخطاب الوارد في المقام من حيث إنّه يدلّ أو لا يدلّ ، فلا يمكن به إثبات الدلالة ولا نفيها.

وأمّا الثاني : فلأنّه إن اريد بأصالة عدم تعدّد الأسباب - أي عدم جعل سبب آخر للجزاء - ما يكون من الاستصحاب المستفاد من عمومات الأخبار الواردة فيه كقولهم عليهم السلام : « لا ينقض اليقين بالشكّ » (1).

ففيه : أنّه حينئذ يكون حكما ظاهريّا فيرد عليه ما ورد على أصل البراءة.

وإن اريد به ما يكون من الاصول العدميّة المعمولة في باب الألفاظ الّتي مدركها بناء العرف وطريقة أهل اللسان ، كأصالة عدم النقل ، وأصالة عدم القرينة ، وما أشبه ذلك.

ففيه : أنّه لم يتحقّق من أهل العرف أنّ طريقتهم فيما شكّ في تعدّد أسبابه بعد ثبوت سببيّة شيء له بالجملة الشرطيّة هو البناء على العدم ، فلم يثبت كون أصالة عدم جعل سبب آخر من الاصول المعمولة لدى أهل العرف.

وأمّا الثالث : فلما أورد عليه من أنّ الدليل على اعتبار الاصول في الألفاظ إنّما هو بناء العرف وطريقة أهل اللسان ، ولم يتحقّق لنا من حالهم إجراء الأصل في أمثال المقام - ممّا يشكّ في وضع لفظ لمعنى في جزئيّة شيء أو قيديّته له ، ليدلّ عليه بالتضمّن أو الالتزام ، وعدم إجرائه ، بل الظاهر كون بنائهم في نفي التفات الواضع وأخذه واعتباره الشيء الفلاني مع الموضوع له على وجه الجزئيّة أو القيديّة وإثباته على الوقف ، كما يرشد إليه كون الوضع وكلّما يرجع إليه من الامور التوقيفيّة التوظيفيّة عندهم بلا خلاف فيه.

نعم يعاملون في بعض الأحيان مع ما شكّ في جزئيّته أو لزومه للموضوع له معاملة الأصل المذكور ، بحيث يدخل في الوهم كون تعويلهم على هذا الأصل مع عدم كونه كذلك في نفس الأمر ، مثل أنّهم لا يخصّصون العمومات ولا يقيّدون المطلقات فيما لو قال : « أكرم العلماء أو أكرم العالم » ثمّ قال : « إن جاءك زيد فأكرم » مثلا - مع فرض الشكّ في المفهوم باعتبار الشكّ في كون الانتفاء عند الانتفاء ممّا أخذه الواضع واعتبره مع الوجود عند

ص: 267


1- الوسائل 1 : 1 ، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء ، ح 1 - 6 - 7.

وهو مختار أكثر المحقّقين ، ومنهم الفاضلان* .

وذهب السيّد المرتضى إلى أنّه لا يدلّ إلاّ بدليل منفصل. وتبعه ابن زهرة. وهو قول جماعة من العامّة.

________________________________

الوجود جزءا أو قيدا - بمثل هذا الدليل وبواسطة هذا المشكوك في كونه جزءا أو لازما ، لا لأنّ الأصل عدم الوضع على الوجه المذكور كما قد يدخل في الوهم ، بل لأصالة عدم التخصيص أو أصالة عدم التقييد الّتي هي من الاصول المسلّمة.

وممّا يرد على الأصل بالمعنى الأوّل المتوهّم كونه مع المثبت للحجّيّة في المفهوم الموافق للأصل على تقدير ثبوته أنّه إنّما يستقيم إذا كان النافي ملتزما لمحلّ السكوت بمثل الحكم الثابت لمحلّ النطق من وجوب أو حرمة ، ولكنّه بديهيّ الفساد ، بتقريب : كونه شاكّا في هذا المعنى ، وهو يوجب له التمسّك بالأصل أيضا ، فلا يتفاوت الحال في البناء على الأصل العملي بين القولين في المفهوم الموافق له على تقدير ثبوته ، بل هما يشاركان في موافقة الأصل لهما.

والسّر في ذلك : اندراج محلّ السكوت عندهما معا فيما لا نصّ فيه.

* وهذه هي المقدّمة الخامسة من مقدّمات المسألة المنعقدة لتحرير أقوال المسألة.

وملخّصه : أنّه بعد ما ثبت بحكم التبادر الوضعي أو الإطلاقي إفادة القضيّة الشرطيّة سببيّة المقدّم للتالي ، فهل تفيد مع ذلك انحصار سببه في المقدّم حتّى يلزم من انتفائه انتفاؤه أو لا؟ وقد عظم فيه الاختلاف وطال التشاجر بين الاصوليّين حتّى حصل منهم في المسألة أقوال :

أحدها : ما أشار إليه المصنّف وعزاه إلى أكثر المحقّقين ، وهو القول بدلالة القضيّة الشرطيّة على انتفاء التالي عند انتفاء المقدّم باعتبار إفادتها انحصار السببيّة في المقدّم.

ونسبه بعض الأعلام إلى الأكثرين.

وقال السيّد في المفاتيح : « إنّه للفاضلين والشهيد وصاحب المعالم والفاضل البهائي وجدّي قدس سره ووالدي العلاّمة رحمه اللّه والبيضاوي والمحكيّ عن الشيخين والشهيد الثاني وصاحب المدارك والمدقّق الشيرواني والشافعي وأبي الحسين البصري وإبن شريح وأبي الحسين الكرخي والرازي وأتباعه والحاجبي وحكاه الشهيد الثاني والمحقّق الثاني عن أكثر المحقّقين ».

وثانيها : القول بالعدم ، حكاه المصنّف عن السيّدين المرتضى وابن زهرة وجماعة من العامّة.

ص: 268

وقال في المفاتيح : « وهو المحكيّ عن السيّد وابن زهرة والحرّ العاملي والفاضل البشروي وأبي عبد اللّه البصري والقاضيين والآمدي ومالك وأبي حنيفة وأتباعه وأكثر المعتزلة.

وحكي عن بعض أصحابنا المتأخّرين الميل إليه ».

وثالثها : ما حكاه السيّد في المفاتيح من أنّه يدلّ عليه في الشرع لا غير ، ولم يتعرّض لتعيين قائله.

ورابعها : ما حكاه أيضا من أنّه يدلّ في الإنشاء لا غير ، ولم يعيّن قائله أيضا.

ومن الأعاظم من جعل الأقوال خماسيّة حيث قال : « اختلفوا في مدلول القضيّة الشرطيّة على أقوال : فقول بالتلازم في الوجود والعدم وهو الأقوم ، وآخر بالتلازم في العدم وثالث بالعدم مطلقا ورابع بالثبوت شرعا لا لغة وعرفا كما عن بعضهم ، وعن آخر بالفرق بين الخبر وغيره وهو خامسها ».

ومن الفضلاء من قرّر الأقوال هكذا : « ثمّ من المثبتين من نصّ على أنّ الدلالة المذكورة ثابتة بالوضع ، ومنهم من أثبتها بالنظر إلى دليل الحكمة ، وأطلق الباقون ، والظاهر من مثبتيها بالوضع ثبوتها عندهم بطريق الالتزام ، وذهب بعض الأفاضل إلى ثبوتها بالتضمّن.

ثمّ الظاهر من المثبتين القول بدلالته على انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط مطلقا ، والظاهر من النافين نفي دلالته على ذلك مطلقا ».

ثمّ قال : « والتحقيق أنّه يدلّ بالالتزام على انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط بالوضع في الجملة وبالإطلاق مطلقا ».

إلى أن قال - بعد ما فرغ عن الاستدلال على مختاره : - « فنقول : كما أنّ الظاهر من التعليق شرطيّة المقدّم ، كذلك الظاهر من إطلاق الشرطيّة كون المذكور شرطا على التعيين ، فلا جرم يلزم من انتفائه انتفاء الجزاء لاستحالة وجود المشروط بدون الشرط ، فظهر أنّ دلالة التعليق بالشرط على انتفاء التالي عند انتفاء المقدّم في الجملة مستندة إلى الوضع لأنّ ذلك قضيّة التعليق ، وعلى انتفائه عند انتفائه مطلقا مستندة إلى ظهور التعليق في شرطيّة المقدّم وظهور الشرطيّة في الشرطيّة التعيينيّة » انتهى (1).

وتوضيح مرامه رفع مقامه : أنّه أراد من الدلالة على الانتفاء عند الانتفاء في الجملة المستندة إلى الوضع ، دلالة التعليق عليه بالالتزام الوضعي على وجه القضيّة المهملة ، المردّدة

ص: 269


1- الفصول : 147 - 148.

بين انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط على تقدير انتفاء غيره ممّا يحتمل كونه شرطا أيضا حال انتفاء ذلك الشرط ، وبين انتفائه عند انتفاء ذلك الشرط على كلا تقديري انتفاء غيره ممّا يحتمل كونه شرطا أيضا ووجوده.

في بيان الدليل على المختار

ومن الدلالة عليه مطلقا المستندة إلى الإطلاق ، دلالة إطلاق الشرطيّة - على معنى السكوت عن ذكر القيد في معرض البيان - على انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط على كلا تقديري انتفاء غيره ووجوده ممّا يحتمل كونه شرطا.

وهذا نظير ما يقال : إنّ الأمر يدلّ على وجوب الفعل في الجملة - أي الوجوب المردّد بين المشروط والمطلق - بالوضع ، وعلى الوجوب المطلق أي الغير المتوقّف على حضور أمر غير حاصل بالإطلاق.

ووجه استناد الدلالة الثانية فيما نحن فيه الى الإطلاق هو أنّ انتفاء الشرط في جانب المدلول الالتزامي له إطلاق بالإضافة إلى وجود الغير معه وانتفائه ، فكونه بحيث اعتبره المتكلّم حال انتفاء الغير ممّا يحتمل كونه شرطا أيضا تقييد له بتلك الحالة في قضيّة انتفاء الجزاء عند انتفائه ، والإطلاق بمعنى السكوت عن ذكر القيد في معرض البيان ينفيه ، بنفي إرادة المقيّدة لئلاّ يلزم منافاة الحكمة من جهة أدائه إلى الإغراء بالجهل ، فنحكم على الشرط المذكور بأنّه ما يلزم انتفاء الجزاء عند انتفائه مطلقا ، أي سواء وجد معه غيره ممّا احتمل كونه شرطا أيضا أو انتفى ، فيثبت بذلك كون الشرط سببا على التعيين. وهذا هو معنى انحصار السبب.

ومن مشايخنا من جعل ظهور الجملة الشرطيّة في انحصار السبب وتعيينه لأجل الانصراف.

وتحريره : أنّ القضيّة بالوضع النوعي أو أداة الشرط بالوضع الشخصيّ تفيد سببيّة الشرط للجزاء مطلقا ، بالمعنى الدائر بين كونه سببا على التعيين أو كونه سببا على البدل باعتبار كونه أحد الأسباب ، وهذه السببيّة المطلقة تنصرف عند الإطلاق إلى كونه سببا على التعيين ، ولعلّه من جهة الغلبة إطلاقا أو وجودا.

فظهر بجميع ما ذكرناه نقلا وتحصيلا أنّ المثبتين للمفهوم بين قائل بدلالة التعليق عليه بالوضع تضمّنا. وربّما حكي ذلك عن السيّد الآتي ذكره (1) في بعض تأليفاته.

ص: 270


1- السيّد بحر العلوم.

وقائل بدلالته عليه بالوضع التزاما ، أي التزاما وضعيّا.

وقائل بدلالته عليه التزاما عرفيّا من جهة الانصراف.

وقائل بدلالته عليه التزاما عقليّا ، ومعناه : اقتران القضيّة الشرطيّة المفيدة بالوضع للسببيّة المطلقة - على معنى كون الشرط سببا للجزاء لا بقيد كونه سببا على التعيين ولا بقيد كونه سببا على البدل - بحكم العقل بالنظر إلى الحكمة ونحوها بأنّ مراد المتكلّم السببيّة على التعيين.

وعزى ذلك إلى المدقّق الشيرواني تبعا للمقدّس الأردبيلي وسلطان العلماء.

وعن فوائد السيّد بحر العلوم نسبته إلى أكثر أصحابنا المتأخّرين.

وقائل بدلالته عليه التزاما شرعيّا ، على معنى اقتران القضيّة المفيدة للسببيّة المطلقة وضعا في الخطابات الشرعيّة بما يكشف عن كون مراد الشارع منها خصوص السببيّة على التعيين.

وربّما يحكى عن الشهيد ما يومئ إلى اختصاص النزاع في هذه المسألة والمسألة الآتية في مفهوم الوصف بغير الأوقاف والوصايا والنذور والأيمان من قوله : « في الشرط والوصف ، ولا إشكال في دلالتهما في مثل الوقف والوصايا والنذور والأيمان ، كما إذا قال : « وقفت هذا على أولادي الفقراء » أو إن كانوا فقراء أو نحو ذلك ».

ولا خفاء في ضعفه لخروجه عن معقد البحث ، لأنّ الكلام على ما بيّنّاه في مدلول القضيّة الشرطيّة من حيث هي ولو خلّيت وطبعها ، أي مع قطع النظر عن الدلالات الخارجيّة ، وعدم الخلاف في الموارد المذكورة لعلّه من جهة دلالة خارجيّة ، أو أنّ رفع الحكم في أمثال هذه الموارد من جهة الاصول لا بواسطة المفهوم كما تنبّه عليه بعض الأعاظم ، فعدم الخلاف لا يقضي بخروجها عن محلّ النزاع.

ثمّ إنّ التعليق على الشرط على ما هو مأخوذ في عنوان المسألة - كما صرّح به جماعة - أعمّ من أن يكون مستفادا من الأدوات ك- « إن » و « لو » و « إذا » حيث اريد منها الشرطيّة ، أو الأسماء المتضمّنة لمعنى الشرط المعبّر عنها بكلم المجازاة ك- « حيثما » و « أينما » و « مهما » و « متى ما » وما أشبه ذلك ، أو غيرها ممّا يتضمّن معنى الشرط ولو لقرينة المقام كالمبتدأ المتضمّن لمعنى « من » موصول ك- « من » و « ما » الموصولتان في نحو : « من دخل الدار فله درهم » و « ما تفعل تجز به » أو نكرة موصوفة في نحو : « كلّ رجل يأتيني فله درهم » فإنّ الكلّ من محلّ النزاع ، لجريان أدلّتهم المقامة على النفي والإثبات في الجميع كما صرّح به

ص: 271

لنا : أنّ قول القائل : « أعط زيدا درهما إن أكرمك » يجرى في العرف مجرى قولنا : الشرط في إعطائه إكرامك والمتبادر من هذا انتفاء الإعطاء عند انتفاء الإكرام قطعا ، بحيث لا يكاد ينكر عند مراجعة الوجدان فيكون الأوّل أيضا هكذا*. وإذا ثبت الدلالة على هذا المعنى عرفا ، ضممنا إلى ذلك مقدّمة اخرى ، سبق التنبيه عليها ، وهي أصالة عدم النقل ، فيكون كذلك لغة.

________________________________

بعض الأعاظم وغيره ، بل سببيّة المقدّم للتالي الّتي هي معنى الشرطيّة تستفاد من هذه الكلمات وما يؤدّي مؤدّاها ، فالنزاع في الحقيقة في تحقيق مدلولها ، وإلاّ فقد ذكرنا سابقا أنّ الجملة الشرطيّة في أصلها جملتان حمليّتان لا يقتضي إحداهما لذاتها ربطا ولا ارتباطا بالاخرى ، والرابط لإحداهما بالاخرى على - معنى ما يفيد الربط السببي - هو الأداة وما بمعناها ، وحاصل معنى الربط السببي - على ما بيّنّاه سابقا - هو النسبة بين الجملتين من حيث ترتّب مضمون ثانيتهما على مضمون اولاهما في الوجود.

* الظاهر أنّه أراد بلفظ « الشرط » في تفسير مفاد الجملة الشرطيّة المذكورة معناه العرفي المتقدّم في المقدّمة الاولى من مقدّمات المسألة ، وهو ما يتوقّف عليه وجود الشيء مطلقا ، لا المعنى المصطلح الاصولي ليرد عليه : أنّ الجملة الشرطيّة تفيد أزيد من ذلك.

وقد عرفت أنّ الشرط بالمعنى العرفي يعمّ جميع المقدّمات حتّى الأسباب ، فإذا اريد منه في عبارة الدليل ذلك المعنى من حيث تحقّقه في ضمن السبب رجع محصّل الدليل إلى دعوى تبادر السببيّة على وجه الانحصار ، أو أنّ المتبادر ممّا يتوقّف عليه وجود الشيء انتفاء الشيء عند انتفائه ولو تبادرا ثانويّا.

وبالجملة فالحقّ والصحيح من أقوال المسألة هو دلالة التعليق بالشرط على الانتفاء عند الانتفاء التزاما وضعيّا.

والعمدة من دليله هو التبادر من القضيّة باعتبار ما يفيد معنى الشرطيّة عند إطلاقها ، ونعني بالتبادر الانتقال إلى انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط من تبادر كون الشرط بحيث يترتّب على وجوده وجود الجزاء ، أو تبادر كون الجزاء بحيث يترتّب وجوده على وجود الشرط وهذا مدلول مطابقي وانتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط مدلول التزامي باللزوم البيّن

ص: 272

ممّا وضع له ، لأنّه بحيث يلزم من تصوّره تصوّر الانتفاء عند الانتفاء ، لوضوح أنّه لو [ لا ] انتفاؤه عند انتفاء الشرط كان معناه أنّه يوجد بدون وجود الشرط وهو خلف ، لمنافاته ما فرض من كون وجوده مترتّبا على وجوده ، ومعناه أنّه لا يوجد بدون وجوده وهو المطلوب.

وبالجملة المتبادر من القضيّة المفيدة لتعليق الجزاء على الشرط كون الشرط ما يلزم من وجوده وجود الجزاء ، على معنى كون وجود الجزاء ناشئا من وجود الشرط على ما هو مفاد كلمة « من » النشويّة ، وظاهر أنّ كون شيء بهذا الوصف يقتضي أن يلزم من عدمه العدم أيضا.

ولذا ذكرنا في بحث المقدّمة عند شرح السبب في معناه الاصطلاحي أنّ لزوم العدم من العدم ممّا لا حاجة إلى أخذه في تعريفه بما يلزم من وجوده الوجود ، لأنّ الشيء إذا كان لازما لوجود شيء يلزمه أن يعدم عند عدمه ، وإلاّ لا يكون وجوده لازما من وجوده ، فلزوم العدم من العدم خارج عن لزوم الوجود من الوجود ولازم له باللزوم البيّن ذهنا وخارجا ، ومرجعه إلى حصول تصوّر اللازم من تصوّر الملزوم.

وقضيّة اللزوم المذكور كونه مرادا للمتكلّم بالقضيّة عند إطلاقها تبعا لإرادة الملزوم ، لعدم انفكاك إرادته من إرادته ، وحيث استعملت القضيّة فيما لا مفهوم لها كانت مجازا ، لأنّ مرجع عدم إرادة الانتفاء عند الانتفاء إلى عدم إرادة لزوم وجود الجزاء من وجود الشرط - ولو باعتبار إرادة لزوم وجوده من وجود أحد أمور منها الشرط - فإنّه خلاف ما وضع له ، فإرادته دون ما وضع له تجوّز ، فليتدبّر.

واستدلّ أيضا بفهم أهل اللسان من أصحاب الرسول صلى اللّه عليه وآله والأئمّة عليهم السلام ، بل النبيّ صلى اللّه عليه وآله والأئمّة عليهم السلام بأنفسهم كما يكشف عنه جملة من الأخبار :

منها : ما رواه عليّ بن إبراهيم في تفسيره عن أبيه عن ابن أبي عمير عن جميل عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : قال له رجل جعلت فداك أنّ اللّه تعالى قال : ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) (1) فإنّا ندعو ولا يستجاب لنا؟ قال : إنّكم لا توفون لله بعهده ، وأنّ اللّه تعالى يقول : ( أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ) (2) « واللّه لو وفيتم لله لوفى لكم » (3).

وجه الاستدلال : أنّ الإمام عليه السلام دلّ السائل على أنّ انتفاء الاستجابة في مورد الآية إنّما هو لانتفاء شرطها أعني سببها ، ببيان : أنّه ليس هو الدعاء المطلق ، بل الدعاء المقارن للوفاء لله بعهده وهو الإطاعة له في كلّ ما يأمر وينهى ، فالوفاء لله بالعهد شرط لتأثير

ص: 273


1- غافر : 60.
2- البقرة : 40.
3- تقسير عليّ بن إبراهيم 1 : 46 والبحار 66 : 341.

الدعاء في الاستجابة ، فانتفاؤها لانتفاء سببها باعتبار انتفاء قيده الّذي هو شرط لتأثيره ، نظرا إلى أنّ انتفاء الشرط الموجب لانتفاء الجزاء أعمّ من انتفائه لذاته أو انتفاء شرط من شروط تأثيره ، فكان اشتباهه في أنّه زعم أنّ الآية من عدم استلزام الوجود للوجود لجهله بكون الوفاء بالعهد شرطا لتأثير الشرط ، فدلّه الإمام عليه السلام على أنّه من استلزام الانتفاء للانتفاء ببيان شرط التأثير الّذي هو المنتفي ، ففهم المفهوم من التعليق وفهمه عليه السلام حجّة.

ومنها : ما رواه عبيد بن زرارة قال : سألت الصادق عليه السلام عن قوله تعالى ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) (1) قال : ها ابيّنها من شهد منكم الشهر فليصمه ومن سافر فلا يصمه. (2) يعني لا يجب عليه صومه ، كما هو قضيّة الانتفاء عند انتفاء الشرط ، فالتعبير عنه بصيغة النهي توسّع وهو في مثل المقام متداول ، ويمكن إبقاؤه على ظاهره بملاحظة الحرمة من حيث التشريع كما ثبتت في الشرع.

والمناقشة في الدلالة بأنّ الحاجة ببيان المفهوم دليل على انتفاء الدلالة عليه في اللفظ ، لأنّ السائل من أهل اللسان والمفروض جهله بالمفهوم وإلاّ لما حاجة له إلى السؤال.

يدفعها : أنّ السؤال لم يقع لجهله بالمفهوم بل لجهله بما اريد من الشهود الّذي اخذ شرطا في الآية ، نظرا إلى أنّه يطلق تارة على الحضور المطلق ، واخرى على الحضور الخاصّ المقابل للسفر المعبّر عنه « بالحضر » ، فتوهّم أنّ التعليق الوارد فيها ليس في محلّه ، لسبق ذهنه إلى الحضور المطلق الّذي يعمّ الجميع ولا يختصّ ببعض دون آخر ، فدلّه الإمام عليه السلام على أنّ المراد به الحضور الخاصّ بمعنى الحضر ، فيكون تقدير الآية في حاصل المعنى : من كان حاضرا في الشهر غير مسافر فليصم ما دام حاضرا ، وانتصاب « الشهر » حينئذ على الظرفيّة كما نصّ عليه في المجمع ، فينهض فهمه عليه السلام المفهوم دليلا على المطلوب.

ومنها : ما عن أبي أيّوب الخزّاز في الحسن أو الصحيح عن الصادق عليه السلام في حديث : فإنّ اللّه جلّ ثناؤه يقول : ( فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) (3) فلو سكت لم يبق أحد إلاّ تعجّل ، ولكنّه قال : ( وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) (4).

وهذا في الدلالة على ظهور الجملة الشرطيّة بلفظها عند عامّة أهل اللسان في المفهوم في غاية الوضوح ، فإنّ إخبار الإمام عليه السلام بعدم بقاء أحد إلاّ تعجّل على تقدير السكوت عن

ص: 274


1- البقرة : 185.
2- الكافي 4 : 126 والوسائل 7 : 125 ، الباب 4 من أبواب من يصحّ من الصوم ، ح 8.
3- البقرة : 203.
4- الكافي 4 : 519 ، ح 1 والوسائل 14 : 275 والبحار 96 : 315.

الجملة الثانية إنّما نشأ عن علمه بثبوت المفهوم في متفاهم العامّة حسبما يقتضيه اللفظ ، إذ لولا ظهوره فيه على الوجه المذكور لم يترتّب عليه على تقدير السكوت عدم بقاء أحد إلاّ تعجّل فلم يكن إخباره عليه السلام في محلّه.

ومنها : ما رواه الكليني في الموثّق كالصحيح عن ابن بكير عن بعض أصحابنا عن الصادق عليه السلام أنّه قال : « لا ينبغي أن يتزوّج الرجل الحرّ المملوكة اليوم ، إنّما كان ذلك حيث قال اللّه عزّ وجلّ : ( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً ) (1) (2) و « الطول » المهر ومهرة الحرّة اليوم مثل مهرة الأمة أو أقلّ » (3).

وجه الدلالة : أنّ الاستطاعة على نكاح الأمة يكشف عن الاستطاعة على نكاح الحرّة ، لصيرورة مهر الحرّة اليوم مثل مهر الأمة في المقدار أو أقلّ ، وهي نقيض للشرط المعلّق عليه إباحة نكاح الأمة ، وهذا هو انتفاء الشرط فيلزم منه انتفاء الإباحة المعلّقة عليه كما فهمه الإمام عليه السلام حيث قال : « لا ينبغي أن يتزوّج الرجل الحرّ ... إلى آخره » ولا ضير في التعبير عن المنع باللفظ الظاهر في الكراهة لشيوعه وكثرة وروده في الإخبار بمعنى المنع والتحريم ، والإمام عليه السلام من أفصح أهل اللسان وأعلمهم وقد فهم من التعليق الانتفاء عند الانتفاء وفهمه حجّة ، ولا يصادمه احتمال استناد فهمه عليه السلام إلى قرينة خارجة من اللفظ إذ لا قرينة في الآية مع أنّ الأصل عدمها.

فبما بيّناه من كون المتمسّك به فهم الإمام عليه السلام الّذي مرجعه إلى تبادر المفهوم من التعليق عند أهل اللسان سقط ما قد يناقش في الدلالة من أنّ غاية ما يكشف عنه الرواية وقوع استعمال الشرطيّة في الآية في إفادة المفهوم وهذا ممّا لا ينكره الخصم وإنّما ينكر الوضع والظهور ، لأنّا لا نعني من الفهم والتبادر عند أهل اللسان إلاّ الظهور الناشئ من الوضع.

ومنها : رواية يعلى بن اميّة في قوله لعمر : ما بالنا نقصر وقد امنّا وقد قال تعالى : ( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ ) (4)(5) فقال عمر : فتعجّبت ممّا تعجّبت منه فسألته رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقال : « إنّما هي صدقة تصدّق اللّه تعالى بها عليكم فاقبلوا صدقته » (6)

ص: 275


1- النساء : 25.
2- تتمة الآية : ( أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) منه.
3- الكافي 5 : 360 ، ح 7 ، والوسائل 20 : 502.
4- النساء : 101.
5- تمام الآية ( وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) سورة النساء : الآية 101.
6- عوالي اللآلي 2 : 61.

فإنّ عمر ويعلى بن أميّة فهما من التعليق القصر بحالة الخوف انتفاءه حال عدمه ، ولذا تعجّبا من ثبوته حال الأمن ، وقد أقرّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم عمر على فهمه ولذا أجابه بأنّه صدقة من اللّه ، ولو لا صحّة فهمه كان عليه أن يجيب بمنع دلالة التعليق على الانتفاء عند الانتفاء.

أقول : وكأنّهما فهما المفهوم من التعليق في الشرطيّة الاولى ، بناء منهما على وقوع الشرط الثاني قيدا للشرط الأوّل كما هو الظاهر من هذا التركيب نوعا ، ونظيره ما لو قيل : « إن جاءك زيد فأكرمه إن كان ماشيا » فيكون « وجوب القصر » معلّقا على « الضرب في الأرض » مقيّدا « بالخوف » لا مطلقا.

وقضيّة التعليق انتفاء وجوب القصر تارة بانتفاء ذات الشرط واخرى بانتفاء قيده ، والمفروض عدم انتفائه بانتفاء القيد لثبوت القصر في السفر حالة الأمن أيضا ، وهذا ممّا يقضي بالتعجّب لوروده على خلاف مقتضى التعليق ، وجوابه صلى اللّه عليه وآله - على ما حكاه عمر - يفيد عدم كون ذكر الشرط الثاني للتعليق ولا لتقييد الشرط الأوّل ، بل هو باعتبار الغالب في ذلك الوقت فلا تأثير له في التقييد ، ولعلّ النكتة في ذكره حينئذ أنّه لبيان علّة تشريع الحكم فلا يجب اطّراده لا لتقييد علّته ليجب اطّراده.

ومنها : ما عن العيّاشي في تفسيره عن الحسن بن زياد قال : سألته عن رجل طلّق إمرأته [ ثلاثا ] فتزوّجت بالمتعة أتحلّ لزوجها الأوّل؟ قال عليه السلام : لا تحلّ له حتّى تنكح زوجا غيره ، لأنّه تعالى يقول : ( فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ ) (1) والمتعة ليس فيها طلاق (2).

وقد فهم عليه السلام من التعليق في شرطيّة الآية انتفاء حلّ الزوجة لزوجها الأوّل بانتفاء الطلاق من الزوج الثاني ، فإنّه أعمّ من أن لا يكون هناك زوج آخر أو كان ولكن بالمتعة لا بالدوام ، فإنّهما سيّان في انتفاء الطلاق المعلّق عليه الحكم.

ومنها : ما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره والصدوق في معاني الأخبار عن أبي عبد اللّه عليه السلام في قول اللّه عزّ وجلّ في قصّة إبراهيم عليه السلام : ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا ) (3) وما كذب إبراهيم عليه السلام فقلت كيف ذلك قال : إنّما قال إبراهيم : ( فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ ) (4) فكبيرهم فعل ، وإن لم ينطقوا فلم يفعل كبيرهم شيئا فما نطقوا وما كذب عليه السلام (5).

ص: 276


1- البقرة : 230.
2- الوسائل 22 : 126.
3- الأنبياء : 63.
4- الأنبياء : 63.
5- معاني الأخبار : 209 ، تفسير القمّي 2 : 72 وهداية المسترشدين : 282.

وجه الدلالة : أنّه علّق الحكم بكون كبيرهم فعل ذلك على نطقهم ، وقد استدلّ الإمام عليه السلام على عدم الكذب بكون انتفاء التالي من جهة انتفاء المقدّم ، ولو لا ذلك مرادا من جهة المفهوم لما ارتفع الكذب ، كما أنّه لولا فهم الإمام عليه السلام ذلك لما استقام الاستدلال ، فالحجّة إنّما هو فهمه لا مجرّد إرادة المتكلّم ، فلا يرد عليه : أنّ الاستعمال ممّا لا ينكره الخصم حتّى يستدلّ عليه بالرواية.

ومنها : ما أورده الصدوق في فضل هشام بن الحكم أنّه تناظر مع بعض المخالفين في الحكمين بصفّين - عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري - قال المخالف : إنّ الحكمين لقبولهما الحكم كانا مريدين للإصلاح بين الطائفتين ، فقال هشام : بل كانا غير مريدين للإصلاح بين الطائفتين ، فقال المخالف : من أين قلت هذا؟ قال هشام : من قول اللّه عزّ وجلّ في الحكمين حيث يقول : ( إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُما ) (1) فلمّا اختلفا ولم يكن بينهما اتّفاق على أمر واحد ولم يوفّق اللّه بينهما علمنا أنّهما لم يريدا الإصلاح (2).

لا يقال : انّه يدلّ على ما لا كلام لأحد فيه من استلزام انتفاء التالي في الجملة الشرطيّة للعلم بانتفاء المقدّم ، على حدّ قوله تعالى : ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا ) (3) فإنّ هشاما استدلّ بانتفاء التالي على انتفاء المقدّم ، والّذي كان يجدي نفعا في إثبات المطلب ما لو فرض أنّه استدلّ بانتفاء المقدّم على انتفاء التالي ، وهذا خلف.

لأنّ هشاما استدلّ في مورد خاصّ بانتفاء التالي على انتفاء المقدّم بعد ما فهم من الآية كون انتفاء المقدّم مستلزما لانتفاء [ التالي ] وقضيّته أن يستلزم انتفاء التالي للعلم بانتفاء المقدّم ، ولذا صحّ الاستدلال بانتفاء التالي على انتفاء المقدّم في المورد الخاصّ ، فتأمّل.

لإمكان أن يقال : إنّ صحّة الاستدلال بانتفاء التالي على انتفاء المقدّم لا تكشف عن فهم هشام من الآية استلزام انتفاء المقدّم لانتفاء التالي ، لجواز كون المقدّم أحد أسباب وجود التالي ، فانتفاؤه يدلّ على انتفاء جميع أسبابه فيدلّ على انتفاء السبب الخاصّ أيضا.

وأمّا حجج سائر الأقوال :

فاحتجّ بعض الأعاظم لما حكاه من القول بالتلازم في العدم دون الوجود بوجوه :

أوّلها : أنّ الشرط ليس علّة في وجود المشروط ولا مستلزما له فلو لم يستلزم العدم للعدم خرج عن كونه شرطا ، وإلاّ جاز أن يكون كلّ شيء شرطا لكلّ شيء.

ص: 277


1- النساء : 35.
2- من لا يحضره الفقيه 3 : 522.
3- الأنبياء : 22.

واجيب عنه : بكونه خلطا بين الشرط المبحوث عنه في المقام وبين الشرط الاصولي.

والأولى أن يجاب : بأنّ الشرط هنا بمقتضى ظاهر الشرطيّة - مع استلزام عدمه عدم المشروط - يستلزم وجوده الوجود بل علّة في وجوده أيضا ، واستلزام عدمه العدم لأجل ذلك لا غير.

وثانيها : أنّ كلمة « إن » أداة الشرط باتّفاق النحاة ، ويعنون بذلك أنّ ما يقترن بها شرط لما بعده والأصل في الاستعمال الحقيقة ، والشرط ما ينتفي بانتفائه المشروط لاتّفاق الفقهاء على ذلك.

ويزيّفه : الخلط المذكور أيضا ، بل نقول : إنّ النحاة وإن اتّفقوا على كون كلمة « إن » أداة الشرط ولكنّهم فسّروا الشرط أيضا بسببيّة الأوّل للثاني أو للحكم به ، وجعلوا كلم المجازاة للشرطيّة وفسّروها بالسببيّة والمسبّبيّة بين الجملتين ، وسمّوا الجملة الثانية جزاء في مقابلة الشرط ، وليس إلاّ لأجل كونه بحيث يترتّب على الشرط في الوجود ، واتّفاق الفقهاء على المعنى المذكور ليس في الشرط بهذا المعنى بل في الشرط الاصولي ، ففساد وضع الدليل إنّما هو في هذه المقدمّة.

وثالثها : إنّ قول القائل : « أعط زيدا درهما إن أكرمك » ، يجري في العرف مجرى قولنا : « الشرط في إعطائه إكرامك » والمتبادر من هذا انتفاء الإعطاء عند انتفاء الإكرام قطعا بحيث لا يكاد ينكر عند مراجعة الوجدان ، فيكون الأوّل أيضا هكذا.

وتقدّم في شرح عبارة المصنّف ما يوضح ضعف هذا الاستدلال وحاصله : أنّه لنا لا علينا ، لأنّ الشرط في العبارة المفسّرة كالشرط في قولنا : « الشرط في حركة المفتاح حركة اليد » و « الشرط في العلم بالنتيجة النظر في المقدّمتين » و « الشرط في الكون على السطح الترقّي من درجات السلّم وما أشبه » فإنّ الشرط في هذه التراكيب يراد به المعنى العرفي العامّ وهو ما يتوقّف عليه وجود الشيء مطلقا بل خصوص السبب لا الشرط الاصولي.

ورابعها : ما روي عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله في قوله تعالى : ( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ) (1) إنّه قال : « لأزيدنّ على السبعين » فإنّه يدلّ على أنّه صلى اللّه عليه وآله فهم أنّ عدم الشرط وهو الاقتصار على السبعين يقتضي عدم المشروط وهو عدم الغفران.

وفيه : منع أنّه صلى اللّه عليه وآله فهم ذلك ، فإنّ الشرطيّة في الآية ليست للتعليق بل لنفي تأثير

ص: 278


1- التوبة : 80.

الشرط في وجود الجزاء كما يفصح عنه قوله تعالى : ( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ) فإنّه لبيان أنّ وجود الاستغفار وعدمه سيّان في عدم الغفران.

وقوله : « لأزيدنّ على السبعين » إنّما هو لرجاء أنّه يغفر بالزيادة ، مع كونه معارضا بنبوي آخر : « لو علمت أنّي إن زدت على السبعين يغفر اللّه لهم لفعلت » وقد يحتمل كونه اظهارا لكمال الرأفة أو استمالة واستجلاب لقلوب الأحياء.

وخامسها : أنّ التعليق على الشرط لا يخلو إمّا أن يكون لانتفاء المشروط [ عند عدم الشرط ] وهو المطلوب ، أو لوجود المشروط عند وجوده فيكون سببا ، ومنه يحصل المطلوب أيضا ، فإنّ الأصل عدم تعدّد الأسباب فيكون السبب متّحدا ، وإذا اتّحد انتفى المسبّب بانتفائه ، بل كان أحرى بالانتفاء ممّا فقد الشرط الّذي ليس بسبب.

وفيه : اختيار الشقّ الثاني مع دعوى الظهور في الانحصار كما تقدّم فلا حاجة الى انضمام الأصل ليتوجّه إليه ما تقدّم عند تأسيس الأصل.

في أدلّة الأقوال

حجّة القول بثبوت المفهوم تضمّنا وجهان بل وجوه :

أحدها : أنّه لا ملازمة عقلا ولا عرفا بين ثبوت الشيء عند شيء آخر كما هو المنطوق وبين انتفائه عند انتفائه كما هو مفاد المفهوم ، وقد ثبت بالتبادر وغيره دلالة الشرط على كلّ من الأمرين ، فيتعيّن أن يكون موضوعا للدلالة عليهما فتكون دلالته على كلّ منهما بالتضمّن.

وقد يقرّر ذلك بما لا يخلو عن مصادرة وهو : أنّ الموضوع له هو الثبوت عند الثبوت والانتفاء عند الانتفاء ، واللفظ دالّ على المجموع بالمطابقة وعلى كلّ من الأمرين بالخصوص بالتضمّن ، وهذا واضح الضعف.

وأمّا الأوّل : فهو أيضا ضعيف ، لأنّه مغالطة ناشئة من ملاحظة الثبوت عند الثبوت والانتفاء عند الانتفاء بمفهوميهما ، وحينئذ فما ذكر من انتفاء الملازمة بينهما عقلا وعرفا كما ذكر ، لأنّ ثبوت الشيء عند ثبوت شيء آخر بمفهومه يجامع صورة انتفاء العلاقة والربط المعنوي بين الشيئين ، بأن يكون ثبوت أحدهما عند ثبوت الآخر لمجرّد المقارنة الاتّفاقيّة كما في قولنا : « إن كان الإنسان ناطقا كان الحمار ناهقا » ولا ريب أنّ ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط في نحوه لا يلزم انتفائه عند انتفائه أصلا ، فلا يلزم من انتفاء ناطقيّة الإنسان انتفاء ناهقيّة الحمار ، كما أنّ انتفاء ناهقيّة الحمار لا يكشف عن انتفاء ناطقيّة الإنسان ، ولكن محلّ البحث ليس من هذا القبيل ، لأنّ ثبوت الجزاء عند ثبوت

ص: 279

الشرط في محلّ البحث ناش عن العلاقة والربط المعنوي بينهما ، وهو كون الشرط بحيث يترتّب عليه الجزاء في الوجود.

ولا ريب أنّ الثبوت عند الثبوت الملحوظ على هذا الوجه يلازم عند العقل الانتفاء عند الانتفاء ، لأنّه لولا انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط كان معناه أنّه يوجد مع عدم وجود الشرط ، وكان معناه أنّ وجوده لا يترتّب على وجود الشرط ، وهذا خلف.

فثبت أنّ التعليق على الشرط يدلّ على وجود الجزاء عند وجود الشرط بالمطابقة وعلى انتفائه عند انتفائه بالالتزام ، باعتبار دلالته بالوضع على النسبة بينهما باعتبار كون الشرط بحيث يترتّب على وجوده وجود الجزاء.

وثانيها : أنّ الالتزام دلالة اللفظ على الخارج اللازم وهذا ليس بخارج.

وهذا كما ترى أضعف من سابقه ، لأنّه إن اريد بعدم كون الانتفاء عند الانتفاء خارجا أنّ الجملة الشرطيّة أو أداة الشرط موضوعة لمجموع الوجود عند الوجود والانتفاء عند الانتفاء فلا يكون الانتفاء عند الانتفاء خارجا عمّا وضع له اللفظ ، فهو مصادرة واضحة.

وإن اريد به أنّ الجملة أو الأداة موضوعة للسببيّة ، والسبب عبارة عمّا يدخل فيه المجموع من لزوم الوجود من الوجود ولزوم العدم من العدم ، ولذا يعرف : « بأنّه ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم » فالانتفاء عند الانتفاء ليس بخارج عن مفاد السببيّة.

ففيه : أنّه خلط بين لفظ « السبب » والجملة الشرطيّة أو أداة الشرط المفيدة للسببيّة ، فإنّ كون الأوّل لمجموع الأمرين مسلّم إلاّ أنّه اصطلاح للاصوليّين ، فإنّه في عرفهم عبارة عمّا يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم ، كما أنّ الشرط عندهم عبارة عمّا يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده الوجود.

ولا ريب أنّ البحث ليس في لفظ « السبب » بل في الجملة الشرطيّة.

وقد عرفت أنّها بالوضع تفيد كون الشرط بحيث يترتّب عليه وجود الجزاء ويلزم منه أن ينتفي الجزاء بانتفائه ، فيكون الانتفاء عند الانتفاء خارجا لازما ، والسببيّة في قولنا : « إنّ الجملة الشرطيّة أو أداة الشرط تدلّ على السببيّة » أو « أنّ التعليق على الشرط يفيد السببيّة » عبارة عمّا ينحلّ إلى هذين الأمرين : أحدهما مدلول مطابقي للّفظ ، والآخر مدلول التزامي له.

وثالثها : أنّ الدلالة الالتزاميّة غير مجدية في الإرادة إلاّ إذا كان اللازم لازما بحسب الوجود بحيث لا ينفكّ عنه في الخارج ، والمعتبر في المفهوم ثبوت كونه مرادا ككون

ص: 280

المنطوق مرادا ، ولا يثبت كونه مرادا إلاّ باللزوم الخارجي ، وهو منتف فيما بين الثبوت عند الثبوت والانتفاء عند الانتفاء لكمال المعاندة فيما بينهما ، واللزوم الذهني إن كان غير كاف في الإرادة ، لأنّ غايته أن يوجب فهمه ويلزم تصوّره من تصوّره وهو غير الإرادة ، مع أنّ اللزوم الذهني أيضا منتف فإنّ تصوّر الثبوت عند الثبوت لا يستلزم تصوّر الانتفاء عند الانتفاء.

ويزيّفه : أنّ اللزوم الذهني ثابت بينهما بحسب الوضع كما قرّرناه ، وهو إذا كان ناشئا من الوضع كاف في الإرادة كما في « العمى » و « البصر » فإنّ البينونة والمعاندة بينهما بحسب الوجود الخارجي واضح مع كون الثاني لازما للأوّل باللزوم الذهني الناشئ من وضع الأوّل للعدم المقيّد بالثاني ، فيلزم تصوّر الثاني من تصوّر الأوّل ويكون مرادا بإرادته ، ولزوم الانتفاء عند الانتفاء للثبوت عند الثبوت من هذا القبيل ، لأنّه ذهنيّ ناش من الوضع - لا أنّه ثابت بمجرّد حكم العقل فيلزم تصوّره من تصوّره - ويكون مرادا للمتكلّم بإرادته ، فالإرادة في الدلالة الالتزاميّة ليست مقصورة على اللزوم الخارجي فيما هو لازم للماهيّة في الوجود الخارجي.

وبالجملة انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط خارج عن كون الشرط بحيث يترتّب عليه الجزاء في الوجود الخارجي لازم له باللزوم الذهني الناشئ من الوضع ، فاللفظ الدالّ على الثبوت عند الثبوت بالمطابقة دالّ على الانتفاء عند الانتفاء بالالتزام.

حجّة القول بالدلالة العقليّة : أنّه لو لم يفد التعليق انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط لكان التعليق لغوا يجب تنزيه الكلام عنه.

ويزيّفه أوّلا : النقض بموارد انتفاء المفهوم وعدم إرادته من التعليق ، فإنّ وجودها ضروري فيلزم اللغو. ودفعه : بجواز العدول إلى فائدة اخرى ، يدفعه : أنّ التعليق على الشرط لو كان صالحا للعدول إلى فائدة اخرى غير الانتفاء عند الانتفاء لكان احتماله قائما في محلّ النزاع أيضا فبطل به الاستدلال.

وثانيا : الحلّ بمنع الملازمة لولا الحمل على هذه الفائدة.

وتوضيحه : أنّ المتكلّم إذا قال : « أكرم زيدا » أفاد وجوب إكرام زيد وجوبا مطلقا غير متوقّف على مجيئه غير منتف عند عدم مجيئه ، وإذا قال : « إن جاءك زيد فأكرمه » أفاد وجوب إكرامه وجوبا مشروطا بمجيئه متوقّفا وجوده على وجوده ولو من جهة كونه أحد أسبابه.

وهذه فائدة عظيمة تترتّب على التعليق غير مرتبطة بفائدة الانتفاء عند الانتفاء ،

ص: 281

فلا يلزم خروجه عن الفائدة.

وبعبارة اخرى أوضح : أنّ القول بحجّيّة مفهوم الشرط يرجع إلى دعوى فائدتين في التعليق :

إحداهما : إفادة كون الشرط بحيث يترتّب عليه الجزاء في الوجود ، ومرجعه إلى التلازم بينهما في الوجود.

واخراهما : إفادة كونه بحيث ينتفي بانتفائه الجزاء ، ومرجعه إلى التلازم بينهما في العدم.

والمنكر للحجّيّة يوافقه في الفائدة الاولى ويخالفه في الثانية ، اعتناء منه إلى احتمال تعدّد الأسباب بعد تسليم الدلالة على السببيّة في الجملة.

وبما بيّنّاه ينقدح أنّ تغيير صورة الدليل بما قيل - من أنّا نقول : إنّ مفهوم الشرط حجّة إذا لم يظهر فائدة سوى انتفاء الحكم عند انتفائه ، ظهورا مساويا لها أو أزيد منها.

وبعبارة اخرى إذا كان هذه الفائدة أظهر الفوائد لا إذا لم يحتمل فائدة اخرى - غير مجد في إثبات الدلالة العقليّة أو في إثبات الحجّيّة ، إذ لو اريد من أظهريّة هذه الفائدة ما يستند إلى اللفظ فهو عدول إلى إثبات المفهوم بالدلالة اللفظيّة ولا حاجة معه إلى التمسّك بلزوم اللغويّة ، بل لا حكم للعقل فيه مع قيام احتمال فائدة اخرى ولو مرجوحا بل في غاية المرجوحيّة ، وإن اريد منها ما يستند إلى خارج من اللفظ فهو عدول عن القول بالحجّيّة إلى إثبات إرادة هذه الفائدة بالقرينة ، فيكون خارجا عن محلّ النزاع ، مع أنّه لا حاجة إلى الدليل المذكور بل لا يجري مع قيام الاحتمال وإن كان غير أظهر ، مع أنّه لا يتّفق للصورة المفروضة مورد أصلا ، لدوام ثبوت فائدة توقّف الوجود على الوجود ومرجعها إلى السببيّة في الجملة.

وهذه أظهر من فائدة استلزام الانتفاء للانتفاء دائما ، لكونها على فرض ثبوتها متفرّعة على فائدة توقّف الوجود على الوجود.

حجّة القول بالدلالة الشرعيّة : غلبة إرادة نفي الحكم عن غير المذكور في التعليقات الشرعيّة.

وفيه أوّلا : أنّه قد يدّعى الغلبة في الخلاف كما في العبارة المحكية عن الشيخ البارع الحرّ العاملي حيث قال في مقدّمات الوسائل : « إنّ التتبّع والاستقراء شاهدان بأنّ الفصحاء قد يقصدون مفهوم الشرط وقد لا يقصدونه ، فكيف يوثق بإرادته ويجعل دليلا شرعيّا من غير قرينة على إرادة المتكلّم له أو دليل آخر عليها.

وقد ذكرت في الفوائد الطوسيّة مائة وتسعة وعشرين آية من القرآن مفهوم الشرط

ص: 282

فيها غير مراد ولا معتبر ، والآيات الّتي مفهوم الشرط فيها معتبر لا تكاد تبلغ هذا القدر وكذا الأخبار وأكثر كلام البلغاء » (1).

وثانيا : أنّ الغلبة المدّعاة إنّما نشأت عن أمر يرجع إلى اللغة ، وهو وضع الجملة الشرطيّة أو أداة الشرط على وجه اقتضى الانتفاء عند الانتفاء التزاما وضعيّا لا عن أمر يرجع إلى الشرع ليكون التزاما شرعيّا.

وقضيّة ذلك كون ما لم يقصد فيه نفي الحكم عن غير المذكور من الموارد النادرة فإنّما هو لقرينة خارجيّة.

وبالجملة الغلبة المذكورة غير منافية للالتزاميّة الوضعيّة بل مبتنية عليها ، فلا تكون الدلالة شرعيّة.

حجّة القول بالفرق بين الخبر والإنشاء : أنّ المتبادر كون الشرط شرطا لإيقاع الحكم أي إصداره من المتكلّم ، فإنّ قوله : « إن جاءك زيد فأكرمه » يفهم منه : إن لم يجئك فلا حكم بوجوب الإكرام ، وقوله : « إن نزل الثلج فالزمان شتاء » يفهم منه : إن لم ينزل الثلج فلا حكم بكون الزمان شتاء ، وذلك في الإنشاء يستلزم نفي الحكم عن غير المذكور ، فإنّ عدم حكمه بالمعنى المصدري يستلزم عدم الحكم في نفس الأمر لأنّه تابع له ، وليس ذلك جاريا في الخبر لأنّ عدم الإخبار لا تستلزم عدم وقوع النسبة الخبريّة وذلك واضح.

وجوابه - بعد تصحيح ما ادّعي من كون الشرط المذكور في القضيّة شرطا لإيقاع الحكم وإصداره الّذي هو فعل المتكلّم - : منع الفرق بين الإنشاء والخبر في عدم استلزام انتفاء إيقاع الحكم بسبب انتفاء شرطه انتفاء الحكم ، فكما أنّ بانتفاء نزول الثلج ينتفي إيقاع الحكم وهو الإخبار بكون الزمان شتاء وهو لا يستلزم انتفاء الحكم في نفس الأمر وهو وقوع النسبة الخبريّة أعني كون الزمان شتاء ، فكذلك بانتفاء المجيء ينتفي إيقاع الحكم الإنشائي وهو الإيجاب وهذا لا يستلزم انتفاء أصل الحكم الإنشائي وهو الوجوب ، لجواز ثبوته للمسكوت عنه بسبب آخر ، بل بإيقاع آخر غير هذا الإيقاع الواقع في هذه القضيّة سابق عليه أو لا حق به ، على أنّ المراد من الحكم المتنازع في انتفائه عند انتفاء الشرط إنّما هو نوعه لا خصوص شخصه الّذي أنشأه المتكلّم بتلك القضيّة ، فإنّه ممّا لا خلاف لأحد في انتفائه عن المسكوت عنه وعدم شموله له ، لقصور القضيّة المنطوقيّة عن

ص: 283


1- الفصول المهمّة في اصول الأئمّة 1 : 84.

احتجّ السيّد رحمه اللّه بأنّ الشرط هو تعليق الحكم به * ، وليس يمتنع أن يخلفه وينوب منابه شرط آخر يجري مجراه ، ولا يخرج عن أن يكون شرطا الا ترى أنّ قوله تعالى : ( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ) يمنع من قبول الشاهد الواحد حتّى ينضمّ إليه آخر؟ فانضمام الثاني إلى الأوّل شرط في القبول. ثمّ نعلم أنّ ضمّ امراتين إلى الشاهد الأوّل يقوم مقام الثاني. ثمّ نعلم بدليل ، أنّ ضمّ اليمين إلى الواحد يقوم مقامه أيضا. فنيابة بعض الشروط عن بعض أكثر من أن تحصى.

________________________________

حجج المنكرين لحجّية مفهوم الشرط

إفادته له أيضا ، فإنّ قولنا : « إن جاءك زيد فأكرمه » لا يفيد وجوب الإكرام لصورة عدم المجيء أيضا.

وبالجملة يجوز ثبوت الوجوب لغير المذكور بإنشاء آخر سابق على الإنشاء المذكور أو لاحق به ، وهذا الاحتمال لا يقصر عن احتمال وقوع النسبة الخبريّة في الخبر في صورة انتفاء إيقاعه وهو إخبار المتكلّم به ، هذا مع تطرّق المنع إلى دعوى كون الشرط شرطا لإيقاع الحكم استنادا إلى التبادر ، بل الظاهر المتبادر من التعليق كونه شرطا لنفس الحكم - على معنى السببيّة على وجه الانحصار كما ذكرناه مرارا - فيلزم ظهوره في الانتفاء عند انتفائه ، وهو لا ينافي احتمال عدم انتفائه فيجب الأخذ بهذا الظهور ، إلاّ حيث دلّ دليل من الخارج على كون الشرط شرطا للحكم بوجود الجزاء لا لوجوده كما في المثال : « إن نزل الثلج فالزمان شتاء » ومنه قوله تعالى : ( وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ) (1).

* وهذا مقطوع من عبارته في الذريعة وتمام العبارة : « أنّ الشرط عندنا كالصفة في أنّه لا يدلّ على أنّ ما عداه بخلافه ، وبمجرّد الشرط لا يعلم ذلك وإنّما نعلمه في بعض المواضع بدليل منفصل ، لأنّ تأثير الشرط أن يتعلّق الحكم به ، وليس يمتنع أن يخلفه وينوب عنه شرط آخر ويجري مجراه ولا يخرج من أن يكون شرطا ، ألا ترى أنّ قوله تعالى » (2) إلى آخر ما قرّره المصنّف.

ويظهر منه أنّه معترف بإفادة الجملة الشرطيّة سببيّة المقدّم للتالي ، وإن كان ربّما يأباه

ص: 284


1- النحل : 53.
2- الذريعة إلى اصول الشريعة 1 : 406.

واحتجّ موافقوه - مع ذلك - : بأنّه لو كان انتفاء الشرط مقتضيا لانتفاء ما علّق عليه ، لكان قوله تعالى : ( وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ) (1) دالا على عدم تحريم الإكراه ، حيث لا يردن التحصّن ، وليس كذلك ، بل هو حرام مطلقا*.

والجواب عن الأوّل : أنّه ، إذا علم وجود ما يقوم مقامه ، كما في المثال الذي ذكره ، لم يكن ذلك الشرط وحده شرطا. بل الشرط حينئذ أحدهما ؛ فيتوقّف انتفاء المشروط على انتفائهما معا ؛ لأنّ مفهوم أحدهما لا يعدم إلاّ بعدمهما. وإن لم يعلم له بدل ، كما هو مفروض المبحث ، كان الحكم مختصّا به ، ولزم من عدمه عدم المشروط ، للدليل الّذي ذكرناه.

________________________________

الاستشهاد بآية الاستشهاد (2) ولكنّه ينكر إفادتها كونه سببا على التعيين وعلى وجه الانحصار ، واستند في ذلك الى عدم امتناع تعدّد الأسباب ، ونيابة سبب آخر عن السبب المذكور في القضيّة في صورة انتفائه.

ويرد عليه : أنّ القول بإفادة التعليق على الشرط انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط لا يرجع إلى دعوى الامتناع حتّى يقابل بنفي الامتناع الّذي أقصاه قيام الاحتمال ، بل يبنى على دعوى الظهور في التعيين والانحصار الملازم للانتفاء عند الانتفاء ، وهذا لا ينافي الاحتمال كما أنّ الاحتمال لا يعارض الظهور ، وأمّا ما قام فيه دليل من الخارج على التعدّد والنيابة فلا كلام.

وبذلك ظهر أنّ محلّ البحث على عكس ما ذكره من أنّه : « إنّما نعلمه في بعض المواضع بدليل منفصل ».

* والتحقيق في جوابه : أنّ الشرط المذكور بعد النهي في الآية كالشرط المذكور بعد النهي في مثل : « لا تشرب الخمر إن كنت مؤمنا » لم يقصد به حقيقة التعليق ، وهو تعليق الجزاء على الشرط بحيث يترتّب وجوده على وجوده وعدمه على عدمه ، كما هو قضيّة السببيّة على التعيين ، بل يقصد به تعليل الحكم به على معنى ورود الشرطيّة في الكلام

ص: 285


1- النور : 33.
2- والمراد بآية الاستشهاد هو قوله تعالى : ( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ) .

وعن الثاني بوجوه : أحدها - أنّ ظاهر الآية يقتضي عدم تحريم الإكراه إذا لم يردن التحصّن ، لكن لا يلزم من عدم الحرمة ثبوت الإباحة ؛ إذ انتفاء الحرمة قد يكون بطريان الحلّ ، وقد يكون لامتناع وجود متعلّقها عقلا ؛ لأنّ السالبة تصدق بانتفاء المحمول تارة وبعدم الموضوع اخرى. والموضوع هنا منتف ، لأنّهنّ إذا لم يردن التحصّن فقد أردن البغاء ومع إرادتهنّ البغاء* يمتنع إكراههنّ عليه ؛ فإنّ الإكراه هو حمل الغير ما يكرهه. فحيث لا يكون كارها يمتنع تحقّق الإكراه. فلا يتعلّق به الحرمة.

________________________________

لتعليل الحكم بالشرط المذكور في القضيّة ليفيد عموم وجوده حيثما وجد الشرط ، على وجه ينتظم به في حاصل المعنى قياس مشتمل على كبرى كلّيّة على حدّ المنصوص العلّة ، فيكون تقدير المثال المذكور : « لا تشرب الخمر لأنّك مؤمن ، وكلّ مؤمن يحرم عليه شرب الخمر ، فأنت يحرم عليك شرب الخمر ».

وهذا كما ترى لا يقتضي انتفاء الحكم حيثما ينتفي الشرط المعلّل به ، بل لا يقتضي كون الشرط المعلّل به سببا مؤثّرا في وجود الحكم فضلا عن اقتضائه انتفاء الحكم عند انتفائه ، لجواز كون العلّة المؤثّرة في وجوده أمرا مشتركا بين ذلك الشرط وغيره ممّا يضادّه كالإيمان والكفر في المثال المذكور ، أو يناقضه كإرادة التعفيف وعدم إرادته في الآية ، فلا يلزم الانتفاء عند الانتفاء على التقديرين.

وإن شئت فاستوضح جميع ما بيّنّاه من ملاحظة ما لو قيل : « العالم حادث إن كان متغيّرا » فإنّه في حاصل المعنى يؤول إلى قولنا : « العالم حادث لأنّه متغيّر ، وكلّ متغيّر حادث » مع عدم كون التغيّر علّة لوجود الحدوث كما هو واضح.

وهذا هو معنى ما قد يقال « من كون القيد الوارد بعد النهي للعلّة » فإنّ المراد به في المثال المذكور ونظائره الّتي منها الآية كونه للتعليل ، وإن لم يكن الشرط المعلّل به علّة مؤثّرة في وجود الحكم في نفس الأمر.

* فيه : منع واضح ، لأنّ عدم إرادة التحصّن ليس بعين إرادة البغاء ولا مستلزما له ، لثبوت الواسطة المقتضية لانتفاء إرادة التحصّن وإرادة البغاء معا ، كما في صورة ما لو لم يكن البغاء

ص: 286

محبوبا ولا مبغوضا لهنّ ، فيتحقّق الإكراه - على معنى الإجبار - على الفعل ، فتأمّل.

ويرد عليه أيضا : أنّ هذا الجواب يؤول بالأخرة إلى إنكار المفهوم في الآية والمقصود إثباته ، فإنّ معنى القول بالمفهوم أنّ انتفاء الشرط سبب لانتفاء الجزاء ، ولازمه عدم كون السبب للانتفاء هو عدم الموضوع أو المحمول ، بل لا بدّ من بقائهما على حالهما مع انتفاء الشرط فقط ، فلو كانت الآية ذات مفهوم كان ذلك المفهوم : إنّ عدم إرادة التعفّف سبب لعدم حرمة الإكراه ، والمفروض في الجواب أنّ عدم إمكان الإكراه في صورة عدم إرادة التعفّف سبب لعدم حرمته ، وبينهما بون بعيد.

ثمّ إنّ لموافقي السيّد في نفي المفهوم وجوه اخر غير ما نقله المصنّف ، مذكورة في بعض الكتب ولا جدوى في الإطناب بذكرها وذكر ما يرد عليها ، فلنقتصر على الوجهين المتقدّمين.

القضيّة الشرطيّة تقتضي التلازم بين المقدّم والتالي في طرفي الوجود والعدم

فائدتان

الفائدة الاولى

قد تقرّر من تضاعيف كلماتنا في المسألة ومقدّماتها أنّ القضيّة الشرطيّة عند مشهور الطائفة يقتضي التلازم بين المقدّم والتالي في كلّ من طرفي الوجود والعدم ، وينحلّ ذلك التلازم إلى ملازمة وجود الأوّل لوجود الثاني ، وملازمة وجود الثاني لوجود الأوّل ، وملازمة عدم الأوّل لعدم الثاني ، وملازمة عدم الثاني لعدم الأوّل.

وربّما يتوهّم المنافاة بينه وبين ما عليه جمهور أهل الميزان في القياس الاستثنائي من اختصاص إنتاجه بصورتين : استثناء نقيض التالي ينتج رفع المقدّم ، واستثناء وضع المقدّم ينتج وضع التالي ، بخلاف ما عليه الاصوليّون فإنّه يقتضي الإنتاج في كلّ من الرفع والوضع لكلّ من المقدّم والتالي ، فصور النتيجة الحاصلة من القياس الاستثنائي عندهم أربعة.

وربّما اعتذر بتغاير طريقة الفريقين في أدوات الشرط ، فإنّ أهل الميزان اصطلحوها في الدلالة على مجرّد التلازم بين الشيئين.

وفيه : ما لا يخفى أن يقال بأنّ الاختلاف الّذي يتراءى بين الفريقين اختلاف نشأ من اختلاف موضوعي بحثهما ، فإنّ الاصوليّين خصّوا محلّ بحثهم بالألفاظ باعتبار دلالاتها على المعاني إثباتا ونفيا ، ليظهر فائدته في الشرعيّات الّتي يكتفى فيها بالظنّ والظهور المستندين إلى دلالات الألفاظ ، والآخرين خصّوا موضوع بحثهم بالمعاني من حيث إيصالها إلى المجهول النظري إثباتا ونفيا ، ليحصل فائدته في العقليّات الّتي يضرّ بدلائلها

ص: 287

مجرّد الاحتمال ، فجعلوا موضوع كلامهم في القياس الاستثنائي ما كان مقطوعا به من تلازم الطرفين في المقدّم والتالي ، وليس بمقطوع به إلاّ ملازمة وضع المقدّم لوضع التالي وملازمة رفع التالي لرفع المقدّم ، بخلاف الأوّلين ، فإنّهم بنوا في مدلول اللفظ على الملازمة بين المقدّم والتالي في كلّ من الوجود والعدم لعدم اقتصارهم في دلالات الألفاظ على المقطوع به ، بل المظنون به عندهم معمول به أيضا.

وممّا يشهد بالفرق المذكور استدلال الأوّلين فيما صاروا إليه بالتبادر والظهور ، وتعليل الآخرين فيما حكموا به بجواز عموم التالي ، فلولا نظرهم إلى المعاني والإيصال في العقليّات مع اعتبار القطع فيها لما كان تعليلهم منطبقا على المعلّل له ، لأنّ الاحتمال إنّما يقدح في الدلائل العقليّة الّتي يطلب فيها القطع بالمطلوب ، كما أنّه لولا نظر الأوّلين في الدلالات اللفظيّة بالقياس إلى الشرعيّات لما استقام استدلالهم المذكور لكون الظهور أعمّ من القطع بالمطلوب ، فلا منافاة بين كلاميهما ، ضرورة اعتبار وحدة الموضوع في التناقض ، ولم يظهر لأهل الميزان ولا غيرهم اصطلاح خاصّ في أدوات الشرط ، وإنّما يستعملونها في كشف مقاصدهم على طريقة استعمال غيرهم في المخاطبات ، وكثيرا مّا يستعملها العرف في إفادة اللزوم فقط وهو القدر المتيقّن من مفادها والجامع بين استعماليها ، فليتدبّر.

في تعدّد الشرط ووحدة الجزاء

الفائدة الثانية

إذ قد عرفت اقتضاء التعليق على الشرط سببيّة المقدّم للتالي المستلزمة لانتفاء التالي بانتفاء المقدّم.

فاعلم : أنّه قد يرد في الخطاب قضايا شرطيّة متعدّدة اعتورت فيها شروط عديدة على جزاء واحد ، فيقع فيها التعارض بين منطوق كلّ ومفهوم الآخر على وجه تعارض العامّ والخاصّ نظرا إلى عموم المفهوم في كلّ ، كما لو قال : « إن جاءك زيد فأكرمه » و « إن أعطاك فأكرمه » و « إن ألبسك فأكرمه » وهكذا ، فإنّ مفهوم الأوّل أنّه إن لم يجئك فلا يجب إكرامه ، اعطاك أو لا ، ألبسك أو لا وحينئذ فلا بدّ من العلاج الّذي يتصوّر فيه وجوه :

أحدها : الالتزام بتعدّد الجزاء على حسب تعدّد الشروط فيما لو كان قابلا للتعدّد كإكرام زيد ، حتّى يكون كلّ شرط سببا تامّا لجزائه غير مقيّد بشيء من الامور الوجوديّة والعدميّة ، ويلزم من انتفائه انتفاء الجزاء الخاصّ به وهو الإيجاب المعلّق عليه خاصّة.

وقضيّة ذلك تعدّد الايجابات في صورة اجتماع الشروط وعدم تداخل المسبّبات ،

ص: 288

ومرجعه إلى تقييد المفاهيم كلّ بحالة انتفاء الشرط الآخر ، بناء على أنّه بإطلاقه يقتضي انتفاء الحكم بنوعه.

وثانيها : التقييد في المناطيق بجعل كلّ شرط في تأثيره مقيّدا بوجود شرط آخر ، حتّى يكون موضوع السببيّة مجموع الشروط من حيث المجموع ، على وجه يكون انتفاء كلّ شرط بانفراده موجبا لانتفاء الجزاء ، بضابطة : أنّ انتفاء الجزء يقضي بارتفاع حكم الكلّ.

وقضيّة ذلك تطرّق التقييد إلى المنطوق خاصّة دون المفهوم ، وبناء هذا الاحتمال على جعل التعليق في كلّ قضيّة لمجرّد التلازم بين طرفيه في العدم دون الوجود.

وثالثها : كون القضايا المتعدّدة مرادا بها بيان قيام السببيّة بالقدر المشترك الاعتباري بين الشروط المعبّر عنه ب- « أحدها » على وجه يكون إفراد كلّ شرط بالذكر من جهة كونه فردا من ذلك القدر المشترك محصّلا له ، فيكون الجزاء حينئذ يدور على ذلك القدر المشترك وجودا وعدما.

ومن البيّن أنّه يوجد مع وجود إحدى الخصوصيّات ويلزم أن يترتّب الجزاء عليه ، وينعدم بانعدام جميع ذلك الخصوصيّات ويلزم انتفاء الجزاء حينئذ ، فلو اتّفق وجود أكثر من خصوصيّة فإن كان ذلك على سبيل الدفعة يترتّب عليه وجود الجزاء مرّة ، لأنّ وجود أكثر من فرد واحد في آن واحد لا يوجب التعدّد في تحقّق القدر المشترك [ الواحد ](1) وواحد وإن كان على سبيل التدريج يلزم التكرار في الجزاء ، لأنّ وجود أكثر من فرد واحد تدريجا يوجب تعدّد القدر المشترك في تحقّقه الخارجي ، والجزاء تابع له فيتعدّد لمكان تعدّد سببه.

ورابعها : التزام التقييد في كلّ من المناطيق والمفاهيم ، بكون كلّ شرط مقيّدا في تأثيره بأمر عدمي وهو حالة انتفاء سائر الشروط ، فيلزم أن يكون انتفاؤه في اقتضاء انتفاء الجزاء مقيّدا بانتفاء سائر الشروط أيضا.

وخامسها : الالتزام بخلوّ القضايا عن المفهوم بالمرّة ، بدعوى : أنّ المتكلّم إنّما أراد بها إفادة العلقة بين كلّ شرط وجزائه في الوجود فقط ، ولم يتعلّق من قبله حكم بصورة انتفاء الشروط لا نفيا ولا إثباتا ، فيندرج انتفاؤها حينئذ في عنوان ما لا نصّ فيه.

وقضيّة ذلك عدم تداخل المسبّبات حال اجتماع الأسباب إن كان موضوعها قابلا للتعدّد ، بخلاف ما لم يقبل التعدّد كالقتل فلا مناص حينئذ من التداخل ، لا من جهة أنّه

ص: 289


1- وفي الأصل : « وواحد » بدل « الواحد » والصواب ما أثبتناه في المتن ، نظرا إلى السياق ، فتأمّل.

الأصل بل من جهة عدم قابليّة المحلّ لعدم التداخل.

وسادسها : الالتزام بكون القضايا مرادا بها نفي الترتّب بين الجزاء والشروط المذكورة دفعا لتوهّم المكلّف إيّاه ، فيكون مفاد الجميع ثبوت الحكم في جميع أحوال الموضوع وعدم اختصاصه ببعض دون بعض ، وأنّ موضوع الجزاء لازم الإيجاب في أيّ من أحواله اتّفق مع التكرار حسبما يقتضيه الإمكان ، أو على حسب تكرار الإنشاء في تلك القضايا مع قابليّة المحلّ ، أو لا معه بإرادة إيجاب الطبيعة مع عدم قابليّة المحلّ ، أو معها بناء على أنّ القضايا المتعدّدة اريد بها التأكيد دون التأسيس.

وربّما يحتمل في المقام وجوه اخر :

منها : تقييد مفهوم كلّ بمنطوق الآخر ، فيؤول المفاد إلى أنّ انتفاء المجيء سبب لانتفاء وجوب الإكرام إن لم يخلفه الإعطاء ولا الإلباس.

ووجهه : منع المنافاة بين المناطيق ، نظرا إلى أنّه في صورة الاجتماع الّذي هو محلّ توهّم المنافاة يعمل بالجميع ويحكم بلزوم التكرار ، إن لم يدلّ دليل على التداخل ولم يكن موضوع الجزاء ممّا لا يقبل التعدّد كقوله : « إن زنى فاقتله » و « إن ارتدّ فاقتله » و « إن سبّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم فاقتله ».

ومنها : عكس الأوّل وهو تقييد منطوق كلّ بمفهوم الآخر مع إبقاء المفاهيم على إطلاقها ، فيؤول المفاد : أنّ المجيء سبب لوجوب الإكرام إن لم ينتف معه الإعطاء والإلباس.

ومنها : رفع اليد عن إطلاق بعض المناطيق حتّى يكون سببيّة بعض الشروط مطلقة وسببيّة البعض مقيّدة بصورة الاجتماع مع الأوّل أو بحالة انتفاء الأوّل.

ولا خفاء في وهن هذه الوجوه :

أمّا الأوّل : فلأنّ قضيّة القول بعدم المنافاة بين المناطيق ليتفرّع عليه العمل بالجميع والحكم بلزوم التكرار ، كون كلّ شرط سببا تامّا لجزائه المعلّق عليه من غير ارتباط له بالشرط الآخر في السببيّة لا وجودا ولا عدما ، ومعه ارتفع المنافاة عمّا بين المفاهيم ، فلا حاجة حينئذ إلى تقييد ، لوضوح أنّ الّذي يوجب انتفاؤه انتفاء الشرط من الحكم المنطوقي إمّا أن يكون خصوص ما علّق على ذلك الشرط ، أو الحكم الكلّي الّذي لم يؤخذ معه شيء من الخصوصيّات ، ولا سبيل إلى ذلك إذ المفهوم إنّما ينفي الحكم الّذي أثبته المنطوق والحكم الكلّي - مع أنّه خلاف الفرض - ليس ممّا أثبته ذلك الشرط الّذي فرض انتفاؤه ،

ص: 290

ولو فرض كونه نافيا لما أثبته ذلك الشرط فلا يحتاج إلى تقييده بانتفاء سائر الشروط ، لفرض عدم مدخليّتها في الحكم الخاصّ المعلّق على ذلك الشرط.

وأمّا الثاني : فلأنّ المقصود بالتأويل إن كان رفع التنافي بين المناطيق والمفاهيم فهو لا يتأتّى بمجرّد التصرّف في المناطيق ، مع أنّ هذا الوجه يرجع إلى ثاني الوجوه الاولة والفرق بينهما اعتباري باعتبار الانضمام والتقييد.

وأمّا الثالث : فلأنّ بعض المناطيق لو قيّد بحالة انتفاء الشرط في المنطوق الآخر لم يرتفع التنافي المتوهّم بين مفهومه والمنطوق الآخر ، ولو قيّد بصورة اجتماع شرطه مع شرط المنطوق الآخر لم يترتّب عليه الفائدة المقصودة من التعليق ، لكون الشرط في المنطوق الآخر مستقلاّ في السببيّة ، ففرض الشرط المقيّد معه كان كالحجر الموضوع في جنب الإنسان.

وقد يوجّه ذلك : بكون اعتبار ذلك من جهة أنّه كاشفيّ غالبيّ عن وجود المطلق لا لمدخليّته في التأثير حتّى ينافي استقلال المطلق ، وهذا كما ترى ممّا لا يكاد يتعقّل ، ضرورة أنّ القيد إمّا أن يفرض اعتباره في موضع العلم بوجود المطلق معه كان الإشكال باقيا ، وإلاّ لم يعلم تحقّق شرط اعتباره وهو الاجتماع ، ومعه لا يعقل كونه كاشفا.

وأمّا الوجوه الاولة : فأوجهها وأوفقها بظاهر اللفظ أوّلها ، حيث لم يعلم وحدة التكليف لما فيه من رجحان التأسيس على التأكيد ، وعدم الخروج عن الظاهر لا في الشرط ولا في الجزاء ولا في التركيب ، مع أنّه المنساق إلى الذهن في متفاهم العرف ، وعليه مبنى أصالة عدم التداخل في الأسباب والمسبّبات - على ما حقّقناه في رسالة منفردة (1) - استنادا إلى ظهور أدلّة الأسباب.

وملخّصه : أنّ تعدّد أسباب الوجوب مثلا بمقتضى ظهور أدلّة سببيّتها يقتضي تعدّد الوجوب ، وتعدّد الوجوب يقتضي تعدّد الواجب ، وتعدّد الواجب يقتضي تعدّد الامتثال ، وحيث ثبت التداخل كان خروجا عن أحد هذه الظهورات الثلاث ، مع أنّه لولاه لزم الخروج عن الظاهر من غير داع وتطرّق التقييد إلى المطلق من غير شاهد ، ومرجعه إلى عدم التعارض بعد البناء على تعدّد الجزاء على حسب تعدّد الشروط كما هو قضيّة ظاهر التعليق في القضايا ، فإنّ المفهوم رفع للحكم المنطوقي وهو عبارة عن الحكم المنوط

ص: 291


1- وهي الرسالة المسمّاة ب- « رسالة في عدم تداخل الأسباب والمسبّبات » وحتّى اليوم مخطوطة ونسأل اللّه تعالى أن يوفّقنا لنشره وطبعه ، إن شاء اللّه تعالى.

وجوده بوجود الشرط ، ورفع ذلك الحكم المنوط بوجود الشرط عند انتفاء الشرط لا ينافي ثبوت الحكم المنوط بوجود شرط آخر عند وجود ذلك الشرط ، فقوله : « إن جاءك زيد فأكرمه » يدلّ بالمطابقة على إناطة وجود وجوب إكرام زيد بوجود مجيئه وبالالتزام على نفي ذلك الحكم المنوط وجوده بوجود المجيء على تقدير انتفاء المجيء ، وهذا لا ينافي إثبات وجوبه منوطا بوجود الإعطاء أو الإلباس.

لا يقال : هذا لا يلائم ما تقدّم عند الكلام في ثمرة النزاع في المسألة ، من أنّه على القول بالمفهوم لو وجد في خطاب آخر ما يدلّ على ثبوت الحكم للمسكوت عنه حصل التعارض بينه وبين المفهوم فلا بدّ من الترجيح.

وقضيّة ذلك وقوع التعارض بين مفهوم كلّ شرطيّة ومنطوق الآخر.

لأنّا نقول : أنّ ما تقدّم ثمّة لا ينافي ما ذكرناه هنا ، فإنّ إثبات الحكم للمسكوت عنه غير إثباته لمقارنه من الشرط الموجود المقارن لعدم الشرط المعدوم وهو المسكوت عنه الّذي يعبّر عنه بغير المذكور ، فمفهوم قولنا : « إن جاءك زيد فأكرمه » نفي وجوب إكرامه على تقدير عدم مجيئه ، وهذا المعنى ثابت بطريق القضيّة المعقولة ، ولو اوّلت هذه القضيّة بالقضيّة الملفوظة كانت عبارة عن قوله : « إن لم يجئك زيد فلا يجب إكرامه » وحينئذ لو ورد في خطاب آخر قوله : « إن لم يجئك زيد وجب إكرامه » كان معارضا له ، بخلاف ما لو ورد قوله : « إن أعطاك زيد وجب إكرامه » فإنّه لا يعارض قوله : « إن لم يجئك زيد لا يجب إكرامه ».

والسرّ في الفرق : أنّ وحدة الشرط الّتي هي من الوحدات الثمانية المعتبرة في التناقض متحقّقه فيه مع قوله : « إن لم يجئك وجب إكرامه » لا فيه مع قوله : « إن أعطاك وجب إكرامه ».

لا يقال : قد تقدّم سابقا الإشارة إلى أنّ المفهوم عبارة عن نفي سنخ الحكم على تقدير انتفاء الشرط لا خصوص شخصه الّذي هو الحكم المنطوقي ، وقضيّة نفيه انتفاء جميع أفراده ، وهذا ينافي ثبوت ما أثبته الشرط الآخر على تقدير وجوده لأنّه من جملة أفراده.

لأنّ المراد من سنخ الحكم ما يلاحظ سنخيّته بالقياس إلى حالات انتفاء الشرط المشخّصة له ولو باعتبار الزمان والمكان ، فإنّ « عدم مجيء زيد » في أيّ زمان تحقّق وفي كلّ مكان فرض سبب لانتفاء وجوب إكرامه المنوط بمجيئه وهكذا بالقياس إلى سائر أحواله المشخّصة له ، وهذا هو المراد من سنخ الحكم المنتفي عن المسكوت عنه ، لا بالقياس إلى مقارناته الغير المشخّصة له ، والشرط الآخر الموجود حين انتفاء الشرط المعدوم مقارن له

ص: 292

لا أنّه مشخّص له ، وثبوت الفرد الآخر من الحكم منوط بوجود المقارن لا بما هو من أحوال انتفاء الشرط المعدوم ، فليس من الأفراد المعتبر انتفاؤها بفرض انتفاء سنخ الحكم.

وأمّا ما علم (1) باعتبار الخارج وحدة التكليف في واقعة « إكرام زيد » الّذي توارد فيه القضايا المذكورة فلا مناص من المصير إلى ثالث الوجوه ، لكونه ممّا عداه وفيه الخروج عن بعض مراتب ظهور القضيّة الشرطيّة بل أداة الشرط ، وهو ظهورها في كون الشرط سببا على التعيين لا على البدل.

وقضيّة الجمع بين مفاهيم القضايا ومناطيقها جعل كلّ شرط سببا على البدل ، وهذا ضرب من التجوّز في الشرطيّة بل الأداة ، نظرا إلى أنّها وضع للنسبة بين الشرط والجزاء من حيث ترتّب الجزاء على الشرط بعينه في الوجود ، فاستعمالها في النسبة بينهما من حيث ترتّب الجزاء في الوجود على أحد امور منها : ذلك الشرط استعمال لها في خلاف وضعها ، فليتدبّر في فروع المسألة فإنّها كثيرة جدّا.

ومن جملة ذلك قوله : « إن خفي الجدران فقصّر » و « إن خفي الأذان فقصّر » فنقول : إنّ شرط وجوب القصر أحد الأمرين من خفاء الجدران وخفاء الأذان.

هل يقتضي تعدّد الأسباب تعدّد المسبّبات أم لا؟

الفائدة الثالثة (2)

اختلفوا في أنّ تعدّد الأسباب هل يقتضي تعدّد المسبّبات مطلقا أو لا يقتضيه مطلقا أو يقتضيه إذا كان السببان متخالفين كالتكلّم في الصلاة والشكّ بين الأربع والخمس فيها لسجود السهو ، والجنابة ومسّ الميّت لوجوب الاغتسال ، دون ما إذا كانا متجانسين كالتكلّم في الصلاة مرّة بعد اخرى على أقوال.

أوّلها للمشهور المنصور وعليه بعض الأعاظم وغيره.

فقالوا : بأنّ الأصل في الأسباب عدم التداخل إلاّ ما أثبته الدليل وهو الأقوم.

وثانيها لجماعة منهم المحقّق الخوانساري في مشارق الشموس والفاضل النراقي في عوائده وبعض الأفاضل فعبّروا عنه بأصالة التداخل في الأسباب إلاّ ما أخرجه الدليل.

وثالثها محكيّ عن ابن إدريس على ما في المحكيّ عن العلاّمة من أنّه حكاه عنه في بحث تكرار ما يوجب سجدة السهو ، ونسب إلى العلاّمة والمحقّق أيضا في الشرائع

ص: 293


1- عطف على قوله سابقا : « حيث لم يعلم وحدة التكليف ... ».
2- أخذناها عن التحرير الأوّل من التعليقة ، وأدرجناها هنا تتميما للمرام ، واللّه الموفّق المسدّد.

والمختلف في مسألة تكرار وطء الحائض.

ومن هنا يتبيّن أنّ التعدّد في عنوان كلامهم أعمّ ممّا ينشأ عن فعل المكلّف كما لو أتى بفردين من نوع واحد كما عرفت ، أو من جعل الشارع كما لو كانت السببيّة بين نوعين مختلفين فصاعدا.

كما تبيّن أنّ نزاعهم في إحراز الأصل الأوّلي الّذي يجوز التخلّف عنه في بعض الموارد بدليل خارج.

وأظهر محامل الأصل هنا إنّما هو القاعدة ، لكون النظر في استفادتها نفيا وإثباتا عن أدلّة الأسباب وغيرها من العقل والنقل ، فما في المحكي عن المحقّق الخوانساري من ترديد الأصل هنا بين الظاهر والاستصحاب والغلبة ليس بشيء. والداعي إلى التعرّض لذكر المسألة في ذيل بحث مفهوم الشرط كونه أنسب وألصق من جهة ما يظهر منهم في مطاوي كلماتهم هنا دليلا وتمثيلا من كون موضوع المسألة أعمّ ممّا ثبتت سببيّته بالقضيّة الشرطيّة الّتي أثبتنا كونها لإفادة السببيّة أو بغيرها ممّا وقع فيه التصريح بلفظ « السبب » أو غيره ممّا يؤدّي مؤدّاه ، بل وأنت وإذا لاحظت الشرعيّات حقّ الملاحظة لوجدت أنّ ما ثبت السببيّة له بنحو التصريح ممّا يعزّ وقوعه في الخطابات الشرعيّة ، بل الغالب في الأسباب كون سببيّتها ثابتة بالقضايا الشرطيّة.

ومن الأعاظم من عنونها في مباحث الأوامر فقال في عنوانها : « اختلفوا فيما إذا تعدّد الأمر بتعدّد الأسباب إيجابا أو ندبا أو مختلفا في أنّه هل تقتضي تعدّد المأمور به أو لا؟ »

وفي كون المسألة اصوليّة أو فقهيّة أو من المبادئ الفقهيّة كأصالة الصحّة في فعل المسلم ونحوها وجوه ، من رجوع البحث إلى إثبات الدلالة لأدلّة الأسباب نفيا وإثباتا وهو بحث عن حال الدليل ، ومن رجوعه إلى وجوب التعدّد في المسبّب والتكرار في المأمور به وهو حكم فرعي في فعل المكلّف ، ومن إمكان ارجاعه إلى الملازمة بين تعدّد السبب وتعدّد المسبّب نفيا وإثباتا.

واحتجاج المدّعي لأصالة عدم التداخل بالتبادر ونحوه ممّا يرشد إلى الأوّل ، كما أنّ استنادهم إلى ما يأتي من البرهان العقلي ممّا يكشف عن الأخير.

نعم استدلال القائلين بأصالة التداخل بالاصول الشرعيّة من أصل البراءة وأصالة العدم ونحوها ممّا يلائم الأوسط.

ص: 294

ولو قيل : بأنّ الكلام إنّما هو في الملازمة نفيا واثباتا لا غير ، وما تجده من اختلاف أدلّتهم يكشف عن اختلافهم في دعوى تلك الملازمة ، فإنّ منهم من يدّعيها لفظيّة حاصلة عن أدلّة الأسباب.

ومنهم من يدّعيها عقليّة ناشئة عمّا يأتي من البرهان العقلي.

ومنهم من يدّعيها شرعيّة كما يفصح عنه استدلال بعضهم باتّفاق الفقهاء على عدم التداخل ، وباستقراء الشرعيّات في أبواب العبادات والمعاملات القاضي بأنّ المدار فيها من الطهارات إلى الديات على تعدّد المسبّبات إذا تعدّد أسبابها ، لكان جيّدا وعليه كان أليق بمباحث المبادئ ، وإنّما تعرّض لذكره أهل الاصول لما فيه من مناسبة مّا بمباحث فنّهم من جهة ما طرئته من الجهة الكليّة المطّردة في مقامات كثيرة غير محصورة.

وبالجملة فهو في حدّ ذاته مسألة مهمّة يتبعها فروع متكثّرة في جميع أبواب الفقه من الطهارات إلى الديات كما لا يخفى على المتتبّع ، ومن أجل ذلك جاء الالتزام بالاهتمام فيها بصحيح النظر في أدلّتها المقامة عن الطرفين. وتمام الغور في أطرافها واستفراغ الوسع في حقيقة حالها.

فقبل الخوض في تقرير الأدلّة على المختار وجرح الأدلّة الناهضة فيها على النفي والاثبات وتعديلها ينبغي الإشارة إلى امور لها مزيد دخل في زيادة البصيرة على شقوق المسألة وأطرافها.

الأمر الأوّل : لا يذهب عليك أنّ تداخل الأسباب لا يراد به دخول بعض في البعض

بحسب الوجود الخارجي حتّى صار الجميع في وجودها في الخارج أمرا واحدا فإنّه غير معقول ، بل عدم جوازه عقلا ممّا لا يقبل الخلاف ، بل إنّما يراد به تداخلها في السببيّة بمعنى تواردها على مسبّب واحد واتّحاد ما يترتّب عليها من الأثر.

وبعبارة اخرى : اجتماعها على التأثير في أثر واحد.

وقد يقال : كان المناسب في المقام التعبير بتداخل المسبّبات ، لأنّ غرضهم في عنوان المسألة أنّه هل يكفي وضوء واحد فيما لو قال : « إذا نمت فتوضّأ » و « إذا بلت فتوضّأ » فنام وبال ، أو نام مرّة بعد اخرى ، وقد يعتذر للعدول عن ذلك إلى العنوان المشهور بكونه للتنبيه على وجه الحكم ، فإنّ عدم تداخل الأسباب هو السبب في عدم تداخل المسبّبات فصار التعبير به أنفع وأبلغ من جهة تضمّنه لعنوان المسألة مع التعرّض لبيان دليله إجمالا.

ص: 295

أقول : لو قال الشارع : « إذا بلت فتوضّأ » و « إذا نمت فتوضّأ » فيلاحظ الاتّحاد والتعدّد بالقياس إليه في مراتب :

أحدها : الأثر المترتّب على السببين وهو الوجوب.

وثانيها : متعلّق ذلك الأثر وهو الواجب.

وثالثها : الغرض المطلوب من ايراث ذلك الأثر وهو الامتثال والخروج عن العهدة.

فإذا اجتمع على المكلّف هذان السببان يقع التشكيك أوّلا في أنّهما هل يقتضيان وجوبا واحدا أو وجوبين؟

وثانيا في أنّه على تقدير اقتضائهما وجوبين فهل يقتضي تعدّد الوجوب تعدّد الواجب أولا؟

وثالثا في أنّه على تقدير اقتضاء تعدّد الوجوب لتعدّد الواجب فهل يقتضي تعدّد الواجب تعدّد الامتثال وإيجاد فعلين في الخارج أو لا بل يكتفى بامتثال واحد وإيجاد فعل واحد؟

وظاهر أنّ دعوى القائلين بأصالة عدم التداخل لا تنطبق على مدّعاهم إلاّ على تقدير التزامهم بالتعدّد في جميع تلك المراتب.

وأمّا القائلون بأصالة التداخل فيظهر منهم أنّ لهم كلاما في كلّ واحدة منها ، فتراهم ينكرون التعدّد تارة في المرتبة الاولى.

وممّا يشهد بذلك استدلالهم على ما صاروا إليه بأنّ الأصل النفي دون الاثبات ، والاتّحاد دون التعدّد ، وأنّ الأسباب الشرعيّة أمارات ومعرّفات فإذا اجتمعت كان مقتضى الكلّ واحدا.

وتارة اخرى في المرتبة الثانية كما يرشد إليه ما سيأتي عن النراقي من الاستدلال على مذهبه بما يرجع محصّله إلى أنّ تعدد الأسباب الشرعيّة لو اقتضى تعدّد مسبّباتها لاقتضى تعلّق وجوبين بتصدّق الدينار وبالوضوء ، والكلام إنّما هو في وجوب تعدّد التصدّق والوضوء لا تعدّد وجوبه ولا تلازم بينهما ، لإمكان تعلّق فردين من حكم بفعل واحد من جهتين متغايرتين كوطء الأجنبيّة الحائضة وشرب الخمر أو الزنا في نهار رمضان ، ووجوب قتل زيد المرتدّ القاتل لغيره عمدا ، إلى أن قال : « بل الأصل هو التداخل ، أي عدم لزوم تعدّد الفعل الصادر من المكلّف بتعدّد أسباب الحكم المتعلّق به وإن قلنا باقتضاء الأسباب المتعدّدة تعدّد الحكم ، لأنّ تعدّده لا يوجب لزوم تعدّد الفعل.

والحاصل أنّ الكلام في وجوب تعدّد الفعل وهو غير تعدّد المسبّب الّذي هو الحكم

ص: 296

المتعلّق به ... » إلى آخره (1).

وتارة ثالثة في المرتبة الثالثة كما نسب ذلك إلى بعضهم من منع اقتضاء تعدّد التكليف والمكلّف به تعدّد الأداء والامتثال ، بل يجوز الاجتزاء بتأدية واحدة وامتثال واحد ، كما في تداخل الأغسال ، فإذا كان هذا أمرا جائزا ممكنا فالأصل عدم لزوم الإتيان بأكثر من مصداق واحد.

وعن المحقّق الخوانساري أنّه زاد في بحث الأغسال أنّ الظاهر اقتضاء كلّ منها مسمّى الغسل وهو يتحقّق في ضمن فرد واحد ، وظاهره دعوى ظهور الأدلّة في كفاية الفرد الواحد.

وأصرح منه ما يأتي عنه أيضا في مسألة أنّ التداخل حيثما ثبت جوازه هل هو عزيمة أو رخصة؟ من قوله : « إنّ ما ذكرنا من تحقّق الامتثال يقتضي كونه عزيمة ، لأنّ بعد الامتثال لا معنى للاتيان به ثانيا كما هو الظاهر ، سواء كان الأمر للوحدة أو للطبيعة من غير وحدة ولا تكرار ... » إلى آخره.

فكأنّ التعبير بتداخل الأسباب من جهة تعميم العنوان لكلّ من المراتب الثلاث بنحو من الاضمار ، أي تداخلها في تأثيراتها أو في مؤثّراتها أو في لازم مؤثّراتها.

ثمّ إنّ أصحاب القول بالتداخل إن أرادوا بالعنوان ما يرجع إلى المرتبتين الأخيرتين لا محيص من أن يراد به توارد التكليفين على أمر [ واحد ] أو كفاية امتثال واحد عن امتثالات واحدة ، ولو أرادوا به ما يرجع إلى المرتبة الاولى فقد ذكروا أنّ المراد به تواردها على مسبّب واحد.

وربّما يشكل تصوير ذلك من جهة اجمال كلامهم في هذا المقام ، إذ لا يدرى أنّ مرادهم به تواردها على مسبّب واحد بعنوان كون كلّ واحد بالقياس إليه سببا تامّا وعلّة كاملة حتّى يكون المسبّب بوحدته الحقيقيّة مسبّبا عن كلّ واحد على البدل والإعتوار.

أو تواردها على مسبّب واحد على نحو يكون كلّ واحد جزءا للسبب وهو المجموع منها من حيث المجموع ، حتّى يكون المسبّب مستندا إلى الماهيّة الاجتماعيّة على نحو الشركة في التأثير.

أو تواردها على مسبّب واحد على وجه يكون كلّ واحد مؤثّرا في أثر يرجع إلى المسبّب ، بدعوى : أنّ الوجوب لمّا كان ممّا يتضاعف ويتأكّد ويقبل الشدّة وعدمها فالأثر

ص: 297


1- عوائد الأيّام : 105.

الحاصل عن كلّ سبب إنّما هو ما يوجب تأكّد الوجوب ، حتّى يكون المسبّب عن الجميع الوجوب المتأكّد. أو تواردها على مسبّب واحد على نحو يستند الأثر إلى بعض منها لا على التعيين وكان الباقي فارغا عن التأثير مجامعا مع الأوّل من باب المقارنات الاتفاقيّة.

فإن حاولوا الأوّل يرد عليهم : أنّه مقالة بما لا يعقل ، بل بما يكذّبه ضرورة الوجدان وبداهة العقل ، فإنّ الموجود كيف يوجد ثانيا والحاصل كيف يتحصّل في آن واحد بحصولات عديدة؟

وإن حاولوا الثاني يردّهم : أنّكم تتسالمون معنا إنّ كلّ واحد من تلك الأسباب إذا وجد منفردا كان سببا مستقلاّ فأيّ شيء أخرجه عن الاستقلال حال الاجتماع؟

فإن قلتم : بأنّ الداعي إليه منافاة مقتضاها حال الاجتماع وعدم امكان كونها أسبابا تامّة في مسبّب واحد.

يرد عليكم : أنّه أيّ منافاة وأيّ امتناع في فرض كون كلّ سببا تامّا في مسبّب غير مسبّب الآخر ، ولزوم مخالفة الأصل على ما زعمتموها لا يصلح داعيا إلى هذا الأمر الشنيع المخالف للظاهر والاعتبار ، كما أنّ لزوم الخروج عن مقتضى الأصل لا يزاحم لزوم الخروج عن مقتضى ظاهر الأدلّة.

وإن حاولوا الثالث يتوجّه إليهم : أنّ الأدلّة إذا اقتضت كون كلّ سبب سببا لأصل الوجوب فأيّ شيء دعاكم إلى الخروج عن مقتضاها بجعل ما عدا السبب الواحد سببا لتأكّد الوجوب لا أصله؟

فإن تشبّثتم بقضيّة المنافاة أو الامتناع يردّكم ما تقدّم ، فإنّ الخروج عن الظاهر إنّما يتّجه مع تعذّر الظاهر وقد منعنا تعذّره بالتزام تعدّد المسبّبات على حسب تعدّدها.

وإن حاولوا الرابع يلزمهم الخروج عن مقتضى الأدلّة بالقياس إلى ما يفرضون وجوده من باب المقارنات ، فإنّ ذلك حال انفراده بالوجود كان سببا تامّا باتّفاق منّا ومنهم ، فأيّ شيء سلخ عنه ذلك العنوان وألبسه ثوب اللغويّة والعبثيّة؟

فإن قلتم : بأنّه لا محلّ له بعد ما أثّر غيره في المسبّب.

قلنا : إن أردتم بالمحلّ نفس ذلك المسبّب فنحن نفرض محلّه مسبّبا آخر قبالا لذلك المسبّب ، وإن أردتم به متعلّق ذلك المسبّب فإنّما يتّجه ذلك لو فرض المتعلّق واحدا شخصيّا وهو ليس بلازم ، لجواز كون المتعلّق الواحد بالنوع القابل للتعدّد والتكثّر باعتبار تعدّد

ص: 298

أفراده وتكثّرها ، فيؤثّر الأسباب المجتمعة في وجوب إيجاده في ضمن أفراده المتعدّدة على حسب تعدّد تلك الأسباب ، ولازمه التكرار ولا ضير فيه بعد ما اقتضاه ظاهر الأدلّة.

فإن قلتم : هذا أخذ بظاهر وطرح لظاهر آخر ولا مرجّح له ، نظرا إلى ظهور الأمر في الماهيّة لا بقيد الوحدة ولا بقيد التكرار.

قلنا أوّلا : أنّ معنى كون الأمر لطلب الماهيّة أنّه لا يدلّ على مرّة ولا تكرار لا أنّه ظاهر في نفي المرّة والتكرار ، وإلاّ لحصل التعارض بينه وبين ما دلّ على التكرار في مواضع وجوبه ولا نظنّ أحدا يقول به ، فلا ينافي ظهوره في طلب الماهيّة لو اقتضت أدلّة الأسباب لزوم التكرار.

وثانيا : أنّ ذلك إنّما يتّجه لو كان الأمر المفروض مع الأسباب المتعدّدة واحدا والمفروض خلافه ، لاختصاص كلّ سبب بأمر فكلّ أمر مع سببه لا يقتضي إلاّ طلب الماهيّة ، والتكرار إنّما هو من لوازم اجتماع تلك الأوامر باجتماع أسبابها لاقتضاء كلّ طلبا ومطلوبا وامتثالا ، لا أنّه مراد من أمر واحد حتّى يقال : انّه خلاف الظاهر.

فحينئذ نقول : انّ كلّ أمر إذا كان له ظهور فيما هو ظاهر فيه فالبناء على التداخل بالمعنى المفروض يوجب الغاء تلك الظهورات زيادة على ما تقدّم ، ولا يقابلها ظهور آخر أوجب ذلك ودعى إليه.

الأمر الثاني : لا خفاء في أنّ البحث في مسألة التداخل ليس مبنيّا على البحث في حجّية مفهوم الشرط حتّى يكون القول بعدم التداخل ملازما للقول بالحجّية والقول بالتداخل ملزوما للقول بعدم الحجّية.

أمّا أوّلا : فلعدم انحصار السبب هنا فيما ثبت سببيّته بالقضيّة الشرطيّة كما عرفت.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الكلام في حجّية المفهوم وعدمها كلام في ثبوت التلازم بين الشرط والجزاء في العدم بعد إحراز التلازم بينهما في الوجود ، فالقائل بالحجّية مدع للتلازم بينهما في الوجود والعدم ، والقائل بالعدم يخصّه بجانب الوجود فقط.

وقد سبق في مقدّمات مسألة الحجّية أنّ الفريقين بعد اتّفاقهم على أنّ التعليق على الشرط ممّا يفيد العلقة السببيّة بين الشرط والجزاء اختلفوا في أنّ هذه السببيّة هل هي سببيّة مطلقة على معنى أن يكون الشرط بحيث يلزم من وجوده وجود الجزاء ومن عدمه عدمه ، أو هي سببيّة في الجملة على معنى كونه بحيث يلزم من وجوده الوجود. وأمّا لزوم العدم من عدمه فالتعليق ساكت عنه ولا يفيده؟ بخلاف كلامهم في هذا المقام فإنّه لا يرجع

ص: 299

إلى مفهوم القضيّة بل هو راجع إلى منطوقها الّذي يسلّمه الفريقان معا.

ومرجع ذلك الكلام حينئذ إلى أنّ الشروط المتعدّدة بعد ثبوت سببيّتها للجزاء في جانب الوجود فهل يوجب تعدّدها تعدّد مسبّباتها أو لا يوجبه ، بل المسبّب متّحد وإن تعدّدت الأسباب؟

فانقدح بذلك أنّ النزاع في هذا المقام يرجع إلى كبرى القياس الّتي موضوعها الأسباب المتعدّدة بعد فرض السببيّة والعلّيّة فيها ، لا إلى صغراه وهي أنّ القضيّة الشرطيّة هل تفيد السببيّة أو لا؟

فما عن بعض الأفاضل في منع القول بعدم التداخل استنادا إلى امتناع توارد العلّتين المستقلّتين على معلول واحد من منع كون الأسباب الشرعيّة محلاّ حقيقيّة ، بدعوى أنّ القضايا الشرطيّة لا تفيد سوى التلازم في الوجود من غير دلالة على السببيّة ، والقدر المتيقّن منه المعرفيّة ، ليس على ما ينبغي.

كما أنّ ما عن أصحاب القول بالتداخل من الإيراد على ما يأتي من دليل الآخرين على عدم التداخل بأنّ مناط هذا الاستدلال إطلاق الشرط واستقلاله في التأثير ليلزم منه تعدّد الأثر عند تعدّد الشرط حيث إنّ المفروض استقلاله فيه ، وقد مرّ منّا ما انهدم به بنيان التمسّك بالإطلاق عند ذكر الأدلّة لحجّيّة مفهوم الشرط ، ممّا لا ينبغي الالتفات إليه.

فإنّ الكلام هنا إنّما هو في استقلال الشرط في التأثير في المشروط في جانب الوجود فقط. بمعنى ترتّب ثبوت الجزاء على ثبوته ، والممنوع فيما سلف هو استقلاله على أن يكون علّة تامّة منحصرة تلازم وجودها وجود المشروط وعدمها عدمه ولا منافاة بينهما ، إذ نفي العلّيّة التامّة أو نفي الانحصار لا يستلزم نفي التأثير مطلقا ، على أنّكم سالمتم معنا على ثبوت التأثير والترتّب في الجملة وهذا كاف في ثبوت ما نحن بصدده من لزوم تعدّد المسبّبات عند تعدّد الأسباب.

الأمر الثالث : عن فخر الإسلام أنّه بنى القولين في المسألة على أنّ الأسباب الشرعيّة هل هي مؤثّرات أو معرّفات؟وخصّهما في العوائد بكون الأسباب الشرعيّة معرّفات ، حتّى أنّه يظهر منه عدم استقامة شيء من القولين على القول بكونها مؤثّرات.

وإن شئت محصّل ما حقّقه في المقام فلا حظ قوله : « ثمّ الأسباب على قسمين :

أحدهما : الأسباب الواقعيّة والعلل النفس الأمريّة الّتي هي المؤثّرات الحقيقيّة في

ص: 300

وجود المسبّبات.

وثانيهما : المعرّفات والأمارات للعلل الواقعيّة الكاشفة عن وجود المؤثّر ، ومنها الأسباب الشرعيّة الّتي جعلها الشارع مناطا للأحكام الشرعيّة ورتّب عليها ثبوت الأحكام ، فإنّها كاشفة عن المصالح الواقعيّة الّتي هي العلل الحقيقيّة.

فما كان من الأوّل فلا شكّ في أنّ التداخل فيه محال لامتناع اجتماع علّتين مستقلّتين على معلول واحد أعمّ من أن يراد من الاجتماع اجتماعهما في إيجاد معلول واحد ، في الخارج فعلا - لامتناع إيجاد الموجود لو كان كلّ منهما مؤثّرا مستقلاّ ، وعدم العليّة التامّة لو كان التأثير منهما معا - أو يراد اجتماع أمرين صالحين لايجاد المعلول الواحد في الخارج وإن كان وجود المعلول الواحد مستندا إلى واحد منهما ، إذ لو اجتمعا في الخارج فذلك المعلول الواحد الموجد إن كان مستندا إلى أحدهما فتخلّف عن الآخر وهو محال.

وإن كان مستندا إليهما فتخلّف عنهما وهو أيضا محال ، فلا بدّ من تأثير كلّ منهما في معلول على حدة فلا بدّ من تعدّده مطلقا.

وعلى هذا فلا يراد من الأسباب في قولهم : « الأصل عدم تداخل الأسباب » هذا القسم منها ، لأنّ الأصل إنّما يستعمل في مكان جاز التخلّف عنه بدليل ، بل يصرّحون بأنّ الأصل عدم التداخل إلاّ فيما ثبت فيه التداخل.

وكذا لا كلام في جواز التداخل فيما كان من الثاني ، إذ المعرّف علّة للوجود الذهني ومعلوليّة موجود واحد ذهني لمتعدّد جائزة ، ولذا يستدلّ على مطلوب واحد بأدلّة كثيرة.

ويصحّ أن يستند وجود ذلك الموجود الذهني إلى كلّ منهما ، ولذا لا يرتفع ذلك الموجود الذهني بظهور بطلان واحد من الأدلّة بل يكون باقيا بحاله بعينه كما كان.

فإن قيل : حصول المعرفة ووجود ذلك الموجود الذهني إن كان مستندا إلى واحد يلزم عدم كون الآخر معرّفا بل تخلّف المعلول عن العلّة التامّة ، لأنّ كلاّ منهما علّة تامّة للتعريف وإيجاد الموجود الذهني ، وإن كان مستندا إلى كلّ منهما يلزم تعريف المعرّف وإيجاد الموجود ، وإن كان مستندا إليهما يلزم كون المعرّف كليهما معا فلا تعدّد في المعرّف.

قلنا : فرق بين الموجود الخارجي والذهني ، حيث إنّه لا يمكن صيرورة الشيئين في الخارج شيئا واحدا بخلاف الموجود الذهني ، فإنّه يصير ألف موجود ذهني موجودا واحدا ، بمعنى تطابق موجود واحد في الذهن لألف موجود خارجي فينتزع من كلّ من ألف موجود

ص: 301

صورة ذهنيّة كلّها منطبقة على موجود ذهني واحد ، كالسواد المنتزع من جميع أفراده.

ولذا ترى أنّه يبطل دليل واحد ممّا استدلّ عليه بأدلّة كثيرة ولا يبطل المدلول بل هو بعينه باق على ما كان.

فيستفاد من كلّ معرّف موجود ذهني ويتطابق جميع تلك الموجودات ويتّحد في الذهن ، وهذا هو المراد من اجتماع المعرّفات على أمر واحد ، وظاهر أنّ هذا أمر جائز ولا كلام في ذلك الجواز.

وإنّما الكلام في أنّ الأصل فيه التداخل أو عدمه ، وهذا الكلام يختصّ بالأسباب الشرعيّة الّتي هي محطّ كلام الفقيه ومجرى الأصل دون غيرها » انتهى كلامه أعلى اللّه مقامه (1).

أقول : الفرق بين السبب الواقعي والسبب المعرّف أنّ الأوّل عبارة عمّا يكون واسطة لثبوت الشيء ووجوده كحركة اليد وملاقاة الماء محلاّ يابسا وملاصقة النار الخشبة في كونها وسائط لحركة المفتاح مثلا تبلّل المحلّ والدخان ، ولازمه أن يكون الاستدلال به على ما هو أثر له مترتّب عليه من باب اللمّ.

والثاني عبارة عمّا يكون واسطة للعلم بوجود الشيء وثبوته ، وقد تسمّى بالواسطة في التصديق والواسطة في الإثبات أيضا ، كحركة المفتاح وبلّة المحلّ الملاقي للماء والدخان لمن لا يحسّ حركة اليد ولا الماء ولا النار ، فإنّها وسائط للعلم بوجود حركة اليد ووجود الماء ووجود النار وكواشف عنها.

وقضيّة ذلك أن يكون الاستدلال بها على وجوداتها من باب الإنّ ، فمعنى كون الشيء سببا حقيقيّا كونه مؤثّرا في الوجود وإن كان له تأثيرا في العلم بالوجود أيضا من باب الاستدلال اللمّي ، ومعنى كونه معرّفا كونه مؤثّرا في العلم بالوجود فقط ، وتأثيره في العلم عبارة عن التعريف والكشف ، وظاهر أنّ هذه الحيثيّة إنّما تلاحظ في المعرّف بالقياس إلى المعرّف والمعلوم ، بمعنى أنّه معرّف بالقياس إلى ما يعرّفه ويوجب العلم به وإلاّ فهو بالإضافة إلى نفس المعرفة والعلم علّة واقعيّة وسبب حقيقي ، كما أنّ الواسطة في الوجود بالإضافة إلى العلم بوجود ما يوجد بها علّة واقعيّة وسبب حقيقي ، فإنّه من حيث تأثيره في وجود ما يوجد به واسطة في الثبوت والوجود ومن حيث تأثيره في العلم بالوجود معرّف وواسطة في الإثبات والتصديق.

ص: 302


1- عوائد الأيّام : 100.

غاية الفرق بين هاتين الحيثيّتين الجامعتين فيه أنّ الحيثيّة الاولى تثبت له في لحاظ الخارج لأنّ وجوده الخارجي هو العلّة لوجود معلوله في الخارج ، والحيثيّة الثانية تثبت له في لحاظ الذهن بعد أخذه جزءا للقضيّتين المعقولتين المذكورتين في الذهن ، لأنّ معلوله من هذه الحيثيّة أمر ذهني وهو العلم فلا يؤثّر فيه إلاّ وجوده الذهني ، ويشاركه في هذا المعنى من تلك الحيثيّة ما يقابله المعبّر عنه بالمعرّف والواسطة في الاثبات ، ضرورة أنّ المعرفة الحاصلة به أمر ذهني فلا يؤثّر فيها إلاّ الموجود الذهني ، فإذا كان المعرّف بالقياس إلى المعرفة والانكشاف علّة واقعيّة فلا فرق بينه وبين السبب الواقعي الّذي هو واسطة في الثبوت في شيء من الأحكام.

فحينئذ نقول : إذا تصادف المسبّبان الواقعيّان محلاّ واحدا فإمّا أن يكون ذلك على سبيل الدفعة والمعيّة أو يكون على سبيل التعاقب والتدريج.

وعلى الثاني فإمّا أن يكون مصادفة العلّة المتأخّرة قبل فراغ المحلّ عن العلّة الاولى أو بعد فراغه عنها بأن تحصل فيه بعد ارتفاع العلّة الاولى الشاغلة له.

وعلى الثاني فإمّا أن يصادفه العلّة المتأخّرة حال بقاء الأثر الحاصل من العلّة الاولى أو تصادفه بعد زوال ذلك الأثر.

فهذه صور أربع يختلف الحكم فيها بالقياس إلى استناد الأثر اليهما معا على سبيل الشركة أو إلى أحدهما فقط أو إلى كلّ منهما على سبيل الاستقلال.

ففي الصورة الاولى لا بدّ من الحكم باستناده إليهما معا على سبيل الشركة لئلاّ يلزم الترجيح من غير مرجّح.

وفي الصورة الثانية لا مجال إلى الحكم بمدخليّة العلّة الثانية في التأثير أصلا ، إذ المفروض أنّ العلّة الاولى كانت تماما في العليّة وقد أثّرت في حصول الأثر.

ومن البيّن أنّ الحاصل لا يحصل ثانيا حال حصوله أوّلا.

فالعلّة الثانية إنّما صادفت محلاّ غير قابل للتأثير ، فظاهر أنّ قابليّة المحلّ من شرائط التأثير.

فهذه العلّة حينئذ ليست علّة تامّة لفقد بعض شرائط علّيتها ولا سببا فعليّا لانتفاء بعض شروط تأثيره الفعلي.

وكذا الكلام في الصورة الثالثة بالإضافة إلى الأثر الموجود فلا يؤثّر فيه العلّة الثانية أصلا ، لاقتضاء تأثيرها محلاّ فارغا عن الشاغل خاليا عن الأثر السابق المفروض انتفاء

ص: 303

خلوّه عن الأثر.

نعم هي إنّما ربّما تؤثّر في استمرار ذلك الأثر إذا كان ممّا زال عنه حال مصادفتها له أو بعدها استعداد البقاء.

ولا ريب أنّ ما ينشأ منها حينئذ من أثر البقاء والاستمرار ليس بعين الأثر السابق ولا جزئه ، بل هو أثر آخر مثل ذلك الأثر لحقه حين ارتفاعه بزوال استعداده للبقاء.

غاية الأمر اتّصال هذين الأثرين على نحو يخفى على الحسّ كونهما أثرين متفارقين ، فيتخيّل كونهما أثرا واحدا مستمرّا ولكنّ الواقع ليس كما يتخيّل ، فالعلّة الثانية حينئذ بالقياس إلى الأثر الأوّل لا مدخل لها فيه أصلا ، وبالقياس إلى الأثر الثاني علّة تامّة وسبب فعلي ، فلا يلزم كونها مع العلّة الاولى واردتين على معلول واحد ، بل إنّما وردتا على معلولين متّصلين قد يخفى على الحسّ كونهما مفارقين.

وأمّا الصورة الرابعة فلا مجال فيها للتأمّل في كون كلّ من العلّة السابقة واللاحقة علّة تامّة وسببا فعليّا واردا على محلّ فارغ عن الشاغل خال عن الأثر الحاصل مؤثّر فيه أثرا فعليّا مفارقا عن أثر الآخر في نظر الحسّ والعقل ، فلا يلزم في شيء من الصور توارد العلّتين التامّتين على معلول واحد.

وعلى هذا القياس حذو النعل بالنعل ما لو تصادف المعرّفات محلاّ واحدا بالقياس إلى ما ينشأ منهما من المعرفة والعلم ، وإن كان فرض الدفعة والمعيّة فيه ممّا لا يخلو عن إشكال ، بل هو في غاية الإشكال إن لم نقل بعدم كونه معقولا ، ضرورة أنّ محلّ العلم والمعرفة هو الذهن وهو غير قابل لأن يحصل فيه وسطان متغايران في آن واحد على سبيل الدفعة والمعيّة ، لأنّه حال اشتغاله بالانتقال إلى شيء لا يقدر على الانتقال إلى شيء آخر ، بل الانتقال إليه إن كان ولا بدّ منه فلا جرم يحصل له بعد الانصراف عن الانتقال إلى الشيء الأوّل كما يظهر بأدنى تأمّل. فتوارد المعرّفين على الذهن لا يتأتّى فرضه إلاّ في فروض التعاقب ، وهي لا تخلو عن الصور الثلاث من الصور المذكورة بل عن الصورتين الأخيرتين خاصّة كما لا يخفى.

فعليه نقول : إن كان الذهن بحيث صادفه المعرّف الثاني حال بقاء العلم والمعرفة الحاصلين عن المعرّف الأوّل فأيّ شيء يترتّب عليه من آثار التعريف؟ فإنّ تأثيره فيه مشروط بخلوّ الذهن عن المعرفة والمفروض خلافه ، وهل هو إلاّ كالحجر الموضوع في جنب الإنسان؟

ص: 304

نعم ربّما يؤثّر في شيء آخر وهو أنّه لو كانت المعرفة السابقة معرفة ظنيّة فيبدّلها بالمعرفة العلميّة وإن كانت معرفة علميّة غير يقينيّة فيبدّلها إلى المعرفة اليقينيّة ، وإلى ذلك ينظر مقالة من قال : « بأنّ العلم ربّما يحصل من تراكم الظنون » كما لا يخفى وجهه على المتأمّل.

ولا ريب أنّ ما يحصل منه حينئذ أثر آخر غير ما هو حاصل من الأوّل ، وهو علّة تامّة وسبب فعلي بالقياس إليه كما أنّ الأوّل كان كذلك بالقياس إلى الأوّل.

نعم قد ينشأ منه أيضا أثرا آخر وهو أنّه ربّما يعرض الإنسان غفلة عن المعرفة السابقة الحاصلة من المعرّف الأوّل فهذا المعرّف إذا صادفها يوجب زوالها بعروض التذكّر والالتفات إلى المعرفة.

ومن البيّن أنّ الالتفات إلى المعرفة ليس بعين تلك المعرفة بل هو أثر آخر مستند إليه غير المعرفة المستندة إلى المعرّف الأوّل ، ولا يصدق على مثل ذلك توارد المعرّفين على معرفة واحدة ولا اجتماع السببين على سبب واحد.

وإن كان بحيث صادفه المعرّف الثاني بعد زوال المعرفة السابقة بعروض الجهل وطروّ النسيان. فلا ريب أنّه يؤثّر في معرفة اخرى غير ما هي حاصلة عن المعرّف الأوّل وزائلة بالجهل والنسيان.

فما أفاده الفاضل المتقدّم في عبارته المتقدّمة من جواز تداخل المعرّفات على نحو يستند إليها جميعا معرفة واحدة ليس ممّا يتعقّل ، كما أنّ تداخل العلل الواقعيّة الفعليّة على نحو يستند المعلول إلى الجميع ليس ممّا يتعقّل جريا على اعترافه بذلك.

وما استشهد بذلك من الاستدلال بأدلّة كثيرة على مطلوب واحد لا يجديه في ذلك نفعا ، لأنّ الاستدلال بالأدلّة الكثيرة يقع لغاية لا ترجع إلى المستدلّ العالم بالمطلوب لاستناد علمه إلى واحد منها ، بل تلك الغاية ترجع إلى غيره ممّن يخاصمه في المطلب ليكسر بتكثير الأدلّة صولته ويوهن أدلّته ويفسد مذهبه على نحو يلزمه على الوهن والفساد ، أو من كان جاهلا بالمطلب فيذكر في إرشاده إلى ذلك المطلب له ما زاد على الدليل الواحد حتّى أنّه لو لم يؤثّر بعض ذلك بالنسبة إليه في افادة العلم لعدم كونه ممّا يراه تماما وناهضا على المطلب لحصل التأثير من البعض الآخر.

وقوله : « ولذا لا يرتفع ذلك الموجود الذهني بظهور بطلان واحد من الأدلّة » لا يصلح شاهدا له على مطلوبه ولا مؤيّدا لدليله الفاسد ، بل هو ممّا يكذّبه عند التحقيق ، ضرورة أنّه

ص: 305

لو كان لذلك الدليل الواحد الّذي ظهر بطلانه مدخليّة في التأثير والتعريف بعنوان كونه علّة تامّة أو جزء علّة لوجب أن يرتفع المعرفة الحاصلة ولا يبقى على حالته الأوليّة ، ضرورة عدم بقاء المعلول بارتفاع العلّة أو جزء العلّة ، فبقاء الموجود الذهني بعد ظهور بطلان ذلك الدليل يكشف عن عدم كون ذلك الدليل ممّا له مدخليّة في التعريف ، وإنّما كان وجوده مع سائر الأدلّة من باب الحجر الموضوع في جنب الإنسان.

فإن كان المراد بجواز التداخل في المعرّفات جواز اجتماعها بتلك المثابة حتّى يكون التعريف مستندا إلى بعضها دون البعض الآخر وإن قارنه في الوجود فهو جار بعينه في العلل الواقعيّة أيضا من غير تعقّل فرق بينهما كما يفصح عنه الصورة الثانية والثالثة من الصور المتقدّمة.

وإن كان المراد بعدم جواز التداخل في العلل الواقعيّة غير هذا المعنى فهو موجود بعينه في المعرّفات أيضا كما عرفت ، فالفرق بينهما في الحكم بالجواز في إحداهما وعدمه في الاخرى تحكّم لا يسمع عند أهل الفضل والمعرفة.

وأمّا ما ذكره من مقايسة تداخل المعرّفات في تعريف واحد ومعرفة واحدة على ألف موجود خارجي ينتزع عنها صورة ذهنيّة منطبقة على الجميع كالسواد المنتزع في جميع أفراده فهو قياس مع الفارق ، بل لا ينبغي صدوره عن الجاهل فضلا عن العالم الفاضل ، ضرورة أنّ الأفراد الّتي تنتزع عنها الصورة الذهنيّة الّتي هي عبارة عن الحقيقة الجنسيّة أو النوعيّة ليست معرّفات لتلك الصورة ، بل المعرّف لها هو الحدّ التامّ الجامع المانع ، فيجري في الحدود المتقاربة المجتمعة على محدود واحد بألفاظ مترادفة نظير ما سبق في المقيس نعلا بنعل وقذّا بقذّ ، وكون الأفراد منشأ لانتزاع الصورة الذهنيّة وإن كان من باب العليّة للإنتزاع ولكنّها ليست من باب اجتماع العلل الكثيرة على معلول [ واحد ] إن كان المراد بالصورة الذهنيّة هو القدر المشترك بين تلك الأفراد ، ضرورة أنّ القدر المشترك إنّما ينتزع عن ملاحظة المجموع فكانت العلّة هو المجموع من حيث المجموع لا كل واحد ، وإلاّ لكان ملاحظة فرد واحد عند الانفراد كافيا في انتزاعه وهو ضروري البطلان ، فلو كان المراد بتداخل العلل المتعدّدة على موجود واحد ذهني هذا المعنى فنظيره جار في العلل الواقعيّة لموجود واحد خارجي كما يفصح عنه الصورة الاولى من الصور المتقدّمة ، فبطل الفرق بينهما بما ذكر.

ص: 306

وبجميع ما تقرّر يتبيّن فساد ما عرفت عن فخر الإسلام من بناء القولين في المسألة على القولين في مسألة الأسباب الشرعيّة من حيث كونها مؤثّرات أو معرفات ، وعليك بالتأمّل في استخراج وجهه.

وإلى ذلك ينظر ما قد يقال في دفعه من : أنّ غرضهم من قولهم : « هل الأسباب الشرعيّة مؤثّرات كالأسباب العقليّة أو معرّفات وعلامات »؟

إمّا المؤثّرات والمعرّفات الفعليّة ، أو الشأنيّة ، أو المؤثّرات الفعليّة والمعرّفات الشأنيّة ، أو العكس.

فإن أرادوا المؤثّر والمعرّف الفعليّين كما هو الظاهر عن ظاهر كلماتهم فلا بدّ من القول بعدم جواز التداخل مطلقا.

أمّا على القول بأنّها مؤثّرات فلا متناع توارد علّتين مستقلّتين على معلول واحد ، وهو حصول المسبّب الشرعي الخاصّ.

وأمّا على القول بأنّها معرّفات فكذلك أيضا حرفا بحرف ، لوضوح أنّ المعرّف علّة للعلم بوجود الشيء مثلا كما أنّ المؤثّر علّة لوجوده ، فكما يمتنع اجتماع علّتين تامّتين على إيجاد الشيء فكذلك يستحيل اجتماع علّتين تامّتين على العلم بوجود الشيء.

وإن أرادوا المؤثّر والمعرّف الشأنيّين فلا ريب في جواز اجتماعهما على مسبّب واحد من غير فرق بين القول بأنّها مؤثّرات أو معرّفات.

وإن أرادوا المعرّف الفعلي والمؤثّر الشأني فعدم صحّة الابتناء أوضح من أن يوضح.

وإن أرادوا المعرّف الشأني والمؤثّر الفعلي فهو - مع أنّه خلاف ما يظهر من كلماتهم كالثاني والثالث - عبارة اخرى عن مسألتنا هذه ، وذلك لأنّ معنى قولهم : « هل الأسباب الشرعيّة مؤثّرات فعليّة أو معرّفات شأنية؟ » أنّها هل تجتمع بعضها مع بعض كما هو شأن المعرّف الشأني أو لا كما هو شأن المؤثّر الفعلي ، ومعرفة أنّها معرّفات شانيّة أو مؤثّرات فعليّة لا تحصل إلاّ بعد ملاحظة أدلّة النافين والمثبتين للتداخل ولا يبقى للابتناء المذكور وجه ، على أنّه لا ملازمة بين القول بأنّها معرّفات شأنيّة والقول بالتداخل.

الأمر الرابع : لا بأس بأن نتكلّم بعض الكلام فيما سبق الإشارة إليه من أنّ الأسباب الشرعيّة هل هي مؤثّرات أو معرّفات. فإنّ من أصحاب القول بالتداخل من استند إلى كونها معرّفات ، ومن شأن المعرّف جواز تعدّده من غير أن يتكثّر المعرّف ، ولم نعثر على مستند

ص: 307

لتلك الدعوى إلاّ ما يحكى من الوجوه الثلاث :

أوّلها : دعوى الغلبة في المعرّفيّة كما يستظهر عن بعض الأفاضل في قوله : « أنّ الأسباب الشرعيّة ليست بمؤثّرات حقيقيّة في الغالب ، وإنّما هي كاشفة في الغالب عن. المؤثّرات ».

وثانيها : أنّ القضايا الشرطيّة لا تفيد سوى التلازم في الوجود من غير دلالة على السببيّة والقدر المتيقّن منه المعرّفيّة.

وثالثها : أنّه قد ثبت في الشريعة تأثير الأسباب العديدة في مسبّب واحد وإن اقترنت أو تعاقبت كأسباب القتل وأسباب الحدث وأمثالها ، وهذا المعنى من لوازم المعرّف لاستحالته في الأسباب الحقيقيّة.

ووهن الجميع غير خفيّ عند الذكي المتدبّر.

أمّا الأوّل : فلمنع الغلبة أوّلا ، ومنع اعتبارها ثانيا ، ومنع صلوحها للمعارضة مع ظهور أصل القضيّة وسائر الأدلّة [ ثالثا ].

ومن هنا تبيّن ما في الثاني : فإنّا قد أثبتنا فيما سبق إفادة القضيّة السببيّة المنحصرة فضلا عن مطلق السببيّة الّتي قامت بها الكفاية هنا.

وأمّا الثالث : فلمنع الدعوى أوّلا ، ومنع انطباق ما ذكره في المثال عليها ثانيا ، لجواز كون المسبّب في كلّ من أسباب الحدث وأسباب القتل متعدّدا كالسبب ، وإنّما اقتصر في مقام العمل على واحد في الثاني من جهة كونه واجبا توصليّا ، والتوصّل يحصل بوجود واحد فيسقط البواقي لكون بقائها في معنى طلب الحاصل ، كما في فرض الكفاية الّذي يسقط بفعل البعض عن الباقين.

وفي الأوّل من جهة أنّ حصول القتل في المرّة الاولى يوجب ارتفاع موضوعه بالمرّة بحيث لا يصلح له في المرّة الثانية وغيرها أصلا فيفضي ذلك إلى سقوط المرّات الاخر ، على أنّ سقوط الأمر كما أنّه قد ينشأ عن حصول متعلّقه في الخارج كما في المرّة الاولى فكذلك قد ينشأ عن ارتفاع موضوعه ، فمع قيام هذا المعنى على وجه لا ينكره العقل ولا العرف ولا الشرع فأيّ شيء قضى بكون ذلك فيهما من باب تأثير المتعدّد في الواحد؟

ودلالة الشرع على فرض ثبوتها لا تقضي إلاّ بجواز الاجتزاء بواحد وهو أعمّ من ذلك كما لا يخفى.

مع ما قيل أيضا من منع كون السبب في المثالين كلّ واحد ، بل السبب في هذا الفرض

ص: 308

هو القدر الجامع بين الامور المتعدّدة وهو متّحد لا تعدّد فيه ، فلا يصلح مجرّد توارد المتعدّد دليلا على المعرّفيّة ، وعلى فرض تسليمه يقتصر على مورده فلا يصحّ دليلا على معرّفيّة عامّة الأسباب في كافّة الموارد.

ودعوى أنّ ذلك من باب القاعدة الكليّة وهي قابلة للتخصيص على خلاف ظواهر الأسباب [ بعيد ] جدّا.

فتحقيق المقام : أنّ القاعدة إن اريد بها ما يستفاد من الظواهر فلا مجال إلى إنكار كونها على خلاف ما ادّعوه من أنّ الأسباب الشرعيّة معرّفات كما قرّرناه بما لا مزيد عليه.

وإن اريد بها ما يستنبط عن الخارج من دليل عقل أو نقل فلا سبيل إلى إثباته حيث لم ينهض عليه شيء من النوعين ، ومجرّد ثبوت المعرّفيّة في بعض المقامات لا ينهض دليلا على ذلك.

ولكن لا يبعد الفرق في الموارد بين ما لو كان المسبّب في ظاهر الخطاب من القضايا التكليفيّة فكان السبب ثابتا من باب المعرّفية على خلاف ما اقتضته القضيّة ، أو من القضايا الوضعيّة فكان السبب ثابتا من باب المؤثّرية ، ففي مثل الأحداث الموجبة للوضوء والاغتسال والأسباب الموجبة للقتل أو الحدّ أو الرجم والعلامات الموجبة للصلوات من الزوال والغروب والفجر ونحو ذلك لا ينبغي القول بقيام التأثير بتلك الأسباب والعلامات ، إذ المسبّب بالقياس إليهما ليس إلاّ حكما تكليفيا وهو الإيجاب المستند إلى الشارع والوجوب القائم بفعل المكلّف.

ومن البيّن أنّ الثاني أثر للأوّل وهو من حيث كونه معنى نفسيّا محتاجا إلى مرجّح لا ينوط إلاّ بمصالح واقعيّة ترجع إلى فعل المكلّف وعلم بها الشارع ، فهو عند التحقيق مسبّب في موارده عن تلك المصالح ومعلول لها.

غاية الأمر أنّ حدوث ذلك في الواقع وتعلّقه بفعل المكلّف لمّا كان أمرا خفيّا على نظر المكلّف فجعل له علامات تكشف عن تحقّق المصالح الواقعيّة وحدوث ما يتسبّب عنها من الأمر النفسي.

وقضيّة ذلك كونها معرّفات لا مؤثّرات ، بخلاف غيرها ممّا يؤخذ في القضايا الوضعيّة كأسباب الضمان وأسباب الملكيّة والزوجيّة وأسباب زوال الملكيّة وزوال الزوجيّة وغيرها من أنواع العقود والإيقاعات ، فيحكم عليها بالمؤثّرية جريا على ظواهر الأدلّة ولا صارف

ص: 309

عنها يوجب الالتزام بالتعريف.

فإن قلت : نحن لا نعقل تأثيرا في تلك الأسباب بالقياس إلى آثارها ، كيف وأنّها امورا لا يثبتها في مواردها إلاّ الشارع ولا يدرك العقل فيها ترتّبا على الأسباب المذكورة أصلا ، فلم لا تقول : بأنّها أيضا امور يوجدها الشارع وجعل هذه الأسباب علامات لحدوثها لتكون من باب المعرّفات أيضا؟

قلنا : فرق بيّن بين الأسباب العقليّة والشرعيّة ، فإنّ المسبّبات على الأوّل تترتّب على أسبابها قهرا ولا يحتاج ترتّبها عليها إلى جعل من الشارع ولا غيره ، ولا يجوز تخلّفها عنها في نظر العقل وبهذا الاعتبار تكون أسبابها عقليّة ، لا أنّ الترتّب بينها وبين مسبّباتها ما جعله العقل بحيث لولا جعله لما كان حاصلا ، بخلاف الأسباب الشرعيّة الّتي هي محطّ كلامنا ، فإنّ الترتّب بينها وبين مسبّباتها أمر جعلي نشأ من قبل الشارع ، ولا يعتبر فيه كونه ممّا يدركه العقل بل هو موكول إلى جعل الشارع ، فحيثما صدر منه ذلك ثبت السببيّة والمسببيّة وإلاّ فلا ، ولذا يتبع تأثير كلّ أحد من تلك الأسباب موارد دليله ، وكأنّ ثبوت السببيّة في جميع مواردها حاصلا على خلاف الأصل ، ومعنى كون الترتّب ممّا يجعله الشارع أنّه يعتبر بين شيئين متخالفين علقة ينيط حدوث أحدهما بحصول الآخر وجودا وعدما ، ويقول : « انّ الأثر الّذي هو موكول إلى جعلي فقد جعلت حدوثه موكولا إلى حصول الأمر الفلاني » فيكون الثاني سببا والأوّل مسبّبا كما هو الحال في مثل « إن تكرمني اكرمك » وغيره من العرفيّات حيث إنّه لا علقة بين الاكرامين لذاتهما أصلا بل هو أمر يعتبره المتكلّم فيعبّر عنه بأداة التعليق ويفيده بالقضيّة الشرطيّة فيكون الأوّل سببا والثاني مسبّبا.

وإذا كان ذلك أمرا جائزا معقولا لا يأبى عنه العقل ولا العرف وظاهر الخطاب أيضا لا يقضي بما زاد عليه ، فلا باعث على رفع اليد عنه بالحكم على تلك الأسباب بالمعرّفيّة دون المؤثّريّة.

بل يمكن تسرية هذا الكلام إلى أكثر ما تؤخذ في القضايا التكليفيّة أيضا بل جميعها ، نظرا إلى أنّ المؤثّر أعمّ من كونه بواسطة أو بلا واسطة.

ولا ريب أنّ الأحداث الموجبة للطهارات إنّما تؤثّر في نقض الطهارة السابقة وتحقّق المصلحة الداعية إلى إيجاب الوضوء والغسل وغيرهما وهي التوصّل إلى مشروط بها كالصلاة مثلا ، فإنّ الرجحان الواقعي النفس الأمري قائم بما صدرت عن المتطهّر ولا يمكن

ص: 310

التوصّل إليها على وصف الرجحان إلاّ بالطهارة وهي منوطة بالوضوء ونحوه ، فيكون واجبا لمصلحة التوصّل الّتي يحقّقها الأسباب الموجبة للحدث المناقض للطهارة بمعنى أنّ كون الوضوء ممّا يتوصّل به إلى الطهارة للصلاة مصلحة لا يحقّقها إلاّ الأحداث ، فاذا كانت المصلحة المفروضة مؤثّرة في الإيجاب على ما هو المفروض وهي مع ذلك مسبّبة عن ذلك الأسباب فكانت الأسباب مؤثّرات في الإيجاب بالواسطة.

وعلى هذا القياس يقرّر الكلام في سائر الأسباب المذكورة وغيرها ممّا لم يذكر ، وعليه لا باعث أيضا على الخروج عن ظواهر الأدلّة بل يحكم على جميع الأسباب الشرعيّة بالمؤثّريّة ، أخذا بموجبها ، إلاّ أن يدّعى ظهور المؤثّريّة المستفادة عنها فيما يكون بلا واسطة ، فحينئذ يرجع النزاع بيننا وبين أهل القول بالمعرّفيّة لفظيّا ، حيث انّهم يسمّون ما كان مؤثّرا بالواسطة وما كان عنوان السببيّة فيه ممّا اعتبره الشارع بالمعرّف تخصيصا منه للمؤثّر بما يكون بلا واسطة وكان سببيّته عقليّة ، ونحن نخالفه ونجعل المؤثّر للأعمّ وإن لم يكن ممّا يساعده ظواهر الأدلّة ، فإنّ عدم ظهور الخطاب في المؤثّر بواسطة لا يقضي بانسلاخ عنوان المؤثّريّة عنه كما هو الحال في سائر الألفاظ الظاهرة في بعض أفراد معانيها دون بعض.

فمحصّل المطلب أنّ الأسباب الشرعيّة كالعلل العقليّة مؤثّرات ولو بالمعنى الأعمّ ، فالمدّعي للمعرّفيّة إن كان كلامه راجعا إلى إنكار هذا المعنى فهو غير مسموع بل مردود عليه بما ذكر ، وإن كان راجعا إلى إنكار ما هو أخصّ منه فلا ينكر عليه ذلك ، غير أنّه يعود النزاع لفظيّا كما عرفت.

وانتظر لتمام الكلام في الأسباب الشرعيّة في دفع كلام آخر للنراقي في دعواه أصالة التداخل في الأسباب.

الأمر الخامس : قيل كما عن المحقّق الخوانساري أنّ الأصل مع القائلين بالتداخل ، لأنّ المقطوع به هو التكليف بالواحد والزائد مشكوك ينفيه الأصل.

وعن غيره أنّه عكس الأمر إذ اليقين بالشغل يستدعي اليقين بالبراءة فالاحتياط لازم ولا يتأتّى إلاّ بالزائد ، مضافا إلى استصحابات عديدة قاضية ببقاء التكليف إلى الإتيان بآخر المسبّبات.

وقد يحاكم بينهما بأنّ الأقرب أن يقال : إنّ هاهنا مقامات يختلف فيها الأصل ، فهو في مقامين منها مع القائلين بالتداخل ، وفي مقام آخر مع النافين.

ص: 311

وتوضيح ذلك : أنّ القول بعدم التداخل إنّما يتمّ باحراز امور ثلاثة :

أحدها : اقتضاء الأسباب العديدة لوجوب شيء مثلا وجوبات عديدة على حسب عددها ، سواء قلنا : إنّ الأسباب الشرعيّة كالعقليّة أو معرّفات.

وثانيها : أنّ تعدّد الوجوب الناشئ عن تعدّد الأسباب قاض بتعدّد المتعلّق كالتصدّق في قولك : « إن جاءك زيد فتصدّق بدرهم » و « إن جاءك عمرو فتصدّق بدرهم ».

وثالثها : أنّ تعدّد المتعلّق الناشئ عن تعدّد الوجوب المنبعث عن تعدّد الأسباب يقتضي تعدّد الامتثال ولا يكفيه امتثال واحد.

ومن الواضح أنّ الأمرين الأوّلين مخالفان للأصل ، ضرورة أنّ الأصل عدم تعدّد الوجوب ، وعلى فرض تعدّد الوجوب فالأصل عدم تعدّد الواجب ، لاحتمال أن يكون أمر واحد متعلّقا لوجوبات عديدة كما في الواجب الشخصي مثل قتل زيد وكما في الواجبات المنذورة ، فالقائل بالتداخل إن رجعت دعواه إلى إنكار أحد هذين الأمرين فالأصل معه وعلى المانع إثباتهما حتّى يرتفع الأصل.

وأمّا الأمر الثالث فهو بعد ثبوت الأمرين الأوّلين ثابت بحكم الاشتغال ولا مجال للبراءة فيه إلاّ بدليل خارجي كما يثبت في بعض المقامات كالأغسال ، فالقائل بالتداخل إن كان مدّعيا بخلاف هذا الأمر بعد الاعتراف بالأوّلين فعليه الإثبات.

الأمر السادس : قد يقال : أنّ محلّ كلام الأصحاب في تداخل الأسباب إنّما هو ما كان من المسبّب قابلا للتعدّد ، كأن يكون واحدا بالنوع وله أفراد يمكن وجودها في الخارج ، وأمّا إذا لم يكن قابلا للتعدّد فلا ريب في التداخل فيه إذا تحقّق السببان فيه معا أو مرتّبا ، ففي صورة المعيّة والاقتران يحكم بكونهما معا علّة تامّة لئلاّ يلزم الترجيح بغير مرجّح ، كما إذا ارتدّ وزنى في آن واحد فكلّ منهما يوجب القتل بانفراده ، فلمّا اجتمعا امتنع استناد استحقاق القتل إلى أحدهما خاصّة لعدم المرجّح فلا مناص عن الحكم باستناده إليهما ، نظير ما إذا ضربه واحد في عنقه والآخر في نطاقه في آن واحد فالقتل مستند إلى الضربين معا.

وفي صورة الترتّب والتدرّج يحكم باستناده إلى الأوّل لإصابته محلاّ خاليا عن المانع والشاغل.

وأمّا الثاني فهو وإن لم يصادف المحلّ خاليا إلاّ أنّه ليس بلغو بالمرّة بل لعلّه مؤكّد للأوّل ، ضرورة أنّ شأنيّته لإيجاب القتل لم تبطل. غاية الأمر أنّه لم يؤثّر فعلا لكونه مسبوقا.

ص: 312

وأنت بالتأمّل فيما قرّرناه في ردّ الوجه الثالث من أدلّة القول بمعرّفيّة الأسباب الشرعيّة تعرف أنّ ذلك ممّا لا وجه له.

غاية الأمر أنّ ما يقع في الخارج في غير القابل للتعدّد ليس إلاّ واحدا لعدم قبوله التعدّد وهو ليس معنى التداخل ، لجواز كونه من باب سقوط الأمر بالزائد من جهة ارتفاع موضوعه وامتناع متعلّقه امتناعا عرضيّا ، لا من باب أنّ الأمر واحد من أصله أو أنّ المأمور به واحد وإن كان الأمر متعدّدا ، أو أنّ تعدّد الأمر والمأمور به لا يقتضيان أزيد من امتثال واحد كما أنّه مفاد القول بالتداخل.

نعم ينبغي أن يعلم أنّ محلّ الكلام ما كان المسبّب واحدا بالنوع كالتصدّق والوضوء والاغتسال عن جنابة ونحوها إذا اجتمعت عليها أسباب عديدة ، وأمّا إذا كان المسبّب متعدّدا بالنوع كما في قولك : « إن جاءك زيد فأكرمه » وإن أكرمك « فأعطه درهما » فجاء وأكرم في آن واحد أو على التدريج فلا ينبغي التأمّل ولا الخلاف في عدم التداخل.

ومن هذا الباب ما لو اتّحد المسبّبان في الصورة واختلفا في الأحكام واللوازم كغسل الجنابة مع غسل الحيض ، فإنّ من أحكام الأوّل رفع الحدث المبيح للصلاة ومن لوازم الثاني خلافه فلذا يجب معه الوضوء متقدّما أو متأخّرا فيكونان من النوعين المختلفين ، ضرورة أنّ اختلاف اللوازم دليل على اختلاف الملزومات ، فغسل الحيض مع غسل الاستحاضة مثلا داخلان في محلّ النزاع ، وكلّ منهما مع الجنابة خارجان عنه ، ولا ينافيه كون الجنابة مغنية عنهما لأنّ ذلك بدليل خارج والكلام إنّما هو مع قطع النظر عن كلّ خارج ، فلذا يعبّر في عنوان المسألة بأصالة التداخل أو أصالة عدمه.

وإذا تمهّدت هذه الامور بأجمعها ، فنقول : انّ الحقّ الحقيق اللائق بالاتّباع الموافق للتحقيق ما صار إليه المشهور.

لنا على ذلك : - مضافا إلى أنّا لا نعقل في العرف والعادة بملاحظة الاستعمالات الدائرة والإطلاقات الجارية فرقا بين قول القائل : « إن جاءك زيد فأعطه درهما ، وإن أكرمك عمرو فأعطه درهما » وقوله : « إن جاءك زيد فأعطه درهما ، وإن أكرمك فأعطه درهما » في وجوب اعطاء در همين وعدم جواز الاجتزاء بدرهم - ظهور أدلّة الأسباب في كون كلّ واحد سببا تامّا مستقلاّ على التعيين يؤثّر في مسبّبه تأثيرا فعليّا ، ظهورا متناولا لحالتي وجوده منفردا أو مجتمعا مع غيره على سبيل الدفعة والاقتران أو التدريج والتعاقب.

ص: 313

وقضيّة ذلك تعدّد المسبّبات عند تعدّد الأسباب في الخارج من غير فرق بين القول بكون السبب سببا لوجود المسبّب أو سببا للعلم بوجوده ، فيكون الأصل في الأسباب عدم التداخل مطلقا.

ومن يدّعي كون الأصل فيها التداخل فلا بدّ وأن يرجع دعواه في صورة المعيّة والاقتران إمّا إلى القول بكون السبب التامّ هو المجموع على نحو يكون كلّ جزءا للسبب ، أو القول بكونه أحدهما المعيّن ، أو القول بكونه أحدهما الغير المعيّن ، أو القول بكونه القدر المشترك بينهما ، أو القول بكونه كلّ منهما على سبيل الاستقلال ، أو القول بعدم كونه شيء منهما بدعوى : أنّ السبب شيء خارج آخر هما كاشفان عنه ، ولا سبيل إلى شيء من ذلك لمنافاتها ظاهر اللفظ مع فقد ما يصلح قرينة على الخروج عنه ، مضافا إلى ما في الثاني من لزوم الترجيح بغير مرجّح وأدائه إلى طرح دليل أحد السببين.

وفي الثالث من لزوم استناد الأمر المعيّن وهو الوجوب إلى غير المعيّن وهو محال ، مع لزوم طرح أحد الدليلين لا بعينه.

وفي الخامس من لزوم توارد علّتين تامّتين على معلول واحد.

وفي السادس من لزوم طرح الدليلين معا ، لأنّهما بظاهرهما دلاّ على سببيّة السببين بأنفسهما.

وفي صورة التدريج والتعاقب (1) إلى القول بالغاء الثاني بالمرّة ، أو القول بأنّه أثّر في عين ما أثّره الأوّل ، أو القول بأنّه أثّر ما يؤكّد أثر الأوّل ، والكلّ باطل لمنافاتها الظهور السليم عن المعارض ، مع ما في الثاني من لزومه محالات ثلاث : توارد علّتين تامّتين على معلول واحد ، وتحصيل الحاصل ، وتقدّم المعلول على العلّة.

فإن قلت : إنّما عدلنا عن الظاهر من جهة الفرار عن التكرار الّذي كان الأمر ظاهرا في خلافه على ما قرّر في محلّه من أنّه لا يفيد إلاّ طلب الماهيّة.

قلت : التكرار الّذي ينافي ذلك ما لو استفدناه عن أمر واحد وأمّا لو كان في الواقعة أوامر عديدة يقتضي كلّ منها إيجاد الماهيّة وهي لا توجد إلاّ في ضمن الأفراد فلازمها التكرار وهو ليس من التكرار ، المنافي لكون الأمر لطلب الماهيّة كما لا يخفى.

فإن قلت : على تقدير كون الأسباب من باب المعرّفيّة كان ذلك خلاف ظاهر آخر

ص: 314


1- عطف على قوله : « فلا بدّ وأن يرجع دعواه في صورة المعيّة والاقتران ... الخ ».

لاقتضاء ظاهر اللفظ السببيّة الواقعيّة ، فأيّ ترجيح للظهور الأوّل على ذلك الظهور؟

قلنا : على هذا التقدير لو قلنا بالتداخل يلزم طرح ظاهرين ، لظهور اللفظ في السببيّة أوّلا ثمّ لو حملناه على المعرّفيّة كان ظاهرا في الاستقلال واقتضاء كلّ معرّف تأثيرا فعليّا بخلاف ما لو قلنا بعدم التداخل فلا يلزم طرح هذا الظاهر فكان أولى.

وإلى ما قرّرناه يرجع محصّل ما قرّره العلاّمة في مسألة سجود السهو من المختلف وتبعه بعض الأجلّة في فوائده على ما حكى عنهما ، واعتمد عليه بعض مشايخنا من الدليل على عدم التداخل.

وحاصله في فرض تعاقب السببين : أنّ الأوّل منهما لا ريب في تأثيره وايراثه وجود المسبّب بحكم ما دلّ على سببيّته من العموم أو الإطلاق بل بحكم الاتّفاق.

وأمّا الثاني منهما سواء كان مجانسا للأوّل أو غير مجانس إمّا أن يكون مؤثّرا في أثر أو لا يكون مؤثّرا أصلا.

وعلى الأوّل إمّا أن يكون الثابت به عين الثابت بالسبب الأوّل أو ما يؤكّده أو ما يغايره ، والجميع باطل سوى الأخير.

أمّا بطلان فرض عدم التأثير فلمخالفته الدليل الدالّ على السببيّة بالعموم أو الإطلاق.

وأمّا بطلان فرض تأثيره في عين ما أثّره الأوّل فلاستحالته من جهة استلزامه لثلاث محالات.

وأمّا بطلان كونه مؤكّدا للأوّل أو كالمؤكّد له فلأنّه أيضا خلاف ما دلّ على السببيّة ، فتعيّن الرابع وهو المطلوب.

وفي فرض اقتران السببين : فلأنّهما إمّا يؤثّران شيئا أو لا ، والثاني باطل كما مرّ.

وعلى الأوّل فإمّا أن يكون أثرهما شيئا واحدا أو شيئين ، والثاني مثبت للمطلوب ، والأوّل موجب لأحد المفاسد ضرورة أنّ التأثير إمّا مستند إلى أحدهما بالخصوص ، أو أحدهما الغير المعيّن ، أو إليهما معا ، والكلّ مخالف لما دلّ على سببيّة كلّ منهما ، فإنّه دلّ على سببيّة كلّ مستقلاّ فيلزم طرح أحدهما المعيّن لو قلنا بالأوّل ، وأحدهما لا على التعيين لو قلنا بالثاني ، وكليهما معا لو قلنا بالثالث.

مع ما في الأوّل من لزوم الترجيح بلا مرجّح ، وفي الثاني من استناد وجود المسبّب إلى أمر غير معيّن وهو محال ، لأنّ الشيء ما لم يتشخّص لم يوجد ومع عدم الوجود كيف

ص: 315

يؤثّر في وجوب المسبّب ، وتأويله إلى أنّه غير معيّن عند المكلّف وإن كان متعيّنا في الواقع إرجاع له إلى الوجه الأوّل.

وأمّا في الثالث من توارد علّتين تامّتين على معلول واحد وهو مستحيل.

ثمّ إنّهم أوردوا على ما اخترناه مناقشات يرجع جملة منها إلى مقدّمات دليله المذكور وجملة اخرى إلى أصل المختار.

أمّا الصنف الأوّل من المناقشة فمن وجوه :

منها : ما يرجع إلى المنع عن وجوب كون كلّ من السببين - سواء اقترنا أو ترتّبا - مؤثّرا حتّى يتعدّد بتعدّدهما الأثر.

أمّا أوّلا : فلمنع كون الأسباب الشرعيّة مؤثّرات بل هي معرّفات استنادا إلى ما تقدّم في الأمر الرابع من الوجوه الثلاث ، ومن شأن المعرّف جواز تعدّده من غير أن يتكثّر المعرّف كما تقدّم التصريح به في عبارة العوائد.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الطبيعة من حيث هي كلّما اتّصفت بحكم من الأحكام امتنع اتّصافها ثانيا بضدّ ذلك الحكم أو مثله ضرورة استحالة اجتماع الضدّين والمثلين ، وذلك لأنّ الواحد بالنوع كالواحد بالشخص في عدم قبوله الاتّصاف بالأضداد والأمثال ، ولذا لم يجوّز أحد اجتماع الأمر والنهي في الواحد بالنوع أيضا إذا تعلّقا به من حيث وحدته النوعيّة ، نعم جوّزه جماعة إذا تعلّقا به من جهتين.

فحينئذ نقول : إذا قال الشارع : « إذا بلت فتوضّأ » مثلا يجب صرف ظاهر اللفظ إلى كون البول سببا لوجوب طبيعة الوضوء وكذلك إذا قال : « إذا نمت فتوضّأ » فإذا اتّفق أنّه تعقّب البول نوم ينبغي الحكم بلغويّة النوم لعدم مصادفته محلاّ قابلا للتأثير ، ضرورة أنّ طبيعة الوضوء من حيث هي لا تقبل الاتّصاف بوجوبين كما لا تقبل الاتّصاف بالوجوب والاستحباب.

ولذا حكم جمّ غفير من الأصحاب بأنّ الوضوء بعد دخول وقت الصلاة واجب فقط وليس بمندوب.

وهكذا يقال في كافّة الأسباب الشرعيّة إذا كانت مسبّباتها طبائع كليّة ، فإنّها بحسب ظواهر ألفاظها تدلّ على كون الشيء الفلاني سببا لحصول الطبيعة ، ووحدة طبيعة المسبّب قرينة واضحة على إرادة الشأنيّة من الأسباب إمّا مطلقا أو إذا جامع بعضها بعضا.

ص: 316

وحاصل الإشكال : معارضة ما ذكر في الاستدلال من دعوى تأثير كلّ من السببين وعدم كونه لغوا استنادا إلى ظواهر ما دلّ على السببيّة ، بدعوى انفهام خلافه من جهة ملاحظة وحدة المسبّب القاضية بلزوم وحدة الأثر.

والجواب أمّا عن الأوّل فأوّلا : بما مرّ في الأمر الرابع من منع كون الأسباب الشرعيّة معرّفات مع ابطال الوجوه المقامة على اثبات هذه الدعوى.

غاية الأمر أنّها في القضايا التكليفيّة اخذت عللا لما هي العلل الواقعيّة للتكاليف ، ولا ريب أنّها لا تخرج بذلك عن حكم المؤثّرية ، فهي بحكم ظاهر اللفظ تؤثّر عند تعدّدها في تعدّد معلولاتها وهي المصالح الواقعيّة ، وتعدّد تلك المصالح يقضي بتعدّد التكليف.

وأمّا ثانيا : فبما مرّ في الأمر الثالث من عدم الفرق بين المؤثّر والمعرّف في امتناع الاجتماع على مسبّب واحد على أن يكون كلّ من المجتمعين مؤثّرا بالفعل على سبيل الاستقلال ، وبدونه يلزم الخروج عن الظاهر بلا قرينة واضحة من العقل أو النقل.

وربّما يجاب عنه بما قرّره بعض الأعاظم في الجواب من : « أنّ الأسباب الشرعيّة وإن كانت معرّفات ، إلاّ أنّ لكلّ مدلولا وكلّ يكشف عن مصلحة واقعيّة اعتبرها الشارع ، فمجرّد احتمال ارجاع بعضها إلى بعض لا يصحّ الحكم باتّحاد اقتضاء الجميع. غاية الأمر أنّ المعرّفيّة تقتضي امكان ذلك لا لزومه ».

وأمّا عن الثاني : فبأنّ مقايسة اجتماع الوجوبين على اجتماع الأمر والنهي الّذي لا يجوّزونه في الواحد بالنوع اشتباه واضح ، ضرورة أنّ اجتماع الوجوبين إنّما يستحيل على تقدير التسليم باعتبار استحالة اجتماع المثلين إذا لم يرجع إلى اعتبار التكرار ، بأن يتعلّق إحداهما بايجاد الماهيّة والآخر بإيجادها الآخر ، ولا مانع منه سوى توهّم أنّ كون الأمر للتكرار وهو خلاف الأصل.

وفيه : أنّ ذلك إنّما هو في صيغة واحدة والمفروض في المقام تعدّد الصيغ بخلاف الأمر والنهي فإنّ النهي يقتضي تحريم جميع إيجادات الماهيّة والأمر يقتضي إيجاب إيجادها على نحو التخيير الّذي يعتبره العقل ومن المستحيل تحريم كلّ إيجاد بعينه مع إيجاب واحدها كما ستعرف في اجتماع الأمر والنهي إن شاء اللّه.

وبما ذكر ارتفع محذور لزوم اجتماع المثلين أو الأمثال ، فإذا اقتضى تعدّد الأسباب بظاهرها تعدّد الوجوبات المتعلّقة بالطبيعة الواحدة ولو من حيث إيجاداتها المتكثّرة يجب

ص: 317

المصير إليه أخذا بظاهر الحجّة واحترازا عن طرح الأدلّة بلا داع إليه ولا باعث عليه.

غاية الأمر أن تقول : بأنّ ذلك أخذ بظاهر وهو اقتضاء السببيّة تعدّد المسبّب عند تعدّد السبب وطرح لظاهر آخر وهو اقتضاء الواحد بالنوع تعلّق الأمر به من حيث هو لا من حيث الوجود ، فإنّ الوجود أمر زائد على الطبيعة فاعتباره معها يخالف الحاصل والظاهر.

فنقول : يرجع المقام حينئذ إلى تعارض الأظهر والظاهر ، فإنّ القضيّة السببيّة أقوى ظهورا في نظر العرف والعادة في تعدّد المسبّب عند تعدّد السبب من ظهور المسبّب في الطبيعة من حيث هي ، وإن كان منشأ الظهورين في كلا المقامين هو الإطلاق والسكوت عن القيد في معرض البيان ، فيرجّح الأوّل على الثاني.

بل لنا أن نقول : بأنّه لو قطعنا النظر عن هذا الظهور لكفانا ظهور تعدّد الأوامر في تعدّد الطلبات والمطلوبات في مؤنة طرح ما ذكر من الظهور المستند إلى الإطلاق.

فإنّ المفروض أنّ كلّ سبب من الأسباب المتعدّدة متحيّز (1) بأمر مستقلّ ، ولا ريب أنّ الأمر يقتضي طلبا ومطلوبا اقتضاء وضعيّا على ما قرّرناه في محلّه ، فيلزم أن يكون تعدّده مقتضيا لتعدّد الطلب والمطلوب ، وإلاّ يلزم على تقدير حمل المتعدّد على المتّحد طرح الظاهر وأصالة الحقيقة بلا قرينة التجوّز ، فلذا صار الأصل في مثل « صلّ ركعتين ، صلّ ركعتين » التأسيس ، بالحمل على تعدّد المكلّف به حتّى قامت القرينة على إرادة التأكيد المستلزم لكون المكلّف به واحدا ، وحصل التعارض في مثل « صلّ ركعتين ، صلّ الركعتين » بين ظهورين : ظهور « اللام » في إرادة العهد وظهور الصيغة في المغايرة ، وحصل الخلاف فيما بينهم في ترجيح أحد الظهورين على الآخر.

ومن البيّن أنّ الظهور الوضعي متى ما عارضه الظهور الإطلاقي كان مقدّما عليه.

والسرّ فيه : أنّ الظهور الإطلاقي إنّما يثبت في موارده من جهة منافاة الحكمة وصون خطاب كلام الحكيم عن كونه خطابا بما له ظاهر وإرادة خلافه كما في « أحلّ اللّه البيع » لو كان المراد به الفرد معيّنا أو غير معيّن.

ولا ريب أنّ الظهور الوضعي حيثما ثبت كان رافعا للمنافاة ومخالفة الحكمة فيرتفع به الظهور الناشئ عنهما بحكم العقل.

لا يقال : إنّ ظهور المطلق في الطبيعة أيضا وضعيّ لأدائه إرادة خلافها تجوّزا في اللفظ

ص: 318


1- كذا في الأصل.

من حيث إنّه موضوع لنفس الطبيعة.

قلنا : ليس الأمر كذلك ، فإنّ المطلق إذا حكم عليه بحكم كما إذا قيل : « يجب الصلاة » مثلا فهذه القضيّة في حدّ ذاتها يتحمّل وجوها :

أحدها : أن يكون المراد جميع أفراد الصلاة.

وثانيها : أن يكون المراد فرد معيّن منها.

وثالثها : أن يكون المراد فرد غير معيّن.

ورابعها : أن يكون المراد الفرد المخيّر بالتخيير الشرعي

وخامسها : أن يكون المراد الطبيعة من حيث هي بلا ملاحظة الأفراد.

ولا ريب أنّ لفظ « الصلاة » في كلّ من تلك الاحتمالات يقع حقيقة كما قرّر في محلّه ، ونسبته إلى الجميع على نهج سواء لأهليّته بحسب الوضع للجميع نظرا إلى كونه موضوعا للطبيعة لا بشرط شيء ، ومن البيّن أنّ اللابشرط لا ينافيه ألف شرط.

غاية الأمر أنّه لا يحكم بتعيين شيء منها إلاّ بمعيّن داخلي أو خارجي ، لفظيّ أو عقليّ كدليل الحكمة القاضي بإفادته العموم الاستغراقي في مثل « أحلّ اللّه البيع » والعموم البدلي في مثل « أعتق رقبة ».

وقد عرفت أنّ دليل الحكمة ممّا يرفع اليد عنه بمجرّد وجود دليل على أحد الأطراف الّتي نفاه من إرادة فرد معيّن أو مبهم أو مخيّر فيه ، والدليل على خلافه فيما نحن فيه موجود وهو ظهور الأمر في تعدّد الطلب والمطلوب ، بل ظهور تعدّد السبب [ في ] تعدّد المسبّب ، والطبيعة لا تقبل التعدّد إلاّ من حيث الوجود فلا بدّ من الالتزام باعتبارها هنا من حيث الوجود تقديما لما هو من لوازم الوضع على ما هو من لوازم الإطلاق ومقتضيات دليل الحكمة.

مضافا إلى أنّ طرح الأوّل يفضي إلى التجوّز وطرح الثاني يقضي بالتقييد ، ومن المقرّر في محلّه إنّ التقييد أولى كما هو الحال في دوران الأمر بين التخصيص والتقييد ، حيث إنّ الثاني يرجّح لعدم استلزامه تجوّزا في المطلق من جهة وضعه للمعنى اللابشرط بخلاف التخصيص فإنّه يوجب المجاز في العام.

فإن قلت : وضع المطلق إذا كان ثابتا للمعنى اللابشرط الّذي لا يدخل فيه شيء من الشروط فينافيه شرط واحد فضلا عن ألف شرط ، فكيف يقال : بأنّ اللابشرط لا ينافيه ألف

ص: 319

شرط؟ بل هذه قضيّة إجرائها في الامور اللغويّة غلط وإنّما هي صادقة في المسائل الحكميّة والمطالب العقليّة الّتي منها مقام الامتثال فيما لو أمر بطبيعة وأراد المكلّف الإتيان بها في ضمن شروط.

قلنا : إنّما يتّجه ذلك لو كان المراد بتلك القضيّة أنّ وضع اللفظ للمعنى اللابشرط في لحاظ الواضع لا ينافيه ألف شرط يلحقها المتكلّمون به ويريدونها معه من اللفظ ، وأمّا لو كان المراد بها أنّ المعنى اللابشرط الّذي يعتبر مع اللفظ في لحاظ المتكلّم وإرادته لا ينافيه ألف شرط يلحقها المتكلّم به ويريدها من الخارج فلا ، إذ لا ملازمة بين اعتبار شرط مع المعنى اللابشرط ودخوله في المراد من اللفظ وكونه جزءا من المستعمل فيه.

وإن شئت فاستوضح ذلك بملاحظة العلم الشخصي الّذي لا يقع وضعه إلاّ على الماهيّة مع التشخّص المعرّاة عن سائر الشروط الّتي يلحقها بمرور الدهور من كبر وعلم وشجاعة وسخاوة وعدالة وفسق ونحو ذلك ، مع أنّ استعماله لا يقع عليها إلاّ مع تلك الشروط ، فإنّ الوضع ثابت للمشروط واستعمال اللفظ في المشروط غير استعماله فيه وفي الشروط ولا ملازمة بينهما أصلا.

ولا يذهب عليك أنّ ما قرّرناه في هذه الجملة إنّما هو مبنيّ على قصد المجاراة مع الخصم في دعواه استحالة اجتماع المثلين في محل واحد حتّى الواحد بالنوع ، وإلاّ فنقول : إنّ متعلّق الحكمين هو الماهيّة من حيث هي من دون نظر المتكلّم إلى حيث الموجود أصلا ، وكونه مستحيلا ممنوع وسند المنع ما يأتي تفصيله في دفع المناقشة الاخرى للنراقي إن شاء اللّه.

ومنها : ما يرجع إلى منع اقتضاء تعدّد الأثر والمسبّب تعدّد المتعلّق ، وهذه المناقشة مستفادة عن كلام النراقي فإنّه بعد ما استدلّ على ما صار إليه من أصالة التداخل ببعض الوجوه الواهية قال :

« وأقول : ها هنا تحقيق آخر وهو أنّه لا شكّ أنّ الأسباب الشرعيّة علل للأحكام المتعلّقة بأفعال المكلّف لا لنفس أفعاله ، فوطء الحائض علّة لوجوب التصدّق والبول علّة لوجوب الوضوء لا للتصدّق والوضوء ، وتعدّد الأسباب الشرعيّة لو اقتضى تعدّد مسبّباتها لاقتضى تعلّق وجوبين بتصدّق الدينار وبالوضوء والكلام إنّما هو في وجوب تعدّد التصدّق والوضوء لا تعدّد وجوبه ولا تلازم بينهما ، لإمكان تعلّق فردين من حكم بفعل واحد من

ص: 320

جهتين متغايرتين كوطء الأجنبيّة الحائضة ، وشرب الخمر أو الزنا في نهار رمضان ، ووجوب قتل زيد المرتدّ القاتل لغيره عمدا وهكذا.

وعلى هذا فأصالة تداخل الأسباب على ما ذكروه وإن استلزم أصالة تداخلها بالمعنى الّذي كلامنا فيه هنا ، ولكن أصالة عدم تداخلها لو ثبت لا يستلزم أصالة عدمه بالمعنى المراد ، بل الأصل هو التداخل أي عدم لزوم تعدّد الفعل الصادر من المكلّف بتعدّد أسباب الحكم المتعلّق به. وإن قلنا باقتضاء الأسباب المتعدّدة تعدّد الحكم ، لأنّ تعدّده لا يوجب لزوم تعدّد الفعل.

والحاصل : أنّ الكلام في وجوب تعدّد الفعل وهو غير تعدّد المسبّب الّذي هو الحكم المتعلّق به ، وإن كان عدم تعدّد المسبّب مستلزما لعدم تعدّد الفعل.

ومنه يظهر أنّ اثبات أصالة عدم تداخل الأسباب بالمعنى الّذي ذكروه لا يكفي في اثبات أصالة لزوم تعدّد الفعل الّذي هو المطلوب » انتهى (1).

والجواب عنه - مع ما بين صدر كلامه وما بنى عليه سابقا من كون الأسباب الشرعيّة معرّفات من التدافع الواضح - : أنّ تعدّد الوجوب ممّا لا يعقل له معنى إلاّ وجوب التعدّد والتكرار ، كيف والوجوب لا بدّ له من متعلّق فإن كان متعلّق أحد الوجوبين عين ما تعلّق به الوجوب الآخر - نوعا كان أو فردا من النوع - لزم اجتماع المثلين في محلّ واحد وهو مستحيل ، وإن كان ما يغايره ولو بالاعتبار لزم تعدّد الواجب ، مع أنّا لا نعقل فرقا بين قوله : « إن وطئت الحائض فتصدّق ، وإن لا مستها فتصدّق » وقولك : « إن جاءك زيد فتصدّق ، وإن جاءك عمرو فتصدّق » فكما أنّ الثاني يقضي بلزوم تعدّد التصدّق لا مجرّد تعدّد الوجوب بضرورة من العقل والعرف فكذلك الأوّل.

وإبداء الفرق بينهما تحكّم لا يسمع ، كما أنّ إنكار تعدّد الواجب في الثاني إنكار للبديهة.

واحتمال كونه من باب التأكيد بفرض وقوع أحدهما مؤكّدا للآخر - سواء قارن السببان أو رتّبا أو تجانسا أو تخالفا - ممّا لا يرجع إلى محصّل ، بل يوجب تكذيب فرض التعدّد فيهما ، ضرورة أنّ المؤكّد إذا كان لفظيّا لا يفيد إلاّ عين ما أفاده المؤكّد كما في « ضرب زيد ضرب زيد » حيث إنّهما لفظان في إخبار واحد على أن يكون ثانيهما مؤكّدا للأوّل فيما أفاده واريد منه ، والتعدّد يوجب المغايرة فيخرج بها عن ضابطة التأكيدات

ص: 321


1- عوائد الأيّام : 101.

وعلى فرض الصحّة فهو على خلاف الظاهر الّذي لا يصار إليه إلاّ عن دليل.

مضافا إلى ما قيل من مخالفة ما ذكره للقاعدة اللفظيّة في مثل الأوامر الابتدائيّة كما في « صم يوما ، صم يوما » مع ما هي عليه من احتمال انبعاثها عن سبب واحد لا يقتضي إلاّ مسبّبا واحدا ، فكيف بما نحن فيه من تعدّد الأسباب القاضي بتعدّد المسبّبات.

وإلى ما قيل أيضا من استلزام ذلك لاستعمال اللفظ في معنيين ، لكون كلّ من السببين عند انفكاكه عن الآخر مؤسّسا للسبب ولو كان عند الاجتماع مؤكّدا يلزم ذلك.

ومع الغضّ عن جميع ذلك نقول : إنّ الأسباب الشرعيّة بناءا على أنّها معرّفات تكشف عن مصالح واقعيّة أوجبت رجحان الأفعال وعلى أنّها مؤثّرات تؤثّر في تحقّق تلك المصالح بحسب الواقع ، فيكون تعدّدها قاضيا بتعدّد تلك المصالح من باب الكشف أو التأثير ، وتعدّد المصلحة يوجب تعدّد جهة الرجحان في الفعل وهو من موجبات وجوب التعدّد في الفعل وتكراره.

وإن شئت فاستوضح هذا المعنى بملاحظة قولك : « إن جاءك عمرو فأعطه درهما ، وإن جاءك زيد فأعطه درهما » غير أنّه في المتخالفين أظهر منه في المتجانسين ، كما أنّه في التعبّديّات أظهر منه في التوصّليّات ، بل صدقه في التوصّليّات ممّا لا يخلو عن إشكال كما يظهر بأدنى تأمّل.

مع ما قيل فيه أيضا من جواز كون الأسباب الشرعيّة عللا لنفس الأفعال لا الأحكام كما ذكره ، على أن يكون الأحكام بين العلل والمعلولات من لوازم العليّة بناءا على أنّ سببيّتها أمر مجعول من الشارع ولا مانع من أن يجعلها الشارع أسبابا لنفس الأفعال ، بدعوى : أنّ الأسباب الشرعيّة قد جعلها الشارع كالأسباب العقليّة والعاديّة لربط واقعي بينها وبين مسبّباتها وإن لم نعلمه ، فكما أنّ الأسباب العقليّة والعادية كثيرا مّا تكون أسبابا لنفس الفعل فكذلك الأسباب الشرعيّة أسباب لصدور الفعل الإختياري الكذائي عن المكلّف ، فكما أنّك في قولك لعبدك : « إذا قدم زيد من مكّة استقبله » تلاحظ الربط بين القدوم والاستقبال بحيث يكون القدوم سببا للاستقبال ، ولأجل هذه السببيّة الحاصلة تأمر العبد بالاستقبال بحيث يكون الأمر به من لوازم السببيّة لا أنّ الأمر هو السبب كما هو الحال في الإخبار في قولك : « إن جئتني جئتك » وما أشبه ذلك ، فكذلك لا حظ الشارع مثل هذه السببيّة بين النوم والوضوء مثلا وأجراهما مجرى السبب والمسبّب العقلي والعادي ، ومن جهتها حكم بلزوم الإتيان بالوضوء لا أنّ الوجوب مسبّب عن النوم ، وإذا كان الحال كذلك

ص: 322

كان تعدّد السبب قاضيا بتعدّد الفعل ولو من جنس واحد لا مجرّد تعدّد الوجوب. مع إمكان أن يقال : إنّ الأسباب الشرعيّة ليست بأسباب جعليّة من الشارع وإنّما هي أسباب واقعيّة كشف عنها الشارع ، كما أنّ الأسباب العقليّة ليست إلاّ امورا قد أدرك العقل سببيّتها لا أنّ العقل جعلها أسبابا لمسبّباتها ، فعلى هذا لا تكون بين كلامنا هذا وما اخترناه في الأحكام الوضعيّة من أنّها ليست مجعولة من الشارع وإنّما هي من توابع الأحكام التكليفيّة منافاة.

وإن أبيت إلاّ عن كون الأسباب الشرعيّة أسبابا للأحكام فقل : إنّها أسباب لوجوب ترتيب آثار السببيّة عليها بالنسبة إلى الأفعال ، فمعنى قولك : « النوم سبب لوجوب الوضوء » أنّه سبب لوجوب المعاملة معهما معاملة السبب والمسبّب.

وقضيّة ذلك تعدّد الواجب بتعدّد الوجوب لمكان تعدّد السبب الّذي من معاملاته تعدّد المسبّب ، فلاحظ وتأمّل.

ومنها : ما يرجع إلى منع اقتضاء تعدّد التكليف والمكلّف به تعدّد الأداء والامتثال ، وقد سبق حكاية ذلك في الأمر الأوّل كما عرفت عن المحقّق الخوانساري ثمّة بدعوى ظهور الأدلّة في كفاية الفرد الواحد.

وهو أيضا كما ترى ممّا لا يكاد يعقل ، فإنّ التكليف بعد ما تعدّد وتعدّد معه المكلّف به فكيف يعقل كفاية الواحد عن المتعدّد ، مع أنّ الغرض الأصلي في كلّ من التكليفين هو الامتثال؟ فأيّ شيء يحدر (1) أحد الامتثالين الّذي أوجبه الأمر إلاّ على احتمال الإسقاط ، وفيه : أنّه خلاف الأصل والظاهر كما قرّرناه في بحث الواجب الكفائي ، فلا يصار إليه إلاّ عن دليل وحجّة محكّمة تكون حاكمة على الأدلّة الظاهرة في عدم السقوط إلاّ بالحصول.

ودعوى ظهور الأدلّة في كفاية المسمّى أو الفرد غير مسموعة ، ضرورة كون الظهور على خلافها كما يتّضح ذلك بملاحظة بناء العرف ، حيث إنّهم إذا لا حظوا تحكيم ما اقتضاه الأسباب العديدة مع الأوامر المتعدّدة على ما اقتضاه الإطلاق في متعلّق تلك الأوامر بالتقريب المتقدّم يحكمون بالبداهة بلزوم الإتيانات العديدة على حسب تعدّد الأسباب عملا بظاهر اللفظ.

وبالجملة الدليل الّذي قرّرناه ممّا لا مجال إلى المناقشة في شيء من مقدّماته ، ولو لا الدليل الخاصّ من الإجماع والأخبار على عدم تعدّد المسبّبات في الوضوء وعلى عدم

ص: 323


1- كذا ، والظاهر : يهدر ، أي يسقط.

تأثير الأسباب العديدة فيها إلاّ حدثا واحدا ولا وضوءا (1) واحدا لكنّا حكمنا بلزوم التعدّد في الوضوء عملا بمقدّمات الدليل ، كما أنّه لولا الدليل الخاصّ في الأغسال بجواز الإتيان بغسل واحد في مقام الامتثال بالأغسال العديدة كقوله عليه السلام : « إذا اجتمعت لله عليك حقوق أجزءك عنها واحد » كما في حديث زرارة عنه عليه السلام (2) لكنّا حكمنا بالتعدّد فيها أيضا بحكم تلك المقدّمات.

وكذلك الحال في كلّ مقام نرفع اليد عن أصالة عدم التداخل ، فإنّ ذلك حيثما اتّفق خروج عن الأصل بالدليل ، كما أنّ أصحاب القول بأصالة التداخل يعكسون الأمر.

فبما قرّرناه تبيّن أنّه لا وقع لما ذكره النراقي أيضا في جملة ردوده على هذا الدليل من أنّه : لو تمّ ذلك الدليل لم يجز في مثل قوله : « من بال فليتوضّأ ، ومن نام فليتوضّأ » لأنّ ورود الأوامر المتعدّدة على شيء واحد جائز كورود أزيد من ألف أمر بالصلاة والزكاة ونحوهما » (3).

وأمّا الصنف الثاني من المناقشة فوجهان :

أوّلهما : عن المحقّق الخوانساري في بحث تداخل الأغسال من قوله : « إنّ ما يقال : إنّ الأصل عدم التداخل فكلام خال عن التحصيل ، لأنّ المراد بالأصل إن كان هو الظاهر ويصير حاصل الدليل : أنّ كلاّ من هذه الأسباب مستقلّ والظاهر استدعاء كلّ منها مسبّبا بانفراده ، فجوابه : منع الظهور ، بل الظاهر اقتضاء كلّ منها مسمّى الغسل وهو يتحقّق في ضمن فرد واحد.

وإن كان المراد به الاستصحاب ففساده ظاهر ، وإنّما الاشتباه من شيوع أنّ الأصل العدم بينهم ، فلم يتحقّقوا معناه واستعملوا في غير موضعه ، مع أنّه في موضعه محلّ كلام ليس هنا موضعه.

ص: 324


1- كذا في الأصل.
2- قال في رسالته المعمولة في تداخل الأسباب والمسبّبات : « ولا ينبغي مقايسة ما نحن فيه في دعوى عدم الاستلزام على مواضع التأكيد كالأوامر المتكرّرة في الكتاب والسنّة بالصلاة والزكاة وغيرهما من الواجبات الأصليّة ، لأنّ المفروض في المقام تعدّد الوجوب بمعنى الطلب الحتمي المنقدح في النفس والموجود في موضع التأكيد معنى واحد خبري أو إنشائي يؤدّى بعبارات متكرّرة ولذا يقال في تفسيره : « أنّه أعاده لما أفاده » كما في قولنا : « ضرب زيد ضرب زيد » في إخبار واحد و « صلّ ركعتين صلّ ركعتين » لانشاء طلب واحد ، فالموجود في مقام وجوب واحد مبيّن بعبارات متعدّدة كأوامر الصلاة والزكاة لا وجوبات متعدّدة ، فعدم وجوب التعدّد حينئذ إنّما هو لعدم التعدّد الوجوب.
3- عوائد الأيّام : 102.

وإن كان المراد الغلبة والكثرة فهو أيضا باطل كما لا يخفى » بل هو كلام خال عن التحصيل ، وإنّما جعلنا ذلك من المناقشات على المختار من كون الأصل في الأسباب عدم التداخل لا دليله لقضائه بانهدام أصل ذلك المدّعى كما لا يخفى.

وإن كان يمكن إرجاعه إلى الدليل أيضا كما يرشد إليه صدر العبارة المرتبط بما تقدّم من منع المقدّمة الثالثة من مقدّمات الدليل.

وعلى أيّ حال كان فهو واه جدّا ولا ينبغي الالتفات إليه جزما ، ويظهر وجه فساده بالتأمّل في كلماتنا السابقة من أوّل المسألة إلى مقامنا هذا.

وثانيهما : ما أورده النراقي أيضا وهو بحسب الوضع وإن كان إيرادا على الدليل غير أنّه بكونه مناقشة على المدّعى أنسب وأليق ، حيث قال في عوائده :

« أقول : يرد على هذا الدليل أنّ إرادة المسبّب المغاير للمسبّب الأوّل عند تعدّد الأسباب توجب استعمال ألفاظ المسبّبات في حقيقته ومجازه أو في حقيقته في استعمال واحد - ضرورة إرادة الماهيّة أو مطلق الفرد على اختلاف القولين عند عدم تعدّدها - وذلك غير جائز ، فإذا قال الشارع : « البول موجب للوضوء ، والنوم موجب للوضوء » والمراد بالوضوء عند انفراد كلّ من السببين إمّا الماهيّة أو مطلق الفرد ، فلو اريد منه عند اجتماعهما الفرد المغاير لما وجب بالأوّل لكان لفظ « الوضوء » مستعملا في معنيين وهو غير جائز ، مع أنّه على القول المشهور من وضع الألفاظ المطلقة للماهيّة يكون عند التعدّد مستعملا في الفرد قطعا ضرورة عدم تعدّد في الماهيّة ، وهو مجاز معارض بتخصيص عموم السبب ، والتخصيص إمّا مقدّم على المجاز كما هو المشهور أو مكافؤ له كما هو الحقّ ، وعلى التقديرين لا يعلم عموم ما دلّ على السببيّة بحيث يشمل المورد أيضا » انتهى (1).

والجواب أوّلا : بأنّ ذلك يعارضه لزوم الاستعمال في المعنيين بالنسبة إلى أداة الشرط وما يجري مجراها لو قلنا بالتداخل ، ضرورة أنّ المراد بها في صورة الانفراد كون كلّ من الشرطين سببا تامّا فعليّا على التعيين ، فلو اريد بها بالقياس إلى صورة الاجتماع كون كلّ منهما جزء للسبب أو كون أحدهما المعيّن أو أحدهما لا بعينه سببا شأنيّا - نظرا إلى الوجوه المحتملة في القول بالتداخل - لزم ذلك وهو غير جائز.

وثانيا : بأنّه لا يجب فرض استعمال الوضوء وغيره من ألفاظ المسبّبات على وجه

ص: 325


1- عوائد الأيّام : 103.

يقضي بتعدّد المستعمل فيه في صورتي الانفراد والاجتماع ، فإنّ الحكم في قوله : « البول موجب للوضوء ، والنوم موجب للوضوء » متعلّق بالماهيّة المطلقة لا محالة ، على ما هو الأصل في متعلّق الأحكام وما هو قضيّة وضع الألفاظ المطلقة للماهيّات ، من غير فرق في ذلك بين صورتي انفراد السببين أو اجتماعهما معا.

غاية الأمر لزوم كون الحكم المتعلّق بها في صورة الانفراد متّحدا وفي صورة الاجتماع متعددا ولا استحالة فيه ، نظرا إلى أنّ امتثال الأمر بالماهيّة ممّا لا يمكن إلاّ بايجاد الفرد فيجب بحكم العقل إيجاد فرد واحد تخييرا في صورة الانفراد امتثالا للأمر بها ، وإيجاد فردين كذلك في صورة الاجتماع امتثالا للأمرين بها أيضا من دون أن يلزم تجوّز في اللفظ ولا استعمال له في أكثر من معنى [ ولا تعارض المجاز والتخصيص ].

فإن قلت : فرض المستعمل فيه واحدا بالنسبة إلى كلتا الصورتين ممّا يفضي إلى اجتماع وجوبين في محلّ واحد وهو مستحيل.

قلنا : استحالة اجتماع الوجوبين في محلّ واحد إمّا من جهة امتناع امتثالهما مع وحدة المحلّ ، نظرا إلى أنّه لو حصل الإتيان به امتثالا لأحد الوجوبين فلا يبقى لامتثال الوجوب الآخر محلّ ، فيبقى ذلك الوجوب مطلوبا منه الامتثال مع عدم إمكان الامتثال وهو تكليف بما لا يطاق.

فيدفعه : أنّ ذلك إنّما يتّجه لو فرضنا المحلّ واحدا بالشخص وهو خلاف مفروض المقام ، ومن المعلوم أنّ امتثال الأمرين بالماهيّة ممّا يحصل بايجادها في ضمن فرديها.

أو من جهة اندراجه في اجتماع المثلين في محلّ واحد.

فيدفعه : منع الاستحالة لو كان وحدة المحلّ وحدة بالنوع ، وذلك لأنّ معنى استحالة اجتماع المثلين في محلّ واحد أنّه لا يعقل فرضهما في المحلّ الواحد على وجه يصدق عليهما عنوان الاجتماع مع كونهما مثلين في حال صدق هذا العنوان ، لأنّ الواقعة في اجتماعهما غير خالية عن فرض الامتياز بينهما أو فرض عدمه ، والأوّل ينافي الاجتماع والثاني ينافي الاثنينيّة [ ومرجعه إلى أنّ الاجتماع رافع للاثنينيّة والاثنينيّة مانع من الاجتماع ].

ولا ريب أنّ منافاة الاجتماع ومنافاة الاثنينيّة إنّما تلاحظان بالنسبة إلى الموجود الخارجي ، لكون الاجتماع والاثنينيّة من عوارض الشخص ولوازم الوجود الخارجي ، فيكون الحكم في استحالة اجتماع المثلين في محلّ واحد مختصّا بالجزئي الحقيقي

ص: 326

الموجود في الخارج ، والماهيّة أمر ذهني والحكم يتعلّق بها من حيث هي مع قطع النظر عن الوعائين ، ومعنى اجتماع الوجوبين فيها أنّها مطلوبة حتما مرّتين فلا استحالة فيه بعد قيام حكم العقل بلزوم إيجاد فردين منها تخييرا إمتثالا للطلبين.

أو من جهة أدائه إلى لزوم تحصيل الحاصل ، نظرا إلى أنّ الإتيان بأحد فردي الماهيّة يوجب حصولها في الخارج ومع ذلك لو فرض فيها وجوب آخر وهو عبارة عن طلب الفعل لزم طلب الحاصل وهو يستدعي لزوم الأداء فيلزم كون أدائها ثانيا تحصيلا للحاصل وهو محال.

فيدفعه : أنّ تحصيل الحاصل إنّما يستحيل من جهة ابتنائه على اعادة المعدوم ، وإنّما يلزم ذلك لو فرض المحلّ واحدا شخصيّا وجزئيّا حقيقيّا وهو خلاف الفرض ، ومعنى إيجاد الماهيّة ثانيا إيجادها في ضمن فرد آخر غير الفرد الأوّل لا إيجادها في ضمن الفرد الأوّل ليؤول إلى إعادة المعدوم ، ولو لا ذلك ممكنا لا نسدّ باب التكرار في الواجبات وبطل القول بالتكرار في الأوامر رأسا وامتنع تعلّق الأحكام بالأنواع زيادة من مرّة واحدة وكلّ ذلك على خلاف البديهة ، وإذا لم يكن مانع عقلي أو شرعي أو عرفي عن تعلّق أكثر من وجوب واحد بالماهيّة فلا ضرورة دعت إلى فرض اللفظ في حيّز الخطاب مستعملا فيها وفي فردها معا أو في فرديها كذلك ليلزم المحذور ، كما أنّه لا ضرورة قضت بوقوع الاستعمال في الفرد مجازا حتّى يقع التعارض بينه وبين التخصيص ، والماهيّة لا تقبل التعدّد إذا أخذت من حيث هي هي.

ولا ريب أنّ وجوداتها تتعدّد وإيجاداتها تتكرّر ، فتمكّن امتثال وجوباتها يتأتّى بإمكان إيجاداتها المتحقّقة في ضمن الأفراد.

ثمّ إنّ الفاضل النراقي نقل الاحتجاج عن موافقينا بوجوه اخر :

منها : ما يقرب ممّا قرّرناه من « أنّ المتبادر اختصاص كلّ مسبّب بسببه وهو يقتضي التعدّد ، فإنّ المفهوم من قوله : « إذا تكلّمت في الصلاة ناسيا فاسجد سجدتي السهو » وجوب السجود لخصوص التكلّم ، ومن قوله : « إذا شككت بين الأربع والخمس فاسجد » وجوب سجود آخر للشكّ غير الأوّل ، وكذا نحو « من تعمّد الأكل في نهار رمضان فليكفّر ، ومن تعمّد الجماع فليكفّر » فإنّ المتبادر منه وجوب كفّارتين كفّارة للأكل وكفّارة اخرى للوطء من غير تفاوت في الأوّل بين وقوع السهو والشكّ في صلاة واحدة أو متعدّدة ، ولا في

ص: 327

الثاني بين وقوع الأكل والوطء في اليوم أو في الأيّام مع تخلّل الكفّارة وبدونه ، ولا بين هذه الأمثلة ونحوها من مواضع الخلاف وغيرها ممّا أجمعوا فيه على التعدّد أو الاتّحاد ، فإنّ المتبادر في جميع ذلك اختصاص كلّ سبب بمسبّبه بلا اختلاف يعود إلى دلالة اللفظ ، فيكون المطلوب في الجميع متعدّدا إلاّ ما صرف عنه الدليل كما في أسباب الوضوء ، ومن ثمّ ترى الفقهاء يعلّلون عن التداخل فيما يقولون به بإلغاء الخصوصيّة أو وجود الظنّ المعتبر ، وأمّا إذا انتفى الدليل على ذلك فيه فإنّهم لا يرتابون في الاختصاص أخذا بظاهر اللفظ من غير معارض ، وكفى بذلك شاهدا على التبادر مع حكم الوجدان وشهادة العرف.

وإن شئت فاستوضح ذلك بمثل ما إذا قيل : « إن جاءك زيد فأعطه درهما ، وإن سعى لك في حاجة فأعطه درهما » فجاء وسعى في حاجته ، فإنّك لا تشكّ في أنّه يستحقّ درهمين درهما لزيارته ودرهما لسعيه ، وتجد الفرق بين ذلك وبين زيارته المجرّدة عن السعي وسعيه المجرّد عن الزيارة ، وكذا إن قيل : « إن جاءك الطبيب فأعطه دينارا وإن جاءك أديب فأعطه دينارا » فأتى زيد وهو طبيب وأديب فإنّك تحكم بأنّه يستحقّ دينارين ، وتفرق بين مجيئه ومجيء طبيب غير أديب وأديب غير طبيب ، ونحو ذلك سائر الأمثلة من الخطابات الشرعيّة والمحاورات العرفية ، فإنّ المستفاد من جميعها اعتبار الأسباب واستقلالها في اقتضاء المسبّبات من غير تداخل » (1) وهذا الوجه كما ترى في غاية الوجاهة وإن ناقش فيه الفاضل المذكور بما لا يخفى عن مكابرة.

ومنها : أنّ كلّ سبب يقتضي اختصاص مسبّبه به بمعنى أن يؤتى بمسبّبه لأجل أنّه مسبّب من تلك السبب ، بل هو مقتضى وجوب الإمتثال ، فإنّ صدق الامتثال عرفا أن يقصد تعيين ما يؤتى به ، فإنّه لا يحصل إمتثال الأمر بغسل الجنابة إلاّ مع قصد أنّه غسل الجنابة أي مسبّب من الجنابة ، فلو لم يقصدها أو يقصد غيرها لم يعدّ ممتثلا وكذا غسل الجمعة ، ومقتضى ذلك وجوب الإتيان بكلّ مسبّب بقصد أنّه مسبّب من السبب الفلاني ، فلازم ذلك أصالة عدم التداخل (2) وهو في غاية الوهن جدّا ، أمّا أوّلا : فلأنّه لا يتمشّى في غير العبادات.

وأمّا ثانيا : فلأنا لا نعتبر في صدق الامتثال وحصوله قصد العنوان ولا قصد الامتثال فضلا عن قصد السبب وتعيينه ، فلذا صار الأصل في الواجب عندنا كونه توصّليا لا تعبّديا على ما قرّرناه في محلّه.

ص: 328


1- عوائد الأيّام : 103 - 104.
2- عوائد الأيّام : 104.

وأمّا ثالثا : فعلى تقدير توقّف الامتثال على قصده لا نسلّم توقّف القصد على قصد السبب ، ودعوى اقتضاء اختصاص كلّ مسبّب لسببه ذلك غير مسموعة.

نعم قد يتوقّف التعيين عند التعدّد على شيء ولكن يكفي في ذلك التعيين ببعض الوجوه من دون افتقار له إلى قصده بعنوان أنّه مسبّب من السبب الفلاني. ولو سلّم اعتبار قصد هذا العنوان في صدق الامتثال فلا نسلّم كونه ملازما لعدم التداخل ، لجواز الإتيان بفعل واحد إمتثالا لأوامر عديدة مسبّبة عن الأسباب المفصّلة المعلومة فلا يكون منافيا لأصالة التداخل ، نظير ما لو أعطى الهاشمي الفقير القريب درهما بقصد امتثال الأمر بالتصدّق والأمر بالاحسان إلى السادات والأمر بصلة الأرحام.

وبالجملة فهذا الوجه على فرض صحّة جميع مقدّماته لا يكاد تجدي في إثبات المطلوب.

ومنها : ما حكاه عن بعض سادة مشايخه (1) في بعض فوائده من اتّفاق الفقهاء عدا من شذّ عليه ، فإنّهم قطعوا به واستندوا إليه في جميع أبواب الفقه وأرسلوه ارسال المسلّمات وسلكوا به سبيل المعلومات ، ولم يخرجوا عنه إلاّ بدليل واضح واعتبار لائح ، وربّما تركوا الظواهر بسببه وطرحوا النصوص لأجله كما صنعه جماعة في تداخل الأغسال وغيره ، ولم يعهد منهم طلب الدليل على عدم التداخل في شيء من المسائل ، فلو ذهب أحد إلى التداخل في شيء طالبوه بالدليل ، وليس ذلك إلاّ لكونه من الاصول المسلّمة والقواعد المعلومة ، وإلاّ لكان الأمر بعكس ما صنعوه وخلاف ما قرّروه ، لأنّ الأصل فيما دار بين الاتّحاد وعدمه هو الاتّحاد.

وما يتّفق لبعضهم من الاستناد إلى الأصل فيما قالوا فيه بالتداخل فالوجه فيه عدم ظهور التعدّد في تلك الموارد فلا شكّ في أنّ الأصل هو الاتّحاد (2).

وفيه : إن اريد بذلك اتّفاق الفقهاء على عدم التداخل على أن يكون أصلا كلّيا وقاعدة منضبطة لا يخرج عنها إلاّ بوارد عليها فهو غير ثابت واثباته يعدّ من المعضلات ، وإن اريد به الاتّفاق عليه في الجملة ولو في مواضع مخصوصة وموارد مضبوطة فهو دليل يجب فيه الاقتصار على مورده ، وليس من الامور اللفظيّة الّتي يتمسّك بها عموما أو إطلاقا وإن اختصّ موردها بغير محلّ العموم والإطلاق.

ص: 329


1- وهو السيّد بحر العلوم رحمه اللّه.
2- عوائد الأيّام : 105.

ومنها : ما حكاه عنه أيضا من استقراء الشرعيّات في أبواب العبادات والمعاملات في قوله : « فإنّ المدار فيها من الطهارات إلى الديات على تعدّد المسبّبات إذا تعدّدت أسبابها عدا النزر القليل المستند إلى ما جاء فيه من الدليل على اختلاف في أكثره وشكّ في أغلبه ، وإنّك متى تجاوزت ذلك وارتقيت في الأسباب وجدتها على ما وصفناه من غير شكّ ولا ارتياب ، ولذا ترى أنّ أسباب الصلاة والزكاة والصوم والحجّ والأيمان والنذور والديات والحدود وغيرها على كثرتها كثيرا مّا يجتمع مع توافق مسبّباتها في الجنس والكيفيّة والوقت وهي مع هذه متعدّدة متغائرة ، كالصلاة المتوافقة من فائتة وحاضرة ، والفوائت المتعدّدة من الفرائض والنوافل الراتبة وغير الراتبة الموافقة وغيرها ، وكصلاة الفجر مع الطواف ، والزلزلة مع الكسوف ، والعيد مع الاستسقاء ، وكذا أنواع الصيام من القضاء والكفّارة وأفرادهما المتكثّرة ، وأقسام الزكاة مثل زكاة المال والفطرة وأفرادهما الكثيرة ، والديون المستقرّة في الذمّة بأسباب مختلفة كالبيع والصلح والإجارة وغير ذلك من صور اجتماع الأسباب مع توافق المسبّبات ممّا لا يمكن حصره ، فإنّ البناء في جميعها على التعدّد بحيث لا يحتمل فيها التداخل والاكتفاء بالواحد عن المتعدّد كصلاة واحدة عن ألف صلاة ، وصوم يوم عن ألف يوم ، أو دفع شيئ بدلا عن قنطار ، ولو أنّ أحدا حاول ذلك لكان مخالفا لقانون الشريعة خارجا عن الدين والملّة ، ولا ندّعي أنّ الأسباب كلّها بهذه المثابة فإنّها تختلف جلاء وخفاء ، ولكنّ الفحص والاستقراء وتتبّع الجزئيّات الّتي لا تحصى تكشف عن استناد الأمر في ذلك كلّه إلى شيء جامع مطّرد في الجميع وليس إلاّ أصل عدم التداخل ، وهذا من قبيل الاستدلال بالنصوص المتفرّقة الواردة في جزئيّات المسائل على ثبوت ما اجتمعت عليه من المطالب الكليّة وذلك ليس من الظنّ والقياس في شيء » (1).

وفيه : منع الغلبة أوّلا ، لخروج أكثر ما ذكره من الأمثلة عن محلّ النزاع بضابطة ما قرّرناه سابقا من أنّ النزاع فيما اتّحدت المسبّبات نوعا دون ما اختلفت أنواعها ولو كان الاختلاف ناشئا عن اختلاف الأحكام واللوازم وخروج كثير من الباقي بالدليل ، فلا يبقى لما يكون من محلّ الخلاف إلاّ نزر قليل لا يثبت به الغلبة ، ومنع اعتبارها على فرض التسليم ثانيا ، فإنّ الاعتماد عليها في أمثال المقام في غاية الإشكال لابتناء اعتباره على ثبوت الظنّ المطلق في الأحكام.

ص: 330


1- عوائد الأيّام : 105 - 106.

ومنها : ما حكاه عنه أيضا من « أنّ اختلاف المسبّبات إمّا أن يكون بالذات كالصلاة والصوم وصلاة الفجر والظهر أو بالاعتبار كصلاة الفجر أداء وقضاء ، والاختلاف في الثاني ليس إلاّ اختلاف النسبة والإضافة إلى السبب ، فإنّ صلاة ركعتين بعد الفجر ممّن عليه صبح فائتة صالحة لها وللحاضرة وإنّما تختلف وتتعدّد باعتبار نسبتها إلى دخول الوقت وخروجه فإن اضيفت إلى الأوّل كانت أداء وإلاّ قضاء ، ومثل ذلك الاختلاف يتحقّق في كلّ ما ينفي فيه التداخل ، لأنّ المفروض فيه اختلاف الأسباب الّتي يختلف معها النسبة.

ثمّ إنّه متى كان هذا الاختلاف في النسبة مقتضيا للتعدّد في مورد واحد كان مقتضيا له في غيره ، لأنّ المعنى المقتضي للتعدّد يتحقّق في الجميع قائم في الكلّ من غير فرق ، فيكون الأصل تعدّد المسبّبات بتعدّد الأسباب ، ولا يلزم منه امتناع التداخل لأنّه إنّما يلزم لو كان اختلاف النسبة سببا تامّا للتعدّد وليس كذلك ، فإنّه مقتض له والتخلّف عن المقتضي جائز مع وجود المانع وهو موجود في كلّ ما يثبت فيه التداخل ، فإنّا لا نقول به إلاّ على تقدير وجوده.

وتحقيق ذلك : أنّ الأسباب الشرعيّة كاشفة عن المصالح الواقعيّة واختلافها كاشف عن اختلاف تلك المصالح بمعنى أنّه ظاهر فيه ، فإذا دلّ الدليل على التداخل علم أنّ المصلحة في الجميع واحدة وأنّ الإضافة غير مؤثّرة » (1).

وفيه أيضا - مع أنّه أخصّ من المدّعى لعدم جريانه في السببين المتجانسين كالبول إذا تعقّبه بول آخر نظرا إلى اتّحادهما الموجب لاتّحاد النسبة والإضافة ، وراجع إلى نحو من القياس بل هو من أضعف أفراد القياس لابتنائه على استنباط العلّة - أنّ الفرق بين المقيس والمقيس عليه واضح ، لجواز كون علّة الحكم في المقيس عليه اختلاف النسبة مع اختلاف المسبّبين في النوع ، ضرورة أنّ الركعتين أداء مع الركعتين قضاء بسبب عنوان الأدائيّة والقضائيّة نوعان مختلفان ، بناء على أنّ اختلاف النوعين قد ينشأ عن اختلافهما في الأحكام واللوازم وإن اتحّدا في الصورة.

ولا ريب أنّ الأداء أو القضاء يختلفان في الأحكام واللوازم ، فلذا ترى أنّ الأداء لا يجوز تقديمه على الوقت ولا يجوز تأخيره عن الوقت ، وهو ما دام الوقت متّسعا موسّع وإنّما يتضيّق عند ضيق الوقت ، بخلاف القضاء فإنّ تقديمه على الوقت جائز وتأخيره عن

ص: 331


1- عوائد الأيّام : 106.

الوقت كاف في الامتثال ، وهو قد يصير مع توسعة وقت الأداء مضيّقا ولا سيّما على القول بالمضايقة وفوريّة أوامر القضاء ، وقد نبّهنا في مقدّمات المسألة أنّ اختلاف المسبّبين في النوع ممّا ينفي التداخل بلا إشكال ، وهذا المعنى كما ترى غير متحقّق في المقيس وإلاّ كان كالمقيس عليه خارجا عن موضع الخلاف من غير إشكال (1).

ومنها : ما حكاه أيضا عن بعضهم بقوله : « ثمّ إنّه قد يستشهد لأصالة عدم التداخل بفحوى الأخبار الواردة في تداخل بعض الأسباب حيث تضمّنت الجواز والإجزاء الظاهرين في الرخصة في الجمع وأنّ الأصل فيها التعدّد ، وفي حديث زرارة في الاغتسال « إذا اجتمعت لله عليك حقوق أجزأك عنها غسل واحد » قيل : وفيه تنبيه لطيف على أنّ ذلك مخصوص بالغسل وإلاّ لقال : حقّ واحد ، فإنّه أعمّ وأعود وأدخل في اللطف والامتنان وإرادة اليسر والتوسعة ، فعلم أنّ سائر الحقوق ليست كذلك ، بل قيل : إنّ في ورود النقل بالتداخل شهادة بأنّ المحتاج إلى التذكّر هو التداخل » (2).

وأنت خبير بأنّ ذلك في غاية الوهن والسقوط ، فإنّ الجواز والإجزاء وإن كانا ظاهرين في الرخصة ولكن إثبات الشيء لا ينفي ما عداه لو اريد بالرخصة معناها اللغوي وهو تسهيل الأمر وتيسيره ، إذ لا قضاء للرخصة في الجمع بهذا المعنى في بعض الأسباب بكون الأصل في غيرها التعدّد إلاّ على مفهوم اللقب وهو كما ترى.

نعم لو اريد بالرخصة ما اصطلحه القوم من إرادة ما جاز فعله أو تركه مع قيام المنع عنه في مقابلة العزيمة الّتي هي عبارة عمّا جاز فعله أو تركه لا مع قيام المنع عنه ربّما يمكن القول بكونه قاضيا بهذا المعنى [ بأصالة التعدّد ] لتضمّن الرخصة حينئذ جواز الجمع في بعض الأسباب بعد ما قام المنع عنه فيها على الإطلاق ، ولكنّ الشأن في إحراز ذلك وهو من أصعب الامور ، كيف وأنّ خطاب الشرع لا ينزّل على الامور الحادثه الاصطلاحية وبدونه ينتفي الدلالة رأسا ، لأنّ الرخصة اللغويّة يغلب ورودها في مقام دفع توهّم المنع

ص: 332


1- وأورد في رسالته المعمولة في تداخل الأسباب والمسبّبات عقيب تلك العبارة ما هذا لفظه : « وأمّا ما ذكره أخيرا من التحقيق فقد تقدّم ما يزيّفه وملخّصه : أنّ الأسباب الشرعيّة إنّما تكشف عن المصالح الواقعيّة باعتبار كشفها عن الأحكام التابعة لها فاختلافها لا تكشف عن اختلاف المصالح إلاّ إذا كشفت عن تعدّد الأحكام فإذا لم يكشف اختلاف السبب عن تعدّد الحكم لم يعلم كون المصلحة واحدة أم متعدّدة ».
2- عوائد الأيّام : 106.

وإن كانت قد ترد في مقام رفع المنع أيضا ، كما أنّ الجواز والإجزاء يغلب ورودهما في الآثار - على ما يفصح عنه التتبّع - في مقام رفع توهّم المنع ، فلا يبقى إلاّ مفهوم اللقب الّذي قد عرفت حاله.

وأمّا الحقوق الواردة في حديث زرارة فالمراد بها بقرينة السياق والذيل على ما في التهذيب ليس إلاّ الأغسال ، فحينئذ لا يتفاوت المعنى لو قال : « حقّ واحد » مكان قوله : « غسل واحد » مع أنّ خطابات الشرع إنّما ترد على حسب مصالح المخاطبين وحوائجهم لا على حسب الاعتبارات والامور الراجعة إلى الاستحسانات فلعلّ حاجة المخاطبين اقتضت الاقتصار بما ذكر ، ومعه كيف ينفي الحكم عن غيره إلاّ على اعتبار مفهوم اللقب ، وفيه : ما فيه.

والاحتياج إلى التذكّر عامّ بالنسبة إلى تبيّن الخلاف وتوهّمه ، ولعلّ المخاطب كان في موضع توهّم المنع عن التداخل في خصوص المورد لمّا رأى في الأغسال المجتمعة من الاختلاف في الأحكام واللوازم مضافا إلى الاختلاف بينها جنسا من جهة الوجوب والندب ، فاعطاء الحكم له في رفع هذا التوهّم لا يقضي بأنّ غير المورد على خلافه في ذلك الحكم كما هو المقصود بالاستشهاد.

وبالجملة العمدة في المقام ما قرّرناه من الدليل على أصالة عدم التداخل ، وأمّا غيره فأكثره ممّا لا ينهض دليلا على ذلك الأصل ، كما أنّ الوجوه الّتي استند إليها أهل القول بأصالة التداخل لا ينهض دليلا على ما راموه ، فإنّ حاصلها بعد اسقاط الزوائد يرجع إلى امور خمس :

أحدها : أصالة براءة الذمّة عن الزيادة والتعدّد ، وأصالة عدم التعدّد.

وثانيها : أنّ الأسباب الشرعيّة معرّفات فإذا اجتمعت كان مقتضى الكلّ واحد.

وثالثها : أنّ الأسباب العديدة لا تقتضي إلاّ التكاليف العديدة ولا ملازمة بين تعدّد التكليف وتعدّد المكلّف به.

ورابعها : أنّه مقتضى الوحدة النوعيّة القائمة بالمسبّب ومقتضى إطلاقه.

وخامسها : أنّه يصدق الامتثال مع الأسباب العديدة بالاتيان بمسبّب واحد ، وإذا صدق الامتثال فلا مناص من الالتزام بكفاية الواحد والاجتزاء به.

وضعف الكلّ قد عرفته ممّا سبق مستوفى.

وعن الحلّي لما صار إليه من التفصيل الاحتجاج على كفاية الواحد في صورة التجانس

ص: 333

في مسألة تعدّد موجبات سجود السهو من السرائر بعدم الدليل على التعدّد ، ولقولهم عليهم السلام :« من تكلّم في صلاته ساهيا يجب عليه سجدتا السهو » ولم يقولوا دفعة أو دفعات.

وأوضح هذا المعنى في مسألة وطء الحائض بقوله : « إذا تكرّر وطء الحائض فالأظهر أنّ عليه تكرار الكفّارة ، لأنّ عموم الأخبار يقتضي أنّ عليه بكلّ دفعة كفّارة » قال : « والأقوى عندي والأصحّ أن لا تكرار في الكفّارة ، لأنّ الأصل براءة الذمّة ، وشغلها بواجب أو ندب يحتاج إلى دلالة شرعيّة ، فأمّا العموم فلا يصحّ التعلّق به في مثل هذه المواضع لأنّ هذه أسماء الأجناس والمصادر.

ألا ترى أنّ من أكل في نهار رمضان متعمّدا أو كرّر الأكل لا يجب عليه تكرار الكفّارة بلا خلاف ».

واحتجّ لعدم الاجتزاء بالواحد في صورة اختلاف الجنس بعدم الدليل على تداخل الأجناس بل الواجب اعطاء كلّ جنس ما يتناوله اللفظ ، لأنّه قد تكلّم وقام في حال القعود وقالوا عليهم السلام : « من تكلّم يجب عليه سجدتا السهو » ، و « من قام في حال قعوده يجب عليه سجدتا السهو » وهذا قد فعل الفعلين فيجب عليه امتثال الأمر ولا دليل على التداخل ، لأنّ الفرضين لا يتداخلان بلا خلاف من المحقّقين.

ويظهر الجواب عنه بالتأمّل فيما قرّرنا من أنّ أهل العرف يحكّمون ظهور ما دلّ على السببيّة على الواحدة المستفادة من السبب نوعا ، بل قيل : يمكن إبطال بعض كلامه ببعضه الآخر.

وعن العلاّمة رحمه اللّه في مختلف الشيعة في المسألة المتقدّمة ردّا على ابن إدريس « قوله : الموجب هو الماهيّة الكليّة قلنا : مسلّم ، لكنّها وجدت بكمالها في الشخص الأوّل فثبت المعلول قضاء للعليّة ، ووجدت أيضا في الشخص الثاني فيثبت المعلول أيضا معه وإلاّ لزم خروج العلّة عن كونها علّة هذا ».

ولنعقّب المسألة بايراد تنبيهات :

الأوّل : قد عرفت أنّ محل الخلاف في مسألة أصالة التداخل وعدمها ما إذا اتّحد المسبّبات نوعا وصنفا أو نوعا فقط ، وأمّا إذا اختلفت بالنوع كقوله : « إذا قمتم من حدث النوم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق » و « إن كنتم جنبا فاغتسلوا » فلا ريب بل لا خلاف ظاهرا في عدم التداخل.

قال النراقي : « لا شكّ في تعدّد المسبّبات بتعدّد الأسباب مع اختلاف المسبّبات نوعا ،

ص: 334

كقوله : من بال فليتوضّأ ، ومن جامع فليغسل » (1).

وأمّا إذا اختلفت في الكليّة والجزئيّة والقلّة والكثرة كما لو قال : « من أفطر في نهار رمضان فليطعم ستّين مسكينا » و « من أفطر في قضائه فليطعم عشرة مساكين » ومثله قوله عليه السلام : « من وطئ في أوّل الحيض فليتصدّق بدينار ، ومن وطئ في وسطه فليتصدّق بنصف دينار ، ومن وطئ في آخره فليتصدّق بربع دينار » فوطئ في الأزمنة الثلاث فهل يتداخل المسبّبات حينئذ أم لا؟

قضيّة ما قرّرناه من ظهور السببيّة في التعدّد عدم التداخل أيضا إلاّ ما قام الدليل بخلافه (2) كما أنّ مقتضى استناد هؤلاء إلى الاصول التداخل أيضا ، بل هو مقتضى تمسّكهم بأنّ تعدد الأسباب لا تفيد إلاّ تعدّد التكاليف ، وأمّا ما تمسّكوا به من أنّ التداخل من مقتضى وحدة المسبّب فهو غير جار هنا ، لأنّ المفروض تعدّد المسبّب من حيث الكلّية والجزئيّة والزيادة والنقصان.

وقال في العوائد - بعد ما قرّر العنوان كما قرّرناه - : « يحتمل الأمران ، والأظهر من ملاحظة فهم العرف هنا عدم التداخل » (3).

ويرد عليه أنّ العبرة لو كانت بالأظهريّة العرفيّة فلا يتفاوت الحال بين المقام وما تقدّم لوحدة الطريق كما عرفت مستوفى.

وعن جملة من الأساطين كالعلاّمة والمحقّق ونظرائهما التفصيل بين تكرّر الوطء في أوّل الحيض أو وسطه أو آخره حيث حكموا فيه بعدم تكرّر الكفّارة وبين تكرّره في الاوقات الثلاث فحكموا بتكرّر الكفّارة ، وفيه ما فيه (4).

ص: 335


1- عوائد الأيّام : 107.
2- قال في رسالته المعمولة تداخل الأسباب والمسبّبات عقيب تلك العبارة : « وقد أشبعنا الكلام فيما يعمّ نحو المقام في منزوحات البئر من كتاب ينابيع الأحكام حيث رجّحنا ثمّة عدم تداخل مقدّرات النجاسات الواقعة في البئر عند تعدّد وقوعاتها مطلقا اعتمادا على ما قرّرناه ثمّة من أنّ مقتضى دليل كلّ نوع سببيّة وقوعه لاشتغال الذمّة بنزح المقدّر فتعدّد السبب يقضي بتعدّد الاشتغال وهو يقضي بتعدّد الامتثال ».
3- عوائد الأيّام : 107.
4- ولعلّ وجهه حسبما راموه أنّ اختلاف المسبّبات في الزيادة والنقيصة كاختلافها بالنوع يوجب في متفاهم العرف اختصاص كلّ سبب بمسبّبه وتأثير فيه بالاستقلال ، ومرجعه إلى أنّه ينهض صارفا للأسباب المجتمعة عن احتمال اجتماعها على مسبّب واحد كما هو العمدة من أدلّتهم على أصالة التداخل في غير هذه الصورة بناء منهم على كون الأسباب الشرعيّة من قبيل المعرّفات [ نقلناه عن الرسالة للمصنّف رحمه اللّه ].

الثاني : لا فرق على المختار من أصالة عدم التداخل بين ما لو توالت الأسباب من غير أن يتخلّل بينها الإتيان بالمسبّب ، كما لو بال وقام قبل أن يأتي بينهما بوضوء ، أو وطىء الحائض مرّتين قبل التكفير للمرّة الاولى ، وما لو توالت الأسباب مع تخلّل الإتيان بالمسبّب بينهما ، كما لو بال وتوضّأ ثمّ نام ، أو وطئ الحائض وكفّر ثمّ وطئ ثانيا ، بل الثاني أولى بعدم التداخل أخذا بقضيّة السببيّة في السببين اللذين لم يطرئهما عنوان الاجتماع على مسبّب واحد الّذي يتأتّى منه ذهاب الوهم إلى عدم تطرّق التأثير إلاّ في مسبّب واحد ، ولأجل ذلك لم يعهد من أهل القول بالتداخل القول به في ذلك الفرض ، ولا أنّ أدلّتهم تجري هنا ولا أظنّ أحدا منهم التزم به ، كيف وهو مفض إلى إنكار السببيّة أو المعرّفية بالمرّة كما لا يخفى.

ولذا ترى أنّ النراقي قال في عوائده : « إجزاء الواحد وأصالة التداخل إنّما هو مع عدم مسبوقيّة السبب الثاني بالمسبّب الأوّل كما لو بال وقام قبل التوضّؤ للبول ، أو وطئ في الحيض مرّة ثانية قبل التكفير للأوّل ، وأمّا مع المسبوقيّة فلا إشكال في أصالة عدم التداخل ، إذ امتثال الأمر الثاني لا يحصل إلاّ بذلك ، وكذا تأثير السبب الثاني في السببيّة وهذا ظاهر جدّا ، فلو بال وتوضّأ ثمّ نام يتوضّأ ثانيا ، وكذا لو وطئ وكفّر ثمّ وطئ كفّر ثانيا.

ويظهر من كلام بعضهم في مسألة الوطء في الحيض عدم التكرير مع المسبوقيّة أيضا وهو فاسد » انتهى (1).

فما يقال : من أنّ هذا الكلام وإن كان حقّا إلاّ أنّه مناف لجملة من أدلّتهم السالفة لم نتحقّق معناه ، ولعلّه ممّا لا وجه له.

الثالث : قضيّة دليلنا المتقدّم على أصالة عدم التداخل عدم الفرق بين ما لو اتّحدت المسبّبات في الحكم من وجوب أو استحباب كما لو كان الجميع واجبا أو مندوبا وما لو اختلفت في الوجوب والاستحباب ، كما لو قال : « اغتسل للجنابة ، واغتسل للزيارة ، واغتسل لمسّ الميت ، واغتسل للجمعة » و « إذا قمت إلى الصلاة فتوضّأ ، وإذا قرأت القرآن فتوضّأ » ونحو ذلك ، ومقتضى أكثر أدلّة هؤلاء وقوع التداخل في الثاني أيضا.

ومن الأعاظم من صرّح بأنّ الأصل عدم إجزاء النفل عن الفرض والفرض عن النفل ، وقال : « ذلك هو المعبّر في كلامهم بأنّ النفل لا يجزي عن الفرض والفرض عن النفل » بل عن الشهيد رحمه اللّه حكاية الاتّفاق على الثاني في الاصول.

ص: 336


1- عوائد الأيّام : 107.

وقد يحكى عن بعض أهل القول بالتداخل التوقّف في هذا المقام.

فيورد عليه : بأنّ لازم أدلّتهم لو تمّت جواز التداخل فيه أيضا بل لزومه واضطراريّته كما صرّحوا به في الوضوء ، حيث قالوا : إنّه ماهيّة واحدة لا تعدّد فيها والأوامر الوجوبيّة والندبيّة المعتورة عليها لا توجب تكثّرها عند اجتماع أسبابها أو غاياتها ، بل بأيّ غاية أتى بها فقد حصل المطلوب ولا محلّ للاتيان بها مرّة اخرى ، فإنّ مقتضى أدلّتهم تداخل الأسباب المختلفة قهرا المقتضية بعضها لوجوب المسبّب وبعضها لاستحبابه كأسباب الوضوء وغاياته كما لا يخفى.

فعلى هذا ينبغي لأصحاب هذا القول المصير إلى إجزاء الفرض عن النفل والنفل عن الفرض.

وتحقيق المقام أن يقال : إنّ ما اعتور عليه الأوامر المتعددة بعضها ايجابي والآخر ندبي بسبب اعتوار الأسباب المتعدّدة والغايات المتكثّرة عليه إمّا أن يعلم فيه بأنّ المطلوب من كلّ هذه الأوامر شيء واحد كالطهارة في الأمر بالوضوء للصلاة ايجابا والأمر به للنافلة والزيارة وقراءة القرآن ونحوها ندبا ، أو لا يعلم بذلك على وجه يحتمل في كلّ منها كون المطلوب بالأمر نفس المأمور به بالخصوص لا الأمر المشترك بين الجميع كالأمر بالاغتسال للجنابة وللجمعة وللزيارة ونحوها.

فعلى الأوّل : كان الأصل التداخل في المسبّبات لا الأسباب قهرا ، بمعنى كفاية فعل واحد بأيّ غاية حصل عن الجميع على القولين معا ، وذلك لأنّ المفروض كون المطلوب الأصلي في كلّ من تلك المسبّبات شيئا واحدا وهو الطهارة الّتي يتوصّل بها إلى الغايات المطلوبة منها ، فإذا حصل واحد منها في الخارج أوجب حصول ذلك الغرض الأصلي فلا يبقى معه للمسبّبات الاخر محلّ.

وقضيّة ذلك سقوط الأمر بها خروجا عن طلب الحاصل إيجابيّا كان ذلك الأمر أو ندبيّا ، فلو توضّأ من وجب عليه الفريضة لقراءة القرآن أوجب ذلك سقوط أمر الايجابي عنه - لو قلنا بجواز توجّه الأمر الندبي في وقت الفريضة أو كفاية وجود الجهة المقتضية للندب في صحّة امتثاله والقصد إليه - كما أنّه لو توضّأ للصلاة سقط عنه الأمر الندبي بالوضوء لقراءة القرآن ، فكان الأصل في هذا الفرض إجزاء الفرض عن النفل والنفل عن الفرض حتّى على القول بأصالة عدم التداخل ، بل لا يختصّ التداخل القهري في هذا

ص: 337

الفرض بما لو كانت الأوامر مختلفة في الإيجاب والاستحباب لتحقّقه في الأوامر الايجابيّة أيضا إذا كان المطلوب بها شيئا واحدا ، كالأمر بالوضوء للبول وللنوم ونحوه حيث نعلم بأنّ الغرض الأصلي من تلك الأوامر الناشئة عن الأسباب المختلفة إنّما هو تحصيل الطهارة ليتوصّل بها إلى مشروط بها ، فحينئذ لو حصل وضوء واحد أثّر في حصول الغرض الأصلي ومعه لا يبقى للوضوءات الاخر محلّ فتسقط الأوامر المتعلّقة بها لئلاّ يلزم طلب الحاصل كما نبّهنا عليه في أوائل المسألة ، غير أنّه ليس تفصيلا في المسألة لأنّ ما اخترناه فيها إنّما هو من باب الأصل المستند إلى ظواهر الأدلّة والقواعد اللفظيّة ولا ريب أنّه قابل للتخصيص حيثما قام الدليل بخلافه. وما ذكرناه من أفراده.

وإنّما قلنا بأنّ ذلك تداخل في المسبّبات دون الأسباب لأنّ الأسباب بحسب ظاهر السببيّة أثّرت وأوجبت تعدّد الأوامر إيجابيّة وندبيّة أو ايجابيّة فقط ، فلا يعقل بالنسبة إليها تداخل بعد إحراز السببيّة التامّة لكلّ منها لمنافاته مقتضى السببيّة ، وما عدا السببيّة التامّة ينافيه ظاهر الأمر وإطلاق اللفظ القاضي بالسببيّة.

ولا يذهب عليك أنّ هذا كلّه مبنىّ على أحد التقديرين من جواز اجتماع الوجوب والاستحباب في ماهيّة واحدة ، أو أنّ قصد الاستحباب يكفي فيه وجود الجهة المقتضية للاستحباب ، وإن لم يوجد هنا استحباب ، فعلى المانع على تقدير عدم اتّصاف الشيء بالاستحباب بعد ما اتّصف بالوجوب ، وهذا هو ما تقدم نقله عن الجمّ الغفير من أنّ الوضوء بعد دخول وقت الفريضة يصير واجبا فقط ويخرج عن الاستحباب.

فحينئذ لو توضّأ بعد دخول الوقت للنافلة أو قراءة القرآن له أن يدخل به في الفريضة سواء ترتّب عليه ما قصده من الغاية أو لا.

وعلى الثاني : كان الأصل عدم التداخل في كلّ من الأسباب والمسبّبات بعين ما تقدّم.

ثمّ إنّ بعض الأعاظم بعد ما بنى في المسألة على عدم الإجزاء فيما بين الواجب والمندوب قال : « هل يمكن وقوع الإجزاء؟ الأظهر نعم ، فإنّ مصلحة الواجب والندب لا يمتنع تساويهما ، لإمكان إناطة عدم الحتميّة بالعسر والحرج ونحوهما بأن اختلفا بذلك فمقتضاهما متحد واختلافهما بالخارج.

وملخّص الكلام : أنّ مقتضى القواعد العدليّة وإن كان إناطة الحكم بالمصالح ولكن لا يلزم منه كونها ذاتيّة ، فيمكن أن لا يكون اختلاف مصالح الوجوب والندب والكراهة

ص: 338

والحرمة بالذات بل يمكن اختلافها بالعوارض ، فبالعارض كالمشقّة الشديدة يختلف حكمها بالحتميّة وعدمها.

وبالجملة لمّا كان الحقّ أنّ المصالح في الأحكام لا يلزم أن تكون ذاتيّة بل يمكن أن تكون بالخارج فلا يبقى شكّ في إمكان اتّحاد المقتضي والاختلاف في العارض وبه حصل الاختلاف » انتهى.

وهذا كما ترى عار عن التحقيق ، فإنّ الاختلاف بين الوجوب والندب في موضوع واحد بالنوع إنّما ينشأ عن الاختلاف في الرجحان المعتبر معهما في الفعل بحسب المرتبة ، فإن كان بالغا حدّ المنع عن النقيض كان قاضيا بالوجوب وإلاّ كان قاضيا بالندب.

ولا ريب أنّ الرجحان كما أنّه يستند أصله إلى المصالح الواقعيّة فكذلك يستند الاختلاف الحاصل فيه إلى اختلاف تلك المصالح من غير فرق بين كونها ذاتيّة أو من الوجوه والاعتبارات الخارجة ، ولو فرضنا المصلحة متّحدة فكيف يعقل معه اختلاف في الرجحان حتّى ينشأ من اختلافه حكمان مختلفان ، بل هو مع فرض الاتّحاد لا يؤثّر إلاّ في ثبوت أحدهما ، وكون المصالح ممّا لا يلزم كونها ذاتيّة ليس له كثير تعلّق بالمقام حتّى تترتّب عليه جواز وحدة المقتضي مع تعدّد المقتضى.

وبالجملة المصلحة لو فرضناها كونها مقتضية للرجحان المانع لا يعقل معه كونها مصلحة للندب أيضا ، ولو فرضناها كونها مقتضية للرجحان الغير المانع لا يعقل معه كونها مصلحة للوجوب أيضا ، فلا يعقل إمكان تداخلهما من جهة اتّحاد المصلحة ، فإنّ مصالح الأحكام - ذاتيّة كانت أو عارضيّة - ليست من باب العلل التامّة وإنّما هي من باب المقتضيات فتأثيراتها الفعليّة منوطة بعدم مصادفة ما يمنعها عن الاقتضاء ، فلو تحقّق في الشيء مصلحة مقتضية للوجوب ثمّ صادفها ما يصادمها في اقتضاء الوجوب فإمّا أن يصادمها في اقتضاء فصل الوجوب خاصّة - مشقّة كانت أو غيرها - فيلزمه أن يقوم الندب مقامه ، أو يصادمها في جنسه أيضا فيلزمه قيام الاباحة مقامه إن ساواها في الرتبة ، أو قيام الكراهة مقامه إن ترجّح عليها إلى ما لم يبلغ حدّ المنع عن الفعل ، أو قيام الحرمة مقامه إن ترجّح وبلغ الحدّ المذكور.

ولا ريب أنّ هذه أحكام اعتورت على موضوع واحد لا من جهة اشتراكها في المصلحة فإنّه غير معقول ، بل من جهة تعاور مقتضياتها المختلفة عليه على وجه الترتّب ،

ص: 339

فالندب القائم مقام الوجوب في أوّل الصور ليس مشاركا للوجوب في مصلحة واحدة وإلاّ لكان واقعا في طرف عرضه وهو خلاف الفرض ، فوقوعه في طرف طوله ممّا يفصح عن أنّ له مصلحة مرتّبة على خروج مصلحة الوجوب عن اقتضاء الوجوب أو انحطاطها عن مرتبتها الّتي كانت تقتضي معها الوجوب ، ومع ذلك كيف يمكن إجزاء النفل عن الفرض وبالعكس من جهة امكان اتّحاد المصلحة المعتبرة فيهما.

نعم إنّما يمكن ذلك في التوصّليات حسبما قرّرناه سابقا.

ويمكن أن يقال : بأنّ ذلك هو مقصود العبارة وإن كان لا يلائمه بعض ما فيها من الفقرات ، مع إمكان المنع عن ذلك أيضا من جهة أنّ المصلحة في أمثال هذه الأوامر ليست إلاّ المصالح المقتضية للأمر بما يتوصّل بها إليها من الغايات كالفريضة والنافلة وقراءة القرآن وما أشبه ذلك.

ولا ريب أنّ المصالح في تلك [ الأوامر ] مختلفة بالذات أو بالاعتبار ، فاختلاف الأوامر المتعلّقة بالوضوء في الايجابيّة إنّما نشأ عن اختلاف تلك المصالح وإن اتّحد المقصود في الجميع وهو حصول الطهارة ، فإنّ ذلك في الحقيقة ليس هو المصلحة الأصليّة في تلك الأوامر بل هو مقصود بالغير للتوصّل إلى ما هو المصلحة الأصليّة ممّا يترتّب على الفريضة والنافلة وقراءة القرآن.

الرابع : هل التداخل على القول به أمر يحصل قهرا فليس للمكلّف إلاّ الاكتفاء بالواحد حتّى أنّه لو أتى بالمتعدّد كان تشريعا محرّما ، أو هو موكول إلى اختيار المكلّف فله حينئذ أن يكتفي بالواحد وأن يأتي بالمتعدّد؟

وقد يعبّر عن ذلك بأنّ التداخل هل هو عزيمة أو رخصة ، فعلى الأوّل يجب عليه الاكتفاء وعلى الثاني يجوز له الاكتفاء ، فإنّ العزيمة عبارة عندهم عمّا يكون واجبا فعلا كان أو تركا والثاني عبارة عمّا يكون مرخّصا فيه ، وإلى ذلك ينظر مقالتهم في سقوط الأذان من أنّه هل هو عزيمة حتّى يكون الترك واجبا أو رخصة حتّى يجوز الإتيان به أيضا؟

ويظهر فائدة الفرق بينهما فيما نحن فيه في عدم توقّف كفاية الواحد عن المتعدّد على قصد التعدّد وتوقّفها عليه فيما يلزمه القصد والنيّة ، أو على عدم قصد عدم التداخل.

فعلى الأوّل يحصل الامتثال بالواحد وإن لم يقصد المتعدّد أو قصد عدمه بخلافه على الثاني.

فعن الخوانساري في بحث تداخل الأغسال من مشارقه : « أنّه لم نقف في كلام

ص: 340

الأصحاب على شيء سوى ما ذكره الفاضل الأردبيلي رحمه اللّه من أنّ الظاهر أنّه رخصة ، واستدلّ عليه بما ورد من أنّ الحائض إن شاءت أن تغتسل غسل الجنابة قبل الانقطاع تغتسل ، قال : وهذا لا يدلّ على أنّ حال إمكان المتداخلين معا كيف الحال كما لا يخفى.

ولا يذهب عليك أنّ ما ذكرناه من تحقّق الامتثال يقتضي كونه عزيمة لأنّ بعد الامتثال لا معنى للاتيان به ثانيا كما هو الظاهر ، سواء كان الأمر للواحدة أو للطبيعة من غير وحدة ولا تكرار ، فحينئذ يتطرّق الإشكال في تعدّد الغسل للاحتياط لما فيه الخلاف في التداخل لحرمة العبادة الغير المتلقّاة من الشارع الغير الممتثلة بالأمر ، إلاّ أن يمنع كليّة هذه المقدّمة لعدم دليل عامّ عليها من الآية والرواية كما هو الظاهر وإنّما هي المشهورة في ألسنة القوم ، فلا يبعد إذن أن يقال : بعدم البأس في الإتيان بفعل أمر الشارع بنوعه على الكيفيّات المتلقّاة منه باحتمال أن يكون مراده احتياطا مع عدم الحكم بوجوبه أو ندبه » انتهى.

وقد يفصّل في المقام ويقال : بأنّه لو قلنا بتداخل الأسباب فالتداخل عزيمة ، لأنّ مآله ذلك إلى إنكار ثبوت التكليف بما زاد على الواحد ، أو إنكار التعدّد في المكلّف به وإن تعدّد التكليف.

ولو قلنا بتداخل المسبّبات فهو رخصة فيفتقر الامتثال إلى نيّة التعدّد فيما يفتقر إلى القصد والنيّة كالعبادات ، لمكان أخذه صدق الامتثال المفتقر إلى قصد الامتثال دليلا ، وأمّا فيما لا يفتقر إلى قصد الامتثال كالتوصليّات فدليل هذا القول ساكت عن ذلك.

وأنت خبير بأنّ إطلاق الحكم بالرخصة على القول بتداخل المسبّبات غير وجيه ، وإنّما يستقيم ذلك لو كان مراد القائل بذلك من صدق الامتثال ما لا ينافي بقاء التكليف بالنسبة إلى ما زاد على الواحد الّذي حصل الإتيان به.

فحينئذ يتوقّف ارتفاع ذلك التكليف أيضا على قصد امتثال الجميع ، وهذا كما ترى خلاف ما يظهر من هذا القائل ، بل ظاهره أنّ حصول الواحد يوجب قهرا سقوط التكليف عن الباقي كما في الكفائي ، كما يفصح عنه ما تقدّم عن الخوانساري من تعليل ما ادّعاه من العزيمة بقوله : « لأنّ بعد الامتثال لا معنى للاتيان به ثانيا » كما يظهر بأدنى تأمّل ، ولا ريب أنّ قضيّة ذلك صدق دعوى العزيمة.

وأمّا ما استشكل فيه المحقّق [ الخوانساري ] في قضيّة الاحتياط إلتفاتا منه إلى حرمة البدعة فليس على ما ينبغي ، لما قرّر في محلّه من أنّ عنوان الاحتياط لا يصادقه عنوان

ص: 341

وثانيها - أنّ التعليق بالشرط إنّما يقتضي انتفاء الحكم عند انتفائه ، إذا لم يظهر للشرط فائدة اخرى. ويجوز أن يكون فائدته في الآية ، المبالغة في النهي عن الإكراه ، يعنى أنّهنّ إذا أردن العفّة ، فالمولى أحقّ بارادتها. أو أنّ الآية نزلت فيمن يردن التحصّن ويكرههنّ الموالي على الزنا.

وثالثها - أنّا سلّمنا أنّ الآية تدلّ انتفاء حرمة الإكراه بحسب الظاهر نظرا إلى الشرط ، لكنّ الاجماع القاطع عارضه. ولا ريب أنّ الظاهر يدفع بالقاطع.

توضيح كلام الماتن

أصل

واختلفوا في اقتضاء التعليق على الصفة نفي الحكم عند انتفائها* .

________________________________

لبدعة بل بينهما بون بعيد كما لا يخفى على المتأمّل ، ومعه لا حاجة في تصحيح الاحتياط إلى ما ارتكبه من التكلّف واللّه العالم (1).

* إعلم أنّ « التعليق » تفعيل من العلقة وهو الربط ، وتفعيلها فعل للمتكلّم لأنّه يربط الحكم بصفة ويلزمه ارتباطه بها ، فالتعليق يلزمه تعلّقه بها.

ووجه وقوع النزاع في حجّيّة المفهوم هنا أنّ ربط الحكم بصفة قد يكون ربطا سببيّا ملزوما لثبوت المفهوم ، وقد يكون ربطا موضوعيّا غير ملزوم له ، فنوزع في ظهوره في

ص: 342


1- وأضاف إليها في الرسالة ما هذا لفظه : « وأمّا ما عرفته عن الفاضل الأردبيلى (ره) من توهّم دلالة الرواية على كون التداخل رخصة فلعلّ نظره إلى مجرّد أنّها تدلّ على جواز عدول الحائض في الاغتسال عن الواحد إلى المتعدّد ، بأن تغتسل قبل الانقطاع للجنابة ثمّ تغتسل ثانيا بعد الإغتسال عن الحيض وهو ضعيف ، لأنّ مورد الرواية مع هذه الدلالة ليس من موضوع التداخل ، لأنّ الحائض قبل انقطاع دم الحيض ليست مخاطبة بغسل الحيض وغاية ما هنالك أنّها من حيث المفهوم تدلّ على جواز تأخيرها لغسل الجنابة إلى ما بعد الانقطاع ، وحينئذ تصير الواقعة من موضوع التداخل ولا تعرّض فيها لبيان حاله أهو عزيمة أو رخصة؟ ولا دلالة لها على أحد الأمرين بل هي ساكتة عنهما بل في خبر حجّاج الخشّاب ما ربّما يكون ظاهره العزيمة ، حيث قال فيه الامام عليه السلام : « تجعله غسلا واحدا » بعد كلام الراوي السائل : « أتجعله غسلا واحدا إذا طهرت أو تغتسل مرّتين؟ » ثمّ ذكر بعد ذلك التفصيل الّذي ذكره في المتن بقوله : « وقد يفصّل في المقام ... الخ » مع اختلاف في العبارات.

الأوّل ودلالته عليه وعدمه ، فلا حاجة مع ما بيّنّاه من التوجيه إلى تغيير العبارة ولا إلى تأويل فيها ، فلا وقع لما قد يعترض عليها من أنّ هذا الكلام يعطي وجود التعليق في القضيّة الوصفيّة كالتعليق الحاصل في القضيّة الشرطيّة ، وهو خلاف الوجدان لوضوح أنّ قوله : « أكرم عالما » أو « أكرم رجلا عالما » لم يعلّق فيه الحكم على الوصف كما علّق في الشرطيّة على الشرط ، بل حكم على الوصف أو الموصوف بأمر لا أنّه جعل الحكم معلّقا عليه ، ولو أبدل لفظ « التعليق » بالتعلّق أو يؤول كلامه بما يرجع إلى ما قلنا لسلم عن المناقشة ، وفيه ما فيه.

وممّا يفصح عمّا قرّرناه تعبير جماعة - منهم المنهاج وشرحه - عن العنوان بتقييد الحكم بالوصف أو تقييد الذات ببعض صفاتها ، وأقوى من ذلك تعبيرهم عن عنوان مسألة مفهوم اللقب بتعليق الحكم على الذات أو على الإسم مع إطباقهم عدا نادر أنّه لا مفهوم له ، فالتعليق في جميع عناوين مباحث المفاهيم يراد به الربط حتّى في عنوان التعليق على الشرط ، ولا ريب أنّه أعمّ من الربط السببيّ الّذي يقال له : العلقة السببيّة.

وكيف كان فتنقيح المبحث يستدعي رسم امور على وجه المبادئ :

المراد بالوصف أو الصفة في مفهوم الوصف

الأمر الأوّل

ليس المراد بالوصف أو الصفة هنا ما يرادف النعت النحوي ولا ما يرادف المشتقّ ، بشهادة أنّه قد يمثل للتعليق على الوصف بما ليس من المشتقّ أو ما ليس من النعت النحوي ، كما في قوله عليه السلام : « وما يؤكل لحمه يتوضّأ من سؤره ويشرب منه » وقوله تعالى : ( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ) (1) وقوله أيضا : ( لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً ) (2) أي أمثالا متزايدة ، بل المراد به ما يقابل الذات أو الاسم [ المعبّر عنه باللقب في عنوان ] بحث مفهوم اللقب ، وفسّر بما هو العمدة في الكلام كالمسند إليه بل المسند أيضا ، فيراد بالوصف المقابل له ما هو الفضلة في الكلام ممّا أفاد نوع تخصيص للحكم وتقليل للشركاء.

كما يرشد إليه ما عن البرهان من عدّ جميع جهات التخصيص منه.

وما عن التفتازاني : « من أنّ المراد بتخصيص الوصف ما يفيد نقص الشيوع وقصر العامّ على البعض ، لا مجرّد ذكر صفة لموصوف ، فلا يرد ما يكون لمدح أو ذمّ أو تأكيد أو نحو

ص: 343


1- الإسراء : 31.
2- آل عمران : 130.

ذلك على ما توهّمه صاحب الثقبة » انتهى.

فحاصل معنى الوصف أو الصفة على ما ذكرناه : كلّ قيد وارد في الكلام مفيد لنوع تخصيص راجع إلى الإسناد أو المسند أو المسند إليه من ظرف حقيقي أو حكمي أو حال أو تمييز أو شيء من المفاعيل أو نحو ذلك.

ولا يرد النقض بالشرط والغاية مع كونهما من قبيل القيود وقد أفردوهما بعنوان على حدة ، لأنّ إفرادهما بالعنوان لما فيهما من جهة امتياز باعثة على مزيد بحث ليس هذه الجهة وزيادة البحث في سائر القيود.

فما قد يقال بالقياس إلى الحال باعتبار كون الحال فيه كالحال في الوصف من حيث عدم ثبوت مفهوم له ، أو كالشرط من حيث ثبوته - من أنّ فيه وجهين : من جهة كونه قيدا للموضوع باعتبار أنّه يبيّن هيئة الفاعل أو المفعول فحاله كحاله ، ومن تعلّقه بالحكم فحاله كالشرط - كلام ظاهري لا ينبغي الالتفات إليه.

ولعلّه مبنيّ على ما ذكره النحاة في الفرق بين النعت والحال في نحو قولنا : « جاءني زيد الراكب » و « جاءني زيد راكبا » من أنّ الأوّل ما كان قيدا للموضوع والثاني ما كان قيدا للحكم نظير الفرق بين الواجب المقيّد والوجوب المقيّد ، وهذا البناء أيضا غير سديد ، لمكان القطع بأنّ المقصود بالخطاب في كلّ من العبارتين إفادة صدور المجيء في حال الركوب ، فالمعنى واحد والتعبير مختلف ، فإذا صلح الحال لإفادة المفهوم كان الوصف أيضا صالحا له ، لأنّهما بحسب المعنى باعتبار مفهوم القيديّة سيّان ، وإلاّ فلا يصلح شيء منهما لإفادته ، سواء اعتبرنا كون المقيّد بأحدهما الحكم وبالآخر هو الموضوع أو لا ، على أنّ رجوع القيد إلى الحكم لا يفيد شيئا أزيد من منطوق الكلام ، فدعوى ثبوت المفهوم معه تحتاج إلى وسط ، وثبوته في الشرط ليس لمجرّد كونه قيدا للحكم بل هو من مقتضى وضع الجملة ، بل الأداة للسببيّة الملزومة لانحصار السبب في الشرط ولو من جهة إطلاق الشرط أو انصراف المطلق حسبما تقدّم تفصيله ، فمقايسة المقام على الشرط على تقدير قيديّة الحال للحكم باطلة لوضوح الفرق بينهما حسبما بيّنّاه.

في جملة اُخر من مرتبطات المسألة

الأمر الثاني : في جملة اخر من مرتبطات المسألة :

منها : أنّه يعتبر في الوصف أن يكون له صورة انتفاء حتّى يجري فيه النزاع في انتفاء الحكم عند انتفائه ، بأن يكون أخصّ أو أعمّ من وجه من الموصوف : ك- « أكرم الرجل

ص: 344

العالم » و « أكرم الإنسان الأبيض » مثلا ، فلا يعقل النزاع في مثل : « الإنسان الضاحك » و « الإنسان الماشي » وغيره ممّا كان الوصف مساويا أو أعمّ مطلقا ، وفي نحو : « أكرم زيدا الراكب » ممّا كان عموم الموصوف حاليّا لا فرديّا وجهان ، أظهرهما الدخول في النزاع لوحدة المناط بالنظر إلى الأدلّة بل عدم صحّة الفرق أيضا.

ومنها : أنّه لا يعتبر في الوصف أن يعتمد على موصوف مذكور في الكلام كما في : « الغنم السائمة فيه زكاة » بل يجري النزاع فيما كان موصوفه مطويّا كما في : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) (1) لعموم الأدلّة ، مضافا إلى شهادة جملة من الأمثلة كقوله : « مطل الغنيّ ظلم » وقوله : « ليّ الواجد يحلّ عرضه » وحيث إنّ الوصف لا يعقل انفكاكه عن موصوف فهو في محلّ النزاع أعمّ ممّا كان موصوفه مذكورا أو مطويّا ، وبذلك يوجّه ما في جملة من العناوين ممّا يوهم بظاهره خلاف ذلك كما في المنية وعن الآمدي : « من أنّه اختلفوا في الخطاب الدالّ على حكم مرتبط باسم عامّ مقيّد بصفة خاصّة ».

وما عن الغزالي : « من أنّ تعليق الحكم بأحد وصفي الشيء هل يدلّ على نفيه عمّا يخالفه في الصفة ».

وما عن الكاظمي : « تعليق الحكم على الذات موصوفة بأحد الأوصاف » الخ.

وما في المنهاج من : « الحكم المقيّد بإحدى صفتي الذات » فتوهّم كون ما في نحو : ( إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ ) (2) من باب الألقاب بقول مطلق ليس على ما ينبغي.

ومنها : أنّ المعتبر انتفاء الوصف عن الموصوف المعنون في الكلام ولو مطويّا كالغنم في : « الغنم السائمة زكاة » فالنزاع في دلالة التعليق على انتفاء الحكم في مثله عند انتفاء « السوم » لا في مثل الإبل والبقر.

فما عن بعض الشافعيّة من الدلالة على انتفاء الحكم في مثل ذلك أيضا محتجّا بأنّ « السوم » المعلّق عليه الحكم يجري مجرى العلّة فيثبت الحكم بثبوته وينتفي بانتفائه ، بمكان من الوهن ، لمنع استفادته أوّلا من نحو : « في الغنم السائمة زكاة » على وجه الانحصار ، وعدم مدخليّة الخصوصيّة ثانيا ، وما اشتهر من أهل العربيّة من أنّ تعليق الحكم على الوصف يشعر بعلّيّة مبدأ الاشتقاق لا يشهد لتوهّمه ، إذ الإشعار دون الدلالة.

ومنها : لا ابتناء لحمل المطلق على المقيّد في مثل : « أعتق رقبة » و « أعتق رقبة مؤمنة »

ص: 345


1- الحجرات : 6.
2- الحجرات : 6.

فأثبته قوم ، وهو الظاهر من كلام الشيخ. وجنح إليه الشهيد في الذكرى* .

________________________________

في أقوال المسألة حسبا يشير إليه المصنّف

ولا في تخصيص العامّ بالصفة في مثل : « أكرم العلماء العدول » على ثبوت المفهوم للوصف ليتوجّه إشكال التناقض على المانعين من حجّيّة مفهوم الصفة ، كما قد يتوهّم على ما أشار إليه البهائي في حاشية زبدته قائلا : « قد يقال : إنّ القائلين بعدم حجّيّة مفهوم الصفة قد قيّدوا المطلق بمفهومها في نحو : « أعتق في الظهار رقبة » و « أعتق في الظهار رقبة مؤمنة » فإذا لم يكن مفهوم الصفة عندهم حجّة كيف يقيّدون بها المطلق؟ وما هذا إلاّ التناقض؟ » انتهى.

ونحوه ما حكاه بعض الأعاظم عن بعض مشايخه في عدّهم الصفة من المخصّصات ، وكلاهما ضعيفان.

أمّا الأوّل : فلأنّ الحمل منوط بالتنافي بين مدلول المطلق ومدلول المقيّد اللازم من وحدة التكليف ، ويكفي فيه في نحو المثال تنافي المنطوقين ولا حاجة فيه إلى إثبات مفهوم للصفة في المقيّد ، ضرورة أنّ مقتضى المطلق هو الوجوب تخييرا بين المؤمنة والكافرة ، ومقتضى المقيّد هو الوجوب تعيينا ، وهما مع وحدة التكليف في الواقعة متنافيان ، ولا يرتفع التنافي إلاّ بحمل المطلق على المقيّد.

وأمّا الثاني : فلأنّ التخصيص عبارة عن قصر العامّ على بعض ما يتناوله ، ويكفي في حصوله إرادة البعض من العامّ الموجبة لعدم تناول حكمه للبعض الباقي كما في المثال المتقدّم ، وذكر الوصف قرينة عليه ، لا لأنّ التخصيص لا يتأتّى إلاّ باعتبار مفهوم له ، فتوهّم التناقض في المسألتين ضعيف جدّا.

وأضعف منه ما أجاب به البهائي عمّا نقله بقوله : « مفهوم الصفة إمّا أن يكون في مقابله مطلق كما في المثال المذكور ، أو لا نحو : « جاء العالم » ففي الثاني ليس مفهوم الصفة حجّة عندهم ، فلا يلزم من الحكم بمجيء العالم نفي مجيء الجاهل إلاّ إذا قامت قرينة على إرادة ذلك.

أمّا الأوّل : فقد أجمع أصحابنا على أنّ مفهوم الصفة فيه حجّة كما نقله العلاّمة في نهاية الاصول.

فالقائلون بعدم حجّيّة مفهوم الصفة يخصّون كلامهم بما إذا لم يكن في مقابلها مطلق ، لموافقتهم في حجّيّة ما إذا كان في المقابل مطلق ، ترجيحا للتأسيس على التأكيد » انتهى. وفيه ما فيه.

* الأمر الثالث : في أقوال المسألة حسبما يشير إليه المصنّف.

ص: 346

ونفاه السيّد ، والمحقّق والعلاّمة ، وكثير من الناس * ، وهو الأقرب.

أصل

لنا : أنّه لو دلّ ، لكانت احدى الثلاث**. وهي بأسرها منتفية. أمّا الملازمة فبيّنة. وأمّا انتفاء اللازم فظاهر بالنسبة إلى المطابقة والتضمّن ، إذ نفي الحكم عن غير محلّ الوصف ليس عين إثباته فيه ولا جزءه*** ؛ ولأنّه لو

________________________________

وعزاه في المنية إلى الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وأبي الحسن الأشعري ، وفي المفاتيح إلى البيضاوي والعضدي وغيرهما نقلا.

* وعزاه في المفاتيح إلى أكثر الإماميّة وجمع كثير من العامّة ، والظاهر انحصار الخلاف فيهما ، إلاّ أنّه قد يحكى عن أبي عبد اللّه البصري قول ثالث وهو : أنّه لا يدلّ إلاّ إذا كان الخطاب قد ورد للبيان أو التعليم أو كان ما عدا الصفة داخلا تحتها كالحكم بالشاهدين ، فإنّه يدلّ على نفيه عن الشاهد الواحد لدخوله في الشاهدين (1).

وعن العلاّمة رابع وهو : أنّه لا يدلّ على النفي إلاّ أن يكون علّة.

وفيهما : أنّهما من القول بالمنع مطلقا ، والمستثنى إثبات للمفهوم بقرينة ولا كلام فيه.

وأمّا ما نسب إلى الشهيد الثاني من إثبات المفهوم في الوصايا والأوقاف والنذور والأيمان كما لو قال : « أوقفت لأولادي الفقراء » مثلا ، ففيه : ما تقدّم في البحث السابق من أنّه أيضا إثبات للمفهوم بقرينة ، أو أنّه نفي لعموم الحكم عملا بالاصول ، فليس شيء ممّا ذكر تفصيلا في المسألة.

** هذا إنّما ينهض لتمام المدّعى إذا كان المتنازع فيه خصوص الدلالة اللفظيّة ، وستعرف عند ذكر حجج المثبتين أنّ منهم من يدّعي الدلالة العقليّة ، كما يشهد به الاحتجاج باللغويّة والعراء عن الفائدة.

نعم إنّما ينهض ما ذكر قبالا لمن يدّعي الدلالة اللفظيّة استنادا إلى التبادر وفهم أهل اللسان وغيره ممّا يأتي ، فالدليل غير واف لتمام المدّعى.

*** فإنّ عدم كون نفي الحكم عن غير محلّ الوصف عين إثباته في محلّ الوصف

ص: 347


1- أي : كان ما ليس له الصفة داخلا في ما له الصفة كما لو قال : « أحكم بالشاهدين » والشاهد الواحد داخل فيه ، فيدلّ على عدم الحكم به [ انظر الفصول : 151 ].

كان كذلك ، لكانت الدلالة بالمنطوق لا بالمفهوم ، والخصم معترف بفساده. وأمّا بالنسبة إلى الالتزام ، فلأنّه لا ملازمة في الذهن ولا في العرف ، بين ثبوت الحكم عند صفة* ، كوجوب الزكاة في السائمة مثلا ، وانتفائه عند اخرى ، كعدم وجوبها في المعلوفة.

________________________________

ولا جزءه ضروريّ ، بل هو من البديهيّات الأوّلية فلا حاجة له إلى البرهان.

نعم يمكن الردّ ، بأنّه لو فرض المدلول المطابقي المجموع المركّب من الإثبات لمحلّ الوصف والنفي عن غيره ، كان النفي جزءا فدلّ التعليق عليه تضمّنا.

ولكنّه واضح الدفع : بأنّ مجرّد الاحتمال غير كاف في إثبات التضمّن على الوجه المذكور ، مع شهادة الاستقراء القطعي ببطلانه ، فإنّ الكلام الموجب بحسب الوضع لا يفيد إلاّ العقد الإيجابي والعقد السلبي زائد فيكون خارجا عن المدلول المطابقي.

* اعترض عليه - كما في شرح المنهاج - : بأنّ ترتّب الحكم على الوصف يدلّ على كون الوصف علّة له ، وإذا دلّ على كونه علّة لزم منه انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف لزوما ذهنيّا ، لأنّ انتفاء العلّة ملزوم لانتفاء المعلول المساوي لها.

ويدفعه : منع الترتّب المقتضي للعلّيّة إذ لا دالّ عليه في الكلام ، فإنّ غاية ما في التعليق على الوصف أو التقييد به - على ما بيّنّاه في مفتتح المسألة - إنّما هو ربط الحكم بالوصف.

وقد عرفت أنّه أعمّ من الربط السببي والربط الموضوعي ، ومن الضروري عدم دلالة الأعمّ على الأخصّ ، ولا يقاس ما نحن فيه على الشرط ، لأنّه على ما عرفت مستفاد من أداة الشرط وهي بالوضع تفيد الترتّب بين الجزاء والشرط في الوجود ، ويلزمه انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط وهذا هو معنى العلّيّة.

فحاصل سند المنع : هو فقد الدلالة على الترتّب المقتضي للعلّيّة ، لقصور مجرّد التعليق - بمعنى الربط - عن الدلالة.

وقد يقال - في دعوى الملازمة هنا أيضا - : بأنّ كلّ ما يمكن التعبير عنه بالتركيب التوصيفي يمكن التعبير عنه بالشرطي أيضا ، ولا يكون شيء من اللفظين في شيء من الصورتين مجازا ، والتركيب الشرطي يقتضي انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط ، فيكون التركيب التوصيفي أيضا مقتضيا لانتفاء الحكم عند انتفاء الوصف.

ص: 348

وفيه ، أنّ إمكان التعبير عن التركيب التوصيفي بالتركيب الشرطي إن اريد به صحّته في موضع قيام قرينة على إرادة العلّيّة من الوصف فهو غير مجد ، إذ لا كلام لأحد في مفهوم الوصف حيث ورد التوصيف للتعليل ، لضابطة أنّ انتفاء العلّة علّة لانتفاء المعلول المساوي لها.

وإن اريد به صحّته مطلقا فهو غير مسلّم ، إلاّ إذا جرّد التركيب الشرطي عن معنى العلقة السببيّة ومعه لا مفهوم في شيء من التركيبين.

ويمكن أن يقال : إنّ مجرّد صحّة التعبير المذكور تنهض قرينة على تجريد التركيب الشرطي عن معنى العلقة السببيّة أو على القصد بالتوصيف إلى التعليل.

ثمّ إنّه نقل الاحتجاج على هذا القول بوجوه اخر واهية واضحة الدفع :

منها : ما في المختصر وشرحه من أنّه : لو ثبت أنّ تعليق الحكم بالصفة يدلّ على نفيه عمّا عداها لثبت بدليل ، إذ الحكم بثبوت الشيء من غير دليل باطل ، والتالي لازم الانتفاء ، لأنّ الدليل إمّا أن يكون عقليّا أو نقليّا ، والأوّل باطل إذ لا مجال للعقل في الدلالات الوضعيّة ، والثاني باطل لأنّ النقل افادته مشروطة بالتواتر ، إذ الآحاد لا تفيد إلاّ الظنّ والظنّ غير معتبر في إثبات اللغة ، والتواتر غير متحقّق وإلاّ لم يقع الخلاف.

وجوابه أوّلا : النقض بتعليق الحكم على الشرط الّذي صار المستدلّ إلى دلالته على النفي.

وثانيا : أنّ الدلالة إذا كانت عقليّة - كما عليه بعضهم - تثبت بالدليل العقلي ، وعليه مبنى الاستدلال بلزوم اللغويّة والعراء عن الفائدة ، والقدح فيه بمنع صغراه لكثرة الفوائد ويكفي احتمال بعضها غير دعوى عدم المجال للعقل.

وثالثا : أنّ الدلالات الوضعيّة تثبت بالتبادر وفهم العرف وغيرهما من أمارات الوضع الّتي هي أيضا أدلّة عقليّة ، ولكن إنّية لكونها معلولات للوضع ، والممنوع في الدلالات الوضعيّة إنّما هو العقل اللمّي لا غير.

وستعرف احتجاج أهل القول بالدلالة الوضعيّة بالتبادر وفهم العرف بالمعنى الأعمّ من فهم أهل العرف الحاضر وفهم أهل العرف القديم ، كما إليه مرجع التمسّك بعدّة من الأخبار حسبما يأتي ذكرها.

غاية الأمر كون هذا الدليل أيضا مخدوشا بما ستعرفه ، وهو غير ما ذكر في بيان بطلان التالي.

ومنها : ما فيهما أيضا من أنّه لو ثبت أنّ تعليق الحكم بالصفة يدلّ على نفيه عمّا عداها لثبت في الخبر ، والتالي باطل.

ص: 349

أمّا الملازمة : فلكون كلّ منهما كلاما مقيّدا بالوصف ، وأمّا بطلان التالي : فلأنّا نقطع أنّ من قال : « في الشام الغنم السائمة » لم يدلّ على خلافه أي : « ليس في الشام الغنم المعلوفة »

واجيب عنه تارة : بمنع بطلان التالي ، واخرى : بمنع الملازمة ، فإنّ حاصل ما ذكر في بيان الملازمة هو القياس وهو غير معتبر في إثبات اللغة.

والحقّ أن يقال : إنّ الملازمة تثبت بعدم القول بالفرق وبطلان التالي أيضا مسلّم ، ولكنّه لا يجدي في ثبوت المطلوب ، لأنّ أقصى ما هنالك أنّ التعليق في هذا التركيب الخاصّ لا يدلّ على النفي وهو أعمّ من المدّعى ، إذ قد يكون عدم الدلالة من جهة القرينة ولعلّ قرينة المقام مانعة من الدلالة هنا ، وهي قضاء العادة بعدم انحصار غنم الشام في السائمة وأنّ فيه معلوفة أيضا البتّة ، وإنّما اقتصر المتكلّم على ذكر السائمة لغرض له مختصّ بها ، ولعلّه في المقام رفع ما عساه يتوهّم من خلوّ الشام عن السائمة.

ومنها : ما فيهما أيضا من أنّه لو صحّ أنّ تعليق الحكم على الوصف يدلّ على نفيه عمّا عداه لما صحّ « أدّ زكاة السائمة والمعلوفة » كما لا يصحّ « لا تقل لهما افّ واضربهما ».

أمّا الملازمة : فلعدم الفائدة ، لأنّه كان حينئذ يغني عن ذكر السائمة والمعلوفة قوله : « أدّ زكاة الغنم » وللزوم التناقض لأنّ وجوب زكاة السائمة لو كان دالاّ على عدم وجوبها في المعلوفة كان التعقيب بوجوب الزكاة في المعلوفة جاريا مجرى « لا تجب الزكاة في المعلوفة وتجب الزكاة فيها » وهو تناقض.

والجواب : أنّ التناقض إن اريد به الواقعي فالملازمة ممنوعة ، لأنّ الدلالة على تقدير ثبوتها مبنيّة على الظاهر والتخلّف عن الظاهر مع القرينة أمر جائز ، فذكر « المعلوفة » عقيب « السائمة » قرينة مرشدة إلى عدم اعتبار الظاهر ، فلا تناقض في الواقع كما هو الحال في مثل قولك : « إن جاءك زيد فأكرمه » و « إن لم يجئك فأكرمه ».

ولا يقاس ذلك على قوله : « لا تقل لهما افّ واضربهما » لأنّ الدلالة في ذلك قطعيّة ناشئة عن الملازمة العقليّة الحاصلة من جهة الأولويّة القطعيّة ، والتخلّف في مثله غير جائز عقلا ، بخلاف الملازمة الظنّيّة المستندة إلى الوضع أو العرف ، فإنّها ممّا يجوز التخلّف عنها بقيام ما يوجب العدول عن مقتضى الوضع أو العرف.

وإن اريد به الظاهري فبطلان التالي ممنوع ، كيف وهو ليس بعادم النظير فيما بين الظواهر والدلالات اللفظيّة ، وإلاّ امتنع التعارض فيما بين النصّ والظاهر بجميع أنواعهما

ص: 350

وهو كما ترى.

ومنها : ما فيهما أيضا ممّا قرّره في شرح العضدي من أنّه لو ثبت المفهوم لما ثبت خلافه.

أمّا الملازمة : فلأنّه لو ثبت لثبت التعارض بين الدليلين : دليل المفهوم ودليل خلافه وهو منتف بحكم الأصل.

وأمّا انتفاء اللازم ، فلثبوت خلافه في مثل : ( لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً ) (1) فإنّ قوله : ( أَضْعافاً مُضاعَفَةً ) في معنى الوصف وقد تحقّق التحريم عند انتفائه فإنّ أكل الربا حرام وإن لم يكن أضعافا مضاعفة.

واجيب عنه أوّلا : بمنع الملازمة في أصل الدليل ، لجواز أن يكون المفهوم حقّا وثبت خلافه أحيانا بناء على دليل قطعي [ و ] لا يعارضه دليل المفهوم لكونه ظنّيّا.

وثانيا : بمنع انتفاء اللازم ، لجواز أن يثبت التعارض لقيام دليل عليه وإن كان الأصل عدمه.

ومنها : ما اعتمد عليه بعض الأعاظم من أنّ الأوصاف موضوعة لذوات ما ثبت له الأوصاف كالجوامد بالنظر إلى مدلولاتها بلا مرية ، مثلا « السائمة » لذات ما ثبت له الوصف كما أنّ أسماء الأجناس موضوعة لمعانيها الكليّة ، فإذا تعلّق الحكم بالأوصاف اقتضى ثبوته لها كالجوامد من دون فرق ، فكما لا يستلزم في الجوامد نفي الحكم فكذلك الأوصاف.

نعم استعمال الأوصاف فيما يستلزم النفي من باب إطلاق المطلق في المقيّد أحيانا يورث احتمالا وإشعارا ، بخلاف الجوامد فإنّها لم تستعمل في ذلك قطّ ولذا لا احتمال فيها ولا إشعار.

وفيه : أنّ ذلك - مع أنّه راجع إلى القياس - إنّما يتّجه إذا كان النفي عند القائل بالدلالة عليه من مقتضيات الوضع الإفرادي للوصف وهو غير ظاهر منه ولا من غيره ، بل ظاهرهم عنوانا ودليلا كون كلامهم في مقتضى الهيئة التركيبيّة المشتملة على وصف وموصوفه مذكورا أو مقدّرا ، فلم لا يجوز أن يكون الهيئة لها وضع نوعيّ متعلّق بها لغة أو عرفا؟ كما يومئ إليه استنادهم إلى التبادر ونحوه ، ولا يقاس عليه الهيئة المشتملة على الجوامد ، لأنّ الوضع لا يعرف بالقياس ، فيجوز أن لا تكون تلك الهيئة موضوعة لإفادة النفي بخلاف محلّ البحث.

وبذلك ينقدح الوهن فيما نقله في المفاتيح ممّا يقرب ممّا ذكر من أنّ الصفة كالإسم في أنّ الغرض في وضعها التمييز والتعريف ، وكما أنّ زيدا وضع ليمتاز عن عمرو فكذا

ص: 351


1- آل عمران : 130.

احتجّوا * :

___________________________

« الضارب » وضع ليميّز زيدا عن جميع ما يسمّى به ، ثمّ قال : « قال السيّد : وممّا بين الاسم والصفة أنّ المخبر قد يحتاج إلى أن يخبر عن شخص فيذكره بلقبه ، وقد يجوز أن يحتاج إلى أن يخبر عنه في حال دون اخرى فيذكره بصفته ، فصارت الصفة مميّزة للأحوال كما أنّ الاسم مميّزة في الأعيان ».

ومنها : ما قرّره في المفاتيح أيضا من أنّ تعليق الحكم على الصفة ورد تارة مع انتفاء حكمها عن غيرها كما « في الغنم السائمة زكاة » واخرى مع ثبوت مثل حكمها في غيرها كما في قوله تعالى : ( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ )(1) فالأصل أن يكون للقدر المشترك وهو ثبوت الحكم عند الصفة دفعا للاشتراك والمجاز ، وهذا ممّا لا ضير فيه إن تحقّق شرائطه المقرّرة في محلّه.

ومنها : ما قرّره بعض الأعاظم أيضا من أنّه لو دلّ لزم المجاز على تقدير استعماله فيما لا مفهوم له وأن لا يحسن عرفا أن يقول : « السارق يجب قطع يده » إلاّ أن يعلم غيره لم يجب قطع يده ، وإلاّ يكون مخبرا بوجود ما لم يعتقد بوجوده ، وقبح الاستفهام عن حال المفهوم كأن يقول بعد قوله : « أكرم السادات أو العلماء » « أأكرم الزهّاد والعباد؟ » لكونه معلوما منه ، والكلّ باطل قطعا ، فإنّه لا مجاز فإنّه لم يستعمل شيء في الكلام في غير معناه ، ولا يتوقّف الحكم على السارق على العلم برفعه عن غيره ، كما أنّه يحسن الاستفهام عرفا.

والكلّ منظور فيه من جهة منع الملازمة في الكلّ كما يظهر بأدنى تأمّل.

* نقل الاحتجاج عليه بوجوه :

منها : ما قرّره المصنّف مع جوابه.

ومنها : ما عن بعض الأجلّة من أنّ المتبادر من التعليق على الصفة عرفا إنّما هو النفي عمّا عدا تلك الصفة.

ألا ترى أنّه لو قال : « اشتر لي عبدا أسود » فهم منه عدم وجوب شراء غيره ، حتّى أنّه لو اشتراه لم يكن ممتثلا ، وإذا ثبت أنّه يدلّ على ذلك عرفا فكذلك لغة للأصل.

وجوابه : منع التبادر إن اريد به ما يعتنى بشأنه عرفا ، ومنع ابتناء عدم الامتثال فيما ذكر

ص: 352


1- الإسراء : 31.

من المثال على فهم الدلالة على النفي ، بل على عدم الإتيان بالمأمور به على ما سبق تحقيقه في دفع الإشكالات المتقدّمة.

ومنها : ما عنه أيضا من أنّ الغالب في المحاورات خصوصا في كلام البلغاء إرادة المفهوم من الأوصاف وقصد الاحتراز من القيود ، فيحمل عليه المشتبه إذ المظنون لحوقه بالأعمّ الأغلب.

وجوابه : منع الغلبة ، فإنّا لا نجد في غالب موارد التقييد بالصفة إلاّ عدم الدلالة على الثبوت وهو أعمّ من الدلالة على النفي ، والغالب في القيود كونها للتوضيح مع المعارف وللتخصيص مع النكرات ، وهو حاصل مع عدم إرادة المفهوم كما سبق ، وكون الأصل فيها الاحتراز لا يراد به الغلبة بل قاعدة أولويّة التأسيس من التأكيد ، وهذه القاعدة على إطلاقها ليست بمسلّمة عندنا.

ومنها : قول أبي عبيدة في قوله (1) صلى اللّه عليه وآله : « ليّ الواجد يحلّ عقوبته وعرضه » أنّه يدلّ على أنّ ليّ غير الواجد لا يحلّ عقوبته وعرضه ، وفي قوله (2) صلى اللّه عليه وآله : « مطل الغنيّ ظلم » أنّه يدلّ على أنّ مطل غير الغنيّ ليس بظلم ، وقوله حجّة لأنّه من أهل اللغة.

واجيب عنه تارة : بأنّه ليس حاكيا عن اللغة بل مجتهد فيها فلا اعتداد بقوله.

واخرى بأنّه معارض بما عن أخفش وجماعة من أهل العربيّة من أنّ وضع الصفة للتوضيح فقط لا للتقييد ، وأنّ مجيئها للتقييد خلاف الوضع ، وربّما يتأيّد ذلك بالشهرة بين الاصوليّين.

ومنها : ما عن ابن عبّاس من أنّه فهم من قوله تعالى : ( إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ ) (3) منع توريثها مع الولد ، وليس ذلك إلاّ من جهة التوصيف.

وجوابه : منع استناد فهمه إلى حاقّ اللفظ ، كيف وأنّ التبادر إنّما يصلح للاستناد إليه إذا علم به في أغلب موارد استعمالات العرف كما قرّر في محلّه ، فلا يجوز التعويل عليه بمجرّد ثبوته في محلّ واحد ، لجواز استناده إلى قرينة خفيّة ، ولا أثر لأصل العدم بالنسبة إليه لابتناء اعتباره على الفحص والبحث.

ومنها : أنّه لو لم يدلّ على ذلك لزم الاشتراك بين المسكوت عنه والمذكور في الحكم

ص: 353


1- عوالي اللآلي 4 : 72 ومستدرك الوسائل 13 : 397، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 9 ص 70.
2- عوالي اللآلي 4 : 72 ومستدرك الوسائل 13 : 397، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 9 ص 70.
3- النساء : 176.

بأنّه ، لو ثبت الحكم مع انتفاء الصفة ؛ لعرى تعليقه عليها عن الفائدة* ، وجرى مجرى قولك : « الانسان الأبيض لا يعلم الغيوب ، والأسود إذا نام لا يبصر ».

والجواب : المنع من الملازمة ؛ فانّ الفائدة غير منحصرة فيما ذكر تموه ، بل هي كثيرة.

___________________________

واللازم باطل ، وأمّا الملازمة : فلعدم الواسطة بين النفي والإثبات ، وأمّا بطلان اللازم : فلأنّه ليس للاشتراك إتّفاقا.

وجوابه : أنّ النفي والإثبات وإن كان ليس بينهما واسطة ولكنّ الدلالة على النفي والدلالة على الإثبات بينهما واسطة ، وهو عدم الدلالة على شيء منهما والسكوت عنها نفيا وإثباتا ، وهذا هو مراد النافين للمفهوم ، فلا ملازمة بين عدم الدلالة على النفي ولزوم الاشتراك في الحكم بحسب دلالة اللفظ لجواز الواسطة ، وإن كان الواقع غير خال عن ثبوت الحكم أو عن انتفائه ، إذ الكلام ليس في الواقع بل في أمر راجع إلى اللفظ.

ومنها : أنّ أهل العربيّة فرّقوا بين الخطاب المطلق والخطاب المقيّد بالصفة ، كما أنّهم فرّقوا بين الخطاب المرسل والخطاب المقيّد بالاستثناء ، فكما أنّه يدلّ على أنّ حكم المستثنى على خلاف حكم المستثنى منه فكذلك الصفة.

وجوابه : بطلان القياس في اللغة ، ووضوح الفرق بين المطلق والمقيّد بالصفة من غير حاجة في ذلك إلى التمسّك بكلام أهل العربيّة بالتخصيص في الثاني دون الأوّل ، الّذي لا ينوط حصوله بإرادة المفهوم كما عرفت آنفا.

ومنها : أنّ الوصف ظاهر في علّيّة مبدئه للحكم ، والعلّيّة ظاهرة في العلّة المنحصرة ، وإلى ذلك ينظر ما اشتهر عن أهل العربيّة من أنّ تعليق الحكم على الوصف يشعر بالعلّيّة.

وجوابه : ما تقدّم مرارا ، مضافا إلى أنّه أخصّ كما يظهر بالتأمّل فيما قرّرناه في تحرير محلّ النزاع.

* وربّما يقرّر ذلك على نحو ما أشار إليه العلاّمة في الاستدلال بآية النبأ من : أنّه لو لم يفد المفهوم يلزم اللغو والعبث ، سواء ذكر الوصف مسبوقا بالموصوف ك- « أكرم رجلا عالما » أو كان مجرّدا عنه ك- « أكرم عالما ».

أمّا في الأوّل : فواضح.

ص: 354

منها شدّة الاهتمام ببيان حكم محل الوصف ، إمّا لاحتياج السامع إلى بيانه ، كأن يكون مالكا للسائمة مثلا دون غيرها ، أو لدفع توهّم عدم تناول الحكم له ، كما في قوله تعالى : ( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ) ؛ فانّه لولا التصريح بالخشية لأمكن أن يتوهّم جواز القتل معها ؛ فدلّ بذكرها على ثبوت التحريم عندها أيضا.

ومنها أن تكون المصلحة مقتضية لإعلامه حكم الصفة بالنصّ وما عداها بالبحث والفحص.

ومنها وقوع السؤال عن محلّ الوصف دون غيره ، فيجاب على طبقه ، او تقدّم بيان حكم الغير لنحو هذا من قبل.

___________________________

في بعض الفوائد الهامّة

وأمّا في الثاني : فلأنّ حيثيّة الوصف إن لم تكن علّة للحكم لكان المناسب تركها والاقتصار على ما يفيد الذات فقط ، إذ تلك الحيثيّة إذا لم تكن لها علّيّة فينحصر العلّيّة في الذات ، فإذا انحصرت فيها كان ذكرها بمجرّدها أولى ، إذ التعليل بالذاتي أولى من التعليل بالعرضي ، لحصوله قبل حصول العرضي ، والحكم الّذي هو المعلول قد كان حاصلا قبل حصول العرضي فكان التعليل به خاليا عن الفائدة.

واجيب عنه : بأنّ العبث إنّما يثبت إذا لم يوجد للوصف فائدة اخرى والفوائد كثيرة غير منحصرة في الاحتراز ، كالاهتمام وعلم السامع بحكم الفاقد للوصف أو عدم حاجته ، أو وقوع السؤال عن واجد الوصف فاجيب على طبقه ، أو عدم المصلحة في بيانه ، أو دفع توهّم عدم شمول الحكم لمحلّ الوصف لخفائه كما في قوله تعالى : ( لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ) (1) أو قضاء العادة بأنّ المحتاج إلى البيان بعض أفراد الموضوع أو غير ذلك ممّا لا يحصى.

ودعوى أنّ الاحتراز أظهر الفوائد غير مسموعة ، مع ما فيها من معارضتها لما حكي عن الأخفش من اختصاص الصفة بالتوضيح.

ولنختم المسألة بذكر أمور مهمّة يترتّب عليها فوائد كثيرة :

أحدها : أنّ المنطوق كائنا ما كان إذا كان عامّا فهل يتبعه فيه المفهوم حيث بنينا

ص: 355


1- الإسراء : 31.

واعترض : بأنّ الخصم إنّما يقول باقتضاء التخصيص بالوصف نفي الحكم عن غير محلّه ، إذا لم يظهر للتخصيص فائدة سواه ؛ فحيث يتحقّق ما ذكر تموه من الفوائد ، لا يبقى من محلّ النزاع في شيء.

وجوابه : أنّ المدعى عدم وجدان صورة لا تحتمل فائدة من تلك الفوائد ، وذلك كاف في الاستغناء عن اقتضاء النفي الّذي صرتم إليه ، صونا لكلام البلغاء عن التخصيص لا لفائدة ؛ إذ مع احتمال فائدة منها يحصل الصون ويتأدّى ما لا بدّ في الحكمة منه ؛ فيحتاج إثبات ما سواه إلى دليل. وأمّا تمثيلهم في الحجّة بالأبيض والأسود ، فلا نسلّم أنّ المقتضي لاستهجانه هو عدم انتفاء الحكم فيه عند عدم الوصف ، وإنّما هو كونه بيانا للواضحات.

___________________________

على حجّيّته - كالشرط على المختار والوصف على القول به - فيكون المفهوم أيضا عامّا أو لا؟ فيه خلاف ، فعن الأكثر كالشيخ في العدّة وغيرها والعلاّمة في الاصول والمصنّف في بحث الأسآر وجماعة من العامّة كالفخري والحاجبي والعضدي والتفتازاني والسبكي الأوّل.

وعن جماعة منّا الثاني كالعلاّمة في المختلف ، والمقدّس في مجمعه ، وتلميذه في المدارك ، والشيرواني في تعليقاته على المعالم حيث عدّ دلالة المفهوم أشبه بالدلالة العقليّة ، ثمّ عدّ من لوازمه انتفاء الحكم فيما عدا محلّ القيد في الجملة لا كلّيا ، حتّى عن السيّد صدر الدين في شرحه للوافية أنّه قال : إنّ مفهوم قولنا : « كلّ غنم سائمة فيه الزكاة » ليس كلّ غنم معلوفة فيه الزكاة ، وأنّ هذا يصدق على تقدير أن يجب في بعض المعلوفة الزكاة وعلى تقدير أن لا يجب في شيء منها ، ومفهوم قولنا : « بعض السائمة كذلك » هو عدم صدق قولنا : « بعض المعلوفة كذلك » ويلزمه أن يصدق قولنا : « لا شيء من المعلوفة كذلك ».

وعن المحقّق الخوانساري في شرح الدروس أنّه ردّ على المصنّف حيث ادّعى إنّ مفهوم قولنا : « كلّ حيوان مأكول اللحم يتوضّأ من سؤره ويشرب منه » هو أنّه لا شيء ممّا لا يؤكل لحمه يتوضّأ من سؤره ويشرب ، بأنّ هذه دعوى لا شاهد عليها من العقل والعرف ، وعن العلاّمة أنّه ردّ على الشيخ كذلك.

وقال بعض الأعلام : « بأنّ ذلك التوهّم يشبه بأن يكون إنّما نشأ من بعضهم من جعل

ص: 356

المفهوم نقيضا منطقيّا للمنطوق ، وإن كان صدور مثل ذلك في غاية البعد من مثلهم بل ممّن دونهم بمراتب ، لاختلاف الموضوع ولذلك يتصادقان أيضا.

والظاهر أنّ مراد من أطلق النقيض على المفهوم - كفخر الدين الرازي - إنّما هو أنّ المفهوم رافع لحكم المنطوق ، فإنّ نقيض كلّ شيء رفعه.

والمراد رفع ذلك الحكم عن غير الموضوع.

والحقّ هو ما فهمه الشيخ وصاحب المعالم ، فإنّ الحكم المخالف في جانب المفهوم إنّما يستفاد من جهة القيد في المنطوق ، فكلّ قدر يثبت فيه القيد وتعلّق به من أفراد الموضوع يفهم انتفاء الحكم بالنسبة إلى ذلك القدر ، وإلاّ لبقي التعليق بالنسبة إليه بلا فائدة » (1).

وعن المقدّس - فيما حكي عنه - التعليل له : بأنّ الخروج من العبث واللغو يحصل بعدم الحكم في بعض المسكوت عنه.

وعن تلميذه - فيما حكي عنه - التعليل بفقد اللفظ الدالّ على العموم قائلا : بأنّه لو سلّم فالخاصّ مقدّم عليه.

وعن المدقّق الشيرواني - فيما حكي عنه - التعليل بما محصّله : أنّه يكفي في دلالة المفهوم مخالفة المسكوت عنه للمنطوق في الجملة ، فجاز انقسامه إلى ما يوافق المنطوق وإلى ما يخالفه.

وأنت خبير بأنّ كلّ هذه التعليلات مصادرات لا ينبغي الالتفات إليها أصلا.

وعن بعضهم التفصّي عمّا أورد عليهم : من لزوم خروج القيد بلا فائدة كما تقدّم ذلك عن بعض الأعلام أيضا ، بأنّ ذلك لعلّه لعدم وجود أمر مشهور مشترك بين أفراد المنطوق وبعض أفراد المسكوت عنه ، يعني أنّ جميع أفراد ما يؤكل لحمه مثلا يجوز الشرب والتوضّؤ من سؤره فنطق به الكلام ، وإنّما لم يشرّك بعض الأفراد الغير المأكول أيضا مع كونه شريكا للمنطوق لأجل عدم لفظ مشهور جامع لهما فيبقى بيانه إلى وقت الحاجة.

وأجاب عنه بعض الأعلام - وتبعه بعض الأعاظم - : « بأنّه لا ينحصر الإفادة في وجود اللفظ المشهور المشترك ، فقد يصحّ أن يقال مثلا : « كلّ حيوان يجوز التوضّؤ من سؤره إلاّ الكلب مثلا ، وفي قوله : « كلّ غنم سائمة فيه الزكاة » مع ثبوت الحكم لبعض المعلوفة يمكن أن يقال : « كلّ غنم فيه الزكاة إلاّ النوع الفلاني » فلم ينقطع المناص حتّى

ص: 357


1- القوانين 1 : 185.

يلزم تأخير البيان وغيره من الحزازات » (1).

ثمّ قال في آخر كلامه : فالتّحقيق أن يقال : إن جعلنا السور (2) من جملة الحكم وجعلنا الموضوع نفس الطبيعة المقيّدة فالأقرب ما ذكره هؤلاء ، وإن جعلناه جزء الموضوع بأن يرجع القيد إلى كلّ واحد ممّا يشمله السور فالأقرب ما اخترناه ، مثلا إمّا نقول : « الحيوان المأكول اللحم حكمه أنّه يجوز استعمال سؤر كلّ واحد من أفراده » أو نقول : « كلّ واحد من أفراد الحيوان المأكول اللحم حكمه جواز استعمال سؤره » فلا بدّ أن يتأمّل في أنّ معنى قولنا : « كلّ ما يؤكل لحمه يتوضّأ من سؤره » موافق لأيّهما وأيّهما يتبادر منه في العرف؟ والأظهر الثاني للتبادر ، فيكون الوصف قيدا لكلّ واحد من الأفراد ، والمفهوم يقتضي نفي الحكم حيث انتفى ذلك القيد (3).

وعن العلاّمة وغيره ممّن تقدّم من العامّة أنّهم صرّحوا بعدم الخلاف في أمر معنوي بل جعلوا الخلاف في أمر لفظي ، وهو أنّ العموم هل هو من عوارض اللفظ أو لا؟ وقالوا : فمن قال بالأوّل اختار الثاني ومن قال بالثاني اختار الأوّل.

وعن العضدي أنّه جعل النزاع في أنّ المفهوم ملحوظ فيقبل القصد إلى البعض منه أو لا ، بل حصل بالالتزام تبعا لثبوت ملزومه فلا يقبل.

وعن الباغنوي الاعتذار عنه بأنّه لما رأى أنّ النزاع الواقع بين العلماء الأعيان لا يليق أن يكون لفظيّا أوّله بما حاصله : أنّ المفهوم هل يكون ملحوظا عند التلفّظ بالمنطوق أو لا؟

وقد يقال : بأنّ مبنى هذا النزاع على أنّ لفظة « كلّ » هل هي جزء الموضوع حتّى يكون اللازم رجوع القيد إلى كلّ واحد من الأفراد الّتي سوّر بها ، أو أنّ الموضوع هو نفس الطبيعة المقيّدة ولفظة « كلّ » هي جزء للحكم.

وبعبارة اخرى : أنّ السور هل هو ملحوظ بعنوان كونه موضوعا ومتعلّقا للنفي والإثبات بحيث يكون الأفراد بوصف العموم موضوعا للقضيّة ، أو هو ملحوظ على وجه المرآتيّة ويكون الحكم في الحقيقة حاصلا بين مدخول السور وبين المحمول ، بحيث يكون كلّ فرد من أفراد الموضوع متعلّقا للنفي والإثبات ، فإن كان الثاني فالحقّ هو الأوّل وإن كان الأوّل فالحقّ هو الثاني ، فيجب أن يختلف المفهوم مع المنطوق في الكمّ أيضا كالكيف ، لأنّ مفاد المفهوم يكون حينئذ سلب هذا العموم لا عموم السلب كما كان في الثاني ، وذلك لأنّ الهيئة

ص: 358


1- القوانين 1 : 185 و 186.
2- القوانين 1 : 185 و 186.
3- والمراد بالسور هو لفظ « بعض » و « كلّ » وما شابههما.

الاجتماعيّة على الوجه الأوّل قيد الموضوع في القضيّة دون الثاني ، ولذا كان المستفاد من القضيّة في الثاني كون الشرط سببا للحكم بالنسبة إلى كلّ فرد فرد ، وفي الأوّل كونه سببا للحكم بالنسبة إلى مجموع الأفراد من حيث المجموع ، فيكون مفهومه نفي الاجتماع إذا انتفى سببه ، ولا ينافي ثبوت الحكم بالنسبة إلى كافّة الأفراد إلاّ واحدا منها من جهة سبب آخر ، فإنّ مفهوم الموجبة الكلّية على هذا في حكم السالبة الجزئيّة وبالعكس ، ومفهوم السالبة الكلّية في حكم الموجبة الجزئيّة وبالعكس.

ثمّ إنّ الأمر واضح فيما لو اتّضح إرادة أحد المعنيين.

وأمّا لو تردّد فالأقرب هو الحمل على إرادة المعنى الثاني ، نظرا إلى غلبة الاستعمالات العرفيّة الموجبة للتبادر مثلا قولك : « إن جاءك زيد فأكرم العلماء » ينساق منه إلى الذهن إنّ المجيء سبب لوجوب إكرام كلّ فرد من أفراد العلماء ، والمنساق من قولك : « إن جاءك العلماء فأكرم زيدا » أنّ مجيء الكلّ سبب في وجوب إكرام زيد ، حتّى أنّه لو لم يجيء واحد منهم لم يجب الإكرام ، ومن قولك : « إن جاءك العلماء فأكرم البلغاء » إنّ مجيء الكلّ سبب لإكرام كلّ فرد فرد ، ومن قولك : « إن جاءك العلماء فأكرمهم » أنّ مجيء كلّ منهم سبب لإكرام الجائي بالخصوص لا لإكرام الغير الجائي ، كما أنّ المنساق من قوله تعالى : ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) (1) التوزيع أيضا.

وممّا يرشد إليه ما قاله الطريحي في فوائد مجمعه : من أنّ العرب إذا قابلت جمعا بجمع حملت كلّ مفرد من هذا على كلّ مفرد من هذا مثل قوله : ( وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ ) (2) و ( لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ ) (3) أي ليأخذ كلّ واحد منكم سلاحه ، ولا ينكح كلّ واحد ما نكح أبوه.

فإن قيل : لازم ما ذكرت أوّلا أن يكون نقيض المحصورات الأربع على نوعين ، إذ على الثاني يكون نقيضها كنفسها في الكمّ وعلى الأوّل يكون كما قاله أهل الميزان ، وهذا مناف لما قرّروه وتسالموا عليه من اعتبار الاختلاف في الكمّ أيضا كالكيف.

قلنا : الأمر وإن كان كما ذكر في الحقيقة ، إلاّ أنّ نظرهم لمّا كان إلى الأخذ بالقدر المتيقّن الجاري في كافّة القضايا السيّال في جميع الموارد فاقتصروا على ما قالوا ، وقطعوا النظر عن ملاحظة دلالة اللفظ من حيث إنّها تجري على قسمين كما هو ديدنهم في كافّة مطالبهم.

ص: 359


1- النساء : 11.
2- النساء : 102.
3- النساء : 22.

هذا محصّل ما ذكره القوم في المسألة ولهم في النقوض والإبرامات والردود والاعتراض من كلّ على الآخر عبارات شتّى وكلمات مختلفة لا فائدة مهمّة في التعرّض لذكرها هنا ، والعمدة منها ما أشرنا إليها ليتشخّص بها مناط نزاعهم ومحصّل استدلالاتهم.

ولقد عرفت أنّ شيئا منها لم يرد على وجه التحقيق وليس في شيء منها ما يشفي العليل ويروي الغليل.

والأولى أن يقال في تنقيح هذا المقال : إنّ المنطوق مع المفهوم حيثما يثبت قضيّتان معقولتان إحداهما : مدلول للقضيّة الملفوظة ، والاخرى : لازم من هذا المدلول ، تتولّدان عن معنى حرفي رابطي مستفاد من التعليق بتوسّط الأداة كما في الشرط أو غيرها كما في الوصف معبّر عنه بالسببيّة المنحلّة إلى كون المقدّم أو الوصف ما يلزم من وجوده الوجود وما يلزم من عدمه العدم ، فيكونان بالقياس إلى ذلك المعنى الحرفيّ كالمعلولين لعلّة ثالثة ، أو لازمين من ملزوم واحد ، فلا ينفكّ شيء منهما عن الآخر ضرورة استحالة انفكاك اللازم عن ملزومه.

فقضيّة ذلك كلّه أن يؤخذ مع المفهوم جميع ما هو مأخوذ في المنطوق من إطلاق أو تقييد أو جهة أو كمّيّة في الحكم المعلّق ، أو الشرط والوصف المعلّق عليهما ، أو موضوع الحكم أو متعلّقه ، أو موضوع الشرط أو الوصف وهو محلّهما ، وغير ذلك ممّا له تعلّق بعنوان السبب أو المسبّب أو غيرهما ، عدا كيف المسبّب وذات السبب فإنّ المعتبر فيهما اختلاف القضيّتين ، بأن يكون المعتبر من الحكم والشرط أو الوصف في القضيّة المنطوقيّة جانب الوجود وفي القضيّة المفهوميّة جانب العدم ، أداء لحقّ السببيّة وأخذا بموجب العلّيّة المستلزمة للزوم الوجود من الوجود ولزوم العدم من العدم.

وإن شئت فقل : يتعيّن فيما بين المنطوق والمفهوم جميع الوحدات الّتي لها مدخل في لحاظ المتكلّم في انعقاد القضيّة الملفوظة حسبما يجعله من الوحدات المعتبرة في التناقض وغيرها ، كالكمّ وغيره من إطلاق وتقييد بالزمان أو المكان أو حالة اخرى ، سوى وحدة الشرط أو الوصف أو وحدة الكيف ، نظرا إلى أنّ المعتبر فيهما الاختلاف ليكون المنطوق منطوقا والمفهوم مخالفا له على ما يومئ إليه تسميتهم له بمفهوم المخالفة.

وعلى هذا فلو كان الشرط أو الوصف مأخوذا في القضيّة على الإطلاق ولا بشرط شيء ممّا عداه فلا بدّ وأن يعتبر انتفاؤه الموجب لانتفاء الجزاء أو الحكم المعلّق على هذا

ص: 360

الوجه ، ولو كان مقيّدا بشيء من الزمان أو المكان أو حالة من الأحوال فلا بدّ وأن يعتبر انتفاؤه على هذا الوجه ، ولو كان الحكم المثبت في جانب المنطوق وجوبا مشروطا أو مطلقا نفسيّا أو غيريّا عينيّا أو غيره فوريّا أو غيره فلا بدّ وأن يعتبر المنتفي في جانب المفهوم على وفقه طابق النعل بالنعل ، بأن يكون المحكوم عليه بانتفائه في جانب المفهوم ما حكم عليه بالثبوت في جانب المنطوق بواسطة وجود الشرط أو الوصف بعينه ، لا ما يغايره عموما أو خصوصا أو غيرهما من أنحاء التغاير ، ولا فرق في اعتبار الوحدة فيما بين ما ثبت وما انتفى بين ما لو استفيد ذلك الحكم من مادّة « الأمر » أو صيغته أو ما يؤدّي مؤدّاهما بالوضع أو الانصراف أو القرينة الخارجيّة.

فلو استفيد من هيئة الأمر ونحوها الوجوب العيني خاصّة - لوضعها له بالخصوص ، أو لانصرافها إليه عند الإطلاق ، أو لقيام قرينة عليه - كان المحكوم بانتفائه أيضا هو الوجوب العيني خاصّة لا مطلق الوجوب ، ومثله ما لو استفيد منه الوجوب المطلق - من جهة الوضع كما رجّحناه في محلّه ، أو من جهة الانصراف كما عليه البعض - فإنّ المحكوم بانتفائه حينئذ هو الوجوب المطلق لا مطلق الوجوب.

نعم لو فرض استفادة العيني أو المطلق من الأمر من جهة الإطلاق وترك القيد لا من جهة الوضع ولا الانصراف ولا القرينة - كما عليه بعض مشايخنا في بحث المقدّمة - كان المحكوم بانتفائه مطلق الوجوب لا خصوص العيني والمطلق.

والوجه في الفرق : أنّ معنى كونه ما يستفاد من الإطلاق أنّه ماهيّة في مدلول الأمر الوارد مطلقا اعتبرت لا بشرط شيء ، وإنّ غيرهما من الكفائي أو التخييري أو المشروط هو تلك الماهيّة إذا اعتبرت مقيّدة وبشرط شيء ، فتكون منه بمنزلة الفرد من الكلّي.

ومن البيّن أنّ نفي الماهيّة الملحوظة لا بشرط شيء يستلزم نفي جميع أفرادها ، بخلاف الماهيّة المقيّدة فإنّ نفيها لا يوجب نفي الماهيّة المطلقة ، كما أنّ نفي الفرد لا يوجب نفي الكلّي ولا نفي سائر الأفراد ، والوجوب العيني وكذا المطلق عند من يستفيده من الانصراف أو من القرينة الخارجيّة أو من الوضع له بالخصوص فرد من مطلق الوجوب فلا يستلزم حينئذ نفيه نفي الوجوب مطلقا.

وبالجملة فالضابط الكلّي في جميع ما ذكرناه إنّما هو اعتبار الوحدة من جميع الجهات إلاّ بالنسبة إلى الشرط أو الوصف والكيف.

ص: 361

ومن هنا يتبيّن صدق مقالتنا سابقا من أنّ مفهوم قوله : « إن جاءك زيد فأكرمه » عدم وجوب الإكرام عند انتفاء المجيء لا حرمته كما سبق إلى بعض الأوهام.

وقد يقال : يمكن القول في مثل : « إن جاءك زيد فهو مكرّم » بأنّ مفهومه حرمة الإكرام ، لما تقرّر عندهم من أنّ الجملة الخبريّة إذا قامت قرينة فيها على عدم إرادة الإخبار تفيد الوجوب حيث كانت واقعة في حيّز الإثبات ، والحرمة حيث كانت واقعة في حيّز النفي ، والمقام منه لوجوب اختلاف المفهوم والمنطوق في الكيف ، وحيث إنّ المنطوق جملة خبريّة في حيّز الإثبات فالمفهوم جملة خبريّة في حيّز النفي ومن لوازمها إفادة الحرمة.

ولكنّه كما ترى وهم لا يعبأ به بل ليس إلاّ مغالطة فاحشة ، فإنّ هذه القاعدة إنّما تسلّم فيما كان من مقولة القضايا الملفوظة ، كما يرشد إليه ما ذكروه في وجه حمل الجمل الخبريّة المقرونة بالقرينة على عدم إرادة الإخبار منها على المعنى الانشائي : من أنّ الحقيقة إذا تعذّرت فأقرب مجازاتها أولى.

ولا ريب أنّ قضيّة المفهوم ليست من هذه الجملة ليندرج تحت تلك القاعدة بل هي على ما عرفت قضيّة معقولة صرفة مفادها نفي مفاد القضيّة الملفوظة في جانب المنطوق ، ولا لفظ في المقام حتّى يتطرّق إليه التجوّز والأخذ معه بأقرب مجازاته ، وظاهر أنّ نفي الوجوب الّذي هو مفاد القضيّة الملفوظة لا يستلزم الحرمة لكونه أعمّ.

وقد يستثنى عمّا قرّرناه من الضابط الكلّي ما لو كان هناك أمر هو من لوازم كيف المنطوق فلا يجب اعتباره في المفهوم ، بل يختلفان فيه أيضا لمكان اختلافهما في الكيف الّذي هو ملزوم لذلك الأمر ، نظرا إلى أنّ اختلاف الملزوم يستدعي اختلاف اللازم ، وذلك كما لو اعتبر في الجزاء عموم يتولّد عن كيف القضيّة كما في قولك : « إن جاءك زيد فلا تكرم أحدا » فطنّ المفهوم لا يعتبر فيه العموم حينئذ ، لكونه في كلمة « أحد » إنّما استفيد من جهة وقوعها في حيّز النفي وهذا المعنى منتف في جانب المفهوم كما لا يخفى.

ولكنّه أيضا غير خال عن إشكال ، من جهة أنّ النكرة الواقعة في حيّز النفي إنّما أفادت العموم من جهة أنّها موضوعة لفرد مّا من الطبيعة - لا مصداقه بل مفهومه - فحيثما تقع في حيّز النفي رجع النفي إلى مفهوم فرد مّا.

ومن البيّن أنّ نفي المفهوم يستلزم نفي جميع مصاديقه ، كما أنّ نفي الطبيعة يستلزم نفي جميع أفرادها.

ص: 362

ومن هنا نشأ القول بأنّ النهي ممّا يفيد الدوام والتكرار.

وعلى هذا القياس « الأحد » الواقع في حيّز النفي فإنّه يرجع إلى مفهومه ، ونفي مفهوم « الأحد » يستلزم نفي جميع أفراده ، فإذا كان المقصود في المنطوق نفي مفهوم « الأحد » المستلزم لنفي جميع الأفراد كان المفهوم رفع هذا النفي ، وظاهر أنّ رفع النفي عن المفهوم بما هو مفهوم يستلزم رفعه عن أفراده ، كما أنّ رفع النفي عن الطبيعة يستلزم نفيه عن جميع أفراده.

وقضيّة ذلك اعتبار العموم في المفهوم أيضا وهو رفع الحرمة عن جميع الأفراد.

نعم لو فرض أنّ المقصود في المفهوم إثبات الوجوب مكان الحرمة المثبتة في المنطوق لاتّجه دعوى عدم العموم ، ولكنّه بمعزل عن التحقيق ، لما تقرّر من أنّ المفهوم لا يفيد إلاّ نفي الحكم الثابت في المنطوق بعينه.

ولا ريب أنّه غير اثبات الوجوب وليس بينهما ملازمة ، ضرورة عدم استلزام الأعم للأخصّ ، وكما أنّ الوجوب حيثما ثبت في جانب المنطوق ليس مفهومه إلاّ نفي الوجوب الّذي هو أعمّ من الحرمة ، فكذلك الحرمة المثبتة في المنطوق مفهومها ليس إلاّ رفع الحرمة الّذي هو أعمّ من الوجوب ، ودعوى : أنّ العموم من لوازم كيف المنطوق فلا بدّ من اختلافه في المفهوم ، غير مقبولة بل هو من لوازم النكرة المتحيّزة لكيفه ، وإلاّ لوجب ثبوته معه بدونها.

فإن قلت : لولا اختلافهما في ذلك أيضا لزم كون النكرة في حيّز الاثبات مفيدة للعموم وهو باطل.

قلنا : هذا من لوازم النكرة الملفوظة وأحكامها ، وقد عرفت أنّه لا لفظ في جانب المفهوم حتّى يلحقه أحكامه بل هو أمر معنوي ثابت لأمر مغنوي ولا مانع عن كون ذلك الأمر المعنوي ملزوما للعموم من جهة خصوصيّة المقام حسبما عرفت.

هذا مضافا إلى أنّ مقتضى السببيّة - على ما هو المفروض - انتفاء المسبّب على جميع تقادير انتفاء السبب ، فالمفروض انتفاؤه في المقام بالقياس إلى جميع مصاديق « الأحد » فلو جاز مع ذلك ثبوت المسبّب بالقياس إلى بعض تلك المصاديق لزم وجود المعلول بدون وجود العلّة معه وأنّه محال.

فبجميع ما قرّرنا يتّضح حقيقة الحال في مفهوم قوله عليه السلام : « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء أو لم يحمل خبثا » (1) وأنّه ملزوم للعموم ، ويكون محصّل مفاده : إذا لم يكن

ص: 363


1- الكافي 3 : 2 ، ح 1 ، الاستبصار 1 : 6 ، التهذيب 1 : 40.

الماء قدر كرّ ينجّسه كلّ شيء ، كما فهمه جماعة منهم المصنّف والمحقّق البهبهاني في حاشية المدارك وشرح المفاتيح في المحكيّ عنهم ، فما عن جماعة من المتأخّرين من منع العموم في هذا المفهوم ليس على ما ينبغي.

كما أنّ ما يقال تأييدا لهذا المذهب - من أنّ في قوله عليه السلام : « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء » عموما من وجوه أربع :

أحدها : في « الماء » والآخر في « الشيء » وهذان عمومان أفراديّان ، والمعنى : كلّ فرد من أفراد الماء وكلّ فرد من أفراد الشيء النجس.

والثالث : في قدر الكرّ.

والرابع : في « لم ينجّسه شيء » وهذان عمومان أحواليّان ، فالأوّل في كيفيّات مقادير الكرّ ومحالّ وقوعه وأنحاء شكله ، والثاني في كيفيّات الملاقاة من العلوّ والتساوي ، وورود الماء على النجاسة أو ورودها عليه ، وأمثال ذلك ممّا يستفاد من عدم التنجيس.

والعموم في « الماء » و « القدر » إطلاقي حكمي ، وفي « الشيء » وضعي حقيقي من باب وقوع النكرة في حيّز النفي فينبغي أن لا يكون في المفهوم عموم باعتبار الشيء.

ليس على ما ينبغي (1) إذ لا مانع من اعتبار العموم الإطلاقي فيه عملا بمقتضى رفع الحكم عمّا ثبت له الحكم في المنطوق ، وهو مفهوم « الشيء » المستلزم لرفعه عن جميع مصاديقه ، وأخذا بموجب السببيّة المستفادة من أداة التعليق القاضية بعاصميّة الكرّ ومانعيّته للماء عن التنجّس الّذي هو في حدّ ذاته قابل له ، كالعموم المستفاد في بعض المقامات عن دليل الحكمة ونحوها ممّا قرّر في محلّه.

وبالتأمّل فيما قرّرناه يتّضح أنّ من جملة ما يجب اتّحاد القضيّتين فيه إنّما هو الكمّ في مثل قوله عليه السلام : « كلّ حيوان مأكول اللحم يتوضّأ من سؤره ويشرب » (2) و « كلّ غنم سائمة فيه الزكاة » (3) ونحوه ممّا اعتبر العموم في جانب محلّ الوصف ، فلا يتمّ المفهوم مفهوما إلاّ إذا اعتبر العموم مع خلاف محلّ الوصف ، فيكون مفاد النفي في المفهوم عموم السلب المعبّر عنه بالسلب الكلّي ، سواء عبّرت عنه بقولك : « لا شيء من غير مأكول اللحم يتوضّأ من

ص: 364


1- خبر لقوله : « أمّا ما يقال تأييدا الخ ».
2- عوالي اللآلي 4 : 53 ، الاستبصار 1 : 25 والتهذيب 1 : 224 و 228.
3- عوالي اللآلي 1 : 398.

سؤره ويشرب » أو بقولك : « كلّ حيوان غير مأكول اللحم لا يتوضّأ من سؤره ويشرب » من غير فرق بين ما لو أخذ السور آلة لإدراك حال الحكم من حيث تسريته إلى جميع أفراد الموضوع المقيّد بالوصف ، بأن يكون المتكلّم قد تصوّر جواز الاستعمال من سؤر الطبيعة الحيوانيّة المقيّدة بكونها مأكول اللحم واعتبر الإسناد والحكم بينهما ثمّ ادخل عليهما السور لتسرية الحكم إلى جميع أفراد تلك الطبيعة ، كما في قولك : « كلّ إنسان كاتب » حيث إنّك تتصوّر كتابة طبيعة الإنسان وتعتبر الإسناد والحكم بينهما ، ثمّ تعتبر السور ليكون آلة لإدراك ذلك الحكم من حيث تسريته إلى جميع أفراد تلك الطبيعة.

أو موضوعا لنفس الحكم ومتعلّقا له ، بأن يكون المتكلّم تصوّر جواز استعمال السؤر من كلّ فرد فرد من تلك الطبيعة ثمّ اعتبر الإسناد والحكم بينهما.

فإن قلت : كيف تنكر الفرق بين النوعين ، مع أنّ اللازم على الأوّل كون النفي في جانب المفهوم من باب عموم السلب لعدم وروده إلاّ على الطبيعة المقيّدة بخلاف الوصف ، والسور معتبر معها لتسرية ذلك الحكم إلى أفراد تلك الطبيعة ، وعلى الثاني من باب سلب العموم ، لوروده على السور المعتبر مع الأفراد موضوعا.

قلنا : هذا الفرق عندنا غير مسلّم من أصله ، بل لفظة « الكلّ » في جميع صور وقوعها موضوعة لإدراك حال الحكم من حيث تسريته إلى جميع أفراد موضوعه وكذا سائر ألفاظ العموم ، ولذا عرف العامّ : بلفظ وضع للدلالة على استغراق جزئيّاته كما سيأتي في محلّه ، أي على استغراق الحكم لجزئيّات موضوعه من غير فرق في ذلك بين كون الحكم إيجابيّا أو سلبيّا ، ولا بين ورودها على النفي أو ورود النفي عليها.

ولئن سلّمناه فإنّما نسلّمه في القضايا الملفوظة كما في : « كلّ إنسان لم يقم » أو « لم يقم كلّ إنسان » حيث إنّ المتكلّم قد يلاحظ عدم القيام لطبيعة الإنسان ويعتبر الإسناد بينهما ثمّ يدخل عليها السور لتسرية ذلك الحكم المنفيّ إلى أفراد تلك الطبيعة ، وقد يلاحظ القيام لجميع أفراد طبيعة الإنسان ثمّ يحكم عليها بالسلب بإدخال أداته لسلب ذلك العموم.

وقد عرفت أنّ محلّ البحث ليس إلاّ من القضايا المعقولة الصرفة ، ولم يتلفّظ فيها بسور ولا أداة سلب ، بل السلب إنّما جاء هنا من جهة قصد انتفاء الحكم الثابت في المنطوق عن غير محلّ الوصف ، وهو ممّا يقتضي العموم بحسب المعنى ، سواء فرضت الحكم في المنطوق ثابتا للطبيعة المقيّدة بالوصف مع دخول السور عليها من باب المرآتيّة ،

ص: 365

أو لأفراد تلك الطبيعة المقيّدة على نحو العموم.

أمّا على الأوّل : فلأنّ المقصود بالمفهوم نفي الحكم عن الطبيعة المعرّاة عن ذلك القيد ، ومن المعلوم أنّ نفي الحكم عن الطبيعة يستلزم نفيها عن أفرادها جميعا.

وأمّا على الثاني : فلأنّ المقصود بالمفهوم نفي الحكم الثابت لعموم أفراد الطبيعة المقيّدة بذلك الوصف عمّا خلى من أفرادها عن ذلك القيد وهو أيضا يلازم العموم جدّا.

وأيضا كون الوصف سببا للحكم لا يفرق فيه بين اعتباره مع الطبيعة المدخولة للسور أو مع أفرادها الّتي أخذ العموم بالنسبة إليها موضوعا لذلك الحكم ، فيلزم من انتفائه على كلا التقديرين انتفاء الحكم عن كلّ ما خلى عن ذلك الوصف ، وإلاّ لزم وجود المسبّب بدون السبب.

ودعوى : أنّ السبب على الثاني هو سوم المجموع من حيث المجموع ، فيكتفى في انتفائه الموجب لانتفاء الحكم بعدم سوم المجموع من حيث المجموع ، فيكون المفهوم حينئذ في قوّة السلب الجزئي.

يدفعها : أنّ ذلك إنّما يستقيم فيما لو فرض عموم العامّ مجموعيّا ، وهذا كما ترى معنى مجازيّ للعامّ لا يساعد عليه الذوق والاعتبار ولا فهم العرف ، لكونه ظاهرا في العموم الأفرادي ، وهذا هو الّذي يجري فيه الاعتباران ، وإلاّ فالعموم المجموعي موضوع دائما ولا يعقل وقوعه آلة ومرآتا.

وأمّا العموم الأفرادي فهو لا يقتضي كون موضوع السببيّة سوم المجموع من حيث المجموع ولو فرضناه موضوعا للحكم ، فإنّ محصّل مفاد القضيّة حينئذ يرجع الى أن يقال :

« الغنم السائمة يجب في كلّ فرد منها الزكاة ، لكون السوم في كلّ منها سببا لحكمه المختصّ به » ويلزم من ذلك أن لا يجب الزكاة فيما ينتفي عنه السوم ، سواء كان واحدا أو متعدّدا محصورا أو غير محصور.

ومحصّل مفادها على الأوّل يرجع إلى أن يقال : إنّ السوم في طبيعة الغنم سبب لوجوب الزكاة فيها على نحو يتعدّى ذلك الحكم إلى أفرادها بواسطة السور ، وقضيّة ذلك أن ينتفي عنها الحكم حيثما انتفى عنها وصف السوم وهو أيضا ملزوم للعموم جزما.

وثانيها : قالوا يشترط عند القائلين بحجيّة مفهوم الوصف - بل كلّ مفهوم كما يستفاد من الحاجبي وغيره - أن لا يكون التقييد خارجا مخرج الأغلب ، صرّح به الحاجبي وغيره في المختصر وبيانه.

ص: 366

وعن الإحكام وبعض شروح المبادئ دعوى الاتّفاق عليه.

وقد يستظهر عن نهاية السؤول وجود الخلاف فيه ، حيث إنّه بعد ما صرّح بأنّ ما ذكر هو المعروف قال : ونقله إمام الحرمين في البرهان عن الشافعي ، ثمّ خالف وقال : إنّ الغلبة لا تدفع كونه حجّة ، وعلّل بأنّه لعلّه لأنّ المفهوم من مقتضيات اللفظ فليسقط موافقته الغالب ومثّلوا له بقوله تعالى : ( وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ ) (1) وقوله تعالى : ( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها ) (2) وقوله عليه السلام : « أيّما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليّها فنكاحها باطل » وقد يمثّل أيضا بقوله تعالى : ( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ) (3) فإنّ الغالب في الأوّل أنّ الربيبة إنّما تكون في الحجر ، وهي بنت المرأة من غير زوجها ، وإنّما تسمّى بها لأنّ الزوج يربّيها غالبا في حجره والمراد بالحجور البيوت ، والخلع (4) لا يجري غالبا إلاّ عند الشقاق ، والأغلب أنّ المرأة لا تنكح نفسها إلاّ عند عدم إذن الوليّ لها وامتناعه من تزويجها ، وأنّ العرب كانوا يعتادون قتل الأولاد عند خوف الفقر.

ونقل الاحتجاج عليه عن النهاية ومحكيّ المحصول - كما في المنية - بأنّه مع حصول الغلبة لا يحصل الظنّ بنفي الحكم عن المسكوت عنه ، قال السيّد في المنية عقيب كلّ من الأمثلة المذكورة : « أنّ مع احتمال كون الباعث على التقييد هو جريان الاعتياد وحصول الغلبة يمتنع حصول الظنّ بكون سببه نفي الحكم عمّا عداه ».

وقد عرفت الإيراد عليه عن إمام الحرمين بأنّ الغلبة لا تدفع كونه حجّة.

وعلّله بعض الأعاظم - بعد ما ردّ بعض الأعلام فيما ذكره من الوجه الّذي يأتي بيانه - : « بأنّ الاستقراء في العرف ينبّه على أنّ المتعارف بينهم متابعة العرب للعادة في القيود ، بمعنى أنّ مجرّد الغلبة في العادة يبعثهم على التقييد ، فبه يرتفع الحجّيّة وكأنّه المفهوم ».

ومن مشايخ العصر من وافقه وقال : بأنّ ذلك مأخوذ من فهم أهل العرف فإنّهم لا يفهمون من الأوصاف الواردة مورد الغالب المفهوم ، بل يستفيدون منها بيان الواقع لا اختصاص

ص: 367


1- النساء : 23.
2- النساء : 35.
3- الإسراء : 31.
4- ولا يخفى أنّ مورد الآية ( النساء : 35 ) ليس هو الخلع بل مطلق الطلاق كما يعلم ذلك ممّا قبلها حيث إنّ اللّه تعالى بيّن فيها الحكم عند مخالفة أحد الزوجين صاحبه ثمّ عقبّه بذكر الحكم عند صعوبة الأمر في المخالفة ، فمورد الآية هو مطلق الفرقة والطلاق. وأمّا ما يكون في مورده الخلع هو قوله تعالى : ( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) البقرة : 229.

الحكم بالغالب وانحصاره فيه ، بل كثيرا مّا يفهمون التعميم الّذي هو ضدّ مفاد التقييد ، كما في قولك لصديقك : « كن عندنا إلى أن يؤذّن المؤذّن ، أو حتّى يؤذّن المؤذّن ، فإذا أذّن فلا منع عليك في الخروج » حيث إنّه لا يفيد المخاطب إلاّ مطالبة الوقوف عنده إلى الظهر سواء تحقّق فيه الأذان كما هو الغالب أو لا.

قال بعض الأعلام : « ولا يحضرني منهم كلام في بيان ذلك ، وعندي أنّ وجهه : أنّ النادر إنّما هو المحتاج حكمه إلى التنبيه ، والأفراد الشائعة تحضر في الأذهان عند إطلاق اللفظ المعرّى ، فلو حصل احتياج في الانفهام من اللفظ فإنّما يحصل في النادر ، فالنكتة في الذكر لا بدّ وأن يكون شيئا آخر لا تخصيص الحكم بالغالب وهو فيما نحن فيه التشبيه بالولد.

وممّا بيّنّا ظهر السرّ في عدم اطّراد الحكم فيما إذا ورد مورد الغالب في غير باب المفاهيم.

ألا ترى أنّا لا نجوّز التيمّم لواجد الماء ممّن منعه زحام الجمعة عن الخروج مع أنّ الشارع أطلق الحكم بالتيمّم ممّن منعه زحام الجمعة عن الخروج ».

ومحصّل مرامه بما ذكره من الوجه في محلّ البحث : أنّ التقييد في موضع إرادة المفهوم منه إنّما يؤتى به لإفادة التخصيص والتنبيه على اختصاص الحكم بمحلّ القيد ، وإذا كان ذلك المحلّ من الأفراد الشائعة الغالبة ينصرف إليه اللفظ وينساق إليه الذهن بلا تقييد فيحصل الفائدة المقصودة ، نظرا إلى أنّ التخصيص عبارة عن تقليل الشركاء وهو فرع أن يكون لفظ قبل ذكر القيد إطلاق أو عموم ، ولا إطلاق فيه ولا عموم مع الانصراف فيوجب الاختصاص ، فيكون التقييد بلا فائدة وهو غير جائز على الحكيم ، فلا بدّ وأن يكون الفائدة المقصودة منه غير التخصيص.

وأورد عليه :

أوّلا : بمنع إفادة مثل هذا القيد الاختصاص ، لجواز افادته إيّاه تأكيدا لما أفاده أصل الموصوف لأجل الغلبة والانصراف.

وثانيا : بدعوى كون الاختصاص في مفروض الكلام مستفادا من القيد لا غير.

وبعبارة اخرى : إفادة الغلبة والانصراف الاختصاص مشروطة بعدم اقتران اللفظ بالقيد ، حتّى أنّه لو اقترن كان المفيد له هو القيد لا الغلبة والانصراف ، كما أنّ « الإنسان » لو خلّي وطبعه لانصرف إلى ذي رأس واحد.

ص: 368

وأمّا إذا وصف بذي الرأس لم يستفد الاختصاص إلاّ من الوصف ، والدليل على هذه الدعوى ملاحظة العرف.

وأنت خبير بما فيهما.

أمّا الأوّل : فلأنّ مبنى كلام الموجّه على مراعاة التأسيس وهو لزوم كون التقييد لأجل فائدة لا تحصل إلاّ بذكر القيد ، وهي في مفروض الكلام لا يجوز أن يكون إفادة الاختصاص لكونه ممّا حصل مع عدم القيد أيضا من جهة الغلبة والانصراف ، فلا بدّ وأن يكون شيئا آخر غير هذا ، فالإيراد عليه حينئذ بأنّ فائدة التقييد هو الاختصاص تأكيدا لما أفاده المقيّد ممّا لا ينطبق عليه ولا يبطل شيئا من مقدّماته كما لا يخفى.

وأمّا الثاني : فلمنع كون اللفظ حال اقترانه بالقيد فارغا عن افادة الاختصاص ، كيف وهو في الكلام سابق على لحوق القيد به ، والغلبة والانصراف من الامور الثابتة فيه وفهم الاختصاص من لوازمهما ، فيكون حاصلا قبل لحوق القيد لسبق الالتفات إليهما قبل لحوق القيد كما لا يخفى.

فالايراد عليه إن كان ولا بدّ فينبغي أن يقال عليه : بأنّ التخصيص الّذي هو عبارة عن قصر الحكم على بعض أفراد العامّ قد يتأتّى مع قصد نفي الحكم عن غير هذا الفرد الّذي اريد قصر الحكم عليه ، وقد يتأتّى مع عدم قصد إثبات الحكم لغيره ، والّذي ينشأ عن مجرّد الغلبة والانصراف إنّما هو التخصيص بالمعنى الثاني من جهة سكوت اللفظ عن النفي والإثبات بالنسبة إلى الفرد النادر ، ولعلّ مقصود المتكلم إفادة التخصيص بالمعنى الأوّل.

ولا ريب أنّه لا يحصل إلاّ مع قصد المفهوم وهو لا يعلم به إلاّ مع ذكر القيد من شرط أو وصف ، فلم لا يجوز أن يكون التقييد بهما لأجل هذه الفائدة الّتي لا تحصل بمجرّد الغلبة والانصراف إلى الغالب؟

فالأولى أن يقال في توجيه ما ذكروه : بأنّ الفارق بين ورود القيد مورد الغالب وعدمه إنّما هو فهم المفهوم على الثاني بحسب المتعارف وعدمه على الأوّل ، وهذا ممّا لا خفاء فيه.

والعمدة بيان منشأ هذا الفرق ، وهو إمّا من جهة وجود المانع عن الانفهام على الأوّل كما يستفاد ممّا تقدّم من تعليلاتهم في بيان تلك القاعدة كما في عبارة المنية وغيرها ، نظرا إلى أنّ فهم المفهوم ليس إلاّ من جهة ظهور اللفظ فيه والظنّ بإرادته وهما منتفيان في موضع ورود القيد مورد الغالب ، لقوّة احتمال كون ذكره في الكلام من جهة جريان العادة

ص: 369

بما يوافقه من غير نظر إلى قصد المفهوم معه.

أو من جهة فقد المقتضي لفهم المفهوم ، فإنّ المفهوم إنّما يثبت في موضع انفهام السببيّة عن التقييد ، والسببيّة إنّما تستقيم إذا كان محلّ القيد قابلا لأن يطرءه حالتا وجود القيد معه وانتفائه عنه ، بمعنى أن يكون هو بالنظر إلى القيد أعمّ منه مطلقا أو من وجه ، فلذا ترى أنّه لا مفهوم لقولك : « أكرم الإنسان الضاحك » و « إن كان الأسد مفترسا فاحذر منه » و « إن كان الأمير قادرا عليك فلا تتعرّض لسخطه » و « إن كنت أباي فاعطف عليّ » و « إن كان الخمر مسكرا فلا تشربه » وهكذا ممّا لا يكاد يحصى ، ومتى ما كان القيد غالبا على محلّه كان هو بالنسبة إليه واردا على ما هو بمنزلة ما لا عموم فيه تنزيلا للنادر منزلة المعدوم ، وكأنّ المحلّ منحصر في نظر العرف في مورده الغالب وليس له فرد سواه ، فعلى هذا يحمل القيد على إرادة معان اخر غير المفهوم كما هو الحال في الأمثلة المذكورة.

ولعلّه في الأوّل : تنبيه المخاطب على كون الإنسان ضاحكا وتعريفه له ، نظرا إلى ما ذكروه من أنّ التوصيف للجاهل بالنسبة في معنى الإخبار ، كما أنّ الإخبار للعالم بها في معنى التوصيف ، فإنّ من لوازم التوصيف علم المخاطب بأصل النسبة ومن لوازم الإخبار جهله بها ، ولكن قد يرد كلّ منهما مورد الآخر.

وفي الثاني : تنبيه السامع على أنّ الافتراس الّذي تعلمه في الأسد ملزوم للزوم الحذر والفرار منه.

وفي الثالث : التنبيه على أنّ من لوازم قدرة الأمير مع العلم بها أن لا يتعرّض الإنسان لسخطه.

وفي الرابع : التنبيه على أنّ من لوازم الأبوّة عطف الأب على ولده ، أو تحريصه إلى الأخذ بما هو من لوازمها ببيّنة وبرهان.

وفي الخامس : التنبيه على علّة الحكم والحكمة الداعية إلى تشريعه ، والنكتة في مثل قوله : « لا تشرب الخمر إن كنت مؤمنا » التنبيه على كمال البينونة فيما بين الإيمان وشرب الخمر ، وبيان أنّ شرب الخمر مع الإيمان ممّا لا ينبغي ، وأنّه ممّا لا يلائم الإيمان.

وعلى هذا القياس قوله تعالى : ( وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ ) (1) فإنّ المقصود بالآية إنّما هو المنع عن الكتمان مطلقا مع التنبيه على أنّه ممّا لا يناسب الإيمان باللّه.

ص: 370


1- البقرة : 228.

ويمكن أن يلحق بتلك القاعدة قوله تعالى : ( وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ) (1) نظرا إلى أنّ الغالب على الفتيات إرادة التحصّن ، فحينئذ يتّضح سقوط الاستدلال به على عدم حجّيّة المفهوم زيادة على ما تقدّم.

وثالثها : ذكر الحاجبي وتبعه غير واحد من شرّاح مختصره لمفهوم المخالفة مضافا إلى ما تقدّم شروطا اخر :

منها : أن لا يظهر أولويّة أو مساواة في محلّ السكوت وإلاّ لما كان مفهوم مخالفة.

ومنها : أن لا يكون واردا في الجواب عن سؤال ، كما لو سأله سائل عن الزكاة في الغنم السائمة فأجاب بقوله : « في الغنم السائمة زكاة ».

ومنها : أن لا يكون في حادثة خاصّة بالمذكور ، كما إذا مرّ بشاة ميمونة فقال : « دباغها طهورها ».

ومنها : أن لا يكون لتقدير جهالة المخاطب ، بأن لا يعلم المخاطب وجوب زكاة السائمة ويعلم وجوب زكاة المعلوفة فيقول الرسول صلى اللّه عليه وآله (2) « في سائمة الغنم زكاة » فإنّ التخصيص حينئذ لا يكون لنفي الحكم عمّا عداها.

ومنها : أن لا يكون لرفع خوف ، مثل ما إذا قيل للخائف عن ترك الصلاة المفروضة في أوّل الوقت : « جاز ترك الصلاة في أوّل الوقت » أو غير ذلك ممّا يقتضي تخصيصه بالذكر ، فإنّه إذا تحقّق الباعث على التخصيص لا يكون مفهوم المخالفة حجّة.

وهذه الشروط إنّما يطّرد اعتبارها على تقدير الاستناد في الحجّيّة إلى لزوم العراء عن الفائدة لولاها ، وإلاّ فعلى تقدير الاستناد إلى التبادر وظهور التخصيص بالذكر في سببيّة المذكور للحكم يشكل الحال في الجملة.

إلاّ أن يقال : بأنّ الظاهر إنّما ينهض ظاهرا وحجّة إذا لم يقم ما يصادمه من ظهور آخر وارد عليه كما في كافّة قرائن المجازات ، أو مكافؤ له مانع عن الأخذ به بالمعارضة كما في المجاز المشهور الّذي يعارض ما فيه من قرينة الشهرة لظهوره في المعنى الحقيقي بالوضع.

ولا ريب أنّ ما ذكر من الامور من هذا الباب ، لأنّ منها ما هو نصّ أو ظاهر في عدم إرادة المفهوم ، ومنها : ما هو مصادم للّفظ في ظهور السببيّة.

ص: 371


1- النور : 33.
2- عوالي اللآلي 1 : 398.

فيبقى الإشكال حينئذ في إطلاق القول بالنسبة إلى بعض تلك الامور ، فإنّ الأولويّة إنّما تصلح للاستناد إليها إذا لم تكن اعتباريّة صرفة قطعيّة كانت أو ظنّيّة عرفيّة ، وإلاّ فلا ينبغي التعويل عليه في الخروج عن ظاهر السببيّة إلاّ على تقدير التعويل على القياس الممنوع في الشريعة.

ومن هنا يتّضح ما في صورة مساواة المسكوت عنه لمحلّ النطق ، فإنّ ذلك لا يصلح مانعا عن الأخذ بظاهر السببيّة إلاّ على البناء على القياس فيما بين المتساويين ، وهو كما ترى بل لا يستقيم ذلك على مذهب العاملين به أيضا ، لما هو المعروف من مذهبهم من أنّهم يبنون عليه حيثما لم يعارضه حجّة والظهور هو الحجّة ، إلاّ أن يقال : بأنّ العبرة في الظهور بما يكون شخصيّا وقياس المساواة ممّا يوجب انسلاخ الظهور الشخصي.

ورابعها : قد سبق عن أبي عبد اللّه البصري القول بأنّ الوصف إذا كان واردا للبيان أو التعليم أو كان ما عدا الصفة داخلا تحتها يدلّ على النفي عمّا عداه.

واعترض عليه بعض الأعاظم : بأنّه وإن كان حقّا لكن لا من جهة الوصف ، بل في الأوّلين من أجل وروده للبيان فإنّ ذلك يفيد الحصر ، وليس هذا مخصوصا به بل كلّ ما ورد للبيان فعلا أو تقريرا أو قولا منطوقا أو مفهوما - ولو لقبا - يفيد الحصر ، كيف ولولاه لما تمّ به البيان ، فالبيان إنّما هو المفيد للحصر دون غيره وإلاّ لما كان بيانا ، فظهر عدم مدخليّة الوصف في ذلك.

وأمّا الثالث فلأجل كونه من جهة القرينة ، فإنّ الشيء إذا كان داخلا في الشيء وتعلّق به الحكم فرفع ما كان تحته يقتضي رفعه ، ضرورة استلزام رفع الجزء رفع الكلّ ، وبه يرتفع الحكم المتعلّق بالكلّ وقد ارتفع فلا متعلّق له ، مع أنّه لولاه لزم بطلان [ المنطوق ] ألا ترى أنّه لو قيل : « أحكم بشاهدين من رجالكم » منعنا من قبول الشاهد الواحد ، لقضاء انتفاء الشاهد انتفاء الشاهدين ، والمفروض توقّف الحكم بشهادتهما فلا يمتثل بدونهما.

وبما مرّ بان حجّيّة مفهوم البيان على الإطلاق مضافا إلى أنّها مقطوع بها.

قال في المنتهى : « التخصيص في معرض البيان يدلّ على النفي إجماعا إلاّ أنّه خارج عن نظم المفاهيم السابقة ، ومن فروعه جواز الجمع بين الفاطميّين » (1) انتهى.

ص: 372


1- إشارات الاصول : 247.

أصل

والأصحّ أنّ التقييد بالغاية يدلّ على مخالفة ما بعدها لما قبلها* ،

___________________________

*وتنقيح المبحث يستدعي رسم امور من باب المبادئ.

الغاية تطلق على معان ليس من المتنازع فيه إلاّ بعضَها

الأمر الأوّل

في أنّ « الغاية » تطلق على معان ليس من المتنازع فيه إلاّ بعضها.

منها : الفائدة المطلوبة من الشيء ، على ما هو المنساق منها في مواضع إطلاقها على هذا المعنى والمصرّح به في كلام أهل اللغة.

قال في المجمع : « والغاية ، العلّة الّتي يقع لأجلها الشيء » (1) فما في بعض العبارات من أخذ الفائدة على الإطلاق في معناها على هذا الإطلاق خطأ ، للقطع بكون الفائدة عبارة عمّا يترتّب على الشيء وهو أعّم من كونها مقصودة من الشيء ، والغاية للأخصّ.

ومنها : المسافة الّتي نصّ بها في المجمع أيضا بقوله : « والغاية المسافة » (2).

ولا يذهب عليك أنّ المسافة ظاهرة في حصّة من المكان إذا طرأه التحديد الخطّي كما يستشمّ ذلك أيضا عن المجمع في قوله : « والمسافة هي البعد وأصلها من الشمّ ، وكان الدليل إذا كان في فلاة أخذ التراب فشمّه ليعلم أعلى قصد هو أم جور فإن استاف رائحة الأبوال والأنعام علم أنّه على جادّة وإلاّ فلا ؛ يقال : ساف الرجل الشيء يسوفه - من باب قال - إذا شمّه » (3).

نعم قد يطلق في لسان النحاة على ما يعمّ ذلك وغيره ممّا يضاف إلى الزمان أو غيره كقولهم : « من » لابتداء الغاية و « إلى » لانتهاء الغاية مكانا أو زمانا أو غيرهما.

فما يقال عند ذكر هذا المعنى : من أنّ من معاني الغاية المسافة بالمعنى الأعمّ ، أي ما يمكن تحديده بالبداية والنهاية مكانا كان أو زمانا أو غيرهما كما هو المتداول في ألسنة النحاة ، إن اريد به كونه من معانيها في هذا الاصطلاح كما يومئ إليه التشبيه فهو كذلك ، وإلاّ فللتأمّل فيه مجال إذ لا يساعد عليه الانسباق العرفي ولا التنصيص اللغوي كما عرفت.

وممّا ذكر تبيّن فساد ما عن صاحب التلويح من أنّ المراد بالغاية في مثل قولنا : « من » لابتداء الغاية و « إلى » لانتهاء الغاية » المسافة إطلاقا لإسم الجزء على الكلّ إذ الغاية هو النهاية ، فإنّ ذلك لا يستقيم على تقدير كون المسافة بنفسها من معاني الغاية ، وهل البداية

ص: 373


1- مجمع البحرين ، مادّة « ».
2- مجمع البحرين ، مادّة « غيا ».
3- مجمع البحرين ، مادّة « سوف ».

والنهاية جزءان للمسافة أو فردان لها؟ وجهان بل قولان ، أحدهما ما عرفت عن التلويح ، والآخر ما عن الجلبي من أنّ التوجيه الخالي عن شائبة التعسّف أن يقال : انّ الغاية مستعملة في معناها الحقيقي وهو جنس ، والابتداء والانتهاء فردان له ، فكأنّ إضافتهما إليها إضافة الفرد إلى الجنس.

والحقّ أن يقال : إنّ البداية والنهاية إن أضفناهما إلى مصداق المسافة كانا جزئين لهما لا محالة.

وإن أضفناهما إلى مفهومها كان فردين لها فهي من باب الجنس الشامل للقليل والكثير.

وكان الخلاف بين الجلبي ومن تقدّم عليه لفظيّ كما لا يخفى على المتأمّل.

وأمّا ما عرفت عن الجلبي من جعل إضافتهما إلى المسافة من باب إضافة الفرد إلى الكلّي ، ففيه : ما لا يخفى على الأديب ، فإنّ إضافة الأخصّ إلى الأعمّ ممّا لا يصحّ عند أهل الأدب.

ومنها : النهاية الّتي صرّح بها في المجمع بقوله : « والغاية منتهى الشيء ونهايته ، ومنه سمّيت الظروف كقبل وبعد غايات ، لأنّ غاية الكلام كانت ما اضيفت هي إليه ، فلمّا حذفت صرن غايات ينتهي بهنّ الكلام ، ومنه أيضا ما في الحديث : « الموت غاية المخلوقين » (1) أي نهايتهم الّتي ينتهون إليها » (2).

والظاهر أنّ المنتهى إليه الشيء مقول بالاشتراك على ما يبلغه ذلك الشيء ولا يتجاوزه إلى غيره ، وعلى ما ينقطع عنده ذلك الشيء.

والفرق بينهما حقيقي يظهر بأدنى تأمّل.

وإن شئت فعبّر عن الأوّل بآخر المسافة بالمعنى الأعمّ ، وعن الثاني بما بعد المسافة ، وهذان الاعتباران يجريان في المعنى الحرفي الرابطيّ المأخوذ مدلولا لكلمة « إلى » و « حتّى » كما يشهد به الاستعمالات الواردة لدى العرف وأهل اللغة ، فمن الأوّل قولك : « ملك الأمير البلاد أو فتحها من ساحل البحر مثلا إلى الشام » وقوله تعالى : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) (3) ومن الثاني قولك : « ملك الأمير البلاد من طهران إلى بغداد » وقوله تعالى : ( أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) (4) ولو قيل : « قرأت القرآن إلى آية كذا أو إلى سورة كذا » كان محتملا فلا بدّ في التعيين من إعمال القرينة.

ص: 374


1- مصباح المتهجّد : 660.
2- مجمع البحرين مادّة « غيا ».
3- المائدة : 6.
4- البقرة : 187.

ومحصل الفرق بينهما : أنّ ما بعد « إلى » على المعنى الأوّل محكوم عليه بما حكم به في الكلام على ما قبله ، بخلاف المعنى الثاني لكون ما بعدها حينئذ خارجا عن ذلك.

وممّا ذكر يتبيّن منشأ الخلاف المعروف عن النحاة في دخول الغاية في المغيّا أو خروجها عنه ، فإنّ مبنى القول الأوّل على دعوى ظهور المعنى الأوّل ومبنى القول الثاني على دعوى ظهور المعنى الثاني ، ومبنى التوقّف على تساوي الاحتمالين كما هو الأظهر ، فقولك : « سرت من البصرة إلى الكوفة » قد تريد به أنّه صدر منّي السير من البصرة وبلغ الكوفة ولم يتجاوزه ، وقد تريد به أنّه صدر منّي [ السير من البصرة ] والقطع عند الكوفة ، ومفاد الأوّل يرجع إلى : أنّ آخر سيري ما تحقّق في الكوفة ، ومفاد الثاني إلى : أنّ آخر سيري ما تحقّق قبل الكوفة ، ومرجع الخلاف المذكور إلى أنّ اللفظ بحسب الوضع اللغوي أو الانسياق العرفي ظاهر في أيّ المعنيين؟ وستعرف أنّه غير ظاهر في شيء منهما حيثما تجرّد عن القرينة الخارجة وإلاّ فالمتّبع ما اقتضته القرينة.

وقد يقال : إنّ الغاية بمعنى « النهاية » قد تطلق ويراد بها الجزء الأخير من المسافة ، وقد تطلق ويراد منها ما بعد المسافة كما يقال : « غاية الصوم الليل » و « غاية السجود رفع الرأس » وقد يطلق ويراد منها الأمر الانتزاعي الّذي ينتزعه الوهم واسطة بين المسافة وما بعدها بحيث لو قسناه إلى السجود في المثال الثاني كان متأخّرا عنه ولو قسناه إلى الرفع كان متقدّما عليه.

وأنت خبير بأنّ هذا الأخير ممّا لا شاهد عليه ، وكأنّه نشأ عمّا تكلّفه بعض الفضلاء في تشخيص موضع النزاع هنا وستعرف ضعفه.

وقد يجعل من معاني الغاية دخول « إلى » و « حتّى » كما في قولهم : هل يدخل الغاية في المغيّا أم لا؟

وقد يقال : بأنّه قد يتسامح ويسمّى نفس « إلى » و « حتّى » غاية ، كما في تعبير بعضهم هل تدخل ما بعد الغاية في المغيّا أم لا؟

موضع الكلام في المقام الغاية بمعنى النهاية

الأمر الثاني

موضع الكلام في المقام إنّما هو الغاية بمعنى « النهاية » بمعناها الأوّل ، وهو بلوغ الحكم في موضوعه حدّا يكون آخر المسافة على حسبما اقتضته أداة الغاية ، كما يرشد إليه دليلهم المعروف من أنّ تقييد الحكم بالغاية لو لم يدلّ على مخالفة ما بعد الغاية لما

ص: 375

قبلها لخرج الغاية عن كونها آخرا إلى كونها وسطا.

فصار محصّل العنوان في قوّة أن يقال : تعليق الحكم على موضوع له آخر محدود معيّن هل يدلّ على انتفاء ذلك الحكم عمّا بعد ذلك الآخر أو لا يدلّ عليه؟ وظاهر أنّ هذا العنوان لا اختصاص له بشيء من قولي خروج الغاية عن المغيّا أو دخولها فيه ، بل يجري في كلّ منهما جريه في صاحبه ، لما عرفت من أنّ ذلك خلاف يرجع إلى تشخيص « الآخر » من حيث تردّده بين كون مدخول الأداة أو ما قبله ، فهو بحث عن محلّ النهاية فيكون راجعا عند التحقيق إلى منطوق الكلام لا عمّا بعد النهاية ليكون بحثا عن المفهوم بخلاف الخلاف المتحقّق في المقام ، فإنّه كلام عمّا بعد « الآخر » بعد تبيّن « الآخر » ولو بالقرينة ، سواء كان محلّه مدخول الأداة أو ما قبله ، فلذا يكون البحث عنه بحثا عن المفهوم.

فما في الضوابط (1) من جعل هذا الخلاف مرتّبا على الخلاف في دخول الغاية وخروجها ، ومبنيّا على القول بدلالة اللفظ على الدخول أو على القول بعدم دلالته على شيء من الدخول والخروج - تعليلا : بأنّه على القول بالدلالة على الخروج فلا يتصوّر النزاع في المقام ، إذ لو دلّ اللفظ على خروج الغاية عن المغيّا فما بعدها أولى بالخروج - فواه جدّا - منشؤه عدم التدبّر في فهم البراهين مع وضوح الفرق بينهما موضوعا ومحمولا ، وعدم ابتناء شيء منهما على الآخر.

وأيضا قد عرفت أنّ معنى دلالة اللفظ على خروج الغاية عن المغيّا دلالته على انتفاء الحكم المنطوقي عنها ، وهو غير الدلالة المفهوميّة الراجعة إلى الدلالة على نفي سنخ الحكم عن غير محلّ النطق ، فلم لا يجوز أن يكون اللفظ دالاّ على الخروج بالنسبة إلى الحكم المنطوقي وساكتا عن الدلالة نفيا وإثباتا بالنسبة إلى سنخ الحكم؟ فليتدبّر.

وممّا قرّرناه يتّضح أنّ ما في كلام بعض الأعلام عند بيان معنى العنوان من « أنّ المراد أنّ تعليق الحكم بغاية يدلّ على مخالفة حكم ما بعد النهاية لما قبلها ، وأمّا النهاية ففيها خلاف آخر ذكروه في مبحث بيان أنّ « إلى » لانتهاء الغاية » (2) ليس بسديد ، إلاّ أن يرجع الخلاف الآخر إليه في تعيين محلّ النهاية بمعنى الآخر فينطبق على ما بيّنّاه ، وإلاّ فالغاية بمعنى « النهاية » إذا كان المراد بها الآخر كائنا ما كان فكيف يتصوّر فيه خلاف آخر في المبحث المذكور ، بل المراد بها هنا النهاية بمعنى الآخر وثمّة مدخول الأداة وهو أعمّ من

ص: 376


1- الضوابط : 125.
2- القوانين : 186.

كونه محلاّ للآخر أو ما بعده ، فلذا كان النزاع ثمّة في تعيين الآخر وهنا في حكم ما بعد الآخر ، سواء كان محلّه المدخول أو ما قبله.

كما يتّضح به أيضا فساد ما ذكره التفتازاني في تحقيق المقام من أنّ ما بعد الغاية لم يقع فيه نزاع ، إذ لم يقل أحد بدخول ما بعد المرافق في الغسل ، وإنّما النزاع في نفس الغاية كزمان غيبوبة الشمس ونفس المرافق هل يلزم انتفاء الحكم فيه ، ولا معنى لمفهوم الغاية سوى أنّها لا تدخل في الحكم بل ينتفي الحكم عند تحقّقها ، وهو محكيّ عن العضدي كما يستفاد من التفتازاني أيضا حيث صدر منه العبارة المذكورة عند شرح كلام العضدي.

وأمّا ما عن بعضهم أيضا من أنّ المراد بما بعد الغاية هنا هو المذكور بعد الأداة فقط « كالليل » في آية الصوم فيكون المراد بالغاية أداتها ، فأوضح فسادا من الجميع.

ومن الفضلاء من تكلّف في هذا المقام تكلّفا خارجا عن مقصود العنوان بالمرّة فقال : « والمراد بالغاية هنا غير الغاية في قول النحاة : « إلى » لانتهاء الغاية ، فإنّ المراد بها هناك المسافة ، وغير الغاية في قولهم : هل يدخل الغاية في المغيّا أو لا؟ فإنّ المراد بالغاية هناك ما دخلت عليه أداة الغاية كالكوفة في قولك : « سرت إلى الكوفة » والليل في قولك : « صمت إلى الليل » وإنّما المراد بها هنا النهاية.

وهي عند التحقيق أمر اعتباري ينتزع من المغيّا من حيث ينقطع استمراره فهي في قولك : « صم إلى الليل » أمر اعتباري بين الصوم والليل بناء على خروج الغاية ، إن قيس إليه الصوم كان متقدّما عليه وإن قيس إليه الليل كان متأخّرا عنه ، نظيره السطح المشترك بين الجسمين ، فدخل ما بعد الأداة في محلّ النزاع على القول بعدم دخول الغاية في المغيّا أو عند قيام قرينة عليه ، إذ يصدق عليه حينئذ أنّه ما بعد الغاية بالمعنى المذكور ، ويخرج عنه على القول الآخر أو إذا قام قرينة على الخروج ويدخل فيه ما بعده » انتهى (1).

وفيه : مع ما فيه من التكلّف الواضح الّذي لا حاجة إلى ارتكابه ، أنّه واضح الفساد ، إذ قد عرفت أنّ النهاية هنا عبارة عن آخر المسافة والمسافة في قوله : « صم إلى الليل » عبارة عن زمان محدود يقع فيه الصوم أوّله الجزء المقارن لطلوع الفجر وآخره الجزء المتّصل بالليل ، وهو كما ترى أمر حقيقي يدركه الأفهام البادية فضلا عن الأفهام العالية.

فكيف ينزّل على الأمر الاعتباري الموهومي الّذي لا حقيقة له ولا يدركه الذهن

ص: 377


1- الفصول : 153.

السليم والطبع المستقيم ، والمغيّا هو الزمان المذكور في المثال ، والغاية بمعنى النهاية جزؤه وجزء الشيء الحقيقي لا يكون أمرا اعتباريّا.

وبالجملة لا إشكال في أنّ الكلام في حكم ما بعد الغاية بمعنى « النهاية » بمعنى آخر المسافة ، وهو أمر حقيقي عيّنه اللفظ المشتمل على الأداة مطلقة أو مع القرينة ولا مدخل للاعتبار فيه أصلا ، سواء فرضنا محلّه المذكور بعد الأداة أو ما قبلها ممّا وقع موضوعا للحكم من مكان أو زمان أو غيرهما ، ولا ابتناء له على شيء من أقوال الغاية من حيث الدخول والخروج لكونه ، كلاما في تعيين « الآخر » وهو عند التحقيق كلام في تشخيص ما هو من موضوع محلّ الكلام.

تحقيق معنى « الحكم » في محلّ النزاع

الأمر الثالث

يظهر من الفاضل المتقدّم تردّد في تحقيق معنى « الحكم » في محلّ النزاع ، من حيث انّ المراد به في طرفي نفي الدلالة وأمثالها هل هو نوعه المتناول لمثل ما ثبت بالخطاب المشتمل بالغاية أو شخصه المدلول عليه بذلك الخطاب؟ مع موافقته للنافين على الأوّل والمثبتين على الثاني حيث قال : « فاعلم أنّ النزاع يتصوّر هنا في مقامين :

الأوّل : أنّ التقييد بالغاية هل يقتضي مخالفة ما بعدها لما قبلها مطلقا بحيث يكون المفهوم من قولنا : « صم إلى الليل » أنّه لا أمر بالصيام [ بعدها ] مطلقا ولو بأمر آخر أو لا يقتضي ذلك؟

الثاني : أنّ التقييد بها هل يقتضي المخالفة بالنسبة إلى الحكم المذكور ، بحيث يكون المفهوم في المثال المذكور انقطاع الصوم المأمور به بذلك الأمر عند مجيء الليل أو لا يقتضي ذلك؟ حتّى أنّه يجوز أن يكون الصوم المطلوب بذلك الخطاب مستمرّا بعد الليل أيضا من غير شهادة في اللفظ على خلافه.

فنقول : إن كان النزاع في المقام الأوّل كما هو ظاهر كلماتهم بل صريح بعضها فالحقّ فيه مع من أنكر الدلالة ، وإن كان في المقام الثاني فالحقّ فيه مع من أثبتها » إلى آخر ما ذكره (1).

وأنت خبير بأنّ ذلك ليس على ما ينبغي ، بل النزاع في المقام الثاني غير معقول فإنّ انتفاء الحكم المذكور إن اريد به الحكم الشخصي المقيّد عن غير محلّ النطق ممّا لا ينكره أحدكما هو الحال في سائر المفاهيم ، نظرا إلى قصور عبارة الخطاب المشتمل على التعليق

ص: 378


1- الفصول : 153.

عن الدلالة على ثبوته لغير محلّ النطق أيضا ، وأنّه لولاه لخرج المنطوق المتّفق على ثبوته عن كونه منطوقا ، أو رجع النزاع في المفهوم إلى كونه نزاعا في المنطوق ، وأنّ الحكم المذكور من جهة اختصاصه بمحلّ النطق حكم شخصيّ وجزئي حقيقي غير قابل للسراية والتعدّي إلى غير موضوعه المذكور في الكلام ، فانتفاؤه عن غير محلّ النطق من مقتضيات ذاته من حيث قصور العبارة عن الدلالة على ثبوته له ، لا من جهة دلالة الخطاب عليه وكونه من مقاصد المتكلّم ، مع أنّ القيد الوارد في الكلام على تقدير كونه قيدا للحكم - ولو تبعا لموضوعه - إنّما يعرض الحكم الكلّي الملحوظ قبل النطق فيصيّره شخصين ، أحدهما : المثبت لمحلّ النطق وهو المذكور في الكلام الّذي يقال له : « المنطوق » والآخر : المنفيّ عن غير محلّ النطق على القول بالدلالة وهو « المفهوم » فكيف يتصوّر رجوع النفي والاثبات إلى الأوّل.

هل الغاية قيد راجع إلى الحكم أو الموضوع؟

الأمر الرابع

ربما يظهر في المسألة خلاف صغروي يعبّر عنه : بأنّ الغاية هل هو قيد راجع إلى الحكم أو إلى موضوعه؟ حتّى أنّ منهم من جعل مبنى القول بالدلالة على مخالفة ما بعد الغاية لما قبلها على الأوّل.

فمن أفاضل العصر من صرّح به تعويلا على العرف ، حتّى أنّه في دفع ما أورده على نفسه في هذه الدعوى من أنّ القيود الواردة في الكلام على ما ذكروه متعلّقة بمادّة الفعل لا بهيئته اضطرّ إلى تكلّف تكلّفه وهو : أنّ الأمر وإن كان كذلك ، إلاّ أنّ جعل الشيء قيدا للمادّة على نوعين ، فقد يلاحظ المادّة مقيّدة بالقيد ثمّ يحكم عليها بوجوب أو تحريم أو غيرهما ، وقد تلاحظ معروضة للحكم من وجوب أو غيره ثمّ تقيّد ، والمستفاد عرفا من نحو « صم إلى الليل » هو المعنى الثاني.

وهذا كما ترى ، ويمكن استفادة ذلك أيضا من عناوين أهل القول بالدلالة ، فإنّها بين مصرّحة بتقييد الحكم وظاهرة فيه كما هو ظاهر للمتتبّع.

ومن الفضلاء (1) من يظهر منه الجزم بالثاني ، مصرّحا : « بأنّ توابع الفعل ومتعلّقاته قيود لمدلول [ مادّته ] ويمكن تنزيل مقالة المنكرين للدلالة على المصير إلى هذا الاعتبار ، بدعوى : أنّ مفاد قوله : « صم إلى الليل » يرجع إلى أنّه يجب الإمساك المحدود بكون آخره

ص: 379


1- الفصول : 154.

الليل ، وهذا المعنى كالتقييد بالصفة لا ينافي وجوب غيره ، بل يفصح عن ذلك ظاهر عبارة السيّد المنقولة عنه في ذيل احتجاجه على نفي الدلالة على النفي كما في كلام المصنّف وهي : « أنّ من فرّق بين تعليق الحكم بصفة وتعليقه بغاية ليس معه إلاّ الدعوى وهو كالمناقض بفرقه بين أمرين لا فرق بينهما » (1) وهذا هو الّذي يقتضيه الإنصاف ومجانبة الاعتساف.

لنا على ذلك : ما يستفاد من أهل العربيّة من أنّ توابع الكلام من المفاعيل وما يشبهها كالحال والتميز في أحد قسميه والظروف وما في حكمها كالمجرور بالحروف ، متعلّقات للفعل - ولو باعتبار المعنى - عدا جملة من التوابع الخمس المعهودة في بعض أحوالها كما لا يخفى ، ولذا لا عامل لها إلاّ الفعل ، مع قضاء الوجدان الصريح والذوق الصحيح بتأخّر رتبة الحكم - كالطلب الحتمي المتعلّق بالمادّة مثلا - عن تصوّر الفعل وظهور رجحانه عند المتكلّم ، وظاهر أنّ الرجحان وصف لا يظهر إلاّ بعد ملاحظة الفعل مع جميع الجهات الّتي لها مدخليّة في انعقاد هذا الرجحان من زمان أو مكان أو حالة أو اعتبار أو نحو ذلك ، ولا يكون ذلك إلاّ على تقدير [ كون ] الجهات المذكورة من مشخّصات الفعل.

ألا ترى أنّك في قولك : « اضرب زيدا راكبا ، أو يوم الجمعة ، أو في الدار ، أو تأديبا ، أو ضربا شديدا » لا تتكلّف بتركيب هذا الكلام ولا إنشاء مفاده إلاّ بعد ما ترجّح في نظرك ضرب زيد حال الركوب ، أو ضربه يوم الجمعة ، أو ضربه في الدار ، أو ضربه للتأديب ، أو ضربه الشديد.

ومن هنا قيل : إنّ مدلول الهيئة يرد على المادّة بعد اعتبار قيودها وحيثيّاتها ، وعلى هذا القياس التقييد بالغاية في نحو « صم إلى الليل » فإنّ الضرورة قاضية بأنّ السابق إلى ذهن المتكلّم أوّلا هو ظهور رجحان هذا المقدار من الإمساك ، وقضيّة ذلك كونها من قيود الإمساك.

ويؤيّده ما في كلام أهل العربيّة من أنّ الحروف ليس لها معان مستقلّة بنفسها بل هي امور نسبيّة رابطيّة ملحوظة آلة لتعرف حال الغير المعبّر بمتعلّقاتها ، فإنّ « من » و « إلى » في قولك : « من البصرة إلى الكوفة » إنّما يؤتى بهما لتعرف حال السير والبصرة والسير والكوفة من حيث كون البصرة محلاّ لابتداء السير والكوفة محلاّ لانتهائه - إمّا بمعنى بلوغه إيّاها أو بمعنى انقطاعه عندها - وهذا هو معنى ما ذكرناه في غير موضع من كون « من » وضعا للنسبة بين شيئين من حيث كون أحدهما مبدأ للآخر ، و « إلى » وضعا للنسبة بينهما من

ص: 380


1- الذريعة إلى اصول الشريعة 1 : 408.

حيث كون أحدهما منتهى للآخر ، مع أنّا نجد من أنفسنا في قولنا : « سرت من البصرة إلى الكوفة » أنّا لا نريد منه إلاّ الإخبار عن أنفسنا بالسير المحدود بهذا الحدّ الممتدّ من البصرة إلى الكوفة وهو المنساق منه في متفاهم العرف أيضا ، وإبداء الفرق بين الإخبار والإنشاء - مع أنّه لا قائل به مكابرة - لا يلتفت إليها بل شبهة في مقابلة البديهة ، كما أنّ دعوى كون المتعلّقات قيودا للمادّة قد يكون بحيث يلاحظ المادّة متعلّقة للوجوب ثمّ يلحق بها التقييد مكابرة يكذبها الوجدان ، لتقدّم لحوق القيد على عروض الحكم وضعا وطبعا ، مع أنّ الغاية المتنازع فيها على ما سبق تحقيقه هي النهاية. والمراد بها - على ما هو المصرّح به في كلام النحاة في مسألة أنّ « إلى » لانتهاء الغاية مكانا أو زمانا أو غيرهما نهاية المسافة ، والمسافة إمّا مكان أو زمان أو ما هو بمنزلتهما ، كمحلّ القراءة من الآيات والسور في قولك : « قرأت الكتاب إلى آية كذا أو سورة كذا » وأيّا مّا كان فهو ظرف للحدث المحكوم عليه بحكم إخباري أو إنشائي ، أو كالظرف له وهو مطلق المحلّ فيكون قيدا له لا غير.

ولا ينافيه تعبيرهم في عناوين المسألة على القول بمفهوم الغاية بتقييد الحكم صراحة وظهورا ، لأنّ موضوع الحكم معروض له ، وتقييد المعروض يستلزم تقييد العارض تبعا باعتبار أنّه يعرض موضوعا مقيّدا بالغاية ، فالتقييد يلحق الموضوع أوّلا وبالذات ، ويصحّ إسناده إلى الحكم العارض له ثانيا وبالعرض ، وبالنظر إلى هذا الاعتبار يقال : تقييد الحكم بالغاية ، فتأمّل.

فلا يرد : أنّه لا فائدة في هذا النزاع بعد إرجاع تقييد الموضوع بالأخرة إلى تقييد الحكم وظاهر أنّ تعلّق الحكم ، بموضوع مقيّد بالآخر المعيّن لا ينافي ثبوت مثله لموضوع آخر نحوه من باب تعدّد المكلّف به ، على حسب تكليفين منفصلين ثبت كلّ منهما بخطاب غير خطاب الآخر ، نظير صلاة العصر المأمور بها عقيب صلاة الظهر المأمور بها.

لا يقال : إذا كان مبنى انتفاء الحكم على تقدير جعل الغاية قيدا له على استلزام انتفاء القيد لانتفاء المقيّد ، فهذا الاعتبار يجري بعينه في جانب الموضوع على تقدير جعلها قيدا له ، فلا يبقى فرق بين التقديرين فخرج النزاع بلا فائدة أيضا.

لأنّا نقول : معنى استلزام انتفاء القيد لانتفاء المقيّد على تقدير إرجاعه إلى الموضوع أنّ هذا الموضوع ينتفي فيما بعد الغاية ، ولا ينافي ذلك كون ما بعدها موضوعا آخر لحكم آخر مثل الحكم الأوّل الثابت للموضوع الأوّل.

فإن قلت : لو صحّ ما قرّرته من كون الغاية قيدا للموضوع لرجع المسألة إلى مسألة

ص: 381

وفاقا لأكثر المحقّقين*. وخالف في ذلك السيّد رضى اللّه عنه فقال : « تعليق الحكم بغاية ، إنّما يدلّ على ثبوته إلى تلك الغاية ، وما بعدها يعلم انتفائه أو إثباته بدليل » **. ووافقة على هذا بعض العامّة.

لنا : أنّ قول القائل : « صوموا إلى الليل » ، معناه : آخر وجوب الصوم مجيئ الليل***.

___________________________

مفهوم الوصف على معنى مطلق القيد ، فلا داعي إلى إفرادها بعنوان مستقلّ إلاّ ثبوت الامتياز بينهما بكون الغاية ثمّة قيدا للموضوع وهنا قيدا للحكم.

قلت : قد عرفت بناء النزاع في هذه المسألة على النزاع في أمر صغروي ليس بمتّفق عليه ، فلا ضير في تعدّد العنوانين.

ولو سلّم كونه كذلك عند الجميع فالداعي إلى تعدّد العنوان حينئذ هو كون احتمال الانتفاء هنا أقوى منه ثمّة ، حتّى أنّه زعمه الأكثرون ظهورا عرفيّا حتّى قيل : إنّه مفهوم أقوى من مفهوم الشرط ، نظرا إلى أنّ تراكيب الكلام تختلف في نظر العرف من حيث الدلالة والظهور وعدمهما ، وكلّ تركيب له خصوصيّة لا توجد في غيره ، وكون مبنى بعض التراكيب على انتفاء الحكم بانتفاء قيد الموضوع لا يستلزم كون مبنى غيره أيضا على ذلك.

* وفي المنية : ذهب إليه جماعة من الفقهاء والمتكلّمين كالقاضيين وأبي الحسين البصري ، واختاره فخر الدين والمصنّف ، وقد يعزى إلى الغزالي أيضا وقد ينسب إلى الأكثرين.

** وعزاه في المنية إلى أصحاب أبي حنيفة وجماعة من الفقهاء ، وقد يضاف إليهم أبو حنيفة والآمدي ، واختاره من متأخّري أصحابنا الفاضل التوني والسيّد في شرحه للوافية ، وقد يحكى عن الشيخ أيضا.

*** وتبعه في هذا التقرير جماعة منهم بعض الأعلام وبعض الأعاظم ، وهو ظاهر البهائي أيضا ، وكأنّه اريد من مجيء الليل دخوله بحيث يكون الآخريّة قائمة بالجزء الأوّل من الليل.

ويرد عليه أوّلا : ابتناؤه على جعل الغاية قيدا للحكم ، وقد عرفت أنّه خلاف التحقيق.

وثانيا : استحالة كون الجزء من الليل آخر وجوب الصوم ، لأنّ آخر الشيء كأوّله جزءان منه فيجب أن يكون من جنس ذلك الشيء ، والبينونة بين الوجوب والليل واضحة

ص: 382

لا حاجة إلى بيانها.

ولو وجّه : بوقوع هذا التعبير مسامحة ، وإلاّ فالمراد عند التحقيق بيان كون آخر وجوب الصوم الجزء المتّصل منه بالليل بحيث لم يلحقه جزء آخر.

ورد عليه : أنّ الوجوب إن اريد به الإيجاب الّذي هو من فعل المتكلّم فهو غير قارّ بالذات فلا إمتداد له حتّى يفرض له أوّل وآخر ، وإن اريد به الأثر الحاصل منه القائم بالفعل فهو عرض من مقولة الكيف فلا يقبل لذاته قسمة ولا نسبة ، بل القابل للقسمة محلّه الّذي هو الصوم أو زمان وقوعه ، إذ الامتداد المعتبر في انقسام الشيء إلى أوّل وآخر ووسط يطرأ أحدهما لا غير ، فانقسام الوجوب حينئذ تكون بالعرض والمجاز ، وكلمة « إلى » أو « حتّى » ظاهرة في الآخريّة اللاحقة للشيء على سبيل الحقيقة فلا يكون محلّها إلاّ أحد الأمرين.

وإن وجّه أيضا : بأنّ المراد من آخر وجوب الصوم آخر الصوم الواجب الّذي يفرض له أوّل وآخر وما بينهما.

توجّه إليه أيضا أوّلا : عدم كون الليل من جنس الصوم فلا يكون جزء أخير منه.

وثانيا : أنّ مرجع الدليل على هذا التقرير حينئذ إلى ما قرّره السيّد في المفاتيح - كما في تهذيب العلاّمة ومنية السيّد - من أنّ معنى « صوموا إلى الليل » بحكم التبادر صوما يكون آخره الليل ، فلو وجب بعدها لم يكن الليل آخرا بل وسطا.

ويرد عليه حينئذ : ما أشرنا إليه سابقا من أنّ تعلّق الوجوب بصوم آخره الليل لا ينافي وجوب ما بعده بتكليف آخر من باب تعدّد المكلّف به على حسب تعدّد التكليف ، ولا يوجب ذلك خروج آخر الأوّل عن كونه آخرا إلى كونه وسطا ، كما لا يوجب وجوب صلاة العصر عقيب الظهر خروج آخر الظهر عن كونه آخرا إلى كونه وسطا ، وهذا واضح.

واعترض المدقّق الشيرواني على تقرير المصنّف : بأنّه على ما ذكره المصنّف يلزم أن يكون المفهوم من جملة المنطوق ، لأنّه إن أراد بآخر وجوب الصوم ما ينتهي إليه وينقطع عنده فقد صار المفهوم منطوقا ، وإن أراد ما ينتهي إليه سواء انقطع عنده أو لم ينقطع فلا يلزم خلاف المنطوق.

وفيه : - بعد الإغماض عن كون إطلاق آخر وجوب الصوم على الليل أو مجيئه مسامحة ، نظرا إلى أنّ آخر وجوبه الجزء المتّصل منه بالليل وهو جز ، أخير من المنطوق - بطلان الترديد بكلا شقّيه ، لأنّ كون الشيء آخر شيء آخر معناه كونه الجزء الأخير منه

ص: 383

فلو فرض ثبوت الوجوب بعد مجيئه ، لم يكن الليل آخرا ، وهو خلاف المنطوق*.

___________________________

الّذي لم يلحقه جزء آخر ، وكونه جزءا أخيرا منه بهذا المعنى يستلزم انتفاؤه فيما بعده ، فكون آخر وجوب الصوم مجيء الليل يستلزم انتفاؤه بعد مجيئه.

ودليل الملازمة : ما أشار إليه المصنّف من أنّه لو فرض ثبوت الوجوب بعد مجيء الليل لم يكن الليل آخر - ولو على معنى أنّه لم يكن ما اتّصل بالليل آخرا - وهو خلاف المنطوق من حيث ابتنائه على كون ذلك آخرا ، فلا يلزم صيرورة المفهوم منطوقا ، لأنّه إنّما يلزم ذلك على تقدير جعل الآخريّة المدلول عليها بكلمة « إلى » مفهوما.

وقد عرفت أنّه ليس بمراد ، بل المراد جعل المفهوم ما يستلزمه تلك الآخريّة وقوله : « فلو فرض » إلى آخره ، دليل على الملازمة لا أنّه دليل على الملزوم.

ودفعه السيّد في شرحه للوافية : « بأنّه يمكن أن يقال : إنّه لم يرد بالآخر المنتهى مع ملاحظة أنّ نفسه أو ما بعده حكمه خلاف حكم ما قبله ، فلا يلزم المحذور الأوّل ، ولا المنتهى مع ملاحظة كونه أو كون ما بعده أعمّ من أن يكون موافقا أو مخالفا ، بل أراد المنتهى لا بشرط شيء آخر من تخصيص أو تعميم ، ويدّعى أنّ كون الشيء منتهى يستلزم بنفسه كونه أو كون ما بعده محكوما عليه بحكم مخالف لما قبله ، وبيّنه على ذلك أنّه لو ارتفع ذلك اللازم لارتفع الملزوم الّذي هو المنطوق.

ويفصح عن مراده ما قاله في جواب السيّد : « أنّ اللزوم هاهنا ظاهر ، إذ لا ينفكّ تصوّر الصوم المقيّد بكون آخره الليل مثلا عن عدمه في الليل » انتهى كلامه رفع مقامه.

وفيه : أنّ ذلك توجيه بما لا يرضى به المصنّف ، لأنّ لا بشرط شيء من التخصيص والتعميم لا ينافيه شيء من التخصيص والتعميم وإن لم يكونا ملحوظين معه بالخصوص ، فيكون أعمّ والعامّ لا يعقل فيه دلالة على الخاصّ ، فيكون محصّله إلى إنكار الدلالة ، ومعه كيف يدّعى أنّ كون الشيء منتهي بهذا المعنى يستلزم بنفسه كونه أو كون ما بعده محكوما عليه بحكم مخالف لما قبله ، على أنّ كون شيء منتهى لشيء لا ينافيه ثبوت ذلك الشيء فيما بعده ، كما لا يخفى على المتأمّل.

* وعن المدقّق الاعتراض عليه أيضا : بأنّ فيه نظرا ظاهرا ، فإنّه لو كان خلاف المنطوق لكان الكلام مع التصريح بعدم إرادة المفهوم مجازا ولم يقل به أحد.

وفيه : منع الملازمة لعدم انحصار مخالف الظاهر في المجاز ، وكما أنّ إيراد ما ظاهره

ص: 384

الإطلاق مع إرادة التقييد ارتكاب لخلاف الظاهر ، فكذلك إيراد ما ظاهره التقييد مع إرادة الإطلاق مصير إلى خلاف الظاهر ، والكلام المشتمل على أداة الغاية ظاهره التقييد وهو منطوق الكلام ، وفرض عدم الانتفاء عمّا بعد الغاية مفض إلى إرادة الإطلاق وهو خلاف المنطوق الّذي هو المقيّد ، فيكون التصريح بعدم إرادة المفهوم تنبيها على رفع اليد عن هذا الظاهر الّذي هو المقيّد ، وهو لا يوجب المجاز بل يوجب كون المراد المطلق في موضع المقيّد.

ومن الأعاظم من احتجّ - مضافا إلى التبادر وما سبق في كلام المصنّف - بقبح الاستفهام فيما لو قال لعبده : « لا تعط زيدا حتّى تقوم ».

وفيه : منع واضح ، فإنّ الاستفهام إنّما يصحّ في موضع الاحتمال ولو مرجوحا ، ولا ريب أنّ قول القائل : « سر من البصرة إلى الكوفة » موضع احتمال أن يريد منه مثل ما يراد في « سرت من البصرة إلى الكوفة ، ومن الكوفة إلى الحلّة ، ومن الحلّة إلى بغداد » وهكذا فيصحّ الاستفهام عن حقيقة الحال لرفع هذا الاحتمال ، وهكذا يقال في مثل « لا تعط زيدا حتّى يقوم »

ومن الفضلاء من احتجّ فيما وافق القائلين بإثبات الدلالة : « بأنّ المفهوم من قول القائل : « صم إلى الليل » انقطاع الصوم المأمور به بذلك الخطاب ببلوغ الغاية من أوّل الليل أو آخره ، إذ لو فرض بقاؤه بعدها لم يكن ما فرض غاية غاية ، إذ غاية الشيء ما ينتهي عنده الشيء وهو خلاف ظاهر المنطوق.

وتحقيق ذلك : أنّ توابع الفعل من متعلّقاته هي قيود لمدلول مادّته ، فمعنى « صم إلى الليل » طلب إمساك مقيّد بكون نهايته الليل ، فلو أنّ المطلوب إنّما هو إمساك ما زاد عليه لم يكن الإمساك إلى الليل مطلوبا لنفسه ، وهو خلاف ما يقتضيه ظاهر اللفظ ، فلا بدّ حينئذ إمّا من حمل الأمر على الطلب الغيري وهو عندنا وإن كان حقيقة إلاّ أنّه خلاف الظاهر من الإطلاق ، أو حمل الليل على الجزء المتأخّر عنه ، أو معنى آخر حيث يصحّ ، أو ارتكاب التجوّز في « إلى » بحملها على معنى بلوغ الفعل المطلوب إلى الليل سواء انقطع عنده أو لا.

وكيف كان فهو يستدعي مخالفة أصل من تقدير أو تجوّز أو خروج عن الظاهر ، فقول القائل : « سر إلى البصرة ومنها إلى الكوفة ومنها إلى مكّة » إن جعل كلّ سير تكليفا برأسه فلا إشكال ، وإلاّ تعيّن فيه أحد الوجوه المذكورة » إلى آخره (1).

وأصل هذا الاحتجاج مستقيم ولكن على تقدير كون المراد بالحكم المتنازع في

ص: 385


1- الفصول : 154.

انتفائه عمّا بعد الغاية وعدمه الحكم المذكور ، على معنى الحكم المقصود من هذا الخطاب كما هو مفروض هذا الفاضل ، فإنّ ظاهر التقييد انتفاؤه جزما ، ولكنّه لا يفيد انتفاء نوع الحكم ولو ما ثبت منه بخطاب آخر كما لا يخفى.

واعترف به الفاضل في احتجاجه على ما وافق فيه أصحاب القول بنفي الدلالة وهو واضح ، غير أنّ الإشكال في كون مراد القوم من [ الحكم ] المتنازع فيه هو هذا المعنى لا نوع الحكم القابل لكونه مقصودا من هذا الخطاب وغيره ، بل النزاع المثمر إنّما هو النزاع في نوع الحكم كما يظهر من ثمراتهم المذكورة في المقام.

ثمّ إنّ أوّل ما ذكره ذلك الفاضل من الوجوه المستطرفة في إخراج الكلام إلى خلاف الأصل من حمل الأمر على الطلب الغيري ممّا لا مجال إليه في المقام ، إذ لا يرجع ذلك إلى معنى محصّل إلاّ كونه أمرا بجزء المطلوب ، نظرا إلى أنّ الأمر الأصلي بأجزاء المأمور به النفسي غيريّ ، إذ كون ذلك الأمر أمرا بالجزء مع فرض كون المطلوب بذلك الخطاب إمساك ما يعمّ الغاية وما بعدها ممّا لا يتحمّله العبارة ، بل هو عند التحقيق ممّا ينافيه فرض كون الطلب المقصود منه طلبا لمطلق الإمساك ، فإنّ ذلك فرض لكون الأمر أمرا بتمام المأمور به ومعه كيف يصحّ حمله على طلب الجزء.

نعم إنّما يتّجه ذلك لو كان النظر في نوع الحكم كما هو الظاهر لا في خصوص المقصود بذلك الخطاب ، وكأنّه إلتبس عليه الأمر حين ما التفت إلى ذلك الاحتمال فأخذ به غفلة عن منافاته لما هو مفروض كلامه.

وأمّا الوجه الآخر وهو احتمال كون المراد بالليل الجزء المتأخّر منه وإن لم يناف الفرض غير أنّه لا داعي إليه ، لقوّة احتمال كون المراد به المجموع من أجزائه ، بناء على دخول الغاية في المغيّا وإن كان خلاف ما يظهر منه في هذا التركيب في نظر العرف ، من جهة ظهوره في مجيء الليل لا فيه بجميع أجزائه ، ولا تجوّز فيه على هذا الحمل لكونه باعتبار وضعه الإفرادي - كالنهار - إسما لقطعة من الزمان لا للمقدار المعيّن ، فلذا يكون قابلا للزيادة والنقصان بحسب الساعات المقدّرة ويصدق مع الزائد والناقص صدقا حقيقيّا ، والظاهر كونهما « كالقرآن » للأعمّ من المجموع وكلّ جزء ، لا « كاليوم » في عدم صدقه إلاّ على المجموع ، فلذا لا يصحّ سلبهما عن كلّ جزء وعن المجموع بخلاف اليوم.

ويظهر فائدة الفرق بينه وبينهما في الإجارات والنذور وغيرها من التعليقيّات.

ص: 386

واحتجّ السيّد رضى اللّه عنه بنحو ما سبق في الاحتجاج على نفي دلالة التخصيص بالوصف* ، حتّى أنّه قال : « من فرّق بين تعليق الحكم بصفة وتعليقه بغاية ، ليس معه إلاّ الدعوى. وهو كالمناقض ؛ لفرقه بين أمرين لا فرق بينهما ؛ فان قال : فأيّ معنى لقوله تعالى : ( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) إذا كان ما بعد الليل يجوز أن يكون فيه صوم؟ قلنا : وأيّ معنى لقوله عليه السلام : « في سائمة الغنم زكاة » والمعلوفة مثلها. فان قيل : لا يمتنع أن تكون المصلحة في أن يعلم ثبوت الزكاة في السائمة بهذا النصّ ، ويعلم ثبوتها في المعلوفة بدليل آخر. قلنا : لا يمتنع فيما علّق بغاية ، حرفا بحرف ».

___________________________

نعم في مثل : « إغسلوا أيديكم إلى المرافق » لو أردنا حمل « المرافق » على ما يعمّها وما بعدها يكون مجازا ، والوجه واضح.

* وأجود تقارير ذلك ما في منية السيّد من : « أنّ تقييد الحكم بالغاية لو دلّ على نفي الحكم فيما بعد الغاية لدلّ إمّا بالمطابقة أو التضمّن أو الالتزام ، والتالي بأقسامه باطل فالمقدّم مثله.

أمّا الملازمة : فبيّنة ، لانحصار الدلالة اللفظيّة في الأقسام الثلاثة.

وأمّا بطلان الأوّلين من أقسام التالي : فظاهر ، إذ انتفاء الحكم فيما بعد الغاية ليس موضوع اللفظ ولا جزءه.

وأمّا بطلان الثالث : فلاشتراط الدلالة الالتزاميّة بلزوم المعنى الالتزامي لموضوع اللفظ ذهنا وهو مفقود هاهنا ، فإنّ تصوّر وجوب الصيام إلى الليل قد ينفكّ عن عدم وجوبه في الليل لإمكان شمول لها ، فإنّه لا مانع من ورود خطاب فيما بعد الغاية بمثل الحكم السابق ».

واجيب عنه : بمنع عدم اللزوم بل اللزوم ظاهر بالتبادر ، وبأنّه لولا المخالفة لما كان الغاية غاية بل وسطا.

وأورد عليه : بأنّا لا ننكر أنّ « إلى » و « حتّى » لانتهاء الغاية وأنّها جارية مجرى « صوموا صياما آخره الليل » غير أنّ الخلاف إنّما هو في أنّ تقييد الحكم بالغاية هل يدلّ على نفي الحكم فيما بعد الغاية وذلك غير لازم من التقييد بها ، على أنّ ما بعدها غير

ص: 387

متعرّض فيه بالخطاب الأوّل لا بنفي ولا بإثبات ، ولا يلزم من وجوب صوم بعد الغاية أن تصير الغاية وسطا ، بل هي غاية للصوم المأمور به أوّلا ، وإنّما يصير وسطا أن لو كان الحكم فيما بعد الغاية مستندا إلى الخطاب الّذي قبل الغاية وليس كذلك.

وأجاب عنه بعض الأعاظم : « بالخروج من المتنازع فيه في وجه ، ولزوم النسخ قبل حضور وقت العمل في آخر.

أمّا الأوّل : فلأنّ المطلوب من الأمرين إن كان فعلا واحدا لا يتمّ ما ذكره من كون الغاية غاية للصوم المأمور به أوّلا ، فإنّ المأمور به في الخطابين واحد فرضا وهو ظاهر ، وإن كان فعلين لا ينافي حجّيّة المفهوم ، فإنّ اعتبار المفهوم يقتضي نفي وجوب ما ثبت من منطوقه لا نفي واجب آخر لمصلحة اخرى مغايرة له ، فإنّه لو قال : « إضرب زيدا حتّى يتوب من الزنا » لا ينافي وجوب الضرب بعد التوبة منه لأجل حكمة ومصلحة اخرى ، بل ينفي المفهوم الوجوب الثابت بذلك الأمر ، فلا ينافي إيجاب الإمساك في الليل لمصلحة اخرى بأمر آخر.

وأمّا الثاني : فلأنّه لو كان المتعلّق في الأمرين واحدا وأراد تحديد أوّلهما بغاية حقيقة ويكون الغاية في الآخر غيرها يكون نسخا قبل حضور وقت العمل وهو خلاف الفرض مع كونه باطلا كما يأتي » انتهى (1).

والمتأمّل في كلام المورد يقطع بعدم جريان احتمال كون المطلوب بالأمرين ومتعلّقهما فعلا واحدا في عبارة الإيراد ، بل هي كالصريحة في جعله فعلين ، فيسقط عنه كلّ من الخروج عن المتنازع ولزوم النسخ قبل حضور وقت العمل.

وكيف كان فقد حكى (2) الاحتجاج على النفي أيضا بالاستعمال فيهما معا فيكون للقدر المشترك ، لكون المجاز والاشتراك خلاف الأصل ، وبأنّه لو دلّ فإمّا أن يدلّ بصريح اللفظ ، أو بأنّه لو لم يكن دالاّ لما كان للتقييد فائدة ، أو من جهة اخرى.

والأوّل : ظاهر البطلان.

وأمّا الثاني : فإنّما يلزم لو لم يكن للتقييد فائدة اخرى ، وليس كذلك لاحتمال أن يكون الفائدة تعريف بقاء ما كان بعد الغاية على ما كان قبل الخطاب ، بمعنى أنّه غير متعرّض فيه لإثبات أو نفي.

ص: 388


1- إشارات الاصول : 242.
2- الحاكي هو صاحب إشارات الاصول : 242.

وأمّا الثالث : فالأصل عدمه.

وبأنّه لا مانع من ورود الخطاب فيما بعد الغاية بمثل الحكم السابق قبل الغاية بالإجماع ، وعند ذلك إمّا أن يكون تقييد الحكم بالغاية نافيا للحكم فيما بعدها أو لا؟

والأوّل يلزم منه إثبات الحكم مع تحقّق ما ينفيه وهو خلاف الأصل ، وإن كان الثاني فهو المطلوب.

وأجاب بعض الأعاظم عن الأوّل : بأنّ خلاف الأصل ربّما يثبت بالدليل كما هنا.

وعن الثاني : باختيار الشقّ الثالث ، فإنّه يدلّ بالالتزام على النفي فيما بعد الغاية.

وعن الثالث : باختيار الشقّ الأوّل والتزام أن يثبت الحكم بالظاهر مع تحقّق ما ينفيه من الأصل ، وظاهر أنّه لا إشكال فيه بل هو المتّبع في كلّ مقام » (1).

وبالتأمّل في جميع ما ذكر من الاحتجاجات والأجوبة عنها مع النقوض والإيرادات يظهر أنّ النزاع بين الفريقين لفظيّ ، لكون كلّ مدّعيا لما لا ينكره الآخر ، فإنّ نظر من ينفي الدلالة على النفي إنّما هو إلى نوع الحكم ولو ما ثبت منه بخطاب آخر ، كما يظهر ذلك من تقرير الاحتجاج الأوّل المتقدّم في عبارة المنية ومن الإيراد المتقدّم على الجواب عن ذلك الاحتجاج.

ويفصح عن ذلك أيضا ما عن الشيخ والسيّد من : « أنّ من فرّق بين تعليق الحكم بصفة وبين تعليقه بغاية ليس معه إلاّ الدعوى ، وهو كالمناقض لفرقه بين أمرين لا فرق بينهما ».

وأصرح منه في الدلالة على ذلك ما عن السيّد في محكيّ المصنّف (2) من أنّه قال : فأيّ معنى لقوله تعالى : ( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) (3) إذا كان ما بعد الليل يجوز أن يكون فيه صوم؟

قلنا : وأيّ معنى لقوله عليه السلام : « في سائمة الغنم الزكاة والمعلوفة مثلها ».

فإن قيل : لا يمتنع أن يكون المصلحة في أن يعلم ثبوت الزكاة في السائمة بهذا النصّ ويعلم ثبوتها بدليل آخر.

قلنا : لا يمتنع فيما علّق بغاية حرفا بحرف ».

كما أنّ نظر من يثبتها إنّما هو إلى خصوص الحكم المذكور ، على معنى ما هو مقصود من منطوق الخطاب ، كما ظهر ذلك عن بعض الأعاظم في دفع الإيراد على الجواب المتقدّم

ص: 389


1- إشارات الاصول : 243.
2- المعالم : 238.
3- البقرة : 187.

عن الاحتجاج الأوّل المتقدّم عن المنية.

وأصرح منه ما ذكره في السابع من التنبيهات - الّتي تعرّض لذكرها بعد الفراغ عن المسألة - : « من أنّ الحكم المتنازع في رفعه بالغاية أو عدم دلالتها عليه ما ثبت بالمنطوق لا مطلقا لعدم الدلالة فيه أصلا ، ولذا يجوز أن يكون الحكم فيما بعدها كالحكم فيما قبلها بالنظر إلى خطاب آخر ، كما في المحرم فإنّ تحريم وطء امرأته عليه بعد الطهر ثابت ما دام محرما ، لكن لا بالنسبة إلى الخطاب الموجب لتحريم الوطء في الحيض ، بل من آخر وهو الدليل على تحريم الوقاع على المحرم » (1).

ويظهر ذلك أيضا عن بعض الأعلام في توجيه مثل قول القائل « سر إلى البصرة ومنها إلى الكوفة ومنها إلى بغداد » من أنّ أمثال ذلك يقال في العرف لتحديد المنازل أو لإعلام المعالم فيتحدّد المسافة من كلّ علم ومنزل ، فلكلّ مسافة مبدأ ونهاية يلاحظان بالنسبة إليه ويعتبر بخصوصها ، فلا يرد تجوّز ولا يحصل منه نقض على القاعدة.

ومحصّل مراده : أنّ لكلّ واحد من الغايات المترتّبة مفهوما ، فإنّ كلاّ يدلّ على نفي حكمها المنطوقي عمّا بعدها ، ولا ينافيه ثبوت مثل ذلك فيما بعدها إلى غاية اخرى لأنّ ذلك حكم آخر ثبت بخطاب آخر ، نظرا إلى أنّ المثال المذكور ينحلّ إلى خطابات عديدة لكلّ واحد منها منطوق ومفهوم غير منطوق ومفهوم الآخر ، فلا يكون واردا على خلاف ما ادّعيناه من دلالة التقييد بالغاية على نفي الحكم عمّا بعدها فلا يكون موردا للنقض.

وأنت خبير بأنّ ذلك لا تستقيم إلاّ إذا كان مراده بالحكم الّذي ينفيه التقييد بالغاية عمّا بعدها خصوص الحكم المقصود من العبارة المتضمّنة لتلك الغاية لا مطلقا ، وإلاّ فلو كان نظره إلى نوع الحكم فلا إشكال في منافاة المثال لما ادّعاه.

ويمكن لفظيّة النزاع بين الفريقين من وجه آخر ، وهو : كون نظر النفاة إلى جعل الغاية قيدا للموضوع فيكون التقييد بها كالتقييد بالصفة ، وكون نظر المثبتين إلى جعلها قيدا للحكم إمّا لنوعه فيدلّ التقييد بها حينئذ على انتفائه مطلقا ، أو لخصوص ما قصد بالخطاب فيدلّ التقييد بها على عدم تناول ذلك لما بعدها ، وإن فرض ثبوت حكم آخر مثله فيه بغير ذلك الخطاب ، ولكنّ الأظهر هو الوجه الأوّل على ما يستفاد من العبارات المتقدّمة حسبما عرفت.

ص: 390


1- إشارات الاصول : 243.

والجواب : المنع من مساواته للتعليق بالصفة ؛ فإنّ اللزوم هنا ظاهر ؛ إذ لا ينفكّ تصوّر الصوم المقيّد بكون آخره الليل ، مثلا ، عن عدمه في الليل ، بخلافه هناك ، كما علمت*. ومبالغة السيّد - رحمه اللّه - في التسوية بينهما لا وجه لها.

والتحقيق ما ذكره بعض الأفاضل ، من أنّه أقوى دلالة من التعليق بالشرط. ولهذا قال بدلالته كلّ من قال بدلالة الشرط وكلّ من لم يقل بها**.

___________________________

* وفيه : أنّه إن أراد أنّه لا ينفكّ تصوّر الصوم المقيّد عن عدم مطلق الصوم في الليل ولو ما ثبت وجوبه بغير ذلك الخطاب ، فهو في حيّز المنع كيف وهو مبنيّ على جعل الغاية قيدا للحكم مع كون المراد بالحكم نوعه لا خصوص ما قصد منه بالخطاب ، وقد تقدّم منعه بما لا مزيد عليه.

وإن أراد عدم انفكاك تصوّره عن عدم الصوم في الليل على فرض ثبوت وجوبه بذلك الخطاب ، فهو مسلّم غير أنّه لا يصلح جوابا عن مقالة السيّد ، لما عرفت من أنّ نظره إلى مطلق الحكم لا خصوصه.

** وهذا الكلام وإن تكرّر وروده في كلام جماعة غير أنّه منظور فيه ، فإنّ الحكم المنفيّ في الشرط على القول بدلالته على النفي إنّما هو نوع الحكم - وهو الّذي ينكره النافي للدلالة - لا خصوص ما ثبت في محلّ النطق ، فإنّ انتفاءه عن غير محلّ النطق ممّا لا ينكره أحد ، بل قد تقدّم أنّ توقّف وجود الجزاء على وجود الشرط ممّا لا ينكره أحد.

وأمّا المقام فإن اريد بالحكم المدّعى دلالة الغاية على نفيه خصوص ما نطق به الكلام وقصد ثبوته في محلّ الغاية فهو ممّا اتّفق الفريقان على انتفائه كما هو كذلك في الشرط أيضا ، فلا فرق بين المقامين من هذه الجهة حتّى يكون أحدهما أقوى من الآخر.

وإن اريد به نوعه فأصل الدلالة بمكان من المنع فضلا عن كونها أقوى ، بل ربّما تكون - بناء على ما عرفت من لفظيّة النزاع - متّفقا على عدمها.

ومع الغضّ عن ذلك فهي - على ما سبق أيضا - مبنيّة على رجوع الغاية قيدا للحكم.

وقد عرفت أنّ الأظهر كونها قيدا للموضوع ، والتعليق عليها على هذا غير دالّ على انتفاء نوع الحكم عمّا بعدها ، فلا يعارضه ما لو دلّ على ثبوت مثله فيما بعدها من غير فرق في ذلك بين الإنشاء والإخبار.

ص: 391

وعلى هذا فيسهل الخطب في مثل ما لو قيل : « سر من البصرة إلى الكوفة ، ومنها إلى الحلّة ومنها إلى بغداد » وما لو قيل : « سرت من البصرة إلى الكوفة » إلى آخر المثال ، لأنّ الأوّل يحمل على تكاليف عديدة والثاني على إخبارات عديدة من دون أن يلزم مخالفة ظاهر ولا خلاف أصل من تجوّز أو تقييد ، بخلافه على القول بكونها قيدا لنوع الحكم كما رجّحه بعض مشايخنا.

فإنّه حينئذ يقع التعارض بين الخطابين لا محالة ، فيجب المراجعة حينئذ إلى المرجّحات الداخليّة أوّلا ثمّ الخارجيّة كما هو الشأن في غير المقام من موارد التعارض بين الدليلين.

وقد يرجّح الدليل الثاني هنا بجعل الغاية في الأوّل قيدا للموضوع ارتكابا لخلاف الظاهر فيه دون الثاني تعليلا بأنّه أولى من العكس ، والظاهر أنّها لكون الثاني في متفاهم العرف حاكما على الأوّل من باب حكومة النصّ على الظاهر ، أو حكومة الأظهر على الظاهر.

فعلى المختار وعلى القول الآخر بعد الجمع المذكور لا يحتاج في نحو المثال الأوّل ما دام الحمل على تعدّد التكليف الموجب لتعدّد المكلّف به ممكنا إلى تصرّفات اخر ، من حمل الأمر فيه على الطلب الغيري فيما بين أجزاء المكلّف به اللازم للوجوب النفسي بالقياس إلى نفس المكلّف به ، أو ارتكاب التجوّز في الغاية ، أو كلمة « حتّى » و « إلى » بحملها على معنى « مع » المفيدة للمشاركة ، وإلاّ كما في موضع القرينة على وحدة التكليف والمكلّف به فلا بدّ من الالتزام بأحد الوجوه الثلاث.

وأمّا تعيين بعض هذه الوجوه فيحتاج إلى قرينة اخرى من أقربيّة عرفيّة وغيرها.

وبجميع ما بيّنّاه ينقدح ما في كلام بعض الأعاظم موافقا لما سمعت من المصنّف من قوله : « مفهوم الغاية أقوى من مفهوم الشرط ، والشرط أقوى من مفهوم الوصف عند من يقول بحجّيّته ، نظرا إلى ندرة استعمال أدواتها في غير ما يفيد المفهوم بخلاف الشرط والوصف.

ولذا قال بحجّيّة الأوّل كلّ من قال بحجّيتهما وبعض من لم يقل بهما ومثل ذلك يأتي بين الشرط والوصف.

ويظهر الثمرة في الجميع في التعارض بتقديم الأقوى على الأضعف » (1) فإنّه ممّا لا يرجع إلى محصّل ، بناء على ما بيّنّاه من أنّ الأكثر إنّما يقولون في الغاية بالدلالة على نفي الحكم المذكور وهذه الدلالة يشاركها فيها الشرط والوصف أيضا ، بل لا قائل فيهما بجواز

ص: 392


1- إشارات الاصول : 243.

ثبوت مثل ذلك الحكم في غير محلّ الشرط والوصف ، لما تقرّر من رجوع مقالة المنكرين للدلالة فيهما إلى إنكار الدلالة على نفي نوع الحكم.

وعلى هذا فلا يتحقّق المقابلة على القول بالحجّيّة في الجميع بين مفهومها ومفهومي الشرط والوصف حتّى يتحقّق التعارض فيجدي كونها أقوى دلالة ، فإنّها إنّما تفيد المفهوم في الحكم المذكور فقط على معنى سكوتها عن مطلق الحكم نفيا وإثباتا ، حتّى أنّها في حدّ ذاتها قابلة لأن يلحق ما بعدها مثل حكم ما قبلها أو غيره ، والمفروض أنّ الشرط يفيد المفهوم في نوع الحكم ، فيجوز أن يكون ما نفاه ذلك المفهوم موافقا لما قبل الغاية كما يجوز كونه مخالفا له.

نعم ربّما يحصل التعارض بين منطوقيهما كما لو كان ما نفاه موافقا لما قبلها فلو قال :« يحرم إكرام زيد إلى أن يجيء » وقال أيضا : « إن لم يجئك زيد فلا يحرم إكرامه » فلا يتحقّق تعارض بينهما بحسب المفهوم ، وإنّما يتعارضان منطوقا من حيث قضاء الأوّل بتحريم الاكرام ما دام زيد غير جاء وقضاء الثاني بنفي تحريمه ، وهذا خارج عن مفروض القائل ، مع أنّه لا يتفاوت الحال بين المنطوقين من حيث القوّة والضعف.

تنبيهات مفهوم الغاية

وبقي في المقام امور ينبغي التنبيه عليها :

أحدها : أنّ ما قبل البداية كما بعد الغاية في جواز مخالفة الحكم وموافقته وصلاحيّته للبحث في أنّ تعليق الحكم على البداية في مثل : « سرت من البصرة أو « سر من البصرة إلى الكوفة » هل يدلّ على مخالفة ما قبلها لما بعدها في ذلك الحكم أو لا؟ وإن كان المذكور في الكتب الاصوليّة هو ما بعد الغاية واختصاص البحث عنوانا ودليلا به من غير أن يتعرّض لما قبل البداية إلاّ قليل من الأواخر.

فالتحقيق في ذلك أيضا نظير ما سبق في الغاية ، فإن اخذت البداية قيدا للحكم باعتبار نوعه فلا ينبغي الاسترابة في كونها ملزومة للنفي عمّا قبلها وإلاّ لم تكن البداية بداية ، وإن اخذت قيدا للموضوع فلا ينبغي التأمّل في دلالتها على نفي الحكم المذكور دون غيره ، حتّى أنّه يجوز أن يكون ما قبلها محكوما عليه بمثل حكم ما بعدها من باب تعدّد التكاليف ، والتشكيك في ذلك شبهة في مقابلة البديهة غير لائقة للالتفات إليها ، وإنّما العمدة النظر في الموضوع والكلام في ذلك أيضا نظير ما سبق في الغاية ، فإنّ البداية في مقابلة النهاية وهما طرفان لما قيّد بهما وليس ذلك إلاّ الموضوع ، أخذا بشهادة العرف والوجدان

ص: 393

مع ما يستفاد من كلمات أهل العربيّة في مواضع عديدة.

ثانيها : قد أشرنا في مقدّمات المسألة إلى أنّ انتهاء شيء إلى شيء مقول بالاشتراك على بلوغه إيّاه بحيث لم يتجاوزه إلى غيره وعلى انقطاعه عنده بحيث لم يبلغه ، غير أنّ ذلك إنّما هو إذا اعتبرناه بمعناه الاسمي ، وأمّا لو اعتبرناه بمعناه الحرفي المأخوذ في وضع « إلى » و « حتّى » على حدّ وضع الحروف من خصوص الموضوع له لأمر عامّ.

ففيه الخلاف المتقدّم إليه الإشارة عن النحاة المعبّر عنه بأنّ : الغاية هل تدخل في المغيّا مطلقا أو في الجملة أو لا تدخل كذلك؟

وهذا البحث في الحقيقة راجع إلى دلالة هذه اللفظة على الآخريّة في مدخولها ، على معنى كون محلّ الآخر هو المدخول كما في قوله تعالى : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) (1) أو على الآخريّة فيما قبل مدخولها كما في قوله تعالى : ( أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) (2) فمن قال بدخول الغاية في المغيّا يرجع كلامه إلى دعوى أنّ المأخوذ في وضع هذه اللفظة هو الانتهاء بمعنى البلوغ ويلزمه الدلالة على الآخريّة في مدخولها.

ومن قال بخروجها عنه يرجع كلامه إلى دعوى أنّ المأخوذ في وضعها هو الانتهاء بمعنى الانقطاع ، ويلزمه الدلالة على الآخريّة فيما قبل مدخولها ، والمفصّل بأحد الوجوه الآتية يرجع كلامه إلى دعوى أنّ المأخوذ في وضعها كلّ من المعنيين على وجه الاشتراك أو المعنى العامّ المشترك بينهما على وجه التواطؤ ، والمتوقّف إمّا يتوقّف من حيث عدم تبيّن المراد فيختصّ بمواضع تجرّد اللفظ عن قرينة التعيين كما في قول القائل : « قرأت القرآن إلى آية كذا أو سورة كذا » فيكون من أهل القول بالاشتراك لا مقابلا له ، أو من حيث عدم تبيّن الموضوع له مع البناء على كونها وضعا لأحدهما فيكون مقابلا للقول بالاشتراك.

والمنقول من أقوال المسألة حسبما ضبطه بعض الأعاظم (3) سبعة :

الأوّل : الدخول مطلقا.

والثاني : عدمه كذلك ونسب إلى الأكثر.

والثالث : الخروج إن كانت الغاية منفصلة عن ذيها بمفصّل محسوس ك- ( أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) (4) وإلاّ فالدخول كآية الوضوء ، كما عن العلاّمة والفخري ، ولكن قيل أنّ الأوّل في مختصريه والثاني في المحصول جعلا ذلك في موضع للتفرقة فيما بعد الغاية لا نفسها

ص: 394


1- المائدة : 6.
2- البقرة / 187.
3- إشارات الاصول : 242.
4- البقرة / 187.

وكأنّه لم يكن مرادا.

والرابع : التفرقة بين ما كانت من جنس المغيّا فتدخل وعدمه فلا تدخل ، كما عن المبرّد.

والخامس : الجمع بينهما كما عن الشهيد.

والسادس : الفرق بين ما اقترنت بكلمة « من » وعدمه فتدخل في الثاني دون الأوّل.

والسابع : التردّد والتوقّف وهو عن الزمخشري ، وعن البهائي في مشرقه والخوانساري أنّهما تبعاه.

والظاهر أنّ مراد الشهيد من الجمع هو الجمع بين احتمالي الدخول والخروج بإجراء حكم المغيّا في الغاية عملا بالاحتياط وقاعدة الاشتغال ، فيخرج عن مقابلته للقول بالتوقّف.

ومن الأعلام من زعم كون مبنى القول الرابع على وجوب المقدّمة من جهة عدم التمايز.

وفيه نظر واضح ، لأنّ مدرك وجوب المقدّمة العلميّة قاعدة الاشتغال ، وهي لا تصلح دليلا على الحكم في المسألة اللغويّة ، بل دليل هذا القول عدم إمكان الآخريّة في غير الجنس ، باعتبار أنّ آخر الشيء جزؤه فلا بدّ وأن يكون من جنسه ، فقوله تعالى : ( أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) (1) ونظائره مخرج عن الظاهر لقرينة.

ونحو هذا التوجيه يجري في القول الثالث أيضا.

والحقّ هو القول الأوّل للتبادر ، فإنّ المتبادر المنساق في متفاهم العرف في الكلام المشتمل على حرفي الابتداء والانتهاء كونه لتحديد الفعل المغيّا في أوّله وآخره ، فيفيد استيعاب ذلك الفعل لكلّ من مدخول حرف الابتداء ومدخول حرف الانتهاء ، ويلزمه أن يكون مدخول الأوّل أوّلا ومدخول الثاني آخرا ، وقد يقصد بالتحديد بيان الأوّل فقط من دون تعرّض للآخر كقولك : « سرت من البصرة » وقد يقصد به بيان الآخر من دون تعرّض للأوّل كقولك : « سرت إلى الكوفة ».

فما ذكرناه هو الأصل والظاهر في لفظة « إلى » و « حتّى » ولا يخرج عنه إلى غيره إلاّ لقرينة معتبرة ، ومن القرائن مغائرة مدخولها لما قبلها في الجنس لاستحالة الآخريّة مع المغايرة.

وعلى هذا فمثل : « صوموا إلى الليل » و ( لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ) (2) و « بعت هذه الأرض من هذا الشجر إلى ذلك الحجر ، أو من هذا النهر إلى ذاك النهر » وما أشبه ذلك كلّها مخرجة عن الظاهر لقرينة.

ص: 395


1- البقرة : 187.
2- البقرة : 222.

وعلى هذا فيكون دخول « المرفق » في آية الوضوء مبنيّا على الأصل اللفظي لا باعتبار الأصل الاعتباري من جهة المقدّميّة.

وقضيّة ذلك هو الالتزام بالدخول في مثل : « قرأت القرآن إلى آية كذا أو إلى سورة » كذا عملا بظاهر اللفظ إلاّ إذا قام قرينة معتبرة على الخروج.

ويندفع بما ذكرناه من الأصل اللفظي التمسّك لعدم الدخول بأصالة عدمه ، وإن قرّر : بأنّ اللفظ لا يدلّ على الدخول والأصل عدم إرادة المتكلّم ذلك.

وأضعف منه ما اعتمد عليه ابن هشام في المغني من أنّ الأكثر مع القرينة عدمه فيجب الحمل عليه عند التردّد.

وما استند إليه بعض الأعاظم (1) من حسن الاستفهام وعدم فهم الدخول في مدلولها.

وأضعف من الجميع دعوى كون المتبادر من اللفظ عدم الدخول.

ولا يذهب عليك أنّ ما اخترناه ليس تفصيلا في المسألة ، لأنّ التجوّز لقرينة لا ينافي الحقيقة في غير المعنى المجازي.

ولعلّه إليه يرجع القول الثالث والرابع فلا مخالفة بينهما ، ولا بين كلّ منهما والقول بالدخول مطلقا ، إذ لا يظنّ بقائله إرادة الدخول مطلقا حتّى مع قرينة عدم الدخول.

نعم ما استدلّ للثالث والرابع بالنسبة إلى الدخول بأنّ عدم التمايز باتّحاد الجنس أو عدم مفصّل محسوس يقتضي الدخول وإلاّ لزم التحكّم ، وبالنسبة إلى الخروج بما تقدّم للقائلين به مطلقا ، واضح الضعف في شقّه الأوّل.

ونحوه ما للخامس من مثل ما ذكر ، ولم ينقل للسادس ما يعتدّ به ، وللسابع الاستعمال فيهما من غير تردّد وظهر جوابه بما بيّنّاه.

وعن الفخري توهّم كون التوقّف مبنيّا على توهّم الاشتراك فنفاه بامتناع الاشتراك بين وجود الشيء وعدمه في حكمة الحكيم تعليلا ، بعراء الكلام حين التردّد بين الوجود والعدم عن الفائدة ، نظرا إلى أنّ التردّد بين النفي والإثبات حاصل لكلّ أحد قبل إطلاق اللفظ.

وفيه : منع كلّ من الابتناء وفساد المبنى.

أمّا الأوّل : فلأنّ الاشتراك يوجب التوقّف عن الحمل في المسألة الفرعيّة لا عن اختيار القول به في المسألة الاصوليّة ، ولأنّ الاستعمال فيهما الّذي هو مستند التوقّف أعمّ من

ص: 396


1- إشارات الاصول : 242.

الاشتراك والحقيقة والمجاز مع عدم التمييز بينهما.

وأمّا الثاني : فلجواز الاشتراك بين الوجود والعدم إن اريد به ما يعمّ العدم والملكة كما في « القرء » مع أنّ الدخول والخروج أمران وجوديّان فلا مانع من الجواز كما في « الجون » مع أنّ التردّد بين النفي والاثبات قبل استماع الكلام الخبري الحاصل لكلّ أحد غير التردّد بين المعنى المراد من اللفظ المفرد قبل إطلاقه ، فإنّ الثاني غير معقول لأنّه عبارة عن تردّد السامع فيما أراده المتكلّم من اللفظ أهو الأمر الوجودي أو الأمر العدمي من معنيي المشترك؟ فكيف يعقل قبل إطلاقه ، مع أنّ فائدة الوضع الاشتراكي تحصل عند وجود القرينة المعيّنة للمراد كما في سائر صور الاشتراك ، إذ ليس الغرض من الوضع الاشتراكي أن يحصل الدلالة على المعنى المراد بعينه مطلقا ولو مع التجرّد عن القرينة.

ثمّ إنّ الظهور اللفظي في الدخول - حسبما رجّحناه - لا ينافيه غلبة عدم الدخول باعتبار القرينة إن سلّمناها ، كما ادّعاها ابن هشام في كلمة « إلى » حيث فرّق في المغني بينها وبين « حتّى » : بأنّ « حتّى » إذا لم تكن معها قرينة تقتضي دخول ما بعدها أو عدم دخوله حمل على الدخول ، ويحكم في مثل ذلك لما بعد « إلى » بعدم الدخول حملا على الغالب في البابين.

قال : هذا هو الصحيح في البابين.

وفيه : أنّ غلبة استعمال لفظ مع القرينة في معنى مجازي لا تزاحم ظهوره في المعنى الحقيقي مع عدمها كما حقّق في محلّه ، فلا وجه لحمل « إلى » على عدم الدخول مع عدم القرينة على الدخول ، فالفرق تحكّم.

ويؤكّد ما ذكرناه الغلبة المدّعاة في « حتّى » في جانب الدخول ، بل قد ينفى الخلاف فيها عن الدخول كما عن الشيخ شهاب الدين القرافي النحويّ على ما نقله عنه في المغني قائلا : إنّه زعم أنّه لا خلاف في وجوب دخول ما بعد « حتّى » وإن ردّه فيه بقوله : « وليس كما ذكر بل الخلاف فيها مشهور ، وإنّما الاتّفاق في « حتّى » العاطفة لا الخافضة والفرق أنّ العاطفة بمنزلة الواو ».

ثالثها : قال في مفاتيح الاصول - بعد ما صرّح بكون « إلى » حقيقة في الانتهاء - : « بأنّ الأصل دلالتها على انتهاء الكيفيّة ، تمسّكا بتبادره منها عند الإطلاق وغلبة استعمالها فيه الموجبة للظنّ بلحوق المشكوك فيه ، وأنّها لو كانت لانتهاء الكميّة لوجب اضمار ما يتعلّق

ص: 397

به ، لأنّها من الحروف الجارّة الّتي تحتاج إلى المتعلّق وليس في الكلام المذكور قطعا.

ونقل عن جماعة من الأصحاب كالمحقّق الثاني والسيوري وخاله المجلسي القول بكونها مجملة في الدلالة على أحد الأمرين لاستعمالها فيهما معا » انتهى.

والظاهر أنّه أراد من انتهاء الكميّة انتهاء نفس المسافة مكانا أو زمانا بمعنى الامتداد الخطّي والامتداد الزماني ، لكونهما من مقولة الكمّ المتّصل القارّ بالذات كالأوّل أو الغير القارّ بالذات كالثاني ، ومن انتهاء الكيفيّة انتهاء الفعل المتعلّق بهما بنحو من أنحاء التعلّق كالسير في الأرض والصوم في النهار ، فإنّه لتعلّقه بأحدهما كيفيّة عارضة له ، فيكون الخلاف في أنّ كلمة « إلى » الدالّة على الانتهاء الملازم للآخريّة هل هي ظاهرة في الجزء الأخير من الفعل الواقع في المسافة أو لا ظهور لها فيه؟ بل غايتها الدلالة على أصل الانتهاء المردّد بين الجزء الأخير من الفعل والجزء الأخير من المسافة.

ويظهر ثمرة الخلاف في قوله تعالى : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) (1) من حيث ظهورها في وجوب الابتداء في الغسل من الأصابع والانتهاء إلى المرفقين وعدمه ، فعلى قول الجماعة بإجمال الدلالة كان مفادها مردّدا بين انتهاء الغسل وانتهاء المغسول ، فقد ترى بعضهم في باب الوضوء أنّه يجعل « إلى المرافق » لانتهاء المغسول لينطبق الآية على مذهب أصحابنا الإماميّة من وجوب الابتداء من المرافق ، ومن يجعلها ظاهرة في انتهاء الفعل يحملها في الآية عليه من باب التأويل ، نظرا إلى الإجماعات المنقولة والوضوءات البيانيّة وغيرها.

وفي بعض النصوص المعتبرة أنّه ليس تأويلها هكذا بل : « من المرافق » فينهض ذلك شاهدا بصدق ما ادّعاه السيّد في المفاتيح من ظهورها في انتهاء الكيفيّة ، أعني الفعل لا نفس المسافة فقط.

وهذا هو الحقّ الّذي لا محيص عنه ، لما بيّنّاه في المسألة السابقة من تبادر تحديد الفعل المغيّا في أوّله وآخره من الكلام المشتمل على حرفي الابتداء والانتهاء ، فيقصد من حرف الانتهاء بيان آخر الفعل وهو الجزء الأخير منه المقارن لمدخول الحرف إن كان من جنس ما قبله ، أو لما قبل مدخولها إن غاير ما قبله في الجنس.

والسرّ في ذلك : ما ذكرناه سابقا من كون « إلى » باعتبار الوضع العامّ وضعا للنسبة بين

ص: 398


1- المائدة : 6.

مدخولها والفعل المقيّد بالغاية بمعنى المسافة ، من حيث كون الأوّل منتهي إليه للثاني ، ومعنى ذلك : أنّ الانتهاء بالمعنى الملازم للآخريّة وصف في الجزء الأخير من الفعل المغيّا ، ومحلّه - على معنى معروضه أو ظرفه - مدخول « إلى » وهذا هو الأصل بمعنى الظاهر فلا يصرف عنه إلى غيره - وهو جعلها لانتهاء نفس المسافة كما في الآية على تقدير كون تنزيلها « إلى المرافق » مع عدم التجوّز في « إلى » بجعلها بمعنى « مع » - إلاّ لقرينة دعت إلى التزام إضمار ما يكون متعلّقا للجارّ والمجرور ، على أن يكون ذلك العامل المقدّر حالا مؤكّدة لمعمول الفعل وهو أصل المسافة كما أشار إليه السيّد المتقدّم (1) في استدلاله الثاني ، ضرورة أنّه إذا كانت « إلى » لانتهاء نفس المسافة لا الفعل المغيّا لم يكن عاملها ذلك الفعل ، فلا بدّ من تقدير عامل تتعلّق به ، فيكون تقدير الآية على التأويل المذكور : « إغسلوا أيديكم كائنة إلى المرافق ».

وربّما احتمل نحو هذا التأويل في قوله تعالى : ( وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) (2) استظهارا له من دليل جواز النكس في المسح فيكون تقدير ذلك أيضا : « امسحوا أرجلكم كائنة إلى الكعبين ».

وبما بيّنّاه ينقدح ما في مستند القول بإجمال الدلالة على أحد الأمرين من الاستعمال فيهما ، فإنّ الاستعمال في انتهاء الكمّيّة في بعض الأحيان لقرينة لا يعارض الظهور اللفظي فيما لا قرينة فيه ، على أنّه لم يثبت في الاستعمالات ما ينافي ذلك الظهور إلاّ عدّة أمثلة كقوله : « ذرعت الأرض إلى المكان الفلاني ، وملكتها من الشام إلى العراق » و « اغسل المسجد إلى الموضع الفلاني » ونحو ذلك ، أوجبت عروض الاشتباه وتوهّم الإجمال.

ويردّه : أنّ اللفظ في هذه الأمثلة أيضا في نفسه ظاهر فيما ذكرناه ، على أنّ القرينة الخارجيّة من عادة ونحوها قامت فيها على أنّ غرض المتكلّم لم يتعلّق فيها إلاّ بإفادة وقوع أصل الفعل من غير قصد إلى إفادة أوّله ولا آخره ، مع أنّ كثيرا من الاستعمالات ما لا تتحمّل كونها لانتهاء الكمّيّة فقط ، كما في قولك : « إضرب زيدا إلى أن يقوم » و « صم إلى الليل » و « ذهبت إلى الشام » وما أشبه ذلك ، ضرورة أنّه لو لا قيام زيد ودخول الليل والشام ما اتّصل به أو وقع فيه الجزء الأخير من الضرب والصيام والذهاب مع بقاء الذهاب على حقيقته ولم يتجوّز فيه بإرادة الخروج لزم في الأوّلين تقدّم حدوث الشيء على عدمه ، وفي الأخير تقدّم وجود الشيء على زمان وجوده ، والكلّ محال والملازمة تظهر بالتأمّل.

ص: 399


1- أي : السيّد المجاهد فى المفاتيح.
2- المائدة : 6.

فهذه الأمثلة ونظائرها صريحة في كون « إلى » لانتهاء الكيفيّة وهو الفعل المتعلّق بالمسافة ، فتفيد الجزء الأخير من الفعل.

- تعليقة -

مفهوم الحصر

ومن المفاهيم المذكورة في الكتب الاصوليّة مفهوم الحصر الّذي تركه المصنّف هنا ، ولعلّه لشذوذ المخالف في ثبوته وندور منكره.

وظاهر أنّ الإضافة هنا نظير الإضافة فيما تقدّم من مفهوم الشرط ومفهوم الوصف ومفهوم الغاية ، فيراد به مفهوم الكلام المشتمل على الحصر كمفهوم الكلام المشتمل على الشرط أو الوصف أو الغاية ، فالمضاف إليه ليس بعين المضاف ليكون الإضافة بيانيّة.

والحاصل : أنّ الحصر شيء وهو قصر صفة على موصوف أو قصر موصوف على صفة ، ومفهومه شيء آخر وهو نفي تلك الصفة عن غير هذا الموصوف أو نفي هذا الموصوف عن غير تلك الصفة.

نعم على القول بكون الحصر مفهوما - بناء على تفسيره بالنفي المذكور - إتّجه كونها بيانيّة على حدّ ما في « خاتم فضّة » ونزاعهم في إثبات دلالة الكلام على ذلك النفي ونفيها سواء جعلناه نفس الحصر أو جعلنا الحصر عبارة عن الإثبات الملازم للنفي ، ولا ينافيه كون أدلّة الباب إثباتا ونفيا متعرّضة للدلالة على الحصر ونفيها ، لرجوعه على الاعتبارين إلى الملازمة بين الإثبات - [ و ] هو المدلول المطابقي - والنفي [ و ] هو على تقدير ثبوت الملازمة مدلول التزامي.

ومن هنا يعلم النكتة في تعرّض القوم لذكر الحصر ب- « إنّما » أيضا من دون ذكر الحصر بالنفي والاستثناء ، لكون الدلالة على الحصر في الأوّل التزاميّة يمكن إدراجها في عداد المفاهيم ، بخلاف الثاني لكون كلّ من الحكمين الإيجابي والسلبي فيه - كما في كلّ كلام استثنائي - مدلولا عليه بالمطابقة مع كون موضوعه مذكورا في الكلام ، وإن لم يكن ملفوظا كما في الاستثناء المفرّغ ، فيكون من قبيل المنطوق.

فما صنعه بعض الفضلاء من جعله مفهوم الحصر على أقسام منها مفهوم الاستثناء ليس بسديد ، ودعوى كون الحصر بالاستثناء ممّا يسمّى مفهوما في عرفهم وإن لم يساعد عليه حدودهم غير مسموعة ، حيث لا شاهد عليها من كلماتهم.

وكيف كان فعنوان كلامهم في هذا الباب على ما حرّره جماعة من أواخر أصحابنا أن

ص: 400

يقدّم الوصف العامّ على الموصوف الخاصّ خبرا له بحمل ذلك الموصوف على الوصف نحو « صديقي زيد » و « العالم عمرو » وكأنّه وهم أوقعهم فيه ما في عبارة الحاجبي في المختصر من قوله : « وأمّا مفهوم الحصر فمثل « صديقي زيد » و « العالم زيد » ولا قرينة عهد » إلى آخره.

ومثله ما في تهذيب العلاّمة من قوله : ومفهوم الحصر حجّة مثل « صديقي زيد » و « العالم بكر ».

وإلاّ ففي كلام جماعة ما يعطي كون معقد البحث بالنسبة إلى المبتدأ مع اعتبار كونه معرّفا أعمّ من كونه وصفا أو غير وصف ، وبالنسبة إلى الخبر الخاصّ أعمّ من كونه علما أو غير علم.

قال التفتازاني في شرح عبارة الحاجبي : « يريد بالحصر هنا بعض أنواعه وهو أن يعرّف المبتدأ بحيث يكون ظاهرا في العموم سواء كان صفة أو اسم جنس ، ويجعل الخبر ما هو أخصّ منه بحسب المفهوم سواء كان علما أو غير علم مثل : « العالم زيد » و « الرجل عمرو » و « الكرم في العرب » و « الأئمّة من قريش » و « صديقي خالد ».

ويقرب منه ما في الكواكب الضيائيّة - شرح الزبدة - مع تصريحه بالتعميم في تعريف المبتدأ بالقياس إليه باللام أو بالإضافة.

وفي بيان المختصر : « اختلفوا في أنّه إذا جعل لفظ كلّي معرّف بالإضافة أو باللام مخبرا عنه وأحد جزئيّاته مخبرا به مثل قولنا : « صديقي زيد » و « العالم زيد » ولا قرينة تفيد العهد هل يدلّ على حصر ذلك الكلّي في الجزئي أم لا؟ » إلى آخره.

فالوجه هو التعميم لشهادة الوجدان بعدم مدخليّة لخصوصيّة الوصف والعلم في إفادة الحصر وعدمه ، مع تصريح الجماعة بالتعميم ، مضافا إلى جريان كافّة الأدلّة المقامة على دعوى الحصر في المعنى العامّ بجميع أنواعه.

ولا ينافيه ما في عبارة الحاجبي والعلاّمة لظهور إرادتهما المثال كما هو الحال في عبارة البيان مع تصريحه بتعميم العنوان ، وربّما يتسرّى بجعل المراد من العنوان ما اشتمل على تقديم ما حقّه التأخير ، فيشمل تقديم المفعول والحال والتميز والخبر ونحوه كما عن المازندراني وغيره احتماله.

وعن الباغنوي كونه أصوب ، وهذا ممّا لا شاهد له بل ظاهر كلماتهم وخلوّ أمثلتهم ومساق أدلّتهم يشهد بخلافه ، هذا مع ضعف القول بالحصر بمطلق تقديم ما حقّه التأخير إن اريد به الاطّراد أو الظهور اللفظي لكثرة الفوائد - الّتي منها الحصر - كالاهتمام والتبرّك

ص: 401

والاستلذاذ وغير ذلك ممّا قرّر في محلّه ، وإن اريد به كونه كذلك في بعض الأحيان لقرينة المقام فهو مسلّم ولكنّه لا ينفع في إثبات الدلالة على الحصر.

والقضيّة المعروفة عن أهل المعاني من أنّ تقديم ما حقّه التأخير يفيد الحصر لا تفيد أزيد من ذلك ، مع أنّ المازندراني لم يذكره إلاّ احتمالا لا اختيارا ولذا قال : « إنّ الأوّل - يعني ما عرفت من التفتازاني - أنسب ، وعلّله : بأنّ كثيرا ممّا اشتمل عليه الثاني - يعني ما ذكر في الاحتمال - لا يفيد الحصر في كثير من الأوقات كما صرّح به الحاجبي في شرح المفصّل ».

ونحوه حكي عن الباغنوي أيضا ، مع أنّه يمكن أنّ المراد ممّا ذكر في الاحتمال ضبط موارد المفهوم من جهة الحصر ، على معنى أنّ كلّ مورد يثبت فيه الحصر ولو كان ممّا اشتمل على تقديم ما حقّه التأخير فهو من محلّ مفهوم الحصر ، لا بيان أنّ كلّما اشتمل على ذلك فهو ممّا يفيد الحصر لا غير.

وبالجملة فالأقرب بعنوان المسألة بملاحظة عباراتهم ومصبّ أدلّتهم إنّما هو إرادة ما عرفت عن التفتازاني دون ما هو أخصّ أو أعمّ منه.

ثمّ إنّ مقتضى كلام جماعة صراحة وظهورا أنّ في المسألة خلافين :

أحدهما : في أصل دلالة هذا التركيب باعتبار اشتماله على العدول عن الترتيب الطبيعي - وهو تقديم الخاصّ مبتدأ وتأخير العامّ خبرا عنه - على الحصر وعدمها.

وثانيهما : في كون الدلالة على تقديرها منطوقيّة أو مفهوميّة ، وفي بيان المختصر - تبعا لما أجمله الحاجبي - : « فقيل : لا يفيد الحصر ، وقيل : يفيد بحسب المنطوق وقيل : يفيد بحسب المفهوم ».

وربّما نسب إلى ظاهر بعضهم الوقف ، فالمسألة إذن رباعيّ الأقوال.

أمّا القول الأوّل فهو - على ما في المنية - محكيّ عن الحنفيّة والقاضي أبي بكر وجماعة من المتكلّمين.

وأمّا القول بالدلالة على الإطلاق فهو - على ما في المنية أيضا - لجماعة من الفقهاء والغزالي ، وهو خيرة العلاّمة والبهائي وكافّة أصحابنا المتأخّرين ويعزى إلى المشهور أيضا.

وفي شرح التفتازاني : ولا خلاف في ذلك بين علماء المعاني تمسّكا باستعمال الفصحاء ولا في عكسه أيضا مثل « زيد العالم ».

حتّى قال صاحب المفتاح : « المنطلق زيد » و « زيد المنطلق » كلاهما يفيدان حصر

ص: 402

الانطلاق على زيد.

وأمّا الخلاف الثاني : فأشار إلى ضعفه التفتازاني أيضا بقوله : « وأمّا كون هذا الحصر مفهوما لا منطوقا فممّا لا ينبغي أن يقع فيه خلاف ، للقطع بأنّه لا نطق بالنفي أصلا » وهو حقّ لا سترة عليه ، بناء على ما قرّرناه من ضابط الفرق بين المنطوق والمفهوم واستفدناه من حدّهم المعروف.

ونبّه عليه التفتازاني في العبارة المذكورة كما لا يخفى على المتأمّل ، فإنّ المفهوم هنا على تقدير دلالة الكلام على الحصر إنّما هو انتفاء المبتدأ - وصفا أو جنسا - عمّا عدا الخبر الخاصّ ، وموضوعه غير مذكور فيه فيكون مفهوما.

وأمّا الخلاف المذكور فمبناه على الخلاف في تفسير « الحصر » فمن فسّره بنفي الحكم عن غير المذكور يجعله مفهوما ، ومن جعله منطوقا جعله عبارة عن الإثبات القصري ، والظاهر أنّه أراد به الإثبات المقيّد بالنفي المذكور على وجه خروج القيد ودخول التقيّد ، ليكون هذا المدلول الالتزامي مفهوما.

ومرجعه إلى أنّ الحصر منطوق لكونه حكما لشيء مذكور ، لا أنّ النفي اللازم له مع اندراجه في ضابط المفهوم منطوق.

وهذا التفسير أظهر استظهارا من عباراتهم كقصر الصفة على الموصوف ، وقصر الموصوف على الصفة ، وحبس المبتدأ في الخبر وقصره عليه وحصره فيه ، وما أشبه ذلك لظهور الجميع في جعل « الحصر » عبارة عن الأمر الوجودي وهو الإثبات المقيّد حسبما ذكرنا.

ومحصّله : أنّ الهيئة التركيبيّة في نوع المركّب الّذي قدّم فيه الاسم العامّ مخبرا عنه لما هو أخصّ منه خبرا موضوعة بالوضع العامّ لجزئيّات النسبة بين الأخصّ والأعمّ ، من حيث إثبات الأخصّ للأعمّ مقيّدا بنفي الأعمّ عمّا عدا الأخصّ.

ويظهر من بعض الأعلام كونه مركّبا من الإثبات والنفي ، حيث قال في مقام تحقيق الخلاف الثاني : « والصواب ترك هذا النزاع ، لأنّ الحصر معنى مركّب من نفي وإثبات ، وما له المدلول مذكور في أحدهما.

فيستفاد المجموع من المجموع ، وإن جعل عبارة عن نفي المذكور عن الغير فلا ريب أنّه مفهوم » انتهى (1).

ص: 403


1- القوانين 1 : 188.

وقضيّة كلامه كون الحصر مركّبا من المنطوق والمفهوم ، لا أنّه منطوق فقط ولا أنّه مفهوم كذلك ، وهذا كما ترى قول ثالث في الخلاف الثاني.

ومحصّل مراده من قوله : « فيستفاد المجموع من المجموع » أنّه يستفاد المجموع من العقد الإيجابي - وهو إثبات الحكم للمذكور - والعقد السلبي - وهو نفيه عن غير المذكور - من مجموع القضيّة الملفوظة والعدول فيها عن الترتيب الطبيعي ، فيكون الحصر المستفاد من قوله : « صديقي زيد » و « العالم زيد » مثلا ، الّذي هو عبارة عن مجموع العقدين حكما لشيء مذكور وهو « زيد » وشيء غير مذكور وهو ما عدا زيد ، والأوّل مستفاد من القضيّة وهو المنطوق ، والثاني مستفاد من العدول فيها من الترتيب الطبيعي وهو المفهوم ، فصار الحصر مركّبا من المنطوق والمفهوم ، وإنّما عبّرنا عن الجزء الثاني من المجموع الثاني « بالعدول » نظرا إلى ما تقدّم في كلامه من الاستدلال على الحصر بقوله : « فيستفاد منه الحصر لأنّ الترتيب الطبيعي خلافه والعدول عنه إنّما هو لذلك » (1) فتأمّل.

هذا كلّه في تحقيق الحال في النزاع الثاني.

وأمّا النزاع الأوّل : فالحقّ فيه القول بالحصر المدّعى عليه اتّفاق علماء المعاني ، لتبادر الحصر من نحو هذا التركيب في متفاهم العرف كما يرشد إليه الوجدان السليم والطبع الصحيح ، والمنكر له كابر وجدانه ، بل هذا التبادر ثابت في نوع هذا التركيب من سائر اللغات أيضا ولا اختصاص له بلغة العرب.

ولأنّ الخبر ظاهر في الصدق كما يشهد به طريقة العرف في تصديق كلّ مخبر ما لم يقم على كذبه حجّة أو أمارة ، والكذب فيه احتمال عقليّ لا يزاحم الظهور ، واحتمال الصدق والكذب في تعريف الخبر اريد به مطلق الاحتمال لا خصوص المساوي منه ، فلو كان لجنس الذات المتّصفة بالأمارة في قولنا : « الأمير زيد » مصداق آخر غير « زيد » وهو « عمرو » مثلا لزم الإخبار عن الأعمّ بالأخصّ وهو كذب ينفيه الظاهر ، ضرورة أنّ إسناد « زيد » إلى جنس الذات المتّصفة بالأمارة نسبة لها خارج لا تطابقه بالفرض ، وهو أنّ جنس الذات المتّصفة بالأمارة بعضه « زيد » وبعضه « عمرو ».

وبعبارة اخرى : قولنا : « الذات المتّصفة بالأمارة » كلام لنسبته خارج لا تطابقه ، وهو أنّ الذات المتّصفة بالأمارة بعضها « زيد » وبعضها « عمرو ».

ص: 404


1- القوانين 1 : 188.

وعلى ذلك ينزّل ما في كلام جماعة منهم العلاّمة والعميدي في التهذيب والمنية وغيرهما من الاحتجاج بأنّه : « لولا مفهوم الحصر حجّة لزم الإخبار بالأخصّ عن الأعمّ ».

ويحتمل أن يكون نظرهم في بطلان التالي إلى غير جهة الكذب من الاستحالة العقليّة ، فإنّ الإخبار بزيد عن الأمير يقتضي باعتبار الحمل كون الأمير موجودا بعين وجود زيد ، فلو عمّ الأمير في الخارج غير « زيد » أيضا كعمرو وبكر وخالد مثلا لعمّ « زيد » أيضا غيره وهو محال واستحالته تقتضي أن لا تعمّ الأمارة غير زيد ولا توجد في سواه ، وهذا هو معنى الحصر.

وملخّصه : أنّ بطلان الإخبار بالأخصّ عن الأعمّ بكلّ من الوجهين المذكورين يقتضي عدم كون جنس الذات المتّصفة بالأمارة بحسب الخارج أعمّ من « زيد » وإن كان بحسب الذهن أعمّ منه.

فلا ينافي كونه أعمّ منه - على ما هو المأخوذ في عنوان المسألة كما عرفت - نفي كون الإخبار عنه به إخبارا عن الأعمّ بالأخصّ كما هو مفاد الدليل بعد تسليم الملازمة وبطلان اللازم.

وأمّا ما يورد عليه : من أنّ الكذب أو المحال على تقدير الصدق إنّما يلزم لو كان المفرد المضاف أو الألف واللام للعموم وهو ممنوع ، بل هما ظاهران في البعض وحينئذ يكون التقدير : « بعض الأمير زيد » و « بعض العالم عمرو » و « بعض صديقي زيد » وذلك صادق.

ولو سلّم كونهما للعموم وكان مقصودا للمتكلّم إلتزمنا كونه كاذبا على تقدير تعدّد العلماء والامراء والأصدقاء ولا يلزم المحال حينئذ.

ففيه : منع الابتناء ومنع الظهور ، لظهور المفرد المضاف والمفرد المعرّف باللام في تعريف الجنس ، والإخبار عن الجنس الأعمّ بحسب الخارج بالأخصّ يوجب الكذب أو المحال ، ولا حاجة إلى جعلهما للعموم إن اريد به الاصولي.

ودعوى الظهور في البعض إن كانت باعتبار الوضع فهي مردودة على مدّعيها ، وإن كانت باعتبار القرينة فهي باطلة بدليل الخلف ، لأنّ المأخوذ في عنوان المسألة كما عرفت بملاحظة عباراتهم انتفاء قرينة العهد.

وممّا يدلّ على المختار : طريقة أهل العرف من جميع اللغات في المحاورات والمخاطبات على استعمال هذا النوع من الخبر في غالب موارده فيما كان أصل العنوان

ص: 405

معلوما للسامع والمعنون - على معنى الموصوف به - غير معلوم له ، بأن يعلم وجود عنوان « الأمير » أو « العالم » أو الصديق للمتكلّم في الخارج ولا يعلم بالّذي هو موصوف به ، إمّا لجهله البسيط كما لو كان غافلا أو لجهله المركّب كما لو كان معتقدا له في غير من هو له ، أو لجهله بالانفراد كما لو كان معتقدا للشركة أو لجهله بالتعيين كما لو كان متردّدا ، فيأتي المتكلّم في جميع هذه الصور بقوله : « الأمير أو العالم أو صديقي زيد » لإزالة جهل السامع ، فيفيد الحصر في الجميع بالنصوصيّة في غير الصورة الاولى من باب قصر القلب أو الأفراد أو التعيين والظهور فيها ، فلولا دلالة هذا النوع من الخبر باعتبار نوع هذا التركيب على الحصر لما اطّرد استعماله في الصور المذكورة ، أو لما تجرّد فيها عن قرينة خارجيّة.

وبما بيّنّاه ينقدح أنّ كون الاسم الأوّل في هذا التركيب مبتدأ ومخبرا عنه والاسم الثاني خبرا ومخبرا به - كما صرّح به جماعة من فحول أهل الفنّ منهم التفتازاني في عبارته المتقدّمة - ممّا لا ينبغي أن يختلف فيه كما نقله بعض الأعاظم ، وأنّ القول في مثل : « العالم زيد » و « صديقي عمرو » بكون الوصف خبرا والموصوف مبتدأ كما عن العلاّمة والفخري وارد على خلاف التحقيق ، إذ الضرورة بالنظر إلى طريقة العرف قاضية بخلافه ، لاستقرارها على أخذ معلوم العنوان مبتدأ ومجهوله خبرا ، وهذه قاعدة لطيفة صرّح بها غير واحد من أهل العربية وتعرّض لبيانها شيخنا البهائي في كتابه في النحو الموسوم بالصمديّة (1) قائلا : « المجهول ثبوته للشيء عند السامع في اعتقاد المتكلّم يجعل خبرا ويؤخّر ، وذلك الشيء المعلوم يجعل مبتدأ ويقدّم ، ولا يعدل عن ذلك في الغالب ، فيقال لمن عرف زيدا باسمه وشخصه ولم يعرف أنّه أخوه : « زيد أخوك » ولمن يعرف أنّ له أخا ولم يعرف اسمه : « أخوك زيد » فالمبتدأ هو المقدّم في الصورتين ».

والظاهر أنّ مراده بالجهل في عنوان القاعدة ما يعمّ الساذج والمركّب والجهل بالتفصيل وإن قصر مثاله عن إفادة التعميم.

نعم هنا كلمات ربّما توهم خلاف ما ذكرناه :

منها : ما ذكره أهل الميزان من أنّ الموضوع في القضيّة ما كان ذاتا والمحمول ما كان وصفا.

ومنها : ما ذكروه أيضا من أنّ المراد بالموضوع الفرد وبالمحمول المفهوم ، حتّى أنّه

ص: 406


1- كتاب الصمديّة : في المرفوعات ، الحديقة الثانية.

ظنّ جماعة - على ما حكي - أنّ الجزئي الحقيقي لا يقع محمولا ألبتّة ، بل عن المحقّق الشريف ادّعاء الضرورة في ذلك حيث أحال الأمر فيه إلى مراجعة الفطرة السليمة.

ومنها : ما ذكروه أيضا من أنّ الموضوع في كلّ قضيّة حمليّة ما كان معروضا والمحمول ما كان عارضا.

فإنّ قضيّة هذه التصريحات كون « زيد » في قضيّة « الأمير زيد » وغيره مبتدأ ، لأنّه الذات والفرد والمعروض.

ولكن يندفع الجميع : بأنّ نظر أهل الميزان وغيرهم من أرباب الصناعات في تمهيد هذه القواعد إلى القضايا المعتبرة في العلوم المؤلّفة على الترتيب الطبيعي الغير الملحوظ فيها سوى المحكوم عليه والمحكوم به والنسبة الحكميّة والحكم ، من غير نظر إلى الحصر ولا إلى ما يفيده ، ولا إلى غيره من مزايا الكلام وخواصّه المرعيّة في مقامات الخطاب ، إذ لا شغل لهم في هذه الامور ، بل رعاية مزايا الكلام وخواصّه من وظيفة أهل العرف في خطاباتهم وتفهيم مقاصدهم.

ولقد عرفت أنّ بناءهم في تأليف الكلام ورعاية الوضع والحمل عند إفادة الحصر على العدول عن الترتيب الطبيعي ، بل مطلقا على جعل ما جهل ثبوته محمولا وصفا كان أو ذاتا ، مفهوما كان أو فردا ، عارضا كان أو معروضا.

ويدلّ على المختار من الحصر أيضا أنّ الاسم العامّ صفة كان أو اسم جنس - على ما حقّق - موضوع للماهيّة المقرّرة في نفس الأمر المعرّاة عن ملاحظة الفرد مطلقا ، وأصالة الحقيقة يقتضي الحمل عليها فيما تجرّد عن القرينة الصارفة ، فإذا حكم عليها بشيء دخلت فيه بتمام حصصها ، وإذا كان ذلك الشيء أخصّ منها بحسب المفهوم كان مقتضى الحكم عليها به أن [ لا ] يتجاوزه حصّة منها بتحقّقها في غيره ، وإلاّ لما كانت من حيث هي محكوما عليها به وهو خلاف الفرض ، ولا يعنى من الحصر المتنازع فيه إلاّ هذا وبالتأمّل فيما قرّرناه يعلم أنّه لا مدخليّة « للاّم » ولا الإضافة في إفادة هذا الحصر. كما قد يتوهّم ، بل هو من مقتضيات تعلّق الحكم بالماهيّة أخذا بظاهر القضيّة ، واللام أو الإضافة إنّما يؤتى بهما للمحافظة على القاعدة النحويّة من عدم جواز الابتداء بالنكرة إلاّ مع الفائدة ، ولذا يستفاد الحصر من مثل هذا التركيب في موضع حصول الفائدة في الابتداء بالنكرة مع خلوّ الاسم العامّ المتقدّم عن اللام والإضافة ، كما في المثال المعروف المذكور في بعض كتب

ص: 407

النحو وهو قولهم : « شرّ أهرّ ذاناب » على ما هو المصرّح به من كون معناه : « ما أهرّ ذاناب إلاّ شرّ ».

ويؤيّده الوجوه المذكورة على المختار ما تقدّم من حكاية الشهرة في القول بالحصر. وما عرفت عن التفتازاني من نفي الخلاف عنه بين علماء المعاني.

ولا حاجة في إثباته إلى الاحتجاج بما اعتمد عليه بعض الأعلام (1) - وحكى الاعتماد عليه عن المحقّق الشريف أيضا - من أنّ : « المراد بالصفة إن كان هو الجنس فيستحيل حمل الفرد عليه لأنّ الحمل يقتضي الاتّحاد والفرد الخاصّ ليس عين حقيقة الجنس ، فينبغي أن يراد منه مصداقه وهو ليس بفرد خاصّ لعدم العهد وعدم إفادة العهد الذهني فيحمل على الاستغراق ، فيصير المعنى : « أنّ كلّما صدق عليه العالم فهو زيد » وهذا لا يصحّ إلاّ إذا انحصر مصداقه في الفرد لاستحالة اتّحاد الكثيرين مع الواحد ، وذلك إمّا حقيقة كما لو فرض انحصار الأمارة في الخارج ، وإمّا ادّعاء ومبالغة كما في قولنا : « الشجاع عمرو » و « الرجل بكر » والمراد هو المصداق الكامل » ليتوجّه (2) إليه استبشاع حمل « زيد » على العامّ بمعنى كلّ فرد كاستبشاع إرادة « زيد » من العامّ بمعنى كلّ فرد ، ومنع استحالة حمل الفرد على الجنس ، وليس معنى الاتّحاد الحملي كون حقيقة الجنس عين الفرد ، بل معناه اتّحاد الوجود ، وحاصله كون المحمول - وإن كان فردا موجودا - بعين وجود الموضوع وإن كان جنسا ، ومعناه في قولنا : « الأمير زيد » أنّ كلما صدق عليه جنس الذات المتّصفة - بالأمارة صدق عليه « زيد » لأنّه موجود بوجوده ، ولازمه أن لا يصدق على غير « زيد » وإلاّ لزم أن يصدق على غيره وهو محال.

ولقد أجاد بعض الفضلاء في إيراد على الحجّة المذكورة قائلا : « بأنّ حمل « اللام » في المثال المذكور على استغراق الأفراد ممّا لا يساعد عليه الذوق ، لبعده عن ظاهر المقام والاستعمال ، إذ ليس المفهوم منه « أنّ كلّ صديقي زيد » كما زعموه ، وكذلك ليس « اللام » ولا لفظ « كلّ » في قولهم : « أنت الرجل كلّ الرجل » لاستغراق الأفراد ، إذ ليس المعنى : زيد كلّ فرد من أفراد الرجل لظهور ما فيه من الاستبشاع ، مع عدم مساعدة صوغ الكلام عليه ، إذ لو اريد ذلك لكان اللازم تنكير الرجل.

بل التحقيق : أنّ لفظة « كلّ » فيه بمعنى « التمام » وهي الّتي يؤتى بها لاستغراق الأبعاض

ص: 408


1- القوانين 1 : 188 - 190.
2- خبر لقوله : « ولا حاجة في إثباته ... الخ ».

حيث يشتمل مدخولها عليها ، وذلك لأنّه قد اخذت حقيقة الرجل فيه مقيّدة باعتبار الخارج ، فاعتبرت من حيث تمام تحقّقها وتحصّلها فيه بقرينة الإشارة إليها باللام ، فإنّ الإشارة تستدعي تعيّن المشار إليه ، ولا تعيّن للماهيّة الخارجيّة عند عدم العهد إلاّ بهذا الاعتبار ، وعلى هذا فقولك : « أنت الرجل » يدلّ على أنّ مخاطبك قد استكمل هذه الحقيقة الخارجيّة وحاز تمامها ويلزم منه القصر ، نظرا إلى أنّه إذا حاز الكلّ لم يبق لغيره حظّ منها وإلاّ لم يكن حائزا للكلّ بل للبعض ، وإردافه بكلّ الرجل تأكيد لهذا المعنى وتصريح به ، وعلى هذا القياس قولنا : « زيد الصديق » [ بدليل صحّة تأكيده بكلّ الصديق ] من غير حصول مخالفة في المعنى إلاّ في الوضوح » إلى آخر ما ذكره (1).

واحتجّ أهل القول بعدم الدلالة على الحصر بوجهين ، محصّلهما ما قرّره الفاضل المتقدّم ذكره من أنّه : « لو كان « العالم زيد » مفيدا للحصر لكان العكس وهو قولنا « زيد العالم » مفيدا له أيضا وأنّهم لا يقولون به.

أمّا الملازمة : فلا شتراك المستند ، فإنّهم تمسّكوا على إفادة الحصر في صورة التقديم بأنّ العالم لا يصلح للجنس ، لأنّه ماهيّة كلّية ويكذب الإخبار عنه بأنّه زيد الجزئي ، ولا للعهد إذ التقدير انتفاؤه ، فيتعيّن الحمل على الاستغراق ، فيفيد أنّ كلّ ما صدق عليه العالم زيد ، وهذا معنى الحصر ، وهو بعينه آت في صورة التأخير أيضا. وأيضا لو كان الأوّل مفيدا للحصر دون الثاني لكان التقديم والتأخير مغيّرا لمفهوم الكلمة والتالي باطل.

بيان الملازمة : أنّ الفرض تساوي المركّبين إلاّ في التقديم والتأخير ، فلو اختلفا في إفادة الحصر لكان من جهة ما يختلفان فيه ، لامتناع أن يختلفا من جهة ما يتساويان فيه.

وأمّا بطلان التالي : فلأنّ التقديم والتأخير إنّما يغيّر الهيئة التركيبيّة دون مداليل المفردات » (2).

وقد يقرّر الأوّل : بأنّه لو دلّ الأصل على الحصر لدلّ عليه العكس أيضا ، لأنّ الموضوع والمحمول في الأصل والعكس متّحدان ، فإذا تساويا في الأصل تساويا في العكس أيضا ، واللازم باطل بالاتّفاق وكذا الملزوم.

واجيب عن الأوّل تارة : بأنّا نقول بالموجب ونمنع بطلانه ، والسند ما قرّره علماء المعاني من أنّ تعريف المسند ممّا يفيد الحصر أيضا.

ص: 409


1- الفصول : 155.
2- الفصول : 156.

أقول : وهو كذلك للتبادر العرفي كما تقدّم في الأصل ، ولعلّه مستند علماء المعاني أيضا.

ودعوى الاتّفاق على بطلانه بمكان من المنع ، كيف وقد سبق عن التفتازاني ما ينافي ذلك ، مضافا إلى ما حكاه عن صاحب المفتاح من القول بأنّ « المنطلق زيد » و « زيد المنطلق » كلاهما يفيد حصر الانطلاق على زيد.

واخرى : بما حكاه التفتازاني من أنّ الوصف في صورة التقديم مبتدأ محكوم عليه فيراد به الذات الموصوفة بالوصف ، وفي صورة التأخير هو خبر محكوم به ، فيراد به مفهوم ذات مّا موصوفة بذلك الوصف وهذا عارض للذات المخصوصة.

وبهذا القدر يندفع الدليل ، لأنّ اتّحاد « زيد » بحسب الوجود مع الذات الموصوفة يفيد الحصر بخلاف اتّحاده مع عارض له ، فإنّه لا يمنع اشتراك المعروضات فيه واتّحاد كلّ منها لحصّة منه.

وفيه ما لا يخفى ، فإنّ جعل الوصف في صورة العكس بمعنى ذات مّا موصوفة ممّا لم يتحقّق معناه ، لأنّه ليس نكرة.

وإن بني على جعل « اللام » للعهد الذهني فمدخوله في معنى النكرة وإن لم يكن في اللفظ نكرة ، فيرد عليه : أنّه مجاز لا يصار إليه من غير قرينة ، مع ابتناء الجواب على ما لا حاجة له إلى هذا التكلّف ، وهو ما تقدّم من الفرق بين الموضوع والمحمول من كون الثاني عارضا والاوّل معروضا ، وهذا الاعتبار يتمّ على تقدير جنسيّة « اللام » أيضا ، فإنّ معروض « زيد » في الأصل يستحيل أن يتحقّق في غير « زيد » بخلاف عارضه ، ضرورة أنّ كونه معروضا للوصف بالمعنى الجنسي لا يمنع شركة المعروضات الاخر فيه من باب الشركة في العرض العامّ ، أو من باب الشركة في المفهوم الكلّي على معنى صدقه على الكثيرين.

وبهذا ينقدح التحقيق في الجواب بالفرق ، فإنّ معنى « العالم زيد » باعتبار الحمل المقتضي لاتّحاد المحمول في الوجود - على معنى كونه موجودا بعين وجوده - : أنّ زيدا موجود بعين وجود العالم بمعنى جنس الذات الموصوفة.

واللازم من ذلك أن لا يؤخذ صفة العلم في غير « زيد » وإلاّ لزم أن يوجد « زيد » في غيره وهو محال ، ومرجعه إلى كون الجزئي ممتنع الصدق على الكثيرين ، ومعنى قولنا : « زيد العالم » بالاعتبار المذكور أنّ : العالم - بمعنى جنس الذات الموصوفة - موجود بعين وجود زيد ، ومرجعه إلى أنّ كلّ ما صدق عليه « زيد » صدق عليه العالم وهذا لا ينافي أن

ص: 410

يصدق العالم على غير « زيد » باعتبار وجود صفة العلم في غيره أيضا.

وبعبارة أخرى : الوصف المحكوم عليه بأنّه « زيد » لا يعقل تسرّيه إلى غير « زيد » وزيد المحكوم عليه بذلك الوصف لا يمنع من تسرّيه إلى غيره.

واجيب عن الثاني : بأنّه إن اريد بتغيّر المفهوم مجرّد القصد إلى الذات الموصوفة عند التقديم وإلى العارض الّذي هو ذات موصوفة عند التأخير فلا نسلّم بطلانه.

كيف وهو لازم عند انعكاس القضيّة ، ضرورة أنّ المراد بالموضوع الذات وبالمحمول المفهوم ، وإن اريد به غير هذا فلا نسلّم لزومه.

والأولى أنّ الاختلاف بينهما في إفادة الحصر وعدمها وإن كان حاصلا من جهة التقديم والتأخير ، غير أنّه ليس تغييرا في معنى مفردات المركّب ، بل هو تغيير في معنى الهيئة التركيبيّة الّتي يعترف الخصم بتطرّق التغيير إليها بالتقديم والتأخير ، ضرورة أنّ الحصر وعدمه من صفات النسبة وأحوالها وهي من مداليل الهيئة دون غيرها.

وحينئذ يراد في صورة التقديم نسبة « زيد » إلى الوصف على وجه لا يتعدّاه إلى غيره وفي صورة التأخير نسبة الوصف إلى « زيد » على وجه لا يمنع شركة الغير معه فيه ، وهذا ممّا لا ضير فيه ولا سترة عليه.

وبالتأمّل في جميع ما قرّرناه تبيّن الحقّ في مثل : « زيد الأمير » و « عمرو العالم » وأنّه أيضا ممّا يفيد الحصر ما لم يقم من الخارج ما يكشف عن خلافه ، لأنّه المتبادر منه عرفا.

ولعلّه من جهة العدول في المحمول عن التنكير إلى التعريف ، ضرورة أنّه لو كان المقصود من الحمل مجرّد صدق هذا الجنس على « زيد » أو « عمرو » من حيث إنّه فرد منه تمّ ذلك بحمل المنكر ، مثل : « زيد أمير » و « عمرو عالم » فيبقى التعريف لغوا ، فعلم منه أنّ المقصود أنّ زيدا هو حقيقة الأمير وماهيّته ، على معنى أنّه حاز تمام الماهيّة واستكمل جميع حصصها فيفيد الحصر الّذي هو فروضه كما تنبّه عليه بعض الأعلام أيضا (1) وحكى الإشارة إليه عن المحقّق الشريف في بعض حواشيه.

ويؤيّده ما تقدّم عن التفتازاني وما حكاه عن صاحب المفتاح وما اشتهر عن علماء المعاني من أنّ تعريف المسند كتعريف المسند إليه في إفادة الحصر.

ثمّ لا يخفى على الفطن العارف أنّ « زيد صديقي » لا يقاس على : « صديقي زيد » فإنّ

ص: 411


1- القوانين 1 : 190.

ذلك بمنزلة « زيد صديق لي » نظير « زيد إنسان » فلا يفيد الحصر لانتفاء الوجوه المتقدّمة الجارية في « صديقي زيد » بأسرها.

ودعوى كون الإضافة كاللام في إفادة التعريف فيكون ذلك بمنزلة « زيد الصديق ».

يدفعها : أنّ الإضافة في مثله لفظية فلا تفيد سوى التخفيف كما قرّر في محلّه.

- تعليقة -

مفهوم « إنّما »

ومن المفاهيم مفهوم « إنّما » المبتني على إفادتها الحصر ، والظاهر أنّ الإضافة هنا أيضا لاميّة ، ولقد اختلف في إفادة هذه اللفظة الحصر وعدمها على أقوال :

فعن الآمدي وابن حيّان من النحاة القول بأنّها لا تفيده.

وعن الفيّومي في المصباح المنير أنّه استظهر احتمالها الحصر وعدمه ، وقد يعبّر عنه بالقول الاشتراك لفظا كما في المفاتيح.

وعن الشيخ في التهذيب والفاضلين والطبرسي في مجمع البيان ونجم الأئمّة والطريحي والعميدي والرازي في المعالم والبيضاوي في المنهاج والسكّاكي في المفتاح والقزويني في الإيضاح أنّها تفيد الحصر.

وحكي عن الجوهري والفيروز آبادي أيضا ، وفي المفاتيح : « هذا هو المشهور وعليه كافّة أواخر أصحابنا الاصوليّين ».

وقد يحكى في المسألة قول بالتوقّف كما في كلام بعض الأعاظم.

والأقرب هو المشهور بحكم التبادر وسبقه إلى الفهم منها حيثما وجدت في الكتابة أو الخطابة.

ويعضده دعوى التبادر في كلام جماعة ، ونقل الاتّفاق من غير واحد وحكاية الشهرة بل تحقّقها أيضا.

مضافا إلى نقل أهل اللغة المحكيّ في كلام جماعة منهم العلاّمة في التهذيب قائلا : « إنّما للحصر بالنقل عن أهل اللغة » وظاهره اتّفاقهم عليه ، كما هو ظاهر التفتازاني فيما حكي عنه من التعبير بالنقل عن أئمّة اللغة والتفسير ، ونحو الأزهري فيما حكي عنه من إسناده ذلك إلى أهل اللغة ، وعن صريح أبي عليّ الفارسي وهو من أعاظم أهل اللغة أنّه نقل إجماع النحاة عليه وصوّبهم فيه ، وعنه أيضا : « اتّفق أهل اللغة على كونها موضوعة للحصر ».

وهو الظاهر من الطريحي في ملحقات المجمع حيث قال : « وأمّا « إنّما » المتكرّرة في

ص: 412

الكتاب والسنّة وكلام البلغاء ، فهي على ما نقل عن المحقّقين موضوعة للحصر عند أهل اللغة ولم نظفر بمخالف لذلك ، واستعمال أهل العربيّة والشعراء والفصحاء إيّاها في ذلك يؤيّده » انتهى.

واحتجّ عليه أيضا : باستدلال العلماء قديما وحديثا بقوله : « إنّما الأعمال بالنيّات » و « إنّما الولاء لمن أعتق » ومرجعه إلى الاحتجاج بالتبادر ، بتقريب : أنّ استدلال العلماء يكشف عن تحقّق تبادر الحصر عندهم.

وهذا جيّد على تقدير دون آخر ، فإنّ الاستدلال يتمّ على كلا تقديري الاستناد إلى الإيجاب الكلّي فقط أخذا بالمنطوق ، والاستناد إلى مجموع الإيجاب والسلب الكلّيين أخذا بالمنطوق والمفهوم معا ، وفهم الحصر إنّما يستكشف منه على الثاني وهذا ليس بواضح ، لجواز كون مناط الاستدلال هو الأوّل ، ولا ينافيه حكمهم بعدم كفاية العمل بلا نيّة إلاّ فيما أثبته الدليل ، لأنّ عدم الكفاية كما أنّه يستند إلى دلالة الكلام على العدم على ما هو مفاد ثبوت المفهوم ، فكذلك قد يستند إلى عدم دلالته على الكفاية اقتصارا على ما نطق به ، كما هو مفاد الأخذ بالمنطوق فقط في موضع عدم ثبوت المفهوم والحصر لا يتمّ إلاّ مع ثبوت الدلالتين معا ، وهذا غير واضح من المستدلّين كما لا يخفى.

وأمّا الاحتجاج عليه أيضا بأنّ : « إنّ » للاثبات و « ما » للنفي ولا مجال لتوهّم تواردهما على شيء واحد للزوم التناقض ، ولا لتوهّم النفي إلى ما بعد « إنّما » وتوجّه الإثبات إلى ما سواه للإجماع على خلافه ، فتعيّن توجّه الإثبات إلى ما بعدها والنفي إلى ما سواه وهو المطلوب ، إذ لا يعنى بالحصر إلاّ هذا ، فبمكان من الوهن والفساد ، لوضوح أنّ الإثبات من مقتضيات نفس الكلام و « إنّ » ترد لتأكيد النسبة ولذا تأتي في المنفيّ كما تأتي في الموجب.قال ابن هشام في المغني : « وهذا البحث مبنيّ على مقدّمتين باطلتين بإجماع النحويين ، إذ ليست « إنّ » للاثبات وإنّما هي لتوكيد الكلام ، إثباتا كان مثل : « أنّ زيدا قائم » أو نفيا مثل : « أنّ زيدا ليس بقائم » ومنه : « أنّ اللّه لا يظلم الناس شيئا » وليست « ما » للنفي بل هي بمنزلتها في أخواتها في « ليتما » و « لعلّما » و « لكنّما » و « كأنّما » وبعضهم ينسب القول بأنّها نافية إلى الفارسي في كتاب الشيرازيات ، ولم يقل ذلك في الشيرازيات ولا في غيرها ، ولا قاله نحوي غيره ، وإنّما قال الفارسي في الشيرازيات : أنّ العرب عاملوا « إنّما » معاملة النفي والإثبات في فصل الضمير كقول الفرزدق : وإنّما يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي ».

ص: 413

وأمّا ما ذكره في المفاتيح في دفع ذلك من أنّ الحمل على التأسيس أولى من التأكيد وإنكار ابن هشام لا يسمع لأنّ شهادة الإثبات مقدّمة ، مع أنّ الّذي اعترف به من تصريح الفارسي بأنّ العرب عاملوا « إنّما » معاملة النفي والإثبات يدلّ على صحّة ما نسب إليه ، لأنّ هذه المعاملة لا تكون إلاّ بعد كون « ما » نافية أو « إنّما » كلمة مفردة لا مركّبة ، ولمّا كان الثاني باطلا انحصر الوجه في الأوّل.

ففيه : ما لا يخفى ، فإنّ الحمل على التأسيس في مقابلة التأكيد إنّما يستقيم فيما كان قابلا لكلّ من التأسيس والتأكيد ، وإذا كان وضع « أنّ » لمجرّد التأكيد باتّفاق النحاة وتصريح قاطبة أهل اللغة فمن أين يجيء لها صلاحية التأسيس حتّى يترجّح على ما يقابله؟ فإنّ ذلك في موضع التردّد والدوران والمقام ليس منه ، وشهادة أهل الخبرة مقدّمة على غيرها ولو كان شهادة إثبات ، على أنّ الشهادة بالإثبات لم تثبت إلاّ من الاصوليّة في احتجاجهم المذكور ولعلّهم ذكروه اجتهادا لا نقلا عن أهل اللغة ، والمنع عن كون « إنّما » كلمة مفردة تحكّم حيث لا شاهد على أنّها في كلّ مقام مركّبة ، ودعوى الاتّفاق عليه في حيّز المنع.

نعم في كلام النحاة أنّ « إنّ » قد يدخلها « ما » فتكفّها عن العمل كما في أخواتها ، وهذا كما ترى لا يقضي بأنّها في جميع مواردها من هذا الباب ، على معنى كون الاعتبار المذكور على وجه الإيجاب الكلّي ، لجواز كون هذه اللفظة على قسمين ، مع أنّ من الأعاظم من نقل الخلاف في كونها بسيطة أو مركّبة من « إنّ » وما النافية أو الزائدة على أقوال ، ثمّ صار إلى القول الأوّل استنادا إلى أنّ التركيب مقتضاه فهم مفرداته ولا فهم هنا ، وعليه بنى دفع الحجّة المذكورة قائلا : « بأنّ صحّة الاستناد إليه يتوقّف على تركيب مدلول « إنّما » وقد عرفت بطلانه (1) وهذا منه قدس سره ثاني الاعتراضات على هذه الحجّة.

واستشكل أيضا في دعوى التركيب بعد ما دفع الاعتراض الأوّل المتقدّم عن ابن هشام بقوله : « ولكنّ الانصاف أنّ دعوى تركيب إنّما من « إنّ » و « ما » مشكل فإنّ التبادر يشهد بالإفراد ».

ومن الاعتراضات عليها أيضا ما عن العبري من أنّ كلمة « إنّ » في « إنّما » لو كانت على حالها لوجب أن تكون ناصبة كما كانت قبل التركيب وليس كذلك بالاتّفاق ، لأنّ « ما » فيها كافّة.

ص: 414


1- إشارات الاصول : 248.

وهذا منه مبنيّ على تسليم التركيب وإنكار بقاء « إنّ » على اقتضائها لعدم كون « ما » نافية.

ومن الاعتراضات أيضا ما أورده التفتازاني في المطوّل من : « أنّ « إنّ » لا تدخل إلاّ على الاسم ، و « ما » النافية لا تنفي إلاّ ما دخلت عليه بالإجماع ، وهذا راجع إلى بيان سند المنع من دعوى التركيب ».

ومن الاعتراضات أيضا ما عن بعضهم من أنّ كون « ما » للنفي غير ممكن ، لاقتضاء « إنّ » و « ما » النافية الصدارة ، والعمل بمقتضاهما هنا غير ممكن لاستحالة اجتماع النقيضين.

وحكي الاحتجاج أيضا بوجوه اخر :

منها : قول الأعشى :

ولست بالأكثر منهم حصى *** وإنّما العزّة للكاثر

وقول الفرزدق :

أمّا الذائد (1) الحامي (2) الذمار (3) *** وإنّما يدافع عن أحسابهم (4) أنا أو مثلي

نظرا إلى أنّه لا يتمّ مقصودهما إلاّ بالحصر.

ومنها : صحّة انفصال الضمير معه كما في قول الفرزدق ، نظرا إلى انتفاء الوجوه المجوّزة للفصل سوى أن يكون المعنى : « ما يدافع إلاّ أنا » فإنّه لو كان معناه « يدافع أنا » لا يصحّ.

ومنها : أنّ « إنّ » لمّا كانت لتأكيد المسند للمسند إليه ثمّ اتّصلت بها « ما » المؤكّدة ضاعف تأكيدها ، فناسب أن يتضمّن معنى القصر لأنّ قصر الصفة على الموصوف وبالعكس ليس إلاّ تأكيدا للحكم على تأكيد.

ومنها : أنّ « إنّما » إذا كانت للحصر كانت للتأسيس وإلاّ كانت للتأكيد ولا شكّ أنّ الأوّل أرجح.

ومنها : أنّها استعملت في الحصر والأصل فيه الحقيقة.

ومنها : أنّه يصحّ إعمال الصفة الواقعة بعدها في قولك : « إنّما قائم أبوك » وليس ذلك إلاّ لتضمّنها معنى « ما » لما قرّر في محلّه من أنّ الصفة لا يجوز إعمالها إلاّ إذا اعتمدت على ما قبلها ولا يصلح له هنا إلاّ النفي ، فتعيّن أنّ « إنّما » متضمّنة لمعنى « ما » و « إلاّ ».

ص: 415


1- الذود : الطرد والدفع ( مجمع ).
2- الحامي : من الحماية وهو المنع والحفظ والدفع.
3- الذمار : ما لزمك حفظه ممّا ورائك ويتعلّق بك ، وذمار الرجل ممّا ورائه ويحقّ عليه أن يجمعه ( مجمع ).
4- الحسب : الشرف الثابت في الآباء ( مجمع ).

والجواب عن الأوّل : أنّ مجرّد الاستعمال إن سلّمناه لا يجدي نفعا في المقام ، لأنّه ليس بمحلّ كلام خصوصا إذا ساعد عليه القرينة كما في قول الفرزدق ، بناء على كون مطلق الحصر من الوجوه المجوّزة لانفصال الضمير كما ذكر في تقرير الاستدلال فالقرينة هو انفصال الضمير لإفادة الحصر.

هذا مع تطرّق المنع من أصل الاستعمال وإن كان الحصر مسلّما فإنّه ليس من مقتضى كلمة « إنّما » أمّا في قول الأعشى فلأنّ الحصر فيه مستفاد من قوله : « العزّة للكاثر » لأنّه نظير قولهم : « الكرم في العرب » و « الإمام من قريش » وغير ذلك ممّا هو مندرج في العنوان المتقدّم المعبّر عنه بمفهوم الحصر.

وأمّا في قول الفرزدق فلأنّ الحصر مستفاد من قوله : « أنا الذائد » باعتبار تعريف المسند ، وقوله : « يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي » تكرّر لمضمون الكلام الأوّل قصد به بيان المدافع عنه مع التنبيه على أنّ المتكلّم قصد الاسناد إلى ما يعمّ مثله في المجد والعصبيّة على قومه ، و « إنّما » في الموضعين وردت لضرب من الضرورة أو لتأكيد النسبة.

وقد اجيب أيضا : بحمل فصل الضمير على الضرورة ، فلا قضاء له بما ذكر من اعتبار الحصر وهذا أيضا يرجع إلى منع أصل الاستعمال.

ولكن ردّ : بأنّه لو صحّ ذلك لكان يصحّ أن يقال : « إنّما ادافع عن أحسابهم أنا أو مثلي » على أن يكون « أنا » تأكيدا.

ودفعه بعض الأعاظم : بأنّ ذلك يوافق مراده فإنّ المفهوم منه حينئذ حصر المدفوع عنه لا المدافع الّذي هو المقصود.

وفيه ما لا يخفى من عدم تعلّقه بالردّ المذكور ، فإنّ مبنى الجواب المتقدّم على إنكار أصل الاستعمال في الحصر حملا لفصل الضمير الّذي جعل قرينة عليه على كونه لأجل الضرورة ، والردّ المذكور وارد عليه على هذا التقدير ، فلا حصر فيه حتّى ينقلب الحصر المقصود بغيره على فرض ما لو قال الشاعر : « إنّما ادافع عن أحسابهم أنا أو مثلي » بناء على كون فصل الضمير لأجل الضرورة أيضا.

فالوجه في دفع الردّ الاستناد إلى عطف « مثلي » على الضمير المنفصل ، فإنّه المانع من التعبير « بادافع » مكان « يدافع » لأنّ المعطوف في حكم المعطوف عليه بالنظر إلى ما قبله ، والضمير المتّصل خصوصا إذا كان مستترا لا يؤكّد باسم الظاهر وبناء الردّ على جعل الضمير

ص: 416

المنفصل تأكيدا لوجوب استتار ضمير الفاعل في المضارع المبدوّ بالهمزة.

وعن الثاني : ما عرفت من منع أصل الاستعمال ، ولا دلالة لانفصال الضمير في قول الفرزدق عليه ، وتوجيه الدلالة عليه بما تقدّم من انتفاء الوجوه المجوّزة للفصل سوى أن يكون المعنى : « ما يدافع إلاّ أنا ».

يدفعه أوّلا : أنّ المجوّز له وقوع الضمير بعد لفظ « إلاّ » في خصوص الحصر بالنفي والاستثناء لتعذّر اتّصاله بها بحيث يصير جزء الكلمة والمقام ليس منه.

وثانيا : عدم الحاجة في توجيه انفصال الضمير هنا إلى تكلّف جعل إنّما بمعنى النفي والاستثناء ، فإنّ من ضابط العدول عن الاتّصال في الضمير إلى الانفصال تعذّر الاتّصال ، ومن موجبات تعذّره عطف إسم الظاهر على الضمير المرفوع فاعلا مع كونه ضمير المتكلّم والفعل الرافع له مضارعا مبدوّا بالياء كما في قول الفرزدق ، فإنّ عطف « مثلي » على الضمير المرفوع كما أوجب العدول عن « ادافع » إلى « يدافع » كذلك أوجب تعذّر اتّصال ضمير الفاعل ، لأنّه لو اتّصل كان مستترا ولا يستتر في المضارع المبدوّ بالياء إلاّ ضمير الغائب ، ومعه يفسد المعنى المقصود ، فإنّ المقصود إسناد الفعل إلى المتكلّم ويستحيل استتار ضميره في المبدوّ بالياء ، فتعيّن العدول فيه عن الاتّصال على وجه الاستتار إلى الانفصال ثمّ يعطف عليه « مثلي ».

وعن الثالث : بأنّ التأكيد على التأكيد لا يوجب الحصر وإن بلغ في الكثرة ما بلغ ، وإلاّ كان مثل قوله : « إنّ زيدا لقائم » وقوله : « واللّه إنّ زيدا لقائم » من مواضع الحصر وهو باطل بضرورة من اللغة والعرف.

والسرّ في ذلك : أنّ تأكيد المسند للمسند إليه لا يرد في الكلام إلاّ لتوهين احتمال الكذب كما هو الحال في القسم حيثما يرد ، فالتأكيد على التأكيد لا يوجب إلاّ زيادة التوهين حتّى ينتهي إلى رفع ذلك الاحتمال وخلوص الكلام عن شائبة الكذب ، فأقصى ما يلزم من تعدّد التأكيد وتكثيره هو تعيّن صدق الكلام.

ولا ريب أنّ صدق الإسناد لا يلازم نفي المسند عن غير المسند إليه.

وعن الرابع : بأنّ أولويّة التأسيس من التأكيد إن سلّمناها يتبع المقام المناسب ، وهي في المقام المناسب له تبيّن حال الكلام الصادر من المتكلّم ولا تتعرّض لحال اللفظ باعتبار الوضع ، وإلاّ لزم ترجيح اللغة بالعقل إن استند فيها بأنّ التأسيس إفادة والتأكيد إعادة والإفادة أولى من الإعادة ، وإن استند فيها إلى الغلبة فلا تجدي نفعا في المقام أيضا ، لأنّ

ص: 417

المانع من الحصر يبني كلامه على ما أصله التأكيد بحسب الواضع ، لدعواه تركّب « إنّما » عن « إنّ » المؤكّدة و « ما » الكافّة فلا تأثير لغلبة التأسيس في إبطال دعواه بل لا بدّ فيه من وسط آخر.

وعن الخامس : بمنع دلالة الاستعمال على الحقيقة كما قرّرناه في محلّه خصوصا إذا كان مع القرينة.

وعن السادس : بأنّ إعمال الصفة معها في نحو المثال المذكور قرينة على اعتبار الحصر المتضمّن للنفي وليس ذلك إلاّ استعمالا مع القرينة ولا كلام فيه.

حجّة القول بعدم إفادتها الحصر وجوه عمدتها أمران :

الأوّل : أنّ قول القائل : « إنّما زيد قائم » في معنى قوله : « إنّ زيدا قائم » فلا فرق بينهما إلاّ في الاشتمال على زيادة « ما » والزائد كالمعدوم ، وكما أنّ الثاني لا يفيد الحصر لا منطوقا ولا مفهوما فكذلك الأوّل.

وأجيب عنه تارة : بكونه مصادرة لأنّ الحجّة عين الدعوى.

واخرى : بالمنع عن ذلك ، بل « إنّما » كلمة برأسها موضوعة لإفادة الحصر.

الثاني : أنّه قد ورد في الكتاب العزيز ما لم يرد منه الحصر كما في قوله تعالى : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ) (1) و ( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (2) و ( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها ) (3) ضرورة عدم انحصار الإيمان في الموصوفين بما ذكر ، وعدم انحصار إرادة اللّه في إذهاب الرجس عنهم ، وعموم إنذاره صلى اللّه عليه وآله بالنسبة إلى من يخشى الساعة ومن لا يخشاها.

واجيب عنه تارة : بتحقّق الحصر في الآيات المذكورة ، فإنّ المراد في الأوّل الكمّلين من المؤمنين ، وفي الثاني أنّ إرادة إذهاب الرجس مقصورة على أهل البيت ولا تتعدّاهم إلى غيرهم ، لا حصر مطلق إرادة اللّه في إذهاب الرجس عنهم ، لما هو المعلوم من أنّ النفي في « إنّما » يرجع إلى ما ذكر أخيرا ، وفي الثالث الإنذار النافع المؤثّر في القرب إلى الطاعة لا مطلق الإنذار المتناول للمطلق.

واخرى : بأنّ المجاز خير من الاشتراك ، ومطلق الاستعمال لا يستلزم الحقيقة وكونها حقيقة في الحصر قد ثبت بالتبادر وفهم العرف لا مطلق الاستعمال ليكون الردّ مشترك الورود.

ص: 418


1- الأنفال : 2.
2- الأحزاب : 33.
3- النازعات : 45.

تنبيهات مفهوم إنّما

تنبيهات

أوّلها : إنّ الحصر ب- « إنّما » قد يرد من باب قصر الصفة على الموصوف وقد يرد على عكس ذلك ، فمن الأوّل قوله تعالى : ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) (1) فإنّه يفيد ثبوت الولاية لهؤلاء وانتفاءها عن غيرهم ، ومن الثاني قوله تعالى : ( إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ ) (2) فإنّه يفيد ثبوت وصف البشريّة والمماثلة والوحي له وانتفاء غيره عنه من الصفات الّتي كانوا يتوهّمونها له صلى اللّه عليه وآله ككونه ملكا وغير ذلك ، وقد يأتي « إنّما » تأكيدا للحصر المستفاد من غيره لا أنّه بنفسه يفيد الحصر كما في « إنّما القائم زيد » و « إنّما زيدا ضربت » فإنّ الحصر في الأوّل يفيده تعريف المسند إليه أو جعل المبتدأ وصفا عامّا لموصوف خاصّ خبرا له ، وفي الثاني تقديم ما حقّه التأخير ودخول « إنّما » معه لا يقصد منه إلاّ التأكيد.

ويمكن القول في مثل ذلك بأنّ إدخال « إنّما » قرينة على أنّ [ غرض ] المتكلّم إفادة الحصر في هذا التركيب بواسطته لا بواسطة ما ذكر من العنوانين فيكونان حينئذ من المواضع المخرجة عمّا هو الأصل فيهما من إفادة الحصر ، ولكن الأوّل أوفق بالاعتبار.

ثمّ إنّ الحصر أمر نسبيّ يقتضي محصورا ومحصورا فيه ، وملاك الفرق بينهما في الحصر ب- « إنّما » تقدّم المحصور وصفا كان أو موصوفا وتأخّر المحصور فيه كذلك ، فكلّ اسم واقع عقيب « إنّما » فهو محصور والاسم المتأخّر عنه محصور فيه ، وهذا أصل كلّي يرجع إليه في مواضع الاشتباه مصرّح به في كلام الاصوليّين وأهل العربيّة ، وقد يقيّد ذلك بالغلبة كما في كلام بعض الفضلاء حيث قال : ويعتبر تأخّر المقصور عليه عن المقصور غالبا ، وقد يتقدّم إذا كان التقديم مفيدا للحصر كما في قولك : « إنّما زيد ضرب » (3).

وهذا القيد كما ترى لا يعرف له وجه سوى الاحتراز عن المثال المذكور ونظائره كما ظهر من العبارة وهذا ليس بسديد ، فإنّ الاحتراز فرع على التناول والكلام في الحصر المستند إلى « إنّما » وهو في المثال المذكور مستند إلى التقديم وإنّما لم يرد هنا إلاّ للتأكيد ، فهو ليس من جزئيّات القاعدة ليكون مخرجا عنها واقعا في الطرف المقابل للغالب.

فالحقّ أنّ القاعدة مطّردة على حدّ الإيجاب الكلّي والعامّ الاصولي.

ثانيها : اختلفوا في الحصر ب- « إنّما » على تقدير الدلالة عليه في كونه منطوقا أو مفهوما على قولين حكاهما ابن الحاجب وغيره.

ص: 419


1- المائدة : 55.
2- الكهف : 110.
3- الفصول : 154.

وقد يفصّل بين ما كان منه من باب قصر الصفة على الموصوف كما في « إنّما القائم زيد » فيكون مفهوما وما كان منه من باب قصر الموصوف على الصفة كما في « إنّما زيد قائم » فيكون منطوقا ، ومبنى ذلك على جعل الحصر عبارة عن العقد السلبي مع التفرقة بين النوعين بجعل الأوّل عبارة عن نفي الصفة المذكورة عمّا عدا الموصوف المذكور والثاني عبارة عن نفي ما عدا الصفة المذكورة عن الموصوف المذكور ، فما له المدلول في الأوّل غير مذكور وفي الثاني مذكور.

وهذا كما ترى لا ينطبق على ما تقدّم في ضابط الفرق بين المقصور والمقصور عليه في الحصر ب- « إنّما » من كون ما ذكر أخيرا مقصورا عليه موصوفا كان أو صفة ، وقضيّة ذلك أن يكون المنفيّ في النوعين معا هو ما ذكر عقيب « إنّما » صفة كان أو موصوفا فيكون النفي فيهما معا مفهوما.

غاية الأمر أنّه في الأوّل عبارة عن نفي الصفة المذكورة عمّا عدا الموصوف المذكور.

وفي الثاني عبارة عن نفي الموصوف المذكور عمّا عدا الصفة المذكورة ، وكما أنّ قولنا : « إنّما القائم زيد » يفيد نفي صفة القيام عن غير زيد وهو عمرو وبكر وخالد وغيرهم فكذلك قولنا : « إنّما زيد قائم » يفيد نفي ذات زيد عمّا عدا القائم من القاعد والراكب والمضطجع وغيرها.

فالتفصيل المذكور غير سديد ، بل المتّجه هو القول بكونه مفهوما مطلقا على التفسير المذكور.

وأمّا على تفسيره بالعقد الإيجابي وهو الإثبات المقيّد - كما استظهرناه من كلماتهم في العنوان المتقدّم - فيتّجه القول بكونه منطوقا ، ولعلّ مبنى ما نقله ابن الحاجب على هذا التفسير.

ويشكل الأمر على القول بكونه مركّبا من الإثبات والنفي كما يظهر من بيان المختصر حيث قال - في عنوان مفهوم الحصر - : « اختلفوا في أنّ تقييد الحكم بأنّما مثل : « إنّما زيد قائم » هل يفيد الحصر؟ على معنى أنّه يفيد إثبات القيام لزيد ونفي سائر الصفات عنه أم لا؟ » انتهى.

إلاّ أن يلتزم بكونه مركّبا من المنطوق والمفهوم ولا جدوى للإطناب في المقام.

ومن الأعاظم من فصّل بين الأقوال الثلاث المتقدّمة في لفظة « إنّما » من حيث كونها مركّبة من « إنّ » و « ما » النافية أو من « إنّ » و « ما » الزائدة أو بسيطة.

فعلى الأوّل : يكون الدلالة منطوقيّة من باب التضمّن.

وعلى الثاني : يكون الدلالة مفهوميّة من باب الالتزام ، نظرا إلى أنّ كلمة « ما » حينئذ لم

ص: 420

تفد إلاّ تأكيد الحكم ، والحصر على القول به على هذا التقدير يحصل من التأكيد وهو ليس بمدلول لكلمة « ما » لا مطابقة ولا تضمّنا بل هو مدلول لازم من التأكيد.

وعلى الثالث : يكون الدلالة مفهوميّة أيضا من غير فرق فيه بين قصر الصفة على الموصوف وبين عكسه ، نظرا إلى أنّ الحكم عبارة عن الإثبات والنفي وهو عارض وموضوعه عبارة عن معروضه.

فعلى الأوّل يكون معروض الإثبات مذكورا ومعروض النفي غير مذكور.

وكذلك على الثاني ، بناء على كون معروض النفي هو الصفة المنفيّة وهي غير مذكورة.

نعم لو جعل الحكم نفي غير الصفة المذكورة عن الموصوف كان من المنطوق كما أنّ الحكم في جانب الإثبات كان منطوقا ولكنّه خلاف المصطلح » انتهى (1).

ومبنى ذلك أيضا على جعل الحصر عبارة عن العقد السلبي ، ولكن في جعله موضوع النفي في قصر الموصوف الصفة المنفيّة أو الموصوف على تقدير جعل الحكم نفي غير الصفة المذكورة ما لا يخفى ، إذ المنفيّ إذا كان الزيديّة في مثل : « إنّما زيد قائم » كان غير الصفة المذكورة منفيّا منها وهو الموضوع لا غير.

ثالثها : لم نقف من الاصوليّين على من تعرّض لحكم « أنّما » بالفتح هنا إلاّ بعض من أواخر أصحابنا كبعض الأعاظم مع تصريحه بعدم إفادتها الحصر ، حيث قال : « قد توهّم أنّها للقصر أيضا وهو ضعيف ، بل الحقّ أنّها مركّبة من « أنّ » و « ما » الزائدة وليس مفادها إلاّ التأكيد بشهادة التبادر وقد نصّ عليه بعض المحقّقين » انتهى (2).

وقد نصّ بكونها للحصر ابن هشام في المغني ، وعزاه إلى الزمخشري أيضا بل لم ينقل المخالفة إلاّ عن أبي حيّان حيث قال : « إنّ المفتوحة المشدّدة على وجهين :

أحدهما : أن تكون حرف توكيد تنصب الاسم وترفع الخبر والأصحّ أنها فرع عن « إنّ » المكسورة ، ومن هنا صحّ للزمخشري أن يدّعي أنّ « أنّما » بالفتح تفيد الحصر كإنّما بالكسر ، وقد اجتمعا في قوله تعالى : ( قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ) (3) فالاولى لقصر الصفة على الموصوف والثانية بالعكس.

وقول أبي حيّان هذا شيء انفرد به الزمخشري ولا يعرف القول بذلك إلاّ في « إنّما » بالكسر مردود بما ذكرناه ، وقوله : « إنّ دعوى الحصر هنا باطلة لاقتضائها أنّه لم يوح إليه

ص: 421


1- إشارات الاصول : 249.
2- الأنبياء : 108.
3- إشارات الاصول : 249.

غير التوحيد مردود أيضا بأنّه حصر مقيّد ، إذ الخطاب مع المشركين فالمعنى ما اوحي إليّ في أمر الربوبيّة إلاّ التوحيد لا الاشراك » انتهى.

وفي كلام بعض الأعاظم حكاية ذلك عن الفيروز آبادي ، وهذا هو الّذي يمكن الاعتماد عليه لا قول ابن هشام ، لظهور كلامه في كونه اجتهادا منه مع استناده لذلك إلى مدرك فاسد وهو القياس ، ولذا قد يورد عليه : بأنّه لا يلزم من كونها فرعا إفادتها الحصر من حيث إنّ الفرع لا يلزم مساواته للأصل في جميع أحكامه.

وربّما قيل بأنّ الموجب للحصر في « إنّما » بالكسر عند القائل به قائم هنا ، وهذا أيضا ضعيف لضعف دليل القائل بالحصر في المكسورة بجميع وجوهه كما تقدّم ، فليتدبّر.

في إلحاق لفظ الحصر والقصر والحبس و ... بهذا الباب

تنبيه

والحق بهذا الباب في الدلالة على الحصر ونفي الحكم عمّا عدا المثبت له ذلك الحكم امور : كلفظ « الحصر » و « القصر » و « الحبس » حيث اضيف إلى المعاني والأحداث لا إلى الجثث والأعيان ، ولفظ « الاختصاص » و « لام » الاختصاص ك- « الحمد لله » و « المال لزيد » و « الجلّ للفرس » وضمير الفصل ، و « لا » و « بل » و « لكن » والنفي والاستثناء بل مطلق الاستثناء وإن كان في الكلام الموجب ، ودلالته على الحصر مبنيّة على كون الاستثناء من النفي إثباتا ومن الإثبات نفيا كما عليه المحقّقون بل المعظم ، وهو الحقّ بل الثابت بضرورة من العرف واللغة ولا مخالف في المسألة إلاّ الحنفيّة في الاستثناء من النفي دون عكسه على ما هو المعروف من مذهبهم ، أو مطلقا على ما حكاه البهائي في حواشي زبدته وليس لهم إلاّ وجوه واهية.

ولتفصيل القول في تحقيق المقام ودفع وجوه الحنفيّة محلّ آخر يأتي في مباحث التخصيص إن شاء اللّه.

وينبغي أن يعلم أنّ دلالة الاستثناء على مخالفة ما بعده لما قبله في الحكم إنّما هو بالمنطوق لا المفهوم ، لوضع الأداة للإخراج ولا معنى له إلاّ إبداء المخالفة مع كون موضوع الحكم إثباتا أو نفيا مذكورا وهو المستثنى ، فما في كلام بعض الفضلاء من التعبير عنه بمفهوم الاستثناء ليس على ما ينبغي.

في دلالة كلمة « لا إله إلاّ اللّه »

فائدة

لا كلام لأحد في دلالة « لا إله إلاّ اللّه » على التوحيد ومن ثمّ سمّي في لسان المتشرّعة كلمة التوحيد وكلمة الإخلاص ، وإنّما الإشكال في أنّ مفاده نفي الالوهيّة عمّا سوى

ص: 422

الواجب الوجود بالذات المستجمع للصفات وإثباتها له ، أو نفي غيرها من الصفات كالوجود أو الإمكان (1) أو الاستحقاق للعبادة عمّا سواه وإثباته له؟ ففيه وجهان مبنيّان على استغناء كلمة « لا » في هذا التركيب عن الخبر أو افتقاره إليه ، فقيل بالأوّل بدعوى كونه في الأصل « اللّه إله » فقدّم الإله طلبا للحصر ثمّ أدخل عليه الحرفان تأكيدا أو لتصحيح الابتداء بالنكرة ، وقيل بالثاني نظرا إلى أنّ كلمة « لا » يستدعي اسما وخبرا والأصل عدم الزيادة.

واختلفوا في الخبر فقيل : يقدّر « ممكن » فأورد عليه : بأنّه لا يدلّ على وجوده تعالى ، بالفعل لأنّ الإمكان أعمّ من الوجود.

وقيل : يقدّر « موجود » فأورد عليه : بأنّه لا ينفي إمكان غيره لأنّ نفي الخاصّ لا يستلزم نفي العامّ.

وقيل : يقدّر « مستحقّ للعبادة » فأورد عليه : بأنّه لا ينفي التعدّد مطلقا لا إمكانا ولا وجودا.

وقيل : يقدّر « الجميع » فأورد : بأنّه أمر لم يثبت جوازه في اللغة بل هو أشبه شيء باستعمال اللفظ في أكثر من معنى ، فتأمّل.

وقيل : إنّها نقلت شرعا للدلالة على التوحيد بمعنى نفي إمكان إله غيره ووجوده وإثباتهما له تعالى وإن لم تدلّ عليه لغة ، فأورد عليه : - مع ما فيه من البعد الواضح - بأنّها كانت كلمة إسلام في صدر الإسلام مع عدم تحقّق نقل وتخصيص ثمّة.

والراجح في النظر القاصر هو القول بالاستغناء ، لا لأنّ كلمة [ لا ] زائدة للتأكيد أو غيره ، بل لكون معمول الاسم على النيابة عن الفاعل سادّ مسدّ خبره ، فإنّ المستثنى مفرّغ ورفعه على حسب اقتضاء العامل وهو « الإله » فإنّه مصدر بمعنى المفعول وهو « المألوه » بمعنى المعبود كالكتاب بمعنى المكتوب ، والمستثنى منه غير مذكور وهو « أحد » والمستثنى قائم مقامه في الإعراب على النيابة عن الفاعل ، والمعنى مع التقدير : « لا معبود أحد إلاّ اللّه ».

والظاهر المنساق منه في النفي والإثبات المعبوديّة على جهة الاستحقاق ، فلا ينافي نفيها ثبوت المعبوديّة في الآلهة الباطلة ، وإثباتها له تعالى يدلّ بالالتزام على وجوده بالفعل بل وجوب وجوده ، لأنّ المعدوم لا يعقل عبادته فضلا عن استحقاقه للعبادة.

وأمّا عدم إمكان غيره تعالى للالوهيّة حتّى بمعنى المعبوديّة على جهة الاستحقاق فيدلّ عليه هذه الكلمة باعتبار حذف المتعلّق ، فإنّ نفي المعبوديّة على جهة الاستحقاق

ص: 423


1- كذا في الأصل ، والأنسب بالعبارة « الوجوب » بدل « الإمكان » فتأمّل.

أصل

قال أكثر مخالفينا : إنّ الأمر بالفعل المشروط جائز ، وإن علم الآمر انتفاء شرطه.

___________________________

لا بدّ له من متعلّق اعتبر قيدا له وهو إمّا قولنا : « في الخارج » أو قولنا « عند العقل » فيكون التقدير على الأوّل : « لا معبود أحد على جهة الاستحقاق في الخارج إلاّ اللّه » وعلى الثاني : « لا معبود أحد على جهة الاستحقاق عند العقل إلاّ اللّه ».

والأوّل في معنى نفي وجوده الخارجي.

والثاني في معنى نفي إمكانه العقلي ، ولمّا كان المتعلّق محذوفا فالنفي باعتبار حذف المتعلّق عامّ في كلّ ما يحتمل كونه متعلّقا ، فينفي كلاّ من وجود غيره بالفعل وإمكان وجوده ، فتدلّ هذه الكلمة على التوحيد بجميع جهاته وحيثيّاته ، خذ هذا وكن من الشاكرين.

ولقائل أن يقول : بأنّ إثبات الدلالة بالتوجيه المذكور عدول عن القول باستغناء كلمة « لا » هنا عن الخبر ، لأنّ ما اعتبرته من المتعلّق المحذوف ظرف وهو باعتبار عامله المقدّر - وهو « موجود » - خبر.

وغاية ما هنالك أنّ ما ذكرته في التوجيه من اعتبار العموم من جهة حذف المتعلّق دفع للإيراد المتقدّم على القول بتقدير « موجود » خبرا ، لأنّ عموم النفي باعتبار حذف المتعلّق نفي لوجود معبود غيره على جهة الاستحقاق وإمكان وجوده أيضا فليتدبّر.

* واعلم أنّ هذه المسألة وإن أدرجها جماعة منهم المصنّف في مباحث الأوامر غير أنّ القطع حاصل بكونها من توابع المسائل الكلاميّة ، تعرّض لذكرها الاصوليّين من باب المبادئ الأحكاميّة ، لوضوح رجوع البحث فيها عند التحقيق إلى ما هو من أحوال الآمر لا الأمر الّذي هو من موضوعات مسائل هذا الفنّ ، فإنّ مفاد العنوان يرجع بالأخرة إلى أنّ حكمة الآمر هل تمنع من الأمر بما علم انتفاء شرطه أو لا؟ فيكون بحثا عن منافاة حكمة الآمر وعدمها.

هل يصحّ الأمر مع العلم بانتفاء شرط المأمور به؟

وكيف كان فتنقيح المبحث يستدعي رسم مقدّمات :

اولاها : أنّ الأمر إنّما يصحّ من الحكيم إذا كان ناشئا عن غاية مقصودة له لئلاّ يخرج عليه سفها منافيا للحكمة ، وهي على ما يساعد عليه النظر والوجدان والاستقراء إمّا مصلحة في المأمور به نفسه أو مصلحة في شيء آخر ممّا هو مرتبط به ، من العزم وتوطين

ص: 424

النفس على أدائه أو أداء بعض مقدّماته الّتي قد تكون مقصودة بالأصالة ومطلوبة بالذات.

وعلى التقديرين فالمأمور إمّا أن يكون ممّن يطيع الآمر فيما هو مطلوب منه أو ممّن يعصيه.

وعلى التقادير فالآمر إمّا أن يكون عالما بحال [ المأمور ](1) من حيث إنّه يطيعه أو لا.

فالصور ثمانية مرتفعة عن اثنين في مرتفع اثنين في مثلهما ، غير أنّ أربع منها وهي صور الجهل ممّا لا يتأتّى فرضه في أوامر الشارع لاستحالة الجهل عليه ، كما أنّ الجاهل لا يتأتّى في أوامره غير ما يقصد به حصول المأمور به في الخارج أو ما يقصد به التوطين أو الامتحان استعلاما لمقام المأمور مع الآمر في جهتي الانقياد والطاعة أو الطغيان والمعصية.

وأمّا العالم فشرط صحّة الأمر منه في صوره الأربع تعلّق غرضه بحصول المأمور به في الخارج على تقدير اشتماله على المصلحة مع كون المأمور ممّن يطيعه ، أو بإتمام الحجّة وقطع العذر على المأمور وإلزامه على إذعان استحقاق العقوبة في حقّ نفسه على التقدير المذكور مع كونه ممّن يعصيه ، أو بحصول التوطين والعزم على الامتثال ليثاب به في الآخرة وينتفع به في الدنيا بالامتناع عن جهة الفساد ، أو حصول ما هو مقصود بالأصالة من المقدّمات أو إعلام حاله من جهة الإطاعة وكشف سريرته من حيث الانقياد لغيره ممّن لا يعرفه بهذه الصفة على تقدير خلوّ المأمور به عن المصلحة مع كونه ممّن يطيعه ، أو بإتمام الحجّة وقطع العذر عليه أو إلزامه على إذعان صفة الشقاوة والطغيان في نفسه ، أو إعلام مقامه هذا وسوء سريرته لغيره ممّن لا يعرفه في التقدير المذكور مع كونه من جملة العاصين.

والمعروف فيما بينهم التعبير عن الأوّلين بالأمر الحقيقي وعن الأخيرين بالابتلائي والتوطيني أيضا.

وقد يخصّ الأوّل باسم الحقيقي ، والثاني بالابتلائي الساذج ، والثالث بالتوطيني والابتلائي المشوب أيضا ، والرابع بالابتلائي ذي الجهتين جهتي المأمور به ومقدّماته.

والأوّل ممّا لا كلام في جوازه من الشارع بل وقوعه بل وجوب وقوعه.

كما أنّ الثاني أيضا كذلك من حيث إنّه لا يتصوّر ما يصلح مانعا عنه حينئذ إلاّ شبهة كونه تكليف ما لا يطاق من جهة انتفاء إرادة الامتثال ، أو كونه سفها من جهة عراه عن الفائدة.

ويدفعها : أنّ الامتناع بالاختيار مع بقاء الاختيار بالتمكّن عن الإرادة ورفع الصارف ممّا لا ينافي الاختيار ، على أنّ القدرة المأخوذة في شرائط التكليف أعمّ ممّا يكون

ص: 425


1- وفي الأصل « اللفظ » بدل « المأمور » والظاهر أنّه سهو منه رحمه اللّه لعدم مناسبته السياق ولذا صحّحناه بما في المتن.

بواسطة ، وإنّ تعلّق الغرض بما عرفت من الغايات ممّا يرفع السفهيّة بالمرّة.

وأمّا الأخيران فلم يعهد وقوعهما في خطاباته تعالى عدا الأوّل منهما في قضيّة إبراهيم عليه السلام على بعض الوجوه ، مع إمكان وقوعهما عقلا بلا شبهة فيه ولا شائبة ريب تعتريه ، بل لم نعثر على من أنكر ذلك سوى السيّد من أصحابنا في المنية مصرّحا : « بأنّ ذلك غير جائز لما يتضمّن من الإغراء بالجهل ، لاستلزامه اعتقاد المأمور إرادة الآمر الفعل المأمور به منه والواقع خلافه ، ولأنّ حسن الأمر لو كان لنفسه لا لمتعلّقه لم يبق في الأمر بالشيء دلالة على الأمر بمقدّماته بما لا يتمّ إلاّ به ، ولا على النهي عن ضدّه ، ولا على كون المأمور به حسنا » إلى آخره.

وجوابه : منع الملازمة أوّلا ، فإنّ الإغراء بالجهل إنّما يلزم لو بقي على هذا الاعتقاد إلى وقت الأداء ولم يلحقه نسخ وهو ليس بلازم ، كما في البيانات المتأخّرة عن زمن الخطاب إلى وقت الحاجة.

ومنع بطلان اللازم ثانيا ، فإنّ الإغراء بالجهل ليس بعلّة تامّة للقبح وعلى تقدير كونه مقتضيا فقد يطرأه ما يوجب حسنه على ما هو من شأن المقتضي كما في مفروض المقام ، والأخذ بوجوب المقدّمة وحرمة الضدّ على القول بهما مع الحكم بحسن المأمور به أخذ بظاهر الأمر ولا يضرّه انكشاف الخلاف بعد مدّة كما في لحوق القرائن المتأخّرة عن زمن الخطاب الكاشفة عن عدم اعتبار الظاهر ، ومع عدمه يبنى عليه لأنّ الظاهر هو الحجّة ، مع أنّه لو صلح قدحا لسرى إلى الأوامر الحقيقيّة أيضا ، لندرة ما يتّفق فيها ممّا خلى عن احتمال مصادفة العذر الرافع للتكليف أو الكاشف عن عدم ثبوته رأسا ، مع أنّه يفضي إلى امتناع ما انعقد عليه إجماع أهل الإسلام مع سائر الامم في الجملة من جواز النسخ الّذي من شرائطه اقتضاء الخطاب بظاهره استمرار الحكم ودوام ثبوته.

نعم ربّما يمكن المناقشة فيه : بأنّ الأمر التوطيني إن قصد به الامتحان واستعلام الحال فهو ممتنع في حقّه تعالى ، وإن قصد به إيصال النفع والثواب فهو ممكن بدون التوطين والعزم ، نظرا إلى أنّ الموجب لاستحقاق ذلك ليس إلاّ حسن السريرة وتعريض النفس لمقام الانقياد والإطاعة.

والمفروض أنّ الحمل على التوطين بفعل بعض المقدّمات ونحوه إنّما يعتبر استكشافا عن هذا المعنى وقد عرفت امتناعه في حقّه تعالى.

ص: 426

ولكن يدفعها : أنّ العزم والتوطين ربّما يوجب تأكّد الاستحقاق.

ولو سلّم فإذا انضمّ إلى قصد الإيصال إرادة إعلام الحال للغير كالملائكة ونحوهم ارتفع الإشكال ، مع أنّ إضمار مقام الإطاعة والانقياد في النفس غير تعريضها لإدراك هذا المقام في الخارج بالعزم المتأكّد وأداء المقدّمات كلاّ أم بعضا.

ولا ريب أنّ الثاني أدخل في حصول الاستحقاق وآكد في تأتّي المثوبات وربّما يكون ذلك هو المقصود في نظر العقل والحكمة.

ثمّ إنّ الأمر لا ريب في كونه على حقيقته في القسم الثاني ، لوقوع استعماله هيئة ومادّة - كالقسم الأوّل - على معناه الحقيقي.

غاية الأمر أنّ ما قصد فيه من الغاية ليس حصول المأمور به في الخارج على خلاف ما هو في الأوّل ، ولا يوجب ذلك تجوّزا في اللفظ ولا قبحا في العقل إذا قصد به غاية اخرى ممّا تقدّم إليها الإشارة ، كما لا يلزم بذلك كونه في الخطابات العامّة للمطيعين والعاصين مستعملا في معنيين بالنظر إلى تعدّد المقصود ، فإنّ التعدّد في غاية الاستعمال لا يقضي بتعدّد المستعمل فيه كما لا يخفى.

فالأمر لا يراد منه إلاّ طلب الفعل المخصوص على سبيل الحتم مطلقا ، غير أنّ الغاية المطلوبة من ذلك في أحد الفريقين حصول ذلك الفعل في الخارج. وفي الفريق الآخر شيء آخر ممّا ذكر.

وهل هو في التوطيني أيضا وارد على سبيل الحقيقة أو لا؟ فيه قولان ، أقربهما الثاني وفاقا لغير واحد من فحول الأصحاب ، مع كون التجوّز ما يحصل فيه باعتبار الهيئة دون المادّة بإرادة التوطين أو العزم أو فعل بعض المقدّمات كما يستفاد من بعض الكلمات ، لقضاء الوجدان مع شهادة العرف بأنّه إيراد لصورة الطلب بالصيغة الموضوعة له حملا للمخاطب على ما قصد منه من التوطين والعزم أو فعل بعض المقدّمات أو تحصيلا لأغراض اخر من كشف السريرة وإتمام الحجّة ونحوها.

ولا ريب أنّ قصد الشيء من باب العلّة الغائيّة غير قصده لإفادته من اللفظ نفسه ليقع مستعملا فيه ، فالاستعمال لا يقع إلاّ على الطلب الصوري للجزم بانتفاء الطلب الحقيقي الكاشف عن الإرادة النفسانيّة والمحبوبيّة القلبيّة ، وهو ليس ممّا وضع له الصيغة في شيء للتبادر في الحقيقي وعدمه في خلافه.

ص: 427

ويؤيّده صحّة سلب « الطلب » و « الأمر » بجميع تصاريفهما عمّا انكشف كونه للتوطين والابتلاء.

خلافا لما في بعض الكلمات من التصريح بالحقيقيّة مع حمل التبادر المدّعى على كونه إطلاقيّا استنادا إلى عدم صحّة السلب ، حيث لا يصحّ في قضيّة إبراهيم عليه السلام أن يقال : « ما أمر اللّه تعالى إبراهيم بذبح ولده » وهو كما ترى ، فإنّ الأمر والطلب من صفات النفس شيء بحسب الرتبة متأخّر عن الإرادة النفسانيّة ، وهي مقطوع بانتفائها من جهة خلوّ الفعل عن المصلحة الراجحة ، ومعه كيف يعقل الطلب الحقيقي حتّى يتفرّع عليه صدق « الأمر » بعنوان الحقيقة وعدم صحّة سلب الاسم عنه ، وفرض القضيّة فيما يتحقّق معه الطلب الحقيقي إخراج له عن موضع الكلام ، وكون الأمر في قضيّة إبراهيم عليه السلام على فرض صدق القضيّة فيها توطينيّا أوّل الدعوى.

وأعجب من ذلك التعدّي في هذا الحكم الثابت بما تبيّن فساده عن مادّة « الأمر » إلى الصيغة ، إستنادا إلى حكم الوجدان القطعي بعدم الفرق بينهما من هذه الجهة.

وأعجب من جميع ذلك تفريع المسألة فيما قبل ذلك على أنّ وضع الأمر هل لما اريد من المدخول مع كونه معتقدا للمتكلّم أو لمطلق ما اريد من المدخول وإن لم يكن معتقدا؟ فعلى الأوّل يكون التوطيني مجازا بخلاف الثاني ، فإنّ فساد ذلك غير محتاج إلى مؤنة الذكر ، ضرورة أنّ الاعتقاد ممّا لا مدخل له في مداليل الألفاظ مفردة ومركّبة لا شطرا ولا شرطا ، ولا سيّما الانشائيّات الّتي مبناها على الإرادة والكراهة النفسانيّتين.

وقد عرفت أنّ الإرادة في الأوامر التوطينيّة بالنسبة إلى الفعل المأمور به منتفية ، وظاهر أنّ انتفاء اللازم وما هو من ملزومه بمنزلة العلّة من المعلول يستلزم لانتفاء الملزوم.

وبالتأمّل في جميع ما قرّرناه يتبيّن أنّ النسخ حسبما هو مأخوذ في ماهيّته وشروطه ممّا لا يجري في الأوامر التوطينيّة ، ولا ينافيه وجوب لحوق البيان فيها ولو بعد زمن الخطاب ، لأنّ ذلك من باب القرينة الكاشفة عن عدم اعتبار الحقيقة.

وممّا يفصح عن ذلك أنّ من شرطه أن لا يتأخّر عن زمن الحاجة ، والنسخ على ما عليه الأكثر مشروط بما يخالف ذلك كما لا يخفى.

وممّا يشهد به أيضا ما ذكروه في دفع احتجاج أهل القول بجواز الأمر مع العلم بانتفاء الشرط بقضيّة إبراهيم استنادا إلى كون الأمر بالذبح أمرا بما علم انتفاء شرطه وهو النسخ من حمل الأمر فيها على كونه للابتلاء والتوطين ، ولو لا النسخ من خواصّ الأمر الحقيقي

ص: 428

عندهم لما يجديهم ذلك نفعا كما لا يخفى على المتأمّل.

وثانيها : أنّ الشرط حسبما يرشد إليه التتبّع والاستقراء وعليه بناء كافّة العلماء على أنواع تقدّم الإشارة إليها في بحث المقدّمة ، ولنشر إليها في المقام إجمالا لكون معرفتها من مبادئ المسألة ، فإنّه إمّا شرط وجوبيّ فيكون الوجوب بالنسبة إليه مشروطا بمعنى اختصاصه بواجدي ذلك الشرط ، أو وجوديّ فيكون الواجب بالنسبة إليه مشروطا ، وكلّ منهما إمّا شرعيّ أو عقليّ.

أمّا الوجوبي الشرعي فكاستطاعة الحجّ ونصاب الزكاة ، وأمّا الوجوبي العقلي فكالإمكان الشأني للفعل المكلّف به ، بمعنى كونه ممّا يتأتّى فعله عادة عند دخول وقته واستجماع شرائطه عند الأشاعرة على ما يستفاد منهم في تلك المسألة كما ستعرفه وما يعمّه والإمكان الفعلي المعبّر عنه بالقدرة عند المعتزلة وأصحابنا الإماميّة.

ويظهر فائدة الفرق بين المذهبين فيما لو طرأه الامتناع بسبب انتفاء بعض شروط وقوعه فإنّه ينافي الإمكان بالمعنى الثاني دون المعنى الأوّل.

وأمّا الوجودي الشرعي فكالطهارة للصلاة والإيمان لكافّة العبادات ، وأمّا الوجوديّ العقلي فكإرادة الفعل المكلّف به عند الفريقين ، ونحوها الإمكان الفعلي عند الفريق الأوّل فإنّهم يجعلونه من شروط الوقوع فقط كما ستعرفه.

ثمّ إنّ كون الطهارة ونحوها من الشروط الشرعيّة الوجوديّة شروطا للوجود فقط مبنيّ على ما هو الحقّ من عدم كون حصول الشرط الشرعي شرطا في التكليف بالمشروط ، كما عليه أصحابنا الإماميّة وجمهور العامّة خلافا للحنفيّة المعبّر عنهم ب- « أصحاب الرأي » في مصيرهم إلى كون حصول الشرط الشرعي شرطا في التكليف أيضا.

وهذه المسألة وإن كانت مفروضة في تكليف الكفّار بفروع الشريعة ولكنّها غير مختصّة به كما أشار إليه الحاجبي وصرّح به شارح المختصر في بيانه.

وقد تقدّم منّا في بحث المقدّمة تحقيق القول في ذلك ، والّذي يستفاد منهم في مسألتنا هذه أنّ البحث فيها نظير البحث في المسألة المشار إليها ، غير أنّ إحداهما مفروضة في الشروط الشرعيّة والاخرى في الشروط العقليّة ، فيكون مرجع النزاع في الثانية إلى أنّ ما فرض كونه شرطا للوقوع عقلا هل هو شرط في التكليف أيضا أو لا؟ كما هو صريح مفاد

ص: 429

النزاع في الاولى كما عرفت.

والّذي يكشف عن ذلك ما أجاب به أهل القول بجواز الأمر مع العلم بانتفاء الشرط عن نقض المعتزلة - بأنّه : لو صحّ التكليف بما علم انتفاء شرط وقوعه لم يكن إمكان المكلّف به شرطا في التكليف ، واللازم باطل بالاتّفاق - من أنّ الإمكان الّذي هو شرط في صحّة التكليف هو أن يكون الفعل المكلّف به ممّا يتأتّى فعله عادة عند دخول وقته واستجماع شرائطه ، والفعل الّذي علم الآمر انتفاء شرط وقوعه ممكن بهذا المعنى ، وامتناعه بسبب انتفاء شرط وقوعه لا ينافي هذا الإمكان ، وإنّما ينافي الإمكان الّذي هو شرط وقوعه ، وكون هذا الإمكان شرطا لصحّة التكليف هو محلّ النزاع ، فإنّه عندنا شرط الامتثال وليس شرطا في صحّة التكليف ، فإنّ التكليف لا يقتضي حصول المكلّف به في الخارج بل قد يقع لأجل الابتلاء.

وبالتأمّل في ذلك تعرف كثيرا من الشبهات والزلاّت الّتي حصلت في تلك المسألة لغير واحد من أجلاّء الأصحاب عند تشخيص موضع النزاع هنا ، وسنبيّن تفصيل ذلك فيما بعد إن شاء اللّه.

وثالثها : قد وقع بين العامّة خلاف في تعيين زمان انقطاع التكليف ، فعن إمام الحرمين والمعتزلة أنّه ينقطع حال حدوث الفعل وتبعهم ابن الحاجب أيضا ، وعن الشيخ أبي الحسين الأشعري وأتباعه أنّه لا ينقطع حال الحدوث.

وقد رأينا إيراد هذا البحث هنا مناسبا لكونه من مبادئ المسألة في الجملة ، لما سيأتي في أدلّة القول بجواز أمر الآمر مع العلم بانتفاء الشرط من الاحتجاج بأنّه : لو لم يصحّ لم يعلم تكليف أصلا ، لأنّه بعد الفعل ومعه منقطع ، وقبله لا يعلم.

وتوضيحه - على ما في بيان المختصر - : أنّ التكليف بعد الفعل منقطع بالاتّفاق وكذلك مع الفعل عند المعتزلة ، فلا يكون العلم بالتكليف بعد الفعل ، وقبله لا يعلم بوقوع الشرط عند وقت الفعل.

وكيف كان فعن أبي الحسين ومن تابعه الاحتجاج : بأنّ الفعل حال حدوثه مقدور بالإتّفاق سواء قلنا بتقدّم القدرة على الفعل كما هو مذهب المعتزلة أو لم نقل ، وإذا كان مقدورا حال الحدوث صحّ التكليف به.

وأمّا الآخرون فلم نعثر عنهم على احتجاج بالخصوص. عدا ما في اعتراض الحاجبي

ص: 430

على الشيخ بأنّه : إن أراد أنّ تعلّقه (1) به لنفسه فلا ينقطع بعده ، وإن أراد أنّ تنجّز التكليف باق فتكليف بإيجاد الموجود وهو محال ، ولعدم صحّة الابتلاء فتنتفي فائدة التكليف.

وأورد عليه : بأنّا لا نسلّم على التقدير الأوّل أنّه يلزم أن لا ينقطع التكليف بعد حدوث الفعل بتمامه ، وذلك لأنّ المقتضي للتعلّق هو الطلب لأنّه معنى التكليف.

ولا ريب أنّ الطلب ينقطع بعد الفراغ عن الفعل لأنّ المفروغ عنه بعد الفراغ غير مطلوب وكذا غيره حيث إنّ الأمر ليس للتكرار ، مع أنّ لقائل أن يقول : إنّ المكلّف حال حدوث الفعل مكلّف بالإتيان بالكلّ المجموعي لا كلّ واحد من أجزاء الفعل وهو مراد الشيخ ، فلا يكون التكليف حال حدوث الفعل تكليفا بإيجاد الموجود ، لأنّ الكلّ المجموعي لم يوجد حال حدوث الفعل ، والابتلاء صحيح حال الحدوث لأنّ المكلّف لم يأت بتمام الفعل بعد ، وأيضا لا نسلّم انحصار فائدة التكليف فيما ذكر من الابتلاء.

والحقّ ما عليه الأشعري لقضاء ضرورة الوجدان وطريقة العقلاء بأنّ التكليف حيثما ثبت لا ينقطع إلاّ بزوال علّة حدوثه كما في مواضع النسخ ، أو طروّ مانع يرفعه من مصادفة عذر ونحوه ، أو حصول امتثاله في الخارج ، والكلّ مفروض الانتفاء.

أمّا الأوّل : فلا ختصاص البحث بغير مواضع النسخ ، مع منافاة انقطاعه حال الحدوث لما قرّر في شروطه من وجوب حضور وقت العمل ، على معنى انقضاء زمان يسعه الفعل بتمامه.

وأمّا الثاني : فلا ختصاص محلّ البحث بما لو بقي المكلّف على شرائط التكليف إلى زمان الفراغ عن العمل كما يفصح عنه ما تقدّم في احتجاج الشيخ.

وأمّا الثالث : فلتعلّق التكليف بأجزاء الفعل على هيئتها الاجتماعيّة ، والمفروض أنّه لم يحصل منها حال الاشتغال إلاّ بعضها الّذي لم يتعلّق به بالخصوص إلاّ أمر غيريّ من باب المقدّمة ، فما تعلّق به التكليف ليس بحاصل وما هو حاصل ليس بما تعلّق به التكليف ، ومعه كيف يعقل انقطاعه وهو يقتضي الامتثال الّذي هو دائر مدار حصول الفعل بجميع أجزائه ، وأيضا لو صحّ الانقطاع حال الحدوث لزم خروج المكلّف عن العهدة بمجرّد

ص: 431


1- وتوضيحه : أنّه إن اريد أنّ تعلّق التكليف بالفعل لنفس التكليف ، والمتعلّق لنفسه بالشيء امتنع انقطاعه عنه ، فيلزم أن لا ينقطع التكليف بعد حدوث الفعل أيضا وهو باطل بالإجماع ، وإن اريد أنّ تنجّز التكليف بمعنى كون المكلّف مكلّفا بالإتيان بالمكلّف به باق حال حدوث الفعل لزم أن يكون مكلّفا بإيجاد الموجود وهو محال ( منه ) على ما في بيان المختصر.

وربّما تعدّى بعض متأخرّيهم ، فأجازه ، وإن علم المأمور أيضا ، مع نقل كثير منهم الاتّفاق على منعه.

___________________________________

الاشتغال ، فيلزم أن لا يجب عليه الإتمام وهو باطل بالإجماع ، إلاّ أن يراد به انقطاعه على سبيل المراعى فيعود النزاع لفظيّا كما لا يخفى.

وأمّا ما تقدّم من الاعتراض عن الحاجبي فإن أراد بتعلّق التكليف لنفسه كونه بالقياس إلى الفعل المكلّف به من الصفات النفسيّة - كما هو قضيّة قوله بلزوم عدم انقطاعه بعد الفعل أيضا - فهو ليس بلازم من مذهب الشيخ ، لثبوت مطلوبه بفرض كونه من الصفات العرضيّة لبداهة انقطاع الأمر العرضي كائنا ما كان بزوال علّة عروضه ، وإن اريد به كونه نفسيّا في مقابلة التكليف الغيري فالملازمة بيّنة المنع ، فإنّ نفسيّة التكليف لا تمنع عن انقطاعه بتأتّي الغاية المطلوبة منه ولا تكون إلاّ الامتثال وأداء المكلّف به في الخارج.

وأمّا لزوم عدم صحّة الابتلاء على تقدير كون المراد بقاء تنجّز التكليف فلا يرجع إلى محصّل ، إذ لو أراد أنّ بقاء تنجّز التكليف لا بدّ وأن يكون لغرض الابتلاء كما يظهر من قوله :

« فينتفي فائدة التكليف » فهو متّضح الفساد ، وإن أراد أنّ التكليف إذا لم ينقطع حال حدوث نفس الفعل ففي حال حدوث مقدّماته حيثما يراد به مجرّد الابتلاء أولى بعدم الانقطاع ، فلا يبقى للتكليف الابتلائي مورد فينتفي فائدة التكليف حيث لم يكن المكلّف به مشتملا على المصلحة.

ففيه : أنّ الفعل في مورد الابتلاء لم يتعلّق به تكليف بعنوان الحقيقة حتّى ينظر في أنّه هل ينقطع حال حدوثه أو حدوث مقدّماته أو لا ينقطع ، لما تقدّم من أنّ الابتلاء في موارده إبراز لصورة التكليف بالصيغة الدالّة عليه بالوضع لا أنّه تكليف حقيقة.

* وتوضيح هذا المقال ليتّضح به الأقوال : أنّ الآمر والمأمور إمّا عالمان بانتفاء الشرط أو جاهلان به ، أو الآمر عالم دون المأمور ، أو المأمور عالم دون الآمر.

والمصرّح به من موضع النزاع في كلام غير واحد إنّما هو الصورة الثالثة ، فالقول بالجواز فيها منسوب إلى كثير من العامّة كما في كلام بعض الأعاظم ، أو أكثر المخالفين كما في عبارة المصنّف ، أو أكثر الاصوليّين كما في بيان المختصر ، أو القاضي أبي بكر والغزالي وأكثر الاصوليّين كما في المنية.

ص: 432

وشرط أصحابنا في جوازه مع انتفاء الشرط ، كون الآمر جاهلا بالانتفاء ، كأن يأمر السيّد عبده بالفعل في غد ، مثلا ، ويتّفق موته قبله. فانّ الأمر هنا جائز ؛ باعتبار عدم العلم بانتفاء الشرط ، ويكون مشروطا ببقاء العبد إلى الوقت المعيّن*. وأمّا مع علم الآمر ، كأمر اللّه تعالى زيدا بصوم غد ، وهو يعلم موته فيه ، فليس بجائز. وهو الحقّ**.

___________________________________

وأمّا الصورة الاولى فالجواز فيها منسوب إلى بعض متأخّري المخالفين كما في عبارة المصنّف ، مع نقل الاتّفاق عن كثير منهم على المنع ، وكان سنده خلوّ التكليف حينئذ عن الفائدة بالمرّة ، كما يستفاد من عبارة الحاجبي وغيره في دفع اعتراض المعتزلة عليهم بأنّه : لو صحّ التكليف بما علم الآمر انتفاء شرط وقوعه لصحّ بما علم المأمور أيضا ، بجامع كون كلّ واحد منهما معلوما عدم حصوله. ومحصّل الدفع : الفرق بين المقيس والمقيس عليه ، فإنّ محلّ الوفاق إنّما لا يصحّ التكليف به من جهة انتفاء فائدة التكليف ، لأنّ فائدته إمّا الامتثال أو العزم عليه ، واذا علم المأمور امتناع الفعل يمتنع منه الامتثال ولم يعزم على الفعل أيضا فلا يطيع ولا يعصي ، بخلاف محلّ النزاع فإنّه إذا لم يعلم المأمور امتناع الفعل قد يطيع بالعزم والمباشرة وقد يعصي بالترك والكراهة.

وأمّا الصورة الثانية كالصورة الرابعة فادّعى كثير منهم الاتّفاق على الجواز فيها ، وفي المنية نفي الخلاف عنه في غير العالم بفوات الشرط ، وإطلاق العبارة يشمل الصورتين معا.

وإلى ذلك يشير المصنّف في قوله : « وشرط أصحابنا في جوازه مع انتفاء الشرط كون الآمر جاهلا بالانتفاء ، كأن يأمر السيّد عبده بالفعل في غد ويتّفق موته قبله ».

* وفي كونه مشروطا يكفي كون عامّة التكاليف مشروطة بالتمكّن من الامتثال فعلا الثابت بحكم العقل وجريان سيرة العقلاء في نوع التكاليف الصادرة عنهم ، ولا حاجة له إلى قصد الاشتراط في خصوص المورد ليتوجّه : أنّ السيّد في الفرض المذكور كثيرا مّا يأمر وهو غير ملتفت إلى احتمال الموت فضلا عن قصده الاشتراط واعتباره التعليق ، فلذا ترى أنّ الأمر لا يصدر منه غالبا إلاّ مطلقا.

** وربّما يستفاد من كثير من العبائر كعبارة المصنّف فيما تقدّم دعوى اتّفاق أصحابنا عليه وعزاه السيّد في المنية إلى المعتزلة كافّة ، وفي كون مبنى الخلاف على دعوى كون

ص: 433

العلم بانتفاء الشرط مانعا من صحّة التكليف أو على القول بكون الشرط المعلوم انتفاؤه شرطا في صحّة التكليف وجهان ، يستفاد أوّلهما عن التفتازاني في شرحه على الشرح ، غير أنّ المستفاد عن الحاجبي وغيره كما عرفت فيما تقدّم في المقدّمة الثانية هو الوجه الثاني.

وعلى ذلك ينبّه ما في تهذيب العلاّمة من أنّ الأصل في ذلك أنّ الأمر قد يحسن لمصلحة تنشأ من نفس الأمر لا من المأمور به ، وقد يحسن لمصلحة تنشأ منهما ويظهر منه هنا ارتضاؤه بذلك حيث أورده ولم يعقبه بما يزيّفه.

وبالتأمّل فيما ذكر - مضافا إلى ما تقدّم في المقدّمة المذكورة مع ما سيأتي عند ذكر الأدلّة - يظهر أنّ كلام المجوّزين في ما يعمّ الأمر الحقيقي والأمر الابتلائي ، فإنّ الحاجبي وغيره مع كونه من المجوّزين قد جمع في المقام بين الاحتجاج بأنّه لو لم يصحّ لم يعص أحد أبدا ، وبين دفع نقض المعتزلة عليهم بما تقدّم الإشارة إليه بما يقضي بأنّ الأمر قد يقع لأجل الابتلاء كما صرّح به بيان المختصر ، وظاهر أنّ تكليف العاصين ليس إلاّ حقيقيّا ، ولا يستقيم ذلك إلاّ مع إرادة الأعمّ ، غير أنّه يظهر منهم الفرق بينهما بحسب المورد فيخصّون الأوّل بما إذا كان الشرط المعلوم انتفاؤه ممكن الحصول كالإرادة ونحوها ، والثاني بما إذا لم يكن كذلك كما عرفت في المقدّمة وستعرفه أيضا.

نعم أدلّة المانعين بين صريحة وظاهرة في نفي الأمر الحقيقي.

ولعلّ النزاع بين الفريقين لأجل ذلك يعود لفظيّا وهو ليس بعادم النظير في المسائل الخلافيّة ، فإنّ الأوّلين يريدون إثبات الجواز ولو لأجل الابتلاء لزعمهم عدم كون ذلك الشرط المعلوم انتفاؤه من شروط التكليف.

والآخرون يمنعون عن جواز التكليف الحقيقي لئلاّ يفضي إلى تكليف ما لا يطاق ونحوه ، فيكون ما علم انتفاؤه شرطا في التكليف أيضا.

لكن يرد على الأوّلين : أنّكم إذا جعلتم الكلام في إثبات الشرطيّة وعدمها فتجويزكم التكليف لأجل الابتلاء بدعوى عدم الشرطيّة لا يجديكم نفعا في محلّ النزاع ، إذ الابتلاء ليس من التكاليف الحقيقيّة حتّى ينظر في حكمه ويجعل تجويزه مبنيّا على عدم الشرطيّة.

وعلى فرض رجوعه بالقياس إلى العزم والتوطين وفعل المقدّمات إلى التكليف الحقيقي - لا أنّها امور تتأتّى من باب الغاية المقصودة في التكليف الصوري ، فلا يستريب أحد في عدم الشرطيّة حينئذ إذا جاز التكليف الابتلائي من أصله حيث لا مقتضي لها

ص: 434

أصلا ، فنحن نباحثكم في التكليف الحقيقي المتعلّق بالفعل نفسه لا بما هو خارج منه ، فإن جعلتموه شرطا له فقد عدلتم عمّا ادّعيتموه أوّلا ، وإن أنكرتم الشرطيّة أيضا فقد التزمتم بما يكون باطلا بحكم العقل الضروري من جواز التكليف بما لا يطاق إن كان ما علم انتفاؤه من الشرط ما لا يتعلّق بإيجاده قدرة المكلّف ، أو قلتم بعدم الشرطيّة فيما لا قائل بها أصلا إن كان ما علم انتفاؤه من الامور الداخلة تحت قدرة المكلّف ، حيث لم يذهب أحد إلى كون التكليف في مثل ذلك مشروطا ، بل ادّعي الاتّفاق في مثل ذلك على الجواز وإن علم المأمور بانتفاء الشرط ، فإنّ غايته استلزامه للتكليف بإيجاد الشرط أيضا تبعا من باب المقدّمة ، مع أنّه على تقدير اختصاص موضع كلامكم بما لا يكون مقدورا رجع البحث إلى مسألة جواز التكليف بالممتنع العرضي كما صرتم إليه ، بل هو في الحقيقة من جملة فروع تلك المسألة ، فلا وجه لتخصيصه هنا بعنوان مستقلّ بعد ما أوردتم البحث في أصل المسألة.

ثمّ إنّ الاصوليّين اضطربت عباراتهم في تشخيص موضع النزاع فمنهم من جعله أعمّ ، ومنهم من خصّه بالأمر الحقيقي ، ومنهم من خصّه بالأمر الابتلائي ، ومنهم من ردّد بين الاحتمالات فوافق في كلّ احتمال فريقا ، وأكثرهم تعرّضا لذكر الاحتمالات بعض الفضلاء (1) وكلّ ذلك نشأ عن اختلاف كلمات المتنازعين واستدلالاتهم والثمرات المذكورة لهم في هذا النزاع.

والأقرب ما قرّرناه من كون نظر المجوّزين في الأعمّ ونظر المانعين في خصوص الأمر الحقيقي ، وأمّا كون هذا النزاع في خصوص الأمر المشروط كما احتمله جماعة منهم بعض الفضلاء حيث أدرجه في الاحتمالات الّتي ردّد فيها فممّا لا يساعد عليه شيء من أطراف المسألة لا عنوانا ولا دليلا ، بل يأبى عنه ما تقدّم في عبارة بيان المختصر ، كيف وهو مبنيّ على تسليم الشرطيّة عند الفريقين ونزاعهم في جواز التعليق وعدمه.

وقد عرفت أنّ المستفاد من المجوّزين صراحة وظهورا نفي الشرطيّة رأسا ، ويتّضح ذلك بملاحظة ما قرّرناه سابقا من أنّ نزاعهم يرجع بالأخرة إلى النظر في أنّ ما فرض كونه شرطا في الوقوع عقلا هل هو شرط للتكليف أيضا أو لا؟ ولعلّ منشأ هذا الاحتمال ما يأتي في كلام المصنّف تبعا للسيّد وغيره فيما يأتي.

ص: 435


1- الفصول : 109 - 110.

لكن لا يعجبنى الترجمة عن المبحث بما ترى ، وإن تكثّر إيرادها في كتب القوم* ، وسيظهر لك سرّ ما قلته وإنّما لم أعدل عنها ابتداء قصدا إلى مطابقة دليل الخصم لما عنون به الدعوى ، حيث جعله على الوجه الّذي حكيناه.

___________________________________

* وتوضيح ذلك : أنّ العنوان الوارد في كتب القوم مشتمل بظاهره على جهات لا يرضى المصنّف بشيء منها.

إحداها : ظهور الشرط بإطلاقه فيما يعمّ المقدور وغيره ، فجعل حقيقة النزاع في خصوص الثاني بقرينة ما يأتي منه في جواب الوجه الأوّل من حجج المجوّزين.

وثانيتها : ظهور الأمر فيما لا يكون بعبارة التعليق ، فجعل حقيقة النزاع راجعة إلى صحّة التعليق والاشتراط من العالم بانتفاء الشرط بقرينة ما أورده من عبارة السيّد واستحسنها.

وثالثتها : إطلاق الأمر بالقياس إلى ما اريد منه طلب الفعل وما اريد منه طلب غيره من العزم والتوطين ، فجعل حقيقه النزاع في خصوص ما اريد منه طلب الفعل بقرينة ما يأتي منه في جواب الوجه الرابع من حجج المجوّزين.

ولكن يرد عليه : أنّه إن أراد في كلّ من تلك الجهات أنّ محلّ النزاع في الحقيقة هو ما زعمه دون غيره ، ففيه : ما عرفت من أنّه ما لا يساعد عليه شيء من جهات المسألة لا عنوانا ولا دليلا ولا نقضا ولا إبراما ، كما اعترف به في قوله : « وإنّما لم أعدل عنها ابتداء قصدا إلى مطابقة دليل الخصم لما عنون به الدعوى » حيث جعله على الوجه الّذي حكيناه ، مع ما عرفت في كلام بعضهم من التصريح بخلاف ما زعمه في بعض الجهات.

وإن أراد أنّ القابل للنزاع الّذي من شأنه أن يبحث فيه العلماء هو ما زعمه دون غيره ، لسخافة النزاع فيه وعدم كونه لائقا بأن يورد في الكتب العلميّة الّتي مبناها على البحث في الامور النظريّة دون الامور الضروريّة الّتي لا يعتنى بشأنها عند أرباب النظر.

ففيه : أنّ سخافة البحث لا تقضي بوجوب تغيير المبحث وكم من هذا القبيل في المسائل الخلافيّة مع أنّه لو رجع المتنازع فيه إلى النظر في أنّ ما فرضه العقل شرطا في الوقوع هل هو شرط في التكليف أيضا - كما استظهرناه من كلماتهم فيما سبق - كان قابلا للنزاع فيه لائقا بأن يورد في الكتب العلميّة ولا سخافة فيه أصلا.

ولا ريب أنّ قضيّة هذا العنوان كون المراد بالشرط ما يعمّ المقدور وغيره ، وبالأمر

ص: 436

ما يعمّ الحقيقي وغيره ، وبالتكليف خصوص التنجيزي دون التعليقي ولا ما يعمّهما.

وكيف كان فاختلفت كلمتهم في تعيين موضع النزاع بالنسبة إلى كلّ من الجهات المذكورة ، فأمّا من جهة الأمر بالقياس إلى قسميه الحقيقي والابتلائي فقد تبيّن الحال ومحصّل الأقوال فيها فيما سبق.

وأمّا من جهة التكليف بالقياس إلى قسميه التنجيزي والتعليقي فظاهرهم عنوانا ودليلا مع ملاحظة ما فرّعوا على القول بالجواز من الثمرات إرادة الأوّل.

وعزاه بعض الأعاظم إلى ظاهر كلام الأكثر ، لكن في المنية ما يقضي بإرادة الثاني حيث نقل كلام المجوّزين بقوله : « قال الآخرون لا نزاع في أنّه لا يجوز أن يقال للميّت حال موته : « إفعل » لكن لم لا يجوز أن يقال لمن هو موجود مستجمع لشرائط التكليف مع علم الآمر بأنّه سيموت في الغد : « صم غدا إن عشت؟ » بل الحقّ ذلك لما يتضمّن من المصالح الكثيرة ، فإنّ المكلّف قد يوطّن نفسه على الامتثال فيكون ذلك التوطين لطفا في المعاد نافعا في الدنيا ، لتأكّد انزجاره عن المعاصي المنافية ، وانحرافه عن طرق الفساد عاجلا ، ولأنّه يحسن أن يستصلح السيّد عبده بأوامر ينجّزها عليه مع عزمه على نسخها منه امتحانا له ؛ وأن يقول الإنسان لغيره : « وكّلتك على بيع عبدي » مع علمه بعزله إذا كان غرضه استمالة الوكيل وامتحانه في أمر العبد والأصل في ذلك أنّ الأمر كما يحسن لمصالح تنشأ من فعل المأمور به فقد يحسن لمصالح تنشأ من نفس توجّهه إلى المأمور » انتهى.

فإنّ قضيّة الجمع بين الأمثلة المذكورة كون مراد المجوّزين جوازه ولو بعبارة التعليق.

وأمّا من جهة الشرط فجزم جماعة من فحول أصحابنا المتأخّرين بكون النزاع في شرط الوجوب خاصّة ، حتّى أنّ منهم من ادّعى ظهور عدم الخلاف في جواز أمر الآمر عند علمه بفقدان شرط الوجود ، كما في ضوابط ابن عمنا السيّد ثمّ علّله : « بأنّه لو كان ذلك الشرط داخلا في النزاع يلزم على قول الخاصّة بعدم الجواز التزام كون الأوامر بأسرها مقيّدات وعدم وجود أمر يكون مطلقا ، فيرجع النزاع حينئذ إلى وجود الواجب المطلق وعدمه » وهو كما ترى فإنّ شرط الوجود أعمّ ممّا لا يكون مقدورا للمكلّف فكيف يدّعى عدم الخلاف في جواز الأمر مع العلم بالفقدان إذا كان ذلك الشرط غير مقدور للمكلّف ، وتوهّم أنّ ذلك شرط للوجوب أيضا فلا ينافي دعوى اختصاص النزاع بشرط الوجوب فقط.

يدفعه : ما عرفت من أنّ مرجع كلام المجوّزين إلى إنكار كون مثل ذلك شرطا

ص: 437

للوجوب ، وكون الواجب بالنسبة إلى ما كان مقدورا من شرائط الوجود فقط مطلقا كاف في إزاحة ما ذكر من المحذور ، فلا يكون النزاع راجعا إلى وجود الواجب المطلق وعدمه بقول مطلق ، بل يرجع إليه في خصوص ما قيّد وجوده به عقلا من الشروط الغير المقدورة.

بل لنا أن نقول : إنّ النزاع لو كان فيما يعمّ المقدور أيضا لا يلزم المحذور على شيء من المذهبين.

أمّا على مذهب المجوّزين فواضح.

وأمّا على مذهب المانعين فلكفاية بنائهم على إطلاق الأمر بالنسبة إلى الشروط الشرعيّة ، فلا يرجع النزاع إلى ما ذكر أيضا على إطلاقه.

وتحقيق المقام : أنّ النزاع إنّما هو في شرط الوجود فقط لما هو المصرّح به في كلام غير واحد من أهل القول بالجواز عنوانا ودليلا.

وإن شئت فانظر إلى عبارة الحاجبي في أصل العنوان حيث قال : « يصحّ التكليف بما علم الآمر انتفاء شرط وقوعه عند وقته ».

وأصرح منه ما نقله في دفع نقض المعتزلة بلزوم عدم كون الإمكان شرطا في التكليف من قوله : « واجيب : بأنّ الإمكان المشروط أن يكون ممّا يتأتّى فعله عادة عند وقته واستجماع شرائطه والإمكان الّذي هو شرط الوقوع محلّ النزاع ».

وقد وافقنا على ما ادّعيناه هنا الباغنوي على ما في محكيّ بعض الأعاظم (1) عنه من تخصيصه الشرط هنا بشرط الوجود الّذي لم يكن شرطا للوجوب ، معلّلا : « بأنّ عند انتفاء شرط الوجوب أو علم الآمر بانتفاء شرط الوجوب لا يتحقّق التكليف ، إذ لا يتصوّر التكليف بدون شرط الوجوب » وهو كما ترى في غاية المتانة فإنّ معنى كونه شرطا للوجوب أنّ الوجوب منتف بدونه ومعه كيف يعقل القول بجواز التكليف ، وهل هو إلاّ القول بجواز التناقض في كلام الحكيم ، بل القول بجواز اجتماع النقيضين؟ غير أنّه أورد عليه بعض الأعاظم (2) بوجوه :

منها : أنّ كلماتهم فرعا ودليلا في بيان الشروط مشحونة بذكر الطهارة من الحيض والحياة والقدرة والعقل ونحوها من شرائط التكليف من غير نكير.

ومنها : أنّ غاية ما يلزم من ذلك بطلان التجويز ولا ينافيه ، فإنّ القائل به الأشاعرة وكم

ص: 438


1- إشارات الاصول : 86.
2- إشارات الاصول : 86.

من هذا القبيل في كلماتهم.

ومنها : أنّ ما خصّصه به يجعل المنع غير متصوّر فإنّ انتفاء شرط الوجود إذا لم يكن شرط الوجوب ممّا لا يتصوّر وجه لمنع التكليف منه.

ولا يخفى ما في الجميع من ورودها على خلاف التحقيق.

أمّا الأوّل : فلأنّ كون الامور المذكورة من شروط التكليف عند الفريقين أوّل الدعوى ، بل المسلّم عندهما كونها من شروط الوجود.

وأمّا كونها من شروط التكليف أيضا فيرجع كلام المجوّزين - على ما عرفته - إلى إنكاره ولقد سبق عن الحاجبي ما هو صريح في ذلك ، ومع هذا كيف يقال : إنّها من شروط التكليف من غير نكير.

وأمّا الثاني : فلأنّ الأشاعرة بعد وضوح مرامهم وظهور كلامهم هنا في نفي الشرطيّة الوجوبيّة فكيف يسند إليهم تجويز التناقض واجتماع النقيضين الّذي يلزم من القول بالجواز مع تسليم الشرطيّة للوجوب.

وأمّا الثالث : فلأنّ المنع يتصوّر في صورة كون شرط الوجود غير مقدور للمكلّف مع توهّم كون مراد المجوّزين من ما قصد به أداء الفعل المشروط ، كما يشهد به الأمثلة المذكورة ، فإنّ الكلّ من هذا الباب فإنكار تصوّر المنع لا يخلو عن غرابة.

ثمّ إنّه على ما رجّحناه من كون النزاع في شرط الوجود فهل يعمّ ذلك لما يكون منه مقدورا أو يختصّ بما هو غير مقدور؟

والّذي يستفاد من أدلّة المانعين هو الثاني كما ستعرفه ، وكلام المجوّزين ظاهر بل صريح في الأوّل ، وممّا يرشد إليه احتجاجهم بأنّه لو لم يصحّ لما عصى أحد من المكلّفين لأنّ كلّ ما لم يحصل فإنّما هو من جهة انتفاء شرط من شروطه وأقلّها الإرادة الّتي هي من شروط الوقوع اتّفاقا.

ولا ريب أنّ الإرادة من الامور المقدورة للمكلّف.

فإن قلت : لا شهادة في ذلك بما ادّعيته من جهة أنّ المجوّز من الأشاعرة الّذين يقولون بالجبر في أفعال العباد ، ومن لوازم هذا المذهب كون الإرادة الّتي هي من شروط الوجود هي إرادة اللّه تعالى وهي كما ترى غير مقدورة للمكلّف.

قلنا : قد عمّموا الإرادة في تقرير الاستدلال بالقياس إلى إرادته تعالى وإرادة الخلق ليستقيم

ص: 439

ولقد أجاد علم الهدى ، حيث تنحّى عن هذا المسلك ، وأحسن التأدية عن أصل المطلب!.

___________________________________

الدليل على كلا المذهبين.

وإن شئت فلا حظ عبارة الحاجبي المشتملة في بيان الملازمة على قوله : « لأنّه لم يحصل شرط وقوعه من إرادة قديمة أو حادثة » وشرحه في بيان المختصر : « بأنّ وقوع كلّ واحد من الأفعال مشروط بإرادة قديمة وهي الإرادة القائمة بذات اللّه تعالى كما هو مذهب الجماعة ، أو بإرادة حادثة وهي إرادة الخلق كما هو مذهب المعتزلة ».

ومن هنا يتبيّن ما في كلام سلطان المحقّقين في شرح عبارة المصنّف فيما تقدّم المشتملة على قوله : « ولا تعجبني الترجمة » إلى آخره ، من قوله : « يعني من تعميم الشرط بالنسبة إلى المقدور وغير المقدور ، بل لا بدّ من تخصيص الشرط بما لا يكون مقدورا للمكلّف ، فإنّه لا خلاف في أنّه يصحّ التكليف مع انتفاء الشرط المقدور فإنّه تكليف بالشرط والمشروط ».

فتلخّص ممّا قرّرنا في تشخيص موضع النزاع أنّ النزاع من جهة الشرط أيضا يعود لفظيّا كما كان من جهة الأمر لفظيّا حسبما أشرنا إليه سابقا.

إلاّ أن يقال : إنّ الصور بملاحظة قسمي الأمر مع قسمي الشرط أربع وقع المخالفة في واحدة منها ، وهي ما لو كان الأمر حقيقيّا والشرط غير مقدور ، فإنّ المجوّزين يجوّزون الأمر في جميع تلك الصور والمانعون يمنعون الجواز في الصورة المذكورة خاصّة مع موافقتهم المجوّزين في الثلاث الباقية ، ولكن هذا حسن لولا ما تقدّم من أنّ المجوّزين يخصّون في الأمر الحقيقي بما لو كان الشرط مقدورا للمكلّف والأمر الابتلائي بما لو كان الشرط غير مقدور له ، والمفروض أنّ المانعين لا يمنعون شيئا منهما.

نعم لو كان في المجوّزين من يجوّز الأمر الحقيقي في الشرط الغير المقدور أيضا تمّ ما ذكر.

وعلى أيّ حال كان فقد عرفت أنّ الأمر في موضوع المسألة يراد به الأمر المنجّز المطلق وأمّا الأمر المشروط بما علم انتفاء شرط وقوعه فهو نزاع آخر معبّر عنه بجواز التعليق من العالم بالعواقب وعدمه ، وستعرف ما هو الحقّ في ذلك أيضا.

* ظاهر العبارة كون كلام السيّد تعبيرا عن العنوان المعروف وتحريرا لهذا النزاع ، ولا خفاء أنّه بعيد بعد ما حرّرناه موضع النزاع في هذا العنوان ، فإنّ تعبير السيّد ممّا لا يساعد عليه أصل العنوان ولا كلماتهم في مطاوي البحث ولا أدلّة الفريقين ولا ثمرات القولين ،

ص: 440

فقال : « وفي الفقهاء والمتكلّمين من يجوّز أن يأمر اللّه تعالى بشرط أن لا يمنع المكلّف من الفعل ، أو بشرط أن يقدره. ويزعمون : أنّه يكون مأمورا بذلك مع المنع*. وهذا غلط ؛ لأنّ الشرط إنّما يحسن فيمن لا يعلم العواقب ولا طريق له إلى علمها ،

___________________________________

كيف وأنّ هذا التعبير إنّما يتأتّى النزاع فيه بعد الفراغ عن النزاع في التعبير المعروف والبناء فيه على كون شرائط الوقوع ما أخذت عقلا أو شرعا شروطا للوجوب أيضا ، ولولا ما يأتي من عبارة السيّد لجزمنا بعدم كون مراده في هذه التأدية التعبير عن العنوان المعروف ، بل هي ايراد لمسألة كلاميّة اخرى مستقلّة برأسها.

* يعني زعموا أنّه يكون مأمورا بذلك الفعل مع انتفاء شرطه وهو عدم المنع من الفعل.

وهذا من السيّد قدس سره هو الّذي ربّما يدخل في الوهم ما دعى المصنّف إلى التصديق فيما ادّعاه سابقا من كون ذلك تعبيرا عن العنوان المعروف ، وقد عرفت أنّه ليس كذلك.

هل يصحّ التعليق من العالم بالعواقب أو لا؟

ثمّ لا يخفى ما في هذا التعبير من المناقضة الواضحة ، فإنّ الأمر إذا فرض وروده منه تعالى مشروطا فكيف يقال معه بكون المكلّف مأمورا بالفعل مع انتفاء الشرط أيضا؟ ولو صحّ مع ذلك كونه مأمورا عند العقل فكيف يقال بكون الأمر مشروطا؟ فإنّ إثبات كلّ يستلزم نفي الآخر والجمع بينهما جمع بين المتناقضين ، إلاّ أن يراد بالاشتراط ما كان بصورة التعليق لا التعليق الحقيقي ، وحينئذ يبطل جميع ما ذكره السيّد في ابطال هذا القول ، إذ لا مانع عقلي ولا شرعي عن التعليق الصوري إذا ساعد عليه حكمة راجحة في نظر الحكيم.

وكيف كان فالعمدة صرف النظر في تحقيق أصل المطلب ، وهو أنّه هل يصحّ التعليق من العالم بالعواقب أو لا؟ ففيه خلاف على قولين أو أقوال :

أوّلها : عدم الصحّة مطلقا ، صرّح به السيّد فيما حكاه عنه المصنّف قائلا : « بأنّ الشرط إنّما يحسن فيمن لا يعلم العواقب ولا طريق له إلى علمها ، فأمّا العالم بالعواقب وبأحوال المكلّف فلا يجوز أن يأمره بشرط » ويستفاد من أطراف كلامه كون سند المنع عنده القبح العقلي من جهة اللغويّة ونحوها.

ووافقه الشيخ رحمه اللّه أيضا - على ما حكاه بعض الأعاظم - وتبعهما المصنّف حيث استحسن ما ذكره السيّد وارتضاه بعد ما فرغ من نقل كلامه ، وعليه بعض الأعلام في قوله :

ص: 441

« إنّ التعليق على ما يفهم منه هنا ممّا لا يصحّ على العالم بالعواقب ولا يحسن الشرط منه على ظاهره » (1) غير أنّه خالفه في السند حيث علّله بظهور التعليق في الجهل وهو ينافي العلم ، حتّى أنّه التزم بتأويل الاشتراط الّذي يكثر وقوعه في خطابات الشرع ، فقال : ينحلّ الاشتراط حينئذ إلى حكمين مطلقين ثبوتيّ بالنسبة إلى الواجد وسلبيّ بالنسبة إلى الفاقد » (2) وتبعه مختارا ودليلا بعض الأعاظم حتّى أنّه صرّح بعدم الفرق في ذلك بين كون الشرط حاصلا أو لا ، إذ على تقدير وجوده يلغو الشرط كما أنّه على تقدير العلم بعدم وجوده يلغو الأمر ، غير أنّه استثنى صورة فقال : « نعم يمكن وروده لحكمة ومصلحة اخرى وهي غير عزيزة ولا كلام فيه ، ولكنّه خلاف الظاهر » (3) وفي الجميع نظر يظهر وجهه فيما بعد.

ثانيها : الصحّة مطلقا ، محكيّ عن المدقّق الشيرواني ووافقه بعض الفضلاء فقال : « إن أرادوا أنّه في نفسه غير جائز فممنوع ، إذ لا ريب في أنّ الفعل قد يكون بحيث لو وجد الشرط لكان مطلوبا ، وظاهر أنّ مفاد الأمر على وجه الاشتراط لا يزيد على ذلك ، فلا بأس بالكشف عن هذا المعنى بطريق الأمر مع التعليق ، ولا فرق في ذلك بين التصريح بالاشتراط حال [ الأمر ] أو بعدها أو التعويل على دلالة العقل ، وإن أرادوا أنّ الأمر حال العلم بعدم الشرط ممّا لا فائدة فيه فيكون سفها فهو على إطلاقه ممنوع اذ قد يترتّب عليه فوائد وتسرية المنع إلى الجاهل المتمكّن من تحصيل العلم بالشرط على الإطلاق أوضح فسادا ، إذ قد يكون الأمر بالشرط أسهل من الاستعلام فيرجّح عليه.

وأمّا ما تمسّك به السيّد من أنّ الشرط إنّما يحسن ممّن لا يعلم العواقب فلا نرى منه ذلك إلاّ مجرّد دعوى ، إذ لا شاهد عليها لا عقلا ولا نقلا ، وقد ورد التعليق على الشرط في الكتاب في مواضع كثيرة ، كقوله تعالى : ( إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) (4) و ( إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللّهِ ) (5) و ( إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ ) (6) و ( إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ ) (7) إلى غير ذلك » (7).

وفي ضوابط ابن عمّنا قدس سره بعد ترجيح الجواز في موضع وجود الثمرة استظهار عدم كون ذلك النزاع نزاعا في الكبرى ، بل هو نزاع في الصغرى راجع إلى وجود الفائدة وعدمه مع التعليق ، فمع وجودها اتّفق الكلّ على الجواز والمنكر إنّما ينكر وجود الفائدة ، مع التصريح بأنّ الحقّ وجودها وهي أنّ التعليق أربط بالابتلاء وأتمّ لإتمام الحجّة والامتحان.

ص: 442


1- القوانين 1 : 124.
2- القوانين 1 : 124.
3- إشارات الاصول : 88.
4- المائدة : 6.
5- البقرة : 229. 4. النساء : 20.
6- البقرة : 280.
7- الفصول : 110.

فتبيّن بجميع ما ذكر أنّ عدم الجواز في الجملة اتّفاقيّ ، أو يقال : انّ إناطة الحكم بحصول الفائدة وعدمه تفصيل في المسألة واقع بين الإطلاقين - على ما عرفتهما - إطلاق السيّد ومن تبعه في المنع وإطلاق محكيّ الشيرواني في الجواز ، فيكون ذلك ثالث الأقوال.

وإذا تمهّد ذلك فاعلم : أنّ التعليق في مقابلة التنجيز من « النجز » بمعنى الحضور ، فالمنجّز هو الأمر المحقّق في الخارج فعلا باعتبار عدم كونه مربوطا بأمر غير حاصل ، وفي الأمر عبارة عن الطلب الصادر من المتكلّم فعلا ، فالتعليق مأخوذ عن « العلقة » بمعنى الربط الّذي يرد في مثل : « إن جاءك زيد فأكرمه » و « إن استطعت فحجّ » أو « أكرم زيدا إن جاءك » و « حجّ إن استطعت » وغيرهما من الجمل الشرطيّة الإنشائيّة الدائرة في استعمالات العرف والشرع.

ولا يذهب عليك أنّ محلّ التعليق بالمعنى المتنازع فيه ليس هو الطلب الإنشائي القائم بذهن المتكلّم المدلول عليه بصيغة الأمر ، فإنّه يقع من المتكلّم فعلا حال الخطاب ويستكمل جميع جهاته من الصدور والتعلّق بالمطلوب والمطلوب منه ، ولا يعقل فيه التعليق بالمعنى المتنازع ، بل محلّ هذا التعليق إنّما هو متعلّق هذا الطلب الصادر من المتكلّم فعلا الّذي هو موضوع الحكم ، وهو وقوع الإكرام ووقوع الحجّ في الخارج في المثالين ، فإنّه معلّق ومربوط فيهما بالمجيء والاستطاعة فيبقى مراعى بحصولهما وموقوفا على وجودهما ، ويتعلّق الطلب الفعلي المنجّز لهذا الموضوع المعلّق ، وذلك أنّ المتكلّم بطلبه الإكرام أو الحجّ على تقدير مجيء زيد أو الاستطاعة يربط وقوع الإكرام بمجيء زيد ووقوع الحجّ بالاستطاعة فيقع الطلب منجّزا والمطلوب معلّقا وموقوفا في وجوده الخارجي على حصول المجيء والاستطاعة.

وبالجملة نحن لا نعقل فرقا بين قول القائل : « أكرم زيدا » وقوله : « إن جاءك زيد فأكرمه » في تنجّز الطلب فيهما معا ، على معنى صدوره من المتكلّم فعلا حال الخطاب ، وإنّما يحصل الفرق بينهما في أنّ متعلّق ذلك الطلب في الأوّل هو الإكرام الغير المقدّر بمجيء زيد ، ولذا يكون وقوعه مطلوبا على كلا تقديري حصول المجيء وعدم حصوله ، وفي الثاني هو الإكرام المقدّر بمجيئه فيكون مطلوبا على تقدير حصوله ولا يكون مطلوبا على تقدير عدم حصوله ، فالتعليق وصف في موضوع الطلب لا في نفسه ، ولو وصف به الطلب أو الوجوب في بعض الأحيان فإنّما هو على وجه المجاز من باب الوصف بحال متعلّق الموصوف ، أو يراد بالوجوب الأثر المترتّب على الطلب الإنشائي وهو كون الفعل بحيث

ص: 443

يستحقّ تاركه العقاب ، أو الوجوب العقلي الناشئ منه الطلب الإنشائي وهو كون الفعل بحيث يستحقّ تاركه الذمّ ، أو يراد من التعليق جعل الطلب الإنشائي متعلّقا بالموضوع المقيّد وقوعه بوجود الشرط ، كما ورد لهذا المعنى ما في قولهم في مباحث المفاهيم : « تعليق الحكم بالشرط أو بالوصف أو بالغاية » أو بغيرها ممّا هو معنون في المباحث المذكورة.

والأصل فيما ذكرناه - كما قرّرناه في مبحث الواجب المشروط والواجب المعلّق ونفي الفرق بينهما من بعض رسائلنا - أنّ الشرطيّة ترد لإفادة التعليق خبريّة كانت أو إنشائيّة ، والتعليق لا يقع قطّ على حكم القضيّة خبريّا كان أو إنشائيّا ، فكما أنّ المخبر في نحو : « إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود » بإسناده الوجود إلى النهار على تقدير طلوع الشمس [ يربط ] نسبة الوجود إلى النهار بنسبة الطلوع إلى الشمس فيقع الإسناد منه منجّزا ، ويبقى النسبة الخارجيّة المأخوذة في التالي معلّقة في تحقّقها الخارجي على طلوع الشمس ، ومعناه : كون وجود النهار في وقوعه مراعى بطلوع الشمس وموقوفا عليه ، فكذلك المنشئ في نحو : « إن جاءك زيد فأكرمه » بطلبه إكرام زيد على تقدير مجيئه يربط وقوع الإكرام في الخارج بوجود المجيء فيقع الطلب منجّزا والمطلوب معلّقا ، فإنّ الطلب في الإنشاء بمنزلة الإسناد في الخبر ، وكما أنّ الإسناد في الخبر نسبة في المتكلّم فيه ولا تعليق فيها فكذلك الطلب في الإنشاء نسبة في المتكلّم فلا تعليق فيها ، فالتعليق دائما يقع على موضوع الحكم لا على نفسه خبريّا كان أو إنشائيّا.

وحينئذ فالمكلّف الّذي هو السامع في الخطاب بالشرطيّة المفيدة للتعليق إمّا فاقد للشرط المعلّق عليه حال الخطاب أو واجد له ، والأوّل إمّا أن يكون بحيث يلحقه الشرط ويوجد له في الأزمنة المتأخّرة أو يكون بحيث لا يلحقه الشرط أصلا فالصور ثلاث :

أمّا الصورة الاولى : وهي فقدان المكلّف للشرط مع كونه بحيث يلحقه في الزمان المتأخّر ، فلا ينبغي التأمّل في صحّة التعليق فيها من الآمر الحكيم سواء كان عالما بفقدان الشرط ولحوقه في الزمان المتأخّر أو جاهلا بهما أو بالثاني منهما ، ولا مانع منه من سفه أو لغويّة أو غير ذلك ، وفائدته تنبيه المخاطب على كون وقوع الفعل المعلّق على وجود الشرط مطلوبا بعد وجود الشرط ، ويقال له : « المنطوق » وعدم كونه مطلوبا بدون وجوده ويقال له : « المفهوم » وهذا هو التعليق الحقيقي وحقيقة الجملة الشرطيّة ، حتّى أنّ المحقّقين من أهل القول بحجّيّة مفهوم الشرط - ومنهم بعض الأعلام - علّلوا الحجّيّة بظهور الشرطيّة

ص: 444

في سببيّة المقدّم للتالي وكونها حقيقة فيها للتبادر ، وفسّروها بالوجود عند الوجود والانتفاء عند الانتفاء.

فما ذكره بعض الأعلام (1) من أنّ الشرطيّة في خطابات الشارع تنحلّ إلى إفادة حكمين مطلقين بالنسبة إلى الواجد والفاقد وسمّاه « تأويلا » إن أراد به هذا المعنى نظرا إلى أنّ المحصّل من مطلوبيّة الفعل على تقدير وجود الشرط وعدم مطلوبيّته على تقدير عدم وجوده في مثل : « حجّوا إن استطعتم » إثبات الوجوب على الواجد ونفي الوجوب عن الفاقد فهو ليس من التأويل في شيء ، بل هو أخذ بظاهر الشرطيّة ، وإن أراد به غير هذا المعنى فمع أنّه غير متصوّر لا حاجة إلى التأويل إليه بعد إمكان الأخذ بالظاهر ، وما تقدّم منه أيضا من تعليل عدم صحّة التعليق من العالم بالعواقب بظهور التعليق في الجهل وهو ينافي العلم غير سديد ، لمنع ظهوره في الجهل لما عرفت من صحّته من العالم والجاهل معا ، ولو سلّم فيكفي فيه جهل السامع وليس بلازم فيه كونه من المتكلّم الحكيم.

وأمّا الصورة الثانية : وهي الفاقد الّذي لا يلحقه الشرط أصلا فيصحّ التعليق فيها من الجاهل بالعواقب لمجرّد كونه محتملا لحصول الشرط وإن تبيّن فيما بعد عدم حصوله ، وخروج الطلب والتعليق منه حينئذ لغوا غير قادح في الصحّة المبتنية على الاحتمال لكونه رافعا للقبح اللازم من اللغويّة ، والظاهر أنّه ممّا لا كلام لهم فيه ولذا فرضوا النزاع في تعليق العالم بالعواقب ، وهذا منه في هذه الصورة غير صحيح للزوم اللغو والسفه ، فإنّ غاية ما يذكر في وجه صحّته كونه يقصد به العزم وتوطين النفس على الامتثال ليثاب به في الآخرة كما تقدّم في عبارة العميدي عند بيان أنّ الأمر في مسألة « الأمر بما علم انتفاء شرطه » هل اريد به الأمر المنجّز أو الأمر المعلّق؟

ويدفعه : أنّ هذا الغرض في مثل : « صم غدا إن عشت فيه » ممّن يعلم أنّه سيموت في الغد يحصل بالأمر المطلق وهو قوله : « صم غدا » فيبقى التعليق والإتيان بالشرطيّة لغوا.

وأمّا الصورة الثالثة : أعني الواجد للشرط فقد يصحّ التعليق لإفادة المطلوبيّة مع وجود الشرط وعدم المطلوبيّة بدونه فيما جهل السامع وجدانه الشرط ، فيستعلم حينئذ كونه واجدا بالفحص والاجتهاد ، كما لو قال لمن لا يعلم أنّه مستطيع : « إن استطعت فحجّ » والآمر عالم باستطاعته ، وفيما لو علم السامع كالآمر وجدانه الشرط ولكن لا يعلم سببيّته

ص: 445


1- القوانين 1 : 124.

فأمّا العالم بالعواقب وبأحوال المكلّف ؛ فلا يجوز أن يأمره بشرط » *.

قال : « والّذي يبيّن ذلك أنّ الرّسول صلى اللّه عليه وآله لو أعلمنا أنّ زيدا لا يتمكّن من الفعل في وقت مخصوص ، قبح منّا أن نأمره بذلك لا محالة. وإنّما حسّن دخول الشرط فيمن نأمره فقد علمنا بصفته في المستقبل. ألا ترى أنّه لا يجوز الشرط فيما يصحّ فيه العلم ولنا إليه طريق نحو حسن الفعل** ، لأنّه ممّا يصحّ أن نعلمه ، وكون المأمور متمكنا لا يصحّ أن نعلمه عقلا ؛ فاذا فقد الخبر ، فلا بدّ من الشرط ، ولا بدّ من أن يكون أحدنا في أمره يحصل في حكم الظانّ لتمكّن من يأمره بالفعل مستقبلا ، ويكون الظنّ في ذلك قائما مقام العلم. وقد ثبت أنّ الظنّ يقوم مقام العلم إذا تعذّر العلم. فأمّا مع حصوله ، فلا يقوم مقامه. وإذا كان القديم تعالى عالما بتمكّن من يتمكّن ، وجب أن يوجّه الأمر نحوه ، دون من

___________________________________

للجزاء فيقصد الآمر بالتعليق إفادة للسببيّة ، وذلك كما لو قال أحد للمعصوم عليه السلام : « أفطرت في نهار رمضان » فقال عليه السلام : « إن أفطرت في نهار رمضان فكفّر » يقصد بذلك تنبيهه على أنّ علّة توجّه الكفّارة إفطاره ليندم عن فعله ويلوم نفسه.

فتبيّن ممّا ذكرنا أنّ إطلاق المنع والجواز في تعليق العالم بالعواقب غير سديد ، بل الحقّ هو التفصيل حسبما بيّنّاه ، والظاهر أنّ مرجعه إلى ما تقدّم من القول الثالث وهو التفصيل بين وجود الفائدة وعدم وجودها.

* قد عرفت أنّ إطلاق هذا المنع غير مسلّم ، والمسلّم منه صورة وجود الشرط في الجملة حين الخطاب وصورة انتفائه مع عدم لحوقه فيما بعد أصلا ، وأمّا صورة الانتفاء مع العلم باللحوق فلا مانع من الأمر بشرط تنبيها على اختصاص الوجوب بما بعد وجود الشرط وانتفائه بدونه ، وإن كان ذلك في موضع علم المأمور بالاشتراط بحكم العقل كالحياة والقدرة وعدم منع مانع ، فإن غاية ما هنالك ورود الشرط في كلامه من باب التأكيد ولا ضير فيه.

** فيه منع واضح ، فإنّا لا نرى قبحا في تعليق الجاهل وإن تمكّن من العلم وكان له طريق إليه.

وقد سبق عن بعض الفضلاء عند تحرير العنوان اعتراض عليه وهو في محلّه.

ص: 446

يعلم أنّه لا يتمكّن. فالرسول صلى اللّه عليه وآله حاله كحالنا إذا أعلمنا اللّه تعالى حال من نأمره ، فعند ذلك نأمر بلا شرط ».

قلت : هذه الجملة الّتي أفادها السيّد - قدس اللّه نفسه - كافية في تحرير المقام ، وافية بإثبات المذهب المختار* ، فلا غرو إن نقلناها بطولها ، واكتفينا بها عن إعادة الاحتجاج على ما صرنا إليه.

___________________________________

* هذا مصير من المصنّف إلى ما حقّقه السيّد في مسألة التعليق بزعم أنّ ما عنون به من المسألة المعروفة راجع إليها. وقد عرفت ضعفه بما لا مزيد عليه.

وكيف كان فينبغي العود إلى تحقيق الحال في المسألة المعبّر عنها ب- « أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرط وقوعه » بناء على ما استظهرناه من كون « الأمر » مرادا به المطلق المنجّز ، ورجوع النزاع إلى نفي شرطيّة شروط الوقوع لصحّة التكليف وإثباتها.

فنقول : إن أراد المجوّزون للأمر مع العلم بانتفاء الشرط أنّه لا دليل من عقل ولا شرع على كون شروط الوقوع العقليّة أو الشرعيّة شروطا لصحّة التكليف موجبة لتقييد الوجوب بحالة وجودها ، بل يجوز تعلّق التكليف والوجوب بمن فقدها حتّى أنّه يكون مأمورا بإيقاع الفعل كما أنّ الواجد لها مأمور به ، ومرجعه إلى كون الفعل مطلوبا على كلا تقديري وجود الشروط وانتفائها كما يساعد عليه الثمرات المذكورة في الباب.

ففيه : أنّ الدليل على الشرطيّة من جهة العقل أو الشرع موجود ، لاستقلال [ العقل ] بقبح التكليف بغير المقدور ، بل هو من ضروريّات العقول وعليه إجماع العدليّة ، وهو المستفاد من قوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ) (1) و ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ) (2) وقوله صلى اللّه عليه وآله : « رفع عن امّتي تسعة » (3) إلى آخره وقوله صلى اللّه عليه وآله : « إنّي بعثت على الملّة الحنيفيّة السمحة السهلة » (4) وفحوى الأدلّة النافية للعسر والحرج وغير ذلك من الآيات والروايات.

وإن أرادوا أنّ الأمر بما انتفى عنه شروط الوقوع لمّا كان صحيحا لمجرّد الابتلاء فيكشف ذلك عن عدم كونها من شروط التكليف ، وإلاّ لزم أن لا يصحّ التكليف الابتلائي ،

ص: 447


1- البقرة : 286.
2- الأنفال : 42.
3- الوسائل 11 : 295 ، الباب 56 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه ، ح 1.
4- الكافي 5 : 494 ، ح 1.

لأنّ المشروط عدم عند عدم شرطه وهو خلاف ما علم بالضرورة والوجدان.

ففيه : ما تقدّم من أنّ الأمر الابتلائي ليس من باب الطلب الحقيقي بل هو إنشاء لصورة الطلب إدراكا لمصلحة الابتلاء ، فهو ملحوظ من باب غاية الخطاب من دون أن يتحقّق معه طلب يتعلّق بالفعل ، ولو سلّم فهو طلب يرجع إلى ما يحصل به الابتلاء من العزم والتوطين وفعل المقدّمات لا إلى نفس الفعل المنتفي عنه شروط الوقوع.

ولا ريب أنّه حينئذ أمر بما جامع الشروط لكون الانتفاء مفروضا في الفعل الّذي لو لا انتفاؤها فيه لكان هو المأمور به لا في مقدّماته ولا في العزم عليه ولا توطين النفس لأجله ، فالأمر الابتلائي له اعتباران ، والفرق بينهما أنّ الأوّل تصرّف في صيغة الأمر الموضوعة لإنشاء الطلب الحقيقي بإرادة الطلب الصوري ، والثاني تصرّف في مادّته بإرادة أحد الامور المذكورة من المادّة الموضوعة لأصل الفعل.

فالحقّ في المسألة : أنّ الشرط المنتفي إن كان كالإرادة ممّا هو مقدور للمكلّف فلا مانع من الأمر بالمشروط مع العلم بانتفائه حتّى مع العلم بعدم لحوقها لوجود الصارف ، لأنّ المقدور بالواسطة مقدور ، والمأمور بالمشروط مكلّف بإيجاد الشرط أيضا مقدّمة ، وإن كان ممّا عداها من الشروط الغير المقدورة له كالطهارة عن الحيض والحياة والقدرة والعقل وعدم المانع فهي شروط في التكليف أيضا ولا يصحّ لمن علم انتفاء شيء منها أن يأمر بالمشروط على وجه رجع مفاده إلى الأمر الحقيقي لقبح التكليف بغير المقدور ، إلاّ إذا كان الشرط المنتفي بحيث يلحقه ويوجد له فيما بعد فيصحّ الأمر به حينئذ مطلقا أو مشروطا مع كون المطلوب إيقاعه بعد حصول الشرط ، فيصحّ مع تقييد المأمور به أيضا بما بعد حصوله كأن يقول : « صم غدا بعد ما عشت فيه » و « أكرم زيدا بعد ما جاءك » و « افعل كذا بعد ما قدرت عليه » لكون المعنى في الجميع بحسب اللبّ واحدا على ما يقضي به القوّة العاقلة والوجدان الضروري.

وأمّا الأمر الابتلائي فيما لا يلحقه الشرط فقد عرفت أنّه ليس من التكليف الحقيقي ، ولو سلّم فهو تكليف بما هو خارج من موضوع المسألة مع صحّته على التقديرين بلا خلاف وإن تضمّن تجوّزا في الصيغة أو المادّة ، إلاّ إذا أدّى إلى الجمع بين معنى الحقيقي والمجازي في الخطاب فيما لو توجّه إلى متعدّدين مع اختلاف حالاتهم في استكمال الشرائط وعدمه ، فحينئذ لا يصحّ تناوله للفاقدين منهم على وجه الحقيقة ولا على نحو

ص: 448

المجاز ، وليس بين المعنيين مفهوم عامّ يراد من اللفظ من باب عموم المجاز ، وعلى فرضه - كما قيل من أن يراد منه التوجّه إلى الامتثال بمضمونه حسب الاستطاعة ، بمعنى عدم التغافل ممّا له مدخليّة في ذلك سواء كان هو نفس المقدّمات أو الشروع أو هذه مع بعض أجزاء المأمور به - فهو مجاز مرجوح لغاية شذوذه وكمال ندرته ، ومع هذا فلا يصار إليه إلاّ حيث ساعد عليه قرينة واضحة وليست موجودة في المقام ، مع كون الأصل في الاستعمال الحقيقة ، ومجرّد انتفاء الشرط لا يصلح قرينة عليه على جهة التعيين ، لارتفاع ما يلزم من جهته من محذور التكليف بغير المقدور بالتخصيص أيضا ، فيقدّم عليه لأنّه أرجح.

حجج القول بعدم جواز الأمر بما علم انتفاء شرطه

وعن المعتزلة المانعين من الأمر بما علم انتفاء شرطه ، الاحتجاج بوجوه :

منها : ما أشار إليه الحاجبي وغيره من أنّ الفعل الّذي علم الآمر بانتفاء شرط وقوعه ليس بممكن ، فلو صحّ الأمر به لم يكن إمكان المكلّف به شرطا في التكليف ، والتالي باطل بالاتّفاق فكذا المقدّم.

وأجابوا عنه : بما تقدّم الإشارة إليه في المقدّمة الثانية ، ويدفعه : عدم الفرق في استحالة التكليف بالممتنع بين الممتنع بالذات والممتنع بالعرض لوحدة المناط وهو تعذّر الامتثال ، والاعتذار له بأنّ التكليف بالشيء لا يقتضي وقوع المكلّف به لأنّه قد يكون لأجل الابتلاء كما تقدّم ثمّة ، يدفعه : ما حقّقناه من خروج الأمر الابتلائي بكلا اعتباريه عن موضوع المسألة لأنّه ليس تكليفا في الحقيقة ، ولو سلّم فهو تكليف بما عدا الفعل المنتفي عنه الشرط.

ومنها : أنّه لو صحّ التكليف بما علم الآمر انتفاء شرطه لصحّ بما علم المأمور أيضا قياسا عليه ، والجامع كون كلّ واحد معلوما عدم حصوله ، والتالي باطل بالإجماع فكذا المقدّم ، وقد أشار إليه الحاجبي أيضا.

وأجابوا عنه : بما تقدّم الإشارة إليه عند تحرير الأقوال.

ويدفعه : أنّ محصّل الجواب جعل فائدة التكليف فيما علم الآمر العزم على الامتثال وهذه الفائدة لا تتمشّى فيما علم المأمور ، لعلمه بالامتناع. فلا يعزم على الامتثال فيلغو التكليف.

وقد عرفت حال التكليف الابتدائي المقصود به العزم على الامتثال من خروجه من موضوع المسألة.

ومنها : ما قرّره في المنية من « أنّ الفعل مع عدم شرطه ممتنع ، ولا شيء من الممتنع

ص: 449

بمأمور به ، أمّا الصغرى : فظاهر ، وأمّا الكبرى : فلئلاّ يلزم التكليف بما لا يطاق » وهذا حسن لولا الذبّ عنه بكون التكليف للابتلاء ، فلا بدّ لتتميم الاستدلال من دفعه بما ذكرناه مرارا من خروج التكليف الابتلائي من موضوع المسألة.

ومنها : ما احتجّ به بعض الأعاظم (1) - مضافا إلى بعض ما ذكر - من أنّ تعلّق الأمر بالفعل من العالم بالعواقب مع عدم شرط وجوبه وعدم مطلوبيّته بعد ظهور عدم الشرط - كما هو متّفق عليه بين الفريقين - مستلزم لكون الشيء مطلوبا وغير مطلوب ، مرادا وغير مراد [ فصدوره محال من العاقل فكيف بالحكيم ].

وأيضا لو أوجبنا الفعل لاوجبناه إمّا مطلقا أو مع عدم المانع وكلاهما خلاف الفرض ، فإنّ المفروض كونه واجبا مشروطا كما أنّ المفروض وجود المانع فلا طلب في وجه.

وأيضا لو أراد الفعل بشرط زوال المانع لزم عدم إرادته للعلم بعدم وجود الشرط أو التكليف بما لا يطاق ، والملازمة كبطلان التالي ظاهرة.

ولزم عدم الجزم بعدم الشرط فإنّه المتعقّل من الشرط وهو خلاف الفرض وإلاّ لم يصحّ الشرط.

وأيضا لو صحّ لصحّ طلب الفعل من الميّت ، فإنّ الحياة شرط فيلزم جواز الطلب مع عدمها.

وأنت خبير بما في الكلّ من فساد الوضع ، لابتناء الأوّل بل الثاني أيضا على كون الشرط في محلّ النزاع هو شرط الوجوب بعد الفراغ عن شرطيّته له عند الفريقين.

وقد عرفت منع ذلك وأنّه عند المجوّزين ليس شرطا للوجوب ، وحينئذ ففي الوجه الأوّل يمنع الملازمة لكون الفعل بمقتضى الفرض من تعلّق الأمر به مطلوبا ومرادا ، ولا مقتضى لكونه مع ذلك غير مطلوب وغير مراد لانتفاء شرطيّته لوجوبه ، وفي الوجه الثاني يختار الشقّ الأوّل عند الخصم لما عرفت من أنّ النزاع في الأمر المطلق المنجّز لا الأمر المشروط فإنّه لا يسلم الاشتراط.

ويدفع الثالث باختيار أنّه أراد الفعل مطلقا لا بشرط زوال المانع ، ويمنع لزوم التكليف بما لا يطاق حينئذ بما مرّ مرارا من التزام الخصم بكونه من التكليف لأجل الابتلاء لا بقصد الامتثال.

نعم يرد عليه حينئذ ما ذكرناه مرارا من الخروج من موضوع المسألة.

والرابع بعدم كون النزاع في صورة التعليق ، والأمر بشرط ليلزم عدم الجزم بعدم الشرط

ص: 450


1- إشارات الاصول : 88.

احتجّ المجوّزون بوجوه : الأوّل لو لم يصحّ التكليف بما علم عدم شرطه ، لم يعص أحد* واللازم باطل بالضرورة من الدين. وبيان الملازمة : أنّ كلّ ما لم يقع ، فقد انتفى شرط من شروطه ، وأقلّها إرادة المكلّف له ؛ فلا تكليف به ؛ فلا معصية.

أجوبة أدلّة القول بجواز الأمر بما علم انتفاء شرطه

الثاني لو لم يصحّ ، لم يعلم أحد أنّه مكلّف. واللازم باطل**. أمّا الملازمة ، فلأنّه مع الفعل ، وبعده ينقطع التكليف ، وقبله لا يعلم لجواز أن لا يوجد شرط من شروطه فلا يكون مكلّفا.

لا يقال : قد يحصل له العلم قبل الفعل إذا كان الوقت متّسعا ، واجتمعت الشرائط عند دخول الوقت. وذلك كاف في تحقّق التكليف.

لأنّا نقول : نحن نفرض الوقت المتّسع زمنا زمنا ، ونردّد في كلّ جزء جزء ، فإنّه مع الفعل فيه ، وبعده ينقطع ، وقبل الفعل يجوز أن لا يبقى بصفة التكليف في الجزء الآخر ؛ فلا يعلم حصول الشرط الّذي هو بقاؤه بالصفة فيه ، فلا يعلم التكليف. وأمّا بطلان اللازم فبالضرورة.

___________________________________

من جهة ظهور التعليق في الجهل ، ولو سلّم فيتطرّق المنع إلى دعوى الظهور كما تقدّم ولو سلّم لكفى فيه جهل المأمور وعدم جزمه بعدم الشرط ، ولزوم اللغو والسفه حينئذ في التعليق كما تقدّم أمر آخر لا مدخل له في الدليل.

والخامس بخروج الطلب من الميّت عن المتنازع فيه ، لاتّفاق الفريقين على عدم صحّته لكون الخطاب لغوا وسفها من جهة عراه عن فائدتي الامتثال والعزم عليه ، لامتناعهما من الميّت ، فهذا نقض للمجوّزين بما اتّفق الفريقان على بطلانه ، مع عدم الملازمة كما هو محكيّ السيّد في المنية عنهم ، وقد تقدّم نقل عبارته عند شرح عبارة المصنّف المشتملة على قوله : « لكن لا تعجبني الترجمة » إلى آخره فلاحظ وتدبّر.

* وأخصر ما ذكر في تقرير هذا الوجه وأتمّه ما في عبارة المختصر من : « أنّه لو لم يصحّ لم يعص أحد أبدا ، لأنّه لم يحصل شرط وقوعه من إرادة قديمة أو حادثة ».

** وأخصر عباراته ما في المختصر أيضا من : « أنّه لو لم يصحّ لم يعلم تكليف ، لأنّه

ص: 451

الثالث لو لم يصحّ ، لم يعلم إبراهيم عليه السلام وجوب ذبح ولده ؛ لانتفاء شرطه عند وقته - وهو عدم النسخ - وقد علمه وإلاّ لم يقدم على ذبح ولده ولم يحتج إلى فداء*.

الرابع كما أنّ الأمر يحسن لمصالح تنشأ من المأمور به ، كذلك يحسن لمصالح تنشأ من نفس الأمر. وموضع النزاع من هذا القبيل ، فانّ المكلّف من حيث عدم علمه بامتناع فعل المأمور به ، ربّما يوطّن نفسه على الامتثال ، فيحصل له بذلك لطف في الآخرة وفي الدنيا ، لانزجاره عن القبيح. ألا ترى : أنّ السيّد قد يستصلح بعض عبيده بأوامر ينجّزها عليه ، مع عزمه على نسخها ، امتحانا له. والانسان قد يقول لغيره : « وكّلتك في بيع عبدي » مثلا ، مع علمه بأنّه سيعزله ، إذا كان غرضه استمالة الوكيل أو امتحانه في أمر العبد.

___________________________________

بعد الفعل ومعه منقطع وقبله لا يعلم فإن فرضته متّسعا ، فرضنا زمنا زمنا فلا يعلم أبدا ، وذلك باطل ».

* كون الشرط هنا عدم النسخ ما وقع في كلام جماعة من أصحابنا منهم (1) ولكن عبارة المختصر وغيرها من عبارات أهل هذا القول خالية عن التمثيل به ، ويحتمل الموافقة لما ذكر كما يحتمل المخالفة ، فأمّا على ما ذكر فتوجيه انتفاء الشرط حينئذ هو أنّ شرط الوقوع عندهم أعمّ من عدم منع مانع والمانع أعمّ من الشرعي ، ومن المعلوم أنّ ذبح [ الولد ] في أصله قبيح وحكمه التحريم ، فلمّا أمر اللّه تعالى إبراهيم عليه السلام بذبح ولده كان رفعا لهذا المنع ، وحيث نسخه في وقت الذبح عاد إلى قبحه وتحريمه الأصلي ، أو أنّ نسخ الوجوب هنا كان متعقّبا للتحريم وهو منع شرعيّ ، والمنع الشرعي كالمنع [ العقلي ] فيكون رافعا للقدرة والتمكّن ، فكان الذبح في وقته ما انتفى عنه شرط وقوعه في علم الآمر ، وقد علم إبراهيم عليه السلام وجوبه فيه ولذا أقدم عليه وجاء له الفداء ، فلو لم يصحّ الأمر لما علم وجوبه لقيام احتمال انتفاء الشرط عنده بورود النسخ في وقته.

وأمّا على ما في عبارة المختصر على احتمال المخالفة فيمكن توجيه انتفاء شرط الوقوع بأنّ من شرائط وقوع الذبح كون المحلّ قابلا للتأثير وأن لا يكون هناك مانع عن

ص: 452


1- كذا في الأصل.

أجوبة أدلّة القول بجواز الأمر بما علم انتفاء شرطه

والجواب عن الأوّل : ظاهر ممّا حقّقه السيّد رحمه اللّه ، إذ ليس نزاعنا في مطلق شرط الوقوع ، وإنّما هو في الشرط الّذي يتوقّف عليه تمكّن المكلّف شرعا وقدرته على امتثال الأمر. وليست الإرادة منه قطعا * ، والملازمة إنّما تتمّ بتقدير كونها منه. وحينئذ فتوجّه المنع عليها جليّ.

وعن الثاني المنع من بطلان اللازم**. وادّعاء الضرورة فيه مكابرة وبهتان وقد ذكر السيّد رضى اللّه عنه في تتمّة تنقيح المقام ما يتّضح به سند هذا المنع ؛ فقال :

___________________________________

حصول الأثر.

وقد روي أنّه عليه السلام (1) أمرّ السكّين بقوّته على حلقه مرارا ولمّا وجده لا يقطع فغضب عليه وألقاه على وجه الأرض.

وفي رواية أنّه قد ذبح لكن كلّما قطع التحم فإنّ الأوّل ينبئ عن انتفاء القابليّة كما أنّ الثاني يشعر بوجود المانع عن حصول الأثر وهو الالتحام ، ويمكن كون الأوّل أيضا من هذا الباب لمكان حجزه تعالى عن تأثير السكّين وإلاّ كان المحلّ في نفسه قابلا له ، وعلى كلّ تقدير فالمأمور به كان فاقدا لما هو من شرائط الوقوع.

* وحاصله : أنّ الإرادة وإن كانت من شروط الوقوع ولكنّها مقدورة للمكلّف ، فانتفاؤها لا يوجب خروج المأمور به عن المقدوريّة ، لبقاء القدرة على إيجادها في وقت الامتثال ، فلا نزاع لنا في صحّة الأمر به مع انتفائها ، وإنّما النزاع فيما أوجب انتفاء الشرط خروج عن المقدوريّة ، وهو في الشروط الغير المقدورة للمكلّف كعدم الحيض والحياة والعقل والقدرة وعدم المانع العقلي والشرعي ، ففي مثل هذه الشروط نقول باشتراط الوجوب أيضا بوجودها ويلزم منه عدم صحّة الأمر مع انتفائها ، وإن فرض البحث في إرادة اللّه سبحانه وهي كالشروط المذكورة غير مقدورة للمكلّف كما يقتضيه عبارة الحاجبي ، فيدفعه : منع كونها من شروط وقوع الفعل من العبد ، لابتنائه على الأصل الفاسد وهو الجبر فيبطل الفرض بكلّ ما أبطل هذا الأصل من البراهين العقليّة والنقليّة.

** والأولى أن يردّد الجواب ويقال : بأنّه إن اريد بالعلم ما يكون عقليّا فبطلان اللازم

ص: 453


1- المبسوط للسرخسي 8 : 140 ، كنز الدقائق 11 : 159 وأنوار التنزيل 2 : 297.

« وهذا نذهب إلى أنّه لا يعلم بأنّه مأمور إلاّ بعد تقضّي الوقت وخروجه ، فيعلم أنّه لا يعلم بأنّه مأمور بالفعل إلاّ بعد تقضّي الوقت وخروجه ، فيعلم أنّه كان مأمورا به. وليس يجب ، إذا لم يعلم قطعا أنّه مأمور ، أن يسقط عنه وجوب التحرّز. لأنّه إذا جاء وقت الفعل ، وهو صحيح سليم ، وهذه أمارة يغلب معها الظنّ ببقائه ، فوجب أن يتحرّز من ترك الفعل والتقصير فيه. ولا يتحرّز من ذلك إلاّ بالشروع في الفعل والابتداء به. ولذلك مثال في العقل ، وهو أنّ المشاهد للسّبع من بعد ، مع تجويزه أن يخترم السّبع قبل أن يصل إليه ، يلزمه التحرّز منه ، لما ذكرناه ، ولا يجب إذا لزمه التحرّز أن يكون عالما ببقاء السّبع وتمكّنه من الإضرار به ».

وهذا الكلام جيّد ، ما عليه في توجيه المنع من مزيد. وبه يظهر الجواب عن استدلال بعضهم على حصول العلم بالتكليف قبل الفعل ، بانعقاد الإجماع على وجوب الشروع فيه بنيّة الفرض ، إذا يكفي في وجوب نيّة الفرض غلبة الظنّ بالبقاء والتمكّن ، حيث لا سبيل إلى القطع ، فلا دلالة له على حصول العلم.

___________________________________

ممنوع ، إذ لا دليل من عقل ولا نقل على لزوم العلم في تنجّز التكليف ، وإن اريد به العلم الشرعي من ظنّ أو استصحاب فالملازمة ممنوعة ، لوضوح أنّ ظنّ سلامة العاقبة وبقاء التمكّن والاختيار من جهة الغلبة والعادة مضافا إلى استصحاب الحالة المتيقّنة دائم الحصول لكلّ أحد ، وهو كاف في تنجّز التكليف إلى أن ينكشف [ الخلاف ] بإجماع العلماء بل ضرورة الدين ، بل مدار جميع العقلاء في امور معاشهم ومعادهم على ظنّ السلامة واستصحاب البقاء وأصالة عدم طروّ العذر والمانع.

ولقد أجاد السيّد في تقرير ما ذكرناه فيما حكاه المصنّف وقال : « إنّه ليس يجب إذا لم يعلم قطعا أنّه مأمور أن يسقط عنه وجوب التحرّز ، لأنّه إذا جاء وقت الفعل وهو صحيح سليم فهذه أمارة يغلب معها الظنّ ببقائه ، فوجب أن يتحرّز من ترك الفعل والتقصير فيه ، ولا يتحرّز من ذلك إلاّ بالشروع في الفعل والابتداء به » إلى آخر ما ذكره.

ص: 454

وعن الثالث : بالمنع من تكليف إبراهيم عليه السلام بالذبح الّذي هو فري الأوداج بل كلّف بمقدّماته كالإضجاع ، وتناول المدية ، وما يجري مجرى ذلك* . والدليل على هذا قوله تعالى : ( وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا ) . فأمّا جزعه عليه السلام فإشفاقه من أن يؤمر - بعد مقدّمات الذبح - به نفسه ، لجريان العادة بذلك. وأمّا الفداء ، فيجوز أن يكون عمّا ظنّ أنّه سيأمر به من الذبح ، أو عن مقدّمات الذبح زيادة على ما فعله ، لم يكن قد أمر بها ، إذ لا يجب في الفدية أن يكون من جنس المفديّ.

وعن الرابع : أنّه لو سلّم ، لم يكن الطلب هناك للفعل ؛ لما قد علم من امتناعه ، بل للعزم على الفعل والانقياد إليه والامتثال. وليس النزاع فيه ، بل في نفس الفعل. وأمّا ما ذكره من المثال ، فإنّما يحسن لمكان التوصّل إلى تحصيل العلم بحال العبد والوكيل ، وذلك ممتنع في حقّه تعالى.

___________________________________

وقد يجاب عن الملازمة أيضا على تقدير إرادة العلم الحقيقي بأنّه قد يحصل العلم لآحاد الناس إذا كان زمن الفعل يسيرا وكانت شرائطه مبتذلة ، وكذا إذا أخبر بالبقاء من يحصل العلم بإخباره أو نحو ذلك.

وردّ : بأنّ هذه فروض نادرة وكأنّ مبنى الاستدلال ليس عليها.

* والأولى هنا أيضا أن يردّد الجواب ويقال : إنّه إن كان مبنى الاستدلال على جعل الأمر بالذبح الّذي علم معه إبراهيم عليه السلام وجوبه لأجل الابتلاء ، يرد عليه : ما ذكرناه مرارا من أنّ الأمر الابتلائي ليس من التكليف الحقيقي ، ولو سلّم فليس تكليفا بأصل الفعل المنتفي شرط وقوعه ، مع أنّه خلاف ما تقدّم في تقرير الاستدلال عند بيان بطلان التالي ممّا يقتضي كونه مأمورا بنفس الذبح.

وإن كان مبناه على جعله من الأمر الحقيقي بنفس الذبح كما هو الظاهر ، ففيه : منع واضح ، لا لقوله تعالى : ( قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا ) (1) حتّى يقال عليه : بأنّه معارض ( بأنِّي )

ص: 455


1- الصافّات : 105.

أَذْبَحُكَ ) مع كون المجاز في الأوّل بحمله على إرادة [ إسناد ] تصديق الرؤيا إليه في غير زمان وقوع الذبح وهو زمان إيجاد مقدّماته لقرب هذا الزمان من زمان وقوعه من باب المجاز بالمشارفة أولى من المجاز في الثاني بحمل الذبح على مقدّماته ، أو على ما يؤول إليه من باب المجاز بذكر المسبّب وإرادة السبب ونحوه ، أو يورد عليه : بأنّ تصديق الرؤيا لا ينافي كون المأمور به نفس الذبح لو اريد منه ترتيب آثار الصدق أو الإذعان به على معنى اعتقاده عليه السلام بكونه مأمورا بالذبح ، أو نسبة الصدق إلى الرؤيا لأنّ فعل المقدّمات أيضا من آثار كون المأمور به هو الذبح والداعي إليه الإذعان به ، وبذلك يتحقّق أيضا نسبة الصدق إلى الرؤيا الّتي هو الأمر بالذبح.

وبالجملة كون المأمور به نفس الذبح يجامع كلاّ من المعاني الثلاث ، وإنّما ينافيه لو اريد منه إيجاد الرؤيا في الخارج ، أو وجدانه صادقا لمجرّد فعله المقدّمات ، أو جعله مطابقا لما في الخارج بأدائها ، ولكنّ الحمل على أحد هذه الثلاث غير لازم حيث لا قرينة عليه من حال أو مقال ، وكونه كلاما صدر في مقام المدح لا يصلح قرينة على ذلك لحصول المدح بأحد المعاني الثلاث الاول ، مع إمكان دعوى كونه أبلغ في إرادة المدح كما لا يخفى.

بل (1) لقوله تعالى : ( إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ ) (2) حيث قال : ( وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ ) (3) فإنّ ظاهر السياق يشهد بأنّ ذلك من تتمّة ما قبله فيكون تصريحا منه تعالى بأنّ ما رآه في المنام من الأمر بالذبح اريد منه خلاف ظاهره من باب الابتلاء والتوطين ، نظرا إلى أنّ البلاء على ما هو المصرّح به في كلام أهل اللغة هو الاختبار والامتحان ، فيكون وروده مع ما قبله من باب القرينة الكاشفة عن عدم إرادة الحقيقة ، وإنّما نصبها تعالى حينما أخذ هو بفعل المقدّمات لئلاّ يقع منه الذبح ويلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، فيكون كاشفا أيضا عن كون المراد بالتصديق أحد المعاني الثلاث الأخيرة الّذي لا ينطبق إلاّ على فعل المقدّمات ، ولو فرض كون المراد به الإذعان أيضا كان عبارة عن إذعان وجوب المقدّمات ، لثبوته على كلا تقديري كون المأمور به هو الذبح أو مقدماته ، غاية الأمر أنّه على الأوّل يكون مقدّميّا وعلى الثاني أصليّا.

ص: 456


1- عطف على قوله : « ففيه : منع واضح ، لا لقوله ... ».
2- الصافّات : 106.
3- الصّافات : 104 - 106.

ولا ينافي ما استظهرناه من كون الأمر للتوطين والامتحان مع ظهوره في الحقيقي قوله تعالى : ( وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) (1) لأنّ الفداء على ما في كلام بعض أهل اللغة (2) وفي تفسير (3) الآية هو جعل شيء مكان شيء آخر لدفع الضرر عنه ، وهو في المقام لدفع الضرر المتوهّم لفهمه من ظاهر الأمر كونه أمرا حقيقيّا ، أو لدفع ضرر ما لم يحصل من المقدّمات من أذيّة إمرار المدية أو قطع الجلد أو بعض الأوداج أيضا.

كما لا ينافي ظهوره قول ولده : ( يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ ) (4) نظرا إلى أنّه تعبير بلفظ المضارع المشعر بأنّ الأمر كأن لم يتحقّق بعد لا بلفظ الماضي الدالّ على تحقّقه ، لوضوح اندفاعه : بأنّ المضارع حقيقة في الحال ، وإنّما أتي به لمراعاة المطابقة بينه وبين قوله : ( يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ) (5) المؤدّي بلفظ المضارع تنبيها على تكرار الرؤيا ، نظرا إلى ما قيل : إنّه رأى ليلة التروية أنّ قائلا يقول : « فإنّ اللّه يأمرك بذبح إبنك » فلمّا أصبح روّى أنّه من اللّه أو من الشيطان ، فلمّا أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنّه من اللّه ، ثمّ رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره وقال له ذلك ، ولهذا سمّيت الأيّام الثلاثة بالتروية وعرفة والنحر.

هذا مع إمكان أن يقال : « إنّ افعل ما تؤمر » قضيّة يؤتى بها في العرف غالبا لإظهار الرضا والتسليم والتمكين بالواقعة على تقدير وقوعها ، كما يقال : « افعل ما تشاء » أي أنت مرخّص في فعل كلّ ما تشاء على تقدير حصول المشيّة فعلا أو استقبالا ، فيكون مفاد الآية : « إن تنجّز لك الأمر بذبحي واتّفق تعلّقه به منجّزا فافعله فإنّي راض به وصابر عليه » وإنّما أتي بتلك العبارة لما فهم من قوله ( إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ) أنّ هذه رؤيا صادقة أو تنتهي إلى الصدق وهو وقوع الأمر في الخارج لما تحقّق عنده من كون رؤيا الأنبياء صادقة.

وممّا قرّرناه تبيّن أنّه لا معارضة بين قوله : ( صَدَّقْتَ الرُّؤْيا ) وقوله : ( أَنِّي أَذْبَحُكَ ) إذ لا تجوّز في التصديق على شيء من المعاني المذكورة ، مع أنّ التجوّز في « أذبحك » لازم لا محالة وإن حملنا الأمر به على الأمر الحقيقي ، لأنّ الذبح الحقيقي كالقتل يعدّ من الأفعال التوليديّة ، ومن خواصّها إنّها حيثما اسندت إلى الفاعل المختار يراد منها فعل المقدّمات ، وهذا مجاز شائع في العرف بل يمكن دعوى الحقيقة العرفيّة في ذلك ، فلا يلزم بحمله على فعل المقدّمات مجاز ليكون معارضا للمجاز في التصديق ، وعلى تقديره فهو أولى لشيوعه ، فتأمّل.

ص: 457


1- الصّافات : 107.
2- مجمع البحرين 2 : 83.
3- مجمع البيان 8 : 224 وعيون أخبار الرضا 2 : 138.
4- الصافّات : 102.
5- الصافّات : 102.

وأمّا ما يقال في الاعتراض عليه : من أنّ ذلك لا يناسب امتحان مثل إبراهيم عليه السلام واشتهاره بالفضل بذلك ، وكذا ولده إسماعيل عليه السلام ولاشتهاره بذبيح اللّه ، ولا ما ورد من أنّ المراد بذبح عظيم هو الحسين عليه السلام ، فلا ينبغي الالتفات إليه ، لأنّ الأوّل يتوجّه إلى مثل المصنّف وغيره ممّن يجعله أمرا بمقدّمات الذبح إصالة مع علم إبراهيم عليه السلام ، لا على ما قرّرناه من جعله للابتلاء والتوطين لمكان اشتراط جهل المأمور بذلك ، والاشتهار بذبيح اللّه يكفي فيه أدنى الملابسة الحاصلة من توطين أنفسهما للذبح وإقدامهما على مقدّماته ، والرواية مع تسليم سلامة سندها غير واضحة الدلالة بل هي من المتشابهات ، مع أنّها على تقدير الدلالة مطروحة لقضائها على انحطاط رتبة الحسين عليه السلام وهو خلاف المذهب.

واجيب عن الاحتجاج أيضا : بأنّ ذلك من باب البداء الّذي يقول به الشيعة.

وتوضيحه : أنّ البداء إذا اضيف إليه تعالى - كما في أخبار كثيرة - فهو عند الشيعة ليس على معناه الحقيقي ، وهو ظهور استصواب شيء بعد خفائه وحصول العلم به بعد أن لم يكن حاصلا ، لتضمّنه الجهل المستحيل عليه تعالى ، بل يراد به حينئذ أنّه أظهر للمكلّفين ما لم يكن ظاهرا لهم ، ويحصل لهم العلم به من قبله بعد أن لم يكن حاصلا ، فالبداء على معناه الحقيقي وصف لهم وإطلاقه عليه تعالى لنوع من التوسّع من حيث إنّه سبب له في المكلّفين ، ومناسبته في المقام من جهة أنّه ظهر لإبراهيم عليه السلام من قبله تعالى في أمر ذبح ولده ما لم يكن ظاهرا قبله ، حيث علم بعدم وقوعه بعد ما لم يكن عالما به بل كان عالما بوقوعه من جهة رؤياه.

وأورد عليه بعض الأعلام : « بأنّ البداء إنّما هو في الأفعال التكوينيّة الالهيّة لا الأحكام الّتي لا يجري فيها إلاّ النسخ » (1) ومحصّله : أنّ الّذي ظهر له عليه السلام في المقام إنّما هو [ عدم ] وجوب الذبح في الواقع بعد ما لم يكن ظاهرا ، وهذا لا يسمّى بداء في الاصطلاح ، لكونه ظهور شيء في الأحكام بعد خفائه لا أنّه ظهور شيء من التكوينيّات بعد ما لم يكن ظاهرا ، وإنّما هو نسخ.

وفيه : أن ليس غرض المجيب فرض الظهور والخفاء في الأمر بالذبح وعدمه ليتوجّه إليه المناقشة اللفظيّة والنزاع في أمر اصطلاحيّ ، كيف ولو صحّ ذلك لرجع إلى الجواب الأوّل ، لكون مفاده على ما تقدّم أنّه ظهر له كون الأمر بالذبح أمرا ابتلائيّا أو أمرا بمقدّماته بعد ما

ص: 458


1- القوانين 1 : 127.

لم يكن ظاهرا بل بعد ظهور خلافه ، فلا يكون جوابا آخر ، مع أنّ ظاهره المغائرة وكونه جوابا آخر في مقابلة الأوّل ، بل غرضه إنّما هو منع بطلان التالي بمنع كون ما علم به إبراهيم عليه السلام وجوب الذبح ، بل نفس الذبح بتقريب : أنّه رأى ذلك في المنام أو رأى ما هو تعبيره.

وعلى كلّ تقدير علم بتلك الرؤيا أنّ هذه الواقعة تتحقّق منه في الخارج لا محالة.

وقد ظهر له خلاف معلومه ، ولمّا كان الخطأ في علم الأنبياء غير جائز فلا جرم يكون ذلك من باب البداء الّذي يقول به الشيعة لئلاّ يلزم الخطأ في علمه.

والوجه في ذلك ما ذكره بعض الأفاضل - على ما حكي - أنّ الّذي يظهر من الأخبار الكثيرة المتظافرة من معنى البداء هو أنّ اللّه تعالى خلق لوحين أثبت فيهما الامور :

أحدهما : اللوح المحفوظ الّذي لا تغيّر فيه وهو مطابق لعلمه.

والآخر : لوح المحو والإثبات الّذي يثبت فيه شيئا ثمّ يمحوه لحكم كثيرة ، مثل أنّه يثبت فيه أنّ عمر زيد مثلا خمسون سنة ومعناه أنّ مقتضى الحكمة أن يكون عمره كذا إن لم يفعل ما يقتضي طوله أو قصره ، فإذا وصل الرحم مثلا يمحي الخمسون ويكتب مكانه ستّون سنة ، وإذا قطعه يمحوه ويكتب مكانه أربعون ، ومن جملة الحكم في ذلك حثّ الناس على فعل الخيرات وترك الشرور.

وحاصل الفرق على ما ذكره : أنّ اللوح المحفوظ ما يكتب فيه الامور المنجّزة الّتي تتحقّق في الخارج لا محالة ، فلا يعتريه التغيّر بالمحو والإثبات لاستحالة انقلاب علمه تعالى المطابق لما هو فيه جهلا ، ولوح المحو والإثبات ما يكتب فيه الامور الشأنيّة الّتي من شأنها التحقّق الخارجي ، لما فيها من الحكم الّتي هي منها بمنزلة المقتضيات المعلّقة على عدم مصادفة ما يقتضي خلاف تلك المقتضيات ، على ما هو شأن المقتضي من جواز أن يصادفه مانع يمنعه من الاقتضاء ، فلو اعتراه حينئذ تغيّر بالمحو والإثبات لم يكن منافيا لعلمه تعالى ، لأنّ القضيّة الشأنيّة التعليقيّة باقية على حالها في كلّ حال على حدّ ما حقّق في محلّه من أنّ صدق الشرطيّة لا ينافيه كذب الشرط ، على معنى عدم تحقّقه في الخارج.

وعلى ذلك ينزّل علم إبراهيم عليه السلام بذبح ولده ، فإنّه كان موافقا لما هو في لوح المحو والاثبات ممّا هو من مقتضى الحكمة ، وظهور خلاف معلومه في الخارج إنّما هو من باب المحو بلحوق مانع للمقتضي الأوّل من اقتضائه ، ولعلّه الفداء أو شيء آخر ممّا صدر منه حين الإقدام على أداء المقدّمات ، فلا يلزم بذلك خطأ في علمه الأوّل ، ولعلّه على هذا

ص: 459

المعنى تنبّه المورد فقال بعد الإيراد المذكور : « ويمكن توجيهه : بأنّ المراد خصوص البداء فيما ظهر له من اللّه تعالى وعلم من قبله أنّه يذبحه ويصدر عنه بقرينة قوله : ( أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ) لا « أمرني اللّه بذبحك » فيكون في المعنى إخبارا عن حصول هذا الفعل في الخارج بدون منع من اللّه تعالى ، ثمّ بدا له فلم يقع في الخارج ، مثل إخبار عيسى بموت العروس ثمّ ظهور خلافه » (1) ولكن يشكل ذلك : بأنّه لا يلائم إقدامه على فعل المقدّمات وعزمه على الذبح كما تنبّه عليه المورد قائلا : « ويرد عليه : أنّ رؤيته عليه السلام ذبحه في المنام كانت مسبّبة عن أمره تعالى به » (2) لا لما استشهد به من قوله حكاية عن ولده ( يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ ) فإنّه لا شهادة فيه صريحا على وقوع الأمر فعلا ، خصوصا مع احتمال كونه مرادا به إظهار الرضاء بالقضيّة على تقدير وقوعها وإن لم يقع بعد ، بل لأنّه لولا ذلك لكان الإقدام على المقدّمات مع العزم على الذبح منافيا للعصمة الواجبة في الأنبياء ، لكون الذبح من أظهر أفراد الظلم الّذي استقلّ العقل بقبحه ، فإنّ مرجعه إلى اهلاك النفس المحترمة ، وقبحه من المستقلاّت العقليّة فكيف يقدم عليه مثل إبراهيم عليه السلام بدون إذن من اللّه تعالى؟ فلم يكن هذا منه إلاّ من جهة أنّه علم بأمره تعالى إيّاه بالذبح ولو على نحو الأمر التوطيني.

ولا يعارض القبح المذكور بقبح آخر يلزم بالنسبة إليه تعالى من خطاب النائم وأمره بالفعل فإنّه قبيح عقلا ، والمفروض أنّ هذا الأمر على فرض صحته قد ثبت حال النوم فيكون محالا كاستحالة الإقدام على القبيح من المعصوم ، لأنّ ذلك لا يقتضي كونه على سبيل المخاطبة ، ولا توجّه الأمر إليه حال النوم حتّى يقال باستحالته مع عدم العلم بالصدور ، بل الرؤيا في حقّه ضرب علامة منه تعالى على صدور الطلب في اليقظة وتنجّزه عليه فيها ، فقد علم من جهة تلك العلامة المضروبة له بصدور الطلب وتوجّهه إليه لما عهده عليه السلام من أنّ أمثال هذه الرؤيا منه - كما في سائر الأنبياء - علامات على طلباته ، والمفروض أنّه عليه السلام بعد تيقّظه التفت إلى منامه فعلم بأمره تعالى ولذا أخبر عنه بقوله : ( إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ) (3) مع أنّ نوم الأنبياء لا يقاس على نوم غيرهم كما ورد في خواصّ نبيّنا صلى اللّه عليه وآله وسلم.

وأمّا ما يقال : من أنّ الأولى أن يكون قد أوحى إليه في حال اليقظة وتعبّد بأن يمضي ما يؤمر به في حال النوم ، بظاهره غير مستقيم لتوجّه المحذور بالنسبة إلى تعبّده بالإمضاء

ص: 460


1- القوانين 1 : 127.
2- القوانين 1 : 127.
3- الصّافات : 102.

الحاصل حال النوم.

ثمّ إنّ بعض الأعلام بعدما أورد على ما ذكره في توجيه البداء قال : « فالأولى جعله إمّا من باب النسخ والقول بجوازه قبل العمل سيّما عند حضور وقته ، أو من باب إرادة العزم والتوطين » (1).

وقد سبق إلى بعض الأوهام عدم استقامة الوجهين ، لكون أوّلهما اعترافا بمفادّ الدليل فيكون عدولا إلى مذهب الخصم ، لأنّ ما التزمه من النسخ هو الّذي أخذه المستدلّ مناطا لما زعمه من كون الأمر بالذبح أمرا بما علم انتفاء شرطه ، وكون ثانيهما عدولا إلى ما ذكره في تزييف الجواب الأوّل.

ويندفع الأوّل : بأنّ مناط الاستدلال هو النسخ الموجب لعدم التمكّن من الفعل في وقته وهو النسخ قبل حضور وقت العمل ، سواء كان قبل دخوله أو قبل مضيّ زمان يسع الفعل كما يظهر من الفروع الآتية ، بخلاف ما التزمه وهو النسخ قبل العمل عند حضور وقته بناء على فرضه موسّعا ، فيدفع الاستدلال حينئذ بأنّه أمر بما علم تحقّق شرط وقوعه في وقته ، لكفاية مضيّ مقدار منه يسع وقوعه فيه في جوازه.

كما يندفع الثاني : بأنّ ما زيّفه أوّلا إنّما هو ما لو حمل الأمر على إرادة فعل المقدّمات مع علم المأمور بذلك.

وما اعترف به ثانيا إنّما هو ما لو حمل الأمر على إرادة العزم والتوطين على فعل الذبح بحسب الواقع مع اعتقاد المأمور بمقتضى ظاهر الأمر إرادة نفس الذبح ، فإنّ الإقدام على مقدّماته على هذا التقدير هو الّذي يكشف عن علوّ الهمّة وكمال الانقياد بخلاف الإتيان بها على أنّها المأمور بها لا غير.

بقيّة أدلّة القول بجواز الأمر بما علم انتفاء شرطه

ثمّ إنّه بقي من أدلّة المجوّزين أمور :

منها : الوجه الرابع الّذي نقله المصنّف مع جوابه ، وجوابه التحقيقي ما ذكرناه مرارا من أنّ الأمر الابتلائي التوطيني صحيح ولكنّه بكلا تقديريه خارج عن المتنازع فيه.

ومنها : ما أشار إليه الحاجبي عن القاضي من الإجماع على تحقّق الوجوب والتحريم قبل التمكّن ، وجوابه : منع الإجماع ، أو أنّه لا كلام لنا في تحقّق الوجوب والتحريم قبل التمكّن إذا اريد الفعل أو الترك في زمان التمكّن ، بل الكلام في تحقّقهما قبله على وجه

ص: 461


1- القوانين 1 : 127.

يكون الواجب والمحرّم أيضا هو الفعل قبل التمكّن ، فإنّه ممتنع والإجماع عليه ممنوع.

وقد يردّد أيضا : « بأنّ المراد بالتكليف قبل التمكّن ممّا أمر به ونهى عنه إمّا قبل العلم بحصول التمكّن من تمام المطلوب وإن حصل الظنّ به أو قبل التمكّن من الشروع فيه ، والثاني فاسد إجماعا لكونه تكليفا بما لم يقع عند الفريقين ، والأوّل ثابت ولكن لا دخل له بما نحن فيه ، بل هو مبتن على أنّ العلم بالتمكّن في الواقع لمّا كان متعذّرا يقوم الظنّ مقامه ولو كان مستندا إلى الأصل وهو إجماع تحصيلا ونقلا ، ويطّرد في جميع التكليفات لكنّه مراعى فإن بقى بشرائط التكليف إلى آخر الفعل يظهر تعلّق الخطاب به ، فلو ادّعي الإجماع على هذا فحقّ ولا يجديه لما مرّ ، وإن ادّعي على الشقّ الأوّل فعلى خلافه الإجماع ، وإلاّ فيظهر عدم التعلّق » (1).

ومنها : وجوه اخر تعرّض لذكرها بعض الأعاظم (2) وأجاب عنها ومن يطلبها فليراجع كلامه.

فروع

ثمّ إنّهم ذكروا للمسألة فروعا :

منها : لزوم قضاء الصلاة وعدمه على المكلّف إذا دخل عليه الوقت فجنّ ، أو حاضت المرأة قبل مضيّ زمان يسع الصلاة.

ومنها : وجوب قضاء الحجّ وعدمه على من منع في العام الأوّل ثمّ مات أو تلف ماله.

ومنها : انتقاض التيمّم وعدمه فيمن وجد الماء ولم يتمكّن من المائيّة بعدم مضيّ زمان يسعها أو لمانع منعه عنها.

ومنها : وجوب الكفّارة وعدمه على من أفسد صيام يوم من رمضان بالوقاع ونحوه ثمّ مات في ذلك اليوم.

قال العلاّمة في التهذيب : « ويتفرّع على ذلك وجوب الكفّارة على من أفطر ثمّ حصل المسقط من الإغماء أو الجنون أو الحيض أو الموت ».

ومن الفضلاء من أورد على ذلك : « بعدم الدليل على انحصار الكفّارة في إفطار الصوم المأمور به بالأمر الواقعي فلا ينافي ثبوته للقول بعدم الجواز ، لجواز أن يكون ذلك على التجرّي أو على ترك الإمساك الواجب قبل حصول المانع » (3).

ومن الأعلام من أورد عليه أيضا بما يقرب من ذلك قائلا : « بأنّه لا دليل على انحصار الكفّارة في إفطار الصوم التامّ النفس الأمري ، بل قد يجب لأنّه فعل فعلا حراما وأفطر

ص: 462


1- إشارات الاصول : 89.
2- إشارات الاصول : 89.
3- الفصول : 110.

صوم رمضان بحسب ظنّه الّذي عليه المعوّل في التكليف ، ولذلك وقع فيه الخلاف بين الأصحاب » (1).

ومن الأعاظم (2) من تنظّر فيه أيضا : « بأنّه إنّما يتمّ لو كانت الكفّارة لبطلان الصوم ، وأمّا إذا كانت لمخالفة الأمر ولو في الظاهر كما هو الظاهر فلا ».

أقول : وعلى القول المختار في الفقه من عدم ثبوت هذه الكفّارة إلاّ لمخالفة الأمر الواقعي بالصوم تمّ الفرع.

وإنّما عبّروا عن الامور المذكورة بالفروع لا بالثمرات ، لأنّ ثمرة تلك المسألة المقصودة بالأصالة من تدوينها إنّما هو وجوب التخصيص وعدمه في العمومات الشاملة بظاهرها لجميع المكلّفين ممّن جمع شرائط التمكّن ومن فقدها. ثمّ يتفرّع على ذلك الامور المذكورة.

وتوضيحه : أنّك قد عرفت في مفتتح المسألة أنّها من المسائل الكلاميّة الّتي تعدّ في هذا الفنّ من المبادئ الأحكاميّة.

ومحصّل الخلاف فيها يرجع إلى إحراز صغرى تنضمّ إلى كبرى كلّيّة هي من المسائل الاصوليّة وهي قولهم : « كلّ عامّ يجب تخصيصه بخاصّ مخالف له ، متّصل أو منفصل ، عقليّ أو سمعي » فإنّهم بعد ما اتّفقوا على هذه الكليّة اختلفوا في بعض صغرياتها.

ومنها : أنّه لو ظهر عدم تمكّن المكلّف عن المكلّف به بفقدانه لبعض مقدّمات وقوعه فهل ينهض ذلك لتخصيص العمومات الواردة في التكاليف بواجدي شرائط الوقوع أو لا؟

فمن قال بعدم جواز الأمر بما علم انتفاء شرطه يدّعي الأوّل ، لبنائه على كون شرائط الوقوع شروطا في التكليف أيضا فيأخذه مخصّصا عقليّا للعمومات بإخراج فاقدي الشرائط عن تحتها ، فيفرّع عليه في الفقه عدم وجوب القضاء ، وعدم انتقاض التيمّم ، وعدم الكفّارة على من طرأه العذر الرافع للتمكّن.

ومن قال بجوازه بناء منه على الشرطيّة في التكليف أيضا (3) يدّعي الثاني ويأخذ بعموم العمومات لعدم نهوض ما يصلح مخصّصا لها ، فيفرّع عليه في الفقه وجوب القضاء وانتقاض التيمّم ووجوب الكفّارة على كلّ من الواجد والفاقد استنادا إلى وجود المقتضي وفقد المانع.

ص: 463


1- القوانين 1 : 127.
2- إشارات الاصول : 89.
3- كذا في الأصل.

مسألة نسخ الوجوب

أصل

الأقرب عندي : أنّ نسخ مدلول الأمر وهو الوجوب لا يبقى معه الدلالة على الجواز*

___________________________________

* لا ينبغي التأمّل في كون هذه المسألة أيضا كلاميّة أخذت هنا من باب المبادئ الأحكاميّة ، لكونها باحثة عن حال الوجوب الّذي هو محلّ النسخ أو الجواز الّذي هو جنسه.

وأيّا ما كان فهو من الحكم ومن قبيل المدلول لا الدليل ، وتوهّم رجوع البحث إلى الأمر الدالّ على الوجوب - من حيث إنّه بعد النسخ هل يبقى دلالته على الجواز أو لا؟ - وهو من الدليل ، فيكون بحثا عن حال الدليل من حيث بقاء دلالته وعدم بقائها ، بعيد عن الاعتبار خصوصا والنسخ من الحالات العارضة للمدلول لا الدليل ، مع احتجاج القائل بالعدم ، بأنّ الجنس لا بقاء له مع ارتفاع الفصل.

ولا يشهد لما ذكر احتجاج القائل بالبقاء بوجود المقتضي - وهو الأمر - وفقد ما يصلح مانعا ، ولا سيّما بملاحظة قوله أخيرا - على ما يأتي في عبارة المصنّف - : « بأنّ المدّعى ليس ثبوت الجواز بمجرّد الأمر بل به وبالناسخ ، فجنسه بالأوّل وفصله بالثاني » بدعوى أنّه يقضي برجوع البحث إلى دلالة الأمر - ولو بضميمة الناسخ الّذي هو أيضا دليل - والدلالة من أحوال الدليل ، أو بدعوى أنّه بحث في دلالة المجموع من الأمر والناسخ على الإباحة وعدمها.

فإنّ أخذ الدليل حجّة على المطلب والنظر في دلالته عليه والعدم غير البحث عن حال الدليل على وجه يكون المطلوب المبحوث عنه هو حال الدليل لا غير ، والمطلوب هنا بقاء الجواز على وجه ينعقد به بانضمام مفاد الناسخ إليه الإباحة أو حكم آخر ، والاستناد لإثباته إلى دلالة الدليل لا يوجب كون الدلالة هو المطلوب المبحوث عنه وهذا واضح.

ثمّ إنّ تخصيص الوجوب بالذكر في عنوانات المسألة ربّما يقضي باختصاص النزاع به ، غير أنّ مفاد الأدلّة عامّ له وللحرمة فوجب أن يجري فيها النزاع أيضا إذا نسخت ، نظرا إلى أنّها أيضا مركّبة من جواز الترك والمنع من الفعل والناسخ فيها أيضا كما يحتمل رجوعه إلى المجموع من الجنس والفصل كذلك يحتمل رجوعه إلى الفصل فقط ، فيصحّ أن ينازع في بقاء الجنس وهو جواز الترك على قياس جواز الفعل في الوجوب.

ص: 464

وأمّا الأحكام الثلاثة الباقية فالظاهر عدم جريان النزاع فيها ، أمّا الإباحة فلأنّ قوله : « نسخت الإباحة » كالصريح في رفع الجواز كما أنّ قوله : « نسخت الاستحباب أو الكراهة » كالصريح في بقاء الجواز لأنّه إنّما يبقى مع فصله الأوّل والناسخ إنّما يرفع الطلب الغير الحتمي التابع لرجحان متعلّقه من الفعل أو الترك ، والنسخ ظاهر في زوال ذلك الرجحان فيلزم ثبوت الإباحة ، واحتمال كون النسخ باعتبار حدوث تأكّد الرجحان والطلب وبلوغهما حدّ الإلزام والحتم ليثبت به الوجوب أو الحرمة بعيد عن مساق العبارة ، فيحتاج المصير إليه إلى دليل.

ثمّ إنّ ظاهر العنوانات ومفاد الأدلّة وصريح بياناتهم كون مرادهم بالجواز ما كان في ضمن الوجوب الّذي أثبته الأمر ، دون الحكم الجوازي الّذي يطرأ المحلّ بدلالة الخارج ، فإنّه ممّا لا يعقل النزاع في جوازه ولا في وقوعه.

وممّا يرشد إلى ذلك أيضا تعبيرهم عن صورة المسألة بالبقاء المقتضي لسبق الوجود.

وهل المراد به الجواز بالمعنى القابل لما عدا الوجوب والحرمة من الثلاث الباقية فيكون الباقي بعد النسخ الأمر المردّد بين الثلاث - أعني أحدها لا على التعيين عندنا - أو الجواز مع الرجحان فيكون الباقي بعده خصوص الاستحباب ، أو الجواز لا مع الرجحان ولا مع المرجوحيّة فيكون الباقي بعده الإباحة الخاصّة؟ وجوه ، من أنّ الجنس الوجوبي حصّة من الجواز بالمعنى الأعمّ والحصّة الباقية من الأعمّ أعمّ ، ويؤيّده ورود ذكر الجواز متكرّرا في كلامهم مطلقا ومن غير تقييد له بالرجحان.

ومن أنّ هذه الحصّة ما دامت في ضمن الوجوب كانت مع رجحان المتعلّق مضافا إلى فصل المنع ، والقدر المتيقّن ممّا ارتفع تأكّد الرجحان المحقّق للوجوب فيكون أصل الرجحان كالحصّة باقيا ولو بحكم الاستصحاب.

وبالجملة المقتضي لبقاء الجواز مقتض لبقاء الرجحان.

وممّا حكاه بعض الفضلاء (1) عن بعض المتأخّرين أنّه صرّح بأنّ المراد الجواز لا مع الرجحان ولا المرجوحيّة ، مستظهرا كون المراد به المعنى الأعمّ أعني الوجه الأوّل بقرينة لفظ « البقاء » مع نقله تصريح بعضهم به أيضا.

ولعلّ السرّ فيه أنّه الّذي أثبته الأمر في ضمن الوجوب ، ورجحان المتعلّق ليس من مثبتات الأمر ، فتأمّل.

ص: 465


1- الفصول : 111.

وأمّا احتمال كون المراد الجواز مع المرجوحيّة ليكون الباقي بعد النسخ الكراهة فبعيد عن مساق كلامهم بمراحل ، لعدم كون المرجوحيّة من أجناس الوجوب ولا من فصوله فلا معنى للقول ببقائه ، ولذا لم يتعرّض لذكره أحد من المتعرّضين لتحرير موضع النزاع.

وربّما صرّح بعضهم بتربيع الأقوال فيما بين أهل القول بالبقاء الدائرة بين الجواز لا مع الرجحان ولا مع المرجوحيّة ولا مع عدمهما ، والجواز مع عدم المرجوحيّة ، والجواز مع الرجحان ، والجواز لا مع الرجحان ولا مع المرجوحيّة.

ثمّ بالتأمّل في ظواهر العنوان ومساق الأدلة يعلم أنّ معقد البحث هنا ما لو ثبت الوجوب مطلقا من دون تقييد بوقت أو غاية كصوم يوم الخميس ونحوه ، فلو ثبت مقيّدا فانتفى القيد كان خارجا عن هذا العنوان وإن كان فيه نزاع آخر يأتي. وظاهر العنوان كون المراد به الوجوب المطلق لا المشروط بشرط ثمّ انتفى الشرط ، فإنّه ليس من نسخ الوجوب في شيء ، بل هو المصرّح به في كلام غير واحد حيث دفعوا ما قد يذكر من فروع المسألة من صلاة الجمعة المرتفع وجوبها العيني بسبب فقد شرطه وهو حضور الإمام عليه السلام فهل يبقى فيها الجواز في ضمن الوجوب التخييري أو الندب أو لا؟ فقالوا : بأنّه ليس من مسألة نسخ الوجوب ، بل هو من باب انتفاء شرط الوجوب.

وأمّا ما في عبارة شارح المنهاج ممّا يوهم كون معقد البحث هو الوجوب المشروط حيث قال : « إنّ الشيء إذا كان واجبا ويصير مشروطا هل يبقى جواز ذلك الفعل الّذي كان واجبا فنسخ أم لا؟ فيه خلاف » فواضح الفساد ، والظاهر أنّ لفظة « المشروط » في النسخة الحاضرة عندنا غلط من قلم الناسخ مكان « المنسوخ » كما يرشد إليه لفظ « فنسخ » فيما بعده.

ثمّ إنّ موضع النزاع من جهة الناسخ ما كان بلفظ « نسخت » أو « رفعت » أو نحو ذلك كما هو المصرّح به في مطاوي عباراتهم ، دون ما إذا كان بلفظ « حرّمت » أو « ندبت » أو « أبحت » أو « رخصت في تركه » أو غير ذلك ممّا يدلّ بالمطابقة على تعيين حكم آخر والتزاما على رفع الوجوب ، ووجهه واضح للمتأمّل.

ثمّ إنّ هذا النزاع لا يرجع إلى وجوب بدليّة حكم آخر عن الحكم المنسوخ في النسخ ، بأن يكون القول ببقاء الجواز راجعا إلى دعوى وجوب البدليّة ، والقول بالمنع راجعا إلى دعوى عدم وجوبها ، حتّى أنّه يجوز بقاء الواقعة بعد النسخ بلا حكم ، لأنّ ظاهر كلامهم في مباحث النسخ يعطي اتّفاقهم على عدم وجوب الإبدال ومثّلوا له بنسخ وجوب الصدقة قبل النجوى.

ص: 466

بل يرجع إلى الحكم الّذي كان قبل الأمر*.

___________________________________

نعم ها هنا على القول بعدم بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب كلام آخر يأتي في شرح العبارة الآتية.

ومرجع النزاع إلى أنّ ما يقع من الشرع عند نسخ الوجوب هل هو رفع المنع من الترك وجواز الفعل معا ، أو رفع المنع من الترك مع إبقاء جواز الفعل؟ والقول ببقاء الجواز يرجع إلى دعوى ذلك ، والقول بالمنع يرجع إلى دعوى عدم إمكانه استنادا إلى أنّ الجنس لا بقاء له مع ارتفاع الفصل.

* في هذا الكلام نوع اشتباه من حيث إنّ المراد بالحكم الّذي كان قبل الأمر هل هو الحكم الشرعي الّذي أثبته الدليل الشرعي في الواقعة واردا على الحكم العامّ العقلي كان هو الأصل في الأشياء قبل الشرع عند قائليه.

ولا يبعد دعوى ظهور العبارة في الأوّل كما فهمه بعض المحقّقين ، إذ من الجائز أن يكون الواقعة قبل أن يعرض لها الوجوب ممّا له أحد الأحكام الأربع ممّا عدا الوجوب قد ثبت بالدليل الوارد على الأصل الأوّلي.

وكيف كان فمن المحقّقين من اعترض على ما ذكره من رجوع الحكم الثابت قبل الأمر وقال : « الأقرب هو الأقرب ، لكن رجوع الحكم السابق المرفوع بالأمر لا دليل عليه. فالحقّ أنّه يصير من قبيل ما لا حكم فيه ».

وهذا مضافا إلى مناقشة اخرى في دعوى رجوع الحكم المذكور - من حيث إنّ الأمر قد لا يكون مسبوقا بحكم خاصّ آخر ، بأن يكون الحكم الثابت للواقعة في صدر الإسلام هو الوجوب - لا يخلو عن قوّة ، نظرا إلى أنّ رجوع ذلك الحكم الخاصّ يحتاج إلى دليل والنسخ اللاحق بالوجوب لا يصلح دليلا عليه ، خصوصا مع ملاحظة عدم بدليّة حكم آخر في النسخ فالأصل عدمه.

وقضيّة ذلك كون الواقعة ممّا لا حكم لها من الشرع بالخصوص.

فإن قلت : رجوع الحكم السابق ممّا لا يحتاج إلى دليل آخر ، بل يكفي فيه دليله الّذي أوجب ثبوته أوّلا في عوده ، وإنّما يحتاج إلى الدليل رفع المانع وهو الوجوب الثابت مكانه بالدليل الثاني وهو مفروض الارتفاع بواسطة دليل النسخ. فلا مناص من عود الحكم

ص: 467

السابق على الوجوب لوجود المقتضي وفقد المانع.

قلنا : دليل الحكم السابق قد بطل بدليل الوجوب ، كما أنّ دليل الوجوب يبطل بدليل النسخ ومعه لا يصلح مقتضيا لعود مدلوله ، إلاّ أن يفرض ذلك في نحو ما لو ورد في الخطاب من قوله : « أكرم العلماء » المفيد باعتبار الوضع العموم الأفرادي وباعتبار إطلاق الحكم بالنسبة إلى وجوب إكرام كلّ فرد العموم الأزماني ، على معنى دوام الحكم واستمراره إلى يوم القيام ، وعمل بعمومه ثمّ نسخه بالنسبة إلى زيد العالم مثلا بقوله : « لا تكرم زيدا » ثمّ نسخ الحرمة أيضا بعد برهة من الزمان بقوله : « نسخت الحرمة أو رفعتها » فإنّ قضيّة العامّ بعد انضمام الناسخ الثاني إليه بقاء وجوب إكرامه تحت عمومه الأزماني وهو المراد من العود ، لأنّ الناسخ الثاني يكشف عن أنّ القدر المخرج من هذا العموم بمقتضى الناسخ الأوّل إنّما هو ما بينه إلى ورود الناسخ الثاني ، ومرجعه إلى انكشاف دخول ما بعد المقدار المذكور في المراد من إطلاق الحكم كما أنّ ما قبله كان داخلا فيه.

ولك إجراء هذا الكلام في مسألة نسخ وجوب الصدقة قبل النجوى ، نظرا إلى عمومات استحبابها المتناولة لهذا الفرد منها قبل عروض الوجوب لها مع وضوح استحبابه بعد نسخ الوجوب أيضا وليس هذا إلاّ من مقتضى العمومات المذكورة ثمّ يتسرّى هذا الفرض أيضا إلى ما لو انحصر عموم الخطاب الأوّل المثبت للحكم الخاصّ السابق على الأمر في العموم الأزماني ، كما لو قال الشارع : « يستحبّ غسل الجمعة » ثمّ قال بعد برهة من الزمان : « أوجبت غسل الجمعة » ثمّ قال بعد مدّة : « نسخت الوجوب » فإنّه يكشف عن أنّ القدر المخرج من عموم الخطاب الأوّل بالنسبة إلى الأزمان إنّما هو ما بين ورود دليل الوجوب إلى زمان وروده.

وهذا هو معنى ما تقدّم من أنّ رجوع الحكم السابق على الأمر لا يحتاج إلى دليل آخر لكفاية الدليل الأوّل ، وإنّما المحتاج إلى الدليل رفع المانع والمفروض وروده وهو ناسخ الوجوب فيعود الحكم السابق لوجود المقتضي وفقد المانع.

وما ذكرناه في دفعه من أنّ دليل الحكم السابق قد بطل بدليل الوجوب ، فيزيّفه : أنّ بطلان هذا الدليل إن اريد به بطلان سنده فهو غير صحيح ، لمكان كونه قطعيّ الصدور كما في الآيات القرآنيّة الّتي نسخت أحكامها مع بقاء تلاوتها ، وإن اريد بطلان دلالته فإطلاقه غير مسلّم بالنسبة إلى عموم الدليل من حيث الأزمان ، بل القدر المسلّم ممّا بطل من هذا العموم وخرج من العامّ إنّما هو زمان الوجوب لا ما قبله ولا ما بعده.

ص: 468

فالأقوى إذن ما اختاره المصنّف من الرجوع إلى الحكم الّذي كان قبل الأمر ، ولكن هذا مقصور على ما لو كان للواقعة قبل ورود الأمر بها حكم خاصّ من الأحكام الأربع الباقية غير الوجوب ، وأمّا ما عداه ممّا كان حكمه الأوّل الثابت في صدر الإسلام هو الوجوب فهل يندرج الواقعة فيه بعد نسخ الوجوب - على القول بعدم بقاء الجواز - في عنوان مسألة الحظر والإباحة أو في عنوان مسألة البراءة والإباحة؟ احتمالان أظهرهما الأوّل.

والفرق بينهما أنّ مسألة الحظر والإباحة مفروضة فيما لا حكم فيه من الشرع أصلا ، ولذا جعل موضوعها الأشياء الغير الضروريّة قبل الشرع ، فحصل النزاع في أنّه هل لها في الظاهر حكم من العقل بحظر أو إباحة أو لا؟ ويعبّر عن هذا الحكم على القول بثبوته بالحكم العقلي ، ومسألة البراءة والإباحة المقابلتين للوجوب والتحريم في الشبهات الحكميّة الوجوبيّة أو التحريميّة مفروضة فيما ثبت له من الشرع حكم بالخصوص وجهل ذلك الحكم مردّدا بين كونه الوجوب أو خلافه والتحريم أو خلافه ، فحصل النزاع في حكمه الثانوي العامّ الثابت له المستفاد من ظواهر الأدلّة الشرعيّة كتابا وسنّة وعقلا ، ولذا اخذ موضوعه ما لم يعلم حكمه بالخصوص من حيث هو كذلك.

ووجه أظهريّة اندراج الواقعة بعد نسخ الوجوب في عنوان المسألة الاولى أنّ المفروض عدم ثبوت حكم خاصّ لها قبل الأمر مع فرض عدم اقتضاء نسخ الحكم بدليّة حكم آخر عنه ، فالمتّجه دخولها حينئذ في عنوان « ما لا حكم فيه من الشرع أصلا » كما جزم به المحقّق المتقدّم وإن كان إطلاقه غير سديد كما عرفت ، لا في عنوان « ما جهل حكمه » لأنّه فرع الدلالة على أنّ لها بعد نسخ الوجوب حكما خاصّا من الشارع مردّدا بين الحرمة وغيرها ممّا عدا الوجوب ، والمفروض عدم قيام الدلالة عليه ، وعلى فرض قيامها في بعض الموارد فهو خارج عن المبحث.

لا يقال : الدليل على ذلك العمومات القاضية بأنّ لكلّ شيء حكما حتّى الأرش في الخدش ، والأدلّة الدالّة على أنّ الوقائع غير خالية عن حكم من الأحكام من الضرورة والإجماع ونحوه.

لأنّا نقول : إنّما يكفي في صدق هذه العمومات والعمل بعمومها بالنسبة إلى هذه الواقعة ثبوت الحكم الوجوبي المفروض ارتفاعه بالنسخ ، فإنّ مفادها ثبوت حكم في كلّ شيء على وجه القضيّة المهملة الصادقة على الجزئيّة أيضا ، فلا يلزم من عدم التزام قيام حكم آخر مقامه تخصيص في هذه العمومات ، فبعد ثبوت اندراجها في عنوان « ما لا حكم فيه

ص: 469

من الشرع بالخصوص » فيجري فيه الأقوال الأربع المعروفة في الأشياء الغير الضروريّة قبل الشرع ، من أنّ العقل لا يحكم فيها بشيء أو يحكم بالحظر أو الإباحة أو التوقّف ، فكلّ يبني على مذهبه الّذي اختاره فيها.

ومن الأعلام من صرّح برجوع الحكم السابق وفسّره بالبراءة أو الإباحة أو التحريم وقال : « إنّه يختلف إمّا بحسب اختلاف الموارد كما لو كان من العبادات لأصالة التحريم ، أو كان من العادات والتلذّذات فيباح ، أو كان من المعاملات فالأصل براءة الذمّة من اللزوم لأنّ الأصل عدم ترتّب الأثر ، أو بحسب اختلاف الأقوال فيما لم يرد به نصّ بالخصوص من حظر أو إباحة » انتهى (1).

وإطلاقه بعد ما بيّنّاه في تقوية كلام المصنّف غير سديد ، كما أنّ تفسير الحكم السابق الّذي يرجع إليه بعد نسخ الوجوب بالبراءة أو الإباحة غير سديد ، لأنّه إرجاع للواقعة بعد النسخ إلى عنوان مسألة البراءة وقد عرفت منعه.

ثمّ إنّ في إطلاق حكمه بالتحريم من جهة التشريع فيما يكون من مقولة العبادات ما لا يخفى ، وكأنّ نظره إلى ما لو قصد بإتيانه جهة العبادة والتقرّب وإلاّ فلو أتى به لا بهذا القصد بل لغرض آخر من الأغراض الصحيحة العقلائيّة فلا يكون تشريعا حتّى يحرم.

وأمّا ما ذكره من أصالة البراءة عن اللزوم فيما لو كانت الواقعة من المعاملات فهو كما ذكره ، ومثاله ما لو فرض أنّ الشارع أوجب بيع المنابذة مثلا لحكمة دعت إليه ، فإنّه يدلّ بالمطابقة على حكم تكليفي وهو وجوب إيقاع تلك المعاملة وبالالتزام على حكم وضعيّ وهو الصحّة بمعنى ترتّب الأثر من النقل والانتقال ، وحينئذ فلو نسخ ذلك الوجوب بعد مدّة يقع الشكّ تارة في حكمه التكليفي أهو الإباحة أو التحريم؟ واخرى في حكمه الوضعي المقتضي للزوم ، بمعنى وجوب دفع كلّ من العوضين على المتعاقدين إلى صاحبه على ما هو من لوازم حصول الملك من الجانبين لغير من له الملك أو لا؟ غير أنّ حكمه التكليفي قد ظهر من الرجوع إلى مسألة الحظر والإباحة ، وأمّا حكمه الوضعي فمرجع الشكّ فيه بالأخرة إلى وجوب دفع العوضين على كلّ منهما إلى صاحبه ، وهو فرع على ترتّب الأثر على معنى حصول الملك لكلّ منهما في مال صاحبه ، وهو موضع شكّ فالأصل عدمه.

وقضيّة ذلك براءة الذمّة عن اللزوم بمعنى وجوب الدفع.

ص: 470


1- القوانين 1 : 127.

وبه قال العلاّمة في النهاية ، وبعض المحقّقين من العامّة*. وقال أكثرهم بالبقاء ، وهو مختاره في التهذيب**

في نقل أقوال المسألة

لنا : أنّ الأمر إنّما يدلّ على الجواز بالمعنى الاعمّ - اعني الاذن في الفعل فقط - وهو قدر مشترك بين الوجوب ، والندب ، والإباحة ، والكراهة. فلا يتقوّم إلاّ بما فيها من القيود ، ولا يدخل بدون ضمّ شيء منها إليه في الوجود ، فادّعاء بقائه بنفسه بعد نسخ الوجوب غير معقول***

___________________________________

فما اعترض عليه بعض الأواخر من أنّ الأصل بهذا المعنى ممّا لا يتصوّر له معنى في المعاملات ليس على ما ينبغي.

* وكأنّ مراده الغزالي من بعض المحقّقين من العامّة ، لأنّه الّذي عزي إليه هذا القول على ما في المنية.

** أي مختار العلاّمة ، وحكاه في المنية عن فخر الدين وأتباعه ، ويظهر منه الميل إليه بل اختياره أيضا ، حيث زيّف حجّة المانع ودفع اعتراضه على حجّة المثبت الّتي قرّرها - كما حكاها المصنّف - وسكت عليها ، واختاره جماعة منّا أيضا ، وهو مختار المحقّق على ما يظهر ممّا حكي عنه من القول ببقاء الاستحباب.

*** وآخر كلامه مع سابقه ولاحقه لا يخلو عن تشويش واضطراب ، إذ لا يدري أنّ مراده من بقائه بنفسه هل هو بقاؤه بانفراده وبدون انضمام قيد آخر إليه كما هو قضيّة كلامه السابق ، أو بقاؤه بلا مقتضي للبقاء على معنى أنّه لا مقتضي لبقائه بعد النسخ حتّى ينضمّ إليه القيد الآخر وهو الإذن في الترك اللازم من رفع المنع من الترك كما يقتضيه كلماته اللاحقة.

وعلى الاحتمال الأوّل ينطبق ما قد يقال في تقرير الدليل من : أنّ نسخ الوجوب يقتضي زوال فصله وهو المنع من الترك وزوال الفصل يقتضي زوال جنسه ، لأنّ الجنس مقوّم بالفصل ولا يعقل بقاء للمقوّم مع زوال المقوّم ، والأصل ما حقّقه علماء المعقول من أنّ الأجناس لا تحقّق لها في الخارج إلاّ بانضمام الفصول إليها ، فهي متقوّمة بالفصول فلا يعقل لها بقاء مع ارتفاع [ الفصول ] وكذلك الحصّة الجنسيّة المتحقّقة في ضمن الفصل المعيّن الّذي يتحصّل من انضمامه إليها النوع الّذي يحلّله العقل إلى جنس وفصل ، فإذا زال الفصل

ص: 471

كما هو مفروض المقام زال معه الحصّة الجنسيّة ، لأنّ وجود [ ها ] رابطي تحليلي وإن كان له منشأ انتزاع في الخارج على ما هو المذهب الحقّ في وجود الجنس ، فالتحقيق كما فرضنا انعدام الحصّة الجنسيّة المنضمّة إلى الفصل بانعدامه ، ويلزمه انعدام النوع المركّب منهما ، وتحقّق نوع آخر ممّا يحتاج إلى موجب ودليل.

أقول : وعندي أنّ مبنى هذا الدليل على الخلط بين الأجناس والفصول العقليّة المتحقّقة في الماهيّات المتأصّلة الخارجيّة وغيرها وبين الأجناس والفصول الجعليّتين المتحقّقتين في الماهيّات الجعليّة ، ودعوى أنّ الجنس يتقوّم بفصله فلا يعقل بقاؤه مع زوال الفصل على فرض صحّتها إنّما يسلم في الأجناس والفصول العقليّة ولا تسلم في الأجناس والفصول الجعليّة.

وتوضيح ذلك : أنّ الوجوب قد يعتبر بالبناء للمفعول فيعبّر عنه بكون الشيء مطلوب الفعل ممنوع الترك ، وقد يعتبر بالبناء للفاعل فيعبّر عنه بطلب الفعل مع المنع من الترك.

والأوّل وصف قائم بالفعل وهو أثر حاصل من الثاني فيتبعه في كلّ من حدوثه وبقائه وارتفاعه.

والثاني فعل نفسانيّ قائم بنفس الآمر وطلب الفعل يتضمّن تجويزه فهو مع المنع من الترك أمران جعليّان منوط كلّ منهما بجعل الجاعل ، أي إحداثه وإيجاده في النفس ، والمنع من الترك يقابله الإذن في الترك كما أنّ تجويز الفعل يقابله المنع من الفعل وهذان أيضا جعليّان منوطان بجعل الجاعل ، وكما أنّ الآمر عند الأمر وإنشاء الوجوب له أن يتصدّى لجعل كلّ من تجويز الفعل والمنع من الترك وإيجاده في ضميره ، فكذلك له عند النسخ أن يتصدّى لرفع كلّ من مجعوليه المستلزم لجعل مقابلهما من المنع من الفعل والإذن في الترك وإحداثه مكانهما ، وله أيضا أن يتصدّى لرفع أحد مجعوليه وهو المنع من الترك وإبقاء الآخر وهو تجويز الفعل مقرونا بالإذن في الترك الحادث مكان المنع من الترك ، فيتولّد به الندب إن بقي في الفعل نوع رجحان ، أو الكراهة إن زال رجحانه بالمرّة وحدث مكانه نوع مرجوحيّة ، أو الإباحة إن زال رجحانه مع عدم حدوث مرجوحيّة ، وهذا هو معنى بقاء الجواز بعد نسخ الوجوب ، وقد شهد بجوازه بل وقوعه فعلا ضرورة الوجدان من غير أن يستتبع محالا ولا محذورا.

ولك أن تقول : إنّ الجنس الجعلي في الامور الجعليّة لا تقوّم له بفصله الجعلي بل غايته اقترانه به ، ولذا قد يعرّف الوجوب بطلب الفعل المقرون بالمنع من الترك أو عدم الرضا بالترك.

ص: 472

في بيان حجّة المانع

والقول بانضمام الاذن في الترك إليه باعتبار لزومه لرفع المنع الّذي اقتضاه النسخ ، موقوف* على كون النسخ متعلّقا بالمنع من الترك الّذي هو جزء مفهوم الوجوب ، دون المجموع. وذلك غير معلوم ؛ إذ النزاع في النسخ الواقع بلفظ :

___________________________________

ولا ريب أنّ اقتران شيء بشيء ليس من تقوّمه به ليستحيل بقاؤه مع زواله ، فلا تقوّم لجنس الوجوب بفصله ، بل إطلاق الجنس والفصل هنا مسامحة أو اصطلاح آخر غير ما اصطلح عليه أهل المعقول ، ضرورة أنّ تجويز الفعل مع المنع من الترك بمنزلة الجنس والفصل من حيث إناطة تحقّقهما بجعل الآمر ، وهو ليس بمجبور في أمر مجعوله رفعا وإبقاء ، بل له رفع ما شاء وإبقاء ما أراد ما لم يؤدّ إلى التناقض.

مع أنّ من حكم الجنس والفصل المصطلحين صحّة حمل كلّ منهما على الآخر لاتّحادهما في الوجود الخارجي ، وهو السرّ في زوال الجنس بزوال الفصل ، لأنّ زوال الفصل لا يكون إلاّ بانتفاء الوجود ويلزم منه زوال الجنس أيضا ، وهو غير صحيح في الجنس والفصل الجعليّين ، فلا يقال : « تجويز الفعل منع من الترك » ولا « المنع من الترك تجويز الفعل » وهذا آية كونهما متمايزين في الوجود الخارجي ، على معنى كونهما موجودين بوجودين متغايرين.

ومن هنا يعلم أنّ الوجوب كغيره من الأحكام وإن كان ماهيّة مركّبة إلاّ أنّه ليس من قبيل المركّبات العقليّة المركّبة من الأجناس والفصول ، بل هو من قبيل المركّبات الخارجيّة ، لانتفاء ما هو من حكم المركّبات العقليّة من صحّة حمل أجزائها بعضها على بعض ، وثبوت حكم المركّبات الخارجيّة في أجزائها من عدم صحّة حمل بعضها على بعض لتغائر وجوداتها.

ومن ذلك اتّضح زيادة اتّضاح مضافا إلى ما مرّ أنّه لا تقوّم لأجزاء ماهيّة الوجوب بعضها ببعض ليزول المتقوّم منها بزوال المقوّم ، بل غايته اقتران بعض ببعض وانضمامه إليه كما في سائر المركّبات الخارجيّة.

ولا ريب أنّ الاقتران لا يوجب زوال البعض بزوال البعض الآخر.

* هذا مع ما بعده يساعد على أنّ مراده ممّا ذكره في آخر الدليل من أنّ ادّعاء بقائه بنفسه هو الوجه الثاني من الاحتمالين المتقدّمين.

ص: 473

« نسخت الوجوب » ونحوه. وهو كما يحتمل التعلّق بالجزء الّذي هو المنع من الترك ، لكون رفعه كافيا في رفع مفهوم الكلّ ، كذلك يحتمل التعلّق بالمجموع ، وبالجزء الآخر الّذي هو رفع الحرج عن الفعل ، كما ذكره البعض* ، وإن كان قليل الجدوى ؛ لكونه في الحقيقة راجعا إلى التعلّق بالمجموع.

احتجّوا : بأنّ المقتضي للجواز موجود ، والمانع منه مفقود ؛ فوجب القول بتحقّقه. امّا الأوّل : فلأنّ الجواز جزء من الوجوب ، والمقتضي للمركّب مقتض لأجزائه**.

___________________________________

وهذا على فرض تمامه يتوجّه إلى ما قرّرناه أيضا في إثبات جواز بقاء تجويز الفعل بعد نسخ الوجوب وإبطال مقايسة ذلك على الجنس العقلي الّذي يستحيل بقاؤه بعد زوال فصله.

ومحصّله : أنّ قصارى ما ثبت ممّا ذكرت في إبطال المقايسة هو إمكان بقاء الجواز بعد النسخ وهو لا يستلزم الوقوع على معنى بقاء الجواز فعلا ، بل لا بدّ فيه من المقتضى لبقائه ، فلا بدّ من إثبات المقتضي ، ولأجل توجّه هذه المناقشة تصدّى أهل القول بالبقاء لدفعها بالتعرّض لإثبات المقتضي ، غير أنّ كلماتهم حسبما نقلها المصنّف فيما بعد ذلك مختلفة ، فمنها ما يظهر منه أنّ المقتضي لبقاء الجواز هو الأمر الاوّل المثبت للوجوب.

ومنها ما يظهر منه أنّ المقتضي هو الأصل بمعنى استصحاب الحالة السابقة على النسخ ، وستعرف كليهما مع ما يرد عليهما وما لا يرد.

* لا خفاء في فساد الاحتمال الأخير لإفضائه إلى تكليف ما لا يطاق ، لكون مؤدّاه مع ملاحظة بقاء المنع من الترك على حاله المنع من الفعل والترك معا ، فهذا الاحتمال مقطوع بانتفائه دفعا لذلك المحذور ، ولعلّه لأجل التفطّن بذلك قال : « وإن كان قليل الجدوى ، لكونه في الحقيقة راجعا إلى التعلّق بالمجموع » وحاصله : توجيه ما ذكره بعضهم من التعلّق بالجزء الآخر بإرادة التعلّق به مع فرض تعلّقه بالمنع من الترك لكونه مفروغا عنه في مسألة نسخ الوجوب لأنّ رفع المنع من الترك ممّا لا محيص من التزامه في نسخ الوجوب ، والكلام إنّما هو في تعلّقه بالجزء الآخر ورفعه أيضا وعدمه.

** ظاهر هذا التقرير لإحراز وجود المقتضي مع ملاحظة ما ينقله فيما بعد ذلك - من أنّه ليس المدّعى ثبوت الجواز بمجرّد الأمر بل به وبالناسخ ، فجنسه بالأوّل وفصله بالثاني -

ص: 474

كون المقتضي لبقاء الجواز الّذي هو جنس الوجوب لإتمام الحكم الجوازي الّذي يتولّد منه بعد انضمام الفصل الآخر الّذي خلف فصل الوجوب هو الأمر.

وغاية ما يمكن أن يقال في توجيهه - مع ملاحظة ما ينقله أيضا في جواب السؤال الثاني على الحجّة من أنّ الظاهر يقتضي البقاء لتحقّق مقتضيه أوّلا والأصل استمراره ، فلا يدفع بالاحتمال - هو : أنّ الأمر الدالّ على الوجوب من حين وروده كان باعتبار إطلاقه ظاهرا في استمرار الوجوب إلى الأبد ، بل هو على ما حقّق في باب النسخ من شروطه.

وهذا الظهور ينحلّ إلى ظهورين :

أحدهما : ظهوره في استمرار جواز الفعل.

والآخر : ظهوره في استمرار المنع من الترك.

والّذي ارتفع بطروّ النسخ إنّما هو الظهور الثاني دون الظهور الأوّل ، ولا يزاحمه مجرّد احتمال تعلّق النسخ بالمجموع ، لأنّ الاحتمال لا ينافي الظهور ، فهو المقتضي لبقاء الجواز من جهة الأمر الدالّ على الوجوب.

ويزيّفه : أنّ ظهور الأمر في استمرار الوجوب لا يمكن تبعيضه بدعوى ارتفاع بعضه وبقاء البعض الآخر ، لأنّ دلالة الأمر على استمرار الجواز في ضمن الوجوب ليست دلالة مستقلّة مقصودة من الخطاب أصالة بل هي دلالة تضمّنيّة ، وهي على ما حقّق في باب الدلالات دلالة تبعيّة عقليّة ، لكونها عبارة عن دلالة اللفظ على الجزء باعتبار دلالته على الكلّ ، فالدلالة المقصودة من اللفظ هو الدلالة على الكلّ الّذي يتضمّن الجزء لا الدلالة على الجزء ، وإنّما يعتبر تلك الدلالة تبعا للدلالة على الكلّ باعتبار أنّه لا ينفكّ عن أجزائه ، والناسخ في زمان وروده قرينة كاشفة عن إرادة خلاف ظاهر الخطاب فيبطل ظهوره في استمرار الكلّ ويتبعه في ذلك ظهوره في استمرار الجزء باعتبار ظهوره في استمرار الكلّ ، ومرجعه إلى أنّ دلالة التضمّن تابعة لدلالة المطابقة بقاء وارتفاعا ، فإذا انكشف عدم القصد إلى الدلالة على استمرار الوجوب انكشف عدم القصد إلى الدلالة على استمرار الجواز الّذي كان في ضمنه ، ولا معنى لاستصحاب الظهور لو اريد التمسّك به لإثبات بقائه بالنسبة إلى الجواز كما هو أحد احتمالي الأصل المذكور في الجواب المتقدّم إليه الإشارة ، ولذا ذكر في توضيحه : « أنّ النسخ إنّما توجّه إلى الوجوب والمقتضي للجواز هو الأمر فيستصحب

ص: 475

وأمّا الثاني : فلأنّ الموانع كلّها منتفية بحكم الأصل والفرض ، سوى نسخ الوجوب وهو لا يصلح للمانعيّة ؛ لأنّ الوجوب ماهيّة مركّبة ، والمركّب يكفي في رفعه رفع أحد أجزائه ، فيكفي في رفع الوجوب رفع المنع من الترك الّذي هو جزؤه. وحينئذ فلا يدلّ نسخه على ارتفاع الجواز.

فان قيل : لا نسلّم عدم مانعيّة نسخ الوجوب لثبوت الجواز ؛ لأنّ الفصل علّة لوجود الحصّة الّتي معه من الجنس ، كما نصّ عليه جمع من المحقّقين. فالجواز الّذي هو جنس للواجب وغيره لا بدّ لوجوده في الواجب من علّة هي الفصل له ، وذلك هو المنع من الترك ، فزواله مقتض لزوال الجواز ، لأنّ المعلول يزول بزوال علّته ، فتثبت مانعيّة النسخ لبقاء الجواز *.

___________________________________

إلى أن يثبت ما ينافيه » فلا ظهور حينئذ حتّى يتمسّك به لإثبات بقاء الجواز فلا مقتضي لبقائه من جهة الأمر.

* وفي جعل الفصل علّة لوجود الجنس ما لا يخفى ، لصحّة الحمل بينهما وجواز تعقّل الجنس بدون تعقّل الفصل ، مع كونه ممّا يكذبه الحسّ كما في المسخ واستحالة الخشب ونحوه رمادا وغيره لبقاء الحيوانيّة في الأوّل والجسميّة في الثاني متفصّلة بفصل آخر ، فنسبة ما ذكر إلى نصّ جمع من المحقّقين غريب ، إلاّ أن يراد من الوجود التعيّن والانطباق على ماهيّة معيّنة والتحصّل ، ولذا وجّهه بعض الأعلام في حواشي كتابه في هذا المقام : « بأنّ مرادهم من علّيّة الفصل للجنس علّيّته لصفات الجنس في الذهن وهي التعيّن وزوال الإبهام والتحصّل وانطباقه على تمام الماهيّة ، فإنّ الجنس إذا حصل في العقل كان أمرا مبهما مردّدا بين أشياء كثيرة ، وهو غير كلّ واحد منهما بحسب الخارج وغير منطبق على تمام حقيقة واحدة منها ، فهو علّة له من حيث هو موصوف بتلك الصفات ، وإلاّ فهو ليس علّة له في العقل وإلاّ فيلزم أن لا يعقل الجنس بدون الفصل ولا في الخارج ، فيتغاير في الوجود وامتنع الحمل بالمواطاة » (1).

ص: 476


1- القوانين 1 : 127.

قلنا : هذا مردود من وجهين :

أحدهما : أنّ الخلاف واقع في كون الفصل علّة للجنس ؛ فقد أنكره بعضهم وقال : انّهما معلولان لعلّة واحدة *. وتحقيق ذلك يطلب من مواضعه.

وثانيهما : أنّا وإن سلّمنا كونه علّة له فلا نسلّم أنّ ارتفاعه مطلقا يقتضي ارتفاع الجنس ، بل إنّما يرتفع بارتفاعه ، إذا لم يخلفه فصل آخر** ؛ وذلك لأنّ الجنس إنّما يفتقر إلى فصل مّا ومن البيّن أنّ ارتفاع المنع من الترك مقتض لثبوت الإذن فيه ، وهو فصل آخر للجنس الّذي هو الجواز.

___________________________________

* وهذا كما ترى لا يجدي نفعا للمستدلّ ، فإنّ زوال أحد المعلولين لا يكون إلاّ بزوال العلّة المشتركة وإلاّ لزم تخلّف المعلول عن العلّة وأنّه محال ، ومع زوالها يزول المعلول الآخر أيضا ، فالقولان مشاركان في لزوم المحذور الّذي أورده على القول ببقاء جنس الوجوب مع زوال فصله.

ومن الفضلاء (1) من أعرض عن هذين القولين وسلك مسلكا آخر وهو أنّ الجنس والفصل متّحدان في الخارج ولا ينعدم أحدهما إلاّ بزوال وجوده الّذي هو عين زوال وجود الآخر ، فزوال أحدهما عين زوال الآخر.

وهذا أوفق بالاعتبار وأقرب بالإذعان لما يساعد عليه صحّة الحمل الّتي هي أمارة عدم تغايرهما في الوجود ولكنّه في الأجناس والفصول العقليّة لا مطلقا.

فالجواب التحقيقي عن السؤال هو ذلك ومحصّله : أنّ الامور الجعليّة لا تقاس على الامور العقليّة وقد سبق توضيحه مشروحا ، مع قضاء الوجدان الصريح بتمايز جنس الوجوب وفصله بحسب الخارج وتغايرهما في الوجود ، وعدم صحّة حمل أحدهما على الآخر.

** محصّله : منع كون الفصل الخاصّ علّة للجنس الموجود في ضمنه على وجه الانحصار بل هو على تقدير علّيّته له أحد العلل ، بدعوى أنّ الجنس معلول له علل عديدة تتوارد عليه على سبيل البدليّة ، فلا يلزم من ارتفاع أحدها المعيّن عدم بدليّة ما عداه.

والمفروض فيما نحن فيه ثبوت بدل عن المنع من الترك وهو الإذن في الترك الّذي

ص: 477


1- الفصول : 111.

والحاصل : أنّ للجواز قيدين : أحدهما - المنع من الترك ، والآخر - الإذن فيه ؛ فإذا زال الأوّل خلفه الثاني. ومن هنا ظهر أنّه ليس المدّعى ثبوت الجواز بمجرّد الأمر ، بل به وبالناسخ ، فجنسه بالأوّل وفصله بالثاني. ولا ينافي هذا إطلاق القول بأنّه إذا نسخ الوجوب بقي الجواز ، حيث انّ ظاهره استقلال الأمر به ، فانّ ذلك توسّع في العبارة. وأكثرهم مصرّحون بما قلناه.

فان قيل : لمّا كان رفع المركّب يحصل تارة برفع جميع أجزائه ، وأخرى برفع بعضها ، لم يعلم بقاء الجواز بعد رفع الوجوب ؛ لتساوي احتمالي رفع البعض الّذي يتحقّق معه البقاء ، ورفع الجميع الّذي معه يزول.

قلنا : الظاهر يقتضي البقاء ، لتحقّق مقتضيه أوّل ، والاصل استمراره. فلا يدفع بالاحتمال. وتوضيح ذلك : أنّ النسخ إنّما توجّه إلى الوجوب ، والمقتضي للجواز هو الأمر ، فيستصحب إلى أن يثبت ما ينافيه. وحيث انّ رفع الوجوب يتحقّق برفع أحد جزئيه ، لم يبق لنا سبيل إلى القطع بثبوت المنافي فيستمرّ الجواز ظاهرا. وهذا معنى ظهور بقائه.

والجواب : المنع من وجود المقتضي ؛ فانّ الجواز الّذي هو جزء من ماهيّة الوجوب وقدر مشترك بينها وبين الأحكام الثلاثة الاخر ، لا تحقّق له بدون انضمام أحد قيودها إليه قطعا ، وإن لم يثبت عليّة الفصل للجنس ، لأنّ انحصار الأحكام في الخمسة يعدّ في الضروريّات. وحينئذ فالشّك في وجود القيد يوجب الشّك في وجود المقتضي. وقد علمت أنّ نسخ الوجوب. كما يحتمل التعلّق بالقيد فقط - أعني المنع من الترك - فيقتضي ثبوت نقيضه الّذي هو قيد آخر ، كذلك يحتمل التعلّق بالمجموع ، فلا يبقي قيد ولا مقيّد ؛ فانضمام

___________________________________

كان لازما من رفع المنع ، ومعه لا يلزم بقاء الجنس المفروض بقاؤه بلا علّة ليكون منشأ للإشكال ويثبت به مانعيّة النسخ لثبوت الجواز كما هو المقصود بالسؤال.

ص: 478

القيد مشكوك فيه ، ولا يتحقّق معه وجود المقتضي.

ولو تشبّث الخصم في ترجيح الاحتمال الأوّل بأصالة عدم تعلّق النسخ بالجميع لكان معارضا بأصالة وجود القيد ، فيتساقطان*.

وبهذا يظهر فساد قولهم في آخر الحجّة : « إنّ الظاهر يقتضي البقاء ، لتحقّق مقتضيه ، والأصل استمراره » ، فانّ انضمام القيد ممّا يتوقّف عليه وجود المقتضي ، ولم يثبت.

___________________________________

* والمقصود بذلك العدول عن القول بكون المقتضي لبقاء الجواز الأمر الأوّل إلى القول بكونه الأصل والاستصحاب ، ومعنى أصالة عدم تعلّق النسخ بالجميع أصالة عدم تعرّض الشارع لرفع الجواز مع اليقين بتعرّضه لرفع المنع من الترك ، وقد يقرّر هذا الأصل باستصحاب الجواز.

وأمّا معارضة المصنّف فيدفعها :

أوّلا : أنّ رفع المنع من الترك لا يعقل إلاّ مع قيام الإذن في الترك مكانه ، ضرورة استحالة ارتفاع النقيضين كاجتماعهما ، فاليقين بأحدهما في معنى اليقين بالآخر فبطلت المعارضة.

وثانيا : أنّ رفع المنع من الترك متيقّن الحدوث على تقديري تعلّق النسخ بالمجموع أو بالفصل فقط ، واللازم من رفع المنع عند العقل حدوث الإذن وهذا هو معنى اليقين بوجود القيد ، فلا أصل حينئذ ليعارض أصالة البقاء.

ومن الأعلام من التفت إلى بطلان المعارضة بالبيان المتقدّم في كلام المصنّف لبعض ما قرّرناه ، ثمّ أتى بأصل آخر معارض له وهو أصالة عدم الارتباط والتقييد بذلك القيد المقطوع بثبوته ، ثمّ تنبّه على ما يدفعه من أنّ الارتباط والتقيّد أمر اعتباري وبعد حصول الطرفين واتّحاد المورد فلا معنى لعدم اعتبار ذلك.

ثمّ أورد عليه بما ملخّصه - مع طول عبارته واشتماله على عدم حسن التأدية والتعقيد - : أنّ الجواز الّذي كان في ضمن الوجوب قبل طروّ النسخ له لم يكن معروضا للفصل القائم مقام الفصل المرتفع يقينا ، وبعد طروّ النسخ نشكّ في أنّه هل عرض له ذلك الفصل المتجدّد أم لا؟ وهذا أمر حادث ينفيه الأصل حتّى يثبت اليقين بعروضه ولا يقين به في المقام ، إذ لا مقتضي للعروض إلاّ استصحاب بقاء الجواز وهو لا يورث يقينا بل غايته إفادة الظنّ

ص: 479

والأصل يجري مع الظنّ بالخلاف أيضا ، فيكون ذلك الأصل معارضا للاستصحاب المذكور وغاية التعارض التساقط فيبقى المورد بلا حكم.

وبعبارة اخرى : فكما أنّ الأصل بقاء الجواز الّذي في ضمن الوجوب فالأصل عدم تحقّق الإباحة بالمعنى الأخصّ أو الاستحباب ، فإنّ جميع الأحكام الشرعيّة الأصل عدمها » (1).

وفيه أوّلا : أنّ الاستصحاب وإن كان لا يوجب يقينا إلاّ أنّه بنفسه علم شرعيّ وهو هاهنا وارد على معارضه لكون شكّه سببيّا كما يظهر بأدنى تأمّل.

وثانيا : أنّ هذا الأصل معارض بأصل آخر غير الاستصحاب المذكور ، إذ كما أنّ الأصل عدم عروض القيد المتجدّد لجنس الوجوب فكذلك الأصل عدم عروضه لجنس غيره من الأحكام سيّما الحرمة ، فإنّ عدم عروض هذا القيد قبل النسخ لكلّ من الجنسين كان متيقّنا والأصل النافي له بالنسبة إلى جنس الوجوب ينفيه بالنسبة إلى جنس غيره ، مضافا إلى عدم لحوق جنس آخر لمحلّ جنس الوجوب ، فهذان الأصلان يعارضان الأصل المذكور ، وغاية التعارض التساقط فيبقى الاستصحاب سليما عن المعارض.

هذا ولكنّ الإنصاف ومجانبة الاعتساف يقتضي عدم تماميّة الاستصحاب هنا من أصله وهو على فرض تماميّته غير مفيد.

أمّا الأوّل : فلأنّ الاستصحاب إن قلنا به من حيث الظنّ - الحاصل بملاحظة الكون الأوّل - بالبقاء في الآن الثاني فهو غير حاصل ببقاء الجزء بملاحظة كونه الأوّل في ضمن كون الكلّ التابع له ، لأنّ كون الكلّ الّذي هو الكون الأوّل في الحقيقة قد ارتفع يقينا بالفرض ، وملاحظة الكون التبعي لا يوجب ظنّا ببقاء التابع منفكّا عن المتبوع ، خصوصا مع ملاحظة تساوي احتمالي تعلّق النسخ بالمجموع أو بالبعض ، بل على القول بكون الباعث على ظنّ البقاء هو ملاحظة غلبة البقاء في الممكنات الموجودة أيضا يتطرّق المنع إلى حصوله هنا ، لأنّ الغلبة إنّما كانت ثابتة في بقاء الموجود الأوّل على الوجه الّذي كان موجودا ، كما لو شكّ في نسخ حكم في زمان بعد اليقين بثبوته في الزمان الأوّل وهذا ليس منه.

وإن قلنا به من جهة الأخبار فاندراج ما نحن فيه فيها غير واضح بل ممنوع ، لأنّ الظاهر المتبادر من قولهم عليهم السلام : « لا ينقض اليقين بالشكّ » (2) اتّحاد القضيّة المشكوكة والقضيّة المتيقّنة موضوعا ومحمولا وكمّا وكيفا وجهة وغيرها بلا فرق بينهما إلاّ في اليقين

ص: 480


1- القوانين 1 : 128 - 129.
2- الوسائل 1 : ، الباب 1 من أبواب نواقص الوضوء ، ح 1 ، 6 ، 7.

إذا تقرّر ذلك. فاعلم : أنّ دليل الخصم لو تمّ ، لكان دالاّ على بقاء الاستحباب ، لا الجواز فقط ، كما هو المشهور على ألسنتهم * ، يريدون به الإباحة. ولا الأعمّ منه ومن الاستحباب ، كما يوجد في كلام جماعة. ولا منهما ومن المكروه ، كما ذهب إليه بعض ، حتّى أنّهم لم ينقلوا القول ببقاء الاستحباب بخصوصه إلاّ عن شاذّ ، بل ربما ردّ ذلك بعضهم نافيا للقائل به ، مع أنّ دليلهم على البقاء كما رأيت ينادي بأنّ الباقي هو الاستحباب.

___________________________________

والشكّ وزمانيهما ولأجل ذلك يعتبر فيه بقاء الموضوع ، ولا ريب في اختلافهما هنا باعتبار المحمول أيضا ، لأنّ القضيّة المتيقّنة هو قولنا : « الشيء الفلاني كان واجبا » والقضيّة المشكوكة هو قولنا : « الشيء الفلاني هل هو جائز أو لا؟ ».

ولا ريب أنّهما لا تندرجان فيما ظاهره اتّحاد القضيّتين موضوعا ومحمولا وغيرهما.

الإشارة إلى المختار في المسألة

وأمّا الثاني : فلأنّ معارضة أصالة عدم وجود القيد كما ذكره المصنّف ممّا لا مدفع له ، وما تقدّم في دفعها من دعوى اليقين بوجوده بعد النسخ تمسّكا بعدم جواز ارتفاع النقيضين وغيره لا يخلو عن مغالطة ، لعدم كون نقيض المنع من الترك الإذن في الترك لأنّهما وجوديّان وتقابلهما بالتضادّ لا بالإيجاب والسلب ، بل نقيضه عدم المنع من الترك وهو اللازم من رفع المنع من الترك لا الإذن في الترك الّذي يحتاج إلى جعل آخر ، والأصل وعدم المنع من الترك لا يستلزمه لأنّه أعمّ والأعمّ لا يستلزم الأخصّ ، خصوصا مع ملاحظة ما قدّمناه سابقا من أنّ نسخ الحكم الشرعي لا يقتضي بدليّة حكم آخر عن الحكم المنسوخ لجواز خلوّ الواقعة عن الحكم المجعول رأسا ، وحينئذ فاستصحاب الجواز مع خلوّ الواقعة عن قيدي المنع من الترك والإذن فيه وعدم إفادته يقينا ولا ظنّا بالجواز لا يفيد فائدة ولا يجدي نفعا في انعقاد حكم آخر مكان الوجوب ، وانعقاد الجواز المشكوك فيه بنفسه حكما شرعيّا من غير لحوق أحد قيود الأحكام الأربع به غير معقول ، ولذا قال بعض الأعلام في كلامه السابق : « ويبقى المورد بلا حكم » (1) فإنّه متين بل في كمال المتانة.

فتقرّر أنّ الأقوى عندنا بالنظر إلى الأصل والاعتبار هو القول بعدم البقاء.

* وهذا حقّ لا سترة عليه ، لأنّه إذا صلح جواز الفعل لإبقائه بعد النسخ بالاستصحاب

ص: 481


1- القوانين 1 : 129.

وتوضيحه : أنّ الوجوب لمّا كان مركّبا من الاذن في الفعل وكونه راجحا ممنوعا من تركه ، وكان رفع المنع من الترك كافيا في رفع حقيقة الوجوب ، لا جرم كان الباقي من مفهومه هو الإذن في الفعل مع رجحانه ؛ فاذا انضمّ إليه الإذن في الترك على ما اقتضاه الناسخ ، تكمّلت قيود الندب وكان الندب هو الباقي.

___________________________________

- لأنّ القدر المتيقّن ممّا ارتفع هو المنع من الترك لا جواز الفعل - لصلح رجحانه أيضا لابقائه بالاستصحاب ، لأنّ القدر المقطوع بزواله من الرجحان إنّما هو تأكّده لا تمامه وهو كاف في انعقاد الاستحباب.

بيان ثمرة المسألة

خاتمة

لا يخفى عليك أنّ ما يثبت بعد النسخ من الاستحباب أو الاباحة أو الحكم المتردّد بينهما أو بين الثلاث حكم ظاهري وإن استند أحد جزئيه إلى دليل النسخ ، لاستناد جزئه الآخر إلى الأصل الّذي لولاه كان القول بعدم البقاء متّجها والنتيجة تتبع أخسّ مقدّمتيها ، فحينئذ لو قام دليل من الخارج على الحرمة كان العمل به متعيّنا من دون أن يعارضه الأصل المقتضي للحكم المذكور ، بخلاف ما لو كان مستند بقاء الجواز ظاهر الأمر المقتضي للمركّب فإنّه حينئذ مع الناسخ دليلان في حكم دليل واحد يثبت بهما الحكم المذكور ، فربّما يتأتّى المعارضة فيهما بالقياس إلى دليل الحرمة فتمسّ الحاجة إلى مراجعة قواعد الترجيح ، إلاّ أن يقال : إنّ دليل الحرمة حيثما ثبت ينهض قرينة كاشفة عن تعلّق النسخ بالمجموع المركّب من جزئي الوجوب ، ومعه لا يتأتّى التعارض إلاّ في بادئ النظر على قياس ما هو الحال في كلّ نصّ وارد على الظاهر.

ثمّ بالتأمّل في تضاعيف الكلمات السابقة يعلم أنّ ثمرة المسألة تظهر في انعقاد حكم آخر بعد نسخ الوجوب بمجرّد الجواز الّذي كان في ضمن الوجوب فلا حاجة لإثباته إلى دليل آخر ، وعدمه فلا بدّ لإثبات الحكم الآخر إلى الدليل.

وهذه ثمرة عظيمة غير أنّه في كلام جماعة عدم الوقوف على فرع للمسألة أو نفيه أو الحكم بقلّته.

نعم عن بعض الأصحاب أنّه فرّع عليه جواز الجمعة ندبا أو تخييرا بعد انتفاء وجوبها العيني بسبب فقد شرطه وهو حضور الإمام عليه السلام ، فعلى القول بعدم بقاء الجواز يحرم تشريعا.

ص: 482

وفيه : أنّ انتفاء شرط الوجوب في الواجب المشروط ليس من مسألة نسخ الوجوب ولا أنّه نظيرها ، إذ لا وجوب معه فصلا وجنسا فلا جواز أصلا حتّى يتكلّم في بقائه وعدم بقائه.

والسرّ في ذلك ما ذكروه من اختصاص الوجوب في الواجبات المشروطة بواجدي الشرط وعدم دخول الفاقدين فيها أصلا ، فلم يتوجّه إليهم الأمر ولم يشملهم الخطاب أصلا ، فلا وجوب ولا جواز ، فيحتاج جواز الجمعة لهم ندبا أو تخييرا إلى الدليل ومع فقده تحرم تشريعا.

ومن الأعلام من ذكر للمسألة نظيرا بعد تصريحه بعدم وجدان فرع له وقال بكون النظير كثير الفروع عظيم الفائدة وهو ما اشتهر في ألسنتهم من أنّ بطلان الخاصّ لا يستلزم بطلان العامّ ، وقال : « بأنّ التحقيق فيه أيضا خلاف ذلك » ثمّ ذكر من فروعه تبعيّة القضاء للأداء وعدمها ، وكون الطهارة الوضوئيّة مجزية عن الطهارة الغسليّة فيمن وجب عليه الغسل ثمّ تعذّر وعدمه ، وكون العبد المأذون في التصرّف مأذونا فيه بعد بيعه أو عتقه وعدمه ، ووجوب اضحيّة حيوان آخر مكان ما لو نذر اضحيّته بالخصوص فمات وعدمه ، وصحّة النذر في إيقاع الصلاة في مكان لا رجحان فيه ، بناء على اشتراط الرجحان في انعقاد النذر وعدمها.

ثمّ قال : « والتحقيق أنّه لو نذر إيقاع صلاة الظهر أو نافلته مثلا في مكان لا رجحان فيه فلا ينعقد على القول باشتراط الرجحان في النذر ، وأمّا لو نذر إيقاع ركعتين مبتدئة في المكان المذكور فينعقد ، لا لأنّ عدم اعتبار الخاصّ لا يستلزم عدم العامّ فلا بدّ أن ينعقد ويفعلها ولو في غير هذا الموضع ، بل لأنّ مورد النذر هو ذلك الفرد وهو راجح باعتبار الكلّي الموجود فيه » (1) انتهى.

وقد خفي وجه الفرق بين المسألتين على كثير من الأنظار فأوردوا عليه : بأنّه تحكّم وفرق بلا فارق ، لأنّ الفرد في مسألة نذر إيقاع صلاة الظهر أو نافلته أيضا راجح باعتبار الكلّي الموجود فيه مع كون مورد النذر في المسألتين [ هو الفرد ] مع ابتناء انعقاده في المسألة الثانية على القول بعدم استلزام بطلان الخاصّ بطلان العامّ ، وهو مع أنّه يجري في المسألة الاولى يخالف مختاره وينافي قوله : « لا لأنّ عدم اعتبار الخاصّ » إلى آخره.

أقول : مورد النذر في المسألتين وإن كان هو الفرد ، إلاّ أنّ الوجه في عدم انعقاده في المسألة الاولى أنّ الفرد لا رجحان فيه ، والكلّي المأمور به - بمعنى طبيعة الصلاة - ليس موردا له فلا ينعقد في شيء منهما ، إلاّ على القول بعدم استلزام بطلان الخاصّ بطلان العامّ

ص: 483


1- القوانين 1 : 129.

تحقيق مادّة النهي

البحث الثانى فى النواهي *

___________________________________

وهو خلاف التحقيق.

وتوهّم كفاية رجحان الحصّة من الطبيعة الموجودة في الفرد في انعقاد النذر فيه.

يدفعه : أنّ مقصود الناذر كونه صلاة في هذا المكان لا كونه إيقاعا للصلاة ، والرجحان إنّما هو في الثاني وهو ليس موردا للنذر بالفرض.

بخلاف المسألة الثانية فإنّ الأمر بالنافلة المبتدئة اريد به التكرار لا الماهيّة كما في الفريضة والنافلة الراتبة ، فالفرد الّذي هو مورد النذر في المبتدئة بنفسه راجح ومطلوب ، لأنّه من جملة الأفراد المتكرّرة المتكثّرة الممكنة المطلوبة بمقتضى تكرار الأمر ، فمعنى قوله : « وهو راجح باعتبار الكلّي الموجود فيه » أنّه راجح باعتبار ماهيّة الصلاة المبتدئة الّتي جميع أفرادها الممكنة راجحة مطلوبة ومنها مورد النذر ، لا أنّ الماهيّة من حيث هي راجحة مطلوبة من غير رجحان ومطلوبيّة جميع أفرادها الّتي منها مورد النذر ، ولخفاء هذا الفرق سبق إلى الأنظار المتقدّم إليها الإشارة توهّم عدم الفرق فأوردوا عليه بنحو ما تقدّم ، والجهة الباعثة على خفاء الفرق قصور عبارة قوله : « وهو راجح باعتبار الكلّي الموجود فيه » عن إفادة حقيقة المقصود (1).

* اعلم أنّ لفظ « النهي » باعتبار المادّة ضدّ للأمر بهذا الاعتبار ، فيشاركه في معناه الطلبي المختلف في تحديده حسبما ستعرفه وإن لم يشاركه في غيره ممّا تقدّم من معانيه كالفعل والشأن والشيء والحادثة وغيرها ، وقضيّة ذلك أن يجري فيه ضدّ الحدود المتقدّمة في الأمر كما أشار إليه الحاجبي بقوله : « وما قيل في حدّ الأمر من مزيّف وغيره فقد قيل

ص: 484


1- وقد عدل عن هذا التوجيه في حاشية القوانين بقوله : « وفيه نظر ، لأنّه إن اريد من رجحان هذا الفرد رجحانه من حيث إنّه ركعتان مبتدئة فهو وإن كان مسلّما إلاّ أنّ النذر لم يرد عليه بهذه الحيثيّة الكليّة وإلاّ لوجب حصول الوفاء بأداء الفرد الآخر أيضا ، وإن اريد رجحانه من حيث وقوعه في المكان المذكور فهذه الحيثيّة لا رجحان فيها والنذر قد ورد عليها ، ورجحانه من حيث الصلوتيّة لا يستلزم رجحانه من حيث الخصوصيّة الحاصلة باعتبار المكان الزائدة على الخصوصيّة الحاصلة من حيث الوقت والزمان ، وتكرار الأمر بالركعتين مبتدئة إنّما يقتضي الرجحان في الأفراد المتعاقبة على حسب تعاقب أجزاء الوقت ، لأنّ المستحبّ إنّما هو إيقاع ركعتين مبتدئة في كلّ وقت يسعها لا الأفراد المتمايزة بخصوصيّات المكان ، لعدم ورود الأمر الاستحبابي على ركعتين مبتدئة في المكان ليكون هذا الفرد باعتبار وقوعه في هذا المكان الخاصّ من أفراد هذا العنوان ، وإلاّ بطل فرض كون مورد النذر مكانا لا رجحان فيه » [ راجع حاشية القوانين : 89 ].

في حدّ النهي » ، وفي معناه المحكيّ عن الآمدي في الإحكام قائلا : « اعلم أنّه لمّا كان النهي مقابلا للأمر فكلّما قيل في حدّ الأمر على اصولنا واصول المعتزلة من المزيّف والمختار فقد قيل مقابله في حدّ النهي ».

ونحوه ما ذكره العضدي من : « أنّ ما قيل في حدّ الأمر من مزيّف وغيره قيل مقابله في حدّ النهي ، مثل أنّه القول المقتضي طاعة المنهيّ بترك المنهيّ عنه ، أو قول القائل لمن دونه : « لا تفعل » مجرّدة عن القرائن الصارفة عن النهي ، أو صيغة « لا تفعل » بإرادات ثلاث : إرادة وجود اللفظ وإرادة دلالتها على النهي ، وإرادة الامتثال » انتهى.

وقضيّة ذلك كون لفظ « النهي » أيضا ممّا اتّفقوا على كونه باعتبار العرف واللغة موضوعا لشيء طلبي مردّد بين كونه قولا مخصوصا دالاّ على الطلب ، أو طلبا بالقول أو مطلقا من العالي ، أو مطلقا على سبيل الاستعلاء أو مطلقا ، وإن اختلفوا في تحديد هذا المعنى حسبما أشرنا إليه بكلمات الترديد ، وتفصيله أنّهم بين فريق جعلوه من مقولة القول بعبارات مختلفة ، فعن العدّة : « النهي هو قول القائل لمن دونه : « لا تفعل » وإنّما يكون قبيحا إذا كره المنهيّ عنه ».

وعن المعارج : « النهي هو قول القائل لغيره : « لا تفعل » أو ما جرى مجراه على سبيل الاستعلاء مع كراهة المنهيّ عنه ».

وعن المنتهى : « الحقّ أنّ النهي القول الدالّ على طلب الترك على جهة الاستعلاء ».

ونحوه ما في منية السيّد بعين تلك العبارة.

وقد تقدّم في عبارة العضدي حدود اخر على هذا التقدير.

وفريق آخرين جعلوه من مقولة المعنى المعبّر عنه بالطلب وفسّروه عند التحديد بعبارات مختلفة :

فمنهم من عرّفه : « بأنّه طلب ترك الفعل بقول من العالي على سبيل الاستعلاء » كبعض الأعلام على نحو ما ذكره في حدّ الأمر بلا فرق بينهما إلاّ في تبديل لفظ الفعل بترك الفعل.

ومنهم من عرّفه : « بأنّه طلب الترك بالقول على جهة الاستعلاء » كما عن نهاية العلاّمة.

ومنهم من عرّفه : « بأنّه طلب ترك بالقول استعلاء » كما أشار إليه البهائي في حاشية زبدته.

ومنهم من عرّفه : « بأنّه اقتضاء كفّ عن فعل على جهة الاستعلاء » كما في مختصر الحاجبي.

ومنهم من عرّفه : « بأنّه طلب كفّ عن فعل بالقول استعلاء » كما عن غاية المأمول

ص: 485

والفاضل الجواد في شرحه للزبدة.

ومن الفضلاء من عرّفه : « بأنّه طلب العالي من الداني ترك الفعل على سبيل الإلزام ».

فتلخّص من جميع ذلك وقوع الخلاف بينهم في مقامات :

منها : ما يرجع إلى جنس الحدّ الدائر بين كونه من مقولة القول أو من مقولة الطلب.

ومنها : ما يرجع إلى الطلب على تقدير كونه جنسا من الإطلاق أو التقييد بالقول.

ومنها : ما يرجع إلى متعلّق ذلك الطلب من حيث كونه كفّا أو تركا ، وهذا مبنيّ على الخلاف الآتي فيما عنونه المصنّف وغيره من أنّ المطلوب بالنهي هل هو الكفّ أو نفس أن لا تفعل؟

ومنها : ما يرجع إلى اعتبار العلوّ وعدمه.

ومنها : ما يرجع إلى اعتبار الاستعلاء وعدمه.

وتحقيق الحال في تلك المقامات : أنّ القول مطلقا ممّا لا مدخل له عرفا ولا لغة في انعقاد ماهيّة النهي شطرا ولا شرطا ، وإطلاقه على القول المخصوص أو الصيغة المعهودة - كإطلاق الأمر عليهما - اصطلاح محدث لا يعبأ به في ترتيب الأحكام المترتّبة على المفاهيم العرفيّة ، لعدم كونه ممّا يساعد عليه شيء من إطلاقاته الجارية على لسان العرف ، ولو اتّفق إطلاقه في موضع صدور الصيغة المخصوصة فهو إطلاق له على ما تضمّنته تلك الصيغة من الطلب الإلزامي القائم بالنفس ، كيف وأنّه لا يتبادر منه حيثما اطلق مجرّدا عن القرائن إلاّ ذلك الطلب ويصحّ سلبه في جميع تصاريفه عرفا عن الصيغة ، ولا ينوط صدقه في متفاهم العرف بانعقاد الطلب بواسطة لفظ « النهي » ولا صيغته المخصوصة ، لعدم صحّة سلبه عمّا انعقد بنحو الإشارة أو الكتابة إذا جامع شرائطه من علوّ الطالب واقترانه بإرادة الحتم والإلزام.

وأمّا اشتراط كون متعلّقه الكفّ وعدمه فيأتي تحقيقه عند تعرّض المصنّف لتحقيقه ، فهو إذن حقيقة عرفا ولغة في معنى إجمالي تفصيله في ظرف التحليل : طلب العالي ترك الفعل على جهة الإلزام ، للتبادر وصحّة السلب عن طلب الداني بل المساوي أيضا ولو حتميّا ، وعن طلب الفعل ولو حتميّا من العالي ، وعن طلب العالي لا على جهة الإلزام ، ولا ينافيه إطلاقه في بعض الأحيان على ما يكون تنزيهيّا لأنّه إطلاق وارد على سبيل التجوّز كما يرشد إليه التزام التقييد في غالب إطلاقاته ، خلافا لثاني الشهيدين - فيما حكي عنه - من مصيره إلى كونه يطلق على المحرّم والمكروه تمسّكا بصحّة التقسيم باعتبار ما يستعمل فيه وتقديم الاشتراك المعنوي على الحقيقة والمجاز ، وضعفه واضح بعد ملاحظة ما قرّرناه

ص: 486

من الحجّة المقتضية للمجاز في الكراهة.

وقد يستدلّ على ذلك بآيات كقوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ ) . ( وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ ) (1) و ( أَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ ) (2) ( وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (3) ( فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ ) (4) ونحو ذلك.

وفيه ما لا يخفى من عدم منافاة تلك الإطلاقات للاشتراك المعنوي عند القائل به بعد قيام القرينة المردّدة بين كونها مؤكّدة أو مفهمة ، مع أنّ الأصل هو الثاني كما لا يخفى.

وأمّا ما يقال : من أنّه حقيقة في التحريم تمسّكا بالتبادر ، وصحّة السلب عن العاري عنه ، وتحقّق المخالفة بالفعل ، وترتّب الذمّ بها عرفا إذا صدر ممّن يجب طاعته ، فلعلّ المراد به ما أخذ معه العلوّ وإن قصر إطلاق العبارة عن إفادته ، وإلاّ فلا يستريب أحد في أنّ التحريم بمعنى طلب الترك مع عدم الرضا بالفعل ممّا يتأتّى عن غير العالي أيضا.

وقد عرفت أنّه ما لا يصدق عليه النهي عرفا بعنوان الحقيقة ، كما لا يصدق الأمر على طلب غيره للفعل بعنوان الحقيقة ولو حتميّا.

ويندرج فيما ذكرناه من الحدّ ما لو قال العالي لمن دونه : « اترك الزنا » باعتبار معناه ، لأنّه طلب للترك من العالي على جهة الإلزام وإن صدق على لفظه الأمر بالصيغة ، إذ لا مدخليّة للفظ دون آخر في انعقاد هذا المعنى ، فإنّه مطلق والمفروض من أفراده ، واختصاص اللفظ بعنوان مستقلّ في الاصطلاح لا يوجب خروج المعنى عن عنوانه العامّ كما لا يخفى ؛ وأمّا مثل « كفّ أو اكفف عن الزنا » فهو أيضا نهي بهذا المعنى باعتبار أحد فرديه ، نظرا إلى أنّ الترك الّذي يتعلّق به الطلب في مفهوم النهي أعمّ ممّا حصل منه بعنوان الكفّ المأخوذ فيه زجر النفس عن فعل المنهيّ عنه أو بدونه على القول بعدم كون المطلوب بالنهي هو الكفّ.

نعم هو على القول الآخر نفس النهي ، بناء على ما قرّرناه من أنّه أمر معنوي نفسيّ لا تفاوت في انعقاده بين الألفاظ الكاشفة عنه ، فما في كلام بعض الأعلام من أنّه يدخل في الأمر من حيث ملاحظة الكفّ بالذات ، وأنّه فعل من الأفعال ، ونهي من حيث إنّه آلة لملاحظة فعل آخر وهو الزنا وحال من أحواله ، ليس بسديد ، كيف وأنّ الفعل المأخوذ في ماهيّة الأمر عبارة عمّا يصدر من الجوارح والكفّ وإن كان أمرا وجوديّا يعبّر عنه بإمساك الجوارح عن الفعل غير أنّه ليس فعلا بهذا المعنى ، بل هو أمر وجوديّ منشؤه شيء قائم

ص: 487


1- المجادلة : 8.
2- النساء : 161.
3- الحشر : 7.
4- الأعراف : 166.

بالنفس كما لا يخفى ، وليس مناط صدق النهي على المفروض اعتبار كون ذلك الأمر الوجودي آلة لملاحظة فعل آخر.

وإنّما يصدق عليه النهي باعتبار كونه طلبا للترك في ضمن أحد فرديه الّذي يتحقّق معه الكفّ وكان التعبير عنه بتلك المادّة من باب أخذ مدلول المادّة قرينة مفهمة لاعتبار الخصوصيّة.

ويظهر فائدة الفرق بينه وبين ما لو اطلق في طلب الترك في مدخليّة تحقّق الكفّ وعدمه في الامتثال كما لا يخفى.

إلاّ أن يقال : إنّ الكفّ في نحو هذه العبارة إنّما لوحظ آلة لملاحظة المطلوب وهو الترك باعتبار كون الكفّ حالا من أحواله ، لا على أنّ المطلوب هو الترك على وجه الكفّ بأن يكون للكفّ مدخليّة في المطلوب.

ويمكن أن يرجع إليه ما عرفته عن بعض الأعلام وإن قصر عبارته.

وأمّا مثل « لا تترك » فهو في الحقيقة طلب الفعل بعبارة ما هو لازم مساو له ، فيدخل في ماهيّة الأمر وإن كان لا ينصرف إليه اللفظ حيثما يطلق ، ويمكن إدراجه في النهي بناء على أنّ الترك المأخوذ فيه متعلّقا للطلب أعمّ ممّا كان متعلّقه الفعل الصادر من الجوارح أو تركه الّذي يصدق عليه عنوان الفعل أيضا باعتبار معناه الحدثي المصدري.

ثمّ بقي الكلام مع من يعتبر فيه الاستعلاء كبعض الأعلام وغيره ممّن تقدّم ذكرهم عند نقل حدودهم ، والتحقيق فيه أنّ الاستعلاء إن اريد به اظهار العلوّ على ما هو الظاهر المنساق منه.

ففيه : منع الملازمة بينه وبين تحقّق صدق النهي عرفا ، فإنّ العالي كثيرا مّا يطلب الترك حتما ويصدق عليه النهي عرفا وهو غير ملتفت إلى علوّه فضلا عن كونه قاصدا لإظهاره ، وإن اريد به ادّعاء العلوّ على حدّ ما قد يتّفق عن غير العالي فهو مع اعتبار العلوّ أجنبيّ عن المقام ، مضافا إلى كثرة ما يتّفق في موضع صدقه من الغفلة عن ذلك أيضا ، ومع عدم اعتباره لا ينفع في انعقاد صدق النهي ما لم يصادف العلوّ الواقعي ، ضرورة عدم صدقه على ما ينشأ من غير العالي ولو قارنه الاستعلاء بهذا المعنى ، إلاّ أن يكون مبنى اعتباره على اعتبار العلوّ بأن يقصد به غير العالي تنزيل نفسه منزلة العالي بأن يصير عاليا بالعلوّ الادّعائي ، فيرجع الكلام حينئذ إلى دعوى أنّ العلوّ المأخوذ في مفهوم النهي أعمّ من العلوّ الواقعي والعلوّ الادّعائي فإنّ هذا ليس ببعيد ، غير أنّ هذا التوجيه لا يتأتّى على كلام من يعتبره مضافا إلى اعتبار العلوّ كما هو واضح.

ص: 488

مدلول صيغة النهي

أصل

اختلف الناس في مدلول صيغة النهي حقيقة ، على نحو اختلافهم في الأمر.*

___________________________________

* يحتمل كون الإضافة فيما بين الصيغة والنهي بيانيّة فيدلّ على أنّ بناء المصنّف في النهي على كونه من مقولة اللفظ ، وكونها لاميّة مرادا بها الصيغة الّتي تحصل بها النهي فيدلّ على أنّه عنده غير اللفظ ، ويحتمل وجه ثالث وهو عدم ورود هذا الإطلاق باعتبار معناه الإضافي ، بدعوى صيرورة هذا المركّب عندهم اسما لنوع خاصّ من الأفعال وهو « لا تفعل » وما بمعناه من الثلاثي والرباعي المزيد فيهما ، والمجرّد من الرباعي ، وهذا هو الأظهر بقرينة كونه مأخوذا في محلّ الخلاف هنا ، فإنّ النهي والصيغة المفيدة له ممّا لا يجري فيه هذا الخلاف كما لا يخفى.

وكيف كان فهذه الصيغة تستعمل في معان وهي على ما ضبطه جماعة سبعة :

التحريم كما في قوله تعالى : ( وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ ) (1) .

والكراهة كما في قوله تعالى : ( وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا ) (2) .

والتحقير كما في قوله تعالى : ( وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) (3).

وبيان العاقبة كما في قوله تعالى : ( وَلا تَحْسَبَنَّ اللّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ) (4).

والدعاء كما في قوله تعالى : ( لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا ) (5).

واليأس كما في قوله تعالى : ( لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ ) (6).

والإرشاد كما في قوله تعالى : ( لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) (7).

وأنت إذا تأمّلت في مجاري الاستعمالات العرفيّة تجدها مستعملة في معان اخر كثيرة غير المعاني المذكورة.

وقد أشار بعض الأفاضل (8) إلى جملة منها ، ولم نعثر منهم على القول بكونها حقيقة في جميع تلك المعاني ، بل في كلام السيّد في المنية أنّها ليست حقيقة في الجميع إجماعا ، فيكون الخلاف راجعا إلى تعيين الحقيقة من تلك المعاني بعد الوفاق على مجازيّة جملة كثيرة منها ، ومقصود العبارة فيما تقدّم تشبيه الاختلاف هنا بالاختلاف في صيغة الأمر في

ص: 489


1- الأنعام : 151.
2- القصص : 77.
3- طه : 131.
4- إبراهيم : 42.
5- البقرة : 286.
6- التحريم : 7.
7- المائدة : 101.
8- هداية المسترشدين 3 : 5 - 6.

والحقّ أنّها حقيقة في التحريم ، مجاز في غيره ؛ لأنّه المتبادر منها في العرف العامّ عند الإطلاق* ؛ ولهذا يذمّ العبد على فعل ما نهاه المولى عنه بقوله : لا تفعله ، والأصل عدم النقل ؛ ولقوله تعالى : « وما نهيكم عنه فانتهوا » أوجب

___________________________________

الجملة وإلاّ فكثير من الأقوال المتقدّمة ثمّة لا يجري هنا جزما ، كالقول بالحقيقة في الإباحة أو التهديد أو الاشتراك بين أحدهما أو كلاهما مع الوجوب والاستحباب لفظا أو معنى.

ومحصّل الخلاف هنا يرجع إلى أقوال :

أوّلها : ما اختاره المصنّف ووافقه عليه غير واحد من فحول أصحابنا المتأخّرين وعليه العلاّمة في التهذيب بل عنه في النهاية والمبادي ، وعليه السيّد في المنية ، والبهائي في الزبدة ، والبيضاوي في المنهاج.

وعن الشيخ والمحقّق في العدّة والمعارج ، وعزي تارة إلى الأكثر واخرى إلى الأشهر.

وثانيها : ما عن بعضهم في محكيّ المعراج وشرح الزبدة للفاضل الجواد من كونها حقيقة في الكراهة.

وثالثها : ما عن ظاهر الذريعة والغنية من اشتراكها لفظا بين التحريم والكراهة.

وربّما يستظهر من الأخير أنّها مشتركة بين التحريم والتهديد والتوبيخ.

ورابعها : كونها حقيقة في القدر المشترك بينهما وهو طلب الترك مطلقا.

وعن النهاية أنّ من جعل الأمر للقدر المشترك بين الوجوب والندب جعل النهي مشتركا بين التحريم والكراهة ، وهؤلاء أيضا بين من أطلق في هذا القول وبين من أوجب حمل نواهي الشرع عند الإطلاق على التحريم لأدلّة خارجيّة كما اختاره التوني في الوافية (1) .

ومن قال بانصراف الطلب المطلق عند الإطلاق إلى التحريم كما صرّح به بعض الأفاضل (2) على حسبما هو مختاره في الأمر أيضا وتبعه بعض الفضلاء أيضا.

وخامسها : التوقّف حكاه جماعة منّا ومن العامّة وفي شرح منهاج البيضاوي ترديد هذا القول بكونه إمّا للاشتراك أو للجهل بحقيقته كما مرّ في الأمر.

* وهذا التبادر ممّا لا ينبغي الاسترابة فيه ، فإنّ الصيغة من أيّ قائل صدرت ما لم ينضمّ إليها خارج يكشف عن الرضا النفساني بالفعل يتبادر منها الطلب الحتمي الّذي يؤول

ص: 490


1- الوافية : 89.
2- هداية المسترشدين 3 : 7.

عند التحليل إلى إنشاء شيئين :

أحدهما : الطلب بوصف تعلّقه بالترك الكاشف عن رجحانه ومحبوبيّته في نظر القائل.

وثانيهما : المنع عن الفعل على معنى إظهار عدم الرضا به الكاشف عن مرجوحيّته ومبغوضيّته في نظره وهذا هو الحجّة في إثبات الحقيقة عرفا ، مضافا إلى أصالة عدم النقل في تعدية ذلك الحكم إلى الشرع واللغة كما يشير إليه المصنّف فيما بعد ذلك.

وممّا يكشف عن هذا التبادر ذمّ العقلاء للعبد الآتي بما نهي عنه بواسطة صيغة « لا تفعل » كما يشير إليه المصنّف أيضا.

واستند إليه غير واحد منهم السيّد في المنية حيث قرّره : بأنّ السيّد لو قال لعبده : « لا تركب الدابّة » فركب استحقّ الذمّ عرفا ، فلولا فهمهم التحريم من الصيغة المجرّدة لما كان لذلك وجه.

واحتمال استناد فهمهم إلى خارج من المولويّة ونحوها.

يدفعه : أنّ ما يستند إليه إنّما هو إقدامهم على الذمّ من حيث إنّه من لوازم مخالفة الداني للعالي لا أصل الفهم ، مع أنّ الأصل كاف في نفي هذا الاحتمال لو سلّمنا قيامه بالنسبة إلى أصل الفهم كما في غالب التبادرات المثبتة للوضع الكاشفة عن الحقيقة.

ولك أن تعتبر ذلك حجّة اخرى زيادة على ما قرّرناه أوّلا بناءا على جعل أحدهما تبادرا وجدانيّا ، والآخر تبادرا استقرائيّا ، فلا يلزم تكرار في الاحتجاج كما قد يسبق إلى الوهم.

ولكن ما في عبارة المصنّف لا يساعد على هذا المعنى ، بل هو ظاهر كالصريح في التعرّض لذكره لإقامة شاهد بما ادّعاه من التبادر.

وربّما يستدلّ أيضا بوجوه اخر ، منها : ما ستعرفه عن المصنّف.

ومنها : ما قرّر في المنية معتمدا عليه من أنّه لمّا لم يكن فرق بين الأمر والنهي إلاّ في متعلّق الطلب وكان الأمر دالاّ على الطلب الجازم - أعني المانع من نقيض المطلوب - كان النهي أيضا كذلك وهي معنى اقتضائه التحريم.

وفيه ما لا يخفى من رجوعه بالأخرة إلى المصادرة على المطلوب ، فإنّ انتفاء الفرق بين الأمر والنهي من جميع الجهات إلاّ في متعلّق الطلب دعوى يحتاج إلى الحجّة بل هو عين المسألة والعبارة خالية عنها ، ولو اريد إثباتها بمجرّد القياس لجامع الطلب فبطلانه أوضح.

ومنها : ما قرّره فيها أيضا وأشار إليه العلاّمة في التهذيب والتوني في الوافية ، من أنّ فاعل المنهيّ عنه عاص ، وكلّ عاص مستحقّ للعقاب ، ففاعل المنهيّ عنه مستحقّ للعقاب ،

ص: 491

سبحانه الانتهاء عمّا نهى الرسول صلى اللّه عليه وآله ، عنه ؛ لما ثبت من أنّ الأمر حقيقة في الوجوب ، وما وجب الانتهاء عنه حرم فعله*.

___________________________________

وهو معنى كونه للتحريم.

وفيه : تسليم النتيجة مع المقدّمتين وعدم جدواه في إثبات المدّعى ، فإنّ الكلام إنّما هو في الصيغة والدليل جار في موضع انعقاد النهي ، فلم يلزم منه كونها بحسب الدلالة الوضعيّة موجبة لانعقاده كما لا يخفى.

وأورد عليه أيضا : بأنّ أقصى ما يثبت بذلك حمل النواهي الشرعيّة على التحريم وهو أعم من وضعها له شرعا فضلا عن الوضع له لغة ، ويظهر ضعفه بأدنى تأمّل فإنّ نظر المستدلّ في المقدّمة الاولى إلى دعوى كون فاعل المنهيّ عنه عاصيا في نظر العرف وهو كاشف عن الوضع لما يوجب استحقاق العقاب وهو التحريم.

ومنها : ما حكاه في المفاتيح والهداية من أنّ الأمر للوجوب فيلزم أن يكون النهي للتحريم لعدم القول بالفصل.

وفيه : أنّ عدم القول بالفصل ما لا يعبأ به في اللغات وإن أفاد الظنّ ، فإنّ مطلق الظنّ غير ثابت الحجّيّة فيها وإن اشتهر القول به فيما بينهم.

ومنها : ما اعتمد عليه في المنية أيضا وحكاه في الهداية عن غير واحد من العامّة من أنّ الصحابة تمسّكوا في تحريم أشياء بمجرّد النهي عنها ولم يخالف منهم أحد فكان إجماعا وإجماعهم حجّة.

وفيه : أنّ حجّيّة الإجماع من باب التعبّد كما عليه طريقة العامّة غير ثابتة في اللغات ومن باب الكشف غير نافعة فيها ، والكلام في حكاية الظنّ كما تقدّم.

نعم لو قرّر الاحتجاج بذلك بأنّ تمسّكهم بها ممّا يكشف عن فهمهم التحريم وهم من أهل اللسان فكان فهمهم حجّة كاشفا عن الوضع كان له وجه ، نظرا إلى أنّ التبادر قد يكون كشفيّا غايته افتقاره إلى ضمّ أصل إليه لنفي الاحتمال كما في التبادرات الوجدانيّة.

وقد يورد عليه أيضا بما لا وقع له من أنّ [ ذلك ] ممّا لم يوجد في كلام من يوثق به عندنا ، ومن الأفاضل من جعل الاولى في الجواب عن ذلك أن يقال : إنّ أقصى ما يفيده ذلك ظهور النهي في التحريم وهو أعمّ من وضعه له ، ويظهر دفعه بما أشرنا إليه.

* حكي الاستدلال به بعبارات متقاربة عن جماعة كالنهاية والمبادئ والمعراج ، كما وجدناه

ص: 492

وما يقال : من أن هذا مختصّ بمناهي الرسول صلى اللّه عليه وآله ، وموضع النزاع هو الأعمّ ؛ فيمكن الجواب عنه : بأنّ تحريم ما نهى عنه الرسول صلى اللّه عليه وآله ، يدلّ بالفحوى على تحريم ما نهى اللّه تعالى عنه. مع ما في احتمال الفصل من البعد ، هذا. واستعمال النهي في الكراهة شايع في أخبارنا المرويّة عن الأئمّة عليهم السلام ، على نحو ما قلناه في الأمر *.

___________________________________

أيضا كذلك في التهذيب والمنية والزبدة والوافية وشرح المنهاج ، وقد يقال في تقريب الاستدلال : إنّ الانتهاء عن الشيء هو تركه والاجتناب عنه ، ووجوب الاجتناب عن الفعل ولزوم تركه إنّما هو مفاد الحرمة.

والجواب عنه : يظهر بالتأمّل فيما قدّمنا الإشارة إليه في دفع الاحتجاج بما تقدّم من البرهان ، فإنّ أقصى مفاد الآية بتقريب ما ذكر في توجيه الاستدلال أنّ المنهيّ عنه محرّم يجب الاجتناب عنه ، وهو مسلّم ولا يلزم منه ثبوت المطلوب ، إذ كون ما ورد فيه الصيغة المتنازع فيها هنا مجرّدة عن القرائن منهيّا عنه ، أوّل الدعوى (1) فلعلّها بمجردها لا تفيد النهي اللازم للتحريم ليجري فيه الآية ، وكون الصيغة ممّا يصدق عليه النهي قد عرفت منعه.

وأورد عليه أيضا - مضافا إلى ما أشار إليه المصنّف ودفعه بوجوه اخر تعرّض لذكرها بعض الأفاضل مع أجوبتها ومن يطلبها فليراجع كلامه في الهداية.

* وقضيّة العبارة كون النهي عنده كالأمر من المجازات الراجحة المساوي احتمالها لاحتمال الحقيقة ، فيندرج بذلك حينئذ في عنوان المجازات حيثما ورد مطلقا.

ولا يذهب عليك أنّ الأجوبة الّتي ذكروها في منع هذه الدعوى ثمّة جارية هنا ، وهي على ما تعرّض لذكره في المفاتيح امور :

ص: 493


1- ومحصّل هذا الكلام : أنّ الآية الشريفة لا تجدي نفعا إلاّ في إحراز كبرى كلّية وهي وجوب الانتهاء عن كلّ ما يصدق عليه النهي ، وظاهر أنّ مجرّد الكبرى لا يكفي في ثبوت النتيجة ، بل لا بدّ معها من انضمام صغرى مشتملة على موضوع وهو صيغة « لا تفعل » ومحمول وهو النهي ، بأن يقال : صيغة « لا تفعل » نهي ، وكلّ نهي يجب الانتهاء فيه ، فصيغة « لا تفعل » يجب الانتهاء [ فيه ] وهذه الصغرى ممّا لا تكاد تحصل ، لأنّ النهي ما أخذ في مفهومه التحريم والصيغة مشكوك حالها من هذه الجهة ، وهذا الشكّ يوجب الشكّ في الصدق وكونها من مصاديق النهي ومعه لا يمكن حمل النهي عليها ، فإذا تعذّرت الصغرى خرجت الكبرى الكلّيّة غير نافعة في إثبات المطلب ، فليتدبّر إن شاء اللّه. ( منه عفي عنه ).

ما هو المطلوب بالنهي؟

أصل

واختلفوا في أنّ المطلوب بالنهي ما هو*؟

___________________________________

منها : أنّ شيوع الاستعمال في الكراهة مع القرينة لا يستلزم تساوي الاحتمالين في المجرّد عن القرينة.

نعم إن ثبت شيوع الاستعمال بدون القرينة المقارنة بأن يكون استعمالهم فيه مطلقا وعلم بدليل منفصل أنّ مرادهم كان هو الندب فلا يبعد ما ذكر ، وكأنّ مراده هذا لكن إثبات مثل هذا الشيوع لا يخلو عن إشكال.

ومنها : أنّ الاطّلاع على مثل هذا الشيوع إنّما حصل بملاحظة الأخبار الكثيرة الواردة عنهم عليهم السلام ، وأمّا كلّ واحد من الرواة لم يكن مثلهم في الاطّلاع على الغلبة الناشئة عن تلفيق جميع الأخبار وضمّ بعضها مع بعض ، فكان اللازم عنده الحمل على الحقيقة ، والمعتبر فهم الراوي لأنّه المخاطب دون غيره.

ومنها : المنع من أنّ الغلبة تمنع من الحمل على الحقيقة ، فإنّ تخصيص العمومات قد شاع حتّى اشتهر « ما من عامّ إلاّ وقد خصّ » مع اتّفاق العلماء على وجوب حمل اللفظ على الحقيقة ، وفيه ما لا يخفى من الفساد.

ومنها : أنّ حمل أكثر الأخبار على المجاز لا يستلزم أكثريّته في عرف الأئمّة عليهم السلام ، فإنّ الحمل فيها عليه قد يكون باعتبار قيام القرينة على أنّه المراد ، وقد يكون باعتبار قصور الرواية عن الحجّيّة فيحمل عليه لأنّ التأويل أولى من الطرح ، وهذا لا يستلزم المجاز في الواقع.

فبالجملة الغلبة غير مسلّمة ، وعلى فرض الظنّ بها يتّجه المنع إلى أنّ الغلبة الظنّيّة [ لا ] تعارض أصالة الحقيقة.

ومنها : اتّفاق أصحابنا المتقدّمين والمتأخّرين على عدم الفرق بين النبيّ صلى اللّه عليه وآله في الأخبار المرويّة عنه صلى اللّه عليه وآله وبين الأئمّة عليهم السلام في الأخبار المرويّة عنهم في وجوب الحمل على الحقيقة.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ النهي الوارد عقيب الإيجاب كالأمر الوارد عقيب التحريم ، فكما أنّه بملاحظة المقام لمجرّد رفع المنع عن الفعل الملازم للاباحة بمعناها الأعمّ ، فكذلك النهي فإنّه لا يفيد سوى رفع المنع عن الترك الّذي هو أعمّ من التحريم ، فلا يعلم التحريم إلاّ مع القرينة الرافعة لأثر تلك القرينة كما يشهد به ملاحظة العرف وعليه غير واحد من أصحابنا.

* قد تبيّن فيما تقدّم أنّ النهي مادّة وصيغة متضمّن للطلب ، وظاهر أنّ الطلب لا بدّ له

ص: 494

فذهب الأكثرون إلى أنّه هو الكف عن الفعل المنهيّ عنه* ، ومنهم العلاّمة رحمه اللّه في تهذيبه.

___________________________________

من متعلّق مسبوق تصوّره بحدوث الطلب وتعلّقه به ، وهو في لحاظ الطالب كما يمكن أن يكون أمرا عدميّا وهو مجرّد عدم الفعل الّذي يعبّر عنه في الترجمة الفارسيّة ب- « نكردن » فكذلك يمكن أن يكون أمرا وجوديّا وهو الكفّ الّذي يعبّر عنه في الترجمة الفارسيّة ب- « باز داشتن خود از كردن » فوقع الخلاف عندهم في أنّ ما اعتبره الطالب عنوانا في طلبه ومتعلّقا له هل هو المفهوم الأوّل فيكون المطلوب بالنهي نفس أن لا تفعل ، أو المفهوم الثاني فيكون المطلوب به الكفّ؟

ومن البيّن أنّ هذا الخلاف ليس راجعا إلى ما يقتضيه الوضع اللغوي أو العرفي ، إذ لا يستريب أحد في أنّ مقتضى الوضع اللغوي والعرفي في مثل : « لا تزن » ونحوه ليس إلاّ طلب الترك ومنع إدخال الماهيّة في الوجود ، لوضوح أنّ الفعل باعتبار الوضع المادّي لا يدلّ إلاّ على الماهيّة والأداة الداخلة عليه لا تقضي إلاّ بنفي تلك الماهيّة ، والصيغة المركّبة من الداخل والمدخول باعتبار وضعها النوعي للإنشاء لا تفيد إلاّ طلب نفي الماهيّة الّذي هو مجموع مدلولي الداخل والمدخول ، وإنّما الخلاف في أنّه هل هناك قرينة من العقل قضت بصرف اللفظ عمّا هو ظاهر فيه عن طلب نفي الفعل الّذي هو أمر عدمي إلى طلب غيره ممّا يكون وجوديّا أو لا؟ كما يفصح عن ذلك احتجاج أهل القول بمطلوبيّة الكفّ ، فإنّه على ما يأتي احتجاج بما يكون من قبيل القرائن العقليّة المقامة لصرف اللفظ عن ظاهره ، نظير احتجاج أهل القول بكون متعلّق الأحكام هو الأفراد بما يكون قرينة صارفة للخطاب عن ظاهره من تعلّق الأحكام بالطبائع بحسب الوضع.

* وعن الأشاعرة أنّ المطلوب بالنهي فعل ضدّ المنهيّ عنه ، وربّما ينزّل فعل الضدّ هنا إلى إرادة الكفّ كما صنعه السيّد في المنية في تطبيق قول العلاّمة في التهذيب بالكفّ على ما حكاه عن الأشاعرة ، وكأنّه مبنيّ على حمل « الضدّ » هنا على الضدّ العامّ بأحد تفسيريه المتقدّم في بحث الضدّ ، وهو الّذي يقتضيه ما استظهره بعض الأعاظم عن المعظم من انحصار القول هنا في الترك والكفّ ، حاكيا عن بعض المحقّقين نفي البعد عن ادّعاء الإجماع المركّب على أنّ متعلّق التكليف في النهي إمّا العدم على رأي من رآه مقدورا ، أو الكفّ على رأي من لا يراه كذلك ، بل عن العبري نفي القول بغيرهما مستظهرا له عن المازندراني أيضا.

ص: 495

وقال في النهاية : المطلوب بالنهي نفس أن لا تفعل. وحكى : أنّه قول جماعة كثيرة *. وهذا هو الأقوى.

___________________________________

ونقل عن ثاني الشهيدين أنّه قال : إنّ المطلوب بالنهي إنّما هو فعل ضدّ المنهيّ عنه ، فإذا قال : « لا تتحرّك » فمعناه اسكن ، لا التكليف بعدم الحركة لأنّ العدم غير مقدور عليه ، بل عن الغيث الهامع (1) أنّه عدّه من الأقوال بل عنه أنّه حكى ذلك عن الجمهور ، فعلى هذا يكون الأقوال في المسألة ثلاثيّة.

* حكاه في المختصر عن أبي هاشم وكثير من الاصوليّين وعليه كافّة أصحابنا المتأخّرين.

وقيل : الفرق بين أن لا تفعل وبين الكفّ عن الفعل أنّ الأوّل يقارن الثاني قطعا ، بخلاف الثاني فإنّه لا يلزم أن يقارن الأوّل لجواز أن لا يفعل ولا يخطر بباله الكفّ.

وكيف كان فاضطربت عباراتهم في تفسير الكفّ ، فالمستفاد من بعض الأعلام هنا وفي بحث الضدّ أنّ المراد به ما يدخل في مفهومه الزجر والإكراه.

ويستفاد ذلك من غيره أيضا كما يستفاد عن محكيّ الفاضل الشيرازي في المفاتيح.

وقضيّة ذلك إمّا القول بعدم شمول النواهي لمن لا يتحقّق منه الكفّ بهذا المعنى كمن لا شوق له ولا ميل نفساني إلى فعل المنهيّ عنه ، فتكون النواهي كالأوامر المشروطة مشروطة على معنى اختصاصها بواجدي الشرط المذكور ، أو القول بأنّ النهي وإن كان مطلقا متناولا لجميع آحاد المكلّفين غير أنّه لو صادف الفاقد للشرط المذكور يجب عليه من باب المقدّمة تحصيله بالنظر في دواعي الشوق والأسباب المورثة للميل النفساني من تلذّذ وحظّ نفس أو انتفاع وكسب مال أو تشفّي قلب ، أو نحو ذلك ممّا يدعو الإنسان إلى الوقوع في المحرّمات ليتمكّن به عن الكفّ المطلوب منه حتما ، كما هو الحال في الأوامر بالنسبة إلى المقدّمات الوجوديّة لو صادفت من كان فاقدا لها حال التكليف.

وأنت خبير بما في كلّ من الوجهين من الوهن الفاحش ، لوروده على خلاف ضرورة العقل وسيرة العقلاء بل قاطبة الناس في جميع الامم وكافّة الأعصار والأمصار ، مع أنّ من الضروري توجّه التكليف بالنواهي إلى الأنبياء والأولياء والأئمّة المعصومين عليهم السلام ومن الممتنع

ص: 496


1- قال في الذريعة ج 16 ، ص 85 : « الغيث الهامع في ذكر أدباء الاقليم الرابع » من ديار العجم والبحرين والحجاز ومصر والعراق والشام - للشيخ على الحويزى ، م 1053 توجد في برلن كما في فهرستها ج 6 ، ص 471 الخ - الحاكي هو الكلباسي صاحب إشارات الاصول ص 100.

بحكم العصمة أو العادة حصول الشرط في حقّهم ، فينبغي أن لا يكون لهم تكليف في ذلك بشيء من الوجهين ولا نظنّ أحدا يلتزم بذلك ، مع أنّ في غيرهم أيضا من آحاد المكلّفين من لا يتأتّى له ذلك الشرط أبدا حيثما لم يتحقّق له شيء من الدواعي الموجبة للوقوع في المحرّم لعدم غرض له في ذلك أصلا مع تمكّنه عن الفعل باجتماع شرائطه الوجوديّة بأسرها في حقّه ، فينبغي أن لا يكون له تكليف في ذلك أصلا ، فحينئذ لو فرض أنّه فعله وأتى به من غير غرض له في ذلك يلزم أن لا يكون فاعلا للمحرّم وأن لا يستحقّ العقاب بذلك لأنّه من فروع التكليف والمفروض انتفاؤه ، وهو كما ترى بل هو ممّا لا يتفوّه به جاهل فضلا عن العالم ، فحمل كلام أهل القول باعتبار الكفّ على إرادة هذا المعنى ممّا لا ينبغي.

ومن الأفاضل من ذكر في توجيهه : وأنّ المراد بالكفّ هو الميل عن الفعل والانصراف عنه إلى الترك عند تصوّر الطرفين ، سواء حصل له الرغبة إلى الفعل أو لا ، فإنّ العاقل إذا تصوّر الفعل والترك لا بدّ له من ميله إلى أحد الجانبين ، فالمراد بالكفّ هو ميله إلى جانب الترك ، ويجعل متعلّق الطلب الحاصل في النهي هو ذلك الميل ، نظرا إلى ما توهّم من عدم قابليّة نفس الترك لأن يتعلّق به الطلب بخلاف الإيجاد إذ لا مانع من تعلّق الطلب به فيكون الميل المذكور بالقياس إليه من جملة المقدّمات ، وحينئذ فلا فرق بين القولين المذكورين إلاّ بالاعتبار ، حيث يقول القائل بتعلق الطلب بالكفّ كون المكلّف به هو ميل النفس عن الفعل وانصرافه عنه ، ويقول القائل بتعلّقه بالترك كون المكلّف به نفس الترك المسبّب من ذلك الميل المتفرّع عليه (1).

وهذا كما ترى وإن كان أقلّ محذورا من التوجيه الأوّل غير أنّه خلاف ما يظهر عن أهل القول باعتبار الكفّ من تعبيرهم عنه في بعض عباراتهم بالفعل الظاهر فيما كان محلّه الجوارح.

وإن شئت فلاحظ عبارة الحاجبي الّذي هو منهم في عنوان تلك المسألة من قوله : « لا تكليف إلاّ بفعل فالمكلّف به في النهي كفّ النفس عن الفعل ». وعن أبي هاشم وكثير نفي الفعل.

واحتمال إرادة الأمر الوجوديّ من الفعل المتناول لمثل الميل والإرادة النفسانيّة بعيد عن الظاهر.

بل الأقرب في النظر القاصر حمل « الكفّ » في كلامهم على إمساك الجوارح عن الإتيان بالمنهيّ عنه فيشمله الفعل ، ضرورة كون الإمساك محلّه الجوارح وإن كان منشؤه الميل والإرادة

ص: 497


1- هداية المسترشدين 3 : 18.

لنا : أنّ تارك المنهيّ عنه كالزنا ، مثلا ، يعدّ في العرف ممتثلا ، ويمدحه العقلاء على انّه لم يفعل ، من دون نظر إلى تحقّق الكفّ عنه ، بل لا يكاد يخطر الكفّ ببال أكثرهم*. وذلك دليل على أنّ متعلّق التكليف ليس هو الكفّ ، وإلاّ لم يصدق الامتثال ، ولا يحسن المدح على مجرّد الترك.

___________________________________

كسائر الأفعال الناشئة عن الجوارح ، وهذا كما ترى معنى أخصّ من الترك ومبائن للميل إليه.

أمّا الأوّل : فلأنّ الترك كثيرا مّا يحصل مع الذهول عن الفعل أو مع عدم التمكّن منه بانتفاء بعض شروط وقوعه أو مقارنة بعض موانعه ، بخلاف الإمساك فإنّه ما لا يتأتّى إلاّ وهو مسبوق بالالتفات إلى الفعل وتصوّره مع التمكّن منه حصل معه الشوق والميل النفساني إليه أو لا.

وأمّا الثاني : فلتأخّر رتبة الإمساك عن الميل إلى الترك ، فإنّ الترك في الحقيقة مترتّب على إمساك الجوارح عن الفعل وهو مترتّب حيثما يتحقّق على ميل الترك ، فالجزء الأخير من علّة الترك إنّما هو الإمساك ، كما أنّ الجزء الأخير من علّة الفعل عند التحقيق حمل الجوارح على الفعل وهو إيجاد الماهيّة في الخارج وإدخالها في الوجود ، فيرجع محصّل الخلاف بين الفريقين إلى أنّ متعلّق الطلب في النهي هل هو نفس الترك الّذي هوعدم صرف أومنشؤه الّذي هو الإمساك عن الفعل؟

وإلى ذلك ينظر ما قيل : من أنّ المذهبين متقاربان.

لا يقال : فيلزم من ذلك عود ذلك الخلاف لفظيّا ، لرجوع دعوى أهل القول بمطلوبيّة الترك إلى جعل المطلوب بالنهي إمساك الجوارح عن الفعل كما يشهد به ما ذكروه - في دفع توهّم أنّ العدم نفي محض فلا يصلح أثرا للقدرة ليتعلّق به التكليف - من أنّ أثر القدرة إنّما هو استمرار العدم وإبقاؤه كما يشير إليه المصنّف أيضا فيما بعد ذلك ، فإنّ إبقاء العدم واستمراره على وجه يرجع إلى كونه أثرا للقدرة لا يعقل له معنى محصّل إلاّ الإمساك المذكور.

لأنّا نقول : إنّ غرضهم بذلك إحراز ما يصحّ معه تعلّق التكليف بالعدم المفروض ، كما يفصح عنه التعليل في كلامهم بأنّ المقدور بالواسطة مقدور ، لا أنّهم أرادوا بذلك جعل نفس الاستمرار والإبقاء مطلوبا ليتّحد المذهبان أو يوافقا في دعوى تعلّق الطلب بالأمر الوجودي دون العدمي الصرف.

* وهذه الحجّة حسبما عثرنا عليه مذكورة في كلام كلّ من جعل المطلوب في النهي

ص: 498

مجرّد الترك ، وكأنّها مبنيّة على توهّم اعتبار الزجر والإكراه في مفهوم الكفّ المسبوقين على تحقّق الشوق والميل النفساني إلى الفعل ، نظرا إلى أنّ صدق الامتثال ولحوق مدح العقلاء إنّما يتأتّى من دون نظر منهم إلى أنّ هذا الترك هل سبقه الشوق والميل إلى الفعل ليقارنه الكفّ بهذا المعنى أو لا؟ فلو كان التكليف قد تعلّق بالكفّ بهذا المعنى لتوقّفوا في توجيه المدح والحكم بالامتثال على إحراز سبق الشوق والميل والتالي باطل.

وإلاّ فعلى ما وجّهنا الكفّ به يشكل التعلّق بها في إثبات المطلوب وإلزام الخصم ، وذلك لأنّ الامتثال ما لا يتأتّى صدقه كما أنّ المدح ممّا لا يلحقه إلاّ في موضع التكليف ، وظاهر أنّ التكليف ما لا يثبت إلاّ مع تفطّن المكلّف وتمكّنه عن الفعل المنهيّ باجتماع الشرائط ورفع الموانع ضرورة امتناع تكليف الغافل والغير المتمكّن.

ولا ريب أنّ الترك المتحقّق في موضع التمكّن والتفطّن متلازم الوجود مع الكفّ بمعنى إمساك الجوارح ، وإن لم يتحقّق معه الزجر والإكراه المتفرّعين على الشوق والميل إلى الفعل ، فلم يظهر منهم أنّ هذا المدح والحكم بالامتثال مستند إلى مجرّد الترك من غير نظر إلى ما قارنه من الكفّ ، بل ملاحظتهم [ الترك ] في [ موضع ] تحقّق التمكّن والتفطّن - لاعتبار هذين الأمرين - في معنى ملاحظة كون هذا الترك حاصلا عن إمساك لا لمجرّد عدم الدخول في الوجود كما هو مفاد الترك المجرّد عن الكفّ ، فللخصم أن يقول حينئذ : إنّ صدق الامتثال ولحوق المدح إنّما هو من جهة ما قارن الترك من الإمساك وهذا هو المراد بالكفّ.

نعم على تقدير كون المراد بالكفّ ما يدخل فيه الزجر والإكراه المتأخّرين عن الشوق والميل إلى الفعل اتّجه الوجه المذكور بتقريب ما قرّرناه ، غير أنّه قد عرفت الإشكال في حمله على هذا المعنى.

والأولى في الاحتجاج أن يقال : بأنّ المقتضي لتعلّق الطلب بالترك موجود والمانع عنه مفقود فيجب القول به.

أمّا الأوّل : فلوجهين :

أحدهما : الاعتبار الناشئ عن قضاء الوجدان ، فإنّ الطلب في جميع موارد ثبوته تابع للرجحان ومتفرّع عليه ، وهو وصف إضافيّ يلاحظ فيما بين طرفيه الراجح والمرجوح ، ونحن نجد من أنفسنا أنّ الّذي يلاحظه المولى ويتصوّره لاعتبار الرجحان فيه من الطرفين وإحراز كون أحدهما راجحا والآخر مرجوحا إنّما هو مجرّد الفعل والترك اللذين يعبّر

ص: 499

عنهما في الفارسيّة : ب- « كردن ونكردن » من غير نظر منه إلى ما يقارنه ذلك الترك من الامور الوجوديّة ولا الامور العدميّة ، فإذا ثبت في نظره أنّ الراجح هو جانب الفعل كان ذلك مقتضيا لصحّة أن يطلبه إلاّ ما قام فيه مانع يمنعه عن ذلك من غفلة أو عدم تمكّن أو نحو ذلك ، وإذا ثبت عنده أنّ الراجح هو جانب الترك كان ذلك مقتضيا للطلب أيضا إلاّ أن يمنعه مانع من غفلة أو عدم تمكّن ، فالمقتضي لطلب الترك إذا كان راجحا موجودا في جميع صوره حتّى ما يحصل منه عن الغافل أو الغير المتمكّن عن الفعل غير أنّه قام المانع بالنسبة إليهما وأخرجهما عن موضوع الطلب.

وأمّا الباقي وهو التارك عن كفّ وإمساك بسبب تفطّنه وتمكّنه عن الفعل فخروجه عن موضوع ذلك - وعدم كونه من حيث إنّه تارك مطلوبا منه ، وعدم كون مجرّد الترك القائم به الّذي هو عبارة عن مجرّد عدم الفعل متعلّقا للطلب مع وجود مقتضى تعلّقه به لما هو المفروض من أنّه الراجح في نظر المولى - مبنيّ على قيام المانع أيضا وستعرف منعه.

وثانيهما : قضاء ظاهر اللفظ حسبما يقتضيه ما فيه من الأوضاع الشخصيّة والنوعيّة الإفراديّة والتركيبيّة ، فإنّ الطلب في مثل : « لا تفعل » و « لا تزن » إنّما هو مفاد لتلك الصيغة والهيئة التركيبيّة فيما بين الفعل والأداة.

وظاهر أنّ مدلول الصيغة على حسب ظاهر اللفظ إنّما يتعلّق بمدلول المادّة ، ولمّا كانت المادّة مركّبة من أداة النفي والفعل باعتبار وضعه المادّي كان المجموع من مدلوليهما مجرّد نفي الماهيّة وكان ذلك هو المطلوب ، إلاّ أن يقوم هناك صارف عمّا يقتضيه اللفظ بظاهره وستعرف منعه.

مع أنّ الكفّ بأيّ معنى يراد لو فرض متعلّقا للطلب - بعد الإغماض عن أنّه يوجب انقلاب مفاد أداة النفي ايجابا وهو خلاف وضعها الإفرادي الثابت لها - لا بدّ له من معبّر في الكلام وهو لكونه معنى إسميّا لا يصلح له الأداة لا بعنوان الحقيقة ولا بعنوان المجاز.

أمّا الأوّل : فلانتفاء الوضع.

وأمّا الثاني : فلانتفاء الرخصة.

والمفروض أنّه لا يصلح له الفعل باعتبار المادّة أيضا ، لأنّه لا يفيد بهذا الاعتبار أزيد من الماهيّة الّتي يعتبر الكفّ بالنسبة إليها ، ولا الهيئة التركيبيّة أيضا لقصورها عن إفادة ما زاد على الطلب ، كما هو الحال في كلّ صيغة موضوعة للطلب ، نظرا إلى أنّها لا تفيد إلاّ طلبا متعلّقا

ص: 500

على نحو يخرج المتعلّق عن مفادها ، فيبقى الكفّ الّذي هو العمدة في المقام بلا معبّر في الكلام.

ولو قيل : إنّه يراد من الفعل باعتبار المادّة من باب ذكر المسبّب وإرادة السبب نظير ما في قولك : « أحرق » في موضع إرادة إلقاء الخشبة في النار.

ففيه : مع أنّه مجاز لا يصار إليه إلاّ مع صارف غير قائم في المقام لما ستعرف ، أنّه يوجب خروج الأداة المأخوذة في هذا التركيب ملغاة كما لا يخفى على المتأمّل ، وإلاّ كان مفادها نفي الكفّ وهو يضادّ غرض الخصم وهو كما ترى خلاف ضرورة العرف واللغة.

ولو قيل : إنّ الكفّ إنّما يفهم في هذا التركيب من باب انفهام المداليل الالتزاميّة فلا يحتاج إلى معبّر ، حيث لا ملازمة بين ما كان من مفاد الخطاب وكونه ممّا له معبّر في الخطاب وإلاّ انتقض بالمداليل الالتزاميّة.

لقلنا : بأنّ انفهام الشيء من الخطاب التزاما لا بدّ فيه من لزوم لذلك الشيء وهو إمّا عرفيّ أو عقليّ ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلأنّ الخطاب لا ينساق منه في نظر العرف إلاّ نفي الفعل ، ولا يخطر ببالهم في متعلّق الطلب كونه الكفّ وإن كانوا يلاحظونه إحرازا للتكليف بالنسبة إلى متعلّقه وترتيبا لآثاره على ما تعلّق هو به ، فملاحظة الكفّ الحاصلة بملاحظة التفطّن والتمكّن ليست من جهة إحراز موضوع التكليف ولا من جهة إحراز مقتضيه ، بل من جهة إحراز فقد المانع عن توجّهه وتعلّقه الفعلي بموضوعه الّذي وجد فيه المقتضي وهو عدم الفعل الراجح في نظر المولى.

وأمّا الثاني : فلأنّ اللزوم العقلي إنّما يثبت لو استحال عقلا تعلّق الطلب بمجرّد عدم الفعل ونفيه وهو في حيّز المنع ، كما أشرنا إليه إجمالا عند تقرير الاحتجاج بقولنا : « والمانع مفقود ».

وتوضيح ذلك - بعد الفراغ عن إحراز وجود المقتضي - أن نقول : إنّ ما يتوهّم كونه مانعا في المقام عن تعلّق الطلب بمجرّد الترك هو أنّ الترك عدم صرف والعدم لا يصلح أثرا للقدرة ومن الممتنع تعلّق الطلب بغير المقدور.

وجوابه : أنّ الممتنع إنّما هو تعلّق الطلب بما لا يرجع بالأخرة إلى القدرة والاختيار ، والعدم بنفسه وإن كان ممّا لا يتعلّق به القدرة بنفسه غير أنّه حيثما قارنه الكفّ - بأيّ معنى يراد منه - [ يكون ] من آثار المقدور ولوازمه ، نظرا إلى أنّه كما قد يستند إلى غير المقدور من انتفاء شرط أو وجود مانع فكذلك قد يستند إلى الكفّ وهو مقدور بالذات ، فيكون بالأخرة راجعا إلى القدرة والاختيار ، فيصحّ بهذا الاعتبار عند العقل أن يتعلّق به الطلب من

ص: 501

احتجّوا : بأنّ النهي تكليف* ، ولا تكليف إلاّ بمقدور للمكلّف. ونفي الفعل يمتنع أن يكون مقدورا له ، لكونه عدما أصليّا ، والعدم الأصليّ سابق على القدرة وحاصل قبلها ، وتحصيل الحاصل محال.

والجواب : المنع من أنّه غير مقدور ، لأنّ نسبة القدرة إلى طرفي الوجود والعدم متساوية**. فلو لم يكن نفي الفعل مقدورا ، لم يكن إيجاده مقدورا ، إذ تأثير صفة القدرة في الوجود فقط ، وجوب ، لا قدرة.

___________________________________

جهة أنّ القدرة الّتي هي من الشرائط العقليّة للتكليف أعمّ ممّا يكون بواسطة كما في الأفعال التوليديّة ، فإذا جاز ذلك عقلا ودلّ الخطاب عليه بظاهره وجب الأخذ به.

ولا ينافيه ما جوّزناه في بحث المقدّمة من كون المأمور به في مثل الأمر بالإحراق هو الفعل المباشري وهو الإلقاء في النار ، لعدم كون ذلك لأجل عدم مقدوريّة نفس الإحراق الّذي هو فعل توليدي كما توهّم ، بل من جهة ما يقضي به الوجدان في هذا المورد من أنّ المولى لا يتصوّر فيه إلاّ الإلقاء وإن عبّر عنه بالإحراق ، فكان مطلوبه هو الإلقاء دون ما يتولّد منه ، بخلاف المقام الّذي قد عرفت فيه أنّ الوجدان ممّا يقضي بخلاف ما ذكر بالتقريب المتقدّم ، فليتدبّر إن شاء اللّه.

* لأصحاب القول بأنّ المطلوب بالنهي هو الكفّ لا مجرّد أن لا تفعل حجّتان :

إحداهما : ما أشار إليه المصنّف وهو الّذي اعتمد عليه غير واحد منهم ، ومحصّله : أنّ التكليف الّذي منه النهي لا يتعلّق إلاّ بالمقدور لما قرّر من أنّ القدرة شرط للتكليف ، ونفي الفعل عدم أصلي والعدم الأصلي سابق على القدرة حاصل قبلها فلا يكون مقدورا ، فلا يتعلّق به التكليف وإلاّ لزم تحصيل الحاصل وهو محال ، وهذا بعينه حجّة للقول الثالث الّذي تقدّم الإشارة إليه على ما حكاه بعض الأعاظم.

وثانيتهما : ما حكي الإشارة إليه عن الفاضل الجواد وعن غاية المأمول أيضا من أنّ امتثال النهي وترتّب الثواب عليه لا يترتّب على عدم الفعل فقط من دون ملاحظة الكفّ ، فإنّا نعلم أنّ من لم يزن ولم يسرق ولم يشرب الخمر في مدّة عمره وهو لم يقصد الكفّ عن هذه الأشياء لا يكون مثابا.

** لا يخفى ما في هذا الجواب من ابتنائه على المكابرة ، فإنّ عدم مقدوريّة العدم بما

ص: 502

فان قيل : لا بدّ للقدرة من أثر عقلا ، والعدم لا يصلح أثرا ، لأنّه نفي محض. وأيضا فالأثر لا بدّ أن يستند إلى المؤثّر ويتجدّد ، والعدم سابق مستمرّ ، فلا يصلح أثرا للقدرة المتأخرة.

قلنا : العدم إنّما يجعل أثرا للقدرة باعتبار استمراره. وعدم الصلاحية بهذا الاعتبار في حيّز المنع ؛ وذلك لأنّ القادر يمكنه أن لا يفعل فيستمرّ ، وأن يفعل فلا يستمرّ. فأثر القدرة إنّما هو الاستمرار المقارن لها ، وهو مستند إليها ، ومتجدّد بها.

___________________________________

هو هو ممّا لا يمكن الاسترابة فيه كما أنّ عدم مقدوريّة الوجود بما هو هو أيضا كذلك ، فإنّ المقدور في الثاني إنّما هو الإيجاد بحمل الجوارح على الفعل ، فيكون المقدور في الأوّل هو الامتناع عن الإيجاد بإمساك الجوارح عن الفعل.

فالأولى في الجواب ما أشرنا إليه من منع اقتضاء مثل هذا النوع من عدم المقدوريّة امتناع تعلّق التكليف به بعد ما كان منشؤه وهو الكفّ بمعنى الإمساك مقدورا ، فإنّ الحاكم باشتراط التكليف بالقدرة هو العقل ، وهو كما يحكم بأصل الاشتراط فكذا يحكم بكفاية المقدوريّة بالواسطة في تحقّق ذلك الشرط ، ومعه لا داعي إلى اعتبار أمر زائد.

ثمّ لا يخفى أنّ في التقرير المتقدّم للاحتجاج الأوّل نوع تشويش ، من جهة أنّ سوق الاحتجاج يقتضي كون انتفاء التكليف عن نفي الفعل من جهة انتفاء القدرة بضابطة استلزام انتفاء الشرط انتفاء المشروط كما هو المصرّح به في كلام جماعة منهم الحاجبي.

والجواب الّذي ذكره المصنّف مع ما أشرنا إليه مبنيّ على هذا المعنى ، ولكن ذيل الحجّة يقتضي كون الموجب لانتفاء التكليف عن نفي الفعل لزوم تحصيل الحاصل من جهة سبق العدم الأصلي على القدرة ، وظاهر أنّ اللاحق لا يصلح مؤثّرا في السابق إلاّ على تقدير إعادته وهو محال ، فجوابه على هذا التقدير منع كون المطلوب عندنا العدم السابق على القدرة المعتبرة حال التكليف ليكون طلبا للحاصل ويفضي إلى تحصيل الحاصل ، بل المطلوب حينئذ هو العدم المقارن لحال التكليف وهو مقارن للقدرة ولو بالقياس إلى ما يستند ذلك العدم إليه من الكفّ بمعنى الإمساك ، فلا يلزم من إلزام تحصيل العدم المقارن

ص: 503

لحال التكليف - بالقدرة على ما هو مستند إليه - طلب للحاصل ، ولا من تحصيله تحصيل للحاصل ليكون منشأ للإشكال.

وأمّا الجواب عن الحجّة الثانية : بأنّ عدم ترتّب الثواب على ترك لم يقصد معه الكفّ بمعنى الإمساك مسلّم من حيث إنّ الثواب من لوازم الإطاعة ، وهو غير قاصد لها في الفرض المذكور ، ولكن لا يلزم منه كون متعلّق الطلب هو الكفّ بنفسه ولا عدم حصول الامتثال بالترك الّتي تحقّق من دون قصد إلى الكفّ ، نظرا إلى أنّ النواهي حكمها حكم الأوامر التوصّليّة الّتي يقصد بها حصول المأمور به في الخارج كيفما اتّفق ، فالمقصود بالنهي ليس إلاّ مجرّد التجنّب عن المنهيّ عنه وعدم إدخاله في الوجود كيفما اتّفق ، فلذا يحصل الامتثال لو تركه رياء.

ولا ريب أنّ عدم قصد الكفّ ما لم يكن غافلا عن أصل التكليف أو المكلّف به مع عدم تمكّنه عن الفعل لا يوجب عدم الامتثال وإن كان يوجب عدم ترتّب الثواب.

ويبقى في المقام فوائد لا بأس بالإشارة إليها.

فوائد

الاولى

قد عرفت في ذيل بحث الضدّ عن غير واحد حكاية اختلاف الاصوليّين في اقتضاء النهي عن الشيء للأمر بضدّه وعدمه نحو اختلافهم في الأمر بالشيء ونحن قد ذكرنا ثمّة بعض الكلام في تحقيق ذلك ، ونزيدك هنا تحقيقا بأنّ النظر إن كان في الضدّ الخاصّ فالحقّ أنّه لا يدلّ على الأمر بالضدّ أصلا حتّى الالتزام لفظا أو معنى وقد تقدّم في دفع شبهة الكعبي ما يكفيك هنا ، وإن كان في الضدّ العامّ فإن اريد بالأمر به الناشئ عن قوله : « لا تزن » مثلا ما يكون مفاده مفاد : « اترك » على المختار في المطلوب بالنهي ، أو « اكفف » على القول الآخر فالحقّ أنّه يقتضيه على طريق العينيّة كما لا يخفى على المتأمّل ، غير أنّه يبقى المناقشة في تسمية ذلك أمرا والوجه ما مرّ ، وإن اريد ما عدا ذلك فهو غير معقول فضلا عن كونه مدلولا عليه بطريق العينيّة أو التضمّن أو الالتزام لفظا أو معنى.

نعم لو بنينا على المختار من كون المطلوب بالنهي نفس أن لا تفعل ، وأردنا من الضدّ العامّ للمنهيّ عنه الكفّ عنه بالمعنى المتقدّم كان النهي مقتضيا للأمر به تبعا من باب المقدّمة على حدّ اقتضاء طلب المسبّب لطلب السبب تبعا من باب المقدّمة ، ضرورة استناد حصول الترك بعنوان كونه مطلوبا إلى الكفّ بمعنى إمساك الجوارح ، ولكنّ الظاهر عدم كون كلامهم ناظرا إلى هذا المعنى كما لا يخفى.

ص: 504

الثانية

من الأعلام من استشكل في الفرق بين البحث في هذه المسألة وما تقدّم الإشارة إليه من اختلافهم في اقتضاء النهي عن الشيء للأمر بضدّه على حذو ما ذكروه في الأمر.

ثمّ قال : « وعلى القول بكون المطلوب هو الكفّ يتوجّه القول بالعينيّة هنا ويمكن الفرق بينهما بأنّ الكلام ثمّة كان في دلالة لفظ النهي على الأمر مع قطع النظر عن الأدلّة الخارجيّة مثل امتناع تعلّق التكليف بالعدم ونحوه بخلافه هاهنا ، وهو أيضا مشكل لعموم الكلام ثمّة أيضا » (1) انتهى.

وظاهر العبارة اختصاص الإشكال بما أشار إليه من قول الخصم فلا يتوجّه على القول المختار مع أنّ الظاهر عدم الفرق بينهما ، إذ كما يقال على مذهب الخصم أنّ النهي بقوله : « لا تزن » عين الأمر بقوله : « أكفف أو كفّ عن الزنا » فكذا يقال على المختار ، أنّ قولنا : « لا تزن » بحسب المعنى عين قولنا : « اترك الزنا » فالإشكال على فرض صحّته مشترك الورود.

وعلى أيّ حال كان فيدفعه : أنّ الكلام ثمّة لو كان في الضدّ الخاصّ فالفرق بينه وبين الكلام هاهنا في غاية الوضوح ، إذ الكلام ثمّة راجع إلى كبرى القياس وهو أنّ النهي هل يقتضي الأمر بالضدّ الخاصّ أو لا؟ وهاهنا راجع إلى صغرى هذا القياس وهو أنّ النهي على تقدير اقتضائه الأمر بالضدّ أو عدم اقتضائه هل المطلوب به الكفّ أو نفس أن لا تفعل؟

ولا ريب أنّ هذين القولين بكليهما يجامعان كلاّ من الأقوال المتقدّمة ثمّة من العينيّة والتضمّن والالتزام لفظا أو معنى.

ولو كان في الضدّ العامّ فيتّضح الفرق بينهما بأنّ الكلام ثمّة على تقدير القول بالعينيّة راجع إلى أصل الاقتضاء والدلالة من دون نظر إلى تعيين المدلول ، وهاهنا راجع إلى تعيين المدلول من حيث تردّده بين كونه طلبا للترك أو طلبا للكفّ ، وأمّا على تقدير القول بما عدا العينيّة من التضمّن أو الالتزام لو ثبت ثمّة وكان معقولا كان الفرق بينهما نظير ما قرّرناه في الضدّ الخاصّ من رجوع الكلام ثمّة إلى أمر كبروي على تقدير معقوليّة أصل الدلالة وهاهنا إلى أمر صغروي ، فليتأمّل.

الثالثة

ربّما يورد في المقام إشكال آخر تعرّض لذكره بعض الأعلام بقوله : « إنّه على القول

ص: 505


1- القوانين 1 : 138.

بكون المطلوب بالنهي هو الكفّ ، يؤول الأمر إلى النهي عن ضدّ الكفّ أيضا على القول بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه فيلزم الدور فتأمّل » (1).

ومحصّل الدور المتوهّم هنا حسبما يمكن تصوّره يستدعي استعلامه رسم مقدّمات ، وإن كان لا يساعد عليه ما قرّره في الحاشية لدفعه.

أوّلها : أنّ طلب الكفّ - على القول بكون المطلوب بالنهي هو الكفّ - أمر بالكفّ حسبما هو مأخوذ في حدّ الأمر.

وثانيتها : أنّ القول بكون المطلوب بالنهي هو الكفّ معناه أنّ النهي يقتضي مطلوبيّة الكفّ.

وثالثتها : أنّ الشيء إذا كان مقتضيا لشيء آخر كان ممّا يتوقّف عليه ذلك الشيء ، لأنّ المقتضى [ بالفتح ] في حصوله بهذا الوصف العنواني يتوقّف على المقتضي بالكسر ، إذ لولاه لما صدق عليه عنوان المقتضى بالفتح.

ورابعتها : أنّ الكفّ إذا كان مأمورا به بواسطة النهي فضدّه فعل المنهيّ عنه ، فحينئذ لو كان القائل بمطلوبيّة الكفّ في النهي من أهل القول باقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه يلزمه الدور في الجمع بين هذين القولين ، لأنّ النهي عن الزنا حينئذ مثلا يقتضي الأمر بالكفّ عن الزنا بحكم المقدّمة الاولى والثانية ، والأمر بالكفّ أيضا يقتضي النهي عن الزنا بحكم المقدّمة الرابعة مع انضمام القول المذكور إليها ، فينتج أنّ النهي عن الزنا يقتضي النهي عن الزنا وهو توقّف الشيء على نفسه بحكم المقدّمة الثالثة.

ويدفعه أوّلا : منع المقدّمة [ الثالثة ](2) فإنّ كون الاقتضاء من باب التوقّف على إطلاقه غير مسلّم ، بل هو كالاستلزام الّذي هو أعمّ من التوقّف من وجه.

ولا ريب أنّ المقتضي إن كان من قبيل الدليل كان ممّا يتوقّف عليه المقتضى ، بخلاف ما لو كان من قبيل المدلول فإنّه إذا اقتضى مدلولا آخر قد يكون اقتضاؤه من باب مجرّد المقارنة ، فصيغة النهي وإن كان ممّا يتوقّف عليه الأمر بالكفّ ولكنّ الأمر بالكفّ لا يتوقّف عليه النهي عن ضدّ الكفّ وإن اريد به فعل المنهيّ عنه ، بل إنّما هو يستلزمه على قياس ما هو الحال في الأمرين المتشاركين في العلّة أو اللازمين لملزوم واحد.

وثانيا : منع المقدّمة الرابعة ، فإنّ ضدّ الكفّ إنّما هو ترك الكفّ أو الكفّ عن الكفّ ، ودعوى

ص: 506


1- القوانين 1 : 138.
2- وفي الأصل « الثانية » بدل « الثالثة » وهو سهو من قلمه الشريف والصواب ما أثبتناه في المتن نظرا إلى السياق.

هل النهي يفيد الدوام والتكرار أم لا؟

أصل

قال السيّد المرتضى رضى اللّه عنه وجماعة منهم العلاّمة في أحد قوليه : « إنّ النهي كالأمر في عدم الدلالة على التكرار ، بل هو محتمل له وللمرّة » *.

___________________________________

كون ذلك عين فعل المنهيّ عنه غير مسموعة ، فالأمر بالكفّ الّذي يقتضيه النهي إنّما يقتضي النهي عن ترك الكفّ أو عن كفّه ، فيكون مفاده حينئذ طلب ترك ترك الكفّ ، أو طلب ترك الكفّ عن الكفّ على القول المختار ، وطلب الكفّ عن ترك الكفّ أو طلب الكفّ عن الكفّ عن الكفّ على القول الآخر ، فلا دور إذ النهي عن الزنا الّذي يتوقّف عليه الأمر بالكفّ ليس ممّا يقتضيه النهي عن ترك الكفّ أو النهي عن كفّ الكفّ الّذي كان يقتضيه الأمر بالكفّ.

وثالثا : منع النتيجة بعد تسليم المقدّمتين ، فإنّ الاقتضاء يستدعي المغايرة بين المقتضي والمقتضى ، كما أنّ التعدّد فيما بين الموقوف في كبرى القياس والموقوف عليه في صغراه ممّا يرفع التوقّف عمّا بينهما.

وظاهر أنّ المراد بالنهي في قولهم : « بكون المطلوب بالنهي هو الكفّ » إنّما هو صيغة النهي وما يؤدّي مؤدّاها ، كما أنّ المراد بالنهي في قولهم : « الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه » هو الطلب المتعلّق بالترك أو الكفّ على الخلاف في المسألة ، فحينئذ نقول : إنّ صيغة « لا تفعل » تقتضي الأمر بالكفّ ، والأمر بالكفّ يقتضي النهي عن ضدّ الكفّ على معنى طلب ترك ضدّ الكفّ على المختار ، أو طلب الكفّ عن ضدّ الكفّ على غيره ، وهو في شيء من المعنيين ليس بعين صيغة « لا تفعل » ولا مستلزما لها كما لا يخفى ، فلم يحصل النتيجة المتضمّنة للدور.

* والجمع بين السيّد والعلاّمة في هذا القول إنّما هو لمجرّد اشتراكهما في منع الدلالة على التكرار ، وإلاّ فظاهر العلاّمة في التهذيب نظرا إلى دليله الاشتراك المعنوي بين المرّة والتكرار ، ومحكيّ السيّد في الذريعة الاشتراك اللفظي بينهما لأصله المعروف من أصالة الاشتراك اللفظي فيما يستعمل في معنيين.

وكيف كان فالقول بمنع الدلالة على التكرار محكيّ عن جماعة كالسيّدين في الذريعة والغنية ، والشيخ والمحقّق والعلاّمة في التهذيب ، وفي المنية : قال به الأقلّ.

وقال قوم : بافادته الدوام والتكرار ، وهو القول الثاني للعلاّمة رحمه اللّه ، اختاره

ص: 507

وقال قوم : بافادته الدوام والتكرار ، وهو القول الثاني للعلاّمة رحمه اللّه ، اختاره في النهاية ، ناقلا له عن الأكثر * وإليه أذهب.

___________________________________

وعن الآمدي : ذهب إليه بعض الشاذّين ، وعن العضدي : قال به شذوذ.

ثمّ عن هؤلاء أنّهم افترقوا على مذاهب ثلاث :

أحدها : كونه محتملا للدفعة والدوام من باب الاشتراك المعنوي كما عرفته عن العلاّمة في التهذيب ، وربّما يحكى استفادته من المبادئ أيضا.

وثانيها : كونه محتملا لهما من جهة الاشتراك اللفظي كما عرفته عن السيّد المرتضى وعزي إلى السيّد ابن زهرة أيضا في الغنية.

وثالثها : كونه للدفعة خاصّة ، حكي التصريح لوجود هذا القول عن غاية المأمول في قوله : « إنّ القائلين بعدم الدوام منهم من ذهب إلى أنّه للمرّة فقط ، ومنهم من يجعله مشتركا بينها وبين التكرار بحيث يتوقّف العلم بأحدهما على دليل من خارج » ويلوح ذلك عن محكيّ عبارة الشيخ في العدّة وهو قوله : « الّذي يقوى في نفسي أنّ ظاهره يقتضي الامتناع مرّة واحدة وما زاد على ذلك يحتاج إلى دليل من إجماع وغيره » ويستفاد ذلك من بعض الأعلام أيضا.

* ومثله في دعوى الأكثريّة ما في المنية والزبدة ، وعن العدّة كونه مذهب أكثر المتكلّمين والفقهاء ، وعزى إلى المحقّقين أيضا كما عن العضدي ، بل عليه دعوى اتّفاق العقلاء كما عن الإحكام وعليه البهائي بل عن شارح زبدته الفاضل والوافية والإحكام والمختصر وشرحه للعضدي ، فعلى هذا يرجع الاختلاف في المسألة إلى أقوال أربعة ، وربّما يحكى قول بالوقف كما في كلام بعض الأفاضل (1) عن الشيخ في العدّة حيث حكاه عن بعضهم فهو خامس الأقوال حينئذ.

وتحقيق القول فيها يستدعي رسم امور :

أحدها : أنّ البحث في هذه المسألة لا يغني عنه ما تقدّم من البحث في متعلّق الأحكام ، كما كان لا يغني عنه البحث عن المرّة والتكرار ، في الأمر بل لا يتداخل البحثان كما توهّم ذلك في بحث الأمر لاختلافهما موضوعا ومحمولا وأقوالا ، فإنّ مرجع البحث هنا إلى

ص: 508


1- هداية المسترشدين 3 : 26.

حال الدليل وضعا أو دلالة ، ومرجعه ثمّة إلى حال المدلول وهو الحكم كائنا ما كان ، فيكون من المسائل العقليّة الواردة في الكتب الاصوليّة من باب المبادئ ، وبذلك يندفع الإشكال المتوهّم في بحث الأمر من جهة الفرق بين المسألتين ويرتفع الحاجة في دفعه إلى تكلّفات ارتكبوها ثمّة.

وثانيها : لا خفاء في أنّ المراد بالمرّة والتكرار هنا حيثما يعبّر بهما عن موضع البحث إنّما هو الدفعة وهو ترك المنهيّ عنه آنا مّا من آنات وقوعه ، والدوام وهو تركه في جميع آنات وقوعه إلى آخر العمر كما يعبّر بهما في كثير من العبائر ، فلا يراد بهما الفرد والأفراد ، بخلاف ما تقدّم في بحث الأمر من جريان الوجهين فيهما بإرادة الدفعة أو إيجاد فرد واحد من المرّة ، وإرادة الدفعات حسبما يقتضيه الإمكان عقلا وشرعا أو إيجاد أفراد متعدّدة متعاقبة إلى آخر ما يقتضيه الإمكان كذلك من التكرار ، ويمكن حملهما هنا على الفرد والأفراد أيضا وإن كان بعيدا بحمل الفرديّة على ما يتشخّص من الطبيعة المنهيّ عنها بآنات وقوعها ، فيراد بالمرّة ترك ما يتشخّص منها بآن مّا وهو أيضا نحو من الفرد ، وبالتكرار ترك ما يتشخّص منها بجميع آنات العمر وهو أيضا نحو من الأفراد ، غير أنّ مآله بالأخرة إلى المعنى الأوّل.

نعم ينبغي القطع بعدم كون المراد من المرّة فردا واحدا ولا من التكرار أفرادا متعدّدة ممّا يتمايز من الأفراد بسائر المشخّصات ، كما لو ترك الزنا بهذه المرأة خاصّة أو بها وبغيرها من المعيّنات ، فإنّ ذلك ممّا لا يكاد ينضبط مضافا إلى إفضائه على الثاني إلى التكليف بغير المقدور بل على الأوّل أيضا لو حصل الاشتغال حال الترك المذكور بالزنا بغير الامرأة المفروضة ، لخروج الترك المفروض حينئذ عن المقدوريّة بعدم القدرة على خلافه مع الاشتغال المذكور ، نظرا إلى أنّ المقدور ما يتساوى طرفاه كما هو المصرّح به في كلامهم.

ومن هنا يتبيّن وجه عدم المقدوريّة على الثاني ، فإنّ القدرة على ترك الأفراد المتعدّدة في جزء من آن وقوعه فرع القدرة على الإتيان بتلك الأفراد جميعا في ذلك الجزء من الزمان ، وهي منتفية بالبديهة فكذلك في عكسه.

وثالثها : هل النزاع في وضع النهي لإفادة الدوام على القول به أو لإفادة غيره على الأقوال الاخر ، أو في دلالته ولو بضميمة خارج إليه من عقل أو شرع أو عادة؟ وجهان ، من نهوض أكثر أدلّتهم الآتية على إثبات الوضع والتعبير به في كثير من مطاوي العبارات ، ومن

ص: 509

لنا : أنّ النهي يقتضي منع المكلّف من إدخال ماهيّة الفعل وحقيقته في الوجود* ، وهو إنّما يتحقّق بالامتناع من إدخال كلّ فرد من أفرادها فيه ؛ إذ مع إدخال فرد منها يصدق إدخال تلك الماهيّة في الوجود ؛ لصدقها به ؛ ولهذا إذا نهى السيّد عبده عن فعل ، فانتهى مدّة كان يمكنه إيقاع الفعل فيها ثمّ فعل ، عدّ في العرف عاصيا مخالفا لسيّده ، وحسن منه عقابه ، وكان عند العقلاء مذموما بحيث لو اعتذر بذهاب المدّة الّتي يمكنه الفعل فيها وهو تارك ، وليس نهي السيّد بمتناول غيرها ، لم يقبل ذلك منه ، وبقى الذمّ بحاله. وهذا ممّا يشهد به الوجدان.

___________________________________

شهادة جملة اخرى من أدلّتهم المقامة من الطرفين على المطلب ، ولا يبعد القول بكون النزاع في مقامين مرتّبين وإن اختلطا عند تحرير العنوانات وتقرير الاحتجاجات ، أحدهما : الوضع ، وثانيهما : الدلالة الخارجيّة على فرض انتفاء الوضع أو عدم ثبوته ، وعلى كلّ تقدير فالظاهر عدم الفرق في النزاع بين النهي بالصيغة والنهي بالمادّة وإن اختصّت الأمثلة الواردة في الباب بالأوّل ، فإنّ أكثر الأدلّة جارية فيهما معا كما لا يخفى.

* هذا من حجج القول باقتضاء النهي للدوام ، فإنّ لهم على ما عثرنا عليه تحصيلا ونقلا وجوها كثيرة :

منها : ما اعتمد عليه في المنية من أنّ المتبادر إلى الفهم عند إطلاق اللفظ وتجرّده عن القرائن هو التكرار.

ولا يخفى ما في دعوى هذا التبادر إن أراد به ما يكشف عن الوضع لخصوص التكرار ليكون مدلولا مطابقيّا ، أو لما هو في ضمنه ليكون مدلولا تضمّنيّا ، أو لما هو مقيّد به على نحو خروج القيد ليكون مدلولا التزاميّا بيّنا بالمعنى الأخصّ نظير ما هو الحال في « البصر » بالقياس إلى وضع « العمى » فإنّ ذلك بجميع احتمالاته ممّا لا يساعد عليه الوجدان ولا طريقة أهل اللسان ، كيف وأنّا لا نجد التبادر في الصيغة المجرّدة إلاّ في طلب ترك الطبيعة المطلقة لا بشرط شيء من القيود ، على قياس تبادر طلب إيجاد الطبيعة المطلقة في صيغة الأمر ، ومن لوازم الطبيعة المطلقة أن لا يحصل تركها بحكم العقل من باب دلالة الإشارة إلاّ

ص: 510

بعدم إيجادها في جميع أزمنة الإمكان ، كما أنّ من لوازمها أن يحصل إيجادها بحكم العقل من باب الدلالة المذكورة بإيجاد فرد منها فكما أنّ إيجاد الفرد عند امتثال الأمر ممّا يوجب فوات صدق ترك الطبيعة المأمور بها ، فكذلك إيجاده عند مخالفة النهي ممّا يوجب فوات صدق ترك الطبيعة المنهيّ عنها ، ولا ريب أنّ إيجادها في شيء من الأزمنة ولو كان هو الجزء الأخير من أزمنة العمر ممّا يصدق عليه إيجاد الفرد وهو ممّا يرفع صدق ترك الطبيعة المطلقة.

ودعوى أنّ ترك الطبيعة ممّا يصدق مع ترك جميع أفرادها وهو ممّا يتأتّى في آن واحد.

يدفعها : أنّ ذلك ترك للطبيعة المقيّدة بذلك الآن في ضمن جميع أفرادها وهي ليست من الطبيعة المطلقة في شيء ، والكلام إنّما هو في ورودها مطلقة والإطلاق آية عدم لحوق القيد بل هو في الحقيقة عبارة عن ذلك ، فلزوم دوام الترك إنّما هو من مقتضيات الإطلاق من دون استناد له إلى الوضع لا بعنوان التماميّة ولا بعنوان الجزئيّة ولا بعنوان القيديّة ، ولمّا كان ذلك الإطلاق ممّا لا ينفكّ عن الصيغة حيثما وردت مجرّدة وكان انفهام التكرار مستندا إليه في الواقع فيتوهّم الغافل كونه مستندا إلى نفس اللفظ بإحدى الجهات المذكورة فيأخذ حجّة لنفسه غفلة عن حقيقة الحال.

ولا ريب أنّ استناد الشيء إلى أمر عدمي يعبّر عنه بالإطلاق غير استناده إلى أمر وجوديّ يعبّر عنه بالوضع أو اللفظ الموضوع من حيث إنّه موضوع ، والفرق بينهما كما بين السماء والأرض ، وسيلحقك زيادة توضيح في ذلك.

ومنها : ما أشار إليه المصنّف وحكي الاحتجاج به عن العلاّمة في النهاية والفاضل الجواد في شرح الزبدة والآمدي وغيره ، من أنّه إذا نهى السيّد عبده عن فعل فانتهى مدّة كان يمكنه إيقاع الفعل فيها ثمّ فعل بعد تلك المدّة عدّ في العرف عاصيا مخالفا لسيّده وحسن منه عقابه ، وكان عند العقلاء مذموما بحيث لو اعتذر بذهاب المدّة الّتي يمكنه الفعل فيها وهو تارك وليس النهي بمتناول غيرها لم يقبل منه ذلك وبقي الذمّ بحاله.

ويشكل ذلك لو اريد به ما يكشف عن الوضع بإحدى الجهات المتقدّمة والوجه ما تقدّم.

نعم إنّما يصحّ ذلك لو اريد به ما يرجع إلى أمر عدمي يعبّر عنه بورود الطبيعة المنهيّ عنها في خطاب السيّد مطلقة غير مقيّدة بزمان مخصوص ، ولكنّه لا يجديهم في إنهاض الدلالة الوضعيّة لو رجع إليها دعواهم.

ومنها : ما حكاه في المفاتيح من أنّ نحو قوله : « لا تضرب زيدا » نكرة منفيّة وهي تفيد

ص: 511

العموم وموضوعة له.

ويشكل ذلك أيضا : بمنع كون المأخوذ في موادّ الأفعال باعتبار الوضع النوعي الاشتقاقي نكرة إن اريد بها معناها المصطلح ، كيف وأنّ الموادّ كسائر أسماء الأجناس موضوعة للماهيّة لا بشرط شيء على ما سيأتي تحقيقه ، ولو اريد بها ما يرادف اسم الجنس فدعوى إفادتها في حيّز النفي للعموم مسلّمة ، لكن يتوجّه المنع إلى دعوى كونها موضوعة له ، فإنّ ذلك من لوازم نفي الماهيّة من باب دلالة الإشارة فلا يثبت به الدلالة الوضعيّة على ما هو المقصود بالاستدلال.

وقد يورد عليه أيضا : بأنّ غاية ما يستفاد من النكرة المنفيّة نفي جميع أفراد مدخول النفي لا النفي من جميع الجهات ، فقوله : « لا تضرب » يفيد طلب ترك جميع أفراد الضرب في الجملة لا طلب تركه في جميع الأزمنة والأمكنة ، كما أنّ قوله : « لا رجل في الدار » يفيد نفي جميع أفراد رجل في الجملة لا في كلّ زمان.

وفيه ما لا يخفى من فساد ذلك التشبيه والتنظير ، فإنّ « لا رجل في الدار » بمقتضى وضع الجملة الخبريّة للحال - على ما ينساق منها في العرف والاستعمال - إنّما يفيد نفي أفراد ماهيّة الرجل في حال النطق ولا يتناول غيره ، وليس كذلك الحال في : « لا تضرب » فالقول بأنّه يفيد نفي جميع أفراد الضرب في الجملة إنّما يستقيم إذا فرض ورود النفي على الماهيّة مقيّدة بآن مّا والمفروض خلافه ، ولا ريب أنّ نفي الماهيّة المطلقة يستلزم نفيها في جميع الأزمنة والأمكنة وإلاّ كان نفيا للماهيّة المقيّدة.

لا يقال : كما أنّ المفروض عدم ورود النفي على الماهيّة مقيّدة بآن مّا ليكون مفاده النفي في الجملة ، فكذلك المفروض عدم وروده عليها مقيّدة بالإطلاق فلا يكون مفاده النفي دائما ، لعدم كون المراد بالإطلاق في وصف الماهيّة به ما يكون قيدا لها ، كيف وأنّ النفي ورد عليها لا بشرط شيء حتّى الإطلاق ، بل المراد به ما يلحقها من الأمر العدمي الناشئ عن عدم اعتبار قيد معها في الخطاب ، وهذا هو المقصود من الإطلاق الّذي يتمسّك به في سائر الموارد لتعميم الأحكام المعلّقة على الماهيّات بالقياس إلى أفرادها.

ومنها : ما عن العلاّمة في النهاية من انفهام التناقض في عرف اللغة بين قولنا : « لا تضرب » وقولنا : « اضرب » لاشتمال « لا تضرب » على كلّ مفهوم « اضرب » وزيادة حرف النهي ، وقولنا : « اضرب » يفيد المرّة فلو كان « لا تضرب » أيضا كذلك لم يتناقضا فيجب العموم.

ص: 512

وفيه : منع كون « اضرب » مفيدا للمرّة ، لما قرّرناه من أنّ الأمر لا يفيد إلاّ طلب الماهيّة ، فانفهام التناقض إنّما من جهة مناقضة إيجاد الماهيّة المطلقة لنفيها ، فهو من مقتضيات إطلاق الماهيّة في حيّز الأمر والنهي ، ولا يثبت بذلك دلالة النهي على العموم وضعا ، بل غايته أنّه يدلّ عليه إطلاقا ، فلا يكون الدليل مطابقا للمدّعى إن رجع إلى الدلالة الوضعيّة.

وممّا قرّرناه يظهر أنّه لا وقع لما يورد عليه أيضا من النقض بثبوت التناقض بين قوله : « شربت ماء باردا » وقوله : « ما شربت الماء » مع أنّ لفظ « الماء » في القضيّة المتضمّنة للنفي ليس للعموم ، فما يجاب هو الجواب ، فإنّ « الماء » إن اريد به المعهود الخارجي فانفهام التناقض ممنوع ، وإن اريد به الجنس فالتناقض مسلّم ، ولكنّه لا يلزم منه كونه موضوعا للعموم بل يكفي فيه كون النفي الوارد عليه لنفي الجنس المستلزم لنفي جميع أفراده الّتي منها الماء البارد المأخوذ في القضيّة الموجبة.

وأمّا ما يورد عليه أيضا - كما في الكواكب - من أنّ التناقض المتحقّق بينهما إنّما هو لاشتمال أحدهما على النفي والآخر على الإثبات لكن بشرط اتّحاد الوقت أمّا مع اختلافه فلا ، فلم نتحقّق معناه ، إذ لو اريد به أنّ تحقّق التناقض يعتبر فيه كون النفي والإثبات واردين على الماهيّة في وقت واحد مخصوص اعتبر قيدا لها في كلّ من القضيّتين ، فهو ليس بلازم إذ القضيّة المنفيّة تفيد نفي الماهيّة المطلقة وهو يستلزم الدوام ، فلا بدّ من التناقض من دون نظر إلى خصوصيّة وقت دون آخر ، ضرورة منافاة الإيجاب جزئيّا أو كلّيّا لدوام السلب ، ولو اريد به أنّ النفي إذا كان لدوام السلب يصادف الإيجاب القاضي بوقوع الفعل في وقت وقوعه كائنا ما كان فيتّحد به وقتاهما فحصل التناقض ، فهو في غاية المتانة غير أنّه لا يبقى للاستدراك المذكور من قوله : « وأمّا مع اختلافه فلا » محلّ ، فلا وجه له.

ومنها : ما تمسّك به في المنية والزبدة وحكي عن العلاّمة في النهاية وعن المختصر وشرحه للعضدي من أنّ العلماء - كما عن النهاية والمختصر وشرحه للعضدي - والصحابة كما في المنية والسلف - كما في الزبدة - لم يزالوا في جميع الأوقات يستدلّون على الدوام بالنهي من غير نكير.

وفيه : إن أريد به الاستكشاف عن فهمهم الكاشف عن الوضع فهو في حيّز المنع ، لجواز استناد فهمهم إلى مجرّد الإطلاق حسبما قرّرناه وهو ليس من مقتضى الوضع ليثبت به الدلالة الوضعيّة.

ص: 513

لا يقال : الأصل في التبادر أن يكون وضعيّا كما هو المقرّر في محلّه المسلّم عندهم ، لأنّ ذلك إنّما يجدي نفعا في مقابلة دعوى استناد الفهم إلى القرينة ومفروض المقام ليس من هذا الباب ، لرجوعه إلى دعوى استناد الفهم إلى أمر عدميّ ينشأ من ورود الماهيّة مطلقة ، ولا يعقل في مثل ذلك دعوى الأصل على الخلاف كيف وأنّ منشأ الفهم موافق للأصل كما لا يخفى ، فإنّ الأصل إنّما هو عدم التقييد والإطلاق من مقتضياته ، كما لا يعقل تقرير الأصل بالنسبة إلى هذا النحو من الفهم لمكان الشكّ في الحادث ، فإنّ أصل الفهم حاصل بالفرض وهو مردّد بين استناده إلى الوضع أو إلى الإطلاق والأصل متساوي النسبة إلى كلّ منهما ، ولو قرّر الأصل بالقياس إلى ما يلزم الفهم من جهة الإطلاق من ملاحظة الإطلاق والالتفات إلى عدم لحوق القيد كان معارضا بالمثل ، إذ الفهم من جهة الوضع أيضا يستلزم الالتفات إليه ولو إجمالا ، مع أنّ الأصل إنّما يعقل جريانه في موضع [ الشكّ ] والالتفات إلى الإطلاق حيثما ترد اللفظ مطلقا خاليا عن القيد من اللوازم القهريّة التابعة للالتفات إلى نفس اللفظ ، فلا شكّ في المقام حتّى يكون محقّقا لموضوع الأصل.

ومنها : ما أشار إليه البهائي في حاشية زبدته بقوله : « على هذا المطلب دليل آخر غير مشهور ، تقريره : أنّ الترك في وقت من الأوقات أمر عادي للمكلّف غير محتاج إلى النهي ، فلو لم يكن النهي للدوام لكان صدوره عن الناهي عبثا » ثمّ قال : « فإن قلت : العبثيّة غير لازمة وإنّما تلزم لو لم يكن النهي مقتضيا للفور ».

فأجاب عنه : « بأنّ من يقول بعدم الدوام يجوّز التراخي كما نصّ عليه العلاّمة في النهاية ويدلّ عليه كلام الفخري في المحصول فالعبثيّة لازمة ».

ثمّ قال : « لكن يمكن أن يقال : إنّ الترك نوعان عادي وامتثالي ، والامتثالي إنّما يترتّب على النهي وبه يحصل الثواب ».

وعن الفاضل الجواد الإيراد على ما ذكره في دفع فوريّة الانتهاء على القول بعدم الدوام بقوله : « ها هنا شيء وهو أنّ القائلين بعدم الدوام منهم من ذهب إلى أنّه للمرّة فقط ، ومنهم من يجعله مشتركا بينها وبين التكرار بحيث يتوقّف العلم بأحدهما على دليل من خارج كما في الأمر ، فمن قال بالأوّل قال بالفوريّة كما هو الظاهر من كلام بعضهم ، حيث صرّح بأنّ النهي لا يفيد إلاّ الانتهاء في الوقت الّذي يلي وقت النطق بالنهي وحينئذ فلا عبثيّة على مذهبهم ، وأمّا من يجعله مشتركا بينهما فإنّه يتوقّف في الانتهاء إلى أن يظهر

ص: 514

دليل على أحدهما ، وحينئذ فلا يلزم من كون الترك في بعض الأوقات عاديّا العبثيّة على تقدير النهي ».

ومنها : ما عن العلاّمة في النهاية من أنّ قولنا : « لا تضرب » يمكن حمله على التكرار وقد دلّ عليه أيضا فيجب المصير إليه.

أمّا الاولى : فلإمكان امتناع الإنسان عن الفعل دائما من غير عسر.

وأمّا الثانية : فلأنّه لا خفاء في عدم دلالة الصيغة على الانتهاء في وقت دون وقت فإمّا أن يحمل على الكلّ ، أو لا يحمل على شيء وهو محال ، أو يحمل على البعض دون الآخر ويلزم منه الترجيح من غير مرجّح.

وفيه : - مع عدم نهوضه على إثبات الدلالة الوضعيّة إن كانت هي المقصودة بالاستدلال - أنّ هاهنا احتمالا رابعا وهو حمله على وقت مّا لا على التعيين ، ليكون مفاده التخيير في الانتهاء بين الأوقات.

وما يقال : من أنّ الانتهاء بهذا المعنى إنّما يتحقّق بدون النهي ، يدفعه : أنّ الثواب والعصيان لا يترتّبان إلاّ على النهي ، فربّما يكون غرض الناهي إيصال المنهيّ إلى الثواب أو إلزامه على كونه معه في مقام العصيان.

وممّا قرّرناه يندفع ما قرّره بعض الأعلام (1) من الاحتجاج انتصارا للقائل بالدوام من :

« أنّ طلب الترك وإرادة ترك الطبيعة منه في وقت غير معيّن إغراء بالجهل ، فوقوعه في كلام الحكيم يقتضي حمله على العموم » فإنّ محذور الإغراء بالجهل إنّما يلزم لو فرض الوقت الغير المعيّن عند المنهيّ معيّنا عند الناهي لا مطلقا ، واعتبار التعيين عند الناهي غير لازم على القول بعدم الدوام.

ومنها : ما عن العلاّمة أيضا في النهاية من : « أنّ النهي لو لم يكن للدوام لما ثبت تحريم الزنا والربا وغير ذلك من المنهيّات دائما ، والتالي باطل بالإجماع ».

وفيه : - مع أنّه لا يتوجّه إلى القول بالاشتراك لفظا ولا معنى - أنّ القائل بالمرّة لا يدّعي استحالة ورود النهي للدوام.

غاية الأمر أنّه يجعله حينئذ مستفادا منه بمعونة الخارج ، فلعلّ الدوام فيما ذكر من المنهيّات إنّما ثبت عنده من جهة الخارج من إجماع ونحوه.

ص: 515


1- القوانين 1 : 138.

ومنها : ما عن العلاّمة أيضا في النهاية من أنّ ها هنا مقدّمتين :

إحداهما : أنّ المنهيّ عنه منشأ للمفسدة ولذا صحّ النهي عنه.

والثانية : الحكم ببقاء ما كان على ما كان إلى أن يظهر دليل.

أمّا الأوّل : فلما مرّ.

وأمّا الثاني : فلما يأتي من كون الاستصحاب (1).

وجوابه واضح ، لعدم انطباقه على المدّعى سواء رجع إلى دعوى الدلالة الوضعيّة أو مطلق الدلالة ، فإنّ المتنازع فيه إحراز الدلالة من اللفظ لتجدي في ثبوت حكم واقعي ، والاستصحاب طريق عملي أخذه الشارع مرجعا للمكلّف في مواضع الشكّ المتعقّب لليقين من غير مدخل له في مدلول الخطاب ولا كشفه عن الدلالة ولا المراد ، مع أنّه كما لا يجدي في ثبوت المدّعى فكذلك لا يجدي في دفع إلزام الخصم ، لأنّه مدّع لدلالة الخطاب على المرّة ، والأصل العملي لا يصلح معارضا للأصل اللفظي جزما ، بل لا مجرى له مع وجود الأصل اللفظي ، فالعمدة في المقام نفي ذلك الأصل لا إثبات ما لا يصلح معارضا له.

ومنها : ما عن العلاّمة أيضا في النهاية من « أنّ الاحتياط انتهاؤه دائما فتعيّن العمل به ، إذ مع تركه لا يأمن عن ارتكاب المحظور ».

وجوابه - بعد توجّه المنع إلى تعيّن العمل بالاحتياط لعدم وجوبه إلاّ في موضع القطع بالتكليف واشتباه المكلّف به ، ووجود القدر المتيقّن في البين بعدم دوران الأمر بين المحذورين والمقام ليس منه جزما - يظهر ممّا مرّ.

ومنها : ما قرّره المصنّف وحكي عن نهاية العلاّمة وشرح المبادئ وشرح المنهاج من أنّ النهي يقتضي منع المكلّف من ادخال ماهيّة الفعل وحقيقته في الوجود ، وهو إنّما يتحقّق بالامتناع من ادخال كلّ فرد من أفرادها فيه ، إذ مع ادخال فرد منها يصدق ادخال تلك الماهيّة في الوجود لصدقها به.

وردّه البهائي في الزبدة : بأنّه إن عنى دائما فمصادرة وإلاّ لم ينفعه.

وقريب منه ما ذكره في المنية من أنّ المنع من ادخال الماهيّة في الوجود قدر مشترك بين المنع من ادخال الماهيّة في الوجود دائما وبين المنع من ادخالها فيه لا دائما ، ولا دلالة لما به الاشتراك - وهو المنع من ادخال الماهيّة في الوجود مطلقا - على ما به الامتياز وهو

ص: 516


1- كذا في الأصل.

قيد « الدوام » و « اللادوام » لأنّه عامّ والعامّ لا يدلّ على الخاصّ.

أقول : إنّما يتّجه ذلك إذا كان المقصود بالاستدلال أخذ « الدوام » قيدا للماهيّة المنهيّ عنها ، نظرا إلى أنّ النهي بمجرّده كما لا يدلّ على قيد « اللادوام » فكذلك لا يدلّ على قيد الدوام ولكنّه ليس بلازم لجواز رجوعه إلى التمسّك بما فيها من الإطلاق وهو ليس قيدا كما عرفت ليقابله قيد اللادوام ويوجب عدم صلاحية الدلالة عليه.

نعم يتوجّه إليه عدم كون تلك الدلالة لفظيّة مستندة إلى الوضع إن كان ذلك هو المقصود بالاستدلال.

ومن الأعلام من أورد عليه أيضا : « بأنّ ذلك لا يفيد ذلك ولو كان مدخول الطلب التحريمي الماهيّة بشرط الوحدة (1) أو بشرط العموم المجموعي أيضا (2) مع كونهما مفيدين للعموم في الجملة فضلا عمّا لو كان المدخول هو الطبيعة المطلقة كما هو القدر المسلّم في مبدأ الاشتقاق ، إذ كما أنّ المطلوب يحتمل الإطلاق والتقييد كذلك الطلب يحتملهما ، فكما يصحّ أن يقال : أطلب منك عدم الزنا الحاصل ما دام العمر ، أو عدم الزنا في شهر أو سنة ، كذلك يصحّ أن يقال : أطلب دائما ، أو في شهر ، أو سنة ترك الزنا ، ولا دلالة في اللفظ على أحد التقييدين ، فطلب ترك الطبيعة إنّما يقتضي ترك جميع أفراد الطبيعة في الجملة لا دائما ، وأين المطلقة من الدائمة فلا يمكن اثبات الدوام والتكرار للنهي لا من جهة المادّة ولا من جهة طلب الترك » (3).

وفيه : أنّ عدم دلالة اللفظ على أحد التقييدين مسلّم ، ولكن لا يلزم منه كون مفاده طلب ترك جميع أفراد الطبيعة في الجملة ، إذ لو اريد به أنّ القضيّة في النهي مهملة والمهملة في قوّة الجزئيّة.

ففيه : أنّه يناسب مذاق أهل الميزان من حيث إنّهم يقتصرون في مداليل الألفاظ على ما هو القدر المتيقّن ولا يلتفتون إلى ما عدا ذلك ممّا يساعد عليه الظهور ولو بضميمة الخارج ، فلا ربط له بطريقة أهل هذا الفنّ لكفاية مجرّد الظهور عندهم في صحّة الاستنتاج كما لا يخفى.

ص: 517


1- القوانين 1 : 138.
2- بأن يكون المطلوب ترك الماهيّة في أحد الأزمنة على سبيل البدليّة ( منه ).
3- بأن يكون المطلوب ترك الماهيّة في مجموع الأزمنة من حيث المجموع ( منه ).

ولو اريد به أنّه لا يقضي بأزيد من الجزئيّة ولو بعنوان الظهور.

ففيه : أنّ الظهور لو اريد به ما يستند إلى نفس اللفظ ووضعه فانتفاؤه مسلّم ، لكنّه لا ملازمة بينه وبين انتفاء مطلق الظهور ، ولا يلزم منه كون مفاد القضيّة هو الجزئيّة.

ولو اريد به مطلق الظهور ولو استند منه إلى خارج من اللفظ فمنعه واضح ، لوضوح الفرق بين طلب ترك مطلق الطبيعة وطلب ترك الطبيعة المطلقة ، وموضوع البحث هو الثاني ، وما ذكر من طلب تركها في الجملة من مفاد الأوّل ولا كلام فيه ، والعقل بعد ملاحظة إطلاق الطبيعة المأخوذة في القضيّة من غير لحوق قيد زماني بها يقضي بعدم تأتّي امتثال النهي عنها إلاّ بتركها في ضمن جميع أفرادها.

ودعوى أنّ ترك جميع الأفراد ممّا يتأتّى في آن واحد ولا يقتضي ذلك دوام الترك.

يدفعها : أنّ الطبيعة يفرض لها الأفراد من جهات عديدة واعتبارات شتّى ، فتارة من جهة أحوال المكلّف ، واخرى من جهة الامور الخارجة والاعتبارات اللاحقة ، وثالثة من جهة الأمكنة ، ورابعة من جهة الأزمنة وهكذا ، فإذا فرض ورودها في الخطاب مطلقة من جميع تلك الجهات استلزم طلب تركها ترك الأفراد الحاصلة لها بأجمعها في كلّ من تلك الجهات ، واذا فرض لحوق قيد بها في بعض تلك الجهات كما لو قال : « لا تزن حال الطهارة ، أو بهذه المرأة ، أو عند زوال الشمس ، أو حال مجيء زيد ، أو في المسجد ، أو يوم الجمعة » خرجت عن إطلاقها في خصوص محلّ القيد وبقي الإطلاق بالقياس إلى الجهات الاخر على حاله.

ومفروض المقام إطلاقها بالنسبة إلى الأزمنة فيجب الأخذ به المقتضي للعموم والدوام ، واعتبار العموم فيها بالقياس إلى الجهات الاخر لا ينفي العموم بالقياس الى تلك الجهة ، كيف وأنّ العموم المذكور الّذي يسلّمه المورد لا داعي إلى اعتباره إلاّ الإطلاق القائم بالطبيعة بالنسبة إلى الجهة المشخّصة لها الّتي يضاف إليها ذلك العموم وهو بعينه موجود في المتنازع فيه والفرق تحكّم ، فيجب إمّا أن لا يقال بالعموم أصلا أو لا يفرق فيه بين شيء من الجهات المذكورة الّتي منها محلّ البحث.

فبالتأمّل في جميع ما قرّرناه من البداية إلى تلك النهاية يتبيّن أنّ الحقّ عندنا وفاقا للأكثرين اقتضاء النهي المجرّد لدوام الترك بدلالة عقليّة التزاميّة من باب الإشارة المستندة إلى أمر عدميّ يعبّر عنه بالإطلاق ، والدليل عليه ما قرّرناه في تضاعيف الكلمات السابقة.

ص: 518

وإن شئت زيادة بيان في الاستدلال فنقول : مفروض المقام أنّ الطبيعة مأخوذة في حيّز النهي مطلقة غير مقيّدة بقيد زماني ولا مكاني ولا غيره ممّا يرجع إلى المكلّف وغيره من الأحوال والأوصاف ، فتكون كالطبيعة المأخوذة في حيّز الأمر إذا فرضت مطلقة كذلك ، فكما أنّ إيجادها عند إرادة امتثال الأمر في أيّ زمان يكون ممّا يصدق عليه عرفا أنّه إيجاد للطبيعة المأمور بها ، ويوجب ذلك حصول امتثال الأمر في نظر العقل والعرف ويسقط به الأمر ، فكذلك إيجادها في أيّ زمان يكون حيثما وقعت في حيّز النهي ممّا يصدق عليه عرفا أنّه إيجاد للطبيعة المطلقة ، فيوجب ذلك فوات صدق ترك الطبيعة المطلقة ، ضرورة استحالة صدق النقيضين ، وهو قاض بعدم صدق امتثال النهي في نظر العرف والعقل.

وقضيّة ذلك توقّف صدق الامتثال على تركها في جميع الأزمان ، ضرورة استحالة ارتفاع النقيضين كاجتماعهما.

ودعوى : أنّ تركها في الجملة كاف في تحقّق الامتثال ولا يقدح فيه إيجادها بعد ذلك.

يدفعها : أنّ ما حصل تركه في الزمان المفروض ليس إلاّ الطبيعة المقيّدة بذلك [ الزمان ] والمفروض عدم تعلّق النهي بها بخصوصها ، وإنّما تعلّق النهي بها مطلقة غير مضافة إلى زمان دون آخر ، والمفروض عدم حصول تركها كذلك ، إذ يصدق على ما وجد في الزمان المتأخّر أنّه من تلك الطبيعة فلا امتثال ، وهذا معنى قولنا : « انّ النهي يفيد الدوام والتكرار » ، لا بمعنى أنّ « الدوام » اعتبر قيدا مع الطبيعة حتّى يقال بأنّ ذلك منفيّ بحكم العرف والأصل ، بل بمعنى أنّ ترك الطبيعة المطلقة ممّا لا يصدق بحكم العقل والعرف إلاّ مع دوام الترك.

هذا مضافا إلى أنّا نجد في العرف أنّ الإنسان إذا توجّه إليه نهي عن فعل ينظر أوّلا في أنّه هل يلحقه قيد من المتكلّم أو من العقل أو من العادة قاض بمطلوبيّة تركه في الجملة على حسبما يقتضيه ذلك القيد كمّا أو كيفا ليتخلّص عن دوام الترك الّذي هو بنفسه أمر صعب على النفوس أو لا يلحقه ذلك القيد أصلا ، وذلك آية أنّ الدوام من مقتضيات حاقّ النهي وإنّما يتبعه حيثما وجد مجرّدا عن القيود الخارجة ، وأنّ ما عداه من إرادة الترك في الجملة هو الّذي يحتاج إلى لحوق أمر زائد بالخطاب خارج عن حقيقة الفعل المنهيّ عنه ، وأنّ الدوام يكفي في ثبوته مجرّد تجرّده عن ذلك الأمر الزائد.

مضافا إلى أنّا نجد من أنفسنا عند مراجعة الوجدان أنّه لو أردنا إنشاء نهي عن فعل قد يكون ذلك الفعل مبغوضا في نظرنا في زمان دون آخر فنقيّده بذلك الزمان لا محالة ثمّ

ص: 519

احتجّوا : بأنّه * لو كان للدوام ؛ لما انفكّ عنه ، وقد انفكّ. فانّ الحائض نهيت عن الصلاة والصوم ، ولا دوام. وبأنّه ورد للتكرار ، كقوله تعالى : ( « وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى » ) وبخلافه ، كقول الطبيب : « لا تشرب اللّبن » ، « ولا تأكل اللّحم ». والاشتراك والمجاز خلاف الأصل ، فيكون حقيقة في القدر المشترك. وبأنّه يصحّ تقييده بالدوام ونقيضه ، من غير تكرار ولا نقض ؛ فيكون للمشترك.

والجواب عن الأوّل : أنّ كلامنا في النهي المطلق. وذلك مختصّ بوقت الحيض ، لأنّه مقيّد به ، فلا يتناول غيره. ألا ترى أنّه عامّ لجميع أوقات الحيض.

وعن الثاني أنّ عدم الدوام في مثل قول الطبيب ، إنّما هو للقرينة ، كالمرض في المثال. ولولا ذلك ، لكان المتبادر هو الدوام. على أنّك قد عرفت في نظيره سابقا : أنّ ما فرّوا منه بجعل الوضع للقدر المشترك - أعني : لزوم المجاز والاشتراك - لازم عليهم ، من حيث انّ الاستعمال في خصوص المعنيين يصير مجازا فلا يتمّ لهم الاستدلال به.

وعن الثالث : أنّ التجوّز جائز ، والتاكيد واقع في الكلام مستعمل ، فحيث يقيّد بخلاف الدوام يكون ذلك قرينة المجاز ، وحيث يؤتى بما يوافقه يكون تأكيدا.

___________________________________

نورد عليه النهي كذلك ، وقد يكون مبغوضا عندنا من رأسه بحيث لا نحبّ وجوده في الخارج أصلا فنطلقه ونورد عليه النهي كذلك ويتمّ به المخاطبة ويحصل كمال المقصود ، فلولا الإطلاق ممّا يلازم المبغوضيّة المطلقة ومطلوبيّة الدوام لكنّا في الاكتفاء به قصّرنا في البيان وابراز كمال المقصود واستحقنا بذلك ذمّ العقلاء واستهجان العرف ، وهو باطل بضرورة من العرف والوجدان.

* احتجّ المنكرون لدلالة النهي على التكرار بوجوه :

منها : ما اعتمد عليه بعض الأعلام (1) من أنّ الأوامر والنواهي وغيرها مأخوذة من المصادر

ص: 520


1- القوانين 1 : 138.

الخالية عن اللام والتنوين وهي حقيقة في الماهيّة لا بشرط شيء (1) ولا يزيد الهيئة على المادّة إلاّ الطلب الحتميّ التحريمي أو الإيجابي ، والأصل عدم شيء آخر فمن يدّعيه فعليه بالبيان (2).

وجوابه : يظهر ممّا مرّ ، وحاصله : أنّه عند التحقيق أدلّ على خلاف ما ادّعاه ، فإنّ الماهيّة في إيجادها قد تلاحظ بشرط الدوام ، وقد تلاحظ بشرط الدفعة كما لو اعتبرت مقيّدة بوقت خاصّ ، وقد تلاحظ لا بشرط شيء منهما ، وفي تركها أيضا قد تلاحظ بشرط الدوام وقد تلاحظ بشرط الدفعة وقد تلاحظ لا بشرط شيء منهما ، وما ذكر إنّما يصلح حجّة على من يدّعي وضع النهي لطلب ترك الماهيّة مقيّدا بالدوام على وجه رجع القيد إلى الترك لا إلى الماهيّة ، والمنع عن ذلك مسلّم ولكن لا يلزم من مجرّد ذلك عدم افادته الدوام ، إلاّ إذا ثبت وضعه لطلب ترك الماهيّة مقيّدة بالدوام (3) أو الدفعة أو لطلبه مقيّدا بالدفعة ، وكل ذلك منفيّ بما قرّره المستدلّ ، ووضعه لطلب ترك الماهيّة المطلقة لا بشرط الإطلاق والتقييد - على ما اعترف به - يستلزم الدوام بالوجه الّذي قرّرناه بلا شبهة ، غايته عدم كون الدلالة وضعيّة وهي ليست بلازمة بعد اتّحاد المفاد.

ومنها : ما أشار إليه بعض الأعلام أيضا واعتمد وحكى في المفاتيح عن التهذيب والمعارج من أنّ النهي ورد تارة للتكرار كقوله تعالى : ( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى ) (4) وقد ادّعى الإجماع على استعماله فيه في النهاية والمنية ، واخرى لغيره كقول الطبيب : « لا تشرب اللبن » و « لا تأكل اللحم » فيلزم أن يكون حقيقة في القدر المشترك دفعا للاشتراك والمجاز.

وجوابه : أنّا لا نمنع استعماله في غير التكرار ولا عن حمله عليه حيثما ثبت قرينة عليه من العرف أو غيره ، ونهي الطبيب مقرون بقرينة عرفيّة على إرادة الترك حال المرض ، ولا يلزم منه كون النهي المجرّد غير مفيد للتكرار.

مع أنّه إنّما يتّجه لو رجع القول بالتكرار إلى دعوى التجوّز في الدفعة حيثما ورد لها ، وهو في حيّز المنع بعد ملاحظة رجوع الدفعة إلى اعتبار التقييد في الماهيّة الغير الملازم للتجوّز.

مع أنّ مرجع الاستعمال فيهما بملاحظة ما قرّرناه إلى استعماله في الكلّي والفرد ومن

ص: 521


1- أي لا بشرط شيء من قيدي المرّة والتكرار بمعنى الدفعة والدوام ، أو بمعنى زمان مّا وكلّ زمان من أزمنة العمر. ( منه عفي عنه ).
2- ومن يدّعي المطلوب ترك الماهيّة مقيّدة بالدوام مدّع لخلاف الأصل فعليه بإثبات ذلك بالدليل.
3- كذا في الأصل.
4- الإسراء : 32.

المقرّر في محلّه أولويّة الوضع للكلّي.

ومنها : ما عن المعارج وتمسّك به في التهذيب من : « أنّ النهي يصحّ تقييده بالدوام ونقيضه من غير تكرار ونقض ، فيكون للقدر المشترك ».

وفيه : أنّ الدوام حسبما قرّرناه إنّما يستفاد بملاحظة ورود النهي على الماهيّة مجرّدة ، والتقييد بنقيضه يوجب فوات وصف التجرّد ومعه لا يحصل الدلالة عليه حتّى يلزم النقض ، ومن هنا يعلم الوجه في عدم لزوم التكرار عند التقييد بالدوام ، فإنّ قيد « الدوام » في تلك الصورة ممّا يغني عن استفادته بملاحظة مقدّمة خارجيّة مبنيّة على تجرّد الماهيّة فلم يحصل من اللفظ دلالة عليه أوّلا ليكون استفادته من القيد ثانيا تكرارا.

وأمّا ما أجاب به المصنّف من : « أنّ التجوّز جائز ، والتأكيد واقع في الكلام مستعمل ، فحيث يقيّد بخلاف الدوام يكون ذلك قرينة المجاز ، وحيث يؤتى بما يوافقه يكون تأكيدا ».

ففيه : ما لا يخفى ، فإنّ المستدلّ لا ينكر جواز التجوّز ووقوع التأكيد في الكلام حتّى يقال في ردّه بجواز الأوّل ووقوع الثاني ، بل إنّما ينفي انفهام التأكيد والنقض عند التقييد بالدوام ونقيضه الّذي هو مناسب لمذهبه من الوضع للقدر المشترك ، فدفع كلامه بما ذكر من الجواز والوقوع ثمّ إثبات القرينة على لزومهما في المقام ليس على ما ينبغي.

ومن هنا تبيّن فساد ما ذكره في الزبدة عند دفع الحجّة المذكورة من : « أنّ التصريح بما علم ضمنا شائع ».

ومنها : ما نقله المصنّف وغيره من أنّه : « لو كان للدوام لما انفكّ عنه وقد انفكّ عنه فإنّ الحائض نهيت عن الصلاة والصوم ولا دوام ».

وفيه : أنّ التخلّف عن الدلالات اللفظيّة جائز ولا سيّما إذا كانت الدلالة من « مقتضيات الإطلاق والتجرّد عن القيود الخارجة كما في المقام ، وحالة الحيض قرينة مقام تكشف عن عدم ورود مدلول الصيغة على الماهيّة المطلقة ، ولا محذور فيه وإلاّ انسدّ باب التقييد في المطلقات ، مع أنّه على فرض كون الدلالة على الدوام وضعيّة يتّجه المنع إلى الملازمة أيضا ، فإنّ التخلّف عن مقتضى الوضع بعد قيام القرينة الصارفة ممّا لا ضير فيه وإلاّ انسدّ باب المجازات كما لا يخفى.

ومنها : ما حكاه في المفاتيح من : « أنّ النهي لو كان موضوعا للدوام للزم صحّة السلب لو اريد منه أو من الصيغ الموضوعة له نحو : « لا تفعل » غير الدوام ، والتالي باطل والمقدّم

ص: 522

مثله ، والملازمة واضحة ».

وفيه : أنّا لا نقول بوضعه له وعلى القول به نمنع بطلان التالي ، بل هو لازم للقول بالمجازيّة في غير الدوام ، مع توجّه المنع إلى الملازمة أيضا حيث لا يعقل فرض السلب في الأفعال عند تشخيص أوضاعها على ما هو المقرّر في محلّه ، خصوصا لو كان الكلام في وضع الصيغة المجرّدة.

ومنها : ما حكاه فيه أيضا من : « أنّه لو كان موضوعا للدوام لكان قوله : « لا تضرب زيدا غدا » مجازا ، والتالي باطل والمقدّم مثله ، والملازمة ظاهرة ».

وأمّا بطلان التالي فلانتفاء العلاقة حينئذ [ بينه و ] بين المعنى الحقيقي.

وفيه أيضا : أنّا لا نقول بالوضع وعليه نلتزم المجازيّة في المثال المذكور ، ودعوى بطلانها لانتفاء العلاقة ، يدفعها : أنّ العلاقة في المجازات ما يكشف عنها الصحّة العرفيّة ولا خلاف في صحّة الاستعمال في ذلك المثال.

غاية الأمر كونها عند أهل القول بالوضع للدوام مستندة إلى العلاقة وإن لم تكن معلومة ، مع المنع عن انتفائها أيضا على فرض إنحصارها في الأنواع المعهودة لجواز اعتبارها كالعلاقة بين الكلّي والفرد ، نظرا إلى أنّ ترك الضرب في الغد فرد من أفراد ترك الضرب دائما كما لا يخفى.

ومنها : ما حكاه فيه أيضا من : أنّه لو كان موضوعا ودالاّ على طلب الترك في جميع الجزئيّات كما لو قال : « لا تفعل في شيء من الأوقات » لما صحّ قوله : « لا تفعل في هذه الساعة » والتالي باطل.

أمّا الملازمة : فلأنّ المثال المذكور يكون على التقدير المفروض من قبيل تخصيص العامّ إلى أقلّ من النصف وهو غير جائز.

وأمّا بطلان التالي فواضح.

وفيه : أنّا لا نقول بالوضع له ، وحينئذ فغاية ما يلزم في الفرض المذكور إنّما تقييد المطلق بأقلّ أفراده وهو جائز ، مع توجّه المنع إلى الملازمة حتّى على القول بالوضع لما هو المقرّر في محلّه المتّفق عليه من أنّ المطلق والمقيّد إذا كانا منفيّين يجب العمل بهما من دون تصرّف في أحدهما ، فلا داعي في المثال المفروض إلى حمل قوله : لا تفعل ، على معنى قوله : « لا تفعل في هذه الساعة » ليلزم التخصيص إلى الأقلّ أو التقييد به.

ص: 523

فائدة في أنّ الدوام مستلزم للفور

فائدة :

لمّا أثبتنا كون النهي للدوام والتكرار ، وجب القول بأنّه للفور * ؛ لأنّ الدوام يستلزمه.

___________________________________

ومنها : ما حكاه فيه أيضا من : أنّ نحو « لا تفعل » مركّب من حرف وفعل ولا شكّ أنّ شيئا منهما منفردا ليس ممّا يفيد العموم وضعا ، فالأصل ذلك بعد التركيب ، والأصل عدم إفادة التركيب الزيادة على ما هو من مقتضياته ولوازمه عقلا ومن الظاهر أنّ الدوام ليس منها.

وفيه : منع واضح ، فإنّ الدوام على ما قرّرناه من مقتضيات التركيب ولوازمه عقلا وإنكاره مكابرة واضحة.

* وحيث إنّ التكليف إيجابيّا كان أو سلبيّا يختصّ بوقت إمكان الفعل وما عداه خارج عن مورد التكليف - فعلا كان أو تركا - فالفوريّة الملازمة للدوام يراد بها ترك الفعل عن أوّل أزمنة إمكانه ، وذلك يختلف باختلاف الأفعال عند تقضّي زمان النطق في الافتقار إلى المقدّمات وعدمه ، فما أمكن وقوعه في ثاني زمان النطق باجتماع مقدّمات وقوعه يجب الانتهاء عنه في ذلك الآن إلى آخر ما يقتضيه الدوام ، وما توقّف إمكان وقوعه على مضيّ مدّة يجتمع فيها شرائط الوقوع يجب الانتهاء عنه عند تقضّي تلك المدّة من غير فرق بين طولها أو قصرها ، وما حصل من الانتهاء في أثنائها عن حال النطق فهو انتهاء قهريّ لا يترتّب عليه حكم من المدح والثواب ولا يعدّ من امتثال النهي في شيء لخروجه عن مورده ، ولا فرق في كون الفور من لوازم الدوام - على القول به - بين كون الدوام من مقتضيات النهي التزاما عقليّا كما رجّحناه أو من مقتضياته وضعا كما هو ظاهر الجماعة ، والوجه في لزومه له أنّه لو أتى بالفعل المنهيّ عنه عند أوّل أزمنة إمكانه كان مناقضا لدوام تركه ، كما أنّ الإتيان به في سائر أزمنة إمكانه مناقض له ، فيكون عصيانا ومخالفة للنهي.

ومن الأفاضل من أورد على إطلاق العبارة الحاكمة بلزوم الفور للدوام : « بأنّ ذلك لا يتمّ لو قلنا بدلالة صيغة النهي على جواز التراخي أو وجوبه على ما قيل به في الأمر في قول شاذّ ، إذ لا منافاة بينه وبين دلالتها على الدوام ، فإنّها إنّما تفيد الدوام على حسب الطلب الحاصل في المقام ، فإذا كان الطلب على سبيل التراخي جوازا أو وجوبا كان الدوام الملحوظ فيه أيضا كذلك » (1).

ص: 524


1- هداية المسترشدين 3 : 40.

ومن نفى كونه للتكرار ، نفى الفور أيضا *. والوجه في ذلك واضح.

___________________________________

وهذا جيّد لو ثبت القول بالتراخي على أحد الوجهين هنا ، ولكنّه لم نقف على قائل به ولا حكاه أحد ، وكان إطلاق المصنّف وغيره في الحكم بلزوم الفور للدوام مبنيّ على انتفاء القول به فيكون الإيراد المذكور في غير محلّه.

* ويشكل ذلك : بأنّا نرى أنّ قوله للمتشاغل بضرب زيد : « لا تضرب زيدا » لا يفيد التكرار مع إفادته الفور جزما.

إلاّ أن يوجّه : بأنّ المراد من نفي الفوريّة على القول بعدم التكرار نفي لزومها لا نفي إمكانها ، ولكن يشكل ذلك أيضا بعدم ثبوت تلك الدعوى على سبيل الكلّيّة كما يقتضيه ظاهر العبارة ، بل الّذي يظهر منهم وقوع الخلاف في ذلك عند أهل القول بعدم التكرار.

ألا ترى أنّ العلاّمة في التهذيب مع قوله بعدم التكرار صرّح بعدم دلالته على الفور ، ومثله ما في شرح المنهاج حيث قال : « وإذا لم يكن مفيدا للتكرار لم يكن مفيدا للفور كما عرفت في الأمر ، لجواز أن يقال : لا تفعل في الحال أو بعد غد ».

خلافا لما حكي عن الشيخ والسيّد في العدّة والذريعة من التصريح بالفور مع ذهابهما إلى عدم الدلالة على التكرار.

فعن الشيخ أنّه قال : « إنّما قلنا إنّه يقتضي الفور دون التراخي لما دلّلنا عليه من أنّ الأمر يقتضي الفور والأدلّة سواء ، وأيضا فلو لم يقتض ذلك في الثاني لوجب أن يقترن به البيان فمتى لم يقترن به البيان دلّ على أنّه قبيح في الثاني ».

وعن السيّد نفي إمكان التراخي في النهي حيث قال : « القول بالفور ممكن فيه كما بيّنّاه في الأمر ، غير أنّ التخيير في الأوقات المستقبلة غير ممكن فيه كما أمكن في الأمر ، لأنّ الأمر إنّما يتناول على سبيل التخيير كلّ فعل مستقبل على البدل ، للتساوي في الصفة الزائدة على الحسن ، والنهي يقتضي القبح فلو تساوت الأفعال في القبح لوجب العدول عن الجميع لا على جهة التخيير » انتهى (1).

فظهر أنّ دعوى الملازمة بين القول بعدم التكرار ونفي لزوم الفور ممّا لا وجه له.

بقي في المقام امور ينبغي التنبيه عليها :

ص: 525


1- الذريعة إلى اصول الشريعة 1 : 176.

الأوّل : هل التكرار على القول به مطلوب واحد حصل عن اعتبار التروك بعضها مقيّدا ببعض بحيث لو أخلّ ببعضها لم يكن ممتثلا أصلا وترتّب عليه العقاب كما كان يترتّب على الإخلال بالجميع ، أو مطلوبات متعدّدة على حسب تعدّد الأمكنة والأوقات بحيث لو حصل الإخلال ببعضها أحيانا لم يكن قادحا في الامتثال ببعض آخر سابق عليه أو لاحق به؟وجهان ، من أنّ الناهي لاحظ التروك بأجمعها ونزّل المجموع منها منزلة الواحد فطلبه ، ومن أنّه لا حظ كلّ ترك على حدة واعتبره منفردا مع قطع النظر عن صاحبه فطلب الجميع بهذا الاعتبار.

فقضيّة ما ذكر من الوجهين أن لا يكون في اللفظ دلالة على أحد المعنيين ما لم ينضمّ إليه خارج ، هذا على القول بدخول التكرار في مدلول النهي باعتبار الوضع ، وأمّا على المختار فالمتّجه هو الوجه الثاني ، لأنّ المطلوب حينئذ إنّما هو ترك الماهيّة المطلقة لا بشرط شيء من الامور الوجوديّة والعدميّة ، وهو كلّي أفراده التروك المتميّزة بخصوصيّات الأمكنة والأوقات ، كما أنّ الماهيّة كلّي أفراده الإيقاعات المتميّزة بخصوصيّاتهما ، وكما أنّ كلّ إيقاع ما يصدق عليه إيجاد الماهية وإدخالها في الوجود فيترتّب عليه العقاب بهذا الاعتبار ، فكذلك كلّ امتناع فإنّه يصدق عليه الترك المطلق بالامتناع عمّا يتحقّق في ضمنه الماهيّة المطلقة المطلوب تركها ، فيترتّب عليه الثواب وإن تعقبه نقيض الترك في الأزمنة المتأخّرة.

وممّا يرشد إلى ذلك صدق الامتثال عرفا وفي نظر العقلاء بما يتحقّق من الترك في المحرمات كائنا ما كان من دون أن يكون مراعى على وصول آخر أزمنة العمر مع انتهاء الترك إليه.

الثاني : إذا دار الأمر في النهي بين حمله على التحريم مع عدم الدوام أو على الكراهة مع الدوام فالمتعيّن على المختار هو الأوّل ، لأولويّة التقييد بالقياس إلى المجاز ، وأمّا على غيره وهو الوضع للتكرار فقد يقال : بلزوم الوقف لدوران الأمر حينئذ بين مجازين لا ترجيح بينهما ، إلاّ أن يقال : بكون الكراهة في النهي أشيع من غير الدوام فيكون الثاني أولى بالترجيح.

الثالث : إذا علم بعدم إرادة الدوام من نهي مخصوص ودار الأمر في حمله بين ما هو أقرب إلى الدوام وغيره فالمرجع فيه على المختار - بناء على التحقيق - هو الاصول العمليّة من براءة أو اشتغال ، والأوّل أقرب لرجوع الشبهة إلى الشكّ في التكليف كما لا يخفى ، إلاّ على احتمال ارتباط التروك بعضها ببعض في تعلّق الطلب بها ، وأمّا على القول بالوضع للدوام فقد يقال : بلزوم حمله على الأقرب تعليلا بما تقرّر عندهم من وجوب

ص: 526

أصل

اجتماع الأمر والنهي

الحقّ امتناع توجّه الأمر والنهي إلى شيء واحد*.

___________________________________

الحمل على أقرب المجازات عند تعذّر الحقيقة ، وهو واضح الضعف ، بل لا مناص من الاصول حتّى على هذا القول لمكان الإجمال المحقّق لموضوع الأصل.

* ربّما يستشمّ عن سياق المصنّف ومن تبعه في إيراد المسألة في باب النواهي عقيب الأوامر - مضافا إلى استناد غير واحد من المانعين عن الاجتماع إلى فهم العرف المقرّر : بأنّ أهل العرف يحكمون بعدم جواز الاجتماع وإن كان العقل لا يأباه كما عن سلطان العلماء وصاحب الرياض - كون المسألة لغويّة راجعا البحث فيها إلى دلالة اللفظ.

وربّما يوهمه احتجاج المجوّزين بما يأتي من أنّ السيّد إذا أمر عبده بخياطة الثوب ونهاه عن الكون في مكان مخصوص ثمّ خاطه في ذلك المكان ، فأنّا نقطع بأنّه مطيع عاص لجهتي الأمر بالخياطة والنهي عن الكون.

ولكنّه خطأ صرف ينشأ عن عدم التفرقة بين جهات البحث في المسائل المختلف فيها ، فإنّ البحث هنا راجع إلى بعض أحكام الوجوب والحرمة اللذين هما من قبيل المدلول من غير مدخليّة لخصوصيّة دليل فيهما ولا استفادتهما من اللفظ ، فيكون المسألة من المبادئ الأحكاميّة المندرجة في المسائل العقليّة الصرفة ، الّتي يراد بالجواز وعدمه فيها الإمكان والامتناع العقليّين دون الجواز وعدمه اللغويّين اللذين يراد بهما الغلطيّة وخلافها ، ولا ينافيه التعبير في أكثر العناوين - كما في العبارة - بالأمر والنهي ، بناء على أنّ المراد بهما ما هو من مقولة المعاني كما هو الأصل فيهما لا الألفاظ الّتي هي المراد منهما في أكثر مباحث الأوامر والنواهي.

أمّا على المختار فواضح ، وأمّا على غيره من تفسيرهما في مقام التحديد بما هو من مقولة الألفاظ فلأنّه مسامحة في التعبير أو تجوّز من باب التغليب ، أو اتّباع لأهل العربيّة ، كيف ولا أظنّ أحدا ينكر دلالة اللفظ في قوله : « صلّ ولا تغصب » بالنسبة إلى مورد الاجتماع ولو التزاما ، فإنّ الدلالة حاصلة باعتبار الظهور العرفي ، وإنّما الكلام في إمكان اجتماع المدلولين فيه ليجب إبقاء اللفظ على دلالته وامتناعه ليوجب تطرّق التأويل إليه وصرفه عمّا هو ظاهر فيه ، أو غيره من الوجوه المختلف فيها في مسألة التعادل والترجيح.

ولا شهادة في إيراد المسألة في سياق النواهي كما عرفت عن المصنّف وغيره ، ولا في

ص: 527

تمسّك من عرفت بالفهم العرفي ، ولا في الاحتجاج بالمثال المشار إليه بما يخالف ذلك.

أمّا الأوّل : فلا بتنائه على عدم وضع ما يبحث فيه عن المبادئ الأحكاميّة كما في أكثر الكتب الاصوليّة مع مراعاة المناسبة فيما بين المسائل في الجملة ، كما يرشد إليه أيضا إيراد مسألة نسخ الوجوب وغيره في مباحث الأمر.

وأمّا الثاني : فلأنّه استكشاف عن بناء العقلاء الكاشف عن حكم القوّة العاقلة من غير ابتناء له على قيام الدلالة من اللفظ وضعا أو عرفا.

وأمّا الثالث : فلعين ما ذكر ، فإنّ عدم التنافي بين المدلولين شيء لا يدركه إلاّ العقل كالتنافي بينهما ، وإذا أراد أحد المتخاصمين إلزام صاحبه على خلاف ما ادّعاه فإنّما يلزمه بما يكشف عن ذلك ممّا يرتّبه العرف والعقلاء من الآثار على ما يفهمون في مخاطباتهم ومعاملاتهم.

ومن الأعلام (1) من صرّح بكونها من المسائل الكلاميّة ووافقه على ذلك غيره أيضا.

وأورد عليه : بأنّه ناش عن توهّم أنّ كلّ مسألة عقليّة يجب أن يبحث عنها في علم الكلام وليس الأمر كذلك ، فإنّه غفلة عن تعريف علم الكلام بأنّه العلم الباحث عن أحوال المبدأ والمعاد ، والباحث عن الصانع وما يصحّ عليه وما لا يصحّ عليه ، وجواز الاجتماع وعدمه ليس ممّا يتعلّق بالمبدأ والمعاد ، وليس ممّا يصحّ على الصانع وما لا يصحّ.

نعم لو رجع النزاع في المسألة إلى جواز الأمر والنهي معا وقبحه كما في مسألة جواز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه لكان في عدّها من المسائل الكلاميّة وجه.

وفيه : أنّ من جملة ما يرجع إلى أحوال المبدأ صحّة التكليف عليه تعالى بل وجوبه ، [ ومرجع جواز الاجتماع وعدمه إلى صحّة التكليف بالإيجاب والتحريم في شيء واحد ذي جهتين وعدمه بشبهة كونه تكليفا بما لا يطاق أو جمعا بين المتضادّين أو غير ذلك ممّا لا يصحّ عليه تعالى ](2) ولا ريب أنّ الوجوب والحرمة من جزئيّات التكليف الّذي هو من جزئيّات موضوع العلم ، فيكون البحث عن إمكان اجتماعهما وامتناعه بحثا عن حال الموضوع بالواسطة فيصحّ عدّه من المسائل الكلاميّة ، فلا ينحصر مباحث الكلام فيما يرجع إلى مسألة القبح وضدّه ، وعلى ما ذكرناه يبتني توهّم ما ذكر فله وجه.

ص: 528


1- القوانين 1 : 140.
2- أخذناه عن حاشيته على القوانين ( ص : 99 ) وأدرجناه في المتن تتميما للمرام وإيضاحا للكلام.

على أنّه لو سلّم الانحصار أمكن دعوى كون ما نحن فيه من هذا القبيل ، كما ربّما يكشف ما قد يوجد في كلام بعض القائلين بعدم جواز الاجتماع من الاحتجاج بلزوم تكليف ما لا يطاق وإن كان فيه مناقشة ستعرفها.

ويمكن عدّها من المسائل الاصوليّة بدعوى رجوع البحث فيها إلى حكم العقل بإمكان الاجتماع وامتناعه الّذي هو أحد أنواع موضوع هذا العلم نظير سائر الاستلزامات العقليّة.

ولا ينافي ذلك ما قرّرناه من جواز عدّها من المسائل العقليّة من باب المبادئ الأحكاميّة ، ولا عدّها من المسائل الكلاميّة الواردة في الفنّ من الباب المذكور ، لأنّ هذه اعتبارات يلحقها من جهة ما في موضوعها من اجتماع جهات عديدة.

ومن الجائز أن يجتمع في شيء جهات يصحّ عدّ البحث عنه في كلّ جهة عن مسألة ، ولا ريب أنّ الوجوب والحرمة من جهة أنّهما من الأحكام يصحّ عدّها من المبادئ الأحكاميّة ، ومن جهة أنّهما من جزئيّات التكليف الّذي هو من موضوعات الكلام يصحّ عدّ البحث فيهما من المسائل الكلاميّة ، ومن جهة أنّ البحث فيهما راجع إلى حكم العقل يصحّ عدّها مسألة اصوليّة.

نعم يرد على الأخير : أنّه إن سلّمنا هذا الاعتبار فهو لا يوجب كونها مسألة اصوليّة ، لأنّه بحث عن حال ذات العقل من حيث إنّه يحكم بالإمكان أو يحكم بالامتناع ، لا أنّه بحث عن حال الحكم العقلي وهذا بحث في المسألة الاصوليّة ، لأنّ الدليل هو الحكم العقلي لا ذات العقل.

نعم على القول بكفاية عدّ المسألة من مسائل الفنّ صدق تعريفه عليها وإن لم يكن البحث فيها راجعا إلى موضوعه تمّ عدّها من المسائل ، لصدق تعريفه : « بأنّه العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة » عليها كما ستعرفه.

فإن قلت : لا يصحّ عدّها عن شيء ممّا ذكر لعدم إندراجها في ضابط المبادئ الأحكاميّة من كونها ممّا يتفرّع عليه شيء من مسائل الفنّ ، ولا في ضابط المسائل الاصوليّة من كونها ممّا يتفرّع عليه مسألة من المسائل الفرعيّة بكونها ممّا يؤخذ جزءا في استدلالات الفقه.

قلنا : بمنع ذلك بدعوى اندراجها في كلّ من الضابطين.

أمّا الأوّل : فلرجوع البحث فيها إلى إحراز صغرى التعارض المبحوث عنه في مسألة التعادل والترجيح ونفيه ، فعلى القول بجواز الاجتماع يتّجه وجوب إعمالهما والأخذ

ص: 529

بموجبهما من غير تصرّف في أحد الخطابين.

وعلى القول بامتناعه يرجع البحث إلى النظر في أولويّة الجمع وعدمها ، وعلى تقدير العدم يجري فيه ما يجري فيما لا يمكن الجمع بينهما من المتعارضين من أقوالهم الثلاث المعروفة من البناء على التخيير أو التوقّف أو الرجوع إلى الأصل بعد التساقط ، فكلّ يرجع إلى مذهبه.

وهذا نظير بحثهم في المسألة الآتية من اقتضاء النهي فساد المنهيّ عنه أو عدمه مع اتّفاقهم في بحث المطلق والمقيّد على وجوب حمل المطلق على المقيّد إذا كانا مثبتين أو مختلفين ، نظرا إلى ابتناء قاعدة الحمل المتّفق عليها على التنافي بين مقتضى المطلق ومدلول المقيّد فلا تجري إلاّ في موضع التنافي ، والبحث المذكور واقع لإحراز التنافي بين مفاد النهي ومفاد خطاب متعلّقه من عبادة أو معاملة.

فمن قال بالفساد الناشئ عن التنافي أوجب تقييد المطلق عملا بالقاعدة المتّفق عليها ، ومن قال بعدمه أوجب إعمالهما معا ، فلا منافاة بين هذا الخلاف وذاك الوفاق كما توهّم.

وممّا ذكرنا ينقدح بطلان الاعتراض الّذي أورده بعض من لا تدبّر له من أهل العصر على بعض الأعلام في ذهابه هنا إلى جواز اجتماع الأمر والنهي مع مصيره في بحث التعادل والترجيح إلى منع أولويّة الجمع من الطرح فيما يمكن فيه ذلك ، ردّا على ما اشتهر بينهم من أنّ الجمع مهما أمكن أولى من الطرح على الإطلاق ، كما صرّح به في غير ذلك الموضع أيضا ، فإنّ مبنى كلامه هنا على إنكار التنافي بين الأمر والنهي المجتمعين في محلّ واحد ذي جهتين ، وثمّة على فرض التعارض الّذي هو عبارة عن تنافي مدلولي الدليلين ، بل لا يرد هذا الاعتراض على من يستحيل الاجتماع هنا وينكر أولويّة الجمع ثمّة ، لأنّه لا يقول حينئذ بوجوب إعمالهما معا لينافي استحالة اجتماعهما ، بل يبني على واحد من الأقوال الثلاث المشار إليها لوقوعها في فرض التعارض بالمعنى المذكور أيضا.

ويندفع به أيضا ما قد يتوهّم من أنّ القول بجواز الاجتماع هنا وعدم دلالة النهي على الفساد في المسألة الآتية منافيان ، لما ذهبوا إليه في بحث التعادل من التوقّف في العامّين من وجه كما عليه جمع ، أو التخيير كما عليه آخرون ، أو التساقط والرجوع إلى الأصل كما عليه ثالث ، ولما ذهبوا إليه في العامّ والخاصّ المتنافي الظاهر من وجوب بناء العامّ على الخاصّ ، ولم يذهب أحد في الأوّل بالعمل بهما معا كما هو لازم قولهم بجواز الاجتماع ، ولا في الثاني بإعمال كلّ من العامّ والخاصّ كما هو لازم القول بعدم دلالة النهي على

ص: 530

ولا نعلم في ذلك مخالفا من أصحابنا. ووافقنا عليه كثير ممّن خالفنا*.

_______________________________

الفساد ، وأيضا ذكروا في باب التراجيح وجوب المراجعة في العامّين من وجه إلى المرجّحات الداخليّة أو الخارجيّة أوّلا ثمّ التوقّف أو التخيير أو التساقط بعد العجز عن الترجيح ، وفي مسألة العامّ والخاصّ إذا كان الخاصّ موهونا ببعض الموهنات أنّه يقدّم العامّ عليه ولم يصرّحوا بما يوافق هذا الكلام أو يناسبه هنا.

الإشارة إلى أقوال المسألة

وجه الاندفاع : أنّ هذه المقالة كلّها من المسألتين المشار إليهما في كلّ من الوجهين مبنيّة على فرض التنافي وعدم البناء عليها هنا ، وفي بحث النهي مبنيّ على إنكار التنافي ، فالسالبة حينئذ بانتفاء الموضوع على القول بالجواز وعدم الدلالة على الفساد ، فلذا ترى أنّ القائل بامتناع الاجتماع هنا يراجع المرجّحات الداخليّة أو الخارجيّة فيقدّم النهي على الأمر أخذا بموجب المرجّحات الّتي يأتي الإشارة إليها في ذيل المسألة.

وأمّا الثاني : فلأنّ تصحيح المأمور به على القول بالجواز مع التزام المعصية المترتّبة على جهة النهي وإفساده مع المعصية ، أو تصحيحه مع نفي المعصية على القول بالامتناع القاضي بارتكاب التخصيص في الأمر أو النهي تمسّكا بالقاعدة الاصوليّة - حسبما هو المختار في تلك المسألة - ممّا يصلح مسألة فرعيّة ، بناء على كون الصحّة والفساد المبحوث عنهما في الفقه من المسائل الفرعيّة المقصودة بالأصالة من وضع فنّ الفقه ، كما يفصح عن ذلك ما يكثر عن الفقهاء من أخذ المسألة على كلّ من قوليها وسطا في استدلالات المسائل الفقهيّة كما لا يخفى على الخبير البصير.

* كما عليه ابن الحاجب في المختصر وشارحه في البيان ، حكاه في المنية عن أصحابنا والجبائي وأحمد بن حنبل ، ومرويّ مالك والقاضي أبي بكر من الأشاعرة وفخر الدين ، وعليه الفاضل التوني من أصحابنا وغير واحد من متأخّريهم.

بل حكي القول به عن أكثر أصحابنا ، وعن العلاّمة في المنتهى ، والسيّد في الذريعة ، وصاحب المدارك ، وإحقاق الحقّ وتجريد الاصول ، مع دعوى الإجماع عليه كنفي الخلاف فيه من المصنّف ، بل عن بعضهم دعوى الضرورة فيه.

ثمّ عن العامّة من أهل هذا القول بعد الاتّفاق على عدم صحّة العبادة المنهيّ عنها كالصلاة في الدار المغصوبة الخلاف في سقوط الفرض به.

وعن القاضي وفخر الدين « نعم » وعن الباقين « لا ».

ص: 531

وأجازه قوم *. وينبغي تحرير محلّ النزاع أوّلا فنقول :

الوحدة تكون بالجنس وبالشخص. فالأوّل يجوز ذلك فيه ، بأن يؤمر بفرد وينهى عن فرد ، كالسجود لله تعالى ، وللشمس ، والقمر. وربّما منعه مانع ، لكنه شديد الضعف ، شاذّ. والثاني إمّا أن يتّحد فيه الجهة ، أو تعدّد. فان اتّحدت ، بأن يكون الشيء الواحد من الجهة الواحدة مأمورا به منهيّا عنه ؛ فذلك مستحيل قطعا. وقد يجيزه بعض من جوّز تكليف المحال - قبّحهم اللّه - ومنعه بعض المجيزين لذلك ؛ نظرا إلى هذا ليس تكليفا بالمحال ، بل هو محال في نفسه ؛ لأنّ معناه الحكم بأنّ الفعل يجوز تركه ، ولا يجوز. وإن تعدّدت الجهة ، بأن كان للفعل جهتان ، يتوجّه إليه الأمر من إحداهما ، والنهي من الأخرى ، فهو محلّ البحث ؛ وذلك كالصّلاة في الدار المغصوبة ، يؤمر بها من جهة كونها صلاة ، وينهى عنها من حيث كونها غصبا ؛ فمن أحال اجتماعهما أبطلها ، ومن أجازه صحّحها.

_______________________________

* تنكير القوم إشعار بندرة القائل به ، غير أنّ بعض الأعلام عزاه إلى أكثر الأشاعرة ، واستظهره عن الكليني هنا في كتاب الطلاق (1) حيث نقل فيه كلام الفضل بن شاذان ولم يطعن عليه ، وإلى جماعة من متأخّرينا كالمحقّق الأردبيلي وسلطان العلماء والمحقّق الخوانساري وولده المحقّق والمدقّق الشيرواني والفاضل الكاشاني والفضل بن شاذان.

واستظهره عن السيّد في الذريعة ، وعليه السيّد صدر الدين في شرحه لوافية التوني على خلاف ما ذهب إليه ما تنها ، وقد يحكى في المسألة قول بالتفصيل فيما بين العقل فلا يمتنع والعرف فيمتنع ، وقوله الآخر بالتفصيل عن جماعة من متأخّري المتأخرين فيما بين النفسيّين فأحالوه والغيريّين والملفّقين فأجازوه ؛ وتحقيق القول في المسألة يستدعي رسم مقدّمات :

المقدّمة الاُولى : مورد الأمر والنهي إمّا أن يكون متّحداً أو متعدّداً

المقدّمة الاولى

مورد الأمر والنّهي - وهو العنوان الّذي يرد به الخطاب أصالة - إمّا أن يكون متّحدا على معنى تعلّقهما بعنوان واحد ، أو متعدّدا على معنى تعلّقهما بعنوانين.

ص: 532


1- الكافي 6 : 94.

أمّا الأوّل : فالوحدة فيه قد تكون شخصيّة ، وقد تكون نوعيّة بالمعنى الأعمّ من الجنسيّة ، وعلى الوحدة الشخصيّة فإمّا أن يكون الجهة في تعلّق الحكمين متّحدة أو متعدّدة مع كون الجهتين وصفين لازمين ، كالأمر بإكرام زيد لنطقه والنهي عن إكرامه لضحكه بالقوّة ، أو عرضين مفارقين كالأمر بإكرام زيد من جهة أنّه صائم والنهي عن إكرامه من جهة أنّه فاسق ، أو إحداهما وصفا لازما والاخرى عرضا مفارقا كالأمر بإكرام زيد لشجاعته والنهي عن إكرامه لفسقه ، أو الأمر بإكرامه لعدالته والنهي عن إكرامه لشجاعته.

وعلى الوحدة النوعيّة فالجهة في تعلّقهما أيضا إمّا متّحدة أو متعدّدة من باب الوصف اللازم ، أو العرض المفارق فيهما ، أو في إحداهما ، وهذه ثمانية صور جارية ، أربع منها في الواحد بالشخص واخرى في الواحد بالنوع.

وأمّا الثاني : فالنسبة بين العنوانين إمّا التساوي - على معنى صدق كلّ منهما على ما صدق عليه الآخر لكونهما متغايرين ذهنا متّحدين خارجا كالأمر بالجهر في الصلاة والنهي عن إسماع الصوت فيها ولو تقديرا ، أو صدق كلّ منهما عند صدق الآخر لكونهما متغايرين ذهنا وخارجا كما في العلّة والمعلول ومعلولي العلّة المشتركة - أو التباين مع كونهما متعاندين كالصلاة والزنا ، أو متخالفين كالصلاة والنظر إلى الأجنبيّة ، أو عموم وخصوص مطلق مع تعلّق الأمر بالعامّ والنهي بالخاصّ كالأمر بالصلاة والنهي عنها في الدار المغصوبة ، أو بالعكس كالنهي عن الصلاة والأمر بها في الدار ، أو عموم من وجه كالصلاة والغصب ، وهذه أيضا أربعة إذا انضمّت إلى الثمانية المذكورة يرتقي الصور إلى اثني عشر ، ليس من محلّ الخلاف هنا على ما اتّفقت عليه كلمتهم تصريحا وظهورا عنوانا ومثالا ودليلا إلاّ بعض منها ، وتفصيل القول في ذلك تمييزا لموضع الخلاف عن غيره يستدعي التعرّض لذكر كلّ صورة ببيان ما هو الحال فيها.

فالصورة الاولى : ما كان متعلّق الأمر والنهي شيئا واحدا شخصيّا لجهة واحدة كما لو قال : « أكرم زيدا العالم » و « لا تكرم زيدا العالم » وفي حكمه ما لو تعلّقا به لذاته كقوله : « أكرم زيدا » و « لا تكرم زيدا » ولك أن تعتبر الجهة الواحدة ما يعمّ الذاتي والعرضي ، وكيف كان فلا إشكال في امتناع اجتماعهما فيه كما صرّح به غير واحد ، لاستحالة اتّصاف الواحد بالشخص بالحسن والقبح من جهة واحدة ، مع امتناع تعلّق الإرادة والكراهة به فيكون تكليفا محالا ، مع كونه تكليفا بالمحال أيضا لتعدّد الجمع بينهما في الامتثال ، فإنّ مبناه

ص: 533

على استحالة الخروج عن العهدة ، فلا يفرق فيها بين كونها ناشئة عن امتناع المتعلّق أو اجتماع تكليفين متضادّين في محلّ واحد إذا ناقض جنس كلّ لفصل الآخر كالمقام ، فلا يتأتّى امتثالهما إلاّ بالجمع بين الفعل والترك وهو مستحيل ، بل لم نقف على من جوّزه إلاّ في قول شاذّ عن بعض الأشاعرة لتجوّزه التكليف بالمحال عقلا وشرعا.

وأمّا القائلون منهم بجوازه عقلا لا شرعا فلا يجوّزونه أيضا تمسّكا بقوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها ) (1) كما في بيان المختصر.

وقد يقال : بأنّهم أيضا مطبقون على عدم الجواز هنا وإن كان يجوّزون التكليف بالمحال ، لكونهم إنّما يجوّزونه في كلّ موضع يقول العدليّة بجواز التكليف فيه بدعوى رجوع نزاعهم إلى الصغرى بعد اتّفاق الفريقين على التكليف فيه ، كالأمر بالصلاة ونحوها ، فإنّهما بعد اتّفاقهما عليه اختلفوا في كونه تكليفا بالمحال وعدمه ، فالأشاعرة على الأوّل لزعمهم كون العباد مجبورين في الأفعال ، والعدليّة على الثاني لقولهم بكون العبد فاعلا مختارا ، وهو كما ترى ليس على ما ينبغي وكأنّه ناش عن عدم الخبرة بطريقة الأشاعرة ، فإنّهم يجوّزون أصل التكليف بالمحال وإن كانت الاستحالة ناشئة عن غير جهة الجبر ، وقد سبق في بحث أمر الآمر مع علمه بانتفاء الشرط ما يرشد إلى ذلك.

والصورة الثانية : ما لو تعلّق الأمر والنهي بشيء واحد شخصيّ لجهتين مندرجتين في الأوصاف اللازمة ، كما لو قال : « أكرم زيد الناطق » و « لا تكرم زيدا الضاحك » أو قال : « أكرم زيدا لسرور أبيه » و « لا تكرمه لإهانة عدوّه » ولم نقف على من أحاله إلاّ الفاضل النراقي في إلحاقه له بالواحد الشخصي من جهة واحدة ، وكأنّه لزعم تعذّر الامتثال من جهة عدم اتّفاق فعله امتثالا للأمر إلاّ ويصدق فعله للجهة المحرّمة ، ولا اتّفاق تركه امتثالا للنهي إلاّ ويصدق عليه الترك للجهة الواجبة ، فيستحيل الجمع بينهما في الامتثال.

وفيه : أنّه لا يستقيم إلاّ إذا أخذت كلّ من الجهتين علّة للحكم المناسب لها خارجة عن موضوعه كما لا يخفى على المتدبّر ، لأنّ الأحكام تدور على عناوينها المقرّرة وتتعدّد بتعدّدها ، والعنوان ما لا حظه المولى مصلحة أو مفسدة فيه فعلّق الحكم عليه ، ولا يستحيل عند العقل كون « إكرام زيد » من جهة إضافته إلى إحدى الجهتين عنوانا راجحا في نظره لما فيه من المصلحة ومن حيث إضافته إلى الجهة الاخرى عنوانا آخر مرجوحا في نظره لما

ص: 534


1- البقرة : 286.

فيه من المفسدة ، غايته كونهما فردين متشاركين في النوع وهو لا يوجب محذورا ، ولا استحالة الخروج عن عهدة التكليف بهما بالفعل والترك ، لكون فعله بقصد الحيثيّة الاولى ما يصدق عليه العنوان المأمور به خاصّة ، كما أنّ تركه بقصد التجنّب عن الحيثيّة الثانية ما يصدق عليه ترك العنوان المنهيّ عنه خاصّة.

فدعوى عدم اتّفاق الفعل إلاّ ويصدق عليه العنوان المنهيّ عنه ولا اتّفاق الترك إلاّ ويصدق عليه ترك العنوان المأمور به ، باطلة مخالفة للذوق والوجدان.

وإلى ذلك ينظر ما في التهذيب والمنية في الخروج عن الدار المغصوبة من أنّه قبيح إن قصد به التصرّف في المغصوب وحسن إن قصد به التخلّص عن الغصب. وحكي مثله عن عدّة الشيخ وعن ذريعة السيّد.

فمن دخل دار غيره على سبيل الغصب فله الخروج بنيّة التخلّص وليس له التصرّف بنيّة الفساد.

نعم لو فعله بقصد الحيثيّتين كان مصداقا للعنوانين ويجري فيه حينئذ مقالتهم في المتنازع فيه حرفا بحرف وقذّا بقذّ ، وإن كان ممّا لا يساعد عليه ظواهر عباراتهم عنوانا وتمثيلا غير أنّ الخطب في ذلك بعد ملاحظة وحدة المناط سهل ، ولا يقاس ذلك على ما تقدّم في الصورة الاولى لكون العنوان فيه واحدا.

الصورة الثالثة : ما لو تعلّق الأمر والنهي بشيء واحد شخصي لجهتين مندرجتين في الأعراض المفارقة كما لو قال : « أكرم زيدا القائم » و « لا تكرم زيدا الفاسق » ومثّل له في الوافية بلطم اليتيم تأديبا وظلما والسجود لله ولغيره مصرّحا بجواز تعلّق الأمر باعتبار أحد الوصفين والنهي باعتبار الوصف الآخر ، فحينئذ يجب إيقاعه على الوصف الأوّل ويحرم إيقاعه موصوفا بالوصف الثاني ، وظاهره خروج ذلك عن المتنازع ، ويشكل بما لو أوقعه موصوفا بالوصفين على ما نبّهنا عليه سابقا من جريان المقالة في أصل المسألة في الفرض ، فإطلاق إخراج تلك الصورة عن المتنازع ليس على ما ينبغي.

والتحقيق أن يقال : إنّ الوصفين قد يؤخذ كلّ منهما علّة للحكم المناسب لها ولازمه تعلّق الحكمين بالذات البحت على حدّ ما هو مفاد قوله : « إن صام زيد فأكرمه » و « إن فسق زيد فلا تكرمه » فاتّفق أنّه فسق صائما فيلزم توارد الحكمين على إكرام زيد لذاته وهو مستحيل كالصورة الاولى.

ص: 535

غاية الفرق بينهما أنّهما يثبتان ثمّة بالقياس إلى جميع الأحوال حتّى حالة الصيام والفسق وهنا بالقياس إلى الحالتين فقط فلا يمكن العمل بهما معا.

وقد يؤخذ كلّ منهما قيدا لموضوعه فيصير الإكرام باعتبار لحوق القيدين به معنونا بعنوانين متغايرين ، فحينئذ إن افترقا فلا إشكال كما أنّه لو اجتمعا مع حصول الإتيان به على أنّه العنوان المأمور به وتركه على أنّه العنوان المنهيّ عنه فلا إشكال ، وأمّا لو حصل الإتيان على العنوانين معا كان الكلام فيه نظير ما سبق.

والصورة الرابعة : ما لو تعلّق الأمر والنهي بشيء واحد شخصي لجهتين مختلفتين كما لو قال : « أكرم زيدا لشجاعته » و « لا تكرمه لفسقه » فاتّفق في بعض حالات شجاعته أنّه فسق ، والكلام فيه على حذو ما سبق نعلا بنعل.

والصورة الخامسة : ما لو تعلّق الأمر والنهي بشيء واحد بالنوع لجهة واحدة من ذاتيّ أو عرضي ، ولا خفاء في استحالته لرجوعه بالاخرة إلى الصورة الاولى ، نظرا إلى أنّ الأمر بالماهيّة لا بشرط شيء يعمّ جميع الأفراد على البدل ولو بحكم العقل ، والنهي عنها يستلزم المنع عنها عينا حتّى الفرد الّذي توجّه إليه الأمر تخييرا عقليّا ، فيرجع مفادهما إلى المنع عن فعل كلّ فرد والإذن في فعل أحدها وهو مستحيل.

والصورة السادسة : ما لو تعلّق الأمر والنهي بشيء واحد بالنوع لجهتين لازمتين للماهيّة ، فلا إشكال في استحالته لو اخذت الجهتان علّتين للحكمين ، لاستحالة كون الشيء الواحد ولو بالنوع مصلحة ومفسدة ، كما لا إشكال في جوازه لو اخذتا قيدين حتّى يتعدّد بتعدّدهما العنوان فيمكن الامتثال والخروج عن العهدة بالقصد والنيّة في فعل أو ترك.

والصورة السابعة : ما لو تعلّق الأمر والنهي بواحد نوعي لجهتين غير لازمتين للماهيّة كالسجود الّذي يعرضه كونه لله وللصنم ، فقد نصّ غير واحد من الفريقين بجواز اجتماعهما فيه ، فالأمر من جهة أحد الوصفين والنهي من جهة الوصف الآخر من غير لزوم محذور من اجتماع المتضادّين في محلّ واحد ، ولا تعدّد الخروج عن العهدة لمكان تعدّد الموضوع في الحقيقة ، واستفاض عليه نقل الاتّفاق في كلمة الأصحاب بل لم نقف على ما يخالفه إلاّ ما عن بعض المعتزلة من مصيره إلى المنع في ذلك أيضا ، كما أشار إليه المصنّف وربّما يعلّل بجعله الحسن والقبح من مقتضيات الماهيّة الجنسيّة فالتجأ حينئذ في مثل الأمر بالسجود لله والنهي عنه للصنم إلى صرف الأوّل إلى قصد تعظيمه تعالى والثاني إلى قصد تعظيم

ص: 536

الصنم ، وحكم عليه المصنّف وغيره بالضعف والشذوذ.

والصورة الثامنة : ما لو تعلّقا بواحد نوعي لجهتين : إحداهما من لوازم الماهيّة ، والاخرى من العوارض المفارقة ، ويظهر حكمه بالتأمّل فيما سبق.

والصورة التاسعة : ما لو تعلّقا بعنوانين متساويين على أحد الوجوه المتقدّمة ، ولا ريب في استحالته من جهة تعدّد الامتثال والخروج عن عهدة التكليفين بفعل أحد العنوانين وترك الآخر والمفروض عدم انفكاك فعل أحدهما عن فعل الآخر بحسب الوجود الخارجي ، وقد تقدّم في بحث الضدّ عند تحقيق القول في اختلاف المتلازمين في الحكم ، ولم نقف على ما يقضي بإنكار ذلك إلاّ ما تقدّم في البحث المذكور من القول بجواز اختلافهما مطلقا.

والصورة العاشرة : ما لو تعلّقا بعنوانين بينهما تبائن كلّي وهي في الطرف المقابل لسابقتها في عدم الإشكال في الجواز سواء كانا متعاندين أو متخالفين ، والوجه واضح كمال الوضوح لعدم اقتضائه محذورا ولو في مورد الاجتماع في المتخالفين ، بل هو المصرّح بخروجه عن المتنازع في كلام غير واحد.

والصورة الحادية عشر : ما لو تعلّقا بعنوانين أحدهما خاصّ والآخر عامّ وقضيّة القول بامتناع الاجتماع في أصل المسألة امتناعه هنا أيضا ، كما صرّح به غير واحد لجريان دليله حرفا بحرف ، وأمّا دخولها في عنوان المسألة وعدمه فسيظهر القول فيه إن شاء اللّه.

والصورة الثانية عشر : ما لو تعلّقا بعنوانين كان كلّ أعمّ من الآخر من وجه كالأمر بالصلاة والنهي عن الغصب ، فاتّفق المكلّف مصلّيا في الدار المغصوبة ، وهذا هو المتنازع فيه على ما اتّفقت عليه كلمتهم بالتصريح والظهور عنوانا ودليلا ومثالا لا مطلقا ، بل بالقياس إلى مادّة الاجتماع الّتي هي جزئيّ حقيقي يصدق عليه كلّ من العنوانين صدق الماهيّة الكلّيّة على أحد أفرادها ، فهل يمكن كونه مأمورا به ومنهيّا عنه لجهتي الماهيّة المأمور بها والماهيّة المنهيّ عنها المتصادقتين عليه حتّى لا يتطرّق إلى شيء منهما تصرّف ولا إخراج عن الظاهر بالتقييد ونحوه ، أو يمتنع ذلك في نظر العقل؟ فلا بدّ من تصرّف في إحدى الماهيّتين بالتقييد ، فيجب الرجوع إلى وجوه التراجيح فإن فقدت فإلى التخيير أو التساقط أو الوقف حسبما هو المختار في الأمارتين المتعادلتين.

ثمّ إنّ قضيّة احتجاج المجوّزين في التفصّي عن محذور تكليف المحال بكون الجمع

ص: 537

بينهما حاصلا من سوء اختيار المكلّف اختصاص النزاع بما لو كان له مندوحة في امتثال التكليفين ، كما تنبّه عليه غير واحد منهم بعض الفضلاء (1) بأن لم يكن أفراد المأمور به منحصرة في المنهيّ عنه ، كما لو لم يتمكّن عن الصلاة إلاّ في المكان المغصوب كالمحبوس ونحوه ، بل ذلك عند التحقيق خارج عن معقد البحث ، فإنّ كلامهم هذا مفروض فيما لو ثبت على المكلّف تكليفان فعليّان أحدهما الإيجابي وثانيهما السلبي والفرض المذكور إخراج له عن أحد التكليفين وهو السلبي ، إذ لا يعقل في حقّه النهي مع عدم تمكّنه عن غير المكان المغصوب لئلاّ يلزم المنع عن غير المقدور ، فلا جرم يكون مأمورا بالصلاة وتقع عنه صحيحة على تقدير إتيانه بها في ذلك المكان لخلوّها عن المعارض وما يزاحمها في وصف الصحّة وإفادة الامتثال.

وممّا ذكر يتبيّن عدم جريان مقالتهم في العامّ والخاصّ إذا كان العامّ هو المنهيّ عنه والخاصّ هو المأمور به ، إذ ليس للمكلّف مندوحة في امتثال الأمر على تقدير العموم في النهي بل لا يتمكّن عن ذلك على هذا التقدير ، نظرا إلى أنّ المنع الشرعي كالمنع العقلي ، فيرجع المسألة إلى بحث التراجيح بتقديم الخاصّ على العامّ لظاهر العرف أو تقديم العامّ عليه إذا أصابه بعض الموهنات المخرجة له عن الاعتبار أو صلاحيّة المعارضة بعد اتّفاق الفريقين على امتناع الاجتماع حينئذ.

وأمّا عكس هذه الصورة فهل يدخل في المتنازع فيه وجهان ، من جريان الأدلّة من الطرفين فيلزم القائل بالجواز تجويزه هنا أيضا ، فيكون الخاصّ من حيث تضمّنه الماهيّة المأمور بها مأمورا به ومحصّلا للامتثال ومن حيث الخصوصيّة منهيّا عنه ، وسيأتي عن بعضهم كالفاضل الباغنوي ما يقضي بالجواز فيه أيضا مع التصريح بجريان دليل الجواز الّذي أقاموه في أصل المسألة ، ومن عدم وفاء أكثر كلماتهم المصرّحة بكون الخلاف في العامّين من وجه ، ولا تمثيلاتهم الواردة في الباب ولا سيّما المثال المعروف المتداول في ألسنتهم المتقدّم إليه الإشارة ، بل بملاحظة تعدّد العنوانين في هذه المسألة والمسألة الآتية ينبغي القطع بخروجه عن هذا العنوان ، وسيلحقك زيادة بيان في ذلك عند التكلّم في الفرق بين المسألتين.

ثمّ إنّ نسبة العموم من وجه بين المأمور به والمنهيّ عنه قد تكون حقيقيّة ثابتة فيما

ص: 538


1- الفصول : 124.

بينهما مع قطع النظر عن تعلّق الأمر والنهي بهما ، كما لو كانا في حدّ ذاتهما طبيعتين متغايرتين كالمثال المعروف ، وقد تكون اعتباريّة ناشئة عن تقييد الماهيّة تارة بشيء فيؤمر بها واخرى بشيء آخر أعمّ منه من وجه فينهى عنها ، كما لو قال : « أكرم العالم » و « لا تكرم الفاسق » ولا شبهة في كون القسم الأوّل من محلّ النزاع.

وأمّا القسم الثاني ففي كونه من محلّه إشكال ، من تناول العامّين من وجه في إطلاق عبائرهم عند بيان محلّه له ، ومن خلوّ كلماتهم عن التمثيل به.

لكن قد يقال : إنّ أهل القول بجواز الاجتماع في القسم الأوّل - على ما يتراءى منهم في بحث التعادل والتراجيح وفي كتب الفروع - على عدم جوازه في القسم الثاني ، بل ظاهرهم الإطباق عليه ، فلا يجوز وجوب إكرام العالم الفاسق وحرمته بالاعتبارين ، فيحكمون فيه بالرجوع إلى وجوه التراجيح وعلى تقدير فقدها فإلى أقوالهم في التعادل ، فيشكل الفرق حينئذ بينهما مع أنّهما في ظاهر النظر من باب واحد.

ويمكن دفعه إمّا بحمل قضيّة عدم جواز الاجتماع في كلامهم ثمّة على كونها فرضيّة نظرا إلى أنّ أغلب الموضوعات المأخوذة في المسائل المختلف فيها مبنيّة على الفرض ، أو بإناطة كلامهم ثمّة على استفادة العلّيّة عن الوصفين اللذين علّق عليهما الحكمان ، فيكون الموضوع على تقدير خروج القيدين عنه هو الماهيّة النوعيّة بما هي هي ، فيلزم في مورد الاجتماع على تقدير الجواز توارد الحكمين المتضادّين على شيء واحد وكونه حسنا وقبيحا وأنّه مستحيل ، وإلاّ فعلى تقدير رجوع الوصفين إلى الموضوع الموجب لتعدّد العنوان فلا يعقل استحالة في وجوب إكرام العالم الفاسق على أنّه إكرام للعالم وحرمته على أنّه إكرام للفاسق ، ولا يتعذّر الامتثال إذا أتى به بنيّة العنوان الأوّل وتركه بنيّة العنوان الثاني.

نعم لو أتى به بنيّة العنوانين معا كان من محلّ كلامهم في جواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه ، فيكون امتثالا وعصيانا بالاعتبارين على القول بالجواز بخلافه على القول بالمنع.

وقد يذكر في الفرق بين المقامين دفعا للإشكال المتقدّم وجوه اخر لا تكاد تنضبط :

منها : أنّ مورد الاجتماع في المقام الأوّل متعلّق الأمر والنهي وفي المقام الثاني متعلّق متعلّقهما.

ومنها : أنّ متعلّق التكليف في الأوّل فعلان متغايران من حيث كونهما طبيعتين مختلفتين اتّحدتا في الوجود الخارجي ، وظاهر أنّ الاتّحاد في الوجود لا يرفع الاثنينيّة الحقيقيّة ،

ص: 539

بخلافه في المقام الثاني فإنّ متعلّق التكليفين ليس إلاّ فعلا واحدا وهو الإكرام ، إذ لا تغاير بين الإكرام المأمور به والإكرام المنهيّ عنه ، ولذا يصدق فيمن صلّى في الدار المغصوبة أنّه أتى بصلاة وغصب ، ولا يقال على من أكرم العالم الفاسق أنّه أتى بإكرامين أو بإكرام وإكرام.

ومنها : أنّ الإكرام في نحو المثال المذكور من قبيل السواد والبياض اللذين يعرضان الأفراد أوّلا وبالذات ولا تعلّق لهما بالطبائع إلاّ ثانيا وبالعرض ، فكما أنّ السواد الموجود في الأعيان لا يتكثّر بتكثّر ما فيها من الإضافات ولا يتعدّد بتعدّد اعتباراتها ، فلا يقال على سواد العباء المتّخذ من الصوف وهو منسوج وملبوس مثلا ، سواد عباء وسواد صوف وسواد منسوج وسواد ملبوس وهكذا بالقياس إلى سائر الاعتبارات اللاحقة به ، فكذلك الإكرام المتعلّق بالعالم الفاسق فلا يقال عليه : إكرام عالم وإكرام فاسق ، فيكون الحيثيّة في العالميّة والفاسقيّة تعليليّة صرفة ، كما أنّ الحيثيّة في العبائيّة والصوفيّة والمنسوجيّة والملبوسيّة كانت تعليليّة صرفة ، ومن لوازم الحيثيّة التعليليّة اتّحاد المحيّث بها في حدّ ذاته وإن تعدّدت الحيثيّة ، بخلاف الحيثيّة الصلاتيّة والحيثيّة الغصبيّة فإنّها تقييديّة ومن خواصّها تعدّد المحيّث عند تعدّدها.

ولا ريب أنّ وحدة المحيّث ممّا يوجب استحالة توارد المتضادّين عليه كما أنّ تعدّده ممّا يصحّح تواردهما عليه ، نظرا إلى أنّ المستحيل اجتماع المتضادّين في محلّ واحد لا في محلّين متّحدين في الوجود.

ومنها : أنّ أهل العرف في مثل « أكرم العالم » و « لا تكرم الفاسق » لا يفهمون إلاّ تعلّق الحكم بالأفراد.

أمّا في الأوّل : فلحملهم « اللام » على العهد الذهني كما صرّح به أهل المعاني والاصول.

وأمّا الثاني : فلظهوره في الاستغراق ، وإذا كان الأمر في متعلّق الإكرام بهذه المثابة فيسري إلى نفس الإكرام من باب التبعيّة ، بخلاف مثل « صلّ » و « لا تغصب » فلفظ « أكرم » و « صلّ » و « لا تغصب » وإن كان بحسب الوضع الأوّلي لا يفيد إلاّ إيجاب الطبيعة أو تحريمها إلاّ أنّ قيام القرينة العرفيّة الكاشفة عن إرادة الفرد في الأوّل دون الأخيرين أوجب هذا الفرق.

وحاصل الوجوه : أنّ متعلّق الأمر والنهي في « أكرم العالم » و « لا تكرم الفاسق » أمر واحد والكلّ متّفقون على عدم جواز الاجتماع فيه فهو خارج عن محلّ الكلام.

ولئن سلّمنا تعدّد المتعلّق فيهما أيضا واختلافهما بحسب اختلاف المضاف إليه

ص: 540

الموجبين لدخولهما في معقد البحث باعتبار تعدّد العنوان فأهل العرف يفهمون منه بملاحظة خصوصيّة المتعلّق أنّ متعلّق الحكمين هو الأفراد لا الطبائع.

ويضعّف الأوّل : أنّ تعدّد متعلّق المتعلّق بعد فرض كونه متعلّقا في نظر المولى ممّا يوجب تعدّد المتعلّق أيضا بالاعتبار ، وتعدّد المحلّ المصحّح لتعلّق حكمين متضادّين به أعمّ في نظر العقل ممّا يكون ذاتيّا أو جعليّا ناشئا من الاعتبار ، وإلاّ لزم عدم جواز توارد الأمر والنهي على واحد نوعي لجهتين وأنّه خلاف ما اتّفقت عليه كلمتهم كما مرّ.

إلاّ أن يقال : إنّ ما نحن فيه لا يقاس على ذلك نظرا إلى وجود الفارق ، إذ ليس فيه مادّة اجتماع يتصادق عليها العنوانان المأمور به والمنهيّ عنه كالسجود لله والسجود للصنم ، بخلاف ما نحن فيه المفروض فيه نسبة العموم من وجه ، إذ لا كلام لنا في مادّتي الافتراق بل الكلام في مورد الاجتماع وهو أمر واحد شخصي لا تعدّد فيه أصلا لا حقيقة ولا اعتبارا.

والثاني : منع اتّحاد الفعل في المقام الثاني بعد ملاحظة لحوق القيدين به حسبما قرّرناه ، ومنع تعدّده الناشئ من التغاير في المقام الأوّل على تقدير آخر ، إذ لو اريد بتغاير الفعلين ما هو بحسب المفهوم فهو حاصل في المقام الثاني أيضا ، لوضوح أنّ « إكرام العالم » و « إكرام الفاسق » مفهومان متغايران ، وإن اريد به ما هو بحسب المصداق فهو غير حاصل في المقام الأوّل أيضا ، لوضوح أنّ الكون الحاصل في المكان المغصوب كون شخصي يتصادق عليه المفهومان لا أنّه كونان متغايران كما هو الحال في المقام الثاني ، ويتطرّق المنع إلى دعوى صدق العبارة المذكورة فيما لو صلّى في الدار المغصوبة ، بل الّذي يصدق حينئذ هو القول بأنّه أتى بما هو مصداق للصلاة والغصب ، وهذه القضيّة صادقة أيضا فيما لو أكرم العالم الفاسق فيقال : أتى بما هو مصداق لإكرام العالم وإكرام الفاسق.

والثالث : أنّ كون الإكرام المتعلّق بشخص العالم الفاسق وإن كان كما ذكر من أنّه لا يتعدّد بتعدّد إضافاته واعتباراته من جهة أنّه شخص خارجي وجزئي حقيقي فلا يقبل التعدّد وإن تعدّدت إضافاته ، إلاّ أنّه لا داعي إلى صرف الأمر والنهي المفروض تعلّقهما بالماهيّتين الجعليّتين عنهما إلى الشخص الخارجي ليلزم منه محذور اجتماع المتضادّين في محلّ واحد ، فكما يقال : إنّ الآتي بالشخص في المقام الأوّل مطيع وعاص لجهتي الأمر والنهي باعتبار أنّه امتثل الأمر بكلّي الصلاة مثلا وخالف النهي عن كلّي الغصب ، فكذلك الآتي بالشخص في المقام الثاني أيضا مطيع وعاص لجهتي الأمر والنهي

ص: 541

باعتبار أنّه امتثل الأمر بكلّي إكرام العالم وخالف النهي عن كلّي إكرام الفاسق ، فالفرق بينهما في الحكم بتجويز الاجتماع في الأوّل ومنعه في الثاني تحكّم واضح.

وبالجملة فكون ماهيّة الإكرام ممّا يعرضه الشخصيّة باعتبار تعلّقه بشخص من العالم أو الفاسق لا يقضي بكون الشخصيّة معتبرة في جميع مقاماتها الّتي منها وجوده الذهني في لحاظ المولى عند إرادة إنشاء حكم له عملا بما فيه من المصلحة والمفسدة ، وكما أنّ التشخّصات الموجبة للفرديّة من لوازم الأفراد فكذلك المصالح والمفاسد من لوازم الطبائع ، والأحكام تابعة للوازم الطبائع لا التشخّصات اللازمة للأفراد.

ولا ريب أنّ التابع يتبع متبوعه في جميع أحواله ، فإذا كان إكرام العالم من حيث كونه ماهيّة متقيّدة بماهيّة اخرى ماهيّة ثالثة حاصلة بالجعل والاعتبار وإكرام الجاهل من حيث كونه ماهيّة متقيّدة بماهيّة اخرى ماهيّة رابعة متولّدة من الجعل والاعتبار ، وكان كلّ من هاتين الماهيّتين مشتملة في نظر الجاعل على صفة كامنة فيها من مصلحة ومفسدة فأيّ داع إلى صرف الحكمين التابعين لهاتين الصفتين عن هاتين الماهيّتين إلى أفرادهما حتّى يلزم من ذلك إشكال اجتماع المتضادّين بالنسبة إلى مورد الاجتماع في محلّ واحد شخصي؟

والرابع : منع دعوى الانفهام العرفي لتعلّق الحكم بالأفراد وتعليله بكون « اللام » في مثل « العالم » للعهد الذهني وفي الفاسق للاستغراق عليل ، لأنّ المفرد المعرّف باللام لتعريف الجنس واللفظ ظاهر فيه ، والأصل في استعماله الحقيقة ولا صارف في اللفظين عنها بحيث أوجب انفهام عهد الذهن في الأوّل والاستغراق في الثاني.

وعلى هذا فلا فرق بحسب اللفظ بين « أكرم » و « صلّ » و « لا تكرم » و « لا تغصب » في وجوب الأخذ بمقتضى الوضع الأوّل ، مع أنّ أهل العرف لا يرتّبون الأحكام في متفاهمهم إلاّ على ما يساعد عليه عقولهم ، وإذا فرض أنّ العقل لا يأبى تعلّق الحكم بالطبائع ولا اجتماع الأمر والنهي كما هو مبنى الوجه الرابع مع عدم مساعدة الوضع اللغوي إلاّ على إيجاب الطبيعة وتحريمها فأيّ شيء يصرفهم عن ذلك إلى جعل المورد أفراد تلك الطبيعة ، فلا محالة يقال : إنّهم يعاملون في متفاهماتهم خلاف ما هو مقتضى قواعد لسانهم ، أو أنّهم يكابرون عقولهم أو يلزمونها على إنكار ما لا تحيله ، وكلّ ذلك كما ترى ممّا لا ينبغي التفوّه به ، وسيلحقك في دفع قول المفصّل واحتجاجه مزيد تحقيق في ذلك.

فالوجه في الفرق بعد تصحيح ما نسب إليهم في باب التعادل والتراجيح هو أحد

ص: 542

الوجهين من أخذ القضيّة فرضيّة أو استفادة العلّيّة من التعليق بالوصف ولو بملاحظة الخارج في خصوص المقام لئلاّ ينافي ذلك مذهب المجوّزين للاجتماع ، والأظهر هو الثاني بملاحظة أنّ تعليق الحكم على الوصف المناسب ممّا يفيد العلّيّة في متفاهم العرف كما هو الحال في نحو : « أكرم العلماء » و « لا تكرم الفسّاق » فمورد الحكمين المتضادّين حينئذ على تقدير الاجتماع هو شخص الإكرام المتعلق بذات زيد العالم الفاسق مثلا وهو محال.

المقدّمة الثانية : الأمر والنهي باعتبار الوقوع الخارجي ينقسم إلى الإلزامى وغيره.

المقدّمة الثانية

كلّ من الأمر والنهي باعتبار الوقوع الخارجي ينقسم إلى الإلزامي وغيره ،وإن اختصّ بحسب الوضع بالإلزامي ، ومرتفع الإثنين في المثلين أربع ، والظاهر اختصاص العناوين واختصاص أمثلة الباب بالإلزاميّين أعني الأمر الإيجابي والنهي التحريمي ، ويؤيّده أيضا ما في كلام المجوّزين من أنّ الآتي بمورد الاجتماع مطيع عاص لجهتي الأمر والنهي لأنّ العصيان لا يكون إلاّ في النهي التحريمي.

ويشهد به أيضا نقض المجوّزين للمانعين بما ورد في الشريعة من العبادات المكروهة ، فإنّ النقض بما يكون من أفراد محلّ البحث لإثبات الحكم لبعضها الآخر ممّا لا معنى له ، مضافا إلى دفع المانعين له بتجشّم التأويل والتوجيه في معنى الكراهة المخرج لها من معناها المصطلح من دون تعرّض أحد لدفعه بكونه مصادرة على المطلوب ، فيكون النقض مع دفعه قرينة على خروج الغير الإلزاميّين من محلّ النزاع.

ويمكن التعميم لهما أيضا إن كان فيما بين العبادات المكروهة ما كان نسبته مع المأمور به الإيجابي أو الندبي عموما من وجه كالكون في مواضع التهم مع الصلاة ، نظرا إلى عموم أدلّة المنع من لزوم تكليف ما لا يطاق الّذي مناطه تعذّر امتثال التكليفين معا ولزوم اجتماع المتضادّين في محلّ واحد إن صحّحنا الاتّحاد الخارجي في نحو المثال ، لأنّ الأحكام بأسرها يضادّ بعضها بعضا ، ولا شهادة في نقض المجوّزين ودفع المانعين بخلافه ، بل تعرّض المانعين لدفع النقض لتوجيه الكراهة بأحد الوجوه الآتية من إرجاعها إلى أمر خارج أو حملها على أقليّة الثواب أو على المرجوحيّة الإضافيّة الغير المنافية للرجحان الذاتي ربّما يشهد بعموم المنع عندهم كما هو الحقّ على ما سنقرّره ، ولمّا كان القوم خصّوا العنوان بالإلزاميّين فنحن أيضا نجري الكلام على هذا العنوان أوّلا إقتفاءا لإثرهم ثمّ نتبعه بالبحث عن غيرهما تحقيقا للحال وتعميما للمقال.

ص: 543

المقدّمة الثالثة : الأمر والنهي إمّا نفسيّان أو غيريّان

المقدّمة الثالثة

الأمر والنهي إمّا نفسيّان أو غيريّان ، أو الأمر نفسي والنهي غيري أو بالعكس ، وعلى التقادير فإمّا أن يكونا تعيينيّين أو تخييريّين ، أو الأمر تعيينيّا والنهي تخييريّا أو بالعكس.

وعلى التقادير فالأمر إمّا مطلق أو مشروط وقد حصل شرطه ، وإمّا موسّع أو مضيّق ، وإمّا عينيّ أو كفائي ، وإذا كان نفسيّا فإمّا تعبّدي أو توصّلي ، وإذا كان تخييريّا فإمّا أن يكون تخييره شرعيّا أو عقليّا ، فيحصل في المقام بملاحظة الأقسام المذكورة صور كثيرة بعضها محلّ نزاع وبعضها محلّ وفاق على الجواز أو عدمه وثالث محلّ إشكال في بادئ النظر ، وإن كان يظهر بعد الإمعان كونه من محلّ الوفاق في عدم الجواز.

وأمّا أمثلة هذه الصور فالنفسيّان فيما لو كان الأمر موسّعا كالصلاة في الدار المغصوبة ، وفيما لو كان الأمر مضيّقا كإزالة النجاسة عن المسجد بآلة مغصوبة ، وفيما لو كان كفائيّا كغسل الميّت بالماء المغصوب ، وفيما لو كان مشروطا كإحرام الحجّ بثوب مغصوب.

والغيريّان كتطهير الثوب لمشروط به إذا كان مزاحما لواجب مضيّق على القول باقتضاء الأمر المضيّق النهي عن الضدّ ، والأمر النفسي مع النهي الغيري كالصلاة في مكان الواجب المضيّق على القول المذكور ، والأمر الغيري مع النهي النفسي كركوب الدابّة المغصوبة في مسافة الحجّ الواجب مع التمكّن عن غيرها.

والتعيينيّان كالأمر بالواحد الشخصي والنهي عنه من جهة واحدة.

والتخييريّان كالأمر بتزويج إحدى الاختين على سبيل البدليّة والنهي عنه كذلك ، والأمر التخييري مع النهي التعييني كالأمر بالخصال الثلاث على البدليّة والنهي عن الصيام الّذي هو أحدها بعينه ، والأمر التعييني مع النهي التخييري كالأمر بالصيام بعينه والنهي عنه وعن معادليه من الخصال على البدليّة.

وأمّا الصور الخارجة عن محلّ النزاع باتّفاق من الفريقين :

فمنها : التعيينيّان ، فإنّه ممّا اتّفقوا على عدم جواز الاجتماع فيه ، إذ لا مورد له إلاّ الواحد الشخصي من جهة واحدة ، وقد تقدّم نقل الاتّفاق فيه على عدم الجواز في حدّ الاستفاضة إلاّ على قول بعض الأشاعرة المجوّزة لتكليف المحال عقلا وشرعا.

ومنها : التخييريّان ، فإنّه على تقدير صحّة التخيير في النهي متّفق على جواز اجتماعهما فيه كالمثال المتقدّم على ما هو المصرّح به في كلام غير واحد ، والوجه في ذلك عدم

ص: 544

استلزامه شيئا من المحاذير المانعة منه ، فإنّ مرجع التخيير في الأمر والنهي معا إلى ممنوعيّة الجمع بينهما في الفعل والترك معا ، فكلّ واجب على تقدير عدم حصول معادله وحرام على تقدير حصول معادله حسبما قدّمناه في محلّه من ضابط الوجوب التخييري ، فيرجع مفادهما إلى المنع من ترك الجميع والمنع من فعل الجميع.

وإن شئت توضيح ذلك فقل في مسألة تزويج الاختين المسمّاة إحداهما بفاطمة والاخرى بزينب ، إنّ تزويج كلّ من فاطمة وزينب حال عدم حصول تزويج الاخرى واجب أي مطلوب فعله وممنوع تركه ، ومرجعه إلى ممنوعيّة ترك الجميع ، وهو الّذي أشاروا إليه بقولهم : « لا يجب الجميع ولا يجوز الإخلال بالجميع » وتزويج كلّ واحدة منهما حال حصول تزويج الاخرى محرّم أي مطلوب تركه وممنوع فعله ، ومرجعه إلى ممنوعيّة فعل الجميع ، وظاهر أنّ ممنوعيّة ترك الجميع لا يناقض ممنوعيّة فعل الجميع ، ويمكن الإتيان بأحدهما امتثالا للأمر التخييري وترك الباقي امتثالا للنهي التخييري فيحصل امتثال التكليفين معا.

نعم يمكن منع جواز اجتماعهما بدعوى عدم صحّة التخيير في النهي ، لأنّ قضيّة المنع تخييرا تساوي الأفراد في المفسدة الملزمة ، فالترخيص في الترك باختيار أيّ واحد كان إذن في فعل الباقي ، والمفروض كون فعل كلّ كافيا في ترتّب المفسدة عليه كما في الأمر التخييري المقتضي لتساوي الأفراد في المصلحة بحيث كان فعل كلّ كافيا في حصول تلك المصلحة ، وقد تقدّم في ذيل بحث تكرار النهي عن ذريعة السيّد كلاما في عدم جواز التخيير في النهي ، بل مقتضى القواعد العدليّة توجّه المنع إلى فعل كلّ على التعيين صونا للمكلّف عن الفساد ، فأصل هذا النهي قبيح فلا معنى للتكلّم في جواز اجتماعه مع الأمر التخييري.

هذا ولكنّه خلاف الإنصاف ، بل الوجه هو جواز الاجتماع وما ذكرناه في سند المنع من صحّة التخيير في النهي إنّما يسلم في التخيير العقلي الواقع بين أفراد الماهيّة المنهيّ عنها ، نظرا إلى أنّ المفسدة فيها تابعة للماهيّة الّتي لا تنفكّ عن شيء من أفرادها فيكون فعل كلّ كافيا في حصول المفسدة اللازمة للماهيّة.

وكلام السيّد أيضا في هذا التخيير لا التخيير الشرعي على فرض وقوعه في النهي عن أمرين أو امور على البدل كخصال الكفّارة مثلا ، فإنّه لا يقتضي تساوي الأبدال في المفسدة بحيث يكون حصول كلّ كافيا في حصولها ، بل أقصاه أنّه لاقتضائه ممنوعيّة فعل الجميع يقتضي

ص: 545

وجود مفسدة في فعل الجميع كما يكشف عنه النهي عن الجمع بين الاختين في النكاح ، وهذا عند التحقيق يؤول إلى التخيير في النهي فيجوز اجتماعه مع الأمر التخييري حسبما شرحناه.

ومنها : الأمر التخييري مع النهي التعييني ، وهما ممّا لا ينبغي التأمّل في امتناع اجتماعهما بل لا أظنّ خلافا في ذلك ، فإنّ قضيّة التخيير اشتمال كلّ من المعادلات على المصلحة الراجحة الباعثة على الإيجاب تخييرا مصلحة يكتفي في تأديتها بإيجاد كلّ واحد منها اتّفق ، ومرجعه إلى ما أشرنا إليه في الصورة السابقة من تساوي الأفراد في المصلحة.

وقضيّة التحريم التعييني اشتمال المحلّ على مفسدة تامّة داعية إلى المنع منه بعينه ، فلو وقع مع ذلك أحد المعادلات من الواجب التخييري لزم اشتماله على المصلحة والمفسدة معا - إن اعتبر فيه مع مفسدة الحرمة مصلحة الوجوب - وهو مستحيل ، وإلاّ كان يقبح أخذه طرفا للتخيير المنوط بتساوي الأفراد في المصلحة ، مع أنّه يفضي إلى التكليف بالمحال ، لأنّ قضيّة النهي المنع منه على كلا تقديري حصول سائر معادلاته وعدم حصوله ، وقضيّة توجّه الأمر التخييري إليه طلبه حتما على تقدير عدم حصول سائر المعادلات ، والخروج عن عهدة التكليفين على تقدير اختيار هذا الفرد محال ، بل هو بنفسه تكليف محال ضرورة مناقضة الإرادة على أحد التقديرين للكراهة على كلا التقديرين.

ومنها : الأمر التعييني مع النهي التخييري ، وهذان أيضا ممّا لا يظنّ بأحد تجويز اجتماعهما ، بل الحكم فيه أظهر منه في سائره لا لعدم صحّة التخيير في النهي لما عرفت من عدم مانع منه في التخيير الشرعي ، بل لأنّ الأمر على جهة التعيين يقتضي المنع من تركه على كلّ تقدير والنهي عنه تخييرا يستدعي طلب تركه حتما على أحد التقديرين ، وهذا مع أنّه تكليف بالمحال تكليف محال.

لا يقال : محلّ البحث في اجتماع الأمر والنهي ما كان للمكلّف مندوحة في الامتثال ، والمندوحة حاصلة نظرا إلى تمكّن المكلّف عن امتثال النهي باختيار ترك هذا الفرد.

لأنّا نقول : هل يجوز له اختيار هذا الفرد أيضا وهو مرخّص فيه أو لا؟ والاوّل التزام بالمحذور ، لأنّ المكلّف إذا اختار هذا الفرد امتثالا للنهي فليس ذلك من سوء اختياره ومع ذلك لا يمكن فعله لأجل امتثال الأمر ، فلو كان الامتثال باقيا والحال هذه كان يجب عليه الخروج عن عهدة ما استحال عليه ، والثاني خروج من مسألة التخيير والكلام على تقديره.

وإمّا مواضع الإشكال من الصور فثلاث :

ص: 546

أحدها : الغيريّان ولم نقف على تصريح منهم بخروجه عن المبحث ، نعم جواز اجتماع الواجب التوصّلي مع الحرام على ما هو أحد الوجوه الفارقة بينه وبين الواجب التعبّدي قضيّة معروفة مصرّح بها في كلام غير واحد ، وظاهره كونه كذلك عند الجميع ، فإن صحّ وكان من الجميع شمل إطلاقه الصورة المفروضة ، بل لو اختصّ بما لو كان الحرام في مورد الاجتماع نفسيّا يشمل حكمه المقام بطريق أولى ، والّذي يمكن أن يستند إليه في الاحتجاج على الجواز على تقدير الاتّفاق عليه أو صحّة ثبوت القول به محقّقا هو أن يقال : إنّ الوجوب والحرمة ينبعثان عن الرجحان والمرجوحيّة والمحبوبيّة والمبغوضيّة وهما في الغيريّين للغير لا لأنفسهما ، ولا استحالة في كون شيء واحد راجحا ومرجوحا للغير ، وإنّما المستحيل كونه راجحا ومرجوحا لنفسه.

وفيه : أنّ الوجوب والحرمة المنبعثان عن الرجحان والمرجوحيّة للغير لا يمكن اجتماعهما لوضوح مناقضة مطلوبيّة الفعل ولو بالإضافة إلى الغير لمطلوبيّة الترك ولو للغير ، كمناقضة ممنوعيّة الفعل للمنوعيّة الترك ، وإذا ناقض الوجوب الحرمة جنسا وفصلا فكيف يتواردان على محلّ واحد ، ومجرّد الغيريّة ممّا لا يصحّح المحال العقلي ، بل الوجوب ممّا يستلزم إرادة الفعل وكراهة الترك كما أنّ الحرمة ممّا يستلزم عكس ذلك فكيف يجتمعان في النفس.

هذا مع لزوم التكليف بالمحال لتعذّر الامتثال الّذي لا يتأتّى إلاّ بالجمع بين الفعل والترك وهو محال ، والقضيّة المشتهرة في الواجب التوصّلي من اجتماعه مع الحرام ليست على ظاهرها بأن يكون الحرام مع اتّصافه بالحرمة متّصفا بالوجوب ، كيف وجهة الاستحالة وهي المضادّة مشتركة بين التعبّدي والتوصّلي والدليل العقلي لا يقبل التخصيص ، بل المراد به كون الحرام مسقطا للواجب إذا كان توصليّا كما نصّ عليه أيضا جماعة منهم بعض الأعلام (1).

وثانيها : الأمر الغيري مع النهي النفسي ، ولم نعثر فيه أيضا على ما يقضي بجواز اجتماعهما إلاّ ما عرفت من القضيّة المشتهرة في الواجب التوصّلي من دون قائل محقّق بظاهرها كما عرفت فضلا عن كونه متّفقا عليه.

نعم ربّما يستشمّ القول به من عبارة المصنّف في بحث الضدّ حيث قال : « الّذي يقتضيه التدبّر في وجوب ما لا يتمّ الواجب إلاّ به مطلقا - على القول به - أنّه ليس على حدّ غيره

ص: 547


1- القوانين 1 : 148.

من الواجبات » إلى آخره.

بل من الأفاضل (1) من جزم منه القول به لمجرّد هذه العبارة مع تصريحه بمنع الاجتماع ، وقد تقدّم منّا ثمّة منع كونها صريحة ولا ظاهرة في إرادة هذا المعنى ، ونزيد هنا أيضا أنّ من المحتمل احتمالا ظاهرا أن يكون المراد عدم كونه على حدّ غيره من الواجبات في عدم السقوط بفعل الحرام لا في عدم الاجتماع مع الحرام فإنّه في ذلك كغيره من الواجبات.

وكيف كان فحكم هذه الصورة أيضا كسابقتها من امتناع الاجتماع ، وتعدّد الجهة بالغيريّة والنفسيّة ممّا لا يجدي ، لأنّهما ليستا من الجهات المنوّعة والحيثيّات التقييديّة بل من الجهات التعليليّة الّتي لا تأثير لهما في تعدّد المحلّ.

وثالثها : الأمر النفسي مع النهي الغيري ، ولم نجد فيهما تصريحا بجواز اجتماعهما إلاّ ما في كلام بعض الأفاضل هنا وفي بحث الضدّ من الجزم بالجواز بعد إنكاره الجواز هنا في الصورة السابقة ، وقد أطنب في تقرير دليله وتتميمه بما يرجع محصّله إلى ما نقلنا عنه في البحث المذكور.

وملخّصه : أنّ رجحان فعل الشيء لذاته لا ينافي مرجوحيّته بالإضافة إلى الغير ، فيجوز كونه راجحا ومرجوحا بالاعتبارين ، فيجوز اجتماع الوجوب والحرمة الناشئين عنهما أيضا ، وليس يلزم منه تكليف المحال ، لأنّه إنّما يتّجه إذا قلنا بوجوب الضدّ الموسّع في مرتبة المضيّق وليس كذلك ، لأنّهما إنّما يجبان على الترتيب ويكون مطلوب الآمر أوّلا الإتيان بالمضيّق ، والضدّ مطلوب تركه من حيث أداء فعله إلى ترك المضيّق وعلى تقدير تركه وعدم الإتيان به كان الضدّ مطلوبا ، فلا مانع من اجتماع الوجوب والحرمة بهذا المعنى (2).

وفيه : مضافا إلى ما سبق في بحث الضدّ من تزييف هذه المقالة بما لا مزيد عليه ، أنّ معنى مرجوحيّة الشيء بالإضافة إلى الغير كون ذلك الغير علّة لمرجوحيّة فعله بالإضافة إلى تركه ، وهذا ينافي رجحانه لذاته بالقياس إلى الترك أيضا فيعود المحذور ؛ ثمّ التكليف بفعل الضدّ إن كان ثابتا بالفعل حال التكليف بتركه للغير لزم تكليف المحال فيما بينهما لا فيما بين التكليف بفعله والتكليف بفعل المضيّق حتّى يقال : إنّه لا يجب مع وجوبه في مرتبة واحدة ، ضرورة أنّه كما يستحيل إمتثال التكليف بالمتضادّين في آن واحد كذلك يستحيل امتثال التكليف بالمتناقضين بل هذا أولى بالاستحالة لكون المنافاة فيما بين

ص: 548


1- هداية المسترشدين 2 : 260.
2- هداية المسترشدين 2 : 254.

المتناقضين ذاتيّة ، وإن كان ثبوت التكليف بالضدّ مشروطا بعصيان المضيّق وحصول تركه فهو - مع أنّه غير صحيح في نفسه - ليس من مسألة الاجتماع في شيء ، ضرورة عدم منافاة الأمر المشروط للنهي المطلق بل لا يكاد يجتمعان في آن واحد على فرضه ، فإنّ الضدّ حال عدم حصول شرط وجوبه محرّم صرف وليس بواجب ، وبعد حصول الشرط يصير واجبا وخرج عن كونه محرّما لارتفاع علّة التحريم ، ومع فرض عدم خروجه من التحريم يعود محذور التكليف بالمحال.

وبالجملة في هذا القول من السخافة وعدم الاستقامة ما لا يخفى.

المقدّمه الرابعة : الجهة في المأمور به أو المنهيّ عنه

المقدّمة الرابعة

الجهة في المأمور به أو المنهيّ عنه - اتّحدت أو تعدّدت - قد تكون تعليليّة وقد تكون تقييديّة ، والمراد بالاولى ما كان منشأ للحكم المجعول وهو العلّة الباعثة على جعله من وجوه المصالح والمفاسد النفس الأمريّتين اللتين حصول الاولى ودفع الثانية متقدّمان في التصوّر والوجود الذهني ومتأخّران في الوجود الخارجي لأنّهما يترتّبان على الأفعال والتروك في الخارج ، والمصلحة عبارة عن المنفعة العقلائيّة دنيويّة أو اخرويّة في الأفعال أو التروك تعلّق غرض الشارع بحصولها وعودها إلى المكلّف ، والمفسدة عبارة عن المضرّة العقلائيّة دنيويّة أو اخرويّة في الأفعال والتروك الّتي تعلّق غرض الشارع بدفعها ، فالغرض المقصود من جعل الأحكام موافقة لمنافع الأفعال والتروك ومضارّهما إنّما هو اجتلاب منافع الأشياء ودفع مضارّها ، فيكونان من قبيل العلل الغائيّة المقصودة من الأفعال والتروك الباعثة على جعل الأحكام ، ولأجل ذا يقال لهما : « الداعي » وقد يفسّر المصلحة والمفسدة بموافقة الغرض ومخالفته ويؤولان إلى ما ذكرناه ، فالجهات التعليليّة حينئذ هي العلل الغائيّة المعبّر عنهما بالدواعي.

والجهات التقييديّة ما ينشأ منها الجهات التعليليّة ولو بنحو من المدخليّة ، فموضوع الحكم مع الامور المعتبرة فيه من الأجزاء والشروط والقيود وجوديّة أو عدميّة سواء كانت راجعة إلى المكلّف أو فعله أو الأعيان الخارجيّة كلّها جهات تقييديّة.

وبالجملة الجهة التقييديّة عبارة عن كلّ ما له مدخليّة في منشأ الحكم وحصول العلّة الباعثة على جعله وترتّبه في الخارج على الأفعال والتروك.

ومن هذا البيان ينقدح عدم التنافي بين القول بأنّ علّة الحكم في الكذب النافع

ص: 549

والصدق الضارّ هو النفع والضرر والقول بأنّ موضوعه هو الكذب النافع والصدق الضارّ ، بتقريب : أنّ النفع والضرر إذا كانا علّتين للحكم فكيف يؤخذان في موضوعه فإنّ الموضوع هو الذات المتّصفة على نحو دخول الاتّصاف وخروج الوصف لا الذات والوصف معا كالإضافة في ضرب التأديب الّذي يؤمر به وضرب التعذيب الّذي ينهى عنه.

وأمّا إطلاق العلّة والجهة التعليليّة على العالميّة في الأمر بإكرام زيد العالم فإنّما هو بعد استفادة العلّيّة من التعليق على الوصف المناسب ، باعتبار كون العالميّة من قبيل السبب المعرّف الكاشف عن مصلحة في إكرام زيد العالم فهي علّة الحكم في الحقيقة كما في سائر علل الشرع والأسباب الشرعيّة الّتي يقال لها : انّها معرّفات لا مؤثّرات.

وهذا هو السرّ في إطلاق السبب على ما يؤخذ شرطا في القضايا الشرطيّة كالمجيء في قولنا : « إن جاءك زيد فأكرمه » فإنّ إكرام زيد إنّما يجب لغرض ينوط بمجيئه فهو السبب الحقيقي والعلّة الباعثة على جعل الوجوب.

وأمّا إطلاقهما على مثل إسكار الخمر ونحوها في حكم التحريم فلأنّ السكر بمعنى فساد العقل في الخمر وسائر المسكرات مفسدة تعلّق غرض الشارع بدفعها فهو العلّة الباعثة على جعل التحريم.

وبالتأمّل فيما ذكرنا من ضابط الفرق يعلم أنّ الصلاتيّة والغصبيّة للكون الشخصي الواقع في الدار المغصوبة على ما هو من أمثلة المسألة ليستا من الجهات التعليليّة بل من الموضوع.

ولا نظنّ بأحد أنّه يتوهّم خلاف ذلك ، فما يشعره بعض العبارات من توهّم ابتناء النزاع في المسألة على جعل الجهتين تقييديّتين أو تعليليّتين ليس على ما ينبغي ، كما أنّ ما يقال : إنّ مرجع كونهما تقييديّتين إلى تعلّق الأحكام بالطبائع ومرجع كونهما تعليليّتين إلى تعلّقها بالأفراد ليس على ما ينبغي ، إلاّ أن يراد به أنّ الغرض من تعليق الحكم على الفرد حصول الطبيعة في الخارج وإن كان ذلك الغرض مقصودا لغرض آخر من الامور المعنويّة ، غير أنّه لا ينطبق على مذهب من يرى تعلّق الأحكام بالأفراد لشبهة عدم وجود الطبائع في الخارج كما عليه مبنى هذا القول على ما تقدّم في محلّه.

المقدّمة الخامسة : هل المراد من العنوان اجتماع الوجوب والحرمة أو اجتماع الواجب والحرام

المقدّمة الخامسة

اضطربت كلماتهم في معنى العنوان وإن اشتمل في كلام الأكثرين على التعبير « باجتماع الأمر والنهي » لأنّه متشابه بين أن يكون مرادهم به اجتماع الوجوب والحرمة

ص: 550

في محلّ واحد على معنى كونه معروضا للحكمين ، وبين كونه اجتماع الواجب والحرام فيه على معنى كونه مصداقا لكلّيّين ورد بهما الأمر والنهي أصالة غير أنّ الأنسب بمقالة من يرى تعلّق الأحكام بالطبائع هو الثاني وبمقالة من يرى تعلّقها بالأفراد هو الأوّل ، ويمكن منع الملازمة من الطرفين.

أمّا الأوّل فلجواز قوله بوجوب الفرد وحرمته من باب المقدّمة ، أو جعله تعلّقها بالطبائع بمعنى تعلّقها بإيجاداتها كما هو المختار فيؤول الأمر بالأخرة إلى اجتماع الوجوب والحرمة أيضا.

وأمّا الثاني فلجواز كون مراده بالفرد في متعلّق الحكم مفهوم الفرد ، ومحلّ الاجتماع مصداق له فيجتمع فيه مفهومان أحدهما واجب والآخر حرام.

وقد جعل الفاضل النراقي كلاّ من المعنيين نزاعا على حدة قائلا في عبارة محكيّة عن مناهجه : « أنّ هاهنا مسألتين :

إحداهما : أنّه هل يجوز كون الشيء الواحد متعلّقا للوجوب والحرمة من جهتين » إلى أن قال : خصّوا النزاع بالجهتين العامّتين من وجه.

وثانيتها : أنّ أمر بعامّ ونهي عن آخر أعمّ من الأوّل من وجه فأتى المكلّف بالفرد الجامع فهل يحصل له الامتثال مع الإثم أم لا؟ » إلى أن قال : « وأمّا الكلام في المسألة الثانية هو بعد الكلام في الاولى ومتفرّع عليه ، فإنّا لو قلنا في الاولى بالجواز يتفرّع عليه الامتثال بهذا الفرد مع الإثم ، وإن قلنا فيها بالمنع فتحقيق حال ذلك الفرد يتوقّف على مسائل معنويّة :

إحداها : أنّ متعلّق الأوامر هل هو الطبائع أو الأفراد؟

وثانيتها : أنّ مقدّمة الواجب واجبة أم لا؟

وثالثتها : أنّه لو توصّل إلى الواجب بالمقدّمة المحرّمة المحضة هل يحصل الامتثال بذي المقدّمة أم لا؟

فإن قلنا بأنّ المتعلّق هو الأفراد يتعيّن عدم الامتثال بالفرد ، وكذا إن قلنا بوجوب المقدّمة وعدم الامتثال بالمقدّمة المحرّمة المحضة.

وإن قلنا بأنّ المتعلّق هو الطبائع ولا تجب المقدّمة أو تجب ولكن لو توصّل بالمقدّمة المحرّمة المحضة يسقط وجوب المقدّمة الواجبة ويحصل الامتثال بذي المقدّمة أمكن القول بصحّة هذا الفرد وحصول الإثم به ، إذ لا يجتمع الوجوب والحرمة حينئذ » إلى أن

ص: 551

قال : « ثمّ لمّا كان بناء الأكثر على تعلّق الأوامر بالأفراد ووجوب المقدّمة فرّعوا المقدّمة الثانية على الاولى مطلقا وذكروها في خلالها لما ذكر ، ولأجل ذلك اشتبه الأمر على بعضهم وغفل وخلط واختلط ولم يفرّق بين المسألتين فعنون الاولى وحكم بالجواز فيها ، واستدلّ عليه بأنّ الفرد في الثانية ليس متعلّقا للأمر وما أدري ما المناسبة بين الدليل والمدلول؟ مع أنّه لو قلنا بالجواز في الاولى لم يحتج في تصحيح هذا الفرد إلى تعلّق الأمر بالطبيعة » إلى آخره.

وفيه : المنع من تعدّد العنوان في المسألة بل لا نزاع إلاّ في عنوان واحد.

غاية الأمر أنّه قد يعبّر عنه بالشيء الواحد من جهتين ، وقد يعبّر عنه بالفرد الجامع لعامّين من وجه فإنّه أيضا شيء واحد من جهتين ، بل الشيء الواحد من جهتين لا يراد منه هنا إلاّ ما كان فردا جامعا لعامّين من وجه فيكون كلّ منهما عبارة اخرى من الآخر ، وكأنّ الاختلاف في هذين التعبيرين أوقعه في توهّم تعدّد العنوانين.

نعم لو أراد بالشيء الواحد من جهتين نظير ما لو قال : « أكرم زيدا لعلمه » و « لا تكرم زيدا لفسقه » كان مغايرا للتعبير الثاني ، ولكنّه على ما عرفت سابقا ليس من محلّ كلامهم هنا ، هذا مع تطرّق المنع من ابتناء تحقيق المسألة على شيء من المسائل الثلاث المعنويّة كما ستعرفه.

وربّما يتخيّل احتمال كون نزاعهم صغرويّا ويكونوا متسالمين في الكبرى على جواز الاجتماع أو عدمه ويكون منشأ نزاعهم في الصغرى ، إنكار المجوّزين تعلّق التكليف بالأفراد لا أصالة ولا مقدّمة وإنّما الواجب عندهم الطبيعة فقط والتزام المانعين به إمّا أصالة أو مقدّمة.

وربّما يوهمه أيضا عبارة التوني في الوافية حيث قال بعد ذكر المثال المعروف وتحريره : « وقد وقع النزاع في صحّة هذه الصلاة وبطلانها بناء على أنّه هل يتعدّى الأمر المتعلّق بمطلق الصلاة إلى هذا الفرد المتعلّق للنهي أو لا؟ » (1) بل نصّ على ذلك السيّد الشارح لكلامه بقوله : « وتفصيل القول أنّ تعلّق الخطاب بالأفعال سواء كان اقتضائيّا أو تخييريّا يتصوّر على وجهين :

الأوّل : أن يكون المطلوب أو المأذون فيه إيجاد الماهيّة أو تركه من حيث هي من غير ملاحظة لخصوصيّات الأفراد لا إجمالا ولا تفصيلا.

ص: 552


1- الوافية : 92.

والثاني : أن يكون المطلوب أو المأذون فيه الخصوصيّات ».

إلى أن قال : « فعلى الأوّل يجوز صدق ماهيّتين على فرد معيّن تكون إحداهما موضوعة للوجوب واخراهما للحرمة.

وعلى الثاني يجوز اجتماع حكمين من تلك الأحكام في أمر واحد شخصي إذا كان له جهتان يكون مع واحدة محلاّ لحكم ومع الاخرى لآخر ، ولكنّه لا يجوز التكليف بهذا الفرد بعينه إذ لا يمكن للمكلّف الإتيان بمقتضى الأمر والنهي ، فمن يقول بأنّ التكليف بالصلاة مثلا فعلا وتركا يكون من قبيل الأوّل يلزمه القول بالجواز ، ومن يقول بأنّه من القسم الثاني يلزمه القول بعدمه إمّا للزوم اجتماع الضدّين أو التكليف بالمحال بطريق منع الخلوّ.

فظهر أنّ النزاع ينبغي أن يقع في أنّ المكلّف به ماذا؟ وبعد تحقيقه يتّضح المسألة » انتهى.

ولا خفاء في ضعف هذا البناء ومنع الابتناء ، بل كلّ من القولين يجامع القول بتعلّق الأحكام بالطبائع على ما سنقرّره في تحرير دليل المانعين ، كما أنّهما يجامعان القول بتعلّقها بالأفراد ، ولذا ترى أنّ من القائلين بذلك من وافق المجوّزين هنا كابن الحاجب وغيره ، ومن القائلين بتعلّقها بالطبائع من وافق المنكرين كالعلاّمة على ما تقدّم عنه من مصيره إلى الامتناع في المنتهى مع ذهابه في التهذيب إلى التعلّق بالطبائع ، مع أنّ إرجاع النزاع إلى الصغرى على الوجه المذكور يوجب الاستغناء عن عقد هذه بعقد مسألة متعلّق الأحكام فيلغو تعدّد عنوان المسألتين ، بل الواجب عليهم جعل جواز الاجتماع وامتناعه من فروع مسألة متعلّق الأحكام ، وهذا كلّه كما ترى خلاف ما اتّفقت عليه الكتب الاصوليّة.

نعم يمكن بالنظر إلى ما بيّنّاه من تشابه مقصودهم في عنوان المسألة ودورانه بين المعنيين إرجاع النزاع إلى الصغرى بمعنى آخر وهو : أنّ المجوّزين يجوّزون اجتماع الأمر والنهي بدعوى أنّه من اجتماع الواجب والحرام ولا محذور فيه ، والمانعون يمنعونه بدعوى أنّه من اجتماع الوجوب والحرمة الأصليّين أو المقدّميين أو المختلفين وهو محال ، كما ربّما يساعد عليه كثير من كلماتهم في الاستدلال والنقض والإبرام ، وإليه يرجع أيضا لو قرّر صغرويّة النزاع بأنّ متعلّق الحكمين في محلّ الاجتماع هل هو أمر واحد في الواقع أو أمران متمايزان وإن خفي تمايزهما على الحسّ؟ وها هنا معنيان آخران لصغرويّة النزاع :

أحدهما : ما عن ذريعة السيّد من قوله : « فأمّا الضيعة المغصوبة فالصلاة فيها مجزية لأنّ

ص: 553

العادة جرت بأنّ صاحبها لا يحظر على أحد الصلاة فيها ، والتعارف يجري مجرى الإذن فيجب الرجوع إليه ».

وقال : « وأمّا من ليس بغاصب ولكنّه دخل الدار المغصوبة مجتازا فيجب أن لا يفسد صلاته ، لأنّ المتعارف بين الناس أنّهم يسوّغون ذلك لغير الغاصب ويمنعونه في الغاصب » انتهى (1).

ومحصّل كلامه - رفع مقامه - : أنّ شبهة المسألة ناشئة عن أنّ الصلاة في المكان المغصوب هل تقع مقرونة برضا المالك الرافع لعنوان الغصبيّة فتكون صحيحة لخلوصها عمّا يزاحمها حينئذ أو لا فتقع فاسدة لمزاحمة النهي؟ ولمانع أن يمنع ذلك بدعوى أنّ ما ذكره السيّد إخراج لبعض فروض الشبهة عن موضوع مسألة اجتماع الأمر والنهي من باب الاستثناء عمّا أسّسه أوّلا من بطلان الصلاة في الدار المغصوبة ، تنبيها على عدم تحقّق المنهيّ عنه مع الصلاة ليوجب بطلانها في تلك الفروض من دون نظر إلى بيان أنّ مرجع النزاع في المسألة إلى هذا الأمر الصغروي ، بل الخلاف واقع فيما لو قارنت عدم رضا المالك ، فقيل : بالصحّة اعتمادا على جواز اجتماعهما ، وقيل : بالبطلان تعويلا على امتناعه.

وممّن حكم بالبطلان هو رحمه اللّه على ما حكي عنه في الوافية (2) من أنّه بعد الاستدلال على بطلان الصلاة في الدار المغصوبة قال : « وقد قيل في التمييز بين الصلاة وغيرها في هذا الحكم : أنّ كلّ عبادة ليس من شرطها أن يتولّى الفعل بنفسه بل ينوب فعل الغير مناب فعله ، أو ليس من شرطها أن تقع منه بنيّة الوجوب ، أو ليس من شرائطها النيّة أصلا ، لم يمتنع في المعصية عنها أن تقوم مقام الطاعة. وهذا قريب » (3).

وبالتأمّل في جميع ما نقلنا عنه يظهر كذب ما استظهره بعض الأعلام (4) عنه من القول بجواز الاجتماع كما تقدّم الإشارة إليه ، فإنّه لو صحّ ذلك لم يحتج في الفرضين المتقدّمين في تصحيح الصلاة إلى تكلّف إحراز الإذن والرضاء كما لا يخفى ، ولا إلى التزام الفرق المذكور حيث استقربه ، مع أنّه استدلّ على بطلان الصلاة في الدار المغصوبة كما عرفت عن التوني نقله عنه ، وكأنّ الداعي إلى هذا التوهّم أمران :

أحدهما : ما ذكره في الذريعة - على ما في محكيّ التوني (5) أيضا - من قوله : « وقد [ يصحّ أن ] يقبح من المكلّف جميع أفعاله على وجه ويحسن على وجه آخر ، وعلى هذا الوجه يصحّ القول : بأنّ من دخل زرع غيره على سبيل الغصب أنّ له الخروج عنه بنيّة التخلّص وليس

ص: 554


1- الذريعة إلى اصول الشريعة 1 : 194 و 193.
2- الوافية : 98.
3- الذريعة إلى اصول الشريعة 1 : 194 و 193.
4- القوانين 1 : 140.
5- الوافية : 98.

له التصرّف بنيّة الفساد ، وكذلك من قعد على صدر حيّ إذا كان انفصاله منه يؤلم ذلك الحيّ كقعوده ، وكذلك المجامع زانيا ، له الحركة بنيّة التخلّص وليس له الحركة على وجه آخر » (1).

وثانيهما : ما حكاه عنه الشهيد في قواعده (2) - على ما في محكيّ التوني أيضا (3) - من صحّة الصلاة الواقعة على جهة الرياء وعدم ترتّب الثواب عليها لكن يسقط المؤاخذة بفعلها (4).

قال رحمه اللّه : وهو يؤذن بتجويزه تعلّق الأمر والنهي بشيء واحد من جهتين (5).

ويدفعه : أن ليس مراده في الأوّل بيان كون ما يصدر من المكلّف في الأمثلة الثلاثة من الفعل الشخصي - أعني الخروج عن الزرع ، والانفصال عن صدر الحيّ ، وإخراج الآلة عن الفرج - محكوما عليه بالحكمين مع وحدته الشخصيّة ، بل غرضه بذلك إبداء تعدّد العنوان في كلّ من هذه الأفعال ، فيكون كالسجود المضاف تارة إلى اللّه تعالى واخرى إلى الصنم ، فهو معنون تارة بالتخلّص عن المحظور أو برفع الإيلام فيكون واجبا ولا حرمة فيه أصلا ما دام واقعا بهذا العنوان ، بناء على أنّ عناوين الأحكام تتمايز بالقصد والنيّة ، فالحركة بنيّة التخلّص عن الغصب ليس بغصب لأنّه عبارة عن التصرّف في ملك الغير عدوانا ونيّة التخلّص ممّا يرفع عنوان العدوان ، فلذا لو دخل ملك الغير لا بقصد الغصب بل لأغراض اخر من مشاهدة أو أخذ شيء أو اجتياز أو نحو ذلك لا يكون غصبا ، واخرى بالغصبيّة والإيلام فيكون حراما صرفا ولا وجوب فيه أصلا مادام واقعا بهذا العنوان ، فيكونان عنوانين متبادلين حكم على كلّ منهما بحكم ، نظير سائر الأفعال الّتي يلحقها عناوين مختلفة متبادلة ، وهي مع كلّ عنوان محكوم عليها بحكم غير حكمها مع عنوان آخر كما أشار إليه في صدر العبارة ، بل ليس للمكلّف فعل إلاّ وهو محظور في وجه ومرخّص فيه في وجه آخر ، فهو مع كلّ منهما عنوان على حدة غيره مع الآخر ولو من جهة الجعل والاعتبار.

كما أنّه ليس مبنى كلامه في تصحيح الصلاة الواقعة على جهة الرياء على تجويز الاجتماع ، لجواز ابتنائه على توهّم توجّه النهي إلى أمر خارج عن الصلاة مقارن لها في الوجود كما في النظر إلى الأجنبيّة إذا اتّفق حال الصلاة ، نظرا إلى أنّ الرياء أمر قلبي وليس بنفس الصلاة ولا من أجزائها الّتي منها الأكوان المخصوصة ولا من شروطها ، والممتنع ما لو اجتمع الأمر والنهي في محلّ واحد لا في محلّين متقارنين في مورد واحد اتّفاقا.

ص: 555


1- الذريعة إلى اصول الشريعة 1 : 178.
2- القواعد والفوائد 1 : 79 - الفائدة الثانية.
3- الوافية : 99.
4- الانتصار : 17.
5- الوافية : 99.

ولعلّه إلى ذلك ينظر ما نقله الكليني في كتاب الطلاق عن الفضل بن شاذان من التصريح بصحّة الصلاة في الدار المغصوبة بقوله : « كرجل دخل دار قوم بغير إذنهم فصلّى فيها فهو عاص في دخوله وصلاته جائزة ، لأنّ ذلك ليس من شرائطها ، لأنّه منهيّ عن ذلك صلّى أو لم يصلّ » انتهى (1).

وملخّصه يرجع إلى أنّ الصلاة مع النهي إنّما لا تقع صحيحة إذا تعلّق النهي بها لأمر غير خارج عنها من جزء أو شرط ، لا لأمر خارج عنها مقارن لها في الوجود كالغصب ، فإنّه ليس من شرائطها ولا ما يختصّ بها بدليل عموم النهي عنه.

ومن هنا يظهر ما في نسبة القول بالجواز إليه والى الكليني كما سبق عن بعض الأعلام (2) أيضا ، تعليلا في الثاني بعدم طعنه على الفضل عند نقل كلامه ، إذ لعلّه من جهة عدم فهمه الجواز منه أو فهم خلافه بتقريب ما ذكر.

وثانيهما (3) : ما يوهمه بعض عبارات بعض الأعلام من كون النزاع في مسألة الإسقاط وعدمه بعد تسليم كون المسقط محرّما صرفا ، الملازم لتسليم امتناع اجتماع الوجوب مع الحرمة حيث قال - عند دفع ما أورده على نفسه من لزوم المحذور باجتماع الوجوب التخييري المقدّمي في الفرد مع التحريم ولو كان هو أيضا من جهة المقدّميّة - : « إنّا نمنع التخيير بين كلّ ما يصدق عليه الفرد ، بل نقول : إذا أمر الشارع بالكلّي فإن انحصر في فرد أو انحصر الفرد المباح في فرد فيصير الفرد والشخص أيضا عينيّا كأصل الكلّي ، وإلاّ فإن كان الكلّ مباحا فالتخيير بين الجميع وإلاّ ففي الأفراد المباحة ، فليس ذلك الفرد الغير المباح مطلوبا ، ولكنّه لا يلزم منه بطلان الطبيعة الحاصلة في ضمنه ، لأنّ الحرام قد يكون مسقطا عن الواجب في التوصّليّة ، بل التحقيق أنّ قولهم : إنّ الواجب التوصّلي يجتمع مع الحرام على مذاق الخصم لا بدّ أن يكون معناه : أنّه مسقط عن الواجب لا أنّه واجب وحرام » انتهى (4).

ولكن يدفعه أيضا : أنّ ذلك ليس إرجاعا للنزاع إلى ما ليس من معقد المسألة ، بل هو مصير إلى أحد المعنيين المتقدّم إليهما الإشارة من اجتماع الواجب والحرام ، وتجويز له على ما هو لازم القول بتعلّق الأحكام بالطبائع.

ص: 556


1- الكافي 6 : 94.
2- القوانين 1 : 140.
3- وهذا ثاني المعنيين لصغرويّة النزاع الّذي مرّ أولهما في الصفحة 553. بقوله : « أحدهما : ما عن ذريعة السيّد » الخ.
4- القوانين 1 : 141.

ويمكن تنزيل كلام القاضي وفخر الدين من العامّة في دعوى سقوط الفرض بالعبادة المنهيّ عنها إلى دعوى هذا المعنى من الاجتماع ، ولا ينافيه ما عزي إليهما من القول بامتناع الاجتماع فيما تقدّم ، لجواز كون الممتنع عندهما اجتماع الوجوب والحرمة ولا ملازمة بينه وبين امتناع اجتماع الواجب مع الحرام.

فما يورد على بعض الأعلام ومن وافقه في دعوى السقوط - من أنّه خروج من عنوان المسألة نظرا إلى أنّه فرار عن محذور ما يرد على كبرى قياسهم من جواز الاجتماع إلى إنكار صغراه وهو الاجتماع - ليس في محلّه ، لأنّه إنّما يتّجه إذا انحصر صغرى القياس في اجتماع الوجوب والحرمة ، وأمّا لو كانت دائرة بينه وبين اجتماع الواجب والحرام فلا ، إذ لا ملازمة بين إنكار اجتماع الوجوب والحرمة وإنكار اجتماع الواجب والحرام ، نظرا إلى أنّه لا منافاة بين عدم وجوب الفرد وكونه جامعا لعنوانين كلّيّين أحدهما واجب والآخر حرام ، فيحصل به امتثال الأمر بالكلّيّ المأمور به مع لزوم العصيان بالنظر إلى النهي عن الكلّي الآخر على ما يدور عليه البحث إثباتا ونفيا من حصول الإطاعة والعصيان معا وعدمه ، وظاهر أنّ الإطاعة كما تتحقّق مع الإتيان بالواجب نفسه فكذلك مع الإتيان بما ينطبق من أفراده.

المقدّمة السادسة : لو اجتمع الأمر والنهي وتعدّدا في الوجود

المقدّمة السادسة

قد ظهر بالتأمّل في تضاعيف كلماتنا السابقة أنّ محلّ النزاع على تقدير التعبير باجتماع الواجب والحرام ما لو اجتمع المأمور [ به ] والمنهيّ عنه واتّحدا في الوجود.

وأمّا لو اجتمعا وتعدّدا في الوجود فلا خلاف في الجواز كما صرّحوا به وأشرنا إليه سابقا.

فما في كلام المجوّزين من الاحتجاج على مدّعاهم بأنّه : لو أمر السيّد عبده بخياطة ثوب ونهاه عن الكون في مكان مخصوص فخاطه في ذلك المكان ، فإنّا نقطع بحصول الإطاعة من جهة أنّه خاطه ، والمعصية من جهة أنّه خاطه في ذلك المكان ، فيكون مأمورا به [ و ] منهيّا عنه من جهتين فكذلك يجوز ذلك فيما نحن فيه ، ليس في محلّه لكونه احتجاجا بما هو خارج عن المتنازع فيه لعدم كون الكون المنهيّ عنه في المثال مرادا به ما هو مصطلح أهل المعقول الّذي هو القدر الجامع بين الحركة والسكون ليشمل الخياطة الّتي هي عبارة عن الحركات المخصوصة القائمة باليد بتوسّط الآلة الخارجيّة الّتي هي الإبرة

ص: 557

والخيط ، بل المراد به ما هو من لوازم الجسم - وهو المبغوض في نظر السيّد - وليس بعين الخياطة ولا متّحد معها في الوجود ، بل له وجودا آخر نظير النظر إلى الأجنبيّة مع الصلاة لشهادة الحسّ والعيان ، مضافا إلى أنّه يجامع كلاّ من وجود الخياطة وعدمها ، كالقاعد الساكن في المكان المذكور الغير المتشاغل بالخياطة والقاعد فيه المتشاغل بها ، فإنّهما متشاركان في الكون فيه مع تشاغل أحدهما بالخياطة دون صاحبه ، فالخياطة ليست بعين الكون فيه بل شيء زائد عليه بخلافه مع الغصب ، وسيلحقك زيادة بيان في ذلك.

ثمّ إذ قد عرفت أنّ مرجع البحث في هذه المسألة إلى التنافي بين الوجوب والحرمة أو الواجب والحرام فيما تعلّق الأمر والنهي بكلّيّين بينهما عموم من وجه ، فاعلم أنّه ذكر بعض من قاربنا عصره في الفرق بين هذه المسألة والمسألة الآتية وجوها بعيدة لا ينبغي الالتفات إليها.

ويظهر من بعض الأعلام (1) الجزم بكون الفرق بينهما في كون النسبة بين المأمور به والمنهيّ عنه هنا عموما من وجه وفي ما يأتي عموما مطلقا. وهذا بحسب العنوان وإن كان كذلك في الجملة لكون المنهيّ عنه فيما سيأتي أخصّ مطلقا من المأمور به إذا كان عبادة ، إلاّ أنّه لا يحسم مادّة الإشكال المتوهّم في المقام من كون البحث الآتي مستغني عنه بالبحث هنا.

ومن الفضلاء (2) من فرّق بينهما بأنّ النزاع هاهنا فيما إذا تعلّق الأمر والنهي بطبيعتين متغايرتين بحسب الحقيقة وإن كان بينهما عموما مطلقا ، وثمّة فيما إذا اتّحدتا حقيقة وتغايرتا بمجرّد الإطلاق والتقييد ، بأن تعلّق الأمر بالمطلق والنهي بالمقيّد ، ونبّه على ذلك أيضا في مبادئ المسألة مصرّحا : « بأنّه لا فرق في موضع النزاع بين أن يكون بين الجهتين عموم من وجه كالصلاة والغصب. وبين أن يكون بينهما عموما مطلقا مع عموم المأمور به ، كما لو أمره بالحركة ونهاه عن التداني إلى موضع مخصوص فتحرّك إليه ، فإنّ الحركة والتداني طبيعتان مختلفتان وقد أوجدهما في فرد واحد » (3) ووافقه على ذلك بعض مشايخنا قدس سره.

وربّما يتخيّل الفرق بينهما بكون مسألتنا هذه عقليّة والمسألة الآتية لفظيّة منوطة بالعرف.

ويمكن أن يقال في الفرق بينهما : بأنّ النزاع في المقامين إنّما هو في التنافي بين مقتضي النهي وعدمه ، غير أنّ النزاع في المقام الآتي مخصوص بالمجوّزين لاجتماع الأمر

ص: 558


1- القوانين 1 : 155.
2- الفصول : 140.
3- الفصول : 125.

والنهي هنا وواقع بينهم ، فإنّهم بعدما أثبتوا عدم التنافي بينهما في شيئين بينهما عموم من وجه بحثوا فيما يكون بينهما عموما مطلقا استعلاما للحال فيه من حيث التنافي وعدمه.

وهذا أردأ الوجوه لوضوح فساده بعموم البحث للفريقين في المسألتين لاختلاف جهة البحث فيهما ، وأمّا الوجوه الاخر فكلّها متلازمة ، فإنّ كون هذه المسألة عقليّة كما نبّهنا عليه في مفتتح البحث ممّا لا سترة عليه بخلاف المسألة الآتية فإنّها لفظيّة اصوليّة ، وكون المأمور به في عنوان هذه المسألة أعمّ من وجه من المنهيّ عنه وفي المسألة الآتية أعمّ مطلقا أيضا واضح لا سترة عليه كما عرفت ، فالتعميم المصرّح به في كلام الفاضل المتقدّم غير سديد ، وإن كان ما ذكره من كون النزاع هنا فيما تعلّق الأمر والنهي بطبيعتين متغائرتين بحسب الحقيقة حقّا ، بناء على أن يكون مراده من التغاير تغايرهما بحسب المفهوم مع اتّحادهما في مورد الاجتماع مصداقا.

وأمّا ما ذكره من مثال الأمر بالحركة والنهي عن التداني إلى موضع مخصوص فهو خارج عن المسألتين ، أمّا المسألة الآتية فلعدم كون المأمور به ولا المنهيّ عنه عبادة ولا معاملة فلا يصحّ النزاع في دلالة النهي في نحوه على الفساد.

وأمّا هذه المسألة فلأنّ الدنوّ إلى الموضع المخصوص وإن لم يكن من حقيقة الحركة ولكنّه مستلزم له بل متوقّف عليه إذ لا طريق له إلاّ الحركة فيحرم هذه الحركة مقدّمة ، فيرجع فرض شمول الأمر لها أيضا إلى اجتماع الأمر النفسي والنهي الغيري ، وهو مع ذلك من اجتماع الأمر التخييري والنهي التعييني وقد تقدّم بيان عدم الخلاف في امتناع كلّ منهما وإن كان التخيير في الأمر عقليّا.

المقدّمة السابعة : في تأسيس الأصل

المقدّمة السابعة

في تأسيس الأصل وهو يؤسّس من جهات :

حجج القول بعدم جواز الاجتماع

الجهة الاولى

الأصل العقلي الجاري فيما إذا دار الشيء بين إمكانه وامتناعه ، فقد يقال : إنّ الأصل مع المجوّزين لأصالة الإمكان فيما لم يقم على امتناعه برهان ، وهذا الأصل معروف وربّما خفي مدركه ومعناه ، فوجّه بأنّ معناه ما يكشف عنه احتياج المدّعي للامتناع إلى تجشّم الاستدلال فهو مطالب بالدليل ، بخلاف المدّعي للإمكان بعد اتّفاقهما على أنّ الشيء ما لم يوجد دليل على وجوده يحكم عليه بعدم الوجود ، فإنّه في فسحة عن تجشّم الاستدلال

ص: 559

لنا : أنّ الأمر طلب لا يجاد الفعل ، والنهي طلب لعدمه ؛ فالجمع بينهما في أمر واحد ممتنع*.

_______________________________

ولا يطالب بالدليل ، والسرّ فيه : أنّ ضرورة العدم قيد زائد على أصل العدم وقد ادّعاه القائل بالامتناع ، وعلى المدّعي للزيادة إقامة الدليل عليها والمدّعي للإمكان منكر للزيادة والأصل عدم الزيادة فلا محمل له إلاّ القاعدة العقلائيّة ، فيكون مدركه بناء العقلاء وقد أمضاه الشرع كما يكشف عنه في الجملة أصالة عدم الزيادة وقاعدة البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر ، فتأمّل.

الجهة الثانية

الاصول اللفظيّة المعمولة عند الشكّ في حكم اللفظ من جهة احتمال تطرّق تصرّف إليه بتقييد أو تخصيص أو غيرهما ، وظاهر أنّ أصالة عدم تقييد المأمور به أو المنهيّ عنه بما عدا مورد الاجتماع من أفراد إحدى الماهيّتين يساعد على القول بالجواز أيضا.

الجهة الثالثة

الاصول العمليّة من براءة أو اشتغال أو استصحاب أو تخيير ولا يجري من هذه الاصول إلاّ أصل الاشتغال ، لمكان الشكّ في كون الإتيان بمادّة الاجتماع مبرئا للذمّة عن المأمور به باعتبار الشكّ في شمول الأمر له وعدمه ، والشغل اليقيني يستدعي اليقين بالبراءة ولا يتأتّى إلاّ بأداء ما عدا ذلك ، ويعضده استصحاب الاشتغال.

وتوهّم جريان أصل البراءة لرجوع الشكّ إلى كونه في شرطيّة شيء للعبادة كإباحة المكان للصلاة في المثال المعروف.

يدفعه : دليل الخلف ، إذ الشكّ في الإبراء وعدمه ليس من جهة الشكّ في الشرطيّة والإخلال بما احتمل كونه شرطا شرعيّا ، بل من جهة الشكّ في مزاحمة النهي للأمر عقلا ، ولا يمكن نفي احتمال المزاحمة بأصل البراءة كما لا يخفى.

* لا يخفى أنّ العبارة في قوله : « فالجمع بينهما » في بادئ الرأي متشابه المقصود ، وإن كان في قوله بعد ذلك : « إذ الامتناع ينشأ من لزوم اجتماع المتنافيين في شيء واحد » إلى آخره ، ما يوجب البيان ورفع الاشتباه ، لاحتمال عود الضمير المثنّى إلى طلب الإيجاد وطلب عدم الإيجاد ، فالجمع المحكوم عليه بالامتناع يراد به حينئذ ما هو فعل المكلّف

ص: 560

بالكسر ، فيكون مبنى الاستدلال حينئذ على استحالة تحقّق التكليفين من شخص واحد في أمر واحد لما بينهما من المضادّة والتنافي الموجب لاستحالة اجتماعهما في محلّ واحد.

واحتمال عوده إلى الإيجاد وعدم الإيجاد فالجمع المحكوم عليه بالامتناع حينئذ يراد به ما يكون فعل المكلّف بالفتح ، فيكون مبنى الاستدلال حينئذ على لزوم التكليف بالمحال الّذي مداره على تعذّر امتثال التكليفين لامتناع الجمع بين الإيجاد وعدمه في آن واحد.

وهذان الوجهان قد اعتمد على كلّ منهما جماعة منهم الفاضل التوني في الوافية فأشار إلى أوّلهما بقوله : « إذ امتناع كون الشيء الواحد مرادا ولو على جهة التخيير وغير مراد بل مبغوضا لشخص واحد في غاية الظهور » وإلى ثانيهما بقوله : « وتعلّق الوجوب التخييري به يوجب الرخصة من الحكيم باختياره ، مع استلزامه حينئذ امتناع الإطاعة في طرف النهي » (1).

ومن الفضلاء من احتجّ - مضافا إلى الوجه الأوّل - : « بأنّ قاعدة التحسين والتقبيح على ما تقرّر عندهم قاضية بأنّ الأمر يستتبع حسنا في المأمور به والنهي يستتبع قبحا في المنهيّ عنه ، فمتى اجتمعت الجهتان في شيء فإمّا أن يتكافئا فيرجع حكمه إلى الإباحة ، أو يترجّح إحداهما على الاخرى فيرجع في حكمه إلى أحد الأحكام الأربعة بحسب مراتب الرجحان واختلافه ، فالفرد الّذي وجدت فيه الطبيعتان متّحد معهما في الخارج وقد حاز الجهتين على ما هو قضيّة الأمر والنهي ، وحينئذ فإمّا أن يتكافئا أو يترجّح إحداهما على الاخرى ، فكيف كان فلا يتحقّق الاجتماع.

والّذي يكشف عمّا ذكرنا أنّ الحسن والقبح وإن كانا من الامور الاعتباريّة لكنّهما من لواحق الامور الخارجيّة ، يعني أنّهما أمران يثبتان في العقل للأفعال الخارجيّة باعتبار كونها خارجيّة »

إلى أن قال : « فظهر أنّ الحسن والقبح إنّما يعرضان الطبائع باعتبار وجوداتها الخارجيّة ، والعقل إنّما يحكم عليها بأحد الوصفين باعتبار الخارج ، فثبوتهما من قبيل ثبوت الوحدة للواحد والزوجيّة للاثنين لا من قبيل الجنسيّة للحيوان والفصليّة للناطق فإنّ لحوقهما بحسب الوجود الذهني لا غير ، ولا ريب في أنّ الطبيعتين بهذا الاعتبار - أعني اعتبار الخارج - متّحدتان على ما مرّ فيمتنع أن يتّصف إحداهما بالحسن والاخرى بالقبح ، لأنّ ذلك يؤدّي إلى اتّصاف الشيء الواحد بهما وهو مستحيل ، ضرورة أنّ الشيء الواحد

ص: 561


1- الوافية : 92.

باعتبار كونه واحدا لا يكون حسنا وقبيحا ولا يجدي تغاير المحلّ بحسب العقل لأنّ الوصف لم يثبت له باعتباره » انتهى (1).

وها هنا وجه رابع استدلّ به الفاضل التوني بعد ما استدلّ بالوجهين المتقدّمين وهو : « أنّ هذا ينافي اللطف إذ المكلّف حينئذ مقرّب للمكلّف إلى المعصية كما لا يخفى » (2).

ووجه خامس أشار إليه بعض الأعلام في طيّ كلماته وهو : « أنّ العبادة لا بدّ فيها من نيّة التقرّب وهي حين اجتماعها مع المعصية غير ممكنة » (3) ولعلّه إلى ذلك أو سابقه ينظر ما حكاه بعض الأعاظم (4) من أنّ الأمر المبعّد عن اللّه تعالى كيف يصير مقرّبا إليه حين ما هو مبعّد؟ والموجب لدخول النار كيف يصير موجبا لدخول الجنّة؟ بل المقرّب إلى العقاب مبعّد عن الثواب والمقرّب إلى الثواب مبعّد عن العقاب فكيف يجدي تعدّد الجهة.

ووجه سادس حكاه بعض الأعاظم منضمّا إلى الوجه المذكور وأشار إليه بعض الأعلام أيضا وهو : « أنّه إذا أراد المصلّي أن يركع كيف يقول اللّه : لا تركع هذا الركوع البتّة ولو ركعت لعاقبتك ؛ ويهدّد ويخوّف على الفعل ، ومع ذلك يقول له : اركع هذا الركوع أو غيره أيّهما شئت ، ولو تركت لعاقبتك ، ويهدّد ويحذّر على الترك » (5).

فهذه وجوه ستّة استدلّ بها على القول بالامتناع إلاّ أنّ المعتمد والمعوّل عليه هو الوجه الأوّل ودونه الوجه الثاني لوضوح فساد الباقي ، ولا بأس بأن نفصّل القول فيها وعليها فنقول :

أمّا الوجه الأوّل : فمبنى الاستدلال به على مقدّمات اشير إليها في متن الدليل.

اولاها : أنّ الوجوب والحرمة متضادّان لمضادّة جنس كلّ منهما لفصل الآخر كما تقدّم الإشارة إليه ، مضافا إلى أنّهما يستتبعان صفات متضادّة اخر نشير إليها في ذيل الكلام.

وثانيتها : أنّ الوجوب والحرمة يتعلّقان بإيجاد الماهيّة وعدم إيجادها وكذلك سائر الأحكام كما يشهد به الوجدان الصريح والطبع السليم مضافا إلى أنّه المتبادر من الأمر والنهي ، فقولنا : « اضرب أو لا تضرب » يتبادر منه : « أوجد الضرب أو لا توجد الضرب » كما أنّ « ضرب » و « يضرب » يتبادر منهما أوجد الضرب ويوجد الضرب ، وقد سبق منّا تحقيق هذا المقام في غير موضع من الكتاب ، فالقول بأنّ الأحكام تتعلّق بالطبائع معناه : أنّها تتعلّق بها باعتبار إيجاداتها ، ولو وجد في بعض العبارات التعبير بأنّها تتعلّق بها باعتبار وجوداتها

ص: 562


1- الفصول : 126.
2- الوافية : 92.
3- القوانين 1 : 145 نقلا بالمعنى.
4- إشارات الاصول : 112.
5- إشارات الاصول : 112.

- كما تقدّم في عبارة بعض الفضلاء في احتجاجه (1) - فهو مبنيّ على القول بأنّ الإيجاد والوجود لا تغائر بينهما إلاّ بالاعتبار ، فالوجود حينئذ يراد به ما يرجع إلى الإيجاد لا غير فلا تغاير بين العبارتين بالذات ، ولا ينافي ما ذكرناه كون موادّ الأوامر والنواهي بحسب أوضاعها اللغويّة على ما في كتب اللغة هي الطبائع المجرّدة المأخوذة معرّاة عن الإيجاد ، لأنّ تبادر الإيجاد حسبما ذكرناه من مقتضيات مدلول الصيغة وغيرها من اللفظ الدالّ على الحكم الاقتضائي أو التخييري الّذي لا بدّ في تعلّقه من اعتبار الإيجاد.

وثالثتها : أنّ الإيجاد حيثما تحقّق من موجده في الخارج شيء واحد يقع على نمط واحد ولا يقبل التفاضل ولا التعدّد وإن تعدّدت إضافاته باعتبار تعدّد الماهيّة المضاف إليها الإيجاد ، فهو كالعرض اللاحق للعين الّذي لا يتعدّد بتعدّد إضافاته إلى العناوين الصادقة على العين ، مثل سواد العباء الصادق عليه الصوفيّة والمغزوليّة والمنسوجيّة والملبوسيّة.

وقضيّة هذه المقدّمات استحالة اجتماع الوجوب والحرمة فيه ، وإلاّ لزم كون إيجاد واحد حقيقي مطلوبا وممنوعا ككون عدمه مطلوبا وممنوعا ، بل لزم كون كلّ منهما راجحا ومرجوحا مرادا ومكروها محبوبا ومبغوضا وكلّ ذلك ممّا يقضي الضرورة بامتناعه ، بل امتناع اجتماع المتضادّين في محلّ واحد من ضروريّات العقول فضلا عن اجتماع المتضادّات من جهات شتّى.

لا يقال : إنّ متعلّق الأمر ليس هذا الإيجاد الخاصّ بل مطلق إيجاد الماهيّة ، وهو أيضا كلّي له أفراد وهي الإيجادات الخاصّة المتمايزة بخصوصيّات الأمكنة وغيرها الّتي منها هذا الإيجاد الخاصّ ، والوجوب إنّما تعلّق بكلّي الإيجاد لا بهذا الإيجاد الخاصّ ، فهذا بمقتضى تكرار النهي ليس إلاّ محرّما ولا تكرار في الأمر ، فلا يلزم اجتماع الوجوب والحرمة في محلّ واحد من فرض كون المكلّف مطيعا وعاصيا لإتيانه بما ينطبق على الماهيّة المأمور بإيجادها الكلّي.

لأنّا نقول : نعم ، ولكن وجوب الإيجاد الكلّي تعيينا يستتبع وقوع الوجوب تخييرا في الإيجادات الخاصّة المندرجة تحته ، والوجوب التخييري أيضا ممّا يستحيل اجتماعه مع التحريم التعييني ، ضرورة أنّ مطلوبيّة هذا الإيجاد الخاصّ على تقدير عدم حصول الماهيّة بإيجاد آخر يضادّ ممنوعيّته على كلا تقديري حصولها بإيجاد آخر وعدم حصولها.

ص: 563


1- الفصول : 126.

وتعدّد الجهة غير مجد مع اتّحاد المتعلّق* ؛ إذ الامتناع إنّما ينشأ من لزوم

_______________________________

فإن قلت : هذا التخيير عقليّ وحكم العقل بالتخيير كأمره بالإطاعة إرشادي صرف خال عن الطلب والمنع ، فلم يتحقّق بالنسبة إلى هذا الإيجاد الخاصّ طلب لا تعيينا ولا تخييرا ليضادّ المنع الثابت فيه من جهة النهي.

قلت : حكم العقل بالتخيير في التخييرات العقليّة ليس كأمره بالإطاعة ليكون إرشاديّا صرفا ، لأنّه ليس على وجه الإنشاء بل هو من باب إدراكه الطلب التخييري القائم بنفس الشارع عند الأمر بإيجاد الماهيّة.

وتوضيحه : أنّ الشارع إذا أمر بإيجاد ماهيّة انعقد في نفسه طلب متعلّق بإيجادها الكلّي على وجه التعيين ، وهذا الطلب التعييني لزمه الطلب التخييري بالإضافة إلى الإيجادات الخاصّة المندرجة تحت هذا الإيجاد الكلّي ، إمّا بمعنى أنّ المنعقد في ضمير الشارع طلب واحد إلاّ أنّ له إضافة إلى الإيجاد الكلّي وإضافة إلى الإيجادات الخاصّة ، فإن أخذ باعتبار الإضافة الاولى كان تعيينيّا وإن أخذ باعتبار الإضافة الثانية كان تخييريّا ، والشارع قصد من الخطاب إفادته بالاعتبار الأوّل وأمّا هو بالاعتبار الثاني فيدركه العقل تبعا من باب دلالة الإشارة.

أو بمعنى أنّه ينعقد في ضميره طلبان تعييني بالإضافة إلى الإيجاد الكلّي وتخييري بالإضافة إلى الإيجادات الخاصّة وهذا لازم للأوّل ، والشارع إنّما قصد من الخطاب إفادة الأوّل. وأمّا الثاني فيدركه العقل تبعا من باب دلالة الإشارة ، ولذا يعبّر عنه بالتخيير العقلي قبالا للتخيير الشرعي ، لأنّه ما يؤخذ من الشارع بلسان العقل والتخيير الشرعي ما يؤخذ منه بلسان الشرع من حيث إنّه قصده من الخطاب أصالة ، فالفرق بينهما كالفرق بين الوجوب الأصلي والوجوب التبعي من حيث إنّ أحدهما مدلول الخطاب أصالة والآخر مدلوله تبعا لأنّه مستفاد منه بالدلالة التبعيّة العقليّة ، وهذا التخيير أيضا يستحيل اجتماعه مع التحريم التعييني على معنى استحالة وقوع المحرّم بعينه طرفا للتخيير.

* معناه على حسبما شرحناه : أنّ تعدّد الماهيّتين اللتين توجدان بإيجاد واحد لا يجدي في جواز اجتماعهما ، لأنّه لا يجدي في تعدّد الإيجاد الّذي يضاف إليهما ، لما عرفت من أنّه إيجاد واحد لا يقبل التعدّد وإن تعدّدت إضافته إلى الماهيّتين ، فمتعلّق الوجوب على تقدير الاجتماع هو هذا الإيجاد وهو متّحد لا يمكن تعدّده بحيث يتحقّق في الواقع

ص: 564

اجتماع المتنافيين في شيء واحد. وذلك لا يندفع إلاّ بتعدّد المتعلّق ، بحيث يعدّ في الواقع أمرين ، هذا مأمور به وذلك منهيّ عنه. ومن البيّن أنّ التعدّد بالجهة لا يقتضي ذلك بل الوحدة باقية معه قطعا ؛ فالصلاة في الدار المغصوبة ، وإن تعدّدت فيها جهة الأمر والنهي ، لكنّ المتعلّق الّذي هو الكون متّحد ؛ فلو صحّت ، لكان مأمورا به - من حيث انّه أحد الأجزاء المأمور بها للصلاة وجزء الجزء جزء والأمر بالمركّب أمر باجزائه - ومنهيّا عنه ، باعتبار أنّه بعينه الكون في الدار المغصوبة ، فيجتمع فيه الأمر والنهي وهو متّحد. وقد بيّنا امتناعه ؛ فتعيّن بطلانها.

_______________________________

أمران متمايزان : هذا مأمور به وهذا منهيّ عنه ويشار إليهما بالإشارة الحسيّة.

وأمّا ما أورد عليه بعض المحقّقين وتبعه آخرون من : « أنّ هذا إنّما يستقيم إذا كانت الجهتان تعليليّتين ، إذ اختلاف العلّة غير نافع في منع لزوم اجتماع المتنافيين في موضع واحد بخلاف ما لو كانتا تقييديّتين فلا يلزم ذلك ، والظاهر أنّ الصلاة في الدار المغصوبة من قبيل الثاني ، فإنّ متعلّق الوجوب فيها هو ماهيّة الكون من حيث هو كون مطلق ومتعلّق الحرمة خصوصيّة الكون وتشخّصه ، ويمكن انفكاك أحدهما عن الآخر وقد جمعهما المكلّف باختياره ، فالموضوعان مختلفان وإن عرض أحدهما للآخر ولا فساد فيه » انتهى.

ومحصّله : أنّ نسبة كون الصلاة مع كون الغصب كنسبة العارض مع المعروض ، من حيث إنّ الغصب وهو التصرّف العدواني بمنزلة المادّة وقد عرضها الهيئة الصلاتيّة كما يعرضها الهيئات الاخر من نوم واضطجاع ومشي وجلسة ونحوها ، والمفروض أنّ الوجوب تعلّق بالعارض والحرمة بالمعروض وهما متّحدان فلا يلزم تعلّقهما بشيء واحد.

ففيه : أنّ تقييديّة الجهتين على ما بيّنّاه في المقدّمة الرابعة مسلّمة ، ولكن تعدّدهما لا يجدي في تعدّد متعلّق الحكمين وتمايزهما في الخارج بعد فرض كونه الإيجاد الّذي هو أمر واحد ، وتعدّد إضافته إلى العارض والمعروض غير مجد ما لم يوجب تعدّده في الواقع والمفروض خلافه ، وقطع النظر عن اتّحاده الحقيقي في نظر الحسّ وعدم الاعتناء به لا يجعله أمرين متغايرين بحسب الواقع.

نعم يتوجّه إليه السؤال المتقدّم من أنّ الحكمين يتعلّقان بكلّي إيجاد الصلاة وكلّي

ص: 565

إيجاد الغصب لا بهذا الإيجاد الخاصّ.

ويدفعه : ما تقدّم من أنّهما يستتبعان طلب هذا الإيجاد الخاصّ تخييرا والمنع منه تعيينا بمقتضى تكرار النهي الّذي يثبت بدلالة الإشارة أيضا على ما بيّنّاه في محلّه ، فيلزم محذور اجتماع المتنافيين في محلّ واحد.

وممّا قرّرناه يعلم أنّه لا وقع لما قيل إيرادا على الدليل من : أنّه لا اتّحاد بينهما في الوجود الخارجي ، كيف ومن المقرّر في محلّه أنّ الكلّيين يستحيل اتّحادهما حقيقيّة إلاّ إذا كان أحدهما جنسا والآخر فصلا ، وليس الأمر فيما نحن فيه كذلك قطعا لكون الوحدة فيه عرفيّة يحكم عليه بها مسامحة ، وإلاّ فالمتحقّق في الحقيقة أمران مختلفان.

نعم لو كان هناك وحدة حقيقيّة كما لو أمر بالجنس ونهى عن الفصل أو بالعكس فهذا من الاجتماع المستحيل ، ضرورة أنّ النهي عن الفصل عين النهي عن الجنس المتفصّل به ، إذ لا تحصّل له في حدّ ذاته إلاّ بتحصّله بل ليس لهما إلاّ تحصّل واحد ، بخلاف ما نحن فيه فإنّ متعلّق الأمر عنوان ومتعلّق النهي عنوان آخر ولكلّ منهما تحصّل في حدّ ذاته ولا مانع من مطلوبيّة أحدهما ومبغوضيّة الآخر.

فإنّ فيه أوّلا : منع تعدّد العنوان إن اريد به التعدّد الخارجي بحيث لا يصدق شيء من أفراد أحدهما على شيء من أفراد الآخر ، ومنع انحصار ما لا يستحيل من اتّحاد كلّيين في الجنس والفصل إلاّ إذا كانا بحيث يتشخّص كلّ منهما بالآخر عند الانضمام ، كما لو كان أحدهما من مقولة الجوهر والآخر من مقولة العرض كالإنسان والبياض وطول القامة مثلا ، فكما أنّ الإنسان الكلّي يتشخّص بالبياض وطول القامة فيصير شخصا من الإنسان فكذلك كلّ من البياض وطول القامة يتشخّص بالإنسان فيصير شخصا من البياض الكلّي وطول القامة ، وهذان من كلّيين يستحيل اتّحادهما في الوجود الخارجي ، ولذا لا يصحّ حمل شيء منهما على شخص الآخر ، بخلاف ما نحن فيه كالصلاة والغصب فإنّهما في مادّة الاجتماع متّحدان بحسب الوجود الخارجي ولذا يصحّ حمل كلّ منهما على الفرد الخارجي الّذي لا تعدّد فيه.

وثانيا : منع تعلّق الحكمين بنفس العنوانين بل بايجادهما وهو واحد لا تعدّد فيه أصلا وإن فرض تعدّد وجوديهما ، لما عرفت من أنّ تعدّد إضافة الإيجاد الخاصّ ولو إلى موجودين لا يوجب تعدّد المضاف.

وثالثا : أنّ تعدّد العنوان بحسب الخارج إن أوجب عدم تصادقهما على شيء واحد

ص: 566

يكون مصداقا لهما كان خارجا عن موضوع المسألة لما عرفت في مقدّماتها ، وإلاّ لم يكن تعدّدهما مع اتّحاد الفرد مجديا.

وأمّا ما يقال أيضا : من أنّ إرجاع سند المنع إلى اتّحاد الكلّيين في الفرد لا ينافي المصير إلى تعلّق الأحكام بالطبائع من حيث هي من دون نظر فيها إلى الفرد معيّنا وغير معيّن ، ومع ذلك نقول : انّ اتّحادهما في الفرد لا يصلح مانعا من اجتماع الوجوب والحرمة فيهما على نحو يكون تأدية أحدهما موجبة للاطاعة وتأدية الآخر موجبة للمعصية ، لأنّ الفرد لا يكون إلاّ مقدّمة لهما وقد حقّقنا في محلّه أنّ إيجاب الشيء وتحريمه لا يستلزمان الإيجاب والتحريم في مقدّماته ، فالفرد وإن كان واحدا حقيقيّا غير أنّه ليس بواجب ولا حرام حتّى يلزم فيه اجتماع المتضادّين في محلّ واحد.

سلّمنا أنّ كلاّ من إيجاب الشيء وتحريمه يستلزم إيجاب المقدّمة وتحريمها ، ولكن غاية ما يلزم كون الفرد واجبا وحراما ولا ضير فيه ، لأنّ وجوبه مقدّمي كما أنّ تحريمه مقدّمي ولا مانع من اجتماع الوجوب المقدّمي لكونه توصّليّا صرفا مع تحريمه ، بل لا مانع من اجتماع الوجوب التوصّليّ مع التحريم النفسي لو فرضنا الفرد حراما نفسيّا ، ولو سلّمنا امتناعه أيضا فغاية ما يلزم كون الفرد حراما محضا ولكن لا يلزم منه عدم كونه مجزيا ومحصّلا للغرض من الأمر لأنّ الحرام قد يكون مسقطا عن الواجب ، كما في غسل الثوب بالماء المغصوب وركوب الدابّة المغصوبة في طيّ مسافة الحجّ.

فإنّا نجيب عن الأوّل : بعدم كون مبنى الاستدلال على دعوى اتّحاد الكلّيين في الفرد بل على دعوى اتّحاد إيجادهما ، مضافا إلى ما حقّقناه في مباحث الكلّي والجزئي من أنّ الفرد ليس إلاّ الماهيّة الموجودة إمّا بمعنى المجموع من الماهيّة ووجودها ، أو بمعنى الماهيّة المقيّدة بالوجود على نحو دخول التقيّد وخروج القيد ، فهي فرد بالوجود والوجود حاصل بالإيجاد ومعنى اتّحاد الفرد اتّحاد إيجاده وهو واحد لا محالة كما عرفت وإن فرض الوجود متعدّدا.

وقد عرفت أيضا أنّ معنى تعلّق الحكم بالطبائع تعلّقه بإيجادها وإن استلزم ذلك الإيجاد الفرديّة ، وهذا معنى لا مدخل له بتعلّق الحكم بنفس الفرد ، وإذا كان المتعلّق هو الإيجاد وهو واحد فكيف يعقل فرضه متعلّقا للحكمين المتضادّين؟ وإن كابرت معنا بادّعاء تعدّد الإيجاد أيضا أو تعلّق الحكم بنفس الطبيعة من غير نظر إلى الإيجاد فلا تستحقّ الجواب.

وعن الثاني : بما حقّقناه أيضا من منع مقدّميّة الفرد للكلّي لاستحالته باعتبار لزومه

ص: 567

توقّف الشيء على نفسه.

وعن الثالث : بأنّه بعد الإغماض عمّا ذكرناه من منع المقدّميّة نقول : انّ الّذي يمنع من جواز اجتماع الوجوب والحرمة في محلّ واحد يمنعه مطلقا حتّى في التوصليّين والتوصّلي والنفسي لاشتراك جهة المنع في الجميع كما أشرنا إليه في مقدّمات المسألة وحقّقناه في بحث المقدّمة وغيره.

وعن الرابع : بأنّه - مع الغضّ عن أنّ الالتجاء بمسألة الإسقاط خروج عن المتنازع كما نبّهنا عليه في المقدّمات - لا ريب أنّ كون الحرام مسقطا عن الواجب إنّما يصحّ فيما إذا أوجب حصول الغرض كما في المثالين المتقدّمين ، وهذا فيما نحن فيه غير معقول لأنّ قضيّة امتناع اجتماع الوجوب تخييرا مع الحرمة عدم وقوع الفرد المحرّم طرفا للتخيير الّذي يستتبعه وجوب الكلّي تعيينا.

وقضيّة ذلك وقوع ذلك التخيير بين الأفراد الاخر غير هذا الفرد.

وقضيّة ذلك عدم كون الحصّة الموجودة في ضمن هذا الفرد مشمولة للأمر بالماهيّة ، وهذا يرجع إلى كون الماهيّة المأمور بإيجادها متقيّدة بما عدا الحصّة المتحقّقة في هذا الفرد ، ومع ذلك كيف يعقل كونه مسقطا للأمر مجزيا عن المأمور به؟

وممّا بيّنّاه يندفع توهّم نفي احتمال التقييد بأصالة عدمه ، إذ الأصل مع تعيّن التقييد في نظر العقل المستقلّ ممّا لا معنى له.

وممّا يؤيّد المختار ودليله المذكور ما ورد في بعض الأخبار من قوله عليه السلام (1) : « لا طاعة في معصية اللّه » وفي رواية اخرى : « لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق » (2) فإنّ النافية للجنس تنفي ماهيّة الطاعة في معصية اللّه ومعصية الخالق وإطلاقه يشمل ما نحن فيه ، لأنّ الإتيان بالفرد المحرّم معصية لله ومعصية للخالق فكيف يقال : إنّ الآتي بالفرد الجامع للماهيّتين مطيع وعاص لجهتي الأمر والنهي؟

وأمّا الوجه الثاني (3) : فيمكن تتميمه أيضا بأنّ الجمع بين الإيجاد الواحد وعدمه امتثالا

ص: 568


1- تنبيه الخواطر 1 : 51 ، مسند أحمد 1 : 94 وصحيح مسلم 6 : 15.
2- دعائم الإسلام 1 : 350 ونهج البلاغة ، الحكمة 165.
3- إشارة إلى الوجه الثاني من الوجوه الستّة الّتي استدلّ بها على امتناع اجتماع الأمر والنهي ، وقد مرّت الإشارة إليها في الصفحة 561.

للتكليفين محال فالتكليف بهما تكليف بالمحال ، ومرجعه إلى تعذّر امتثال التكليفين ، فلو اجتمع الأمر والنهي مع فرض تعلّقهما بإيجاد الماهيّتين لزم التكليف بما لا يطاق.

لا يقال : إنّ الأمر إنّما تعلّق بالإيجاد الكلّي لا بهذا الإيجاد الخاصّ وامتثاله ممكن بإيجاد آخر غير هذا الإيجاد ، لأنّ الأمر بالإيجاد الكلّي يستتبع الأمر التخييري بالقياس إلى الإيجاد الخاصّ ، والأمر التخييري أيضا يستدعي الامتثال وهو متعلّق بالممتنع بالمنع الشرعي وهو كالممتنع بالمنع العقلي والأمر التخييري بالممتنع أيضا تكليف بالمحال.

فإن قلت : إنّ للمكلّف مندوحة ، فامتثال الأمر التخييري أيضا ممكن بغير هذا الإيجاد المحرّم وقد اختاره في ضمنه بسوء اختياره فيكون ممتثلا وعاصيا.

قلت : الأمر التخييري المفروض بالنسبة إلى هذا الإيجاد هل تضمّن الإذن والرخصة في اختياره أو لا؟ والثاني باطل لأنّ الأمر كائنا ما كان يتضمّن الإذن في الفعل ، وعلى الأوّل كيف يقال : إنّ هذا الإيجاد حصل من سوء اختيار المكلّف وقد اختار تعويلا على إذن الشارع.

فإن قلت : بأنّه لم يكن مأذونا في اختياره ، رجع ذلك إلى عدم وقوعه طرفا للتخيير لئلاّ يلزم التكليف بالممتنع ، ومعناه وقوع الأمر التخييري الملازم للأمر بإيجاد الماهيّة بين إيجاداتها الاخر ، ومرجعه إلى تعلّق الأمر بالماهيّة من حيث وجودها في ضمن ما عدا هذا الفرد لئلاّ يلزم التكليف بما لا يطاق بسبب توارد الطلب التخييري والمنع التعييني على إيجاد واحد.

وأمّا ما يقال في دفع ذلك : من أنّ معنى اجتماع الأمر والنهي حسبما تقدّم بيانه كون الفعل بحيث لو أتى به المكلّف وأوجده كان ممتثلا وعاصيا لجهتي الأمر والنهي كما هو المصرّح به في كلام المجوّزين ، وهذا المعنى بعد قطع النظر عن محذور اجتماع المتضادّين حاصل في المقام ، لأنّ المكلّف بمجرّد شروعه في التشاغل بالفرد المحرّم صار عاصيا فإذا فرغ عن العمل يصير ممتثلا ، ولا ينافي شيئا من العصيان والامتثال عدم بقاء التكليف بالنسبة إلى جانب الترك ما دام التشاغل ثابتا ، لأنّه زمان المعصية بالقياس إلى النهي ولا يلزم في التكليف أن يكون باقيا في زمان المعصية إن لم نقل بأنّه لا يعقل.

ففيه : أنّ عدم بقاء التكليف من جهة النهي في الجزء المتشاغل به من الفعل مسلّم وفي غيره غير مسلّم لعدم تحقّق المعصية بالقياس إليه ، نظرا إلى أنّ كلّ جزء من الفعل في نفسه من أفراد المنهيّ عنه ؛ فنقول : إنّ المنع المفروض بالنسبة إلى كلّ جزء قبل التشاغل به

ص: 569

لاقتضائه الامتثال بالترك مانع من أوّل الأمر عن تعلّق الأمر المقتضي للامتثال بالفعل ، والجمع بينهما في الامتثال غير ممكن فيستحيل تعلّق الأمر مع المنع المفروض لئلاّ يلزم التكليف بما لا يطاق القبيح على الحكيم ، وجعل الأمر مشروطا بحصول المعصية كما هو قضيّة القول مدفوع بما ذكرناه في بحث الضدّ عند الكلام على من يصحّح فعل الضدّ إذا كان عبادة مع قوله بالنهي فيه.

وأمّا الوجه الثالث ففيه : أنّ صدره مع ذيله غير متلائمين ، لأنّ مقتضى الصدر كون الجهة المانعة من اجتماع الأمر والنهي هو تكافؤ الجهة المحسّنة والجهة المقبّحة أو ترجّح إحداهما على الاخرى ، ومقتضى الذيل كون الجهة المانعة هو لزوم اتّصاف الشيء الواحد بالمتضادّين وهو مستحيل ، والفرق بينهما : أنّ مرجع الأوّل في منع الاجتماع إلى دعوى عدم وجود المقتضى ومرجع الثاني إلى إبداء وجود المانع من الاجتماع ، وهو محذور اجتماع المتضادّين في محلّ واحد ولا يمكن الجمع بينهما في دليل واحد ، وممّا يفصح عن رجوع الثاني إلى إلزام الخصم بلزوم اجتماع المتضادّين مضافا إلى ما تقدّم من صراحة قوله : « لأنّ ذلك يؤدّي إلى اتّصاف الشيء الواحد بهما وهو مستحيل » قوله بعد العبارة المتقدّمة : « ومعنى كون الحسن والقبح بالوجوه والاعتبارات أنّ الوجوه والاعتبارات أسباب مقتضية لكون الفعل الخارجي باعتبار كونه خارجيّا حسنا أو قبيحا ، لا أنّ الحسن والقبح من الصفات الاعتباريّة الطارئة على الطبائع باعتبار وجودها العقلي كالجنسيّة والفصليّة ، وإلاّ لما صحّ الحكم على الفعل الخارجي باعتبار كونه خارجيّا بحسن ولا قبح.

لا يقال : هذا منقوض بمثل الوحدة والكثرة ، فإنّهما من الصفات المتضادّة المنتزعة من الامور الخارجيّة باعتبار كونها خارجيّة ومع ذلك يجوز انتزاعها عن موصوف واحد كالعشرة فإنّها تتّصف بالوحدة والكثرة كذلك باعتبارين ، فظهر أنّ المغايرة الاعتباريّة كافية في اتّصاف الشيء بوصفين اعتباريّين وإن كانا متغايرين.

لأنّا نقول : بين الموصوفين هناك مغايرة [ فإنّ الموصوف بالكثرة نفس الآحاد المنضمّة وبالوحدة الآحاد مع الهيئة التركيبيّة ] ولا ريب أنّ أحدهما ليس نفس الآخر بدليل صحّة السلب ، فاتّصاف أحدهما بصفة لا ينافي اتّصاف الآخر بضدّها ، كالإنسان فإنّه يتّصف بالكاتبيّة والجوهريّة وإن أخذ مقيّدا بصفة البياض مثلا ، ولا يتّصف المركّب منهما بهما بل يتّصف بصفة نقيضهما ، وذلك بخلاف ما نحن فيه فإنّ الموصوف بالحسن في الخارج عين

ص: 570

الموصوف بالقبح فيه ، ضرورة أن لا مميّز بين الصلاة والغصب في الخارج إذا وقعت في المكان المغصوب ولا مغايرة بينهما فيه أصلا حتّى يتصوّر تغاير بين الموردين » انتهى (1).

فإنّ ذلك أيضا صريح في أنّ جهة الامتناع مانعيّة الاتّصاف بالمتضادّين في شيء واحد.

هذا كلّه مضافا إلى أنّه يرد على ما في الذيل أنّه رجوع في إقامة سند المنع إلى الدليل الأوّل لابتنائه على استحالة اجتماع المتضادّين في محلّ واحد ، فلا ينبغي عدّه دليلا آخر مقابلا للأوّل بعد الاستناد إليه كما صنعه رحمه اللّه ، وإلاّ فلا ينحصر هذا النوع من جهة المنع فيما ذكره من لزوم اتّصاف الشيء الواحد بالحسن والقبح ، لأنّ لكلّ من الأمر والنهي لوازم متكثّرة كلّ واحد منها مع مقابله متضادّان ، كالرجحان والمرجوحيّة ، والمحبوبيّة والمبغوضيّة ، والمراديّة والمكروهيّة ، فلو صحّ كلّ من المطلوبيّة والممنوعيّة والحسن والقبح مع اتّحادهما في السنخ كونه دليلا على حدة مستقلاّ برأسه ، فقد صلح كلّ من المتقابلات الاخر دليلا على حدة مستقلاّ برأسه فلا ينبغي الاقتصار على ما ذكره بل ينبغي تكثير الأدلّة بعدّ كلّ متقابلين من اللوازم المذكورة دليلا على حدة.

إلاّ أن يقال : بأنّ [ بين ] الوجهين فرقا [ في ] رجوع الأوّل إلى ما ينافي حكمة الشارع من حيث إنّه يجمع في التكليف بين طلب فعل شيء ولو تخييرا وطلب تركه بعينه ، وهذا أمر محال على الشارع الحكيم بنفسه ، ولو مع قطع النظر عمّا يلزمه من اجتماع المتضادّين في محلّ واحد الّذي هو محال لذاته لا لأجل منافاته الحكمة.

ولكن يدفعه : عدم مساعدة كلامه في تقرير الوجه الأوّل على هذا الفرق ، بل ظاهره كون جهة المنع فيه أيضا الاستحالة الذاتيّة من جهة لزوم الاتّصاف بالمتضادّين لا منافاة الحكمة ، بل هو صريح كلامه حيث قال في تقرير الوجه الأوّل : « فظهر أنّ المطلوب لا يكون إلاّ وجود الماهيّة أو عدمها ، وحيث إنّ المطلوب من الأمر وجود الطبيعة على وجه يستلزم مبغوضيّة تركها وفي النهي عدمها على وجه يستلزم مبغوضيّة فعلها فإذا اتّحدت الطبيعتان في الخارج بأن وجدتا بوجود واحد كالصلاة في المكان المغصوب المتّحدة مع الغصب لزم على تقدير الاجتماع اجتماع المطلوبيّة والمبغوضيّة في الوجود الّذي هو واحد شخصي على ما تقرّر في محلّه وهو باطل ، ضرورة أنّ المطلوبيّة والمبغوضيّة وصفان متضادّان يستدعيان محلّين متغايرين » انتهى (2).

ص: 571


1- الفصول : 126 - 127.
2- الفصول : 125.

ويمكن أن يقال في دفع الإشكالين : بكون ما ذكره في الذيل توطئة لإلزام الخصم على ما ذكره في الصدر ، بتقريب : أنّه إذا استحال اتّصاف الشيء الواحد بالحسن والقبح فلا بدّ في التفصّي عن المحال من التزام تكافئهما ، فيرجع حكم الواقعة إلى الإباحة أو ترجّح أحدهما على الآخر ، فيرجع حكمها إلى الأحكام الأربع غير الإباحة.

ولكن يرد عليه حينئذ : - مضافا إلى أنّ ترجّح أحدهما على الآخر يوجب تعيّن كون حكم الواقعة إمّا الحرمة الّتي لا وجوب معها أو الوجوب الّذي لا حرمة معه ولا وجه لاحتمال الحكمين الآخرين ، لكون كلّ من الوصفين المتضادّين في حدّ اللزوم ، وقضيّة ترجيحه ثبوت مقتضاه من أحد الحكمين الإلزاميّين لا غير - إشكالان آخران :

أحدهما : أنّ ذلك لا يصلح ردّا على أكثر القائلين بجواز اجتماع الأمر والنهي وهم الأشاعرة ، لأنّهم لا يقولون بكون الأمر والنهي مستتبعين للحسن والقبح في المأمور به والمنهيّ عنه كما هو المعهود من مذهبهم من إنكارهم تبعيّة الأحكام للصفات الكامنة ، فلا يجدي نفعا في إلزامهم إلاّ أن يجعل دليلا إقناعيّا ، كما أنّ ما تقدّم من الوجه الثاني كان دليلا إقناعيّا لأنّ الأشاعرة لا يستحيلون التكليف بالممتنع العرضي.

وثانيهما : أنّ مجرى الأصل المشار إليه على ما أصّله العدليّة إنّما هو الحيثيّات التعليليّة المجتمعة في شيء واحد الباعثة على الحسن والقبح وإن كانت من الوجوه والاعتبارات ، كحيثيّتي النفع والضرر المجتمعين في الصدق أو الكذب مثلا ونظائرهما.

ومبنى كلام المجوّزين للاجتماع على جعل حيثيّتي الصلاتيّة والغصبيّة تقييديّتين مع كونهما ماهيّتين متغايرتين وإن اتّحدتا في الوجود ، بناء منهم على أنّ الاتّحاد في الوجود الخارجي لا يرفع الإثنينيّة الواقعيّة عمّا بينهما ، والحسن والقبح وإن كانا من توابع الطبائع في الوجود الخارجي إلاّ أنّهما قائمان بمحلّين موجودين بوجود واحد ، لا أنّهما مجتمعان في شيء واحد حتّى يجري فيهما الأصل المذكور من التكافؤ أو الترجّح ، ولذا يلتزمون بحصول الإطاعة والمعصية لجهتي الأمر والنهي ، فالوجه المذكور لا ينفع في إلزامهم أيضا وإن كانوا من العدليّة ، لأنّهم متسالمون مع المانعين في منع الاجتماع لو كانت الحيثيّتان تعليليّتين ويمنعون الشرط.

وأمّا ما ذكره فيما نقلنا عنه ثانيا في دفع ما أورده على نفسه من الفرق بين محلّ البحث والعشرة فمع أنّه تكلّف ، يرد عليه : أنّه بعينه جار في محلّ البحث لأنّ غاية ما

ص: 572

يوجّه به كلامه في توجيه العشرة الموصوفة تارة بالوحدة واخرى بالكثرة هو أن يقال : إنّ العشرة باعتبار أنّها مرتبة مخصوصة من مراتب العدد تتّصف بالوحدة لأنّها عدد واحد بحسب المرتبة ، وباعتبار اشتمالها على آحاد مجتمعة تبلغ إلى ما يتحقّق به مفهوم العشريّة تتّصف بالكثرة لأنّها عدد كثير باعتبار آحادها بالقياس إلى ما تحتها.

وهذا كما ترى لا يزيد على المغائرة الاعتباريّة حسبما توهّمه المورد ، ومع ذلك يجري نظيره في الصلاة الواقعة في الدار المغصوبة فيقال : إنّ هذه الأكوان المخصوصة باعتبار أنّها محصّلة للماهيّة المجعولة من العبادة صلاة ، وباعتبار أنّها محقّقة لعنوان ما منع عنه الشارع غصب ، فتتّصف بالصلاتيّة والغصبيّة باعتبارين لا باعتبار واحد.

فإن قلت : المغايرة فيما بين الموصوف بالوحدة والموصوف بالكثرة في العشرة حقيقيّة ، ولحوقهما بالعشرة إنّما هو باعتبار متعلّق الموصوف ، إذ الموصوف الحقيقي بالوحدة هو المرتبة وبالكثرة آحاد العشرة لا نفسها ، بخلاف المقام فإنّ المغائرة فيه حسبما ذكرته اعتباريّة لكون الموصوف الحقيقي واحدا شخصيّا يلحقه اعتباران.

قلت : لو كان هذا البيان كافيا في تحقّق المغائرة الحقيقيّة في العشرة بالنسبة الى الموصوفين - مع أنّ أحد الموصوفين وهو المرتبة ليس من الامور الخارجيّة بل أمر اعتباري صرف يعتبره العقل - يجري نحوه في محلّ البحث أيضا بجعل إحدى الطبيعتين المتصادقتين عارضا والاخرى معروضا كما زعمه المحقّق السلطان في إيراده على المصنّف.

ولا ريب أنّ العارض والمعروض أمران متغايران حقيقة يتّصف أحدهما بالصلاتيّة والآخر بالغصبيّة ، ويقوى ذلك على القول بامتناع اتّحاد الكلّيين في الخارج بحسب الحقيقة ، وإنّ الحكم عليهما بالاتّحاد منوط بالعرف واقع على وجه المسامحة ، وإلاّ فلا اتّحاد حقيقة ، فلم يلزم اجتماع المتضادّين في محلّ واحد.

فإن قلت : هذا هدم لما بنيت عليه في تتميم الوجه الأوّل من الأدلّة من لزوم اجتماع الضدّين ، لكون متعلّق الحكمين واحدا فيكون رجوعا عمّا اخترته أوّلا.

قلت : ليس كذلك ، لما قرّرنا من أنّ متعلّق الحكمين على تقدير الاجتماع هو الإيجاد وهو أمر واحد لا تعدّد فيه ، ولا يتعدّد بتعدّد إضافاته لأنّه تأثير واحد قائم بفاعل الطبيعتين وإن ترتّب عليه أثران على تقدير التغاير الخارجي.

فإن قلت : هلاّ تعتبر متعلّق وصفي الحسن والقبح على تقدير الاجتماع إيجاد الطبيعتين

ص: 573

لا هما بأنفسهما؟ فيلزم اجتماعهما في شيء واحد حسبما ذكره الفاضل المتقدّم.

قلت : الحسن والقبح وصفان يلحقان طبائع الأفعال ولكن في الوجود الخارجي على وجه يكون الخارج ظرفا للاتّصاف لا موصوفا لما فيها ممّا يقتضي ذلك ، ولذا يعرّف الحسن بكون الفعل بحيث أوجب في فاعله استحقاق المدح والقبح بكونه بحيث أوجب في فاعله استحقاق الذمّ ، والحيثيّة المأخوذة فيهما إشارة إلى ما أشرنا إليه من المقتضي لا أنّهما يتعلّقان بالإيجاد.

نعم حصول ذلك المقتضي وهو المصلحة والمفسدة في الخارج يتوقّف على الإيجاد ويترتّب عليه ، وقضيّة ذلك أن يكون الحسن والقبح أيضا في لحوقهما الطبائع في الوجود الخارجي ممّا يترتّب على الإيجاد لا أنّه يتعلّق به ، وفرق واضح بين كون الشيء ما يترتّب عليه شيء آخر وكونه ما يتعلّق به ذلك الشيء ، والإيجاد بالنسبة إلى الحسن والقبح من قبيل الأوّل بخلافه بالنسبة إلى الإيجاب والتحريم فإنّهما يتعلّقان به لا أنّهما يترتّبان عليه ، وإلاّ يلزم تأديتهما إلى طلب الحاصل وهو [ محال ] لأنّ ما يترتّب عليه الشيء متقدّم على ذلك الشيء.

وأمّا الوجه الرابع فيمكن المناقشة فيه : بمنع منافاة اللطف في ترتّب الإطاعة والمعصية معا على الشخص الخارجي لجهتي الأمر والنهي على ما يقوله المجوّزون للاجتماع ، لأنّ اللطف الواجب على اللّه تعالى في المناهي إنّما يتأدّى بالنهي وإعلام المنع وقد حصل بالقياس إلى كلّي المنهيّ عنه ، وأمره بالصلاة ليس على أنّها مقرّبة إلى المعصية بل على أنّها بنفسها طاعة فهذا أيضا من اللطف الواجب عليه.

غاية الأمر أنّه حصل الاتّحاد بينهما في الفرد ، والاتّحاد ليس من فعل الشارع بل من فعل المكلّف حيث اختار امتثال الأمر بكلّي المأمور به في ضمن هذا الفرد المحرّم ، وليس يجب عليه تعالى منعه من هذا الاختيار قهرا عليه ، لأنّ اللطف إنّما يجب عليه ما لم يبلغ حدّ الإلجاء.

إلاّ أن يقال : إنّ المكلّف في اختياره هذا إنّما اعتمد على إذن الشارع وترخيصه فيه على تقدير تناول أمره لهذا الفرد المحرّم ولو بالتخيير اللازم من الأمر بالكلّي ، فيكون الشارع بإذنه المفروض مقرّبا له إلى المعصية.

ولكن يمكن دفعه : بأنّ ذلك إنّما يتّجه إذا كان إقدامه على المعصية بفعل المنهيّ عنه

ص: 574

مترتّبا على اختياره الإطاعة بفعل المأمور به على هذا الوجه ، وليس كذلك لأنّه بسوء اختياره ودواعيه النفسانيّة مقدم على المعصية وإن لم يكن مأمورا بشيء في تلك الحال.

غاية الأمر أنّه اتّفق من باب المقارنات الاتّفاقيّة أنّه توجّه إليه أمر واختار امتثاله في ضمن المعصية ، فلم يستند وقوعه في المعصية إلى الشارع حيث قارنها أمره بالطاعة وإذنه في فعلها في ضمنها ، لفرض وقوعه فيها من غير جهة هذا الأمر والإذن بل على تقديري توجّه هذا الأمر إليه وعدمه.

وأمّا الوجه الخامس فيمكن دفعه : بأنّ الأصل في قصد القربة بل روحه قصد امتثال الأمر ، وإنّما اكتفى في العبادة بقصد القربة لأنّ التقرّب إلى رحمة اللّه لا يكون إلاّ بامتثال أمره تعالى وإطاعته ، فقصدها في معنى قصد الامتثال إجمالا.

ولا ريب أنّ قصد امتثال الأمر بالماهيّة حين اجتماعها مع المعصية ممكن ، ولا ينافيه عدم تأثيره في حصول التقرّب ، لأنّ الامتثال بالنسبة إلى التقرّب من باب المقتضي لا العلّة التامّة ، فقد يصادفه مقارنة مانع يمنعه عن الاقتضاء والعبادة مع ذلك تقع مجزية لاشتمالها على شرط الصحّة الّتي منها نيّة القربة.

وممّا يفصح عن ذلك ما حقّق من جواز تخلّف مقام القبول عن مقام الصحّة باعتبار مقارنة العمل لبعض الحزازات الموجبة لانحطاطه عن درجة القبول ، ومن الجائز - على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي - كون مقارنة المعصية من هذا القبيل ، والتقرّب يترتّب على القبول لا على مجرّد الصحّة والإجزاء.

نعم يمكن توجيه عدم إمكان نيّة القربة على نهج آخر وهو : أنّ نيّة القربة بمعنى قصد امتثال الأمر موقوفة على العلم - ولو شرعيّا - بشمول الأمر بالماهيّة لهذه الحصّة الموجودة في الفرد المحرّم وهو غير حاصل ، وتوهّم الإطلاق الموجب للعلم الشرعي ، يدفعه : أنّ الإطلاق وغيره من الظواهر إنّما يعتمد عليه حيث لم يطرأه ما يوجب وهنه ، والنهي المجامع للمأمور به إن لم يصلح مقيّدا أو كاشفا عن التقييد فلا أقلّ من صلوحه موهنا في إطلاق المأمور به المقتضي للإجزاء.

ولكن يمكن الذبّ عنه : بأنّ احتمال الأمر ربّما يصحّح النيّة إذا حصل الإتيان بالعمل برجاء كونه مأمورا به كما في مواضع الاحتياط ، ومنعه بأنّ الاكتفاء بهذا العمل مع مقارنته لحزازة المعصية الموجبة للشكّ في تناول الإطلاق خلاف الاحتياط - لأنّه لا يوجب يقين

ص: 575

احتجّ المخالف بوجهين* ، الأوّل : أنّ السيّد إذا أمر عبده بخياطة ثوب ، ونهاه عن الكون في مكان مخصوص ، ثمّ خاطه في ذلك المكان ، فانّا نقطع بأنّه مطيع عاص لجهتي الأمر بالخياطة والنهي عن الكون.

الثاني : أنّه لو امتنع الجمع ، لكان باعتبار اتّحاد متعلّق الأمر والنهي ، إذ لا مانع سواه اتّفاقا. واللازم باطل ؛ إذ لا اتّحاد في المتعلّقين. فانّ متعلّق الأمر الصلاة ، ومتعلّق النهي الغصب ، وكلّ منهما يتعقّل انفكاكه عن الآخر ، وقد اختار المكلّف جمعهما ، مع إمكان عدمه. وذلك لا يخرجهما عن حقيقتهما اللتين هما متعلّقا الأمر والنهي ، حتّى لا يبقيا حقيقتين مختلفتين ؛ فيتّحد المتعلّق.

_______________________________

البراءة الواجب تحصيله بعد الاشتغال اليقيني - خروج عن الاستدلال بعدم إمكان نيّة القربة.

وأمّا الوجه السادس فيمكن المناقشة فيه أيضا : بأنّ الشارع لم يقل : « لا تركع هذا الركوع » بل قال : « لا تغصب » كما أنّه لم يقل : « اركع هذا الركوع أو غيره » بل قال : « صلّ ».

غاية الأمر أنّ المكلّف جمعهما في شخص واحد من غير توجّه الخطاب إليه ، والتشبّث بالتخيير اللازم من الأمر بالكلّي وهو بالقياس إلى الفرد قبيح لتعيّن تركه المانع من فعله رجوع إلى أحد الوجهين الأوّلين ، فلا ينبغي عدّه دليلا آخر.

أدلّة القول بجواز اجتماع الأمر والنهي

* احتجّ أهل القول بجواز الاجتماع بوجهين بل بوجوه :

منها : ما قرّره المصنّف من أنّ السيّد إذا أمر عبده بخياطة الثوب ونهاه عن الكون في مكان مخصوص ثمّ خاطه في ذلك المكان فإنّا نقطع بأنّه مطيع عاص لجهتي الأمر بالخياطة والنهي عن الكون.

ومحصّل هذا الوجه يرجع إلى التمسّك بفهم العرف استكشافا عن عدم المنافاة بين الوجوب والحرمة ، أو عن جدوى تعدّد الجهة في تكثير الموضوع ، وإلاّ لما حكم على العبد المذكور بالإطاعة والعصيان ، فإذا جاز ذلك في العرف لجاز في الشرع أيضا لأنّ خطابات الشارع واردة على طبق القواعد العرفيّة.

وربّما يؤكّد هذا التقرير من الدليل بعبارة أوضح وأصرح في الدلالة على الاجتماع فيقال : إنّ السيّد إذا أمر العبد بالخياطة في الجملة ونهاه عن شغله المكان المخصوص وقال :

ص: 576

« إن ارتكبت النهي ضربتك ، وإن امتثلت الأمر فأعتقتك » فخاط الثوب في هذا المكان فيحسن من السيّد أن يضربه ويعتقه ويقول : « أطاع بالخياطة وعصى بدخول المكان » فالخياطة من حيث هي غير ممنوع عنها قطعا ، بل ربّما يتعدّى بإجراء هذا الدليل أو ما هو أصرح منه فيما لو كان المنهيّ عنه أخصّ من المأمور به كما عن الفاضل الباغنوي - على ما حكاه السيّد صدر الدين في شرح الوافية - من أنّه عند ذكره الوجه المذكور للمجوّزين مع اختياره الجواز ، قال : « بقي الكلام في أنّ هذا الدليل هل هو جار فيما إذا صحّ الانفكاك من أحد الجانبين كما إذا نهاه عن الخياطة في الحرم وأمره بالخياطة ، فإذا خاطه في الحرم فلا شكّ في أنّه عاص لمخالفته النهي فهل هو مطيع للآمر؟ والظاهر أنّه مطيع لأنّه لم يقيّد أمره بالخياطة بأن لا يكون في الحرم ، فلعلّ غرضه في الأمر مجرّد خياطة الثوب مجرّدا عن قيد عدم كونها في الحرم ، وجعل النهي قرينة للتقييد ارتكاب للمجاز وإبقاء كلّ من الأمر والنهي أولى من تخصيص أحدهما ، فيكون معنى كلامه : « أنّك لا تفعل الخياطة في الحرم ، فإنّك لو فعلتها فيه لعاقبتك لكن يحصل ما هو مطلوبي بالأمر لأنّ مطلوبي بالأمر خياطة الثوب في مكان مّا أيّ مكان كان » ولا يخفى أنّ هذا معنى صحيح غير مخالف للّغة ولا للعقل ولا يحتاج فيه إلى ارتكاب التخصيص في الأمر فلنحمل عليه إلى آخره.

ومنها : ما قرّره جماعة منهم المصنّف بقوله : « لو امتنع الجمع لكان باعتبار اتّحاد متعلّق الأمر والنهي إذ لا مانع سواه اتّفاقا ، واللازم باطل إذ لا اتّحاد في المتعلّقين » إلى آخر ما ذكره.

وهذا التقرير من الدليل كما يجري على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع فكذلك يجري على القول بتعلّقها بالأفراد ، ولذا ترى أنّ ابن الحاجب مع قوله بذلك قرّر الدليل هكذا : « وأيضا لو لم يصحّ لكان لاتّحاد المتعلّقين إذ لا مانع سواه اتّفاقا ، ولا اتّحاد لأنّ الأمر للصلاة والنهي للغصب واختيار المكلّف جمعهما لا يخرجهما عن حقيقتهما » وظاهر أنّ الحقيقة على المذهب الأوّل يراد بها الماهيّة الكلّية الموجودة في ضمن الفرد الخارجي. وعلى المذهب الآخر يراد بها الشخص المعنون تارة بالصلاتيّة واخرى بالغصبيّة ، ودعوى عدم الاتّحاد بينهما بمجرّد اختيار المكلّف جمعهما مبنيّة إمّا على ما قيل : من أنّ الاتّحاد في الوجود الخارجي لا يوجب ارتفاع الاثنينيّة في الحقيقة أو على ما يمكن أن يقال : إنّ الاتّحاد المستحيل معه اجتماع الضدّين ما إذا كان متعلّقهما واحدا ذهنا وخارجا لا خارجا فقط دون الذهن.

ص: 577

ومن الأعلام من قرّر الدليل على وجه لا يجري على المذهب الثاني فقال : « إنّ الحكم إنّما تعلّق بالطبيعة - على ما أسلفنا تحقيقه - فمتعلّق الأمر طبيعة الصلاة ومتعلّق النهي طبيعة الغصب وقد أوجدهما المكلّف بسوء اختياره في شخص واحد ، ولا يرد من ذلك قبح على الآمر لتغاير متعلّق المتضادّين ، فلا يلزم التكليف بالمتضادّين ، ولا كون الشيء الواحد محبوبا ومبغوضا من جهة واحدة ».

ثمّ أورد على نفسه بما يرجع إلى لزوم اجتماع المتضادّين في الفرد من جهتي المقدّميّة فعاد المحذور.

وأجاب بما يرجع تارة إلى منع وجوب المقدّمة.

واخرى إلى منع المقدّميّة ، لعدم توقّف المأمور به على هذا الكون الخاصّ بل غايته التوقّف على فرد مّا من الكون.

وثالثة إلى تسليم الاجتماع ومنع بطلان اللازم ، بناء على أنّ وجوب المقدّمة توصّلي فلا مانع من اجتماعه مع الحرام.

ورابعة إلى تسليم الامتناع وغايته كون الفرد محرّما صرفا لكنّه لا يقدح في الصحّة لمكان سقوط الواجب بالحرام ، وغايته سقوط التكليف بسبب حصول الطبيعة في الخارج وذلك لا يستلزم كون المقدّمة مطلقا مطلوبة للآمر ، إلى آخر ما ذكره (1).

ومنها : ما اعتمد عليه جماعة منهم بعض الأعلام (2) من أنّه لو لم يكن تعدّد الجهة مجديا في اجتماع الأمر والنهي لما وقع ، والتالي باطل بالإجماع كما في العبادات المكروهة ، أمّا الملازمة : فلأنّه لا مانع من الاجتماع إلاّ التضادّ وهو لا يختصّ بالوجوب والحرمة بل يتأتّى فيه وفي الندب مع الكراهة أيضا ، فإنّ الأحكام كلّها متضادّة ، فلو لم يكن تعدّد الجهة مجديا في الواحد الشخصي للزم القبح والمحال ، مع أنّ هذا يدلّ على المطلوب بطريق أولى ، إذ النهي في المكروهات تعلّق بنفس العبادات دون ما نحن فيه.

وقد يلحق بالعبادات المكروهة في النقض امور اخر ممّا وقع في الشرع منها : الصلاة في المسجد وغيرها من الأفراد المستحبّة للواجب نظرا إلى أنّ الوجوب والاستحباب [ أيضا متضادّان ](3).

ومنها : أفضل فردي الواجب التخييري لكونه مستحبّا مع وجوبه.

ص: 578


1- القوانين 1 : 140 - 141.
2- القوانين 1 : 142.
3- أضفناه لاستقامة العبارة.

والجواب عن الأوّل : أنّ الظاهر في المثال المذكور إرادة تحصيل خياطة الثوب بأيّ وجه اتّفق*. سلّمنا ، لكن المتعلّق فيه مختلف ، فانّ الكون ليس جزء من مفهوم الخياطة ، بخلاف الصلاة**. سلّمنا ، لكن نمنع كونه مطيعا

_______________________________

ومنها : تداخل الأغسال الواجبة والمستحبّة وكذلك الوضوءات المتداخلة.

ومنها : الوجوب النفسي والاستحباب الغيري كغسل الجنابة للنافلة على القول بوجوبه لنفسه.

ومنها : الوجوب الغيري والاستحباب النفسي كالغسل أيضا على القول الآخر ، وربّما يذكر من أمثلة العبادات المكروهة الوضوء بالماء المشمّس ، ومن أمثلة أفضل فردي الواجب التخييري الاستنجاء بالماء.

* وأورد عليه : بأنّ ذلك مشعر بالتزام جواز الاجتماع في التوصّليّات والمانع لا يفرّق بينها وبين التعبّديّات في امتناع الاجتماع ، لأنّ سند المنع استحالة اجتماع المتضادّين في محلّ واحد والتوصّليّة لا ترفعها ، والمثال المذكور وارد على سبيل المغالطة ، ولا يمكن دفعه بالتزام التخصيص بدعوى : أنّ الدليل دلّ على عدم الجواز إلاّ ما قام فيه شاهد من العرف بإرادة التعميم في أفراد المأمور به ، لأنّ دليل المنع عقليّ غير قابل للتخصيص وإن صحّحنا المثال المذكور فهو لكشفه عن الجواز كاشف عن فساد سند المنع مطلقا ووروده في كلام المانع على سبيل المغالطة ، فالتفصيل بالمنع في التعبّدي والجواز في التوصّلي غير صحيح جزما.

وأمّا ما قيل في الاعتذار عنه : بأنّ مراده بذلك بيان حصول الغرض بالفرد المنهيّ عنه حيث إنّ غرض المولى حصول الخياطة بأيّ وجه اتّفق لا حصول معنى الإطاعة والانقياد كما في العبادات لئلاّ يحصل بأداء المنهيّ عنه ، فيكون ما ذكره وجها للفرق بين أداء المقصود وحصول الامتثال.

ففيه : أنّه بعيد عن مساق العبارة وغير ملائم لما يذكره فيما بعد من الوجه الأخير كما لا يخفى.

وربّما يعترض عليه أيضا : بأنّه يجري مثل ذلك في الصلاة أيضا.

وفيه : منع واضح ، لوضوح الفرق بين العبادة وغيرها المنوط بنظر العرف ، فالعبادة ممّا لا يقبل التعميم على الوجه المذكور وإلاّ لا تكون عبادة.

** هذا هو الجواب الحقّ الّذي لا محيص عنه كما أشرنا إليه في المقدّمات.

ص: 579

والحال هذه. ودعوى حصول القطع بذلك في حيّز المنع ، حيث لا يعلم إرادة الخياطة كيف ما اتّفقت.

_______________________________

ومحصّله أنّ الكون في المكان بالمعنى اللازم للجسم غير داخل في حقيقة الخياطة من حيث إنّها حركات قائمة بالجارحة ولا متّحد معها في الوجود ، ولكلّ منهما وجود ممتاز عن وجود الآخر كما يفصح عنه القعود في ذلك المكان مع تحريك اليد أو غيرها من الجوارح ، حيث إنّ القعود يجتمع مع وجودها وعدمها ، ومع الوجود يكون كلّ منهما فعلا غير الآخر بل « الكون » يجامع كلاّ من وجود الخياطة وعدمها ، بخلاف الصلاة مع الغصب فإنّ أكوان الصلاة من الحركات والسكنات بنفسها تصرّف عدواني بلا مغايرة بينهما في نظر الحسّ أصلا.

وبذلك يندفع ما في كلام سلطان العلماء من المناقشة بأنّ ربط الكون بالصلاة ليس بأزيد من ربطه بالخياطة بل في كليهما من لوازم الجسم ، فإنّ الكون بهذا المعنى الّذي هو من لوازم الجسم لا فرق فيه بين ما يتحقّق مع الصلاة وما يتحقّق مع الخياطة ، ولكنّ الفرق بينهما في أنّ المنهيّ عنه في الأوّل شيء آخر غير هذا الكون متّحد مع الصلاة في الوجود وهو التصرّف العدواني المسمّى بالغصب ، بخلاف المنهيّ عنه في الثاني فإنّه نفس هذا الكون وهذا لا يسمّى غصبا ، ولا أنّه متّحد مع الخياطة الّتي هي حركة مخصوصة زائدة على أصل الكون في الوجود. كما يندفع به ما عساه يناقش أيضا بما ذكره المدقّق الشيرواني في جملة ما أورده على المحقّق المتقدّم في مناقشته المذكورة من أنّ « الكون » في عرفهم منحصر في الحركة والسكون والاجتماع والافتراق ، ومن الظاهر أنّ كلاّ من الصلاة والخياطة عمدة أجزائهما وجلّ أركانهما عبارة عن الأوّلين ، فإنّ الصلاة عبارة عن حركات مخصوصة وهيئات معيّنة ترجع إلى السكون وكذلك الخياطة عبارة عن أفعال مخصوصة هي حركات الأعضاء المعيّنة القائمة بالخيّاط وليس عبارة عن الأثر المترتّب على الفعل.

فإنّ مبنى كلام المصنّف ليس على توهّم كون الخياطة عبارة عن الأثر المترتّب على الفعل ليقابل بنحو ما ذكر في ردّه ، بل على ما قرّرناه فكونها عبارة عن الحركات المعيّنة لا يقضي بكونها موردا للنهي ، لأنّ الكون المنهيّ عنه في استعمالات العرف لا ينزّل عليها باعتبار أنّها المعنى المصطلح عليه في عرف أهل المعقول.

نعم ربّما يشكل ما ذكرناه بما أشار إليه الفاضل النراقي بقوله : « لا يقال : اختلاف

ص: 580

المتعلّق لا يجدي مع التلازم ، إذ تعلّق النهي باللازم والأمر بالملزوم غير جائز ، ومطلق الكون من لوازم مطلق الخياطة ، والكون في المكان المخصوص من لوازم الخياطة فيه كالكون في الصلاة » ولكنّه لا يقدح في الجواب المذكور الوارد على من زعم كون المثال المذكور من اجتماع الأمر والنهي في محلّ واحد المقتضي للإطاعة والمعصية لجهتي الأمر والنهي.

ومرجع الجواب إلى دعوى خروجه عن موضوع المسألة لعدم اتّحاد المأمور به والمنهيّ عنه في الوجود وباعتبار الخارج.

ولا ريب أنّ الإشكال المذكور لا يدفع ذلك ولا يوجب كون المثال من جزئيّات موضوع المسألة ، لوضوح أنّ المنع من جواز اختلاف المتلازمين في الوجود الخارجي في الحكم بكون الملزوم مأمورا به واللازم منهيّا عنه استنادا إلى لزوم التكليف بما لا يطاق لتعذّر امتثال الأمر بالملزوم والنهي عن اللازم لا ينهض نقضا على من ردّ الاستدلال بالمثال المذكور على جواز اجتماع الأمر والنهي في محلّ واحد بمنع اتّحاد المتعلّق فيه لتعدّد موضوعي الحكمين باعتبار كون أحدهما الملزوم والآخر اللازم.

نعم يتوجّه إلى هذا الجواب أنّه مناقشة في المثال ، فللمستدلّ أن يفرض مثالا يتحد فيه المأمور به والمنهيّ عنه كما فرضه جماعة منهم السيّد صدر الدين ، وهو ما لو أمر السيّد عبده بالمشي في كلّ يوم خمسين خطوة ونهاه عن الدخول في الحرم فمشى الخمسين في الحرم ، فإنّه مطيع للعمل بمقتضى الأمر وعاص لمخالفته النهي.

وحينئذ فلا بدّ في دفع الاستدلال التشبّث بما ذكره المصنّف أخيرا بقوله : « سلّمنا لكن نمنع كونه مطيعا والحال هذه. ودعوى حصول القطع بذلك في حيّز المنع ، حيث لا يعلم إرادة الخياطة كيفما اتّفقت ».

والسرّ في توهّم حصول الإطاعة ما أشار إليه الفاضل التوني من : « أنّ غرض الأمر وفائدة الخياطة حاصلة على أيّ حال اتّفقت الخياطة فيها ، فيشتبه حصول الغرض بحصول الإطاعة » (1)

وتوضيح ذلك : أنّه فرق واضح بين الامتثال والأداء والإسقاط ، فإنّ الأوّل عبارة عن إتيان الفعل المأمور به بقصد الإطاعة والانقياد ويتحقّق ذلك في التعبّديّات والتوصّليّات ، والثاني عبارة عن إتيانه بالمأمور به بوصف أنّه مأمور به وإن لم يكن بقصد الإطاعة والانقياد ويختصّ بالتوصّليّات ، والثالث عبارة عن الإتيان بما يوجب [ حصول ] الغرض

ص: 581


1- الوافية : 93.

من المأمور به وإن لم يكن المأتّي [ به ] هو المأمور به أو كان الآتي غير المأمور وهذا أيضا يتحقّق في التوصّليّات ، وقد يكون من إسقاط الأمر انتفاء الموضوع كإلقاء الميّت في البحر أو إحراقه الموجب لسقوط وجوب تغسيله وتكفينه وتدفينه ويجري ذلك في التعبّديّات والتوصّليّات ، ومحلّ الاستدلال بالنسبة إلى الخياطة المأمور بها من باب القسم الأوّل من الإسقاط ، وقد اشتبه ذلك على المستدلّ فزعمه من باب الامتثال أو ما يعمّه والأداء الملازم لحصول المأمور به نفسه مع أنّه ليس من محلّ البحث ، ووجه الاشتباه اشتراك الجميع في استلزام حصول الغرض.

وبالتأمّل فيما ذكر مضافا إلى ما تقدّم في الوجه السابق من منع اتّحاد متعلّقي الأمر والنهي يتّضح الجواب عمّا ذكر في تأكيد الدليل أو تعميمه بعبارة اخرى أوضح.

وأمّا ما سمعته عن الفاضل الباغنوي ، فيدفعه : أنّ التخصيص أو التقييد مع قيام شاهد عقلي أو عرفي عليه بعنوان القطع ممّا لا محيص من التزامه ، فقوله : « لأنّه لم يقيّد أمره بالخياطة بأن لا يكون في الحرم » إن أراد به إنّه لم يصرّح في اللفظ بما يقيّده فهو مسلّم ولكن طريق التقييد لا ينحصر في المقيّد اللفظي ، وإن أراد به ما يعمّ حكم العقل فهو كذب ومكابرة للوجدان ، مع إمكان دعوى التقييد باللفظي لأنّ النهي عن الأخصّ في نظر العرف من قبيل المخصّص المنفصل ، كيف وكون المبغوض في نظر المولى بكشف نهيه عنه ممّا يستحيل عقلا بل عرفا كونه محبوبا ومطلوبا له ، فيكون ذلك ممّا يكشف عن عدم شمول أمره لهذا الفرد المبغوض ، فلا معنى لدعوى أولويّة إبقاء كلّ من الأمر والنهي في مقابلة تخصيص أحدهما ، وما نسب إلى المولى من أنّه يقول : « لكن يحصل ما هو مطلوبي بالأمر » فإن أراد به أنّه يحصل غرضي من المأمور به فهو حقّ لا سترة عليه ولكنّه لا دخل له بمحلّ البحث ، لما عرفت أنّه من باب حصول المسقط المحصّل للغرض وإن لم يحصل معه نفس المأمور به ، وإن أراد به أنّه يحصل متعلّق طلبه الّذي هو المأمور به فهو افتراء على المولى الحكيم لما فيه من مناقضته لمقتضى [ النهي ] وفرض المثال في خطاب غير الحكيم الّذي لا يبالي عن التناقض في كلامه خروج عن موضوع المسألة رأسا إذ لا كلام في خطاب غير الحكيم.

وبذلك يظهر ما في التصريح بقوله : « لأنّ مطلوبي بالأمر خياطة الثوب في مكان مّا أيّ مكان كان » فإنّ هذا الكلام من الحكيم غير صحيح عقلا وعرفا ، فلا معنى لقوله : « ولا يخفى أنّ هذا معنى صحيح غير مخالف للّغة ولا للعقل بل هو مخالف للعقل » والعرف الكاشف

ص: 582

وعن الثاني : أنّ مفهوم الغصب* ، وإن كان مغايرا لحقيقة الصلاة ، إلاّ أنّ

_______________________________

عن اللغة ، حيث إنّ مقتضى تركيب الكلام لغة طروّ التخصيص بواحد من الأمر أو بقرينة عقليّة أو عرفيّة فالإتيان بما ينافيه يخالف اللغة أيضا.

فإن قلت : إنّا نقطع في جميع الأمثلة المذكورة بأنّ العبد إنّما يستحقّ العقوبة لمخالفته النهي لا الأمر ، حتّى أنّه لو عاقبه المولى على مخالفة الأمر ذمّه العقلاء وهذا شاهد على حصول الإطاعة من جهة الأمر ، ولذا يصحّ للعبد أن يعتذر : « بأنّي إن عصيتك بالكون في المكان المخصوص فقد أدّيت مطلوبك من الأمر ».

قلت : لا ملازمة بين عدم صحّة العقوبة على الترك مع حصول الغرض وبين كونه من جهة حصول عنوان الإطاعة أو أداء المأمور به ، كما أنّه لا ملازمة بين حصول الغرض وكونه مترتّبا على الإطاعة أو أداء المأمور به بوصفه العنواني ، كما هو الحال في تطهير الثوب إذا حصل بغير فعل المكلّف من فعل المكلّف آخر أو غير مكلّف أو أسباب خارجيّة غير اختياريّة ، فإنّه لا يصحّ العقوبة على الترك في هذه الصور أيضا مع أنّه لم يقل أحد بحصول الإطاعة ولا أداء المأمور به.

والسرّ في عدم صحّة العقوبة في ذلك ونظرائه : أنّ الأمر فيها ليس إلاّ توصّليّا قصد به غرض يحصل بغير طريق الإطاعة والأداء ومع حصوله سقط الأمر لئلاّ يفضي بقاؤه إلى طلب الحاصل ، ومع سقوطه يقبح العقوبة على عدم الموافقة ، فدعوى كون عدم صحّتها في المقام من جهة الإطاعة أو حصول أداء المأمور به غير مسموعة.

* واعلم أنّ كثيرا من فقرات العبارة من البداية إلى النهاية عندنا محلّ مناقشة كما يظهر وجهها بالتأمّل في كلماتنا السابقة.

والتحقيق في الجواب ما قرّرناه في تتميم الاستدلال بالوجه الأوّل ، وكذلك الكلام في الجواب عن فقرات كلام بعض الأعلام قد تقدّم ، وقد صار المحصّل : أنّه لا مفرّ لهم عن محذور اجتماع المتضادّين ولا يجديهم في التفصيّ عنه شيء ممّا ارتكبوه من التكلّفات والتمحّلات.

وبقي في المقام مطالب بها يتّضح الجواب عن استدلالهم بطريق النقض.

المطلب الأوّل : تحقيق الحال في العبادات المكروهة

المطلب الأوّل

في تحقيق الحال في العبادات المكروهة

وهي العبادات الواجبة أو المندوبة الّتي نهي عنها بالنهي التنزيهي وهي على أنواع ، إذ

ص: 583

الكون الّذي هو جزؤها بعض جزئيّاته ؛ إذ هو ممّا يتحقّق به. فاذا أوجد المكلّف الغصب بهذا الكون ، صار متعلّقا للنهى ، ضرورة أنّ الأحكام إنّما تتعلّق بالكلّيّات باعتبار وجودها [ في ضمن الأفراد ] ، فالفرد الّذي يتحقّق به الكلّيّ هو الّذي يتعلّق به الحكم حقيقة. وهكذا يقال في جهة الصلاة ، فانّ الكون المأمور به فيها وإن كان كلّيّا ، لكنه إنّما يراد باعتبار الوجود. فمتعلّق الأمر في الحقيقة إنّما هو الفرد الّذي يوجد منه ، ولو باعتبار الحصّة التي في ضمنه من الحقيقة الكلّية ، على أبعد الرأيين في وجود الكلّيّ الطبيعيّ.

وكما أنّ الصلاة الكلّيّة تتضمّن كونا كلّيّا ، فكذلك الصلاة الجزئيّة تتضمّن كونا جزئيّا ؛ فاذا اختار المكلّف إيجاد كلّيّ الصلاة بالجزئيّ المعيّن منها ، فقد اختار إيجاد كلّيّ الكون بالجزئى المعيّن منه الحاصل في ضمن الصلاة المعيّنة. وذلك يقتضي تعلّق الأمر به. فيجتمع فيه الأمر والنهي ، وهو شيء واحد قطعا.

فقوله : « وذلك لا يخرجهما عن حقيقتهما ، الخ » ، إن أراد به خروجهما عن الوصف بالصلاة والغصب ، فمسلّم ، ولا يجديه ؛ إذ لا نزاع في اجتماع الجهتين ، وتحقّق الاعتبارين ، وإن أراد أنّهما باقيان على المغايرة والتعدّد بحسب الواقع والحقيقة ، فهو غلط ظاهر ومكابرة محضة ، لا يرتاب فيها ذو مسكة.

وبالجملة فالحكم هنا واضح ، لا يكاد يلتبس على من راجع وجدانه ، ولم يطلق في ميدان الجدال والعصبيّة عنانه.

_______________________________

النهي إمّا يتعلّق بنفس العبادة أو بأمر خارج عنها كالكون في مواضع التهم.

وعلى الأوّل إمّا أن يكون المنهيّ عنه ممّا له بدل كالصلاة في الحمّام أو معاطن الإبل أو غيرها من المواضع المكروهة ، أو يكون ممّا لا بدل له كالتطوّع بالصلاة في الأوقات المكروهة وبالصوم في السفر ، فضابط الفرق بينهما : أنّ الأمر المفروض مع النهي في العبادة إن كان تخييريّا فهي ممّا له بدل وإن كان تعيينيّا فهي ممّا لا بدل له.

واختلفت كلمة الأصحاب في توجيه الكراهة فيها على وجه تسلم عن محذور

ص: 584

إجتماع المتضادّين وغيره من محاذير اجتماع الأمر والنهي ، نظرا إلى أنّ الأمر فيها إيجابا أو ندبا يقتضي طلب الفعل مع رجحانه على الترك والنهي عنها تنزيها يقتضي طلب الترك مع رجحانه على الفعل والرجحان والمرجوحيّة متضادّان ، فالمجوّزون لاجتماع الأمر والنهي استراحوا فيها بما صاروا إليه في أصل المسألة من اعتبار تعدّد الجهة الموجب في زعمهم لتعدّد متعلّقي الحكمين.

قال السيّد الفاضل الشارح للوافية : « وإذا أمرنا بالصلاة مطلقا من غير تقييد ونهانا عن إيقاعها في الحمّام ، فعلى القول المنصور وهو أنّ الأمر يتعلّق بإيجاد الطبيعة فالظاهر جواز الصلاة وعدم مانع لاجتماع الوجوب والكراهة - بالمعنى المصطلح - لأنّ تعدّد المتعلّق ظاهر ، إذ متعلّق الأمر نفس الحقيقة الّتي يمكن وجودها في غير الحمّام ، والمنهيّ عنه الّذي اختاره المكلّف هو الإيقاع في الحمّام من حيث هو كذلك ، فمتعلّق الكراهة في الحقيقة هو الوصف أعني الهيئة العارضة للفعل باعتبار كون فاعله في هذا المكان ، على أنّه لا مانع من اتّصاف ذات الفعل من حيث هي هي بالوجوب واتّصافها مع الوصف بالكراهة ، وقوله : « لا تصلّ في الحمّام » نهي عن الفعل المقيّد أو عن القيد لا عن ذات الفعل في الحمّام.

ودعوى : أنّ العبادة يجب أن تقع راجحة من جميع الجهات وأن لا يكون فيها جهة مرجوحيّة ولو كانت قائمة بوصف عارض لها ، دعوى لا شاهد عليها. ولا احتياج لتصحيح العبادة إلى ارتكاب أنّ الكراهة ليست بمعناها المصطلح عليه بل بمعنى قلّة الثواب ، إذ لا مانع من أن يستحقّ المكلّف الثواب الكامل الّذي يكون عوضا عن إيقاع الصلاة ويستحقّ أيضا الشيء الّذي يستحقّه من يفعل المكروه ».

ثمّ أورد على نفسه بأنّه : « ما تقول في عبادة نهى عنها الشارع نهي تنزيه؟ وهي مستلزمة لوصف مرجوح لا ينفكّ عنها كالصلاة في الأوقات المكروهة تطوّعا ، والصيام في السفر كذلك ، لأنّ هذه الصلاة لا يمكن وقوعها في غير هذا الوقت وكذا الصيام ، لأنّ كلّ وقت يصحّ فيه التطوّع فهو وظيفته المختصّة به ولا يسع أن يقع فيه غيره ، وكذا الأوقات الحضريّة للصيام يكون صيامها وظيفتها لا تسع غيره ، فكيف تكون مثل هذه العبادة مع كونها عبادة متّصفة بالكراهة؟ إذ كونها عبادة يقتضي تعلّق الطلب به وكونه ملزوما لهذا الوصف يقتضي طلب تركها ولا يجوز للشارع العالم بالاستلزام أن يتعلّق طلبه بفعل مثل هذا الأمر وليس هناك حقيقة مأمور بها واخرى منهيّ عنها مع جواز الانفكاك بينهما ».

ص: 585

فأجاب عنه بأنّه : « لا مانع عقلا من أن يترتّب على ماهيّة من حيث هي مصلحة لا تنفكّ عن فعلها في جميع الأوقات والأحوال ويفوت بتركها من حيث هو تركها ، وتترتّب على ما يلازمها من الأوصاف الحقيقيّة أو الإضافيّة مفسدة تفوت بتركه من حيث هو تركه ، فربّما كانت تلك المفسدة شرّا كثيرا بالنسبة إلى تلك المصلحة ولكنّها لا تبلغ حدّا يقتضي تحريم الفعل وقطع النظر عن المصلحة بالمرّة فلهذا نهى الشارع عنها تنزيها ، وفي الحقيقة تعلّق النهي بالوصف ولكنّه لمّا كان ترك الوصف تبعا لترك الموصوف يتراءى أنّ المطلوب ترك الموصوف.

ويظهر التبعيّة من قولنا : « ترك الصوم فلم يقع في السفر ، وترك الصلاة فلم يقع في الوقت المكروه ».

فظهر أنّ الراجح المثاب عليه هو فعل العبادة من حيث هو فعلها ويلزمه مرجوح وهو وقوع الوصف ، والمرجوح ترك العبادة من حيث هو ولا ثواب عليه ويلزمه راجح وعليه الثواب ، فالعبادة مندوبة مستلزمة لمكروه يكون وجوده تابعا لفعلها » انتهى.

فقد ظهر منه أنّه رحمه اللّه لا يفرّق في الحكم بالصحّة مع الكراهة المصطلحة بين ما له بدل من العبادات وما لا بدل له ، لزعمه تعدّد متعلّق الحكمين باعتبار ذات الموصوف ووصفها.

ومن الأعلام (1) من وافقه في هذا التكلّف مع مصيره إلى عدم الفرق أيضا ، غير أنّه فصّل فيما لا بدل له فجعل الأظهر في صيام السفر الكراهة وفي التطوّع في الأوقات المكروهة عدمها ، بعد ما أطلق في سابق كلامه في القول بترجيح جانب الكراهة وتغليبها على جانب الرجحان تعليلا بعدم خروج النهي خاليا عن الفائدة.

وستسمع ما في أصل التكلّف الّذي ارتكبه مع السيّد المذكور من الوهن والفساد ، مع إمكان المناقشة في تفصيله المذكور بكونه تحكّما وفرقا بلا فارق يعتمد عليه ، لأنّ المحافظة على النهي عن خروجه عن الفائدة في صيام السفر إن صلح وجها لترجيح الكراهة لجرى ذلك في التطوّع في الأوقات المكروهة أيضا ، والاعتذار عنه : بأنّ النهي هاهنا بعد ارتكاب التأويل فيه بالحمل على قلّة الثواب مثلا لا يخرج عن الفائدة ، يدفعه : المعارضة بإمكان هذا التأويل في نهي الصيام في السفر.

لا يقال : إنّ التزام التأويل هنا إنّما هو لقيام دليل من الخارج من إجماع ونحوه على صحّة التطوّع في الأوقات المكروهة مع فرض ورود هذا النهي ، بخلاف صيام السفر

ص: 586


1- القوانين 1 : 145.

فلا داعي إلى ارتكاب التأويل في نهيه ، لأنّه قدس سره - على ما يعطيه التدبّر في كلماته - قائل بالصحّة في كلا المقامين كما ربّما يساعد عليه أيضا أصله من جواز اجتماع الأمر والنهي حتّى الاستحباب والكراهة.

وأمّا أهل القول بعدم جواز الاجتماع فهم بين من حكم ببطلان العبادة رأسا صونا لها عن محذور اجتماع المتضادّين ونحوه ، وبين من التزم بالصحّة مع ارتكاب تأويل في وصف الكراهة المتعلّقة بها بأحد الوجوه المذكورة في الباب ، وإنّما دعاهم إلى ذلك ما وجدوه من الدليل الخاصّ على الصحّة من إجماع ونحوه مع وجود النهي ، ولك أن تجعلهما فريقا واحدا إذ لا مجال لأحد إلى إنكار الصحّة مع مساعدة الدليل عليها.

ولذا يظهر من الفاضل التوني الفرق في الصحّة والبطلان المنوط بمساعدة دليل عليها وعدمها بعد ما صرّح بامتناع الكراهة بمعناها المعروف في كلّ ممّا له بدل وما لا بدل له ، حيث قال :

« الرابعة : أن يتعلّق الأمر الإيجابي الحتمي والنهي التنزيهيّ بأمر واحد شخصي وهذا أيضا غير جائز لما مرّ.

الخامسة : أن يتعلّق الأمر الإيجابي التخييريّ والنهي التنزيهيّ بأمر واحد شخصيّ كالصلاة في الحمّام ونحوه من الأماكن المكروهة ، وهذا أيضا ممتنع إذا كان المكروه بمعناه المعروف وهو راجحيّة الترك ، فما تعلّق به هذا النهي من العبادات فالظاهر بطلانه ما لم يدلّ دليل على صحّته ، وما دلّ الدليل على صحّته يجب حمل الكراهة فيه على غير معناها الحقيقي ، فلهذا اشتهر أنّ متعلق الكراهة ليس نفس العبادة بل أمر آخر كالتعرّض للنجاسة أو لكشف العورة أو نحو ذلك في كراهة الصلاة في الحمّام فاختلف المتعلّق ، ويقولون : إنّ الحرمة غالبا يتعلّق بالذات والكراهة بالوصف ، وهذا خلاف النصوص الدالّة على تعلّق الكراهة بنفس الفعل مثل « لا تصلّ في الحمّام » ونحوه.

والحقّ : هو ما اشتهر من أنّ الكراهة في العبادات بمعنى كونها أقلّ ثوابا بنسبة خاصّة » (1). وأورد عليه السيّد الشارح : « بأنّه لا يدفع الإشكال ، لأنّ ما هو أقلّ ثوابا يكون مطلوب الترك للنهي عنه كما هو المفروض ، فيلزم طلب الفعل الواحد الشخصي وطلب تركه وهذا تكليف بالمحال ، واجتماع الرجحان والمرجوحيّة وهو اجتماع الضدّين » وتبعه في هذا الإيراد بعض الأعلام.

ص: 587


1- الوافية : 94.

وأنت خبير بأنّ هذا غفلة عن فهم مراده من ارتكاب هذا التوجيه ، فإنّ غرضه هنالك إرجاع التأويل إلى النهي المفروض بصرفه عن معنى الطلب إلى حمله على الإرشاد وهو مجرّد بيان قلّة الثواب ، وهذا معنى آخر من معاني الصيغة أمرا ونهيا فيكون النهي المحمول على الإرشاد إلى أقلّيّة الثواب كالأمر الإرشادي لمجرّد بيان الواقع خاليا عن الطلب ، فالإيراد عليه بنحو ما ذكر ليس على ما ينبغي.

وأمّا شبهة اجتماع الضدّين فسيأتي ما يدفعها.

ثمّ إنّ للسيّد كلاما طارفا (1) أورده على القول بالبطلان الّذي صرّح به الفاضل المتقدّم ذكره ومن وافقه فيما لا دليل على صحّته وهو : « أنّ تعلّق النهي التنزيهي حقيقة بالعبادة مع القول ببطلانها ممّا لا معنى له ، لأنّ من قال بالبطلان إنّما قال به هربا من التكليف بالمحال واجتماع الرجحان والمرجوحيّة في فعل شخص واحد وفي تركه أيضا ، والقول بتعلّق النهي التنزيهيّ بها مستلزم للعود إلى المهروب عنه ، لأنّ معنى هذا النهي رجحان الترك مع جواز الفعل شرعا وعدم العقاب عليه ، وحينئذ ينتظم قياس هكذا : هذا الّذي نهي عنه تنزيها عبادة جائزة شرعا - أمّا كونه عبادة فللفرض وأمّا كونها جائزة فلكون النهي عنه تنزيها - وكلّ عبادة جائزة إمّا أن يثاب على فعلها ويعاقب على تركها ، أو يثاب على فعلها ولا يعاقب على تركها ، فهي إمّا واجبة أو مندوبة ، فتكون مطلوب الفعل والترك وراجحة ومرجوحة ، والقول بأنّها لا يثاب عليها قول بعدم كونها عبادة بل بدعة محرّمة » إلى آخره.

وهذا الكلام كما ترى وارد على سبيل المغالطة مبنيّ على الغفلة عن حقيقة الحال لتطرّق المنع إلى صغرى القياس ، فإنّ الجواز في كلّ شيء إنّما يعتبر على حسبما يقتضيه المقتضي للجواز فيه وهو في العبادات مشروط بورود أمر بها إيجابا أو ندبا ، والنهي التنزيهيّ إنّما يقتضي الجواز في متعلّقه إذا لم ينشأ منه ما يرفع المقتضي للجواز من لزوم التكليف بالمحال أو اجتماع المتضادّين أو غيره من المحاذير ، وهو في العبادات في زعم القائلين بالبطلان مستلزم لهذه المحاذير ، فعدم الجواز حينئذ ليس من مقتضى هذا النهي من حيث إنّه هذا النهي حتّى يقال : بأنّه تنزيهي لا ينافي الجواز بل هو مقتض له ، بل هو من مقتضى انتفاء المقتضي للجواز المستند إلى المحاذير الناشئة من النهي على تقدير بقاء ذلك المقتضي من الأمر الإيجابي أو الندبي ، وظاهر أنّ العبادة حيثما ارتفع عنها الأمر بكلا

ص: 588


1- في التحرير الأوّل من التعليقة : « لطيفا » بدل « طارفا ».

قسميه لا تكون جائزة ، لاندراجها حينئذ في التشريع القبيح والبدعة المحرّمة فتبطل ، وهذا هو معنى منع الصغرى المنتج للبطلان.

والعمدة في دفع القول بالبطلان منع إطلاق ما زعموه من استلزام النهي التنزيهي لما لا يمكن معه بقاء الأمر بالعبادة مطلقا حتّى فيما له بدل كما لو كان الأمر تخييريّا ، بأن يقال : إنّ ما زعمتم لزومه من النهي من جهة هذا النهي إمّا أن يكون هو التكليف بالمحال بدعوى تعذّر امتثال الأمر التخييري والنهي التنزيهي المذكورين من جهة تعذّر الجمع بين فعل العبادة وتركها ، أو يكون هو اجتماع المتضادّين نظرا إلى أنّ الأمر إذا كان إيجابيّا يقتضي باعتبار فصله المنع من الترك والنهي التنزيهي باعتبار جنسه يقتضي الإذن في الترك وهما ضدّان أو نقيضان يستحيل اجتماعهما في محلّ واحد ، أو يكون هو اتّصاف شيء واحد بوصفين متضادّين التفاتا إلى أنّ الأمر يقتضي رجحان الفعل المستلزم لمرجوحيّة الترك والنهي التنزيهي يستلزم رجحان الترك المستلزم لمرجوحيّة الفعل فيلزم بتواردهما على عبادة كون كلّ من فعلها وتركها راجحا ومرجوحا ، فيجب القول بارتفاع الأمر دفعا لهذه المحاذير ، والكلّ محلّ منع.

أمّا الأوّل : فلأنّ تكليف المحال بمعنى تعذّر الامتثال معناه تعذّر العمل بمقتضى الأمر والنهي معا وهو هنا غير متعذّر ، لأنّ الأمر إذا كان تخييريّا كما في الصلاة في الحمّام فمقتضاه جواز تركها إلى بدل - أي على تقدير الإتيان بها في غير الحمّام - والنهي التنزيهي عنها أيضا يقتضي جواز تركها فالعمل بمقتضاهما ممكن.

وأمّا الثاني : فلأنّ مقتضى الأمر على ما عرفت جواز الترك إلى بدل ومقتضى النهي التنزيهي أيضا جواز الترك وهما متوافقان لا أنّهما متنافيان.

وأمّا الثالث : فلإمكان رفع المضادّة عمّا بين الرجحان والمرجوحيّة بجعلهما من الصفات الإضافيّة الّتي يمكن اجتماع متقابلاتها عند تعدّد جهة الإضافة كالفوقيّة والتحتيّة لسقف البيت والكثرة والقلّة للعشرة بالإضافة إلى السماء وأرض البيت أو إلى ما تحت العشرة من الآحاد وما فوقها من الأعداد من غير تناف ولا تضادّ ، فإذا أمر الشارع بكلّي له أفراد إيجابا أو ندبا كشف ذلك الأمر عن رجحان فعله على تركه المطلق الّذي لا يتحقّق إلاّ بترك جميع أفراده ، ثمّ إذا نهي عن بعض أفراده فإن كان ذلك نهي تحريم كشف عن وجود مفسدة فيه ناشئة عمّا فيه من الخصوصيّة موجبة فيه لمرجوحيّة متأكّدة فائقة على

ص: 589

رجحانه من جهة الحصّة من الماهيّة الموجودة فيه ، كما في نهي الحائض عن الصلاة أو نهي الصلاة في الدار المغصوبة ، فحينئذ لا إشكال في امتناع الصحّة على ما يأتي تحقيقه في البحث الآتي.

وإن كان نهي تنزيه كأمثلة المقام كشف عن مرجوحيّة فيه أيضا ناشئة عن الخصوصيّة غير بالغة حدّ المنع من الفعل لكن لا بالقياس إلى تركه المطلق بل بالقياس إلى الأفراد الاخر الخالية عن هذه الخصوصيّة ، فإيقاع الفعل في ضمن هذا الفرد المرجوح راجح بالإضافة إلى تركه المطلق ومرجوح بالإضافة إلى إيقاعاته الاخر لما فيها من مزيّة الرجحان أو عدم المنقصة الموجودة فيه ، فيكون تركه مرجوحا بالإضافة إليه وراجحا بالإضافة إلى تروكه الاخر اللاحقة لسائر إيقاعاته ، وظاهر أنّه لا امتناع في شيء من ذلك ، فلا داعي إذن إلى الحكم ببطلان العبادة لشبهة لزوم اتّصاف الفعل والترك بالرجحان والمرجوحيّة ، ولا إلى صرف النهي عن معنى الكراهة المصطلحة ، ولا إلى صرفه عن العبادة إلى ما هو خارج منها من الصفات المقارنة لها.

فإن قلت : بناء على ما اعترفت به من كشف النهي التنزيهي عن منقصة أوجبتها الخصوصيّة يلزم خروج الفعل باعتبار تلك الخصوصيّة عن وصف الوجوب ، لمصادمة هذه المنقصة رجحانه الذاتي الباعث فيه على الأمر الإيجابي الباعثة على ضعف هذا الرجحان فيصير قاصرا عن اقتضاء الوجوب ، وحينئذ فإمّا أن يقال : باتّصافه بالاستحباب أو بقائه بلا مقتضي للامتثال من أمر إيجاب أو ندب ، والأوّل باطل بالضرورة من جهة أنّ فرض الظهر مثلا لا يلحقه الاستحباب ، فتعيّن الثاني وهو المراد من بطلان العبادة.

قلت : كأنّك غافل عن تفاوت مراتب الرجحان واختلافها في الشدّة والضعف وكونه ممّا يتضاعف تارة ويتناقص اخرى ، كيف ولو لا ذلك لما حصل الفرق بين الواجبات والمندوبات ولا في الواجبات بين الأهمّ وغيره ، وما ذكرته إنّما يتّجه إذا علم بكون رجحان الفعل الباعث على إيجابه في أوّل مراتبه ، وأيّ سبيل إلى هذا العلم؟ ومع عدمه يجب العمل بالأدلّة المتلاحقة بقدر الإمكان ، ومفروض المقام من موارد الإمكان لعدم ثبوت منافاة بين الأمر الإيجابي التخييري والنهي التنزيهي هنا ، حيث إنّ الأمر كشف عن رجحان في الفعل والنهي عن مرجوحيّة اضافيّة وقضيّة العمل بهما الإذعان في الفعل ببقاء ما يكفي من رجحانه في انعقاد الوجوب ، وإلاّ كان اللازم ورود النهي تحريما حذرا عن الإغراء بالجهل.

ص: 590

فإن قلت : لو كان اجتماع الرجحان والمرجوحيّة بالإضافة في شيء واحد كافيا في انعقاد الكراهة مع الوجوب أو الندب كانت الصلاة في البيت أيضا مكروهة ، بل يلزم ذلك فيما عدا الصلاة في المسجد الحرام ، لكون كلّ راجحا بالقياس إلى تركه المطلق ومرجوحا بالاضافة إلى فعل غيره ، وهذا مع بطلانه في نفسه وعدم قائل به لا يلائمه اختصاص النهي التنزيهي بما عدا هذه الأفراد وعدم وروده فيها.

قلت : العبادة إنّما يحكم عليها بالكراهة إذا استند مرجوحيّتها من جهة الخصوصيّة إلى منقصة ناشئة عن تلك الخصوصيّة بالقياس إلى أصل الماهيّة لا إلى عدم مزيّة في رجحانها من جهة فقد ما يوجب فيها تلك المزيّة ، فمكروه العبادة ما نقص رجحانه عن رجحان أصل الماهيّة لعروض مانع عن الكمال لا مطلقا.

وتوضيحه : أنّ نقصان الرجحان في الفرد قد يستند إلى فقد المقتضي للزيادة وقد يستند إلى وجود المانع عن اقتضاء المقتضي لكمال الرجحان ، كما أنّ زيادة الرجحان في الفرد قد يستند إلى وجود المقتضي للزيادة وقد يستند إلى فقد المانع عنها ، والباعث على الكراهة ليس مجرّد النقص ولو من جهة فقد ما يقتضي الزيادة ، بل النقص الحاصل بالعرض لأجل وجود مانع عن اقتضاء المقتضي وهو الطبيعة كمال مقتضاه ، فالكون في الحمّام نحو خصوصيّة إذا طرأت الماهيّة توجب نقصا في رجحانها فتكون مانعة عن اقتضائها ، كما أنّ الكون في المسجد نحو خصوصيّة إذا عرضت الماهيّة توجب زيادة في رجحانها فتكون مقتضية للزيادة بخلاف الكون في البيت فإنّه نحو خصوصيّة إذا لحقت الماهيّة لا توجب نقصا في رجحانها ولا زيادة فيه ، فلا تكون من قبيل المانع ولا المقتضي ، فنقص الصلاة في البيت بالإضافة إلى الصلاة في المسجد لم يحصل بواسطة وجود المانع الموجب للمنقصة لتكون مكروهة بل بواسطة فقد ما يوجب الزيادة ، فالصلاة في الحمّام على هذه القاعدة مكروهة وفي البيت مباحة وفي المسجد مندوبة ، وسبب النقص في الحمّام وجود المانع عن اقتضاء المقتضي ، وسبب النقص بالنسبة والزيادة بنسبة اخرى في البيت فقد المقتضي للزيادة وفقد المانع عن اقتضاء الماهيّة ، وسبب الزيادة في المسجد وجود المقتضي للزيادة ، والداعي إلى هذا الاختلاف بين هذه الأفراد ظواهر الأدلّة الحاكمة في بعضها بالاستحباب وفي البعض الآخر بالكراهة ، فيبقى ما لا دليل منها على استحبابه ولا على كراهته على رجحان أصل الماهيّة ، من غير زيادة ونقيصة هذا.

ص: 591

ولكنّ الإنصاف أنّ لزوم التكليف بما لا يطاق باجتماع الوجوب والكراهة بل الندب والكراهة وكذلك اجتماع المتضادّين في اجتماع الأوّلين ممّا لا مجال لأحد إلى إنكاره.

وما تقدّم من منع الملازمة فيهما معا خلاف التحقيق لفساد وضع سند المنع.

أمّا في الأوّل : فلأنّ محذور المقام في نظر القائلين بالبطلان إنّما هو لزوم التكليف بغير المقدور في مادّة اجتماع الحكمين لا في مادّة افتراقهما ، كما هو الحال في أصل المسألة بالقياس إلى الصلاة والغصب ونظائرهما ، وإلاّ فلا كلام لأحد في إمكان العمل بمقتضى الأمر التخييري والنهي التنزيهي في مادّة افتراقهما لحصول امتثالهما معا ، وهذا لا يجدي نفعا في جواز اجتماعهما وإلاّ لتوجّه إليه النقض بمثل الصلاة والغصب.

ولا ريب في تعذّر امتثال التكليفين في محلّ الاجتماع كالصلاة في الحمّام ونحوها ، فإنّ الأمر ولو تخييريّا أو ندبيّا يقتضي الامتثال بفعلها والنهي التنزيهي يقتضي الامتثال بتركها والجمع بينهما في آن واحد غير مقدور ، فيلزم من اجتماعهما مع بقاء الكراهة على معناها المعروف التكليف بغير المقدور.

وأمّا في الثاني فأوّلا : لأنّ مفاد الوجوب التخييري ينحلّ إلى قضيّتين : المنع عن ترك الصلاة في الحمّام وغيره على تقدير عدم الإتيان بها في غير الحمّام ، والإذن في تركها في الحمّام وغيره على تقدير الإتيان بها في غير الحمّام ، والنهي التنزيهي المتضمّن لطلب الترك يقتضي الإذن في تركها فيه على كلا التقديرين ، فهو وإن كان لا ينافي الأمر التخييري في القضيّة الثانية من مفاده ولكنّه ينافيه في القضيّة الاولى منه فهما ضدّان من هذه الجهة ، ولا يمكن تعرية الأمر عن أحد جزئي مفاده وهو القضيّة الاولى ، كما لا يمكن تعرية النهي عن الإذن في الترك في أحد التقديرين وهو تقدير الإتيان بالعبادة في ضمن غير المنهيّ عنه لأنّه خلاف مقتضاه.

وثانيا : لأنّ الأمر حسبما قرّرناه سابقا من تعلّق الأحكام بإيجاد الطبائع المجرّدة الغير المقيّدة بالوجود معيّنا وغير معيّن ولا غيره من التشخّصات اللازمة للوجود إنّما يتعلّق بإيجاد الماهيّة المطلقة ، فتكون الماهيّة المطلقة مطلوبا إيجادها وممنوعا عدم إيجادها ، والّذي يجوز تركه إلى بدل هو إيجاد تلك الماهيّة مقيّدة ببعض التشخّصات اللاحق بها باعتبار وقوعها في المكان المكروه كالحمّام أو المعاطن أو البطائح ، والإيجاد الّذي يضاف إلى الماهيّة في ذلك المكان مع قطع النظر عن هذه الإضافة إيجاد للماهيّة المطلقة الّتي

ص: 592

تعلّق الأمر بها وإنّما تصير مقيّدة إن اخذت بقيد هذه الإضافة وبشرط تلك الخصوصيّة ، ولا ريب أنّه إيجاد واحد يلحقه إضافتان باعتبار الإطلاق والتقييد ، وهو مع قطع النظر عن الخصوصيّة الناشئة عن الإضافة إلى المكان إمّا أن يحصل بوصف الوجوب المتعلّق بالماهيّة المطلقة أو بوصف الكراهة أو بوصفيهما.

فإن قلت بالأوّل اتّجه عدم الكراهة بمعناها المعروف.

وإن قلت بالثاني اتّجه البطلان.

وإن قلت بالثالث اتّجه محذور اجتماع المتضادّين ، ضرورة أنّ الماهيّة المطلقة كانت ممنوعا تركها وقد صارت بالكراهة مأذونة في تركها.

لا يقال : هذا إنّما يتّجه لو قلنا بتعلّق الكراهة بالماهيّة المطلقة وهو خلاف الفرض لتعلّقها بإيجاد الماهيّة المقيّدة ، والّذي لا يجوز تركه هو إيجاد الماهيّة المطلقة ، ولا ريب أنّ إيجاد الماهيّة المطلقة وإيجاد الماهية المقيّدة موضوعان متغايران لا مانع من توارد الحكمين المتنافيين عليهما.

لأنّ هذا تغاير بينهما عند العقل ولا عبرة به ، لأنّ الحكم لا يتعلّق بما عند العقل بل بالإيجاد باعتبار الخارج وهو باعتباري الإطلاق والتقييد واحد لا يتعدّد بتعدّد الإضافة ، والإيجاد الواحد لا يقبل توارد المتنافيين عليه ، واعتبار التغاير نظرا إلى تعدّد الإضافة لا يوجب التغاير الواقعي كما أنّ التعدّد الذهني لا يوجب التعدّد الخارجي.

وبالتأمّل فيما قرّرناه يعلم أنّ اعتبار التعدّد بالنظر إلى الذات والوصف حسبما تقدّم في كلام شارح الوافية أيضا غير مجد ، لأنّ الوصف في الصلاة الواقعة في الحمّام مثلا لا يوجد بإيجاد آخر ممتاز عن إيجاد الذات بل الإيجاد المضاف إليهما واحد والموجود أيضا واحد.

غاية الأمر أنّ هذا الموجود الواحد ينحلّ عند العقل إلى ذات وهي الصلاة ووصف وهو وقوعها في الحمّام ، وهذا لا يصحّح تعلّق الوجوب بالذات والكراهة بالوصف ، لما ذكرناه مرارا من تعلّق الأحكام بإيجادات الطبائع مطلقة ومقيّدة كما صرّح هو به أيضا في أوّل [ كلامه ] وجعله القول المنصور ، وعلى هذا فبين كلامه هذا وسائر كلماته تهافت واضح.

ثمّ ينبغي التكلّم في تحقيق أحكام الأقسام الثلاث المتقدّمة للعبادات المكروهة من حيث إمكان تصحيحها مع بقاء الكراهة على معناها المصطلح عليه وعدمه ، ثمّ التعرّض لبيان ما ذكروه من توجيهات الكراهة حيث لا يمكن بقاؤها على معناها مع الصحّة ، فنقول :

ص: 593

أمّا القسم الأوّل : وهو ما له بدل ممّا تعلّق النهي التنزيهيّ بنفس العبادة ، فقد عرفت من مطاوي الكلمات السابقة أنّ منشأ الإشكال في الصحّة مع بقاء الكراهة في الصلاة في الحمّام مثلا إمّا لزوم التكليف بغير المقدور من توارد الأمر التخييري والنهي التنزيهي على الصلاة المذكورة ، أو لزوم اجتماع المتضادّين في محلّ واحد ، أو لزوم اتّصاف الشيء الواحد بالرجحان والمرجوحيّة.

وطريق التفصّي عن الإشكال إمّا منع التوارد ، أو منع الملازمة ، أو منع بطلان اللازم ، وهذا الطريق الأخير وإن أمكن إجراؤه بالنسبة إلى الأخير بالتقريب المتقدّم من جواز اجتماع المرجوحيّة الإضافيّة مع الرجحان الذاتي في العبادة ، إلاّ أنّه لا سبيل إليه بالنسبة إلى الأوّلين بعد تسليم التوارد وتسليم الملازمة ، لأنّ استحالة اجتماع المتضادّين في محلّ واحد عقليّة ، وكذلك قبح التكليف بما لا يطاق عند القائلين بالتحسين والتقبيح العقليّين ، وكذلك الطريق الثاني أيضا بعد تسليم التوارد ممّا لا سبيل إليه كما بيّنّاه سابقا.

وأمّا الطريق الثالث - وهو منع التوارد - فالظاهر إمكانه بمنع ورود الأمر التخييري بهذه العبادة واجتماعه فيها مع الكراهة المصطلحة مع عدم لزوم البطلان من انتفاء الأمر مطلقا ، وسند المنع يعلم بمراجعة ما قرّرناه في بحث الضدّ عند دفع مقالة الشيخ البهائي من أنّ الأمر بالشيء يقتضي عدم الأمر بالضدّ الموسّع فيبطل إذا كان عبادة من هذه الجهة.

ومحصّل ما قرّرناه ثمّة هو : أنّ عدم الأمر بما يضادّ المأمور به المضيّق من أفراد الضدّ الموسّع وهو الكلّي المأمور به مسلّم ، لأنّ الأمر بالطبيعة الكلّية كالصلاة لا بأفرادها الّتي منها ما يضادّ المأمور به المضيّق كإزالة النجاسة عن المسجد ، فعدم الأمر بهذا الفرد مسلّم ولكنّ البطلان غير مسلّم ، لأنّ صحّة العبادة بمعنى موافقة الأمر أعمّ من الإتيان بنفس المأمور به كما إذا [ كان ] جزئيّا ، والإتيان بما ينطبق على المأمور به الكلّي كما إذا كان فردا من الطبيعة المأمور بها ، بل المدار في صحّة جميع العبادات على القول بتعلّق الأوامر بالطبائع المطلقة بسبب الإتيان بما هو من أفراد الطبيعة إنّما هو الانطباق ، فإنّ الفرد لاشتماله على الحصّة من الطبيعة المأمور بها منطبق عليها وهذا كاف في الصحّة بمعنى موافقة [ الأمر ] بناء على أنّ المراد بها حينئذ موافقة المأتيّ به للمأمور به الكلّي.

وبمثل ذلك يقال فيما نحن فيه أيضا ، فإنّ الصلاة في الحمّام من [ حيث ] إنّها هذا الفرد الخاصّ من طبيعة الصلاة المأمور بها من حيث هي لا تكون موردا للأمر حتّى التخييري

ص: 594

منه ولكنّ الإتيان به مع ذلك يفيد الصحّة لمجرّد الانطباق المذكور ، ولا يقدح فيه النهي التنزيهي المتعلّق بها وإن حملناه على الكراهة المصطلحة.

وما تقدّم في تتميم الدليل المختار على منع اجتماع الأمر والنهي من إثبات التخييري بالقياس إلى أفراد الماهيّة المأمور بإيجادها أو بالقياس [ إلى ] الإيجاد الخاصّة المندرجة تحت الإيجاد الكلّي للماهيّة المطلقة ، يمكن منعه بأنّه ممّا لا شاهد عليه من عقل ولا شرع ولا عرف ، بل الّذي يستتبعه الأمر التعييني بإيجاد الماهيّة على حسبما في ضمير الآمر إنّما هو تجويز الإتيان بكلّ فرد منها على البدل ، نظرا إلى أنّ امتثال الأمر بالماهيّة لا يتأتّى إلاّ بإتيان الفرد ولا مرجّح لبعض الأفراد على البعض الآخر ، فاللازم للأمر التعييني بإيجاد الماهيّة على الوجه الكلّي هو هذا التجويز بمعنى الترخيص المعرّى عن الطلب ، وهو الّذي يدركه العقل من باب دلالة الإشارة لا غير ، وهو المراد من التخييري العقلي.

وما تقدّم أيضا من أنّ المنعقد في ضمير الآمر طلب واحد إلاّ أنّه بالاضافة إلى إيجاد الماهيّة تعييني وبالإضافة إلى إيجاداتها الخاصّة تخييري.

يدفعه : أنّ هذا الاعتبار لا يجدي نفعا في انعقاد الأمر بالقياس إلى الأفراد الّتي منها هذا الفرد الخاصّ الّذي هو مورد النهي التنزيهيّ ، لأنّ الإضافة الثانية ممّا تعتبر عند العقل على سبيل الإسناد العقلي المجازي ، ولا عبرة به في إثبات الوجوب التخييري زائدا على الوجوب التعييني بالقياس إلى أصل الماهيّة.

وإذا كان اللازم من الأمر بإيجاد الماهيّة هو تجويز الإتيان بهذا الفرد الخاصّ فمقتضى النهي التنزيهي المتعلّق به أيضا هو تجويز الإتيان به أيضا فهما لا يتنافيان ، فلم يجتمع الوجوب التخييري مع الكراهة المصطلحة في الصلاة في الحمّام ونظائره من الأمكنة المكروهة ، وحينئذ فإن اختار المكلّف الإتيان بما عدا هذا الفرد المكروه امتثل التكليفين ، أمّا الأمر فلأنّه أتى بما ينطبق على الماهيّة المأمور بها وأمّا النهي فلأنّه ترك المنهيّ عنه ، وإن اختار هذا الفرد المكروه امتثل أحد التكليفين وهو الأمر بالماهيّة لإتيانه بما ينطبق عليها وخالف التكليف الآخر لإتيانه بالمنهيّ عنه.

غاية الأمر أنّه فعل مكروها وحصل به امتثال الأمر بالماهيّة لمجرّد الانطباق المذكور من غير أن يكون ذلك المكروه بنفسه مأمورا به حتّى الأمر التخييريّ ، وهو المراد من إمكان تصحيح العبادات المكروهة ممّا له بدل مع بقاء الكراهة على معناها المعروف.

ص: 595

فعلم بما قرّرناه أنّه لا حاجة في هذا القسم إلى صرف النهي التنزيهيّ عن ظاهره ، ولا إلى توجيه الكراهة بأحد الوجوه الآتية.

ولا يذهب عليك أنّه لا يجري البيان المذكور في منع استلزام الأمر التعيينيّ بالماهيّة للوجوب التخييريّ في أفرادها في الصلاة والغصب وغيرهما من أمثلة أصل المسألة ، لأنّ التجويز اللازم من الأمر بالماهيّة من حيث [ هي ] في مورد الاجتماع يناقض المنع منه الّذي كان يقتضيه النهي التحريمي باعتبار التكرار في ذلك النهي ، فيلزم كلّ من اجتماع المتنافيين في محلّ واحد والتكليف بما لا يطاق.

أمّا الأوّل : فواضح.

وأمّا الثاني : فلأنّ المنع المذكور بالنسبة إلى الفرد الخاصّ مانع شرعي عن الإتيان به بعنوان أنّه إتيان بما ينطبق على الماهيّة المأمور بها ، فحينئذ لا بدّ من إرجاع المورد إلى باب التراجيح المقتضي لأحد الأمرين من ترجيح إطلاق النهي على الأمر فيخصّص الماهيّة المأمور بها بما عدا ذلك الفرد ، أو ترجيح إطلاق الأمر على النهي فيخصّص الماهيّة المنهيّ عنها بما عدا هذا الفرد ، وسيأتي الكلام في تحقيق هذا المقام في ذيل المسألة.

وأمّا القسم الثاني : وهو ما لا بدل له ممّا تعلّق النهي التنزيهي بنفس العبادة كالتطوّع بالصلاة في الأوقات الخمس المعروفة ، وبالصوم في الأيّام المكروهة ، أو غيرها كصوم يوم عاشوراء ، وصوم يوم عرفة لمن يضعّفه عن قراءة الدعاء ، وصوم الضيف من دون إذن المضيف وبالعكس ، وصوم الولد بدون إذن الوالد بل الوالدين ، وصوم السفر عند جماعة بل الأكثر ، وإنّما صارت هذه العبادات ممّا لا بدل لها لأنّ الأمر الاستحبابي المفروض فيها مع الكراهة تعيينيّ ، لا بمعنى أنّه مستفاد من خطاب مستقلّ مختصّ بهذه الأفراد بل لثبوته بالعموم الأزماني المستفاد من عمومات التطوّع بالصلاة وعمومات التطوّع بالصيام المفيدتين لاستحباب كلّ ركعتين في كلّ وقت يسعهما واستحباب صوم كلّ يوم.

وإن شئت قلت : إنّ العموم الأزماني إنّما ثبت لكون الأمر الاستحبابي الوارد في المقامين مفيدا للتكرار ، على معنى استحباب كلّ فرد من الأفراد المتمايزة بخصوصيّات الأوقات أو الأيّام الّتي منها هذه الأوقات الخمس وهذه الأيّام المذكورة ، فيكون كلّ فرد موردا للأمر ومأمورا به بالاستقلال.

ومنشأ الإشكال هنا على تقدير الاجتماع وتوارد الأمر الاستحبابي التعييني مع

ص: 596

الكراهة بالمعنى المعروف لزوم التكليف بغير المقدور لتعذّر امتثالهما بالجمع بين الفعل والترك ، بل لزوم هذا المحذور هنا أظهر منه في القسم الأوّل ، إذ لا مندوحة للمكلّف بواسطة كون الأمر تعيينيّا ، بل امتناع الاجتماع هنا ممّا ينبغي أن يتّفق الفريقان من مجوّزي اجتماع الأمر والنهي في أصل المسألة ونافيه ، لدخول المورد فيما لا مندوحة [ للمكلّف ] وكون الاجتماع على تقديره آمريّا لا مأموريّا.

وقد تقدّم منهم التصريح بخروجهما عن المتنازع لاتّفاق الفريقين على منع الاجتماع ، مضافا إلى ما يلزم هنا أيضا من اتّصاف كلّ من الفعل والترك بالرجحان والمرجوحيّة.

نعم لا مضادّة بين الاستحباب والكراهة بالذات لتعلّق الطلب في أحدهما بالفعل وفي الآخر بالترك ، فيتعدّد المتعلّق مع تضمّن كلّ تجويز كلّ من الفعل والترك.

وما يقال : من أنّ الأحكام بأسرها متضادّة ، ينبغي أن يراد به عدم إمكان اجتماع كلّ اثنين منها في محلّ واحد ولو لعارض كما في الندب والكراهة ، فإنّ عدم اجتماعهما لما لزمه من التكليف بما لا يطاق ، أو اتّصاف شيء واحد بالرجحان والمرجوحيّة إن لم يقبل التوجيه.

وحينئذ فالتفصّي عن الإشكال المذكور لا يتأتّى إلاّ بمنع التوارد الّذي مرجعه إلى منع اجتماعهما مع بقاء الكراهة على معناها المعروف ، وهذا المنع يتأتّى هنا تارة : بمنع شمول الأمر الاستحبابي لهذا الفرد المكروه ، ومرجعه إلى تخصيص عمومات الاستحباب ، وهذا هو الأصل اللفظي لكون دليل الكراهة خاصّا والخاصّ مقدّم طبعا على العامّ من حيث هو ، ومعنى تقدّمه عليه تخصيصه إيّاه عرفا وعقلا دفعا لمحذور التكليف بما لا يطاق والاتّصاف بالمتضادّين ، ومقتضاه البطلان لانتفاء الأمر الّذي عليه مدار صحّة العبادة ، ولا يتمشّى هنا ما تقدّم في القسم الأوّل من أنّ انتفاء الأمر عن الفرد لا يلازم البطلان ولا ينافي الصحّة لكفاية انطباقه على الماهيّة المأمور بها من حيث هي في الصحّة ، إذ ليس هنا ماهيّة مأمور بها ينطبق عليها الفرد لفرض تعلّق الحكم الاستحبابي بالأفراد ، وإن شئت تصوير حقيقة هذا التخصيص حسبما قرّرناه فافرض مكان النهي التنزيهي المتعلّق بالفرد النهي التحريمي كما في صوم يوم العيدين.

وتارة اخرى : بتوجيه الكراهة المفروضة مع الأمر الاستحبابي بإحدى الوجوه الآتية ولكن هذا إنّما يلتزم به إذا اعتضد عموم عمومات الصحّة بالقياس إلى المورد بدليل خاصّ يدلّ على الصحّة المبنيّة على شمول الاستحباب له بالخصوص من إجماع محصّل أو

ص: 597

منقول أو نصّ خاصّ معتبر ، وحينئذ يقدّم عموم العامّ على ظهور الخاصّ المقتضي للكراهة فيؤوّل الخاصّ ويوجّه الكراهة بما ستعرفه عند الكلام في وجوه التوجيه الّتي ذكرها الأصحاب ، وأمّا التكلّم في وجود دليل خاصّ في هذه العبادات يعتضد به دلالة العمومات فتقدّم على دلالة الخاصّ فهو خارج عن وظيفة هذا الفنّ لكونه من وظائف الفقيه في الفروع ، وإن كان الأظهر عندنا في الجميع ما عدا صيام السفر - على ما حقّقناه في الفقه - هو الصحّة لقيام الدليل الخاصّ عليها.

وأمّا القسم الثالث : أعني ما تعلّق النهي التنزيهي بأمر خارج عن العبادة أعمّ منها من وجه ، فإنّه اشتهر التمثيل له بالصلاة فرضا أو ندبا والكون في مواضع التهم ، وهذا وإن أمكن المناقشة فيه بمثل ما مرّ في أمر السيّد بخياطة ثوب مّا ونهيه عن الكون في موضع مخصوص باعتبار أنّ الكون المنهيّ هنا ليس جزءا من مفهوم الصلاة بل هو من لوازم الجسم فلم يتّحد مع الصلاة في الوجود ، ولكنّه لا يجدي نفعا في دفع محذور التكليف بما لا يطاق ، لأنّ ما هو لازم للجسم لازم للصلاة الواقعة في موضع التهمة ، وحينئذ ففعل الملزوم امتثالا للأمر يستلزم فعل اللازم فيتعذّر امتثال النهي المتعلّق به ، كما أنّ ترك اللازم امتثالا للنهي يستلزم ترك الملزوم فيتعذّر امتثال الأمر المفروض بالنسبة إليه.

إلاّ أنّ دفع الإشكال هنا أيضا سهل بنحو ما بيّنّاه في القسم الأوّل من منع تعلّق أمر بهذه الصلاة مطلقا من جهة الأمر بالماهيّة من حيث هي ، مع حصول الصحّة لمجرّد انطباقها على الماهيّة المأمور بها من غير حاجة إلى دليل آخر على الصحّة ، ولا إلى تكلّف التوجيه إلى الكراهة ، غاية الأمر حصول الصحّة في ضمن عمل مكروه ولا ضير فيه أصلا.

فظهر ممّا ذكرنا هنا وفي القسم الأوّل أنّ مسيس الحاجة إلى التصرّف في النهي أو إلى توجيه الكراهة مقصور على القسم الثاني بعد مساعدة الدليل على الصحّة ، وقد ذكر القوم في هذا المقام وجوها :

منها : ما ذكره الفاضل التوني في عبارته المتقدّمة (1) واختاره وجعله مشتهرا من أنّ المراد بالكراهة كونه أقلّ ثوابا ، ونقله ثاني الشهيدين في تمهيد القواعد بعبارة : « ناقص الثواب » حيث قال - بعد تقسيم الحكم الشرعي إلى الخمسة المشهورة - : « ويرد على هذا التقسيم امور :

ص: 598


1- الوافية : 96.

أحدها : مكروه العبادة كالصلاة في الأماكن والأوقات المكروهة ، فإنّ الفعل راجح بل مانع من النقيض مع وصفه بالكراهة المقتضية لرجحان الترك.

ومن ثمّ قالوا : إنّ المراد بمكروه العبادة ناقص الثواب خاصّة ، وهو اصطلاح مغائر لقاعدة الاصوليّين وموجب لانقسام المكروه إلى معنيين عامّ وخاصّ » إلى آخر ما ذكره.

وإلى هذا المعنى يرجع ما ذكره في المسالك في مسألة كراهة النافلة المبتدئة في الأوقات المكروهة بقوله : « ومعنى كراهة العبادة في هذه المواضع ونظائرها كونها خلاف الأولى فينقص ثوابها عن فعلها في غير هذه الأوقات لا الكراهة المتعارفة » انتهى. على معنى كونه بالقياس إلى أقلّيّة الثواب ونقصانه من باب التفسير باللازم كما يومئ إليه تفريعه.

والظاهر أنّ مرادهم بأقليّة الثواب في توجيه الكراهة ما يمكن معها حمل النهي المتعلّق بالعبادة على الارشاد إليها خاليا عن الطلب ، سواء ورد ذلك النهي بلفظ « لا ينبغي » أو بلفظ « لا تصلّ » و « لا تصم » أو بلفظ « لا صلاة » و « لا صيام » ومرجعه إلى بيان الواقع بصورة الطلب من غير طلب تنبيها للمكلّف على المنقصة اللازمة من الخصوصيّة الباعثة على قلّة الثواب لئلاّ يفوت عنه ما هو الأصلح بحاله في العاجل والآجل من ذي المزيّة الكاملة والعبادة الخالية عن نحو هذه المنقصة.

ولا ريب أنّ أقلّيّة ثواب هذه العبادة بالإضافة إلى غيرها تلازم مرجوحيّة فعلها بالإضافة إلى ذلك الغير ، وهذه المرجوحيّة - كما ذكرناه سابقا - لا تنافي رجحانها الذاتي ، كما أنّ أقليّة الثواب لا تنافي نوع الثواب المترتّب عليها.

فبذلك يندفع شبهة اتّصاف الشيء الواحد بالرجحان والمرجوحيّة على أنّا نقول : إنّ الرجحان والمرجوحيّة اللاحقين بالأفعال والتروك ليسا إلاّ من قبيل الصفات الاعتباريّة الانتزاعيّة ، فلو اتّصف بهما الشيء الواحد باعتبارين لم يلزم بذلك محال أصلا.

وتوضيحه : أنّ الأصل في الرجحان والمرجوحيّة ما يلحق إحدى كفّتي الميزان ، فالرجحان عبارة عن مزيّة كفّة الموزون وثقلها على كفّة العيار ، والمرجوحيّة عبارة عن نقصانها وخفّتها ، فهما ممّا يستحيل اتّصاف شيء واحد بهما لكونهما من الصفات الحقيقيّة المتضادّة ، فاتّصاف كفّة الموزون بهما اجتماع للمتضادّين في محلّ واحد وهو محال ، وقد غلبا على الأفعال والتروك باعتبار الاشتمال على المصلحة أو المفسدة والخلوّ عنهما تغليبا ناشئا عن انتزاع العقل ، فإنّ الفعل إذا اشتمل على مصلحة فالعقل ينتزع عنه باعتبار اشتماله

ص: 599

عليها صفة يعبّر عنها بالرجحان ، وعن الترك باعتبار خلوّه عن مصلحة الفعل صفة يعبّر عنها بالمرجوحيّة ، وإذا اشتمل على مفسدة ينتزع عن الترك باعتبار خلوّه عن مفسدة الفعل صفة يعبّر عنها بالرجحان ، وعن الفعل باعتبار اشتماله على المفسدة صفة يعبّر عنها بالمرجوحيّة ، فليس في الفعل والترك مع قطع النظر عن الانتزاع العقلي إلاّ اشتمال الأوّل على المصلحة فيقال له : « الراجح » بهذا الاعتبار ، وخلوّ الثاني عن المصلحة فيقال له « المرجوح » بهذا الاعتبار ، أو اشتمال الأوّل على المفسدة فيقال له : « المرجوح » بهذا الاعتبار ، وخلوّ الثاني عن تلك المفسدة فيقال له : « الراجح » بهذا الاعتبار ، فمن الجائز عند العقل أن يشتمل فعل العبادة لذاتها على مصلحة مندرجة في الثواب الاخروي المعدّ لتلك الذات كالصلاة من حيث هي صلاة ، والصوم من حيث هو صوم ، ولوصفها أو لمقارنها على منقصة مندرجة في ضرر دنيوي من إصابة مرض أو عروض نسيان أو فقر أو نحو ذلك ، أو اخروي غير بالغ حدّ استحقاق الدخول في النار من غير أن يزاحم الثواب الّذي استحقّه المكلّف لأجل الذات كطول المكث في موقف الحساب ونحوه ، أو يكون هو مزاحمة للثواب بتقليله إيّاه ، فيتّصف بهذين الاعتبارين بالرجحان والمرجوحيّة من غير لزوم محال ، لأنّ مرجعه إلى الاشتمال على المصلحة والمنقصة المذكورتين.

وبالتأمّل في ذلك يندفع ما أورده بعض الأعلام (1) على القول بأنّ المرجوحيّة في الفعل إضافيّة وهي لا تنافي الرجحان الذاتي.

فأوّلا : « بأنّ المرجوحيّة الاضافيّة إن أوجبت منقصة في ذات ذلك الفرد بحيث يستحقّ الترك بالغلبة إلى ذاته فيعود المحذور ، وإلاّ فالغير الراجح بالقياس إليه إن كان بحيث يوازي أصل الطبيعة في الثواب فيصير ذلك الفرد مرجوحا بالنسبة إلى أصل الطبيعة أيضا فيستحقّ به الترك لما فيه من منقصة ذاتيّه ، وإن كان بحيث يزيد على أصل الطبيعة في الثواب فذلك الفرد إمّا أن يكون فعله مطلوبا أو يكون تركه مطلوبا أو يكون كلاهما مطلوبين.

فعلى الأوّل لا كراهة فيه ، وعلى الثاني لا استحباب ، وعلى الثالث يعود المحذور.

وثانيا : بأنّه لا فارق بين قولنا : « لا تصلّ في الدار المغصوبة » و « لا تصلّ في الحمّام » فإن صحّ قولك بعدم منافاة المرجوحيّة الإضافيّة للرجحان الذاتي لوجب أن لا تنافيه في المقامين وإلاّ فوجب أن لا يصحّ فيهما معا ، فأيّ شيء دعاك إلى الفرق بينهما » إلى آخر ما

ص: 600


1- القوانين 1 : 146.

ذكره ممّا لا يتعلّق بالمقام.

ووجه اندفاع الأوّل : أنّ المنقصة الناشئة عن الخصوصيّة أوجبت المرجوحيّة الإضافيّة وأقلّيّة الثواب الغير المنافيتين لرجحان الفعل باعتبار ذات العبادة ككونه صلاة أو صوما فيكون فعله مطلوبا دون تركه ، وإن كان تركه إذا دار الأمر بينه وبين ترك ما هو كامل الثواب الخالي عن المنقصة في العبادات عند المزاحمة أولى وأحقّ ، فاستحقاق ذلك الفرد للترك توصّلا إلى إدراك ما هو الأصلح بحال العبد في العاجل والآجل غير مطلوبيّة تركه ، والتنافي إنّما يحصل على الثاني ، والقائل بالمرجوحيّة الإضافيّة أو أقلّيّة الثواب لا يلتزم بالطلب ، ودعوى أنّه لا كراهة حينئذ ، يدفعها : أنّ المنتفي حينئذ هو الكراهة بمعناها المعروف لا المعنى الآخر المقصود بالتوجيه المصروف إليه النهي ، الّذي مرجعه إلى ما ذكرناه مرارا من الإرشاد المعرّى عن الطلب إلى أحد الأمرين من المرجوحيّة الإضافيّة أو أقلّيّة الثواب.

واندفاع الثاني : وضوح الفرق بين المقامين ، فإنّ النهي عن الصلاة في الدار المغصوبة تحريمي وهو باعتبار فصله يناقض كلاّ من الوجوب والندب فيلزم اجتماع المتنافيين في محلّ واحد ، ولا صارف له عن معناه الحقيقي لتعيّن التخصيص في نحوه على ما ستعرفه في البحث الآتي.

ولو سلّم كونه أيضا إرشاديّا فهو إرشاد إلى ما يكون مفاده مانعيّة الكون في المكان المغصوب الّتي يمتنع معها صحّة الصلاة بالنظر إلى ما يأتي تحقيقه في البحث الآتي من أنّ الأوامر والنواهي المتعلّقة بالعبادات والمعاملات كلّها إرشاديّة مسوقة لبيان الشرطيّة والمانعيّة ، بخلافه النهي فيما نحن فيه فإنّه ارشاد إلى ما كان مفاده عدم المانعيّة اللازم للمرجوحيّة الإضافيّة أو أقلّيّة الثواب بالنظر إلى دليل الصحّة من إجماع ونحوه.

ثمّ قد عرفت عن الشهيد الثاني في المسالك تفسير مكروه العبادة بخلاف الأولى ، ثمّ فرّع عليه نقصان ثوابها من فعلها في غير هذه الأوقات ، وظاهره كونهما متلازمين وهو كذلك ، لأنّه كلّما اشتمل على منقصة موجبة لأقليّة الثواب والمرجوحيّة الإضافيّة فتركه إلى فعل ما لا منقصة فيه أولى ، ولكن لو عبّر عن فعلها في غير هذه الأوقات بفعل غيرها كان أولى لئلاّ يتوجّه إلى ما ذكره من أنّ خلاف الأولى يقتضي مقابلا يكون هو الأولى وهو فيما لا بدل له ممّا لا مقابل له ، إذ لا يعتبر في الأولى ، وخلاف الأولى كونهما متجانسين ، فيجوز كون مكروه العبادة خلاف الأولى بالإضافة إلى طاعة اخرى ممّا يقع في الوقت

ص: 601

المكروه من تلاوة أو زيارة أو قراءة دعاء أو غير ذلك من الأعمال الصالحة الّتي لا تجامع العبادة المكروهة في وقت واحد ، فالإرشاد إلى أقلّيّة الثواب في الحقيقة تنبيه للمكلّف على ذلك ليكون على بصيرة من أمره ولا يفوت عنه ما هو الأصلح بحاله في العاجل أو الآجل ممّا لا منقصة في ثوابه أو كان أكثر ثوابا وأعظم أجرا ، كما يكشف عن ذلك ورود النهي عن صوم يوم عرفة إذا كان موجبا للضعف عن قراءة الدعاء.

نعم ربّما يتوجّه إلى جعل المدار في الكراهة على أقلّيّة الثواب أنّ المنقصة اللازمة من الخصوصيّة ليست مقصورة على ذلك ، لأنّها قد تكون مضرّة دنيويّة وقد تكون مضرّة أخرويّة ممّا عدا تقليل الثواب المعدّ للعبادة من حيث هي ، وقد تكون تقليلا للثواب ، بل أكثر مناهي الشرع تنزيها إنّما نهيت عنها لمضارّ دنيويّة من عروض نسيان أو حدوث فقر ، أو إصابة مرض كالبرص أو الجذام أو نحو ذلك ، ومنه الطهارة بالماء المشمّس وقد علّل كراهته بأنّه يوجب البرص ، فلا بدّ وأن يكون النواهي الواردة في العبادات المكروهة إرشاديّة مقصودا بها إرشاد المكلّف إلى التخلّص عن المفسدة اللازمة للفعل الناشئة عن الخصوصيّة بقول مطلق لا خصوص أقلّيّة الثواب ، ولعلّ [ هذا مراد ] من فسّر مكروه العبادة بخلاف الاولى كما حكاه الشهيد الثاني في تمهيده عن بعض المتأخّرين واستحسنه ، حيث إنّه بعد العبارة المتقدّمة عنه في بيان نقصان الثواب ، قال : « وزاد بعض المتأخّرين أمرا سادسا سمّاه خلاف الأولى هربا من الأوّل » يعني النقض بمكروه العبادة ، فقال : « وهو حسن نظرا إلى ذلك ».

ويمكن إرجاع ما ذكره في المسالك إلى ذلك أيضا بناء على أن يكون تفريع نقصان الثواب عليه مثالا.

وعليه فيمكن حمل كلام من ذكر أقلّيّة الثواب فقط على إرادة المثال ، فكراهة العبادة يعني بها كونها خلاف الأولى لاشتمالها على المنقصة اللازمة للخصوصيّة الغير المنافية لمصلحة ذات العبادة فيستحقّ المكلّف بإتيانها كلاّ من مصلحة الذات ومفسدة الخصوصيّة ما لم تكن المنقصة مجرّد تقليل الثواب كما في الطهارة بالماء المشمّس حيث إنّه يستحقّ الثواب ، المعدّ للطهارة في دار الآخرة ويستحقّ مع ذلك إصابة البرص في دار الدنيا.

وقد يكون المنقصة اللازمة من الخصوصيّة عنوانا آخر يكرهه الشارع لما فيها من منقصة العبادة مقترنا بها أو غير مقترن وقد تعلّق غرض الشارع بالتخلّص عنه فكونه خلاف الاولى لأجل هذا الاعتبار ، ومن ذلك التخلّص عن التشبّه ببني أميّة في صوم

ص: 602

عاشوراء مثلا ، والتخلّص عن صوم يوم العيد إذا اشتبه هلال ذي الحجّة في صوم يوم عرفة مثلا وغير ذلك ممّا يناسب المقام ، كما ورد النهي عن صوم الضيف إلاّ بإذن صاحبه ، وعن صوم صاحبه إلاّ بإذنه تعليلا بملازمته لمفسدة خارجة عن نفس الصوم كما في رواية فضيل بن يسار قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله (1) : « إذا وصل الرجل بلده فهو ضيف ، ولا ينبغي للضيف أن يصوم إلاّ بإذنهم لئلاّ يعملوا شيئا فيفسد عليهم ، ولا ينبغي لهم أن يصوموا إلاّ بإذن الضيف لئلاّ يحتشمهم (2) فيشتهي الطعام فيتركه لأجلهم » فلا استبعاد في تعلّق النهي بالعبادة ويكون المقصود به الإرشاد إلى التخلّص عن المفسدة الخارجة عن حقيقة العبادة مع الاقتران بها أو الانفكاك عنها.

ومنها : ما تقدّم الإشارة إليه في كلام الفاضل التوني وقرّره بعض الأعلام من « أنّ النواهي التنزيهيّة راجعة إلى أمر خارج عن العبادة بخلاف التحريميّة بحكم الاستقراء ، فالنهي عن الصلاة في الحمّام إنّما هو عن التعرّض للرشاش ، وفي معاطن الإبل عن إنفار البعير ، وفي البطائح عن التعرّض للسيل ونحو ذلك ، فلم يلزم اجتماع الكراهة والوجوب أو الندب ».

وغاية ما يمكن أن يقال في توجيهه هو : أنّ النهي المتعلّق في ظاهر الخطاب بالعبادة وإن كان ظاهرا في منع نفس العبادة غير أنّ محذور اجتماع المتضادّين أوجب صرفه عنها إلى ما هي ملزومة له من الامور الخارجة عنها المقارنة لها ، فيكون ذكرها في الخطاب - مع أنّ مورد النهي في الحقيقة ما هو لازم لها - من باب ذكر الملزوم وإرادة اللازم ، وإنّما لم يصرّح بذكر اللازم نفسه في الخطاب تنبيها على الملازمة بينهما ولو بحسب العادة الغير القاضية باستحالة التخلّف.

وهذا عند التحقيق وفي النظر الدقيق غير صحيح.

فأوّل : ما يرد عليه : أنّ تعميم هذا الاعتبار بالقياس إلى ما له بدل غير سديد ، لما بيّنّاه من صحّة العبادة مع الكراهة بمعناها المعروف في نحوه وعدم الحاجة فيه إلى دليل خاصّ يدلّ على الصحّة ، ولا إلى صرف النهي وتوجيه في الكراهة ، فراجع وتأمّل.

وثاني : ما يرد عليه : أنّ إرجاع النهي إلى الأمر الخارج اللازم للعبادة إن كان متصوّرا

ص: 603


1- الكافي 4 : 151 ، ح 3 ، الفقيه 2 : 54 وعلل الشرائع 2 : 384.
2- أي : « لا يستحيي منهم » افتعال من الحشمة بالكسر وهو الانقباض والحياء. ( منه )

فيما لا بدل له أيضا فهو لا يجدي نفعا في دفع محذور تكليف ما لا يطاق الّذي مناطه تعذّر الامتثال ، فإنّ الجمع بين فعل الملزوم وترك اللازم امتثالا للتكليفين محال.

وثالث ما يرد عليه : أنّ المحذور كما يندفع بإرجاع النهي إلى الأمر الخارج كذلك يندفع بحمله على الإرشاد إلى أقلّيّة الثواب أو المرجوحيّة الإضافيّة ، بل الثاني هو المتعيّن ، لأنّ الإرشاد من المعاني الشائعة للنهي ولا يبعد كونه أقرب إلى حقيقته بعد تعذّرها ، أو هو مع تعذّر مجازه القريب وهو الكراهة المصطلحة.

ومن الأعلام (1) من أورد عليه بعد منع الاستقراء وحجّيّته بوجوه اخر :

أحدها : أنّ معنى كراهة تعرّض الرشاش أنّ الكون في معرض الرشاش مكروه ، وهذا الكون بعينه هو الكون الحاصل في الصلاة ، فلا مناص عن اجتماع الكونين في كون واحد.

وفيه : أنّ الكون من الصلاة المجتمع مع هذا الكون غير ما تعلّق به الأمر من الأكوان الّتي هي حركات وسكنات مخصوصة ، والوجه ما تقدّم في دفع احتجاجهم بالمثال العرفي ، فالكون المجتمع مع هذا الكون وإن كان من لوازم الجسم بل من لوازم حركات الصلاة وسكناتها غير أنّها أمر خارج عنها لا أنّه جزء لها ولا شرط شرعي لها فلم يتعلّق النهي بعين ما تعلّق به الأمر.

وثانيها : أنّ الفرق بين قولنا : « لا تصلّ في الحمّام » و « لا تصلّ في الدار المغصوبة » تحكّم بحت ، لإمكان أن يقال : إنّ حرمة الصلاة في الدار المغصوبة إنّما هي لأجل التعرّض للغصب وهو خارج عن حقيقة الصلاة ، واتّحاد كون الغصب مع كون الصلاة ليس بأوضح من اتّحاد التعرّض للرشاش مع كون الصلاة.

وفيه : وضوح الفرق بين المقامين ، فإنّ كون الصلاة المتّحد مع كون الغصب جزء للصلاة ، وهو أمر زائد على كونها الخارج عنها المتّحد مع كون الغصب من جهة اخرى ، بخلاف كونها المتّحد مع كون التعرّض للرشاش فإنّه ليس إلاّ ما هو خارج عنها لازم لها من جهة كونه من لوازم الجسم (2).

ص: 604


1- القوانين 1 : 143.
2- وقد أردفه في حاشيته على القوانين بقوله : « ووجه الفرق : أنّ الغصب من فعل المصلّي في الدار المغصوبة فيتّحد مع كونها الّذي هو جزؤها وهو الحركات والسكنات المخصوصة ، والرشاش ليس من فعل المصلّي في الحمّام فلا يتّحد مع كونها الّذي هو جزؤها ، نعم كون التعرّض له يتحد مع كون المصلّي في الحمّام الّذي هو من لوازم الجسم باعتبار كونه في المكان وهو أمر خارج من الصلاة لازم لها باعتبار لزومه الجسم ، ولو فرض مثله فيما بين كون المصلّي في الدار المغصوبة بالمعنى اللازم للجسم وبين كون التعرّض للغصب الّذي على تقدير مغائرته الغصب كان اتّحادا للكون الخارج من الصلاة مع كون التعرّض للغصب الّذي هو غير الغصب ، فالصلاة في الحمّام مع الصلاة في الدار المغصوبة يتشاركان في جهة ويتفارقان في اخرى ، ومبنى الفرق بينهما إنّما هو على الجهة الثانية فبطل المعارضة » إلى آخر ما ذكره. [ حاشية القوانين : 100 ].

وثالثها : أنّ هذا لا يتمّ في كثير من الحمّامات وكثير من الأوقات ، وتخصيص ما دلّ على كراهة الصلاة بما لو كان في معرض الرشاش والحكم بعدم الكراهة في غيرها أيضا في غاية البعد.

وفيه : أنّ معرض الرشاش إذا اريد به ما من شأنه أن يكون معرضا للرشاش وإن لم يتحقّق فيه رشاش فعلا في بعض الأحيان اندفع هذه الحزازة واطّرد الحكم.

ورابعها : أنّ هذا الكلام لا يجري في مثل الصلاة في مواضع التهمة ممّا يكون المنهيّ عنه تنزيها أعمّ من المأمور به من وجه ، فلا بدّ للخصم القول ببطلانها جزما ولم يعهد ذلك منه.

وفيه : أنّ مناط هذا الكلام صرف النهي إلى أمر خارج من الصلاة وهو هنا حاصل بالفرض من غير حاجة إلى التأويل ، لكون المفروض تعلّق النهي في صريح اللفظ بالكون في موضع التهمة وهو أمر خارج عن حقيقة الصلاة كما عرفت وإن كان مجامعا لها ، فيكون كالنظر إلى الأجنبيّة إذا جامع الصلاة.

غاية الفرق بينهما أنّه ليس من لوازمها بخلاف المقام ، ولكنّه غير قادح في التوجيه المبنيّ على إبداء تعلّق النهي بغير ما تعلّق به الأمر.

ومنها : ما قيل - كما حكي - من منع تساوي الإلزاميّين لغير هما فيما ذكر بل بينهما فرق لا محالة ، وذلك لبداهة عدم جواز اجتماع الوجوب التخييري الشرعي والحرمة العينيّة مع جواز اجتماع الوجوب المذكور مع الاستحباب كما ذكروا من أفضليّة الإتمام في المواطن الأربع ، وأمثال ذلك ممّا ثبت في الشريعة من رجحان أحد فردي الواجب المخيّر على الآخر ، فمن هنا يستكشف وجود الفارق في الواقع وإن لم نعلمه ، ولعلّ مورد نقض المستدلّ بالعبادات المكروهة أيضا من هذا الباب ، فلا يثبت من نقضه ما ادّعاه من جواز اجتماع الإلزاميّين.

وهذا كما ترى نشأ عن العجز عن دفع الشبهة ولقد عرفت طريق الدفع.

ص: 605

ومنها : ما حكي أيضا من أنّ العبادات المكروهة بأسرها مكروهة لاشتمالها على المنقصة ، إلاّ أنّها صحيحة بالصحّة الوضعيّة لا التكليفيّة على معنى مطابقتها للحكم الوضعي المستفاد من الأدلّة كقوله صلى اللّه عليه وآله : « الصلاة قربان كلّ تقي » (1) و « الصلاة خير موضوع فمن شاء استقلّ ومن شاء استكثر » (2) و « الصوم جنّة من النار » (3) وأمثال ذلك.

وبطلان ذلك غنيّ عن البيان فإنّ انفكاك الحكم الوضعي عن الحكم التكليفي في العبادات غير معقول سواء اريد بالصحّة ما هو مصطلح المتكلّمين أو ما هو مصطلح الفقهاء ، وأيّا مّا كان فهي فرع على الأمر ، إلاّ أن يراد بما ذكر ما قدّمناه من أنّ صحّة العبادة إذا كانت فردا يكفي فيها انطباق الفرد المأتيّ به على المأمور به الكلّي ، ولكنّه لا يلائمه البيان المذكور والاستدلال بالعمومات المذكورة ، مضافا إلى أنّه لا يتمّ إلاّ فيما له بدل من العبادات المكروهة.

ثمّ إنّ لبعض الأفاضل (4) وبعض الفضلاء (5) في دفع إشكال النقض بالعبادات المكروهة بيانات اخر لا جدوى لنقلها وذكر ما فيها.

المطلب الثاني : تحقيق حال العبادات المندوبة المعدودة من موارد النقض بتوهمّ اجتماع الوجوب والندب

المطلب الثاني

في تحقيق حال العبادات المندوبة المعدودة من موارد النقض بتوهّم اجتماع الوجوب والندب فيها ويتمّ الكلام فيها برسم مسائل :

المسألة الأولى

في الفرد المستحبّ من المأمور به الكلّي قبالا لفرده المكروه كالصلاة في المسجد والصلاة جماعة والصلاة أوّل الوقت وغيرها ، فإنّ كلّ واحد من هذه المذكورات واجب باعتبار الماهيّة ومستحبّ باعتبار الخصوصيّة ، فلو لا تعدّد الجهة مجديا في اجتماع المتضادّين امتنع اتّصاف هذه الأفراد بالاستحباب ، لوضوح مضادّة الوجوب والاستحباب في فصليهما.

والتحقيق في دفعه : منع الاجتماع هنا في محلّ واحد ليمسّ الحاجة إلى الالتزام بكون مجوّزه تعدّد الجهة حتّى يستدلّ به على كونه مجديا في أصل المسألة لتعدّد متعلّق الوجوب والندب ، فإنّ أمر الإيجاب متعلّق بالكلّي وهو الصلاة والأمر الاستحبابي متعلّق

ص: 606


1- الكافي 3 : 265 ، ح 6 ونهج البلاغة ، الحكمة 136.
2- الخصال : 523 ، ح 13 ومعاني الأخبار : 333 ، ح 1.
3- الكافي 2 : 19.
4- هداية المسترشدين 3 : 93 - 102.
5- الفصول : 131.

بالفرد وهو الصلاة في المسجد مثلا ، والأوّل يتضمّن المنع من ترك الصلاة لا من ترك الصلاة في المسجد والثاني يقتضي الإذن في ترك الصلاة في المسجد لا في ترك الصلاة ، فلم يجتمع المنع من الترك مع الإذن فيه في محلّ واحد.

فالمنع من ترك الصلاة مع الإذن في ترك الصلاة في المسجد لا يتنافيان.

وقد يوجّه الاجتماع - بعد تسليمه - بأنّه لا مانع من أن يتعلّق ببعض أفراد الكلّي المأمور به باعتبار ما فيه من الخصوصيّة طلب استحبابي وإن تضمّن الإذن في الترك لمصادفة هذا الإذن تركا مأذونا فيه في الجملة ، على ما هو قضيّة التخيير العقلي المستفاد من الأمر بالكلّي تبعا الواقع بين أفراد ذلك الكلّي الّتي منها الفرد المستحبّ ، فإنّه كان جائز الترك من أصله في الجملة فلا ينافيه جواز الترك المستفاد من الاستحباب لو تعلّق به كما هو المفروض ، والأولى هو ما ذكرناه.

لا يقال : إنّ أمر الإيجاب - على ما تقدّم تحقيقه - إنّما يتعلّق بإيجاد الصلاة ، فإيجاد الصلاة في المسجد مع اتّصافه بالوجوب المتضمّن لمنع الترك لا يقبل الاتّصاف بالاستحباب المتضمّن للإذن في الترك لكونه إيجادا واحدا غير قابل للتعدّد والتفاضل.

لأنّا نقول : إنّ أمر الإيجاب إنّما تعلّق بالإيجاد الكلّي لماهيّة الصلاة لا بهذا الإيجاد الخاصّ الّذي تعلّق به الاستحباب ، والأوّل يقتضي جواز ترك هذا الإيجاد الخاصّ إلى بدل وهو إيجاد فرد آخر ، فلا ينافيه الإذن في تركه الّذي اقتضاه الثاني.

غاية الأمر وجوب تقيّد إطلاقه بكونه إلى بدل أخذا بمقتضى دليل الوجوب أو جمعا بينه وبين دليل الاستحباب ، فتدبّر.

المسألة الثانية

في أفضل فردي الواجب التخييري الّذي يحكم عليه بالاستحباب مع وصفه بالوجوب كالاستنجاء بالماء ، والإتمام في المواطن الأربع ، ونحو ذلك.

وقد عدّه غير واحد من موارد النقض ، والكلام هنا تارة في ورود أصل النقض واخرى في علاجه ، ومرجع الأوّل إلى النظر في أنّ الوجوب التخييري والاستحباب التعييني هل يتنافيان أم لا؟ وقد اختلفوا فيه على قولين تقدّم نقلهما مع سائر الكلمات المتعلّقة بهما في مباحث الواجب التخييري ومن ذلك ما أشار إليه في المدارك في باب الاستنجاء حيث نقل فيه القول بعدم التنافي تعليلا بأنّ متعلّق الوجوب التخييري ليس أمرا معيّنا بل الأمر الكلّي

ص: 607

فتعلّق الاستحباب بواحد منهما لا محذور فيه ، وتنظّر فيه صاحب المدارك بقوله : « فيه نظر ، فإنّه إن اريد بالاستحباب هنا المعنى العرفي وهو الراجح الّذي يجوز تركه لا إلى بدل لم يمكن تعلّقه بشيء من أفراد الواجب التخييري ، وإن اريد به كون أحد الفردين الواجبين أكثر ثوابا من الآخر فلا امتناع فيه » انتهى (1).

وتحقيق المقام : أنّ التنافي بينهما ممّا لا يمكن الاسترابة فيه ، فإنّ الأمر التخييري في الاستنجاء بالماء مثلا وإن اقتضى جواز تركه على تقدير حصول معادله ، ولكنّه مع ذلك يقتضي المنع من تركه على تقدير عدم حصول المعادل ، والأمر الاستحبابي الوارد فيه يقتضي الاذن في تركه على كلا تقديري حصول المعادل وعدم حصوله.

ولا ريب أنّ المنع من الترك والإذن فيه على تقدير عدم حصول المعادل متناقضان يستحيل تواردهما على محلّ واحد ، فلا محيص حينئذ من التأويل في الاستحباب بحمله على إرادة الأفضليّة أو أكثريّة الثواب ، على معنى كون الفرد المفروض لتأكّد الرجحان الوجوبي فيه بالرجحان الندبي أو لاشتماله على المزيّة الكاملة والصفة الزائدة أفضل فردي الواجب التخييري أو أكثر ثوابا من الفرد الآخر.

وإن احتمل تأويل آخر وهو اعتبار تقيّد إطلاق الإذن في الترك المأخوذة في معنى الاستحباب بكونه إلى بدل جمعا بين الدليلين ، ولا يرد انقلاب المستحبّ حينئذ واجبا نظرا إلى أنّ المستحبّ ما جاز تركه لا إلى بدل وقد صار الآن ما لا يجوز تركه لا إلى بدل ، وهذا هو حدّ الواجب.

لإمكان دفعه ، بأنّ المستحبّ ما يجوز تركه لا إلى بدل لذاته ، وما طرأ المورد من عدم الجواز فإنّما هو لعارض التقيّد من جهة الجمع بين الدليلين لا لذاته ، فالمفهومان صادقان على المورد مع عدم اجتماع المتناقضين فيه غير أنّ الأولى هو الأوّل ، لابتناء الثاني على تكلّف واضح ولذا لم يلتفت إليه الأصحاب ، واشتهر بينهم التعبير عن الفرد المستحبّ بأفضل فردي الواجب التخييري فليتدبّر ، وقد سبق زيادة تحقيق للمقام في مباحث الواجب المخيّر.

المسألة الثالثة

في تداخل الأغسال الواجبة والمندوبة كغسلي الجنابة والجمعة ونحو هما وهذا أيضا ممّا ذكره بعض الأعلام (2) من موارد النقض ، وبيانه مع تحرير منّا : أنّ غسل الجنابة مع

ص: 608


1- المدارك 1 : 167.
2- القوانين 1 : 148.

غسل الجمعة ماهيّتان مختلفتان تعلّق بإحداهما أمر إيجاب وبالاخرى أمر ندب ، وهما كماهيّتي الصلاة والغصب كلّيان بينهما عموم من وجه فيجتمعان في مادّة ويفترقان في اخريين ، والدليل على اختلافهما بحسب الماهيّة اختلاف أحكامهما ولوازمهما ، نظرا إلى أنّ اختلاف الأحكام ممّا يكشف عن اختلاف الموضوعات واختلاف اللوازم ممّا يكشف عن اختلاف الملزومات ، والنقض إنّما يرد في صورة اجتماعهما الّذي يعبّر عنه بالتداخل ، بتقريب : أنّ ما يصدر من المكلّف حينئذ فعل واحد شخصي يتّصف بالوجوب من حيث إنّه مصداق لغسل الجنابة. وبالندب من حيث إنّه مصداق لغسل الجمعة ، وكما أنّ الوجوب والحرمة متضادّان فلا يجتمعان فكذلك الوجوب والندب ، فوجب أن لا يجتمعا والمفروض خلافه وليس ذلك إلاّ من جهة كفاية تعدّد الجهة واختلاف الحيثيّة.

وبهذا البيان يندفع ما قيل في دفعه من : أنّ هاهنا مسألتين :

إحداهما : مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد شخصي ذي جهتين.

والاخرى : مسألة جواز التداخل وعدمه.

ومورد الاولى ما إذا ورد الأمر والنهي وكان متعلّقهما طبيعتين بينهما عموم من وجه ، ومورد الثانية ما إذا ورد أمران وكان متعلّقهما طبيعة واحدة بحسب المفهوم ، ومحصّل كلامهم فيها أنّ المكلّف لو أتى بفرد من تلك الطبيعة هل يكون كافيا في امتثال الأمرين معا أو لا بدّ من الإتيان بفردين منها؟

وبعبارة اخرى : أنّ تعدّد التكليف بماهيّة واحدة هل يقتضي تعدّد الامتثال والإتيان بأفراد متعدّدة أم يكفي الفرد الواحد؟ وقد اختلفوا في هذه المسألة فصار جمع منهم إلى أنّ الأصل التداخل وأنكره الآخرون.

وعلى هذا فمسألة تداخل الأغسال متفرّعة على مسألة التداخل لا على مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فلهذا تراهم متّفقين على جواز التداخل في الأغسال الواجبة في الجملة ، فلو كان مبنى ذلك على مسألة اجتماع الأمر والنهي لوجب القول بعدم جواز التداخل في الأغسال الواجبة لاستلزامه اجتماع الأمثال.

ووجه الاندفاع : عدم ابتناء النقض على تفريع مورده على مسألة اجتماع الأمر والنهي بل على مضادّة الوجوب والندب مع اجتماعهما في محلّ واحد شخصي هو مصداق لماهيّنين مختلفتين بينهما عموم من وجه حسبما بيّنّاه.

ص: 609

فالتحقيق في دفعه هو منع أصل الاجتماع - بعد الإغماض عن أنّ مسألة التداخل من قبيل ما كان جهتي الأمرين فيه تعليليّتين ولذا يعبّر عنها بتداخل الأسباب.

وقضيّة ذلك عدم جواز التداخل بين الواجب والمندوب بالمعنى المذكور على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي أيضا ، لاتّفاق الفريقين على عدم جواز الاجتماع فيما كان جهتا الأمر والنهي فيه تعليليّتين - وسند المنع المذكور : أنّ التداخل الّذي صار قوم إلى جعله أصلا - على ما قرّرناه في رسالتنا المنفردة في مسألة تداخل الأسباب (1) - يرجع إلى معان ثلاث :

أحدها : منع اقتضاء تعدّد السبب تعدّد المسبّب كالوجوب مثلا.

وثانيها : منع اقتضاء تعدّد الوجوب على فرض تسليمه تعدّد الواجب.

وثالثها : منع اقتضاء تعدّد الواجب بعد تسليمه تعدّد الامتثال ، ومن الجائز كون التداخل الثابت في الأغسال الواجبة والمندوبة من قبيل المعنى الأوّل ، فالفعل لا يقع إلاّ بوصف الوجوب ، مضافا إلى إمكان القول بأنّ معنى تداخلهما جواز الجمع بينهما في القصد والنيّة ، بناء على أنّ قصد الاستحباب يكفي فيه وجود المقتضي للاستحباب ولا يحتاج إلى ثبوته فعلا ، مع أنّه لا قضاء في دليل التداخل هنا بكون ذلك من جهة اجتماع الحكمين كما هو المقصود بالنقض ، بل غايته الدلالة على جواز الاكتفاء بغسل واحد ولعلّه من باب الإسقاط ، ولو فرض فيه ظهور في الاجتماع وجب تأويله صونا للقاعدة العقليّة القطعيّة في اجتماع المتضادّين في محلّ واحد شخصي نظرا إلى أنّها لا تنتقض بالظاهر.

المسألة الرابعة

ما اجتمع فيه الوجوب النفسي مع الاستحباب الغيري كغسل الجنابة للنافلة على القول بوجوبه لنفسه ، فإنّه أيضا ممّا قد يذكر من موارد النقض.

وأشار إليه بعض الأعلام (2) بل صرّح به بعض الأعاظم (3) ووجهه ما تقدّم من مضادّة الوجوب الندب ولو للغير في فصليهما.

والتحقيق في دفعه : أنّ الاستحباب المتوهّم اجتماعه مع الوجوب هنا إن اريد به الاستحباب الشأني نظرا إلى وجود الجهة المقتضية للاستحباب المصادفة لوجود مانع من الاقتضاء فلا حجر فيه ، إذ لا مضادّة بين الاستحباب بالقوّة والوجوب بالفعل كما لا مناقضة

ص: 610


1- ونسأل اللّه التوفيق لطبعها ونشرها إن شاء اللّه تعالى ، وهي موجودة في مكتبتنا بخطّ يده قدس سره.
2- القوانين 1 : 146.
3- إشارات الأصول : 111.

بين الكاتب بالقوّة واللاكاتب بالفعل ، ولا فرق في ذلك بين سبق جهة الوجوب على جهة الاستحباب أو سبق جهة الاستحباب على جهة الوجوب ، غير أنّ الوجوب على الأوّل دافع لفعليّة الاستحباب وعلى الثاني رافع لها.

وإن اريد به الاستحباب الفعلي ، ففيه : المنع من أصل الاجتماع لمكان المضادّة المذكورة ، ولا يجدي فيه جهتا الغيريّة والنفسيّة لأنّهما جهتان تعليليّتان فلا يتعدّد بتعدّدهما الموضوع ، وكون غسل الجنابة ونحوه واحدا بالنوع لا يصحّح إجتماعهما فيه ، لأنّ الواحد بالنوع إنّما يجوز توارد المتضادّين أو المتناقضين عليه في صورتين :

إحداهما : ما تحقّق فيه جهتان تقييديّتان ليتعدّد بهما المتعلّق كما في السجود لله وللصنم ، فإنّ كونه لله وكونه للصنم جهتان تقييديّتان لكونهما من الموضوع وبهذا الاعتبار يجب الأوّل ويحرم الثاني من غير محذور.

والاخرى : ما كان توارد الحكمين عليه على وجه التكرار ، بأن يجب في المرّة الاولى ويستحبّ في المرّة الثانية كما في تثنية غسلات الوضوء ، فإنّها مستحبّة مع وجوب الغسلة الاولى ، وغسل الوجه مثلا واحد بالنوع وقد توارد عليه الوجوب والندب على وجه التكرار ، ومعناه أنّه في المرّة الاولى واجب وفي الثانية مستحبّ ، وما نحن فيه لا يندرج في شيء من الصورتين ، إذ لا تكرار في غسل الجنابة مع عدم تحقّق جهتين تقييديّتين فيه.

وبالتأمّل فيما ذكرناه يظهر الحال في عكس المسألة وهو مسألة اجتماع الوجوب الغيري مع الاستحباب النفسي كما توهّم ، مثل غسل الجنابة للفريضة على القول بعدم وجوبه لنفسه ، ونحوه الوضوء لها ولغيرها من مشروط به.

فالحقّ فيه أيضا امتناع الاجتماع ، بل هو إمّا واجب لا استحباب معه فعلا كما لو كان في وقت الفريضة وغيرها من مشروط به ، أو مستحبّ لا وجوب معه كما لو كان قبل الوقت.

نعم يجوز وقوعه لغايات كثيرة كلّها مقتضية للاستحباب ، ولا يبعد القول بالصحّة لو وقع حال الوجوب لغير الغاية المقتضية للوجوب بقصد تلك الغاية وإن لم تكن مقتضية بالفعل بل بقصد الاستحباب وإن لم يكن ثابتا بالفعل ، بناء على ما تقدّم من أنّ قصد الاستحباب يكفي فيه وجود المقتضي للاستحباب ولا يفتقر إلى ثبوته فعلا لوجود مانع من الاقتضاء ، كما أنّ الوجوب أيضا كذلك بناء على وجوب قصد الوجه في صحّة العبادة.

ويتّضح هذه المقالة بملاحظة ما حقّقناه في بحث المقدّمة من كفاية وجود القضيّة

ص: 611

الشأنيّة في انعقاد الحكم الشرعي وترتّب آثاره عليه.

ومن الفضلاء من صرّح في المقام بجواز الاجتماع بعد ما صرّح بامتناعه في النفسيّين والغيريّين معا ، تعليلا بمنافاة المنع من الترك لعدم المنع منه.

واحتجّ عليه بأنّه : « لو امتنع لكان إمّا باعتبار الرجحان ولا حجر من هذه الجهة ، إذ انضمام الرجحان إلى الرجحان لا يوجب إلاّ تأكّد الرجحان ، أو باعتبار ما تقوّما به من المنع من النقيض وعدمه ولا حجر من هذه الجهة أيضا ، لأنّ الوجوب والندب حيث كانا باعتبار جهتين كان المنع من الترك وعدمه أيضا باعتبارهما ، ولا منافاة بين المنع من ترك الفعل لنفسه أو لغيره وبين عدم المنع منه لغيره أو لأمر آخر ، فإنّ عدم المنع من النقيض بأحد الاعتبارين راجع إلى عدم اقتضاء ذلك الاعتبار للمنع وهو لا ينافي اقتضاء اعتبار آخر له.

وبالجملة فاللازم له عدم منع خاصّ فلا يقتضي عدم العامّ أعني المنع مطلقا فجاز أن يتحقّق المنع من النقيض بالاعتبار الآخر ».

إلى أن قال : « ثمّ ما ذكرناه من جواز الاجتماع في بعض الصور إنّما يتمّ إذا فسّر الاستحباب برجحان الفعل مع عدم المنع من الترك كما هو المعروف ، وأمّا إذا فسّر برجحان الفعل أو مطلوبيّته مع الإذن في الترك - أي مع كونه مأذون الترك أو جائز الترك - امتنع الاجتماع ، ضرورة أنّ الإذن في الترك مطلقا كما هو المعتبر في الاستحباب ينافي عدمه المعتبر في الوجوب » (1)

وأنت خبير بما فيه من الوهن بل في غاية الوهن ، فإنّ ترك الفعل باعتبار نوعه المتحقّق في ضمن جميع مصاديقه إذا كان لنفسه أو لغيره مبغوضا وممنوعا منه ، فكيف يصدق عليه أنّه غير مبغوض ولا ممنوع منه لغيره أو لنفسه؟ ومرجعه إلى أنّ المنع من الترك مع عدم المنع منه لا يجتمعان ولو كان عدم المنع باعتبار فقد الجهة المقتضية للمنع.

على أنّ الطلب المقرون بعدم المنع من النقيض أمر وجوديّ مقيّد بأمر عدمي وهو يستدعي محلاّ يتقوّم به ، والمفروض أنّ المحلّ مشغول بالطلب المقرون بالمنع من النقيض ، فهذا الطلب بقيده إمّا أن يكون مانعا من لحوق الطلب المقرون بعدم المنع أو لا. وعلى الثاني إمّا أن يكون الطلب اللاحق بقيده رافعا للمنع الثابت في ضمن الطلب الملحوق به أولا.

فإن قيل بالأوّل أو الثاني كان اعترافا بعدم الاجتماع ، وإن قيل بالثالث كان التزاما

ص: 612


1- الفصول : 135 - 136.

بالجمع بين المتناقضين ، ضرورة مناقضة المنع من النقيض لعدم المنع منه ، فيلزم أن يصدق على ما يتحقّق في الخارج من الإيجاد والإيقاع أنّه ممنوع من نقيضه وغير ممنوع منه ، واختلاف الجهة بالنفسيّة والغيريّة غير مجد في اجتماعهما لما ذكرناه مرارا من كونهما من الجهات التعليليّة.

والأصل فيما ذكرناه من المناقضة : أنّ المنع من الترك المعتبر في ماهيّة الوجوب أمر وجودي وعدم المنع منه قبالا له أمر عدمي ، وهذه الأمر العدمي بالقياس إليه إمّا خلافه ليصحّ اجتماعه معه أو نقيضه ، والأوّل باطل لأنّ عدم الشيء إنّما يكون خلافا لأمر وجودي إذا كان الشيء المضاف إليه أمرا وجوديّا آخر هو خلاف الأمر الوجودي الأوّل كعدم الشجاعة مع العلم لا عينه ، وهو هنا عينه فيكونان كالقيام واللاقيام ، ونقيض الشيء يستحيل اجتماعه معه ، فكيف يقال : بأنّ عدم المنع من ترك الفعل لغيره أو لنفسه لا ينافي المنع من تركه لنفسه أو لغيره.

هذا مع أنّ الطلب الاستحبابي كائنا ما كان ينشأ من الرضا النفساني بالترك مع رجحان الفعل ، ولا ريب أنّ الرضا النفساني بالترك أيضا يستحيل وروده على محلّ لا يرضى فيه بالترك ولو من جهة اخرى ، سواء قلنا : بأنّ المأخوذ في فصل الاستحباب هو مجرّد عدم المنع من النقيض أو قلنا : إنّه الإذن في النقيض ، مع أنّ التحقيق الموافق للنظر الدقيق بل الوجدان الصريح كون المأخوذ فيه الاذن في النقيض ، فإنّ الفعل اذا كان راجحا في نظر الآمر فهو إمّا أن يرضى بتركه لعدم تأكّد في رجحانه أو لا يرضى بتركه لتأكّد رجحانه ، فعلى الأوّل ينبعث منه الطلب المقرون بإظهار الرضا بالترك وهو الإذن فيه ، وعلى الثاني ينبعث منه الطلب المقرون بإظهار عدم الرضا بالترك وهو المنع منه ، وإنّما اعتبرنا الإظهار لأنّ الكلام في الوجوب والاستحباب الإنشائبيّن والمقصود من الإنشاء بيان ما في الضمير ولا يتأتّى إلاّ بأن يشتمل المعنى الإنشائي على إظهار ما في الضمير من الرضا بالترك وهو الإذن فيه أو عدم الرضا به وهو المنع ، منه فالوجوب هو الطلب المقرون بالمنع من الترك والاستحباب هو الطلب المقرون بالإذن في الترك وهما متضادّان.

ودعوى أنّ تفسير الاستحباب بمجرّد عدم المنع أولى وأسدّ من تفسيره بالإذن في الترك كما في كلام الفاضل المتقدّم (1) واردة على خلاف التحقيق ، حيث لا حجّة له عليها إلاّ

ص: 613


1- الفصول : 135.

ما ذكره في تحقيق المقام من أنّ الرجحان لمّا كان من الصفات المشتملة على المراتب المختلفة بالشدّة والضعف فالنوع الكامل منه رجحان يشتمل على المنع من النقيض وهو الرجحان الوجوبي ، والناقص منه رجحان لا يشتمل على المنع وهو الرجحان الندبي ، وأمّا كون تركه مأذونا فيه فخارج عن حقيقة الرجحان ومقوّماته وإنّما هو من المقارنات الاتّفاقية حيث لا يوجد جهة تقتضي المنع من تركه.

وهذا كما ترى خلط وغفلة عمّا يلزمه الإنشاء في المعنى الإنشائي من إظهار الرضا بالترك الّذي يقال له : الإذن فيه وإظهار عدم الرضاء به الّذي يقال له : المنع منه.

المطلب الثالث : اجتماع الوجوبين

المطلب الثالث

في اجتماع الوجوبين

الّذي أخذه بعضهم من موارد النقض كما في الفرائض المنذورة ، وما لو أمر الأب ولده بفعل خاصّ مع أمر الامّ به بعينه.

وبيان النقض : أنّ احتجاج المانعين من اجتماع الأمر والنهي باستلزامه اجتماع المتضادّين إن تمّ لاقتضى القول بعدم جواز اجتماع الوجوبين أيضا ، إذ كما أنّ اجتماع الضدّين محال فكذلك اجتماع المثلين أيضا محال وقد ثبت في الشريعة خلافه ، فإنّ نذر الفرائض صحيح كنذر المندوبات وقد اجتمع فيها وجوبان وجوب أصلي من جهة قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (1) ووجوب نذري من جهة قوله تعالى : ( وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) (2) ومثلها ما لو أمر به كلّ من الأب والامّ فإنّ ما دلّ على وجوب إطاعة الوالدين يقتضي تعلّق وجوبين بالفعل المذكور وعلى هذا القياس سائر الأمثلة.

واجيب : بأنّ اجتماع المثلين كاجتماع الضدّين محال ، إذ كلّ منهما يحتاج إلى محلّ خاصّ فارغ عن وجود الآخر والموجود فعلا في الأمثلة المذكورة ليس إلاّ أحدهما كما في الضدّين ، على معنى أنّ الموجود وجوب واحد لا وجوبان.

نعم جهتاهما موجودتان فيه وبهما يتأكّد الوجوب الموجود.

وبعبارة اخرى : المنقدح في نفس الآمر عند اجتماع جهتي الوجوب ككون الفعل إطاعة للوالد والوالدة ليس إلاّ طلب واحد حتمي متأكّد ومتشدّد لأجل الجهتين لا طلبان حتميّان متكرّران ، وهاتان الجهتان بحيث لو استقلّ كلّ واحدة منهما وانفردت كفت بانفرادها علّة

ص: 614


1- الروم : 31.
2- الحجّ : 29.

تامّة للوجوب ، ولكنّهما بعد اجتماعهما صار تامعا علّة تامّة فكلّ منهما حينئذ جزء للعلّة التامّة كالحرارة الوحدانيّة العارضة للماء بواسطة الشمس والنار إذا اجتمعتا واشتركتا في تسخينه.

وبالجملة الثواب متكثّر والحسن متكرّر والطلب متأكّد لا أنّه متكرّر كالحسن ، والنقض إنّما يتوجّه على تقدير تكرّر الطلب لا مجرّد تكرّر الحسن والمصلحة.

أقول : العمدة في المقام النظر في تصحيح هذا النقض ودفعه إنّما هو إحراز الصغرى وإلاّ فالكبرى ممّا لا إشكال فيه ، فإنّ استحالة اجتماع المثلين كاستحالة اجتماع الضدّين ممّا لا يستريب فيه جاهل فضلا عن العالم الفاضل.

والدليل على ذلك [ تارة ] : قاعدة عدم قابليّة المحلّ.

واخرى : منافاة الاجتماع للاثنينيّة اللازمة للمثلين كما هو قضيّة وضع التثنية.

وثالثة : أداء اجتماعهما إلى اجتماع الضدّين.

أمّا الأوّل : فلقضاء الضرورة بأنّ كلاّ من المثلين كما في الضدّين يستدعي محلاّ قابلا فارغا عن قيام صاحبه به ليقوم به ، وكما أنّ المحلّ في الضدّين بقيام أحدهما به يخرج عن قابليّة قيام الضدّ الآخر به فيستحيل اجتماعهما من جهة عدم قابليّة المحلّ ، فكذلك المحلّ في المثلين فإنّه بقيام أحدهما به وحصوله فيه يخرج عن كونه قابلا للمثل الآخر فيستحيل اجتماعهما لعدم قابليّته.

وأمّا الثاني : فلأنّ المثلين يلزمهما الاثنينيّة والاثنينيّة يلزمها الامتياز الخارجي والاجتماع رافع للامتياز الخارجي وإلاّ يتعدّد المحلّ فلا اجتماع فيكون رافعا للاثنينيّة.

وخلاصة هذا الوجه : أنّ معنى استحالة اجتماع المثلين في محلّ واحد أنّه لا يعقل فرض كونهما في المحلّ الواحد على وجه يصدق عليه عنوان الاجتماع مع بقاء كونهما مثلين حال صدق هذا العنوان ، لأنّ الواقعة في اجتماعهما غير خالية عن فرض الامتياز بينهما أو فرض عدمه ، والأوّل ينافي الاجتماع والثاني ينافي الاثنينيّة ، ومرجعه إلى أنّ الاجتماع رافع للاثنينيّة والاثنينيّة مانع من الاجتماع فهما متنافيان.

وأمّا الثالث : فلأنّ أفراد ماهيّة واحدة امور متبائنة ، ولذا لا يصدق بعضها على بعض ولا يصحّ الحمل فيما بينها ، والتبائن لا يتأتّى إلاّ باعتبار مشخّصاتها والمشخّصات لا تكون إلاّ امورا متضادّة كالطول والقصر والسواد والبياض وغيرها في أفراد الإنسان ، والشدّة والضعف وغيرهما في أفراد السواد والبياض ، إلى غير ذلك من خصوصيّات الزمان

ص: 615

والمكان وغيرهما في مشخّصات الأفعال وما يجري مجراها.

فالمثلان حينئذ فردان من ماهيّة واحدة فاجتماعهما مع بقاء عنوان الفرديّة فيهما يوجب اجتماع مشخّصيهما وهو من اجتماع الضدّين ، فيستحيل اجتماع المثلين لاستحالة اجتماع الضدّين ، فاستحالة اجتماعهما ممّا لا يمكن القدح فيه.

فالعمدة في المقام النظر في أنّ اجتماع الوجوبين أو الندبين - على معنى لحوقهما لفعل واحد وتواردهما عليه - هل هو من باب اجتماع المثلين ليكون محالا أو لا؟

ومعلوم أنّ معقد هذا البحث ما إذا لم يتعدّد المتعلّق لا بحسب الكلّية والفرديّة كنذر إيقاع الفريضة في المسجد أو أوّل الوقت ، فإنّ الوجوب الأصلي متعلّق بإيجاد الصلاة وهو مع إيقاعها في المسجد موضوعا [ للنذر ] ولا إشكال في جواز اجتماعهما على هذا الوجه - ولا على وجه يؤول إلى التكرار بأن يتعلّق أحدهما بإيجاد الماهيّة والآخر بإيجاد الآخر وهذا أيضا ممّا لا إشكال فيه ، فإنّ الواحد بالنوع إذا فرض له إيجادات متعدّده جاز أن يتعلّق بكلّ إيجاد له وجوب كما هو الحال في موارد التكرار ، فمحلّ [ الكلام ] ما تعلّق الوجوبان بالإيجاد الواحد للماهيّة أو بإيجادها لا بشرط الوحدة والكثرة من غير أن يؤول إلى التكرار.

[ فنقول : ] أنّ الوجوب إن اريد به طلب الفعل المقرون بالمنع من الترك مع أخذ الطلب والمنع بالبناء للفاعل الّذي هو الفعل الصادر من الشارع في مقام الإنشاء ويقال له : الإيجاب فلا ينبغي التأمّل في جواز تعدّده وتكرّره عند تعدّد جهتي الوجوب واجتماعهما ، على معنى أن يطلب الفعل ويمنع من تركه مرّتين بملاحظة الجهتين ، فتارة بملاحظة المصلحة الأصليّة القائمة بالصلاة واخرى بملاحظة النذر ، وهذا كوقوع ضربتين على موضع واحد من المضروب.

وإن اريد به كون الفعل بحيث يستحقّ فاعله المدح وتاركه الذمّ المعبّر عنه بالوجوب العقلي وهو المرادف للحسن ، فهو أيضا على ما يرشد إليه النظر الصحيح وصف يلحق الفعل عند العقل مرّتين باعتبار الجهتين ، ومرجعه إلى تكرّر لحوق الوصف في نظر العقل.

وقد اعترف المجيب في كلامه المتقدّم بأنّ الحسن متكرّر ، ومعناه تكرّر الوجوب بهذا المعنى.

وإن اريد به مطلوبيّة الفعل وممنوعيّته ، وبعبارة اخرى : كون الشيء مطلوب الفعل وممنوع الترك الّذي هو الأثر الحاصل من الوجوب بالمعنى الأوّل ، فالظاهر أنّه أيضا عند

ص: 616

العقل أو في نظر العرف وصف يتعدّد ويتكرّر على حسب تكرّر الوجوب بالمعنى الأوّل على معنى لحوقه الفعل مرّتين باعتبار الجهتين ، فالوجوب بجميع معانيه متكرّر ، غير أنّ تكرّره بالمعنى الأوّل تكرّر خارجي وبأحد المعنيين الأخيرين تكرّر ذهني لأنّه حاصل عند العقل وفي نظره لا في الخارج هذا.

ولكنّ الإنصاف ومجانبة الاعتساف يقتضي خلاف ذلك ، فإنّ تعدّد الإنشاء في المعنى الأوّل لا يوجب تعدّد المنشأ ، والمعيار هو ما في النفس من الطلب الحتمي المنقدح في ضمير الآمر أعني الطلب المقرون بعدم الرضا بالترك ، وهو مع اتّحاد المحلّ واحد لا يتعدّد بتعدّد الجهة لعدم قابليّة المحلّ ، ومنافاة الاجتماع للاثنينيّة ، واعتبار لحوق الوصف مرّتين غير اجتماع الوصفين ، والأوّل مجرّد اعتبار والثاني محال ، فليس في المقام إلاّ وجود الجهتين كما ذكره المجيب.

وكذا الكلام في اجتماع الندبين واجتماع الحرمتين واجتماع الكراهتين.

ومن أمثلة الأوّل : ما يتداخل فيه الأغسال المندوبة والوضوءات المستحبّة ، وإيقاع النافلة في المسجد ، وغسل الجمعة ترتيبا.

ومن أمثلة الثاني : الزنا مع الحائض الأجنبيّة ، والإفطار بالمحرّم كالزنا وشرب الخمر.

ومن أمثلة الثالث : البول في الجاري قائما ، وخضاب الحائض الجنب ، وقراءة ما زاد على سبع آيات لها.

وأمّا ما تقدّم في كلام المجيب من أنّ الجهتين عند اجتماعهما صارتا معا علّة تامّة على أن يكون كلّ منهما جزءا للعلّة ، تنظيرا لهما بالنار والشمس إذا اجتمعتا واشتركتا في تسخين الماء ، فيرد عليه :

أوّلا : على تقدير تسليمه أنّ إطلاقه غير سديد ، لأنّه إنّما يتمّ فيما لو اجتمعتا على سبيل الدفعة لا على وجه التعاقب فتكون الجهة اللاحقة بلا تأثير لمصادفتها محلاّ مشغولا بوجود المثل.

وثانيا : أنّه في أصله فاسد لابتنائه على الخلط بين العلل العقليّة والأسباب الشرعيّة ، والفارق : أنّ العلل العقليّة مؤثّرات حقيقيّة ويكون وجود المعلول أثرا من وجود العلّة وهي في عليّتها وتأثيرها من قبيل الفاعل الموجب لكون التأثير من ضروريّات ذاتها ولا اختيار لها في عدم التأثير ، فإذا اجتمعت مع مثلها لا يجوز استناد المعلول إلى كلّ منهما لاستحالة توارد علّتين مستقلّتين على معلول واحد ، ولا إلى إحداهما فقط لاستحالة الترجيح بلا مرجّح ،

ص: 617

فتعيّن استناده إليهما معا ، بخلاف الأسباب الشرعيّة فإنّها بواعث على جعل الحكم كالوجوب مثلا ، والجعل من فعل الشارع وهو في فعل الجعل فاعل مختار لاختياره في تركه ، فالحكم المجعول أثر له لا للسبب.

نعم يصحّ إسناده إليه إسنادا مجازيّا ، وحيث إنّ المجاز باب واسع فإذا اجتمع سببان [ كان ] إسناده إلى كلّ منهما مجازا ، وهذا هو معنى جواز توارد العلل الشرعيّة على معلول واحد لكونها من قبيل المعرّفات ، ولأجل ذا يصحّ قصدهما معا إن اعتبرنا قصد السبب في النيّة كما في تداخل الأغسال الواجبة.

ومن فروعه انعقاد النذر في الفريضة مع سبق وجوبها الأصلي ، ويجوز فيها قصد الوجوب النذري وإن لم يثبت لكفاية الوجوب الشأني أو اكتفاء في قصده بوجود الجهة المقتضية له ، ومن ثمرات انعقاده وجوب الكفّارة على تقدير المخالفة له ، لا لأنّ جعله معلّق على أصل النذر بل على مخالفته ، فلا يلزم التبعيض في الآثار المترتّبة على النذر بحصول بعضها وهو وجوب الكفّارة وعدم البعض الآخر وهو وجوب الفعل المنذور ، فالنذر نفسه سبب لوجوب الفعل ولو شأنا ومخالفته سبب لوجوب الكفّارة ، ويكفي في كون مخالفته إثما وموجبا للكفّارة ثبوت الوجوب الشأني نظرا إلى تحقّق مقتضي الوجوب الفعلي المصادف لوجود المانع وهو المثل.

تذنيب في إبطال التفصيل بين العقل والعرف في جواز الاجتماع وعدمه

تذنيب

قد عرفت في مقدّمات المسألة أنّ فيها قولا بالتفصيل بين العقل فيجوّز اجتماع الأمر والنهي والعرف فلا يجوّز ، كما عن جماعة من متأخّري أصحابنا كالأردبيلي وسلطان العلماء في حاشية المختصر والسيّد صاحب الرياض ، والمحكّي من احتجاجهم على الأوّل ما مرّ في حجّة المجوّزين ، وعلى الثاني : أنّ أهل العرف يفهمون التعارض بين قولنا : « صلّ » وقولنا : « لا تغصب » ونظائره ، ولم نقف من هؤلاء على عبارة إلاّ ما عن السيّد في رسالته المنفردة (1) في هذه المسألة من قوله : « المراد بعدم جواز الاجتماع أو جوازه جواز الحكم بحصول المعصية والامتثال فيما اجتمع فيه الجهتان وكلّ منهما عبارة عن إتيان العباد بما كلّفوا في الأمر من جهته فامتثلوا وبما نهوا عنه فعصوا ، وكلّ من الأمر والنهي موقوف على معلوميّة إرادة السيّد ذلك ولا يمكن العلم به ومعرفته الآن إلاّ بواسطة الألفاظ ودلالتها ،

ص: 618


1- لم نعثر عليها.

وهي ليست ذاتيّة بل بتوسّط الأوضاع اللغويّة والعرفيّة ، ومعرفتها الآن غالبا بواسطة العرف العامّ وحكمهم ، ولا شكّ ولا ريب في أنّ المفهوم المتبادر من قوله : « أكرم العالم أو عالما » بعد قوله : « لا تكرم الفاسق أو فاسقا » أو بالعكس من عدا محلّ الاجتماع وهو العالم الفاسق أو الفاسق العالم ، حتّى لو اجتمعا تحيّروا وتوقّفوا فيما كلّفوا أهو الإكرام أو عدمه؟ » انتهى.

وهذا التفصيل كما ترى ممّا لا يعقل له معنى ولا يمكن الجمع بين طرفيه ، حيث إنّ ما عرفت من حجّتهم لا يفي بإثباته ، أمّا بالنسبة إلى العقل فلما عرفت من بطلان أدلّة المجوّزين بما لا مزيد عليه ، وأمّا بالنسبة إلى العرف فلأنّ أهل العرف إنّما يفهمون التعارض من جهة عقولهم الحاكمة بالتنافي بين مقتضى الأمر ومقتضى النهي فيستحيل اجتماعهما في محلّ واحد من غير مدخليّة لحيث العرفيّة في ذلك ، فبطل توهّم حكم العقل بجواز الاجتماع.

وممّا يفصح عن بطلان هذا التفصيل ما عرفت في مقدّمات المسألة من رجوع نزاعهم إلى الصغرى ، وهو كون متعلّق الحكمين في محلّ الاجتماع متّحدا ليمتنع اجتماعهما أو متعدّدا لئلاّ يمتنع الاجتماع ، فمع فرض اتّحاد المتعلّق كيف يحكم العقل بجواز الاجتماع؟وعلى تقدير تعدّده كيف يفهم العرف التعارض؟ هذا مع أنّ فيما قرّرناه من الحجّة على القول المختار كفاية في إبطال كلّ ما عدا هذا القول من تجويز مطلقا أو تفصيل أو غيره حتّى ما سبق نقله من الفرق بين النفسيّين وغيرهما كالغيرين أو الملفّقين ، هذا مضافا إلى ما قدّمناه في مقدّمات المسألة ممّا يقضي به بطلان هذا القول بالخصوص مع إبطال ما أمكن الاحتجاج به عليه.

مطالب شريفة : المطلب الأوّل : لوازم جواز الاجتماع وعدمه

وينبغي ختم المسألة بإيراد مطالب شريفة :

المطلب الأوّل

في أنّ الأمر المختلف في جواز اجتماعه مع النهي وعدمه له وجودا وعدما لوازم وأحكام كالصحّة والبطلان والسقوط ، والنسبة بين الأوّلين تبائن وبين الطرفين عموم مطلق إذ الصحّة تستلزم السقوط دون العكس ، وبين الأخيرين عموم من وجه فيجتمعان في الفرد المحرّم من التوصّلي ، ويفترق الأوّل في الفرد المخالف من التعبّدي والثاني في الفرد الموافق منه ، وظاهر أنّ القول بجواز الاجتماع يستلزم القول بالصحّة مع المعصية كما هو المصرّح به في كلامهم ، حيث يقولون : إنّ الآتي بمورد الاجتماع مطيع عاص لجهتي الأمر والنهي.

والمناقشة فيه بمنع الملازمة لأنّ جواز الاجتماع بمعنى عدم امتناعه لا يلازم وقوعه ،

ص: 619

ولعلّ بناء المجوّزين بالنظر إلى العقل على عدم وقوعه شرعا كما في كلام ابن عمّنا السيّد أعلى اللّه مقامه.

تندفع : بأنّ ذلك وإن كان يساعد عليه الاعتبار في بادئ النظر ، التفاتا إلى أنّ الصحّة من لوازم الاجتماع الفعلي ومجرّد الجواز بمعنى الإمكان لا يلازم الفعليّة ، غير أنّ المسألة مفروضة فيما ثبت له المقتضي للصحّة ولم يكن معه جهة لخلافها إلاّ مانعيّة [ النهي ] ومرجع القول بجواز اجتماع الأمر والنهي إلى نفي المانعيّة فوجب الصحّة لوجود المقتضي لها وفقد المانع.

وأمّا على القول المختار فاختلفت كلمتهم ، فمنهم من قال بالبطلان ترجيحا للنهي على الأمر بإخراج مورد الاجتماع عن تحته ، ولعلّه المشهور وإن اختلف معه في السقوط كما عن القاضي وفخر الدين من العامّة ، وعدمه وعليه الأكثر ، ومنهم من حكم أيضا بالبطلان ولكن عملا مع ظهور التوقّف بالنسبة إلى الترجيح كبعض الأعاظم (1).

ومن الأعلام (2) من يظهر منه التوقّف عملا وترجيحا.

وأمّا القول بالصحّة ترجيحا للأمر فلم نقف على قائل به ولا على نقله.

والحقّ هو القول الأوّل لفهم العرف حكومة دليل الحظر في كافّة الموارد على دليل الإباحة ، فإنّا نرى أهل العرف أنّهم لا يزالون يحكّمون أدلّة المنع على أدلّة الإذن وإن كان بينهما عموم من وجه ، فيخرجون مورد الاجتماع عن عموم الإذن من دون نكير ولا توقّف على وصول البيان الخارجي.

ألا ترى أنّه لو قال السيّد لعبيده : « كلوا ما في البيت » وفيها مال اليتيم وغيره ، ثمّ قال :« لا تأكلوا مال اليتيم » فإنّهم لا يزالون يتحرّزون عن مال اليتيم مطلقا ، وكذا لو قال لعبده :« خط هذا الثوب » ثمّ قال : « لا تستعمل الخيط الفلاني » فإنّه لا يتأمّل في البناء على الاجتناب عن استعمال هذا الخيط ولو في خياطة هذا الثوب ، وكذا لو قال : « لا تستعمل الماء الفلاني أو القدح الفلاني » ثمّ قال : « إسقني » فإنّه لا يزال يسقيه بغير هذا الماء وبغير هذا القدح ، ولا يستعمل هذا الماء ولا هذا القدح لا في السقي ولا في غيره ، وكذا لو قال له : « لا تكتب » ثمّ قال له : « اتّجر » فإنّه يرى الاتّجار بالكتابة محظورا في حقّه ، إلى غير ذلك من الأمثلة العرفيّة البالغة فوق حدّ الإحصاء ، فعامّ الحظر عند أهل العرف كالخاصّ ينزّل منزلته ويعامل معه معاملة النصّ.

ص: 620


1- إشارات الاصول : 112.
2- القوانين 1 : 153.

ومن هنا أوردنا في المسائل الفرعيّة على من توهّم تعارض العموم من وجه بين عمومات قراءة القرآن وعمومات المنع من الغناء - وقال : بأنّ القاعدة في مثل ذلك تقتضي إمّا الترجيح بالخارج إن كان أو التوقّف ، والترجيح هنا إمّا في جانب القراءة أو لا مرجّح في البين فيجب الوقف ، لا الحكم بحرمة الغناء في القراءة ، وكذا الحال في عمومات التعزية مع الغناء » - بكون عموم المنع بنفسه حاكما في نظر العرف على عموم الإذن ، فلا معنى للتوقّف ولا مراجعة المرجّحات الخارجية لترجّح عموم الإذن.

لا يقال : إنّهم في مسألة تعارض العامّين من وجه من باب التعادل والتراجيح ذكروا : أنّ القاعدة تقتضي الرجوع إلى المرجّحات الخارجيّة إن وجدت وإلاّ فيحكم بالإجمال ويرجع إلى الأصل كائنا ما كان ، ولعلّ هذا يخالف ما ذكرت.

لأنّه لا منافاة بينهما. أمّا أوّلا : فلأنّ ما ذكروه وجوب الرجوع إلى المرجّح وهو قد يكون داخليّا من جهة الدلالة وغيرها وقد يكون خارجيّا ، ولا تأثير للمرجّح الخارجي ما دام الداخلي موجودا من جهة الدلالة ، لإطباقهم على تحكيم المرجّحات الدلاليّة لقوّتها على المرجّحات الخارجيّة لعدم مقاومتها لها.

ومن هنا تراهم أنّه لو كان التخصيص في أحد العامّين من وجه تخصيص الأكثر وفي العامّ الآخر تخصيص الأقلّ يقدّمون الثاني تعليلا بأنّ العامّ الأوّل أظهر دلالة على عموم الحكم لمورد الاجتماع من العامّ الثاني ، وذلك كما لو قال : « أكرم العلماء » وهم خمسة عشر نفرا عشرة منهم فسّاق ، مع قوله : « لا تكرم الفسّاق » وهم مائة رجل عشرة منهم علماء ، فيتعارضان في العشرة العلماء الفسّاق.

وكذلك ذكر بعضهم فيما لو كان العموم في أحد العامّين وضعيّا وفي الآخر إطلاقيّا كقوله : « أكرم [ العلماء ] » و « لا تكرم الفاسق » أنّه يقدّم التخصيص في الثاني تعليلا بأنّ الأوّل أظهر في العموم لكونه وضعيّا والوضع أقوى سببي الدلالة من العقل الحاكم بالعموم بملاحظة السكوت في معرض البيان لئلاّ يلزم الإغراء بالجهل.

وأمّا ثانيا : فلأنّه لو صحّ ما ذكر من التصريح بخصوص المرجّحات الخارجيّة وجب تخصيصه بما بعد اليأس عن المرجّحات الدلاليّة ، لاتّفاقهم تحصيلا ونقلا على تقديمها على غيرها من المرجّحات الخارجيّة.

وأنت لو تتبّعت عباراتهم واستدلالاتهم في الفروع لوجدت كلامهم في الحكم المذكور

ص: 621

معلّقا على فقدها وحصول اليأس عنها ، وفهم الحكومة في دليل المنع إنّما هو لمرجّح الدلالة وهو الأظهريّة البالغة رتبة النصوصيّة ، والى ذلك يرجع ما قد يستدلّ على المختار من أنّ النهي أقوى دلالة من الأمر فيجب تقديمه بإرجاع التخصيص إلى الأمر ، فإنّ أقوائيّة دلالته باعتبار دلالته الالتزاميّة على التكرار ، لأنّ الامتناع عن الماهيّة لا يتأتّى إلاّ بالامتناع عن جميع أفرادها ، فيكون النهي باعتبار هذه الدلالة الالتزاميّة في ظهوره كالنصّ في العموم بخلاف الأمر.

وممّا يدلّ على القول المختار : قاعدة اللطف القاضية بجعل أصل التكاليف لكن لا بالمعنى المعروف - أعني ما يقرّب العبد إلى الطاعة ويبعّده عن المعصية (1) - بل بمعنى آخر غير معروف وهو إيصال العباد إلى مصالح امورهم وتبعيدهم عن مفاسد امورهم ، ولا يتأتّى ذلك إلاّ بجعل التكاليف على طبق المصالح والمفاسد الباعثة على التزامهم بارتكاب ذي المصلحة واجتناب ذي المفسدة من الامور ، فيجب بحكم العقل المستقلّ عملا بمقتضى الرأفة الإلهيّة والشفقة الرحمانيّة وأداء لحقّ لطفه وحكمته ، وهذه القاعدة كما أنّها تقتضي جعل أصل التكاليف كذلك تقتضي ترجيح المنع على الإذن في مورد التعارض صونا للمكلّف عن مفسدة الفعل.

لا يقال : ترجيح المنع وإن كان يوجب ذلك إلاّ أنّه يوجب فوات مصلحة الفعل عنه أيضا ، لأنّه مع اشتماله على المفسدة مشتمل على المفسدة أيضا ، وتفويت المصلحة كالإيقاع في المفسدة ينافي اللطف.

لأنّ ذلك يندفع بفرض وجود المندوحة في موضوع المسألة.

فغاية ما يلزم من ترجيح المنع عدم إدراك المصلحة في ضمن هذا الفرض مع إمكان تداركها في ضمن فرد آخر ، بخلاف الصون عن المفسدة فإنّه لا يمكن تداركه على تقدير ترجيح الإذن ، فيكون المنافي للّطف هو ترجيح الإذن لا العكس.

فإن قلت : على تقدير ترجيح الإذن لا يبقى منع فلا يكون المكلّف آثما ولا معاقبا ولا مستحقّا للعقاب فكيف ينافي اللطف؟

ص: 622


1- وقد وجّه بطلان المعنى المعروف من قاعدة اللطف في التحرير الأوّل من التعليقة بقوله : « فإنّه لو كان بظاهره أدّى إلى الدور ، لأنّ الطاعة والمعصية في مواردهما فرعان على التكليف فالقرب إلى الطاعة والبعد عن المعصية موقوفان على التكليف ومعه كيف يعقل توقّف التكليف عليهما ».

قلت : مناط المفسدة ليس هو المعاقبة واستحقاق العقوبة ، فإنّها عبارة عن المضرّة وكثيرا مّا تكون دنيويّة كمفسدة السمّ بل هو الغالب في المناهي ، وقاعدة اللطف يقتضي دفعها مطلقا ولا يتأتّى إلاّ بترجيح المنع على الإذن.

ولا يتوجّه إلى التمسّك بهذه القاعدة هنا ما أوردناه على الفاضل التوني في تمسّكه بها دليلا على امتناع اجتماع الأمر والنهي ، فإنّ محصّل ذلك الإيراد منع الملازمة بين اجتماع الأمر والنهي وكونه تعالى مقرّبا للعبد إلى المعصية ، لأنّه تعالى لم يأمر بماهيّة المأمور به إلاّ لغرض الطاعة واختيار المكلّف امتثاله في ضمن الفرد المحرّم ليس من قبله تعالى فلم يكن مقرّبا له إلى المعصية ، على أنّ تحقّق النهي الفعلي المجامع له كاف في اقتضاء الانزجار عنها من غير حاجة معه إلى اعتبار شيء آخر من عدم أمر أو نحو ذلك ، فاللطف بالمعنى المعروف لا ينهض دليلا على امتناع الاجتماع ، بخلاف ما لو ثبت الامتناع بدليل آخر ووقع الكلام في الترجيح ، ولا ريب أنّ اللطف بالمعنى الآخر بملاحظة المفسدة الواقعيّة وإن لم يتعقّبها معصية فعلا يصلح وجها لترجيح جانب المنع على الإذن بتقريب ما تقدّم.

نعم لو كان مقصود المقام الاحتراز عن المعصية لما تمّ اللطف إذ لا معصية مع ترجيح الأمر ، فلا يرد عليه : أنّ الوقوع في المفسدة ليس مترتّبا على الأمر لأنّه يترتّب على ترجيح الأمر ، ولا أنّ النهي عن أصل الفعل يكفي في ذلك ، لأنّه على تقدير عدم تعلّقه بهذا الفرد فلا صارف له عن هذا الفرد ولا موجب للتجنّب عن فعله ، فإنّ الداعي إليه غالبا في غالب المكلّفين إنّما هو خوف العقاب بطروّ المعصية لا مجرّد خوف الوقوع في المفسدة الغير المتعقّبة للمعصية واستحقاق العقوبة كما لا يخفى ، فبين المقامين فرق واضح كما بين السماء والأرض.

لا يقال : إنّ قصارى ما يقتضيه دليل اللطف بالتقرير المذكور إنّما هو رجحان العمل بمقتضاه وليس كلّ راجح لازما.

وبعبارة اخرى : العمل بمقتضى اللطف لو ثبت تفضّل منه تعالى بالنسبة إلى العباد والتفضّل ليس شيئا يجب عليه مراعاته ، والمطلوب لا يثبت إلاّ على تقدير الوجوب.

لأنّ وجوب العمل بمقتضاه ممّا يقضي به القوّة العاقلة ويستقلّ بإدراكه ، ويكفي في ثبوته كون تركه تعالى إيصال العباد إلى مصالح امورهم وتبعيدهم عن مفاسدها مع علمه بهما وقدرته على الإيصال والتبعيد بخلا ، وهو منقصة وصفة ذمّ يجب تنزّهه تعالى عنهما

ص: 623

كما هو منزّه عن سائر النقائص.

ألا ترى أنّ سلطانا رؤوفا في رعيّته مظهرا للّطف عليهم مطّلعا على مصالح امورهم ومفاسدها وهم غير مطّلعين عليهما لو لم يرشدهم إليهما ولم يعلمهم بهما بنصب طرق وأمارات توصلهم إليهما لكان مذموما عند العقلاء موصوفا بالبخل وسخافة الفطنة ودناءة الفطرة ، فيكون ترك العمل بمقتضى اللطف منافيا للحكمة فيكون قبيحا.

واستدلّ أيضا على المختار : بأنّ دفع المفسدة أولى وأهمّ من جلب المنفعة ، وقضيّة ذلك وجوب ترجيح جانب المنع على جانب [ الإذن ].

وتتميمه بحيث ينطبق على ما نحن فيه ويسلّم فيه الأولويّة يتوقّف على توجيه بأن يقال : إنّ المراد به أنّه لو دار الأمر بين دفع مفسدة لا يفوت معه المنفعة وجلب منفعة يحصل معه الوقوع في المفسدة كان الأوّل أولى بحكم القوّة العاقلة وفي بناء العقلاء ، بل العكس قبيح بحكم العقل المستقلّ.

ألا ترى أنّه لو قيل لأحد : « إن سافرت إلى الروم تصب مائة وتقطع يدك ، وإن سافرت إلى الهند لا تقطع يدك وتصب مائة » (1) فإنّه لا يزال يختار الثاني بحيث لو عكس ذمّه العقلاء قاطبة ورموه بالسفاهة واختلال الفطنة ، وأمّا على ظاهر عبارة الدليل من دوران الأمر بين دفع مفسدة لا منفعة معها وجلب منفعة لا مفسدة معها فلا ينطبق على ما نحن فيه ولا يسلم معه الحكم أيضا ، بل الأولويّة في جانب العكس.

وهاهنا وجه ثالث برزخ بين الوجهين وهو دوران الأمر بين دفع مفسدة لا منفعة معها وجلب منفعة يحصل معه الوقوع في المفسدة ، وحكم الأولويّة حينئذ وإن كان مسلّما إلاّ أنّه لا ينطبق على ما نحن فيه أيضا ، ولعلّه لتوهّم هذا الوجه اعترض عليه تارة : بمنع ثبوت ذلك على الإطلاق إذ في ترك الواجب أيضا مفسدة إذا تعيّن.

واخرى : بمنع إطلاق الأهمّيّة في بناء العقلاء ، فإنّ بناءهم قد يكون على دفع المفسدة إذا كانت المفسدة عظيمة في مقابل النفع اليسير ، وقد يكون على جلب المنفعة كما لو كانت المنفعة عظيمة في مقابلة المفسدة اليسيرة ، وقد يكون على الوقف أو التخيير كما لو تساوت الجهتان.

ص: 624


1- وقد ذكر المثال في حاشية القوانين هكذا : « إن سافرت إلى الهند تصب مائة وتقطع يدك وإن لم تسافر لا تقطع يدك وتصب مائة ».

وثالثة : بمنع جريان هذا البناء من العقلاء في امور المعاد ، بل غاية ما ثبت منه إنّما هو في امور المعاش فليس محلّ الكلام من جزئيّات هذه القاعدة ، هذا مضافا إلى وجه آخر يقضي بعدم كون المقام من جزئيّات تلك القاعدة ، إذ محلّها فعل واحد يحتمل ارتكابه ضررا ونفعا بحيث لو ترك الارتكاب كان سالما عن الضرر ولم يصل إليه النفع أيضا ، والأمر في المقام تخييري فلا يلزم من ترك الإتيان بذلك الفرد فقد النفع بالمرّة لمكان تمكّنه عن امتثال الواجب في ضمن فرده الآخر ، بل هذه العلاوة صريح في كون نظر المعترض إلى الوجه الأخير ، وأمّا على ما وجّهناه فلا وقع له كما لا وقع معه للوجه [ الأوّل ] لأنّ الكلام في صورة المندوحة بأن يكون في سعة الوقت لا في ضيقه ليتعيّن بسببه المأمور به ، وكذلك لا وقع للتفصيل المذكور في الوجه الثاني إلاّ على المعنى الثالث في العبارة (1) وليس بمراد لعدم انطباقه على ما نحن فيه.

وأمّا الوجه الثالث فيندفع : بأنّ الاستناد إلى بناء العقلاء في امور المعاش لأجل كشفه عن طريقة الشارع الجارية في امور المعاد على وفق مجرى بنائهم ، نظرا إلى أنّ هذا البناء إنّما ينشأ من عقولهم القاصرة فكيف بالعقل الكامل الحكيم على الإطلاق.

واحتجّوا أيضا : بالأصل ، فإنّ مقتضى الشغل اليقيني بالعبادة مع استصحاب الأمر عدم صحّة العبادة بهذا الفرد المشكوك فيه لأنّها موضع شكّ ، وهذا معنى البطلان.

وبأنّ الاستقراء يقتضي ترجيح محتمل الحرمة على محتمل الوجوب كما في حرمة العبادة في أيّام الاستظهار ، ووجوب الاجتناب عن الإناءين المشتبهين وكلاهما ضعيفان.

أمّا الأصل : فلأنّه وإن كان في مجراه إلاّ أنّه لا يجدي فيما هو مقصود المسألة من الترجيح وإرجاع التخصيص إلى الأمر ، فإنّ الأصل العملي لا يتعرّض للخطاب ولا يتكفّل لبيان حكم اللفظ فلا يصلح لإحراز الدلالة ، فغاية ما يفيده إنّما هو البطلان الظاهري وهو أعمّ من البطلان الواقعي ، فلم يتبيّن به مفاد اللفظ ولا ما ارتكبه المتكلّم من تخصيص أحد العامّين.

نعم إنّما يصحّ الاستناد إليه ممّن يقول بالبطلان عملا وتوقّف إجتهادا ، وأمّا معارضته بأصل البراءة بالقياس إلى الإثم كما قد يتوهّم ، فيدفعه : أنّ المسألة من الشكّ في المكلّف به الّذي لا يؤول إلى الشكّ في التكليف فلا معنى لأصل البراءة في نحوه.

ص: 625


1- والمراد بالعبارة هي قول المستدلّ بأنّ : « دفع المفسدة أولى وأهمّ من جلب المنفعة » وبالمعنى الثالث هو ما أشار إليه بقوله : « وها هنا وجه ثالث برزخ بين الوجهين » الخ.

وأمّا الاستقراء فأوّلا : لمنع الغلبة ، فإنّ ترجيح جانب الحرمة على جانب الوجوب أو مطلق الإذن فإنّما ثبت في عدّة موارد لا تبلغ حدّ الغلبة.

وثانيا : لعدم كونها غلبة يعتدّ بها في إفادة ظنّ اللحوق.

وثالثا : لعدم كون مورد الشكّ متّحد الصنف مع الأفراد الغالبة ، والغلبة في نحوه لا تؤثّر في ظنّ اللحوق ، فإنّ غاية ما ثبت في الموارد المذكورة إنّما هو ترجيح احتمال المفسدة على احتمال المصلحة كما يفصح عنه مسألة الاستظهار ، نظرا إلى أنّ العبادة في أيّامه إمّا مصلحة محضة على تقدير كون الدم الموجود استحاضة أو مفسدة محضة على تقدير كونه حيضا ، وكذلك أحد الإناءين ، بخلاف المقام لدوران [ الأمر ] فيه بين مصلحة مقرونة بالمفسدة ومصلحة خالصة مجرّدة عن المفسدة.

وتوهّم الأولويّة بتقريب : أنّ مع ثبوت الترجيح للمفسدة المحتملة الغير المتعقبة لمصلحة فلأن يرجّح المفسدة المحقّقة طريق الأولويّة وإن تعقّبها المصلحة ، لأنّها مصلحة تتدارك بالمصلحة الخالصة المجرّدة عن المفسدة.

يزيّفه : مع كونها ظنّية أنّها غير منتجة لما هو مقصود المسألة من تعيين الدلالة ، لأنّها أولويّة اعتباريّة لا تعلّق لها بمقام الخطاب ، والمعتبر في باب الدلالات إنّما هو الأولويّة العرفيّة كما في مفهوم الموافقة لا مطلق الأولويّة ولو اعتباريّة في غير مقام الخطاب.

ورابعا : لمنع حجّيّة الظنّ الحاصل منها في محلّ البحث ونظائره ، فإنّ شبهة المسألة ناشئة عن إجمال العامّين الناشئ من تعارض أصالة الحقيقة في أحد العامّين لأصالة الحقيقة في العامّ الآخر ، والمتكلّم قد خرج عن إحداهما بطرحها ورفع اليد عنها والأخذ بالاخرى لا محالة ، فلا بدّ في تعيينها من ظنّ معتبر اعتبره أهل العرف ، وكما أنّ الاعتبار في إثبات الدلالة ابتداء بالظنّ المعتبر ولا يكفي غيره فكذلك الاعتبار في تعيين الدلالة بالظنّ المعتبر ولا يكفي مطلقه ، ولذا لا يعتبر الأقربيّة الاعتباريّة في تعيين [ المعنى ] المجازي فيما تعذّرت حقيقته وتعدّدت مجازاته ، بل لا بدّ فيها من أقربيّة عرفيّة كما عليه المحقّقون.

ومن ذلك أيضا أنّهم في باب تعارض الأحوال لا يعتنون بكلّ ظنّ في الترجيح ولا يعوّلون بالوجوه الاعتباريّة والاعتبارات الذوقيّة.

ومن ذلك أيضا القاعدة المعروفة الّتي يعبّرون عنها : « بعدم جواز ترجيح اللغة بالعقل » من غير فرق في ذلك بين ما يرجع إلى إثبات الوضع وما يرجع إلى إحراز الدلالة أو تعيينها ،

ص: 626

وما ذكر من الاستقراء المتضمّن للغلبة إنّما ثبت في الشرعيّات لا في العرفيّات وباب الدلالات.

وخامسا : لمنع جدواه في ثبوت ما مقصود المقام ، لأنّ الثابت في المورد الغالب هو الحرمة ووجوب الاجتناب على وجه الحكم الظاهري كما هو الحال في عبادة أيّام الاستظهار وارتكاب أحد الإناءين ، والمقصود من الترجيح هنا إثبات المحرّم الواقعي ، لأنّ مورد اجتماع العامّين [ الّذي ] هو محلّ التعارض مردّد بينه وبين الواجب الواقعي فلو بنينا على الأخذ بموجب الغلبة فيه يحكم عليه بالحرمة الظاهريّة أيضا وإن لم يكن محرّما في الواقع لأنّ الظنّ يلحق الشيء بالأعمّ الأغلب ، وهذا كما ترى ليس بالمقصود بل المقصود استعلام ما ارتكبه المتكلّم في كلاميه من التخصيص وتعيين محلّه من العامّين ، وظاهر أنّ الحكم الظاهري حيثما ثبت عند الشبهة في دلالة اللفظ لطروّ إجمال ذاتي أو عرضي للفظ لا يتعرّض لحكم اللفظ ولا يرجع إلى مفاده حسبما هو في لحاظ المتكلّم وضميره وإلاّ كان حكما واقعيّا ، بل هو حكم يرجع إلى موضوع عامّ يتولّد من فرض الإجمال وهو مغاير لموضوع حكم اللفظ جزما بل اللفظ بعد باق على إجماله ، إذ لم يتبيّن أنّ ما صدر من المتكلّم من التصرّف هل هو رفع للأصل الجاري في هذا العامّ أو طرح لما يجري في صاحبه؟

ومن الأعلام (1) من اعترض عليها بعد منع الحجّيّة بكونها معارضة بأصل البراءة ولا خفاء في سقوطه ، فإنّها إن كانت حجّة - كما هو ظاهر كلامه قدس سره - فلا يعارضها أصل البراءة إذ الأصل العملي لا يعارض الدليل الاجتهادي ، وإن لم تكن حجّة فلا معارض لأصل البراءة لأنّ الظنّ الغير المعتبر والشكّ سيّان في عدم الاعتبار ودخولهما في موضوع الأصل.

واحتجّ بعض الأعاظم على ما صار إليه : « بأنّ التعارض فيما بين العامّين - بناء على القول باقتضاء النهي فساد العبادة أو هي مع المعاملة - يوجب الشكّ في الصحّة بالنسبة إلى مورد الاجتماع.

والمفروض أنّ الصحّة لا تتأتّى إلاّ على تقدير موافقة المأمور به ، والموافقة غير ثابتة بل لا أقلّ من الشكّ وفيه كفاية في البطلان ، كيف وهو موافق للأصل فعدم ثبوت خلافه كاف في الحكم به ، فظهر بذلك أنّ الحكم بالبطلان ليس لأجل تخصيص الأمر بل للأصل » (2).

وفيه : أنّ إثبات البطلان بالأصل المذكور إنّما يصحّ في موضع لم يقم فيه دليل على الصحّة لا عموما ولا خصوصا والمقام ليس منه لقيام المقتضي للصحّة وهو عموم الأمر ،

ص: 627


1- القوانين 1 : 153.
2- إشارات الاصول : 112 نقلا بالمعنى.

والكلام إنّما هو في المانع ولم يثبت ، لاحتمال كون المرتفع في مورد الاجتماع هو النهي ، مع أنّ فيما قرّرناه من الوجوه غناء عن الركون إلى الأصل وكفاية في توجيه التخصيص إلى الأمر ، ومعه لا معنى للأصل إلاّ من باب التأييد إن جوّزناه ، وإلاّ كما هو الحقّ فلا يصلح التأييد أيضا لارتفاع موضوعه مع قيام الدليل وإن كان موافقا له في الحكم صورة.

واحتجّ بعض الأعلام على ما صار إليه من التوقّف اجتهادا وعملا : « بأنّ مقتضى عدم جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد عدم إمكان كون الشيء الواحد مطلوبا ومبغوضا ، وأمّا اقتضاء ذلك تخصيص الأمر بالنهي والحكم بالبطلان دون العكس فكلاّ ، فإنّ قول الشارع : « صلّ » مطلق والأمر يقتضي الإجزاء في ضمن كلّما يصدق عليه المأمور به وقوله : « لا تغصب » أيضا مطلق يقتضي حرمة كلّ ما يصدق عليه أنّه غصب ، والقاعدة المبحوث عنها بعد استقرارها على عدم الجواز لا تقتضي إلاّ لزوم إرجاع أحد العامّين إلى الآخر ، فلا وجه لتخصيص الأمر والقول بالبطلان كما اختاروه ».

إلى أن قال : « وبالجملة فلا بدّ من مرجّح يطمئنّ إليه النفس ثمّ الحكم على مقتضاه بالصحّة والبطلان » (1).

وفيه : أنّ مجرّد امتناع الاجتماع وإن كان لا يصلح للترجيح لكونه جهة لكنّ المرجّح قد ظهر ممّا قرّرناه على القول المختار.

المطلب الثاني : في حكم الآتي بمورد الاجتماع لعدم المندوحة

المطلب الثاني

الظاهر أنّ الآتي بمورد الاجتماع اضطرارا لعدم المندوحة - لضيق وقت أو انحصار مكان أو سهوا أو نسيانا أو جهلا بالموضوع أو بالحكم حيث يعذّر الجاهل - ممتثل وعبادته صحيحة ، بل هو الظاهر من مذهب الفقهاء حيث يصحّحون العبادات الواقعة في المكان المغصوب لإحدى الامور المذكورة من غير فرق فيه بين المجوّزين لاجتماع الأمر والنهي والمانعين منه ، وهو مع ذلك ممّا لا إشكال فيه ، وليس الصحّة هنا لإرجاع التخصيص إلى النهي على عكس ما سبق من ارجاعه إلى الأمر في حقّ المختار العالم المتذكّر ليلزم كون كلّ من العامّين مستعملا في معنيين العموم والخصوص أو الماهيّة المطلقة والماهيّة المقيّدة ، بل لخروج موضوعي بالقياس إلى المكلّف ، فإنّ الخطابات

ص: 628


1- القوانين 1 : 153.

بأسرها معلّقة على القدرة مخصوصة بالقادرين فقوله : « لا تغصب » أيضا على هذه القاعدة مخصوص بمن يقدر على ترك الغصب ، فلا يكون إلاّ بأن يكون مختارا عالما متذكّرا ، فلا يدخل فيه من تعيّن عليه فعل الصلاة في ضمن هذا الفرد لضيق وقت أو انحصار مكان ولا الساهي ولا الناسي ولا الجاهل ، فلا تخصيص ولا إشكال من جهة الصحّة.

لا يقال : إنّ الصحّة في هذه الصور تنافي قاعدة اللطف [ بالمعنى ] المتقدّم أعني إيصال العباد إلى مصالح امورهم وتبعيدهم عن مفاسد امورهم ، والتبعيد عن مفسدة هذا الفرد يقتضي التحريم.

لأنّ اللطف بهذا المعنى إنّما يقتضي وجوب الإيصال إلى مصالح الامور والتبعيد عن مفاسدها بجعل الإيجاب في الأوّل والتحريم في الثاني في حقّ مكلّف يكون قابلا لأن يجعل له الإيجاب أو التحريم ويتوجّه إليه الخطاب ، والمفروض أنّ من تعيّن عليه الفعل أو الساهي أو الناسي أو الجاهل غير قابل له ، فقاعدة اللطف بالمعنى المذكور لا حكم لها في هذه الصور.

فإن قلت : هذا إنّما يسلّم في غير صورة تعيّن الفعل لضيق وقت أو انحصار مكان ، ومرجعهما إلى انحصار الفرد المقدور من المأمور به في هذا الفرد ، لأنّ الاضطرار إلى الفعل حينئذ إنّما نشأ من أمر الشارع وهو ينافي اللطف فوجب عليه تعالى أن لا يأمر بهذا الفرد لئلاّ يتعيّن عليه الفعل لئلاّ يقع في مفسدة الغصب.

قلت أوّلا : مصلحة الصلاة أعظم من مفسدة الغصب فترجّح عليها ، لأنّها من جهة عدم المندوحة لا تتدارك بمصلحة فرد آخر بخلاف صورة وجود المندوحة فترجّح عليها المفسدة لأنّها تتدارك بمصلحة فرد آخر.

وثانيا : أنّ الوقوع في مفسدة الغصب في هذه الصورة لازم على المكلّف لا محالة ، لابتناء فرض [ عدم ] المندوحة عليه سواء أمر بفعل هذا الفرد أو لم يؤمر ، فالوقوع في المفسدة لا يستند إلى أمره تعالى أصلا ، فلو [ لم ] يأمر به مع الوقوع فيها تفوت على المكلّف مصلحة الصلاة أيضا ، وتفويت المصلحة في نحو هذه الصورة على المكلّف ينافي لطفه تعالى ، فوجب الأمر لئلاّ يفوت عليه المصلحة.

ونحو هذا الكلام يجري في سائر الصور أيضا ، فإنّ منافاة اللطف إنّما يلزم إذا استند الوقوع في المفسدة إلى ترك العمل بمقتضى اللطف استنادا حقيقيّا ، كما لو أهمل في نهي ذي العلم والشعور الجامع لسائر الشروط ، والوقوع فيها في مفروض المسألة ليس بمستند

ص: 629

إليه بل إلى طروّ الامور المذكورة بلا اختيار للمكلّف فيه ، فهو معه واقع فيها لا محالة سواء فرضناه منهيّا عن الفعل أو غير منهيّ عنه.

مع إمكان [ القول بعدم ] صدق عنوان [ المنهيّ عنه ] من أصله وهو التصرّف العدواني فيما نحن فيه (1) فلا وقوع للمفسدة فيبقى الأمر بالفعل المقتضي للصحّة بلا مانع يمنعه من جميع الجهات ولا مزاحم يزاحمه من جميع الوجوه.

لا يقال : لا وجه لتصحيح العبادة في هذه الموارد ، لجواز استناد البطلان إلى وجود المانع وهو الغصبيّة أو فقد الشرط وهو إباحة المكان ، ولذا ترى أنّ الفقهاء يذكرون إباحة المكان وإباحة الماء بالنسبة إلى الصلاة والوضوء من شروط الصحّة ، وكما أنّ قوله : « لا تصلّ حال الجنابة » مثلا يفيد كون الجنابة مانعا على معنى كون عدمها من قيود المكلّف به والطهارة شرطا ، فكذلك قوله : « لا تغصب » يقضي بمانعيّة الغصب وشرطيّة خلافها ، بل نقول : إذا ثبت أنّ الغصبيّة مانعة كان عدمها شرطا ، ومعه يتّجه الحكم في الموارد المذكورة بالبطلان وإن فرض الحرمة الفعليّة أيضا مرتفعة.

لأنّا نقول : إنّ استفادة المانعيّة من النهي على وجه يثبت به قيد عدميّ للمأمور به إنّما يستقيم في النهي المتعلّق بنفس العبادة كقوله : « لا تصلّ في الدار المغصوبة » لا بأمر خارج عنها متّحد معها في الوجود في بعض الأحيان كما نحن فيه ، فلا يبقى في النهي عن الغصب إلاّ إفادة التحريم الصرف وهو غير شامل لما نحن فيه ، فيبقى الأمر بلا مانع من اقتضائه الصحّة ، ولا ينافيه كون الإباحة على قول الفقهاء من شروط الصحّة ، لأنّ الإباحة غير عدم الغصبيّة وهي على معناها المعروف حاصلة في الموارد المذكورة ، إذ المفروض ارتفاع الحرمة بما فرض فيها من الأعذار العقليّة فتثبت الإباحة وهو المطلوب.

المطلب الثالث : اجتماع الأمر والنهي فيمن توسّط أرضاً معصوبة

المطلب الثالث

قد ظهر بتضاعيف ما تقدّم أنّ الأمر والنهي إذا كان اجتماعهما في غير موضع

ص: 630


1- لأنّ طروّ الأحوال المذكورة كما أنّها رافعة للحرمة عن هذا الفعل فكذلك تكون رافعة لأصل العنوان المنهيّ عنه المشتمل على المفسدة وهو الغصب الّذي هو عبارة عن التصرّف العدواني ، على معنى أنّه يوجب خروج الفعل المذكور عن عنوان التصرّف العدواني ، ضرورة أنّه مع أحد الأعذار المذكورة ليس تصرّفا عدوانيّا فلا يكون مشتملا على مفسدة المنهيّ عنه فيسلم مصلحته عن المزاحم ( نقلناه عن هامش التحرير الأوّل من التعليقة بخطّ يده رحمه اللّه إيضاحا لمراده قدس سره ).

المندوحة فلا خلاف في عدم جوازه ، وهو الّذي يعبّر عنه : « بالاجتماع الآمري » الّذي اتّفق الفريقان على امتناعه ، لكن هذا حيث لم يكن المكلّف بنفسه سببا للاجتماع فأمّا إذا كان هو السبب في اجتماعهما بأن يفعل باختياره فعلا أوقعه في التكليفين بلا مندوحة ولا مجال من امتثالهما معا وقد يعبّر عنه : « بما لا يمكن الانفكاك بينهما في شيء من الجانبين » ففي جوازه والعدم خلاف على أقوال ، وفرضوا المسألة فيمن توسّط دار مغصوبة فهل يكون مأمورا بالخروج ومنهيّا عنه؟ وإذا خرج كان مطيعا عاصيا.

فعن أبي هاشم - على ما في مختصر الحاجبي وشرحه الموسوم بالبيان - أنّه يكون عاصيا بالخروج والإقامة معا فيكون الخروج مأمورا به ومنهيّا عنه.

ووافقه بعض الأعلام (1) ناسبا له إلى أكثر أفاضلي متأخّرينا ، وعن فخر الدين الرازي أنّه عاص بالخروج استصحابا لحكم المعصية مع كونه واجبا عليه غير منهيّ عنه.

ووافقه من أصحابنا بعض الفضلاء (2) وابن عمّنا السيّد (3) طاب ثراهما وقيل : إنّه مأمور بالخروج وليس منهيّا عنه ولا معصية عليه ، وعزى إلى ابن الحاجب وفيه منع لأنّ التأمّل في كلامه يعطي اختياره القول بالتفصيل كما ستعرفه عن السيّد.

ويظهر من بعض الأعاظم عكس ذلك وهو كونه منهيّا عن الخروج حيث قال : « والحقّ أنّه لا أمر بالخروج هنا بل الواجب عليه عدم التصرّف في ملك الغير بغير إذنه والخروج هنا مقدّمة له وليس واجبا » (4).

ويظهر من السيّد التفصيل بين كون الخروج بنيّة التخلّص فيكون مأمورا به أو بنيّة الفساد فيكون منهيّا عنه (5) وإليه [ ينظر ] كلام ابن الحاجب في مختصره حيث صرّح بالقطع بنفي المعصية وقيّده بما فسّره شارح البيان بقوله : « وإذا تعيّن الخروج لكونه متعلّقا للأمر يجب أن يقطع بنفي المعصية لأجل الأمر بالخروج ، لكن بشرط نفي المعصية عن نفسه وهو أن يقصد الخروج عن الغصب ، فإنّه لو قصد بالخروج التصرّف في ملك الغير لم ينتف المعصية عنه ، أمّا لو قصد الخروج عن المعصية يكون الخروج حينئذ مأمورا به والمأمور به لا يكون معصية » انتهى.

ولنا في المقام إشكالان :

أحدهما : ما يتوجّه إلى القول بكون الخروج مأمورا به على الإطلاق أو في الجملة ،

ص: 631


1- القوانين 1 : 153.
2- الفصول : 138.
3- ضوابط الاصول : ...
4- إشارات الاصول : 113.
5- الذريعة إلى اصول الشريعة 1 : 178.

نظرا إلى أنّه كيف يصحّ ذلك مع ما هم عليه من أنّ فعل الضدّ لا يكون مقدّمة لترك ضدّه ، وبذلك أطبقوا على بطلان مذهب الكعبي في دعوى وجوب المباح لكونه مقدّمة لترك الحرام.

وأوردوا عليه من باب النقض : بأنّه لو صحّ ذلك لزم إيجاب الحرام وتحريم الواجب.

والاعتذار له تارة : بأنّ هذا إنّما هو في الغالب وإلاّ فقد يتّفق أنّ ترك الحرام يتوقّف على فعل وجودي.

واخرى : بأنّ الوجوب هنا ثابت بالنصّ والإجماع أو بالعقل والنقل كما في كلام بعض الفضلاء (1).

يندفع في الأوّل : بمنع التوقّف مطلقا بل ترك الحرام يستند دائما الى وجود الصارف الّذي قد يقارنه فعل وجودي كما تقدّم تحقيقه في بحث الضدّ.

وفي الثاني : منع وجود النصّ والنقل بوجوب الخروج بالخصوص ، ومنع تحقّق الإجماع ومساعدة العقل على وجوب مطلق الخروج حتّى ما لا يكون منه بنيّة التخلّص ورفع اليد عن ملك الغير.

وثانيهما : ما يتوجّه إلى من أطلق في القول بكون الخروج منهيّا عنه ، نظرا إلى أنّ الأحكام تتبع عناوينها فتثبت مع ثبوتها وتنتفي مع انتفائها ولو لأجل اختلال قيد من قيودها كما هو كذلك في المثال المذكور ، فإنّ الغصب تصرّف عدوانيّ أو تصرّف غير مأذون فيه من المالك والخروج كثيرا مّا يلحقه إذن المالك ورضاه كما إذا كان على وجه التخلّص بل هو كذلك دائما ، لما هو معلوم بشهادة الحال أنّ كلّ مالك مغصوب منه آذن في الخروج عن ملكه وراض به وغير مانع منه ، ومعه كيف يتصوّر النهي والتحريم.

إلاّ أن يقال : بأنّ ذلك مناقشة في المثال وأمثلة المسألة غير منحصرة فيما تقدّم بل لها أمثلة كثيرة :

منها : ما لو قعد على صدر حيّ إذا كان انفصاله عنه يؤلمه كقعوده عليه.

ومنها : ما لو أولج فرجه في فرج امرأة زانيا ، فإنّه مأمور بإخراج فرجه ومنهيّ عنه.

ومنها : ما لو ردّ الغاصب العين المغصوبة إلى مالكها فإنّه مأمور بذلك الردّ ومنهيّ عنه.

ولكن يردّه : أنّ المحرّم قد يصادفه ما يوجب حسنه كالتخلّص عن معصية اللّه ونحوه فلا فرق بين الأمثلة.

ص: 632


1- الفصول : 138.

وكيف كان فاحتجّ بعض الأعلام على ما اختاره بما يرجع محصّله إلى : « أنّ الأمر والنهي دليلان يجب إعمالهما من غير موجب للجمع والتقييد ، لأنّ الموجب إمّا العرف كما في العامّ والخاصّ المطلقين ، أو العقل كما في الساهي إذا دخل الدار المغصوبة فإنّه مأمور بالخروج خاصّة ولا نهي حذرا عن تكليف ما لا يطاق ، ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلعدم كون الخروج من حيث هو موردا للنهي ليكون أخصّ من الغصب المنهيّ عنه ، بل من حيث إنّه تخلّص عن الغصب وهو أعمّ من الغصب ، لأنّه إنّما وجب من حيث كونه من مقدّمات ترك الغصب الواجب ومقدّمة الترك هنا أعمّ من الخروج وإن انحصر أفراده العادية هنا في الخروج ، فيكون بينهما عموم من وجه.

وأمّا الثاني : فلأنّ فرض الاجتماع هنا وإن كان يؤدّي إلى تكليف ما لا يطاق إلاّ أنّه لا قبح فيه لكونه من سوء اختيار المكلّف ، كما يظهر ذلك من الفقهاء فيمن كان مستطيعا فأخّر المسير اختيارا حتّى فاتت استطاعته » (1).

وفيه أوّلا : أنّ عنوان التخلّص عن الغصب وعنوان الغصب لا يجتمعان أبدا ولا يتصادقان على مصداق واحد قطّ ، لما بيّنّاه من أنّ قصد التخلّص رافع لعنوان الغصب وهو لا يصدق على الخروج إلاّ مع قصده ، فإن قصد به التخلّص فهو مأمور به لا غير لأنّه ليس بغصب حينئذ ، وإلاّ فهو منهيّ عنه لا غير لأنّه ليس بتخلّص عن الغصب حينئذ بل هو عين الغصب.

وثانيا : أنّ المانع على تقدير اجتماع العنوانين عقليّ ، وهو عدم الفرق عند العقل في استحالة التكليف بما لا يطاق بين ما لو استند امتناعه إلى اختيار المكلّف أو إلى غيره ، فإنّ الامتناع بالاختيار ينافي الاختيار خطابا وعقابا كما حقّقناه في بحث المقدّمة.

وثالثا : عدم انحصار جهة المنع في لزوم تكليف ما لا يطاق بل العمدة فيها - كما تقدّم في الاحتجاج على المختار في أصل المسألة - لزوم اجتماع المتضادّين في محلّ واحد وهو لازم هنا جزما.

ثمّ إنّه رحمه اللّه بعد كلام طويل قال : « بأنّ مبنى ما اخترناه من اجتماع الأمر والنهي على جعل التكليف من باب التكليف الابتلائي المقصود به التنبيه على استحقاق العقاب ، لا طلبا في نفس الأمر مع علم الآمر بأنّه لا يمكن حصوله مع امتثال الأمر » (2).

وكأنّه تنبّه على بعض ما أوردناه على احتجاجه ، ويشكل : بأنّه يؤدّي إلى استعمال

ص: 633


1- القوانين 1 : 153 - 154 نقلا بالمعنى.
2- القوانين 1 : 154.

المراد من الفساد المتنازع فيه ما يستند إلى النهي

أصل

اختلفوا في دلالة النهي على فساد المنهيّ عنه ، على أقوال *.

_______________________________

النهي في معنييه الحقيقي والمجازي ، لعدم ثبوت هذا النهي بالنسبة إلى الخروج إلاّ من عموم النهي عن الغصب ولذا فرض كونه موردا لاجتماع العامّين من وجه ، والمفروض أنّه بالنسبة إلى مورد الافتراق مستعمل في التكليف الحقيقي والتكليف الابتلائي عنده معنى مجازي في كلّ من الأمر والنهي.

وعن الرازي الاحتجاج على عدم النهي بما يرجع إلى : « أنّ النهي تكليف ، والتكليف مشروط بالإمكان ، ولا إمكان مع الخروج امتثالا للأمر » وعلى ثبوت المعصية : « بأنّ دوام المعصية ينفكّ عن النهي ».

ووجّه : « بأنّ المعصية في الفعل لا تنحصر في فعل المنهيّ عنه وترك المأمور به بل ذلك إنّما هو في أوّل الأمر وإلاّ فقد يحصل بفعل ما يكون حاصلا بسبب فعله الاختياري » (1) وكأنّ حاصل مراده : أنّ هذه المعصية تتبع الخطاب الأوّل المتوجّه إلى المكلّف قبل الدخول في الدار المغصوبة فإنّ قوله : « لا تغصب » في ذلك الوقت يشمل بعمومه جميع أفراد الغصب من الدخول والمشي إلى الوسط والإقامة هنا والخروج ، فيكون الخروج حين تحقّقه مخالفة لذلك الخطاب وإن كان نهيه قد ارتفع بواسطة الأمر ، وهذا هو معنى انفكاك دوام المعصية عن النهي.

ففيه : أنّ صدق المخالفة على هذا الوجه لا يؤثّر في ترتّب العقاب أو استحقاق العقوبة إلاّ إذا بقيت على قبحها ، ولا يسلّم ذلك إلاّ إذا لم يكن الخروج بقصد التخلّص لوضوح أنّ قصد التخلّص يوجب الحسن الرافع لقبحه ومعه لا معنى لترتّب العقاب عليه.

فتلخّص بملاحظة كلماتنا أنّ الأوفق بالقواعد ما فصّله السيّد ، فتدبّر ولا تغفل.

* ينبغي قبل الخوض في تحقيق المسألة رسم امور من باب المبادئ.

أحدها : ظاهر العنوان المذكور مع ما هو المستفاد من مطاوي كلامهم تصريحا وتلويحا أنّ المراد من الفساد المتنازع فيه ما يستند إلى النهي ، بحيث لو لاه أو لو لا دلالته على القول به كان المورد محكوما عليه بالصحّة ، ولا يكون كذلك إلاّ إذا كان هنا عنوان كلّي من

ص: 634


1- الموجّه هو المحقّق القمّي رحمه اللّه في حاشية القوانين 1 : 154.

العبادة أو المعاملة قام به المقتضي للصحّة من عموم أو إطلاق في خطاب تكليفي أو وضعي ولو التزاما ثمّ ورد النهي عن بعض أفراد ذلك العنوان لجميع آحاد المكلّفين ، كقوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (1) مع قوله : « لا تصلّ في الدار المغصوبة » أو لبعض آحاد المكلّفين عن هذا العنوان الكلّي بجميع أفراده كالمثال مع قوله عليه السلام : « دعي الصلاة أيّام أقرائك » وهذا هو معنى ما في كلام غير واحد من أنّ المتنازع فيه ما لو تعلّق النهي بشيء بعد ما ورد فيه من الشارع جهة صحّة.

وأنت إذا تأمّلت في أدلّتهم ولا سيّما احتجاج أهل القول بالدلالة شرعا فقط بأنّه : « لو لم يفسد لزم من نفيه حكمة يدلّ عليها النهي ومن ثبوته حكمة يدلّ عليها الصحّة واللازم باطل » لوجدت هذه المقالة مقرونة بالصدق والصواب.

فما يقال : من أنّ الأولى في المقام تعميم محلّ الكلام بالنسبة إلى كلّ ما من شأنه أن يتّصف بالصحّة والفساد سواء ثبت له جهة صحّة أو لا كما يقتضيه إطلاق الأدلّة والعناوين ، ممّا لا ينبغي الالتفات إليه كما يتّضح فيما بعد ذلك أيضا.

وممّا بيّنّاه يظهر أنّ مرجع البحث في المسألة إلى أنّ النهي المتعلّق بالعبادة أو المعاملة هل يقتضي خروج المورد عن عمومات الصحّة على وجه التخصيص أو لا؟ وهو المراد من دلالته على الفساد المأخوذة في عناوين المسألة كما سمعت في عنوان المصنّف ، إذ فساد المنهيّ عنه عبادة كان أو معاملة إنّما يكون باعتبار خروجه من عموم المقتضي للصحّة بالتخصيص اللاحق له بواسطة النهي.

ومن هنا يظهر الفرق بين هذه المسألة ومسألة اجتماع الأمر والنهي ، فإنّها على ما بيّنّاه ثمّة مسألة عقليّة من قبيل المبادئ الأحكاميّة وهذه المسألة لفظيّة باحثة عن حال الدليل الّذي هو النهي من حيث إنّه يقتضي أو لا يقتضي فتكون اصوليّة.

وتوهّم اندراجها في المسائل الكلاميّة المأخوذة في هذا الفنّ من باب المبادئ الأحكاميّة - بتقريب : رجوع البحث فيها إلى الملازمة بين تحريم الشيء وفساده كما في مسألتي مقدّمة الواجب والضدّ ، حيث يرجع البحث فيهما إلى الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّماته ، والملازمة بين وجوب الشيء وحرمة ضدّه - واضح الضعف.

ولا ينافي ما بيّنّاه من جهة البحث ما اتّفقوا عليه من وجوب بناء العامّ على الخاصّ

ص: 635


1- النور : 56.

وحمل المطلق على المقيّد وتقديم الخاصّ على العامّ إذا اجتمع شروط الاعتبار ، لأنّ المذكورات أحكام كبرويّة حصل الاتّفاق عليها على تقدير تحقّق صغراها وهو التنافي الظاهري فيما بين مدلولي العامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد ، وكلامهم هنا صغرويّ ومنشؤه الشبهة في التنافي وفيه بحث يأتي بيانه في باب حمل المطلق على المقيّد.

بيان الفرق بين العبادة والمعاملة

ثانيها : بيان الفرق بين العبادة والمعاملة لكون معرفتهما من مبادئ المسألة فنقول : إنّ « العبادة » في لسان الفقهاء بل المتشرّعة في الجملة تطلق على حسب الموارد الجزئيّة المختلفة الأنواع على معان :

منها : الصلاة والصيام وغيرهما من الماهيّات المخترعة الشرعيّة الّتي يقع عليها اسم الواجب التعبّدي قبالا للواجب التوصّلي ، وضابطه الكلّي الجامع لشتات جزئيّاته ما أمر به لأجل التقرّب والزلفى وقد يعبّر عنه بما أمر به لأجل التعبّد ويقابله المعاملة فهي ما لم يؤمر به لأجل التقرّب والزلفى ، سواء أمر به لا لأجل ذلك كالواجبات التوصّليّة أو لم يؤمر به أصلا كالبيع والإجارة والنكاح والطلاق والظهار وغيرها من أنواع العقود والإيقاعات.

والعبادة بالمعنى المذكور أخصّ منها بالمعنى الآتيين لعدم تناولها المندوبات ولا نحو العتق والوقف ولا سائر أنواع العقود والإيقاعات كما عرفت ، وهي بهذا المعنى موضوع البحث المعنون في محلّه من أنّ الأصل في الواجب أن يكون عبادة أو معاملة؟ فإنّ القول الأوّل معناه : أنّ الأصل في كلّ واجب كونه بحيث أمر به لغاية التقرّب الّتي لا تتأتّى بحكم العادة والعقل إلاّ مع قصد الإطاعة ونيّة الانقياد ، وقضيّة ذلك اشتراط صحّة المأمور به بالنيّة وقصد القربة ، وعمدة دليله حسبما اعتمد عليه أصحابه من الاصول اللفظيّة فهم العرف وبناؤهم على أنّ امتثال الأمر لا يحصل إلاّ بذلك ومن الاصول العمليّة قاعدة الاشتغال القاضية بتوقّف يقين البراءة على القصد والنيّة.

ونحن أوردنا تحقيق ذلك مشروحا في رسالة منفردة (1) وليس هنا محلّه.

نعم هنا دقيقة لا بأس بالإشارة إليها وهي عدم إمكان الجمع بين دليل هذا القول وبين الضابط المتقدّم من غير تأويل وتكلّف ، فإنّ مقتضى ذلك الضابط كون الغاية الباعثة على الأمر والفائدة المقصودة منه حصول التقرّب وهو لا يلائم الدليل المذكور بشيء من وجهيه.

ص: 636


1- المسمّاة ب- « رسالة في أقسام الواجب » وهي موجودة عندنا بخطّه الشريف ونسأل اللّه التوفيق لطبعها ونشرها إن شاء اللّه تعالى.

أمّا الوجه الأوّل : فلأنّ أقصى ما يقتضيه بناء العرف كون النيّة شرطا في المأمور به معتبرا في وصفه العنواني ولا ملازمة بينه وبين كون الغاية المقصودة منه حصول التقرّب ، لجواز أن يكون هنا غاية اخرى منوطة في نظر الآمر باقتران العمل بالقصد والنيّة ، ولا ينافيه كون حصول التقرّب أيضا من الفوائد المترتّبة على القصد والنيّة ، إذ لا ملازمة بين مطلق الفائدة والفائدة المقصودة والعبرة في الغايات بالثاني دون الأوّل.

ويمكن الذبّ بجعل « اللام » في قولنا : « لأجل التقرّب » كاللام في قوله تعالى : ( لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً ) (1) بتقريب : أنّ الفائدة تشبه العلّة الغائيّة في ترتّبها على الفعل.

إلاّ أنّه يشكل ذلك أيضا : بأنّ العلّة الغائيّة الداعية إلى الأمر قد تكون حصول التقرّب لا غير فلا يستقيم الضابط إلاّ بحمل متعلّق « اللام » على ما يعمّ المشبّه والمشبّه به معا ، ولعلّه غير صحيح لعدم معقوليّة [ جامع ] بينهما يراد من اللفظ حذرا من الاستعمال في معنيين ، إلاّ بأن يقدّر الفائدة المطلقة فردا من العلّة الغائيّة ادّعاء فيراد من مدخول اللام العلّة الغائيّة على نحو يتناول فردها الادّعائي أيضا ليشمل كلاّ ممّا يكون علّته الغائيّة حصول التقرّب وما يكون علّته غير ذلك.

وأمّا الوجه الثاني : فلأنّ قاعدة الاشتغال لكونها من الاصول العمليّة غير متعرّضة لإحراز الواقع ، وقضيّة الضابط ثبوت اعتبار القصد والنيّة في الواقع بعنوان القطع فلا ملازمة أيضا.

ومن هنا يتبيّن أنّ هذا الضابط لو اعتبرناه تعريفا حقيقيّا كان مختلاّ بانتقاض عكسه بالنسبة إلى ما ثبت اعتبار النيّة فيه بقاعدة الاشتغال ، كما أنّه مختلّ أيضا على مذهب من يجعل المعيار في العبادة عدم معلوميّة انحصار المصلحة فيها كما لا يخفى.

ومنها : ما يعمّ الواجبات التعبّديّة والمندوبات ، وضابطه الكلّي - على ما في كلام غير واحد - ما احتاج صحّته إلى النيّة ، ويقابله المعاملة وهو ما لا يحتاج صحّته إلى النيّة ، ويندرج فيه الواجبات التوصّليّة وغيرها من أنواع العقود والإيقاعات ما عدا الوقف والعتق ، فإنّهما بحسب الوضع الشرعي وإن كانا من قسم العقود كالأوّل والإيقاعات كالثاني إلاّ أنّهما لاشتراط نيّة القربة في صحّتهما يندرجان في العبادة لصدق الضابط المذكور عليهما ، وفي اندراج وقف الكافر وعتقه - على القول بصحّتهما منه لإمكان تحقّق النيّة منه - فيها أيضا وعدمه وجهان ، من أنّ المراد بالنيّة المأخوذة فيها خصوص النيّة المؤثّرة فيخرجان

ص: 637


1- القصص : 8.

منها أو أعمّ منها فيندرجان فيها.

ولذا قد يقال : إنّ العبادة بهذا التفسير لها معنيان :

أحدهما أخصّ من الآخر مطلقا لافتراق الآخر عنه في الوقف والعتق إذا صدرا من الكافر.

فقد ظهر أنّ المراد بالصحّة في تفسير العبادة لا بدّ وأن يكون ما يعمّ الصحّة الجارية في الواجبات والمندوبات والصحّة الجارية في العقود والإيقاعات ، وهو ترتّب الأثر الشرعي المقصود بالأصالة من وضع مورده في نظر الشارع ، وحملها على ذلك لا ينافي شمول التفسير المذكور المندوبات والواجبات التعبديّة ، لا لأنّ الأثر المترتّب عليهما موافقة الأمر أو سقوط القضاء كما توهّم ، فإنّه على ما سيظهر بمعزل عن التحقيق ، بل لأنّ فيهما أيضا آثارا مخصوصة مقصودة من وضعهما متوقّفة في ترتّبها على قصد الإطاعة ونيّة الانقياد وإن لم نعلمها بالخصوص أو كان هو حصول التقرّب والزلفى.

ولا ينتقض التفسير على تقدير كون ذلك هو الأثر المقصود بالأصالة أو بعضا منه بوقف الكافر وعتقه ، لأنّ الأثر المقصود في وضع العبادة والمعاملة لو حظ من باب العلّة الغائيّة ، ولا يجب في كلّ علّة غائيّة أن تترتّب على المعلول فعلا بل هي كثيرا مّا لا تترتّب عليه فعلا لمصادفة فقد شرط أو وجود مانع ، على أنّ كلّ فعل بالقياس إلى علّته الغائيّة من باب المقتضي وظاهر أنّ المقتضي قد يجامع فقد شرط من شروط اقتضائه أو وجود مانع من موانع اقتضائه ، ولا ريب أنّ الكفر في وقف الكافر وعتقه من موانع حصول التقرّب إذ لولاه كان التقرّب حاصلا.

وبما ذكرناه يندفع ما عساه يورد من عدم انطباق الحدّ المذكور على ما يقع عليه اسم العبادة ، فإنّ الإطلاق يقع على المفاهيم الكلّية من أنواع الواجبات التعبديّة والمندوبات والعتق والوقف والحدّ المذكور لا ينطبق إلاّ على جزئيّاتها الخارجيّة ، لأنّ الصحّة المأخوذة فيه غير خالية عن أن يراد بها ما هو مصطلح المتكلّمين وهو موافقة الأمر أو ما هو مصطلح الفقهاء وهو إسقاط القضاء ، وأيّا منهما كان فهو من لوازم الوجود الخارجي.

أمّا الأوّل : فلأنّ الموافقة أمر نسبيّ يقتضي المغايرة بين منتسبيه الموافق والموافق ، ولا يستقيم ذلك إلاّ إذا اعتبر الموافقة وصفا للفرد المأتّي به لأنّه الّذي يوافق المأمور به الكلّي ، إذ لو اعتبرت وصفا لنفس الكلّي المأمور به اتّحد الموافق والموافق وهو محال ،

ص: 638

مضافا إلى أنّه خلاف الفرض إذ الّذي يؤتى به في الخارج هو الفرد لا الكلّي بما هو كلّي.

وأمّا الثاني : فلأنّ الّذي يوجب سقوط التعبّد بالمأمور به ثانيا هو الإتيان بالفرد فيكون الإسقاط أيضا وصفا للفرد لا الكلّي.

ووجه الاندفاع : المنع من كون المراد به هنا أحد المعنيين بل المراد ترتّب الأثر وهو من لوازم الماهيّة ، لما عرفت من أنّ الآثار الشرعيّة المعتبرة مع العبادات والمعاملات عبارة عن الغايات المقصودة لذواتها من تشريع العبادة والمعاملة وهي عبارة عن المصالح الّتي يتبعها الأحكام اقتضائيّة ووضعيّة.

ولا ريب أنّ المصالح امور كامنة في الماهيّات ملحوظة معها ولذا يتبعها الأحكام في تعلّقها بالطبائع دون الأفراد على ما سبق تحقيقه ، ومعنى كون ترتّب الأثر من لوازم الماهيّة أنّ الشارع لمّا لا حظ الماهيّات فوجدها بحيث يترتّب عليها الآثار المخصوصة فشرّعها على طبق تلك الآثار بواسطة خطاب اقتضاء أو وضع مفيد للسببيّة.

وربّما يعترض على الحدّ المذكور بما لا وقع فيه أيضا وهو أنّ المراد من الصحّة المأخوذة فيه إمّا إسقاط القضاء أو موافقة الأمر أو ترتّب الأثر ، ولا يستقيم شيء من ذلك.

أمّا الأوّل : فلاستلزامه الدور المصرّح ، فإنّهم عرّفوا صحيح العبادة بما أسقط القضاء فمعرفة صحيحها مسبوقة بمعرفة نفسها والمفروض أنّها عرّفت بالصحيحة وما هذا إلاّ الدور المحال.

وأمّا الثاني : فأوّلا : لاستلزامه شمول الحدّ للواجبات التوصّليّة أيضا كغسل الثوب إذ لا ريب أنّ موافقة الأمر فيها يحتاج إلى النيّة.

وثانيا : لاستلزامه كون النيّة جزءا أو شرطا واللازم باطل.

أمّا الملازمة : فلأنّها لو لم تكن جزءا أو شرطا وأتى المكلّف بالفعل لا بقصد الامتثال صدق عليه أنّه وافق الأمر ، فيكذب به دعوى احتياج موافقة الأمر إلى النيّة.

وأمّا بطلان اللازم ، فلما حقّق في معنى الواجب التعبّدي والتوصّلي من أنّ النيّة خارجة عن حقيقة العبادة بل هي داعية إلى الأمر بها ، ولئن سلّمنا كونها جزءا أو شرطا لا يستقيم الحدّ أيضا ، نظرا إلى أنّ المتوقّف على النيّة حينئذ إنّما هو وجود نفس المأمور به لا صحّته.

وأمّا الثالث : فلأنّ الأثر إن اريد به خصوص إسقاط القضاء أو موافقة الأمر ففيه : ما مرّ ، وإن اريد به أعمّ منهما فلا يسلّم أنّه بالمعنى [ الأعمّ ] يتوقّف ترتّبه عليه ، إذ كثيرا مّا يترتّب

ص: 639

ما عدا هذين الأثرين من الآثار الاخر على الخالية عن النيّة.

وفيه ما لا يخفى من ابتنائه على السهو والخلط والاشتباه ، لأنّه لو بني على الإغماض عمّا قرّرناه من لزوم إرادة المعنى الثالث ليندرج ما هو من قسم العقود أو الإيقاعات في الحدّ ودفعا للإشكال المتقدّم الوارد على إرادة أحد المعنيين الأوّلين يمكن إرادة كلّ من المعاني الثلاث ودفع جميع المحاذير المتوهمة في ارادة هذه المعاني.

أمّا الأوّل : فلمنع استلزام إرادته الدور بمنع توقّف معرفة صحّة العبادة على معرفة نفسها ، إذ الوجه في توهّم هذا التوقّف إن كان تعريفهم لصحيح العبادة بما أسقط القضاء كما هو ظاهر عبارة تقرير الدور ، ففيه : أنّ هذا التعريف للصفة لا للموصوف.

وتوضيحه : أنّ إضافة الصحيح إلى العبادة من إضافة الصفة إلى الموصوف وأصله العبادة الصحيحة ، والمقصود من التعريف معرفة الصحّة لا معرفة العبادة ، لأنّ معرفتها إنّما حصلت من تعريفها بما احتاج صحّته إلى النيّة ، فقولهم : « صحيح العبادة ما أسقط القضاء » في معنى قولهم : « صحّة العبادة إسقاط القضاء » فمعرفة صحّة العبادة حينئذ متوقّفة على معرفة إسقاط القضاء لا على معرفة العبادة فلا دور.

وإن كان دخول القضاء في مفهوم الصحّة بالمعنى المذكور المأخوذة في تعريف العبادة بتقريب : أنّ القضاء بمعنى مطلق التدارك عبارة عمّا يعمّ العبادة المعادة والعبادة الواقعة في خارج الوقت ، فالعبادة داخلة في تعريف الصحّة كما أنّ الصحّة داخلة في تعريف العبادة ، فيتّجه أن يقال : إنّ معرفة صحّة العبادة متوقّفة على معرفة نفسها والمفروض أنّ معرفة نفسها أيضا متوقّفة على معرفة صحّتها.

ففيه : منع كون القضاء في تعريف الصحّة مرادا به ما ذكر ، بل هو عبارة عن الإتيان بالمأمور به ثابتا في الوقت أو في خارجه لوقوع خلل في الإتيان الأوّل ، فمعرفة الصحّة متوقّفة على معرفة ذلك لا على معرفة العبادة.

وأمّا الثاني : فلمنع استلزام إرادته شمول الحدّ للتوصّليّات بمنع احتياج موافقة الأمر فيها - على معنى كون الفرد المأتّي به موافقا للمأمور به الكلّي - إلى النيّة وإلاّ لم يكن توصّليّا.

والسرّ في احتياجه إليها في الواجب التعبّدي كون النيّة معتبرة فيه جزءا أو شرطا فالفرد الخارجي المأتيّ به لا يوافقه إلاّ بتقدير اقترانه بالنيّة بخلاف التوصّلي فإنّ النيّة ليست معتبرة فيه أصلا ، فلا يحتاج موافقة فرده الخارجي إليها هذا في دفع ما ذكر أوّلا.

ص: 640

وأمّا دفع ما ذكر ثانيا : فبمنع بطلان اللازم ، إذ النيّة المعتبرة في المأمور به التعبّدي جزءا أو شرطا عبارة عن قصد الإطاعة والانقياد أو قصد امتثال الأمر أو قصد حصول التقرّب.

وأيّا مّا كان فالقصد إذا كان من فعل المكلّف يستحيل كونه داعيا إلى الأمر بل هو داع إلى الفعل ، والّذي هو داع إلى الأمر إنّما هو قصد أحد الامور المذكورة بالمعنى الراجع إلى الشارع الآمر ، وهو بهذا المعنى لم يعقل كونه جزءا أو شرطا في المأمور به بل لم يقل به أحد.

وأمّا ما ذكر في العلاوة ففيه : أنّ كون النيّة جزءا أو شرطا أمر منوط باعتبار المعتبر ، إذ لو قسناها إلى كلّي المأمور به كانت شرطا للوجود ولو قسناها إلى ما يحصل الإتيان به من الفرد الخارجي كانت شرطا للصحّة ، إذ قد عرفت أنّ موافقة الأمر في معنى الصحّة لا تستقيم إلاّ إذا اعتبرت وصفا للفرد الخارجي المأتيّ به فكونه موافقا للمأمور به الكلّي محتاج إلى النيّة ، وهذا هو معنى كونها شرطا للصحّة بمعنى موافقة الأمر.

وأمّا الثالث : فلأنّ المراد بالأثر في معنى الصحّة ليس هو الموافقة ولا الإسقاط ، بل امور اخر منوط ترتّبها على الفعل بالنيّة كحصول التقرّب والزلفى وارتفاع الدرجة والوصول إلى المراتب العالية الرفيعة أو تكميل النفس فيما عدا الوقف والعتق ، والغاية المقصودة من وضع الوقف والعتق [ المتوقّف صحّتهما على النيّة ](1) فيهما ممّا هي متعلّقة بالمال كالإخراج عن الملك فيهما على قول في الوقف أو في خصوص العتق ، وأمّا الوقف على القول الآخر فالأثر المقصود منه نقل ملك العين أو حبسها على وجه لا يجري عليها التصرّفات الناقلة ، ونمنع ترتّب نحو هذه الآثار على الخالية عن النيّة.

ومن الأعلام من عرّف العبادة بما لم يعلم انحصار المصلحة فيها في شيء سواء لم يعلم المصلحة أصلا أو علمت في الجملة ، جاعلا له عبارة اخرى لما ذكرناه.

ثمّ قال : « واحتياجها إلى النيّة وهو قصد الامتثال والتقرّب من جهة ذلك » يعني من جهة عدم العلم فيها بانحصار المصلحة في شيء ، وعلّله : « بأنّ امتثال الأمر لا يحصل إلاّ بقصد إطاعته في العرف والعادة والموافقة الاتّفاقيّة لا يكفي ».

وفيه : مع انتقاض عكسه بما علم كون المصلحة فيه التقرّب والزلفى أو تكميل النفس لا غير - أنّ استناد الاحتياج إلى النيّة إلى عدم العلم بانحصار المصلحة يقتضي كون مدركه قاعدة الاشتغال مع قيام احتمال كون التقرّب هو المصلحة أو من جملتها ، وهذا لا يلائم

ص: 641


1- أضفناه طبقا للتحرير الأوّل من التعليقة بخطّ يده الشريف رحمه اللّه ، إيضاحا للمرام.

التعليل المذكور والاستناد إلى العرف والعادة ، بل ربّما يشكل التوفيق بينهما لتغاير موضوعي الأصل العملي والدليل الاجتهادي.

إلاّ أن يقال : بأنّ المقصود بذلك إحراز موضوع حكم العرف والعادة ، بتقريب : أنّ العلم بانحصار المصلحة فيما لا يتوقّف على النيّة قرينة تنهض على كون المأمور به معاملة مندرجة في الواجب التوصّلي الغير المتوقّف صحّته على النيّة ، فلا يبقى لحكم العرف باشتراط النيّة موضوع إلاّ ما لم يعلم فيه بانحصار المصلحة.

وأمّا ما علم فيه بانحصار المصلحة فيما يتوقّف على النيّة فهو ما ثبت اشتراط النيّة فيه بنفس هذا الفرض ، الّذي مرجعه إلى الاستناد إلى دليل المصلحة المعلومة المتوقّفة على النيّة ، فلا يندرج ذلك أيضا في موضوع العرف والعادة فتأمّل.

مع إمكان [ أن يقال : ] أنّ الشكّ في المصلحة أو انحصارها كثيرا مّا يرتفع بملاحظة إطلاق الأمر المفيد لكون غرض الآمر حصول المأمور به كيفما اتّفق.

وقد يورد عليه أيضا : بانتقاض عكسه بالعبادة الّتي علم فيها بانحصار المصلحة في التوصّل إلى امتثال الأمر بغيرها كالطهارة ، وبانتقاض طرده بالواجبات الّتي ليست عبادة ولا ينحصر مصلحتها في شيء كوجوب توجيه الميّت إلى القبلة ، وللنظر فيهما مجال يظهر وجهه بأدنى تأمّل (1).

ومنها : ما يعمّ الواجبات التوصّليّة وأنواع العقود والإيقاعات بل المباحات الأصليّة ، وهو ما احتاج ترتّب الثواب عليه إلى النيّة فإنّ الواجب التوصّلي أيضا إذا اتي به بقصد الإطاعة وداعي امتثال الأمر يترتّب عليه الثواب فيكون ممّا يحتاج ترتّب الثواب عليه إلى

ص: 642


1- وذلك : لمنع انحصار المصلحة في الأوّل في جهة التوصّل ، لجواز أن يكون المقصود منه مصلحة اخرى متوقّفة على النيّة غير جهة التوصّل من حصول التقرّب وارتفاع الدرجة ونحو ذلك ، وممّا يفصح عن ذلك استحباب الطهارة لنفسه ورجحانها الذاتي الّذي لا مدخل فيه لجهة التوصّل ، فمن هنا يمكن لك أن تقول : بأنّ التوقّف على النيّة فيها إنّما هو من لوازم الجهة الذاتيّة لا الجهة التوصليّة العارضة لها. ومنع عدم انحصارها في الثاني ، لجواز انحصارها في الواجبات المذكورة في شيء معلوم غير متوقّف على النيّة كاحترام الميّت في المثال المذكور ، نعم الّذي لا يعلم به فيها ربّما يكون الحكمة الداعية إلى تخصيصها وسيلة إلى حصول تلك المصلحة المعلومة ، وهذه كما ترى ممّا لا مدخل لها في المصلحة الّتي هي عبارة عن الغاية الّتي قصد ترتّبها على الفعل ، والكلام في معلوميّة انحصار ذلك وعدم معلوميّته لا في معلوميّة كلّ ما له دخل في التشريع ، فتأمّل [ نقلناه عن التحرير الأوّل من التعليقة بخطّه رحمه اللّه تتميما للمرام ].

النيّة ، وما من عقد ولا إيقاع ولا مباح إلاّ وفيه جهة رجحان عند الشارع ومطلوبيّة له إذا اتي به بداعي تلك الجهة ترتّب عليه الثواب فيكون ممّا احتاج ترتّب الثواب عليه إلى النيّة ، وإلى ذلك يشير ما في النصّ من قول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في وصيّته لأبي ذرّ : « يا أباذرّ ليكن لك في كلّ شيء نيّة حتّى في النوم والأكل » (1) فالعبادة بهذا المعنى لا مقابل لها في طرف المعاملة.

في شرح الصحّة والفساد

ومن ذلك يعلم أنّ موضوع المسألة ليس هو العبادة بهذا المعنى بقرينة مقابلة المعاملة لها في كلامهم مع القول بالتفصيل في اقتضاء النهي للفساد وعدمه بينهما ، وينبغي القطع بعدم كون أحد المعنيين الأوّلين أيضا مرادا منها في محلّ البحث.

أمّا المعنى [ الأوّل ] فلئلاّ يخرج النهي عن المندوبات والواجبات التوصّليّة عن عنوان النهي في العبادات لجريان أدلّته في الجميع.

وأمّا الثاني : فلئلاّ يخرج الواجبات التوصّليّة عنه أيضا لجريان الدليل القائم في العبادات على اقتضاء الفساد فيها دون الدليل المقام على عدم اقتضاء الفساد في المعاملات.

فلا بدّ وأن يكون هنا معنى رابع إذا اريد من العبادة لتناول كلاّ من الواجب التعبّدي والواجب التوصّلي والمندوب وهو كلّما كان مبنى مشروعيّته على ورود الأمر به فالمعاملة حينئذ ما لم يكن مبنى مشروعيّته على ورود الأمر به وكان من قبيل العقود أو الإيقاعات الّتي رتّب عليها الشارع آثارا مخصوصة وهي بالقياس إلى تلك الآثار أسباب شرعيّة والآثار مسبّبات لها.

ثالثها : في شرح الصحّة والفساد لكون معرفتهما أيضا من مبادئ المسألة فنقول : إنّ الصحيح قد يفسّر : « بما يترتّب عليه أثره » فيعمّ كلاّ من صحيح العبادة وصحيح المعاملة ، وقد يخصّ ذلك بصحيح المعاملة فيفسّر صحيح العبادة : « بما وافق الأمر أو الشريعة » على اختلاف العبارة وينسب إلى المتكلّمين ، أو « بما أسقط القضاء » ويعزى إلى الفقهاء.

وقد يتوهّم كون كلّ من هذين فردا من المعنى الأوّل العامّ ، نظرا إلى أنّ الأثر في كلّ شيء إنّما يعتبر بحسبه فهو في العبادة إمّا موافقة الأمر أو سقوط القضاء وفي المعاملة شيء آخر ممّا يناسب المقام. (2)

ويظهر من بعض الأفاضل الارتضاء بذلك ولا خفاء في فساده ، فإنّ مبائن الشيء كلّيّا لا يصلح فردا له وظاهر أنّ موافقة الأمر أو سقوط القضاء بالقياس إلى فعل المكلّف

ص: 643


1- مكارم الأخلاق : 464 وبحار الأنوار 77 : 82.
2- هداية المسترشدين.

الموافق للمأمور به إذا اتي به على وجهه من اللوازم العقليّة الغير المقصودة من الخطاب أصالة ولا تبعا لا من الغايات المقصودة منه ، والمراد بالأثر المأخوذ في الحدّ ما يكون من قبيل الغايات المقصودة دون اللوازم العقليّة كالتقرّب ونحوه من المصالح الداعية إلى تشريع العبادة الباعثة على الأمر بها فيكون المعنيان من لوازم هذا المعنى ، ضرورة أنّ العبادة إذا ترتّب عليها أثرها المطلوب من تشريعها يستلزم كونها موافقة للأمر ومسقطة للقضاء على ما هو التحقيق من اقتضاء الأمر الإجزاء.

ثمّ قد عرفت بما نبّهنا عليه أنّ في تفسير صحيح العبادة اختلافا بين المتكلّمين والفقهاء ، وينبغي أن تعلم أنّه نزاع لفظي لا بمعنى كون كلّ مدّعيا لما لا ينكره صاحبه ، ولا بمعنى كون الاختلاف بينهما اختلافا في التأدية والعبارة مع اشتراكهما في المؤدّى ، ولا بمعنى رجوعه إلى الصغرى مع اتّفاق الفريقين على الكبرى ، ولا بمعنى كونه نزاعا في مسمّى اللفظ كما في تعيين معنى « الصعيد » وغيره من الموضوعات اللغويّة أو الشرعيّة ، بل بمعنى كونه اختلافا في جعل الاصطلاح ، على معنى أنّ كلاّ من الفريقين اصطلح اللفظ على أحد المتلازمين على ما هو التحقيق كما سيظهر وجهه من كون المعنيين متلازمين ، نظير ما لو اختلف زيد وعمرو في جعل اصطلاح في لفظ « الشمس » الموضوعة لغة وعرفا للجرم الفلكي المعهود الّذي يلزمه الضوء والحرارة ، فاتّخذها أحدهما اصطلاحا لنفسه في الضوء خاصّة والآخر اصطلاحا لنفسه في الحرارة.

والسرّ في عدم كونه لفظيّا بالمعنى الأوّل والثاني والثالث واضح ، وأمّا عدم كونه لفظيّا بالمعنى الرابع فلأنّ المسمّى الّذي يختلف في تعيينه إمّا لغوي كما في مسمّى « الصعيد » أو عرفي عامّ كما في مسمّى « القارورة » أو شرعي كما في ألفاظ العبادات المعنونة في مسألة الصحيح والأعمّ ، أو عرفي خاصّ كما في مسمّى « الكلام » و « الجملة » عند النحوي ، ولا سبيل فيما نحن فيه إلى شيء من ذلك.

أمّا الأوّل والثاني : فلأنّ « الصحيح » على ما ينساق منه عرفا في الاستعمالات الدائرة على لسان أهل اللسان هو ما سلم عن العيب والخلل ، ومن لوازم سلامته عن العيب أن يترتّب عليه الأثر المقصود منه ، وفي العبادات أن يوافق الأمر ويسقط به القضاء فيكون حقيقة فيه عرفا وكذلك لغة لأصالة عدم النقل ، وهذا ممّا لم يقع الاختلاف فيه بحسب اللغة ولا بحسب العرف ، مع عدم إمكان إرجاع اختلاف الفريقين إلى هذا المعنى لكونه عامّا

ص: 644

يجري في الأعيان والأفعال ونتائجها من المصنوعات وما عرفت اختلاف في صحيح العبادة لا غير ، مع أنّ العبادة ليس ممّا يتداوله أهل اللغة ولا العرف العامّ من حيث هو ليختلف في تعيين مسمّى صحيحها بحسبهما.

وأمّا الثالث : فلوضوح عدم رجوع كلام الفريقين إلى دعوى ثبوت الحقيقة الشرعيّة في لفظ « الصحيح » مطلقا ولا مضافا إلى العبادة ولم يدّعه أحد ، كيف وليس للشارع الحكيم تصرّف في معنيي « الصحّة » و « الفساد » عمّا بين الوضعيّات بالجعل والاعتبار وإن قلنا به فيما عداهما ، فكيف بتصرّفه في لفظيهما بالوضع والاستعمال.

وأمّا الرابع : فلظهور العبارات الحاكية لهذا الخلاف في كونه خلافا في ابتداء الاصطلاح لا في تعيين مصطلح من سبق ، فيكون اختلافا في جعل الاصطلاح واللازم من جعل الاصطلاح هو النقل واللازم من تعدّده الاشتراك بحسب العرف الخاصّ.

ويشكل : بأنّه ليس اختلافا في لفظ « الصحيح » بل هو اختلاف في صحيح العبادة مع أنّ الأصل عدم النقل وعدم الاشتراك.

ويمكن كون هذا اللفظ المركّب باعتبار المضاف من إطلاق الكلّي على الفرد والمضاف إليه بيان للخصوصيّة الغير المرادة من المضاف ، وكلام الفريقين في تفسير الفرد الخاصّ الّذي أطلق عليه اللفظ باعتبار المعنى العامّ اللغوي العرفي ، فالمتكلّم فسّره بموافقة الأمر والفقيه بإسقاط القضاء ، ومن ذلك ما قد يقال : من أنّ الصحّة والفساد في لسانهم ليسا منقولين عن المعنى اللغوي إلى المعنيين في الصحّة وما يقابلهما في الفساد ، بل إطلاقهما عليهما من باب إطلاق الكلّي على الفرد لأصالة عدم النقل المنحلّة إلى اصول كثيرة.

ويدفعه : عدم كون موافقة الأمر وإسقاط القضاء متّحدين مفهوما ومصداقا ولا أنّهما فردين من السلامة عن العيب.

نعم يمكن أن يقال - بالنظر إلى أنّ موافقة الأمر وإسقاط القضاء من اللوازم العقليّة - : برجوع كلام الفريقين إلى تعيين حكم العقل ، فزعم المتكلّم أنّه موافقة الأمر والفقيه أنّه إسقاط القضاء.

ويؤيّده أنّ الصحّة والفساد من الأحكام الشرعيّة وليسا من مجعولات الشارع فيكونان من الأحكام العقليّة ، وعلى هذا فالنزاع بينهما معنويّ لا أنّه لفظي حتّى بالمعنى الخامس.

ولكن يزيّفه : أنّ الصحّة بكلّ من معنييها ليست من الأحكام العقليّة المستقلّة المتأصّلة

ص: 645

بل من الأحكام التبعيّة الانتزاعيّة ، فإنّ المكلّف إذا أتى بالمأمور به على وجهه فهو لا محالة مشتمل على الامور المعتبرة في المأمور به الكلّي من الأجزاء والشرائط وهو معه لا يخاطب بفعله ثانيا في الوقت ولا في خارجه ، والعقل ينتزع منه باعتبار اشتماله على الامور المعتبرة في المأمور به مفهوما يعبّر عنه بموافقة الأمر ، وباعتبار أنّ المكلّف لا يخاطب معه بالفعل ثانيا ينتزع عنها مفهوما آخر يعبّر عنه بإسقاطه القضاء ، وهذان الأمران الانتزاعيّان لا تنافي بينهما لينازع في تعيينه بل هما مجتمعان ، والانتزاع العقلي حاصل فيهما معا ومعه لا معنى للنزاع في تعيين الحكم العقلي.

نعم يمكن تصوّر معنويّة النزاع على نهج آخر وهو أن يقال : برجوع نزاع الفريقين إلى تعيين ما يتحقّق به الصحّة بمعناها الأصلي اللغوي أو العرفي ، فالمتكلّم يراها متحقّقة بموافقة الأمر فما وافق الأمر عنده ما سلم من العيب ، والفقيه يراها غير متحقّقة بمجرّد ذلك بل لا بدّ في تحقّقها من إسقاط القضاء أيضا فالسالم من العيب عنده ما أسقط القضاء لا مجرّد ما وافق الأمر كيفما اتّفق.

ويؤيّده ما قيل : من أنّ الصحّة على رأي الفقيه أخصّ منها على رأي المتكلّم ؛ ومرجعه إلى ما في كلام غير واحد من تفريع الصلاة باستصحاب الطهارة على المذهبين ، من حيث إنّها صحيحة على تفسير المتكلّم لموافقتها الأمر دونه على تفسير الفقيه لعدم سقوط القضاء بها.

وما ذكر أيضا من ظهور الثمرة بينهما في النذر كما لو نذر أن يعطي من يصلّي صلاة صحيحة درهما ، فأعطاه لمن يصلّي بظنّ الطهارة فظهر له كونه فاقدا لها ، فيبرأ نذره على الأوّل لأنّه موافق للأمر دون الثاني لأنّه لا يسقط القضاء ، لوضوح أنّ أمثال هذه الامور لا تتفرّع على الامور الاصطلاحيّة بل على المعاني الواقعيّة لغويّة أو عرفيّة أو شرعيّة ، فلو لا النظر في الكشف عمّا يتحقّق به المعنى اللغوي لما كان لهذا التفريع ولا ترتيب الثمرة المذكورة وجه.

ويؤيّده أيضا أنّ المتكلّم نظره في نظائر المقام إنّما هو فيما يترتّب عليه الثواب والعقاب ولو كان أمرا ظاهريّا ، والفقيه نظره فيما يترتّب عليه اللوازم الشرعيّة والأحكام الفرعيّة تكليفيّة ووضعيّة ، فكلّ منهما جعل العبرة بما ناسب منظوره ، فغرض المتكلّم أنّ ما سلم من العيب الّذي يترتّب عليه الثواب هو ما وافق الأمر ولو ظاهرا ، وغرض الفقيه أنّ ما سلم من العيب الّذي يترتّب عليه الأحكام الفرعيّة - ولو وضعيّة - هو ما أسقط القضاء.

ص: 646

ومن ذلك يتبيّن أنّ هذا الكلام مع التفريع والثمرة المذكورين إنّما يستقيم إذا كان مراد المتكلّم بالأمر ما يعمّ الظاهري أيضا ومراد الفقيه بإسقاط القضاء إسقاطه واقعا الملازم لموافقة المأمور به الواقعي.

ولذا قيل : لو اريد بالأوّل خصوص الواقعي أو ما يعمّه والظاهري وبالثاني إسقاطه في الواقع أو ما يعمّه والإسقاط في الظاهر كان النسبة بينهما تساويا ، كما أنّه لو اريد بالأوّل خصوص الواقعي وبالثاني ما يعمّ النوعين انقلبت النسبة فيكون ما ذكره المتكلّم حينئذ أخصّ مطلقا ممّا ذكره الفقيه ، وقد يعكس هذه النسبة.

ويمكن بملاحظة ما ذكر تقرير هذا الكلام على وجه لا يبتني على تماميّة التفريع والثمرة المذكورين ، بأن يقال : إنّ غرض كلّ من الفريقين بما ذكر في معنى « الصحّة » إنّما هو بيان ما يتحقّق به الصحّة اللغويّة لا جعل اصطلاح في لفظ « الصحّة » غير أنّ كلاّ منهما أخذ في ذلك بما ناسب فنّه وتكلّم بما اقتضاه منظوره ، فالمتكلّم جعل المناط بما ينوط به الثواب والفقيه جعل المدار على ما يدور عليه الأحكام الفرعيّة ولو وضعيّة ، وإلاّ فلا مخالفة بين كلاميهما بحيث هنا مادّة تخلّف كما هو قضيّة التفريع والثمرة المذكورين ، ولا يستقيم ذلك إلاّ بأن يكون نظر كلّ منهما إلى الواقع أو إلى ما يعمّه والظاهر ، ولكن هذا إن تمّ لقضى بمنع تجدّد الاصطلاح المستلزم لمنع تحقّق النقل والاشتراك ولا يقضي بمعنويّة النزاع ، بل مقتضاه كونه لفظيّا ولكن بالمعنى الأوّل من المعاني الخمس المتقدّمة كما لا يخفى.

وينبغي أن يعلم أنّ هذا التوجيه لكونه منافيا للتفريع والثمرة المذكورين إنّما يتّجه على تقدير عدم كون المتعرّض لذكرهما الفريقين أو المتكلّم خاصّة سواء كان هو الفقيه فقط أو غيره من العلماء الخارجين عن الفريقين ، فإنّ ذكرهما على هذين التقديرين مبنيّ على توهّم كون مراد المتكلّم بالأمر ما يعمّ الظاهري ومراد الفقيه بإسقاط القضاء ما يكون كذلك في الواقع.

ويمكن منع ذلك حينئذ أمّا أوّلا : فلظهور الأمر في كلام كلّ أحد حيث أطلق في الواقعي فلا يعدل عنه إلى إرادة الأعمّ إلاّ لقرينة هي مفقودة في المقام.

وأمّا ثانيا : فلأنّ مراد المتكلّم لو كان أعمّ وكان الفقيه بصدد إبداء المخالفة له على وجه يتحقّق معه مادّة تخلّف بينهما كان الأنسب أن يعبّر عمّا اختاره بموافقة الأمر الواقعي قبالا لتعبير المتكلّم بموافقة الأمر على إطلاقه ليكون صريحا في معنويّة النزاع ، ولا يناسب

ص: 647

حينئذ العدول إلى ما ربّما يوقع في الوهم كونه لفظيّا خاليا عن الفائدة كما توهّمه جماعة ، وإن كان ظاهر الأكثر فهم كونه معنويّا كما يرشد إليه ما ذكروه في مقام التفريع وإبداء الثمرة.

وأمّا على تقدير كون المتعرّض لذكرهما الفريقين أو المتكلّم خاصّة ينهض ذلك قرينة على كون مراد المتكلّم بالأمر ما يعمّ الظاهري ومراد الفقيه بالإسقاط ما هو أخصّ منه ، وحينئذ لا محيص من التزام معنويّة النزاع ولو في زعمهما.

نعم يبقى الكلام حينئذ في صحّة التفريع المذكور والثمرة المذكورة القاضية بإصابتهما فيما زعماه من معنويّة النزاع أو عدمها القاضي بخطئهما في الزعم.

والحقّ بناء على ما يساعد عليه النظر هو الثاني.

والسرّ في ذلك ما قرّرنا تفصيله في ذيل مسألة الإجزاء ، وإجماله : امتناع التخلّف بين موافقة الأمر - ولو ظاهرا - وسقوط القضاء ، على معنى أنّ موافقة الأمر تلازم سقوط القضاء كما أنّ عدم سقوط القضاء يلازم عدم موافقة الأمر ، نظرا إلى أنّ الأمر يفيد الإجزاء إن ظاهرا فظاهرا وإن واقعا فواقعا ، فإن كان النظر في تفريع الصلاة باستصحاب الطهارة أو بظنّها إلى ما قبل انكشاف الخلاف بالنسبة إلى الاستصحاب أو الظنّ فكما أنّ موافقة الأمر حاصلة في مرحلة الظاهر فكذلك سقوط القضاء أيضا متحقّق في مرحلة الظاهر ، وإن كان النظر إلى ما بعد انكشاف الخلاف - كما هو ظاهر عبارة التفريع بل صريحها - كما أنّ القضاء بمعنى مطلق التدارك غير ساقط فكذلك موافقته أيضا غير حاصل ، وذلك لأنّ وجه اعتبار الأمارة استصحابا أو ظنّا أو غير هما ليس وجه الموضوعيّة لبطلان التصويب ، بل هي معتبرة على وجه الطريقيّة ، فالأمر الظاهري الشرعي المحرز بالأمارة لا يراد به أمر آخر في مقابلة الأمر الواقعي بل هو الأمر الواقعي الّذي يحرز بطريق شرعي ، ومعناه أنّ الطهارة الّتي هي شرط واقعي مأخوذ في المأمور به الواقعي تحرز بالاستصحاب أو بمطلق الظنّ ، فالمكلّف الآتي بالصلاة باستصحاب الطهارة أو ظنّها إنّما يأتي بها على أنّها المأمور به الواقعي ، أي على أنّها فرد من المأمور به الواقعي أحرز فرديّتها له بهذا الطريق الشرعي ، فإذا انكشف فساد الطريق وعدم مطابقته الواقع انكشف فساد مؤدّاه ومعناه عدم كون المأتيّ به فردا من المأمور به الواقعي ، وهذا بعينه هو معنى عدم موافقته الأمر ، فهذه الصلاة مع عدم كونها مسقطة للقضاء غير موافقة للأمر أيضا ، فقول الفقهاء بعدم سقوط القضاء حينئذ ليس من جهة أنّ الأمر قد لا يفيد الإجزاء بل من جهة انتفاء موضوع الإجزاء وهو الإتيان

ص: 648

بالمأمور به على وجهه فإنّ المفروض عدم حصول الإتيان به واقعا وظاهرا ، فيجب على المكلّف حينئذ الإتيان بالمأمور به الواقعي إعادة إن انكشف له الخلاف في الوقت ، أو قضاء إن انكشف بعد خروج الوقت ، سواء على القول بكون القضاء بالأمر الأوّل أو فرضا جديدا.

في أقسام المنهيّ عنه من العبادات والمعاملات

أمّا على الأوّل : فلبقاء المأمور به الواقعي المخاطب به في الذمّة.

وأمّا على الثاني : فلصدق الفوات.

وتوهّم عدم وجوبه على الأوّل إلاّ بدليل آخر لانتفاء الأمر وإلاّ كان تكليفا للغافل وهو قبيح.

يدفعه : وضوح المنع من كونه غافلا لما عرفت من انتفاء الموضوعيّة في مؤدّى الأمارة فلم يكن على المكلّف في الوقت إلاّ المأمور به الواقعي وهو الصلاة بالطهارة الواقعيّة ، والمكلّف ملتفت إلى توجّه الخطاب بها إليه ولذا كان إتيانه بها باستصحاب الطهارة أو ظنّها على أنّها الصلاة بالطهارة الواقعيّة ، وغفلته في عدم كون المأتّي به فردا منها وعدم موافقته لها لا في كونه مخاطبا بها ، فالأمر بها منجّز عليه في الوقت وهو ملتفت إليه ، والغفلة عن عدم كون شيء فردا للمأمور به الواقعي لا يوجب ارتفاع الأمر عنه ، خصوصا مع ملاحظة أنّ مرجع القول بكون القضاء بالأمر الأوّل إلى أنّ الخطاب ينحلّ إلى تكليفين :

أحدهما : التكليف بأصل الفعل.

والآخر : التكليف بإيقاعه في الوقت.

فإذا انكشف عدم حصول امتثال الثاني انكشف بقاء الأوّل في العهدة فوجب الخروج عنها.

وممّن صرّح بما حقّقناه في منع التفريع بعض الأفاضل بقوله بعد حكاية التفريع : « إن اريد بما وافق الشريعة ما وافقها بحسب الواقع وبما أسقط القضاء ما أسقطه كذلك لم يصحّ ما ذكر من التفريع ، لوضوح عدم موافقة ما اتي به من الصلاة للواقع وعدم إسقاطه القضاء كذلك ، وإن اريد موافقته للشريعة بحسب ظاهر التكليف فينبغي أن يراد إسقاطه القضاء كذلك إذ لا وجه للتفكيك بين التعبيرين.

وحينئذ فكما يصدق موافقة للشريعة كذلك يكون مسقطا للقضاء في ظاهر الشريعة ، وبعد انكشاف الخلاف كما يتبيّن عدم إسقاطه القضاء فكذلك يتبيّن عدم موافقته للشريعة أيضا فلا فرق بين التعريفين » انتهى.

رابعها : في بيان أقسام المنهيّ عنه من العبادات والمعاملات والإشارة إلى نبذة من

ص: 649

أمثلتها اقتفاء لإثر القوم وتبيانا لبعض الغفلات والاشتباهات.

فنقول : إنّ كلاّ من العبادة والمعاملة إمّا أن يكون منهيّا عنه لنفسه ، أو لجزئه ، أو لشرطه ، أو لوصفه الداخل ، أو لوصفه الخارج ، أو لمفارق متّحد معه في الوجود ، أو لمفارق غير متّحد معه في الوجود.

ووجه الانقسام : أنّ النهي عن العبادة أو المعاملة إمّا أن يكون لمفسدة في نفسها أو لمفسدة في غيرها ممّا يوجد معها ، والأوّل هو المنهيّ عنه لنفسه.

وعلى الثاني فالّذي يوجد مع العبادة أو المعاملة إن كان داخلا فيها فهو المنهيّ عنه لجزئه ، وإن كان خارجا عنها فإن كان ممّا يتبدّل بتبدّله في نظر الحسّ نوع العبادة والمعاملة أو شخصهما فهو المنهيّ عنه لوصفه الداخل ، وإلاّ فإن كان ممّا اعتبره الشارع في الصحّة فهو المنهيّ عنه لشرطه ، وإلاّ فإن كان من قبيل الصفات فهو المنهيّ عنه لوصفه الخارج ، وإلاّ فإن لم يتمايز مع العبادة أو المعاملة في الوجود الخارجي فهو المنهيّ عنه لشيء مفارق متّحد معه في الوجود ، وإن تمايز فهو المنهيّ عنه لمفارق غير متّحد معه في الوجود.

فظهر أنّ الفرق بين الجزء والشرط أنّ الأوّل داخل والثاني خارج ، والمراد بدخول الجزء دخوله في الجنس المقول على الكلّ كالركوع والسجود مثلا للصلاة والإيجاب والقبول للبيع فيقال على الجميع فعل المكلّف ، والمراد بخروج الشرط خروجه عن الجنس المقول على المشروط كالطهارة وكون المصلّي مستقبل القبلة مثلا في الصلاة ، وكمال المتعاقدين وملك العوضين مثلا في البيع ، لعدم كون شيء منها ونظائرها من مقولة فعل المكلّف كما هو واضح.

ومن هنا قد يقال في الفرق بينهما : إنّ الجزء ما يتوقّف عليه الكلّ في تعقّله وصدق الإسم عليه ، والشرط ما لا يتوقّف عليه المشروط في تعقّله ولا في صدق الإسم عليه ، إلاّ أنّه في العبادات مبنيّ على القول بكون ألفاظها أسامي للأعمّ.

وممّا بيّنّاه من ضابط الفرق بينهما ينقدح أنّ النيّة المعتبرة في العبادات المختلف في كونها جزءا أو شرطا بالشرط أشبه ، لعدم كونها من مقولة فعل الجوارح ويفصح عنه ثبوت حكم الشرط لها وهو المقارنة لتمام العمل ، ولذا اعتبر فيها الاستدامة الحكميّة على القول بالإخطار.

وممّا ذكرنا ارتفع الإشكال أيضا في طمأنينة الركوع والقيام بعد الركوع ، فإنّ الصلاة الّتي من مقولة فعل المكلّف ملتئمة عن حركات وسكنات ومن الحركات الركوع والذكر

ص: 650

فيه والقيام بعده ومن السكنات الطمأنينة حالها ، وإن اعتبرناها من واجبات الركوع والقيام بعده فلا تكون بالقياس إليهما إلاّ شرطا ، لخروجها عن ماهيّة الركوع والقيام والخارج عن الشيء لا يكون جزءا له.

وبالجملة هي بالقياس إلى الصلاة جزء لمشاركتها معها في قول فعل المكلّف [ عليها ] وبالقياس إلى الركوع والقيام شرط لعدم مشاركتها لهما في قول الركوع والقيام ، فهي ممّا يصدق عليه عنوان الجزء والشرط باعتبارين فلا منافاة.

وأمّا أمثلة الأقسام المذكورة ، فأمّا المنهيّ عنه لنفسه : فضابطه الكلّي في العبادة ما كان مفاد النهي المتعلّق بها على القول باقتضائه الفساد شرطيّة شيء لأصل التكليف بالعبادة أو مانعيّة شيء من التكليف بها كصلاة الحائض وصومها وصوم المسافر وصوم يوم النحر ، فإنّ النهي في الأوّل يفيد كون الطهر شرطا أو الحيض مانعا وكذلك الثاني ، وفي الثالث يفيد كون الحضر شرطا أو السفر مانعا ، وفي الرابع كون يوم النحر مانعا من أصل التكليف بالصوم.

وفي المعاملات (1) ما كان مفاد النهي المتعلّق بها على القول باقتضائه الفساد شرطيّة شيء لما هو من أركان المعاملة عقدا كان كالمتعاقدين والعوضين في عقود المعاوضة ، أو غيرها كالذابح في الذبح ، كبيع العبد وبيع السفيه وبيع الأعيان النجسة وبيع المغصوب وبيع المغشوش وذبح الذمّي ، والبيع وقت النداء إن لم يكن النهي فيه لتفويت الجمعة وإلاّ كان من المنهيّ عنه لشيء مفارق متّحد في الوجود ، فحرّيّة المتعاقدين وكمالهما والطهارة الذاتيّة في المبيع ومملوكيّته وخلوصه عن الخلط وإسلام الذابح وكون العاقد ممّن لم يشمله نداء الجمعة كلّها شروط راجعة إلى ما هو من أركان المعاملة بمقتضى النهي الدالّ على الفساد.

فقد أصاب بعض الأعلام في جعله صلاة الحائض من المنهيّ عنه لنفسه ، وإن أخطأ في جعله صوم يوم النحر وذبح الذمّي من المنهيّ عنه لوصفه اللازم إلاّ بالبيان الآتي ، كما أصاب صاحب كتاب الكواكب الضيائيّة في جعله يوم النحر من المنهيّ عنه لنفسه.

فالقول بأنّ النهي في صلاة الحائض تعلّق بها باعتبار وقوعها حال الحيض فالمنهيّ عنه هو الصلاة الكائنة حال [ الحيض ] فيكون من المنهيّ عنه لوصفه ليس على ما ينبغي ، فإنّ تغيير العبارة في تحرير المثال لا يغيّر حكم النهي ومفاده.

فنقول : إنّ النهي عن الصلاة الواقعة أو الكائنة حال الحيض على تقدير اقتضائه الفساد

ص: 651


1- عطف على قوله : « فضابطه الكلّي في العبادة الخ ».

يفيد كون حالة الحيض مانعة من أصل التكليف بالصلاة ، ولذا كانت الحائض باعتبار هذا النهي مخرجة من عموم ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) وقضيّة ذلك أن لا تكليف عليها بالصلاة أصلا ، وليس ذلك إلاّ لانتفاء شرط من شروط التكليف أو لوجود مانع من موانعه.

فالاحتجاج للقول المذكور أو تأييده بأنّ مفهوم الصيغة إنّما يرد على المادّة بعد اعتبار قيودها وحيثيّاتها كما في قولنا : « زيد أعلم من عمرو في الهيئة ، وعمرو أعلم من زيد في الطبّ » فإنّ معناه أنّ علم الهيئة في زيد أكثر من عمرو وعلم الطبّ في عمرو أكثر من زيد غير مجد في إثباته ، فإنّ أصل القاعدة مسلّمة غير أنّ القيود المعتبرة مع المادّة قد تكون من الأحوال الراجعة إلى المكلّف فيفيد مفهوم الصيغة الوارد عليها كونها من موانع التكليف أو كون أضدادها من شروطه ، ولذا كان المخرج من خطاب « أقيموا الصلاة » باعتبار مفهوم الصيغة المستلزم للفساد نوع المكلّف وأثره امتناع صدور ماهيّة الصلاة بوصف الصحّة من الحائض ما دامت حائضا.

وقضيّة ذلك كون المنهيّ عنه في هذا الفرض نفس الماهيّة الصلاتيّة الموجب نفيها لامتناع دخول جميع أفرادها في الوجود ، بخلاف المنهيّ عنه لوصفه فإنّ النهي لا يوجب امتناع دخوله في ضمن جميع أفراده في الوجود ، بل غايته على تقدير اقتضائه الفساد امتناع دخوله بهذا الوصف في الوجود خاصّة لا بغير هذا الوصف ممّا هو ضدّه أو نقيضه ، فالمكلّف مخاطب بفعله في ضمن غير هذا الوصف سواء كان الوصف من الوصف الداخل أو الخارج.

وبالتأمّل فيما ذكرناه من ضابط المنهيّ عنه لنفسه ظهر أنّ ما في كلام بعض الأعلام من جعل ذبح الذميّ من المنهيّ عنه لوصفه الداخل ليس بسديد ، ضرورة أنّ الذمّي ما دام ذمّيّا يمتنع منه ماهيّة الذبح على وجه الصحّة لا بعض أفرادها دون بعض.

فمحصّل الجواب عن الاحتجاج المتقدّم : أنّ القيد إذا كان من الأوصاف الراجعة إلى الفاعل يوجب امتناع دخول الماهيّة في الوجود بجميع أفرادها في حقّ هذا الفاعل إذا كان من الأوصاف الغير المقدور على رفعها ليقضي بخروج المكلّف عن خطاب الصحّة ، وذلك كوصف الحيض فإنّه يوجب امتناع دخول أفراد كلّ من نوعي الماهيّة في الوجود وهما الصلاة المتلبّسة بالحيض والصلاة المجرّدة عنه.

أمّا الأوّل : فبمقتضى النهي.

وأمّا الثاني : فلامتناع تكليف ما لا يطاق فإنّه من الحائض غير مقدور.

ص: 652

وبهذا البيان علم أنّ النهي عن صلاة الجنب ليس من هذا القبيل ، فلا تكون صلاته من المنهيّ عنه لنفسه ، لأنّ الممتنع دخوله في الوجود هو أفراد أحد النوعين ولذا كان الجنب مخاطبا بالصلاة لتمكّنه من رفع الجنابة (1).

وأمّا المنهيّ عنه لجزئه فهو إمّا لكون الجزء منهيّا [ عنه أو منشأ للنهي عن الكلّ ] لوجوده فيه على صفة مفسدة كشف عنها النهي ، فيستفاد منه كون الجزء المشروع له غيره ممّا لا يوجد فيه هذه الصفة ، أو لفقده مع عدم ثبوت جزئيّته قبل ورود النهي فيستفاد منه كونه جزءا كالنهي عن قراءة العزيمة في الصلاة ، والنهي عن الصلاة مع قراءة العزيمة ، والنهي عنها بلا تكبيرة أو طمأنينة في الركوع أو في القيام بعده هذا في العبادة.

وأمّا المعاملة فمثّل له بعض الأعلام ببيع الغاصب مع جهل المشتري على القول بأنّ البيع هو نفس الإيجاب والقبول الناقلين للملك ، قال : « وأمّا على القول الآخر فالأمثلة كثيرة واضحة » والظاهر أنّ التقييد بجهل المشتري لإخراج المثال عن كونه من المنهيّ عنه لنفسه ، لزعم أنّه عبارة عمّا تعلّق النهي بنفس المعاملة والبيع إذا كان نفس الإيجاب والقبول فتعلّق النهي بنفسه معناه تعلّقه بنفس الإيجاب والقبول أي بهما معا ، وإنّما يكون كذلك مع علم المشتري بالغصب لا مع جهله.

ويشكل : بأنّه لا يستقيم على الضابط الّذي ذكرناه للمعاملة المنهيّ عنها لنفسها ، وهو كون مفاد النهي على تقدير اقتضائه الفساد شرطيّة شيء لأحد أركان العقد ، وعلى هذا فالنهي عن بيع الغاصب على تقدير اقتضائه الفساد يفيد كون الملك شرطا في المبيع من غير فرق فيه بين علم المشتري وبين جهله.

وقضيّة ذلك كونه من المنهيّ عنه لنفسه على التقديرين ، مع أنّ قضيّة البيان المذكور كون المنهيّ عنه لنفسه عبارة عن مركّب نهي عنه بجميع أجزائه ، على معنى كون كلّ من أجزائه منهيّا عنه ، وهذا على فرض تسليمه فإنّما يسلّم لو كان المركّب بجميع أجزائه فعلا

ص: 653


1- قال في حاشية التحرير الأوّل من التعليقة بعد تلك العبارة : « وبهذا البيان يمكن اصلاح ما صنعه بعض الأعلام من جعله ذبح الذمّي من المنهيّ عنه لوصفه فإنّه في محلّه حتّى على الضابط الّذي قرّرناه فلا يتوجّه إليه ما قدّمناه ، وإن شئت قلت : إنّ الضابط في المنهيّ عنه لنفسه كون النهي على تقدير إخراجه المورد عن خطاب الصحّة بحيث استلزم خروجه خروج المكلّف عنه أيضا ، على معنى أن لا يكون المكلّف ما دام الوصف العنواني المأخوذ فيه مشمولا لخطاب الصحّة بالصلاة أصلا بخلاف الجنب فإنّه مخاطب بها لا محالة نعم منع عنها حال الجنابة لكون الطهارة الكبرى من شروط الصحّة فكما يجب فعلها فكذا يجب عليه تحصيل شرطها » ( منه ).

لمكلّف واحد وهو هنا فعلان لمكلّفين ، وكلّ منهما على تقدير علم المشتري منهيّ عن فعل نفسه لا عن فعل صاحبه ، فالبائع منهيّ عن الإيجاب فقط لا عن المركّب باعتبار الإيجاب وكذلك المشتري ، فلا تركيب في المنهيّ عنه فيكون الإيجاب منهيّا عنه لنفسه على التقديرين وكذلك القبول على أحد التقديرين.

وأمّا قوله : « وأمّا على القول الآخر فالأمثلة كثيرة واضحة » فأورد عليه : بأنّ القول الآخر هو أنّ البيع الإيجاب المقترن بالقبول ، فلا يتفاوت الحال بين القولين في هذا المثال بل هو من المنهيّ عنه لجزئه على كليهما.

وفيه أوّلا : أنّ هذا المعنى للبيع غير معهود منهم ولا أنّ القول به مذكور في أقوال المسألة.

وثانيا : أنّ البيع على هذا القول - إن سلّمنا وجوده - عبارة عن نفس الإيجاب واقترانه بالقبول قيد فيه ، فالقبول شرط خارج منه فلا جزء له على هذا القول يصلح متعلّقا للنهي ، فيكون الإيجاب حينئذ من المنهيّ عنه لنفسه على هذا القول ، فالإيراد على ما ذكره قدس سره بنحو ما ذكر ليس على ما ينبغي.

نعم يرد عليه : أنّ ذكر القول الآخر بصيغة المفرد في مقابلة القول المذكور غير واضح الوجه ، إذ المسألة ذات أقوال كثيرة :

منها : القول الّذي أشار إليه وهو على ما في المسالك لجماعة منهم النافع واللمعة.

ومنها : ما حكاه في المسالك عن آخرين كالشيخ والحلّي والعلاّمة في جملة من كتبه من أنّه : انتقال عين مملوكة من شخص إلى آخر بعوض مقدّر على وجه التراضي.

ومنها : ما عن ابن حمزة في الوسيلة واستقربه العلاّمة في المختلف من أنّه عقد على انتقال عين مملوكة أو ما هو في حكمها من شخص إلى غيره بعوض مقدّر على وجه التراضي.

ومنها : ما في الشرائع من أنّه : « اللفظ الدالّ على نقل الملك من مالك إلى آخر بعوض معلوم » بناء على كون إضافة العقد إلى البيع بيانيّة.

وعن المحقّق الثاني أنّه استقرب كونه نقل الملك عن مالك إلى غيره بصيغة مخصوصة.

واستوجهه بعضهم فيما حكي عنه تعليلا بكونه المفهوم عرفا وكونه مطّردا في جميع التصاريف.

وعن المصابيح تعريفه : « بإنشاء تمليك بعوض معلوم على وجه التراضي ». وكأنّه قدس سره تبع فيما عبّر المسالك حيث نقل فيه القول الأوّل ونسبه إلى جماعة والقول الثاني ونسبه

ص: 654

إلى آخرين ، فأراد من القول الآخر القول الثاني ، وحينئذ ففي فرض النهي عن البيع على هذا القول على وجه يكون من المنهيّ عنه لجزئه نوع خفاء كخفاء أمثلته ، فكيف يقال : إنّ أمثلته كثيرة واضحة؟

ويمكن توجيهه من وجهين ينشآن من اعتبار كون البيع بهذا المعنى مركّبا خارجيّا أو مركّبا عقليّا.

فعلى الأوّل يقال : بأنّ الانتقال ومثله النقل وإن كان بنفسه بسيطا غير قابل للتعدّد غير أنّه من جهة تعدّد متعلّقه من البائع والمشتري ومن المبيع والثمن يطرأه التعدّد بالعرض فيجري فيه أحكام المتعدّد ، فيكون النهي عن البيع لفقد كلّ شرط من الشرائط في المبيع أو الثمن من النهي عن الشيء باعتبار جزئه وهو الانتقال القائم بما فقد شرطه من مبيع أو ثمن ، كالنهي عن بيع ما لا يملك وبيع الأعيان النجسة وبيع المغشوش وبيع ما لا ينتفع به وما ليس بمعلوم وما ليس بمقدور على تسليمه وما أشبه ذلك ونحوها الأمثلة المتقدّمة ، لا باعتبار كون الإيجاب متعلّقا كما في الفرض المتقدّم ، لأنّ الإيجاب على هذا القول ليس بنفس البيع ولا جزئه بل هو شرط خارج عنه أو هو من مقولة الأسباب والمفروض أنّ النهي قد تعلّق بالبيع وهو الانتقال باعتبار جزئه وهو انتقال المبيع أو الثمن لا باعتبار شرطه أو سببه.

نعم يشكل هذا التوجيه من جهة أنّ متعلّق النهي كالأمر لا بدّ من أن يكون من مقولة فعل المكلّف والانتقال ليس منه ، بل هو وصف قائم بالعين الخارجيّة مسبّب عن الصيغة المركّبة من الإيجاب والقبول ، فلتصحيح النواهي المفروضة على القول المذكور لا بدّ من إرجاعها إلى السبب أو إلى جزئه من إيجاب أو قبول ، فلا يبقى فرق بين القولين في كون متعلّق النهي في الأمثلة المذكورة هو الإيجاب.

ويمكن دفعه : بأنّ الانتقال حينئذ من باب الأفعال التوليديّة الّتي منشؤها فعل المكلّف ، فلا داعي إلى صرف النهي عنه إلى سببه كما في سائر المسبّبات المتولّدة عن فعل المكلّف إذا تعلّق بها التكليف.

ولكن فيه بعد شيء آخر وهو عدم كون البيع على هذا القول عبارة عن مجموع الانتقالين ، بل ظاهر التعريف كونه عبارة عن انتقال المبيع فقط.

غاية الأمر اعتبار اقترانه بانتقال الثمن أخذا بمقتضى المقابلة المفيدة للعوضيّة.

وعلى الثاني يقال : بأنّ القيود المأخوذة في هذا التعريف من البداية إلى النهاية كلّها

ص: 655

فصول ، والفصل كالجنس جزء عقلي ، والمفروض أنّ كلاّ منها وإن لم يصلح متعلّقا للنهي لعدم كونه من مقولة فعل المكلّف إلاّ أنّه يصلح منشأ للنهي عمّا هو من مقولة الفعل وهو جنس التعريف ، فالنهي عن بيع ما ليس بعين أو ما ليس بعين مملوكة أو ما هو عين مملوكة لا بعوض أو ما هو عين مملوكة بعوض غير مقدّر أو ما هو عين مملوكة بعوض مقدّر لا على وجه التراضي نهي عن الكلّ لمفسدة في الجزء هذا.

وفيه أيضا كسابقه من التكلّف ما لا يخفى ، غير أنّه في مقام التوجيه ممّا لا محيص عنه إلاّ أنّه يمكن الخدشة فيه بخروجه عن معقد كلامهم في المنهيّ عنه لجزئه ، بناء على ظهوره في المركّب الخارجي وهذا على التوجيه المذكور ليس منه.

وأمّا المنهيّ عنه لشرطه : فالمراد منه كون الشرط بنفسه منهيّا عنه أو منشأ للنهي عن المشروط من جهة فقده أو وجوده على صفة منقصة كشف عنها النهي وأمثلته في العبادة : النهي عن التستّر بالمغصوب في الصلاة ، وعن التوضّىء أو الاغتسال لها بالنجس أو المضاف أو المغصوب ، والنهي عن الصلاة بلا طهارة أو إلى غير القبلة أو عاريا ، والنهي عنها بالساتر المغصوب أو النجس أو بالطهارة الحاصلة عن المغصوب وما أشبه ذلك.

وأمّا ما قد يورد عليه في المنهيّ عنه لفقد الشرط بأنّه خارج عن محلّ الكلام رأسا - لوضوح أنّ فقد الشرط موجب لفقد المشروط إجماعا بل ضرورة فلا يكون هذا النهي قابلا للنزاع في اقتضائه الفساد ، بل لا معنى للنزاع فيه لأنّ الفساد حاصل من غير جهته - فإنّما يتوجّه فيما لو كان الشرطيّة ثابتة قبل هذا النهي ، والغرض من هذا الفرض ما استفيد شرطيّته بهذا النهي على القول باقتضائه الفساد ، ولعلّه مراد من أطلق إدراجه في صور المنهيّ عنه لشرطه.

وفي المعاملة (1) : الذبح بغير الحديد في غير حال الضرورة ، والنهي عن بيع الملاقيح نظرا إلى أنّ القدرة على التسليم حال البيع شرط له ، والنهي عن بيع الغاصب مع علم المشتري على القول بكون البيع نفس الإيجاب والقبول بل على القول الآخر أيضا ، وكلّ ما أشرنا إليه من الأمثلة على القولين من واد واحد ويصلح الجميع مثالا للمنهيّ عنه لفقد شرطه.

وأمّا المنهيّ عنه لوصفه اللازم : فقد عرفت عند التقسيم معياره وبيّنّا ثمّة ضابط الوصف اللازم ، وحاصله : أنّ الوصف اللازم عبارة عمّا يميّز العبادة أو المعاملة بحيث يتبدّل بتبدّله

ص: 656


1- عطف على قوله : « وأمثلته في العبادة الخ ».

النوع أو الشخص في نظر الحسّ خاصّة.

وإنّما قيّدنا به دفعا لما عسى أن يورد من : أنّ العبرة في كون شيء مميّزا للشيء بأنّه إذا اضيف إلى الجنس أو النوع العاليين كان مقسّما ، وهذا أمر مشترك بين الوصف الداخل والشرط والوصف الخارج ، ضرورة أنّ الطهارة أيضا بالقياس إلى الصلاة ممّا يقسّمها إلى ما كان بطهارة وما كان بغير طهارة ، وعدم الإذن اللاحق بكون الصلاة ممّا يقسّمها إلى ما كان عن كون مأذون فيه وما كان عن كون غير مأذون فيه ، فلا وجه لما ذكر في التقسيم من معيار الفرق بينه وبينهما لانتقاض طرد الضابط المذكور بالشرط والوصف الخارج.

فإنّ التقسيم الحاصل من إضافة الشرط أو الوصف الخارج تقسيم للعبادة في نظر العقل ، والمعتبر فيما ذكرناه من المعيار والضابط هو الانقسام في نظر الحسّ ، وذلك في العبادة كالجهر والإخفات اللاحقين للصلاة ، والترتيب والارتماس اللاحقين للغسل ، وصدور الفعل من الفاعل الفلاني ووقوعه في الزمان الفلاني أو المكان الفلاني وكون الصوم يوم الخميس ، فإنّ الكلّ ممّا يميّز العبادة في نظر الحسّ ، على معنى أنّه يتبدّل بتبدّله نوع العبادة أو شخصها بنوع أو شخص آخر في نظر الحسّ ، فالكلّ من الأوصاف اللازمة.

والفرق بين الأوّلين والثلاث أو الأربع الأخيرة أنّ كلاّ من الأوّلين من لوازم الماهيّة في الوجود الخارجي ويلزم منه تبدّل النوع بتبدّله ، وكلّ من الأخيرة من لوازم الشخص ومشخّص للماهيّة والمشخّص للماهيّة ما يتبدّل الشخص بشخص [ آخر ] بخلاف الشرط والوصف الخارج لعدم كونهما من لوازم الماهيّة في الوجود الخارجي ولا من لوازم الشخص ومشخّصات الماهيّة ولذا لا يظهر أثرهما على الحسّ.

فبما ذكرناه ظهر أمثلة هذا القسم في العبادة وإن أمكن الخدشة في الجهر والإخفات بكونهما من لواحق القراءة في الصلاة وهي جزء لها ، فالنهي المفروض عن الصلاة من جهتها نهي عنها لجزئها باعتبار وصفه اللازم لا أنّه نهي عنها لوصفها اللازم.

وأمّا المعاملة فقد مثّل له بعض الأعلام - مضافا إلى النهي عن ذبح الذمّي - بالنهي عن البيع المشتمل على الربا ، والنهي عن بيع الحصاة وهو أن يقول : « بعتك ثوبا من هذه الأثواب والمبيع ما وقع عليه هذه الحصاة » فإنّ النهي عن هذا البيع لوصفه الّذي هو كون تعيين المبيع فيه بهذا النهج.

ويشكل ذلك بالنظر إلى ما ذكرناه في ضابط الوصف الداخل من كونه موجبا للتمييز

ص: 657

في نظر الحسّ ، وغاية ما يحصل هنا من التمييز بواسطة الاشتمال على الربا أو وقوع الحصاة إنّما هو تمييز للمبيع والمقصود اعتبار الوصف اللازم في البيع دون متعلّقه.

إلاّ أن يقال : إنّ البيع عبارة عن أمر معنوي لا يدرك بالحسّ بل المدرك به متعلّقه من المبيع أو الثمن فيجوز لحوق ذلك الوصف له بالعرض والمجاز ، ولكنّه مع بعده وافتقاره إلى التكلّف لا يتمّ إلاّ إذا جعلنا البيع عبارة عن النقل أو الانتقال دون العقد أو اللفظ أو نفس الإيجاب والقبول.

وأمّا المنهيّ عنه لو صفه الخارج : ففي العبادة كالنهي عن الصلاة في الدار المغصوبة ، نظرا إلى كون هذه الأكوان غصبا وغير مأذون فيه ليس من مقوّمات الصلاة ولا من مميّزاتها ولا من مشخّصاتها ولذا لا يتبدّل بزواله في الأثناء نوع الصلاة ولا شخصها في نظر الحسّ ، وإن كان كونها في هذه الدار من جملة المشخّصات ، فإنّ النهي عنها لم ينشأ عن كونها في هذه الدار بل عن كون كونها في هذه الدار غير مأذون فيه.

وفي المعاملة كالنهي عن ذبح مال الغير ، وعن بيع العنب ليعمل خمرا ، وعن بيع الخشب ليعمل صنما ، وعن بيع السيف مثلا ليقتل به مسلما وما أشبه ذلك ، فإنّ كون الحيوان مال الغير إذا زال حال الذبح لم يتبدّل به شخص الذبح ، وقصد عمل الخمر أو الصنم أو قتل المسلم إذا زال حال بيع العنب أو الخشب أو السيف لم يتبدّل به شخصه.

أمّا المنهيّ عنه لشيء مفارق متّحد معه في الوجود : ففي العبادة كالنهي عن الغصب الّذي قد يجامع الصلاة ويتّحد معها في الوجود على التحقيق المتقدّم في البحث السابق.

وفي المعاملة كالنهي عن المكالمة مع الأجنبيّة الّتي قد تجامع البيع بالصيغة معها وتتّحد معه في الوجود ، والبيع وقت النداء إن رجع النهي إلى تفويت الجمعة وهو قد يجامع البيع ويتّحد معه في الوجود.

وأمّا المنهيّ عنه لشيء مفارق غير متّحد في الوجود : ففي العبادة كالنهي عن النظر إلى الأجنبيّة الّذي قد يوجد حال الصلاة ، وفي المعاملة كالنهي عنه أيضا على فرض تحقّقه في البيع.

ثمّ إنّه لا إشكال في كون المنهيّ عنه لنفسه أو لجزئه أو لشرطه أو لوصفه الداخل أو الخارج من الأقسام السبع المذكورة داخلا في عنوان المسألة ومحلاّ للنزاع فيها.

وأمّا ما نهى عنه لمفارق متّحد أو غير متّحد فقد يقال : بأنّ الأوّل منهما خارج عن هذه المسألة وداخل في المسألة السابقة ، كما أنّ الثاني منهما خارج عن المسألتين.

ص: 658

ويشكل : بأنّه لو كان مفروض هذين القسمين ما لو تعلّق النهي بالأمر الخارج مقيّدا بالعبادة أو المعاملة كأن يقول : « لا تغصب في الصلاة » أو « لا تنظر إلى الأجنبيّة فيها » أمكن كونهما من أفراد المسألة ويجري فيهما النزاع ويكون مفاد النهي على القول باقتضائه الفساد مانعيّة الشيء المفارق ، نظير ما لو قال : « لا تكفّر في الصلاة ، أو لا تضحك فيها ، أو لا تبك للدنيا فيها » وما أشبه ذلك ممّا يستفاد منه قاطعيّة قواطع الصلاة.

المراد من النهي في عنوان المسألة ما يعمّ النهي بالصيغة وبالمادة

وخامسها : أنّ المراد من النهي في عنوان المسألة ما يعمّ النهي بالصيغة والنهي بالمادّة كنفس هذا اللفظ مثل ما لو ورد في الروايات من قوله : نهى النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم عن صلاة الحائض (1) أو عن الصلاة بلا سورة ، أو عن الصلاة بلا طهارة (2) أو عن صلاة الظهر جهرا (3) أو عن الصلاة في المكان المغصوب ، أو عن بيع المغصوب (4) أو عن البيع وقت النداء (5) أو عن الذبح بغير حديد (6) ونحو ذلك ، وما هو بمعناه كلفظ « التحريم » مثل ما لو ورد من قوله : « حرّمت العزيمة في الصلاة » (7) ونحوه قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ) (8) بناء على كون الربا عبارة عن البيع المشتمل على الزيادة في المتجانسين من المكيل والموزون.

ثمّ المراد منه على كلّ تقدير ما يعمّ النفسي والغيري والتوصّلي بدليل ما ذكروه في بحث الضدّ من ظهور ثمرة القولين بدلالة الأمر بالشيء على النهي عن الضدّ في فساد الضدّ إذا كان عبادة وعدمه ، فإنّ النهي المستفاد من الأمر بالمضيّق غيريّ لكونه لمفسدة في ترك المضيّق [ و ] توصّلي لكونه للتوصّل إلى فعل المضيّق.

وقضيّة إطلاق كلامهم في ذكر هذه الثمرة بملاحظة الأقوال في دلالة الأمر بالشيء على النهي عن الضدّ كونه أعمّ من الأصلي والتبعي ، لأنّ من أقوال هذه المسألة قول من يقول بالدلالة من باب الاستلزام المعنوي باعتبار قاعدة المقدّمة ، والنهي اللازم من وجوب المقدّمة - على التحقيق المتقدّم في بحث المقدّمة من كون الوجوب تبعيّا - تبعي.

وهل المراد من النهي خصوص التحريمي أو ما يعمّه والتنزيهي؟ وجهان : من

ص: 659


1- الوسائل 2 : 585 ، ح 1 و 2.
2- كنز العمّال ، ح 26006 ، الوسائل 1 : 279 وعوالي اللآلي 2 : 167.
3- من لا يحضر 1 : 308 والمستدرك 4 : 199 ، باب حدّ الإخفات.
4- الوسائل 3 : 424 ، الباب 2 من أبواب مكان المصلّي.
5- الوسائل 5 : 86 والمصنّف ( عبد الرزّاق ) 3 : 178.
6- دعائم الإسلام 2 : 176 ، المستدرك 16 : 131 والبحار 65 : 329.
7- الوسائل 4 : 779.
8- البقرة : 275.

الأقوال في مسألة دلالة النهي على الفساد

ثالثها : يدلّ في العبادات ، لا في المعاملات . وهو مختار جماعة ، منهم المحقّق والعلاّمة.

_______________________________

اختصاص التمثيلات بما هو من قبيل الأوّل ، وممّا ذكروه في مسألة اجتماع الأمر والنهي من نقض المجوّزين لاجتماعهما منع المانعين بالعبادة المكروهة المبنيّ على حمل النواهي المتعلّقة بها على الكراهة المصطلحة بزعم جواز اجتماعها مع الوجوب أو الاستحباب.

ودفع المحقّقين من المانعين النقض بالتأويل في تلك النواهي إمّا بإرجاعها إلى أمر خارج من العبادة ، أو بصرفها عن الكراهة المصطلحة إلى الإرشاد إلى أقلّيّة الثواب جمعا بينها وبين ما دلّ من النصّ أو الإجماع على صحّة تلك العبادات ، بزعم أنّه لولاه لزمها فساد تلك العبادات لاستحالة اجتماع الكراهة المصطلحة مع الوجوب أو الندب لمكان المضادّة فيما بينهما.

وقضيّة النقض المذكور مع دفعه على الوجه المذكور كون دلالة النهي التنزيهي على الفساد أيضا مختلفا فيه ، فتأمّل لبقاء الإشكال في إدراج ذلك بمقتضى هذه الكلمات.

ونحوه إدراج النهي التبعي بمقتضى الكلمات المتقدّمة [ في ] محلّ البحث [ فإنّه ] ممّا لا يساعد عليه أقوال المسألة ، لأنّها على ما يأتي تفصيلها دائرة نفيا وإثباتا فيما بين الدلالة لغة والدلالة شرعا ، والنهي التنزيهي كالنهي التبعي على تقدير اقتضائه الفساد فإنّما يقتضيه بحكم العقل من جهة أنّه لولاه لزم اجتماع المتضادّين في محلّ واحد شخصيّ وهو محال.

ومن الأفاضل من قال بالصحّة مع النهي بالتزام الترتّب وجعل الأمر بالموسّع مشروطا بالعصيان بترك المضيّق.

ونحن قد أشبعنا الكلام في إبطال تلك الدعوى في غير موضع وذكرنا ملخّص ما يرد عليه في مقدّمات البحث السابق.

* عزاه الفاضل التوني إلى المحصول وكثير من المتأخّرين منّا مضافا إلى المحقّق والعلاّمة اللذين نقله عنهما المصنّف ، وبعض الأعلام إلى أكثر أصحابنا وبعض العامّة واختاره أيضا.

وأمّا أوّل الأقوال : وهو الدلالة فيهما مطلقا فعن الرازي أنّه حكاه عن بعض أصحابه

ص: 660

واختلف القائلون بالدلالة ، فقال جمع منهم المرتضى : إنّ ذلك بالشرع* لا باللّغة. وقال آخرون : بدلالة اللّغة عليه أيضا ،

_______________________________

وعن النهاية أنّه حكاه عن جمهور فقهاء الشافعيّة ومالك وأبي حنيفة والحنابلة وأهل الظاهر كافّة وجماعة من المتكلّمين.

وثانيها : وهو عدم الدلالة مطلقا فعن الرازي أنّه نقله عن أكثر أصحابه ، وعن المحصول أنّه نقله عن أكثر الفقهاء ، وعن الآمدي أنّه نقله عن أكثر المحقّقين ، وعن النهاية أنّه حكاه عن جماعة من الأشاعرة كالغفال والغزالي وغيرهما وجماعة من الحنفيّة وجماعة من المعتزلة كأبي عبد اللّه البصري وأبي الحسين الكرخي والقاضي عبد الجبّار.

* ونسب إلى ابن الحاجب أيضا ، والقول بأنّ ذلك من جهة اللغة هو الّذي تقدّم الإشارة إلى أهله حين نقل أوّل الأقوال ، ونحو هذا التفصيل وقع في القول بالدلالة عليه في العبادات فقط مطلقا.

فإنّ منهم من أثبتها لغة ومنهم من أثبتها شرعا.

ثمّ إنّ هاهنا تفاصيل اخر أشار إليها بعض الأفاضل فجعل أقوال المسألة ما يرتقي إلى أحد عشر.

ومن التفاصيل ما لم يتعرّض لذكره وهو ما اختاره شيخنا البهائي في الزبدة من أنّه في العبادة لعينها أو جزئها أو شرطها يدلّ على الفساد.

وقضيّة إطلاق كلامه كون الدلالة باعتبار اللغة ، كما أنّ قضيّة ظاهر كلامه عدم الدلالة عليه في المعاملات مطلقا.

ومن التفاصيل الّتي ينبغي الالتفات إليها ما فصّل في المعاملات بين ما لو كان مقتضي الصحّة فيه ممّا يفيد الحكم التكليفي المستلزم للحكم الوضعي من حلّيّة أو وجوب أو ندب كما في : ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (1) فالنهي الدالّ على التحريم فيه يستلزم الفساد ، وما لو كان مقتضى الصحّة ممّا يفيد الحكم الوضعي فقط كما في : « البيّعان بالخيار ما لم يفترقا » (2) و « إذا التقى الختانان وجب المهر » (3) ونحوه فلا يقتضي النهي فيه الفساد.

ص: 661


1- البقرة : 275.
2- الكافي 5 : 170 ، باب الشرط والخيار في البيع ، ح 6.
3- الكافي 6 : 199 ، باب ما يوجب المهر كلاّ ، ح 1 و 2 و 3.

والأقوى عندي : أنّه يدلّ في العبادات بحسب اللّغة والشرع دون غيرها مطلقا*. فهنا دعويان.

_______________________________

* بل الحقّ أنّه يدلّ عليه فيهما معا في الجملة إلاّ إذا كان في المعاملة تحريميّا غيريّا أصليّا كان أو تبعيّا ، أو كان تحريميّا مطلقا متعلّقا في العبادة بالخارج الغير المتّحد معه في الوجود ، أو بشرط لا ينوط حصوله بقصد الامتثال ، أو في المعاملة بالخارج مطلقا اتّحد في الوجود أو لم يتّحد.

وتوضيح هذا التفصيل يستدعي التكلّم في مقامين :

المقام الأوّل : النهي المتعلّق بالعبادة

المقام الأوّل

في النهي المتعلّق بالعبادة

فنقول : النواهي المتعلّقة بالعبادات بالمعنى المتقدّم في ذيل الأمر الثاني تتصوّر على وجهين :

أحدهما : كونها إرشاديّة ، كما يفصح عنه عمل العلماء في إفساد العبادات بمجرّد التعلّق بتلك النواهي ، فيراد بها بيان ما هو حقيقة المراد من الأمر والمأمور به وإرشاد المكلّف إلى مورد الصحّة وتمييزها عمّا عداه ممّا يتخيّل ظنّا أو وهما كونه من موردها.

وثانيهما : كونها تحريميّة موجبة لاستحقاق العقاب على مخالفتها ، كما عليه مبنى متفاهم القوم في أكثر الاستدلالات الواردة في تلك المسألة.

فعلى الأوّل : فقضيّة الإرشاد اقتضاؤه الفساد في جميع الأقسام السبع المتقدّمة حتّى ما كان منه لأمر خارج غير متّحد في الوجود.

غاية الأمر أنّه يختلف مفاده على حسب اختلاف تلك الأقسام ، فإن تعلّق بها لنفسها كان مفاده كون الوصف الراجع إلى المكلّف أو المكلّف به من موانع أصل التكليف المستلزم لكون خلاف ذلك الوصف شرطا فيه ، كنهي الحائض عن الصلاة والصوم ونهي المسافر عن الصوم ، والنهي عن صوم يوم العيد ونحو ذلك.

وإن تعلّق بها لجزئها فإن كان لفقد ما يصلح كونه جزءا كان مفاده جزئيّة ذلك المفقود كالأمر المتعلّق بما يصلح كونه جزءا ، وإن كان لوجوده على صفة خاصّة كان مفاده كون المعتبر في الجزء غير الموصوف بتلك الصفة ككون السورة مثلا عزيمة ، من غير فرق في

ص: 662

ذلك بين تعلّقه بنفس ذلك الجزء مقيّدا بالعبادة أو بالعبادة مقيّدة به.

وإن تعلّق بها لشرطها فإن كان لفقدان ما يصلح شرطا كان مفاده شرطيّة المفقود كالأمر المتعلّق بما يصلح لكونه شرطا ، وإن كان لوجوده على صفة خاصّة كان مفاده اعتبار خلوّ الشرط عن هذه الصفة من غير فرق فيه أيضا بين تعلّقه بنفس الشرط مقيّدا بالعبادة أو بالعبادة مقيّدة به.

وإن تعلّق بالوصف الداخل كان مفاده كون الهيئة المعتبرة ما حصلت بخلاف هذا الوصف ، كما لو قال : « لا تصلّ الظهر جهرا » وإن تعلّق بالوصف الخارج أو بأمر خارج متّحد أو غير متّحد في الوجود كان مفاده كون هذه الامور من مقولة الموانع من المكلّف به أو القواطع له كما في الضحك والكلام والبكاء للدنيا ، وقضيّة ذلك تعيّن كون المكلّف به الّذي يلحقه وصف الصحّة ما خلى عن هذه الأمور ، فكلّ هذه المعاني المستفادة من النهي الإرشادي تشارك في استلزام الفساد بالمعنى المتنازع فيه بالقياس إلى العبادة.

وعلى الثاني : مقتضاها باعتبار الوضع اللغوي أو العرفي حرمة المورد كائنا ما كان ، وهي كما ترى ليست بعين الفساد الّذي هو في العبادة عبارة عن عدم موافقة الأمر ، ولا أنّه جزء منها ولا لازما لفظيّا لها بحيث يدلّ عليه اللفظ التزاما باللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ أو الأعمّ ، فبطل بذلك القول بدلالة النهي في العبادات عليه لغة بل شرعا أيضا ، إلاّ أن يكون ذلك لفهم التخصيص عرفا المستند إلى الوضع النوعي التركيبي الثابت للمخصّص والمخصّص ، فيفهم بملاحظة النهي التحريمي خروج المورد عن عموم الدليل المقتضي للصحّة بمعنى موافقة الأمر ك- ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (1) و ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) (2) من باب التخصيص على حدّ ما يفهم عرفا من تخصيص قوله : « أكرم العلماء » بقوله : « لا تكرم زيد العالم » وإن كان مبنى فهم العرف المضادّة بين الوجوب أو الندب والحرمة واستحالة اجتماع المتضادّين في محلّ واحد فيختصّ فهم التخصيص بما لو كان مورد النهي نفس العبادة كما في المنهيّ عنه لنفسه كقوله : « لا تصلّ الحائض ، أو لا تصوم الحائض ، أو لا يصوم المسافر أو لا تصم يوم العيد » أو المنهيّ عنه لجزئه أو لشرطه لفقدان الجزء أو الشرط أو وجوده على صفة منقصة كقوله : « لا تصلّ بلا قراءة سورة ، أو بلا ساتر ، ولا تصلّ مع قراءة العزيمة أي صلاة مشتملة على قراءة العزيمة ، ولا تصلّ بساتر مغصوب » ونحو ذلك ، أو المنهيّ عنه لوصفه

ص: 663


1- البقرة : 110.
2- البقرة : 185.

الداخل أو الخارج إذا أخذ الوصف قيدا كقوله : « لا تصلّ الظهر جهرا ، أو لا تصلّ في الدار المغصوبة » فلا يتمّ في الأقسام المذكورة لو كان مورد النهي نفس الجزء أو الشرط أو الوصف الداخل أو الخارج كقوله : « لا تقرأ العزيمة في الصلاة ، أو لا تستّر بالمغصوب في الصلاة ، أو لا تجهر بالقراءة في الصلاة ، أو لا تكن في الدار المغصوبة في الصلاة » كما لا يتمّ فيما نهي لأمر خارج متّحد أو غير متّحد.

اللّهمّ أن يدّعى انفهام رجوع النهي عرفا في نحو الأمثلة المذكورة إلى العبادة مقيّدة بالجزء أو الشرط أو الوصف ، فتكون في متفاهم العرف بمعنى « لا تصلّ صلاة مشتملة على قراءة العزيمة ، ولا تصلّ بالساتر المغصوب ، ولا تصلّ جهرا ، ولا تصلّ في الدار المغصوبة » ثمّ يفهم التخصيص.

وهذا على فرض تسليمه لا يتمّ في المنهيّ عنه لأمر خارج متّحد أو غير متّحد في الوجود كقوله : « لا تغصب » أو « لا تنظر إلى الأجنبيّة » مثلا بعد قوله : « صلّ » إلاّ أن يدّعى في الأوّل انفهام التخصيص في محلّ الاجتماع لصيرورة الغصب حينئذ متّحد الكون مع الصلاة فتفسد لاستحالة اجتماع الأمر والنهي ، فلا يتمّ في الثاني إذ النهي عن أمر خارج غير متّحد مع العبادة لا يستحيل اجتماعه مع الأمر بها لتعدّد متعلّقيهما ذهنا وخارجا فلا قاضي بالفساد من عقل ولا عرف.

وقد لا يجري الاعتبار المذكور فيما نهي لشرطه إذا كان الشرط ممّا لا ينوط حصوله بقصد الامتثال كالنهي عن غسل الثوب أو البدن بالماء المغصوب مثلا كقوله : « لا تغسل ثوبك أو بدنك للصلاة بالماء المغصوب » فإنّ مثل هذا النهي لا يقضي بفساد العبادة أيضا ، نظرا إلى أنّ الشرط عند التحقيق إنّما هو طهارة الثوب أو البدن بأيّ نحو حصلت ، والنهي قد تعلّق بما هو من مبادئها فغاية ما هنالك حصول المبدأ على وجه الفساد لانتفاء الأمر من جهة طروّ النهي وهو لا يقضي بفساد نفس الشرط ، لعدم إناطة حصوله بقصد امتثال الأمر في الإتيان بالمبدأ أعني الغسل بالمغصوب ، كما هو الحال في الطهارة عن الحدث صغيرا كان أو كبيرا لعدم حصولها بدون قصد امتثال الأمر بالمبدأ وهو الوضوء والغسل ، فيفسد كلّ منهما بالماء المغصوب لانتفاء الأمر بواسطة النهي.

وإذ قد عرفت أنّ النهي في العبادة يتصوّر على وجهين فهو على أوّلهما يقتضي الفساد مطلقا.

وعلى ثانيهما يقتضيه إلاّ في المنهيّ لأمر خارج غير متّحد ، وفي المنهيّ عنه لشرطه

ص: 664

إذا كان الشرط لا ينوط حصوله بقصد امتثال الأمر بل يحصل وإن لم يكن أمر أو كان ولكن لم يقصد امتثاله.

فاعلم : أنّ الأصل في النهي حيثما ورد مطلقا أن يكون تحريميّا كما سبق تحقيقه في محلّه ، كما أنّ الأصل في الأمر حيثما ورد مطلقا كونه إيجابيّا.

وهل الأصل فيه حيثما وقع في حيّز العبادة كونه إرشاديّا أو تحريميّا؟ ومرجع ذلك إلى أنّ وقوعه في حيّز العبادة هل ينهض قرينة صارفة له عن التحريم إلى إرادة الإرشاد في نظر العرف ، كوقوع الأمر عقيب الحظر في كونه في نظر العرف قرينة على إرادة الرخصة ورفع الحظر أو لا؟ وهذا الكلام لا يختصّ بالنهي بل يجري في الأمر أيضا إذا وقع في حيّز العبادة.

ويظهر ثمرة هذا الأصل في أمرين :

أحدهما : ما تقدّم الإشارة إليه من أنّ مقتضى كونه إرشاديّا فساد العبادة في جميع صوره من دون استثناء شيء منها بخلاف ما إذا كان تحريميّا فإنّه يستثنى منها صورتان.

وثانيهما : الفرق في اقتضاء الفساد بين العالم العامد وغيره وعدمه ، فإنّه إذا كان إرشاديّا واقتضى الفساد لا يتفاوت فيه الحال بين العالم والعامد والجاهل والناسي والساهي بل المختار والمضطرّ إلاّ ما ثبت صحّته بالدليل باعتبار دلالته على كون الشيء شرطا علميّا أو اختباريّا وكذلك الجزء والمانع ، بخلاف ما إذا كان تحريميّا فإنّه لا يقتضي الفساد إلاّ إذا كان فعليّا ، فلا فساد في حقّ الجاهل والناسي والساهي والمضطرّ لاستلزام هذه الأحوال ارتفاع النهي الفعلي.

فالّذي يساعد عليه متفاهم العرف في الأوامر الجزئيّة والنواهي الجزئيّة المتعلّقة بالعبادات بعد ما ورد فيها من عمومات أو مطلقات مقتضية للصحّة فيها على جهة العموم - وفاقا لغير واحد من مشايخنا العظام - كونها إرشاديّة مرادا بها الكشف عن الواقع وتميّز مورد الصحّة عن غيره ، دفعا لتوهّم عمومها لغيره أيضا نظرا إلى عموم أو إطلاق دليلها بحسب الظاهر ، ومحصّله يرجع إلى بيان تفاصيل ما أجمله الخطاب ولو من جهة ظهوره عموما أو إطلاقا فيما ليس بداخل في المراد فعلا أو فاعلا بإخراج ما ليس منه عن تحته بتخصيص أو تقييد ، وهذا ظاهر لا سترة عليه فلا يحتاج إلى بيان.

وبالجملة أهل العرف لا يفهمون من الأوامر والنواهي الواردة بعد العمومات أو الإطلاقات كقوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (1) و ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) (2) إلاّ

ص: 665


1- البقرة : 110.
2- البقرة : 185.

الإرشاد الكاشف عن عدم بقاء العموم أو الإطلاق على حالهما ، نظير الأمر الواقع عقيب الحظر المعلوم أو المظنون أو المشكوك أو الموهوم فكما أنّ الأمر بمجرّده وفي نفسه ظاهر في الإيجاب وإذا وقع عقيب الحظر انقلب ظهوره في الإيجاب انقلابا عرفيّا إلى ظهور ثانوي في رفع الحظر ، فكذلك النهي المتعقّب لعموم أو إطلاق وارد في العبادة بل مطلق الماهيّة المجعولة المركّبة ، فإنّه بمجرّده وفي نفسه ظاهر في التحريم وإذا وقع عقيب العموم أو الإطلاق المذكورين انقلب ظهوره الأوّلي في التحريم انقلابا عرفيّا إلى ظهور ثانوي في الإرشاد ، وكأنّ سبق الإطلاق أو العموم قرينة في نظر العرف أوجبت هذا الانقلاب ، بل هو الحقّ الّذي لا محيص عنه.

ثمّ إنّ القطع الضروري حاصل بعدم كون ذلك الظهور أمرا مستحدثا في العرف الحاضر بل هو ثابت عن العرف القديم في كافّة الأعصار وعامّة الأمصار إلى عصرنا هذا ، فيكون كاشفا عن الشرع واللغة على معنى المجاز اللغوي المعتبر إرادته في خطابات الشرع ، وكأنّه مراد من يدّعي اقتضاء النهي لفساد العبادة لغة وشرعا ، وهو المطلوب إذ بدونه لا يكاد يتصوّر له معنى.

ولكن لا يخفى عليك أنّ هذا كلّه إنّما يستقيم في النهي اللفظي إذا كان بصيغة « لا تفعل » أو ممّا اشتقّ من مادّة النهي أو ألفاظ اخر تؤدّي مؤدّى الصيغة غير لفظ « التحريم » ومتصرّفاته فإنّه حيثما وقع كان ظاهرا في الحرمة ، كما أنّ النهي إذا كان معنويّا مستفادا من الأمر بشيء آخر بأيّ وجه من وجوه الاستفادة لم يكن بنفسه مفيدا للإرشاد ، بل هو في جميع مراتبه وخصوصيّاته يتبع سببه الّذي هو الأمر ، فإن كان إيجابيّا كان النهي المستفاد منه تحريميّا وإن كان إرشاديّا كان ذلك النهي أيضا إرشاديّا وإن اشتبه الحال يرجع إلى الأصل.

تنبيهان

الأوّل : قد يقال : إنّ هذا الإرشاد ليس معنى مجازيّا للنهي بل هو بعد على حقيقته ومعناه الحقيقي.

غاية الأمر أنّه إذا لم يكن واقعا عقيب توهّم الصحّة كان ظاهرا عند العرف في النهي الشرعي ومتى ورد عقيبه انقلب الظهور المذكور إلى الإرشاد ، بخلاف الأمر الواقع عقيب الحظر فإنّ رفع الحظر خارج عن حقيقة الأمر غير أنّ قرينة المقام أوجبت ظهورا لمعنى المجازي.

وكأنّ هذا القول مبنيّ على توهّم كون الإرشاد في موارد ثبوته ممّا يتضمّن الطلب

ص: 666

الحتميّ الإلزامي المأخوذ في وضعي الأمر والنهي غاية الفرق بينه وبينهما إذا كانا شرعيّين أنّ الثاني يستعقب استحقاق العقوبة على المخالفة لجهة المولويّة الملحوظة فيها بخلاف الأوّل لسقوط اعتبار جهة المولويّة فلا يستعقب المخالفة فيه إلاّ فوات المأمور به والخاصيّة المطلوبة منه كأوامر الطبيب ونواهيه.

وظاهر أنّ اللفظ لم يوضع لغة وعرفا إلاّ لمجرّد الطلب الحتمي واستحقاق العقوبة شيء خارج يعلم بمعونة الخارج.

ولكن يشكل ذلك من جهة أنّ الّذي يظهر من ملاحظة العرف ويشهد به الذوق والوجدان أنّ الإرشاد ليس من قبيل الاقتضائيّات ، بل هو بيان للواقع بعنوان الإخبار يرد في الكلام بصورة الاقتضاء فلا جرم يكون معنى مجازيا.

الثاني : قد يتوهّم أنّ هذه النواهي المصروفة إلى الإرشاد ليست إرشاديّة شرعيّة بل إرشاديّة تشريعيّة.

والفرق بينهما : أنّ الثاني يدلّ على حرمة المورد من باب البدعة والتشريع بخلاف الأوّل ، فإنّه لا يدلّ إلاّ على بيان الواقع وأمّا الحرمة من باب البدعة والتشريع فتبقى مستفادة من الخارج.

وفيه : أنّ الحرمة من حيث التشريع خارج عن مدلول اللفظ ، لأنّها مقصورة على الإتيان بغير المشروع بعنوان المشروعيّة فهو في الحقيقة حكم عقليّ لا مدخل للّفظ فيه.

المقام الثاني : النهي المتعلّق بالمعاملة

المقام الثاني

في النهي المتعلّق بالمعاملة

فنقول : إنّ النواهي المتعلّقة بالمعاملات أيضا باعتبار وقوعها عقيب توهّم الصحّة من الخطاب العامّ أو المطلق الوارد في مقام التشريع المقتضي للصحّة بقول مطلق ظاهرة عند العرف أيضا في الإرشاد ، على معنى تعليم الامور المعتبرة في الصحّة وتعريف ما يترتّب عليه الآثار المقصودة من وضع المعاملة وتشريعها وتمييزه عمّا عداه ممّا يسبق إلى الوهم كونه منه من جهة عموم الخطاب أو إطلاقه ، وذلك أنّ المعاملة أيضا قد تكون كلاّ له أجزاء ، وقد يعتبر فيها شروط ، وقد يفرض لها موانع ، وقد تكون محتوية لجميع هذه الجهات فتكون صحيحة ، فإنّ الشيء إنّما يلحقه وصف الصحّة على معنى ترتّب الأثر ويصدق عليه عنوان السببيّة إذا كان في وجوده الخارجي حاويا لكلّ ما اعتبر مع المعاملة بحسب الواقع

ص: 667

من جزء أو شرط أو عدم مانع أو غير ذلك من الأوصاف والهيئات المخصوصة الّتي لها دخل في وصفها العنواني المشار إليه ، وذلك فرع على المعرفة بتفاصيل تلك الامور ، فلا بدّ من خارج يتكفّل ببيانها ولا يكون إلاّ الأوامر والنواهي الجزئيّة المتعلّقة بالمعاملة كائنة ما كانت ، فإنّها خطابات مفصلة وردت بصورة الاقتضاء واريد منها الكشف عن تفاصيل ما أجمله الخطاب الوارد للتشريع من عموم أو إطلاق ولو باعتبار ظهوره فيما ليس بداخل في المراد ، من غير فرق فيه بين كون التشريع المستفاد منه على وجه الكشف عن الواقع أو الجعل الشرعي أو إمضاء ما يتداوله العرف ويتعاطاه الناس ، فإنّ سبق هذا الخطاب على جميع التقادير ينهض في نظر العرف قرينة كاشفة عمّا هو حقيقة المراد من الأوامر والنواهي المسبوقة من الإرشاد والتعليم إلى ما هو حقيقة المراد من متعلّق هذا الخطاب وإن كان ذلك معنى مجازيا لها ، إذ لا مناص من المصير إليه بعد مساعدة القرينة عليه من غير فرق فيه بين تعلّقها بالمعاملة لنفسها أو لجزئها أو لشرطها أو لوصفها الداخل أو الخارج وإن كان يختلف المفاد من حيث الجزئيّة أو الشرطيّة أو المانعيّة.

نعم يعتبر في النهي كونه لفظيّا بغير لفظ « التحريم » ومتصرّفاته بتقريب ما مرّ ، وفي اللفظي كونه نفسيّا لا غيريّا فإنّه إذا كان غير لفظيّ أو لفظيّا غير نفسي لا يعقل كونه للإرشاد فلا يكون مقتضيا للفساد وعدم ترتّب الأثر ، لا لمجرّد أنّ حرمة المعاملة لا تنافي صحّتها من حيث إنّ صحّتها لا تتوقّف على الطلب ولا الإباحة ولذا جاز التصريح بالتحريم وصحّة المحرّم من دون تناف كما لو قال : « إن ظاهرت يترتّب عليه كذا وكذا ولكن فعله حرام ، أو فعلت محرّما » كما قيل ، لأنّ هذا تعليل عليل مع عمومه لما عدا النوعين المذكورين لما سيتبيّن من إمكان اقتضاء النهي اللفظي النفسي إذا كان تحريميّا للفساد في غير ما نستثنيه بل لعدم تحقّق ضابط الإرشاد فيهما فإنّ ضابطه كون النهي في حيّز الخطاب متعرّضا لسببيّة المعاملة لما يفرض لها من الآثار ويضاف إليها من المسببات بنفي أو إثبات ، ومدركه العرف كما أنّ تشخيصه بالعرف ، وظاهر أنّ النهي إذا لم يكن لفظيّا أو كان ولكن لم يكن نفسيّا غير متعرّض في نظر العرف لنفي سببيّة متعلّقة بل لا نظر فيه إلى السببيّة أصلا كما في النهي عن البيع في موضع الواجب المضيّق على القول باستلزامه النهي ، والنهي عن البيع وقت النداء على القول برجوعه إلى تفويت الجمعة وإن كان لفظيّا ، فإنّ النظر في الأوّل إلى جهة المضادّة والمزاحمة وفي الثاني إلى جهة التفويت ، ولذا يصحّ تعليله بهما لا بالفساد

ص: 668

أو نفي السببيّة ، بخلاف ما كان للإرشاد لصحّة تعليله بالفساد ونفي السببيّة.

ومن هذا البيان وملاحظة الضابط المذكور [ ظهر ] أنّ ما كان لمفارق متّحد أو غير متّحد في الوجود كالمكالمة مع الأجنبيّة في البيع والنظر إليها فيه أيضا ، غير متعرّض لسببيّة البيع لا بنفي ولا بإثبات كما هو واضح.

وقد يستند فيما استظهرناه من النواهي المبحوث عنها من الإرشاد والتعليم إلى الاستقراء ، فإنّ استقراء الموارد وتتبّع النواهي الواردة في أبواب المعاملات يوجب القطع بكون جلّها والأغلب منها مستعملة في هذا المعنى ومحلّ الشكّ يلحق بالأعمّ الأغلب ، والاستقراء وإن لم يكن معتبرا في الأحكام الشرعيّة إلاّ أنّه في الامور اللغويّة أو العرفيّة معتبر.

وربّما ايّد ذلك أيضا باستدلال العلماء خلفا عن سلف بالنواهي الواردة في المعاملات على الفساد من غير نكير ، كما يفصح عنه تصفّح أبواب البيوع والأنكحة والطلاق والصيد والذباحة حيث يستندون فيها إلى مجرّد النهي ويحكمون من جهته بالفساد.

وإن شئت لاحظ كلام الشيخ في المبسوط قائلا في بحث الاستنجاء : « كلّما قلنا لا يجوز استعماله لحرمته أو لكونه نجسا إن استعمل في ذلك ونقى به الموضع لا يجزي لأنّه منهيّ عنه والنهي يقتضي الفساد ».

بل يدلّ عليه الإجماع الّذي ادّعاه السيّد في الذريعة والشيخ في العدّة والفاضل النراقي في الأنيس (1) على ما حكي عنهم ، بل وطائفة من المتأخّرين وجماعة من العامّة على ما قيل ، والظاهر أنّ مدرك الجميع هو الاستقراء المتقدّم ذكره ، فإنّ استقراء الموارد العرفيّة والشرعيّة أوجب الظهور في لفظ « النهي » ومنه انبعث عمل العلماء وانقدح دعوى الإجماع.

والكلّ منظور فيه حتّى الاستقراء في العرفيّات ، فإنّ صرف النهي في كلّ واحد من آحاد مورد الغالب إلى الإرشاد إن كان لجهة خاصّة وهي القرائن الجزئيّة المختصّة فلا معنى لإلحاق ما ليس فيه قرينة مجاز بها في الصرف إلى المعنى المجازي ، ولذا لا يعدّ من المجازي ما غلب استعماله بقرينة مختصّة وإن كان لجهة عامّة وهي القرينة المشتركة بين

ص: 669


1- أنيس المجتهدين : في اصول الفقه للمولى مهدي بن أبي ذرّ النراقي المتوفّى سنة 1209 أوّله : ( الحمد لله الّذي جعل الاصول وسيلة للصعود على مدارج حقائق المباحث الشرعيّة ) رتّبه على مباحث ذوات أبواب ذوات فصول فجعل البحث الأوّل في المقدّمات فيه أبواب وفي كلّ باب فصول ، وذكر بعد كلّ مسألة اصوليّة فرعا فقهيّا يتفرّع عليها وتاريخ فراغه سنة 1186 الخ ... » [ الذريعة إلى تصانيف الشيعة 2 : 462 ].

جميع الموارد كوقوع النواهي عقيب خطاب التشريع الموجب لتوهّم الصحّة ، فلا محلّ للشكّ حتّى يلحق بالأعمّ الأغلب ، فيرجع إلى ما قرّرناه من فهم العرف بملاحظة القرينة المذكورة.

وأمّا استدلال العلماء والإجماع فلمنع كون مبناهما على صرف النهي إلى الإرشاد كما هو المراد ، لإمكان إثبات الفساد بالنهي التحريمي أيضا كما ستعرفه.

وعن فخر المحقّقين الاستدلال بأنّ إمضاء المعاملة المبغوضة خلاف اللطف ، والنظر فيه أوضح إن أراد به اللطف الواجب ، لكفاية النهي المفروض في العمل بمقتضاه إن لم يناف أصل الإمضاء فلا حاجة إلى اعتبار عدم الإمضاء كما لا يخفى ، وإن أراد به غيره فلا يجديه نفعا لكثرة ما يتّفق في الألطاف الغير الواجبة من الترك والتسامح.

ثمّ إنّ ما ذكرناه من الإرشاد في النواهي المفروضة إنّما هو مقتضى الأصل الثانوي المستنبط من متفاهم العرف ، وظاهر أنّ هذا الأصل إنّما يجدي إذا لم ينهض في اللفظ أو العقل ما يقضي باعتبار خلافه ، فالحمل على الإرشاد حينئذ إنّما يصحّ حيث لم يقم من الخارج قرينة إرادة التحريم ومعه يختلف حكم الفساد بحسب اختلاف الموارد ، ففي المنهيّ عنه لعينه أو لجزئه أو شرطه أو وصفه الداخل أو الخارج يحكم بالفساد إذا كان النهي نفسيّا ، لأنّ أهل العرف يفهمون من أمثال هذه النواهي كون المعاملة من حيث إنّها معاملة مقصود منها السببيّة والتأثير فيما قصد منها من الآثار محرّمة ، وهو بملاحظة كونه متعرّضا في فهم العرف لدليل تشريع تلك المعاملة يستلزم فساد المورد ، بناء على أنّ التشريع في المعاملات كلاّ أو جلاّ إنّما ثبت من باب الإمضاء لطريقة العرف فيما يتداولونه ويتعاملون به من أنواع الاكتسابات وغيرها من العقود والإيقاعات.

والسرّ في ذلك : أنّ كلّ دليل كان بمضمونه متعرّضا لمضمون دليل آخر فإنّما يتعرّضه من الجهة المأخوذة في ذلك المضمون من حيث إنّه مضمون ذلك الدليل.

ولا ريب أنّ دليل إمضاء أنواع المعاملات العرفيّة مفاده الرخصة في استعمالها من حيث إنّها منشأ لآثار وأسباب لمسببّات ، نظرا إلى أنّ أهل العرف كانوا يتعاملون بها من هذه الحيثيّة وإذ ورد عليها إمضاء الشارع كان إذنا في استعمالها من هذه الحيثيّة أيضا ، فإذا فرض نهي تحريمي عنها في بعض صورها أو عن بعض أفرادها كشف عن كون المنهيّ عنه مبغوضا في نظر الشارع من هذه الحيثيّة.

ولا ريب أنّ المبغوضيّة بل المنع الناشئ عنها ينافي الإذن في الاستعمال من هذه

ص: 670

الحيثيّة فكشف عن عدم شمول إمضاء الشارع لهذا المورد ، كما أنّ النهي والمنع عن الميسر والأنصاب والأزلام في آية ( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) (1) كشف عن عدم إمضاء الشارع هذه المعاملات مع تداولها بين الناس قبل ورود الشرع ، ولا نعني من فساد المعاملة الّتي مبنى تشريعها على إمضاء الشارع إلاّ ما لم يمضه الشارع.

نعم ربّما يشكل إثبات الفساد بمجرّد التعلّق بنهي التحريم فيما ثبت كون تشريعه من باب الجعل أو الكشف عن الواقع لعدم المنافاة حينئذ بين الحرمة والصحّة بمعنى ترتّب الأثر ، كما في التقاء الختانين الّذي هو سبب لثبوت المهر ووجوب الغسل مع أنّه قد يكون محرّما ونحوه الظهار ، ونحوهما الضرب بالسيف وإلقاء الشيء في النار حيث إنّ الأوّل سبب للقطع والثاني سبب للإحراق مع أنّهما في كثير من أفرادهما محرّمان.

ويمكن الذبّ فيما كان تشريعه من باب الجعل بأن يقال : بكون التشريع على هذا الوجه متضمّنا للإذن في الاستعمال لأنّه إنّما حصل لفائدة لا يتأتّى إلاّ بالاستعمال ، كحفظ الأموال والنفوس وصيانة الأنساب والفروج ونظم معيشة بني نوع الإنسان وغير ذلك ممّا قصد من أنواع البيوع والأنكحة وسائر العقود وغيرها من الإيقاعات فيجب الإذن فيه لئلاّ يفوت الجعل عليه بلا فائدة.

ولا ريب أنّ التحريم حيثما ثبت ينافيه ومعه لا مناص من الفساد ، إذ عدمه ملازم للجعل على الفرض وهو مع المنع من الاستعمال لغو وعبث.

هذا مع إمكان التعلّق أيضا بالعرف بأن يقال : إنّ النهي في نظره ظاهر في نفي السببيّة أيضا من حيث إنّه بمضمونه متعرّض لمضمون ما دلّ على الجعل من الجهة الّتي تعلّق به الجعل ، فيكون مخرجا للمورد كائنا ما كان عن المجعول سببا ، ومعناه اختصاص الجعل الشرعي بما عداه ولا نعني من الفساد إلاّ هذا.

ويمكن طرد هذا الكلام إلى ما كان تشريعه على وجه الكشف عن الواقع أيضا ، بدعوى : أنّ النهي في نظر العرف ظاهر في نفي السببيّة الواقعيّة أيضا بملاحظة أنّه بمضمونه متعرّض لمضمون ما دلّ على السببيّة الواقعيّة من باب الكشف عن الواقع من هذه الجهة الّتي كشف عنها ذلك الدليل فيكون مخرجا للمورد كائنا ما كان عن المكشوف كونه

ص: 671


1- المائدة : 90.

سببا واقعيّا ومؤثّرا في نفس الأمر ، ومعناه انتفاء السببيّة عنه في نفس الأمر.

وبما ذكرناه من البيان على التشريع الجعلي أخيرا يندفع ما عساه يورد على البيان الأوّل من أنّ خلوّ بعض أفراد المعاملة عن فائدة الجعل بواسطة منع الشارع عن استعمال ذلك الفرد لا يوجب خلوّ أصل الجعل المتعلّق بماهيّة المعاملة ونوعها من حيث هو نوع عن الفائدة ، فإذا حصلت الفائدة في ضمن ما عدا ذلك الفرد من الماهيّة خرج جعلها عن كونه لغوا ، فحينئذ لا مانع عن منع بعض الأفراد صونا عن قبح ومنقصة فيه وإن استلزم ذلك المنع عدم ترتّب الفائدة المفروضة على ذلك الفرد بالخصوص على تقدير الإطاعة واتّباع المنع المفروض ، وإلاّ فعلى تقدير العصيان كانت الفائدة مترتّبة من غير قصور ، وليتأمّل في كلّ ما قرّرناه في تحقيق المقام فإنّ كلّه دقيق.

وقد يفصّل في المقام ويقال : إنّ النواهي المستعملة في المعاملات على أنحاء :

أحدها : ما يراد به حرمة إيجاد السبب من غير نظر إلى المسبّب على حدّ سائر الأفعال المحرّمة الّتي لا ينظر فيها إلى مسبّباتها كما في النهي عن البيع وقت النداء.

وثانيها : ما يراد به حرمة المسبّب خاصّة كالنهي عن بيع المصحف أو المسلم من الكافر على القول بحصول الملك له مع وجوب إجباره على البيع إخراجا لهما عن ملكه.

ثالثها : ما يراد به عدم ترتّب الأثر المقصود من المعاملة عند المتعاملين كما في بيع المصحف والمسلم من الكافر أيضا ولكن على القول الآخر.

والفرق بين الوجوه أنّ الأوّل لا يفيد حرمة في المسبّب ، بل حرمة السبب أيضا لا توجب حرمة المسبّب ، بل قد يكون الآثار ممّا يجب ترتّبها كما في سائر الأسباب الشرعيّة كالقتل الموجب للقصاص أو الدية والسرقة الموجبة لقطع اليد وما أشبه ذلك ، وكما أنّ حرمتها لا توجب حرمة مسبّباتها فكذلك فيما نحن فيه.

بخلاف الثاني فإنّ السبب لا حرمة له فيه إلاّ من باب المقدّمة إن قلنا بحرمة سبب الحرام ، بل المبغوضيّة منحصرة في المسبّب فيجب على المكلّف رفع المسبّب وإعدامه وإن امتنع صاحب الواقعة يقوم به الحاكم ولاية والعدول حسبة ، إلاّ إذا نفعه الإجبار فيجبر.

وأمّا الثالث فلا يوجب حرمة لا في السبب ولا في المسبّب.

وأيضا لازم الأخير فساد المعاملة بل لا يكون إلاّ منبعثا عنه وناشئا منه بخلاف الأوّلين.

وأيضا النهي على الأوّلين شرعيّ وعلى الأخير إرشاديّ.

ص: 672

وأيضا الظاهر من النهي المتعلّق بالمعاملة هو الأوّل دون الأخيرين سيّما الأخير منهما.

وقد يجتمع في معاملة معنيان منها كما في بيع الصرف من دون قبض في المجلس على القول بوجوب الفسخ ، وبيع الخمر والخنزير على القول بحرمة إيقاع العقد عليهما ، وقد يجتمع الجميع كما في نكاح المحارم.

لكن عند تعدّد المعنى لا بدّ من تعدّد الدليل ، لعدم صلاحيّة الدليل الواحد والنهي المتّحد لإفادة ما يزيد على المعنى الواحد كما لا يخفى.

وهذا التفصيل كما ترى ممّا لا يرجع إلى محصّل إن لم يرجع إلى ما فصّلناه ، فإنّ حرمة إيجاد السبب إن اريد بها حرمته من حيث سببيّته فهي ملزومة للفساد ، لأنّ معنى حرمة إيجاده من حيث سببيّته حرمته من حيث عدم كون ترتيب آثار السببيّة عليه في محلّه وهذا بعينه معنى الفساد ، وكذلك حرمة المسبّب إن اريد بها حرمته من حيث مسبّبيّته فهي ملزومة للفساد ، لأنّ حرمته من هذه الحيثيّة حرمته من حيث إنّ ترتيبه على السبب لم يكن في محلّه وهذا أيضا عين معنى الفساد ، فكيف يقال : بأنّ ما عدا المعنى الأخير لا يستلزم الفساد.

وإن اريد بحرمة كلّ منهما حرمته من حيث مصادفته عنوانا آخر محرّما ثبت حرمته بالخارج أو بذلك النهي فهو إخراج للمورد عن محلّ بحث الأعلام ، فإنّ الكلام في النهي الراجع إلى المعاملة لا إلى أمر خارج عنها مصادف لها.

وبالجملة حرمة إيجاد السبب لا يعقل لها وجه إلاّ من جهة تضمّنه أو استلزامه عنوانا محرّما ، وهذا العنوان إمّا أن يكون هو التصرّف في مال الغير بغير حقّ أو أكل المال بالباطل ، أو يكون غيره من العناوين المحرّمة في الشريعة.

فإن كان الأوّل كان النهي معه مقتضيا للفساد.

وإن كان الثاني كان النهي فيه راجعا إلى أمر خارج عن المعاملة.

ومحصّله يرجع إلى التفصيل الّذي قرّرناه من أنّ النهي إن كان متعرّضا لسببيّة المعاملة كان معارضا لمقتضى السببيّة ودليل الصحّة ومعه يمتنع الصحّة لتقدّم الخاصّ على العامّ ، وإن لم يكن متعرّضا له بكونه ساكتا نفيا وإثباتا كان مقتضى السببيّة ودليل الصحّة سليما عن المعارض ومعه يمتنع الفساد أخذا بظاهر مقتضى السببيّة ودليل الصحّة ، فلو قال : « لا تبع المسلم أو المصحف من الكافر لأنّه يوجب أكل المال بالباطل » كان ملازما للفساد ، ولو قال : « لا تبعهما لأنّه يوجب إذلال المسلم أو إثبات السبيل للكافر على المسلم ، أو

ص: 673

يوجب إهانة الإسلام أو المصحف » و « لا تبع وقت النداء أو حال التكليف بالمضيّق لأنّه يوجب فوات الجمعة أو فوات الواجب المضيّق » و « لا تبع العنب ليعمل خمرا أو الخشب ليتّخذ صنما لأنّه إعانة على الإثم » لم يكن ملازما للفساد ، لخلوّ دليل الصحّة عن المعارض في اقتضاء السببيّة ، وهذا عند التصريح بما هو مناط النهي كالأمثلة المذكورة ممّا لا إشكال فيه ، وإنّما الإشكال فيما لو ورد النهي مطلقا من غير تعرّض لذكر المناط فهل يجب حمله على القسم الأوّل الملازم للفساد أو القسم الثاني الغير المنافي للصحّة؟

والحقّ أنّ الموارد مختلفة بحسب اختلاف قضايا النهي وعباراته ، فلا بدّ من النظر فيها استعلاما لما هو حقيقة الحال ، وضابطه الكلّي كون النهي ناشئا عن جهة ترجع إلى أصل المعاملة أو الصيغة المعتبرة أو أحد أركانه من المتعاقدين أو العوضين إن كانت من قبيل العقود ، أو من جهة لا ترجع إلاّ إلى عنوان آخر خارج عن حقيقة المعاملة مصادف لها متّحد معها في الوجود وعدمه ، فلو قال : « لا تبع بغير العربيّة ، أو سفيها ، أو مملوكا ، أو ما ليس عندك ، أو ما ليس ملكا لك ، أو ما ليس بمعلوم القدر أو الوصف ، أو ما ليس بمقدور على تسليمه ، أو ما كان نجس العين ، أو مائعا متنجّسا » و « لا تذبح وأنت ذمّي ، أو بغير الحديد » كان من القسم الأوّل.

كما أنّه لو قال : « لا تبع وقت النداء ، أو مكان الخطاب بالمضيّق ، أو العنب ليعمل خمرا ، والخشب ليتّخذ صنما ، أو لا تتكلّم مع الأجنبيّة في البيع ، أو لا تنظر إليها في البيع ، أو مطلقا فيهما » كان من القسم الثاني.

وقد يكون عبارة النهي مجملة مردّدة بين القسمين فيشتبه فيه الحال كما لو قال : « لا تبع المسلم أو المصحف من الكافر » أو « لا تبع امّ ولدك » أو نحو ذلك ، فإنّ هذا النهي على تقدير وروده بهذا اللفظ مردّد بين كونه لجهة راجعة إلى أصل المعاملة أو أحد أركانها أو العناوين الخارجة عنها من إذلال أو إهانة أو إعانة أو نحو ذلك ، غير أنّ المتّجه حينئذ هو الصحّة إلحاقا له بالقسم الثاني في الحكم عملا بظاهر المقتضي لها نوعا في فرض لم يثبت معه ما يعارضه ، إلاّ أن يطرأه الإجمال من إجمال النهي بحيث خرج عن ظهوره النوعي وأوجب كون المورد مجملا مصداقيّا ، فحينئذ لا مناص من إلحاقه بالقسم الأوّل من حيث الحكم عملا بالأصل الأوّلي في المعاملات الّذي أصّلناه في رسالة منفردة.

وما قرّرناه من التفصيل يرجع محصّله إلى أنّ كلّ معاملة لو كانت من حيث إنّها معاملة

ص: 674

معصية لله عزّ وجلّ كانت فاسدة ، وكلّ معاملة من حيث إنّها معاملة لم تكن معصية لله لم تكن فاسدة وإن صادفت عنوانا آخر هو معصية له وإن استند حرمة ذلك العنوان إلى النهي الوارد فيها.

وعلى طبق هذا التفصيل وردت روايات في نكاح المملوك بغير إذن سيّده :

منها : ما عن الكافي والفقيه عن الباقر عليه السلام (1) سأله عن مملوك تزوّج بغير إذن سيّده فقال : ذلك إلى سيّده إن شاء أجازه وإن شاء فرّق بينهما ، قلت : أصلحك اللّه أنّ الحكم بن عتيبة (2) وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون : إنّ أصل النكاح فاسد ولا يحلّ إجازة السيّد له ، فقال أبو جعفر عليه السلام : إنّه لم يعص اللّه إنّما عصى سيّده فإذا أجازه فهو له جائز.

ومنها : ما عنهما أيضا عنه عليه السلام (3) سأله عن الرجل تزوّج عبده بغير إذنه فدخل بها ثمّ اطّلع على ذلك مولاه ، فقال : عليه السلام ذلك إلى مولاه إن شاء فرّق بينهما وإن شاء أجاز نكاحهما ، فإن فرّق بينهما فللمرأة ما أصدقت إلاّ أن يكون اعتدى فأصدقها صداقا كثيرا ، وإن أجاز نكاحه فهما على نكاحهما الأوّل.

فقلت لأبي جعفر عليه السلام : فإنّه في أصل النكاح كان عاصيا ، فقال أبو جعفر عليه السلام : إنّما أتى شيئا حلالا وليس بعاص لله ولرسوله وإنّما عصى سيّده ولم يعص اللّه ، إنّ ذلك ليس كإتيان ما حرّم اللّه عزّ وجلّ عليه من نكاح في عدّة وأشباهه.

ومنها : ما عن الكافي أيضا عن الصادق عليه السلام في مملوك تزوّج بغير إذن مولاه أعاص لله؟ قال : عاص لمولاه ، قلت : حرام هو؟ قال ما أزعم أنّه حرام ، وقل له : أن لا يفعل إلاّ بإذن مولاه (4).

فإنّ دلالتها على إناطة فساد النكاح من حيث كونه نكاحا بكونه عصيانا لله عزّ وجلّ واضحة لا ينبغي الاسترابة فيها ، ولا سيّما الاولى منها المشتملة على العلّة المنصوصة ، ودونها الثانية خصوصا ما فيها من قوله : « أنّ ذلك ليس كإتيان ما حرّم اللّه عزّ وجلّ عليه من نكاح في عدّة وأشباهه » القاضي بأنّ النكاح في العدّة وأشباهه على وجه العموم إنّما يفسد باعتبار التحريم في نفس المعاملة لعنوانها الخاصّ من نكاح وغيره لا غير ، فيخرج ما طرأه العصيان باعتبار أمر خارج عن المعاملة ككونها مخالفة للسيّد ومعصية له لا باعتبار كونها نكاحا.

ص: 675


1- الكافي 5 : 478 ، ح 3 ومن لا يحضره الفقيه 3 : 541.
2- عيينة خ ل.
3- الكافي 5 : 478 ، ح 2.
4- الكافي 5 : 478 ، ح 5.

وبالجملة دلالة الروايات على التفصيل المذكور واضحة لا تشتبه على اللبيب المنصف ، وقد فهمه منّا بعض مشايخ بعض الأعاظم على ما حكاه في إشاراته غير أنّه لم يرتضه فأجاب عنه : « بأنّ المتبادر من تلك الروايات كون العصيان في النفي والإثبات بمعنى واحد ، وظاهر أنّه في طرف المولى بمعنى عدم الإذن فيكون في الطرف الآخر كذلك ، فمفاده أنّ العقد ليس ممّا لم يأذن فيه اللّه بل لم يأذن فيه المولى وهو ليس ممّا يبطل به العقد ، وأمّا قوله عليه السلام : « إنّ ذلك ليس كإتيانه بما حرّم اللّه تعالى من نكاح في عدّة وأشباهه » فيستفاد منه أنّ الحرمة في العدّة تكون لعدم قابليّة المحلّ للنكاح وليس هذا هكذا فإنّ النكاح مشروط بإذن المولى سواء كان سابقا أو لاحقا » انتهى.

وهذا كما ترى بظاهره اعتراف بعين ما فهمه شيخه على وفق ما قرّرناه ، فإنّ تعليل صحّة العقد المفروض بكونه ممّا أذن فيه اللّه نظرا إلى أنّ النفي في النفي يوجب الإثبات يقتضي كون ما لم يأذن فيه اللّه الّذي منه ما منعه ونهى عنه ملزوما للفساد وإلاّ كان التعليل لغوا فيقبح ، لفرض مساواة العصيان وعدمه في عدم اقتضاء الفساد فيقبح تعليل عدم الفساد بعدم عصيان اللّه تعالى فكيف يؤخذ جوابا عمّا فهمه.

وحينئذ نحتجّ عليه : بأنّ نهي الشارع عن معاملة من حيث إنّها هذه المعاملة باعتبار تضمّنه لعدم إذنه فيها يقتضي الفساد.

وكأنّه قدس سره أخذ ما ذكره عمّا أفاده بعض الأعلام في دفع الاحتجاج بالرواية بقوله : « إنّه على خلاف المطلوب أدلّ ، فإنّ المراد من المعصية في الرواية لا بدّ أن يكون مجرّد عدم الإذن والرخصة من الشارع وإلاّ فمخالفة السيّد أيضا معصية ، والحاصل أنّه لمّا كان في مثل هذا العقد إذن من اللّه تعالى من جهة العمومات وغيرها ممّا يدلّ على صحّة الفضولي بعد الإجازة فيصحّ وعدم إذن السيّد غير مضرّ.

وبالجملة المراد أنّ العقد ليس خاليا عن مقتضى الصحّة وإن كان معلّقا على إذن المولى أيضا » انتهى.

ومحصّله : أنّ العصيان الوارد في الرواية ليس عبارة عن مخالفة التكليف الإلزامي من أمر أو نهي كما هو الظاهر المتبادر منه في إطلاقات أهل الشرع ، لئلاّ يتناقض القضيّتان في النفي والإثبات ، لوضوح وحدة المعنى من العصيان مضافا إلى اللّه تعالى في النفي وإلى

ص: 676

السيّد في الإثبات ، نظرا إلى أنّ عصيان السيّد بهذا المعنى يتضمّن عصيان اللّه تعالى فلا وجه لإثباته بعد ما نفاه ، بل المراد بهما العصيان بمعنى الإتيان بما لم يأذن فيه اللّه تعالى أو السيّد ، وهو بهذا المعنى منتف بالقياس إليه تعالى من حيث إنّ هذا العقد بمقتضى عموم صحّة عقد الفضولي ممّا أذن فيه اللّه تعالى في الجملة باعتبار توقّفه على الإجازة ، وكونه عصيانا بالنسبة إلى السيّد لأنّ السيّد لم يأذنه في هذا العقد لا أنّه منعه منه.

وفيه أوّلا : أنّه ليس معنى قوله : « أنّه على خلاف المطلوب أدلّ » إلاّ مع فرض وجود النهي مجامعا للعصيان المحمول في النفي والإثبات على المعنى المذكور ، ويبطله : دليل الخلف إذ لا نهي في المورد.

وثانيا : أنّه لا يستقيم إلاّ على تقدير أخذ الإذن في النفي والإثبات بمعنى الإذن الوضعي لئلاّ ينافي المنع التكليفي.

ويبطله : أنّ الإذن الوضعي من جانب السيّد غير معقول في العقود الشرعيّة حتّى يكون مخالفته معصية للسيّد بهذا المعنى ، بل الإذن الوضعي مخصوص بالشارع فإنّ وضع الشيء سببا لا يتلقّى إلاّ من الشارع ، فلا بدّ وأن يراد من الإذن المضاف إلى السيّد الإذن التكليفي ، فيكون هو المراد من الإذن المضاف إليه تعالى بضابطة رجوع النفي والإثبات إلى موضوع واحد ومعه يتمّ المطلوب.

وثالثا : أنّ ما ذكره خروج عن الظاهر من حيث إنّ العصيان في محاورات العرف والشرع ظاهر في مخالفة تستعقب استحقاق العقوبة فيختصّ بالتكليف فلا بدّ في العدول عنه من قرينة واضحة دعت إليه ، والقرينة الّتي أشار إليها وهي أنّ مخالفة السيّد أيضا معصية لله تعالى فلا معنى لنفيها عن طرفه تعالى وإثباتها لطرف السيّد ليست ممّا ينبغي الاستناد إليه في صرف الظواهر ، بعد ملاحظة الفرق الواضح بين معصية اللّه تعالى في أصل النكاح من حيث إنّه نكاح ومعصية في عنوان آخر خارج عن حقيقته مصادف له ، فإنّ الأوّل معصية موضوعها النكاح من حيث هو والثاني معصية موضوعها مخالفة السيّد وهما موضوعان متغايران بينهما بحسب المورد عموم من وجه ، والمنفيّ في الرواية بالنسبة إليه تعالى هو الأوّل واللازم من معصية السيّد هو الثاني ولا ملازمة بينهما ، والمقصود من الاستدلال كون المقتضي للفساد هو الأوّل وهو منتف في نكاح المملوك وإن كان الثاني ثابتا فيه ، فإنّه لخروجه عن أصل النكاح لا يوجب الفساد.

وأمّا ما ذكره قدس سره أخيرا في توجيه قوله عليه السلام : « انّ ذلك ليس كإتيانه بما حرّم اللّه تعالى

ص: 677

من نكاح في عدّة وأشباهه » فهو أيضا خروج عن الإنصاف بل لا ينبغي الإصغاء إليه ، فإنّ ظاهر العبارة أنّ الإمام عليه السلام بصدد الفرق بين المقام وما ذكره من المثال في أصل التحريم وعدمه كما هو المقصود من الاستدلال ، لا في جهة التحريم مع اشتراكهما في أصله كما هو مفاد التوجيه.

وبالجملة هذا المعنى بمكان من البعد عن لفظ الرواية وسياقها ولا ينساق إلى الأذهان الصافية.

ثمّ إنّه رحمه اللّه حكى عن شيخه بعد الاستدلال بما ذكر الاستناد إلى أخبار اخر :

منها : ما هي واردة في الطلاق وهي أيضا كثيرة أظهرها دلالة على ما رامه ما رواه الشيخ عن أبي بصير عنه عليه السلام : « قال من طلّق ثلاثا في مجلس فليس بشيء ، من خالف كتاب اللّه ردّ إلى كتاب اللّه » (1) وذكر طلاق ابن عمر.

وما عن سماعة وفي طريقه عثمان بن عيسى قال : سألته عن رجل طلّق امرأته ثلاثا في مجلس واحد فقال عليه السلام : إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ردّ على عبد اللّه بن عمر امرأته طلّقها ثلاثا وهي حائض فأبطل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ذلك الطلاق وقال صلى اللّه عليه وآله وسلم : كلّ شيء خالف كتاب اللّه والسنّة ردّ إلى كتاب اللّه والسنّة (2).

وما عن الكليني عن محمّد بن مسلم قال قال أبو جعفر عليه السلام : من طلّق ثلاثا في مجلس على غير طهر لم يكن شيئا ، إنّما الطلاق الّذي أمر اللّه عزّ وجلّ به فمن خالف لم يكن له طلاق ، وإنّ ابن عمر طلّق امرأته ثلاثا في مجلس وهي حائض فأمره رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أن ينكحها ولا يعتدّ بالطلاق (3).

وما عن الحلبي عن الصادق عليه السلام قال : من طلّق امرأته ثلاثا في مجلس وهي حائض فليس بشيء ، وقد ردّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله طلاق عبد اللّه بن عمر إذ طلّق امرأته ثلاثا وهي حائض فأبطل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ذلك الطلاق ، وقال : كلّ شيء خالف كتاب اللّه فهو ردّ إلى كتاب اللّه عزّ وجلّ (4).

وفي معناها غيرها ، وأنت إذا تأمّلت فيها بعين الدقة والإنصاف ولاحظت سياقها ومفادها عرفا لا تجد منها شائبة دلالة على ما رامه ، وإن ذكر في وجه الاستدلال أنّها

ص: 678


1- الاستبصار 3 : 287 ح 10 والتهذيب 8 : 54.
2- التهذيب 8 : 55 والكافي 6 : 960 ح 15.
3- الكافي 6 : 58 ح 7.
4- الكافي 6 : 60 ح 15.

تضمّنت أصلا وهو أنّ كلّ شيء يخالف الكتاب فهو مردود إلى ما يقتضيه الكتاب من البطلان والفساد.

ولا ريب أنّ المعاملة المحرّمة ممّا يخالف الكتاب فيجب ردّها إليه ، ولو لا أنّ النهي يقتضي الفساد لما كان الردّ إلى الكتاب موجبا له.

وقد يقرّر الوجه : بأنّها جعلت معيار البطلان مخالفة الكتاب والسنّة ، ولا ريب أنّ مخالفة النهي الكتابي في المعاملة مخالفة للكتاب فيكون المنهيّ عنه فاسدا فإنّ المتبادر من قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم : « كلّ شيء خالف كتاب اللّه فهو ردّ إلى كتاب اللّه » - واللّه أعلم - أنّ كلّ عمل خارجي وقع مخالفا لما ورد في كتاب اللّه من العنوان الكلّي الّذي علّق عليه الحكم الشرعي تكليفا ووضعا مردود في استفادة حكمه من حيث الصحّة والفساد إلى ذلك العنوان الوارد في الكتاب ، فيرتّب عليه أحكام الفساد لمخالفته له أو يردّ إلى ذلك العنوان في اقتضاء الفساد فيما يخالفه.

ولا ريب أنّ المخالفة حيثما قيّدت بالعبادة كانت ظاهرة في مخالفة الحكم التكليفي ، وحيثما قيّدت بالمعاملة كانت ظاهرة في مخالفة الحكم الوضعي ، وحيثما اطلقت كانت ظاهرة فيما يعمّ القسمين ، فيراد بها مخالفة ما قرّر في الشريعة من تكليف أو وضع ، فيتعيّن بالقياس إلى كلّ قسم بمعونة الخارج كالصيغة المستعملة في القدر المشترك بين الوجوب والندب كما في قوله : « اغتسل للجنابة والجمعة والزيارة ».

وهذه الروايات إن لم نقل باختصاصها بالقسم الثاني - لورودها في الطلاق الّذي هو من قبيل المعاملات نظرا إلى أنّ المورد لا يصلح مخصّصا للعامّ - فلا أقلّ من كونها من قبيل القسم الأخير المنصرف في العبادة إلى مخالفة الحكم التكليفي وفي المعاملة إلى مخالفة الحكم الوضعي ، فأقصى ما يستفاد منها أنّ المعاملة إذا وقعت مخالفة لما في الكتاب فيما هو مختصّ به من الحكم الوضعي كانت فاسدة على حسب ما يقتضيه الكتاب وما ورد فيه من العنوان الكلّي.

وهذا كما ترى ليس من المتنازع فيه في شيء ، فإنّ الكلام في مخالفة النهي الّذي هو حكم تكليفي والمخالفة المضافة إلى المعاملة لا تنصرف إليها حتّى يكون المنهيّ عنه من المعاملة محكوما عليه بالفساد عملا بموجب الروايات.

وممّا يفصح عن كون المراد بالمخالفة في المعاملة إنّما هو المخالفة في الحكم

ص: 679

لنا على اوليهما : أنّ النهي يقتضي كون ما تعلّق به مفسدة ، غير مراد للمكلّف. والأمر يقتضي كونه مصلحة مرادا. وهما متضادّان ؛ فالآتي بالمنهيّ عنه لا يكون آتيا بالمأمور به *.

_______________________________

الوضعي ما ورد في أخبار الطلاق أيضا من « أنّ الطلاق الّذي أمر اللّه به في كتابه وسنّة نبيّه صلى اللّه عليه وآله أنّ المرأة إذا حاضت وطهرت من حيضها أشهد برجلين عدلين قبل أن يجامعها على تطليقة ثمّ هو أحقّ برجعتها ما لم تمض لها ثلاثة قروء ، فإن راجعها كانت عنده على تطليقتين ، فإن مضت ثلاثة قروء قبل أن يراجعها فهي أملك بنفسها ، فإذا أراد أن يخطبها مع الخطّاب خطبها ، فإن تزوّجها كانت عنده على تطليقتين وما خلى هذا فليس بطلاق ».

فإنّ قوله عليه السلام : « وما خلى هذا فليس بطلاق » تصريح بنفي الطلاق عمّا عدا الطلاق المذكور بالشرائط المذكورة أي ما خالفه ولم يطابقه ، وهو في الرواية معنون بالأحكام الوضعيّة ، فإنّ كلّما ذكر فيها من التفاصيل حكم وضعي ارشد إليه ، وكذلك ما هو وارد في الكتاب فإنّه معنون بالأحكام الوضعيّة وإن ورد الخطاب بها في بعض الأحيان بصورة الأمر.

وفي معناها في الدلالة على ما بيّنّاه ما في الموثّق عن الباقر عليه السلام أنّه قال : « إنّ الطلاق الّذي أمر اللّه عزّ وجلّ به في كتابه والّذي سنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أن يخلّى الرجل عن امرأته فإذا حاضت وطهرت عن محيضها أشهد برجلين عدلين على تطليقه وهي طاهر من غير جماع فهو أحقّ برجعتها ما لم تنقض ثلاثة قروء وكلّ طلاق ما خلى هذا فباطل ليس بطلاق ».

وأصرح منهما في الدلالة عليه ما عن البزنطي سأل أبا الحسن عليه السلام عن رجل طلّق امرأته بعد ما غشيها بشهادة عدلين فقال عليه السلام : ليس هذا طلاقا ، فقلت : جعلت فداك كيف طلاق السنّة؟ فقال عليه السلام : يطلّقها إذا طهرت من حيضها قبل أن يغشيها بشاهدين عدلين كما قال اللّه عزّ وجلّ في كتابه ، فإن خالف ذلك يردّ إلى كتاب اللّه عزّ وجلّ (1).

* الضمير عائد ظاهرا إلى كونه مرادا وكونه غير مراد وإلاّ فأصل المصلحة والمفسدة لا تضادّ بينهما إذا كانت إحداهما مستندة إلى أصل الماهيّة والاخرى ناشئة عن الخصوصيّة المكتنفة بها غاية ما هناك امتناع قيام التأثير فعلا بكلّ منهما.

وأمّا قوله : « فالآتي بالمنهيّ عنه لا يكون آتيا بالمأمور به » فالظاهر أنّه لا يرتبط بما

ص: 680


1- الوسائل 7 : 282 الباب 10 من أبواب مقدّمات الطلاق ح 4.

ولازم ذلك عدم حصول الامتثال والخروج عن العهدة*. ولا نعني بالفساد إلاّ هذا.

ولنا على الثانية : أنّه لو دلّ ، لكانت إحدى الثلاث ، وكلّها منتفية. أمّا الاولى والثانية فظاهر. وأمّا الالتزام ، فلأنّها مشروطة باللّزوم العقليّ ، أو العرفيّ ، كما هو معلوم ، وهو كلاهما مفقودان**.

_______________________________

قبله من غير إضمار لأنّه لا يصلح نتيجة لما أحرزه من المضادّة فيما بين الإرادة وعدم الإرادة كما هو واضح ، فلا محيص من إضمار مقدّمة بل مقدّمتين بأن يقال : إنّ المنهيّ عنه مع كونه منهيّا عنه لو كان مأمورا به لزم اجتماع المتضادّين في محلّ واحد وهو محال ، فإمّا أن يقال حينئذ بعدم كونه منهيّا عنه ويبطله دليل الخلف ، أو بعدم كونه مأمورا به ثبت المطلوب من غير محذور لعدم العلم باندراجه في المأمور به وعدم ثبوت كون الأمر المطلق متناولا له ، ومحصّله يرجع إلى طرح الظاهر بالنصّ أو بالأظهر وتخصيص العام بالخاصّ أو تقييد المطلق بالمقيّد.

* هذه العبارة واقعة في كلام غير واحد من الاصوليّين غير أنّه ليس من مبادئ الدليل ، لحصول الغرض في الاستدلال بما ثبت من عدم كون الإتيان بالمنهيّ عنه إتيانا بالمأمور به ، إذ الفساد إن اريد به عدم موافقة الأمر فهو عينه وإن اريد به عدم إسقاط القضاء فهو ملزوم له ، مع أداء ذلك إلى خروج المنهيّ عنه لنفسه عن تحت الدليل حيث لا تكليف معه حتّى يقتضي الخروج عن العهدة كما لا يخفى.

** أمّا دفعه على تقدير كون نواهي المعاملات إرشاديّة كما هو الظاهر حسبما قرّرناه واضح لا حاجة إلى الإطناب بعد الإحاطة بما قدّمناه.

وأمّا على تقدير كونها تحريميّة كما عليه مبنى الاحتجاج ، فيدفعه : منع انتفاء اللزوم العرفي ، فإنّ أهل العرف يفهمون من تحريم المعاملة من حيث إنّها هذه المعاملة رجوع التحريم فيها إلى منعها باعتبار وصفها العنواني المعبّر عنه بالسببيّة ، وظاهر أنّه ينافي في نظر العقل والعرف إمضاء الشارع إيّاها باعتبار هذا الوصف ، بناء على أنّ النفي والإثبات يرجعان في نظر العرف إلى القيد ، فيكشف ذلك عن عدم تناول إمضاء الشارع أو جعله لهذا المورد ، وهو المقصود من فساد المعاملة الّذي يدلّ عليه النهي التزاما.

ص: 681

يدلّ على ذلك : أنّه يجوز عند العقل وفي العرف أن يصرّح بالنهي عنها ، وأنّها لا تفسد بالمخالفة ، من دون حصول تناف بين الكلامين*. وذلك دليل على عدم اللزوم بيّن.

حجّة القائلين بالدلالة مطلقا بحسب الشرع لا اللّغة : أنّ علماء الأمصار في جميع الأعصار ، لم يزالوا يستدلّون على الفساد بالنهي في أبوابه** ، كالأنكحة والبيوع وغيرها. وأيضا لو لم يفسد ، لزم من نفيه حكمة يدلّ عليها النهي ، ومن ثبوته حكمة تدلّ عليها الصحّة. واللاّزم باطل ؛ لأنّ الحكمتين ، إن كانتا متساويتين تعارضتا وتساقطتا ، وكان الفعل وعدمه متساويين ، فيمتنع النهي عنه ؛ لخلوّه عن الحكمة***. وإن كانت حكمة النهي مرجوحة فهو أولى

_______________________________

* فيه : أنّ قصارى ما يلزم من ذلك نفي اللزوم العقلي دون اللزوم العرفي ، لأنّه مبنيّ على الظهور المبتني على تجرّد الخطاب عن قرينة الخلاف ، والتصريح المذكور على فرض وقوعه قرينة تكشف عن عدم اعتبار الظهور ، ومعقد البحث إنّما هو النهي المجرّد عن نحو هذه القرينة ، فلا يبقى للمانع إلاّ جواز التصريح عقلا وهو مسلّم ولكنّه بمجرّده لا يصلح صارفا عن الظهور العرفي وباعثا على رفع اليد عنه كما لا يخفى.

** فيه : أنّه إن اريد به الوضع الشرعي الثابت بإجماع العلماء فأصل الوضع ثمّ الإجماع عليه كلاهما ممنوعان ، وإن اريد به التبادر الكاشف عن الدلالة ولو عند جماعة غير بالغة حدّ الإجماع فهو على فرض تسليمه لا يقضي بكونه لأمر مختصّ بالشرع ، لجواز كونه لأمر يرجع إلى العرف واللغة اللذين ورد على طبقهما خطاب الشرع ، كما يرشد إليه الضرورة القاضية بأنّ الشارع لم يتصرّف في الأوامر والنواهي تصرّفا محدثا لاصطلاح خاصّ له فيهما مغاير للعرف واللغة ، ولو لا الضرورة لكفانا الأصل في نفي هذا التوهّم ورفع هذا الاحتمال السخيف.

*** وأوّل ما يرد عليه : عدم التئام أجزائه بعضها مع بعض ، وذلك لأنّ القانون في القياس الاستثنائي أن يكون النفي الوارد في بيان بطلان التالي راجعا إلى ما اخذ لازما في أصل القياس وهو في المقام ليس كذلك ، فإنّ الّذي أخذ لازما فيه إنّما هو وجود حكمتين

ص: 682

بالامتناع ؛ لأنّه مفوّت للزائد من مصلحة الصحّة ، وهو مصلحة خالصة ؛ إذ معارض لها من جانب الفساد ، كما هو المفروض. وإن كانت راجحة فالصحّة ممتنعة ؛ لخلوّها عن المصلحة ، بل لفوات قدر الرجحان من مصلحة النهي ، وهو مصلحة خالصة لا يعارضها شيء من مصلحة الصحّة.

_______________________________

يدلّ على إحداهما النهي وعلى اخراهما الصحّة ، وما ذكر في بيان بطلان اللازم إنّما يفيد نفي الأمر والنهي معا على تقدير ونفي أحدهما على تقديرين آخرين لا نفي وجود الحكمتين الّذي أخذ لازما فلا يتمّ التقريب.

إلاّ أن يوجّه بجعل السالبة المأخوذة في دعوى بطلان اللازم من باب انتفاء الموضوع ، بدعوى : أنّ المنفيّ إنّما هو وجود حكمتين بوصف أنّ إحداهما ما يدلّ عليه النهي والاخرى ما يدلّ عليه الصحّة حتّى يكون مفاده انتفاء الأمر والنهي معا أو انتفاء اجتماعهما ، فيلزم انتفاء الصحّة في تقديرين حيث لا أمر عليهما ليترتّب عليه الصحّة ، وخلاف الفرض في تقدير ثالث وهو فرض انتفاء النهي لامتناعه على تقدير رجحان حكمة الصحّة على حكمة النهي ، وهذا كما ترى تكلّف واضح.

نعم يمكن تقرير الدليل على نحو لا يحتاج معه إلى هذا تكلّف وهو أن يقال : إنّه لو لم يفسد المنهيّ عنه لاقتضى حكمتين مؤثّرتين في اقتضاء النهي فعلا واقتضاء الأمر كذلك ، فيلزم أن يجتمع فيه الأمر والنهي الفعليّان والتالي باطل ، إلى آخر ما ذكر في تقرير البطلان وحينئذ يسلم عن الحزازة المتقدّم إليها الإشارة.

وثاني ما يرد عليه : أنّ الدليل لو تمّ كان أخصّ من المدّعى لعدم جريانه في غير العبادات كما تنبّه عليه المصنّف وغيره ، فإنّ ملاحظة النسبة بين الحكمتين إنّما تصحّ إذا كانت إحداهما مقتضية للأمر والاخرى مقتضية للنهي نظرا إلى أنّهما لا تجتمعان مؤثّرتين فيهما فعلا.

ولا ريب أنّ حكمة الصحّة في المعاملات لا تقتضي أمرا ولا نهيا ، لأنّها غير خالية عن إحدى المقاصد الخمس الّتي منها حفظ الحقوق والأموال لنظم معيشة الإنسان فيما يحتاج إليه من أنواع التجارة والاكتساب أو صيانة الفروج والأنساب ولا يقتضي شيء من ذلك أمرا بالمعاملة ، فيجوز أن يقتضي صحّتها الّتي هي عبارة عن ترتّب الأثر عليها من

ص: 683

وأمّا انتفاء الدلالة لغة ، فلأنّ فساد الشيء عبارة عن سلب أحكامه. وليس في لفظ « النهي » ما يدلّ عليه لغة قطعا*.

والجواب عن الأوّل : أنّه لا حجّة في قول العلماء بمجرّده ، ما لم يبلغ حدّ الاجماع. ومعلوم انتفاؤه في محلّ النزاع ؛ إذا لخلاف والتشاجر فيه ظاهر جليّ.

_______________________________

ملكيّة أو زوجيّة أو نحو ذلك مع ورود النهي عنها لوجود جهة مقبّحة فيها باعتبار الخارج.

وإلى ذلك ينظر ما قرّره بعض الأعلام : « من كون مصلحة أصل النهي راجحة لا تقتضي مرجوحيّة ترتّب الأثر بالنسبة إلى عدمه ، فترك الفعل أوّلا راجح على فعله ، أمّا لو فعل وعصى فترتّب الأثر عليه راجح على عدمه ، ولا منافاة بينهما أصلا إذ رجحان النهي إنّما هو على الفعل ورجحان الترتّب إنّما هو على عدم الترتّب وهاتان المصلحتان ثابتتان للنهي ولترتّب الأثر بالذات ، لا أنّه يعرض مصلحة الترتّب بعد اختيار الفعل كما توهّمه المدقّق الشيرواني » انتهى.

ومحصّله : أنّه لو دار الأمر بين الفعل والترك فمصلحة النهي تقتضي رجحان الترك على الفعل لما فيه من حسم مادّة المفسدة المترتّبة على الفعل ولكن لو عصى المكلّف واختار الفعل ودار الأمر بين ترتّب الأثر وعدمه فمصلحة الصحّة تقتضي رجحان الترتّب على عدمه لما فيه من حفظ الحقوق والأموال أو صيانة الفروج والأنساب ، ولا ينافيه فوات مصلحة النهي حينئذ وترتّب مفسدة الفعل عليه.

* فيه : أنّه إنّما يتّجه لو كان المتنازع فيه دلالة لفظ « النهي » عليه باعتبار وضعه الإفرادي وليس كذلك ، بل المتنازع فيه دلالة الكلام المشتمل على النهي عليه باعتبار وضعه التركيبي الّذي يكشف عنه العرف خصوصا إذا قدّرنا النهي إرشاديّا ، فإنّ محصّله : أنّ الكلام المتعقّب للعامّ أو المطلق المقتضيين للصحّة ظاهر في نظر العرف في كون النهي الوارد فيه مرادا منه الإرشاد إلى انتفاء الصحّة في الواقع وينتهض ذلك قرينة كاشفة عن عدم اعتبار العموم أو الإطلاق في نظر المتكلّم بالقياس إلى المورد.

وإن أبيت إلاّ وأنّ الكلام في لفظ « النهي » ففرض كونه إرشاديّا يكفي في نهوض الدلالة لغة لأنّ الإرشاد من جملة معانيه اللغويّة وإن كان مجازيّا ، بل ولو فرض كونه

ص: 684

وعن الثاني : بالمنع من دلالة الصحّة ، بمعنى ترتّب الأثر على وجود الحكمة في الثبوت ؛ إذ من الجائز عقلا انتفاء الحكمة في إيقاع عقد البيع وقت النداء مثلا مع ترتّب أثره - أعنى انتقال الملك - عليه. نعم ، هذا في العبادات معقول ؛ فإنّ الصحّة فيها باعتبار كونها عبارة عن حصول الامتثال ، تدلّ على وجود الحكمة المطلوبة ؛ وإلاّ لم يحصل.

_______________________________

تحريميّا لكفى في الجملة كما تقدّم ، نظرا إلى أنّ الحرمة الّتي لا تجامع الوجوب أو الندب في العبادات معنى لغوي ولا تجامعه في نظر العرف والعقل معا ، وهي في المعاملات تستلزم الفساد عرفا وظاهر أنّ العرف في غير موضع الاختلاف كاشف عن اللغة ، مع امكان أن يقال : إنّ المراد بالدلالة لغة ما يعمّ الدلالة العرفيّة ولو بالالتزام.

ولنختم المقام بإيراد الكلام في امور :

الأمر الأوّل : عن أبي حنيفة وصاحبيه بل تلميذيه أبي يوسف ومحمّد بن الحسن الشيباني من منكري دلالة النهي على الفساد مطلقا القول بدلالته على الصحّة.

وفي المنية : أنّه أطبق الجمهور من المعتزلة والأشاعرة على خلافه.

والظاهر أن ليس مرادهم من الدلالة على الصحّة كون النهي واسطة في إثبات الصحّة بحيث لو لاه لم يكن الانتقال إليها حاصلا ، فإنّه خارج عن موضوع البحث على ما تقدّم في مقدّمات المسألة من أنّ النزاع في دلالة النهي على فساد المنهيّ عنه بعد ما ثبت له جهة صحّة من عموم أو إطلاق في دليل مشروعيّة العبادة أو المعاملة بحيث رجع الدلالة على الفساد إلى تخصيص ذلك الدليل أو تقييده ، بل المراد به كونه ملزوما للصحّة من دون تأثير له فيها ، حملا للمنهيّ عنه عليها عملا بعموم أو إطلاق مقتضيها ، وهذا بعينه هو قول منكري دلالته على الفساد مطلقا.

وملخّصه : أنّ النهي لا ينافي صحّة المنهيّ عنه ولا يعارض المقتضي لها بل المقتضي لها معه باق على اقتضائه ، فصحّ أن يقال : إنّه يدلّ على الصحّة ولكن بواسطة أنّه لا يعارض المقتضي لها ولا يوجب الخروج عن عمومه أو إطلاقه.

وبهذا التوجيه يندفع ما احتجّ به في المنية على بطلان هذا القول من أنّه لو دلّ عليها لكان إمّا بلفظه أو بمعناه والتالي بقسميه باطل ، لعدم كون لفظ « النهي » موضوعا لصحّة المنهيّ عنه ولا لملزومها.

ص: 685

وبما قدّمناه في الاحتجاج على دلالة النهي على الفساد في العبادات يظهر جواب الاستدلال على انتفاء الدلالة لغة ؛ فإنّه على عمومه ممنوع. نعم هو في غير العبادات متوجّه.

واحتجّ مثبتوها كذلك لغة أيضا ، بوجهين :

أحدهما : ما استدلّ به على دلالته شرعا ، من أنّه لم يزل العلماء يستدلّون بالنهي على الفساد.

_______________________________

ثمّ الظاهر أنّ القضيّة في دعوى الملازمة المذكورة ليست من باب الدائمة المطلقة بل من باب العرفيّة العامّة ، على معنى أنّ النهي ملزوم للصحّة ما دام مجرّدا عمّا يقضي بخلاف الصحّة فلا ينافيه قيام دليل معه على إرادة الفساد.

فيندفع بذلك أيضا ما احتجّ به في المنية على بطلانها من أنّه لو كان دالاّ على صحّة المنهيّ عنه لزم أحد الأمرين من صحّة ما وقع الاتّفاق على عدم صحّته كصلاة الحائض ونكاح المحرّمات المنهيّ عنها ، وبيع الملاقيح وهو بيع الجنين في بطن امّه وخصّ بالبعير ، وبيع المضامين وهو بيع ما في أصلاب الفحول ، وبيع حبل الحبلة وهو بيع ولد الجنين الّذي في بطن امّه وغير ذلك ، أو تخلّف المدلول عن دليله والتالي بقسميه باطل ، والملازمة واضحة من جهة ورود النهي الشرعي عن الأشياء المذكورة ، فإمّا أن يقال بتحقّق الصحّة فيها فيلزم الأوّل ، أو يقال بعدم تحقّقها فيلزم الثاني.

ثمّ في كلام غير واحد تفريع هذا القول على القول بالصحيحة في ألفاظ العبادات بل المعاملات أيضا.

وفيه : منع الابتناء نظرا إلى التوجيه المذكور فإنّه جار على القول بالأعمّ أيضا ، ضرورة أنّ الصحّة إذا كانت من مقتضى عموم أو إطلاق دليل مشروعيّة العبادة أو المعاملة وإن لم يكن هناك نهي عنها فلا يتفاوت في ثبوتها الحال بين القولين في ألفاظ العبادات والمعاملات.

مع أنّ الصحّة الثابتة بفرض كون اللفظ اسما للصحيحة مع انضمام مقدّمة أصالة الحقيقة في الاستعمال لا تجدي نفعا في ثبوت الصحّة المطلوبة في المقام قبالا للفساد المطلوب من النهي على القول بدلالته عليه ، وذلك لأنّها صحّة بالمعنى المبحوث عنه في مسألة الصحيح والأعمّ وهي كون الماهيّة مجتمعة للامور المعتبرة فيها من الأجزاء والشرائط

ص: 686

وأجاب عنه اولئك : بأنّه إنّما يقتضي دلالته على الفساد ، وأمّا أنّ تلك الدلالة بحسب اللّغة ، فلا. بل الظاهر أنّ استدلالهم به على الفساد إنّما هو لفهمهم دلالته عليه شرعا ؛ لما ذكر من الدليل على عدم دلالته لغة.

والحقّ ما قدّمناه : من عدم الحجّيّة في ذلك. وهم وإن أصابوا في القول بدلالته في العبادات لغة ، لكنّهم مخطئون في هذا الدليل. والتحقيق ما استدللنا به سابقا.

الوجه الثاني لهم : أنّ الأمر يقتضي الصحّة ، لما هو الحقّ من دلالته على الأجزاء بكلا تفسيريه ، والنهي نقيضه ، والنقيضان مقتضاهما نقيضان. فيكون النهي مقتضيا لنقيض الصحّة ، وهو الفساد.

_______________________________

كلّها دون الصحّة بالمعنى المبحوث عنه في مسألتنا هذه وهي موافقة الأمر بالعبادة ، فإنّ الصحّة بهذا المعنى أخصّ منها بالمعنى الأوّل كما أنّ الفساد المقابل للصحّة بالمعنى الأوّل أخصّ منه بالمعنى المقابل للصحّة بالمعنى الثاني ، فقد يكون الشيء صحيحا بالمعنى الأوّل وفاسدا بالمعنى الثاني لانتفاء الأمر كما في صلاة المجنون مثلا لو فرض صدورها منه جامعة لأجزائها وشرائطها الواقعيّة ، فلا منافاة بين الصحّة بالمعنى الأوّل والفساد بالمعنى الثاني ، كما أنّه لا ملازمة بين الفساد بالمعنى الثاني والفساد بالمعنى الأوّل.

فالتفريع المذكور لا يقتضي إلاّ الصحّة بالمعنى الأوّل وهو لا ينافي الفساد بالمعنى الثاني الّذي ينشأ من النهي باعتبار استلزامه لانتفاء الأمر عن المورد ، والمبحوث عنه هنا إنّما هو الفساد بهذا المعنى لا غير هذا.

ولكنّ التفريع المذكور من مقتضى الاحتجاج الآتي لو كان من أبي حنيفة وصاحبيه ، وإن كان لا بدّ وأن يقيّد مع ذلك بمقدّمة اخرى وهي القول بجواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد مشتمل على جهتين :

إحداهما : راجعة إلى الماهيّة.

والاخرى : إلى الخصوصيّة.

وكيف كان فحكي الاحتجاج عليه بوجهين :

أحدهما : أنّه لو لم يدلّ النهي على صحّة المنهيّ عنه شرعا لكان المنهيّ عنه غير شرعي

ص: 687

وأجاب الأوّلون : بأنّ الأمر يقتضي الصحّة شرعا ، لا لغة ، ونقول بمثله في النهي. وأنتم تدّعون دلالته لغة. ومثله ممنوع في الأمر.

والحقّ أن يقال : لا نسلّم وجوب اختلاف أحكام المتقابلات ، لجواز اشتراكها في لازم واحد ، فضلا عن تناقض أحكامها. سلّمنا ، لكن نقيض قولنا : « يقتضي الصحّة » : أنّه « لا يقتضي الصحّة » ، ولا يلزم منه أن « يقتضي الفساد ». فمن أين يلزم في النهي أن يقتضي الفساد؟ نعم يلزم أن لا يقتضي الصحّة. ونحن نقول به.

_______________________________

والتالي باطل بالاتّفاق.

أمّا الملازمة : فلأنّ المنهيّ عنه لو كان شرعيّا لكان صحيحا ، إذ الشرعى هو الصحيح المعتبر في نظر الشارع فما لا يكون صحيحا لا يكون شرعيّا ، كصوم يوم النحر والصلاة في الأوقات المكروهة فإنّهما لعدم كونهما صحيحين معتبرين في نظر الشارع ليسا بشرعيّين.

واجيب - على ما أشار إليه الحاجبي وفصّله في بيان المختصر - : بأنّ الشرعي ليس معناه هو المعتبر فى نظر الشارع ، فإنّ الشرعي قد يكون صحيحا وقد يكون فاسدا والدليل على أنّ الشرعي قد يكون فاسدا قوله عليه السلام : « دعي الصلاة أيّام أقرائك » فإنّ الصلاة المأمور بتركها هي الصلاة الشرعيّة لأنّ اللغويّة لا يؤمر بتركها اتّفاقا ، وظاهر أنّ الصلاة المأمور بتركها فاسدة غير معتبرة في نظر الشرع.

أقول : والظاهر أنّ مبنى الجواب على جعل انتساب الشرعي إلى الشرع بواسطة أنّه ماهيّة مجعولة جعلها من الشارع.

ولا ريب أنّه لم يجعل إلاّ الماهيّة التامّة الأجزاء والشرائط ، فنهي الحائض عنها لا ينافي إتيانها بها بتمام أجزائها وشرائطها ، ولكنّه مبنيّ على عدم كون الخلوّ عن الحيض من الشروط المأخوذة مع الماهيّة في لحاظ الجعل والاختراع وهو كذلك على ما سنقرّره ونبيّن وجهه.

وثانيهما : أنّه لو لم يكن المنهيّ عنه الشرعي صحيحا لكان ممتنعا ، ولو كان ممتنعا لم يمنع عنه ، لأنّ الممتنع غير مقدور وغير المقدور لا ينهى عنه ، فيلزم من الشرطين أنّه لو لم يكن المنهيّ الشرعي صحيحا لم يمنع عنه.

ص: 688

حجّة النافين للدلالة مطلقا ، لغة وشرعا : أنّه لو دلّ لكان مناقضا للتصريح بصحّة المنهي عنه. واللازم منتف ، لأنّه يصحّ أن يقول : « نهيتك عن البيع الفلانيّ بعينه مثلا. ولو فعلت لعاقبتك. لكنّه يحصل به الملك ».

وأجيب : بمنع الملازمة ، فإنّ قيام الدليل الظاهر على معنى لا يمنع التصريح بخلافه ، وأنّ الظاهر غير مراد. ويكون التصريح قرينة صارفة عمّا يجب الحمل عليه عند التجرّد عنها.

_______________________________

واجيب عنه - على ما أشار إليه الحاجبي أيضا - : بأنّ الامتناع لأجل النهي لا لذات المنهيّ عنه فإنّ النهي قد تعلّق به فصار ممتنعا ، والممتنع إنّما لم ينه عنه إذا كان امتناعه سابقا على النهي ولم يكن مسبّبا عنه.

وظنّي أنّ تقرير دليل هذا القول بالوجهين المذكورين اشتباه نشأ عن الخلط بين مقدّمتي دليل واحد.

وتوضيحه : أنّ ما قرّر في الوجه الأوّل مقدّمة ذكرت لإحراز أنّ المراد بالألفاظ الشرعيّة الواقعة في حيّز النواهي عبادة ومعاملة إنّما هو المعاني الشرعيّة دون اللغويّة والعرفيّة.

وما قرّر في الوجه الثاني مقدّمة ذكرت لإحراز الصحّة المطلوبة في المقام.

فملخّص الوجهين : أنّ هذه الألفاظ يراد منها المعاني الشرعيّة للاتّفاق على أنّ المعاني اللغويّة غير منهيّ عنها كما يكشف عنه عدم حرمة الدعاء ولا الإمساك المطلق على الحائض اتّفاقا.

ثمّ المعنى الشرعي المراد من اللفظ إمّا أن يكون ممّا يمكن وقوعه من المكلّف المنهيّ وتحقّقه في الخارج بوصف أنّه منهيّ عنه أو لا؟ والثاني باطل لاستحالة النهي عن الممتنع ، فتعيّن الأوّل وهو المطلوب.

وبما تقدّم من تفريع هذا القول على القول بالصحيحة يظهر التقريب في دعوى ثبوت المطلوب بمجرّد كون المعنى الشرعي المراد من اللفظ المنهيّ عنه ممّا يمكن حصوله وتحقّقه في الخارج ، إذ على القول بالأعمّ لا ملازمة بين الأمرين فإنّ الأعمّ المنهيّ عنه الممكن حصوله كما هو قضيّة الفرض لا يلازم الصحّة كما لا يخفى.

ص: 689

وفيه نظر ، فإنّ التصريح بالنقيض يدفع ذلك الظاهر وينافيه قطعا. وليس بين قوله في المثال : « ولو فعلت لعاقبتك إلخ » ، وبين قوله : « نهيتك عنه » مناقضة ولا منافاة. يشهد بذلك الذوق السليم.

فالحقّ : أنّ الكلام متّجه في غير العبادات وهو الّذي مثّل به. وأمّا فيها ، فالحكم بانتفاء اللازم غلط بيّن ؛ إذ المناقضة بين قوله : « لا تصلّ في المكان المغصوب » و « لو فعلت لكانت صحيحة مقبولة » في غاية الظهور ، لا ينكرها إلاّ مكابر.

_______________________________

فبذلك يتبيّن أنّ ما ذكروه من الجواب عن الوجهين على ما حكيناه ليس شيء منه بشيء ، لعدم انطباقه في كلّ من وجهيه على احتجاج الخصم ومرامه من الدليل.

وممّا يرشد إلى صدق مقالتنا في توجيه الوجهين وإرجاعهما إلى دليل واحد ما قرّره في المنية من حجّة هذا القول بقوله : « احتجّا بأنّ المنهيّ عنه إمّا شرعي أو غير شرعي ، والثاني باطل لوجوب حمل اللفظ الوارد من الشارع على ما وضعه له وإلغاء غيره من موضوع اللغة والعرف كما في غير النهي ، ولأنّ النهي عن صلاة الحائض ليس عن الدعاء وكذا باقي ألفاظ الصور المذكورة ، وحينئذ نقول : ذلك المعنى الشرعي إمّا أن يمكن تحقّقه أو لا؟ والثاني باطل وإلاّ لما صحّ النهي عنه فإنّ المحال كما لا يصحّ الأمر به لا يصحّ النهي عنه ، وأيضا فإنّه لا يحسن أن يقال للمزمن : « لا تطف » و « للأعمى : لا تبصر » فثبت أنّ المنهيّ عنه هو المعنى الشرعي أعني الصحيح وهو ممكن التحقّق وهو المطلوب ».

وأجاب عنه السيّد - بعد ما حكي دفعه أوّلا : بالنقض بالأمثلة المتقدّمة من صور المنهيّ عنها لجريان الدليل فيها مع عدم صحّتها وفاقا.

وثانيا : بإمكان حمل النهي هنا على النسخ ، كما يقول الموكّل لوكيله في البيع : « لا تبع » فإنّه وإن كان نهيا بالصيغة إلاّ أنّه نسخ في الحقيقة ، والظاهر أنّ النسخ هنا اريد منه الإرشاد - فقال : « والحقّ أن يقال : إنّ الصلاة مثلا يصدق على الصحيحة والفاسدة لصحّة تقسيمها إليهما فهي أعمّ والعامّ لا يدلّ على الخاصّ ، وكذا البيع والنكاح وغيرهما ويمنع كون المعنى الشرعي هو الصحيح دون غيره وإلاّ لما صحّ أن يقال لمن صلّى صلاة فاسدة : « أعد صلاتك »

ص: 690

وحمله على المجاز مخالف للأصل » انتهى.

ومحصّله يرجع إلى منع المبنيّ عليه هذا القول من كون ألفاظ العبادات وغيرها موضوعة للصحيحة من المعاني الشرعيّة ، وهذا في محلّه فإنّ الصحيح كونها للأعمّ من الصحيحة والفاسدة ، وحينئذ فالمنهيّ عنه يكون هو الأعمّ وهو مقدور ولو في ضمن فرده الفاسد ، ولو سلّم وضعها للصحيحة خاصّة يتوجّه إلى الدليل أيضا : أنّ أهل القول بذلك لا ينكرون جواز الاستعمال من الشارع في الأعمّ أو خصوص الفاسدة على ما هو المصرّح به في محلّه.

غاية الأمر أنّهم يجعلونه على وجه المجاز ، فلم لا يجوز أن يكون الشارع قد تجوّز بتلك الألفاظ الواقعة في حيّز النواهي بإرادة الأعمّ أو الفاسد خاصّة فينتفي الدلالة على الصحّة؟

والتحقيق في دفع الاحتجاج - بعد الإغماض عن كونه أخصّ من المدّعى لو كان دعوى الدلالة على الصحّة فيما يعمّ المعاملات أيضا لعدم جريان ما هو العمدة من مقدّماته فيها وهو لزوم التكليف بغير المقدور المستحيل من الحكيم لو كان الصحيح غير ممكن الحصول - : منع المقدّمة الاولى ولو بمنع كون الألفاظ أسامي لخصوص الصحيحة ، فالمعنى الشرعي أعمّ منها ومن الفاسدة.

ولو سلّم فيتوجّه إليه إنتاجه الصحّة بمعنى موافقة الأمر أو إسقاط القضاء لعدم دخول الصحّة بهذا المعنى في مسمّى اللفظ على القول بالصحيحة ، ولا في المراد منه على تقدير إرادة الصحيحة على القول بالأعمّ ، فغاية ما يثبت بمقدّمتي الدليل بعد التوجيه المتقدّم هو الدلالة على الصحّة وهو اجتماع الماهيّة الشرعيّة المنهيّ عنها للأجزاء والشرائط الواقعيّتين ، وهذا لا يلازم كونها من المكلّف المنهيّ مأمورا به ليثبت الصحّة بمعنى موافقة الأمر أو إسقاط القضاء كما تقدّم ذكره مشروحا.

ومن الأعلام من أجاب عن شبهة التكليف بغير المقدور بعد ما قرّرها في خصوص صلاة الحائض : « بأنّا نقول : إنّها متمكّنة عن الصلاة الصحيحة في الجملة وإن لم تكن صحيحة بالنسبة إلى خصوص الحائض.

ولا ريب أنّ الصلاة الجامعة للشرائط غير عدم كونها في أيام الحيض صحيحة بالنظر إلى سائر المكلّفين وبالنظر إليها قبل تلك الأيّام ، وعدم تمكّنها من الصلاة الصحيحة بالنسبة إلى نفسها وامتناعها عنها إنّما هو بهذا المعنى ، والنهي وطلب ترك الممتنع بهذا المنع لا مانع

ص: 691

منه » إلى آخره.

وهذا قريب ممّا تقدّم نقله عن ابن الحاجب وغيره.

ولكن ربّما يشكل في بادئ النظر من جهة أنّ عدم كون الصلاة في أيّام الحيض بالنسبة إلى النسوان - الّذي يعبّر عنه بالطهر - إن اعتبر كونه من الشرائط الواقعيّة من الصلاة فلا بدّ وأن يكون مأخوذا في المستعمل فيه اللفظ لفرض وقوعه على الصحيح ، ولا يكون صحيحا إلاّ إذا جامع الشرائط الّتي منها ما ذكر ، ولا ريب أنّه ممتنع في أيّام الحيض وامتناعه سابق على النهي المفروض فيكون النهي عنه نهيا عن الممتنع بغير هذا النهي وكونه مقدورا بالنظر إلى سائر المكلّفين وبالنسبة إليها قبل أيّام الحيض لا يسوّغ صحّة نهيها عنه ، إذ التمكّن الّذي هو من شرائط التكليف يعتبر وجوده بالنسبة إلى المكلّف نفسه حال التكليف ولا يكفي تمكّن غيره ولا تمكنه في غير تلك الحال ، إلاّ على مذهب الأشاعرة القائلة بأنّ الإمكان الّذي هو من شرائط التكليف هو أن يكون المكلّف به ممّا يتأتّى فعله عادة عند دخول وقته واستجماع شرائطه وامتناعه لعارض من جهة انتفاء شرط أو وجود مانع لا ينافيه.

وحاصله : أنّ شرط التكليف هو الامكان الذاتي الّذي لا ينافيه الامتناع العرضي وهذا خلاف مذهب العدليّة.

وإن لم يعتبر كونه من الشرائط الواقعيّة المأخوذة مع المكلّف به الّذي هو مسمّى اللفظ كما يظهر البناء عليه من قوله : « غير عدم كونها في أيّام الحيض » فلازمه عدم الامتناع من رأسه حتّى بعد النهي.

وبالجملة ما خلي عن الشرط المذكور مقدور لها قبل النهي وبعده ولا اختصاص لمقدوريّتها بسائر المكلّفين ولا بما قبل أيّام الحيض.

وأمّا الكلام في ترجيح أحد الاعتبارين فالظاهر أنّ المتعيّن هو الثاني ، نظرا إلى أنّ حالة الحيض كحالة الصبا والجنون ونحوها اعتبرت موانع التكليف وأثرها انتفاء التكليف ، فيكون أضدادها من الطهر والبلوغ والعقل من شروط التكليف ، بخلاف الحدث بقسميه والنجاسة ونحوها ممّا اعتبر عدمه في الصلاة فإنّها موانع للمكلّف به ، وأثرها عدم تحقّق المكلّف به في الخارج ، فيكون أضداده من الطهارة حدثا وخبثا من شروط المكلّف به لا التكليف.

وضابط الفرق بين القسمين : أنّ موانع التكليف كشروطها امور غير مقدورة للمكلّف خارجة عن اختياره لانتفاء القدرة على رفعها ولا على إيجادها ، وموانع المكلّف به امور

ص: 692

مقدورة له للقدرة على رفعها كما أنّ شروطه مقدورة ولو بمقدوريّة مبادئها ، ومن خواصّها كون عدمها من قيود المكلّف به ، وعلى ذلك ينزّل إطلاق من صرّح بأنّ عدم المانع شرط ، بخلاف موانع التكليف فإنّ من خواصّها عدم صلاحيّة كون عدمها من قيود المكلّف به لخروجها عن المقدوريّة ، وكما يشترط في التكليف كون المكلّف به في نفسه مقدورا للمكلّف فكذلك يشترط كون الامور المعتبرة فيه من الأجزاء والشروط أيضا مقدورة له ولو بمقدوريّة مبادئها.

وبالجملة يشترط كون المكلّف به في نفسه وبجميع أجزائه وقيوده مقدورا للمكلّف ، فلا يعقل كون جزء من أجزائه ولا كون قيد من قيوده غير مقدور له خارجا عن اختياره لامتناع التكليف بغير المقدور ، فلا يصحّ كون الطهر وعدم الحيض من شروط الصلاة المأخوذة في مسمّاها على القول بالصحيحة ، فالصحيح من الصلاة على هذا القول هو الماهيّة الجامعة لجميع الشرائط الّتي ليس منها عدم كونها في أيّام الحيض.

وهذا هو السرّ في ورود هذا القيد في كلام بعض الأعلام هنا وإن كان بعض كلامه لا يخلو عن تهافت واضطراب ، وحينئذ نقول : إنّ الصلاة بهذا المعنى مقدورة لجميع المكلّفين حتّى الحائض في أيّام الحيض فلا فرق من هذه الجهة.

نعم الفرق إنّما هو في كون الماهيّة الصحيحة بالقياس إلى غيرها وإليها في غير تلك الأيّام مع كونها مقدورة ممّا أمر بها فتكون صحيحة بمعنى موافقة الأمر أيضا ، بخلافها في أيّام الحيض فإنّها وإن كانت مقدورة لها إلاّ أنّها غير مأمور بها في حقّها لامتناع الأمر مع وجود النهي فنهيها عنها نهي لها عن غير الممتنع.

نعم الممتنع في حقّها هي الصلاة الصحيحة بمعنى موافقة الأمر من جهة انتفاء الأمر لوجود النهي وحينئذ فيسأل عن أبي حنيفة وصاحبيه أنّ مرادهم من الصحّة في دعوى دلالة النهي عليها إن كان هو الصحّة بهذا المعنى فهي ممتنعة بالقياس إليها امتناعا مسبّبا عن النهي ، فكيف يعقل دلالته عليها؟ وإن كان هو الصحّة بالمعنى الأوّل فإثبات الدلالة عليها لا يجدي نفعا مع أنّ الدلالة على الصحّة بالمعنيين معا غير معقولة في المنهيّ عنه لجزئه أو لشرطه أو لوصفه اللازم سيّما إذا كان منشؤه فقدان الجزء أو الشرط أو الوصف ، فليتدبّر في المقام فإنّه من مزالّ الأقدام.

ص: 693

موضوع الباب ، العامّ والخاصّ

المطلب الثالث

في العموم والخصوص*

_______________________________

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

* وكأنّ التعبير بذلك - كما في العدّة والمنهاج أيضا - للمح أنّ أغلب المباحث اللاحقة للعامّ والخاصّ إنّما هو من حيث العموم والخصوص ، أو أنّه مسامحة في التعبير ، وإلاّ فموضوع الباب المقصود بالبحث في مباحثه إنّما هو العامّ والخاصّ كما عبّر بهما الأكثر.

ولذا تراهم متّفقين على تعريف العامّ أو هو مع الخاصّ لا العموم والخصوص.

وكيف كان فهذا المبحث كمباحث الأوامر والنواهي والمفاهيم والمطلق والمقيّد من أظهر المباحث الاصوليّة الباحثة عن أحوال الأدلّة.

ولا ينافيه تعلّقها بأحوال اللفظ الموجب لكون المسألة من هذه الجهة لغويّة ، لأنّ العمدة من أدلّة الأحكام الكتاب والسنّة وهما لفظيّان والبحث عنهما لجزئهما الّذي منه العامّ والخاصّ كالأمر والنهي والمنطوق والمفهوم والمطلق والمقيّد بحث عن حال الدليل ولذا يسمّى هذه الموضوعات في بعض الكتب الاصوليّة مشتركات الكتاب والسنّة.

ولا ينافي هذه التسمية بالنسبة إلى العامّ والخاصّ للحوق وصفي العموم والخصوص للإجماع المنقول الّذي ليس من الكتاب ولا السنّة ، لما قرّر من أنّه باعتبار العبارة الناقلة دليل لفظي يلحقه جميع أحكام اللفظ ، فقد يكون عامّا وقد يكون خاصّا وقد يكون مطلقا وقد يكون مقيّدا وقد يكون مجملا وقد يكون مبيّنا وهكذا وذلك إمّا لأنّ النظر في هذه التسمية إلى ما هو الغالب في الدليل اللفظي ، أو لأنّ تدوين الإجماع المنقول والبحث عن حجّيّته وعدّه من الأدلّة إنّما حدث من المتأخّرين ، والتسمية المذكورة جرى على مذاق القدماء الخالي كتبهم عن تدوينه والبحث عن حاله ، أو لأنّ السنّة أعمّ من التفصيليّة والإجماليّة والإجماع المنقول على القول بحجّيّته استنادا إلى أدلّة حجّيّة خبر الواحد الّتي منها آية النبأ سنّة إجماليّة ، بناء على أنّ البحث عن حجّيّة خبر الواحد بحث عن حال السنّة لرجوعه إلى أنّها هل تثبت بخبر العدل أو لا؟

ومنها الإجماع المنقول فيلحقه من المباحث والأوصاف الّتي منها التسمية المذكورة ما يلحقها فيدخل عامّه وخاصّه في عامّ السنّة وخاصّها ، وبهذا الاعتبار يندرج في عنوان المشتركات أيضا.

ص: 694

تعريف العامّ

ثمّ إنّ العامّ قد يرد في كلامهم مقيّدا بالاصولي وقد يرد مقيّدا بالمنطقي وهو ما يدلّ على الماهيّة المطلقة الملحوظة لا بشرط شيء ، غير أنّه عند إطلاقه وتجرّده عن القرينة ينصرف إلى الأوّل ولا يطلق على الثاني إلاّ مع القيد فيكون مجازا فيه وحقيقة في الأوّل وهو المعنى المصطلح عليه الاصولي المقصود بالبحث والتعريف.

وقد اختلفوا في تعريفه وذكروا له تعاريف مختلفة لا على أنّه اختلاف في المعرّف الّذي هو المعنى المصطلح عليه ليكون المسألة في معنى العامّ خلافيّة ، ولا أنّه اختلاف في مصاديقه أو أنّه ناش عن اشتباه المصاديق بمصاديق غيره بل المعنى المصطلح عليه عند الكلّ واحد معلوم لديهم حتّى قيل - كما في المناهج عن بعض المتأخّرين - : « أنّ معنى العموم بديهيّ للداخل في الفنّ ، ولذا تعرّض كلّ من أتى بتعريف للمناقشة في تعريف غيره بعدم سلامة عكسه أو طرده أو عدم عكسه وطرده معا ». فالاختلاف المذكور اختلاف في تعيين المعنى الواحد المصطلح عليه ، والمفروض أنّ مصاديقه أيضا متمايزة في الخارج عن مصاديق غيره ، فإنّهم جعلوه باعتبار ذلك المعنى الواحد العامّ اصطلاحا في نبذة من الألفاظ الموضوع كلّ واحد منها لغة أو عرفا للعموم اللغوي بمعنى الشمول المنقسم إلى استغراق الجزئيّات واستغراق الأجزاء ، وأرادوا من تعريفاتهم ما ينطبق عليها جمعا ومنعا وهي لفظ « كلّ » مضافا إلى النكرة في استغراق الجزئيّات أو إلى المعرفة في استغراق الأجزاء ، و « الجميع » و « أجمع » وأخواتها في استغراق الأجزاء ، والجمع المحلّى باللام في استغراق الجزئيّات ، و « كافّة » و « عامّة » و « قاطبة » و « من » و « ما » الشرطيّين في استغراق الجزئيّات أيضا ، و « متى » و « أين » و « مهما » و « حيثما » و « كيفما » و « متى ما » و « إذ ما » و « إذا ما » في استغراق الجزئيّات من الزمان أو المكان أو الحال ، و « لا شيء » والنكرة المنفيّة للجزئيّات أيضا بالنسبة إلى الحكم السلبي.

وهذه كلّها مصاديق العامّ الاصولي الممتازة عن مصاديق غيره وهي العشرة وغيرها من الأعداد والتثنية والجمع المنكر والمعرّف بالنسبة إلى ما عدا الاستغراق من معانيه الآتية ، والمفرد المعرّف « باللام » إلاّ في قول شاذّ ، والنكرة المصطلح عليها حسبما يأتي بيانه ، واسم الجنس منوّنا وغيره ، والأعلام شخصيّة وجنسيّة ، والضمائر إلاّ الجمع منها في قول ضعيف ، والمبهمات من أسماء الإشارة والموصولات إلاّ « من » و « ما » الموصولتان في قول ، والمشترك بالنسبة إلى معانيه على القول بجواز استعماله في الجميع بل ظهوره عند

ص: 695

التجرّد عن القرينة في إرادة الجميع ، واللفظ بالقياس إلى معنييه الحقيقي والمجازي على القول بجواز الاستعمال فيهما.

ولا ريب أنّ الفرق بين الطائفة الاولى وبين هذه الطائفة بحسب المعنى بديهيّ بحسب اللغة يجده الوجدان السليم ويدركه الفهم المستقيم ، حيث ينساق من كلّ واحد من آحاد الطائفة الاولى في متفاهم العرف ما لا ينساق من شيء من آحاد الطائفة الثانية ، وهو أمر ذهنيّ مضاف إلى الجزئيّات أو الأجزاء على وجه دخول الإضافة وخروج المضاف إليه ، وهو الّذي يعبّر عنه في الترجمة الفارسية ب- « هر » في استغراق الجزئيّات و « همه » في استغراق الأجزاء و « هيچ » في استغراق الحكم السلبي في النكرة المنفيّة وفي « لا شيء » الّذي هو سور للسالبة الكليّة عند المنطقيّين.

وأمّا التعاريف المختلفة :

فمنها : ما عن أبي الحسين البصري من أنّه : « اللفظ المستغرق لما يصلح له » وعن بعض المتأخّرين اختياره مع زيادة قيد فعرّفه بأنّه : « اللفظ المستغرق لما يصلح له بوضع واحد ».

وقد يحكى عن أبي الحسين أنّه قد عرّفه بأنّه : « اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له » واختاره العلاّمة في التهذيب بزيادة قيد « بحسب وضع واحد ».

وعن قاضي القضاة اختياره أيضا مع زيادة قيد آخر مكان القيد المذكور فعرّفه بأنّه : « اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له في أصل اللغة » من غير زيادة احترازا عن التثنية والجمع.

ومنها : ما عن العلاّمة في النهاية من أنّه : « اللفظ الواحد المتناول بالفعل لما هو صالح له بالقوّة مع تعدّد موارده ».

ومنها : ما عن الغزالي من أنّه : « اللفظ الواحد الدالّ من جهة واحدة على شيئين فصاعدا ».

ومنها : ما عن المحقّق في المعارج من أنّه : « اللفظ الدالّ على اثنين فصاعدا من غير حصر ».

ومنها : ما عن الآمدي في الأحكام من أنّه : « اللفظ الواحد الدالّ على مسمّيين فصاعدا مطلقا معا ».

ومنها : ما عرّفه به الحاجبي من أنّه : « ما دلّ على مسمّيات باعتبار أمر اشتركت فيه مطلقا ضربة أي دفعة ».

ومنها : ما عرّفه به بعض الفضلاء من أنّه : « اللفظ المستغرق لما اندرج تحته من الأجزاء أو الجزئيّات ».

ص: 696

ومنها : ما عرّفه به الشيخ البهائي بقوله : « ولا يبعد أن يقال هو اللفظ الموضوع للدلالة على استغراق أجزائه أو جزئيّاته » قال في الحاشية : « ولا يرد المثنّى ولا الجمع المنكر ولا المعهود ولا عشرة ولا الجملة لأنّ وضع كلّ منها ليس للدلالة على الاستغراق بل للدلالة على معانيها ، ولو كان كلّ منها موضوعا للدلالة على الاستغراق لكان إدخال أداة الاستغراق للتأكيد لا للتأسيس ، وأمّا « رجال » بدون اللام فإنّما وضع ليدلّ على جماعة الرجال فهو موضوع لجماعتهم لا لاستغراق تلك الجماعة ، ولا يرد : « مهما تأكل » لأنّ جزئيّاته تظهر من مدخوله فإذا ظهرت استغرقها » انتهى.

والتعليل عليل وإن كان إخراج ما ذكر عن التعريف في محلّه لعدم دخول استغراق الحكم لآحاد معاني الألفاظ المذكورة الّتي هي أجزاؤها في أوضاعها بل الدلالة عليه تحصل من التركيب الكلامي بالالتزام.

ويظهر من بعض الأعلام ارتضاؤه بالتعريف المذكور إلاّ أنّه - بعيد كلام له - قال : « بأنّ هذا اصطلاح وإلاّ فلا مانع من جعل العشرة المثبتة أيضا عامّا كما يشهد به صحّة الاستثناء » انتهى (1).

وحاصل ما ذكره : أنّ أخذ الوضع في تعريف العامّ إنّما هو بحسب اصطلاح الاصولي وإلاّ فلا مانع من جعل العشرة أيضا عامّا ، بدعوى : أنّ العامّ ما دلّ على استغراق الجزئيّات أو الأجزاء سواء كان دلالته بالوضع أو لا ، وإنّما خصّه بالمثبتة لأنّ النفي في العشرة المنفيّة كقولنا : « ليس له عليّ عشرة » مثلا يدلّ على نفي ثبوت العشرة في الذمّة وهذا يمكن أن يكون باعتبار انتفاء جميع آحاد عشرة ، ويمكن أن يكون باعتبار انتفاء بعض آحادها ، فلا يدلّ على استغراق الحكم السلبي لجميع أجزاء العشرة لا صراحة ولا ظهورا.

وفي جعله المثبتة عامّا نظر بل منع ، لأنّ مصداق العامّ الاصولي بالمعنى المأخوذ فيه الوضع لا بدّ وأن يكون عامّا لغويّا ولا يكون إلاّ موضوعا للدلالة على الاستغراق ، فالعشرة ليست بعامّ وإن كانت مثبتة لعدم دخول الاستغراق بالمعنى الآتي في وضعها بل هي موضوعة لمرتبة خاصّة من العدد ، وصحّة الاستثناء لا تنهض دليلا على العموم وإن كانت تكشف عن دخول التعدّد في المعنى الموضوع له ، والاستثناء يتبع التعدّد وهو أعمّ من العموم المصطلح عليه.

ص: 697


1- القوانين 1 : 192.

وكيف كان فأجود التعاريف وأسدّها وأظهرها انطباقا على المصاديق اللغويّة هو هذا التعريف الأخير مع توجيه وإصلاح منّا يندفع به ما هو العمدة ممّا يرد عليه وهو : فساد المعنى بمقتضى ظهور عود الضميرين إلى اللفظ ، ضرورة عدم كون الأجزاء والجزئيّات المستغرق لها أجزاء اللفظ وجزئيّاته.

ولا يمكن إصلاحه بإضمار المعنى لوضوح عدم كونهما أجزاء معناه وجزئيّاته أيضا ، وهو الأمر الذهني المضاف إليهما على وجه دخول الإضافة وخروج المضاف إليه ولذا يكون دلالة العامّ على نفس الأجزاء والجزئيّات عندنا التزاميّة باللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ ، للزوم تصوّر المضاف إليه الخارج عن الموضوع له من تصوّره.

وحاصل التوجيه : أنّ اللام في قوله : « للدلالة » للغاية نظير اللام الداخلة على الدلالة المأخوذة في تعريف الوضع : « بأنّه تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه » فتفيد كون الدلالة فائدة مقصودة من وضع اللفظ.

وقضيّة ذلك أن يكون المعنى الموضوع له هو استغراق الأجزاء والجزئيّات فلو قيل : « الأسد موضوع للدلالة على المفترس » كان معناه : أنّه موضوع للمفترس ليدلّ عليه ، و « الاستغراق » مصدر وإضافته إلى الأجزاء والشرائط من قبيل إضافة المصدر إلى المفعول ، ومن الظاهر أنّه لا بدّ له من فاعل وهو الحكم لأنّه الّذي يستغرق الأجزاء والجزئيّات ويستوعبهما ، ومن الظاهر أيضا أنّ الحكم لا بدّ له من موضوع فالضميران يعودان إلى الموضوع من باب العود إلى المرجع المعنوي المنساق من سياق الكلام على حدّ قوله تعالى : ( وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ ) (1) فيكون معنى التعريف : « أنّ العامّ هو اللفظ الموضوع للدلالة على استغراق الحكم أجزاء موضوعه أو جزئيّاته ».

والمراد بموضوع الحكم في لفظ « الكلّ » مضافا إلى النكرة في استغراق الجزئيّات ، والمعرفة في استغراق الأجزاء هو مدلول مدخوله وهو المضاف إليه ، وفي الجمع المحلّى باللام هو مدلول المادّة المتقوّم بها الهيئة الحاصلة من « اللام » ومدخولها ، نظرا إلى أنّها موضوعة للدلالة على استغراق الحكم لجزئيّات موضوعه وهو مدلول المادّة أعني جنس المفرد المراد من صيغة الجمع حيث تكون الهيئة للعموم الأفرادي المستلزم لانسلاخ معنى الجمعيّة عن الجمع ، أو لأجزاء موضوعه وهو مدلول المادّة أيضا أعني جنس الجمع المعبّر

ص: 698


1- النساء : 11.

عنه بمفهوم جماعة الّذي يراد من الصيغة أيضا حيث تكون الهيئة للعموم المجموعي ، فإنّ آحاد الجماعة على هذا التقدير أجزاء لمدلول المادّة وهو مفهوم الجماعة.

والفرق بين الاعتبارين أنّ جنس المفرد على الأوّل يراد من صيغة الجمع مجازا ، وجنس الجمع على الثاني يراد منها حقيقة ولو باعتبار تحقّقه في ضمن مصداق واحد بعينه على وجه إطلاق الكلّي على الفرد.

ولأجل كون « الكلّ » مضافا إلى نكرة موضوعا لاستغراق الحكم لجزئيّات موضوعه جعله علماء المنطق سورا للقضيّة في الموجبة الكليّة ، فإنّ سور الموجبة الكليّة عندهم عبارة عمّا يكون آلة لإدراك حال الحكم من حيث تسرّيه إلى جميع أفراد موضوع القضيّة وهو مدخول « الكلّ » ولذا يجعلون السور من جملة الحكم باعتبار كونه بحسب المعنى من القيود المعتبرة في جانب المحمول وإن كان بحسب اللفظ مأخوذا مع الموضوع ، فإنّ قولنا : « كلّ إنسان كاتب » في معنى قولنا : « الإنسان كلّه كاتب » ومثله « لا شيء » في سور السالبة الكليّة عندهم كقولنا : « لا شيء من الإنسان بحجر » فإنّه بحسب اصطلاحهم آلة لإدراك حال الحكم السلبي من حيث تسرّيه إلى جميع أفراد موضوعه ، وبحسب الاصطلاح الاصولي موضوع للدلالة على استغراق الحكم لجزئيّات موضوعه ، ووضعه لذلك هو الباعث على صيرورته آلة لإدراك حال الحكم من حيث تسرّيه إلى جميع الأفراد ، فإنّ تسرّيه إلى الجميع عبارة اخرى لاستغراقه للجميع ، فلفظ « لا شيء » أيضا من ألفاظ العموم على معنى أنّ كلمة « لا » لكونها النافية للجنس تنفي المحمول عن مفهوم شيء ، والهيئة الحاصلة منها ومن مدخولها موضوعة ولو عرفا للدلالة على استغراق ذلك النفي لجميع جزئيّات موضوع القضيّة الّتي هي من مصاديق مفهوم « شيء » وفي معناه النكرة المنفيّة كقولنا : « لا رجل في الدار » فإنّ كلمة « لا » تنفي الوجود في « الدار » عن جنس الرجل ، والهيئة الحاصلة منها ومن مدخولها موضوعة - ولو عرفا - للدلالة على استغراق ذلك لجميع جزئيّات الجنس.

وبالتأمّل فيما شرحناه في توجيه التعريف يظهر وجه اندفاع الإشكال المتقدّم من جهة الضميرين ، كما يظهر وجه انطباق التعريف على جميع مصاديق العامّ عكسا وطردا.

وأمّا ما أورد على طرده تارة : بلفظ وضع للدلالة على الاستغراق فنقل إلى معنى آخر بحيث هجر وضعه الأوّل ، فإنّه يصدق عليه التعريف مع عدم كونه من المعرّف.

ص: 699

واخرى : بالعامّ المخصوص والمستعمل في غير العموم للمبالغة وغيرها لصدق الحدّ عليه مع عدم اندراجه في العامّ ، كما في كلام بعض الأفاضل (1).

وثالثة : باللفظ الموضوع للاستغراق قبل الاستعمال فيه فإنّه ليس بعامّ ، لأنّ العموم من صفات الحقيقة والمجاز وهذا ليس بحقيقة ولا مجاز مع صدق الحدّ عليه كما في كلام بعض الأعاظم (2).

فيندفع الأوّل : بمنع صدق الحدّ على اللفظ المفروض بعد هجر وضعه لاشتراط بقاء المبدأ في صدق المشتقّ وكونه حقيقة في حال التلبّس وهذا ليس منه ، وإرادة ما انقضى عنه المبدأ ولو بعلاقة ما كان مع دخول حال التلبّس أيضا في الإرادة استعمال للّفظ في معناه الحقيقي والمجازي وهو ليس بسائغ.

ويندفع الثاني : بمنع عدم اندراج العامّ المخصوص والمستعمل فيما عدا العموم في العامّ اصطلاحا ، فإنّه من حيث وضع للاستغراق عامّ ولكنّه لم يستعمل في الاستغراق ولذا يقال له : العامّ المخصوص والعامّ المستعمل في غير العموم ، فرجع الكلام إلى أنّه يكفى في صدق العامّ على شيء اصطلاحا مجرّد كونه موضوعا للدلالة على الاستغراق ولا يعتبر مع وضعه له استعماله فيه ، فهو لأجل وضعه للاستغراق عامّ اصطلاحا سواء اريد منه الاستغراق في الاستعمال أو لا.

ويندفع الثالث : بمنع كون العموم تابعا للاستعمال إن اريد به ما هو مبدأ اشتقاق العامّ المعرّف باللفظ الموضوع للدلالة على الاستغراق ، فإنّ مبدأ اشتقاقه العموم بمعنى كون اللفظ موضوعا للدلالة على الاستغراق ولا نسلّم كونه تابعا للاستعمال.

وإن اريد به العموم اللغوي وهو الشمول الفعلي فهو وإن كان من صفات الحقيقة والمجاز تابعا للاستعمال ولكنّه ليس من مبدأ اشتقاق العامّ المعرّف بحسب المعنى في شيء.

كما أنّ ما اورد على عكسه تارة : باللفظ المستعمل في الاستغراق مجازا كالمفرد المحلّى باللام ، بل مطلق ألفاظ العموم - على القول بكونها موضوعة للخصوص - فإنّه عامّ ولا يشمله الحدّ.

واخرى بالجمع المعرّف باللام إذا اعتبر عمومه مجموعيّا فإنّه من أفراد المحدود ولا يصدق عليه الموضوع للدلالة على أجزائه لأنّه موضوع للجماعة وهو كلّي لا أنّه كلّ

ص: 700


1- هداية المسترشدين 3 : 151.
2- إشارات الاصول : 114.

ليعتبر له أجزاء.

فيندفع الأوّل : بمنع اندراج ما استعمل في الاستغراق مجازا في العامّ وإن اطلق عليه العامّ في بعض الأحيان باعتبار كونه في حكم العامّ لا أنّه عامّ حقيقة لدخول الوضع في مفهوم العامّ عندهم ، وكونه معتبرا في مصاديقه لكون كلماتهم بين ظاهرة وصريحة في ذلك ، ومن الصريحة ما يأتي في المسألة الآتية من اختلافهم في أنّ ما ادّعي كونه للعموم هل هي حقيقة في العموم ومجاز في الخصوص أو بالعكس أو مشتركة بينهما؟

ومنها : ما سيأتي أيضا من اختلافهم في كون العامّ المخصّص حقيقة في الباقي أو مجازا فيه؟

ومنها : ما سيأتي أيضا من استدلال القائلين بعدم حجّيّة العامّ المخصّص بأنّه صار بالتخصيص مجازا ولتعدّد المجازات صار مجملا فخرج عن الحجّيّة إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

ويندفع الثاني : بأنّ المستعمل فيه في العامّ المجموعي هو مصداق الجماعة وهو عبارة عن الآحاد المجتمعة فيكون كلاّ اعتباريّا وآحاده أجزاء اعتباريّة.

فإن قلنا بأنّ الجمع المعرّف باللام حقيقة في العموم المجموعي أيضا يصدق عليه اللفظ الموضوع للدلالة على استغراق أجزائه هذا.

وأمّا سائر التعاريف فلا جدوى في التعرّض لما يرد عليها من انتقاض طرد أو عكس أو غير ذلك هذا كلّه في تعريف العامّ.

وأمّا الخاصّ فلم يتعرّض الأكثرون لتعريفه وأكثر الكتب الاصوليّة خلوّ عن بيان معناه.

تعريف الخاصّ

وأمّا الأقلّون فذكروا له تعاريف :

منها : ما في أحكام الآمدي من : « أنّه اللفظ الواحد الّذي لا يصلح مدلوله لاشتراك كثيرين فيه كأسماء الأعلام من زيد وعمرو ونحوه ».

وفيه : انتقاض عكسه بل خارجه من أفراد المعرّف أكثر من داخله ، فإنّه لا يتناول ما عدا الجزئيّات الحقيقيّة.

ومنها : ما فيه أيضا من أنّه : « اللفظ الّذي يقال على مدلوله وعلى غير مدلوله لفظ آخر من جهة واحدة كلفظ « الإنسان » فإنّه خاصّ يقال على مدلوله وعلى غيره كالفرس والحمار لفظ « الحيوان » من جهة واحدة ».

ص: 701

وفيه من الخلط بين الاصطلاح الاصولي والاصطلاح المنطقي في الخاصّ والعامّ ما لا يخفى ، فيرجع إلى التعريف بالمبائن فإنّ ما ذكروه منطبق على الخاصّ المنطقي قبالا للعامّ المنطقي كما يرشد إليه التمثيل بالنوع والجنس المقول على أنواعه.

ومنها : ما عن ذريعة السيّد من : « أنّه ما يتناول شيئا واحدا » (1).

وفيه : انتقاض العكس إن اريد بقيد واحد الوحدة بشرط لا ، لأنّه لا ينطبق إلاّ على الأعلام الشخصيّة وانتقاض طرده إن اريد به الوحدة لا بشرط ، أي سواء تناول أزيد من واحد أو لا لأنّه يشمل العامّ بجميع أفراده فإنّه يتناول الواحد لا محالة لأنّه القدر المتيقّن ممّا يندرج تحته ولو على القول بجواز التخصيص إلى واحد.

ومنها : ما يستفاد من الشيخ في العدّة حيث قال : « ومعنى قولنا في اللفظ : « أنّه خاصّ » يفيد أنّه يتناول شيئا مخصوصا دون غيره ممّا كان يصحّ أن يتناوله ».

وفيه أيضا انتقاض العكس لأنّه لا يشمل إلاّ العامّ المخصّص كقولنا : « أكرم العلماء العدول » أو « أكرم العلماء إلاّ فسّاقهم » أو « أكرم العلماء إن جاؤوك أو إلى أن يفسقوا » فإنّه الّذي يتناول الشيء المخصوص وهو البعض المراد من اللفظ دون غيره من سائر الأفراد لوجود مانع التخصيص مع صحّة تناوله لو لا التخصيص.

ومنها : ما حكاه الآمدي من : « أنّه كلّ ما ليس بعامّ » وفي معناه ما أشار إليه الحاجبي فإنّه بعد ما عرّف العامّ بما تقدّم قال : « والخاصّ بخلافه ».

واعترض عليه بما حكاه بعض الأعاظم (2) من أنّ العامّ والخاصّ متبائنان فتعريف أحدهما بالآخر دوري.

ويدفعه : منع لزوم الدور ما لم يكن التوقّف من الجانبين وهو أن يعرف كلّ منهما بالآخر وهاهنا ليس كذلك ، لعدم كون الخاصّ مأخوذا في تعريف العامّ فمعرفة الخاصّ حينئذ موقوفة على معرفة العامّ ولا عكس.

والّذي يظهر لي أنّ ما ذكر تعريف تامّ لا يرد عليه انتقاض طرد وانتقاض عكس ، فإنّ العامّ والخاصّ من الامور الإضافيّة فلو ورد في الخطاب : « أكرم الناس ، وأكرم الرجال ، وأكرم العلماء ، وأكرم الاشتقاقيّين ، وأكرم الصرفيّين ، وأكرم زيدا » فكلّ واحد ممّا عدا

ص: 702


1- الذريعة في اصول الشريعة 2 : 197.
2- إشارات الاصول : 114.

الأخير عامّ بالإضافة إلى ما اندرج تحته ، فيصدق على كلّ أنّه اللفظ الموضوع للدلالة على استغراق الحكم المعلّق عليه أجزاء موضوعه وجزئيّاته ، وكلّ واحد ممّا عدا الأوّل خاصّ بالإضافة إلى ما هو أعمّ منه لأنّه لم يوضع للدلالة على نحو الاستغراق الّذي وضع ما هو إسم أعمّ منه للدلالة عليه ، فإنّ « الناس » بمقتضى وضعه يدلّ على استغراق حكمه النساء ولم يوضع « الرجال » للدلالة على هذا الاستغراق ، و « الرجال » أيضا بمقتضى وضعه يستغرق حكمه للعوام ولم يوضع « العلماء » للدلالة على هذا الاستغراق ، و « العلماء » أيضا بمقتضى وضعه يدلّ على استغراق حكمه لغير الاشتقاقيّين ولم يوضع « الاشتقاقيّون » للدلالة على هذا الاستغراق ، و « الاشتقاقيّون » أيضا بمقتضى وضعه يدلّ على استغراق حكمه لغير الصرفيّين ولم يوضع « الصرفيّون » للدلالة على هذا الاستغراق ، و « الصرفيّون » أيضا بمقتضى وضعه يدلّ على استغراق حكمه لغير زيد ولم يوضع « زيد » للدلالة على هذا الاستغراق.

وهذا هو المراد من نفي العامّ المأخوذ في تعريف الخاصّ ، ومحصّله نفي وضعه للدلالة على نحو العموم الّذي كان ما هو أعمّ منه موضوعا للدلالة عليه.

والسرّ فيه : أنّ الإضافة المذكورة تقتضي أن يؤخذ في تعريف المضاف ما اعتبر ثبوته في تعريف المضاف إليه وهو النحو الخاصّ من الاستغراق المنتفي في وضع ما هو خاصّ بالإضافة إليه.

ولا يرد على ما وجّهناه للتعريف انتقاض طرده بالمهمل ، نظرا إلى أنّه أيضا لم يوضع للدلالة على الاستغراق ، لعدم كون جنس التعريف مطلق ما لم يوضع بل اللفظ الموضوع الّذي لم يوضع للدلالة على استغراق الحكم لأجزاء موضوعه أو جزئيّاته.

وإن شئت قلت : بملاحظة إضافته إلى ما هو أعمّ أنّه اللفظ الموضوع لا للدلالة على استغراق حكم ما هو أعمّ أجزاء موضوعه أو جزئيّاته ، فليتأمّل في ذلك فإنّه دقيق.

في عروض العموم للمعاني

تذنيب

في أنّ الاصولييّن بعد اتّفاقهم على أنّ العموم يعرض الألفاظ عروضا حقيقيّا وأنّ الألفاظ تتّصف به على وجه الحقيقة يقال : « لفظ عامّ » أو « هذا اللفظ عامّ » أو « أنّه يعمّ كذا وكذا » مثلا كما حكي نقل الاتّفاق عليه عن النهاية والمنية وكشف الرموز ، اختلفوا في عروضه المعاني أيضا وعدمه على قولين ، أحدهما عروضه لها والآخر منع عروضه لها كما في المنية ناسبا لثانيهما إلى الأكثرين كالسيّد المرتضى وأبي الحسين البصري والغزالي ، أو على ثلاثة أقوال كما في مختصر الحاجبي وشروحه :

ص: 703

أحدها : عدم عروضه لها لا حقيقة ولا مجازا.

وثانيها : عروضه لها مجازا لا حقيقة.

ثالثها : عروضه لها حقيقة واختاره الحاجبي.

وفي المفاتيح أيضا جعل الأقوال ثلاثة مع اختلاف في نفس القول :

أحدها : أنّه مجاز في المعاني نسبه إلى ظاهر الفاضلين في المعتبر والتهذيب والنهاية والشهيد في الذكرى والبهائي وأبي الحسين البصري والغزالي والبيضاوي والمحكيّ عن السيّد والأكثر.

وثانيها : أنّه حقيقة فيما يعمّ الأمرين وهو لظاهر الحاجبي والعضدي والطوسي وصاحب الصراح.

وثالثها : أنّه مشترك لفظي بين الأمرين وهو لظاهر الشيخ في العدّة وقوم من الاصوليّين ، وفي نسبته إلى ظاهر الشيخ منع لأنّه نفى البعد عن ذلك بعد ما استقرب المجازيّه قائلا : « فأمّا استعمال تلك اللفظ - يعني العامّ - في المعاني نحو قولهم : « عمّهم البلاء والقحط والمطر » وغير ذلك فالأقرب في ذلك أن يكون مجازا لا يطّرد في سائر المعاني ، فلو أنّ قائلا قال : إنّ ذلك مشترك ، لم يكن بعيدا انتهى.

وبعض الأعاظم جعل الأقوال خمسة : كونه مجازا في المعاني ، ومشتركا بينهما معنى أو لفظا ، وعدم صحّة الإطلاق على المعاني حقيقة ومجازا ، والتوقّف.

أقول : هذا النزاع بظاهره لا يخلو عن غرابة ، إذ العامّ والعموم المأخوذان في عنوان المسألة إن اريد بهما المعنى المصطلح في لسان الاصوليّين وهو ما اخذ في مفهومه اللفظ - ففسّر الأوّل باللفظ الموضوع لاستغراق الأجزاء والجزئيّات والثاني بشمول اللفظ للأجزاء والجزئيّات - فعدم لحوقهما باعتبار قيد اللفظ للمعاني المقابلة للألفاظ لا حقيقة ولا مجازا ضروريّ لا ينبغي أخذ مثله مسألة في العلوم النظريّة وإن اريد ما لا يدخل في مفهوميهما اللفظ ، ليكون الأوّل عبارة عن الأمر الشامل للمتعدّد من الأجزاء أو الجزئيّات والثاني عبارة عن شمول أمر للمتعدّد من الأجزاء أو الجزئيّات ، فلحوقهما المعاني أيضا على وجه الحقيقة بالتواطؤ والاشتراك المعنوي ضروري لا ينبغي عدّ مثله مسألة علميّة ، لوضوح أنّ العموم ومشتقّاته من الألفاظ اللغويّة المتداولة في استعمالات العرف عامّا وخاصّا فهو في

ص: 704

اللغة والعرف ليس مهملا بل موضوع ومستعمل يقال : « البليّة إذا عمّت طابت » و « البلاء عامّ » و « عمّ القحط » و « عمّ الخصب » و « عمّ الجدب » و « عمّ المطر » و « عطاؤه عامّ ».

وفي الحديث : سهم المؤلّفة والرقاب عامّ (1) أي يعمّ العارف وغير العارف والباقي خاصّ أي مخصوص بأهل المعرفة.

وفي الدعاء : « نتوب إليك من عوامّ خطايانا » (2) وهو جمع عامّة بمعنى كافّة ويقال أيضا :« الإنسان عامّ لمصاديقه أو يعمّ أفراده » كما يقال : « العلماء أو الكلّ عامّ » ويراد الشمول للأشياء المتعدّدة الكثيرة في الجميع.

غاية الأمر أنّ كلاّ من الأخيرين شائع في عرف أهل الاستدلال وعلماء الاصول والبواقي شائعة في العرف العامّ ، ويمتاز الثلاثة في أنّ العموم بمعنى الشمول حيث يضاف إلى اللفظ كما في عرف علماء الاصول يراد به دلالته على تمام المتعدّدين من الأجزاء أو الجزئيّات ، وحيث يضاف إلى المفهوم الكلّي كما في لسان أهل الاستدلال يراد به صدقه على جميع مصاديقه أو أفراده ، وحيث يضاف الى سائر المعاني من الأعيان الخارجيّة كالمطر ، أو المفاهيم الذهنيّة كالقحط والبلاء والعطاء كما في لسان أهل العرف العامّ يراد به حصوله ووجوده في محالّه وموارده ولو باعتبار حصول الجامع المشترك بينها كما في المطر ونحوه ، لاختصاص كلّ جزء منه بمحلّ غير محلّ الجزء الآخر وإنّما الحاصل في الجميع الجامع المشترك بين الأجزاء.

ولقد تنبّه بما بيّنّاه بعضهم - على ما حكي عنه - قائلا : بأنّه إن اريد بالعموم استغراق اللفظ لمسمّياته على ما هو مصطلح أهل الاصول فهو من عوارض الألفاظ خاصّة.

وإن اريد به شمول أمر لمتعدّد عمّ الألفاظ والمعاني.

وإن أريد به شمول مفهوم لأفراد كما هو مصطلح أهل الاستدلال اختصّ بالمعاني » انتهى (3).

ومن الأفاضل من وافقه في هذا التقسيم وذكر ما يقرب منه ثمّ قال في آخر كلامه : « فليس هناك معنى يصحّ وقوع النزاع فيه فيمكن أن يعود النزاع فيه لفظيّا كما نبّه عليه بعض الأعلام » انتهى (4).

أقول : جعل النزاع لفظيّا كما احتمله قدس سره أبعد من أصل النزاع بناء على الأخذ بظاهره.

ص: 705


1- الكافي 3 : 496.
2- مصباح المتهجّد : 528 ومن لا يحضره الفقيه 1 : 523.
3- حكاه عن بعض الأعلام في هداية المسترشدين 3 : 155.
4- هداية المسترشدين 3 : 154.

والّذي يظهر لي بعد إمعان النظر والتأمّل الثاقب - واللّه يعلم بالصواب - أن ليس المراد بالألفاظ المتّفق على كون العامّ حقيقة فيها مطلقها على معنى جميع ألفاظ العالم (1) ، ولا بالمعاني المقابلة لها المختلف في إطلاق العامّ عليها مطلقها أعني جميع معاني العالم (2) ، بل المراد بالألفاظ إنّما هي الألفاظ المخصوصة المدّعى كونها موضوعة للعموم ، بدليل أنّهم إنّما تعرّضوا لتلك المسألة عقيب الفراغ عن تعريفات العامّ وبيان معناه المصطلح عليه عندهم ، وقبل التعرّض لعنوان المسألة الآتية المعبّر عنها : بأنّه هل للعموم صيغة تخصّه أم لا؟ فلا معنى لكون نظرهم فيما عدا هذه الألفاظ المخصوصة ، مضافا إلى تمسّك المانعين من عروض العامّ للمعاني بالتبادر بمعنى سبق اللفظ إلى الذهن الّذي لا يثبت به إلاّ دخول اللفظ في وضعه في عرفهم لا مطلقا ، وهذا أيضا آية كون نظرهم مقصورا على الألفاظ المخصوصة الّتي اصطلحوا العامّ فيها ، فيكون المراد بالمعاني أيضا معاني هذه الألفاظ لا غير ، وهي مداليلها الّتي يعبّر عنها بالأجزاء أو الجزئيّات الّتي اعتبروا عموم الألفاظ وشمولها بالقياس إليها.

فيكون حاصل معنى العنوان : أنّ العموم الّذي يعرض هذه الألفاظ المخصوصة على وجه الحقيقة هل يعرض معانيها ، على معنى مداليلها من الأجزاء أو الجزئيّات بل الجزئيّات خاصّة أو لا؟

وعلى الأوّل فهل هو على وجه الحقيقة أو المجاز؟ وعلى الأوّل فهل هو باعتبار الاشتراك المعنوي أو الاشتراك اللفظي ومرجع هذا النزاع إلى ما قد يوجد في بعض الكتب الاصوليّة في تضاعيف الكلام في الجمع المحلّى باللام وما بمعناه من الجمع المضاف وإسم الجمع المعرّف باللام أو بالإضافة من التكلّم في أنّ عمومه هل هو أفرادي أو جمعي؟ على معنى أنّ « العلماء » مثلا في نحو : « أكرم العلماء » يفيد شمول الحكم لكلّ فرد أو يفيد شموله لكلّ جماعة؟ مع تصريحهم على الثاني بأنّ ثبوت الحكم لكلّ جماعة يستدعي ثبوته لكلّ واحد من آحاد الجماعة.

وعلى هذا التقدير فالجمع عامّ في الجماعات والجماعة أيضا عامّ في آحادها ، وقضيّة ذلك تحقّق عامّين في الجمع المعرّف وما بمعناه ، ومنه « أكرم القوم » و « أكرم كلّ العلماء » أحدهما لا حق باللفظ على وجه الحقيقة والآخر بمعناه ومدلوله على وجه المجاز أو الحقيقة أيضا باعتبار الاشتراك بينهما معنى أو لفظا.

فحاصل معنى العنوان حينئذ : أنّ هذه الألفاظ المخصوصة المفيدة لاستغراق الحكم

ص: 706


1- كذا في الأصل.
2- كذا في الأصل.

لجزئيّات موضوعه هل تفيد العموم في الأفراد- على تقدير كون الجزئيّات المستغرق لها الجزئيّات الحقيقيّة ولازمه أن لا يعرض العموم لها لا حقيقة ولا مجازا ، فلا يصحّ إطلاق العامّ على شيء من الجزئيّات المستغرق لها - أو في الأصناف أو الطوائف أو الجماعات ، على تقدير إرادة الجزئيّات الإضافيّة من الجزئيّات المستغرق لها ، ولازمه عروض العموم لكلّ من الجزئيّات الإضافيّة الّتي هي مداليل العامّ اللفظي بأحد الوجوه المذكورة ، بتقريب ما تقدّم من كون اللفظ عامّا في الجزئيّات الإضافيّة الّتي هي الأصناف أو الجماعات وكلّ صنف أو جماعة أيضا عامّا في آحاده مجازا أو حقيقة اشتراكا معنويّا أو لفظيّا.

فمرجع القول بعدم عروضه لها أصلا وعدم إطلاق العامّ عليها لا حقيقة ولا مجازا إلى أنّ ألفاظ العموم بأسرها موضوعة [ للعموم ] الأفرادي والفرد لكونه جزئيّا حقيقيّا لا يقال له العامّ أصلا ، ولعلّ دليله فقد مناط صدق العموم بمعنى الشمول وهو التعدّد عن الجزئي ومرجع [ القول ] بالمجاز إلى أنّها للأعمّ من العموم الأفرادي والجمعي بمعنى استغراق [ الأفراد ] والجماعات ، فيطلق العامّ على كلّ صنف أو جماعة لشمولهما آحادهما ولكن مجازا ، ودليله التبادر بمعنى سبق اللفظ إلى الذهن عند الإطلاق.

قال في المنية : « ولو كان حقيقة في المعنى أو في القدر المشترك بينهما لم يتحقّق ذلك السبق » مضافا إلى عدم الاطّراد وقرّره في المنية : بأنّه لو كان حقيقة في شيء من المعاني لاطّرد والتالي باطل فالمقدّم مثله.

وأمّا الشرطيّة : فلأنّ الاطّراد دليل الحقيقة ، وأمّا بطلان التالي : فلأنّه لا يوصف « زيد » و « عمرو » بالعموم حقيقة ولا مجازا.

والأصحّ هو هذا القول والعمدة من دليله عدم تبادر المعنى أو تبادر الغير وهو اللّفظ من إطلاق العامّ في عرف الاصوليّين.

وأمّا عدم الاطّراد بالتقرير المذكور فضعيف ، لعدم تحقّقه بالمعنى المعهود بالنسبة إلى « زيد » و « عمرو » وغيرهما من الجزئيّات الحقيقيّة ، وهو كون اللفظ المستعمل في مورد لوجود معنى فيه غير جائز الاستعمال في كلّ مورد وجد فيه ذلك المعنى ، فإنّ استعمال العامّ في الجزئيّات الإضافيّة كما في موارد العموم الجمعي إنّما هو لوجود معنى وهو شمول أمر لمتعدّد وهذا المعنى غير موجود في الجزئيّات الحقيقيّة من « زيد » و « عمرو » ونحوهما كما في موارد العموم الأفرادي ، ولو تمسّك الخصم حينئذ بالاطّراد في الجزئيّات الإضافيّة

ص: 707

هل للعموم صيغة تخصّه؟

الفصل الأوّل

في الكلام على ألفاظ العموم

أصل

الحقّ : أنّ للعموم في لغة العرب صيغة تخصّه*. وهو اختيار الشيخ ، والمحقّق ، والعلاّمة ، وجمهور المحقّقين.

_______________________________

أمكن دفعه بثبوت المجازيّة بعدم التبادر أو تبادر الغير فلا حكم معه للاطّراد.

واحتجّ القائل في المعاني أيضا : بأنّ أهل اللغة أطلقوا العموم على المعاني إطلاقا ظاهرا شائعا كقولهم : « عام العطاء » و « عام الجدب » و « عام الخصب » و « مطر عامّ » و « خير عامّ » وغير ذلك من موارد إطلاقهم ، وشيوع هذا الإطلاق يأبى كونه مجازيّا.

وزاد عليه القائل بالاشتراك المعنوي أمرين آخرين :

أحدهما : أنّ حقيقة العموم شمول أمر لمتعدّد وهو موجود في المعاني أيضا كعموم المطر والخصب ونحوهما.

وثانيهما : أنّ الاتّفاق قائم على كونه حقيقة في الألفاظ والمفروض وقوع استعماله في المعاني أيضا ، والاشتراك والمجاز مخالفان للأصل فيجب كونه للأعمّ.

وفي الأوّل : أنّ شيوع الإطلاق على المعاني مع كونه على وجه الحقيقة في العرف العامّ مسلّم ، وهو لا ينافي اختصاص الحقيقة في اصطلاح الاصوليّين باللفظ وكونه في المعاني مجازا بدليل ما تقدّم من التبادر وعدمه.

وفي الثاني : أنّ كون حقيقة العموم هو ما ذكر إنّما يسلّم في العرف العامّ لا الخاصّ.

وفي الثالث : أنّ كون المجاز كالاشتراك مخالفا للأصل وإن كان مسلّما إلاّ أنّه إذا قام عليه دليل وهو عدم التبادر أو تبادر الغير بالقياس إلى عرف الاصوليّين لا مناص من المصير إليه.

واحتجّ القائل بالاشتراك لفظا : بالاستعمال فيهما والأصل فيه الحقيقة ، وجوابه ظاهر.

* اختلفوا في الألفاظ والصيغ المدّعى كونها للعموم على أقوال :

أحدها : بل أصحّها ما اختاره المصنّف وعبّر عنه : « بأنّ للعموم في لغة العرب صيغة تخصّه » بمعنى أنّ في هذه الألفاظ ما كان بصيغته موضوعا للعموم وحقيقة فيه بحيث لو

ص: 708

وقال السيّد - رحمة اللّه - وجماعة : إنّه ليس له لفظ موضوع إذا استعمل في غيره كان مجازا ، بل كلّ ما يدّعى من ذلك مشترك بين الخصوص والعموم*. ونصّ السيّد على أنّ تلك الصيغ نقلت في عرف الشرع إلى العموم ، كقوله بنقل صيغة الأمر في العرف الشرعيّ إلى الوجوب**. وذهب قوم إلى أنّ جميع الصيغ الّتي يدّعى وضعها للعموم حقيقة في الخصوص ، وإنّما يستعمل في العموم مجازا***.

_______________________________

استعمل في غيره وهو الخصوص كان مجازا ، وعليه الشيخ والمحقّق والعلاّمة وجمهور المحقّقين كما في عبارة المصنّف.

وفي مناهج النراقي : أنّ عليه الشيخ في العدّة والعلاّمة والعميدي في التهذيب والمنية وعزى إلى الأكثر.

وفي المنية نسبه إلى جماعة من المعتزلة والشافعي وكثير من الفقهاء ، وفي العدّة إلى الفقهاء بأسرهم وأكثر المتكلّمين ، وفي إحكام الآمدي إلى الشافعي وجماهير المعتزلة وكثير من الفقهاء.

* هذا ثاني أقوال المسألة وعزي أيضا إلى المرجئة كما في الإحكام ، وإلى المرجئة والسيّد المرتضى والواقفيّة كما في المنية ، وإلى الأشعري في أحد قوليه وقوله الآخر الوقف كما في شرح المختصر للعضدي وغيره.

** ويعدّ ذلك مع قوله بالاشتراك لغة ثالث الأقوال ، وهو التفصيل بين اللغة فالاشتراك وعرف الشرع فالاختصاص بالعموم.

*** هذا رابع الأقوال.

وخامسها : التفصيل بين الأمر والنهي فالعموم والأخبار والوعد والوعيد فالوقف ، حكاه الحاجبي والعضدي من غير تعيين لقائله.

وسادسها : الوقف صار إليه الآمدي في الإحكام وعزاه العضدي وغيره إلى القاضي.

ثمّ إنّ هاهنا إشكالا في مراد القائل بالحقيقيّة في الخصوص لم نقف على من تنبّه عليه ولا على من تعرّض لدفعه ، وهو : أنّ الخصوص عبارة عمّا عدا العموم بدليل المقابلة ويتأتّى ذلك بخروج بعض أفراد العامّ عن تحته واحدا كان أم متعدّدا قليلا أم كثيرا ، وله بهذا الاعتبار مراتب كثيرة أوّلها ما خرج منه فرد واحد وآخرها منتهى التخصيص المختلف

ص: 709

في تعيينه على ما سيأتي في محلّه ، وعلى القول بجواز التخصيص إلى الواحد يكون الواحد آخر المراتب ، ولا يدرى أنّ مراد هذا القائل من الوضع للخصوص أهو الوضع له بجميع مراتبه على طريقة الاشتراك المعنوي؟ على معنى أنّ الواضع تصوّر الخصوص بمعنى ما عدا العموم بمفهومه فوضع اللفظ بإزائه ، أو على طريقة الاشتراك اللفظي على معنى أنّ اللفظ موضوع لمراتبه المتدرّجة بأوضاع متعدّدة على حسب تعدّد المراتب ، أو على طريقة الوضع العامّ للموضوع له الخاصّ كما في أسماء الإشارة وغيرها على رأي المتأخّرين ، بدعوى : أنّ الواضع لا حظ الخصوص بعنوانه الكلّي آلة لملاحظة مراتبه المتدرّجة فوضع اللفظ لتلك المراتب بحيث لو استعمل في كلّ منها كان استعمالا فيما وضع له.

ويحتمل ضعيفا أن يقول بالوضع لمرتبة معيّنة من مراتبه وهي إمّا أوّل المراتب أو آخرها أو شيء من المتوسّطات.

وأضعف منه أن يقول بالوضع لإحدى المراتب لا على التعيين على حدّ وضع النكرة لفرد واحد لا بعينه.

وأضعف من الجميع أن يقول بالوضع لمجموع المراتب من حيث هو على نحو يكون كلّ مرتبة بخصوصها جزءا للموضوع له ، وهذه احتمالات ستّ لم نقف منه على ما يقضي بتعيين أحدها صريحا ولا ظهورا ولا إشارة.

نعم ما يأتي منه في الاحتجاج لمذهبه من دليله الأوّل من كون الخصوص متيقّن الإرادة فهو الموضوع له ، ربّما يومئ إلى مصيره إلى تخصيص الوضع بآخر المراتب كائنا ما كان على حسب الأقوال في منتهى التخصيص ، لأنّه الّذي يتيقّن دخوله في المراد على كلا تقديري إرادة العموم وارادة الخصوص دون غيره ، ضرورة أنّه على تقدير التخصيص بغير آخر المراتب لا يلزم من فرض عدم إرادة العموم تيقّن إرادة ذلك الّذي خصّ به الوضع سواء كان أوّل المراتب أو غيره من المتوسّطات ، لبقاء احتمال إرادة غير ما خصّ به الوضع ممّا لا يندرج فيه الموضوع له كآخر المراتب ونحوه ممّا هو أقلّ عددا من الموضوع له ، ولكن يأباه دليله الثاني المقرّر ، بأنّ العامّ غلب استعماله في الخصوص ، مستشهدا فيه بما اشتهر من أنّه : « ما من عامّ إلاّ وقد خصّ » لوضوح أنّ الغلبة لم تتحقّق في بعض معيّن من المراتب بل هي منتزعة عن مجموع الاستعمالات الواقعة على جميع المراتب على طريقة التوزيع.

وقضيّة ذلك عموم الحقيقة لجميع المراتب إمّا من باب الاشتراك المعنوي أو اللفظي أو

ص: 710

الوضع العامّ للموضوع له الخاصّ وإن كان كلّ من هذه الثلاث في نفسه عند دقيق النظر فاسدا كما سنشير إليه بعيد ذلك.

ولم نقف من القوم أيضا على كلام متكفّل لبيان مراده من الاحتمالات المذكورة.

نعم في عبارة الشيخ في العدّة عند حكاية هذا القول ما يعطي فهمه الوجه الرابع في خصوص آخر المراتب حيث قال : « وقال قوم من المرجئة وغيرهم أنّه ليس للعموم صيغة أصلا بل كلّما يدّعى أنّه للعموم فهو للخصوص وإنّما يفيد آخر ما يمكن أن يكون مرادا ، فإنّ آخر ما يمكن كونه مرادا ظاهر في منتهى التخصيص وهو آخر مراتب الخصوص على ما بيّنّاه » وكأنّه استظهره من دليله الأوّل حسبما بيّنّاه.

وقد عرفت أنّه معارض بدليله الثاني المقتضي لخلافه.

ويظهر من بعض عبارات العميدي في المنية أنّه فهم منه إرادة أحد الوجوه الثلاث الأوّل حيث إنّه عند إبطال احتمال كون « من » الاستفهاميّة مشتركة بين العموم والخصوص أخذ بالاستدلال على بطلانه وقال : « وأمّا بطلان كونها مشتركة بينهما فلأنّه لو كان كذلك لم يحسن الجواب إلاّ بعد السؤال عن كلّ مرتبة من مراتب الخصوص.

فإن قيل : من عندك؟ يقول : من الرجال أو من النساء؟ فإن قال : من الرجال ، يقول : من العرب أو من العجم؟ وإذا قيل : من العرب ، قيل : من ربيعة أو مضر؟ وهلمّ جرّا ، ومن المعلوم أنّ ذلك مستقبح عند أهل اللسان ، وإنّما قلنا : إنّه لابدّ من السؤال عن كلّ مرتبة لأنّ القائل بكونها موضوعة للخصوص وحده أو له وللعموم على سبيل الاشتراك لم يخصّ ذلك بمرتبة مخصوصة من مراتب الخصوص » انتهى.

وهذا ظاهر في أنّ مراده الحقيقيّة في جميع مراتبه وهي لا تخلو عن إحدى الثلاث ومن ملاحظة كلامه يظهر أنّ الإشكال المذكور يجري بعينه على القول بالاشتراك أيضا.

ثمّ إنّ الوجوه المذكورة المحتملة في مراد هذا القائل بأسرها باطلة وببطلانها يبطل أصل قوله المردّد بينها الغير الخارج عنها ، فيستغني بذلك عن إقامة الدليل على المذهب المختار ولو أقمنا مع ذلك دليلا عليه كان تفضّلا أو مبالغة في إحراز حقيّة المختار أو اقتفاء لإثر العلماء الأخيار.

فأمّا بطلان الوجه الأوّل : فلأنّ قضيّة الحقيقيّة في جميع المراتب على وجه الاشتراك المعنوي أن يكون المستعمل فيه في جميع موارد استعمالات كلّ من الألفاظ في الخصوص

ص: 711

هو القدر الجامع بين المراتب وهو مفهوم « ما عدا العموم » مثلا باعتبار تحقّقه في ضمن مرتبة مخصوصة كائنة ما كانت ليكون الاستعمال بالقياس إلى المرتبة المخصوصة على وجه إطلاق الكلّي على الفرد.

وهذا ممّا ينادي ببطلانه ضرورة العرف في الاستعمالات الدائرة بينهم لتلك في الخصوص ، لعدم وقوعها قطّ على مفهوم الخصوص بمعنى مفهوم « ما عدا العموم » بل كلّ استعمال للفظ في الخصوص فإنّما يراد به مصداق الخصوص وهو المرتبة المخصوصة بوصف الخصوصيّة من غير نظر إلى المفهوم ولا ملاحظته تفصيلا ولا إجمالا.

والسرّ في ذلك : أنّ الخصوص في لحاظ الاستعمال ليس إلاّ كالعموم في هذا اللحاظ من حيث الكيفيّة ، فكما أنّ اللفظ عند استعماله في العموم يراد به استغراق الحكم لكلّ فرد ليكون الدلالة بالنسبة إلى كلّ فرد فرد تامّة ، فكذلك عند استعماله في الخصوص أيضا يراد به استغراق الحكم لكلّ واحد من آحاد الخصوص ليكون دلالته على كلّ واحد واحد تامّة.

وقضيّة ذلك أن لا يكون المستعمل فيه إلاّ المصداق بمعنى نفس المرتبة المخصوصة ، فحينئذ لو فرض وضعها للمفهوم مع عدم وقوع استعمال في الموضوع له قطّ بل وقوع الاستعمالات بأسرها في خلاف الموضوع له لزم كون ألفاظ العموم بأسرها مجازات بلا حقيقة ، وهذا مع بطلانه في نفسه عدول إلى قول الأكثر وهو المجازيّة في الخصوص وإن غايره في مجازيّته في العموم أيضا ، مع استلزامه لغويّة الوضع للخصوص بمعنى المفهوم المشترك ، بل حكمة الواضع تأبى أن يعدل عن الوضع للعموم ليكون مجازا في مراتب الخصوص إلى الوضع لمفهوم الخصوص ليكون مجازا في كلّ من العموم ومراتب الخصوص من دون أن يكون له حقيقة في الاستعمال.

وأمّا بطلان الوجه الثاني : فلأنّ الاشتراك اللفظي - مع ندرته ومخالفته الأصل - يقتضي أوضاعا متعدّدة حسب تعدّد مراتب الخصوص وهي غير محصورة بل في الغالب غير متناهية سيّما ما كان عامّا في الأمكنة وما كان عامّا في الأزمنة ، وزمان الوضع متناه ويستحيل وقوع أوضاع غير متناهية في زمان متناه.

ومع الغضّ عن ذلك فلمخالفته الأصل لا يصار إليه إلاّ لدليل ولا دليل للقائل إلاّ تيقّن الإرادة وغلبة الاستعمال ولا ينهض شيء منهما لإثباته ، أمّا تيقّن الإرادة فلأنّه على تقدير صلاحيّته لإثبات الوضع غير متحقّق إلاّ في آخر المراتب الّذي هو منتهى التخصيص

ص: 712

فكيف به الوضع لسائر المراتب ، وأمّا غلبة الاستعمال فلعدم تحقّقها بالنسبة إلى كلّ مرتبة مرتبة من مراتب الخصوص.

نعم مجموع الاستعمالات الواقعة على مراتبه أغلب وأكثر من استعمالاته في العموم ولكنّه لا يجدي نفعا في حصول الوضع المستقلّ لكلّ مرتبة مرتبة بانفرادها.

وأمّا بطلان الوجه الثالث : فلأنّ الوضع العامّ للموضوع له الخاصّ في ألفاظ العموم مطلقا أو في غير « من » و « ما » الموصولتين ما اتّفق الفريقان من قدماء أهل العربيّة والمتأخّرين على بطلانه ، أمّا القدماء فلأنّهم يستحيلون هذا الوضع من أصله ، وأمّا المتأخّرون فلأنّهم أثبتوه في ألفاظ مخصوصة ليس المقام منها.

ولو قيل : إنّ إثبات الشيء لا ينفي ما عداه فإنّ المتأخّرين إنّما أثبتوا هذا الوضع لألفاظ مخصوصة ولم ينفوه عن غيرها وإذا ساعد عليه دليل في الغير أيضا وجب المصير إليه لسلامته عن مخالفة الاتّفاق.

قلنا : ننقل الكلام إلى دليله وقد عرفت أنّ القائل لا دليل له إلاّ الوجهان المتقدّمان وقد أوضحنا حالهما مرارا من أنّ أوّلهما غير متحقّق فيما عدا آخر المراتب وثانيهما غير متحقّق في شيء منها بالخصوص ، فلا ينهضان لإثبات نحو هذا الوضع.

وأمّا بطلان الوجه الرابع : فلأنّ المرتبة المعيّنة المحتملة في وضع هذه الألفاظ على قول هذا القائل إن اريد بها المرتبة الاولى أو إحدى المتوسّطات فدليلاه لا يجريان بالنسبة إليهما ، وإن اريد بها المرتبة الأخيرة فدليله الثاني غير متحقّق بالنسبة إليها ، وأمّا دليله الأوّل المتوهّم جريانه فيها فهو فاسد الوضع وفاسد الأصل ، أمّا فساد وضعه ، فلأنّ تيقّن الإرادة أمر مشترك منتزع عن احتمالين

أحدهما : احتمال كونها من المراد.

والآخر : احتمال كونها مرادة بخصوصها ، وهي مردّدة بينهما فينتزع منهما تيقّن كونها مرادة بإسقاط القيدين ، فإن اريد من تيقّن الإرادة المستدلّ به لإثبات الوضع للمرتبة الأخيرة تيقّن كونها مرادة بخصوصها فهو فاسد بدليل الخلف ، لأنّ كونها مرادة على هذا الوجه غير متيقّن ، وإن اريد به تيقّن الإرادة المنتزع عن الاحتمالين حسبما بيّنّاه فهو بضابطة أنّ الأعمّ لا يدلّ على الأخصّ لا ينهض دليلا على الوضع للمرتبة الأخيرة بخصوصها.

وأمّا فساد أصله : فلأنّ تيقّن إرادة الخصوص ليس من آثار الوضع ومعلولاته كالتبادر

ص: 713

لنا : أنّ السيّد إذا قال لعبده : « لا تضرب أحدا » فهم من اللّفظ العموم عرفا ، حتّى لو ضرب واحدا عدّ مخالفا. والتبادر دليل الحقيقة * ؛ فيكون كذلك لغة ؛

_______________________________

وعدم صحّة السلب والاطّراد ليكون كاشفا عن الوضع بل من علله وبواعثه ، بمعنى أنّه في زعم هذا القائل حكمة باعثة للواضع على اختيار وضع هذه الألفاظ للخصوص على وضعها للعموم ، فيرجع الاستناد إليه إلى ترجيح اللغة بالعقل وهو باطل بالضرورة.

والسرّ فيه : أنّ الوضع لكونه من فعل الواضع الحكيم فتحقّقه فيما بين كلّ لفظ ومعناه الموضوع له يتبع حكمة لاحظها الواضع فاختار لأجلها هذا اللفظ لذلك المعنى وهذه الحكمة هي العلّة الباعثة ، ولا ريب أنّ الواضع حين وضعه لألفاظ العموم لا حظ حكمة البتّة ، وأمّا كونها تيقّن الإرادة المقتضي لاختيار وضعها [ للخصوص ](1) لا حكمة اخرى دعته إلى اختيار وضعها للعموم لابدّ له من دليل ، ولا يكفيه الاحتمال ولا دليل عليه من نصّ الواضع ولا حكم العقل.

أمّا الأوّل : فلعدم بلوغ نصّ من الواضع في ذلك ، وأمّا حكم العقل : فلأنّ بملاحظة قيام احتمال ملاحظة حكمة اخرى باعثة على اختيار الوضع للعموم لا يحكم بالوضع للخصوص من جهة تيقّن الإرادة لا بعنوان الجزم ولا بعنوان الظنّ.

وأمّا بطلان الوجه الخامس : فلأنّ احتمال الوضع لمرتبة غير معيّنة احتمال سخيف لا ينبغي الالتفات إليها ، مع أنّ الوضع لها يوجب كون الألفاظ بأسرها مجازات بلا حقيقة واللازم باطل ، مضافا إلى أنّه لو صحّ ذلك لزم كون ألفاظ العموم مفيدة للعموم البدلي بين مراتب الخصوص وهذا أيضا باطل بضرورة من العرف واللغة.

وأمّا بطلان الوجه السادس : فلأنّه مع سخافته أيضا يستلزم المجاز بلا حقيقة ، لعدم وقوع استعمال شيء من ألفاظ العموم في مجموع مراتب الخصوص من حيث المجموع قطّ ، مع أنّ الالتزام بوضعها لمجموع المراتب ليس بأولى من الالتزام بوضعها للعموم المندرج فيه المراتب.

* هذا - مضافا إلى ما سيأتي من الحجّة التفصيليّة عند البحث عن كلّ صيغة صيغة من صيغ العموم ممّا اتّفق على كونه للعموم عند أهل القول بوضعها له وممّا اختلف فيه - حجّة

ص: 714


1- وفي المصدر : « للعموم » وهو سهو من قلمه الشريف ولذا صحّحناه بما في المتن.

يحتجّ بها إجمالا في نبذة من الألفاظ إثباتا للإيجاب الجزئي الرافع للسلب الكلّي الّذي يدّعيه الخصم وهو التبادر الّذي أشار إليه المصنّف ، ويقرّر من وجوه :

أحدها : أنّه لو قال السيّد لعبده : « لا تضرب أحدا » فضرب العبد واحدا ، عدّ عاصيا عند أهل العرف ويستحقّ الذمّ والعقاب في نظر العقل ، فلو لا أنّه فهم العموم من خطاب السيّد لم يكن كذلك.

وثانيها : أنّه لو قال : « اشتريت كلّ عبد » أو « أعتقت كلّ العبد » أو « ضربت رجلا » وأنت أردت تكذيبه. قلت : « ما اشتريت العبد الفلاني » أو « ما اعتقت ثلث العبد » أو « ما ضربت أحدا » فلو لا أنّ الأوّلين يفيد الإيجاب الكلّي الّذي يناقضه السلب الجزئي لم يحصل الغرض ، كما أنّه لو لا نفي النكرة في الثالث يفيد السلب الكلّي الّذي يناقضه الإيجاب الجزئي لم يحصل الغرض والتالي باطل بضرورة من العرف واللغة قاضية بحصول الغرض الّذي هو التكذيب بما ذكر عرفا ولغة.

وثالثها : أنّه لو قال : « جاءني القوم كلّهم » أو « ما ضربت أحدا » ثمّ عقّبه بقوله : « ما جاءني زيد » وهو من القوم ، أو « ضربت زيدا » فهم منه المناقضة ، ولذا لو وقع نحو ذلك في كلام حكيم بادر الذهن بتأويله بحمله على البداء أو المجاز ، ومنه فهم المعارضة عرفا بين « أكرم العلماء » و « لا تكرم زيدا العالم » ظاهرا ، وفهم التناقض من الكلام الاستثنائي معروف بحيث صار من الإشكالات المشهورة حتّى أنّه عنون له في الاصول باب على حدة وتصدّى لحلّه أهل الحلّ والعقد فذكروا فيه وجوها يأتي ذكرها في محلّه.

ورابعها : أنّهم اتّفقوا على لزوم الحنث فيمن حلف أن لا يضرب أحدا ثمّ ضرب واحدا ، فلو لم تكن عبارة الحالف مفيدة للسلب الكلّي لم يلزم الحنث بضرب واحد ، لأنّ الحنث عبارة عن مخالفة الحلف وصدقها عرفا مبنيّة على انفهام السلب الكلّي من قوله : « واللّه لا أضرب أحدا ».

وقد يقرّر التبادر بفهم العموم من قوله : « من دخل داري فله درهم » و « متى جاء زيد فأكرمه » وهذا وإن كان في محلّه غير أنّه لا ينهض لإلزام الخصم ، لإمكان أن يتعلّق في منع كون اللفظ للعموم بأنّ فهمه من مقتضيات السببيّة المستفادة من الشرطيّة بضابطة أنّ السبب حيث يتحقّق لا ينفكّ عنه المسبّب ، ولذا لو قال : « إن جاءك زيد فأكرمه » كان مفاده بالدلالة الالتزاميّة ثبوت الجزاء في جميع أزمنة وجود الشرط ، بل في جميع أمكنة وجوده أيضا مع

ص: 715

عدم اشتماله على شيء من ألفاظ العموم.

وبذلك يتّضح أنّ الاستدلال بأنّ العلماء لا يزالون يستدلّون بمثل قوله تعالى : ( السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ) (1) و ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا ) (2) على كون المفرد المعرّف بلام الجنس مفيدا للعموم - كما في كلام الحاجبي والعضدي وغيرهما - غير ناهض على مطلوبهم ، لاستناد فهم العموم من الآيتين إلى الشرطيّة المفيدة للسببيّة.

وأمّا المناقشة في سائر تقارير التبادر بإمكان كون فهم العموم من الأمثلة المذكورة من جهة القرينة لا من حاقّ اللفظ ، فيدفعها : فرض الاحتجاج بها في موارد القطع بانتفاء القرائن حاليّة ومقاليّة ، فإنكار التبادر وفهم العموم فيها مكابرة.

وقد يستدلّ أيضا بقصّة إبن الزبعرى (3) في اعتراضه على قوله تعالى : ( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) (4) حيث إنّه لما سمعه قال : لأخصمنّ محمّدا ، ثمّ جاء وقال : يا محمّد أليس عبد موسى وعيسى والملائكة؟ فأجاب عنه صلى اللّه عليه وآله بقوله : « ما أجهلك بلسان قومك أما علمت أنّ « ما » لما لا يعقل ».

وفي رواية اخرى : أجاب بأنّ المراد عبادة الشياطين الّتي أمرتهم بعبادة هؤلاء ، فنزل قوله تعالى : ( الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ ) (5) وهذا على تقدير صحّة السند أو القطع به في محلّه ، ومرجعه أيضا إلى الاستدلال بالتبادر غير أنّه تبادر في العرف القديم وما تقدّم تبادر في العرف الحاضر ، ومن فوائد تطابق العرفين في التبادر قوّة الأصل الّذي يشير إليه المصنّف فيما بعد ذلك لدفع احتمال تطرّق النقل إلى الألفاظ المذكورة إثباتا لاتّحاد العرف واللغة فيها ، وتقريب الاستدلال بما ذكر : أنّ ابن الزبعرى كان من أهل اللسان وقد فهم من لفظة « ما » في قوله تعالى : ( وَما تَعْبُدُونَ ) (6) أمرين :

أحدهما : أنّ ما يشمل العاقل وغيره.

وثانيهما : أنّ الحكم بواسطتها يشمل جميع مصاديق كلّ من العاقل وغيره الّتي منها موسى وعيسى عليهما السلام والملائكة ، فانقدح في نفسه الاعتراض لما علمه من أنّ الأنبياء والملائكة لا يدخلون النار.

ثمّ إنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله بناء على الرواية الاولى خطّأه في فهمه الأوّل بقوله : « ما أجهلك

ص: 716


1- المائدة : 38.
2- النور : 2.
3- الصراط المستقيم 1 : 47.
4- الأنبياء : 98.
5- الأنبياء : 101.
6- الأنبياء : 98.

لأصالة عدم النقل ، كما مرّ مرارا. فالنكرة في سياق النفي للعموم لا غير ، حقيقة ، وهو المطلوب.

وأيضا ، لو كان نحو : « كلّ » و « جميع » من الألفاظ المدّعى عمومها ، مشتركة بين العموم والخصوص ، لكان قول القائل : « رأيت الناس كلّهم أجمعين » مؤكّدا للاشتباه * ، وذلك باطل بيان الملازمة : أنّ « كلاّ » و « أجمعين » مشتركة عند القائل باشتراك الصيغ ، واللّفظ الدالّ على شيء يتأكّد بتكريره ؛ فيلزم أن يكون الالتباس متأكّدا عند التكرير.

_______________________________

بلسان قومك » وصوّبه في فهمه الثاني حيث قرّره ولم ينكره عليه بمثل ما أنكر فهمه الأوّل ، وبناء على الرواية الثانية صوّبه في كلا الفهمين حيث قرّره ولم ينكر هما عليه ، بدليل الجواب بالتخصيص لعدم إرادة العموم على الوجه الثاني ، ثمّ نزلت لتصديقه الآية الثانية ولئلاّ يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة.

وظهر ممّا بيّنّاه أنّ الاستدلال بالقصّة المذكورة من وجهين :

أحدهما : فهم أهل اللسان وهو حجّة ، والآخر : تقرير النبيّ صلى اللّه عليه وآله الّذي هو أيضا من أهل اللسان فيكون حجّة اخرى.

ويندفع بما قرّرناه ما أورد الآمدي في الإحكام على الاستدلال بها بقوله : « وأمّا قصّة ابن الزبعرى فلا حجّة فيها أيضا ، لأنّ سؤاله وقع فاسدا حيث ظنّ أنّ « ما » (1) عامّة فيمن يعقل وليس كذلك ، ولهذا قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله منكرا عليه : ما أجهلك بلغة قومك أما علمت أنّ « ما » لما لا يعقل ».

* فإنّ المشترك من حكمه عند تجرّده عن قرينة تعيين المراد أن يدلّ على أحد المعنيين على وجه اشتباه المراد ، وهذا الاشتباه قائم في كلّ من المؤكّد والمؤكّد لثبوت الاشتراك فيهما معا على فرض القائل بالاشتراك ، فيكون التأكيد باللفظين تأكيدا للاشتباه - أي للمعنى المشتبه - غير رافع للاشتباه عنه ، لدلالة كلّ منهما على أحد المعنيين مع اشتباه المراد ، فالمصدر اريد به المشتبه وضعا له موضع اسم الفاعل بقرينة ما ذكره في بيان

ص: 717


1- وفي الأصل : « من » بدل « ما » والصواب ما أثبتناه.

وامّا بطلان اللاّزم : فلأنّا نعلم ضرورة أنّ مقاصد أهل اللّغة في ذلك تكثير الإيضاح وإزالة الاشتباه*.

احتجّ القائلون بالاشتراك بوجهين.

الاوّل أنّ الألفاظ الّتي يدّعى وضعها للعموم تستعمل فيه تارة وفي

_______________________________

الملازمة بقوله : « بيان الملازمة : أنّ « كلّ » و « أجمعين » مشترك عند القائل باشتراك الصيغ ، واللفظ الدالّ على شيء يتأكّد بتكريره ، فيلزم أن يكون الالتباس متأكّدا عند التكرير » فإنّ الاشتباه ليس مدلولا للفظ لأنّه وصف يعرض المدلول بواسطة الأسباب الخارجيّة الموجبة لإجمال اللفظ الّتي منها الاشتراك حيث تجرّد اللفظ في الاستعمال عن قرينة التعيين ، بل مدلوله المعنى المشتبه وهو الّذي يتأكّد بتكرير اللفظ لا نفس الاشتباه ، فيكون التأكيد بالنسبة إلى نفس الاشتباه إبقاءه على حاله.

فاندفع بما بيّنّاه في توجيه الدليل ما اعترضه بعض المحقّقين من أنّه : « إن أراد أنّه موجب لزيادة الاشتباه فباطل ، إذ تأكيد المشتبه بالمشتبه يؤكّد الموصوف بالاشتباه لا صفة الاشتباه فضلا عن زيادتها ، إذ تأكيد صفة الاشتباه وتقريرها في الذهن غير زيادتها ، وإن أراد أنّه موجب لبقائه فمع أنّه موجب لخلاف ظاهر العبارة يمكن منع بطلان التالي عند الخصم.

والأولى أن يقال بدل قوله : « مؤكّدا » : « غير رافع للاشتباه » ودعوى بطلان التالي بالضرورة » انتهى.

لعدم بقاء محلّ لهذا الترديد بعد حمل الاشتباه على إرادة المشتبه ، كما يندفع أيضا ما اعترضه ثانيا على قوله : « واللفظ الدالّ على شيء » إلى آخره ، « بأنّه خلط عظيم ، إذ فرق عظيم بين الاتّصاف بالشيء والدلالة عليه ، واللفظ هنا متّصف بالإجمال دالّ على معنى متّصف بالاشتباه لا دالّ على الإجمال والاشتباه » انتهى ، فإنّ المراد على ما بيّنّاه كونه دالاّ على المعنى المشتبه لا على نفس الاشتباه.

* يمكن منع البطلان بأنّ كون مقاصد أهل اللغة من التأكيد في المثال المذكور ما ذكر مسلّم ، ولكنّه لا ينافي الاشتراك في المؤكّد والمؤكّد بين العموم والخصوص ، بدعوى أنّ اجتماعهما في مقام التأكيد ينهض قرينة على إرادة العموم ، نظرا إلى ما صرّح به أهل العربيّة من أئمّة اللغة من أنّ التأكيد بهذه الألفاظ تابع يفيد شمول متبوعه لأفراد [ ه ] ويدلّ على إرادة العموم منه رفعا لتوهّم إرادة الخصوص ، فتأمّل.

ص: 718

الخصوص اخرى. بل استعمالها في الخصوص أكثر ، وظاهر استعمال اللفظ في شيئين أنّه حقيقة فيهما*. وقد سبق مثله.

الثاني أنّها لو كانت للعموم ، لعلم ذلك إمّا بالعقل ، وهو محال ؛ إذ لا مجال للعقل بمجرّده في الوضع ؛ وإمّا بالنقل ، والآحاد منه لا تفيد اليقين. ولو كان متواترا لاستوى الكلّ فيه**.

والجواب عن الأوّل : أنّ مطلق الاستعمال أعمّ من الحقيقة والمجاز ، والعموم هو المتبادر عند الاطلاق. وذلك آية الحقيقة ، فيكون في الخصوص مجازا ، إذ هو خير من الاشتراك حيث لا دليل عليه***.

وعن الثاني منع الحصر فيما ذكر من الأوجه ؛ فانّ تبادر المعنى من اللّفظ

_______________________________

* وللسيّد في تتميم هذا الدليل وإصلاحه بزعمه كلام طويل نقله بعض الأعاظم ولا يرجع الإطناب بنقله هنا إلى طائل.

** ولهم وجه ثالث لم يلتفت إليه المصنّف وهو حسن الاستفهام عن المراد بتلك الألفاظ أهو العموم أو الخصوص؟ وموضوع الاستفهام إذا وقع طلبا للعلم والفهم يقتضي احتمال اللفظ واشتراكه ، بدلالة أنّه لا يحسن دخوله فيما لا احتمال فيه ولا اشتراك ، ولتتميمه أيضا كلام طويل للسيّد حكاه بعض الأعاظم ولا حاجة إلى الإطناب بنقله هنا.

*** وفيه من سوء التأدية ما لا يخفى ، لأنّ تبادر العموم وعدم تبادر الخصوص في نفسه دليل مستقلّ على المجازيّة في الخصوص ، وكون المجاز خيرا من الاشتراك دليل آخر مرجعه إلى القاعدة المستندة إلى الأصل والغلبة ، ففي تعليل الدليل الأوّل بها خلط بين الدليلين وإدخال لأحدهما في الآخر.

ويمكن جواب آخر بمعارضة الظهور الّذي ادّعاه المستدلّ بظهور خلافه ، نظرا إلى أنّ استعمال اللفظ في معنيين الّذي يغلب في نوعه الحقيقة والمجاز ظاهر باعتبار الغلبة في كونه حقيقة في أحدهما ومجازا في الآخر.

غاية الأمر أنّه لا يعيّن الحقيقة من المجاز ونرجع في التعيين إلى التبادر وغيرهما من الأمارات المميّزة بينهما.

ص: 719

عند إطلاقه دليل على كونه موضوعا له ، وقد بيّنّا أنّ المتبادر هو العموم*.

حجّة من ذهب إلى أنّ جميع الصيغ حقيقة في الخصوص : أنّ الخصوص متيقّن ؛ لأنّها إن كانت له فمراد ، وإن كانت للعموم فداخل في المراد ، وعلى التقديرين ، يلزم ثبوته. بخلاف العموم ، فإنّه مشكوك فيه ؛ إذ ربّما يكون للخصوص ؛ فلا يكون العموم مرادا ، ولا داخلا فيه ؛ فجعله حقيقة في الخصوص المتيقّن أولى من جعله للعموم المشكوك فيه**.

_______________________________

* ومرجعه إلى منع الملازمة المفيدة لانحصار المقدّم في قسمي التالي وهو في محلّه ، وحاصله وجود الواسطة بينهما وهي لوازم الوضع ومعلولاته المقرّرة في محالّها المعبّر عنها بأمارات الحقيقة والمجاز الّتي منها التبادر وعدم التبادر أو تبادر الغير.

وممّا يرد على الدليل أنّ بطلان الوضع للعموم لا ينتج الاشتراك لبقاء احتمال الوضع للخصوص ، ولو قيل بإمكان إبطاله أيضا بمثل هذا الدليل ورد عليه أيضا عدم إنتاجه الاشتراك واللازم منهما التوقّف ، مضافا إلى جواب آخر بطريق المعارضة بالمثل فإنّها لو كانت مشتركة لعلم إمّا بالعقل وهو محال إذ لا مجال للعقل بمجرّده في الوضع ، أو بالنقل والآحاد منه لا يفيد اليقين ولو كان متواترا لاستوى الكلّ فيه.

وقد يجاب أيضا بمنع عدم كفاية النقل الآحادي في إثبات الوضع وإن لم يفد اليقين ، ومنع افتضاء التواتر لاستواء الكلّ في حصول العلم من جهته لجواز اختلاف الأشخاص في الشرائط والموانع ، فمن احتوى الشرائط الّتي منها تخلية الذهن عن الشبهات وفقد الموانع الّتي منها سبق الشبهة إلى الذهن ورسوخها فيه حصل له العلم ومن لا فلا ، ولعلّه لاختلال شرط التتبّع في تحصيل التبادر لعدم أدائه حقّه.

وأمّا الجواب عن الوجه الثالث : فبأنّ حسن الاستفهام لا يتبع الاشتراك بالخصوص بل يكفي فيه مطلق الاحتمال ولو مرجوحا كما في الحقيقة والمجاز بالقياس إلى المجاز احتياطا عن الوقوع في مخالفة المراد ، فحسن الاستفهام إذا كان من توابع الاحتمال الغير المنافي للظهور ولو نوعا كان أعمّ من الاشتراك ، والأعمّ لا يدلّ على الأخصّ.

** ومن الأعلام من وجّه الأولويّة : بأنّه لمّا كان الوضع مسلّما للخصم فلابدّ له من مرجّح فالأولى أن يقول : إنّه موضوع للمتيقّن المراد فإنّه أوفق بحكمة الوضع حيث

ص: 720

وأيضا : اشتهر في الألسن حتّى صار مثلا أنّه : « ما من عامّ إلاّ وقد خصّ منه » ، وهو وارد على سبيل المبالغة والحاق القليل بالعدم. والظاهر يقتضي كونه حقيقة في الأغلب مجازا في الأقلّ ، تقليلا للمجاز *.

والجواب : أمّا عن الوجه الأوّل** ، فبأنّه إثبات اللّغة بالترجيح ، وهو غير جائز

_______________________________

إنّ غرضه من الوضع التفهيم.

* معنى وروده على سبيل المبالغة أنّ دعوى الحصر في بيان ذلك المثل مبالغة في دعوى غلبة استعمال كلّ صيغة من هذه الصيغ في الخصوص تنبيها على كونها في أعلى مراتب الغلبة بحيث يلحق النادر معه لكمال ندرته بالمعدوم ، لا أنّ المراد به الحصر الحقيقي لئلاّ ينتقض بمثل : « أنّ اللّه بكلّ شيء عليم » (1) لعدم تطرّق تخصيص إليه ، والمراد بالظاهر المقتضي لكون اللفظ حقيقة في الأغلب مجازا في الأقلّ الغلبة المقتضية لظهور لحوق المشكوك فيه بالأعمّ الأغلب ، فإنّ الغالب في الألفاظ الغالب استعمالها في معنى مع ندرة استعمالها في معنى آخر كونها حقيقة في الغالب ومجازا في النادر وعلى الحكم بذلك بناء العرف.

** والأولى أن يقرّر الجواب : بأنّ كون الخصوص متيقّن المراد إن اريد به تيقّن إرادته من اللفظ بالخصوص ، ففيه - مع أنّه خلاف مقتضي تقرير الدليل - : أنّه واضح المنع لأنّ كونه مرادا على هذا الوجه محتمل لا أنّه متيقّن.

وإن اريد به القدر المشترك المنتزع عن الاحتمالين - احتمال كونه من المراد على تقدير إرادة العموم ، واحتمال كونه مرادا بالخصوص على تقدير إرادة الخصوص ، فهو كالجنس المشترك بين النوعين لا يدلّ على أحدهما بالخصوص فلا يكشف عن الوضع للخصوص بالخصوص ، والوضع المسلّم عند الخصم وإن كان يقتضي مرجّحا ولكنّ ذلك الأمر المشترك بين الاحتمالين لا يصلح مرجّحا.

ودعوى كون الوضع للخصوص بالخصوص أوفق بحكمة الوضع.

يدفعها : أنّ حكمة الوضع بمعنى العلّة الباعثة على فتح باب نوع الوضع إنّما هو التفهيم

ص: 721


1- البقرة : 231.

والتفهّم من دون الحاجة إلى تجشّم القرائن ، وهذا لا يقتضي شيئا من الوضع للعموم ولا الوضع للخصوص لمكان الحاجة إلى تجشّم القرينة في تفهيم خلاف الموضوع له وتفهّمه لا محالة سواء كان العموم أو الخصوص ، إذ كما أنّه على تقدير الوضع للعموم يحتاج فهم الخصوص عند استعمال اللفظ فيه بالخصوص إلى قرينة المجاز ، فكذلك على تقدير الوضع للخصوص يحتاج فهم العموم حيث يستعمل اللفظ فيه إلى قرينة المجاز ، فخلاف حكمة الوضع بالنسبة إلى أحد المعنيين لازم لا محالة ، فلا يكون الوضع للخصوص أوفق بحكمة الوضع بمجرّد كونه متيقّنا بالمعنى المنتزع من احتمال كونه من المراد واحتمال كونه مرادا بالخصوص.

فلابدّ وأن يكون المرجّح شيئا آخر صالح للمرجّحيّة في نظر الواضع وهو أمر لا نعرفه بالخصوص ولا يعرفه العقل ، بل يحتمل عنده كونه في جانب العموم كما يحتمل كونه في جانب الخصوص ولا طريق له إلى إدراك أحدهما ، ولا يحكم بكونه في نظر الواضع هو تيقّن الإرادة بالمعنى الأعمّ لا حكما قطعيّا ولا ظنّيا ، وهذا هو معنى ما ذكروه في الجواب وأشار إليه المصنّف أيضا من أنّه إثبات اللغة بالترجيح وهو غير جائز يعني به الترجيح العقلي.

ووجه عدم جوازه : أنّ العقل لا حكم له في تعيين الحكمة المرجّحة للوضع لكونها منوطة بنظر الواضع لا غير ، فالترجيح العقلي الّذي لا يجوز اتّباعه في اللغات عبارة عن الملازمة بين شيئين لا طريق إلى إدراكها إلاّ من جهة العقل وهو مع ذلك لا يدركها أصلا لا علما ولا ظنّا ، ولو فرض أنّه يدركها ظنّا فهو غير معتبر لعدم حجّيّة الظنّ في اللغات على ما حقّقناه في غير موضع.

وتوضيح المقام : أنّ الشيء لا ينهض دليلا إلاّ بإثبات مقدّمتين الّذي مرجعه إلى إحراز ملازمتين : إحداهما الملازمة بين الأصغر والأوسط ، والاخرى الملازمة بين الأوسط والأكبر ، وهذا فيما ينتظم بطريق الشكل الأوّل يتأتّى بإثبات كون الأوسط لازما للأصغر ملزوما للأكبر ، وظاهر أنّ إثبات كلّ من الملازمتين لابدّ له من طريق وهو في اللغات إمّا الحسّ أو ما يقرب من الحسّ باعتبار كون مقدّماته حسّيّة ، أو العادة ، أو العرف فقط ، أو هو والعقل معا ، أو العقل فقط ، والحسّ مع ما يقرب منه طريق غالبي في إحراز الصغرى كاستماع نقل الوضع عن الواضع واحدا أو متواترا ، واستماع تنصيص أهل اللسان ، ومشاهدة الترديد بالقرائن ، وغلبة استعمال اللفظ في معنى وندرة استعماله في آخر ، فإنّ

ص: 722

كلاّ من هذه المذكورات طريق حسّي يوجب العلم بالملازمة.

وكالتبادر وعدم صحّة السلب ونحو هما من الأمارات الاخر فإنّ كلاّ من ذلك طريق قريب من الحسّ ، نظرا إلى أنّ التبادر مثلا يدرك بالوجدان ولكن بواسطة مقدّمات حسّيّة وهي تتبّع موارد الاستعمال وملاحظة تجرّد اللفظ عن القرائن.

والعادة طريق إلى إثبات الكبرى في خصوص ما ثبت صغراه بالتواتر أو تنصيص أهل اللسان ونحوه ، والعرف أيضا طريق إلى إثبات الكبرى في جملة من الموارد كغلبة استعمال اللفظ في معنى ، فإنّ الحاكم بالملازمة بينها وبين الوضع لما غلب الاستعمال فيه هو العرف.

والعرف والعقل كما في التبادر وغيره بالقياس إلى الكبرى ، فإنّ كلاّ منهما يحكم بالملازمة بين التبادر والوضع للمعنى المتبادر ، أمّا العرف فواضح وأمّا العقل فبملاحظة أنّ التبادر بمعنى فهم المعنى لابدّ له من علّة محدثة وهي إمّا الوضع أو القرينة أو المناسبة الذاتيّة والثاني مع الثالث منتفيان فتعيّن الأوّل.

وأمّا العقل وحده فإن حكم بها على وجه القطع فلا أظنّ أحدا أنكر اعتباره سواء كان في صغرى - أو في كبرى ، فمرجع القول ببطلان ترجيح اللغة بالعقل إلى إنكار حكم العقل بالملازمة على وجه القطع ، إمّا بمعنى أنّه لا يحكم بها أصلا ولو ظنّا سواء كان في صغرى - كما في دوران التسمية بالاسم مع معنى في المسمّى وجودا وعدما ، كالخمر في تسمية المسكر المتّخذ من العنب به فإنّها دائرة وجودا وعدما مع وصف الإسكار الموجود فيه إذ قبله عصير وبعده خلّ وإنّما يسمّى خمرا حال وجوده ، ومعنى الملازمة بينها وبين الوضع كون الخمر موضوعا للمسكر بقول مطلق ، وهذه الملازمة ممّا لا يمكن الاسترابة فيها على تقدير ثبوت الملازمة الاولى بطريق القطع وهي الملازمة بين التسمية والوصف وحده وجودا وعدما.

ولكنّ الملازمة الاولى غير ثابتة إذ العقل لا يحكم بها ، لإمكان قلب الدوران بأنّ التسمية تدور مع الوصف والمحلّ وهو « ماء العنب » وجودا وعدما فالعلّة مركّبة ، على معنى أنّ المجموع إذا وجد وجدت التسمية وإذا انتفى انتفت - أو كان في كبرى ، سواء كان الوسط الّذي لا يحكم العقل بالملازمة بينه وبين الوضع معلولا للوضع على فرض ثبوت الملازمة ، كما في منع كون الاطّراد علامة على الوضع لكونه أعمّ بوجوده في المجازات أيضا على القول بكفاية نوع العلاقة فيها ، أو علّة له على فرض ثبوت الملازمة أيضا كما في تيقّن الإرادة المستدلّ به لإثبات وضع ألفاظ العموم للخصوص ، فإنّ الملازمة بينه وبين

ص: 723

على أنّه معارض بأنّ العموم أحوط ؛ إذ من المحتمل أن يكون هو مقصود المتكلّم ؛ فلو حمل اللّفظ على الخصوص لضاع غيره ممّا يدخل في العموم. وهذا لا يخلو من نظر*.

_______________________________

الوضع باعتبار كونه علّة باعثة عليه لا حاكم بها إلاّ العقل ، والمفروض أنّه غير حاكم التفاتا منه إلى قيام احتمال كون العلّة الباعثة في نظر الواضع أمرا آخر اقتضى الوضع للعموم ، ولو استند لإثبات حكم العقل إلى حكمة الوضع - كما صنعه بعض الأعلام - لتتميم الدليل ، يجاب عنه : بأنّ حكمة الوضع علّة باعثة على فتح باب نوع الوضع ولا كلام فيه بل الكلام في شخص الوضع.

ولا ريب أنّ أشخاص الوضع تابعة لحكم خفيّة ومصالح لا يدركها إلاّ الواضع ومن أين ظهر أنّ تيقّن الإرادة من جملة هذه الحكم والمصالح ، ونرى أنّ العقل إذا أورد عليه ذلك كان متحيّرا غير حاكم بشيء كما لا يخفى على المتأمّل المنصف.

ولو سلّم أنّه مع ذلك يحكم بالملازمة الّذي مرجعه إلى الحكم بعلّيّة تيقّن الإرادة فغايته كونه حكما ظنّيّا ، فيتطرّق المنع إلى جواز التعويل عليه لعدم حجّيّة الظنّ في اللغات وأوضاع الألفاظ.

وأمّا ما يقال عليه : من أنّه لا دليل على عدم حجّيّة الظنّ في اللغات بل المحقّق أنّه حجّة وإلاّ لزم انسداد باب الإفادة والاستفادة ، فهو من غرائب الكلام لوضوح منع الملازمة ، فإنّ الأصل الأصيل عدم حجّيّة الظنّ مطلقا حتّى في اللغات والمطالب بالدليل إنّما هو القائل بالحجّيّة لا منكرها ، والاستدلال بلزوم انسداد باب الإفادة والاستفادة لو لا الحجّيّة إنّما يقضي بالحجّيّة في دلالات الألفاظ بعد الفراغ عن إثبات أوضاعها.

وأمّا الأوضاع فلا يلزم ما ذكر من عدم حجّيّة الظنّ فيها لانفتاح باب العلم في غالبها بل القدر المحتاج إليه في مقام الإفادة والاستفادة لوفور الطرق العلميّة بالقياس إليها كما لا يخفى على الخبير البصير.

وقد تقدّم تحقيق القول فيه في أوائل الكتاب عند البحث عن حجّيّة قول اللغويّين ، وسيأتي زيادة تحقيق فيه أيضا في مباحث حجّيّة الظنّ.

* وذكر في وجهه في الحاشية المنقولة عنه : أنّه إنّما يتمّ في الإيجاب حيث يحصل

ص: 724

الإثم بترك البعض فكان العمل بالعموم أحوط.

وأمّا في الإباحة فظاهر أنّ الخصوص أحوط والأمر سهل.

واعترضه بعض المحقّقين : بأنّه لا يتمّ في الإيجاب أيضا مطلقا ، إذ ربّما كان الخصوص في الإيجاب أيضا أحوط كما في نحو : « اقتل البصريّين » مثلا فإنّ احتمال مخالفة الأمر أهون من قتل النفس المحترمة.

وأنت خبير بأنّ هذه الكلمات ورد على خلاف التحقيق ، إذ ليس المراد بالاحتياط والأحوطيّة هنا ما يرجع إلى مقام التكليف والخطاب الشرعي ، إذ لا ملائمة بين وضع اللفظ والتكليف الشرعي ، بل المراد بهما ما يرجع إلى مقام المحاورة والتخاطب الواقع بين المتكلّم والمخاطب وإن لم يكونا من أهل الشرع بل كانا من منكري الشرائع ، فإنّ مقتضى مقام التخاطب أن يستكمل المخاطب غرض المتكلّم ومقصوده من اللفظ ويحمله على ما لا يفوت معه شيء من غرض المتكلّم ومقصوده ، فالأحوط له من هذه الجهة أن يحمله على العموم إذ لو حمله على الخصوص ربّما يفوت عليه بعض غرض المتكلّم على تقدير كون مراده العموم كما هو محتمل ، بخلاف ما لو حمل على العموم فلا يفوت شيء من غرض المتكلّم بل يحصل غرضه بتمامه على كلا تقديري إرادته العموم أو الخصوص ، غايته أنّه على الثاني يحصل الغرض مع زيادة.

ولمّا كان الغرض من فتح باب الوضع سهولة فهم أغراض المتكلّمين ومقاصدهم فالأقرب إليه والأنسب بحكمة الواضع أن يضع اللفظ بإزاء معنى لا يفوت مع الحمل عليه اتّكالا إلى الوضع وأصالة الحقيقة شيء من غرض المتكلّمين على سبيل الجزم واليقين لا بإزاء معنى يفوت مع الحمل عليه - لأجل ما ذكر - بعض غرض المتكلّمين في بعض الأحيان ، وهذا هو معنى قول المجيب : « إذ من المحتمل أن يكون العموم هو مقصود المتكلّم فلو حمل اللفظ على الخصوص لضاع غيره ممّا يدخل في العموم » وهذا كما ترى في مقام معارضة دليل الخصم بمثله في كمال المتانة ، وإن كان مثله راجعا إلى ترجيح اللغة بالعقل لابتنائه على جعل الأحوطيّة علّة باعثة على الوضع.

وبالجملة كما أنّ المستدلّ جعل تيقّن الإرادة علّة باعثة على وضع الألفاظ للخصوص فالمجيب بطريق المعارضة جعل الأحوطيّة علّة باعثة على وضعها للعموم أداءا لحقّ الحكمة بتمامها.

ص: 725

وأمّا عن الأخير : فبأنّ احتياج خروج البعض عنها إلى التخصيص بمخصّص ظاهر في أنّها للعموم *. على أنّ ظهور كونها حقيقة في الأغلب ، إنّما يكون عند عدم الدليل على أنّها حقيقة في الأقلّ ، وقد بيّنا قيام الدليل عليه**. هذا ، مع ما في التمسّك بمثل هذه الشهرة ، من الوهن***.

_______________________________

* وضعّف بما محصّله : أنّ الاحتياج إلى قرينة التخصيص بمخصّص ليس لخروج ما خرج بل لبقاء ما بقي ، لا على أنّ المخصّص قرينة مجاز بل على أنّه قرينة مفهمة أو قرينة معيّنة على حدّ ما في المشتركات المعنويّة أو اللفظيّة.

والتحقيق في الجواب : أنّ الغلبة المدّعاة غير متحقّقة على تقدير إرادة غلبة الاستعمال في كلّ مرتبة من مراتب الخصوص وغير مجدية على تقدير إرادة غلبة مجموع الاستعمالات الواقعة على مراتب الخصوص.

** هذا جواب آخر محصّله : أنّ غلبة الاستعمال في ظهورها في وضع اللفظ للأغلب دليل تعليقي مراعى بعدم قيام دليل على الوضع للأقلّ بالخصوص ، وقد بيّنّا قيام الدليل عليه وهو التبادر الضروري ومعه لا تأثير للغلبة ، فلا تكون ظاهرة في الوضع للأغلب وإن بلغت إلى ما بلغت.

*** اعترض عليه بعض الأعلام : « بعدم كون متمسّك المستدلّ هو نفس الاشتهار بل لأنّ ذلك المطلوب له حقيقة والمثل مطابق للواقع حتّى أنّ ذلك المثل أيضا مخصّص في نفس الأمر ب- ( أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (1) » انتهى.

ولقائل أن يقول : بأنّ ظاهر عبارة الدليل إنّما هو الاستناد في دعوى الغلبة إلى الاشتهار فيكون تمام الدليل ، نظير ما لو ثبت صغراه بالظنّ والظهور الناشئ من الشهرة ، فيرد عليه - مضافا إلى ما مرّ - أنّ الغلبة الكاشفة عن الوضع للأغلب في نظر العرف إنّما هي الغلبة المقطوع بها لا الغلبة المظنونة ، هذا مع ما يرد على أصل دعوى الاستعمال في الخصوص استنادا إلى هذه القضيّة المشهورة ، فإنّ مفادها ورود تخصيص على كلّ صيغة من صيغ العموم إلاّ ما قلّ منها وندر مثل ( أَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (2).

ص: 726


1- البقرة : 231.
2- البقرة : 231.

ولا ريب أنّ ورود تخصيص على كلّ صيغة لا يستلزم غلبة استعمال كلّ صيغة في الخصوص فضلا عن غلبة استعمالها في كلّ مرتبة مرتبة من مراتب الخصوص ، لأنّه يصدق مع ورود تخصيص واحد وما يقرب منه ، وظاهر أنّ بمجرّد ذلك لا يتحقّق غلبة الاستعمال في الخصوص.

وهذا يتوجّه إلى المستدلّ وإن لم يكن مستنده في دعوى القضيّة المشهورة هو الاشتهار ، بل كانت عنده ثابتة بعنوان القطع مطابقة للواقع بطريق اليقين ، ولهذا القائل شبهات اخر لا تليق بالذكر.

حجّة القول بالتفصيل بين الأمر والنهي والخبر : انعقاد الإجماع على عموم التكليف بالأوامر والنواهي فلو لم يكن الأمر والنهي للعموم لما عمّ التكليف أو كان تكليفا بما لا يطاق ، بخلاف الخبر فإنّه ليس بتكليف مضافا إلى أنّه يجوز وروده بالمجمل من غير بيان كقوله تعالى : ( كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ ) (1) وكأنّه أراد من الأمر والنهي المدّعى كونها للعموم مثل قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ) (2) ( وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ ) (3) ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) (4) باعتبار اشتمالها على « واو » الجمع فيعمّ التكليف المستفاد منها لجميع المكلّفين ، وكذلك نحو : « أكرموا العلماء » و « لا تقتلوا المشركين » ممّا كان متعلّق الأمر والنهي من الألفاظ المدّعى كونها للعموم ، وإلاّ فنفس الأمر والنهي ليسا من الألفاظ المدّعى كونها للعموم.

وكيف [ كان ] فالجواب عنه :

أوّلا : منع عموم التكليف المنساق من الأوامر والنواهي ، لخروج ذوي الأعذار منهما لا محالة ، فالإجماع المدّعى على العموم ممّا لا أصل له.

وثانيا : منع نهوض الإجماع بعد تسليم انعقاده على عموم التكليف لإثبات الوضع للعموم ، بل غايته الكشف عن إرادة العموم.

وثالثا : لزوم الوضع بشرط لو كان ناهضا لإثبات وضعها للعموم في خصوص الأوامر والنواهي وهو أن يقول الواضع : « وضعت هذه الألفاظ بشرط وقوعها في حيّز الأوامر والنواهي » وهو باطل ، لأنّ من دأب الواضع أن يضع اللفظ لمعنى مطلقا لا بشرط شيء من موارد استعماله.

ص: 727


1- يس : 31.
2- البقره : 43.
3- الأنعام : 152.
4- النساء : 5.

وقضيّة ذلك أن يكون لفظ العامّ ظاهرا في العموم عرفا ولغة سواء ورد في كلام الشارع أو غيره وسواء كان الكلام تكليفيّا أو خبريّا ، ولا ينافيه الإجماع على عموم التكليف المنساق من الأمر والنهي ، لأنّ غايته أنّ الخبر ممّا سكتوا عن حكمه من حيث الحمل على العموم وعدمه ولم يتعرّضوا لحاله ولا تحقيق مفاده لعدم فائدة مهمّة فيه ، بخلاف الأمر والنهي فإنّ الابتلاء بهما من قبل الشارع دعاهم إلى النظر في تحقيق حالهما فأجمعوا بعد إمعان النظر على عموم التكليف المنساق منهما.

هذا تمام الكلام في صيغ العموم في الجملة لإثبات الوضع للعموم على وجه الإيجاب الجزئي.

وأمّا الكلام في جملة من ألفاظ العموم تفصيلا لما فيها من بعض الخصوصيّات فيقع في فصول :

في لفظه « كلّ » و « جمع » و « أجمع » وتوابعهما

الفصل الأوّل

في لفظة « كلّ » و « جميع » و « أجمع » وتوابعهما المشهورة ، وظاهر إطلاق كلامهم في العنوان السابق دخولها في النزاع المتقدّم وهو الظاهر من عبارة المصنّف وغيره ممّن استدلّ لإثبات الوضع للعموم خاصّة بأنّه لولاه لزم أن يكون القائل : « رأيت الناس كلّهم أجمعين » مؤكّدا للاشتباه.

بل عن الشيخ والرازي التصريح بذلك كما صرّح به بعض الأعاظم أيضا.

ولكن عن التفتازاني والباغنوي وبعض آخر التصريح بخروجها عن محلّ النزاع ، حتّى أنّه عن بعضهم أنّه خصّ النزاع المتقدّم بألفاظ مخصوصة لا أنّه في أنّ العموم ليس له لفظ أصلا ، ولا خفاء في ضعفه.

وكيف كان هذه الألفاظ مفيدة للعموم بحسب الوضع دالّة عليه بعنوان الحقيقة من بديهيّات العرف واللغة بحيث يعدّ التشكيك فيه تشكيكا في الضروريّات ، ولذا نجد بالضرورة من العرف أنّ كلّ من يقصد تعميم حكم كلامه إيجابيّا أو سلبيّا بالقياس إلى جزئيّات أو أجزاء موضوعه يأتي فيه بأحد هذه الألفاظ.

هذا مضافا إلى ضرورة التبادر وتصريح أئمّة اللغة والعربيّة بذلك واتّفاقهم عليه ، وكون « الكلّ » ممّا يعدّ سورا للإيجاب الكلّي الّذي ينقضه السلب الجزئي كما يرشد إليه انفهام المناقضة في متفاهم العرف بين قولي القائل : « رأيت كلّ رجل » و « ما رأيت زيدا » وصحّة تكذيب من قال : « كلّ الناس علماء » و « رأيت كلّ رجل ».

ص: 728

وينبغي التنبيه على امور :

أحدها : أنّ لفظة « كلّ » تعمّ العاقل وغيره كما نصّ عليه غير واحد ، ويشهد له صحّة قولهم : « كلّ فرس » و « كلّ شجر » و « كلّ حجر » و « كلّ ثوب » و « كلّ خبز » و « كلّ رمّانة ».

ثانيها : أنّها قد تأتي في الكلام منوّنة ومنه قوله تعالى : ( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ ) (1) وقد تأتي مضافة وهو الغالب ، بل إليه يرجع الأوّل كما نصّ عليه في العربيّة بناء على كون تنوينها للعوض عن المضاف إليه المحذوف.

ثالثها : أنّ لفظة « كلّ » قد ترد في الكلام لاستغراق الجزئيّات وقد ترد لاستغراق الأجزاء ، وإنّما يتمايزان بإضافتها إلى النكرة أو إلى المضاف إلى النكرة ك- « اشتريت كلّ عبد » و « اشتريت كلّ غلام رجل » وما أشبه ذلك فتفيد استغراق الجزئيّات ، أو إلى المعرفة علما أو ضميرا ك- « اشتريت كلّ العبد » و « اشتريت العبد كلّه » فلاستغراق الأجزاء ، وأمّا قولنا : « اشتريت كلّ غلام زيد » فيحتمل الأمران ويعلم المراد بالخارج ، ومن الخارج العلم بانحصار عبد زيد في واحد والعلم بتعدّد عبيده مع انتفاء العهد ، والظاهر أنّها مشتركة بينهما لعدم تبادر أحدهما بعينه حيث قطع النظر عن القرينة ، وإضافتها إلى النكرة وما بحكمها قرينة تعيين أوّل المعنيين كما أنّ إضافتها إلى المعرفة قرينة تعيين ثانيهما ، بالنظر إلى أنّ المعرفة الدالّة على شيء بعينه لا يعقل لمدلولها تعدّد إلاّ بحسب الأجزاء بخلاف النكرة فإنّ مدلولها فرد أو الماهيّة فيقبل التعدّد في المصاديق والأفراد ، فمن زعم اختصاصها بالعموم الأفرادي كبعض الأعلام وغيره فقد سها.

ويظهر من العدّة أيضا كونها للأعمّ حيث قال عند تعداد ألفاظ العموم : « ومنها لفظة « كلّ » إذا دخلت في الكلام ، فإنّها تفيد الاستغراق سواء دخلت للتأكيد أو لغير ذلك ، فأمّا ما يدخل للتأكيد نحو قول القائل : « رأيت الرجال كلّهم » فإنّ ذلك يفيد الاستغراق وما يدخل لغير التأكيد نحو قول القائل : « كلّ رجل جاءني أكرمته » و « كلّ عبد لي فهو حرّ » وعلى هذا القياس قوله تعالى : ( كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها ) (2).

رابعها : دلالة لفظ « كلّ » على الجزئيّات المستغرق لها وكذلك الأجزاء التزاميّة كما تقدّم الإشارة إليه سابقا ، لكونها من قبيل الخارج اللازم للموضوع له وهو العموم بمعنى الشمول المتعلّق بالجزئيّات أو الأجزاء ، فالموضوع له هو المتعلّق بالكسر ولا ينفكّ عنه

ص: 729


1- الإسراء : 84.
2- الملك : 8.

المتعلّق بالفتح فيكون من ضروريّاته ولوازمه.

خامسها : المعروف من أهل العربيّة : [ انّ ] لفظة « كلّ » إذا اجتمعت في الكلام مع أداة النفي فهي لعموم السلب الّذي يقال له : « السلب الكلّي » إذا دخلت على أداة النفي ، ولسلب العموم الّذي يقال له : « رفع الإيجاب الكلّي » إذا دخلت عليها أداة النفي ، ومن هنا فرّقوا بين قول القائل : « كلّ إنسان لم يقم » وقوله : « لم يقم كلّ إنسان » بجعل [ الأوّل ] لعموم السلب والثاني لسلب العموم ، ومرجعه إلى الفرق بين نفي شيء عن العامّ فيفيد عموم السلب ونفي العامّ عن شيء فيفيد سلب العموم.

ومن الاصوليّين من أنكر ذلك بدعوى أنّها لعموم السلب مطلقا ، وأنّ الفرق المذكور ممّا لا يساعد عليه العرف وفهم أهل اللسان بل خلاف ما يقتضيه التبادر.

وقد يقال : بأنّ الترتيب فيما بين ألفاظ القضيّة إذا كانت ملفوظة كثيرا مّا لا يتعلّق به حكم بل العبرة بما يعتبره المتكلّم في نفسه ويكشف عنه بالألفاظ ونحن نرى بحسب الوجدان إنّ : « لم يقم كلّ إنسان » يصحّ وقوعه موضع عموم السلب كما أنّ « كلّ إنسان لم يقم » يصحّ وقوعه موقع سلب العموم ، وإنّما يختلف المعنى بالاعتبار ويعلم ذلك بالخارج ، فإنّ المتكلّم قد يعتبر القيام مسندا إلى كلّ فرد للإنسان ثمّ يورد عليه النفي فيعبّر عنه بأحد اللفظين ، وقد يعتبر عدم القيام مسندا إلى ماهيّة الإنسان ثمّ يورد عليه السور فيعبّر عنه بأحد اللفظين ، فعلى الأوّل يكون لسلب العموم ، وعلى الثاني لعموم السلب.

وفيه نظر بل منع.

والّذي يساعد عليه النظر في تحقيق المقام أن يقال : إنّ لفظ « الكلّ » على ما بيّنّاه مرارا موضوع للدلالة على تسرّي الحكم إلى جميع أفراد موضوعه إيجابيّا كان أو سلبيّا ، واستعماله في القضيّة وإرادة خلاف ذلك مجاز لا يصار إليه إلاّ لصارف يصرفه عن حقيقته.

ولا ريب أنّ وروده على النفي في مثل : « كلّ إنسان لم يقم » لا يصلح صارفا له عن مقتضى وضعه ، فيكون مفاده تسرية الحكم السلبي وهو عدم القيام إلى جميع أفراد الإنسان.

والسرّ فيه : أنّ « لم يقم » في المثال مسند ، ومعنى كونه مسندا أنّ المتكلّم يسند عدم القيام إلى المسند إليه وهو ماهيّة الإنسان ثمّ يأتي بلفظ « الكلّ » لتسرية عدم القيام المسند إلى الماهيّة إلى جميع أفرادها وهذا هو عموم السلب ، ويجوز أن يكون إنّما أسنده من أوّل الأمر إلى كلّ فرد للإنسان لأنّه المسند إليه في ظاهر اللفظ باعتبار كونه مبتدأ فيكون مفاده

ص: 730

أيضا عموم السلب ، ضرورة أنّ ثبوت عدم القيام لكلّ فرد معناه انتفاء القيام عن كلّ فرد فهذا ممّا لا كلام فيه ، وإنّما الكلام في أنّ ورود النفي عليه في نحو : « لم يقم كلّ إنسان » هل يصلح صارفا له عن مقتضى وضعه وهو عموم السلب إلى خلافه وهو سلب العموم أو لا؟

والتحقيق الموافق للنظر الدقيق هو عدم صلاحيّة ذلك أيضا للصرف ، وذلك أنّ « لم يقم » في صورة وروده على الكلّ أيضا مسند كما كان مسندا في صورة العكس ، ضرورة أنّ اختلاف التركيبين بالنسبة إلى « لم يقم » بالتقديم والتأخير لا يوجب اختلاف حاله في كونه مسندا - لا في صورة التأخير ، ولا في صورة التقديم - بل هو مسند في الصورتين معا ، وظاهر أنّ كونه مسندا في صورة التقديم أيضا يقتضى مسندا إليه وليس إلاّ « كلّ إنسان » باعتبار وقوعه حينئذ فاعلا ، ومعنى كون « لم يقم » مسندا و « كلّ إنسان » مسندا إليه أنّ المتكلّم يسند عدم القيام إلى كلّ فرد للإنسان فلا يكون مفاده إلاّ عموم السلب أيضا.

فانقدح أنّ كلاّ من التركيبين يرد في متفاهم العرف لعموم السلب بلا تفاوت بينهما.

وأمّا ما تقدّم من توهّم أنّ المتكلّم قد يعتبر القيام مسندا إلى كلّ فرد للإنسان ثمّ يورد عليه النفي فيكون لسلب العموم ، يأباه وضع القضيّة بل يبطله دليل الخلف ، إذ المسند إذا كان هو الفعل المنفيّ فكيف يعقل من المتكلّم اعتبار إسناد القيام إلى كلّ فرد للإنسان المفروض كونه مسندا إليه.

وممّا قرّرناه يعلم أنّ قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ ) (1) المحمول على عموم السلب مع ورود النفي فيه على العامّ ليس فيه مخالفة للظاهر ، بل لو حمل على سلب العموم كان مخالفا للظاهر ، بتقريب ما عرفت من أنّ المسند هو الفعل المنفيّ ومعناه أنّه تعالى أسند عدم المحبّة إلى « كلّ مختال فخور » ولا يعني من عموم السلب إلاّ هذا.

وبالتأمّل في تحقيقاتنا هذه يظهر أنّ الحقّ في « ليس كلّ » المختلف فيه عند أهل الاستدلال كونه للسلب الكلّي لا لرفع الإيجاب الكلّي ، لوضوح أنّ « ليس » في نحو : « ليس كلّ حيوان إنسانا » و « ليس كلّ إنسان بكاتب » إنّما ينفي خبره عن اسمه المفروض كونه كلّ فرد من أفراد الحيوان أو الإنسان وهذا هو السلب الكلّي ، واللفظ بظاهر وضع القضيّة وحملها لا يتحمّل كونه لرفع الإيجاب الكلّي.

فما ذكره المحقّق السيّد الشريف في حواشيه على الشمسيّة في بحث سور القضيّة من

ص: 731


1- لقمان : 18.

مباحث القضايا بقوله : « ليس كلّ » يحتمل أن يكون سلبا كليّا بأن يقصد بحرف السلب سلب المحمول عن الموضوع المذكور وهو كلّ واحد واحد ، وأن يكون سلبا جزئيّا بأن يقصد به سلب القضيّة » تبعا لشارح المطالع فيما حكي من قوله : « والصواب أن يقال « ليس كلّ » و « ليس بعض » إمّا أن يعتبر سلبهما بالقياس إلى القضيّة « فليس كلّ » مطابق لرفع الإيجاب الكلّي و « ليس بعض » لرفع الإيجاب الجزئي ، وإن اعتبر بالقياس إلى المحمول « فليس كلّ » مطابق للسلب الكلّي و « ليس بعض » للسلب الجزئي ».

وارد على خلاف التحقيق ، لأنّ السلب المستفاد من « ليس » نظرا إلى ظاهر اللفظ لا يتوجّه إلاّ إلى المحمول وهو هنا خبر « ليس » خصوصا مع ملاحظة نصبه أو جرّه بالباء الزائدة ، فهو بهذه الملاحظة لا يتحمّل توجّهه إلى القضيّة وهي الموجبة الكلّية ، كما إذا قصدت ردّ من قال : « كلّ حيوان إنسان » أو « كلّ إنسان كاتب » تقول : « ليس كلّ حيوان انسان » أو « ليس كلّ انسان كاتب » برفع المحمول ، إلاّ إذا صرف المحمول عن كونه خبرا ل- « ليس » حتّى ينصرف الموضوع عن كونه اسما له فيقدّر اسمه ضمير الشأن أو القصّة فيكون خبره جملة المبتدأ والخبر ، فإذا ساعد على هذه التكلّفات قرينة مقام أو مقال ومنه رفع المحمول صحّ توجّه السلب إلى القضيّة [ و ] مفاده [ حينئذ ] رفع الإيجاب الكلّي وإلاّ فلا.

لا يقال سور القضيّة بمنزلة القيد لأنّ تقدير : « كلّ إنسان كاتب » الإنسان كلّه كاتب ، فاذا ورد عليها السلب رجع إلى القيد ، وظاهر أنّ نفي القيد لا ينافي ثبوت المقيّد بدونه ، فصدق أنّ « ليس كلّ » في قولنا : « ليس كلّ إنسان كاتبا » رفع للإيجاب الكلّي ، لمنع توجّه النفي إلى نحو هذا القيد الّذي هو سور القضيّة ، بل القيد هنا يرجع إلى النفي لكونه آلة لإدراك حال الحكم من حيث تسرّيه إلى جميع أفراد الموضوع.

ثمّ إنّ لفظ « الجميع » و « أجمع » وأخواتهما وإن كان يشارك « الكلّ » في إفادة الاستغراق على وجه الحقيقة غير أنّها تفارقه في أنّها أظهر في استغراق الأجزاء سواء وردت في مقام التأكيد أو في غيره ، وعلى قياسها « كافّة » و « عامّة » و « قاطبة » فتأمّل.

في « من » و « ما »

الفصل الثاني

في « من » و « ما » المعدودتين في بعض اعتباراتهما من ألفاظ العموم قال الشيخ في العدّة عند تعداد صيغ العموم :

« فمنها : « من » في جميع العقلاء إذا كانت نكرة في المجازاة والاستفهام ومتى وقعت

ص: 732

معرفة لم تكن للعموم وكانت بمعنى « الّذي » وهي خاصّة بلا خلاف.

ومنها : « ما » فيما لا يعقل إذا وقعت الموقع الّذي ذكرناه من المجازاة والاستفهام ومتى كانت معرفة لم تكن مستلزمة للعموم كما قلناه في « من » ومن الناس من قال : إنّ « ما » يعمّ ما يعقل وما لا يعقل وهي أعمّ من « من » وذلك محكيّ عن قوم من النحويّين » انتهى.

الظاهر أنّه أراد بالنكارة في المجازاة والاستفهام عدم دلالتها على شيء بعينه كما في المعرفة وهذا في المجازاة موضع منع تعرفه ، وكيف كان ف- « من » و « ما » كما نبّه عليه الشيخ تبعا لأئمّة اللغة يلحقهما اعتبارات ثلاث : اعتبار المجازاة ، واعتبار الاستفهاميّة ، واعتبار الموصوليّة ، وينبغي في استعلام كونهما للعموم وعدمه التكلّم على جميع اعتباراتهما الثلاث فها هنا مسائل ثلاث :

في من وما الشرطيّتين

المسألة الاولى

في « من » و « ما » في المجازاة ويعبّر عنهما على هذا الاعتبار ب- « من » و « ما » الشرطيّتين ومن أمثلتهما قوله تعالى : ( مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ) (1) ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ) (2) ( وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ ) (3) ( وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ) (4) وظاهرهم فيها الاتّفاق على دلالتهما على العموم ، بل عن الفخري أنّه عدّهما ممّا يعلم كونه من صيغ العموم بالضرورة بعد الاستقراء ، وعليه جماعة منّا كالشيخ وبعض الأعلام وبعض الأعاظم.

واستدلّ بالتبادر وصحّة الاستثناء.

أقول : لا ينبغي الاسترابة في دخول العموم في مدلوليهما وإنكاره مكابرة للوجدان ، ولذا يصحّ التعبير بالكلّ عمّا دخل في مفهوميهما ، إلاّ أنّ الكلام في أنّ دخوله في مفهوميهما هل هو بحسب الوضع ليكون الدلالة عليه بالمطابقة ، أو باعتبار لزومه لما دخل في وضعيهما ليكون الدلالة عليه التزاميّة؟ فلقائل أن يمنع الأوّل بدعوى أنّه من لوازم الشرطيّة المأخوذة في وضعيهما ، بتقريب : أنّ الشرطيّة يراد بها سببيّة المقدّم للجزاء ومن خواصّ السببيّة عدم انفكاك المسبّب عن السبب ، ومعناه أنّه كلّما وجد السبب وجد معه المسبّب ، وهذا يستلزم العموم بمعنى استغراق الحكم وهو الجزاء لجميع جزئيّات موضوعه ، وبذلك يتطرّق القدح في الدليلين المتقدّمين ، فإنّ المسلّم من التبادر هنا انفهام المدلول الالتزامي فلا يكون وضعيّا ، وصحّة الاستثناء أيضا تابعة للمدلول الالتزامي.

ص: 733


1- النساء : 123.
2- الزلزلة : 7.
3- البقرة : 197.
4- النحل : 53.

لا يقال : إنّ العموم الّذي هو هنا من لوازم الشرطيّة - بمعنى السببيّة - إنّما هو شمول الجزاء لجميع وجودات الشرط ولا كلام فيه ، بل محلّ الكلام إنّما هو شمول الجزاء لكلّ من يوجد فيه الشرط لا ما يوجد فيه الشرط وهذا عموم زائد على العموم الأوّل ، وكون الأوّل من لوازم الشرطيّة في مثل « من » و « ما » لا ينافي كون الثاني من مقتضى الوضع ، ولذا نجد فرقا بيّنا بين قول القائل : « إن دخل زيد الدار فأعطه درهما » وقوله : « من دخل الدار فأعطه درهما » حيث إنّ الأوّل لا يعمّ كلّ داخل والثاني يعمّه ، وهذا آية دخول العموم على الوجه الثاني في وضع الثاني دون الأوّل مع تساويهما في العموم على الوجه الأوّل الّذي هو من لوازم الشرطيّة.

لأنّا نقول : إنّ العموم على الوجه المذكور لا يغاير الأوّل بل بعض منه فيكون من لوازم الشرطيّة أيضا ، وما يرى من الفرق بين المثالين في أنّ الحكم في الأوّل لا يعمّ كلّ داخل في الدار ولذا لو دخل « عمرو » لا يجب إعطاؤه من جهة أنّ المولى قال : « إن دخل زيد الدار فأعطه درهما » بخلافه على المثال الثاني ، إنّما نشأ من أنّ الشرط في الأوّل دخول « زيد » بقيد الخصوصيّة ، فالعلّة مركّبة من « الدخول » وكون « الداخل زيدا » وفي الثاني هو « الدخول الكلّي » من أيّ داخل كان ، نظرا إلى أنّ « من » و « ما » بحسب الوضع للذات البحت المعرّاة عن خصوصيّات الأشخاص ، فقضيّة كون الشرط هو كلّي الدخول عموم الحكم لكلّ من يوجد منه الشرط زيدا كان أو عمرا أو غيرهما.

نعم لا يندرج فيه دخول غير العاقل لاختصاص كلمة « من » بالعقلاء.

وبالجملة فكون العموم المستفاد من كلمتي « من » و « ما » مأخوذا في وضعيهما ليكون الدلالة عليه من دلالة اللفظ على ما وضع له غير واضح فعدّهما من ألفاظ العموم غير سديد ، إلاّ أن يكتفى في العامّ بمطلق الدلالة على العموم ولو التزاميّة وهذا أيضا غير واضح بل المعلوم خلافه.

وممّا يرشد إلى ما ذكرناه - من إمكان كون دخول العموم في الشرطيّتين باعتبار كونه من لوازم الشرطيّة لا من مقتضى الوضع - أنّ المشتق قد يتضمّن معنى الشرطيّة باعتبار كون مبدأ اشتقاقه علّة للحكم فيدخل العموم في مفهومه أيضا تبعا للشرطيّة لا غير ، كما في قوله تعالى : ( السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ) (1) و: ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ

ص: 734


1- المائدة : 38.

مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ) (1) مع أنّ عدم كون المشتقّ من ألفاظ العموم لا باعتبار وضعه الهيئي ولا باعتبار وضعه المادّي ضروريّ. وممّا يرشد أيضا أنّ الموصوليّتين أيضا على القول بعدم كونهما بالوضع للعموم قد تتضمّنان معنى الشرطيّة في صلتيهما فيدخل فيهما العموم أيضا تبعا للشرطيّة لا وضعا ، على أنّه يمكن تطرّق المنع إلى تغاير الشرطيّتين للموصوليّتين حيث تتضمّنان معنى الشرطيّة ، وأيّ برهان قام أو أيّ أمارة قضت بأنّ « من » في قوله تعالى : ( مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ) (2) و « ما » في نحو قوله تعالى : ( وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ ) (3) ليستا من الموصوليّتين قد تضمّنتا معنى الشرطيّة في صلتيهما.

ومن أين علم أنّ الجملة المتعقّبة لهما ليست من قبيل صلة الموصول.

فإن قلت : إنّ الشرطيّة والموصوليّة تتغايران بالنكارة والتعريف كما تقدّم في عبارة الشيخ من التصريح بكون كلّ من الكلمتين في المجازاة نكرة وفي الموصول معرفة بمعنى « الّذي ».

قلت : كون الموصولتين من المعرفة ممّا لا كلام فيه ، لأنّ المعرفة ما دلّ على شيء معيّن شخصا كان ذلك المعيّن أو جنسا كما في المعرّف بلام الجنس وعلم الجنس ، والموصول أيضا يدلّ على شيء معيّن يتعيّن بالصلة ، والمعيّن في معنى الموصول أيضا أعمّ من الشخص كقولك : « رأيت من أعطاك » و « فهمت ما قلت » والجنس كالموصول الّذي يدلّ على المعنى الجنسي كما في قوله تعالى : ( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ) (4) و ( ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللّهِ باقٍ ) (5) ودخول العموم في مفهوميهما لعلّه من جهة التعليق على الجنس ، ولكن كون بناء الشرطيّتين على النكارة غير واضح.

ألا ترى أنّ « من » في قول القائل : « من دخل الدار فله درهم » تعدّ عندهم من الشرطيّة مع صحّة أن يقال في نحو المثال : « من دخل الدار راكبا أو مسلّما عليك مثلا فله درهم » وهذا آية التعريف.

ومن أين علم أنّ « من » في هذا المثال ونظائره مع صحّة كونها معرفة بالنسبة إلى المعنى الجنسي شرطيّة مغايرة للموصوليّة وليست هي الموصولة بعينها قد تضمّنت معنى الشرطيّة ، فليتدبّر.

في من وما الاستفهاميّتين

المسألة الثانية

في « من وما » الاستفهاميّتين ومن أمثلتهما قوله تعالى : ( مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا ) (6) ( وَما

ص: 735


1- النور : 2.
2- النساء : 123.
3- البقرة : 197.
4- النحل : 49 و 96.
5- النحل : 49 و 96.
6- يس : 52.

تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى ) (1) و « ما شأنك » وقد سمعت التصريح من الشيخ بكونهما للعموم وصرّح به غيره أيضا ، ولعلّه مذهب الأكثر من أهل القول بأنّ للعموم صيغة تخصّه ، بل عن الفخري ما تقدّم فيهما أيضا من عدّهما ممّا يعلم كونه من صيغ العموم بالضرورة.

ويمكن المناقشة هنا أيضا بأنّ عموم الاستفهاميّتين ليس من العموم المبحوث عنه في صيغ العموم وهو العموم الشمولي ، على معنى شمول الحكم لجميع جزئيّات موضوعه على أن يكون كلّ جزئيّ مستقلاّ في موضوعيّته للحكم ، والعموم هنا بدليّ لأنّ الاستفهام عن تعيين المسند إليه سؤال عن التعيين ولا يتأتّى إلاّ في محلّ الترديد عند المتكلّم ، فكأنّه في قوله : « من عندك » يقول : « أزيد عندك أم عمرو أم بكر؟ » إلى غير ذلك ممّا يحتمل في نظره دخوله في الأمر المردّد المسؤول عن تعيينه والترديد آية بدليّة العموم ، ولا ينافيه صحّة وقوع العامّ في الجواب كما لو قيل : « العلماء » أو « كلّ القوم » أو « كلّ أحد » أو « كلّ من تريد » لأنّه من جهة كونه من مصاديق الأمر المردّد ، ولذا يصحّ وقوع الخاصّ أيضا في الجواب كما لو قال : « زيد » أو « عمرو » أو « بكر » مثلا.

ويمكن الذبّ عنه : بأنّ ما ذكر في معنى : « من عندك؟ » أو « من في الدار؟ » أو غيره من النظائر وسمّي بالعموم البدلي احتمال ترديديّ في نظر المتكلّم ناش عن جهله بتعيين المسند إليه في لحاظ إسناد « الحصول » عند المخاطب أو « في الدار » إليه الّذي اعتبره في نفسه ، فإنّه في لحاظ إسناد « الحصول » إلى من يصلح له في نفسه جاهل بعين الحاصل محتمل في نفسه لكونه جميع القوم أو خصوص « زيد » أو « عمرو » أو « بكر » أو غيره من المصاديق المحتملة المردّد فيها في نظره ، وهذا الاحتمال الترديدي الّذي سمّوه بالعموم البدلي ليس بمدلول لفظ الاستفهام بل هو حالة في المتكلّم قائمة بنفسه ناشئة عن جهله بتعيين الحاصل عند المخاطب أو في الدار باعثة على إيجاده لمعنى اللفظ ، فإنّ الاستفهام بأيّ أداة حصل من قبيل الإنشاء وهو عبارة [ عن ] إنشاء طلب تعيين الحاصل من المخاطب على تقدير حصوله الّذي قد يكون معلوما لديه وقد يكون مجهولا أيضا ليحصل له العلم بعينه ، ولأجل كون حصول ذلك العلم غاية لطلبه التعيين من المخاطب يفسّر الاستفهام بطلب الفهم بمعنى العلم ، وهذا المعنى الإنشائي المأخوذ في وضع « من » و « ما » شامل لجميع المصاديق المحتملة في نظره شمولا واحدا ، وهو مراد القوم بالعموم المدّعى

ص: 736


1- طه : 17.

كون هذين اللفظين مفيدين له ، بتقريب ما ذكرناه مرارا من أنّ المراد بالعموم في مباحث العامّ والخاصّ استغراق الحكم لجزئيّات موضوعه أو أجزائه ، ولأجل ذلك نجد فرقا واضحا بين الاستفهام بأحد هذين اللفظين والاستفهام بالهمزة الّتي هي لطلب التصوّر والاستفهام ب- « هل » الّتي هي لطلب التصديق من حيث عدم دخول عموم في مفهوم الهمزة و « هل » كما في قوله : « أزيد عندك؟ » و « هل قام زيد؟ ».

والسرّ فيه : أنّ المعنى الإنشائي فيهما مقصور على شخص واحد أو على جملة واحدة لا تعدّد فيهما ، ومرجعه إلى عدم دخول التعدّد في مفهومي الهمزة و « هل » فلا يعقل فيهما العموم بخلاف « من » و « ما » لدخول التعدّد في مفهوميهما وهو تعدّد محتملات الحاصل عند المخاطب أو في الدار في نحو المثالين المتقدّمين الّذي هو مناط العموم بمعنى شمول الحكم للجزئيّات.

نعم لقائل - أن يقول - على كونهما للعموم بالوضع - : بأنّ قصارى ما يسلّم دخوله في وضع هذين اللفظين إنّما هو نفس المعنى الإنشائي الشامل لا شموله الّذي هو معنى العموم ، بل هو من قبيل الخارج عن الموضوع له اللازم له فيكون الدلالة التزاميّة أيضا نظير طلب إقامة الصلاة مثلا في نحو : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) (1) فإنّه شامل لجميع الآحاد المدلول عليها ب- « واو » الجمع مع عدم دخول شموله لها في وضع صيغه « أقيموا » بل الداخل فيه نفس الشامل وشموله خارج عنه لازم له.

وبالجملة لا دليل على دخول شمول المعنى الإنشائي للجزئيّات والمصاديق في وضع اللفظين على أن يكون تمام الموضوع له أو جزؤه ، وعلى القائل بدخوله فيه إثباته بإقامة دليل واضح عليه وأنّى له بذلك.

ومع الغضّ عن ذلك أيضا نقول : إنّ المعنى الإنشائي شامل لجميع المصاديق شمولا واحدا على البدل باعتبار كون الحاصل عند السامع أو في الدار في نظر المتكلّم مردّدا بين الجميع محتملا لكلّ واحد على البدل لا على نحو الاستغراق ، ضرورة عدم كون كلّ واحد بعينه مطلوب التعيين كما أنّ كلّ واحد بعينه في نحو : « أكرم العلماء » مطلوب الإكرام ، فلا يكون العموم المتصوّر فيهما بالقياس إلى المعنى الإنشائي أيضا إلاّ عموما بدليّا.

في من وما الموصوليّتين

المسألة الثالثة

في « من » و « ما » الموصوليّتين وقد اختلفوا في كونهما للعموم وعدمه ، فمنهم من نفاه

ص: 737


1- البقرة : 43.

مطلقا كما عرفته عن الشيخ نافيا للخلاف فيه وعزى إلى تمهيد الشهيد أيضا ، ومنهم من أثبته كذلك نسب إلى بعض الاصوليّين ، وعن البهائي والحاجبي والعضدي عدّ الموصولات من صيغ العموم ، وعن الأخير نسبته إلى المحقّقين وإطلاق كلامهم يشمل سائر الموصولات أيضا ك- « الّذي » و « الّتي ».

وعن التوني موافقة هؤلاء إلاّ أنّه لم يتعرّض إلاّ ل- « من » و « ما ».

وعن بعضهم نفي دلالتهما على العموم إلاّ أن يتضمّنا معنى الشرط.

ويظهر اختياره من بعض الأعلام وتبعه جماعة ممّن عاصرناهم.

والأصحّ القول الأوّل وهو عدم كونهما بل ولا سائر الموصولات للعموم بالوضع ، على معنى عدم كونه مأخوذا في وضعهما لا على أنّه تمام ما وضع له ولا على أنّه بعضه فإنّهما كسائر الموصولات من المعارف ، والمعرفة على ما بيّنّاه ما يدلّ على شيء معيّن وهو في الموصول - على ما عرفت - ما يتعيّن بالصلة ، كما عرفت أنّ ما يتعيّن بالصلة قد يكون شخصا معيّنا يعيّنه الصلة وقد يكون جنسا معيّنا يعيّنه الصلة ، والموصول في القسم الأوّل لا يعقل دلالته على العموم لانتفاء التعدّد في الشخص المعيّن ، وفي القسم الثاني أيضا بالوضع بل يستلزمه باعتبار صلته لا بالذات ، فإنّ الصلة بالنسبة إلى الجنس كصفة الجنس في نحو قوله تعالى : ( وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ ) (1) وكما أنّ صفة الجنس باعتبار التعليق على الجنس الّذي لا ينفكّ عن شيء من أفراده يستلزم العموم ، فكذلك الصلة بالنسبة إلى الجنس الّتي هي في معنى صفة الجنس باعتبار التعليق على الجنس الّذي لا ينفكّ عن شيء من أفراده يستلزمه ، فالصلة في قوله تعالى : ( أَنَّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ) (2) وكذلك في قوله تعالى : ( ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللّهِ باقٍ ) (3) وهي الجملة الظرفيّة باعتبار العامل المقدّر في معنى صفة الجنس الّذي « من » الموصول فتستلزم العموم بالاعتبار المذكور ، فالاستلزام في الحقيقة من مقتضى الصلة لا من مدلول الموصول ، ولو سلّم كون الدلالة عليه من الموصول فهي دلالة التزاميّة لا مطابقيّة ولا تضمّنيّة ، فصحّ أنّه لا يدلّ على العموم بالوضع.

ومما يرشد إلى ذلك انّ « من » و « ما » في معناهما الجنسي يصحّ أن يدخل عليهما لفظ « الكلّ » كما يصحّ أن يدخل عليهما لفظ البعض وحيث يدخل عليهما « الكلّ » لا يفهم منه

ص: 738


1- الأنعام : 38.
2- الحجّ : 18.
3- النحل : 96.

التأكيد ، وحيث يدخل عليهما « البعض » لا يفهم منه المناقضة ، فلو قيل في الآيتين : إنّ اللّه يسجد له « كلّ » من في السموات و « كلّ » من في الأرض ، و « كلّ ما » عندكم ينفد و « كلّ ما » عند اللّه باق ، لا يفهم منه التأكيد عرفا ، كما أنّه لو قيل : إنّ اللّه يسجد له « بعض » من في السموات و « بعض » من في الأرض ، و « بعض » ما عندكم ينفد و « بعض » ما عند اللّه باق ، لا يفهم منه المناقضة عرفا ، وهذا آية عدم دخول العموم في معنا هما وضعا.

وبالتأمّل فيما وجّهناه من استلزامهما العموم يعلم أنّه لا يتفاوت فيه الحال بين تضمّنهما معنى الشرط وعدمه ، إذ الاستلزام المذكور من مقتضى صفة الجنس وإن لم يتضمّنا معنى الشرط ، حتّى أنّ الشرطيّة الموجبة للعموم على القول الثالث ليست بداخلة في مدلول الموصول فكيف بالعموم الّذي ينشأ منها فإنّها اعتبار يلحق جملة الصلة ، وعلامته أن يتعقّب الصلة جملة اخرى مترتّبة عليها في الوجود فيلحقها الشرطيّة بمعنى السببيّة ، كما هو الحال في المبتدأ المنكر المتضمّن لمعنى الشرط ، نحو : « كلّ رجل يأتيني فله درهم » فإنّ الشرطيّة هنا اعتبار يلحق جملة الصفة لا أنّه داخل في مدلول المبتدأ المنكرة.

وما في كلام النحاة من التعبير بالمبتدأ المتضمّن لمعنى الشرط مسامحة في التعبير أو وارد على خلاف التحقيق ، فالشرطيّة هنا وفيما نحن فيه مستفادة إمّا من الهيئة التركيبيّة الحاصلة بين الجملتين ، أو من « الفاء » الجزائيّة الداخلة على الجملة الثانية المقتضية لسببيّة ما قبلها ، وإذا كانت الشرطيّة خارجة عن مدلول الموصوليّتين فكيف بالعموم الّذي يقتضيه الشرطيّة.

فتقرّر بجميع ما حقّقناه في المسائل الثلاث أنّ « من » و « ما » ليستا موضوعتين للعموم في شيء من اعتباراتها الثلاث من الشرطيّة والاستفهاميّة والموصوليّة.

في لفظة « أيّ »

الفصل الثالث

في نبذة اخرى ممّا ادّعي كونه للعموم على القول بأنّ له صيغة تخصّه وهي عدّة ألفاظ :

منها : « أيّ » في الشرط والاستفهام ، واختلفوا في كونه للعموم بمعنى الشمول والاستغراق وعدمه ، فذهب جماعة منهم الشيخ في العدّة والشهيد الأوّل وغيره إلى عدم كونه للعموم.

وعن الفيّومي التصريح بذلك ، قال في العدّة :

« ومنها « أيّ » فإنّها تستغرق ما يعقل وما لا يعقل وهي أعمّ من اللفظين معا ولأجل هذا إذا « قال : « أيّ شيء عندك » يحسن الإيجاب بما يعقل وما لا يعقل ، إلاّ أنّها لا تفيد الاستغراق كما تفيد « من » و « ما » إلاّ أن يدلّ دليل على ذلك فيحكم له بحكم الاستغراق » انتهى.

ص: 739

وقيل بكونه للعموم ونسب إلى جمهور الاصوليّين كما عن ثاني الشهيدين بل عن الفخريّ أنّه عدّه ممّا يعلم بعد استقراء اللغات بالضرورة.

واختاره بعض الأعاظم تعويلا على ما سمعت من النسبة إلى جمهور الاصوليّين ودعوى الضرورة فيه ، مضافا إلى اطّراد الاستثناء ، واستثناء أكثر من واحد ، فلو كان عمومه بدليّا لما صحّ ذلك.

وفيه نظر ستعرف وجهه.

ومرجع النزاع بالنسبة إلى « أيّ » في الشرط إلى أنّ قول القائل : « أيّهم يأتيني أو أيّكم يأتيني ، أو أيّ رجل يأتيني فله درهم » هل هو بمعنى : « كلّ واحد منهم ، أو كلّ واحد منكم ، أو كلّ رجل يأتيني فله درهم » فيكون عمومه شموليّا أو بمعنى : « واحد منهم ، أو واحد منكم ، أو رجل واحد يأتيني فله درهم » فيكون عمومه بدليّا.

والراجح في النظر القاصر هو القول الأوّل وهو أنّ « أيّ » في الشرط والاستفهام لا عموم له إلاّ البدلي ، وذلك لأنّه موضوع لغة لما يعبّر عنه في الفارسيّة به : « كدام » وهو عبارة عن واحد لا بعينه من الآحاد المتعدّدة ، فإذا ورد « أيّ » بهذا المعنى في الكلام للاستفهام كما لو قال : « أيّهم أو أيّكم أو أيّ رجل فعل هذا »؟ مثلا كان مفاده السؤال عن تعيين واحد من الآحاد صدر عنه الفعل ، وإذا ورد للشرط كان مفاده التنبيه على عدم اعتبار التعيين في واحد من الآحاد يصدر منه الفعل الّذي علّق عليه الجزاء ، وحاصله التنبيه على أنّ المقصود صدور الفعل من واحد لا بعينه من الآحاد أيّ واحد كان لا من واحد معيّن.

وقضيّة ذلك أن يكون العموم في كلّ من الشرط والاستفهام بدليّا لا استغراقيّا ، ومرجع العموم البدلي في الشرط إلى أنّ « أيّ » لا يفيد التكرار ، ولا ينافيه السببيّة اللازمة للشرطيّة لأنّ السبب حينئذ فعل واحد لا بعينه من الآحاد لا فعل كلّ واحد.

فإن قلت : قد سبق في تعريف العامّ أنّ المفهوم الذهني الّذي يعبّر عنه في الفارسيّة به : « هر » أو « همه » في معنى العامّ عموم شموليّ والمفروض صحّة دخول هذا المفهوم المعبّر عنه به : « هر » في معنى « أيّ » في الشرط وهو آية كون عمومه شموليّا.

قلت : هذا المفهوم المعبّر عنه به : « هر » إنّما يكون شموليّا إذا اضيف إلى الجزئيّات وهو هنا يضاف إلى معنى « أيّ » المعبّر عنه به : « كدام » وهو بهذه الإضافة أيضا يفيد عدم اعتبار التعيين فيكون عموما بدليّا لا غير ، ولا ينافيه اطّراد الاستثناء ولا استثناء أكثر من واحد

ص: 740

لأنّ الاستثناء وإن كان يقتضي تعدّد المستثنى منه ولكنّه لا يجب في ذلك دخول التعدّد في مدلول اللفظ بل يكفي فيه كونه لازما لمدلوله كما فيما نحن فيه ، إذ الواحد لا بعينه من جملة الآحاد المتعدّدة.

فإن قلت : إنّ سؤال التعيين في الاستفهام عبارة عن إنشاء طلب التعيين ، وهذا المعنى الإنشائي شامل لجميع الآحاد شمولا واحدا.

قلت : يشملها شمولا واحدا على البدل لكون الواحد لا بعينه في نظر المتكلّم الّذي صدر منه الفعل مردّدا في نظره بين الجميع محتملا لكلّ واحد على البدل ، لا أنّه شامل للجميع على نحو الإحاطة والاستغراق ليكون كلّ واحد بعينه مطلوب التعيين ، كما أنّ كلّ واحد من أفراد العلماء في نحو : « أكرم العلماء » بعينه مطلوب الإكرام.

لفظة « حيثما » و « أينما »

ومنها : « حيثما » و « أينما » في الشرط نحو : « حيثما تجلس أجلس » و « أينما تنزل أنزل » و « أين » و « أنّى » في الشرط والاستفهام معا.

فاعلم أنّ « حيث » مجرّدا عن كلمة « ما » لجنس المكان ولا يأتي شرطا ولا استفهاما ، وإذا دخلته كلمة « ما » صار عامّا في أجزاء المكان ويختصّ بالشرط حينئذ ، ولأجل ذا يعتبر في العرف والاستعمال سورا في القضيّة الشرطيّة كما في المثال المذكور ، كما أنّ « كلّما » يعتبر سورا في القضيّة الشرطيّة نحو : « كلّما كانت الشمس طالعة فالنهار موجود » غير أنّ « كلّما » يفيد استغراق الحكم لأجزاء زمان فعل الشرط و « حيثما » يفيد استغراقه لأجزاء مكانه ، وفي معناه « أينما » في الاختصاص بالشرط والسوريّة في الشرطيّة بالقياس إلى أجزاء المكان فهذا كاف في دليل كونهما للعموم.

وأمّا « أين » مجرّدا فيأتي للشرط مثل « أين تجلس أجلس » وللاستفهام نحو : « أين زيد؟ » و « أين الحرب؟ » وحيث كان للاستفهام لا عموم فيه إلاّ بدلا ، وحيث كان للشرط ينساق منه العموم ، وأمّا كونه من مقتضى وضع اللفظ أو مقتضى الشرطيّة بمعنى السببيّة ففيه وجهان.

ونحوه « أنّى » في الشرط من حيث الاختصاص بالأمكنة وانسباق العموم المردّد بين الوجهين ، وأمّا هو في الاستفهام فعلى ما عن الارتشاف يأتي بمعنى ثلاث كلمات : « أين » و « متى » و « كيف » فالأوّل استفهام في الأمكنة والثاني في الأزمنة والثالث في الأحوال.

ومنها : « متى ما » و « حينما » و « مهما » و « متى » و « أيّان » و « إذا ما » و « إذ ما » و « إذا »

ص: 741

فكلّ من الثلاث الاوّل عامّ في الأزمنة ويختصّ بالشرط فيعتبر سورا في الشرطيّة ك- « كلّما » ففيه الكفاية في دليل كونها للعموم ، و « مهما » لا يستعمل مجرّدا عن « ما » بخلاف الأوّلين إلاّ أنّ « حين » مجرّدا لا يكون إلاّ ظرفا ، و « متى » يرد شرطا واستفهاما ويلزمه العموم في الشرط وأمّا [ كونه ] من مقتضى وضع اللفظ أو من مقتضى الشرطيّة فاحتمالان ، ولا عموم في الاستفهام إلاّ بدلا ، ونحوه « أيّان » في الاختصاص بالأزمنة والورود شرطا واستفهاما نحو : « أيّان جئتني جئتك » و « أيّان تبعثون ».

و « إذا ما » و « إذ ما » كمتى ما في العموم الأزماني والاختصاص بالشرطيّة ، وإذ لا ترد للشرط إلاّ مع « ما » وهي بدونها ظرفيّة لا غير بخلاف « إذا » فإنّها ترد للشرط معها وبدونها إلاّ أنّها بدونها أداة إهمال ومعها أداة عموم ، ويظهر الثمرة في الدلالة على التكرار وعدمها في نحو : « إذا ما جاءك زيد فأكرمه » و « إذا جاءك زيد فأكرمه ».

لفظة « سائر »

ومنها : لفظ « سائر » ذكره الشهيد - على ما حكى - في صيغ العموم وتبعه بعض الأعلام بقوله : ومنها « سائر » على إطلاقيه وإن كان أظهر في إرادة الباقي فإنّه ظاهر في تمام الباقي » وفي عبارته هذه نوع غموض وتعقيد لأنّ قوله : « على إطلاقيه » يحتمل معنيين :

أحدهما : أن يكون المراد من إطلاقيه إطلاقه على الباقي وإطلاقه على تمام الباقي.

ويزيّفه : أنّ الحمل عليه يخلّ بفصاحة الكلام كما يظهر بأدنى تأمّل ، مع لزومه نوع تناقض إذ كونه ظاهرا في تمام الباقي أن يكون غيره وهو نفس الباقي خلاف الظاهر ويناقضه الحكم عليه بكونه أظهر في إرادة الباقي.

وثانيهما : أن يراد منهما إطلاقه على « الجميع » على ما حكى عن بعض أهل اللغة من جعله بمعنى « الجميع » وإطلاقه على الباقي ، ويندفع المحذوران حينئذ ويرتبط التعليل أيضا بما قبله لكون قوله : « فإنّه ظاهر في تمام الباقي » بيانا لدليل عمومه على إطلاقه على الباقي ، ومحصّله : أنّ إفادته العموم على هذا المعنى إنّما هو باعتبار ظهوره في تمام الباقي.

وتحقيق المقام يتأتّى بالتكلّم فيه على كلا المعنيين فنقول : أمّا على إطلاقه على معنى « الجميع » فعلى تقدير ثبوت هذا الإطلاق في العرف واللغة فلا يمكن الاسترابة في عمومه فإنّ « الجميع » عامّ وكذلك ما هو بمعناه ، إلاّ أنّ الكلام في ورود هذا الإطلاق في كلام من يستشهد بكلامه من العرب ولم نجد له شاهدا في استعمالات العرف ولا في خطابات الشرع مع أنّه لا يساعد هيئة اللفظ ولا مادّته.

ص: 742

أمّا الأوّل : فلأنّه باعتبار الهيئة اسم فاعل ، واسم الفاعل ما وضع لمن قام به المبدأ بمعناه الجنسي.

وأمّا الثاني : فلأنّ مادّته « السؤر » وهو إمّا بقيّة الماء بعد شربه ، أو ما يعمّه وبقيّة الطعام بعد أكله ، أو بقيّة كلّ شيء وإن كان من ذوي العقول كما يساعد عليه الاستعمالات : ك- « سائر القوم » و « سائر الناس » و « سائر العلماء » وقد نصّ على كلا الأمرين صاحب النهاية قائلا - في المحكي عنه - : « سائر » مهموز ومعناه « الباقي » لأنّه اسم فاعل من السؤر وهو ما يبقى بعد الشراب وهذا ممّا يغلط فيه الناس فيضعونه موضع « الجميع » وفي معناه ما عن الأزهري مدّعيا عليه اتّفاق أهل اللغة بقوله في المحكي عنه : اتّفق أهل اللغة أنّ « سائر الشيء » باقية قليلا كان أو كثيرا فالسائر هيئة ومادّة إذا كان بمعنى « الباقي » فكيف يجعل بمعنى « الجميع » ولذا غلّطه في النهاية.

وتوهّم أنّ اشتقاقه بهذا المعنى ليس من « السؤر » المهموز بل من « السور » الأجوف - وهو سور البلد بمعنى الحائط المحيط عليه فيكون « السائر » المشتقّ من ذلك بمعنى « الجميع » المفيد للإحاطة والشمول لما في مبدأ اشتقاقه من معنى الاحاطة - يدفعه : أنّ اسم العين لا يصلح لأنّ يشتقّ منه شيء.

كما أنّ توهّم أنّ « السائر » في هذا المعنى ليس من قبيل المشتقّ بل هو لفظ بوزان الفاعل وضع لغة بهذه الهيئة في ضمن هذه المادّة المخصوصة لمعنى الجميع ، يدفعه : المنع بعدم شاهد عليه في الاستعمال.

وأمّا على إطلاقه على معنى « الباقي » فهو الّذي يجب الإذعان به أخذا باشتقاقه من « السؤر » بمعنى البقيّة ، وهو الّذي يساعد عليه الاستعمالات ويقتضيه التبادر العرفي في المحاورات.

وقد سمعت عن الأزهري دعوى اتّفاق أهل اللغة عليه إلاّ أنّ الكلام في كونه باعتبار هذا المعنى للعموم.

وقد عرفت أنّ بعض الأعلام استند في ذلك إلى ظهوره في تمام الباقي ، ويشكل بأنّه إن أراد به الظهور الوضعي ، فيدفعه : أنّ مبدأ الاشتقاق إنّما يؤخذ في المشتقّ باعتبار معناه الجنسي والجنس لا ينفكّ عن شيء من مصاديقه فظهوره في تمام الباقي بهذا الاعتبار لا بالوضع ، وإن أراد به الظهور الانصرافي باعتبار أنّ تمام الباقي أكمل مصاديق جنس الباقي ، ففيه : مع

ص: 743

توجّه المنع إلى كون كمال الفرد من موجبات الانصراف ، أنّه أيضا ليس من العموم الوضعي.

الجمع المعرّف باللام

الفصل الرابع

في الجمع المعرّف باللام والمعروف من مذهب الاصوليّين المصرّح به في كلام جماهيرهم كونه مفيدا للعموم ، وفي كلام جماعة نفي الخلاف فيه بل في كلام غير واحد منهم بعض الأفاضل نقل الاتّفاق عليه ، خلافا لأبي هاشم الجبّائي فأنكر إفادته العموم ، واستشكل فيه الصالح المازندراني في شرحه للزبدة ، ولعلّ مبنى نفي الخلاف مع دعوى الاتّفاق على عدم الاعتناء بشأن المخالف لشذوذه كما نبّه عليه المصنّف بقوله : « الجمع المعرّف بالأداة يفيد العموم حيث لا عهد ولا نعرف في ذلك مخالفا من الأصحاب ومحقّقوا مخالفينا على هذا أيضا ، وربّما خالف في ذلك بعض من لا يعتدّ به منهم وهو شاذّ لا التفات إليه » بل الظاهر أنّهم أرادوا الاتّفاق وعدم الخلاف من القائلين بأنّ للعموم صيغة تخصّه بناء على كون النزاع ثمّة في الإيجاب الجزئي والسلب الكلّي.

نعم على القول بكونه نزاعا في جملة من الصيغ المخصوصة لا حاجة إلى التأويل المذكور كما هو واضح.

وكيف كان فقد عرفت من المصنّف أخذ قيد « حيث لا عهد » في قضيّة كونه مفيدا للعموم وتبعه جماعة في اعتبار هذا القيد ، وربّما يشتبه معنى هذا القيد ووجه اعتباره هنا ، فإن أرادوا بذلك التنبيه على كيفيّة صدور الوضع من الواضع على معنى أنّ الواضع لاحظه في وضعه الجمع المعرّف للعموم ، فيكون مرجعه إلى أنّ الواضع قال : إنّي وضعت الجمع المعرّف للعموم حيث لا قرينة عهد ، وإذا كان هنالك قرينة عهد فوضعته لغيره.

فيزيّفه : أنّه يؤدّي إلى الوضع بشرط وهو باطل.

وإن أرادوا به التنبيه على كيفيّة استعماله في العموم على معنى أنّه عند الاستعمال إنّما يحمل على العموم حيث لا قرينة.

ويزيّفه أوّلا : أنّه لم يعهد من لغويّ ولا اصوليّ أنّه عند التكلّم في إثبات الوضع للّفظ وعند تعيين معناه الموضوع له تعرّض لبيان اعتبار انتفاء قرينة العهد الصارفة للّفظ عن معناه الموضوع له ، فإنّ وجود قرينة العهد وانتفاءها مثل سائر القرائن من طوارئ الاستعمال لا من لوازم الوضع ، فملاحظة انتفائها في الحمل على الموضوع له من وظيفة السامع لا من وظيفة اللغوي أو الاصولي الباحث عن وضع اللفظ والناظر في تعيين معناه الموضوع له.

ص: 744

وثانيا : أنّ اعتبار انتفاء القرينة في الحمل على الحقيقة لا يختصّ بقرينة العهد بل يسري في سائر قرائن المجاز ، فما وجه تخصيص اعتبار الانتفاء بتلك القرينة؟

هذا ولكن سيتّضح من تضاعيف كلماتنا الآتية معنى قرينة العهد ووجه اعتبار انتفائها في قضيّة قولهم : « الجمع المعرّف باللام يفيد العموم ».

وكيف كان فتحقيق حال الجمع المعرّف باللام بجميع جهاته يستدعي رسم امور :

الأمر الأوّل

في أنّ ظاهرهم بل صريح كثير منهم بل أكثرهم كون عموم الجمع كسائر صيغ العموم وضعيّا كما هو محلّ البحث في هذه المباحث على ما بيّنّاه مرارا ، وهل هو من مقتضى الوضع الأفرادي في « اللام » ومدخوله بمعنى أنّهما بوضعيهما الأفراديّين يفيدان العموم ، أو أنّه من مقتضى وضع « اللام » وحده بحسب أصل اللغة ، أو بحسب الوضع الجديد العرفي الطارئ على الوضع الأصلي بناء على أنّه بحسب أصل الوضع اللغوي لتعريف الجنس وقد طرأه في العرف وضع جديد للاستغراق ، أو من مقتضى وضعه الأصلي بناء على كون الاستغراق من معانيه لغة ، أو من مقتضى الوضع الجديد العرفي في الهيئة التركيبيّة وعليه فإمّا أن يراد من الهيئة التركيبيّة الّتي هي معروضة لهذا الوضع الحالة العارضة « للاّم » ومدخوله الحاصلة من الضمّ والتركيب المتقوّمة بهما ، على معنى أنّ هذه الحالة العارضة موضوعة بالوضع الجديد العرفي للاستغراق ، أو المجموع المركّب من « اللام » ومدخوله على معنى أنّ هذا المركّب نفسه موضوع بالوضع الجديد للاستغراق.

والفرق بينهما وبين الأوّلين : أنّ الوضع على الأوّلين شخصي وعليهما نوعيّ.

والفرق بين الاعتبارين فيهما : أنّ الوضع الهيئة التركيبيّة بمعنى الحالة العارضة لا يوجب انسلاخ أوضاع المفردات كما في أوضاع هيئات المشتقّات العارضة لموادّها ، ووضع الهيئة التركيبيّة بمعنى نفس المركّب يوجب انسلاخ أوضاع المفردات كما في وضع « عبد اللّه » علما وكذلك في « تأبطّ شرّا » وكذا خمسة عشر ، و « الحيوان الناطق » لو فرض كونهما علمين ، احتمالات بل أقوال.

جزم بأوّلها الفاضل المحشّي في هداية المسترشدين وأخوه في الفصول.

وثانيها : ما نسبه بعض الفضلاء إلى كثير من القاصرين ، ويظهر ذلك في أحد احتماليه من جماعة من أهل العربيّة حيث يجعلون الاستغراق من معاني « اللام » مع قولهم بكونه

ص: 745

حقيقة في تعريف الجنس ، ويصرّحون بأنّه في الاستغراق يجري مجرى لفظ « الكلّ » وعلامته أن يصحّ خلع « اللام » وإقامة « الكلّ » مقامه كما في قوله : ( إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ) (1) لصحّة أن يقال : كلّ إنسان لفي خسر.

وثالثها : ما يظهر من أهل القول بكون عموم الجمع بالنسبة إلى الجماعات - كما عن المحقّق الشريف - إن كان بناؤهم على الوضع النوعي في الهيئة التركيبيّة ، لابتناء عموم الجماعات على بقاء معنى الجمعيّة وعدم انسلاخها بذلك الوضع.

ورابعها : خيرة بعض الأعلام مع التزامه بانسلاخ معنى الجمعيّة حيث قال عند تحقيق حال الجمع المعرّف باللام : « بل الظاهر أنّ المتبادر هو العموم الأفرادي لا الجمعي والمجموع فينسلخ منه معنى الجمعيّة ، فالظاهر أنّ هذا وضع مستقلّ للهيئة التركيبيّة على حدة وصار ذلك سببا لهجر المعنى الّذي كان يقتضيه الأصل المقرّر في المقدّمات من إرادة جنس الجمع » إلى آخره.

وإن كان قد يخدشه أنّ وضع الهيئة التركيبيّة بمعنى نفس المركّب يوجب الانسلاخ في كلّ من « اللام » ومدخوله لا في المدخول فقط ، ولو التزم بانسلاخ وضع « اللام » أيضا كما التزمه في الجمع فيتوجّه إليه حينئذ خروج « لام » الجمع على هذا التقدير عن كونه للتعريف ، فيلزم عدم كون الجمع المحلّى باللام على القول بكونه للعموم من جملة المعارف ، واللازم باطل بضرورة من العرف واللغة ولم يعهد التفوّه بذلك من لغوي ولا نحوي ولا اصولي.

ولا يمكن الاعتذار له بأنّ الاستغراق المفروض فيه كاف في اندراجه في المعارف ، لأنّ الاستغراق ليس بعين التعريف ولا من لوازمه ولا من ملزوماته ، ضرورة أنّ الاستغراق عبارة عن افادة شمول الحكم للأجزاء أو الجزئيّات ، والتعريف عبارة عن الإشارة إلى المتعيّن عند السامع من حيث تعيّنه وهما مفهومان متغايران ، فكيف يكون أحدهما عين الآخر؟وأنّ الاستغراق ينفكّ عن التعريف في أكثر موارده فكيف يكون من لوازمه؟ وأنّ التعريف ينفكّ عنه في كثير من موارده الّتي منها « كلّ رجل » والنكرة المنفيّة فكيف يكون من ملزوماته؟

ثمّ إنّ هذا القول يزيّفه - مضافا إلى ما عرفت من لزومه خروج « اللام » من كونه للتعريف ، وخروج الجمع المحلّى به من كونه معرفة وهو باطل بضرورة من العرف واللغة - :

ص: 746


1- العصر : 2.

أنّ دليله لا يساعد عليه ، فإنّه قدس سره على ما سمعت من عبارته فرّع انسلاخ الجمعيّة الّذي هو اللازم من وضع المركّب على تبادر العموم الأفرادي لا الجمعي والمجموعي ، وهذا يقتضي أن يكون دليل وضع المركّب المستلزم لانسلاخ معنى الجمعيّة تبادر العموم الأفرادي.

ويدفعه : أنّ العموم الأفرادي لا ينافي معنى الجمعيّة وبقاءه ، فلا يلازم انسلاخه بل يجامعه كما يجامعه العموم الجمعي والمجموعي.

وتوضيحه : أنّ الجمعيّة اعتبار يلحق اسم الجنس الّذي يقال له : « المفرد » وهو ما وضع للجنس من حيث هو ، فإن دخله تنوين التنكير صار بمعنى الجنس من حيث تحقّقه في ضمن فرد واحد لا بعينه ، وإن دخله علامة التثنية صار بمعنى الجنس من حيث تحقّقه في ضمن فردين لا بعينهما ، وإذا دخله علامة الجمع بالمعنى الأعمّ المتناول لكلّ هيئة من هيئات المكسّر صار بمعنى الجنس من حيث تحقّقه في ضمن الزائد على الفردين الّذي يقال له : « الجماعة » وحاصله الجنس من حيث تحقّقه في ضمن أفراد لا بعينها ، وهذا هو معنى الجمعيّة وله مراتب كثيرة آخرها الجنس من حيث تحقّقه في ضمن الأفراد بتمامها وهذا هو معنى الاستغراق حيث يرد الجمع المعرّف باللام لإفادة الاستغراق ، وظاهر أنّ معنى تحقّق الجنس في ضمن الأفراد تحقّق حصصه فيها بأن يقال : يتحقّق في كلّ فرد حصّة منه ، فيؤول الجنس المتحقّق في ضمن الأفراد بتمامها إلى نفس الأفراد بتمامها ، وهذا هو معنى الجمعيّة المتحقّقة مع الاستغراق بكلا قسميه من العموم الأفرادي والعموم المجموعي ، لأنّه إذا علّق حكم على الجمع المعرّف باللام في محلّ الاستغراق يتعلّق بالأفراد بتمامها إمّا على وجه يكون مفاده الحكم على كلّ فرد الّذي يعبّر عنه في الفارسيّة ب- « هر فرد » أو الحكم على مجموع الأفراد الّذي يعبّر عنه ب- « همه أفراد » والأوّل هو العموم الأفرادي والثاني هو العموم المجموعي ، فهما اعتباران يلحق كلّ منهما معنى الجمعيّة على البدل على حسب جعل المتكلّم وقصده ، فإذا بنينا على تبادر العموم الأفرادي في الجمع المعرّف كان ذلك المعنى المتبادر حاصلا في معنى الجمعيّة فكيف يكون منافيا له حتّى يلازم انسلاخه ، فالقول الرابع ضعيف جدّا.

ومثله في الضعف القول الثاني ، لأنّ الوضع الجديد العرفي إنّما ينشأ في جميع موارد [ ه ] من غلبة الاستعمال ، وظاهر انّ غلبة الاستعمال إنّما حصلت في الجمع المعرّف باللام لأنّه المستعمل في الاستغراق لا في « اللام » فلو كان هناك وضع جديد عرفي فإنّما حصل ذلك

ص: 747

الوضع في الهيئة التركيبيّة إمّا بمعنى المجموع المركّب من « اللام » ومدخوله أو بمعنى الحالة العارضة « للاّم » ومدخوله المتقوّمة بهما بسبب الضمّ والتركيب ، وقد ظهر بطلان الوجه الأوّل فتعيّن الثاني.

ولو قيل : بأنّ مبنى القول الثاني على الوضع الأصلي « للام » لا على الوضع الجديد العرفي الطارئ عليه ، بناء على القول بكون الاستغراق من معانيه لغة.

لدفعه : ما أشرنا إليه وسنحقّقه في مباحث المفرد المعرّف باللام من كون « اللام » موضوعا للتعريف وهو الإشارة إلى مدلول مدخوله من حيث تعيّنه عند المتكلّم والمخاطب ، والاستغراق اعتبار يلحق مدلول الجمع مغاير للتعريف وليس بلازمه ولا ملزومه ، فيدور العموم الوصفي في الجمع بين كونه من مقتضى الوضع الأفرادي في « اللام » ومدخوله وبين كونه من مقتضى الوضع النوعيّ التركيبي في الهيئة التركيبيّة ، وظاهر أنّ الأوّل لو كان وافيا بإفادته الاستغراق لا حاجة إلى التزام حصول وضع آخر للهيئة التركيبيّة مع كونه خلاف الأصل ، وإنّما يتصوّر عدم الوفاء به الموجب لطروّ الوضعي النوعي للهيئة بأن يقال : إنّ « الجمع » موضوع لجنس الجماعة بمعنى مفهومها الصادق على القليل والكثير الّذي منه الجميع ، و « اللام » موضوع للتعريف بمعنى الإشارة إلى مدلول مدخوله لتعيّنه عند السامع ومعهوديّته لديه باعتبار حضوره في ذهنه ، فيكون الجمع المعرّف كالمفرد المعرّف في كونه لتعريف الجنس بحسب وضعه الأصلي ، وحيث إنّ الجمع المعرّف بحكم الاتّفاق وجواز الاستثناء مطّردا والتبادر العرفي يفيد العموم فلا جرم يكون ذلك لأجل وضع آخر نوعي طار للهيئة التركيبيّة.

وحينئذ فينبغي النظر في وفاء وضعي الجزئين في إفادة الاستغراق ، فنقول : قد استدلّ عليه بعض الفضلاء بما ملخّصه : أنّ « الجمع » كما بيّنّاه سابقا موضوع للجنس من حيث تحقّقه في ضمن ما فوق الفردين الّذي يقال له : « الجماعة » أي جماعة الأفراد على طريقة الإضافة البيانيّة على معنى أن يكون الأفراد نفس الجماعة ، و « اللام » موضوع للإشارة إلى ما يتعيّن من مدلول مدخوله فيكون في الجمع للإشارة إلى الأفراد المتعيّنة ، فإن كان هناك ما يقتضي تعيين جملة من الأفراد ممّا دون الجميع من قرينة موجبة لمعهوديّة تلك الجملة باعتبار الخارج كاسم الإشارة في قول القائل : « أكرم هؤلاء الرجال » أو في الذهن لانطباقها على الجنس الحاضر لديه كالوصف بمضمون الجملة الّتي هي في معنى النكرة في قوله تعالى : ( إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ

ص: 748

سَبِيلاً ) (1) كانت الإشارة إليها ، وإلاّ تعيّن حمله على الإشارة إلى الجميع لأنّه المتعيّن عند السامع بعد انتفاء قرينة العهد على كلّ من وجهيه ، بخلاف ما دونه من المراتب حتّى أقلّ الجمع لتردّد [ ه ] عنده بين كلّ جملة وعدم تعيّن شيء منها لديه من دون قرينة عهد فلا يصلح لأن يشار إليه باللام الموضوع للإشارة إلى المتعيّن عند السامع من حيث تعيّنه.

وبما قرّرناه وحرّرناه من الدليل يظهر معنى قرينة وأنّ المراد به العهد بكلا قسميه من الذهني والخارجي ووجه اعتبار انتفائها في إفادته العموم ، وهو : أنّه ليس للتنبيه على كيفيّة صدور الوضع من الواضع ، ولا للتنبيه على كيفيّة الاستعمال في الحمل على العموم ، بل لإحراز تعيّن ما يحمل عليه الجمع عند السامع الّذي هو من شرط « لام » الإشارة ، ضرورة أنّ ما لا تعيّن له عند السامع ولم يكن معهودا لديه لم يصلح للإشارة إليه باللام ، كما أنّ اعتبار وجود قرينة العهد فيما يحمل على المعهود بأحد قسميه إنّما هو لإحراز التعيّن والمعهوديّة لديه في جملة من الأفراد يشار إليها باللام ، لا على أنّها قرينة صارفة للّفظ عمّا هو عليه بحسب الوضع إلى غيره.

ولا يخفى أنّ الدليل المذكور للاكتفاء بوضعي الجزئين في إفادة العموم جيّد متين لو لا إمكان المناقشة فيه بأنّ الانتقال إلى الجميع عند انتفاء قرينة العهد إنّما يسلم إذا لم يكن بين العهدين والاستغراق واسطة يصرف إليها اللفظ عند انتفاء قرينة العهد لأنّها المتعيّن عند السامع حينئذ المعهود لديه الحاضر في ذهنه ، ولمانع أن يمنع ذلك بدعوى وجود الواسطة وهو جنس جماعة الأفراد ، بمعنى مفهوم الجماعة كما في قول القائل : « إنّي لا أتزوّج الثيّبات بل الأبكار » أي من جنس هذه الجماعة لا تلك الجماعة ، فإنّه عند انتفاء قرينة العهد أمر متعيّن عند السامع لحضوره في ذهنه صالح لأن يشار إليه باللام ، فلا يصرف عنه « اللام » إلى الاستغراق بمعنى جميع الأفراد إلاّ إذا كان هناك قرينة صارفة له عن جنس الجماعة إلى مصداقه الخاصّ الّذي هو جميع الأفراد ، كما أنّه في الحمل على أحد العهدين يحتاج إلى قرينة.

وحينئذ فلاستعلام ثبوت الواسطة المذكورة وعدم ثبوتها لابدّ من النظر في مسألة اخرى وهي : أنّ الجماعة المأخوذة في وضع الجمع هل هي مفهوم الجماعة الّذي يقال له : « الجنس » هنا أو مصداق ذلك المفهوم الّذي هو نفس الأفراد المجتمعة الّتي اعتبر تحقّق

ص: 749


1- النساء : 98.

الجنس المأخوذ في وضع المفرد في ضمنها.

وعلى التقديرين فهل الموضوع له عامّ كما أنّ الوضع عامّ؟ أو أنّه خاصّ مع عموم الوضع على معنى أنّ اللفظ الدالّ على الجماعة مفهوما أو مصداقا وضع بالعامّ لخصوصيّة كلّ مرتبة من المراتب؟ احتمالات أربع :

أوّلها : وهو كون الجماعة المأخوذة في وضع الجمع بحسب أصل اللغة عبارة عن مفهوم الجماعة مع كون الموضوع له كالوضع عامّا ، ربّما يظهر اختياره من بعض الأعلام حيث قال : « لا اختصاص للجنسيّة بالمفردات بل قد يحصل في الجمع أيضا ، لا بمعنى أنّ المراد من الجمع هو الجنس الموجود في ضمن جماعة كما يقال في النكرة إنّه الجنس والطبيعة مع قيد وحدة غير معيّنة ، بل بمعنى أنّ الجماعة أيضا مفهوم كلّي حتّى أنّ جماعة الرجال أيضا مفهوم كلّي ».

ويحتمل كون بنائه على خصوص الموضوع له وهو كلّ واحد من مصاديق هذا المفهوم ، وهذا هو ثاني الاحتمالات.

وثالثها : وهو كون الجماعة المأخوذة مصداقها وهو نفس الأفراد المجتمعة في أيّ مرتبة كانت مع عموم الموضوع له كالوضع ممّا جزم به بعض الفضلاء ، حيث قال : بكون الجمع موضوعا للماهيّة المقيّدة بإحدى المراتب يعني بها الجنس المتحقّق في ضمن ما فوق الفردين كائنا ما كان ، فإنّه بهذا المفهوم المشترك بين جميع مراتب الجمع لاحظه الواضع ووضع له اللفظ نفسه.

وعليه بعض الأفاضل أيضا قائلا : « بأنّ الموضوع له هو مصداق الجماعة أعني خصوص الوحدات كائنة ما كانت ليكون الموضوع له كلّيا أيضا كما هو الأظهر. »

ورابعها : وهو كون الموضوع له خصوصيّة كلّ مرتبة مرتبة مندرجة تحت المفهوم المشترك المذكور أعني الماهيّة المقيّدة بإحدى المراتب ما جوّزه بعض الأفاضل ، وربّما يظهر من بعض كلماته الميل إليه ويمكن إرجاعه إلى ثاني الوجوه الّذي احتملناه في كلام بعض الأعلام ، على معنى أن يكون المفهوم العامّ المتصوّر قبل الوضع هو مفهوم الجماعة والموضوع له الخاصّ كلّ واحد من المصاديق المندرجة تحت ذلك المفهوم الّتي هي الجماعات الخاصّة الّتي هي نفس مراتب الجمع.

والّذي يترجّح في النظر القاصر هو عدم دخول مفهوم الجماعة الّذي يقال له جنس

ص: 750

الجمع في مدلول الجمع.

لنا على ذلك : التبادر العرفي ، فإنّ المتبادر من « الجمع » في جميع موارد استعماله هو نفس الأفراد وإن عبّرنا عنها بالجنس المتحقّق في ضمن ما فوق الفردين ، فكما أنّ المتبادر من النكرة نفس الفرد الواحد لا بعينه من دون دخول مفهوم في مدلولها وإن عبّرنا عنه بالجنس المتحقّق في ضمن فرد واحد لا بعينه ، وأنّ المتبادر من التثنية نفس الفردين من دون دخول مفهوم في مدلولها وإن عبّرنا عنهما بالجنس المتحقّق في ضمن فردين ، فكذلك المتبادر من « الجمع » نفس الأفراد من دون دخول مفهوم في مدلوله وإن عبّرنا عن الأفراد بالجنس المتحقّق في ضمنها ، لأنّه على ما بيّنّاه سابقا [ عبارة ] عن نفس الأفراد بتقريب ما قدّمناه من أنّ معنى تحقّق الجنس في ضمن الأفراد تحقّق حصصه فيها فيكون نفس الأفراد ، فإذا علّق حكم على جمع يتعلّق ذلك الحكم بالأفراد أوّلا وبالذات لا أنّه يتعلّق بمفهوم الجماعة أوّلا ثمّ يسري منه إلى الأفراد تبعا.

وهل الموضوع نفس الأفراد كائنة ما كانت أعني الجنس المتحقّق في ضمن أفراد كائنة ما كانت ، أو الجزئيّات المندرجة تحته ، وجهان مبنيّان على أنّ اللواحق الثلاث اللاحقة باسم الجنس وهي : التنوين في المفرد ، وعلامة التثنية في المثنى ، وعلامة الجمع في الجمع هل هي بمثابة الحروف الموضوعة بالأوضاع الحرفيّة لمعان حرفيّة الّتي منها « لام » التعريف؟ بتقريب : أنّ اسم الجنس كما أشرنا سابقا بحسب اللغة موضوع للجنس من حيث هو ، وإذا لحقه إحدى اللواحق المذكورة يصير مدلوله الجنس المتحقّق في ضمن الفرد ، وللفرد الّذي اعتبر تحقّق الجنس فيه اعتبارات ثلاث : اعتبار الوحدة ، اعتبار الاثنينيّة ، اعتبار الجمعيّة. وكلّ من الوحدة والاثنينيّة والجمعيّة لكونها حالة في الغير وهو الفرد آلة لملاحظة حاله معنى حرفي فوجب أن يكون وضعها أيضا حرفيّا ، على معنى أنّ الواضع تصوّر الوحدة أو الاثنينيّة أو الجمعيّة من حيث كونها آلة لملاحظة حال الفرد بعنوانها الكلّيّ ثمّ وضع الأداة من التنوين وعلامة التثنية وعلامة الجمع للجزئيّات المندرجة تحتها ، فيكون الجمع باعتبار كون وضع الأداة على الوجه المذكور موضوعا بالوضع العامّ لخصوص كلّ مرتبة لحصول معنى جمعيّة الفرد في الجميع ، فالوضع على الوجه المذكور الّذي يفرض في الجمع إنّما هو باعتبار كون علامته حرفا موضوعا بالوضع الحرفي فكلّ من اللاحق والملحوق به في الجمع له وضع أفرادي ، وكلّ منهما باعتبار

ص: 751

وضعه الأفرادي يدلّ على معناه الموضوع له ، ويكون مفاد الجميع الجنس المتحقّق في ضمن الأفراد الّتي هي مصداق مفهوم الجماعة.

أو أنّها بمثابة الحركات الإعرابيّة الّتي هي علامات تتميّز بها نسب مخصوصة وضع لها التركيب الكلامي من دون أن تكون موضوعة لتلك النسب ، فإنّ التركيب الكلامي في نحو : « ضرب زيد عمرا في الدار » مثلا يفيد باعتبار وضعه النوعي التركيبي فاعليّة « زيد » ومفعوليّة « عمرو » وظرفيّة « الدار » والضمّ في الأوّل الّذي هو علامة رفع الفاعل والفتح في الثاني الّذي هو علامة نصب المفعول والكسر في الثالث الّذي هو علامة الجرّ في الظرف علامات تتميّز بها المعاني الثلاث المذكور من دون أن تكون [ موضوعة ] لتلك المعاني ، فإذا كانت اللواحق المذكورة بتلك المثابة لزم أن يكون الموضوع للجماعة بمعنى الأفراد كائنة ما كانت هو المجموع المركّب من اللاحق والملحوق به من دون أن يكون للاّحق الّذي هو علامة الجمع وضع ، ولا أن يبقى الملحوق به الّذي هو اسم الجنس على وضعه الأصلي بل المجموع المركّب باعتبار وضعه النوعي التركيبي يفيد الأفراد من الجنس الّذي هو الجنس المتحقّق في ضمن الأفراد.

والّذي يترجّح في النظر القاصر أيضا عدم كون اللواحق من قبيل الحركات الإعرابيّة لئلاّ يكون لها وضع بل هي من قبيل الحروف الموضوعة لمعان حرفيّة موضوعة بالوضع العامّ لخصوصيّات المفاهيم المتقدّمة من الوحدة والاثنينيّة والجمعيّة بشهادة التبادر والانفهام العرفي ، فإنّه يتبادر من الجمع الّذي هو محلّ الكلام : المعنى الجمعي وهو الأفراد المعبّر عنها بالجنس المتحقّق في ضمن ما فوق الفردين ، بدلالتين إحداهما : دلالة المادّة على الجنس ، واخراهما : دلالة الأداة على الجمعيّة من دون تجوّز فيهما.

أمّا المادّة : فلأنّه يراد منها الجنس لا غير وتقييده بالتحقّق في الأفراد يفهم من التركيب.

وأمّا الأداة : فلأنّه يراد منها الجمعيّة لا غير والفرد الّذي هو معروض الجمعيّة يفهم بالالتزام.

وبذلك يندفع الإشكال الّذي عساه يتوهّم في المقام وهو لزوم دخول المعنى الاسمي في مدلول الحرف ، فإنّ الفرد معنى اسمي ولا يصحّ دخوله في معنى الأداة.

ووجه الاندفاع : أنّ غاية ما هنالك إضافة الجمعيّة الّتي هي المعنى الحرفيّ إلى الفرد وهي لا توجب دخول المضاف إليه في مدلول الحرف ، كما أنّها في ابتداء البصرة وانتهاء الكوفة في نحو : « سرت من البصرة إلى الكوفة » لا توجب دخول البصرة والكوفة في معنى

ص: 752

« من » و « إلى » فمفاد مجموع المادّة والأداة على ما بيّنّاه الجنس المتحقّق في الأفراد ، ولمّا كان وضع الأداة وضعا حرفيّا فكان الجمع باعتبار أداته موضوعا بالوضع العامّ لخصوص كلّ مرتبة من مراتبه ، فأيّ مرتبة اريدت منه كانت نفس الموضوع له وكان استعمال الجمع فيها على وجه الحقيقة ، وحينئذ فإن قامت قرينة على تعيين تلك المرتبة المفروض استعماله فيها فهو وإلاّ كانت مبهمة واللفظ مجملا لتردّدها بين جميع المراتب حتّى الأقلّ والجميع ، وإذا دخله « لام » التعريف الموضوعة للإشارة إلى ما يتعيّن من مدلول مدخولها فإن أراد المتكلّم بها الإشارة إلى ما دون الجميع من مراتبه وجب عليه اعتبار قرينة توجب معهوديّة تلك المرتبة المرادة وتعيّنها لدى السامع ، إذ لا يصحّ الإشارة إلى ما ليس بمعهود لديه ، وحيث لم يعتبر معها قرينة - وهو المراد من قولهم : « حيث لا عهد » - كشف ذلك عن أنّه قصد بها الإشارة إلى الجميع لأنّه المتعيّن عند السامع لا ما دونه من المراتب حتّى الأقلّ ، فتعيّن حملها على الإشارة إليه وهذا من خواصّ « اللام » الموضوعة للإشارة ، ولذا لا نحمل الجمع المنكر على الجميع عند انتفاء القرينة على تعيين ما دونه إذ لا مقتضى له.

فتبيّن بجميع ما قرّرناه : أنّه لا واسطة بين العهدين والاستغراق فإذا انتفى قرينة العهد تعيّن حمل « اللام » على الاستغراق ، لأنّه المتعيّن في نظر السامع بملاحظة انتفاء قرينة إرادة ما دونه.

ثمّ إنّه لا فرق في إفادة الجمع المعرّف باللام للعموم الوضعي باعتبار وضع « اللام » للإشارة بين الجمع السالم والجمع المكسّر لوجود المقتضي له فيهما معا وهو « لام » الإشارة ، وإن حصل الفرق بينهما من جهة اخرى غير جهة العموم وهي جهة الدلالة على الجمعيّة ، فإنّ الجمع السالم يدلّ عليها بأداته الموضوعة للدلالة على الجمعيّة ، والمكسّر يدلّ عليها بهيئته ، فإنّ الهيئة فيه كائنة ما كانت من صيغة المضبوطة في محالّها بمنزلة الأداة في صاحبه ، فهي أيضا موضوعة للدلالة على الجمعيّة في مدلول مادّتها إلاّ أنّ الوضع فيها نوعيّ باعتبار تعلّقه بنوع الهيئة كوضع هيئات المشتقّات وفي الأداة شخصي وهو واضح.

وبينهما فرق آخر باعتبار كيفيّة الوضع ، فإنّ الأداة لكونها من قبيل الحروف وضعها حرفيّ على معنى كون الموضوع له فيها خاصّا مع عموم الوضع.

وأمّا الهيئة فوضعها وإن كان يمكن كونها أيضا حرفيّا باعتبار كون الموضوع له خاصّا مع عموم الوضع ، إلاّ أنّ الأظهر كونه فيها اسميّا على معنى كون الموضوع له فيها كالوضع

ص: 753

عامّا كما هو الحال في وضع هيئات المشتقّات الإسميّة على ما حقّقناه في محلّه ، هذا كلّه في الجمع المعرّف باللام.

الجمع المضاف

وأمّا الجمع المضاف : فإمّا أن يكون مضافا إلى معرفة ك- « علماء المجلس » و « علماء البلد » و « علماء المصر » و « علماء العصر » وما أشبه ذلك ، أو يكون مضافا إلى نكرة : ك- « علماء بلد » و « علماء مصر » و « غلمان رجل » وما أشبه ذلك.

أمّا المضاف إلى المعرفة : فهو كالمعرّف باللام في إفادة العموم بحكم التبادر وفهم العرف وصحّة الاستثناء مطّردا وغير ذلك من الأدلّة ، فقولك : « أكرم علماء المجلس » ظاهر في وجوب إكرام جميعهم.

نعم يحصل الفرق بينهما في شيئين :

أحدهما : أنّ عموم الجمع المضاف بحسب الكميّة والمقدار يتبع قابليّة المضاف إليه فيتناول من الأفراد على حسب ما يساعد عليه قابليّة المضاف إليه ، ف- « علماء المجلس » لا يتناول علماء غير هذا المجلس ، و « علماء البلد » لا يتناول علماء غير هذا البلد ، و « علماء المصر » لا يتناول علماء غير هذا المصر ، و « علماء العصر » لا يتناول علماء غير هذا العصر وهكذا في نظائر هذه الأمثلة ، بخلاف المعرّف باللام ك- « العلماء » فإنّه يتناول علماء العالم إلاّ أن يكون هناك قرينة عرفيّة توجب انصراف اللفظ إلى حسب ما يساعد عليه فهم العرف فيقال له : « العموم العرفي » كما في جمع الأمير الصاغة.

ولك أن تقول : بأنّه لا فرق بينهما من هذه الجهة ، فإنّ المعرّف باللام أيضا تابع من حيث كمّيّة الأفراد ومقدارها لمادّة الجمع فيتناول من الأفراد على حسب قابليّة المادّة ف- « العلماء » لا يتناول أفراد غير العالم و « الفقهاء » لا يتناول أفراد غير الفقيه والرجال لا يتناول أفراد غير الرجل وهكذا في سائر الأمثلة ، ولكن مع ذلك بينهما فرق في أنّ المادّة في الجمع المضاف مقصورة على ما يساعد عليه قابليّة المضاف إليه ولا قصر في مادّة المعرّف باللام كما هو واضح.

ثانيهما : أنّ المعرّف باللام والمضاف إلى المعرفة وإن كانا ظاهرين في العموم إلاّ أنّ منشأ الظهور في الأوّل إنّما هو وضع « اللام » على ما سمعت مرارا من كونها موضوعة للإشارة ولا يصحّ الإشارة إلاّ فيما كان معهودا عند السامع متعيّنا لديه فحيث لا عهد تحمل على الإشارة إلى الجميع لأنّه لا يكون شيء من المراتب متعيّنا عنده سوى الجميع.

ص: 754

وأمّا الثاني فزعم بعض الفضلاء أنّ منشأ ظهوره إنّما هو أصالة العهد في الإضافة ، على معنى أنّ الإضافة يقتضي الإشارة إلى معهود بين المتكلّم والسامع يكون هو المراد من المضاف ، فإذا كان هنالك قرينة توجب معهوديّة جملة من الأفراد ممّا عدا الجميع كانت الإشارة راجعة إليها وإلاّ كانت راجعة إلى الجميع لكونه المعهود لدى السامع لا ما دونه.

قال الفاضل المذكور : « وإنّما الإشكال في منشأ هذا الظهور ، ولعلّ السرّ في ذلك كون الإضافة بحسب الأصل مقتضية لأن يكون المراد بالمضاف الشيء المعهود عند المخاطب بالإضافة باعتبار كونه معهودا عنده بها » إلى آخر ما ذكره. وقد تبع في ذلك بعض محقّقي النحاة حيث قال فيما حكاه عنه : « تعريف الاضافة باعتبار العهد فلا تقول : « جاءني غلام زيد » إلاّ لغلام معهود بينك وبين المخاطب » انتهى.

وتبعه أيضا نجم الأئمّة على ما حكي قائلا : « هذا أصل وضع الإضافة لكنّه قد يقال : « جاءني غلام زيد » من غير إشارة إلى معيّن كالمعرّف باللام وهو خلاف وضع الإضافة لكنّه كثير في الكلام » انتهى.

وهذا عندنا خلاف التحقيق ، لأنّ أصالة العهد في الإضافة ممّا لا أصل له. ودعوى وضع الإضافة للعهد المستلزمة لكونها في غير العهد [ مجازا ] ممّا لا شاهد له ، بل التحقيق عندنا أنّ المعرّف باللام والمضاف إلى المعرفة وإن كانتا معرفتين إلاّ أنّه يحصل الفرق بينهما في أنّ التعريف في الأوّل وضعي لوضع « اللام » للإشارة ، وتعريف الثاني كسبيّ لأنّ المضاف إنّما يكتسب التعريف من المضاف إليه ، ولذا لا تعريف في المضاف إلى نكرة فيكون المضاف في تعريفه تابعا للمضاف إليه وكما أنّه في أصل التعريف يتبع المضاف إليه فكذلك يتبعه في مقداره ، فإذا قلت : « غلام الرجل » فإن كان « لام » الرجل للعهد إشارة إلى الرجل المعهود بينك وبين المخاطب لحضوره في المجلس مثلا كان مدلول « الغلام » أيضا شخصا معهودا في وجه ستعرفه ، وإن كان لامه للجنس إشارة إلى الجنس المعيّن باعتبار حضوره في الذهن كان مدلول « الغلام » أيضا جنسه المعيّن باعتبار حضوره في الذهن الشامل للقليل والكثير من غير معهوديّة شخص منه كجنس « الرجل »

غاية الأمر أنّه باعتبار إضافته إلى جنس « الرجل » لا يتناول جنس « غلام » جنس المرأة ، وإذا قلت : « غلام زيد » تفيد الإضافة فيه أن يكون المراد من المضاف معيّنا عندك وعند المخاطب ولو باعتبار حضوره في الذهن ، وأمّا كونه شخصا معيّنا معهودا بينكما

ص: 755

فلا تقتضيه الإضافة من حيث إنّها إضافة بل يختلف ذلك باعتبار الخارج ، مثل أنّه إن كان « غلام زيد » منحصرا في واحد يفهم من المضاف ذلك الشخص الواحد بوصف كونه معهودا بينكما ، وإن لم يكن منحصرا في واحد بأن يكون له عشرة أغلمة مثلا يفهم منه جنس غلامه الصادق على كلّ واحد من العشرة باعتبار كونه حاضرا في ذهنيكما من دون اقتضاء في الإضافة لانفهام شخص معيّن معهود بينكما من أشخاص الجنس كما هو واضح.

وأمّا منشأ ظهور الجمع المضاف في العموم فهو - على ما يساعد عليه النظر الدقيق - من خواصّ الإضافة القاطعة للشركة ، فإنّ مدلول الجمع على ما عرفت مرارا هو الماهيّة المقيّدة بما فوق الفردين لا على التعيين ومرجعه إلى الماهيّة المقيّدة بإحدى المراتب ، وهذا المفهوم باعتبار انتشاره في جميع مراتب الجمع كانتشار مدلول المفرد في النكرة في جميع أفراد الماهيّة مشترك بين جميع المراتب ، وإذا أضفته إلى ما لا يقبل هذه الشركة فالإضافة إليه من حيث إنّها إضافة إليه قاطعة لتلك الشركة ، وهذا هو الأصل في الإضافة في جميع مواردها ، ولذا يسقط معها التنوين المقتضية للشركة اللازمة للانتشار وما يقوم مقامها كالنون في المثنيّات والجموع المصحّحة لئلاّ يلزم إجتماع المتناقضين في مدلول الكلمة وقضيّة زوال الشركة عن مدلول الجمع في الإضافة على حسب ما لا يقبله المضاف إليه ظهور الجمع في متفاهم العرف نوعا في جميع ما بقي بعد الإضافة من الأفراد.

وإن شئت قلت : إنّ المضاف إليه لعدم قبوله شركة غيره معه في مدلول المضاف وهو الجمع أوجب ظهوره نوعا في إرادة جميع الأفراد المندرجة في نسبة الإضافة بحيث صار إحتمال ما دونه في غاية الضعف بل بحيث لا يلتفت إليه الذهن ، فليتدبّر.

أمّا المضاف إلى النكرة كقوله : « أكرم رجال دار » أو « أكرم علماء بلد » وما أشبه ذلك فهو أيضا ظاهر في العموم على معنى شمول الحكم لجميع ما بقي بعد الإضافة من الأفراد ، وإن كان المضاف إليه باعتبار دخول الانتشار في مدلوله لكونه نكرة يدلّ على أحد مصاديق مدلوله على البدل ويرجع مفاده في حيّز الأوامر إلى التخيير ، فيكون مفاد قوله :« أكرم رجال دار » وجوب إكرام جميع رجال دار أيّ دار كانت ، ووجوب إكرام جميع علماء بلد أيّ بلد كانت.

والوجه في ذلك الظهور أيضا ما بيّناه في المضاف إلى المعرفة من أنّ الإضافة قاطعة للشركة ، فإنّ ذلك أمر مشترك وجهة جامعة بين الإضافة إلى المعرفة والإضافة إلى النكرة ،

ص: 756

ولا ينافيه ما في كلام النحاة : « من أنّ الإضافة المعنويّة تفيد تعريفا مع المعرفة وتخصيصا مع النكرة » نظرا إلى أنّ المراد من التخصيص هنا كما هو المصرّح به في كلماتهم تقليل الشركاء وهو عبارة اخرى لقطع الشركة ، فيكون قطع الشركة مخصوصا بالإضافة إلى النكرة ، إذ ليس معنى قولهم : « إنّها تفيد تخصيصا مع النكرة » أنّه لا تخصيص إلاّ في الإضافة إلى النكرة ، بل معنى قولهم : « إنّها تفيد تعريفا مع المعرفة » أنّه لا تعريف إلاّ في الإضافة إلى المعرفة.

فالإضافة إلى المعرفة أيضا تفيد التخصيص كالإضافة إلى النكرة وتزيد عليها في أنّها تفيد التعريف أيضا بخلافها ، كما نبّه على ذلك نجم الأئمّة عند بيان أنّ شرط الإضافة المعنويّة تجريد المضاف عن التعريف بقوله : « وإنّما يجرّد المضاف في الأغلب عن التعريف لأنّ [ الغرض ] الأهمّ من الإضافة إلى المعرفة تعريف المضاف وهو حاصل للمعرفة فيكون تحصيلا للحاصل ، والغرض من الإضافة إلى المنكر تخصيص المضاف ، وفي المضاف المعرّف التخصيص مع زيادة وهي التعيين » انتهى.

بل التخصيص وقطع الشركة في الإضافة إلى المعرفة أبلغ وأتمّ منه في الإضافة إلى النكرة ، فإنّ « غلام زيد » يقطع شركة جميع ما عدا « زيد » بخلاف « غلام رجل » فإنّه يقطع شركة المرأة ويبقى شركة جميع رجال الدنيا ، وقضيّة قطع الشركة في الإضافة إلى النكرة أيضا ظهور المضاف وهو الجمع في اعتبار جميع الأفراد المشمولة لنسبة الإضافة في متفاهم العرف نوعا.

وما ذكرناه في توجيه الظهور هنا أولى ممّا ذكره بعض الفضلاء بقوله : « إضافة الجمع إلى النكرة لا توجب التعيين من حيث ما اضيف إليه نظرا إلى إبهامها بهذا الإعتبار وإن أوجب التخصيص ، فلو لم يعتبر المضاف أعني الجمع حينئذ باعتبار الجميع بل باعتبار بعض غير معيّن إزداد فيه الإبهام المنافي لوضع الإضافة ، ولو اعتبر من حيث المجموع قلّ نظرا إلى كون الإبهام فيه حينئذ من حيث ما اضيف إليه فقط وهو أقرب بالنسبة إلى أصلها ، فتكون بحكم أقرب المجازات في وجوب الحمل عليه عند تعذّر الحقيقة » انتهى بل في كلامه مواقع للنظر كما يظهر للمتأمّل.

ومن جملتها ابتناؤه على كون وضع الإضافة للعهد والتعيين فيلزم كونها في المضاف إلى النكرة مجازا ، ولا نظنّ قولا بذلك من نحويّ ولا اصولي بل ظاهر كلماتهم يعطي الاتّفاق على كونها في كلّ من المضاف إلى المعرفة والمضاف إلى النكرة على الحقيقة.

ص: 757

لا يقال : إنّه قدس سره قصد بما ذكره بيان مجازيّة الجمع المضاف في الإضافة إلى النكرة من حيث إنّه اريد منه الجميع وهو أمر متعيّن عند المتكلّم والسامع واللفظ ليس معرفة ، وكما أنّ المعرفة إذا استعملت في معنى النكرة كالعلم المؤوّل إلى النكرة كما في : « مررت بأحمدكم » و « زيدنا خير من زيدكم » وما أشبه ذلك كانت مجازا فكذلك المنكر إذا استعمل في معنى المعرفة ، وهو المراد من قوله : « فيكون بحكم أقرب المجازات في وجوب الحمل عليه عند تعذّر الحقيقة ».

لأنّه خلاف ظاهر كلامه بل صريح قوله : « ازداد فيه الإبهام المنافي لوضع الإضافة » فإنّه صريح في كون وضع الإضافة للعهد والتعيين فتكون في المضاف إلى النكرة مجازا لما لزمها من الإبهام باعتبار ما اضيف إليه ، ولذا ذكر لزوم ازدياد الإبهام لو اعتبر المضاف باعتبار بعض غير معيّن لا باعتبار الجميع ، فأقرب المجازات ملحوظ بالنسبة إلى الإضافة لقلّة الإبهام فيها على تقدير أخذ المضاف باعتبار الجميع لكونه إبهاما من جهة واحدة وهو ما يلزم باعتبار ما اضيف إليه فقط ، فإنّه أقرب إلى العهد والتعيين بخلاف ما [ له إبهام من ] جهتين باعتبار ما اضيف إليه وباعتبار المضاف.

ولو سلّم كون نظره إلى المجاز في المضاف فيتطرّق المنع إلى الملازمة أيضا ، لوضوح الفرق بين تعيين الشيء في نفسه وبين اعتبار تعيينه في لحاظ الاستعمال ، كما ذكروه في توجيه التعريف في اسم الجنس المعرّف بلام الجنس مع كون الماهيّة أمرا متعيّنا في نفسه ، والمعتبر في المعرفة اعتبار التعيّن ولا يكفي فيها التعيّن الواقعي ، فيكون الفرق بين الجمع المضاف إلى المعرفة والجمع المضاف إلى النكرة مع إرادة الجميع من كلّ منهما وهو أمر متعيّن في نفسه في كليهما في أنّ الجميع يراد من الأوّل باعتبار تعيّنه عند المتكلّم والسامع وحضوره في ذهنيهما ومن الثاني لا بهذا الاعتبار.

ولو وجّه المجازيّة في المضاف باعتبار أنّ الجميع مرتبة مخصوصة المندرجة تحت الماهيّة المقيّدة بإحدى المراتب فيكون من استعمال في الخاصّ.

لدفعه : منع الملازمة أيضا ، أمّا على القول بكون الجمع موضوعا بالوضع العامّ لخصوصيّات المراتب - كما قوّيناه في الجمع السالم باعتبار الأداة - فواضح لأنّ الجميع حينئذ نفس الموضوع له ، وأمّا على القول بعموم الوضع والموضوع له معا فيه فلجواز إرادة الجميع باعتبار القدر المشترك الصادق عليه وعلى غيره من المراتب ، بأن يراد من المضاف

ص: 758

نفس الماهيّة المقيّدة بإحدى المراتب ولكن باعتبار تحقّقه في ضمن الجميع ويفهم الخصوصيّة من الخارج وهو الإضافة القاطعة للشركة ، فإنّها على ما وجّهناه تنهض قرينة مفهمة على القول بعموم الموضوع له كالوضع في الجمع.

في أقسام العموم

الأمر الثاني

إنّ عموم الجمع المعرّف باللام أو الإضافة قد يفرض بالنسبة إلى كلّ واحد واحد من الآحاد ويقال له : « العموم الأفرادي » وقد يفرض بالنسبة إلى مجموع الآحاد من حيث المجموع ويقال : « له العموم المجموعي ».

وقد يظهر فائدة الفرق بين الاعتبارات الثلاث في مقامات الإقرار فلو قال : « للعلماء عندي درهم » فعلى العموم الأفرادي يثبت لكلّ واحد درهم فيتعدّد المقرّبه على حسب تعدّد الآحاد ، وعلى العموم الجمعي يثبت لكلّ جماعة درهم فيتعدّد على حسب تعدّد الجماعات ، وعلى العموم المجموعي يثبت درهم للمجموع فيكون المقرّبه واحدا ويوزّع على الجميع.

وقد اختلفت الأنظار في أنّ عمومه بحسب الأصل ومقتضى الوضع هل يعتبر بالنسبة إلى الأفراد إلاّ أن يثبت بالدليل كونه للجماعات أو المجموع ، أو بالنسبة إلى الجماعات إلاّ أن يثبت بالدليل كونه للأفراد أو المجموع ، أو بالنسبة إلى المجموع إلاّ أن يثبت بالدليل كونه للأفراد أو الجماعات [ على ] أقوال.

أوّلها : المعروف من مذهب الاصوليّين ونسبه التفتازاني في المطوّل إلى أكثر أئمّة الاصول والنحو.

وثانيها : ما ذهب إليه من قال من علماء المعاني وغيرهم بأنّ استغراق المفرد أشمل من استغراق المثنّى والمجموع لأنّه يتناول كلّ واحد واحد من الأفراد ، واستغراق المثنّى إنّما يتناول كلّ اثنين اثنين ولا ينافي خروج الواحد ، واستغراق الجمع إنّما يتناول كلّ جماعة جماعة ولا ينافي خروج الواحد والاثنين ، وذهب إليه بعض الأعلام ولكن على اعتبار الوضع الأصلي للجمع.

وثالثها : ما اختاره بعض الفضلاء.

حجّة القول بالعموم الجمعي : ما أشار إليه بعض الأعلام ، وملخّصه مع تحرير منّا : « أنّ الألفاظ الّتي تفيد العموم بحسب الهيئة أو باعتبار الأداة فإنّما تفيده في مصاديق ما يفهم

ص: 759

منها بحسب المادّة ، ولمّا كان المفهوم من « الجمع » بحسب المادّة مفهوم جماعة ومصاديقه الجماعات الخارجيّة فلا جرم يكون مدلوله بحسب الهيئة أو باعتبار الأداة عموم الجماعات ، كما أنّ المفرد مدلوله بحسب المادّة الجنس الشامل للقليل والكثير ومصاديقه الأفراد فيكون مدلوله بحسب الهيئة أو باعتبار الأداة عموم الأفراد ».

وأورد عليه بوجوه :

منها : نقض الدليل بنحو : « جاءني الرجال إلاّ زيدا » و « أكرم العلماء إلاّ واحدا أو اثنين » وما أشبه ذلك ممّا استثنى فيه ما دون الجماعة ، فإنّه صحيح بلا خلاف مع أنّ المستثنى على تقدير كون عموم الجمع بالنسبة إلى الجماعات ليس من أفراد المستثنى منه ولذا يمتنع قولك : « جاءني كلّ جماعة من القوم إلاّ زيدا » بناءا على إرادة الاستثناء المتّصل ، فلو كان مفاد اللفظين واحدا لجاز ذلك في المقامين.

ودفع : بأنّه لا شكّ في جواز استثناء البعض من الكلّ على نحو الاستثناء المتّصل كما نصّ عليه المحقّقون من النحاة تقول : « رأيت زيدا إلاّ صدره » و « له عليّ عشرة إلاّ واحدا » مع عدم كون المستثنى من أفراد المستثنى منه بل من أجزائه ، فلم لا يجوز أن يكون الاستثناء فيما نحن من هذا القبيل؟

وبالجملة استثناء شيء عن شيء يقتضي كون المستثنى بعضا من المستثنى منه والبعضيّة أعمّ من الفرديّة والجزئيّة ، واستثناء الجزء صحيح كما أنّ استثناء الفرد [ صحيح ] ومن الجائز أن يكون استثناء ما دون الجماعة من الجميع من استثناء الجزء لا الفرد.

ويزيّفه : أنّ استثناء الجزء إنّما يصحّ فيما يكون مستغرقا للأجزاء كما في المثالين بخلاف ما يكون مستغرقا للجزئيّات وما بمعناها كالجماعات ، ولذا لا يصحّ قولنا : « رأيت كلّ عالم إلاّ صدره » وهو الوجه في عدم صحّة : « جاءني كلّ جماعة من العلماء إلاّ زيدا » فلا يصحّ استثناء الجزء من الجمع على تقدير كونه عامّا في الجماعات ، وقضيّة [ ذلك ] أن يكون الاستثناء في قولنا : « جاءني العلماء إلاّ زيدا » و « جاءني القوم إلاّ عمرا أو إلاّ واحدا أو إلاّ اثنين » من استثناء الفرد ولا يتمّ إلاّ على تقدير عموم الأفراد.

ومنها : أنّه لو كان كذلك لصدق قولنا : « جاءني الرجال » مع عدم مجيء رجل أو رجلين فإنّ معناه كلّ جمع من جموع الرجال ، ولا ينافي صدقه خروج الواحد والاثنين لعدم كونهما من مصاديق الجماعة ولا من جزئيّات جمع من جموع الرجال حتّى يلزم

ص: 760

الكذب من خروجهما من الحكم ، واللازم باطل لعدم صدق القول المذكور في متفاهم العرف على تقدير خروج الواحد أو الاثنين من الحكم ، وهذا يكشف عن كون عموم الجمع يشمل الآحاد كالمفرد على معنى كون عمومه بالنسبة إلى الأفراد لا غير.

ودفع : بأنّه على تقدير كون عمومه يشمل الجماعات أيضا لا يمكن خروج الواحد والإثنين من الحكم ، لأنّ الواحد مع إثنين آخرين من الآحاد والإثنين مع واحد آخر منها جمع من الجموع داخل في الحكم على تقدير كونه مسندا إلى جمع من الجموع.

وبالجملة الواحد والإثنان إذا اخذا منضمّين إلى اثنين آخرين أو واحد آخر من آحاد جمع من الجموع المختلفة الآحاد بحسب القلّة والكثرة حصل جمع آخر ويندرج ذلك الجمع أيضا في العموم ، والمفروض أنّ الخطاب الّذى علّق فيه الحكم على الجميع ظاهر في متفاهم العرف في ثبوت الحكم لكلّ واحد من آحاد كلّ جمع لا لمجموعها من حيث المجموع حتّى لا ينافيه خروج البعض واحدا كان أو أكثر ، وقضيّة ذلك كذب القول المذكور على تقدير انتفاء الحكم عن الواحد والاثنين مطلقا وإن اعتبر العموم بالنسبة إلى الجماعات أيضا.

ويزيّفه : منع المقدّمة الاولى ، إذ الإنضمام المزبور إمّا أن يراد به ما هو حاصل بحسب الواقع أو أنّه بمجرّد فرض الفارض ، ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلخروجه عن محلّ كلام المورد ، فإنّه فرض انتفاء الحكم عن الواحد أو الاثنين منفردين لا منضمّين.

وأمّا الثاني : فلأنّ فرض الشيء لا يحقّق ذلك الشيء.

ومنها : أنّ إرادة ذلك يستلزم تكرارا في مفهوم الجمع المستغرق واللازم باطل فكذا الملزوم.

وبيان الملازمة : أنّ « الثلاثة » مثلا جماعة فيدخل في الحكم ، ومندرج في الأربعة فيدخل فيه أيضا ، وفي الخمسة فيدخل فيه أيضا ، وفي السّتة فيدخل فيه أيضا وهكذا إلى الجميع ، و « الأربعة » أيضا في نفسها جماعة فيدخل في الحكم ومندرج في الخمسة فيدخل فيه أيضا وفي الستّة فيدخل فيه أيضا وهكذا إلى الجميع ، وكذلك « الخمسة » و « الستّة » و « السبعة » وغيرها فإنّ كلاّ من ذلك جماعة في نفسه ومندرج في كلّ واحد ممّا فوقه فيثبت الحكم لكلّ واحد من المذكورات مرارا عديدة.

وأمّا بطلان اللازم : فلعدم انفهام التكرار عرفا من الجميع ، وهذا يكشف عن عدم كون

ص: 761

عمومه بالنسبة إلى الجماعات ، ولذلك ترى أئمّة التفسير يفسّرون الجمع المستغرق إمّا بكلّ فرد أو بالمجموع من حيث المجموع.

وأصل هذا الإيراد من المحقّق الشريف في حاشيته على المطوّل حكاه عنه الفاضل الچلبي نقلناه ملخّصا.

واجيب عنه أوّلا : بالنقض بقوله تعالى : ( كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) (1) و ( كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها ) (2) وقولنا : « أكرم كلّ جماعة من العلماء » و « أكرم كلّ جماعة من القوم » وغير ذلك ممّا صرّح فيه باستغراق الجماعات وهو على ما زعمه المورد مستلزم للتكرار.

وثانيا : بالحلّ بأنّ المراد استغراقه للجماعات الغير المتداخلة ، وقد يردّد في الجواب الحلّي بما لا طائل فيه.

والتحقيق في الجواب أن يقال : إنّ توهّم لزوم التكرار إنّما نشأ عن عدم التفرقة بين كون شيء فردا للعامّ المنطقي وكونه فردا للعامّ الاصولي وليس كذلك (3) لعدم الملازمة ، فكما أنّ لفظ « كلّ » في قولنا : « شربت كلّ قصع من الماء » يقتضي بالوضع استيعاب الحكم للأقصاع المتبائنة المتغائرة في الوجود الخارجي من دون أن يدخل بعضها في بعض ولا أن يندرج الأقلّ منها في الأكثر ، ولا يقتضي بالوضع شمول الحكم لأبعاض كلّ قصع على وجه يكون البعض أيضا كالكلّ موضوعا مستقّلا له واقعا في طرف العرض من الكلّ وإن صدق عليه باعتبار عموم مفهوم جنس « الماء » أنّه ماء ، فكذلك « اللام » أو « الهيئة » في الجمع المحلّى باللام فإنّه أيضا يقتضي بالوضع استغراق الحكم للجماعات المتبائنة المتغائرة في الوجود الخارجي توافقت في أعداد آحادها قلّة وكثرة أو اختلفت ، من غير أن يدخل بعضها في بعض ولا يندرج الأقلّ منها في الأكثر ، ولا يقتضي بالوضع شموله لأبعاض كلّ جماعة على وجه يكون كلّ بعض ككلّه موضوعا مستقلاّ له واقعا في طرف العرض من كلّه وإن صدق عليه الجمع باعتبار عموم مفهوم الجماعة.

وعلى هذا فالثلاثة إذا كان في نفسه جماعة داخلة في الحكم بهذا الاعتبار فلا يمكن دخوله فيه أيضا باعتبار اندراجه في « الأربعة » الّذي هو جماعة اخرى مقابلا للثلاثة ، لأنّ ما اندرج من الثلاثة في الأربعة غير هذه الثلاثة المفروض كونها في نفسها جماعة وهكذا يقال في « الأربعة » وغيرها ، هذا كلّه فيما ذكره القوم من الإيرادات على الدليل.

ص: 762


1- الروم : 32.
2- الأعراف : 38.
3- أي ليس كما توهّم.

والتحقيق في الإيراد عليه على معنى الجواب عنه : منع كون « الجمع » المعرّف - من قبيل المعرّف [ باللام ] - مفيدا للعموم في مصاديق ما يفهم منه بحسب المادّة ، لما سبق في بيان وجه استفادة العموم من الجمع المعرّف باللام من أنّه ما يستفاد من « اللام » ومدخولها باعتبار وضعيهما الأفراديّين ، بتقريب : أنّ « اللام » موضوعة للإشارة وهي تستدعي تعيّن المشار إليه عند المتكلّم والمخاطب ، فإن كان قرينة عهد على تعيين شيء من المراتب ممّا دون الجميع حمل عليه وإلاّ حمل على الجميع لعدم كون شيء من المراتب متعيّنا عند السامع إلاّ الجميع ، فعموم الجمع بهذا الإعتبار عبارة عن شمول الحكم لجميع الأفراد لا الجماعات الّتي هي مصاديق لمفهوم الجماعة.

هذا مضافا إلى تطرّق المنع إلى كون كلّ جمع موضوعا لمفهوم الجماعة ، فإنّه على ما سبق تحقيقه إنّما يسلّم في الجموع المكسّرة الموضوعة بالوضع العامّ للمعنى العامّ لا الجموع المصحّحة الّتي مقتضى وضع الأداة فيها كونها موضوعة بالوضع العامّ لخصوصيّات المراتب ، فلا تكون الجماعات حينئذ مصاديق لمدلول المادّة في « الجمع » لعدم كون ما يفهم منها مفهوم الجماعة.

حجّة القول بالعموم المجموعي : أنّه الّذي يقتضيه الأصل ، فإنّ مدلول الجمع مجموع الآحاد لا كلّ واحد واحد ، وليس مفاد « اللام » الداخلة عليه إلاّ الإشارة إلى تلك الأفراد والظاهر من تعلّق حكم أو نسبة بما يدلّ على المجموع تعلّقه به من حيث المجموع ، فقول القائل : « جئني بالعلماء » بمنزلة قوله : « جئني بهذه الجملة » هذا إذا لم ينصب قرينة على اعتبار تعلّق الحكم بالمجموع من حيث الآحاد وإن نصبت عليه قرينة كما هو المستفاد غالبا من الحكم المتعلّق به كان للعموم الأفرادي وأمثلته كثيرة هكذا قرّره بعض الفضلاء (1).

ويزيّفه : منع كون العموم المجموعي ما يقتضيه الأصل سواء أراد به الظاهر أو أصالة العدم بل مقتضى الأصل بكلا المعنيين العموم الأفرادي ، لوضوح عدم كون مجموع الأفراد ولا كلّ واحد واحد عنوانا في مدلول الجمع بل هما أمران اعتباريّان ومفهومان انتزاعيّان ينتزعان عن مدلول الجمع المحمول على العموم باعتبار كيفيّة تعلّق الحكم به المختلفة بجعل المتكلّم واعتباره ، فإنّ مدلوله في محلّ العموم جميع الأفراد على معنى الأفراد بتمامها بل نفس الأفراد من حيث عدم خروج شيء منها عن الحكم ، والإتيان بلفظي

ص: 763


1- الفصول : 171.

« الجميع » و « تمامها » إنّما هو للتنبيه على هذه الحيثيّة ، والحكم المتعلّق بالجمع قد يتعلّق بالأفراد بتمامها بشرط انضمام بعضها إلى بعض بحيث يكون موضوعه أمرا واحدا ومركّبا اعتباريّا فيكون كلّ فرد بالنسبة إليه جزءا لموضوع الحكم لا موضوعا مستقلاّ ويقال له بهذا الاعتبار : « مجموع الأفراد من حيث المجموع » وقد يتعلّق بها لا بهذا الشرط فيكون كلّ فرد بنفسه موضوعا مستقلاّ فيتعدّد موضوعه على حسب تعدّد الأفراد ، ويقال له بهذا الاعتبار : « كلّ واحد واحد » ومن المعلوم أنّ مقتضى الأصل هو الثاني لأنّ شرط الانضمام اعتبار زائد في مدلول الجمع يحتاج إلى جعل آخر والأصل عدمه ، وكذلك الظاهر من إطلاق الجمع حيث يتعلّق به حكم أو نسبة هو الثاني.

والسرّ فيه على ما حقّقناه سابقا من أنّ مدلول الجمع بحسب الوضع هو الماهيّة من حيث تحقّقها في ضمن الأفراد فيكون مدلوله في محلّ العموم الماهيّة من حيث تحقّقها في ضمن الأفراد بتمامها ، وذكرنا أنّ معنى تحقّق الماهيّة في ضمن الأفراد تحقّق حصصها فيها ولا ريب أنّها تحقّق في كلّ فرد لا بشرط تحقّقها في فرد آخر ، وذكرنا أيضا أنّ الماهيّة المتحقّقة في الأفراد بعينها هي الأفراد ، فرجع الكلام إلى أنّ مدلول الجمع في محلّ العموم هو الأفراد بتمامها لا بشرط انضمام بعضها إلى بعض ، وإذا تعلّق به حكم أو نسبة فالظاهر يقتضي تعلّقه بالأفراد على هذا الوجه ولا نعني من العموم الأفرادي إلاّ هذا.

وبما قرّرناه تبيّن أنّ حمله على ما عداه يحتاج إلى نصب قرينة ، وهو كما أنّه ينهض ردّا على حجّة القول المذكور كذلك ينهض حجّة على القول المختار ، ويخرج كلّما استدلّ عليه مؤيّدا لها بل حجّة اخرى مثل تبادر « كلّ عالم » من قولك : « أكرم العلماء » ونصّ جماعة من أهل الفنّ وتصريح أئمّة التفسير به في كلّ ما وقع في التنزيل من هذا القبيل نحو : ( إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) (1) ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ) (2) ( وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا ) (3) ( إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (4) ( وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ) (5) ( وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ ) (6) إلى غير ذلك ، وأنّه يصحّ بلا خلاف : « جاءني العلماء ، إلاّ زيدا » و « جاءني القوم إلاّ عمرا » مع امتناع قولك : « جاءني كلّ جماعة من العلماء إلاّ زيدا » بناء على إرادة الاستثناء المتّصل ولو كان مفاد اللفظين واحدا لجاز ذلك في المقامين.

كما تبيّن أيضا أنّه لا ابتناء لوروده للعموم الأفرادي على طروّ وضع جديد للهيئة

ص: 764


1- البقرة : 33 و 31 و 34 و 195.
2- البقرة : 33 و 31 و 34 و 195.
3- البقرة : 33 و 31 و 34 و 195.
4- البقرة : 33 و 31 و 34 و 195.
5- هود : 83.
6- آل عمران : 108.

التركيبيّة - كما التزمه بعض الأعلام - ولا على انسلاخ معنى الجمعيّة عنه كما عزى النصّ بذلك عن جماعة والتزمه أيضا بعض الأعلام ، وقد سبق منّا بعض ما يتعلّق بهذا المقام فراجع وتأمّل فيه فإنّه من مزالّ الأقدام.

كما تبيّن ايضا أنّ القول بأنّ استغراق المفرد في المعرّف باللام أشمل من استغراق الجمع لأنّ الأوّل يتناول كلّ واحد واحد فينافيه خروج الواحد والثاني يتناول كلّ جماعة جماعة فلا ينافيه خروج الواحد أو الاثنين ممّا لا أصل له.

نعم إنّما يسلم القاعدة في النكرة المنفيّة فإنّ استغراق مفردها كقولنا : « لا رجل في الدار » أشمل من استغراق جمعها كقولنا : « لا رجال في الدار » فإنّ وجود رجل أو رجلين فيها لا ينافي صدق الثاني لكون استغراقه يتناول كلّ جماعة جماعة بخلاف الأوّل.

ثمّ إنّ ظهور الجمع المعرّف في العموم الأفرادي هل هو ظهور وضعي - على معنى أنّه موضوع للأفراد بشرط عدم انضمام بعضها إلى بعض ، فلو استعمل في العموم المجموعي وهو الأفراد بشرط انضمام بعضها إلى بعض كان مجازا لوقوعه على خلاف ما وضع له - أو إطلاقي ، على معنى أنّه موضوع للأفراد لا بشرط الانضمام ولا بشرط عدم الانضمام وإذا تعلّق به حكم أو نسبة فالإطلاق بمعنى السكوت عن ذكر شرط الانضمام - الّذي هو تقييد للأفراد بانضمام بعضها إلى بعض - بعدم نصب قرينة على إرادة العموم المجموعي يقتضي تعلّقه به لا بشرط الانضمام؟ وجهان بل قولان ، أجودهما الثاني للأصل ، ضرورة أنّه كما أنّ شرط الانضمام اعتبار زائد في مدلول الجمع يحتاج إلى جعل آخر من الواضع والأصل في محلّ الشكّ ينفيه فكذلك شرط عدم الانضمام اعتبار زائد في مدلوله يحتاج إلى جعل آخر من الواضع والأصل في محلّ الشكّ ينفيه.

وعلى المختار من الظهور الإطلاقي في العموم الأفرادي فإذا ورد في الكلام للعموم المجموعي عند مساعدة قرينة عليه فهل يكون مجازا أو لا؟ وجهان ، يختلفان باختلاف اعتبار المعتبر وهو المتكلّم.

وتوضيحه : أنّه إن أراد من اللفظ الأفراد مقيّدة بانضمام بعضها إلى بعض وأورد عليها الحكم على هذا الوجه كان مجازا على حدّ المجاز اللازم من استعمال المطلق في المقيّد بقيد الخصوصيّة ، وإن أراد منه الأفراد لا بقيد الانضمام ولكن أورد عليها الحكم مشروطا بانضمام الأفراد بعضها إلى بعض بأن يكون شرط الانضمام قيدا للحكم على حدّ استعمال

ص: 765

المطلق في معناه وإحالة انفهام الخصوصيّة إلى قرينة خارجيّة كان حقيقة على حدّ الحقيقة اللازم من إطلاق الكلّي على الفرد ، وأمّا تشخيص أنّ الوارد في الكلام للعموم المجموعي من أيّ الوجهين فلا يندرج تحت ضابط كلّي بل يتبع خصوصيّات القرائن ، وقد تكون القرينة مجملة ساكتة من هذه الجهة.

في الجمع المعرّف

الأمر الثالث

في أنّ الظاهر أنّه لا كلام عند القائلين بالعموم في الجمع المعرّف في كون اسم الجمع المعرّف ك- « القوم » و « الرهط » و « النساء » أيضا مثله ، فيفيد العموم حيث يفيده الجمع وهو حيث لا عهد ، وهو كذلك لتبادر العموم واطّراد الاستثناء ، والمتبادر منه العموم الأفرادي لا الجمعي ولذا يصحّ استثناء الواحد كقولنا : « جاءني القوم إلاّ زيدا » و « أكرم القوم إلاّ واحدا » ولا المجموعي لعدم انفهام الآحاد بعضها إلى بعض ، مضافا إلى أنّ شرط الانضمام اعتبار زائد [ يحتاج ] إلى جعل من الواضع في لحاظ الوضع أو من المتكلّم في لحاظ الاستعمال والأصل ينفيه.

وأمّا الفرق بينه وبين الجمع فبيانه وإن لم يكن من وظيفة الاصولي إلاّ أنّه لا بأس بالتعرّض له هنا رفعا لبعض الاشتباهات.

فنقول : الظاهر أنّ الفرق بينهما في الدلالة على الجمعيّة كالفرق بين علم الجنس واسم الجنس المعرّف باللام في الدلالة على التعريف فاسم الجمع يدلّ على الجمعيّة بجوهره والجمع يدلّ عليها بالأداة أو بالهيئة مع دلالة المادّة مع كلّ منهما على الماهيّة.

ومن هذا يظهر أنّ للجمع وضعين : أحدهما باعتبار المادّة ، والآخر : باعتبار الأداة كما في الجموع المصحّحة أو الهيئة كما في الجموع المكسّرة ، ولإسم الجمع وضعا واحدا متعلّقا بمجموعيّ المادّة المخصوصة في ضمن الهيئة المخصوصة ، ومن ثمّة اشتهر بينهم في بيان الفرق : « أنّ الجمع ما كان له مفرد من لفظه واسم الجمع ما لم يكن له مفرد من لفظه كقوم ورهط ونساء »

وقد يستشمّ من بعض العبارات في بيان الفرق أنّ الجمع ما له مفرد من لفظه اعتبر في وضعه واسم الجمع ما ليس له مفرد من لفظه اعتبر في وضعه ، سواء لم يكن له مفرد أصلا كالأمثلة المتقدّمة أو كان ولكن لم يعتبر في وضعه ك- « ركب » و « صحب » فإنّ المفرد لهما من لفظهما « الراكب » و « الصاحب » غير أنّه لم يعتبر في وضعهما ، بدليل أنّ الجمعيّة إنّما

ص: 766

تفهم من نفس اللفظ دون الهيئة لأنّ الهيئة فيهما كهيئة المفردات ، هكذا يستفاد من كلام بعض الفضلاء (1).

وفيه نظر.

أمّا أوّلا : كون هذين اللفظين من قبيل اسم الجمع ينافيه ما في كلام بعض أهل اللغة من عدّهما جمعين للراكب والصاحب.

وأمّا ثانيا : فلمنع عدم استناد فهم الجمعيّة فيهما إلى الهيئة ، ولا ينافيه كونها كهيئة المفردات لأنّ الجمع المكسّر ما كسر بناء مفرده لا محالة بزيادة أو نقيصة أو بهما معا في الحروف أو الحركات أو فيهما معا ، وقد ينتهي بعد كسر بناء المفرد وتغييره إلى ما هو من أوزان المفردات.

غاية الأمر حينئذ كون الهيئة مشتركة بين المفرد من غير هذه المادّة والجمع من هذه المادّة ولا ضير فيه ، وكم من هذا القبيل في صيغ الجمع المكسّر.

وقد يفرّق بينهما باعتبار الوضع وهو كون الجمع من باب الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ موضوعا لخصوصيّات المراتب ، واسم الجمع من باب الوضع العامّ والموضوع له العامّ موضوعا للقدر المشترك بين المراتب.

وفيه : أنّ اطّراد الأوّل غير مسلّم ، وإنّما يسلّم في الجموع المصحّحة كما سبق تحقيقه وثبوت الثاني من أصله غير واضح.

وقد يفرّق بينهما باعتبار المعنى وهو أنّ الجمع ما يدلّ على آحاد مجتمعة واسم الجمع ما يدلّ على مجموع الآحاد.

والأوّل : مسلّم إن اريد بالآحاد المجتمعة أفراد الماهيّة لا بشرط انضمام بعضها إلى بعض.

والثاني : غير واضح إن اريد بمجموع الآحاد أفراد الماهيّة بشرط انضمام بعضها إلى بعض.

في المفرد المعرّف باللام

الفصل الخامس

في المفرد المعرّف باللام المختلف في كونه مفيدا للعموم وعدمه ، والمراد به اسم الجنس المفرد الّذي صحبه « الأل » المؤثّرة أو صحبه « لام » التعريف لإفادته ، واحترزنا بالاسم عن نفس الجنس الّذي هو من قبيل المعنى فلا يقبل « اللام » لأنّه إنّما يلحق الألفاظ

ص: 767


1- الفصول : 168.

أصل

الجمع المعرّف بالأداة يفيد العموم حيث لا عهد. ولا نعرف في ذلك مخالفا من الأصحاب. ومحقّقوا مخالفينا على هذا أيضا. وربّما خالف في ذلك بعض من لا يعتدّ به منهم ، وهو شاذّ ضعيف ، لا إلتفات إليه.

وأمّا المفرد المعرّف ؛ فذهب جمع من الناس * إلى أنّه يفيد العموم. وعزاه المحقّق إلى الشيخ. وقال قوم بعدم إفادته ، واختاره المحقّق والعلاّمة ، وهو الأقرب. لنا : عدم تبادر العموم منه إلى الفهم ، وأنّه لو عمّ لجاز الاستثناء منه مطرّدا ، وهو منتف قطعا.

_______________________________

لا المعاني ، واحترزنا بإضافته إلى الجنس عن اسم غير الجنس كالأعلام سواء لم يلحقها « اللام » أصلا أو لحقها لكن لا للتعريف بل للتزيين أو للمح المعنى الأصلي إذا كان من الأعلام المنقولة عن المعاني الوصفيّة.

وإنّما قيّدناه بالمفرد احترازا عن المثنّى والمجموع لخروجهما عن بحث المعرّف باللام ، واحترزنا بالموصول مع صلته عن النكرة واسم الجنس المنوّن والخالي عن « اللام » والتنوين ، وبالقيد الأخير عمّا صحبه « لام » الموصول كالمشتقّ في بعض الأحيان ، لأنّه ليس لإفادة التعريف في مدخوله بل هو نفسه معرفة وعن علم الجنس الّذي صحبه « اللام » في بعض الأحيان ك- « الاسامة » لأنّه لم يقصد به أيضا إفادة التعريف في مدخوله لكون المدخول بنفسه معرفة.

* اعلم أنّ الأقوال في المفرد المعرّف على ما ضبطه الفاضل المحشّي (1) خمس :

أحدها : ما اختاره بعض الأعلام وجماعة ممّن تبعه من كونه حقيقة في تعريف الجنس بالمعنى المقابل للعهد الخارجي والذهني والاستغراق ومجازا في غيره من المعاني الثلاث المذكورة.

ثانيها : كونه حقيقة في الاستغراق ، نسبه المصنّف إلى جمع وحكي عن المحقّق نسبته أيضا إلى الشيخ وفسّره في آخر كلامه بكونه موضوعا لخصوص الاستغراق بحيث

ص: 768


1- هداية المسترشدين 3 : 205.

لو استعمل في غيره كان مجازا.

ثالثها : القول بالاشتراك اللفظي بين الاستغراق والمعاني الاخر ، ويلوح ذلك من المصنّف فيما يأتي من كلامه نافيا لظهور الخلاف فيه بينهم لمكان قوله : « ودلالة أداة التعريف على الاستغراق حقيقة وكونها أحد معانيها ممّا لا يظهر فيه خلاف بينهم ».

رابعها : التفصيل بين ما يتميّز الواحد منه بالتاء كتمر الّذي يقال لواحده « التمرة » وما لا يتميّز به كالرجل فيفيد العموم في الأوّل دون الثاني ، وحكى القول به عن إمام الحرمين.

خامسها : التفصيل المذكور بعينه إلاّ أنّه ألحق بما يتميّز الواحد منه بالتاء ما يصحّ وصفه بالوحدة - كالدينار والدرهم - فإنّه يصحّ أن يقال : « دينار واحد ودرهم واحد » بخلاف نحو الذهب والفضّة إذ لا يقال : « ذهب واحد وفضّة واحدة » وحكي القول به عن الغزالي.

وهاهنا أقوال ثلاث اخر حدثت عن جماعة من أوائل أهل عصرنا :

منها : القول بكونه حقيقة في الأعمّ من تعريف الجنس والعهدين والاستغراق على وجه الاشتراك المعنوي ، وهو تعريف الجنس بالمعنى المتناول للجميع لا المعنى المقابل للثلاث الأخيرة وهو خيرة الفاضل المحشّي.

ومنها : القول بكونه حقيقة في تعريف الجنس والعهد الخارجي ومجازا في العهد الذهني والاستغراق وهو خيرة الضوابط.

ومنها : القول بكونه حقيقة في تعريف الجنس ومجازا في العهد الذهني والاستغراق ، وأمّا العهد الخارجي ففيه وجهان ، اختاره في النتائج.

وتنقيح المقام مع اختلال البال وضيق المجال يستدعي رسم مقدّمات :

في بيان إطلاقات المعرّف باللام

المقدّمة الاولى

في بيان إطلاقات المعرّف باللام

فاعلم أنّه يأتي في الكلام لمعان أربع ، ووجه الانحصار : أنّ « اللام » على ما ذكرناه سابقا موضوعة للإشارة والإشارة تستدعي مشارا إليه يكون معيّنا عند المتكلّم والمخاطب ، وهو قد يكون جنسا معيّنا وهو الماهيّة المعيّنة المأخوذة تارة من حيث هي أي من دون اعتبار تحقّقها في الفرد ، واخرى من حيث تحقّقها في جميع أفرادها وثالثة من حيث تحقّقها في فرد واحد لا بعينه ، وقد يكون شخصا معيّنا وهو الفرد الخارجي المعيّن لديهما المأخوذ بوصف التعيّن فالأقسام أربعة :

ص: 769

القسم الأوّل

أن يراد به الماهيّة المتعيّنة المأخوذة باعتبار تعيّنها من حيث هي ، بأن يراد أصل الماهيّة المتعيّنة من مصحوب « اللام » ويشار باللام إلى اعتبار تعيّنها ويقال له : تعريف الجنس ، وقد يقال : تعريف الحقيقة ، ولأجل ذا يعدّ المعرّف باللام من المعارف ، نظرا إلى أنّ المعرفه عبارة عمّا يدلّ على شيء معيّن باعتبار كونه معيّنا سواء كان شخصا معيّنا أو جنسا معيّنا كما فيما نحن فيه ، وبذلك يحصل الفرق بين اسم الجنس الخالي عن « اللام » والمعرّف بلام الجنس فإنّهما يتشاركان في الدلالة على الماهيّة المتعيّنة نظرا إلى أنّ الماهيّة في نفسها أمر متعيّن لامتيازها عمّا عداها من الماهيّات وهو المراد من تعيّنها ، إلاّ أنّ الثاني يدلّ عليها باعتبار تعيّنها ولامه إشارة إلى أخذها باعتبار التعيّن والأوّل يدلّ عليها لا بهذا الاعتبار لخلوّه عمّا يكون إشارة إلى أخذها باعتبار تعيّنها.

فحاصل الفرق يرجع إلى اعتبار التعيّن وعدم اعتباره لا إلى أصل التعيّن وعدمه.

نعم المعرّف بلام [ الجنس ] يوافق علم الجنس في الدلالة على اعتبار الماهيّة ك- « الأسد » و « اسامة » فإنّهما يتشاركان في الدلالة على الماهيّة المتعيّنة المأخوذة باعتبار التعيّن ولذا يعدّ علم الجنس أيضا من المعارف ويجري عليه أحكامها ، ومن هنا يصحّ أن يقال : « رأيت اسامة مقبلة » على الحاليّة ولا يقال : « رأيت أسدا مقبلا » ويتفارقان في أنّ الثاني يدلّ على اعتبار التعيّن بنفس اللفظ لدخوله في وضعه والأوّل يدلّ عليه بواسطة « اللام » وهذا هو معنى ما يقال في الفرق بينهما : أنّ علم الجنس يدلّ على اعتبار التعيّن مع الماهيّة بجوهره والمعرّف بلام الجنس يدلّ عليه بالأداة.

ثمّ إنّ بالبيان المتقدّم يظهر أنّ تعريف الحقيقة من المعرّف بلام الجنس يعتبر فيه أخذ الماهيّة المأخوذة باعتبار التعيّن من حيث هي ولا بشرط تحقّقها في الفرد مطلقا ، سواء أمكن تحقّقها فيه ولكنّه لم يعتبر في لحاظ الحكم عليها بشيء كما في قولنا : « الرجل خير من المرأة » و « الإنسان حيوان ناطق » ونحوه من المعرّفات نظرا إلى أنّ التعريف إنّما يكون للماهيّة ، أو لم يمكن باعتبار لحاظ الحكم لا بالذات كما في قولنا : « الحيوان جنس » و « الإنسان نوع » نظرا إلى أنّ الجنسيّة والنوعيّة من المعقولات الثانية وهي ما يكون الذهن شرطا في عروضها والاتّصاف بها على معنى أنّها لا تعرض الشيء إلاّ في الذهن ولا يتّصف بها الشيء إلاّ في الذهن ، فلا تعرض الشيء باعتبار الخارج الّذي هو الفرد الموجود

ص: 770

في الخارج ولا يتّصف بها الشيء باعتبار الخارج ، فلا يقال : « زيد جنس » على معنى أنّه كلّي مقول على الكثرة المختلفة الحقائق ، ولا أنّه نوع على معنى أنّه كلّي مقول على الكثرة المتّفقة الحقيقة لكونه كذبا صرفا ، حتّى أنّه في حمل الحيوان أو الإنسان عليه بقولنا : « زيد حيوان » أو « زيد إنسان » لو اخذت الماهيّة الحيوانيّة أو الماهيّة الإنسانيّة بوصف الجنسيّة أو النوعيّة ثمّ حملت على « زيد » لم يصحّ لأجل ذلك.

ثمّ إنّ هاهنا كلاما آخر وهو أنّه قد يقال : بأنّ المعتبر من التعيّن المأخوذ مع الماهيّة في المعرّف بلام الجنس وعلمه إنّما هو التعيّن الجنسي لا التعيّن الذهني ، والمراد بالأوّل أن تكون الماهيّة المتعيّنة باعتبار أنّها هذا الجنس ممتازة عمّا عداه من الأجناس. وبالثاني أن تكون باعتبار وجودها في الذهن ممتازة عمّا عداها من الأجناس.

وهذا خلاف ما يظهر من الأكثر من أنّ المعتبر فيهما التعيّن الذهني حيث صرّحوا بأنّ « أسدا » يدلّ على الماهيّة الحاضرة في الذهن لكن لا باعتبار حضورها وتميّزها فيه ولفظ « الأسد » و « اسامة » يدلاّن عليها باعتبار حضورها وتميّزها فيه ، ولكلّ وجه.

وحاصل الفرق بينهما : أنّ التعيّن الجنسي ما يثبته العقل للماهيّة وإن قطع النظر عن وجودها في الذهن ، والتعيّن الذهني ما لا يثبته إلاّ بملاحظة وجودها فيه والمسألة علميّة.

ومن ثمرات هذا الفرق : أنّه لا يرد على التعيّن الجنسي ما قد يورد على التعيّن الذهني ، وهو أنّه إذا كان كلّ من علم الجنس والمعرّف بلامه عبارة عن الماهيّة الحاضرة في الذهن باعتبار حضورها وتميّزها فيه كما يقولون لكان معنى : « أكرم الرجل » : أكرم الماهيّة الحاضرة في الذهن باعتبار حضورها فيه ، ولكان معنى « رأيت اسامة » : رأيت الماهيّة الحاضرة في الذهن باعتبار حضورها فيه ، وظاهر أنّ الماهيّة باعتبار حضورها في الذهن ممّا لا يصلح لتعلّق الإكرام والرؤية بها بل هما إنّما يتعلّقان بها باعتبار الخارج ، وكذلك المجيء في قولنا : « جاءني الرجل لا المرأة » وعلى قياسه سائر الموارد.

فإنّ هذا الإشكال لا يتوجّه إلاّ إلى إرادة التعيّن الذهني ، وإن كان واضح الدفع على تقديرها بكونها مغالطة مبنيّة على الخلط بين لحاظ الوضع والحمل الّذي هو لحاظ الإسناد الّذي هو عبارة عن الحكم على الماهيّة بشيء أو الحكم بها على شيء ، ولحاظ تعلّق المسند إليها باعتبار وقوعه عليها كالإكرام و « الرؤية » أو صدوره عنها ، والماهيّة المأخوذة باعتبار حضورها في الذهن لا تصلح لأن يتعلّق بها « الإكرام » و « الرؤية » و « المجيء » بهذا

ص: 771

المعنى ، لأنّها إنّما تقع عليها أو تصدر عنها من حيث هي أو باعتبار الخارج وهذا لا ينافي صلاحيّتها لإسناد هذه الأفعال إليها بهذا الاعتبار في القضيّة.

فمفاد القضيّة في الأمثلة المذكورة أنّه يسند إلى الماهيّة باعتبار حضورها في الذهن ما يتعلّق من حيث هي أو باعتبار الخارج من الإكرام والرؤية والمجيء وغيرها من الأفعال الّتي لا تقع عليها ولا تصدر عنها إلاّ من حيث هي أو باعتبار الخارج.

وهذا أسدّ ممّا قيل في الذبّ عن الإشكال : « من أنّ ملاحظة الماهيّة باعتبار في إطلاق اللفظ عليه لا يوجب أن يكون الحكم عليها بذلك الاعتبار ، فيجوز أن يلاحظ الماهيّة باعتبار حضورها في الذهن ويحكم عليها باعتبار آخر » انتهى.

فإنّ اعتبار حضور الماهيّة في الذهن ليس في الملاحظة فقط بل فيه وفي الحكم عليها أيضا الّذي هو الإسناد في الوضع والحمل في القضيّة ، فيبقى الإشكال بالنسبة إلى تعلّق المسند وهو « الإكرام » و « الرؤية » و « المجيء » وغيره من الأفعال المتعلّقة بالماهيّة لا باعتبار حضورها في الذهن بحاله.

وبالتأمّل فيما بيّنّاه مضافا إلى ما سبق يندفع ما لعلّه يورد على اعتبار التعيّن الذهني بمعنى حضور الماهيّة في الذهن في مدلول علم الجنس والمعرّف بلامه أيضا من أنّه لو صحّ ذلك لكان جميع معاني العالم ممّا اعتبر حضورة في الذهن حتّى معنى النكرة ومعنى اسم الجنس المنكّر ، فيكون الألفاظ بأسرها معارف حتّى النكرة والمنكّر ، لأنّ كلّ لفظ دالّ على معناه لا يدلّ عليه إلاّ وهو حاضر في الذهن بل يدلّ عليه باعتبار حضوره في الذهن ، لوضوح أنّ الحضور في الذهن إمّا نفس الدلالة إن فسّرناها بالفهم التصوّري أو من شروطه إن فسّرناها بالفهم التصديقي وهو التصديق بأنّ المعنى مراد من اللفظ.

وتوضيح وجه الاندفاع : أنّه فرق واضح في الحضور في الذهن بين ما يعرض المعنى في دلالة اللفظ عليه وما اخذ مع المعنى في وضع اللفظ بإزائه ، فإنّ الأوّل عبارة عن مجرّد حضور المعنى في الذهن أو اعتبار حضوره على الوجه الّذي اخذ في وضع اللفظ الدالّ عليه ولو بوصف الإبهام وعدم التعيين كما في النكرة واسم الجنس المنكّر ، فإنّ الفرد الغير المعيّن أو الماهيّة الملحوظة لا باعتبار التعيّن إنّما يحضر في الذهن عند دلالة النكرة والمنكّر عليه بهذا الوصف ، بخلاف الثاني وهو الحضور في الذهن المأخوذ مع الماهيّة في وضع علم الجنس والمعرّف بلامه فإنّه عبارة عن تعيّن الماهيّة في الذهن وتميّزها باعتبار

ص: 772

وجودها الذهني عمّا عداها من الماهيّات.

ولا ريب أنّ الحضور في الذهن بهذا المعنى هو الّذي اعتبر مع الماهيّة المتعيّنة الحاضرة في الذهن في وضع اللفظ الدالّ عليها ، وهو بهذا المعنى غير مأخوذ في وضع النكرة والمنكّر.

وقد يقال في دفع هذا الإشكال : بأنّه فرق ظاهر بين حصول الصفة للشيء واعتباره معه ، فقد يوضع اللفظ للمعنى سواء حصل عند العقل أو لا لكن دلالة اللفظ عليه يستلزم حصوله فيه حال الدلالة ، فليس خصوص المقيّد بالحصول هو الموضوع له ، وقد يوضع له مقيّدا بالحصول في الذهن فالحصول فيه بالفعل قيد للوضع مأخوذ فيه وليس ما عداه من موضوع اللفظ ، فالأوّل هو حال الوضع في اسم الجنس والنكرة والثاني هو الحال في علم الجنس والمعرّف بلام الجنس والعهد الذهني ، وما ذكرناه أجود.

القسم الثاني

أن يراد به الماهيّة المتعيّنة المأخوذة باعتبار تعيّنها الجنسي أو الذهني من حيث تحقّقها في جميع الأفراد ، بأن يراد من مصحوب « اللام » أصل الماهيّة ويشار باللام إلى اعتبار تعيّنها الجنسي أو الذهني ويراد اعتبار تحقّقها في جميع الأفراد من خارج اللفظ كالاستثناء في قوله تعالى : ( إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا ) (1) الآية ، أو اريد ذلك من مصحوب « اللام » أيضا ويفهم بسبب الخارج من قرينة الاستثناء ونحوها.

والفرق بين الاعتبارين يظهر بالتجوّز في اللفظ على الثاني وعدمه على الأوّل ، وهو المسمّى على التقديرين بالمعرّف بلام الاستغراق.

فهاهنا امور ثلاثة : الماهيّة الّتي يدلّ عليها مصحوب « اللام » واعتبار تعيّنها الّذي يدلّ عليه « اللام » واعتبار تحقّقها الّذي يدلّ عليه القرينة الخارجة من اللفظ ومن هنا يعلم بأنّ هذه « اللام » لم ترد بها الأفراد بأن تكون إشارة إليها ، وتسميتها بلام الاستغراق لمصاحبتها الاستغراق لا لكونها مستعملة فيه ، وبذلك حصل الفرق بين استغراق المفرد المعرّف باللام واستغراق جمعه ، فإنّ الاستغراق في الثاني كما تقدّم بيانه مشروحا مدلول « اللام » لكونها فيه إشارة إلى الأفراد ولذا يكفي في الحمل على الجميع انتفاء العهد ، لأنّ « اللام » لكونها

ص: 773


1- العصر : 2.

للإشارة تستدعي مشارا إليه معيّنا عند المتكلّم والسامع ولا معيّن عند السامع من مراتب الجمع بعد انتفاء القرينة على تعيين بعض ما دون الجميع إلاّ الجميع فيحمل عليه لا على ما دونه ، بخلاف استغراق الأوّل فإنّه لكونه مدلول القرينة الخارجة من اللفظ لا يكفي في الحمل عليه مجرّد انتفاء قرينة العهد بل يعتبر معه وجود قرينة دالّة على اعتبار الماهيّة متحقّقة في جميع أفرادها ، ومع عدم القرينة على ذلك يحمل اللفظ على الماهيّة المأخوذة باعتبار التعيّن الجنسي أو الذهني من حيث هي ولا بشرط تحقّقها في الفرد مطلقا وهو تعريف الجنس والحقيقة ، فلامه على كلا تقديري وجود قرينة الاستغراق وعدم وجودها مستعملة في التعريف أي الإشارة إلى اعتبار التعيّن مع الماهيّة المتعيّنة.

القسم الثالث

أن يراد به الماهيّة المتعيّنة المأخوذة باعتبار تعيّنها من حيث تحقّقها في فرد واحد لا بعينه ، بأن يراد أيضا من مصحوب « اللام » أصل الماهيّة ويشار باللام إلى اعتبار تعيّنها ويراد اعتبار تحقّقها في الفرد الغير المعيّن من خارج اللفظ ، أو يراد ذلك أيضا من مصحوب « اللام » ويفهم بسبب الخارج كالدخول في نحو : « ادخل السوق واشتر اللحم » على ما قيل وإن كان لا يخلو عن نظر ، والتوصيف بالجملة في نحو : « لقد أمرّ على اللئيم يسبّني » (1) وقوله تعالى : ( كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً ) (2) والفرق بين الاعتبارين نظير ما تقدّم في الاستغراق من لزوم التجوّز في اللفظ على ثانيهما وعدم لزومه على أوّلهما ، ويسمّى ذلك على التقديرين بالمعرّف بلام العهد الذهني.

فهاهنا أيضا امور ثلاث : الماهيّة الّتي يدلّ عليها مصحوب « اللام » واعتبار تعيّنها الّذي يدلّ عليه « اللام » واعتبار تحقّقها في الفرد الّذي يدلّ عليه القرينة الخارجة من اللفظ.

فالمعرّف بلام العهد الذهني والمعرّف بلام الاستغراق سيّان في كون « اللام » إشارة إلى اعتبار تعيّن الماهيّة وهو التعريف ، ولذا يكون كلّ منهما كالمعرّف بلام الجنس والحقيقة معرفة ويجري عليهما أحكام المعارف بأجمعها ، وما اشتهر بينهم من أنّ المعرّف بلام العهد الذهني في معنى النكرة إنّما يراد به أنّه معرفة يشوبه معنى النكرة وهو نكارة الفرد الّذي اعتبر تحقّق الماهيّة المتعيّنة - المأخوذة من التعيّن - فيه وعدم تعيّنه ، ولأجل ذلك قد

ص: 774


1- البحار 59 : 44 والتبيان 1 : 351 ومجمع البيان 1 : 322.
2- الجمعة : 5.

يجري عليه في بعض الأحيان بعض أحكام النكرات وهو صحّة وصفه بالجملة الّتي هي في معنى النكرة ، على معنى وقوعها نعتا نحويّا له كما في المثالين المتقدّمين ، فإنّه اعتبار يلحق المعرّف باللام مع كونه معرفة باعتبار معناه لمجرّد نكارة الفرد الخارج عن أصل المعنى لا لنكارة أصل المعنى.

ومن هنا يعتبر في الجملة الواقعة وصفا كونها صفة للشخص لا الجنس كما في المثالين ، ضرورة أنّ سبّ الإمام عليه السلام ليس صفة لماهيّة « اللئيم » بل هو صفة شخصها الّذي اريد في المقام ، وحمل « الأسفار » بمعنى الكتب الكبار من العلم في وصف الحمار به أيضا صفة لشخصه لا لجنسه ، ومعناه : أنّه يحمل الكتب الكبار ولا يعلم بما فيها من العلوم ، ضرب مثلا لأهل الكتاب الّذين حمّلوا التوراة ولم يعلموا ما فيها من العلوم باعتبار عدم عملهم بعلومه كالعالم الحامل للعلم الّذي لا يعمل بعلمه ، وأمّا ما كان صفة للجنس كما لو قيل في مثال : « لقد أمرّ على اللئيم يسبّني » « لقد أمرّ على اللئيم يبخلني أو يمنعني » فلا يصحّ وقوعه نعتا لعدم نكارة في الجنس بل لا بدّ من اعتباره حالا.

القسم الرابع

أن يراد به الفرد الخاصّ المعيّن باعتبار كونه معيّنا بأن يراد من مصحوب « اللام » نفس الفرد ويشار باللام إلى اعتبار تعيّنه ، ويسمّى ذلك : بالمعرّف بلام العهد الخارجي ، قبالا للعهد الذهني.

ووصف العهد فيهما لمعهوديّة الفرد الملحوظ فيهما عند المتكلّم والسامع وكونه في الأوّل خارجيّا وفي الثاني ذهنيّا ، لأنّ معهوديّة الفرد فيما بينهما لأمر خارجيّ في الأوّل وهو ما يكون مظروفا للخارج من تقدّم ذكر ، كما في قوله تعالى : ( كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ ) (1) أو حضور في المجلس كما في قولك : « أكرم الرجل واغلق الباب » ومنه قوله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) (2) أو اشتهار في الخارج كقولك : « أكرم العالم » مشيرا إلى عالم البلد المشتهر عند أهله.

ولأمر ذهني في الثاني وهو ما يكون مظروفا للذهن كانطباق الفرد على الماهيّة المتعيّنة وكونه من جزئيّاتها ، فالمعهوديّة هنا إنّما هو لمجرّد هذا الانطباق لا غير ، ولذا

ص: 775


1- المزمّل : 16.
2- المائدة : 3.

لا تنافي عدم تعيين الفرد باعتبار الخارج عندهما أو عند السامع فقط.

وبالتأمّل في الترتيب الّذي اعتبرناه في بيان الأقسام يظهر خروج المعرّف بلام العهد الخارجي عن المعرّف بلام الجنس وكونه قسيما له ، بخلاف المعرّف بلام الاستغراق والعهد الذهني فإنّهما قسمان منه ، بناء على إرادة معناه الأعمّ الشامل للأقسام الثلاث الأول ، فإنّ « اللام » فيها اريد بها الإشارة إلى تعريف الجنس وتعيينه ولم يقصد فيها حتّى المعهود الذهني والاستغراق تعيين الفرد ومعرفته فالجميع من المعرّف بلام الجنس.

غاية الأمر أنّ الجنس في بعضها يعتبر من حيث هو وفي بعض آخر من حيث الوجود في ضمن جميع الأفراد وفي ثالث من حيث الوجود في ضمن فرد غير معيّن ، بخلاف المعهود الخارجي الّذي لم يقصد باللام فيه الإشارة إلى تعريف الجنس وتعيينه أصلا بل إلى تعريف الفرد وتعيينه ، فلا يصدق عليه المعرّف بلام الجنس ، وهو المصرّح به في كلام جماعة من المحقّقين منهم التفتازاني في المطوّل والمحقّق الشريف في حواشيه ، وعلّله الشريف : بأنّ معرفة الجنس لا يكفي في تعيين شيء من أفراده.

ومحصّله : أنّه لمّا كان المقصود بالذات في المعهود الخارجي تعيين الفرد ومعرفته فلا جرم يشار فيه باللام إلى تعريف الفرد وتعيينه ، ولا يكفي فيه معرفته الجنس بأن يشار بها إلى تعريفه وتعيينه ويقال : بأنّه يؤدّي إلى معرفة الفرد لأنّه لا يفيد تعيين شيء من أفراده.

وهذا كما ترى متين إلاّ أنّ بعض الأعلام لم يرتض به واعترضه بما محصّله : نقض التعليل بالمعرّف بلام الاستغراق والمعهود الخارجي لجريان ما ذكر فيهما أيضا فوجب خروجهما عنه أيضا فقال : « بأنّ إرادة الاستغراق وإرادة فرد غير معيّن أيضا لا يكفي فيهما معرفة الجنس ، بل يحتاج إلى الخارج وهو القرينة الخارجة من اللفظ ، وهو ما يدلّ على عدم إمكان إرادة الماهيّة فيهما وما يدلّ على عدم إمكان إرادة فرد غير معيّن في الاستغراق » انتهى ملخّصا (1).

وهذا كما ترى ممّا لا وقع له لعدم كون المراد من التعليل إبداء الفرق بينه وبينهما في احتياجه إلى القرينة وعدم احتياجهما إليها ، فإنّ الاحتياج إلى القرينة إلى اعتبار الفرد بعضا أو كلاّ أمر مشترك بين الجميع ، فالمعهود الخارجي أيضا يشاركهما في الاحتياج إلى القرينة ويفارقهما في القصد إلى تعريف الفرد وتعيينه فيه دونهما.

ص: 776


1- القوانين 1 : 203.

وقضيّة ذلك أن يشار فيه باللام إلى تعريف الفرد ولا يكفي فيه معرفة الجنس الحاصلة بالإشارة إلى تعريفه بخلافهما إذ « اللام » يشار بها فيهما إلى تعريف الجنس لا غير فلا مقتضي فيهما للعدول عنه إلى الإشارة إلى تعريف الفرد ، فالنقض في غير محلّه.

ثمّ إنّه بعد الاعتراض المذكور قال : « فالأولى أن يجعل المقسم اسم الجنس إذا عرّف باللام ويقال : إمّا أن يقصد باللام محض الطبيعة والإشارة إليها فهو تعريف الجنس ، وإمّا أن يقصد به الطبيعة باعتبار الوجود فإمّا أن يثبت قرينة على إرادة فرد خاصّ فهو العهد الخارجي ، وإلاّ فإن ثبتت قرينة على عدم جواز إرادة جميع الأفراد فهو العهد الذهني وإلاّ فللاستغراق » (1) فادرج الأقسام الأربعة في اسم الجنس المعرّف باللام لا في المعرّف بلام الجنس.

وهذا حسن ولا مخالفة فيه لما في كلام الجماعة ظاهرا إلاّ في جعله العهد الخارجي ممّا اريد به الطبيعة وهذا محلّ إشكال بل موضع منع ، لما علم بضرورة من المحاورة والاستعمال أنّ المتكلّم في موارد العهد الخارجي لا نظر له إلى الجنس أصلا بل نظره مقصور على الفرد الخاصّ بخصوصيّته ، والسامع أيضا لا ينساق إلى ذهنه إلاّ الفرد الخاصّ.

وهل الأمور الثلاث المتقدّمة فيه لبيان ما به معهوديّة الفرد من سبق الذكر والحضور والاشتهار قرائن على كون « اللام » فيه للإشارة إلى تعريف الفرد الخاصّ وتعيينه ، أو قرائن على إرادة الفرد الخاصّ من مصحوب « اللام » أو أنّها أسباب لمجرّد معهوديّة الفرد الخاصّ فيما بين المتكلّم والمخاطب من غير مدخليّة ولا تأثير لها في كون « اللام » للإشارة إلى تعيين الفرد ولا في إرادة الفرد من مصحوبه نظير تقدّم الذكر في ضمير الغائب الموجب لمعهوديّة مرجعه من دون مدخليّة له في إرادة ذلك المعهود من الضمير وانفهامه منه بل هما فيه يستندان إلى وضع اللفظ؟ وجوه.

ولعلّه لزعم الوجه الأخير استظهر المحقّق الشريف كون العهد الخارجي موضوعا بالوضع العامّ لخصوصيّة كلّ معهود ، نظرا إلى أنّ انفهام كون « اللام » للإشارة إلى تعيين الفرد وانفهام الفرد من مصحوبه لابدّ لهما من مستند وهو إمّا وضع اللفظ أو القرينة الخارجة منه ، والمفروض في المقام بعد جعل الامور المذكورة أسبابا لمجرّد معهوديّة الفرد انتفاء القرينة الزائدة عليها فتعيّن أن يكون المستند هو الوضع ، والظاهر أنّ مراده به الوضع الجديد العرفي الّذي حصل للهيئة التركيبيّة لا الوضع الأصلي اللغوي.

ص: 777


1- القوانين 1 : 203.

ولكنّ الّذي يساعد عليه النظر الصحيح هو أنّ مقايسة ما نحن فيه على ضمير الغائب غير صحيحة ، لأنّ الضمير لا وضع له سوى وضعه العامّ لخصوصيّة كلّ معهود حصل معهوديّته بتقدّم ذكره لفظا أو معنى ، بخلاف ما نحن فيه لكون مصحوب « اللام » بدونه موضوعا بالوضع العامّ لغير ما اريد منه منعه من المعنى العامّ مع العلم الضروري بأنّ للامور المذكورة مدخليّة في كلّ من انفهام الفرد الخاصّ من المصحوب وانفهام كون « اللام للإشارة » إلى اعتبار كونه معيّنا ، كما أنّ للاّم أيضا مدخليّة في انفهام الفرد الخاصّ ، ضرورة أنّه لو قيل : « فعصى فرعون الرسول » من دون تقدّم ذكر ، أو « أكرم الرجل » من دون حضور ، أو « أكرم العالم » من دون اشتهار لم يفهم إرادة الفرد الخاصّ ، كما لم يكن معهوديّة للفرد لاحتمالي تعريف الجنس أو العهد الذهني ، كما أنّه لو قيل مكان الأمثلة المذكورة : « فعصى فرعون رسولا » ، أو « أكرم رجلا » أو « أكرم عالما » مع تحقّق الامور المذكورة لم يفهم إرادة الفرد الخاصّ.

فالوجه أن يقال : إنّ كلاّ من الامور المذكورة حال وجود « اللام » سبب لمعهوديّة الفرد الخاصّ ، ومعهوديّة الفرد الخاصّ المستفادة من الامور المذكورة توجب انفهام كون « اللام » إشارة إلى الفرد الخاصّ ، وكون « اللام » إشارة إلى الفرد الخاصّ الناشئ من معهوديّة ذلك الفرد المستفادة من الامور المذكورة يوجب انفهام إرادة الفرد الخاصّ من مصحوب « اللام » فكلّ من الامور المذكورة إمّا علّة تامّة لانفهام إرادة الفرد الخاصّ كما أنّه علّة تامّة لمعهوديّة ذلك الفرد الخاصّ أو جزء للعلّة ، وأيّا مّا كان فله مدخليّة وتأثير في انفهام إرادته من مصحوب « اللام » فلا مقتضى لالتزام الوضع العامّ لخصوصيّة كلّ معهود.

فيما يتعلّق بلام التعريف من تعيين معناه الموضوع له وغيره

المقدّمة الثانية

فيما يتعلّق بلام التعريف من تعيين معناه الموضوع له وغيره.

فنقول : إنّها في دخولها على اسم الجنس حالها كحال سائر الحروف الداخلة على مدخولاتها لإفادة معانيها الحرفيّة متعلّقة بمدلولات مدخولاتها من دون حاجة لها ولا لمدخولاتها باعتبار الضمّ والتركيب إلى وضع آخر متعلّق بالهيئة التركيبيّة ، فإنّ كلمة « من » مثلا موضوعة بالوضع الأفرادي للابتداء وإذا دخلت على « البصرة » الموضوعة بالوضع الأفرادي أيضا لمعناها المخصوص تفيد معنى الابتداء متعلّقا بمعنى البصرة من دون أن يقصد منهما باعتبار الضمّ والتركيب معنى آخر زائد على الابتداء ومتعلّقه من معنى البصرة ، فلا حاجة لهما بالاعتبار المذكور إلى وضع آخر ولو نوعيّا متعلّق بالهيئة التركيبيّة لكونه

ص: 778

خلاف الأصل فلا يلتزم به إلاّ في موضع الضرورة ولا ضرورة هنا دعت إلى التزامه ، ومن هذا القبيل « لام » التعريف الداخلة على اسم الجنس فإنّ الضمّ والتركيب الحاصل بينهما لا يقتضيان معنى زائدا على معنييهما الأفراديّين فلا مقتضي فيهما لطرّو وضع آخر غير وضعيهما الأفرادييّن متعلّق بالهيئة التركيبيّة ، فمن يدّعي الوضع النوعي في المعرّف باللام الحاصل بسبب دخول « اللام » على اسم الجنس - كبعض الأعلام ومن تبعه - إن أراد به مجرّد الضمّ والتركيب فلا اختصاص له بتعريف الجنس لحصوله في العهدين والاستغراق أيضا ، فلا داعي لتخصيص الحقيقة بالأوّل ونفيها عمّا عداه ، وإن أراد به أمرا زائدا على الضمّ والتركيب فلا مقتضي له والأصل ينفيه.

والعمدة في المقام بيان ما وضع له « اللام » بوضعها الأفرادي ، وقد اختلفوا فيه بين قائل باشتراكها لفظا بين المعاني الأربع كما يظهر من المصنّف نافيا لظهور الخلاف فيه بقوله : « كيف ودلالة أداة التعريف على الاستغراق حقيقة وكونه أحد معانيها ممّا لا يظهر فيه خلاف بينهم ».

وقائل بالحقيقة في تعريف الجنس والمجاز في البواقي كما عليه بعض الأعلام إن صرفنا كلامه عن دعوى الوضع النوعي المتعلّق بالهيئة التركيبيّة.

وقائل بأنّ حقيقة التعريف توجد في العهد الخارجي دون البواقي فيكون تعريفها لفظيّا كما يظهر من نجم الأئمّة ويظهر منه البناء على كون تعريف علم الجنس أيضا لفظيّا ، قال - بعد توجيه كلامهم في كون أعلام الأجناس من المعارف - : « أقول : إذا كان لنا تأنيث لفظيّ كغرفة وبشرى ونسبة لفظيّة نحو كرسي فلا بأس أن يكون لنا تعريف لفظي إمّا باللام كما ذكرنا قبل وإمّا بالعلميّة كما في اسامة » انتهى.

وقائل بالاشتراك المعنوي على معنى كونها موضوعة لمعنى واحد يتساوى نسبته إلى الجميع ، وهو إمّا الإشارة الّتي تستدعي مشارا إليه ولا بدّ أن يكون معيّنا ليصحّ الإشارة إليه ، وهو قد يكون جنسا معيّنا وقد يكون شخصا معيّنا والجامع بينهما الحقيقة المعيّنة جنسيّة كانت أو شخصيّة ، وعلى تقدير كونه جنسا معيّنا فقد يؤخذ من حيث هو ، وقد يؤخذ من حيث الوجود في فرد غير معيّن ، أو في جميع الأفراد ، أو بمعنى (1) أنّها موضوعة لملاحظة حال مدلول مدخولها من حيث كونه شخصا معيّنا اخذ باعتبار كونه معيّنا ، أو جنسا معيّنا

ص: 779


1- عطف على قوله : « وهو إمّا الإشارة الّتي الخ ».

أخذ باعتبار كونه معيّنا من حيث هو ، أو من حيث الوجود في البعض الغير المعيّن أو في الجميع كما عليه بعض الفضلاء (1) في تفسيره الأوّل تبعا لأخيه في هداية المسترشدين (2).

ويظهر ذلك من كلّ من أطلق كون « اللام » للإشارة كالأكثر.

ولا خفاء في ضعف القول الأوّل لأنّ مدلول « اللام » هو التعريف الّذي هو أمر واحد يتساوى نسبته إلى المعاني الأربع كما عرفت ، وإضافته إلى الجنس دون غيره والعهد الذهني والعهد الخارجي والاستغراق ليست من قبيل المعاني المرادة من « اللام » المأخوذة في وضعها ليتعدّد بتعدّدها الوضع ، بل هي حيثيّات مختلفة تتلاحق مدخولها باعتبارات مختلفة ، وهي اعتباره بحيث اريد منه الشخص ، أو الجنس المأخوذ من حيث هو ، أو من حيث الوجود في ضمن البعض الغير المعيّن ، أو الجميع ، أو مدلول مدخولها باعتبارات مختلفة من اعتباره شخصا معيّنا أو جنسا معيّنا اخذ من حيث هو ، أو من حيث الوجود في ضمن البعض الغير المعيّن ، أو الجميع وهو الأظهر ، لكون الحيثيّات المذكورة من عوارض المعنى لا من لواحق اللفظ.

ومثله القول الثاني في الضعف لمنع دخول الإضافة إلى الجنس في وضع « اللام » ومنع كون العهدين والاستغراق من المعاني المرادة منها ليلزم المجاز ، بل هي كما عرفت حيثيّات مختلفة تتلاحق مدلول مدخولها باعتبارات شتّى.

وأضعف منهما القول الثالث لأنّ التعريف اللفظي فيما عدا العهد الخارجي لا يتعقّل له معنى إلاّ على تفسير التعريف بتعيين المعنى واحضاره في الذهن ، فيقال حينئذ : إنّه لا يتأتّى إلاّ في العهد الخارجي لعدم كون الفرد في نفسه معيّنا.

وأمّا لو فسّرناه بالدلالة على الأخذ بالمعيّن المراد من المصحوب باعتبار كونه معيّنا شخصا كان أو جنسا فلا ، لوضوح الفرق بين تعيين الشيء في نفسه وبين اعتبار تعيينه في إطلاق اللفظ عليه فيكون التعريف في الجميع حقيقيّا ، فتعيّن القول الرابع فهو المختار بلا إشكال ، إلاّ أنّ الكلام في دخول الإشارة في وضع « اللام » كما عليه الفاضلان (3) المتقدّم ذكرهما بل الأكثر ، وعدمه بأن يكون مدلولها مجرّدا عن اعتبار الإشارة ، والأوّل أظهر لتبادر الإشارة الّتي هي هنا وفي إسم الإشارة عبارة عن الإيماء إلى الشيء المتعيّن باعتبار أنّه أخذ من حيث كونه متعيّنا ، سواء كان محسوسا مشاهدا أو محسوسا غير مشاهد

ص: 780


1- الفصول : 167.
2- هداية المسترشدين 3 : 188.
3- صاحب الفصول وصاحب هداية المسترشدين.

ويسمّى الإيماء في هذين القسمين إشارة حسيّة ، أو غير محسوس حاضرا في الذهن معهودا عند العقل ويسمّى الإيماء فيه إشارة عقليّة.

ومن أمثلة القسم الأوّل في اسم الإشارة : « هذا الرجل » و « خذ هذا » مومئا باليد أو الرأس إلى الكتاب الحاضر مثلا ، وفي اللام « أكرم الرجل » و « يا أيّها الرجل » و « اغلق الباب ».

ومن أمثلة القسم الثاني في إسم الإشارة قوله تعالى : ( الم ذلِكَ الْكِتابُ ) (1) وقوله أيضا : ( أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (2) إشارة إلى الموصوفين في الآية السابقة بالصفات المذكورة فيها ، فإنّهم كالكتاب وإن كانا من الامور المحسوسة بحسب ذواتها غير أنّهما غير مشاهدين حال الإطلاق.

وفي اللام قوله تعالى : ( فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ ) (3) وقول القائل : « خرج الأمير » و « أكرم العالم » عند انحصار أمير البلد أو عالمه في واحد معهود.

ومن أمثلة القسم الثالث في إسم الإشارة قول القائل : « هذا هو الأسد » فيما إذا وصفت حقيقة « الأسد » لمن لا يعرفها بذكر بعض ذاتيّاتها وخواصّها وأوصافها.

وفي اللام : « الرجل خير من المرأة » و « [ امّر ] على اللئيم يسبّني » و ( إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ) (4) فاللام واسم الإشارة سيّان في معنى الإشارة والفرق بينهما من حيث اللفظ بالاسميّة والحرفيّة ، ومن حيث المعنى أنّ « اللام » موضوعة بالوضع العامّ لخصوصيّات الإشارة بمعنى الإيماء ، واسم الإشارة موضوع كذلك لخصوصيّات المشار إليه وهي الذوات الملحوظة بوصف الإشارة بمعنى الإيماء إليها ، فالإيماء في مدلوله ضمنيّ لا أنّه نفس الموضوع له المستعمل فيه ليكون الإسم موضوعا لمعنى حرفي بخلافه في « اللام » فإنّه فيه نفس الموضوع له المستعمل فيه.

هذا كلّه في تفسير الإشارة الداخلة في وضع « اللام » ويمكن إرجاع المعنى الثاني المفروض كونه مجرّدا عن اعتبار الإشارة إليها بنوع من العناية فيكون الفرق بينهما في مجرّد العبارة ، إذ الموضوع لملاحظة حال مدلول المدخول وهو المتعيّن المأخوذ بوصف تعيّنه الجنسي أو الشخصي لا يكون إلاّ آلة لملاحظة حال المدلول الّتي هي عبارة عن حيث أخذه بوصف تعيّنه لا غير ، وظاهر أنّ « اللام » لا يعتريها عنوان الآليّة لملاحظة الحالة المذكورة للمدلول إلاّ لتضمّنها معنى الإشارة والإيماء إلى الحقيقة المتعيّنة جنسا أو شخصا

ص: 781


1- البقرة : 1 و 2.
2- البقرة : 5.
3- المزمّل : 16.
4- العصر : 2.

من الحيثيّة المذكورة لا غيرها ، فليتدبّر.

فيما يتعلّق بمدخول اللام

المقدّمة الثالثة

فيما يتعلّق بمدخول « اللام » من أحكام الحقيقة والمجاز وضعا أو استعمالا ، فنقول : إنّ اسم الجنس الخالي عن اللواحق من « اللام » والتنوين وأدوات التثنية والجمع وفاقا للمحقّقين وأكثر الاصوليّين وغير هم موضوع للماهيّة من حيث هي ، ويعبّر عن الماهيّة بالجنس ويفسّر بالطبيعة المقرّرة في نفس الأمر الملحوظة لا بشرط شيء ، والجنس بهذا المعنى بعينه هو الكلّي الطبيعي الّذي هو معروض للكلّي المنطقي وهو مفهوم ما لا يمتنع فرض صدقه على كثيرين ، فمن زعم أنّه أعمّ مطلقا من الكلّي الطبيعي باعتبار أنّه يرادف الكلّي المطلق وهو أعمّ من الكلّي الطبيعي مطلقا كبعض الأعلام فقد سها.

والمراد بقولنا : « من حيث هي » في وصف الماهيّة نفي اعتبار حيث الوجود بجميع أنحائه من الوجود في ضمن فرد معيّن ، أو فرد لا بعينه ، أو جميع الأفراد ، لا إثبات حيث « هي » قيدا للماهيّة مأخوذا معها في الوضع ليكون استعمال إسم الجنس في الماهيّة من حيث الوجود بأحد أنحائه الثلاث بإرادة أصل الماهيّة من اللفظ وحيث الوجود من القرينة الخارجة منه مجازا ، لسقوط قيد الحيثيّة المذكورة المفروض كونها جزءا للموضوع له ، ولو عبّر مكان « من حيث هي » ب- « لا بشرط شيء » - كما في جملة من العبائر - كان المراد به أيضا نفي اعتبار شرط شيء مع الماهيّة في الوضع لا إثبات اللابشرطيّة قيدا لها مأخوذا معها في الوضع ، ليكون الاستعمال فيها بشرط الوجود بإرادة أصل الماهيّة من اللفظ وشرط الوجود من الخارج مجازا.

ثمّ إنّ هاهنا توهّمين :

أحدهما : ما سبق إلى ابن الحاجب من كون إسم الجنس موضوعا للماهيّة المقيّدة بالوحدة لا بعينها ، على معنى الماهيّة بشرط الوجود في ضمن فرد غير معيّن ، والمراد بغير معيّن في وصف الفرد عدم اعتبار التعيين معه ليصلح هذا أو ذلك أو غيرهما من المتعيّنات على البدل ، لا اعتبار عدم التعيين فيه لئلاّ يصلح شيئا من المتعيّنات ، لأنّ الفرد بشرط عدم التعيين لا وجود له بل يستحيل وجوده فلا يصلح شيئا من الأفراد الموجودة.

وكيف كان فما زعمه ابن الحاجب ضعيف جدّا بشهادة تبادر خلافه ، وقيد « الوحدة لا بعينها » إنّما يلحق الماهيّة بسبب التنوين والكلام إنّما هو في الخالي عنه ، مع أنّه - على

ص: 782

ما حكي - خصّه بغير المصادر الخالية عن « اللام » والتنوين والفرق غير واضح.

ومن مفاسد ما اختاره كون أسماء الأجناس الخالية عن اللواحق بأسرها جزئيّات حقيقيّة ، لأنّ الماهيّة بشرط الوجود في الفرد هي الحصّة الموجودة منها فيه ، والحصّة الموجودة في الفرد بعينها هي الفرد وهو جزئيّ حقيقي ، وعدم اعتبار التعيين معه لا ينافي جزئيّته لأنّه يوجب صلاحيّته لكلّ جزئيّ معيّن على البدل لا خروجه عن كونه جزئيّا إلى كونه كلّيا ، ضرورة أنّ صلاحيّته لهذا أو ذاك غير صدقه على هذا وذاك والكلّي هو الثاني والأوّل عين الجزئي ، لأنّه إن كان هذا لم يكن ذاك وإن كان ذاك لم يكن هذا ، ومعنى الكلّية أنّه مع كونه هذا كان ذاك ، ومع كونه ذاك كان هذا.

وحاصل معنى صلاحيّته لكلّ جزئيّ معيّن على البدل انتشاره في الجزئيّات ، ولذا قد يعبّر عن الماهيّة بشرط الوجود في ضمن فرد غير معيّن عند حكاية هذا القول بالفرد المنتشر كما في الفصول (1) وظاهر أنّ الفرد المنتشر هو الجزئي الحقيقي الممتنع صدقه على كثيرين إذا اخذ بلا شرط تعيينه فجعله كليّا - كما في كلام غير واحد - سهو.

قال بعض الفضلاء في شرح النكرة : « إنّ مدلولها فرد من الجنس لا بعينه ، بمعنى أنّ شيئا من الخصوصيّات غير معتبر فيه على التعيين وإن اعتبر فيه أحدها لا على التعيين فيصحّ أن يجتمع مع كلّ تعيين ، لا أنّ عدم التعيين معتبر فيه فلا يجتمع مع تعيين » - إلى أن قال : - « ومنه يظهر أنّ مدلول النكرة جزئيّ وليس بكلّي كما سبق إلى كثير من الأوهام ، فإنّ الجنس المأخوذ باعتبار كونه مقيّدا بفرد أي متّحدا معه جزئي لا غير ، ولا فرق فيما ذكرنا في مدلول النكرة بين أن يكون الفرد معيّنا عند المتكلّم كما في : « جئني برجل » أو عند المخاطب كما في : « أيّ رجل أتاك » أو يكون غير معيّن كما في : « جئني برجل » إذ التعيين الحاصل في المثالين الأوّلين زائد على مدلولها وخارج عنه ولهذا لو اريد معه بها كانت مجازا » انتهى (2).

وثانيهما : ما سبق إلى بعضهم من عدم الوضع لأسماء الأجناس مجرّدة عن اللواحق بل هي مع اللواحق موضوعة للمعاني المستفادة منها أعني الجنس بشرط حضوره في الذهن ، وهو بشرط تحقّقه في ضمن فرد واحد لا بعينه ، وهو بشرط تحقّقه في ضمن فردين لا بعينهما ، وهو بشرط تحقّقه في ضمن أكثر من فردين لا بعينه.

ص: 783


1- الفصول : 162.
2- الفصول : 163.

وأورد عليه أوّلا : بأنّه مجازفة (1) لأنّه تكثير في مخالفة الأصل بخلاف القول الآخر الّذي عليه المحقّقون من أنّها مجرّدة عن اللواحق موضوعة للماهيّات الملحوظة من حيث هي فإنّه تقليل في مخالفة الأصل فيكون أولى ، فإنّا لو فرضنا أسماء الأجناس عشرة مثلا فقد التزمنا فيها بعشرة أوضاع شخصيّة وهذا القائل يلتزم بأربعين وضعا شخصيّا ، ولو فرضناها مائة فقد التزمنا فيها بمائة وضع شخصي وهذا القائل يلتزم بأربعمائة وضع شخصي وهكذا ، فكلّما كثرت أسماء الأجناس كثرت مخالفة الأصل على هذا القول دون القول المختار.

وثانيا : بأنّه ممّا لا دليل عليه بل الدليل ناهض ببطلانه ، فإنّ وضع كلّ إسم جنس لو كان مع كلّ واحد من اللواحق الأربع لكان شخصيّا كما نبّهنا عليه في بيان كون هذا القول تكثيرا في مخالفة الأصل ، ومن حكم الموضوعات بالوضع الشخصي اعتبار نقل الآحاد فيها وهو غير متحقّق في الجميع ، لأنّ لحوق كلّ واحد من اللواحق بكلّ واحد من أسماء الأجناس ليس مسموعا من العرب وهذا آية انتفاء الوضع الشخصي مع اللواحق ، لأنّ انتفاء اللازم يكشف عن انتفاء الملزوم ، فهذا كما ينهض سندا لمنع وجود الدليل على القول المذكور كذلك ينهض دليلا على بطلانه.

لا يقال : إنّه لا يلزم من انتفاء الوضع الشخصي في الجميع مع كلّ واحد من اللواحق ثبوت الوضع الشخصي في الجميع بدون شيء من اللواحق ليكون نتيجة بطلان القول بكون وضع الجميع مع اللواحق لا بدونها ، لإمكان الواسطة وهو كون وضع الجميع مع بعضها شخصيّا ومع البواقي نوعيّا ، ومن الجائز أن يكون مراد القائل : ما ينطبق على ذلك.

لأن ذلك إنّما يستقيم على تقدير تقدّم الوضع الشخصي في الجميع على الأوضاع النوعيّة ، لوضوح أنّ كلّ موضوع بالوضع النوعي إنّما وضع لمعناه النوعي ويدلّ عليه في ضمن مادّة موضوعة دون مادّة مهملة ، وإنّما يعلم ذلك إذا ثبت تقديم رخصة بعضها على بعض ، بأن يقال : رخّص العرب أوّلا في استعمال كلّ لفظ من أسماء الأجناس مع التنوين مثلا لإفادة الوحدة ، ثمّ في استعمال الجميع بنوعها مع « اللام » لسلب الوحدة وإرادة الماهيّة من حيث حضورها في الذهن ، ثمّ مع الألف والنون لسلب ذلك وإرادة الفردين منها وهكذا ، والقول بذلك تحكّم واضح ومجازفة صرفة ، لأنّ هذه اللواحق في استعمالات العرب تتعاور على لفظ واحد على حسب مقتضى المقام من جهة حوائج المستعملين من دون

ص: 784


1- القوانين 1 : 198.

تقديم لحوق بعضها كالتنوين على الوجه الكلّي بالنسبة إلى الألفاظ في زمان وتأخير لحوق البواقي كذلك.

وأمّا ما عن أهل العربيّة من الاختلاف في تعيين الأصل والفرع من إسم الجنس المعرّف واسم الجنس المنوّن فقيل : بأنّ الجنس المعرّف باللام أصله كان منوّنا ثمّ عرّف باللام ، وقيل : بأنّ المنوّن أصله كان معرّفا باللام ثمّ نوّن.

ففيه أوّلا : أنّ كليهما - بناء على ما حقّقناه من وضع الجميع مع قطع النظر عن اللواحق - فرعان للجنس المجرّد عن « اللام » والتنوين الموضوع للماهيّة من حيث هي ، ثمّ عرّف باللام لإفادة شرط حضورها في الذهن ونوّن لإفادة شرط وجودها مع الوحدة.

وثانيا : بأنّ جعل المنوّن أصلا دون المعرّف كجعل المعرّف أصلا دون المنوّن تحكّم ، لتساويهما في اللفظ من حيث لحوق « اللام » تارة والتنوين اخرى للّفظ ، وفي المعنى أيضا من حيث طروّ شرط للماهيّة وهو إمّا الحضور في الذهن أو الوجود في الخارج ، هذا مضافا إلى أنّ اللواحق إذا كانت تتعاور على لفظ واحد على حسب مقتضى المقام الّذي يختلف باختلاف المستعملين من دون ترتّب ولا تقدّم بعضها على بعض في الرخصة فجعل ما لحقه بعضها أصلا وغيره فرعا تحكّم وترجيح بلا مرجّح.

وبعد ما تقرّر أنّ أسماء الأجناس بأسرها مجرّدة عن اللواحق موضوعة بأوضاع شخصيّة للماهيّات الملحوظة من حيث هي هي ، فهل طرءها مع اللواحق زيادة على الأوضاع الشخصيّة أوضاع اخر نوعيّة بإزاء المعاني النوعيّة المستفادة من جهة اللواحق متعلّقة بالهيئة التركيبيّة أو لا؟ فيه خلاف آخر على قولين ، يظهر الجزم بأوّلهما من بعض الأعلام ، والأظهر ثانيهما ولعلّه مذهب الأكثر للأصل مع عدم ضرورة دعت إلى طروّ الأوضاع النوعيّة للهيئة التركيبيّة ، إذ لا يتولّد من تركيب إسم الجنس مع اللواحق معنى آخر زائد على معنيي الجزئين ليمسّ الحاجة إلى وضع لفظ بإزائه ، ولا يكون إلاّ الهيئة التركيبيّة ، إذ المعاني النوعيّة المستفادة من جهة اللواحق ليست إلاّ الشروط الأربعة الّتي تتعاور على الماهيّة وهي : شرط حضورها في الذهن ، وشرط وجودها في ضمن فرد واحد لا بعينه ، وشرط وجودها في ضمن فردين لا بعينهما ، وشرط وجودها في ضمن ما زاد على فردين لا بعينه ، وهذه الشروط وإن كانت زائدة على أصل الماهيّة الّتي هي معنى إسم الجنس ولكنّها ليست بزائدة على معنيي الجزئين بل هي بأعيانها معاني اللواحق لا غير ،

ص: 785

فإذا لحق كلّ منها لإسم الجنس فالملحق به يدلّ على أصل الماهيّة واللاحق على شرطها من غير أن يكون هنا معنى آخر زائد على الماهيّة وشرطها يدلّ عليه الهيئة التركيبيّة.

وتوهّم أنّ الماهيّة الحاضرة في الذهن في المعرّف باللام ، والماهيّة الموجودة في ضمن فرد واحد في المنوّن ، والماهيّة الموجودة في ضمن فردين في التثنية ، والماهيّة الموجودة في ضمن ما زاد على الفردين ، معان زائدة مغائرة لمعنيي اللاحق والملحق به.

يدفعه : أنّ ذلك مفهوم منتزع من معنيي الجزئين ينتزع بالجمع بينهما لا أنّه معنى ثالث زائد عليهما مغائر لهما.

وأمّا القول الآخر فإن أريد بالوضع النوعي الطارئ للهيئة مجرّد ترخيص الواضع في نوع تركيب إسم الجنس مع « اللام » لإفادة اعتبار حضور الماهيّة في الذهن ، وفي نوع تركيبه مع التنوين لإفادة اعتبار وجودها بوصف الوحدة ، وفي نوع تركيبه مع أداة التثنية لإفادة اعتبار وجودها بوصف الاثنينيّة ، وفي نوع تركيبه مع أداة الجمع لإفادة اعتبار وجودها بوصف الجمعيّة فلا كلام معه ، وغاية ما فيه إطلاق الوضع على مجرّد ترخيص الواضع في التركيب وهو إمّا مجاز فلا ضير فيه أو اصطلاح فلا مشاحّة فيه ، إلاّ أنّه خلاف ما يظهر من بعض قائليه كبعض الأعلام بل خلاف صريح بعض عباراته في قوانينه.

وإن اريد به الوضع بالمعنى المعهود وهو تعيين اللفظ للدلالة على المعنى.

ففيه : ما اتّضح من كون القول به التزاما بخلاف الأصل بلا ضرورة دعت إليه ، لكفاية جزئي المركّب في إفادة الماهيّة مع شرطها المستفاد من اللاحق ، وإن كان مبنى القول على زعم عدم وضع أفرادي للواحق بالخصوص فيكون استفادة شرط الماهيّة بجميع أنواعه الأربع مستندة إلى الهيئة التركيبيّة لا إلى اللاحق فقط.

فيزيّفه أوّلا : تبادر الشروط في استعمالات العرف من اللواحق لا من الهيئات التركيبيّة.

وثانيا : أنّ جعل الهيئات التركيبيّة موضوعة لإفادة شروط الماهيّة ليس بأولى من جعل اللواحق موضوعة لإفادتها ، بل الثاني أولى بالإذعان بحكم التبادر وتنصيص أئمّة اللغة وغير ذلك.

فخلاصة ما اخترناه وفاقا للمحقّقين : أنّ كلّ إسم جنس مع قطع النظر عن اللواحق كحيوان وإنسان وأسد ورجل ومرأة وغير ذلك موضوع بوضع شخصي للماهيّة من حيث هي ، أي لنفس الماهيّة مع قطع النظر عن الشروط الزائدة عليها الطارئة عليها في استعماله

ص: 786

مع اللواحق في التركيب الكلامي ، وأنّ اللواحق أيضا لكونها من الأدوات والحروف موضوعة بأوضاع شخصيّة حرفيّة لمعان حرفيّة هي عبارة عن شروط الماهيّة ، فإذا اجتمع إسم الجنس مع إحدى اللواحق في التركيب الكلامي فهو يفيد معناه الإسمي حقيقة إذا كان نفس الموضوع له أو مجازا إذا كان خلافه ، واللاحق يفيد معناه الحرفي متعلّقا بمدلول مدخوله وطارئا له من دون الحاجة إلى طروّ وضع آخر نوعي لنوع الهيئة التركيبيّة الحاصلة من اجتماعهما ، كما لو اجتمع في التركيب الكلامي مع سائر الحروف الموضوعة كالحروف الجارّة وغيرها.

هذا كلّه فيما يتعلّق باسم الجنس باعتبار وضعه بدون اللواحق ومعها.

وأمّا ما يتعلّق به باعتبار استعماله في التركيب الكلامي وأنّه في أيّ نحو من الاستعمال يكون حقيقة وفي أيّ نحو منه يكون مجازا؟

فنقول : إن ورد في الاستعمال الصحيح مجرّدا عن اللواحق بأجمعها فلا محالة يراد منه الماهيّة من حيث هي أي نفس الماهيّة بلا شرط من الشروط الطارئة لها بسبب اللواحق فيكون حقيقة بضرورة الفرض من وقوع استعماله على نفس الموضوع له حال خلوّه عن جميع الطوارئ والشروط المستندة إلى اللواحق المفروض تجرّد اللفظ عنها إلاّ أنّ الكلام في صحّة الفرض ومثاله من الاستعمال الصحيح.

ومن الفضلاء من مثّل له بما إذا كان اللفظ من قبيل غير المنصرف كحمراء وصفراء قال : « فإذا قيل : « رأيت حمراء » واريد أنّ الرؤية وقعت على الفرد فإن اريد بحمراء نفس الجنس واريدت الفرديّة بقرينة الرؤية أو غيرها كان حقيقة ، وإن اريدت الفرديّة منه كان مجازا ».

وفيه نظر من أنّ ذلك من قسم المنوّن ولكن لم يظهر تنوينه في اللفظ لمانع ، ولذا لو وقع مكانه المنصرف كان منوّنا جزما.

وإن شئت قلت : بأنّ المنوّن في صحيح الاستعمال أعمّ ممّا كان تنوينه مذكورا معه أو مقدّرا وهذا من المقدّر.

ومن الأعلام من مثّل له بالأسماء المعدودة والمراد بها أسماء تذكر في مقام العدّ كما لو سأل أحد عن أسماء الأجناس للتمييز الإجمالي بينها وبين غيرها من الألفاظ فقال في الجواب : « حيوان ، إنسان ، فرس ، أسد ، رجل ، مرأة ، أرض ، سماء ، ماء ، كلاء ، شجر ، حجر ، مدر » وما أشبه ذلك.

ص: 787

وفيه أيضا نظر من ظهور كونها من المنوّن ولكنّه لم يظهر تنوينه لضرورة العدّ المطلوب فيه الاختصار كالمنوّن الّذي لم يظهر تنوينه لضرورة الوقف.

ونوقش فيه أيضا : بأنّ الأسماء المعدودة ليست بأسماء أجناس من حيث كونها أسماء معدودة ، لأنّها غير مستعملة في معانيها الوضعيّة بل هي حكايات عن الألفاظ المستعملة فيها ، فهي أسماء لأسماء الأجناس ولا نسلّم أنّ المسمّى أعني الألفاظ المحكية مجرّد عن اللواحق ، مع أنّ الأسماء المعدودة لا تقع في صحيح الاستعمال مجرّدة عن اللواحق ولو تقديرا بناء على عدم خلوّ المحكيّ عنها وضعا فلا يتمّ بها المقصود ، ولو أراد تجرّدها عنها لفظا فغير مفيد كما في صورة الوقف في غيرها من الأسماء المتمكّنة.

وكيف كان فإن ورد في الاستعمال ملحوقا به التنوين فهو على قسمين :

أحدهما : أن يكون التنوين اللاحق له تنوين التمكّن ، وهذا يرجع إلى السابق إذ التنوين لم يقصد به إلاّ أمرا متعلّقا بالإعراب من غير تأثير له في المعنى فيكون مدخوله كالمجرّد مرادا به نفس الماهيّة فيكون حقيقة ، ومثاله المعروف قول القائل : « رجل جاءني لا امرأة ».

ومن هذا القبيل ما يقع محمولا في القضايا الحمليّة ك- « الإنسان حيوان » و « زيد إنسان أو رجل أو عالم أو كاتب » وما أشبه ذلك.

واعلم أنّ التمكّن جهة مشتركة بين تنوين إسم الجنس وتنوين العلم وتنوين النكرة ، ويزيد عليهما تنوين النكرة في نكارة الفرد الواحد المقيّد به الماهيّة المعبّر عنها بالوحدة الغير المعيّنة على معنى عدم اعتبار تعيين الفرد الّذي هو متعيّن في الخارج كما ذكرناه سابقا ليصلح في نظر المخاطب لكلّ فرد متعيّن من الأفراد الخارجيّة على البدل ، وعلى هذا فلا نكارة في إسم الجنس المنوّن باعتبار المعنى على ما يساعد عليه التحقيق والنظر الدقيق.

فما في كلام بعض الأعلام - عند بيان الفرق بين إسم الجنس المنوّن والنكرة من أنّ النكارة الملحوظة بالنسبة إلى الفرد في النكرة قد تلاحظ أيضا بالنسبة إلى الطبيعة في إسم الجنس « فرجل » في قولنا : « رجل جاءني لا امرأة » نكرة باعتبار عدم ملاحظة تعيين الطبيعة و « رجل » في قولنا : « جاءني رجل » نكرة باعتبار ملاحظة عدم تعيين الفرد - غير سديد لوجهين :

أحدهما : أنّ عدم اعتبار تعيين الطبيعة في إسم الجنس المنوّن يقابله اعتبار تعيينها في إسم الجنس المعرّف وهذا يوجب عدم إطلاق المعرفة عليه في الاصطلاح لا إطلاق النكرة

ص: 788

عليه فيه على سبيل الحقيقة ، وإلاّ كان إسم الجنس الخالي عن « اللام » والتنوين أيضا نكرة لاشتراكه مع المنوّن في عدم اعتبار تعيين الطبيعة وهو خلاف ما علم ضرورة من عرفهم ، وما يوجد كثيرا في عبائرهم من إطلاق المنكر على المنوّن لا يقصد به إلى إفادة كونه نكرة في الاصطلاح بل إلى إفادة عدم كونه معرفة فيه ، وما قد يوجد في بعض الأحيان من إطلاق النكرة عليه فهو ليس على الحقيقة بل يطلق مجازا لأنّه يشبه النكرة صورة لا معنى ، ولو اريد به الشباهة باعتبار المعنى أيضا فإنّما هو لمجرّد مشاركتهما في عدم اعتبار التعيين وإن كانا يتفارقان في أنّه في أحدهما بالنسبة إلى الطبيعة وفي الآخر بالنسبة إلى الفرد.

وثانيهما : أنّ النكارة الداخلة في معنى النكرة ليست عبارة عن اعتبار عدم تعيين الفرد كما نبّهنا عليه سابقا وإلاّ لم يصلح لشيء من الأفراد الخارجيّة ، ضرورة عدم وجود الفرد المأخوذ بشرط عدم التعيين في الخارج ، بل هي عبارة عن اعتبار تعيينه على معنى أنّ المتكلّم لم يعيّن الفرد في موضوع حكمه وإن كان الفرد في نفسه باعتبار كونه عبارة عن الحصّة الموجودة في الخارج من الماهيّة لزمه التعيّن ، بضابطة أنّ الشيء ما لم يتشخّص لم يوجد وما لم يوجد لم يتشخّص ، والمراد بالتشخّص هو التعيّن.

وكيف كان فثاني القسمين : أن يلحقه تنوين التنكير الّذي من جهته يسمّى نكرة ومعناها الماهيّة من حيث وجودها في ضمن فرد واحد لا بعينه ، أيّ فرد من الماهيّة لا بعينه على معنى عدم اعتبار التعيين معه في موضوع الحكم ، وهذا الفرد المعيّن بحسب الخارج الّذي لم يعتبر تعيينه قد يؤخذ في إطلاق اللفظ عليه بحيث لا يكون معيّنا عند المتكلّم والمخاطب معا كما في : « جئني برجل » وقد يؤخذ بحيث لا يكون معيّنا عند المخاطب فقط كما في : « جاءني رجل » وقد يؤخذ بحيث لا يكون معيّنا عند المتكلّم فقط كما في : « أيّ رجل عندك؟ » وإطلاقه في جميع الصور الثلاث يقع على وجه الحقيقة وتعيين الفرد عند أحدهما كما في الصورتين الأخيرتين كتعيينه الخارجي لا ينافي عدم اعتبار تعيينه في دلالة اللفظ عليه على ما هو مدلول التنوين بحسب وضعه.

فحقيقة النكرة باعتبار التنوين ما لا يدخل التعيين في معناه المستعمل فيه ، فلو دخل كما لو قال : « جاءني رجل » أو « جئني برجل » مريدا به معنى « زيد » مثلا كان مجازا باعتبار التنوين ، لدخول ما ليس بداخل في الموضوع له في المستعمل فيه وهو التعيين لا باعتبار مدخوله ، لإمكان فرض الحقيقة من جهته بإرادة الجنس منه وخصوصيّة تقييده

ص: 789

تعريف المطلق

المطلب الرابع

فى

المطلق والمقيّد* والمجمل والمبيّن

أصل

المطلق هو ما دلّ على شايع في جنسه** ، بمعنى كونه حصّة محتملة لحصص كثيرة ممّا يندرج تحت أمر مشترك. والمقيّد خلافه ، فهو ما يدلّ لا على شايع في جنسه. وقد يطلق « المقيّد » على معنى آخر ، وهو ما أخرج من شياع ، مثل رقبة مؤمنة ، فانّها وإن كانت شايعة بين الرقبات المؤمنات لكنّها أخرجت من الشياع بوجه ما ، من حيث كانت شايعة المؤمنة وغير المؤمنة ، فازيل ذلك الشياع عنه وقيّد بالمؤمنة فهو مطلق من وجه ، مقيّد من وجه آخر. والاصطلاح الشياع في المقيّد هو الاطلاق الثاني.

_______________________________

بالفرد المعيّن من التنوين (1) .

* المطلق في اللغة المرسل من الإطلاق بمعنى الإرسال يقال : « أطلقت الدابّة » أي أرسلتها ، ومنه طلاق المرأة ومنه ما في الدعاء : « اللّهمّ اجعلني طليق عفوك » (2).

والمقيّد من التقييد وهو تفعيل من القيد وهو العقال يقال : « قيّدت الناقة » أي عقلتها ، وقد يجيء التقييد بمعنى الحبس يقال : « قيّدت الفرس » أي حبسته فالمطلق هو المرسل والمقيّد هو المحبوس ، ومنهما أخذ المطلق والمقيّد بالمعنى العرفي والمناسبة ظاهرة فيسمّى المطلق مطلقا لكونه مرسلا غير محبوس في فرد والمقيّد مقيّدا لكونه محبوسا في فرد.

** هذا هو معناه العرفي على ما عرّفه الأكثر ، والموصول كناية عن اللفظ لأنّ الإطلاق حالة عارضة للّفظ باعتبار شيوع ، كما أنّ التقييد حالة عارضة له باعتبار عدم

ص: 790


1- إلى هنا وصل إلينا من إفاداته رحمه اللّه حول مباحث العموم والخصوص ، وقد بقي من مباحث هذا المطلب ما يجاوز أربعين صفحة من صفحات المعالم ، ولم نتحقّق أنّه قدس سره لم يعلّق عليها ، أو عصفت عليها عواصف الضياع.
2- الصحيفة السجّاديّة ص 83 : كان من دعائه عليه السلام إذا استقال من ذنوبه أو تضرّع في طلب العفو عن عيوبه.

شيوع معناه من حيث هو معناه ، والدلالة في الصلة لإخراج المهمل ، وإنّما جعل الدلالة صلة دون الوضع تنبيها على أنّ الإطلاق والتقييد يعرضان المجازات بملاحظة معانيها المجازيّة كما يعرضان الحقائق باعتبار معانيها الحقيقيّة.

وشائع من الشيوع وهو الظهور والانتشار يقال : « شاع » أي ظهر وانتشر والمراد هنا الثاني ، ولذا يفسّر فرد مّا في معنى النكرة والمعرّف بلام العهد الذهني بالفرد المنتشر ، ومنه الشياع في وصف الأخبار والأوقاف ونحو ذلك لانتشار مطابقة الخبر ووقفيّة الوقف في أذهان الناس ، وإنّما يسمّى المطلق العرفي مطلقا لانتشار معناه في مصاديقه فالإطلاق إنّما يعرض اللفظ باعتبار انتشار معناه.

والتقييد مضادّ له فهو عبارة عن سلب الإطلاق بإخراج المعنى عن الانتشار على الوجه الّذي كان فيه كما في : « رقبة مؤمنة » فإنّ الرقبة باعتبار عروض التقييد له خرجت عن الانتشار بالنسبة إلى مصاديق غير المؤمنة ، ولا ينافيه بقاء الانتشار في مصاديق المؤمنة لأنّه ليس من جهة إطلاق « رقبة » بل من جهة إطلاق قيدها.

و « في جنسه » احتراز عن نفس الجنس بمعنى الماهيّة من حيث هي ، فإنّ الشياع بمعنى الانتشار اعتبار مشترك بين نفس الجنس وهو الماهيّة الملحوظة من حيث هي وبين حصّة منها لا بعينها وهي الماهيّة المأخوذة بقيد الوحدة لا بعينها ، وحيث يضاف إلى الماهيّة من حيث هي فهو عبارة عن انتشار حصصها باعتبار الخارج في أفرادها ، على معنى وجود كلّ حصّة منها في فرد ، وحيث يضاف إلى الحصّة من حيث الوحدة لا بعينها يراد به انتشار مفهومها وهو مفهوم « فرد مّا » عند العقل في مصاديقه وهي الحصص المتعيّنة الخارجيّة ، على معنى تجويز العقل كون هذه الحصّة المأخوذة من حيث الوحدة لا بعينها كلّ واحد من هذه الحصص الخارجيّة بدلا عمّا عداها ، فمفهوم « فرد مّا » حصّة مأخوذة من حيث الوحدة لا بعينها منتشرة عند العقل في مصاديقها وهي الحصص المتشاركة معها في الجنس أعني الماهيّة من حيث هي ، وبهذا الاعتبار يخرج الماهيّة من حيث هي عن التعريف ، إذ ليس بينها وبين أفرادها جنس مشترك لتكون هي شائعة في جنسها.

فخروج نفس الجنس بمعنى الماهيّة من حيث هي فائدة مترتّبة على قيد « في جنسه » لا على تفسير شائع بحصّة محتملة الصدق على حصص كثيرة كما يستفاد من كلام المصنّف في الحاشية منه هنا ، حيث قال : « وإنّما فسّرنا الشائع بذلك ليندفع ما يتوهّم في تعريف المطلق

ص: 791

من أنّه ما دلّ على الماهيّة من حيث هي ، وإنّما عدلنا عن ذلك لأنّ الأحكام الشرعيّة إنّما تتعلّق بالأفراد لا بالمفاهيم والطبائع الكلّية إلاّ أنّ الخطب في ذلك سهل لجواز رجوعه إلى ما ذكرناه » بناء على كون مراده ترتّب الإخراج على شائع على التفسير المذكور مع قيده ليكون المعنى : « على حصّة محتملة الصدق على حصص كثيرة متشاركة معها في الجنس ».

ويدخل في التعريف أمران :

أحدهما : النكرة على أحد إطلاقيها وهو إطلاقها على ما يقابل اسم الجنس ، أعني ما دلّ على الماهيّة من حيث هي فالنكرة المقابلة لها ما دلّ على الماهيّة من حيث الوحدة لا بعينها ، وهي الحصّة الشائعة باعتبار قيد الوحدة الّتي قد يفسّر بالفرد المنتشر وقد يفسّر بفرد مّا من الماهيّة.

وأمّا على إطلاقها الآخر - وهو إطلاقها على ما يقابل المعرفة وهو ما دلّ على شيء بعينه فالنكرة المقابلة لها ما دلّ على شيء لا بعينه ، فهي لكونها لما يعمّ الاسم الجنس المنكر والنكرة بالمعنى الأوّل ك- « رجل جاءني لا امرأة » و « جئني برجل » بدليل أنّ المعرفة المقابلة لها لما يعمّ الإسم الجنس المعرّف وغيره من المعارف - فلا يدخل في التعريف لعدم كون معناه المأخوذ على الوجه الأعمّ حصّة شائعة.

وثانيهما : المعرّف بلام العهد الذهني ، فإنّه في معنى النكرة باعتبار دلالته على الماهيّة بشرط الوحدة الغير المعيّنة المفسّرة تارة بالفرد المنتشر واخرى بفرد مّا من الماهيّة وإن كان بحسب اللفظ معرفة يجري عليها أحكام المعارف.

ويخرج عنه مثل « رجل » في قوله : « جاء رجل من أقصى المدينة » وغيره ممّا يدلّ على الحصّة المعيّنة عند المتكلّم الغير المعيّنة عند السامع ، فإنّها ليست من الحصّة الشائعة وإن احتملت في نظر السامع من جهة عدم معرفته التعيين كلاّ من الحصص الخارجيّة المتعيّنة ، والعلم ، والمضمر ، واسم الإشارة ، والموصول ، والمعرّف بلام العهد الخارجي لدلالة الكلّ على الحصّة المتعيّنة لا الحصّة الشائعة ، ولكنّه في الموصول بناء على إرادة الشخص المتعيّن بالصلة منه لا الجنس المتعيّن منه فإنّه حينئذ في حكم اسم الجنس المعرّف الّذي سنذكره.

وكذلك يخرج منه العامّ لأنّه يدلّ على الحصص المتعيّنة الخارجيّة على طريقة العموم الأفرادي والعموم المجموعي لا على حصّة شائعة.

ولا ينتقض طرد التعريف بالمقيّد في نحو : « رقبة مؤمنة » ولا بألفاظ العموم البدلي ك- « من »

ص: 792

و « ما » و « أيّ » في الاستفهام ، ولا بالشبح المرئيّ من البعيد كما سبق إلى بعض الأوهام ، بدعوى أنّ الأوّل يدلّ على الحصّة الشائعة في مصاديق « المؤمنة » وإن لم تكن شائعة في مصاديق « الكافرة » والثاني لطلب التعيين فلا جرم يراد منه الحصّة الغير المعيّنة واللازم من عدم التعيين شيوعها في مصاديقها على البدليّة ولذا يقال له : العموم البدلي ، والثالث أيضا حصّة مردّدة في نظر الرائي بين امور فتكون من الحصّة الشائعة.

أمّا عدم انتقاضه بالأوّل : فلأنّ الشيوع المذكور من خواصّ القيد وهو « مؤمنة » لأنّه من المطلق وإن لم يكن المقيّدبه مطلقا لخروجه بواسطة التقييد من شيوعه ، فالشيوع بالنسبة إلى مصاديق « المؤمنة » يعرض القيد أوّلا وبالذات والمقيّد ثانيا وبالعرض ومن هذا نشأ الخلط.

وأمّا بالثاني : فلأنّ مدلول العامّ البدلي الذات الخارجيّة المتعيّنة الّتي لا يعرف المتكلّم تعيينها فيطلب التعيين من السامع.

ولا ريب أنّها ليست من الحصّة الشائعة بالمعنى المتقدّم ، وعمومها باعتبار أنّ المعنى الإنشائي المستفاد من اللفظ باعتبار كونه استفهاما وهو طلب التعيين يعمّ كلاّ من الذوات الخارجيّة على البدل عمّا عداه ، ولأجل دخول البدليّة في مفهوم طلب التعيين يقال له : العموم البدلي.

وأمّا بالثالث : فلأنّ الشبح أيضا ذات خارجيّة متعيّنة لا يعرف الرائي خصوصيّتها ولأجل ذلك يردّدها بين امور هي أيضا ذوات خارجيّة متعيّنة فليست من الحصّة الشائعة في شيء أيضا ، هذا مضافا إلى أنّه لا يدخل في جنس التعريف لعدم كونه من حيث الشبحيّة من مقولة اللفظ.

ولا يرد على عكس التعريف أيضا انتقاضه بالمطلق المنصرف إلى الأفراد الشائعة ك- « رجل » بالنسبة إلى أفراد ذي رأس واحد كما قد يتوهّم ، فإنّه من المعرّف ولا يتناوله التعريف لعدم كون معناه شائعا في أفراد جنسه من حيث الجنسيّة وإن كان حصّة مأخوذة بقيد الوحدة لا بعينها بل هو شائع في مصاديق صنف من الجنس ، كما هو معنى الإنصراف إلى الأفراد الشائعة.

لأنّ الانصراف في المطلقات المنصرفة إلى أفرادها الشائعة من عوارض الجنس أو الحصّة الشائعة منه بعد دلالة اللفظ عليه ، نظرا إلى أنّ غلبة الوجود أو غلبة إطلاق اللفظ يوجب انصراف المعنى من الماهيّة من حيث هي أو الماهيّة من حيث الوحدة الغير المعيّنة.

ص: 793

ومن هنا يحصل الفرق بينه وبين المشهور ، فإنّ الشهرة في الثاني يزاحم أصالة الحقيقة بصرفها اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز ، بخلاف الغلبة وجودا أو إطلاقا فإنّها ليست متعرّضة للّفظ بل المعنى بصرفه إلى الشائع من أفراده أو من أفراد جنسه ، فالانصراف يحصل في أصل المعنى بعد دلالة اللفظ عليه.

نعم يخرج منه ما دلّ على الماهيّة من حيث هي كاسم الجنس خاليا عن « اللام » والتنوين ومنوّنا بتنوين التمكّن ومعرّفا بلام الجنس وعلم الجنس لعدم دلالة شيء من ذلك على حصّة شائعة في جنسه ، وبعبارة اخرى : على الماهيّة من حيث الوحدة لا بعينها ، وهل هو خارج من المطلق ولا يطلق عليه المطلق في عرفهم أو لا؟ وعلى الثاني فهل خروجه من تعريفه مضرّ من جهة انتقاض العكس أو لا؟ فالكلام في مقامين :

أمّا المقام الأوّل : فالّذي يساعد عليه النظر في كلماتهم هو كون ما دلّ على الماهيّة من حيث هي بجميع أنواعه من المطلق كما يعلم ذلك بمراجعة موارد إطلاق هذا اللفظ - فكما يطلق على ما دلّ على الحصّة الشائعة فكذا يطلق على ما دلّ على الماهيّة من حيث هي - وموارد تمسّكهم بالإطلاق فكما يتمسّكون به في الأوّل فكذا في الثاني ، ومقامات حمل المطلق على المقيّد ، فكما يحملون ما يكون من قبيل الأوّل فكذا ما يكون من قبيل الثاني ، وفي مقامات منع الإطلاق لانصراف أو ورود مورد بيان حكم آخر فقد يمنعونه فيما هو من قبيل الأوّل وقد يمنعونه فيما هو من قبيل الثاني.

وأمّا المقام الثاني : فالّذي يساعد عليه النظر الصحيح هو عدم قدح خروجه من التعريف في صحّة (1) لعدم انتقاض عكسه بذلك ، لأنّ الواجب في التعريف لحفظ العكس كونه جامعا لأفراد المعرّف لا كونه شاملا لجميع المعاني المشترك فيها اللفظ فإنّ المطلق مقول بالاشتراك اللفظي على النوعين إذ لا جامع بينهما بل يطلق عندهم على أنواع اخر كالأمر في المطلق والمشروط والواجب عند تقسيمهم له بالمطلق والمقيّد ، وقد يعبّر بالمشروط بل تراهم كثيرا مّا يعتبرون الإطلاق في مطلق الحكم تكليفيّا أو وضعيّا ، والاشتراك اللفظي كما يتحقّق في اللغة وفي العرف العامّ فكذا يتحقّق في العرف الخاصّ أيضا ، والتعريف المذكور تعريف لأحد معنيي المشترك أو لأحد معانيه فلا يضرّ بصحّته خروج المعاني الاخر.

ص: 794


1- كذا في الأصل.

ألا ترى أنّ أهل المعقول قسّموا الكلّيّ إلى المنطقي والطبيعي والعقلي مع أنّهم عرّفوه : بما لا يمتنع فرض صدقه على كثيرين ، ولم ينقضه أحد بعدم شموله للطبيعي والعقلي.

والسرّ فيه : أنّ التقسيم المذكور كما ذكرناه في غير موضع لفظيّ ، إذا لا جامع بين أقسامه ليكون معنويّا ، وقضيّة لفظيّة التقسيم كون لفظه مقولا بالاشتراك اللفظي على الأقسام الثلاث لا المعنوي ، فالتعريف المذكور تعريف لأحد معانيه ولا يعتبر فيه الجامعيّة بالنسبة إلى سائر معانيه.

نعم يبقى الكلام في نكتة تخصيص المعنى المذكور في باب المطلق والمقيّد بالتعريف دون المعنى الآخر ، ولعلّه لأنّ مبنى التعريف المذكور على إنكار وجود لفظ يدلّ على الماهيّة من حيث هي بالوضع ، بدعوى دخول الوحدة الغير المعيّنة في معنى إسم الجنس كما عليه ابن الحاجب ثمّ تبعه غيره ممّن لم يوافقه في ذلك ، أو أنّه بناء على القول بتعلّق الأحكام بالأفراد لا الطبائع كما عليه ابن الحاجب وغيره ، فالتعريف منه أو من غيره ممّن وافقه فتبعه غيره ممّن وافقه ومن لم يوافقه. وإن كان يرد عليه أوّلا : منع المبنى.

وثانيا : منع الاقتضاء ، فإنّ تعلّق الأحكام بالأفراد على تقدير تسليمه حكم عقلي يلحق المطلق حيث اخذ في خطاب الشرع والنظر في التعريف إلى مدلول اللفظ لغة ، فلا منافاة بين تعريفه بالاعتبار الثاني بالماهيّة من حيث هي وانصرافه في خطاب الشرع بمعاونة القرينة العقليّة إلى إرادة فرد مّا من الماهيّة ، ولو أردنا تعريفه بما يجامع المعنيين قلنا : إنّه ما دلّ على الماهيّة من حيث هي أو من حيث الوحدة الغير المعيّنة.

وقد يوجّه التعريف المذكور بحيث ينطبق على ما دلّ على الماهيّة من حيث هي بتأويل « شائع في جنسه » بشائع في أفراده المتجانسة ، ويمكن توجيهه بحيث يعمّ المعنيين بتأويل « شائع في جنسه » بمنتشر في مصاديقه المتشاركة في الجنس.

وأمّا المقيّد فقد عرّف بأنّه : « ما دلّ لا على شائع في جنسه » والموصول هنا أيضا كناية عن اللفظ ، وإنّما لم يقولوا : « ما لا يدلّ على شائع في جنسه » إخراجا للمهمل ، ويدخل في التعريف جميع ما خرج من تعريف المطلق بما مرّ من المعارف بأسرها ، وأسماء الأجناس خالية عن « اللام » والتنوين ، ومنوّنة بتنوين التمكّن ، ومعرفة بلامي الجنس أو العهد ، وأعلام الأجناس وألفاظ العموم لصدق الدلالة لا على شائع في جنسه في الجميع.

ويخرج منه النكرة ، والمعرّف بلام العهد الذهني ، و « رقبة مؤمنة » لدلالة كلّ على شائع

ص: 795

في جنسه ولو في الجملة كما في الأخير بناء على كون الدلالة للمقيّد أوّلا وبالذات لا لقيده.

ولأجل ذا كلّه أورد عليه بانتقاض الطرد لعدم كون شيء ممّا دخل فيه من أفراد المعرّف ، ولا يطلق في عرفهم المطلق على شيء ممّا تقدّم ، وانتقاض العكس بخروج « رقبة مؤمنة » لكونه من المعرّف جزما بل من أظهر أفراده.

ومن ثمّ عدل عن هذا التعريف إلى تعريفه ب- « ما أخرج عن شياع » وقيل : إنّ الاصطلاح الشائع بينهم هو ذلك فخرج عنه جميع ما دخل في الأوّل مع النكرة والمعرّف بلام العهد الذهني كما دخل فيه رقبة مؤمنة لكونه مخرجا عن الشياع الّذي كان عليه أوّلا.

نعم يدخل معه « الرجل » في مثل : « هذا الرجل » وغيره ممّا عرّف بلام العهد لكونه بدخول « اللام » وزوال التنوين مخرجا عن الشياع الّذي كان عليه منوّنا بلام التنكير ، ولأجل ذلك نقض طرد ذلك التعريف أيضا وإن سلم عكسه بخروج جميع ما تقدّم.

ثمّ بملاحظة انتقاض عكس الأوّل وطرده وانتقاض طرد الثاني مع سلامة عكسه قيل : إنّ النسبة بينهما عموم من وجه ، لصدقهما على « هذا الرجل » وصدق الأوّل دون الثاني على « زيد » ونحوه وصدق الثاني دون الأوّل على « رقبة مؤمنة » ومثل هذه النسبة حاصل بين الأوّل من تعريفي المطلق والثاني من تعريفي المقيّد لصدقهما على « رقبة مؤمنة » وصدق الأوّل دون الثاني على « رقبة » وصدق الثاني دون الأوّل على « هذا الرجل » وأمّا بين تعريفي المطلق فتباين كلّيّ لكون الماهيّة من حيث هي والماهيّة من حيث الوحدة الغير المعيّنة مفهومان متبائنان.

وبين الثاني من تعريفي [ المطلق ] مع الأوّل من تعريفي المقيّد عموم وخصوص مطلق ، لأنّ ما دلّ على الماهيّة من حيث هي مندرج فيما دلّ لا على شائع في جنسه فيكون أخصّ منه مطلقا وما دلّ على شائع في جنسه لشموله العلم مثلا كشموله إسم الجنس أعمّ منه مطلقا وبين الثاني من تعريفي المطلق مع الثاني من تعريفي المقيّد تباين كلّي كما لا يخفى.

ومن الفضلاء من عدل عن التعريفين المتقدّمين للمقيّد فعرّفه بما اختصّ دلالته ببعض ما دلّ عليه المطلق من حيث إنّه كذلك قال : « فدخل فيه العلم وما بحكمه ، والمطلق المستعمل في المقيّد مجازا ، والعامّ ، واسم الجنس مفردا ومركّبا إذا اختصّت بالدلالة على بعض ما دلّ عليه المطلق واعتبرت بالقياس إليه كما لو قال : « أكرم عالما » ثمّ قال : « أكرم

ص: 796

زيدا العالم » أو « هذا الرجل العالم ، أو الفقهاء ، أو الفقيه ، أو العلماء الفقهاء ، أو العالم الفقيه » ونحو ذلك ، وهذا التعميم هو المناسب لما يقتضيه المقام ، فإنّ الظاهر أنّ المباحث اللاحقة للمقيّد عندهم لا حقة للجميع ويخرج عنه المذكورات حيث لا يكون لها مطلق أو لا تعتبر بالنسبة إليه فإنّها حينئذ لا تسمّى مقيّدا ».

وفيه : - مع عدم شموله لمثل : « أعتق رقبة مؤمنة » حيث لم يقابله مطلق باعتبار عدم ورود خطاب به فلا عكس - أنّ عموم المباحث نظرا إلى وحدة المناط واتّحاد الطريق وهو التنافي الموجب للحمل والتقييد لا يقتضي بعموم الاصطلاح في المقيّد ، غاية ما هنالك مشاركة المذكورات للمقيّد في كونها بيانا ولا يلزم أن يكون كلّ ما هو بيان أن يكون مقيّدا.

ألا ترى أنّه لو قال : « ائتني برجل » ثمّ قال بعد ذلك : « عنيت برجل زيدا » كان الثاني بيانا ولا يقال له : المقيّد.

تعريف المقيّد

ثمّ إنّ الكلام في باب المطلق والمقيّد يقع في مقامات :

الأوّل : فيما يتعلّق بالمطلق والمقيّد في حدّ أنفسهما.

الثاني : فيما يتعلّق بالمطلق من حيث انصرافه وعدمه ، ومن حيث وروده مورد بيان حكم آخر وعدمه.

الثالث : فيما يتعلّق بالمطلق والمقيّد من حيث حمل الأوّل على الثاني ومن حيث كون الثاني على تقدير الحمل بيانا أو ناسخا.

أمّا المقام الأوّل فيذكر امور :

الأمر الأوّل

في أنّه قد يستشمّ من بعض العبارات أنّه يعتبر في صدق المقيّد على ما صدق عليه سبق مطلق عليه فما لم يسبقه مطلق كقوله : « أعتق رقبة مؤمنة » من دون مسبوقيّته بنحو قوله : « أعتق رقبة » لا يقال له : المقيّد ويوهمه كلام الفاضل المتقدّم أيضا.

ولا يخفى بعده بالنظر إلى كلماتهم فإنّ المقيّد عندهم عبارة عمّا عرضه التقييد ولحقه القيد المقيّد له وهذا ممّا لا دخل فيه لسبق المطلق عليه ، نعم لو اريد بما ذكر سبق الإطلاق على التقييد في المقيّد فله وجه ، لأنّ المقيّد هو المطلق الّذي عرضه التقييد فصار مقيّدا ، غير أنّ بيان نحو ذلك توضيح الواضح مع بعده بالنظر إلى العبارة.

ص: 797

في أنّ عموم المطلقات ليس كعموم العمومات

الأمر الثاني

أنّ عموم المطلقات ليس كعموم العمومات فإنّه في العامّ وضعيّ - على معنى كون العموم المعبّر عنه باستغراق الحكم وشموله جميع جزئيّات موضوعه نفس ما وضع له اللفظ العامّ كما بيّنّاه في محلّه ، بتقريب : أنّ ألفاظ العموم بأسرها آلات وأدوات وضعت لتسريه الحكم إلى أفراد موضوعه ، ولقد عبّر عن هذه التسرية وعن سراية الحكم في تعريف العامّ بالدلالة واستغراق الجزئيّات ، حيث عرّف بأنّه : « اللفظ الموضوع للدلالة على استغراق أجزائه أو جزئيّاته » بالتوجيه الّذي شرحناه في محلّه - بخلاف المطلقات فإنّها ألفاظ وضعت لموضوع الحكم وهو الماهيّة من حيث هي أو الماهيّة من حيث الوحدة الغير المعيّنة المفسّرة ب- « الفرد المنتشر » حسبما تقدّم من قسمي المطلق.

ولا ريب أنّ عموم الحكم لأفراد الموضوع أو مصاديقه غير نفس الموضوع فيكون خارجا عن الموضوع له ، وإنّما يثبت ذلك العموم بحكم العقل من جهة السكوت في معرض البيان أي في مقام الحاجة إلى بيان القيد فيكون عقليّا ، وطريق إثباته : أنّ العقل بملاحظة ظهور اللفظ باعتبار تجرّده عن القيد مع كونه في مقام الحاجة إلى بيانه في إرادة الماهيّة أو الفرد المنتشر منها يحكم بعموم الحكم المعلّق عليه لأفراد الماهيّة أو لمصاديق الفرد المنتشر على البدل ، لأنّه لو اختصّ ببعض الأفراد أو بعض المصاديق مع عدم بيانه بذكر قيد يبيّنه لزم الإغراء بالجهل وهو قبيح على المتكلّم الحكيم ، فوجب أن يكون مراده التعميم حذرا عن الإغراء القبيح.

ولا فرق في كون العموم الإطلاقي عقليّا بين ما لو اعتبر الإطلاق بالقياس إلى الأفراد ، أو بالقياس إلى الأحوال ، أو بالقياس إلى الأزمان ، فإنّ قوله : « أعتق رقبة » يتضمّن إطلاقا بالنسبة إلى أفراد رقبة من المؤمنة والكافرة وغيرها ، وإطلاقا بالنسبة إلى أحوالها من القعود والقيام والركوب وغيره ، وإطلاقا بالنسبة إلى أحوال المكلّف من الطهارة والحدث وغيره ، وإطلاقا بالنسبة إلى أزمان العتق من كونه في النهار أو في الليل أو في يوم الجمعة أو يوم الخميس ، وإطلاقا بالنسبة إلى أمكنته من كونه في المسجد أو في البيت أو غيره ، وإطلاقا بالنسبة إلى الوجوب المستفاد من صيغة الأمر النافي لتوقّفه على حصول أمر غير حاصل كقدوم الحاجّ مثلا ، ومرجعه إلى ثبوته على كلا تقديري حصوله وعدم حصوله ، والعموم في الجميع يثبت بحكم العقل بملاحظة إطلاقه من جهة السكوت في معرض البيان

ص: 798

وتجرّده عن ذكر القيد فيما هو محلّ الحاجة إلى ذكره.

ولكن ينبغي أن يعلم أنّ العموم حيث يعتبر بالقياس إلى الأفراد فهو من مقتضى إطلاق نفس المطلق بمعنى الماهيّة أو الفرد المنتشر الّذي هو من مفردات ، بخلاف ما يعتبر بالقياس إلى الأحوال أو الأزمان فإنّه ليس من مقتضى إطلاق المطلق بهذا المعنى ، ضرورة أنّ إطلاق « رقبة » ليس عنوانا لأحوالها ولا لأحوال المكلّف ولا لأزمان المكلّف به بل العنوان لها إطلاق الهيئة التركيبيّة الكلاميّة من حيث تجرّدها عن ذكر قيد يرجع إليها الّذي مرجعها إلى سكوت المتكلّم عن بيان ذلك القيد ، ضرورة أنّه لو قال : « أعتق رقبة حال كونها قائمة أو حال كونك متطهّرا ، أو في يوم الجمعة ، أو في المسجد » كانت المذكورات قيودا لتلك الهيئة التركيبيّة وتجرّدها عنها إطلاق فيها ، والعقل بملاحظة هذا الإطلاق يحكم تارة بعموم الحكم للأحوال واخرى بعمومه للأزمان وثالثة بعمومه للأمكنة وهكذا ، لأنّه لو اختصّ ببعضها مع عدم ذكر قيد يبيّنه لزم الإغراء بالجهل.

لا يقال : إنّ حكم العقل من جهة الإغراء اللازم من الخطاب بما له ظاهر وإرادة غيره من دون نصب قرينة عليه يجري في العمومات أيضا ويحرز به العموم فيها كما يجري في المطلقات فوجب أن يكون العموم في المقامين وضعيّا. لأنّ العموم في العمومات يحرز بأصالة الحقيقة بمعنى النوعيّ المستند إلى الوضع ، فهو المقتضي لحمل اللفظ على إرادة العموم لكونه نفس الموضوع له ، وتوسيط حكم العقل هنا إنّما هو لدفع المانع وهو احتمال إرادة الخصوص بل لجعل الدلالة على العموم قطعيّا ، كما قد يتمسّك به لأجل هذه الفائدة في مسألة تخصيص الكتاب بخبر الواحد فيقال : إنّ الخطاب بما له ظاهر وإرادة غيره قبيح فثبت وجوب العمل بظاهر الكتاب مع قطعيّة المخاطبة به ، بخلافه في المطلقات فإنّ اللفظ فيها - على ما بيّنّاه مرارا - موضوع للماهيّة أو الفرد المنتشر ، وعموم الحكم المعلّق عليه لأفراد الماهيّة أو مصاديق الفرد المنتشر ليس بنفس الماهيّة ولا الفرد المنتشر فيكون خارجا عن الموضوع له ، وهذا الخارج لازم للموضوع له بلزوم يثبت بحكم العقل ، لأنّه لو اختصّ ببعض معيّن عند المتكلّم مع عدم بيانه بذكر قيد يقيّده لزم الخطاب بما له ظاهر وإرادة غيره وهو قبيح.

فإن قلت : إنّ توسيط هذه المقدّمة العقليّة إنّما هو لإثبات إرادة ظاهر المطلق وهو الماهيّة أو الفرد المنتشر ونفي احتمال إرادة خلافه لا غير ، فكيف يصير العموم عقليّا؟

ص: 799

قلت : توسيطها لأجل ما ذكر إنّما هو ليتفرّع عليه عموم الحكم المعلّق عليه بجميع الأفراد والمصاديق ، ومعنى كونه عقليّا أنّه يثبت بالعقل ولو بواسطة بلا مدخليّة للوضع فيه.

ويمكن أن يقال : إنّ إثبات إرادة الظاهر يكفي فيه أصالة الحقيقة مع أصالة عدم التقييد بلا حاجة إلى توسيط المقدّمة العقليّة ، وهذا بمجرّده لا يكفي في ثبوت عموم الحكم لجواز اعتبار التعيين في موضوعه في لحاظ الجعل مع عدم قصد التعيين من اللفظ بناء على عدم الملازمة بين لحاظ الجعل ولحاظ الاستعمال - كما سيأتي بيانه مشروحا - وتوسيط مقدّمة الإغراء القبيح إنّما هو لنفي ذلك الاحتمال فعموم الحكم هنا لا يثبت إلاّ بحكم العقل من غير واسطة.

ومن ذلك ظهر أنّ إعمال أصالة الحقيقة لا يغني عن توسيط مقدّمة الاغراء ، لأنّ غاية ما يترتّب على الأصل أنّ المتكلّم لم يتجوّز بالمطلق بإرادة خلاف ما وضع له ، وأمّا احتمال اعتبار التعيين في موضوع الحكم من دون قصده من اللفظ فلا ينفيه إلاّ الإغراء القبيح.

وكذلك لا يغني عنه أصالة عدم التقييد الّتي مرجعها إلى أصالة عدم القرينة ، لأنّ الشكّ في الإطلاق والتقييد قد يكون لأمر يرجع إلى المتكلّم وهو احتمال إرادته الفرد المعيّن من دون التعرّض لبيانه ولا نصب قرينة عليه وهذا الاحتمال لا ينفيه إلاّ مقدّمة الإغراء ، وقد يكون لأمر يرجع إلى السامع وهو احتمال أنّ المتكلّم اعتبر التعيين ونصب عليه قرينة خفيت على السامع أو غفل عنها ، أو لأمر يرجع إلى غيرهما ممّن يتمسّك بالإطلاق كمجتهدي أزمنة الغيبة في تمسّكهم بمطلقات الكتاب والسنّة وهو احتمال اعتبار المتكلّم للتعيين مع نصب قرينة عليه اختفت على غير السامع ، أو ذهبت عنهم بواسطة الأسباب الخارجيّة لكثير من الأحكام الواقعيّة الذاهبة عنّا بالأسباب الخارجيّة ، وهذان الاحتمالان لا ينفيهما إلاّ الأصل ، فما يقصد نفيه بالأصل غير ما يقصد نفيه بالعقل فلا يغني أحدهما عن الآخر ، بل الأصل المذكور ممّا لا بدّ من إعماله لإحراز موضوع العقل وهو التجرّد عن القرينة وذكر القيد عند الشكّ في التقييد ونصب قرينة عليه ، فكيف يصير مغنيا عنه؟

وبما بيّنّاه من أنّ توسيط مقدّمة الإغراء إنّما هو لنفي ما يرجع إلى المتكلّم يعلم أنّه لا فرق في جريان هذه المقدّمة لإثبات العموم الإطلاقي بين حال المخاطبة وما بعدها ، فإنّ المقصود به نفي الإغراء القبيح عن المتكلّم الحكيم فلا يتفاوت الحال بين الحالين.

ثمّ اعلم أنّه كما يعتبر في موضوع حكم العقل تجرّد اللفظ عن ذكر القيد فكذلك يعتبر

ص: 800

كون صدوره في محلّ الحاجة إلى بيانه لو كان المعتبر عند المتكلّم هو المقيّد ، لأنّ الإغراء القبيح إنّما يلزم على هذا التقدير بخلاف ما لو كان في غير محلّ الحاجة إلى بيانه ، كما لو كان السامع واجدا للشرط الّذي هو القيد إذ لا يلزم من عدم ذكر القيد مع اعتبار المقيّد على هذا التقدير إغراء بالجهل حتّى ينفي احتماله بقبحه ، فلا يجري حكم العقل المثبت للعموم حينئذ.

ومن هنا ترى أنّ المحقّق البهبهاني منع من التمسّك بإطلاق الآية في صلاة الجمعة لإثبات كون وجوبها مطلقا غير مشروط بحضور السلطان العادل أو نائبه الحادث على القول باختصاص الخطابات الشفاهيّة بالمشافهين بسند أنّ الخطاب ليس معنا حتّى يلزم الإغراء القبيح في حقّنا ، وأمّا في حقّ المشافهين فمن الجائز كونه مشروطا بما ذكر وإنّما لم يصرّح بذكره في الخطاب لعدم حاجة المخاطبين الى التصريح بذكره لمكان وجدانهم الشرط ، فلا يلزم الإغراء بالجهل حتّى ينفي احتمال التقييد والإشتراط بقبحه.

ثمّ إنّ العموم الإطلاقي المبنيّ على حكم العقل المنوط بقبح السكوت عن البيان في مقام الحاجة إليه كما يجري بالنسبة إلى أفراد الماهيّة كذلك يجري بالنسبة إلى توابع الماهيّة ولوازمها ، وقد يعبّر عنه ب- « حجّيّة الإطلاق بالنسبة إلى اللوازم » كما أنّه حجّة بالنسبة إلى الأفراد ، وذلك كإطلاق ما دلّ على صحّة الصلاة في ثوب فيه عذرة السنّور أو الكلب ممّن لم يعلم به الدالّ على كون خلوّ لباس المصلّي من الشروط العلميّة المتناول لما هو من لوازم نجاسة هذه العذرة وهو كونه جزءا لما لا يؤكل لحمه - بناء على تعميم الأجزاء للفضلات - فيدلّ على عدم قدحها في صحّة الصلاة من هذه الجهة ؛ لئلاّ يلزم الإغراء بالجهل بسبب السكوت في معرض البيان لو كانت مبطلة للصلاة من الجهة الثانية اللازمة للجهة الاولى ، ومن هذا القبيل طهارة البلل الباقية في المحلّ المغسول وطهارة يد الغاسل لإطلاق ما دلّ على طهارة المحلّ بالغسل فإنّه لولا طهارتهما تبعا للمحلّ لزم الإغراء من السكوت عن البيان في مقام الحاجة إليه ، وقد يعبّر عن ذلك ب- « قاعدة التبعيّة ».

ومنها : طهارة آلات إذهاب ثلثي العصير لإطلاق ما دلّ على طهارة العصير بذهاب ثلثيه وطهارة آلات النزح من الدلو والحبل ويد النازح وجوانب البئر على القول بنجاسته ، لإطلاق ما دلّ على طهارته بنزح المقدّر ، إلى غير ذلك من موارد الطهارة بالتبعيّة فإنّها في الجميع تثبت بإطلاقات النصوص الواردة فيها.

ص: 801

ولا ينافيها ما سيأتي في بيان شرائط حجّيّة الإطلاق في المطلقات من اشتراطها بعدم وروده مورد بيان حكم آخر ، نظرا إلى أنّ حكم الملزوم بالقياس إلى اللوازم حكم آخر والنصّ الوارد لبيانه وارد مورد بيان حكم آخر فلا معنى للتمسّك بإطلاقه بالنسبة إلى اللوازم ، لأنّ مورد قاعدة التبعيّة ما يكون بحسب العرف من توابع مورد النصّ ، وضابطه كونه لازما دائميّا أو لازما غالبيّا له.

وأمّا ما يندر ويتّفق ندرة فهو ممّا لا يجري فيه قاعدة التبعيّة ولا يتناوله الإطلاق ، وهذا مورد قاعدة عدم حجّيّة إطلاق المطلق لوروده مورد بيان حكم آخر ، ولذا لا نجري قاعدة التبعيّة فيما يندر في الحصر والبواري الّتي تطهّر إذا جفّفتها الشمس من الخيوط المعمولة ، ولا فيما عدا يد النازح في نزح المقدّر من ثيابه وسائر مواضع بدنه ، ولا فيما عدا الآلات والمباشر في إذهاب ثلثي العصير من أرض بيت الطبخ وجدرانه ومن لا يباشر لندرة اتّفاق تنجّسها بهذا العصير فلا يعدّه العرف من التوابع فلا يشمل الإطلاق.

ثمّ إنّه شاع في كلام العلماء منع العموم في بعض المطلقات تعليلا بأنّه نكرة في سياق الإثبات وهي لا تفيد العموم ، وهذا لا ينافي حكم العقل فيه من جهة الإغراء اللازم من السكوت في معرض البيان بالعموم ، لأنّ المنفيّ هو العموم الشموليّ أعني عموم الإيجاب بحيث يكون القضيّة معه موجبة كلّية ، فإنّهم ذكروا ذلك في النكرة المثبتة قبالا للنكرة المنفيّة المفيدة لعموم السلب بحيث تكون القضيّة معه سالبة كليّة يريدون بذلك أنّها ليست كالنكرة في سياق النفي مفيدة للعموم الشموليّ ، والمثبت بحكم العقل هو العموم البدلي فلا تنافي بين النفي المذكور وهذا الإثبات ، فقوله : « أعتق رقبة » ليس معناه : « أعتق كلّ رقبة » وإن كان العقل يحكم بعموم حكمه لأيّ رقبة على البدل.

ثمّ إنّ العموم المستفاد من المطلق بضميمة حكم العقل قد يكون بدليّا كما لو كان الحكم المعلّق عليه أمرا إيجابيّا أو ندبيّا سواء كان المطلق ممّا دلّ على الماهيّة كما لو قال : « أعتق الرقبة » أو ممّا دلّ على فرد مّا من الماهيّة بمعنى الفرد المنتشر كما لو قال : « أعتق رقبة » فالعقل بملاحظة السكوت في معرض البيان يحكم بأنّ اللازم من إيجاب الماهيّة أو فرد مّا منها وجوب أيّ فرد منها أو أيّ مصداق منه على البدل ، ومن ندب الماهيّة أو فرد مّا منها استحباب أيّ فرد منها أو أيّ مصداق منه على البدل وإلاّ لزم الإغراء بالجهل وهو قبيح.

وقد يكون شموليّا كما لو كان الحكم المعلّق عليه نهيا تحريميّا أو تنزيهيّا كما لو قال :

ص: 802

« لا تعتق الرقبة » أو « لا تعتق رقبة » أو تحليلا وإباحة كقوله : « أحلّ اللّه عتق الرقبة أو عتق رقبة » أو حكما وضعيّا كالطهارة كقوله : « الماء طاهر » والنجاسة كقوله : « البول نجس » أو غير هما ، فالعقل في الجميع بملاحظة السكوت في مقام الحاجة إلى البيان يحكم بعموم هذه الأحكام لجميع أفراد الماهيّة ولجميع مصاديق فرد مّا منها وإلاّ لزم الإغراء بالجهل وهو قبيح.

وبالتأمّل في جميع ما حقّقناه يظهر أنّ العموم في باب المطلقات مدلول التزامي بدلالة الإشارة ، لأنّ العقل بملاحظة الخطاب وملاحظة قبح الإغراء بالجهل يحكم بكون لازم المراد من إيجاب الماهيّة أو الفرد المنتشر منها وجوب أيّ فرد أو أيّ مصداق على البدل ، ومن تحريم الماهيّة أو الفرد المنتشر مثلا حرمة جميع أفراد الماهيّة أو جميع مصاديق الفرد المنتشر ، وأنّ هذه الدلالة قائمة بهيئة الكلام لا بنفس المطلق الّذي هو من مفرداته ، لأنّ العقل بملاحظة إيجاب عتق ماهيّة الرقبة أو الفرد المنتشر منها في المثال المتقدّم الّذي هو معنى المركّب يحكم بكون لازم المراد منه وجوب أيّ فرد أو أيّ مصداق على البدل.

وبعبارة اخرى : هذا المعنى الالتزامي كالمدلول عليه بدلالتي الاقتضاء والإيماء من لوازم المعنى المراد من المركّب.

وبجميع ما قرّرناه من البداية إلى تلك النهاية يعلم أنّ الفرق بين العموم في العمومات والعموم في المطلقات من وجوه :

منها : أنّ الأوّل وضعيّ والثاني عقلي.

ومنها : أنّ الأوّل مدلول مطابقيّ والثاني مدلول التزاميّ.

ومنها : أنّ الدلالة على الأوّل قائمة بالمفرد والدلالة على الثاني قائمة بالمركّب.

ومنها : ما ستعرفه من أنّ الثاني قد يكون بدليّا بخلاف الأوّل فإنّه دائما شموليّ.

ثمّ إنّه كثيرا ما يستفاد العموم الشموليّ في باب المطلقات بطرق اخر غير قبح الإغراء اللازم من السكوت في مقام الحاجة إلى البيان ، من قرينة مقام كورود الخطاب في مقام الامتنان كما في قوله تعالى : ( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ) (1) وقوله أيضا : ( وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ) (2) أو دليل حكمة كما صنعه المصنّف في نحو قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (3) أو قاعدة سراية كما صنعه بعض الأعلام في نحو المثال ، والوجه في اختلافه مع المصنّف في الطريقة اختلاف نظر هما في جواز تعلّق الأحكام بالطبائع وعدمه ، فمن

ص: 803


1- الفرقان : 48.
2- الأنفال : 11.
3- البقرة : 275.

يراه جائزا تعلّق في إثبات العموم بقاعدة السراية ، ومن لا يراه جائزا تعلّق في إثباته بدليل الحكمة ، فقوله تعالى : ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (1) عند الفريقين في معنى : « أحلّ اللّه كلّ بيع » إلاّ أنّه عند أحدهما لقاعدة السراية وعند الآخر لدليل الحكمة.

ثمّ إنّ العموم الإطلاقي في المطلقات لاستناده إلى حكم العقل من جهة قبح الإغراء ينتفي حيث لا يجري فيه حكم العقل ، وهذا يتحقّق في مواضع كثيرة :

الأوّل : كلّ مطلق علم أو احتمل عدم وروده في محلّ ابتلاء السامع على تقدير إرادة الفرد المعيّن منه ، وهذا ممّا لا يمكن نفي احتمال التعيين فيه بحكم العقل.

الثاني : ما علم أو احتمل فيه على تقدير إرادة التعيين عدم حاجة السامع إلى البيان لكونه واجدا للشرط فلا يجري فيه حكم العقل لنفي الاحتمال المذكور.

الثالث : ما علم أو احتمل فيه اقتضاء المصلحة للإجمال إلاّ أن يكون هناك في صورة الاحتمال ظهور أو أصل ينفيه فيحرز به موضوع حكم العقل.

الرابع : ما علم أو احتمل فيه تعرّض المتكلّم لبيان التعيين بنصب قرينة عليه ولكن ذهل منها السامع أو خفيت عليه على تقدير إرادة التعيين إلاّ إذا كان في صورة الاحتمال أصل أو ظهور ينفيه لإحراز موضوع حكم العقل.

الخامس : ما علم أو احتمل أيضا على تقدير إرادة التعيين اختفاء القرينة والبيان على غير السامع ممّن يريد التمسّك بالإطلاق إلاّ أن ينفي الاحتمال أيضا بأصل أو ظهور لإحراز الموضوع.

السادس : ما علم أو احتمل فيه كون مقصود المتكلّم أصالة بيان أصل الحكم لا موضوعه فضلا عن كمّيّة ذلك الموضوع كما هو الغالب في الأخبار والحكايات.

السابع : كلّما انصرف إلى الأفراد الشائعة فلو كان نظر المتكلّم فيه مقصورا على الأفراد الشائعة من دون قصد إلى تعميم الحكم للأفراد النادرة أيضا لم يلزم إغراء.

الثامن : ما كان واردا مورد بيان حكم آخر كقوله تعالى : ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ) (2) فلو لم يقصد به تعميم الحليّة بالقياس إلى موضع عضّ الكلب نظرا إلى نجاسته بالملاقاة إلاّ بعد إزالتها لم يلزم إغراء أيضا.

ص: 804


1- البقرة : 275.
2- المائدة : 4.

في حقيقة المطلق ومجازه

الأمر الثالث

في حقيقة المطلق ومجازه ، وبيان أنّه بأيّ نحو من الاستعمال يكون حقيقة وفي أيّ نوع منه يكون مجازا.

فاعلم أنّه قد ظهر من تضاعيف ما تقدّم ولا سيّما مقام التعريف أنّ المطلق له قسمان :

أحدهما : ما وضع للدلالة على الماهيّة من حيث هي.

والآخر : ما وضع للدلالة على الماهيّة من حيث الوحدة الغير المعيّنة المعبّر عنها تارة بالفرد المنتشر واخرى بفرد مّا من الماهيّة ، أيّ الفرد المعرّى عن اعتبار التعيين.

وظاهر أنّ حقيقة الأوّل إنّما هو إذا استعمل في الماهيّة لا باعتبار الوجود الملازم للتعيين ولا باعتبار الوصف المخصوص وإن لم يلازم الوجود كالإيمان والكفر وما أشبه ذلك ، ومجازه إنّما هو حيث استعمل في الماهيّة الموجودة أي المجموع من الماهيّة ووجودها بأن يكون الوجود أيضا جزء من المستعمل فيه ، أو الماهيّة الموصوفة بمعنى المجموع من الماهيّة ووصفها بأن يكون الوصف أيضا جزءا من المستعمل فيه ، فوجه المجازيّة حينئذ دخول ما خرج عن الموضوع له في المستعمل فيه.

وعلى هذا القياس حقيقة القسم الثاني ومجازه فإنّه إذا استعمل في الفرد لا باعتبار التعيين يكون حقيقة ، وإذا استعمل فيه باعتبار التعيين أي مع جزئيّته للمستعمل فيه يكون مجازا.

وأمّا إذا اطلق المطلق بالمعنى الأوّل واريد المقيّد أعني الماهيّة باعتبار الوجود الملازم للتعيين أو باعتبار الوصف وإن لم يلازم الوجود ففي كونه حقيقة مطلقا أو مجازا كذلك أو حقيقة في الجملة ومجازا كذلك خلاف على أقوال :

أوّلها : معروف عن المحقّق السلطان.

وثانيها : عن بعض الأعلام ، وإن كان يخدشه أنّ ظاهر عبارته التفصيل بين ما في الأخبار فالحقيقة وما في الإنشاء فالمجاز ، فهذا التفصيل ثالث الأقوال.

ورابعها : التفصيل بين المقيّد بالمتّصل : ك- « رقبة مؤمنة » فالحقيقة ، والمقيّد بالمنفصل كما لو حمل المطلق في قوله : « أعتق رقبة » على المقيّد بدليل قوله : « أعتق رقبة مؤمنة » وهو خطاب منفصل عن الأوّل وهذا خيرة الضوابط تبعا لشيخه الشريف.

ومن المعلوم عدم إمكان تنزيل هذا النزاع على الكبرى في صغرى فرضيّة محرزة وهي فرض المطلق مستعملا في المقيّد باعتبار الماهيّة المتحقّقة فيه معرّاة عن التعيين

ص: 805

والخصوصيّة الحاصلة من انضمام القيد إليها حتّى يكون القائل بالمجازيّة قائلا بها في نحو هذا الفرض مع أنّه غير صحيح لفرض وقوع الاستعمال على نفس ما وضع له اللفظ ، أو مستعملا في المقيّد باعتبار التعيين والخصوصيّة الحاصلة من انضمام القيد حتّى يكون القائل بالحقيقيّة قائلا بها في نحو هذا الفرض مع قضاء الضرورة ببطلانه لخروج التعيين عمّا وضع له اللفظ وقد دخل في المستعمل فيه ، بل راجع إلى الصغرى وهو جواز أن يطلق المطلق على المقيّد ويراد منه الماهية المعرّاة اللابشرط الوجود والتعيين والوصف واحيل فهم الخصوصيّة والتعيين إلى أمر خارج من اللفظ اتّصل به في الخطاب : ك- « مؤمنة » في « رقبة مؤمنة » أو انفصل عنه في الخطاب ك- « رقبة مؤمنة » في حمل المطلق عليه ، فالقائل بالحقيقة يدّعي جواز نحو هذا الاستعمال فإذا استعمل كان حقيقة ، والقائل بالمجازيّة ينكر جواز ذلك بدعوى : أنّه لا بدّ من إرادة الخصوصيّة والتعيين أيضا من اللفظ لئلاّ يلزم تعليق الحكم بالمبهم فإذا استعمل على هذا الوجه كان مجازا.

وممّا ذكرناه يعلم أنّ المجوّز الّذي هو القائل بالحقيقة مستظهر لوجود المقتضي للجواز وهو الوضع ، والمانع من الجواز القائل بالمجازيّة يطالب بسند منعه.

وقد عرفت أنّه استند في منعه إلى لزوم تعليق الحكم بالمبهم - كما في كلام بعض الأعلام - فهو ينكر الجواز لمانع عقلي لا لمانع لغويّ ليكون الاستعمال على فرض وقوعه غلطا ، فينبغي التكلّم في سند منعه الّذي لو تمّ كان مانعا عقليّا.

فنقول : إنّ الحقّ الّذي لا محيص عنه هو جواز استعمال المطلق في المقيّد على الوجه المذكور لوجود المقتضي وفقد المانع.

أمّا الأوّل : فهو الوضع لكون ما ذكر وجها من وجوه الاستعمال فيما وضع له.

وأمّا الثاني : فلعدم صلاحيّة ما ذكر من لزوم تعليق الحكم بالمبهم للمانعيّة ، فإنّ المبهم الّذي يلزم تعليق الحكم به إمّا أن يراد به الماهيّة المأخوذة بشرط الإبهام وعدم التعيين ، أو يراد به الماهيّة المأخوذة لا بشرط التعيين ولا عدمه.

فإن اريد الأوّل فبطلان اللازم وإن كان مسلّما - لاستحالة تعليق الحكم بالماهيّة المأخوذة على هذا الوجه فتارة لأمر يرجع إلى الشارع ، واخرى لأمر يرجع إلى المكلّف.

أمّا الأوّل : فلأنّ الماهيّة بشرط الإبهام وعدم التعيين لا وجود لها في الخارج فيقبح على الحكيم أن يجعل لها حكما أو يأمر بإيجادها لعرّاه عن الفائدة.

ص: 806

وأمّا الثاني : فلأنّ المكلّف لا يقدر على الإتيان بها امتثالا للأمر لعدم وجودها فيلزم تكليف ما لا يطاق - ولكنّ الملازمة غير مسلّمة ، فإنّ الماهيّة لها اعتبارات ثلاث : أخذها بشرط التعيين ، وأخذها بشرط عدم التعيين ، وأخذها لا بشرط التعيين ولا بشرط عدم التعيين ، والأوّل اعتبار لمجازيّة المطلق في المقيّد والقول بالحقيقيّة نفي لهذا الاعتبار وهو لا يلازم الالتزام بالاعتبار الثاني لثبوت الواسطة بين الاعتبارين وهو الاعتبار الثالث ، وعلى الالتزام به مبنى القول بالحقيقيّة ولا استحالة في تعليق الحكم بالماهيّة المأخوذة بهذا الاعتبار لأنّها توجد في الخارج ، فلا يقبح جعل الحكم لها ولا يكون من تكليف ما لا يطاق.

وإن اريد الثاني فكلّ من الملازمة وبطلان اللازم ممنوع.

أمّا الأوّل : فلأنّ الحكم المعلّق على المطلق يتعلّق بالمقيّد بمجموع جزئيه أعني الماهيّة وتعيينها ، فموضوع الحكم مركّب غير أنّ جزءه الأوّل وهو الماهيّة يراد من المطلق وجزءه الثاني وهو التعيين يحال فهمه إلى خارج من اللفظ متّصل به وهو القيد : في « رقبة مؤمنة » أو منفصل عنه وهو المقيّد بالقياس إلى « رقبة » في : « أعتق رقبة ».

وأمّا الثاني : فلما عرفت من أنّ الماهيّة المأخوذة لا بشرط شيء من التعيين وعدمه يوجد في الخارج ، فلا يلزم من تعلّق الحكم بها عراه عن الفائدة ولا تكليف ما لا يطاق.

وكذا الكلام في المطلق بالمعنى الثاني فإنّه إذا أطلق النكرة الموضوعة لفرد مّا من الماهيّة على شخص معيّن كما في : « جاء رجل » و « أعتقت رقبة » أو على فرد مّا موصوف كمعنى : « رجل عالم » إذا أطلق عليه « رجل » في قوله : « أكرم رجلا » أو « رقبة مؤمنة » إذا أطلق عليها « رقبة » في : « أعتق رقبة » لكن لا بحيث دخل التعيين أو الوصف في المستعمل فيه ، بأن يراد من اللفظ نفس الفرد الغير المعيّن المعبّر عنه ب- « فرد مّا » ويحال فهم الخصوصيّة من التعيين والوصف إلى خارج من اللفظ كان على الحقيقة ، ولا مانع من جوازه لغة ولا عقلا لا في الخبر ولا في الإنشاء.

ودعوى لزوم تعليق الحكم بالمبهم مطلقا أو في الإنشاء لأنّ الفرد الغير المعيّن الّذي هو معنى فرد ما أمر مبهم.

يدفعها : أنّ عدم التعيين المأخوذ مع الفرد هنا معناه أخذ الفرد في لحاظ الاستعمال لا باعتبار التعيين لا أخذه باعتبار عدم التعيين وبشرطه وهو المأخوذ في لحاظ الوضع أيضا ، ولا استحالة في تعليق الحكم بالمبهم بهذا المعنى ، هذا مضافا إلى منع الملازمة بالتقريب المتقدّم.

ص: 807

لا يقال : إنّ الفرد عبارة عن الماهيّة المأخوذة من حيث الوجود ، وحاصله الحصّة الموجودة من الماهيّة والوجود المأخوذ في مفهوم الفرد لا ينفكّ عن التعيين ، فأخذ الوجود في مفهوم الفرد مع أخذ الفرد لا باعتبار التعيين يتنافيان.

لأنّا نقول : إنّ الوجود المأخوذ في مفهوم الفرد باعتبار لحاظ الاستعمال قد يعتبر على وجه التعيين كما في المعرّف بلام العهد ، وقد يعتبر على وجه الترديد لا بمعنى أنّ الوجود في الفرد الموجود في الخارج يكون بحسب الخارج مردّدا فإنّه بضابطة : « أنّ الشيء ما لم يتشخّص لم يوجد » غير معقول ، بل بمعنى أنّ المتكلّم في لحاظ الاستعمال لا يقصد التعيين من اللفظ ولا ينصب عليه قرينة مع اللفظ سواء كان معهودا عنده كما في : « جاءني رجل » أو لا كما في : « جئني برجل » وهذا هو معنى عدم اعتبار التعيين.

ولا ريب أنّ عدم اعتباره في لحاظ الاستعمال لا ينافي لزومه للوجود في لحاظ الخارج ، وقضيّة عدم اعتباره في لحاظ الاستعمال أن يكون الوجود المأخوذ في مفهوم الفرد مردّدا في نظر السامع بين وجودات المصاديق الخارجيّة على البدل ، بل هذا الترديد هو نفس البدليّة وهو الانتشار المأخوذ في الفرد المنتشر المرادف لفرد مّا في معنى النكرة.

والأصل في ذلك كلّه أنّ الماهيّة تتحصّص بحصص كثيرة خارجيّة على معنى كون كلّ حصّة موجودة في الخارج متعيّنة في حدّ ذاتها باعتبار كونها متشخّصة بمشخّصها الخاصّ ، وهذه الحصّة الموجودة المتعيّنة يقال لها : « الفرد » وهذا الفرد قد يؤخذ موردا للحكم مع اعتبار تعيّنه في كلّ من تعلّق الحكم به ووقوع الاستعمال عليه كأن يقول : « أعتق رقبة » مريدا بها خصوص « المبارك » بقيد الخصوصيّة ، ولازمه المجازيّة ويجب معه على المتكلّم نصب القرينة عليه حين الخطاب أو في وقت الحاجة لو كان متأخّرا عن الخطاب ، وقد يؤخذ موردا للحكم مع اعتبار تعيّنه في تعلّق الحكم به وعدم اعتباره في وقوع الاستعمال عليه ، وهذا من حيث الاستعمال حقيقة لعدم دخول الخصوصيّة والتعيين في المستعمل فيه ولكن لكونهما معتبرين في متعلّق الحكم وموضوعه يجب على المتكلّم بيانهما في وقت الحاجة لئلاّ يلزم الإغراء بالجهل.

وقد يؤخذ موردا للحكم مع عدم اعتبار تعيّنه في تعلّق الحكم به ولا في وقوع الاستعمال عليه ، وهذا أيضا من حيث الاستعمال حقيقة مع كونه مطلقا من حيث الحكم ، وقضيّة عدم اعتبار التعيين في هذا وسابقه ولو في لحاظ الاستعمال فقط أن يكون الوجود

ص: 808

المأخوذ في مفهوم الفرد مردّدا في نظر السامع بين وجودات الحصص الخارجيّة ، ومرجعه إلى تردّد نفس الحصّة الموجودة المأخوذة في لحاظ الاستعمال لا باعتبار الخصوصيّة والتعيين بين سائر الحصص الخارجيّة ، ولأجل هذا التردّد يقال : « الحصّة الشائعة » تارة ، و « الفرد المنتشر » اخرى ، و « فرد مّا من الماهيّة » ثالثة.

وبما قرّرناه يندفع توهّمان :

أحدهما : توهّم من توهّم « فردا مّا » في معنى النكرة ونحوها كلّيا.

ووجه الاندفاع : أنّ الحصّة الموجودة المتعيّنة لم تكن إلاّ جزئيّا حقيقيّا لا متناع صدقها على الكثيرين ، وأخذها في لحاظ الوضع أو الاستعمال بلا اعتبار التعيين لا يخرجها عن الجزئيّة ولا يعطيها عنوان الكليّة لبقائها بعد على امتناع صدقها على الكثيرين ، وإنّما أوجب ذلك احتمالها للحصص الخارجيّة وهو ليس من صدقها على الكثيرين.

لا يقال : لعلّ مبنى التوهّم على أخذ « فرد مّا » بمعنى مفهوم « فرد مّا » والجزئي الحقيقي هو مصداق « فرد مّا » لا مفهومه ، إذ لا فرق في جزئيّة « فرد مّا » بين أخذه بمعنى المصداق وأخذه بمعنى المفهوم ، لأنّ المفهوميّة لا تلازم الكلّيّة ولا تنافي الجزئيّة ، فإنّ المفهوم عبارة عمّا حصل عند العقل وهو بهذا المعنى قدر مشترك بين الكلّي والجزئي ولذا جعلوا المفهوم في تقسيماتهم للكلّيّ والجزئي مقسما.

وحينئذ نقول : إنّ الحصّة الموجودة المتعيّنة إذا اخذت بلا شرط التعيين يقال لها : « فرد مّا » وإذا اعتبر حصول الحصّة المأخوذة بلا شرط التعيّن عند العقل يقال لها : « مفهوم فرد مّا » فعروض المفهوميّة لها لا يخرجها عن الجزئيّة الحقيقيّة ، لأنّ الجزئي الحقيقي أيضا إذا اعتبر حصوله عند العقل مفهوم.

وثانيهما : توهّم من توهّم عدم جريان اعتبار إطلاق الكلّيّ على الفرد في المعرّف بلام العهد الذهني كبعض الأعلام ، تعليلا بأنّ إطلاق الكلّيّ على الفرد [ لا يصحّ ] إلاّ فيما صحّ اتّحاد الكلّيّ مع الفرد ، ولا يصحّ الاتّحاد إلاّ في الفرد الموجود في الخارج ، والمأخوذ في معنى المعرّف بلام العهد الذهني « مفهوم فرد مّا » ولا وجود لمفهوم فرد مّا فلا يتّحد معه الكلّي في الوجود.

ذكره في ردّ مقالة التفتازاني ومن وافقه بكون المعرّف بلام العهد الذهني حقيقة في معناه على وجه إطلاق الكلّي على الفرد ، بإرادة الماهيّة المتحقّقة في فرد مّا من مدخول

ص: 809

« اللام » وإحالة فهم خصوصيّة حيث الوجود في ضمن الفرد الغير المعيّن إلى الخارج (1).

ووجه الاندفاع : أنّ مفهوم « فرد مّا » ليس إلاّ الحصّة الموجودة من الماهيّة الّتي لحقها اعتباران : أحدهما : أخذها بلا شرط التعيين.

والآخر : اعتبار حصولها عند العقل ، ولا يوجب شيء من الاعتبارين انسلاخ الوجود عنها.

أمّا الأوّل : فلأنّ غاية ما يوجبه عدم اعتبار التعيين إنّما هو ترديد وجودها في نظر السامع بين وجودات سائر الحصص الخارجيّة.

وأمّا الثاني : فلأنّ حصولها عند العقل لا ينافي حصولها في الخارج بل يؤكّده ، فإنّ الحصّة الحاصلة في الخارج بوصف حصولها في الخارج يعتبر حصولها عند العقل.

وأقوى ما يشهد بذلك كون المفهوم جهة جامعة بين الكلّي والجزئي ووقوعه مقسما في التقسيم إليهما حسبما أشرنا إليه.

لا يقال : إطلاق الكلّي على الفرد إنّما يصحّ فيما صحّ فيه الحمل المتعارفي كما في المعرّف بلام العهد الخارجي كقوله : « أكرم الرجل » مشيرا إلى الرجل الحاضر كزيد فيصحّ أن يقال : « هذا الشخص رجل » أو « زيد رجل » وهذا لا يصحّ في المعرّف بلام العهد الذهني ، إذ لا يصحّ أن يقال : « فرد مّا رجل » لمنع عدم صحّة الحمل فيه ، ضرورة صحّة القول : « بأنّ الحصّة الموجودة من ماهيّة ذات ثبت لها الرجوليّة المأخوذة بلا شرط التعيين رجل ».

وبما بيّنّاه يظهر أنّ التقييد كما أنّه في النكرة لا يستلزم التجوّز في اللفظ كذلك لا يستلزمه في المعرّف بلام العهد الذهني الّذي هو أيضا قسم من المطلق ، فيصحّ أن يطلق على فرد معيّن على وجه إطلاق الكلّي على الفرد بإرادة الماهيّة المتحقّقة فيه من اللفظ وإحالة فهم الخصوصيّة والتعيين إلى الخارج.

فإن قلت : المعرّف باللام الّذي يجري فيه هذا الاعتبار لمكان كون الفرد الّذي أطلق عليه اللفظ معيّنا أشبه بكونه من المعرّف بلام العهد الخارجي ، فما الباعث على عدّ الاعتبار المذكور من اعتبارات المعرّف بلام الذهني؟

قلت : الباعث عليه انتفاء المعهوديّة بأحد أسباب العهد من الحضور أو سبق الذكر أو المعروفيّة في الخارج في محلّ البحث ، ولا يكفي في العهد الخارجي مطلق التعيين بل يعتبر معه المعهوديّة عند السامع أيضا بأحد أسبابها.

ص: 810


1- القوانين 1 : 211.

نعم كونه من اعتباراته دون المعرّف بلام الجنس الّذي هو من المطلق بمعنى ما دلّ على الماهيّة من حيث هي مبنيّ على كون المعرّف باللام حقيقة في العهد الذهني بناء على القول باشتراكه بين المعاني الأربع ، وأمّا على القول بالمجازيّة بناء على انحصار حقيقة المعرّف باللام في تعريف الجنس فكما أنّ وروده لفرد مّا مجازا أو حقيقة بناء على الإطلاق من اعتبارات المعرّف بلام الجنس ، فكذلك وروده لفرد معيّن مجازا أو حقيقة إذا فرض على وجه الإطلاق من اعتباراته لا من اعتبارات المعرّف بلام العهد الذهني.

وتوهّم أنّه إذا استعمل في الفرد المعيّن لمناسبته لفرد مّا كان من اعتبارات المعرّف بلام العهد الذهني ، غاية ما هنالك كونه من سبك المجاز من المجاز.

يدفعه : أنّ سبك المجاز اعتبار يلحق اللفظ بالنسبة إلى ما لا يناسب معناه الحقيقي لمناسبة بينه وبين مجازيّ آخر يناسب المعنى الحقيقي ، وما نحن فيه غير منطبق عليه لوجود المناسبة بين الفرد المعيّن والجنس نحو المناسبة بين فرد مّا والجنس ، ومع إمكان كون الفرد المعيّن مجازا عن الجنس لا معنى للعدول عنه إلى جعله مجازا عن فرد مّا فقولنا : « بكون المعرّف بلام العهد الذهني كالنكرة في عدم استلزام التقييد فيه التجوّز » مبنيّ على القول بكونه حقيقة بالوضع في العهد الذهني.

ثمّ إنّه لا فرق في عدم استلزام التقييد في المطلق للتجوّز في اللفظ بين ما قيّد بالمنفصل وما قيّد بالمتّصل كما في : « رقبة مؤمنة » فإنّ « رقبة » هنا اطلق على المقيّد بالمؤمنة الّتي هي قيد متّصل باللفظ ، ولكن عدم استلزامه التجوّز فيه مبنيّ على عدم اعتبار « المؤمنة » قيدا توضيحيّا بجعلها قيدا احترازيّا ، إذ على التوضيح تكون بيانا لما اريد من « رقبة » وهو خصوص المؤمنة ، وأمّا على اعتباره احترازيّا لابدّ وأن يراد من « رقبة » الماهيّة المطلقة الشاملة للكافرة أيضا ليكون قيد « المؤمنة » احترازا عنها ، على معنى نفيه الحكم المعلّق على المطلق عنها ، فتأمّل.

وقد يتوهّم أنّ التقييد بالمقيّد بالمتّصل في نحو المثال يوجب التجوّز ، تعليلا بأنّ « مؤمنة » في نحو المثال صفة والأوصاف بحسب المعنى إخبار فقولنا : « رقبة مؤمنة » في معنى : « الرقبة مؤمنة » وهذا إمّا إخبار عن العامّ بالخاصّ أو عن الخاصّ بالعامّ أو عن المساوي بالمساوي ، ولا سبيل إلى الأوّل للزوم الكذب ، ولا إلى الثاني لدليل الخلف ، فيتعيّن الثالث وهذا هو معنى المجاز.

ص: 811

ويدفعه : أنّ قولهم بكون الأوصاف إخبارا ليس على إطلاقه بل في حقّ الجاهل بالنسبة والاتّصاف ، كما أنّ الإخبار في حقّ العالم بالنسبة أوصاف ، ولا جهل في اتّصاف « الرقبة » بالمؤمنة للعلم الضروري لكلّ أحد بانقسام الرقبة إلى المؤمنة والكافرة ، ولو سلّم قبولها الجهل فكون التوصيف حينئذ في معنى الإخبار لإفادته العلم للجاهل بالنسبة والاتّصاف لا يلازم جريان جميع أحكام الخبر في التوصيف ، فلا يلزم من عدم جواز الإخبار عن العامّ بالخاصّ عدم جواز توصيف العامّ بالخاصّ وإلاّ لانسدّ باب القيود الاحترازيّة.

لا يقال : إنّ الإخبار عن العامّ بالخاصّ إنّما لا يجوز لجهة مشتركة بينه وبين توصيف العامّ بالخاصّ وهو لزوم الكذب ، لأنّ الكذب كالصدق من صفات النسبة الخبريّة فلا يتّصف به النسبة التوصيفيّة.

هذا كلّه ثمّ لا يخفى عليك أنّ مآل قولنا : « بأنّ التقييد في المطلقات لا يستلزم التجوّز » إلى دعوى إمكان اعتبار الحقيقة في المطلق مع التقييد ، دفعا لمقالة من استحاله مطلقا أو في الإنشاء خاصّة بزعم لزومه تعليق الحكم بالمبهم ، وأمّا استلزامه الحقيقة استلزاما ظهوريّا فلا ، فإنّا إن لم ندّع ظهوره في التجوّز فلا أقلّ من عدم ادّعاء ظهوره في اعتبار الحقيقيّة.

وحينئذ فإن أردنا التكلّم في استلزامه التجوّز فنقول : الّذي يساعد عليه النظر هو الفرق بين ما قيّد بما انفصل كقوله : « أعتق رقبة مؤمنة » أو « لا تعتق كافرة » إذا ورد بعد قوله : « أعتق رقبة » أو قبله وما قيّد بما اتّصل كرقبة في قوله : « أعتق رقبة مؤمنة » فالأوّل يوجب ظهور التجوّز ، فإنّ قوله : « أعتق رقبة مؤمنة » أو « لا تعتق كافرة » قبالا لقوله : « أعتق رقبة » إذا عرضا على العرف يجري في متفاهم العرف مجرى قوله : « لا تكرم زيدا » قبالا لقوله : « أكرم العلماء » في كشفه عن حقيقة المراد ، فكما أنّ : « لا تكرم زيدا » يكشف في متفاهم العرف عن كون المراد من « العلماء » ما عدا زيد ولازمه التجوّز ، فكذلك قوله : « أعتق رقبة مؤمنة » أو « لا تعتق كافرة » يكشف عن كون المراد من « رقبة » في : « أعتق رقبة » خصوص « المؤمنة » فيكون مجازا تأخّر بيانه إلى وقت الحاجة الّذي هو زمان ورود المقيّد ، بخلاف الثاني فإنّ قيد « مؤمنة » لا ينافي ظهور « رقبة » في الماهيّة.

والفارق بينه وبين المنفصل هو العرف ، فإنّ قوله : « أعتق رقبة » ينهض في نظر أهل العرف قرينة صارفة للمطلق عن الماهيّة إلى خصوص المؤمنة ، وقيد « مؤمنة » مع « رقبة » قرينة مفهمة عندهم ، ومعنى القرينة المفهمة أنّها لإفهام أنّ الماهيّة في معنى المطلق أخذت

ص: 812

باعتبار تعلّق الحكم بها بوصف الإيمان وهذا لا يوجب التجوّز ، لأنّ اللفظ اريد منه الماهيّة واعتبار الوصف معها في تعلّق الحكم بها استفيد من القيد أو من التوصيف أو من الهيئة التركيبيّة على وجه تعدّد الدالّ.

وبالجملة اعتبار الوصف مع الماهيّة من جهة القيد أو التوصيف أو التركيب لا يزاحم ظهور اللفظ في إرادة الماهيّة ولا يخرجه عنه.

لا يقال : إنّ الماهيّة في معنى المطلق اخذت لا بشرط الوصف ، والتقييد يوجب زوال اللابشرطيّة عنها ولازمه التجوّز.

لأنّ قولهم : « لا بشرط الوصف » في تفسير المطلق ليس قيدا للماهيّة مأخوذا معها في الوضع ليوجب زوالها التجوّز ، بل هو بيان لعدم اعتبار وصف مع الماهيّة في الوضع ، فالموضوع له نفس الماهيّة من حيث هي هي ، فإذا اريدت من اللفظ فلا يوجب التقييد بالمتّصل إلاّ اعتبار وصف معها من جهة الخارج فيكون معنى المجموع الماهيّة الموصوفة بوصف الإيمان مثلا من باب دالّين لمدلولين.

فعلم بما ذكرناه أنّ المتّجه من أقوال المسألة هو القول بالتفصيل.

فإن قلت : إنّ ما ذكرته في توجيه الحقيقة في المقيّد بالمتّصل إنّما يتمّ في المطلق بمعنى الماهيّة ، وأمّا المطلق بمعنى الحصّة الشائعة فالتقييد فيه يوجب زوال الشيوع المأخوذ مع الحصّة في وضع اللفظ كالنكرة فيكون مجازا لزوال بعض ما دخل في الوضع.

قلت : دخول الشيوع في وضع النكرة غير واضح بل محلّ منع ، بل هو من لوازم معناها فالتعريف به من باب التعريف باللازم ، فإنّ المأخوذ في وضعها الماهيّة من حيث الوحدة لا بعينها ، وحاصله كما ذكرناه مرارا الحصّة الموجودة منها المأخوذة بلا شرط التعيين ، وعدم اعتبار التعيين مع الحصّة في الوضع والاستعمال يستلزم تردّدها في نظر السامع بين سائر الحصص الخارجيّة واحتمالها الجميع ، سواء كانت معيّنة عند المتكلّم كما في : « جاءني رجل » أو لا كما في : « جئني برجل » وهذا التردّد والاحتمال هو الشيوع المعبّر عنه بالانتشار فيكون خارجا عن الموضوع له لازما له.

ولو سلّم دخوله في الوضع شطرا أو شرطا يتطرّق المنع إلى خروجه عن الاستعمال ، فإنّ الحصّة المأخوذة بلا شرط التعيين حيث اريدت من اللفظ كانت شائعة ، وحيث طرأها الوصف من جهة التقييد اعتبارا لموضوع الحكم زال عنها الشيوع ، وزواله من هذه الحيثيّة

ص: 813

لا ينافي دخوله من الحيثيّة الاُولى لأنّ الحيثيّتين مجتمعتان فلا موجب للتجوّز.

وتوهّم أنّ التجوّز لازم باعتبار دخول الخصوصيّة ، فإنّ الحصّة أخصّ من الماهيّة وهي بهذه الخصوصيّة تراد من اللفظ.

يدفعه : أنّ هذه الخصوصيّة إنّما تدخل في الاستعمال تبعاً لدخولها في وضع النكرة نوعاً باعتبار الهيئة التركيبيّة الحاصلة من انضمام التنوين إلى اسم الجنس الموضوع للماهيّة من حيث هي ، فدخول الخصوصيّة المذكورة في الاستعمال ليس من مقتضيات التقييد بل من مقتضيات وضع النكرة وإن لم تكن مقيّدة فلا مدخليّة للتقييد فيه.

الشرط الأوّل من شرائط العمل بالإطلاق

المقام الثاني

فيما يتعلّق بالمطلق من حيث انصرافه أو وروده مورد بيان حكم آخر وعدمه.

فنقول : إنّهم ذكروا للعمل بإطلاق المطلق وحجّيّته في جميع أفراد الماهيّة ومصاديق الفرد المنتشر شرطين :

الشرط الأوّل : أن يكون المطلق متواطئاً ، وقد يعبّر عنه بأن لا يكون منصرفاً إلى بعض الأفراد دون بعض.

فليعلم أوّلا أنّ الاُصولييّن كما تبعوا المنطقيّين في اصطلاح الكلّي والجزئي كذلك تبعوهم في اصطلاح المتواطئ والمشكّك ، إلاّ أنّهم وسّعوا في الاصطلاح فوصفوا اللفظ باعتبار معناه الّذي هو من قبيل المفهوم بالكلّي والجزئي والمتواطئ والمشكّك ، لأنّهم يتكلّمون عن الأحوال العارضة لأدلّة الأحكام من حيث الدليليّة ، وأدلّة الأحكام في الغالب هي الأدلّة اللفظيّة فناسب وضع اصطلاح الكلّي والجزئي والمتواطئ والمشكّك فيما يكون من أجزاء الدليل اللفظي.

وقضيّة توسّعهم في اصطلاح المتواطئ والمشكّك أن يكون مناط التواطئ والتشكيك عندهم عين ما هو مناطهما عند المنطقيّين ، وهو تساوي أفراد المفهوم الكلّي وتفاوتها في صدقه عليها من حيث الأوّليّة والأولويّة والشدّة والضعف وغيرهما ، ولكنّهم في باب المطلقات جعلوا المناط تساوي الأفراد وتفاوتها في صدق اللفظ ودلالته ظهوراً وخفاءً ، فالمتواطئ لفظ كلّي يتساوى صدقه على جميع أفراد معناه ، وصدق اللفظ عبارة عن ظهوره وتساويه عبارة عن عدم اختصاص ظهوره ببعض الأفراد - كالشائع أو الكامل - دون بعض ، والمشكّك لفظ كلّي لا يتساوى صدقه على جميع أفراد معناه بأن يختصّ

ص: 814

ظهوره ببعض الأفراد دون بعض ، ولا كلام هنا في المتواطئ لتحقّق شرط حجّيّة إطلاقه وهو التواطئ ، بل المقصود من عقد هذا الباب هو التكلّم فيما يتعلّق بالمشكّك.

فيتكلّم تارةً : في أقسام التشكيك.

واُخرى : في أسبابه.

وثالثة : في انصراف المشكّك إلى بعض الأفراد ، على معنى كون حكم المطلق مقصوراً على البعض بحيث يكون البعض الآخر مسكوتاً عنه.

ورابعة : في وجه الانصراف أهو النقل أو الاشتراك مع اشتهاره في أحد معنييه ، أو الشهرة في المجاز المشهور ، أو الأخذ بالقدر المتيقّن دخوله في المراد من أفراد الماهيّة ، أو القرينة المفهمة أو غير ذلك؟

وخامسة : في موانع الانصراف الموجبة لإجراء الحكم في جميع الأفراد وإن كان اللفظ في ذاته مشكّكاً.

وسادسة : في بيان الأصل فيما شكّ في تواطيه وتشكيكه ، فها هنا مراحل :

بيان أقسام التشكيك

المرحلة الاُولى

في بيان أقسام التشكيك

فنقول : إنّ من أواخر الاُصوليّين من قسّم المشكّك إلى أقسام ثلاث : المشكّك بالتشكيك البدوي ، والمشكّك بالتشكيك المضرّ الإجمالي ، والمشكّك بالتشكيك المبيّن العدم.

ووجه الانقسام : أنّ الشكّ في دخول الفرد قد يزول بالتأمّل الموجب للعلم بدخوله في المراد فهو التشكيك البدوي ، وقد يستمرّ إلى أن أضرّ بإطلاق اللفظ فيصيّره مجملا فهو المضرّ الإجمالي ، وقد يرتفع بتبيّن عدم دخوله في المراد فهو المبيّن العدم.

وفي إطلاق المشكّك على ما يكون تشكيكه بدويّاً مسامحة واضحة لأوله إلى التواطئ فاللفظ معه من المتواطئ في الواقع ، على أنّ تساوي ظهور اللفظ في جميع الأفراد قد يكون ضروريّاً يعلم به بلا نظر وتأمّل ، وقد يكون نظريّاً يعلم به بعد النظر والتأمّل ، فإطلاق المشكّك على الثاني باعتبار عروض الشكّ في بدو الأمر على المسامحة لا على الحقيقة.

نعم انقسامه إلى المضرّ الإجمالي والمضرّ المبيّن العدم في محلّه ، فإنّ المطلقات باعتبار الخارج توجد على أنواع ثلاث :

منها : ما اعتبر فيه الماهيّة من حيث هي هي.

ص: 815

ومنها : ما اعتبر فيه الماهيّة من حيث تحقّقها في ضمن بعض أفرادها كالفرد الشائع مثلا.

ومنها : ما تردّد فيه الماهيّة بين اعتبارها من حيث هي هي ، وبين اعتبارها من حيث تحقّقها في ضمن الفرد الشائع.

والأوّل متواط بلا شبهة.

كما أنّ الثالث هو المشكّك بلا شبهة ، وأمّا الثاني فلا ينبغي اندراجه في المتواطئ جزماً ، فلابدّ إمّا من القول بكونه واسطة بينهما أو كونه من المشكّك ، والواسطة منفيّة بظهور تقسيم الكلّي إلى المتواطئ والمشكّك في الحصر ، فتعيّن الثاني.

مع أنّ الظهور المختصّ بالفرد أعمّ من كونه لأجل اعتبار الماهيّة من حيث تحقّقها في ضمنه ، أو لأجل كونه القدر المتيقّن ممّا دخل في المراد ، وبالتأمّل في ذلك يظهر إمكان كون ثمرة الانقسام إلى هذين القسمين ما يظهر في وجه الانصراف من كونه الأخذ بالقدر المتيقّن في المضرّ الإجمالي ، ولأجل القرينة المفهمة في المبيّن العدم ، وانتظر لتتمّة الكلام في ذلك.

بيان أسباب التشكيك

المرحلة الثانية

في بيان أسباب التشكيك

وهي على ما يستفاد من كلمة الاُصوليّين ممّا هو محلّ وفاق وما هو محلّ خلاف ثلاثة : غلبة إطلاق اللفظ وندرته ، وغلبة وجود الفرد وندرته ، وكمال الفرد ونقصانه ، ولا كلام لأحد في كون الأوّل منشأً للتشكيك وموجباً لتفاوت دلالة المطلق بالظهور فيما غلب إطلاقه عليه وعدمه فيما ندر إطلاقه عليه بل هو محلّ وفاق عندهم.

نعم ربّما يظهر منهم الاختلاف من جهة اُخرى وهي أنّ المراد من غلبة إطلاق المطلق على الفرد الموجبة للتشكيك هل هي غلبة استعماله في خصوص الفرد مجازاً ، أو غلبة إرادة الفرد منه باعتبار الماهيّة الكليّة المتحقّقة فيه من باب تعدّد الدالّ والمدلول لا باعتبار الخصوصيّة المأخوذة فيه؟

فقيل بالأوّل كما يظهر ذلك من المحكيّ عن الشهيد الثاني من التمثيل للمجاز المشهور بالمطلقات المشكّكة ، والمعروف هو الثاني.

فمرجع الاختلاف إلى أنّه هل يعتبر في المطلق المشكّك كونه مجازاً في الفرد المنصرف إليه الإطلاق أو لا يعتبر ذلك؟ وهو الّذي يساعد عليه النظر بملاحظة طريقة أهل العرف في محاوراتهم واستعمالاتهم للمطلقات متواطئة ومشكّكة ، حيث نرى المتكلّم

ص: 816

والمخاطب أنّهما يتّكلان في التفهيم والفهم والإفادة والاستفادة إلى وضع اللفظ ، فالمتكلّم يفيد به الماهيّة تعويلا على الوضع والسامع أيضاً يفهمها تعويلا عليه.

ثمّ الماهيّة المنفهمة من اللفظ من جهة الوضع تنصرف إلى الفرد الشائع المتعارف ، وحاصله أنّ الفرد الشائع المتعارف يراد من اللفظ باعتبار الماهيّة المتحقّقة فيه لا باعتبار الخصوصيّة المأخوذة فيه ، ومرجعه إلى اعتبار الماهيّة المراد من اللفظ لا من حيث هي بل من حيث تحقّقها في ضمن الفرد الشائع المتعارف ، وإنّما يفهم هذه الحيثيّة من الخارج وهو الشيوع والتعارف في الفرد المذكور من دون أن تدخل في المستعمل فيه ، فتكون غلبة الإطلاق الّتي هي المرادة من شيوع الفرد وتعارفه من باب القرينة المفهمة لا من باب القرينة الصارفة كما في الشهرة المعتبرة في المجاز المشهور.

وبذلك يفرّق بين المجاز المشهور والمطلقات المشكّكة ، ويندفع به توهّم التدافع بين اعتبارهم الغلبة في الثانية وعدم اعتبار الأكثر الشهرة في الأوّل ، فإنّ الشهرة فيه تزاحم وضع اللفظ ويصير اللفظ بتساوي احتمالي إرادة المعنى الحقيقي - كما يقتضيه الوضع - وإرادة المعنى المجازي - كما يقتضيه الشهرة - مجملا ، والغلبة في الثانية لا تزاحم وضع اللفظ ولا تسقط أصالة الحقيقة فيه عن الاعتبار ، بل الماهيّة المنفهمة من اللفظ من جهة الوضع تنصرف إلى حيث تحقّقها في ضمن الفرد الشائع لشيوعه من جهة غلبة الإطلاق عليه.

وأمّا الثاني : أعني « غلبة الوجود وندرته » فاختلف في كونه منشأً للتشكيك موجباً للانصراف وعدمه ، فقيل بالأوّل ولعلّه المعروف بين الاُصوليّين خلافاً لجماعة منهم غير واحد من مشايخنا العظام - قدّس اللّه أرواحهم - لما سمعنا منهم في مجالس مدارستهم من انكار اعتبار غلبة الوجود بانفرادها في انصراف المطلق ، وهو الّذي يساعد عليه النظر بملاحظة طريقة العرف ، بتقريب : أنّه ما من مطلق إلاّ وأفراد الماهيّة فيه مختلفة في غلبة الوجود وندرته ، ونرى أهل العرف في محاوراتهم أنّهم لا يلتفتون إلى هذا النحو من الاختلاف ولا يعتبر غلبة الوجود ، بل يجرون الأحكام المتعلّقة بالمطلقات على الماهيّة من حيث هي ومرجعه من جهة السراية إلى إجراء الأحكام على جميع أفراد الماهيّة من غير تفرقة بين الفرد الغالب والفرد النادر ، ويشهد بذلك مواضع كثيرة في الفروع على ما عليه الفقهاء فيها من إجراء الأحكام على الماهيّة من حيث هي وعدم الفرق بين أفرادها الغالبة وأفرادها النادرة ، ومن ذلك تجويزهم الطهارة عن الحدث - وضوءً وغسلا - وغسل المتنجّسات

ص: 817

بالمياه النفطيّة والكبريتيّة بلا خلاف يظهر مع ندرة وجودها بالقياس إلى غيرها.

ومنها : بناؤهم على نقض الطهارة بما يخرج من الأحداث الثلاث البول والغائط والريح من المخرج الغير الطبيعي من غير خلاف يظهر أيضاً مع ندرة وجوده.

ومنها : تصريحهم في بطلان الصوم بالأكل والشرب بعدم الفرق فيه بين أكل أو شرب ما يعتاد أكله أو شربه ، وبين أكل أو شرب ما لا يعتاد أكله أو شربه مع ندرة وجود الثاني ، من غير فرق في ذلك بين جعل الاعتياد وعدمه اللذين مناطهما غلبة الوجود وندرته في نفس المأكول أو المشروب أو في أكله وشربه ، نظراً إلى أنّ الأكل والشرب الواردين في النصوص أيضاً من المطلقات وهم لا يعتبرون الاعتياد فيهما في إبطالهما الصوم.

وبما بيّنّاه من التعميم يندفع ما عساه يسبق إلى الوهم من المناقشة في هذا المثال بمنع ندرة الوجود في أكثر ما لا يعتاد أكله وشربه من الأشياء كالحجارة والتراب وأوراق الأشجار والنباتات والأدوية والعقاقير وما أشبه ذلك ، إلى غير ذلك من المواضع الّتي يقف عليها الخبير والبصير في الفروع.

هذا كلّه في مورد انفكاك غلبة الوجود عن غلبة الإطلاق.

وأمّا في مورد اجتماعهما فلا إشكال في اعتبار الغلبة هنا وأخذها منشأً للتشكيك وموجباً للانصراف ، لكن لا من حيث إنّها غلبة وجود بل من حيث إنّها غلبة إطلاق.

وبالجملة الغلبة المعتبرة في الانصراف في محلّ الاجتماع غلبة الإطلاق لا غلبة الوجود المصادفة لها ، بل الضابط في تحقّق غلبة الإطلاق في غالب مواردها إنّما هو غلبة الوجود ، على معنى أنّ غلبة وجود فرد الماهيّة توجب غالباً عروض غلبة إطلاق اللفظ باعتبار الماهيّة على ذلك الفرد ، ولا يلزم من ذلك أن يكون لغلبة الوجود من حيث هي دخل في التشكيك والانصراف ، فليتدبّر.

وأمّا الثالث : أعني « كمال الفرد ونقصانه » فكونه منشأً للتشكيك وموجباً للانصراف معروف من أهل العربيّة ، يقولون : إنّ المطلق ينصرف إلى الفرد الكامل ، ويظهر اختياره في أواخر الاُصوليّين من صاحب هداية المسترشدين وأخيه في الفصول حيث ذهبا في بحث الأمر إلى كونه لغةً للطلب المطلق وينصرف إطلاقه إلى الوجوب لكماله ، فإنّ التعليل بظهوره يقضي بعموم اعتبار الفرد الكامل في الانصراف ، خلافاً لأكثر الاُصوليّين ومحقّقيهم فلم يعتبروه في التشكيك والانصراف ، وهو الصحيح عندي أيضاً.

ص: 818

وليس المراد بكمال الفرد ونقصانه ما هو بالنسبة إلى أصل الماهيّة لوجوب وجود الماهيّة بتمامها في الفرد على معنى كون الحصّة الموجودة في الفرد منطبقة على تمام الماهيّة فلا يعقل النقصان فيه بالنسبة إليها وإلاّ لم يكن فرداً لها ، بل المراد بهما الكمال وخلافه في العرضيّات الّتي هي من قبيل الصفات الكماليّة.

فحاصل معنى كمال الفرد استجماعه لجملة من الصفات الكماليّة ومعنى نقصانه عدم استجماعه لذلك ، كنبوّة النبيّ بالنسبة إلى الرعيّة ، وخاتميّة نبيّنا ( صلى اللّه عليه وآله ) بالنسبة إلى الاُمّة ، وإمامة الوصيّ وولايته المطلقة بالنسبة إلى سائر الاُمّة ، وعالميّة العالم بالنسبة إلى الجاهل العامّي ، وما أشبه ذلك.

ولا ريب أنّ الكمال بهذا المعنى لا يوجب التشكيك وانصراف الماهيّة المدلول عليها بالمطلق إلى حيث تحقّقها في ضمن الفرد الكامل ما لم يكن الفرد الكامل معهوداً عند المتكلّم والمخاطب ، ومجرّد الكمال المفروض فيه لا يوجب المعهوديّة ، ولذا حصروها في المفرد بلام العهد الخارجي وجعلوا أسبابها ما عدا الكمال من تقدّم الذكر والحضور والمعهوديّة في الخارج ولم يلتفتوا إلى الكمال بالمعنى المذكور.

فانحصر سبب التشكيك في المطلقات المشكّكة في غلبة الإطلاق وندرته وإن كان منشأ عروضهما غلبة الوجود وندرته ، وهو المراد من شيوعه على معنى ظهوره عمّا بين أفراد الماهيّة من « شاع » بمعنى ظهر لا انتشر ، ويمكن أن يراد من كمال الفرد في قضيّة قولهم : « المطلق ينصرف إلى الفرد الكامل » شيوعه باعتبار غلبة الإطلاق أو هي مع غلبة الوجود إن اعتبرناها فلا مخالفة في المعنى حينئذ ، وقد تقدّم منّا في الجزء الأوّل من الكتاب في مباحث الكلّيّ والجزئي ما يرتبط بالمقام وإن اشتمل على بعض من التكلّف ، فليتدبّر.

في حكم المطلق من حيث انصرافه إلى الأفراد الشائعة

المرحلة الثالثة

في حكم المطلق من حيث انصرافه إلى الأفراد الشائعة ، على معنى وجوب إجراء حكمه على الماهيّة من حيث تحقّقها في ضمن الأفراد الشائعة لا من حيث هي ليتساوى الأفراد الشائعة والنادرة ، فيكون الأفراد النادرة مسكوتاً عنها بالنظر إلى الخطاب ، وهذا هو المعروف من مذهب الاُصوليّين في كتب الاُصول المعلوم من طريقة الفقهاء في كتب الاستدلال من غير خلاف يظهر.

وفي كلام جماعة دعوى الاتّفاق عليه تارةً ونفي الخلاف عنه اُخرى ، ولم نقف على

ص: 819

نقل مخالف فيه إلاّ ما قد ينسب إلى علم الهدى السيّد المرتضى من إنكاره أصل قاعدة الانصراف في المطلقات المشكّكة ، استظهاراً له من تجويزه إزالة الخبث وتطهير المتنجّسات بالمضاف استناداً إلى إطلاق الأوامر الواردة بغسل المتنجّسات مع كون التطهير بالمضاف من نادر أفراد الغسل كما أنّ التطهير بماء الكبريت والنفط منها ، وليست في محلّها بل النسبة غفلة من ناقلها لظهور كلام السيّد في المسألة المشار إليها في [ العدول ] عن القاعدة بالنسبة إلى غسل المتنجّسات بالدليل ، وهو الإجماع الكاشف عن جعل الحكم هنا للماهيّة من حيث هي السارية في جميع الأفراد شائعة ونادرة مع إذعانه بأصل القاعدة.

وإن شئت لاحظ عين عبارته في المسألة المشار إليها ، فإنّه بعد ما جوّز التطهير بالمضاف قال : « وليس لهم أن يقولوا : إنّ إطلاق الأمر بالغسل ينصرف إلى ما يغسل في العادة ولا يعرف في العادة إلاّ الغسل بالماء دون غيره ، وذلك أنّه لو كان الأمر على ما قالوه لوجب أن لا يجوز غسل الثوب بماء الكبريت والنفط وغيرهما ممّا لم يجر العادة بالغسل به ، فلمّا جاز ذلك ولم يكن معتاداً بغير خلاف علم أنّ المراد بالخبر ما يتناوله اسم الغسل حقيقة من غير اعتبار بالعادة » انتهى (1).

وهذا كما ترى ظاهر كالصريح بل قوله : « علم أنّ المراد بالخبر » في أنّه استكشف من الإجماع على جواز الغسل بماء الكبريت والنفط وغيرهما من الأفراد النادرة عن أنّ الشارع في خصوص الغسل اعتبر الماهيّة الجارية في جميع الأفراد شائعة ونادرة وهذا يقتضي جوازه بالمضاف أيضاً ، واللازم من ذلك تخصيص القاعدة بالنسبة إلى هذا المورد لا إنكارها رأساً ، ولذا يراعيها في غير هذا الموضع كما في مسألة أكل الصائم بغير المعتاد ، لبنائه فيها على عدم كونه مفطراً ومبطلا للصوم استناداً إلى انصراف المطلق إلى أكل المعتاد.

فالفارق بين المشكّك الجاري حكمه في جميع الأفراد والمشكّك الغير الجاري إلاّ على الأفراد الشائعة أنّ كلّ مشكّك قام الدليل على اعتبار الماهيّة فيه من حيث هي فهو ممّا يجري حكمه في جميع الأفراد شائعة ونادرة تبعاً لجريان الماهيّة ، وكلّ مشكّك انصرف الماهيّة المنفهمة منه إلى حيث تحقّقها في ضمن الأفراد الشائعة فهو ممّا لا يجري حكمه إلاّ في الأفراد الشائعة ، لا بمعنى دلالته على نفي الحكم عن غيرها بل بمعنى عدم شمول حكمه لغيرها.

ص: 820


1- المسائل الناصريات - في ضمن الجوامع الفقهية ص 229 المسالة 22.

ولا ينافيه ما تقدّم في شرح « المبيّن العدم » من تبيّن عدم دخول الفرد النادر في المراد ، لكفاية انصراف الماهيّة إلى حيث التحقّق في ضمن الأفراد الشائعة في عدم دخوله في المراد ، ولا يستلزم ذلك دلالته على نفي الحكم عنه ولأجل ذلك يكون مسكوتاً عنه.

عدم جريان قاعدة الانصراف في العمومات

ثمّ إنّه لا فرق في انصراف المطلق إلى الأفراد الشائعة بين المطلق بمعنى « الماهيّة » والمطلق بمعنى « الحصّة الشائعة » وذلك لأنّ المايز بينهما على ما تقدّم في مقام التعريف أنّ المأخوذ في وضع الأوّل هي الماهيّة من حيث هي ، وفي وضع الثاني هي الماهيّة من حيث الوحدة الغير المعيّنة ، وكما أنّ الماهيّة من حيث هي المنفهمة من الأوّل تنصرف إلى حيث التحقّق في ضمن الأفراد الشائعة فكذلك الماهيّة المأخوذة من حيث الوحدة الغير المعيّنة المنفهمة من الثاني تنصرف إلى حيث التحقّق في ضمنها.

وهل قاعدة الانصراف مخصوصة بالمطلقات أو تجري في العمومات على معنى انصراف الألفاظ الدالّة على العموم بالوضع أيضاً إلى الأفراد الشائعة؟

وقد اختلفت الأنظار في ذلك وإن كان المعروف بين الاُصوليّين هو الاختصاص ، وقيل بجريانها في العمومات أيضاً حكاه الشهيد الثاني في تمهيد القواعد عن بعضهم ، ويظهر اختياره من السيّد في الرياض حيث يناقش في بعض المواضع في عموم : ( أوفوا بالعقود ) (1) بدعوى انصرافه إلى العقود المعهودة المتعارفة في زمان الصدور ، وقد يفصّل بين النادر والأندر.

ويظهر اختياره من بعض الأعلام حيث ذكر : « أنّ العمومات تحمل على الأفراد الشائعة والنادرة إن لم تكن في غاية الندرة ».

وتحقيق المقام : أنّ العامّ لفظ وضع لاستغراق الحكم لجزئيّات موضوعه وهو بهذا الاعتبار ممّا لا يتمشّى فيه الانصراف ، سواء كان هيئة مخصوصة كهيئة الجمع المحلّى باللام في قولنا : « أكرم الرجال » مثلا ، أو لفظاً تامّاً كلفظ « كلّ » مضافاً إلى نكرة في قولنا : « أكرم كلّ رجل » مثلا ، لأنّ الانصراف فرع على التشكيك وموجب التشكيك غلبة إطلاق اللفظ على فرد وندرته على غيره ، ولفظ العامّ لا يطلق على الفرد أصلا حتّى يغلب ذلك الإطلاق بالنسبة إلى فرد دون فرد ويتحقّق به التشكيك فيه من حيث إنّه عامّ ، بل يستعمل دائماً في استغراق الحكم لجزئيّات موضوعه ، فالعامّ من حيث هو عامّ وضعاً واستعمالا ممّا لا يتصوّر فيه الانصراف حيث لا يتصوّر فيه التشكيك ، وأيضاً فإنّ التشكيك من (2)

ص: 821


1- المائدة : 1.
2- القوانين 1: 224.

الأحوال العارضة للكلّي والعامّ ليس بكلّي فلا معنى للانصراف فيما ليس بكلّي.

نعم إنّما الكلام في تشخيص موضوع الحكم وهو المعنى المراد من « رجل » في مادّة « الرجال » وما اُضيف إليه « الكلّ » في المثالين ونظائرهما ، أهو الماهيّة من حيث هي هي أو الماهيّة من حيث تحقّقها في ضمن أفرادها الشائعة وهي ذوات رأس واحد من ماهيّة ذات ثبت له الرجوليّة؟ ومن الظاهر أنّه من المطلق المشكّك ، وكما أنّ كون الهيئة أو المضاف عامّاً لا ينافي كون المادّة والمضاف إليه مطلقاً مشكّكاً ، فكذلك عدم جريان الانصراف في العامّ ، من هذين الجزئين لا ينافي جريانه في المطلق منهما ، والظاهر أنّ المنكرين لجريانه في العمومات لا ينكرون ذلك لأنّه من انصراف المطلق لا العامّ ، فلو قلنا بالانصراف في « رجل » على معنى انصراف الماهيّة المنفهمة من اللفظ إلى حيث تحقّقها في ضمن أفراد ذي رأس واحد لغلبة إطلاق اللفظ عليها تبعاً لغلبة وجودها لم يناف ما قرّرناه أوّلا من عدم معقوليّة الانصراف في العمومات من حيث إنّها ألفاظ وضعت للدلالة على استغراق الحكم لجميع جزئيّات موضوعه ، إذ لا يتفاوت الحال في ذلك بين كون موضوع الحكم هو الماهيّة المأخوذة من حيث هي أو الماهيّة المتحقّقة في ضمن الأفراد الشائعة

ومن هنا ربّما يمكن جعل النزاع بين الفريقين لفظيّاً ، بأن يكون نظر المنكر إلى الجزء الأوّل من نحو المثالين المذكورين وإنكار هذا لا ينافي إذعانه بالانصراف في الجزء الثاني ، ونظر المجوّز إلى الجزء الثاني بزعم أنّه مع الجزء الأوّل كلمة أو كالكلمة الواحدة ، فليتدبّر.

وإذ قد عرفت أنّ قاعدة الانصراف من خصائص المطلقات فاعلم أنّ ها هنا أمرين ينبغي التنبيه عليهما.

الأمر الأوّل : إذا ورد دليل على مشاركة بعض الأفراد النادرة للأفراد الشائعة في الحكم فهل يجوز التعدّي والتخطّي عنه إلى البعض الآخر أو لا؟ خلاف بين السيّد والأكثر على ما نسب ، فالسيّد على الجواز ولذا جوّز تطهير المتنجّسات بالمضاف مع اختصاص دليل المشاركة بغسلها بماء الكبريت والنفط ، خلافاً للأكثر فمنعوا من التعدّي إليه ، ولذا لم يجوّز إزالة الخبث بالمضاف مع تجويزهم لها بمائي الكبريت والنفط.

والخطب في دفع مقالة السيّد في خصوص هذه المسألة سهل ، فإنّا لا نجوّز الغسل بالمضاف لخروجه عن إطلاقات الغسل بقاعدة « حمل المطلق على المقيّد » لا بقاعدة « انصراف المطلق إلى الأفراد الشائعة » فإنّ خطابات إزالة الخبث قسمان :

ص: 822

أحدهما : ما هو أمر بالغسل كقوله : « اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه ».

والآخر : ما هو أمر بالغسل بالماء كما في النصوص الكثيرة.

والأوّل : مطلق والثاني مقيّد فيحمل المطلق على المقيّد ، فإذا دلّ دليل على جواز الغسل بمائي الكبريت والنفط فلا معنى بعد الحمل المذكور للتعدّي إلى الغسل بالمضاف لأنّه ليس ماء ، هذا مع تطرّق المنع إلى صدق الغسل على استعمال المضاف حقيقة.

والكلام إنّما هو في كلّية المسألة الاُصوليّة وهو جواز التعدّي في تسرية الحكم إلى غير مورد الدليل من الأفراد الغير الشائعة ، أو وجوب الاقتصار على مورد الدليل.

والّذي يساعد عليه النظر هو التفصيل ، بأنّ المشكّك إن كان من « المضرّ الإجمالي » لكونه مردّداً بين اعتبار الماهيّة فيه من حيث هي أو من حيث تحقّقها في ضمن الأفراد الشائعة فالدليل الوارد على المشاركة في بعض الأفراد النادرة يوجب انكشاف عدم اعتبارها من حيث التحقّق في ضمن الأفراد الشائعة ، فيتعيّن كونها معتبرة من حيث هي لانتفاء الواسطة بالنظر إلى الاحتمال من اللفظ ولزمه التعدّي إلى البعض الآخر من الأفراد النادرة لأنّه أيضاً من أفراد الماهيّة.

وإن كان من « المبيّن العدم » فالدليل الدالّ على مشاركة البعض إن دلّ على المشاركة لدلالته على دخوله الموضوعي على معنى كشفه عن كون موضوع الحكم هو الماهيّة من حيث هي وهو داخل فيها لزمه التعدّي إلى البعض الآخر لأنّه أيضاً داخل في الماهيّة ، وذلك كما لو دلّ دليل على جواز السجود على حجر المغناطيس لكونه من الماهيّة الأرضيّة فيتعدّى منه إلى « حجر الحديد » لأنّه أيضاً من تلك الماهيّة.

وإن دلّ عليها من باب الإلحاق الحكمي من دون دلالة على دخوله الموضوعي فلا قاضي بالتعدّي حينئذ عن مورده إلى غيره ، كما لو دلّ دليل على جواز السجود على القرطاس المتّخذ من القطن أو الكتان أو القنب مثلا لا لكونه من الماهيّة الأرضيّة بل لإلحاق حكميّ فلا معنى للتعدّي منه إلى المتّخذ من الحرير.

ولو لم يظهر من دليل المشاركة أحد الأمرين وتردّدت بين كونها لدخول موضوعي أو لإلحاق حكمي فهل يحكم بالأوّل أو بالثاني؟ احتمالان ، أجودهما الأوّل لرجوع الشكّ إلى انصراف الماهيّة المنفهمة من اللفظ إلى الأفراد الشائعة وعدمه والظاهر يقتضي عدم الانصراف ، فتأمّل.

ص: 823

الأمر الثاني : قد يقال : إنّ الانصراف في المطلقات المنصرفة إلى الأفراد الشائعة من خواص التراكيب الكلاميّة لا من خواصّ المطلق بنفسه ، فهو في مركّب ينصرف وفي مركّب آخر لا ينصرف.

ومن أمثلته ما لو قال ( عليه السلام ) : « توضّأ بالماء » مع قوله تعالى : ( وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً ) (1) فإنّ « الماء » في الأوّل ينصرف إلى الأفراد الشائعة المتعارفة دونه في الثاني.

ومنها : ما لو قال : « لا تسجد على مأكول » مع قوله : « ايتني بمأكول » فإنّ الأوّل محمول على ما يعمّ المأكول الغير العادي بخلاف الثاني لانصرافه إلى العادي المتعارف.

ومنها : ما لو قال : « بع فرسي بالنقد » مع قوله : « تصدّق بالنقد » فإنّ الأوّل ينصرف إلى النقد الغالب في البلد وفي الثاني يجزيه غير النقد الغالب.

ومنها : ما لو قال : « اشتر لي عبداً » مع قوله في مقام الوصيّة : « أعتقوا عنّي عبداً » فإنّ الأوّل ينصرف إلى الشائع المتعارف من أفراد العبد بخلاف الثاني لإجزاء عتق غير الشائع أيضاً ، إلى غير ذلك من الأمثلة.

وفيه من الضعف المبنيّ على الخلط ما لا يخفى ، فإنّ الانصراف في المطلقات المشكّكة إنّما ثبت على سبيل القاعدة كما أشرنا إليه سابقاً ، ولا ريب أنّ القاعدة كثيراً مّا يخرج عنها لدليل أو قرينة على خلاف مقتضاها في بعض مواردها ، فما يتراءى في الأمثلة المذكورة ونظائرها من جريان الحكم في الأفراد الغير الشائعة أيضاً فإنّما لدليل أو قرينة على إناطة الحكم بالماهيّة من حيث هي السارية في جميع الأفراد شائعة وغيرها ، كالامتنان وورود النكرة في سياق النفي المفيدين للعموم ، والقرينة العرفيّة على كون المطلوب في الصدقات أو الوصايا هو إدراك الثواب المنوط بماهيّة الصدقة أو العتق مثلا ، فيحصل الإجزاء بالفرد النادر أيضاً فإنّ الثواب المعلّق على ماهيّة الصدقة لا يتفاوت فيه الحال بين الصدقة بالنقد الغالب وبين غيره ، وكذلك الثواب المعلّق على ماهيّة العتق لا يتفاوت فيه الحال بين عتق الفرد الشائع من العبد وبين عتق الفرد الغير الشائع منه.

موضوع قاعدة الانصراف هو المطلق المشكّك

المرحلة الرابعة

قد ظهر من تضاعيف كلماتنا السابقة أنّ موضوع قاعدة الانصراف هو المطلق المشكّك وأنّ الموجب للتشكيك هو غلبة الإطلاق وندرته.

ص: 824


1- الفرقان:48.د

في وجه انصراف المطلق إلى الفرد الشائع

وبقي الكلام في وجه الانصراف والعلّة الباعثة عليه ، ولقد ذكروا في ذلك وجوهاً كثيرة مع قيام بعض الاحتمالات الاُخر غيرها :

الأوّل منها : كون مبناه على النقل من الماهيّة إلى الفرد الشائع فيحمل عليه لأصالة الحقيقة ، نظير نقل « الدابّة » عن ماهيّة ما يدبّ على الأرض إلى صنف ذوات قوائم أربع أو خصوص الفرس.

الثاني : أنّ مبناه على الاشتراك بين الماهيّة والفرد مع غلبة استعماله في الفرد الموجبة لتعيينه في الإرادة على حدّ المشترك الّذي يغلب استعماله في أحد معنييه.

الثالث : انّ مبناه صيرورته مجازاً مشهوراً في الفرد فيحمل عليه لقرينة الشهرة.

الرابع : كون مبناه على وجود القرينة المفهمة وهي شيوع الفرد وغلبة إطلاق اللفظ عليه ، الموجبة لظهور الماهيّة المنفهمة من اللفظ في اعتبارها من حيث التحقّق في ضمن هذا الفرد.

الخامس : كون مبناه على الأخذ بالقدر المتيقّن ممّا دخل من أفراد الماهيّة في المراد ، لتيقّن دخوله على كلا تقديري إرادة الماهيّة من حيث هي وإرادتها من حيث التحقّق ، بخلاف الفرد النادر وهذا ما رجّحه بعض الأعلام.

السادس : أنّه في المشكّك « المضرّ الإجمالي » من باب الأخذ بالقدر المتيقّن وفي « المبيّن العدم » لأجل القرينة المفهمة.

والجميع ضعيفة أمّا أوّل الوجوه : لأنّ احتمال النقل ينفيه أصالة عدم النقل المنحلّة إلى أصالة عدم طروّ الوضع الجديد وأصالة عدم ارتفاع أثر الوضع السابق ، ويأباه ضرورة العرف القاضية بحقيقيّة استعمال اللفظ حيث يراد منه الحقيقة الاُولى وهي الماهيّة المشتركة بين الأفراد الشائعة والأفراد الغير الشائعة ، ويكذّبه كثرة المطلقات المشكّكة المنصرفة إلى الأفراد الشائعة بل في غاية الكثرة وقلّة المنقولات العرفيّة ولا سيّما ما نقل من الماهيّة الكلّية إلى الفرد ، مضافاً إلى أنّ وضع التعيّن مسبوق بغلبة الاستعمالات المجازيّة إلى حدّ يستغني عن القرينة والمعتبر في موجب التشكيك المقتضي للانصراف على ما تقدّم تفصيله هو غلبة الإطلاق الغير المتضمّنة للتجوّز في اللفظ وبينهما بون بعيد ، ومن المستحيل تحقّق المعلول وهو النقل التعيّني بدون علّته.

وتوهّم أنّ وضع التعيّن يمكن أن ينشأ من غلبة الإطلاق كما ينشأ من غلبة الاستعمال

ص: 825

يدفعه أنّ دخول الخصوصيّة في المعنى المنقول إليه وهو الفرد يقتضي أخذ تلك الخصوصيّة في الاستعمالات الغالبة الموجبة لوضع التعيّن ، وقضيّة كون هذه الاستعمالات الغالبة على وجه إطلاق الكلّي على الفرد تعريتها عن الخصوصيّة وهما متنافيان يستحيل اجتماعهما ، فيستحيل حصول وضع التعيّن من غلبة الإطلاق.

وبما قرّرناه اندفع ما سبق إلى بعض الأوهام القاصرة من التدافع بين اتّفاقهم على حمل المطلقات على الأفراد الشائعة بناءً منهم على قاعدة الانصراف ، واختلافهم في مسألة تعارض العرف واللغة بين قائل بتقديم اللغة لأصالة عدم النقل وقائل بتقديم العرف لقضاء الاستقراء بذلك وقائل بالتوقّف ، فإنّ اختلافهم هذا يقتضي اختلافهم في قاعدة الانصراف أيضاً لا اتّفاقهم عليها

ووجه الاندفاع : أنّ مقابلة العرف للغة ومغائرة المعنى العرفي للمعنى اللغوي في مسألة تعارض العرف واللغة إنّما هو من جهة النقل عن المعنى اللغوي إلى المعنى العرفيّ مع الشكّ في بدو زمان حدوثه أهو قبل زمان الشارع ليكون حقيقة زمانه هو المعنى العرفي ، أو بعد زمان الشارع ليكون حقيقة زمانه هو المعنى اللغوي؟

وقد عرفت أنّه لا نقل في المطلقات المنصرفة إلى الأفراد الشائعة فلا تندرج في عنوان مسألة تعارض العرف واللغة ليتناقض اتّفاقهم على الحمل على الأفراد الشائعة هنا واختلافهم في الحمل على المعنى العرفي ثمّة ، مع أنّه لو سلّمنا النقل فيها وجوّزنا حدوثه من غلبة الإطلاق أيضاً لدفعنا شبهة التدافع عنها بإبداء خروجها عن موضوع المسألة المتنازع فيها من جهة اُخرى أشرنا إليها وهي أنّ موضوع هذه المسألة إنّما هي المنقولات المشكوك في بدو زمان حدوث النقل فيها شكّاً يوجب جهالة حقيقة زمان الشارع.

فموضوع مسألة تعارض العرف واللغة وإن كان من المنقولات ولكن كلّ منقول ليس من موضوع مسألة التعارض ، ومنه المطلقات المنصرفة إلى الأفراد الشائعة على تقدير كون مبنى الانصراف فيها على النقل ، لوجوب كون هذا النقل متحقّقاً في زمان الشارع بملاحظة ما سنبيّنه من اشتراط الانصراف والحمل على الأفراد الشائعة في خطاب بتحقّق التشكيك - من جهة غلبة الإطلاق الموجبة له - في زمان الشارع.

وقضيّة ذلك بمقتضى فرض تحقّق النقل في زمانه معلوميّة حقيقة زمانه وهو المعنى العرفي الّذي هو الفرد الشائع ، فلا معنى للنزاع في تقديمه على اللغة وتعيّن الحمل عليه ،

ص: 826

كما هو الحال في كلّ منقول علم تقدّم حدوث النقل فيه على زمان الشارع أو تحقّقه في زمانه ، فليتدبّر.

وبما بيّنّاه ظهر فساد ما قد يضعّف احتمال النقل بأنّه لو صحّ لوجب جريان نزاعهم في مسألة تعارض العرف واللغة في المطلقات المشكّكة أيضاً ، والتالي باطل لمكان اتّفاقهم فيها على الحمل على الأفراد الشائعة وهذا ينفي النقل فيها.

وأمّا ثاني الوجوه فأوّلا : لأصالة عدم طروّ الوضع الجديد.

وثانياً : قلّة المشترك وكثرة المطلقات المشكّكة غاية الكثرة.

وثالثاً : يأباه مسبوقيّة وضع التعيّن بغلبة الاستعمالات المجازيّة مع ملاحظة أنّ المعتبر في التشكيك غلبة الإطلاق الغير المتضمّن للتجوّز ، مع أنّ في كون غلبة استعمال المشترك في أحد معنييه قرينة للتعيين كلاماً ولعلّ الأظهر المنع.

وأمّا ثالث الوجوه :

فأوّلا : لقلّة المجاز المشهور حتّى أنّه لم نجد له إلى الآن مثالا محقّقاً ، وكثرة المطلقات المشكّكة في غاية الكثرة.

وثانياً : فلما عرفت من أنّ المعتبر في التشكيك غلبة الإطلاق الغير المتضمّنة للتجوّز فلا تجتمع [ مع ] المجاز المشهور الّذي يعتبر فيه غلبة الاستعمالات المجازيّة.

وثالثاً : فلأنّه يأباه الاختلاف في تقديم المجاز المشهور مع ذهاب الأكثر إلى الوقف فيه ، واتّفاق الكلّ على حمل المطلقات المشكّكة على الأفراد الشائعة عملا بقاعدة الانصراف.

وأمّا رابع الوجوه (1) : فلأنّه لا يتمّ إلاّ في « المضرّ الإجمالي » من جهة الإجمال ، دون « المبيّن العدم » الّذي مدرك الحمل فيه على الأفراد الشائعة هو ظهور الماهيّة في حيث التحقّق [ في ضمن الأفراد الشائعة ].

وأمّا خامس الوجوه : فلأنّ القرينة المفهمة في المشتركات المعنويّة كالقرينة الصارفة في المجازات من حيث كون التصريح بخلافها مناقضاً لها ، فكما أنّه لو قال المتكلّم : « رأيت أسداً يرمي » ثمّ قال في خطاب آخر : « أنّ الّذي رأيته المفترس » كان مناقضاً لمقتضى

ص: 827


1- والظاهر وقوع سهو هنا من قلمه الشريف لأن ما ذكره هنا في الجواب عن رابع الوجود يناسب الوجه الخامس من الوجوه الستة السابقة وكذا ما اورده في دفع خامس الوجوه يلائم مع الوجه الرابع من تلك الوجوه فراجع وتأمل واللّه الهادي.

« يرمي » فكذلك لو قال بعد قوله : « أكرم رجلا هذا » مشيراً إلى « زيد » : « أردت عمراً » كان مناقضاً له ، وكذلك لو قال بعد قوله : « أعتق رقبة مؤمنة » : « أردت الكافرة أو الماهيّة المطلقة » بخلاف التصريح بدخول الأفراد النادرة أو يكون المراد الماهيّة من حيث هي لم يكن مناقضاً لغلبة الإطلاق في الأفراد الشائعة.

وبالجملة لو دلّ دليل أو قرينة على دخول الأفراد النادرة في المراد أيضاً لم يكن معارضاً للخطاب الأوّل.

وأمّا سادس الوجوه : فلما بيّنّاه في وجه ضعف خامس الوجوه (1) بالنسبة إلى ما ذكر في وجه انصراف « المبيّن العدم » من كونه لأجل القرينة المفهمة ، وهي القرينة المفهمة (2).

فليس شيء من الوجوه المذكورة بشيء ، بل الوجه في الانصراف على ما يساعد عليه النظر الدقيق هو قصور العبارة عمّا عدا الأفراد الشائعة ، إمّا لصيرورتها مجملة بسبب غلبة الإطلاق ، أو لصيرورة الماهيّة المنفهمة من اللفظ ظاهرة بسبب غلبة الإطلاق في حيث تحقّقها في ضمن الأفراد الشائعة ومن هنا صارت الأفراد النادرة مسكوتاً عنها.

وإن شئت قلت : إنّ معنى الانصراف في المطلقات المشكّكة قصور العبارة عمّا عدا الأفراد الشائعة وسببه غلبة إطلاق اللفظ ، من غير فرق بين كون التشكيك من « المضرّ الإجمالي » أو من « المبيّن العدم » فليقتصر في إجراء حكمه عليها ويتوقّف في غيرها حتّى يعلم تسرية الحكم إليه بدليل من الخارج أو بقرينة مقام ونحوه.

معمّمات حكم المطلق المشكّك

المرحلة الخامسة

في معمّمات حكم المطلق المشكّك المقتضية لجريانه في جميع أفراد الماهيّة شائعة ونادرة ، وضابطها : كلّ دليل أو قرينة عامّة أو خاصّة تدلّ على إناطة الحكم بالماهيّة أو تسريته إلى جميع أفرادها الشائعة وغيرها ، وهي على ما ذكروه اُمور كثيرة ذكر جملة منها الفريد البهبهاني في فوائده ، وجملة اُخرى السيّد في المفاتيح بعد ما نقل الجملة الاُولى عن جدّه ، وبعضاً منها غيرهما وإن كان بعضها منظوراً.

فمنها : ورود المطلق في مقام الامتنان المقتضي للعموم كقوله ( وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا ) (3) فإنّ « الماء » مع كونه نكرة تحمل على العموم لقرينة الورود للامتنان ، فكأنّه

ص: 828


1- والصواب رابع الوجوه.
2- كذا في الأصل.
3- الفرقان :48.

قال : « كلّ ماء منزل من السماء طهور » فيشمل الأفراد الشائعة وغيرها.

وفيه نظر ، إذ العموم المستفاد من مقام الامتنان ليس عموماً وضعيّاً ، بل عموم مستفاد من قرينة المقام وهو ليس كالعموم الوضعي لئلاّ يتفاوت فيه الأفراد.

والسرّ فيه : أنّه عموم يلتزم به لرفع احتمال الإبهام في لفظ « الماء » وهو أن يراد منه فرداً معيّناً عند اللّه تعالى مبهماً عند المخاطبين على حدّ قوله : « جاءني رجل » ويكفي فيه تعميم الحكم بالقياس إلى جميع الأفراد الشائعة ، فلو كان للماء المنزّل من السماء فرد نادر ولم يدخل في الحكم لم يكن منافياً للامتنان ولا لعموم المستفاد من جهته رفع احتمال الإبهام.

منها : ترك الاستفصال في مقام جواب السؤال مع قيام الاحتمال ، فإنّه أيضاً ممّا يفيد عموم الحكم لجميع الأفراد كما حقّق في محلّه فيجري في الأفراد النادرة أيضاً.

وفيه نظر ، فإنّ ترك الاستفصال وإن كان مفيداً للعموم لكن في موضوعه لا مطلقاً ، فإنّهم أخرجوا منه صوراً ككون مورد السؤال فرداً معيّناً علم به الإمام المسؤول فإنّ إطلاق الجواب حينئذ ينزّل على ذلك الفرد ولا مقتضي فيه للعموم حينئذ ، وأن يكون له فرد شائع وفرض غالب ، وهذا أيضاً ممّا ينزّل إطلاق الجواب فيه على الأفراد الشائعة والفروض الغالبة ولا تأثير لترك الاستفصال في اقتضاء العموم حينئذ أيضاً ، وإنّما يقتضي العموم فيما لو كانت أفراد الماهيّة متواطئة غير متفاوتة في الشيوع والندرة.

والسرّ فيه : أنّ ترك الاستفصال إنّما يفيد العموم لئلاّ يلزم الإضلال أو الإغراء بالجهل ممّن شأنه ووظيفته الهداية والإرشاد ، من حيث إنّه لو كانت الأفراد مختلفة في الحكم ولم يستفصل الإمام المسؤول في جوابه فربّما يجري السائل الحكم في غير موضوعه لجهله فيلزم الإضلال وهو لا يناسب مقام الهداية والإرشاد ، فوجب الحكم بأنّه ( عليه السلام ) إنّما ترك الاستفصال لعدم اختلاف الأفراد في الحكم وإلاّ كان عليه أن يستفصل حذراً عن الإضلال أو الإغراء بالجهل وهذا لا يتمّ إلاّ في المطلق المتواطئ إذ من الجائز اختلاف أفراد المشكّك في الحكم وترك مع ذلك الاستفصال اعتماداً على أنّ السائل لا يجري حكمه في الأفراد النادرة من جهة الانصراف إلى الشائعة وقصور العبارة عن غيرها ، فلا يلزم إغراء ولا إضلال لو كان الحكم مخصوصاً بالأفراد الشائعة.

ومنها : استثناء بعض الأفراد النادرة ، كأن يقول : « الغسل مزيل للنجاسة إلاّ إذا كان بماء الورد » فإنّه - بملاحظة كون الاستثناء إخراجاً لما لولاه لدخل - ظاهراً في كون الحكم

ص: 829

جارياً في جميع أفراد الماهيّة شائعة ونادرة ما عدا المخرج وإلاّ لم يكن الاستثناء إخراجاً ، ودعوى جواز كونه منقطعاً ، يدفعها : أنّ الانقطاع في الاستثناء خلاف الأصل فلا يصار إليه إلاّ لقرينة ولا قرينة هنا.

ومنها : تقييد المطلق المعلّق عليه الحكم بقيد يقتضي إخراج بعض الأفراد النادرة ، كأن يقول : « الغسل بغير ماء الورد مطهّر » فإنّه ظاهر في شمول الحكم لغير المخرج بالقيد المفروض كونه احترازيّاً ، فإنّ الاحتراز فرع على دخول المحرز عنه في موضوع الحكم ولا يكون إلاّ إذا اعتبر كونه الماهيّة من حيث هي.

ومنها : تحديد المطلق أو تعريفه مطلقاً ولو بالرسم قبل الحكم عليه ، كأن يقول : « الغسل وهو إزالة الخبث بالمائع مطهّر » أو « البيع بالنقد وهو الذهب أو الفضّة حلال » وهو أيضاً يفيد شمول الحكم لأفراد الماهيّة كلّها ولو نادرة ، لأنّ التعريف للماهيّة بالماهيّة ، وفائدته إحضار الماهيّة في ذهن السامع تنبيهاً لكون الحكم منوطاً بها.

ومنها : أن يوصف المطلق بخاصّة مركّبة هي صفة للماهيّة ، كأن يقول : « الحيض الّذي هو دم حارّ أسود أو أحمر يخرج بقوّة ودفق ناقض للطهارة » فإنّه كوصف النكرة بصفة الجنس على حدّ ما في قوله تعالى : ( وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ ) (1) يفيد عموم الحكم لكلّ ما يوجد فيه الوصف حتّى الأفراد النادرة ، ومثله ما علّق فيه الحكم على خاصّة مركّبة هي صفة للماهيّة كأن يقول : « المرأة إذا كانت مالكة أمرها تبيع وتشتري وتعتق وتشهد وتعطي مالها بما شاءت فنكاحها بغير وليّ جائز ».

ومنها : تعليق الحكم على الوصف المشعر بالعلّية ، كأن يقول : « المؤمن أو العالم يستحقّ الإكرام » فإنّه يشعر بكون علّة الاستحقاق هو الإيمان أو العلم فيفيد عمومه لكلّ من يوجد فيه العلّة ولو كان فرداً نادراً.

ومنها : تعليل حكم المطلق بعلّة مطّردة كأن يقول : « حرّمت الخمر لكونه مسكراً » فيعمّ الحرمة للأفراد النادرة أيضاً باعتبار اطّراد العلّة في الجميع.

ومنها : ما دلّ دليل خارج من إجماع ونحوه على ثبوت حكم المطلق لبعض الأفراد النادرة ، كأن يقوم الإجماع على إجزاء الغسل بماء النفط أو الكبريت ، فإنّه يوجب شمول الحكم لسائر الأفراد النادرة أيضاً ، وقد سبق منّا ما هو تحقيق الحال في ذلك.

ص: 830


1- الأنعام : 38.

في تأسيس الأصل فيما إذا دار مطلق بين كونه متواطئاً أو مشكّكاً

المرحلة السادسة

في أنّه إذا دار مطلق بين كونه متواطئاً أو مشكّكاً للشكّ في التواطؤ والتشكيك فالأصل فيه التواطؤ ، لأنّ وضع المطلقات كلّها على التواطؤ والتشكيك طار عليه ناش عن غلبة إطلاق اللفظ على بعض الأفراد ، والأصل في مقام الشكّ عدم طروّه ، ومرجعه إلى أصالة عدم حدوث غلبة إطلاق بالنسبة إليه في الاستعمالات ، مضافاً إلى أصالة عدم انصراف الماهيّة المنفهمة من اللفظ في متفاهم العرف إلى حيث التحقّق في ضمن بعض الأفراد.

ولو دار مطلق مشكّك بين « المضرّ الإجمالي » أو « المبيّن العدم » فالأصل فيه « المضرّ الإجمالي » لأنّ « المبيّن العدم » مرتبة لتشكيك متأخّرة عن مرتبة « المضرّ الإجمالي » متوقّفة على مؤنة زائدة وهي كون غلبة الإطلاق على الفرد فيه أكثر منها في « المبيّن العدم » والأصل عدم تلك الزيادة.

ثمّ إنّ العبرة في التواطؤ والتشكيك بما هو كذلك في زمان الصدور لا في غيره من الأزمنة المتأخّرة عنه ، فلو أنّ مطلقاً كان متواطئاً في زمن الصدور يجري حكمه في جميع أفراد الماهيّة وإن صار مشكّكاً فيما بعد ، ولو كان مشكّكاً في زمن الصدور لا يجري حكمه إلاّ في الأفراد الشائعة ثمّة وإن انقلب متواطئاً فيما بعده ، وحينئذ فلو وجد مشكّك لم يعلم كونه في زمان الصدور متواطئاً أو مشكّكاً ومرجعه إلى الشكّ في بدو زمان حدوث التشكيك هل هو في زمان الشارع أو فيما بعده؟ ولا ريب أنّ أصالة التأخّر يقتضي تأخّره عن زمان [ الشارع ] فيجري عليه من جهتها أحكام المتواطئ فليتدبّر.

الشرط الثاني من شرائط العمل بالإطلاق

والشرط الثاني : أن لا يكون وارداً في مقام بيان حكم آخر ، ومعنى وروده كذلك أن يكون الخطاب المشتمل عليه مسوقاً لبيان حكم آخر غير الحكم المبحوث عنه ، ولازمه أن يكون ساكتاً عن ذلك الحكم نفياً وإثباتاً ، وعلامته أنّه لو نفى ذلك الحكم في خطاب آخر لم يكن مناقضاً للأوّل.

وبالتأمّل في ذلك [ يظهر ] وجه اشتراط ذلك الشرط. فإنّ الخطاب الأوّل إذا كان ساكتاً عن الحكم المبحوث عنه فلا إطلاق له بالنسبة إليه حتّى يتمسّك به ، فنفي الحجّيّة عنه حينئذ من قبيل السلب بانتفاء الموضوع ، ومثّل له في المشهور بقوله تعالى : ( كلوا ممّا أمسكن عليكم ) (1) فإنّ الآية مسوقة لبيان الحليّة الذاتيّة لما صاده الكلب المعلّم من دون

ص: 831


1- المائدة: 4.

وقوع ذبح شرعيّ عليه لا لبيان طهارة موضع عضّ الكلب من حيث ملاقاته النجس وعدم افتقاره إلى التطهير ، فلا ينافيها حرمة أكله من حيث النجاسة العرضيّة إلى أن يغسل ، فلا يمكن التمسّك بإطلاق « كلوا » إلى آخره لاستباحة موضع عضّ الكلب من دون تطهير كما صنعه الشيخ على ما نسب إليه ومن أمثلته قوله عزّ من قائل : ( أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ) (1) فإنّه مسوق لبيان حليّة الطيّب من حيث كونه طيّباً فلا ينافيه الحرمة من حيث طروّ المغصوبيّة أو كونه مال اليتيم ، فلا يمكن التمسّك بإطلاقه لاستباحة الطيّبات المغصوبة أو مال اليتيم منها.

ونحوه ما لو قال : « لحم الغنم مباح » بالقياس إلى ما طرأه من المغصوبيّة أو الميتيّة ، ومن أمثلته أيضاً قول الطبيب للمريض : « لابدّ لك من شرب الدواء » فإنّه مسوق لمجرّد تشريع شرب الدواء للمريض على وجه الإجمال والإهمال من دون قصد إلى بيان تفصيل ما يشرب ووقت شربه وكيفه وكمّه ، فليس فيه إطلاق يتمسّك به لتجويز شرب كلّ دواء في كلّ وقت وبكلّ كيفيّة أو كلّ مقدار ، بل هذه التفصيلات كلّها أحكام لابدّ من استعلامها من خطابات اُخر غير هذا الخطاب المجمل.

ومن هنا ظهر الحال في مثل قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ) (2) و ( مَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) (3) و ( لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ) (4) وما أشبه ذلك ، فإنّها خطابات وردت لتشريع هذه العبادات على وجه الإجمال والإهمال من غير قصد تفاصيل ما يعتبر فيها وما لا يعتبر من الأجزاء والأركان والشرائط والآداب ، فلا يمكن التمسّك بإطلاقاتها للاجتزاء بكلّ ما يصدق عليه أسامي هذه العبادات في عرف المتشرّعة على القول بالأعمّ من الزائد والناقص من حيث الأجزاء والشرائط ، ومرجعه إلى أنّه ليس فيها إطلاق يتمسّك به لنفي الأجزاء والشرائط المشكوكة ، ولا لإثبات جزئيّة أو شرطيّة ما زاد على الأجزاء والشرائط المحقّقة حتّى على القول بالأعمّ ، بل تفاصيل الأجزاء والشرائط إثباتاً ونفياً أحكام اُخر يجب ورودها بخطابات اُخر ولو كانت من قبيل القواعد العامّة أو الاُصول العمليّة.

وبالتأمّل فيما ذكرناه من الأمثلة يظهر أنّ عدم الإطلاق فيما ورد في مقام بيان حكم آخر قد يكون لكونه ساكتاً عن الحكم المبحوث عنه نفياً وإثباتاً كما في : ( كُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ ) (5)

ص: 832


1- المائدة :4 و 5.
2- البقرة : 43.
3- البقرة : 185.
4- ال عمران : 97.
5- المائدة : 4.

و ( أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ) (1) ونظائرهما ، وقد يكون لكونه مجملا كما في : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ) (2) وغيرهما ، حتّى على القول بالأعمّ بناء على ما حقّقناه في مسألة الصحيح والأعمّ من أنّ القول بالصحيحة مع القول بالأعمّ سيّان في إجمال أسامي العبادات المضادّ للإطلاق غير أنّه على الأوّل مفهومي وعلى الثاني مرادي ، والمائز بين القسمين أنّ المطلق في القسم الأوّل لابدّ وأن يكون من الألفاظ الدالّة على نفس الحكم الشرعي وفي الثاني من الألفاظ الدالّة على موضوعه كأسامي العبادات.

وإن شئت قلت : إنّ مورد الشرط المذكور هو ما كان من قبيل القسم الأوّل وأمّا ما كان من قبيل القسم الثاني فهو ليس من المطلق بل هو من المجمل على حدّ « رجل » في : « جاءني رجل » فكما أنّه لا يسمّى مطلقا لكون المراد به ما يكون معيّنا عند المتكلّم مجهولا للسامع فكذلك أسامي العبادات لا يصدق عليها المطلق لكون المراد منها ما هو المعيّن عند اللّه الغير المعلوم للمكلّفين حتّى على القول بالأعمّ كما عرفت.

في حمل المطلق على المقيّد

المقام الثالث

فيما يتعلّق بالمطلق من حيث حمله في خطاب الشرع على المقيّد وعدمه فنقول : إذا ورد كلّ منهما في خطاب فأقسامهما الأوّلية ثلاث : لأنّه إمّا أن يختلف حكمهما أو يتّحد ، وعلى الثاني فإمّا أن يختلف موجبهما وهو سبب الحكم أو يتّحد.

أمّا القسم الأوّل : فكما لو قيل : « أطعم يتيما » و « اكس يتيما هاشميّا » فظهر أنّ المراد من الحكم في عنوان هذا القسم وغيره هو المحكوم به من إطلاق المصدر على معنى اسم المفعول مجازا ، وظاهر أنّ الحكم بمعنى المحكوم به عبارة عن موضوع الحكم الشرعي.

وإنّما لم يعبّر عن المقسم في التقسيم الأوّل بموضوع الحكم بل تجوّز بذكر المصدر وإرادة معنى اسم المفعول مراعاة للتغائر اللفظي بين المقسم في التقسيم الأوّل والمقسم في التقسيم الثاني ، فإنّ مصطلح الاصولي في الموضوع ليس كمصطلح المنطقي لأنّه في اصطلاح المنطقي عبارة : عمّا وضع وعيّن في القضيّة لأن يحمل عليه المحمول « كزيد » في « زيد قائم » وعند الاصوليّين عبارة عن : كلّ ما له مدخليّة في الحكم الشرعي سواء كان موضوعا منطقيّا أو محمولا منطقيّا أو شرطا للحكم أو سببا وعلّة له أو قيدا من قيود

ص: 833


1- المائدة : 4 - 5.
2- البقرة : 43.

موضوعه ، فلو قيل : « إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة » فكلّ من الظهار والعتق والرقبة والمؤمنة موضوع بهذا الاصطلاح فلو عبّر عن المقسم في التقسيم الأوّل بالموضوع لم يصحّ التقسيم للزوم تقسيم الشيء إلى نفسه وإلى غيره ، فلا جرم عبّر بالحكم للتوصّل إلى صحّة التقسيم الثاني اكتفاء بمجرّد التغائر اللفظي في مقسميهما.

ثمّ المعروف من مذهب الاصوليّين في حكم هذا القسم هو أنّ المطلق لا يحمل فيه على المقيّد بل يعمل بهما معا ، ففي المثال المتقدّم يجتزأ في الإطعام بإطعام اليتيم الغير الهاشمي عملا بالمقيّد ، ونقل عليه الاتّفاق أيضا كما عن جماعة من الخاصّة والعامّة بل قيل هذا الإجماع نقله أكثر الاصوليّين ، وهذا هو المختار لمساعدة متفاهم العرف على عدم الحمل ، فإذا عرض نحو قوله : « أطعم يتيما » و « اكس يتيما هاشميّا » على أهل العرف لا يفهمون من الأوّل إرادة الهاشمي بل يأخذون بمقتضى إطلاقه مع العمل بالمقيّد من غير نكير ، مضافا إلى شهادة العقل بذلك حيث إنّه لا مقتضى لحمل المطلق على المقيّد هنا ، فإنّ المقتضي له على ما ستعرفه هو التنافي بين مقتضي المطلق ومقتضي المقيّد وهو فرع على الوحدات الثمانية الّتي منها وحدة الموضوع بمعنى معروض الحكم الشرعي وهو هنا متعدّد ، فلا تنافي فلا مقتضي للحمل ، من غير فرق فيه بين كونهما مثبتين أو منفيّين أو مختلفين ، ولا بين اتّحاد الموجب واختلافه ، خلافا لأكثر الشافعيّة على ما نسب إليهم من التزامهم بحمل المطلق على المقيّد هنا أيضا إذا اتّحد الموجب ، بل قد يحكى ذلك عنهم مطلقا ولذا يحملون « اليد » في آية التيمّم على « اليد » في آية الوضوء ، فيعتبرون المسح من المرافق لاتّحاد الموجب فيهما وهو الحدث.

وفيه : أنّ اتّحاد الموجب لا يقضي باتّحاد الموضوع إلاّ من جهة القياس وهو باطل سيّما في موضوع الحكم الشرعي ، مع إمكان أن يقال : بأنّ موجب الحكم - بمعنى علّة جعله - في الآيتين متعدّد لأنّه في آية الوضوء رفع الحدث وفي آية التيمّم استباحة الصلاة ، ولو سلّم كونه رفع الحدث في الموضعين فمن الجائز أن يكون رافع الحدث في الوضوء غسل اليدين إلى المرفقين وفي التيمّم مسحهما إلى الزندين ولا منافاة فلا مقتضي للحمل.

نعم لو كان هناك لخصوصيّة المورد استلزام شرعي يقتضي التنافي بين مدلوليهما بأن يلزم من العمل بإطلاق المطلق ترك العمل بالمقيّد ومن العمل بالمقيّد ترك العمل بإطلاق المطلق وجب حمل المطلق على المقيّد حينئذ دفعا للتنافي ، وذلك كما لو قيل : « أعتق

ص: 834

رقبة » و « لا تملك كافرة » فإنّ الاستلزام الشرعي في نحوه ثبت بحكم ما دلّ على أنّه : « لا عتق إلاّ في ملك » فالعمل بإطلاق يقتضي الاجتزاء بعتق الكافرة وهو لا يتمّ إلاّ بعد تملّك الكافرة وهو ترك للعمل بقوله : « لا تملك كافرة » كما أنّ العمل بالمقيّد يقتضي عدم تملّك الكافرة وهو يقتضي عدم الاجتزاء بعتق الكافرة وهو ترك للعمل بإطلاق المطلق ، فلا بدّ حينئذ من الحمل بالحكم على الرقبة المطلقة بأنّ المراد منها المؤمنة.

وأمّا القسم الثاني : فهو ما اختلف موجبهما - على معنى علّة الحكم فيهما - مع اتّحاد الحكم بمعنى المحكوم به كالأمر بعتق رقبة في كفّارة الظهار وعتق رقبة مؤمنة في كفّارة القتل الخطأي الواردين في قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) (1) مع قوله الآخر : ( مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ) (2) فالمعروف من مذهب الاصوليّين من الخاصّة والعامّة المنسوب إلى أكثر المحقّقين أنّه لا يحمل المطلق على المقيّد فيه أيضا بل يعمل بهما معا ، وقيل بالحمل كما عن الشافعي أو بعض أصحابه على اختلاف في النقل.

والمعتمد هو الأوّل ، لعدم التنافي حتّى في محلّ واحد كما لو صدر من المكلّف ظهار وقتل ، نظرا إلى أنّ تعدّد السبب يقتضي تعدّد التكليف وإن اختلفا في التخيير والتعيين ، فيجب عليه تارة عتق رقبة ولو كافرة واخرى عتق رقبة مؤمنة بالخصوص ، مضافا إلى بناء العرف وطريقة أهل اللسان من عدم فهم التقييد من المطلق وإن لوحظ معه المقيّد والعمل بظاهر إطلاق المطلق من غير توقّف ، وللمخالف وجوه ضعيفة :

منها : أنّ القرآن كالكلمة الواحدة ، وعن العدّة : أنّه قد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام (3) فلو ثبت التقييد في أحد الحكمين دون آخر تحقّق الاختلاف بينهما وهو ينافي الوحدة.

وعن شرح العضدي أنّه قرّره : بأنّ كلام اللّه تعالى واحد وبعضه يفسّر ببعض.

وفيه - مع عدم جريانه في غير كلام اللّه فيكون أخصّ - : أنّ وحدة كلام اللّه أو كونه كالكلمة الواحدة إن اريد به عدم مناقضة بعضه بعضا فهو مسلّم ويدلّ عليه قوله تعالى : ( وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ) (4) وفيما نحن فيه أيضا لا مناقضة بين المطلق والمقيّد لما عرفت من عدم تنافي مدلوليهما ، وإن اريد به كون المراد من كلماته وألفاظه معنى واحدا فيجب تنزيل المطلق على معنى المقيّد ليتّحد المعنى المراد منهما فهو

ص: 835


1- المجادلة : 3.
2- النساء : 92.
3- لم نعثر عليها في الروايات.
4- النساء : 82.

واضح الفساد ، هذا مع ضعف الرواية وكونها من أخبار الآحاد الّتي لا يعمل بها في نحو المسألة.

ومنها : أنّ الشاهدين ورد مطلقا في آية الدين كقوله تعالى : ( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ) (1) ومقيّدا بالعدالة في آية الطلاق كقوله تعالى : ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (2) فاعتبر العدالة في الأوّل أيضا حملا للمطلق على المقيّد.

وفيه : منع كون اعتبارها فيه لأجل الحمل ، بل لقيام الإجماع على اعتبارها في الشهادة في جميع مواردها.

ومنها : أنّ قوله تعالى : ( وَالذَّاكِراتِ ) (3) حمل على قوله : ( وَالذَّاكِرِينَ اللّهَ كَثِيراً ) (4) من غير دليل من خارج.

وفيه - مع أنّه ليس من المطلق ومنع اختلاف الموجب فيهما - : أنّ اعتبار القيد فيه من اقتضاء العطف المقتضي للتسوية بين المعطوف والمعطوف عليه لا لأجل الحمل ، ولو سلّم كونه لأجله فهو من جهة القرينة لا مجرّد مقابلة المطلق للمقيّد.

وأمّا القسم الثالث : أعني ما اتّحد حكمهما مع اتّحاد الموجب ، فهو محلّ النزاع الآتي في وجوب حمل المطلق على المقيّد وعدمه ، ويعتبر فيه مع الشرطين المذكورين شروط اخر : أوّلها : اتّحاد المتكلّم حقيقة أو حكما بأن يكونا واردين في كلام متكلّم واحد حقيقي ككلامه تعالى أو كلام رسوله صلى اللّه عليه وآله أو كلام واحد من الأئمّة عليهم السلام ، أو حكمي كالرسول مع اللّه تعالى باعتبار كونه مبلّغا عنه ، أو واحد من الأئمّة مع اللّه تعالى أو الرسول باعتبار كونهم مخبرين عنهما ، أو كلّ واحد من الأئمّة عليهم السلام مع الآخر باعتبار كونهما حاكيين عن واحد ، فلو كانا واقعين في كلام متكلّمين متغايرين فلا يحمل مطلق أحد هما على مقيّد الآخر ، كما لو قال أحدهما لعبده : « أطعم يتيما » وقال غيره أيضا لعبده : « أطعم يتيما هاشميّا ».

والسرّ فيه : أنّ الداعي إلى الحمل إمّا كشف المقيّد في متفاهم العرف عن أنّ المراد من المطلق هو الماهيّة المقيّدة بقيده أو تنافي مدلوليهما فيحمل دفعا للتنافي ، ولا يتعقّل شيء منهما إلاّ في كلام متكلّم واحد حقيقي أو حكمي ، وقد يجعل من المتكلّم الواحد الحكمي رواة أخبارنا الّذين يروون عن أئمّتنا عليهم السلام كزرارة ومحمّد بن مسلم مثلا إذا اختلفا في الرواية بالإطلاق والتقييد.

ثانيها : أن لا يكون مبناهما على الاجتهاد ، فلو اختلف الفتوى من مجتهد بالإطلاق

ص: 836


1- البقرة : 282.
2- الطلاق : 2.
3- الأحزاب : 35.
4- الأحزاب : 35.

والتقييد في كتابيه أو في موضعين من كتاب واحد إذا تخلّل بينهما فصل معتدّ به بحيث احتمل معه تكرير الاجتهاد وتجديد النظر مع تأدية أحدهما إلى الإفتاء بالإطلاق والآخر إلى الإفتاء بالتقييد فلا حمل ، لعدم التنافي مع تعدّد الاجتهاد واختلاف مؤدّاهما.

ثالثها : كون مفادهما من الحكم الشرعي حكما تكليفيّا لا وضعيّا ، فلو ورد في خطاب : « خلق اللّه الماء طهورا » وفي آخر : « ماء البحر طهور » لا يحمل الأوّل على الثاني لعدم التنافي ، وكذلك لو قيل : « الكافر نجس » وورد أيضا : « الكافر الحربي نجس » وكذلك لو قال : « الكلب نجس » ثمّ قال : « الكلب السلوقي نجس » وما أشبه ذلك.

والسرّ في عدم التنافي : أنّ الخطاب إذا كان من القضايا الوضعيّة يدلّ في متفاهم العرف على كون الحكم الوضعي من لوازم الماهيّة فيما دلّ على الماهيّة من حيث هي أو من لوازم الحصّة الشائعة فيما دلّ عليها ، وظاهر أنّ لازم الماهيّة لا ينفكّ عن شيء من أفرادها ولازم الحصّة الشائعة أيضا لا ينفكّ عن شيء من مصاديقها ، ومن أفراد الماهيّة ومصاديق الحصّة الشائعة هو المقيّد فيكونان كالعامّ والخاصّ المتوافقي الظاهر ، كقوله : « أكرم كلّ عالم » مع قوله أيضا : « أكرم زيدا العالم » في عدم التنافي المقتضي للعمل بعموم العامّ في جميع الأفراد فيكون المقيّد كالخاصّ في كونه تأكيدا ونحوه ، وكذا الكلام فيما لو كان المطلق وضعيّا والمقيّد تكليفيّا كأن يقول : « الكافر نجس » مع قوله : « اغسل ما يلاقي الكافر الحربي ، أو لا تأكله أو لا تشربه » وما أشبه ذلك.

رابعها : أن يكون الحكم التكليفي فيهما طلبيّا ، فلا حمل في المطلق والمقيّد المحكوم عليهما بالحليّة أو الإباحة كقوله : ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (1) مع قوله : « بيع السلم حلال » وقوله : « أبحت لكم أكل تربة الحسين عليه السلام للاستشفاء » مع قوله : « أكل تربة قبر الحسين عليه السلام للاستشفاء مباح » لما ظهر وجهه في الحكم الوضعي ، فإنّ الحليّة والإباحة أيضا إذا حكم بهما على الماهيّة أو الحصّة الشائعة كانا من لوازمهما فلا تنفكّان عن شيء من الأفراد والمصاديق.

وهل يعتبر في الحكم التكليفي الطلبي فيهما كونه إلزاميّا وهو الإيجاب لا غيره وهو الندب والاستحباب فيكون ذلك خامس الشروط ، فلا يحمل المطلق من المندوبين على المقيّد منهما كما لو قال : « اغتسل للجمعة » مع قوله : « اغتسل للجمعة بماء الفرات » ونحوه لو قال : « زر الحسين عليه السلام » ثمّ قال : « زر الحسين عليه السلام يوم عرفة » ونحو هما قوله : « أعتق رقبة »

ص: 837


1- البقرة : 275.

وقوله : « أعتق رقبة مؤمنة » عند قيام قرينة الندب في أمريهما فيعمل بإطلاق المطلق ويحمل المقيّد على الأفضليّة ونحوها ، أو لا يعتبر ذلك فلا يتفاوت الحال في الحمل على القول بوجوبه بين الإيجابين والندبين فالمندوبات أيضا يحمل مطلقاتها على مقيّداتها؟ ففيه خلاف :

فقيل بالأوّل ونسب إلى الفوائد المليّة ، وقيل بالثاني واختاره صاحب المفاتيح وبعض الفضلاء وبعض الأعاظم في الفصول والإشارات ، وهذا هو الحقّ الّذي لا محيص عنه ، فإنّا لا نعقل فرقا في نحو : « أعتق رقبة » و « أعتق رقبة مؤمنة » بين كون طلبيهما الإيجاب أو الندب في وجوب حمل الأوّل على إرادة « المؤمنة » فإن كان الموجب له على تقدير الإيجاب فهم العرف من غير نظر إلى التنافي فهو قائم على تقدير الندب أيضا ، وإن كان حكم العقل من جهة التنافي دفعا له فهو حاصل على التقديرين ، ضرورة عدم الفرق في تنافي التخيير والتعيين بين الايجابين والندبين ، إذ التنافي حاصل بين الطلب التخييري الّذي هو مقتضى المطلق ولو بضميمة حكم العقل والطلب التعييني الّذي هو مقتضى المقيّد من غير مدخليّة لإيجابيّة الطلب ولا ندبيّته فيه.

مضافا إلى أنّ المانع من الحمل إن كان تعدّد الحكم بمعنى المحكوم به فالمفروض اتّحاده ، وإن كان تعدّد الموجب بمعنى علّة الحكم الشرعي فيهما فالمفروض اتّحاده ، وإن كان تعدّد المتكلّم فالمفروض اتّحاده حقيقة أو حكما ، وإن كان كون مؤدّاهما الحكم الوضعي أو الحكم التكليفي الغير الطلبي فالمفروض كونه الحكم التكليفي الطلبي.

والفارق بينه وبين الأوّلين أنّ كلاّ من الأوّلين كما بيّنّاه إذا تعلّق بالمطلق بمعنى الماهيّة من حيث هي أو بمعنى الحصّة الشائعة كان لازما للماهيّة أو الحصّة الشائعة فلا ينفكّ عن شيء من أفراد الماهيّة الّتي منها المقيّد ولا عن شيء من مصاديق الحصّة الشائعة الّتي منها المقيّد ، فيكون المطلق والمقيّد حينئذ بمنزلة العامّ والخاصّ المتوافقي الظاهر اللذين لا تنافي بينهما فيعمل بعموم العامّ ويجعل الخاصّ تأكيدا أو لبيان الأهمّيّة ونحوها ، بخلاف الحكم التكليفي الطلبي ولو ندبا فإنّه إذا تعلّق بالماهيّة أو الحصّة الشائعة يقتضي امتثالا بإيجاد الماهيّة أو الحصّة الشائعة الّذي لا يتأتّى إلاّ بإيجاد الفرد أو المصداق ، وإذا تعدّدت الأفراد والمصاديق وتساوتا بالنظر إلى الماهيّة أو الحصّة الشائعة - حيث انتفى قرينة العهد ودليل التعيين - وقع التخيير بينها بحكم العقل لئلاّ يلزم الترجيح من غير مرجّح أو لاستحالته (1).

ص: 838


1- كذا في الأصل.

ولقد عرفت أنّ هذا التخيير لا يتفاوت فيه الحال بين كون الطلب المتعلّق بالماهيّة أو الحصّة الشائعة إيجابيّا أو ندبيّا.

لا يقال : إنّ الحمل مشروط بوحدة التكليف وهي في المندوبات غير محرزة ، لجواز تعدّد التكليف ومعه يرتفع التنافي فلا موجب للحمل.

لأنّ وحدة التكليف تحرز بظهور الخطابين خصوصا مع وحدة الموجب فلا يلتفت إلى احتمال التعدّد ، سواء اريد به في نحو : « أعتق رقبة » و « أعتق رقبة مؤمنة » استحباب عتق رقبة مطلقة ولو في ضمن كافرة واستحباب عتق رقبة مؤمنة بخصوصها على وجه يتعدّد معه الطلب والمطلوب والإتيان امتثالا للتكليفين ، أو استحباب عتق رقبة مطلقة واستحباب إيقاعه في ضمن « المؤمنة » الّذي قد يقال له : المستحبّ في المستحبّ ، والفرق بينه وبين سابقه كفاية إتيان واحد في امتثال التكليفين إذا أتي بعتق رقبة في ضمن المؤمنة فيه دون سابقه ، فإنّ كلاّ من الوجهين خلاف ظاهر الخطابين خصوصا ثانيهما الّذي مرجعه إلى تقييد المستحبّ الثاني بكون محلّه المستحبّ الأوّل.

لا يقال : إنّ الموجب للحمل إنّما هو دوران الأمر بين التقييد في المطلق والمجاز في المقيّد بحمل الأمر فيه على الاستحباب أو التخيير وهذا منتف في المندوبات ، لأنّ المجاز بجعل الأمر في المقيّد - بل المطلق أيضا - للاستحباب لازم على تقديري الحمل وعدمه فلا دوران بين التقييد والمجاز حتّى يقدّم عليه التقييد بحمل المطلق على المقيّد فلا موجب للحمل ، ومعه يعمل بإطلاق المطلق ويحمل المقيّد على الأفضليّة.

لأنّ دوران الأمر بين التقييد والمجاز ووقوع التعارض بينهما إنّما هو لتنافي مقتضي المطلق مع مقتضي المقيّد إذ لولاه لعمل بهما من غير حمل ، وهذا التنافي لا يرتفع بالتجوّز في الأمر بإرادة الاستحباب.

غاية الأمر حينئذ أنّه يوجب دوران الأمر بين التقييد وحمل الأمر في المقيّد على الأفضليّة بتجريده عن الطلب ليكون إرشادا إلى مزيّة في هذا الفرد باعتبار الخصوصيّة على سائر أفراد الماهيّة ، وهو ارتكاب خلاف ظاهر في خلاف ظاهر فيرجّح عليه التقييد بحمل المطلق على المقيّد ، فتأمّل.

غاية ما في الباب أنّه يغلب في المندوبات جعل الأمر الندبي في المقيّد للأفضليّة بمعونة القرائن الخارجة وهو خارج عن المبحث ، كما أنّه يخرج عن المبحث أيضا ما ثبت

ص: 839

بمعونة قرينة أو دليل خارجي كون الأمر الاستحبابي في المطلق للتكرار الّذي يندرج فيه الإتيان بالمقيّد ، كما لو ثبت استحباب التطوّع بركعتين في كلّ وقت وزمان يسعهما مع ورود استحباب التطوّع بالصلاة في يوم الجمعة ، فإنّه يعمل بعموم الأوّل ويحمل الثاني على الأفضليّة كما في العامّ والخاصّ المتوافقي الظاهر ، [ و ] لو بدّل قيد « يوم الجمعة » بقيد مكاني ككونه : « في المسجد » لا مناص من الحمل لمكان التنافي بين إطلاق كلّ مرّة من المرّات المتكرّرة بالقياس إلى أجزاء المكان وبين المقيّد بالمكان الخاصّ.

وخامسها : وحدة التكليف ، ونعني به وحدة المجموع من الطلب والمطلوب الّذي هو المكلّف به ، فلا ينافيه تعدّد أصل الطلب على حسب تعدّد الخطاب من دون تعدّد المطلوب لأنّه مبنيّ على التأكيد ومحمول على كون الثاني مثلا مؤكّدا للأوّل كما في نحو : « صلّ الظهر صلّ الظهر ».

ثمّ لا ينبغي الإشكال والاسترابة في كون وحدة التكليف بالمعنى المذكور معتبرة في محلّ النزاع الآتي شرطا في حمل المطلق على المقيّد ، إذ مع تعدّده الّذي معياره بقرينة المقابلة تعدّد المطلوب والمكلّف به المقتضي لتعدّد الامتثال والأداء - أحدهما طلب الماهيّة المطلقة على وجه التخيير ، والآخر طلب الماهيّة المقيّدة على وجه التعيين - لا معنى للحمل ، لانتفاء التنافي وعدم البيانيّة في متفاهم العرف. وإنّما الإشكال في طريق إحراز وحدة التكليف فهل هو الدليل من الخارج من إجماع وغيره ممّا يقضي بها ، ومنه اتّحاد موجبهما فإنّه يقضي بوحدة التكليف كما أنّ تعدّد الموجب يقضي بتعدّد التكليف خاصّة ، فلا بدّ في مقامات حمل المطلق على المقيّد من التحرّي في طلب الدليل على الوحدة ثمّ الحمل بعد وجدانه ولو لم يوجد فلا حمل ، أو أنّه يحرز بنفس الخطابين أيضا؟

ويظهر الثمرة في المطلق والمقيّد المرسلين اللذين لم يعلم فيهما الموجب وعلّة الحكم كما لو قال : « أعتق رقبة » « أعتق رقبة مؤمنة » من دون بيان لعلّة الحكم ، فإنّ موارد حمل المطلق على المقيّد لا تنحصر فيما علم موجبهما واتّحاده ، فكلّ مطلق ومقيّد علم وحدة التكليف فيهما بدليل من الخارج أو بملاحظة اتّحاد الموجب فلا إشكال في كونه من محلّ النزاع الآتي ، وكلّما علم تعدّد التكليف فيهما فلا إشكال في خروجه عن محلّ النزاع لعدم حمل المطلق على المقيّد حينئذ ، وكلّما لم يعلم فيهما وحدة التكليف وتعدّده فهل ينساق في متفاهم العرف بأنفسهما وحدة التكليف كما ينساق ذلك ممّا لو قال المولى : « اشتر

ص: 840

اللحم » ثمّ قال : « اشتر لحم الغنم » أو قال : « ائتني بالماء » ثمّ قال : « ائتني بالماء البارد » ونحوه قول الطبيب للمريض : « اشرب السكنجبين » مع : « اشرب السكنجبين من العسل » أو لا؟ ولا يخلو المقام عن إشكال.

ويمكن بناء المسألة على أنّ الموجب لحمل المطلق على المقيّد إن كان حكم العقل بملاحظة تنافي مدلوليهما فلا حمل مع عدم العلم بوحدة التكليف لعدم معلوميّة التنافي ، فلا يحكم العقل بإرادة المقيّد من المطلق فيما اخذ بظاهر وضع الخطابين هيئة ومادّة المقتضي لتعدّد كلّ من الطلب والمطلوب ، وإن كان فهم العرف على معنى انفهام كون المقيّد في متفاهم العرف بيانا للمطلق كاشفا عن حقيقة المراد منه وهو الماهيّة المقيّدة ، فهو فرع على فهم وحدة التكليف من نفس الخطابين لابتناء البيانيّة الّتي هي عبارة اخرى للحمل عليها ، وهذا هو الأظهر وعليه طريقة العلماء قديما وحديثا في مقامات حملهم المطلق على المقيّد حيث لم نقف منهم على أحد أنّه قبل الحمل تحرّى في طلب الدليل على وحدة التكليف ، وهذا يكشف عن كونها ممّا يحرز بنفس الخطابين وينساق في متفاهم العرف على حدّ ما في الأمثلة العرفيّة المتقدّمة ونظائرها فليتدبّر.

أقسام المطلق والمقيّد

ثمّ إنّهما إذا اجتمعا الشروط المتقدّمة بأسرها فإمّا أن يكونا مثبتين أو منفيّين أو مختلفين ، فالأقسام أيضا ثلاثة تذكر في مقامات ثلاث :

المقام الأوّل : في المختلفين كقوله : « أعتق رقبة » في كفّارة الظهار ، مع قوله : « لا تعتق كافرة » في كفّارة الظهار ، وفي معناه : « يحرم عتق الكافرة في كفّارة الظهار » وفي معناهما : « لا يصحّ عتق الكافرة » فالمعروف في حكم هذا القسم من غير خلاف يظهر وجوب حمل المطلق على المقيّد ، بل الظاهر أنّه محلّ وفاق بل في كلام بعضهم نقل الاتّفاق عليه ، ووجهه التنافي فإنّ مقتضى إطلاق المطلق بضميمة حكم العقل جواز الاجتزاء بعتق الكافرة ومقتضى المقيّد في نحو المثالين الأوّلين حرمة عتق الكافرة وهو يناقض جواز الاجتزاء به ، كما أنّه في المثال الأخير عدم صحّة عتق الكافرة وهو يناقض جواز الاجتزاء به فيحكم على المطلق بإرادة المؤمنة دفعا للتنافي.

ومن أمثلة هذا القسم ما لو قال : « لا تعتق في الظهار رقبة » أو « لا يصحّ في الظهار عتق الرقبة » مع قوله : « أعتق في الظهار رقبة مؤمنة » فيحكم على المطلق بإرادة الكافرة دفعا للتنافي. وبالتأمّل في أمثلة هذا القسم يعلم أنّ إطلاق حمل المطلق على المقيّد هنا

ص: 841

مسامحة واضحة ، لأنّه حمل له على ما يضادّ المقيّد [ لا ] على نفس المقيّد.

وقد يذكر من أمثلة هذا القسم ما لو قال : « أعتق رقبة » مع قوله : « لا يجب عتق الكافرة » والظاهر أنّ مبناه على جعل المنفيّ في جانب المقيّد ماهيّة الوجوب المتناولة للعيني والتخييري.

ولا ريب أنّ نفيها في المقيّد ينافي التخيير المستفاد من المطلق فوجب حمله على إرادة المؤمنة دفعا للتنافي.

وفيه : منع واضح لأنّا لو سلّمنا توجّه النفي في المقيّد إلى ماهيّة الوجوب لا إلى خصوص العيني منه إمّا لكونه حقيقة فيه كما قيل أو لانصراف إطلاقه إليه في قول آخر ، نمنع منافاته لمقتضى المطلق ، فإنّ التخيير المستفاد منه من جهة العقل ليس تخييرا طلبيّا يقال له : الوجوب التخييري لا شرعا ولا عقلا.

أمّا الأوّل : فلضرورة أنّ الشارع لم ينشئ بالنسبة إلى أفراد الماهيّة طلبا لا عينا ولا تخييرا بل إنّما أنشأ بالنسبة إلى نفس الماهيّة طلبا عينيّا.

وأمّا الثاني : فلوضوح انّ حكم العقل في أفراد الكلّي المأمور به ليس هو التخيير الطلبي وهو أن يخاطب المكلّف ويقول : « افعل هذا أو هذا » بل هو تخيير إرشادي ومحصّله إرشاد المكلّف إلى جواز الإتيان بأيّ فرد يختاره في امتثال الأمر بالماهيّة ، فيكون حاصل معناه في المثال المتقدّم جواز الاجتزاء بعتق الكافرة ولا ريب أنّه لا ينافيه نفي ماهيّة الوجوب في جانب المقيّد.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ الحمل في نحو : « أعتق رقبة » و « لا تعتق كافرة » وما في معناه مثل : « يحرم عتق الكافرة » مبنيّ على اقتضاء النهي واستلزام الحرمة الفساد ليكون مدلول المقيّد فساد عتق الكافرة و [ هو ] ينافي جواز الاجتزاء به الّذي هو مقتضى المطلق ، وكذا الكلام في نحو : « صلّ » و « لا تصلّ في الدار المغصوبة » إذ على القول بعدم الاقتضاء والاستلزام لا موجب للحمل من جهة أنّ مدلول المقيّد حينئذ حرمة عتق الكافرة ، وهو لا ينافي جواز الاجتزاء به عملا بإطلاق المطلق.

لا يقال : هذا إذا قدّرنا كون التنافي بينهما في الحكم الوضعي ، وإن قدّرناه في الحكم التكليفي فالتنافي حاصل ، ضرورة منافاة الحرمة جواز الاجتزاء به فيجب الحمل دفعا لهذا التنافي ، لعدم كون جواز الاجتزاء في جانب المطلق جوازا تكليفيّا شرعيّا مرادفا للإباحة ،

ص: 842

لما عرفت من أنّ الشارع في الأمر بالكلّيّات لا يتعرّض الأفراد أصلا ولا ينشئ بالنسبة إليها حكما طلبيّا ولا إباحيّا ، بل هو جواز عقلي إرشادي وضعي مرادف للصحّة والإجزاء.

وحاصله : أنّ العقل بملاحظة أفراد الكلّي وعدم ترجيح بعضها على بعض يحكم بكفاية كلّ منها في امتثال الأمر بالماهيّة من جهة انطباقه عليها وموافقته لها ، ولا ريب أنّ الكفاية من جهة الانطباق لا ينافيه الحرمة.

فإن قلت : هذا كلّه منع للتنافي بين مدلول المقيّد ومقتضى المطلق ، و [ ذلك ] لا ينافي حمل المطلق على المقيّد في المختلفين لموجب آخر وهو فهم العرف لا حكم العقل المنوط بتنافي المدلولين على معنى انفهام كون المقيّد بيانا للمطلق ، ولذا صار بعض الأعلام في مسألة دلالة النهي عن العبادة على فساد المنهيّ عنه إلى الدلالة عرفا لا عقلا من جهة عدم التنافي.

قلت : هذا لا ينافي ما بيّنّاه من أنّ حمل المطلق على المقيّد في المختلفين مبنيّ على القول باقتضاء النهي فساد المنهيّ عنه بل يؤكّده ، فإنّ القائل بالفساد في مثل : « لا تعتق كافرة » وكذلك : « لا تصلّ في الدار المغصوبة » قبالا لقوله : « أعتق رقبة » و « صلّ » يحمل المطلق على المقيّد سواء كان الموجب للحمل عنده حكم العقل بملاحظة التنافي أو فهم العرف ، وقضيّة ذلك أن لا يقول منكر دلالة النهي على الفساد بالحمل هنا.

ومن ثمّ قد يتوهّم التدافع بين إطباقهم على حمل المطلق على المقيّد في المختلفين واختلافهم في دلالته على الفساد على أقوال ومثّلوا المحلّ النزاع بقوله : « صلّ » و « لا تصلّ في الدار المغصوبة » وبملاحظة اختلافهم في المعاملات أيضا كان « أعتق رقبة » و « لا تعتق كافرة » من محلّ النزاع ثمّة أيضا ، لأنّ العتق من قبيل المعاملة فكيف يجامع اختلافهم ثمّة في اقتضاء النهي الفساد وعدمه لاتّفاقهم على حمل المطلق على المقيّد هنا المبنيّ على اقتضائه الفساد.

وهذا الإشكال في الحقيقة يتوجّه إلى منكري اقتضاء النهي في العبادات والمعاملات لا إلى قائليه.

ويمكن الذبّ : بأنّ الحمل حكم كبروي مبنيّ على التنافي واختلافهم في مسألة النهي واقع في الصغرى ، وظاهر أنّ الاتّفاق على الكبرى وهو حمل المطلق من المختلفين على مقيّدهما لأجل التنافي لا ينافي الاختلاف في دلالة النهي في المقيّد على الفساد وعدمه تحقيقا للتنافي وعدمه.

ص: 843

ويزيّفه : أنّ الاتّفاق على الكبرى الّذي لا ينافيه الاختلاف في الصغرى هو مثل الاتّفاق على حدوث كلّ متغيّر مع الاختلاف في كون العالم متغيّرا أم لا ، والاتّفاق على جسميّة كلّ حيوان مع الاختلاف في كون الجنّ حيوانا وعدمه ، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل بل هو اتّفاق على النتيجة لاندراج الأصغر في الأوسط ضرورة أنّه اتّفاق على الحمل في المختلفين لأجل التنافي ، وهذا نظير ما لو فرض في المثالين الاتّفاق على حدوث العالم لأنّه متغيّر وعلى جسميّة الجنّ لأنّه حيوان.

ولا ريب أنّ الاختلاف في الصغرى حينئذ ينافيه.

والسرّ فيه : أنّ الاتّفاق على الحمل في المختلفين تعليلا بالتنافي في معنى الاتّفاق على التنافي ، وهو في معنى الاتّفاق على دلالة النهي في المقيّد على الفساد ، ومعه كيف يعقل الاختلاف في مسألة النهي في العبادات والمعاملات في دلالة النهي على الفساد وعدمها؟

وبما قرّرناه لا مجال لأحد أن يقول : بأنّ القضيّة في مقام الحمل شرطيّة وظاهر أنّ الاتّفاق على الشرطيّة لا ينافيه الاختلاف في الشرط ، وهذا كما لو فرض في المثالين اتّفاقهم على حدوث العالم على تقدير كونه متغيّرا وعلى جسميّة الجنّ على تقدير كونه حيوانا ، ففيما نحن فيه أيضا يفرض الاتّفاق على المختلفين على تقدير التنافي ، لأنّه خلاف ما يستفاد من كلماتهم في باب حمل المطلق على المقيّد فإنّها بين صريحة وظاهرة في تعليل الحمل بالتنافي المقتضي لكونه مفروغا عنه متسالما فيه.

ويمكن الذبّ عن الإشكال بطريق آخر وهو أن يقال : إنّ الاتفاق على الحمل في المختلفين لا يراد منه ما يدخل فيه منكروا دلالة النهي على الفساد في مسألة النهي عن العبادات والمعاملات ، بل ما يدخل فيه منكروا حمل المطلق على المقيّد في المثبتين على ما ستعرفه من أنّ الحمل فيهما مختلف فيه ، وكما يراد من الاتّفاق على عدم الحمل في المنفيّين - كما تعرفه - ما يدخل فيه الفريقان في المثبتين فكذلك يراد من الاتّفاق على الحمل في المختلفين ما يدخل فيه الفريقان في المثبتين ، ومن المعلوم أنّ الاتّفاق بهذا المعنى لا ينافيه خروج منكري دلالة النهي على الفساد في مسألة النهي في العبادات والمعاملات كما هو واضح.

المقام الثاني : في المنفيّين كقوله : « لا تعتق رقبة » و « لا تعتق رقبة كافرة » والمذكور في مختصر الحاجبي والمعالم وغيرهما من كتب الاصول التمثيل له بقوله : « لا تعتق مكاتبا »

ص: 844

و « لا تعتق مكاتبا كافرا » ولا نرى للخصوصيّة وجها.

وقد أطبقوا في هذا القسم على عدم حمل المطلق على المقيّد لعدم التنافي.

والسرّ فيه : أنّ النفي المتعلّق بالمطلق بمعنى الماهيّة أو الحصّة الشائعة يفيد عموم السلب ، وفي نحو المثالين يفيد عموم الحرمة لجميع أفراد الماهيّة ومصاديق الفرد المنتشر والمقيّد موافق له بالنسبة إلى مورده ، وقضيّة الموافقة عدم التنافي فيعمل بهما معا.

نعم لو اعتبر المفهوم في جانب المقيّد من جهة الوصف حصل التنافي بين مدلول المقيّد من حيث المفهوم ومدلول المطلق من حيث المنطوق فيتعارضان في نحو المثالين في : « عتق الرقبة المؤمنة » أو « المكاتب المؤمن » لقضاء منطوق المطلق بحرمته ومفهوم الوصف في المقيّد بنفي حرمته ، وحينئذ لا مناص من الحمل بتقييد المطلق أيضا بالكافرة ، غير أنّ مبنى كلام القوم على عدم اعتبار مفهوم الوصف لعدم كونه حجّة إلاّ على قول ضعيف ، نعم حيث [ ثبت ] اعتباره بالقرينة فلا كلام في الحمل.

وقد اعترض العضدي على مثال القوم بأنّه من تخصيص العامّ نظرا إلى عموم النكرة المنفيّة لا من تقييد المطلق فيكون خارجا عن موضوع المسألة ، يعني لو كان هنا حمل لكان من تخصيص العامّ لكون النكرة في سياق النفي مفيدة للعموم.

ويزيّفه : أنّه تخصيص من جهة نشأ من التقييد من جهة اخرى.

وتوضيحه : أنّ العموم المستفاد من النكرة المنفيّة ليس مدلولا لنفس النكرة الّتي هي من المطلق ، ولا مستعملا فيه لفظها لينقلب المطلق عامّا ويخرج بسببه عن كونه مطلقا ، فإنّ العموم على ما بيّنّاه مرارا عبارة عن استغراق الحكم لجميع جزئيّات موضوعه ، وهذا ممّا يفيده الهيئة التركيبيّة الحاصلة من ورود النفي على المطلق ، وموضوع الحكم هو الماهيّة أو الحصّة الشائعة المرادة من النكرة في هذا التركيب ، فهي مع العموم المذكور باقية على كونها مطلقا ولم ينقلب عامّا بل العامّ هو الهيئة التركيبيّة والمطلق من مفردات ذلك المركّب ، ومن ذلك علم أنّه لو حمل « الرقبة » أو « المكاتب » في نحو المثالين على الماهيّة أو الحصّة الشائعة المقيّدة بالكفر كان ذلك الحمل بالنسبة إلى المفرد - وهو المطلق - تقييدا وبالنسبة إلى الهيئة التركيبيّة الّتي هي العامّ تخصيصا ، فلا حاجة حينئذ إلى العدول عن مثال القوم إلى التمثيل بقولنا : « لا تعتق المكاتب » و « لا تعتق المكاتب الكافر » مع تقييده بعدم قصد الاستغراق بل جعله من العهد الذهني كما صنعه المصنّف ليمسّ الحاجة لتصحيحه وإصلاح

ص: 845

ما أورد عليه أيضا إلى ارتكاب تكلّفات ركيكة وتمحّلات باردة.

المقام الثالث : في المثبتين كقوله : « أعتق رقبة » و « أعتق رقبة مؤمنة » ويتكلّم فيه تارة في وجوب حمل المطلق على المقيّد وعدمه ، واخرى في كون المقيّد حينئذ بيانا للمطلق سواء اقترنا أو تقدّم المطلق أو المقيّد أو ناسخا إن تأخّر ، فها هنا مرحلتان :

المرحلة الأولى : في أصل وجوب الحمل وعدمه.

فنقول : إنّ المعروف بين الأصوليّين وجوبه ، ومعناه الحكم على [ المطلق ] بأنّ المراد به الماهيّة أو الحصّة المقيّدة بقيد المقيّد.

وعن جماعة من العامّة والخاصّة كالعدّة والنهاية والمنية والزبدة الإجماع عليه وهو الحقّ الّذي لا محيص عنه ، لنا وجهان :

أحدهما : فهم التقييد إذا عرضا على أهل العرف كفهمهم التخصيص من العامّ والخاصّ المتنافي الظاهر حيث عرضا عليهم.

وثانيهما : أنّهما دليلان تعارضا فيجب الجمع بينهما بإرجاع التأويل إلى أحدهما ، وهو دائر بين تقييد المطلق والتجوّز في المقيّد بحمل أمره على الندب أو على الوجوب التخييري ، بمعنى وجوب عتق المؤمنة على أنّه أحد فردي الواجب التخييري والفرد الآخر هو الماهيّة من حيث هي بناء على صحّة التخيير بين الكلّي وفرده أو هي من حيث وجودها في ضمن الفرد الآخر وهو الكافرة ، فيؤول الأمر الى تعارض الأحوال من مسألة دوران الأمر بين التقييد والمجاز.

ولا ريب أنّ التقييد أرجح وأولى ، لأنّ مرجع دوران الأمر بينهما إلى تعارض الظاهر والأظهر ، فإنّ الأمر أظهر في الوجوب أو الوجوب العيني من المطلق في الماهيّة من حيث هي أو الحصّة الشائعة المقتضية لجواز الاجتزاء بأيّ فرد كان.

والسرّ فيه : أنّ ظهور الأوّل وضعيّ أو عرفيّ من جهة الانصراف وظهور الثاني عقلي من جهة السكوت عن ذكر القيد في معرض البيان.

والأوّل أقوى فيكون الأمر من جهته أظهر ، ومن الواجب تقديم الأظهر على الظاهر عند التعارض.

والمذكور في كلام جماعة كالنهاية والتهذيب والمنية والقواعد الشهيديّة وغاية المأمول والمعراج وشرح المختصر للعضدي والإحكام أنّه جمع بين الدليلين ، لأنّ العمل بالمقيّد

ص: 846

يلزم منه العمل بالمطلق والعمل بالمطلق لا يلزم منه العمل بالمقيّد لصدقه مع غيره ، وكأنّ بناؤه على مقدّمة مطويّة لا يتمّ بدونها وتقديره : أنّه جمع بين الدليلين [ و ] هو أرجح وجوه الجمع.

وبهذا التوجيه يندفع ما اعترض عليه : بأنّ الجمع بين الدليلين بمجرّده لا يعيّن الحمل والتقييد ، لإمكانه بطرق آخر من حمل الأمر في المقيّد على الندب فيكون أفضل الفردين أو على الوجوب التخييري ، فلابدّ من بيان المرجّح والدليل خلو عنه.

لمنع خلوّه عن بيان المرجّح. غاية الأمر أنّه لم يصرّح به في متنه ، وغاية ما هنالك أنّه قاصر عن إفادة المطلوب بتمامه.

وفيه قصور آخر وهو أنّ ما ذكروه في التعليل يفيد وجوب العمل بالمقيّد ليلزم منه العمل بالمطلق في أحد فردي الماهيّة لا وجوب حمل المطلق على المقيّد الّذي هو عبارة عن الحكم بأنّ المراد منه الماهيّة المقيّدة بقيد المقيّد ، ومرجعه إلى رفع اليد عن إطلاق المطلق وتقييد الماهيّة المرادة منه بما قيّد به المقيّد ليتّحد مفاده من حيث الحكم المعلّق عليه مع مفاد المقيّد وهو الوجوب العيني ويقال له إرجاع المطلق إلى المقيّد ، كما أنّ مرجع الاعتراض المتقدّم بحمل الأمر في المقيّد على الندب أو الوجوب التخييري إلى إرجاع المقيّد إلى المطلق ليتّحد مفاده مع مفاد المطلق وهو جواز الاجتزاء والاكتفاء بأيّ فرد كان ولو مع أفضليّة بعض الأفراد ، فلابدّ من توجيه آخر لعبارة الدليل وهو أن يقال : إنّه لمّا كان العمل بالمقيّد مستلزما للعمل بالمطلق بخلاف العكس فلابدّ من إرجاع المطلق إلى المقيّد والحكم عليه بأنّ المراد به الماهيّة المقيّدة ليكون مفاده الوجوب العيني كالمقيّد.

وفي كلام للسيّد في المنية عند نقل الجواب عن الاعتراض بأنّ العدول عن مقتضى المطلق والعمل بظاهر المقيّد ليس بأولى من حمل المطلق على مقتضاه وحمل المقيّد على الاستحباب ، قوله : « على أنّا نمنع من اقتضاء المطلق التخيير ، فإنّه غير دالّ على الأفراد أصلا فضلا عن التخيير فيها » انتهى.

ومحصّله : منع تنافي مدلوليهما بمنع اقتضاء المطلق جواز الاجتزاء بأيّ فرد تخييرا ليكون نتيجته وجوب العمل بالمقيّد الظاهر في الوجوب العيني ، ولا خلاف في ضعفه.

أمّا أوّلا : فلأنّه إخراج للمورد عن موضوع مسألة حمل المطلق على المقيّد المبنيّ على فرض تنافي مدلوليهما ، وحينئذ فلا يستريب أحد في تعيّن العمل بظاهر المقيّد لسلامته عمّا يعارضه من جانب المطلق ، وهذا كما ترى ليس من حمل المطلق على المقيّد في شيء

ص: 847

بل هو إثبات لوجوب العمل بالمقيّد حيث لم يكن في مقابله مطلق يعارضه.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ظاهر المطلق على ما ذكره وجوب العيني للماهيّة من حيث هي وظاهر المقيّد وجوب العيني للفرد بالخصوص ، وهما أيضا مع فرض وحدة التكليف متنافيان ولو باعتبار لازميهما وهما الخروج عن عهدة التكليف بغير ذلك الفرد وعدم الخروج عنها إلاّ به ، فتعيّن العمل بظاهر المقيّد ليس بأولى من تعيّن العمل بظاهر المطلق.

وأمّا ثالثا : فلأنّ ما منعه من اقتضاء التخيير في المطلق إن أراد به اقتضاءه على وجه الدلالة الأصليّة المقصودة من الخطاب أصالة ليكون تخييرا شرعيّا فهو كما ذكره ولكنّه ليس بمراد في المقام ، وإن أراد به اقتضاءه على وجه الدلالة التبعيّة من باب الإشارة الحاصلة بملاحظة الخطاب مع ملاحظة مقدّمة اخرى خارجة عن الخطاب وهي عدم إمكان امتثال الأمر بالماهيّة إلاّ بإتيان الفرد وقبح الترجيح من غير مرجّح في صورة تعدّد الأفراد ، فإنكاره مكابرة للوجدان ومدافعة للعيان فلا ينبغي الإصغاء إليه.

وربّما المنع المذكور - على ما ذكره المحقّق السلطان في حواشيه - اعتراضا على الاستدلال لحمل المطلق على المقيّد بأنّه جمع بين الدليلين بأنّ : « الجمع بينهما لا ينحصر في حمل المطلق على المقيّد إن كان المراد بالحمل الحكم بأنّ المراد بالمطلق حين استعماله هو المقيّد حتّى يكون مجازا كما هو المشهور ، لأنّه لو بقي على إطلاقه أيضا بلا مجاز أصلا وعمل بالمقيّد يلزم العمل بهما معا ، فيجب العمل بالمقيّد من حيث اقتضاء الأمر بالمقيّد له وإن كان المطلق باقيا على إطلاقه غير مقتضي للتقييد وعدمه ، فالجمع بينهما حاصل مع إبقاء المطلق على إطلاقه من غير مجاز في المطلق ولا في المقيّد.

لا يقال : لا يجتمع وجوب العمل بالمقيّد مع بقاء المطلق على حقيقته ، لأنّ مقتضى الإطلاق ومدلوله صحّة العمل بأيّ فرد كان على سبيل البدل وتعيين العمل بالمقيّد ينافيه.

لأنّا نقول : لا نسلّم أنّ مدلول المطلق ذلك بل أعمّ منه وممّا يصلح للتقييد بل المقيّد في الواقع.

ألا ترى أنّ معروض للقيد في المقيّد كقولنا : « رقبة مؤمنة » إذ لا شكّ أنّ مدلول « رقبة » في : « رقبة مؤمنة » هو المطلق وإلاّ لزم حصول المقيّد بدون المطلق ، مع أنّه لا يصلح لأيّ رقبة كانت ، فظهر أنّ مقتضى المطلق ليس ذلك وإلاّ لم يتخلّف عنه.

نعم لو أبقى بدون القيد لزم ذلك من أنّ الأصل البراءة عن التعيين ، وبناء الإشكال الّذي

ص: 848

نقله المصنّف على تسليم أنّ الجمع لا يحصل إلاّ بارتكاب مجاز فأورد أنّ هذا إنّما يتمّ لو كان المجاز في المقيّد ممتنعا أو مرجوحا.

وقد عرفت أنّ ذلك التسليم غير لازم ، وأيضا يقين البراءة لا يتوقّف على الحمل بهذا المعنى ، هذا على تقدير إرادتهم من حمل المطلق على المقيّد ما ذكر وأمّا لو كان مرادهم العمل بالمقيّد من غير مجاز في المطلق فالاستدلال صحيح.

ولا يرد عليه ما ذكرنا ولا الإشكال الّذي ذكره المصنّف لأنّ الأصل عدم المجاز في كليهما ، فالمطلق يقتضي وجوب إيجاد الماهيّة لا بشرط شيء والمقيّد وجوب إيجاد القيد أيضا ولا تنافي بينهما أصلا ، فيجب إيجاد الماهيّة مع القيد حتّى يجمع بينهما وتحصل البراءة من مقتضى المقيّد ، وليس حينئذ مجاز في شيء من الطرفين حتّى يقال يحصل التعارض والتساقط ويبقى المطلق سليما عن المعارض » انتهى.

وقال في حاشية اخرى بعيد ذلك - ردّا على ما ذكره المصنّف عند الاستدلال على كون المقيّد بيانا من أنّ المراد من المطلق « كرقبة » مثلا أيّ فرد كان من أفراد الماهيّة - :

« قد عرفت ما فيه من أنّ هذا ليس مدلول المطلق ، بل ربّما كان مدلوله معيّنا في الواقع وإن لم يكن اللفظ مستعملا في التعيين بل هذا أكثر وأظهر في الأخبار.

نعم في الأوامر يحتمل الاحتمالين ، فإنّما يلزم ذلك الشمول عن عدم التقييد مع ضمّ أنّ الأصل براءة الذمّة من التعيين أو لزوم الترجيح بلا مرجّح ، بخلاف العامّ فإنّ مدلوله العموم.

وعلى هذا التحقيق لا يكون التقييد تخصيصا وقرينة على المجاز فضلا من أن يكون نسخا » انتهى.

وملخّص ما ذكره في الاعتراض منع انحصار طريق الجمع بين الدليلين هنا في حمل المطلق على المقيّد الموجب للتجوّز في المطلق ، بل قد يحصل الجمع بينهما والعمل بهما بالعمل بالمقيّد مع إبقاء [ المطلق ] على حقيقته.

وتوضيحه : أنّ المطلق إنّما يكون مطلقا إذا أريد منه الماهيّة من حيث هي أو الحصّة الشائعة ، وهذا لا يلازم أن يكون مفاده دائما باعتبار تعلّق الحكم الشرعي به صحّة العمل بأيّ فرد كان الّتي يقال لها التخيير ، وذلك لأنّ موضوع الحكم قد يكون في الواقع ولحاظ المتكلّم معيّنا وهو الماهيّة المقيّدة من دون استعمال اللفظ في التعيين ، ومرجعه إلى أن يراد ذلك المعيّن من اللفظ باعتبار الماهيّة المتحقّقة فيه لا باعتبار الخصوصيّة المشخّصة لتلك

ص: 849

الماهيّة ، على معنى ورود استعمال اللفظ على وجه إطلاق الكلّي على الفرد ، وحينئذ فالعمل بالمقيّد عمل بالمطلق أيضا مع بقاء المطلق على حقيقته ، فحصل الجمع بينهما من دون مجاز في المطلق ولا في المقيّد.

وأقوى ما يشهد بكون مراده ما ذكرناه قوله في الحاشية الاخرى : « بل ربّما كان مدلوله معيّنا في الواقع وإن لم يكن اللفظ مستعملا في التعيين بل هذا أكثر وأظهر في الأخبار » ومراده من هذا الاعتبار في الأخبار نظير ما في قوله تعالى : ( وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ ) (1).

فصار محصّل الفرق بين مذهب المحقّق السلطان ومذهب المشهور - مع اشتراكهما في القول بوجوب العمل بالمقيّد لكونه عملا بالمطلق أيضا - أنّ المطلق مع العمل بالمقيّد عند المشهور يحمل على المقيّد فيكون مجازا وعنده يبقى على حقيقته.

ويرد عليه : أنّه إن أراد بما ذكره من طريق الجمع إمكانه فلا كلام معه ، ومرجعه إلى أنّ التقييد في المطلقات لا يستلزم تجوّزا في اللفظ وهو الّذي حقّقناه في المقام الأوّل ، وإن أراد به ظهوره في متفاهم العرف فهو دعوى بعيدة لا ينبغي الإصغاء إليه ، لظهور المقيّد حيث قابله المطلق في كونه بيانا للمطلق كاشفا عن أنّ المراد منه المقيّد بقيد الخصوصيّة.

ثمّ إنّ في كلامه جملة من حزازات اخر يقف عليها المتدبّر مثل قوله : « ألا ترى أنّه معروض للقيد في المقيّد »وفيه : أنّ معروض القيد هو اللفظ الّذي لولا عروض القيد له كان مطلقا وإلاّ فهو بوصف معروضيّة للقيد مقيّد لا مطلق.

فدعوى كون معروض القيد مطلقا أو كون المطلق معروضا غريبة. ومثل قوله : « وإلاّ لزم حصول المقيّد بدون المطلق » وفيه : أنّه ممّا لا استحالة فيه بل هو الحقّ الّذي لا محيص عنه ، فإنّ المقيّد والمطلق متضادّان فكيف يمكن أن لا يحصل المقيّد بدون المطلق ، وإنّما المستحيل حصوله هو الماهيّة بدون الفرد.

وقد يتمسّك لحمل المطلق بأصل الشغل المقتضي للبراءة اليقينيّة الّتي لا تحصل إلاّ بالعمل بالمقيّد كما في القوانين (2) تبعا للمصنّف والعلاّمة في النهاية قالوا : « لئن سلّمنا تساوي الاحتمالين فنقول : إنّ البراءة اليقينيّة لا تحصل إلاّ بالعمل بالمقيّد ».

واعترض عليه المحقّق السلطان في حاشية المعالم : « بأنّه بعد تسليم لزوم المجاز

ص: 850


1- يس : 20.
2- القوانين 1 : 325.

وتساوي المجازين لا جزم بشغل الذمّة ولا الظنّ به حتّى يجب تحصيل البراءة والخروج عن عهدته » وقد ذكر نحو ذلك قبيل هذا في حاشية اخرى فقال : « واحتمال شغل الذمّة من غير الجزم أو الظنّ به أوّلا لا يقتضي وجوب العمل ، غايته الاحتياط وهو ليس بواجب » انتهى.

وفيه من الوهن والفساد ما لا يخفى ، فإنّ احتمال المجاز في المقيّد مع احتماله في المطلق وتساويهما لا يوجب الشكّ في أصل شغل الذمّة الّذي هو شكّ في التكليف ، بل يوجب دوران المشتغل به الذمّة بحسب الواقع بين الماهيّة المطلقة والماهيّة المقيّدة الّذي هو شكّ في المكلّف به.

فقول المعترض : « لا جزم بشغل الذمّة ولا الظنّ به » إن أراد به إنكار العلم أو الظنّ أو الظنّ المعتبر بأصل اشتغال الذمّة ومرجعه إلى دعوى الشكّ في أصل التكليف فهو خروج عن مقتضى الفرض من أنّ ورود المطلق والمقيّد معا أوجب العلم بأصل التكليف ، وتعارضهما دورانه في النظر بين التخيير والتعيين ويلزم دوران المكلّف به الواقعي بين الماهيّة المطلقة والماهيّة المقيّدة ، وإن أراد به إنكار العلم أو الظنّ بشغل الذمّة بالمقيّد بالخصوص فهو كذلك إلاّ أنّ العلم بشغل الذمّة بالأمر المجمل المردّد بين الأمرين كاف في جريان أصل الاشتغال الّذي مناطه الحكم بوجوب تحصيل اليقين بالبراءة الّذي لا يحصل إلاّ بالإتيان بالمقيّد ، ولا حاجة معه إلى ثبوت وجوب الاحتياط شرعا ولا إلى ثبوت اشتغال الذمّة بالمقيّد بالخصوص ، وإلاّ لم يحتج في التزام وجوب الإتيان به إلى توسيط قاعدة الشغل هذا.

ولكنّ الإنصاف [ أنّ التمسّك ] بأصل الشغل في نحو المقام ليس في محلّه.

أمّا أوّلا : فلأنّ مرجع تساوي احتمالي المجاز في المطلق والمجاز في المقيّد إلى تساوي الدلالتين المستلزم لوقوع التعارض بين الدلالة المجازيّة في أحدهما والدلالة الحقيقيّة في الآخر والتساوي يوجب الإجمال في الخطابين ، ومرجع الترجيح بأصل الشغل إلى تحكيم حقيقة المقيّد على حقيقة المطلق وإحراز دلالته المجازيّة ، على معنى أنّه يكشف عن اختيار التجوّز في المطلق بإرادة المقيّد منه مجازا وهذا غير معقول ، لأنّ الأصل المذكور لكونه من الاصول العمليّة متكفّل لبيان كيفيّته الّذي مرجعه إلى بيان الحكم الظاهري المجعول للجاهل الشاكّ في المكلّف به الواقعي غير متعرّض لحال الدليل ببيان المراد منه في الواقع ، حيث لا نظر فيه إلى الواقع أصلا وإلاّ كان مؤدّاه حكما واقعيّا وهو

ص: 851

باطل بدليل الخلف.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الأصل حكم كلّي لموضوع أخذ فيه ما ينافي الدلالة وهو الإجمال فلا يصلح محرزا لها بل لا يعقل ذلك أيضا ، ولذا حقّق في محلّه أنّ الأصل كما لا يصلح معارضا للدليل فكذا لا يصلح معاضدا له ولا مرجّحا له لعدم اتّحاد موضوعيهما.

وأمّا ثالثا : فلأنّ العمل بالمقيّد من جهة الأصل المذكور إمّا أن يراد به الالتزام بمؤدّاه وهو الأخذ بالوجوب التعييني للفرد على أنّه حكم واقعيّ فعليّ أو يراد به تطبيق الحركات والسكنات الخارجيّة على مؤدّاه وهو الإتيان بعتق رقبة مؤمنة مثلا امتثالا للأمر التعييني.

وأيّا مّا كان فالتمسّك بأصل الاشتغال لإتيانه ليس في محلّه لعدم كون الأصل في مجراه.

أمّا على الأوّل : فلأنّ من شروط جريان ذلك الأصل وجود القدر المتيقّن في مجراه ليكون نتيجته وجوب الأخذ بالقدر المتيقّن وهذا الشرط مفقود في مفروض المقام ، ضرورة أنّ الوجوب التعييني ليس قدرا متيقّنا في محلّ تعارض الخطابين من حيث الدلالة في التخيير والتعيين.

وأمّا على الثاني : فلأنّ من شروط جريان هذا الأصل بعد إحراز العلم بأصل التكليف وكون الشكّ في المكلّف به ووجود القدر المتيقّن ممّا يحصل به البراءة في البين أن لا يكون الشكّ في المكلّف به آئلا إلى الشكّ في [ التكليف ] وإلاّ كان المورد من مجرى أصل البراءة ، وهذا الشرط غير متحقّق في المقام لتيقّن ثبوت التكليف بأصل الماهيّة في الجملة من ملاحظة الخطابين وأول الشكّ في أنّ المكلّف به المعلوم بالإجمال في مثل : « أعتق رقبة » و « أعتق رقبة مؤمنة » هل هو الماهيّة المطلقة أو الماهيّة المقيدة إلى اشتراط الماهيّة المأمور بها بالإيمان؟ وهذا شكّ في التكليف بأمر زائد على الماهيّة والأصل براءة الذمّة عن الأمر الزائد.

لا يقال : هذا إنّما يتمّ لو فرض أنّا مكلّفون بعتق رقبة ولا نعلم هل يشترط « الإيمان » أم لا؟ فحينئذ يمكن نفيه بأصل البراءة وليس كذلك ، إذ بعد تعارض المجازين وتصادم الاحتمالين يبقى الشكّ في أنّ المكلّف به هل هو المطلق أو المقيّد؟ وليس هاهنا قدر مشترك يقينيّ نحكم بنفي الزائد عنه بالأصل ، لأنّ الجنس الموجود في ضمن المقيّد لا ينفكّ عن الفصل ولا تفارق بينهما.

لأنّا نقول : إنّ « عتق رقبة » في الجملة الصادق مع عتق رقبة مطلقة ومع عتق رقبة

ص: 852

مقيّدة يكفي في كونه قدرا مشتركا يقينا ، والمفروض تيقّن التكليف به من ورود الخطابين وكون عنوانيهما « عتق رقبة » واحتمال المجاز في المطلق يوجب احتمال اشتراطه بالإيمان ، واحتمال المجاز في المقيّد يوجب احتمال عدم اشتراطه بالإيمان ، ومرجع تساوي الاحتمالين إلى الشكّ في الاشتراط وعدمه وهو شكّ في الزائد فينفى بالأصل ، هذا.

وأمّا رابعا : فلأنّ أصل الشغل لو صلح مرجّحا لدلالة المقيّد فأصل البراءة أيضا يصلح مرجّحا لدلالة المطلق ، ولذا تمسّك به غير واحد لإثبات الاجتزاء بأيّ فرد ، والأصلان إذا تعارضا يقدّم الوارد منهما على الآخر وهو هنا أصل البراءة كما يظهر وجهه بأدنى تأمّل.

والعجب عن بعض الأعلام أنّه في غير موضع في مسألة دوران الواجب بين التخيير والتعيين بنى على أصالة التخيير اعتمادا على أصالة البراءة النافية للضيق اللازم من التعيين ، فكيف اعتمد هنا على أصل الاشتغال لترجيح دلالة المقيّد ، مع أنّ أصله المذكور يقتضي ترجيح دلالة المطلق عملا بأصل البراءة.

المرحلة الثانية : في أنّ المقيّد بعد ثبوت وجوب حمله على المقيّد بيان للمطلق سواء اقترنا أو تقدّم المطلق أو المقيّد ، ودليله الدليل الأوّل على وجوب الحمل ولا حاجة معه إلى دليل آخر سواه ، خلافا لمن زعمه في صورة التأخّر ناسخا.

ويدفعه : ما ذكرناه ، مضافا إلى ندرة النسخ بالنسبة إلى التقييد والظنّ يلحق الشيء بالأعمّ الأغلب.

نعم لو ورد المطلق والمقيّد في كلام النبيّ صلى اللّه عليه وآله وعلم بتأخّر المقيّد عن حضور وقت العمل بالمطلق لا محيص من التزام النسخ حذرا عن تأخير البيان عن وقت الحاجة.

ينبغي التنبيه على اُمور

وينبغي التنبيه على امور :

الأمر الأوّل : لا يعتبر في المقيّد أن يكون من باب الصفة بل لو لم يكن هناك صفة كما لو قال : « أعتق رقبة » و « أعتق مباركا » مثلا وجب الحمل لوحدة المناط وهو فهم العرف ولزوم التنافي بالتخيير والتعيين لولا الحمل.

وبالتأمّل في ذلك مضافا إلى ما مرّ مرارا في كلماتنا السابقة من أنّ الموجب للحمل إنّما هو هذا التنافي يندفع ما سبق إلى بعض الأوهام من لزوم التناقض على القول بعدم حجّية مفهوم الصفة ، فإنّ قائليه قد حملوا المطلق بمفهومها في مثل : « أعتق رقبة » و « أعتق رقبة مؤمنة » فإذا لم يكن مفهوم الصفة عندهم حجّة فكيف يقيّدون بها المطلق.

ص: 853

ووجه الاندفاع - مع عدم انحصار محلّ الحمل فيما إذا كان هناك صفة ، وعدم منافاة مفهوم الصفة على القول به في المقيّد لمنطوق المطلق ، لأنّ نفي الوجوب العيني لا ينافي الجواز فلا ينافي التخيير - : أنّ تنافي المدلولين يوجب حمل المطلق على المقيّد [ و ] يكفي فيه تنافي منطوقيهما بالتخيير والتعيين بل هو الموجب للحمل لا غير ، ولا حاجة معه إلى اعتبار المفهوم في الصفة فلا فرق في وجوب حمل المطلق على المقيّد دفعا لتنافي المنطوقين بين القول بحجّيّة مفهوم والقول بعدم حجّيّته ، فلا تناقض على الثاني.

الأمر الثاني : أنّ حمل المطلق على المقيّد الّذي معناه تحكيم دلالة المقيّد باعتبار كونه أظهر على دلالة المطلق باعتبار كونه من قبيل الظاهر إنّما هو إذا لوحظ كلّ منهما من حيث هو هو ، بأن لم يعتضد المطلق بما يوجب أقوائيّة دلالته أو لم يطرأ المقيّد ما يوجب أضعفيّة دلالته ، كشهرة العمل بإطلاق المطلق أو شهرة ترك العمل بحقيقة المقيّد إن اعتبرناها في مقام ترجيح الدلالة ، وإلاّ لا حمل بل يجب العمل بإطلاق المطلق وحمل المقيّد على مجازه لانقلاب الأظهريّة بالاعتضاد الخارجي ونحوه.

الأمر الثالث : لو كان المطلق منصرفا إلى بعض أفراد الماهيّة لشيوعه والمقيّد مقيّدا بما هو من خواصّ الفرد النادر بحيث لو بني على حمل المطلق على المقيّد كان حملا له على الفرد النادر كما لو قلنا في : « أعتق رقبة » مثلا بانصرافه إلى « الأسود » لكونه الشائع من أفراد رقبة ، وورد في المقيّد : « أعتق رقبة أبيض » فهل يحمل المطلق في مثله أيضا على المقيّد ليكون معناه صرفه عن الفرد الشائع المنصرف إليه الإطلاق إلى الفرد النادر أم لا؟

فالوجه أنّه لا معنى للحمل هنا لانتفاء تنافي التخيير والتعيين في نحوه ، فإنّ المطلق لانصرافه إلى الفرد الشائع لا يقتضي التخيير بينه وبين الفرد النادر ، بل مقتضاه تعيين الفرد الشائع ومقتضى المقيّد تعيين الفرد النادر.

وهذا الاختلاف أيضا بعد ملاحظة وحدة التكليف من تنافي مدلولي الدليلين ، فالّذي يساعد عليه النظر في حكم هذا القسم أنّهما من المتعارضين اللذين لا يمكن الجمع بينهما من حيث الدلالة إلاّ إذا صحّ حمل أمريهما على التخيير ، بأن يحمل كلّ منهما على وجوب مورده على أنّه أحد فردي الواجب التخييري ، وإذا لم يمكن هذا الحمل أيضا لا بدّ في علاج التعارض من الرجوع إلى المرجّحات السنديّة والترجيح السندي إن أمكن ، وإلاّ يرجع المورد إلى مسألة التعادل فيراعي كلّ أحد فيه ما هو مذهبه ثمّة من البناء على

ص: 854

التخيير في العمل أو على التساقط والرجوع إلى الأصل ، أو على الوقف مع الرجوع في العمل إلى الأصل.

الأمر الرابع : لو ورد مطلق ثمّ ورد مقيّدان متضادّان مثل : « أعتق رقبة » و « أعتق رقبة حبشيّة » و « أعتق رقبة بنباسيّة » ففي نهوض التضادّ قرينة على تحكيم دلالة المطلق على دلالتيهما فيحمل الأمر في كلّ منهما على الوجوب التخييري بمعنى وجوب مورده على أنّه أحد فردي الواجب التخييري فيكون ذلك تخييرا شرعيّا مؤكّدا للتخيير العقلي المستفاد من المطلق ، أو موجبا لإجمال المطلق باعتبار كشف كلّ منهما عن إرادة مورده منه ، فيكون « الرقبة » في المثال المذكور مردّدا بين الماهيّة المقيّدة بالحبشيّة والماهيّة المقيّدة بالبنباسيّة فيكون مجملا فيتوقّف ثمّ يرجع للعمل إلى الاصول الّتي منها أصالة الاشتغال المقتضية للجمع والتكرار تحصيلا ليقين البراءة وجهان ، مبنيّان على اختلاف الموارد من حيث العلم بأنّ المأمور به أحد المقيّدين في الواقع [ المعلوم ] عند اللّه بعد العلم بوحدة التكليف فيبنى على الإجمال والوقف ، كما في إطلاق [ الأمر ] بالصلاة في يوم الجمعة مع ورود الأمر بصلاة الظهر تارة والأمر بصلاة الجمعة اخرى وعدم العلم بالتعيين بعد العلم بوحدة التكليف بحيث احتمل كلّ من التعيين والتخيير في المقيّدين فيبنى على الجمع والتحكيم حسبما بيّنّاه.

الأمر الخامس : لو ورد مطلق ومقيّد وتعذّر العمل بالمقيّد كما لو قال : « أعتق رقبة » و « أعتق رقبة مؤمنة » ولم يتمكّن المكلّف من « المؤمنة » فهل تعذّر العمل به مانع من حمل المطلق عليه ، فيبقى على إطلاقه فيعمل بإطلاقه في الفرد الآخر الغير المتعذّر لسقوطه عن الاعتبار أو لا؟ لأنّ تعذّر العمل به يزاحم التكليف به فيسقطه ولا يزاحم دلالته على التعيين ، وحمل المطلق على المقيّد اعتبار يتبع الدلالة ، وسقوط التكليف بالعمل به ليس سقوطا له عن الاعتبار فيحمل المطلق عليه لفهم العرف ودفعا للتنافي ، ويلزم منه أن يكون تعذّر العمل بالمقيّد تعذّرا للعمل بالمطلق أيضا فيسقط التكليف بهما معا ، ثمّ يرجع الواقعة إلى مسألة استلزام انتفاء القيد انتفاء المقيّد وهو الماهيّة فلا يجب الإتيان بها في ضمن فردها الآخر لعدم تعذّره لعدم الدليل عليه ، والأصل براءة الذمّة عنه.

وهنا جفّ قلمه الشريف في مباحث الألفاظ ، ويا ليت امتدّ في الليالي والأيّام ، شكر اللّه سعيه وحشره مع سيّد الأنام.

ص: 855

ص: 856

فهرس المحتوى

بحث في الواجب المخيّر

في شرح ماهيّة الواجب المخيّر... 3

في تحديد الواجب المخيّر... 5

في تعيين ما تعلّق به الوجوب في الواجب المخيّر... 6

في ذكر أقوال المسألة والإشارة إلى أدلّتها... 22

فوائدة مهمّة وقواعد لطيفة

هل الأمر حقيقة في التعيين ومجاز في التخيير أو للقدر المشترك بينهما؟... 48

هل الأصل في الواجب هو التعييني أو التخييري؟... 55

في التخيير بين الأقلّ والأكثر... 59

الأمر بالشيئين أو الأشياء على سبيل الترتيب... 65

اتّصاف أحد أفراد الواجب التخييري بالاستحباب... 67

العدول عمّا شرع فيه من أفراد الواجب المخيّر... 70

تحقّق الامتثال بإتيان أحد أفراد الواجب المخيّر... 72

تعليقة

في الواجب الكفائي... 75

ص: 857

في حقيقة الوجوب الكفائي... 81

أدلّة القول بتعلّق الوجوب بالبعض في الواجب الكفائي... 95

أدلّة القول بتعلّق الوجوب بالمجموع في الواجب الكفائي... 97

في الفروع المتعلّقة بالواجب الكفائي... 108

الواجب الموسّع

تعريف الواجب الموسّع وبيان حقيقته... 147

في إمكان الواجب الموسّع عقلاً... 152

في وقوع الواجب الموسّع... 155

أدلّة المنكرين للواجب الموسّع وأجوبتها... 159

هل يجب العزم على أداء الفعل إذا أخّره عن أوّل الوقت في الواجب الموسّع؟... 169

تعليقة

هل الإجزاء من المسائل الاُصوليّة أو من المبادئ الأحكاميّة؟... 183

في حقيقة الإجزاء... 184

في كلام القاضي عبد الجبّار ونقده... 188

لا يرتبط هذا البحث بالبحث في تبعيّة القضاء للأداء وعدمها و... 191

في المراد من القضاء المتنازع في سقوطه وعدمه... 192

مسائل ينبغي التنبيه عليها

في إجزاء المأمور به الاضطراري عن المأمور به الواقعي... 197

هل تجزئ الصلاة مع الطهارة الظاهريّة عن الصلاة مع الطهارة الواقعيّة؟... 204

اعتقاد المكلّف لا يؤثّر في حصول الإجزاء ما لم يطابق المعتقد الواقع... 207

تعليقه

هل القضاء تابع للأداء أم لا؟... 210

ص: 858

تذنيب

في حكم ما إذا ورد الأمر بمركّب وتعذّر بعض أجزائه... 221

تعليقة في المنطوق والمفهوم

ما هو المقصود بالأصالة من عقد هذا الباب؟... 225

المنطوق والمفهوم من مصطلحات الاُصوليّين... 226

هل تكون واسطة بين المنطوق والمفهوم أم لا؟... 228

في الفرق بين المنطوق والمفهوم... 231

في تعريف المنطوق والمفهوم... 234

في تقسيم المنطوق إلى صريح وغير صريح... 238

في الفرق بين دلالة الاقتضاء ودلالة الإيماء... 244

المناطيق الغير الصريحة ظهورات ثانويّة... 244

في تقسيم المفهوم إلى مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة... 245

مفهوم الشرط

في معنى الشرط... 247

في بيان إطلاقات الجملة الشرطيّة... 251

في ظهور الجملة الشرطيّة في العلقة فيما بين الشرط والجزاء... 252

في ظهور الجملة الشرطيّة في سببيّة العلقة والربط... 254

في ظهور الجملة الشرطيّة في تماميّة السبب واستقلاله... 257

هل الشرط سبب على التعيين أو على البدل؟... 258

ثمرة النزاع بين القول بمفهوم الشرط وعدمه... 260

في تأسيس الأصل عند فقد الدليل على أحد القولين في المسألة... 266

في بيان الدليل على المختار... 270

ص: 859

في أدلّة الأقوال... 279

حجج المنكرين لحجّية مفهوم الشرط... 284

القضيّة الشرطيّة تقتضي التلازم بين المقدّم والتالي في طرفي الوجود والعدم... 287

في تعدّد الشرط ووحدة الجزاء... 288

هل يقتضي تعدّد الأسباب تعدّد المسبّبات أم لا؟... 293

مفهوم الوصف

توضيح كلام الماتن... 342

المراد بالوصف أو الصفة في مفهوم الوصف... 343

في جملة اُخر من مرتبطات المسألة... 344

في أقوال المسألة حسبا يشير إليه المصنّف... 346

في بعض الفوائد الهامّة... 355

مفهوم الغاية

الغاية تطلق على معان ليس من المتنازع فيه إلاّ بعضَها... 373

موضع الكلام في المقام الغاية بمعنى النهاية... 375

تحقيق معنى « الحكم » في محلّ النزاع... 378

هل الغاية قيد راجع إلى الحكم أو الموضوع؟... 379

تنبيهات مفهوم الغاية... 393

تعليقة

مفهوم الحصر... 400

تعليقة

مفهوم « إنّما »... 412

ص: 860

تنبيهات مفهوم إنّما... 419

في إلحاق لفظ الحصر والقصر والحبس و ... بهذا الباب... 422

في دلالة كلمة « لا إله إلاّ اللّه »... 422

هل يصحّ الأمر مع العلم بانتفاء شرط المأمور به؟... 424

هل يصحّ التعليق من العالم بالعواقب أو لا؟... 441

حجج القول بعدم جواز الأمر بما علم انتفاء شرطه... 449

أدلّه القول بجواز الأمر بما علم انتفاء شرطه... 451

أجوبة أدلّة القول بجواز الأمر بما علم انتفاء شرطه... 453

بقيّة أدلّة القول بجواز الأمر بما علم انتفاء شرطه... 461

فروع... 462

أصل

مسألة نسخ الوجوب... 464

في نقل أقوال المسألة... 471

في بيان حجّة المانع... 473

الإشارة إلى المختار في المسألة... 481

بيان ثمرة المسألة... 482

البحث الثاني في النواهي

تحقيق مادّة النهي... 484

مدلول صيغة النهي... 489

ما هو المطلوب بالنهي؟... 494

فوائد... 504

هل النهي يفيد الدوام والتكرار أم لا؟... 507

فائدة في أنّ الدوام مستلزم للفور... 524

ص: 861

أصل

اجتماع الأمر والنهي... 527

الإشارة إلى أقوال المسألة... 531

المقدّمة الاُولى : مورد الأمر والنهي إمّا أن يكون متّحداً أو متعدّداً... 532

المقدّمة الثانية : الأمر والنهي باعتبار الوقوع الخارجي ينقسم إلى الإلزامى وغيره... 543

المقدّمة الثالثة : الأمر والنهي إمّا نفسيّان أو غيريّان... 544

المقدّمه الرابعة : الجهة في المأمور به أو المنهيّ عنه... 549

المقدّمة الخامسة : هل المراد من العنوان اجتماع الوجوب والحرمة أو اجتماع الواجب والحرام 550

المقدّمة السادسة : لو اجتمع الأمر والنهي وتعدّدا في الوجود... 557

المقدّمة السابعة : في تأسيس الأصل... 559

حجج القول بعدم جواز الاجتماع... 559

أدلّة القول بجواز اجتماع الأمر والنهي... 576

المطلب الأوّل : تحقيق الحال في العبادات المكروهة... 583

المطلب الثاني : تحقيق حال العبادات المندوبة المعدودة من موارد النقض بتوهمّ اجتماع الوجوب والندب        606

المطلب الثالث : اجتماع الوجوبين... 614

تذنيب في إبطال التفصيل بين العقل والعرف في جواز الاجتماع وعدمه... 618

مطالب شريفة : المطلب الأوّل : لوازم جواز الاجتماع وعدمه... 619

المطلب الثاني : في حكم الآتي بمورد الاجتماع لعدم المندوحة... 628

المطلب الثالث : اجتماع الأمر والنهي فيمن توسّط أرضاً معصوبة... 630

أصل في دلالة النهي على فساد المنهيّ عنه

المراد من الفساد المتنازع فيه ما يستند إلى النهي... 634

ص: 862

بيان الفرق بين العبادة والمعاملة... 636

في شرح الصحّة والفساد... 643

في أقسام المنهيّ عنه من العبادات والمعاملات... 649

المراد من النهي في عنوان المسألة ما يعمّ النهي بالصيغة وبالمادة... 659

الأقوال في مسألة دلالة النهي على الفساد... 660

المقام الأوّل : النهي المتعلّق بالعبادة... 662

المقام الثاني : النهي المتعلّق بالمعاملة... 667

العموم والخصوص

موضوع الباب ، العامّ والخاصّ... 694

تعريف العامّ... 695

تعريف الخاصّ... 701

في عروض العموم للمعاني... 703

هل للعموم صيغة تخصّه؟... 708

في لفظه « كلّ » و « جمع » و « أجمع » وتوابعهما... 728

في « من » و « ما »... 732

في من وما الشرطيّتين... 733

في من وما الاستفهاميّتين... 735

في من وما الموصوليّتين... 737

في لفظة « أيّ »... 739

لفظة « حيثما » و « أينما » و ... 741

لفظة « سائر »... 742

الجمع المعرّف باللام... 744

الجمع المضاف... 754

ص: 863

في أقسام العموم... 759

في الجمع المعرّف... 766

في المفرد المعرّف باللام... 767

في بيان إطلاقات المعرّف باللام... 769

فيما يتعلّق بلام التعريف من تعيين معناه الموضوع له وغيره... 778

فيما يتعلّق بمدخول اللام... 782

المطلق والمقيّد

تعريف المطلق... 790

تعريف المقيّد... 797

في أنّ عموم المطلقات ليس كعموم العمومات... 798

في حقيقة المطلق ومجازه... 805

الشرط الأوّل من شرائط العمل بالإطلاق... 814

بيان أقسام التشكيك... 815

بيان أسباب التشكيك... 816

في حكم المطلق من حيث انصرافه إلى الأفراد الشائعة... 819

عدم جريان قاعدة الانصراف في العمومات... 821

موضوع قاعدة الانصراف هو المطلق المشكّك... 824

في وجه انصراف المطلق إلى الفرد الشائع... 825

معمّمات حكم المطلق المشكّك... 828

في تأسيس الأصل فيما إذا دار مطلق بين كونه متواطئاً أو مشكّكاً... 831

الشرط الثاني من شرائط العمل بالإطلاق... 831

في حمل المطلق على المقيّد... 833

أقسام المطلق والمقيّد... 841

ينبغي التنبيه على اُمور... 853

ص: 864

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.